رواية ترجمة حنان الشافعي مراجعة وتحرير مركز التعريب والبرمجة ISBN 978-614-421-356-8 الطبعة الأولى 1431هـ ـ 2010 م يضم هذا الكتاب ترجمة الأصل الإنكليزي The Time Traveler’s Wife حقوق الترجمة العربية مرخص بها قانونياً من الناشر Harcourt Books, USA بمقتضى الإتفاق الخطي الموقّع بينه وبين الدار العربية للعلوم Copyright © 2003 by Audrey Niffenegger All rights reserved Arabic Copyright © 2010 by Arab Scientific Publishers, Inc. S.A.L جميع الحقوق محفوظة للناشر عين التينة، شارع المفتي توفيق خالد، بناية الريم هاتف: 786233 - 785108 - 785107 1 00961 ص.ب: 5574-13 شوران - بيروت 2050-1102 – لبنان فاكس: 786230 1 00961 – البريد الإلكتروني: asp@asp.com.lb الموقع على شبكة الإنترنت: http://www.asp.com.lb يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو الكترونية أو ميكانيكية بما فيه التسجيل الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مقروءة أو أية وسيلة نشر أخرى بما فيها حفظ المعلومات، واسترجاعها من دون إذن خطي من الناشر. زمن الساعة هو مدير مصرفنا، وهو محصل الضرائب، ومفتش الشرطة هذا الوقت الكامن داخلنا، هو الزوجة - ج. ب. بريستلي الإنسان والزمن حبٌ بعد حبٍّ الزمن سيأتي عندما، ومع الإعجاب، ستحييه بنفسك عندما يصل إلى بابك، إلى مرآتك. وكلاكما ستبتسمان لتحية الآخر، وتقول، اجلس هنا. كُل. ستقع مرة أخرى في حب الغريب الذي هو ليس سوى ذاتك. أعطِه شراباً. أعطِه خُبزاً. أعد قلبك إلى ذاتك، إلى الغريب الذي أحبك طوال حياتك، التي أنكرتها من أجل شخص آخر، الذي يعرفك عن ظهر قلب. أنـزل رسائل الحب عن رفوف الكتب، والصور، والملاحظات البائسة، انـزع صورتك عن المرآة. واجلس. واحتفل بحياتك. - ديريك والكوت إلى إليزابيث هيلمان تاماندل 20 أيار 1915-18 كانون الأول 1986 و نوربرت شارلز تاماندل 11 شباط 1915-23 أيار 1957 مقدمة كلير: من الصعب أن نكون في حالة انتظار. أنتظر هنري من دون أن أعلم مكانه، متسائلة إن كان بخير. من الصعب أن تكون الشخص الذي ينتظر. أحاول أن أبقى مشغولةً. فالوقت يمر أسرع هكذا. أخلد إلى النوم وحيدة، وأصحو من النوم وحيدة، وأتمشى، وأعمل حتى الإعياء، وأراقب الريح وهي تتلاعب بالنفايات التي بقيت تحت الثلوج طوال الشتاء. يبدو كل شيء بسيطاً حتى تبدأ بالتفكير فيه. لماذا يشتد الحب في حال الغياب؟ منذ زمن بعيد كان الرجال يسافرون وراء البحار والنساء ينتظرن عودتهم، يقفن على أرصفة الموانئ وهن يمعنّ النظر إلى الأفق بحثاً عن باخرة صغيرة. وها أنذا اليوم أنتظر هنري. يختفي من دون إرادة منه، ومن دون سابق إنذار. فأنتظره. وتمرّ كل دقيقة كأنها سنة، كأن لا نهاية لها. تمر كل دقيقة بطيئة وشفافة كما الزجاج. أرى من خلال كل دقيقة سلسلة من الدقائق اللامتناهية مصطفة وراء بعضها بعضاً، وهي تنتظر. لماذا رحل إلى حيث لا أستطيع اللحاق به؟ هنري: كيف أصف هذا الشعور؟ كيف أصف هذا الشعور؟ أحياناً يبدو الشعور كما لو أن إدراكك قد تاه للحظة. ثم تدرك، وببداية أخرى، أن الكتاب الذي كنت تمسكه، وأن قميصك القطني الأحمر ذا الخطوط المتصالبة، والأزرار البيضاء، وبنطال الجينـز الأسود المفضل لديك، والجورب كستنائي اللون المثقوب عند أحد كعبيه، وغرفة المعيشة، وإبريق الشاي الذي كان على وشك أن يصفّر إيذاناً بغليان الماء فيه، قد اختفت جميعاً. وتدرك أنك تقف عارياً كالغراب، ومياه البركة المتجمدة تغمرك حتى ركبتيك في طريق ريفي تجهله. تنتظر دقيقة لترى إن كنت ستعود إلى كتابك خلال لحظة، إلى شقتك، وغير ذلك. بعد مرور خمس دقائق من الاسترسال في السباب والارتجاف وتمني الجحيم، يمكنك أن تختفي، تبدأ بالسير على غير هدى، وتصل في آخر المطاف إلى مزرعة، وهنا أمامك خياران، إما أن تسرق، وإما أن تشرح الأمر. السرقة تؤدّي في بعض الأحيان إلى السجن، لكن شرح الأمر يبدو أكثر فطنة وتوفيراً للوقت وينطوي على الكذب على كل حال، ومن الممكن في بعض الحالات أن يؤدي بك إلى السجن أيضاً، يا له من جحيم! تشعر أحياناً كأنك قد وقفت بسرعة بالرغم من أنك لا تزال مستلقياً على السرير وأنت نصف نائم. تسمع تدفق الدم في رأسك، وتشعر بقواك تخور. تشعر بوخز في يديك ثم ينتهي هذا الوخز. لقد وضعت نفسك في الموقع الخطأ مرةً أخرى. يستغرق هذا لحظة، لديك وقت كافٍ لتستمر، لتضرب (ومن الممكن أن تؤذي نفسك أو مقتنياتك القيمة)، ثم تسقط في صالة مكسوة بالسجاد الأخضر في فندق صغير في أثينس، أوهايو عند الساعة 4:16 من صباح يوم الاثنين 6 آب 1981، ويرتطم رأسك بباب أحدهم، مما يدفع السيدة تينا شولمان من فيلادلفيا، إلى أن تفتح الباب وتبدأ بالصراخ لوجود رجلٍ عارٍ أمام بابها مباشرة، جاء على بساط الريح وقد أغمي عليه أمام قدميها. تصحو وأنت في المشفى الوطني وقد أُصبت في رأسك، وأمام باب غرفتك شرطي يستمع إلى مباراة فيلليز من راديو ترانـزستور يصدر أصواتاً عالية. ومن الرحمة أنك تعود إلى غيبوبتك وتصحو مرة أخرى بعد عدة ساعات وأنت على سريرك وزوجتك منحنية عليك وهي قلقة للغاية. في بعض الأحيان، تشعر أنك مفعم بالنشاط. كل شيء رائع ومميز، وفجأة تصاب بدوارٍ وتختفي. ويُرمى بك في بعض المراعي الريفية، أو على حذاء التنس العائد إلى والدك، أو على أرض حمامك قبل ثلاثة أيام خلت، أو على الممشى الخشبـي لحديقة أوك في إيلينوي نحو العام 1903، أو في ملعب التنس في يوم خريفي جميل من زمن الخمسينيات، أو أمام قدميك العاريتين ضمن تنوع كبير في الأزمنة والأماكن. كيف أصف هذا الشعور؟ تشعر بالضبط كما في أحد تلك الأحلام التي تدرك فيها فجأة أنه عليك أن تتقدم إلى امتحان لم تستعد له، وأنك لا ترتدي ملابسك، وأنك قد نسيت محفظتك في المنـزل. عندما أكون في الخارج هكذا - في الوقت المحدد - أنقلب، أتحول إلى نسخة بائسة عن نفسي. أغدو لصاً، ومتشرداً، وحيواناً يجري ويختبئ. يرعب النساء المسّنات ويذهل الأطفال الصغار. أنا خدعة، ووهم للنظام المطلق، لا يمكن تصديقه بالرغم من أنني حقيقة. هل ثمة منطق، أو قاعدة تحكم كل هذا الغدو والرواح، كل هذا التشويش والاضطراب؟ هل من سبيل يبقيني في الحاضر، يجعلني أقبض على الحاضر في كل خلية من جسدي؟ لا أدري. هناك بعض الدلائل، تماماً كما في أي مرض يصيبنا، هناك أعراض واحتمالات، كالإعياء، والضجيج، والضغط النفسي، والوقوف المفاجئ، وومض الإنارة القوية. أي من هذه الأشياء يمكنها أن تحدث فصلاً من حكاية. لكن، يحدث أيضاً أن أكون جالساً أقرأ صحيفة الصنداي تايمز، وفي يدي فنجان قهوة وكلير تأخذ قيلولتها بالقرب مني على سريرنا، وفجأة أجد نفسي في العام 1976 أشاهد ذاتي بعمر الثالثة عشرة أجز العشب في حديقة منـزل جديّ. قد يستمر هذا الفصل عدة دقائق فقط، وهو يشبه الاستماع إلى صوت راديو السيارة عندما يصعب التقاط موجة المحطة فيها. أجد نفسي وسط حشد، جمهور، جموع. وتماماً - كما في أغلب الأحيان - أكون وحيداً في ميدان، أو في منـزل، أو في سيارة، أو على شاطئ، أو في صف النحو في المدرسة عند منتصف الليل. أخاف أن أجد نفسي في زنـزانة سجن، أو في مصعد ممتلئ بالناس، أو وسط شارع عام. أظهر من اللامكان، عارياً. كيف يمكنني أن أشرح الأمر؟ إنني لم أستطع حمل أي متاعٍ معي، وإنني بلا ثياب، ولا نقود، ولا بطاقة شخصية. أمضيت معظم إقاماتي المتجزئة هذه وأنا أحاول إيجاد ثياب والاختباء، ولحسن الحظ أنني لا أضع نظارة. يا للسخرية! كل ما يُسعدني هو أمور عائلية: كرسي فخم، متعة وسكينة البقاء في المنـزل. كل ما أطلبه هو متعة بسيطة متواضعة، كمطالعة رواية غامضة على السرير، أو شم رائحة شعر كلير الأحمر الذهبـي الطويل النديّ بعد الحمام، أو بطاقة بريدية تصلني من صديق يُمضي إجازته السنوية، أو مبيض قهوة يذوب في الفنجان مع القهوة، أو نعومة بشرة كلير، أو كومة أكياس البقالة على طاولة المطبخ تنتظر من يُفرغها. أحب التجول بين أقسام رفوف المكتبة بعد أن يغادرها السادة إلى منازلهم، أن ألمس برفق أغلفة الكتب. هذه هي الأشياء التي تؤجج شوقي وحنيني إليها عندما أنخلع عنها قسراً بنـزوة الزمن. كلير، دائماً وأبداً كلير. تبدو عند الصباح نعسانة ومتغضنة الوجه. كلير بذراعيها المنغمستين في صناعة الورق، تسحب المزيج وتهزه هكذا، وهكذا، حتى تخلط أنسجته. كلير تقرأ وشعرها منسدلٌ على ظهر الكرسي، تمسّد يديها المحمرتين الجافتين قبل النوم، ووقع صوتها المنخفض في أذنيّ دوماً. أكره أن أكون في مكان وزمان ليست موجودة فيهما. ومع ذلك أسافر دوماً عبر الزمن، أما هي فلا تستطيع اللحاق بـي. I الرجل خارج الزمن ليس لأن السعادة موجودة، حتى يُنتزع الربح السريع من الخسارة القريبة. ولكن، لأنها موجودة فعلاً هنا أمر كثير، لأن كل شيء هنا ويحتاج إلينا في الظاهر، هذا العالم الزائل، الذي بطريقة غربية إلى حدٍّ ما ويستمر في مناداتنا. نحن، الأكثر زوالاً من الجميع. ... آه، ولكن، نستطيع أن نمضي بعيداً في ذاك العالم الآخر؟ وليس فنّ النظر، الذي يتعلم ببطء شديد، ولا شيء يحدث هنا. لا شيء. عندها، لا يوجد سوى المعاناة. وفوق كل هذا وذاك، ذلك العبء، وتجربة الحب الطويلة - وكل ما لا يمكن أن يُقال. - من The Ninthe Duino Elegy، لاينيه ماريا ريلكه ترجمه من الألمانية إلى الإنكليزية ستيفن ميتشيل الموعد الأول، واحد السبت، 26 تشرين الأول، 1991 (هنري 28 عاماً، كلير 20 عاماً) كلير: المكتبة باردة تفوح منها رائحة كرائحة منظف السجاد، ومع ذلك لم أرَ سوى الرخام. وقّعت على سجل الزوار: كلير أبشير، الساعة 11:15 تاريخ 26–10–1991 المقتنيات الخاصة. لم يسبق لي أن زرت مكتبة نيوبيري من قبل، وما إن مررت بالممر المظلم الذي يبعث على التشاؤم حتى شعرت بالنشاط. اعتراني إحساس أشبه ما يكون بصباح الميلاد، فالمكتبة تُشبه صندوقاً كبيراً مليئاً بالكتب الجميلة. المصعد يسوده السكون، وأضواء خافتة. توقفت في الطابق الثالث، وملأت الطلب في استمارة القراء، ثم صعدت الدرج، وتوجهت إلى قسم المقتنيات الخاصة. كان حذائي يُصدر أصواتاً وأنا أسير على الأرضية الخشبية، والغرفة هادئة بالرغم من اكتظاظها بالزوار، ومملوءة بالطاولات المتينة، والثقيلة، وقد تكومت فوقها الكتب، والقراء يحيطون بها. تسللت من بين النوافذ المتطاولة أشعة صباح شيكاغو الخريفي. اقتربت من مكتب الاستقبال، وأخذت مجموعة من بطاقات الطلبات. كنت أقوم بإعداد حلقة بحث لصف تاريخ الفنّ، وموضوع بحثي هو دار كيلمسكوت للطباعة، وكتابها الذي نشرته حول تشوسر(1). بحثت عن الكتاب نفسه، ثم ملأت بطاقة طلب له. كنت أريد أيضاً أن أقرأ عن صناعة الورق عند كيلمسكوت. حيرتني اللائحة، فعدت إلى مكتب الاستقبال لأطلب المساعدة. في أثناء شرحي للموظفة ما أحاول العثور عليه، ألقت نظرة من فوق كتفي على رجل يمرّ خلفي. قالت: «ربما يستطيع السيد دي تامبل مساعدتك على هذا». استدرت لأبدأ بشرح ما أريده من جديد، فوجدت نفسي وجهاً لوجه أمام هنري. عجزت عن الكلام. إنه هنري، بدا هادئاً، وأنيقاً، وأصغر سناً من أي مرة رأيته فيها. يعمل في مكتبة نيوبيري، وها هو يقف قُبالتي، في الحاضر، هنا والآن، تهلل وجهي فرحاً. نظر إليّ هنري بتهذيب نظرة صبر يساورها الشكّ. سألني: «كيف يمكنني مساعدتك؟». بالكاد تمالكت نفسي عن تطويقه بذراعيَّ. كان من الواضح أنه لم يرَني في حياته أبداً. «هل سبق لنا أن التقينا؟ آسف، أنا لم...». ألقى نظرة حولنا، كان قلقاً من أن ينتبه إلينا القراء، وزملاؤه، وهو ينبش في ذاكرته ويدرك أن شيئاً من ذاته المستقبلية قد التقت بهذه الفتاة المتقدة سعادة والتي تقف أمامه الآن. آخر مرة التقيته فيها كان يلعق أصابع قدمي في المرجة الخضراء. حاولت أن أشرح له: «أنا كلير أبشير. أعرفك منذ أن كنت فتاةً صغيرة...». أنا تائهة لأنني أحب شخصاً يقف أمامي وهو لا يملك أي ذكريات عني. كل شيء بالنسبة إليه سيكون في المستقبل. أردت أن أضحك من كل هذا الأمر الغريب. تذكرت سنوات عرفته فيها، وها هو الآن ينظرُ إليّ متحيراً وخائفاً، وهو يرتدي بنطال والدي المخصص للصيد، ويمتحنني في ضرب عدد الطاولات ببعضها بعضاً، وبأفعال اللغة الفرنسية، وأسماء عواصم الدول. يضحك هنري من طعام غداء مميز أحضرته له عندما كان عمري سبعة أعوام إلى المرجة الخضراء. وها هو يرتدي بذلة التوكسيدو، ويحل أزرار قميصه بيدين مرتجفتين في ذكرى ميلادي الثامنة عشرة. إنه هنا! الآن! «تعالَ لنحتسي القهوة معاً، أو لنتناول طعام الغداء أو لنقوم بأي شيء...». سيقول: نعم بالتأكيد، هنري الذي أحبني في الماضي، سيحبني في المستقبل، يجب أن يحبني الآن كرجع صدى من زمن آخر، ولأشعر براحة هائلة أجابني بنعم. اتفقنا على أن نلتقي الليلة في مطعم تايلندي قريب من هنا، كل هذا والموظفة الجالسة خلف مكتب الاستقبال تحدق إلينا بدهشة. غادرت وقد نسيت أمر كيلمسكوت وتشوسر، نـزلت الدرج الرخامي، عبرت الردهة، وخرجت إلى شمس شيكاغو التشرينية، ركضت بين الكلاب المنتشرة في المتنـزه، وبين السناجب، وأنا أهتف فرحة. هنري: إنه يوم روتيني عادي من أيام تشرين الأول، يوم مشمس ومنعش. أعمل في غرفة صغيرة لا نوافذ لها، درجة الرطوبة فيها مُراقبة، تقع في الطابق الرابع من مكتبة نيوبيري، أضع لوائح لكتب منمقة أهديت مؤخراً إلى المكتبة. المجموعة بحدّ ذاتها جميلة، لكن تصنيفها أمر يبعث على الملل، شعرت بالضجر والأسف على نفسي. في حقيقة الأمر، أشعر كأنني متقدم في السن، أشعر بأحاسيس شعر بها شاب في الثامنة والعشرين من عمره بقي ساهراً حتى منتصف الليل، وهو يشرب الشراب الروسي باهظ الثمن، ويحاول من دون أن يحالفه الحظ، أن يعود بنفسه إلى تلك الفضائل الكبيرة التي كانت تتمتع بها إنغريد كارميشيل. أمضينا الليل بطوله ونحن نتعارك، أما اليوم فلا أتذكر حتى ما كنا نتعارك من أجله. أشعر بدوار، أريد قهوة. تركت الكتب بحالة من الفوضى المُحْكَمة، سرت عبر المكتب، وتجاوزت مكتب تقديم الطلبات للكتب في قاعة المطالعة. استوقفني صوت إيزابيل وهي تقول: «ربما يستطيع السيد دي تامبل مساعدتك على هذا» وهي تعني بكلامها هذا: «هنري، أيها المراوغ، إلى أين تتسلل هكذا؟». واستدارت هذه الفتاة ذات الشعر الأحمر الجميل الطويل ونحيلة القوام ونظرت إليّ كأنها ترى سيداً مبجلاً، تضورت معدتي. من الواضح أنها تعرفني، وأنا لا أعرفها. اﷲ وحده يعلم ما قلته، أو فعلته، أو وعدت به هذه المخلوقة المتألقة، لهذا أُجبرت على أن أقول كما يقول أمناء المكتبات: «كيف يمكنني مساعدتك؟». شهقت الفتاة قائلة: «هنري!». بهذه الطريقة العاطفية التي أقنعتني بها أنه في مرحلة ما من الزمن جمعنا شيءٌ مدهشٌ فعلاً. وما زاد الأمر سوءاً هو أنني لم أكن أعرف عنها شيئاً، ولا حتى اسمها. قلت لها: «هل سبق لنا أن التقينا؟». رمقتني إيزابيل بنظرة كأنها تقول لي: «أيها الأحمق». بَيد أن الفتاة قالت لي: «أنا كلير أبشير. أعرفك منذ أن كنت فتاة صغيرة». ثم دعتني إلى تناول العشاء. قبلت الدعوة مذهولاً. احمرت خجلاً أمامي بالرغم من أنني لم أكن حليق الذقن، ولا في أفضل حالاتي. سنلتقي على العشاء هذا المساء، في مطعم بوو التايلندي، بعد أن ضمنت أنها ستلتقي بـي في ما بعد، انطلقت خارجة من قاعة المطالعة. وأنا أقف في المصعد، اعتراني الدوار، وأدركت أن تذكرة اليانصيب التي ربحت الجائزة الكبرى والتي فرت من مستقبلي، قد وجدتني بطريقة ما هنا في الحاضر، ورحت أضحك. عبرت الردهة، ونـزلت الدرج بسرعة متوجهاً إلى الشارع فرأيت كلير وهي تركض في ساحة واشنطن، وتقفز وتهتف، كدت أبكي من دون سبب. في ما بعد من ذاك المساء هنري: عند الساعة السادسة مساء، هرعت إلى المنـزل خارجاً من عملي، وحاولت أن أجعل من نفسي جذاباً. المنازل في هذه الأيام صغيرة جداً لكنها باهظة الثمن بشكل لا يصدقه عقل وهي مجرد شقة استديو في شمال ديربورن، ودائماً أصطدم بجدرانها ونوافذها وأثاثها. الخطوة الأولى: فتح قفل باب الشقة المؤلف من سبع عشرة برمة، أندفع إلى غرفة المعيشة والتي هي أيضاً غرفة نومي، وأبدأ بخلع ملابسي. الخطوة الثانية: أستحم، وأحلق ذقني. الخطوة الثالثة: أبحث يائساً داخل خزانتي، وشيئاً فشيئاً أُدرك أنه لا توجد لديّ ملابس نظيفة. وأكتشف قميصاً أبيض لا يزال في سلة الغسيل الجاف. أقرر أن أرتدي البذلة السوداء، وأضع ربطة العنق مستدقة الطرفين المجنحة، ذات اللون الأزرق الفاتح. الخطوة الرابعة: بعد أن أقوم بكل هذا، أرى أنني أصبحت أشبه بعميل للأف بـي آي. الخطوة الخامسة: أنظر حولي وأدرك أن الشقة في حالة فوضى، وأخلص إلى أنني لن أدعو كلير إلى شقتي الليلة، حتى لو كان هناك ثمة أمل في ذلك. الخطوة السادسة: أنظر إلى مرآة الحمام ذات الطول الطبيعي، فأرى فتى في العاشرة من عمره شديد النحول متوحش العينين الواسعتين أشبه بإيغون شيلي مرتدياً قميصاً نظيفاً وبذلة مدير مراسم دفن، وأتساءل: ما البذلات التي رأتني فيها هذه المرأة؟ حيث يبدو واضحاً أنني لم أصل من مستقبلي إلى ماضيها وأنا أرتدي ملابسي الخاصة بـي. قالت لي إنها تعرفني منذ أن كانت فتاة صغيرة! خطرت في ذهني أسئلة لا أجوبة لها، توقفت لأستعيد أنفاسي للحظة. حسناً، أخرجت محفظتي ومفاتيحي، وخرجت، أقفلت الباب، وهبطت في المصعد الصغير المتهالك، واشتريت زهوراً لكلير من المحل الموجود في الرواق، واجتزت مبنيين متوجهاً نحو المطعم بوقت قياسي ولا تزال لديّ خمس دقائق حتى يحين الموعد. كانت كلير تجلس أمام إحدى الموائد وعندما رأتني بدا عليها الارتياح. لوّحت إليّ بيدها كأنها في موكب. قالت لي: «مرحباً». كانت ترتدي رداءً مخملياً خمري اللون وتضع طوقاً من اللؤلؤ. بدت مثل بوتشيللي بأسلوب جون غراهام(2): عينان رماديتان واسعتان، أنف طويل، فم دقيق وصغير كفتاة الغيشا(3). شعرها طويل أحمر يغطي كتفيها وينسدل حتى منتصف ظهرها. كان وجهها شاحباً وبدت تحت نور الشمعة شاحبةً. قلت لها وأنا أقدم الأزهار إليها: «هذه من أجلك». قالت كلير بسعادة عبثية: «شكراً لك». نظرت إليّ، وأدركت أن جوابها أربكني. «لم يسبق لك أن أهديتني زهوراً من قبل». انسللت لأجلس إلى الجانب المقابل لها أمام الطاولة. كنت مفتوناً. هذه المرأة تعرفني، هذه ليست مجرد معرفة شخصية عابرة من تقويمي المستقبلي. تقدم النادل وأعطانا لائحة الطعام. قلت لها: «أخبريني». «عمّ؟». «عن أي شيء. أعني، هل تفهمين لماذا لا أعرفك؟ أنا حقاً آسف جداً حيال هذا -؟». «آه، لا، لا داعي للأسف. أعني، أنا أعرف... لم يحدث هذا». قالت كلير بصوت منخفض: «بالنسبة إليك لم يحدث الأمر بعد، أما بالنسبة إليّ، حسناً، فقد عرفتك منذ زمن بعيد». «منذ متى؟». «منذ نحو أربعة عشر عاماً. كنت في السادسة من عمري عندما رأيتك للمرة الأولى». «يا اﷲ! هل كنت ترينني غالباً؟ أم بضع مرات فقط؟». «آخر مرة رأيتك فيها أخبرتني أن أُحضر هذا معي إلى العشاء عندما نلتقي مجدداً». أرتني كلير مذكرة لطفل، ذات لون أزرق باهت. «وبما أننا هنا». - أعطتني إياها - «تستطيع أن تأخذها». ناولتني المذكرة ففتحتها على صفحة قد أشير إليها بقصاصة جريدة. كانت الصفحة التي فتحتها، عليها صورة ديكين في أعلى الزاوية اليمنى من الصفحة عبارة عن لائحة بمواعيد. تبدأ هذه اللائحة بتاريخ 23 أيلول من العام 1977، وتنتهي بعد ست عشرة صفحة صغيرة زرقاء اللون في تاريخ 24 أيار من العام 1989. أخذت أحسب، هناك 152 موعداً، كُتبت بعناية فائقة بقلم أزرق اللون كبير لطفلة في السادسة من العمر. سألتها: «هل أنتِ من وضع هذه اللائحة؟ أكل هذه التواريخ صحيحة؟». أجابتني: «أنت من أهديتني إياها في حقيقة الأمر. لقد قلت لي منذ سنوات خلت إنك تحفظ التواريخ في هذه اللائحة. ولهذا لا أدري كيف وجدت هذه اللائحة، أعني، تبدو كأنها شريط متواصل ليست له بداية ولا نهاية، لكنها مضبوطة. استخدمتها لأعرف متى أذهب إلى المرجة الخضراء لأقابلك». جاء النادل وطلبنا منه ما نريد، طلبنا حساء توم خاكاي من أجلي، وطبق غانغ التايلندي لكلير. أحضر النادل الشاي وصببت فنجانين. «ما المرجة الخضراء هذه؟». بدأ هذا الأمر يثيرني. لم يسبق لي أن التقيت أحداً من مستقبلي قبل هذا، وأقله بوتشيللي هذا الذي صادفني 152 مرة في حياتي. «تقع المرجة الخضراء حيث يعيش والدي في ميتشغان. توجد غابة عند إحدى حوافها، ومنـزل في الجانب الآخر، وفي الوسط تقريباً توجد فسحة من دون أشجار، مساحتها نحو عشر أقدام فيها صخرة كبيرة، وإذا كنت في هذه البقعة من الأرض فلا يستطيع أحد أن يراك لأنها بقعة مرتفعة ثم منخفضة. اعتدت أن ألعب هناك لأنني كنت أحب اللعب بمفردي، وكنت أظن أنّ ما من أحد يعرف أنني هناك. في أحد الأيام، عندما كنت في الصف الأول، عدت إلى المنـزل قادمة من المدرسة، وذهبت إلى هذه المرجة ورأيتك». «عارياً تماماً، بل وربما كنتُ أتقيأ». أجابتني كلير: «تماماً، بدوت متمالكاًً نفسك. أذكر أنك كنت تعرف اسمي، وأذكر أنك اختفيت من أمامي على نحو مدهش. وإذا فكّرنا في الأمر ملياً، يبدو واضحاً أنك كنت هناك من قبل. أعتقد أن المرة الأولى بالنسبة إليك كانت في العام 1981؛ كنت أنا في العاشرة من عمري آنذاك. كنت تردد، يا اﷲ. وأنت تحدق إليّ. كما بدا عُريك حالة استثنائية، وسلمت جدلاً أنه - وبشيء من السحر - سيظهر هذا الفتى العاري في المستقبل ويطلب الثياب». وأضافت كلير مبتسمة: «والطعام». «يا له من أمر مضحك». «أعددت لك وجبات طعام لذيذة وغريبة على مدى سنوات. شطائر زبدة الفول السوداني والآنشوفة، فطائر اللحم والشمندر، وبسكويت ريتز الهش. أعتقد أنني كنت أريد أن أرى إذا ما كان هناك أي شيء لا تريد أن تأكله، ولربما كنت أحاول أن أحرجك ببراعة طهوي». «كم كان عمري آنذاك؟». «أعتقد أنني رأيتك وأنت في الأربعين من عمرك تقريباً. لست متأكدة إن كنت أصغر من هذا، لربما كنت في الثلاثين؟ كم عمرك اليوم؟». «ثمانية وعشرون». «تبدو أصغر سناً اليوم في نظري. في السنوات القليلة الماضية كنت في الأربعين، وكأنك كنت تعاني من حياة قاسية... أجد صعوبة في قول هذا، عندما تكون صغير السن يبدو لك جميع الأشخاص البالغين كباراً وضخاماً». «وماذا فعلنا حينها؟ في المرجة الخضراء؟ كان هناك متسع من الوقت». ابتسمت كلير وتابعت كلامها: «قمنا بأشياء كثيرة. كان كل ما نفعله يتغير مع تبدل عمري، وتغير الطقس. لقد أمضيت الكثير من الوقت وأنت تساعدني على القيام بفروضي المدرسية، وكنا نلعب، وفي معظم الأحيان كنا نتكلم حول أمور عدة. عندما كنت صغيرة فعلاً اعتقدت أنك نوع فريد من البشر، سألتك أسئلة كثيرة حول اﷲ، وعندما كنت في سن المراهقة طلبت منك الحميمية القصوى، ولم تستجب لي إطلاقاً، وهذا ما جعلني أكثر تصميماً حول هذا الموضوع. أعتقد أنك كنت تخاف نوعاً ما من أن تفسدني في ما يخص هذا الموضوع تحديداً. لقد كنت بطريقة ما أبوياً جداً». «أوه. هذه أخبار جيدة. ولكن، للحظة لا أبدو أنني أريد أن أكون أبوياً معكِ». التقت نظراتنا، ابتسمنا وقد عزمنا على أمر. «وماذا عن الشتاء؟ فالشتاء قارس في ميتشغان». «اعتدت أن أهرب بك إلى القبو عندنا، حيث كان في المنـزل طابق سفلي كبير جداً فيه العديد من الغرف، وإحدى هذه الغرف كانت عبارة عن مستودع يوجد فيها فرن يقبع في الجانب الآخر من الجدار. كنا ندعوها غرفة القراءة لأن كل الكتب القديمة عديمة الفائدة، والمجلات كانت مخزنة هناك. كنتَ هناك ذات مرة عندما هبت عاصفة ثلجية ولم يذهب أحد إلى المدرسة أو العمل وكدت أُجن وأنا أحاول أن أحصل لك على الطعام لأنه لم يكن لدينا الكثير من الطعام في المنـزل. كان من المفترض أن تذهب إيتا لتتسوق من البقال عندما هبت العاصفة، وكنت منغمساً في قراءة مجلة المختار لمدة ثلاثة أيام، وأنت تقتات على علب السردين والمعكرونة». وصلت وجباتنا: «يبدو أن الطعام مالح، أتطلع إلى تناوله». سألتها: «هل تعلمت الطهو؟». «كلا، لا أدعي أنني أعرف كيف أطهو. كانت نيل وإيتا تصابان بالجنون عندما كنت أقوم بأي عمل في المطبخ إلا إذا كنت سأتناول الكولا، وبما أنني انتقلت إلى شيكاغو ولا يوجد من أطهو لأجله، لم أجد حافزاً حتى أتعلمه. كنت في معظم الأحيان منشغلة بالمدرسة، لهذا كنت أتناول طعامي هناك». تذوقت كلير من طبقها: «لذيذ فعلاً». «من نيل وإيتا؟». ابتسمت كلير قائلة: «نيل هي طباختنا. إنها تُشبه لحم الكوردون بلو الذي يُناسب ولاية ديترويت. وهي تشبه المطربة أريثا فرانكلين كما لو كانت طفلة جوليا. وإيتا سيدة المنـزل وتراها موجودة في كل مكان. تكاد تكون بمثابة أمنا، أعني أن والدتي كانت... حسناً، كانت إيتا حاضرة دوماً، وهي ألمانية ذات شخصية صارمة، ومع ذلك كانت مريحة، أما والدتي، فكانت بعيدة كما الغيوم، أتفهم ذلك؟». أومأت برأسي، لأن فمي كان مملوءاً بالحساء. أضافت كلير: «أوه، وهناك بيتر، البستاني». «واو! لدى عائلتك الكثير من الخدم! يبدو هذا خارج طبقتي الاجتماعية. هل سبق لي، أ... أن التقيت أحداً من أفراد عائلتك؟». «التقيت جدتي ميغرام قبيل وفاتها. كانت الوحيدة في العائلة التي حدثتها عنك. كانت مصابة تقريباً بالعمى آنذاك. وعرفت أننا سنتزوج، فأحبت أن تلتقيك». توقفت عن تناول الطعام، ونظرت إليها. كانت تنظر إليّ بالمقابل، كانت صافية، ومستريحة تماماً. «هل سنتزوج؟». أجابتني: «أعتقد ذلك، بقيتَ لسنوات وأنت تكرر لي أنك عندما ستأتي من... ستتزوجني». هذا كثير. كثير جداً. أغلقت عينيَّ وأنا أجبر نفسي على عدم التفكير في أي شيء، فآخر شيء كنت أريده هو أن تفلت زمام الأمور من يديّ الآن. أحسست بكلير وهي تجلس إلى جانبـي وتقول: «هنري؟ هنري هل أنت بخير؟». فتحت عينيّ فأمسكت بيدي بقوة. نظرت إلى يديها فرأيتهما خشنتين ومتشققتين كيدي عامل. «هنري أنا آسفة، لا أستطيع أن أعتاد على هذا الأمر. كل شيء يسير بعكس الاتجاه. أعني، كنت أنت طوال حياتي الشخص الذي يعرف كل شيء وكأنني نسيت الليلة أن أتمهل قليلاً». ابتسمت، وأكملت حديثها: «في حقيقة الأمر، كان آخر ما قلته قبل أن ترحل هو هذه الكلمات، ارحميني يا كلير. قلت هذا وكأنك تقتبس قولاً ما، وأعتقد أنه كان كلاماً مقتبساً» بقيت ممسكة بيدي. نظرت إليّ نظرةً تواقةً بحب، وأحسست بقهر عميق. «كلير؟». «نعم؟». «هل نستطيع العودة إلى الوراء؟ هل نستطيع أن ندّعي أن هذا هو اللقاء الأول بين شخصين عاديين؟». «لمَ لا؟». نهضت وعادت إلى مكانها إلى الطاولة. جلست وحاولت ألاّ تبتسم. «همم، حسناً. آه، كلير، آه، حدثيني عن نفسك. عن هواياتك! وحيواناتك الأليفة! وميولك الحميمية غير العادية!». «اكتشف هذا بنفسك». «حسناً. سنرى... أين تدرسين؟ وماذا تدرسين؟». «أنا في معهد الفنّ، أصنع التماثيل، وبدأت لتوي بدراسة صناعة الورق». «لطيف، وماذا يشبه عملك؟». بدا على وجه كلير لأول مرة عدم الارتياح، وقالت: «إنه عمل... كبير، حول... الطيور». نظرت إلى الطاولة، ثم ارتشفت الشاي. «الطيور؟». «حسناً، إنه حول، هممم، الاشتياق». وكانت لا تزال لا تنظر إليّ، لذا غيرت الموضوع. «حدثيني أكثر عن عائلتك؟». بدا الارتياح على وجهها وقالت مبتسمة: «لمَ لا؟ حسناً... تعيش عائلتي في ميتشغان، في مدينة صغيرة تقع على حافة بحيرة تدعى ساوث هيفن، أما منـزلنا فيقع في منطقة من ملكية خاصة خارج المدينة، وتعود ملكيتها إلى أهل والدتي، جدي وجدتي ميغرام. توفي جدي قبل ولادتي، وعاشت جدتي معنا حتى وفاتها. كنت حينها في السابعة عشرة من عمري. كان جدي محامياً، وكذلك والدي، التقى أبـي أمي عندما أتى ليعمل مع جدي». «إذاً تزوج ابنة رئيسه في العمل». «أجل. وأتساءل أحياناً إذا ما تزوج حقاً ابنة صاحب المنـزل. كانت والدتي الابنة الوحيدة، وكان المنـزل رائعاً، يوجد فيه الكثير من الكتب حول حركة الفنون والحِرَف اليدوية الأميركية». «هل كان للمنـزل اسم؟ من بناه؟». «كان يدعى منـزل المرجة الخضراء، وبناه بيتر وينس في العام 1896». «واو! رأيت صوراً له. لقد بُني من أجل أحد أفراد أسرة هندرسون، صحيح؟». «أجل. كان عبارة عن هدية زواج لماري هندرسون وديتر باسكومب. وبعد انتقالهما إلى المنـزل بعامين تطلقا وباعا المنـزل». «منـزل ممتاز». «أفراد عائلتي ممتازون ورائعون. كانوا متخوفين منه أيضاً». «أشقاء وشقيقات؟». «مارك في الثانية والعشرين من عمره، أنهى دراسته التمهيدية في القانون في جامعة هارفارد. وأليسيا في السابعة عشرة من عمرها، وستنهي دراستها الثانوية، وهي عازفة فيلونسيل». عندما ذكرت أختها لاحظت علامات التأثر على وجهها، أما عندما ذكرت أخاها فكان وجهها بلا ملامح. «ألا تحبين أخاك؟». «مارك يشبه والدي. كلاهما يحبان الفوز، يبقيان يلاحقانك حتى تخضع لهما». «دائماً أحسد الناس الذين لديهم إخوة، حتى لو لم يكونوا يحبونهم كثيراً». «أأنت ولد وحيد؟». «أجل. اعتقدت أنك تعرفين كل شيء عني؟». «في حقيقة الأمر، أعرف كل شيء ولا أعرف شيئاً. أعرف كيف تبدو من دون ملابس، ولكن حتى ظهر هذا اليوم لا أعرف ما كنيتك. أعرف أنك تعيش في شيكاغو، لكنني لا أعرف شيئاً عن عائلتك سوى أن أمك لقيت مصرعها في حادث سيارة عندما كنتَ في السادسة من عمرك. أعرف أنك تعرفُ الكثير حول الفنّ. وتتكلم الفرنسية والألمانية بطلاقة، لم تكن لديّ أدنى فكرة أنك أمين مكتبة. كان من الصعب عليّ جداً أن أهتدي إلى مكانك في الزمن الحاضر، قلت إن هذا سيحدث عندما يُقَدّر له أن يحدث، وها نحن ذا». وافقتها قائلاً: «وها نحن ذا، حسناً، عائلتي ليست بالعائلة الثرية، إنها عائلة موسيقية. والدي هو ريتشارد دي تامبل ووالدتي هي أنيت لين روبينسون». «آه! المغنية؟!». «تماماً، وهو عازف كمان أيضاً. عزف في فرقة شيكاغو السيمفونية. لكنه لم يشتهر بالطريقة التي اشتهرت بها والدتي. كان أمراً مخزياً لأن والدي كان عازف كمان لا غبار عليه. وحاول بعد وفاة والدتي أن يتابع حياته بصعوبة». وصلت فاتورة الحساب. لم يأكل أحدنا الكثير، ربما لأنني لم أكن أهتم بالطعام الآن. أخرجت كلير حقيبتها فهززت لها رأسي. ودفعت أنا، غادرنا المطعم، ووقفنا في شارع كلارك في ليلة خريفية جميلة. كانت كلير ترتدي معطفاً أزرق فضفاضاً، وتضع وشاحاً من الفرو. كنت قد نسيت أن أحضر معطفي، لهذا أخذت فرائصي ترتعدُ من البرد. سألتني كلير: «أين تعيش؟». «أوه. أعيش على بعد مبنيين من هنا، في منـزل صغير، وقد خرجت منه اليوم وهو في غاية الفوضى، وأنت أين تقطنين؟». «في روسكو فيلليج، في هوين. أعيش مع فتاة أخرى». «إذا ما زرتني في منـزلي، فعليكِ أن تغلقي عينيك وتعدّي حتى الألف. أو ربما يفترض بزميلتك أن تكون صماء وغير فضولية». «لست محظوظة إلى هذا الحدّ. لم أدعُ أحداً إلى شقتنا، قد تنقض عليك كاريس عندما تراك وتغرس في أصابع يديك قطع الخيزران الصغيرة إلى أن تبوح لها بكل شيء». «كم أحب أن تعذبني فتاة تدعى كاريس، لكنني أرى أنك لا تشاركينني ذوقي. تعالي معي إلى غرفتي». سرنا في شارع كلارك. عرجنا إلى محل لبيع المشروبات لأشتري زجاجة من الشراب الفرنسي، وعندما عدتُ، رأيت كلير تقف مذهولة. «كنت أعتقد أنه ليس من المفروض أن تشرب؟». «أنا لا أشرب!». «كان كيندريك صارماً في هذا الموضوع». «ومن هذا كيندريك؟». سرنا على مهل لأن كلير كانت تنتعل حذاء يتعبها في أثناء سيرها. «إنه طبيبك، وهو من كبار الأخصائيين في مرض العجز في التوافق الزمني». «اشرحي لي أكثر». «لا أعرف الكثير. فالدكتور كيندريك، أخصائي في علم الوراثة الجزيئية، هو الذي اكتشف - سيكتشف - لماذا يصاب الناس بعجز في التوافق الزمني. إنه أمر يتعلق بالجينات، وهو من اكتشفه في العام 2006». تنهدت، ثم أردفت: «أعتقد أن الوقت لا يزال مبكراً. قلت لي ذات مرة إنه سيصاب الكثير من الناس بهذا المرض بعد نحو عشر سنوات من الآن». «لم أسمع عن أحد قط يعاني من هذا العجز -». «حتى لو ذهبت الآن والتقيت الدكتور كيندريك اليوم، فلن يكون قادراً على مساعدتك. ولو استطاع، لما التقينا يوماً». «دعينا من هذا». كنا قد وصلنا إلى بهو العمارة التي أقطن فيها. سبقتني كلير إلى المصعد الصغير، أغلقتُ باب المصعد، وضغطتُ على زر الطابق الحادي عشر. كانت رائحتها أشبه برائحة ثوب قديم، وصابون، وعرق، وفرو. تنفست بعمق، توقف المصعد عند الطابق الذي توجد فيه شقتي، وخرجنا من المصعد، وسرنا في الرواق الضيق. أمسكت بمفاتيح الشقة بقوة، وفتحت باب الشقة رقم 107 بخفة. «أصبح الوضع أسوأ في أثناء العشاء. سأضع على عينيك عصابة». كانت كلير تضحك بصوت عالٍ وأنا أضع زجاجة الشراب الفرنسي وأنـزع ربطة عنقي. وضعت ربطة العنق على عينيها بإحكام وربطتها خلف رأسها. فتحت الباب، وأدخلتها الشقة، وأجلستها على كرسي وقلت: «حسناً ابدأي العد». راحت كلير تعد. أما أنا، فأسرعت بالتقاط ثيابـي الداخلية وجواربـي المبعثرة في أرجاء الغرفة، ورحت أجمع الملاعق وصحون فناجين القهوة من كل زوايا الغرفة ووضعتها في حوض غسيل الصحون في المطبخ. وهي تقول: «تسعمائة وواحد وسبعون». كنت أنـزع ربطة العنق عن عينيها. رفعت أريكة الجلوس من وضعية النوم إلى وضعية الجلوس، وجلست عليها. «شراب؟ موسيقى؟ شموع؟». «أجل، لو سمحت». نهضت، وأشعلت الشموع. عندما انتهيت أطفأت النور، وأخذت الغرفة تتراقص على أضواء الشموع، فبدا كل شيء أجمل. وضعت الزهور في المزهرية، كما وضعت مفتاح الزجاجة على الغطاء، وأخرجت الغطاء الفليني، وسكبت الشراب في كأسين. وبعد تفكير دام لحظة وضعت سي دي EMI لوالدتي وهي تغني الأغاني الألمانية لشوبرت، وأخفضت الصوت. كانت شقتي عبارة عن أريكة، وكرسي بذراعين، ونحو أربعة آلاف كتاب. قالت كلير: «كم هذا جميل!». نهضت ثم جلست على الأريكة، جلست بالقرب منها. مرت لحظة شعرت فيها بالارتياح عندما جلسنا ونحن نتبادل النظرات. كانت أضواء الشموع تتلألأ على شعر كلير. مدت يدها ولمست بها خدي. «كم هو جميل أن أراك، كنت أشعر بالوحدة». جذبتها إليّ. تعانقنا... قبلة مريحة، قبلة خرجت من علاقة طويلة، وتساءلت ما الذي كنا نفعله عند المرجة الخضراء قرب منـزل كلير، لكنني أبعدت هذه الأفكار عن رأسي. تباعدت شفاهنا، عندما أصل عادة إلى هذه المرحلة أفكّر في ماذا سأفعل حتى أتغلب على هذا الحصن المنيع من الملابس؟ وبدلاً من أن أفكر في هذا، استلقيت على الأريكة، وأنا أجذب جسمها وأمسك بها من تحت ذراعيها وأدفعها، جعلها الثوب المخملي الذي ترتديه سهلة الانـزلاق على جسدي فبدت وهي ممدة فوقي كثعبان ماء مخملي. كانت تواجهني وأنا أستند إلى يد الأريكة. استطعت أن أخمن طولها بعد أن دفعتها إلى جسدي -. «أيها المسكين». «ولماذا، تقولين مسكين؟ أنا في حالة صراع مع السعادة». وهذا صحيح. «أوه، لأنني كنت ألقي كل هذه المفاجآت عليك كجلمود صخر». قلت لها: «لا تتحركي». «حسناً. يا لهذه الأمسية المسلية جداً. أعني، المعرفة قوة، وما إلى ذلك. كما أنني كنت فضولية جداً لأعرف أين تسكن، وماذا ترتدي من ثياب، وماذا تفعل لكسب عيشك». «Voila». جعلت يديّ تنـزلقان تحت ثوبها. كانت ترتدي جورباً وتضع أربطة له. كانت من نوع الفتيات المفضل لديّ. «كلير؟». «Oui». «أرى أنه من المخجل أن نفضي بكل ما لدينا دفعة واحدة. أعني، التريث قليلاً لن يضرنا في شيء». خجلت كلير من نفسها. «أنا آسفة! ولكن، كما تعلم، في وضعي، كنت أتوقع لسنوات، والأمر ليس مجرد قطعة كيك... تأكلها وينتهي الأمر». «إذاً، اصنعي كعكتك والتهميها أيضاً». «هذا شعاري في الحياة». «تحصلين على ما تريدينه دائماً، أليس كذلك؟». «دائماً. أنا فظيعة. عدا عن أنك كنت لا تتأثر بأساليبـي الملتوية. عانيت كثيراً تحت نظامك من الأفعال الفرنسية ومراجعك». «أعتقد أنه يجب أن أتلقى العزاء من الآن، لأن ذاتي المستقبلية ستبقى لديها بعض أسلحتها عند إخضاعها. هل تخضعين كل الفتية؟». وقفت كلير موقف المدافع، ولا أعرف بالضبط كم كان ذلك حقيقياً «لم أحلم أن أفعل هذا مع الفتية. يا لأفكارك!». حلّت أزرار قميصي. «يا اﷲ كم أنت... يافع». قرصتني من حلمتي، بقسوة. فلتذهب الفضيلة إلى مكانٍ ما. في الصباح التالي كلير: نهضت وأنا لا أدري أين أنا. لا يبدو السقف مألوفاً بالنسبة إليّ، وهناك أصوات سيارات بعيدة، رفوف كتب، وكرسي أزرق ملقى عليه ثوب مخملي وربطة عنق لرجل مرمية على الثوب. ثم تذكرت. أدرت رأسي فوجدت هنري؛ بسيط للغاية، كأنني كنت أقوم بهذا طوال حياتي. كان ينام بلا مبالاة، وقد لف جسده بكسل غريب، وكأنه خرج لتوه من شاطئ بحر، إحدى يديه على عينيه ليحجب بها نور الصباح، وشعره الأسود الطويل مبعثر على الوسادة. بسيط للغاية. ها نحن ذا، هنا والآن، والآن أخيراً. نهضت عن الفراش بهدوء، وسرير هنري عبارة عن أريكة. أصدرت نوابض الأريكة أصواتاً خلال نهوضي. لم تكن هناك مسافة كافية تفصل بين السرير ورفوف الكتب، لذا، سرت بالمحاذاة، بين الأريكة وبينها، حتى شققت طريقي إلى الردهة. كانت غرفة النوم صغيرة جداً. شعرت كأنني أليس في بلاد العجائب، تضخمت حتى خرجت ذراعي من النافذة لأتمكن من الاستدارة بجسدي. كانت المدفأة الكهربائية الصغيرة تصدر أصواتاً وهي تُخرج الحرارة منها. قضيت حاجتي وغسلت يديّ ووجهي. لاحظت وجود فرشاتيّ أسنان على حاملة فراشي الأسنان البيضاء الخزفية. فتحت خزانة الأدوية، فوجدت فيها آلة للحلاقة، ومعجون حلاقة، وعطر ما بعد الحلاقة، ومخلاً للأسنان، وفوق الرف الرخامي الأزرق كان يوجد مزيل للعرق، ومطرٍّ لليدين، وقطن لوقف النـزيف، وحقيبة صغيرة من القماش، ومزيل عرق آخر، ومطرٍّ للشفاه، وعلبة فيتامين، وواقٍ ذكري على الرّف السفلي. وكان لون أحمر الشفاه أحمر داكناً. وقفت هناك، ممسكة بأحمر الشفاه. أحسست بدوار خفيف. تساءلت بيني وبين نفسي كيف تبدو الفتاة، وما اسمها. كما تساءلت كم مضى عليهما معاً. أعتقد أنهما معاً منذ فترة طويلة جداً. أعدت أحمر الشفاه إلى مكانه، وأغلقت الخزانة، رأيت نفسي في المرآة، بدوت شاحبة الوجه، وشعري يتطاير في الأنحاء كافة. حسناً، أينما كنتِ، فأنا هنا الآن. إن كنتِ ماضي هنري، فأنا مستقبله. ابتسمت لنفسي. انعكست تكشيرتي على المرآة. استعرت ثوب الحمام الوبري لهنري من وراء باب الحمام، وكان يوجد تحته ثوب حريري أزرق فاتح. وقد شعرت بالراحة لارتدائي ثوبه. عدت إلى غرفة المعيشة، كان هنري لا يزال نائماً. أخذت ساعة يدي عن حافة النافذة فرأيت أنها تشير إلى الساعة السادسة والنصف فقط. كنت قلقة فلم أتمكن من العودة إلى السرير مرة أخرى. تمشيت في المطبخ باحثة عن قهوة. كانت كل النضد، وكذلك الفرن، مغطاة بأكوام من الصحون، والمجلات، ومواد أخرى للقراءة. حتى إنه كان يوجد جورب في المغسلة. أدركت أن هنري قد وضع كل شيء في المطبخ الليلة الماضية، كيفما اتفق. كنت أتصور دائماً أن هنري إنسان مرتب ومنظم، واتضح لي أنه من هؤلاء الذين يتأنقون في مظهرهم الخارجي الشخصي، لكنه في قرارة نفسه مهمل في ما عدا ذلك. وجدت جهاز صنع القهوة، فأخذت أعد القهوة. في أثناء انتظاري أخذت أتمعن في رفوف كتب هنري. هنري هو نفس هنري الذي أعرفه. كتاب الشاعر دون المراثي، والأغاني، والسونيتات، وكتاب كريستوفر مارلو الدكتور فاوست، وكتاب الغداء العاري لآن برادستريت، وإيمانويل كانت، وبارثس، وفوكولت، وديريدا، وكتاب الشاعر بليك أغان للبراءة والتجربة، وكرتون ويني ذا بوو. وحواشٍ على كتاب أليس، وهيدجر، وريلكه، وكتاب تريستان شاندي، ورحلة ويسكونسين المميتة، وأرسطو، والأسقف بيركلي، وأندرو مارفل، وكتاب بعنوان انخفاض حرارة الجسم، وقضمة الجليد وإصابات البرد. سمعت صوت صرير السرير فوثبت إليه. كان هنري قد نهض، وهو ينظر إليّ بعينين نصف مغمضتين تحت ضوء الصباح. كان شاباً جداً، أكثر من قبل. لم يعرفني بعد. اعتراني خوف مفاجئ من أن يكون قد نسي من أنا. قال لي: «تبدين باردة، تعالي إلى السرير يا كلير». قلت له وأنا أقدم إليه القهوة: «لقد صنعت القهوة». «همم، أستطيع أن أشم رائحتها. ولكن قبل كل شيء، تعالي وقولي لي صباح الخير». صعدت إلى السرير وأنا لا أزال أرتدي ثوب الحمام نفسه. وهو يضع يده تحت الثوب توقف للحظة، أدركت أنه أدرك شيئاً، وراجع في عقله ما حدث معي في الحمام (4)vis-à-vis. سألني: «أيزعجك هذا الأمر؟». ترددت في الإجابة. «أجل. إنه أمر مزعج، بالطبع». نهض هنري، كما نهضت أنا أيضاً. أدار رأسه تماماً نحوي. «لقد انتهى الأمر على كل حال». «تقريباً؟». «كنت على وشك الانفصال عنها. إنه التوقيت السيئ فحسب، هذا كل ما في الأمر. أو إنه التوقيت الجيد، لا أدري». حاول هنري أن يقرأ تعابير وجهي، لماذا؟ لأغفر له؟ هذا ليس خطأه. كيف له أن يعرف هذا؟ وأردف: «كنا نعذب بعضنا منذ فترة طويلة من الوقت -». كان يتحدث بسرعة كبيرة ثم توقف. «هل تحبين أن تعرفي؟». «لا». «شكراً». مرر هنري يده على وجهه. «أنا آسف. لم أكن أعلم أنك ستأتين، وإلا لكنت نظفت المكان قليلاً. حياتي، أعني، ليس الشقة فقط». كانت توجد لطخة من أحمر الشفاه تحت أذن هنري، مددت يدي وأزلتها. أمسك بيدي. «هل أنا مختلف جداً عما توقعت؟». سألني بقلق. «نعم... أنت أكثر...» أنانية، كنت سأقول له، لكنني قلت: «... شباباً». فكّر في ما قلت له. «أهذا بالأمر الجيد أم بالأمر السيئ؟». «مختلف فحسب». طوقت هنري بذراعيّ، ومررتهما فوق ظهره، دلكت له ظهره، اكتشفت تضاريس فقراته. «هل رأيت نفسك وأنت في الأربعين من عمرك؟». «أجل، أبدو مستقيم الظهر وأبتر». «أجل. لكنك أقل - أعني أنك أشبه بـ - أكثر. أعني، أنك تعرفني، إذاً...». «أنت الآن تقولين لي إنني أخرق إلى حدٍّ ما». هززت رأسي بالنفي، بالرغم من أنني أعني ما قلته. «أعني أنني بعد كل هذه التجارب التي مررت بها... إلا أنني لم أعتد أن أبدأ علاقة معك وأنت لا تتذكر أي شيء مما حدث». كان الحزن يبدو على هنري. «أنا آسف. لكن الشخص الذي تعرفينه لم يوجد بعد. ابقي معي، فعاجلاً أو آجلاً من المقدر له أن يظهر. وهذا أفضل شيء يمكن أن أقوم به». قلت له: «هذا منصف. ولكن في غضون ذلك...». استدار فرآني أحدق إليه. «في غضون ذلك؟». «أريد...». «تريدين؟». احمر وجهي. ابتسم هنري، ودفعني إلى الوراء بهدوء نحو الوسائد. «أنت تعرف». «لا أعرف الكثير، لكنني أستطيع أن أخمن شيئاً أو اثنين». وفي ما بعد، غفونا وشمس منتصف نهار تشرين الأول تغطينا، ونحن متلاحمان قال هنري شيئاً من خلف عنقي لم أفهمه. «ماذا؟». «كنت أفكّر في أنني أشعر بالأمان معك هنا. من الجميل أن نستلقي هنا ونحن نعرف أن هناك من سيعتني بنا في المستقبل». «هنري؟». «همم؟». «لماذا لم تخبر نفسك عني أبداً؟». «آه، لم أفعل هذا». «فعلت ماذا؟». «أنا لا أخبر نفسي مسبقاً ما لم يكن هناك شيء كبير يهدد الحياة؟ أحب العيش كأي شخص عادي. لا أحب التسكع في المكان، لهذا ترينني أحاول ألا أوقع نفسي بشيء ما لم يكن هناك أي خيار». فكّرت في ما قاله قليلاً. «أما أنا، فأخبر نفسي بكل شيء». «لا، لا تفعلي هذا. فهذا سيوقعك في المشاكل». «كنت أحاول دائماً أن أقول لك أن تخبرني بكل شيء». استلقيت على ظهري، وأمسك هنري رأسه وهو ينظر إليّ. كان وجهانا على بعد ستة إنشات عن بعضهما. كان من الغريب أن نتجاذب أطراف الحديث، كما كنا نفعل، لكن تقاربنا الجسدي جعلني أجد صعوبة في التركيز. سألني: «هل قلت لك شيئاً؟». «في بعض الأحيان. عندما كنت تشعر أنك تحب أن تحدثني بشيء، أو أنك تجد صعوبة في ذلك». «مثل ماذا؟». «أرأيت؟ تريد أن تعرف. لكنني لن أقول لك». ضحك هنري. «هذا يناسبني جداً. أنا جائع. هيا بنا نذهب لنتناول طعام الفطور». كان الجو بارداً في الخارج. وهناك سيارات ودراجات تسير في شارع ديربورن وأناس يتمشون على الأرصفة فانضممنا إليهم، تحت أشعة شمس الصباح، نسير يداً بيد، أخيراً أصبحنا معاً وعلى مرأى من الجميع. شعرت بشيء من الأسف، وكأنني أضعت سراً، ثم باندفاع وبشيء من التقدير قلت: «والآن بدأ كل شيء». (1) كيلمسكوت برس تشوسر Kelmscott Press Chaucer دار طباعة يدوية أسسها المصمم والكاتب ويليام موريس رغبة منه في إحياء فن الطباعة اليدوية التي اندثرت بسبب مكننة الطباعة حيث أعاد إحياء أعمال طباعة الرواد مثل تشوسر. (2) Botticelli by way of John Graham: جون غراهام (1920–2009) ضابط رفيع المستوى في البحرية الأميركية في أثناء الحرب العالمية الثانية، اتجه إلى دراسة التاريخ بعد وفاة ابنته، وقدم أطروحة دكتوراه عن فنان عصر النهضة الإيطالي بوتشيللي حيث قال إن في لوحته الشهيرة «ولادة فينوس» صوراً وملامح دقيقة من مقاطعة بروتوفينير الإيطالية. (3) فتاة الغيشا هي فتاة الرقص الياباني التقليدي. (4) ووجهه قبالة وجهي. المرة الأولى لكل شيء الأحد، 16 حزيران، 1968 هنري: كانت المرة الأولى ساحرة. كيف لي أن أعرف ما الذي كانت تعنيه؟ كان يوم ذكرى ميلادي الخامسة، وذهبنا إلى متحف العلوم والأحياء الطبيعية عن تاريخ الطبيعة. لا أتصور أنني ذهبت إلى هذا المتحف من قبل. أخذ والداي يحدثانني عن العجائب التي من الممكن أن أجدها هناك، والفيلة المحنطة الموجودة في القاعة الكبرى، والهياكل العظمية للديناصورات، ورسومات إنسان الكهف. كانت والدتي قد عادت لتوها من سيدني، وأحضرت لي فراشة ضخمة، زرقاء، من فئة بابيليو يوليسيس موضوعة في إطار مملوء بالقطن. أمسكت بها قريباً من وجهي، إلى درجة أنني لم أكن أرى سوى هذا اللون الأزرق. كنت أفيض بالمشاعر، بمشاعر كنت أحاول في ما مضى أن أضاعفها بالشراب، فوجدتها أخيراً ومرة أخرى مع كلير، الشعور بالوحدة، والسلوان، والغباء بكل ما للكلمة من معنى. شرح لي والدي قصصاً كثيرة حول الفراشات، والطائر الطنان، والخنافس. شعرت بالمتعة وأنا أنهض قبل الفجر. انتعلت حذاء الرياضة، وأخذت فراشتي، وخرجت إلى الحديقة، ونـزلت إلى النهر وأنا أرتدي بيجامتي. جلست على ضفة النهر، وأنا أراقب بزوغ ضوء النهار. رأيت سرباً من البط تسبح في النهر، ثم ظهر الراكون على الضفة، ونظر إليّ بفضول قبل أن يغسل فطوره ويأكله، ربما غفوت قليلاً. تناهى إلى مسمعي صوت والدتي وهي تناديني، ركضت وأنا أصعد الدرج، الذي كان زلقاً بسبب الندى، ركضت حذراً حتى لا أتزحلق وأوقع الفراشة. انـزعجت مني والدتي لأنني ذهبت إلى ضفة النهر بمفردي، لكنها لم تولِ اهتماماً كبيراً لهذا الأمر، لأن اليوم هو يوم ميلادي. لم يكن هناك ما يفعلانه في تلك الليلة، لهذا أخذا وقتهما، وارتديا ملابسهما، وخرجا من المنـزل. كنت جاهزاً قبل والديّ بفترة طويلة. جلست على سريرهما، وتظاهرت بقراءة شيء ما من مقطوعة موسيقية. كان ذاك هو الوقت الذي اكتشف فيه والداي الموسيقيان أن ذريتهما الوحيدة لا يملك موهوبة موسيقية. ليس لأنني لم أكن أحاول، بل لأنني لم أكن أستطيع أن أسمع ما كانا يسمعانه من الموسيقى. كنت أستمتع بسماع الموسيقى، لكن كان من الصعب عليّ أن أتوافق مع اللحن. وبالرغم من أنني كنت أقرأ الصحف وأنا في الرابعة من عمري، وكانت الأرقام عبارة عن خربشات سوداء جميلة بالنسبة إليّ، إلا أن والديّ كانا لا يزالان يأملان في أن يكون لديّ استعداد ولو خفي، لهذا عندما أمسكت بالنوتة الموسيقية، جلست والدتي إلى جانبـي، وحاولت أن تساعدني. وسرعان ما صارت والدتي تغني وأنا أجاريها بأصوات مخيفة، وأطرق بأصابعي مع اللحن، وكنا نضحك وهي تدغدغني. خرج والدي من الحمام وهو يربط منشفة حول وسطه، وانضم إلينا، ومرّت دقائق ونحن نغني معاً، وحملني والداي، وراحا يرقصان معاً، وأنا محصور بينهما. ثم رنّ جرس الهاتف، وانتهى هذا المشهد. وذهبت والدتي لتجيب على الهاتف، وضعني والدي على السرير، وارتدى ملابسه. أخيراً، كانا جاهزين. ارتدت والدتي ثوباً أحمر من دون كمين وانتعلت صندلاً، ووضعت الطلاء على أظافر أصابع قدميها ويديها بلون يتلاءم مع لون فستانها. كان والدي متألقاً وهو يرتدي بنطالاً أزرق داكناً وقميصاً أبيض قصير الكمين، كان بمثابة خلفية لأمي المتوهجة. تجمعنا كلنا في السيارة. كالعادة استمتعت بالمقعد الخلفي بمفردي، لذا، تمددت، وأخذت أنظر عبر زجاج السيارة إلى المباني المتطاولة على طول الطريق العام المحاذي للبحيرة ونحن نجتازها. قالت لي والدتي: «اجلس يا هنري فقد وصلنا». جلست ونظرت إلى المتحف. أمضيت طفولتي وأنا أتنقل بين عواصم أوروبا، لهذا كان متحف العلوم والأحياء الطبيعية يرضي فكرتي حول المتحف، غير أن واجهته الحجرية المقببة لم تبدُ لي استثنائية. لأن اليوم هو يوم الأحد، وجدنا صعوبة في ركن السيارة، وفي نهاية المطاف استطعنا أن نركن السيارة، ومشينا بمحاذاة البحيرة، وعبرنا القوارب والتماثيل وبعض الأطفال الفرحين الآخرين. مررنا بين أعمدة ثقيلة وتوجهنا إلى المتحف. عند تلك اللحظة أصبحت طفلاً مذهولاً. هنا تجمعت كل الطبيعة، وصنِّفت ونسِّقت وفقاً للمنطق. بالنسبة إلى ذاتي البالغة خمسة أعوام، التي تستطيع أن تستمد الفرح من فراشة واحدة، كانت الجولة في أرجاء المتحف بمثابة رحلة إلى رائعة أرى من خلالها كل ما يمر أمامي. رأينا الكثير مما يمكن أن نراه في ذلك اليوم، الفراشات، وبالتأكيد، مجموعات ومجموعات منها، من البرازيل، ومدغشقر، حتى شقيق فراشتي الزرقاء من داون أندر. كان المتحف مظلماً، وبارداً، وقديماً، وهذا ما أعطى إحساساً قوياً بالإثارة، وبالزمن والموت المتوقفين داخل جدرانه. رأينا البلورات الكريستالية والنمور الأميركية، وفأر المسك والمومياء، والمحنطات والكثير من المحنطات. تناولنا طعاماً خفيفاً ونحن جالسون وسط مرج المتحف، ثم عدنا أدراجنا إلى المتحف مرة أخرى لنرى الطيور والتماسيح وإنسان الكهف. في النهاية أحسست بالتعب ولم أستطع الوقوف، لكنني لم أكن أحتمل مغادرة المتحف. جاء الحرس وجمعونا كلنا بهدوء نحو الباب، حاولت جاهداً ألا أبكي، لكنني وصلت إلى نقطة اللاعودة، خارج الإجهاد والرغبة. أمسك بـي والدي، واتجهنا نحو السيارة. نمت في المقعد الخلفي، وعندما نهضت كنا قد وصلنا إلى المنـزل، وكان قد حان وقت تناول طعام العشاء. تناولنا الطعام في شقة السيد والسيدة كيم. كانا مالكي منـزلنا. كان السيد كيم رجلاً جلفاً، مكتنـز الجسم وقد بدا أنه يحبني لكنه لا يُظهر الكثير، أما السيدة كيم (أو كيمي كما أحب أن أناديها)، فكانت صديقتي، وجليستي الكورية المجنونة التي تلعب بالورق. أمضيت معظم الساعات التي كنت فيها صاحياً مع كيمي. لم تكن والدتي طاهية جيدة، وكانت كيمي تقدم أي شيء بدءاً من العوامة وانتهاء بفطائر الباي المزينة. أما الليلة، وكونها ذكرى ميلادي، فقد أعدّت البيتزا وكعكة الشوكولاته. تناولنا الطعام، وغنى الجميع أغنية هابـي بيرثداي، وأطفأنا الشموع. لا أتذكر ما الذي تمنيته. لقد سمحوا لي أن أبقى مستيقظاً أكثر من المعتاد، لأنني كنت مسروراً بكل الأشياء التي رأيناها، ولأنني نمت إلى وقت متأخر في فترة الظهيرة. جلست في الشرفة الخلفية مرتدياً بيجامتي مع والدي ووالدتي والسيدة والسيد كيم، ونحن نشرب شراب الليمون، ونشاهد زرقة سماء المساء، ونصغي إلى أصوات الزيز والصوت القادم من أجهزة التلفاز من الشقق الأخرى. وأخيراً قال والدي: «حان وقت النوم يا هنري». نظّفت أسناني، وذهبت إلى السرير. كنت متعباً لكنني لست نعسان. قرأ لي والدي لفترة قصيرة، ثم، لم أستطع النوم، أطفأ مع والدتي الأنوار، فتحت باب غرفة نومي، وخرجت إلى غرفة المعيشة، وكانت الصفقة معهما أن يعزفا لي قدر ما أريد، وبالمقابل أن أبقى على سريري حتى أسمع عزفهما. جلست والدتي وراء البيانو، وأخرج والدي كمانه، وراحا يعزفان ويغنيان لفترة طويلة. الهدهدة، والأغاني الألمانية، ومقطوعات موسيقية حالمة، كل هذا حتى يهدأ الطفل المتوحش في غرفة النوم. وأخيراً جاءت والدتي لترى إن كنت قد نمت. ربما كنت أبدو صغير الحجم ويقظاً وأنا على سريري الصغير، حيواناً حالماً يرتدي بيجامة. «يا طفلي الصغير، ألا تزال مستيقظاً؟». أومأت برأسي. «سنأوي إلى الفراش أنا ووالدك. هل أنت بخير؟». أجبتها بنعم وضمتني. «كان اليوم جميلاً في المتحف، أليس كذلك؟». «هل نستطيع الذهاب غداً؟». «ليس يوم غد، بل سنذهب قريباً، أليس كذلك؟». «نعم». «تصبح على خير». تركت الباب مفتوحاً، وأطفأت نور الردهة. «نم جيداً. لا تدع بقة السرير تعضك». سمعت أصواتاً خفيفة، صوت ماء يجري، وصوت ماء الحمام. ثم خيّم الهدوء على المكان. نهضت عن سريري وجلست أمام نافذتي راكعاً. رأيت أضواء عند باب المنـزل المجاور، وسيارة تسير وصوت مذياعها يدوّي. جلست لفترة من الوقت، أحاول أن أشعر بالرغبة في النوم، ثم نهضت وتغير كل شيء. السبت، 2 كانون الثاني، 1988، الساعة 4:03 فجراً يوم الأحد، 16 حزيران، 1968، الساعة 10:46 مساءً. (هنري 24 عاماً، وهنري 5 أعوام) هنري: الساعة الآن 4:03 فجراً من يوم كانوني بارد، وكنت قد خرجت من المنـزل لتوي. كنت في الخارج أرقص، وأنا نصف ثمل ومنهك تماماً. وأنا أتحسس مفاتيحي تحت نور الردهة وقعت على ركبتي، مصاباً بالغثيان والدوار، ثم أصبحت في الظلام، أتقيأ على أرضية الردهة. رفعت رأسي لأرى لائحة الخروج الحمراء مضاءة وكأنني كنت أرى نموراً، ورجال كهوف يحملون حرابهم الطويلة، ونساء كهوف يرتدين جلوداً، وكلاباً مستذئبة. كان قلبـي ينبض بسرعة هائلة، وفكّرت للحظة، اللعنة! لقد عدت إلى العصر الحجري، إلى أن أدركت أن لائحة الخروج تعني أنني في القرن العشرين. نهضت، وأنا أنفض جسدي، وأغامر في دخول المدخل، كانت أرضية الممرات متجمدة تحت قدمي، وقد تجمد جسدي ووقف شعر رأسي. كان الصمت يخيم على المكان، والجو ندياً من هواء المكيف. وصلت إلى المدخل، وألقيت نظرةً على الغرفة المجاورة. كانت مملوءة بصناديق الكؤوس، ونور مصابيح الشارع الأبيض يتسلل إلى النوافذ العليا، فلاحظت وجود آلاف من حشرات الخنافس. أنا في المتحف، يا اﷲ! وقفت ساكناً من دون حراك وأنا أتنفس بعمق، أحاول أن أُفكّر في صمت. ثمة شيء يتعلق بقرع جرس في رأسي المقيد، وأحاول أن أبعده. من المفترض أن أفعل شيئاً. أجل، ذكرى ميلادي الخامسة... شخص ما هنا، وأنا على وشك أن أكون هذا الشخص... أريد ثياباً، أجل، بالفعل. ركضت في ردهة الخنافس إلى الردهة الطويلة التي تنقسم في الطابق الثاني، إلى الدرج الغربـي إلى الطابق الأول، لحسن حظي أنني أصبحت في منطقة بعيدة عن أجهزة حساسات الحركة. بدت الفيلة الضخمة كأنها تهجم عليّ متوعدة تحت ضوء القمر وأنا ألوح إليها بيدي، وأتوجه إلى المحل الصغير لبيع الهدايا الواقع إلى يسار المدخل الرئيس. درت حول الأواني الخزفية فوجدت أشياء تبشر بالخير. وجدت فاتحة رسائل مزخرفة، وعلامة كتب معدنية مع شعار المتحف، وقميصين عليهما صور للديناصورات. كانت الأقفال على الصناديق عبارة عن نكات. فتحتها بدبوس دقيق وجدته بالقرب من مكان أمين الصندوق، واتبعت الخدمة الذاتية. حسناً، صعدت الدرج، إلى الطابق الثالث. هذه علية المتحف، حيث توجد المختبرات، ومكاتب الموظفين هناك. تفحصت الأسماء على الأبواب، لكن أي واحد من هذه الأسماء لم يكن يعني لي شيئاً، أخيراً اخترت اسماً بشكل عشوائي، ومررت علامة الكتب المعدنية على المفتاح إلى أن فُتح القفل ودخلت. كان صاحب هذا المكتب في. أم. ويليامسون، وهو شخص مهمل غير مرتب. كانت الغرفة عبارة عن كومة من الأوراق، وفناجين القهوة، وأعقاب السجائر التي تفيض بها منافض السجائر، وعلى مكتبه يوجد هيكل عظمي لأفعى. سرعان ما رحتُ أبحث عن ملابس من دون جدوى، فخرجت بخفي حنين. كان المكتب الثاني هو مكتب امرأة تدعى جي. أف. بيتلي. كنت محظوظاً في الجولة الثالثة. كانت لدى دي. دبليو. فيتش بذلة معلقة بترتيب على حامل المعاطف، وكانت البذلة تناسبني جداً، بالرغم من أن الكمين كانا قصيرين وكذلك كانت حال ساقي البنطال كما كانت عريضة عند الصدر. ارتديت أحد القمصان الذي كانت عليه صور للديناصورات تحت السترة. بدوت أنيقاً حتى من دون حذاء. كان دي. دبليو. فيتش يحتفظ أيضاً بعلبة مغلقة من الحلوى على مكتبه، يا لحظي. أخذتها، وغادرت المكتب، بعدما أغلقت الباب بهدوء خلفي. أين كنت عندما رأيت نفسي؟ أغمضت عينيّ وقد نال مني التعب كثيراًً، وربت على نفسي بأصابع متكاسلة. بالكاد استطعت أن أنهض على قدميّ، لكنني أمسكت نفسي، وجاءني رجل بصورة ظليلة يسير نحوي بخلفية مضاءة قرب أبواب المتحف الأمامية. كان عليّ أن أعود إلى الوراء، إلى الصالة الرئيسة. عندما عدت إلى هناك كان كل شيء هادئاً وساكناًً. عبرت الأرضية، وأنا أحاول أن أكرر النظر إلى الأبواب، ثم جلست قرب غرفة المعاطف، حتى أتمكن من دخول المنصة الموجودة إلى اليسار. أحسست بالدماء تجري في رأسي، وسمعت صوت المكيف، والسيارات وهي تندفع مسرعة قرب البحيرة. أكلت عشر قطع من حلوى أوريوس، ببطء، وبهدوء، وقسّمت كل واحدة إلى نصفين، أقطع الممتلئة منها بأسناني، وأقضم نصف الشوكولاته حتى آخرها. لقد صحوت الآن، وأصبحت متنبهاً وواعياً. الوقت يمر، ولا شيء يحدث. أخيراً، سمعت صوتاً ناعماً، أصوات لهاث. صمت، انتظرت، وقفت بهدوء، ثم سرت نحو الردهة، مشيت ببطء تحت الضوء بشكل مائل على الأرضية الرخامية. وقفت بين الأبواب وناديت بصوت غير عال: «هنري». لا شيء. ولد طيب، حذر وصامت. حاولت مرة أخرى: «لا بأس عليك يا هنري. أنا دليلك، أنا هنا لأريك المكان. هذه جولة خاصة. لا تخف يا هنري». سمعت صوتاً ضعيفاً وخفيفاً. «لقد أحضرت لك قميصاً يا هنري. حتى لا تبرد ونحن نشاهد المعروضات». سأتمكن من حمله على الخروج الآن، وها هو يقف في الظلام. «أمسك». رميته إليه، واختفى القميص، ثم خطا نحو النور. ارتدى القميص الذي وصل إلى ركبتيه. ها أنا أقف أمام نفسي في الخامسة من عمري، بشعر داكن شائك، شاحباً كالقمر، بعينين سلافيتين عسليتين، نحيلاً ومرحاً. أنا سعيد وأنا في الخامسة من عمري، مطمئن البال وأنا بين يدي والدي. لقد تغير كل شيء، وبدءاً من الآن. مشيت إلى الأمام ببطء، انحنيت إليه، وتحدثت إليه بهدوء: «مرحباً، تسرني رؤيتك يا هنري. شكراً على قدومك الليلة». «أين أنا؟ ومن أنت؟». كان صوته منخفضاً وعالياً في آن معاً، ويرتد صداه قليلاً خارج الأحجار الباردة. «أنت في متحف العلوم. لقد أرسلوني إلى هنا لأريك بعض الأشياء التي لا تستطيع أن تراها خلال اليوم. اسمي هنري أيضاً. أليس هذا مضحكاً؟». أومأ برأسه. «هل تحب أن تتناول شيئاً من الحلوى؟ أحب دائماً أن آكل الحلوى وأنا أتفرج على المتحف. فهذا يجعل المتحف متعدد المتع». قدّمت إليه علبة من حلوى الأوريوس. تردد، وهو غير متأكد من أن ما سيقوم به هو الصواب، كان جائعاً لكنه غير متأكد كم سيأخذ من دون أن يكون وقحاً. «خذ قدر ما تريد، لقد أكلت عشر قطع لتوي، لذا، تستطيع أن تأخذ ما تريد». أخذ ثلاث قطع. «ها... تعرف، لنذهب إلى الطابق العلوي، إلى الطابق الثالث، فهناك يحتفظون بكل الأشياء التي لا يعرضونها. حسناً؟». «حسناً». مشينا في الظلام، إلى أعلى الدرج. لم يكن يسير بسرعة، لذا صعدت الدرج بهدوء معه. «أين ماما؟». «في المنـزل، نائمة. هذه جولة خاصة، لك فقط، لأن هذا اليوم هو يوم ذكرى ميلادك. وإلى جانب ذلك، فإن الكبار لا يقومون بمثل هذه الأمور». «ولكن أنت كبير؟». «لقد كبرت بطريقة غير طبيعية. وظيفتي هي أن أقوم بمغامرة. كان من الطبيعي عندما سمعت أنك تريد العودة إلى المتحف مباشرة، أن أقفز من مكاني حتى أريك المكان». «ولكن، كيف دخلت إلى هنا؟». وقف أعلى الدرج، ونظر إليّ وهو مرتبك تماماً. «حسناً، هذا سرّ. إذا قلت لك شيئاً، هل تُقسم على ألا تُفشي هذا السر لأحد؟». «لماذا؟». «لأنهم لن يصدقوك. تستطيع إن أردت أن تقول للوالدة، أو لكيمي، فقط. حسناً؟». «حسناً...». ركعت أمامه، أمام ذاتي البريئة، وأنا أنظر إليه، إلى عينيه. «أقسم بحياتك». «ها... أقسم لك...». «جيد. سأخبرك بالأمر. إنك مسافر عبر الزمن. لقد كنت في غرفة نومك، وفجأة، بُم! أنت هنا، والوقت مبكر في المساء، لذا سيكون لدينا متسع من الوقت لنشاهد كل الأشياء قبل أن تذهب إلى المنـزل». كان صامتاً وفضولياً. «هل هذا مفهوم؟». «ولكن... لماذا؟». «حسناً، لم أكتشف السبب بعد. سأعلمك عندما أكتشفه. وفي غضون ذلك، يجب أن نتقدم في سيرنا. حلوى؟». تناول واحدة، وسار على مهل في الردهة. قررت أن أقوم بتجربة. «لنجرب هذا». مررت علامة الكتب على الباب، وكتبت علامة 306 ففتح الباب. عندما شغلت المصباح وجدت صخوراً بحجم اليقطينة على الأرض، صخوراً كاملة ومنقسمة، صخوراً منحدرة إلى الخارج ومنفلقة وفيها عروق من المعدن داخلها. «أوه، انظر، يا هنري هذه شهب». «وما الشهب؟». «هي صخور تنـزل من السماء». نظر إليّ وكأنني نـزلت من السماء. «هل نجرب باباً آخر؟». أومأ برأسه. أغلقت غرفة الشهب، وجرّبت الباب الذي في الردهة. كانت غرفة مملوءة بالطيور، طيور تطير متزامنة، طيور تقف إلى الأبد على أغصان الأشجار، ورؤوس طيور، وجلود طيور. فتحت أحد الأدراج التي تعد بالمئات، كانت تحتوي على العشرات من الأنابيب الزجاجية، كل واحد منها يحتوي على طير أسود وذهبـي صغير، وكان اسم كل واحد منها مكتوباً بورقة ملفوفة على قائمته. اتسعت حدقتا عيني هنري حتى أصبحتا كاتساع صحن فنجان القهوة. «هل تريد أن تلمس أحدها؟». «أه ههه...». أزلت القطن الذي يحشو فوهة الأنبوب، وهززت طائر الحسون على راحة يدي. بقي الطائر محافظاً على شكل الأنبوب. لمس هنري رأس الطائر بيده. «إنه نائم». «على الأرجح». نظر إليّ نظرة حادة، وهو لا يثق بغموضي. أعدت الطائر بهدوء إلى الأنبوب، وأعدت القطن، والأنبوب، ثم أغلقت الدرج. كنت تعباً جداً، حتى كلمة نوم بدت مغرية. شققت الطريق خارج الردهة، وفجأة تذكرت ما الذي أحببته في تلك الليلة عندما كنت صغيراً. قلت وأنا أهز كتفيه باستهجان: «هنري، لنذهب إلى المكتبة». سرت، ولكن بسرعة هذه المرة، أسرع خطاه ليجاريني. كانت المكتبة تقع في الطابق الثالث، إلى الجهة الشرقية من المبنى. عندما وصلنا، وقفت للحظة، وأنا أتأمل الأقفال. نظر إليّ هنري، وكأنني أقول، حسناً، هذا ما يحدث. تحسّست جيوبـي، فعثرت على فاتحة الرسائل. هززت مقبض الباب الخشبـي، ونظرت، ثمة شوكة طعام معدنية طويلة جميلة في الداخل. أدخلتها حتى نصفها في القفل وتحسّسته. سمعت اهتزاز الأكواب في مكانها، وعندما، أدخلتها بالكامل، استخدمت علامة الكتب على القفل الآخر وبسرعة: «افتح يا سمسم!». أخيراً، تأثر صاحبـي. «كيف فعلت هذا؟». «ليس بالأمر الصعب. سأعلمك في المرة القادمة. Entrez!». فتحت له الباب فدخل. شغلت المصابيح فضجت قاعة المطالعة بالحياة. طاولات خشبية ثقيلة وكراسٍ، وسجاد خمري اللون، ورف المراجع الهائل المحرم. لم تصمم مكتبة المتحف لاستقبال من هم في سن الخامسة. إنها مكتبة ذات رفوف متراصة مغلقة، يستخدمها العلماء والباحثون. وهناك صناديق من الكتب مكدسة في القاعة، عبارة عن دوريات علمية من العصر الفكتوري مربوطة بأحزمة جلدية. والكتاب الذي أريده موجود داخل زجاج ضخم وصندوق من خشب السنديان موجودين وسط الغرفة. حقاً، يجب أن يكون المتحف حريصاً في كل ما يتعلق بالأمن. لا أشعر بالخوف من القيام بهذا. بعد كل شيء، أنا أمين مكتبة، وأمين ومخلص، أعمل على عرض الكتب والحديث عنها طوال الوقت. سرت خلف رف المراجع، فوجدت قطعة من اللباد وبعض الوسائد الداعمة، وضعتها على أقرب طاولة وجدتها. ثم دنوت، وأخرجت الكتاب بعناية من الصندوق، ووضعته على اللبادة. سحبت الكرسي. «قف على هذه لترى بشكل أفضل». صعد، وفتحت الكتاب. إنه كتاب أودوبون طيور أميركا، وهو عبارة عن صفحة بحجم الفيل رائعة مطوية، يبلغ طولها طولي وأنا شاب. هذه النسخة هي من أفضل النسخ الموجودة، أمضيت فترات ظهيرة ممطرة عديدة وأقلبها بإعجاب. فتحت الكتاب على اللوحة الأولى، فابتسم هنري، ونظر إليّ. وراح يقرأ: «البط الغواص، هذا أشبه بالبطة». «أجل، أراهن أنني أستطيع أن أعرف طائرك المفضل». هز رأسه مبتسماً. «على ماذا تراهن؟». نظر إلى نفسه، إلى الأسفل منه، إلى القميص الذي عليه صورة الديناصور، وهزّ كتفيه باستهجان. أعرف هذا الشعور. «ماذا عن هذا؟ إذا حزرت تأكل الحلوى، وإذا لم أحزر لا تأكل الحلوى؟». فكّر في ما قلته، وقرر أنه رهان آمن. فتحت الكتاب على صفحة طائر الفلامينكو. فضحك هنري. «هل أصبت؟». «أجل!». من السهل أن تكون ملماً بكل شيء عندما تفعل كل شيء. «حسناً ها هي الحلوى، وقد تناولت واحدة لأنني كنت على صواب. لكن علينا أن نحتفظ بها حتى ننتهي من تصفح الكتاب، فنحن لا نريد أن نضع كل شيء أمام الطيور الزرقاء، أليس كذلك؟». «صحيح!» وضع الحلوى على ذراع الكرسي، وعدنا إلى البداية، ورحنا نفتح الصفحات بهدوء حتى وصلنا إلى الطيور، كانت الطيور تبدو وكأنها حية أكثر من الواقع وهي في الأنابيب في الطابق السفلي. «هذا طائر مالك الحزين أزرق وكبير. إنه كبير، أكبر من طائر الفلامينكو. هل سبق لك أن رأيت الطائر الطنان؟». «رأيت عدداً منه اليوم!». «هنا في المتحف؟». «أه، ههه». «انتظر حتى ترى واحداً منها في الخارج؛ إنها تشبه الحوامات الصغيرة، تحرك أجنحتها بسرعة عالية وكأنك ترى غشاوة لا وضوح فيها...». كان تقليب كل صفحة من الكتاب أشبه بترتيب السرير، هناك اتساع هائل للصفحة التي شيئاً فشيئاً ترتفع عالياً فعالياً. وقف هنري متيقظاً ينتظر عجيبة من العجائب في كل لحظة، ويصدر أصواتاً خفيفة تنم عن المتعة عند رؤية المزيد، كطائر الغراء الأميركي، وطائر الأوك الضخم، ونقار الخشب. عندما وصلنا إلى الصفحة الأخيرة، وهي صفحة طائر الدرسة الأبيض، اتكأ ولمس الصفحة، وهو ينقر بلطف على الرسومات النافرة. نظرت إليه، ونظرت إلى الكتاب، وتذكرت، هذا الكتاب، وهذه اللحظة، وأول كتاب أحببته، وتذكرت حين أردت أن أزحف داخله، وأنام. «هل تعبت؟». «آه». «هل نذهب؟». «حسناً!». أغلقت كتاب طيور أميركا، وأعدته إلى حيث كان، وفتحته على صفحة فلامينكو، وأغلقت الصندوق، وأقفلته. قفز هنري عن الكرسي وأكل الحلوى. أعدت اللبادة إلى المكتب، ودفعت إليها الكرسي. أوقفت عمل المصابيح، وخرجنا من المكتبة. تساءلنا، ونحن نتحدث بحب وود عن المخلوقات التي تطير والمخلوقات التي تزحف، في أثناء تناولنا الحلوى. أخبرني هنري عن ماما وبابا والسيدة كيمي، التي علمته صنع اللازانيا، وعن براندا، التي كنت قد نسيتها، كانت أفضل صديقة لي حتى انتقلت عائلتي إلى تامبا في فلوريدا منذ ثلاثة أشهر. نحن نقف الآن أمام بوشمان، الغوريللا الأسطورية ذات الظهر الفضي، التي تقف محنطة متوجهة إلينا من حاملها الرخامي في ردهة الطابق الأول، عندها صرخ هنري، وزحف إلى الأمام، ليصل إليّ بسرعة، أمسكت بيده، فاختفى. وها أنذا أمسك بالقميص الفارغ الدافئ بيدي. تنهدت، وصعدت الدرج، لأتأمل المومياءات بمفردي. قد تكون ذاتي الطفل الصغير في المنـزل الآن، وقد صعد إلى الفراش. أذكر ذلك، أذكر ذلك. نهضت في الصباح فكان كل شيء عبارة عن حلم رائع. ضحكت مني والدتي وقالت لي إن السفر عبر الزمن يبدو أمراً مرحاً، وإنها تود تجربته، أيضاً. تلك كانت المرة الأولى. الموعد الأول، ثانياً الجمعة، 23 أيلول، 1977 (هنري 36 عاماً، كلير 6 أعوام) هنري: أنا في المرجة الخضراء، أنتظر. كنت فيها عارياً، لأن الملابس التي تحتفظ بها كلير من أجلي في صندوق تحت حجرة ليست موجودة، حتى الصندوق ليس موجوداً أيضاً، لهذا شكرت اﷲ لأن فترة الظهر من هذا اليوم جميلة، ربما في أوائل شهر أيلول، من عام غير محدد. جلست القرفصاء مختبئاً بين العشب الطويل، ورحت أفكر؛ عدم وجود صندوق مليء بالألبسة يعني في حقيقة الأمر أنني وصلت في زمن قبل وصول كلير وقبل لقائها. ربما لم تكن كلير قد ولدت بعد. لقد حصل هذا سابقاً، وهو أمر مؤلم. أشتاق إلى كلير، أمضيت ردحاً من الزمن وأنا أقف عارياً مختبئاً في المرجة الخضراء، لا أجرؤ على الظهور أمام جيران عائلة كلير. فكّرت في شجرة التفاح الواقعة إلى الجهة الغربية من المرجة الخضراء. في هذا الوقت من السنة لا بد من أن تكون هناك ثمار التفاح، التفاح صغير الحجم وحامض المذاق تمضغه الغزلان، وهو صالح للأكل. تناهى إلى مسمعي صوت إغلاق الباب الخارجي، فاسترقت النظر من فوق العشب. هناك فتاة تركض، وهي في حال من الفوضى، وراح قلبـي يخفق بشدة وهي تتقدم نحوي بين العشب المتموج، واندفعت كلير نحو المرجة. كانت صغيرة جداً لا تدري أين هي، كانت وحيدة ولا تزال ترتدي ثوب المدرسة، تقفز وهي ترتدي قميصاً أبيض وتنتعل حذاء صغيراً مع جورب يصل إلى ركبتيها، وتحمل سلة التسوق مارشال فيلدز ومنشفة الشاطئ. فرشت كلير المنشفة على الأرض، وأفرغت محتويات السلة، وكل ما يمكن تخيله من معدات الكتابة. أقلام حبر ناشف قديمة، وأقلام رصاص قصيرة صغيرة من المكتبة، أقلام رصاص، وأقلام تحديد عجيبة تنبعث منها رائحة، وقلم حبر. كما كانت لديها مجموعة من قرطاسية مكتب والدها. قامت بترتيب أدوات الكتابة وتفحص رزمة من الأوراق، ثم شرعت بتجربة قلم الكتابة وقلم الرصاص كل على حدة، وهي ترسم خطوطاً ودوائر، وتدندن. وبعد أن أرهفت السمع لفترة من الزمن عرفت ما كانت تدندن به، إنها أغنية The Dick Van Dyke Show. تردّدت. كان يبدو عليها الرضا وهي منهمكة هكذا. لا بد من أن عمرها ستة أعوام، إذا كان الشهر هو شهر أيلول، لربما تكون قد دخلت الصف الأول. من الواضح أنها لا تنتظرني، فأنا مجرد شخص غريب، وأنا متأكد أن أول شيء تتعلمه في الصف الأول هو ألا تتواصل أبداً مع الغرباء الذين يظهرون عراة في مكانك المفضل ويعرفون اسمك ويقولون لك ألاّ تخبري أمك وأباك. وأتساءل إذا كان هذا اليوم هو اليوم الذي من المفترض فيه أن نلتقي للمرة الأولى، أو أنّ اللقاء سيكون في يوم آخر. ربما يجب أن أكون صامتاً، فإما أن ترحل كلير وأستطيع أن أقترب كثيراً من أشجار التفاح هذه، وأسرق بعض الغسيل، أو أن أعود إلى برنامجي المعتاد. عدت من أحلام يقظتي لأجد كلير تحدق إليّ. واكتشفت متأخراً أنني كنت أدندن معها. قالت كلير باستهجان: «من هناك؟». بدت كإوزة تتبول، برقبتها وساقيها. فكّرت بسرعة. قلت مدندناً، وبلطف: «تحياتي، يا ابنة الأرض». «مارك! أيها النمرود!». وراحت كلير تفتش عن شيء لترميني به، فقررت أن ترميني بحذائها ذي الكعبين الثقيلين الحادين. خلعته ورمتني به. لا أعتقد أنها كانت تراني جيداً، أخطأتني في الرمية الأولى وفي الرمية الثانية أصابت فمي. فراحت شفتاي تنـزفان. «أرجوكِ، لا تفعلي هذا». لم يكن هناك ما أضعه على الدم السائل، لذا، ضغطت بيدي على فمي فجاء صوتي مخنوقاً. «من هناك؟». جاء صوت كلير خائفاً، مثلي أنا. «هنري. أنا هنري يا كلير. لن أؤذيك، وأتمنى ألا ترميني بشيء آخر». قالت كلير وهي تحدق إليّ: «أعد حذائي. أنا لا أعرفك. لماذا أنت مختبئ هكذا؟». رميت لها حذاءها. التقطته، ووقفت وهي تحمله كالمسدس. «أنا مختبئ لأنني أضعت ملابسي لذا ترينني محرجاً. قدمت من مكان بعيد وأنا جائع ولا أعرف أحداً وأما الآن فأنا أنـزف دماً». «من أين قدمت؟ وكيف تعرف اسمي؟». الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. «أتيت من المستقبل. أنا مسافر عبر الزمن. وسنصبح صديقين في المستقبل». «الناس يسافرون عبر الزمن فقط في الأفلام». «هذا ما تريدين تصديقه». «لماذا؟». «إذا سافر الجميع عبر الزمن فسيكون هناك ازدحام. مثلما ذهبت لرؤية جدتك أبشير في الميلاد الماضي وكان عليك أن تذهبـي عبر مطار أوهير فكان مزدحماً جداً؟ نحن المسافرين عبر الزمن لا نريد أن نحدث الفوضى لأنفسنا، لذا نفضل الهدوء». فكّرت كلير في ما قلته لدقيقة ثم قالت: «اخرج». «أعطيني منشفة الشاطئ». حملت المنشفة، فطارت كل الأقلام والأوراق. رمتها إليّ، فالتقطتها، وأدرت ظهري لأضعها حول خصري. كانت ذات ألوان وردية وبرتقالية مخططة بأشكال هندسية. تماماً كما تريد أن ترتدي عندما تقابل زوجتك المستقبلية للمرة الأولى. استدرت وسرت نحوها. جلست على الصخرة بكل ما أوتيت من كبرياء. وقفت كلير بعيدة عني قدر المستطاع وبقيت في مكانها. كانت لا تزال تمسك بحذائها. «أنت تنـزف». «أجل، لقد رميتني بحذائك». «أوه». صمت. حاولت أن أبدو مسالماً، ولطيفاً. لقد نسج اللطف منواله جيداً في طفولة كلير، لأن الكثير من الناس لم يكونوا كذلك. «أنت تسخر مني». «أنا لا أسخر منك أبداً. لماذا تعتقدين هذا؟». ما كانت كلير لو لم تكن عنيدة. «ليس هناك من يسافر عبر الزمن. إنك تكذب». «سانتا كلوز يسافر عبر الزمن». «ماذا؟». «بالطبع. إذاً، كيف تعتقدين أنه يحضر كل هذه الهدايا ويسلمها في ليلة واحدة؟ إنه يعيد الساعة دائماً بضع ساعات إلى الوراء حتى يُنـزل لكل واحد هديته عبر المدخنة». «سانتا شيء آخر. وأنت لست سانتا». «أتعنين أنني لست ساحراً؟ ياااه، يا لويزا أنت زبونة صعبة المراس». «أنا لست لويزا». «أعرف هذا. أنت كلير، كلير أبشير، المولودة في 24 أيار عام 1971. ووالداك هما فيليب ولوسيل أبشير، وتعيشين معهما ومع جدتك، ومع أخيك مارك، وأختك أليسيا، في ذلك المنـزل الكبير الواقع هناك». «لمجرد أنك تعرف أشياء عني لا يعني هذا أبداً أنك من المستقبل». «إذا تجولت بعيداً عن هنا لفترة قصيرة من الزمن، فستجدينني قد اختفيت». شعرت أنني أستطيع الاعتماد على هذا، لأن كلير قالت لي ذات مرة إن هذا الشيء الذي وجدته مؤثراً جداً في لقائنا الأول هذا. ساد صمت. راحت كلير تقفز من ساق إلى أخرى لتبعد عنها البعوض. «أتعرف سانتا؟». «شخصياً؟ همم، لا». توقف النـزيف، لا بد من أنني كنت فظيعاً بمظهري. «هاي، كلير، هل لديك إسعافات أولية؟ أو بعض الطعام؟ فالسفر عبر الزمن يجعلني أشعر بالجوع». فكّرت في ما قلته لها. أدخلت يدها في جيبها، وأخرجت قطعة من الحلوى، عليها آثار قضمة، ورمتها إليّ. «شكراً لك. أحب هذه الحلوى...». أكلت بلطف، ولكن بسرعة كبيرة. لقد انخفض لديّ سكر الدم. وضعت غلاف الحلوى في سلتها. فسُرَّت كلير. «تأكل ككلب». «كلا!». قلت مدافعاً عن نفسي: «عندي إبهاما يدين متعارضان، شكراً جزيلاً لك». «وما الإبهامان المتعارضان؟». «افعلي هذا». رفعت إبهام يدي كإشارة Okay. فحذت حذوي. «الإبهامان المتعارضان يعنيان أنك تستطيعين فعل هذا. يعني أنك تستطيعين فتح المعلبات، وعقد شريطي حذائك، وأشياء أخرى لا تستطيع الحيوانات أن تقوم بها». لم تكن كلير سعيدة بما قلته. «تقول الأخت كارميليتا إن الحيوانات ليست لديها أرواح». «طبعاً للحيوانات أرواح. من أين أتت بهذه الفكرة؟». «قالت إن البابا قال هذا». «البابا شخص ذو عقلية قديمة. للحيوانات أرواح أصدق من أرواحنا. فهي لا تكذب ولا تُعظم أحداً». «لكنها تأكل بعضها». «حسناً، عليها أن تأكل بعضها، فهي لا تستطيع أن تذهب إلى محل الآيس كريم وتحصل على المثلجات بنكهة الفانيلا، أليس كذلك؟». هذا أكثر شيء تحب أن تأكله كلير في هذا العالم الواسع. (وهي طفلة، أما وهي بالغة فأكثر شيء تحب أن تأكله كلير هو السوشي، وخاصة السوشي القادم من كاتشو في جادة بيترسون). «بإمكانها أكل العشب». «وكذلك نحن، لكننا لا نأكلها. بل نأكل الهمبرغر». جلست كلير على حافة جذع شجرة. «تقول إيتا يجب ألاّ أتحدث مع الغرباء». «يا لها من نصيحة جيدة». صمت. «متى ستختفي؟». «عندما أتعافى وأصبح مستعداً. هل مللت مني؟». أشاحت كلير بعينيها. «ماذا تفعلين؟». «أُخطط». «هل تسمحين لي أن أرى؟». نهضت كلير بحذر، وجمعت قطعاً صغيرة من القرطاسية وهي تحدق إليّ بنظرة حادة. أملت جسدي إلى الأمام ببطء، ومددت يدي وكأنني كلب صيد، وسرعان ما رمت إليّ بالأوراق، وتراجعت إلى الوراء. تمعنت فيها، وكأنها أعطتني مجموعة من رسومات بروس روجر الأصلية عن سنتور، أو كتاب كيلس الشهير(5)، أو ما شابه ذلك. كانت قد كتبت مرات ومرات، كلير أبشير. كتبت أسماء كل الأجداد والأحفاد بدوائر وكانت لكل النظراء وجوه باسمة. كانت رسومات جميلة. «جميل». فرحت كلير بذلك، كما كانت تفرح وهي تتلقى تقديراً واستحساناً على عملها. «أستطيع أن أرسمك». «كنت أود هذا. لكن من غير المسموح لي أن آخذ معي أي شيء عندما أسافر عبر الزمن، ولكن من الممكن أن تحتفظي لي بها وأنا سأستمتع بها هنا». «لماذا لا تستطيع أن تأخذ معك شيئاً؟». «سننظر في هذا. لو أخذنا، نحن المسافرين عبر الزمن، الأشياء حول الزمن، فسرعان ما تعم الفوضى العالم. لنفترض أنني أحضرت معي قليلاً من النقود إلى الماضي. أستطيع أن أجد كل أرقام اليانصيب الرابحة وفرق كرة القدم وأجني الكثير الكثير من النقود. لكن هذا ليس عدلاً، أليس كذلك؟ أو إذا كنت غير شريف فعلاً، أستطيع أن أسرق الأشياء وآتي بها إلى المستقبل حيث لا يستطيع أحد أن يكتشفني». «أو تستطيع أن تكون قرصاناً!». بدت كلير سعيدة للغاية لفكرة أنني قرصان بحيث إنها نسيت تماماً أنني خطير وغريب. «تستطيع أن تدفن النقود وترسم خارطة كنـز وتخبئَها في المستقبل». في الحقيقة، كان في هذا شيء مما كانت عليه حياتنا المتراقصة المستقبلية سوياً، وكبالغة، فقد وجدت كلير هذا السلوك غير أخلاقي نوعاً ما، بالرغم من أنه أمدنا بربح في البورصة. «يا لها من فكرة عظيمة. ولكن المال ليس ما أحتاج إليه. بل الملابس». نظرت كلير إليّ بارتياب. «هل لدى أبيك ملابس لا يحتاج إليها؟ حتى لو كان بنطالاً فسيكون رائعاً. أعني، أحب هذه المنشفة، لا تسيئي الظن بـي، هكذا أتيت، أحب أن أرتدي بنطالاً». فيليب أبشير أقصر مني وأثقل مني بأربعة عشر كيلوغراماًً. وبنطاله يبعث على الضحك لكنه مريح بالنسبة إليّ. «لا أدري...». «حسناً، لا بأس، لا داعي لتحضريه الآن فوراً. ولكن إذا ما أحضرت شيئاً في المرة القادمة التي سآتي بها، فلا بأس». «المرة القادمة!». وجدت ورقة غير مستعملة بين القرطاسية والأقلام. رسمت بأحرف كبيرة: يوم الخميس، 29 أيلول، 1977 بعد العشاء. أعطيت كلير الورقة، فاستلمتها بحذر شديد. كانت رؤيتي مبهمة. أستطيع أن أسمع إيتا وهي تنادي كلير، فقلت لها: «هذا سر يا كلير، حسناً؟». «لماذا؟». «لا أستطيع أن أقول لك لماذا. عليّ الذهاب الآن. سعدت بلقائك. لا تأخذي نقوداً خشبية». مددت يدي فأمسكت بها كلير بشجاعة. وبينما كنا نتصافح، اختفيت. الأربعاء، 9 شباط، 2000 (كلير 28 عاماً، هنري 36 عاماً) كلير: الوقت مبكر، الساعة تشير إلى السادسة صباحاً تقريباً وأنا نائمة وأحلم بذاك الحلم الخفيف الذي يأتينا عند السادسة صباحاً عندما أيقظني هنري، وأدركت أنه كان في مكان ما. وقف فوق السرير فصرخت، وفزعنا من بعضنا بعضاً، ثم أخذ يضحك، ويتدحرج على السرير مرات ومرات وأنا أنظر إليه، ورأيت أن شفتيه تنـزفان بغزارة. قفزت لأحضر منديلاً، وكان هنري لا يزال يبتسم عندما عدت ورحت أدهن شفتيه. «كيف حدث هذا؟». «لقد رميتني بحذائك». لا أتذكر أنني رميت هنري بشيء. «كلا». «بلى. لقد التقينا للمرة الأولى، وسرعان ما وضعت عينيك عليّ وقلت لي، هذا هو الرجل الذي سأتزوجه، ثم سددت ضربتك. لطالما كنت أقول إنك خير من يحكم على الشخص». الخميس، 29 أيلول، 1977 (كلير 6 أعوام، وهنري 35 عاماً) كلير: تشير الروزنامة على مكتب والدي هذا الصباح، كما تشير الورقة التي كتب عليها ذاك الرجل، إلى نفس التاريخ. كانت نيل تصنع البيض البرشت لأليسيا، بينما كانت إيتا تصرخ في وجه مارك لأنه لم يكتب فروضه المدرسية ويلعب لعبة الفريسبـي مع ستيف. سألت إيتا: «هل أستطيع أن أحصل على ملابس من صندوق الثياب؟». وأعني بكلامي هذا صناديق الثياب في العلية حيث كنا نلعب. فسألت إيتا: لماذا؟. فقلت لها إنني أريد أن ألعب لعبة الثياب مع ميغان. فجُنت إيتا وقالت إنّ الوقت قد حان لأذهب إلى المدرسة، وإنها ستتدبر أمر اللعب عندما أعود إلى المنـزل. ذهبت إلى المدرسة. ساورني القلق طوال اليوم حول البنطال من أجل الرجل لأنه بدا وكأنه يريد بنطالاً. لذا، عندما أعود إلى المنـزل سأسأل إيتا مرة أخرى، لكنها في البلدة، لقد سمحت لي نيل بلعق عجينة الحلوى التي لا تسمح لنا إيتا بلعقها لأنها تسبب لنا البدانة. كانت والدتي تكتب وكنت ذاهبة من دون أن أسألها ولكنها سألتني ما الأمر يا عزيزتي؟. فأخبرتها فأجابتني أنني أستطيع أن أفتش في صندوق الثياب التي سنعطيها إلى الجمعيات الخيرية وآخذ منها ما يحلو لي. لذا ذهبت إلى العلية، وبحثت في الصندوق، فعثرت على ثلاثة من بناطيل أبـي، وكان أحدها مثقوباً ثقباً كبيراً بسبب حرق سيجارة. أخذت بنطالين، كما عثرت على قميص أبيض كالذي يرتديه أبـي عندما يذهب إلى العمل، وربطة عنق عليها صور أسماك، كما وجدت كنـزة حمراء، ورداء الحمام الذي كان أبـي يرتديه عندما كنت صغيرة، وكانت تفوح منه رائحة أبـي. وضعت الملابس في حقيبة، ووضعت الحقيبة في خزانة في غرفة المؤونة. عندما خرجت منها رآني مارك وسألني: ما الذي تفعلينه أيتها الحمقاء؟. فأجبته: لا شيء، أيها الأحمق. فشدني من شعري، فدست على قدمه بقوة فراح يصرخ ويتوعدني. صعدت إلى غرفتي، وشغلت التلفاز على برنامج السيد بير وجين حيث جين هي نجمة سينمائية، سألها السيد بير كيف أصبحت نجمة سينمائية؟ فأجابته أنها كانت تريد أن تصبح طبيبة بيطرية، ولكنها وجدت نفسها آية في الجمال، فاختارت أن تكون نجمة سينمائية، فقال لها السيد بير إنه من الممكن أن تصبح طبيبة بيطرية عندما يتقدم بها العمر. قرعت إيتا الباب وهي تسألني لماذا دست على قدم مارك؟ فأجبتها لأن مارك شدني من شعري من دون سبب، فقالت إيتا إننا نثير غضبها، وذهبت. تناولنا طعام العشاء مع إيتا فقط لأن والدي ووالدتي ذهبا لحضور حفلة. كان طعام العشاء يتألف من دجاج مقلي مع فاصولياء صغيرة وكعكة الشوكولاته، تناول مارك أكبر قطعة منها ومع ذلك لم أقل شيئاً لأنني كنت قد لعقت العجينة. سألتُ إيتا بعد العشاء إذا ما كنت أستطيع الخروج فسألتني إذا ما كنت قد كتبت فروضي المدرسية، فأجبتها أنني أنهيت الإملاء، وأحضرت ورق الأشجار لدرس الفن، فقالت لي إنه لا بأس إذا كنت سأعود مع حلول الظلام. ذهبت، وأحضرت الكنـزة الكحلية التي عليها رسومات لحمار وحشي، وأخذت الحقيبة، وخرجت، وتوجهت إلى تلك المرجة قرب المنـزل. لكن الرجل لم يكن موجوداً، فجلست على الصخرة لفترة من الزمن ثم خطر لي أن أحضر بعض ورق الأشجار. ثم عدت أدراجي إلى الحديقة، فعثرت هناك على بعض ورق الأشجار من أشجار القيقب والبلوط. ثم عدت أدراجي مرة أخرى إلى المرجة ولم يكن هناك، فقلت لنفسي، حسناً لربما كان يود القدوم، لكنه لم يأتِ لأن البنطال سيئ. وربما كانت روث على حق لأنني أخبرتها عن الرجل، وقالت لي: إنني أتخيل ما حصل لأن الناس لا يختفون في الحياة الحقيقية وإنما في التلفاز فقط. أو ربما كان عبارة عن حلم مثل موت باستر، حيث حلمت أنه بخير وكان في قفصه، لكنني نهضت من نومي فلم أجد باستر، وقالت لي ماما: إن الأحلام تختلف عن الواقع ولكنها مع ذلك تبقى هامة. أصبح الجو بارداً وقلت لنفسي، إنه من الأفضل أن أترك الحقيبة، فإذا ما جاء الرجل يستطيع أخذ البنطال. عدت إلى الممر فسمعت هناك صوتاً واحداً ما يقول: «أوه. دانغ، كم هذا مؤلم!». ففزعت. هنري: نـزلت بقوة عن الصخرة عندما ظهرت، وخدشت ركبتي. أنا في المرجة والشمس تغرب بكل جمال في مشهد بدا وكأنه من رسوم جاي. أم. دبليو. تيرنر(6)، واللونان الأحمر والبرتقالي يكسوان الأشجار. كان المكان خالياً باستثناء حقيبة تسوق مملوءة بالملابس، فأدركت على الفور أن كلير قد تركت هذه الأشياء ربما بعد يوم من لقائنا الأول القصير. لا أرى كلير فناديتها بهدوء، لا جواب. بحثت في حقيبة الملابس. كان فيها ثوب كتاني مخطط، وبنطالان بنيان من الصوف جميلان، وربطة عنق قبيحة عليها صور لسمك الترويت، وكنـزة من جامعة هارفارد، وقميص أبيض من جامعة أكسفورد عليه حلقة حول الياقة، وتحت الإبطين كانت هناك آثار عرق قديمة، وثوب حمام حريري أنيق عليه شعار فيليب وقد تخلله مزق كبير في أعلى الجيب. كل هذه الملابس عبارة عن أصدقاء قدامى، باستثناء ربطة العنق، وكنت سعيداً بها. ارتديت الثوب الكتاني والكنـزة وباركت لكلير ذوقها الجميل. أحسست بالعظمة. اللهم باستثناء عدم وجود الحذاء فأنا مجهز من موقعي الحالي في فضاء الزمن. ناديتها بهدوء: «شكراً لك يا كلير، لقد أبليت بلاءً حسناً». دهشت عندما رأيتها تخرج من مدخل المرجة. والظلام يحل سريعاً، بدت كلير نحيفة وخائفة وهي تقف تحت ما تبقى من النور. «هاي». «مرحباً كلير. شكراً لك على الملابس. إنها كاملة، وستجعلني وسيماً ودافئاً هذه الليلة». «عليّ الذهاب سريعاً». «حسناً، لقد حل الظلام. هل هناك مدرسة ليلية؟». «ههه». «ما تاريخ اليوم؟». «الخميس، 29 أيلول، 1977». «هذا يساعدني جداً. شكراً». «كيف لك ألاّ تعلم هذا؟». «حسناً، لقد ذهبت إلى هناك منذ دقيقتين، كان اليوم هو الاثنين، 27 آذار، 2000. كان الطقس ممطراً، وكنت أُحمّص الخبز». «لكنك كتبت لي هذا». أخرجت ورقة تحمل في أعلاها ترويسة مكتب فيليب للمحاماة. تقدمت نحوها، وأخذت الورقة منها، كنت مهتماً لأرى التاريخ مدوناً عليها بخطي الكبير المكتوب بعناية. توقفت عن الكلام، والتمست أفضل طريقة لأشرح أوهام السفر عبر الزمن لطفلة صغيرة، والتي هي كلير في الوقت الحاضر. «الأمر يشبه هذا. أتعرفين كيف تستخدمين آلة التسجيل؟». «مممه». «حسناً. إذا ما وضعت شريط تسجيل وأدرته من البداية إلى النهاية، حسناً؟». «أجل...». «هكذا هي الحياة. تنهضين عند الصباح وتتناولين الفطور، وتنظفين أسنانك، وتذهبين إلى المدرسة، حسناً؟ أنت لا تنهضين فجأة لتجدي نفسك في المدرسة تتناولين الطعام مع هيلين وروث، ثم فجأة تجدين نفسك في المنـزل ترتدين ثيابك، حسناً؟». ضحكت كلير: «حسناً». «الأمر مختلف بالنسبة إليّ. لأنني مسافر عبر الزمن، أقفز من مكان إلى آخر كثيراً. وكأنك تشغلين شريط التسجيل لفترة من الزمن ثم تقولين أوه أريد سماع الأغنية مرة أخرى، ثم تعيدين تشغيل الأغنية، ثم تعودين إلى حيث تركتها، لكنك تلفين الشريط طويلاً وتضطرين إلى لفه مرة أخرى لتتمكني من سماع الأغنية. أتفهمين ما أقوله؟». «تقريباً». «حسناً، هذا ليس أكبر تناظر في العالم. فمبدئياً، أتوه في بعض الأحيان في الزمن ولا أعرف أين أنا». «ما التناظر؟». «عندما تحاولين أن تشرحي شيئاً بقولك، هذا أمر يشبه أمراً آخر. على سبيل المثال، في اللحظة التي أكون دافئاً كحشرة داخل هذه الكنـزة الجميلة، وتكونين أنت جميلة كالصورة، وتصبح إيتا مجنونة كصانع قبعات إذا لم تذهبـي الآن فوراً». «هل ستنام هنا؟ تستطيع أن تأتي إلى منـزلنا، فلدينا غرفة ضيوف». «أوه... هذا لطف منك. ولسوء الحظ، غير مسموح لي أن ألتقي بعائلتك حتى العام 1991». ارتبكت كلير. أعتقد أن جزءاً من المشكلة أنها لا تستطيع تخيل تواريخ ما وراء السبعينيات. أتذكر وقوعي في نفس المشكلة في الستينيات عندما كنت في عمرها. «ولم لا؟». «هذا جزء من القواعد. من غير الجائز على المسافرين عبر الزمن أن يتحدثوا إلى الناس النظاميين العاديين وهم يزورون زمنهم، لأننا قد نحدث فوضى». في واقع الأمر، أنا لا أعتقد هذا. تحدث الأشياء كما تحدث، مرة واحدة فقط. لست مؤيداً لنظرية انشطار الكون. «لكنك تتحدث إليّ». «أنت مميزة؛ فأنت شجاعة وذكية وجيدة في حفظ الأسرار». أحست كلير بالإحراج. «تحدثت إلى روث، لكنها لم تصدقني». «آه، حسناً. لا تقلقي حيال هذا. قلة قليلة من الناس من يصدقني، خاصة الأطباء، فالأطباء لا يصدقون شيئاً، ما لم تثبتيه لهم». «أنا أصدقك». كانت كلير تقف على بعد خمس أقدام عني. كان وجهها الشاحب الصغير يعكس آخر شعاع برتقالي للغروب. وكان شعرها مشدوداً إلى الوراء على شكل ذيل حصان، وترتدي بنطال جينـز أزرق اللون، وكنـزة داكنة اللون عليها صور حمار وحشي على الصدر. وكانت يداها مطبقتين بإحكام، وتبدو قوية ومتمكنة وصاحبة عزيمة. ستكون ابنتنا، فكّرت في حزن، ستكون مثلها. «شكراً لك يا كلير». «عليّ أن أذهب الآن». «يا لها من فكرة جيدة». «هل ستعود؟». عدت إلى اللائحة في ذاكرتي. «سأعود في السادس عشر من شهر تشرين الأول. سيكون يوم جمعة. تعالي إلى هنا، مباشرة بعد المدرسة. وأحضري معك المفكرة الصغيرة زرقاء اللون التي أعطتك إياها ميغان في ذكرى ميلادك، وقلماً أزرق». كررت لها التاريخ، ونظرت إليها لأتأكد من أنها ستتذكر ما قلت. «(7)Au revoir كلير». Au revoir»». «هنري». «Au revoir هنري». كانت لكنتها الفرنسية أفضل مني. استدارت كلير، وركضت في الممر، إلى منـزلها المضاء الجميل، واستدرت أنا في الظلام، لأبدأ السير في المرجة الخضراء. في ما بعد، وفي ذلك المساء رميت ربطة العنق مكتئباً خلف مطعم ديناز فيشن فراي. (5) بروس روجر رسام أميركي من إنديانا (1870-1907) أّلف العديد من الكتب وترجم رائعة موريس دو جيرين التي عرفت باسم Centaur - كتاب كيلس Book of Kells من أجمل وأقدم وأشهر الكتب العالمية لما يحتويه من رسومات دقيقة جداً، ويقال عنه إنه من صنع الأسياد المبجلة القديمة لدقة رسوماته. (6) رسام إنكليزي مشهور برسم لوحات عن الطبيعة (1775-1851). (7) إلى اللقاء باللغة الفرنسية. دروس في البقاء الخميس، 7 حزيران، 1973 (هنري 27 عاماً، وهنري 9 أعوام) هنري: أقف في الشارع أمام معهد الفنّ في شيكاغو في يوم مشمس من شهر حزيران عام 1973 بصحبة ذاتي البالغة من العمر تسعة أعوام. لقد سافرت ذاتي من يوم الأربعاء القادم، وأتيت من العام 1990. بقينا معاً طيلة فترة الظهيرة والمساء لتضييع الوقت، كما سنفعل دوماً، لهذا، كان علينا أن نقصد أحد أعظم المتاحف في العالم لنتعلم درساً صغيراً في النشل. قال هنري مدافعاً: «هل نستطيع مشاهدة اللوحات الفنية؟». إنه في حالة عصبية. فهو لم يقم بهذا من قبل. «كلا، أنت بحاجة إلى معرفة هذا. كيف لنا أن نحيا إذا كنت لا تستطيع سرقة أي شيء؟». «أتسول». «التسول يعني أن تشد الناس إليك، وأن تُطاردك الشرطة دائماً. والآن استمع، متى وصلنا إلى هناك، عليك أن تبتعد عني وسنتظاهر أننا لا نعرف بعضنا. ولكن، ابقَ قريباً مني لترى ما أفعله. وإذا ما أعطيتك شيئاً، لا ترمِه، بل ضعه في جيبك بأسرع ما يمكن. حسناً؟». «أعتقد. هل نستطيع أن نذهب إلى شارع سان جورج؟». «بالتأكيد». سنعبر جادة ميتشغان، ونسير بين التلاميذ، وسيدات المنازل وهم يقفون تحت الشمس على درج المتحف. ربت هنري على أحد الأسود البرونـزية ونحن نمر بالقرب منها». انـزعجت من كل هذا الأمر. من ناحية، أقدّم نفسي بمهارات بقاء مطلوبة عاجلة. وتتضمن الدروس الأخرى من هذه السلسلة سرقة المعروضات في الأسواق، وضرب الناس، وكسر الأقفال، وتسلق الأشجار، وقيادة السيارات، واقتحام المنازل، والغطس، وكيفية استخدام الأشياء الغريبة مثل الستائر المعدنية وأغطية صفائح القمامة كأسلحة. ومن ناحية أخرى، أقوم بإفساد ذاتي البريئة. تنهدت، على شخص آخر القيام بذلك. إنه يوم مجاني، لهذا نرى المكان مكتظاً بالناس. وقفنا في الصف، نتقدم عبر المدخل، ونصعد ببطء الدرج المركزي الفخم. دخلنا صالات العرض الأوروبية، وعدنا من جناح هولندا في زمن القرن السابع عشر إلى جناح إسبانيا في القرن الخامس عشر. وها هو سان جورج يقف بهدوء ورباطة جأش، كعادته دائماً، وهو مستعد لطعن التنين بحربته الدقيقة بينما الأمراء الذين يرتدون الملابس ذات الألوان الوردية والخضراء ينتظرون برزانة في المنتصف. أحببنا التنين ذا البطن شديد الاصفرار، واعترانا ارتياح لأن ساعة موته لم تحن بعد. وقفت مع هنري الصغير أمام لوحة لبيرناردو مارتوريل لخمس دقائق، ثم عاد إليّ. كان المعرض كله لنا في تلك اللحظة. قلت: «لست سيئاً جداً. انتبه. حذار أن تلفت انتباه أحدهم. وتخيل أين يمكن أن تكون المحفظة. معظم الرجال يضعون المحفظة إما في الجيب الخلفي من البنطال أو داخل أحد جيوب ستراتهم. أما عند النساء، فأنت تريد الحقائب الموجودة خلف ظهورهن. وإذا كنت في الشارع، فتستطيع أن تأخذ الحقيبة كلها، لكن عليك عندها أن تكون متأكداً من أنك ستسبق كل من يحاول اللحاق بك. وستسير الأمور بهدوء إذا لم ينتبه إليك أحد». «شاهدت فيلماً حيث كانوا يتدربون على ثياب عليها أجراس وإذا ما حرك الشخص البذلة وهو يسرق المحفظة ترن الأجراس». «أجل. أذكر هذا الفيلم. تستطيع أن تجرّب هذا في المنـزل. اتبعني الآن». اقتدت هنري من طابق المتحف من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر، وفجأة وصلنا إلى طابق الانطباعية الفرنسية. ويُشهد لمتحف الفنّ احتواؤه على مجموعات من اللوحات الانطباعية. أستطيع أن آخذها أو أن أتركها، لولا اكتظاظ هذه القاعة بالناس الذين أتوا ليشاهدوا لوحة لا غراند جات(8) أو لوحة مونيه هايستاك. لم يستطع هنري رؤية اللوحة من فوق رؤوس الحشود الأطول منه، لهذا، ضاعت اللوحة بالنسبة إليه، لكنه كان متحمساً جداً لرؤيتها بأي وسيلة. تفحصت القاعة، كانت هناك امرأة منحنية على ابنها في العربة وهي تنهره لأنه يصرخ. لا بد من أن هذا الوقت هو وقت قيلولته. أومأتُ إلى هنري وتقدمتُ نحوها. كان من السهولة بمكان، أن أسرق حقيبتها المتدلية فوق كتفها، من ظهرها. كانت تركّز انتباهها الكامل على طفلها لتوقفه عن الصراخ. كانت تقف أمام لوحة الطاحونة الحمراء للفنان تولوس لوتريك. تظاهرت أنني أنظر إلى اللوحة وأنا أسير، اصطدمت بها، فدفعتها إلى الأمام، وأمسكت بذراعها وقلت: «أنا آسف جداً، اعذريني، لم أكن أنظر، هل أنت بخير؟ المكان محتشد هنا...». كانت يدي في حقيبتها، وقفت مرتبكة، كانت ذات عينين داكنتين وشعر طويل، وصدر كبير، لا بد أنها لا تزال تحاول التخلص من الوزن الزائد بسبب الإنجاب. نظرت إلى عينيها، وأنا أحاول أن أجد محفظتها، ولا أزال أعتذر لها، انـزلقت المحفظة داخل كم سترتي، نظرت إليها من الأعلى إلى الأسفل ثم ابتسمت لها، عدت أدراجي، واستدرت، وسرت، وأنا أنظر من فوق كتفي، استمررت في سيري. لحق بـي هنري وأنا أنـزل الدرج إلى المتحف الصغير. كنا قد حددنا مكان لقائنا في حمام الرجال. قال هنري: «عجباً، لماذا كانت تنظر إليك هكذا؟». قلت: «إنها وحيدة. وربما زوجها غير موجود في المكان نفسه». دخلنا إحدى مقصورات الحمام وفتحنا المحفظة. كان اسمها دينيس رادك. وتعيش في فيلا بارك، إيلينوي. هي عضو في المتحف وخريجة جامعة روزفلت. كانت تحمل اثنين وعشرين دولاراً نقداً، إضافة إلى الفكة. عرضت كل هذا على هنري حتى يرى، بهدوء، وأعدت المحفظة كما كانت عليه، وأعطيتها إلى هنري. خرجنا من المقصورة، ثم إلى خارج حمام الرجال، وعدنا إلى مدخل المتحف. «أعطِ هذه إلى الحارس، وقل له إننا وجدناها على الأرض». «لماذا؟». «لسنا بحاجة إليها، كانت حركة استعراضية من أجلك». هرع هنري إلى الحارس، وكان امرأة سوداء ضخمة، ابتسمت له وضمته قليلاً. عاد ببطء، وسرنا ونحن على بعد عشر أقدام عن بعضنا، سرت في المقدمة، واتجهنا إلى الممر الطويل المعتم، الذي سيصبح في يوم من الأيام بيت طلاب فنون الديكور، ودليل رايس وينغ وهو حالياً مملوء بالبوسترات. كنت أبحث عن علامات سهلة، وأمامي مباشرة شرح متكامل لحلم النشل. رجل قصير، وبدين، لفحته الشمس، يبدو وكأنه قام بجولة ريغلي فيلد السياحية في شيكاغو وهو يعتمر قبعة البيسبول ويرتدي بنطالاً مصنوعاً من البوليستر مع قميص ذي أزرار من الأسفل وكمين قصيرين لونهما أزرق فاتح. كان يُحاضر لصديقته التي تشبه الفأرة عن فانسانت فان كوخ. «وهكذا قطع أذنه وقدمها هدية إلى صديقته - هاي، ما رأيك بهذا كهدية، هه؟ إذاً! هش؟ ولهذا وضعوه في مشفى المجانين...». لم يكن لديّ أدنى شك في هذا. راح يمشي، بكل سعادة وهناء، غير منتبه، إلى محفظته الموجودة في الجيب الخلفي الأيسر من بنطاله. كان صاحب بطن كبير ولا توجد لديه مؤخرة تقريباً، وكانت محفظته جميلة جداً كأنها تناديني لآخذها. سرت بخطى متمهلة خلفهما. كان هنري الصغير يراقب الأجواء لي وأنا أدس إبهامي وسبابتي داخل الجيب وأحرر المحفظة. استدرت، وأكملا سيرهما، مررت المحفظة إلى هنري الصغير الذي وضعها في بنطاله وأنا أسير أمامه. علّمت هنري بعض التقنيات الأخرى، كيف يأخذ محفظة من الجيب الأمامي للبذلة، وكيف يخفي يده عن الأبصار بينما هي تغوص داخل حقيبة امرأة ما، بست طرائق مختلفة لتشتيت انتباه شخص وهو يحاول أن يأخذ منه محفظته، وكيف يأخذ محفظة من حقيبة الظهر، وكيف يأتي بشخص ليبين له على غفلة منه مكان النقود. أصبح هنري الصغير أكثر استرخاءً الآن، حتى إنه بدأ يستمتع بهذا. أخيراً قلت: «حسناً، حان دورك الآن لتجرب». أجابني فوراً وهو متخشب: «لا أستطيع». «بلى تستطيع. انظر حولك. اعثر على أحد ما». كنا نقف في قاعة الطباعة اليابانية. كانت القاعة مكتظة بالعجائز. «ليس هنا». «حسناً، أين إذاً؟». فكّر لدقائق: «في المطعم؟». توجهنا بهدوء نحو المطعم. أتذكر كل هذا جيداً. كان خائفاًً تماماً. نظرت إلى ذاتي الصغيرة وتأكدت تماماً. كان وجهه شاحباً من الخوف. تبسمت، لأنني أعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك. وقفنا عند نهاية الصف في حديقة المتحف. جال هنري ببصره حول المكان، وهو يُفكّر. كان يقف أمامنا في الصف رجل طويل القامة في منتصف العمر يرتدي بذلة خفيفة بنية اللون جميلة، كان من المستحيل أن أعرف مكان محفظته. تقدم إليه هنري، وهو يحمل إحدى المحفظات التي كنت قد نشلتها قبل فترة، ومدّ يده ليقدمها إليه. قال هنري بهدوء: «هل هذه لك يا سيدي؟ كانت على الأرض». تفحص الرجل جيب بنطاله الأيسر وقال بعد أن وجد محفظته في مكانها: «آه؟ هممم، كلا». وأومأ الرجل إلى هنري ليسمعه بشكل أفضل، أخذ المحفظة من هنري وفتحها، وأردف قائلاً: «عليك أن تأخذ هذه المحفظة إلى الحراس، أممم، ففيها بعض النقود، أجل». كان الرجل يضع نظارة سميكة، وينظر إلى هنري من خلالها وهو يتحدث إليه، ومدّ هنري يده تحت سترة الرجل وسرق منه محفظته. وبما أن هنري يرتدي كنـزة قصيرة سرت خلفه وأعطاني المحفظة. أشار الرجل طويل القامة الذي يرتدي بذلة بنية اللون إلى الدرج، وهو يشرح لهنري كيف يعيد المحفظة. مشى هنري بخطى قصيرة إلى حيث أشار الرجل أن يذهب، تبعته، أمسكت به، واقتدته من المتحف إلى المدخل ثم إلى الخارج، مررنا بين الحراس، إلى جادة ميتشغان نحو الجنوب، إلى أن انتهى بنا المطاف، ونحن نضحك كالعفاريت، إلى مقهى الفنانين، حيث طلبنا لأنفسنا ميلك شيك وبطاطا مقلية وبعض الحبوب. وبعد ذلك، رمينا المحفظة في صندوق البريد، وهي خالية من النقود، وحصلنا على غرفة في بالمر هاوس. سألته، وأنا أجلس على حافة حوض الاستحمام أراقبه وهو يغسل أسنانه: «إذاً؟». استدار هنري وفمه مملوء بمعجون الأسنان: «أوو...؟». «ما رأيك؟». أجابني وهو يبصق: «حول ماذا؟». «النشل». نظر إليّ من خلال المرآة وقال: «لا بأس». ثم استدار وهو يوجه كلامه إليّ مباشرةً: «لقد أحسنت صنعاً». وابتسم ابتسامة عريضة. «أنت عبقري!». «أجل!». اختفت الابتسامة العريضة. «لا أحب يا هنري أن أسافر عبر الزمن بمفردي. بل أفضل هذا معك. ألا تستطيع أن ترافقني دائماً؟». كان يقف وظهره يواجهني، ابتسمنا لبعضنا من خلال المرآة. يا لذاتي الصغيرة المسكينة! كان ظهري في هذه السن نحيفاً، وكتفاي نحيلتين تبدو منهما عظام الترقوة كجناحين صغيرين. استدار، منتظراً جوابـي، كنت أعرف ما الذي سأقوله له - أنا. أمسكت به، وجعلته يستدير نحوي، ويقف إلى جانبـي، فوقفنا جنباً إلى جنب، على مستوى الرأسين، قبالة المرآة. «انظر». نظرنا بإمعان إلى انعكاس صورتينا في المرآة، ونحن متشابكان في الحمام المزخرف في فندق بالمر هاوس الفخم. كان لشعرنا اللون البني ذاته، ونفس العيون الداكنة والمتعبة، وسخرنا من تطابق آذاننا. كنت أطول قامة منه وأكثر امتلاء وحليق الذقن. بينما كان هو أكثر نحافة وأخرق وكانت نحافته تظهر في ركبتيه ومرفقيه. أرجعت شعري إلى الخلف وأريته ندبة أصابتني بسبب حادث وقع لي. وبغير شعور، قلد حركتي، ولمس نفس الندبة على جبهته. «مثلي تماماً». قالت ذاتي هذا، مندهشة. «كيف حصل هذا؟». مرت لحظة شفافة. لم أفهم خلالها، ثم بعد ذلك فهمت. هكذا. رأيت ما حدث. أردت أن يحدث هذا لكلينا في الحال، أحسست مرة أخرى بضياع حدود نفسي، وأنا أرى هذا التداخل بين المستقبل والحاضر للمرة الأولى. لكنني تآلفت مع هذا، وارتحت جداً، ولهذا بقيت في الخارج، أتذكر أعجوبة أن أكون في التاسعة من عمري وفجأة أرى، وأعرف، أن صديقي، ودليلي، وأخي كان أنا. أنا، وفقط أنا. «أنت أنا». «عندما تكبر». «ولكن... ماذا عن الآخرين؟». «أتقصد المسافرين الآخرين عبر الزمن؟». أومأ برأسه. «لا أعتقد أنهم موجودون. أعني، لم ألتقِ أحداً منهم». تجمعت الدموع على طرف عينه اليسرى. عندما كنت صغيراً، تخيلت مجتمعاً كاملاً من المسافرين عبر الزمن، من بينهم هنري، أستاذي، كان مبعوثاً، أُرسل ليعلمني الاحتواء النهائي في هذه الصداقة السريعة. كنت لا أزال أشعر وكأنني منبوذ، مطروح على أحد الشواطئ، آخر عضو من الجنس البشري الهائل القديم. وكأن روبنسون كروزو اكتشف آثار أقدام تبعث على الحذر ثم ما لبث أن اكتشف أنها آثار قدميه. ذاتي، هنري الصغير كورقة شجرة، شفاف كما الماء، أخذت أبكي. احتضنته، احتضنت ذاتي، لفترة طويلة من الزمن. في ما بعد، طلبنا شراب الشوكولاته الساخنة من خدمة الغرف، وشاهدنا برنامج جونسون كارسون. غط هنري في النوم والنور مضاء. وبعد انتهاء البرنامج نظرت إليه فكان قد اختفى، اختفى عائداً إلى غرفتي القديمة في شقة والدي، ليقف مضطرب التفكير قرب سريري القديم، ثم يندس فيه، شاكراً وممتناً. أوقفت جهاز التلفاز عن العمل ومصباح السرير. كانت أصوات الضجيج في الشارع تتسلل عبر النافذة في العام 1973. أردت الذهاب إلى المنـزل. استلقيت على سرير الفندق القاسي، وحيداً. ولا أزال لا أفهم شيئاً. الأحد، 10 كانون الأول، 1978 (هنري 15 عاماً، وهنري 15 عاماً) هنري: أنا في السرير مع ذاتي. إنه موجود هنا من شهر آذار التالي. نقوم بما نقوم به غالباً عندما نحظى بالخصوصية، وعندما يكون الجو بارداً في الخارج، وعندما بلغ كلانا سن البلوغ ولم نُصادق أي فتاة على أرض الواقع. أعتقد أن معظم الناس سيقومون بهذا، في ما لو كانت لديهم فرصة من الحياة مثل فرصتي. أعني، أنا لست شاذاً أبداً. كان الوقت متأخراً من صباح يوم أحد. أستطيع أن أسمع أصوات قرع الأجراس في دار عبادة سان جو. عاد والدي إلى المنـزل متأخراً في الليلة الماضية. أعتقد أنه كان في المشرب بعد الأمسية الموسيقية، لأنه كان ثملاً جداً بحيث إنه وقع على الدرج وكان عليّ أن أجره إلى الشقة وأن أضعه على السرير. سعل وسمعته يمشي في المطبخ. بدت ذاتي الأخرى مشتتة الانتباه؛ كان هنري لا يزال ينظر إلى الباب. سألته: «ماذا؟». أجابني: «لا شيء». نهضت، وتأكدت من القفل. قال لي: «كلا». بدا وكأنه يبذل مجهوداً ليتحدث. قلت له: «تعالَ». سمعت أصوات وقع خطى والدي الثقيلة تتناهى إليّ من خارج بابـي. قال لي: «هنري». وانفتح الباب ببطء وأدركت فوراً أنني عن غير قصد مني لم أقفل الباب، وقفز هنري لكن الوقت كان قد فات. أدخل والدي رأسه ووجدنا في حالة تلبس، قال: «آوه». اتسعت حدقتا عينيه وبدا عليه السخط. «يا اﷲ، هنري». أغلق الباب وسمعته يعود إلى غرفته. رميت ذاتي بنظرة موبخة وأنا أرتدي بنطال الجينـز والكنـزة. سرت في الردهة إلى غرفة والدي. كان باب غرفته مغلقاً. قرعت الباب، من دون جواب، انتظرت «بابا؟». صمت. فتحت الباب، وقفت عند عتبته. «بابا؟». كان يجلس على السرير مديراً ظهره إليّ. استمر في جلسته هذه، ووقفت لفترة، لكنني لم أستطع أن أدخل الغرفة. أخيراً، أغلقت الباب، وعدت أدراجي إلى غرفتي. قلت لهنري بقسوة: «تلك كانت غلطتك». كان يرتدي بنطال الجينـز، ويجلس على كرسي ورأسه بين يديه. «كنت تعرف أن هذا سيحدث، كنت تعرف هذا ولم تنبس ببنت شفة. أين إحساسك بالحفاظ على الذات؟ ماذا دهاك؟ ما الفائدة من كونك تعرف المستقبل إذا كنت لا تستطيع على الأقل أن تُجنبنا هذه المشاهد الصغيرة المُذلة -». «اخرس. اخرس». قال بصوت خفيض أجش. قلت له وقد رفعت صوتي: «لن أخرس، أعني، كل ما كان عليك أن تقوله هو...». «أصغِ إليّ». نظر إليّ باستسلام: «كان الأمر مثل... كان مثل ذلك اليوم في حلبة التزلج على الجليد». «آه، اللعنة». منذ عامين، رأيت فتاة صغيرة أُصيب رأسها بضربة من لاعب هوكي في متنـزه إنديان هيد. كان أمراً فظيعاً. وعرفت في ما بعد أنها ماتت في المشفى. ثم بدأت السفر عبر الزمن إلى الوراء، مراراً وتكراراً، أردت تحذير أمها، لكنني لم أستطع. كان الأمر أشبه بالجلوس بين المشاهدين في دار السينما. كأنني شبح. أردت الصراخ، كلا، خذوها إلى المنـزل، ولا تدعوها تقترب من الثلج، أبعدوها، ستتأذى، ستموت، وأدركت أن لا وجود لهذه الكلمات إلا في رأسي فقط، وأن كل شيء سيستمر كما في السابق. قال هنري: «تتحدث عن تغيير المستقبل، لكن بالنسبة إليّ هذا هو الماضي، ومهما قلت لا يمكنني القيام بأي شيء حيال هذا الأمر. حاولت، فكانت المحاولة هي التي قمت بها. لو لم أقل شيئاً، لما صحوت من غفوتك...». «إذاً، لماذا قلت أي شيء؟». «لأنني قلته. كل ما ستفعله هو الانتظار فقط». قال مستهجناً: «مثلما حدث مع والدتنا. الحادث. Immer weider»(9). مرة أخرى كما هي الحال دائماً، نفس الشيء دائماً. «الإرادة الحرة؟». نهض، وسار باتجاه النافذة، ووقف وهو ينظر إلى الساحة الخلفية لمنـزل آل تاتينغر. كنت أتحدث حول هذا الأمر مع ذاتي منذ العام 1992. قالت لي شيئاً مهماً، إنّ الإرادة الحرة توجد فقط عندما تكون في الوقت المحدد تماماً، في الحاضر، في الماضي نفعل ما فعلناه، ونكون هناك فقط عندما نكون هناك. «لكن مهما كنت أنا، فهذا هو حاضري. أليس عليّ أن أكون قادراً على أن أقرر -». «لا. ظاهرياً لا». «ماذا قال عن المستقبل؟». «حسناً، فكّر في الأمر. أنت تذهب إلى المستقبل، فتفعل هناك شيئاً، ثم تعود إلى الحاضر. ثم يصبح ذاك الشيء الذي قمت به جزءاً من ماضيك. إذاً، فهذا أمر حتمي أيضاً». أحسست باندماج غريب من الحرية مع اليأس فقلت: «ولكن، عندها لن أكون مسؤولاً عن أي شيء أفعله وأنا غير موجود في الحاضر». تبسم وقال: «الحمد لله». «وقد حدث كل شيء». «طبعاً يبدو الأمر هكذا». مرر يده على وجهه، فعرفت أنه يحلق ذقنه. ولكنه قال: «عليك أن تتصرف وكأنك تتمتع بالإرادة الحرة، وكأنك مسؤول عما تفعل». «لماذا؟ وما المهم في ذلك؟». «ظاهرياً، إذا لم تفعل ذلك، فستسير الأمور نحو الأسوأ، الإحباط». «هل كان يعرف ذلك شخصياً». «أجل». «ما الذي سيحدث بعد ذلك؟». «والدك يتجاهلك منذ ثلاثة أسابيع، وهذا» - أشار بيده إلى السرير - «سنتوقف عن اللقاء هكذا». تنهدت: «معك حق، هذه ليست مشكلة. أي شيء آخر؟». «فيفيان تسكا». كانت فيفيان هذه فتاة في صف الهندسة التي أتحرق شوقاً إليها. ولكن لم أكن قد قلت لها كلمة واحدة. «غداً وبعد الدرس، اطلب منها الخروج معك». «أكاد لا أعرفها». «ثق بـي». ابتسم لي ابتسامة متكلفة جعلتني أسأل نفسي لماذا عليّ الوثوق به، ولكن كنت أريد أن أعتقد بهذا. «حسناً». «سأفعل هذا. نقوداً من فضلك». أعطيته عشرين دولاراً. «المزيد». أعطيته عشرين دولاراً أخرى. «هذا هو كل ما لديّ». «حسناً». وراح يرتدي ملابسه، أخذ الملابس من مخبئه، لا أمانع إن كنت لن أراه مرة أخرى. «ما رأيك بمعطف؟». ناولته كنـزة تزلج لا أحبها. فارتداها. وسار نحو الباب الخلفي من الشقة. كانت أجراس دار العبادة تقرع عند الظهيرة. «إلى اللقاء». قالت ذاتي. قلت: «بالتوفيق». وغاب عن ناظري وهو يندفع إلى المجهول، إلى صباح بارد لا ينتمي إليه، من يوم أحد في شيكاغو. قفز على الدرج الخشبـي، وعدت إلى هدوء شقتي. الأربعاء، 17 تشرين الثاني/الثلاثاء، 28 أيلول، 1982 (هنري 19 عاماً) هنري: أنا في المقعد الخلفي في سيارة شرطة في زيون، إيلينوي. مكبلاً بالأصفاد لا شيء آخر. داخل السيارة، كانت تفوح روائح دخان السجائر، والجلد، والعرق، وروائح أخرى لا أستطيع تحديدها تبدو وكأنها مستوطنة في سيارات الشرطة. ربما هي روائح تنبعث من الخارج، ربما. كانت عيني اليسرى متورمة وجسدي من الأمام مغطى بالكدمات والجروح والقذارة بسبب ضربـي من قبل رجلي شرطة بزجاجة فارغة مكسورة. كان رجال الشرطة يقفون خارج السيارة وهم يتحدثون إلى الجيران، رآني أحدهم على ما يبدو وأنا أحاول أن أقتحم المنـزل الفيكتوري الأصفر والأبيض الذي كنا نركن السيارة قُبالته. لم أكن أدري أين أنا في الزمن. بقيت هنا قرابة الساعة، وأنا في أسوأ حال. كنت جائعاً، وتعباً. كان من المفترض أن أكون في حلقة بحث عن شكسبير للدكتور كواري، لكنني متأكد أنني أفسدت كل هذا. يا له من أمر سيئ جداً. كانت حلقة بحث حول حلم ليلة صيف. كان أعلى سيارة الشرطة هذه، حاراً، أنا لست في شيكاغو. شيكاغو تكرهني لأنني أختفي دائماً وأنا تحت الوصاية، ولا يستطيعون تصور ذلك. كما أنني أرفض أيضاً التحدث إليهم، لهذا لا يعرفون من أنا، أو أين أعيش، وفي اليوم الذي سيكتشفون فيه ذلك سأنتهي، لأنّ هناك عدة تحذيرات معلقة للقبض عليّ؛ الاقتحام والدخول، النشل والسرقة، مقاومة الاعتقال، واختراق الاعتقال، والاعتداءات، والمظهر غير المحتشم، والتعرض غير اللائق، والسرقة، وإلى ما هنالك. من هنا يمكن للمرء أن يستنتج أنني مجرم خطير، ولكن في الواقع، المشكلة الرئيسة هي أنه من الصعب أن تكون غير واضح عندما تكون عارياً. السرقة والسرعة هما من خصائصي الرئيسة ولهذا، عندما أحاول سرقة المنازل في وضح النهار وأنا عارٍ؛ لا تنجح السرقة في بعض الأحيان. لقد اعتُقلت سبع مرات، واختفيت قبل أن يستطيعوا رفع بصماتي أو تصويري. أخذ الجيران يسترقون النظر من خلال نوافذ السيارة لينظروا إليّ. لا يهمني هذا. فهذا سيستغرق وقتاً طويلاً. اللعنة، كم أكره هذا. أسندت رأسي إلى الوراء، وأغمضت عينيّ. فُتح باب السيارة. كان الهواء بارداً، فتحت عيني بسرعة، وعلى الفور رأيت الشبك المعدني الذي يفصل بين الجزءين الخلفي والأمامي من السيارة، ومقاعد السيارة المصنوعة من الفينيل والمتشققة، ويديّ المقيدتين، وساقيّ المنقبضتين، والسماء المنبسطة عبر حاجز الريح، والقبعة السوداء على لوحة القيادة، والدفتر بيد الشرطي، ووجهه الأحمر، وحاجبيه الرماديين المعقوفين، والفكين اللذين يُشبهان الستارة. راح كل شيء يومض؛ ألوان قوس قزح، والألوان كجناحي فراشة، ورجل الشرطة وهو يقول: «هاي، لديه بعض الـ». وراحت أسناني تصطك ببعضها، وتلاشت سيارة الشرطة أمام عيني، وأنا مستلقٍ على ظهري في باحة منـزلنا. أجل! أجل! ملأت رئتيّ بهواء أيلول النقي، نهضت وفركت معصميّ، كانت هناك آثار للقيود عليهما. ضحكت، وضحكت. لقد فررت مرة أخرى. كان هوديني، وبروسبيرو ينظران إليّ! لأنني لاعب خفة، أنا لاعب خفة أيضاً. تغلب عليّ دوار البحر، وتقيأت على أقحوانات السيدة كيمي. السبت، 14 أيار، 1983 (كلير11 عاماً وتقارب 12 عاماً) كلير: إنه يوم ذكرى ميلاد ماري كريستينا هيبوورث، كل بنات الصف الخامس من مدرسة سان باسيل يبتن في منـزلها. لدينا البيتزا، والكولا، وسلطة الفاكهة من أجل العشاء، وقد صنعت السيدة هيبوورث قالب حلوى كبيراً على شكل رأس وحيد القرن، مع عبارة: ذكرى ميلاد سعيدة ماري كريستينا Happy Birthday Mary Christina! بالسكر الناعم، ونحن نغني وماري كريستينا تطفئ الاثنتي عشرة شمعة بنفخة واحدة. أعتقد أنني عرفت ما تمنته، ألا تزداد قامتها طولاً. هذا ما كنت سأتمناه لو كنت مكانها. ماري كريستينا أطول شخص في صفنا. يبلغ طولها 172 سنتم. أما والدتها أقصر منها بقليل، ووالدها فهو بحق، الأطول. سألت هيلين ماري عن طول قامة والدها فأجابت أنه يبلغ 197 سنتم. وهي الابنة الوحيدة في عائلتها، وأخواها أكبر منها وحليقا الذقن وأطول منها قامة، أيضاً. وهما يقصدان تجاهلنا وتناول الكثير من الحلوى. يا له من أمر محرج. فتحت ماري كريستينا هداياها. لقد أحضرت لها كنـزة خضراء، تُشبه كنـزتي الزرقاء تماماً التي تحبها، ذات ياقة نسيجية، من محل لورا أشلي. وشاهدنا بعد تناول طعام العشاء مسلسل مصيدة الأهل على الفيديو وبقي الوالدان هيبوورث ليراقبانا ونحن نشاهد الفيلم إلى أن بدأنا نأخذ دورنا في ارتداء ثياب النوم في حمام الطابق الثاني ثم تجمعنا في غرفة ماري كريستينا المزخرفة بالكامل باللون الوردي، حتى السجاد الممدود على طول الغرفة وعرضها. تشعر وكأن والديّ ماري كريستينا سعيدان حقاً لأنهما أنجبا ابنة بعد الذكرين. كنا قد أحضرنا كلنا أكياس النوم، وكومناها أمام الحائط، وجلسنا على سرير ماري كريستينا وعلى الأرض. كانت مع نانسي زجاجة من شراب بالنعناع وقد شربنا منها كلنا. كان الطعم فظيعاً، ويُشبه شراب فابو روب فيكس. لعبنا لعبة إما الحقيقة أو الجرأة. أمرت روث ويندي أن تركض في القاعة من دون أن ترتدي أي شيء على جسدها، وسألت ويندي فرانسي عن قياس حمالة صدر ليكسي، وهي شقيقة فرانسي التي تبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، (الجواب: 38ج). وسألت فرانسي عن الذي كانت تفعله مع مايكل بلاتنر في محل ديري كوين يوم السبت الماضي. (الجواب: تناول المثلجات، حسناً). وبعد فترة من الزمن أصابنا الملل من هذه اللعبة، لأنه كان من الصعب التفكير في الجرأة التي يمكن أن تصل إليها إحدانا، فنحن نعرف بعضنا بعضاً، ونذهب إلى المدرسة مع بعضنا منذ أن كنا في الحضانة. قالت ماري كريستينا: «لنلعب لعبة الويجا». فوافقنا جميعاً، لأن هذه الحفلة هي حفلتها ولأن لعبة الويجا لعبة باردة. أخرجت اللعبة من الخزانة. كان لوح اللعب مكسوراً، والقطع الصغيرة البلاستيكية التي تظهر الأحرف مفقودة. قال لي هنري ذات مرة إنه ذهب إلى جلسة تحضير... وانفجر ذيل الوسيط في منتصف الجلسة، فاضطروا إلى استدعاء الإسعاف. كان لوح اللعبة كبيراً جداً لشخصين حتى يلعبا به في الوقت نفسه، ولهذا لعبت ماري كريستينا وهيلين أولاً. تقتضي القاعدة أن تسأل ما تريد معرفته بصوت عالٍ وإلا لن تنجح اللعبة. وضعتا أصابعهما على اللوح البلاستيكي. نظرت هيلين إلى ماري كريستينا، التي كانت مترددة فقالت نانسي: «اسأليها عن بوبـي». فسألت ماري كريستينا: «هل يحبني بوب دوكسلير؟». فضحك الجميع. وكان الجواب بالنفي، ولكن ويجا تشير إلى كلمة نعم، مع دفع خفيف من قبل هيلين. ابتسمت ماري كريستينا ابتسامة عريضة بحيث استطعت رؤية جهازي تقويم الأسنان من الأعلى والأسفل. سألت هيلين إذا ما كان أحد من الفتيان يحبها. ودارت دوائر الويجا لفترة من الزمن ثم توقفت على الأحرف د، ا، ف. «دافيد هانلي؟». قالت باتي، وضحك الجميع. ودافيد هو الولد الأسود الوحيد في صفنا. وهو خجول جداً وصغير الحجم وبارع في الرياضيات. «قد يساعدك على حلّ عمليات القسمة». قالت لورا الفتاة الخجولة أيضاً. ضحكت هيلين. فهي سيئة جداً في الرياضيات. «كلير، وأنت روث جربا ذلك». جلسنا مكان هيلين وماري كريستينا، نظرت إليّ روث فهززت كتفي وقلت: «لا أعرف ماذا أسأل». ضحك الجميع بفتور: ما عدد الأسئلة الممكنة؟ ولكن كان هناك العديد من الأشياء التي أريد معرفتها. هل ستتحسن والدتي؟ ولماذا كان والدي يصرخ على إيتا هذا الصباح؟ هل هنري شخص حقيقي؟ أين خبأ مارك فروضي الفرنسية؟ قالت روث: «هل يحب الفتيان كلير؟». نظرت إليها باحتقار، ولكنها اكتفت بالابتسام. «ألا تريدين أن تعرفي؟». «كلا». قلت لها، لكنني وضعت أصابعي على اللوح البلاستيكي. ووضعت روث أصابعها أيضاًَ لكن لم يتحرك شيء. كلانا لامستا الشيء بنعومة، نحاول أن نلعبها على نحو صحيح لا أن ندفع بها. ثم بدأت بالتحرك، ببطء. أخذت تشكل دوائر، ثم توقفت عند حرف هـ، ثم تسارعت الحركة حتى أحرف ن، ر، ي، قالت ماري كريستينا: «هنري». سألت هيلين: «ومن هنري؟». «لا أعرف». «لكن خديك يتوردان خجلاً يا كلير. من هنري؟». هززت رأسي، كأنه كان مجرد لغز غامض بالنسبة إليّ. وسألتني (ويا للمفاجأة الكبرى). «اسألي روث. من يحبها؟» أشارت الويجا إلى الأحرف ر، ي، ك. استطعت سماعها وهي تدفع اللعبة. وريك هذا هو السيد مالون، أستاذ العلوم لدينا، الواقع في غرام السيدة إنجل، أستاذة اللغة الإنكليزية. ضحك الجميع باستثناء باتي، التي كانت مغرمة بالسيد مالون أيضاً. نهضت مع روث بينما جلست لورا ونانسي. أدارت نانسي ظهرها إليّ، لهذا لم أتمكن من رؤية وجهها عندما طرحت سؤالها: «ومن هنري هذا؟». نظرن إليّ جميعهن حيث ساد الهدوء. راقبت اللوح، لا شيء. لمجرد أنني أفكر فأنا آمنة، بدأت الأشياء البلاستيكية بالحركة. أشارت إلى الحرف، هـ. أعتقد أنها أشارت إلى اسم هنري مرة أخرى. لا تعرف نانسي ولورا أي شيء عن هنري. حتى إنني لا أعرف الكثير عن هنري. ثم اتجهت نحو الأحرف: ز.و.ج. نظر الجميع إليّ. «حسناً، أنا لست متزوجة، عمري فقط أحد عشر عاماً». سألت لورا: «ولكن من هنري؟». أومأت برأسي: «لا أعرف. لربما هو شخص لم ألتقِ به بعد». استغرب الجميع كلامي هذا. حتى إنني استغربت أيضاً. زوج! زوج! الخميس، 12 نيسان، 1984 (هنري 36 عاماً، كلير 12 عاماً) هنري: ألعب مع كلير لعبة الشطرنج على مقربة من دائرة النار في الغابة. إنه يوم جميل من أيام الربيع. والغابة تضج بالحياة وبالطيور وهي تغرد وتبني أعشاشها. بقينا بعيدين عن طريق أفراد عائلة كلير، الذين سيكونون خارج المنـزل حتى فترة ما بعد الظهر تقريباً. بقيت كلير في نقلتها في اللعبة لفترة، كنت قد قتلت ملكتها في ثلاث نقلات، وهي الآن في موقف خطير، ومع ذلك قررت الاستمرار. نظرت إليّ قائلة: «هنري، من المغني المفضل لديك في فريق البيتلز؟». «طبعاً جون؟». «لماذا تقول طبعاً؟». «حسناً، رينغو لا بأس به لكنه دائم الحزن؟ تعرفين. أما جورج فهو يمثل أيضاً العصر الحديث بالنسبة إلى ذوقي». «وما العصر الحديث؟». «معتقدات غريبة. وموسيقى سخيفة ومملة. ومحاولات محزنة لإقناع الذات بالتفوق في أي شيء له علاقة بالهنود الحمر. الطب الذي لا علاقة له بالغرب». «لكنك لا تحب الطب العادي». «لأن الأطباء يحاولون دائماً أن يقولوا لي إنني مجنون. لو كانت يدي مكسورة لحظيت بشهرة كبيرة في الطب الغربـي». «وماذا عن بول؟». «بول للفتيات». ابتسمت كلير بحياء. «أنا أحب بول». «حسناً، لأنك فتاة». «ولماذا بول للفتيات؟». قلت لنفسي خفف الوطء. «آه، بول يشبه، الخنفساء الجميلة؟». «وهل هذا أمر سيئ؟». «على الإطلاق. كل ما يهم الشباب هو أن يكونوا باردين، وجون هو عضو البيتلز البارد». «آه، لكنه ميت». ضحكت. «تستطيعين أن تكوني باردة وأنت ميتة. هذا أسهل بكثير في الواقع، لأنك لن تكبري وتصبحي بدينة وتفقدي شعرك». همهمت كلير في بداية جملة عندما أبلغ من العمر أربعة وستين عاماً. نقلت الرخ خمس نقلات. كنت أستطيع أن أقتل الملك الآن، ونبهتها إلى هذا فتراجعت عن نقلتها هذه. «إذاً، لماذا تحبين بول؟». سألتها. نظرت في الوقت المناسب فرأيتها قد احمرت خجلاً. «إنه... جميل جداً». قالت كلير. ثمة شيء بالأسلوب الذي تقول فيه هذا مما يجعلني أشعر بشيء غريب. تمعنت في رقعة الشطرنج، فرأيت أن كلير تستطيع أن تقتل ملكي إذا ما قتلت الفيل بالفرس. تساءلت بيني وبين نفسي إذا كان عليّ أن أقول لها هذا. لو كانت أصغر سناً لقلت لها هذا. كنت سأفعل. عندما تكون في الثانية عشرة تستطيع الدفاع عن نفسك. حدّقت كلير ملياً إلى رقعة الشطرنج. تبدو عليّ الغيرة. يا اﷲ. لا أستطيع أن أصدق أنني أغار من مغنٍّ ثري كبير هو في مثل عمر أبيها. قلت: «همم!». نظرت إليّ كلير، وهي تبتسم ابتسامة خبيثة: «وأنت، من تحب؟». أحبك أنت. فكرت في هذه الجملة، لكنني لم أبح بها. «أتعنين لو كنت في مثل سنك؟». «أجل. لو كنت في مثل سني؟». فكّرت في هذه المزحة الثقيلة قبل أن أقولها. «كنت في مثل عمرك عام 1975. أنا أكبرك بثمانية أعوام». «إذاً، عمرك هو عشرون عاماً؟». «حسناً. كلا. أنا في السادسة والثلاثين من عمري». كبير عليك حتى لأكون والدك. قطّبت كلير حاجبيها. فهي ليست بارعة في الرياضيات: «ولكن إذا كان عمرك في العام 1975 اثني عشر عاماً...». «آه. أنا آسف، أنتِ على حق، أعني، عمري ستة وثلاثون عاماً، ولكن في مكان ما خارج هذا المكان» - أشرت بيدي نحو الجنوب - «فأنا في العشرين. في الزمن الحقيقي». حاولت كلير جاهدة أن تفهم ما أقول. «إذاً، فهناك اثنان منك؟». «ليس بالضبط. هناك واحد مني، ولكن عندما أكون مسافراً عبر الزمن في بعض الأحيان أذهب إلى أماكن أكون فيها أنا على حقيقتي، وعندها تستطيعين أن تقولي إن هناك اثنين، أو أكثر». «وكيف حصل أنني لم أرَ أكثر من واحد؟». «سترين. عندما نلتقي أنا وأنت في حاضري الذي سيتكرر». أكثر مما أود، يا كلير؟ «إذاً، من تحب في العام 1975؟». «لا أحد. حقاً. عندما كان عمري اثني عشر عاماً، كانت لديّ أمور أخرى أفكّر فيها. ولكن عندما أصبحت في الثالثة عشرة من عمري كنت مغرماً بباتي هارست». انـزعجت كلير وسألت: «أهي فتاة عرفتها في المدرسة؟». ضحكت: «كلا. كانت فتاة غنية تدرس في جامعة كاليفورنيا، اختطفها إرهابيون سياسيون يساريون، وأرغموها على سرقة المصارف. بقيت أخبارها تتصدر وسائل الإعلام في كل مساء لأشهر عديدة». «وماذا حدث لها؟ ولماذا تحبها؟». «أطلقوا سراحها في النهاية، وتزوجت بعد ذلك وأنجبت أطفالاً، وهي من السيدات الثريات في كاليفورنيا. لماذا أحببتها؟ آه، لا أعرف. أمر غير منطقي، أترين؟ أعتقد أنني أعرف كيف كانت تشعر، وهي مختطفة أجبرت على أن تقوم بأمور كانت لا تريد القيام بها، ولكن يبدو لي أنها كانت تشعر بمتعة في ذلك». «هل تقوم بأمور أنت لا ترغب فيها؟». «أجل. طوال الوقت». تخدرت ساقي، فنهضت وهززتها حتى ارتاحت. «لا ينتهي بـي المطاف بسلام دائماً، وأمان يا كلير، في كثير من الأحيان يتوجب عليّ إيجاد الملابس والطعام بسرقتهما». «آه». تلبد وجهها بالغيوم، ثم رأت نقلتها، وقامت بها، ونظرت إليّ منتصرة. «كش ملك!». «هاي! برافو!». صحت بها: «أنت ملكة الشطرنج du jour»(10). «أجل، أنا هي». قالت كلير وقد احمر وجهها كبرياءً. بدأت تعيد البيادق إلى أماكنها. «مرة أخرى؟». تظاهرت أنني أنظر إلى ساعتي غير الموجودة. «أجل». جلست مرة أخرى. «جائعة؟». لقد مضت علينا ساعات ونحن في الخارج، ونفد ما كان لدينا من طعام، ولم يتبقَ لدينا سوى بقية من كيس البطاطا المقرمشة دوريتوس. «ممم». خبأت كلير بيدقين خلف ظهرها، ربت على معصمها الأيمن فكان البيدق الأبيض من نصيبـي. بدأت نقلتي بحركة افتتاحية، الملكة إلى Q4، وجاءت نقلتها استجابة لنقلتي الافتتاحية، الملكة إلى Q4 لعبنا النقلات العشر التالية بسرعة، وبعنف معتدل، جلست كلير لفترة، وهي تتأمل رقعة الشطرنج. هي دائمة التجريب، ودائمة المحاولة. قالت لي كلير من دون أن تنظر إليّ: «ومن تحب الآن؟». «أتعنين في عمر العشرين، أم في عمر الستة والثلاثين؟». «كلاهما معاً». حاولت أن أتذكر وأنا في سن العشرين. وجوه نساء غامضات، صدورهن، وأرجلهن، وبشراتهن وشعورهن. اختلطت عليّ قصصهن مع بعضها، ولم تعد وجوههن ترتبط بأسمائهن في ذاكرتي. كنت منشغلاً وبائساً في سن العشرين. «لم تكن سنوات العشرين سنوات مميزة. لم يبقَ شيء عالق في ذهني». «وفي الستة والثلاثين؟». تمعنت النظر في كلير. هل الثانية عشرة من العمر سن صغيرة جداً؟ أنا متأكد أن الثانية عشرة من العمر سن صغيرة جداً. من الأفضل لنا أن نتخيل بول ماكارثي الجميل، وصعب المنال، بدل أن نفكّر في هنري الرجل غريب الأطوار المسافر عبر الزمن. لماذا تسألني بهذه الطريقة؟ «هنري؟». «نعم؟». «هل أنت متزوج؟». «أجل». أجبتها على مضض. «بمن؟». «بامرأة جميلة، وصابرة، وموهوبة، وذكية». اكفهر وجهها، أخذت أحد بيادقي التي أماتتها منذ نقلتين سابقتين، وقالت: «آه». ورمت بالبيدق على الأرض كالدوامة. «حسناً، جميل». بدت وكأنها قد انـزعجت من سماعها هذا الخبر. «ما الأمر؟». «لا شيء». نقلت كلير الملكة من Q4 إلى KN 5. «كش ملك». نقلت الحصان لأحمي ملكي. قالت كلير مستفسرة: «هل أنا متزوجة؟». نظرت إلى عينيها. «أنت تستبقين حظك اليوم». «ولم لا؟ فأنت لا تقول لي شيئاً. هيا يا هنري أخبرني، هل سأصبح سيدة عجوزاً». قلت لها مهدئاً: «أنت راهبة». هزت كتفيها. «لا آمل ذلك». قتلت أحد بيادقي بالرخ. سألتني: «كيف التقيت بزوجتك؟». قتلت الرخ بالملكة: «آسف. هذه معلومات في غاية السرية». قطّبت كلير حاجبيها وقالت: «آه. هل كنت تسافر عبر الزمن؟ عندما قابلتها؟». «كنت أهتم بشؤوني». تنهدت كلير. قتلت بيدقاً آخر برخ آخر. أخذت أتباطأ في نقل البيادق. نقلت الفيل KB4. «ليس عدلاً أن تعرف كل شيء عني ولا تخبرني أي شيء عنك». «فعلاً. كلا ليس عدلاً». حاولت أن أبدو متأسفاً، وثابتاً. «أعني، أخبرتني روث وميغان ولورا كل شيء وأخبرتهن بدوري كل شيء». «كل شيء؟». «أجل. حسناً، لم أخبرهن عنك». «آه؟ لماذا؟». اتخذت كلير موقف المدافع عن نفسه وقالت: «أنت سر. لن يصدقنني». حاصرت الفيل بالحصان، وابتسمت لي ابتسامة خاطفة. تأملت ملياً في رقعة الشطرنج، وأنا أحاول أن أجد طريقة أقتل بها حصانها أو أحرك الفيل. ساءت الأمور بيننا فترة قصيرة. «هنري، هل أنت فعلاً شخص؟». تفاجأت بالسؤال: «أجل، ما عساي إذاً أن أكون؟». «لا أعرف؟». «أنا فعلاً شخص من لحم ودم يا كلير». «أثبت لي ذلك». «كيف؟». «لا أعرف!». «أعني، لا أعتقد أنه من غير الممكن أن يُثبت المرء أنه شخص من لحم ودم يا كلير». «بالتأكيد أنا أستطيع ذلك». «كيف؟». «أنا كأي شخص آخر من لحم ودم». «حسناً، أنا أيضاً من لحم ودم». من الممتع أن تتطرق كلير إلى هذا الموضوع، أن أعود إلى العام 1999 حيث اشتركت أنا والدكتور كيندريك في عراك فكري فلسفي حول هذه القضية. اقتنع كيندريك أنني نوع رائد من أنواع جديدة من الإنسان، أختلف عن بقية الناس مثل الإنسان الكرومانيوني الذي ينحدر من جيران نياندرتالي. واقتنعت أنني فقط نوع من شيفرة مبعثرة، وأن عدم مقدرتنا على إنجاب أطفال يثبت أنني سأصبح الحلقة المفقودة. واقتبسنا حينها مقولات من كيركيغارد وهيدجر تبادلناها معاً. كانت كلير في غضون ذلك تنظر إليّ بشك كبير. «لا يظهر الناس ويختفون بالطريقة التي تفعلها أنت. أنت تشبه قطة الشيشاير»(11). «هل تلمحين إلى أنني شخصية خيالية؟». سألت بعدما عينت موقع نقلتي أخيراً، الملك إلى QR3. تستطيع الآن أن تقتل الفيل لكنها ستخسر الحصان في هذه النقلة. استغرق الأمر من كلير لحظة لتدرك هذا وعندما أدركت أخرجت لسانها لي. كان لون لسانها برتقالياً من تناولها البطاطا المقرمشة دوريتوس. «هذا ما يجعلني أتساءل حول الحكايا الخرافية. أعني، إذا كنت حقيقياً، فلماذا لا تكون الحكايا الخرافية حقيقية أيضاً؟». وقفت كلير مكانها، وهي لا تزال تفكر في رقعة الشطرنج، وترقص قليلاً، وتقفز كأنها على نار. «أعتقد أن الأرض تزداد قسوة». «لربما هي حقيقية، أو ثمة شيء صغير بداخلها حقيقي ثم أضاف الناس إليها!». «كما كانت بياض الثلج في حالة غيبوبة؟». «والجميلة النائمة أيضاً». «وجاك رجل المكسرات كان حارساً رائعاً». «والعجوز غريب الأطوار صاحب الجودي والكثير من القطط». حدقت إليّ كلير. «العجوز ليس حكاية خرافية». «آه. فعلاً. أنا آسف. لقد جعت». في أي لحظة من الآن ستقرع نيل الجرس إيذاناً بموعد طعام الغداء وعلى كلير أن تتناوله. تراجعت قليلاً عن رقعة الشطرنج. وأستطيع القول إنها فقدت الاهتمام باللعبة عندما أخذت تبني هرماً صغيراً من قطع الشطرنج المقتولة. قالت كلير: «لم تثبت لي أنك حقيقي». «ولا أنت». سألتني متفاجئة: «هل تساءلت إن كنتُ حقيقية؟!». «ربما أحلم بك. وربما تحلمين بـي، وربما نحن موجودان في حلم كل واحد منا، وننهض في كل صباح وننسى كل شيء عن بعضنا». قطبت كلير حاجبيها، وقامت بحركة بيدها كأنها تريد أن تطرد هذه الفكرة الشاذة من رأسها. طلبت مني: «اقرصني». قرصتها بخفة من ذراعها. «أقوى!». قرصتها مجدداً، أقوى من المرة السابقة حتى تركت على ذراعها علامة بيضاء وحمراء استمرت لثوان ثم تلاشت. «هل تظن أنني سأنهض، لو كنت نائمة؟ على كل حال، أنا لا أشعر بالنعاس». «حسناً، لا أشعر أنني روح. أو أنني شخصية مختلقة». «كيف تعرف هذا؟ أعني، لو كنتُ اختلقت وجودك، ولا أريدك أن تعرف أنك موجود، لما قلت لك، أليس كذلك؟». هززت لها حاجبـي. «ربما نحن مخلوقات حقيقية ولا نعلم ذلك». «لا يجب أن تقول أشياء كهذه». هززت كتفي، قمت بتغيير الموضوع: «أنا أكثر حقيقة من بول ماكارثي». بدا على كلير الاستغراب. راحت تجمع قطع الشطرنج في الصندوق، بعناية وهي تفصل بين القطع البيضاء والقطع السوداء: «يعرف الكثير من الناس بول ماكارثي، إلا أنني الوحيدة التي أعرفك». «لكنك التقيتِ بـي على أرض الواقع، بينما لم تلتقي به». «لقد حضرت والدتي حفلة للبيتلز». أغلقت صندوق الشطرنج، وتمددت على الأرض، وراحت تحدق إلى ورق الأشجار الجديدة. «كان هذا في متنـزه كوميسكي، في شيكاغو، 18 آب، 1965». لكزتها من معدتها، ورحت أدغدغها. بعد فترة من الدغدغة، استلقينا على الأرض، وقد شبكنا أيدينا عند منتصف جسدينا. سألتني كلير: «وهل زوجتك مسافرة عبر الزمن هي الأخرى؟». «كلا. ولله الحمد». «ولماذا تحمد اﷲ على ذلك؟ أعتقد أن هذا سيكون ممتعاً. تستطيعان أن تزورا عدة أماكن سوياً». «مسافر واحد عبر الزمن في العائلة يكفي. فهذا أمر خطير يا كلير». «هل تقلق عليك؟». قلت بهدوء: «أجل. إنها تقلق عليّ». تساءلت ما الذي تفعله كلير الآن، في العام 1999. لربما لا تزال نائمة. لربما لا تعرف أنني ذهبت. «هل تحبها؟». «كثيراً». قلتها هامساً. استلقينا بصمت جنباً إلى جنب، ونحن نراقب الأشجار وهي تتمايل، والطيور. سمعت أصواتاً مكتومة، وعندما نظرت إلى كلير اندهشت عندما رأيتها والدموع تنهمر على وجهها من عينيها. نهضت وانحنيت نحوها وسألتها: «ما الأمر يا كلير؟». هزت رأسها إلى الأمام والخلف، وعضت على شفتها. شممت رائحة شعرها، ودفعتها إلى وضعية الجلوس، وأحطتها بذراعي. إنها طفلة، وليست طفلة. «ما الأمر؟». أجابت بهدوء شديد بحيث طلبت منها أن تكرر ما قالت: «قلت في نفسي يا ليتك كنت متزوجاً بـي». الأربعاء، 27 حزيران، 1984 (كلير 13 عاماً). كلير: أقف الآن في المرجة الخضراء. في وقت متأخر من شهر حزيران عند فترة الظهيرة. وسيحين الوقت بعد دقائق قليلة لأغتسل استعداداً لتناول طعام العشاء. درجة الحرارة إلى انخفاض. كانت السماء منذ عشر دقائق زرقاء داكنة والحرارة الشديدة تنتشر فوق المرجة الخضراء. كل شيء متجعد، وكأنه كان تحت وطأة قبة زجاجية كبيرة، وكل الأصوات القريبة كان الحر يبتلعها وكورس هائل من الحشرات يعزف لحن أغنيته. كنت أجلس على جسر المشاة الضيق، أراقب حشرات الماء وهي تتزحلق على مياه البركة الساكنة، أفكر في هنري. اليوم ليس يوم هنري، فيوم هنري يأتي بعد اثنين وعشرين يوماً. ازداد الجو برودةً. هنري يحيرني. قبلت طوال حياتي ألا أجعل من هنري قضية كبيرة، أجل، وبالرغم من أن هنري عبارة عن سر وبالتالي هو يعجبني، إلا أن هنري عبارة أيضاً عن معجزة، وبدا في الفترة الأخيرة أن معظم الفتيات ليس عندهن هنري وحتى لو كان عندهن هنري فسيحافظن على سريته. ثمة ريح قادمة، فقد تمايل العشب الطويل، وأغمضت عيني، فظننت أنني أسمع صوت البحر (الذي لم أرَه سوى في التلفاز). عندما فتحت عيني كانت السماء مصفرة ومخضرة. يقول هنري إنه يأتي قادماً من المستقبل. عندما كنت صغيرة لم أكن أرى أي مشكلة في ذلك: ليست لديّ أدنى فكرة ما الذي يعنيه هذا. وأنا أتساءل الآن إذا ما كان يعني هذا أن المستقبل عبارة عن مكان، أو شيء يشبه المكان، أستطيع الذهاب إليه، أن أذهب بطريقة لا أكبر فيها. أتساءل هل كان في إمكان هنري أن يأخذني إلى المستقبل. الغابة سوداء اللون. انحنت الأشجار وتمايلت. واختفت أصوات الحشرات وجعلت الريح كل شيء هادئاً، أصبح العشب منبسطاً والأشجار تئن وتتأوه. كم أخاف من المستقبل، يبدو لي وكأن شيئاً كبيراً ينتظرني. يقول هنري إنه يعرفني من المستقبل. ثمة سحب هائلة تتحرك في السماء خلف الأشجار، جاءت على نحو مفاجئ جعلتني أضحك، لأنها تشبه اللعب، وكل شيء راح يزحف حولي. ثمة رعد قوي منخفض. أدركت فجأة نفسي وأنا أقف وسط المرجة الخضراء حيث انبسط كل شيء عليها، واستلقيت على العشب وأنا آمل في ألا تراني العاصفة التي ستهب، استلقيت على ظهري، أنتظر موعد هطول المطر من السماء. وسرعان ما تبللت ملابسي، وفجأة اعتراني إحساس أن هنري هنا، إحساس لا يصدق أن يكون هنري هنا وأن يضع يديه عليّ، وبدا لي أن هنري هو نفسه المطر وأنا وحيدة، وأريده. الأحد، 23 أيلول، 1984 (هنري 35 عاماً، وكلير 13 عاماً) هنري: أنا عند المرجة، المرجة الخضراء. في صبيحة يوم، قبيل الفجر. إنه وقت متأخر من فصل الصيف، وكل الأزهار والأعشاب كانت على علو صدري. الطقس بارد قليلاً، وأنا وحيد. تقدمت بين الزرع فوجدت صندوق الملابس، فتحته، فوجدت بنطال جينـز أزرق وقميصاً أبيض من أوكسفورد. لم يسبق لي أن رأيت هذه الملابس من قبل، لهذا ليست لديّ أدنى فكرة أين أنا في الزمن. كما تركت لي كلير طعاماً. ثمة زبدة الفول السوداني وشطيرة من الحلوى ملفوفة بعناية في ورقة من الألمنيوم، إضافة إلى تفاحة وكيس من رقائق البطاطا. ربما كانت هذه وجبة مدرسية لكلير. تميل توقعاتي إلى أنني في أوائل السبعينيات أو أوائل الثمانينيات. جلست على الصخرة، وأخذت أتناول الطعام، وما لبثت أن شعرت بالتحسن. راحت الشمس تُشرق. وأصبح لون المرجة الخضراء أزرق، ثم تحول لونها إلى البرتقالي، ثم الوردي، وامتدت الظلال، ثم طلع النهار. لا وجود لكلير. سرت عدة أقدام باتجاه النبات، تدحرجت على الأرض بالرغم من أنها مبلّلة وندية وغفوت. عندما نهضت من غفوتي كانت الشمس مرتفعة وكلير تجلس بالقرب مني وهي تقرأ كتاباً. تبسمت لي وقالت: «نور النهار في أرض مشجرة. الطيور تغني والضفادع تنق لقد حان وقت النهوض من النوم!». تأوهت وفركت عيني، وقلت لها: «مرحباً يا كلير. ما تاريخ اليوم؟». «إنه يوم الأحد، الثالث والعشرون من شهر أيلول، عام 1984». كانت كلير في الثالثة عشرة من عمرها. وهو عمر غريب وصعب، لكنه ليس أكثر صعوبة من المرور في حاضري. نهضت، وتثاءبت. قلت لها: «كلير، إذا طلبت منك على نحو لائق ومهذب، هل تسمحين أن تذهبـي إلى المنـزل وتُهربـي لي فنجاناً من القهوة؟». «قهوة!». تعجبت كلير وكأنها لم تسمع أبداً بهذه المادة. ولكن عندما ستنضج وتكبر ستصبح مدمنة على القهوة بقدر ما أنا مدمن عليها بل وأكثر. إنها تفكر في المنطق الرمزي. «رجاءً». «حسناً، سأحاول». وقفت ببطء. في هذا العام ازداد طول كلير بسرعة. وقد ازداد طولها في العام الماضي خمسة إنشات، ولم تكن قد اعتادت بعد على شكل جسدها الجديد، على الصدر، والساقين والردفين، كل هذه الأشياء جديدة. حاولت ألا أفكر في هذه الأمور وأنا أراقبها وهي تسير في الممر متجهة إلى المنـزل. ألقيت نظرة خاطفة على الكتاب الذي كانت تقرأه. إنه كتاب دوروثي سايرز، وهو كتاب لم أقرأه. كنت قد وصلت إلى الصفحة الثالثة والثلاثين من الكتاب عندما عادت. كانت قد أحضرت ترمساً، وفناجين، وملاءة، وبعض الحلوى. كانت شمس الصيف قد أضافت النمش إلى أنفها، وقاومت الرغبة في أن أمرر يدي على شعرها، الذي ينسدل على ذراعيها وهي تفرد الملاءة على الأرض. قلت لها وأنا أتناول الترمس: «باركك اﷲ». جلسنا على الملاءة. فتحت فتحة الغطاء، وسكبت فنجاناً من القهوة، ثم ارتشفت رشفة. كانت القهوة قوية ومرة. «يا اﷲ، هذه وقود صاروخ يا كلير». «قوية جداً؟». أحست بالإحباط، فسارعت إلى الإطراء عليها. «حسناً، قد لا يوجد ما هو قوي جداً، لكنها قوية جداً. ومع ذلك فأنا أحبها. ألم تصنعيها أنت؟». «ها... ها. لم أصنع قهوة من قبل، جاء مارك وأخذ يزعجني، لربما صنعتها بطريقة سيئة؟». «كلا، إنها جيدة». ابتلعت القهوة. شعرت بتحسن. ثم سكبت لنفسي فنجاناً آخر. أخذت كلير الترمس مني. وسكبت لنفسها نصف إنش من القهوة ورشفتها بحذر. «أوغ، مقرفة. هل من المفروض أن يكون مذاقها هكذا؟». «حسناً، يجب أن تكون أقل مرارة من هذه. أنت تحبين قهوتك مع الكثير من المادة المبيضة والسكر». سكبت كلير ما تبقى من القهوة على الأرض وأخذت الحلوى. ثم قالت: «أنت تهزأ بـي». لم يكن لديّ جواب مسبق وجاهز، لأن الفكرة لم تخطر لي أبداً. قلت: «آه، كلا». «بلى». «كلا». صمت قليلاً، ثم أردفتُ قائلاً: «ما الذي تعنينه، أنني أهزأ بك؟ أنا لا أفهمك». «بلى أنت تعرف، عندما قلت لي إنني أحب القهوة بالمادة المبيضة والسكر قبل أن أتذوقها. أعني، كيف لي أن أتخيل في ما إذا كان هذا ما سأحبه أو أنني سأحبه لمجرد أنك تقول لي إنني أحبه؟». «يا كلير، هذا مجرد مذاق شخصي. عليك أن تكوني قادرة على تخيل كيف تحبين القهوة سواء أقلت شيئاً أم لا. إلى جانب هذا، فأنت من يزعجني دائماً لأخبرك عن المستقبل». قالت كلير: «معرفة المستقبل تختلف عن معرفتي ما أحب». «لماذا؟ هذا يأتي من الإرادة الحرة». خلعت كلير حذاءها وجوربها. ووضعت الجورب داخل الحذاء ثم وضعتهما بأناقة على حافة الملاءة. ثم أخذت الترمس، ووضعته إلى جانب حذائها، وكأن الملاءة قد أصبحت حصيراً من قش. «أعتقد أن الإرادة الحرة لها علاقة بالخطيئة». فكرت في قولها هذا. وقلت لها: «كلا، ولماذا يجب أن تكون الإرادة الحرة محصورة فقط بين الخطأ والصواب؟ ما أعنيه هو أنك قررت، بإرادتك الحرة، أن تخلعي حذاءك. هذا ليس بالأمر المهم، فلا أحد يهتم إذا كنت منتعلة حذاءك أم لا، كما أن هذا ليس خطيئة، أو فضيلة، فهذا لا تأثير له في المستقبل، لكنك مارست إرادتك الحرة». هزت كلير كتفيها. وقالت: «ولكنك في بعض الأحيان تقول لي شيئاً فأحسب أن المستقبل قريب، أنت تعرف؟ وكأن مستقبلي قد وقع في الماضي ولا أستطيع فعل أي شيء معه». أجبتها: «هذا ما يدعى بالحتمية. وهذا ما يسكن أحلامي». وقعت كلير في المصيدة قالت: «لماذا؟». «حسناً، إذا فكرت في أنك لا تستطيعين تغيير مستقبلك، فتخيلي في هذه اللحظة أي شعور سينتابني. وأنا دائماً أعرض الحقيقة في أنني لا أستطيع تغيير أي شيء، بالرغم من أنني هنا الآن، أراقب ما يحدث». «ولكنك يا هنري تغير الأشياء! أعني، أنك دوّنت أنني من المفروض أن أرزق لك بطفل منغولي عام 1991. واللائحة، إذا لم تكن معي اللائحة لما عرفت متى سآتي لألتقي بك. أنت تغير الأمور دائماً». ابتسمت. «أستطيع القيام بأشياء تنجح مع ما جرى من أحداث. ولا أستطيع، على سبيل المثال، أن أغير الحقيقة في أنك خلعت حذاءك للتو». ضحكت كلير. «ولماذا تهتم بما إذا خلعت حذائي أم لا؟». «أنا لا أهتم. وحتى لو اهتممت، فهذا جزء لا يمكن تغييره من تاريخ الكون ولا أستطيع معه فعل أي شيء». تناولت قطعة من الحلوى. إنها حلوى بسمارك التي أحبها. لقد ذابت قليلاً تحت أشعة الشمس، والتصقت بأصابعي. انتهت كلير من تناول الحلوى، ورفعت طرفي بنطالها، وجلست القرفصاء. ومطت عنقها، ونظرت إليّ منـزعجة. «ها أنت تجعل مني معتدة بذاتي. أنت تجعلني أشعر أن تنفسي من أنفي هو حدث تاريخي». «إنه كذلك». أدارت عينيها وسألت: «وما ضد الحتمية؟». «الفوضى». «آه، لا أعتقد أنني أحب هذا. أتحب هذا؟». قضمت قضمة كبيرة من حلوى بسمارك، وفكرت في كلمة الفوضى: «أحبها ولا أحبها. الفوضى تعني الكثير من الحرية، بمعنى، الحرية الشاملة. من دون أي معنى. أريد أن أكون حراً في أفعالي، وأريد أيضاً من أفعالي أن تعني شيئاً». «ولكنك يا هنري لم تذكر اﷲ؟». قطبت كلير ما بين حاجبيها، سرحت بنظرها بعيداً وهي تقول هذا. وضعتُ آخر قضمة من الحلوى في فمي ومضغتها ببطء، لأكسب الوقت. كلما ذكرت كلير لفظة اﷲ تعرقت راحتا يديّ واعتراني إحساس بوجوب الاختفاء أو الركض أو الاختباء. «لا أعرف يا كلير». وضعت كلير ذراعيها حول ركبتيها، وقالت: «ولكنك قلت من قبل إن كل شيء بحسبان وقد خُطط له مسبقاً». قلت: «همم». أمسكت بكاحلي كلير، ووضعت قدميها في حضني. ضحكت كلير، واتكأت على مرفقيها. كانت قدما كلير باردتين وهما بين يدي، كانتا ورديتين ونظيفتين جداً. قلت لها: «حسناً، لنرَ. الخيارات التي لدينا هنا هي: كون مغلق، حيث الماضي، والحاضر، والمستقبل تتواجد بالوقت نفسه مع بعضها وكل شيء قد حدث؛ الفوضى، حيث كل شيء قد وقع ولا يمكن التوقع به لأننا لا نستطيع معرفة كل المتغيرات، والكون المسيحي حيث خلق اﷲ كل شيء كما أنّ كل شيء موجود لغاية ولكننا مع ذلك نملك الإرادة الحرة. صحيح؟». هزت كلير أصابعها أمامي وقالت: «أعتقد هذا». «وما الذي تصوتين له؟». صمتت كلير. فمشاعرها البرغماتية والرومانسية حول يسوع ومريم بالكاد تكون، وهي في الثالثة عشرة من عمرها، متوازنة بشكل متساوٍ. ومنذ عام مضى كانت تذكر لفظة اﷲ من دون تردد. وفي سن العاشرة ستصوت للاعتقاد بالقضاء والقدر، وبعد عشر سنوات من هذا ستعتقد أنه لا يمكن الفرار والهروب من السبب والمُسبب، لكن من دون معنى. وبعد هذا؟ لا أعرف. أما الآن فها هي كلير على عتبة المراهقة مع اعتقادها من ناحية وتزايد شكوكها من ناحية أخرى، وكل ما تستطيع فعله هو أن تحاول أن تتأرجح بين هذه الاحتمالات، أو أن تعصرها إلى أن تنصهر مع بعضها. هزت رأسها وقالت: «لا أعرف. أريد اﷲ. أليس هذا جيداً؟». شعرت كم أنا أحمق: «بالطبع هو أمر جيد. فهذا ما تعتقدين به». «ولكنني لا أريد الاعتقاد به فقط». مرّرت يدي على كتفيها، فأغمضت عينيها. قلت لها: «أنت وتوما الإكويني». قالت كلير: «لقد سمعت به». قالت هذا وكأنها تتحدث عن عم أو خال لها أضاعته منذ زمن، أو مذيع في برنامج تلفازي كانت تشاهده وهي صغيرة. «أراد توما النظام والمنطق، والله أيضاً. عاش في القرن الثالث عشر ودرس في جامعة باريس. لقد اعتقد إكويناس بأرسطو وبالملائكة». تنهدت كلير تنهيدة ناعمة تعني أنني لا أتحدث الألمانية، ألا تذكر هذا؟ «هه؟». ضحكت كلير: «ها أنت تفعل هذا مرة أخرى؟». «أفعل ماذا؟». «تخبرني ماذا سأحب». ارتمت كلير في حضني بقدميها. من دون تفكير، وضعت قدميها على كتفي، ولكن بدا لي أنّ هذا فعل حميم، وسرعان ما أمسكتُ قدمي كلير بيدي مرة أخرى وضممتهما معاً بيد واحدة في الهواء وهي مستلقية على ظهرها، ببراءة وطهر مع شعرها المسترسل كهالة حولها على الملاءة. دغدغت قدميها. راحت تتمايل بعيداً عن يدي كسمكة، تقفز على العشب، وهي تكشر لي وكأنها تتحداني أن آتي إليها وأمسك بها. بادلتها التكشيرة بتكشيرة مماثلة، عادت إلى الملاءة، وجلست قربـي. «هنري؟». «نعم؟». «أنت تجعلني مختلفة». «أعرف». استدرت لأنظر إلى كلير، وقد نسيت لوهلة أنها صغيرة، ولم يمر وقت طويل، حتى رأيت كلير، زوجتي، أضع وجهي أمام وجه هذه الفتاة، ولا أعرف ماذا أقول لهذه الكلير البالغة والصغيرة والمختلفة عن الفتيات الأخريات، والتي تعي أن الاختلاف يمكن أن يكون قاسياً عليها. لم يبدو أن كلير كانت تتوقع جواباً. اتكأت على ذراعي، فأحطتها بهما فوق كتفيها. «كلير!». ومن عمق هذا الهدوء ارتفع صوت والد كلير وهو يصرخ باسمها منادياً. قفزت كلير، وأمسكت بحذائها وجوربها. قالت بعصبية مفاجئة: «حان وقت دار العبادة». قلت لها: «أجل، مم، باي». لوّحت لها بيدي فابتسمت وتمتمت: «إلى اللقاء». وأسرعت راكضة عبر الممر، واختفت. استلقيت تحت الشمس لفترة، أفكر في اﷲ، وأقرأ دوروثي سايرز. وبعد مرور ساعة اختفيت أنا بدوري ولم يبقَ سوى الملاءة والكتاب، وأكواب القهوة، والملابس، التي تثبت أننا كنا هناك على الأقل. (8) لوحة ضخمة من أروع ما رسم الفنان جورج سيروت، 1884. (9) باللغة الألمانية تعني: دائماً. (10) باللغة الفرنسية تعني: في هذا اليوم. (11) Cheshire cat: قطة تخيلها الكاتب في قصته الشهيرة: أليس في بلاد العجائب. بعد النهاية الأحد، 27 تشرين الأول، 1984 (كلير 13 عاماً، هنري 43 عاماً) كلير: نهضت من النوم فجأة. ثمة ضجيج، أحدهم يناديني باسمي. بدا كصوت هنري. نهضت من الفراش، مصغية. سمعت صوت الريح، ونعيق الغراب. ولكن، ماذا لو كان هذا هنري؟ قفزت من فراشي وركضت، من دون أن أنتعل حذائي نـزلت الدرج، وخرجت من الباب الخلفي، متوجهة إلى المرجة الخضراء. الجو بارد، والريح تخترق ثوب نومي. أين هو؟ توقفت، أجلت نظري في المكان، في البستان، لم يكن هناك سوى والدي ومارك، وهما يرتديان ملابس الصيد البرتقالية، وكان معهما رجل، كانوا واقفين وهم ينظرون إلى شيء ثم سمعوني فاستداروا. كان الرجل الذي معهما هنري. ما الذي يفعله هنري مع والدي ومارك؟ هرعت إليهم، وأصابت الأعشاب اليابسة قدمي بالجروح، وجاء إليّ والدي. قال لي: «حبيبتي، ما الذي تفعلينه هنا في هذا الوقت المبكر من الصباح؟». أجبته: «سمعت أحداً يناديني باسمي». ابتسم لي والدي وكأنه يقول بابتسامته هذه، يا لك من فتاة سخيفة، ونظرت إلى هنري، لأرى إن كان يستطيع أن يفسر لي ما يحدث هنا. لماذا ناديتني يا هنري؟ لكنه هز رأسه ووضع أصابعه على شفتيه، صه، لا تقولي شيئاً يا كلير. ذهب إلى البستان، أردت أن أعرف إلى ماذا كانوا ينظرون، ولكن لم يكن ثمة شيء هناك، قال لي والدي: «عودي إلى الفراش يا كلير، كل هذا عبارة عن حلم». أحاطني بذراعيه، وعاد بـي إلى المنـزل، نظرت خلفي، فرأيت هنري يلوح لي بيده، وهو يبتسم. لا بأس يا كلير، سأشرح لك في ما بعد (وبالرغم من علمي أن هنري لن يفسر لي ما حدث، إلا أنه جعلني أتخيل ما حدث، أو أن الأمر سيفسر نفسه بنفسه في يوم من الأيام) لوحت له بيدي، ثم رحت أتأكد إذا ما رأى مارك، لكن مارك كان يدير ظهره إلينا، كان متوتراً وينتظرني حتى أبتعد ويعود والدي إلى الصيد، ولكن ما الذي يفعله هنري هنا، ما الذي تحدثوا عنه؟ نظرت إلى الخلف مرة أخرى فلم أرَ هنري وقال لي والدي: «اذهبـي الآن، يا كلير، عودي إلى الفراش». وقبلني على جبهتي. بدا منـزعجاً فركضت، ركضت عائدة إلى المنـزل، ثم صعدت الدرج بهدوء وجلست على فراشي، وأنا أرتجف، لا أزال لا أعرف ما الذي حدث، لكنني أعرف أن ما حدث كان سيئاً، سيئاً جداً، جداً. الاثنين، 2 شباط، 1987 (كلير 15 عاماً، هنري 38 عاماً) كلير: عندما عدت إلى المنـزل قادمة من المدرسة رأيت هنري ينتظرني في غرفة المطالعة. كنت قد هيأت غرفة صغيرة له قريبة من غرفة الفرن، وتقع إلى الجانب المقابل من تجمع الدراجات الهوائية. رتبت الأمر بحيث تعرف أسرتي أنني أحب تمضية الوقت في القبو لأقرأ، وأمضيت فعلاً الكثير من الوقت فيها، لهذا لم يخرج الأمر عن المألوف. كان لدى هنري كرسي موضوع تحت قبضة الباب. قرعت الباب أربع مرات فأدخلني. كان قد صنع لنفسه عشاً مؤلفاً من الوسائد ومسند الكرسي والملاءات، كان يقرأ مجلات قديمة على ضوء مصباحي القديم. ويرتدي بنطال والدي الجينـز القديم وقميصاً مطبعاً بالمربعات، بدا مُتعباً وهو غير حليق. لم أقفل الباب الخلفي هذا الصباح، وها هو ذا. وضعت صينية الطعام التي أحضرتها على الأرض. «أستطيع أن أحضر بعض الكتب». «في الواقع، هذه عظيمة». كان يقرأ مجلة ماد تعود إلى زمن الستينيات. «أما هذه فهي لازمة للمسافرين عبر الزمن الذين هم بحاجة إلى أن يعرفوا كل أنواع الحقائق العادية بطرفة عين». قال هذا وهو يحمل كتاب موسوعة العالم لعام 1968. جلست بالقرب منه على الملاءة، ونظرت إليه لأرى إن كان يستطيع أن يجعلني أتحرك. عرفت أنه يُفكر في هذا الموضوع، لذا رفعت يدي إليه ليراني ثم جلست عليهما. تبسم وقال لي: «على الرحب والسعة». «من أي زمن أتيت؟». «من شهر تشرين الأول عام 2001». «تبدو تعباً». أستطيع أن أرى كيف يحاول إظهار تعبه لي، وكيف يمانع في هذا. «ما الذي سنكون عليه عام 2001؟». «ستحدث أمور كثيرة وكبيرة، أمور منهكة». راح يلتهم شطيرة اللحم المقدد التي أحضرتها له. «شطيرة شهية». «أعدتها نيل». ضحك. «أنا لم أفهم أبداً كيف تستطيعين صناعة تماثيل ضخمة تقف أمام ريح صرصر عاتية، وتتعاملين مع وصفات الصباغ، وصناعة وإعداد الورق من القنب ولحاء الشجر Kozo cooking))(12)، وما إلى ذلك، ولا تستطيعين تحضير أي شيء مهما كان من الطعام. أمر غريب». «إنه انغلاق العقل. فوبيا». «أمر غريب فعلاً». «دخلت المطبخ فسمعت صوتاً يقول لي اذهبـي بعيداً، فذهبت». «هل تأكلين كفايتك. تبدين نحيفة». شعرت أنني بدينة. «نعم، أنا آكل». اعتراني تفكير موحش. «هل سأكون بدينة جداً في العام 2001؟ لهذا السبب تراني نحيفة جداً». ابتسم هنري لنكتة لم ألتقطها. «حسناً، تبدين الآن، في حاضري، بدينة، لكن لا بأس». «أوف». «البدانة شيء جيد. ستناسبك». «شكراً». نظر إليّ هنري، قلقاً. «أتعرفين. أنا لا أفتقد الشهية إلى الطعام أو إلى أي شيء من هذا القبيل. ما أعنيه هو، لا تقلقي حيال هذا الأمر». «حسناً، هذا أمر كانت ترجوك فيه والدتك دائماً». «كانت؟!». «ترجو الآن». «لماذا قلت كانت؟». «لا يوجد سبب. لوسيل جيدة. لا تقلقي». كان يكذب. كانت معدتي تتقلص، أحطت ركبتي بيدي وأحنيت رأسي. هنري: لا أستطيع أن أصدق زلة لساني هذه. لاطفت شعرها بيدي، وأردت بشدة أن أعود إلى حاضري ولو لدقيقة، تكفيني لأتشاور مع كلير الكبيرة، لأعرف ما الذي يجب أن أقوله لها، وهي في الخامسة عشرة من عمرها، حول وفاة والدتها. هذا لأنني لم أنم. لو حظيت بقليل من النوم لكان تفكيري أسرع، أو على الأقل لكنت داريت زلة اللسان هذه. لكن كلير، أصدق فتاة عرفتها، مرهفة الحس حتى للأكاذيب الصغيرة، ولا توجد لديّ أي بدائل في هذه اللحظة إلا رفضي الحديث عن أي شيء، يمكن أن يسبب لها الفزع، أو أن أكذب عليها، الأمر الذي لن تتقبله، أو أن أقول لها الحقيقة، يمكن أن تسبب لها الضيق والانـزعاج وسيؤثر هذا في علاقتها مع والدتها. نظرت إليّ كلير وقالت لي: «قل لي». كلير: بدا هنري في حالة من البؤس. «لا أستطيع يا كلير». «لماذا؟». «ليس من المستحسن أن تعرفي الأمور مسبقاً. فهذا سيفسد حياتك». «أجل. ولكن لا يمكن أن تقول لي شيئاً ولا تكمله». «لا يوجد شيء حتى أقوله لك». بدأ الخوف يدب في نفسي فعلاً. قلت له مؤكدةً: «هل انتحرت». كان هذا أكثر شيء يخيفني. «كلا. كلا. أبداً». حدّقت إليه. بدا الحزن عليه. لا أستطيع أن أجزم إذا كان يقول الحقيقة. لو كنت أستطيع قراءة أفكاره، لكانت الحياة أسهل بكثير. ماما. آه، ماما. هنري: كم هذا مخيف. لا أستطيع أن أترك كلير مع هذا: «بل سرطان المبيض». قلت لها هذا بهدوء. «الحمد لله». وأجهشت في البكاء. الجمعة، 5 حزيران، 1987 (كلير 16 عاماً، هنري 32 عاماً) كلير: انتظرت هنري طوال اليوم. أنا متشوقة إليه جداً. لقد حصلت على رخصة القيادة يوم أمس، وقال لي والدي إن في إمكاني أن أستقل سيارة الفيات لأحضر حفلة روث الليلة. أما والدتي فلم تحبذ هذا أبداً، ولكن الأمر قد خرج من يدها بعدما وافق والدي. سمعتهما وهما يتجادلان في غرفة المكتبة بعد الغداء. «كان في إمكانك أن تستشيرني...». «ليس هذا جيداًً يا لوسي...». حملت كتابـي، وخرجت إلى المرجة الخضراء. استلقيت على العشب. بدأت الشمس بالمغيب. الجو بارد هنا، والعشب مملوء بالحشرات البيضاء. لون السماء وردي وبرتقالي فوق الأشجار باتجاه الغرب، ومن فوقي قوس بلون أزرق داكن. كنت أفكر في العودة إلى المنـزل لأحضر كنـزتي عندما سمعت أحدهم يسير على العشب. هذا هنري بالتأكيد. جلس على الصخرة. رحت أتجسس عليه وأنا بين الأعشاب. بدا شاباً، لربما كان في أوائل الثلاثينيات. كان يرتدي الكنـزة السوداء وبنطال الجينـز. كان يجلس هادئاً، منتظراً. لم أستطع تحمل دقيقة أخرى من الانتظار، فقفزت وفاجأته. «يا اﷲ، يا كلير، كنت ستتسببين لرجل غريب بنوبة قلبية». «أنت لست بغريب». ابتسم هنري. كم هو مضحك وهو كبير في السن هكذا. قلت له: «قبلني». فقبلني. سألني: «لماذا؟». «لقد حصلت على رخصة القيادة». بدا عليه الفزع، وقال: «آه، لا. أعني، مبروك». ابتسمت، لم يقل شيئاً يعكر عليّ مزاجي: «أنت تغار». «بل، أنا في الواقع، أحب قيادة السيارات، ولكنني لم أقد سيارة في حياتي أبداً». «كيف هذا؟». «القيادة خطيرة جداً». «جبان». «أعني خطيرة بالنسبة إلى الناس الآخرين. أتخيل ماذا يمكن أن يحدث لو كنت أقود سيارة مثلاً ثم اختفيت! ستبقى السيارة منطلقة ثم بوووم! سيموت الكثير من الناس وتسيل الدماء. لا أحبذ هذا الأمر». جلست على الصخرة بالقرب منه. ابتعد عني. تجاهلت ما فعل. «سأذهب إلى حفلة روث الليلة. أتريد أن تأتي معي؟». رفع إليّ حاجباً. وهذا يعني أنه سيذهب ليقتبس مقطعاً من كتاب لم أسمع به من قبل، أو أن يُلقي عليّ محاضرة حول شيء ما. ولكن كل ما قاله كان: «هذا يعني أن ألتقي بالكثير من أصدقائك». «ولِمَ لا؟ لقد تعبت من التكتم حول هذا الموضوع». «لننظر في الأمر. أنت في السادسة عشرة من عمرك. وأنا في الثانية والثلاثين الآن، أي عمري هو ضعف عمرك. أنا متأكد من أن أحداً لن يلاحظ هذا، ولن يطير الخبر إلى والديك». تنهدت. «حسناً، عليّ أن أحضر هذه الحفلة. تعالَ معي وابقَ جالساً في السيارة فلن أتأخر عليك ثم نذهب إلى أي مكان آخر». هنري: ركنا السيارة على بعد مبنى من منـزل روث. استطعت سماع أصوات الموسيقى بالرغم من بعدها، كانت الأغنية لفرقة توكينغ هيدز لمرة واحدة في الحياة. في الواقع كنت أرغب في أن أرافق كلير، لكنني لم أرَ أنه من الحكمة بمكان أن أدخل معها. وثبَت من السيارة وقالت: «ابقَ هنا!». وكأنني كلب ضخم عنيد، وذهبت إلى منـزل روث بكعبـي حذائها وهي تترنح مرتدية تنورتها القصيرة. كلير: ما إن دخلت من الباب حتى أدركت أن هذه الحفلة عبارة عن غلطة. كان والدا روث في سان فرنسيسكو لمدة أسبوع، ولهذا كان لديها متسع من الوقت لتصلح، وتنظف، وتفسر، وفرحت لأن منـزلي ليس هكذا. فشقيق روث الكبير، جاك، كان قد دعا إلى الحفلة أصدقاءه هو الآخر، كان هناك نحو مائة من المدعوين هنا وكانوا كلهم ثملين. ثمل الشباب أكثر من البنات وكم تمنيت لو أنني ارتديت بنطالاً وانتعلت حذاءً مسطحاً. ولكن، فات الأوان على ذلك. بينما كنت أهُمُّ بدخول المطبخ لأحصل على مشروب قال لي أحد من ورائي: «انظروا إلى الآنسة، للنظر لا للمس!». وأصدر أصواتاً فاحشة. تلفت حولي فرأيت شاباً كنا ندعوه وجه السحلية (بسبب حب الشباب على وجهه) وهو يزحف نحوي. «ثوب جميل كلير». «شكراً، لكن هذا ليس لك يا وجه السحلية». لحق بـي إلى المطبخ. «والآن، هذا الكلام لا يليق بك أيتها الشابة. كل ما أحاول أن أعبّر عنه هو إعجابـي بأناقتك، وها أنت تهينينني...». لن يصمت. حاولت الهروب من خلال الإمساك بذراع هيلين التي استخدمتها كدرع بشري لأخرج من المطبخ. «قذر، أين روث؟». كانت روث تختبئ في الأعلى داخل غرفتها مع لورا. كانتا تدخنان الحشيشة في الظلام وتراقبان من النافذة ثلة من أصدقاء جاك وهم يغطسون في المسبح. وسرعان ما جلسنا قرب النافذة، ونحن نحدق إليهم. قالت هيلين: «أممم، أريد ذاك الشاب». سألتها روث: «أي واحد؟». «ذاك الفتى الذي يقف على لوح الغطس». «أوه». قالت لورا: «انظرن إلى رون». أجابتها روث ضاحكة: «هذا هو رون». قالت هيلين: «واو. حسناً، أعتقد أن الجميع سيبدون على نحو أفضل من دون هذه الكنـزة والسترة الجلدية، هاي، كلير، ما بك هادئة هكذا». أجبتها: «آه، أجل، أعتقد». قالت هيلين: «انظري إلى نفسك، كأنك تنظرين إلينا بعينين شهوانيتين. تشعرينني بالخجل. كيف سمحت لنفسك أن تفعلي هذا». ضحكت، ثم أردفت: «بشكل جدي يا كلير، لماذا لم تتجاوزي هذا الأمر». «لا أستطيع». أجبتها يائسة. «بلى تستطيعين، ما عليك سوى أن تهبطي الدرج وتصرخي بأعلى صوتك من يقيم علاقة؟ ستجدين نحو خمسين شاباً يقولون لك: أنا! أنا». «أنت لا تفهمين، أنا لا أريد - ليس الأمر-». قالت روث من دون أن ترفع ناظريها عن بركة السباحة: «تريد شاباً معيناً». «من؟». سألت هيلين. هززت كتفي من دون مبالاة. «تعالي يا كلير، ارمي أوراقك كاملةً». قالت لها لورا: «دعيها وشأنها، إذا لم ترغب في التصريح، فليس عليها أن تقول شيئاً». كنت أجلس إلى جانب لورا، ملقية رأسي على كتفها. نهضت هيلين فجأة، وهي تقول: «سأعود». «إلى أين تذهبين؟». «كنت قد أحضرت معي زجاجة شراب خفيف وعصير إجاص لأصنع مزيجاً من الكوكتيل لكنني نسيتهما في السيارة». واندفعت خارج الباب. كان هناك شاب طويل القامة طول شعره يصل إلى كتفيه يقوم بحركات بهلوانية وهو يقفز عن لوح الغطس. هنري: مر وقت طويل، ربما مرت ساعة أو أكثر. تناولت نصف كيس من رقائق البطاطا، واحتسيت الكولا غير الباردة التي أحضرتها معها كلير. غفوت قليلاً. لقد غابت طويلاً، وفكرت في أن أسير قليلاً. كما كان بودّي أن أتسلل إلى هناك. سمعت وقع خطوات تتجه نحوي. نظرت خارج النافذة، هذه ليست كلير، بل هي فتاة شقراء كقنبلة ترتدي ملابس ضيقة. رمشت عيني، فعرفت أنها صديقة كلير. هذه هيلين باول. آه. نقرت بأصابعها على جانب السيارة، وأمالت نفسها، وهي تحدق إليّ. «مرحباً، أنت صديق كلير. أنا هيلين». «الرقم خطأ، يا هيلين. لكن تشرفت بمعرفتك». كانت تفوح منها روائح الشراب. «ألن تخرج من السيارة ونتعرف إلى بعضنا على نحو لائق؟». «آه، أنا مرتاح هنا، شكراً». «حسناً، سأنضم إليك». سارت حول السيارة حتى وصلت إلى مقدمتها، وفتحت الباب، وجلست على مقعد السائق. قالت لي هيلين بثقة نفس عالية: «انتظرت لقاءك منذ زمن طويل». «حقاً؟ لماذا؟». تمنيت لو أن كلير تأتي وتنقذني من هذا الموقف، لكن هذا سيفسد اللعبة، أليس كذلك؟ اتكأت هيلين عليّ وقالت، (13)sotto voce: «لقد استنتجت وجودك. فقوة ملاحظتي الهائلة جعلتني أستنتج أنه مهما بقي من المستحيل الذي محوته، فهذه حقيقة، لا يهم كم هو مستحيل. عندها». توقفت هيلين لتتجشأ، ثم تابعت كلامها: «لا تكون امرأة. عذراً، وبالتالي وصلت إلى نتيجة مفادها أنه لا بد من أن يكون هناك صديق لكلير، إذ كيف لها أن ترفض أن تقيم علاقة مع كل هؤلاء الشباب الوسيمين الذين يتوقون إلى إقامة علاقة حميمة معها. وها أنت ذا. تادا!». كنت دائماً أحب هيلين، وأنا حزين لأنني أخدعها. وهذا ما يفسر لي شيئاً قالته لي في حفل زفافنا. أحب أن يكون ثمة لغز صغير كهذا اللغز. «هذا منطق مفروض بالقوة يا هيلين، لكنني لست صديق كلير». «إذاً، لماذا تجلس في السيارة؟». انتابتني موجة من الجنون المفاجئ. قلت لها: «أنا صديق لوالديّ كلير. كانا قلقين من قيادتها السيارة إلى الحفلة التي يمكن أن يكون فيها شراب، لذا طلبا مني أن أذهب معها، وأقوم بدور السائق في حال كانت غير قادرة على قيادة السيارة». تجهم وجه هيلين. «لم يكن لهذا ضرورة أبداً. فصغيرتنا كلير بالكاد تحتسي مقداراً صغيراً جداً، جداً -». «لم أقل إنها تشرب. لقد خاف عليها والداها، هذا كل ما في الأمر». سمعت أصوات كعبـي حذاء في الممر. هذه المرة كانت كلير. وتجمدت أوصالها عندما رأت أحداً برفقتي. خرجت هيلين من السيارة مسرعة وقالت: «كلير! قال لي هذا الرجل المشاغب إنه ليس صديقك». تبادلت النظرات مع كلير، وقالت بلهجة قاسية: «حسناً، هو ليس صديقي». قالت هيلين: «آه، هل ستغادرين؟». «لقد انتصف الليل. سأتحول إلى يقطينة». قالت كلير هذا، والتفت حول السيارة، وفتحت بابها، وقالت لي: «هيا بنا نذهب يا هنري». شغلت محرك السيارة، وأضاءت المصابيح. وقفت هيلين متيبسة أمام الأضواء الأمامية. ثم اتجهت نحوي، وقالت: «لست صديقها يا هنري، أليس كذلك؟ كنت تريدني أن أذهب، أجل كنت تريدني أن أتركك. مع السلامة يا كلير». وضحكت، خرجت كلير من موقف السيارات، وانطلقت مسرعة. كانت روث تعيش في كونغر. وعندما عدنا إلى برودواي، رأيت أن كل مصابيح الشارع مطفأة. كانت منطقة برودواي عبارة عن شارع بمسارين، مستقيمة، لا مصابيح في شوارعها، وكأنك تقود سيارتك في ظلمة حالكة. «من الأفضل أن تضيئي المصابيح العالية يا كلير». وما إن قلت لها هذا، حتى أطفأت كلير المصابيح كلها. «كلير -!». «لا تقل لي ماذا أفعل!». خرست. كل ما استطعت أن أراه هو الأرقام المضاءة في ساعة الراديو. كانت الساعة تُشير إلى 11:36. سمعت صوت ارتطام الهواء بالسيارة، وصوت محرك السيارة، وصوت العجلات وهي تمر على الإسفلت. شيء ما كان لا يتحرك، والعالم يتحرك من حولنا بسرعة 45 ميلاً بالساعة. أغلقت عيني. لم يكن هناك فرق. ثم فتحتهما. كان قلبـي يخفق بشدة. بدت مصابيح سيارة تلوح في الأفق. فأضاءت كلير مصابيحها، ثم تابعت مسرعة مرة أخرى، كانت كلير تسير محاذية ببراعة بين الخطوط الصفراء التي هي في منتصف الطريق وحافة الأوتوستراد. كانت الساعة تُشير إلى 11:38. وجه كلير بلا ملامح، أراه من أنوار لوحة القيادة. سألتها بصوت مرتجف: «لماذا تفعلين هذا؟». «لم لا؟». قالت بصوت هادئ كبحيرة صيفية. «لأنه من الممكن أن نموت، أنا وأنت، من أجل تصرف أخرق!». خففت كلير السرعة، واتجهت نحو جادة بلو ستار. قالت: «لكن هذا لن يحدث، سأكبر وأتعرف إليك ونتزوج وها أنت ذا هنا». «لأنك في المستقبل، لعلمك فقط، ستحطمين السيارة، وسنمضي عاماً كاملاً ونحن نجرها». قالت كلير: «ولكن، في أثناء ذلك ستحذرني بألا أفعل ذلك». «لقد حاولت، لكنك صرخت في وجهي -». «أعني، أنت الكبير إذاً وكان عليك أن تخبر الصغيرة التي هي أنا ألا تحطم السيارة». «حسناً، عندها سيكون هذا قد حدث». وصلنا إلى ميغرام لين، سلكت كلير الطريق. وهو طريق خاص يؤدي إلى منـزلها. «توقفي يا كلير! من فضلك؟». توجهت كلير بالسيارة نحو العشب، وتوقفت، وأوقفت عمل المحرك وأطفأت الأضواء. ساد الظلام مرة أخرى، واستطعت سماع أصوات حشرات الزيز وهي تغني. قربت كلير مني، وأحطتها بذراعي. كانت متوترة ومتيبسة. «عديني بشيء». سألتني: «ما هو؟». «عديني ألا تفعلي هذا مرة أخرى. ليس بالسيارة فقط، بل بأي شيء خطير. أنت لا تعلمين. المستقبل غريب، وأنت لا تستطيعين التصرف وكأنك محصنة منيعة...». «ولكن، إذا ما رأيتني في المستقبل -». «ثقي بـي. فقط ثقي بـي». ضحكت كلير وقالت: «ولماذا أثق بك؟». «لأنني أحبك؟». رفعت كلير رأسها من فوق كتفي بسرعة حتى كادت أن تضرب حنكي السفلي. «وووه». «آسفة». بالكاد استطعت رؤية وجهها. سألتني: «أنت تحبني؟». «أجل». «الآن؟». «أجل». «لكنك لست صديقي». آه. هذا ما يزيدها تلهفاً. «من الناحية الفنية، أنا زوجك. وبما أنك لم تتزوجي بعد، علينا أن نفترض أنك صديقتي». وضعت يدها على مكان يجب ألا تضع يدها عليه، وقالت: «بل أُفضل أن أكون عشيقتك». «أنت في السادسة عشرة يا كلير». أبعدت يدها بهدوء، ولمست وجهها. «هذا عمر كافٍ. آه، يداك مبتلتان». أضاءت كلير مصباح السقف في السيارة، ففزعت عندما رأيت وجهها وملابسها يغطيهما الدم. نظرت إلى راحتيّ يدي فكانتا لزجتين وحمراوين. «هنري! ما الأمر؟». «لا أدري». لعقت راحة يدي اليمنى، وأربعة جروح عميقة على شكل أهلة اصطفت على نسق واحد. ضحكت. «خدشت نفسي بأظافري. عندما كنت تقودين السيارة من دون أن تضيئي المصابيح الأمامية». أوقفت كلير عمل مصباح السقف، وجلسنا في الظلام مرة أخرى. كانت حشرات الزيز تعزف بقدر ما أوتيت من قوة. «لم أقصد أن أخيفك». «بلى، كنت تقصدين هذا. لكنني عادة ما أشعر معك بالأمان عندما تقودين السيارة، إنه مجرد -». «ماذا؟». «تعرضت لحادث سيارة عندما كنت صغيراً، ولم أعد أحب أن أستقل السيارات». «آه - آسفة». «حسناً. كم الساعة الآن؟». «آه، يا اﷲ». نظرت كلير إلى الساعة فكانت تشير إلى 12:12، وتابعت كلامها: «لقد تأخرت. كيف لي أن أسير وأنا مدماة هكذا؟». بدت بحالة مذرية بحيث أردت أن أضحك. فَرَكتُ براحة يدي اليسرى شفتها العليا، وتحت أنفها، وأنا أقول لها: «ها، أنت تترعفين». «حسناً». قالت هذا، وشغلت محرك السيارة، وشغلت المصابيح الأمامية، وعادت إلى الطريق، ثم أردفت: «ستخاف إيتا عندما تراني على هذه الحال». «إيتا؟ وأين والداك؟». «ربما تكون والدتي نائمة الآن، ووالدي يلعب الميسر». فتحت كلير البوابة، وعبرناها. «لو كان ابني في الخارج، ولم يكن قد حصل على رخصة القيادة سوى من يوم، لجلست أمام الباب الأمامي مع ساعة العداد». أوقفت كلير السيارة بعيداً عن مرمى بصر مَن في المنـزل. «هل سنرزق بأطفال؟». «آسف، هذا أمر سري للغاية». «سأتقدم بطلب لمعرفة هذا طبقاً لدستور حرية الحصول على المعلومات». «فلتكوني ضيفتي، حينها». قبلتها بنعومة، حتى لا أُزعج أنفها الراعف. «دعيني أعرف إلام ستصلين وتكتشفين». فتحت باب السيارة. «حظاً سعيداً مع إيتا». «تصبح على خير». «تصبحين على خير». خرجت من السيارة، وأغلقت الباب ورائي بهدوء شديد. اتجهت بالسيارة إلى الداخل، وغابت تحت جنح الظلام. توجهت إلى السرير في المرجة الخضراء تحت النجوم. الأحد، 27 أيلول، 1987 (هنري 32 عاماً، وكلير 16 عاماً) هنري: تمددت في المرجة الخضراء، على بعد نحو خمسة أمتار إلى الغرب عن منطقة العشب. أحسست بالخوف، وبدوار في رأسي وبالغثيان. لذا جلست لدقائق قليلة، ثم نهضت. كان الطقس بارداً ورمادياً، كنت داخل العشب الطويل بني اللون، الذي كان يصيب بشرتي بالجروح. بعد فترة وجيزة شعرت بتحسن قليل، كان الهدوء يسود المكان، لذا وقفت، وسرت باتجاه منطقة العشب. كانت كلير تجلس على الأرض، قرب الصخرة، وهي تتكئ عليها. لم تقل شيئاً، بل رمقتني بنظرة يمكن أن أقول عنها إنها نظرة غضب. آه، أوه. كما أعتقد. ما الذي فعلته؟ قالت بأسلوب غريس كيلي. كانت ترتدي معطفاً أزرق من الصوف وتنورة حمراء. كنت أرتجف، بحثت عن صندوق الملابس. فوجدته، وارتديت بنطالاً أسود، وكنـزة سوداء، وجورباً من الصوف أسود، ومعطفاً أسود، وانتعلت حذاء أسود، ووضعت قفازاً من الجلد الأسود. بدوت مثل نجم في فيلم ويم ويندرز. جلست إلى جانب كلير. «مرحبا كلير. هل أنت بخير؟». «مرحبا هنري. خذ». ناولتني الترمس وشطيرتين. «شكراً، أشعر بشيء من التوعك، لذا سأنتظر قليلاً». ووضعت الطعام على الصخرة. كانت في الترمس قهوة، شممت رائحتها بعمق. رائحة القهوة فقط هي التي تجعلني أشعر بالتحسن. «هل أنت بخير؟». سألتني من دون أن تنظر إليّ. وأنا أتفحص كلير بعيني، رأيتها تبكي. «هنري. هل تضرب أحداً من أجلي؟». «ماذا؟». «أريد أن أضرب شخصاً، لكنني لست كبيرة بما يكفي، ولا أعرف كيف أقاتل. هل تفعل هذا من أجلي؟». «آه، ما الذي تتحدثين عنه؟ من؟ ولماذا؟». حدقت كلير إلى حجرها. «لا أريد التحدث عن هذا الأمر. هل تصدقني إن قلت إن الأمر يستحق ذلك؟». أظن أنني أعرف ما الذي يجري، أعتقد أنني سمعت هذه القصة من قبل. تنهدت، واقتربت أكثر من كلير، وضعت يدي حولها. اتكأت برأسها على كتفي. «الأمر يتعلق بشاب خرجت معه، صحيح؟». «أجل». «وكان فظاً، وتريدين مني الآن أن أؤنبه؟». «أجل». «اسمعي يا كلير، إن معظم الشباب فظون. كنت فظاً ذات يوم -». ضحكت كلير. «أراهن أنك لم تكن بفظاظة جاسون إيفرليغ». «إنه لاعب كرة أو شيء من هذا القبيل، صحيح؟». «أجل». «لماذا تعتقدين أنني أستطيع أن أهزم شاباً ضخماً عمره بنصف عمري؟ لماذا تخرجين مع شاب مثله؟». هزت كتفيها. «الجميع يضحك عليّ في المدرسة لأنني لم أخرج مع أحد. روث، وميغ، ونانسي. أعني، سرَت عني شائعة أنني غير طبيعية. حتى والدتي سألتني لماذا لا أخرج مع الشباب. حتى بياتريس ديلفورد، التي أعتبرها شاذة، سألتني إذا كنت شاذة أم لا، فأجبتها بالنفي، فأجابتني أنها لم تتفاجأ، ولكن هذا ما يتحدث عنه الجميع. عندها فكرت، لربما من الأفضل لي أن أخرج مع بعض الشباب. لذا فإن جاسون كان ثاني شاب يطلب مني الخروج معه. هو يشبه، النكتة، ولا بأس به، وعندما سأخرج معه سيعرف الجميع بأمر ذلك، وربما بذلك أخرس ألسنتهم». «وهل هذه هي المرة الأولى التي تخرجين فيها مع شاب؟». «أجل. ذهبنا إلى المطعم الإيطالي فكانت لورا ومايك هناك، وزمرة من الناس من صف المسرح، وعرضت عليه أن نذهب إلى مطعم ألماني فرفض، لم يفعل شيئاً، وسارت الأمور على خير ما يرام، أعني، أننا تحدثنا عن المدرسة والمدرسين، وكرة القدم. ثم ذهبنا لنشاهد فيلم يوم الجمعة 13، الجزء الرابع، كان فيلماً سخيفاً بكل معنى الكلمة، في حال أردت مشاهدته». «لقد شاهدته». «آه. لماذا؟ لا يبدو أنه من الأفلام التي تعجبك». «شاهدته لنفس السبب الذي دفعك إلى مشاتهدته، أرادت الفتاة التي كانت معي أن نشاهده». «من كانت؟». «امرأة تدعى أليكس». «كيف كانت؟». «كانت أمينة صندوق في مصرف، ذات صدر كبير، وتريد من يصفعها». زل لساني لوهلة، وأدركت أنني أتحدث إلى كلير المراهقة، وليس إلى كلير زوجتي، ضربت رأسي بيني وبين نفسي. «تضرب؟». نظرت إليّ، وهي تبتسم، ورفعت حاجبيها حتى وصلا إلى حدود شعرها. «المهم، أنك ذهبت إلى السينما، و...؟». «آه. حسناً، ثم أراد أن يذهب إلى ترافر». «وما ترافر؟». «إنها مزرعة تقع إلى الجانب الشمالي». خفت صوت كلير، وبالكاد استطعت أن أسمع ما قالته. «مكان حيث يستطيع الناس أن... يتعاشروا». لم أنبس ببنت شفة، وتابعت كلامها: «لذا قلت له إنني متعبة، وأريد العودة إلى المنـزل، وما لبث أن أصبح، أمممم، مجنوناً». توقفت كلير عن متابعة الكلام، جلسنا لفترة قصيرة ونحن، نصغي إلى الطيور، والطائرات، والريح. وفجأة قالت كلير: «كان مجنوناً فعلاً؟». «ما الذي حدث عندها؟». «لم يرد أن يعيدني إلى المنـزل. لم أكن متأكدة أين نحن، كنا في مكان ما في الشارع 12، كان يقود سيارته هناك، يا اﷲ، لا أدري. قاد سيارته إلى ذلك الشارع القذر، حيث هناك كوخ صغير، إلى جانبه بحيرة. استطعت سماعها. وكان معه مفتاح الكوخ». شعرت بعصبية. لم يسبق لكلير أن أخبرتني عن هذا الموضوع، كل ما ذكرته لي أنها ذهبت في موعد فظيع مع شاب يدعى جاسون، وكان لاعب كرة قدم. وعادت كلير إلى صمتها مرة أخرى. «هل اغتصبك؟». «كلا. قال لي إنني لم أكن جيدة... قال لي - كلا، لم يغتصبني. بل - آذاني. جعلني...». لم تستطع التلفظ بالكلمة. انتظرت. فكت كلير أزرار معطفها، وخلعته. خلعت قميصها، فرأيت ظهرها مغطى بالكدمات. كدمات داكنة اللون زرقاء مع لون بشرتها الأبيض. استدارت كلير فرأيت أثر احتراق عقب سيجارة على صدرها الأيمن، متقرحاً وبشعاً. كنت قد سألتها من قبل عن هذه الندبة، لكنها لم تجبني. سأقتل هذا الفتى. سأشله. جلست كلير أمامي، وظهرها إليّ، منتظرة. أعطيتها القميص الذي ارتدته. قلت لها بهدوء: «حسناً، أين أجد هذا الفتى؟». «سأقودك بالسيارة إلى حيث هو موجود». استقللت السيارة مع كلير في نهاية الممر. كانت تضع نظارة شمسية بالرغم من أن الطقس غائم في فترة الظهيرة هذه، وتضع على شفتيها أحمر الشفاه، وعقدت شعرها وراء ظهرها. بدت أكبر من عمرها الحقيقي البالغ ستة عشر عاماً. بدت وكأنها خارجة من فيلم النافذة الخلفية سيكون التشابه بينهما كبيراً لو كانت شقراء. أسرعت كلير بسيارتها تحت أشجار الخريف، ولا أعتقد أننا لاحظنا الألوان الموجودة. وراح الشريط المسجل لما حدث مع كلير في هذا الكوخ يُستعاد في رأسي. «كم يبلغ حجمه؟». فكّرت كلير وقالت: «أطول منك ببضعة سنتيمترات، أثقل منك وزناً. وزنه نحو خمسين باونداً». «يا اﷲ». «لقد أحضرت هذا». فتشت كلير في حقيبتها، وأخرجت منها مسدساً. «كلير!». «هذا لوالدي». فكرت بسرعة. «كلير هذه فكرة سيئة. أعني، أكون مجنوناً لو استخدمته فعلاً، وسيكون تصرفاً غبياً. آه، انتظري». أخذت المسدس منها، وفتحت مخزنه، أخرجت منه الرصاصات ووضعتها في حقيبتها. «هاك. هذا أفضل. يا لها من فكرة رائعة يا كلير». نظرت إليّ كلير مستفسرة. وضعت المسدس في جيب معطفي. «هل تريدين مني أن أفعل هذا بشكل مغفل أم تريدين مني أن أقول له إن هذا منك؟». «أريد أن أكون هناك». «آه». اندفعت نحو ممر خاص ثم توقفت. «أريد أن آخذه إلى مكان ما، وأؤذيه بشدة، وأريد أن أراقب ما يحدث، أريده أن يخاف». تنهدت. «اسمعي يا كلير، أنا عادة لا أقوم بفعل هذه الأشياء. بل أقاتل دفاعاً عن نفسي، لغرض واحد». قالتها من دون وضوح: «من فضلك». «طبعاً». تابعنا القيادة، وتوقفنا أمام منـزل ضخم، جديد مبني وفق طراز المستعمرات. لم نعد نرى آثاراً للسيارات. كانت رائحة الحشيشة تنبعث من نافذة الطابق الثاني. سرنا إلى الباب الأمامي ووقفت جانباً بينما راحت كلير تقرع جرس الباب. بعد لحظة توقفت الموسيقى، وسمعت صوت أقدام ثقيلة تنـزل الدرج. فُتح الباب، وبعد فترة صمت قليلة قال صوت عميق: «ماذا؟ رجعتِ من أجل المزيد؟». هذا ما كنت بحاجة إلى سماعه. أشهرت المسدس، واتجهت نحو كلير. وجهت المسدس إلى صدر الفتى. قالت كلير: «مرحباً جاسون، فكرت في أن تخرج معنا». فعل الشيء نفسه الذي يمكن أن أفعله، تحرك بعيداً عن مرمى الهدف، لكنه لم يفعل هذا بسرعة كافية. وقفت أمام الباب، وقفزت قفزة سريعة نحو صدره فأطحت به. نهضت، واضعاً حذائي على صدره، موجهاً مسدسي إلى رأسه. (14)C’est magnifique mais ce n’est pas la guerre. بدا كأنه يشبه توم كروز، كان جميلاً، أميركياً تماماً. سألت كلير: «في أي موقع يلعب؟». أجابتني: «ظهير مساعد». قلت له بحذر: «همم. بعيد عن التخمين. انهض، وارفع يديك بحيث أراهما». راح يتذمر، وأخرجته من الباب. كنا نقف في الممر. خطرت لي فكرة. أرسلت كلير لتحضر حبلاً من المنـزل، جاءت بعد عدة دقائق بمقص وخرطوم مياه. «أين ستقومين بهذا؟». «في الغابة». كان جاسون يلهث، ونحن نقوده إلى الغابة. مضى على مسيرنا خمس دقائق، بعدها رأيت منطقة صغيرة، كان يوجد عند طرفها جذع شجرة. «ما رأيك بهذا يا كلير؟». «أجل». نظرت إليها. كانت فاقدة الحس تماماً، باردة كمجرمي ريموند تشاندلر «سَمها كلير». «قيديه إلى الشجرة». أعطيتها المسدس، جعلنا يدي جاسون الفظ خلف الشجرة، وقيدناهما بخرطوم المياه. ثمة ما يكفي من الخرطوم، وأريد أن أستخدمه كله. كان جاسون يتنفس الصعداء. استدرت حوله، ونظرت إلى كلير. كانت تنظر إلى جاسون وكأنه قطعة سيئة جداً من فن متخيل. «هل أنت مصاب بالربو؟». أومأ برأسه. صار لون بؤبؤ عينيه أسود. قالت كلير: «سأحضر له المنشق». أعطتني المسدس، وهرعت نحو الغابة من نفس الممر الذي أتينا منه. كان جاسون يحاول أن يتنفس ببطء وهدوء. حاول أن يتحدث. «من... أنت؟». سألني بصوت أجش. «أنا صديق كلير. أنا هنا لألقنك درساً في الأخلاق، التي لا تتمتع بها». خفت من لهجة كلامي، واقتربت منه، وقلت بهدوء: «كيف استطعت أن تفعل ما فعلت؟ إنها صغيرة. لا تعرف شيئاً، لقد أفسدت كل شيء...». «كانت مز... عجة». «ليس لديها أي فكرة. كأنك تعذب قطة لمجرد أنها عضتك». لم يجب جاسون. صار تنفسه طويلاً، وراح يرتجف ويئن. وما إن بدأت أقلق حتى أتت كلير. كانت تمسك بالمنشق، سألتني: «أتعرف كيف تستخدم هذا يا عزيزي؟». «أعتقد أنه يجب أن تهزي العلبة ثم تضعيها في فمه، وتضغطي أعلى العلبة». فعلت ما قلته لها، وسألته إذا كان يريد المزيد. أومأ برأسه. وبعد أربعة استنشاقات، وقفنا ورحنا نراقبه، وهو يستعيد تنفسه الطبيعي تدريجياً. سألت كلير: «هل أنت جاهزة؟». رفعت المقص إلى الأعلى، وقامت بعدة حركات به كأنها تقص شيئاً. خاف جاسون. اتجهت نحوه كلير، وركعت على ركبتيها، وراحت تقص ملابسه. صاح بها جاسون: «هايي». قلت له: «من فضلك كن هادئاً. لن يؤذيك أحد. في هذه اللحظة». انتهت كلير من تمزيق بنطاله بالمقص وبدأت بالكنـزة، ورحت بدوري أقيده إلى الشجرة. بدأت بتقييده من كاحليه، ودرت حول جسده وحتى فخذيه. قالت كلير: «توقف هنا». وأشارت إلى منطقة في جسد جاسون. جردته من ثيابه الداخلية. رحت أقيد خصره. كانت بشرته ندية والصفار الشديد يملأها ما عدا داخل ثياب السباحة التي يرتديها. كان يتعرق بشدة. ربطته حتى وصلت إلى كتفيه، وتوقفت، لأنني كنت أريده أن يتنفس. رجعنا إلى الوراء مزهوين بما فعلناه. أصبح جاسون الآن ملفوفاً ومنتصباً بضخامة كمومياء. بدأت كلير بالضحك. بدت ضحكتها كأنها ضحكة شبح، يرتد صداها في أرجاء الغابة. نظرت إليها نظرة حادة. كان في ضحكة كلير شيء ينم عن معرفة وشيء من القسوة، بدت لي هذه اللحظة لحظة فصل وتشعب طريقين، كشيء أشبه بمنطقة غامضة بين طفولة كلير وحياتها كامرأة. سألتها مستفسراً: «وماذا بعد؟». كان هناك جزء مني يريد تحويله إلى همبرغر وجزء آخر لا يريد ضرب شاب مقيد إلى شجرة. صار لون جاسون أحمر خفيفاً، متضارباً مع لون الخرطوم الرمادي. أجابتني: «آه، أنت تعرف. أعتقد أن هذا يكفي». شعرت بالراحة. لذا قلت: «أأنت متأكدة؟ أعني هناك الكثير من الأشياء التي في إمكاني القيام بها. أن أحطم طبلة أذنيه؟ أنفه؟ آه، انتظري، لقد كسر أنفه مرة. نستطيع أن نقطع وتر أخيل لديه. فلا يعود في إمكانه لعب كرة القدم مرة أخرى في المستقبل القريب». «كلا!». قال جاسون متألماً وهو مقيد. قلت له: «اعتذر إذاً». قال بعد تردد: «آسف». «مثير للشفقة -». قالت كلير: «أعرف». فتشت في حقيبتها، ووجدت قلماً سحرياً. اتجهت نحو جاسون وكأنه حيوان شرس من حديقة الحيوانات، وأخذت تكتب على صدره المربوط بالخرطوم. وعندما انتهت، رجعت إلى الوراء وأغلقت قلمها. وكان ما كتبته تاريخ لقائهما. أعادت القلم إلى حقيبتها وقالت: «هيا بنا نعود». «أتعلمين أنه ينبغي علينا ألا نتركه هنا؟ قد تعاوده نوبة الربو مرة أخرى». «همم. حسناً، سأتصل ببعض الأشخاص». قال جاسون: «انتظري دقيقة». «ماذا؟». سألت كلير. «بمن ستتصلين؟ اتصلي بروب». ضحكت كلير. وقالت: «آه، آه، سأتصل بكل فتاة أعرفها». توجهت نحو جاسون ووضعت فوهة المسدس تحت ذقنه، وقلت له: «إذا ذكرت وجودي لأي كائن بشري واكتشفت أنك قلت ذلك سأعود لأسحقك. عندها لن تستطيع السير، أو الكلام، أو الأكل، أو القيام بعلاقة حميمة مع أي فتاة عندما أفعل بك ما سأفعله. وأنت تعرف أن كلير فتاة مهذبة وهي لا تواعد أحداً لسبب لا يمكن تفسيره. أتفهم؟». نظر إليّ جاسون نظرة حاقدة وقال: «أجل». «لقد تعاملنا معك بكل تسامح. أما إذا تشاجرت مع كلير لأي سبب كان فلا تلومنَّ إلا نفسك». «حسناً». «اسمع، أيها الغر -». آه، اللعنة. لقد رجعت خطوة إلى الوراء، ووضعت ثقلي كله على المنطقة التي أشارت إليها كلير بينما كنا ننـزع الثياب عنه. فصرخ جاسون. استدرت ونظرت إلى كلير، التي كان لونها أبيض بالرغم من تبرّجها. انهمرت الدموع على وجه جاسون. تساءلت إذا كان سيتجاوز هذا. قلت: «هيا بنا». أومأت كلير برأسها موافقة. عدنا إلى السيارة، منتصرين. استطعت سماع صوت جاسون وهو يصرخ. صعدنا السيارة، وشغلت كلير المحرك، وخرجت من الممر، واتجهت إلى الشارع. راقبتها كيف تقود. أخذت السماء تمطر. رسمت ابتسامة رضا على طرفي فمها. سألتها: «أهذا ما أردته؟». أجابتني: «أجل، كان هذا رائعاً. شكراً لك». قلت لها وأنا أشعر بالدوار: «على الرحب والسعة. أعتقد أنه عليّ الرحيل». انعطفت كلير بالسيارة إلى جانب الشارع. كان المطر يضرب السيارة. كأننا كنا نستقل سيارة مائية. قالت لي: «قبلني». قبلتها، ثم اختفيت. يوم الاثنين، 28 أيلول، 1987 (كلير 16 عاماً) كلير: في المدرسة يوم الاثنين، كان الجميع ينظرون إليّ من دون أن يتحدث إليّ أحد. أحسست كأنني هارييت الجاسوسة بعد أن وجدت صديقتها في الصف دفتر التجسس خاصتها. كان السير نحو الردهة أشبه بشق البحر الأحمر. عندما ذهبت إلى قسم اللغة الإنكليزية، في الفترة الأولى، وقف الجميع يتحدثون. جلست بالقرب من روث. ابتسمت لي وهي مضطربة. لم أبادلها الحديث بدوري وما لبثت أن أحسست بيدها فوق يدي تحت الطاولة، حارة وصغيرة. أمسكت روث بيدي للحظة، ثم دخل السيد باتريك، فرفعت يدها، وانتبه السيد باتريك أن الجميع صامتون. قال بلطف: «هل أمضيتم عطلة جميلة؟». فأجابه سي وونغ: «آه، أجل». وتعالت في المكان أصوات ضحكات خاطفة متوترة. ازداد السيد باتريك حيرة من أمره. ثم قال: «حسناً، عظيم، دعونا نبدأ برواية بيللي باد. أصدر في العام 1851 هرمان ميلفيل روايته موبـي ديك، أو الحوت، التي لقيت ترحيباً من الجميع كما لقيت أيضاً صدى طيباً لدى الأميركيين...». لم أعد أفهم شيئاً. حتى وأنا مرتديةً قميصي القطني الداخلي، وكنـزتي إلا أنني أحسست كأنني عارية وأضلعي تؤلمني. وراح جميع أصدقائي في الصف يناقشون رواية بيللي باد. قُرع الجرس أخيراً، وخرجنا من الصف. تبعتهم ببطء، ومعي روث. سألتني: «هل أنت بخير؟». «غالباً». «فعلت ما قلته لي». «في أي وقت؟». «نحو الساعة السادسة. خشيت أن يأتي والداه إلى المنـزل ويجدانه. كان من الصعب أن أقطع الخرطوم. لأنه كان ملتفاً على شعر صدره كله». «جيد. هل رآه الكثير من الناس؟». «أجل الجميع. حسناً، كل الفتيات. لم يرَه الشباب حسبما أعرف». كانت القاعات فارغة تقريباً. أنا أقف أمام صف اللغة الفرنسية. «كلير، أنا أفهم ما فعلته، لكن الذي لا أفهمه كيف فعلت ما فعلت». «طلبت المساعدة». قرع الجرس، فقفزت روث من مكانها. «آه، لقد تأخرت عن الرياضة لخمس دقائق!». ابتعدت وكأن حقلاً مغناطيسياً يجذبها. صاحت بـي روث وأنا أسير متجهة إلى غرفة السيدة سايمون: «أخبريني عند الغداء». «Ah, Mademoiselle Abshire, asseyez-vous, s’il vous plait»(15) جلست بين لورا وهيلين. كتبت لي هيلين ملاحظة تقول فيها: حظك جميل. كان الصف يترجم رواية الجبل. عملنا بهدوء، جالت السيدة في الغرفة، وهي تصحح الأخطاء. كانت لديّ مشكلة في التركيز. تلك النظرة التي على وجه هنري وهو يرفس جاسون، مختلفة كلياً، وكأنه لم يفعل سوى هز يده، وكأنه لم يفكر في شيء بعينه، ثم ساوره القلق لأنه لم يكن يدري كيف سيكون رد فعلي، وأدركت أن هنري يستمتع بتعذيب جاسون، أتراه نفس الشعور بالمتعة الذي اعترى جاسون وهو يعذبني؟ لكن هنري طيب. هل هذا أمر جيد؟ أمر جيد لأنني أردت منه أن يقوم بهذا؟ قالت السيدة وهي تقف قربـي: «Clare, attendez». بعد قرع الجرس مرة أخرى انطلق الجميع. سرت برفقة هيلين. عانقتني لورا معتذرة وهرعت إلى صف الموسيقى الذي يقع إلى الجانب الآخر من المبنى. كانت لدينا، أنا وهيلين، الفترة الثالثة من حصة الرياضة. ضحكت هيلين. «حسناً، أيتها الفتاة. لم أصدق ما رأيت. كيف قيدته إلى تلك الشجرة؟». استطعت أن أقول إنني مللت لكثرة طرح هذا السؤال: «عندي صديق يفعل مثل هذه الأمور. فساعدني بذلك». «ومن هو؟». «زبون لدى والدي». أجبتها كاذبة. هزت هيلين رأسها. «يا لك من كاذبة سيئة». ابتسمت، ولم أقل شيئاً. «إنه هنري، صحيح؟». هززت رأسي، ووضعت إصبعي على شفتي. وصلنا إلى صالة رياضة الفتيات. دخلنا إلى غرفة تغيير الملابس، وأعوذ بالله! توقفت الفتيات عن الكلام. ثم كلام غير مفهوم خافت ملأ الصمت. كانت خزانة هيلين على نفس صف خزانتي للملابس. فتحت خزانتي، وأخرجت منها ملابس الرياضة والحذاء. كنت أفكر في ما ٍأفعله. خلعت حذائي وجوربـي، خلعت ملابسي حتى سروالي الداخلي وبنطالي. لم أكن أرتدي حمالة صدر لأنها كانت تسبب لي الألم. قلت لها: «هيلين، هيلين». خلعت قميصي، واستدارت هيلين. «يا اﷲ، يا كلير!». بدت الكدمات أسوأ من ليلة البارحة. تغير لون بعضها إلى اللون الأخضر. كما كانت توجد آثار على فخذي من حزام جاسون. «آه، يا كلير». تقدمت هيلين نحوي، وأحاطتني بذراعها، بحنان. ساد الصمت الغرفة، ونظرت من فوق كتف هيلين ورأيت أن الفتيات قد تجمعن حولنا، وهن ينظرن إلينا. شدت هيلين من قامتها، ونظرت إلى الخلف، إليهن، وسألت: «ما الأمر؟». بدأت إحداهن تصفق، وأخذن يصفقن كلهن، يضحكن، ويهتفن، وأحسست أنني خفيفة، خفيفة كما الهواء. يوم الأربعاء، 12 تموز، 1995 (كلير 24 عاماً، هنري 32 عاماً) كلير: كنت مستلقية على السرير، عندما أحسست بيد هنري فوق معدتي عرفت أنه قد عاد. فتحت عيني فانحنى وقبّل ندبة حرق السيجارة الصغيرة على نهدي، ولمست وجهه في عتمة الليل. قلت له: «شكراً لك». فأجابني: «العفو». وكانت تلك المرة الأولى التي نتحدث فيها حول هذه الحادثة. الأحد، 11 أيلول، 1988 (هنري 36 عاماً، كلير 17 عاماً) هنري: أنا وكلير في البستان في فترة الظهر من شهر أيلول. كانت الحشرات تطن في المرجة الخضراء تحت أشعة الشمس الذهبية. والسكون يلف كل شيء، وأنا أنظر عبر الأعشاب هبت نسمات هواء دافئة. كنا نجلس تحت شجرة تفاح. انحنت كلير على جذع الشجرة، ووضعت وسادة وراء ظهرها لتتحاشى نتوءات جذع الشجرة. أما أنا فكنت مستلقياً واضعاً رأسي في حضن كلير. كنا قد تناولنا الطعام، وتناثرت بقايا الطعام حولنا، كما تناثرت أيضاً ثمار التفاح. كنت نعسان وآمناًً. إنه شهر كانون الثاني في حاضري، وكنا أنا وكلير نتشاجر. كان لحن هذا الصيف قصيدة مغناة. قالت كلير: «أريد أن أرسمك، كما أنت». «رأساً على عقب، ونائماً؟». «استرح. تبدو آمناً وفي سلام». «ولِمَ لا؟ هيا». أتينا إلى هنا في المقام الأول لأن من المفترض أن ترسم كلير الأشجار لحصة الفن لديها. أخرجت دفتر الرسم وأقلام الفحم. ووضعت في حضنها دفتر الرسم بشكل متوازن. سألتها: «هل تريدين مني أن أتحرك؟». «لا، فهذا سيغير اللوحة كثيراً. ابقَ كما أنت، لو سمحت». عدت إلى التحديق إلى الأشكال التي تعكسها فروع الأشجار على السماء. السكون نظام. أستطيع أن أبقى في مكاني ثابتاً من دون أي حركة عندما أقرأ كتاباً، أما وأنا أجلس ساكناً هكذا من أجل كلير فهو أمر صعب وغريب. حتى الوضعية التي تبدو أنها مريحة في البداية تصبح أمراً أشبه بالتعذيب بعد خمس عشرة دقيقة. من دون أن أحرك شيئاً سوى عيني، نظرت إلى كلير. كانت مستغرقة في الرسم. عندما تبدأ كلير في الرسم يبدو وكأن العالم يتداعى، ليس فيه سواها والموضوع الذي ترسمه. لهذا السبب أحب أن ترسمني كلير عندما تنظر إليّ بهذا النوع من الاهتمام، أشعر وكأنني كل شيء بالنسبة إليها. هي النظرة نفسها التي ترمقني بها عندما نقيم علاقة حميمة معاً. في هذه اللحظة فقط نظرت إلى عيني وابتسمت. «نسيت أن أسألك، من أين أتيت؟». «من شهر كانون الثاني، عام 2000». أخفضت رأسها. «حقاً؟ ظننت أن الزمن هو أكثر من هذا قليلاً». «لماذا؟ هل أبدو كبيراً جداً؟». لمست كلير أنفي من أرنبته مروراً بجبهتي. «لا، أنت لا تبدو كذلك. لكنك تبدو سعيداً وهادئاً، فعادة عندما تأتي من عام 1998، أو 1999 أو 2000 تكون منـزعجاً، أو خائفاً، ولا تقول لي السبب. ثم في العام 2000 تبدو جيداً مرة أخرى». ضحكت. «أنت أشبه بالمتوقعة. لم أدرك أبداً أنك كنت تراقبين أمزجتي باستمرار». «وماذا يوجد لديّ غير ذلك حتى أستمر؟». «تذكري، أن التوتر هو من يرسلني إلى هنا باتجاهك، إلى هنا. لذا يجب ألا تفكري في أن تلك السنوات مرعبة ومخيفة باستمرار. بل هناك الكثير من الأشياء الجميلة الموجودة في تلك السنوات، أيضاً». عادت كلير إلى رسمها. توقفت عن طرح الأسئلة عليّ حول المستقبل. وسألت بدلاً من ذلك: «هنري، مم تخاف؟». فاجأني سؤالها هذا وفكرت فيه. وأجبتها: «البرد، أنا أخاف الشتاء. أخاف الشرطة. أخاف السفر إلى المكان والزمان غير الصحيحين وأن تصدمني سيارة أو أن يضربني أحد ما. أخاف أن أفقدك». ابتسمت كلير، وقالت: «كيف ستفقدني؟ فأنا لن أذهب إلى أي مكان؟». «أنا قلق من أن تملي عدم استقراري وأن تتركيني». وضعت كلير دفتر الرسم جانباً. نهضت. وقالت لي: «لن أتركك أبداً. بالرغم من أنك أنت من يتركني دائماً». «لكنني لم أرد أبداً أن أتركك». أرتني كلير الرسم. سبق لي أن رأيت هذا الرسم من قبل، فهذه اللوحة معلقة إلى جانب طاولة رسم كلير في مرسم المنـزل. في الرسم أبدو آمناً مطمئناً. وقعت كلير عليها ودونت التاريخ. قلت لها: «لا تفعلي هذا. اللوحة غير مؤرخة». «غير مؤرخة؟». «لقد رأيتها من قبل. لا يوجد تاريخ عليها». «حسناً». محت كلير التاريخ عن اللوحة وكتبت عليها في منـزل المرجة الخضراء بدلاً من التاريخ. «تمت». نظرت كلير إليّ محتارة. «هل سبق لك أن عدت إلى حاضرك ورأيت أن شيئاً ما قد تغير؟ أعني، ماذا لو دونت التاريخ على اللوحة الآن؟ ما الذي سيحدث؟». «لا أدري. جربـي». قلت لها بفضول. محت كلير عبارة في منـزل المرجة الخضراء وكتبت 11 أيلول، 1988. قالت لي كلير: «هاك، الأمر سهل». تبادلنا النظرات، مرتبكين، ضحكت كلير. «لو أنني انتهكت اتصال المكان بالزمان لما كان هذا واضحاً وجلياً». «سأخبرك إذا كنت قد تسببت للتو بالحرب العالمية الثالثة». اعترتني رجفة. «أعتقد أنني سأختفي، يا كلير». قبلتني، واختفيت. الخميس، 13 كانون الثاني، 2000 (هنري 36 عاماً، وكلير 28 عاماً) هنري: بعد الغداء كنت لا أزال أفكّر في لوحة كلير، فذهبت إلى المرسم ونظرت إليها. كانت كلير تصنع تمثالاً ضخماً من ورق وردي اللون، بدا كشيء بين مسرح العرائس وعش الطير. سرت حولها بهدوء ووقفت أمام طاولتها. لم تكن اللوحة موجودة. دخلت كلير وهي تحمل حفنة من ألياف القنب. رمتها على الأرض، وتوجهت نحوي وهي تقول: «مرحباً. ما الأمر؟». «أين اللوحة التي كنت تضعينها هنا؟ لوحتي؟». «هه؟ آه. لا أدري. لربما سقطت». قالت لي كلير من تحت الطاولة: «لا أراها هنا. آه، ها هي». خرجت وهي تحمل اللوحة بإصبعين. «آه، مملوءة بخيوط العنكبوت». نظفتها وأعطتني إياها. نظرت إلى اللوحة. لم يكن التاريخ مدوناً عليها. «ما الذي حدث للتاريخ؟». «أي تاريخ؟». «التاريخ الذي دونته في أسفل اللوحة. تحت اسمك. كأن التاريخ قد اقتُطع منها». ضحكت كلير: «حسناً. أعترف. لقد قصصته». «لماذا؟». «لقد خفت من تعليقك على الحرب العالمية الثالثة. وبدأت أفكر، ماذا لو أننا لم نلتقِ في المستقبل كوني أصررت على هذا الاختبار». «أنا سعيد لأنك فعلت هذا». «لماذا؟». «لا أدري. أنا سعيد فقط». حدقنا إلى بعضنا بعضاً، ثم ابتسمت كلير، وهززت كتفي، هذا كل ما في الأمر. ولكن، لماذا يبدو الأمر وكأن شيئاً مستحيلاً قد حدث؟ لماذا أشعر بكل هذه الراحة؟ (12) صناعة الورق وصباغته: فن صيني قديم يدعى Kozo cooking يعتمد على طهو القنب ولحاء الشجر وصباغه وتقطيعه وخلطه وجعله عجينة تُصنع بها أشكال فنية رائعة. (13) باللغة الإيطالية تعني: بهدوء. (14) باللغة الفرنسية تعني: هذا رائع، لكنها ليست حرباً. (15) باللغة الفرنسية: آه، الآنسة أبشير، اجلسي من فضلك وAttendez: انتظري. ليلة الميلاد، واحد (الحادث دائماً بالسيارة نفسها) السبت، 24 كانون الأول، 1988 (هنري 40 عاماً، كلير 17 عاماً) هنري: يوم شتائي مظلم في فترة الظهيرة. أنا في قبو منـزل كلير في منـزل المرجة الخضراء في غرفة المطالعة. تركت لي كلير بعض الطعام، تركت لي لحماً مقدداً وجبناً على خبز مصنوع من حبوب القمح الكاملة مع خردل، وتفاحة، وربع لتر من الحليب، وعبوة بلاستيكية كاملة من حلوى الميلاد، وكرات الثلج، وتركت لوزاً منكهاً بالقرفة، وحلوى المكسرات المزينة بأشكال من هارشي كيسيس. أرتدي بنطال الجينـز المحبب والكنـزة التي رسمت عليها أشكال هندسية مسدسة الأضلاع. من المفروض أن أكون رجل تخييم سعيداً، لكنني لم أكن كذلك. كانت كلير تترك لي دائماً صحيفة ساوث هيفين ديلي، تاريخها 24 كانون الأول، 1988. ليلة الميلاد. في هذا المساء، في بارغيت مي هاي لونج، في شيكاغو، ستشرب ذاتي البالغة من العمر خمسة وعشرين عاماً حتى تترنح فوق المشرب، وتقع على الأرض، وينتهي بها المطاف بغسيل معدة في مشفى الرحمة. اليوم هو الذكرى التاسعة عشرة لوفاة والدتي. جلست بهدوء، ورحت أُفكّر في والدتي. المضحك في الأمر هو كيف تُمحى الذاكرة. ولو حاولت جاهداً أن أتذكر طفولتي، تراني أجد أن معرفتي بوالدتي معرفة سطحية، باستثناء لحظات حادة لا تزال عالقة في الذاكرة. عندما كنت في الخامسة كنت أحضر حفلتها وهي تغني أغنية لولو بدار الأوبرا. وأتذكر أن والدي كان يجلس قربـي، وهو يبتسم إلى أمي في نهاية الفصل الأول بفرح لا يوصف. كما أتذكره وهو يجلس مع والدتي في قاعة الأوركسترا، وهو يعزف لحناً لبيتهوفن. وأتذكر أنهم سمحوا لي أن أدخل غرفة المعيشة خلال حفل أقامه والدي لأقرأ أمام الضيوف قصيدة الشاعر بليك، النمر يحترق كاملة، كنت في الرابعة من عمري، وعندما أنهيتها حملتني والدتي وقبلتني وصفق الجميع. كانت تضع أحمر شفاه داكن، وأصررت أنا على الذهاب إلى غرفة النوم وأثر قبلتها على وجنتي. أتذكرها تجلس على الأريكة في متنـزه وارين، بينما والدي يدفعني بالأرجوحة، وكانت والدتي أمامي تقترب وتبتعد، تقترب وتبتعد. إن أحد أكثر الأشياء التي تبعث على الألم الشديد في السفر عبر الزمن هو وجود فرصة لأرى والدتي على قيد الحياة. تحدثت إليها بضع مرات، عن أمور صغيرة مثل: «الطقس سيئ هذا اليوم، أليس كذلك؟». قدّمت إليها مقعدي في الحديقة، ولحقت بها في السوبرماركت، وراقبتها وهي تغني. بقيت خارج الشقة التي لا يزال والدي يعيش فيها، لأراقبهما، في بعض الأحيان من ذاتي الطفولية، وهما يسيران، ويتناولان طعامهما في المطاعم، ويذهبان لحضور فيلم ما. إنها الستينيات، كانا وسيمين، وشابين، وموسيقيين لامعين وكان العالم مفتوحاً أمامهما. كانا سعيدين كعصفورين، والحظ يحالفهما، بفرحهما. عندما كنا نركض وراء بعضنا، كانا يلوحان إليّ، وهما يظنان أنني من الجيران، أو أنني رجل سار كثيراً، رجل قص شعره بطريقة غريبة فبدا كجزيرة غامضة غاص في العمر كثيراً. سمعت ذات مرة والدي يتساءل إذا كنت مريضاً بالسرطان. لا أزال مندهشاً كيف أن والدي لم يعرف أبداً أن هذا الرجل الذي يتسلل في السنوات التي تزوجا فيها هو ابنهما. رأيت كيف كانت والدتي تعاملني. ها هي الآن حُبلى، ها هما الآن يحضرانني إلى المنـزل من المشفى، وها هي الآن تأخذني إلى المتنـزه بعربة الأطفال، وتجلس وهي تستذكر النغمات، وتغني بهدوء وهي تقوم بإشارات صغيرة وتداعبني. وها نحن الآن نسير يداً بيد ونحن نبدي إعجابنا بالسناجب، والسيارات، والحمام، وكل شيء يتحرك. كانت ترتدي المعاطف وبناطيل مربعة الأشكال. كانت ذات شعر أسود، ووجه مسرحي، وشفتين ممتلئتين، وعينين واسعتين، وشعر قصير. كانت تبدو كامرأة إيطالية، ولكنها في الواقع يهودية. كانت والدتي تضع أحمر شفاه، وظل العينين، والماسكرا، وبودرة الوجه، وقلم تحديد الحاجبين حتى عندما تريد الذهاب إلى المصبغة. أما والدي، فكان طويل القامة، نحيفاً، وشديد الأناقة، ويحب اعتمار القبعات. كان راضياً جداً. غالباً ما يتلامسان، ويمسكان بأيدي بعضهما، ويسيران وهما منسجمان. وكنا نحن الثلاثة نضع على الشاطئ نظارات شمسية متشابهة وكنت أعتمر قبعة زرقاء سخيفة. وكنا نستلقي تحت أشعة الشمس ندهن أنفسنا بزيت الأطفال. ونشرب الكولا، وكوكتيل هاواي. راح نجم والدتي يسطع. درست مع جاك ميك، ومع ماري ديلاكرواكس، اللذين أوصلاها إلى طريق الشهرة، غنت عدداً من الأدوار الصغيرة لكنها تعتبر تحفة، فجذبت اهتمام لويس بيهير. وكانت البديل للينا وايفرليغ في أوبرا عايدا. ثم تم اختيارها لتغني كارمن. وهذا ما جذب اهتمام الشركات الأخرى، وسرعان ما بدأنا نجول العالم. سجلت أوبرا شوبرت ديكا، وفيردي وفيل لصالح شركة إي أم آي، ذهبنا إلى لندن، وباريس، وبرلين، ونيويورك. كل ما أتذكره هو سلسلة لا نهاية لها من غرف الفنادق والطائرات. كان عرضها يبث على التلفاز في مركز لينكولن، شاهدت هذا العرض مع عرض غرام وغرامبس في مونسي. كنت وقتها في السادسة من عمري وأنا لا أصدق أن هذه هي أمي، هنا بالأبيض والأسود على الشاشة الصغيرة. كانت تغني السيدة الفراشة. خططا لينتقلا إلى فيينا بعد نهاية أوبرا ليركس في موسم 1969-1970. كانت تجربة الأداء عند والدي في الفرقة الموسيقية فيلهارمونيك. وكلما رن جرس الهاتف يكون المتصل العم إيش، مدير أعمال والدتي، أو أحد الأشخاص من شركة التسجيل. سمعت صوت الباب في الطابق العلوي يُفتح ويُغلق ثم أصوات وقع أقدام تنـزل الدرج. قرعت كلير الباب أربع مرات، فأبعدت الكرسي ذا الظهر المستقيم عن قبضة الباب. كانت لا تزال آثار نتف ثلج على شعرها ولا تزال وجنتاها حمراوين. تبلغ السابعة عشرة من عمرها. أحاطتني كلير بذراعيها، واحتضنتني بدفء وبسعادة بالغتين. وقالت لي: «ميلاد سعيد هنري! أمر رائع أن تكون موجوداً هنا!». فقبلتها على وجنتها، لقد جعل فرحها أفكاري مبعثرة ولم يبقَ عندي سوى إحساسي بالحزن والخسارة. داعبت شعرها بيدي فذابت تحتهما على الفور قطعة صغيرة من الثلج. سألتني كلير: «ما الأمر؟». لاحظت كلير على الفور سلوكي الذي يدل على الحزن، ثم أردفت: «هل أنت حزين لأنه لا يوجد مايونيز؟». «آه. بالله عليك». جلست على الكرسي الكبير، المريح، المحطم، والقديم واندسّت كلير إلى جانبـي. وضعت ذراعي حول كتفيها. ووضعت يدها على فخذي. أبعدت يدها، وأمسكت بها. كانت يدها باردة. «ألم أحدثك أبداً عن والدتي؟». «كلا». وأصبحت كلير آذاناً صاغية، كانت متحمسة لسماع أي شيء مهما صغر عن ذكرياتي. وبما أن التواريخ في اللائحة غدت قليلة، بينما ازدادت التواريخ في لائحة عامين من الانقطاع عن بعضنا اتساعاً، اقتنعت كلير في سرها أنها تستطيع أن تجدني في الزمن الحقيقي إذا ما قلت لها حقائق صغيرة وقليلة. وبالطبع، لا تستطيع ذلك، لأنني لا أريد ذلك، وهي لا تفعل. تناولنا الحلوى معاً. «حسناً، كان يا ما كان، عندي أم، وأب أيضاً، كانا في حالة هيام دائمة. وأنجباني. وكانت السعادة تغمرنا. كانا مبدعين رائعين في عملهما، وخاصة والدتي، التي كانت عظيمة بما تفعله، وكنا نسافر إلى كل أنحاء العالم، نرى غرف الفنادق في العالم. كان الوقت في الميلاد -». «في أي عام؟». «كنت في السادسة من عمري. في صباح الميلاد، وكان والدي في فيينا لأننا كنا سننتقل إلى هناك قريباً وكان قد وجد لنا شقة. كانت الخطة أن يصل والدي إلى المطار وأن تقود والدتي السيارة وأنا معها إلى المطار لنُقِلّه ونتابع طريقنا إلى بيت جدتي لتمضية أيام العطلة». «كان صباحاً رمادياً، ومثلجاً، والشوارع مغطاة بطبقات الجليد التي لم تذب بعد. كانت والدتي سائقة متهورة، تكره الطرقات العامة العريضة، والقيادة إلى المطار، ووافقت على القيام بذلك لما في هذا من معنى كبير. كنت أرتدي معطفاً ضيقاً بعض الشيء، وأضع قفازاً. وترتدي والدتي ثياباً سوداء بالكامل، ولم يكن أمراً مألوفاً وعادياً آنذاك كما هي الحال اليوم». شربت كلير الحليب مباشرة من العلبة. وتركت أثر أحمر شفاه بلون القرفة. «ما نوع السيارة التي كانت تقودها؟». «فورد فير لين بيضاء موديل عام 1962». «كيف كانت هذه السيارة؟». «انظري. لقد صممت على شكل دبابة. وفيها زعانف. كان والداي يحبانها؛ لأنها تشترك معهما في ذكريات طويلة». «استقللنا السيارة. جلست على المقعد الأمامي، ووضعنا حزامي الأمان، ومضينا. كان الجو رهيباً. والرؤية صعبة جداً، وكاسح الصقيع في السيارة لم يكن بأفضل حالاته. قدنا السيارة في متاهة الشوارع السكنية، ثم أخذنا الطريق العام. كان الوقت بعد ذروة اكتظاظ السيارات، وحركة المرور في حالة من الفوضى بسبب الطقس والعطلة. لذا كنا نتحرك بسرعة 15-20 ميلاً في الساعة. بقيت والدتي على المسار الأيمن، ربما لم تكن تريد تغيير المسارات من دون أن تتمكن من الرؤية بوضوح، وربما لم تكن تريد الذهاب إلى الطريق لفترة طويلة قبل أن نتخذ المخرج متوجهين إلى المطار». «كنا خلف شاحنة، خلفها مباشرة، وتوجد بيننا مساحة كافية. ونحن نتجاوز المدخل، جاءت خلفنا سيارة صغيرة، سيارة حمراء من نوع غورفيت. كانت سيارة الغورفيت تلك لطبيب أسنان كان ثملاً نوعاً ما، وعند الساعة 10:30 صباحاً، كان مُسرعاً، ولم يتمكن من تخفيف السرعة بسبب الجليد المتراكم، فاصطدم بسيارتنا. لو كان الطقس طبيعياً لتضررت سيارة الـغورفيت قليلاً ولتحملت سيارة الفورد التي لا تقهر هذه الصدمة ولما وقع هذا الضرر الجسيم». «ولكن الطقس كان سيئاً، الطرقات زلقة، فأدى انـزلاق سيارة الغورفيت إلى زيادة سرعة سيارتنا جراء الصدمة مع بطء حركة السير. وبالكاد كانت الشاحنة التي أمامنا تتحرك. حاولت والدتي أن تضغط على المكابح لكن من دون جدوى». «ضربنا الشاحنة بحركة بطيئة، هذا ما بدا لي. وصلت سرعتنا في الحقيقة إلى نحو 40 ميلاً في الساعة. كانت الشاحنة مكشوفة ومحملة بالخردوات، عندما اصطدمنا بها سقطت الخردوات من الخلف، فأصابت الزجاج الأمامي من سيارتنا. وهذا ما شل حركة والدتي». أغلقت كلير عينيها، وقالت: «لا». «هذا ما حدث». «لكنك كنت معها هناك، كنت قصيراً جداً». «كلا، لم يكن الأمر كذلك، لقد استقرت الخردوات في مقعدي وأصابت جبهتي. لديّ ندبة حيث جرحت». أريت كلير الندبة. رفعت قبعتي. «لم تستطع الشرطة أن تستنتج ما حدث. كانت كل ملابسي في السيارة، على المقعد وعلى الأرض، ووجدوني عارياً ملقى على جانب الطريق». «سافرت عبر الزمن». «أجل. سافرت عبر الزمن». ساد الصمت لحظة. «كانت تلك هي المرة الثانية التي يحدث لي فيها هذا. لم تكن لديّ فكرة عما يجري. كنت أراقب ونحن نندفع نحو الشاحنة، ثم وجدت نفسي في المشفى. لم تكن إصابتي كبيرة في الواقع، بل كانت مجرد صدمة». «كيف... لماذا تعتقد أن هذا قد حدث؟». «التوتر - الخوف التام. أعتقد أن جسدي قام بالخدعة الوحيدة التي يستطيع القيام بها». التفتت إليّ كلير، حزينة ومشدودة. «إذاً...». «إذاً، توفيت والدتي، ولم أمت. كانت مقدمة سيارة الفورد محطمة تماماً، ودخلت عجلة القيادة في صدر والدتي، وارتطم رأسها بإطار الزجاج الأمامي، واصطدمت السيارة بالشاحنة، وسالت دماء كثيرة بشكل لا يُصدق. لم يتضرر الشاب الذي في السيارة خلفنا. وخرج سائق الشاحنة من مكانه ليرى من اصطدم به، فرأى والدتي، ميتةً، وهرع إلى المكان سائق حافلة مدرسة لم يرَه والذي راح يحدق ببله إلى الحادث. كان سائق الشاحنة مصاباً بكسرين في ساقيه. في غضون ذلك، غبت تماماً عن المشهد مدة عشر دقائق وسبعاً وأربعين ثانية. لا أتذكر إلى أين ذهبت، لربما مرت ثانية أو اثنتان بالنسبة إليّ. توقفت حركة السير تماماً. وكانت سيارات الإسعاف تحاول أن تأتي من ثلاثة اتجاهات مختلفة ومع ذلك لم تستطع أن تقترب منا مدة نصف ساعة. الشخص الوحيد الذي رآني أظهر كانت فتاة صغيرة تجلس على المقعد الخلفي في قاطرة سيارة شيفروليه. فغرت فمها، وراحت تحدق وتحدق». «ولكن هنري، كنت قد قلت إنك لا تتذكر. كيف لك أن تعرف كل هذا إذاً؟ عشر دقائق وسبع وأربعون ثانية؟ بالضبط؟». بقيت هادئاً لفترة وجيزة أحاول أن أجد أفضل أسلوب لأشرح لها. «أنت تعرفين الجاذبية، أليس كذلك؟ كلما كبر الشيء، كلما كانت الكتلة كبيرة، كلما كانت الجاذبية أكبر؟ الجاذبية تدفع إليها الأشياء الأصغر وتدور في الفلك؟». «ثم...». «توفيت والدتي... كان حدثاً بالغ الأهمية في حياتي... كل شيء حولي كان يدور ويدور... حلمت به، وأنا أيضاً؛ سافرت عبر الزمن إليه مرات ومرات. لو استطعت أن تكوني هناك، وتحومي فوق الناس، والسيارات، والأشجار، والثلوج المتكدسة؛ لو كان لديك متسع من الوقت لأن تنظري إلى كل شيء، لكنت رأيتني، بين السيارات، وخلف الشجيرات، وفوق الجسر، وعلى الشجرة. رأيت هذا من زاوية رؤيتي، حتى إنني كنت مشاركاً بُعيد الحادث، اتصلت بالمطار من محطة بنـزين قريبة لأرسل إليه نداء حتى يأتي فوراً إلى المشفى. جلست في غرفة الانتظار في المشفى، وراقبت والدي وهو يشق طريقه ليراني. بدا شاحباً ومتعباً. سرت بمحاذاة الطريق، منتظراً من ذاتي الصغيرة أن تظهر، وضعت ملاءة حول كتفي الصغيرتين. نظرت إلى وجهي غير المفهوم، وفكرت في نفسي... وفكرت...». أجهشت بالبكاء في هذه اللحظة. أحاطتني كلير بذراعيها، وأطلقت صرخة مكبوتة من صدرها الذي ترتدي فوقه كنـزة من الموهير. «ماذا؟ ثم ماذا، يا هنري؟». «فكّرت في قرارة نفسي، يجب أن أموت أنا الآخر أيضاًً». حضنا بعضنا. أخذت أحضن نفسي تدريجياً. وتبللت بعرق كلير. ذهبت إلى غرفة الغسيل، وعادت وهي ترتدي أحد القمصان المخصصة لغرفة عزف الموسيقى التي تعود إلى أليسيا. تبلغ أليسيا من العمر أربعة عشر عاماً، وهي أطول قامة وأضخم من كلير. حدّقت إلى كلير، وهي تقف أمامي وتأسفتُ على وجودي هنا، تأسفت على إفساد الميلاد عليها. «أنا آسف يا كلير. لم أكن أقصد أن أرمي بكل هذا الحزن عليك. لكنني وجدت الميلاد... صعباً». «آه، هنري، أنا سعيدة لوجودك هنا. كل ما أعرفه - أعني، أنك تأتي من اللامكان، ثم تختفي، وإذا ما كنت أعرف أشياء، حول حياتك، فإنك تبدو أكثر... حقيقة. حتى الأشياء المرعبة... أريد أن أعرف الكثير مما تستطيع أن تقوله». كانت أليسيا تنادي كلير من فوق الدرج. لقد حان الوقت لتنضم كلير إلى عائلتها، للاحتفال بالميلاد. وقفت، وتعانقنا، بحذر، ونادت كلير: «أنا قادمة!». وابتسمت لي ثم هرعت تصعد الدرج. وضعت الكرسي تحت مقبض الباب مرة أخرى، وبقيت هناك ليلة بطولها. ليلة الميلاد، اثنان السبت، 24 كانون الأول، 1988 (هنري 25 عاماً) هنري: اتصلت بوالدي لأرى إن كان يريدني أن أذهب لتناول العشاء معه بعد حفلة الميلاد الموسيقية المسائية. لم يقم بدعوتي من كل قلبه، لهذا غيرت رأيي حتى لا أضايقه. في هذا العام ستقام عدة حفلات تأبين رسمية يوم دي تامبل في أماكن متعددة. لقد غادرت كيم إلى كوريا لزيارة شقيقاتها، كنت أسقي نباتاتها وأستلم بريدها. اتصلت بإنغريد كارميشيل، وطلبت منها أن تأتي معي فذكرتني بجفاء، أن الليلة هي ليلة الميلاد، وأن هناك بعض الذين لديهم أسرٌ يتملقونها. تصفحت دفتر العناوين. الجميع خارج البلدة، أو في البلدة مع أقاربهم الذين يزورونهم. كان عليّ الرحيل لأرى غرام وآل غرامبس. ثم تذكرت أنهما في فلوريدا. الساعة الآن 2:53 والمحال مغلقة ابتعت زجاجة من شراب عالي التركيز من مشرب آل، وخبأتها في جيب معطفي. ثم ذهبت بالقطار الذي استقللته من محطة بيلمونت إلى البلدة. كان يوماً رمادياً، وبارداً. والقطار نصف ممتلئ، ركابه من الناس الذين يصطحبون أطفالهم ليشاهدوا واجهات الميلاد في مارشال فيلد، ويدخرون اللحظة الأخيرة للتسوق من ووتر تاوربليس. نـزلت في محطة راندولف، وتوجهت شرقاً إلى غراند بارك. وقفت على جسر آي سي لفترة، حتى أشرب، ثم سرت إلى حلبة التزلج على الجليد. قلة من الأزواج والأطفال الصغار الذين كانوا يتزلجون هناك. الأطفال يطاردون بعضهم ويتزلجون نحو الخلف ويرسمون رقم ثمانية. استأجرت حذاء تزلج على الجليد أكبر أو أصغر من مقاسي، وعقدت رباطه، ثم توجهت إلى الحلبة. تزلجت حولها، بهدوء ومن دون أن أفكر كثيراً. التكرار، والحركة، والتوازن، والهواء البارد. إنه الثلج. كانت الشمس تغرب. تزلجت قرابة الساعة، ثم أعدت حذاء التزلج، وانتعلت حذائي، وسرت. توجهت غرباً إلى راندولف، وجنوباً تجاه جادة ميتشغان، ومررت بمعهد الفن. كانت الأسود مكللة بأكاليل الميلاد. توجهت إلى الطريق السريع كولومبس. كان غراند بارك خالياً إلا من بعض التجمعات، التي كانت تمشي متبخترة وبدوائر تحت ثلج المساء المزرقّ. كانت أضواء الشوارع تجعل لون السماء مخضوضباً بالبرتقالي من فوقي. أما فوق البحيرة فكان اللون أزرق بلون السماء، وقفت أمام نافورة بكينغهام إلى أن أصبح الشعور بالبرد لا يطاق وأنا أراقب طيور النورس وهي تندفع في طيرانها وتغطس في الماء، وتناضل من أجل رغيف خبز تركه لها أحدهم. كان هناك شرطي يقود سيارته ببطء حول النافورة لمرة ثم تابع طريقه نحو الجنوب. سرت. لم يكن حذائي من النوع المقاوم للماء تماماً، وبالرغم من الكنـزات العديدة التي أرتديها إلا أن المعطف الذي كنت أرتديه بدا خفيفاً عليّ بسبب انخفاض درجة الحرارة. بدانة الجسد وحدها لا تكفي، والشعور بالبرد يعتريني من شهر تشرين الثاني حتى شهر نيسان. توجهت إلى هاريسون، في شارع ستيت. مررت بباسيفيك غاردين ميشين، حيث يتجمع المتشردون من أجل المأوى والطعام. تساءلت ما الذي يتناولونه، كما تساءلت إذا كانوا يقيمون احتفالاً هناك، في الملجأ. كان هناك القليل من السيارات. لم أكن أحمل ساعة، لكنني قدرتُ أنها الساعة السابعة الآن. لاحظت مؤخراً أن إحساسي بمرور الوقت مختلف، وكأنه أكثر بطئاً من العالم الآخر. ويمكن أن تكون فترة بعد الظهيرة أشبه بيوم كامل بالنسبة إليّ، وركوب القطار بمثابة رحلة ملحمية. اليوم لامتناهٍ. لقد خططت ليمر معظم اليوم من دون أن أفكر، كثيراً جداً، بأمي، بالحادث، بكل ما حدث... ولكن الآن، وعند المساء، كل شيء يمر بذهني بسرعة خاطفة. أحسست بالجوع. لقد جعلني الشراب أشعر بالجوع. أوشكت الوصول إلى آدامز، ورحت أحسب بعقلي المبلغ الذي معي فقررت أن أنفقه في تناول الطعام في مطعم بيرغهوف، وهو مطعم محترم شهير بالنظر إلى شراب الشعير الذي يقدمه. كان مطعم بيرغهوف دافئاً وصاخباً. كان هناك القليل من الناس منهم من يتناول الطعام ومنهم من يقف. والندل الأسطوريون يسرعون باهتمام من المطبخ إلى موائد الزبائن. وقفت في الصف. أراقب العائلات والأزواج الذين يتجاذبون أطراف الأحاديث. أخيراً، قادوني إلى طاولة صغيرة إلى صالة المطعم الرئيسة، في آخرها تقريباً. طلبت شراب شعير وطبق لحم البط مع سبيتلز. عندما قدم الطعام إليّ، أكلت على مهل. تناولت كل الخبز الموجود أمامي، وأدركت أنني لا أذكر متى تناولت طعام الغداء اليوم. هذا جيد، أنا أعتني بنفسي، ولست بأبله، أتذكر أنه عليّ تناول العشاء. استدرت إلى الخلف على الكرسي، وجلت بنظري في القاعة، كانت هناك سقوف عالية، وأعمدة داكنة، وجداريات عن السفن، وكان هناك زوجان في منتصف العمر يأكلان عشاءهما. أمضيا بعد الظهر في التسوق أو في حضور سيمفونية وكانا يتحدثان بسعادة عن الهدايا التي اشترياها، وعن أحفادهما، وعن تذاكر الطائرة وموعد الوصول، وعن موزار. لديّ رغبة في حضور سيمفونية الآن، لكن ليست هناك أي حفلة مسائية لهذا اليوم. أبـي على الأرجح في طريق عودته إلى المنـزل من دار الأوبرا. كنت سأجلس في إحدى الشرفات العلوية (أفضل مكان للاستماع) وأستمع إلى Das Lied von der Erde أو إلى بيتهوفن أو إلى أي شيء لا يشبه الميلاد. أوه، حسناً، ربما في العام القادم. استرجعت فجأة صور كل أيام الميلاد التي مرت بحياتي والتي اصطفت وراء بعضها واحدة وراء الأخرى، تنتظر أن أمر بها، وغمرني شعور باليأس. لا. تمنيت للحظة لو أن الزمن ينقلني خارج هذا اليوم، إلى يوم أكثر لُطفاً. شعرت بالذنب لأنني أريد أن أتجنب الحزن. الأموات يريدوننا أن نتذكرهم، حتى لو كان ذلك ينال منا كل مأخذ، حتى لو كان كل ما يمكننا فعله هو أن نقول آسف حتى تغدو من دون معنى كالهواء. لا أريد أن أثقل كاهل هذا المطعم الدافئ البهيج بأحزاني لأنني سأذكر في المرة القادمة عندما آتي مجدداً مع غرام وغرامبس، لذا دفعت الحساب وغادرت. عدت إلى الشارع، ورحت أفكر. ليست لديّ رغبة للذهاب إلى المنـزل. بل أريد أن أبقى مع الناس، لديّ رغبة في أن أكون منصرفاً عما يدور حولي. وخطر لي فجأة مشرب غيت مي هاي لونج، المكان الذي يمكن أن يحدث فيه أي شيء، ملاذ غريبـي الأطوار، عظيم. سرت نحو ووتر تاور بليس واستقللت حافلة 66 جادة شيكاغو، ونـزلت منها في دامن، ثم استقللت حافلة 50 شمالاً. فاحت من الحافلة، التي كنت فيها الراكب الوحيد، روائح كريهة. كان السائق يغني المساء الصامت بنغمة صادحة هادئة، وتمنيت لهذا السائق ميلاداً مجيداً وأنا أنـزل من الحافلة في وابانسيا. تساقط الثلج وأنا أمر بجانب محل فيكس إيت، ورحت أمسك بنتف الثلج الكبيرة بأصابعي. سمعت أصوات موسيقى تتناهى إلى مسامعي قادمة من المشرب. كان مسار القطار يلوح من فوق الشارع عندما دخلت المكان المُغطى بسحب دخان السجائر، رأيت أحدهم يعزف على آلة الترومبيت، وراحت موسيقى الجاز تجد صداها في صدري. دخلت المشرب وأنا أشبه برجل غريق، لهذا السبب أتيت إلى هذا المكان. كان هناك ما يقارب عشرة أشخاص، منهم ميا عاملة المشرب، وثلاثة موسيقيين، وعازف الترومبيت، وعازف الطبل، وعازف كلارنيت، الذين يشغلون المنصة الصغيرة، أما الزبائن فكانوا يجلسون إلى المشرب. كان العازفون يعزفون موسيقاهم بغضب، يرفعون الصوت إلى أعلاه كموسيقى الدراويش، وعندما جلست وأصغيت إلى الموسيقى عرفت أنها من موسيقى الميلاد. أتت ميا، وحدقت إليّ وصرخت مكررة كلامي: «شراب اسكتلندي مع ماء!». وذهبت لتحضر لي ما طلبت. توقفت الموسيقى بشكل مزعج. رن جرس الهاتف، فرفعت ميا السماعة وقالت: «هذا مشرب غيت مي هاي لونج!»، ووضعت ما طلبت أمامي، ووضعت بالمقابل عشرين دولاراً على المشرب. قالت وهي تتحدث عبر الهاتف: «كلا، حسناً، اللعنة عليك أنت أيضاً». أعادت سماعة الهاتف إلى مكانها كأنها ترمي كرة السلة. وقفت ميا منـزعجة للحظات، ثم أشعلت سيجارة، ونفخت دخانها نحوي. «آه، أنا آسفة». واندفع الموسيقيون إلى المشرب حيث قُدِّم إليهم شراب الشعير. كان باب الحمام خلف المنصة، لهذا اغتنمت فرصة عدم تواجد الموسيقيين عليها، وانسللت إلى هناك. وعندما عدت إلى المشرب كانت ميا قد وضعت لي كأساً أخرى من الشراب مكان جلوسي. قلت لها: «قارئة أفكار». «بل أنت من هو سهل». رمت بمنفضة السجائر على الأرض، واتكأت على جانب المشرب، وقالت لي: «ماذا ستفعل بعد أن تغادر؟». فكّرت في العروض التي لديّ. سبق لي أن خرجت مع ميا مرة أو مرتين، وكانت لطيفة ومسلية، لكنني لم أكن في مزاج يسمح لي بذلك الآن. من ناحية أخرى، لا يضرك أن تحظى بجسد دافئ عندما تكون محبطاً. «كل ما أخطط له، أن أشرب حتى الثمالة. هذا ما يدور في خلدي؟». «حسناً، عندما لا تكون شارباً حتى الثمالة تستطيع أن تأتي معي، وإذا لم تكن ميتاً عندما تستيقظ، في إمكانك أن تسديني معروفاً فتأتي لنتناول طعام العشاء ليلة الميلاد في منـزل والدي في غلينكو. واجعل اسمك رافي عندما يسألونك عن اسمك». «آه، يا اﷲ يا ميا، أفكر في الانتحار لمجرد تفكيري في ذلك. أنا آسف». اتكأت على المشرب، وتحدثت إليّ بشكل مؤثر وحزين: «هيا هنري، ساعدني. أنت شاب ومقبول وذكوري. اللعنة، أنت أمين مكتبة. لن تفزع عندما يسألك أهلي عن أهلك وعن الجامعة التي تخرجت منها». «في الواقع، سأفعل هذا. سأذهب مباشرة إلى غرفة المكياج، وأسلك حنجرتي. ما الموضوع؟ ولكن لو أحبوني فهذا يعني ببساطة أنهم سيعذبونك لسنوات وهم يسألونك، ماذا حدث لأمين المكتبة ذاك الذي كنت تواعدينه؟ وما الذي سيحدث عندما يلتقون برافي الحقيقي؟». «لا أعتقد أن هذا ما يقلقني. هيا...». بقيت عدة أشهر وأنا أرفض مقابلة أهل إنغريد. رفضت الذهاب إلى عشاء الميلاد في منـزلهم في اليوم التالي. ومن المستحيل أن أفعل هذا مع ميا التي بالكاد أعرفها. «ميا، لو كان هذا في ليلة أخرى من السنة؛ اسمعيني، هدفي الليلة أن أشرب حتى أعجز عن الوقوف على قدمي، أو النهوض من مكاني على أقل تقدير. اتصلي بأهلك وقولي لهم إن رافي قد استأصل لوزتيه أو شيئاً من هذا القبيل». ذهبت إلى الجانب الآخر من المشرب لتخدم ثلاثة شبان مثيرين للشك تبدو عليهم ملامح طلاب الكلية. ثم راحت تعبث بزجاجات الشراب لفترة، وهي تتحدث بشيء ما بشكل مفصل. وضعت أمامي كأساً طويلة. «تفضل المحل على حسابك». كان الشراب عبارة عن شراب كرز يدعى كول إيد. ارتشفت رشفة منه وقلت لها: «ما هذا؟». بدا مذاقه كالسفن أب. ابتسمت ميا ابتسامة ماكرة، وقالت: «هذا شيء اخترعته بنفسي. تريد أن تبدو محطماً، هذا هو القطار السريع». «آه، حسناً، شكراً لك». شربت نخبها. فأحسست بشيء كالنار يندفع داخلي. «يا اﷲ، يا ميا، عليك أن تنالي بهذا الشراب براءة اختراع. في إمكانك أن تفتحي كشكاً صغيراً لشراب الليمون في كل أنحاء شيكاغو وتبيعينه، ستصبحين مليونيرة». «أتريد كأساً أخرى؟». «بالطبع». بوصفي شريكاً صغيراً في كُبرى شركات دي تامبل وشركائه، لم أكن قد اكتشفت بعد الحدود الظاهرية في مقدرتي على استهلاك الشراب. بعد أن شربت بضع كؤوس، رأيت ميا وهي تسترق النظر إليّ من خلف المشرب باهتمام بالغ. «هنري؟». «نعم؟». «كفى شراباً». يا لها من فكرة سديدة. حاولت أن أومئ لها برأسي موافقاً، لكن هذا سيستغرق مني جهداً كبيراً، فوقعت على الأرض ببطء، ورشاقة. استيقظت في ما بعد وأنا في مشفى الرحمة. كانت ميا تجلس إلى جانبـي على السرير. كان الكحل في عينيها يتساقط قطرات على وجهها. رفعت السرير إلى المستوى الرابع فازداد وجعي. سيئ جداً، كل أنواع السوء. أدرت رأسي حتى وصلت إلى الحوض الذي إلى جانبـي. سبقتني ميا ومسحت فمي. «هنري -». قالت ميا هامسة. «هاي، ما الذي حدث؟». «هنري، أنا جد آسفة». «هذا ليس ذنبك. ما الذي حدث؟». «لقد وقعت ورحت أحسب - كم تزن؟». «175». «يا اﷲ. هل تناولت طعام العشاء؟». فكرت في هذا وأجبتها: «أجل». «حسناً، على كل حال، الشيء الذي كنت تشربه كان من عيار أربعين. ثم شربت كأسين من الشراب الاسكتلندي. وبدوت بشكل جيد، ثم أصبحت بحالة مزرية فجأة، بعد ذلك وقعت، وفكّرت في ما حدث، ورأيت أنك تناولت الكثير من الشراب. فاتصلت بالطوارئ 911 حيث أحضروك إلى هنا». «شكراً لك...». «هنري، هل كنت تتمنى الموت؟». فكّرت في ما قالته، وقلت: «أجل». استدرت إلى الجدار، وتظاهرت بالنوم. يوم السبت، 8 نيسان، 1989 (كلير 17 عاماً، هنري 40 عاماً) كلير: أجلس في غرفة جدتي، أحل الكلمات المتقاطعة معها في صحيفة نيويورك تايمز. هذا صباح من شهر نيسان البارد وأستطيع رؤية أزهار التوليب وهي تهتز تحت وطأة الريح في الحديقة. كانت والدتي في الأسفل تزرع شيئاً صغيراً لونه أبيض قرب شجيرة الفرسيتية. هزّت الريح قبعتها، فشدتها بيدها إلى رأسها، أخيراً خلعت القبعة، ووضعتها على السلة. لم أكن قد رأيت هنري منذ قرابة شهرين، فاليوم التالي المدون على اللائحة يأتي بعد ثلاثة أسابيع. نحن نقترب من الزمن الذي لن أراه فيه لمدة عامين. اعتدت أن أكون غير مبالية في علاقتي مع هنري، عندما كنت صغيرة، لم أكن أرى هنري شخصاً عادياً. أما الآن فكل وقت يكون فيه موجوداً هنا ينقص يوماً عن اليوم الذي سيكون موجوداً فيه. واختلفت الأمور بالنسبة إلينا. أريد شيئاً، أريد من هنري أن يقول شيئاً، أن يفعل شيئاً يُثبت فيه لي أن كل هذا لم يكن مجرد نكتة عابرة. أريد هذا، هذا كل ما أريده. كانت جدتي ميغرام تجلس على كرسيها أزرق اللون، الذي يشبه الجناح، قرب النافذة. جلست على كرسي بجانبها، وفي حضني الصحيفة. كنا على وشك الانتهاء من حل الكلمات المتقاطعة. لقد تشتت انتباهي. قالت لي جدتي: «اقرأي لي هذا مرة أخرى يا صغيرتي». (عشرون، عمودي، راهب، ناسك، كلمة من تسعة أحرف، الحرف الثاني (a) والحرف الأخير (n)). راهب كبوشي ابتسمت، وأدارت عينيها اللتين لا ترى بهما نحوي. بالنسبة إلى جدتي أنا مجرد ظل أسود أمام خلفية مضاءة. «هذا جيد، ها؟». «أجل، هذا عظيم. يا اﷲ، حاولي هذا: تسعة عشر أفقي، (لا تبقي مرفقك بعيداً). من عشرة أحرف، الحرف الثاني u». «Burma Shave قبل حتى أن تجيبـي». «آه. لم أكن لأحزر». وقفت ومددت جسدي. كنت أحاول يائسة الخروج في نـزهة. فغرفة جدتي مريحة لكنها تصيبني برهاب الاحتجاز. فالسقف منخفض، وورق الجدران مزين بزهور زرقاء جميلة، وملاءات السرير زرقاء، والسجاد أبيض اللون، وتفوح منه رائحة المساحيق والجلد القديم. تجلس جدتي ميغرام، بهندامها الأنيق وباستقامة. شعرها جميل، أبيض لكنه لا يزال يحتفظ بصبغته الحمراء، الأمر الذي ورثته عنها، متجعد ومحكم بدبابيس بشكل معقوف وراء ظهرها. كانت عينا جدتي كغيوم زرقاء. أصابها العمى منذ تسع سنوات، وتكيفت مع هذا الوضع جيداً، ولطالما هي موجودة في المنـزل تستطيع أن تتدبر أمورها جيداً. كانت تحاول أن تعلمني فن حل الكلمات المتقاطعة، لكنني كنت أعاني من مشكلة في الاهتمام بذلك. اعتادت جدتي حل الكلمات المتقاطعة بقلم الحبر. يحب هنري الكلمات المتقاطعة. قالت جدتي: «يا له من يوم جميل، أليس كذلك». واستندت على كرسيها، وراحت تدلك مفاصلها. أومأت برأسي، ثم أجبتها: «أجل. لكنه عاصف. وأمي في الأسفل تقوم بعملها في الحديقة، كل شيء هنا تعصف به الريح». قالت والدتها: «كم هي تقليدية لوسيل هذه، هل تعرفين يا صغيرتي، أريد الذهاب في نـزهة». قلت لها: «كنت أُفكّر في الشيء نفسه». ابتسمت، وأمسكت بيديها، ورفعتها بهدوء عن الكرسي. أحضرت معطفينا، وربطت الشال على شعر جدتي حتى لا تفسده الريح. ثم نـزلنا الدرج إلى الطابق الأرضي. وقفنا في الممشى، وسألتها: «إلى أين تريدين الذهاب؟». أجابتني: «لنذهب إلى البستان». «لكنه بعيد. آه، ها هي أمي تلوح لنا بيدها: لوحي لها». لوحنا لوالدتي بيدينا، كانت قرب النافورة، كان معها، بيتر البستاني. توقف عن الحديث معها لينظر إلينا، انتظرنا لنمر حتى يستطيع ووالدتي إنهاء النقاش الذي كانا في صدده، ربما كان يدور حول أزهار النرجس، أو حول شيء آخر. يحب بيتر أن يتناقش مع والدتي، التي تحصل على ما تريد في نهاية المطاف. «المسافة حتى البستان نحو الميل يا جدتي». «حسناً، يا كلير، ليس ثمة خطب في ساقي». «حسناً، إذاً، سنذهب إلى البستان». أمسكت بذراعها، وذهبنا. وصلنا إلى حواف المرجة الخضراء وقلت لها: «في الظل أو تحت أشعة الشمس». فأجابتني: «آه، تحت أشعة الشمس». لذا أخذنا الممر الذي يخترق منتصف المرجة، المؤدي إلى العشب. صرت أصف لها ما أرى. «نحن نمر الآن قرب مشعل نار كبيرة مطفأة. هناك مجموعة من العصافير داخلها - آه، ها هي تطير». قالت لي: «إنها غربان، زرازير، حمام. أليس كذلك؟». «نعم... وصلنا إلى البوابة. انتبهي، الممر موحل قليلاً. أرى آثار كلب، كلب كبير، كل شيء ازداد لونه اخضراراً. ها هي الزهور البرية». سألتني جدتي: «كم يبلغ ارتفاع المرجة الخضراء؟». «ربما تكون على ارتفاع قدم. إنها مكان ذو لون أخضر فاتح. ها هي شجرة البلوط الصغيرة». أدارت وجهها نحوي وقالت باسمة: «هيا بنا لنسلم عليها». توجهت معها إلى شجرة البلوط الصغيرة التي تنمو على بعد قدمين من الممر. لقد زرع جدي شجرات البلوط الثلاث هذه في الأربعينيات كذكرى لخالي الكبير تيدي، شقيق جدتي الذي قتل في الحرب العالمية الثانية. لم تكن الشجرة كبيرة بعد، إذ لا يبلغ طولها سوى خمس عشرة قدماً. وضعت جدتي يدها على الشجرة التي في الوسط وقالت: «مرحباً». لا أدري إن كانت بتحيتها هذه تحيي الشجرة أم أخاها. ابتعدنا ونحن نسير. ونحن نرتفع بسيرنا رأيت المرجة الخضراء تنبسط أمامنا، كان هنري يقف بين العشب. توقفت. «ما الأمر؟». سألتني جدتي. «لا شيء». أجبتها. قدتها عبر الممر. سألتني: «ماذا ترين؟». أجبتها: «ثمة صقر يحوم حول الغابة». «كم الساعة الآن؟». نظرت إلى ساعتي، أجبتها: «قرابة الظهيرة». دخلنا منطقة العشب. كان هنري يقف ساكناً. ابتسم لي، بدا متعباً. كان شعره رماديّاً ويرتدي معطفه الأسود، كان يبدو أسود أمام المرجة الخضراء الساطعة. «أين الصخرة؟». سألت جدتي وتابعت: «أريد الجلوس». قدتها إلى الصخرة، وساعدتها على الجلوس. أدارت وجهها نحو هنري وقالت: «من هناك؟». سألتني، بصوت ينم عن العجلة. أجبتها كاذبة: «لا أحد». قالت لي: «ثمة رجل هناك». وأشارت نحو هنري. كان ينظر إليّ وكأنه يقول لي هيا، أخبريها. ثمة كلب ينبح في الغابة. ترددت. قالت جدتي بصوت خائف: «كلير». قال هنري بهدوء: «قدمينا إلى بعضنا بعضاً». جمدت جدتي في مكانها، وانتظرت. أحطتها بذراعي. قلت لها: «لا بأس يا جدتي. هذا صديقي هنري. إنه الشخص الذي حدثتك عنه». سار هنري نحونا ماداً يده. وضعت يد جدتي مع يده. قلت لهنري: «إليزابيث ميغرام». قالت جدتي: «إذاً، هذا أنت». أجابها هنري: «أجل». أحسست بهذه الكلمة كما البلسم. أجل. «أتسمح لي؟». أومأت بيدها نحو هنري. «هل أستطيع الجلوس قربك؟». كان هنري يجلس على الصخرة. قدت جدتي من يدها إلى وجهه. راقب وجهي وهي تلمس وجهه. قال هنري لجدتي: «أنت تدغدغينني». قالت وهي تمرر يدها على ذقنه غير الحليقة: «ورق الزجاج. أنت لست بصبـي». «كلا». «كم عمرك؟». «أكبر من كلير بثمانية أعوام». بدت متحيرة: «إذاً، تبلغ خمسة وعشرين؟». نظرت إلى شعر هنري الرمادي، وإلى التغضنات حول عينيه. يبدو في الأربعين، وربما أكثر من ذلك. قال بحزم: «أنا في الخامسة والعشرين من عمري». هذا حقيقة، في مكان ما خارج هنا. قالت جدتي لهنري: «قالت لي كلير إنها ستتزوجك». ابتسم لي. «أجل، سنتزوج. خلال بضع سنوات، عندما تتخرج كلير من المدرسة». «في أيامي، كان السادة يأتون إلى المنـزل ليتناولوا طعام العشاء ليلتقوا بالعائلة». «وضعنا... غير تقليدي. لم يكن ممكناً». «لا أفهم لم لا. إذا كنت تريد حفيدتي تستطيع بالتأكيد القدوم إلى المنـزل ليتحقق منك أهلها». «يسعدني ذلك». قال هذا وهو ينهض، ثم أردف: «عليّ اللحاق بالقطار الآن». «لحظة من فضلك، أيها الشاب -». قالت جدتي وهو يودعنا. «مع السلامة، يا سيدة ميغرام. يشرفني أنني تعرفت إليك أخيراً. أنا آسف يا كلير لا أستطيع المكوث أكثر-». وصلت إليه لكن صوتاً كما الضجيج ابتلعه فاختفى هنري. عدت إلى جدتي. كانت تجلس على الصخرة وكانت يداها ممدودتين، والذهول يرتسم على ملامح وجهها. سألتني: «ما الذي حدث؟». ورحت أفسر لها ما حدث. عندما أنهيت كلامي جلست ورأسها محنٍ، تمسد أصابعها المصابة بالروماتيزم بشكل غريب. أخيراً، أدارت رأسها نحوي وقالت: «لكن يا كلير، لا بد أنه شقي». لفظت هذه الكلمة كأنها أمر واقع، وكأنها تخبرني أن أزرار معطفي مغلقة بشكل غير صحيح، أو أن وقت الغداء قد حان. ماذا يمكنني أن أقول؟ «لقد فكّرت في هذا». قلت لها هذا، وأنا أمسك بيدها حتى أجعلها تقف عن تمسيدها بعدما تحول لون أصابعها إلى الأحمر. «لكن هنري رجل طيب. لا يعرف أنه شقي». ابتسمت جدتي. «تقولين هذا وكأنك التقيت الكثير من الأشقياء». «لا تظني أن الشقي الحقيقي هو شيطاني». انتقيت كلماتي بعناية. «قال لي هنري إن طبيبه يعتقد أنه نوع جديد من الكائن البشري. نوع من الدرجة الثانية من...». هزت جدتي رأسها. «هذا أسوأ من أن يكون شيطانياً. يا اﷲ، يا كلير، لماذا لم ترغبـي من العالم كله سوى هذا الشخص حتى تتزوجيه؟ فكري في الأولاد الذين ستنجبينهم! الانتقال إلى الأسبوع التالي والعودة قبيل الفطور!». ضحكت قائلة: «ومع ذلك هذا أمر مثير! مثل ماري بوبينس، أو بيتر بان». أمسكت برأسي وعصرته قليلاً. «فكري للحظة، يا عزيزتي، في الحكايا الخرافية الأطفال فقط هم من يعيشون حياة المغامرة. وعلى الأمهات البقاء في المنـزل والانتظار حتى يطير الأطفال من النوافذ». نظرت إلى كومة الملابس الموضوعة فوق الأرض والتي تركها لي هنري. جمعتها وطويتها. قلت لها: «لحظة». وجدت صندوق الملابس ووضعت فيه ملابس هنري وقلت: «لنعد إلى المنـزل. فقد حان وقت الغداء». ساعدتها على النهوض عن الصخرة. كانت الريح تهب فوق العشب، فانحنينا لها، وشققنا طريقنا نحو المنـزل. عندما عدنا إلى المرتفع، استدرت، ونظرت إلى مكان العشب. كان فارغاً. بعد ذلك بعدة أمسيات، كنت أجلس بالقرب من سرير جدتي، أقرأ رواية السيدة داللواي. كان الوقت مساءً. نظرت، تبدو جدتي كأنها نائمة. توقفت عن القراءة، وأغلقت الكتاب. كانت عيناها مفتوحتين. قلت لها: «مرحباً». سألتني: «هل تشتاقين إليه؟». «كل يوم. وكل دقيقة». قالت لي: «كل دقيقة. أجل. بهذا الأسلوب، أليس كذلك؟». مال رأسها، ودفنته داخل الوسادة. قلت لها، وأنا أطفئ المصباح: «تصبحين على خير». وأنا أقف في الظلام أنظر إلى جدتي وهي على سريرها، اجتاحني إحساس بالشفقة على نفسي، وكأن ما قالته قد دخل دمي. بهذا الأسلوب، أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب الأحد، 30 تشرين الثاني، 1991 (هنري 28 عاماً، كلير 20 عاماً) هنري: دعتني كلير إلى تناول طعام العشاء في منـزلها، ستكون كاريس من بين المدعوين أيضاً، هي زميلة سكن كلير، وغوميز، صديق كاريس، عند الساعة 6:59 مساءً حسب الزمن المعياري المركزي. وقفت يوم الأحد أمام الرواق الذي يفضي إلى منـزلها وأنا بكامل أناقتي، وضغطت بإصبعي الجرس، ورائحة عطر نبتة الفريزية الصفراء تفوح في أرجاء المكان، حاملاً بيدي الأخرى شراباً فرنسياً صنع أستراليا، وقلبـي يرتجف. لم يسبق لي أن زرت كلير في منـزلها، كما لم يسبق لي أن التقيت أحداً من أصدقائها. لم تكن لديّ أدنى فكرة عما سأجده. صدر عن الجرس صوت مريع، فتحتُ الباب. قال لي صوت ذكوري من الداخل: «إلى الداخل». رحت أصعد الدرج كل أربع درجات معاً. كان صاحب الصوت رجلاً طويل القامة أشقر، صاحب أفضل تسريحة شعر كاملة، يدخن سيجارة ويرتدي كنـزةً كُتب عليها Solidarnosc(16). يبدو لي مألوفاً، لكنني لا أستطيع أن أميزه. بالنسبة إلى رجل يُدعى غوميز يبدو أنه... بولندي. اكتشفت في ما بعد أن اسمه الحقيقي هو جان غومولينسكي. دوى صوته وهو يقول: «أهلاً وسهلاً، يا أمين المكتبة». أجبته: «أيها الرفيق!». وأعطيته النبتة والشراب. التقت نظراتنا، وارتحنا لبعضنا، وقادني غوميز المرح إلى الشقة. إنها إحدى شقق سكك الحديد الرائعة التي لا نهاية لها والتي تعود إلى زمن العشرينيات - فيها صالون وغرف مرتبطة ببعضها كما ترتبط الأفكار ببعضها. هناك قطعتان فنيتان، قطعة غير تقليدية والأخرى من الطراز الفيكتوري. أرى هذا في الكراسي الصغيرة المنمقة القديمة ذات القوائم المحفورة إلى جانب رسومات مخملية لألفيس. سمعت أغنية ديوك إلنغتون لقد استأت وهذا ليس جيداً. تصدر من نهاية الصالون، وغوميز يقودني إلى ذلك الاتجاه. كانت كلير وكاريس في المطبخ. قال غوميز مترنماً: «يا قطتاي، لقد أحضرت لكما لعبة جديدة. وهذه اللعبة ترد على من يناديها باسم هنري، ولكنكما لا تستطيعان أن تنادياه صبـي المكتبة». التقت عيناي بعيني كلير. مالت بكتفيها، وقدمت إليّ وجهها لأقبلها، أُجبرت على قبلة سريعة، واستدرت نحو كاريس لأصافحها، هي قصيرة القامة مستديرة الجسم محببة إلى النفس، ذات شعر أسود مجعد. كانت تتمتع بوجه يجعلني أفضي إليها بشيء ما، بأي شيء، حتى أرى ردّ فعلها. كانت فيليبينية صغيرة الحجم. وبصوت حازم قالت: «آه، اخرس يا غوميز. مرحباً، هنري. أنا كاريس بونافانت. من فضلك لا تلقِ بالاً إلى غوميز، أنا أُبقيه فقط حتى يحمل عني الأشياء الثقيلة». «والحميمية. لا تنسي الحميمية». قال لها غوميز كأنه يذكرها. نظر إليّ وقال: «شراب الشعير؟». «طبعاً». بحث في البراد، وأعطاني زجاجة شراب شعير. نـزعت الغطاء عن الزجاجة، وتجرعت جرعة طويلة. بدا المطبخ وكأن مصنع بيلبسيري للعجين قد انفجر هنا. رأتني كلير إلى أي جهة أنظر. واكتشفتُ فجأة أنها لا تعرف كيف تطهو الطعام. قالت كلير: «العمل جار على قدم وساق». قالت كاريس: «هذه قطعة تجهيزات». سأل غوميز: «هل سنأكلها؟». ألقيت نظرة إلى الجميع، وانفجرنا كلنا في الضحك. «أيعرف أحدكم كيف يطبخ؟». «كلا». «يستطيع غوميز أن يطهو الأرز». «فقط الأرز من نوع روني». «وكلير تعرف كيف تعد البيتزا». «والطعام التايلاندي، أستطيع أن أطلب طعاماً تايلاندياً، أيضاً». «أما كاريس فتعرف كيف تأكل». «اخرس يا غوميز». قالت كاريس وكلير في الوقت نفسه. «حسناً، هه... ما هذا؟». قلت مستفسراً، وأنا أومئ برأسي إلى الكارثة الموجودة على الطاولة. أعطتني كلير قصاصة من مجلة. تحتوي هذه القصاصة على وصفة طعام لإعداد الدجاج والريسوتو مع الشراب وصلصة الفول السوداني. وهذه القصاصة مأخوذة من مجلة غورماند وكانت توجد فيها، إضافة إلى هذا، عشرون وصفة طعام أخرى. «أتعرفين كل هذه الوصفات؟». أومأت كلير برأسها. «أستطيع أن أقوم بما يتعلق بقسم التسوق. ما يربكني هو جمع المواد مع بعضها». أمعنت النظر إلى الفوضى الموجودة عن قرب: «أستطيع أن أصنع شيئاً من هذه الأشياء». أومأت برأسي وقلت: «أتستطيعين الطهو؟». «الطعام جاهز! أتريد شراب شعير مرة أخرى؟». سأل غوميز بصوت عالٍ. بدا على كاريس الارتياح، فابتسمت لي ابتسامة دافئة. أما كلير التي كانت واقفة وهي خائفة، فانسلت باتجاهي وهمست: «هل أنت مجنون؟». قبلتها، قبلة قصيرة ومهذبة أمام الناس. وقفت، خلعت سترتي، ورفعت كميّ قميصي، وقلت بلهجة آمرة: «أعطِني المئزر، وأنت يا غوميز افتح زجاجة الشراب الفرنسي. وأنت يا كلير، نظفي كل هذه الأشياء، قبل أن تتحول إلى كتل إسمنتية. أما أنت يا كاريس فأعدي لنا المائدة؟». بعد مضي ساعة وثلاث وأربعين دقيقة كنا نجلس حول مائدة الطعام في الغرفة ونحن نتناول الدجاج والريسوتو مع الشراب. كانت الزبدة تغطي أطباق الطعام. وشربنا حتى الثمالة. كلير: كان هنري يعد الطعام طوال الوقت، وغوميز يقف في المطبخ، يلقي النكات، ويدخن، ويشرب شراب الشعير وعندما لا يجد أحداً يصغي إليه كان ينظر إليّ بوجه مخيف. رأته كاريس فوضعت أصابعها على رقبته فتوقف. تحادثنا حول أكثر الأمور تفاهة، حول عملنا، والمدرسة، وأين تربينا، وحول كل الأشياء العادية التي هي محور أحاديث الناس عندما يلتقون للمرة الأولى. وتحدث غوميز مع هنري حول عمله كمحامٍ، ممثلاً الأطفال المضطهدين والمهملين الذين هم حراس البلد. وحدثتنا كاريس باستمتاع عن حكايا إنجازاتها في لوسوس ناتورا، وهي عبارة عن شركة برمجيات صغيرة تحاول أن تجعل الكمبيوتر يستجيب عندما يتحدث إليه الناس، وحول فنّها، الذي يقوم على صناعة الصور في الكمبيوتر. وأخبرنا هنري قصصاً حول مكتبة نيوبيري وحول الناس غريبـي الأطوار الذين يأتون إلى المكتبة لدراسة الكتب. «هل صحيح أن مكتبة نيوبيري تحتوي كتاباً مصنوعاً من جلد الإنسان؟». سألت كاريس هنري. «أجل. إنه كتاب The Chronicle of Nawat Wuzeer Hyderabed. وُجد هذا الكتاب في قصر ملك دلهي عام 1957. زوريني يوماً في المكتبة لأريك إياه». ارتعدت فرائص كاريس، وابتسمت وعبست. كان هنري يحرك الأجواء محرضاً. وعندما قال: «حان وقت الطعام». توجهنا إلى المائدة. كان غوميز وهنري يحتسيان شراب الشعير طوال الوقت بينما كنت وكاريس نحتسي الشراب الفرنسي، وغوميز يقرع كؤوسنا، لم نتناول الكثير من الطعام ولا أعلم كم شربنا حتى أخطأت الجلوس على الكرسي الذي قدمه إليّ هنري، بينما جلس غوميز على كرسيه قرب المدفأة وهو يضيء الشموع. كان غوميز يُضيء الشموع بالنار بكثير من الحرص والتأني. رفع غوميز كأسه قائلاً: «نخب الثورة!». رفعت وكاريس كأسينا، ورفع هنري كأسه هو الآخر، أيضاً. «نخب الثورة!». بدأنا نتناول الطعام، بحماسة شديدة. كان الأرز المطهو لزجاً ونصف ناضج، ومسحوق البطاطا حلو المذاق، والدجاجة مغمورة في الزبدة. كل هذا جعلني أصرخ، هذا لذيذ جداً. تناول هنري لقمة، ثم أشار بشوكته إلى غوميز. «أي ثورة؟». «عذراً؟». «أي ثورة تلك التي نشرب نخبها؟». نظرنا، أنا وكاريس، إلى بعضنا مذعورتين، ولكن الوقت كان قد فات. ابتسم غوميز فشعرت أن قلبـي يغوص في مكانه «الثورة القادمة». «الثورة التي ستنهض من طبقة البلوريتاريا ويُؤكل فيها الأغنياء وتنهزم فيها الرأسمالية أمام المجتمع المُهمش؟». «تلك الثورة». غمزني هنري بعينه. «يبدو هذا صعباً على كلير. وماذا ستفعل مع قادة الفكر؟». قال غوميز: «آه، على الأرجح أننا سنأكلهم، أيضاً. لكننا سنُبقي عليك، كطباخ. أنت كادح جليل». لمست كاريس ذراع هنري، مُطمئنةً، وقالت: «لن نأكل أحداً، كل ما سنفعله هو إعادة توزيع ممتلكاتهم». أجاب هنري: «هذا أمر مُطمئن، فأنا لم أكن أريد أن أطبخ كلير». قال غوميز: «ومع ذلك، هذا هو الخزي والعار. أنا متأكد أن كلير ستكون لذيذة المذاق». قلت: «أتساءل أي مطبخ هذا الذي سيكون لآكلي لحوم البشر؟ أيوجد كتاب طهو لآكلي لحوم البشر؟». أجابت كاريس: «The Raw and The Cooked»(17). عارضها هنري قائلاً: «ليس هذا هو الكتاب المقصود، حيث إنني لا أعتقد أن ليفي شتراوس قدم فيه أي وصفة». قال غوميز: «في إمكاننا أن نتبنى الوصفة». وتناول قطعة أخرى من الدجاج، ثم أردف: «كلير مع فطر البورشيني وصلصة المارينارا على معكرونة اللينغويني. أو صدر كلير بالبرتقال. أو -». قلت: «هنري. ماذا لو لم أكن أريد أن يأكلني أحد؟». قال غوميز باهتمام: «أخشى أنك ستؤكلين من أجل خير ومنفعة كبيرين». ابتسم هنري وهو يفهم ما عنيت من نظرتي إليه: «لا تخشي شيئاً يا كلير، فلتأتِ الثورة، وسأخفيك في مكتبة نيوبيري. حيث تستطيعين العيش بين أكداس الكتب وسأطعمك الشوكولاته من غرفة الطعام الموجودة. لن يجدوك أبداً». هززت رأسي موافقة. وقلت: «وماذا لو أننا قمنا أولاً بقتل جميع المحامين؟». أجابني غوميز: «كلا، لا تستطيعين فعل أي شيء من دون المحامين. ستفشل الثورة في غضون عشر دقائق إن لم يكن هناك من يحافظ على نظامها». قلت له: «لكن والدي محامٍ، لهذا لا تستطيع أن تأكلنا». أجابني غوميز: «إنه محامٍ سيئ. فهو يقدم ملكيات إلى الأغنياء. أما أنا، من ناحية أخرى، فأمثل الأطفال الفقراء المقموعين». قالت كاريس: «آه، اخرس يا غوميز، أنت تجرح مشاعر كلير». «كلا! تريد كلير أن تُؤكل من أجل الثورة، أليس كذلك يا كلير؟». «كلا». «آه». سألها هنري: «وماذا عن القاعدة الطبقية؟». «وماذا تقول؟». «أنت تعرفين، القاعدة الذهبية. لا تأكل أحداً ما لم تكن مستعداً لأن يأكلك أحدهم». كان غوميز ينظف أظافره بسن الشوكة. «ألا تعتقد معي أن مبدأ إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب هو الذي يجعل العالم على ما هو عليه؟». سأله هنري: «بلى. ولكن ألست أنت نفسك في موضع الغيرية؟». «بالتأكيد، لكنهم يعتبرونني كيس مكسرات». قال غوميز هذا من دون مبالاة أو تكلف، لكنني استطعت أن أرى كم كان هنري شخصاً مُحيراً بالنسبة إليه. سأل: «أين الحلوى يا كلير؟». أجبته: «آه يا اﷲ، لقد نسيتها». ونهضت من فوري وأنا أمسك بالطاولة لتساعدني: «سأحضرها». قال لي غوميز وهو يلحق بـي إلى المطبخ: «سأساعدك». كنت أنتعل حذاء عالي الكعبين لذا تعثرت بعتبة الباب فلحق بـي غوميز ليمسكني. وقفنا للحظة ونحن ملتصقان معاً، وأحسست بيده على خصري، لكنه أفلتني. قال لي غوميز: «أنت ثملة يا كلير!». «أعرف. وكذلك أنت». ضغطت على زر آلة صنع القهوة، وراحت القهوة تغلي في الإبريق. اتكأت على الطاولة، وأزلت غطاء السلوفان عن كعكة الشوكولاته بحرص. وقف غوميز خلفي، وقال لي بهدوء، كان قريباً جداً مني إلى درجة أنني أحسست بأنفاسه تخترق أذني: «إنه الشخص نفسه». «ماذا تعني؟». «الشخص الذي كنت قد حذرتك منه. هنري، إنه الشخص-». دخلت كاريس المطبخ، فابتعد غوميز عني بسرعة وفتح البراد. قالت: «هاي، أأساعدكما على القيام بأي شيء؟». «هاك، خذي فنجاني القهوة...». حملنا فناجين القهوة والصحون والأطباق وكعكة الشوكولاته ووضعناها بأمان على المائدة. كان هنري ينتظر وكأنه في غرفة طبيب أسنان، ونظرة خوف المريض تبدو عليه. ضحكت، هي النظرة نفسها تماماً التي اعتدت عليها عندما كنت أحضر له الطعام في المرجة الخضراء... لكنه لا يتذكر هذا، فهو لم يذهب إلى هناك بعد. قلت له: «اهدأ واسترح، فهذه مجرد كعكة الشوكولاته. أستطيع أن أصنعها بنفسي». ضحك الجميع، وجلسنا إلى المائدة. كان يبدو على الكعكة أنها قيد الطهو. قالت كاريس: «كعكة التتار، حلوى البكتيريا العضوية». ولعقت أصابعها. قال هنري: «لطالما أحببت العجين». ولعق أصابعه. أخرج غوميز سيجارة، وأشعلها، وأخذ مجة طويلة منها. هنري: أشعل غوميز سيجارة، واستند على كرسيه. ثمة شيء في هذا الشاب يُغيظني. لربما مرد هذا إلى فكرة الاستحواذ العرضي لكلير، أو الماركسية العادية؟ أنا متأكد من أنني رأيته من قبل. في الماضي أو في المستقبل؟ لنكتشف هذا. قلت له: «تبدو مألوفاً جداً بالنسبة إليّ». «ممم؟ أجل، أعتقد أنني رأيتك قبلاً». هذا ما أريده. «فرقة إيجي بوب في مسرح الريفييرا؟». تفاجأ بـي. «أجل. كنت بصحبة فتاة شقراء، تدعى إنغريد كارميشيل، اعتدت أن أراها بصحبتك دائماً». نظرت مع غوميز إلى كلير. كانت تحدق إليه بنظرة ذات معنى، فابتسم لها. أشاحت بنظرها بعيداً عنه، ولكنها لم تنظر إليّ. حاولت كاريس إنقاذ الموقف. «كنت تحضر إيجي من دوني؟». قال غوميز: «كنت خارج البلدة». تجهم وجه كاريس وقالت لي: «أشتاق إلى كل شيء. أشتاق إلى باتي سميث التي تقاعدت. أشتاق إلى فرقة توكينغ هيدز في المرة الأخيرة التي عرضت فيها هنا». قلت لها: «ستقوم باتي سميث بجولة أخرى». سألتني كاريس: «حقاً؟ كيف تعرف؟». تبادلت النظرات وكلير. أجبتها: «مجرد تخمين». رحنا نختبر ذوقنا في الموسيقى، ونكتشف أننا كلنا نحب موسيقى الروك. قال لنا غوميز إنه شاهد عروض نيويورك دوللز في فلوريدا قبل أن يترك هذه الفرقة جوني ذاندرز. وصفت لهم حفلة موسيقى لين لوفيتش التي خططت أن أحضرها في إحدى سفراتي عبر الزمن. سعدت بهذا كاريس وكلير لأن فرقة فيولينت فامز ستعزف في قاعة آرغون للموسيقى بعد أسابيع قليلة، وحصلت كاريس على تذاكر مجانية. انتهت الأمسية من دون أن يعكر صفوها شيء. رافقتني كلير إلى الدرج. وقفنا في الردهة الواقعة بين الباب الخارجي والباب الداخلي. قالت لي: «أنا آسفة». «آه، لا تقولي هذا. كانت أمسية جميلة، لقد أعجبني الطعام». أجابتني كلير وهي تنظر إلى حذائها: «كلا، أنا آسفة بشأن غوميز». كانت الردهة باردة. أحطت كلير بذراعي فاتكأت عليّ. سألتها: «ماذا عن غوميز؟». ثمة شيء كان يدور في خلدها. هزت كتفيها من دون مبالاة. «ستكون الأمور على ما يرام». أخذت كلامها هذا بمثابة وعد. قبلتها. فتحت الباب الخارجي، وفتحت كلير الباب الداخلي. سرنا نحو الممر ونظرت إلى الوراء. وقفت، وبـي رغبة في أن أعود لأحتضنها، أردت أن أصعد الدرج عائداً إليها. استدارت وراحت تصعد الدرج، وشيعتها بناظري إلى أن توارت عن الأنظار. السبت، 14 كانون الأول، 1991 - الثلاثاء، 9 أيار، 2000 (هنري 36 عاماً) هنري: كنت أضرب بأخمص قدمي فتىً ثملاً في إحدى الضواحي تجرأ على أن يناديني بالأبله ثم حاول أن يضربني ليثبت وجهة نظره. كنا في زقاق قرب مسرح فيك. استطعت سماع موسيقى فرقة سموكينك بوب النحاسية قادمة من مخارج جانب المسرح، سحقت بانتظام أنف هذا الأبله، ثم رحت أسحق أضلعه. كنت أمضي أمسية عفنة، وهذا الأحمق يستغل إحباطي. «مرحباً، يا صبـي المكتبة». ابتعدت عن الفتى الذي يئن ويصرخ لأجد غوميز بوجهه المكفهر، الغبـي. ابتعدت عن الفتى الذي كنت أضربه، والذي انسل بهدوء إلى الرصيف متكوراً على نفسه وقلت: «أيها الرفيق. كيف تسير الأمور؟». ارتحت عندما رأيت غوميز، فعلاً. لكن، لا يبدو أنه يبادلني الشعور نفسه. «آه، لا أريد إزعاجك، لكنه صديق لي لا تتذكره». آه، أجل. «حسناً، هو من طلب هذا. اقترب مني قائلاً أريد من يضربني بقوة». «آه، أجل، أحسنت صنعاً. فنان تافه، فعلاً». «شكراً». «هل تمانع إذا ما استدعيت نيك إلى هنا لنأخذه إلى المشفى؟». «على الرحب والسعة». اللعنة. كنت أخطط للاستيلاء على ملابس نيك، وخاصة على حذائه، المصنوع من فرو الدلق الجديد، ذي اللون الأحمر الداكن الذي ينتعله. «غوميز». «أجل». تقدم ليرفع صديقه، الذي بصق سناً في حضنه. «ما تاريخ اليوم؟». «14 كانون الأول». «أي عام؟». نظر إليّ كرجل لديه أشياء أخرى أفضل ليقوم بها عوضاً عن المرح المجنون، وحمله كأنه إطفائي لا بد أن هذا سبّب له ألماً شديداً. راح نيك يتأوه. في العام 1991. أنت ثمل أكثر مما تبدو عليه. سار في الزقاق، واختفى باتجاه مدخل المسرح. أجريت عملية حسابية بسرعة. لا يبعد هذا اليوم عن اليوم الذي بدأنا فيه أنا وكلير نتواعد، ولهذا السبب بالكاد أنا وغوميز نعرف بعضنا. لا عجب أنه كان يرمقني بتلك النظرة المخيفة. عاد مرة أخرى وهو لا ينوء بحمله السابق. «جعلت ترينت يعالج الأمر. فنيك هو أخوه. لم يكن سعيداً أبداً». توجهنا في سيرنا إلى الشرق، إلى الزقاق. «اعذرني لسؤالي يا صبـي المكتبة، لماذا ترتدي ثياباً كهذه؟». كنت أرتدي بنطال جينـز، وسترة زرقاء لطفل رُسِمَت عليها فراخ بط صغيرة صفراء، وسترة حمراء وأنتعل حذاء رياضياً للعبة التنس. حقاً، لا عجب في أن يرغب أحدهم في ضربـي. «كان هذا أفضل ما يمكن فعله في ذلك الوقت». «أتمنى أن يكون الشاب الذي أخذت منه ثيابه على مقربة من منـزله. لأن درجة الحرارة تبلغ عشرين درجة في الخارج؟». «لماذا تصادق صبياً يصدر ريحاً؟». «آه، لقد دخلنا كلية الحقوق معاً». كنا نسير قرب الباب الخلفي لمخزن الفائض التابع لجيش البحرية شعرت برغبة شديدة في أن أكون مرتدياً ثياباً عادية. خاطرت بإفزاع غوميز، كنت أعرف أنه سيتغلب على هذا. توقفت عن السير وقلت له: «أيها الرفيق. سيستغرق هذا لحظة، كل ما أريده هو أن أعتني بشيء. هل تستطيع أن تنتظر في نهاية الزقاق؟». «ماذا ستفعل؟». «لا شيء. اقتحام ودخول. لا تلقِ بالاً للرجل الواقف خلف الستائر». «أتمانع إذا أتيت؟». «أجل». بدا مكتئباً. «حسناً. إذا كان عليك ذلك». خطوت نحو المكان الذي يحمي الباب الخلفي. هذه هي المرة الثالثة التي أقتحم فيها هذا المكان. المرتان السابقتان كانتا في المستقبل. لقد جعلت العِلمَ يحكم في هذا الأمر. أولاً فتحت القفل البسيط المركب الذي يؤمن حاجز الأمن ذا القضبان، وأرجعت الحاجز إلى الوراء، أخذت قفلاً من نوع يال بداخل قلم قديم، ودبوس آمن وجدته في وقت سابق في جادة بيلمونت، واستخدمت قطعة من الألمنيوم بين الأبواب المزدوجة لرفع القفل الداخلي. أنهينا. استغرقت العملية ثلاث دقائق. نظر إليّ غوميز كمن يثق بـي. «أين تعلمت هذا؟». «هذه براعة». أجبته بتواضع. دخلنا معاً. كان هناك ثمة لوح يضيء بأنوار حمراء يبدو كأنه نظام إنذار للسرقة، لكنني خير من يعرف هذا. كان الظلام حالكاً هنا. راجعت في ذهني المخطط والبضاعة. «إياك أن تلمس أي شيء يا غوميز». أردت أن أكون متحمساًً، وغير مرئي. دخلت بحرص الممرات، وكانت عيناي قد اعتادتا على الظلام. بدأت بالبناطيل؛ بنطال جينـز أسود ليفايز. اخترت قميصاً أزرق داكناً، ومعطفاً أسود ثقيلاً من الصوف مبطناً بنسيج من الكتان القوي، وجوارب صوفية، وملابس داخلية، وقفازاً ثقيلاً لتسلق الجبال، وقبعة مع واقيتين للأذنين. ووجدت في مخزن الأحذية، ولحسن حظي، حذاء من نوع دوكس كالذي كان ينتعله صديقي نيك. أنا الآن مستعد للمغامرة. في غضون ذلك، كان غوميز، يفتش وراء الطاولة. قلت له: «لا تزعج نفسك، فهم لا يتركون نقوداً في هذا المكان داخل الصندوق ليلاً. هيا بنا نذهب». غادرنا من الطريق الذي أتينا منه. أقفلت الباب بهدوء، وشددت إحكام الباب ذي القضبان. كانت معي مجموعتي السابقة من الملابس موضوعة في كيس التسوق. سأحاول في ما بعد أن أجد مخزن جيش الخلاص. نظر إليّ غوميز مترقباً، ككلب ضخم ينتظر إذا كان لديّ الكثير من اللحم له. فتذكرت أن أقول له: «أنا جائع. هيا بنا نذهب إلى مطعم آن ساثر». «آن ساثر؟ توقعت أن تقترح عليّ سرقة مصرف، أو أن نقتل أحداً على أقل تقدير. أنت الآن تركض، أيها الرجل، فلا تتوقف». «يجب أن أتوقف لأتزود بالوقود. هيا بنا». عبرنا الزقاق متوجهين إلى مطعم آن ساثر. نظر إلينا نادل المطعم، وكأننا عبرنا مملكته. اجتزنا طريقاً مختصراً إلى بيلمونت. كانت الساعة تشير إلى التاسعة، وكان الشارع مكتظاً بالمعابر الضيقة، والمرضى العقليين المشردين، ورواد النوادي، والباحثين عن الإثارة. وجدنا أمامنا مطعم آن ساثر كجزيرة استوائية بين صالونات صنع الوشوم ومحال لبيع الواقي الذكري. دخلنا المطعم، وانتظرنا النادل حتى يجد لنا مكاناً. كانت معدتي تتضور جوعاً. كان ديكور المحل سويدي الطراز مريحاً للنفس، كان من الألواح الخشبية والرخام الأحمر المتوج. جلسنا في قسم المدخنين، مباشرة أمام المدفأة. خلعنا معطفينا، جلسنا، قرأنا لائحة الطعام، كنا نحفظها عن ظهر قلب، فغنيناها بمقطعين متناغمين. وضع غوميز كل أدوات التدخين التي معه قرب آنية المائدة الفضية قربه. «أتمانع؟». «أجل. ولكن لا بأس». كان ثمن صحبة غوميز يقاس بالتواصل المطرد لدخان سجائره التي كان ينفثها من أنفه. كانت أصابعه مخضوضبة بألوان صفراء داكنة، راحت ترفرف فوق ورقة رقيقة وهو يلف تبغاً من نوع درم بآلة لف سميكة، ثم يلعق الورقة بلسانه، ويبرمها بين أصابعه، ثم يلعقها بلسانه، ويضعها بين شفتيه ثم يشعلها. «آههه». بالنسبة إلى غوميز، أن تمضي معه ساعة من دون أن يدخن فيها، فهذا أمر خارج عن المألوف. أستمتع دائماً عندما أرى الناس يشعرون بالسعادة عندما يفعلون ما يحبون، حتى لو لم أشاركهم في ذلك. «أنت لا تدخن؟ ولا أي شيء آخر؟». «أنا أركض». «أوه. أجل، اللعنة، جسمك بحال جيدة. اعتقدت أنك ستقتل نيك، بالرغم من أنك لم تكن مرتاحاً». «آه، كان ثملاً جداً حتى يقاتل. لا ينفع لشيء، إنه أبله». «لماذا كنت قاسياً عليه هكذا؟». «كان تصرفاً غبياً». وصل النادل، أخبرنا أن اسمه لانس، والأطباق الرئيسة هي سمك السلمون وبازيلاء بالكريما. سجل طلباتنا من المشروب، ثم ابتعد مسرعاً. كان كلعبة ترتدي وعاء كريما. «رآني كيف أرتدي ملابسي، فاستنتج أنني سهل المنال، وبدا بغيضاً، أراد أن يضربني، لم يكن يقبل بكلمة لا كجواب، ثم لقنته درساً. كنت أتابع أموري الشخصية، فعلاً». بدأ غوميز يفكر في الأمر. «ماذا يعني هذا، فعلياً؟». «عفواً؟». «اسمعني يا هنري. قد أبدو لك أبله، ولكن خالك الكبير غوميز ليس من دون عقل تماماً. كنت منتبهاً إليك فترة من الوقت، قبل أن تدعوك كلير إلى المنـزل، في حقيقة الأمر. ما أعنيه هو، لا أعرف إذا كنت مدركاً لهذا، ولكنك سيئ السمعة قليلاً في قضايا محددة. أعرف كثيراً من الناس الذين يعرفونك. أقصد، نساء، نساء يعرفنك». نظر إليّ شذراً من خلال سحابة دخان سيجارته. «يقلن عنك أشياء غريبة». وصل لانس حاملاً معه قهوتي وحليباً لغوميز. وطلبنا تشيزبرغر وبطاطا مقلية، وحساء بازيلاء، وسمك السلمون، وبطاطا حلوة، وعصير فاكهة لي. شعرت كأنني سأقع مغشياً عليّ فوراً إذا لم أحصل على سعرات حرارية كافية بسرعة. غادر لانس بهدوء. أعاني من الاهتمام كثيراً بذنوبـي السابقة، أقل مما أريد تبرير هذه الأفعال لغوميز. هذا، أولاً وأخيراً، ليس شأنه. لكنه بقي منتظراً الجواب. حركت الكريما في قهوتي، شاهدت الرغوة وهي تتبدد في دوامات. انحنيت أمام الريح التي تهب. فهذا، قبل كل شيء، لا يهمني. «ماذا تريد أن تعرف أيها الرفيق؟». «كل شيء. أريد أن أعرف لماذا أمين مكتبة يبدو عليه أنه حسن الطباع ووديع يقوم بضرب رجل ويصيبه بالغيبوبة وهو يرتدي ملابس مدرسة روضة أطفال. أريد أن أعرف لماذا حاولت إنغريد كارميشيل أن تنتحر قبل ثمانية أيام. أريد أن أعرف لماذا يبدو عليك الآن أنك أكبر بعشر سنوات عن آخر مرة رأيتك فيها. شعرك أشيب الآن. أريد أن أعرف لماذا تحمل قفل يال. أريد أن أعرف لماذا لدى كلير صورة لك حتى قبل أن تعرفك فعلياً». «أكانت لدى كلير صورة لي قبل العام 1991؟». «صورتك الآن ليست كما كنت تبدو منذ أسبوعين عندما أتيت إلى العشاء». أكان ذلك منذ أسبوعين؟ يا اﷲ، هذه هي المرة الثانية فقط التي نلتقي فيها أنا وغوميز. «التقطت لك في مكان ما خارجي. كنت تبتسم. يعود التاريخ المدون خلف الصورة إلى شهر حزيران من العام 1988». وصل الطعام، فتوقفنا عن الكلام لنرتب الطعام فوق المائدة الصغيرة. بدأت بتناول الطعام وكأنني لن آكل بعد هذا اليوم. جلس غوميز، يراقبني وأنا أتناول طعامي، لم يلمس طعامه. رأيته يفعل هذا في قاعة المحكمة المحتشدة بشهود عدائيين، كما هنا تماماً. كان يريد أن يأخذ كل ما لديهم من معلومات. لا أمانع في أن أقول له كل شيء، ولكنني أريد أن أتناول طعامي أولاً. في الواقع، كنت أريد أن يعرف غوميز الحقيقة، لأنه سيقوم بإنقاذي من مشاكلي دائماً في السنوات القادمة. أنهيت تناول سمك السلمون وهو لا يزال جالساً مكانه. «كُل، كُل». قلت وأنا أقلد جيداً السيد كيم. غمس قطعة من البطاطا المقلية في الكتشاب، وراح يمضغها بهدوء. «لا تقلق، سأعترف لك بكل شيء. ولكن دعني قبل كل شيء أتناول آخر قطعة من اللحم بسلام وأمان». استسلم لي، وراح يتناول الهمبرغر. لم ينبس أحدنا ببنت شفة إلى أن انتهيت من شرب عصير الفواكه. أحضر لانس المزيد من القهوة. حركت القهوة. نظر إليّ غوميز وكأنه يريد أن يهزني. وقررت أن أسلي نفسي على حسابه. «حسناً. إليك الحقيقة: السفر عبر الزمن». أدار غوميز عينيه في محجريهما، وكشر، ولكنه لم يقل شيئاً. «أنا مسافر عبر الزمن. عمري الآن ستة وثلاثون عاماً. كان ظهر هذا اليوم 9 أيار، 2000. كان يوم الثلاثاء. وكنت أعمل، وقد انتهيت من عرض وإلقاء محاضرة لزمرة من أعضاء نادي كاكستون، وعدت إلى الرفوف لأعيد ترتيب الكتب عليها عندما وجدت نفسي فجأة في شارع المدرسة، في العام 1991. وكالعادة كانت لديّ مشكلة الملابس. اختبأت تحت سيارة بورش فترة من الوقت. شعرت بالبرد، ولم يأتِ أحد، أخيراً جاء هذا الفتى، مرتدياً ملابسه - حسناً، وأنت رأيت ما الذي كنت أرتديه. هاجمته من الخلف، وأخذت منه نقوده وكل ما كان يرتديه ما عدا ملابسه الداخلية. صرخ بسخف شديد، ربما اعتقد أنني سأغتصبه أو شيئاً من هذا القبيل. على كل حال، حصلت على ملابس. حسناً. ولكن، في هذا الجوار لا تستطيع أن ترتدي ملابس كهذه من دون أن تقع في سوء فهم. لهذا لم أحصل على أي شيء من الناس، وكان صديقك هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير. أنا آسف إن سببت له أي أذى. كل ما أردته هو ملابسه، وأردت بشكل خاص حذاءه». استرق غوميز نظرة إلى قدميّ من تحت الطاولة. «طوال الوقت وأنا أجد نفسي في مثل هذه الأوضاع. لم يكن هناك تلاعب بالألفاظ. ثمة شيء في نفسي غير صحيح. لقد كنت في الزمن غير الصحيح، من دون سبب. لا أستطيع أن أتحكم في هذا، ولا أعرف متى سيحدث هذا، أو أين ومتى سأنتهي. وحتى أتغلب على هذا، أسرق الساعات، والمعروضات، وأنشل الجيوب، والناس، وأستجدي الناس، وأخترق وأقتحم، وأسرق السيارات، وأكذب، وأكسر، وأشوه الناس. سمه ما شئت، هذا كل شيء عندي». «جريمة». «حسناً، ليس هذا ما أعرفه. لم أغتصب أحداً». نظرت إليه وهو يتحدث. لديه وجه لاعب بوكر مزيف. «إنغريد. أتعرف إنغريد؟». «أعرف سيليا أتلي». «يا عزيزي. أنت تُبقي على الصحبة الغريبة. كيف حاولت إنغريد أن تقتل نفسها؟». «بتناول جرعة زائدة من الفاليوم». «1991؟ أجل، حسناً. هذه هي محاولة الانتحار الرابعة لإنغريد». «ماذا؟». «ألا تعرف هذا؟ كانت سيليا مثقفة نخبوية. وقد نجحت إنغريد بقتل نفسها في 2 كانون الثاني، عام 1994. حيث أطلقت النار على صدرها مباشرة». «هنري -». «أنت تعرف هذا، لقد حدث منذ ست سنوات خلت، لا تزال غاضباً منها. يا للخسارة. لكنها كانت محبطة بشكل كامل، منذ وقت طويل، وغرقت في هذا الإحباط. لم أستطع فعل أي شيء من أجلها. كان هذا من أحد الأمور التي كنا نتشاجر من أجلها». «هذه نكتة سخيفة يا صبـي المكتبة». «أتريد إثباتاً على ما قلت». ابتسم. «وماذا عن الصورة التي مع كلير؟». تلاشت ابتسامته. «حسناً. أنا صغير وأعترف بهذا وهذا ما يحرجني». «كانت المرة الأولى التي التقيت بها كلير في شهر تشرين الأول، من العام 1991. التقتني للمرة الأولى في شهر أيلول، من العام 1977، كانت في السادسة من عمرها، وأنا في الثامنة والثلاثين. بالمناسبة، عليك أن تسأل كلير عن كل هذا. وستخبرك بكل شيء». «لقد فعلت هذا. وأخبرتني بكل شيء». «حسناً، اللعنة يا غوميز. أنت تنتهز الوقت القيم هنا، وتجعلني أخبرك بكل شيء مرة أخرى. لأنك لم تصدقها؟». «كلا، هل كنت ستصدقها؟». «بالتأكيد. فكلير صادقة. بسبب تربيتها الدينية». أتى لانس وأحضر معه المزيد من القهوة. ازدادت عندي نسبة الكافيين، ولكن المزيد منه لا يضر. «إذاً؟ أي نوع من الإثبات ذلك الذي تبحث عنه؟». «قالت كلير إنك تختفي». «أجل، فهذه إحدى الخدع الدرامية. التصقت بـي كما الصمغ، فعاجلاً أم آجلاً، ستجدني وقد اختفيت. قد يستغرق الأمر دقائق، أو ساعات، أو أياماً، لكنني أثق بتلك الطريقة». «هل نعرف بعضنا في العام 2000؟». «أجل». كشرت في وجهه: «سنصبح صديقين حميمين». «حدثني عن مستقبلي». آه، يا لها من فكرة سيئة. «أبداً». «ولم لا؟». «الأمور تحدث فحسب يا غوميز. ومعرفتها بشكل مسبق يجعل كل شيء... غريباً. أنت لا تستطيع تغيير أي شيء». «لماذا؟». «السببية تتقدم نحو الأمام فقط. الأشياء تحدث مرة واحدة، مرة واحدة فقط. إذا كنت تعرف الأشياء... أشعر كأنني في مصيدة، في معظم الوقت. إذا كنت في الزمن، ولا تعرف... إذاً، فأنت حر. ثق بـي». بدا وقد أحبط. «ستكون أفضل رجل في حفل زفافنا. سأكون صديقك. ستتمتع بحياة عظيمة يا غوميز. لكنني لن أحدثك عن التفاصيل». «بعض التلميحات عن البورصة؟». أجل، ولم لا. في العام 2000، سيحدث هلع في سوق الأوراق المالية، لكن ستكون هناك ضربة حظٍّ مدهشة، وسيكون غوميز أحد هؤلاء الذين سيصادفهم الحظ. «ألم تسمع عن الإنترنت؟». «كلا». «إنه شيء يتعلق بالكمبيوتر. شبكة واسعة، تغطي العالم ينضم إليها أناس بشكل منتظم، يتواصلون بخطوط الاتصالات عبر أجهزة الكمبيوتر. تشتري أسهم شركات تكنولوجيا. مايكروسوفت، وياهو، وأميركا أون لاين، وأمازون دوت كوم، صن مايكروسيستمز، ونيتسكيب». كان يسجل الملاحظات ورائي. «دوت كوم؟». «لا تقلق بشأنها. اشترها فقط من أي بـي أو». تبسمت، ثم تابعت كلامي: «صفق بيديك إن كنت تعتقد بالحكايا الخرافية». «كنت أعتقد أنك تقطع رأس كل من يُلمِّح بأي شيء عن الحكايا الخرافية هذا المساء؟». «هذه من بيتربان، أيها الأُمي». اعتراني فجأة إحساس بالدوار. لا أريد أن أسبب أي حرج هنا، الآن، لهذا وثبتُ، وقلت له: «اتبعني». ورحت أعدو نحو حمام الرجال. أغلق غوميز الباب خلفي. ورحت أفرغ ما في داخلي، تعرقَ وجهي، تقيأت في المغسلة. قال غوميز: «يا اﷲ. اللعنة، أيتها المكتبة -». لكن، فاتني بقية ما قاله لي، اختفيت ووجدت نفسي في ظلمة حالكة. أحسست بالدوار، لهذا بقيت هناك لفترة من الوقت. مددت يدي حتى وصلت إلى كومة الكتب. سقطت بين أكداس من الكتب في مكتبة نيوبيري. نهضت وسرت مترنحاً حتى وصلت إلى نهاية الدهليز، ورفعت المفتاح الكهربائي، تدفق الضوء في الطابور الذي أقف به، أعماني الضوء. كانت ملابسي، وعربة الكتب التي كنت أضعها في الرفوف، في الدهليز الآخر هناك. ارتديت ملابسي، وضعت الكتب على الرفوف، وفتحت بحذر شديد باب الأمن الذي يفضي إلى أكوام الكتب. لم أكن أدري ما هو الوقت، قد يُقرع جرس الإنذار. ولكن لا، كل شيء على ما كان عليه. ها هي إيزابيل تقوم بإرشاد أحد الزبائن إلى الطرقات المؤدية إلى غرفة المطالعة، ومات يسير وهو يلوح بيده. والشمس ترسل أشعتها بين النوافذ، وعقارب الساعة في غرفة المطالعة تُشير إلى 4:15 لقد مضى عليّ أقل من خمس عشرة دقيقة. رأتني أميليا وأشارت إلى الباب. «سأذهب إلى مقهى ستارباكس. أتأتي معي؟». «كلا، لا أعتقد هذا. شكراً لك». كنت أعاني من ألم فظيع في الرأس. وقفت أمام مكتب روبيرتو وقلت له إنني متوعك. أومأ برأسه متعاطفاً معي، وأومأ إليّ برأسه إلى الهاتف، الذي يأتي منه صوت يتحدث الإيطالية إلى إذني مباشرة. أمسكت برأسي وخرجت. يوم روتيني آخر في أحد مكاتب صبـي المكتبة. يوم الأحد، 15 كانون الأول، 1991 (كلير 20 عاماً) كلير: يوم أحد مشمس وجميل، وأنا في طريق عودتي إلى المنـزل قادمة من شقة هنري. كانت الشوارع متجمدة حيث كان ارتفاع الثلج يبلغ نحو إنشين. كل شيء يلفه البياض الشديد الناصع. وكنت أغني أغنية R-E-S-P-E-C-T! للمغنية أريثا فرانكلين وأنا أنعطف من شارع أديسون متوجهة إلى شارع هوين، الذي يوجد أمامه مرأب لركن السيارات، هذا يوم حظي، ركنت السيارة وتغلبت على الصعوبة في الصعود إلى الرصيف، تركت لنفسي مجالاً لدخول الردهة، كنت لا أزال أدندن، وأحلم بشعور السارق القوي الذي راح يترافق مع شعور حول الحميمية، أن أنهض وأنا على سرير هنري، أن أعود إلى المنـزل عند الصباح، أن أصعد الدرج بخفة، ستكون كاريس في دار العبادة، أريد أن أغتسل، وأقرأ صحيفة النيويورك تايمز. وما إن فتحت بابنا، حتى عرفت أنني لست وحدي. كان غوميز يجلس في الغرفة التي كانت مملوءة بسحب دخان السجائر وستائر نوافذها منسدلة. مع ألوان ورق الجدران الحمراء والأثاث المخملي وكل هذا الدخان، بدا كشقي بولندي أشقر. كان يجلس هناك، ابتعدت متوجهة إلى غرفتي من دون أن أنطق بكلمة واحدة. لا أزال غاضبة منه. «كلير». استدرت: «نعم؟». «أنا آسف. كنت غير مصيب». لم يسبق لي أن سمعت غوميز يعترف بأي شيء لأقل من هو دون بابا روما. كان في صوته إنذار عميق بالشؤم. دخلت غرفة المعيشة ورفعت الستائر. كانت هناك مشكلة في تغلغل أشعة الشمس إلى الداخل بسبب سحب الدخان، لهذا فتحت النافذة على مصراعيها. «لا أفهم كيف تستطيع أن تدخن كل هذا من دون أن تطفئ حساس الدخان». كان غوميز يحمل بطارية ذات تسعة فولت. «سأعيدها قبل أن أغادر». جلست على كنبة طويلة. انتظرت من غوميز أن يقول لي لماذا غير رأيه. كان يلف سيجارة أخرى. وأخيراً أشعلها، وهو ينظر إليّ. «أمضيت ليلة أمس بصحبة صديقك هنري؟». «وأنا أيضاً». «أجل. ماذا فعلتما؟». «ذهبنا إلى مطعم فاسيتس، وشاهدنا فيلم بيتر غرينواي، في مسرح سينما موروكان، ثم ذهبنا إلى منـزله». «ثم غادرت». «تماماً». «حسناً، أما أمسيتي أنا فكانت أقل ثقافة، لكنها مملوءة بالأحداث. أتيت إلى صديقك ضخم الجثة في الزقاق قرب فيك، وهو يضرب بقوة نيك. أخبرني ترينت هذا الصباح أن نيك قد كُسر أنفه، كما كسرت ثلاثة من أضلعه، وخمس عظام في يديه، وتضررت أنسجته الرخوة، كما أنّ هناك ستاً وأربعين غرزة. ويحتاج إلى طقم من الأسنان في الأمام». تأثرت مما سمعت؛ فنيك شخص خجول. «كان عليك أن تري ما حدث يا كلير. لقد عامل صديقك نيك وكأنه شيء لا حياة فيه. لقد عامل نيك كمنحوتة. شيء أشبه بالعلم. فكر أين ستضعه حتى يكون له هذا التأثير القوي. كنت سأعجب به جداً، لو لم أكن أنا نيك». «ولماذا كان هنري يضرب نيك؟». بدا غوميز غير مرتاح وقال: «يبدو أن الأمر كان بسبب خطأ ارتكبه نيك. هو يحب أن يُضايق... الشاذين، وكان هنري يرتدي ملابس مثل الآنسة موفيت الصغيرة». استطعت أن أتخيل هنري بملابسه. يا لهنري المسكين. «ثم؟». «ثم ذهبنا إلى مطعم آن ساثر لتناول العشاء». انفجرت ضاحكة. تبسم غوميز. «أخبرني القصة الغريبة نفسها التي أخبرتني أنت بها». «ولماذا صدقته إذاً؟». «حسناً، كان غير مبالٍ البتة. وأستطيع أن أقول إنه يعرفني. يعرفني، ويعرف رقمي، ولم يبالِ. ثم - تلاشى، كنت أقف هناك، وأنا على وشك أن... عليّ أن أصدقه». أومأت برأسي، متعاطفة. «الاختفاء شيء مؤثر فعلاً. أتذكر هذا منذ أول مرة رأيته فيها، عندما كنت صغيرة. كان يهز يدي، ثم بف! راح. هاي، من أين أتى؟». «من عام 2000. بدا أنه أكبر قليلاً». «إنه يسافر كثيراً». كان شيئاً جميلاً أن أجلس، وأتحدث عن هنري مع أحد يعرفه. شعرت بشيء من الامتنان لغوميز الذي مال إلى الأمام، وقال بهدوء مخيف: «لا تتزوجيه يا كلير». «لم يطلب يدي، بعد». «أنت تعرفين ما أعنيه». جلست ساكنة، أنظر إلى يديّ اللتين اندستا داخل حضني. كنت باردة وغاضبة. نظرت. نظر إليّ غوميز بقلق. «أحبه. هو حياتي. كنت أنتظره، طوال حياتي، والآن، ها هو ذا». لم أعرف كيف أشرح له. «مع هنري، أستطيع أن أرى النظام في كل شيء، كخريطة، في الماضي والمستقبل، كل شيء بالوقت نفسه، كمخلوق فائق الاستقامة...». هززت رأسي. لا أستطيع أن أفسر هذا بكلمات. «أستطيع الوصول إليه ولمس الزمن... هو يحبني. نحن متزوجان لأننا... نحن جزء من بعضنا...». تلعثمت. «لقد حدث ما حدث في الوقت نفسه». رمقت غوميز بنظرة وكأنني استطعت أن أشرح شيئاً. «كلير، أنا أجده لطيفاً جداً. إنه مدهش. لكنه خطير. كل النساء اللواتي أحبّهن انتهين. لا أريدك أن تقعي في أحضان هذا المريض، المريض العقلي الفاتن...». «ألا ترى معي أنك قد تأخرت؟ أنت تتحدث عن شخص أعرفه منذ أن كنت في السادسة من عمري. أعرفه. قابلته مرتين فقط، وتحاول أن تقول لي أن أقفز من القطار. حسناً، لا أستطيع فعل هذا. لقد رأيت مستقبلي، ولا أستطيع تغييره، ولا أريد حتى لو استطعت». استغرق غوميز في تفكير طويل. «لم يشأ أن يخبرني أي شيء حول مستقبلي». «هنري يهتم لك، ولن يفعل هذا معك». «لكنه أخبرك». «لن يساعد هذا في شيء، فحياتنا متشابكة ببعضها معاً. كانت طفولتي كلها مختلفة بسببه، ولم يكن هناك ما يستطيع فعله. قام بأقصى ما يمكن أن يفعله». سمعت صوت مفتاح كاريس وهو يدور في القفل. «لا تكوني مجنونة يا كلير، أريد مساعدتك فقط». ابتسمت له. «تستطيع أن تساعدنا. وسترى ذلك». دخلت كاريس وهي تسعل. «آه، يا حبيبـي. لقد انتظرتني طويلاً». «كنت أتبادل أطراف الحديث مع كلير. حول هنري». «أنا متأكدة أنك كنت تقول لها كم تحبه». قالت كاريس بلهجة تحذير شابت كلامها. «كنت أخبرها أن تسرع قدر ما تستطيع في الاتجاه المعاكس». «آه، يا غوميز. لا تُصغي إليه يا كلير. فذوقه فظيع بالنسبة إلى الرجال». جلست كاريس على بعد قدم عن غوميز ومدّ يده إليها وضمها إليه. نظرت إليه. «تحب هذا دائماً بعد دار العبادة». «أريد فطوراً». «بالطبع يا حمامتي». نهضا، وخرجا من الصالون إلى المطبخ. وسرعان ما راحت كاريس تطلق ضحكات عالية وغوميز يحاول أن يلكزها بمجلة التايمز. تنهدت ودخلت غرفتي. كانت الشمس لا تزال مشرقة. كان الماء حاراً جداً في الحمام، ورحت أسكب الماء الحار في حوض الاستحمام الكبير وأنا أخلع ملابس الليلة الماضية، وأنا أستلقي في حوض الاستحمام ألقيت نظرة على نفسي في المرآة، بدوت ممتلئة الجسم، لم أشعر بالسعادة بسبب هذا، غطست في الماء أحسست كأنني المحظية أوداليسك(18). هنري يحبني. هنري موجود هنا، أخيراً، والآن، وأخيراً. وأنا أحبه. فركت صدري بيدي، غشاء رقيق من اللعاب طفا على سطح الماء ثم تبدد. لماذا يتعقد كل شيء؟ أليس القسم المعقد هو خلفنا الآن؟ أدخلت شعري إلى الماء شاهدته وهو يطفو على سطح الماء حولي، أسود وأشبه بالشبكة. لم أختر هنري أبداً، كما أنه لم يخترني. إذاً كيف يكون خطأً؟ مرة أخرى أقف أمام واقع لا أعرفه. استلقيت داخل الحوض، أحدق إلى آجرة فوق قدمي، إلى أن صار الماء بارداً تقريباً. قرعت كاريس الباب، سألتني إذا ما مت وأنا في الداخل وهل تستطيع أن تنظف أسنانها؟ وأنا أجفف شعري بالمنشفة رأيت نفسي غير واضحة المعالم في المرآة بسبب بخار الماء، وبدا الزمن كأنه ينطوي على نفسه ورأيت نفسي كأنني أطمر في الأرض كل أيامي وسنواتي الماضية وكل الزمن الذي سيأتي وفجأة شعرت وكأنني أصبحت غير مرئية. ثم ما لبث هذا الإحساس أن تبدد بسرعة كما أتى. وقفت من دون حراك لوهلة ثم شددت مئزر ثوب الحمام الذي أرتديه، وفتحت الباب وخرجت. السبت، 22 كانون الأول، 1991 (هنري 28 عاماً، وهنري 33 عاماً) هنري: عند الساعة 5:25 صباحاً، رن جرس الباب، وهذا دائماً نذير شؤم. سرت مترنحاً نحو الأنتركوم وضغطت على الزر. «نعم؟». «هاي. دعني أدخل». ضغطت على الزر مرة أخرى، وسرعان ما انتقل عبر الأسلاك صوت مرعب يقول أهلاً بك في قلبـي وفي بيتي. وبعد خمس وأربعين ثانية رن جرس المصعد، وبدأ يصعد إلى الأعلى. شددت مئزر ثوبـي، وخرجت ووقفت في الصالون أراقب أسلاك المصعد وهي تتحرك من خلال النافذة الزجاجية الآمنة الصغيرة. أصبح الصندوق على مرأى العين وتوقف، هذا أنا، بكل تأكيد. انسل وهو يفتح باب القفص ويخطو نحو الردهة، عارياً، غير حليق، وبشعر قصير. تجاوزنا بسرعة الردهة الفارغة نحو الشقة. أغلقت الباب، ووقفنا للحظة ونحن ننظر إلى أنفسنا. «حسناً». قلت، فاتحاً مجالاً للحديث. «كيف سار الأمر؟». «بين بين. ما التاريخ؟». «22 كانون الأول، 1991. يوم السبت». «آه، تعرض مسرحية نساء عنيفات على مسرح آرغون هذا المساء؟». «أجل». ضحك. «اللعنة. يا لها من ليلة لانهاية لها». سار نحو السرير - سريري - وصعد إليه، وشد الملاءة إلى رأسه. جلست على الأرض قربه. «مرحباً». لا جواب. «من أين أتيت؟». «13 تشرين الثاني، 1996. كنت سآوي إلى الفراش. دعني أحظى بنوم خفيف لو سمحت، أو أنك ستندم على هذا لمدة خمس سنوات». يبدو هذا معقولاً جداً. خلعت معطفي، وعدت إلى السرير. أنا على الجانب الآخر الخطأ من السرير، وأنا أفكّر في هذه الأيام، لأن شبحي يغتصب جانبـي. كل شيء يبدو مختلفاً من هذا الجانب من السرير. مثلما تُغمض إحدى عينيك، وتنظر إلى شيء نظرة مقربة لفترة قصيرة، ثم تنظر إليه من العين الأخرى. استلقيت هناك وأنا أفعل هذا، أنظر إلى الكرسي ذي الذراعين المبعثرة عليه ثيابـي، على مقربة من قعر كأس الشراب الفرنسي على عتبة النافذة، قفا يدي اليسرى. أظافري بحاجة إلى تقليم والشقة يمكن أن تكون مؤهلة للحصول على تمويل مالي من لاجئي الكوارث الفدرالية. ربما تكون ذاتي الثانية راغبة في البدء في العمل، والمساعدة في المنـزل قليلاً. فكّرت في ما يحتويه البراد من طعام فوجدت أنه يوجد لديّ مخزون جيد. أخطط أن أُحضر كلير إلى المنـزل الليلة ولست متأكداً ماذا أفعل بجسدي الفائض هذا. يبدو لي أن كلير تفضل أن تكون مع هذا الإصدار الأخير لي، فهما يعرفان بعضهما بشكل أفضل. ولسبب أحسست بالذعر والفزع. حاولت أن أتذكر في أن أي شيء سيسقط الآن سيُضاف في ما بعد، ومع ذلك لا أزال أشعر بالاضطراب وتمنيت لو أن واحداً منا يذهب الآن. فكرت في نسختي الثانية. تحرك بطريقة لولبية، مثل القنفذ، مبتعداً عني، من الواضح أنه نائم. حسدته. إنه أنا، لكنني لست هو، استمر في تكوره منتظراً أن يقفز ويعض. طبعاً، مهما كانت السعادة التي سأحصل عليها، فقد حصل عليها، لقد انتظرتني السعادة كصندوق من الشوكولاته السادة. حاولت أن أفكّر فيه بعيني كلير. لماذا الشعر القصير؟ لطالما كنت معجباً دائماً بشعري الأسود، المتموج، والذي يصل بطوله إلى كتفي، هذا هو شعري منذ أن كنت في المدرسة الثانوية. ولكن عاجلاً أو آجلاً، سأقصه. فقدت الرجل الذي تعرفه منذ الطفولة المبكرة. اقتربت من تقديري أنها تتوجه بسر شديد نحو ذاتي الموجودة في بصيرتها. ماذا يمكن أن أكون لولاها؟ ليس ذاك الرجل الذي يتنفس، ببطء، وعمق، على السرير قربـي. عنقه وظهره بفقراته المتموجة، وأضلعه. بشرته ناعمة، وهو ذو شعر كثيف، بعضلات وعظام. بدا متعباً، ونائماً وكأنه سيقفز في أي لحظة ويهرب. هل شعرت بهذا التوتر الكثير؟ أعتقد هذا. تذمرت كلير من أنني لن أرتاح حتى أموت من التعب، لكنني في الواقع غالباً ما أرتاح عندما أكون معها. هذه الذات الأكبر سناً تبدو أكثر نحولاً وأكثر إرهاقاً، وأكثر صلابةً وأمناً واطمئناناً. ولكنه معي يستطيع التباهي. لقد حصل على رقمي كاملاً بحيث أستطيع فقط أن أُذعن إليه، بأفضل حالات اهتمامي. الساعة 7:14 ومن الواضح أنني لن أذهب إلى النوم. نهضت عن السرير، وشغلت آلة صنع القهوة. ارتديت ملابسي الداخلية. أصيبت ركبتاي عند المساء بألم شديد، فربطتهما برباط ضاغط. ارتديت جوربـي وربطت حذاء الجري الذي انتعلته، لربما كانت ركبتاي هما السبب، وأقسمت على أن أشتري غداً حذاءً جديداً. عليّ أن أسأل ضيفتي كيف الطقس في الخارج. آه، حسناً، شهر كانون الأول في شيكاغو؛ الطقس المريع هو الطقس شديد البرودة. ارتديت كنـزة مهرجان شيكاغو السينمائي، وهي عبارة عن قميص أسود، وقميص برتقالي ثقيل واعتمرت قبعة كتب عليها من الأمام أحرف X كبيرة ومن الخلف شريط عاكس. وضعت قفازي، وحملت مفاتيحي وخرجت إلى اليوم. ليس يوماً سيئاً، كما هي العادة في أوائل فصل الشتاء. ثمة ثلج خفيف على الأرض، تتلاعب به الريح، تتقاذفه هنا وهناك. وازدحم السير في ديلوار، مصدراً موسيقى من أصوات المحركات، كان لون السماء رماديّاً، وكان الضوء يدخل ببطء نحو هذا اللون. وضعت مفاتيحي داخل حذائي، ورحت أركض إلى جانب البحيرة. ركضت ببطء نحو الشرق من ديلوار إلى جادة ميتشغان، وعبرت الجسر، ورحت أتهادى قرب ممر الدراجات، متوجهاً إلى الشمال إلى شارع أوك. لم يكن في الخارج سوى العدائين الأقوياء وراكبـي الدراجات. كانت بحيرة ميتشغان ذات لون رمادي داكن وفي حالة جذر، فكشفت عن خطوط بنية داكنة من الرمل. كانت النوارس تحوم فوق رأسي وبعيداً عن النهر. كنت أتحرك بتثاقل، البرد لا يناسب المفاصل، وأدركت ببطء أن الجو البارد في الخارج قرب البحيرة، تقارب درجته العشرين درجة مئوية تحت الصفر. لذا ركضت على نحو أبطأ من المعتاد، أحمي نفسي، وأذكر ركبتي المسكينتين أن عملهما في الحياة هو حملي بعيداً وبسرعة كلما طلبت منهما ذلك. أستطيع أن أحس بالهواء الجاف البارد في رئتي، وبقلبـي الذي ينبض بهدوء، وما إن وصلت إلى جادة نورث أفينو حتى أحسست أنني على خير ما يرام ورحت أسرع. يعني الجري بالنسبة إليّ الكثير من الأشياء؛ كالبقاء، والهدوء، والشعور بالنشاط والخفة، والوحدة. ومن الثابت من وجودي المادي، أن مقدرتي في التحكم بحركتي من خلال المكان إن لم يكن الزمن، إن جسدي يخضع لإرادتي بشكل فوقي كنت أُبدل الهواء، وكانت الأشياء تروح وتأتي من حولي، والممر يتحرك كشريط صور تحت قدمي. أتذكر، عندما كنت طفلاً، قبل ألعاب الفيديو وكاميرات الويب، كيف كنا نضع شريط الصور في العارض الصغير في مكتبة المدرسة ونشاهده، ونحول العقدة التي تتقدم الإطار عند صوت التنبيه. لم أعد أتذكر كيف كانت تبدو، ماذا كانت موضوعات تلك الصور، كل ما أتذكره هو رائحة المكتبة، والأسلوب الذي يطلق فيه الصوت الذي يجعلني أقفز في كل مرة. أنا أطير الآن، المشاعر الذهبية، وكأن في إمكاني الجري نحو الهواء مباشرة، وأنا غير مرئي، لا شيء يستطيع أن يوقفني، لا شيء يستطيع أن يوقفني، لا شيء، لا شيء، لا شيء، لا شيء -. مساء، في نفس اليوم: (هنري 28 وهنري 33 عاماً، كلير 20 عاماً) كلير: نحن في طريقنا لحضور مسرحية نساء عنيفات على مسرح آرغون. وبعد ممانعة من قبل هنري، الذي لم أفهمه لأنه يحب فرقة نساء عنيفات، ذهبنا إلى منطقة أبتاون بحثاً عن مكان لركن السيارة. رحت أبحث هنا وهناك، وتجاوزنا غرين ميل، والمشارب، والمباني ذات الإضاءة الشاحبة والغسالات الكهربائية التي بدت كمنصات مسارح. وأخيراً تمكنت من ركن سيارتي في أرغيل وسرنا ونحن نرتجف من البرد على الأرصفة المملوءة بالزجاج المكسور. كان هنري يسير مسرعاً وأنا كعادتي ألتقط أنفاسي ونحن نسير معاً. لاحظت أنه يحاول جاهداً أن يجاريني في السير، الآن. خلعت قفازي، ووضعت يدي داخل جيب معطفه، وأحاطني بذراعه. كنت فرحة جداً لأنه لم يسبق لنا أنا وهنري أن رقصنا معاً، وأنا أحب آرغون، مع كل فخامته الإسبانية المتعفنة. اعتادت جدتي ميغرام أن تحدثني عن الرقص على أنغام الفرق الموسيقية الكبيرة هنا في الثلاثينيات، عندما كان كل شيء جديداً ومحبباً ولم يكن هناك من يتراشق بالرصاص على الشرفات ولا بحيرات من البول في المراحيض. ولكن، هذه هي الحياة، لقد تغير الزمن، وها نحن هنا. وقفنا في الطابور لدقائق. يبدو على هنري التوتر، كما يبدو متيقظاً. أمسك بيدي، وراح ينظر من فوق الحشد. انتهزت الفرصة لأنظر إليه. كم هو وسيم. شعره يصل إلى كتفيه، وقد سرحه إلى الوراء، لونه أسود. يُشبه القطة، نحيل القوام، ينضح قوة. بدا كأنه سيعض. كان يرتدي معطفاً أسود وقميصاً من القطن بطرفين فرنسيين وضعهما كيفما اتفق داخل كمي معطفه، ويضع ربطة عنق حريرية خضراء حلها من مكانها فاستطعت رؤية عضلات عنقه، ويرتدي أيضاً بنطال جينـز أسود وينتعل حذاء خفيفاً عالياً. جمع هنري شعره وعقده برسغه. كنت سجينته للحظات، ثم تحرك الطابور إلى الأمام فأطلق سراحي. قطعنا التذاكر، واحتشدنا مع الناس الذين كانوا في المبنى. كانت هناك الكثير من القاعات الطويلة في مسرح آرغون، وشرفات تحيط بالقاعة الرئيسة التي كانت مثالية لأن يضيع ويختبئ المرء فيها. صعدت وهنري إلى إحدى الشرفات القريبة من المسرح، وجلسنا إلى طاولة صغيرة. خلعنا معطفينا. وراح هنري يحدق إليّ. «تبدين جميلة. ثوبك رائع، لا أتخيل أنك سترقصين به». كان ثوبـي الذي أرتديه مصنوعاً من الحرير الأزرق الليلكي الرقيق، لكنه كان فضفاضاً لأرقص به. جربت الرقص به ظهر هذا اليوم أمام المرآة فكان رائعاً. ما يقلقني هو شعري، فهواء الشتاء الجاف يجعل شعري كثيفاً وأشعثَ أكثر من المعتاد. رحت أجدله لكن هنري منعني من ذلك. «رجاء لا تجدليه - أريد أن أنظر إليك وهو منسدل على كتفيك». بدأ الفصل الافتتاحي. أصغينا بصبر. كان الجميع يتحركون من دون انتظام، ويتحدثون، ويدخنون. لم تكن هناك مقاعد في الأرضية الرئيسة. كان الضجيج غير عادي. مال نحوي هنري وقال صارخاً: «هل تريدين أن تشربـي شيئاً؟». «كولا فقط». ذهب إلى المشرب. وضعت ذراعي على حافة الشرفة، ورحت أراقب الحشد. كانت هناك فتيات يرتدين الأثواب الكلاسيكية، وفتيات يرتدين ملابس القتال، والشباب يرتدون لباس الهنود الحمر، وشبان بقمصان داخلية. وأناس من كلا الجنسين يرتدون القمصان والجينـز. وشباب الكليات وشباب في العشرين من أعمارهم، مع من هم أكبر سناً يجولون في الأنحاء. غاب هنري لفترة طويلة. انتهت فرقة الإحماء، وتعالت أصوات تصفيق مبعثرة هنا وهناك، وراح بعض الأشخاص على خشبة المسرح يزيلون المعدات ويضعون الكثير من الآلات الموسيقية. سئمت الانتظار، تركت طاولتنا والمعاطف، وتوجهت إلى القاعة المظلمة الطويلة حيث يوجد المشرب. لم يكن هنري هناك. سرت داخل القاعات ببطء، أبحث عنه وأنا أحاول ألا أبدو كمن يبحث عنه. رأيته في نهاية القاعة. يقف قريباً من امرأة ظننت للوهلة الأولى أنهما يتعانقان، كانت تسند ظهرها إلى الجدار، وكان هنري متكئاً أمامها ويده مُسندة إلى الجدار فوق كتفيه. التقطت أنفاسي وأنا أرى حالة الحميمية التي هما عليها. كانت شقراء، وكان جمالها ألمانياً، طويلة القامة ومليئة بالحركة. أنا أقترب منهما، لم أرَهما يتبادلان القبل، بل يتشاجران. كان هنري يستخدم يده الطليقة مؤكداً على شيء كان يقوله بصوت عالٍ لهذه المرأة. فجأة تحول وجهها المؤثر إلى وجه غاضب، وكادت أن تبكي. صرخت به بشيء ما وراء ظهره. فعاد هنري رافعاً كلتا يديه. سمعت آخر شيء قاله وهو يبتعد: «لا أستطيع يا إنغريد، لا أستطيع فقط! أنا آسف -». «هنري!». ركضت نحوه حيث استطاعا رؤيتي، وقفت جامدة من دون حراك في منتصف الردهة. كشر هنري وهو يمسك بذراعي ورحنا نصعد الدرج بهدوء. بعد أن صعدت ثلاث درجات، استدرت فوجدتها تقف، وهي تراقبنا، واضعة ذراعها على خصرها، عاجزة ومتوترة. رمقها هنري بنظرة، واستدرنا نتابع صعود الدرج. وجدنا طاولتنا، التي كانت لا تزال خالية وهذا بمثابة معجزة وكان معطفانا عليها. أخذت الأنوار تتضاءل ورفع هنري صوته أعلى من صوت الحشد. «أنا آسف. لم أذهب إلى أبعد من المشرب، حتى رأيت إنغريد-». من إنغريد؟ فكرت في نفسي وأنا أقف في حمام هنري وأحمل أحمر الشفاه في يدي أردت أن أعرف لكن الظلام حل وراحت فرقة نساء عنيفات تأخذ أماكنها على خشبة المسرح. وقف غوردون غانو أمام الميكرفون يُحدق إلى الجميع، وأعطى الأمر للفرقة الموسيقية الوترية أن تعزف وأمال جسده مقترباً من الميكرفون وراح يُغني أغنية قروح تحت أشعة الشمس. جلست مع هنري لنسمع ثم اقترب مني وصرخ قائلاً: «أتريدين المغادرة؟». كانت ساحة الرقص مكتظة بالراقصين الصاخبين. «بل أريد أن أرقص». بدا على هنري الارتياح. «عظيم! أجل! هيا بنا». حل ربطة عنقه، ووضعها داخل جيب معطفه. هبطنا الدرج، ودخلنا القاعة الرئيسة. رأيت كاريس وغوميز وهما يرقصان معاً. كانت كاريس غير واعية لنفسها وهي ترقص كالمسعورة، أما غوميز فبالكاد كان يتحرك، وسيجارته بين شفتيه. رآني ولوح لي بيده. التحرك داخل الحشد شيء أشبه بالخوض في بحيرة ميتشغان، وغصنا في هذا الطوفان، وصعدنا إلى المنصة. كان الحشد يصرخ هادراً طالباً أغنية Add it up! Add it up! واستجابت الفرقة فهجمت بآلاتها الموسيقية في صخب مجنون. تحرك هنري، وهو يهتز على الإيقاع. كنا خارج السرب قليلاً، وكان الراقصون يصرخون بأعلى أصواتهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان الراقصون يهزون أردافهم، وهم يضربون أذرعهم، ويرقصون على إيقاع الموسيقى. رقصنا. تغلغلت الموسيقى داخلي، تغلغلت داخلي أمواج صوتية أمسكت بـي من عمودي الفقري، حركت قدمي وردفي وكتفي من دون أن أستشير دماغي. (يا لك من فتاة جميلة، أحب ثوبك، ابتسامة طالبة ثانوية، آه أجل، أين هي الآن، أستطيع أن أخمن أين). فتحت عيني فرأيت هنري يراقبني وهو يرقص. عندما رفعت ذراعي أمسك بخصري ورفعني. درت دورة بانورامية على ساحة الرقص لا نهاية لها. كان هناك من يلوح لي بيده لكنني قبل أن أتبين من هو أنـزلني هنري إلى الأرض مرة أخرى. رقصنا ونحن متلامسان، ورقصنا ونحن متباعدان («كيف أفسر ألماً شخصياً؟») كان العرق يبللني. هز هنري رأسه، حجب شعره عني الرؤية وبللني بعرقه. كانت الموسيقى تصدح، وتزأر (ليس لديّ الكثير حتى أعيش لأنه لا يوجد لديّ الكثير لأعيش من أجله، ليس لديّ الكثير لأعيش من أجله). رمينا بأنفسنا في خضم هذا. كان جسدي مرناً، وساقاي خدرتين، وإحساس بالحرارة الساكنة يجري من ساقي المنفرجتين حتى أعلى رأسي. أما شعري فكان متناثراً على ذراعي ورقبتي ووجهي وظهري. اصطدمت الموسيقى بالجدار وتوقفت. كان قلبـي يخفق بشدة. وضعت يدي على صدر هنري وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما وجدت أن قلبه لم يكن ينبض بسرعة. بعد ذلك بقليل، ذهبت إلى حمام السيدات، ورأيت هناك إنغريد تجلس على المغسلة وهي تبكي. وتقف معها امرأة سوداء صغيرة ترتدي ثوباً طويلاً جميلاً أمامها وهي تحادثها بلطف وتداعب شعرها. كان صوت بكاء إنغريد يرتد صداه داخل المنديل الرطب الأصفر. رجعت إلى الوراء لأخرج من الحمام لكن حركتي هذه جذبت انتباههما. نظرتا إليّ. كانت إنغريد في حالة من الفوضى. وراح عنها كل هذا البرد التيوتاني، واحمر وجهها، وسال مكياجها. حدّقت إليّ، ورمشت بعينيها. اقتربت مني المرأة السوداء. كانت جميلة ورقيقة وسوداء وحزينة. وقفت قريبة مني وقالت لي بهدوء: «يا أختي، ما اسمك؟». ترددت وقلت أخيراً: «كلير». نظرت إلى إنغريد. «كلير. اسمعي مني نصيحة. أنت تخلطين الأمور عندما تكونين غير مطلوبة. هنري، خبر سيئ، لكنه الخبر السيئ لإنغريد، وستكونين غبية لتفسدي الأمر معه. أتسمعين ما أقول؟». لم أكن أريد معرفة هذا لكنني لم أستطع منع نفسي فسألت: «عمّ تتحدثين؟». «كانا سيتزوجان. ثم تراجع هنري عن هذه الفكرة، وتأسف لإنغريد، لا يهم، انسي. قلت لها إنها بحال أفضل من دونه، لكنها لم تصغِ إليّ. عاملها بسوء وقسوة، وشربا كأنها المرة الأخيرة، يختفي لأيام ثم يعود كأن شيئاً لم يحدث، ينام مع أي شيء يبقى لفترة كافية. هذا هو هنري. الذي يجعلك تئنين وتصرخين، لا تقولي إن أحداً لم يخبرك بهذا». استدارت بغضب، وعادت إلى حيث إنغريد، التي كانت لا تزال تُحدق إليّ، وتنظر إليّ بيأس لا حدود له. حدقت إليهما، وأنا فاغرة فمي على ما يبدو، وقلت: «أنا آسفة». ثم خرجت مسرعة. تجولت بين القاعات، ووجدت أخيراً شرفة صغيرة خالية إلاّ من فتاة قوطية شابة استلقت على أريكة وسيجارة مشتعلة بين أصابعها. أخذتها منها وسحقتها على الأرض. جلست على ذراع الأريكة، وكانت الموسيقى تهتز من أخمص قدمي وحتى آخر نقطة في عمودي الفقري. أستطيع أن أشعر بها بين أسناني. كنت أريد التبول ورأسي يؤلمني. أردت البكاء. لا أعرف ما الذي حدث. أجل، أفهم ما حدث لكنني لا أعرف ماذا أفعل حياله. لا أعرف إن كان عليّ نسيان ما حدث، أو أن أغضب من هنري وأطالبه بتفسير، أو أي شيء آخر. ماذا أتوقع؟ أتمنى لو أرسل بطاقة بريدية إلى الماضي، إلى هذا الوغد هنري الذي لا أعرفه: لا تفعل شيئاً. انتظرني. كم أتمنى لو أنك هنا. وضع هنري رأسه على الجدار، وقال: «ها أنت ذا. اعتقدت أنني أضعتك». شعره قصير. إما أن هنري قد قص شعره إلى النصف الساعة الماضية أو أنني أنظر إلى شخص أحبه حل مكانه. قفزت إليه، وقلت: «أوو - مرحباً، سعيدة لأنني رأيتك، أنا أيضاًَ...». «اشتقت إليك -». بكيت. «أنت معي منذ أسابيع متواصلة». «أعرف ولكن - أنت لست أنت، أجل - أعني، أنت مختلف. اللعنة». اتكأت على الجدار، وضغط عليّ هنري، تعانقنا، وراح هنري يلعق وجهي كقط حنون. حاولت أن أموء، ضحكت. «أيها اللعين. أنت تحاول أن تشتت انتباهي عن سلوكك السيئ -». «أي سلوك تعنين؟ لم أعرف أنك خرجت. واعدت إنغريد وأنا غير سعيد؟ وانفصلت عنها منذ أقل من أربع وعشرين ساعة. أعني، الخيانة ليست ذات مفعول رجعي، كما تعلمين؟». «قالت -». «من قال؟». «المرأة السوداء». أشرت إلى شعر طويل. «القصيرة ذات العينين الكبيرتين -». «يا اﷲ. هذه سيليا أتلي. إنها تحتقرني. إنها تحب إتغريد». «قالت إنك كنت ستتزوج بإنغريد. وكنت تشرب طوال الوقت، وتعبث هنا وهناك، وإنك رجل سيئ، ويجب أن أهرب منك. هذا ما قالته». تمزق هنري بين المرح والشك. «حسناً، بعض هذا صحيح. كنت أعبث هنا وهناك، كثيراً، وكنت معروفاً أنني أشرب حتى الثمالة، ولم أكن استثنائياً. لكننا لم نكن مرتبطين. لم أكن أبداً لأفقد عقلي وأتزوج بإنغريد. كنا محطمين بائسين معاً». «ولكن لماذا -». «يا كلير، قلة من الناس من يلتقون برفاق أرواحهم في سن السادسة. وعليك أن تمري بهذا الزمن بطريقة ما. وإنغريد كانت صبورة كثيراً. صبورة جداً. مستعدة لأن تتخلى عن السلوك الشاذ، أملاً في أن يأتي يوم أظهر فيه وأتزوجها. ثم عندما يكون لديك من هو صابرٌ هكذا، عليك أن تكوني شاكرة، ثم تريدين أن تؤذيهم. أتفهمين ما سأقول؟». «أتعتقد، أعني، كلا، كلا لا أفهم، لكنني لا أفكر بتلك الطريقة». تنهد هنري. «كم أنت فاتنة بجهلك من المنطق المحرف من معظم العلاقات. ثقي بـي. عندما التقينا كنت منهاراً، وملعوناً، لأنني رأيت أنك إنسانة، وأريد أن أكون إنساناً أنا أيضاً. كنت أحاول أن أقوم بهذا من دون أن تلاحظي ذلك، لأنني لم أتخيل أن كل هذه المظاهر هي من دون جدوى بيننا. لكن الطريق طويل بين الأنا الذي تتعاملين معه في العام 1991، وبين من يتحدث إليك الآن من العام 1996. عليك أن تعملي عليّ، لا أستطيع أن أكون هنا وحدي». «أجل، لكن هذا صعب جداً. لم أعتد أن أكون المعلمة». «حسناً، كلما أحسست بالضعف، فكري في كل تلك الساعات التي أمضيتها، أُمضيها مع ذاتك الرقيقة. رياضيات جديدة وعلم النبات، أحرف الأبجدية والتاريخ الأميركي. أعني، تستطيعين أن تتفوهي بأشياء قذرة إليّ باللغة الفرنسية لأنني أجلس هناك وأدربك عليها». «حقيقة محضة. وأراهن على أنه من السهل تعلم كل هذا حتى تكون سعيداً». «لكنك تجعلينني سعيداً. أن يعيش الإنسان سعيداً فهذا هو الجزء الأصعب». راح هنري يلعب بشعري، ويربطه على شكل عقد. «اسمعيني يا كلير، أنا ذاهب لأعود إليك مع ذلك الأبله المسكين الذي كنت معه. سأجلس في الطابق العلوي، وأنا أحس بالإحباط وأتساءل أين أنت». أدركت أنني نسيت هنري الحاضر، فخجلت من نفسي. أشعر كأنني أمٌ تتوق إلى تقديم العزاء إلى طفل غريب يتحول أمامي إلى رجل، الشخص الذي قبلني وتركني وهو ينصحني أن أكون جميلة. وأنا أصعد الدرج، رأيت هنري من مستقبلي وهو يزج نفسه في خضم الراقصين الصاخبين، وتحركت كأنني أحلم لأجد هنري الذي هو إلى جانبـي والآن. (16) Solidarnosc: وتعني باللغة البولونية: اتحاد العمال البولوني. (17) كتاب ألفه عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي Claude Lévi-Strauss يتحدث فيه حول الثقافات الناضجة وغير الناضجة. (18) Ingres Odalesquev: La Grande Odalisque لوحة فنية ضخمة لسيدة رسمها الفنان Jean-Auguste Dominique Ingres عام 1814 – موجودة في متحف اللوفر. ليلة الميلاد، ثلاثة الثلاثاء، والأربعاء، والخميس، 24، 25، 26 كانون الأول، 1991 (كلير 20 عاماً، هنري 28 عاماً) كلير: الساعة 8:32 صباحاً من يوم الرابع والعشرين من شهر كانون الأول. كنت وهنري متوجهين إلى منـزل ميدولارك من أجل الميلاد. كان يوماً جميلاً صافياً، ولا يوجد ثلج في شيكاغو، بالرغم من أنّ علوّه يبلغ ستة إنشات في ساوث هيفن. قبل أن نغادر، أمضى هنري وقتاً وهو يضع الحقائب في السيارة، ويتأكد من الإطارات، وينظر تحت غطاء محرك السيارة. لا أعتقد أن لديه أدنى فكرة عما ينظر إليه. فسيارتي هي من طراز 1991 هوندا سيفيك، وأحبها، لكن هنري يكره ركوب السيارات، خاصة السيارات الصغيرة. إنه سائق مرعب، يتمسك بالمقود، ويضغط على المكابح طوال فترة سفرنا بالسيارة. إلا أن هذه الأعراض تخف نسبياً عندما لا يكون هو السائق. ولكن، لأسباب واضحة لا يملك هنري رخصة قيادة سيارة. نحن الآن نشق طريقنا في إنديان رود في يوم جميل من أيام الشتاء، أجلس هادئة أتشوق إلى رؤية عائلتي. لن ينفع الأمر في أنه لم يهرب هذا الصباح، فقد تبين لي أن هنري بحاجة إلى كم هائل من النشاط الفيزيائي طوال الوقت حتى يكون سعيداً. يُشبه الأمر التسكع مع كلب صيد. الأمر مختلف كون هنري في الزمن الحقيقي. عندما كبرت كان هنري يأتي ويذهب، وتكثفت لقاءاتنا بشكل مؤثر وغير مستقر. كان في جعبة هنري الكثير من الأشياء التي لم يرد الإفصاح عنها لي، ولم يسمح لي في معظم الأحيان أن أقترب منه، لهذا السبب كان يعتريني ذلك الإحساس بالتوتر وعدم الرضا. وعندما وجدته أخيراً في الزمن الحاضر، اعتقدت أن الأمر سيكون هكذا. لكنه وبطرائق عديدة، كان أفضل بكثير. أولاً وقبل كل شيء، بعد أن كان يرفض لمسي، راح هنري يلمسني باستمرار، ويقبلني، ويقيم علاقة حميمة معي. أحسست كأنني أصبحت شخصاً آخر، شخصاً يستحم في بركة ذات مياه حارة من الرغبة. وأخبرني عن أشياء! عن كل شيء يتعلق به، وبحياته، وبعائلته - أخبرني، عن الأسماء، والأماكن، والتواريخ. أشياء بدت لي غامضة كل الغموض كطفلة ينكشف عنها المنطق الكامل. لكن أفضل شيء على الإطلاق هو أنني أراه لأطول وقت ممكن - ساعات، وأيام. أعرف أين أجده. يذهب إلى العمل، ويأتي إلى المنـزل. وأفتح في بعض الأحيان دفتر العناوين لأنظر إلى سجل الدخول: هنري دي تامبل، 714 ديربورن، 11 شيكاغو، IL60610، 312-431-8313. الاسم الأخير، والعنوان، ورقم الهاتف. أستطيع الاتصال به هاتفياًً. هذه معجزة. أشعر كأنني دوروثي، عندما تهدم منـزلها في أوز، وتحول لون العالم إلى الأسود والأبيض. لم نعد في كينساس. في الواقع، نحن على وشك عبور ميتشغان، وثمة استراحة هناك. توجهت إلى مكان ركن السيارات، خرجنا وريضنا أرجلنا. توجهنا إلى المبنى، فثمة هناك خرائط وكراسات للسياح، وركام هائل من السيارات المباعة. قال هنري: «واو». توجه إلى ركام السيارات، وتفحص كل هذه الخردة، ثم راح يقرأ الكراسات «هايي، لنذهب إلى فرانكنميوث! 365 ليلة ميلاد في السنة! يا اﷲ، سأنتحر على طريقة هارا كيري (19)hara-kiri بعد ساعة واحدة من هذا. هل معك فكة؟». وجدت القليل من الفكة في حقيبتي التي أنفقناها لشراء الحلوى وقطع من غود أند بلينتي، وقطعة هيرشي. ثم عدنا إلى الهواء البارد الجاف، ونحن نمسك بذراعي بعضنا. وفتحنا في السيارة الحلوى، وأكلنا السكر. نظر هنري إلى ساعتي. «اللعنة. إنها فقط 9:15». «آه، في غضون دقيقتين ستصبح 10:15». «آه، صحيح، فالفرق في التوقيت مع ميتشغان ساعة. كم هذا سريالي». نظرت إليه. «كل شيء سريالي. لا أصدق أنك ستقابل عائلتي». «لأنني أحبك وفق أي منطق أفعل هذا. لقد أمضيت الكثير من الوقت وأنا أتجنب رحلات الطرقات، وأن ألتقي عائلات الفتيات، واحتفالات الميلاد. أنا أتحمل كل هذه الأمور الثلاثة مرة واحدة لأثبت لك أنني أحبك». «هنري -». استدرت إليه، تبادلنا القبلات. بدأت القبلة لتتطور إلى شيء أكثر عندما لمحت من طرف عيني ثلاثة أولاد، وكلباً ضخماً يقفون على بعد قدم عنا، يراقبوننا باهتمام. استدار هنري ليرى إلام أنظر إليه ابتسم لنا الأولاد ورفعوا أصابع إبهاماتهم عالياً إلينا. كانوا قد خرجوا من عربة أهلهم. «بالمناسبة كيف هي ترتيبات النوم في منـزلكم؟». «آه يا عزيزي. اتصلت بـي إيتا البارحة من أجل هذا الموضوع. أنا أنام في غرفتي وأنت في الغرفة الزرقاء. نحن على مسافة صالة من بعضنا، وفي ما بيننا أهلي وأليسيا». «وما مدى التزامنا بهذا؟». أدرت محرك السيارة وعدنا إلى الطريق العام. «لا أعرف لأنني لم أفعل هذا سابقاً. أحضر مارك صديقته إلى الطابق الأرضي إلى الغرفة، ووجدناهما مستلقيين على الأريكة في ساعة مبكرة جداً فتظاهرنا أننا لم نرَ شيئاً. إذا جرت الأمور بصعوبة نستطيع الذهاب إلى غرفة المطالعة. التي اعتدت أن أخبئك فيها». «هممم. آه، حسناً». نظر هنري إلى خارج النافذة هنيهة، ثم قال لي: «أتعرفين، هذا أمر سيئ جداً». «ماذا؟». «ركوب السيارة. في السيارة. على الطريق العام». «في المرة التالية سافر عبر الطائرة». «أبداً». «باريس. القاهرة. لندن. كيوتو». «مستحيل. أنا مقتنع أنني قد أسافر عبر الزمن والله يعلم إذا كنت سأستطيع أن أعود إلى شيء يطير بسرعة 350 ميلاً في الساعة. سأنتهي واقعاً من السماء مثل إيكاروس»(20). «حقاً؟». «أنا لا أخطط حتى أتأكد من هذا». «هل تستطيع الذهاب إلى هناك بالسفر عبر الزمن؟». «حسناً. هذه نظريتي. الآن، هذه فقط مجرد نظرية خاصة بالسفر عبر الزمن كما قام بها هنري دي تامبل، وهي ليست نظرية عامة في السفر عبر الزمن». «حسناً». «أولاً، وقبل كل شيء، أعتقد أن هذا يتعلق بالعقل. أعتقد هو شيء يشبه داء الصرع، لأنه ينتهي عندما أكون متوتراً، وهناك دلالات خاصة، كضوء يلمع، يحض على ذلك. وهناك أشياء مثل الجري، والحميمية، والتأمل تساعدني على البقاء في الحاضر. ثانياً، لا أستطيع أبداً التحكم بوعيي في ما يتعلق متى وأين أذهب، وكم سأبقى، أو متى سأعود. لذا تكون رحلات السفر عبر الزمن إلى الريفييرا أمراً غير وارد. بعدما قلت هذا، يبدو لي أن ما وراء وعيي يُجهد نفسه بالتحكم الهائل، لأنني أمضي وقتاً هائلاً لأزورك، وهذا ما أتوق إليه بشكل كبير جداً. أحب الذهاب إلى أماكن كنت موجوداً فيها في الزمن الحقيقي، بالرغم من أنني أجد نفسي في أزمنة وأماكن أخرى، أكثر عشوائية. أحب الذهاب إلى الماضي، بدل المستقبل». «هل ذهبت إلى المستقبل؟ لم أكن أعرف أنك تستطيع فعل هذا». بدا هنري سعيداً بنفسه؟ «حتى تاريخه، نطاقي ضمن خمسين عاماً في كل اتجاه. لكنني نادراً ما أذهب إلى المستقبل، ولا أعتقد أنني رأيت هناك الكثير من الأشياء التي اعتبرتها ذات جدوى. كانت زيارات قصيرة جداً. ربما لم أكن أعرف إلى ماذا كنت أنظر. الماضي هو من له الأفضلية لديّ. ففي الماضي أشعر أنني أكثر قوة. قد يكون المستقبل نفسه أقل عوناً لي؟ لا أعرف. أشعر دائماً أنني أستنشق هواءً خفيفاً، هناك في المستقبل. هذه أحد الأساليب التي أشعر بها أنه المستقبل: ينتابني شعور مختلف. أجد صعوبةً في الجري، هناك». قال هنري هذا بعد تفكير عميق، وفجأة أحسست بشيء من الرعب من أكون في زمن ومكان غريبين، من دون ملابس، ومن دون أصدقاء... «لهذا السبب كانت قدماك -». «أشبه بالجلد». لهذا السبب كانت أخمصا هنري غليظتين، كأنهما تحاولان أن تصبحا حذاءين. «أنا وحش الحوافر. إذا ما حدث أي شيء لقدمي أطلقي النار عليّ». مرت فترة صمت ونحن راكبان السيارة. كان الطريق يرتفع وينخفض، كانت هناك حقول جرداء من الذرة المتناثرة هنا وهناك. ومزارع الفلاحين تغسلها شمس الشتاء، كلٌّ في مقطورة السيارة أو مقطورة الحصان، وسيارات أميركية تقف في طابور على طول الطريق. تنهدت. الذهاب إلى المنـزل عبارة عن تجارب مختلطة بالنسبة إليّ. كم أتوق إلى رؤية أليسيا وإيتا، لكنني قلقة أيضاً حول والدتي، لا أشعر بوالدي وبمارك كما أشعر بوالدتي. لكن الفضول يعتريني لأرى كيف سيعاملان هنري، وكيف سيعاملهما؟ أنا فخورة لأنني أبقيت هنري سراً لفترة طويلة. أربعة عشر عاماً. عندما تكون فتيّاً فأربعة عشر عاماً تعني الدهر بأكمله. مررنا بوال مارت، وديري كوين، وماكدونالد، وبالكثير من حقول الذرة، والبساتين. في الصيف تكون هذه الطريق عبارة عن ممر من الفاكهة، والحبوب، والرأسمالية. أما اليوم فالحقول ميتة، وجافة، والسيارة تسرع في الطريق العام تحت أشعة الشمس في هذا الجو البارد متجاهلين الكثير من أماكن الاستراحة. لم يسبق لي أن فكّرت كثيراً في ساوث هيفن إلى أن انتقلت إلى شيكاغو. كان يبدو منـزلنا دائماً أشبه بجزيرة، وأنت جالس في منطقة تعاونية في الجنوب، محاطاً بالمروج، والغابات، والمزارع. كانت ساوث هيفن عبارة عن بلدة، كما في هيا بنا نذهب إلى البلدة ونشتري المثلجات. كانت البلدة عبارة عن محال بقالة وهاردوير ومخابز ماكينـزي، وموسيقى صحائفية(21) وتسجيلات موسيقية في ميوزيك إمبريوم، المخزن المفضل لدى أليسيا. كنا نقف أمام استديو أبليارد للتصوير نؤلف قصصاً حول الزواج والأطفال والعائلات وهم يبتسمون ببشاعة أمام النافذة. لم نكن نظن أن المكتبة ذات منظر مضحك في عظمتها الإغريقية، كما لم نجد المطبخ ضيقاً، أو أن الأفلام التي تُعرض في سينما ميتشغان هي أفلام أميركية عنيفة وقاسية لا فكر فيها. اعترتني هذه الأفكار في ما بعد، بعد أن أصبحت من سكان المدينة، قلق مغتربة للنأي بنفسها عن الطرائق التي توصلها إلى شبابها. داهمني فجأةً حنين فتاة صغيرة، التي هي أنا، التي كانت تحب الحقول وتؤمن بالله، وتُمضي أيام الشتاء وهي جالسة في المنـزل وقد سئمت من قراءة نانسي دريو وتناول دواء السعال بنكهة النعناع، والتي كانت لا تفشي سراً. اختلست نظرة إلى هنري فرأيته يغط في النوم. ساوث هيفن على بعد خمسين ميلاً. على بعد ستة وعشرين، اثني عشر، ثلاثة، واحد. طريق فونيكس. جادة بلو ستار. ثم، جادة ميغرام. أيقظت هنري لكنه كان مستيقظاً. ابتسم. نظر من النافذة إلى النفق الذي بلا نهاية إلى أشجار الشتاء العارية التي نعبرها، وعندما لاحت البوابة أشرت بيدي وأنا أضع القفاز للبواب الذي فتح لي البوابة حيث مررنا منها. بدا المنـزل أشبه بمنـزل في كتاب. راح هنري يلهث، ويضحك. قلت مدافعة: «ماذا؟». «لم أكن أعرف أنه بهذه الضخامة. كم منـزلاً يوجد في هذا المنـزل الوحش؟». أجبته: «يوجد أربعة وعشرون». لوحت لنا إيتا بيدها من نافذة الصالة وأنا أركن السيارة قرب الباب الأمامي. لقد ازداد الشيب في شعرها عن آخر مرة رأيتها فيها هنا، أما وجهها فصار لونه وردياً من الفرحة. ونحن نترجل من السيارة راحت تشق طريقها فوق الدرجات المتجمدة الأمامية وهي لا ترتدي معطفاً، وكان فستانها الأزرق البحري ذو الطوق الحريري، يتهدل فوق حذائها، هرعت إليها لآخذ بيدها لكنها أبعدتني إلى أن وصلت ثم احتضنتني وعانقتني (شممت في رائحة إيتا روائح مسحوق الوجه) بينما وقف هنري منتظراً. «ومن معنا هنا؟». قالت هذا وكأن هنري طفل صغير أحضرته معي. قدمتهما إلى بعضهما: «إيتا ميلبور، هنري دي تامبل». رأيت «أوه» صغيرة ترتسم على وجه هنري وأنا أقول في نفسي إن هنري يتساءل عمن تكون هذه المرأة. ابتسمت إيتا لهنري ونحن نصعد الدرج. فتحت الباب الأمامي. سألني هنري بصوت منخفض: «وماذا عن أغراضنا؟». فأجبته أن بيتر سيتولى أمرها. سألتها: «أين الجميع؟». فأجابتني أن موعد الغداء هو بعد خمس عشرة دقيقة ونستطيع أن نخلع معطفينا، ونغتسل ثم نأتي إلى طعام الغداء. وغادرتنا ونحن نقف في الصالة واتجهت نحو المطبخ. استدرت، وخلعت معطفي، وعلقته في الخزانة الموجودة في الصالة. عندما استدرت نحو هنري وجدته يلوح لأحدهم. اختلست نظرة من خلفه فرأيت نيل وهي تُدخل وجهها العريض ذا الأنف الأفطس من باب غرفة الطعام، وهي تبتسم ابتسامة عريضة، فهرعت إلى الصالة، وعانقتها بقبلة كبيرة، ابتسمت لي وقالت: «رجل وسيم، فتاة لعوب». وهرعنا إلى الغرفة الأخرى قبل أن يصل إلينا هنري. قال متحزراً: «نيل؟». فأومأت له برأسي. قلت له مفسرة: «هي ليست خجولة، بل مشغولة فقط». قدته إلى ما وراء الدرج إلى غرفة النوم الزرقاء. ألقى نظرة وتبعني إلى الصالة. «هذه هي غرفتي». قلت له. انسل من ورائي ووقف على منتصف السجادة وهو ينظر فقط وعندما استدار نحوي أدركت أنه لم يفهم شيئاً، فلا شيء في الغرفة يعني له شيئاً، وسكين الإدراك تدخل في العمق: كل تلك اللُقى والهدايا في متحف ماضينا عبارة عن رسائل حب لرجل أُمي. حمل هنري عش طائر النمنمة (وهذا هو العش الأول بين أعشاش الطيور التي قدمها إليّ منذ سنوات) وقال لي: «جميل». أومأت له برأسي، وفتحت فمي لأقول له فأعاده إلى الرف وقال: «هل هذا الباب يُقفل؟». أغلقت الباب، وتأخرنا عن موعد الغداء. هنري: كنت هادئاً عندما لحقت بكلير ونـزلنا الدرج، اجتزنا الصالة المظلمة والباردة متوجهين إلى غرفة الطعام. كانوا يتناولون الطعام. كانت الغرفة ذات سقف منخفض ومريحة، مصممة على طراز ويليام موريس. كانت النار المتلألئة في المدفأة الصغيرة تنشر الدفء، أما النوافذ فكانت مغطاة بالصقيع لذا لم أتمكن من رؤية أي شيء خارجها. اتجهت كلير نحو امرأة نحيلة ذات شعر أحمر باهت، لا بد أنها والدتها، والتي رفعت رأسها قليلاً حتى تقبلها كلير، نهضت قليلاً لتسلم عليّ. قدمتها كلير إليّ وهي تقول: «أمي». ودعوتها بالسيدة أبشير فقالت من توها: «أوه، ولكن عليك أن تدعوني لوسيل، كما يفعل الجميع». وابتسمت ابتسامة دافئة، وكأنها شمس ساطعة في مجموعة شمسية. اتخذنا مكانينا أمام المائدة متقابلين. جلست كلير بين مارك وامرأة كبيرة عرفت في ما بعد أنها العمة الكبيرة دولسي، وجلست أنا بين أليسيا وفتاة شقراء جميلة عرفتني بنفسها على أنها تدعى شارون وهي بصحبة مارك. أما والد كلير فكان يجلس على رأس المائدة، وكان انطباعي الأول نحوه هو أن وجودي أزعجه. بدا مارك وسيماً، قاسي الملامح تعوذه رباطة الجأش. لقد شاهداني من قبل. أتساءل بيني وبين نفسي ما الذي كنت أفعله حتى شاهداني، وتذكراني، وتراجعا إلى الوراء عندما قدمتهما كلير إليّ. ولكن فيليب أبشير محامٍ، وهو أستاذ في مهنته، لم تمضِ دقيقة حتى ابتسم المُضيف، والد صديقتي، الرجل الأربعيني الأصلع الذي يضع نظارة، والذي يتمتع بجسم رياضي، صاحب الكرش الصغير، ذو اليدين القويتين، لاعب التنس، ذو العينين الرماديتين اللتين تنظران إليّ بقلق بالرغم من الابتسامة التي توحي بالثقة والتي كنت أرسلها إليه. أما مارك فأمضى وقتاً عصيباً وهو يحاول أن يخفي قرفه، وفي كل مرة كانت تتقابل فيها نظراتنا كان يشيح بناظريه عني وينظر إلى الصحن أمامه. أما أليسيا فليست كما توقعت، فهي لطيفة، لكنها غريبة الأطوار قليلاً، وذاهلة. كان لها نفس شعر فيليب، وهي تُشبه مارك، وملامح لوسيل، تقريباً. تبدو أليسيا وكأن أحداً حاول أن يجمع بين كلير ومارك لكنه لم يتمكن من ذلك فاستسلم ورمى هذا إلى إليانور روزفلت(22) ليملأ الفجوات. قال فيليب شيئاً جعل أليسيا تضحك، وفجأة أصبحت محببة، فاستدرت إليها وقد تفاجأت أنها نهضت عن المائدة. قالت لي: «عليّ الذهاب إلى دار عبادة سان باسيل. هناك تمرين يجب أن أحضره. هل ستأتي إلى دار العبادة؟». ألقيت نظرة على كلير، التي أومأت برأسها بهدوء، فأجبت أليسيا: «طبعاً سآتي». وتنهد الجميع - من أجل ماذا؟ - بارتياح. أتذكر أن احتفالات الميلاد كانت مجرد أيام عطل مسيحية إضافة إلى تخصيص يومي الشخصي للتكفير فيه عن الذنوب. غادرت أليسيا. تخيلت والدتي وهي تضحك عليّ، ارتفع حاجباها إلى الأعلى عندما رأت ابنها نصف اليهودي وهو يتخلف عن حضور احتفالات الميلاد في غويلاند، وهززت لها بإصبعي. يجب أن تخبريهم، قلت لها. أنك تزوجت رجلاً من أتباع الأسقفية. نظرت إلى طبقي فإذ بـي أرى لحماً، مع الفاصولياء وقليلاً من السلطة. أنا لا أتناول اللحم، وأكره الفاصولياء. قال فيليب: «قالت لنا كلير إنك أمين مكتبة». وأكدت له صحة ذلك. تجاذبنا أطراف حديث مقتضب حول نيوبيري، وحول الأشخاص الذين هم أمناء مكتبة نيوبيري، وحول زبائن شركة فيليب، التي مركزها شيكاغو، لم أعرف لماذا اختارت عائلة كلير أن تعيش في ميتشغان. قالت لي: «منازل الصيف». وتذكرت أن كلير قالت لي مفسرة إن والدها مختص بالوصايا والأمانات. وتصورت الأغنياء الكبار الذين يجلسون مضطجعين على شواطئهم الخاصة، وهم يضعون زيوت الشمس على أجسامهم، ويقررون ألا يضمنوا الصغار في وصياتهم فيلتقطون أجهزة الجوال ويتصلون بفيليب. تذكرت آفي، الذي كان كرسيه في الصف الأول إلى جانب الكرسي الثاني لوالدي في أوركسترا شيكاغو السيمفونية، والذي يملك منـزلاً هنا في الجوار. ذكرت لهم هذا فتنشط الجميع. سألتني لوسيل: «هل تعرفه؟». «بالطبع. كان ووالدي يجلسان إلى جانب بعضهما». «يجلسان قرب بعضهما؟». «حسناً، أنت تعرف. الكمان الأول والثاني». «هل أبوك عازف كمان؟». «أجل». نظرت إلى كلير، التي كانت تحدق إلى والدتها بتعبير لا تحرجوني مرسوم على وجهها. «أكان يعزف في فرقة شيكاغو السيمفونية؟». «أجل». تورد وجه لوسيل، الآن عرفت من أين أتت كلير بهذا الوجه الوردي. «هل تعتقد أنه سيستمع إلى عزف أليسيا إذا أعطيناه شريط تسجيل عليه عزفها؟». تمنيت لو أن أليسيا ماهرة جداً في العزف. فهناك الكثير من الناس الذين يقدمون إلى والدي عزفهم مسجلاً على شريط تسجيل. ثم خطرت لي فكرة جيدة. «ولكن أليسيا تعزف على التشيلو، أليس كذلك؟». «أجل». «هل تبحث عن أستاذ؟». قاطعني فيليب قائلاً: «إنها تدرس مع فران وينرايت في كالامازو». «في إمكاني أن أقدم الشريط إلى يوشي أكاوا. وهو أحد تلاميذه الذي ترك عمله ليعمل في باريس». ويوشي هذا شاب عظيم، وعازف التشيلو الأول. وأعرف أنه على الأقل سيستمع إلى الشريط، أما والدي، الذي لا يُدَرس، فسيرميه جانباً. لوسيل عاطفية جداً، وحتى فيليب يبدو سعيداً. بدت على كلير معالم الارتياح. فيما مارك يأكل. والعمة العظيمة دولسي، ذات الشعر الوردي ونحيلة الجسم، ذاهلة عن كل هذه المقايضة. ربما هي صماء؟ ألقيت نظرة على شارون، التي تجلس إلى يساري، والتي لم تنبس ببنت شفة. بدت بائسة. وفيليب ولوسيل يتناقشان حول أي شريط يمكن أن يعطياه إليّ، أليس على أليسيا أن تعد واحداً آخر؟ سألت شارون إذا ما كانت هذه هي المرة الأولى التي تأتي فيها إلى هنا، فأومأت. كنت على وشك أن أسألها سؤالاً آخر سألني فيليب ماذا تفعل والدتي فرمشت بعيني، نظرت إلى كلير كأنني أقول لها فيها: ألم تخبريهم شيئاً؟ «كانت والدتي مغنية. وهي متوفية الآن». قالت كلير، بهدوء: «والدة هنري هي أنيت لين روبينسون». أشرق وجه فيليب، وارتعشت يدا لوسيل. «غير معقول - رائع! لدينا كل تسجيلاتها -». ثم قالت لوسيل: «التقيتها عندما كنت صغيرة. اصطحبني والدي لأسمع السيدة الفراشة، وعرفت أن أحدهم أخذنا إلى خلف الستار بعد ذلك، ذهبنا إلى غرفة تغيير الملابس، وكانت هناك، وكل تلك الورود الجميلة! كان معها طفلها الصغير أكنت أنت؟». أومأت برأسي، حاولت أن أبحث عن صوتي، قالت كلير: «كيف كانت تبدو؟». قال مارك: «هل سنذهب إلى التزلج بعد الظهر؟». أومأ فيليب برأسه. ابتسمت لوسيل، نسيت ما ستقول. «كانت آية في الجمال، كانت لا تزال تضع قبعة الشعر الطويل الأسود، كانت تُزعج بها الطفل الصغير، تدغدغه، وهو يرقص. كانت يداها جميلتين، وذات قد ممشوق، نحيلة القوام، وكانت يهودية، كما تعرف، لكنني أعتقد أنها أكثر منها إيطالية -». توقفت لوسيل عن الكلام فجأةً وطارت يدها إلى فمها، ورمت صحني بنظرة من عينيها، الذي كان نظيفاً باستثناء القليل من الفاصولياء. سألني مارك وهو مسرور: «هل أنت يهودي؟». «أعتقد أن في إمكاني أن أكون يهودياً إذا أردت ذلك، ولكن لم يقرر أحد هذا. توفيت أمي وأنا في السادسة من عمري، أما والدي فهو بروتستانتي سابق». قالت لوسيل متطوعة: «تبدو مثلها تماماً». فشكرتها. رفعت إيتا أطباقنا، وسألت شارون وسألتني إذا كنا نريد احتساء القهوة. أجبناها بنعم في الوقت نفسه، فضحك كل أفراد عائلة كلير. ابتسمت ابتسامة حنون ولم تمضِ دقائق حتى وضعت أمامنا فنجانين ساخنين من القهوة التي أعتقد أنها لم تكن سيئة، أبداً. تحدث الجميع عن التزلج، وعن الطقس، فوقفنا جميعنا، ودخل مارك وفيليب إلى الغرفة معاً، وسألت كلير إذا ما كانت تريد الذهاب إلى التزلج، فهزت كتفيها من دون مبالاة، وسألتني إذا كنت أريد الذهاب فقلت لها إنني لا أعرف التزلج وليست لديّ رغبة في تعلمه. فقررت أن تذهب على كل حال بعد أن قالت لوسيل إنها بحاجة إلى من يُساعدها في عقد رباط حذائها. سمعت مارك ونحن نصعد الدرج يقول: «- تشابه غير معقول -». فابتسمت بيني وبين نفسي. وفي ما بعد، وبعد أن غادر الجميع وهدأ المنـزل، تجرأت على الخروج من غرفتي الباردة بحثاً عن الدفء والمزيد من القهوة. عبرت غرفة الطعام إلى المطبخ، فوقفت وجهاً لوجه أمام مجموعة مدهشة من الأواني الزجاجية، والفضية، والكعك، والخضروات المقشرة، والخبز المحمص في المطبخ الذي يبدو كشيء رأيته في مطعم أربع نجوم. ووسط كل هذا تقف نيل مديرة ظهرها إليّ، وهي تُغني: رودولف ريندير ذو الأنف الأحمر وهي تهز ردفيها الضخمين، وتلوح بيدها إلى طفلة سوداء تُشير إليّ بصمت. استدارت نيل وابتسمت ابتسامة بانت منها أسنانها الضخمة ثم قالت: «ما الذي تفعله في مطبخي. أيها السيد الصديق؟». «أتساءل إن كانت هناك بقية من القهوة لديك؟». «بقية؟ ماذا تعتقد. لقد أبقيت القهوة تغلي طوال اليوم؟ شوو(23)، يا بني اخرج من هنا، واجلس في غرفة المعيشة، واقرع الجرس لأصنع لك قهوة طازجة. ألم تعلمك والدتك شيئاً حول القهوة؟». قلت لها: «في الحقيقة، لم تكن والدتي طباخة ماهرة». وأنا أغامر في الاقتراب من منتصف المطبخ. كانت تفوح منه رائحة شيء ما رائع. «ماذا تصنعين؟». قالت نيل: «ما تشم رائحته هو ديك حبش تومبسون». فتحت باب الفرن لتريني ديك الحبش الضخم الذي يُشبه شيئاً موجوداً في حريق شيكاغو الهائل. كان أسود بالكامل. «لا تكن متردداً أيها الصبـي. فَتحتَ هذا الغلاف يوجد أفضل ديك حبش موجود على كوكب الأرض». أردت تصديقها، فالرائحة مدهشة. سألتها: «وما حبش تومبسون هذا؟». وراحت نيل تتحدث عن ديك حبش تومبسون، اخترعه مورتون تومبسون، الصحافي، في الثلاثينيات. ومن الواضح أن إنتاج مثل هذا الوحش الضخم يتضمن مقداراً كبيراً من الطعام، والعلف، والرعي. سمحت لي نيل بالبقاء في مطبخها وهي تصنع القهوة وأخرجت الديك من الفرن، ووضعته على ظهره، ثم قامت ببراعة بسكب صلصة عصير التفاح عليه قبل أن تدفع به إلى الفرن مجدداً. كان هناك اثنا عشر سرطاناً بحرياً يزحف داخل حوض مائي بلاستيكي كبير قرب المغسلة. «حيوانات أليفة؟». أزعجتها فأجابتني: «هذا طعام عشاء الميلاد، يا بني، أتريد واحداً منها؟ أنت لست نباتياً، أليس كذلك؟». أكدت لها أنني لست نباتياً، وأنني فتى طيب يأكل كل ما يُوضع أمامه. قالت نيل: «لن تعرف هذا أبداً، أنت نحيل جداً، سأطعمك». «لهذا السبب أحضرتني كلير إلى هنا». قالت نيل بسعادة: «همم، حسناً، إذاً. سأنصرف حتى أدخل إلى هنا». أخذت فنجان القهوة الكبير، وخرجت إلى غرفة المعيشة، حيث توجد فيها شجرة ميلاد ضخمة وموقد. كانت تُشبه إعلاناً لـهدايا بوتيري بارن. وجدت لي مكاناً على كرسي برتقالي اللون قرب الموقد، وكنت أقلب في الصحف عندما قال أحدهم: «من أين حصلت على القهوة؟». فنظرت إلى شارون، وهي تجلس أمامي على كرسي أزرق بذراعين يتناسب تماماً مع كنـزتها. قلت لها: «مرحباً، أنا آسف -». قالت شارون «لا عليك». «ذهبت إلى المطبخ، لكنني أعتقد أنه ينبغي علينا أن نستخدم الجرس، أينما كان». فحصنا الغرفة، وتأكدنا مما لا يدعو إلى الشك، أنه يوجد جرس في الزاوية. قالت شارون: «هذا غريب جداً، نحن هنا منذ ليلة أمس، وكنت أتجول في الأنحاء، خائفة من استخدام الشوكة الخطأ أو شيء...». «من أين أنت؟». قالت ضاحكةً: «من فلوريدا. لم أمضِ ميلاداً أبيض إلى أن ذهبت إلى هارفارد. يملك والدي محطة بنـزين في جاكسونفيل. تصورت أنني بعد المدرسة سأعود إلى هناك، لأنني لا أحب البرد، ويبدو أنني علقت هنا». «كيف ذلك؟». استغربت شارون، وقالت: «ألم يخبروك. أنا ومارك سنتزوج». تساءلت بيني وبين نفسي إذا كانت كلير تعرف هذا، ولكن لا بد من أن يذكره أحدهم. ثم لاحظت خاتم الألماس الذي في إصبع شارون: «مبروك». «أعتقد. أعني. شكراً لك». «هم، ألست متأكدة؟ حول زواجك؟». بدت شارون كأنها ستبكي، كانت هناك تنفخات حول عينيها. «حسناً، أنا حامل. لهذا...». «حسناً، هذا لا يعني أنه سيتبعه -». «بل يتبعه. إذا كنت كاثوليكياً». تنهدت شارون، وغاصت في كرسيها. أنا أعرف فعلاً العديد من الفتيات الكاثوليكيات اللواتي أجرين عمليات إجهاض ولم يقعن في هذا الحظ السعيد، وبدا واضحاً أن شارون كانت أقل تكيفاً مع المعتقدات الكاثوليكية. «حسناً، مبروك. متى...؟». «منذ الحادي عشر من شهر كانون الثاني». لاحظت اندهاشي ثم قالت: «آه، الطفل؟ في نيسان». وقطبت حاجبيها: «أتمنى أن ينتهي الأمر في عطلة الربيع، وإلا فإنني لا أعرف كيف سا - هذا الأمر ليس مشكلة الآن...». «ما الأهم بالنسبة إليك؟». «كلية الطب. أهلي غاضبون جداً. فهم يعتمدون عليّ من أجل الإجهاض». «ألا يحبون مارك؟». «لم يلتقوا مارك أبداً، هذا لا يهم، فهم خائفون ألاّ أدخل جامعة الطب لأن هذا سيكون خسارة كبيرة». فُتح الباب الأمامي وعاد المتزلجون. وهبت علينا نسمة هواء باردة قوية وجدت طريقها إلى غرفة المعيشة. بدا الأمر جميلاً، وأدركت أنني متجهم مثل ديك نيل قرب النار هنا. سألت شارون: «في أي وقت يتم تقديم طعام العشاء؟». «عند الساعة السابعة، ولكن ليلة أمس تناولنا أولاً الشراب. وأخبر مارك والدته ووالده، فلم يحيطاني فعلاً بأذرعهما. أعني، إنهما كانا لطيفين، كما تعرف، كيف يمكن للناس أن يكونوا لطفاء ووضيعين في الوقت نفسه؟ أعني، تظن أنني حامل ولا علاقة لمارك بهذا -». شعرت بالسعادة عندما دخلت كلير. كانت تعتمر قبعة خضراء مستدقة مضحكة مع منديل كبير متدلٍّ منها، وكنـزة تزلج صفراء بشعة فوق بنطال جينـز أزرق. كانت متوردة من البرد والابتسام. كان شعرها رطباً، ورأيت حماستها وهي تعبر السجادة العجمية الهائلة بقدميها نحوي، إنها تنتمي إلى هنا، لم تنحرف عن مسار العائلة، بل اختارت نوعاً آخر من الحياة، وهذا ما أسعدني. وقفت فأحاطتني بذراعيها ثم سرعان ما استدارت إلى شارون وقالت: «لقد سمعت الخبر لتوي! مبروك!». وعانقت شارون، التي نظرت إليّ من فوق كتف كلير، وبالرغم من نفورها إلا أنها ابتسمت. وقالت لي شارون في ما بعد: «أعتقد أنك نلت ألطف فتاة». هززت رأسي، وعرفت ما كانت تعنيه. كلير: لم يتبقَ سوى ساعة واحدة حتى يحين موعد العشاء، ولن يلاحظ أحد إذا ما رحلنا. قلت لهنري: «هيا بنا نخرج». تجهم وجه هنري. «أيجب علينا؟». «أريد أن أريك شيئاً». ارتدينا معطفينا، وانتعلنا حذاءينا، واعتمرنا قبعتينا، ووضعنا قفازينا، وتسللنا من المنـزل، وخرجنا من الباب الخلفي. كانت السماء صافية بلونها الأزرق اللازوردي، وكان الثلج الذي يغطي المرجة يعكس أضواء السماء فيتلاقى الأزرقان في الخط المظلم من الأشجار التي هي بداية الغابة. الوقت مبكر جداً للنجوم ولكن ثمة طائرة تومض بأنوارها عبر الفضاء. تخيلت منـزلنا كنقطة متناهية الصغر من النور تشاهد من طائرة، كنجمة. «مِن هذا الطريق». كان الممر إلى المرجة يقع تحت ستة إنشات من الثلج. فكرت في كل الأوقات التي كنت فيها أضرب بأصابع قدمي الحافيتين حتى لا يراها أحد وأنا أجري على الممر نحو المنـزل. هناك آثار حوافر لغزال الآن، وآثار حوافر كلب ضخم. المرجة عبارة عن قصعة ناعمة من الثلج الأزرق، والصخرة عبارة عن جزيرة قمتها كالفطر. قال لي: «هذا هو إذاً». بحثت في وجهه عن أثر المعرفة. لا شيء. سألته: «هل سبق أن كان لديك موعد؟». تنهد هنري، وقال: «حياتي كلها عبارة عن موعد واحد». استدرنا وسرنا فوق آثار أقدامنا، عائدين إلى المنـزل. في ما بعد: كنت قد حذرت هنري من أننا سنرتدي ملابس رسمية في ليلة الميلاد، ولهذا عندما التقيته في الصالة كان متأنقاً في بذلته السوداء، والقميص الأبيض، وربطة العنق خمرية اللون ودبوس ربطة عنق من اللؤلؤ. قلت: «يا اﷲ. لقد لمعت حذاءك». قال معترفاً: «أجل، مؤسف، أليس كذلك؟». «تبدو رائعاً، تبدو شاباً وسيماً». «في الواقع، أنا أمين مكتبة رديء. أما والداي، فحذاري». «سيحبونك». «أعشقك. هيا بنا». وقفتُ وهنري أمام مرآة بالطول الكامل على قمة الدرج، ونحن معجبان بنفسينا. كنت أرتدي ثوباً، من دون طوق، من الحرير الأخضر الفاتح كان لجدتي. لديّ صورة لها وهي ترتديه في ليلة رأس السنة في نيويورك عام 1941. كانت تضحك. شفتاها داكنتان من أحمر الشفاه وهي تحمل بيدها سيجارةً. والرجل الموجود معها في الصورة هو أخوها تيدي، الذي قُتل في فرنسا بعد ستة أشهر من تاريخ هذه الصورة. كان يضحك هو الآخر أيضاً. وضع هنري يده على خصري، وعبّر عن دهشته لكل ما هو موجود تحت الحرير. أخبرته عن جدتي. «كانت أصغر مني. يؤلمني الفستان عندما أجلس، نهايات الأشياء المعدنية تخز ردفي». قبّل هنري عنقي وعندما سمعنا صوت سعال أحدهم ابتعدنا. وقف مارك مع شارون أمام باب غرفة مارك، حيث وافق أبـي وأمي أن عدم اشتراكهما في غرفة واحدة أمر لا جدوى منه. قال مارك بصوته المدرسي المزعج: «لا شيء من هذا، الآن، ألم تتعلمي أي شيء من المثال المؤلم لمن هم أكبر منك سناً، الصبيان والبنات؟». أجاب هنري: «أجل، كن مستعداً». وربّت على جيب بنطاله بابتسامة، وهبطنا الدرج وشارون تقهقه. كان الجميع قد تناولوا القليل من الشراب عندما وصلنا إلى غرفة المعيشة. أشارت إلينا أليسيا بيدها الإشارة الخاصة بنا، انتبهي إلى أمك، فهي منـزعجة. كانت والدتي تجلس على الأريكة وهي تبدو ضعيفة، وكان شعرها مرفوعاً إلى الأعلى على شكل كعكة، وتضع طقم اللؤلؤ خاصتها وترتدي ثوبها المخملي بلون الدراق ذا الكمين المعقودين بشريطتين. بدت سعيدة عندما نهض مارك، وجلس إلى جانبها، وضحكت عندما ألقى عليها بعض النكات، وتساءلت للحظة إذا كانت أليسيا غير مصيبة. ثم كيف كان والدي يُراقب والدتي وأدركتُ أنها لا بد من أن تكون قد قالت شيئاً فظيعاً له قبل أن تدخل إلى هنا. وقف والدي قرب عربة الشراب، ثم استدار نحوي، مرتاحاً، وصب لي الكولا، وقدم إلى مارك شراب الشعير وكأساً. وسأل شارون وهنري ماذا يريدان أن يشربا. طلبت شارون لا كرواكس. وطلب هنري، بعد أن فكر قليلاً، الشراب الاسكتلندي مع الماء. مزج والدي الشراب بيد ثقيلة، وجحظت عينا والدي لثوانٍ عندما غب هنري الشراب دفعة واحدة. «أترغب في كأس أخرى؟». «لا، شكراً». عرفت الآن أن هنري يود لو يحظى ببساطة بزجاجة وكأس ويستلقي على السرير ومعه كتاب، ولهذا السبب رفض كأساً أخرى، لأنه لن يشعر عندها بوخز الضمير للكأس الثالثة والرابعة. حامت شارون قرب مرفق هنري فانصرفت عنهما، لأجلس قرب العمة دولسي على مقعد قرب النافذة. «آه، يا طفلتي، كم هو جميل؛ لم أرَ هذا الثوب منذ أن ارتدته إليزابيث في الحفلة التي أقامتها عائلة ليتشت في بلانيت أريوم...». انضمت إلينا أليسيا، كانت ترتدي ثوباً بياقة ضيقة ذا فتحة صغيرة يفترق فيه الكمان من الصدار، وتنورة فضية قديمة، وجورباً صوفياً، وتضع حقيبة حول كاحليها كسيدة عجوز. «أعلم أنها تفعل هذا لتستحوذ على إعجاب والدي، وعليها أن تنتظر». سألتها: «ما العيب في أمي؟». هزت أليسيا كتفيها وقالت: «لم تتصرف كما يجب مع شارون». سألتني دولسي مستفسرة: «وما العيب في شارون؟». وهي تقرأ شفاهنا. «تبدو لطيفة. ألطف من مارك، إذا ما سألتني». قلت لدولسي: «إنها حامل، سيتزوجان. تعتقد والدتي أنها تفاهة لأنها أول شخص في عائلتها يدخل الجامعة». نظرت إليّ دولسي نظرة حادة، ورأت أنني أعرف ما تعرف. «لوسيل، من دون العالم كلهم، يجب أن تكون أقل تفهماً لتلك الفتاة الصغيرة». كانت أليسيا على وشك أن تسأل دولسي ما الذي تعنيه بكلامها هذا لولا أن قُرع الجرس ونهضنا، مثل كلب تجربة بافلوف، وتوجهنا بطابور إلى غرفة الطعام، همست لأليسيا: «هل هي ثملة؟». همست لي أليسيا: «أعتقد أنها كانت تشرب في غرفتها قبل العشاء». ضغطت على يد أليسيا وتباطأ هنري في مشيته، ودخلنا كلنا غرفة الطعام، ووجدنا أماكننا، أبـي وأمي في مقدمة المائدة، ودولسي وشارون ومارك إلى جانب واحد ومارك إلى جانب والدته، وأليسيا وهنري وأنا، إلى جانب والدي. كانت الغرفة مليئة بالشموع، والقليل من الزهور تطفو في حوض من الزجاج، وإيتا قد وضعت كل الأواني الفضية والصينية على غطاء جدتي المزخرف الذي أحضرناه من معتزل المقاطعة. باختصار، هذه ليلة الميلاد، تماماً مثل بقية ليالي الميلاد التي أستطيع أن أتذكرها، سوى أن هنري إلى جانبـي يحني رأسه خجلاً، ووالدي يتلو التباريك. ألقيت نظرة على والدتي فكانت في حالة غليان. لن تفهم هذا إذا كنتَ لا تعرف والدتي، إنها هادئة، وهي تحدق إلى طبقها. فُتح باب المطبخ، ودخلت منه إيتا وهي تحمل الحساء، ووضعت قصعة صغيرة أمام كل واحد منا. اختلست نظرة إلى هنري الذي كان يُميل رأسه بهدوء إلى والدتي وهو يرفع حاجبيه، فأومأت إيماءة صغيرة. سألها حول محصول التفاح لهذا العام، وأجابته. ارتحنا أنا وأليسيا قليلاً. كانت شارون تراقبني فغمزت لها بعيني. كان الحساء يتألف من الكستناء والجزر الأبيض، يبدو سيئاً ما لم تتذوق حساء نيل. صاح هنري: «واو». وضحكنا كلنا، وتناولنا الحساء. رفعت إيتا قصع الحساء، وأحضرت نيل ديك الحبش. كان لونه ذهبياً والبخار يتصاعد منه وكان ضخماً، صفقنا لها كلنا بحماسة، كما نفعل كل عام. ابتسمت نيل وقالت: «حسناً، الآن». كما تفعل كل عام. «آه، يا نيل، رائع». قالت والدتي والدموع في عينيها. نظرت نيل إليها نظرة حادة ثم إلى والدي، وقالت: «شكراً لك يا سيدة لوسيل». وقدّمت إلينا إيتا الجزر المحشي، والبطاطا المسحوقة، وعصير الليمون، ومررنا الأطباق إلى والدي، الذي وضعها مع ديك الحبش. راقبت هنري وهو يتناول أول لقمة من ديك الحبش الذي أعدته نيل، تفاجأ، ثم بدا سعيداً. قال معلناً: «لقد رأيت مستقبلي». أما أنا فقد تجمدت في مكاني. «سأتخلى عن عملي في المكتبة، وآتي لأعيش في مطبخك وأقبل قدمي نيل. أو ربما أتزوجها». قال مارك: «لقد تأخرت كثيراً، فنيل متزوجة». «أوه، حسناً. إذاً سأقبل قدميها. لم يزن كل واحد منكم ثلاثمائة باوند؟». قال والدي، وهو يضرب على كرشه: «أنا أعمل على هذا». «سيصبح وزني ثلاثمائة باوند عندما أصبح كهلاً ولن يكون عليّ أن أجر التشيلو». قالت أليسيا لهنري. «سأعيش في باريس وأتناول الشوكولاته لا شيء سواها، وسأدخن السيجار، وأتعاطى الهيرويين ولا أستمع إلا إلى جيمي هندريكس وذي دورز. حسناً يا والدتي؟». قالت والدتي بغرور: «سأنضم إليك، لكنني أحب الاستماع إلى جوني ماثيس». «إذا كنت ستتعاطين الهيرويين فلن تستطيعي تناول أي شيء آخر». قال هنري لأليسيا، التي نظرت إليه بشك. «جربـي الماريجوانا بدلاً منها». قطب والدي حاجبيه. وقام مارك بتغيير الموضوع: «سمعت في المذياع أنّ الليلة ستُثلج وستصل سماكة الثلج إلى ثمانية إنشات». «ثمانية!». تعجبنا جميعاً. «أحلم بميلاد أبيض...». تجرأت شارون على قول هذا من دون اقتناع. قالت أليسيا مشاكسة: «أتمنى ألا يغمرنا الثلج ونحن في دار العبادة. فبعد الاحتفال الديني يعتريني نعاس شديد». تجاذبنا أطراف الحديث عن العاصفة الثلجية التي عرفناها. تحدثت دولسي عن إصابتها بالرشح والزكام في بيغ بليزارد في العام 1967، في شيكاغو. «كان عليّ أن أترك سيارتي قرب بحيرة ليك شور درايف، وأسير من آدامز حتى بيلمونت». قال هنري: «لقد علقت في أحدها ذات مرة، وكدت أتجمد، وانتهيت في بيت الكاهن في دار العبادة في بريسبيتريان الرابعة في جادة ميتشغان». سأله والدي: «كم كان عمرك عندها؟». تردد هنري ثم أجاب: «ثلاثة أعوام». وألقى عليّ نظرة، وأدرك أنه كان يتحدث عن تجربة مرّ بها وهو يجول عبر الزمن، ثم أردف قائلاً: «كنت مع والدي». كان من الواضح جداً بالنسبة إليّ أنه يكذب، ولكن لم يلاحظ أحد ذلك. دخلت إيتا، ونظفت أطباقنا، ووضعت أطباق الحلوى. وتأخرت نيل قليلاً قبل أن تدخل حاملةً حلوى الدراق التي يتصاعد منها البخار. قال هنري: «يااااه!». وضعت الحلوى أمام والدتي، وحوّل البخار المتصاعد منها لون شعر والدتي الفاتح إلى لون أحمر نحاسي، وللحظة قبل أن ينتهي البخار. فتح والدي زجاجة شراب خفيف (الموضوعة تحت دثار، حتى لا تنطلق الفلينة، وتصيب عين أحدهم). أعطيناه كؤوسنا التي ملأها، وأعادها إلينا مرة أخرى. قطعت والدتي شرائح رقيقة من حلوى الدراق التي قدمتها إيتا إلى كل واحد منا. كانت هناك كأسان إضافيتان، واحدة لإيتا والأخرى لنيل، ووقفنا كلنا نشرب الأنخاب. بدأ والدي: «نخب العائلة». قالت والدتي، وهي تلهث: «نخب نيل وإيتا، اللتين هما من عائلتنا، واللتين تعملان بجد وتعتنيان بمنـزلنا واللتين تتمتعان بالكثير من المواهب». قالت دولسي: «نخب السلام والعدالة». قالت إيتا: «نخب العائلة». قال مارك، وهو يحمس شارون: «نخب البدايات». أجابته: «نخب الحظ». وحان دوري. نظرت إلى هنري. «نخب السعادة. من هنا والآن». أجاب هنري مرتبكاً: «نخب عالم وزمن كافيين». أحسست أن قلبـي يقفز من مكانه، وتساءلت في نفسي كيف يعرف، ثم أدركت أن الشاعر مارفيل هو أحد شعرائه المفضلين وهو لا يُشير إلى أي شيء سوى إلى المستقبل. «نخب الثلج، ووالدتي، ووالدي، والأوتار، والسكر، وملابس وأحذية كونفرس هاي توبس الأحمر الجديد». قالت أليسيا، فضحكنا كلنا. قالت نيل، وهي تنظر إليّ، وتبتسم ابتسامة عريضة: «نخب الحب، ونخب مورتون تومبسون، مخترع أفضل ديك حبش على وجه الأرض». هنري: كانت مشاعر لوسيل طوال فترة العشاء تتراوح بين الحزن، والغبطة، واليأس. كانت عائلتها بأسرها تراعي مزاجها هذا، وتقودها إلى أرض محايدة مرات ومرات، تخفف عنها، وتحميها. ولكن، وبينما نحن نجلس ونباشر بتناول الحلوى، انهارت وراحت تبكي بصمت، اهتزت كتفاها، وأشاحت بوجهها، وكأنها تريد أن تثنيه تحت جناحها كطائر ينام. كنت في البداية أول شخص لاحظ هذا، وجلست، مرتعباً، لا أدري ماذا أفعل. ثم رآها فيليب، وساد المائدة الصمت. وقف إلى جانبها. همس لها: «لوسي؟ ما الأمر يا لوسي؟». هرعت كلير إليها، وهي تقول: «تعالي يا والدتي، لا بأس عليك، يا والدتي...». كانت لوسي تهز رأسها، كلا، كلا، كلا، ثم لوت يديها. تراجع فيليب، وقالت كلير: «صه». وتحدثت لوسيل على عجل، ولكن بشكل غير واضح: ثم سمعت «خطأ». ثم «يضيع فرصه». وأخيراً: «أنا مهملة فعلاً في هذه العائلة». و«نفاق». ثم صوت بكاء. ولدهشتي كانت العمة الكبرى دولسي هي من اخترق هذا السكون الرهيب. «يا صغيرتي لوسيل، إن كان يوجد أحد هنا منافق فهو أنت. لقد فعلت نفس الشيء ولا أرى أن هذا قد دمر فرص فيليب أبداً. وإذا ما سألتني سأقول لك إنه قد حسّن منها». توقفت لوسيل عن البكاء، ونظرت إلى العمة، التي صمتت مندهشة. نظر مارك إلى والده، الذي أومأ برأسه، مرة، ثم إلى شارون، التي ابتسمت وكأنها ربحت في لعبة اليانصيب. نظرت إلى كلير، التي لم يبدُ عليها الاندهاش، وتساءلت في نفسي كيف عرفت أن مارك لم يفعل هذا، كما تساءلت ماذا تعرف أيضاً ولا تذكره، ثم تراءى لي أن كلير تعرف كل شيء، مستقبلنا، وماضينا، وكل شيء، وأنا أرتعش في الغرفة الدافئة. أحضرت إيتا القهوة. ولم نتوانَ عن احتسائها. كلير: وضعت وإيتا والدتي في الفراش. فراحت تعتذر، كما تفعل دائماً، وتحاول أن تقنعنا أنها بصحة جيدة، وتستطيع أن تذهب إلى الاحتفال الديني، ولكننا أخيراً وضعناها على السرير وما لبثت أن غطت في النوم. قالت إيتا إنها ستبقى في المنـزل في حال استيقظت والدتي، وقلت لها ألا تكون سخيفة، بل أنا من سيبقى، لكن إيتا تمسكت برأيها، فتركتها جالسة قرب السرير. نـزلت الدرج إلى الصالة، واختلست نظرة إلى غرفة هنري، كانت مظلمة. عندما فتحت الباب، وجدت هنري مستلقياً على سريري وهو يقرأ رواية تجعد في وجه الزمن(24). أغلقت الباب، واستلقيت إلى جانبه. سألني وأنا أستلقي قربه، وأحاول ألا يوخزني ثوبـي: «ما خطب أمك؟». «مصابة باكتئاب شديد». «أتصاب دائماً بهذا الاكتئاب؟». «كانت أفضل عندما كنت صغيرة. فقدت طفلها، عندما كنت في السابعة من عمري، وهذا ما جعل حالتها تزدادُ سوءاً. حاولت قتل نفسها. وجدتها». تذكرت الدماء المتناثرة في كل مكان، وصنبور الحمام الملطخ بالدماء، والملاءات المتشربة به. «صرخت طلباً للمساعدة، ولكن لم يكن هناك أحد في المنـزل». لم يقل هنري شيئاً، أدرت رأسي، فرأيته ينظر إلى السقف. قال أخيراً: «كلير». «ماذا؟». «لماذا لم تخبريني بذلك؟ أعني، هناك الكثير عن عائلتك لم يكن من الجيد أن أعرفه مُسبقاً». قلت له: «ولكنك عرفت...». لم يعرف. كيف له أن يعرف؟ «أنا آسفة. هذا مجرد - أخبرتك عندما حدث هذا، ونسيت أن الآن هو قبل، فاعتقدت أنك تعرف كل هذا...». توقف هنري عن الكلام لحظة، ثم قال: «حسناً، أنا تقريباً أفرغت الحقيبة، في ما يتعلق بعائلتي». «لكنك لم تقدمني إليه». كنت أتوق إلى الالتقاء بوالد هنري، لكنني كنت أخاف من أن أقول ذلك. «كلا. لم أقدمك إليه». «هل ستفعل ذلك؟». «أجل». «متى؟». توقعت من هنري أن يخبرني أنني أدفع بحظي إلى الأمام، كما اعتاد عندما أطرح عليه الكثير من الأسئلة، ولكن بدلاً من ذلك نهض، وأنـزل ساقيه عن السرير، وراح يؤرجحهما. كان ظهر قميصه متجعداً. «لا أعرف يا كلير. أعتقد عندما أكون مستعداً لتحمل هذا». سمعت أصوات وقع أقدام، توقفت خارج الباب، ومقبض الباب يتحرك جيئة وذهاباً. قال والدي: «كلير، لم الباب مقفل؟». نهضت وفتحت الباب. فتح والدي فمه عندما رأى هنري. أومأ إليّ برأسه أن ألحق به إلى الصالة. «تعرفين يا كلير أنني وأمك لا نوافق على أن تدعي صديقك إلى غرفة نومك». قال بهدوء، ثم أردف: «هناك الكثير من الغرف في هذا المنـزل -». «كنا نتحدث فقط». «تستطيعان أن تتحدثا في غرفة المعيشة». «كنت أخبره عن والدتي، ولم أرد أن أتحدث عن هذا الموضوع في غرفة المعيشة، حسناً؟». «يا عزيزتي، لا أعتقد أنه من الضرورة بمكان أن تخبريه عن والدتك -». «بعد هذا الأداء الذي قدمته، ما الذي كان عليّ أن أفعله؟ يستطيع هنري أن يفهم بنفسه أنها مجنونة، هو ليس غبياً -». ارتفع صوتي وفي أثناء ذلك، فتحت أليسيا الباب، ووضعت إصبعها على شفتيها. قال والدي بقسوة: «أمك ليست مجنونة». قالت أليسيا مؤكدة، وهي تنضم إلى هذا الشجار الدائر: «بلى». «لا شأن لك بهذا -». «بلى». «أليسيا!». احمر وجه والدي، وجحظت عيناه، وارتفع صوته. فتحت إيتا باب والدتي، ونظرت إلينا نحن الثلاثة ساخطةً. قالت هامسة: «اذهبوا إلى الصالة، إن كنتم تريدون الصراخ». وأغلقت الباب. نظرنا إلى بعضنا بخجل. قلت لوالدي: «في ما بعد، اجعل وقتي وقتاً عصيباً غداً». كان هنري طوال هذا الوقت يجلس متظاهراً أنه غير موجود. «هيا بنا يا هنري، لنجلس في غرفة أخرى». أطاعني هنري كطفل صغير مؤدب تلقى للتو توبيخاً، وقف وتبعني إلى الصالة في الأسفل. ولحقت بنا أليسيا. وفي أسفل الدرج، نظرت، ورأيت والدي ينظر إلينا عاجزاً. استدار وسار نحو باب غرفة والدتي، وقرع الباب. قالت أليسيا، وهي تنظر إلى ساعتها: «هاي، لنشاهد فيلم يا لها من حياة رائعة سيعرض على القناة 60 بعد خمس دقائق». «مرة أخرى؟ ألم تشاهديه، نحو مائتي مرة؟». كان لدى أليسيا حب لجيمس ستيوارت. قال هنري: «لم أرَه قط». صُدمت أليسيا وقالت: «أبداً؟ كيف ذلك؟». «ليس عندي جهاز تلفاز». صُدمت أليسيا هذه المرة بحق وسألت: «هل جهازك معطل أم ماذا؟». ضحك هنري. «كلا. بل أكره التلفاز. فهو يُصيبني بالصداع». إنه يجعله يُسافر عبر الزمن. إنه نوعية الصورة المضطربة. خاب ظن أليسيا: «إذاً، فأنت لا تريد مشاهدة الفيلم؟». ألقى نظرة عليّ، أنا لا أُمانع. «بالتأكيد». قلت: «لفترة. لن نرى النهاية، علينا أن نكون جاهزين من أجل الاحتفال الديني». مضينا إلى غرفة التلفاز، التي تقع خارج غرفة المعيشة. شغلت أليسيا جهاز التلفاز. كورس يغني: «كانت أمسية صافية. آه» قالت هازئةً: «انظروا إلى هذه الأثواب البلاستيكية الصفراء السيئة. تبدو مثل معطف مطري». جلست على الأرض بينما جلس هنري على الأريكة. وجلست أنا قربه. منذ أن وصلنا كنت قلقة حول كيفية تصرفي أمام أفراد عائلتي في ما يتعلق بهنري. إلى أي مدى يجب أن أجلس قريبة منه؟ لو لم تكن أليسيا موجودة هنا لكنت جلست على الأريكة، ووضعت رأسي في حضن هنري. حل هنري مشكلتي فجلس قريباً جداً مني حيث أحطته بذراعي. إنها ذراع الوعي الذاتي، نحن لا نجلس أبداً هكذا في أي جو آخر. وطبعاً، لن نشاهد التلفاز معاً. ربما هذا هو سبب طريقة جلوسنا ونحن نشاهد التلفاز. اختفى الكورس، وظهرت الإعلانات التجارية. ماكدونالد، ومتجر لسيارات البويك محلي، وبيلسبيري، وريد لوبستر، وكلها تتمنى لنا ميلاداً مجيداً. نظرت إلى هنري، الذي كانت تعابير وجهه تدل على ذهول شاحب. سألته برفق: «ماذا؟». «السرعة. يقفزون عن القطعات كل ثانيتين، سأمرض». فرك هنري عينيه بأصابعه. «يجب أن أخرج لأقرأ لفترة». نهض وسار خارج الغرفة، لم تمضِ لحظة حتى سمعت وقع قدميه على الدرج. تضرعت بسرعة: يا اﷲ، لا تدع هنري يسافر عبر الزمن، وخاصة في الوقت الذي سنذهب فيه إلى دار العبادة حيث لا أستطيع حينها أن أفسر ما يحدث. بدأت أليسيا تضرب الأريكة بأصابعها مع ظهور المقدمة على الشاشة. قالت معلقةً: «لن يغيب طويلاً؟». «لقد أصابه هذا الصداع السيئ. صداع عندما يُصيبه عليه أن يستلقي في الظلام ولا يتحرك وإذا ما قال أحدهم بووو ينفجر رأسه». «آه». جيمس ستيوارت يقلب مجموعة من كراسات السياحة، ولكن غيابه كان قصيراً لضرورة حضوره حفلة راقصة. «كم هو لطيف». «جيمس ستيوارت؟». «هو أيضاً. عنيت صديقك هنري». ابتسمت ابتسامة عريضة. شعرت بفخر وكأنني أنا من صنعت هنري. «أجل». تبتسم دون ريد لجيمس ستيوارت في غرفة مكتظة بالناس. ها هما الآن يرقصان، وأدار الخصم الند لجيمس ستيوارت المفتاح بحيث جعل أرضية صالة الرقص تنفتح على بركة السباحة. «والدتي تحبه». دونا وجيمس يرقصان وهما يرجعان إلى الوراء إلى بركة السباحة، وسرعان ما لحق بهما الناس المرتدون البذلات الرسمية إلى الماء والفرقة الموسيقية مستمرة في العزف. «وافقت نيل وإيتا، هما أيضاً». «عظيم. والآن علينا أن نمضي الساعات الست والثلاثين القادمة من دون أن نفسد الانطباع الأول الجميل». نظرت إليّ أليسيا بشك، وقالت: «كم سيكون هذا قاسياً؟ ما لم - لا، لن يكون هذا الغبـي... أليس كذلك؟». «بالطبع لا». رددت قائلة: «بالطبع لا، يا اﷲ، لا أستطيع تصديق ذلك يا مارك. يا لك من غبـي». جيمس ودونا يغنيان أيها الدب، ألن تخرج الليلة وهما يسيران في شارع بيدفورد فولز الرائع وهما يرتديان لباس كرة القدم وأثواب الحمام، على التوالي. «كان عليك أن تكون هنا في الأمس. اعتقدت أن والدي أصيب باحتشاء قلبـي أمام شجرة الميلاد. كنت أتخيله وهو ينهار أمامها وتقع الشجرة عليه. وكان على الأطباء أن يزيلوا كل الزينة والهدايا أمامه قبل أن يُجروا له الإنعاش القلبـي الرئوي». يقدّم جيمس إلى دونا القمر، الذي تقبله دونا. «اعتقدت أنك تعلمت الإنعاش القلبـي في الجامعة». «كنت منشغلاً بإنقاذ حياة والدتي يا كلير. كان هناك الكثير من الصراخ». «أكانت شارون هناك؟». ضحكت أليسيا قائلة: «أتمزحين؟ كنت وشارون هنا نحاول أن نتحادث بأدب، كما تعرفين، وكان مارك والأهل في غرفة المعيشة يصرخون على بعضهم. وبعد فترة قصيرة جلسنا هنا وأصغينا السمع». تبادلت وأليسيا النظرات التي تعني ما الجديد؟ كنا قد أمضينا حياتنا ونحن نصغي إلى آبائنا وهم يصرخون، على بعضهم، وعلينا. كنت في بعض الأحيان أشعر كأنني أشاهد والدتي وهي تصرخ قائلة في إحدى المرات سأغادر إلى الأبد ولن أعود. أريد حتى الآن أن أمسك بهنري، وأعود بالسيارة إلى شيكاغو، حيث لا يستطيع أحد هناك أن يصرخ، ولا يستطيع أحد الادعاء أن كل شيء يسير على قدم وساق وألا شيئاً يحدث. رجل غاضب له كرش يرتدي قميصاً داخلياً يصرخ على جيمس ستيوارت كي يتوقف عن الحديث مع دونا ريد حول الموت بل أن يقبّلها. لم أستطع الموافقة، ولكنه لم يقبلها. وقام بدلاً من ذلك بالدوس على ثوبها، وسارت عن غير وعي من دونه، والشيء الثاني كان أن اختبأت عارية في أجمة أشجار الكوبية. إعلان تجاري عن بيتزا هات، وتخفض أليسيا الصوت: «أمم، يا كلير؟». «نعم؟». «هل سبق لهنري أن كان هنا من قبل؟». آه، لا. «كلا، لا أعتقد، لماذا؟». غيرت من جلستها، ونظرت إلى البعيد لثوانٍ، وقالت: «ستعتقدين أنني مجنونة». «ماذا؟». «أترين، لقد حدث معي شيء غريب. منذ زمن طويل... كنت، في الثانية عشرة من عمري، وكان من المفروض أنني أتدرب، ثم تذكرت أنه ليس لديّ قميص نظيف لتجربة الأداء، وكانت إيتا والجميع في الخارج وكان من المفروض أن يكون مارك جالساً مع الطفل ولكنه كان في غرفته يقرع الجرس... على كل حال، نـزلت الدرج، وسمعت هذا الصوت، كصوت الباب في الطرف الجنوبـي في القبو، المؤدي إلى الغرفة المملوءة بالدراجات الهوائية، سمعت صوتاً يُشبه صوت اندفاع الباب؟ فظننت أنه بيتر، حسناً، لهذا وقفت أمام باب غرفة الغسيل، شيء من الإصغاء، وفُتح الباب المؤدي إلى غرفة الدراجات، ولن تُصدقي يا كلير هذا، هذا الشاب العاري تماماً الذي يُشبه هنري، تماماً». أطلقت ضحكة مزيفة. «أوه، هيا». كشرت أليسيا وقالت: «أترين، عرفت أنك ستعتبرين هذا جنوناً. لكن أقسم، أن هذا هو ما حدث فعلاً. هذا الشاب يبدو مندهشاً قليلاً، كما تعرفين، أعني أنا أقف هنا وفمي مفتوح على اتساعه وأتساءل في ما إذا كان هذا الشاب العاري، أنت تعرفين، سيغتصبني أو يقتلني أو يفعل أي شيء، لكنه نظر إليّ ثم خرج، (أوه، أليسيا) ودخل إلى قاعة المطالعة، وأغلق الباب». «شش؟». «صعدت الدرج، وقرعت باب غرفة مارك فقال لي أن أغرب عن وجهه، ولكنني أخيراً جعلته يفتح لي الباب حيث اندهش لما أخبرته به، واستغرق منه الوقت فترة حتى وعي ما قلته له، طبعاً، لم يصدقني ولكنني جعلته في النهاية ينـزل معي الدرج، ويقرع باب قاعة المطالعة فارتعبنا، تماماً مثل نانسي دريو، بينما كنت تفكرين، (هؤلاء الفتيات غبيات فعلاً، يجب أن ينادين الشرطة) ولكن لا شيء يحدث، ثم فتح مارك الباب ولكنه لم يكن هناك أحد، فغضب غضباً شديداً مني، ثم فكرنا في أن يكون الرجل قد صعد الدرج، فذهبنا وجلسنا في المطبخ قرب الهاتف وسكينة الحفر الكبيرة لنيل على المنضدة». «ولماذا لم تخبراني بهذا؟». «حسناً، في الوقت الذي ذهبتم فيه جميعكم إلى المنـزل شعرت أنني غبية، وعرفت أن والدي سيعتقد أنها قضية عظيمة، وأن شيئاً من هذا لم يحدث... لكن، لم يكن هناك ما يبعث على الضحك، أيضاً، ولم أشعر أنني أود التحدث عنه». ضحكت أليسيا: «سألتُ جدتي ذات مرة إن كانت هناك أشباح في المنـزل، فأجابتني أنه لا توجد أشباح على حد علمها». «وهذا الشاب، أو الشبح، يُشبه هنري؟». «أجل! أقسم لك، يا كلير، كدت أموت عندما أتى صديقك ورأيته، أعني، إنه الشاب نفسه! حتى صوته يشبه صوته. حسناً، كان شعر الشاب الذي رأيته في القبو أقصر، وكان أكبر سناً، ربما في الأربعين...». «ولكن، إذا كان ذلك الشاب في الأربعين، وكان هذا منذ خمس سنوات؛ هنري اليوم في الثامنة والعشرين من عمره، وكان عمره آنذاك ثلاثة وعشرين، يا أليسيا». «آه، هه. ولكن يا كلير، هذا غريب فعلاً؛ أليس لديه أخ؟». «كلا. ليس لديه أخ يشبهه إلى هذا الحد». «ربما كان، كما تعرفين، سفر الروح أو ما شابهها». قلت لها مبتسمة: «مسافر عبر الزمن». «آه، أجل، يا اﷲ، كم هذا غريب». صارت شاشة التلفاز سوداء للحظة، ثم عدنا إلى دونا وهي بين أجمة الكوبية وجيمس ستيوارت يسير في الأنحاء وهو يحمل ثوب الحمام خاصتها وقد تدلى من إحدى ذراعيه. كان يُغيظها، ويقول لها إنه سيبيع بطاقات حتى يراها. الوغد - حتى وأنا أتذكر أسوأ ما فعلته لهنري بالمقابل قضية اللباس/العري؟ - ثم سيارة تسير وجيمس ستيوارت يرمي بثوب حمام دونا إليها. «أُصيب والدك بأزمة قلبية». قال أحدهم من السيارة، ورحل وهو ينظر نظرة خرقاء، ودونا ريد تقف مخبولة بين أوراق الشجرة الكوبية. دمعت عيناي. «يا اﷲ، حسناً، سيعود». ذكرتني أليسيا. ابتسمت، وجلسنا نشاهد السيد بوتر وهو يوبخ جيمس المسكين ليترك الجامعة ويتفرغ لشركة الادخار والقروض. قالت أليسيا: «أيها الوغد». وافقتها قائلةً: «أيها الوغد». هنري: ونحن نخرج مساءً من هذا الجو البارد إلى دفء أنوار دار العبادة كانت أحشائي تمغصني. لم أذهب من قبل إلى احتفال ديني كاثوليكي أبداً. والمرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى طقوس دينية كانت في جنازة والدتي. أمسكت بذراع كلير كأعمى وهي تقودني ونحن نسير في منتصف الممشى، وقفنا في طابور من المقاعد الخالية. كانت كلير وعائلتها يركعون على مسند الركوع وجلست أنا، وكلير ممسكة بـي. لم يكن قد مضى علينا وقت طويل عندما اختفت أليسيا، وجلست نيل خلفنا مع زوجها وابنها، الذي كان في إجازة من البحرية. جلست دولسي مع نظيرة لها. جلست كلير، ومارك، وشارون، وفيليب راكعين إلى جانب بعضهم بأسلوب متفاوت، كانت كلير خجولة، ومارك غير مبالٍ، وشارون هادئة ومنهمكة، وفيليب منهكاً. كانت دار العبادة مملوءة بنباتات نجمة الميلاد(25). تفوح من دار العبادة روائح كروائح الشمع والمعاطف. ثمة صورة صامتة مُفصلة لمريم ويوسف مع حاشيتهما إلى يمين المذبح. الناس محتشدون، وهم يختارون أمكنتهم، ويلقون السلام على بعضهم. جلست كلير على الكرسي قربـي، وانضم مارك وفيليب إلى المجموعة، وبقيت شارون راكعة على ركبتيها لعدة دقائق أخرى، ثم جلسنا هادئين في الصف، ننتظر. دخل رجل يرتدي بذلة رسمية إلى المنصة - المذبح، مهما يكن اسمه - وجرّب المايكروفون المربوط بحوامل قراءة صغيرة، ثم اختفى خلف المسرح مجدداً. ازداد عدد الناس الآن، أصبح المكان مكتظاً. وصعدت أليسيا مع امرأتين أخريين ورجل إلى اليسار، وهم يحملون أدواتهم الموسيقية. المرأة الشقراء عازفة كمان والمرأة ذات الشعر البني هي عازفة كمان وسط، والرجل، وهو الأكبر سناً الذي ينحني ويمشي متثاقلاً، هو عازف كمان آخر. كلهم يرتدون ملابس سوداء. جلسوا على كراسيهم المنثنية، وأضاؤوا الأنوار فوق حوامل أدواتهم الموسيقية، أعدوا نوتاتهم الموسيقية، وجرّبوا الأوتار، وتبادلوا النظرات فيما بينهم، في تناغم وانسجام. ساد هدوء في المكان، أتت نوتة موسيقية، بطيئة، لا علاقة لها بأي نوع معروف من الموسيقى ولكنها ببساطة موجودة، وأُديت ببراعة. انحنت أليسيا ببطء قدر ما يستطيع الإنسان أن ينحني، ويبدو الصوت الذي تطلقه كأنه يخرج من اللامكان، يبدو أنه ينشأ بين أذنيّ، ويجد صداه في جمجمتي كأصابع تطرق دماغي. ثم توقفت. وساد صمت قصير ومطبق. ثم ما لبث هؤلاء الموسيقيون الأربعة أن اندفعوا في العزف. وبعد بساطة تلك النوتة الموسيقية عزفوا موسيقى متنافرة، حديثة ومُنفرة، وBartok؟ ثم حللتُ ما أسمعه وعرفت أنهم يعزفون الليلة الصامتة(26). لم أستطع أن أتخيل لماذا بدت غريبة جداً هكذا إلى أن رأيت عازفة الكمان الشقراء وهي تضرب كرسي أليسيا وبعد فترة قصيرة أصبحت تتوضح القطعة الموسيقية. رمقتني كلير بنظرة وهي تبتسم. وساد الارتياح الجميع في دار العبادة. لقد قدمت معزوفة الليلة الصامتة ترنيمة لا أعرفها. ووقف الجميع. استداروا نحو الجزء الخلفي من دار العبادة، وسار رجل الدين حتى منتصف الممر بصحبة حاشية كبيرة من أطفال صغار وقلة من الرجال الذين يرتدون بذلاتهم الرسمية. كانوا يسيرون بطريقة رسمية إلى مقدمة دار العبادة ليتخذوا مواقعهم. توقفت الموسيقى فجأة. أوه، لا، فكرت، ماذا الآن؟ أمسكت كلير بيدي، ووقفنا معاً، في الحشد. كلير: بدا هنري كأنه على وشك أن يفقد صوابه. يا اﷲ، لا تدعه يختفي الآن. رحب بنا الأب كومبتون بصوته الإذاعي. وصلت إلى جيب معطف هنري، وأدخلت أصابعي من خلال ثقب في الأسفل... قفز وكأنني ضربته بصاعق كهربائي. قال الأب كومبتون: «ليكن اﷲ معك». «ومعك أنت أيضاً». أجبنا كلنا بقلوب خاشعة. نفس الشيء، كل شيء هو نفسه. ومع ذلك، ها نحن ذا، أخيراً، لكل من يريد رؤيتنا. أستطيع أن أشعر بعيني هنري وهما تحدقان إلى ظهري. وروث تجلس خلفنا على بعد خمسة صفوف، مع أخيها وأهلها. ونانسي، ولورا، وماري كريستينا، وباتي، ودايف، وكاريس، وحتى جاسون إيفرليغ، كأن كل من ذهبت معه إلى المدرسة موجود هنا الليلة. نظرت إلى هنري، وهو يرفع أحد حاجبيه. كان الاحتفال الديني يتواصل. جلسنا من أجل الموعظة. اتكأ هنري عليّ وهمس لي: «أين الحمام؟». قلت له: «عبر ذلك الباب». وأشرت له إلى الباب الذي دخل منه فرانك وأليسيا والآخرون. «كيف أصل إلى هناك؟». «توجه إلى الجزء الخلفي من دار العبادة ثم إلى الممر الجانبـي». «وإذا لم أعد -». «يجب أن تعود». وعندما كان الأب كومبتون يقول: «وفي قلب هذه الليلة الفرحة...». وقف هنري وتوجه بسرعة إلى الباب، شيعه الأب بعينيه حتى وصل إلى الباب. راقبته وهو ينسل خارجاً من الباب الذي تأرجح خلفه حتى انغلق. هنري: أقف على ما يبدو أنه رواق مدرسة إبتدائية. لا تفزع، كررت هذا على نفسي. لا يستطيع أحد أن يراك. اختبئ في مكان ما. نظرت حولي، بعنف، فكان ثمة باب وأولاد. فتحته، فوجدت نفسي في غرفة صغيرة للرجال ووجدت قرميداً بنياً، وكل التجهيزات صغيرة ومنخفضة تصل إلى الأرض، والمشعات الحرارية، تجعل روائح الصابون كثيفةً. فتحت النافذة قليلاً، وأخرجت رأسي فوق تشقق فيها. هناك أشجار خضراء تمنع رؤية أي مشهد موجود، والهواء البارد تفوح منه رائحة الصنوبر. بعد بضع دقائق، أحسست أنني أقل توتراً. استلقيت على القرميد، متكوراً على نفسي، وركبتاي تصلان حتى ذقني... فتحت عيني. كل التجهيزات الصغيرة المصنوعة من البورسلان فيها هالات متقزحة، السماء زرقاء وقرمزية، وتركت نفسي تذهب، لا يوجد توقف الآن، وأنا أرتجف «كلا!» لكنني رحلت. كلير: أنهى الأب موعظته، التي دارت حول السلام في العالم، ومال والدي نحو شارون ومارك، وهمس لهما: «هل صديقكما مريض؟». أجبته هامسة: «أجل، أصابه صداع، وهذا ما يصيبه في بعض الأحيان بالغثيان». «هل أذهب إليه لأرى إن كان يحتاج إلى مساعدة؟». «كلا! سيكون بخير». لم يقتنع والدي من كلامي هذا، ولكنه بقي جالساً على مقعده. بارك الأب الجمع. حاولت أن أكبح جماح رغبتي في أن أركض لأجد هنري بنفسي. الصف الأول وقف من أجل التحية. وأليسيا تعزف معزوفة لباخ على التشيلو رقم 2. موسيقى حزينة وجميلة. هيا عُد يا هنري، عُد. هنري: أنا في شقة في شيكاغو. شقة مُظلمة، وأنا راكع على ركبتي في غرفة المعيشة. أتمايل في مشيتي، وأسند مرفقي إلى رف الكتب. «اللعنة!». لا أستطيع أن أُصدق هذا. لا أستطيع حتى أن أخرج من يوم واحد مع عائلة كلير حتى أعلق وأُرمى في شقتي مثل دبوس لعين -. «هاي». استدرت وها أنذا، أقف نائماً، على الأريكة. سألت: «ما التاريخ؟». «28 كانون الأول 1991». أربعة أيام بعد الآن. جلست على السرير: «لا أستطيع تحمل هذا». «اهدأ. ستعود في غضون دقائق. لن يلاحظ أحد شيئاً. ستكون بخير حتى تنتهي الزيارة». «حقاً؟». «أجل. توقف عن الأنين». قالت لي ذاتي، وهو يحاول أن يقلد والدي تماماً. أريد أن أحمله، ولكن ماذا سيكون الموضوع؟ ثمة موسيقى تُعزف في الخلفية. «موسيقى باخ؟». «هه؟ أوه، أجل، هذا في رأسك. هذه أليسيا تعزف». «غريب. آه!». هرعت إلى الحمام، وبالكاد فعلتها. كلير: كان آخر المتبقين من الناس يتناولون عندما دخل هنري من الباب، وهو شاحب قليلاً، لكنه يسير. قدم من الخلف ثم عبر ممر دار العبادة ثم اندس إلى جانبـي. قال الأب كومبتون: «لقد انتهى الاحتفال الديني، انصرفوا سالمين». رددنا: «آمين». تجمع أولاد المذبح واصطففنا وراءهم. سمعت شارون وهي تسأل هنري إن كان على ما يرام، لكنني لم أسمع جوابه لأن هيلين وروث اعترضا طريقنا وأنا أقدم هنري. نظر إليّ هنري، مذعوراً. هززت رأسي لهيلين، التي ابتسمت ابتسامة متكلفة. قالت: «حسناً، ربما لا، جميل أن أتعرف إليك - هنري». مدت روث يدها بخجل إلى هنري. وكم دهشت عندما أمسك بيدها لثوانٍ ثم قال: «مرحباً يا روث». قبل أن أقدمه إليها، وأستطيع القول إنها لم تعرفه. انضمت إلينا لورا مع قدوم أليسيا إلينا، وهي تجر حقيبة التشيلو بين الحشد. قالت لورا وهي تدعونا: «تفضلوا إلى منـزلنا غداً، أهلي سيغادرون إلى جزر الباهاما عند الساعة الرابعة». وافقنا جميعنا بحماسة. في كل عام يقوم أهل لورا بالذهاب إلى مكان استوائي ما في اللحظة التي يتم فيها فتح كل الهدايا، وفي كل عام نذهب إلى هناك حالما تختفي سيارتهما في الممر. غادرنا ونحن نغني ككورس، ميلاد مجيد، وخرجنا من الباب الجانبـي لدار العبادة إلى مكان ركن السيارات وقالت أليسيا: «آه، أعرف هذا!». هناك ثلج جديد عميق في كل مكان، لقد تجدد العالم بالبياض. وقفت ساكنة، ونظرت إلى الأشجار والسيارات وعبر الشارع باتجاه البحيرة، التي تتكسر، وتختفي، على شاطئ بعيد يقع أسفل دار العبادة على جُرف عالٍ. وقف هنري معي، وهو ينتظر. قال مارك: «هيا بنا، يا كلير». وسمعت كلامه. هنري: الساعة الآن نحو الواحدة والنصف بعد منتصف الليل عندما دخلت من الباب في منـزل ميدولارك. طوال الطريق كان فيليب يوبخ أليسيا لخطأ ارتكبته مع بداية معزوفة الليلة الصامتة، ولكنها جلست بهدوء، وهي تنظر من النافذة إلى المنازل المظلمة والأشجار. صعد الجميع إلى الأعلى، الآن ذهبوا إلى غرفهم بعد أن قالوا ميلاداً مجيداً نحو خمسين مرة باستثناء أليسيا وكلير، اللتين اختفيتا في الغرفة التي تقع في نهاية الطابق الأول. وتساءلت ماذا سأفعل؟ ثم تبعتهما على وقع الخطى. «- ألم حاد». قالت أليسيا وأنا أسند رأسي إلى الباب. كانت طاولة البلياردو تملأ الغرفة التي كان يغمرها ضوء المصباح المتلألئ المعلق فوقها. كانت كلير تضع الطابات وأليسيا تمشي جيئة وذهاباً تحت الظلال على حافة بقعة من الضوء. قالت كلير: «حسناً، إذا حاولتِ أن تغلبيه ونجحت، فلا داعي هناك لانـزعاجك». قالت أليسيا: «إنه كثير الاعتداد بنفسه». وضربت الهواء بقبضة يدها. سعلت. قفزتا معاً ثم قالت كلير: «أوه، يا هنري، حمداً لله، ظننتك أبـي». سألتني أليسيا: «أتريد اللعب؟». «كلا، بل سأكتفي بالمشاهدة». كان هناك مسند للقدمين أمام الطاولة، فجلست عليه. أعطت كلير إلى أليسيا عصا بلياردو. فركتها أليسيا بالطبشور ثم بدأت اللعب، بحدة. وقعت ضربتان في الجيبين في الزاوية. ضربت أليسيا طابتين أخريين قبل أن تضيعهما، كانت ضربة قوية. صاحت كلير: «آه، أوه، أنا في مشكلة». أوقعت، الطابة رقم 2، التي كانت متوضعة على حافة الجيب في الزاوية. وفي ضربتها الثانية أرسلت الطابة بالعصا إلى الحفرة بعد الـ 3، واصطادت أليسيا كلتا الطابتين ثم حددت ضربتها. ضربت من دون أي جهد. «الطابة رقم 8 الجيب الجانبية» قالت أليسيا وهي تُسدد ضربتها. «آوه». تنهدت كلير وسألت: «أمتأكد أنك لا تريد اللعب؟». أعطتني العصا. قالت أليسيا: «هيا يا هنري، هاي، أتريدين أن تشربـي شيئاً؟». أجابت كلير: «كلا». سألتها: «ماذا لديك؟». أنارت أليسيا مصباحاً فظهر مشرب قديم جميل في نهاية الغرفة. تشاورت مع أليسيا خلف المشرب ويا اﷲ، كل ما أستطيع تخيله من شراب كان موجوداً. مزجت أليسيا لنفسها نوعين. ترددت أمام كل هذا الغنى من المشروبات الموجودة أمامي، ثم أخيراً صببت لنفسي قليلاً من الشراب الاسكتلندي. قررت كلير أن تتناول شيئاً أخيراً، وراحت تكسر مكعبات الثلج في صينية صغيرة وتضعها في الكأس وعندما فتح الباب تجمدنا كلنا. هذا مارك، سألته كلير: «أين شارون؟». قالت أليسيا آمرة: «أغلق الباب». أدار القفل، وسار خلف المشرب. قال: «شارون نائمة». أخرج علبة شراب الشعير من البراد الصغير. فتح الغطاء، وسار ببطء نحو الطاولة وسأل: «من يلعب؟». قالت كلير: «أليسيا وهنري». «همم. هل حذرتماه؟». قالت أليسيا: «اخرس يا مارك». قال لي مارك مؤكداً: «هذه جاكي غليسون متنكرة». استدرت إلى أليسيا. قالت كلير: «لنبدأ اللعبة». أخذت أليسيا فترة راحة. لقد غط الشراب الاسكتلندي كل نقاط التشابك العصبـي لديّ، فبدا لي كل شيء حاداً وواضحاً. انفجرت الطابات كألعاب نارية، وتحولت إلى نموذج جديد. تمايلت الطابة رقم 13 على حافة الجيب في الزاوية ثم وقعت. قالت أليسيا: «العصا مرة أخرى». أوقعت الطابة رقم 15، والطابة رقم 12، والطابة رقم 9 قبل أن يجبرها هذا على محاولة ضربتين غير موفقتين. وقفت كلير بين الضوء والعتمة، لهذا صار وجهها ظلاً، وغمر جسدها الظلام، وكانت ذراعاها مطويتين على صدرها. حوّلت انتباهي عن الطاولة. مرت فترة قصيرة من الوقت. أوقعت الـ 2، و3 و6 بسهولة ثم بحثت عن شيء آخر لأعمل عليه. ضربت رقم 1 بقوة أمام جيب الزاوية مقابل حافة الطاولة، وأرسلت الطابة إلى الرقم 7 التي أوقعت بالرقم 1. أرسلت الرقم 4 إلى جيب الزاوية بضربة مائلة، وجعلت الرقم 5 في الزاوية الخلفية بضربة كرومة محظوظة. هذه زلة، ومع ذلك أطلقت أليسيا صفرة. وذهبت الطابة رقم 7 بحظ عاثر. أشرت بعصاي: «رقم ثمانية إلى الزاوية». وفعلاً ذهبت إلى هناك. أصوات تنهدات انطلقت من الطاولة. قالت أليسيا: «آه، هذا جميل. افعلها مرة أخرى». كانت كلير تبتسم في الظلام. قال مارك لأليسيا: «لست على عادتك». «تعبت من التركيز. والربح». «بسبب أبيك، أجل». «حسناً، إذا ما سددت إليه ضربة، فسيُسدد ضربة بالمقابل». تجهم وجه أليسيا: «الجميع يقوم بخطأ شريف». قلت لأليسيا: «هذا يشبه تيري ريلي(27) لدقيقة هنا». ابتسمت: «أشبه بتيري ريلي. هذه من سالومي ترقص من أجل السلام». ضحكت كلير: «كيف حضرت سالومي إلى ليلة صامتة؟». «حسناً، كما تعرفين، تصورت أن هذا يكفي للتواصل، وإذا ما نقلت جزء الكمان الأول على الثُماني، فسيبدو جميلاً جداً، لا لا لا، لا...». قال مارك: «لكنك لا تستطيعين لومه على جنونه، أعني، هو يعرف أنك لن تعزفي شيئاً صدفة هكذا». سكبت لنفسي كأساً أخرى. سألت كلير: «وماذا قال فرانك؟». «آه، كان، يحاول أن يتخيل كيف يمكن له أن يصنع مقطوعة كاملة من هذه، كما تعرفين، مثل الليلة الصامتة تجتمع ببسترافينيسكي. أعني، فرانك يبلغ السابعة والثمانين عاماً، ولا يبالي إذا ما كنت أعبث هنا وهناك طالما أنه مُستمتع. كانت أرابيلا وأشلي سعيدتين جداً». قال مارك: «لا يدل هذا على الاحتراف». نظرت إليّ أليسيا وهي تقول: «ومن يهتم؟ هذه دار عبادة سان باسيل فقط، أليس كذلك؟ ما رأيك أنت؟». ترددت. قلت أخيراً: «أنا لست مهتماً فعلاً. ولكن، إذا سمعك والدي تقومين بهذا، فسيُجن جنونه». «حقاً؟ لماذا؟». «يعتقد أن كل قطعة موسيقية يجب أن تعامل باحترام، حتى ولو كانت قطعة موسيقية لا يحبها كثيراً. أعني، لا يحب تشايكوفسكي، أو شتراوس، لكنه يعزف أعمالهما بجدية مطلقة. لهذا السبب هو عظيم، يعزف كل شيء طالما أنه يحبه». «أوه». سارت أليسيا خلف المشرب، مزجت لنفسها كأساً أخرى، لقد بلغ السيل الذبى. «حسناً، أنت محظوظ حتى يكون لديك أب عظيم يحب شيئاً إلى جانب المال». وقفت خلف كلير، مررت أصابعي على عمودها الفقري في الظلام. وضعت يدها خلف ظهرها، وقبضت على يدي. «لا أعتقد أنك تستطيعين القول إنك تعرفين عائلتي أبداً. إلى جانب هذا، يبدو أن والدك يهتم بأمرك كثيراً جداً». هزت رأسها قائلةً: «لا. يريدني فقط أن أكون كاملة أمام أصدقائه. لا يهتم أبداً».ضربت أليسيا الطابات ووضعتها حيث يجب أن تكون. «من يريد أن يلعب؟». قال مارك: «أنا، وهنري؟». فركنا أنا ومارك عصوينا بالطبشور، ووقفنا مقابل بعضنا عبر الطاولة. توقفت. الطابة رقم 4 والطابة رقم 5 في الأسفل. قلت: «على التوالي». رأيت الطابة رقم 2 قرب الزاوية. أنـزلتها في الجيب، ثم فقدت الثلاثة معاً. تعبت، ورحت أفقد تنسيقي بفعل الشراب الاسكتلندي. كان مارك يلعب بعزم ولكن من دون تمييز، وأدخل الطابة رقم 10 والطابة رقم 11. تظاهرنا باللعب، أدخلت كل الطابات. «ووقفت الطابة رقم 13 لمارك على حافة الجيب في زاوية الطابة 8». قلت هذا وأنا أُشير إليها. قالت أليسيا: «أتعرف، يجب أن تجعل طابة مارك تدخل في الجيب أو أنك ستخسر». أجبتها: «حسناً». ضربت الكرة بالعصا بهدوء عبر الطاولة، فضربت الطابة 8، وأرسلتها بهدوء نحو 13، ويبدو أنها التفت حول 13 بالرغم من وقوفها كحاجز، ثم وقعت في الجيب، ضحكت كلير، ثم تأرجحت رقم 13 ثم وقعت. قلت: «حسناً، ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة». قال مارك: «لعبة جيدة». سألت أليسيا: «يا اﷲ، أين تعلمت اللعب بهذه الطريقة؟». «هذه أحد الأمور التي تعلمتها في الكلية». مع الشرب، والشعر الإنكليزي والألماني، والعقاقير. وضعنا جانباً العصي وتناولنا الكؤوس والزجاجات. «ما كانت مادتك المفضلة؟». فتح مارك قفل الباب، وخرجنا جميعاً إلى الصالة نحو المطبخ. «الأدب الإنكليزي». «لماذا لم تكن الموسيقى؟». وازنت أليسيا كأسها مع كلير في يد واحدة وهي تندفع نحو باب غرفة الطعام. ضحكت. فقلت: «لن تصدقي كم أنا غير موسيقي. كان والداي واثقين أنهما أحضرا إلى المنـزل الابن الخطأ من المشفى». قال مارك: «لا بد أن هذا كان عائقاً». ثم وجه كلامه إلى أليسيا قائلاً: «على الأقل لم يدفعك والدك إلى أن تصبحي محامية». دخلنا المطبخ، وأضاءت كلير المكان. «حسناً، هذا ما كنت أعنيه. لم يجعل أي واحد منا يفعل شيئاً لا يريد القيام به». سألتني أليسيا: «أكان عائقاً؟ كنت سأفوز عليه». «حسناً، قبل أن تموت والدتي، كانت الأمور رائعة. وبعد هذا، صار كل شيء عسيراً وشاقاً. لو كنت طفلاً عبقرياً بآلة الكمان... لكنت نجحت». نظرت إلى كلير، وهززت كتفي. «على كل حال، لم نتفق أنا ووالدي أبداً». قالت كلير: «وكيف ذلك؟ حان وقت النوم». وكانت تعني، هذا يكفي. وكانت أليسيا تنتظر جواباً. أدرت وجهي نحوها. «هل سبق لك أن رأيت صورة لأمي». أومأت برأسها. «أنا أُشبهها». «إذاً؟». قالت أليسيا هذا وهي تغسل الكؤوس تحت الصنبور. تجمدت كلير في مكانها. «إذاً، لا يمكنه النظر إلى وجهي. أعني، هذا سبب من بين أسباب عديدة». «ولكن». «أليسيا -». حاولت كلير أن توقفها عن الكلام. لكن، لا يمكن إيقاف أليسيا عن الكلام. «لكنه أبوك». ابتسمت. «الأشياء التي تُزعج أباك تبدو تافهة مقارنة مع الأشياء التي فعلناها أنا ووالدي». «مثل ماذا؟». «مثل المرات العديدة التي كان فيها يُغلق الشقة عليّ، مهما كانت حال الطقس. مثل المرة التي رميت فيها مفاتيح سيارته في النهر. أشياء كهذه». «ولماذا فعلت هذا؟». «لم أرده أن يُحطم السيارة، لأنه كان ثملاً». نظرت أليسيا، ومارك وكلير إليّ، وأمأوا برؤوسهم. لقد فهموا تماماً ما قلت. قالت أليسيا: «موعد النوم». غادرنا كلنا المطبخ، وتوجهنا إلى غرفنا من دون أن ننبس ببنت شفة، ما عدا، «تصبحون على خير». كلير: الساعة 3:14 بعد منتصف الليل وفق ما هو ظاهر على ساعة المنبه، كنت أدفئ نفسي على سريري البارد، عندما فُتح الباب، ودخل هنري بهدوء. رفع الغطاء، وانسل داخله. اهتز السرير، ونحن نجهّز أنفسنا على السرير. همس: «مرحباً». أجبته هامسة: «مرحباً». «هذه ليست فكرة صائبة». «البرد شديد في غرفتي». لمس هنري وجنتي وهو يقول: «أوه». خنقت في داخلي صرخة. كانت أصابعه متجمدة. فركت أصابعه بين راحتي يدي. انسل هنري عميقاً إلى أسفل الغطاء. ضغطت عليه، أحاول أن أدفئه. «هل تضعين جورباً؟». سألني بهدوء. «أجل». وانسل إلى الأسفل، ونـزع جوربـي. ولم تمضِ دقائق حتى صدرت أصوات اهتزازات السرير وكلمات صه! صرنا عاريين. «أين ذهبت، حين غادرت دار العبادة؟». «إلى شقتي. لمدة خمس دقائق، أربعة أيام بعد الآن». «لماذا؟». «كنت متعباً ومتوتراً، كما أعتقد». «لا، ولماذا؟». «يتعلق هذا بآلية الإهمال. ربما أجواء حركة السير المسافرة عبر الزمن تتحكم بالتفكير في أنني أريد أن أكون جيداً هناك». دفن هنري وجهه بشعري. راح الضوء يزداد في الخارج. «ميلاد مجيد». همست له. لم يجب هنري، وبقيت مستيقظة وأنا مستلقية بين ذراعيه، أفكر، وأستمع إلى أنفاسه المنضبطة، وأفكر ملياً في قلبـي. هنري: نهضت في الساعات الأولى من الصباح، وتسللت من السرير، وبينما أقف في حمام كلير أبول والنعاس يُغالبني بسبب زخارف أضواء الميلاد سمعت صوت فتاة تقول: «كلير؟». وقبل أن أتخيل من أين يأتي هذا الصوت، من باب اعتقدت أنه مُغلق، وجدت نفسي أقف عارياً تماماً أمام أليسيا. «أوه». همست وأنا أمسك بمنشفة لأغطي بها جسدي. قلت هامساً: «أوه، مرحباً يا أليسيا». وابتسمنا لبعضنا. غادرت إلى غرفتها كما أتت. كلير: تشعر بالدوار، حين تستمع إلى المنـزل وهو يستيقظ. نيل في الأسفل في المطبخ تغني، وتُحدث جلبة بالطناجر. أحدهم يمشي في الصالة، مرّ أمام الباب. نظرت إلى هنري الذي كان مستغرقاً في النوم، وأدركت فجأةً أن عليّ أن أوقظه ليخرج من هنا من دون أن يراه أحد. خلصت نفسي من هنري ومن الملاءات، ونـزلت عن السرير بهدوء. رفعت ثياب نومي عن الأرض ووضعتها على رأسي وصوت إيتا يقول: «كلير! انهضي وأشرقي، اليوم الميلاد!». ووضعت رأسها بجانب الباب. سمعت أليسيا وهي تنادي إيتا، وأنا أدخل رأسي عبر ثوب النوم، رأيت إيتا تبتعد لتجيب أليسيا، وعندما عدت إلى السرير لم يكن هنري موجوداً. أزرار بيجامته على السجادة دفعتها تحت السرير. دخلت إيتا غرفة نومي وهي ترتدي ثوب الحمام الأصفر وجدائل شعرها تتأرجح فوق كتفيها. قلت لها: «ميلاد مجيد!». وأخبرتني شيئاً عن والدتي، ولكن كنت أعاني من مشاكل في السمع لأنني كنت أتخيل هنري وهو يتجسد أمام إيتا. قالت إيتا باهتمام: «كلير؟». «أوه، آسفة. لا أزال نائمة، كما أعتقد». «هناك قهوة في الأسفل». وراحت إيتا ترتب السرير. بدت متحيرةً. «سأرتب أنا السرير يا إيتا. اذهبـي أنت». توجهت إلى الجانب الآخر من السرير. أسندت والدتي رأسها إلى الباب. بدت جميلة، وهادئة بعد عاصفة البارحة. «ميلاد مجيد يا عزيزتي». توجهت نحوها، قبلت وجنتها بهدوء. «ميلاد مجيد يا والدتي». من الصعب عليّ أن أكون غاضبة منها وهي تبدو هنا أمامي، والدتي التي أعرفها وأُحبها. «إيتا، هل تنـزلين معي إلى الصالة؟». سألتها والدتي. كانت إيتا ترتب الوسائد بيديها عندما تلاشى الانطباعان المتشابهان من رأسينا. رمقتني بنظرة، ورفعت حاجبيها، لكنها لم تنطق بكلمة واحدة. «إيتا؟». «أنا قادمة...». وانطلقت إيتا وراء والدتي. أغلقت الباب، واتكأت عليه، في الوقت المناسب تماماً حيث رأيت هنري وهو يتدحرج خارجاً من تحت السرير. نهض وراح يرتدي بيجامته، أغلقت الباب. همست له: «أين كنت؟». «تحت السرير». همس لي هنري، كان لا بد لهذا أن يكون واضحاً. «طوال الوقت؟». «أجل». لسبب ما أرعبني هذا كثيراً، فضحكت. وضع هنري يده فوق فمي، ورحنا نهتز ضاحكين، وبهدوء. هنري: ساد يوم الميلاد هدوء غريب بعد الأنواء الشديدة التي عصفت به يوم أمس. تجمعنا حول الشجرة. نحن يقظون ومرتدون أثواب الحمام والأخفاف، وكانت الهدايا مفتوحةً، وانتهت صيحات الاندهاش. وبعد تبادل كلمات الشكر من الجميع، تناولنا طعام الفطور. سادت فترة هدوء وصمت، ثم تناولنا وجبة الغداء، مع كلمات الإطراء الشديد والعظيم لنيل وللسرطان البحري. نحن نموذج للعائلة السعيدة، إعلان للبرجوازية. نحن كل الأشياء التي كنت دائماً أبحث عنها عندما جلست في مطعم لاكي وك مع والدي والسيد والسيدة كيم في كل يوم ميلاد، وأنا أحاول أن أدعي أنني أُسلي نفسي بينما يراقب الكبار كل هذا بقلق. ولكن، حتى ونحن نقتل الوقت هنا وهناك، ونأكل جيداً، في غرفة المعيشة بعد الغداء، نشاهد لعبة كرة القدم على شاشة التلفاز، ونقرأ الكتب التي كنا نقدمها إلى بعضنا، ونحاول أن نُشغل الهدايا التي تحتاج إلى بطاريات و/أو تجميع، كان التوتر ملحوظاً. كأنه في كل مكان، في إحدى الغرف البعيدة في المنـزل، إشارة لوقف النار، والآن كل الأطراف المعنية تحاول أن تسعى لكسب هذا الشرف، على الأقل حتى يوم غد، على الأقل حتى تصل بضاعة جديدة من الذخائر الحربية. نحن جميعاً نتصرف، وندعي أننا مرتاحون، نأخذ شخصية الأم، والأب، والأخت، والأخ، والصديق، والخطيبة. حانت لحظة الانعتاق عندما نظرت كلير إلى ساعتها، ونهضت عن الأريكة، وقالت: «هيا بنا، لقد حان الوقت لنذهب إلى منـزل لورا». كلير: منذ لحظة وصولنا كانت الموسيقى تصدح في حفلة لورا. وما إن خلعنا معاطفنا حتى توتر هنري وصار وجهه شاحباً وطلب الليكور. لا أزال أشعر بالبلادة من فِعل الشراب الفرنسي الذي تناولته عند الغداء، فهززت رأسي عندما سألني ماذا أريد، وأحضر لي الكولا. كان يمسك شراب الشعير، وكأنه شيء يحفظ له توازنه. «إياك، تحت أي ظرف من الظروف، أن تتركيني أناضل وحدي». قال هنري آمراً، وهو ينظر من فوق كتفي، وقبل أن أدير رأسي كانت هيلين معنا. ساد صمت سريع، ومحرج. قالت هيلين: «إذاً يا هنري، سمعنا أنك أمين مكتبة. لكنك لا تبدو كذلك». «في الواقع أنا عارض أزياء للملابس الداخلية لكالفن كلاين. أما أمين المكتبة فواجهة لعملي الحقيقي». لم يسبق لي أن رأيت هيلين مرتبكة هكذا. تمنيت لو كان معي آلة تصوير. استعادت نفسها بسرعة، ونظرت إلى هنري من رأسه حتى أخمص قدميه، وابتسمت. «حسناً، يا كلير، تستطيعين الاحتفاظ به». قالت لي. قلت لها: «هذا مريح، فقد أضعت الوصفة». اقتربت منا لورا، وروث، ونانسي وقد قررن استجوابنا؛ كيف التقينا، وماذا يعمل هنري لكسب عيشه، وما الكلية التي ارتادها، وما إلى هنالك. لم أكن أتوقع أن أظهر أنا وهنري أمام الناس معاً ونحن في الوقت نفسه ضجران ومتوتران. انسجمت مع الوضع مجدداً عندما قالت نانسي: «غريب جداً أن اسمك هنري؟». أجابها هنري: «أوه؟ ولماذا؟». أخبرته نانسي شيئاً عن حفلة بائسة في الميلاد، في تلك الحفلة أفاد لوح الويجا أن كلير ستتزوج برجل يُدعى هنري. بدا هنري محرجاً. «حقاً؟». سألني. «أمم، أجل». فجأة أحسست بحاجة ملحة إلى أن أبول. قلت: «اعذروني». غادرت المجموعة، وتجاهلت تعابير وجه هنري المتوسلة. لحقت بـي هيلين بينما كنت أصعد الدرج. أغلقت الباب بوجهها لأمنعها من اللحاق بـي. قالت لي: «افتحي الباب يا كلير». وراحت تهز الباب. أخذت وقتي، بوّلتُ، وغسلت يدي، ووضعت على شفتي أحمر شفاه. قالت هيلين: «كلير، سأذهب وأُخبر صديقك عن كل شيء قبيح قمت به في حياتك إن لم تفتحي هذا الباب اللعين». فتحت الباب، واقتحمت هيلين الحمام. قالت هيلين متوعدةً: «حسناً يا كلير أبشير». أغلقت الباب. جلست على حافة حوض الحمام، واتكأت هي على المغسلة، وهي تلوح لي بيدها مهددة. «انظري إليّ. ماذا بينك وبين هذا الشخص المدعو هنري؟ أعني، كنت تقفين هناك، وتلقين الكثير من الأكاذيب. أنت لم تلتقي هذا الشخص منذ ثلاثة أشهر فقط، بل أنت تعرفينه منذ سنوات! ما هذا السر الكبير؟». لم أدرِ من أين أبدأ. هل أُخبر هيلين الحقيقة؟ كلا. ولِمَ لا؟ حسبما أعرف، فقد رأت هيلين هنري مرة واحدة فقط، ولم يبدُ أنه مختلف عما يبدو عليه الآن. أنا أحب هيلين. فهي قوية، ومجنونة، ومن الصعب استغباؤها. يجب أن تلتقيها حتى تصدقها. «حسناً». قلت لها، وأنا أستجمع فطنتي. «أجل، أنا أعرفه منذ وقت طويل». «منذ متى؟». «منذ أن كنت في السادسة». جحظت عينا هيلين كشخصية من أفلام الكرتون. ضحكت. «لماذا...كيف ذلك... حسناً... كم مضى عليك وأنت تخرجين معه؟». «أعني، هناك فترة من الوقت عندما تكون فيها الأشياء على شفير هاوية، ولكن لا شيء يحدث فعلاً، هكذا، كان هنري قاسياً لا يبدو عليه أنه يريد العبث مع فتاة صغيرة، فجننت به...». «ولكن، كيف لم نعرف عنه؟ ألم تعرفي أن الجميع يهمسون حول هذا الموضوع. كان عليك أن تخبريني». «حسناً، ها أنت تعرفين». هذا ضعف، أعرف هذا. بدت هيلين متألمةً. «ليس هذا الذي أخبرتني به». «أعرف آسفة». «همم إذاً، ما الصفقة؟». «حسناً، هو أكبر مني بثماني سنوات». «ماذا في ذلك؟». «عندما كنت في الثانية عشرة كان هو في العشرين، تلك كانت المشكلة». لم أذكر لها أنه عندما كنت في الثانية عشرة كان هو في الأربعين. «لم أدرك هذا حتى الآن. أعني، أستطيع أن أفهم أنك لا تنتظرين أهلك ليعرفوا أنك كنت تعزفين لوليتا لهمبرت همبرت، ولكنني لا أفهم لماذا لم تخبرينا. لكنا عرفنا جميعاً بالأمر، أعني، كنا آسفين عليك طوال هذا الوقت، وقلقين بشأنك، ونتساءل لمَ تبدين كناذرة عفة»، هزت هيلين رأسها. «وها أنت ذا، كنت تخونين ماريو مع أمين المكتبة هذا طوال الوقت». لم أعد أحتمل المزيد، احمر وجهي وقلت لها: «لم أكن أخدعه طوال الوقت». «أوه، هيا». «حقاً! انتظرنا حتى بلغت الثامنة عشرة. وقمنا بهذا في يوم ميلادي». بدأت هيلين الحديث قائلة: «ومع ذلك يا كلير». ثمة قرع شديد على الباب، وصوت ذكوري عميق يسأل: «هل تتشاجران هنا أيتها الفتاتان؟». «يتبع». قالت لي هيلين هامسة ونحن نخرج من الحمام مع تصفيق خمسة شباب يقفون في الصف داخل الصالة. وجدت هنري في المطبخ، وهو يستمع بصبر إلى لورا وهي تتحدث بطريقة غير مفهومة عن أصدقائها الفرسان وهم يثرثرون حول لعبة كرة القدم. ألقيت نظرة على صديقته الشقراء، المتطفلة، التي تجذبه خارجاً لتناول كأس أخرى. قال هنري: «انظري يا كلير، ساقطة صغيرة!». نظرت فكان يُشير إلى جودي، شقيقة لورا ذات الأربعة عشر عاماً، وإلى صديقها، بوبـي هاردغروف. كان وجهه أخرق كوجه رجل من قبيلة موهوك Mohawk(28) ويرتدي قميصاً مخططاً، وتحاول جودي أن تبدو مثل ليديا لانش، ولكنها كانت تبدو مثل راكون عانى من يوم سيئ. كانا يبدوان إلى حدٍّ ما كأنهما يحضران حفلة تنكرية لا حفلة الميلاد. بدوا متعلقين ببعضهما، وفي موقف دفاعي. ولكن هنري كان يتقد حماسة: «واو. كم يبلغان من العمر، قرابة الثانية عشرة؟». «أربعة عشر عاماً». «لنرَ، أربعة عشر عاماً، من واحد وتسعين عاماً، هذا يجعلهما... أوه يا اﷲ، لقد ولدا عام 1977. كم أنا كبير. أحتاج إلى كأس أخرى». خرجت لورا من المطبخ وهي تحمل صينية من الكؤوس. تناول هنري كأسين منهما، وتجرعهما دفعة واحدة على التوالي، ثم قطب وجهه. «آغ. شيء يبعث على الاشمئزاز». ضحكت. قال هنري: «ماذا تعتقدين؟ إلى أي شيء يُصغيان؟». «لمَ لا تذهب وتسألهما». ذُعر هنري: «أوه، لا أستطيع. قد أُفزعهما». «أعتقد أنك أرعبتهما». «حسناً، قد تكونين على حق. يبدوان ناعمين وفتيين وساذجين، مثل حبوب بازيلاء صغيرة». «هل ارتديت ثياباً كهذه من قبل؟». عبّر عن غضبه بسخرية وقال: «ماذا تعتقدين؟ بالطبع لا. هؤلاء الأولاد يُنافسون أولاد اليانكي الإنكليز. وأنا يانكي أميركي. كلا، كنت أُشبه كثيراً ريتشارد هيل». «لِمَ لا تذهب إليهما؟ يبدوان وحيدين». «يجب أن تأتي معي، وتعرفينا إلى بعضنا بعضاً وتمسكي بيدي». تجرأنا على الخروج من المطبخ بحذر، مثل ليفي شتراوس وهو يقترب من رجلين من آكلي لحوم البشر. واتخذ بوبـي وجودي وضعية القتال أو الهروب كذلك الغزال الذي تُشاهده على قناة الطبيعة. «أمم، مرحباً، جودي، مرحباً بوبـي». قالت جودي: «مرحباً يا كلير». أعرف جودي منذ نعومة أظفارها، لكنها تبدو الآن خجولة فجأةً، فكرت في أن هذا الشعر ذا المظهر البنكي الجديد هو من بنات أفكار بوبـي. «يبدو صديقك لطيفاً، أمم، ومنـزعجاً، لهذا أحضرت هنري إلى هنا ليتعرف إليك. إنه يحب، همم، ثوبك». قال هنري وهو محرج: «مرحباً، كنت فضولياً، تساءلت، عما تسمعينه؟». كرر بوبـي: «أستمع إليها؟». «أنت تعرف - الموسيقى. أي موسيقى تستمع إليها؟». سرُ بوبـي وقال: «حسناً، سيكس بيستولز». ثم توقف لحظة عن الكلام. قال هنري: «طبعاً، والكلاش؟». «أجل...». أجابه هنري: «... جيدة». قالت جودي: «بلوندي؟». مع أن إجابتها قد تكون خاطئة. قلت: «أنا أحب بلوندي. ويحب هنري ديبوراه هاري». قال هنري: «ورامونيس؟». أومأا موافقين: «وماذا عن باتي سميث؟». شحب وجه جودي وبوبـي. «إيجي بوب؟». هز بوبـي رأسه. وقال: «بيرل جام». قلت لأسوي الأمر بينهما. «لا توجد الكثير من المحطات الإذاعية هنا». قلت لهنري. «من غير الممكن أن يعرفا هذه الأمور». قال هنري: «آه». ثم توقف. «انظر، أتريدني أن أدوّن لك بعض الأشياء؟ لتستمع إليها». هزت جودي كتفيها بلامبالاة. أومأ بوبـي برأسه، وهو يبدو مسروراً وجاداً. بحثت عن ورقة وقلم في محفظتي، وجلس هنري إلى طاولة المطبخ، بينما جلس بوبـي أمامه. قال هنري: «يجب أن تعود إلى زمن الستينيات، حسناً؟ تبدأ مع فيلفيت أندرغراوند، في نيويورك. ثم، هنا في ديترويت، تعود إلى MC5، وإيجي بوب والستوجيز. ثم تعود إلى نيويورك، حيث توجد نيويورك دولز، ووهارتبريكرز». قالت جودي: «توم بيتي؟ سمعنا عنه». قال هنري: «كلا، تلك فرقة مختلفة تماماً، مات معظم أعضاء الفرقة في الثمانينيات». سأله بوبـي: «في تحطم طائرة؟». صحح له هنري قائلاً: «بل بالهيرويين. على كل حال، كان هناك التلفاز، ريتشارد هيل والفويدويدز، وباتي سميث». أضفت قائلةً: «توكينغ هيدز». «أجل. هل كنت تعتقدهن ساقطات؟». «كن كذلك». أضافهم هنري إلى لائحته: «حسناً، توكينغ هيدز. إذاً، أشياء تحوم فوق إنكلترا». قال بوبـي: «اعتقدت أن فجورهن بدأ في لندن». قال هنري وهو يدفع كرسيه إلى الوراء: «كلا. طبعاً، بعض الناس، بمن فيهم أنا، يعتقدون أن الفجور هو الأكثر وضوحاًً في هذا، هذه الروح، هذا الإحساس، كما تعرف، تلك الأشياء ليست جيدة وهي في الواقع خطأ فادح والشيء الذي يمكن أن نقوله عنها هو اللعنة عليها، مرات ومرات، بصوت عالٍ، حتى نجد من يوقفنا». أجاب بوبـي بهدوء: «أجل». وتلألأ وجهه بحماسة دينية تحت شعره المرفوع كالمسامير. «أجل». قلت لهنري: «أنت تفسد بهذا قاصراً». «أوه، سيعرف هذا على كل حال، من دوني. أليس كذلك؟». «كنت أحاول، ولكن الأمر ليس سهلاً، هنا». «أقدر لك هذا». قال هنري. وأضاف إلى اللائحة. نظرت من فوق كتفيه. السكس بيستولز، الكلاش، غانغ أوف فور، بوزكوكس، وديد كينيدي، وإكس، والميكونس، والرينكوتس، والديد بويز، ونيو أوردر، وسميثز، ولورا لوجيك، وأو باريس، وبيك بلاك، وبيل، والبيكسيز، والبريدز، وسونيك يوث... «يا هنري، لا يستطيعان أن يحصلا على هذه الفرق الموسيقية هنا». أومأ برأسه، ودوّن رقم هاتف وعنوان فانتاج فينيل في أسفل الورقة. «لديك آلة تسجيل، أليس كذلك؟». قال بوبـي: «لدى أهلي آلة تسجيل». فجفل هنري. سألت جودي: «ماذا تحبين فعلاً؟». أحست أنها انتهت إلى نقاش في أثناء طقوس ذكورية يديرها هنري وبوبـي. قالت معترفةً: «البرينس». أطلقنا أنا وهنري صرخة هوو! وأخذت أغني: «1999» بأعلى صوتي، وقفز هنري ورحنا نضرب الأرض بأرجلنا في المطبخ. سمعتنا لورا، وهرعت لتضع التسجيل الحقيقي وهكذا كان، فهذه حفلة موسيقية. هنري: نحن نقود السيارة إلى منـزل عائلة كلير عائدين من حفلة لورا. قالت كلير: «أنت صامت جداً». «كنت أفكّر في هؤلاء الأولاد، أولاد الفجور». «آه، أجل. ماذا عنهم؟». «كنت أحاول أن أتخيل السبب الذي جعل هؤلاء الأولاد -». «بوبـي». «بوبـي، لأن يعود، لأن يتعلق بموسيقى صُنعت في اليوم الذي ولد فيه...». قالت كلير: «حسناً، في الحقيقة كنت أحب فرقة البيتلز، انحلت فرقتهم في العام الذي ولدتُ فيه». «أجل، حسناً، عمّ كان يدور الحديث؟ أعني، كان يُغمى عليك من أجل ديبيتش مود، أو ستينغ أو أي مغنٍّ آخر. يجب أن يستمع بوبـي وصديقته إلى فرقة الكيور إذا أرادا مسايرة الموضة. ولكن بدلاً من ذلك وقعا في ذلك الفجور، الذي لا يعرفان شيئاً عنه». قالت كلير: «أنا متأكدة أن هذا يزعج آباءهم. كانت لورا تقول لي إن والدها لم يكن يدع جودي تغادر المنـزل وهي ترتدي ملابس كهذه. لقد وضعت كل شيء في حقيبة الظهر وغيّرت ثيابها في حمام السيدات في المدرسة». «هذا ما يفعله الجميع، العودة. أعني، تأكيد فرديتك، أنا أتفهم هذا، ولكن لماذا يؤكدان الفردية في عام 1977؟ يجب أن يكونوا مرتدين قمصاناً من الفانيلا المطبعة بنقوش مربعة». قالت كلير: «ولماذا أنت مهتم؟». «هذا ما يُحزنني. هي تذكرة أن اللحظة التي أنا أنتمي إليها ميتة، وليست ميتة فقط، بل منسية. لا شيء من هذه الموسيقى سبق أن أذيع عبر المذياع، ولا أستطيع أن أتصور السبب. كأن هذه الموسيقى لم تحدث. ولهذا السبب اعتراني الاهتياج عندما رأيت أولاداً صغاراً يدعون الفجور، لأنني لا أريد لكل هذا أن يختفي». قالت كلير: «حسناً، تستطيع أن تعود دائماً. فمعظم الناس مرتبطون بالحاضر، وأنت تريد أن تكون هنا مرات ومرات». فكّرت في ما قالت: «الأمر محزن يا كلير. حتى وأنا أريد القيام بشيء بارد، مثل، لنقل، حضور حفل موسيقي، لم أستطع الذهاب إليه في المرة الأولى، لربما توقفت الفرقة الموسيقية أو مات أحد أعضائها، من المحزن مراقبتهم لأنني أعرف ماذا سيحدث». «ولكن، كيف يختلف هذا عن بقية حياتك؟». «لا يختلف الأمر». كنا قد وصلنا إلى الطريق الخاص المؤدي إلى منـزل كلير. انطلقت إليه. «هنري؟». «أجل؟». «لو كان في إمكانك أن تتوقف، الآن... إذا لم تعد مسافراً عبر الزمن، ولم تعد هناك آثار متتالية، هل تستطيع ذلك؟». «إذا استطعت التوقف الآن وأتوقف عن لقائك؟». «لقد التقيتني». «نعم، سأتوقف». نظرت إلى كلير، في ظلام السيارة الباهت. قالت: «سيكون الأمر مضحكاً، ستكون لديّ كل تلك الذكريات التي لن تكون لديك. أريد أن أكون - حسناً، وكأنك شخص تعاني من فقدان ذاكرة. كنت أشعر بتلك الطريقة منذ أن وصلنا إلى هنا». ضحكت. «إذاً، في المستقبل تستطيعين مشاهدتي وأنا أتمايل في كل ذاكرة، إلى أن تتكون لديّ المجموعة كاملة، فأقوم بجمعها كلها». ابتسمت. «أعتقد هذا». اندفعت كلير في الممر الدائري أمام المنـزل: «يا لمنـزلي الجميل». في ما بعد، بعد أن صعدنا الدرج متجهين نحو غرفتي نومنا المنفصلتين، ارتديت ثياب النوم، نظفت أسناني، وتسللت إلى غرفة نوم كلير بعد أن تذكرت أن أغلق الباب هذه المرة، وأصبحنا دافئين على السرير الضيق، همست لي: «لا أريدك أن تضيع هذا». «أضيع ماذا؟». «كل الأشياء التي حدثت. عندما كنت طفلة. أعني، حدثت نصف الأشياء حتى الآن، لأنك لم تكن موجوداً بعد. إذاً عندما تحدث معك، تكون حقيقية». «أنا في طريقي». أمررت يدي على بطنها، وإلى ما... أطلقت كلير صرخة قوية. «صه». «يداك باردتان». «آسف». قمنا بفعل الحميمية القصوى بصمت وهدوء. عندما أنهيت انتابني صداع شديد، وخفت للحظة أن أختفي، لكنني لم أختفِ. بل استلقيت بين ذراعي كلير، وقد حوّلت عيني من الألم. شخرت كلير، كما يشخر الحيوان، شخيراً أشبه بجرافة تعمل في رأسي. أريد سريري الخاص بـي، في شقتي. منـزلي الجميل، لا مكان كالمنـزل. خذوني إلى المنـزل، إلى طُرقات المدينة. المنـزل حيث يوجد القلب. ولكن قلبـي معلق هنا. لذا يجب أن أكون في المنـزل. تنهدت كلير، وأدارت رأسها، وهدأ -. مرحباً، يا حبيبتي، لقد عدت إلى المنـزل. أنا في المنـزل. كلير: اليوم صاف، والصباح بارد. تناولنا طعام الفطور. وتم وضع الحقائب في السيارة. لقد غادر مارك وشارون مع والدي إلى المطار في كالامازو. وهنري موجود في الصالة يودع أليسيا، صعدت الدرج إلى غرفة والدتي. «أوه، هل تأخر الوقت؟». سألتني عندما رأتني أرتدي معطفي وأنتعل حذائي. «اعتقدت أنك ستتناولين الغداء معنا». جلست والدتي على مقعد، مغطى بقصاصات من الورق مغطاة بكتابات بخط يدها. «ماذا تكتبين؟». مهما يكن الأمر، فهو مملوء بخربشات ورسومات عابثة. قلبت والدتي الصفحة. كانت شديدة السرية في ما يتعلق بكتاباتها. «لا شيء. هذا شعر حول الحديقة تحت الثلج. لم يكتمل بعد». وقفت والدتي، وتوجهت نحو النافذة. «المضحك في الأمر أن الشعر ليس جميلاً كما الحديقة. أشعاري، على كل حال». لم أستطع أن أعلق فعلاً على ما قالته لأن والدتي لم تدعني أقرأ هذا الشعر، فقلت: «حسناً، الحديقة جميلة». لم تلقِ اهتماماً إلى هذا الإطراء. فالإطراء لا يعني لوالدتي شيئاً، فهي لا تعتقد به. وحده النقد الذي يستطيع أن يورد وجنتيها ويجذب انتباهها. لو قلت شيئاً يستخف بما تكتب لكانت تتذكره دائماً. ساد صمت في غير محله. أدركت أنها تنتظرني حتى أغادر حتى تستطيع إكمال ما كانت تكتب. «إلى اللقاء، يا والدتي». طبعت قبلة على وجهها البارد، وخرجت. هنري: انتظرنا على الطريق قرابة الساعة. كانت تحدُ وعلى مسافة أربعة أميال من الطريق السريع أشجار الصنوبر. ونحن الآن على أرض منبسطة ومملوءة بالسياج المزود بالأسلاك الشائكة. لم ينبس أحدنا ببنت شفة لفترة. وما إن لاحظت أن الصمت غريب، حتى قلت شيئاً. «لم يكن الأمر بهذا السوء». كان صوتي حيوياً جداً، وعالياً جداً داخل السيارة الصغيرة. لم تجب كلير، فنظرت إليها. كانت تبكي، ولا تبكي. لم أرَ كلير وهي تبكي في السابق، وثمة شيء في دموعها يفقدني أعصابـي. «كلير، كلير، ربما - هل يمكنك أن تقفي إلى جانب الطريق للحظة؟». من دون أن تنظر إليّ، أبطأت من سرعتها، وقادت السيارة إلى جانب الطريق، وتوقفت. نحن في مكان ما في إنديانا. السماء زرقاء وهناك الكثير من الغربان في الحقل على جانب الطريق. مالت كلير إلى الأمام واتكأت على المقود، وتنفست بطريقة غير منتظمة. «كلير». تحدثت إليها من خلف رأسها. «كلير، أنا آسف. أكان؛ لقد أفسدت الأمر؟ ماذا حدث؟ أنا...». «لست السبب في هذا». قالت وشعرها يخفي وجهها. ومرت علينا دقائق ونحن جالسان هكذا. «إذاً، ماذا حدث؟». هزت كلير رأسها، وجلستُ وأنا أحدق إليها. وأخيراً استجمعت ما يكفي من الشجاعة حتى ألمسها. داعبت شعرها، وتحسست عظام عنقها والعمود الفقري من خلال التموجات الوامضة. استدارت وأمسكت بها وسط مقعدينا المتباعدين وراحت كلير تبكي بحرقة، وترتعش. ثم هدأت. وقالت: «اللعنة على والدتي». وفي ما بعد كنا في خضم زحمة سير على طريق دان ريالن، نستمع إلى إيرما توماس. «هنري؟ أكان - هل كنت تمانع كثيراً؟». «أمانع في ماذا؟». سألتها، وكنت أفكّر في بكاء كلير. ولكنها قالت: «عائلتي؟ هل هم - هل بدت...؟». «كان أهلك لطيفين، يا كلير. لقد أحببتهم فعلاً. خاصة أليسيا». «في بعض الأحيان أريد أن أرميهم في بحيرة ميتشغان، وأراقبهم وهم يغرقون». «همم، أنا أقدر مشاعرك. أعتقد أن والدك وأخاك قد رأياني من قبل. وأليسيا قالت شيئاً غريباً فعلاً، ونحن نغادر». «لقد رأيتك مع والدي ومارك ذات مرة. وأليسيا رأتك في القبو ذات يوم عندما كانت في الثانية عشرة». «هل في هذا مشكلة؟». «كلا، لأنه لا يمكن تصديق هذا بسبب غرابته». ضحكنا معاً، فزال ذلك التوتر الذي صاحبنا طوال طريقنا إلى شيكاغو. أخذت حركة السير في الشارع تتسارع. وسرعان ما توقفت كلير أمام المبنى الذي فيه شقتي. أخذت حقيبتي من الصندوق الخلفي للسيارة، وراقبت كلير وهي تندفع نحو ديربورن، وأغلقت حنجرتي. بعد ساعات حددت ما كنت أشعر به كالوحدة، وقد انتهى الميلاد رسمياً لسنة أخرى قادمة. (19) هارا كيري Hara-kiri طريقة يابانية في الانتحار ببقر البطن بخنجر تخلصاً من العار. (20) Icarus ابن ديدالوس وقد أسرف في التحليق. عند فراره من السجن، حتى أمسى على مقربة من الشمس فذاب جناحاه الشمعيان وسقط في البحر (أسطورة يونانية). (21) Sheet music: الموسيقى الصحائفية: موسيقى مطبوعة على صحائف عريضة غير مجلدة. (22) إليانور روزفلت Anna Eleanor Roosvelt: (1884–1962) زوجة الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت. ناضلت من أجل تحسين أوضاع المرأة العاملة. (23) شوو Shoo: هُتاف يُستخدم لترويع الطيور وإخافتها، لا يوجد ترجمة عربية لها. (24) تجعد في وجه الزمن A Wrinkle in Time: رواية من الخيال العلمي من تأليف مادالين لأنجيل، صدرت عام 1962. (25) Poinsettias: نجمة عيد الميلاد/نجمة بيت لحم، نبات أميركي إستوائي يحتوي على مادة حليبية سامة تُحيط به زهور صفراء. (26) Silent Night: ترنيمة ميلاد ألمانية الأصل. (27) تيري ريلي Terry Riley: مؤلف موسيقي أميركي (ولد في عام 1935). (28) Mohawk: قبيلة من قبائل الهنود الحمر في أميركا الشمالية. المنـزل هو أي مكان ترتاح إليه(29) السبت، 9 أيار، 1992 (هنري 28 عاماً) هنري: قررت أن أفضل استراتيجية هي السؤال المباشر، إما أن يجيب بنعم أو بلا. استقللت ميترو رافينسوود إيل متوجهاً إلى شقة والدي، منـزل شبابـي. لم آتِ إلى هنا كثيراً في الفترة الأخيرة، ونادراً ما كان يزورني والدي. ولكن إذا لم يجب على هاتفه، فماذا يتوقع؟ نـزلت في ويستيرن وسرت غرباً نحو لورانس. الشقتان موجودتان في فيرجينيا، الرواق الخلفي يطل على نهر شيكاغو. وأنا أقف في الرواق أحاول البحث عن مفاتيحي نظرت السيدة كيم من بابها، وأومأت إليّ أن أقترب منها. فكيمي إنسانة حساسة وحادة وحنون، وهي تعرف أيضاً كل شيء تريد معرفته عنا ولكنها لم تتدخل أبداً. حسناً، أبداً تقريباً. في الواقع، تدخلت في حياتنا، لكن كنا نحب تدخلها هذا. أعتقد أنها منـزعجة فعلاً. «أتريد كولا؟». وسارت نحو مطبخها. «طبعاً». وضعت حقيبتي أمام الباب وتبعتها. وفي المطبخ قامت بتكسير الثلج بمقبض معدني داخل صينية قديمة لكسر الثلج. لطالما أعجبت بقوتها. لا بد أنها في السبعين الآن وبالنسبة إليّ لا تزال على حالها منذ أن كنت صغيراً. أمضيت الكثير من الوقت هنا، أساعدها على إعداد الطعام للسيد كيم (الذي توفي منذ خمسة أعوام)، وأقرأ، وأنجز فروضي المدرسية، وأشاهد التلفاز. جلست أمام طاولة المطبخ، ووضعت أمامي كأساً من الكولا المملوءة بالثلج. لقد احتست نصف كوب من القهوة سريعة التحضير في أحد الأكواب الصينية المرسوم عليها الطائر الطنان على حوافه. أتذكر المرة الأولى التي سمحت لي فيها بشرب القهوة من أحد هذه الأكواب، كنت في الثالثة عشرة من عمري. أحسست أنني كبرت. «لم أرك منذ زمن، يا صديقي». «آه»، أعرف. أنا آسف... الوقت يمضي سريعاً، مؤخراً». وافقتني على كلامي. لكيمي عينان سوداوان ثاقبتان، كأنها ترى وراء ما أفكّر فيه. وجهها الكوري المفلطح يُخفي كل العواطف ما لم ترد أن تُظهرها. هي لاعبة بريدج رائعة. «هل كنت تسافر عبر الزمن؟». «كلا. في الواقع، لم أسافر منذ أشهر. كان أمراً رائعاً». «هل لديك صديقة؟». ابتسمت. «هوو هوو. حسناً، أعرف كل شيء. ما اسمها؟ كيف أنك لم تأتِ بها إلى هنا؟». «اسمها كلير. لقد عرضت أن آتي بها إلى هنا عدة مرات لكنه في كل مرة كان يخذلني». «لم تعرض الأمر عليّ. تعال إلى هنا، وسيأتي ريتشارد أيضاً. وسنعد البط باللوز». كما هي العادة أحرجتني بلادتي. فالسيدة كيم تعرف تمام المعرفة الطريقة لحل كل المشاكل الاجتماعية. ولا يشعر والدي بأي وخز ضمير لكونه عصبياً معي، بل ترك الأمر لجهود السيدة كيم، كما ينبغي عليه أن يفعل، حيث إنها لطيفة جداً في أنها ربت ابنه ولم تكلفه قرشاً واحداً. «أنت عبقرية». «بالطبع أنا عبقرية. كيف لم أحصل على ملكية ماك آرثر؟ أسألك أنت؟». «ربما لأنك لم تخرجي من المنـزل بما يكفي. لا أعتقد أن أهل ماك آرثر يتعلقون بعالم اليانصيب». «كلا، بل لديهم ما يكفي من المال. متى ستتزوج؟». سالت الكولا على أنفي. ضحكت بشدة. اهتزت كيمي، وضربتني على ظهري. هدأتُ، ورجعت إلى الوراء بجلستها. «ما المضحك في الأمر؟ أنا أسأل فقط. ويجب أن أسأل، هاه؟». «كلا، ليس الأمر - أعني، لا أضحك لأنه أمر مضحك، بل لأنك تقرأين أفكاري. أتيت لأطلب من والدي أن أحصل على خاتميّ أمي». «أووووووووووهه. يا ولدي. لا أعرف. واو. ستتزوج. هذا عظيم! هل ستقول نعم؟». «أعتقد هذا. أنا متأكد بنسبة 99 بالمئة». «حسناً، هذا جيد. لا أعرف شيئاً حول خاتميّ أمك. أتفهم، ما أريد قوله لك». نظرت إلى السقف. «والدك، ليس كما ينبغي. يصرخ دائماً، ويرمي بالأشياء، ولا يقوم بالتدريب». «أوه. حسناً، هذا لم يفاجئني أبداً. ولكن هذا لا يبشر بالخير. هل كنت هناك، في الآونة الأخيرة؟». تذهب كيمي إلى شقة والدي كثيراً في العادة. وأعتقد أنها تقوم خلسة بتنظيف الشقة. لقد رأيتها تكوي قمصان والدي التوكسيدو، وهي تتحداني أن أعلق على هذا. «لا يدعني أدخل إليها!». كادت تبكي. هذا أمر سيئ جداً. لدى والدي بالتأكيد مشاكل يعاني منها. ولكن، من الفظاعة بالنسبة إليه أن يجعل هذا يؤثر في كيمي. «ولكن عندما لا يكون موجوداً». عادة ما أدعي أنني لا أعرف أن كيمي موجودة داخل وخارج شقة والدي من دون معرفته، تدعي أنها لن تفعل مثل هذه الأمور مرة أخرى. ولكن، في الواقع أنا ممتن لها جداً، والآن بعدما ابتعدت عن المكان. يجب أن يهتم به أحد ما. بدت كالمذنبة، وخافت لأنني أذكر هذا. «حسناً. أجل، ذهبت إلى هناك مرة،لأنني قلقت عليه. النفايات في كل مكان، سنصاب بالقمل إذا بقي على هذه الحال». «لا يوجد لديه أي شيء في البراد سوى شراب الشعير وعصير الليمون. لديه الكثير من الملابس على السرير الذي لا أعتقد أنه ينام عليه. لا أعرف ماذا يفعل. لم أره على هذه الدرجة من سوء الحال أبداً منذ وفاة والدتك». «آه يا للمسكين. ماذا تعتقدين؟». صوت ارتطام سمعناه قادم من فوق رؤوسنا، الأمر الذي يعني أن والدي أوقع شيئاً على أرض المطبخ. لا بد أنه ينهض. «أعتقد أنّ من الأفضل أن أصعد إليه». «أجل». كيمي حزينة. «إنه رجل طيب والدك، لا أعرف لماذا أصبح على هذه الحال». «إنه مدمن على الشراب. وهذا ما يفعله مدمنو الشراب. هذا موجود في وصف أعمالهم، التداعي، ثم الاستمرار في هذا التداعي». جعلت نظراتها على مستوى نظري. «في ما يتعلق بالحديث عن العمل...». «أجل؟». آه اللعنة. «لا أعتقد أنه يعمل». «حسناً، الوقت ليس وقت الموسم. فهو لا يعمل في شهر آيار». «إنهم يقومون بجولة في أنحاء أوروبا وهو موجود هنا. وأيضاً، لم يدفع الإيجار منذ شهرين». اللعنة اللعنة اللعنة. «كيمي، لماذا لم تتصلي بي؟ هذا فظيع. يا اﷲ». وقفت على قدمي، وخرجت إلى الصالة، أمسكت حقيبتي، ثم عدت إلى المطبخ. بحثت داخل حقيبتي، فوجدت دفتر الشيكات. «بكم هو مدين لك؟». شعرت السيدة كيم بإحراج شديد. «كلا. يا هنري، لا - سيدفع هو المبلغ». «سيسدد لي المبلغ. هيا، يا صديقتي، لا بأس. كم المبلغ؟». لم تنظر إليّ. «1200 دولار». قالت هذا بصوت منخفض. «أهذا كل المبلغ؟ ماذا تفعلين، يا صديقتي، تديرين مجتمع فيلانثروبيك من أجل أن تدعمي واي ورد دي تانبل؟». حررت لها الشيك، ووضعته تحت صحنها. «من الأفضل لك أن تسحبـي الشيك أو سآتي للبحث عنك». «حسناً، لن أقبض الشيك حتى تأتي لزيارتي». «سأزورك على كل حال». أحست بالذنب قليلاً. «سأحضر كلير معي». ابتسمت لي كيم. «آمل ذلك. سأكون إشبينتك». «إذا لم تتطور حال والدي تستطيعين أن تزفيني إلى العروس. في الواقع، هذه فكرة عظيمة. تستطيعين أن تصطحبيني في الممر، بينما تنتظر كلير عريسها ببذلة التوكسيدو، وسيعزف عازف الأورغ معزوفة Lohengrin...»(30). «من الأفضل أن أشتري ثوباً لي». «واو. لا تشتري شيئاً حتى أقول لك إننا اتفقنا». تنهدت ثم أردفت قائلاً: «أعتقد أنه من الأفضل أن أذهب لأكلمه». وقفت، شعرت وأنا في مطبخ السيدة كيم أنني ضخم، وفجأةً، وكأنني أزور مدرسة القواعد القديمة، وأتعجب من حجم المقاعد. وقفت ببطء، وتبعتني إلى الباب الأمامي. عانقتها. بدت للحظة ضعيفة وضائعة، وتساءلت حول حياتها، وحول أيام التنظيف المصغرة لديها وحول البستنة، ثم ما لبث اهتمامي أن تحطم مرةً أُخرى. سأعود قريباً، لا أستطيع أن أُمضي بقية حياتي وأنا أختبئ على السرير مع كلير. راقبتني كيم وأنا أفتح باب شقة والدي. «مرحباً، يا والدي؟ هل أنت في المنـزل؟». صمت، ثم، «اخرج من هنا». صعدت الدرج، وأغلقت السيدة كيم الباب. أول شيء صدمني هو الرائحة، شيء ما متعفن هنا. غرفة المعيشة عبارة عن خراب. أين الكتب؟ كانت لدى والدي أطنان من الكتب، حول الموسيقى، والتاريخ، والروايات، واللغة الفرنسية، والألمانية، والإيطالية. أين هذه الكتب؟ حتى التسجيلات ومجموعات السي دي تبدو أقل بكثير. هناك ورق في كل مكان، وبريد، وصحف، وسجلات، تغطي الأرض. بيانو والدتي يغطيه الغبار وثمة مزهرية فيها محنطات موضوعة على عتبة النافذة. سرت في الصالة، وألقيت نظرة على غرف النوم. فوضى عارمة، وملابس، وقمامة، والكثير من الصحف. وتوجد، في الحمام، زجاجة من ميشيلوب تحت المغسلة وبقعة جافة تلمع من شراب الشعير تفترش السجادة. جلس والدي إلى الطاولة في المطبخ، وظهره إليّ، ينظر خارج النافذة إلى النهر. لم يستدر عندما دخلت. لم ينظر إليّ عندما جلست. ولكنه لم ينهض ويغادر، أيضاً، لهذا فهمتها على أنها إشارة أنه يمكن للمحادثة أن تستمر. «مرحباً، يا والدي». صمت. «سمعت أنك لا تعمل». «هذا شهر آيار». «وكيف لم تذهب في الجولة؟». أخيراً، نظر إليّ. فتحت هذا العناد هناك خوف. «أنا في إجازة مرضية». «منذ متى؟». «منذ شهر آذار». «إجازة مرضية مدفوعة الأجر؟». صمت. «هل أنت مريض؟ ما خطبك؟». أعتقد أنه سيتجاهلني، ثم طلب مني أن أمسك بيديه. إنهما تهتزان، وكأن زلزالاًً صغيراً أصابهما. لقد فعلها، أخيراً. ثلاثة وعشرون عاماً من الشرب المتعمد وها هو يدمّر مقدرته على عزف الكمان. «أوه، يا أبي. أوه، يا اﷲ. ماذا قال ستان؟». «قال هذا هو المرض. لقد أصيبت الأعصاب، ولن تعود إلى حالتها السابقة». «يا اﷲ». نظرنا إلى بعضنا للحظة لا يمكن تحملها. وجهه غاضب، وأنا على وشك أن أفهم، لا شيء لديه. لم يبقَ لديه شيء ليحتفظ به، لأن يُبقيه، لتكون له حياته. أولاً والدتي، ثم الموسيقى، كلتاهما رحلتا، رحلتا. لم آبه بما أبدأ به أولاً، لذا ستكون جهودي المؤخرة غير منطقية. «ماذا يحدث الآن؟». صمت. لا شيء يحدث الآن. «لا تستطيع البقاء هنا، وتشرب حتى العشرين سنة القادمة». نظر إلى الطاولة. «ماذا عن راتبك التقاعدي؟ وشركات العمال؟ والرعاية الصحية؟ أأ؟». لم يفعل شيئاً، بل ترك كل شيء يضيع. أين كنت؟ «دفعت لك إيجار المنـزل». ارتبك وقال: «أوه، ألم أدفع الإيجار؟». «كلا، أنت مدين بإيجار شهرين. كانت السيدة كيم في غاية الحرج. لم ترغب في إخباري، ولم ترد أيضاً أن أعطيها نقودها، ولكن لا معنى أن تجعل مشاكلك مشاكلها». «مسكينة السيدة كيم». راحت الدموع تسيل على وجنتي والدي. إنه كهل. لا شيء آخر. إنه في الخامسة والسبعين من العمر، وهو رجل هرم. لن أغضب، الآن. أنا آسف، وخائف من أجله. «يا أبي». نظر إليّ مجدداً. «انظر. دعني أفعل شيئاً من أجلك، حسناً؟». أشاح بناظريه عني، خارج النافذة مرة أخرى نظر إلى الأشجار التي تقع إلى الجانب الآخر من المياه. «يجب أن تدعني أرى وثائق تقاعدك والبيانات المصرفية وما إلى ذلك. عليك أن تدع السيدة كيم وأنا أيضاً ننظف هذا المكان. ويجب أن تتوقف عن تناول الشراب». «كلا». «كلا، ماذا؟ كل شيء أم بعضه؟». صمت. بدأت أفقد صبري، فقررت أن أغير الموضوع. «والدي. سأتزوج». أخيراً، استحوذت على انتباهه. «بمن؟ من ستتزوجك؟». قال هذا، كما أعتقد، من دون أي خبث. إنه فضولي بطبعه. أخرجت محفظتي، وأخرجت من الجيب البلاستيكي صورة كلير. تبدو كلير في الصورة صافية على شاطىء لايت هاوس. وشعرها يتماوج كعلم يرفرف في الهواء في أضواء النهار الأولى، بدت كأنها تتلألأ أمام الأشجار المظلمة. أخذ والدي الصورة، وتفحصها بتمعن. «اسمها كلير أبشير. وهي فنانة». «حسناً. جميلة». قال هذا بأسلوب الحاسد. هذا أقرب شيء أصل إليه من بركة الأب. «أود... أود فعلاً أن أقدم إليها خاتمي عرس وخطبة أمي. وأعتقد أن والدتي كانت لتحب هذا». «وكيف لك أن تعرف هذا. أنت بالكاد تذكرها». لم أشأ الخوض في نقاش معه حول هذا، لكنني قررت فجأة أن أشق طريقي. «أراها بقواعد منتظمة. رأيتها مئات المرات منذ أن توفيت. رأيتها تسير في الجوار، معك، ومعي. وهي تذهب إلى المتنـزه، وتتعلم تسجيل النقاط، وهي تتسوق، وهي تتناول القهوة مع مارا في تياس. رأيتها مع الخالة إيش. ورأيتها في جويليارد. سمعتها وهي تغني». ابتعد عني. لقد دمرته، ولكنني لا أستطيع التوقف. «لقد تحدثت إليها. ووقفت قربها ذات مرة في قطار محتشد، ولمستها». بكى والدي. «ليست لعنة دائماً، حسناً؟ في بعض الأحيان يكون السفر عبر الزمن أمراً عظيماً. احتجت أن أراها، وفي بعض الأحيان ذهبت لأراها. كانت ستحب كلير، ربما كانت تريدني أن أكون سعيداً، ولكانت ستأسف على الطريقة التي دمرت فيها كل شيء لمجرد أنها ماتت». جلس إلى طاولة المطبخ، وراح يبكي. بكى، ولم يغطِ وجهه، بل أخفض رأسه، وترك الدموع تنهمر منه. راقبته لفترة، هذا ثمن فقداني لأعصابـي. ثم ذهبت إلى الحمام، وعدت ومعي لفافة من ورق الحمام. أخذ القليل منها، من دون أن ينظر، واستنثر. ثم جلسنا لبضع دقائق. «لماذا لم تخبرني؟». «ماذا تعني؟». «لماذا لم تقل لي إنك تستطيع أن تراها؟ لكنت أحببت... أن أعرف هذا». لماذا لم أخبره؟ لأن الأب الطبيعي يستطيع أن يتصور من الآن أن الغريب الذي كان يظهر في حياتهما الزوجية كان فعلاً ابنهما غير الطبيعي، والمسافر عبر الزمن. لأنني كنت خائفاً لأنه كرهني لأنني بقيت على قيد الحياة. لأنني استطعت بشكل سري أن أشعر بتفوقي عليه لشيء رأى أنه عيب. أسباب بشعة كهذه. «لأنني اعتقدت أنك ستتألم». «أوه. كلا. هذا لا... يؤلمني، أنا... من الجيد أن أعرف أنها هنا، في مكان ما. أعني... أسوأ شيء هو رحيلها. لذا من الجيد أن تكون موجودة هناك. حتى لو لم أستطع رؤيتها». «تبدو سعيدة، كعادتها». «أجل، كانت سعيدة... كنا سعداء». «أجل. كنت شخصاً مختلفاً. لطالما تساءلت ماذا كان يمكن أن يكون الأمر لو نشأت بالطريقة التي نشأت عليها أنت». نهض من مكانه ببطء. بينما بقيت جالساً، وسار مترنحاً إلى الصالة ثم إلى غرفة نومه. سمعته وهو يبحث عن شيء في الأنحاء، ثم عاد ببطء ومعه كيس صغير من الساتان. وصل إليه، وأخرج منه صندوق مجوهرات بلون أزرق داكن. فتحه، وأخرج منه خاتمين ناعمين. وضعهما في راحة يده المرتعشة الكبيرة، فبدوا كبذرتين. وضع والدي يده اليسرى على يده اليمنى التي تحمل الخاتمين، وجلس هكذا لفترة، وكأن الخاتمين حشرتان مضيئتان وقعتا في مصيدة يديه. أغلق عينيه. ثم فتحهما مجدداً، ومدّ يده اليسرى. كورت يدي مع بعضهما، ثم وضع الخاتمين في راحة يدي اللتين تنتظران. خاتم الخطبة من حجر الزمرد، والضوء الباهت من النافذة ينعكس عليه باللونين الأخضر والأبيض. الخاتمان من الفضة، ويحتاجان إلى تنظيف. يحتاجان إلى من يلبسهما، وأنا أعرف الفتاة التي ستلبسهما. (29) Home Is Anywhere You Hang Your Head: مطلع أغنية للمغني Elvis Costello. (30) Lohengrin: أوبرا من تأليف الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر. ذكرى ميلاد الأحد، 24 أيار، 1992 (كلير 21 عاماً، هنري 28 عاماً) كلير: إنها ذكرى ميلادي الحادية والعشرين. وهذا مساء صيفي مثالي. أنا في شقة هنري، مستلقية على سريره، أقرأ رواية حجارة القمر. وهنري في مطبخه الصغير يعد لنا العشاء. وبينما أخلع ثوب الحمام وأتوجه إلى الحمام سمعته يشتم الخلاط. أخذت وقتي، وغسلت شعري، وتصاعد البخار فوق المرايا. أفكّر في قص شعري. كم سيكون سهلاً عندها أن أغسل شعري وأمشطه بسرعة، ويكون مرتباً جاهزاً من أجل رقص الروك أند رول. تنهدت. يحب هنري شعري كما لو كان مخلوقاً بحدّ ذاته، كأن به روحاً تنادي روحه، وكأنه يستطيع أن يحبه كما يحبه هو. أعلم أنه يحبه كونه جزءاً مني، لكنني أعرف أنه سينـزعج إذا ما قصصته. وسأفتقده أنا أيضاً... لكنه يحتاج إلى الكثير من الجهد، أحياناً أرغب في خلعه كشعر مستعار، ووضعه جانباً، والخروج للعب من دون شعري. أسرّحه بعناية، وأعقد ضفائره. يكون شعري ثقيلاً عندما يكون مبللاً. ويشد فروة رأسي. فتحت قليلاً باب الحمام لكي أدع بخار الماء يخرج منه. وهنري يغني شيئاً من أوبرا كارمينا بورانا، بدت غريبةً وخارج المقام الموسيقي. خرجت من الحمام، فوجدته يُعد مائدة الطعام. «توقيت رائع، سيقدم العشاء حالاً». «دقيقة واحدة، وسأرتدي ملابسي». «أنت جيدة كما أنت، حقاً». مشى هنري حول المائدة، وفتح ثوب الحمام، ومرر يديه برقة فوق صدري. «ممم، سيبرد طعام العشاء». «العشاء بارد. أعني، يفترض أنه وجبة باردة». «أوه...حسناً، دعنا نأكل». شعرت فجأة أنني متعبة ومتضايقة. «حسناً». حررني هنري من دون أي تعليق. وعاد ليرتب الشوك والسكاكين الفضية. راقبته لدقيقة، ثم جمعت ملابسي المبعثرة على الأرض في عدة أماكن وارتديتها. جلست إلى المائدة، أحضر هنري وعاءين صغيرين وسميكين من الحساء، كان لونهما فاتحاً. فايشوس إنها وصفة من جدتي. تذوقت رشفة من الحساء، إنه ممتاز وغني بالزبدة ولذيذ. كان الطبق الثاني سمك السلمون مع قطع طويلة من الهليون المطهو بزيت الزيتون وأعشاب إكليل الجبل. فتحت فمي لأعبر له عن إعجابـي بالطعام ولكن، بدلاً من ذلك قلت له: «هنري، هل يمارس الأشخاص الآخرون الحميمية بالكم الذي نمارسه نحن». فكّر ثم قال: «معظم الناس...لا، أعتقد لا. فقط الأشخاص الذين لم يمضِ على تعارفهم الكثير من الوقت ولا يزالون غير مصدقين هذا الحظ الذي جاءهم، على ما أعتقد، هل هذا كثير؟». «لا أعرف ربما». قلت له ذلك وأنا أنظر إلى طبقي. لا أصدق أنني أقول له ذلك، وأنا التي أمضيت فترة مراهقتي أتوسل هنري كي يقيم علاقة حميمية معي، والآن أقول له إن هذا كثير. جلس هنري جامداً في مكانه. «كلير، أنا آسف جداً، لم أدرك ذلك، لم أكن أفكر في الأمر هكذا». رفعت نظري، وقد بدا هنري مصدوماً. انفجرت بالضحك. ابتسم هنري وهو يشعر بشيء من الذنب لكن عينيه كانتا تلمعان. «إنه فقط أنت تعلم، هنالك أيام لا أستطيع أن أجلس فيها». «حسناً ما عليك سوى أن تذكري لي ذلك. قولي: ليس اليوم حبيبـي، فقد قمنا اليوم بذلك ثلاثاً وعشرين مرة وأفضل قراءة رواية المنـزل الكئيب». «وأنت ستتوقف بخنوع وتكف عن ذلك». «لقد فعلت، حينها، أليس كذلك؟» كان معتدلاً جداًً. «أجل، لكنني شعرت بالذنب وقتها». ضحك هنري. «لا تتوقعي مني أن أساعدك على هذا أيضاً. لربما كان هذا أملي الوحيد. يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، سأضعف، وأتضور من أجل قبلة، وأتسكع بحثاً عن وظيفة، وبعد فترة ستبحثين في كتابك وتدركين أنني على وشك الموت عند قدميك إن لم تقيمي علاقة حميمية معي فوراً لكن لن أقول كلمة واحدة. اللهم باستثناء أصوات الشكوى والأنين». «لكن لا أعرف، أعني، أنا متعبة، وأنت يبدو أنك... بحالة جيدة. هل أنا غير طبيعية، أو شيء من هذا؟». مال هنري إلى المائدة، ووضع يديه على يديّ. وضعت يدي فوق يديه. «كلير». «نعم؟». «قد يكون من غير اللباقة أن أذكر ذلك، لكن اسمحي لي أن أقول هذا، دافعك إلى الحميمية القصوى فاق كل الدوافع تقريباً عند كل النساء اللواتي عرفتهن في حياتي. كانت معظم النساء يصرخن كفى(31) ويشغلن السكرتيرة الآلية عبر الهواتف مدة أشهر. ولكن عليّ أن أفكر... أنك كنت دائماً في هذا الأمر. إمّا أن يكون هذا كثيراً عليك، أو تشعرين أنك لا تحبين هذا، فعليك أن تقولي، وإلا فسأمشي على رؤوس أصابعي، وأتساءل إذا كنت أحملك ما لا تطيقين من طلباتي الشنيعة». «لكن، كم مقدار الحميمية القصوى الكافي لك؟». «بالنسبة إليّ؟ أوه. يا اﷲ. فكرتي عن الحياة المثالية تكون إذا بقينا طوال الوقت. يمكننا ممارسة الحميمية أكثر أو أقل باستمرار، وأن ننهض فقط لنحضر لأنفسنا إمدادات من الماء والفواكه لنمنع الجفاف، وأن نقوم برحلات من وقت إلى آخر إلى الحمام لنستحم، ونحلق قبل أن نعاود الأمر مجدداً، ونبدل ملاءات السرير مرة كل فترة من الزمن. وأن نذهب إلى السينما حتى لا نصاب بالتقرحات الجلدية. وأن نركض. ويجب عليّ أن أركض كل صباح. الركض بمثابة طقس يومي بالنسبة إلى هنري». «لماذا الركض؟ لأنك حينها ستمارس التمارين على كل حال؟». بدا فجأة جدياً. «لأن حياتي تتوقف غالباً على قدرتي على الركض أسرع ممن يلاحقني». «أوه». حان الآن دوري لأكون خجولة لأنني أعرف ذلك من قبل. «لكن كيف أعبر عن ذلك؟ لم يبدُ عليك أنك تذهب إلى أي مكان منذ أن تقابلنا هنا في الحاضر وأنت لا تسافر كثيراً عبر الزمن، أليس كذلك؟». «حسناً، في الميلاد، رأيت ذلك وفي ذكرى الشكر. كنت في ميتشغان، ولم أذكر ذلك لك لأنه أمر كئيب». «كنت تراقب الحادث؟». حدق هنري إليّ. «في الواقع كنت كذلك، لكن كيف عرفت؟». «منذ عدة سنوات ظهرت في ميدولارك عشية الميلاد، وذكرت لي ذلك. كنت متضايقاً حقاً». «أجل، أذكر أنني لم أكن سعيداً لمجرد رؤيتي ذلك التاريخ على اللائحة، وفكرت، ياه، ميلاد آخر أمر منه. بالإضافة إلى أن ذلك كان تاريخاً سيئاً في الوقت النظامي، انتهى بـي الأمر إلى تسمم نتيجة الشراب وفتق في المعدة. آمل أنني لم أفسده عليك». «لا... كنت سعيدة لأنني رأيتك. كنت تقول لي شيئاً مهماً، وشخصياً، بالرغم من حرصك على ألا تذكر أسماء أو أماكن. كانت تلك لا تزال حياتك الحقيقية، وكنت أتوق إلى أي شيء يجعلني أصدق أنك شخص حقيقي وأنني لست مختلة عقلياً. ولهذا السبب كنت ألمسك باستمرار». ضحكت. «لم أدرك يوماً كم كنت أجعل الأمور صعبة بالنسبة إليك. أعني، فعلت كل ما استطعت التفكير فيه، وكنت لطيفاً قدر استطاعتك. لا بد أنك كنت تموت». «على سبيل المثال؟». «ماذا عندنا من حلوى؟». نهض هنري مطيعاً، وأحضر قالب الحلوى من الآيس كريم بالمانغو مع توت العليق. توجد على زاويته شمعة واحدة وغنى لي هنري سنة حلوة يا جميل. ضحكت منه لأنه غنى بنشاذ. تمنيت أمنية، ونفخت لأطفئ الشمعة. كان مذاق الآيس كريم لذيذاً جداً، أسعدني كثيراً وبحثتُ في ذاكرتي لأتذكر حادثة سيئة أغيظ بها هنري. «حسناً، هذه الحادثة هي الأسوأ على الإطلاق. عندما كنت في السادسة عشرة، كنت في انتظارك في وقت متأخر من الليل. والساعة تُشير إلى قرابة الحادية عشرة ليلاً، وكان القمر هلالاً لذا كانت العتمة تغطي تقريباًً المرجة الخضراء. وكنت منـزعجة قليلاً من تصميمك على معاملتي بهذه الطريقة - كطفلة، أو كصديقة أو سمها ما شئت - كنت أكاد أجن حتى أتخلص من... وفجأة خطر لي أن أخبئ ملابسك...». «أوه، لا». «أجل، غيرت مكان الملابس، وخبأتها في مكان آخر...». أنا أخجل من نفسي من هذه الحادثة، لكن الأوان قد فات. «وماذا حصل؟». «وظهرت أنت، وقمت أنا بإغوائك حتى لم تعد تحتمل ذلك». «وماذا حصل؟». «وثبت عليّ وثبتني ولمدة ثلاثين ثانية اعتقدنا كلانا أن هذه هي. ولكن كانت لديك تلك النظرة على وجهك وقلت لي لا ثم نهضت، ومشيت مبتعداً. مشيت على طول المرجة الخضراء إلى منطقة الشجر، ومضت ثلاثة أسابيع قبل أن أراك مجدداً». «واو، ذاك الرجل صالح أكثر مني». «لقد جعلني كل ما قمت به في غاية التهذيب بحيث إنني قمت بمجهود كبير لأؤدب نفسي في العامين القادمين». «الحمد لله. لا أستطيع أن أتخيل ممارسة هذا القدر من قوة الإرادة على أسس منتظمة». «آه، لكنك ستفعل. هذا هو الجزء المدهش. لأنني ولفترة طويلة جداً اعتقدت أنك غير معجب بـي. وطبعاً، إذا كنا سنمضي حياتنا كلها على السرير، فأعتقد أنه عليك أن تمارس بعض القيود على متعك في ماضيّ». «حسناً، كما تعلمين، أنا لا أمزح عندما أقول إنني أريد هذا الكم من الحميمية. أعني، أدركت أنه غير عملي. لكنني كنت أريد أن أقول لك ذلك، أشعر أنني مختلف كثيراً. أنا... أشعر أنني مرتبط بك كثيراً. وأعتقد أن هذا يبقيني هنا في الحاضر. كوني مرتبطاً جسدياً معك بهذه الطريقة، كأنه بطريقة ما قد أعاد ترتيب الأمور في دماغي». كان هنري يضرب على يدي بطرف أصابعه. نظر إليّ وقال: «لديّ شيء لك. تعالي واجلسي هنا». نهضت، وتبعته إلى غرفة المعيشة. أعاد السرير إلى وضعية الأريكة، وجلست. كانت الشمس تغيب فعم الغرفة نور الغسق الوردي والبرتقالي المحمر. فتح هنري مكتبه، ومدّ يده إلى واحدة من درفاته العميقة، وتناول كيساً صغيراً من الساتان. جلس بعيداً عني إلى حدٍّ ما، ولكن، كانت ركبتانا تتلامسان. فكرت لا بد أنه يسمع دقات قلبـي. فكرت. وصلنا إلى هذا. أمسك هنري بيديّ، ونظر إليّ برزانة لقد انتظرت هذا طويلاً وها هي اللحظة وأنا خائفة. «كلير؟». «نعم؟». كان صوتي خافتاً وخائفاً. «تعلمين أنني أحبك، هل تقبلين الزواج بي؟». «أجل... يا هنري». غمرني الإحساس أن هذه اللحظة قد سبق لي أن رأيتها من قبل. «لكن أتعلم، حقاً...لقد وافقت من قبل». الأحد، 31 أيار، 1992 (كلير 21 عاماً، هنري 28 عاماً) كلير: كنت أقف مع هنري في الرواق في الشقة التي نشأ فيها. كنا متأخرين قليلاً، ولكننا نقف هناك الآن. اتكأ هنري على صندوق البريد، وتنفس ببطء وعيناه مغلقتان. قلت له: «لا تقلق، لن يكون أسوأ من مقابلتك لوالدتي». «والداك كانا لطيفين جداً معي». «لكن أمي... لا يُمكن توقّع تصرفاتها». «وهكذا والدي». أدخل هنري مفتاحه في قفل الباب الأمامي، وصعدنا الدرج حتى الطابق الأول، قرع هنري باب الشقة. وفتحته على الفور سيدة كورية صغيرة الحجم، كيمي. كانت ترتدي ثوباً حريرياً أزرق وتضع أحمر شفاه لامعاً، وكان حاجباها مرسومين قليلاً ومائلين. شعرها متموج بالأسود والأبيض وهذا ما أضفى عليه لوناً رمادياً، وهو مجدول وملفوف على شكل كعكتي شعر عند أذنيها. ذكرتني بشكل أو بآخر بروث غوردون. يصل طولها إلى كتفي، مالت برأسها إلى الوراء وقالت: «أوه، هنري، يا لها من جميلة!». شعرت بنفسي وقد توردت تماماً. قال هنري: «أين سلوكك الحسن يا كيمي؟». فضحكت كيمي وقالت: «أهلاً، تشرفنا يا آنسة كلير أبشير!». وأجبتها: «أهلاً سيدة كيم». وابتسمنا لبعضنا، وقالت: «أوه، ناديني كيمي، الجميع يدعونني كيمي». أومأت برأسي، وتبعتها إلى غرفة المعيشة حيث كان والد هنري يجلس على كرسيه الكبير. لم يقل شيئاً، بل اكتفى بالنظر إليّ. والد هنري نحيل، وطويل، وعظامه ناتئة، ومتعب. لا يُشبه هنري كثيراً. له شعر رمادي قصير، وعينان داكنتان، وأنف طويل، وفم رفيع منخفض قليلاً عند طرفيه إلى الأسفل قليلاً. يجلس غائراً على كرسيه، وقد لفتت نظري يداه الطويلتان والأنيقتان وهما في حضنه مثل قطة نائمة. سعل هنري وقال: «والدي، هذه هي كلير أبشير. كلير هذا أبـي، ريتشارد دي تامبل». مدّ السيد دي تامبل إحدى يديه ببطء، وتقدمت خطوة إليه وصافحته. كانت يده باردة كالثلج. قلت له: «مرحباً، يا سيد دي تامبل. يسرني التعرف إليك». «حقاً؟ إذاً، فهنري لم يحدثك بالكثير عني». كان صوته أجش ومضحكاً. «عليّ أن أستفيد من تفاؤلك. تعالي واجلسي قربـي. كيمي، هلا أحضرت لنا شيئاً نشربه؟». «كنت على وشك أن أسأل كلاًّ منكم على حدة - كلير، ماذا تودين أن تشربي؟ أعددت شراب السانغريا، هل تحبينه؟ هنري، ماذا عنك؟ سانغريا؟ حسناً. ريتشارد أتريد شراب الشعير؟». توقف الجميع عن الكلام دقيقة. ثم قال السيد دي تاميل، «لا، يا كيمي، بل أريد أن أشرب الشاي فقط إذا لم يكن لديك مانع من إعداده لي». ابتسمت كيمي، وغابت في المطبخ، استدار السيد دي تامبل نحوي وقال: «أنا مصاب بنـزلة برد خفيفة، تناولت قليلاًً من ذاك الدواء البارد، لكنني أخشى أن يجعلني أشعر بالنعاس». كان هنري يجلس على الأريكة ويراقبنا. كان كل الأثاث أبيض ويبدو أنهم اشتروه من جاي. سي. بيني عام 1945. كانت القطع المنجدة مغطاة بنايلون لحمايتها، وهنالك أغطية فيلينية على السجاد الأبيض. توجد مدفأة في الجدار يبدو أنها لم تُستخدم أبداًً، وفوقها لوحة زيتية جميلة لمنظر الخيزران في الريح. قلت: «هذه لوحة رائعة». لأن أحداً لا يقول شيئاً. بدا السيد دي تامبل سعيداً. «هل أحببتها؟ اشتريتها مع أنيت ونحن عائدان من اليابان عام 1962. أحضرناها من كيوتو، لكن النسخة الأصلية عنها من الصين. اعتقدنا أن كيمي ودونغ سيحبانها. إنها نسخة مقلدة من القرن السابع عشر عن النسخة الأصلية الأقدم منها». قال هنري: «أخبرها عن القصيدة أيضاً». «أجل، القصيدة تتعلق بشيء من هذا القبيل: الخيزران، من دون عقل، ومع ذلك يطلق أفكاراً تحلق بين الغيوم. يقف على الجبل المنعزل هادئاً، وقوراً، ويرمز إلى إرادة الإنسان. - رسمها وألفها بقلب رقيق، وو شين». قلت: «كم هذا جميل». جاءت كيمي ومعها صينية المشروبات، أخذت وهنري كأسينا من السانغريا بينما أمسك السيد دي تامبل بعناية بفنجان الشاي بيديه، ارتج الفنجان عن صحنه الصغير، ثم وضعه على الطاولة التي إلى جانبه. تذوقت شرابـي الذي كان بالفعل قوياً. نظر هنري إليّ ورفع حاجبيه. قالت كيمي: «هل تحبين الحدائق، يا كلير؟». أجبتها: «نعم، أجل، أمي تحب الاعتناء بالحدائق». «عليك أن تخرجي قبل العشاء لتشاهدي الحديقة الخلفية. تفتحت كل أزهار القرنفل، وسنريك النهر». «كم هذا جميل». مشينا جميعاً إلى الباحة الخلفية. أعجبت بنهر شيكاغو، الذي يجري رقراقاً أسفل الدرج الخطر، أعجبتني أزهار القرنفل. سألتني كيمي: «أي نوع من الحدائق لدى أمك؟ هل تزرع فيها الورود؟». كانت لكيمي حديقة صغيرة ورودها منسقة بانتظام، وكل ورق الشاي مهجن حسبما أعرف. «لديها حديقة ورود، في الواقع، لكن شغف أمي الحقيقي هو في أزهار السوسن». «لديّ السوسن أيضاً. إنها هناك». أشارت كيمي إلى مجموعة من أزهار السوسن. «عليّ أن أوزعها، هل تعتقدين أن أمك تريد بعضها؟». «لا أعرف، في إمكاني أن أسألها». في الحقيقة لدى والدتي أكثر من مائتي نوع من تشكيلة أزهار السوسن. ضبطت هنري وهو يضحك وراء ظهر كيمي وقد عبست في وجهه. «سأسألها إن كانت تريد أن تبادلك ببعض ما عندها، لديها بعض الأزهار التي قامت بتهجينها والتي ترغب في تقديمها إلى الأصدقاء». «أمك تهجن من أزهار السوسن؟». سأل السيد دي تامبل. «وقد فعلت ذلك بالتوليب أيضاً، لكن أزهار السوسن هي المفضلة لديها». «إنها بستانية محترفة؟». قلت: «لا، مجرد هواية، لديها بستاني يقوم بمعظم العمل وهناك عدة أشخاص يجزون العشب، ويغرسون، ويعتنون، وما إلى ذلك». «لا بد أنها حديقة كبيرة». قالت كيمي وهي تقودنا في طريق العودة إلى الشقة. في المطبخ كان هناك صوت انتهاء مؤقت الفرن. قالت كيمي: «حسناً، حان وقت الطعام». سألتها إن كانت تُريد أن أساعدها على تحضير شيء، وأشارت إليّ بيدها إلى الكرسي. جلست قبالة هنري. كان والده إلى يميني وكرسي كيمي الفارغ إلى يساري. لاحظت أن السيد دي تامبل يرتدي سترة بالرغم من أن الجو دافئ. كانت كيمي تضع أواني صينية جميلة مرسوم عليها طيور الطنان. وكانت لكل واحد منا كأس ماء زجاجية متعرقة باردة. صبت كيمي لنا الشراب. ترددت عند كأس والد هنري ولكن تجاوزته عندما هز برأسه. أحضرت السلطة ووضعتها على الطاولة. رفع السيد دي تامبل كأس الماء وقال: «بصحة الشابين السعيدين». قالت كيمي: «الشابان السعيدان». ونقرنا جميعنا كؤوسنا ببعضها وشربنا النخب. قالت كيمي: «إذاً، يا كلير، قال هنري عنك إنك فنانة، أي نوع من الفن تمارسين؟». «أصنع الورق، تماثيل من الورق». «عظيم، عليك أن تريني ذلك لأنني لا أعرف شيئاً عن هذا. مثل فن الأوريغامي»(32). «لا». تدخل هنري قائلاً: «إنهم مثل الفنانين الألمان الذين رأيناهم في معهد الفن، تعلمين، مثل أنسيلم كيفر. تمثال ورقي كبير أسود ومخيف». بدت كيمي متحيرة: «لماذا تقوم فتاة جميلة مثلك بصنع أشياء بشعة كهذه؟». ضحك هنري وقال: «هذا فن، يا كيمي، بالإضافة، إلى أن هذه الأشياء جميلة». قلت لكيمي: «أستعمل الكثير من الأزهار، إذا أعطيتني الورود الجافة من حديقتك سأضعها على قطعة أعمل عليها الآن». قالت: «حسناً، ما هذه القطعة؟». «غراب ضخم مصنوع من الورود، والشعر وأنسجة الزنبق». «لماذا الغراب، إنه فأل شؤم». «حقاً؟ أعتقد أنه رائع الجمال». رفع السيد دي تامبل أحد حاجبيه ولدقيقة بدا يشبه هنري وقال: «لديك فكرتك الخاصة عن الجمال». نهضت كيمي، وأخذت صحون السلطة، وأحضرت معها وعاء من البازيلاء الخضراء وطبقاً من لحم البط المطهو على البخار مع صلصة وردية من التوت والذرة الحارة. إنها لذيذة جداً. أدركت أين تعلم هنري الطهو. سألتني كيمي: «ما رأيك؟». قال السيد دي تامبل: «إنها لذيذة جداً يا كيمي». ووافقته الرأي، وكررت المديح. قال هنري: «ربما لو قللت السكر قليلاً». قالت كيمي: «أجل، أعتقد ذلك، أيضاً». «إنها حلوة زيادة»، قال هنري فابتسمت كيمي بابتسامة عريضة. مددت يدي لآخذ كأسي من الشراب. عندما أومأ إليّ السيد دي تامبل وقال: «خاتم أنيت يبدو جميلاً في إصبعك». «إنه جميل جداً، شكراً لأنك سمحت لي أن آخذه». «توجد الكثير من الذكريات حول هذا الخاتم والعلبة التي يوجد فيها. صنع في باريس عام 1823 لجدتي العظيمة، العظيمة، العظيمة، كان اسمها جين. جاء إلى أميركا مع جدتي إيفيت في عام 1920 وكان موضوعاً في الدرج منذ العام 1969 أي منذ أن توفيت أنيت. من الجميل رؤيته مجدداً وهو يرى ضوء النهار». نظرت إلى الخاتم، وفكّرت، كانت أم هنري تضع الخاتم عندما ماتت. اختلست النظر إلى هنري الذي بدا يفكّر في نفس ما أفكّر فيه، وإلى السيد دي تامبل الذي كان يأكل لحم البط. قلت للسيد دي تامبل: «حدثني عن أنيت». وضع شوكته، وأسند مرفقه إلى الطاولة، ووضع يديه على جبهته. حدق إليّ من خلف يديه. «حسناً، أعتقد أن هنري حدثك عنها إلى حدٍّ ما». «أجل، القليل، نشأت وأنا أستمع إلى تسجيلاتها، والداي من المعجبين بها». ابتسم السيد دي تامبل. «آه، حسناً، إذاً، تعلمين أن لأنيت صوتاً مدهشاً... غنياً، ونقياً، صوتاً رائعاً. كما أنّ مداه رائع، استطاعت التعبير عن روحها بصوتها، وكلما استمعت إليها أشعر أن حياتي تعني شيئاً أكثر من مجرد البيولوجيا... كان في إمكانها أن تسمع فعلاً، وتفهم بنية المقطوعة الموسيقية، وتحلل بالضبط جوهرها حتى تؤديها... كانت أنيت إنسانة عاطفية. وأعطت هذه العاطفة إلى أناس آخرين. وبعد وفاتها لا أعتقد أنني شعرت بأي شيء مرة أخرى». توقف. لم يكن في مقدوري النظر إلى السيد دي تامبل، فنظرت إلى هنري الذي كان يحدق بدوره إلى والده بحزن، فنظرت إلى طبقي. قال السيد دي تامبل: «لكنك سألت عن أنيت، وليس عني. كانت لطيفة، وفنانة عظيمة. وهاتان الخصلتان لا تجدينهما غالباً مجتمعتين معاً. لقد جعلت أنيت الناس سعداء، وكانت هي سعيدة أيضاً. استمتعت بالحياة. رأيتها تبكي مرتين فقط، مرة عندما قدمت إليها هذا الخاتم والمرة الثانية عندما أنجبت هنري». صمت آخر. وأخيراً، قلت له: «كنت محظوظاً جداً». ابتسم وهو لا يزال يغطي وجهه بيديه. «حسناً، كنا ولم نكن. في لحظة كان لدينا كل ما حلمنا به، وفي لحظة أُخرى تمزقت إلى قطع على الطريق السريع». جفل هنري. واصلت حديثي، قائلة: «ولكن، ألا تعتقد أنّ من الأفضل أن تعيش أقصى درجات السعادة لفترة قصيرة، حتى ولو فقدتها في النهاية، على أن تكون حياتك عادية دائماًً؟». نظر السيد دي تامبل إليّ. وأبعد يده عن وجهه وحدق. ثم قال: «لطالما فكرت في ذلك. ألا تعتقدين هذا؟». فكّرت في طفولتي، في كل هذا الانتظار، والتساؤل، والمتعة في رؤية هنري وهو يمشي في المرجة الخضراء بعد غياب دام أسابيع أو أشهراً، وفكرت كيف كانت حالي عندما مضى عامان لم أرَه فيهما ثم وجدته يقف أمامي في قاعة المطالعة في مكتبة نيوبيري، فكرت في المتعة من مقدرتي على لمسه، الرفاهية في معرفة مكانه، ومعرفة أنه يحبني. فأجبته: «أجل». وأردفت: «أعتقد ذلك». تقابلت عيناي بعيني هنري، فابتسمت. أومأ السيد دي تامبل وقال: «لقد أحسن هنري الاختيار». نهضت كيمي، وأحضرت القهوة وبينما كانت في المطبخ تابع السيد دي تامبل حديثه: «لم يهتم ببث الطمأنينة في حياة أي كان. في الحقيقة، هو على النقيض من أمه، إلى حدٍّ ما، غير جدير بالثقة، ومتقلب، ولا يهتم لأحد إلا لنفسه. قولي لي يا كلير بالله عليك لماذا تريد فتاة لطيفة مثلك الزواج بهنري؟».كأن كل شيء في الغرفة حبس أنفاسه. تجمد هنري ولم ينبس ببنت شفة. ملت إلى الأمام، وابتسمت للسيد دي تامبل، وقلت بحماسة وكأنه سألني ما نكهة الآيس كريم المفضلة بالنسبة إليّ: «لأنه حقاً، حقاً جيد على السرير». وتعالى من المطبخ صوت ضحكة عالية. نظر السيد دي تامبل إلى هنري الذي رفع حاجبيه وابتسم، حتى السيد دي تامبل ابتسم أخيراً، وقال: «كلام مؤثر يا عزيزتي». بعد أن شربنا القهوة، في ما بعد، وتناولنا تارت الليمون الرائع من صنع كيمي، وبعد أن أرتني صور هنري وهو رضيع، وطفل صغير، وهو في المدرسة الثانوية (وهذا ما أحرجه جداًً)، وبعد أن استخلصت كيمي معلومات أكثر عن عائلتي («عدد الغرف؟ والأشخاص! هيه، يا ولد، كيف لم تخبرني أنها جميلة وغنية؟»). وقفنا جميعاً عند الباب الأمامي، وشكرت كيمي على العشاء، وتمنيت ليلة سعيدة للسيد دي تامبل. قال لي: «سررت بمعرفتك، وعليك منذ الآن أن تناديني بريتشارد». «شكراً... ريتشارد». وشدّ على يدي للحظة، تلك اليد التي رأيت فيها ما رأته أنيت بالذات، قبل سنوات؛ ثم غاب ذلك، وهز رأسه بفظاظة إلى هنري الذي قبّل كيمي، وهبطنا الدرج، وخرجنا إلى مساء الصيف. كأننا أمضينا سنوات ونحن في الداخل. قال هنري: «وووش، لقد مت ألف مرة، وأنا أراقب هذا». «هل كنتُ على ما يرام؟». «على ما يرام، بل كنت رائعة، لقد أحبك!». مشينا في الشارع يداً بيد. كانت هناك باحة للألعاب في نهاية الشارع، ركضت إلى المراجيح وركبتها، وركب هنري على أرجوحة بجانبـي، وأخذنا نتأرجح أعلى فأعلى في بعض الأحيان نتأرجح متوازيين وفي أحيان أخرى نبتعد عن بعضنا وكأننا سنصطدم، وضحكنا، وضحكنا، كأن الحزن لن يزورنا يوماً، وكأننا لن نفقد عزيزاً، أو يموت، أو يغيب. نحن الآن هنا ولا شيء يفسد علينا سعادتنا أو يسرق المتعة من هذه اللحظة المثالية. الأربعاء، 10 حزيران، 1992 (كلير 21 عاماً) كلير: أجلس بمفردي إلى طاولة صغيرة عند النافذة الأمامية في مقهى بيروغوليزي، مكان صغير كحجرة جرذ يُقدم قهوة رائعة. من المفترض أنني أعمل على حلقة بحث حول أليس في بلاد العجائب من أجل صف مادة تاريخ فنّ الغروتسكي الذي سأقوم به في فصل الصيف هذا، وبدلاً من ذلك أحلم أحلام اليقظة، وأحدق عبثاً إلى السكان الأصليين الذين يصولون ويجولون في شارع هالستد. لا آتي غالباً إلى بويز تاون. أعتقد أنني سأنجز العمل بشكل أفضل لو كنت في مكان لا يستطيع أحد ممن أعرفه أن يجدني فيه. لقد اختفى هنري. غير موجود في منـزله ولم يذهب إلى عمله اليوم. أحاول ألا أقلق عليه. أحاول أن أجمع موقفاً من عدم الاكتراث أو المبالاة. يستطيع هنري الاعتناء بنفسه. ولأنني لا أعرف مكانه فهذا لا يعني أن ثمة مكروهاً قد وقع له. من يعرف؟ لربما يكون معي. كان أحدهم يقف إلى الجانب الآخر من الشارع وهو يلوح لي. دققت، وركزت تفكيري، وعرفت أن هذه المرأة القصيرة السوداء هي التي كانت مع إنغريد تلك الليلة في آرغون. لوحت لها بالمقابل، وعبرت الشارع متوجهة نحوي. وفجأة وقفت أمامي. إنها صغيرة للغاية حيث تساوى وجهها أمام وجهي، على الرغم من أنني كنت جالسة وهي واقفة. قالت سيليا متملقة: «مرحباً، يا كلير». تمنيت لو أنني ألف نفسي بصوتها وأنام. «مرحباً يا سيليا، تفضلي بالجلوس». جلست قبالتي، وأدركت أن قصرها هو بسبب ساقيها، إذ بدت وهي جالسة بطول طبيعي أكثر. قالت: «سمعت أقاويل عن أنكما خطبتما». رفعت يدي اليسرى، وأريتها الخاتم. جاء النادل إلينا، وطلبت سيليا قهوة تركية. نظرت إليّ، وابتسمت لي ابتسامة ماكرة. أسنانها بيضاء وطويلة وملتوية، وعيناها كبيرتان، وجفناها نصف مغلقين كأنها ستنام. رفعت شعر رأسها المخيف إلى الأعلى وزينته بعودين ورديين يتناسبان مع لون ثوبها الوردي اللامع. قالت لي: «أنت إما شجاعة أو مجنونة». «كثرٌ من قالوا لي ذلك». «حسناً، الآن يجب أن تعرفي». ابتسمت، هززت كتفي، ورشفت قهوتي التي كانت بحرارة الغرفة وحلوة. قالت سيليا: «هل تعلمين أين هنري الآن؟». «لا، هل تعلمين أين إنغريد الآن؟». ضحكت سيليا وقالت: «إنها تجلس أمام مشرب في برلين تنتظرني». نظرت إلى ساعتها وقالت: «لقد تأخرت». حوّل نور الشارع لون بشرتها البنية المحترقة إلى اللون الأزرق ثم إلى الوردي. بدت مثل مارتيان العظيم. ابتسمت لي. «هنري يركض في برودواي مرتدياً بذلة ذكرى ميلاده، وعلى ذيل البذلة مجموعة من فروات الرأس». أوه. لا. أحضر النادل قهوة سيليا، أشرت إلى فنجاني. عاد وملأه، ووضعت بحذر مقدار ملعقة سكر وحركته. وضعت سيليا نصف ملعقة من السكر في فنجانها الصغير من القهوة التركية. كانت قهوة كثيفة كدبس السكر. كان يا ما كان، كانت توجد ثلاث شقيقات صغيرات... كن يعشن في قعر بئر... لماذا كن يعشن في قعر بئر؟... لأنها كانت بئراً من دبس السكر. انتظرتني سيليا لأقول شيئاً. انحني باحترام عندما تفكرين ماذا تقولين. قلت «حقاً؟». أوه، بارعة أنت يا كلير. «لا يبدو أنك قلقة جداً. لو أن رجلي كان يركض في ذاك المكان لكنت تساءلت قليلاً». «أجل، حسناً، هنري ليس بالضبط رجلاً عادياً». ضحكت سيليا. «تستطيعين قولها مجدداً، يا أختاه». ما الكم الذي تعرفه؟ هل تعرف إنغريد؟ مالت سيليا إليّ ورشفت قهوتها، وفتحت عينيها الواسعتين، ورفعت حاجبيها وشفتيها. «هل ستتزوجينه حقاً؟». نـزعة جنونية دفعتني إلى القول: «إن كنت لا تصدقين تعالي وشاهدي بنفسك. تعالي إلى حفل الزفاف». هزت سيليا رأسها. «أنا؟ تعلمين أن هنري لا يحبني على الإطلاق. ولا حتى قليلاً». «حسناً، ويبدو أنك لست من المعجبات به أيضاً». ابتسمت سيليا. «أنا الآن. لقد أساء إلى الآنسة إنغريد كارميشيل كثيراً، وأنا أجمع ما حطمه». نظرت إلى ساعتها من جديد. «عمن تتحدثين، لقد تأخرت عن موعدي». وقفت سيليا وقالت: «لم لا تأتين معي؟». «لا شكراً». «هيا تعالي يا فتاة. يجب أن تتعرفي أنت وإنغريد إلى بعضكما بعضاً. لديكما شيء مشترك. هيا سنقيم حفلة عزوبة صغيرة». «في برلين؟». ضحكت سيليا. «ليس برلين المدينة بل المشرب». كانت ضحكتها كالكراميل، بدت آتية من شخص أكبر منها في الحجم. لا أريدها أن تذهب، لكن... «لا، لا أعتقد أن هذه فكرة حسنة». نظرت إلى سيليا، إلى عينيها. «تبدو وضيعة». نظرتها استحوذت عليّ، فخطرت لي الأفاعي والقطط. هل تأكل القطط الوطاويط؟... أم هل تأكل الوطاويط القطط؟ «وعليّ أن أنهي هذا، إضافة إلى ذلك». ألقت سيليا نظرة خاطفة على دفتر ملاحظاتي وسألت: «ما هذا، فروض منـزلية؟». أووه، هل هي مدرسة ليلية! أصغي الآن إلى أختك الكبرى سيليا، التي تعرف ما هو الأفضل لفتيات المدرسة الصغيرات؛ مرحباً، هل أنت كبيرة بما يكفي حتى تشربي؟ قلت لها بفخر: «أجل، كما حدث منذ ثلاثة أسابيع». مالت سيليا مقتربة مني. كانت تفوح منها رائحة القرفة. «هيا تعالي، تعالي، تعالي. عليك أن تعيشي قليلاً قبل أن تستقري مع رجل المكتبة. تعالي، يا كلير. قبل أن تعرفي أنك غرقت حتى أذنيك بقذارة حفاضات أطفال المكتبة المملوءة بنظام ديوي العُشري». «لا أعتقد أنها...». «إذاً، لا تقولي شيئاً، تعالي فحسب». حزمت سيليا الكتب التي أمامي. بدأت أتحرك لكن سيليا كانت قد مشت، وخرجت من المقهى وهي تحمل كتبـي، فأسرعت وراءها. «سيليا، لا، أحتاج إلى هذه». بالنسبة إلى شخص قصير ينتعل حذاء بكعبين بارتفاع خمسة إنشات لكل منهما يمكن أن يسير بنحو أسرع. «أهه - هه، لن أرجعها إليك حتى تعديني أن تأتي معي». «لن تحب إنغريد هذا». سرنا معاً واتجهنا جنوباً إلى هالستد نحو بيلمونت. لا أريد رؤية إنغريد. «كانت المرة الأولى والأخيرة التي رأيتها فيها عندما حضرنا حفلة أوركسترا النساء العنيفات وهذا يكفي». «بالطبع ستحب، لقد كانت إنغريد جداً فضولية بشأنك». استدرنا إلى بيلمونت، ومررنا بمحال الوشوم، والمطاعم الهندية، ومحال الجلديات، وواجهات دور العبادة. مشينا في الأسفل، في مسار المترو E1، ثم وصلنا إلى برلين. لم يبدُ ملفتاً للنظر من الخارج. النوافذ مطلية بالأسود، واستطعت سماع صخب موسيقى الديسكو من العتمة، وأنا أسير خلف شاب على بشرته نمش أعطاني بطاقة ولم يعطِ سيليا، وختم يدينا وتركنا ندخل هذا الجحيم. حالما تكيفت عيناي، أدركت أن المكان مكتظ بالنساء. كن متجمعات حول المنصة الصغيرة وهن يشاهدن فتاة تتمايل وهي ترتدي لباساً داخلياً وتتلوى بليونة كبيرة. كانت النساء يضحكن ويخاطبنها بأدفأ العبارات أمام المشرب. هذه ليلة النساء. جرتني سيليا إلى طاولة. كانت إنغريد تجلس هناك بمفردها، وتضع أمامها كأساً طويلةً من مشروب أزرق كلون السماء. رفعت نظرها وأستطيع القول إنها لم تكن سعيدةً برؤيتي كثيراً. بقيتُ واقفة. قالت سيليا لإنغريد: «هاي، بيبـي». قالت إنغريد: «لا بد أنك تمزحين، لماذا أحضرتها إلى هنا؟». تجاهلتاني تماماً. وسيليا لا تزال تمسك بكتبـي بين ذراعيها. «إنها لطيفة، يا إنغريد، لا بأس بها. اعتقدت أنه ربما أردت التعرف إليها بشكل أفضل، هذا كل ما في الأمر». بدت سيليا متأسفة نوعاً ما، لكن بالرغم من ذلك رأيتها مستمتعة بعدم ترك إنغريد مرتاحة. حدقت إليّ إنغريد. «لماذا أتيت؟ لتشمتي بي؟». أرجعت كرسيها إلى الوراء ورفعت ذقنها. وبدت كمصاصة دماء شقراء، ذات سترة مخملية سوداء وشفتين حمراوين كالدم. كانت فاتنة. شعرت أنني تلميذة مدرسة صغيرة من بلدة صغيرة. مددت يدي إلى سيليا لتعطيني كتبـي. «لقد أجبرت على ذلك، سأغادر الآن». كنت أستدير وأهم بالانصراف عندما مدت إنغريد ذراعها وقبضت على ذراعي. «انتظري لحظة». لوت ذراعي اليسرى إليها فارتبكت وطارت الكتب من يدي. سحبت يدي منها وهي تقول لي: «هل خطبتما؟». أدركت أنها تنظر إلى خاتم خطوبة هنري في يدي. لم أردّ عليها. استدارت إنغريد إلى سيليا. «كنت تعلمين، أليس كذلك؟». أرخت سيليا نظرها إلى الطاولة، ولم تتفوه بحرف واحد. «أحضرتها إلى هنا حتى أبقى متذكرة، أيتها الساقطة...». هدأ صوتها. وبالكاد صرت أسمعه في هذه الموسيقى الصاخبة. «كلا يا إنغريد، بل أردت فقط أن...». «اللعنة عليك، يا سيليا». وقفت إنغريد. وللحظة كان وجهها قريباً مني وتخيلت هنري يقبل هاتين الشفتين الحمراوين. حدقت إنغريد إليّ. ثم قالت: «قولي لهنري أن يذهب إلى الجحيم. وقولي له إنني سأراه هناك». وسارت خارجة. جلست سيليا ووجهها بين يديها. بدأت أجمع كتبـي. وأنا أستدير لأخرج قالت سيليا: «انتظري». فانتظرت. قالت سيليا: «أنا آسفة، يا كلير». هززت رأسي. سرت نحو الباب، وعندما استدرت رأيت سيليا تجلس وحيدة إلى الطاولة، وترتشف من كأس المشروب الأزرق التي كانت لإنغريد وهي تسند يدها إلى وجهها. لم تكن تنظر إليّ. عندما خرجت إلى الشارع، أسرعت خطاي حتى وصلت إلى سيارتي، وقدتها إلى المنـزل، وذهبت إلى غرفتي، وتمددت على سريري، واتصلت بهنري، لكنه لم يكن قد عاد فأطفأت الإضاءة، لكنني لم أنم. (31) Uncle: كلمة عامية (أميركية): تفيد معنى الاستسلام، ويمكن ترجمتها هنا بكفى. (32) الأوريغامي Origami: فن ياباني شهير في طي الورق وصناعة أشكال فنية منه. من الأفضل العيش بالكيمياء الأحد، 5 أيلول، 1993 (كلير 22 عاماً، هنري 30 عاماً) كلير: كان هنري منكباً على قراءة نسخة المجلة الطبية ذا فيسيجيانـز ديسك ريفيرنس PDR(33). هذا ليس فألاً حسناً. «لم أكن أعرف أنك مدمن مخدرات». «أنا لست مدمن مخدرات، بل مدمن شراب». «لا لست بمدمن شراب». «بلى، بالتأكيد أنا كذلك». تمددت على الأريكة، ووضعت ساقي في حضنه. وضع هنري كتابه على أعلى حذائي، وتابع تصفحه. «أنت لا تشرب الكثير». «كنت أشرب، صرت أشرب القليل بعد أن كدت أدمر نفسي. كما أن أبـي أمامي مثال حيّ يدعو إلى الأسى». «ما الذي تبحث عنه؟». «أبحث عن شيء أتناوله من أجل الزفاف. لا أريد أن أتركك تقفين بمفردك أمام أربعمائة شخص». «أجل، هذه فكرة جيدة». فكرت في هذا السيناريو للحظة ثم ارتجفت. «دعنا نهرب». التقت نظرات هنري بنظراتي. «وأنا لها». «سيتبرأ مني والدي». «بالتأكيد لا». «لا بد أنك لا تهتم بهذا الأمر. هذا أشبه بإنتاج عمل مسرحي ضخم على مسرح برودواي. مناسبة زفافنا هي مجرد فرصة لأبـي ليستمتع بالبذخ، ويدهش كل زملائه المحامين. وإذا تزوجنا من دون مباركتهما فسيستأجران ممثلين ليقوما بدور العروسين». «دعينا نذهب إلى المحكمة، ونعقد قراننا قبل الزفاف. وعندها إن حدث أي مكروه نكون على الأقل متزوجين». «لكن... لا أحب ذلك. سيكون هذا خداعاً... وسوء طالع. لماذا لا نفعل ذلك بعد الزفاف إن وقع فيه أي مكروه». «حسناً، هذه هي الخطة البديلة». مدّ يده وصافحني فصافحته. «إذاً، هل وجدت شيئاً؟». «حسناً، أفضل خيار أجده ملائماً لي هو مهدئ أعصاب يسمى ريسبيردال، لكنه لن يطرح في السوق حتى العام 1994. الخيار الثاني الجيد هو كلوزاريل وهناك خيار ثالث ممكن هو هالدول». «كأنها أدوية سعال عالية التقنية». «إنها مضادات الذِهان». «حقاًً؟». «أجل». «أنت لست مصاباً بالذِهان». نظر هنري إليّ، ورسم على وجهه تعابير غريبة، ونشب مخالبه في الهواء كشخص ممسوخ ذئباً في أفلام السينما الصامتة. ثم قال بجدية: «في دراسة للتخطيط الدماغي، بدا دماغي كدماغ مصاب بانفصام الشخصية. لقد أكد أكثر من طبيب أن هذا الوهم القصير عن السفر عبر الزمن هو بسبب انفصام في الشخصية. وهذه الأدوية تسد المستقبلات العصبية». «هل من أعراض جانبية؟». «حسناً، الاختلال العصبـي، الحاجة الملحة إلى الحركة، الباركنسون الوهمي؛ أي الحركات اللاإرادية لتقلصات العضلات، وعدم الراحة، والارتعاش، وتسارع دقات القلب، والأرق، والجمود، وضعف في تعابير الوجه نتيجة ضعف عضلاته. ثم تأتي أيضاً حركات التناذر العصبية، والضعف المزمن في حركات الوجه اللاإرادية، وندرة المحببات وانعدام قدرة الجسد على إنتاج كريات الدم البيضاء. ثم فقدان المقدرة والرغبة في الحميمية. بالإضافة إلى الحقيقة القائلة إن جميع هذه الأدوية هي مجرد مسكنات لا أكثر». «أنت لا تفكر جدياً في تناول أي منها، أتفكر في ذلك؟». «حسناً، تناولت في الماضي هالدول وذورازين». «كيف وجدتهما...؟». «وجدتهما مرعبين حقاً، تخدرت تماماً، شعرت كأن دماغي كان مملوءاً بصمغ إلمر». «أليس هناك خيار آخر؟». «الفاليوم، أو الليبريوم. أو الإكساناكس». «تناولت والدتي منها، الإكساناكس والفاليوم». «أجل، هذا معقول». قطب حاجبيه، ووضع المجلة جانباً وقال لي: «تحركي». عدلنا وضعية تمددنا على الأريكة وصرنا جنباً إلى جنب. شعور بالدفء والراحة. «لا تتناول شيئاً». «لم لا؟». «لأنك لست مريضاً». ضحك هنري. «هذا ما أحبه فيكِ، عدم قدرتك على رؤية عيوبـي المخفية». كان يفك أزرار قميصي فلففت ذراعي حوله. نظر إليّ، منتظراً. كنت غاضبة قليلاً. «لا أفهم لماذا تتحدث هكذا. تقول دائماً أشياء مرعبة عن نفسك، وأنت لست كذلك، أنت شخص جيد». نظر هنري إلى يدي، وأخرج يده وقربني إليه. «لست شخصاً جيداً». قالها بلطف في أذني. «لكن ربما سأصبح كذلك؟». «من الأفضل لك». «أنا جيد بالنسبة إليك كلير؟». هذا صحيح تماماًً. «همممم؟». «هل صحوتِ يوماً، وتساءلت إن كنت لعبة يُلعب بها؟». «كلا. أنا عادة أصحو لأتساءل إن كنت ستختفي ولن تعود أبداً. أصحو مكتئبة من أشياء أعرف نصفها عن المستقبل. لكن ثقتي مطلقة أنه يفترض بنا أن نكون مع بعضنا». «ثقة مطلقة». «ألا تعتقد ذلك؟». قبلني هنري. «لا الزمن، ولا المكان، ولا الحظ، لا الموت يمكن أن يُثني رغباتي القليلة عن غياب قصير». «هل ستأتي مجدداً؟». «لا يهمني إذا فعلت». «متبجح». «والآن من يقول أشياء سيئة عني؟». الاثنين، 6 أيلول، 1993 (هنري 30 عاماً) هنري: أجلس في الرواق إلى جانب الألمنيوم الأبيض المتسخ في هيمبولدت بارك. الساعة قرابة العاشرة من صباح الاثنين. أنتظر بن ليعود من حيث ذهب. لا أحب هذا الجوار كثيراً. أشعر وكأنني مكشوف وأنا جالس هنا أمام باب منـزل بن، لكنه شخص دقيق المواعيد تماماً، لذا استمررت في الانتظار بثقة. شاهدت امرأتين لاتينيتين تدفعان عربة مولود على طول الممشى المخرم والمكسور. بينما كنت أفكّر في عدم كفاءة خدمات المدينة، سمعت أحدهم ينادي من بعيد: «يا صبـي المكتبة!». نظرت نحو مصدر الصوت فإذا به غوميز، وتأكدت أنه هو. قلت في نفسي يتمتع غوميز بموهبة مدهشة في الوصول إليّ وأنا منهمك في أمر شنيع بالتحديد. عليّ أن أتخلص منه قبل أن يظهر بن. جاء غوميز نحوي وهو يترنح طرباً. يرتدي ثياب المحاماة، ويحمل حقيبته بيده. تنهدت. «هل أنت بخير أيها الرفيق؟». «أجل، ما الذي تفعله هنا؟». سؤال جيد. «أنتظر صديقي. كم الساعة الآن؟». «العاشرة والربع. 6 أيلول، 1993». أضاف ليساعدني. «أعرف، يا غوميز. شكراً لك على كل حال. هل تقوم بزيارة لأحد موكليك هنا؟». «أجل. فتاة في العاشرة من عمرها. أجبرها عشيق أمها على أن تشرب الدرانو، لقد تعبت من هؤلاء البشر». «أجل، هناك الكثير من المجانين، لا تكفيهم لوحات مايكل أنجلو». «هل تناولت الغداء؟ أو الفطور، أعتقد أنها ستكون فكرة؟». «لا. أفضل البقاء هنا بانتظار صديقي». «لم أكن أعرف أن أحداً من أصدقائك يعيش بهذه الطريقة، كل الأشخاص الذين أعرفهم يعيشون هنا يكونون بحاجة ماسة إلى مساعدة قانونية». «إنه صديقي منذ أيام مكتبة المدرسة». وها هو بن قد أتى وهو يقود سيارته المرسيدس الفضية موديل 62. من الداخل عبارة عن حطام لكنها من الخارج تبدو جيدة وجميلة. أطلق غوميز صفرة هادئة. قال بن وهو يسير مسرعاً: «آسف لأنني تأخرت عليك. أمور منـزلية». نظر غوميز إليّ بفضول. تجاهلته. نظر بن إلى غوميز وإليّ. «غوميز هذا بن. بن هذا غوميز. آسف لأنه عليك أن تغادرنا الآن يا رفيق». «في الحقيقة، لديّ ساعتان أنا حر فيهما». تولى بن زمام الأمور. «غوميز، جميل أنني تعرفت إليك. في وقت لاحق، حسناً؟». كان بن يعاني من ضعف نظر تقريباً لذا راح ينظر إلى غوميز من تحت نظارته السميكة التي كانت تجعل عينيه تبدوان بضعف حجمهما الطبيعي. وهو يحرك مفاتيحه في يديه. جعلني ذلك عصبياً. وقف كلانا بهدوء ننتظر غوميز كي يغادر. قلت له: «سأتصل بك بعد ظهر هذا اليوم». استدار من دون أن ينظر إليّ ومضى. شعرت بالاستياء، لكن هنالك أشياء لا أريد أن يطلع عليها غوميز، وهذا الأمر هو أحد تلك الأمور. استدرت أنا وبن نحو بعضنا ورمقنا بعضنا بنظرة نقر فيها ونقول من خلالها إننا نعرف عن بعضنا أموراً إشكالية. فتح الباب الأمامي لمنـزله. لقد أمضيت زمناً أحاول فيه كسر باب منـزله لأن لديه مجموعة متعددة من الأقفال وتجهيزات الأمان. دخلنا الصالة المظلمة الضيقة، التي تفوح منها دائماً روائح كرائحة الملفوف، بالرغم من أنني متيقنٌ أن بن لا يطبخ أبداً الكثير من أنواع الطعام، فكيف بالملفوف. مشينا إلى الدرج الخلفي صعوداً ثم إلى ممر صالة أخرى عبر غرفة نوم، ثم نحو غرفة أخرى جعلها بن مختبراً له. وضع حقيبته أرضاً ثم علّق سترته. توقعت أن ينتعل حذاء التنس، لكنه بدلاً من ذلك راح يتمشى حاملاً آلة صنع القهوة. جلست على أحد الكراسي التي تطوى وانتظرت بن حتى ينتهي. أعرف أكثر من أي شخص آخر أن بن ممن يرتادون المكتبات. وقد قابلته في الحقيقة في روزاري لكنه غادر قبل أن يحصل على شهادة في علوم المكتبات. وقد غدا أنحف مما كان عليه منذ قابلته آخر مرة، وصار أكثر صلعاً إلى حدٍّ ما. إنه مصاب بالإيدز وفي كل مرة أراه فيها أنتبه إلى الأمر أكثر لأنني لا أعرف أبداً كيف ستسير الأمور معه. قلت له: «تبدو بحال جيدة». «بفعل جرعات الأزيوثياميدين المكثفة، والفيتامينات، واليوغا، والتأمل البصري. عن أيها تتحدث. كيف أساعدك؟». «سأتزوج». تفاجأ بن ثم ابتهج. «تهانينا. بمن؟». «بكلير، لقد رأيتها من قبل. الفتاة ذات الشعر الأحمر الطويل». «أجل». بدا بن مكتئباًً وقال: «هل تعرف؟». «أجل». «حسناً، رائع». ورمقني بنظرة يقول فيها إن هذا كله لطيف، ولكن أين المشكلة؟ «هكذا خطط والداها لحفل زفاف ضخم في ميتشغان. دار عبادة، وأشابين، والأرز، وساحة مساحتها تسع ياردات. وحفل استقبال فاخر في نادي اليخوت بعد ذلك. وربطات عنق بيضاء، ليس أقل من ذلك». صب بن القهوة وقدّم إليّ فنجاناً كبيراً عليه رسم شخصية الكرتون ويني ذا بوه. وضعت مسحوق مبيض القهوة. كان الجو بارداً هنا، وقد بدت نكهة القهوة أكثر قوة، لكنها جيدة نوعاً ما. «أحتاج إلى البقاء هناك. أحتاج إلى أن أمر بثماني ساعات متواصلة من التوتر الذهني الشديد من دون أن أختفي». «آه». كانت لدى بن طريقته في التعاطي مع المشكلة، وقبولها فحسب، وهذا ما أجده مريحاً للغاية. «أحتاج إلى شيء تتعطل فيه كل المستقبلات العصبية في جسمي». «نافان، هالدول، ذورازين، سيرينتيل، ميلاريل، ستيلازين...». قام بن بتلميع نظارته بسترته. بدا كأنه فأر ضخم أصلع من دون نظارته. «كنت أتمنى أن تقوم بهذا من أجلي». بحثت عن الورقة في جيب بنطالي الجينـز، وجدتها وأعطيتها إليه. أمعن بن النظر فيها. وقرأ، 3-[2-[4-96-fluoro-1,2-benizisoxazol-3-yl. نظر إليّ محتاراً. «ما هذا؟». «هذا دواء جديد مضاد للذِهان(34) يدعى ريسبيرايدون، ويسوق على أنه ريسبيردال. سيطرح في الأسواق عام 1998. ولكنني أود تجربته الآن. إنه ينتمي إلى فئة جديدة من العقاقير الطبية تدعى بينـزيوكسازول». «من أين حصلت على كل هذه المعلومات؟». «من الدورية العلمية. ذا فيسيجيانـز ديسك ريفيرنس PDR طبعة عام 2000». «من سيصنعه؟». «شركة جانسن». «هنري، أنت تعلم أنك لا تتحمل مضادات الذِهان كثيراً. إلا إن كان هذا الدواء يعمل بطريقة سريعة ومختلفة؟». «لا يعرفون بعد كيف يعمل. إنه مجموعة انتقائية أحادية وفيه نسبة عالية من السيروتينين النوع الثاني وهكذا دواليك». «حسناً، الأسطوانة القديمة نفسها. ما الذي يجعلك تعتقد أن هذا سيكون أفضل من هالدول؟». ابتسمت بأناة. «تخمين مثقف. لا أعلم علم اليقين. هل يمكنك تركيبه؟». تردد بن. «نعم، أستطيع». «كم يستغرقك ذلك؟ يحتاج الأمر إلى بعض الوقت لبناء نظامه». «سأتصل بك. متى موعد الزفاف؟». «23 تشرين الأول». «ممم. ما كمية الجرعة؟». «ابدأ بواحد ميليغرام وتابع بدءاًً من هنا؟». وقف بن، تمطى، وبدا في الضوء الخافت لهذه الغرفة المظلمة كبير السن، كأنه مصاب باليرقان، بدا نحيلاً جداً. جزء من بن يحب التحدي (فلنصنع هذا الدواء قبل وقته، قبل أن يتم اختراعه)، وجزء منه لا يحب المغامرة. «هنري، إنك لا تعلم يقيناً أن مشكلتك هي في المستقبلات العصبية». «لقد رأيتَ نتائج الأشعة بنفسك». «أجل، أجل. لم لا تتعايش مع الأمر فحسب؟ فالعلاج قد يكون أسوأ من الداء نفسه». «بن، ماذا لو طقطقت أصابعي الآن». وقفت، ملت قريباً منه، وطقطقت أصابعي. «فتجد نفسك فجأة واقفاً في غرفة نوم ألن عام 1986». «سأقتله ذاك الحقير». «لكنك لا تستطيع. لأنك لم تقتله حينها». أغلق بن عينيه وهز رأسه. «ولن تستطيع تغيير أي شيء، سيمرض كما مرض، وستمرض أنت كما مرضت، und so weiter(35). ماذا لو كان مقدر عليك أن تراه وهو يموت مراراً وتكراراً؟». جلس بن على الكرسي المطوي. من دون أن ينظر إليّ. «هذه هي حالي الآن يا بن، أعني، في بعض الأحيان يكون الأمر مضحكاً، ولكن غالباً ما أُصبح تائهاً وسارقاً، وأحاول فقط أن...». «التحدي». تنهد بن. «يا اﷲ لا أعلم لماذا أتحملك». «براعتي؟ مظهري الصبياني الفاتن؟». «أنت تحلم. هل أنا مدعو إلى الزفاف؟». تفاجأت. لم يخطر لي أبداً أن بن يود حضور الزفاف. «أجل! حقاً! هل تود الحضور؟». «لأهزم مراسم الدفن». «رائع! بدأ قسم دار العبادة المخصص للمدعوّين يمتلئ بسرعة. ستكون أنت ضيفي الثامن». ضحك بن. «ادعُ جميع صديقاتك السابقات فتمتلئ المقاعد». «لن أنجو بهذا. معظمهن يردن رأسي على رمح». «هممم» نهض بن، وفتش في أحد أدراج مكتبه، أخرج منه علبة زجاج صغيرة فارغة وفتح درجاً آخر، أخذ علبة دواء كبيرة، فتحها ووضع فيها ثلاث حبات من العلبة الصغيرة. وناولني إياها. سألته: «ما هذه؟». وأنا أفتح العلبة، وأضع الحبات في راحة يدي. «إنها مهدئ إندروفين ممزوج مع مضاد اكتئاب. إنها، هيه، لا تأخذه». كنت قد وضعت حبة في فمي وابتلعتها. «إنها من أنواع المورفين». تنهد بن. «عندك موقف متغطرس جداً في ما يتعلق بالأدوية». «أحب الأفيون». «أراهن على هذا. لا تعتقد أنني سأدعك تأخذ طناً منها أيضاً. أخبرني إذا ما كنت تعتقد أنها ستكون مناسبة من أجل يوم الزفاف. أقصد في حال لم ينجح أمر تركيب ذاك الدواء الآخر؛ مفعول هذه الحبة يستمر أربع ساعات لذا يجب أن تتناول حبتين منها». وأومأ بن إلى الحبتين المتبقيتين في يدي. «إياك أن تتناولهما هكذا من أجل المتعة فقط، حسناً». «أقسم بشرف الكشافة». أصدر بن صوتاً كالشخير. دفعت له ثمن الحبوب، وغادرت. وبينما كنت أنـزل الدرج شعرت بشيء يأسرني، توقفت عند أسفل الدرج لأستمتع بهذا الشعور. استمر لفترة. مهما كان ذاك الذي وضعه بن في هذه الحبوب، فهي مدهشة. يشبه هذا الشعور شعور الانتصار مضروباً بعشر مرات أضف إلى ذلك تأثير الكوكايين وهذا على ما يبدو جعلني قوياً. وأنا أخرج من الباب الأمامي مشيت قرب غوميز. كان ينتظرني. «هل تريد أن أوصلك؟». «بالتأكيد». لقد تأثرت حقاً باهتمامه، أو فضوله، أو مهما كان ذلك. سرنا باتجاه سيارته وهي من نوع شيفي نوفا ولها ضوءان أماميان بارزان. جلست على المقعد إلى جانب السائق. صعد غوميز، وأغلق بابه بقوة، أدار محرك السيارة الصغيرة وغادرنا. كانت المدينة رمادية وداكنة مع هطول المطر. قطرات كبيرة تنهمر على الزجاج الأمامي ونحن نترك خلفنا المنازل المتصدعة والأماكن الفارغة. أدار غوميز الراديو على محطة أن بـي أر، وقد كانوا يذيعون برنامج شارلز مينغوز الذي بدا لي بطيئاً بعض الشيء. ولكن، لم لا؟ هذه بلدة حرة. كان حي أشلند مليئاً بالأدمغة الفارغة ولكن عدا ذلك فالأمور حسنة، حسنة جداً بالفعل. رأسي مائع ومتقلب وهذا هو كل ما أستطيع فعله حتى أحافظ على نفسي من العويل بسعادة، بسبب تلك الحبة التي كانت تتغلغل إلى نهاية كل عصب من أعصابـي بتأثيرها الكيميائي. قطعنا أي أس بـي سايكي كارد ريدير، ومخرج بيتروز تاير، وبرغر كينغ، وبيتزا هات. وأنا المسافر ورأسي يلف على طريقته الخاصة في مينغوز. قال غوميز شيئاً لم أفهمه ثم قاله مجدداً. «هنري». «نعم؟». «ماذا تنوي أن تفعل؟». «لست متأكداً، قد أقوم بتجربة علمية، أو شيء من هذا القبيل». «لماذا؟». «سؤال ممتاز، سأجيب عنه في ما بعد». لم نقل شيئاً آخر إلى أن توقفت السيارة أمام شقة كلير وكاريس. نظرت إلى غوميز مضطرباً. قال لي بلطف: «تحتاج إلى رفقة». لم أمانع. دخلنا من الباب الأمامي وصعدنا الدرج، فتحت كلير الباب وعندما رأتني، كانت منـزعجة ومرتاحة وسعيدة في الوقت نفسه. كلير: طلبت من هنري أن يرتاح على سريري، وجلست مع غوميز في غرفة الجلوس نشرب الشاي ونأكل شطائر من زبدة الفول السوداني ومربى الكيوي. قال غوميز: «تعلَّمي الطبخ، يا امرأة». بدا كأنه تشارلز هيستون وهو يقدم الوصايا العشر. «في يوم ما». وضعت السكر في فنجاني. «شكراً لأنك ذهبت وأحضرته». «أفعل أي شيء من أجلك، يا قطة». بدأ بلف سيجارته. غوميز هو الشخص الوحيد من بين كل الأشخاص الذين أعرفهم يدخن في أثناء الطعام. لم أرد أن أعلق على ما قاله. أشعل السيجارة. ونظر إليّ، وضغطت على نفسي. «إذاً، ما كان ذاك الفصل الصغير من الحكاية، همم... كل الأشخاص الذين يذهبون إلى هناك في كومباشينيت فارماسوبيا هم ضحايا الإيدز أو مرضى السرطان». «أتعرفين بن؟». لا أعرف لماذا فاجأني سؤاله هذا. فغوميز يعرف كل الناس. «أعرف عن بن. كانت أمي تذهب إليه عندما كانت تتعالج بواسطة العلاج الكيميائي». «نعم». فكّرت في الأمر، وأنا أبحث عن شيء أذكره بأمان. «مهما كان الشيء الذي أعطاه إياه بن فقد وضعه في منطقة الأمان». «نحن نحاول أن نجد شيئاً يساعد هنري على البقاء في الحاضر». «على ما يبدو أنه غير مناسب للاستعمال اليومي إلى حدٍّ ما». أجل، لكن ربما جرعة أقل؟ «لم تفعلين هذا؟». «أفعل ماذا؟». «تساعدين السيد ميهم وتغوينه. تتزوجينه، ليس إلا». ناداني هنري باسمي. نهضت. مدّ غوميز يده، وأمسك بيدي. «كلير، أرجوك». «غوميز، دعني أذهب». حدّقت إليه إلى الأسفل. وبعد لحظة فظيعة طويلة أنـزل عينيه عني وتركني أمر. أسرعت عبر الصالة إلى غرفتي، وأغلقت الباب. كان هنري ممدداً كقط، على عرض السرير، وكان رأسه متدلياً إلى الأسفل. خلعت حذائي، وتمددت إلى جانبه. سألته: «كيف حالك الآن؟». التف هنري وابتسم. «جيد وأكثر من جيد». مسد وجهي. «أتريدين الانضمام إلي؟». «لا». تنهد هنري. «أنت إنسانة صالحة. لا يجب عليّ إفسادك». «لست صالحة. أنا خائفة». استلقينا معاً في صمت لوقت طويل. بدأت الشمس تشرق الآن. وتوضحت معالم غرفتي في ما قبل الظهيرة. رسم منحنٍ لشجرة جوز في إطار السرير، السجادة الشرقية الذهبية والبنفسجية، فرشاة الشعر وأحمر الشفاه وعبوة مطري اليدين على الطاولة. ونسخة من كتاب الفن في أميركا وعلى غلافه صورة ليون غولوب موضوعة على مسند الكرسي العتيق الذي اشتريته من الأثاث المستعمل وقد بدا جزء منه فقط. كان هنري ينتعل جورباً أسود. وتتدلى قدمه الطويلة النحيفة من جانب السرير. بدا نحيلاً. كانت عيناه مغلقتين، ربما كان يشعر أنني أحدق إليه، لأنه فتح عينيه وابتسم لي. شعره يتدلى على وجهه، وقد أعدته إلى الوراء بيدي. أخذ هنري يدي وقبل راحتها... قال لي بلطف: «آسف، يا كلير. يبدو أن هذا الشيء قد أثر في أعصابـي. ربما في ما بعد». «سيكون الأمر مضحكاً إن حدث يوم زفافنا». هز هنري رأسه. «لا أستطيع تناول هذه يوم الزفاف. سيكون ذلك مضحكاً للغاية. أعني أن بن عبقري لكنه اعتاد العمل مع أناس شديدي المرض. ومهما كان ذاك الذي سيخرج به سيكون شيئاً أشبه بتجربة في مقاربة الموت». تنهد ووضع زجاجة الدواء فوق طاولة سريري. «يجب أن أرسل هذه عبر البريد إلى إنغريد. هذا هو دواؤها المفضل». سمعت الباب الرئيس يفتح ويغلق، غادر غوميز. سألته: «أتريد أن تأكل شيئاً؟». «لا، شكراً». «هل سيقوم بن بتركيب الدواء الثاني لك؟». قال هنري: «سيحاول». «ماذا لو لم يكن صحيحاً؟». «تعنين لو أن بن أخطأ في التركيب؟». «أجل». قال هنري: «مهما حدث، فكلانا على الأقل يعرف أنني سأعيش على الأقل لأبلغ الرابعة والثلاثين. لذا لا داعي للقلق». «لتبلغ الرابعة والثلاثين؟ ما الذي سيحدث بعد أن تصبح في الرابعة والثلاثين؟». «لا أعرف يا كلير. ربما سأكون حينها قد توصلت إلى طريقة تبقيني في الحاضر». ضمني إليه وبقينا هادئين. عندما صحوت في ما بعد كان قد حل الظلام، وكان هنري نائماً بقربـي. ولون زجاجة الدواء يتوهج أحمر بسبب انعكاس ضوء ساعة المنبه على الزجاجة. لماذا الرابعة والثلاثون؟ الاثنين، 27 أيلول، 1993 (كلير 22 عاماً، هنري 30 عاماً) كلير: ذهبت إلى شقة هنري وأضأت الأنوار. سنحضر حفل أوبرا هذا المساء. وهي أوبرا أشباح الفرساي. دار الأوبرا لا تسمح بدخول المتأخرين لذلك كنت مرتبكة ولم أدرك في بادئ الأمر أنني أضأت الأنوار مما يعني أن هنري غير موجود. ثم أدركت ذلك، وانـزعجت لأننا سنتأخر. تساءلت إن كان قد اختفى. ثم سمعت أحدهم يتنفس. تجمدت. يأتي صوت التنفس من المطبخ. أسرعت نحو المطبخ، وأضأت الأنوار رأيت هنري ممداً على الأرض، بكامل ملابسه وهو في وضع غريب وساكن ويحدق إلى الأمام مباشرة. وعندما دخلت أصدر صوتاً خفيفاً لا يشبه صوت البشر، حشرجة تجمعت في حنجرته وخرجت من بين أسنانه. «أوه يا اﷲ، يا اﷲ». اتصلت بالطوارئ 911. أكد لي عامل المقسم أنهم سيحضرون خلال دقائق. وبينما أجلس على أرض المطبخ أحدق إلى هنري شعرت بالغضب، ورأيت الدفتر الذي يسجل فيه هنري أرقام الهواتف على مكتبه فاتصلت بالرقم المفتوح عليه. «آلو؟». كان الصوت ناعماً وبعيداً. «هل أنت بن ماتيسون؟». «أجل، من معي؟». «كلير أبشير. اسمعني يا بن، هنري ملقى على الأرض ومتجمد تماماً ولا يستطيع الكلام. اللعنة؟». «ماذا؟ اللعنة؟ اتصلي بالطوارئ 911!». «لقد اتصلت بها». «الدواء يشبه مرض الباركنسون، إنه يحتاج إلى مضاد المستقبلات العصبية! قولي لهم - اللعنة، اتصلي بـي عندما تصلين إلى المشفى -». «لقد وصلوا -». «حسناً، اتصلي بـي -». أغلقت الهاتف وقابلت المسعفين. في ما بعد، وبعد أن قادتنا سيارة الإسعاف إلى مشفى الرحمة، وبعد تسجيل قبول هنري فيها، وإعطائه حقنة ووضع الأوكسجين على أنفه، وتمديده على سرير المشفى بالقرب من الشاشة، مرتاحاً ونائماً، رفعت رأسي فرأيت أمامي رجلاً طويلاً هزيلاً يقف أمام باب غرفة هنري وتذكرت أنني نسيت الاتصال بـبن. دخل ووقف بعيداً عني إلى الجانب الآخر من السرير. كانت الغرفة معتمة والإنارة من الصالة الرئيسة تلقي بظلالها على بن، وهو ينحني أمام رأس هنري قائلاً: «أنا آسف جداً، آسف جداً». مددت يدي عبر السرير، وأمسكت بيديه وقلت له: «لا عليك، سيكون على ما يرام. حقاً». هز بن رأسه. «هذا خطأي أنا، كان ينبغي عليّ ألا أركب الدواء له». «ما الذي حدث؟». تنهد بن وجلس على الكرسي، جلست على طرف السرير. قال لي: «هناك عدة احتمالات، من الممكن أن تكون مجرد أعراض جانبية تحدث لأي شخص. ويبدو أن هنري لم يأخذها بشكل صحيح على ما يبدو. أعني، إنها صعبة الحفظ. ولم يكن في إمكاني التحقق من الأمر». صمتنا نحن الاثنين. كان السيروم ينقط من الجهاز إلى ذراع هنري. وأخيراً قلت له: «بن». «أجل يا كلير؟». «هل تسدي إليّ معروفاً؟». «كل ما تطلبين». «اجعله يتوقف عن ذلك، لا أريد المزيد من العقاقير، لن تنفعه هذه الأدوية». كشر بن بوجهي، وارتاح. «قولي لا فقط». «تماماً». وضحكنا. جلس بن معي لبعض الوقت. وعندما نهض ليغادر أمسك بيدي وقال لي: «شكراً للطفك. كان من الممكن أن يموت بسهولة». «لكنه لم يمت». «أجل، لم يمت». «أراك يوم الزفاف». «أجل». وقفنا في الصالة. وتحت ضوء النيون كان بن يبدو مريضاً ومتعباً. أحنى رأسه، واستدار، وتوارى عن أنظاري، وعدت أنا إلى الغرفة المعتمة حيث يتمدد هنري نائماً. (33) الدورية الطبية PDR: The Physicians Desk Refernce. (34) الذِهان: مرض يحدث بسبب عوامل وراثية تؤدي إلى عدم استقرار في التيارات العصبية من وإلى المخ. (35) باللغة الألمانية تعني: «وهلم جرا». نقطة التحول الجمعة، 22 تشرين الأول، 1993 (هنري 30 عاماً) هنري: سرت في شارع لاندين في ساوث هيفن مدة ساعة بينما كانت كلير وأمها تنهيان أمراً في محل الزهور. يوم الزفاف غداً، وبما أنني العريس فلا تقع على عاتقي الكثير من المسؤوليات. يكفي أن أكون حاضراً فحسب، هذا هو الأمر الرئيس المطلوب مني على أجندة المهام لحفل الزفاف. كانت كلير منشغلة باستمرار في جلسات تجريب ثوب الزفاف، والاستشارات وحفل هدايا العرس، وعندما أراها تبدو دائماً قلقة. إنه يوم صحو بارد، وأنا أضيع الوقت. أتمنى لو أنه توجد في ساوث هيفن مكتبة لائقة. حتى إن المكتبة فيها بشكل رئيس باربرا كارت لاند وجون غريشام. كان معي كتاب كليست من إصدار دار بنكوان، ولكن ليس لديّ المزاج لأقرأه. مررت بمحل الأنتيكات، والمخبز، والبنك ومحل أنتيكات آخر. وبينما كنت أمر بجانب محل حلاقة الشعر، نظرت إلى الداخل، كان هناك رجل مسن أنهى حلاقته على يد حلاق صغير أصلع، فأدركت من فوري ماذا عليّ أن أفعل. بينما كنت أدخل من الباب صدرت أصوات ناعمة معلنة دخول الزبون إلى المحل، الذي تفوح منه رائحة الصابون، والبخار، ورائحة مواد العناية بالشعر، ورائحة أجسام الكبار. كل شيء أخضر فاتح. الكرسي عتيق ومزين بالكروم، وتوجد على الرفوف الخشبية المعتمة زجاجات مواد تزيين الشعر وصوانٍ عليها مقصات، وأمشاط، وشفرات حلاقة. تبدو كلها طبية، من نوع نورمان روكويلز نظر مزين الشعر إليّ. قلت له: «قص شعري؟». أومأ إليّ لأجلس على واحد من الكراسي السوداء مستقيمة الظهر الفارغة وقد وُضعت إلى جانبها مجلات مصفوفة بعناية على رف واحد وعند نهاية الصف. وصوت فرانك سيناترا يصدح عبر الراديو. جلست، وبدأت أقلب صفحات مجلة المختار. قام مزين الشعر بمسح بقايا رغوة الصابون عن ذقن الرجل المسن، ووضع له عطر ما بعد الحلاقة. نهض الرجل بنشاط عن الكرسي، ودفع الأجرة. ساعده المزين على ارتداء معطفه، وأعطاه عكازه. «إلى اللقاء يا جورج». قال الرجل المسن هذا وهو يخرج من الباب. أجابه المزين: «إلى اللقاء، يا إيد». ثم انتبه إليّ. «ماذا نفعل؟». ارتفعت جالساً على الكرسي، رفعني بالكرسي عدة إنشات، وأدارني حتى أصبحت قبالة المرآة تماماً. نظرت نظرة أخيرة ومطولة إلى شعري الطويل. وضعت إبهامي وسبابتي على بعد إنش منه قائلاً: «أريد قصه كله». أومأ إليّ موافقاً ووضع الطوق الواقي من الشعر حول رقبتي. وراح المقص على الفور يُصدر أصواتاً حول رأسي، وشعري يسقط على الأرض. عندما أنهى سرحه، وأزال الطوق عن رقبتي، رحت أنظر، ها أنا قد أصبحت ذاتي في مستقبلي. وصولي إلى دار العبادة في الموعد المحدد السبت، 23 تشرين الأول، 1993 (هنري 30 عاماً، كلير 22 عاماً) (6:00 صباحاً) هنري: نهضت عند الساعة السادسة صباحاً. كانت تمطر. وأنا في غرفة صغيرة خضراء دافئة ومريحة تحت نبات الطنف في مكان يدعى بلاك، وقد استأجرنا غرفة مبيت وطلبت الفطور، يقع المكان أمام الساحل الجنوبـي من ساوث هيفن. اختار والدا كلير هذا النـزل، وأبـي يبيت أيضاً في غرفة لونها زهري صغيرة لطيفة بعد غرفة السيدة كيم التي تبيت في غرفة صفراء لطيفة أيضاً. جدي وجدتي أيضاً في الطابق العلوي الجميل في جناح أزرق اللون. أنا مستلقٍ على السرير الثاني الوثير تحت ملاءات من ماركة لورا أشلي وأستطيع سماع صوت الريح وهي تصطدم بالنـزل، والأمطار تنهمر بغزارة. أتساءل إن كان في إمكاني أن أركض تحت هذه الأمطار الموسمية المنهمرة. استمعت إلى صوت الماء وهو يجري عبر المزاريب، ويُصدر أصواتاً فوق السقف الذي يعلو قدمين فقط فوق وجهي. تبدو الغرفة كأنها علية. يوجد فيها مكتب صغير، في حال أردت أن أخط رسائل بأسلوب امرأة في يوم زفافي. كما توجد آنية وجرة صينية على المكتب، وإذا أردت استعمالها عليّ أن أكسر الثلج في الماء أولاً لأن الطقس بارد حقاً هنا. أشعر وكأنني دودة زهرية اللون وسط هذه الغرفة الخضراء، وكأنني نسجت يرقتي وفي طريقي لأن أصبح فراشة أو أي شيء آخر. لست صاحياً تماماً، هنا في هذه اللحظة. سمعت أحدهم يسعل. سمعت صوت خفقان قلبـي وصوتاً عالياً هو صوت جملتي العصبية وهي تقوم بوظيفتها. أوه، يا اﷲ، اجعل هذا اليوم يمر كأي يوم طبيعي. دعني أرتبك فيه كأي شخص عادي، أضطرب فيه كشخص عادي، ساعدني على أن أصل إلى دار العبادة في الوقت المحدد، في الوقت المناسب. لا تجعل أحداً يخاف بسببـي، وبالأخص لا تجعل ذاتي تخاف مني. دعني أمر في يوم زفافي بأفضل ما يمكنني من دون أي مؤثرات خاصة. احمِ كلير من أي مشاهد غير مستحسنة. آمين. (7:00 صباحاً) كلير: صحوت على سريري، سرير طفولتي. وكأنني قد طفوت على سطح الاستيقاظ فلا أستطيع أن أجد نفسي في الوقت المناسب، أهو الميلاد، ذكرى الشكر؟ أهو الصف الثالث، مجدداً؟ هل أنا مريضة؟ لماذا تمطر؟ تبدو السماء ملبدة في الخارج من بين الستائر الصفراء وقد تعرت شجرة الدردار من أوراقها الصفراء بفعل الريح. كنت أحلم طوال الليل. تختلط عليّ الأحلام الآن. في جزء من هذا الحلم كنت أسبح في المحيط، كنت حورية بحر. حورية بحر جديدة، وكانت هناك حورية أخرى تعطيني دروساً لأكون حورية بحر. كنت خائفة من التنفس تحت الماء. دخل الماء إلى رئتي ولم أستطع أن أفهم كيف حدث ذلك، يا له من أمر مخيف، كنت أغوص تحت الماء ثم أعود فأصعد إلى سطح الماء لأتنفس وهنالك حورية بحر أخرى لا تنفك تقول لا، يا كلير هكذا... حتى عرفت أخيراً أن لديها خياشيم في رقبتها، وأن لي خياشيم مثلها، ثم سارت الأمور على نحو أفضل. السباحة كالطيران، كل الأسماك كانت تطير... كان هناك قارب على سطح المحيط، سبحنا جميعاً حتى نراه. كان مجرد قارب صيد صغير، وأمي فيه بمفردها، قالت لي، لماذا يا كلير، كنت أظن أن اليوم هو يوم زفافك، وأدركت فجأة كيف تكون عليه الأشياء في الأحلام، إنني لا أستطيع الزواج بهنري حتى لو كنت حورية بحر، وبدأت أبكي ثم صحوت وكان الليل قد انتصف. تمددت لحظات في الظلام، وعرفت أنني أصبحت امرأة عادية، مثل حورية البحر إلاّ أنه لا يوجد عندي مثل ذلك الهراء المتعلق بألم الأقدام أو قطع اللسان. لا بد أن هانـز كريستيان أندرسون(36) كان شخصاً غريباً جداً وحزيناً. ثم عدت إلى النوم، أنا الآن في السرير وهنري سيتزوجني اليوم. (7:16 صباحاً) هنري: ستبدأ المراسم عند الساعة الثانية ظهراً، وسيستغرق مني الأمر نصف ساعة تقريباً حتى أرتدي ثيابـي، وعشرين دقيقة أخرى حتى أصل إلى دار عبادة سان باسيل. الساعة الآن 7:16 صباحاً وهذا يعني أنّ لديّ خمس ساعات وأربعاً وأربعين دقيقة أقتل الوقت فيها. ارتديت بنطال جينـز والكنـزة القطنية القديمة وسترة ثقيلة، ونـزلت بهدوء على الدرج لأبحث عن قهوة. سبقني أبـي إليها. كان جالساً في غرفة تناول الفطور ويداه تحيطان بفنجان طيب المذاق يتصاعد منه بخار رائحة قهوة بلاك جو. صببت لنفسي فنجاناً وجلست أمامه. كان الضوء الخافت المنبعث من النوافذ ذات الستائر المنسدلة يضفي على أبـي مظهر شبح، كان نسخة ملونة عن نسخته البيضاء والسوداء. كان شعره مشعّثاً في كل اتجاه ومن دون أن أفكّر وضعت يدي على شعري، وسرحته كأنه كان مرآتي. مسد شعره مثلي، وضحكنا. (8:17 صباحاً) كلير: تجلس أليسيا معي على سريري وهي تلكزني. «هيا يا كلير». ولكزتني. «هذا ضوء النهار ينعكس على البحيرة، والطيور تغرد». (طبعاً غير صحيح)، «والضفادع تنق وقد حان موعد الاستيقاظ!». كانت أليسيا تركلني. رفعت الملاءات عني، وأخذنا نتعارك وبينما كنت أثبتها أدخلت إيتا رأسها من الباب، وهسهست «يا بنات! ما كل هذا الضجيج. اعتقد أبوكما أن شجرة سقطت على المنـزل، لم يكن سواكما أنتما السخيفتان تحاولان قتل بعضكما. الفطور جاهز تقريباً». وعندما أنهت كلامها سحبت رأسها من الباب بسرعة، وسمعنا وقع خطواتها على الدرج وانفجرنا بالضحك. (8:32 صباحاً) هنري: لا تزال العاصفة الهوجاء تهب في الخارج، بالرغم من ذلك خرجت للجري. درست خارطة ساوث هيفن جوهرة متلألئة على الشاطئ الغربـي لبحيرة ميتشغان! التي أعطتني إياها كلير. ركضت البارحة أيضاً على طول الشاطئ وقد كان ذلك ممتعاً ولكن من غير المستحسن القيام به اليوم. رأيت الأمواج العالية المتراطمة بطول ست أقدام تتقدم إلى الشاطئ. قمت بقياس مقدار ميل من الشوارع، وقررت أن أركض عدة دورات. وإن كان الوضع سيئاً هناك فسأقطع الدورة. تمطيت. طقطقت كل مفاصلي استطعت سماع طقطقة أنسجتي داخل الأعصاب كأسلاك خطوط هاتف. ارتديت ملابسي، وانطلقت إلى العالم الخارجي. كان المطر يصفعني على وجهي، أنا مبلل تماماً، هرولت ببطء هابطاً في شارع مابيل، سيصبح كل شيء موحلاً، وأنا أقارع الريح وليس هنالك أي مجال للسرعة. مررت بامرأة تقف عند الحاجز الحجري مع كلبها البُلْدغي نظرت إليّ باندهاش. هذا ليس مجرد تمرين، قلت لها في نفسي. بل اليأس. (8:54 صباحاً) كلير: اجتمعنا كلنا إلى مائدة الفطور، والبرد قد تسرب من جميع النوافذ، وبالكاد استطعت رؤية الخارج، كانت تمطر بغزارة. كيف خرج هنري ليركض في هذا الجو! قال مارك ممازحاً: «يا له من طقس رائع لإقامة حفل زفاف». ابتسمت قائلة: «أنا لم أختره». «لِمَ تختاريه؟». «أبـي هو من اختار الموعد». رد أبـي بمشاكسة: «حسناً، لأنني أنا من سيدفع». «صحيح». وقضمت خبز التوست. نظرت أمي إلى طبقي بانتقاد. «حبيبتي، لم لا تضعين بعض اللحم المقدد وقليلاًً من البيض؟». مجرد الفكرة جعلتني أشعر بتقلص في معدتي. «لا أستطيع. حقاً. أرجوك». «حسناً، على الأقل ضعي قليلاً من زبدة الفول السوداني على خبز التوست. أنت بحاجة إلى البروتين». تقابلت نظراتي مع نظرات إيتا، التي مضت نحو المطبخ، وعادت بعد دقيقة ومعها طبق كريستال صغير مليء بالزبدة. شكرتها ومددت الزبدة على الخبز المحمص. سألت أمي: «هل لديّ بعض الوقت قبل أن تأتي جانيس؟». ستقوم جانيس بشيء بشع لوجهي وشعري. «ستأتي عند الحادية عشرة، لِمَ تسألين؟». «أريد الخروج إلى البلدة، لأشتري شيئاً». بدت إيتا مرتاحة لفكرة خروجها من المنـزل: «أستطيع أن أشتريه لك، يا صغيرتي». «أريد أن أُحضره بنفسي». «يمكننا الذهاب معاً». غمزتها خفية قائلة: «بمفردي». تحيرت لكنها استسلمت لي. «حسناً، كما تريدين. يا اﷲ». «عظيم، لن أغيب طويلاً». نهضت وغادرت. سعل أبـي منظفاً حنجرته. «أتسمحون لي؟». «بالتأكيد». «شكراً». وانطلقت. (9:35 صباحاً) هنري: أقف في حوض الاستحمام الكبير الفارغ أصارع لأخلع ملابسي المبللة الباردة. أصبح لحذاء الركض ذي الماركة التجارية الجديدة شكل جديد تماماً، إنه حافل بذكريات مائية. كنت قد تركت آثاراً من الماء من الباب الأمامي حتى حوض الحمام، وأتمنى ألا ينـزعج السيد بلاك من هذا كثيراً. طرق أحدهم الباب، فقلت: «دقيقة من فضلك». بللت طريقي بالماء وأنا متوجه مسرعاً نحو الباب وفتحته قليلاً. واكتملت مفاجأتي عندما رأيت كلير. قلت بهدوء: «ما كلمة السر؟». أجابت كلير: «حميمية». ففتحت لها الباب على اتساعه. دخلت كلير، وجلست على السرير، وبدأت تخلع حذاءها. «أنت تمزحين؟». «هيا تعالَ، أوه، أنت يا من توشك أن تُصبح زوجي. عليّ أن أعود إلى المنـزل عند الحادية عشرة». نظرت إليّ من رأسي حتى أخمص قدمي. «هل ذهبت للركض! لم أعتقد أنه يمكنك أن تركض تحت هذا المطر». «أوقات اليأس تستدعي إجراءات بائسة». خلعت كنـزتي ورميتها في حوض الحمام. سقطت محدثة صوتاً. «أوه... أليس هذا فألاً سيئاً أن يرى العريس عروسه قبل موعد الزفاف؟». «إذاً، أغمض عينيك». مشت كلير نحو الحمام، وأخذت منشفة. انحنيت أمامها وراحت تجفف شعري. كان شعوراً رائعاً. أستطيع أن أستمر حياة بطولها على هذا النحو. حقاً، أكيد. قالت كلير: «الطقس بارد جداً هنا». «تعالي وتدفئي، أنت يا من توشكين أن تصبحي زوجتي. إنها البقعة الوحيدة الدافئة في هذا المكان». هممنا ببعضنا. «نحن نقوم بكل شيء عكس نظامه الطبيعي، أليس كذلك؟». «هل لديك مشكلة في ذلك؟». «لا، أحب ذلك». «جيد. لقد اخترت الشخص المناسب لكل حاجاتك غير الاعتيادية». (11:15 صباحاً) كلير دخلت من الباب الخلفي، وتركت مظلتي في غرفة المؤونة. وفي الصالة بالكاد لمحت أليسيا. «أين كنت؟ لقد وصلت جانيس». «كم الساعة الآن؟». «الحادية عشرة والربع. نعم، ترتدين قميصك بالمقلوب وعلى الوجه الخلفي». «لأنني أعتقد أن هذا يجلب الحظ، أليس كذلك؟». «ربما، لكن من الأفضل أن تغيريه قبل أن تصعدي إلى الأعلى». عدت إلى غرفة المؤونة، وقلبت قميصي على النحو الصحيح، ثم صعدت إلى الأعلى. كانت أمي وجانيس تقفان في الصالة خارج غرفتي. تحمل جانيس معها حقيبة كبيرة من مواد التجميل وعدة التعذيب. «ها أنت ذا، لقد بدأت أقلق». سحبتني أمي إلى غرفتي، وأحضرت جانيس الكرسي. «عليّ أن أذهب لأتصل بمتعهد ضيافة الحفلات». كانت تضرب يديها ببعضهما وهي تتركنا. استدرت إلى جانيس التي كانت تتفحص وجهي منتقدة. «شعرك كله مبلل ورطب. لِمَ لا تسرحينه بينما أحضر الأغراض؟». بدأت بإخراج ملايين الأنابيب والزجاجات من حقيبتها وترتيبها على طاولة التزيين. «جانيس». مررت لها قصاصة بطاقة بريدية من يوفيزي. «هل تستطيعين محاكاتها؟». لطالما أحببت مظهر الأميرة الصغيرة ميديسي التي كان شعرها لا يشبه شعري. شعرها فيه جدائل صغيرة ولآلئ منتشرة تجمعه في عقفة جميلة متدلية من الشعر. لا بد أن الفنان مجهول الاسم قد أحب ذلك أيضاً. كيف يمكنه ألاّ يحبها؟ تأملتها جانيس: «هذه ليست التسريحة نفسها التي تعتقد أمك أنك ستتزينين بها». «هذا حفل زفافي، وهذا شعري، وسأكون كريمة معك في الإكرامية إن صففته على طريقتي». «لن يكون لديّ وقت لأعتني بوجهك إن كنت سأنفذ هذه التسريحة، سنحتاج إلى وقت طويل لفعل كل هذه الجدائل». «لا بأس. سأقوم بوضع المكياج بنفسي». «حسناً، لا بأس، سرحيه لي، وسنبدأ على الفور. بدأت أخرج ملاقط الشعر. بدأت أستمتع بذلك. وبينما استسلمتُ لجانيس وليديها الخفيفتين البنيتين تساءلت ماذا يفعل هنري الآن. (11:36 صباحاً) هنري: كانت بذلة التوكسيدو وكل متمماتها البائسة ممدة على السرير. ومؤخرتي تتجمد في هذه الغرفة الباردة. رميت جميع ملابسي المبللة جانب حوض الاستحمام وغصت فيه. هذا الحمام كبير حتى يكاد يخال إليك أنه غرفة نوم أرضيتها مغطاة بالسجاد، على الطراز الفكتوري المُقلد. الحوض عبارة عن مغطس جصي مخرم من أجل القدمين بين نباتات السرخس وأكوام المناشف وقبعة استحمام وعدد كبير من المنتجات الملفوفة من نوع هانتس ذا أوكورد كونشاس. كانت عتبة النافذة على بعد ستة إنشات عن الأرضية، والستائر مصنوعة من الموسلين الشفاف الأبيض، لذا تمكنت من رؤية شارع مابيل بكل ما فيه من أوراق أشجار يابسة. كانت هنالك سيارة لينكولن تعبر الشارع ببطء. فتحت الماء الساخن في الحوض الذي كان كبيراً إلى درجة أنني مللت من انتظاره ليمتلئ، وغطست فيه. استمتعت من اللعب بالدوش الذي كان على طراز الحمام الأوروبـي مع أنواع من مواد الاستحمام وعبوات الصابون ذات الرغوة ومطريات الجسم وأفرغتها جميعها، عندما وصلت إلى العبوة الخامسة شعرت بالصداع. غنيت أيها البحار الأصفر، وكان كل شيء على ارتفاع أربع أقدام من الحوض قد تبلل. (12:35 ظهراً) كلير: أطلقت سراحي جانيس أخيراً، وقد اجتمعت فوقي ماما وإيتا. قالت إيتا: «أوه، يا كلير، تبدين في غاية الجمال!». وقالت ماما: «هذه ليست تسريحة الشعر التي اتفقنا عليها، يا كلير». أَنبّت أمي جانيس ثم دفعت لها وأعطيتها إكراميتها عندما استدارت أمي. يفترض بـي أن أرتدي ثوب الزفاف في دار العبادة، لذا وضعوني في السيارة وقدنا إلى دار عبادة سان باسيل. (12:55 ظهراً) (هنري 38 عاماً) هنري: كنت أمشي على طول الطريق العام رقم 12 على بعد ميلين تقريباً من ساوث هيفن. يا له من يوم سيئ، من ناحية الطقس. إنه الخريف، والمطر ينهمر بغزارة مشكلاً السيول، والجو بارد وعاصف. لا أرتدي شيئاً سوى بنطال جينـز، كنت حافي القدمين، وجسدي مبللاً. ليست لديّ أدنى فكرة في أي زمن أنا. كنت متوجهاً إلى منـزل المرجة الخضراء، على أمل أن أُجفف نفسي في قاعة المطالعة وقد أجد شيئاً آكله. ليس معي نقود، وعندما رأيت ضوء النيون المنبعث من كوة محطة كت ريت غاز فور لس يومض استدرت نحوه. دخلت محطة الوقود، ووقفت للحظة، أدع الماء يتدفق على المشمع لألتقط أنفاسي. قال رجل مسن نحيل يقف خلف الصندوق: «يا له من طقس حتى تخرج فيه». أجبته: «أجل». «هل تعطلت سيارتك؟». «همم؟ ممم، لا». نظر إليّ نظرة أخرى متفحصاً وقد لاحظ قدمي الحافيتين، والملابس غير الملائمة في هذا الفصل من السنة. توقفت، لأستدرك هذا الإحراج. «لقد طردتني صديقتي من المنـزل». قال شيئاً لم أتمكن من سماعه لأنني كنت أنظر إلى صحيفة ساوث هيفن ديليز اليوم إنه يوم السبت، 23 تشرين الأول، 1993. يوم زفافنا. وتشير الساعة على الجدار إلى 1:10. قلت للرجل: «يجب أن أركض». وركضت. (1:42 ظهراً) كلير: أقف في غرفة صفي التي كنت فيها في الصف الرابع. وأنا أرتدي الآن ثوب زفافي. إنه من الحرير العاجي المزين بأشرطة وحبات لؤلؤ. الثوب مشدود عليّ عند الجزء العلوي وعند الذراعين لكن تنورته فضفاضة، تصل إلى الأرض ولها ذيل مزركش يبلغ طوله عشرين ياردة. أستطيع أن أُخفي تحتها عشرة أقزام. أشعر كأنني عربة كرنفال، لكن والدتي سعيدة بـي، وهي تهمهم، وتلتقط الصور، وتحاول إقناعي بوضع المزيد من مواد التجميل على وجهي. أما أليسيا، وكاريس، وهيلين، وروث فكن يتمشين حولي في أثواب الإشبينات المتماثلة الخضراء المخملية. وبما أن كاريس وروث قصيرتا القامة، وأليسيا وهيلين طويلتا القامة فقد بدتا غريبتين مثل بنات سكوتس، وقررنا ألاّ نذكر ذلك أمام أمي. كن يقارن دباغة أحذيتهن ويتجادلن من سيلتقط باقة الورد من العروس. قالت هيلين: «كاريس، أنت مخطوبة، لذا لا تحاولي حتى التقاطها». فضحكت كاريس وقالت: «من أجل الضمان، فمع غوميز لا يوجد ما هو مضمون». (1:48 ظهراً) هنري: أجلس على مشع حراري في غرفة متعفنة مليئة بكتب الأدعية. وغوميز يمشي ذهاباً وإياباً، وهو يدخن. يبدو رائعاً في بذلة التوكسيدو. أشعر وكأنني أمثل دور ضيف في لعبة استعراض. سار غوميز، ونقر مفرغاً رماد سيجارته في كوب شاي. إنه يجعلني أكثر توتراً مما أنا عليه بالفعل. سألته للمرة المليون: «هل أحضرت الخاتم؟». «أجل، الخاتم معي». توقف عن المشي ونظر إليّ للحظة. «أتريد مشروباً؟». «أجل». أحضر غوميز زجاجة الشراب، وأعطاني إياها. أخذتها وحللت غطاءها، وأخذت منها جرعة. إنه شراب اسكتلندي خفيف. ثم أخذت جرعة أخرى وأعدتها إليه. استطعت سماع الناس وهم يضحكون ويتحدثون في الممرات. كنت أتعرق ورأسي يؤلمني. الغرفة دافئة جداً. وقفت وفتحت النافذة، ومددت رأسي منها، وتنفست. لا تزال تمطر، ثمة أصوات قادمة من جهة الشجيرات. فتحت النافذة أكثر ونظرت إلى الأسفل. كنت هناك جالساً على الأوساخ تحت النافذة وعرقي يغسلني، وألهث. ابتسم لي وأومأ إليّ بإبهامه. (1:55 ظهراً) كلير: كنا جميعنا نقف في الرواق في دار العبادة. قال أبـي: «دعونا نبدأ هذا الاستعراض على الطريق». وطرق باب الغرفة حيث يرتدي هنري ثيابه. أخرج غوميز رأسه من الباب وقال: «دقيقة فقط». رماني بنظرة جعلت معدتي تتقلص، وسحب رأسه، وأغلق الباب. كنت أمشي نحو الباب عندما فتحه غوميز مرة أخرى، وظهر هنري وهو يضع أزرار كمي القميص. كان مبللاً ووسخاً وغير حليق. بدا في الأربعين من عمره. لكنه هنا، وابتسم لي ابتسامة المنتصر وهو يمشي عبر أبواب دار العبادة ويهبط إلى الممر. الأحد، 13 حزيران، 1976 (هنري 30 عاماً) هنري: كنت مستلقياً على الأرض في غرفة نومي القديمة. أنا وحيد، إنه يوم صيفي رائع من عام لا أعرفه. كنت جالساً هناك أشتم وأشعر ببلاهتي لفترة. ثم نهضت، وذهبت إلى المطبخ، وخدمت نفسي بشرب العديد من شراب شعير الوالد. السبت، 23 تشرين الأول، 1993 (كلير 22 عاماً، هنري 38 عاماً، وهنري 30 عاماً) (2:37 ظهراً) كلير: كنا نقف أمام المنصة في دار العبادة. استدار هنري نحوي وقال: «أنا، هنري، أتخذك يا كلير زوجة لي. أعدك أن أكون مخلصاً لك في السراء والضراء، في المرض والصحة. سأحبك وأحترمك طوال حياتي». فكرت: تذكر هذه. أعدت قسم الزواج إليه. ابتسم الأب كومبتون لنا وقال: «ما جمعه اﷲ، يجب ألا يفرقه الإنسان». أعتقد، هذه ليست حقاً هي المشكلة. سحب هنري الخاتم الفضي الرفيع من إصبعي ووضع مكانه خاتم الزواج. ووضعت خاتمه الذهبـي الخالص في إصبعه، إنها المرة الوحيدة التي سيضعه فيها. واستمرت الشعائر، وقلت في نفسي هذا كل ما يهمني إنه هنا، وأنا هنا، ولا يهم كم سيطول بقاؤه معي. بارك لنا الأب كومبتون وقال: «تمت مراسم الاحتفال الديني، اذهبا بسلام زوجاً وزوجة». ومشينا في الممشى، يداً بيد. (6:26 بعد الظهر) هنري: بدأ حفل الاستقبال. ومضيفو الحفل يتسارعون ذهاباً وإياباًً ومعهم عربات معدنية وصوانٍ. الضيوف يصلون ويخلعون معاطفهم عند الاستقبال. وقد توقف المطر أخيراً. يقع نادي يخوت ساوث هيفن عند الشاطئ الشمالي، بناء من العشرينيات فيه أعمال نجارة وجلد وسجاد أحمر، ولوحات رسومية للسفن. حل الآن الظلام في الخارج، لكن إنارة الدار تومض على رصيف الميناء الممتد في البحيرة. وقفت أمام النافذة، وأنا أشرب، منتظراً كلير التي أخذتها أمها لسبب لا يهمني أن أعرفه. رأيت انعكاس غوميز وبن وهما يتجهان نحوي، استدرت. بدا القلق على بن وسألني: «كيف حالك؟». «على خير ما يرام. هل يمكنكما أن تسديا إليّ معروفاً أيها الشابان؟». أومأا برأسيهما. «غوميز، هلا ذهبت إلى دار العبادة. حيث أوجد هناك أيضاً. انتظرني عند الدهليز، وأحضرني إلى هنا. هربني من الدرج الخلفي عند رجال جون واتركني هناك. أما أنت يا بن فابقَ هنا وراقبني. (أشرت إلى صدري) وعندما أشير إليك، أَمسِك ببذلتي التوكسيدو، وأحضرها إليّ عند الدرج الخلفي في حمامات الرجال. حسناً». سأل غوميز: «كم لدينا من الوقت؟». «ليس الكثير». أومأ برأسه وذهب. اقتربت كاريس، وقبلها غوميز على جبهتها وتابع سيره. استدرت إلى بن الذي بدا متعباً. سألته: «كيف حالك؟». تنهد بن، وقال: «أمتعب، همم، يا هنري؟». «أجل؟». «من أي زمن قدمت؟». «2002». «هل تستطيع... انظر، أعلم أنك لا تحبذ هذه الفكرة، لكن...». «ماذا؟ لا بأس تكلم يا بن، قل ما تريده مهما كان. إنها مناسبة خاصة». «قل لي: هل لا أزال حياً في العام 2002؟». قالها بن من دون أن ينظر إليّ، كان يحدق إلى الفرقة الموسيقية في صالة الرقص. «أجل، تكون على خير ما يرام. قد رأيتك منذ بضعة أيام حينها، ولعبنا البلياردو». تنفس بن دفعة واحدة. «شكراً لك». «لا بأس عليك». كانت الدموع تفيض من عينيه. قدّمت إليه منديلي، أخذه، ثم أعاده إليّ من دون أن يستعمله، وخرج باحثاً عن حمام الرجال. (7:04 مساء) كلير: أخذ الجميع أماكنهم لتناول العشاء ولا أحد يستطيع إيجاد هنري. سألت غوميز إن كان قد رآه، ولكنه نظر إليّ بواحدة من نظراته التي تعني أنه متأكد من أن هنري سيحضر في أي دقيقة. صعدت كيمي إلينا، وهي تبدو ضعيفة للغاية وقلقة في ثوبها الحريري الوردي. سألتني: «أين هنري؟». «لا أعلم يا كيمي». سحبتني إليها، وهمست في أذني: «رأيت صديقه الشاب بن يحمل كومة ثياب ويخرج من الصالة». أوه، لا. إن كان هنري قد تسلل عائداً إلى حاضره فمن الصعوبة بمكان أن نفسر ذلك. يمكنني أن أقول إنه كان ذاهباً في أمر طارئ، احتاجوا إليه في المكتبة على عجل. لكن زملاءه في العمل معنا هنا. ربما يمكنني تبرير هذا في أن هنري مصاب بفقدان الذاكرة، وهو يسرح هنا... قالت كيمي: «ها هو». ضغطت على يدي. يقف هنري عند الممر محدقاً إلى جموع الضيوف ويرانا. جاء مسرعاً. قبلته. «مرحباً، أيها الغريب». لقد عاد إلى الحاضر، هنري الأصغر سناً، ذاك الذي ينتمي إلى زمني. أمسك بذراعي وذراع كيمي وقادنا إلى صالة حفل العشاء. ضحكت كيمي بينها وبين نفسها وقالت شيئاً لهنري لم أسمعه. «ماذا قالت؟». سألته بينما كنا ننـزل إلى الأسفل. «سألتني إن كنا نخطط لسرير يتسع لثلاثة أفراد من أجل ليلة الزفاف». توردت احمراراً. وغمزتني كيمي. (7:16 مساء) هنري: كنت أتسكع في مكتبة النادي، أتناول المقبلات والفطائر الصغيرة، وأقرأ طبعة فاخرة، ربما لم تمس، من رواية قلب الظلام. ورأيت بطرف عيني مدير النادي وهو يُسرع نحوي. أغلقت الكتاب ووضعته على الرف. قال لي: «أنا آسف يا سيدي، لأن أقول لك إنه ينبغي عليك أن تغادر». كنت من دون قميص، ولا حذاء، ولا خدمة. «حسناً». وقفت، وبينما أدار المدير ظهره، بدأ الدم يغلي في رأسي واختفيت. سقطت على أرضية مطبخنا في يوم 2 آذار 2002، وأنا أضحك. لطالما أردت هذا. (7:21 مساء) كلير: أخذ غوميز يلقي خطاباً: «عزيزاي كلير وهنري، أفراد العائلة الكريمة والأصدقاء الأعزاء وأعضاء هيئة المحلفين... لحظة، امحوا الجملة الأخيرة. أحبائي، نجتمع هذا المساء على شواطئ أرض العزوبية لنلوح بمناديلنا مودعين كلير وهنري وهما يبحران معاً في رحلة على متن سفينة الزواج. وبينما نحن محزونون لنراهما وهما يودعان متع حياة العزوبية، إلا أننا واثقون من أن بلاد الزواج تبارك لهما نعمة الزواج. لربما كان بعضنا سيلحق بهما عن قريب ما لم نفكر في طريقة نتمكن فيها من تجنب هذا. وهكذا، دعونا نشرب نخب؛ السيدة كلير أبشير دي تامبل، المرأة الجميلة التي تستحق كل السعادة التي لربما أخطأت طريقها إليها في عالمها الجديد. وهنري دي تامبل، وهو صديق لعين لطيف ومحظوظ. لينبسط أمامكما بحر الحياة ولتكن الريح خلفكما دائماً. نخب الزوجين السعيدين! أمال غوميز نفسه وقبلني من فمي، نظرت إلى عينيه للحظة، ثم ما لبثت هذه اللحظة أن اختفت. (8:48 مساء) هنري: قطعنا كعكة الزفاف وأكلناها. ورمت كلير بباقة الورد (التقطتها كاريس)، ورميت شريطة ساق كلير (التقطها بن من بين الجميع). والفرقة الموسيقية تعزف مقطوعة استقل القطار، والناس يرقصون. رقصت مع كلير وكيمي وأليسيا وكاريس، والآن أرقص مع هيلين وهي فتاة جميلة حارة، وكلير ترقص مع غوميز. وبينما أدير هيلين من يدها رأيت سيليا أتلي تميل على غوميز، والذي بدوره مال عليّ. وهو يدور هيلين بعيداً انضممت إلى الحشد في المشرب، ورأيت كلير ترقص مع سيليا. انضم بن إليّ، وهو يشرب. طلبت الشراب الروسي. كان بن يضع على ذراعه شريط كلير كما لو كان في حالة حداد. سألني: «من تكون تلك؟». «إنها سيليا أتلي، صديقة إنغريد». «يا للغرابة». «أجل». «ماذا عن ذاك الشاب غوميز؟». «ماذا تعني؟». حدق بن إليّ ثم أدار رأسه. «لا شيء». (10:23 مساء) كلير: انتهت الحفلة. قبّلنا وعانقنا الأهل والمدعوين، ونحن نشق طريقنا خارجين من الصالة، وقدنا السيارة المزينة والتي ربطت خلفها علب معلبات معدنية فارغة. توقفت أمام موتيل ديو دروب إن. إنه موتيل صغير ورخيص يقع عند بحيرة سيلفر. هنري نائم. خرجت من السيارة، وقمت بإجراءات الاستقبال، وطلبت من الحمال أن يأتي ليساعدني على مساعدة هنري حتى يسير إلى غرفتنا ونضعه على السرير. ثم أحضر حقائبنا، وذيل ثوب الزفاف، كان هنري في حالة خمول ابتسم لي، ودفعت البقشيش. غادر. خلعتُ حذائي، وفككت ربطة عنق هنري، وخلعت ثوبـي ووضعته على الكرسي. كنت أقف في الحمام، أرتجف وأنا أرتدي ملابسي الداخلية وأنظف أسناني. استطعت من خلال المرآة رؤية هنري وهو مستلقٍ على السرير. ثم خطر لي: السعادة، وإدراك أننا متزوجان. حسناً، أنا متزوجة، على كل حال. عندما أطفأت الأضواء قبلت هنري قبلة وأنا أتمنى له ليلة سعيدة. فاحت منه رائحة الشراب الحلوة وعطر هيلين. تصبح على خير، تصبح على خير، لا تدع بقة السرير تعضك. واستغرقت في نوم، من دون أحلام وأنا سعيدة. الاثنين، 25 تشرين الأول، 1993 (هنري 30 عاماً، كلير 22 عاماً) هنري: في يوم الاثنين الذي تلا حفل الزفاف كنت أنا وكلير في محكمة مدينة شيكاغو، كوننا متزوجين بحكم القاضي. وكان الشاهدان هما كاريس وغوميز. وبعد ذلك خرجنا لتناول العشاء في مطعم تشارليز تروت، وهو من المطاعم الغالية بحيث إن ديكوراته تشبه مقصورة الدرجة الأولى في الطائرة. ولحسن الحظ، وبالرغم من أن الوجبة تبدو بحدّ ذاتها قطعة فنية، إلا أن مذاقها رائع. التقطت كاريس صوراً لكل الوجبات التي وضعت أمامنا. سألت كاريس: «ما هو شعور المتزوجين؟». أجابت كلير: «أشعر أنني متزوجة بالفعل». قال غوميز: «تستطيعين الاستمرار، جربـي كل الشعائر المختلفة الأخرى...». «أتساءل إن كنت أستطيع أن أكون من أتباع مذهب تعدد الزوجات!». كانت كلير تأكل شيئاً من الفستق الملون وفوقه العديد من الروبيان وكأنها رجل مسن يعاني من قصر نظر يقرأ صحيفة. قالت كاريس: «أعتقد أنه يُسمح لك بالزواج بالشخص نفسه عدة مرات قدر ما يحلو لك». سألني غوميز: «هل أنت الشخص ذاته». كان الشيء الذي أتناوله مغطى بشرائح من الطون الطري الذي يذوب في فمي. استغرقت دقيقة لأعبر عن إعجابـي بمذاقه قبل أن أُجيبه: «أجل، وهناك المزيد». همهم غوميز ودمدم شيئاً عن زين كوانـز، لكن كلير ابتسمت لي، ورفعت كأسها. نقرت كأسها بكأسي. وصدر عنهما صوت رنة الكريستال الناعمة، وتلاشت مع أصوات الثرثرة في المطعم. وهكذا، نحن الآن متزوجان. (36) هانـز كريستيان أندرسون (1805-1875): شاعر ومؤلف دانماركي مشهور بتأليف قصص الأطفال والحكايا الخرافية مثل «الحورية الصغيرة». II نقطة دم في وعاء الحليب «ما الأمر يا عزيزي؟». «آه، كيف يمكننا تحمل هذا؟». «نتحمل ماذا؟». «هذا. لفترة قصيرة من الوقت. كيف يمكننا أن نتخلص من هذا الزمن؟». «نستطيع أن نحافظ على هدوئنا معاً، وندعي - بما أنها البداية فقط - أننا نملك كل الوقت الذي في العالم». «سينقص زمننا في كل يوم. حتى لا يعود هناك زمن». «هل تفضل، بناء عليه، ألاّ يكون لديك زمن أبداً؟». «كلا. فأنا آتي إلى هنا دائماً. بما أن زمني قد بدأ. وعندما أخرج من هنا، فهذه ستكون منتصف النقطة، حيث يجري كل شيء، من قبل، وسيجري كل شيء منها. أما الآن، يا حبيبتي، فنحن هنا، نحن الآن، وتلك الأزمنة الأخرى تسير في مكان آخر». - أيه. أس. بيات، التملك الحياة الزوجية آذار، 1994 (كلير 22 عاماً، هنري 30 عاماً) كلير: وهكذا تزوجنا. عشنا في البداية في شقة مؤلفة من غرفتي نوم في بناء مؤلف من طابقين تقع في شارع رافينسوود. شقة تدخلها أشعة الشمس، ذات أرضية خشبية سميكة بلون الزبدة، فيها مطبخ مملوء بالخزائن والأدوات القديمة. كنا نشتري الأغراض، ونمضي فترة الظهيرة يوم الأحد في كريت وبارل ونحن نبدل هدايا الزواج التي قدّمت إلينا، طلبنا أريكة لم نتمكن من إدخالها من باب الشقة فاضطررنا إلى إعادتها إلى المحل. كانت الشقة بمثابة مختبر أجرينا فيه التجارب، قمنا بأبحاث على بعضنا بعضاً. اكتشفت أن هنري يكره أن أنقر بالملعقة عن غير قصد على أسناني وأنا أقرأ الجريدة عند الفطور. اتفقنا على أنه لا بأس في أن أستمع إلى جوني ميتشل وأن يستمع هنري إلى أغاني شاغز(37) طالما أن الطرف الآخر غير موجود في الشقة. اكتشفت أن هنري هو من يجب أن يقوم بالطبخ بينما أقوم أنا بأعمال الغسيل والكي وبما أننا غير مستعدين لتنظيف الأرض لذا قمنا باستخدام مكتب خدمات التنظيف. وقعنا في مطب الروتين. فهنري يعمل من يوم الثلاثاء وحتى يوم السبت في مكتبة نيوبيري. يستيقظ عند السابعة والنصف حيث يبدأ في صنع القهوة، بعد ذلك يرتدي ثياب الرياضة، ويمارس رياضة الجري. وعندما يعود يستحم ويرتدي ثيابه، أما أنا فأستيقظ شبه مصابة بالدوار، وأتجاذب أطراف الحديث معه وهو يعد طعام الفطور. وبعد أن ننتهي من تناول الطعام يقوم بتنظيف أسنانه ويخرج مسرعاً من الباب ليلحق بالمترو خط E1، وأعود أنا إلى السرير لأنام نوماً خفيفاً قرابة ساعة. تكون الشقة هادئة عندما أستيقظ مجدداً. أستحم، وأسرح شعري، وأرتدي ثياب العمل. أصب لنفسي فنجاناً آخر من القهوة، وأمشي نحو غرفة النوم الإضافية، والتي هي مرسمي أيضاً، وأغلق على نفسي الباب. كنت أمضي وقتاً عصيباً في مرسمي الضيق في بداية حياتي الزوجية. وهو المكان الذي أستطيع أن أقول إنه ملكي، والذي لا يشغله هنري، هو مكان صغير بحيث أصبحت أفكاري معه صغيرة. أكون كاليرقة داخل شرنقة، كل ما حولي عبارة عن رسومات تمهيدية لتماثيل، ورسومات صغيرة تبدو كأنها فراشات صغيرة تحوم حول النافذة، ثم تضربها بأجنحتها لتهرب من هذا المكان الضيق. أقوم بصنع الماكيتات، نماذج لتماثيل صغيرة بمثابة تمارين لتماثيل ضخمة. كانت الأفكار تتباطأ يوماً بعد يوم، كأن هذه الأفكار تعلم أنني سأمسخها وأوقف نموها. وعندما يخيم الليل أحلم باللون وأنني أغمس ذراعي في أوعية كبيرة من الأنسجة الورقية. أحلم بحدائق صغيرة لا أستطيع أن أطأها بقدمي لأنني ماردة. أعتقد أن القوة الكامنة في صناعة الفن - أو في صنع أي شيء آخر - هي عندما تصبح شيئاً صلباً، مادة في عالم المواد. لا بد أن سيرس، ونيمبو، وأرتيمس، وأثينا(38): كان يعتريهن ذلك الإحساس عندما كن يحولن الرجال الحقيقيين إلى مخلوقات أسطورية، ويسرقن الأسرار، ويقدرن مصائر الجيوش. آه، انظر، ها هو شيء جديد. فلنسمه شيئاً، شيئاً سخيفاً، حرباً، شجرة أوراق الغار، لنسمه فناً... أعمل كل يوم، لكن لا شيء يتجسد أبداً. أشعر وكأنني بينلوب(39)، أنسج ولا أنسج. لكن ماذا عن هنري، ملحمة الأوديسا الخاصة بـي؟ هنري فنان من نوع آخر، هو فنان في فن الاختفاء. حياتنا سوياً في هذه الشقة الصغيرة جداً متقطعة بفترات زمنية صغيرة بسبب غيابه. في بعض الأحيان يختفي فجأة، فقد أكون مارة من المطبخ إلى الصالة فأجد كومة من الملابس ملقاة على الأرض. وقد أستيقظ في الصباح لأجد الماء يجري من صنبور الحمام ولا أحد هناك. أحياناً يكون هذا الأمر مخيفاً. ذات يوم كنت أعمل في مرسمي بعد الظهيرة فسمعت أصوات أنين تتناهى إلى مسمعي قادمة من خارج الباب، عندما فتحته وجدت هنري في الصالة قابعاً على يديه وركبتيه، عارياً، وهو ينـزف نـزفاً غزيراً من رأسه. فتح عينيه، فرآني، ثم اختفى. أحياناً أتمشى عند المساء عندما يكون هنري مختفياً. ويخبرني في الصباح أين كان، بالطريقة نفسها التي يخبر فيها الأزواج الآخرون زوجاتهم عن حلم رأوه في الليل: «كنت في مكتبة سيلزر ليلاً، من العام 1989»، أو «كان هناك راعٍ ألماني يلاحقني في الحديقة الخلفية لمنـزل أحد ما فتسلقت الشجرة»، أو «كنت واقفاً تحت المطر بالقرب من شقة والديّ، وأنا أستمع إلى والدتي وهي تدندن». أنتظر هنري ليقول لي إنه رآني عندما كنت طفلة، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن. كنت أتوق إلى رؤيته وأنا طفلة. كانت كل زيارة له بمثابة حدث بالنسبة إليّ. أما الآن فكل غياب هو بمثابة اللاحدث بالنسبة إليّ، أمر أساسي، مغامرة سأسمع عنها عندما يتجسد المُغامر أمامي وهو ينـزف، أو يصفر، أو يضحك أو يرتجف. أصبحت الآن أخاف عندما يختفي. هنري: عندما تعيش مع المرأة تتعلم في كل يوم شيئاً جديداً. تعلمت حتى الآن أن الشعر الطويل يسد مصرف الحمام قبل أن تطلب وضع فاتح المجاري، وأن من غير المستحسن اقتطاع أي شيء من الجريدة قبل أن تكون زوجتك قد قرأته، حتى ولو كانت هذه الجريدة تعود إلى الأسبوع الفائت، وأنني الشخص الذي يصرف على شخصين في المنـزل والذي يمكنه أن يأكل نفس طعام العشاء لثلاثة أيام متتالية من دون أن يتذمر، وأن السماعات قد اخترعت حتى لا يستمع الأزواج إلى موسيقى لا يودون أن يستمع إليها آخرون. (كيف تستطيع كلير أن تستمع إلى موسيقى تشيب تريك(40)؟ ولماذا تحب فرقة الإيغلز؟ لا أعرف، وعندما أسألها حول ذلك تصبح عدائية. كيف بالمرأة التي أحب ألا تستمع إلى الموسيقى الراقية Musique du Garrot et de la Farraille) أما الدرس الأصعب فهو عزلة كلير. ففي بعض الأحيان أعود إلى المنـزل فأجدها منـزعجة، لأنني أكون قد قطعت عليها سلسلة أفكارها، وأفسدت عليها سكونها الحالم. أحياناً أرى في وجهها تعبيراً كأنه الباب المغلق. تكون قد استغرقت بأفكارها وهي تحيك شيئاً ما. لقد اكتشفت أن كلير تحب أن تكون وحيدة. ولكن عندما أعود من سفري عبر الزمن تسعد برؤيتي دائماً. عندما تكون المرأة التي تحبها فنانة، فتوقع في كل يوم مفاجأة. حولت كلير غرفة النوم الإضافية إلى خزانة من العجائب، ممتلئة بتماثيل صغيرة ولوحات معلقة على كل إنش من الجدار. بالإضافة إلى رزم ولفائف من الأسلاك والأوراق مرصوصة على الرفوف وموضوعة في الأدراج. تذكرني هذه التماثيل بالطائرات الورقية أو بنماذج تصاميم الطائرات. قلت لها ذلك ذات مساء عند ممر مرسمها وأنا أضع بذلتي وربطة عنقي عائداً إلى المنـزل قادماً من عملي، وعلى وشك إعداد طعام العشاء، رمتني بتمثال، فطار بشكل مفاجئ، ووقفنا قبالة بعضنا عند طرفي الصالة، نتقاذف هذه التماثيل الصغيرة، ونجرب آلية طيرانها. عدت في اليوم التالي إلى المنـزل لأجدها وقد صنعت سرباً من الطيور الورقية معلقة في سقف غرفة المعيشة. وبعد أسبوع كانت نوافذ غرفة نومنا مغطاة بأشكال زرقاء وشفافة تتخللها الشمس عبر الغرفة نحو الجدار فيصبح الشكل كسماء لأشكال طيور كانت قد رسمتها على الجدار. إنها طيور جميلة. في المساء التالي كنت أقف عند ممر المرسم وأنا أراقبها وهي تنهي رسماً لدغل بخطوط سوداء يحيط بطائر أحمر صغير. وفجأة رأيت كلير في غرفتها الصغيرة وهي محاطة بأشيائها، وأدركت أنها تحاول أن تقول شيئاً ما، عندها عرفت ما يجب أن أفعله. يوم الأربعاء، 13 نيسان، 1994 (كلير 22 عاماً، هنري 30 عاماً) كلير: سمعت صوت مفاتيح هنري عند الباب الرئيس، خرجت من مرسمي فرأيته يمشي نحوي. ويا للمفاجأة، كان يحمل جهاز تلفاز! لم نشترِ جهاز تلفاز من قبل لأن هنري لا يحب مشاهدته وأنا لا أحتمل مشاهدته بمفردي. كان الجهاز قديماً، وصغيراً، ومغبراً بالأسود والأبيض وله مُستقبل مكسور. قال هنري وهو يضع الجهاز على طاولة الطعام: «هيه حبيبتي، أنا هنا». قلت: «إنه رديء، هل عثرت عليه على الطريق؟». نظر إليّ بضيق وقال: «بل اشتريته من متجر يونيك. بعشرة دولارات». «لماذا؟». «يوجد برنامج هذا المساء وأعتقد أن علينا أن نشاهده». «ولكن -». لم أستطع أن أتصور أن برنامجاً تلفازياً يجعل هنري يغامر بالسفر عبر الزمن. «لا بأس، لن أجلس وأحدق إليه. أريدكِ أنتِ أن تشاهديه». «واو، ماذا؟». لا يهمني ما سيعرض فعلاً. «إنها مفاجأة. البرنامج يبدأ عند الساعة الثامنة». وضعنا الجهاز على الأرض، ونحن نتناول العشاء. رفض هنري أن يجيب عن أسئلتي حوله، ومازحني بسؤاله: «ماذا يمكنني أن أفعل لو كان لديّ مرسم كبير». «ما المهم في الأمر؟ لديّ حجرة صغيرة. ربما كنت سأعمل نادي للأوريغامي». «هيا، كوني جادة وقولي لي». «لا أعرف». لففت معكرونة اللينغويني بالشوكة. «سأضاعف حجم كل ماكيت مئة مرة، سأرسم على لوحات طولها عشر أقدام بعشر أقدام، سأرتدي زلاجات لأنتقل في المرسم من مكان إلى آخر. سأضع راقود صباغة ضخماً، ونظام تجفيف يابانياً، وجهازاً للخفق من ريينا زنة عشرة أرطال». أسرتني لفترة الصورة الذهنية لهذا المرسم الخيالي، ولكنني تذكرت مرسمي الحقيقي، وهززت كتفي غير آبهة. «أوه، حسناً، لربما في يوم ما». كان وضعنا لا بأس به براتب هنري وعائد وديعتي المصرفية، وحتى نتحمل نفقة مرسم حقيقي يجب أن أحصل على وظيفة، وعندها لن يكون لديّ الوقت لأمضيه في المرسم. إنها مثل رواية كاتش 22 (41). يتوق كل أصدقائي إلى الحصول على المال أو الوقت أو على الاثنين معاً. تقوم كاريس بتصميم برمجيات الكمبيوتر في النهار وفي الليل تصنع الفن. ستتزوج بغوميز الشهر المقبل. «ماذا سنهدي عائلة غوميز كهدية زفاف؟». «ألا نستطيع أن نعطيهم كل آلات قهوة الإكسبرسو التي لدينا؟». «لقد استبدلناها بفرن المايكروويف وآلة تحميص الخبز». «أجل. إنها الساعة الثامنة. خذي قهوتك ودعينا نجلس في غرفة المعيشة». سحب هنري كرسيه إلى الوراء ورفع التلفاز، وحملت كوبـي إلى الغرفة. وضع الجهاز على طاولة القهوة، وبعد أن وضع سلك الجهاز في المقبس الكهربائي جلسنا على الأريكة لنشاهد إعلاناً تجارياً لسرير مائي على القناة التاسعة. يبدو وكأنها تثلج في السرير المائي في غرفة العرض. قال هنري: «اللعنة». وهو يخطف نظرة إلى الشاشة. «كان يعمل بشكل أفضل في المحل». ظهرت شارة برنامج يانصيب ولاية إيلينوي. أدخل هنري يده في جيب بنطاله وأعطاني قطعة ورق بيضاء صغيرة. «خذي هذه». إنها بطاقة يانصيب. «يا اﷲ، لا، لم تفعلها -». «شاهدي البرنامج». وقام المسؤولون عن اليانصيب في البرنامج بكثير من حركات الاستعراض، أعلن رجال جديون يرتدون بذلات رسمية، عن الأرقام نتيجة اختيار عشوائي على دواليب اليانصيب التي تستقر مكانها واحداً بعد الآخر على الشاشة. 43,2,26,51,10,11. بالطبع كانت هذه الأرقام تتوافق مع أرقام البطاقة التي في يدي. هنأنا رجال اليانصيب. لقد ربحنا لتونا ثمانية ملايين دولار. أطفأ هنري جهاز التلفاز. ضحك. «خدعة بسيطة، هه؟». «لا أعرف ماذا أقول». أدرك هنري حينها أنني لن أقفز من الفرح. «قولي شكراً على الأقل يا عزيزتي فقد أحضرت النقود اللازمة لشراء المنـزل، يرضيني هذا فحسب». «لكن - هنري - هذا غير حقيقي». «بالتأكيد هو كذلك. هذه بطاقة يانصيب حقيقية. إذا أخذتها إلى كايتز أند ديلي، فإن ميني ستعانقك وستصدر لك ولاية إيلينوي شيكاً حقيقياً». «ولكنك كنت تعرف الورقة الرابحة». «بالتأكيد، بالطبع. لقد كان الأمر مجرد إلقاء نظرة فقط على رحلة الغد». «لا. لا نستطيع ذلك... هذا غش». صفع جبهته بقوة. «كم أنا سخيف. لقد نسيت تماماً أنه يفترض أن نشتري بطاقات من دون أدنى معرفة بالأرقام الرابحة. حسناً، يمكننا إصلاح الأمر». خرج من الصالة إلى المطبخ، وعاد ومعه عيدان ثقاب. أشعل واحداً منها وحمل البطاقة نحو عود الثقاب. «لا!». أطفأ عود الثقاب. «لا يهم. في إمكاننا الفوز باليانصيب كل أسبوع خلال العام القادم إذا أردنا ذلك. لذا إن كانت لديك مشكلة في هذا، فهذا ليس بالأمر الهام». يوجد توقيع صغير على طرف البطاقة. جلس هنري إلى جانبـي على الأريكة. «سأقول لك شيئاً، لماذا لا نتوقف عند هذا الحد، إذا أردت صرفها سنقوم بذلك، وإذا قررت أن تعطيها إلى أول متشرد تجدينه أمامك فلا بأس عندي يمكنك فعل ذلك -». «هذا ليس عدلاً». «ما الشيء الذي ليس عدلاً». «لا يمكنك أن تتركني وحدي أقرر هذه المسؤولية الكبيرة». «حسناً، في كلتا الحالتين أنا سعيد تماماً. لذا إن كنت تعتقدين أننا نغش ولاية إيلينوي بنقود سلبوها من الطبقات العاملة، فدعينا ننسى الأمر. وأنا أكيد أننا سنستطيع إيجاد طريقة أخرى للحصول لكِ على مرسم أكبر». مرسم أكبر. توضح الأمر لي، كم أنا غبية، لا يمكن لهنري الفوز ببطاقة كل يوم على الإطلاق، وهو لا يتحمل فعل ذلك إطلاقاً لأنه أمر غير عادي. وقد قرر أن يُبقي نفسه بعيداً عن التزامه القوي بالعيش كشخص عادي وبهذا يمكنني الحصول على مرسم كبير أتجول فيه بزلاجات، كم أنا جاحدة. «كلير؟ الكون لكِ...». «شكراً». قلتها بفظاظة. رفع هنري حاجبيه. «هل يعني ذلك أننا سنصرف البطاقة؟». «لا أعلم. كل ما أعنيه هو شكراً لك». «على الرحب والسعة». وساد هدوء غير مريح. «تُرى ما الذي يُعرض على التلفاز؟». «الثلج». ضحك هنري، ووقف، وسحبني من الأريكة. «هيا، دعينا ننفق ما كسبناه». «إلى أين سنذهب؟». «لا أعرف». فتح هنري خزانة الصالة، وناولني سترتي. «هيا، دعينا نشتري سيارة من أجل هدية زفاف غوميز وكاريس». «كل ما أهديانا مجرد كؤوس شراب». وقفزنا على الدرج. كان الطقس في الخارج ليلة ربيعية رائعة. وقفنا على حافة الرصيف أمام مبنى شقتنا، وأمسك هنري بيدي، رفعت يدينا المتشابكتين، أدارني هنري حوله وحالاً صرنا نرقص في حي بيلي بيل، من دون موسيقى، لم تكن هناك سوى أصوات السيارات المندفعة نحونا وأصوات ضحكاتنا، ورائحة براعم الكرز التي تسقط على حافة الرصيف مثل الثلج ونحن نرقص تحت أشجارها. الأربعاء، 18 أيار، 1994 (كلير 22 عاماً، هنري 30 عاماً) كلير: حاولنا شراء منـزل. البحث عن منـزل أمر مدهش. فالأشخاص الذين لا يمكن أن يدعوك إلى زيارتهم تحت أي ظرف من الظروف، يفتحون لك أبوابهم على مصارعها، ويسمحون لك بالتحديق إلى خزائنهم، وإصدار أحكام حول ورق جدرانهم، وطرح أسئلة عن مجاريهم. لدينا أساليب مختلفة أنا وهنري في استكشاف المنـزل. أدور حوله على مهل، أهتم بالأعمال الخشبية، والمرافق، وأسأل عن الفرن، وأتحقق من تسرب المياه في القبو. أما هنري فيجول مباشرة حول خلفية الدار، ويحدق إلى النافذة الخلفية، ويرفع رأسه نحوي. تقول عنه كارول سمسارة العقارات إنه مجنون. اضطررت أن أقول لها إنه متعصب للحدائق. وبعد مضيّ يوم كامل عدنا إلى المنـزل من مكتب كارول وقد قررت أن أسأله عن طريقته الجنونية هذه. سألته بأدب: «ما بك، ما الذي تفعله؟». نظر إليّ بخجل وقال: «حسناً، لم أكن متأكداً أنك تريدين معرفة ذلك، ولكنني كنت في منـزلنا القادم. لا أعرف متى، ولكنني كنت - سأكون - هناك في يوم خريفي جميل، في نهاية فترة الظهيرة. كنت واقفاً عند النافذة الخلفية للمنـزل، بالقرب من تلك الطاولة الرخامية الصغيرة التي أخذتها من جدتك، ونظرت إلى الساحة الخلفية من النافذة نحو مبنى قرميدي يُهيأ لي أنه سيكون مرسمك. كنت تسحبين الورق هناك. كان لونها أزرق. وتضعين منديلاً أصفر حتى يبقى شعرك إلى الوراء، وترتدين كنـزة خضراء ورداءك المطاطي الاعتيادي، وما إلى ذلك. توجد عريشة عنب في الحديقة الخلفية. كنت هناك لمدة دقيقتين. لذا فأنا أحاول فقط استعادة ذلك المشهد، وعندما أراه أعرف أننا قد وجدنا منـزلنا». «يا اﷲ. لماذا لم تقل لي ذلك؟ كم أنا سخيفة». «أوو، لا، لا تفعلي ذلك. اعتقدت فقط أنك تودين القيام بذلك بالطريقة المألوفة. أعني كنت تبدين مستغرقة للغاية، وتقرأين كل تلك الكتب عن كيفية إيجاد منـزل، واعتقدت أنك أردت ذلك، وأنت تعرفين كيف تتسوقين وتختارين، بطريقة جيدة». «إذاً، على أحدنا أن يسأل عن النمل الأبيض، والأسبيسوس(42)، وعن البقع المتعفنة الجافة، ومضخات أحواض المياه...». «بالتأكيد، لذا دعينا نستمر على ما نحن عليه، وسنصل حتماً بشكل منفصل عن الآخر إلى نتيجتنا المشتركة». حدث ذلك أخيراً، بالرغم من مرور لحظات عديدة مشابهة. وجدت نفسي مستغرقة في التفكير في فيل أبيض في حديقة إيست روجرز، إلى جوار فزاعة في الجزء الشمالي من المدينة. إنه قصر. قصر على الطراز الفكتوري يتسع لعائلة مؤلفة من اثني عشر فرداً مع الخدم. عرفت حتى قبل أن أسأل أن هذا هو منـزلنا، أعجب به هنري حتى قبل أن نطأ الباب الأمامي. الساحة الخلفية عبارة عن قطعة أرض كبيرة تتسع لمخزن أدوية ضخم. أما من الداخل فله هيكل لمنـزل جميل، وأسقفه مرتفعة، وتوجد مدافئ في الجدار ذات أطر رخامية، وأعمال خشبية مزخرفة... تملقته قائلة: «أرجوك، إنه رائع، أمر لا يصدق». «نعم، رائع بكل ما للكلمة من معنى. سنسجن أنفسنا فيه مدة أسبوع. بالإضافة إلى أنه يحتاج إلى تجديد كامل، وتمديدات وأعمال صحية وفرن جديد وإلى علية جديدة ربما... هذا ليس بمنـزلنا». كانت نبرة صوته حازمة ونهائية، صوت شخص رأى المستقبل، ولا ينوي العبث به. وبقيت يومين وأنا متجهمة الوجه. فاصطحبني هنري إلى الخارج إلى مطعم سوشي. «حبيبتي، حبـي. يا بهجة القلب، تحدثي معي». «من قال إنني لا أتحدث معك». «أعلم. ولكنك عابسة. ولا أحبذ أن تعبسي بوجهي، خصوصاً لنتحدث بشكل طبيعي». وصلت النادلة، فأسرعت لألقي نظرة على لائحة الطعام. لا أريد أن نتشاجر في مطعم كاتسو، مطعم السوشي المفضل لديّ، وهو المكان الذي كثيراً ما نرتاده. أعتقد أن هنري يعتمد على ذلك، بالإضافة إلى السعادة من مذاق السوشي، حتى يرضيني. طلبنا غوماإيهيشيكي، فوتوماكي، كاباماكي وتشكيلة رائعة من الأساسيات مع الأرز. ذهبت كيكو النادلة بطلبنا. «لست غاضبة منك». كنت أقول الحقيقة. رفع هنري أحد حاجبيه وقال: «حسناً، جيد. ما المشكلة إذاً؟». «هل أنت متأكد من أن ذاك المكان الذي سافرت إليه عبر الزمن في ما مضى هو حقاً منـزلنا؟ ماذا لو كنت غير مصيب، وفوتنا على أنفسنا منـزلاً رائعاً حقاً لمجرد أنه ليس له منظر الحديقة الخلفية نفسه؟». «ساحته قبيحة حقاً ولا تناسبنا ولا يمكن أن يكون هذا هو منـزلنا. أؤكد لكِ أنه ليس منـزلنا الأول -لم أكن قريباً منك بالشكل الكافي لأعرف كم كان عمرك حينها. أعتقد أنك كنت شابة، ولكن ربما كنت قد حافظت على نفسك جيداً. أقسم لكِ إنه جميل فعلاً، أليس رائعاً أن يكون لك مرسم مثله؟». تنهدت. «نعم، سيكون. يا اﷲ. أتمنى لو أنك تسجل شريطاً لبعض رحلاتك. أود أن أرى ذلك المكان. ألم يكن في إمكانك معرفة العنوان وأنت هناك؟». «آسف. مر الأمر سريعاً». أشعر أحياناً أنني أبذل جهدي لأفتح رأس هنري وأنظر في ذاكرته كفيلم سينمائي. أذكر عندما تعلمت للمرة الأولى العمل على الكمبيوتر، كنت حينها في الرابعة عشرة، وكان مارك يحاول تعليمي الرسم على كمبيوتر ماكنتوش. بعد عشر دقائق فقط شعرت أنني أريد أن أدخل يديّ في الشاشة لأصل إلى الشيء الحقيقي هناك، كائناً ما كان. أحب أن أعمل الأشياء مباشرة، أن ألمس الأنسجة، وأرى الألوان. الذهاب مع هنري لانتقاء المنـزل يجعلني غاضبة. فهذا أشبه بقيادة واحدة من ألعاب السيارات البشعة عن طريق التحكم عن بعد. أقودها نحو الجدار دوماً. عامدة متعمدة. «هنري، هل تمانع إذا ذهبت لأرى منـزلنا بمفردي لبعض الوقت». «لا، أعتقد لا». بدا وكأنه جرح قليلاً. «إن كنت تريدين ذلك». «حسناً، أعتقد أنه يجب أن نتوقف هنا على كل حال، أليس ذلك صحيحاً؟ أعني، لن يغير ذلك شيئاً». «حقاً، نعم، لا تأبهي لي. بل حاولي ألاّ تقعي مجدداً في مأزق الشعور بالضيق، حسناً؟». أخيراً، وجدت المنـزل بعد مرور شهر وبعد معاينة نحو عشرين منـزلاً أو ما شابه. يقع هذا المنـزل في منطقة أينسلي، في ساحة لينكولن، وهو مبني من الآجر البُني المحمر يعود إلى عام 1926. عندما أدارت كارول المفتاح في القفل، وفُتح الباب غمرني إحساس أن هذا هو المنـزل المناسب... توجهت فوراً نحو النافذة الخلفية، حدقت إلى الحديقة الخلفية، وهناك رأيت مرسمي المستقبلي، وعريشة العنب وحالما استدرت إلى كارول التي كانت تنظر إليّ مستفسرة قلت لها: «حسناً سأشتريه». كانت أكثر من متفاجئة بقليل. «ألا تريدين رؤية بقية المنـزل؟ وماذا عن زوجك؟». «أوو، لقد رآه من قبل. لكن أجل بالتأكيد سيراه، دعينا نرى بقية المنـزل». السبت، 9 تموز، 1994 (هنري 31 عاماً، كلير 23 عاماً) هنري: كان يوماً شاقاً وحاراً، فقمصان الحمالة التصقت بأجسادهم لكثرة ما صعدوا ونـزلوا درج شقتنا هذا الصباح، وكانوا يضحكون عندما استنتجوا أن غرفة نومنا ليست أمراً شاقاً وأنهم سينهون المهمة قبل حلول وقت الغداء. ضاعت ضحكاتهم سدىً عندما وصلوا إلى غرفة المعيشة، ورأوا أثاث كلير الفيكتوري الثقيل، وصناديقي الثمانية والسبعين من الكتب. حل الظلام وأنا وكلير نتجول في المنـزل، نلمس الجدران، ونمرر أيدينا عبر حافة النافذة إلى شجرة الكرز. نمشي بأرجلنا الحافية على الأرضية الخشبية. فتحنا الماء في حوض الاستحمام الجصي المخرم للوقوف فيه، وأشعلنا فرن يونيفيرسال وأطفأناه. الجدران عارية، أبقينا الأنوار مطفأة، تسللت أنوار الشارع عبر الموقد الفارغ من خلال الزجاج المعشق. أخذت كلير تنتقل من غرفة إلى أخرى، وهي تجول وتعانق منـزلها، منـزلنا. تبعتها وأنا أراقبها وهي تفتح الخزائن والنوافذ. وقفت على أطراف أصابعها في غرفة الطعام لتلمس بأصابعها الزجاج المحفور الخفيف. ثم خلعت قميصها. مررت لساني على صدرها. ضمنا المنـزل، رأينا كيف كان يتأملنا ونحن نقيم علاقة حميمة فيه للمرة الأولى. المرة الأولى من مرات عديدة، وبعد ذلك استلقينا على الأرض والصناديق تحيط بنا، وشعرت أننا وجدنا منـزلنا. الأحد، 28 آب، 1994 (كلير 23 عاماً، هنري 31 عاماً) كلير: كانت ظهيرة يوم أحد حار والرطوبة مزعجة، وكنت مع هنري وغوميز نسير أحراراً طلقاء في إفانستون. أمضينا الصباح في لايت هاوس بيتش، نلعب في بحيرة ميتشغان، ونجلس تحت أشعة الشمس. أراد غوميز أن يُدفن في الرمل، لذا أجبرنا أنا وهنري على ذلك. تناولنا الطعام الذي كنا قد أعددناه لهذه الرحلة، ثم أخذنا قيلولة. وها نحن الآن نمشي على الجانب الظليل في شارع دار العبادة، نتناول الآيس كريم بنكهة البرتقال ونمشي مترنحين تحت أشعة الشمس. قال هنري: «الرمل يغطي شعرك يا كلير». توقفت وانحنيت وضربت على شعري بيدي كما نضرب السجاد. فتناثر منه رمل الشاطئ. قال غوميز: «أذناي يملأهما الرمل. وما لا يصح ذكره...». قلت له: «أكون مسرورة جداً لأن أضربك على رأسك، قم أنت بما تبقى بنفسك». هبت نسمة خفيفة فعرضنا أجسامنا أمامها. لففت شعري إلى أعلى رأسي، وشعرت فوراً بالتحسن. سأل غوميز: «ماذا سنفعل الآن؟». تبادلت وهنري النظرات. «مكتبة بوك مان آلي». ورحنا نغني سوياً. تأوه غوميز. «أوو. يا اﷲ. لا ليس المكتبة. سيدي، سيدتي، فلتأخذكما الرأفة بخادمكما المطيع». قال هنري مرحاً: «إذاً، إلى مكتبة بوكس مان آلي». «عداني فقط ألا نمضي أكثر من، أوو، لنقل، ثلاث ساعات...». قلت له: «أعتقد أنهم يغلقون الباب عند الساعة الخامسة، والساعة الآن 2:30». قال هنري: «في إمكانك الذهاب لتتناول كأساً من شراب الشعير». «اعتقدت أن إفانستون جافة». «لا، أعتقد أنهم غيروا ذلك. إذا استطعت إثبات أنك لست عضواً في جمعية الشباب الخيرية YMCA فسيقدمون إليك شراب الشعير». «سآتي معكما، الفرد للجماعة والجماعة للفرد». توجهنا نحو شيرمان، مشينا عبر ما كان يدعى مارشال فيلدز والذي أصبح الآن محلاً للأحذية، كان في ما مضى مسرح فاريستي، وأصبح الآن محلاً لماركة غاب. عدنا إلى الشارع بين بائعي الزهور ومحال تصليح الأحذية ونحن ننظر ونندهش ونتعجب، وصلنا إلى مكتبة بوكس مان آلي. فتحت الباب، ودخلنا إلى محل الكتب المعتم والمبرّد وكأننا نعود إلى الماضي. كان روجر جالساً خلف مقعده الصغير غير المرتب يتحدث مع رجل أبيض يميل شعره إلى الإحمرار عن شيء يتعلق ربما بحجرة الموسيقى. ضحك عندما رآنا. قال لي: «كلير، لديّ شيء ستحبينه». اتجه هنري مباشرة إلى آخر المكتبة حيث توجد جميع المطبوعات والمخطوطات ومجموعات الكتب. تسكع غوميز في محيط المكتبة ينظر إلى أشياء غريبة مرصوصة على الرفوف في الأقسام المتعددة: السرج في قسم الأدب الغربـي، وقبعة صياد الأيائل في قسم روايات الغموض. تناول أحد كتب سلاسل غمدروب من قسم الأطفال من دون أن يعلم أنّ كتب الأطفال هذه صدرت منذ سنوات وأنه يسيء إلى نفسه بها. أما الكتاب الذي كان روجر قد احتفظ به لي فهو عبارة عن كتالوج ألماني حول ديكورات ورق الجدران مع نماذج حقيقية ملصقة عليه. عرفت فوراً أنه فريد من نوعه لذا وضعته على طاولة المكتب لأبدأ بجمع الكتب التي أريدها. ثم بدأت ألحق بالرفوف حالمة، مستنشقة رائحة غبار الورق، والصمغ، والسجاد العتيق والخشب. رأيت هنري يجلس على الأرض في قسم الفن وفي حضنه شيء مفتوح. كانت الشمس قد لفحته، وتناثر شعره في جميع الاتجاهات. أنا مسرورة أنه قام بقصه. يبدو لي الآن بشعره القصير هو نفسه أكثر من أي وقت مضى. وبينما أراقبه وضع يده على رأسه ليلتقط خصلة من شعره ويلفها حول إصبعه، وأدرك أنها قصيرة جداً ليفعل ذلك، وحك أذنيه. أردت أن ألمسه، وأن أمرر يديّ على شعره الأشعث المضحك، ولكنني استدرت ونقبت في قسم كتب الرحلات بدلاً من ذلك. هنري: تقف كلير في الغرفة الرئيسة عند مجموعة ضخمة من إصدارات كتب جديدة. لا يحب روجر حقاً أن يعبث الناس بالكتب غير المسعّرة، ولكنني لاحظت أنه يدع كلير تفعل ما تريد في مكتبته. كانت تحني رأسها على كتاب أحمر صغير. وكأن شعرها يحاول الإفلات من المشبك على رأسها، وطرف ثوبها الصيفي المثير قد تدلى فوق كتفها، ليكشف قليلاً عن ملابسها الداخلية، فجأة لاحظت غوميز الذي يقف في قسم كتب الغموض وهو ينظر إلى كلير بتعابير تعكس تماماً ما كنت أشعر به نحوها والتي أجبرت أن أراها -. في هذه اللحظة، نظرت كلير إليّ وقالت: «انظر، يا هنري، إنه كتاب عن بومبيي»(43). أمسكت بالكتاب الصغير ذي صور البطاقات البريدية. وشيء ما في صوتها كان يقول لي، انظر لقد اخترتك أنت. مشيت نحوها، ووضعت ذراعي حولها، ورفعت طرف ثوبها المتدلي عن كتفها. عندما نظرت بعد ثانية إلى غوميز أدار ظهره لنا، وأخذ يقلب متقصداً في كتب أغاتا كريستي. الأحد، 15 كانون الثاني، 1995 (كلير 23 عاماً، هنري 31 عاماً) كلير: كنت أغسل الصحون وهنري يقطع الفليفلة الخضراء. والشمس تغيب بلون أحمر داكن عن الثلج الكانوني في الحديقة الخلفية باكراً مساء ذاك الأحد، ونحن نصنع صلصتنا الحارة ونغني البحار الأصفر: في البلدة حيث ولدت كان يعيش بحار جاب البحار... كنا نقلي البصل. وبينما كنا نغني وجميع أصدقائنا يبحرون انتبهت فجأة أن صوتي يدمدم منفرداً فاستدرت لأرى ملابس هنري ملقاة في كومة، والسكين على أرض المطبخ وتميل على حافتها الحادة نصف حبة الفليفلة. أطفأت الفرن، وغطيت البصل. جلست إلى جانب كومة الثياب ورفعتها نحوي، لا تزال دافئة من حرارة جسد هنري، وجلست حتى يتغلغل إلى جسدي الدفء من ملابس هنري. ثم نهضت، وذهبت إلى غرفة النوم، طويتها بترتيب ووضعتها على سريرنا. ثم عدت لإعداد طعام العشاء بأفضل ما يمكنني، تناولت الطعام وحدي، وأنا أنتظر متسائلة. الجمعة، 3 شباط، 1995 (كلير 23 عاماً، هنري 31 عاماً، وهنري 39 عاماً) كلير: كنت أجلس وهنري وكاريس وغوميز إلى طاولة الطعام عندنا ونلعب لعبة عقل الرأسمالي الحديث. إنها لعبة اخترعها غوميز وكاريس. نلعبها بمجموعة لعبة المونوبولي. وهي تتضمن أجوبة عن أسئلة، والحصول على نقاط، وتجميع نقود، واستغلال الشركاء خلال اللعب. حان دور غوميز في الرمي فجاء النرد على رقم ستة، ووضعه على فئة سؤال عن المجتمع. وسحب ورقة لعب. «حسناً، جميعاً، ما الاختراع التكنولوجي الحديث الذي تمنحونه العلامة التامة لأنه اخترع لأجل صالح المجتمع؟». قلت: «التلفاز». قالت كاريس: «مطري الثياب». قال هنري بحماسة: «حساسات الحركة». «وأنا أقول مادة البارود». اعترضته قائلة: «ولكن هذا ليس باختراع حديث». «حسناً، خطوط تجميع المنتجات». قال هنري: «لا يحق لك بجوابين». قال غوميز: «بالتأكيد يحق لي. فأي جواب أخرق على كل حال قولك (حساسات الحركة)؟». قال هنري: «تلاحقني حساسات الحركة عند الرفوف في أقسام الكتب في مكتبة نيوبيري. حدث هذا مرتين هذا الأسبوع حيث اختفيت وظهرت بعد ساعات عند الرفوف وحالما ظهرت أمام الحساسات أتى الحراس إلى هناك ليتفقدوا الأمر، يثير ذلك غضبـي». قال غوميز: «لا أعتقد أن البروليتاريا ستتأثر كثيراً بعدم اختراع حساسات الحركة. أنا وكلير نحصل على عشر نقاط للأجوبة الصحيحة، وتحصل كاريس على خمس نقاط للإبداع، أما هنري فعليك العودة ثلاث نقلات إلى الوراء لتقديمك مصلحة الفرد على المصلحة العامة». قال هنري: «هذا يضعني مجدداً عند نقطة البداية. أعطني 200 دولار، أيتها المصرفية». أعطت كاريس هنري نقوده. يقول غوميز: «أوبس». أضحك عليه. هذا دوري. أرمي النرد فيجيء على أربعة. «الحديقة العامة، سأشتريها». كي أشتري أي شيء يجب أن أجيب بشكل صحيح. يسحب هنري ورقة من مجموعة ورق الحظ. «مع من تفضلين العشاء ولماذا، آدم سميث، أو كارل ماركس، أو روزا لوكسيمبرغ، أو آلان غرينسبان؟». «روزا». «لماذا؟». «الموت أكثر إثارة». يتشاور هنري، وكاريس، وغوميز ويقررون أنه يمكنني شراء الحديقة العامة. أعطي النقود إلى كاريس وتعطيني هي صك العقار. يرمي هنري النرد فيجيء على منطقة ضريبة الدخل. ولهذه الفئة ورقها الخاص. يزداد توترنا ونحن نترقب. يقرأ البطاقة. «قفزة كبيرة إلى الأمام». «اللعنة». نعطي جميعاً صكوكنا التي ربحناها إلى كاريس، التي تعيدها إلى ممتلكات البنك، بالإضافة إلى صكوكها. «حسناً، الكثير لأجل الحديقة العامة». «آسف». يتحرك هنري نصف الطريق نحو المقدمة، مما يضعه أمام سانت جيمس. «سأشتريها». قالت كاريس نادبةً: «المسكين سانت جيمس». أسحب ورقة من فئة مواقف مجانية. «ما سعر الصرف للين الياباني مقابل الدولار اليوم؟». «ليست لديّ فكرة، من أين جئت بهذا السؤال؟». «مني». تضحك كاريس. «ما الجواب؟». «99.8 ين مقابل الدولار». «حسناً، ليست لك سانت جيمس. دورك». يعطي هنري النرد إلى كاريس. ترمي أربعة وتنتهي في نقطة الذهاب إلى السجن. تسحب ورقة مكتوب عليها ما هي جريمتها: الاختلاس. نضحك جميعاً. يقول غوميز: «يليق هذا بكما أكثر يا صديقاي». أضحك وهنري على استحياء. نقوم بعملية قتل في سوق الورق المالية هذه الأيام. ولكي تنجو كاريس من السجن عليها أن تجيب عن ثلاثة أسئلة. يسحب غوميز من مجموعة أوراق الحظ. «السؤال الأول: سمي اثنين من الفنانين المشاهير الذين عرفهم تروتسكي في المكسيك». «ديياغو ريفييرا وفريدا كاخلو». «جيد. السؤال الثاني: كم تدفع شركة نايك لعمالها الفيتناميين باليوم الواحد لصنع أحذيتها السخيفة باهظة الثمن؟». «أوو. يا اﷲ. لا أعرف... ربما ثلاثة دولارات؟ أو عشرة سنتات؟». «ما جوابكِ النهائي؟». يأتينا صوت تحطم هائل في المطبخ. نقفز جميعاً، يقول هنري بطريقة حاسمة «اجلسوا!». فنفعل. يركض نحو المطبخ. تنظر كاريس وغوميز نحوي. أهز رأسي. «لا أعلم». ولكنني أعلم. هنالك صوت همهمة منخفض وأنين. تتجمد كاريس وغوميز في مكانهما، ويصغيان. أقف وأتبع هنري بهدوء. يركع بركبتيه على الأرض وهو يمسك بقطعة تجفيف الأطباق على رأس الرجل العاري الملقى على الأرضية المشمعة، والذي هو بالطبع جسد آخر من هنري. وقعت خزانة الأطباق عن بكرة أبيها، وتحطم الزجاج وتبعثرت وتكسرت جميع الأطباق. هنري الآخر ملقى وسط هذه الفوضى، وهو ينـزف ويغطيه حطام الزجاج. نظرا نحوي كِلا هنري: الأول بشفقة، والثاني بإلحاح. انحنيت مقابل هنري الأول، وفوق هنري الثاني. همست: «من أين أتى كل هذا الدم؟». همس هنري الأول: «أعتقد من فروة الرأس». قلت له: «دعنا نطلب الإسعاف». وبدأت ألتقط الزجاج المكسور فوق صدر هنري الثاني. أغمض عينيه وقال: «لا، لا تفعلي». توقفت عن ذلك. قال غوميز شيئاً ما. وهو يقف عند ممر الباب. رأيت كاريس تقف خلفه على أطراف أصابعها، وتحاول النظر من فوق كتفه، قائلة: «واوو». وهي تدفعه. يرمي هنري بقطعة تجفيف الأطباق على أعضائه... في جسده المكور على الأرض. «أوو، لا تقلق هنري حول ذلك، إنها مجرد رسم لنماذج لا حصر لها -». يقول هنري بسرعة: «أحاول الحفاظ على شيء من الخصوصية». تتراجع كاريس كأنه صفعها. يدمدم غوميز: «أصغ إليّ، هنري». لا أستطيع أن أفكر مع كل هذا الذي يجري حولي. طلبت منهم غاضبة: «أرجوكم، اصمتوا». ويا للمفاجأة صمتوا. «ما الذي حدث؟». سألت هنري الملقى على الأرض متألماً ويحاول ألا يتحرك. فتح عينيه وحدق إليّ دقيقة قبل أن يجيب. قال أخيراً بهدوء: «سأذهب خلال دقائق». نظر إلى هنري الأول. «أريد أن أشرب». وثب هنري وعاد ومعه كأس مملوءة بعصير جاك دانييلز. رفعت رأس هنري بينما تمكن هو من إعطائه نحو ثلث الكأس. سأل غوميز: «هل في هذا شيء من الحكمة؟». أكد هنري عن الأرض: «لا أعرف، لا يهمني». ويلهث قائلاً: «إنه مؤلم جداً، قفوا للخلف، أغمضوا أعينكم -». يبدأ غوميز في القول: «ولماذا؟». يتشنج هنري على الأرض وكأنه أصيب بصدمة كهربائية. ينحني رأسه بشدة بينما ينادي «كلير!». أغلقت عينيّ. هنالك ضجيج مثل صوت سحب ملاءة سرير قد ضربت على السرير ولكن بصوت أعلى وهنالك حطام زجاج وأطباق صينية في كل مكان واختفى هنري الثاني. صاحت كاريس: «أوو، يا اﷲ». تبادلنا النظرات أنا وهنري. لقد كان هنري ذاك مختلفاً، كان عنيفاً وبشعاً ما الذي يحدث معه؟ ووجه هنري الشاحب يشير إلى أنه لا يعلم شيئاً مما يحدث مع هنري الآخر، مثلي تماماً. تفحص الكأس المكسورة وشرب محتواها. سأل غوميز وهو ينثر حطام الزجاج عن نفسه بحذر شديد: «ما كل هذا الزجاج؟». وقف هنري ماداً إليّ يده لأقف. كان مغسولاً بالدم، وقد تناثر عليه حطام الزجاج والفخار والكريستال. وقفت ونظرت إلى كاريس. كانت مصابة بجرح كبير في وجهها، والدم يسيل على خدها كالدموع. قال هنري مفسراً: «كل ما هو ليس جزءاً من جسدي يبقى ورائي». أراهم الفجوة في سنه المكسورة لأنه يفقد الحشوة دوماً مع كل اختفاء. «لذا عندما أعود... يكون كل الزجاج على الأقل قد اختفى، وليس عليهم أن يجلسوا هناك ويلتقطوه بالملاقط الصغيرة». قال غوميز: «لا، أما نحن فسنفعل!». وأخذ يلتقط حطام الزجاج من شعر كاريس. كان معه حق. (37) شاغز Shags من أشهر مغني الروك في العالم. (38) سيرس، نيمبو، أرتيمس، وأثينا Circe, Nimbue, Artemis, Athena في الأساطير اليونانية. (39) بينلوب Penelope: هي الزوجة المخلصة في ملحمة الأوديسا لهومر. صارت رمزاً للزوجة المخلصة الوفية. (40) تشيب تريك Cheap Trick: فرقة روك أميركية تأسست عام 1974. (41) رواية للكاتب الأميركي جوزيف هيللر، 1961. (42) الأسبيوس: معدن غير قابل للاحتراق. (43) Pompeii بومبيي: اسم بلدة رومانية قديمة ومندثرة تقع قرب مدينة نابولي الإيطالية. مكتبة الخيال العلمي الأربعاء، 8 آذار، 1995 (هنري 31 عاماً) هنري: نلعب أنا ومات لعبة القط والفأر في قسم المقتنيات الخاصة. كان يبحث عني لأنه من المفترض أن نقدم عرضاً عن الخط ومحاضرة في أمانة نيوبيري ونادي المراسلة للسيدات. أحاول أن أختبئ منه حتى أضع جميع ملابسي على جسدي قبل أن يجدني. يناديني مات من مكان ما من قسم تاريخ استكشاف أميركا المبكر. «هيا يا هنري الجميع ينتظروننا». أرتدي بنطالي في قسم كتب الفن الفرنسي في القرن العشرين وأناديه قائلاً: «لحظة واحدة فقط، أحاول العثور على شيء هنا». تدربت ذهنياً على التكلم من البطن لأجل لحظات مثل هذه. أصبح صوت مات أقرب وهو يقول: «تعلم أن السيدة كونيللي ستكون لديها قطة صغيرة، نسيتها، دعنا نذهب من هنا». ضرب رأسه وهو متجه نحوي وأنا أقوم بتزرير قميصي. «ما الذي تفعله؟». «آسف؟». «كنت تركض عارياً بين الأقسام مرة أخرى، أليس كذلك؟». «همم، ربما». حاولت أن أبدو غير مبالٍ. «يا اﷲ، هنري أعطني البطاقة». أمسك مات بعربة الكتب المحملة وأخذها إلى حجرة المطالعة. انفتح الباب المعدني الثقيل وانغلق. لبست جوربـي وانتعلت حذائي، وعقدت ربطة عنقي، نفضت سترتي وارتديتها. ثم مشيت إلى حجرة المطالعة، واجهت مات على طاولة الغرفة الطويلة والتي تحيطها السيدات الثريات في منتصف أعمارهن، وبدأت عرض مختلف الخطوط للعبقري رودولف كوخ. وضع مات القصاصات، وأخذ يفتح المجموعات ويضيف تعليقات ذكية حول كوخ ونهاية الساعة، بدا وكأنه لن يقتلني هذه المرة. تدرجت السيدات السعيدات إلى الغداء. جمعّت أنا ومات الكتب حول الطاولة، ووضعناها في صناديقها على العربة. قلت له: «آسف على التأخير». أجابني: «لو لم تكن نابغة، لكنا صبغناك واستخدمناك في تجليد كتاب Das Manifest Der Nacktkultur (44) الآن. «لا يوجد كتاب كهذا». «أتراهن؟». «لا». قدنا العربة إلى الأقسام، وبدأنا بإعادة الكتب والحقائب إلى الرفوف. دعوت مات إلى الغداء في مطعم باو التايلندي، وسامحني على كل شيء إن لم يكن قد نسي الأمر كله. الثلاثاء، 11 نيسان، 1995 (هنري 31 عاماً) هنري: يوجد في مكتبة نيوبيري بيت للدرج يخيفني. يقع عند الطرف الشرقي من ممر الصالة الطويل الموجود في كل طابق من الطوابق الأربعة، وهو يشطر حجرة المطالعة عن باقي الأقسام. ليس ضخماً مثل الدرج الرئيس بدرجه الرخاميّ ودرابزينه المنقوش. ليس فيه نوافذ. إنارته خافتة، وجدرانه ذات مقاطع رمادية، ودرجه إسمنتي بأشرطة للسلامة صفراء اللون. في كل طابق أبواب معدنية من دون نوافذ. ولكن ليست هذه هي الأشياء التي تخيفني. إن الذي لا أحبه أبداً في هذا الدرج هو القفص. إنه على طول الأربعة طوابق، ويرتفع من مركز بيت الدرج. يبدو كقفص معد لمصعد، ولكن لا مصعد فيه، ولم يجهز به يوماً. يبدو ألا أحداً من مكتبة نيوبيري يعلم سبب وجود هذا القفص هناك، أو سبب تركيبه. أعتقد أنه وجد ليمنع الناس من رمي أنفسهم عن الدرج والسقوط كركام وحطام. القفص مطلي بلون البيج. وهو مصنوع من الفولاذ. عندما قدمت للمرة الأولى إلى مكتبة نيوبيري للعمل فيها، اصطحبتني كاترين في جولة تعريفية على كل أركانها وزواياها المظلمة. وبفخر شديد عرفتني إلى أقسام الكتب، وغرف الإبداع، والغرفة غير المستخدمة عند الوصلة الشرقية حيث يمارس مات تجاربه الغنائية. ومكعب ماك آليستر غير المرتب المدهش، ومقصورات الكتب المخصصة للعامة، وغرفة الطعام للعاملين. وحالما فتحت كاترين الباب نحو بيت الدرج في طريقنا إلى المخازن، انتابتني لحظة من الرعب. لمحت القضبان المتشابكة للقفص، وتسمرت فجأة مثل حصان فزع. سألت كاترين: «ما هذا؟». أجابتني بلامبالاة: «أوو، إنه القفص». «أهذا مصعد؟». «لا، بل مجرد قفص. لا أعتقد أنه من دون جدوى». «أووه». مشيت نحوه، ونظرت إليه. «هل يوجد باب في الأسفل هناك؟». «لا، لا يمكنك دخوله». «أوو». صعدنا الدرج، وأكملنا جولتنا. منذ ذلك الحين، تجنبت استخدام بيت الدرج ذاك. أحاول ألاّ أفكر في القفص. لا أريد أن أجعل منه قضية هامة. لكن إن حدث ودخلته ذات يوم، فلن أتمكن من الخروج منه. الجمعة، 9 حزيران، 1995 (هنري 31 عاماً) هنري: ظهرت فجأة على الأرض في حمام الرجال للموظفين في الطابق الرابع في مكتبة نيوبيري. كنت قد اختفيت لعدة أيام، تهت في العام 1973، في ريف إنديانا، وأنا متعب، وجائع، وغير حليق الذقن، وأسوأ ما في الأمر أن هناك كدمة على عيني، ولا أستطيع إيجاد ملابسي. نهضت، وأقفلت على نفسي إحدى مقصورات الحمام، وجلست أفكر. وإذ بأحدهم يدخل وأنا على هذه الحال، أنـزل سحابه، وبدأ يبول. عندما انتهى رفع السحاب ثم وقف للحظة، وصدف أن عطست. قال روبيرتو: «من هناك؟». جلست صامتاً. رأيت روبيرتو من الفراغ الموجود بين الباب والمرحاض وهو ينحني ببطء لينظر من تحت الباب إلى قدمي. قال: «هنري؟ سأطلب من مات أن يحضر لك ملابسك، ارتدِها ووافني في مكتبـي». تسللت إلى مكتب روبيرتو وجلست قبالته. كان يتحدث عبر الهاتف، اختلست نظرة إلى التقويم. إنه يوم الجمعة. وتشير عقارب الساعة فوق المكتب إلى 2:17. لقد اختفيت لأكثر من عشرين ساعة على أقل تقدير. وضع روبيرتو سماعة الهاتف في مكانها، واستدار ناظراً إليّ، وقال: «أغلق الباب». هذا مجرد إجراء رسمي لأن جدران مكاتبنا ليست على طول السقف، ولكنني فعلت ما طلبه مني. روبيرتو كول هو باحث بارز في مجال عصر النهضة الإيطالية، ورئيس قسم المقتنيات الخاصة. وهو بشكل اعتيادي أكثر الرجال تفاؤلاً، شعره أشقر ذهبـي، ملتحٍ، ومشجع، وها هو ينظر إليَّ الآن بحزن من نظارته ثنائية البؤرة ويقول: «لا يمكننا تحمل ذلك، تعلم هذا». قلت: «أجل، أعرف ذلك». «هل تسمح لي أن أسألك من أين جاءتك هذه الكدمة المؤثرة في عينك؟». كانت نبرة صوت روبيرتو حادة. «أعتقد أنني مشيت على شجرة». «بالطبع، كم أنا سخيف كيف لم يخطر هذا لي». جلسنا ونظر كل منا إلى الآخر. قال روبيرتو: «يوم أمس لاحظت أن مات كان يتجه إلى مكتبه وهو يحمل كومة ملابس. وحيث إنها ليست المرة الأولى التي أراه فيها وهو يحمل ثياباً سألته من أين حصل على هذه الكومة تحديداً، فأجابني أنه قد وجدها في حمام الرجال. ولذا سألته لماذا اضطر إلى نقل كومة الثياب هذه إلى مكتبك فأجابني أنها بدت وكأنها الثياب التي كنت ترتديها، وهي كذلك بالفعل. وحيث إنه لم يتمكن أحد من إيجادك، تركنا الملابس بكل بساطة على مكتبك». توقف للحظة وكأنه كان يفترض بـي أن أقول شيئاً ما، ولكنني لم أجد الإجابة المناسبة. فتابع حديثه قائلاً: «اتصلت كلير هذا الصباح، وأخبرت إيزابيل أنك أصبت بحمى برد وأنك لن تأتي إلى العمل». ملت برأسي على يدي. عيناي ترمشان. قال روبيرتو: «اشرح لي الأمر». كان من المغري القول حسناً روبيرتو لقد كنت عالقاً في العام 1973 ولم أستطع الخروج من إنديانا، وعشت لعدة أيام في حظيرة. وكان صاحب الحظيرة يلاحقني لأنه اعتقد أنني أعبث بخرفانه. لكنني لا أستطيع قول هذا. قلت له: «روبيرتو أنا لا أتذكر، أنا آسف». «آه، حسناً، أعتقد أن مات قد ربح الرهان». «أي رهان؟». ضحك روبيرتو، أعتقد أنه لن يطردني من العمل. «راهن مات على أنك لن تكترث حتى لتشرح هذا الأمر. حافظت أميليا على نقودها بعيداً عن استغلال الغرباء، وراهنت إيزابيل على أنك متورط مع عصابة مخدرات دولية وقد اختطفتك المافيا وقتلتك». «وماذا عن كاثرين؟». «أوه، أنا وكاثرين كنا مقتنعين أن مرد هذا كله إلى نـزوة غريبة وشاذة غير مفسرة تنطوي على هاجس في العري والكتب». أخذت نفساً عميقاً، وقلت: «بل هي تُشبه داء الصرع المزمن». نظر روبيرتو مشككاً. «داء الصرع؟ لقد اختفيت مساء الأمس. ولديك كدمة في عينك وخدوش على وجهك ويديك. طلبت من الحراس يوم أمس أن يبحثوا عنك في جميع اتجاهات المبنى من الأعلى وحتى الأسفل، أخبروني أن من عادتك خلع ملابسك بين رفوف الأقسام». حدقت إلى أصابع يدي، وعندما رفعت نظري، كان روبيرتو ينظر خارج النافذة. «لا أعلم ماذا أفعل معك، يا هنري. أكره أن أفقدك، عندما تكون موجوداً هنا ومرتدياً ثيابك كاملة فأنت شخص هادئ... وكُفوء. ولكن الأمر لن يستمر على هذا النحو». جلسنا، ونظرنا إلى بعضنا بضع دقائق. أخيراً قال روبيرتو: «عدني ألا يتكرر هذا مجدداً». «لا أستطيع، أتمنى لو كنت أستطيع ذلك». تنهد روبيرتو، وأشار بيده إلى الباب. «اذهب. اذهب وقم بترتيب كتالوجات مقتنيات غويكيلي، سيبقيك هذا بعيداً عن المشاكل لبعض الوقت». (تزيد مجموعة غويكيلي التي أهديت مؤخراً إلى المكتبة عن ألفي قطعة عن ذبابة حضارة المايو في العصر الفكتوري). أطرقت رأسي مطيعاً ووقفت. وما إن هممت بفتح الباب حتى قال لي روبيرتو: «هنري، هل الأمر بهذا السوء لدرجة أنك لا تستطيع أن تبوح لي به؟». ترددت. ثم قلت: «أجل». صمت روبيرتو. أغلقت الباب ورائي، ومشيت إلى مكتبـي. كان مات يجلس خلف طاولة مكتبـي، ينقل من دفتر تقويمي إلى دفتر تقويمه بعض الأشياء. رفع نظره عندما دخلت. وسألني: «هل طردك من العمل؟». أجبته: «لا». «لِمَ لا؟». «لا أعلم». «غريب. بالمناسبة قمت بإعطاء محاضرة التجليد اليدوي في شيكاغو بدلاً منك». «شكراً، سأشتري طعام الغداء لك غداً». «بالتأكيد». وأخذ مات يقلب صفحات التقويم أمامه. «لدينا عرض ومحاضرة عن تاريخ الطباعة لصف من كولومبيا بعد خمس وأربعين دقيقة». أطرقت رأسي، وبدأت أبحث على الطاولة عن لائحة الأشياء التي سنقوم بعرضها. «هنري». «نعم؟». «أين كنت؟». «في ميونسي، إنديانا، 1973». «أجل، صحيح». أدار مات رأسه، وابتسم بسخرية. «حسناً، لا عليك». الأحد، 17 كانون الأول، 1995 (كلير 24 عاماً، هنري 8 أعوام) كلير: كنت أزور كيمي بعد الظهيرة من يوم أحد مثلج من أيام كانون الأول. كنت أتسوق من أجل الميلاد. جلست في مطبخ كيمي لأشرب الشوكولاته الساخنة، وأدفئ قدميّ على المدفأة الكهربائية، وأحدثها عن المشتريات والديكورات. كانت تلعب لعبة ورق السوليتير، ونحن نتحدث، تعجبني خبرتها في خلط ورق اللعب، وسرعتها في وضع الورقة الحمراء فوق الورقة السوداء. هناك أصوات ضجيج تصدر من غرفة الطعام، كأنه صوت كرسي قد وقع. تفقدت كيمي الأمر، وعادت. همست: «كيمي، يوجد طفل صغير تحت طاولة الطعام». قهقه أحدهم. وأخذت كيمي تنادي: «هنري؟». من دون جواب. نهضت، ووقفت عند ممر الباب قالت: «هيه، يا صغيري، توقف عن هذا، ضع ثياباً عليك، يا سيد». ذهبت كيمي إلى غرفة الطعام، وهي تهمس. قهقه أكثر. ثم صمت. فجأة، ظهر صبـي عارٍ وهو يحدق إليّ أمام الباب، ثم اختفى فجأة هكذا. عادت كيمي وجلست إلى الطاولة، واستأنفت اللعب. قلت: «واو». ضحكت كيمي. «لا يحدث هذا كثيراً هذه الأيام. وعندما يظهر في هذه الأيام يكون كبيراً. لكنه لم يعد يظهر كثيراً هنا كما كان يظهر». «لم أرَه قط يتقدم هكذا إلى الأمام، نحو المستقبل». «حسناً، لم يمرّ الكثير من المستقبل معه بعد». استغرق مني الأمر ثواني لأستوعب ما عنته بكلامها. وعندما استوعبته، تساءلت عن ذاك المستقبل الذي سنعيشه، ثم فكّرت في المستقبل الذي بدأ يتسع تدريجياً مفتوحاً بما يكفي لهنري حتى يأتي إليّ من الماضي. احتسيت الشوكولاته الساخنة، ونظرت إلى الباحة الخلفية التي كان يكسوها الثلج. سألتها: «هل تشتاقين إليه؟». «أجل، أشتاق إليه، لكنه قد كبر الآن. عندما يأتي كطفل صغير، يبدو كشبح. أنت تعرفين ذلك؟». أطرقت رأسي. أنهت كيمي لعبتها، وجمعت الورق. نظرت إليّ، وقالت: «متى ستنجبان طفلاً؟». «لا أعلم يا كيمي، لست متأكدة أنه يمكننا ذلك». وقفت، وسارت نحو الموقد، وحركت عيدان الحطب. «حسناً، لا تعلمين أبداً». «حقاً». لا أحد يعرف. في وقت لاحق كنت وهنري ممددين على السرير. ولا يزال الثلج يتساقط، ويصدر صوت طرقٍ خفيف من المشع. استدرت نحو هنري، نظر إليّ فقلت له: «دعنا ننجب طفلاً». الاثنين، 11 آذار، 1996 (هنري 32 عاماً) هنري: اقتفيت أثر د. كيندريك، الذي انضم إلى مشفى جامعة شيكاغو. إنه يوم بارد وممطر من شهر آذار. يبدو آذار في شيكاغو كما يفترض به أن يكون فقد تحسن الطقس نوعاً ما عن شهر شباط، ولكنه أحياناً لا يكون كذلك. ركبت المترو، وجلست على كرسي بعكس اتجاه الطريق. أصبحت شيكاغو وراءنا وبعد قليل وصلنا إلى الشارع رقم 59. نـزلت من المترو، واندفعت تحت المطر البارد. كانت الساعة التاسعة صباحاً من يوم الاثنين. كل واحد مستغرق مع نفسه يجاهد للعودة إلى أسبوع من العمل. أحب هايد بارك، تجعلني أشعر وكأنني قد غادرت شيكاغو إلى مدينة أخرى، إلى كامبردج، ربما. والظلام يخيم على الأبنية الحجرية الرمادية بسبب هطول المطر على شكل حبات كبيرة متجمدة على المارة من بين أوراق الأشجار. أشعر بسكون الرضوخ عن يقين للقدر، سأتمكن من إقناع د. كيندريك، على الرغم من فشلي في إقناع العديد من الأطباء، إلا أنني استطعت إقناعه. سيكون طبيبـي، فقد رأيت في المستقبل أنه طبيبـي. دخلت مبنى صغيراً على الطراز الحديث جانب المشفى. ثم استقللت المصعد إلى الطابق الثالث، فتحت الباب الزجاجي الذي توجد عليه يافطة مذهبة كتب عليها الدكتور س. ب. سلوني والدكتور د. ل. كيندريك، قدمت نفسي إلى عاملة الاستقبال، وجلست على أحد الكراسي المنجدة خزامية اللون. كان لون غرفة الانتظار وردياً وبنفسجياً. أعتقد أن هذه الألوان تساعد على تهدئة المرضى. د. كيندريك أخصائي في علم الوراثة، وليست مصادفة أنه فيلسوف أيضاً، وأعتقد أن هذه الصفة الأخيرة تُفيده في التكيف مع الممارسات الواقعية القاسية لمهنته الأولى. لا يوجد اليوم أحد سواي. لقد أتيت مبكراً عن الموعد بعشر دقائق. الجدران مخططة عريضة ونفس ألوان اللبن المنكه بالفواكه بيبيتو بيسمول، تتعارض مع لوحة ناعورة ماء أمامي والتي يغلب عليها اللون البني والأخضر. أما الأثاث فهو من الطراز المقلد للمستعمرات، ولكن، يوجد بساط مناسب إلى حدٍّ ما، نوع من السجاد العجمي، وقد أسفت عليه لأنه موضوع في غرفة الانتظار القبيحة هذه. وعاملة الاستقبال امرأة تبدو في أواسط العمر تعلو وجهها تجاعيد عميقة سببتها سنوات من الجلوس تحت الشمس، وها هي شمس آذار في شيكاغو قد لفحتها الآن. تناهت إلى مسمعي عند التاسعة والنصف أصوات تأتي من الممر حيث دخلت امرأة شقراء إلى غرفة الانتظار ومعها طفل صغير على كرسي متحرك. يبدو أن الطفل مصاب بالشلل الدماغي أو ما شابه. ابتسمت المرأة لي، فبادلتها بابتسامة مشابهة. وعندما استدارت لاحظت أنها حامل. قالت عاملة الاستقبال: «يمكنك الدخول، يا سيد دي تامبل». ابتسمت للصبـي الصغير وأنا أمر أمامه. استحوذتني عيناه الكبيرتان، ولكنه لم يبتسم لي بالمقابل. عندما دخلت مكتب د. كيندريك كان يسجل ملاحظات على أحد الملفات. جلست بينما هو تابع الكتابة. إنه أصغر سناً مما توقعت، يبدو في أواخر الثلاثين من العمر. أتوقع دوماً أن يكون الأطباء كبار السن. لا أستطيع تغيير ذلك، فقد اكتسبت ذلك من أيام طفولتي مع الأطباء. د. كيندريك ذو شعر أحمر، ووجه نحيل، وملتحٍ، ويضع نظارة ذات إطار سميك. يشبه إلى حدٍّ ما د. إيتش. لورانس. يرتدي بذلة رمادية داكنة كلون الفحم ويضع ربطة عنق رفيعة خضراء داكنة وملقط ربطة عنق مرقط بألوان قوس قزح. كما توجد منفضة سجائر ممتلئة قرب مرفقه، تفوح من الغرفة رائحة السجائر، بالرغم من أنه لا يدخن الآن. كل شيء يبدو جديداً. أنابيب فولاذية، وأثاث منجد بنسيج مضلع لونه بيج، وخشبية فاتحة. نظر إليّ وابتسم. قال وهو ينظر إلى تقويمه: «صباح الخير سيد دي تامبل، كيف يمكنني مساعدتك؟ يبدو أنه ليست عندي أي معلومات عنك، هنا؟ ما مشكلتك؟». قلت له: «Dasein الوجود»(45). عاد د. كيندريك إلى الوراء فجأة. «الوجود؟ التواجد؟ كيف ذلك؟». لديّ حالة قيل لي إنها ستعرف في ما بعد بالعجز في التوافق الزمني. لديّ صعوبة في البقاء في الحاضر. «أنا آسف؟». «أسافر عبر الزمن، من غير إرادة مني». ارتبك د. كيندريك، ولكنه دارى ارتباكه هذا. أحببته. يحاول أن يتعامل معي بطريقة التعامل مع شخص مجنون، بالرغم من أنني متأكد من أنه يفكر، في قرارة نفسه، في الطبيب النفسي الذي سيحولني إليه. «لكن، لماذا تحتاج إلى أخصائي وراثة؟ أم أنك تستشيرني كفيلسوف؟». «إنه مرض وراثي. على الرغم من أن من المفيد إيجاد شخص يمكن التحدث معه عن المجالات الأوسع لهذه المشكلة». «سيد دي تامبل، من الواضح أنك شخص ذكي... لم أسمع أبداً عن هذا المرض. لا يمكنني مساعدتك على شيء». «أنت لا تصدقني». «صحيح. لا أصدقك». ضحكت بحزن الآن. يعتريني شيء مخيف حول ذلك، ولكن لا بد من فعل شيء حول هذا: «حسناً، لقد مررت بفترات كان عليّ فيها تهدئة بضعة أطباء في حياتي. ولكن، هذه هي المرة الأولى التي سأعرض فيها شيئاً كوسيلة لأثبت ما أعاني منه، لم يصدقني أحد بالطبع، إنك تتوقع وزوجتك إنجاب طفل الشهر القادم؟». تنبه حذراً. «صحيح. كيف عرفت؟». «نظرت، منذ سنوات في المستقبل، إلى شهادة ميلاد طفلكما. وقد سافرت أيضاً إلى ماضي زوجتي، كتبت لها المعلومات في هذا المغلف، وقد أعطتني إياه عندما تقابلنا في الحاضر وها أنا أعطيك إياه الآن. افتحه بعد ولادة ابنك». د. كيندريك: «لكننا سننجب بنتاً». قلت برفق: «لا، حتماً لا، ولكن دعنا لا نتجادل في هذا الآن. وفر علينا هذا. افتح الظرف بعد ولادة المولود، لا تلقِه جانباً، وبعد أن تقرأه، اتصل بـي، إن أردت ذلك». نهضت لكي أغادر وأنا أقول له: «حظاً سعيداً». بالرغم من أنني لا أعتقد بالحظ هذه الأيام. أشعر حقاً بالأسى تجاهه، ولكن ليس أمامي من طريقة أخرى حتى أفعل بها ما فعلت. قال د. كيندريك: «وداعاً، يا سيد دي تامبل». ثم غادرت. وعندما كنت أهم بدخول المصعد، فكرت بيني وبين نفسي في أنه سيفتح المغلف الآن. توجد داخله ورقة مطبوعة كتب عليها: كولين جوزيف كيندريك6 نيسان، 1996، الساعة 1:18 بعد منتصف الليل6 إنشات، 8 أونصات ذكر، مصاب بداء المنغولي السبت، 6 نيسان، 1996، 5:32 صباحاً (هنري 32 عاماً، كلير 24 عاماً) هنري: كنت وكلير نائمين ونحن متعانقان، طوال الليل كنا نصحو، ثم نستدير، ثم ننهض ثم نعود إلى السرير. لقد ولد ابن د. كيندريك قبل ساعات من هذا اليوم، سيرن الهاتف حالاً، ها هو ذا يرن، الهاتف إلى جانب كلير حيث تنام، رفعت السماعة وقالت: «آلو؟». وبهدوء شديد مررته إليّ. سأل د. كيندريك وهو بالكاد يهمس: «كيف عرفت؟ كيف عرفت؟». «أنا آسف، أنا آسف». لم ينبس أي منا بكلمة مدة دقيقة. أعتقد أن كيندريك كان يبكي. «تعالَ إلى مكتبـي». «متى؟». «غداً». قال هذا ووضع سماعة الهاتف. الأحد، 7 نيسان، 1996 (هنري 32 عاماً، وهنري 8 أعوام، كلير 24 عاماً) هنري: كنت وكلير نقود السيارة متجهين إلى هايد بارك، كنا صامتين طوال الطريق تقريباً، كانت السماء تمطر، وصوت مساحات السيارة يعطي إيقاعاً بسبب تدفق المطر على السيارة مع صوت الريح. كأننا نكمل حديثاً لم نكن حقاً قد بدأناه، قالت كلير: «هذا ليس عدلاً على ما يبدو». «ماذا؟ كيندريك؟». «أجل». «الطبيعة غير عادلة». «أوه، لا، أعني، أجل، الأمر محزن بشأن المولود، ولكن في الحقيقة عنيت نحن، يهيأ إليّ أنه من غير المنصف استغلال ذلك». «تعنين غير لائق». «آه، هه». تنهدت. ظهرت لافتة الشارع، 57 وغيرت كلير السرعة، وتحولت إلى القيادة الآلية. «أنا أوافقك، ولكن فات الأوان. وأنا حاولت...». «حسناً، فات الأوان على كل حال». «صحيح». عدنا إلى الصمت مرة أخرى. توجهت كلير عبر متاهة من الطرقات باتجاه واحد، وحالاً وصلنا أمام مبنى مكتب كيندريك. «حظاً موفقاً». «شكراً». كنت متوتراً. قبلتني كلير وقالت: «كن لطيفاً». نظرنا إلى بعضنا بعضاً، اختلطت كل أمنياتنا بالشعور بالذنب تجاه كيندريك. ضحكت كلير ونظرت بعيداً. ترجلت من السيارة، ونظرت إلى كلير وهي تبتعد ببطء في الشارع 59 وتجتاز الطرقات الجانبية، كان عليها تسليم رسالة شفهية في معرض سمارت. كان المدخل الرئيس مفتوحاً، استخدمت المصعد إلى الطابق الثالث، لا يوجد أحد في غرفة الانتظار عند كيندريك، سرت نحو الصالة، كان باب مكتب كيندريك مفتوحاً، الأنوار مطفأة، وكيندريك يقف خلف مكتبه مديراً ظهره إليّ، ينظر من النافذة إلى الشارع المبلل بالمطر. وقفت صامتاً عند الباب دقيقة كاملة. أخيراً، دخلت غرفة المكتب. استدار كيندريك، وصدمت للفرق في تعابير وجهه، الخراب ليس بالكلمة الصحيحة، لقد أصبح فارغاً، ذهب منه شيء ما كان موجوداً أمس في ملامحه، الأمان، الثقة. لقد اعتدت العيش على أرجوحة بهلوانية جعلتني أنسى أن الأشخاص الآخرين يميلون إلى الاستمتاع بالعيش وفق معايير ثابتة. قال كيندريك: «هنري دي تامبل». «مرحباً». «لماذا أتيت إليّ؟». «لأنه يجب عليّ أن آتي إليك، لم يكن لديّ خيار». «القدر؟». «سمه ما تشاء. طبيعة الأمور تسير هكذا، عندما تكون أنت أنا، تختلط الأسباب مع النتائج». جلس كيندريك خلف مكتبه. صدر عن كرسيه صوت صرير، والصوت الآخر كان صوت هطول المطر. أدخل يده في جيبه ليتناول سيجارته، وجدها، نظر إليها وإليّ، هززت كتفي، أشعل واحدة، وأخذ مجة منها للحظة. نظرت إليه. قال لي: «كيف عرفت؟». «قلت لك من قبل، رأيت شهادة الميلاد». «متى؟». «في العام 1999». «مستحيل». «فسرها، إذاً». هز كيندريك رأسه وأجاب: «لا أستطيع، حاولت تفسير ذلك، ولم أستطع، كل شيء كان صحيحاً. الساعة، التاريخ، الوزن... الإعاقة». نظر إليّ بيأس. «ماذا لو كنا قد قررنا تسميته باسم آخر؛ أليكس، أو فريد، أو سام...؟». هززت رأسي، وتوقفت عندما أدركت أنني أقلده. «ولكنك لم تسمه اسماً آخر، ولن أذهب بعيداً لأقول لك إنه لم يكن في إمكانك ذلك، ولكنك لم تفعل. كل ما قمت به هو تسجيل ذلك». «هل لديك أطفال؟». «لا». لم أرد الدخول في نقاش حول هذا الأمر معه، بالرغم من أنني في نهاية الأمر سأضطر إلى ذلك. «أنا آسف بشأن كولين، ولكن أنت تعلم، إنه صبـي رائع حقاً». حدق كيندريك إليّ. «تقفيت سبب الخطأ الحاصل، لقد تبدلت نتائج فحوصاتنا مع زوجين آخرين يدعيان كينويك». «ماذا كنت ستفعل لو عرفت بالأمر؟». أشاح بناظريه عني. «لا أعرف، أنا وزوجتي كاثوليكيان، لذا أعتقد أن النتيجة هي ذاتها، إنها سخرية...». «أجل». سحق كيندريك عقب سيجارته، وأشعل واحدة أخرى. استسلمت للصداع الذي أصابني بسبب السجائر. «كيف تفعل ذلك؟». «ماذا؟». «هذا ما تسميه السفر عبر الزمن الذي تقوم به افتراضياً». بدا غاضباً. «أتنطق بكلمات...؟ أم تصعد في آلة؟». حاولت أن أشرح له بمنطق عقلاني. «لا، لا أفعل شيئاً من هذا، بل هو مجرد أمر يحدث لي فحسب، لا أستطيع التحكم به، أنا فقط - يكون كل شيء على ما يرام، ثم بعد قليل أصبح في مكان آخر، وفي زمن آخر، تماماً كما تتنقل بين قنوات التلفاز. أجد نفسي فجأة في زمن آخر ومكان آخر». «حسناً، ما الذي تريدني أن أفعله لك حيال ذلك؟». انحنيت إلى الأمام. «أريدك أن تجد السبب وراء ذلك، وتوقفه». ابتسم كيندريك، ليست ابتسامة مودة. «لماذا تريد فعل ذلك؟ يبدو أن الأمر يناسبك، تعرف كل تلك الأشياء التي لا يعرفها الآخرون». «إنه أمر خطير، سيقتلني هذا الأمر عاجلاً أم آجلاً». «لا أستطيع أن أدعي أن ذلك يهمني». ليس هناك داعٍ للاستمرار. وقفت، واتجهت نحو الباب. «وداعاً د. كيندريك». مشيت ببطء عبر الصالة، لأعطيه فرصة حتى يناديني، ولكنه لم يفعل، وعندما وقفت في المصعد فكرت بيأس، مهما تكن هذه الأمور سيئة، إلا أنها تسير حسب مسارها، وعاجلاً أم آجلاً ستقوم بتصحيح وضعها. وحالما فتحت الباب، رأيت كلير تنتظرني في الشارع داخل السيارة. التفتت نحوي وعلى وجهها تعبير ينم عن شيء من الأمل، شيء في وجهها يستبق ليعرف أنني حزين جداً، أخاف أن أقول لها، وبينما أنا أسير إليها أصابني طنين في أذني فقدت على إثره توازني ووقعت. ولكن، بدلاً من أن أقع على الرصيف وقعت على سجادة وبقيت ممداً حيث سقطت إلى أن سمعت صوت طفل مألوف يقول لي: «هنري، هل أنت بخير؟». رفعت نظري لأجد نفسي، في عمر الثامنة، جالساً على السرير، ينظر إليّ. «أنا بخير هنري». بدا مرتاباً. «حقاً أنا بخير». «أتحتاج إلى بعض الأوفالتين؟». «بالتأكيد». نهض عن السرير، وسار في غرفة النوم متوجهاً إلى الصالة. كان الليل قد انتصف. أحدث جلبة في المطبخ لبعض الوقت، أخيراً، عاد ومعه فنجانان كبيران من الشوكولاته الساخنة. شربناهما على مهل وصمت. وعندما أنهينا أخذ هنري الفنجانين إلى المطبخ وغسلهما. لا يوجد مبرر لترك برهان وراءه. عندما عاد سألته: «ما الأمر؟». «ليس مهماً، ذهبنا لزيارة طبيب آخر هذا اليوم». «هيه، وأنا أيضاً. أي طبيب؟». «نسيت الاسم. رجل كبير يوجد في أذنيه الكثير من الشعر». «كيف كان الأمر؟». هز هنري كتفيه، وقال: «لم يصدقني». «يجب أن تتخلى عن هذه الفكرة. لن يصدقك أحد منهم. حسناً، الطبيب الذي رأيته اليوم صدقني، على ما أعتقد، ولكنه لم يرد أن يساعدني». «كيف ذلك؟». «لأنه لم يحبني، على ما أعتقد». «هل تريد ملاءات؟». «ربما واحدة فقط». رفعت الملاءة عن سرير هنري، ومشيت على رؤوس أصابعي. «تصبح على خير، نم جيداً». رأيت أسناني البيضاء تلمع في زرقة غرفة النوم للحظة، ثم تكورت كالكرة، وغاب الطفل في نومه، وتركني أنظر إلى سقفي القديم، وأعود مسلماً نفسي مجدداً إلى كلير. كلير: خرج هنري من المبنى والتعاسة بادية عليه، وفجأة صرخ ثم اختفى. قفزت من السيارة، وركضت نحو البقعة التي كان يقف عليها قبل لحظة واحدة فقط، وطبعاً لم يكن هناك سوى كومة من ملابسه، جمعتها، ووقفت لأستجمع دقات قلبـي وأنا أقف وسط الشارع، وبينما كنت واقفةً رأيت وجه رجل ينظر إلى الأسفل نحوي من النافذة في الطابق الثالث، ثم اختفى. عدت إلى السيارة وصعدت، جلست أحدق إلى قميص هنري الأزرق ذي اللون الفاتح وبنطاله الأسود، أسأل نفسي إن كانت هناك أي جدوى من البقاء هنا. معي رواية بعنوان برايدشيد ريفيسيتد في حقيبتي، لذا قررت أن أبقى في الجوار لبعض الوقت في حال عاد هنري وظهر خلال فترة وجيزة. وبينما أبحث عن الكتاب رأيت رجلاً أحمر الشعر يركض نحو السيارة. وقف عند باب الراكب جانب السائق ونظر إليّ. لا بد أنه كيندريك. فتحت القفل، دخل السيارة، لم يعرف ماذا يقول. قلت له: «مرحباً، لا بد أنك دافيد كيندريك. أنا كلير دي تامبل». «أجل -». كان مرتبكاً تماماً. «أجل، أجل. زوجك -». «اختفى في وضح النهار». «أجل!». «تبدو مندهشاً». «حسناً -». «ألم يقل لك ذلك؟ لقد قال ذلك». لم يؤثر الرجل فيّ حتى هذه اللحظة، ولكنني تحفظت، قلت له: «أنا آسفة بشأن مولودك، لكن هنري يقول إنه طفل لطيف، ويرسم جيداً، ويتمتع بمخيلة واسعة، وأن ابنتك موهوبة حقاً، وسيسير كل شيء على خير ما يرام، سترى ذلك». كان ينظر إليّ. «ليست لدينا ابنة. فقط كولين». «سترزقان بابنة، واسمها ناديا». «كان الأمر بمثابة صدمة بالنسبة إلينا. زوجتي متضايقة جداً...». «وستسير الأمور على خير ما يرام. حقاً». كم فاجأني عندما راح هذا الغريب يبكي، وترتجف كتفاه، غطى وجهه بيديه، وتوقف بعد عدة دقائق، ورفع رأسه. أعطيته منديلاً ورقياً. ثم قال: «أنا آسف جداً». «لا عليك. ما الذي حدث في الداخل، بينك وبين هنري. سارت الأمور على نحو سيئ». «كيف عرفتِ؟». «كان متوتراً جداً، لذا فقد قبضته على الحاضر». «أين هو الآن؟». نظر كيندريك حوله كأنني أخفي هنري في المقعد الخلفي. «لا أعرف، ليس هنا. كنا نتمنى أن تقوم بمساعدتنا، ولكنني لا أعتقد أنك ستساعدنا». «حسناً، أنا لا أعرف كيف -». ظهر هنري في هذه اللحظة في البقعة التي اختفى منها بالضبط. توجد سيارة على بعد عشرين قدماً، داس السائق على مكابح سيارته بسرعة عندما رمى هنري بنفسه أمام مقدمة سيارتنا، أنـزل الرجل زجاج نافذة سيارته، وقف هنري وانحنى قليلاً، صاح الرجل بشيء ما، ثم ابتعد بسيارته. صار الدم يغلي في رأسي. نظرت إلى كيندريك، الذي كان عاجزاً عن الكلام، قفزت من السيارة، وأزاح هنري نفسه من المقدمة. «هاي كلير». كان ذلك قريباً جداً! وضعت ذراعي حوله، إنه يرتجف. «هل ملابسي معك؟». «نعم، هنا - أوه، هيه، كيندريك هنا». «ماذا؟ أين؟». «في السيارة». «لماذا؟». «رآك وأنت تختفي فأثر ذلك في دماغه على ما يبدو». أدخل هنري رأسه من نافذة جانب باب السائق. «مرحباً». كان يأخذ ملابسه وراح يرتديها. خرج كيندريك من السيارة، وأسرع نحونا. «أين كنت؟». «في العام 1971، كنت أشرب الأوفالتين مع نفسي، عندما كنت في الثامنة من العمر، في غرفة نومي القديمة، عند الواحدة بعد منتصف الليل. بقيت هناك قرابة الساعة. لماذا تسأل؟». نظر هنري إلى كيندريك ببرود بينما يعقد ربطة عنقه. «أمر لا يصدق». «يمكنك الاستمرار في قول ذلك إلى ما تشاء، ولكن ولسوء الحظ إنها الحقيقة». «تعني أنك أصبحت في الثامنة من العمر؟». «لا، أعني أنني كنت جالساً في غرفة نومي القديمة في منـزل أبـي في العام 1971، تماماً كما أنا الآن، في عمر الثانية والثلاثين، وبرفقة نفسي في سن الثامنة. أشرب الأوفالتين. كنا ندردش عن عدم تصديق الأطباء لنا». مشى هنري إلى الجانب الآخر من السيارة وفتح الباب. «كلير هيا بنا نذهب. لا جدوى من ذلك». مشيت إلى باب السائق. «وداعاً د. كيندريك. حظاً طيباً مع كولين». «انتظر -». توقف كيندريك، واستجمع نفسه. «هل هذا مرض وراثي؟». قال هنري: «نعم، إنه مرض وراثي، ونحن نحاول إنجاب طفل». ضحك كيندريك، بحزن وقال: «ما تحاولان فعله غير مضمون النتائج». ابتسمت له وقلت: «لقد اعتدنا على ذلك، وداعاً». استقللت وهنري السيارة، وابتعدنا. وبينما كنت ألتف حول شارع لايك شور درايف نظرت إلى هنري، الذي كان ويا للمفاجأة يبتسم ابتسامة عريضة. «ما الذي يضحكك؟». «كيندريك، إنه عالق تماماً». «أتعتقد ذلك؟». «أوه، أجل». «حسناً، يبدو أنه أبله». «لا، ليس كذلك». «حسناً». عدنا إلى المنـزل ونحن صامتان، كان الصمت في هذه المرة من نوع آخر مختلف. اتصل كيندريك بهنري في المساء، واتفقا على موعد للبدء في البحث عن طريقة لإبقاء هنري هنا وفي الحاضر. الجمعة، 12 نيسان، 1996 (هنري 32 عاماً) هنري: جلس كيندريك خافضاً رأسه. يحرك إبهاميه حول محيط راحة يديه، وكأنهما ستهربان من يديه. ولأنه جاء بعد الظهر كان المكتب مضاء بأنوار ذهبية، جلس كيندريك من دون حراك باستثناء حركة إبهاميه، مصغياً إليّ. أعطت السجادة الهندية الحمراء، والقوائم المعدنية للكراسي البيج شيئاً من التوهج، بالإضافة إلى سجائر كيندريك، علبة كاميل التي لم يمسها بينما يُصغي إليّ. ظهر أكثر الإطار الذهبـي لنظارته المستديرة بفعل أشعة الشمس، وكان طرف أذنه قد احمرّ، ولمع شعره الأحمر وبشرته زهرية اللون بفعل النور من زهور الأقحوان الصفراء في زهرية الورود على الطاولة بيننا. جلس كيندريك طيلة بعد الظهر على كرسيه، مصغياً. أنا أخبره بكل شيء؛ البداية، إدراك الأمر، الإسراع نحو البقاء، والمتعة في استباق معرفة القادم من الأمور، والرعب من معرفة الأمور التي لا يمكن تجنبها، وألم الفقدان. ها نحن الآن نجلس صامتين، أخيراً رفع رأسه ناظراً إليّ. كان في لمعان عيني كيندريك حزن تمنيت أن أزيله، وبعد أن وضعت بين يديه كل شيء تمنيت لو أستعيد كل ما قلته وأرحل عنه، وأعفيه من عبء التفكير في هذا الأمر. مدّ يده ليتناول سجائره، سحب واحدة، أشعلها، مجها ثم زفر دخاناً أزرق تحول إلى أبيض عندما عبر على طول الضوء مع ظله. سألني: «هل تعاني من صعوبة في النوم؟». كان صوته خشناً من قلة الاستخدام. «أجل». «هل هنالك وقت معين في اليوم تنـزع فيه... إلى الاختفاء». «لا... حسناً، ربما في الصباح الباكر أكثر من باقي الأوقات». «هل تعاني من صداع في الرأس؟». «أجل». «داء الشقيقة؟». «لا، ألم في الرأس نتيجة الضغوطات، ومع غشاوة في الرؤية، ونوبات». «نعم». وقف كيندريك. طقطقت مفاصل ركبتيه. دار حول المكتب، وهو يدخن، تابعاً محيط السجادة. بدأت أشعر بدوار وهو يقف ويجلس مجدداً. قال عابساً: «استمع إليّ، هناك أشياء نسميها جينات الوقت. وهي تتحكم بالإيقاع في إحساسنا خلال النهار والليل، تبقى متزامنة مع الشمس، شيء من هذا القبيل، وجدناها في أنواع مختلفة من الخلايا، في كل الجسد، ولكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبصر، ويبدو أنك مررت خلال أعراضك بالرؤية الكيميائية الزائدة في مركز ما تحت السرير البصري، المتموضع تماماً فوق مركز البصر، الذي يؤدي وظيفة زر إعادة التشغيل، وكأنه، من إحساسك بالوقت؛ لذا سأبدأ من هذه النقطة». قلت له: «نعم، أكيد». بما أنه كان ينظر إليّ كأنه يتوقع مني جواباً. نهض كيندريك مجدداً، توجه نحو باب لم أكن قد لاحظت وجوده من قبل، فتحه وغاب دقيقة، وعندما عاد كان يحمل قفازاً مطاطياً وإبرة. طلب مني كيندريك: «ارفع كمك». سألته، وأنا أرفع كمي فوق مرفقي: «ما الذي تفعله؟». لم يجبني، رفع غطاء الإبرة، مسح ذراعي ومدها، وحقنني بحِرَفية. أشحت بنظري عنه. غابت الشمس، تاركة المكتب في عتمة. سألني وهو يخرج الإبرة: «هل لديك تأمين صحي؟». وحرر ذراعي. وضع قطعة القطن واللصاقة الطبية مكان الوخزة. «لا، سأدفع تكاليف كل شيء بنفسي». ضغطت مكان الوخزة التي تؤلمني، وأنا أثني مرفقي. ابتسم كيندريك: «لا، لا. يمكن أن تكون تجربتي العلمية الصغيرة على حساب منحة من المعهد الوطني الصحي». «لِمَ ذلك؟». «لأننا سنقوم ببحث، نحن لا نعبث هنا». توقف كيندريك، واقفاً وممسكاً بالقفاز وعينة الدم التي سحبها للتو. «سنقوم بفحص تتابع الحمض النووي عندك». «كنت أعتقد أن ذلك سيستغرق سنوات». «هو كذلك، لو كنا سنقوم بفحص جميع الجينات(46). سنفحص فقط المواقع المعروفة لنا: كروموسوم 17، على سبيل المثال». رمى كيندريك بالقفاز، ووضع الإبرة في عبوة معنونة المخاطر البيولوجية، وكتب شيئاً ما على البطاقة الصغيرة على عبوة الدم. عاد وجلس قبالتي، ووضع العبوة على الطاولة بعد علبة سجائر الكاميل. «لكن خارطة الجينات البشرية لن ترسم قبل العام 2000. ما الذي ستقارنه بها؟». «عام 2000؟ قريب جداً؟ هل أنت أكيد؟ أعتقد ذلك. لكن، للإجابة عن سؤالك، المرض الذي هو - فوضوي - كالذي تعاني منه يظهر عادة كنوع من التأتأة، أي نوع من تكرار رمز بعينه، في الحقيقة، كأنه يخبرنا عن أمور سيئة في الجينات. على سبيل المثال، مرض هانغتينغتون في اضطرابات الجينات هو رزمة زائدة من الجينات المتعلقة بالتهاب المعدة المزمن تتضاعف ثلاثياً في الكروموسوم 4». جلست وتمطيت. أستطيع شرب القهوة الآن. «إذاً، هو كذلك. هل يمكنني الذهاب واللعب الآن؟». «حسناً، أريد أن آخذ صورة للرأس، ولكن ليس اليوم، سأحدد لك موعداً في المشفى. نحتاج إلى صورة الطبقي المحوري والأشعة والتصوير بالرنين المغناطيسي. سأرسلك أيضاً إلى صديق لي هنا، ألان لارسون، لديه مخبر تنويم هنا في هذا المجمع الطبـي». قلت: «رائع». وقفت ببطء بحيث لا يتدفق كل الدم إلى رأسي. وقف كيندريك قبالة وجهي تماماً. لا أستطيع رؤية عينيه، كانت نظارته تلمع بألوان متعددة على المكتب من هذه الزاوية. قال: «إنها متعة، إنها لغز كبير، سنتمكن من حله، وفي النهاية لدينا الأدوات لنكتشف». «لنكتشف ماذا؟». «أي شيء. مهما كنت أنت». ضحك كيندريك، ولاحظت أن أسنانه غير منتظمة ومصفرة. وقف، ومدّ يده نحوي، وتصافحنا، شكرته، هنالك توقف غريب. عدنا غريبين بعد كل هذه الألفة التي أمضيناها بعد الظهر، ثم غادرت مكتبه، هبطت الدرج، ثم إلى الشارع، حيث كانت الشمس بانتظاري. مهما أكون. ما أنا؟ من أنا؟ (44) باللغة الألمانية تعني: «الظاهر والعري». (45) Dasein كلمة لها عدة معانٍ وقد استعملت من قبل عدة فلاسفة قبل هيدجر وتعني عندهم الوجود وهي مشتقة من da-sein بمعنى كون المرء موجوداً؛ being there. (46) جميع الجينات خارطة الجينات البشرية. حذاء صغير جداً فصل الربيع، 1996 (كلير 24 عاماً، هنري 32 عاماً) كلير: قررنا بعد مضي قرابة العامين على زواجنا أن نتحدث عن الأمر لنرى إن كان في إمكاننا إنجاب طفل. كنت أعرف أن هنري غير متحمس كثيراً لفرصنا في إنجاب طفل، ولم أكن أسأله أو أسأل نفسي عن السبب لأنني كنت خائفة من أن يكون رآنا في المستقبل من دون أطفال، ولهذا لا أريد معرفة ذلك يقيناً. لم أكن أريد التفكير في إمكانية وجود صعوبات وراثية جراء سفر هنري عبر الزمن، أو أن ذلك قد يفسد أمر إنجاب طفل. لذا وببساطة لم أكن أفكّر في الكثير من الأمور الجدية لأنني كنت مستغرقة تماماً في رغبتي في إنجاب طفل. مولود يشبه نوعاً ما هنري، شعر أسود وعينان محدقتان وربما شاحب مثلي وفيه رائحة الحليب وبودرة تالك وبشرة المولود، وهدهدة الطفل. كنت أحلم بالأطفال. أتسلق شجرة في نومي وأجد حذاء صغيراً جداً في العش، وأكتشف فجأة أن القطة أو الكتاب أو الشطيرة التي كنت أحملها بين ذراعي أنها طفل بالفعل، وأحلم أنني أسبح في البحيرة لأجد مستعمرة من المواليد في قاعها. بدأت فجأة ألاحظ الأطفال في كل مكان، طفلة تعطس ذات شعر أحمر وقبعة شمس في محل أيه أند بـي، طفل صيني صغير الحجم جداً جاحظ العينين، ابن أصحاب محل غولدن ورك (وهو محل لصنع لفافات البيض والخضراوات الرائعة)، مولود نائم أصلع تقريباً في فيلم باتمان. سمحت لي امرأة واثقة جداً في غرفة تبديل الثياب في محل جي أس بيني أن أحمل طفلتها ذات الثلاثة أشهر، كان هذا كل ما يمكنني فعله من أجل الاستمرار في الجلوس مرتدية ذاك القميص البيج الزهري، وألا أندفع بجنون لأضم ذاك المخلوق الرقيق الناعم إلى صدري. كان جسدي يريد مولوداً. شعرت بفراغ في جسدي، وأردت أن أملأه بمولود. أردت أحداً أحبه يبقى معي، يبقى حاضراً معي، دائماً. وأردت أن يتمثل هنري بهذا المولود، وبالتالي عندما يختفي لا يكون غائباً تماماً، بل تبقى معي قطعة منه كتأمين، في حال تعرض لحريق، لفيضان... الأحد، 2 تشرين الأول، 1996 (هنري 33 عاماً) هنري: أجلس مرتاحاً جداً وسعيداً عند شجرة في أبيلتون، ويسكاونسون، من العام 1996، وأتناول شطيرة سمك الطون وأرتدي تي شيرت بيضاء سرقتها من غسيل أحدهم المعلق تحت أشعة الشمس. في مكان ما من شيكاغو، أنا في الثالثة من العمر، أمي لا تزال على قيد الحياة ولم تظهر عليّ بعد أعراض هذا المرض اللعين. حييت نفسي الصغيرة، قادني التفكير في نفسي عندما كنت صغيراً كأي طفل طبيعي إلى التفكير في كلير، وجهودنا في الحمل. أتوق من جهة إلى أن أمنح كلير طفلاً، أراها تثمر مثل البطيخ، تتنعم بنصر الخصوبة. أريد طفلاً طبيعياً يقوم بباقي الأشياء مثل الأطفال العاديين، يمص، ويلتقط، ويبول، وينام، ويضحك، ويتدحرج، ويقف، ويمشي، ويلغط بكلمات غير مفهومة. أريد أن أرى أبـي يداعب مهد طفل صغير، لم أمنح أبـي سعادة كبيرة؛ سيكون ذلك تعويضاً مضخماً له، بلسماً، وبلسماً لكلير أيضاً، عندما أُستلَب منها، لكي يبقى معها جزء مني. لكن، لكن، أنا أعلم، من دون أن أعلم أن هذا بعيد الاحتمال. أعلم أن طفلاً مني سيكون غالباً الطفل الأكثر اختفاء تلقائياً، طفلاً يختفي ويتبخر كما في الحكايا. وغالباً كلما أتضرع، ألهث وأتوق إلى كلير في الحدود القصوى من الرغبة، لأجل معجزة نأتي بها بطفل، هنالك جزء مني يتضرع بشدة لكي ننقذ من هذا. أتذكر حكاية مخلب القرد، والأمنيات الثلاث التي تبعت بشكل طبيعي وفظيع من واحد إلى آخر. أتساءل إن كانت أمنيتنا لها الترتيب نفسه. أنا جبان. رجل أفضل مني كان ليمسك بكلير من كتفيها ويقول، يا حبـي، كل هذا خطأ في خطأ، دعينا نتقبل الأمر ونستمر ونسعد بحياتنا فحسب. لكنني أعلم أن كلير لن تقبل بهذا أبداً، ستكون دوماً حزينة. ولهذا أتمنى أمنية مقابل أمنية، مقابل العقل وأمارس فعل الخصوبة مع كلير وكأن شيئاً حسناً سيأتي جراءه. واحد الاثنين، 3 حزيران، 1996 (كلير 25 عاماًً) كلير: كان هنري غائباً في المرة الأولى التي حدث فيها ذلك. كنت في الأسبوع الثامن من الحمل. وحجم المولود بحجم البرقوق، كان له وجه ويدان وقلب نابض. حدث هذا في بداية المساء، بداية الصيف، ورأيت لون الغسق الأحمر والغيوم البرتقالية في الغرب بينما كنت أغسل الصحون. اختفى هنري منذ ساعتين تقريباً. خرج ليسقي العشب في الحديقة وبعد نصف ساعة لاحظت أن الرذاذ لا يعمل، وقفت عند الباب الخلفي لأرى كومة الثياب بالقرب من عريشة العنب. خرجت وجمعت بنطال هنري الجينـز وملابسه الداخلية وتي شيرته المزرية ذات علامة كيل يور تيليفيجين، طويتها ووضعتها على السرير. فكّرت في أن أُشغل الرذاذ لكن قررت ألا أفعل، إذ فكرت في أن هنري إن عاد وظهر في الساحة الخلفية لن يعجبه ذلك وسيتبلل. رجعت وتناولت المعكرونة والجبنة وقليلاً من السلطة، تناولت حبات الفيتامينات، وشربت كوباً كبيراً من الحليب المقشود. كنت أدندن وأنا أغسل الصحون، أتخيل ذاك المخلوق في أحشائي وهو يستمع إلى دندنتي، يحفظها من أجل المستقبل في مستوى ما عميق وداخلي من أحشائي، وبينما أقف هناك أغسل طبق السلطة بعناية شعرت بوخز خفيف في داخلي، في مكان ما من حوضي. وبعد عشر دقائق كنت أجلس في غرفة الجلوس أفكّر في أعمالي الخاصة وأقرأ لويس دي بيرنيير، جاءتني الوخزة مرة أخرى، ألم حاد مفاجئ وسريع في أحشائي، تجاهلته، كل شيء على ما يرام. كان هنري قد غاب لأكثر من ساعتين الآن، قلقت عليه للحظة، ثم تعمدت تجاهله، أيضاً. لم أقلق جدياً إلا بعد مرور نصف ساعة أو ما شابه، لأن هذه الآلام الغريبة التي اعترتني أصبحت تشبه تشنجات الطمث، حتى إنني أحسست بدم لزج ينساب بين قدمي، نهضت واتجهت إلى الحمام، وخلعت ملابسي الداخلية لأجد الدم ينـزف مني، أوه، يا اﷲ. اتصلت بكاريس. أجاب غوميز عبر الهاتف. حاولت أن أبدو طبيعية، وطلبت كاريس، التي أخذت السماعة وقالت فوراً: «ما الخطب؟». «أنا أنـزف». «أين هنري؟». «لا أعلم». «أي نوع من النـزيف؟». «مثل الطمث». اشتد الألم وجلست على الأرض. «هل تستطيعين أخذي إلى مشفى إيلينوي». «سأوافيك حالاً، يا كلير». أغلقت السماعة، وأعدت جهاز الهاتف بهدوء وكأنني لا أريد أن أجرح مشاعره. وصلت إلى حذائي بجهد، عثرت على حقيبتي. أريد أن أكتب ملاحظة لهنري، لكنني لا أعرف ماذا أقول له. كتبت: «ذهبت إلى مشفى إيلينوي، آلام طمث، اصطحبتني كاريس إلى هناك 7:20 مساءً». تركت الباب غير مقفل من أجل هنري، وتركت الملاحظة عند الهاتف. وصلت كاريس خلال دقائق وكانت عند الباب الأمامي. عندما استقللنا السيارة كان غوميز هو الذي يقود. لم نتكلم كثيراً. جلست على المقعد الأمامي، ونظرت عبر النافذة. مررنا من ويسترن إلى بيلمونت إلى شيفيلد إلى ويلينغتون. كل شيء بدا حاداً ومؤثراً فيّ على نحو غير طبيعي، وكأنني أحتاج إلى أن أتذكر، أو كأنني سأقدم امتحاناً. توجه غوميز إلى المنطقة غير المزدحمة إلى مدخل الإسعاف. نـزلت وكاريس، نظرت إلى غوميز الذي كان يبتسم باقتضاب، وانعطف بالسيارة ليركنها. مشينا من خلال الأبواب التي تفتح تلقائياً، وكأن أقدامنا تكبس الأرض، كما في الحكايا الخرافية، وكأنه يتوقع قدومنا. تراجع الألم كأنه موجة جزر، تستعد لتندفع نحو الشاطئ مجدداً، بقوة شديدة. هنالك عدد قليل من الأشخاص الذين يجلسون ورؤوسهم مائلة في الغرفة المضاءة قليلاً، ينتظرون دورهم، يحتوون ألمهم برؤوس تعبة وأذرع متشابكة، وغرقت بينهم. مشت كاريس نحو الرجل الجالس خلف مكتب الاستقبال. لم أستطع سماع ما قالته، لكن عندما قال: «إجهاض»، اتضح لي أن هذا هو حال الأمر، هذا هو اسمه، واتسعت الكلمة في رأسي حتى ملأت كل صدع فيه، وطردت كل فكرة سواها. أجهشت بالبكاء. حدث ما حدث بالرغم من أنهم قاموا بكل ما في وسعهم. علمت في ما بعد أن هنري وصل قبل أن ينتهوا بقليل، ولكنهم لم يسمحوا له بالدخول. كنت نائمة، وعندما استيقظت عند المساء كان هنري إلى جانبـي. كان شاحب الوجه غائر العينين، لم ينبس ببنت شفة. دمدمت: «أوه، أين كنت؟». انحنى هنري عليّ وعانقني برفق، شعرت بخده على خدي والألم يعتصرني، وانفتح جرح ليس على جلدي ولكن عميقاً في الداخل، ووجه هنري مبلل لا ندري بدموع من منا؟ الخميس، 13 حزيران - الجمعة، 14 حزيران، 1996 (هنري 32 عاماًً) هنري: وصلت منهكاً إلى مختبر التنويم، كما طلب مني د. كيندريك. هذه هي الأمسية الخامسة التي أمضيها هناك، وقد عرفت الآن الروتين؛ أجلس على السرير الغريب المزيف كما في غرفة النوم أزرر أزرار البيجامة بينما تضع كارين مساعدة المخبر عند د. لارسون كريماً على رأسي، وتمد الأسلاك في مواضعها وتحكمها. كارين شابة شقراء فيتنامية. تضع أظافر مستعارة طويلة، تقول لي: «أوه، آسفة»، كلما خدشت خدي بواحد من أظافرها هذه. الأنوار معتمة، الغرفة باردة. لا توجد نوافذ باستثناء قطعة زجاج ذات وجه واحد تبدو كالمرآة، يجلس د. لارسون خلفها أو من سيراقب الجهاز هذا المساء. تنهي كارين توصيلات الأسلاك، وتتمنى لي ليلة سعيدة، وتغادر الغرفة. أتمدد على السرير بعناية، أغلق عينيّ، أتخيل شبكة عنكبوت من الأسلاك الممدة التي تتصل بجهاز يرصد ويسجل كل رمشات وحركات عيني، وأنفاسي، وموجات دماغي على الجانب الآخر منه. أستغرق في النوم خلال دقائق. أحلم بالركض. أركض عبر الغابات، والأغصان الكثيفة، والأشجار، ولكن بينما أركض بين كل ذلك، أمر عبرها كالشبح، أندفع بقوة نحو جزء من غابة لا أشجار فيها، لقد شب حريق هناك. أحلم أنني أقيم علاقة حميمة مع إنغريد. أعرف أنها إنغريد، بالرغم من أنني لا أرى وجهها، إنه جسد إنغريد، ساقاها الطويلتان الناعمتان. كنا نقيم العلاقة في منـزل والديها، على الأريكة في غرفة المعيشة، ويعرض على التلفاز برنامج وثائقي عن الطبيعة، وقطيع من الظبيان تثب مسرعة، وثم هنالك استعراض. تجلس كلير على منصة صغيرة، تبدو حزينة بينما الناس حولها يمرحون، وفجأة تقفز إنغريد، وتسدد رمحاً من وراء الجمع وتصيب كلير. يتجه السهم نحو التلفاز، وتضع كلير يديها بسرعة على صدرها مثل ويندي في النسخة الصامتة من بيتر بان، أثب أنا وأخنق إنغريد، أضع يديّ حول عنقها، أصرخ بها -. أستيقظ، بارداً من التعرق وقلبـي يخفق بقوة. وأدرك أنني في مختبر التنويم. أتساءل للحظة إن كان هناك شيء لا يقولونه لي، إذا كانوا يستطيعون مشاهدة أحلامي إلى حدٍّ ما، فهم يرون أفكاري. أستدير على جانبـي، وأغلق عينيّ. أحلم أنني أمشي مع كلير في المتحف. المتحف قصر قديم، كل اللوحات ضمن إطارات ذهبية بالغة الزخرفة، كل الزوار يضعون شعراً مستعاراً طويلاً وملوناً ويرتدون أثواباً فضفاضة، وسترات طويلة إلى الركبتين، وبناطيل قصيرة. يبدو أنهم لم ينتبهوا إلينا ونحن نمر. نظرنا إلى اللوحات، ولكنها ليست لوحات حقاً، بل إنها أشعار، أشعار تجسدت على نحو مادي. قلت لكلير: «انظري، هناك لوحة لإيميلي ديكينسون». يطلب القلب المتعة أولاً، وبعد ذلك يعتذر من الألم... تقف أمام القصيدة الصفراء المشعة التي تبدو كأنها تستدفئ بها. رأينا دانتي، ودوون، وبلاك، ونيرودا، وبيشوب. نتسكع في غرفة مليئة بأعمال ريلكه، ونمر بسرعة على ييتس ونتوقف قليلاً قبل أن نصل إلى أعمال فيرلاين وبودلير. أكتشف فجأة أنني فقدت كلير، أمشي، ثم أركض عائداً في صالات العرض ثم، وعلى نحو مفاجئ، أجدها. تقف أمام قصيدة، قصيدة صغيرة جداً بيضاء مثبتة في إحدى الزوايا؛ الآن أمدد جسدي لأنام، أتضرع إلى اﷲ ليحفظ روحي، إن كنت سأموت قبل أن أستيقظ، أتضرع إلى اﷲ لكي يحفظ روحي. أتقلب على العشب، إنه بارد، تهب الريح فوقي، وأنا عارٍ وبارد في العتمة، يوجد ثلج على الأرض، أقف على ركبتي في الثلج، ينـزف الدم إلى الثلج وينتشر -. «يا اﷲ، إنه ينـزف -». «كيف حدث هذا؟». «اللعنة، انـزع عنه كل القطب، ساعدني كي نعيده إلى السرير -». أفتح عيني. يتجمع فوقي د. كيندريك ود. لارسون. يبدو لارسون منـزعجاً وقلقاً، وترتسم على وجه كيندريك ابتسامة عريضة. سألت: «هل توصلت إليه؟». وأجابني: «كان الوضع رائعاً». قلت: «عظيم». ثم أغمي عليّ. اثنان الأحد، 12 تشرين الأول، 1997 (هنري 34 عاماً، كلير 26 عاماًً) هنري: استيقظت وشممت رائحة حديد، إنه الدم الذي ينتشر في كل مكان، وكلير تلتف وسطه مثل القطة الصغيرة. هززتها وقلت: «لا». «هيا يا كلير استيقظي أنت تنـزفين». «كنت أحلم...». «أرجوك، يا كلير...». نهضت. كانت يداها، ووجهها، وشعرها مضرجة بالدماء. مدت كلير يديها اللتين يتدلى منهما جسم متناهي الصغر. قالت: «لقد مات». لا غير، وانفجرت بالبكاء. جلسنا معاً على حافة السرير المغمور بالدماء، نعانق بعضنا، ونبكي. الاثنين، 16 شباط، 1998 (كلير 26 عاماً، هنري 34 عاماً) كلير: كنت وهنري على وشك الخروج، في فترة الظهيرة في هذا اليوم المثلج، وأنا أشد جزمتي رن جرس الهاتف. هبط هنري إلى الصالة إلى غرفة الجلوس ليرد على الهاتف. سمعته يقول: «آلو؟». ثم بعد ذلك: «حقاً؟». بعد ذلك: «حسناً، اللعنة!». ثم قال: «انتظر، دعني آخذ ورقة - «. ثم ساد صمت طويل، يتقطعه بين حين وآخر: «انتظر، اشرح لي ذلك». خلعت جزمتي ومعطفي، ومشيت إلى غرفة الجلوس بجوربـي فقط. كان هنري يجلس على الأريكة وهو يحتضن الهاتف على فخذيه كأنه حيوان أليف، يسجل ملاحظات بكثافة. جلست إلى جانبه، ابتسم ابتسامة عريضة لي. نظرت إلى الورقة، كانت مقدمة الصفحة تبدأ بـ: 4 جينات: في كل أربع، ناقص واحدة، الساعة، جينة جديدة = مسافر عبر الزمن؟ الجينة الجزيئية = 17 × 2، 4، 25، 200 + تكرارها، والحميمية؟ لا، + عدد كبير من المستقبلات العصبية، أي بروتين؟؟؟؟ وأدركت: وجدها د. كيندريك! لقد استنتج الأمر! لم أستطع تصديق ذلك. لقد فعلها. وماذا الآن؟ وضع هنري الهاتف، واستدار نحوي. بدا مذهولاً، مثلي أنا. سألته: «ما الذي سيحدث بعد هذا؟». «سيقوم بحقن الجينات ويجربها على فأر». «ماذا؟». «سيقوم بعمل فأر مسافر عبر الزمن. وثم يجد العلاج له». ضحكنا في الوقت نفسه، ثم رقصنا، أخذنا ندور معاً في الغرفة، نضحك ونرقص حتى سقطنا مجدداً على الأريكة ونحن نلهث. نظرت إلى هنري، وتساءلت إنه على مستوى خلايا الجسد فهو شخص مختلف تماماً، شخص آخر، وعندما يكون رجلاً بقميص أبيض ذي أزرار وسترة عادية أشعر أنه مثلي من لحمي وعظامي. رجل يضحك مثله مثل أي إنسان. كنت دائماً أعلم أنه مختلف. لكن، ما المهم في ذلك؟ عدة رموز من الشيفرات، بل لا بد أن الأمر مهم، وعلينا أن نغيره،، وفي مكان آخر من المدينة يجلس د. كيندريك خلف مكتبه ليستنتج كيف يصنع فأراً يتحدى قواعد الوقت. ضحكت، لكنها مسألة حياة أو موت، توقفت عن الضحك، ووضعت يدي على فمي. فاصل الأربعاء، 12 آب، 1998 (كلير 27 عاماً) كلير: أخيراً. أمي نائمة على سريرها الخاص، في غرفتها الخاصة، لقد هربت من المشفى، في آخر الأمر، فقط لتجد غرفتها، ملجأها، والتي حولت إلى غرفة كأنها في المشفى. لكن الآن أصبحت شيئاً من الماضي. تتحدث طول الليالي، وتبكي، وتضحك، وتصرخ، وتنادي: «فيليب!» و«ماما!» و«لا، لا، لا...». طول الليل أسمع صوت الزيز والضفادع، من طفولتي تحدث أصواتاً، وضوء الليل يجعل بشرتها تبدو كأنها خلية نحل. يداها النحيلتان لا تقويان على التضرع، وهما ترتجفان، أمسك منهما كأس الماء، وأضعها على شفتيها المتشققتين. والآن يطلع الفجر. نافذة غرفتها تطل على الشرق، جلست على الكرسي الأبيض، إلى جانب النافذة، مقابل سريرها، ولكن من دون أن أنظر، محاولة ألا أنظر إلى أمي التي بدت غائرة في سريرها الكبير، من دون أن أنظر إلى كومة الزجاجات، والملاعق، والكؤوس، وحمالة أكياس السيروم، واللمبة الحمراء المنبهة، والوعاء الصغير على شكل الكلية من أجل التقيؤ، وصندوق القفازات المطاطية، وعلبة القمامة التي عليها علامة الخطر البيولوجي الممتلئة بالحقن اللعينة. أنظر خارج النافذة، نحو الشرق، بعض العصافير تغرد، أستطيع سماع الحمامات التي تعيش في النبات المعترِش وهي تستيقظ، يبدو العالم رمادياً، يتسلل اللون ببطء إليه، ليس كأصابع حمراء ولكن كلطخ دم فاتح، يتدرج في الأفق، ثم يملأ الحديقة، ثم يأتي اللون الذهبـي، ثم السماء الزرقاء، ثم جميع الألوان النابضة بالحياة في أماكنها المحددة، الكرمة الحانية، والورود، والمريمية البيضاء، والقطيفة، كلها تومض ندى في الصباح الجديد مثل الزجاج. وشجر القضبان على حواف الغابة يتدلى كالسلاسل البيضاء المتدلية من السماء. يطير ظلها من تحتها، ويلتقي بها عند النوافذ مرة، يجد النور طريقه عبر النوافذ، ويصل إلى يدي وجسمي الثقيل على كرسي أمي الأبيض. لقد طلعت الشمس. أُغلق عيني. وأسمع صوت جهاز التكييف، أشعر بالبرد، فأنهض، وأتجه نحو النافذة، وأوقفه عن العمل. يسود السكون الغرفة. أتجه نحو السرير، أمي لا تزال متيبسة، وأنفاسي المجهدة قد تمكنت من أحلامي، فمها شبه مفتوح وحاجباها مرتفعان كأنهما في حالة دهشة بالرغم من أن عينيها مغلقتان، قد تكون تغني. ملت على السرير، وسحبت أغطيته، وضعت أذني على قلبها، كان جسدها دافئاً، لا شيء، لا نبض قلب، ولا تدفق دم، ولا أنفاس تنفخ مشرعة رئتيها، صمت، رفعت جسدها المتفصد المهدور بين ذراعي، كانت مثالية، إنها أمي الجميلة بأحلى حالاتها مجدداً ولدقيقة وبينما كانت عظامها على صدري وقد تدلى رأسها، حتى السرطان القابع في رحمها قد حاكى الخصوبة ذاتها، وعادت كما كانت في الذاكرة مشرقة وضاحكة وقد أطلقها المرض؛ تحررت منه. أسمع صوت خطوات قادمة من الصالة. يفتح الباب ويأتي صوت إيتا. «كلير، أووه -». أعيد جسد أمي إلى الوسادة، وأمسد ثوب نومها وشعرها. «لقد رحلت». السبت، 12 أيلول، 1998 (هنري 35 عاماً، كلير 27 عاماًً) هنري: كانت لوسيل تحب الحديقة، وعندما نأتي لزيارتها تمشي كلير من المدخل الأمامي لميدولارك مباشرة إلى الباب الخلفي لتجد لوسي، التي غالباً ما تكون في الحديقة، سواء أكان الجو ممطراً أم صاحياًً. عندما تكون بصحة جيدة نجدها جالسة على ركبتيها في المسكبة وهي تقلع الأعشاب، أو وهي تنقل الغرسات، أو وهي تسقي الورود. وعندما تكون مريضة يحضرها فيليب وإيتا إلى الأسفل، وهي متدثرة باللحاف، إلى جانب البحيرة في بعض الأحيان ويجلسانها على كرسيها المتحرك، وفي أحيان أخرى يضعانها تحت شجرة الإجاص حيث يمكنها أن ترى بيتر وهو يحفر ويطعّم النباتات. عندما تكون لوسيل بصحة جيدة تمتعنا بما يحدث في حديقتها؛ عصافير الدوري حمراء الرؤوس التي وجدت مكان طعامها الجديد، وزهرة الأضاليا التي تفتحت قبل موعدها المتوقع بسبب الساعة الشمسية، والوردة الجديدة التي أصبحت ظلاًً مرعباً لنبتة الخزامى، ولكنها كانت غاضبة جداً ومشمئزة منها فتخلصت منها. قامت لوسيل وأليسيا في أحد فصول الصيف بتجربة؛ راحت أليسيا تُمضي عدة ساعات كل يوم وهي تعزف التشيلو، لترى إن كانت النباتات ستستجيب للموسيقى؛ أقسمت لوسيل أن الطماطم لم تكن تطرح ثماراً أكثر مما كانت عليه حينها، وأرتنا القرع الصيفي الذي كان بحجم فخذي؛ فحُكم على التجربة بالنجاح، ولم تتكرر هذه التجربة لأن ذاك الصيف كان آخر صيف تكون فيه لوسيل بصحة جيدة حتى تقوم بعمل البستنة. كانت لوسيل تنمو وتضعف مع الفصول، مثل النباتات، ففي الصيف عندما يلتئم شمل الجميع عندها، تجمعهم لوسيل وتطوق الصيحات السعيدة المنـزل، وضجيج أطفال مارك وشارون، الذين يلهون كالجراء في البحيرة ويثبون لزجين من الرطوبة ومتحمسين على المرجة. كانت لوسيل غالباً متعثرة ولكن أنيقة دوماً. تقف لتحيينا، شعرها الأبيض النحاسي معكوف بأشرطة سميكة منتشر على وجهها، تضع قفازاً من جلد الجدي الخاص بالحدائق، وترمي أدواتها من سميث وهواكين على الأرض لتعانقنا. كنت ولوسيل دائماً نقبل بعضنا بطريقة رسمية، على الخدين، وكأننا من الكونتيسات الفرنسيات القديمات اللواتي لم يلتقين منذ فترة. لم تكن يوماً أقل من لطيفة معي، بالرغم من أنه يمكن أن تدمر ابنتها بنظرة. أفتقدها. كلير... حسناً، كلمة تفتقد ليست مناسبة، كلير مسلوبة، تمشي إلى الغرف، وتنسى لماذا دخلت، تجلس ممسكة بكتاب تحدق إليه من دون أن تقلب صفحة لأكثر من ساعة، لكنها لا تبكي، تضحك إن مازحتها بنكتة، تأكل ما أضعه أمامها. وإن حاولت أن أقيم علاقة حميمة معها تجاريني في ذلك... أتركها حالاً وحدها، خوفاً من مجاراتها لي، ووجها الذي لا يبكي يبدو بعيداً لعدة أميال. أفتقد لوسيل، ولكنني محروم من كلير، كلير التي ذهبت بعيداً وتركتني مع شخص غريب يبدو بهيئة كلير فقط. الأربعاء، 26 تشرين الثاني، 1998 (كلير 27 عاماًً، هنري 35 عاماً) كلير: تبدو غرفة أمي بيضاء وفارغة. لقد أزيلت كل المعدات الطبية. وجرد السرير من الأغطية ولم يبقَ سوى الفراش الملطخ البشع في الغرفة النظيفة. أقف إلى جانب طاولة مكتب والدتي. إنه مكتب ثقيل من خشب الفورمايكا، حديث، ويبدو غريباً وسط الغرفة المليئة بالأنوثة والأثاث الفرنسي العتيق. يوجد المكتب في ركن صغير، تحيط به النوافذ، يتسلل نور الصباح إلى سطحه الفارغ، إنه مقفل، أمضيت أكثر من ساعة وأنا أبحث عن المفتاح، من دون أن أعثر عليه. اتكأت بمرفقي على كرسي أمي الهزاز، وحدّقت إلى طاولة المكتب. أخيراً نـزلت إلى الأسفل، لا يوجد أحد في غرفة المعيشة ولا غرفة الطعام، سمعت صوت ضحك صادر من المطبخ، فدفعت الباب لأفتحه، كان هنري ونيل يعملان بين مجموعة من الأواني. «رويداً، يا ولد، على رسلك! ستقسّي العجين هكذا، هل سنأكلها هكذا، تحتاج إلى ضربة خفيفة، يا هنري، أو سيمتلئ العجين بالفقاعات كما العلكة». «آسف، آسف، آسف. سأكون خفيفاً، لا تضربيني هكذا. هيه، كلير». استدار هنري مبتسماً ورأيته مغطى بالطحين. «ماذا تفعلان؟». «نصنع كرواسان، أقسمت على أنني أجيد لف عجينة الكعك والبريوش في هذه المحاولة». قالت نيل مبتسمة ابتسامة عريضة: «ابقَ هادئاً، يا ولد». سألني هنري: «ما الأمر؟». بينما كانت نيل تلف كرة عجين بنشاط وتثنيها وتقطعها وتلفها في ورق الزبدة. قلت: «نيل، أريد أن أستعير منكِ هنري لبضع دقائق». أومأت نيل، وأشارت بخشبة الرق إلى هنري. «عد بعد خمس عشرة دقيقة، وسنبدأ بتحضير الحساء». «أجل، سأعود». تبعني هنري إلى الأعلى، وقفنا أمام طاولة مكتب والدتي. «أريد أن أفتحه، ولكنني لا أجد المفاتيح». «آه». نظر نظرة سريعة إليّ، سريعة إلى حدّ لم أستطع أن أفهم فحواها. «حسناً، هذا أمر سهل». غادر هنري الغرفة، وعاد خلال دقيقتين، جلس على الأرض أمام المكتب، ممسكاً بمشبكي ورق كبيرين. بدأ بالدرج السفلي على اليسار، ينظر بعناية ويدير مشبك الورق، ثم غرز المشبك الثاني بعده. قال: «voilá». وسحب الدرج. كان مملوءاً بالأوراق. فتح هنري الأدراج الأربعة الأخرى من دون عناء. وفوراً أصبحت الأدراج مجرد فجوات، فردت محتوياتها: مفكرات، أوراق متفرقة، كتالوجات حدائق، مغلفات من البذار، أقلام وأقلام رصاص قصيرة، ودفتر شيكات، وسكاكر هارشي، وشريط قياس، وعدد من أشياء صغيرة أخرى تبدو بائسة وخجولة في وضح النهار. لم يلمس هنري أي شيء داخل الأدراج. نظر إليّ، نظرت إلى الباب بطريقة لاإرادية وفهم هنري تلميحي إليه بالخروج. عدت إلى مكتب والدتي. لم تكن الأوراق مرتبة إطلاقاً. جلست على الأرض، وكومت أمامي محتويات الأدراج. وكل ما كان مكتوباً بخط يدها كنت أضعه جانباً إلى يساري. بعض منها لوائح، ملاحظات خاصة بها؛ لا تسألي أف. عن أس. أو: ذكري إيتا بالعشاء عند بـي. يوم الجمعة هنالك صفحات وصفحات من الرسوم اللاواعية، أشكال لولبية، خربشات، دوائر سوداء، وعلامات مثل قوائم العصافير. بعض من هذه الأشياء يحتوي على جملة لا تتجزأ عنها؛ لتقطع نفسها بسكين، ولم أستطع عمل ذلك، وإن كانت هادئة فستتغاضى عني. في بعض الأوراق كانت توجد أشعار عليها علامات وقد شطبتها بقوة وبقي منها القليل، كشظايا من سابفو(47): كاللحم القديم، مرتاح وحنون لا يوجد هواء XXXXX، قالت نعم قالت XXXXXXXXXXXXX أو: يده XXXXXXXXXXXXX XXXXXX ليمتلك XXXXXXXXXXXXXXXX في مطلق XXXXXXXX بعض الأشعار كانت مطبوعة: في اللحظة كل ما أملك كان مفقوداً وضئيلاً. الموسيقى والجمال كالملح في حزني؛ فراغ أبيض يشق جليدي. من يستطيع أن يقول إن... ... كان حزيناً جداً؟ أو الرغبة المعروفة ستمتزج بهذا الاتساع بليل هذا الشتاء إلى فيضان من الظلام. 1/23/79 حديقة الربيع: مركب الصيف يبحر في منظر شتائي 4/6/1979 كان العام 1979 هو العام الذي فقدت فيه أمي جنينها، وحاولت أن تقتل نفسها. تشنجت معدتي، وغشيت عيناي، عرفت الآن كيف كان الأمر بالنسبة إليها في ذلك الوقت، أخذت كل هذه الأوراق ووضعتها جانباً من دون أن أقرأ أياً منها. وجدت في درج آخر أشعاراً حديثة أكثر، ثم وجدت قصيدة موجهة إليّ: الحديقة تحت الثلج إلى كلير الآن وحيث يكسو الثلج الحديثة تكتب آثار أقدامنا صفحة بيضاء كلير التي هي ليست مني بل هي تنتمي إلى نفسها الجميلة النائمة ملاءة كريستالية انتظرت هذا هو ربيعها هذا هو نومها/صحوها وهي تنتظر وكل شيء ينتظر لقبلة الأشكال غير المحتملة لجذور الدرنات لم أفكر أبداً أن طفلتي بوجهها الذي يُشبه تقريباً الحديقة، ينتظر هنري: حان وقت العشاء، وكنت أقف في طريق نيل، عندما قالت: «ألا يجب أن ترى ماذا حصل مع زوجتك؟». بدت لي فكرة حسنة أن أذهب وأجدها. كانت كلير تجلس على الأرض أمام مكتب أمها محاطة بأوراق بيضاء وصفراء. كان الضوء على المكتب ينشر بقعة من الضوء حولها، لكن وجهها في الظل، وشعرها يتوهج كهالة من النحاس. نظرت إلى الأعلى نحوي، وأمسكت بقصاصة ورق وقالت: «انظر يا هنري، لقد كتبت قصيدة لي». حالما جلست إلى جانب كلير وقرأت القصيدة سامحت لوسيل، قليلاً، على أنانيتها الهائلة وموتها الرهيب، ونظرت إلى كلير. قلت: «قصيدة جميلة». وأشارت، مكتفية، للحظة، أن أمها كانت تحبها حقاً. تذكرت أمي وهي تغني بعد الغداء في يوم صيفي، تبتسم من خلال انعكاسنا على زجاج محل، تدور بفستانها الأزرق على الأرض في غرفة ملابسها. كانت تحبني، لم أتساءل عن حبها أبداً، أما لوسيل فقد كانت متقلبة كالريح، والقصيدة التي تمسكها كلير هي الدليل الثابت الذي لا يمكن إنكاره، ومضة من عاطفة. نظرت حولي إلى كومة الأوراق على الأرض واسترحت لأن شيئاً من هذه الفوضى قد ظهر على السطح ليكون كقارب نجاة بالنسبة إلى كلير. قالت كلير مجدداً في عجب: «لقد كتبت لي قصيدة». كانت الدموع تنهمر على وجنتيها. طوقتها بذارعيّ، وعادت مجدداً زوجتي، كلير، آمنة وواضحة، إلى الشاطئ أخيراً بعد تحطم السفينة، تبكي كطفلة صغيرة تلوح لها أمها عن سطح قاربها المتهاوي. (47) سابفو Sappho: شاعرة يونانية من الشاعرات القلة في العصر الإغريقي القديم. ليلة رأس السنة، واحد الجمعة، 31 كانون الأول، 1999، 11:55 مساء (هنري 36 عاماً، كلير 28 عاماًً) هنري: كنت أقف مع كلير في الطابق العلوي في ويكر بارك مع حشد كبير من الأشخاص الشجعان الآخرين، ننتظر قدوم ما يُسمى بالألفية الجديدة. كانت ليلة صافية، وليست باردة. أستطيع أن أرى التنفس المنبعث مني، كانت أذناي وأنفي فاقدة الحس من البرد قليلاً. كانت كلير مغطاة بشكل كامل بوشاحها الكبير الأسود، وكان وجهها مجفلاً وأبيض في ضوء القمر وإنارة الشارع. يملك الطابق العلوي هذا زوجان من أصدقاء كلير الفنانين. وبالقرب منا غوميز وكاريس يرقصان على الموسيقى الهادئة التي يسمعانها وحدهما، يرتديان سترتين مقلنستين للبرد ويضعان قفازين. الجميع حولنا يتمازحون ثملين حول البضاعة المعلبة التي خزنوها احتياطياً، والإجراءات الخطيرة التي اتخذوها لحماية حواسيبهم من الزوال. ضحكت في نفسي، عارفاً أن كل هذه الجعجعة حول الألفية ستنسى تماماً عندما تزال أشجار الميلاد من الشوارع من قبل عمال الخدمات. ننتظر بدء الألعاب النارية. نتكئ أنا وكلير إلى وسط المقدمة الأمامية العالية المستعارة للمبنى ونراقب مدينة شيكاغو بنظرة شاملة. نواجه الناحية الشرقية، ننظر نحو بحيرة ميتشغان. تقول كلير: «مرحباً جميعاً». تلوح بقفازها إلى البحيرة، في ساوث هيفن، ميتشغان. تقول لي: «إنه ممتع، إنها السنة الجديدة، وأنا واثقة أن الجميع على أسرّتِهم». نحن على ارتفاع ستة طوابق، وأنا متفاجئ بما أستطيع رؤيته من هنا؛ منـزلنا، في ساحة لينكولن هنالك في مكان ما من الشمال الغربـي، تبدو منطقتنا هادئة ومظلمة، يتوهج مركز المدينة في الجنوب الشرقي، وبعض الأبنية الضخمة مزينة من أجل الميلاد، تبدو الأشرطة الخضراء والإنارة الحمراء من نوافذ الأبنية، يبدو محلا سيرز وهانكوك يحدقان إلى بعضهما بعضاً كرجلين آليين ماردين فوق رؤوس ناطحات السحاب الأدنى منهما. كنت بالكاد أرى المبنى الذي كنت أعيش فيه عندما قابلت كلير، في شمال ديربورن، ولكنه غير واضح بسبب الأبنية الأعلى والأبشع التي بنوها منذ سنوات قليلة أمامه. كان لمدينة شيكاغو نسيج معماري رائع والذي شعروا أنهم مجبرون على تمزيق بعض منه الآن، وتشييد مبانٍ مرعبة بدلاً منه، لا لشيء، بل لجعلنا نقدر جهودهم. ليس هنالك الكثير من حركة السير، كل شخص يريد أن يكون في مكان ما عند منتصف الليل، وليس على الطرقات. أستطيع سماع صوت ألعاب نارية خفيفة هنا وهناك، تتزامن أحياناً مع عيارات نارية من مغفلين نسوا أن صوت الرصاص يحدث جلبة أكثر من الأصوات المرتفعة. قالت كلير: «أنا أتجمد». ونظرت إلى ساعتها «بقيت دقيقتان». وانطلقت سلسلة طلقات نارية للاحتفال تشير إلى أن ساعة بعض الأشخاص متقدمة على سائر الساعات. أفكر في شيكاغو في القرن القادم، أشخاص أكثر، أكثر بكثير، ومواصلات سخيفة، ولكن فراغات أقل. ستكون هنالك مبانٍ شنيعة تبدو مثل الديك الذي يصيح في غراند بارك، سينهض القسم الغربـي ببطء من الفقر بينما يستمر القسم الجنوبـي في انحداره. سيمزقون أخيراً ريغلي فيلد ويبنون ملعباً رياضياً ضخماً وبشعاً، ولكنه الآن يقف متوهجاً بالإنارة في الشمال الشرقي. بدأ غوميز العد العكسي: «عشرة، تسعة، ثمانية...». وشاركنا جميعنا في إكمالها: «سبعة، ستة، خمسة، أربعة، ثلاثـة! اثنـان! واحـد! سنة سعيدة!». وفرقعنا فلينات الشراب الخفيف، أُطلقت الألعاب النارية، واشتعلت السماء، وغرقت وكلير في ذراعي بعضنا. توقف الوقت، وتمنيت الخير لنا في المستقبل. ثلاثة السبت، 13 آذار، 1999 (هنري 35 عاماً، كلير 27 عاماًً) هنري: كان غوميز وكاريس قد أنجبا للتو طفلهما الثالث، روزا إيفانجيلين غومولينسكي. تمهلنا أسبوعاً، ثم ذهبنا لزيارتهما مع الهدايا والطعام. فتح غوميز الباب. كان مكسيمليان، ثلاث سنوات، يتعلق برجله، ويخفي وجهه خلف ركبته عندما قلنا له: «مرحباً ماكسي!». أما جوزيف، الأكثر اجتماعية وهو في السنة الأولى، فقد أسرع على كلير مهمهماً «با... با... با». وتجشأ بصوت عالٍ عندما رفعته كلير إليها. جال غوميز بعينيه، وضحكت كلير، وضحك جو، وحتى أنا نفسي ضحكت من هذه الفوضى العارمة. بدا منـزلهم كأنه بحر من الجليد وقد طفا عليه محل أر يو أس للألعاب، وأكوام من مكعبات الليغو والدببة الدمى قد انتشرت. قال غوميز: «لا تنظر، ليس أي من هذا حقيقي، نحن فقط نختبر واحدة من ألعاب كاريس عن الواقعية الافتراضية. نسميها الأبوة». صرخت كاريس من غرفة النوم: «غوميز؟ هل هما كلير وهنري؟». اتجهنا جميعاً من الصالة إلى غرفة النوم. اختلست نظرة سريعة إلى المطبخ حيث تقف امرأة في متوسط العمر عند المغسلة، تغسل الصحون. تستلقي كاريس على السرير وبين يديها المولودة، إنها نائمة، بالغة الصغر لها شعر أسود وتشبه إلى حدٍّ ما الآزتيك(48). ماكس وجو لهما شعر فاتح. كانت كاريس تبدو بحال مريعة للغاية. (بالنسبة إليّ، حيث أصرت كلير في ما بعد أنها تبدو رائعة). ازداد وزنها وتبدو منهكة ومريضة، كانت ولادتها قيصرية. جلست على الكرسي، وجلس كلٌّ من كلير وغوميز على السرير. تسلق ماكس السرير نحو أمه، ودنا بنفسه تحت ذراعها الطليقة، كان ينظر إليّ وهو يضع إبهامه في فمه، بينما كان جو يجلس في حضن غوميز. قالت كلير: «إنها جميلة». ضحكت كاريس. «وأنت تبدين رائعة». قالت كاريس: «أشعر أنني بحال مزرية، ولكنني فعلتها أخيراً، أنجبنا ابنتنا». مسدت وجه المولودة، وتثاءبت روزا، ورفعت يدها الصغيرة جداً، عيناها لوزيتان سوداوان. سجعت كلير: «روزا إيفانجيلين، اسم جميل». قالت كاريس: «أراد غوميز تسميتها أربعاء، ولكنني وضعت بصمتي». قال غوميز: «ولدت يوم الخميس على كل حال؟». أومأت كلير، ومررت كاريس المولودة برفق إلى ذراعي كلير. استحوذتني رؤية كلير وبين ذراعيها مولود صغير، وشعرت للحظة بالدوران. أتمنى ألاّ أكون على وشك سفر عبر الزمن. تراجع شعوري هذا، وعدت إلى الواقع الذي نعيشه. نحن نفقد الأطفال، أين هم، تلك الأجنة المفقودة، أتساءل، يهيمون، يحومون حول المكان قلقون؟ سألتني كلير: «هل تود حمل روزا؟». ارتعدت. قلت لها بلطف: «لا». ثم شرحت: «لا أشعر بالحماسة لذلك». نهضت، وخرجت من غرفة النوم، ثم المطبخ، ثم إلى الباب الخلفي، وقفت في الباحة الخلفية. كانت السماء تمطر زخات، وقفت تحتها وتنفست. صفع الباب الخلفي، دخل منه غوميز، ووقف إلى جانبـي. سألني: «هل أنت على ما يرام؟». «أعتقد ذلك. كدت أصاب بفوبيا الأماكن المغلقة هناك في الداخل». «نعم، أعلم ما تعني». وقفنا صامتين لدقائق. كنت أحاول أن أتذكر أبـي وهو يمسك بـي عندما كنت صغيراً، كل ما أستطيع تذكره هو اللعب معه، الركض، والضحك، والالتفاف فوق كتفيه. أدركت أن غوميز ينظر إليّ، وأن الدموع تنهمر على وجنتي. مسحت وجهي بكمي. كان على أحدنا أن يقول شيئاً ما. قلت له: «لا تأبه لي». قام غوميز بتعبير أخرق. قال لي: «سأعود حالاً». غاب في المنـزل، ظننت أنه ذهب لأمر حسن، لكنه عاد ومعه سيجارة مشتعلة في يده. جلست إلى طاولة التنـزه البالية، المبللة بالمطر والمغطاة بعيدان الصنوبر. كان الطقس بارداً في الخارج. «هل لا تزالان تحاولان إنجاب طفل؟». دهشت من ذلك إلى أن استدركت أن كلير ربما أخبرت كاريس بالأمر، وكاريس ليست ممن يبوح لغوميز شيئاً. «نعم». «هل لا تزال كلير منـزعجة من الإجهاض؟». «إجهاضات، بالجمع، أجهضت ثلاث مرات». «فقدان طفل واحد، سيد دي تامبل، يمكن أن يعتبر سوء حظ، ولكن فقدان ثلاثة يبدو إهمالاً». «ليس الأمر مضحكاً إلى هذا الحدّ، غوميز». «عفواً». لم يبدُ غوميز مرتبكاً للوهلة الأولى، لا أريد الحديث عن ذلك، ليست لديّ كلمات حول ذلك، وأنا بالكاد أتحدث عن الأمر مع كلير، ومع كيندريك والأطباء الآخرين الذين وضعنا بين أيديهم حالي الحزينة. عاد غوميز وكرر: «آسف». وقفت. «من الأفضل أن ندخل المنـزل». «آه، إنهما لا تريداننا، إنهما تتحدثان حديث نساء». «أممم. حسناً، إذاً. ماذا بشأن كؤوس المسابقات؟». جلست مجدداً. «دعك منها». كلانا لا يهتم بأمر البيسبول. كان غوميز يمشي جيئة وذهاباً، تمنيت لو يتوقف، أو أفضل، أن يدخل. «إذاً، ما المشكلة؟». سألني عن غير قصد. «بماذا؟ الكؤوس؟ لا الرميات، قلت؟». «لا، يا عزيزي، صبـي المكتبة، ليست الكؤوس، ما السبب الذي يجعلك أنت وكلير (49)sans enfants». «هذا حقاً ليس من شأنك غوميز». استمر، أقحم نفسه مجدداً، من دون انـزعاج. «هل عرفوا ما السبب وراء ذلك؟». «اللعنة، يا غوميز». «تتتتم، تتتم، حَسِن لغتك. لأنني أعرف طبيبة رائعة...». «غوميـــز -». «ذاك المتخصص بالاضطرابات الصبغية عند الأجنة». «لماذا بالله عليك تريد أن تعرف -». «شهادة خبير». «أووه». استمر: «اسمها أميت مونتاغ، إنها عبقرية. شاهدتها على التلفاز وقد ربحت عدة جوائز. لقد أعجب بها الحكام كثيراً». «أووه، حسناً، إن كان الحكام أحبوها -». بدأت ساخراً. «فقط اذهب إليها، بالله عليك، أحاول أن أساعدكما». تنهدت. «حسناً، أممم، شكراً». «هل هذه شكراً، أي ستذهب فوراً من هنا لزيارتها كما اقترحت، يا رفيقي العزيز، أم شكراً، تقول لي بها اذهب وأصلح نفسك؟». وقفت، نفضت عن بنطالي عيدان الصنوبر. قلت: «دعنا ندخل». دخلنا. (48) الآزتيك: الشعوب المكسيكية المتمدنة قبل أن يفتحها الإسبان في العام 1519. (49) باللغة الفرنسية تعني: «من دون أطفال». أربعة الأربعاء، 21 تموز، 1999/8 أيلول، 1998 (هنري 36 عاماً، كلير 28 عاماًً) هنري: كنا مستلقيين على السرير. كلير مستديرة على جنبها، وظهرها إليّ، وأنا مستدير نحوها، قبالة ظهرها. كانت الساعة قرابة الثانية بعد منتصف الليل، وكنا قد أطفأنا الأنوار للتو بعد نقاش طويل غير مجدٍ حول محاولاتنا غير المثمرة في الإنجاب. استلقيت الآن ضاغطاً عليها، وقد تكور نهدها الأيمن بين يدي، وكنت أحاول أن أتبين إن كنا في هذا سوياً أو أنني أفكر في هذا بمفردي. قلت بنعومة، عند رقبتها: «كلير». «أمممم؟». «دعينا نتبنى». كنت أفكر في هذا منذ أسابيع، بل منذ أشهر عدة. يبدو ذلك طريق نجاة بارع، سنحصل على طفل. سيكون بصحة جيدة، ونصبح سعيدين. هذا هو الحل الأمثل. قالت كلير: «سيكون هذا زيفاً وخداعاً، وادعاء». جلست، ووجهها إليّ، وفعلت مثلها. «سيكون طفلاً حقيقياً، سيكون طفلنا. أين الادعاء في ذلك؟». «لقد مللت من الادعاء، نحن ندعي طول الوقت، أريد أن نقوم بهذا فعلياً». «نحن لا ندعي طول الوقت. ما الذي تتحدثين عنه؟». «نحن ندعي أننا طبيعيون، ونعيش حياة طبيعية! أدعي أنه لا بأس بالأمر في أنك تختفي والله وحده يعرف أين تكون. أنت تدعي أنك على ما يرام حتى وأنت تذبح وكيندريك لا يعلم ماذا يفعل حيال ذلك! أتظاهر أنني لا آبه عندما تموت أجنتنا...». أجهشت بالبكاء، انحنت على نفسها، غطى شعرها وجهها، كستارة من الحرير انسدلت على وجهها. تعبت من البكاء، تعبت من رؤية كلير تبكي، أشعر بالعجز أمام بكائها، ليس من شيء يمكنني القيام به لتغيير أي شيء. حاولت أن ألمسها، «كلير...»، لتهدئتها، لتهدئة نفسي، دفعتني عنها. نهضت عن السرير، وأمسكت بملابسي، ارتديتها في الحمام، أخذت مفاتيح كلير من حقيبتها، وانتعلت حذائي. ظهرت كلير في الصالة. «إلى أين أنت ذاهب؟». «لا أعلم». «هنري -». خرجت من الباب، وصفعته خلفي. شعرت بارتياح لأنني في الخارج، لم أستطع أن أتذكر أين السيارة، ثم رأيتها في الشارع، مشيت نحوها واستقللتها. راودتني في البداية فكرة النوم في السيارة، لكن حالما جلست داخلها قررت أن أقودها إلى مكان ما، الشاطئ، سأذهب إلى الشاطئ، كنت أعرف أن هذه فكرة فظيعة، أنا متعب، ومنـزعج، وسيكون ضرباً من الجنون أن أقود وأنا بهذه الحال... لكنني شعرت برغبة في القيادة. الشوارع فارغة. شغلت محرك السيارة، ضجت بالحياة، استغرق مني الأمر دقيقة لأخرج من الموقف، رأيت وجه كلير من النافذة، تركتها لتقلق، لمرة واحدة لا أعبأ بذلك. قدت السيارة عبر أينسلي إلى لنكولن، اجتزت ويستيرن، وقدت نحو الشمال. لقد مضى وقت طويل لم أكن بمفردي عند منتصف الليل في الحاضر، وبالكاد أستطيع تذكر آخر مرة قدت فيها السيارة بوضع غير مسموح لي فيه على الإطلاق. يا له من أمر لطيف. أسرعت مجتازاً مقبرة روزهيل وعلى طول الشارع الطويل من معارض السيارات. شغلت الراديو، أضغط على المحطات المعدة على الموجة المنخفضة، كانت أغاني كولترين تذاع. رفعت الصوت، وأنـزلت زجاج النافذة. جعلني الضجيج، والريح، والتكرار الخفيف في الإشارات وإنارة الشارع أهدأ، وأتخدر، وبعد فترة نسيت لماذا أنا موجود هنا عند تخوم إفانستون غيرت اتجاهي إلى ريدج، ثم أخذت الطريق إلى ديمبستر ثم إلى البحيرة. ركنت السيارة بالقرب من الهور، وتركت المفاتيح مكانها، خرجت، ومشيت كان الجو بارداً وهادئاً مشيت على الرصيف الممتد في البحيرة ووقفت عند نهايته، أنظر إلى تخوم شاطئ شيكاغو، المتلألئ تحت سمائها البرتقالية والأرجوانية. أنا متعب للغاية، متعب من كثرة التفكير في الموت، متعب من الحميمية كوسيلة لنتيجة، وأنا خائف مما سنؤول إليه. لا أعلم كم يمكنني تحمل الضغط من كلير. ما هذه المُضغ، الأجنة، مجموعة الخلايا التي نستمر في صنعها وفقدانها؟ ما أهميتها حتى نخاطر بحياة كلير إلى هذه الدرجة، لنلون كل يوم بهذا اليأس؟ الطبيعة تخبرنا أن نتوقف عن ذلك، إنها تقول: «هنري، أنت كائن لعين ولا نريد مثلك المزيد. وأنا مستعد لأذعن». لم أرَ نفسي أبداً في المستقبل وعندي طفل. بالرغم من أنني أمضيت بعض الوقت مع نفسي عندما كنت شاباً فتياً، بالرغم من أنني أمضيت وقتاً مع كلير عندما كانت طفلة، لا أشعر أن حياتي ناقصة من دون وجود مخلوق من صلبـي. لم تحمسني أي من حالاتي المستقبلية للاستمرار في الكدح بهذا الأمر. في الحقيقة عطلت قليلاً قبل عدة أسابيع وسألت، ذهبت إلى نفسي في نيوبيري، إلى نفسي في العام 2004. سألته هل سنرزق بطفل؟ ضحكت ذاتي الأخرى وأومأت. أجابني عليك أن تعيش لتعرف ذلك، آسف، معتداً ومتعاطفاً. أووه، بالله عليك أخبرني فحسب. بكيت، وأجهشت بالبكاء عندما رفع يده وغاب. قلت بصوت مرتفع عليك اللعنة، حقير، أقحمت إيزابيل رأسها من باب الحراسة، وسألتني لماذا أصرخ بين رفوف المكتبة وهل أعرف أن صوتي عالٍ بما يكفي ليُسمع من قاعة المطالعة؟ أنا حقاً لا أرى أي مخرج من ذلك. كلير قد استحوذت عليها فكرة الإنجاب. شجعتها أميت مونتاغ، وحدثتها عن قصص خارقة حول إنجاب الأطفال، وصفت لها فيتامينات تذكرني بالمولودة روزماري. ربما أقوم بإضراب، أكيد، هذا هو الحل، إضراب عن الحميمية، ضحكت من نفسي، ابتلع صوتي النسمات الرقيقة على رصيف البحيرة، فرصة زائفة، سأستسلم لها على ركبتي خلال أيام. أصبح رأسي يؤلمني، حاولت تجاهله، أعلم أن ذلك لأنني متعب. تساءلت إن كان في إمكاني النوم على الشاطئ من دون أن يزعجني أحد. يا لها من ليلة جميلة، عند تلك اللحظة وحسب، روعني شعاع ضوء كثيف التف عبر الرصيف ثم نحو وجهي وفجأة وجدت نفسي في مطبخ كيمي، مستلقياً على ظهري تحت طاولة المطبخ، وتحيط بـي قوائم الكراسي. كانت كيمي جالسة على أحد هذه الكراسي وتنظر إليّ تحت الطاولة. كنت أضغط بمؤخرتي على حذائها. قلت بوهن: «هاي، بودي». كنت أحس أنني على وشك أن يُغمى عليّ. قالت: «ستصيبني بنوبة قلبية في يوم من الأيام، بودي». ركلتني بإحدى قدميها. «اخرج من تحت الطاولة وارتدي بعض الثياب». ارتفعت، وانخفضت، واستدرت خارج الطاولة على ركبتي. ثم التففت على الأرضية المشمّعة، وبقيت للحظة، أجفف عرقي، وأحاول ألا أتقيأ. انحنت عليّ: «هنري... هل أنت على ما يرام؟ هل تريد أن تأكل شيئاً؟ أتريد قليلاً من الحساء... القهوة؟». هززت رأسي. «أتريد أن تستلقي على الأريكة؟ أأنت مريض؟». «لا يا كيمي أنا بخير، سأكون على ما يرام». تمكنت من الوقوف على ركبتي ثم على قدمي. ترنحت حتى وصلت إلى غرفة السيد كيم، وفتحت الخزانة، التي غالباً ما تكون فارغة إلا من بضعة بناطيل جينـز مطوية ومرتبة بعدة قياسات متدرجة من قياس صبـي صغير إلى رجل كبير، وعدة كنـزات بيضاء رقيقة، إنه مخبأ ملابسي الصغيرة، الجاهزة والتي تنتظرني. ارتديت ملابسي، وعدت إلى المطبخ، انحنيت على كيمي، وقبلتها على خدها. «ما تاريخ اليوم؟». «8 أيلول، 1998. من أين أتيت؟». «من شهر تموز القادم». جلسنا إلى الطاولة. كانت كيمي تحاول حل الكلمات المتقاطعة في جريدة نيويورك تايمز. «ما الذي سيحدث في تموز القادم؟». «سيكون صيفاً لطيفاً، وتبدو حديقتك جميلة. ارتفعت أسهم كل التكنولوجيات. عليك أن تشتري بعض أسهم شركة آبل في كانون الثاني». سجلت ملاحظة على قطعة من كيس ورقي بني. «حسناً، وأنت؟ كيف حالك؟ كيف حال كلير؟ هل أنجبتما طفلاً؟». «في الحقيقة، أنا جائع. ماذا عن ذاك الحساء الذي ذكرته؟». تحركت كيمي بتثاقل عن كرسيها، وفتحت باب الثلاجة. أخرجت منها وعاء، وبدأت بتسخين القليل من الحساء. «لم تجب عن سؤالي». «لا توجد أخبار كيمي، ليس هنالك طفل بعد. أتشاجر مع كلير كل دقيقة تمر. لا تبدأي بـي». كان ظهر كيمي إليّ. حركت الحساء بقوة. كانت متكدرة. «أنا لا أبدأ بك، بل أسألك فحسب، حسناً؟ أنا أتساءل فحسب». صمتنا لعدة دقائق. كان صوت الملعقة في أسفل وعاء الحساء يتناهى إلى مسمعي. كنت أفكّر في كلير، وهي تنظر من النافذة وأنا أقود السيارة مبتعداً. «كيمي». «هنري». «كيف حدث أنك والسيد كيم لم تنجبا أطفالاً؟». ساد صمت طويل. ثم قالت: «أنجبنا طفلاً». «حقاً؟». سكبت الحساء في واحدة من طاسات ميكي ماوس التي كنت أحبها عندما كنت صغيراً. جلست، ورفعت يديها فوق شعرها، لتمسد الشعر الأبيض حتى تصل إلى الملقط الصغير في الخلف. نظرت كيمي إليّ. «تناول حساءك، سأعود حالاً». نهضت، وخرجت من المطبخ، وسمعت صوت جر قدميها على غطاء النايلون الذي يغطي السجاد في الصالة. تناولت الحساء، وعندما عادت كنت قد أنهيته. «إليك، هذه هي ماين. طفلتي». كانت الصورة بالأبيض والأسود، غير واضحة. الصورة لطفلة صغيرة، ربما في الخامسة أو السادسة من العمر، تقف أمام مبنى السيد كيم، المبنى الذي نشأت فيه. ترتدي زي مدرسة كاثوليكية وتضحك، وهي تمسك بمظلة. «كان أول يوم لها في المدرسة. كانت سعيدة للغاية، وخائفة للغاية». تفحصت الصورة. كنت خائفاً من أن أسألها، أمعنت النظر إليها، كانت كيمي تنظر من النافذة إلى النهر. «ماذا حدث؟». «أووه، ماتت. قبل ولادتك. أصيبت باللوكيميا، وماتت». تذكرتها فجأة. «هل كانت تجلس على الأرجوحة في الحديقة الخلفية، وهي ترتدي ثوباً أحمر؟». حدقت السيدة كيم إليّ، مندهشة. «أرأيتها؟». «أجل، أعتقد ذلك. منذ زمن بعيد، عندما كنت في السابعة تقريباً، كنت أقف على الدرج عند النهر، وعلاً عارياً، أخبرتني أنه من الأفضل ألاّ أدخل الحديقة، قلت لها إن هذه حديقتي ولم تصدقني. لم أتمكن من استنتاج ذلك في حينها». ضحكت. «قالت لي إن أمها ستوبخني إن لم أذهب بعيداً». ضحكت كيمي متأثرةً، وقالت: «حسناً، لقد كانت على حق». «نعم، رحلت بعد بضع سنين فقط». ابتسمت كيمي. «نعم، ماين، كانت لعبة نارية صغيرة. كان أبوها يسميها الآنسة ذات اللسان السليط. كان يحبها كثيراً». أدارت كيمي رأسها، وبخلسة مسحت عينيها بيديها. كان السيد كيم، كما أتذكره، رجلاً رتيباً يمضي معظم وقته وهو جالس على كرسيه يشاهد الرياضة والبرامج التلفازية. «في أي سنة ولدت ماين؟». «1949، وماتت 1956. الأمر مضحك. كانت ستكون سيدة في منتصف العمر الآن وعندها أولاد. كانت ستكون قد بلغت 49 عاماً، ولربما كان أولادها في الجامعة، أو أقل بقليل». تبادلت النظرات وكيمي. «نحن نحاول يا كيمي، نحاول بكل ما في استطاعتنا التفكير فيه». «أنالم أقل شيئاً». «نعم». رمشت بأهدابها إليّ مثل لويس بروكس أو شخص آخر. «بودي، أنا عالقة في هذه الكلمات المتقاطعة. تسعة عمودي، تبدأ بحرف ك...». كلير: كنت أراقب الضفادع البشرية من رجال الشرطة وهم ينـزلون إلى بحيرة ميتشغان. كان الطقس صباحاً حاراً أكثر من معدله. أقف على رصيف شارع ديمبستر. توجد خمس عربات إطفاء للحريق، ثلاث سيارات إسعاف، وسبع سيارات لشرطة الطرقات تقف في شارع شيريدان بأجهزتها التي تومض. هنالك سبعة عشر رجل إطفاء وستة مسعفين. كان هناك أيضاً أربعة عشر رجل شرطة وواحدة من الشرطة النسائية، امرأة قصيرة وسمينة يبدو رأسها قد هرس في الخوذة، وكانت تتفوه بأشياء غبية بنية تهدئتي حتى إنني أردت أن أدفعها عن رصيف البحيرة. كان هناك واحد وعشرون صحافياً، بعضهم من مراسلي محطات التلفاز مع سياراتهم وميكروفوناتهم ومصوري الفيديو، وبعضهم من الصحافة المكتوبة ومصوري الفوتوغراف. يقف زوجان كبيرا السن وهما متعانقان إلى جانب مكان الحادث، كانا متحفظين ولكن، فضوليين. كنت أحاول ألاّ أفكر في وصف رجال الشرطة لهنري وهو يقفز عن حافة الرصيف، حيث التقطه وهج فلاش البحث في سيارة الشرطة. أحاول ألا أفكر. جاء رجلا شرطة جديدان يمشيان على الرصيف. تناقشا مع رجال الشرطة الذين كانوا هنا من قبل، ثم افترق عنهم أحدهم، الأصغر سناً، واتجه نحوي. لديه شارب طويل، من الطراز القديم الذي ينتهي بنقاط صغيرة. قدم نفسه إليّ على أنه الكابتن مايكل، وسألني إن كان في إمكاني التفكير في أي سبب يجعل زوجي يفكر في الانتحار لأجله. «حسناً، أنا حقاً لا أعتقد أنه انتحر أيها الكابتن، أعني، إنه سباح ممتاز، لربما سبح إلى، أمممم، ويلمت أو أي مكان آخر». - أشرت بيدي بإبهام نحو الشمال - «وسيعود في أي وقت الآن...». نظر الكابتن مشككاً. «هل لديه عادة السباحة عند منتصف الليل؟». «إنه مصاب بالأرق». «هل كنتما تتجادلان؟ هل كان منـزعجاً من أمر ما؟». قلت كاذبة: «لا، بالطبع لا». نظرت إلى الماء، أنا متأكدة أنني أبدو غير مقنعة. «كنت نائمة، متأكدة من أنه قرر أن يذهب للسباحة ولم يرد إيقاظي من نومي». «هل ترك لك ملاحظة؟». «لا». وفيما كنت أهز دماغي لأفكر في شرح أكثر واقعية سمعت صوت نثر الماء قرب الشاطئ. الحمد لله، ليس للحظة أخرى، «هذا هو!». كان هنري يحاول الصعود من الماء، سمعني أصرخ، وغطس مجدداً، وسبح إلى الرصيف. «ما الذي يجري كلير؟». انحنيت على الرصيف. كان هنري يبدو متعباً، وبارداً. تكلمت بهدوء. «يظنون أنك غرقت، شاهدك أحدهم وأنت ترمي بنفسك عن رصيف البحيرة، كانوا يبحثون عن جثتك لمدة ساعتين». بدا هنري قلقاً، لكن مستمتعاً أيضاً، أي شيء يقلق الشرطة. تجمع كل رجال الشرطة حولي ونظروا إلى هنري في الأسفل بصمت. سأله الكابتن: «هل أنت هنري دي تامبل؟». «أجل، هل تمانع لو خرجت من الماء؟». تبعنا كلنا هنري إلى الشاطئ، كان هنري يسبح والباقون يمشون إلى جانبه على طول الرصيف. قفز من الماء ووقف ينهمر عنه الماء كجرذ مبلل. مررت له قميصه الذي استخدمه ليجفف نفسه. ارتدى بقية ملابسه، ووقف بهدوء، منتظراً الشرطة ليخلصوا إلى ما سيفعلونه. أردت أن أقبله ثم أقتله، أو العكس. وضع هنري ذراعيه حولي، كان رطباً وندياً، ملت نحوه، لبرودته، ومال نحوي، طلباً للدفء، سألته الشرطة بعض الأسئلة، أجابهم بأدب شديد. هذه هي شرطة إفانستون، مع بعض من رجال شرطة بلدتي مورتون غروف وسكوكس الذين جاؤوا فقط لأجل التسلية لو كانوا من شرطة شيكاغو، لكانوا عرفوا هنري واعتقلوه. «لماذا لم تجب عندما طلب منك الضابط أن تخرج من الماء؟». «كنت أضع سدادتي الأذنين، كابتن». «سدادتا الأذنين إذاً؟». «لأحفظ أُذني من الماء». استعرض هنري شيئاً يدسه في جيبه. «لا أعلم أين وضعتهما، أضع دائماً سدادتي الأذنين عندما أسبح». «لماذا كنت تسبح عند الثالثة بعد منتصف الليل؟». «لم أستطع النوم». هكذا. أخذ هنري يكذب بمهارة، وينظم الحقائق لدعم فرضيته. في النهاية، وعلى مضض جعله رجال الشرطة يكتب تعهداً بعدم السباحة عندما يكون الشاطئ مغلقاً رسمياً مع غرامة 500 دولار. عندما تركتنا الشرطة نذهب، تجمع حولنا مراسلو التغطية التلفازية والصحفية بينما كنا نمشي إلى السيارة. لا تعليق، ذهب ليسبح فقط. أرجوكم، لا نود أن تلتقطوا لنا الصور. كليك، أخيراً شققنا طريقنا إلى السيارة التي كانت بمفردها مع المفاتيح في شارع شيريدان. شغلت المحرك، وأنـزلت زجاج النافذة. كان يقف كل من رجال الشرطة، والمراسلين، والزوجين كبيري السن، على العشب، وينظرون إلينا. ونحن لا ننظر إلى بعضنا بعضاً. «كلير». «هنري». «أنا آسف». «أنا أيضاً». نظر إليّ، لمس يدي عند المقود، عدنا إلى المنـزل صامتين. الجمعة، 14 كانون الثاني، 2000 (كلير 28 عاماً، هنري 36 عاماًً) كلير: قادنا كيندريك عبر متاهة من الممرات الكبيرة المفروشة بالسجاد، ذات الجدران الجافة والعازلة للصوت إلى قاعة اجتماعات. لا توجد في هذه القاعة نوافذ، فقط سجاد أزرق، وطاولة طويلة سوداء لامعة محاطة بكراسٍ متحركة منجدة. توجد سبورة بيضاء وبعض الأقلام الملونة، وساعة فوق الباب، ودلة قهوة وفناجين، ومبيض قهوة، وسكر بالقرب منه. جلست أنا وكيندريك عند الطاولة، بينما راح هنري يسير حول الغرفة. نـزع كيندريك نظارته، ومسد طرفي أنفه الصغير بأصابعه. فُتح الباب، ودخل منه شاب لاتيني برداء العمليات يجر عربة إلى الغرفة. يوجد على العربة قفص مغطى بقطعة قماش. سأله الشاب: «أين تريد أن أضعها؟». أجابه كيندريك: «دع العربة هنا، لو سمحت». هز الشاب رأسه وغادر. مشى كيندريك إلى الباب، وأدار المقبض، وعتمت الإنارة كما عند حمرة الأفق. كنت بالكاد أرى هنري واقفاً عند القفص. مشى كيندريك إلى القفص، وأزال القماش عنه. فاحت من القفص رائحة خشب الأرز، وقفت وحدّقت داخله. لم أرَ شيئاً سوى أسطوانة داخلية لمناديل الحمام، وإناء للطعام، وأنبوب ماء، ودراجة تدريب، وزغب ريش الطائر. فتح كيندريك أعلى القفص وأدخل يده، وأخرج شيئاً صغيراً أبيض اللون. اندفعت وهنري إلى الأمام، لننظر عن قرب إلى فأر صغير يجلس على راحة يد كيندريك وهو يفتح عينيه ويغلقهما. أخرج كيندريك من جيبه مصباحاً صغيراً، أضاءه، وسرعان ما أصدر لمعاناً على الفأر. أُصيب الفأر بتوتر ثم اختفى. صحت: «واو». أعاد كيندريك قطعة القماش إلى القفص وأنار المكان. قال وهو يضحك: «سيتم نشره في عدد الأسبوع القادم من مجلة الطبيعة، سيكون المقال الرئيس». قال هنري: «تهانينا». نظر إلى الساعة. «كم تطول فترة الغياب عادة؟ وأين تذهب الفئران؟». أشار كيندريك إلى الدلة وأومأنا برأسينا. قال: «تطول فترة غيابها عادة قرابة الساعتين». وراح يصب القهوة في ثلاثة فناجين وهو يتحدث ويقدم إلى كل منا فنجاناً. «تذهب إلى مخبر الحيوانات في القبو، حيث ولدت، ويبدو أنها لا تستطيع الذهاب لأكثر من بضع دقائق في جميع الحالات». أطرق هنري رأسه، وقال: «ستغيب لوقت أطول كلما تقدم العمر بها». «أجل، هذا حقيقة إلى الآن». سألت كيندريك: «كيف فعلت ذلك؟». لا أزال غير مصدقة أنه تمكن من معرفة الأمر. نفخ كيندريك على قهوته، وأخذ رشفة منها، وابتسم ابتسامة عريضة. كانت القهوة لاذعة، وقد أضفت السكر إلى فنجاني. قال: «حسناً، لقد ساعدنا كثيراً أن الفأر سيليرا كان يتمتع بتعاقب جينات الفئران. عرفنا أين نبحث عن الجينات الأربع التي هي مقصدنا. لكن لم يكن في الإمكان معرفة شيء من دون ذلك، بدأنا باستنساخ جيناتك ثم استخدمنا الأنـزيم لنستخلص الحصص المدمرة من الحمض النووي. ثم أخذنا هذه القطع ووضعناها داخل أجنة الفئران في مرحلة انقسام الخلايا الأربع. وكان هذا هو الجزء السهل». رفع هنري حاجبيه، وقال: «أكيد، بالطبع. نقوم أنا وكلير بفعل ذلك كل الوقت في مطبخنا. إذاً، أين كان الجزء الصعب؟». جلس أمام الطاولة ووضع قهوته جانباً. في القفص كنت أستطيع سماع صرير دولاب التجربة. غمزني كيندريك. «الجزء الصعب كان في الحصول على الأم، الفأر الأم، لنـزرع جنين الفأر المُعالَج فيها. كانت تموت، تنـزف حتى الموت». أحس هنري بالذعر، وقال: «ماتت الأمات؟». أومأ كيندريك برأسه، وقال: «ماتت الأمات، وماتت الأجنة، لم نتمكن من حل هذا الأمر. لذا بدأنا بمراقبتها على مدار الساعة، ثم اكتشفنا ما كان يحدث، كانت الأجنة ترحل من أرحام أماتها، ثم تعود مجدداً، وتنـزف الأمات حتى الموت التام. أو أن تتوقف الأجنة عن النمو عند اليوم العاشر من الحمل. كان ذلك محبطاً للغاية». تبادلت وهنري النظرات ثم نظرنا بعيداً. قلت لكيندريك: «أيمكن أن يتعلق هذا بنا؟». قال: «نعم، لكننا توصلنا إلى حل لهذه المشكلة». سأله هنري: «كيف؟». «حسناً، الأمر أن هذا عبارة عن رد فعل مناعي. شيء ما في الفأر الجنين كان يبدو غريباً بحيث يعمل الجهاز المناعي في الرحم على التخلص منه كأنه فيروس أو شيء من هذا القبيل. ولهذا قمنا بوضع حد لنظام المناعة عند الأم، وبعد ذلك نجح كل شيء». سمعت خفقان قلبـي في أُذني. عجيب. انحنى كيندريك فجأة، والتقط شيئاً عن الأرض. قال: «غوتشا». عارضاً الفأر بين يديه المتكورتين. قال هنري: «برافو! ما الخطوة التالية؟». قال كيندريك: «معالجة الجينات». هز كتفيه وأضاف: «حتى لو كان في إمكاننا فعل هذه، إلا أننا لا نـزال نجهل لماذا يحدث هذا، أو كيف يحدث، لذا نحن نحاول فهم ذلك». قدم الفأر إلى هنري، كور هنري يديه ووضع كيندريك الفأر فيهما. تفحص هنري الفأر بفضول. قال: «لديه وشم». قال له كيندريك: «هذه هي الطريقة الوحيدة التي تمكننا من التعرف إليه. إنه يسبب الجنون لفنيي مخبر الحيوانات، لأنه يفر منهم دائماً». ضحك هنري، وراح يلاطف الفأر الذي على راحة يده. قال كيندريك: «درجة صفر في تحمل الضغط». ووضع الفأر مجدداً في القفص، حيث فر إلى أسطوانة مناديل الحمام. حالما عدنا إلى المنـزل سارعت إلى الهاتف لأتحدث مع د. مونتاغ، نثرثر عن وضع حدّ لنظام المناعة والنـزف الداخلي. أصغت إليّ بعناية، ثم طلبت مني أن أزورها الأسبوع القادم، وحتى ذلك الحين ستجري بعض الأبحاث. وضعت الهاتف جانباً، ونظر هنري إليّ بعصبية من فوق جريدة تايمز صفحة الأعمال. قلت له: «الأمر يستحق المحاولة». قال هنري: «ماتت العديد من الفئران الأمات قبل أن يستنتجوا ما حصل». «لكنها نجحت! كيندريك جعل الأمر ينجح!». قال هنري: «أجل». وعاد مجدداً إلى القراءة. فتحت فمي ثم غيرت رأيي ومشيت إلى مرسمي، سعيدة إلى درجة أنني لا أريد إفساد هذه السعادة بالجدال. لقد نجحت. خمسة الخميس، 11 أيار، 2000 (هنري 39 عاماً، كلير 28 عاماًً) هنري: كنت أمشي عبر شارع كلارك في أواخر الربيع من العام 2000. لم يكن هناك ما هو مميز في ذلك اليوم. كانت ليلة لطيفة ودافئة في أنديرسونفيل، وكل الشبان أصحاب الموضة يجلسون إلى طاولات صغيرة يحتسون القهوة الباردة الرائعة في مقهى كوبيز، أو يجلسون إلى طاولات متوسطة الحجم يتناولون الكُسكُس في مطعم ريتزا، أو يتنـزهون، متجاهلين محال الحلويات السويدية ويناقشون أمور كلابهم. كان يفترض أن أكون في العمل، عام 2002، لكن أووه، لا بأس. سيضطر مات إلى تغطيتي في عرض ومحاضرة بعد الظهيرة، سجلت ملاحظة ذهنية لأدعوه إلى الغداء. وأنا أسير على غير هدى، رأيت كلير على نحو غير متوقع وهي تعبر الشارع. تقف أمام محل جورج للألبسة الكلاسيكية، تنظر إلى واجهة العرض لثياب المواليد. بدت حزينة وأنا أنظر إليها من الخلف. مالت برأسها قبالة واجهة المحل، ووقفت هناك، مكتئبة. عبرت الشارع، أتنقل جيئة وذهاباً بين سيارات يو بـي أس والفولفو، ووقفت خلفها، نظرت إلى الأعلى، كانت مندهشة، رأت ظلي على الزجاج. قالت: «آه، هذا أنت». واستدارت. «كنت أظن أنك تحضر السينما مع غوميز». بدت كلير وكأنها في موقف دفاع، شاعرة بالذنب إلى حدٍّ ما، وكأنني أمسكتها بالجرم المشهود. «على الأرجح هذا أنا، يفترض أن أكون في العمل، فعلياً، في العام 2002». ابتسمت كلير. التعب واضح عليها، وقمت بحساب التواريخ في ذهني، وأدركت أن الإجهاض الخامس قد تم منذ ثلاثة أسابيع مضت. ترددت، ثم وضعت ذراعي حولها، وكم شعرت بارتياح عندما استرخت أمامي، وألقت برأسها على كتفي. سألتها: «كيف حالك؟». قالت بنعومة: «مريعة، متعبة». تذكرت، بقيت في السرير لأسابيع. «هنري، لقد استسلمت». كانت تراقبني، تحاول أن تقدر ردّ فعلي، تزن نيتها مقابل معرفتي. «لقد استسلمت. لن يكون لنا طفل». هل هنالك أي شيء يمنعني من أن أقدم إليها ما تحتاج إليه؟ لا أستطيع التفكير في سبب واحد لكي لا أخبرها. صفيت ذهني من أي شيء يمكن أن يحول دون معرفة كلير. كل ما أذكره هو ثقتها التي على وشك أن أوجدها لديها. «ثابري يا كلير». «ماذا؟». «تمسكي بذلك. ففي حاضري لدينا طفل». أغلقت كلير عينيها، همست: «شكراً لك». لا أعرف إن كانت تقصدني أم تقصد اﷲ. لا يهم. قالتها مرة أخرى: «شكراً لك». ونظرت إليّ وهي تحدثني، شعرت كأنني ملت إليها وقبلتها. شعرت بارتياحها، وفرحها، ووصول الهدف من خلال كلير. تذكرت الرأس الصغير الممتلئ بالشعر الأسود يتدلى من بين رجلي كلير وكنت مندهشاً كم يمكن أن تكون هذه اللحظة رائعة، والعكس صحيح. شكراً. شكراً. سألتني كلير: «هل كنت تعرف؟». «لا». بدت عليها خيبة الأمل. «ليس فقط أنني لم أكن أعلم، لقد فعلت كل شيء أمكنني التفكير فيه لمنعك من الحمل من جديد». «عظيم». ضحكت كلير. «إذاً، مهما حدث. يجب أن أكون هادئة وأدع الأمر يمر؟». «نعم». ابتسمت ابتسامة عريضة لي، وبادلتها بابتسامة مماثلة. دعه يحدث. ستة السبت، 3 حزيران، 2000 (كلير 29 عاماً، هنري 36 عاماًً) كلير: أجلس أمام طاولة المطبخ، أقلب بعبث صحيفة شيكاغو تريبيون، وأنظر إلى هنري وهو يرتب أغراض البقالة. وضع هنري الأكياس الورقية بنية اللون على منصة المطبخ، وأخرج منها الكاتشاب، والدجاج، وجبنة الماعز كما يفعل لاعب الخفة. لا أزال أنتظر لحم الأرنب وبدلاً منه أخرج الفطر، والفول السوداني، والفيتوشيني، والخس، والأناناس، والحليب المقشود، والقهوة، والفجل، واللفت، واللفت الأصفر، والشوفان، والزبدة، والجبن، وخبز الجاودار، والمايونيز، والبيض، وشفرات الحلاقة، ومزيل العرق، وتفاح غراني سميث، وحلويات البيغلز النصفية، والجمبري، والجبنة الطرية، والقمح الصغير، وصلصة المارينارا، وعصير البرتقال المثلج، والجزر، والواقيات الذكرية، والبطاطا الحلوة... واقيات ذكرية! نهضت ومشيت إلى المنصة، التقطت الصندوق الأزرق الصغير وهززته في وجه هنري. «ما هذا، هل تُقيم علاقة غرامية؟». نظر إليّ كأنه قد تجمد في ثلاجة، وقال: «كلا، في الواقع، أُحبّ الظهور. كنت أقف في ممر معجون الأسنان عندما وقع هذا. أتريدين سماعه؟». «كلا». نهض هنري، واستدار نحوي. أحسست بتعابير وجهه كأنها تنهيدة. «حسناً. هذا هو الأمر مهما كان. لا نستطيع الاستمرار في محاولة الإنجاب». خائن. «لقد اتفقنا...». «... على الاستمرار في المحاولة، أعتقد أن خمس حالات إجهاض كانت كافية، وأعتقد أننا حاولنا بما فيه الكفاية». «لا، أعني - لِمَ لا نحاول مجدداً؟». حاولت ألا يظهر في صوتي أي إحساس بالعطف أو التوسل، ألا أجعل الغضب يفر من بين شفتي على شكل كلمات. سار هنري حول طاولة المطبخ، ووقف أمامي، لكنه لم يلمسني، لأنه يعلم أنه لا يستطيع أن يلمسني. «كلير. في المرة القادمة التي ستجهضين فيها سيتسبب هذا في موتك، ولن أستمر في فعل أي شيء يتسبب في موتك. خمس حالات حمل... أنا أعلم أنك تريدين المحاولة مرة أخرى، لكنني لا أستطيع. لا أستطيع تحمل هذا الأمر بعد الآن، يا كلير. أنا آسف». خرجت من الباب الخلفي، ووقفت تحت الشمس، قرب أغصان شجرة توت صغيرة. أولادنا موتى، ملفوفون في أقمشة حريرية، مهدهم داخل صناديق خشبية، هم في ظل ظليل الآن، في وقت متأخر من هذه الظهيرة، قرب الأزهار. أحس أن حرارة الشمس على بشرتي تجعلها تختلج، عميقاً في الحديقة، باردة في منتصف يوم من شهر حزيران. ساعدني، قلت في رأسي، لطفلنا الذي سيأتي في المستقبل. إنه لا يعرف، لهذا لا أستطيع إخباره. تعال بسرعة. الجمعة، 9 حزيران، 2000/19 تشرين الثاني، 1986 (هنري 36 عاماً، كلير 15 عاماً) هنري: الساعة 8:45 صباح يوم الجمعة وأنا جالس في غرفة الانتظار في عيادة الدكتور روبيرت غونـزاليز. لا تعلم كلير أنني هنا. لقد قررت أن أقوم بقطع القناة الدافقة. يقع مكتب د. غونـزاليز في شارع شيريدان، بالقرب من دايفرسي، ضمن مجمع طبـي قبالة لينكولن بارك كونسيرفاتوري. ديكور الغرفة مؤلف من الألوان البنية والخضراء، فيها لوحات كبيرة ورسوم مؤطرة من جوائز ديربـي تعود إلى ثمانينيات القرن التاسع عشر. يا لها من رجولة حقة. أحسست كأنه كان يجب عليّ أن أرتدي بذلة السموكنغ وأضع في فمي سيجاراً طويلاً. أحتاج إلى شراب. أكدت لي المرأة اللطيفة في الأبوة المنظمة بصوتها الناعم، والمتمرس أن هذا سيسبب لي ألماً خفيفاً. يوجد خمسة رجال آخرون يجلسون هنا معي. وتساءلت بيني وبين نفسي في ما إذا كانوا يعانون من البروستات. ربما يكون بعضهم مثلي أنا، يجلسون هنا لينهوا سيرتهم كآباء محتملين. أحسست بشيء من المؤازرة مع هؤلاء الرجال المجهولين، كلنا نجلس هنا معاً في هذه الغرفة الجلدية الخشبية بنية اللون من هذا الصباح الرمادي ننتظر دخول غرفة الفحص لنخلع بناطيلنا. كان هناك رجل كبير جداً يجلس منحنياً إلى الأمام ويداه على عصاه، أغلق عينيه خلف نظارة سميكة العدستين بدت منهما جفونه ضخمة. وجوده هنا لا يعني أنه سيقطع قناته الدافقة. يبدي الفتى الذي يجلس وهو يقلب صفحات عدد قديم من مجلة أيسكوير عدم الاكتراث. أغلقت عيني وتخيلت أنني في مشرب والنادلة مديرة ظهرها إليّ لتخلط لي الشراب الاسكتلندي بقدر قليل من الماء الفاتر. ربما هو ليس مشرباً إنكليزياً، أجل، فهذا يبدو من الديكور، الرجل الجالس إلى يساري يسعل، خرج السعال من رئتيه، وعندما فتحت عيني كنت لا أزال أجلس في غرفة الانتظار عند الطبيب. ألقيت نظرة على ساعة الفتى الذي يجلس إلى يميني. كان يضع إحدى تلك الساعات الرياضية الكبيرة التي تستخدم لقياس الجري أو عداد للأمومة. الساعة 9:58. سيحين موعدي بعد دقيقتين، يبدو أن الطبيب سيتأخر، نادت موظفة الاستقبال: «السيد ليستون». فوقف الشاب واتجه نحو الباب، ودخل. نظر الباقون إلى بعضهم بمكر، وكأننا كنا على الطريق الفرعي وحاول أحدهم أن يبيعنا على ناصية الشوارع. كنت أحس بالتوتر، وأخذت أذكر نفسي أن ما أقوم به هو أمر ضروري وجيد، لست خائناً، أنا لست خائناً، بل أنا أنقذ كلير من الخوف والرعب والألم، لن تعرف أبداً، وهذا لن يسبب الأذى. يمكن أن يسبب أذى خفيفاً. سيأتي يوم وأخبرها فيه، وستدرك أنه كان عليّ أن أقوم بما قمت به، لقد حاولنا، ولم يعد لديّ أي خيار، أنا لست خائناً، حتى لو كان هذا مؤذياً فهو يستحق أن أقوم به، أقوم بذلك لأنني أحبها. أفكّر في كلير وهي تجلس على سريرنا، المغطى بالدماء، وهي تنتحب، فيعتريني الغثيان. «السيد تامبل». نهضت، أنا الآن حقاً مريض؛ ركبتاي منثنيتان، ورأسي يدور، انحنيت، لأتقيأ، أستند إلى يدي وركبتي، الأرض باردة ومغطاة ببقايا عشب ميت، لا شيء في معدتي، أستنثر من أنفي، الجو بارد، رفعت عينيّ. أنا في المرجة في ميداو. الأشجار عارية، والسماء ملبدة بالغيوم، والظلام يوشك على القدوم. أنا وحيد. نهضت فوجدت صندوق الملابس. ارتديت تي شيرت غانغ أوف فور وكنـزة وبنطال جينـز، ووضعت جورباً سميكاً وانتعلت حذاءً عسكرياً أسود، وارتديت معطفاً أسود من الصوف ووضعت قفازاً أزرق صغيراً. شيء ما قد شق طريقه إلى الصندوق وصنع فيه عشاً. يشير طراز الملابس إلى أنها تعود إلى موضة منتصف الثمانينيات. وكلير تبلغ من العمر نحو الخامسة أو السادسة عشرة. وتساءلت إذا كان عليّ أن أتسكع في الأنحاء لأنتظرها أو أن أذهب فقط. لا أعرف إذا كنت أستطيع مواجهة كلير الممتلئة شباباً وحيوية الآن. استدرت، وسرت نحو البستان. يبدو الطقس تشرينياً. ميداو بنية اللون، هناك أصوات مجلجلة تحملها الريح، والغربان تتصارع فوق شجرة تفاح على حافة البستان. عندما وصلت إليها سمعت أصوات لهاث أحدهم، وهو يركض خلفي. استدرت، وإذ بها كلير. صاحت متقطعة الأنفاس: «هنري -». بدت كأنها مصابة بالرشح. ساعدتها على الوقوف، والتقاط أنفاسها، لدقيقة، لا أستطيع أن أتحدث معها. وقفت، وهي تلهث، كان بخار أنفاسها يخرج منها بسحابات بيضاء، وشعرها الأحمر الزاهي مائل إلى اللون البني، وبشرتها وردية وشاحبة. استدرت، واتجهت نحو البستان. «هنري -». قالت لي كلير وهي تلحق بـي، وتمسك بذراعي. «ماذا؟ ماذا فعلت؟ لماذا لا تكلمني؟». أوه، يا اﷲ. «حاولت أن أفعل شيئاً لك، شيئاً هاماً، لكنني فشلت. فغضبت، وانتهى بـي الأمر هنا». «ما هذا الشيء؟». «لا أستطيع إخبارك، لم أكن حتى أريد أن أخبرك عنه في الحاضر، لأنه لن يسرك». «إذاً، لماذا تريد هذا الأمر؟». صرخت كلير في الريح. «كانت تلك الطريقة الوحيدة، لم أستطع أن أجعلك تصغين إليّ، اعتقدت أننا سنتوقف عن الشجار إذا ما قمت بهذا». تنهدت. سأحاول مجدداً، ومرة أخرى، إن استدعى الأمر. «هل أصبت بحمى البرد؟». «أجل، ما الذي نتشاجر حوله؟». «بدأ كل ذلك عندما صفعت زوجة سفيرك عشيقة رئيس وزرائي في حفل سواريه كان يقام في السفارة. وهذا ما أثر في تعرفة الدقيق، التي أدت بدورها إلى زيادة نسبة البطالة وحالات الشغب - ». «هنري». «نعم». «مرة واحدة فقط، مرة فقط، هل تتوقف عن الضحك عليّ، وتجيبني عمّا أسألك عنه مباشرة؟». «لا أستطيع». من دون سابق إنذار، صفعتني كلير بقوة. رجعت إلى الوراء متفاجئاً، وسعيداً. «اضربيني مجدداً». ارتبكت، وهزت رأسها. «أرجوك، كلير». «لا، لماذا تريدني أن أضربك؟ كنت أريد أن أؤلمك». «أريدك أن تؤلميني، أرجوك». رفعت رأسي. «ما خطبك؟». «كل شيء يبدو فظيعاً ولا أستطيع أن أحس به». «ما الشيء الفظيع؟ ما الذي يحدث؟». «لا تسأليني». اقتربت مني كلير، وأمسكت بيدي. نـزعت عن يدي القفاز الأزرق السخيف، وقربتها من فمها، فعضتني. كان الألم لا يوصف. توقفت، نظرتُ إلى يدي. سال منها القليل من الدم، قطرات صغيرة، حول مكان العضة. لا بد أنني أُصبت بتسمم في الدم، لكنني لم أكن أهتم في تلك اللحظة. «أخبرني». كان وجهها على مقربة مني، فقبلتها بخشونة، قاومتني، تركتها، أدارت ظهرها إليّ. «لم يكن ما فعلته لطيفاً». قالت بصوت خافت. ما الخطأ الذي ارتكبته؟ كلير في الخامسة عشرة من العمر، ليست هي نفس الفتاة التي كانت تعذبني طوال الأشهر الماضية، والتي ترفض فكرة التخلي عن إنجاب طفل، بل تخاطر بالموت واليأس، وتحول الحميمية القصوى إلى حقل معركة تنتثر فيها جثث الأطفال. وضعت يدي على كتفيها. «أنا آسف. آسف جداً كلير، لست أنت. أرجوك». استدارت. رأيتها تبكي، وهي في حال فوضى، ولحسن الحظ كان هنالك منديل ورقي في جيب المعطف. مسحت دموعها، أخذت المنديل مني واستنثرت فيه. «لم تقبلني من قبل أبداً». أوه، لا. لا بد أن وجهي كان مضحكاً، لأن كلير كانت تضحك. لا أستطيع تصديق ذلك. كم أنا أبله. «أوه، كلير. فقط - انسي الأمر، حسناً؟ انسي كل هذا، لم يحدث هذا أبداًً، تعالي هنا، خذي اثنتين، حسناً؟ كلير». اقتربت مني، أحطتها بذراعي، كانت عيناها حمراوين، وأنفها محتقناً، لا بد أنها مصابة بزكام شديد. وضعت يدي على أذنيها، وربت على الجزء الخلفي من رأسها، وقبلتها، حاولت أن أضع قلبـي على قلبها، لأطمئن عنه أنه في أمان، في حال فقدته مرة أخرى. الجمعة، 9 حزيران، 2000 (كلير 29 عاماً، هنري 36 عاماً) كلير: كان هنري طوال المساء هادئاً بشكل مخيف، مشتت الذهن، حزيناً. بدا خلال العشاء أنه سارح يبحث في أكداس متخيلة عن كتاب قرأه في العام 1942 أو عن شيء من هذا القبيل. بالإضافة إلى هذا، كانت يده مضمدة بالكامل. بعد تناول طعام العشاء ذهب إلى غرفة النوم وألقى بوجهه على السرير، وقد رفع رأسه فوق مسند السرير ورفع قدميه إلى وسادتي. ذهبت إلى المرسم واحتسيت قهوتي، لكنني لم أكن مستمتعة لأنني لم أستطع أن أعرف ما مشكلة هنري. أخيراً عدت إلى المنـزل، كان لا يزال مستلقياً بوضعيته التي تركته عليها في الظلام. جلست على الأرض وظهري يطقطق وأنا أتمطى في جلستي. «كلير؟». «هممم؟». «هل تتذكرين أول مرة قبلتك فيها؟». «بجلاء». قال هنري: «أنا آسف». أحرقني فضولي. «ما الذي كان يزعجك؟ قلت إنك كنت تحاول أن تقوم بشيء ما، ولم ينجح، وقلت إنني لن أحبه. ما كان ذاك الشيء؟». «كيف تتذكرين كل هذه التفاصيل؟». «أنا طفل الفيل الأصلي. هل ستخبرني الآن؟». «كلا». «إذا حزرت هل ستخبرني إذا كنت مصيبة؟». «على الأرجح لا». «لِمَ لا؟». «أنا متعب، ولا أريد أن أتشاجر معك الليلة». ولا أنا. كنت أحب استلقائي هنا على الأرض. الأرض باردة ولكنها صلبة. «هل كنت ستقوم بقطع القناة الدافقة؟». صمت هنري. صمت لفترة طويلة بحيث أردت أن أضع أمام فمه مرآة لأرى إن كان يتنفس. وأخيراً: «كيف عرفت؟». «لم أعرف بالضبط، بل كنت خائفة من أن أكون قد عرفت، ورأيت الملاحظة التي سجلتها للموعد مع الطبيب هذا الصباح». «لقد أحرقت تلك الملاحظة». «رأيت آثار الكتابة على الورقة التي كانت أسفل الورقة التي دونت عليها الملاحظة». ابتسم هنري. «حسناً يا شارلوك هولمز، لقد غلبتني». استمررنا في الاستلقاء بشكل مسالم في الظلام. «تابع كلامك». «ماذا؟». «اقطع القناة الدافقة، إذا كانت لديك واحدة». تدحرج هنري في مكانه ونظر إليّ. كل ما كنت أراه هو رأسه المظلم أمام السقف المظلم. «أنت لا تصرخين عليّ؟». «كلا. لا أستطيع أن أصرخ عليك أبداً. فقد استسلمت، لقد فزت أنت، سنتوقف عن محاولتنا إنجاب طفل». «لم أفسر هذا على أنه أنين وشكوى. بل يبدو مجرد - ضرورة». «مهما كان». نـزل هنري عن السرير، وجلس على الأرض جانبـي. «شكراً لك». «على الرحب والسعة». قبلني، تخيلت يوماً من شهر تشرين الثاني البارد من العام 1986 الذي قدم منه هنري، من الريح، وحرارة دمه في البستان البارد. ولأول مرة، وبسرعة، ومنذ أشهر، أقمنا علاقة من دون أن نبالي للنتائج. أصيب هنري بالبرد كالذي أُصبت به منذ ستة عشر عاماً، وبعد أربعة أسابيع، قام هنري بقطع القناة الدافقة، واكتشفت أنني حامل للمرة السادسة. أحلام بالمواليد أيلول، 2000 (كلير 29 عاماً) كلير: حلمت أنني أنـزل الدرج إلى قبو منـزل أبشير عند جدتي. كانت لا تزال هناك كل آثار الأوساخ أيام سقط الغراب في الموقد إلى الجانب الأيمن من المدفأة الحجرية، آثار السخام الأسود الذي سببه الغراب عندما سقط داخل المدفأة، تراكم الغبار على الدرجات، وترك الدرابزين آثاراً رمادية على يدي بينما كنت أتمسك به، نـزلت ومشيت نحو الغرفة التي لطالما أخافتني عندما كنت صغيرة، توجد في هذه الغرفة رفوف عميقة ضمن صفوف، وصفوف من المواد المعلبة، البندورة، والمخللات، والذرة المعلبة، والبندورة والمخلل، ونكهات الذرة والشمندر. كانت تبدو أنها محنطات. في أحد هذه المرطبانات جنين بطة. فتحت بعناية مرطباناً، وأنـزلت جنين البط فسال السائل الموجود فيه على يدي. وإذا بـي أراه يلهث ويتقيأ. سألني عندما تمكنت من الكلام: «لماذا تركتني؟ لقد كنت أنتظرك». حلمت أنني أمشي مع أمي في شارع سكني هادئ في ساوث هيفن. كنت أحمل مولوداً، وكلما مشينا، يُصبح المولود أكثر ثُقلاً، حتى بالكاد استطعت أن أحمله. استدرت نحو أمي وقلت لها إنه لم يعد في مقدوري حمل المولود لمسافة أكثر، أخذته مني بسهولة ثم تابعنا السير، وصلنا إلى منـزل، ومشينا من الممر الضيق إلى الباحة الخلفية، كانت توجد فيها شاشتا عرض وعارض شرائح، والناس يجلسون على كراسي الشرفة، يشاهدون شرائح عن الأشجار، يوجد نصف شجرة على كل شاشة، نصفها الأول في الصيف والنصف الثاني في الشتاء، والنصفان لشجرة واحدة، وفصول مختلفة. ضحك المولود وصرخ بمرح. حلمت أنني أقف في منصة سيدويك، أنتظر القطار ذا الخط البني. أحمل حقيبتي تسوق، وقد تبين لي بعد أن فتشتهما أنهما تحتويان على صناديق بسكويت مملح وعلى طفل صغير حديث الولادة شعره أحمر، ملفوف بأكياس نايلون. حلمت أنني في المنـزل، في غرفتي القديمة. كان الوقت متأخراً مساء، والغرفة مضاءة بأنوار خافتة تصدر عن إنارة حوض السمك. وفجأة أدركت، وقد اعتراني الرعب، أن هناك حيواناً صغيراً يسبح حول حوض السمك، تحركت بسرعة، ورفعت الغطاء واصطدت الحيوان، الذي تبين لي أنه لم يكن سوى حيوان من فصيلة الفئران بخياشيم. قلت: «أنا آسفة جداً، لقد نسيت أمرك». نظر إليّ الفأر مؤنباً. حلمت أنني أصعد الدرج في منـزل المرجة الخضراء. حيث اختفى كل الأثاث، والغرف فارغة، والغبار يتطاير تحت أشعة الشمس التي تشكل بركة ذهبية على أرضية الخشب من السنديان اللميع. قطعت سيراً الصالة الطويلة، أنظر إلى غرف النوم، ثم ذهبت إلى غرفتي، حيث كان فيها مهد خشبـي صغير وحده. ليس هنالك ثمة صوت، كنت خائفة من النظر إليه، توجد في غرفة أمي ملاءات بيضاء مفروشة على الأرض، ونقطة دم صغيرة عند قدمي التي لامست طرف الملاءة، وامتدت كنت أراقبها حتى تضرجت الأرض كلها بالدماء. السبت، 23 أيلول، 2000 (كلير 29 عاماً، هنري 37 عاماً) كلير: أعيش تحت الماء، كل شيء يبدو لي بطيئاً وبعيداً، أدرك بوجود عالم في الأعلى، عالم فيه أشعة شمس سريعة حيث يمر الوقت كما حبيبات الرمل في الساعة الرملية، لكن هنا في الأسفل، حيث أوجد، فإن الهواء والصوت والوقت والمشاعر تكون كثيفة وثقيلة. أنا في حوض غوص مع هذا المولود، نحن الاثنين فقط نحاول البقاء على قيد الحياة في هذا الجو الغريب، لكنني أشعر أنني وحيدة جداً. مرحباً؟ هل أنت هناك؟ ليس ثمة جواب. إنه ميت، قلت للطبيبة أميت. قالت لي: لا وهي تبتسم بقلق، لا يا كلير، هنالك نبض. لا أستطيع شرح ذلك. يحوم هنري حولي محاولاً إطعامي، وتمسيدي، وإدخال الفرح إلى قلبـي، أنفجر فيه، أمشي عبر الباحة الخلفية، إلى مرسمي، يبدو كمتحف، كضريح، ساكناًًً، لا شيء فيه حياً أو يتنفس، لا توجد أفكار هنا، بل مجرد أشياء فقط، أشياء تحدق إليّ باتهام. أنا آسفة. أقول لطاولة الرسم الفارغة، لعلب الرسم الجافة والمتعفنة، للتمثال غير المكتمل. مولود ميت، فكّرت في نفسي، وأنا أنظر إلى ورقة قوس قزح زرقاء ملفوفة مدعمة والتي تبدو مليئة بالأمل في حزيران. يداي نظيفتان وناعمتان وورديتان، أكرههما، أكره هذا الخواء. أكره هذا المولود. لا، لا، لا أكرهه، أنا فقط لا أستطيع العثور عليه. جلست إلى منصة الرسم وقلم الرصاص في يدي وأمامي ورقة بيضاء، لم يأتِ شيء، أغلقت عينيّ وكل ما استطعت التفكير فيه هو اللون الأحمر. لذا تناولت أنبوب ألوان مائية، بلون أحمر قانئ، وممسحة كبيرة للفرشاة، وملأت المرطبان بالماء، وملأت الورقة باللون الأحمر، تلألأت، أخذت الورقة تُصبح طرية، وداكنة وهي تجف. راقبتها وهي تجف، رائحتها كصمغ عربـي، في منتصف الورقة، رسمت بحبر أسود، قلباً صغيراً، صغيراً جداً، ليس ساذجاً كالقلب في الرابع عشر من فبراير ولكن بقلب كامل آلياً، وصغيراً كلعبة، ثم الأوردة الدموية التي تصل إلى حافة الورقة، والتي تحمل القلب الصغير الذي وقع في الشرك كما تقع ذبابة في شبكة عنكبوت. انظري، ها هو قلبه ينبض. حلَّ المساء. أفرغت المرطبان من الماء، وغسلت الفرشاة. أقفلت باب المرسم، عبرت الباحة، ودخلت من الباب الخلفي. كان هنري يعد صلصة السباغيتي. رفع رأسه عندما دخلت. سألني: «أفضل؟». أكدت له ولنفسي: «أفضل». الأربعاء، 27 أيلول، 2000 (كلير 29 عاماً) كلير: إنه ملقى على السرير، هناك بعض الدم، ولكن ليس كثيراً، إنه مستلقٍ على ظهره، يحاول أن يتنفس، قفصه الصدري الصغير يرتعش، لكن الوقت لا يزال مبكراً جداً، إنه يتشنج، ويندفع الدم من الحبل في الوقت نفسه مع ضربات قلبه. جلست القرفصاء أمام السرير وحملته، حملته، ابني الصغير، وهو يرتجف كسمكة تم اصطيادها حديثاً، ويغرق في الهواء. حملته برفق شديد، لكنه لا يعلم أنني هنا، أنني أحمله، إنه ينـزلق وبشرته خيالية تقريباً. عيناه مغلقتان أفكّر في أن أجري له عملية تنفس صناعي من الفم، في طلب رقم النجدة 911 وهنري، أوه، لا تذهب قبل أن يراك هنري! راح يخرخر في تنفسه مع سيلان، مخلوق بحري صغير يتنفس في الماء ثم يفتح فمه على اتساعه، فأستطيع الرؤية من خلاله ويداي فارغتان وقد اختفى، اختفى. لا أعلم كم مرّ من الوقت. أنا أركع. أركع لأدعو. يا اﷲ. يا اﷲ. يا اﷲ. الجنين يهتاج في رحمي. هش. يختبئ. صحوت وأنا في المشفى. هنري معي والجنين ميت. سبعة الخميس، 28 كانون الأول، 2000 (هنري 33 عاماً وهنري 37 عاماً، كلير 29 عاماً) هنري: أقف في غرفة نومنا، في المستقبل. الوقت مساءً، ولكن ضوء القمر يضفي على الغرفة نوراً مميزاً أحادي اللون، وسريالياً. أذناي تطنان، كما هي عادتهما، في المستقبل. أنظر إلى كلير وإلى نفسي، نائمين، نوماً كما الموت. أنام متقوقعاً على نفسي بالكامل، الركبتان أمامي، الملاءات تغطيني، وفاغراً فمي. أردت أن ألمس نفسي، أردت أن أحمل ذاتي بين ذراعي، أن أنظر إلى عيني، لكن هذا لن يحدث بهذه الطريقة، وقفت لدقائق طويلة أحدق إلى نفسي النائمة في المستقبل. أخيراً، مشيت بهدوء إلى جهة السرير حيث كلير، وركعت. شعرت كأنه الحاضر. أريد من نفسي أن تنسى جسدي الآخر الذي في السرير، لأركز على كلير. تحركت، فتحت عينيها، ليست متأكدة أين نحن، ولا حتى أنا. غمرني شعور بالرغبة، بالتوق إلى الاتصال بكلير بقوة أكثر، لأن أكون معها هنا، الآن. قبلتها برقة شديدة، تريثت قليلاً، لا أفكر في شيء. كانت مستغرقة في النوم، حركت يدها نحو وجهي، وراحت تستيقظ وهي تشعر بوجودي. ها هي الآن في الحاضر، مررت يدها على ذراعي، لتلاطفني. سحبت الملاءة عنها بعناية كيلا أزعج جسدي الآخر، والذي لا تزال كلير لا تعي وجوده. تساءلت إن كانت هذه الذات الأخرى عصية على الاستيقاظ، لكنني قررت ألاّ أعرف الحقيقة. أنا الآن مستلقٍ فوق كلير تماماً، أغطي جسدها كاملاً بجسدي. تمنيت لو أنني أوقفها عن أن تُدير رأسها، لكنها ستديره في أي لحظة الآن. وأنا أتغلغل في كلير، وأعتقد أنني لم أكن موجوداً وبعد ثانية، أدارت رأسها ورأتني. صرخت صرخة خفيفة، ثم عادت ونظرت إليّ، من فوقها. ثم تذكرت، وقبلت بالأمر، هذا غريب ولكن لا بأس، وفي هذه اللحظة كنت فوقها أحببتها أكثر من الحياة. الاثنين، 12 شباط، 2001 (هنري 37 عاماً، كلير 29 عاماً) هنري: كانت كلير بمزاج غريب طيلة هذا الأسبوع، مضطربة، كأن شيئاً لا تستطيع سوى هي نفسها أن تسمعه يبدو قد استحوذ على انتباهها،كأنها تحاول فك شيفرة إرسالات إذاعية فضائية للشيفرة الروسية(50) في رأسها. عندما سألتها حول هذا، لم تفعل شيئاً سوى أن تبتسم وتهز كتفيها. هذا ليس من طبع كلير وهذا ما أرعبني، فتوقفت عن ذلك لتوي. عدت ذات مساء إلى المنـزل، وفهمت من مجرد النظر إلى كلير أن شيئاً فظيعاً قد وقع. كانت تعابير وجهها مخيفة فيها تضرع وتوسل. اقتربت مني وتوقفت، ولم تنبس ببنت شفة. اعتقدت أن أحداً قد مات، من تُراه يكون؟ أبـي؟ كيمي؟ فيليب؟ سألتها: «قولي شيئاً، ما الذي حدث؟». «أنا حامل». «كيف لك أن -». وبينما كنت أقول ذلك عرفت تماماً كيف حدث ذلك. «لا عليك، تذكرت». بالنسبة إليّ، كانت تلك الليلة منذ سنوات مضت، ولكن بالنسبة إلى كلير فقد كانت منذ أسابيع عدة. كنت قادماً من العام 1996، عندما كنا نحاول جعل كلير تحمل، وبالكاد كانت كلير صاحية. لعنت نفسي على بلاهتي. كانت كلير بانتظار أن أقول شيئاً ما. ابتسمت مُرغماً. «مفاجأة كبيرة». «نعم». بالكاد كادت عينها تدمع، بدت دامعة قليلاً. أخذتها بين ذراعي، واحتضنتني بقوة. همست لها في شعرها: «خائفة؟». «نعم». «لم تكوني يوماً خائفة، من قبل». «كنت مجنونة، في السابق، والآن أعرف أن...». «ما هو؟». «ما الذي يمكن أن يحدث؟». وقفنا وفكرنا في ما يُمكن أن يحدث. ترددت. «يمكننا أن...». أوقفتها عن متابعة الكلام. «لا، لا أستطيع». إنها الحقيقة. كلير لا تستطيع. إنها كاثوليكية أولاً وأخيراً. قلت: «ربما سيكون الأمر جيداً، حدثاً سعيداً». ابتسمت كلير، وأدركت أنها تريد هذا، إنها تأمل فعلاً في أن يكون الرقم سبعة رقم حظنا. شعرت بضيق في حنجرتي، وكان عليّ أن أنصرف. الثلاثاء، 20 شباط، 2001 (كلير 29 عاماً، هنري 37 عاماً) كلير: دقت ساعة الراديو عند الساعة 7:46 صباحاً، وأعلن الراديو الرسمي المحلي عن سقوط طائرة في مكان ما ووفاة 86 شخصاً. وأنا على يقين أنني واحدة منهم. كان جانب سرير هنري فارغاً. أغلقت عيني وتخيلت أنني في كابينة طائرة فوق المحيط، تسقط فوق بحر هائج. تنهدت، ونهضت بسرعة عن السرير إلى الحمام. تقيأت مدة عشر دقائق إلى أن جاء هنري، وأدخل رأسه من الباب، وسألني إن كنت على ما يرام. «نعم، لم أكن يوماً أفضل». جلس عند طرف الحمام. وددت لو لم يكن هناك شهود على هذا. «هل يجب أن أقلق؟ لم يسبق لك أن تقيأت أبداً». «تقول أميت إنه دلالة جيدة، يُفترض بـي أن أتقيأ». هذا يعني أن جسمي يعترف أن هذا الجنين هو جزء مني، وليس جسداً غريباً. «ربما عليّ أن أضع في بنك الدم بعض الدم من أجلك». كنت وهنري ذات الفصيلة O. أومأت برأسي، تقيأت. نعتبر نحن من كبار المتبرعين لبنوك الدم، لقد احتاج إلى نقل دم مرتين، بينما احتجت ثلاث مرات إلى نقل دم، إحدى هذه المرات الثلاث تطلبت كمية كبيرة من الدم. جلست للحظة ثم وقفت أتمايل على قدمي، ساعدني هنري على استعادة توازني، مسحت فمي ونظفت أسناني. هبط هنري الدرج ليعد طعام الفطور. فجأة اجتاحتني رغبة عارمة في تناول حبوب الشوفان. «الشوفان!». صرخت وأنا أهبط السلم. «حسناً!». رحت أسرح شعري. رأيت نفسي في المرآة وردية اللون ومنتفخة. اعتقدت أن النساء الحوامل يجب أن يتوردن. نعم، حسناً. لا أزال حاملاً، وهذا كل ما يهم. الخميس، 19 نيسان، 2001 (هنري 37 عاماً، كلير 29 عاماً) هنري: كنا في عيادة أميت مونتاغ من أجل التصوير بالأمواج فوق الصوتية. كنت وكلير متحمسين ومعترضين في الوقت نفسه على إجراء تصوير بالأمواج فوق الصوتية. كما رفضنا إجراء بزل لدراسة حال الحمل لأننا كنا متأكدين أننا سنخسر الطفل إذ ما قمنا بخز إبرة ضخمة كبيرة داخله. كانت كلير في أسبوعها الثامن عشر من الحمل. قطعنا نصف الطريق، لو استطعنا أن نطوي نصف الزمن من الآن كاختبار رورشاش(51) لانخفض التجعد إلى المنتصف. عشنا في حال التقاط الأنفاس، خائفين حتى من أن نتنفس خوفاً أن يخرج الطفل سريعاً مع التنفس. جلسنا في غرفة الانتظار مع الأزواج الآخرين الذين ينتظرون مواليد ومعهم عربات وأطفال صغار يركضون هنا وهناك ويصطدمون بالأشياء. لطالما كانت عيادة مونتاغ تُسبب لي الكآبة، لأننا أمضينا الكثير من الوقت هنا ونحن قلقان نستمع إلى الأخبار السيئة. أما اليوم فالأمر مختلف، اليوم سيكون كل شيء على أحسن ما يرام. نادت الممرضة على اسمينا. ذهبنا إلى غرفة الفحص. خلعت كلير ملابسها، واستلقت فوق طاولة الفحص، تم وضع مادة لزجة عليها ثم فُحصت. كانت المساعدة الفنية تراقب الشاشة. وأميت مونتاغ، الطويلة وممشوقة القوام والمغربية الفرنسية، تراقب الشاشة أيضاً. كنت وكلير نمسك أيدي بعضنا، نراقب الشاشة، أيضاً. أخذت الصورة تتشكل شيئاً فشيئاً. توجد على الشاشة خريطة العالم الجوية. أو إنها مجرة، أو مجموعة من النجوم، أو جنين. قالت د. مونتاغ: «bien joue, une fille (52). إنها تمص إصبعها، إنها جميلة جداً، وكبيرة جداً». زفرت أنا وكلير. ارتسمت على الشاشة مجرة جميلة تمص إبهام يدها. ونحن نشاهدها هكذا أخرجت إصبعها من فمها. قالت د. مونتاغ: «إنها تبتسم». وابتسمنا نحن بدورنا. الاثنين، 20 آب، 2001 (كلير 30 عاماً، هنري 38 عاماً) كلير: سيحين موعد الولادة خلال أسبوعين ولم نستقر بعد على اسم للمولودة. في الحقيقة قلما ناقشنا هذا الموضوع، نحن نتجنب الموضوع كله متقصدين، كأن تسمية المولودة ستؤدي إلى تعرف الأرواح الشريرة إليها وتعذيبها. أخيراً، أحضر هنري معه كتاباً يدعى: قاموس الأسماء. كنا على السرير. لا تزال الساعة 8:30 مساء، وأنا منهكة تماماً، استلقيت على جانبـي، وبطني أشبه بجزيرة، قبالة هنري، الذي كان هو الآخر مستلقياً على جنبه قبالتي سانداً رأسه إلى ذراعه، والكتاب على السرير بيننا. نظرنا إلى بعضنا، وابتسمنا بعصبية. قال لي: «هل من أفكار؟». وهو يقلب صفحات الكتاب. أجبته: «جين». أومأ بوجهه. «جين؟». «كنت أسمي جميع لعبـي وحيواناتي المحشوة بالقطن جين، كل واحدة منها كان اسمها جين». بحث هنري عن الاسم. «تعني هبة من اﷲ». «هذا يناسبني». «دعينا نسميها اسماً غير مألوف. ماذا عن إيريت؟ أو جوديثا؟». قلب الصفحات. «هذا اسم جيد: لؤلؤة. اسم عربـي». «ماذا عن بيرل؟». أتصور المولودة ككرة بيضاء صغيرة ناعمة متقزحة. مرر هنري يده نحو أسفل الأعمدة في الصفحة. «حسناً، اللاتيني: اشتقاق محتمل من بيرولا، كناية عن أكثر شكل معروف من هذا المرض». «أوف، ما خطب هذا الكتاب؟». أخذته من هنري مازحة، بحث «هنري باللغة الجرمانية القديمة حاكم المنـزل: سيد المنـزل». ضحك. «ابحثي عن كلير». «إنها شكل آخر من اسم كلارا باللاتيني اللامع، الوهج». قال: «هذا جيد». قلبت صفحات الكتاب عشوائياً. «فيلوميل؟». قال هنري: «أحببته، واسم الدلع منه فظيع؟ فيلي؟ ميل؟». «بايرن يوناني: ذات الشعر الأحمر». «لكن، ماذا لو لم تكن كذلك؟». وصل هنري إلى نهاية الكتاب، وأخذ خصلة من شعري ووضع طرفها في فمه. سحبتها منه ووضعت كل شعري خلفه. قلت: «كنت أظن أننا نعرف كل شيء عن هذه الطفلة. بالتأكيد كيندريك فحص عن الشعر الأحمر؟». استعاد هنري الكتاب مني. «يسولت؟ زويه؟ أحب هذا الاسم، له عدة احتمالات». «ماذا يعني؟». «الحياة». «نعم، جيد جداً، ضع علامة عنده». اقترح هنري: «ليزا». «إليزابيث». نظر هنري إليّ، متردداً وقال: «أنيت». «لوسي». «لا». قالها هنري بحسم. «لا». أوافقك. قال هنري: «ما نحن بحاجة إليه بداية جديدة تماماً. ورقة بيضاء. دعينا نسميها تابولا راسا». «دعنا نسميها تيتانيوم أبيض». «بلانش، بلانكا، بيانكا...». قلت: «آلبا». «الكونتيسة». «آلبا دي تامبل». دار الاسم في فمي عندما لفظته. «اسم جميل، له وزن عروضي، وله إيقاع جميل...». أخذ يقلب في الكتاب. «آلبا باللاتيني تعني أبيض. باللغة البروفانسية تعني الفجر. هممم». ونهض مثقلاً عن السرير. كنت أسمعه وهو يبحث في غرفة المعيشة، عاد بعد بضع دقائق ومعه الجزء الأول من القاموس الكبير OED من إصدار دار راندوم هاوس وكتابـي العتيق من الموسوعة الأميركية الجزء الأول فتح على حرف (أ). «إنها تعني أغنية الفجر لدى الشعراء البروفانسيين... على شرف خليلاتهم». Réveillés, à l’aurore, par le cri du guetteur, deux amants qui viennent de passer la nuit ensemble se séparent en maudissant le jour qui vient tros tôt; tel est le thème, non moins invariable que celui de la pastourelle, d’un genre dont le nom est emprunté au mot alba, qui figure parfois au début de la pièce. Et régulièrement à la fin de chaque couplet, où il forme refrain(53). «كم هذا حزين. دعنا نبحث في قاموس راندوم هاوس، هذا أفضل. تعني: مدينة بيضاء على الهضبة. حصن منيع». رمى بالقاموس من السرير وفتح الموسوعة. «Ǽsop، عصر العقل، ألاسكا، حسناً، هنا، آلبا». تفحص المضمون. «مجموعة من المدن المتهدمة في إيطاليا القديمة. كما تعني دوق آلبا». تنهدت واستلقيت على ظهري. ركلني الجنين. لا بد أنها كانت نائمة. عاد هنري ليبحث في قاموس OED. «الحب. أموريوس، أرماديللو، بازومس، يا اﷲ، يا لهذه الأشياء التي يطبعونها اليوم كمراجع». مرر يده من تحت ثياب نومي، ووصل إلى معدتي، حيث يركل الجنين بقوة، تماماً عند يده، نظر إليّ مندهشاً. يداه تطوفان وتجدان طريقهما عبر أراضٍ مألوفة وغير مألوفة. «كم واحد من دي تامبل يتسع هنا؟». «أوه، هنالك متسع دائماً لواحد آخر». «آلبا». قالها بنعومة. «مدينة بيضاء. قلعة منيعة على سفح هضبة بيضاء». «ستحب هذا الاسم». ... «أغنية غناها شعراء التروبادوريين(54) عند الفجر...». كان يهمس لي بذلك وهو يتغلغل داخلي. أجبته: «تكريماً لخليلاتهم...». أغلقت عيني، وسمعت هنري كأنه يأتي من الغرفة الثانية: «هكذا... فقط». ثم تبعها: «أجل، أجل». آلبا، مقدمة الأربعاء، 16 تشرين الثاني، 2011 (هنري 38 عاماً، كلير 40 عاماً) هنري: أنا في صالة عرض الفنّ السريالي في معهد الفنّ في شيكاغو، في المستقبل. لست متأنقاً كما يجب، أفضل ما تمكنت من ارتدائه هو معطف شتوي طويل أسود من غرفة تبديل الملابس وبنطال من غرفة الحارس. تمكنت من إيجاد حذاء أيضاً، وهذا هو دائماًً الجزء الأصعب في إيجاد الملابس. لذلك خطر لي أن أنشل محفظة أحدهم، وأشتري كنـزة من محل المتحف، وأن أتناول الغداء، وأشاهد بعض اللوحات الفنية، ثم أتوجه من المبنى إلى عالم المحال وغرف الفنادق. ليست لديّ أدنى فكرة أين أنا في هذا الوقت. لست بعيداً عن هنا، فالملابس وطراز تسريح الشعر لا تبدو أنها بعيدة جداً عن عام 2001. وأنا مستمتع في الوقت نفسه بهذه الإقامة المؤقتة وقلق، لأنه في حاضري فإن كلير على وشك ولادة آلبا في أي لحظة، وأنا أريد أن أكون موجوداً حتماً، ولكن من ناحية أخرى هذه رحلة نوعية في الزمن المستقبلي، أشعر أنني قوي وحاضر حقاً، لذا وقفت بهدوء في غرفة معتمة مملوءة بصناديق جوزيف كورنيل المضاءة إضاءة خفيفة، أشاهد مجموعة من طلاب المدارس يتبعون دليلتهم، ويحملون الكراسي الصغيرة التي يجلسون عليها طائعين عندما تطلب إليهم معلمتهم أن يتوقفوا قليلاً. راقبت المجموعة، الدليلة من النوع المألوف؛ امرأة مرتبة في الخمسينيات من عمرها ذات شعر أشقر بشكل لا يصدق ووجه مشدود. المعلمة؛ امرأة شابة مرحة تضع أحمر شفاه أزرق فاتحاً، تقف خلف مجموعة الطلاب، جاهزة لاحتواء أي واحد منهم في حال حدوث صخب ولغط. أعجبني الطلاب. كانوا في عمر العاشرة أو نحو ذلك، في الصف الخامس، على ما أعتقد. إنها مدرسة كاثوليكية، لذا فالكل يرتدي زياً موحداً؛ بناطيل خضراء متقاطعة للبنات، والصبيان يرتدون بناطيل زرقاء كلون البحر. إنهم يقظون ومؤدبون، ولكنهم غير سعداء. هذا أمر سيئ للغاية، أعتقد أن كورنيل سيكون أفضل بالنسبة إلى الصغار. يبدو أن الدليلة تظن أنهم أصغر مما هم عليه فعلاً، فلهذا كانت تكلمهم كما لو أنهم كانوا أطفالاً صغاراً. كانت ثمة بنت في الصف الخلفي يبدو عليها الاهتمام أكثر من البقية، لا أستطيع رؤية وجهها، لها شعر طويل أسود أجعد، ترتدي فستان طاووس أزرق، وهذا ما ميزها عن باقي أقرانها من الطلاب. كلما سألت الدليلة سؤالاً، كانت هذه البنت ترفع يدها، ولكن الدليلة لم تكن تستجيب إليها، ورأيت أن هذه الفتاة قد ضاقت ذرعاً بها. كانت الدليلة تتحدث عن أقفاص الطيور عند كورنيل. كان كل قفص عبارة عن صندوق يحتوي على صور داخلية جرداء، بعضها أبيض مع مكان للطيور ونوع من الثقوب كالتي توجد في بيت الطائر، وبعض هذه الصناديق تحتوي على صور للطيور. كانت هذه الطيور من الأنواع البسيطة جداً، من دون أي غرابة عن مجموعات عبوات صابون الاستحمام ذي الفقاعات أو رومانسية كالصناديق في الفندق. لماذا حسب رأيكم قام السيد كورنيل بصنع هذه الصناديق؟ تفحصت الدليلة بسرور الأطفال بحثاً عن إجابة، متجاهلة الفتاة ذات الفستان الأزرق التي كانت تلوح بيدها وكأنها ترقص رقصة سانت فيتوس. قال طفل من المقدمة على استحياء إن الفنان لا بد أنه كان يحب الطيور. لم تعد الفتاة تحتمل كل هذا، فوقفت ورفعت يدها في الهواء. قالت الدليلة متأنيةً: «نعم؟». «لقد صنع الصناديق لأنه كان يشعر بالوحدة، لم يكن لديه أحد ليحبه، لذا صنع الصناديق كي يجد من يحبه، وبهذا يعرف الناس أنه كان موجوداً، ولأن الطيور حرة والصناديق أماكن تختبئ فيها الطيور بحثاً عن الأمان، أراد أن يكون حراً وآمناً، الصناديق كانت من أجله ليكون كما الطير». وجلست الفتاة. صعقني جوابها. هذه الفتاة التي في العاشرة من العمر استطاعت أن تعبر عن جوزيف كورنيل، حيث لا الدليلة ولا طلاب الصف كانوا يعرفون تماماً لماذا صُنعت هذه الصناديق، ولكن المعلمة التي على ما يبدو اعتادت عليها قالت: «شكراً لك، آلبا، هذا جواب مميز جداً». استدارت وابتسمت للمعلمة بامتنان، ورأيت وجهها، كنت أنظر إلى وجه ابنتي، كنت أقف في الصالة المجاورة، تقدمت عدة خطوات إلى الأمام، لأنظر إليها عن كثب، لأراها، رأتني، أشرق وجهها، وقفزت، اصطدمت بكرسيها الصغير المطوي، وحتى قبل أن أعرفها كنت أمسكها بين ذراعي، أمسكتها بقوة، انحنيت أمامها وذراعاي تطوقانها وهي تقول: «أبـي». مراراً وتكراراً. نظر إلينا الجميع، بينما أسرعت المعلمة إلينا. سألتها: «آلبا، من هذا الشخص؟ من أنت يا سيدي؟». «أنا هنري دي تامبل، والد آلبا». «إنه أبي!». كانت المدرسة تضغط على يديها، «سيدي، والد آلبا متوفى». عجزت عن الكلام. لكن آلبا، ابنتي، كانت تمسك بزمام الموقف. قالت لمدرستها: «إنه ميت، لكن ليس ميتاً باستمرار». قلت بفطنتي: «هذا أمر يصعب شرحه -». قالت آلبا: «إنه مصاب بـ CDP إنه مثلي». يبدو أنه بدا شيئاً مفهوماً بالكامل للمعلمة بالرغم من أنه لم يكن يعني لي شيئاً. شحب وجه المعلمة المتبرج ومع هذا بدَت متفهمة. ضغطت آلبا على يدي، قل شيئاً، هذا ما كانت تعنيه. «أجل، يا آنسة -». «كوبر». «آنسة كوبر، هل هنالك إمكانية في أن أتحدث مع آلبا لبضع دقائق، هنا، للحديث فقط؟ نحن لا نرى بعضنا كثيراً». «حسناً... أنا فقط... نحن في رحلة مدرسية... المجموعة... لا أستطيع أن أجعلك تأخذ الطفلة من المجموعة، وأنا لا أعرف يقيناً أنك السيد دي تامبل، هل تفهمني...». قالت آلبا: «دعونا نتصل بأمي». سارعت إلى حقيبة مدرستها، وأخرجت هاتفها الجوال، ضغطت على أحد المفاتيح، وسمعت رنة الهاتف، وأدركت على الفور وجود احتمالات هنا: أحدهم يرفع السماعة من الطرف الثاني، قالت آلبا: «ماما؟... أنا في معهد الفن... لا. أنا بخير... ماما... بابا هنا! قولي للآنسة كوبر إنه أبـي حقاً، أوكيه؟... نعم، حسناً، باي!». مررت الهاتف إليّ. ترددت، استجمعت أفكاري. «كلير؟». صوت التقاط أنفاس حاد. «كلير؟». «هنري! أوه، يا اﷲ، لا أستطيع تصديق ذلك! تعالَ إلى المنـزل!». «سأحاول...». «من أين أتيت؟». «من العام 2001. قبل ولادة آلبا». ابتسمت لآلبا، كانت تتكئ عليّ، وتمسك بيدي. «ربما عليّ أن آتي الآن؟». «سيكون هذا أسرع، اسمعي، هلا قلت للمعلمة إنني فعلاً والدها؟». «بالتأكيد - أين ستكون؟». «أمام الأُسُود. تعالي بأسرع ما يمكنك، يا كلير. لن يطول الأمر كثيراً». «أحبك». «أحبك، يا كلير». ترددت، ثم أعطيت الهاتف إلى الآنسة كوبر. تحادثت كلير مع المعلمة قليلاً، ويبدو أن كلير قد أقنعتها إلى حدٍّ ما في أن أصطحب آلبا إلى مدخل المتحف، حيث ستُلاقينا كلير. شكرت الآنسة كوبر، التي بدت ممتنة بطريقة غريبة، ومشيت أنا وآلبا ونحن متماسكا الأيدي خارج مورتون وينغ، إلى الدرج الكهربائي وإلى طابق الخزف الصيني. رأسي في حال سباق، ما أول سؤال سأسألها إياه؟ قالت آلبا: «شكراً على تسجيلات الفيديو. أعطتني إياها والدتي في ذكرى ميلادي». أي تسجيلات فيديو هذه؟ «أستطيع منها تعلم فك أقفال يال وماستر وأتعلم الآن فك ولترز». أقفال. إنها تتعلم فتح الأقفال. «عظيم، تابعي ذلك. اسمعي، يا آلبا؟». «أبـي؟». «ما هو CDP؟». «Chrono-Displaced person» الشخص المصاب بالعجز في التوافق الزمني. جلسنا على مقعد أمام تنين خزفي، جلست آلبا قُبالتي، ويداها في حضنها، كانت تبدو تماماً مثلي عندما كنت في العاشرة. لا أستطيع تصديق أي من هذا. آلبا لم تولد بعد وها هي أمامي، وقد هب كل شيء أمامي، جلست بمستواها. «هل تعلمين، هذه هي المرة الأولى التي أقابلك فيها». ابتسمت آلبا. «كيف حالك؟». تتمتع بثقة بالنفس أكثر من أي طفل آخر قابلته في حياتي. أمعنت النظر إليها. أين كلير في هذه الطفلة؟ «هل نرى بعضنا كثيراً؟». فكرت. «لا، ليس كثيراً، مر قرابة السنة تقريباً، رأيتك قليلاً عندما كنت في الثامنة». «كم كان عمرك عندما توفيت؟». التقطت أنفاسي. «خمسة». يا اﷲ، لا أستطيع تحمل ذلك. «آسفة، أكان عليّ ألا أقول هذا؟». بدت آلبا نادمة. ضممتها إليّ. «لا بأس عليك، أنا سألتكِ، ألم أفعل ذلك؟». أخذت نفساً عميقاً. «كيف حال كلير؟». «حسناً. إنها حزينة». وقعت كلماتها هذه في نفسي كوقع السهام، وأدركت أنني لم أعد أعرف شيئاً. «ماذا عنك؟ كيف حال المدرسة؟ ماذا تتعلمين؟». ابتسمت ابتسامة عريضة. «أنا لا أتعلم الكثير في المدرسة، ولكنني أقرأ الكثير عن الأدوات الموسيقية الأولى، وعن مصر، وأقرأ مع والدتي رواية سيد الخواتم، وأتعلم رقصة التانغو على يد أشتور بيازولا». يا اﷲ، في العاشرة؟ «والكمان؟ من أستاذك؟». «جدي». للحظة اعتقدت أنها تقصد جدي أنا، ثم أدركت أنها تعني أبـي، هذا عظيم، إن كان أبـي يمضي وقتاً معها، ستكون حتماً جيدة. «هل أنت بخير؟». يا له من سؤال قاسٍ. «أجل، أنا جيدة جداً». الحمد لله. «لم أكن جيداً أبداً في الموسيقى». «هذا ما يقوله جدي». قهقهت. «لكنك تحب الموسيقى». «أحب الموسيقى. أنا فقط لا أستطيع عزفها، بنفسي». «سمعت جدتي أنيت تغني! كان غناؤها جميلاً». «أي تسجيل؟». «رأيتها حقيقة. في دار الأوبرا، كانت تغني أوبرا عايدا». إنها مثلي مصابة بالسفر عبر الزمن. أوه، اللعنة. «تسافرين عبر الزمن». «أكيد». ابتسمت بسعادة. «ماما تقول دائماً إنني أشبهك تماماً. ويقول د. كيندريك إنني طفلة عبقرية». «كيف ذلك؟». «أحياناً أستطيع الذهاب متى وحيث شئت». بدت آلبا سعيدة بنفسها، أنا أحسدها على ذلك. «هل يمكنك ألا تسافري إن لم تكوني تريدين ذلك؟». «حسناًً، لا». بدت محرجة. «لكنني أحب ذلك. أعني، أحياناً لا يكون الأمر مناسباً، لكنه... ممتع، تعرف ذلك؟». أجل، أعرف. «تعالي وزوريني إن كان في إمكانك في أي وقت تشائين». «حاولت. رأيتك مرة في الشارع، تقف مع امرأة شقراء، بدوت وكأنك مشغول». احمر وجه آلبا خجلاً وفجأة بدت كأنها كلير وقد رمقتني بنظرة خاطفة، لأجزاء من الثانية. «كانت تلك إنغريد، كنت أقابلها قبل أن أتعرف إلى أمك». تساءلت ماذا كنت حينها أفعل مع إنغريد، مما حدا بآلبا ألا تبدو مرتاحة، شعرت بوخز الضمير، بحيث جعلت تعابير الحزن ترتسم على وجه هذه الطفلة الجميلة. «بالحديث عن أمك، علينا أن نذهب إلى الباب الأمامي لننتظرها». جاءتني الطنة العالية وتمنيت لو أن كلير تأتي قبل أن أذهب. نهضنا بسرعة، وأسرعنا نحو الدرج الأمامي. كان الوقت أواخر الخريف، وآلبا لم تكن ترتدي معطفاً عليها، لذا لففت معطفي حولنا نحن الاثنين. أتكئ على أحد الألواح الغرانيتية التي توضع أحد الأسود عليها، نحو الجنوب، وآلبا تتكئ عليّ، يلفها معطفي، تضغط بقوة على جذعي العاري ووجهها فقط على مستوى صدري. إنه يوم ماطر. تجول السيارات في شارع ميتشغان. أشعر أنني مخمور من هذا الحب الذي يغمرني والذي أشعر به نحو هذه الطفلة، التي تتمسك بـي وكأنها تنتمي إليّ، كما لو أننا لن ننفصل أبداً، كما لو أننا نملك كل الوقت في هذا العالم. أتشبث بهذه اللحظة، أناضل بتعب وأنتزع زمني الخاص. دعني أبقى، ناشدت جسدي، يا اﷲ كل ما أريده هو أن أرى كلير، وأعود بسلام. قالت آلبا: «هذه والدتي». كانت هنالك سيارة بيضاء لا أعرفها تسرع نحونا. اندفعت نحو نقطة تقاطع الطرقات فقفزت منها كلير، تاركة السيارة حيث هي، وعرقلت حركة السير. «هنري!». حاولت أن أركض إليها، ها هي تركض، وانهرت على الدرج، مددت ذراعي نحو كلير، وآلبا ممسكة وتصرخ بشيء ما وكلير على بعد خطوات مني وأنا أستنـزف آخر ما عندي من قدرة لأنظر إلى كلير التي لا تزال بعيدة وقلت بوضوح قدر ما أستطيع: «أحبك». ورحلت. اللعنة. اللعنة. 7:20 مساء الجمعة، 24 آب، 2001 (كلير 30 عاماً، هنري 38 عاماً) كلير: كنت مستلقية على أريكة قديمة في الباحة الخلفية مع مجموعة من الكتب والمجلات المرمية هنا وهناك حولي، وهنالك نصف كوب من عصير الليمون وقد امتزج الآن بمكعبات الثلج الذائبة عند كوعي. أخذ الجو يميل إلى البرودة. كانت درجة الحرارة تبلغ 28 درجة، هبت نسمة باردة وكان الزيز يغني آخر أغنياته الصيفية. مرت فوقي خمس عشرة طائرة نفاثة وهي في طريقها إلى مطار أوهير من مسافة مجهولة، تدلى بطني أمامي، يرسو بـي في هذه البقعة. كان هنري قد اختفى منذ الساعة الثامنة من صباح أمس وقد بدأت أخاف. ماذا لو جاءني المخاض وهو غير موجود؟ ماذا لو ولدت الطفلة وهو لم يكن قد عاد بعد؟ ماذا لو أصابه مكروه؟ ماذا لو أنه مات؟ ماذا لو مت أنا؟ تطاردني كل هذه الأفكار مع بعضها بعضاً تماماً مثل قطع الفرو الغريبة التي تضعها العجائز على رقابهن والذيل يحيطهن عند الفم، تحيطني حتى لم يعد في مقدوري تحمل دقيقة واحدة إضافية. أحب عادة أن أُشغل نفسي بالعمل، أقلق على هنري بينما أنظف المرسم أو أقوم بالغسيل تسع مرات أو أنـزع وأسحب ثلاث رزم من الورق. لكن الآن أتمدد هنا، أستجم ببطني تحت أشعة شمس بعد الظهيرة المبكرة في حديقتنا الخلفية بينما هنري هناك... يقوم بشيء ما مهما كان ذاك الذي يقوم به. أوه، يا اﷲ، دعه يعود الآن. لكن شيئاً لم يحدث. ها قد عاد جارنا السيد بانيتا وهو يقود سيارته من الشارع، سمعت صوت صرير باب المرأب وهو يُفتح ثم يُغلق. وشاحنة توزيع المثلجات والآيس الكريم قد جالت ثم غادرت، وبدأت اليراعات بصخبها المسائي. ولكن هنري لم يعد. بدأت أشعر بالجوع، أتضور جوعاً حتى الموت في الباحة الخلفية لأن هنري ليس هنا حتى يعد طعام العشاء، وآلبا تتلوى في داخلي، وبدأت أفكّر في أن أنهض، وأدخل المطبخ، وأعد بعض الطعام وآكله. لكن قررت أن أقوم بنفس ما كنت أقوم به عادة عندما لا يكون هنري هنا ليطعمني. نهضت ببطء، ببطء شديد، ومشيت برصانة إلى المنـزل. بحثت عن محفظتي، أضأت بعض الأنوار، وخرجت من الباب الأمامي وأقفلته. تمدني الحركة بإحساس جميل. وتفاجأت مرة أخرى، تفاجأت كوني متفاجئة، أنني ضخمة جداً في جزء من جسمي، كامرأة لم تنجح معها عملية التجميل، كامرأة من قبيلة التاي الإفريقية تحتوي فكرتها عن الجمال على العنق الطويل جداً والشفاه الغليظة والآذان الطويلة. وازنت نفسي مع آلبا، وبهذه الطريقة في رقص التوائم السيامية ذهبنا إلى مطعم أوبارت التايلندي. المطعم لطيف وممتلئ بالناس. قادني النادل إلى طاولة عند النافذة الأمامية. طلبت سبرينغ رولز وبادتاي مع التوفو، خفيفاً وآمناً، شربت كوباً كاملاً من الماء. كانت آلبا تضغط على مثانتي، ذهبت إلى الحمام وعندما عدت كان الطعام قد جهز على الطاولة، فأكلت، وتخيلت الحوار الذي كان يمكن أن أجريه مع هنري لو كان معي هنا. تساءلت أين يمكنه أن يكون؟ فتشت في ذاكرتي محاولة أن أضع هنري الذي اختفى بينما كان يرتدي بنطاله البارحة مع هنري الذي رأيته في طفولتي، هذا مضيعة للوقت، عليّ أن أنتظر كي يسرد عليّ الحكاية بنفسه. لربما عاد، عليّ أن أتوقف عن التفكير في الفرار من المطعم لأذهب وأرى إن كان قد عاد. أحضر لي النادل المقبلات، عصرت الليمون على النودلز وأدرته في فمي. تصورت آلبا، صغيرة جداً وزهرية اللون، متكومة داخلي، تأكل بادتاي بعودي تشوبيستك الصينيين الصغيرين. تصورتها بشعر أسود طويل وعينين خضراوين. ابتسمت وقالت: «شكراً، ماما». ابتسمت وقلت لها: «على الرحب والسعة، أهلاً وسهلاً». كان معها في الداخل دمية صغيرة (دبدوب) اسمه ألفونسو، ناولت آلبا بعضاً من التوفو لألفونسو، أنهيت الأكل. جلست لعدة دقائق، لأرتاح. أشعل أحدهم في الطاولة المجاورة سيجارة. دفعت وغادرت. تمشيت عبر ويستيرن أفينيو. صاحت بـي مجموعة من اليافعين الذين بدوا من جزيرة بيروتو رايسن مُردِّدين شيئاً ما، ولكنني لم أفهمه. عدت إلى مزرعتي وتحسست مفاتيحي وإذ بهنري يدير الباب فاتحاً إياه ويقول: «الحمد لله». وأطبق بذراعيه حولي. تبادلنا القبل، ارتحت كثيراً لرؤيته حيث أخذ مني عدة دقائق لأدرك أنه ارتاح أيضاً كثيراً لرؤيتي. سألني هنري: «أين كنتِ؟». «في أوبارت. أين كنت أنت؟». «لم تتركي ملاحظة، عدت إلى المنـزل، ولم تكوني هنا، اعتقدت أنك لربما في المشفى. لذا اتصلت بهم فقالوا إنك لست هناك...». بدأت بالضحك، وكم صعب عليّ التوقف، بدا هنري مرتبكاً. عندما استطعت قول شيء ما قلت: «الآن تعرف كيف يكون الشعور بذلك». ضحك. «آسف. لكنني فقط - لم أعرف أين أنتِ، فارتعبت وفكرت في أنه قد فاتتني ولادة آلبا». «لكن، أين كنت أنت؟». تبسم هنري. «انتظري حتى تسمعي هذا، دقيقة واحدة، دعينا نجلس». «دعنا نتمدد، أنا متعبة». «أمتعبة طوال اليوم؟». «أتمدد هنا وهناك». «كلير المسكينة، لا عجب أنك متعبة». قصدت غرفة النوم، شغلت مكيف التبريد، وأسدلت الستائر. اتجه هنري نحو المطبخ، وعاد بعد عدة دقائق ومعه شراب. رتبت نفسي على السرير، وتناولت منه شراب الزنجبيل الغازي. خلع هنري حذاءه، وانضم إليّ وبيده شراب شعير. «أخبرني كل شيء». «حسناً». رفع أحد حاجبيه، وفتح فمه وأغلقه. «لا أعرف من أين أبدأ». «قل هذا فحسب». «عليّ أن أبدأ بالقول إن هذا من أغرب ما حصل معي». «أغرب من وضعنا أنا وأنت؟». «ياه، أعني، ذلك يبدو طبيعياً نوعاً ما، الصبيان يلتقون بالبنات...». «أغرب من رؤيتك لأمك تموت عدة مرات؟». «حسناً، ذاك أصبح مجرد روتين مرعب، الآن، إنه حلم سيئ يأتي من حين إلى آخر. لا. هذا كان أمراً سريالياً فقط». مرر يده على بطني. «سافرت إلى المستقبل، وكنت فعلاً هناك، تعرفين، آتي بقوة، وركضت نحو طفلتنا الصغيرة. هنا». «أوه، يا اﷲ، أنا غيورة جداً، لكن، واو». «ياه، كانت في سن العاشرة تقريباً. كلير، إنها رائعة؛ ذكية وموهوبة موسيقياً، و... وواثقة حقاً ولا يقلقها شيء...». «كيف تبدو؟». «إنها جميلة، عيناها كعينيك، ولكن بشكل أساسي تبدو مثلي: شعر أسود، فاتحة البشرة، يغطيها بعض النمش، وفمها أصغر من فمي، وأذناها غير بارزتين، ولها شعر طويل أجعد، ويداها مثل يديّ ذات أصابع طويلة، إنها طويلة... كانت كقطة شابة». عظيم عظيم. «أخشى أن جيناتي وجدت طريقها إليها... كانت مثلك في الشخصية أيضاً. لها حضور رائع... رأيتها بين مجموعة من طلاب مدرستها في رحلة إلى متحف الفن، كانت تتحدث عن أقفاص الطيور لجوزيف كورنيل، قالت شيئاً عنه يأخذ اللب والقلب... وعرفت نوعاً ما من تكون. وقد تعرفت إليّ». «حسناً، آمل ذلك». كان عليّ أن أسأل. «هل هي - هل هي -؟». تردد هنري. قال أخيراً: «أجل». «أجل». صمتنا كلانا. مرر يده على وجهي. «أنا أعلم». أردت أن أبكي. «كلير، تبدو سعيدة. سألتها فقالت إنها تحب الأمر». وابتسم. «قالت إن الأمر ممتع». ضحكنا كلانا، ضحكة أسف في البداية، ومن ثم، صعقني ذلك، وضحكنا في سريرتنا، حتى تأذى وجهينا، وانهالت الدموع على خدودنا. لأنه، وبالطبع، الأمر ممتع. ممتع جداً. (50) الشيفرة الروسية Russian crytology: آلة روسية لفك الشيفرة كانت تستخدمها بلدان حلف وارسو في زمن الحرب الباردة. (51) رورشاش Rorschach test: اختبار يجرى في التحليل النفسي بوضع بقع الحبر على الورق وطيها ويتم تحليل النفس وفقاً لما يراه المريض من أشكال ارتسمت من بقع الحبر. (52) bien joue, une fille باللغة الفرنسية تعني: «تلعب جيداً. إنها بنت». (53) فرنسي = عند الفجر وعلى صرخة الجندي الرقيب، استيقظ عاشقان أتيا ليُمضيا الليلة وهما منفصلان يلعنان اليومَ الذي أتى قبل الأوان، هذا هو الموضوع الذي لا يقل ثباتاً عن ذلك الذي في قصيدة غنائية رعوية من الجنس الفني الذي اشتقت منه كلمة «ألبا» التي تُجسد في بعض الأحيان بداية المسرحية. وبشكل نظامي عند نهاية كل مقطع غنائي، الذي يشكل لازمة. (54) طبقة من الشعراء الغنائيين اشتهروا في جنوبـي فرنسا وشمال إيطاليا من القرن الحادي عشر إلى نهاية القرن الثالث عشر بعد الميلاد. الولادة الأربعاء، 5 أيلول - الخميس، 6 أيلول، 2001 (هنري 38 عاماً، كلير 30 عاماً) هنري: أمضت كلير طوال اليوم وهي تمشي في المنـزل مثل نمر. يأتيها مغص المخاض كل 20 دقيقة أو نحو ذلك. قلت لها: «حاولي أن تنامي قليلاً». استلقت على السرير لبضع دقائق، ثم نهضت مجدداً. تمكنت عند الثانية بعد منتصف الليل من الخلود إلى النوم أخيراً. تمددت بقربها، مستيقظاً، أراقب تنفسها، وأستمع إلى بعض الأصوات المضطربة التي تصدرها، وألعب بشعرها. بالرغم من أنني أعلم، وبالرغم من أنني رأيت بأم عيني أنها ستكون على خير ما يرام، وبأن آلبا ستكون بخير، فقد كنت قلقاً. استيقظت كلير عند الساعة 3:30 صباحاً. قالت لي: «أريد الذهاب إلى المشفى». قلت: «ربما يجب أن نستدعي سيارة أجرة، لكن الوقت متأخر جداً». «قال غوميز أن نتصل به مهما كان الوقت». «حسناً». اتصلت بغوميز وكاريس. رن جرس الهاتف عدة مرات، ثم رفع غوميز السماعة، وكأنه رجل قادم من أعماق البحار. قال غوميز: «ممم؟». «هيه، رفيقي، حان الوقت». دمدم بشيء، وكأنه يقول: «بيض بالخردل». ثم التقطت كاريس الهاتف وقالت لي إنهما سيأتيان إلينا حالاً. وضعت السماعة، واتصلت بالطبيبة مونتاغ، وتركت لها رسالة صوتية. كانت كلير جاثمة على أربعتها، تتلوى يمنة ويسرة. نـزلت إلى الأرض عندها. «كلير؟». رفعت رأسها إليّ، وكانت لا تزال تتلوى. «هنري... لماذا قررنا فعل ذلك مرة أخرى؟». «لأنه يفترض أنه عندما يزول كل هذا الألم سيعطونك مولودة ويدعونك تحتفظين بها». «نعم». بعد خمس عشرة دقيقة كنا نستقل سيارة غوميز الفولفو. كان غوميز يتثاءب وهو يساعدني على إدخال كلير إلى المقعد الخلفي من السيارة. قال لكلير ممازحاً: «إياك حتى أن تفكري في تبليل سيارتي بماء الرأس». أسرعت كاريس إلى المنـزل، وأحضرت أكياس قمامة، وغطت المقعد، صعدنا وانطلقنا. اتكأت كلير عليّ وتشابكت أيدينا. قالت: «لا تتركني». قلت لها: «لن أفعل». تقابلت عيناي بعيني غوميز في المرآة العاكسة. قالت كلير: «إنها تؤلم. أو، يا اﷲ، إنها تؤلم كثيراً». قلت لها: «فكّري في شيء آخر، شيء لطيف». كنا نتسابق مع الطريق في ويستيرن أفينيو، ثم اتجهنا جنوباً. بالكاد توجد بضع سيارات. «حدثني...». نبشت ذاكرتي، وجئت بشيء عن آخر زيارة سريعة لي إلى طفولة كلير. «تذكرين اليوم الذي ذهبنا فيه إلى البحيرة، عندما كنت في الثانية عشرة؟ ورحنا نسبح، وكنت تخبرينني عن حصول الطمث؟». أمسكت كلير بيدي بقوة تفكك العظام. «أفعلت ذلك؟». «كنت نوعاً ما محرجة ولكن كنت فخورة بنفسك حقاً في الوقت نفسه... كنت ترتدين بيكيني زهري وأخضر، وتضعين نظارة الشمس تلك الصفراء ذات القلبين كإطار للعدستين». «تذكرت - آه! - أوه، هنري، إنها تؤلم، إنها تؤلم!». استدارت كاريس نحونا وقالت: «هيا، يا كلير، إنها مجرد ركلة من الجنين على عمودك الفقري، عليك فقط أن تغيري جلستك، حسناً؟». حاولت كلير تغيير وضعية جلوسها. قال غوميز: «ها قد وصلنا». واتجه نحو باب مدخل الإسعاف في مشفى الرحمة. قالت كلير: «الماء يسيل مني». أوقف غوميز السيارة، وقفز منها، وقمنا سوياً بإنـزال كلير منها. مشت خطوتين وانفجر الماء. قال غوميز: «توقيت مناسب، يا قطة». أسرعت كاريس للقيام بإجراءات القبول، وقمت أنا وغوميز بمساعدة كلير على المشي ببطء عبر مدخل الإسعاف ثم نـزولاً إلى جناح التوليد. وقفت متكئة على طاولة الممرضات بينما كن يحضرن الغرفة غير مبالين. همست كلير: «لا تتركني». قلت لها مجدداً: «لن أتركك». أتمنى لو أنني كنت متأكداً من ذلك، كنت أشعر بالبرد وبقليل من الدوار، استدارت كلير، واتكأت عليّ، لففت ذراعي حولها، كانت استدارة الجنين بيننا صعبة. اخرج، اخرج أينما كنت، وكلير تصرخ. جاءت ممرضة شقراء سمينة، وأخبرتنا أن الغرفة أصبحت جاهزة. مشينا جميعاً إليها. جثمت كلير على الفور على الأرض على يديها وركبتيها. بدأت كاريس في وضع الأغراض والملابس في الخزانة، ومستحضرات الحمام في الحمام. وقفت وغوميز نراقب كلير عاجزين، كانت تنوح، نظرنا إلى بعضنا بعضاً، وأومأ غوميز. قالت كاريس: «هيا كلير، ما رأيك بحمام؟ ستشعرين بتحسن في الماء الدافئ». هزت كلير رأسها. أومأت كاريس إلى غوميز بتعبير بيديها يعني اذهب. قال غوميز: «أعتقد أنني بحاجة إلى سيجارة». وغادر. سألت كلير: «هل يجب أن أبقى؟». «أجل! لا تذهب؛ ابقَ في مكان أستطيع رؤيتك منه». «حسناً». مشيت إلى الحمامات لأفتح صنبور الماء. أكره حمامات المشافي، للمشافي دوماً رائحة الصابون الرديء والأجساد المريضة. فتحت الصنبور، وانتظرت الماء ليسخن. نادتني كلير: «هنري! أأنت هنا؟». أخرجت رأسي من الباب نحو الغرفة. «أنا هنا». أمرتني كلير: «ابقَ هنا». وأخذت كاريس مكاني في الحمام. أصدرت كلير صوتاً لم أسمع بشراً يصدره في حياتي، صرخة ألم عميقة، وتأوه فظيع. فكرت ماذا فعلت بها؟ فكّرت في كلير الطفلة في الثانية عشرة من عمرها تضحك ومغطاة بالرمل المبلل على منشفتها، تلبس البيكيني على الشاطئ. أوه، كلير، أنا آسف، أنا آسف. دخلت ممرضة ذات بشرة سوداء كبيرة السن، وفحصت عنق الرحم عند كلير. قالت لكلير: «بنت جيدة، ستة سنتيمترات». أطرقت كلير رأسها، وابتسمت، ثم كشرت من شدة الألم، أمسكت ببطنها وانحنت، وصرخت بصوت أعلى، أمسكت بها مع الممرضة، كانت تلهث لتتنفس، ثم تبدأ بالصراخ. جاءت د. أميت مونتاغ، وأسرعت نحوها. «بيبـي، بيبـي، بيبـي، صه -». أعطت الممرضة مجموعة معلومات للطبيبة مونتاغ لم تعنِ شيئاً بالنسبة إليّ، وكلير تنشج. تشجعت، وهيأت حنجرتي، جاء صوتي متقطعاً. «ماذا بشأن الحقن في الظهر فوق الجافية؟». «كلير؟». أومأت كلير. تجمع أشخاص في الغرفة مع أنابيب وإبر وأجهزة. جلست ممسكاً بيد كلير مراقباً وجهها. إنها تستلقي على جنبها، تتشنج، وجهها مبلل بالعرق والدموع بينما قام طبيب التخدير بتعليق كيس السيروم بخطاف، وأدخل إبرة جنب عمودها الفقري. كانت الطبيبة مونتاغ تفحصها، وتقطب حاجبيها على شاشة عرض الجنين. سألتها كلير: «ما المشكلة؟ هل هناك شيء ما؟». «النبض سريع جداً، طفلتك الصغيرة خائفة، عليك أن تسترخي، كلير، لكي يهدأ الجنين، حسناً؟». «إنها تؤلم كثيراً». «هذا لأنها كبيرة». جاء صوت الطبيبة مونتاغ هادئاً، ومطمئناً. نظر طبيب التخدير قوي البنية ذو الشارب الغليظ نحوي، مائلاً على جسد كلير. «لكن الآن سنعطيك قليلاً من الكوكتيل، نعم، مسكن ألم مع القليل من المخدر، وسيهدأ الجنين، حسناً؟». هزت كلير برأسها، نعم، ابتسمت د. مونتاغ: «هنري، كيف حالك؟». «لست مرتاحاً كثيراً». حاولت أن أبتسم. أستطيع أن آخذ أي شيء مما يعطونه إلى كلير. أشعر بعدم وضوح في الرؤية، أتنفس بعمق وتغيب الحالة. قالت د. مونتاغ: «الأمور تتحسن، أترين؟ إنها مثل غيمة وتمر، ويذوي الألم، أخذناه إلى مكان بعيد وتركناه على الطريق، بمفرده، وأنت والجنين لا تزالان هنا، حسناً؟ إنه أمر سعيد، سنأخذ وقتنا، ليس هنالك دولاب...». غاب التوتر عن وجه كلير. عيناها مثبتتان على د. مونتاغ. والأجهزة تطن، والغرفة معتمة، والشمس تشرق في الخارج، ود. مونتاغ تراقب شاشة الجنين. «قولي لها إنك بخير، وإنها بخير، غني لها أغنية، حسناً؟». قالت كلير بلطف: «آلبا، كل شيء على ما يرام». نظرت إليّ. «قل لها قصيدة العشاق على السجادة». شدهت، ومن ثم تذكرت، شعرت بوعي الذات وأنا أقرأ شعر ريلكه على مسامع هؤلاء الأشخاص، وهكذا بدأت: «Engel!: Es wäre ein Platz, den wir nicht wissen -»(55). قاطعتني كلير: «قلها بالإنكليزية». «آسف». غيرت وضعية جلوسي، بحيث جلست إلى جانب بطن كلير، وظهري إلى كاريس والممرضة والطبيبة، مررت يدي تحت صف أزرار قميص كلير. شعرت بجسم آلبا من خلال بشرة كلير الساخنة. قلت لكلير: «يا جميلتي!». كما لو كنا على فراشنا، كما لو أننا كنا صاحيين طوال الليل في مناسبة ليست بمثل هذه الأهمية. يا جميلتي! لو كان هناك مكان لا نعرفه، وهناك، على سجادة لا يمكن وصفها، يكشف العشاق عن شيء لا يستطيعون أن يجعلوه مُسيطراً وسيداً هنا - الأعمال الجريئة التي قامت بها قلوبهم المحلقة عالياً، وبروج متعهم، وسلالمهم الواقفة منذ زمن طويل في مكان لا أرض فيه، والمتكئة على بعضها، وهي ترتجف - وتستطيع أن تُسيطر على كل هذا، أمام المشاهدين الذين يحيطون بها، العدد الهائل من الموتى الصامتين: هل يستطيعون، عندها، أن يرموا بالقروش الصالحة للسعادة الأخيرة، والتي ادخروها منذ زمن بعيد، والمخبأة منذ زمن بعيد، والتي نجهلها، أمام زوجين حقيقيين يبتسمان على سجادة السعادة؟ قالت د. مونتاغ: «هناك». وأطفأت الشاشة. «ليهدأ الجميع». ابتسمت لنا جميعاً، وخرجت من الباب، ولحقتها الممرضة. ووقعت عيني بالصدفة على طبيب التخدير، الذي كانت تعابيره تقول لي، على كل حال أنت وغد لعين. كلير: أشرقت الشمس وأنا مستلقية مخدرة على هذا السرير الغريب في غرفة زهرية اللون وفي مكان ما في بلد غريب هو رحمي تحاول آلبا الزحف إلى المنـزل، أو بعيداً عن المنـزل. ذهب الألم لكنني أعرف أنه لم يذهب بعيداً وهو يتربص بـي في مكان ما في الزاوية أو تحت السرير وسيقفز مجدداً في أي لحظة لا أتوقعه فيها. وآلام المخاض تأتي وتذهب بعيدة، تهدأ جلجلة الأجراس في الضباب. هنري مستلقٍ إلى جانبـي، والأشخاص الآخرون يروحون ويجيئون. أشعر وكأنني سأتقيأ، ولكنني لا أتقيأ. أعطتني كاريس كسرة ثلج من كأس ورقية، كان طعمها كالثلج القديم. رأيت الأنابيب والأنوار الحمراء الوامضة، وفكّرت في أمي، تنفست، هنري يراقبني، يبدو مشدوداً للغاية وغير مرتاح، بدأت أقلق مجدداً من أن يختفي. سألته: «كل شيء على ما يرام؟». هز رأسه، ضرب ضربة خفيفة على بطني، كنت أتعرق، الجو حار جداً هنا. كانت الممرضة تأتي وتتفحص الأمر، ود. أميت تفحصني. أنا وحيدة مع آلبا وسط هذا الجمع. أقول لها إن كل شيء سيكون على ما يرام، إنك تبلين بلاء حسناً، وأنت لا تؤذينني. نهض هنري، وراح يمشي جيئة وذهاباً إلى أن طلبت منه أن يتوقف، أشعر وكأن جميع أعضائي أصبحت كائنات، لكل منها برنامجها الخاص، قطارها الخاص لتلحق به. آلبا تتجه برأسها في أنفاقي، لحم وعظم يحفران في لحمي وعظمي، في أعماق أعماقي. أتخيلها تسبح داخلي، أتخيلها تسقط في سكون بركة الصباح، والماء يتفرق من سرعتها. أتخيل وجهها، أريد أن أرى وجهها. قلت لطبيب التخدير أريد أن أشعر بشيء، وتدريجياً أخذ رحمي يتقلص ويعود الألم، لكنه ألم مختلف الآن، ألم لا بأس به، والوقت يمر. مرّ الوقت، وأخذ الألم يصول ويجول فيّ كما لو كانت امرأة تقف وراء طاولة الكي تجيء وتذهب بالمكواة على قماش الكي الأبيض. جاءت د. أميت وقالت حان الوقت لدخول غرفة الولادة. حلقوا لي ونظفوني ونقلوني على سرير متحرك عبر الممرات الطويلة. شاهدت سقف الممرات وأنا أمر تحتها، أنا وآلبا نتجه إلى المكان الذي سنلتقي به معاً، وهنري يمشي إلى جانبنا. كل شيء حولي في غرفة التوليد أخضر وأبيض. أشم رائحة مواد التنظيف، ذكرتني بإيتا، أردت أن تكون إيتا معي، ولكنها في منـزل المرجة الخضراء، نظرت إلى أعلى إلى هنري الذي يرتدي رداء غرف العمليات، ثم فكّرت، لماذا نحن هنا؟ يجب أن نكون في المنـزل، ثم شعرت كأن آلبا تدفع وتدفع وأنا أدفع من دون تفكير من يبدأ فينا ذلك مرات ومرات كلعبة، كأغنية. سأل أحدهم: «هيه، أين ذهب الوالد؟». نظرت حولي، وكان هنري قد اختفى، لا يوجد في أي مكان هنا وقلت في نفسي يا اﷲ، اللعنة عليه، لكن لا، يا اﷲ أنا لا أقصد هذا حقاً، ولكن آلبا قادمة، إنها قادمة ثم رأيت هنري، يتعثر أمام ناظري، على غير وجهة، وعارياً لكنه هنا، إنه هنا! وأميت تقول: لقد ظهر رأسها وأنا أدفع ورأسها ينـزل ووضعت يدي في الأسفل لألمسها، لألمس رأسها الناعم الطري المنـزلق وأنا أدفع وأدفع وانـزلقت آلبا نحو يدي هنري الممدودتين المنتظرتين وقال أحدهم أوووه! وها أنا قد أصبحت فارغة، وارتحت وسمعت صوتاً يشبه الأزيز مثل الصوت الذي يصدر عندما نضع إبرة أسطوانة جهاز المسجل على الثلم غير الصحيح، ثم بكت آلبا، وفجأة صارت هنا، وضعها أحدهم على بطني، ونظرت إلى وجهها، كان زهرياً للغاية ومتجعداً وشعرها أسود داكناً وعيناها بالكاد تظهران ويداها تبحثان ودفعت آلبا نفسها إلى الأعلى نحو صدري وتوقفت، منهكة من الجهد، بالحقيقة المطلقة في كل شيء. مال هنري إليّ ولمس جبهتها، وقال: «آلبا». لاحقاً: كلير: إنها الليلة الأولى لآلبا على وجه الأرض. أنا مستلقية على السرير في غرفة المشفى، وتحيطني البالونات، ودمى الدببة الصغيرة، والأزهار، وآلبا بين ذراعي. يجلس هنري على أسفل السرير، ورجلاه تتقاطعان معنا، ويلتقط لنا الصور. انتهيت للتو من إرضاع آلبا، وقد تجشأت فقاعات اللبأ من شفتيها الصغيرتين، ثم استغرقت في النوم، كتلة صغيرة ناعمة ودافئة من اللحم والشحم على قميص النوم. انتهى هنري من تدوير فيلم الكاميرا وتفريغها. قلت له: «أنت». وكأنني فجأة تذكرت. «أين ذهبت؟ عندما كنا في غرفة الولادة؟». ضحك هنري. «أتعرفين، كنت أتمنى لو أنك لم تلاحظي ذلك. كنت أظن أنك مشغولة -». «أين كنت؟». «كنت أتجول حول مدرستي الابتدائية عند منتصف الليل». سألته: «كم دام ذلك؟». «أوه، يا اﷲ، ساعات. كانت تبدأ في الشروق عندما غادرت. كان الوقت شتاء وقد خففوا التدفئة، كم غبت من الوقت؟». «لست متأكدة، ربما خمس دقائق؟». هز هنري رأسه. «كنت مهتاجاً. أعني، كنت قد تركتك للتو، فرحت هناك أتجول من دون طائل عبر الممرات لفرانسيس باركر... كانت هكذا... شعرت...». ابتسم هنري. «لكن، سار كل شيء على ما يرام بعد ذلك. هممم». ضحكت. «كل شيء يبدأ صواباً ينتهي صواباً». «أنت تنطقين الحكمة أكثر من الفن». قال هنري: «هنالك من يطرق الباب، تفضل!». دخل ريتشارد إلى الغرفة ثم توقف، متردداً. استدار هنري وقال: «أبـي -». ثم توقف، ثم قفز عن السرير وقال له: «تفضل، اجلس». كان ريتشارد يحمل معه باقة أزهار ودبدوباً صغيراً قام هنري بإضافتهما إلى المجموعة الموجودة على حافة النافذة. قال ريتشارد: «كلير، أنا - تهانينا». وجلس ببطء على الكرسي إلى جانب السرير. سأله هنري بلطف: «همم، هل تود حملها؟». أومأ ريتشارد، وهو ينظر إليّ ليرى إن كنت أوافق على ذلك. بدا ريتشارد وكأنه لم ينم منذ أيام. قميصه بحاجة إلى كي، وتفوح منه رائحة العرق ورائحة قوية من شراب الشعير العتيق. ابتسمت له بالرغم من أنني أضمرت إن كانت هذه فكرة صائبة. مررت آلبا لهنري والذي مررها بحذر إلى ذراعي ريتشارد القاسيتين. أدارت آلبا وجهها الزهري إلى وجه ريتشارد الطويل غير الحليق، ثم أدارت وجهها نحو صدره باحثة عن حلمة. أقلعت عن ذلك بعد دقيقة وتثاءبت، ثم عادت إلى النوم، ضحك هو، كنت قد نسيت كيف أن ابتسامته تغير ملامح وجهه. قال لي: «إنها جميلة». ولهنري: «إنها تشبه أمك». أومأ هنري. «أبـي، هاك عازفتك للكمان». ابتسم. «فاتك جيل واحد. فقط». «عازفة كمان!». نظر ريتشارد إلى الأسفل نحو الرضيعة النائمة، ذات الشعر الأسود واليدين الصغيرتين، سريعة الاستغراق في النوم. لم يكن أحد على الإطلاق يبدو أقل من آلبا عازفة كمان في أوركسترا منها الآن. «عازفة كمان». هز رأسه. «لكن كيف - لا، لا عليك. إذاً أنت عازفة كمان، هل أنت كذلك الآن، أيتها الطفلة الصغيرة؟». أخرجت آلبا لسانها الصغير قليلاً فضحكنا جميعاً. أعتقد: «ستحتاج إلى أستاذ، عندما تبلغ سناً معينة». سأل ريتشارد: «أستاذ؟ أجل... لن ترضى أن تسلمها إلى أولئك السوزوكي البُلْه، أليس كذلك؟». سعل هنري. «نعم، في الحقيقة كنا نأمل إن لم يكن لديك شيء أفضل لتقوم به...». نهض ريتشارد. كان من المفيد جعله يفهم، رؤيته يدرك أن شخصاً ما يحتاج إليه، أنه هو وحده من يستطيع أن يعطي حفيدته التدريب الذي تحتاج إليه. قال: «هذا من دواعي سروري». بدأ مستقبل آلبا يتدحرج أمامها كسجادة حمراء على مدّ النظر. الثلاثاء، 11 أيلول، 2001 (كلير 30 عاماً، هنري 38 عاماً) كلير: صحوت عند الساعة 6:43 صباحاً وهنري ليس على السرير. وآلبا ليست في مهدها أيضاً. صدري يؤلمني، ثدياي يؤلمانني، كل شيء فيّ يؤلمني. نهضت عن السرير بعناية، وذهبت إلى الحمام. مشيت عبر الصالة، وغرفة الطعام، بهدوء. كان هنري يجلس في غرفة الجلوس على الأريكة، ويحتضن آلبا بين ذراعيه، ولا يشاهد التلفاز الصغير بالأبيض والأسود والصوت المنخفض، آلبا غارقة في النوم، جلست بقربه، وضع ذراعيه حولي. سألته: «كيف حدث واستيقظت؟ ظننت أنك قلت إنك لن تصحو قبل عدة ساعات؟». وعلى التلفاز مذيع نشرة الأخبار يبتسم ويشير إلى صورة من القمر الصناعي عن ميدويست. قال هنري: «لم أستطع النوم، أردت أن أستمع إلى العالم بوضعه الطبيعي لفترة أطول». «أوه». وضعت رأسي على كتفه وأغلقت عينيّ. عندما فتحتهما مجدداً كان هنالك إعلان تجاري لشركة للهواتف الجوالة على وشك الانتهاء، ويبدأ إعلان آخر عن المياه المعبأة. أعطاني هنري آلبا ونهض. وخلال دقيقة سمعته وهو يعد الفطور. استيقظت آلبا، فأنـزلت قميص نومي، وبدأت أرضعها. حلمتاي تؤلمانني. شاهدت التلفاز. كان هنالك مذيع أشقر يذيع شيئاً ما وهو يبتسم. كان والمذيعة الأخرى معه، وهي امرأة آسيوية، كأنهما يضحكان ويبتسمان لي. وفي قاعة المحافظة كان المحافظ دالي يجيب عن بعض الأسئلة. آلبا ترضع. أحضر هنري صينية البيض، وخبز التوست، وعصير البرتقال. أريد قهوة، كان هنري قد تناول قهوته ببراعة في المطبخ، ولكنني أستطيع شمها من تنفسه. وضع الصينية على الطاولة، ووضع صحني في حضني. تناولت البيض بينما كنت أرضع آلبا. دهن هنري صفار البيض على قطعته من التوست. على التلفاز مجموعة من الأطفال يتقلبون على العشب، لإظهار فعالية مسحوق الغسيل. أنهينا طعامنا، أنهت آلبا أيضاً. ساعدتها على التجشؤ، أخذ هنري جميع الأطباق إلى المطبخ. أخذت حماماً، كانت المياه ساخنة بالكاد أتحملها، ولكنها تشعرني بالراحة على جسدي المتألم. تنفست الهواء المتبخر من الماء، وجففت جسمي بعناية، ودهنت الكريم على شفتي، وصدري، ومعدتي. كانت المرآة لا تزال تغطيها طبقة بخار، بحيث لا أستطيع رؤية نفسي فيها. مشطت شعري. لبست مشداً للتعرق وبلوزة. أشعر بعدم اللياقة، لقد انتفخت. يجلس هنري في غرفة المعيشة وعيناه مغلقتان، وآلبا تمص إبهامها. وبينما جلست مجدداً فتحت آلبا عينيها وأصدرت صوت لغط. انـزلق إصبعها من فمها وبدت متوترة. هناك سيارة جيب تسير عبر الصحارى. كان هنري قد أخفض صوت التلفاز، فرك عينيه بيديه. غرقت في النوم مجدداً. قال هنري: «استيقظي كلير». فتحت عينيّ، الصور في التلفاز تتلاحق، شارع في المدينة، سماء، ناطحة سحاب بيضاء مشتعلة بالنار، كما الألعاب، وعلى مهل تنتشر النار في ناطحة السحاب البيضاء الثانية. يشتعل اللهب الصامت. أدار هنري الصوت عالياً. «أوه، يا اﷲ». كان الصوت في التلفاز يقول: «أوه، يا اﷲ». الثلاثاء، 11 حزيران، 2002 (كلير 31 عاماً) كلير: كنت أرسم آلبا. بلغت آلبا تسعة أشهر وخمسة أيام في هذا الوقت. كانت نائمة على ظهرها، على ملاءة زرقاء فاتحة صغيرة، على الأرضية المصقولة والسجادة الصينية الأرجوانية في غرفة المعيشة. كانت قد أنهت الرضاعة. ثدياي خفيفان، فارغان تقريباً. كانت آلبا مستغرقة في النوم بعمق إلى درجة أنني شعرت أنه الوقت المناسب لأن أمشي إلى الباب الخلفي عبر الباحة إلى مرسمي. وقفت للحظة عند الممر أستنشق رائحة العفن في مرسمي المهجور. ثم فتشت بين ملفاتي الكبيرة، وجدت بعضاً من ورق الترسيمون يبدو كما جلد البقر المدبوغ، أخذت بعض ألوان الباستيل وبعض الأشياء من عدة الرسم ولوحة الألوان ومشيت (بشعور خفيف من الأسى) من الباب عائدة إلى المنـزل. كان المنـزل هادئاً. هنري في العمل (أتمنى ذلك)، وأستطيع سماع صوت الغسالة الأوتوماتيكية تدور في الطابق السفلي. وجهاز التكييف يصدر أصواتاً مزعجة. هنالك ضجيج خفيف من السيارات في شارع لينكولن. جلست على السجادة إلى جانب آلبا. وأشعة شمس مائلة على بعد إنشات من رجلها الصغيرة السمينة. خلال نصف ساعة ستغطيها الشمس. وضعت ورقة الرسم على مقعد الرسم، ورتبت ألواني إلى جانبـي على السجادة. وقلم الرصاص في يدي. وتأملت ابنتي. آلبا نائمة بعمق. قفصها الصدري يرتفع وينخفض ببطء، أستطيع سماع الصوت الناعم المنبعث من حنجرتها مع كل شهيق وزفير. أتساءل إن كانت قد أصيبت بالبرد، الجو دافئ هنا في فترة نهاية بعد الظهيرة من هذا اليوم من حزيران، وهي ترتدي حفاضة لا غير. تبدو وقد توهجت قليلاً. يدها اليسرى تنبسط وتنقبض بإيقاع. لربما كانت تحلم بالموسيقى. بدأت أرسم الخطوط العريضة لرأس آلبا، المتجه نحوي. أنا لا أفكّر في ذلك حقاً، يدي تتحرك على الورقة كما الإبرة على جهاز رصد الزلازل، أسجل شكل آلبا بينما أمتصها بعينيّ. لاحظت كيف أن رقبتها تنطوي تحت التجعيدات السمينة لجسم الرضيع تحت ذقنها، وكيف أن الثنيات الرقيقة فوق ركبتيها تتحرك قليلاً بينما ترفس رجلها، مرة، ثم تثبت مرة أخرى. قلمي يصور آلبا، وتحدبات بطنها الممتلئ الذي ينغمر في حفاضتها، ويقطع تدورها خط أبتر وبارز. تفحصت الورقة، عدلت زاوية ساقيها، أعدت رسم الخط حيث تلتقي ذراعاها بجذعها. بدأت بوضع ألوان الباستيل. ورسم اسكيتشات بالأبيض؛ أسفل أنفها الصغير، ومفاصلها، وحفاضتها، وحافة قدمها اليسرى. ثم رسمت الظلال، باللون الأخضر الداكن واللازوردي. وظل عميق يلتصق بجنبها الأيمن حيث يلامس جسمها الفراغ. هي أشبه ببركة ماء، وأنا أبث فيها اللون بقوة. فجأة أصبح رسم آلبا ثلاثي الأبعاد، كأنه سيثب من اللوحة. استخدمت لونين من ألوان الباستيل الزهري، الزهري الفاتح للتدرج الداخلي للصدفة، والزهري الداكن الذي يذكرني بالطون الطازج. وبضربات سريعة رسمت بشرة آلبا. وكأن بشرتها كانت مخبأة داخل الورقة، فما كان عليّ سوى إزالة بعض الأجزاء غير المرئية التي تخفيها فظهرت. استعملت لون البنفسج الفاتح لهذه البشرة لأرسم الأذنين والأنف والفم؛ فمها مرسوم قليلاً على شكل O شعرها الأسود الكثيف أصبح خليطاً من الأسود المزرق والأسود والأحمر على اللوحة. اعتنيت بشأن حاجبيها اللذين يبدوان كثيراً كيرقتين مغطاتين بالفرو، وجدتا ملاذهما على وجه آلبا. غطت أشعة الشمس آلبا الآن. تحركت، ووضعت يدها الصغيرة على عينيها، وتثاءبت. كتبت اسمها، واسمي، والتاريخ أسفل اللوحة. أنهيت اللوحة. ستكون كسجل - أحبك، صنعتك، وصنعت هذا لأجلك - بعيداً وبعدما أرحل، ويرحل هنري، وحتى بعد رحيل آلبا. ستقول اللوحة، إننا صنعناك، وها أنت ذا، هنا وفي الحاضر. فتحت آلبا عينيها، وابتسمت. (55) باللغة الألمانية تعني: جميلة من مكان لا نعرفه. ســـر الأحد، 12 تشرين الأول، 2003 (كلير 32 عاماً، هنري 40 عاماً) كلير: هذا سر، عندما يختفي هنري في بعض الأحيان أشعر بسعادة، أستمتع أحياناً عدما أكون وحيدة، أمشي أحياناً في غرفة الجلوس في وقت متأخر من الليل وأستمتع بعدم الحديث مع أحد، بعدم لمس أحد، أمشي فحسب، أو أجلس، أو أستحم. وأحياناً أتمدد في غرفة الجلوس على الأرض أستمع إلى فليتوود ماك، البانغليز، وفرقة بـي فيفتي تو، الإيغلز، كل الفرق التي لا يتحمل هنري سماعها. أحياناً أذهب لأتمشى فترات طويلة مع آلبا من دون أن أكتب له ملاحظة أخبره فيها أين أنا. أحياناً ألتقي بسيليا لنشرب القهوة معاً، ونتحدث حول هنري، وإنغريد، وعن أي كان ممن رأتهم سيليا هذا الأسبوع. أخرج أحياناً مع كاريس وغوميز من دون أن نتحدث حول هنري وننجح في الاستمتاع بوقتنا. ذهبت مرة إلى ميتشغان وعندما عدت كان هنري لا يزال مختفياً ولم أقل له أبداً أنني كنت في الخارج. أحياناً أستعين بجليسة أطفال، وأذهب لحضور أفلام سينما أو أركب دراجتي في العتمة على مسار الدراجات في شاطئ مونتي روز من دون أضواء، إنه كالطيران. أحياناً أكون سعيدة لأن هنري قد اختفى، ولكنني دوماً أبتهج لعودته. المعاناة من المشاكل الفنية الجمعة، 7 أيار، 2004 (هنري 40 عاماً، كلير 32 عاماً) هنري: كنا في افتتاح معرض كلير في مركز شيكاغو الثقافي. كانت تعمل سنة كاملة من دون توقف، تبني هياكل سلكية لطيور رقيقة، ثم تلفها بأشرطة ورقية شفافة، وتغطيها بمحلول الشيلاك (اللّك)، حتى تتحول إلى نور. الآن هذه التماثيل معلقة في السقف العالي، أو جاثمة على الأرض. بعضها حركي، يدور بمحركات صغيرة، بعضها يحرك أجنحته، وهنالك هياكل لديكين يهاجمان بعضهما عند الزاوية. هناك حمامة ضخمة بطول ثماني أقدام عند المدخل. كلير منهكة، ومنتشية، ترتدي ثوباً حريرياً أسود بسيطاً، وشعرها مرفوع عالياً فوق رأسها. أحضر الناس إليها الأزهار، كانت تحمل باقة من الورود البيضاء بين ذراعيها. هنالك كمية كبيرة من أعمدة الأزهار عليها لفافات بلاستيكية إلى جانب مقعد سجل الزوار. المكان مكتظ بالضيوف. وهم يتجولون، ويتناقشون حول كل قطعة فنية، ويرجعون برؤوسهم إلى الوراء للتمعن في العصافير الطائرة، ويهنئون كلير. كان هناك تحقيق رائع في عدد هذا الصباح من صحيفة التريبيون. كل أصدقائنا هنا، جاءت عائلة كلير بالسيارة من ميتشغان. إنهم يحيطون بكلير الآن، فيليب وأليسيا، ومارك وشارون وأطفالهما، ونيل وإيتا. تقوم كاريس بالتقاط الصور لهم، الجميع يبتسمون لها، عندما أعطتنا نسخاً من الصور، بعد عدة أسابيع من الآن، صدمت لكثرة السواد تحت عيني كلير، وكم كانت نحيلة. أنا أمسك بيد آلبا. نقف عند الجدار الأخير، بعيداً عن حشود الزوار. لا تستطيع آلبا رؤية شيء، لأن الجميع طِوال، لذا حملتها على كتفي. توازنت فوقي. انتشرت عائلة كلير، وتم تقديم كلير إلى زوجين متأنقين كبيري السن من قبل ليا جاكوب، وكيلة أعمال كلير. قالت آلبا: «أريد ماما». قلت لها: «ماما منشغلة الآن». كنت أشعر بالغثيان. انحنيت إلى الأمام، وأنـزلت آلبا على الأرض. رفعت يديها نحوي. «لا، أريد ماما». نـزلت على الأرض، ووضعت رأسي بين ركبتي. أريد أن أجد مكاناً لا يستطيع أحد أن يراني. وآلبا تشد أذنيّ. قلت: «توقفي، آلبا». نظرت إلى فوق، كان والدي يشق طريقه نحونا عبر الحشد. قلت لها: «اذهبـي». ودفعتها قليلاً. «اذهبـي، لتري جدك». بدأت تتذمر. «لا أرى جدو، أريد ماما». كنت أزحف نحو والدي. ارتطمت برجلي أحدهم. سمعت آلبا تصرخ: «ماما!». بينما كنت أختفي. كلير: يوجد حشود من الزوار. الكل يصافحني ويشدون على يديّ، ويبتسمون لي. وأبتسم لهم بالمقابل. يبدو المعرض رائعاً، لقد تمّ، انتهى! وأنا سعيدة للغاية، ومتعبة جداً. وجهي يؤلمني لمجرد الابتسام. كل من أعرفهم هنا. كنت أتحدث إلى سيليا عندما سمعت ضجيجاً يأتي من آخر الصالة، ثم سمعت آلبا تصرخ: «ماما!». أين هنري؟ حاولت أن أصل إلى آلبا ضمن هذا الحشد. ثم رأيتها. كان ريتشارد قد حملها. أفسح لي الناس مجالاً لأمر بينهم. أعطاني ريتشارد آلبا. حملتها وضمت ساقيها حول خصري، وغطت وجهها بكتفي، ولفت يديها حول عنقي. سألتها برفق: «أين بابا؟». أجابتني: «ذهب». الموت الطبيعي الأحد، 11 تموز، 2004 (كلير 33 عاماً، هنري 41 عاماً) كلير: هنري نائم، مصاب برضوض وكدمات ومغطى بالدم على أرض المطبخ. لم أرد أن أحركه أو أوقظه. جلست معه على الأرضية الباردة لفترة. وتدريجياً نهضت وأعددت القهوة. وبينما بدأت القهوة تتقطر في آنية الجهاز وحبيباتها تصدر أصواتاً، تحرك هنري ووضع يديه فوق عينيه. من الواضح أنه قد تعرض للضرب. وإحدى عينيه غائرة تماماً، يبدو أن الدم نـزف من أنفه، ولا أرى أثراً لأي جرح، بل مجرد كدمات متدرجة بحجم قبضة اليد على كل جسده. إنه نحيف للغاية، أستطيع رؤية كل أضلاعه وفقراته، حوضه ناتئ، وخداه غارقان. نما شعره حتى كتفيه، وهناك تموجات رمادية فيه، هنالك خدوش على يديه وقدميه، ولسعات الحشرات في كل مكان من جسده، وقد سفعته الشمس بقوة، وهو متسخ، وتحت أظافره سخام، وقد تلطخ كل جسمه بالوسخ، وتفوح منه رائحة عشب، ودم، وملح. بعد أن نظرت إليه في هذه الحال وجلست معه لفترة، قررت أن أوقظه. قلت بلطف: «هنري، استيقظ، الآن، أنت في المنـزل...». ربتت على وجهه برفق ففتح عينيه. أستطيع القول إنه لم يصحُ تماماً. دمدم: «كلير، كلير». بدأت الدموع تنهمر من عينه السليمة، إنه يرتجف وينشج، شددته إلى حضني، وأنا أبكي معه، تكوّم هنري بجسده بين ذراعي وفي حضني على الأرض، نرتعش، ونرتجف، ونهتز، ونبكي على كربنا وعلى نجاتنا. الخميس، 23 كانون الأول، 2004 (كلير 33 عاماً، هنري 41 عاماً) كلير: اليوم عشية الميلاد. هنري في ووتر تاور يصطحب آلبا لترى سانتا في مارشال فيلدز بينما أنهي التسوق. والآن أجلس في مقهى عند محل بوردر لأحتسي الكاباتشينو على طاولة عند النافذة الأمامية، وأريح قدميّ على كومة من أكياس الأغراض التي اشتريتها والتي أضعها عند الكرسي. ويأفل النهار في الخارج وتُضاء الأنوار البيضاء متناهية الصغر على كل أغصان الأشجار. والمتسوقون يسرعون على طول شارع ميتشغان، استطعتُ سماع الرنين الخافت لجرس سانتا في الأسفل. عدت إلى المحال، أبحث عن هنري وآلبا، نادى أحدهم على اسمي. كان هذا كيندريك قادماً نحوي مع زوجته، نانسي، وكولين وناديا يتبعانهما كالصف. أستطيع أن أحزر أنهم أتوا للتو من فاوشوارتز، يبدو عليهما مظهر الوالدين المصدومين الهاربين من جهنم محل ألعاب الأطفال. ركضت ناديا إليّ وهي تقول: «خالة كلير، خالة كلير!». أين آلبا؟ ضحك كولين بخجل، وأخرج يديه ليريني شاحنته الصغيرة صفراء اللون. هنأته وقلت لناديا إن آلبا ترى سانتا، أجابتني أنها هي نفسها كانت قد رأته الأسبوع الماضي. سألتها: «ماذا طلبت منه؟». قالت ناديا: «صديق شاب». إنها في الثالثة من العمر، ضحكت لكيندريك ونانسي. قال كيندريك شيئاً لنانسي بصوت منخفض، فأجابته: «هيا، يا قافلتي اتبعاني علينا أن نجد كتاباً للعمة سيلفي». وذهب ثلاثتهم إلى طاولة العروض. أشار كيندريك إلى الكرسي الخالي قبالتي وقال: «هل تسمحين؟». «بالتأكيد». جلس، متنهداً بعمق. «أكره الميلاد». «إذاً، كلاكما أنت وهنري تكرهانه». «هل هو معك؟ لم أكن أعلم ذلك». مال كيندريك نحو النافذة، وأغلق عينيه. اعتقدت أنه نائم فعلاً فتحهما وقال: «هل يشرب هنري الدواء بانتظام؟». «همم، أعتقد ذلك. أعني، حيث أمكنه ذلك، لأنه أصبح يختفي كثيراً مؤخراً». ضرب كيندريك يديه على الطاولة. «كم هذا الكثير؟». «كل يومين تقريباً». اغتاظ كيندريك. وقال: «لِمَ لا يخبرني بمثل هذه الأشياء؟». «أعتقد أنه يخاف أن تغضب وتنسحب». «إنه وسيلة الاختبار الوحيدة التي يمكنها أن تتكلم وهو لا يخبرني بأي شيء أبداً!». ضحكت. «أهلاً بك في النادي إذاً». قال كيندريك: «أنا أحاول أن أؤسس علماً، أحتاج منه أن يقول لي عندما لا تنجح الأمور. وإلا سنكون جميعاً كمن يدور في حلقة مفرغة». هززت رأسي. كانت تثلج في الخارج. «كلير؟». «همم؟». «لما لا تدعينني أفحص الحمض النووي لآلبا؟». كنت قد تناقشت مع هنري في ذلك مئات المرات. «لأنه قبل كل شيء تريد أن تضع كل العلامات على جيناتها، ولا بأس في هذا. لكن بعد ذلك ستبدأ بمضايقتي كي أدعك تجرب العقاقير عليها، وهذا ما لا أسمح به. هذا هو السبب». «لكنها صغيرة جداً، لديها فرصة أفضل للاستجابة للعلاج». «قلت لا. عندما تبلغ الثامنة عشرة من عمرها يمكنها أن تقرر بنفسها ما تريد. أما الآن، فكل ما أعطيته إلى هنري كان كابوساً». لم يكن في مقدوري النظر إلى كيندريك. قلت هذا وأنا أنظر إلى يدي المكورتين بقوة على الطاولة. «لكن يمكن أن نطور علاجاً جينياً لها -». «هنالك أشخاص ماتوا جراء العلاجات الجينية». صمت كيندريك. وأخذ مستوى الضجيج يرتفع حولنا، ومن بين الدمدمة سمعت آلبا تنادي: «ماما!». رفعت عيني ورأيتها على كتفيّ هنري، تضرب رأسه بيديها. كل منهما يضع قبعة حيوان الراكون. رأى هنري كيندريك فارتبك، وتساءلت ما الذي يخفيه هذان الرجلان عني. ثم ابتسم هنري وجاء مسرعاً نحونا، وآلبا تتمايل سعيدة فوق الحشود، وقف كيندريك لتحيته، وأبعدت الفكرة عن رأسي. ذكرى ميلاد الأربعاء، 24 أيار، 1989 (كلير 18 عاماً، هنري 41 عاماً) هنري: استيقظت على صوت ضربة مكتومة أحدثها سقوطي السريع، بين جذامة(56) في المرجة الخضراء، على جانبـي جعلني أشعر بالألم، وانتهيت متسخاً ومدمى أمام قدمي كلير. كانت تجلس على الأرجوحة نقية طاهرة بثوب حريري أبيض، وجورب وحذاء أبيضين، وقفاز صغير أبيض. قالت: «أهلاً هنري». كما لو أنني جئت لشرب الشاي. سألتها: «ما بكِ؟ تبدين كما لو أنك ذاهبة إلى احتفالك الديني الأول». وقفت كلير باستقامة وقالت: «اليوم 24 أيار، 1989». استطردت بسرعة. «ميلاد سعيد، هل يمكن أن أجد عندك إذاً بذلة مناسبة تحتفظين بها في مكان ما هنا من أجلي؟». ومن دون عناء الإجابة، نـزلت كلير عن الأرجوحة، ومدت يديها إلى شيء خبأته خلفها، وأحضرت بذلة معلقة بحقيبة. وبابتسامة فكت سحاب الحقيبة لتظهر بذلة التوكسيدو، البنطال، وواحداً من تلك القمصان الرسمية ذات أزرار خاصة بالكمين. تناولت حقيبة أخرى فيها ملابس داخلية، وزنار للخصر، وربطة عنق، وأزرار الكمين، وزهرة غاردينيا. تنبهت جدياً وليس لديّ أدنى فكرة عما يحدث هنا معي. فكرت في المعلومات المتاحة لدي: «كلير، لن نتزوج اليوم أو نفعل أي فعل جنوني، اتفقنا؟ لأنني أعلم يقيناً أن ذكرى زواجنا تحل في الخريف. تشرين الأول، أواخر تشرين الأول». استدارت كلير وأنا أرتدي ثيابـي. «تعني أنك لا تستطيع أن تتذكر حتى تاريخ زفافنا؟ كيف ذلك؟ يا للرجال». تنهدت: «حبيبتي، تعرفين أنني أعرف، ولكنني لا أستطيع تذكرها في هذه اللحظة. وعلى كل حال ذكرى ميلاد سعيدة». قالت: «بلغت الثامنة عشرة». «ها قد كبرت، يبدو وكأنك كنت بالأمس في السادسة». استثيرت كلير، كما هي دائماً، من فكرة أنني ربما كنت عند كلير الأخرى، الأصغر أو الأكبر. «هل رأيتني وأنا في السادسة مؤخراً؟». «حسناً، للتو كنت وإياك ممدين على السرير نقرأ رواية إيما كنت في الثالثة والثلاثين. وأنا في الواحدة والأربعين في هذه اللحظة، ونستمتع بكل لحظة من عمرنا». سرحت شعري بأصابعي، ومررت يدي على ذقني غير الحليق. «أنا آسف، كلير، لأنني لست بأفضل حالاتي لذكرى ميلادك». ووضعت زهرة الغاردينيا في ثقب سترة التوكسيدو، وبدأت أضع الأزرار الخاصة. «رأيتك في السادسة قبل أسبوعين، رسمت لي صورة بطة». توردت كلير. وانتشر الاحمرار كنقطة دم في وعاء حليب. «هل أنت جائع، أعددت وليمة لنا!». «بالطبع أنا جائع، أنا أتضور جوعاً، مضنيّ عليّ، وأعتقد أنني من آكلي لحوم البشر». «لن يكون ذلك ضرورياً الآن». هنالك شيء ما في نبرتها يستوقفني. كأن شيئاً ما قد حدث ولا أعرف ما هو، وكلير تتوقع مني أن أكون على دراية به، إنها تهمهم بمتعة. فكّرت ملياً في ما سأجنيه إذا اعترفت لها ببساطة عن جهلي، وهذا أفضل من الاستمرار في خداعها. قررت أن أدعها على حالها هذه لفترة. فرشت كلير الملاءة التي ستصبح فراشنا. جلست بعناية عليها، وأنا مرتاح للونها الأخضر الفاتح. فتحت كلير الشطائر، وكاسات ورقية صغيرة، وأوعية ألمنيوم، والبسكويت المملح الهش، ومرطباناً أسود من الكافيار من السوبرماركت، وبسكويت النعناع للحمية، والفريز، وزجاجة ذات ماركة فاخرة، وجبنة بري التي تبدو ذائبة قليلاً، وصحوناً ورقية. «كلير، مشروب! كافيار!». لقد تأثرت، وإلى حدٍّ ما لم أكن سعيداً. مررت إليّ الزجاجة وآلة نـزع سدادة الفلين. «همم، لا أعتقد أنني ذكرت لك ذلك في يوم من الأيام، لكن يفترض بـي ألا أشرب. إنها أوامر الأطباء». بدت كلير وقد خاب أملها. «لكن بالتأكيد يمكنني أن آكل... يمكنني التظاهر أنني أشرب. أعني، إن كان هذا سيسعدك». لم يكن في مقدوري التغلب على إحساسي أننا ربما كنا نلعب لعبة ضيف وضيوف. «لم أكن أعلم أنك تشربين. أعني، لم أرك تشربين يوماً من الأيام». «حسناً، أنا فعلاً لا أحبها، ولكن بما أن هذه مناسبة خاصة فكّرت في أنّ من المناسب أن نشرب. ربما كان الشراب الخفيف خياراً أفضل، ولكن هذا ما كان متوفراً في غرفة المؤونة، فأحضرته». فتحت الزجاجة، وسكبت لكلينا كأسين صغيرتين. وتبادلنا نخبينا. بصمت. تظاهرت أنني احتسيت رشفة من كأسي. أخذت كلير جرعة كاملة، وابتلعتها بأسلوب رجال الأعمال، وقالت: «حسناً، هذا ليس سيئاً جداً». «إنها زجاجة بعشرين دولاراً». «أجل، إنها رائعة». «كلير». بدأت تفتح الغلاف الداكن للشطائر التي يبدو أنها زينت بالخيار. «أكره أن أكون أبله... أعني، من الواضح أنها ذكرى ميلادك...». وافقتني قائلة: «ذكرى ميلادي الثامنة عشرة». «حسناً، أول شيء أود قوله هو إنني متضايق حقاً لعدم إحضار هدية لك...». رفعت كلير رأسها متفاجئة، وأدركت أنني دافئ، وأنا هنا لغرض ما. «لكن تعرفين أنني لا أعرف أبداً متى آتي، ولا أستطيع إحضار شيء معي...». «أعرف كل هذا. لكن ألا تتذكر، رتبنا لكل شيء في المرة الأخيرة التي التقينا فيها هنا، لأننا حسب لائحة المواعيد فإن اليوم هو اللقاء الأخير المتبقي قبل اجتماعنا في حاضرك ويصادف ذكرى ميلادي كذلك. ألا تتذكر؟». كانت كلير تنظر إليّ بتمعن، وكأن التركيز يمكنه أن ينقل الذاكرة من عقلها إلى عقلي. «لم أذهب إلى هناك بعد. أعني، هذه المحادثة لا تزال في مستقبلي. أتساءل لِمَ لم أخبرك حينها؟ لا تزال لديّ عدة تواريخ على اللائحة لتأتي. هل اليوم هو حقاً آخر تاريخ؟ أنت تعرفين، سنقابل بعضنا في الحاضر في السنوات القادمة القليلة. سنرى بعضنا عندها». «لكن سيمضي وقت طويل حتى ذلك الحين. بالنسبة إليّ». هنالك توقف غريب. من الغريب التفكير في أنني في شيكاغو الآن، وعمري 25 عاماً، أهتم بعملي فقط، وغافلاً تماماً عن وجود كلير، ولأجل هذا الأمر، وغير واعٍ عن حضوري هنا في هذا اليوم الربيعي اللطيف الرائع في مرجة شيكاغو. وأن اليوم هو الذكرى الثامنة عشرة لميلادها. أخذنا نضع الكافيار بالسكاكين البلاستيكية على البسكويت الهش ريتز. ولفترة كنا نقضم ونمضغ الشطائر بنهم. كانت المحادثة تبدو وكأنها انتهت. ومن ثم تساءلت وللمرة الأولى، إن كانت كلير صادقة تماماً معي هنا. كونها عارفة كما عادتها أن لي أساليبـي الملتوية مع عبارات مثل: أنا، أبداً. حيث إنه لم يكن عندي يوماً جردٌ كامل جاهز عن ماضٍ في أي لحظة كانت، إذ إن ماضيي يتشابك بطريقة غير منطقية مع مستقبلي. بدأنا بتناول الفريز. «كلير». ضحكت، ببراءة. «ما الذي قررناه بالضبط في المرة الأخيرة عندما التقينا هنا؟ ما الذي كنا قد خططناه لذكرى ميلادك؟». توردت مجدداً. «حسناً، هذا». قالت وهي تشير إلى طعام الرحلة. «أي شيء آخر؟ أعني، هذا أمر رائع». «حسناً، أجل». كنت كلي آذانٌ صاغية، لأنني أعتقد أنني قد عرفت الآتي. «أجل؟». كانت كلير هادئة ومتوردة لكنها تمكنت من أن تبدو غير ذلك وبتبجيل بينما تقول: «قررنا أن نقيم علاقة حميمية». «آه». في الواقع لطالما تساءلت حول تجارب كلير قبل تاريخ 26 تشرين الأول 1991، عندما التقينا للمرة الأولى في الحاضر. وبالرغم من بعض محاولات الإثارة المدهشة من جانب كلير فقد أبيت الانجرار معها وأمضيت الساعات الطوال في الدرجة معها حول ذلك وهذا كله بينما أحاول أن أتجاهل حالات الاهتياج المؤلمة. لكن اليوم، كلير قانونياً، إن لم يكن عاطفياً، أصبحت شخصاً بالغاً، وبالتأكيد لن أستطيع أن أفسد حياتها كثيراً... هذا يعني، لقد تسببت لها نوعاً ما بطفولة غريبة فقط لمجرد تواجدي في طفولتها. كم من الفتيات يظهر أزواجهن المستقبليون أمامهن في عدة مناسبات رجالاً عراة تماماً ماثلين أمام أعينهن؟ كانت كلير تراقبني وأنا أفكر عميقاً. أفكر في المرة الأولى التي أقمت فيها علاقة مع كلير وتساءلت إن كانت هي المرة الأولى التي تقيم فيها علاقة معي. قررت أن أسألها حول ذلك عندما أعود إلى حاضري. وريثما يتم ذلك، كانت كلير تلملم الأغراض في سلة الرحلات. «إذاً؟». «ما هذا؟». كانت كلير متشوقة وخائفة أيضاً. «هنري، لقد أقمت علاقة معي عدة مرات...». «عـدة، عـدة مرات». كانت لديها صعوبة في قول ذلك. قلت لها: «كانت دوماً رائعة، إنها أجمل شيء في حياتي، وسأكون لطيفاً جداً». وكوني قلت ذلك جعلني متوتراً. أشعر بمسؤولية همبرت همبرت وكذلك أنني مراقب من عدة أشخاص، وكل أولئك الأشخاص هم كلير. لم أشعر يوماً بعدم الرغبة كما الآن. حسناً. نفس عميق. «أنا أحبك». وقفنا كلانا، نترنح قليلاً فوق سطح الملاءة غير المستوي. فتحت ذراعي وتحركت كلير نحوهما. وقفنا ثابتين متعانقين هناك في المرجة الخضراء مثل العريس والعروس فوق كعكة الزفاف. وبعد كل هذا، ها هي كلير، تأتي مع نفسي ذات الحادية والأربعين تماماً كما تقابلنا أول مرة. من دون خوف، انحنت برأسها إلى الخلف. وأنا أملت إلى الأمام وقبلتها. «كلير». «أمممم؟». «هل أنت أكيدة أننا بمفردنا هنا؟». «الجميع باستثناء إيتا ونيل اللتين ذهبتا إلى كالامازو». «لأنني أشعر وكأننا أمام الكاميرا، هنا». «مذعور، وحزين جداً». «لا عليك». «يمكننا الذهاب إلى غرفتي». «خطر جداً. يا اﷲ، وكأننا في المدرسة الثانوية». «ماذا؟». «لا عليك». رجعت كلير إلى الخلف، وأنـزلت سحاب فستانها. سحبته من رأسها ورمته على الملاءة من دون مبالاة محببة. خطت خطوة وخلعت حذاءها وجوربها... كل العلامات الصغيرة التي كنت مولعاً بها غير موجودة، معدتها منبسطة، ولا توجد آثار للمرات المتعددة من الحمل والإجهاض التي ستسبب لنا الأسى، يا لهذه السعادة. كلير هذه أنحف بقليل، وأكثر مرحاً من كلير التي أحبها في الحاضر. أدركت مرة أخرى كم أنا كثير الحزن. لكن، اليوم اختفى كل ذلك بأعجوبة، اليوم السعادة هي في متناول أيدينا. انحنيت على ركبتي، وجاءت كلير ووقفت قبالتي. غمرت وجهي عند معدتها للحظة، ثم نظرت إليها، تبدو كبرج أمامي، يداها في شعري، والسماء الزرقاء الصافية حولها. خلعت سترتي وفككت ربطة عنقي. نـزلت كلير على ركبتيها وفككنا أزرار كل الترصيعات بمهارة وسرعة كما البرق. خلعت ملابسي الداخلية... جلست كلير أيضاً، وأحاطت ركبتي بذراعيها، كأنها تحميني. «أأنتِ على ما يرام؟». «أنا خائفة». «هذا عادي». كنت أفكر. «أقسم لك إنك المرة القادمة التي سنلتقي فيها ستغتصبينني بشكل عملي. أعني، إنك بارعة بشكل استثنائي في ذلك». «حقاً؟». «بل وحارة». كنت أفتش في سلة الرحلات: كؤوس، ومشروب، وواقٍ ذكري، ومناديل. «فتاة ذكية». سكبت لكلينا كأسين من الشراب... شربت بطاعة، كطفل صغير يشرب الدواء. ملأت كأسها وكأسي مجدداً. «لكن لا يفترض بك أن تشرب». «إنها مناسبة تاريخية. ورفعنا كأسينا». تزن كلير قرابة 120 باونداً. لكن، لا ضير فهذان كأسا شراب اسكتلندي صغيرتان. «كأس أخرى». «أكثر؟ سأصاب بالنعاس». «ستسترخين». تجرعتها كاملة. هرسنا الكأسين بأيدينا ورميناهما في سلة الرحلات. تمددت على ظهري ويداي ممدودتان مثل شخص يتشمس، أو... تمددت كلير إلى جانبـي. ضممتها إليّ بحيث أصبحنا جنباً إلى جنب، نواجه بعضنا بعضاً. شعرها منثور على كتفيها وصدرها بطريقة جميلة جداً ومؤثرة وتمنيت للمرة المليون أن أكون رساماً. «كلير؟». «همممممم؟». «تخيلي نفسك أنك: مفرغة، جاء أحدهم وأخذ منك كل أحشائك، وتركك بالجملة العصبية فقط». كنت أضع طرف سبابتي في مكان يجب ألا يكون فيه. «مسكينة كلير الصغيرة، من دون أحشاء». «آه، لكن هذا أمر جيد، أرأيت، لأن هنالك دوماً مكاناً إضافياً. فكّر في كل الأشياء التي يمكنك وضعها في الداخل لو لم تكن لدينا هاتان الكليتان السخيفتان، والمعدة، والبنكرياس، وماذا أيضاً...». «و...». قالت كلير في صوت منخفض: «أوه، رائع». نبهتها: «من دون صراخ». ستنـزل حتى إيتا ونيل إلى المرجة الخضراء ليريا ما يحدث إن استمرت كلير على هذا المنوال من الصراخ... كانت عيناها مطبقتين... فتحت عينيها وابتسمت، منتصرة، وسعيدة سعادة لا توصف. ابتعدت بهدوء. استلقينا، جنباً إلى جنب، ونحن ننظر إلى السماء الزرقاء الصافية. كانت الريح تصدر صوتاً كأمواج البحر وهي تتخلل العشب. نظرت إلى كلير. بدت مذهولة بعض الشيء. «كلير». «هيه». قالتها بضعف. «هل آلمتك؟». «أجل». «هل أحببت ذلك». «أجل!». قالت هذا وبدأت تبكي. جلسنا، أمسكتها لفترة. إنها ترتجف. «كلير، كلير، ما خطبك؟». لم أستطع حملها على إجابتي في البداية، ثم: «سترحل بعيداً، لن أراك لسنوات وسنوات». «فقط لسنتين، سنتين وعدة أشهر». هدأت. «كلير، أنا آسف. لا أستطيع التحكم بذلك. إنه أمر مضحك، أيضاً، لأنني كنت مستلقياً هنا أيضاً أفكر في كم كان هذا اليوم ممتعاً. لأن أكون اليوم معك هنا بدل أن أكون ملاحقاً من قبل بعض السفاحين أو أتجمد حتى الموت في حظيرة أو في أي مكان أخرق آخر من الأماكن التي أقع فيها. وعندما أعود مجدداً، سأكون معك. واليوم كان رائعاً». ضحكت، قليلاً، قبلتها. «كيف يحدث أنني أنتظر دوماً؟». «لأن لديك حمضاً نووياً رائعاً ولا يرمي بك في الزمن مثل البطاطا الساخنة. بالإضافة، الصبر فضيلة». كانت كلير تمسح صدري بقبضتها، بنعومة. «بالإضافة، إلى أنك تعرفينني طوال حياتك، بينما أنا قابلتك فقط عندما كان عمري ثمانية وعشرين عاماً فقط. لذا أمضيت سنوات طويلة قبل أن نلتقي -». «وكنت تقيم علاقات مع أخريات». «حسناً، نعم. لكنك كنت مجهولة بالنسبة إليّ، كل ذلك كان مجرد تمرين حتى ألتقيكِ. كانت وحدة وغربة. إذا كنت لا تصدقينني، جربـي ذلك بنفسك، لن أعرف أبداً، يكون الأمر مختلفاً عندما نكون غير مبالين». «لا أريد أحداً سواك». «جيد». «هنري، أعطني تلميحاً بسيطاً، أين تعيش؟ أين نلتقي؟ في أي تاريخ؟». «تلميح واحد، شيكاغو». «أكثر». «كوني واثقة، كل ذلك هنا، أمامك». «هل نحن سعيدان؟». «غالباً ما نكون سعيدين بجنون. نكون أيضاً تعساء لأسباب لا دخل لنا بها. كأن ننفصل». «إذاً، كل الوقت الذي تمضيه هنا الآن لا تكون معي هناك حينها؟». «حسناً، ليس بالضبط. ينتهي الأمر بأن أفقد عشر دقائق فقط، أو عشرة أيام، ليست هنالك من قاعدة لذلك، هذا ما يجعل الأمر صعباً عليك، وأيضاً، في بعض الأحيان يفضي إلى أوضاع خطيرة، وأعود إليك مكسراً، وبحال يرثى لها، وتقلقين عليّ عندما أختفي. إنه كالزواج برجل الشرطة». أنا منهك، أتساءل ما هو عمري في الزمن الحقيقي. في التقويم أنا في عامي الواحد والأربعين، لكن مع كل هذا الذهاب والإياب لكنت ربما في الخامسة والأربعين أو السادسة والأربعين. أو ربما في التاسعة والثلاثين. من يعلم؟ هنالك شيء كان عليّ أن أخبرها به، ما هو؟ «كلير؟». «هنري». «عندما ترينني مجدداً، تذكري أنني لن أعرفك، لا تنـزعجي عندما ترينني أعاملك كشخص غريب تماماً، لأنك حينها ستكونين بالنسبة إليّ فتاة جديدة لا أعرفها. أرجوكِ لا تملأي رأسي بكل شيء دفعة واحدة. ارحميني، كلير». «سأفعل! أوه، هنري. ابقَ هنا!». «سأكون معك». تمددنا مجدداً، بدأ الإنهاك يداهمني وسأختفي خلال دقيقة. «أحبك، هنري، شكراً لك... على هدية ذكرى ميلادي». «أحبك، كلير، اعتني بنفسك». واختفيت. (56) جذامة: ما يبقى من الزرع بعد الحصد. السر الخميس، 10 شباط، 2005 (كلير 33 عاماً، هنري 41 عاماً) كلير: أجلس في مرسمي أصنع ورق القنب الأصفر الفاتح بعد ظهر يوم الخميس. مضى على اختفاء هنري نحو أربع وعشرين ساعة من الآن. وكالعادة أكون ممزقة بين قلقي وغضبـي، فمن ناحية أفكر في أي مكان وزمن يوجد هنري الآن، وغضبـي لعدم وجوده معي وقلقي وتساؤلي متى سيعود. يشتت هذا الأمر تركيزي وأنا أمزق العديد من الأوراق، وأرميها في القمامة ثم أعود إلى الراقود الكبير. أخيراً، أخذت استراحة، وسكبت لنفسي فنجاناً من القهوة. الجو بارد في المرسم، والماء في الراقود يفترض أن يكون بارداً بالرغم من أنني قمت بتدفئته قليلاً لأحمي يدي من التشقق. لففت يدي حول فنجان القهوة السيراميك، تصاعد البخار منه، وضعت وجهي فوقه، استنشقت البخار ورائحة القهوة. ثم، والحمد لله، سمعت هنري يصفر بينما يأتي من الممر عبر الحديقة نحو المرسم. نفض الثلج عن جزمته وهز معطفه، يبدو رائعاً، وسعيداً حقاً، قلبـي يتسارع وخمنت: «24 أيار، 1989؟». «أجل، أوه، أجل!». رفعني هنري إليه، بردائي المبلل وحذائي، وأدارني حوله. وأخذت أضحك الآن، كلانا ضحكنا. كان هنري يضج بالبهجة. «لماذا أخفيت عني هذا؟ لم يكن ضرورياً أن أبقى طوال هذه السنوات متسائلاً. يا لك من فتاة مشاكسة!». أخذ يعض رقبتي ويدغدغني. «لكنك لم تكن تعرف، لذا لم أرد أن أقول لك». «أوه، صحيح. يا اﷲ. أنت مدهشة». جلسنا على أريكة المرسم البالية. «ألا يمكننا أن نشعل التدفئة هنا؟». «بالتأكيد». قفز هنري ورفع درجة الحرارة إلى أعلى مستوى. جاءني الدفء. «كم مضى على غيابـي؟». «تقريباً، يوم كامل». تنهد هنري. «هل كان الأمر يستحق هذا؟ يوم كامل من التعب مقابل عدة ساعات جميلة حقاً؟». «أجل، كان ذلك من أجمل أيام حياتي». هدأت وتذكرت. وأنا عادة ما أحرض ذاكرتي لأستعيد وجه هنري وهو... محاط بالسماء الزرقاء، وذاك الشعور وهو ينفذ إليّ. أفكر في ذلك عندما يختفي وتواجهني صعوبة في النوم. «قولي لي...». «هممم؟». كنا نضم بعضنا، حتى ندفأ، ونتأكد أكثر. «ماذا حدث بعد أن غادرت؟». «جمعت كل الأغراض، وجعلت نفسي أقل ترتيباً وعدت إلى المنـزل. صعدت إلى الأعلى من دون أن أركض نحو أي كان وأخذت حماماً. بعد فترة أخذت إيتا تهمهم على الباب طالبة أن تعرف لماذا كنت في البانيو وسط النهار! وكان عليّ أن أدعي أنني مريضة. وكنت كذلك، بطريقة ما... أمضيت الصيف أتسكع هنا وهناك، أنام كثيراً. وأقرأ. انطويت على نفسي نوعاً ما. أمضيت بعض الوقت في الأسفل في المرجة على أمل أنك لربما تظهر. وكتبت لك رسائل، وأحرقتها. وتوقفت عن الأكل لفترة، وأخذتني ماما إلى معالج التغذية، وبدأت آكل من جديد. وفي نهاية آب أخبرني والداي إنه إن لم أعد إلى رشدي فلن يدعاني أذهب إلى الكلية في ذاك الخريف، لذا عدلت نفسي فوراً لأن هدفي الأساس في الحياة كان أن أخرج من المنـزل وأذهب إلى شيكاغو. والكلية كانت أمراً حسناً، كانت جديدة، ولديّ شقة، أحببت المدينة. وجدت شيئاً آخر يشغلني وأفكر فيه بالإضافة إلى حقيقة أنني لا أعرف أين أنت أو كيف أجدك. ومع مرور الوقت تمكنت أخيراً من إيجادك وأبليت بلاءً حسناً، كنت في عملي، لديّ أصدقاء، وطُلب مني الذهاب في مواعيد نوعاً ما -». «أوه؟». «بالتأكيد». «هل ذهبت؟ في موعد؟». «حسناً، أجل. حس الاستكشاف... ولأنني أحياناً أصاب بالجنون لمجرد التفكير في أنك في مكان ما تواعد امرأة غيري. لكن كلها كانت من نوع الكوميديا السوداء. أخرج مع أحد الفتيان الرائعين في مجال الفن، وأمضي المساء بطوله أفكر في كم هو ممل وعقيم، وأنا أراقب ساعتي. توقفت بعد خمسة منهم لأنني عرفت أنني أخدع هؤلاء الفتيان. بعضهم أذاع عني أنني كنت شاذة ثم جاءتني بعض الفتيات يطلبن مواعدتي». «أستطيع أن أرى فيك ميولاً شاذة». «ياه، تأدب وإلا تحولت». «وأنا سأتحول، لطالما أردت أن أقيم علاقات غير سوية». بدا هنري حالماً ومهيئاً للنوم، ليس من العدل عندما اختتمت كلامي وأود أن أقفز عليه. تثاءب: «أوه، حسناً، ليس في هذه الحياة، التحول يحتاج إلى العديد من العمليات الجراحية». سمعت في رأسي صوت الأب كومبتون من وراء قضبان الاعتراف يسألني بلطف إن كان هناك شيء آخر أود الاعتراف به. لا. قلت له بثبات. لا. ليس هنالك شيء. كان ما حدث زلة. وقد كنت ثملة، ولم يكن أمراً محسوباً. تنهد الأب وسحب الستار. انتهى الاعتراف. كانت نيتي أن أكذب على هنري، بمحو الأمر، طالما أنه كان علينا نحن الاثنين أن نعيش. نظرت إليه، بسعادة مستمتعة بسحر نفسي الشابة، وصورة غوميز نائماً، وتوهجت غرفة نوم غوميز في ضوء الصباح على مسرح أفكاري. قلت له بيني وبين نفسي: هنري لقد كان ما حدث زلة. كنت أنتظر، وجاءتني ضربة على جنبـي لمرة واحدة فقط من الأب كومبتون أو سواه تدفعني إلى الاعتراف لهنري. لا لا أستطيع، تراجعت، سيكرهني. «هيه». قال هنري بلطف: «أين ذهبت؟». «أفكر». «تبدين تعيسة جداً». «هل تقلق أحياناً أن كل هذه الأمور الجيدة قد مرت بنا وانتهت؟». «لا، حسناً، نوعاً ما، لكن بطريقة مختلفة عمّا تقصدين. فأنا لا أزال أمر الآن باللقاءات التي تخفينها عني، لذا لم ينتهِ كل شيء حقاً بالنسبة إليّ. أقلق من أننا لا نعير انتباهاً كبيراً لنا هنا والآن. فهذا السفر في الزمن هو حالة متقطعة، لذا فأنا أكثر... تيقظاً بشأن أمرنا هنا عندما أكون خارجاً من الحاضر ويبدو الأمر هاماً نوعاً ما، وأحياناً أفكر في أنه لو كان في إمكاني أن أتنبه فقط إلى هنا والآن فستكون حياتنا مثالية. لكن، كانت هنالك أمور رائعة، مؤخراً». ابتسم، تلك الابتسامة الجميلة المتدرجة، وكلها براءة، وسمحت لشعوري بالذنب أن يتنحى جانباً ويعود إلى الصندوق الصغير الذي أخفي فيه أسراري محشورة كالمظلة المغلقة. «آلبا». «آلبا رائعة، وأنت رائعة، أعني، بقدر ما أحبك، عائداً من هناك، إنها الحياة المشتركة، معرفة بعضنا بعضاً...». «بكل صغيرة وكبيرة...». «إن حقيقة وجود أوقات عصيبة تجعل الأمور أكثر واقعية. والواقعية هي ما أريد». قولي له، قولي له. «حتى الواقعية يمكن أن تكون غير حقيقية...». إن كنت سأبوح له بأي شكل من الأشكال فهذا هو الوقت المناسب. إنه ينتظر. أنا فقط لا أستطيع. قال: «كلير؟». نظرت إليه وأنا بحالة مزرية، كطفل التقط في وضع معقد، ثم قلتها، غالباً على نحو غير مسموع. «لقد أقمت علاقة حميمية مع شخص آخر». تجمد وجه هنري. غير مصدق. سأل: «مع من؟». من دون أن ينظر إليّ. «مع غوميز». «لماذا؟». كان هنري لا يزال متجمداً، بانتظار الانفجار. «كنت ثملة. كنا في حفلة، وكانت كاريس في بوسطن -». «لحظة، متى حدث ذلك؟». «1990». بدأ هنري يضحك. «أوه، يا اﷲ، كلير لا تفعلي ذلك بـي، اللعنة. 1990، يا اﷲ اعتقدت أنك تتحدثين عن شيء حدث، مثلاً، الأسبوع الماضي». ضحكت بوهن. قال: «أعني، أنه ليس كما لو أن الأمر أسعدني، ولكن، وبما أنني طلبت منك أن تخرجي وتجربـي لا أستطيع حقاً... لا أعرف». بدا غير مرتاح. نهض وبدأ يمشي في المرسم، وأنا مرتابة. أمضيت خمسة عشر عاماً وأنا مكبلة بخوفي، الخوف من أن يقول غوميز شيئاً ما، أو يفعل شيئاً في أثناء مزاحه مع هنري، وهنري الآن لا يكترث، أو أنه يكترث؟ سألني: «كيف كان ذلك؟». بهدوء وببساطة، وظهره إليّ وهو يعبث بجهاز القهوة. انتقيت كلماتي بعناية. «أمر مختلف. أعني، من دون الدخول في نقد غوميز بشكل حقيقي -». «أوه، تابعي». «كانت إلى حدٍّ ما كشراء شيء من محل صيني، ومحاولة الخروج منه ولو بثور». ... بعد لحظة من التردد بدأ هنري يقبلني بالمقابل، وقبل مضي وقت طويل بدأنا نعود إلى وضعنا الطبيعي مجدداً. وأفضل من أحوالنا العادية. لقد أخبرته ومضى الأمر، ولا يزال يحبني. بدأت أشعر أن كل جسمي أصبح أكثر خفة، وأحسست بفضيلة الاعتراف. أخيراً، شعرت أنني حظيت بسيارة كاملة خالية من الضرائب. وهناك في الماضي، في مكان ما، كنت مع هنري نقيم علاقة حميمية على ملاءة خضراء في المرجة الخضراء، وأيضاً غوميز نظر إليّ ثملة وتمكن من الوصول إليّ بيديه الضخمتين، وكل شيء، كل شيء يحدث الآن في الحاضر، ولكن الوقت قد فات، كما العادة، لتغيير أي شيء، أقمت وهنري علاقة على أريكة المرسم كمن يفتح صناديق الشوكولاته للمرة الأولى، ولم يكن قد فات الأوان، ليس بعد على كل حال. السبت، 14 نيسان، 1990، 6:43 صباحاً (كلير 18 عاماً) كلير: فتحت عيني ولم أكن أعرف أين أنا. رائحة سيجارة، وظل الستائر المعدنية ينعكس على الجدار الأصفر المتصدع، أدرت رأسي وإذا بغوميز إلى جانبـي على السرير. فجأة تذكرت وارتعبت. هنري، سيقتلني هنري، وستكرهني كاريس، نهضت. غرفة نوم غوميز عبارة عن حطام ممتلئ بمنافض أعقاب السجائر، والثياب، وكتب القانون، والصحف، والأطباق المتسخة. كانت ثيابـي ملقاة في كومة صغيرة متهمة على الأرض بجانبـي. ينام غوميز بعمق. يبدو ساكناًً وليس كشاب خان في هذه الليلة صديقته مع أعز صديقاتها. شعره الأشقر وحشي، وليس في أفضل حالاته العادية المرتبة والمحكمة. يبدو كرجل ناضج، منهك من كثرة الألعاب الصبيانية. رأسي يدور، تبدو أحشائي وكأنها ضربت. نهضت مترنحة، ومشيت عبر الصالة إلى الحمام الذي كان وسخاً وعفناً وممتلئاً بمعاجين الحلاقة والمناديل الرطبة. عندما دخلت الحمام لم أكن متأكدة مما أريد، هل أبول وأغسل وجهي بصابونة السيلفر القاسية؟ نظرت إلى نفسي في المرآة لأرى إن كنت أبدو مختلفة، لأرى إن كان هنري سيكتشف شيئاً بمجرد النظر إليّ... بدوت نوعاً ما مصابة بالدوار. ولكن، عدا ذلك، كنت كما أبدو عادة عند السابعة صباحاً. المنـزل هادئ. هنالك ساعة تتكتك في مكان ما هنا. يتشارك غوميز هذا المنـزل مع شابين آخرين، صديقين له في كلية الحقوق في نورث ويستيرن. لم أرغب في أن أهرب، عدت إلى غرفة غوميز وجلست على السرير. ابتسم غوميز وقال لي: «صباح الخير». وهو يقترب مني، نكصت وانفجرت بالبكاء. «واووو، قطتي! كلير، بيبـي، هيه، هيه...». أخذني إليه وفي الحال بدأت أبكي بين ذراعيه. فكّرت في كل الأوقات التي بكيت فيها على كتف هنري. أين أنت؟ تساءلت بيأس. أحتاج إليك، هنا وفي الحاضر. كان غوميز يلفظ اسمي، مرة تلو المرة. ماذا أفعل هنا، من دون أي ملابس، أبكي معانقة غوميز العاري مثلي؟ مدّ جسمه وتناول علبة مناديل وأعطاني إياها، استنثرت، وجففت عيني، ثم نظرت إليه بيأس لا حدود له، نظر إليّ بارتباك. «أأنت على ما يرام الآن؟». لا. كيف يمكن أن أكون كذلك. قلت: «أجل». «أي خطأ ارتُكب؟». هززت كتفي. انتقل غوميز إلى مزاج استجواب شاهد ضعيف. «كلير، هل أقمت علاقة من قبل؟». أومأت برأسي. «هل يتعلق الأمر بكاريس؟ أتشعرين بهذا السوء لأجل كاريس؟». أومأت برأسي. «هل فعلت لك شيئاً خطأ؟». هززت رأسي. «كلير، من يكون هنري؟». حدقت إليه بشك. «كيف عرفت؟...». لقد فعلتها. اللعنة. ذاك اللعين هنري. انحنى غوميز إلى الأمام، وتناول السجائر عن الطاولة الجانبية، وأشعل واحدة، هز عود الثقاب ليطفئه، أخذ مجة عميقة، بدا غوميز والسيجارة بيده وكأنه... مرتدٍ ملابسه نوعاً ما، على الرغم من أنه ليس كذلك. وعرض عليّ واحدة فتناولتها منه من دون كلام، على الرغم من أنني لا أدخن، وكأنها الشيء الذي يمكنني فعله الآن، وكأنها تعطيني وقتاً للتفكير في ما سأقوله. أشعل السيجارة لي، ونهض، نبش في خزانته، وجد ثوب حمام أزرق يبدو أنه غير نظيف تماماً، ناولني إياه، وضعته عليّ، كان كبيراً. جلست على السرير، وأنا أدخن، وأنظر إلى غوميز وهو يلبس بنطال الجينـز. حتى وأنا في حال يأسي هذه لاحظت أن غوميز وسيم، طويل، وعريض الكتفين... إنه نوع مختلف تماماً من الوسامة عن النمر الرشيق الوحشي هنري. شعرت فجأة بالفظاعة للمقارنة. وضع غوميز منفضة أعقاب السجائر بجانبـي، وجلس على السرير، ونظر إليّ. «كنت تتحدثين في أثناء نومك مع شخص يدعى هنري». اللعنة. اللعنة. «ما الذي قلته؟». «مجرد اسم هنري، مراراً وتكراراً، وكأنك كنت تنادينه ليأتي إليك. وكذلك، أنا آسفة. ومرة قلتِ، حسناً، لم تكن هنا وكأنك غاضبة حقاً. من يكون هنري؟». «هنري هو حبيبـي». «كلير، ليس لديك حبيب. أنا وكاريس معك يومياً تقريباً منذ ستة أشهر. ولم تواعدي أحداً، ولا أحد يتصل بك». «هنري هو حبيبـي، لكنه رحل لبعض الوقت، وسيعود مجدداً في خريف العام 1991». «أين هو؟». في مكان ما في الجوار. «لا أعرف». اعتقد غوميز أنني أختلق كل ذلك، وليس لأجل سبب بعينه كنت مصممة أن أجعله يصدقني، أمسكت بحقيبتي، وفتحت حقيبتي الصغيرة، وأريت غوميز صورة هنري. تفحصها بعناية. «لقد رأيت هذا الفتى. حسناً، لا، إنه شخص يشبهه كثيراً. هذا الفتى أكبر بكثير من أن يكون نفس الفتى. ولكن اسم ذاك الشخص هنري أيضاً». بدأ قلبـي يخفق بجنون. حاولت أن أكون عادية وأنا أسأله: «أين رأيت ذاك الشخص؟». «في النوادي. غالباً في نادي إيكزيت وسمارت. لا أستطيع أن أتصور أنه حبيبك، إنه حقير. تبدو الفوضى في كل تصرفاته. وهو مدمن، وهو... لا أعرف. وهو حقاً عنيف مع النساء، أو هكذا سمعت عنه». «عنيف؟». لا أستطيع تصور هنري يضرب امرأة. «لا، لا أعرف». «ما اسمه الأخير؟». «لا أعرف. اسمعي قطتي، هذا الفتى سيمضغك ثم يرميك... إنه لا يناسبك إطلاقاً». ابتسمت. إنه بالضبط ما أحتاج إليه، ولكنني أعرف أنّ من العبث الذهاب وملاحقته في المشارب ومحاولة إيجاده. «ما الذي يناسبني؟». «أنا، عدا عن أنه من الواضح أنكِ لم تفكري على هذا النحو». «لديك كاريس. ما الذي تريده مني؟». «أريدك فحسب. لا أعرف لماذا». «هل أنت مورموني(57) أو شيء من هذا القبيل؟». قال غوميز بجدية بالغة: «كلير، أنا... انظري، كلير -». «لا تقلها». «حقاً، أنا -». «لا. لا أريد أن أعرف». نهضت، رميت سيجارتي، وبدأت أرتدي ملابسي. جلس غوميز ساكناً من غير حراك وهو يراقبني وأنا أرتدي ملابسي. شعرت أنني قذرة، وبهيمة، ورخيصة وأنا أرتدي ملابس حفلة ليلة الأمس أمام غوميز، لكنني حاولت ألاّ أظهر ذلك. لم يكن في إمكاني سحب السحاب الطويل في ظهر الفستان وساعدني غوميز بارتباك. «كلير، لا تغضبـي». «أنا لست غاضبة منك، بل من نفسي». «لا بد أن يكون هذا الفتى شيئاً، إن كان في مقدوره الابتعاد عن فتاة مثلك لعامين، ويتوقع أن تبقي مخلصة له بعد عامين». ابتسمت لغوميز. «إنه رائع». أستطيع أن أرى أنني جرحت مشاعر غوميز بهذا. «غوميز، أنا آسفة. لو أنني كنت غير مرتبطة، وأنت كنت غير مرتبط...». هز غوميز رأسه، ومن دون أن أنتبه، قبلني. قبلته بالمقابل، وكانت هنالك لحظة صمت قبل أن أقول: «عليّ أن أغادر الآن، غوميز». أطرق رأسه. وغادرت. الجمعة، 27 نيسان، 1990 (هنري 26 عاماً) هنري: كنت مع إنغريد في مسرح الريفييرا، نرقص لنُهدئ رأسينا من صخب مشرب إيجي بوب. لطالما كنا دوماً سعيدين بالرقص أو بالعلاقة أو بأي شيء آخر يتضمن نشاطاً جسدياً من دون كلام. نحن في هذه اللحظة نشق طريقنا إلى المقدمة، والسيد بوب يجرنا جميعاً إلى صالة الرقص المكتظة بالطاقة المجنونة. قلت لإنغريد ذات مرة إنها ترقص كالألمان فلم يعجبها ذلك، لكنها الحقيقة. إنها ترقص بجدية، وكأن حياة الناس تتعلق بالتوازن، وكأن الرقص المحكم سينقذ الأطفال الجياع في الهند، إنها رائعة. وكانت فرقة الإيغستر تغني: أنا مكبوت، ولا أستطيع الاستمرار هييه. أعرف تماماً هذا الشعور. من خلال لحظات كهذه أعرف ماهية العلاقة بيني وبين إنغريد. لقد أخذت وإنغريد السرعة الكافية لإطلاق المكوك إلى بلوتو، ولديّ شعور غريب وضارٍ وقناعة عميقة أنه يمكنني فعل ذلك، أن أبقى هنا، لبقية حياتي وأن أكون سعيداً تماماً. إنغريد تتعرق، وقد التصقت التي شيرت البيضاء بجسمها بطريقة مثيرة وجميلة وممتعة بحيث إنني فكّرت في أن أنـزعها عنها ثم امتنعت، لأنها لا ترتدي حمالة صدر ولن أنتهي مما ستقوله يوماً. رقصنا، وإيجي بوب يغني، وبأسف، انتهى بعد ثلاث وصلات، وانتهت الحفلة أخيراً. أشعر بإحساس رائع. وبينما نخرج مع نظرائنا المفعمين بالموسيقى، تساءلت ما الذي سنفعله الآن. انطلقت إنغريد لتقف في الصف الطويل أمام حمامات النساء، وأنا أنتظرها عند الباب الخارجي. أراقب شاباً في سيارة بـي أم دبليو يتجادل مع عامل المرأب حول مكان غير مسموح الركن فيه عندما تقدم هذا الفتى الأشقر الضخم نحوي. سألني: «هنري؟». تساءلت إن كان يريدني أن أشهد لصالحه تحت القسم في المحكمة أو لشيء كهذا. «نعم؟». «كلير تسلم عليك». من كلير هذه؟ «آسف، الرقم خطأ». مشت إنغريد نحوي، بدت كعادتها فتاة بوند بذاتها. إنها بحجم هذا الفتى الضخم، الذي هو من نوع الفتيان الوسيمين. وضعت يدي حولها. ابتسم الفتى. «آسف. يبدو أنك تشبه أحدهم». انقبض قلبـي، هنالك شيء يحدث هنا لا أفهمه، القليل من مستقبلي ينسل نحو الحاضر. لكن، ليست هذه اللحظة المناسبة للتحقيق. بدا سعيداً حول شيء ما. طلب الانصراف، ورحل. قالت إنغريد: «ما كان كل ذلك». أطردت قائلاً: «أعتقد أنه شبّهني بشخص يعرفه». بدت إنغريد قلقة. أي شيء حولي يجعل إنغريد تقلق، لذا تجاهلت الأمر برمته. «هيه، إنغريد، ما الذي سنفعله الآن؟». أشعر وكأنني أتسلق المباني الضخمة بقفزة واحدة. «إلى منـزلي؟». «ذكية». توقفنا عند مارغيز كانيدز لتناول الآيس كريم، وفوراً إلى السيارة نغني: «أنا أغني، وأنت تغني، والكل يغني لأجل الآيس كريم». ونضحك كما الأطفال المجانين. لاحقاً، وأنا مع إنغريد، تساءلت في نفسي من تكون كلير هذه، لكنني استنتجت أنه ما من جواب لذلك، لذا نسيت الأمر. الجمعة، 18 شباط، 2005 (هنري 41 عاماً، كلير 33 عاماً) هنري: كنت أصطحب كاريس إلى دار الأوبرا. إنها حفلة لتريستان وأيسولد. يكمن السبب في اصطحابـي لكاريس وليس كلير هو كره كلير الشديد لفاغنر، وأنا لست من أشد المغرمين به، ولكن، لدينا بطاقات موسمية، والأمران سيان بالنسبة إليّ إن ذهبت أم لم أذهب. كنا نتناقش في ذلك ذات مساء عندما كنا في زيارة لكاريس وغوميز، حيث قالت كاريس بحزن إنها لم تذهب مرة واحدة إلى الأوبرا، وكانت نتيجة كل ما دار حينها، أنني الآن أنـزل من سيارة الأجرة مع كاريس أمام مدخل دار الأوبرا وكلير في المنـزل تعتني بآلبا وتلعب السكرابل مع أليسيا التي أتت لزيارتنا هذا الأسبوع. لا مزاج لديّ فعلاً لذلك. عندما توقفت عند منـزلهما لاصطحاب كاريس، غمزني غوميز قائلاً: «لا تجعلها تتأخر معك كثيراً، يا فتى!». في نبرة صوت أبعد ما تكون عن صوت الأب. لا أستطيع أن أتذكر متى كانت آخر مرة قمت فيها بأي نشاط مع كاريس بمفردنا، تعجبني كاريس، كثيراً، لكن، لا توجد بيننا أحاديث مشتركة. قدت كاريس بين الحشد. مشت ببطء، وهي تجول بناظريها إلى البهو الرائع الفخم والصالات الرخامية الضخمة المكتظة بالأثرياء المتأنقين والطلاب الذين يضعون الفرو الصناعي ويضعون الحلقات على أنوفهم. ضحكت كاريس من منظر باعة بطاقات الأوبرا، وهما رجلان يرتديان التوكسيدو ويقفان أمام مدخل بهو دار الأوبرا ويغنيان أوبرالياً في نغمتين متجانستين: «الأوبـرا! اشتر لنفسك بطاقة لحفل الأوبـرا!». لا يوجد أحد أعرفه هنا، فالمولعون بموسيقى فاغنر هم من ذوي القبعات الخضراء من المغرمين بالأوبرا وهم من ذوي طبيعة صارمة يعرفون بعضهم بعضاً. هناك الكثير من القبلات في الجو بينما أشق طريقي مع كاريس صاعدين إلى إحدى شرفات الأوبرا. هناك شرفة خاصة لنا أنا وكلير، وهي شرفة نحبها. سحبت الستارة بينما دخلتها كاريس وقالت: «أوه!». أخذت معطفها ووضعته على كرسي، وفعلت الشيء نفسه بمعطفي. جلسنا، وضعت كاريس ساقاً فوق الأخرى، ومدّت يديها الصغيرتين في حضنها. شعرها الأسود يلمع في الضوء الخافت الناعم، وهي تشبه في لون حمرة شفاهها الداكن وعينيها المتفاجئتين طفلاً متأنقاً بارعاً سُمح له بالبقاء حتى وقت متأخر مع الكبار. جلست وتمعنت في جمال القصيدة، وفي الذهب المزخرف والشاشة الخضراء اللذين يغطيان المسرح، والتموجات التي تؤطر الجص النازل على كل قوس وقنطرة، وهمهمة الجمهور المنتظر. انطفأت الإضاءة، وأومأت كاريس إليّ بابتسامة عريضة. ارتفعت الستارة، وها نحن ذا نقلع، وبدأت أيسولد بالغناء. أسندت رأسي على الكرسي وأطلقت العنان لنفسي في حضور صوتها. أربع ساعات، جرعة كاملة من الحب، تلاها تصفيق حار، استدرت نحو كاريس وسألتها. «حسناً، هل أعجبتك؟». ابتسمت: «كانت سخيفة، أليس كذلك؟ لكن الغناء جعلها تبدو غير ذلك». ألبستها معطفها الذي تحسسته لتجد فتحتي كميه، وجدتهما وأدخلت ذراعيها. «سخيفة؟». تساءلت. «لكنني على استعداد لأن أتظاهر أن جين إيغلاند شابة وجميلة بدل البقرة التي تزن ثلاثمائة كيلوغرام ولها صوت إيوتيربـي»(58). «إيوتيربـي؟». «متعة الموسيقى». انضممنا إلى جموع المستمعين المنتشين المطروبين، ونـزلنا إلى الأسفل، وخرجنا حيث البرد. مشينا نحو وايكر درايف قليلاً ثم تمكنت من أن أُصفّر إلى سيارة أجرة بعد بضع دقائق. كنت على وشك أن أقول للسائق عنوان منزل كاريس عندما قالت لي: «هنري، دعنا نذهب، ونحتسي فنجاناً من القهوة، لا أريد العودة إلى المنـزل بعد». طلبت من السائق أن يأخذنا إلى مقهى كافييه دون، الذي لا يقع في جارفيز، بل في الطرف الشمالي من المدينة. أخذت كاريس تتجاذب أطراف الحديث معي حول الغناء، الذي كان رفيعاً، وحول الألحان، حيث اتفقنا على أنها لم تكن ملهمة؛ حول الصعوبة الأخلاقية في الاستمتاع بفاغنر عندما تعلم أنه كان وغداً معادياً للسامية وكان هتلر من كبار المعجبين به. عندما وصلنا إلى كافييه دون، كان مكتظاً. وجدنا طاولة صغيرة في الخلف. طلبت كاريس فطيرة الكرز وقهوة، وطلبت حلوى زبدة الفول السوداني والجيلي وقهوة. وصوت بيري كومو يغني عبر جهاز الاستيريو، وقد كان الجو عابقاً بدخان السجائر فوق طاولات الطعام ولوحات رخيصة. وضعت كاريس رأسها على يديها وتنهدت. «هذا رائع. أشعر أحياناً أنني نسيت كيف تكون حياة الأشخاص الناضجين». «أنتما لا تخرجان كثيراً؟». فتتت كاريس الآيس الكريم على الحلوى بالشوكة، ثم ضحكت وقالت: «جو يفعل ذلك، يقول إن مذاقها يصبح أطيب إن كانت مفتتة. يا اﷲ، أنا آخذ منهم عاداتهم السيئة بدل أن أعلمهم العادات الحسنة». أكلت قطعة من الفطيرة. «للإجابة عن سؤالك، بلى، نحن نخرج. ولكن، ذلك دائماً لأمور سياسية. غوميز يفكر في أن يترشح لانتخابات مجلس المدينة». ابتلعت القهوة، أخطأت في شربها فسعلت. عندما تمكنت من التكلم مجدداً قلت لها: «أنت تمزحين. أليس هذا ارتداداً إلى الجانب المظلم؟ لكن غوميز ينتقد مجلس المدينة دوماً». رمقتني كاريس بنظرة ساخرة. «لقد قرر تغيير النظام من الداخل. إنه منـزعج جداً من حالات الإساءة للأطفال. أعتقد أنه أقنع نفسه أنه سيتمكن فعلاً من فعل شيء حيال هذا إن كان يتمتع ببعض النفوذ». «قد يكون على حق». هزت كاريس رأسها. «أحب علاقتنا أكثر عندما كنا شابين ثوريين فوضويين. أفضل نسف الأمور أكثر من التملق». ابتسمت. «لم أدرك يوماً أنك أكثر راديكالية من غوميز». «في الحقيقة، أنا لست صبورة مثل غوميز. أريد الفعل». «غوميز صبور!». «أكيد. أعني، انظر إلى الأمر برمته مع كلير -». توقفت كاريس فجأة. نظرت إليّ. «ما الأمر برمته؟». أدركت وأنا أطرح السؤال أن هذا هو سبب وجودنا هنا، أن كاريس تتحين الفرصة للحديث عن ذلك. تساءلت ما الذي تعرفه ولا أعرفه، تساءلت إن كنت أريد أن أعرف ما تعرفه كاريس، لا أعتقد أنني أود معرفة أي شيء. نظرت إلى الأسفل إلى قهوتها، ووضعت يديها حول فنجانها. «حسناً، اعتقدت أنك عرفت، لكن، أي مثل، أن غوميز واقع في حب كلير». «أجل». لم أساعدها بهذا. كانت كاريس تتعقب بإصبعها خطوط القشرة الخشبية للطاولة. «وهكذا... تقول له كلير دوماً أن يمضي في المسير، وهو يعتقد أنه إن توقف هنالك بما يكفي، سيحدث شيء ما، وسينتهي الأمر به معها». «شيء ما سيحدث...؟». «لك». التقت عينا كاريس بعينيّ. شعرت بالدوار. قلت لها: «عن إذنك». نهضت، وشققت طريقي إلى الحمام الصغير المزين بصور مارلين مونرو. غسلت وجهي بالماء البارد. واتكأت على الجدار وعيناي مغلقتان. وعندما اتضح لي أنني لن أرحل إلى أي زمن مشيت عائداً إلى الطاولة وجلست. «آسف، ماذا كنت تقولين؟». بدت كاريس خائفة وصغيرة. قالت بهدوء: «هنري، أخبرني». «كاريس، أخبرك بماذا؟». «قل لي إنك لن ترحل إلى أي مكان آخر. قل لي إن كلير لا تريد غوميز، قل أي شيء يمكنه أن يصلح الأمر. أو قل لي إن كل هذا هراء، لا أعرف - فقط قل لي ما الذي يحدث!». ارتجف صوتها. وضعت يدها على ذراعي، ومسكت نفسي من أن أتراجع إلى الوراء. «ستكونين بخير يا كاريس، سيكون كل شيء على ما يرام». حدقت إليّ غير مصدقة وتريد أن تصدق. أسندت رأسي على الكرسي. «لن يتركك». تنهدت. «وأنت؟». كنت صامتاً. حدّقت كاريس إليّ، ثم أخفضت رأسها. وقالت: «دعنا نذهب إلى المنـزل». وأخيراً ذهبنا. الأحد، 12 حزيران، 2005 (كلير 34 عاماً، هنري 41 عاماً) كلير: إنه يوم مشمس من بعد ظهيرة يوم الأحد، كنت أمشي إلى المطبخ وإذ بـي أجد هنري واقفاً عند النافذة ينظر إلى الخارج إلى الباحة الخلفية. أشار إليّ لآتي قربه. وقفت بجانبه، ونظرت إلى الخارج. كانت آلبا تلعب في الساحة مع فتاة أكبر منها، كانت الفتاة في السابعة من العمر. لها شعر طويل أسود وحافية القديمين. ترتدي تي شيرت وعليها شعار كابس. كانتا تجلسان على الأرض وهما متقابلتان. كان ظهر تلك الفتاة لنا. وآلبا تضحك معها وتشير بيديها وكأنها تطير. والفتاة تهز رأسها وتضحك. نظرت إلى هنري. «من تكون هذه؟». «هذه آلبا». «نعم، لكن من معها؟». ابتسم هنري، لكن حاجبيه تحركا سوياً لذا بدت ابتسامته غريبة. «كلير، هذه آلبا عندما تصبح كبيرة. إنها تسافر عبر الزمن». «يا اﷲ». حدّقت إلى الفتاة. إنها تدور وتشير إلى المنـزل، رأيت وجهها بحركة سريعة ثم استدارت مجدداً. «هل يجب أن نخرج إليهما؟». «لا، إنهما بخير. إذا أرادتا الدخول إلى هنا فستدخلان». «أود أن أقابلها...». بدأ هنري بقول: «من الأفضل ألا تفعلي -». ولكن بينما يقول ذلك قفزت الاثنتان وقدمتا متسابقتين نحو الباب الخلفي، يداً بيد، اندفعتا نحو المطبخ تضحكان. «ماما، ماما». قالت آلبا ابنتي ذات الثلاث سنوات، مشيرة: «انظري، آلبا كبيرة!». ابتسمت آلبا الأخرى وقالت: «مرحباً، ماما». وأنا أبتسم وقلت لها: «مرحباً، آلبا». وعندما استدارت ورأت هنري صرخت: «بابا!». وركضت نحوه، ورمت بنفسها بين ذراعيه، وبدأت بالبكاء. نظر هنري إليّ، انحنى نحو آلبا، مؤرجحاً إياها، وهمس في أذنها بشيء ما. هنري: كلير شاحبة اللون وهي تقف وتراقبنا، تمسك بيد آلبا الصغيرة، آلبا التي تقف فاغرة فاهها بينما ذاتها الكبيرة تلتصق بـي وتبكي. انحنيت نحو آلبا، وهمست في أذنها: «لا تقولي لأمك إنني مت، حسناً؟». نظرت إليّ، والدموع عالقة بين رموشها الطويلة، وشفتاها ترتجفان، وأومأت. كانت كلير تمسك بمنديل، وتطلب من آلبا أن تستنثر وتضمها. سمحت آلبا الكبيرة لأمها أن تذهب معها لتغسل وجهها. ولفت آلبا الصغيرة، آلبا الحاضر، بنفسها حول ساقي. «لماذا، بابا؟ لماذا هي حزينة؟». ولحسن الحظ لم يكن عليّ أن أُجيب لأن كلير وآلبا قد عادتا، وقد لبست آلبا تي شيرت خاص بكلير، وأحد بناطيلي القصيرة. قالت كلير: «هيه، جميعكم هنا. لِمَ لا نذهب ونتناول الآيس كريم؟». ضحكت كلتا آلبا، رقصت آلبا الصغيرة وصاحت: «أنا أغني، وأنت تغني، أنا أغني، وأنت تغني...». تكومنا في السيارة، وقادت كلير بنا، آلبا الصغيرة ذات الثلاث سنوات في المقعد الأمامي، وآلبا ذات السبع سنوات وأنا في المقعد الخلفي. مالت عليّ ووضعت يدي حولها. لم ينبس أحدنا بأي كلمة سوى آلبا الصغيرة التي كانت تقول: «انظري آلبا، الكلوب! انظري آلبا، انظري آلبا...». حتى قالت ذاتها الكبيرة لها: «أجل آلبا، أنا أرى». قادتنا كلير إلى محل زيفاير، جلسنا في حجرة زجاجية زرقاء صغيرة، وطلبنا اثنين من البنانا سبليت، وميلك شوكولاته، وكوز آيس كريم فانيليا بالسبرينكلز. التهمت الصغيرتان البنانا سبليت مثل ماكينة تنظيف السجاد، بينما أنا وكلير نتسلى بالآيس كريم، ولا ننظر إلى بعضنا. قالت كلير: «آلبا، ما الذي يحدث معك، في حاضرك؟». رمقتني آلبا بنظرة سريعة، وقالت: «ليس بالشيء الكثير، يقوم جدي بتعليمي سانت سوان، كونشرتو الكمان الثاني». أسرعت قائلاً: «تعزفين في حفلة في المدرسة». قالت: «أنا؟ ليس بعد على ما أظن». قلت: «أوه، آسف». «أعتقد أن ذلك يحدث في العام التالي». استمر الأمر على هذا المنوال. قمنا بمحادثة متعثرة، التففنا فيها حول ما نعرفه، وحول كيف يجب أن نحمي كلير وآلبا الصغيرة من معرفته. بعد فترة وضعت آلبا الكبيرة يديها على رأسها بين ذراعيها على الطاولة. سألتها كلير: «أأنت متعبة؟». أومأت. قلت لكلير: «إذاً، من الأفضل أن نغادر». دفعنا الحساب، وحملت آلبا، وقد أنهكت، وكانت تقريباً نائمة بين ذراعي. قادت كلير آلبا الصغيرة التي كانت مفرطة في النشاط لكثرة ما تناولت من السكريات وعدنا إلى السيارة، وبينما نقطع شارع لينكولن، اختفت آلبا. قلت لكلير: «لقد عادت». قابلت عيناي عينيها في المرآة لبضع ثوان. سألتني آلبا: «عادت إلى أين، بابا؟». «عادت إلى أين؟». في ما بعد: كلير: تمكنت أخيراً من جعل آلبا تأخذ قيلولة. يجلس هنري على سريرنا، يشرب، وينظر من النافذة إلى بعض السناجب وهي تطارد بعضها حول عريشة العنب. مشيت، وجلست إلى جانبه. قلت له: «هيه». نظر هنري إليّ، واضعاً يديه حولي، وقربني إليه. قال: «هيه». سألته: «ألن تقول ما الذي كان يدور حوله كل هذا؟». وضع هنري كأسه جانباً، وبدأ يفك أزرار قميصي. «هل يمكنني الإفلات من دون أن أخبرك؟». «لا». لم يقل هنري شيئاً، ضغط على شفتيه. لففت يدي حوله، عانقته بشدة. قلت: «الأسوأ -». «صه، كلير». «لكن -». «صه». في الخارج كان النهار لا يزال متوهجاً. وفي الداخل كنا باردين، وتلاصقنا طلباً للدفء. آلبا على سريرها نائمة، وتحلم بالآيس كريم، تحلم بأشياء صغيرة لنا نحن الثلاثة، بينما آلبا الأخرى، في مكان ما من المستقبل، تحلم في لف ذراعيها حول أبيها، وتصحو لتجد... ماذا تجد؟ (57) مورموني Mormon Church: مذهب مسيحي يسمح بتعدد الزوجات. (58) Euterpe إيوتيربـي: سيدة الموسيقى في الأساطير اليونانية القديمة. سلسة أحداث في مرأب شارع مونرو الاثنين، 7 كانون الثاني، 2006 (كلير 34 عاماً، هنري 42 عاماً) كلير: كنا مستغرقين في النوم من فجر يوم شتائي عندما رن جرس الهاتف. كنت أنـزع إلى الاستيقاظ التام، وقلبـي يخفق عندما أدركت أن هنري نائم إلى جانبـي. استدار فوقي والتقط الهاتف. نظرت إلى الساعة، إنها 4:32 فجراً. قال هنري: «آلو». ثم أصغى لمدة دقيقة كاملة. استيقظت تماماً الآن. لم يبدُ عليه أي تعبير. «حسناً، ابقَ هناك، سنأتي حالاً». مال إليّ وأعاد سماعة الهاتف. «من كان هذا؟». «أنا، كان أنا، أنا في مرأب شارع مونرو، من دون ملابس، والحرارة تبلغ خمس عشرة درجة تحت الصفر. يا اﷲ، آمل أن يشتغل محرك السيارة». قفزنا عن السرير، ووضعنا علينا ثياب الأمس. انتعل هنري حذاءه وارتدى معطفه قبل أن أرتدي بنطالي الجينـز وركض ليشغل محرك السيارة. ووضعت في حقيبة كنـزة لهنري وملابس داخلية طويلة وبنطال جينـز وحذاء ومعطفاً إضافياً، وقفازاً، وملاءة، أيقظت آلبا وألبستها معطفها وجزمتها، وأسرعت ولبست معطفي وخرجت من الباب. فتحت باب الكراج قبل أن تكون السيارة قد حميت وانطفأت. أعدت تشغيلها، جلسنا لدقيقة وحاولت مجدداً. كانت قد أثلجت البارحة ستة إنشات وأينسلي مغطاة تماماً بالثلج. آلبا تبكي على مقعدها في السيارة وهنري يهدهدها. عندما وصلنا إلى لورانس أخذت أسرع وفي عشر دقائق كنا قد وصلنا إلى الطريق العام. ليس هنالك من أحد سوانا في هذه الساعة المبكرة. كان جهاز التدفئة في سيارة الهوندا يصدر صوتاً، وتبدو السماء فوق البحيرة فاتحة أكثر. كل شيء حولنا أزرق وبرتقالي، تكسره حدة البرد. بينما نمضي نحو شاطئ البحيرة كان المنظر وكأنه: (59)déja vu فالبرد والبحيرة في سكون حالم، ووهج الصوديوم من إنارة الشارع. لقد كنت هنا من قبل، كنت هنا من قبل. كنت واقعة في شرك هذه اللحظة وهي تطبق عليّ، تأخذني بعيداً، من غرابة الأمر إلى الانتباه حول ازدواج الحاضر، وبالرغم من أننا نسرع في هذا الوقت من الشتاء في المدينة إلا أن الزمن بدا ثابتاً. قطعنا إيرفينغ، بيلمونت، فوليرتون، لاسال، اتبعت مخرج ميتشغان. أسرعنا عبر الممر الصحراوي للمحال الثمينة، شارع أوك، شيكاغو، راندولف، مونرو، والآن أقود السيارة نحو الطوابق السفلية الإسمنتية في مبنى المرأب. التقطت التذكرة من الآلة التي صدر عنها صوت أنثوي كالشبح. قال هنري: «اذهبـي جهة الشمال الغربـي، جانب كوات الهواتف عند محطات الحراسة». اتبعت تعليماته. ذهب عني ذاك الإحساس déja vu. شعرت أن ملاكي الحارس قد هجرني. المرأب افتراضياً فارغ. أسرعت نحو الخطوط الصفراء نحو كوة الهاتف: «ربما عدت مجدداً إلى الحاضر؟». «لكن ربما لا...». كان هنري مضطرباً وكذلك أنا، خرجنا من السيارة، الجو بارد هنا، وأنفاسي تتكثف ثم تختفي. لم يكن لديّ إحساس أنه يفترض بنا أن نغادر، ولكن لم تكن لديّ أدنى فكرة ماذا يمكن أن يكون قد حدث. مشيت إلى كوة الحارس، واختلست النظر من النافذة، ليس هناك حارس، وشاشات المراقبة تظهر أن المبنى الإسمنتي فارغ. «اللعنة. أين ذهبت أنا؟ دعينا نقود في الجوار». عدنا إلى السيارة، وتجولنا ببطء عبر الأقسام الفارغة بين الأعمدة الضخمة ونحن نمر باللافتات التوجيهية: تمهل، هنا مرأب، تذكر رقم موقع سيارتك. لا وجود لهنري في أي زاوية. نظرنا إلى بعضنا بعضاً مستسلمين. «من أي زمن كنت آتياً؟». «لم يقل لي». عدنا إلى المنـزل صامتين. وآلبا نائمة. وهنري يحدق من نافذة السيارة. كانت السماء صافية ولون الشفق يظهر من الشرق، بدأت حركة السيارات قليلاً الآن، وخرج ذوو الأعمال الباكرة. وبينما ننتظر إشارة المرور أن تفتح عند شارع أوهايو سمعت زعيق طيور النورس، الشوارع داكنة من الملح والماء. والمدينة هادئة وبيضاء وهي مكسوة بالثلج. كل شيء كان جميلاً، وأنا متأثرة، أنا فيلم سينمائي، نحن على ما يبدو بأمان، ولكن عاجلاً أم آجلاً سندفع الثمن غالياً. (59) باللغة الفرنسية déja vu = رأيناه من قبل. ذكرى ميلاد الخميس، 15 حزيران، 2006 (كلير 35 عاماً) كلير: يوم غد هو يوم ذكرى ميلاد هنري. وأنا عند فينتاج فينيل أحاول أن أجد له ألبوماً موسيقياً من النوع الذي يحبه وليس لديه منه في المنـزل. كنت لطيفة، وطلبت المساعدة من السيد فاوغهن مالك المحل لأن هنري اعتاد أن يأتي إلى هنا منذ سنوات. غير أنه يوجد معه شاب من المدرسة الثانوية خلف الطاولة، يرتدي تي شيرت سيفن دييد آرسون وعلى الأرجح أنه لم يكن قد ولد قبل ولادة معظم الموظفين في المحل. فتشت بين علب الأقراص في المحل. سيكس بيستولس، باتي سميث، سوبرترامب، ماثيو سويت، فيش، بيكسيز، بوغز، برتيندرز، بـي 52، كيت بوش، بوزيكس، إيكو أند بوني مين. آرت أوف نويزن، نيلز، كلاشن كرامبس، كيور(60)، تلفاز. توقفت عند قرص أعمال غير معروفة لفرقة فيلفيت أند يرغراوند محاولة أن أتذكر إن كنت قد رأيتها من قبل في منـزلنا لكن عندما تفحصتها عن كثب أدركت أنها مجرد كركبة من تلك الموجودة بين ألبومات هنري من ديزلينغ كيلمان، ومجموعة ديد كينيدي. دخل فاوغهن حاملاً صندوقاً ضخماً، وضعه خلف المنصة وخرج مجدداً. قام بذلك عدة مرات، ثم بدأ مع الشاب بفك الأغلفة عن هذه الصناديق، مكوماً مجموعة L.B عند المنصة، وهما يتحادثان عن أشياء لم أسمع عنها في حياتي. مشيت نحو فاوغهن ومن دون كلام لوحت بثلاثة من مجموعة L.B أمامه. قال لي: «أهلاً كلير». مبتسماً ابتسامة عريضة: «كيف حالك؟». «مرحباً فاوغهن. غداً ذكرى ميلاد هنري. هلا ساعدتني». تفحص مجموعة اختياراتي ثم قال لي: «لديه هذان الاثنان من قبل». مشيراً إلى ليليبوت وبرييدرزز «وهذه بشعة حقاً». وهو يشير إلى بلازميتيك. «على الرغم من أنّ غلافها رائع، هيه؟». «هل لديك أي شيء في ذاك الصندوق يمكن أن ينال إعجابه؟». «لا، هذه كلها من الخمسينيات. بعض الأغاني لسيدة متوفاة. لربما أعجبت بها، لقد وصلتني يوم أمس فقط». أخذ مجموعة غولدن بالومينوز من صندوق البضائع الجديدة، فيه شيئان جديدان، لذا اشتريته. فجأة ابتسم فاوغهن لي: «لديّ شيء غريب حقاً لك، كنت أخبئه من أجل هنري». خرج من خلف المنصة وانغمس يبحث لدقيقة. «ها هو ذا». أعطاني فاوغهن مجموعة L.B بغلاف أبيض وأسود. أخرجت قرص التسجيل، وقرأت الشارة المكتوب عليها: «أنيت لين روبينسون، أوبرا باريس، 13 أيار، 1968، لولو». نظرت إلى فاوغهن بتساؤل. فقال لي: «ياه، ليست ممّا اعتاد أن يأخذ. إنها نسخة نادرة من هذه الأوركسترا، غير مسجلة رسمياً. لقد طلب مني منذ مدة أن أبحث عن تسجيلات باكرة لهذه المغنية، ولكن ذلك لم يكن من مشاغلي العادية، أيضاً، لذا وجدت هذا التسجيل ثم نسيت أن أخبره عنه. لقد استمعت إليه، وهو حقاً جميل. نوعية صوت جيدة». همست: «شكراً لك». «على الرحب والسعة، هيه، ليس أمراً عظيماً». «إنها والدة هنري». رفع فاوغهن حاجبيه مقطباً جبهته باندهاش. «لا، أنت تمزحين؟ أجل... إنه يشبهها. هه، هذا أمر شيق، كان من الحريّ به أن يذكر ذلك». «إنه لا يتحدث كثيراً عنها. لقد توفيت عندما كان صغيراً في حادث سيارة». «صحيح، أذكر ذلك نوعاً ما، حسناً، هل أستطيع أن أجد لك شيئاً آخر؟». «لا، هذه فقط». دفعت لفاوغهن وغادرت وأنا أدندن في نفسي صوت أم هنري بينما أمشي عبر شارع ديفيز بنشوة الترقب. الجمعة، 16 حزيران، 2006 (هنري 43 عاماً، كلير 35 عاماً) هنري: إنها ذكرى ميلادي الثالثة والأربعين. صحوت عند الساعة 6:46 صباحاً بالرغم من أنني في إجازة من العمل، ولم أستطع العودة إلى النوم. نظرت إلى كلير وهي مستغرقة تماماً في نومها، يداها متباعدتان، وشعرها منتشر على وسادتها الناعمة الوثيرة. تبدو جميلة، بالرغم من وجود تجاعيد من أثر الوسادة على خدها. نهضت عن السرير بهدوء، وذهبت إلى المطبخ، وبدأت بإعداد القهوة. وفي الحمام فتحت الصنبور ليسيل الماء قليلاً حتى يصبح ساخناً. يجب أن نحضر عامل تصليحات صحية إلى هنا، ولكننا لم نتمكن من إحضاره بعد. عدت إلى المطبخ، وسكبت فنجان القهوة، وحملته إلى الحمام، ووضعته على المغطس. وضعت معجون الحلاقة، وبدأت بالحلاقة. في العادة أنا متمرس على الحلاقة من دون النظر إلى المرآة، ولكن اليوم وبمناسبة ذكرى ميلادي سأقوم بجرد. أصبح معظم شعري أبيض، وبقي بعض السواد عند الأطراف، أما حاجباي فبقيا سوداوين تماماً. لقد تركت شعري ينمو قليلاً ليس بالطول الذي كان عليه قبل أن أقابل كلير، وليس قصيراً أيضاً. أصبحت بشرتي جافة نوعاً ما، وهنالك بضع تجاعيد عند طرفي عينيّ وعلى طول جبيني وخطوط من فتحتي أنفي وحتى فمي. وجهي نحيف كثيراً. كل شيء فيّ نحيل. ليس بنحالة أوزويتس، ولكن ليس نحولاً عادياً أيضاً، نحول مرضى السرطان عند بداية المرض، أو ربما نحول مدمن هيرويين، لا أريد التفكير في ذلك، لذا تابعت الحلاقة. غسلت وجهي، وتعطرت بعطر ما بعد الحلاقة، رجعت إلى الوراء، ونظرت إلى النتائج. تذكر أحدهم في المكتبة البارحة أن اليوم يصادف ذكرى ميلادي لذا فقد تجمع روبيرتو وإيزابيل ومات وكاثرين وأميليا ودعوني إلى الغداء في مطعم بوو التايلندي. أعلم أن حديثاً كان يدور مؤخراً في العمل حول صحتي، حول فقداني المفاجئ للوزن وحقيقة أنني في الفترة الأخيرة بدأت أَهرم بسرعة. كانوا جميعهم لطفاء للغاية، بذات الطريقة التي يتعامل بها الناس مع ضحايا الإيدز والمرضى الذين يتلقون علاجهم الكيميائي. كنت أتوق إلى أن يسألني أحدهم عن ذلك فحسب، لأكذب، وأنتهي من هذا الأمر. لكن، بدلاً من ذلك أخذنا نتبادل الفكاهات ونأكل الطعام التايلندي بريك كينغ وكاشو تشيكن وسيوو. أهدتني أميليا باونداً من حبوب القهوة الكولومبية القوية. أما كاثرين ومات وروبيرتو وإيزابيل فقد كانوا أسخياء للغاية وقدموا إليّ صورة طبق الأصل عن لوحة لغيتي تدعى ميرا كاليغرافيا مونومينتو، والتي كنت أتوق إليها في مكتبة نيوبيري منذ زمن. نظرت إليهم واجل القلب، وأدركت أن زملائي يعتقدون أنني على وشك الموت. قلت: «أنتم يا رفاقي...». ثم لم أستطع أن أفكر في ما سأقوله، فلم أقل شيئاً. ليس من عادتي أن تخذلني الكلمات. استيقظت كلير، واستيقظت آلبا. لبسنا جميعاً ووضعنا أغراضنا في السيارة، سنذهب إلى حديقة حيوانات بروكفيلد مع غوميز وكاريس وأطفالهما. أمضينا النهار بطوله ونحن نتمشى فيها، ننظر إلى القرود والنعامات والدببة القطبية والفقمة. أكثر ما تحب آلبا القطط الكبيرة. أمسكت روزا بيد آلبا وأخبرتها عن الديناصورات. أخذ غوميز يقلد الشامبانـزي، وتجمع حوله ماكس وجو يتظاهران أنهما فيلة ويلعبان ألعاب الفيديو هاند هيلد. كنت أنا وكلير وكاريس نتمشى على غير هدى، ولا نتحدث عن شيء، نستمتع بأشعة الشمس عند الرابعة ظهراً وقد تعب الصغار وتعكر صفو مزاجهم، عدنا إلى السيارتين، وشددنا عليهم أحزمة الأمان، ووعدناهم أن نأتي إلى هنا مرة أخرى قريباً جداً، وعدنا إلى المنـزل. وصلت جليسة الأطفال عند السابعة من غير إبطاء. حذرت كلير آلبا وهددتها بالعقاب إن لم تكن ابنة لطيفة وهربنا. كنا متأنقين تماماً للمناسبة بسبب إصرار كلير، واتجهنا جنوباً على طول ليك شور درايف، أدركت حينها أنني لا أعرف إلى أين نذهب. قالت كلير: «سترى». سألتها بترقب: «أليست حفلة مفاجئة، هل هي كذلك؟». أكدت لي: «لا». أخذت كلير المخرج من الطريق العام عند روزفلت، وواصلت طريقها عبر بيلسين، الحي اللاتيني عند الجنوب من مركز المدينة. هنالك مجموعات من الأطفال يلعبون في الشارع، التففنا حولهم، وأخيراً ركنت السيارة بالقرب من الحي 20 عند راسين. قادتني كلير لننـزل طابقين، قرعت الجرس عند البوابة، دخلنا متاهة، وشققنا طريقنا في الباحة التي عليها أوراق وأغصان الشجر، وصعدنا على أدراج خطرة. قرعت كلير على أحد الأبواب، وفتحت الباب لورديس إحدى صديقات كلير من أيام مدرسة الفن. ابتسمت لورديس، ودعتنا إلى الدخول، ونحن نخطو أولى خطواتنا إلى الداخل، وجدت أن الشقة قد تم تحويلها إلى مطعم ذي طاولة واحدة فقط، روائح عطرة يعبق بها المكان، وقد وضع على الطاولة غطاء الدامسكينو الأبيض، والأطباق الصينية، والشموع. وقد وضع جهاز مسجل على خزانة منقوشة ثقيلة. وفي غرفة الجلوس أقفاص مليئة بالطيور؛ ببغاوات، وكناران وعصافير الحب. طبعت لورديس قبلة صغيرة على خدي وقالت: «ذكرى ميلاد سعيدة، هنري». وقال صوت مألوف لي: «ذكرى ميلاد سعيدة!». مددت رأسي إلى المطبخ وإذ بها نيل. كانت تحرك شيئاً ما في إناء الطبخ، ولم تتوقف وأنا أضمها بذراعي، وأرفعها قليلاً عن الأرض. قالت: «واوو، أنت تتغذى جيداً هذه الأيام». عانقت كلير نيل وتبادلتا الابتسام. قالت نيل: «يبدو أنه تفاجأ حقاً». وابتسمت كلير ابتسامة أعرض. أمرتنا نيل: «اذهبا واجلسا، العشاء جاهز». جلسنا قبالة بعضنا إلى الطاولة. أحضرت لورديس أطباقاً صغيرة من المقبلات الإيطالية المزينة والشهية؛ اللحم المجفف بروسكيتو مع البطيخ الأصفر، وبلح البحر اللزج والمدخن، وأصابع الجزر والشمندر المنكهة بالشمار وزيت الزيتون. كانت بشرة كلير تحت ضوء الشموع تبدو دافئة وكانت عيناها مظللتين، تضع عقد لؤلؤ في رقبتها وقد حدد المنطقة الناعمة فوق صدرها. انتبهت كلير إلى أنني أحدق إليها، فابتسمت وأدارت وجهها، نظرت إلى الأسفل، فأدركت أنني أنهيت بلح البحر وأنني أجلس هنا أحمل شوكة صغيرة في الهواء كالأبله، وضعتها جانباً وأخذت لورديس الأطباق وأحضرت الوجبة التالية. أكلنا الوجبة اللذيذة التي أعدتها كلير من لحم الطون متوسط الطهو والمتبل بصلصة البندورة والتفاح والريحان، أكلنا سلطة الهندباء والبرتقال والزيتون الأسود الصغير الذي يذكرني بوجبة تناولتها مع أمي في فندق في أثينا عندما كنت صغيراً. شربنا الشراب الفرنسي الأبيض، وتبادلنا النخب عدة مرات؛ بصحة الزيتون! بصحة جليسة الأطفال! بصحة نيل! جاءت نيل من المطبخ تحمل معها كعكة مسطحة بيضاء مضاءة بالشموع. غنين لي جميعهن كلير ولورديس ونيل سنة حلوة يا جميل. ضمرت أمنية، ونفخت على الشموع، وأطفأتها في نفخة واحدة. قالت نيل: «هذا فأل حسن يعني أن أمنيتك ستتحقق». لكن أمنيتي لم تكن من النوع الذي يمنح. هدهدت الطيور لبعضها بأصوات غريبة بينما كنا جيمعاً نأكل الكعكة، ثم غابت لورديس ونيل مجدداً في المطبخ. قالت كلير: «أحضرت لك هدية، أغمض عينيك». أغمضتهما. سمعت صوت كلير وهي تدفع كرسيها إلى الوراء عن الطاولة، وتمشي عبر الغرفة. ثم كان هناك صوت إبرة الأسطوانة تحتك بالجهاز... ثم ضبط الصوت... ثم عزف الكمان... وغناء السوبرانو ينطلق كانهمار المطر وسط صخب الأوركسترا... إنه صوت أمي، وهي تغني أغنية لولو، فتحت عيني، جلست كلير مجدداً إلى الطاولة قبالتي، وهي مبتسمة، وقفت وسحبتها عن الكرسي وعانقتها. قلت لها: «مذهل». ثم عجزت عن الكلام فقبلتها. بعد ذلك بوقت طويل، بعد أن ودعنا نيل ولورديس بتعابير غاية في التأثر والامتنان، وبعد أن عدنا إلى المنـزل ودفعنا إلى جليسة الأطفال، وبعد علاقة حميمية ممتعة، تمددنا على السرير استعداداً للنوم، قالت كلير: «هل أعجبتك ذكرى ميلادك؟». قلت لها: «رائعة، أفضل ذكرى ميلاد على الإطلاق». سألتني كلير: «هل تتمنى يوماً تستطيع فيه أن توقف الزمن؟ لكنت تمنيت أن يقف بنا هنا وإلى الأبد». قلت: «هممم». التففت على معدتي. وبينما انسللت لأنام قالت كلير: «أشعر أننا على ذروة اللعبة الأفعوانية». ثم استغرقت في نومي، ونسيت أن أسألها في الصباح ماذا كانت تعني. (60) أسماء بعض المغنين والفرق الموسيقية. مشهد غير سار الأربعاء، 28 حزيران، 2006 (هنري 43 عاماً وهنري 43 عاماً) هنري: سقطت في الظلام على أرض باردة وصلبة. حاولت أن أنهض، لكنني شعرت بالدوار فاستلقيت مجدداً، رأسي يؤلمني، حاولت أن أتحسس بيدي، توجد هنالك بقعة كبيرة منتفخة خلف أُذني اليسرى. وعندما تمكنت من الرؤية رأيت خطوطاً غائمة لدرج وعلامة مخرج، وبعيداً فوقي يوجد ضوء أبيض من النيون يصدر نوراً خافتاً. كل ما حولي هو قفص حديدي متصالب الأشكال. أنا في مكتبة نيوبيري، بعد الدوام، وداخل القفص. قلت لنفسي بصوت عالٍ: «لا تجزع، سيكون كل شيء على ما يرام، سيكون كل شيء على ما يرام، سيكون كل شيء على ما يرام». توقفت عندما أدركت أنني لا أصغي إلى نفسي، تمكنت من الوقوف على قدمي وأنا أرتجف. تساءلت كم مضى عليّ وأنا أنتظر، وتساءلت ما الذي سيقوله زملائي عندما يرونني لأن هذا ما هو الأمر عليه، سينفضح أمر ضعفي وغرابة طبيعتي ومن أكون. لم يخطر لي ذلك من قبل، أو لنقل على الأقل لم أفكّر فيه. حاولت أن أتمشى ذهاباً وإياباً كي أدفئ نفسي، ولكن ذلك جعل رأسي يدور. توقفت عن ذلك، وجلست وسط أرض القفص، حاولت أن أتكوم على نفسي قدر المستطاع، مرت ساعات طويلة، استرجعت هذا المشهد مرات عديدة في رأسي، وأجريت بروفا على نصي، معتبراً كل الطرائق التي يمكن أن تكون قد مرت أفضل من هذا، أو أسوأ منه. أخيراً، تعبت وبدأت أعيد في رأسي التسجيلات هذه متعة لجيم، حبوب وصابون لايلفيس كوستلو، و يوم مثالي للوريد. حاولت أن أتذكر كل الكلمات لغانغ أوف فورس أحب رجلاً مرتدياً لباسه الرسمي، عندما أُضيئت الأنوار، بالطبع كان ذلك كيفين الحارس النازي يفتح المكتبة، كيفن هو آخر شخص على سطح الأرض أود أن يراني على هذه الحال وأنا عارٍ وعالق في القفص، لذا وطبيعياً اكتشفني حال دخوله. وأنا مكوم على الأرض وأتمارض. قال كيفن: «من هناك؟». بصوت أعلى من اللازم. حاولت أن أتخيل كيفن واقفاً هناك شاحباً وجامداً في الضوء الخافت لبيت الدرج. صوته يتردد في المحيط برجع الصدى عن المواد الصلبة. مشى كيفن إلى الأسفل ووقف، على بعد عشر أقدام مني. «كيف علقت هنا؟». مشى حول القفص، استمررت في التظاهر أنني فاقد الوعي بما أنني لا أستطيع أن أشرح الأمر، وربما حتى لا يتم إزعاجي كثيراً. «يا اﷲ، إنه دي تامبل». أستطيع أن أشعر به واقفاً هناك، ومحدقاً إليّ. وأخيراً، تذكر جهاز اللاسلكي بيده. «آه، عشرة - أربعة، هيا، روي». حال غير مفهومة. «آه، روي، هذا أنا كيفن، آه، هل يمكنك أن تحضر إلى هنا في الطابق A-64؟ أجل، في الأسفل». أصوات عالية. «تعالَ إلى هنا فحسب». أغلق الجهاز. «السيد دي تامبل، لا أعرف ما الذي تحاول إثباته، لكنك في الواقع فعلته الآن». سمعته وهو يتجول في المحيط. كان حذاؤه يحتك بالأرض، وكان يصدر صوتاً ناعماً. أتخيل أنه يجب أن يجلس على درجات السلالم. وبعد بضع دقائق فتح باب الدرج العلوي ونـزل منه روي. روي هو أحد رجال الحراسة المفضلين لديّ. إنه رجل ضخم، أميركي من أصول أفريقية، الابتسامة لا تفارق وجهه أبداً. إنه الملك على طاولة الاستقبال الرئيسة، وأكون سعيداً دائماً عندما أصل إلى العمل وأنعم كل صباح برؤية وجهه البشوش. قال روي: «واو، ماذا لدينا هنا؟». «إنه دي تامبل، ولا أستطيع أن أفهم كيف وصل إلى هنا». «دي تامبل، عزيزي... هذا الولد لديه سر أكيد حتى يهوي عارياً هنا. هل أخبرتك عن المرة التي وجدته فيها يركض عند تقاطع الطابق الثالث مكوماً على نفسه؟». «أجل، أخبرتني». «أجل، أعتقد أنه علينا أن نخرجه من هنا». «إنه من دون حراك». «حسناً، إنه يتنفس. هل تعتقد أنه تأذى؟ لربما كان علينا أن نستدعي سيارة إسعاف». «نحتاج إلى شعبة إطفاء الحريق إذاً، نحتاج إلى نشر هذه القضبان وإلى حبال الإنقاذ التي تستخدم في الحطام». بدا كيفن متحمساً جداً. لا أريدهم أن يستدعوا شعبة إطفاء الحريق أو المسعفين. لذا جلست. صاح روي: «صباح الخير، سيد دي تامبل، أتيت اليوم باكراً قليلاً، أليس كذلك؟». وافقته: «أبكر قليلاً». وأنا أشد ركبتي نحو ذقني. أنا بارد جداً وأسناني تؤلمني وهي تصطك ببعضها. تأملت كيفن وروي وأعادا النظر إليّ. «لا أعتقد أنه يفترض بـي أن أختلس النظر إليكما أيها السيدان». تبادلا النظرات. قال كيفن: «ذلك يتوقف على ما يدور في ذهنك. لا نستطيع أن نسكت عن هذا لأننا لن نستطيع أن نخرجك من هنا بمفردنا». «لا، لا، البتة، لا أتوقع ذلك». بدا مرتاحين. «اسمعا، سأعطي كلاًّ منكما مائة دولار إن قمتما بشيئين لأجلي. الأول أود أن يخرج أحدكما ويحضر لي فنجاناً من القهوة». اتشح وجه روي بابتسامة ملك مكتب الاستقبال التي له فيها براءة اختراع. «اللعنة، سيد دي تامبل، أحضره لك من دون أجر بالطبع، لا أعرف كيف ستتمكن من شربه هنا». «أحضر معك قشة المص، اذهب وأحضر قهوة حقيقية، بمبيض ومن دون سكر». قال روي: «سأحضرها». سأل كيفن: «ما الأمر الثاني؟». «أريدك أن تذهب إلى قسم المقتنيات الخاصة وتحضر ملابسي من مكتبـي في الدرج السفلي على اليمين. وسأعطيك مكافأة إن فعلت ذلك من دون أن ينتبه أحد». قال كيفن: «أوليست هنالك حلوى أيضاً؟». أتساءل لماذا لم أحب يوماً هذا الرجل. قال روي لكيفن: «من الأفضل أن تقفل باب الدرج». أومأ كيفن ومشى ليقفله. وقف روي عند طرف القفص ونظر إليّ مشفقاً. «إذاً، كيف دخلت هنا؟». ابتسم روي، وهز رأسه. «حسناً، فكّر في ذلك بينما أحضر أنا فنجان القهوة». مرت نحو عشرين دقيقة. وأخيراً، سمعت الباب يفتح، ويدخل منه كيفن وينـزل الدرج ويلحقه كل من مات وروبيرتو. نظر كيفن إليّ نظرة يقول من خلالها حاولت جهدي. وبدأ يدخل القميص إليّ من بين القضبان وأنا أرتديه بينما وقف روبيرتو ينظر إليّ ببرود شابكاً ذراعيه. كان البنطال كبيراً قليلاً وتطلب ذلك جهداً لإدخاله من بين أعمدة القفص. كان مات يجلس على الدرج وهو في حالة شك. سمعت الباب يُفتح مجدداً. هذا روي يُحضر معه القهوة وقطعة من الحلوى. وقد وضع قشة المص في فنجان القهوة ووضع الفنجان قرب قطعة الحلوى على الأرض. كان عليّ أن أحول نظري عنها وأنظر إلى روبيرتو الذي استدار بدوره إلى روي وكيفن وطلب إليهما المغادرة قائلاً: «هلا تركتمانا على انفراد قليلاً». «بالتأكيد، د. كول». مشى رجلا الحراسة إلى أعلى الدرج، وخرجا من باب الطابق الأول. والآن أنا بمفردي، عالقاً وبأشد العوز إلى تفسير، أمام روبيرتو، الذي أوقره والذي كذبت عليه مراراً. والآن ليست هنالك سوى الحقيقة التي ستكون أكثر جنوناً من أي كذبة لي في السابق. قال روبيرتو: «حسناً، هنري، دعنا نسمعك». هنري: إنه أحد صباحات شهر حزيران المثالية. وأنا متأخر عن العمل قليلاً بسبب آلبا (التي رفضت أن ترتدي ثيابها)، وبسبب القطار E1 (الذي لم يأتِ)، وعلى كل حال فلست متأخراً كثيراً حسب معاييري، عندما وقعت على سجل الدخول عند طاولة الاستقبال الرئيسة لم يكن روي موجوداً، بل كانت مارشا. قلت لها: «مرحباً مارشا، أين روي؟». أجابتني: «أو، لقد ذهب في مهمة عمل». قلت لها: «أوه». وصعدت بالمصعد إلى الطابق الرابع، وعندما دخلت قسم المقتنيات الخاصة قالت لي إيزابيل: «أنت متأخر». فأجبتها: «لكن، ليس كثيراً». مشيت إلى مكتبـي وكان مات يقف عند النافذة، ينظر إلى الحديقة. قلت له: «مرحباً مات». قفز مات على بعد ميل. «هنري!». قالها ووجهه شاحب. «كيف تمكنت من الخروج من القفص؟». وضعت حقيبتي على طاولة المكتب وحدقت إليه. «القفص؟». «أنت - لقد عدت للتو من أسفل الدرج - كنت عالقاً في القفص وروبيرتو هناك معك - أنت طلبت مني أن أصعد وأنتظر هنا، لكنك لم تقل السبب -». «يا اﷲ». جلست وراء المكتب. «أوه، يا اﷲ». جلس مات على الكرسي ونظر إليّ وبدأت القول: «انظر، في إمكاني أن أشرح...». «أتستطيع؟». فكرت في الأمر: «بالتأكيد، أنا - تعلم - أوه، اللعنة». «إنه أمر غريب حقاً، أليس كذلك، هنري؟». «أجل، أجل، إنه كذلك». حدقنا إلى بعضنا بعضاً. «انظر يا مات... دعنا ننـزل إلى الأسفل، ونرى ما الذي يجري هناك، وسأشرح لك ولروبيرتو الأمر معاً، موافق؟». «طبعاً». نهضنا، ونـزلنا إلى الأسفل. بينما نمشي في الممر الشرقي رأيت روي يتلكأ قرب المدخل على الدرج. جفل عندما رآني، وبينما كان على وشك أن يسألني ما هو واضح، سمعت كاثرين تقول: «مرحباً، يا فتية، ما الأمر؟». وهي تمر بنا مسرعة وتحاول أن تفتح الباب إلى الدرج. «هيه، روي، لِمَ لا يفتح هذا الباب؟». «همم، حسناً، سيدة مييد». قالها روي وهو يغمزني: «نواجه مشكلة هنا بشأن، آه...». قلت له: «لا بأس يا روي، تعالي كاثرين. هلا بقيت هنا روي؟». أومأ موافقاً، وأفرد لنا طريقاً لنمر من باب الدرج. عندما خطونا داخلين سمعت روبيرتو يقول: «اسمع، لا يعجبني أن تجلس هنا وتسرد قصصاً من الخيال العلمي، لو أردت الخيال العلمي لكنت استعرت بعضاً من أميليا»(61). وقد كان جالساً على آخر الدرج من الأسفل وبينما دخلنا وكنا وراءه استدار ليرى من هناك. قلت بهدوء: «مرحباً، روبيرتو». قالت كاثرين: «أوه، يا اﷲ، أوه، يا اﷲ». وقف روبيرتو وقد فقد توازنه بينما أسرع مات وسنده. نظرت إلى القفص، وقد كنت هناك فيه جالساً على الأرض، مرتدياً كنـزتي البيضاء والكاكية، ضاماً ركبتي إلى ذقني، ومن الواضح أنني كنت متجمداً من البرد وجائعاً. وهنالك فنجان قهوة خارج القفص. أمعن النظر إلينا كل من روبيرتو ومات وكاثرين بصمت. سألت: «من أين أتيت؟». «آب، 2006». وأنا ألتقط فنجان القهوة، وأرفعه إلى مستوى الذقن، وأدخل القشة من طرف القفص، وأشرب القهوة حتى أنهيها. «هل تريد هذه الحلوى؟». أرادها. قسمتها إلى ثلاثة أقسام ودفعتها داخل القفص. شعرت وكأنني في حديقة حيوان. قلت: «هل تأذيت؟». فأجابني: «ارتطم رأسي بشيء ما». «كم ستبقى هنا؟». «نصف ساعة أو ما شابه». أشار إلى روبيرتو: «أترى؟». قالت كاثرين: «ما الذي يجري هنا؟». تشاورت مع هنري الثاني: «هل تريد أن تشرح الأمر؟». «أنا متعب، اشرحه أنت». فشرحته. شرحت لهم عن كوني أسافر عبر الزمن وعن النواحي العملية والجينية للأمر. شرحت كيف أن الأمر برمته نوع من المرض، ولا أستطيع السيطرة عليه. وشرحت لهم عن د. كيندريك، وكيف التقيت كلير، وكيف التقيتها مجدداً، شرحت لهم عن مخططات حلقات السببية، وعن ميكانيكيا الكم، وعن وحدة المجال الكهرومغناطيسي، وعن سرعة الضوء، شرحت كيف يكون الشعور عندما تعيش خارج ضوابط الوقت التي يخضع لها معظم البشر، شرحت لهم عن الكذب والسرقة وعن الخوف، شرحت لهم عن محاولتي للعيش كأي إنسان طبيعي، أنهيت كلامي قائلاً: «وجزء من العيش كإنسان طبيعي يتمثل بالحصول على وظيفة عمل طبيعية». قالت كاثرين: «لا أستطيع أن أقول إن هذه وظيفة عمل طبيعية». قال هنري الآخر الجالس في القفص: «لا أستطيع أن أسمي هذه حياة طبيعية». نظرت إلى روبيرتو الجالس على الدرج، ورأسه مستند إلى الجدار وقد بدا مرهقاً وحزيناً. سألته: «إذاً، هل ستطردني من العمل؟». تنهد روبيرتو. «لا، لا، هنري، لن أطردك من العمل». قالها وهو يقف بعناية، وينفض الجانب الخلفي من معطفه بيده. وأضاف قائلاً: «لكنني لا أفهم لماذا لم تخبرني بالأمر منذ زمن بعيد». قال هنري الآخر: «لأنك لن تصدقني، لم تصدقني تواً، حتى رأيت بأم عينك». بدأ روبيرتو بالقول: «حسناً، أجل -». لكن كلماته التالية لم تسمع بسبب ضجيج غريب كشفط الهواء يترافق أحياناً مع ظهوري واختفائي. استدرت فرأيت كومة من الملابس على الأرض داخل القفص. سآتي لاحقاً بعد الظهر وأضعها في تعليقة ثياب. استدرت إلى مات، روبيرتو وكاثرين. كانوا جافلين. قالت كاثرين: «يا اﷲ، هذا أشبه بالعمل مع كلارك كينت»(62). قال مات: «أوف، أشعر مثل جيمي أولسن». مازح روبيرتو كاثرين: «هذا يجعلك مثل لويس لين». أجابت: «لا، لا، كلير هي لويس لين». قال مات: «لكن لويس لين كانت غافلة عن كلارك كينت/علاقة سوبرمان، بينما كلير...». قلت: «لولا وجود كلير لكنت انتهيت منذ زمن. لم أفهم يوماً لماذا صمم كيفن كينت على إبقاء لويس لين في الظل». قال مات: «ذلك يجعلها قصة أفضل». أجبته: «أهي كذلك؟ لا أعرف». الجمعة، 17 تموز، 2006 (هنري 43 عاماً) هنري: كنت جالساً في مكتب كيندريك، أصغي إليه وهو يشرح لي لماذا لن ينجح الأمر. الحر في الخارج خانق. يوجد في الداخل تبريد كافٍ يكمشني مرتجفاً على هذا الكرسي. نجلس قبالة بعضنا على ذات الكرسيين اللذين نجلس عليهما دوماً. وعلى الطاولة منفضة السجائر ممتلئة بأعقاب ورماد السجائر. كان كيندريك يشعل السيجارة مجرد انتهائه من السيجارة السابقة. كنا جالسين وكانت الإنارة مطفأة والجو عابقاً بالدخان والبرد. أريد مشروباً، أود لو أصرخ، أود لو أن كيندريك يتوقف عن الكلام لحظة لأطرح سؤالاً، أريد أن أقف وأخرج، لكنني جلست مصغياً إليه. عندما توقف كيندريك عن الكلام صدرت فجأة الأصوات والضجيج من الحركة في المبنى. «هنري، هل سمعتني؟». عدّلت جلستي، ونظرت إليه كطفل في الصف ضُبط نائماً. «همم، لا». «أسألك إن كنت قد فهمت لماذا لن ينجح هذا الأمر؟». «همم، أجل». حاولت أن أسحب رأسي كله. «لن ينجح لأن نظام مناعتي برمته غير منتظم، ولأنني كبرت، ولأن الأمر يشمل العديد العديد من الجينات». «صحيح». تنهد كيندريك، وغرز عقاب سيجارته بين الأعقاب الأخرى. تلاشت أجزاء الرماد وانطفأت. «أنا آسف». مال على ظهر كرسيه، وشبك يديه الزهريتين مع بعضهما في حضنه. أفكر في المرة الأولى التي رأيته فيها، هنا في هذا المكتب، قبل ثماني سنوات، كنا أصغر ومزهوين بنفسينا، واثقين بما يمكن أن يغدقه علينا علم الجينات، جاهزين لاستخدام العلم والعبث مع الطبيعة. أتذكر عندما أمسكت بفأر تجربة كيندريك بقبضتيّ، أتذكر موجة الأمل التي اعترتني حينها، وأنا أنظر إلى مثيلي الصغير الأبيض، أفكر في وجه كلير عندما سأخبرها أن الأمر لن ينجح. بالرغم من أنها لم تأمل يوماً في نجاحه. هيأت حنجرتي للكلام: «وماذا عن آلبا؟». لف كيندريك رجليه: «ماذا عن آلبا؟». «هل يمكن أن ينجح الأمر معها؟». «حسناً، لا نعرف البتة هل سنستطيع أم لا؟ إلا إن غيرت كلير رأيها، وتركتني أجرب على الحمض النووي لآلبا. وكلانا نعرف تماماً أن كلير خائفة تماماً من العلاج الجيني وهي ترمقني كما لو كنت جوزيف مينغيل(63) في كل مرة أحاول أن أناقش معها الأمر». قلت: «لكن إن حصلت على الحمض النووي لآلبا، يمكنك أن تجرب العلاج على الفئران وعندما تبلغ الثامنة عشرة يمكنها أن تجربه إن أرادت ذلك لنفسها». «أجل». «إذاً، حتى وإن كنت أنا قد انتهيت فيمكن على الأقل لآلبا أن تستفيد يوماً ما». «أجل». «حسناً، إذاً». وقفت فاركاً يدي ببعضهما، وخلعت كنـزتي البيضاء القطنية عن جسمي والتي كانت قد تبللت تماماً الآن بالعرق البارد. «هذا ما سنفعله». الجمعة، 14 تموز، 2006 (كلير 35 عاماً، هنري 43 عاماً) كلير: أنا في مرسمي أصنع مناديل غامبـي، هي عبارة عن ورقة رفيعة جداً وشفافة يمكننا أن نرى من خلالها، أغمسها في الراقود ثم أرفعها، وألف لفافة الصباغة عليها حتى يتوزع اللون بشكل تام. أضعها على زاوية الراقود لتجف، ويتوزع اللون فيها تماماً. وإذ بـي أسمع آلبا وهي تضحك، وتركض في الحديقة، تصيح آلبا: «ماما! انظري ماذا أحضر لي بابا!». اندفعت من الباب محدثة قعقعة وهي قادمة نحوي، كان هنري يتبعها برزانة أكثر. نظرت لأرى ما سبب هذه الضجة فرأيت خفاً أحمر اللون. قالت آلبا: «إنه تماماً مثل دوروثي!». وهي ترقص رقصة سريعة على الأرض الخشبية. رفعت كعبي حذائها ثلاث مرات، لكن لم تختفِ بالطبع. فقد عادت إلى المنـزل من اختفاء لتوها. ضحكت. بدا هنري سعيداً بنفسه. سألته: «هل مررت بمكتب البريد؟». تجهم وجهه. «آه، اللعنة، لا، نسيت، آسف، سأذهب غداً، سيكون أول ما أفعله غداً». كانت آلبا تدور حولنا فالتقطها هنري وأوقفها. «توقفي آلبا، لا، ستصابين بالدوار». «أحب أن أصاب بالدوار». «هذه ليست فكرة جيدة». كانت آلبا ترتدي تي شيرت وبنطالاً قصيراً وتضع لاصقة طبية فوق التواء كوعها. سألتها: «ما الذي حدث لذراعك؟». وبدل أن تجيبني نظرت إلى هنري، فنظرت إليه أنا أيضاً. قال: «لا شيء، كانت تحاول أن تمص ذراعها فوضعت لها غطاء». سألت آلبا: «ما معنى غطاء؟». بدأ هنري بالشرح فقلت: «لِمَ تحتاج اللاصقة الطبية إلى غطاء؟». قال: «لا أعرف، لقد أرادت واحدة فحسب». كان لديّ حدس داخلي، لنقل الحاسة السادسة عند الأمهات. مشيت إلى آلبا وقلت: «دعيني أرى». ضمت يدها إليها، ممسكة إياها بإحكام بذراعها الأخرى. «لا تنـزعيها، ستؤلمني». «سأنـزعها برفق». أخذت ذراعها بشدة، أحدثت جلبة ولكنني كنت مصممة، وببطء مددت ذراعها ونـزعت اللصاقة بلطف، هنالك أثر أحمر لجرح صغير. قالت آلبا: «إنها مؤلمة، لا تفعلي». وحررتها مني. أعادت اللصاقة إلى مكانها، وراقبتني، منتظرة. «آلبا، لِمَ لا تذهبين وتنادين كيمي وترين إن كانت تريد أن تأتي للعشاء؟». ضحكت آلبا، وأسرعت خارجة من المرسم، وخلال دقيقة سمعت صوت صفعة الباب الخلفي. جلس هنري على كرسي المرسم وهو يحركه إلى الأمام والخلف، وهو يراقبني، منتظراً أن أقول شيئاً. تمكنت أخيراً من أن أقول له: «لا أصدق ذلك، كيف استطعت فعل ذلك؟». قال هنري: «كان عليّ أن أقوم به». كان صوته منخفضاً. «إنها - لا أستطيع أن أتركها من دون على الأقل - أردت أن أبدأ فقط بحيث يستطيع كيندريك العمل على الأمر، العمل لأجلها، فقط في حال». اقتربت منه، وأنا أحدث صوتاً بحذائي المطاطي فوق الحذاء الأصلي وأنـزع ردائي المطاطي، انحنيت على الطاولة. غطى هنري رأسه، وضرب النور وجهه، فرأيت التجاعيد التي تعلو جبهته وأطراف فمه وعينيه، لقد فقد الكثير من الوزن، وعيناه تبدوان جاحظتين في وجهه النحيل. «كلير، لم أقل لها ماذا كان ذلك، يمكنك أن تقولي لها أنت، عندما... يحين الوقت». رفعت رأسي، لا. «اتصل بكيندريك وأخبره أن يوقف الأمر». «لا». «إذاً، أنا سأتصل به». «كلير، لا تتصلي -». «يمكنك أن تفعل ما يحلو لك بجسدكِ هنري، لكن -». «كلير!». غص هنري وهو يلفظ اسمي من بين أسنانه المنقبضة. «ماذا؟». «انتهى الأمر، حسناً؟ قضي أمري. كيندريك يقول إنه لا يستطيع فعل أي شيء أكثر». «لكن -». توقفت لأستوعب ما قاله للتو. «لكن، بعدها ما الذي سيحدث؟». هز هنري رأسه. «لا أعلم. لربما الذي كنا نعتقد أنه سيحدث... سيحدث. لكن إن كان ذاك ما سيحدث، إذاً... لا أستطيع أن أرحل عن آلبا من دون أن أحاول أن أساعدها... أوه، كلير، دعيني أقوم بذلك لأجلها! ربما لن ينجح الأمر، ربما لن تستعمله أبداً - ربما أحبت السفر عبر الزمن، ربما لن تتوه أبداً، أو تجوع، أو لن تقع أبداً في السجن، أو تلاحق أو تغتصب أو تضرب. لكن، ماذا لو أنها لم تحب السفر عبر الزمن؟ ماذا لو أرادت أن تعيش كأي فتاة عادية؟ كلير؟ أوه، كلير، لا تبكي...». لكنني لم أستطع أن أتوقف عن البكاء، وقفت أذرف دموعي بشدة على ردائي الأصفر، وأخيراً وقف هنري ووضع ذراعيه حولي: «ليس الأمر وكأننا مُعفون منه يا كلير». قال ذلك بلطف. «أنا أحاول فقط أن أهيئ لها شبكة آمنة». كنت أشعر بقفصه الصدري من خلال كنـزته. «هلا تركتني أترك لها هذا فحسب؟». هززت رأسي، وقبلني هنري على جبهتي. قال لي: «شكراً». وبدأت في البكاء مجدداً. السبت، 27 تشرين الأول، 1984 (هنري 43 عاماً، كلير 13 عاماً) هنري: أعرف النهاية، الآن. سيسير الأمر كما يلي: سأكون جالساً في المرجة الخضراء في الصباح الباكر في الخريف. سيكون الطقس مغايراً للعادة في مثل هذه الأيام، وسيميل إلى البرودة قليلاً، وسأكون مرتدياً معطفاً صوفياً أسود ومنتعلاً جزمة وواضعاً قفازاً. سيكون هذا تاريخاً غير موجود على اللائحة. ستكون كلير نائمة على سريرها المزدوج الدافئ. وعمرها يبلغ ثلاثة عشر عاماً. ستصدر طلقة من البعيد تسمع عبر الهواء الجاف البارد، هذا موسم صيد الغزلان. في مكان ما هناك، سيكون هنالك رجال يرتدون ستراً برتقالية فاتحة، جالسين منتظرين تسديد طلقاتهم، وفي ما بعد سيشربون شراب الشعير، ويأكلون الشطائر التي أحضرتها لهم زوجاتهم. ستعصف الريح، نازعة الأغصان التي لا لزوم لها عن أشجار التفاح. سيصفع الباب الخلفي لمنـزل المرجة الخضراء، ويظهر جسدان نحيلان باللون البرتقالي اللامع، يحملان بارودة صيد ويسيران نحوي في المرجة، فيليب ومارك، لن يرياني، لأنني سأكون جاثماً بين الأعشاب الكبيرة المرتفعة الداكنة، جثة هامدة من غير حراك وسط أعشاب صفراء يابسة. وعلى بعد عشرين ياردة سيستدير فيليب ومارك عني ويمشيان نحو الغابة. سيتوقفان ويصغيان، سيسمعان قبل أن أفعل ذلك خشخشة، حشرجة، صوت شيء ما يتحرك بين الأعشاب، شيئاً ما كبيراً وثقيلاً، وميضاً أبيض، ربما ذنب؟ وسيأتي نحوي، نحو المرجة حيث لا توجد أشجار، وسيرفع مارك بارودته، مسدداًً بحذر واضعاً إصبعه على الزناد، ثم سيكون هناك طلق ناري، ثم صرخة، صرخة إنسان. ثم توقف. ثم: «كلير! كلير!». ثم الفناء. سأجلس للحظة، من دون تفكير، من دون تنفس. سيركض فيليب، وبعد ذلك سأركض أنا، ومارك أيضاً، وسنجتمع في مكان واحد. لكن هناك، لن يكون هناك شيء. الدم على الأرض، فاتح وكثيف. ستميل الأعشاب اليابسة. سنحدق إلى بعضنا بعضاً من دون أن نعرف بعضنا، على الوسخ الفارغ. من سريرها ستسمع كلير هذه الصرخة. ستسمع أحدهم ينادي اسمها، ستنهض وقلبها يخفق في صدرها وستركض مسرعة إلى الأسفل، ستخرج من الباب إلى المرجة الخضراء بثوب نومها عندما ترانا نحن الثلاثة ستتوقف مضطربة. ومن خلف ظهر أبيها وأخيها سأضع يدي على شفتيّ، وبينما يمشي فيليب إليها سأستدير، سأقف في ظل البستان، وسأنظر إليها وهي ترتجف في حضن أبيها، بينما يقف مارك قريباً وقد نفد صبره، متحيراً، بلحيته التي يبلغ عمرها خمسة عشر عاماً والتي تزين ذقنه وسينظر إليّ، كأنه يحاول أن يتذكر. ستنظر كلير إليّ، وسألوح لها، وتعود إلى منـزلها مع أبيها، وستلوح لي بالمقابل، ويتطاير ثوب نومها حولها، وتبتعد لتصبح أصغر وأصغر، وستتماهى في المسافة وتختفي في المنـزل، وسأقف أنا بجسدي النحيل المرتجف الدامي كحفنة من تراب وسأعرف أنني في مكان ما هناك أموت. (61) أميليا: رواية أميليا لهنري فيلدينغ نشرت عام 1751. (62) كلارك كينت: أسماء المخرج والممثلين في سلسة أفلام سوبرمان. (63) جوزيف مينغيل: Joseph Mengele 1911-1979 طبيب نازي اشتهر لعمله في معسكرات الاعتقال والقتل بالغاز ولاستخدامه المعتقلين في تجاربه العلمية. سلسة أحداث في مرأب شارع مونرو الاثنين، 7 كانون الأول، 2006 (هنري 43 عاماً) هنري: الجو بارد، بارد جداً وأنا مستلقٍ على الأرض في الثلج. أين أنا؟ أحاول أن أجلس؟ قدماي حافيتان، لا أستطيع الإحساس بهما. أنا في مكان مفتوح من دون أي أبنية أو أشجار. كم مضى عليّ وأنا هنا؟ الوقت ليل، أسمع أصوات السيارات. تمكنت من الوقوف على ركبتي ويدي، نظرت حولي. أنا في غراند بارك، مبنى معهد الفن قائم وهو معتم ومغلق على بعد مئات الأقدام في الثلج الأبيض. تبدو الأبنية الجميلة لحي ميتشغان ساكنة، والسيارات تأتي مسرعة على طول ليك شور درايف، بأضوائها المتقطعة في الليل وفوق البحيرة هناك خط ضوء خافت، إنه الفجر يبزغ، عليّ أن أخرج من هنا، عليّ أن أتدفأ. وقفت، وقدماي بيضاوان ومتيبستان، لا أستطيع الإحساس بهما أو تحريكهما، لكنني حاولت المشي، شققت خطواتي بين الثلج فكنت أقع في بعض الأحيان، ثم أعود فأقف وأمشي مجدداً واستمررت هكذا، وأخيراً صرت أزحف، أزحف عبر الشارع، أزحف على السلالم الصلبة بطريقة عكسية، أتمسك بالدرابزين. وصل الملح إلى يدي وركبتي، زحفت حتى وصلت إلى الهاتف وطلبت رقماً. رن الهاتف، الرنة السابعة، الثامنة، التاسعة. «آلو». قال لي هنري ذاتي. قلت: «أنجدني، أنا في مرأب شارع مونرو، البرد القارس اللعين لا يصدق هنا. أنا قرب محطة الحراسة، تعالَ وأنقذني». أجابني: «حسناً، ابقَ هناك، سنأتي حالاً». حاولت أن أضع السماعة لكنني فشلت. أسناني تصطك من دون أن أسيطر عليها. زحفت نحو كوة الحراسة وطرقت الباب، لا يوجد أحد في الداخل. رأيت شاشات المراقبة، ومدفأة، وسترة، ومقعداً، وكرسياً. حاولت أن أفتح قبضته، إنه مقفل، وليس معي شيء يمكنني أن أفتح به. النافذة مشبكة ومقواة، وأنا أتحرك بصعوبة، ولا توجد سيارات هنا. صحت: «النجدة!». لم يأتِ أحد تكومت ككرة أمام الباب، ضاماً ركبتي إلى ذقني، وضاماً يدي حول قدمي. لم يأتِ أحد، وبعد ذلك وأخيراً، أخيراً، اختفيت. بقايا صور الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، 25 و26 و27 أيلول، 2006 (كلير 35 عاماً، هنري 43 عاماً) كلير: اختفى هنري طوال اليوم. ذهبت مع آلبا إلى ماكدونالد للعشاء. غنينا أذهب لاصطياد السمك والثمانية المجانين. رسمت آلبا صورة فتاة ذات شعر طويل تركض مع كلب. أخرجنا ثوبها للمدرسة غداً، والآن خلدت إلى النوم، وأنا جالسة على الشرفة الأمامية أحاول قراءة بروست، القراءة بالفرنسية تجعلني أشعر بالنعاس وكنت قد نمت بالفعل عندما سمعت صوت اصطدام في غرفة الجلوس وهنري على الأرض يرتجف شاحباً وبارداً - «ساعديني». قالها من خلال أسنانه المصطكة، ركضت إلى الهاتف. في ما بعد: غرفة الإسعاف: مشهد تحت أضواء النيون: كبار السن مرضى، وأمهات مع أطفال مصابين بالحمى، ومراهقون تجرع أصدقاؤهم المواد الموجودة داخل كبسولات الدواء ليلفتوا انتباه الفتيات فانتهوا هنا في المشفى منهكين. في غرفة صغيرة بيضاء: قامت الممرضات بوضع هنري على السرير ونـزع الملاءة. عيناه مفتوحتان، وهو ينظر إليّ، ثم يعاود إغلاقهما. والطبيب المناوب يفحصه. قاست ممرضة حرارته، وراقبت نبضه. هنري يرتجف، يرتجف بشدة إلى درجة أن السرير يهتز معه، وساعد الممرضة كذلك تهتز مثل الأسرة في الأصابع في موتيلات السبعينيات. نظر الطبيب المقيم إلى بؤرتي عيني هنري، وأذنيه، وأنفه، وأصابعه، وأصابع قدميه، وأعضائه. بدأوا يلفونه بالملاءات وبشيء معدني يشبه صفائح الألمنيوم، غلفوا قدميه بصرر باردة. الغرفة الصغيرة دافئة جداً. وعينا هنري تومضان مفتوحتان مجدداً، يحاول أن يقول شيئاً، يبدو شيئاً يشبه اسمي. مررت يدي من تحت الملاءة وأمسكت بيديه المتجمدتين بين يدي. نظرت إلى الممرضة، قالت لي: «نريد أن ندفئه، أن نرفع درجة حرارة جسمه الداخلية، ومن ثم نرى ما يحدث له». لاحقاً: سألني الطبيب المناوب: «كيف أصيب بنـزلة وانخفاض في حرارة جسمه الداخلية ونحن في أيلول؟». أجبته: «لا أعرف، اسأله». لاحقاً: جاء الصباح، أنا وكاريس في كافيتريا المشفى، تأكل هي حلوى الشوكولاته، وهناك في الأعلى هنري نائم في غرفته. وكيمي تراقبه. في صحني قطعتا خبز التوست، مشبعتان بالزبدة لم ألمسهما. جلس أحدهم إلى جانب كاريس، إنه كيندريك. قال: «ثمة أخبار جيدة، إن حرارته الداخلية ترتفع 97.6 ويبدو أنه لم يحصل أي ضرر للدماغ». لم أستطع قول أي شيء. الحمد لله، كل ما كنت أفكر فيه. قال كيندريك وهو ينهض: «أوكيه، همم، سأعود وأتفقده مجدداً عندما أنتهي من مشفى سانت روش ليوك». قلت له بينما يهم أن يمشي: «شكراً لك دافيد». ابتسم كيندريك وذهب. لاحقاً: دخلت د. مورييه ومعها ممرضة هندية وعلى شارتها مكتوب اسمها سو. كانت تحمل وعاء كبيراً وميزان حرارة وملقطاً. مهما كان الذي سيحدث، فهو تقنية منخفضة. «صباح الخير سيد دي تامبل، وسيدة دي تامبل. سنقوم بتدفئة قدميك». وضعت سو الوعاء على الأرض، واختفت بهدوء في الحمام. سُمع صوت الماء. د. مورييه ضخمة ولها تسريحة شعر رائعة يمكن لامرأة جميلة سوداء فقط أن تسرحها. تتدلى من تحت أطراف ثوبها الأبيض ساقان مثاليتان ممشوقتان وممتلئتان. سألتها: «ما هذا؟». «مورفين. هذا سيؤلمه. لقد انتهت قدماه تقريباً». أمسكت بذراع هنري بعناية، والتي أعطاها إياها بصمت وكأنها قد ربحتها في لعبة. لها لمسة رقيقة، أدخلت الإبرة، وضغطت على ضاغط الإبرة، بعد لحظة أصدر هنري أنيناً بالامتنان. كانت د. مورييه تزيل الصرر الباردة عن قدمي هنري بينما كانت الممرضة سو قد جاءت ومعها الماء الساخن. وضعته على الأرض بجانب السرير. أخفضت د. مورييه مستوى ارتفاع السرير، وقامتا بإسناده ووضعه بوضعية جلوس، قاست سو درجة حرارة الماء. وصبت الماء في الوعاء وغمرت قدمي هنري به. فأخذ يلهث. «أي منديل سيجعلهما تتحولان إلى اللون الأحمر القاني؟ إن لم تبدوا كالسلطعان إذاً هناك مشكلة». راقبت قدمي هنري تطفوان في الوعاء البلاستيكي الأصفر. كانتا بيضاوين كالثلج، كالرخام، كالتيتانيوم، كالورق، كالخبز، كالملاءة، بيضاوين كما اللون الأبيض يمكن له أن يكون أبيض. قامت سو بتغيير الماء الذي تحول إلى ماء بارد بفعل قدمي هنري المتجمدتين. أشار ميزان الحرارة إلى مائة وست درجات فهرنهايت. وخلال خمس دقائق أصبحت الدرجة تسعين وقامت سو بتغيير الماء مجدداً. كانت قدما هنري تتحركان كسمكتين تختنقان في الهواء. الدموع تسيل إلى خديه وتختفي تحت ذقنه، جففت وجهه، مسدت رأسه. راقبت قدميه تتحولان إلى الأحمر الفاتح. إنه تماماً كما انتظار الصورة لتكتمل، مراقبة الصورة وهي تتحول ببطء من الرمادي إلى الأسود في وعاء التحميض. ظهرت بقعة حمراء عند كاحل كل من قدميه، وانتشر اللون الأحمر كلطخات عند الكاحل الأيسر، وأخيراً بعض أصابع قدميه تحركت بتردد، بقيت القدم اليسرى بعناد بيضاء، وظهر اللون الزهري ببطء عند باطن القدم ولم ينتشر أكثر من ذلك. وبعد ساعة، قامت د. مورييه وسو بتجفيف قدميه بعناية شديدة، ووضعتا ضمادات قطنية بين أصابع قدميه، ووضعتاه على السرير مجدداً، ووضعتا حول قدميه إطاراً بحيث لا يلمسهما أحد. الليلة التالية: كان الوقت متأخراً جداً في الليل، وأنا أجلس إلى جانب سرير هنري في مشفى الرحمة أراقبه وهو نائم. يجلس غوميز على كرسي آخر على الطرف الثاني من السرير وهو غارق في النوم أيضاً. ينام غوميز ورأسه إلى الوراء وفمه مفتوح، ويصدر بين الفينة والأخرى شخيراً ثم يدير رأسه. هنري متصلب وساكن، وشاشة جهاز الإنعاش تومض. وفي أسفل السرير ترتفع من تحت الملاءة أدوات كالقثطرة ترفع الملاءة عند المكان الذي يفترض أن تكون عليه قدماه على السرير، لكن قدميه غير موجودتين الآن، لقد دمرهما التجمد، لقد بترتا هذا الصباح من فوق الكاحلين. لا أستطيع تصور ذلك، أحاول ألاّ أتصور ما الذي يوجد تحت هذه الملاءة. كانت يداه مضمومتين فوق الملاءة، أمسكت بهما، تحسست كم أنهما باردتان وجافتان، وكيف يكون نبضه عند الرسغ، كم أحس بيده في يدي. بعد العملية طلبت من د. مورييه ما أردت منها أن تفعله بقدمي هنري. إعادة وصلهما يبدو أنه العمل الصحيح، لكنني ابتسمت وأشحت بوجهي بعيداً. دخلت ممرضة، وابتسمت لي، قامت بوخز هنري بإبرة، وخلال دقائق تنهد، وكأن الدواء فتح ذهنه، فأدار وجهه نحوي. فتح عينيه قليلاً، ثم عاد إلى النوم مجدداً. لا أعلم ما الوقت الآن؟ يوجد ضوء في الخارج. أعدت وضع يد هنري فوق الملاءة. سحبها إلى خده، كحركة وقائية. تثاءب غوميز، ومدد ذراعيه، وأخذ يطقطق مفاصله قال: «صباح الخير، قطتي». ونهض ودخل الحمام. أستطيع سماعه وهو يبول بينما كان هنري يفتح عينيه. «أين أنا؟». «مشفى الرحمة، 27 أيلول، 2006». حدّق هنري إلى السقف. ثم، وببطء دفع نفسه إلى الأعلى على الوسادة ونظر إلى أسفل السرير، ومال إلى الأمام، محاولاً أن يصل بيديه تحت الملاءة. أغلقت عيني، وبدأ هنري بالصراخ. الثلاثاء، 17 تشرين الأول، 2006 (كلير 35 عاماً، هنري 43 عاماً) كلير: مضى على خروج هنري من المشفى أسبوع. يمضي أيامه على السرير، مكوماً قبالة النافذة، يبتلع المورفين لينام. أحاول أن أطعمه الحساء، وخبز التوست والمعكرونة والجبنة، لكنه لا يأكل كثيراً، ولا يقول الكثير، أيضاً. تدور آلبا حولنا، وهي صامتة، ومتحمسة لتسعد أباها، لتحضر له برتقالة، أو صحيفة يومية، أو دمية الدب، لكن هنري يبتسم بذهول وكومة الأغراض التي تعرضها عليه تبقى هناك من دون أن يمسها على طاولة السرير الجانبية. تأتي ممرضة نشيطة تدعى سونيا براون مرة في اليوم لتغيير الضمادات وتعطينا النصائح. ولكن، حالما تذهب بسيارتها الفولز فاغن الحمراء الخنفسة، ينطوي هنري على نفسه الخاوية. أساعده على استخدام الحمام السريري، أجعله يغير البيجامة بعد الأخرى. أسأله عن شعوره، عما يحتاج إليه، ويجيبني بغموض أو لا يجيب. بالرغم من أن هنري معي هنا الآن، لكنه مختفٍ. أمشي عبر الصالة مروراً بغرفة النوم، وبيدي سلة الغسيل، وأرى آلبا من الباب المفتوح قليلاً، تقف إلى جانب هنري المكوم على السرير. أقف وأراقبها. تقف ثابتة ويداها على خصرها، تتدلى ضفيرتاها السوداوان إلى ظهرها، وقبتها الزرقاء قد سحبت. ينبعث نور الصباح في الغرفة مجلياً كل شيء أصفر. تقول آلبا بنعومة: «بابا؟». لكن هنري لا يجيب. تحاول مجدداً، بصوت أعلى، يستدير هنري نحوها، ويلتف. تجلس آلبا على السرير، وعينا هنري مغلقتان. «بابـي؟». «همم؟». «هل تموت؟». يفتح هنري عينيه ويركز على آلبا. «لا». «قالت لي آلبا إنك تموت». «سيحدث ذلك في المستقبل، آلبا، ليس بعد. قولي لآلبا إنه لا يفترض بها أن تقول لك أشياء كهذه». يمرر هنري يديه على لحيته التي نمت منذ تركنا المشفى. تجلس آلبا ويداها مضمومتان في حضنها وركبتاها مثنيتان. «هل ستبقى على السرير طوال الوقت الآن؟». سحب هنري نفسه بحيث يستطيع أن يستند إلى مقدمة السرير. «ربما». ويبحث في درج الطاولة الجانبية للسرير، لكن مسكنات الألم في الحمام. «لماذا؟». «لأنني أشعر أنني لعنة، حسناً؟». تبتعد آلبا عن هنري، وتنهض عن السرير. وتقول: «حسناً!». تفتح الباب وتقريباً تصطدم بـي وتندهش ثم وبصمت تمد ذراعيها حول خصري فأرفعها إليّ، أصبحت ثقيلة عندما أحملها الآن. حملتها إلى غرفتها، وجلسنا على الكرسي الهزاز، نهز سوياً، كان وجه آلبا الساخن على رقبتي. ماذا في إمكاني أن أقول لك يا آلبا؟ ماذا يمكنني أن أقول؟ الأربعاء والخميس، 18 و19 تشرين الأول، والخميس، 26 تشرين الأول، 2006 (كلير 35 عاماً، هنري 43 عاماً) كلير: أقف في مرسمي ومعي لفافة من الأسلاك وعدة رسوم. كنت قد أفرغت طاولة الرسم الكبيرة، والرسوم مرتبة بأناقة على الجدار. أقف الآن محاولة أن أستجمع الفكرة في ذهني، أحاول أن أتخيلها ثلاثية الأبعاد، بحجم الحياة. سحبت طرف سلك من اللفافة وأخذ ينجر عن الأسطوانة، بدأت بتشكيل جذع تمثال. أنسج من الأسلاك البنية الكتفين، ثم القفص الصدري، ثم الحوض، توقفت، ربما كان يجب أن أبني الذراعين والساقين أولاً؟ هل أصنع القدمين أم لا؟ بدأت بصنع الرأس ثم أدركت أنني لا أريد أياً من هذا، دفعته تحت الطاولة، وبدأت من جديد بأسلاك أكثر. ... قست بيدي قياس جناح، أعدت العملية، عكس المرآة، من أجل الجناح الثاني، أقارن التناسق وكأنني أقص شعر آلبا، أقيس بالنظر، أتحسس الوزن، والأشكال. علقت الجناحين ببعضهما، ومن ثم بأعلى السلم فتدليا من السقف. طافا في المرسم على مستوى صدري، على بعد ثماني أقدام، وبامتنان، مزدانين ولكن من دون نفع. في البداية، تصورتهما باللون الأبيض ثم أدركت أنه ليس اللون الذي أريد، فتحت خزانة الألوان والأصباغ؛ بحري فاتح، وأصفر ذهبـي، وبني خام، وأخضر زبرجدي، وأحمر قرمزي. لا. ها هو ذا، الأحمر الحديدي المؤكسد، لون الدم الجاف، شرير لن يكون لونه أبيض، أو هل يمكن أن يكون أكثر بياضاً من الأبيض الذي أصنعه. وضعت مرطبان اللون على منصة الرسم، مع اللون الأسود الفحمي. مشيت إلى رزم الخيوط القابعة هناك، وهي عابقة بالرائحة وفي الزاوية البعيدة من المرسم. كانت الخيوط من الكتان والقنب، شفافة ومطواعة وأحدها يمكن أن يطقطق كالأسنان المصطكة على بعضها ومتجمعة مع شيء طري كالشفاه. زنت باوندين من القنب القاسي واللحاء المرن بحيث يعود إلى حجمه الأصلي ويمكن عقفه ثم غليه وضربه، ومن ثم تكسيره وتجميعه. سخنت الماء في الوعاء الكبير الذي يغطي رأسين من الفرن في آن معاً وضعت ورق القنب في الوعاء وأخذت أراقبه وهو يغمق ثم سحبته من الماء بهدوء. قست رماد الصودا وغطيت الوعاء، وشعلت الفرن. قطعت باونداً من الكتان الأبيض إلى قطع صغيرة، وملأت الخفاقة بالماء، وبدأت أخفق قطع الكتان الصغيرة لجعلها عجينة بيضاء طرية. ثم أعددت لنفسي فنجاناً من القهوة، وجلست أحدق من النافذة عبر الباحة إلى المنـزل. في تلك اللحظة: هنري: تجلس أمي أسفل السرير، لا أريدها أن تعلم بأمر قدمي، أغمضت عيني وتظاهرت أنني نائم. قالت: «هنري؟ أعلم أنك مستيقظ، هيا، صغيري، انهض وابتهج». فتحت عيني. إنها كيمي. «هممم، صباح الخير». «إنها 2:30 بعد الظهر، يجب أن تنهض عن السرير». «لا أستطيع النهوض عن السرير. ليست لديّ قدمان». قالت: «لديك كرسي متحرك، هيا، تحتاج إلى حمام، تحتاج إلى حلاقة، تحتاج أن تبول، رائحتك كرائحة رجل مسن». وقفت كيمي، وبدت متجهمة جداً. أزاحت غطاء السرير عني وأنا مستلق عليه كالقريدس المعقوف، بارداً ومترهلاً تحت أشعة بعد الظهر. سندتني كيمي لأجلس على الكرسي المتحرك، وجرتني فيه إلى باب الحمام الذي كان ضيقاً ليمر منه الكرسي. قالت كيمي: «أوكيه». كانت تقف أمامي ويداها على خصرها. «كيف سنحل هذا؟ هيه؟». «لا أعرف يا كيمي، أنا هنا مجرد أعرج. لست ذا نفع هنا». «ما هذه الكلمة، أعرج؟». «إنها كلمة ازدرائية عامية تُستخدم لوصف المقعدين». نظرت كيمي نحوي، وكأنني طفل في الثامنة تلفظ بألفاظ بذيئة في حضورها (لم أكن أعلم حينها معنى هذه الألفاظ، بل كنت أعلم فقط أنها ألفاظ ممنوعة عليّ). «أعتقد أنه يفترض أن تقول من ذوي الاحتياجات الخاصة، هنري». مالت نحوي، وفكت أزرار البيجامة. قلت لها: «لديّ أيدٍ». وأكملت فك الأزرار بنفسي. استدارت كيمي فظة ومشاكسة، وفتحت صنبور الماء، وعدلت حرارة الماء، ووضعت السدادة في حوض الحمام. نبشت في خزانة الأدوية، وأحضرت آلة حلاقتي، وصابون الحلاقة، وفرشاة الحلاقة. لم أستطع أن أعرف كيف سأخرج من الكرسي المتحرك قررت أن أسحب نفسي عن الكرسي، دفعت مقدمتي إلى الأمام، وقوست ظهري، وملت نحو الأرض. مددت كتفي اليسرى، وأسندت مؤخرتي بينما أنـزلق إلى الأسفل، لكن الأمر ليس بذاك السوء. لديّ المعالج الفيزيائي الشاب المتحمس في المشفى مع عدة تقنيات ليعلمني الجلوس والنهوض عن الكرسي، لكنها تتمحور جميعها حول وضعيتين عن الكرسي إلى السرير، وعن السرير إلى الكرسي. والآن أنا أجلس على الأرض وحوض الحمام يلوح كالمنحدرات البيضاء في دوفر فوقي. نظرت إلى أعلى إلى كيمي التي نظرت إليّ، كل شيء في نظرتها يقول كم إنّ ذاك مأساوي. فكرت، اللعنة لكن عليّ أن أقوم بالأمر نوعاً ما، لا أستطيع أن أدعها تنظر إليّ هكذا. بدأت أخلع بيجامتي، وأفك الضمادات التي تغطي ساقي نظرت كيمي إلى أسنانها عبر المرآة. وضعت يدي على جانب حوض الحمام وتفحصت حرارة الماء. «إذا رميت بعض الأعشاب هنا يمكن أن تغلي من أجل حساء للعشاء». سألتني كيمي: «أهي ساخنة جداً؟». «أجل». عدلت كيمي درجة حرارة الماء، ثم غادرت الحمام، وقد دفعت الكرسي المتحرك من الممر، بحذر أزلت الضمادة عن ساقي اليمنى، تحت اللفافات كانت البشرة باهتة وباردة. وضعت يدي على الجانب المتجعد، على اللحم الملتوي عند العظم. كنت قد وضعت المرهم منذ قليل فقط. أتساءل إذا كان في إمكاني تناول الدواء من هنا من دون أن تكتشف ذلك كلير، الزجاجة على الأرجح في الأعلى هناك في خزانة الأدوية. عادت كيمي حاملة معها واحداً من كراسي الحمام، وضعته في الأسفل إلى جانبـي. أزلت الضمادة عن الساق الأخرى. قالت كيمي: «لقد قامت بعمل جيد». «د. مورييه؟ أجل، هذا تطور كبير، أكثر من الطيران الآلي». ضحكت كيمي. أرسلتها إلى المطبخ من أجل دفاتر دليل الهاتف. عندما وضعتها بجانب الكرسي رفعت جسمي بحيث جلست عليها، ثم زحفت نحو الكرسي وقمت بحركة التفاف ودوران وهبوط إلى الحوض. اندفعت موجة كبيرة من الماء خارج الحوض على أرضية الحمام. وأنا الآن في حوض الحمام. هالوبا! أغلقت كيمي صنبور الماء، وجففت ساقيها بمنشفة. طفوت في الماء. في ما بعد: كلير: بعد ساعات من غلي عيدان وأوراق القنب سحبتها ووضعتها أيضاً في الخفاقة. كلما خفقت أكثر كلما كان ذلك أنعم وأكثر شبهاً بمادة العظام. بعد أربع ساعات، أضفت مادة مساعدة والجبص والصباغ، وأصبح لون البيج داكناً فجأة وتحول إلى لون التربة الأحمر الداكن المعتم. صبغتها في صناديق ووضعتها في الآنية المعدة لها. عندما عدت إلى المنـزل كانت كيمي تعد طبق لحم الطون المغطى بأصابع البطاطا. سألتها: «كيف سارت الأمور؟». «جيدة جداً. إنه في غرفة المعيشة». هنالك آثار مياه بين الحمام وغرفة المعيشة بحجم قدمي كيمي. هنري نائم على الأريكة وبيده كتاب مفتوح على صدره، إنه فيشونيس لبورخيز، وهو حليق، انحنيت عليه وشممته، رائحته طيبة، وشعره الرمادي ممشط وباتجاه مستقيم. وآلبا تلعب مع دمية الدب في غرفتها. للحظة شعرت وكأنني سافرت عبر الزمن، وكأن هذه اللحظة قد شردت من حياتنا السابقة. لكن بعدها أمعنت النظر إلى جسم هنري المنبسط عند نهاية الملاءة، عرفت أنني هنا والآن. كانت تمطر في الصباح التالي. فتحت باب المرسم، كان الجناحان السلكيان بانتظاري، يطوفان في النور الرمادي هذا الصباح. أدرت الراديو، كان هنالك عزف لشوبان بقطعه الموسيقية كتسلل الموج في الرمل. انتعلت الجزمة المطاطية، وضممت شعري إلى الوراء لأبقيه بعيداً عن وجهي، وارتديت ردائي المطاطي. التقطت معداتي المفضلة من ملقط خشبـي كبير من خشب الساج، ومكبس نحاسي، ومشحفي، والمكبس، وكشفت غطاء الراقود، ووضعت صفيحة لأمد الورق فوقها. ثم تناولت من أسفل الراقود الملاط الأحمر الداكن لأخلط الأنسجة بالماء، تنقطت جميعها، غمست الخليط في الراقود وكبسته بالمكبس إلى أسفل الراقود، ورفعته بحذر، سويته، ليتدفق الماء عنه. وضعته على زاوية الراقود ليترشح الماء عنه، وراح الماء ينـزل منه تاركاً شريحة من النسيج على السطح. حركت الدكل في الراقود وأنا أكبس وأضغط الخليط على الصفيحة، ثم هززته بعناية، وبينما أنـزع المكبس عن الخليط الذي تمسد جيداً بقيت طبقة الورق هذه على الصفيحة ناعمة وبراقة غطيتها بصفيحة أخرى، وبللتها، وعاودت الكرة، أصنع طبقات من الورق، أغمس الأنسجة، وأضغطها، وأرفعها، وأرشحها، وأجففها، وأجمعها، وأكبسها، وأغطيها. ونسيت نفسي مع هذا التكرار، صوت البيانو يطوف على الماء وهو يصدر قرقعة وينـزل ويمطر. عندما أحصل على ورقة أضغطها في الكباسة الآلية للورق. عدت إلى المنـزل وأكلت سندويش لحم بارد. كان هنري يقرأ، وآلبا في المدرسة. بعد الغداء، وقفت أمام الجناحين مع قطعتي الورق المكتملتين. سأقوم بتغطية التمثال بالورق المغشى. كان الورق رطباً وداكناً ويحتاج إلى تجذيب، ولكنه تدلى من فوق الأسلاك، وشكّل شيئاً كالبشرة فوقه. طويت الورقة إلى أوتار ووصلات تتصل ببعضها بعضاً. أصبح الجناحان الآن كجناحي خفاش وأستطيع تقفي أثر السلك من تحت الورق. جففت الورق الذي لم أستخدمه وحميته على صفائح الفولاذ. ثم بدأت بتقطيعه إلى أشرطة مستقيمة، إلى ريش. عندما يجف الجناحان سألصق هذه عليهما واحدة تلو الأخرى. بدأت بتلوين هذه القطع الصغيرة باللون الأسود والرمادي والأحمر. بعد أسبوع، في المساء هنري: كانت كلير قد ألبستني لأبدو متأنقاً وطلبت من غوميز أن يحملني عبر الباب الخلفي، عبر الحديقة الخلفية، إلى مرسمها. كان المرسم مضاء بالشموع، توجد على الأرجح المئات منها، أو أكثر، على الطاولات وعلى الأرضية، وعلى حواف النوافذ. أجلسني غوميز على أريكة المرسم، وانسحب إلى المنـزل. وسط المرسم يوجد هنالك غطاء أبيض كبير معلق من السقف. استدرت لأرى إن كان هناك جهاز عرض، لكن لم يكن هناك. كانت كلير مرتدية ثوباً داكن اللون، وتتحرك حول الغرفة وكانت يداها ووجهها تطفو بالبياض ومتحررين. سألتني: «أتريد فنجاناً من القهوة؟». لم أكن قد شربت القهوة منذ خروجي من المشفى. أجبتها: «بالتأكيد». سكبت فنجانين، أضافت المبيض، ناولتني فنجاناً. بدا فنجان القهوة الساخن مألوفاً وجيداً بين يدي. قالت كلير: «صنعت لك شيئاً». «أقدام؟ يمكنني استخدام بعض الأقدام». قالت: «بل جناحان». وهي تنـزع الغطاء الأبيض المتدلي من السقف على الأرض كان الجناحان ضخمين ويطيران في الهواء، يرفرفان في ضوء الشموع، قاتمين أكثر من العتمة نفسها، مهددين لكنهما أيضاً عابقان بالشوق، بالحرية، بالانطلاق عبر الفضاء. اعتراني إحساس بالوقوف بثبات على قدمين، وبالركض، بالعدو مثل الطيران. الأحلام بالرفرفة، وبالطيران وكأن الكارثة قد انحسرت وتتيح لي الآن أن أنعم بمكان آمن على الأرض، راودتني هذه الأحلام مجدداً في المرسم المضيء. جلست كلير قربـي. أشعر بها تنظر إليّ. الجناحان صامتان، أطرافهما مثلمة. وأنا عاجز عن الكلام. Siehe, ich lebe. Woraus? Weder Kindheit noch Zukunft/weder weniger…Uberzah-liges Dasein/entspringt mir Herzen) انظر، أنا أعيش، على ماذا؟ ليست الطفولة ولا المستقبل/أنمو أكثر صغراً... كائن حي طفيلي)/الجروح تملأ قلبـي. قالت كلير: «قبلني». استدرت نحوها، بوجهي الشاحب وبشفتين معتمتين وسط هذه العتمة، وغرقت، حلقت معها، وتحررت... وقلبـي مليء بالجروح. أحلام القدمين تشرين الأول/تشرين الثاني، 2006 (هنري 43 عاماً) هنري: حلمت أنني في مكتبة نيوبيري، أقدم عرضاً ومحاضرة أمام بعض الخريجين من جامعة كولومبيا. أعرض عليهم الكتب القديمة في بداية الطباعة. وأعرض عليهم البقايا من غيتينبيرغ، وغيم أند بلي أوف تشيس لكاغستون، وإيسوبيسوس لجينسن. يسير كل شيء على ما يرام، وهم يطرحون أسئلة جيدة. أفتش في عربة الكتب، أبحث عن كتاب خاص وجدته للتو على رفِّ من الرفوف، كتاب لم أكن أعلم بوجوده. عبارة عن صندوق كبير أحمر، من دون عنوان، فقط رقم السجل للتعرف إليه، CASE WING f ZX 983 D 453 وعليه ختم مكتبة نيوبيري الذهبـي تحت شعار المكتبة. وضعت الصندوق على الطاولة، وأخرجت قطع اللبادات منه، فتحت الصندوق، فوجدت فيه قدمي اللتين كانتا بلون زهري وبحال ممتازة، ويا للمفاجأة هما ثقيلتان. وأنا أضعهما على قطع القماش تحركت جميع الأصابع، لتقول لي مرحباً، لترى أنه لا تزال في إمكانها القيام بذلك. بدأت أتحدث معها وأشرح لها الصلة بين قدمي والطباعة في البندقية في القرن الخامس عشر، والطلاب يسجلون ملاحظاتهم. ثم قامت من بينهم فتاة شقراء طويلة جميلة ترتدي تنورة مطرزة وبراقة ولها حمالات وأخذت تشير إلى قدمي وتقول: «انظر، إنهما بيضاوان كليّاً!». هذا صحيح، لقد أصبحت بشرتهما شاحبة ميتة. القدمان لا حياة فيهما ومتعفنتان. وضعت جانباً ملاحظة لنفسي حتى أرسلهما إلى قسم التخزين غداً صباحاً قبل أي عمل آخر. أركض في أحلامي. كل شيء على أحسن ما يكون، أركض على طول البحيرة، من شارع أوك ستريت بيتشن متجهاً نحو الشمال. أشعر أن قلبـي يخفق وأن رئتي ترتفعان وتنخفضان بلطف، أنا أتحرك في كل الاتجاهات، وأفكر ما هذه الراحة! كنت خائفاً ألاّ أركض مجدداً، لكن ها أنذا، أركض، إنه أمر رائع. لكن، بدأت الأمور تسير على نحو مغاير، هنالك أجزاء من جسدي تسقط؛ أولاً تسقط ذراعي اليسرى، أتوقف فألتقطها من الرمل وأنفضها، وأعيدها إلى جسمي لكنها لا تلتصق بشكل تام، وتسقط مجدداً بعد نصف ميل، لذا أحملها معي في ذراعي الثانية، وأفكر في أنني عندما أعود إلى المنـزل ربما أستطيع أن ألصقها بإحكام أكثر، لكن عندها تسقط الذراع الأخرى، ولم تعد لديّ أي أذرع إطلاقاً لألتقط الذراع التي سقطت، لذا أستمر في الجري، ليس الأمر سيئاً للغاية، وهو لا يؤلم... وبعد ذلك أشعر أن قدميّ قد تكسرتا مثل حجارة الرصيف داخل حذائي، وثم كلتا قدميّ تتكسران حتى الكاحلين وأسقط على وجهي على الممر. أعرف أنني إن بقيت هناك فإن الأشخاص الراكضين سيدوسون عليّ ويسحقونني لذا أبدأ في الالتفاف. ألتف وألتف وألتف إلى أن أصل إلى البحيرة، وتلفني الأمواج تحت الماء، وأستيقظ لاهثاً. حلمت أنني في حفلة باليه، أنا بطل الرقص فيها، وأنا في غرفة تبديل الملابس، وقد ارتديت اللون الزهري من باربارا، التي كانت مسؤولة الملابس لدى أمي. باربارا هي شخص قاس، لذا فإن قدميّ تؤلمأنني كالجحيم ولكنني لا أشكو إليها وهي تدفع بحنان الأرجل الخشبية في أحذية طويلة زهرية عندما أنهيت نهضت عن مقعدي وصرخت. تقول لي باربارا: «لا تكن بليداًً». لكن، بعد ذلك تلين وتناولني حبة مورفين. يظهر العم إيش عند باب غرفة الملابس ونسرع ونحن نتجاوز ممرات الكواليس غير المنتهية. أعرف أن قدمي تؤلمانني بالرغم من أنني لا أستطيع أن أشعر بهما. نندفع داخلين وفجأة أكون على إحدى الشرفات وراء الكواليس، وأدرك أن حفلة الباليه هذه هي حفلة باليه كسارة البندق، وأنا راقص السكر الأسطوري. لسبب ما يزعجني ذلك. هذا ليس ما كنت أتوقعه لكن أحدهم يعطيني إشارة صغيرة، وأنا أتمايل على الخشبة. وأنا أرقص. وأشعر بالإعماء من الإضاءة، أرقص من دون تفكير، من دون معرفة بالخطوات في نشوة الألم وأخيراً أسقط على ركبتي، أجهش في البكاء، يقف الجمهور على أقدامهم ويصفقون لي. الجمعة،3 تشرين الثاني، 2006 (كلير 35 عاماً، هنري 43 عاماً) كلير: يمسك هنري ببصلة وينظر إليّ بإشفاق ويقول: «هذه... بصلة». أومأت له. «أجل، قرأت عنها». رفع أحد حاجبيه. «جيد جداً والآن لتقطيع بصلة، تأخذين سكيناً حادة، وتضعين مقدمة البصلة المذكورة على خشبة التقطيع، وتنـزعين نهايتيها هكذا. ثم يمكنك تقطيع البصلة، هكذا أوكيه. الآن، نقطعها نصفين. إن كنت تقومين بإعداد حلقات البصل فما عليك سوى أن تسحبـي كل حلقة على حدة. لكن، إن كنت تقومين بإعداد الحساء أو صلصلة السباغيتي أو أي شيء آخر فإنك تقطعينها قطعاً صغيرة، هكذا...». لقد قرر هنري أن يعلمني الطبخ. جميع خزائن المطبخ ومنصاته عالية عليه وهو على كرسيه المتحرك هذا. جلسنا خلف طاولة المطبخ تحيطنا أواني الطبخ والسكاكين وعلب صلصة الطماطم. دفع هنري بخشبة التقطيع والسكين إليّ وقد وقفت بغرابة أقطع البصلة. أخذ هنري يراقبني بصبر: «أوكيه، عظيم، والآن الفليفلة الخضراء: تمررين السكين حول حبة الفليفلة، ثم تنـزعين البذور...». أعددنا صلصلة مارينا، وبيستو، ولازانيا. وفي يوم آخر أعددنا حلوى أصابع الشوكولاته، والبراونيز، وكريم برولييه. إنه بمثابة النعيم بالنسبة إلى آلبا، وهي تتوسل: «أريد المزيد من الحلوى». صنعنا بوش البيض وسمك السلمون، وبيتزا بكل مكوناتها. عليّ أن أعترف أن في الأمر متعة، ولكنني كنت مرتعبة في أول مرة طبخت العشاء بنفسي. كنت أقف في المطبخ محاطة بالأواني والأوعية، طهوت الهليون أكثر من اللازم، وحرقت يدي وأنا أُخرج السمك من الفرن. وضعت كل شيء في أطباق كبيرة، وأحضرتها إلى غرفة الطعام حيث كان هنري وآلبا يجلسان مكانهما، ابتسم هنري وهو يشجعني، جلست، رفع هنري كوب الحليب إلى فوق قائلاً: «بصحة الطاهية الجديدة!». ضربت آلبا كوبها بكوبه وبدأنا في تناول الطعام. اختلست النظرات إلى هنري وهو يأكل. وبينما أنا آكل، أدركت أن كل شيء مذاقه جيد. قالت آلبا: «إنها طيبة، ماما». وهز هنري متفقاً معها. قال هنري: «إنها رائعة يا كلير». وحدقنا إلى بعضنا بعضاً وقلت في نفسي، لا ترحل عنا. ما سيحدث يأتي لا محالة الاثنين، 18 كانون الأول، 2006 - الأحد، 2 كانون الثاني، 1994 (هنري 43 عاماً) هنري: صحوت عند منتصف الليل وأنا أعاني من آلاف وخزات الألم في قدمي قبل أن أتمكن من استخراج حبة الدواء من علبتها فسقطت. تكورت على نفسي، وأنا على الأرض ولكن هذه ليست أرض منـزلنا، بل هي أرض أخرى، في ليلة أخرى. أين أنا؟ الألم يجعل كل شيء سواه يبدو ضئيلاً، لكن هناك عتمة، ورائحة منبعثة تذكرني بشيء! رائحة مبيض غسيل، وحلوى، وعطر، تبدو مألوفة للغاية - لكنني لا أستطيع -. أصوات خطوات تصعد الدرج، أصوات أناس، ومفتاح يفتح عدة أقفال. أين يمكنني الاختباء؟ فُتح الباب، وأنا أزحف على الأرض بينما أُضيء الضوء، وانفجر في رأسي كوميض الفلاش وهمست امرأة: «أوه، يا اﷲ». وأنا أفكر لا، لا يمكن لهذا أن يحدث. وأغلق الباب وسمعت إنغريد تقول: «سيليا، يجب أن تذهبـي». واعترضت سيليا، وبينما وقفتا على الطرف الثاني من الباب تتجادلان حول الأمر نظرت حولي يائساً ولكن ليس هناك من مخرج. لا بد أن هذه شقة إنغريد في شارع كلارك حيث لم آتِ إليها هنا أبداً ولكن أشياءها تملأ المكان، الكرسي من إيمس، والطاولة الرخامية على شكل الكلية ممتلئة بمجلات الأزياء، والأريكة البرتقالية الكريهة التي اعتدنا أن - تفحصت المكان حولي بإمعان محاولاً أن أجد ما أرتديه، لكن القماش الوحيد في هذه الحجيرة هو كيمينو أرجواني وأصفر تتناظر ألوانه مع لون الأريكة، لذا تناولته ولففته حول جسمي، ودفعت بجسمي على الأريكة فتحت إنغريد الباب مجدداً. وقفت هادئة لدقيقة، ونظرت إليّ، ونظرت إليها وكل ما كان يمكنني التفكير فيه هو، أوه، إنغ، لماذا فعلت هذا بنفسك؟ إنغريد التي تحيا في ذاكرتي هي تلك المرأة الرائعة الشقراء المتوهجة التي قابلتها في جيمبو فورث خلال حفلة من شهر تموز 1988. إنغريد كارميشيل كانت مدمرة وصعبة المنال مغلفة بوهج من الثروة والجمال والملل. أما إنغريد التي تقف قبالتي وهي تنظر إليّ فهزيلة وكئيبة وصعبة ومتعبة، تقف ورأسها مائل على جهة واحدة وتنظر إليّ باندهاش وازدراء. يبدو أن كلينا لا يعرف ماذا يقول. أخيراً خلعت معطفها، ورمته على الكرسي، وتمددت على الطرف الثاني للأريكة. ترتدي بنطالاً من الجلد. احتك قليلاً بينما كانت تجلس. «هنري». «إنغريد». «ما الذي تفعله هنا؟». «لا أعرف. أنا آسف. أنا فقط - حسناً، تعلمين». ابتسمت. ساقاي تؤلمانني كثيراً بحيث إنني لا أكترث أين أنا. «تبدو بحالة مزرية». «أعاني من ألم شديد». «هذا مضحك، وأنا كذلك». «أعني ألماً جسدياً». «لماذا؟». كل ما تهتم به إنغريد هو أن أتدمر تلقاء من ذاتي أمام عينيها، سحبت البطانية وأريتها قدمي المجدوعتين. لم ترتد إلى الوراء ولم تتأوه، ولم تشح بنظرها بعيداً وعندما فعلت وأشاحت بناظريها راحت تنظر إلى عيني فرأيت إنغريد تلك، من بين كل الناس، التي تفهمني تماماً. وصلنا إلى نفس الوضع بعدة طرائق منفصلة تماماً. نهضت وذهبت إلى الغرفة الأخرى، وعندما عادت كانت تحمل علبة خياطتها القديمة بيدها. شعرت بجرعة أمان وأمل مبررين. جلست إنغريد قربـي، فتحت الغطاء وتماماً كما في الأيام الجملية الماضية هنالك صيدلية كاملة في العلبة مع علبة الدبابيس والكشتبان. سألتني إنغريد: «ماذا تريد؟». «أوبيات». أخرجت حبات من علبة مليئة بالحبوب، وقدمت تشكيلة منها إليّ، أشرت إلى أولترام وأخذت منها حبتين، وبعد أن ابتلعتهما من دون ماء أحضرت لي كأس ماء فشربته. «حسناً». مررت إنغريد ظفرها الطويلة المطلية باللون الأحمر في شعرها الأشقر. «من أين أتيت؟». «كانون الأول، 2006. ما التاريخ هنا عندك؟». نظرت إنغريد إلى ساعة يدها. «كان يوم رأس السنة، لكن الآن 2 كانون الثاني 1994». «أوه. لا. أتوسل لا». سألت إنغريد: «ماخطبك؟». «لا شيء». اليوم هو اليوم الذي ستنتحر فيه إنغريد. ماذا يمكنني أن أقول لها؟ هل أستطيع أن أمنعها؟ ماذا لو اتصلت بأحدهم؟ «أصغي إليّ إنغ، أريد فقط أن أقول لك...». ترددت. ماذا يمكنني أن أقول لها من دون أن أجفلها. هل يفيد هذا الآن؟ في الحاضر هي ميتة؟ بالرغم من أنها تجلس هنا قربـي؟ «ما الأمر؟». كنت أتعرق. «فقط... اعتني بنفسك لا... أعني، أعلم أنك لست سعيدة جداً -». «حسناً، من المُلام في ذلك؟». أصبح فمها القاني بأحمر الشفاه البراق عابساً. لم أجبها. هل هو خطأي؟ لا أعرف حقاً. إنغريد تحدق إليّ وكأنها تتوقع مني جواباً. أشحت بنظري عنها. نظرت إلى اللوحة موهونلي - ناغي على الجدار المقابل. قالت إنغريد: «هنري؟ لماذا كنت نذلاً معي؟». عدت بنظري إليها: «هل كنت كذلك؟ لم أرد يوماً أن أكون كذلك». هزت إنغريد رأسها: «لم تأبه لي إن عشت أو مت». أوه. إنغريد. «بل يهمني. لا أريدك أن تموتي». «لم تكترث، لقد تركتني. ولم تأتِ إلى المشفى أبداً». تحدثت إنغريد وكأن الكلمات تخنقها. «عائلتك لم تدعني آتي إليكِ. طلبت مني أمك أن أبتعد عنك». «كان عليك أن تأتي». تنهدت. «إنغريد، قال لي طبيبك لا يمكنني زيارتك». «سألتهم وقالوا إنك لم تسأل عني أبداً». «بلى اتصلت، قالوا لي إنك لا تريدين التحدث معي، وألا أتصل بك مرة اخرى». بدأ المسكن يخزني. وغاب الألم الواخز في ساقي. مررت يدي من تحت البطانية، ووضعت قبضة يدي على جلدي عند قدمي اليسرى المجدوعة، ثم اليمنى. «كنت على وشك الموت ولم تتحدث معي مرة أخرى». «اعتقدت أنك لا تريدين رؤيتي. كيف لي أن أعرف؟». «تزوجت ولم تتصل بـي ودعوت سيليا إلى حفل زفافك لكي تبصق عليّ». ضحكت. لم أستطع منع نفسي من الضحك. «إنغريد، كلير هي من دعت سيليا، إنهما صديقتان، لم أفهم يوماً كيف كان ذلك. إنه لقاء الأضداد على ما أظن، ولكن على كل حال، ليس للأمر أي علاقة بك». لم تتفوه إنغريد بكلمة. بدت شاحبة من وراء مكياجها. غرزت يدها في جيب معطفها، وأخرجت علبة سجائر إنكليزية وولاعة. سألتها: «منذ متى وأنت تدخنين؟». كانت إنغريد تكره التدخين. تحب إنغريد الكولا والكوكتيل والمشروبات التي لها أسماء شاعرية. أخرجت سيجارة من العلبة، ووضعتها بين ظفريها الطويلتين، وأشعلتها. يداها ترتجفان. سحبت مجة من السيجارة، والتف الدخان خارجاً من شفتيها. سألتني إنغريد: «إذاً، كيف وجدت الحياة من دون قدمين؟ كيف حدث ذلك بالمناسبة». «من الصقيع، إصابة برد». أمضيت وقتاً طويلاً عارياً في غراند بارك في كانون الثاني. «إذاً، كيف تتجول؟». «غالباً، على كرسي متحرك». «أوه، هذا مُزرٍ». «أجل». قلت: «إنه كذلك». جلسنا بصمت لدقيقة. سألتني إنغريد: «هل لا تزال متزوجاً». «أجل». «هل أنجبتما أطفالاً؟». «طفلة واحدة، فتاة». «أوه». مالت إنغريد إلى الوراء، سحبت سيجارتها، نفخت نفخة من الدخان من أنفها. «أتمنى لو كان لديّ أطفال». «لم ترغبـي يوماً في إنجاب الأطفال، إنغ». نظرت إليّ، لكنني لم أستطع فهم نظرتها. «لطالما وددت أن يكون لي أطفال، كنت أعتقد أنك أنت من لا يريد أطفالاً، لذا لم أقل لك شيئاً». «لا يزال في إمكانك إنجاب الأطفال». ضحكت إنغريد. «هل أستطيع؟ هل لديّ أطفال هنري؟ في العام 2006 هل سيكون لديّ زوج ومنـزل في وينتيكا و2.5 طفل؟». «ليس تماماً». كررت إنغريد ذلك مقلدة إياي: «كيف ليس تماماً؟ مثل، في، ليس تماماً، إنغريد، أنت حقاً فتاة شارع؟». «لست فتاة شارع». «إذاً، أنا لست فتاة شارع، أوكيه، رائع». أطفأت إنغريد سيجارتها، وضعت ساقاً فوق ساق. لطالما أحببت ساقيها. تنتعل جزمة بكعب عالٍ لا بد أنها كانت مع سيليا في حفلة. قالت إنغريد: «دعنا من الحالات المتطرفة، فأنا لست عقيلة أحدهم، ولست مشردة. هيا، هنري، أعطني تلميحات أكثر». كنت صامتاً. لا أريد أن أشاركها في هذه اللعبة. «حسناً، دعنا نضع عدة خيارات. لنرَ... إجابة 1) أنا امرأة تعري في ملهى رخيص في شارع روش. هممم، إجابة 2) أنا سجينة لأنني قتلت سيليا وأطعمتها لمالكولم. هيه، ياه هه. إجابة 3) أنا أعيش في ريو ديل سول مع مستثمر مصرفي ما رأيك بهذا هنري؟ هل تعجبك أي من هذه الخيارات؟». «من يكون مالكولم؟». «إنه كلب دوبرمان عند سيليا». «من دمى فايغرز؟». لعبت إنغريد بولاعتها، تشعلها وتطفئها، ماذا عن إجابة 4) ميتة؟». جفلت. «هل يحلو ذلك لك؟». «لا، لا يحلو لي». «حقا؟ أما أنا فأفضل هذا الخيار أكثر من أي شيء». ابتسمت إنغريد. ليست ابتسامة جميلة. تبدو أكثر كعبوس. «أفضل هذا كثيراً وهذا يعطيني فكرة». وقفت ومشت عبر الغرفة ونـزلت إلى الصالة. أستطيع أن أسمعها وهي تفتح وتغلق درجاً. وعندما عادت مجدداً كانت إحدى يديها خلف ظهرها. وقفت إنغريد أمامي وقالت: «مفاجأة!». وهي تصوب مسدساً نحوي. ليس مسدساً كبيراً بل كان رفيعاً وأسود ولامعاً. أمسكته إنغريد قريباً من وسطها، وببطء، وكأنها في حفل استقبال. أمعنت في المسدس. قالت إنغريد: «في إمكاني أن أطلق النار عليك». قلت لها: «أجل يمكنك ذلك». قالت: «إذاً، يمكنني أن أطلق النار على نفسي». «يمكن أن يحدث أيضاً». «لكن هل سيحدث؟». «لا أعلم، إنغريد، أنت من يقرر». قالت إنغريد بحزم: «اللعنة عليك، هنري، قل لي». «حسناً، لا، لا يحدث ذلك بهذه الطريقة». حاولت أن أبدو واثقاً. سخرت إنغريد: «لكن، ماذا لو أردته أن يحدث بهذه الطريقة». «إنغريد، أعطيني المسدس». «تعال إلى هنا وخذه». «هل ستطلقين النار عليّ؟». هزت إنغريد رأسها مبتسمة. وثبت عن الأريكة إلى الأرض، زحفت نحو إنغريد، أجر الكيمينو، بطيئاً بفعل مخدر الألم. عادت إلى الوراء، ممسكة المسدس، تجرب نحوي. توقفت. «هيا هنري، كلب لطيف، كلب مخلص». حررت إنغريد زناد الأمان وتقدمت خطوتين نحوي. تسمرت مكاني. إنها تصوب الفوهة الفارغة نحو رأسي. ثم ضحكت إنغريد، وصوبت فوهة المسدس نحو رأسها. «ماذا عن هذا، هنري؟ هل سيحدث ذلك على هذا النحو؟». «لا لا!». قطبت حاجبيها. «هل أنت متأكد هنري؟». حركت إنغريد المسدس نحو صدرها. «هل هذا أفضل؟ الرأس أم القلب، هنري؟». تقدمت إنغريد خطوة. أستطيع أن ألمسها. أستطيع أن أصل إليها - دفعتني إنغريد من الصدر وسقطتُ، وأنا مكور على الأرض أنظر إليها ومالت وبصقت على وجهي. «هل تحبني؟». سألتني وهي تنظر نحو الأسفل إليّ. قلت لها: «نعم». «كاذب». قالت إنغريد هذا، وحررت الزناد. الاثنين، 18 كانون الأول، 2006 (كلير 35 عاماً، هنري 43 عاماً) كلير: استيقظت عند منتصف الليل وكان هنري قد اختفى. ارتعدت. جلست على السرير. تدافعت الاحتمالات في ذهني. لربما دهسته السيارات، علق في أحد المباني المهجورة، أو خارجاً في البرد؛ سمعت صوتاً، هنالك أحد يبكي. أعتقد أنها آلبا، لربما ذهب هنري لتفقد آلبا ليرى ما بها، لذا نهضت عن السرير، وذهبت إلى غرفة آلبا، لكنها نائمة، ومتكورة على دمية الدب، وغطاء السرير قد سقط عنها. تتبعت الصوت إلى أسفل الصالة، هناك على الأرض في غرفة الجلوس يجثم هنري، ورأسه بين يديه. جلست على ركبتي أمامه. سألته: «مابك؟». رفع هنري وجهه، في إمكاني رؤية الدموع الرقراقة على خديه من ضوء الشارع القادم من النوافذ. قال هنري: «ماتت إنغريد». وضعت ذراعي حوله. قلت له بلطف: «إنغريد ماتت منذ زمن». هز هنري رأسه وقال لي: «سنوات، دقائق... الشيء نفسه». جلسنا على الأرض صامتين، قال هنري: «هل تظنين أنه قد طلع الصباح؟». «بالتأكيد». كانت السماء لا تزال معتمة، والعصافير لم تغرد بعد. قال لي: «دعينا ننهض». أحضرت الكرسي المتحرك، أسندته حتى جلس عليه، وجررته إلى المطبخ. أحضرت له ثوب الحمام، وناضل حتى لبسه. جلس إلى طاولة المطبخ ينظر من النافذة إلى الباحة الخلفية المكسوة بالثلوج. هناك على مسافة بعيدة بدأ محراث الثلج يدور ويزيل الثلوج المتراكمة عن الطريق. شغلت الإضاءة، عايرت مقدار فنجاني قهوة في فلتر آلة القهوة، ومقدار الماء في آلة القهوة، وأدرتها، أخذت الفنجانين، وفتحت البراد، لكنني عندما سألت هنري ماذا يريد أن يتناول هز رأسه أنه لا يريد شيئاً. جلست إلى طاولة المطبخ قبالته وهو ينظر إليّ. عيناه حمراوان، وشعره مبعثر في جميع الاتجاهات، ويداه نحيفتان، ووجهه كئيب. قال: «كان خطأي، لو لم أكن هناك...». سألته: «هل كنت ستمنعها؟». «لا. لقد حاولت». «حسناً، إذاً». أصدرت آلة القهوة أصوات قرقعة. وضع هنري يديه على وجهه. قال لي: «لطالما تساءلت لماذا لم تترك ملاحظة». كنت على وشك أن أسأله ما الذي يعنيه عندما رأيت آلبا تقف عند باب المطبخ. ترتدي ثوب نوم زهري اللون وتنتعل خفاً أخضر على شكل فأر، بعينين نصف مغمضتين، وتتمطى متثائبة في ضوء المطبخ المزعج. قال هنري لها: «أهلاً، صغيرتي». جاءت آلبا إليه، ورمت بنفسها عليه من جانب الكرسي المتحرك. قالت آلبا: «صـباح الخير». قلت لها: «لم يأتِ الصباح بعد، لا يزال الوقت ليلاً». تنشقت قائلة: «كيف ولِمَ أنتما صاحيان إذاً، إن كان الوقت لا يزال ليلاً؟ أنتما ستشربان القهوة، إذاً إنه الصبح». قال هنري: «أوه، إنها ذات المغالطة القديمة إن القهوة تعادل الصباح، توجد فجوة في المنطق عندك يا حبيبتي الصغيرة». سألته آلبا: «ماذا؟». تكره أن تكون مخطئة في أي شيء. «أنت تضعين نتائج على معطيات غير صحيحة، هذا هو الأمر، فقد نسيت أن والديك مدمنا قهوة في المقام الأول، وأنهما من الممكن أن يستيقظا عند منتصف الليل ليشربا المزيد من القهوة فحسب». كان يزأر كالوحش، ربما مدمن قهوة. قالت آلبا: «أريد قهوة، أنا مدمنة قهوة». زأرت بالمقابل لهنري، لكنه أبعدها عنه ووضعها على الأرض على قدميها. دارت آلبا حول الطاولة إليّ وطوقتني بذراعيها حول كتفي. «زئير!». صاحت في أذني. نهضت ورفعت آلبا. «لقد أصبحت ثقيلة الآن، ازأري بنفسك». حملتها نازلة عبر الصالة وأعدتها إلى سريرها، وهي تتمطى من الضحك. كانت الساعة على طاولة سريرها تشير إلى 4:16 صباحاً. جعلتها تنظر إليها. «أترين؟ لا يزال الوقت باكراً على الاستيقاظ». وبعد التذمر الذي لا مفر منه، عادت آلبا إلى النوم، وعدت إلى المطبخ. تمكن هنري من صب فنجاني قهوة لكلينا. جلست مجدداً. كان الجو بارداً هنا. «كلير». «هممم؟». «عندما أموت -». توقف هنري، وأشاح بنظره بعيداً، وأخذ نفساً عميقاً، وبدأ الكلام من جديد. «لقد رتبت كل شيء، كل الوثائق، تعلمين كرسائل لكل الأشخاص، وأمور آلبا، وكل شيء موجود في مكتبـي». لم أستطع قول أي شيء. نظر هنري إليّ. سألته: «متى؟». هز هنري رأسه. «أشهر؟ أسابيع؟ أيام؟». «لا أعلم يا كلير». كان يعلم، وأعرف أنه يعرف. قلت له: «لقد نظرت إلى نعيك، أليس كذلك؟». تردد هنري ثم أومأ. فتحت فمي لأسأله من جديد، ثم خفت. ساعات، إن لم تكن أياماً الجمعة، 24 كانون الأول، 2006 (هنري 43 عاماً، كلير 35 عاماً) هنري: صحوت باكراً، باكراً إلى درجة أن غرفة النوم كانت زرقاء بسبب ضوء بزوغ الفجر. بقيت على السرير، أصغي إلى صوت تنفس كلير، وأستمع إلى صوت الضجيج المتفرق من المواصلات في حي لينكولن، صيحات أناس لبعضهم بعضاً، والفرن يقفل. ساقاي تؤلمانني. دفعت نفسي ناهضاً على الوسادة لأجد زجاجة الدواء على الطاولة الجانبية للسرير. ابتلعت حبتين، ثم أتبعتهما بجرعة كوكا. انـزلقت مجدداً تحت غطاء السرير، واستدرت على أحد جانبـي. كلير نائمة على بطنها ووجها موجّه إلى الأسفل، ويداها ملفوفتان بوقاية تحت رأسها. شعرها مخبأ تحت غطاء السرير. تبدو كلير بحجم صغير عندما لا يكون شعرها منسدلاً. تذكرني بذلك عندما كانت صغيرة، تنام بالبساطة التي كانت عليها عندما كانت طفلة. حاولت أن أتذكر إن كنت قد رأيتها نائمة عندما كانت طفلة. تذكرت أنني لم أرها يوماً نائمة عندما كانت طفلة. إنها آلبا التي أفكر فيها. تغير النور المنبعث. استيقظت كلير، واستدارت نحوي على أحد جانبيها، تفحصت وجهها، هنالك بعض خطوط تجاعيد خفيفة عند أطراف عينيها وفمها، هذه هي بدايات شكل وجهها في منتصف العمر، لن أراها في ذاك الوجه أبداً، وأنا آسف لذلك بشدة، الوجه الذي سيصبح لكلير من دوني، الذي لن يتم تقبيله مني، الذي سينتمي إلى عالم لا أعرفه، عدا عن ذاكرة كلير، وقد أحالته إلى ماضٍ محدد. اليوم هو الذكرى السابعة والثلاثين لوفاة أمي. لقد كنت دائماً في كل يوم من أيام هذه السنوات السبع والثلاثين أفكر فيها وأشتاق إليها، وأبـي كذلك على ما أعتقد لم يتوقف عن التفكير فيها يوماً. لو أن الذاكرة المتقدة تعيد الموتى، لكانت بيننا اليوم مثل هيرودوس، ولنهضت مثل السيدة لازاروس من موتها القديم حتى تقدم إلينا العزاء والسلوى. لكن كل نواحنا لن يُضيف ثانية واحدة على عمرها، أو خفقة قلب واحدة، أو تنفساً واحداً. الشيء الوحيد الذي تستطيع حاجتي أن تفعله أن أذهب أنا إليها. ما الذي سيبقى لكلير عندما أرحل؟ كيف يمكنني أن أرحل عنها؟ سمعت آلبا تتحدث وهي على سريرها: «هيه، هيه، دبدوبي! صه، عد إلى النوم الآن». ثم ران صمت «بابا؟». راقبت كلير لأرى إن كانت ستصحو. لا تزال نائمة. «بابا؟». استدرت بحذر شديد، وسحبت جسمي من تحت غطاء السرير، وحاولت الوصول إلى الأرض. زحفت خارجاً من غرفة نومنا، إلى الصالة ومن ثم إلى غرفة نوم آلبا. ابتهجت عندما رأتني. أحدثت ضجة هادرة وربتت آلبا على رأسي كما لو كنت كلباً. إنها تجلس على السرير، وسط كل الدمى التي لديها. قالت آلبا: «تعال هنا، يا روبن البطل». وأبعدت نفسها جانباً فرفعت جسمي إلى السرير. وبسرعة رتبت بعض الدمى حولي. وضعت ذراعي حولها، وعدت إلى الوراء ناولتني دبدوباً أزرق. «يريد أن يأكل مارشميللو». «لا يزال الوقت باكراً على المارشميللو، أيها الدبدوب الصغير، ما رأيك بالبيض المسلوق وخبز التوست؟». تجهم وجه آلبا، تأكل البيض وهي تضم فمها وحاجبيها وأنفها مع بعضها. قالت: «الدبدوب لا يحب البيض». «صه، ماما نائمة». همست آلبا بصوت عالٍ: «حسناً، دبدوبـي يريد حلوى الجيلو». سمعت صوت كلير تتمطى وبدأت تصحو في الغرفة الثانية. اقترحت: «ما رأيك بالحبوب؟». فكرت آلبا. «مع سكر بني؟». «حسناً». «هل تريدين أن تعديها بنفسك؟». نـزلت عن السرير. «أجل، هل لي أن أقوم بجولة؟». ترددت. قدماي تؤلمانني حقاً، وقد أصبحت آلبا كبيرة بعض الشيء لتفعل هذا من دون عناء، لكنني أستطيع أن أمنعها الآن. «بالتأكيد. هوب». نـزلت على يديّ وركبتي. تسلقت آلبا ظهري، وشققنا طريقنا إلى المطبخ. كانت كلير واقفة نعسى عند حوض غسل الصحون، تراقب القهوة وهي تتقطر في الوعاء. توجهت إليها، ووضعت رأسي عند ركبتيها، أمسكت هي بيدي آلبا ورفعتها، وآلبا تتذمر من ذلك. زحفت إلى كرسي. ابتسمت كلير وقالت: «ماذا على الفطور، يا طهاة؟». صاحت آلبا: «الجيلو». «ماما، ما هذا الجيلو، أهو حبوب أو ماذا؟». «لااااااااا!». «اللحم المقدد؟». «أوف». لفت آلبا نفسها حول كلير، وشدت شعرها. «أوه، لا يا حبيبتي. حسناً، لا بد أنه الجيلو إذاً هو مسحوق الشوفان». «كريمة الحبوب!». «كريمة الحبوب، يم يم». أحضرت كلير علبة السكر البني والحليب وكريمة الحبوب. وضعتها على المنصة ونظرت إليّ باستفهام. «وماذا عنك، أومليت الجيلو أيضاً». «إن كنت أنت من سيصنعه نعم». أدهشتني مقدرة كلير وهي تتحرك في المطبخ كما لو كانت الطاهية البارعة بيتي، كما لو كانت تقوم بذلك منذ سنوات. فكرت وأنا أراقبها ستكون على ما يرام من دوني، لكنني أعلم أنها لن تكون كذلك. شاهدت آلبا وهي تخلط الماء والحبوب سوياً، أفكر في آلبا عندما ستكون في العاشرة، في الخامسة عشرة، في العشرين من عمرها. لم يحن الوقت لأكتفي منها بعد، لم أكتفِ بعد أريد أن أبقى هنا، أن أراهما، أريد أن أضمهما بين ذراعي، أريد أن أعيش معهما أكثر -. همست آلبا إلى كلير: «بابا يبكي». «هذا لأنه سيأكل من طبخي». قالت لها كلير، وغمزتني، وكان عليّ أن أضحك. رأس السنة، اثنان الأحد، 31 كانون الأول، 2006 (كلير 35 عاماً، هنري 43 عاماً) (7:25 مساء) كلير: نحن نقيم حفلة! كان هنري متردداً نوعاً ما في البداية ولكنه الآن يبدو سعيداً تماماً. يجلس إلى طاولة المطبخ، ويرى آلبا كيف تصنع أزهار زينة الأكل من الجزر والفجل. أعترف أنني لم أكن عادلة. رفعتها إلى فوق أمام آلبا، وقد تحمست آلبا كثيراً ثم لم يحتمل أن يخيب أملها. «ستكون رائعة، هنري اسأل كل من تعرفهم». تساءل مبتسماً: «جميعهم؟». عدّلت قولي: «كل من نحبهم». هكذا، مضت عليّ أيام وأنا أنظف وهنري وآلبا يخبزان الحلويات (لو لم نكن نراقب آلبا لكانت قد التهمت نصف العجينة). ذهبت البارحة مع كاريس إلى محل البقالة، واشتريت المغمسات، والبطاطا المقرمشة، وأغطية الطاولة، وكل الأنواع من الخضراوات، وشراب الشعير، والمشروبات، والمشروبات الخفيفة، وأصابع المقبلات الصغيرة الملونة، والمناديل وقد كتب عليها باللون المُذهب ذكرى رأس سنة سعيدة، وصحون مناسبة ورقية والله وحده يعلم كم أحضرت من أغراض أيضاً. تفوح الآن من المنـزل رائحة كرات اللحم والصباغ السريع لشجرة الميلاد في غرفة الجلوس. أليسيا هنا وهي تغسل كؤوس الشراب. نظر هنري إليّ وقال: «هيه، كلير، حان وقت العرض تقريباً. اذهبـي وخذي حماماً سريعاً». نظرت إلى ساعة يدي، وأدركت أنه أجل، حان الموعد. أسرعت إلى الحمام، وأخذت دوشاً، وغسلت شعري، وجففته، وارتديت ملابسي الداخلية، وجوربـي وثوب حفلة حريرياً أسود، وانتعلت حذاء ذا كعب عالٍ ورششت رشة عطر صغيرة ووضعت أحمر شفاه ونظرة أخيرة إلى المرآة (أبدو مدهشة) عدت إلى المطبخ حيث آلبا، غريبة بما يكفي، وهي لا تزال طبيعية في ثوبها المخملي الأزرق وهنري لا يزال مرتدياً قميصه الأحمر العادي المثقوب تحت بنطال جينـز أزرق. «ألن تغير ملابسك؟». «أوه - أجل. بالتأكيد. ساعديني، هه؟». جررته على الكرسي المتحرك حتى غرفة نومنا. «ما الذي تود أن ترتديه؟». وأنا أقلب في درجه من أجل إخراج ملابس داخلية وجورب. «أي شي، اختاري أنت». مدّ يده إلى باب الغرفة وأغلقه. «تعالي إليّ». توقفت عن البحث في الخزانة، ونظرت إلى هنري. كان قد وضع ساند الكرسي المتحرك على الوضعية الثابتة، وتمكن من الوصول إلى السرير. قلت له: «ليس لدينا وقت». «صحيح، بالضبط، إذاً دعينا لا نضيع وقتنا بالكلام». كان صوته ساكناً وجازماً. أقفلت الباب. «تعرف، لقد لبست للتو -». «صه». فتح ذراعيه لي، وملت عليه، وجلست قربه، لم يكن في ذهني شيء سوى عبارة للمرة الأخيرة وهي تأتيني من تلقاء نفسها. (8:05 مساءً) هنري: كان جرس الباب يرن عندما كنت أعقد ربطة عنقي. قالت كلير بتوتر: «هل أبدو بمظهر حسن؟». كانت كذلك. كانت متوردة ولطيفة، وقد قلت لها ذلك. خرجنا من غرفة النوم بينما ركضت آلبا لتفتح الباب وبدأت بالصياح: «جدو، جدو، كيمي!». نفض أبـي الثلج عن جزمته، وانحنى ليعانقها، قبلته كلير على خديه، كافأها أبـي بأن أعطاها معطفه، قادت آلبا كيمي، وأخذتها لترى شجرة الميلاد قبل أن تتمكن من خلع معطفها. قال أبـي مبتسماً وقد مال عليّ: «مرحباً هنري». وفجأة جاءتني فكرة، الليلة ستمر حياتي أمام عيني لقد دعونا جميع من يهمهم أمرنا، أبـي، وكيمي، وأليسيا، وغوميز، وكاريس، وفيليب، ومارك وشارون وأطفالهما، غرامن، بن، هيلين، روث، ود. كيندريك ونانسي وطفليهما، وروبيرتو، وكاثرين، وإيزابيل، ومات، وأميليا، وأصدقاء كلير في الفن، ووكيلة أعمالها، وحتى سيليا بناء على إصرار كلير... الغائبون الوحيدون هم غائبون قصرياً، أمي، ولوسيل، وإنغريد... أوه، يا اﷲ. ارحمني. (8:20 مساءً) كلير: كان غوميز وكاريس يتمازحان مثل كاميلكاز المتعاركان. «مرحباً يا صبـي المكتبة، أيها المغفل البليد، ألا تقوم بجرف رصيفك؟». رفع هنري جبهته. «أعرف، لقد نسيت شيئاً ما». فتح غوميز حقيبة كاملة، وأفرغ محتواها من الأقراص المضغوطة في حضن هنري، وخرج لينظف الممرات من الثلج. ضحكت كاريس وتبعتني إلى المطبخ. أخذت زجاجة شراب روسي كبيرة، ووضعتها في الثلاجة. كان في إمكاننا سماع غوميز وهو يغني دعها تثلج، بينما يشق طريقه إلى جانب المنـزل وبيده الرفش. سألت كاريس: «أين الأطفال؟». «لقد تركناهم عند أمي، إنها ليلة رأس السنة، وخمنا أنه سيكون أكثر تسلية لهم إن بقوا مع جدتهم. بالإضافة إلى أننا قررنا أن نحافظ اليوم على خصوصيتنا، تعلمين؟». لم أعِر ذلك الكثير من التفكير، حقاً، لم أشرب منذ حملت بآلبا. جاءت آلبا راكضة إلى المطبخ عانقتها كاريس بحماسة. «هيه، الطفلة الصغيرة! أحضرنا لك هدية!». نظرت آلبا إليّ. «هيا، اذهبـي وافتحيها». إنها عدة طلاء الأظافر للصغار، كاملة وفيها كل ألوان طلاء الأظافر. فتحت آلبا فمها بابتهاج، لكزتها فتذكرت وقالت: «شكراً لك، خالة كاريس». «على الرحب والسعة، آلبا». قلت لها: «اذهبـي أريها لأبيك». ركضت في اتجاه غرفة الجلوس. مددت رأسي إلى الصالة لأرى آلبا وهي تلوح إليه بحماسة، وقد قام بدوره برفع أصابعه لها كما لو كان يعتزم طلاء أظافرها. قلت لكاريس: «ضربة موفقة». ابتسمت. «كانت هذه متعتي عندما كنت صغيرة، أردت أن أعمل بالتجميل عندما أكبر». ضحكت. «لكنك لم تتمكني من الوصول إليها، فقررت أن تصبحي فنانة». «قابلت غوميز، وأدركت أنه ما من أحد قط يستطيع أن يطيح بنظام برجوازي رأسمالي متعصب ضد النساء من خلال تجعيد الشعر». «بالطبع، ومن جعله يركع على ركبتيه ببيع الفنون أيضاً». «تحدثي عن نفسك، بيبـي. فأنت مدمنة على الجمال، هذا كل ما في الأمر». «مذنبة، مذنبة، مذنبة». مشينا نحو غرفة الطعام، وبدأت كاريس بملء صحنها. فسألتها: «إذاً، ماذا تفعلين هذه الأيام؟». «فيروسات الكمبيوتر كفن». «أوووه أوه، لا، أليس هذا عملاً غير مشروع؟». «حسناً، لا، أقوم بتصميمها فقط ثم ألون نسخة الكمبيوتر للشبكة إلى قطع فنية مطرزة، ثم أقيم معرضاً. في الحقيقة لا أضعها بالتداول». «لكن يمكن لأحدهم أن يضعها بالتداول». «بالتأكيد». ابتسمت كاريس بخبث. «آمل أن يفعلوا. غوميز يهزأ بـي، لكن إحدى هذه الرسومات يمكن أن تكون مناسبة ومرضية جداً للبنك الدولي أو بيل غيتس أو أي من السفلة الذين يصنعون آلات الصرف الآلي». «حسناً، حظاً موفقاً. متى سيكون المعرض». «في أيار، سأرسل إليك بطاقة». «أجل، عندما أستلمها سأحول جميع أصولنا إلى ذهب، وأخبئها في زجاجة ماء». ضحكت كاريس. وصلت أميليا وكاثرين، ثم توقفنا عن الحديث عن فوضى العالم من خلال الفن والتفتنا إلى مجاملة بعضنا على فساتين السهرة التي نلبسها. (8:50 مساء) هنري: المنـزل مكتظ بأقاربنا وأحبائنا، بعضهم لم أرهم من قبل إجراء العملية. ليا جاكوب، وكيلة أعمال كلير، إنسانة لطيفة ذكية وسريعة البديهة، لكنني لا أستطيع تحمل نظرة الشفقة في عينيها. فاجأتني سيليا عندما مشت نحوي مباشرة، ومدت يدها. صافحتها وقالت لي: «أنا آسفة لأن أراك بهذا الوضع». قلت لها: «حسناً، تبدين رائعة». وقد كانت كذلك. شعرها معقوف إلى الأعلى وقد كان كل ما ارتدته من اللون الأزرق اللامع. «أه - هه». قالتها سيليا بنبرة صوتها الرائعة الناعمة: «أحببتك أكثر عندما كنت الرجل اللعوب، وكان في مقدوري حينها أن أكره غطرستك وأنانيتك». ضحكت. «آه، تلك الأيام الجميلة». غرزت يدها في حقيبة يدها. «وجدت هذه منذ زمن طويل بين أغراض إنغريد، وفكرت في أنه ربما كانت كلير تريدها». ناولتني سيليا صورة. إنها صورة لي على الأرجح قرابة العام 1990. كان شعري طويلاً وأنا أضحك فيها، وأقف عند شاطئ أوك بيتشن من دون قميص، إنها صورة رائعة، لا أذكر إنغريد وهي تلتقطها لي، لكن يحدث هذا مرة أخرى، حيث إنني لا أذكر الأوقات التي أمضيتها مع إنغ كلها صارت خواء بالنسبة إليّ الآن. «نعم، أراهن أنها ستحب هذه الصورة». تذكر أنه يجب أن يموت. أعدت إليها الصورة. نظرت سيليا إليّ بحدة. «لست ميتاً، هنري دي تامبل». «لست بعيداً عنه كثيراً سيليا». ضحكت سيليا. «حسناً». استدارت بشكل مفاجئ وراحت تبحث عن كلير. (9:45) مساء كلير: كان الأطفال قد ركضوا حولنا وأكلوا كثيراً من طعام الحفلة والآن هم يشعرون بالنعس وقد أنهكوا تماماً. مررت قرب كولين كيندريك في الصالة، وسألت إن كان يريد أن يأخذ قيلولة، قال لي برزانة إنه يفضل أن يبقى مع الكبار. تأثرت بأدبه وجمال عمر الأربعة عشرة، وخجله مني بالرغم من أنه يعرفني طوال عمره. أما آلبا وناديا كيندريك فلم تكونا خجولتين. صاحت آلبا: «ماما، قلت لنا من قبل إنه يمكننا البقاء صاحين!». «أكيد ألا تريدين النوم قليلاً؟ سأوقظك قبل منتصف الليل بقليل». «لااااااا». كان كيندريك يصغي إلى هذا الحوار وقد هززت كتفي وضحك هو. «الاثنتان اللتان لا يمكن التغلب عليهما. حسناً أيتها الفتاتان، لِمَ لا تذهبان وتلعبان بهدوء في غرفة آلبا لبعض الوقت». أسرعتا، متذمرتين. كنا نعرف أنهما خلال دقائق ستلعبان بسعادة. «أنا سعيد لرؤيتك، كلير». قال لي كيندريك بينما كانت أليسيا تمشي على مهل. «هيه، كلير. انظري إلى بابا». تبعت نظرة أليسيا، وأدركت أن أبانا يغازل إيزابيل: «من هذه؟». «أوه، يا اﷲ». صرت أضحك. «إنها إيزابيل بيرك». بدأت أشرح لأليسيا عن ميول إيزابيل ومفاتنها. كنا نضحك بقوة لدرجة أننا لم نستطع التنفس. وقالت أليسيا: «رائع، رائع، أوه، توقفي». جاء ريتشارد إلينا، وقد أثار ضحكنا الهيستيري فضوله. «ما هذا الشيء الذي يضحككما كثيراً، أيتها السيدتان الجميلتان؟». هززنا رأسينا، ولا نـزال نضحك. قال كيندريك: «إنهما تسخران من عظة السلطة الأبوية». أومأ ريتشارد مربكاً، وسأل أليسيا عن موعد حفلة الأوركسترا التي ستقيمها في الربيع، مشيا باتجاه المطبخ يتحدثان عن بوخارست وبارتوك. لا يزال كيندريك يقف بجانبـي، ينتظر حتى يقول لي شيئاً لا أود أن أسمعه، هممت بالانسحاب، لكنه وضع يده على ذراعي. «انتظري، كلير -». انتظرت. قال لي: «أنا آسف». «لا بأس عليك، دافيد». حدقنا إلى بعضنا بعضاً للحظة. هز كيندريك رأسه، وأشعل سيجارته. «إذا أردت يوماً أن تأتي إلى المختبر ففي إمكاني أن أريك ما الذي أفعله لأجل آلبا...». نظرت نظرة شاملة إلى الجميع في الحفلة، وأنا أبحث عن هنري. كان غوميز يشرح لشارون كيف ترقص الرومبا في غرفة الجلوس، لكنني لا أرى هنري في مرمى نظري. لم أره على الأقل منذ نحو خمس وأربعين دقيقة، وأشعر برغبة قوية لأجده، وأطمئن أنه بخير، أطمئن أنه هنا معنا. قلت لكيندريك: «اسمح لي». الذي نظر إليّ وهو يريد أن يتابع حديثه. «إذاً، في مناسبة أخرى، عندما يكون الوقت أكثر هدوءاً». أومأ برأسه. ظهرت نانسي كيندريك مع كولين كمقطورة، مما جعل الاستمرار في الحديث مستحيلاً على كل حال. اندفعا في نقاش مفعم بالحيوية عن رياضة الهوكي على الجليد، ونجوت منه. (9:48) مساء هنري: أصبح الجو دافئاً جداً في المنـزل، وأحتاج إلى بعض الانتعاش، لذا جلست على الأريكة في الشرفة المغلقة. أستطيع سماع الجميع وهم يتحدثون من غرفة المعيشة. يتساقط الثلج بقوة وسرعة الآن، مغطياً كل السيارات والأشجار، محدباً زواياها الحادة ومغيباً صوت المواصلات في الخارج. إنها أمسية جميلة. فتحت الباب بين الشرفة وغرفة الجلوس. «هيه، غوميز». جاء نحوي متراقصاً، وأدخل رأسه من الباب. «نعم؟». «دعنا نذهب إلى الخارج». «البرد لعين في الخارج هناك». «هيا تعال، هل كبرت أيها العجوز». شيء ما في نبرتي أقنعه. «حسناً، حسناً. دقيقة واحدة». غاب، وعاد بعد عدة دقائق مرتدياً معطفه وحاملاً معطفي. وبينما أنا ألتوي لألبسه عرض عليّ شراباً. «أوه، لا، شكراً». «شراب روسي، يجعل الشعر على صدرك ينمو». «تتعارض مع الأفيون». «أوه، صح، كيف ننسى بسرعة». جرني غوميز على الكرسي المتحرك في غرفة الجلوس، ورفعني إلى أعلى السلم عن الكرسي، وأنا أمتطي ظهره كطفل، كقرد، وخرجنا من الباب الأمامي ومن كل الأبواب والهواء البارد يلفح ويغلف كل شيء. في إمكاني شم رائحة الليكور من تعرق غوميز، وهنالك في مكان ما بعد الصوديوم المنبعث من دخان مدينة شيكاغو رأيت النجوم. «رفيقي». «همم؟». «شكراً لك على كل شيء، لقد كنت أفضل -». لا أستطيع أن أرى وجهه، لكن أستطيع أن أشعر أن غوميز قد تصلب تحت كل طبقات ملابسه. «ما الذي تقوله يا رجل؟». «شيء ما سيحدث، يا غوميز، انتهى الوقت، انتهت اللعبة». «متى؟». «قريباً جداً». «متى قريباً جداً؟». «لا أعرف». كذبت، إنه قريب جداً، جداً. «على كل حال، أردت فقط أن أقول لك - أعلم أنني سببت لك الكثير من المتاعب بين الفينة والأخرى». (ضحك غوميز) «لكن كنت رائعاً»، (توقفت، لأنني على وشك أن أنفجر بالدموع). «لقد كنت حقاً رائعاً»، (ووقفنا هناك، كنّا مخلوقين أميركيين عاجزين عن التعبير كما نحن عليه، تجمدت أنفاسنا في الغيوم أمامنا، وقد غابت عنا الآن كل الكلمات الممكنة من دون أن نقولها). أخيراً، قلت له: «دعنا ندخل». فدخلنا. وبينما وضعني غوميز برفق على كرسي المتحرك عانقني للحظة، ومشى متثاقلاً مبتعداً من دون أن ينظر إلى الوراء. (10:15 مساء) كلير: هنري ليس في غرفة الجلوس المكتظة بمجموعة صغيرة من الناس لكنها مجموعة مصممة على محاولة الرقص ولو في عدة طرائق فاشلة مقارنة بفرقة سكويرال نت زيبرز. كاريس ومات يرقصان شيئاً يبدو أنه تشا - تشا، وروبيرتو يرقص بنـزعة كبيرة مع كيمي التي تتحرك برقة ولكن بثبات بطريقة أشبه بالعدو مثل الثعلب. وقد ترك غوميز الرقص مع شارون من أجل أن يرقص مع كاثرين، التي شهقت عندما أدار شارون دورة لولبية سريعة، وضحكت عندما توقف عن الرقص ليشعل سيجارته. هنري ليس في المطبخ، الذي تم احتلاله من قبل راؤول وجيمس ولورديس وبقية أصدقائي. إنهم يمتعون بعضهم بعضاً بالقصص الفظيعة التي تحدث مع الفنانين جراء تصرفات وكلائهم والعكس بالعكس. كانت لورديس تحدثهم عن إيد كينهولتز الذي صنع تمثالاً مفعماً بالحركة أدى إلى خسارة كبيرة في ميزانية وكيله. ضحكوا كلهم بسادية. مازحتهم وأنا أشير إليهم بإصبعي: «إياكم أن تسمعكم ليا». صاح جيمس: «أين ليا؟ أراهن أن لديها قصصاً كثيرةً». ذهب ليبحث عن وكيلتي التي كانت تحتسي الشراب مع مات على الدرج. كان بن يصنع لنفسه الشاي. كان معه كيس فيه كل أنواع الأعشاب الكريهة والتي وضع منها بعناية مقداراً في مصفاة، وغمسها في فنجان من الماء المغلي. سألته: «هل رأيت هنري؟». «أجل، كنت أتحدث معه للتو، إنه على الشرفة الأمامية». حدق بن إليّ. «أنا قلق بشأنه بعض الشيء، يبدو حزيناً للغاية. يبدو -». توقف بن، ثم قام بتلويحة بيده يعني بها قد أكون غير مصيب في ذلك. ذكرني ببعض مرضاي عندما لا يتوقعون أن يعيشوا طويلاً... تقلصت معدتي. «لقد مضى عليه وقت وهو مكتئب بشأن قدميه...». «أعلم، لكنه كان يتحدث معي، وكأنه على عجالة يريد أن يلحق بقطار يمكن أن يغادر خلال لحظات، تعرفين قال لي -» أخفض بن صوته الذي عادة ما يكون منخفضاً وهادئاً، فصرت بالكاد أسمعه: «قال لي إنه أحبني، وشكرني... أعني، الناس، الأشخاص لا يقولون هذه الأشياء إن كانوا يتوقعون أنهم باقون، تعلمين ذلك؟». كانت عيناه مغرورقتين بالدموع تحت عدستي نظارته، ووضعت يدي على ذراعه، ووقفنا هكذا لدقيقة، كانت ذراعي تلف ذراعه الهزيلة. وحولنا الناس يدردشون، غافلين عنا. قال بن: «لا أريد أن أُعَمر بعد الجميع، يا اﷲ. بعد تجرع كل هذه الأمور الفظيعة وبقائي الشهيد اللعين لخمسة عشر عاماً أعتقد أنه صار من حقي أن يمر كل الأشخاص الذين أعرفهم قرب تابوتي ليقولوا، مات وسلاحه بيده أو شيئاً من هذا القبيل. أعتمد على هنري ليكون هو من سيقتبس حينها من شعر دُون: أيها الموت لا تكن فخوراً، ما أنت إلا مغفل لعين. كم سيكون ذلك جميلاً». ضحكت. «حسناً لا عليك، إن كان هنري لا يستطيع القدوم حينها، سآتي أنا. فأنا أقلده في هذا». رفعت أحد حاجبـي، وخدي، وأخفضت صوتي: «مر نوم قصير، استيقظنا على الأبدية، وعلى الموت أن يجلس في المطبخ بملابسه الداخلية عند الثالثة صباحاً، ليحل الكلمات المتقاطعة من الأسبوع الماضي -». انفجر بن بالضحك. قبلت خده الشاحب الناعم وانصرفت. كان هنري يجلس بمفرده على الشرفة الأمامية، في الظلام يشاهد الثلج. لم يتسنَ لي أن أنظر إلى الخارج من النافذة طوال اليوم، وأدركت الآن أنها كانت تثلج بشدة لساعات طويلة، وجرارات إزالة الثلج تهدر في حي لينكولن، وجيراننا يزيلون الثلج عن ممراتهم. بالرغم من أن الشرفة مغلقة إلا أن الجو بارد فيها. قلت له: «تعال إلى الداخل». كنت أقف إلى جانبه، أشاهد كلباً حبيساً بالثلج في الشارع. وضع هنري ذراعه حول خصري، ومال برأسه عليه. قال لي: «أتمنى لو أمكننا أن نوقف الزمن الآن». كنت أدس أصابعي في شعره الذي غدا أقسى وأسمك مما كان عليه قبل أن يصبح رمادياً. قال: «كلير». «هنري». «حان الوقت...». توقف. «ماذا؟». «حان... أنا...». «يا اﷲ». جلست على الأريكة، أواجه هنري. «لكن - لا... ابقَ - فحسب» شددت على يديه بقوة. «لقد حدثت هنا، دعيني أجلس قربك». أنـزل نفسه عن كرسيه، وجلس قربـي على الأريكة. استندنا على الأريكة الباردة. كنت أرتجف في ثوبـي الرقيق، وداخل المنـزل الناس يمرحون ويرقصون. وضع هنري ذراعه حولي، ليدفئني». «لماذا لم تخبرني؟ لماذا تركتنا ندعو كل هؤلاء الناس؟». لم أرد أن أكون غاضبة منه، لكنني كنت كذلك. «لم أرد أن تكوني بمفردك... بعد، وأردت أن أودع الجميع. لقد كانت حفلة جميلة، كانت آخر حفلة هرج ومرج...». جلسنا هناك بصمت لفترة. كان الثلج يتساقط بهدوء. «كم الساعة الآن؟». نظرت إلى ساعة يدي. «بعد الحادية عشرة بقليل». أوه، يا اﷲ. التقط هنري غطاء عن الكرسي الآخر، والتففنا حول بعضنا. لا أستطيع تصديق هذا. كنت أعلم أن ذلك سيأتي قريباً، سيأتي عاجلاً أم آجلاً، لكنه جاء الآن ونحن جالسان هنا، ننتظر... همست عند رقبة هنري: «أوه، لِمَ لا نفعل شيئاً ما!». «كلير -». لف ذراعيه حولي. وأغلقت عيني. «أوقفه، امنعه من أن يحدث. غيّره». «أوه، كلير». كان صوته ناعماً، نظرت إليه، كانت عيناه مغرورقتين بالدموع تلمعان من انعكاس النور من الثلج. وضعت رأسي على كتفه، مسد شعري، بقينا على هذه الحال فترة طويلة، كان يتعرق، وضعت يدي على وجهه، كان يلتهب من الحمى. «كم الساعة الآن؟». «غالباً منتصف الليل». «أنا خائف». ضممت ذراعيه بذراعي، ولففت ساقي حول ساقيه. من المستحيل أن أصدق أن هنري القوي، حبيبـي، هذا الجسد الحقيقي، الذي أشده إلى جسدي بقوة الآن بكل ما فيّ من عزم، يمكن أن يختفي. «قبليني!». كنت أقبل هنري، عندما أصبحتُ وحيدة، تحت الغطاء، على الأريكة، على الشرفة الباردة. كانت لا تزال تثلج. في الداخل توقف صوت المسجل، وسمعت صوت غوميز يقول: «عشرة! تسعة! ثمانية!». صاح معه الجميع: «سبعة! ستة! خمسة! أربعة! ثلاثة! اثنان! واحد! سنة سعيدة!». وانطلق صوت سدادة الشراب الخفيف، وبدأ الجميع يتحدثون مرة واحدة عندما سأل أحدهم: «أين هنري وكلير؟». هناك في الخارج إطلاق الألعاب النارية، وضعت رأسي بين يدي وانتظرت. III رسالة في الشوق عامه الثالث والأربعون. نهاية زمنه الصغير. زمنه - من رأى الخلود من خلال تشققات بشرة الأشياء الشاحبة، ومات منها. - أيه. أس. بيات، الامتلاك تبعته ببطء، وأخذت وقتاً طويلاً، كأن هناك عوائق في الطريق؛ ومع ذلك: كأنها، ما إن تغلبت على ذلك، ستتجاوز كل هذا السير، وتطير. من أصبحت عمياء، رينيه ماريا ريلكهترجمها (عن الألمانية) ستيفن ميتشيل السبت، 27 تشرين الأول، 1984/الاثنين، 1 كانون الثاني، 2007 (هنري 43 عاماً، كلير 35 عاماً) هنري: السماء صافية وأنا أسقط على أعشاب طويلة وجافة، لتكن سريعة، بالرغم من أنني حاولت أن أكون ثابتاً، فإن صوت إطلاق نار البارود بدا بعيداً، وبالتأكيد لا علاقة له بـي لكن لا، فقد سقطت صفعاً على الأرض، نظرت إلى بطني الذي انفرط مثل الرمان، وتجمع حساء من الأحشاء والدم في جسدي، لم تكن مؤلمة على الإطلاق، لا يمكن أن يكون هذا غير صحيح ولكن أستطيع أن أعجب بهذه التكعيبية من أحشائي، وهنالك شخص ما يركض وكل ما أريده هو أن أرى كلير قبل أن أنادي عليها كلير، كلير. انحنت كلير عليّ تبكي، وآلبا تهمس: «بابا...». «أحبكما...». «هنري -». «دوماً...». «أوه يا اﷲ أوه يا اﷲ -». «كفى من هذا العالم...». «لا!». «ومن الزمن...». «هنري!». كلير: كانت الغرفة ساكنة جداً، تجمد كل واحد في مكانه، يحدقون إلينا. وبيللي هوليداي يغني، ثم أحدهم يطفىء آلة التسجيل السي دي، وساد الصمت. جلست على الأرض، أمسكت هنري. جثمت آلبا فوقه تهمس في أذنه وتهزه. كان جسده دافئاً، وعيناه مفتوحتين تحدقان إليّ، إنه ثقيل بين ذراعي، ثقيل جداً، بشرته الباهتة ممزقة أشلاء، انتشر الاحمرار في كل جسده، جسد ممزق يحيط بعالم سري من اللحم والدم. ضممت هنري. هناك دم ينـزف من زاوية فمه، مسحته. الألعاب النارية تنطلق في الخارج قربنا. قال غوميز: «أعتقد أنّ من الأفضل استدعاء الشرطة». الفناء الجمعة، 2 شباط، 2007 (كلير 35 عاماً) كلير: نمت طوال اليوم والضجة تعم خارج المنـزل؛ شاحنة جمع النفايات في الشارع، والمطر، واصطدام أغصان الأشجار على نافذة غرفة النوم. رغم ذلك نمت. اعتدت النوم بعمق، أريد النوم وأبرع فيه، أدفع الأحلام وأرفض، وأرفض. غدا النوم حبيبـي الآن، هو نسياني، ومسكني، وسلواني. الهاتف يرن ويرن. أوقفت آلة تسجيل المكالمات الآلية عن العمل كانت تجيب بصوت هنري. إنه بعد الظهر، إنه الليل، إنه الصباح. كل شيء تقلص إلى هذا السرير، هذا السبات الذي حول كل الأيام إلى يوم واحد جعل الوقت يتوقف، يمدد ويقلص الوقت حتى أصبح لا معنى له. أحياناً يهجرني النوم فأتظاهر أنني نائمة، كما لو كانت إيتا تريد أن توقظني لأذهب إلى المدرسة. أتنفس ببطء وعمق، أجعل عينيّ تبدوان ثابتتين تحت الجفون، أجعل عقلي ثابتاً، وحالاً أنام، لأرى نسخة مثالية عن هنري تأتي لتتحد مع صورة طبق الأصل عنه. أحيانا أستيقظ، أنهض لأنادي هنري. النوم يمحو كل الاختلافات، هناك والآن، الموت والحياة. لديّ جوع مزمن، وفراغ مزمن، وقلق مزمن. ألقيت نظرة على وجهي هذا الصباح في الحمام، فوجدت نفسي نحيلة كما الورقة، كئيبة وشاحبة، وحول عينيّ هالة داكنة، وشعري من دون بريق، أبدو كالأموات، لا أرغب في شيء. تجلس كيمي على طرف السرير. قالت لي: «كلير؟ لقد عادت آلبا إلى المنـزل من المدرسة... ألن تدعيها تدخل، قولي لها مرحبا؟». أتظاهر أنني نائمة، تمرر آلبا يدها على وجهي، تنساب الدموع من عيني. تضع آلبا شيئاً على الأرض، حقيبة طعامها؟ كمانها؟ تقول لها كيمي: «اخلعي حذاءك، آلبا». ثم تزحف آلبا إلى السرير معي. تضع ذراعي حولها، وتقحم رأسها تحت ذقني، أتنهد وأفتح عينيّ، تتظاهر آلبا أنها نائمة. أنظر إلى رموشها الطويلة السوداء، وفمها العريض، وبشرتها الفاتحة، إنها تتنفس بحذر، أمسكت بطني بيدها القوية. تفوح منها رائحة الأقلام المسننة، وممسحة الكمان والشامبو. أقبل رأسها، تفتح عينيها، ثم أرى مدى شبهها بهنري الذي لا أستطيع تحمله. تنهض كيمي وتخرج من الغرفة. نهضت في ما بعد، استحممت، وتناولت طعام العشاء على الطاولة مع كيمي وآلبا. جلست خلف مكتب هنري بعد أن كانت آلبا قد خلدت إلى النوم، وفتحت الأدراج، أخذت حزمة من الرسائل والورق، وبدأت أقرأ. تفتح هذه الرسالة بعد وفاتي 10 كانون الأول، 2006 حبيبتي كلير، أكتب هذه الرسالة وأنا جالس إلى مكتبـي في غرفة النوم الخلفية أنظر إلى مرسمك عبر الباحة الخلفية التي كستها الثلوج المتساقطة، يبدو كل شيء أملس ويغلفه الثلج، وقاسياً جداً. إنها واحدة من تلك الليالي الشتوية التي تبدو أن البرودة في كل شيء قد أبطأت الوقت نفسه، مثل عنق الساعة الرملية نفسها التي يمر فيها الوقت لكن بطيئاً، بطيئاً. لديّ إحساس مألوف جداً بالنسبة إليّ عندما أكون خارج الزمن، ولكن أبداً ليس العكس، أن أعوم فيه، أن أطفو من دون جهد على سطحه مثل سيدة سمينة تسبح. لديّ رغبة مفاجئة الليلة، هنا في المنـزل بمفردي (أنت في حفلة أليسيا في سانت لوسي) أن أكتب إليك رسالة. أردت فجأة أن أترك شيئاً لما بعد. أعتقد أن الوقت أمامي بات قصيراً الآن. أشعر وكأن كل ما خزنته من طاقة ومتعة واستمرار قد غدا نحيلاً وصغيراً. أشعر أنني لم أعد قادراً على الاستمرار لفترة أطول. وأعلم أنك تعرفين ذلك. عندما تقرأين هذه الرسالة أكون ربما قد توفيت. (أقول ربما لأننا لا نعرف أبداً كيف يمكن أن يتغير مسار الأمور، يكون من البلاهة والثقة الزائدة أن يعلن أحدهم عن موته كحقيقة ثابتة. وعن موتي هذا - آمل أن يكون سهلاً وجلياً ولا لبس فيه. أتمنى ألاّ يحدث الكثير من الجلبة، أنا آسف، تبدو هذه وكأنها ملاحظة ما قبل انتحار، هذا غريب) لكنك تعلمين، تعلمين أنه لو كان في إمكاني البقاء، لو كان في إمكاني الاستمرار، لكنت تمسكت بكل ثانية، مهما كانت، لكنك تعلمين أن هذا الموت جاء فأخذني، كما الطفل يخطفه عفريت. كلير، أود أن أقول لك مجدداً إنني أحبك. لقد كان حبنا بمثابة الحبل الذي يربطني وسط المتاهة، كان بمثابة الشبكة التي توضع تحت المتسلق على الحبل في الأعلى، إنه الشيء الحقيقي الوحيد، في حياتي الغريبة هذه، الذي يمكنني أن أكون أكيداً منه. أشعر الليلة أن حبـي لك أكثر قوة في هذا العالم مما أنا نفسي عليه، وكأنه يمكن أن يبقى بعد رحيلي ليحيطك، ويحميك، ويسندك. أكره أن أفكر فيك وأنت تنتظرين. أعلم أنك أمضيت حياتك وأنت تنتظرين، غير أكيدة كم ستستمر فترة الانتظار. أهي عشر دقائق، أم عشرة أيام، أم شهر. كم أنا زوج غير ثابت يا كلير، مثل البحار، مثل أوديس وحيد تتقاذفه الأمواج العالية، أحياناً مراوغ وأحياناً ألعوبة. أرجوك كلير، عندما أموت، توقفي عن الانتظار وكوني حرة، حرة مني - تحرري مني - ضعيني في مكان عميق داخلك واخرجي إلى العالم وعيشي، أحبـي العالم وأحبـي نفسك وأنت فيه، تحركي داخله كما لو لم يكن فيه أي مقاومة، كما لو كان العالم أحد عناصرك الطبيعية. لقد أعطيتك حياة فيها الحياة معلقة، لا أعني أن أقول إنك لم تفعلي شيئاً. لقد أحدثت الجمال والمعنى بفنك وآلبا تلك المدهشة، وبالنسبة إليّ، بالنسبة إليّ كنت كل حياتي. لقد قضت وفاة أمي على أبـي تماماً، كانت لتكره ذلك، كانت كل دقيقة من حياته بعدها محسوبة بغيابها، وكل نشاط أتى به لم تكن له ملامح بعدها لأنها غير موجودة معه. وعندما كنت صغيراً لم أفهم، لكن الآن، أفهم كيف أن الغياب يصبح الحاضر، مصل عصب تالف، مثل طائر ميت. لو كان من المقدر لي أن أعيش من دونك لكان من الصعب عليّ أن أعيش. لكنني آمل، وأتخيلك وأنت تمشين برشاقة بشعرك البراق تحت وهج الشمس. لم أرَ ذلك بأم عيني، لكنني بمخيلتي التي تضع لك صوراً، تريد دوماً أن ترسمك، براقة. لكن، كل ما آمله هو أن يغدو هذا التخيل حقيقة على كل حال. كلير، هناك أمر واحد أخير، وقد ترددت في أن أخبرك به، لأنني أخاف خوفاً خرافياً من أن أكون بقول الأشياء أفسد حصولها لنا (أعرف: تقولين أبله) وأيضاً لأنني كنت للتو أطلب منك عدم الانتظار وقد يسبب هذا فترة انتظار أطول من أي انتظار انتظرته قبلاً. لكن سأقول لك شيئاً في حال احتجت إلى شيء في مابعد. كنت في الصيف الفائت جالساً أنتظر في غرفة الانتظار في عيادة كيندريك عندما وجدت نفسي فجأة في ممر صالة مظلمة في منـزل لا أعرفه. كنت نوعاً ما قد وقعت على كومة من الجزمات المطاطية وكانت رائحتها كالمطر. وعند نهاية الصالة رأيت وميض ضوء حول إطار الباب، لذا مشيت ببطء شديد وبهدوء إلى الباب ونظرت إلى الداخل. كانت الغرفة بيضاء، ومنارة بكثافة بنور شمس الصباح. عند النافذة كانت امرأة تجلس تدير ظهرها إليّ، ترتدي سترة متقزحة مرجانية اللون، ولها شعر طويل أبيض يتدلى على ظهرها. كان إلى جانبها على الطاولة فنجان شاي. لا بد من أنني كنت قد أحدثت ضجة ما، أو أنها أحست بـي وراءها... فاستدارت ورأتني، ورأيتها، وقد كانت أنت، أنت يا كلير، كنت أنت امرأة مسنة، في المستقبل. كان ذلك جميلاً، يا كلير، كان جميلاً فوق الوصف، أن آتي من الموت وأمسكك، وأرى السنوات كلها حاضرة في وجهك. لن أقول لك أكثر، يمكنك أن تتصوري ذلك، من دون أن تكوني قد قمت ببروفا تفسد المفاجأة عندما يأتي أوانها، كما ستكون عليه، وكما ستأتي تلك اللحظة. سنرى بعضنا مجدداً كلير، وحتى ذلك الحين، عيشي، حاضرة تماماً في عالمك، العالم الجميل جداً. حل الظلام الآن، وأنا متعب. أحبك دوماً. الزمن فناء. هنري. الوجود السبت، 12 تموز، 2008 (كلير 37 عاماً) كلير: كانت كاريس قد أخذت آلبا، وروزا، وماكس وجو ليتزلجوا في صالة رينبو. ذهبت بالسيارة إلى منـزلهم لأصطحب آلبا لكنني كنت مبكرة وقد تأخرت كاريس. فتح غوميز الباب وهو يضع منشفة عليه. قال لي: «تفضلي». وهو يفتح الباب على مصراعيه. «أترغبين في فنجان قهوة؟». «بالتأكيد». تبعته عبر غرفة جلوسهم الفوضوية إلى المطبخ. جلست عند الطاولة التي كان لا يزال عليها صحون الفطور، أبعدتها لأجد مكاناً أسند إليه كوعي. كان غوميز يتمشى في المطبخ ويصنع القهوة. «لم نرك منذ مدة». «كنت منشغلة جداً. تقوم آلبا بنشاطات مختلفة، وأنا أوصلها إليها». «هل تمارسين الفن؟». وضع غوميز فنجان وصحن القهوة أمامي، وصب القهوة فيه، كان الحليب والسكر على الطاولة من قبل، فوضعت لنفسي. «لا». «أوه». مال غوميز إلى طاولة المطبخ ويداه ملفوفتان على فنجان القهوة. كان شعره يبدو داكناً من الماء وقد سرحه إلى الوراء. لم ألاحظ من قبل أنه بدأ يصلع. «حسناً، عدا عن أنك تعملين سائقاً عند سيادتها، ماذا تعملين؟». ماذا أعمل؟ أنا أنتظر، وأفكر، وأجلس على سريرنا أحمل قميصاً قديماً من قمصان هنري الذي لا تزال تفوح منه رائحته، أشمه بعمق. أذهب لأمشي عند الثانية بعد منتصف الليل، وعندما تكون آلبا آمنة على سريرها، أمشي طويلاً لأنهك نفسي كي أتمكن من النوم. أقوم بإجراء مناقشات مع هنري كما لو أنه كان معي، كما لو أنه يرى من خلال عيني، ويفكر بدماغي. «ليس الكثير». «هممم». «ماذا عنك؟». «أوه، تعلمين مشاغل مجلس المدينة، وأمارس دور سيد المنـزل الصارم. كالعادة». «أوه». رشفت قهوتي. نظرت إلى الساعة فوق حوض غسل الصحون. إنها على شكل قطة سوداء يتحرك ذيلها إلى الأمام والخلف مثل رقاص الساعة وعيناها الكبيرتان تتحركان مع كل حركة منه، وهي تدق تك تك بصوت عالٍ. إنها 11:45. «هل تريدين أن تأكلي شيئاً؟». هززت رأسي: «لا شكراً». وقد حكمت من الصحون التي أمامي أن غوميز وكاريس أكلا مربى الشمام، والبيض المقلي، وخبز التوست على الفطور. وتناول الأطفال لاكي شارمز، وشيريوز، ووضعوا عليها زبدة الفول السوداني. تبدو الطاولة وكأنها تصميم مكرر من فطور عائلة القرن الحادي والعشرين. «أتواعدين أحداً؟». رفعت نظري إلى غوميز الذي كان لا يزال متكئاً على الطاولة، ولا يزال يحمل فنجان قهوته على مستوى ذقنه. «لا». «لِمَ لا؟». هذا ليس من شأنك غوميز. «لم تخطر الفكرة لي». «عليك أن تفكري فيها». وضع فنجانه في حوض غسل الصحون. «لماذا؟». «تحتاجين إلى شيء جديد، شخص جديد. لا يمكنك الجلوس هكذا إلى نهاية عمرك تنتظرين أن يظهر عليك هنري يوماً». «بالتأكيد أستطيع، انتظر لترى». خطى غوميز خطوتين، ووقف إلى جانبـي. انحنى ووضع فمه عند أذني. «ألا تفتقدين إلى... هذا؟». لعق داخل أذني. أجل أفتقد ذلك. «ابتعد عني غوميز». هسهست له لكنني لم أبتعد، ثبت على الكرسي. رفع غوميز شعري وقبل رقبتي. تعالي إليّ، أوه، تعالي إليّ! ... «هنري -». فجأة، توقف كل شيء. دقت الساعة بصوت عالٍ. فتحت عيني، غوميز يحدق إليّ، متألماً، وغاضباً؟ لفترة كان عاجزاً عن التعبير. سمعنا صوت باب سيارة يغلق. جلست، قفزت عن الطاولة، وأسرعت نحو الحمام. رمى غوميز بثيابـي إليّ. بينما كنت أرتديها، سمعت صوت كاريس والأطفال يدخلون من الباب الأمامي يضحكون نادت آلبا: «ماما؟». وناديتها: «سأخرج خلال دقيقة!». وقفت تحت الضوء الخافت في الحمام الزهري والأسود ونظرت إلى نفسي في المرآة. يوجد شيريوز على شعري، صورتي تبدو تائهة وشاحبة، غسلت يديّ، حاولت تسريح شعري بأصابعي. ما الذي فعلته؟ ما الذي سمحت لنفسي أن تصبح عليه؟ جاءتني إجابة من بين عدة إجابات، غدوت أنت المسافرة الآن. السبت، 26 تموز، 2008 (كلير 37 عاماً) كلير: كانت مكافأتنا لآلبا على صبرها عليّ أنا وكاريس عندما كنا نطالع اللوحات الفنية في المعرض والتي سترسل إلى إيد ديبيفايس أن اصطحبناها إلى عشاء فيه جولة سياحية. حالما دخلنا من الباب كانت الأجواء مفعمة بأجواء العام 1964 والموسيقى بصوت مرتفع وهناك يافطات في كل مكان: «إن كنت حقاً زبوناً جيداً فلتطلب المزيد!!!!». «الرجاء التحدث بوضوح عند إجراء الطلب». «قهوتنا جيدة للغاية، نشربها أنفسنا!». من الواضح أن اليوم هو يوم البالونات على هيئة الحيوانات، قام رجل يلبس بذلة أرجوانية بتجهيز شيء على هيئة كلب وينر ثم حوله إلى قبعة ووضعها على رأس آلبا. تلوت من المرح، وقفنا في الصف لمدة نصف ساعة ولم تشتكي آلبا أبداً، كانت تراقب الندل والنادلات يغازلون بعضهم بعضاً وبصمت قامت بتقييم البالونات على هيئة الحيوانات التي مع الأطفال الآخرين. وأخيراً، رافقنا نادل يضع نظارة مؤطرة بشكل قرن إلى كوة جلوسنا، وبطاقة تعريف اسمه، سباز. فتحنا أنا وكاريس لائحة الطعام، وحاولنا إيجاد شيء نأكله من بين جبنة تشيدر المقلية ولفائف اللحم. وكانت آلبا تكرر مرنمة ميلك شيك مرة بعد مرة. وعندما عاد سباز داهمت آلبا حال مفاجئة من الخجل وكان لا بد له أن لاطفها لكي تقول له إنها تريد ميلك شيك بنكهة زبدة الفول السوداني (وطلب آخر صغير من البطاطا المقلية، لأنني كنت قد قلت لها إنه من المؤذي تناول ميلك شيك على الغداء من دون شيء معه). طلبت كاريس المعكرونة مع الجبنة، وطلبت سندويش لحم بارد ذا الثلاثة أنواع. حالما غادر سباز أخذت كاريس تغني: «آلبا مع سباز تحت الشجرة ي - ت - ع - ا - ن - ق - ا - ن...». وأغلقت آلبا عينيها، ووضعت يديها على أذنيها، وهي تهز رأسها وتبتسم. كان نادل آخر تشير بطاقة اسمه إلى باز يقوم برفع الصحون إلى الأعلى والأسفل بزهو عن منصة الطعام وهو يتراقص كاروكيه لبوب شيغير روك أند رول الأيام الخالية. قالت كاريس: «أكره بوب شيغير، هل تعتقدين أن كتابة أغنية تأخذ معه أكثر من ثلاث ثوانٍ؟». جاءنا طلب الميلك شيك في كوب طويل بقشة ملتوية، وجهاز صغير معدني لتحريك الميلك شيك والذي كان لا يدخل في فوهة الكوب ذاته. وقفت آلبا لتشربه، وقفت على رؤوس أصابع قدميها حتى تتمكن من الوصول إلى أفضل زاوية يمكنها منها أن تشرب كوب الميلك شيك بنكهة زبدة الفول السوداني. كانت قبعتها البالونية بهيئة كلب وينر تنـزلق على جبينها وتتداخل مع تركيزها. نظرت إليّ من بين رموشها السوداء الكثيفة ودفعت البالون القبعة إلى رأسها بحيث التصق برأسها بفعل الكهرباء الساكنة. سألتني: «متى سيأتي بابا إلى المنـزل؟». أصدرت كاريس صوتاً كالذي يصدر عن أحدهم عندما يشرب البيبسي ويستنشقه من أنفه فجأة، وبدأت تسعل، ضربتها على ظهرها حتى أومأت إليّ بيدها أن أتوقف عن ذلك. قلت لها: «في 29 آب». وعادت لتشرب ما تبقى في كوب الميلك شيك بينما كاريس نظرت إليّ بتأنيب. لاحقاً، ونحن في السيارة عند شارع ليك شور درايف كنت أقود السيارة وكاريس إلى جانبـي تقلب محطات الراديو وآلبا نائمة على الكرسي الخلفي. عبرت المخرج من غيرفينغ بارك قالت لي كاريس: «ألا تعلم آلبا أن هنري قد توفي؟». بالطبع تعرف، لقد رأته. قمت بتذكير كاريس بذلك. «حسناً، إذاً لِمَ قلت لها إنه سيأتي إلى المنـزل في آب؟». «لأنه سيأتي، لقد أعطاني هذا التاريخ بنفسه». «أوه». وبالرغم من أن عينيّ كانتا نحو الشارع إلا أنني شعرت بكاريس تحدق إليّ. «أليس هذا... غريباً بعض الشيء؟». «آلبا تحب ذلك». «يحلو لك أنت أيضاً؟». «أنا لم أره أبداً». حاولت أن أبقي صوتي خفيفاً، وكأنني لا أتأثر بعدم العدالة هذه، وكأنني لا أشعر بالأسى عندما تحدثني آلبا عن زياراتها مع هنري بالرغم من أنني أتجرع كل تفصيل دقيق بذاته. لِمَ لست أنا، هنري؟ أسأله بصمت وأنا أقود السيارة في الممر إلى منـزل كاريس وغوميز المليء بألعاب الأطفال. لماذا آلبا فقط؟ لكن، كالعادة ليس ثمة جواب لهذا السؤال. وكالعادة هذا حال الأمر الواقع. قبلتني كاريس، وخرجت من السيارة، ومشت برصانة نحو الباب الأمامي لمنـزلها والذي انفتح فجأة وظهر منه غوميز وروزا. كانت روزا تقفز إلى الأعلى وتمسك بيدها شيئاً إلى كاريس التي أخذته منها وقالت لها شيئاً ما وضمتها بقوة. حدق غوميز إليّ، وأخيراً لوح لي بتلويحة صغيرة، لوحت له بالمقابل، واستدار ذاهباً. كانت كاريس وروزا قد دخلتا إلى المنـزل. وأُغلق الباب. جلست هناك في الممر وآلبا نائمة على الكرسي الخلفي للسيارة. الغربان تتمشى على مرجة الهندباء الغزيرة. هنري، أين أنت؟ ملت برأسي على مقود السيارة، أنقذني، ما من جواب. بعد دقيقة شغلت محرك السيارة، وقدتها خارجة من الممر، وشققت طريقي نحو منـزلنا الصامت المنتظر. السبت، 3 أيلول، 1990 (هنري 27 عاماً) هنري: كنت وإنغريد قد تهنا عن مكان ركن السيارة ونحن مخموران. كنا ثملين تماماً، وقد حل الظلام وكنا نترنح إلى الأمام والوراء، إلى الأعلى والأسفل، وفي كل الاتجاهات نبحث عنها من دون أن نجدها. اللعنة على مرأب لينكولن، اللعنة على الرافعة في لينكولن، اللعنة، إنغريد ثملة وتمشي قبلي، والطريقة التي تدير بها ظهرها وحتى مؤخرتها كلها مخمورة، يقع ذلك على عاتقي نوعاً ما. اللعنة على ملهى نايت ويست بارك. لماذا يضعون الملهى في لينكولن بارك الحقيرة بحيث لا يجد المرء مكاناً يركن فيه سيارته ثم لتسحبها رافعة لينكولن إلى كراج المستودع ليتأملوها فقط -. «هنري». «ماذا؟». «تلك الطفلة الصغيرة مجدداً». «أي طفلة صغيرة؟». «تلك التي رأيناها سابقاً». توقفت إنغريد. نظرت إلى المكان الذي تشير إليه. كانت الطفلة الصغيرة تقف عند مدخل محل الأزهار، ترتدي لباساً داكناً، لذا كان كل ما أمكنني أن أراه منها هو وجهها الأبيض وقدميها الحافيتين. إنها ربما في السابعة أو الثامنة من عمرها، صغيرة جداً على أن تكون بمفردها عند منتصف الليل. مشت إنغريد نحو الطفلة التي كانت تراقبها من غير حراك. سألتها إنغريد: «هل أنت على ما يرام؟ أأنت تائهة؟». نظرت الطفلة إليّ وقالت بأدب: «كنت تائهة، لكن عرفت الآن أين أنا، شكراً لك». انحنت إنغريد على الطفلة وقالت: «هل تريدين أن نوصلك إلى المنـزل؟ يمكننا أن نوصلك إلى منـزلك هذا إن وجدت لنا سيارتنا». كان وجهها على بعد قدم تقريباً من وجه الطفلة. مشيت إليهما، ورأيت أن الطفلة ترتدي بذلة شتاء رجالية. وقد انسدلت على طولها حتى كاحليها. «لا، شكراً. أعيش بعيداً جداً على كل حال». كان للطفلة شعر طويل أسود وعينان كبيرتان داكنتان، وتحت الضوء الأصفر للأزهار بدت كما لو كانت فتاة من العصر الفيكتوري أو دي كوينـزي آن. سألتها إنغريد: «أين أمك؟». أجابتها: «إنها في المنـزل». ابتسمت لي وقالت: «هي لا تعلم بوجودي هنا». سألتها: «هل هربت من المنـزل؟». قالت لي: «لا». وضحكت. «كنت أبحث عن بابا، لكنني أتيت باكراً جداً على ما أعتقد. سأعود مجدداً في ما بعد». وشقت طريقها متجاوزة إنغريد، وخطت نحوي، وأمسكت بسترتي، وسحبتني إليها، وهمست لي: «إن السيارة هناك في الشارع». نظرت إلى الشارع، فرأيت السيارة، سيارة إنغريد البورش الحمراء. بدأت بقول: «شكراً -». فطبعت الطفلة قبلة على وجهي قريبة من أذني، ونـزلت تمشي على جانب الطريق، وقدماها تضربان الأرض الصلبة وأنا واقف أحدق وراءها. كانت إنغريد صامتة بينما كنا في السيارة. أخيراً قلت لها: «لقد كان هذا أمراً غريباً». وتنهدت وقالت لي: «هنري، أحياناً تكون أبله ولعيناً بالنسبة إلى شخص ذكي». وأنـزلتني أمام شقتي من دون أن تتفوه بكلمة أخرى. الأحد، 29 تموز، 1979 (هنري 42 عاماً) هنري: إنه شيء ما في الماضي… أجلس على لايت هاوس بيتش مع آلبا. إنها في العاشرة. وأنا في الثانية والأربعين. كلانا مسافران عبر الزمن. إنه مساء دافئ، ربما تموز أو آب. أرتدي بنطال جينـز مع تي شيرت بيضاء سرقتها من المحل الباهظ نورث إفانستون الضخم، وترتدي آلبا فستان نوم زهرياً سرقته من خزانة سيدة مسنة. إنه طويل عليها وقد طويناه إلى ركبتيها. كان الناس من حولنا يرمقوننا بنظرات غريبة طوال بعد الظهر. أعتقد أننا لا نبدو كأبٍّ وابنة طبيعيين على الشاطئ. لكننا فعلنا ما في وسعنا، سبحنا وبنينا قلعة رملية. أكلنا الهوت دوغ والبطاطا المقلية التي اشتريناها من بائع يانصيب عند المرأب. ليس معنا غطاء أو أي منشفة لذا غطانا الرمل والرطوية وكنا منهكين تماماً من اللعب، وجلسنا نراقب الأطفال الصغار يركضون إلى الأمام والوراء على الموجات والكلاب الكبيرة تنبح وراءهم. والشمس تغيب أمامنا ونحن ننظر إلى الماء. قالت لي آلبا وهي تنحني عليّ مثل المعكرونة المسلوقة الباردة: «احكي لي حكاية». وضعت ذراعي حولها: «أي نوع من الحكايات تريدين؟». «حكاية جميلة، حكاية عنك وعن ماما، عندما كانت ماما طفلة صغيرة». «هممم، أوكيه، كان يا مكان في قديم الزمان -». «متى كان ذلك؟». «كل الأوقات في مرة واحدة، منذ وقت طويل، والآن أيضاً». «كان هناك اثنان؟». «نعم، اثنان دوماً». «لماذا يكونان اثنين دوماً؟». «هل تريدينني أن أقص عليك الحكاية أم ماذا؟». «ياه...». «حسناً إذاً، كان يا مكان في قديم الزمان، كانت أمك تعيش في منـزل كبير قرب مرجة خضراء، وفي المرجة مكان فسيح ليس فيه أشجار، اعتادت أن تذهب إليه لتلعب. وفي أحد الأيام الجميلة، ذهبت أمك، وقد كانت حينها طفلة صغيرة شعرها أطول منها إلى تلك الفسحة وقد كان هناك رجل -». «من دون ثياب!». وافقتها: «ولا حتى ورقة توت، وبعد أن ناولته أمك منشفة شاطئ صادف أنها كانت تحملها، وضعها عليه وأخذ يشرح لها أنه مسافر عبر الزمن ولسبب ما صدقته -». «لأن ذلك كان حقيقة!». «حسناً، أجل، لكن كيف لها أن تعلم ذلك؟ على كل حال، صدقته بالفعل، ثم وبعد مرور الزمن كانت سخيفة بما يكفي لتقبل الزواج به وها نحن ذا». ضربتني آلبا على معدتي. وقالت لي: «قل ذلك بطريقة صحيحة». «أوووف. كيف يمكنني أن أقول أي شيء وأنت تلكمينني هكذا! غييييييز». صمتت آلبا. ثم قالت: «لماذا لا تزور ماما في المستقبل؟». «لا أعرف، آلبا. لوكان في مقدوري لكنت زرتها». كان لون زرقة الغسق يلوح في الأفق ويتراجع المد. وقفت، ومددت يدي لآلبا، لتقف. وبينما وقفت تنفض الرمل عن فستان النوم خطت نحوي وقالت: «أوه!». واختفت، ووقفت هناك على الشاطئ أمسك فستان النوم الرطب، وأحدق إلى آثار قدميها الصغيرتين في النور المتلاشي. البعث الخميس، 4 كانون الأول، 2008 (كلير 37 عاماً) كلير: هذا صباح بارد ومشرق، فتحت قفل باب المرسم، ونفضت الثلج عن جزمتي، فتحت الستائر وشغلت التدفئة، وبدأت في إعداد ترمس من القهوة المخمرة. وقفت في المكان الفارغ وسط المرسم ونظرت حولي. سنتان من تراكم الغبار والأوساخ تجثم فوق كل شيء؛ طاولة الرسم عارية، والخفاقة نظيفة وفارغة، والخلطات والدكل مكومة بإحكام، ولفافات الأسلاك المغلفة تقبع هناك على الطاولة من دون أن يلمسها أحد. الألوان والأصباغ، والمرطبانات، وفراشي الرسم، وعدة الرسم، والكتب، كلها على حالها كما تركتها. والاسكتشات التي كنت قد علقتها على الجدار قد اصفرت وتكرشنت. نـزعتها ورميتها في سلة القمامة. جلست خلف مسند الرسم وأغلقت عيني. الريح في الخارج ترطم أغصان الشجر على جانب المنـزل. والسيارات تنـزلق على الجليد في الشارع. آلة القهوة تهسهس وهي تتحرك لتنـزل منها آخر جرعة من القهوة في الترمس. فتحت عيني، ارتجفت، وأحكمت إغلاق سترتي الثقيلة عليّ. عندما صحوت هذا الصباح كانت لديّ رغبة شديدة في المجيء إلى هنا، لقد كانت مثل ومضة النشوة. موعد غرامي مع حبـي القديم، الفن. لكنني الآن أقف هنا أنتظر... شيئاً ما... ليأتي إليّ ولا شيء يأتي. فتحت درج الملفات الكبيرة، وأخذت ورقة من الورق المصبوغ بالنيل، كانت ثقيلة وقاسية نوعاً ما، زرقاء داكنة وباردة الملمس مثل المعدن، وضعتها على مسند الرسم، وقفت، وحدقت إليها لفترة، ثم أخذت بعض القطع الصغيرة من ألوان الباستيل البيضاء الخفيفة وزنتها بقبضة يدي، ثم وضعتها جانباً وسكبت لنفسي بعضاً من القهوة. نظرت خلف النافذة إلى الحديقة الخلفية للمنـزل، لو كان هنري هنا لكان الآن يجلس إلى مكتبه وينظر إليّ من النافذة فوق طاولة مكتبه. أو ربما كان يلعب سكرابل مع آلبا، أو يقرأ المسرحيات الكوميدية ويعد الحساء للغداء. رشفت قهوتي لأستعيد الزمن، لأمحو الفرق بين الحاضر والماضي. إنها ذاكرتي فقط هي ما يبقيني هنا. أيها الزمن، دعني أذوي. عندها يغدو الحاضر الذي يفصلنا يجمعنا سوياً. وقفت أمام ورقة الرسم ممسكة الباستيل الأبيض، الورقة عريضة، بدأت من مركزها، انحنيت على الورقة بالرغم من أنني أعلم أنه سيكون من المريح أكثر لو أنها كانت على الحامل، قست الشكل، بحجم نصف العمر؛ هنا أعلى الرأس، وهنا التقاء العقدتين، وهنا كعب القدم. ضربت الريشة على الرأس، رسمت بخفة شديدة من الذاكرة عينين فارغتين، هنا عند نقطة الوسط للرأس أنفاً طويلاً، التواء قوس الفم المفتوح قليلاً وتقوس الحاجبين بحال المفاجئة. أوه، هذه أنا؛ الذقن ذو الطابع والفك المدور، والجبهة العالية والأذنان البارزتان قليلاً. هذه هي الرقبة، والكتفان المنـزلقتان على الأذرع اللتان تمران برفق عند الصدر، وهنا أسفل القفص الصدري، والمعدة المرتفعة قليلاً، ومؤخرة ممتلئة، ساقان ملتويتان قليلاً، وقدمان تتجهان إلى الأسفل، وكأن هذا الشكل يطفو وسط الهواء، ونقاط القياس مثل النجوم في ليلة حالكة وها هو ذا الشكل يصير ثلاثي الأبعاد، إناء زجاجياً. رسمت الملامح بعناية، وضعت بنية الوجه، وملأت العينين اللتين تنظران إليّ مندهشتين من وجودهما المفاجئ. كان الشعر يتموج على الورقة، يطفو من دون وزن ولا حركة، وخطوط تجعل الجسم الساكن يبدو متحركاً. ماذا أيضاً في هذا الكون، هذه اللوحة؟ نجوم أخرى، بعيدة المنال؟ فتشت بين عدتي ووجدت مشجفاً، لصقت اللوحة على النافذة، وبدأت أثقب اللوحة بكاملها، وأحدث فيها ثقوباً دقيقة، ومن كل ثقب دقيق يدخل شعاع الشمس إلى عوالم أخرى. وعندما حصلت على مجرة مليئة بالنجوم، دققت الجسم الذي أصبح الآن مجموعة نجوم في الكون، شبكة من الأنوار الدقيقة للغاية. نظرت إلى شبيهتي، ونظرت هي إليّ. وضعت إصبعي على جبهتها وقلت لها: «تلاشي». لكنها كانت هي من سيبقى، وكنت أنا من سيتلاشى. دوماً مرة أخرى الخميس، 24 تموز، 2053 (هنري 43 عاماً، كلير 82 عاماً) هنري: وجدت نفسي عند ممر صالة معتمة. يوجد في نهاية الصالة باب بالكاد مفتوح، ينبعث ضوء خفيف من إطاره. الصالة مليئة بالجزمات المطاطية والسترات الواقية من المطر. مشيت ببطء وهدوء نحو الباب، ونظرت بحذر إلى الغرفة التالية. كان نور الصباح ساطعاً فيها، يومض في البداية، ويؤلمني في عيني، وبينما تعدلت الرؤية فيهما رأيت في تلك الغرفة طاولة خشبية مستوية عند النافذة. تجلس إليها امرأة مقابل النافذة، وعند كوعها فنجان شاي. خلف النافذة في الخارج بحيرة، تتلاعب الأمواج على الشاطئ وتتراجع مع عودتها الهادئة التي تغدو كما الثبات بعد بضع دقائق. كانت المرأة جامدة جموداً كبيراً، شيء ما جعلها مألوفة بالنسبة إليّ؛ إنها امرأة مسنة، شعرها أبيض تماماً، ينسدل على طول ظهرها في جدلة رقيقة فوق حدبة ظهر خفيفة لعجوز مهيبة، ترتدي سترة متقزحة ومرجانية اللون، انحناءة كتفيها، وصلابة وضعها تقولان إنّ ثمة شخصاً أنهكه التعب هنا، وقد كنت أنا نفسي متعباً جداً. نقلت ثقلي من قدم إلى أخرى، طقطقت القدم الأخرى، فاستدارت المرأة ورأتني تألق وجهها، ذهلت فجأة، إنها كلير، كلير وهي امرأة مسنة! جاءت نحوي ببطء، وحضنتها بين ذراعي. كلير: كل شيء نظيف هذا الصباح. لقد تركت الريح الأغصان والعيدان مرمية متكسرة في الساحة التي سأخرج إليها الآن لألتقط هذه العيدان والأغصان، وقد أعادت توزيع رمل الشاطئ الذي أصبح الآن مرة أخرى فوق كل الفراغات التي سببها المطر، انحنت زهرات النرجس وتلألأت في نور صباح الساعة السابعة. جلست إلى طاولة الطعام ومعي فنجان شاي، أنظر إلى البحيرة مصغية، ومنتظرة. لا يختلف اليوم في شيء عن باقي الأيام السابقة؛ صحوت عند الفجر، ارتديت بنطالاً وكنـزة، وسرحت شعري، وحمصت التوست، وأعددت الشاي، وجلست أنظر إلى البحيرة، أتساءل إن كان سيأتي اليوم. لا يختلف الأمر اليوم عن كل الأيام السابقة التي لم يأتِ فيها، انتظرت، عدا عن أنه في هذه المرة لديّ تعليمات، هذه المرة أعلم أن هنري سيأتي في نهاية المطاف. أتساءل في بعض الأحيان إن كان هذا الاستعداد، وهذا التوقع، هو ما سيمنع حدوث المعجزة. لكن ليس لديّ خيار، إنه آتٍ، وأنا موجودة هنا. والآن من صدره وحتى عينيه تصاعد ألم الشوق، وأخيراً بكى، على زوجته العزيزة، الصافية والمخلصة، التي بين ذراعيه، يشتاق إليها كما يشتاق إلى أرض أدفأتها الشمس. سباحٌ يسبح في بحر عاتي الأمواج غرقت فيه سفينته بفعل ريح بوسيدون، والرياح الهوجاء وأطنان من البحار. قلة من البحارة الذين بقوا على قيد الحياة وهم يصارعون أمواج البحار لينجوا، وقد تملحت أجسادهم من مياه البحر، بحياتهم نحو شواطئ جميلة وهم فرحون، فرحون، وهم يعرفون أي جحيم خلفوه وراءهم. وهكذا رُدت إليها الروح، وحَدقت إلى زوجها، وأحاطته بذراعيها البيضاوين وضغطت عليه إلى الأبد. - من الأوديسة هومر ترجمها إلى الإنكليزية: روبرت فيتزجيرالد إرشادات لمجموعات القراءة 1. تعلن كلير في الصفحة الأولى من الرواية «أنا أنتظر هنري». بأي طريقة يحدد هذا شخصيتها، وكيف يتطور موضوع الانتظار خلال الرواية. 2. وتماماً وكما أن شخصية كلير تحدد بانتظارها، فإن هنري يعرف بحضوره وغيابه غير المتوقع. وإنه - مع شربه الثقيل ونـزوعه إلى السرقة وضرب الناس - يمكن أن يوصف بالسلوك النمطي الذكوري، وتماماً كما يمكن أن يكون الانتظار سلوكاً نمطياً أنثوياً. ما الذي يجعل هذه الشخصيات بعيدة عن النمطية؟ في أي طرائق أعطت الكاتبة إلى الشخصيات عمقها وعلامتها المميزة؟ على سبيل المثال، في أي نقاط من الكتاب يتبادل هنري وكلير الأدوار؟ 3. وصف نيفينيغر لهنري على أن سفره عبر الزمن هو نتيجة عشوائية للاضطراب الجيني، وهو ما شرحته مطولاً في مرحلة لاحقة في الكتاب، كم هو جدير (معقول) ليس من وجهة نظر علمية لكن من وجهة نظر درامية وأدبية؟ هل تعتقد أن وضع هنري بحاجة إلى شرح؟ 4. كيف شكّلت شخصية هنري مرض العجز في التوافق الزمني؟ وكيف يؤثر السفر عبر الزمن في كلير؟ بالإضافة إلى ذلك، كيف تتأثر كلير بالالتقاء مع زوحها المستقبلي عندما كان عمرها ست سنوات وتراه تكراراً خلال طفولتها ومراهقتها قبل أن يصبحا عاشقين؟ كيف نجحت الكاتبة في جعل علاقتها تبدو غريبة - بل ومميزة - أكثر من كونها علاقة مشؤومة؟ 5. ما المميز في كون هنري يعمل في المكتبة؟ ما الصلة التي تراها في اختياره لمهنته وإعجابه في طفولته بمتحف العلوم؟ 6. يتمثل الحدث الأهم في حياة هنري - بالإضافة إلى رحلاته المتكررة عبر الزمن إلى الأمام والوراء - بالموت الخفي لأمه في بداية حياته، الذي شهده كطفل صغير ثم عاود رؤيته واعياً عندما أصبح كبيراً. كيف ساعد هذا الحدث على تشكيله، وكيف ظلل هذا الحدث على الأحداث الأخرى في الرواية؟ 7. كيف تمكنت الكاتبة من حياكة روايتها بأسلوب ساحر للجدول الزمني، على سبيل المثال، وحيث في المقاطع السردية تربط ذات الحدث من عدة مناظر من أجل أن تملأ معلومة مفقودة؟ كيف ظللت هذه التطورات مثل انتحار إنغريد كارميشيل، وولادة آلبا دي تامبل، ووفاة هنري؟ 8. من بين الأمور الغامضة في الكتاب الطريقة التي تسبب فيها مرض العجز في التوافق الزمني أحياناً بانقسام وازدواجية أبطال الرواية. عند سن التاسعة تعلم هنري نشل المحفظات من قبل نفسه التي كانت في السابعة والعشرين. عاد هنري إلى زوجته في الثالثة والثلاثين من عمره بعد زيارة أقام فيها علاقة حميمية في ذكرى ميلادها الثامنة عشرة. بعد أن أجريت لهنري عملية قطع القناة الدافقة في سن السابعة والثلاثين، حملت كلير في سن الثانية والثلاثين... كيف نظر هنري وكلير إلى نفسيهما في الكبر والصغر؟ ولماذا لشيء واحد فقط لم يغيرا من نفسيهما؟ وما الذي تتضمنه هذه الرواية عن العلاقة بين الوقت والذات؟ 9. من الناحية النظرية فإن سفر هنري عبر الزمن يجب أن يجعله مطلق المعرفة على الأقل في ما يتعلق بخط الزمن الخاص به. لكن كلير تعلم أشياء عنه هو نفسه لا يعرفها. على ماذا يعتمد ذلك؟ ما الدور الذي تؤديه معرفة الشخصية - وفجوات المعرفة - في هذه الرواية؟ 10. وفي ما يرتبط بشكل وطيد بالمعرفة المسبقة هي الفكرة في حرية الإرادة. هل أعطى العجز في التوافق الزمني هنري حرية كانت كلير تفتقدها؟ أو هل جعله ذلك أضعف؟ ناقش ملاحظات هنري: «هنالك إرادة حرة عندما تكون في الوقت، في الحاضر». 11. عندما طلب هنري منها وصف أعمالها الفنية، أخبرته كلير أنها حول العصافير والاشتياق. كيف يمكن استنتاج موضوع العصافير، بالأجنحة والطيران، والشوق في مكان آخر من هذا الكتاب؟ 12. ما اللائحة التي أعدها هنري لكلير، وكيف أضفى هذا أجواء درامية مؤثرة على الرواية؟ هل وظفت الكاتبة أموراً أخرى بنفس هذا التأثير؟ أحد الأمور التي جعلت هذه الرواية مشوقة هو إحساس القارئ أن الأحداث تصل إلى ذروتها وأن الوقت ينفد. كيف نجحت الكاتبة في فصل هذا الإحساس عن قرّائها في ضوء استهلاك هنري للوقت؟ 13. حذر كل من غوميز وسيليا كلير من هنري. «هذا الفتى سيمضغك ويبصقك، هو ليس الفتى الذي تحتاجين إليه». قال غوميز. هل يمكننا أخذ هذه التحذيرات على محمل الغيرة أو إنها ملاحظات صحيحة؟ هل هنري أكثر طيشاً وغير أخلاقي مما يبدو عليه أمام كلير. كيف تفسر مقولة هنري: «لست حقاً الشخص الذي تعرفه منذ طفولتها؟ 14. كيف تغيرت علاقة هنري بكلير بعد زواجهما؟ وكيف تأثرت برغبتهما في الإنجاب؟ 15. هل تسمي هذه الرواية كوميديا أم تراجيديا؟ أو هل يجوز استخدام هذه التصنيفات على عمل يفسد الزمن ويسمح لإحدى الشخصيات بالظهور من فترة إلى أخرى بعد وفاتها؟ 16. كيف استخدمت الكاتبة السفر عبر الزمن كتشبيه للحب، للفقدان والغياب، للقدر، للهرم، للموت؟ إلى أي حدّ يمكن أن يكون هنري وكلير زوجين عاديين؟ المؤلفة أودري نيفينيغر بروفيسور في برنامج MFA في كلية كولومبيا شيكاغو سنتر للكتب وبيبرز أرت. تعيش في شيكاغو. وهذه أول رواية لها. مما قيل في مديح رواية زوجة مسافر عبر الزمن «رواية حب سفر عبر الزمن بجدارة... القارئ قاسي القلب هو الذي لن يبكي لهذه الأخطار التي تحيط بهنري وكلير، ومن هذا الاحتفال الرفيع لانتصار الحب على الزمن». - شيكاغو تريبيون «حيث يتبادل هنري وكلير في رواية الحدث، كاشفين عن عمق الرابط بينهما بالرغم من كل ما يحدث، فكرة من الخيال العلمي تتحول إلى قصة حب مبتكرة». - مجلة بيبول (كتاب توب تن السنوي) «نيفينيغر... الملهمة تلعب ببراعة في قاعة مراياها الزمنية». - نيو يوركر «يتذكر الناس رواية الحب في زمن الكوليرا، حباً ينجح بالرغم من كل المعيقات والصعوبات... وماركيز مثل نيفينيغر هنا، يريد أن يقول لنا إن هذا الحب الممجد هنا لا توجد فيه أي مأساة ولا حتى قيود». واشنطن بوست بوك ورلد «كتابة نيفينيغر الإبداعية والمؤثرة تستحق منا رحلة فيها». - إنترتينمينت ويكللي «مؤثرة، نثر ذو حدين... كتبت نيفينيغر بوضوح عن مراسل حرب يقف على الخطوط الجانبية في معركة غير منتهية». - يو أس تودي «حكاية فريدة عن رجل سعيد بوضع مضحك (فهو ينـزلق إلى داخل وخارج الزمن) وعن المرأة التي تحبه، والمكان، هو مدينة شيكاغو، هو المكان المنار». - سان فرانسيسكو كرونيكل «كأن الحب لم يكن معقداً كفاية، حتى تأتي الروائية نيفينيغر وتحلم بزوجين سعيدين يُصابان بمشكلة خاصة... ويُسجل لنيفينيغر أنها تجنبت اللقطات الرخيصة وطورت فكرتها المبتكرة بطريقة غريبة واستثنائية وذكية». - تايم آوت نيويورك «على عكس ما هو ظاهر، تعتبر رواية زوجة مسافر عبر الزمن قصة حب قديمة: مريضة، ولا يمكن تصديقها... سردت بأسلوب شيق ومبدع وهي لم تألُ جهداً في هذا». - تايمز - لندن «رواية مدهشة، غير طبيعية بمعطيات فريدة... طورت نيفينيغر بطريقة مؤثرة شخصيات الرواية الفريدة، حتى نقبل بظروفها القاسية، ومباركاتها. لا تنخدع بالسحر السهل الذي تتمتع به علاقة هنري وكلير؛ فهما سيجرانك إلى دائرتهما الصغيرة، ويجعلانك شريكاً لهما في أحلامهما وخيباتهما. وهذا ما سيحطم فؤادك». - كيرلدوب. كوم «إلى أولئك الذين يدعون أنه لا توجد قصص حب جديدة. أوصي من كل قلبـي برواية زوجة مسافر عبر الزمن فهي رواية رائعة، حيكت ببراعة ومخيلة مذهلة فهي رواية رومانسية تصيبنا بالدوار». - سكوت تيرو، مؤلف أخطاء منعكسة وبراءة مفترضة «آسرة، ومبدعة وذكية جداً أخذت أنفاسي مني... باختصار، كتاب فريد من نوعه أنهيت قراءته وتمنيت بسبب غيرتي أن أكون أنا من ألفه». - جودي بيكولت، مؤلفة الحقيقة البسيطة والنظرة الثانية «قصة حب قديمة غريبة وفاتنة. نحن نلتقي جميعاً بالشخص الذي نحب عندما نكون كباراً، وعندما نكون قد ابتعدنا عن طفولتنا. أما هنري وكلير - بالرغم من البركة المتعمدة المختلطة لمرض هنري العجز في التوافق الزمني - لديهما الحب بأسلوبين. هي قصة حول الإخلاص المكثف الذي ترشح عبر الزمن - عن شخصين تشاركا السراء والضراء وهما يكبران كخليلين في عالم يتغير خلال لحظة». - تشارلز ديكنسون «تخيلت أودري نيفينيغر هذه الحكاية عن مسافر عرضي عبر الزمن وعن حب حياته بنعمة وحنان. شديدة الإبداع، وطموحة ماكرة، سردتها المؤلفة بطريقة جميلة محببة، تتألق رواية زوجة مسافر عبر الزمن وهي تستكشف من دون خوف اللعبة الداخلية الدقيقة للحب والزمن. تعتبر هذه الرواية متعة بحد ذاتها». - آن أورسو، مؤلفة كتاب ذي ديسأباريشن أوف حيمس وسبيلينغ كلارنس «قصة حب محلقة تضيئها عشرات التفاصيل الدقيقة والمشاهد، ومن يتزلج برشاقة حول المشكلة المحيرة في قلب الكتاب... يترك القارئ بإحساس بالغنى والغرابة». - بابليشرز ويكلي (سارد ريفيو) «رواية محاكة بكثير من التعقيد... أدب صرف». - كيركوس ريفيو «رواية كتبت بالقوة... وبمهارة بمزيج من الشخصيات المميزة والعواطف الملتهبة التي تقفز عبر الزمن، وهي تفترض التفسيرات على عدة مستويات». - لايبراري جورنال (ستارد ريفيو) النهاية المقدمة إرشادات لمجموعات القراءة