جدول المحتويات شيفرة دافنشي الإهداء شكر حقائق مقدمة الفصل الأول الفصل الثاني الفصل الثالث الفصل الرابع الفصل الخامس الفصل السادس الفصل السابع الفصل الثامن الفصل التاسع الفصل العاشر الفصل الحادي عشر الفصل الثاني عشر الفصل الثالث عشر الفصل الرابع عشر الفصل الخامس عشر الفصل السادس عشر الفصل السابع عشر الفصل الثامن عشر الفصل التاسع عشر الفصل العشرون الفصل الواحد والعشرون الفصل الثاني والعشرون الفصل الثالث والعشرون الفصل الرابع والعشرون الفصل الخامس والعشرون الفصل السادس والعشرون الفصل السابع والعشرون الفصل الثامن والعشرون الفصل التاسع والعشرون الفصل الثلاثون الفصل الواحد والثلاثون الفصل الثاني والثلاثون الفصل الثالث والثلاثون الفصل الرابع والثلاثون الفصل الخامس والثلاثون الفصل السادس والثلاثون الفصل السابع والثلاثون الفصل الثامن والثلاثون الفصل التاسع والثلاثون الفصل الأربعون الفصل الواحد والأربعون الفصل الثاني والأربعون الفصل الثالث والأربعون الفصل الرابع والأربعون الفصل الخامس والأربعون الفصل السادس والأربعون الفصل السابع والأربعون الفصل الثامن والأربعون الفصل التاسع والأربعون الفصل الخمسون الفصل الواحد والخمسون الفصل الثاني والخمسون الفصل الثالث والخمسون الفصل الرابع والخمسون الفصل الخامس والخمسون الفصل السادس والخمسون الفصل السابع والخمسون الفصل الثامن والخمسون الفصل التاسع والخمسون الفصل الستون الفصل الواحد والستون الفصل الثاني والستون الفصل الثالث والستون الفصل الرابع والستون الفصل الخامس والستون الفصل السادس والستون الفصل السابع والستون الفصل الثامن والستون الفصل التاسع والستون الفصل السبعون الفصل الواحد والسبعون الفصل الثاني والسبعون الفصل الثالث والسبعون الفصل الرابع والسبعون الفصل الخامس والسبعون الفصل السادس والسبعون الفصل السابع والسبعون الفصل الثامن والسبعون الفصل التاسع والسبعون الفصل الثمانون الفصل الواحد والثمانون الفصل الثاني والثمانون الفصل الثالث والثمانون الفصل الرابع والثمانون الفصل الخامس والثمانون الفصل السادس والثمانون الفصل السابع والثمانون الفصل الثامن والثمانون الفصل التاسع والثمانون الفصل التسعون الفصل الواحد والتسعون الفصل الثاني والتسعون الفصل الثالث والتسعون الفصل الرابع والتسعون الفصل الخامس والتسعون الفصل السادس والتسعون الفصل السابع والتسعون الفصل الثامن والتسعون الفصل التاسع والتسعون الفصل المائة الفصل الأول بعد المائة الفصل الثاني بعد المائة الفصل الثالث بعد المائة الفصل الرابع بعد المائة الفصل الخامس بعد المائة الخاتمة Notes شكر أولاً أود أن أتقدم بالشكر إلى صديقي المحرر جيسون كاوفمان لجهوده الحثيثة التي قدّمها في العمل على هذا المشروع ولتفهمه العميق للهدف من وراء هذا الكتاب. كما أود أن أشكر أيضاً مديرة أعمالي التي لا مثيل لها وصديقتي الصدوقة التي لا تكلّ ولا تتعب، البطلة الحقيقية وراء شيفرة دافينشي، الرائعة هايدي لانج. كما أنني أعجز عن التعبير عن امتناني العميق لفريق العمل في Double Day لكرمهم وإيمانهم وتوجيههم الرائع لي. أتقدم بشكر خاص إلى بيل توماس وستيف روبن اللذين آمنا بهذا الكتاب منذ البداية. كما أشكر النواة الأولية من مؤيدي المشروع منذ البداية وعلى رأسهم مايكل بالغون وسوزان هيرز وجانيل موبرغ وجاكي إيفرلي وإيدريان سباركس، إضافة إلى فريق قسم المبيعات الموهوب في دبل داي. وتقديري العظيم لكافة أعضاء فريق دار نشر ترانسوورلد في لندن، وأخصّ بالشكر بيل سكوت كير وجوديث ويلش. وأشكر أيضاً آبنر ستاين لأنها جمعتنا مع بعضنا البعض. أود أن أقدّم جزيل الشكر والتقدير لمد يد العون الكريمة والمساعدة في الأبحاث الخاصة بهذا الكتاب إلى كل من متحف اللوفر ووزارة الثقافة الفرنسية ومشروع غوتنبرغ والمكتبة الوطنية ومكتبة الجمعية الغنطوسية وقسم دراسة اللوحات وإدارة التوثيق في اللوفر إضافة إلى محطة العالم الكاثوليكي الإخبارية ومرصد غرينويتش الملكي وجمعية لندن للسجلات ومجموعة الوثائق في دير ويسمينستر وجون بايك واتحاد العلماء الأمريكيين والأعضاء الخمسة في أوبوس داي (ثلاثة من النشطاء واثنين من الأعضاء القدامى) الذين رووا حكاياتهم السلبي منها والإيجابي في ما يخصّ تجاربهم داخل أوبوس داي. أقدم امتناني أيضاً إلى مكتبة واتر ستريت لتعقبها الكثير من كتبي وأبحاثي وإلى والدي ريتشارد براون – المؤلف وأستاذ الرياضيات - الذي ساعدني في ما يتعلّق بأمر فاي والنسبة المقدسة وإلى مايكل ويندسور وستان بلانتون وسيلفي بودلوك وبيتر ماك غويغان ومارجي واكتل وآندريه فيرنيه وكين كيلليهير في آنكر ويب ميديا وكارا سوتاك وكارين بوبهام وإيسترسانغ وميريام أبرامويتز وويليام تانستول - بيدو وسايمون إدواردز وغريفين وودن براون. وأخيراً فإنني. في رواية ترتكز بعمق على الأنثى المقدسة قد أكون مهملاً ومقصراً إذا لم أذكر الامرأتين الرائعتين اللتين كان لهما الأثر الأكبر في حياتي. أولاً والدتي كوني براون - وهي مؤلفة زميلة ومربية عظيمة وموسيقية وفوق كل ذلك مثلي الأعلى. وزوجتي بلايث - وهي مؤرخة في الفن ورسامة ومحررة رئيسة وهي دون أدنى شك أكثر امرأة موهوبة عرفتها في حياتي. حقائق جمعية سيون (صهيون ) الدينية - هي جمعية أوروبية سرية تأسست عام 1099م وهي منظمة حقيقية. في عام 1975 اكتشفت مكتبة باريس الوطنية مخطوطات عرفت باسم الوثائق السرّية، ذكرت فيها أسماء أعضاء عدة انتموا إلى جمعية سيون الدينية ومن ضمنهم السير إسحق نيوتن وساندرو بوتيشلّي وفيكتور هوجو وليوناردو دافنشي. المجموعة الأسقفية الفاتيكانية التي تعرف باسم أوبوس داي هي مذهب متشدد كاثوليكي وهو حديثاً مثار جدل بسبب تقارير أفادت عن غسيل للأدمغة والإكراه والقسر والقيام بممارسات خطيرة تعرف "بالتعذيب الجسدي الذاتي". وقد أتمّت أوبوس داي لتوّها بناء مقر عالمي لها في 243 جادة ليكسينغتون في مدينة نيويورك، بتكلفة بلغت 47 مليون دولار أمريكي. إن وصف كافة الأعمال الفنية والمعمارية والوثائق والطقوس السرّية في هذه الرواية هو وصف دقيق وحقيقي. مقدمة متحف اللوفر، باريس 10:46 ليلاً هرع قيّم المتحف المعروف جاك سونيير مترنّحاً عبر الممر المقبب لصالة العرض الكبرى في المتحف واندفع بقوة نحو أقرب لوحة استطاع رؤيتها، لوحة لكارافاجّو، ثم انتزع إطارها المذهّب ورفع سونيير ذو السادسة والسبعين عاماً التحفة بكل ما أوتي من قوة وشدها باتجاهه حتى تمزقت وانفصلت تماماً عن الحائط ثم انهار متراجعاً وسقط متكوماً تحت قماش اللوحة. وكما كان قد توقع، سقطت البوابة الحديدية بالقرب منه محدثةً صوتاً كقصف الرعد بحيث سدّت المدخل المؤدي إلى الجناح مما أدى إلى اهتزاز الأرضية الخشبية بعنف ومن ثم انطلاق صفارة الإنذار. تربص القيّم مستلقياً للحظات في مكانه يلهث محاولاً التقاط أنفاسه ساكناً كصنم. لا زلت حياً. زحف بعيداً ليخرج من تحت قماش اللوحة وأمعن النظر في الفراغ أمامه محاولاً إيجاد مكان يختبئ فيه. واقشعر جسده من الصوت الذي أتاه من مكان قريب جداً منه. "مكانك لا تتحرك". لدى سماعه ذلك تسمّر القيّم في مكانه جاثياً على يديه وركبتيه دون حراك وأدار رأسه ببطء. وعلى بعد خمسة عشر قدماً 450 سنتيمتراً فقط، خارج البوابة المقفلة، حدّق فيه الخيال الضخم لمهاجمه عبر القضبان الحديدية. كان عريض المنكبين طويلاً ذا بشرة شاحبة كالأشباح وشعرٍ خفيفٍ أبيض وحدقتين زهريتين وبؤبؤين حمراوين داكنين. سحب الأبرص من معطفه مسدساً ووجه أسطوانته عبر القضبان مباشرة نحو القيّم، "كان يجب ألا تهرب". لم يكن من السهل تحديد لهجته. "قل لي الآن أين هو". "لقد سبق وقلت لك"، تمتم القيّم وهو يركع خائر القوى على أرض صالة العرض. "ليست لدي أدنى فكرة عما تتحدث عنه!". "كاذب". وحدق فيه الرجل، متسمّراً مكانه تماماً دون حراك في ما عدا ذلك الوميض الخافت المنبعث من عينيه الغائرتين. "أنت وأعضاء الأخوية تملكون شيئاً لا يخصّكم". لدى سماعه ما قاله الرجل، أحس القيّم باندفاع موجة من الأدرينالين في جسمه. كيف له أن يعرف ذلك؟ "الليلة سيعود إلى الأوصياء الحقيقيين ذوي الحق بحفظه. قل لي الآن أين هو مخبأ وسوف أتركك تعيش. وسدّد الرجل مسدسه إلى رأس القيّم. "هل هذا السرّ قيّم لدرجة أن تضحي بحياتك من أجله؟". لم يعد سونيير يقوى على التنفس. أدار الرجل رأسه متأملاً أسطوانة مسدسه فرفع سونيير يديه دفاعاً عن نفسه وقال ببطء "انتظر"، "سأقول لك ما تريد معرفته". وتفوه القيّم بكلماته التالية بحذر وتأنٍ، فالكذبة التي رواها كان قد تدرب على قولها عدة مرات في السابق... وكان كل مرة يرجو ألا يضطر إلى استخدامها أبداً. وعندما كان قد انتهى القيّم من الكلام ابتسم مهاجمه بخبث، "نعم هذا تماماً ما قاله لي الآخرون". تراجع سونيير... الآخرون؟ "لقد عثرت عليهم أيضاً"، تبجح الرجل الضخم بسخرية "الثلاثة الآخرون أكدوا لي ما قد قلته لتوك". مستحيل! فهوية القيّم الحقيقية وهوية مساعديه الثلاثة الكبار كانت ذات قدسية تكاد تساوي قدسية السرّ القديم الذي يحمونه. وأدرك سونيير الآن أن مساعديه قد اتبعوا الإجراءات الحازمة التي تتخذ في مثل هذه الحالة ورووا ذات الكذبة قبل أن يتم قتلهم. ذلك كان جزءاً من البروتوكول. وجه مهاجمه مسدسه من جديد نحوه "عندما تموت سأكون أنا الوحيد الذي يعرف الحقيقة". الحقيقة. في لحظة واحدة استوعب القيّم الرعب الحقيقي الذي يكمن وراء هذا الموقف. إذا متّ ستضيع الحقيقة إلى الأبد. اندفع القيم غريزياً يزحف محاولاً الاختباء. دوى صوت المسدس وأحس القيّم بحرارة لافحة من الرصاصة التي استقرت في معدته، ووقع إلى الأمام... مقاوماً الألم الذي يعتصره. ارتد سونيير بجسده إلى جهة القضبان وحدق بمهاجمه. عندئذ كان الرجل يقوم بتسديد رصاصة قاتلة إلى رأس سونيير. أغمض سونيير عينيه، وأفكاره تدور في دوامة من الخوف والندم. دوى صدى قرقعة صادر من غرفة فارغة عبر الممر ففتح القيّم عينيه بسرعة. نظر الرجل إلى سلاحه كما لو أنه كان يقضي وقتاً ممتعاً وهم بإطلاق رصاصة أخرى لكنه بعد ذلك بدا وكأنه أعاد النظر في ما سيفعل وقال بهدوء وهو ينظر إلى بطن سونيير مفتعلاً ابتسامة فارغة "لقد انتهى عملي هنا". نظر القيّم إلى الأسفل ورأى الثقب الذي أحدثته الرصاصة في قميصه الكتاني الأبيض. كان مؤطراً بدائرة صغيرة من الدم على بعد إنشات (سنتيمترات) قليلة إلى الأسفل من قفصه الصدري. معدتي... لقد أخطأت الرصاصة بلا رحمة قلبه. وكمحارب قديم شارك في حرب الجزائر، فقد شهد القيّم من قبل هذا النوع المرعب من الموت البطيء، فسوف يعيش لخمس عشرة دقيقة حيث تتدفق أحماض معدته مسرعة نحو قفصه الصدري مسممة ببطء جسمه من الداخل. قال له الرجل قبل أن يخرج: "سيدي الألم شيء جيد" ثم ذهب. وحيداً الآن، أشاح جاك سونيير بنظره محدقاً من جديد بالبوابة الحديدية، لقد كان محبوساً والأبواب قد لا تفتح ثانية لفترة لا تقل عن عشرين دقيقة، وريثما يصل أي أحد إليه سيكون قد مات. وعلى الرغم من ذلك فإن الخوف الذي سيطر عليه الآن كان أكبر بكثير من خوفه من الموت. يجب أن أنقل السرّ. وهو يحاول الوقوف على قدميه مترنحاً، تخيل إخوته الثلاثة الأعضاء قتلى، ثم فكر بالأجيال التي كانت قد سبقتهم... وبالمهمة التي ائتمنوا عليها جميعاً. سلسلة من المعرفة لا تنقطع. وفجأة الآن وبالرغم من كل التحذيرات والمسؤولية الملقاة على كاهله... كان جاك سونيير هو الصلة الوحيدة المتبقية، الوصي الوحيد على أحد أقوى وأعظم الأسرار التي تم حفظها حتى الآن. حاول جاك الوقوف على قدميه وهو يرتجف. يجب أن أجد طريقة ما... لقد كان محبوساً داخل الغاليري وثمة شخص واحد فقط يستطيع أن يمرر إليه الشعلة. نظر سونيير محدقاً إلى الأعلى حيث جدران سجنه الفاخر الذي تزينه مجموعة من أشهر اللوحات في العالم والتي بدت كما لو أنها تبتسم كصديقة قديمة. مع أنه كان يتلوى من الألم استجمع كل قوته وقدرته على التحمل. فالمهمة الخطيرة التي تنتظره قد تتطلب كل ثانية متبقية من حياته. الفصل الأول استفاق روبرت لانغدون ببطء. كان هناك هاتف يرن، رنّة ضعيفة وغير مألوفة. تخبّط باحثاً عن المصباح الموجود على طرف السرير ثم أضاءه. وبعينين نصف مغمضتين نظر حوله ليجد نفسه في غرفة فاخرة بطراز عصر النهضة مفروشة بديكور لويس السادس عشر وجدرانها مزينة بلوحة جصيّة رسمت يدوياً مع سرير كبير من الماهوغاني ذي قوائم أربع مرتفعة. أين أنا بحق الجحيم؟ نظر إلى ثوب الحمام الجاكارد المعلق بالقرب من سريره فوجد أنه يحمل شعار فندق ريتز باريس. شيئاً فشيئأ بدأت الغمامة تنجلي. رفع لانغدون سماعة الهاتف "ألو؟". قال المتحدث: "السيد لانغدون؟" "أرجو ألا أكون قد أيقظتك؟". نظر لانغدون وهو ما زال دائخاً إلى الساعة الموجودة بالقرب من سريره، كانت 12:32 ليلاً، لم يمضِ على نومه سوى ساعة واحدة فقط، لكنه كان يشعر كما لو أنه ميت. "أنا عامل الاستقبال سيدي، أعتذر لتطفلي لكن لديك زائر وهو يصر أن يراك لأمر عاجل". لا زال لانغدون يشعر بأنه مشوش، زائر؟ تركزت عيناه الآن على بطاقة مرمية على الطاولة بالقرب من سريره. الجامعة الأمريكية في باريس تتشرف بتقديم أمسية مع روبرت لانغدون أستاذ علم الرموز الدينية في جامعة هارفرد همهم لانغدون متأوهاً، إنها المحاضرة التي ألقاها الليلة - التي قدّم فيها عرضاً مرئياً عن الرمزية الوثنية المتوارية في أحجار كاتدرائية شارتر - لا بد أنها ضربت على الأوتار الحساسة لبعض الحضور من المحافظين. على الأرجح أن أحد الطلاب المتدينين قد لحق بي ليتشاجر معي. "أنا آسف" قال لانغدون، "لكنني أشعر بتعب شديد و -". "لكن سيدي"، أصر عامل الاستقبال، خافضاً صوته حتى أصبح هامساً بإلحاح، "ضيفك رجل مهم". لم يكن لانغدون ليشك في ذلك فكتبه حول الرسومات الدينية وعلم الرموز جعلت منه معارضاً مشهوراً في عالم الفن. وفي العام الماضي ازدادت قوة حضور لانغدون وشهرته بشكل كبير بعد تورطه في حادثة في الفاتيكان أخذت أبعاداً إعلانية أكبر من حجمها. ومنذ ذلك الحين بدا كما لو أن سيل المؤرخين المغرورين وعتاة أهل الفن الذين يريدون رؤيته، لن يتوقف أبداً. "لو سمحت"، قال لانغدون باذلاً أقصى جهده ليحافظ على أدبه "هلاّ تقوم بتسجيل اسم الرجل ورقم هاتفه وتقول له إنني سأحاول الاتصال به قبل أن أغادر باريس يوم الثلاثاء؟ شكراً لك". ثم أغلق الخط قبل أن يترك مجالاً لعامل الاستقبال أن يعترض. جلس لانغدون الآن مقطباً ينظر إلى طرف سريره، كتيب علاقات الضيوف الذّي كتب بخط عريض على غلافه: نم كطفل في مدينة الأضواء، نم في ريتز باريس. استدار لانغدون وحدق بتعب في المرآة الطويلة في آخر الغرفة. إن الرجل الذي يراه في المرآة كان رجلاً غريباً ومتعباً. روبرت، أنت بحاجة إلى عطلة. لقد أتعبته كثيراً السنة الماضية لكنه لم يكن سعيداً برؤية الدليل على ذلك في المرآة، فعيناه الزرقاوان اللتان عادة تكونان حادتين تبدوان الليلة مشوشتين وغائرتين. أما فكه السفلي الحاد ونقرة ذقنه فقد غطاهما لون غامق بسبب لحيته التي نمت. وحول صدغيه أخذ بعض الشعر الرمادي يمتد بعمق شاقاً طريقه نحو شعره الخشن الكثيف الأسود. وبالرغم من أن زميلاته أكّدن أن الرمادي من شأنه أن يعكس المظهر الأكاديمي المثقف الذي يتمتع به إلا أن ذلك لم يقنعه البتة... لو أن مجلة بوسطن تراني الآن. ففي الشهر الماضي، مما سبب للانغدون إحراجاً، حدث أن مجلة بوسطن كانت قد صنفته على أنه أحد أكثر الرجال جاذبية في المدينة - وهو شرف مشكوك بأمره جعله مثاراً لتعليقات لا نهاية لها من زملائه في هارفرد. والليلة على بعد ثلاثة آلاف ميل من الوطن، كانت قد عادت الضجة حول هذا الموضوع لتطفو على السطح وتلاحقه في المحاضرة التي ألقاها. "سيداتي وسادتي..." أعلنت مقدمة المحاضرة أمام جميع الحضور في الجناح الكبير للجامعة الأمريكية في باريس، "ضيفنا اليوم هو بغنى عن التعريف. إنه مؤلف عدة كتب منها: الرمزية في المذاهب السرّية وفن الطبقة المستنيرة ولغة الكتابة الرمزية الضائعة، وعندما أقول إنه ألف الكتاب الذي يتحدث عن الأيقونات الدينية فأنا أعني ذلك حرفياً. فالكثير منكم يعود إلى كتبه كمراجع جامعية". وعلى هذا أومأ الطلاب موافقين بحماس. "وكنت قد خططت بأن أقدمه الليلة بالحديث عن سيرته الذاتية. إلا أن..." ونظرت بمرح إلى لانغدون الذي كان جالساً على المنصة. "أحد الحضور هنا أعطاني لتوه تقديماً عن الأستاذ لانغدون ربما يكون... أكثر جاذبية..." ورفعت نسخة من مجلة بوسطن. انكمش لانغدون على نفسه متمتماً يا إلهي من أين حصلت على المجلة؟ وبدأت مقدمة المحاضرة بقراءة ما كتب في ذلك المقال التافه، وأحس لانغدون أنه يتضاءل شيئاً فشيئاً في كرسيه. بعد ذلك بثلاثين ثانية أخذ الحضور يهمسون مبتسمين ولم تكن مقدمة المحاضرة لتتوقف وتدعه وشأنه بل تابعت كلامها "وإن رفض السيد لانغدون الإدلاء بوجهة نظره أمام الرأي العام حول دوره الاستثنائي في اجتماع الفاتيكان السرّي السنة الماضية، أكسبه بالتأكيد نقاطاً إضافية في مقياسنا للجاذبية والغموض". وأضافت المقدمة مستفزة الحضور "أتريدون أن تسمعوا المزيد؟". وصفّق الحضور... أرجوكم فليوقفها أحد، أخذ لانغدون يتوسل في نفسه وهي تغوص من جديد في المقال. "وبالرغم من أن البروفيسور لانغدون قد لا يعتبر بوسامة أساتذتنا الأصغر سناً إلا أن هذا الأكاديمي البالغ من العمر أربعين عاماً ونيفاً يتمتع بجاذبية فكرية لا يستهان بها أبداً، فحضوره الآسر يتوجه صوته الرجولي الخافت الفريد من نوعه الذي تصفه طالباته بأنه شوكولاتة الآذان". وانفجرت القاعة بالضحك. افتعل لانغدون ابتسامة مصطنعة فقد عرف ما سيأتي لاحقاً - تعليق سخيف حول ما قيل عنه "هاريسون فورد مرتدياً بذّة صوفية ماركة هاريس" - ولأنه كان قد قدّر هذا المساء أنه سيتمكن أخيراً من ارتداء بذته الصوفية ماركة هاريس وكنزته ماركة بيربيري Burbery بسلام مرة أخرى، لذا قرر أن يفعل شيئاً إزاء ذلك. "شكراً مونيك" قال لانغدون ذلك ووقف قبل أن تنهي كلامها وقام بتنحيتها جانباً عن المنصة ثم أضاف قائلاً:"من الواضح إن مجلة بوسطن تتمتع بخيال واسع". والتفت إلى الحضور وقال متنهداً بحرج" وإذا عرفت من منكم أعطى مونيك المقال فسوف أطلب من القنصلية أن ترحّله". وضحك الحضور لدى سماعهم تعليقه. "حسناً يا شباب، كما تعرفون جميعاً أنا هنا الليلة لأتحدث عن قوة الرموز...". كسر رنين هاتف الفندق مرة أخرى حاجز الصمت الذي خيّم على غرفة لانغدون. همهم لانغدون غير مصدّق، رفع السماعة. "نعم؟". وكما توقع كان ذلك عامل الاستقبال" سيد لانغدون أكرر اعتذاري، لقد اتصلت لأعلمك أن الضيف الذي يريد رؤيتك هو في طريقه إلى غرفتك، فارتأيت أن أنبهك". استفاق لانغدون تماماً الآن "أأرسلت أحداً إلى غرفتي؟". "أنا آسف سيدي لكن رجلاً كهذا... لا أعتقد أن لدي السلطة الكافية لمنعه". "من هو هذا الشخص بالتحديد؟". لكن عامل الاستقبال كان قد أغلق الخط. وعلى الفور أخذت قبضة ثقيلة تطرق باب غرفة لانغدون بقوة. انسلّ لانغدون من سريره بتردد ووقف وهو يشعر أن أصابع قدميه تغرق عميقاً في السجادة الثمينة ثم ارتدى ثوب الحمام الخاص بالفندق وتحرك باتجاه الباب "من هناك؟". "سيد لانغدون؟ يجب أن أتحدث إليك". كان الرجل يتكلم الإنجليزية بلكنة واضحة - ولهجة حادة رسمية وصوت عال. "اسمي الملازم أول جيروم كوليه. الإدارة المركزية للشرطة القضائية". توقف لانغدون للحظة، الشرطة القضائية؟ الشرطة القضائية كانت المرادف القاسي لمكتب التحقيقات الفدرالية في الولايات المتحدة. فتح لانغدون باب الغرفة لعدة إنشات تاركاً سلسلة الأمان الموجودة على الباب مغلقة. كان الوجه الذي يحدق به نحيلاً ومرهقاً وكان الرجل هزيلاً جداً يلبس زياً رسمياً أزرق. سأل رجل الشرطة "أيمكنني الدخول؟". تردد لانغدون غير متأكد إذا ما كان سيسمح له بالدخول بينما كانت عينا الرجل الغائرتان تراقبانه. "ما المشكلة؟". "إن رئيسي بحاجة إلى خبرتك في موضوع خاص". "الآن؟" سأل لانغدون،"لقد تجاوز الوقت منتصف الليل". "هل صحيح أنك كنت هذا المساء على موعد مع القيّم على متحف اللوفر؟". أحس لانغدون فجأة بموجة عارمة من الاضطراب، لقد كان من المفروض أن يقابل القيم الموقر جاك سونيير لاحتساء المشروبات وذلك بعد انتهائه من المحاضرة الليلة، لكن سونيير لم يأت. "نعم، لكن كيف عرفت ذلك؟". "لقد وجدنا اسمك مسجلاً في مفكرته اليومية". "أتمنى ألا تكون هناك مشكلة؟". عندئذ تنهد الشرطي بحزن ومرر إليه صورة فورية عبر فتحة الباب الضيقة. لدى رؤيته للصورة، تسمر لانغدون في مكانه وتصلّب جسده بالكامل. "لقد التقطت هذه الصورة قبل أقل من ساعة داخل اللوفر". وفيما تأمل لانغدون الصورة الغريبة، تحول رد فعله من المفاجأة والصدمة إلى موجة غضب عارمة. "من يمكنه فعل ذلك!". "لقد كنا نرجو أن تتمكن من مساعدتنا على الإجابة عن هذا السؤال بالتحديد نظراً لخبرتك في علم الرموز وعزمك على مقابلته". حدّق لانغدون في الصورة وقد ارتبط رعبه الآن بخوف. لقد كانت الصورة مقززة وشديدة الغرابة، حملت معها إحساساً مضطرباً ينبئه بأنه قد رأى هذا المنظر من قبل. فقبل أكثر من سنة بقليل، كان قد تلقى لانغدون صورة جثة وطلباً للمساعدة شبيهاً بهذا الطلب. وبعد أربع وعشرين ساعة كان قد فقد حياته تقريباً داخل مدينة الفاتيكان. هذه الصورة مختلفة تماماً عن تلك لكن رغم ذلك ثمة شيء ما في سيناريو الأحداث هنا يبدو مألوفاً بشكل مثير للقلق. نظر الشرطي في ساعته "سيدي، إن رئيسي ينتظر". بالكاد سمعه لانغدون. فعيناه لا زالتا متسمرتين في الصورة. "هذا الرمز هنا، والطريقة الغريبة جداً التي يبدو فيها جسده...". تبرع الشرطي قائلاً "متوضّعاً؟". أومأ لانغدون برأسه وهو يحس بقشعريرة تعتري جسده بينما نظر إلى الأعلى "لا يمكنني تخيل من يقدر أن يفعل ذلك بأي أحد". بدا الشرطي متجهماً "سيد لانغدون، أنت لم تفهم، إن ما تراه في هذه الصورة..." وتوقف قليلاً "إن السيد سونيير هو لذي فعل ذلك بنفسه". الفصل الثاني على بعد ميل واحد أخذ الأبرص الضخم المسمى سيلاس يمشي بتثاقل عبر البوابة الأمامية للمسكن الفاخر في شارع لابرويّير. بالرغم من أن حزام الشعر الشائك طوّق فخذه ومزّق لحمه إلا أن روحه كانت تصدح بالرضا لخدمته التي قدمها للرب. الألم جيد.. لدى دخوله المسكن نظر بعينيه الحمراوين مراقباً الردهة. فارغة. صعد الدرج بهدوء كيلا يوقظ زملاءه الأعضاء. كان باب غرفة نومه مفتوحاً، فالأقفال ممنوعة هنا. دخل غرفته وأغلق الباب وراءه. كانت غرفة نومه إسبارطية الطراز، أرضيتها من الخشب القاسي فيها خزانة من خشب الصنوبر وفي الزاوية حصيرة من القنب هي سريره الذي سينام عليه. كان هنا زائراً لهذا الأسبوع إلا أنه كان قد نَعِمَ بملاذ كهذا في مدينة نيويورك. لقد وهبني الرب ملجأً وهدفاً لحياتي. والليلة فقط أحس سيلاس أخيراً بأنه بدأ يوفي دينه، أسرع سيلاس نحو الخزانة ووجد الهاتف النقال المخبّأ في الدرج السفلي وأجرى اتصالاً. "نعم؟" أجاب صوت ذكري. "أيها المعلم، لقد عدت". "تكلّم" أمره الصوت وهو يبدو مسروراً لسماع صوته. "الأربعة ماتوا، المساعدون الثلاثة... والمعلم الأكبر نفسُهُ". كانت هناك وقفة للحظات، كما لو أنها بهدف الصلاة. "إذن، أفترض أن المعلومات بحوزتك". "لقد تطابقت المعلومات التي اعترف الأربعة بها كل على حدة". "وصدّقتهم؟". "إن توافق ما قالوه كان أكبر بكثير من أن يكون مجرد صدفة". وبنفس مبتهج "ممتاز، كنت أخشى أن تنتصر السرّية التامة التي تعرف بها الأخوية". "إن توقّع الموت هو دافع قوي". "هيّا إذاً قل لي يا تلميذي ما عليّ معرفته". كان سيلاس يعلم أن المعلومات التي جمعها من ضحاياه من شأنها أن تصدم معلمه. "يا معلم، لقد أكّد الأربعة جميعهم وجود حجر العقد... مفتاح العقد الأسطوري". وسمع معلمه على الهاتف يأخذ نفساً عميقاً وكان بإمكانه أن يشعر بابتهاجه وسروره. "حجر العقد إذن، كما توقعنا تماماً". وحسب المعلومات، فإن الأخوية قامت بابتداع خريطة من الحجر - مفتاح عقد... أو حجر عقد - هي عبارة عن رقيم عليه نقوش تكشف المخبأ الأخير لسرّ الأخوية الأعظم... معلومات شديدة الخطورة لدرجة أن حمايتها كانت السبب الأساس الذي قامت من أجله الأخوية في المقام الأول. قال المعلم "عندما نحصل على حجر العقد سنكون على بعد خطوة واحدة فقط". "نحن أقرب مما تعتقد، فحجر العقد موجود هنا في باريس". "في باريس، غير معقول، يكاد الأمر يكون سهلاً أكثر من اللازم". سرد سيلاس على المعلم أحداث المساء... وكيف أن كل ضحاياه في اللحظات التي سبقت موتهم قاموا بكشف سرهم وذلك في محاولة يائسة منهم للحفاظ على حياتهم الكافرة. وقد قال كل منهم لسيلاس نفس الشيء تماماً - وهو أن حجر العقد قد خبئ ببراعة في مكان محدد في إحدى كنائس باريس القديمة - كنيسة سان سولبيس. "داخل منزل للرب" تعجب المعلم. "يا لاستهزائهم بنا!". "كما فعلوا لقرون عديدة". صمت المعلم وكأنه يريد الاستمتاع بنشوة الانتصار الذي تحقق في هذه اللحظات بصفاء. وأخيراً تكلم، "لقد أدّيت خدمة عظيمة للرب، فقد انتظرنا لقرون طويلة هذا اليوم. يجب أن تجد هذا الحجر من أجلي، حالاً الليلة. أنت تعرف ما على المحك". كان سيلاس يعلم أن المخاطر كانت لا تحصى إلا أن ما أمره به المعلم الآن بدا مستحيلاً. "لكن الكنيسة، إنها قلعة، وخاصة في الليل. كيف سأدخلها؟". شرح له المعلم ما عليه أن يفعل وذلك بنبرة واثقة لرجل ذي نفوذ هائل. وعندما أغلق سيلاس الخط، كان يحس بوخز خفيف يسري في جلده لدى توقعه ما سيحدث قريباً. ساعة واحدة، قال سيلاس في نفسه وهو ممتن لأن المعلم منحه الوقت كي يقوم بالتكفير عن خطاياه قبل الدخول إلى منزل للرب. يجب أن أطهر روحي من خطايا اليوم. إن الخطايا المرتكبة اليوم كانت مقدسة الهدف، فأفعال الحرب ضد أعداء الرب كانت ترتكب لقرون مضت، لذا فالغفران كان أكيداً. وبالرغم من ذلك فقد كان سيلاس يعلم أن الغفران كان يتطلب التضحية. أسدل سيلاس الستائر وخلع ملابسه وانحنى راكعاً وسط غرفته. نظر إلى الأسفل وتفحص حزام الشعر ذا المسامير (الشائك) يشد على فخذه بإحكام. إن كل الأتباع الحقيقيين للطريقة ارتدوا هذه الأداة - وهي عبارة عن حزام جلدي تتعلق فيه أشواك معدنية حادة تنغرس في اللحم وهي تذكير دائم ومستمر بمعاناة المسيح، إن الألم الذي تسببه هذه الأداة يساعد أيضاً على كبح غرائز الجسد. وبالرغم من أن سيلاس كان قد ارتدى حزامه اليوم لأكثر من الساعتين المقررتين، إلا أنه يعرف أن اليوم هو يوم غير عادي. لذا أمسك بالإبزيم وضّيق الحزام بقدر ثلم واحد، ثم تلوى من الألم حيث أخذت الأشواك تحفر لحمه بعمق أكبر. متنهداً ببطء، تذوق حلاوة الطقس التطهيري لألمه. الألم جيد، همس سيلاس مردداً العبارة المقدسة للأب خوسيه ماريا إسكريفا - المعلم الأكبر لكل المعلمين. بالرغم من أن إسكريفا مات عام 1975، إلا أن حكمته استمرت من بعده، وكلماته لا زال يهمس بها آلاف من الخادمين المؤمنين في كل أرجاء الكرة الأرضية كلما ركعوا على الأرض وقاموا بالممارسة المقدسة المعروفة باسم "التعذيب الجسدي الذاتي". حوّل سيلاس انتباهه الآن نحو الحبل ذي العقد الذي لفّ بعناية على الأرض بجانبه. السوط. كانت العقد معجونة بالدم الناشف. بتلهف للآثار التطهيرية لألمه، تلا سيلاس صلاة سريعة ثم قبض على أحد طرفي السوط وأغمض عينيه ملوّحاً به فوق كتفه وانهال به ضرباً وأحس بالعقد تلسع ظهره، ثم لوّح به فوق كتفه من جديد وأخذ يضرب ويجلد لحمه مرة بعد مرة. العقاب الجسدي الذاتي... أخيراً، أحسّ بدمه يتدفق. الفصل الثالث أخذ هواء نيسان/أبريل البارد يضرب بقوة النافذة المفتوحة "للسيتروين" زد إيكس التي مرت بسرعة باتجاه الجنوب متجاوزة دار الأوبرا حتى قطعت ساحة الفاندوم. وفي المقعد الأمامي أحس روبرت لانغدون بالمدينة تعدو بسرعة أمام عينيه وهو يحاول أن يصفّي ذهنه، لقد جعله الحمام السريع وحلاقة ذقنه يبدو أفضل شكلاً إلى حدٍّ ما إلا أن ذلك لم يكن من شأنه تهدئته والتخفيف من توتره فالصورة المخيفة لجسد القيّم لا زالت عالقة في ذهنه. مات جاك سونيير. لم يكن بوسع لانغدون إلا أن يشعر بإحساس الفقدان العميق لموت القيّم. فعلى الرغم من انعزاليته التي عرف بها إلا أن تميزه في تكريس حياته للفن جعله بحق رجلاً جديراً بالاحترام. وكانت كتبه حول الشيفرات السرّية التي تخفيها لوحات بوسان وتونييه، من أكثر الكتب التي يفضلها لانغدون. وبالنسبة للانغدون فقد كان لقاء الليلة مع سونيير أمر يتوق إليه وقد أصيب بخيبة أمل عندما لم يأتِ القيّم. مرة أخرى برزت فجأة صورة جسد القيّم. جاك سونيير فعل ذلك بنفسه؟ استدار لانغدون وحوّل نظره إلى الخارج محاولاً إخراج تلك الصورة من رأسه. في الخارج، كانت المدينة قد بدأت تستريح وتسترد أنفاسها- فهنا باعة متجولون يجرون عرباتهم المحملة باللوز المغطّس بالسكر، وهناك مضيفو المطاعم يحملون أكياس القمامة ليرموها في الزوايا وهناك أيضاً حبيبان يسهران متضامّين التماساً للدفء في نسائم الليلة المحملة بعبير الياسمين. اجتازت سيارة "السيتروين" الزحام بنفوذ وثقة وصوت صفّارتها المدوي يفرّق المارّة كسكين حادة. "لقد سرّ النقيب عندما عرف بأنك لا زلت في باريس الليلة". قال رجل الشرطة متكلماً للمرة الأولى منذ أن غادرا الفندق. "صدفة سعيدة". كانت تسيطر على لانغدون كل المشاعر إلا السعادة والحظ، أما الصدفة فكانت مفهوماً لا يؤمن به تماماً بصفته شخصاً أمضى حياته في اكتشاف الروابط الداخلية الخفية بين الرموز المختلفة والأيديولوجيات، لقد كان لانغدون يرى العالم على أنه شبكة معقدة من التواريخ والأحداث المرتبطة داخلياً ببعضها بقوة. قد تكون الروابط غير مرئية، غير أنها دائماً موجودة، مدفونة هناك تماماً تحت السطح، هذا ما كان يردده أثناء محاضراته للطلاب في صف علم الرموز في هارفرد. "أعتقد"، قال لانغدون "أنكم عرفتم مكان إقامتي عن طريق الجامعة الأمريكية في باريس، أليس كذلك؟". هز السائق رأسه نافياً، "الإنتربول". الإنتربول، فكر لانغدون، بالطبع.. لقد نسي أن طلب جواز السفر من النزلاء عند الاستقبال في كافة الفنادق الأوروبية، هو ليس طلباً بريئاً كما يبدو وليس إجراءً شكلياً غريباً - إنما هو القانون، ففي أية ليلة وفي أي مكان في أوروبا يستطيع مسؤولو الإنتربول أن يعرفوا على وجه التحديد هوية ومكان أي نزيل كان؛ والعثور على لانغدون في ريتز باريس ربما لم يأخذ من وقتهم أكثر من خمس ثواني. وبينما كانت سرعة "السيتروين" تزداد متجهة عبر المدينة نحو الجنوب، ظهر الجانب المضاء من برج إيفل مشعاً يضيء نوره السماء البعيدة من جهة اليمين. لدى رؤيته لهذا المنظر فكّر لانغدون بفيتّوريا متذكراً الوعد الجميل الذي تعاهدا عليه منذ سنة، وهو أن يتقابلا من جديد كل ستة أشهر في مكان رومانسي ما في الكرة الأرضية يختلف كل مرة. وفكر لانغدون أن برج إيفل يمكنه أن يكون على تلك اللائحة. لكن للأسف آخر مرة قبّل لانغدون فيها فيتّوريا كانت في مطار مزدحم في روما منذ أكثر من سنة مضت. "هل ركبتها؟" سأله رجل الشرطة وهو ينظر إلى الخارج. حملق لانغدون فيه باستغراب متأكداً بأنه أساء الفهم "أستميحك عذراً؟". "إنها رائعة أليس كذلك؟" وأشار بيده من النافذة إلى برج إيفل، "هل ركبتها؟". حوّل لانغدون اتجاه نظره "كلاّ، لم أصعد إلى أعلى البرج". "إنها رمز فرنسا، أعتقد أنها رائعة". أومأ لانغدون برأسه بشرود. فغالباً ما لاحظ علماء الرموز أن فرنسا - البلد المعروف بذكوريته وقادته الشهوانيين قصار القامة وعديمي الثقة بنفسهم كنابوليون وبيبان القصير - لم يكن ليختار رمزاً وطنياً مناسباً لتمثيله أفضل من قضيب بارتفاع ألف قدم. عندما وصلوا إلى التقاطع في شارع ريفولي، كانت الإشارة الضوئية حمراء، إلا أن "السيتروين" لم تخفف من سرعتها بل انطلق رجل الشرطة بالسيارة مسرعاً عبر ملتقى الطرق باتجاه قسم ذي أرضية خشبية من شارع كاستيليون الذي يمثل المدخل الشمالي من حدائق التويلري الشهيرة - النسخة الباريسية من سنترال بارك. وأغلب السياح يترجمونها خطأً على أنها مرتبطة بالآلاف من زهور التوليب التي تزهر هنا، غير أن تويلري في الحقيقة هي مرجع حرفي لشيء أقل رومانسية بكثير. فهذه الحديقة كانت يوماً حفرة ملوثة ضخمة كان المقاولون الباريسيون يعالجون فيها الصلصال لصناعة القرميد أو التويل الذي تشتهر به المدينة. وحال دخولهم الحديقة الخالية مدّ رجل الشرطة يده إلى اللوحة تحت المقود وأطفأ الصفارة المدوية. تنفس لانغدون الصعداء مستمتعاً بالهدوء المفاجئ. وخارج السيارة كان الضوء الباهت الذي تصدره أضواء الهالوجين الأمامية للسيارة، ينحرف منعكساً على الحصى الذي يفرش الطريق المشجّر، وكان ضجيج العجلات الصاخب يحدث نغمة إيقاعية منومة. لطالما اعتبر لانغدون التويلري أرضاً مقدسة، فهذه كانت الحدائق التي قام فيها كلود مونيه بتجاربه حول الشكل واللون وهي التي ألهمت حرفياً ولادة الحركة الانطباعية، لكن الليلة طوقت هذا المكان هالة غريبة من الشؤم. انحرفت "السيتروين" الآن إلى اليسار متجهة إلى زاوية غربية إلى الجنوب من الجادة المركزية للمتنزّه، ثم وهو يدور حول بركة، قطع السائق الطريق عبر طريق مشجر مقفر نحو مساحة مربعة واسعة إلى الوراء. تمكّن لانغدون الآن من رؤية نهاية حدائق التويلري، يميّزها قوس حجري ضخم. قوس كاروسيل. وبالرغم من الطقوس العربيدية التي كانت تتم عند قوس كاروسيل، إلا أن عشّاق الفن يبجلون هذا المكان لسبب مختلف تماماً؛ فمن الممشى الموجود في نهاية التويلري يمكن رؤية أربعة من أروع متاحف الفن في العالم... واحد على كل نقطة من نقاط البوصلة الأربع. فخارج النافذة على يده اليمين، جنوباً عبر السين وضفة فولتير، كان لانغدون يستطيع أن يرى الواجهة المثيرة لمحطة القطار القديمة - والتي أصبحت اليوم متحف أورسي الهام. وبالنظر إلى اليسار، يمكنه أن يلمح قمة مركز بومبيدو الفوق عصري الذي يحتضن متحف الفن الحديث. أما خلفه باتجاه اليسار، فقد تعرف لانغدون على مسلة رمسيس التي ترتفع فوق الأشجار معلّمة متحف جو دو بوم. ولكن إلى الأمام مباشرة من جهة الشرق وعبر القنطرة، استطاع لانغدون أن يرى القصر العظيم الذي يعود إلى عصر النهضة والذي أضحى أشهر متحف للفنون في العالم. إنه متحف اللوفر. أحس لانغدون بشيء من الدهشة وعيناه تحاولان دون طائل استيعاب كتلة البناء بالكامل. فعلى امتداد ساحة واسعة وقفت واجهة المتحف المهيبة مرفوعة الرأس كقلعة تتحدى سماء باريس. كان اللوفر أطول بناء في أوروبا متخذاً شكل حدوة حصان ضخمة ممتداً على مساحة تعادل ثلاثة أبراج إيفل مصفوفة معاً من أولها إلى آخرها. وحتى الساحة المفتوحة بين أجنحة المتحف بمساحتها البالغة مليون قدم مربعة ليس لها أن تضاهي أو حتى تتحدى جلالة ومهابة الواجهة الواسعة. كان لانغدون قد مشى مرة قاطعاً محيط اللوفر بالكامل، كانت رحلة ثلاثة أميال مذهلة. وعلى الرغم من الأيام الخمسة اللازمة، على وجه التقريب، كي يتمكن الزائر خلالها من تقدير قيمة القطع الفنية الخمس والستين ألفاً وثلاثمائة في هذا البناء، إلا أن معظم السياح اختاروا تجربة مختصرة أطلق عليها لانغدون "اللوفر الخفيف" - وهو سباق سريع يعدو خلاله السياح عبر المتحف بأقصى سرعة لرؤية التحف الثلاث الأكثر شهرة وهي الموناليزا وفينوس دي ميلو والنصر المجنح. وقد تبجّح آرت بكوالد مرة أنه رأى التحف الثلاث في خمس دقائق وست وخمسين ثانية. أخرج السائق جهاز إرسال لاسلكي يدوي وتكلم بفرنسية سريعة قائلاً: "لقد وصل السيد لانغدون، دقيقتين وسنكون هناك مسيو لانغدون أه أرّيفه. دو مينيت". وأتى رد مقرقع غير مفهوم من الطرف الآخر. أغلق رجل الشرطة الجهاز واستدار الآن نحو لانغدون "ستقابل النقيب عند المدخل الرئيس". تجاهل السائق الإشارات التي تمنع مرور السيارات في الساحة فشغّل المحرك واندفع مسرعاً "بالسيتروين" إلى الأعلى متجاوزاً المنعطف. لقد أصبح المدخل الرئيس للوفر واضحاً الآن، مرتفعاً بشموخ من بعيد تحيط به سبع برك مثلثة الشكل تنبجس منها نوافير مضاءة إنه الهرم. لقد أصبحت شهرة المدخل الجديد للوفر باريس تكاد تساوي شهرة المتحف نفسه. إلا أن الهرم الزجاجي المثير للجدل الذي صممه المهندس الأمريكي الصيني المولد آي إم باي ذا الطراز الحديث لا زال يثير حفيظة أصحاب المذهب التقليدي الذين شعروا بأنه أهان كرامة الساحة التي تعود إلى عصر النهضة. لقد وصف غوته هندسة العمارة بأنها موسيقى مثلجّة ونقّاد باي وصفوا هذا الهرم بأنه الصوت الكريه لأظافر تجرح سبورة. غير أن المعجبين التقدميين رأوا الهرم الشفاف الذي يبلغ طوله واحداً وسبعين قدماً على أنه تلاحم رائع بين البنية القديمة والمنهج الحديث - صلة رمزية بين القديم والحديث - آخذة بيد اللوفر ليعبر نحو الألفية التالية. سأله رجل الشرطة: "هل أعجبك هرمنا؟". قطّب لانغدون جبينه فالفرنسيون على ما يبدو يروق لهم أن يسألوا الأمريكيين هذا السؤال. كان هذا السؤال مفخخاً، فإذا اعترفت بأن الهرم يعجبك فإن ذلك سيجعل منك أمريكياً عديم الذوق وإذا عبرت عن عدم إعجابك به فبذلك تكون قد وجهت إهانة للفرنسيين. "كان ميتران رجلاً جريئا"ً. أجاب لانغدون، متفادياً الوقوع في فخ الجواب. يقال إن الرئيس الفرنسي السابق الذي أوصى ببناء الهرم كان يعاني مما يسمى "عقدة الفراعنة". فقد كان مسؤولاً لوحده عن إغراق باريس بالمسلات والفن والتحف المصرية، كان فرنسوا ميتران مولعاً بالحضارة المصرية لدرجة أن الفرنسيين إلى اليوم لا زالوا يطلقون عليه اسم أبي الهول. "ما هو اسم النقيب؟" سأل لانغدون، مغيراً الموضوع. "بيزو فاش" قال السائق مقترباً من المدخل الرئيسي للهرم. "نحن نسميه تورو". نظر إليه لانغدون باستغراب متسائلاً ما إذا كان لكل رجل فرنسي صفة غامضة لحيوان ما. "تسمون نقيبكم الثور؟". قطّب الرجل حاجبيه قائلاً: "فرنسيتك أفضل مما تدّعي سيد لانغدون". إن فرنسيتي مريعة، فكر لانغدون، لكن معرفتي برموز الأبراج جيدة جداً. فتاوروس كان دائماً الثور، فعلم الأبراج كان ثابتاً رمزياً لا يتغير في كل أنحاء العالم. أوقف رجل الشرطة السيارة وأشار إلى باب كبير بين نافورتين بجانب الهرم، "هذا هو المدخل، حظاً موفقاً سيدي". "ألن تأتي معي؟". "لدي أوامر بأن أتركك هنا، هناك أمور أخرى يجب أن أقوم بها". تنهّد لانغدون وخرج من السيارة. "كما تريد.. أنت أدرى...". دوّر رجل الشرطة محرّك سيارته وانطلق بها مسرعاً. وقف لانغدون وحيداً مراقباً الأضواء الخلفية للسيارة تختفي، وأدرك أنه يستطيع أن يغير رأيه بسهولة بأن يخرج من الساحة ويستقل سيارة أجرة ويعود أدراجه إلى الفندق لينام. لكن نفسه حدّثته بأن هذه ربما تكون فكرة غبية. وبينما كان لانغدون يتحرك باتجاه رذاذ النوافير شعر لانغدون بإحساس قلق وكأنه على وشك عبور عتبة خيالية إلى عالم آخر. فالشعور الذي خلّفته الأمور التي حدثت هذا المساء وجعلته أقرب ما يكون إلى حلم، عاد فسيطر عليه ثانية. فمنذ عشرين دقيقة فقط كان لانغدون نائماً في غرفته في الفندق، أما الآن فهو واقف أمام هرم شفاف بناه أبو الهول، ينتظر شرطياً يدعى الثور. وفكّر.. لا بدّ أنني مسجون في إحدى لوحات سالفادور دالي. مشى لانغدون بخطى واسعة نحو المدخل الرئيسي - وهو باب دوّار ضخم. وفي الداخل كان البهو مزوداً بإضاءة خفيفة ولا أحد فيه. أأطرق الباب؟ وتساءل لانغدون ما إذا كان أحد زملائه من علماء الآثار المصرية الموقرين في هارفرد، قد طرق الباب الأمامي لهرم يوماً وتوقّع أن يجيبه أحد. ورفع يده ليطرق على الباب الزجاجي، لكنه فوجئ بخيال شخص يأتي من الأسفل في الظلمة، صاعداً بسرعة على الدرج الملتف. كان الرجل قصيراً ممتلئ الجسم أسمر، يبدو كإنسان نياندرتال، يرتدي سترة مبطنة الصدر ضيقة مشدودة لتغطي كتفيه العريضين. تقدم إلى الأمام برجليه القويتين بثقة ونفوذ واضح. كان يتحدث عبر هاتفه النقال لكنه أنهى الاتصال عندما رآه قد وصل، وأشرّ إلى لانغدون ليدخل. "أنا بيزو فاش" قال الرجل بينما كان لانغدون يدفع الباب الدوّار ليدخل. "النقيب في مديرية الشرطة القضائية المركزية". - كانت نبرة صوته تلائمه - فقد كانت تلعلع من بلعومه... كعاصفة مدوّية. مدّ لانغدون يده ليصافحه، "روبرت لانغدون". طوّق كف فاش الضخم يد لانغدون بقوة ساحقة. "لقد رأيت الصورة" قال لانغدون، "قال لي رجل الشرطة إن جاك سونيير قام بنفسه بـ...". "سيد لانغدون" وتسمّرت عينا فاش الأبنوسيتين "ما تراه في الصورة هو البداية فقط مما فعله سونيير". الفصل الرابع تحرّك النقيب بيزو فاش كثور غاضب بكتفيه العريضين المشدودين إلى الوراء وذقنه الملتصقة تماماً بصدره. كان شعره ممشطاً إلى الخلف مدهوناً بالزيت وقد برزت من مقدمة رأسه خصلة شعر بشكل سهم يقسم حاجبيه الكثّين، بارزة إلى الأمام كمقدمة سفينة حربية. وبينما كان يمشي بدت عيناه الغامقتان كما لو أنهما تحرقان الأرض أمامه فتشعّ صفاء ذهن متّقد ينبئ عما عرف عنه من حزم كالصخر في معالجة كل الأمور. تبع لانغدون النقيب نزولاً إلى الأسفل عبر الدرج الرخامي المشهور المؤدي إلى القاعة المركزية التي تقع تحت الهرم الزجاجي. وبينما كانا ينزلان مرّا بحارسين من الشرطة القضائية مسلحين برشاشات، كانت بالطبع الرسالة من وراء ذلك واضحة فالليلة لا أحد سيدخل أو يخرج دون بركة النقيب فاش. ونزولاً إلى الطابق تحت الأرضي، حاول لانغدون مقاومة شعوره بالذعر المتزايد، فقد كان وجود فاش يبعث على الكآبة كما أن اللوفر نفسه كان أشبه بقبر في هذه الساعة من الليل. أما الدرج فبدا كما لو أنه ممر مظلم لقاعة سينما بإضاءته الخفيفة، مخفية ضمن الدرجات تعمل بضغط القدم على كل درجة من الدرجات. كان لانغدون يستطيع سماع صدى خطواته مدوية عبر الزجاج فوقه. وبينما نظر إلى الأعلى استطاع رؤية خيوط باهتة من الرذاذ المضيء المنبعث من النوافير التي تختفي بعيداً خارج السقف الشفاف. "هل أعجبك؟" سأل فاش، مشيراً إلى الأعلى بإيماءة من ذقنه العريضة. تنهد لانغدون وهو منهك جداً لدرجة أنه ليس بمزاج يتحمل الألاعيب، "نعم، هرمكم مذهل". تمتم فاش قائلاً: "إنه ندبة على وجه باريس". الضربة الأولى لصالح فاش. أحس لانغدون أن مضيفه كان رجلاً صعب الإرضاء؛ وتساءل في نفسه إذا ما كان فاش يعرف أن هذا الهرم، وحسب طلب ميتران الصريح، قد بني باستخدام 666 لوحاً زجاجياً بالضبط - وهو طلب غريب لطالما كان موضع جدل ساخن بين المتحمسين لنظرية المؤامرة الذين ادعوا بأن 666 كان رقم الشيطان. قرر لانغدون عدم إثارة هذا الموضوع. وعندما نزلوا إلى أسفل نحو الردهة التحأرضية، كانت المساحة الواسعة تبثق من العتمة شيئاً فشيئاً. كانت ردهة اللوفر التي بنيت حديثاً بمساحة 70,000 قدم مربعة وبعمق خمسة وسبعين قدماً تحت مستوى الأرض، كانت تمتد ككهف لا يمكن سبر أغواره. وقد استخدم في بنائها الرخام الأصفر الداكن كي يتوافق مع لون الحجر العسلي المستخدم في بناء الواجهة في الأعلى، هذه القاعة الواقعة تحت الأرض التي عادة تكون نابضة بالحياة بضوء الشمس والسياح، كانت الليلة مقفرة معتمة صابغة جو المكان بالكامل بالبرودة وظلمة القبور. سأل لانغدون "ماذا عن موظفي أمن المتحف النظاميين؟". "محتجزون مؤقتاً"، أجاب فاش كما لو أن لانغدون كان يشكك في كفاءة فريقه، من الواضح أن أحداً حصل على إذن بالدخول دون حق بذلك؛ لذا فإن كافة الحراس الليليين هم الآن قيد الاستجواب في جناح سولي وأخذ عملائي الخاصون على عاتقهم أمن المبنى لهذا المساء". هز لانغدون رأسه إيجاباً وهو يحاول اللحاق بخطى فاش. سأل النقيب: "ما مدى معرفتك بجاك سونيير؟". "في الواقع أنا لا أعرفه نهائياً فنحن لم نلتقِ قط". بدا فاش متفاجئاً "هل كان أول لقاء لك به سيكون الليلة؟". "نعم، فقد قررنا أن نلتقي الليلة في حفل الاستقبال في الجامعة الأمريكية بعد محاضرتي مباشرة لكنه لم يحضر". كتب فاش على عجل بعض الملاحظات في دفتر صغير. وبينما هما يمشيان، ألقى لانغدون نظرة خاطفة على الهرم الأقل شهرة في اللوفر - الهرم المقلوب - وهو عبارة عن منور ضخم معلّق في السقف نازل منه وكأنه هابط كلسي في مغارة، بقسمه المجاور للطابق المنخفض بين الطابقين الرئيسين. قاد فاش لانغدون إلى الأعلى عبر مجموعة قصيرة من الدرجات وصولاً إلى مدخل نفق مقنطر كتبت عليه كلمة دينون، كان جناح دينون أكثر الأجنحة شهرة بين الأقسام الثلاثة الرئيسة في اللوفر. "من الذي طلب لقاء الليلة؟" سأل فاش فجأة، "أنت أم هو؟". بدا السؤال غريباً، "السيد سونيير هو الذي طلب اللقاء" أجاب لانغدون بينما كانا يدخلان النفق، "فقد اتصلت بي سكرتيرته قبل بضعة أسابيع عبر البريد الإلكتروني، وقالت لي إن القيّم سمع بأنني سألقي محاضرة في باريس هذا الشهر وأراد مناقشة أمر ما معي في أثناء وجودي هنا". "ما الذي أراد مناقشته؟". "لا أعلم، بتصوري قد يكون أمراً متعلقاً بالفن، فنحن لدينا اهتمامات مشتركة". بدا فاش مرتاباً. "ليست لديك أي فكرة حول ماذا كان سيدور لقاؤكما؟". لم يكن لانغدون يعلم، لقد أثار ذلك فضوله وقتها لكنه لم يكن مرتاحاً لفكرة طلب تفاصيل عن اللقاء. فقد كان للمحترم جاك سونيير ميل معروف للخصوصية كما أنه كان قليلاً ما يتكرم بالاجتماع بأي أحد. كان لانغدون ممتناً لمجرد حصوله على فرصة لمقابلته. "سيد لانغدون، هل لك على الأقل أن تخمن ما الذي كان ضحيتنا الذي قتل يريد مناقشته معك ليلة مقتله؟ قد يساعدنا هذا". جعلت حدة هذا السؤال لانغدون يشعر بالتوتر، "حقيقة لا يمكنني تخيل السبب، فأنا لم أسأل، وقد كان لي الشرف لمجرد اتصاله بي أصلاً. فأنا أحد المعجبين بأعمال السيد سونيير وأستخدم في أغلب الأوقات نصوصه في المحاضرات التي ألقيها". قام فاش بتسجيل هذه الواقعة في دفتره. كان الرجلان الآن في منتصف الطريق إلى الأعلى من مدخل نفق جناح دينون، وكان بإمكان لانغدون رؤية السلّمين التوأمين الصاعدين دون حراك في النهاية البعيدة من المدخل. "إذن كانت لديك اهتمامات مشتركة معه" سأل فاش. "في الواقع، نعم فقد أمضيت معظم السنة الماضية أكتب مسودة كتاب يتعلق بشكل مباشر باختصاص السيد سونيير الأساسي. لقد كنت أتوق إلى التقاط دماغه". ونظر إليه فاش قائلاً: "عفواً؟". من الواضح أن العبارة الاصطلاحية هذه لا تترجم، "لقد كنت أتوق إلى أن أنهل من أفكاره حول هذا الموضوع". "نعم هذا واضح، وما هو هذا الموضوع؟". تردد لانغدون، غير متأكد تماماً من كيفية صياغة الموضوع، "إن المخطوطة في الأساس هي حول علم الأيقونات المتعلق بعبادة الآلهة الأنثى - أي مفهوم قدسية الأنثى وما يرافقها من الفن والرموز". مرر فاش يده الممتلئة في شعره قائلاً: "وسونيير كان على اطلاع بهذا الموضوع؟". "أكثر من أي أحد". "فهمت". شعر لانغدون بأن فاش لم يفهم على الإطلاق، فقد كان سونيير يعتبر عالم أيقونات الآلهة الأنثى الأول على وجه الأرض. ولم يكن سونيير ذا ولع شخصي بالآثار وعبادات الآلهة الأنثى وعبادة الطبيعة والأنثى المقدسة فحسب، لكنّه وخلال العشرين عاماً التي شغل فيها منصب القيّم، ساعد أيضاً على اقتناء اللوفر لأكبر مجموعة متعلقة بفن الآلهة موجودة في الكرة الأرضية - مثل فؤوس لابريس من كاهنات أقدم ضريح يوناني في دلفي وصولجانات ذهبية ومفاتيح عنخ التي تشبه ملائكة صغيرة في وضعية الوقوف وصلاصل وخشاخيش كانت تستخدم في مصر القديمة لطرد الأرواح الشريرة بالإضافة إلى عدد كبير من التماثيل التي تصور حورس ترضعه الإلهة إيزيس. "ربما عرف جاك سونيير بأمر مخطوطتك؟" اقترح فاش، "لذا طلب مقابلتك ليعرض عليك مساعدته بخصوص كتابك". هز لانغدون رأسه نافياً، "في الحقيقة لا أحد يعلم بعد بأمر كتابي، لأنه لا زال على شكل مسودة، إضافة إلى أنني لم أعرضه على أي أحد فيما عدا محرري". عندئذ صمت فاش. لم يوضح لانغدون السبب الذي دعاه لعدم عرض المخطوطة على أيٍّ كان سوى المحرر. فالمسودة التي بلغ عدد صفحاتها ثلاثمائة صفحة - والتي عنونها مؤقتاً رموز الأنثى المقدسة الضائعة - قد اقترحت بعض التأويلات التي بمعظمها تعدّ غير تقليدية إلى حدٍّ بعيد لأيقونات دينية ثابتة، والتي من شأنها بكل تأكيد إثارة الجدل. الآن بينما كان لانغدون يقترب من درج المكتبة، توقف مدركاً أن فاش لم يعد بجانبه، فالتفت ورأى فاش يقف على بعد عدة ياردات إلى الوراء عند مصعد للخدمة. "سنستقل المصعد"، قال فاش ذلك وقد فتحت أبواب المصعد، "بما أنني متأكد أنك تعرف أن الوصول إلى صالة العرض مشياً على الأقدام هو أمر صعب". بالرغم من معرفة لانغدون أن المصعد قد يختصر صعود السلالم الطويل لمسافة طابقين للوصول إلى جناح دينون، إلا أنه بقي متسمراً في مكانه بلا حراك. "هل أنت على ما يرام؟" كان فاش ينتظر بضيق مثبتاً باب المصعد. تنهد لانغدون وهو يرجع نظره برغبة نحو السلالم الكهربائية المفتوحة، لا توجد هناك أي مشكلة على الإطلاق، كذب على نفسه وهو يعود أدراجه بتثاقل باتجاه المصعد. عندما كان لانغدون صغيراً وقع في بئر مهجورة وكاد يموت وهو يحاول تجنب الغرق بيديه وقدميه في مكان ضيق وبقي على تلك الحال لساعات إلى أن تم إنقاذه. ومنذ ذلك الحين، انتابه رهاب من الأماكن المغلقة كالمصاعد وقطارات الأنفاق صالات السكواش. إن المصعد آلة آمنة تماماً، هذا ما كان يردده لنفسه دائماً دون أن يصدق ذلك أبداً. إنه صندوق معدني ضئيل معلق في ممرّ مغلق! دخل إلى المصعد وهو حابس نفسه مستشعراً ذلك الاندفاع المألوف للأدرينالين عندما انغلقت أبواب المصعد. طابقين يعني عشر ثوانٍ. "أنت والسيد سونيير"، قال فاش فيما بدأ المصعد يتحرك، "لم تتحدثا مع بعض أبداً؟ ولم تتراسلا نهائياً؟ ولم يرسل أحدكما للآخر أي شيء بالبريد؟". سؤال آخر غريب. هز لانغدون رأسه نافياً، "كلا، أبداً". أمال فاش رأسه وكأنه يسجل ملاحظة ذهنية بتلك الواقعة، ولم يقل أي شيء بل حدق في الفراغ إلى الأمام نحو أبواب الكروم. وأثناء الصعود، حاول لانغدون التركيز على أي شيء إلا الجدران الأربعة التي تحيط به. وفي انعكاس الصورة على باب المصعد اللامع، رأى مشبك ربطة عنق النقيب - وهو صليب فضي مطعّم بثلاث عشرة قطعة من العقيق الأسود. وقد وجد لانغدون ذلك غريباً بعض الشيء. فهذا الرمز كان معروفاً باسم كروكس جيمّاتا - أي الصليب الذي يحمل ثلاثة عشر حجراً كريماً - وهو رمز مسيحي يدل على المسيح ورسله الاثني عشر. لسبب ما لم يتوقع لانغدون أن نقيباً في الشرطة القضائية الفرنسية يعلن دينه بهذه الطريقة إلى الملأ. لكن من جهة أخرى هذه فرنسا حيث المسيحية ليست ديناً بقدر ما هي حق يكتسب بالولادة. قال فاش على حين غرّة: "إنها كروكس جيمّاتا". نظر لانغدون إلى أعلى مذهولاً ليرى عيني فاش تنظر إليه في الانعكاس على باب المصعد. ارتجّ المصعد ثم توقف وفتحت الأبواب. خطا لانغدون مسرعاً إلى الخارج باتجاه الممر يتوق إلى الفضاء الواسع الرحب الذي تمنحه الأسقف العالية لصالات عرض اللوفر. إلا أن العالم الذي دخله الآن كان بعيداً تماماً عن كل توقعاته. وتوقف لانغدون للحظات مذهولاً. رمقه فاش بنظرة قائلاً: "يهيّأ لي سيد لانغدون أن هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها اللوفر بعد انتهاء أوقات الزيارة؟". أعتقد ذلك، فكر لانغدون محاولاً ألا يفقد أعصابه. كانت صالات عرض اللوفر مظلمة بشكل مروّع تلك التي تكون عادة مضاءة بصورة مذهلة، فعوضاً عن الأضواء الاعتيادية البيضاء التي تأتي من الأعلى تغمر المكان بالنور والضياء، كان هناك بريق أحمر داكن يبدو كأنه ينبعث نحو الأعلى من اللوحات السفلية - وهي رقعات متقطعة من الضوء الأحمر تنتشر على الأرضيات. وفيما حدّق لانغدون في نهاية الممر المظلم، أدرك بأنه كان عليه أن يتوقع هذا المنظر حيث أن كل صالات العرض الكبرى عملياً، تستخدم أضواء الخدمة الحمراء ليلاً – متوضّعة بشكل مدروس، ذات إنارة خافتة غير مؤذية، تمكّن أعضاء طاقم الحراسة من التجول في الممرات والقاعات، مع حفظ اللوحات في ظلام نسبي لإبطاء آثار بهتان اللون المؤذية التي تحدث من جرّاء التعرض الزائد للضوء. أما الليلة فقد حمل المتحف إحساساً ثقيل الوطأة. كانت هناك ظلال وخيالات تزحف في كل أرجاء المكان. والأسقف المقببة التي تسمو بارتفاعها عادة، بدت الليلة كفراغ منخفض أسود. "من هنا" قال فاش، وهو يدور بحدّة نحو اليمين متجاوزاً مجموعة من صالات العرض المتصلة ببعضها من الداخل. لحق به لانغدون، ونظره يتأقلم شيئاً فشيئاً مع الظلام. وفي كل مكان حوله بدأت اللوحات الزيتية الكبيرة تتجسد كصور فوتوغرافية تتظهّر أمامه في غرفة تحميض ضخمة... تلحق به أعينها حيثما تحّرك عبر الغرف. كاد يحس بطعم لرائحة هواء المتحف المألوفة - خلاصة جافة غير متأيّنة تحمل أثراً ضعيفاً من الكربون - هذا الهواء يأتي من أجهزة صناعية تعمل لإزالة الرطوبة ذات فلاتر من الفحم، تعمل على مدار الساعة لتبطل الأثر الحاد لثاني أوكسيد الكربون الذي يطلقه الزوار في أثناء عملية الزفير. أما كاميرات المراقبة المرئية والمعلقة في أعلى الجدران فهي تبعث رسالة إلى الزوار تقول: لا تلمسوا أي شيء، فنحن نراكم. "أيّ منها حقيقي؟"، سأل لانغدون مشيراً إلى الكاميرات. فهز فاش رأسه نافياً "بالطبع لا". لم يتفاجأ لانغدون، فالمراقبة بواسطة الكاميرات، في متحف بمثل هذا الحجم كان أمراً مكلفاً جداً إضافة إلى أنه غير مجدٍّ. فنظراً للمساحات كبيرة لصالات العرض التي يجب أن تراقب، قد يحتاج اللوفر لبضع مئات من التقنيين لمجرد القيام بتحليل المعطيات. لذا فإن معظم المتاحف الكبرى تستخدم اليوم نظام "الأمن بواسطة الاحتجاز" حيث أنها تقوم على مبدأ: لا تحاول إبقاء اللصوص خارجاً بل احتجزهم في الداخل. ويعمل هذا النظام بعد انتهاء ساعات الزيارة، وإذا حاول لص ما أن ينزع قطعة فنية، فستقفل المخارج المقسمة إلى أجزاء حول صالة العرض بالكامل، وسيجد اللص نفسه عندها داخل القضبان حتى قبل أن تصل الشرطة. انتشر رجع صدى الأصوات الآتية من الأعلى على طول الممر الرخامي. بدا أن الضجة كانت قادمة من غرفة داخل تجويف عميق تقع إلى الأمام نحو اليمين. وتسرّب ضوء ساطع من الغرفة باتجاه الممر. "مكتب القيّم"، قال النقيب. ولدى اقترابه وفاش من الغرفة المجوفة ظهر للانغدون مدخل قصير في الأسفل يفضي إلى مكتب سونيير - المبني من الخشب الداكن، تزينه لوحات قديمة أصلية وطاولة كتابة ضخمة عتيقة ثمينة انتصب عليها نموذج طوله قدمين لفارس مدرّع بالكامل. كان في الغرفة عدد من رجال الشرطة يذرعونها جيئة ذهاباً، يتحدثون على الهاتف ويسجلون الملاحظات. كان أحدهم جالساً على كرسي سونيير مقابل طاولته يكتب في كومبيوتر محمول. يبدو أن مكتب القيّم تحوّل هذا المساء إلى إدارة غرفة عمليات الشرطة القضائية. نادى فاش بالفرنسية "أيها السادة"، والتفت الرجال، "لا تزعجوننا تحت أي ظرف من الظروف، مفهوم؟". أومأ جميع من في المكتب برؤوسهم بأنهم فهموا. لقد علّق لانغدون العديد من إشارة "الرجاء عدم الإزعاج" على أبواب غرف الفنادق بشكل يمكّنه من أن يفهم فحوى تعليمات فاش. يجب عدم إزعاج لانغدون وفاش مهما كان السبب. حالما تركا جمع العملاء المحتشد وراءهما، قاد فاش لانغدون إلى أسفل المدخل المظلم، وعلى بعد ثلاثين ياردة إلى الأمام ظهر مدخل القسم الأكثر شعبية في اللوفر صالة العرض الكبرى - الغراند غاليري - وهو يبدو ممراً لا نهاية له محتضناً أثمن الأعمال الإيطالية الفنية في اللوفر. أدرك لانغدون أن في هذا المكان رقدت جثة سونيير، فأرضية الغراند الغاليري الخشبية المشهورة كانت واضحة وضوح الشمس في الصورة الفوتوغرافية. وبينما كانا يقتربان رأى لانغدون أن المدخل كان مسدوداً بحاجز فولاذي ضخم ذي قضبان بدا وكأنه آلة كانت تستخدم في قلاع القرون الوسطى لإبعاد اللصوص. "الأمن بواسطة الاحتجاز"، قال فاش وهما يقتربان من الحاجز. حتى في هذه الظلمة الحالكة، بدا الحاجز كما لو أنه قادر على احتجاز دبابة. ولدى وصولهما إلى الجهة الخارجية من المدخل، نظر لانغدون بإمعان عبر القضبان نحو تجاويف الغراند غاليري التي كانت مضاءة بأنوار خافتة. "من بعدك، سيد لانغدون"، قال فاش. التفت لانغدون، من بعدي إلى أين؟ أشار فاش إلى الأرض عند قاعدة الحاجز. ونظر لانغدون إلى الأسفل، لم يلاحظ بسبب العتمة أن الحاجز كان مرفوعاً عن الأرض بمقدار قدمين تقريباً مما يسمح بالمرور من تحته بصعوبة. "إن هذه المنطقة لا زالت ممنوعة الدخول لموظفي المتحف"، قال فاش "وقد انتهى فريقي من قسم الشرطة التقنية والعلمية لتوه من تحقيقه"، ثم أشار إلى الفتحة قائلاً: "من فضلك، انزلق تحتها". حدّق لانغدون في فراغ الزحف الضيق عند قدميه ثم حدّق من جديد في الحاجز الحديدي الهائل في الأعلى، إنه يمزح أليس كذلك؟ فقد بدا الحاجز وكأنه مقصلة تستعد لقص رأس اللصوص. تمتم فاش بشيء بالفرنسية ونظر في ساعته ثم جثا على ركبتيه وانزلق بجسده الضخم تحت الحاجز. وفي الطرف الآخر وقف ثم نظر عبر القضبان إلى لانغدون. تنهد لانغدون واضعاً يديه على الأرضية الخشبية الملمّعة ثم تمدد على معدته ودفع بجسمه إلى الأمام، وبينما كان ينزلق تحت الحاجز علقت قبة سترته - من ماركة هاريس - أسفل الحاجز فارتطمت مؤخرة رأسه بالحديد. يا لرقّتك، روبرت، قال لنفسه وهو يشق طريقه بارتباك ومن ثم يسحب نفسه أخيراً إلى الطرف الآخر. وعندما وقف، كان لانغدون قد بدأ يخامره شعور بأن هذه الليلة ستكون ليلة طويلة جداً. الفصل الخامس مبنى ميوريل هيل - وهو المقر الأساسي العالمي ومركز الاجتماعات لأوبوس داي - يقع في 243 جادة ليغسنتون في مدينة نيويورك. وبتكلفة تجاوزت قليلاً سبعة وأربعين مليون دولار، تم إكساء البرج الذي تبلغ مساحته 133.000 قدم مربعة، بالآجر الأحمر وحجر إنديانا الكلسي. من تصميم ماي وبينسكا، ضم البناء أكثر من مائة غرفة نوم وست غرف طعام ومكتبات وغرف جلوس وقاعات اجتماعات ومكاتب. أما الطوابق الثاني والثامن والسادس عشر فقد ضمت مصلّيات مزينة بأعمال الخشب والرخام، في حين كان الطابق السابع عشر بكامله سكنياً. يدخل الرجال إلى البناء عبر الأبواب الرئيسة في جادة ليغسنتون، أما النساء فيدخلن عبر شارع جانبي وهن "منفصلات صوتياً ومرئياً عن الرجال داخل البناء في كافة الأوقات. في بداية هذا المساء، وداخل حرم شقته العلوية قام الأسقف مانويل أرينغاروزا، بحزم حقيبة سفر صغيرة وارتدى رِداءه الكهنوتي التقليدي الأسود. كان ليلف حزامه الأرجواني حول خصره عادة، إلا أنه الليلة سيسافر بين العامة، لذا فقد فضّل عدم جذب الانتباه لمنصبه العالي. أما من كان دقيق الملاحظة فقط قد ينتبه إلى خاتمه الأسقفي المصنوع من الذهب عيار 14 قيراطاً المزيّن بأحجار الأمتيست البنفسجي وقطع الماس الكبيرة مع نقش يدوي لشعار الأسقفية. رمى الأسقف حقيبة سفره فوق كتفيه وتلا صلاة صامتة ثم غادر شقته ونزل إلى البهو حيث كان سائقه ينتظر ليقلّه إلى المطار. والآن وهو على متن الطائرة المتوجهة إلى روما، أخذ يتأمل الأطلسي بلونه الداكن عبر نافذته، كانت الشمس قد غربت، لكن أرينغاروزا كان يعلم أن نجمه هو كان في صعود. فالليلة سيكسب المعركة، فكر مذهولاً بأنه قبل أشهر قليلة فقط كان يشعر بأنه لا حول له ولا قوة أمام اليد التي هددت بتدمير إمبراطوريته. وكونه الرئيس العام لأوبوس داي، فقد أمضى أرينغاروزا آخر عقد من حياته ناشراً رسالة "عمل الرب" - التي تعني حرفياً أوبوس داي. فالطائفة التي أسست عام 1928 على يد القس الإسباني خوسيه ماريا إيسكريفا، دعت إلى العودة إلى القيم الكاثوليكية المحافظة وشجعت أعضاءها على القيام بتضحيات جسيمة في حياتهم الخاصة في سبيل القيام بعمل الرب. لقد كانت جذور أوبوس داي بداية في إسبانيا قبل نظام فرانكو، ولكن في العام 1934 عندما نشر كتاب خوسيه ماريا ايسكريفا الروحي الطريقة - وهو عبارة عن 999 نقطة تأمّل لتطبيق عمل الرب في الحياة الخاصة لكل إنسان - انفجرت رسالة ايسكريفا في كافة أنحاء العالم. والآن، بوجود أكثر من أربعة ملايين نسخة من الطريقة في السوق مكتوبة باثنين وأربعين لغة، أصبحت أوبوس داي قوة عالمية. فقاعات مقرّاتها ومراكز تدريسها وحتى جامعاتها موجودة في كل مدينة كبرى تقريباً على وجه الأرض. كانت أوبوس داي المنظمة الكاثوليكية الأسرع انتشاراً والأكثر اكتفاء من الناحية المادية في العالم. ولسوء الحظ، كان أرينغاروزا قد اكتشف أنه في عصر السخرية من الدّين والوعظ الديني التليفزيوني، كانت ثروة أوبوس داي وقوتها المتنامية تشكّل مغناطيساً يجذب الشبهات. "يدعو الكثيرون أوبوس داي بطائفة غسيل الدماغ" غالباً ما قال المراسلون الصحفيون بتحدّ، "وآخرون يقولون أنكم جماعة مسيحية سرية شديدة التعصب، فأي منهما أنتم؟". "أوبوس داي لا تنتمي لأي منهما" يجيب الأسقف بهدوء، نحن كنيسة كاثوليكية، نحن مجموعة من الرهبان الكاثوليكيين اخترنا كأولوية أن نتّبع المذهب الكاثوليكي بأكثر دقة وصرامة ممكنة في حياتنا اليومية". "هل يجب أن يتضمّن عمل الرب بالضرورة نذر النفس للعفة والطهارة والتكفير عن الخطايا من خلال التعذيب الجسدي الذاتي بالجلد بالسوط وارتداء الحزام ذي المسامير الحديدية؟". قال أرينغاروزا: "أنت تصف قسماً بسيطاً من جماعة أوبوس داي". "فهناك عدة مستويات من الالتزام، فالآلاف من أعضاء أوبوس داي متزوجون ولديهم عائلات ويطبقون عمل الرب في مجتمعاتهم الخاصة. وآخرون اختاروا حياة زهد وتقشف وأقاموا داخل أديرتنا. إن هذه الاختيارات شخصية تماماً لكن كلنا في أوبوس داي لدينا الهدف ذاته وهو تحسين العالم من خلال تطبيق عمل الرب، وهذه مهمة لا شك نبيلة". لكن الصواب كان نادراً ما ينفع، فالإعلام كان ينجذب نحو الفضائح، وأوبوس داي كغيرها من المنظمات الكبيرة حوت من بين أعضائها عدداً من الأرواح الضائعة التي أثارت المشاكل وجلبت المشاكل للمجموعة بأكملها. فعلى سبيل المثال، قبل شهرين قبض على مجموعة تنتمي إلى أوبوس داي في جامعة في وسط غرب الولايات المتحدة، وهم يخدّرون أعضاء جدداً بمسكر مكسيكي في محاولة الوصول إلى حالة من النشوة التي قد يشعر بها الراهب الجديد على أنها تجربة دينية. كما قام طالب جامعي آخر بارتداء حزامه ذي المسامير الحديدية لمدة تجاوزت الساعتين المقترحة في اليوم مما كاد يسبب له التهاباً قاتلاً. وفي بوسطن، ومنذ فترة ليست ببعيدة، قام موظف شاب مصاب معتوه يعمل في الاستثمار البنكي، قام بتحويل كل مدّخراته إلى حساب أوبوس داي قبل أن يحاول الانتحار. هم ضعفاء ضالون، فكر أرينغاروزا وهو يشعر بالأسى نحوهم. لكن بالطبع الإحراج الأكبر كان في المحاكمة العلنية التي صاحبتها ضجة إعلامية واسعة لجاسوس مكتب التحقيقات الفدرالية روبرت هانسن، الذي بالإضافة إلى أنه كان عضواً مرموقاً في أوبوس داي، تبيّن أنه كان منحرفاً جنسياً أيضاً، كما أن محاكمته كشفت دليلاً أثبت أنه كان قد ركّب كاميرات فيديو خفية في غرفة نومه الخاصة كي يتمكّن أصدقاؤه من مشاهدته وهو يجامع زوجته. مما دفع القاضي إلى أن يعلق على ذلك بسخرية قائلاً: "إن ذلك الفعل يكاد يكون أبعد طريقة لإمضاء وقت فراغ كاثوليكي ملتزم". وللأسف فإن كل تلك القصص ساعدت على قيام المجموعة الرقابية الجديدة التي أطلق عليها شبكة التوعية ضد أوبوس داي. وقد طرحت هذه الشبكة في موقعها على الإنترنت - www.odan.org - قصصاً مخيفة رواها أعضاء سابقون في أوبوس داي يحذّرون فيها من مخاطر الانتماء إليها. فصار الإعلام اليوم يشير إلى أوبوس داي على أنها "مافيا الرب" أو "طريقة المسيح". نحن نخاف مما لا نفهمه، فكر أرينغاروزا، متسائلاً ما إذا كانت لأولئك المشككين أدنى فكرة كم حياة أغنت أوبوس داي. لقد تمتعت الجماعة ببركات الفاتيكان واعترافه الكامل بها. فأوبوس داي هي أسقفية خاصة بالبابا نفسه. إلا أن أوبوس داي مؤخراً وجدت نفسها تحت تهديد قوة أكبر وأخطر بكثير من الإعلام... إنه عدو غير متوقع لم يكن أرينغاروزا بإمكانه الاختباء منه. فمنذ خمسة أشهر مضت اهتز ميزان القوى، ولا زال أرينغاروزا مضطرباً من أثر الصدمة. "إنهم لا يعرفون حجم الحرب التي بدؤوها والنار التي فتحوها على أنفسهم"، همس أرينغاروزا في نفسه، وهو يحدق خارج النافذة في عتمة المحيط. وللحظات ركّزت عيناه من جديد على انعكاس شكل وجهه الغريب - الأسمر الطويل الذي يتوسطه أنف مسطح معقوف كان مكسوراً إثر ضربة عنيفة تلقّاها في إسبانيا عندما كان مبشراً أيام شبابه. إن العيب الجسدي كان بالكاد أمراً مهماً الآن، فأرينغاروزا كان عالماً من الروح لا الجسد. وفيما كانت الطائرة تمر فوق ساحل البرتغال، اهتز في جيب رداء أرينغاروزا الكهنوتي، الهاتف النقال الذي كان قد فعّله بنظام الرنين الصامت. وبالرغم من أن قوانين الطيران تمنع استخدام الهواتف النقالة أثناء الرحلات الجوية، إلا أن أرينغاروزا كان يعلم أنه لا يستطيع أن يفوّت هذه المكالمة. فثمة شخص واحد فقط يعرف هذا الرقم، وهو نفس الشخص الذي أرسل لأرينغاروزا هذا الهاتف بالبريد. وبحماس رد الأسقف على الهاتف هامساً، "نعم؟". "لقد عرف سيلاس مكان حجر العقد"، قال المتصل، "إنه في باريس، داخل كنيسة سان سولبيس". ابتسم الأسقف أرينغاروزا، "إذن اقتربنا". "يمكننا الحصول عليه في الحال لكننا بحاجة إلى نفوذك". "أنا جاهز، قل لي فقط ما الذي عليّ فعله؟". وعندما أغلق أرينغاروزا الهاتف، كان قلبه يخفق بسرعة. وتأمّل من جديد سكون الليل وهو يشعر بأنه يصغر مع خطورة الأحداث التي حرّكها. وعلى بعد خمسمائة ميل، كان الأبرص سيلاس يقف فوق حوض صغير من الماء يمسح الدم عن ظهره وهو يراقب شكل الدم الأحمر وهو يدور في الماء. طهّرني بنبات الزّوفا وسأكون نظيفاً، صلّى سيلاس مردداً مزامير التلمود، اغسلني، وسأصبح أشد بياضاً من الثلج. كان سيلاس يشعر بإثارة وتوقّع لم يشعر بهما منذ أن غيّر حياته السابقة. وقد فاجأه وصدمه هذا الشعور في ذات الوقت. فقد مضى عقد كامل من حياته وهو يتّبع الطريقة، مطهراً نفسه من الخطاياوهو يعيد بناء حياته... ويمحو العنف الذي عرفه في الماضي. غير أن الليلة، رجعت كل تلك المشاعر من جديد، فالكراهية التي طالما حارب بكل قوة ليدفنها دون رجعة، عاد اليوم فاستحضرها. لقد كان مذهولاً كيف استطاع ماضيه أن يعود بهذه السرعة ليطفو من جديد على السطح. وعادت معه بالطبع مهاراته القديمة صحيح أنها قد صدئت لكنها مع ذلك يمكن الاستفادة منها. إن رسالة المسيح هي رسالة سلام... رسالة اللاعنف... رسالة محبة. هذه هي الرسالة التي كان سيلاس قد تعلمها منذ البداية وهي الرسالة التي حملها في قلبه، لكن هذه الرسالة هي تلك التي يهدد أعداء المسيح اليوم بتدميرها. إن أولئك الذين يهددون الرب بالقوة، سيواجهون بالقوة بكل صمود وثبات. ألفي سنة مضت، والجنود المسيحيون يدافعون عن دينهم ويحاربون أولئك الذين يحاولون القضاء عليه وتبديله بآخر غيره، والليلة استدعي سيلاس إلى المعركة. جفف سيلاس جروحه ثم ارتدى ثوبه ذا القلنسوة الذي يصل طوله إلى كاحله. كان الثوب بسيطاً مصنوعاً من الصوف الغامق مبرزاً بياض بشرته وشعره. ضيّق سيلاس رباط الحبل حول خصره ورفع قلنسوته فوق رأسه. وسمح لعينيه الحمراوين بأن تنظرا بإعجاب إلى انعكاس صورته في المرآة. لقد بدأت رحى الحرب تدور. الفصل السادس بعد أن حشر روبرت لانغدون تحت البوابة الأمنية، وقف الآن داخل الردهة المؤدية إلى صالة العرض الكبرى. وأخذ يحدّق في بداية النفق الطويل العميق، وعلى جانبي صالة العرض، قامت جدران ضخمة يبلغ ارتفاعها ثلاثين قدماً، تبدو من الأعلى وكأنها تتلاشى في الظلام وقد انتشر بريق أضواء الخدمة المائل إلى الاحمرار نحو الأعلى مخلّفاً لمعاناً دخانياً غريباً على مجموعة مذهلة من لوحات دافنشي وتيتيان وكارافاجّو المعلقة بواسطة أسلاك نازلة من السقف، لوحات صوّرت حياة أناس هادئة ومشاهد دينية ومناظر طبيعية خلابة بالإضافة إلى لوحات صوّرت النبلاء والقادة السياسيين. وبالرغم من أن صالة العرض الكبرى قد احتضنت أكثر القطع الفنية الإيطالية شهرة في اللوفر، إلا أن العديد من الزوار يشعرون أن أروع ما في هذا الجناح هو الأرضية الخشبية بتصميمها الهندسي الرائع من شرائح خشب السنديان المضلّعة المائلة، لذا فإن الأرضية تحدث خداعاً بصرياً سريع الزوال - فهي عبارة عن شبكة متعددة الأبعاد توحي للزوار بإحساس كما لو أنهم يطفون عبر صالة العرض على سطح يتغير مع كل خطوة يخطونها. وبينما كان لانغدون يتتبع بنظره تصميم الأرضية، توقفت عيناه قليلاً عند شيء ملقىً على الأرض على بعد بضع ياردات إلى يساره، محاط بشريط تابع للشرطة، فالتفت بسرعة نحو فاش "أهذه... لوحة لكارافاجّو على الأرض؟". أومأ فاش برأسه موافقاً حتى دون النظر إليها. كانت اللوحة حسب اعتقاد لانغدون تساوي حوالى مليوني دولار تقريباً، وبالرغم من ذلك كانت ملقاة على الأرض كملصق لا قيمة له. "ترى ماذا تفعل هذه اللوحة على الأرض بحق الشيطان!". حملق فاش دون تأثر بما قاله لانغدون، "هذا مسرح جريمة سيد لانغدون، لم نلمس أي شيء فيه بعد أما تلك اللوحة فقد نزعها القيّم من مكانها على الجدار، هذا ما شغل نظام الأمن". نظر لانغدون إلى البوابة من جديد محاولاً تخيل ما حدث. "لقد تم الاعتداء على القيّم في مكتبه فهرب إلى صالة العرض الكبرى وقام بتشغيل البوابة الأمنية بواسطة نزع تلك اللوحة عن الجدار. فسقطت البوابة في الحال، مقفلة كل الفتحات، وهذا هو الباب الوحيد المؤدي إلى داخل أو خارج صالة العرض". شعر لانغدون بالحيرة "إذن قام القيّم بحجز مهاجمه داخل صالة العرض الكبرى؟". هز فاش رأسه نافياً "إن البوابة الأمنية فصلت سونيير عن مهاجمه فقد احتجز القاتل خارج المدخل وقتل سونيير من خارج هذه البوابة". أشار فاش بإصبعه إلى بطاقة برتقالية علّقت على أحد قضبان البوابة التي مرّا تحتها لتوّهما، "لقد عثر فريق الشرطة التقنية والعلمية على مخلفات بارود ناتج عن مسدس. لقد أطلق النار عبر القضبان وسونيير مات هنا وحده". استعاد لانغدون صورة جثة سونيير. لقد قالوا إن سونيير فعل ذلك بنفسه. نظر لانغدون باتجاه الممر الضخم أمامهم "أين جثته إذن؟". عدّل فاش مشبك ربطة عنقه وبدأ يمشي "إن ممر صالة العرض الكبرى يعد طويلاً نوعاً ما، كما تعلم على الأرجح". إن طول الممر بالضبط حسب ذاكرة لانغدون، هو حوالى ألف وخمسمائة قدم أي بما يساوي ثلاث مرات طول مسلّة واشنطن. وبنفس الروعة كان اتساع الممر الذي قد يتسع بكل سهولة لقطاري ركاب، أما مركز الرواق فكان مزيناً بشكل عرضي بتمثال أو جرة ضخمة من الخزف استخدما كحاجز ذي ذوق رفيع إضافة إلى دورهما في تنظيم تدفق مرور الزوار الذين يتنقلون من جدار إلى آخر. كان فاش صامتاً الآن، وهو يخطو مسرعاً باتجاه الجانب الأيمن من الممر وهو ينظر إلى الأمام نظرة جامدة. كان لانغدون يشعر بأنه يهين التحف الفنية التي يمر بها حتى دون التوقف للحظة ليلقي عليها نظرة. لو كان بإمكاني أن أرى أي شيء في هذه العتمة، فكر لانغدون. لقد أثارت هذه الإضاءة الخافتة الوردية لسوء الحظ ذكريات من تجربته الأخيرة في الأرشيف السرّي في الفاتيكان. لقد كانت هذه هي المقارنة الثانية في الأحداث المضطربة هذه الليلة والتي ذكرته بقربه من الموت في روما. وتذكر فيتّوريا من جديد. لقد كانت غائبة عن أحلامه منذ أشهر مضت، لم يكن لانغدون يستطيع أن يصدق أن ما حدث في روما كان منذ سنة فقط لأنه يشعر كما لو أنها كانت منذ عقود من الزمان.. وفي حياة أخرى. وآخر رسالة وصلته من فيتّوريا كانت في ديسمبر/كانون الأول – كان عبارة عن بطاقة بريدية ذكرت فيها أنها في طريقها إلى بحر جاوة لاستكمال أبحاثها في الفيزياء المعقدة... شيء ما يدور حول استخدام الأقمار الصناعية في دراسة نمط الهجرة عند سمك الشفنين البحري. لم يكن لانغدون ليتوهم يوماً بأن امرأة مثل فيتّوريا فيترا قد تكون سعيدة في حال عاشت معه في حرم جامعي، لكن لقاءهما في روما قد أطلق في نفسه توقاً لم يكن يتخيل أبداً أنه من الممكن أن يشعر به. فحبه الأبدي للعزوبية والحريات البسيطة التي سمحت بها حياة العزوبية قد اهتزّت بطريقة ما بعد لقائهما... وحل محل ذاك الشعور بالحرية، فراغ غير متوقع أخذ يكبر شيئاً فشيئاً خلال العام الماضي. وتابع الاثنان مشيهما السريع، إلا أن لانغدون لم يرَ بعد أي جثة. "هل قطع جاك سونيير كل هذه المسافة؟". "لقد عانى السيد سونيير من الجرح الذي سببته الرصاصة التي اخترقت معدته، فمات ميتة بطيئة جداً ربما بعد خمس عشرة أو عشرين دقيقة. من الواضح أنه كان رجلاً ذا قوة عظيمة". التفت لانغدون مصدوماً "استغرق الأمن خمس عشرة دقيقة للوصول إلى هنا؟". "بالطبع لا، فقد استجابت قوات الأمن في اللوفر حال سماعهم صفارة الإنذار ووجدوا صالة العرض الكبرى مقفلة، وعبر البوابة كانوا يسمعون أن أحداً ما كان يتحرك في الداخل في النهاية البعيدة من الممر لكنهم لم يستطيعوا رؤيته، فنادوا عليه لكن لم يجبهم أحد ولاعتقادهم أن الذي في الداخل ليس إلا مجرماً، قاموا باتباع النظام الذي يقتضي اتصالهم بالشرطة القضائية، وحال وصولنا رفعنا الحاجز بقدر يكفي للانزلاق تحته وأرسلت اثني عشر عميلاً مسلحاً إلى الداخل وقاموا بمسح الممر بالكامل للقبض على اللص". "ثم ما الذي حدث؟". "لم يعثروا على أحد في الداخل، إلا..." وأشار بعيداً إلى نهاية الصالة، "عليه". رفع لانغدون نظره وتبع إصبع فاش الممدود. في البداية ظن أن فاش كان يشير إلى تمثال رخامي ضخم في وسط القاعة، لكن لدى تقدمهم إلى الأمام، بدأ لانغدون يرى ما بعد التمثال. فعلى بعد ثلاثين ياردة وفي نهاية الصالة، كان هناك مصباح وحيد على عمود ذي ضوء ساطع موجه إلى الأسفل على أرض الصالة محدثاً جزيرة حقيقية من الضوء الأبيض في الصالة الوردية الداكنة. وفي مركز الضوء، وكحشرة تحت المجهر، كان هناك جسد سونيير العاري يرقد على الأرضية الخشبية. "لقد رأيت الصورة" قال فاش، "لذا يجب ألا يفاجئك هذا". أحس لانغدون بقشعريرة تسري في جسده عندما اقتربا من الجثة. فقد مثل أمامه واحد من أغرب المناظر التي رآها في حياته. كانت جثة سونيير الشاحبة ترقد على الأرضية الخشبية كما بدت تماماً في الصورة الفوتوغرافية. وعندما وقف لانغدون بجانب الجثة وأغمض عينيه نصف إغماضة بسبب الضوء الشديد، ذكّر نفسه بدهشة بالغة أن سونيير أمضى الدقائق الأخيرة من حياته يشكّل جسده في هذه الوضعية الغريبة. كان سونيير يبدو لائق الجسم بالنسبة لرجل في مثل عمره... وكانت بنيته العضلية ظاهرة تماماً، وقد عرّى جسده بالكامل، وقام بترتيب ثيابه على الأرض، وتمدد على ظهره في مركز الممر الواسع بتوافق تام مع المحور الطويل للغرفة وكان باسطاً ذراعيه وقدميه إلى الخارج في وضعية نسر فارد جناحيه كطفل يقوم بصنع ملاك من الثلج... أو ربما بدقة أكثر، كرجل سحبته ووجّهته قوى خفية. وتحت عظم القص مباشرة، حددت لطخة من الدم مكان الرصاصة التي اخترقت جسد سونيير. ومما يدعو للدهشة أن الجرح قد نزف بشكل طفيف مخلّفاً وراءه بركة صغيرة من الدم المسود. كانت سبابة سونيير اليسرى ملطخة بالدم أيضاً لأنها كانت من الواضح قد غمست داخل جرحه لخلق المظهر الأكثر اضطراباً لسرير موته المروّع؛ مستخدماً دمه كحبر ومستعملاً بطنه العاري كلوحة. لقد رسم سونيير رمزاً بسيطاً على جسده – وهو خمسة خطوط مستقيمة تتقاطع في ما بينها مشكّلة نجمة ذات خمسة نقاط. رمزالنجمة الخماسية.. إن النجمة الدموية المتمركزة في سرّة سونيير أضفت على جسده بشكل واضح مسحة مرعبة شريرة. لقد كانت الصورة الفوتوغرافية التي رآها لانغدون كافية ليقشعر لها بدنه، لكنه الآن وقد شهد هذا المنظر شخصياً، شعر لانغدون باضطراب متزايد. لقد فعل هذا بنفسه.. "سيد لانغدون؟" استقرّت عينا فاش الغامقتين عليه من جديد. "إنها نجمة خماسية" قال لانغدون بصوت بدا عميقاً في الفراغ الهائل، "أحد أقدم الرموز على وجه الأرض وقد استخدم منذ أربعة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح". "وماذا يعني هذا الرمز؟". كان لانغدون يتردد دائماً قبل أن يجيب على هذا السؤال. فأن تشرح لأحد عن معنى رمز ما، كان أشبه بأن تقول له كيف يجب أن يكون شعوره عند سماعه لأغنية معينة - فهذا يختلف من شخص لآخر - فغطاء الرأس الأبيض لجماعة الكو كلوكس كلان يستحضر في الذهن صوراً من الكراهية والتمييز العنصري في الولايات المتحدة، إلا أن نفس الزي يحمل معنى دينياً لأحد المعتقدات في إسبانيا. "تحمل الرموز معانيَ مختلفة عند ترتيبها في أماكن مختلفة" قال لانغدون، "مبدئياً، النجمة الخماسية هي رمز ديني وثني". أومأ فاش برأسه قائلاً: "عبادة الشيطان". "كلا"، صحح له لانغدون، مدركاً في الحال أنه كان يجب أن يختار مفردات أكثر وضوحاً. ففي هذه الأيام أصبحت كلمة بيغان - عبادة الطبيعة - ترادف تقريباً عبادة الشيطان - وهو اعتقاد خاطئ إلى حدٍّ بعيد. وتعود الجذور الأصلية للكلمة إلى اللاتينية باغانوس أي سكان القرى، فالبيغانز كانوا حرفياً سكان القرى الذين لم يؤمنوا بمذهب معين وتمسّكوا بالأديان القروية القديمة التي تقوم على عبادة الطبيعة. وفي الحقيقة، كان خوف الكنيسة من أولئك الذين كانوا يقطنون تلك المدن الصغيرة الريفية، قوياً لدرجة أن كلمة "قروي" - فيلان - التي كانت يوماً ما بريئة أصبحت تعني اليوم الروح الشريرة. أما "النجمة الخماسية" قال لانغدون موضّحاً، "فهي رمز يعود إلى ما قبل المسيحية ويدل على عبادة الطبيعة، فقد كان القدماء يتصورون عالمهم على أنه منقسم إلى نصفين - المذكر والمؤنث؛ وكان إلههم وإلهتهم يعملان معاً ليحافظا على توازن القوى. الين واليانغ. وعندما يكون الذكر والأنثى في توازن، يكون هناك تناغم في العالم، وعندما يكونا غير متوازنين، تعم الفوضى في العالم". وأشار لانغدون إلى معدة سونيير قائلاً: "إن هذه النجمة الخماسية تمثل النصف المؤنث في كل الأشياء - وهو مفهوم يطلق عليه المؤرخون الدينيون "الأنثى المقدسة" أو "الإلهة المقدسة"، وسونيير دون كل الناس قد يعرف ذلك". "سونيير رسم على معدته رمز إلهة؟". كان على لانغدون أن يعترف أن هذا يبدو غريباً، "ترمز النجمة الخماسية، في أدق تفسير لمعناها، إلى فينوس - إلهة الجمال والحب الأنثوي الجنسي". حدّق فاش في الرجل العاري ثم تمتم بشيء غير مفهوم. "كان الدين البدائي يرتكز على نظام الطبيعة المقدس وكانت الإلهة فينوس والكوكب فينوس كلاً واحداً لا يختلف أحدهما عن الآخر. وقد كان للإلهة مكان في سماء الليل وكانت قد عرفت بأسماء عدّة فينوس والنجمة الشرقية وعشتار وعشتاروت - وكلها كانت مفاهيم أنثوية قوية ترتبط بالطبيعة والأرض الأم". بدا فاش الآن أكثر اضطراباً كما لو أنه كان يفضّل فكرة عبادة الشيطان. قرر لانغدون ألا يطلعه على أروع ما تملكه النجمة الخماسية - وهو الأصل التصويري الذي يربطها بفينوس. فعندما كان لانغدون طالباً يدرس مادة علم الفلك، كان قد ذهل عندما عرف أن كوكب فينوس يحدد نجمة خماسية كاملة كل أربع سنوات لدى دورانه في السماء. وقد كانت دهشة القدماء لملاحظتهم لهذه الظاهرة شديدة لدرجة أن فينوس ونجمتها الخماسية أصبحت رمزاً للكمال والطبيعة الدورية للحب الجنسي. وتقديراً لسحر فينوس، قام اليونانيون باستخدام دورتها ذات السنوات الأربع أساساً لتنظيم دورة ألعابهم الأولمبية. واليوم القليل من الناس يعرف أن برنامج الأربع سنوات للألعاب الأولمبية الحديثة لا زال يتبع دورة فينوس. وأقل منهم من يعرف أن النجمة ذات النقاط الخمس كادت أن تكون الطابع الرسمي الأولمبي ولكن تم تعديلها في اللحظة الأخيرة - حيث تبدلت نقاطها الخمس بخمسة دوائر متقاطعة لتعكس روح الألعاب المتسمة بالتناغم والوجود الجماعي. "سيد لانغدون" قال فاش باقتضاب، "من الواضح أن النجمة الخماسية مرتبطة أيضاً بالشيطان، فأفلام الرعب التي تصنعونها في أمريكا تشير إلى هذه النقطة بوضوح". قطّب لانغدون جبينه، شكراً لك هوليود، فبفضلك أصبحت النجمة الخماسية النقاط اليوم طابعاً أساسياً في أفلام القاتل المتسلسل الشيطاني، والتي عادة ما ترسم على جدران شقة أحد عبدة الشيطان ترافقها مجموعة من الرموز الشيطانية المزعومة. كان لانغدون يشعر دائماً بالإحباط عندما يرى الرمز مدرجاً في هذا السياق؛ لأن الأصول الحقيقية للنجمة الخماسية هي في الواقع أصول إلهية. "أؤكد لك"، قال لانغدون "على الرغم مما تشاهده في الأفلام، فإن التفسيرات الشيطانية للنجمة الخماسية هي تاريخياً غير دقيقة. إن المعنى الأنثوي الأصلي صحيح، غير أن رمزية النجمة الخماسية قد دمّرت عبر آلاف السنين، وقد تم ذلك من خلال حروب وإراقة للدماء". "أعتقد أنني لم أفهم ما قلت". ألقى لانغدون نظرة على صليب فاش غير متأكد كيف سيصوغ نقطته التالية، "الكنيسة، سيدي، إن الرموز شديدة المرونة، لكن النجمة الخماسية قد تم تعديلها بواسطة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية القديمة، وذلك كجزء من الحملة التي شنها الفاتيكان لاستئصال شوكة الأديان الوثنية وهداية الجماعات للمسيحية، لذا فقد أطلقت الكنيسة حملة ضد الآلهة الوثنية شوهت فيها رموزها وأعادت صياغتها لتصبح رموزاً شيطانية شريرة". "تابع". "إن هذا أمر شائع جداً في أزمنة الاضطرابات"، تابع لانغدون، "فإن أي قوة صاعدة حديثة ستستولي على الرموز الموجودة وتحقّرها عبر الزمن في محاولة منها لمحو معناها الأصلي. وفي الحرب بين الرموز الوثنية والرموز المسيحية، خسرت الوثنية؛ فرمح بوصيدون الثلاثي أصبح شوكة الشيطان، وقبعة العجوز الحكيمة المدببة أصبحت رمز الساحرة الشمطاء، ونجمة فينوس الخماسية أصبحت رمز الشيطان". وتوقف لانغدون للحظة ثم استطرد قائلاً: "ولسوء الحظ فقد قامت القوات المسلحة الأمريكية بتحريف رمز النجمة الخماسية حيث أنها أصبحت اليوم رمزنا الأساسي للحرب. فنحن نرسمها على كافة طائراتنا المقاتلة ونعلقها على أكتاف كل جنرالاتنا". يا للأسف على إلهة الحب والجمال. "هذا مثير للاهتمام". أومأ فاش برأسه نحو الجثة المتوضعة بشكل نسر باسط الجناحين، "ماذا عن وضعية الجسد بهذا الشكل، ماذا تعتقد أنه أراد بها؟". هز لانغدون كتفيه قائلاً "إن هذه الوضعية تدعم ببساطة العلاقة بين النجمة الخماسية والأنثى المقدسة". تغيّر تعبير وجه فاش "أستميحك عذراً؟". "أراد بذلك المطابقة، فتكرار الرمز هو أبسط طريقة لتأكيد معناه، فقد وضع جاك سونيير جسمه في شكل نجمة خماسية النقاط"، فإذا كان وجود نجمة واحدة أمراً جيّداً، فنجمتان أفضل. لحقت عينا فاش النقاط الخمس لذراعي سونيير ورجليه ورأسه وقد مرر يده من جديد في شعره الأملس قائلاً: "تحليل مثير" وتوقف قليلاً ثم استطرد: "والعري؟" ودمدم وهو يقول تلك الكلمة والاشمئزاز باد عليه من أثر منظر الجسد المسنّ، "ولم خلع ثيابه؟". يا له من سؤال جيّد، فكّر لانغدون. فقد كان يسأل نفسه نفس السؤال منذ أن رأى الصورة الفوتوغرافية لأول مرّة. وكان أفضل تخمين استطاع الوصول إليه هو أن الشكل البشريّ العاري كان أيضا تأكيدا آخر على الصلة بفينوس - إلهة الشهوانية البشرية. بالرغم من أن الحضارة الحديثة قامت بمحو الكثير مما يتعلّق بارتباط فينوس بالاتحاد الجسدي بين الذكر والأنثى، إلا أن عيناً ثاقبة تعرف بأصول الكلمات، بإمكانها أن تكتشف أثراً للمعنى الأصليّ لفينوس في كلمة "فينيريل" - وتعني تناسليّ. وقرر لانغدون ألاّ يقول لفاش عمّا فكّر به. "سيد فاش، من الواضح أنه لا يمكنني أن أقول لك لماذا قام سونيير برسم ذلك الرمز على جسده أو لماذا وضع جسده بهذه الطريقة، لكن ما يمكنني أن أقوله لك هو أن رجلاً كجاك سونيير من شأنه اعتبار النجمة الخماسية إشارة إلى ألوهية الأنثى. لأن العلاقة المتبادلة بين هذا الرمز والأنثى المقدّسة، معروفة على نطاق واسع في أوساط المؤرّخين وعلماء الرموز". "حسناً، ما رأيك باستخدامه لدمه كحبر؟". "من الواضح أنه لم يكن لديه شيء آخر يكتب به". صمت فاش للحظات ثم قال: "في الحقيقة أنا أعتقد أنه استخدم الدم حتى تقوم الشرطة بعمليات جنائية معيّنة". "عفواً؟". "انظر إلى يده اليسرى". تتبّعت عينا لانغدون ذراع القيّم اليسرى الباهتة حتى وصلت إلى يده لكنه لم ير شيئاً، فدار حول الجثة بتردد ثم انحنى إلى الأسفل وقد لاحظ الآن بدهشة أنّ القيّم كان يمسك بإحكام بقلم كبير ذي رأس من اللبّاد. "كان سونيير ممسكاً به عندما عثرنا عليه"، قال فاش تاركاً لانغدون ومبتعداً عدّة ياردات باتجاه طاولة متنقّلة مغطّاة بأدوات تحقيق وأسلاك وأجهزة إلكترونية متنوعة. "كما أخبرتك"، قال فاش وهو يحوم حول الطاولة، "لم نلمس أي شيء، هل هذا النوع من الأقلام مألوف بالنسبة إليك؟". انحنى لانغدون أكثر إلى الأسفل ليرى نوع القلم. قلم حبر ذو ضوء أسود. فنظر إلى الأعلى بذهول. كان القلم ذو الضوء الأسود أو قلم الحبر المائي، قلماً متخصصاً رأسه من اللبّاد صممّته أصلاً المتاحف والمرممّين والشرطة التي تكشف التزوير، حيث يستخدم القلم لوضع علامات غير مرئية على المواد. يستخدم القلم حبراً مضيئاً ذا أساس كحوليّ لا يسبب تآكل المواد، ويصبح هذا الحبر مرئياً فقط لدى تسليط ضوء أسود عليه. أما اليوم فيحمل موظفو الصيانة في المتاحف هذا القلم كيفما تحرّكوا في أرجاء المتحف لوضع "علامات صغيرة" غير مرئية على أطر اللوحات التي تحتاج إلى ترميم. وعندما وقف لانغدون، مشى فاش نحو الضوء الكاشف وأطفأه فغرقت الصالة في ظلمة مفاجئة. وللحظة لم يعد لانغدون قادراً على أن يرى أي شيء فشعر بشكّ متزايد. ظهر خيال فاش مضاء بلون أرجواني ساطع واقترب حاملاً بيده مصباحاً متنقلاً أحاطه بهالة من اللون البنفسجي. "كما تعلم"، قال فاش وعيناه تشعّان في البريق البنفسجي، "إنّ الشرطة تستخدم إنارة بلون أسود للبحث في مواقع الجرائم عن الدم وبعض الأدلة الجنائية الأخرى. لذا يمكنك أن تتخيّل دهشتنا..." وفجأة وجّه الضوء نحو الأسفل وسلّطه على الجثّة. نظر لانغدون إلى الأسفل ثم قفز متراجعاً إلى الوراء من أثر الصدمة. بدأ قلبه يخفق بقوة وقد أخذه المنظر الغريب الذي يضيء الآن أمامه على الأرضية الخشبية، كلمات القيّم الأخيرة كانت تضيء بلون أرجواني بجانب جثته كلماته المشعّة التي كتبها بخطّ يده. وفيما كان لانغدون يحدّق في النص البرّاق، شعر بأن الضباب الذي خيّم عليه طوال هذه الليلة أخذ يزداد كثافة. قرأ لانغدون الرسالة مرّة أخرى ثم نظر إلى فاش "ماذا الذي تعنيه هذه الكلمات بحق الجحيم!". وبرقت عينا فاش" هذا يا سيدي هو بالضبط السؤال الذي أنت هنا للإجابة عليه". وفي مكان ليس ببعيد، داخل مكتب سونيير، كان الملازم كوليه قد رجع إلى اللوفر وأخذ يعمل بسرعة على جهاز راديو خاص وضع على طاولة القيّم الضخمة. وقد كان كوليه مرتاحاً لولا هذا التمثال بشكله المخيف الشبيه برجل آلي والذي يمثّل فارساً من القرون الوسطى، حيث شعر وكأن هذا التمثال يحدّق فيه من زاوية طاولة سونيير. عدّل كوليه السماعات التي يضعها على أذنيه وفحص مستويات الطاقة في نظام التسجيل على القرص الصلب، كانت كل الأنظمة جاهزة، وكانت مكبرات الصوت تعمل بدقّة متناهية والمعطيات السمعية واضحة تماماً. قال متأملاً: حان وقت الحقيقة، أغمض عينيه مبتسماً واستقرّ في جلسته ليتمتع بالسماع إلى بقية الحديث الذي يسجّل الآن من داخل صالة العرض الكبرى. الفصل السابع كانت الدار المتواضعة في كنيسة سان سولبيس تقع في الطابق الثاني في الكنيسة نفسها إلى اليسار من شرفة الخوري. وكانت عبارة عن جناح مكوّن من غرفتين ذات أرضية حجرية ومزوّدة بأقل ما يمكن من الأثاث. لقد كان هذا الجناح بيتاً للراهبة ساندرين بييل لأكثر من عشر سنوات. لكن إذا سألها أحد فإنّ الدير القريب هو منزلها الرسميّ، لكنها كانت تفضّل هدوء الكنيسة وقد جهزت لنفسها مكاناً مريحاً في الأعلى فقد زوّدت الغرفة بسرير وهاتف وطبق ساخن. وبصفة الأخت ساندرين مديرة شؤون الكنيسة، فقد كانت مسؤولة عن الاهتمام بكل النواحي والأمور غير الدينية الخاصة بالكنيسة - أي الصيانة العامة واستخدام موظفين وأدلاّء وإقفال المبنى بعد انتهاء أوقات الزيارة وطلب المؤن كخبز ونبيذ العشاء الربّانيّ. والليلة وهي نائمة في سريرها الصغير، استيقظت على صوت هاتفها المزعج ورفعت السماعة بتعب وإعياء. "الأخت ساندرين، كنيسة سان سولبيس". "مرحباً أختي"، أجاب الرجل بالفرنسية. نهضت الأخت ساندرين، كم الساعة الآن؟ فبالرغم أنها عرفت صوت مديرها، إلا أن هذه هي المرة الأولى خلال خمسة عشر عاماً يوقظها فيها. كان الأب رجلاً ورعاً جدّاً وكان من النوع الذي يذهب إلى بيته لينام مباشرة بعد القدّاس. "أعتذر إذا كنت قد أيقظتك أختي" قال "الأب" وقد بدا صوته مرتجفاً ومنفعلاً، "أريد أن أطلب منك معروفاً. لقد تلقيت لتوي مكالمة من قسّ أمريكي متنفّذ، لعلّك تعرفينه؟ مانويل أرينغاروزا؟". "رئيس أوبوس داي؟" بالطّبع أعرفه، ومن في الكنيسة لا يعرفه؟ فجماعة أرينغاروزا المحافظة قد أصبحت قوية جداً في السنوات الأخيرة فقد كانت بداياتهم الصاعدة لنيل الحظوة الدينية عام 1982 عندما قام البابا جون بول الثاني بترفيعهم إلى منزلة "الأسقفية الخاصة بالبابا"، مجيزاً بذلك كل ممارساتهم بشكل رسميّ. وقد تمت ترقية أوبوس داي، وبشكل مريب، في نفس السنة التي قام بها أصحاب المذهب الغني، حسب زعمهم، بتحويل قرابة مليار دولار إلى معهد الفاتيكان للأعمال الدينية - المعروف ببنك الفاتيكان - فأنقذوه بذلك من إفلاس محرج. وفي مناورة أخرى أدت إلى استنكار الناس وضع البابا مؤسس أوبوس داي على قائمة "الركب السريع" لمنحه مرتبة القداسة، مسرّعاً بذلك عملية تأخذ عادة قرناً من الزمن كفترة انتظار لبلوغ تلك المرتبة بحيث أصبحت عشرين سنة فقط. كانت ساندرين تشعر بأن موقف أوبوس داي النبيل في روما كان مريباً، لكن لا يمكن لأحد أن يناقش الرؤية المقدسة. "لقد اتصل بي القس أرينغاروزا ليطلب مني معروفاً"، قال لها "الأب" ذلك بصوت عصبيّ "فأحد تلامذته في باريس الليلة..." وبينما كانت الأخت ساندرين تسمع الطلب الغريب، شعرت بتوتر متزايد. "أنا آسفة، هل قلت أن هذا الزائر، تلميذ أوبوس داي لا يمكنه الانتظار إلى صباح الغد؟". "أخشى أنه لا يستطيع الانتظار، فطائرته ستغادر في الصباح الباكر، وقد كان يحلم طول حياته بزيارة سان سولبيس". "لكن الكنيسة أجمل بكثير في ضوء النهار، حيث تلقي الشمس بأشعّتها عبر النوافذ الدائرية وتتدرّج الظلال على ميل الساعة الشمسية، هذا الذي يجعل من سان سولبيس فريدة من نوعها". "أختي أنا متّفق معك تماماً، إلا أنني سأعتبر هذا معروفاً شخصياً إذا تفضّلت وسمحت لذلك الشخص بالدخول الليلة، يمكنه أن يكون هناك...ربّما الساعة الواحدة؟ أي بعد عشرين دقيقة من الآن". قطّبت الأخت ساندرين جبينها قائلة: "بالطّبع، سيكون ذلك من دواعي سروري". شكرها "الأب" ثم أغلق الخط. ظلّت الأخت ساندرين في سريرها الدافئ للحظات، وهي تفكّر في حيرة ومحاولة أن تطرد شبح النوم، فجسدها الذي عمره ستين عاماً لم يعد بإمكانه أن يصحو بنفس السرعة التي اعتاد عليها، بالرغم من أن مكالمة الليلة قد أيقظت حواسها تماماً. فهي كانت دائماً تشعر بعدم الراحة والتوتر لدى ذكر أوبوس داي، فبالإضافة إلى تطبيق هذه الجماعة لطقوس التعذيب الجسديّ الذاتيّ، كانت رؤيتهم عن المرأة في أحسن حالاتها تعود للعصور الوسطى. وقد كانت صدمتها شديدة عندما عرفت أن الأتباع من النساء كنّ مجبرات على تنظيف غرف الرجال وقاعاتهم دون أي أجر وذلك أثناء وجود الرجال في القدّاس؛ وأن النساء ينمن على أرض خشبية خاصة بينما ينام الرجال على حصائر من القشّ، وكانت النساء مجبرات على تحمّل متطلّبات إضافية من طقوس التعذيب الذاتي... وكلّ ذلك كان عقوبة إضافية تكفيراً عن الخطيئة الأصليّة. يبدو أن قضمة حوّاء من تفّاحة المعرفة كان ديناً كتب على النساء أن يؤدّينه إلى الأبد. والأمر المحزن هو أنه بينما كانت معظم الكنائس الكاثوليكية تتحرّك تدريجياً في الاتجاه الصحيح في ما يخص حقوق المرأة، هددت أوبوس داي بقلب هذا التقدم رأساً على عقب. وعلى الرغم من ذلك كان على الأخت ساندرين الامتثال للأوامر. مدّت رجليها من السرير ووقفت ببطء وقد اقشعرّ بدنها لدى ملامسة قدميها الحافيتين الحجر البارد. وفيما انبثّ البرد في جسمها، شعرت بخوف غير متوقّع من شرّ قريب الحدوث. أيكون ذلك حدس المرأة؟ تعلّمت ساندرين كمؤمنة بالرب أن تجد السلام في الأصوات التي تهدّئ روحها، لكنّ هذه الأصوات كانت صامتة الليلة كصمت الكنيسة الخالية من حولها. الفصل الثامن لم يكن بإمكان لانغدون أن يحوّل عينيه عن النص البنفسجي المضيء المكتوب على طول الأرضية الخشبية. إن المعلومات الأخيرة التي أراد جاك سونيير إيصالها للعالم، لم تكن تبدو للانغدون رسالة رجل يموت، فقد كانت أغرب من أي شيء يمكن أن يتصوره خياله. كتبت الرسالة كالتالي: 13-3-2-21-1-1-8-5 O, Draconian devil! Oh, lame saint! بالرغم من أن لانغدون لم تكن لديه أي فكرة على الإطلاق عما قد تعنيه تلك الرسالة، إلا أنه فهم تخمين فاش الذي قال إن النجمة الخماسية كانت مرتبطة بطريقة ما بعبادة الشيطان. O, Draconian devil أيها الشيطان المتوحّش.. لقد تقصّد سونيير أن يترك إشارة حرفية إلى الشيطان، وبنفس الغرابة كانت مجموعة الأرقام "التي بدا قسم منها وكأنه شيفرة رقمية". "نعم"، قال فاش "فخبراؤنا في علم الرموز قد بدؤوا بالعمل على حلّها، فنحن نعتقد أن هذه الأرقام قد تحمل المفتاح الذي سيدلنا على هوية القاتل، فربما تكون رقم هاتف أو رقم بطاقة تعريف اجتماعية لشخص ما. هل تحمل الأرقام بالنسبة إليك أي معنى رمزيّ؟". نظر لانغدون مرّة أخرى إلى الأرقام وهو يشعر بأنه ستلزمه عدّة ساعات ليتمكن من استخلاص أي معنى رمزيّ منها. هذا إذا كان سونيير قد قصد شيئاً من وراء تلك الأرقام أصلاً. كانت الأرقام بالنسبة للانغدون تبدو عشوائية تماماً. فقد كان معتاداً على التعامل مع سلسلة من الرموز التي تحمل تشابهاً في المعنى لكن كل شيء هنا - النجمة الخماسية والنص والأرقام - كلها تبدو متباينة في الجذور والأساس الذي تنطلق منه. "لقد زعمت منذ قليل" قال فاش، "أن كل ما قام به سونيير هنا كان في سبيل إيصال رسالة ما... تتعلّق بعبادة إلهة ما أو شيء من هذا القبيل؟ كيف ينطبق ذلك مع ما جاء في هذه الرسالة؟". أدرك لانغدون أن سؤال فاش كان سؤالاً بلاغياً، فمن الواضح أن هذه الرسالة الغريبة لم تكن تنطبق على الإطلاق مع السيناريو الذي قدّمه لانغدون والمتعلّق بعبادة الإلهة. O, Draconian devil? Oh, lame saint? أيّها الشيطان المتوحش؟ أيّها القدّيس الضعيف؟ قال فاش "يبدو هذا النص وكأنه اتهام ما؟ ألا تظنّ ذلك؟". حول لانغدون أن يتخيل دقائق القيّم الأخيرة وهو محبوس وحده في صالة العرض الكبرى وهو يعرف بأنه على وشك أن يموت، يبدو ذلك منطقياً. "أعتقد أن توجيهه اتهاماً لقاتله قد يكون أمراً منطقياً". "إن عملي هنا، بالطبع، هو أن أضع اسماً لذلك الشخص، دعني أسألك سيد لانغدون، بالنسبة لخبير مثلك وبعيداً عن مسألة الأرقام، ما الذي تجده الأكثر غرابة في هذه الرسالة؟". الأكثر غرابة؟ لنرَ، لدينا هنا رجل يموت يحجز نفسه داخل صالة عرض ويرسم على جسمه نجمة خماسية ويكتب رسالة على الأرض فيها اتهام غامض، ففي خضمّ كل هذه الوقائع ما الذي ليس بغريب؟ هذا هو السؤال. "ربّما كلمة متوحش Draconian؟" قال لانغدون مجازفاً، فهي أول إجابة خطرت بباله. فقد كان لانغدون متأكداً إلى حدٍّ بعيد من أن الإشارة إلى Draco - وهو السياسي الذي لا يرحم والذي يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد - كانت فكرة شديدة البعد عن ذهن رجل يحتضر. "يبدو لي أن ذكر الشيطان الدراكوني المتوحش - Draconian devil هو اختيار للألفاظ في غير محلّه". "Draconian؟" قال ذلك فاش بنبرة فيها ضيق صدر واضح. "أعتقد أن اختيار سونيير للألفاظ هو أقل الأمور أهمية الآن". لم يكن لانغدون متأكداً أنه يعرف ما الذي يظنّه فاش الأمر الأكثر أهمية هنا، لكنّه كان قد بدأ يعتقد أن دراكو وفاش قد يتفقان تماماً مع بعضهما. "سونيير كان فرنسياً" قال فاش بشكل واثق ومحدد، "وقد عاش في باريس ورغم ذلك فقد اختار بأن يكتب هذه الرسالة...". "بالإنجليزية"، قال لانغدون، وقد أدرك ما قصده فاش. هزّ فاش رأسه موافقاً، "بالضبط، هل لديك أي فكرة عن السبب وراء ذلك؟". كان لانغدون يعلم أن سونيير كان يتكلّم الإنجليزية بطلاقة، إلا أن السبب الذي حدا به لاختيار الإنجليزية لغة يكتب بها كلماته الأخيرة، قد فاته تماماً. فهزّ كتفيه لا يعلم بماذا يجيب. أشار فاش من جديد إلى النجمة الخماسية على بطن سونيير وقال: "ليس لها علاقة بعبادة الشيطان ها؟ أما زلت متأكداً؟". لم يعد لانغدون متأكداً من أي شيء الآن، "يبدو أنّه لا توجد صلة تربط بين الرموز والنص، أنا آسف، فلا يمكنني مساعدتك أكثر من ذلك". "قد يوضّح هذا بعض الأمور". وتراجع فاش إلى الوراء بعيداً عن الجثّة ورفع الضوء الأسود من جديد مفسحاً المجال للوميض بالانتشار في دائرة أكبر هذه المرّة. "والآن؟". دهش لانغدون عندما رأى دائرة ذات شكل بدائيّ تضيء حول جسد القيّم. يظهر أن سونيير قد تمددّ على الأرض ثم دوّر القلم حول نفسه راسماً عدّة أقواس طويلة بحيث رسم حول نفسه دائرة كاملة. وفي لحظة واحدة، أصبح المعنى واضحاً وضوح الشمس. "الرجل الفيتروفي" قال لانغدون بلهفة، لقد أبدع سونيير نسخة مطابقة بالحجم البشريّ عن أشهر رسم لليوناردو دافنشي. وباعتبارها أكثر لوحة دقّة من الناحية التشريحية في زمانها، أصبحت رائعة دافنشي، الرجل الفيتروفي اليوم أيقونة للحضارة، فتراها في كل أنحاء العالم على الملصقات ووسائد فأرة الكمبيوتر والقمصان، ويتكوّن هذا الرسم المشهور من دائرة مثالية رسم داخلها رجل عار... ذراعاه ورجلاه ممدودة في وضعية نسر باسط جناحيه. دافنشي، أحسّ لانغدون برعشة من الذهول، إن وضوح مقاصد سونيير كان أمراً لا يمكن إنكاره، ففي اللحظات الأخيرة من حياته، تعرّى القيّم من كلّ ثيابه وشكّل جسده في صورة واضحة مثّلت رسم الرجل الفيتروفي لليوناردو دافنشي. كانت الدائرة هي العنصر الأساسي المفقود، رمز أنثوي يمثّل الحماية، فالدائرة المرسومة حول جسد الرجل العاري أكملت القصد من رسالة دافنشي - التناغم بين الرجل والمرأة. إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا قام سونيير بتقليد رسم مشهور كهذا؟ "سيّد لانغدون"، قال فاش "أنا متأكد أنّك بحكم خبرتك، على علم بنزعة ليوناردو دافنشي نحو الفنون الغامضة والسرّية". تفاجأ لانغدون من سعة معلومات فاش عن دافنشي وهي تفسّر بوضوح شكوك النقيب حول موضوع عبادة الشيطان. لقد شكّل دافنشي دائماً موضوعاً محيّراً بالنسبة للمؤرخين وبخاصة في ما يتعلّق بالتقاليد المسيحية. فبالرغم من عبقرية الفنان الحالم، كان دافنشي شاذاً جنسياً متطرّفاً وأحد عبدة نظام الطبيعة المقدّس، وكلتا الصفتين وضعتاه باستمرار في خانة الخطيئة ضدّ الرب. وبالإضافة إلى ذلك كلّه، كانت غرابة أطوار الفنان المخيفة تحيطه باعتراف الجميع بهالة شيطانية فقد كان دافنشي ينبش الجثث ليدرس البنية التشريحية عند الإنسان، كما أنه كان يحتفظ بمذكرات كان يكتبها بخط غير مقروء بطريقة يعكس فيها اتجاه الكتابة. وقد كان يؤمن بأنه يمتلك علم الخيميائيّ في تحويل الرصاص إلى ذهب وحتى أنّه كان يعتقد بأنه قادر على غش الرب من خلال صنع إكسير يؤخر الموت، وقد شملت اختراعاته أسلحة حربية مخيفة وأدوات تعذيب لم يكن أحد ليتخيّل الرعب الذي تبثّه في النفوس. فكّر لانغدون... إن سوء الفهم يولّد الشكّ. حتى النتاج الهائل الذي تركه دافنشي من الفن المسيحي الذي يسلب الألباب في روعته، لم يكن إلا ليزيد سوءاً في سمعته كمنافق في الدين. وقد كان دافنشي يقبل القيام بمئات الأعمال المربحة التي كان الفاتيكان يكلّفه بها وكان يرسم المواضيع المسيحية لا كتعبير عن معتقداته الخاصة، بل كمشروع تجاريّ - وسيلة ليصرف بها على أسلوب حياته الباذخ. ولسوء الحظ، كان دافنشي شخصاً كثير المزاح كان في معظم الأحيان يسلّي نفسه سرّاً بعضّ اليد التي تحسن إليه. فقد كان يجسّد في رسوماته المسيحية رموزاً خفيّة كانت أبعد ما تكون عن المسيحية - تقديراً منه لمعتقداته الخاصة ووصمة خبيثة يظهر فيها معارضته للكنيسة. وكان لانغدون قد ألقى محاضرة في إحدى المرات في صالة العرض الوطنية في لندن بعنوان"حياة ليوناردو السرّية: الرمزية الوثنية في الفن المسيحي"، "إنني أدرك ما تفكّر به" قال لانغدون الآن "لكن دافنشي لم يمارس في الحقيقة أي نوع من الفنون الشيطانية، فقد كان إنساناً روحانياً فريداً من نوعه، وإن كان على خلاف مستمر مع الكنيسة". وفيما قال لانغدون ذلك، لمعت في ذهنه فكرة غريبة، فنظر من جديد إلى الأسفل حيث الرسالة المكتوبة على الأرض. أيها الشيطان المتوحش! أيها القديس الضعيف! "نعم؟" قال فاش. وزن لانغدون كلماته بحذر قبل أن يتكلم "لقد كنت أفكر لتوّي أنّ سونيير كان يشاطر دافنشي الكثير من المعتقدات والمبادئ الروحانية، التي من ضمنها القلق من طرد الكنيسة للأنثى المقدسة من الدين الحديث. لذلك من الممكن أن سونيير بتقليده لرسم شهير لدافنشي كان يريد ببساطة أن يكرر شيئاً يعبّر عن إحباطهما المشترك من تحويل الكنيسة الحديثة للآلهة الأنثى إلى شيطان". قست عينا فاش، "أتظنّ أن سونيير كان ينعت الكنيسة قديساً ضعيفاً وشيطاناً متوحشاً؟". كان على لانغدون أن يعترف بأن هذا كان احتمالاً بعيداً، غير أن النجمة الخماسية بدت وكأنها تؤكد الفكرة بطريقة ما. "كل ما أود قوله هو أن السيّد سونيير كرّس كل حياته لدراسة تاريخ الآلهة الأنثى، والكنيسة الكاثوليكية لم تألُ جهداً في سبيل محو هذا التاريخ. لذا يبدو لي من المعقول أن يكون سونيير قد اختار التعبير عن خيبة أمله في كلماته الأخيرة". "خيبة أمله؟"، تساءل فاش وقد بدا عدائياً الآن "تبدو هذه الرسالة وكأنها تعبّر عن الحنق أكثر من خيبة الأمل، ألا تعتقد ذلك؟". كان لانغدون الآن يفقد صبره "حضرة النقيب، لقد سألتني عن حدسي في تخمين ما كان سونيير يحاول قوله هنا، وهذا بالضبط ما أخبرك به". "بأنه أراد من وراء رسالته توجيه الاتهام إلى الكنيسة؟" شدّ فاش فكّه بينما أخذ يتكلّم من بين أسنانه المطبقة "سيّد لانغدون، لقد رأيت الكثير من الموت في عملي، ودعني أقول لك شيئاً، عندما يقتل شخص على يد شخص ما، لا يمكنني أن أصدق أنّ أفكاره الأخيرة قد تنصبّ على كتابة وجهة نظر روحانية غامضة لن يفهمها أحد على أي حال، أعتقد أنه سيفكر بشيء واحد فقط". وقطع صوت فاش الهامس الهواء بحدّة. "بالانتقام، أنا أعتقد أنّ سونيير كتب هذه الملاحظة ليقول لنا من قتله". حدّق فيه لانغدون قائلاً: "لكن هذا غير منطقيّ على الإطلاق". "غير منطقي؟". "نعم هذا غير منطقي" ردّ لانغدون بانفعال وقد أصيب بالإعياء والإحباط "لقد أخبرتني أنه الذي اعتدى على سونيير كان من الواضح شخصاً قد دعاه إلى مكتبه". "نعم". "إذن، يبدو من المنطقي أن نستنتج أنّ القيّم كان يعرف الشخص الذي اعتدى عليه". "أكمل". "حسناً، إذا كان سونيير يعرف قاتله، ما هو هذا الاتهام الذي يوجهه؟" وأشار إلى الأرض قائلاً: "شيفرات رقمية؟ وقديس ضعيف؟ وشيطان متوحش؟ نجوم خماسية على معدته؟ كلّ ذلك يبدو رمزياً لدرجة تدعو للشك". قطّب فاش جبينه كما لو أن هذه الفكرة لم تخطر على باله من قبل، "معك حقّ". "ونظراً إلى الظروف الراهنة"، قال لانغدون، "أميل إلى الاعتقاد بأنّه لو كان سونيير يريد أن يخبركم من قتله، لكان قد كتب اسم شخص ما". وعندما قال لانغدون هذه الكلمات، ارتسمت ابتسامة خبيثة على شفتي فاش للمرّة الأولى في هذه الليلة، قال فاش: "هذا صحيح... تماماً". إنني أشهد عمل معلّم بارع، قال الملازم كوليه مستغرقاً في التفكير بينما كان يعدّل جهاز الاستقبال ويستمع إلى صوت فاش الذي كان يأتيه عبر سماعات الأذنين. كان رجل الشرطة ذو الرتبة العالية يعلم أنّه بسبب ما فعله النقيب في ظروف كهذه هو الذي رفع النقيب عالياً متربّعاً على قمة قوات الأمن الفرنسية. إنّ فاش سيفعل ما لا يجرؤ أحد على فعله. فإنّ فن ممارسة الضغط الرقيق على المتّهم بلطف وذوق، كان مهارة قد فقدت من نظام قوى الأمن الحديثة، وهو فنّ يحتاج إلى رباطة جأش استثنائية تحت الضغط. قليل من الرجال لديهم الدم البارد اللازم للقيام بهذا النوع من العمليات، لكنّ فاش يبدو وكأنّه خلق ليقوم بذلك. فبتحّفظه وصبره كان فاش أقرب لرجل آلي. وكان الانفعال الوحيد الذي أبداه فاش هذا المساء هو التصميم الشديد، كما لو أن عملية الاعتقال هذه كانت بشكل أو بآخر أمراً شخصياً بالنسبة إليه. وكانت الأوامر التي أعطاها لرجاله قبل ساعة، موجزة ومحددة على غير العادة. أنا أعلم من قتل جاك سونيير، كان فاش قد قال لهم، تعرفون ما يجب فعله لا مجال للخطأ الليلة. وحتى الآن لم يرتكب أي خطأ. لم يكن كوليه يعرف بعد الدليل الذي جعل فاش متأكداً من ارتكاب المتهم لهذه الجريمة، إلا أنه كان يعرف أنه لا يمكنه التشكيك بحدس الثور. فقد كان توقّع فاش للأحداث يبدو وكأنه خارق للطبيعة في بعض الأحيان. الرب يهمس في أذنه، هذا ما قاله أحد رجاله مرة بكلّ ثقة بعد أن شهد حادثة ظهرت فيها بشكل مذهل حاسة فاش السادسة. كان على كوليه أن يقرّ بأنه لو كان هناك رب فسيتصدّر بيزو فاش قائمة أقرب الناس إليه. فقد كان النقيب يحضر الاعتراف والقدّاس بانتظام دائم - إلى حدّ أبعد كثيراً من الحضور الإلزامي في العطل الذي يحققه بعض المسؤولين الآخرين في سبيل ما يسمّونه علاقات عامة مفيدة. وعندما زار البابا باريس قبل عدّة أعوام، استخدم فاش كل نفوذه ليكون من بين الحضور لرؤية قداسته. واليوم توجد في مكتبه صورة له مع البابا، الثور البابوي، هذا ما يطلقه عليها رجاله سرّاً. لقد رأى كوليه أنه من السخرية بمكان أنّ أحد مواقف فاش في السنوات الأخيرة، وهو الذي نادراً ما يدلي برأيه أمام الجميع، كان ردّ فعله الصريح على فضيحة الكاثوليك في قضية التحرّش الجنسي بالأطفال. إن هؤلاء الكهنة يجب أن يتم شنقهم مرتين، هذا ما أدلى به فاش، مرّة لجرائمهم التي ارتكبوها بحق أولئك الأطفال، ومرّة أخرى لتلطيخهم سمعة الكنيسة الكاثوليكية الطيبة. كان شيء ما ينبئ كوليه أن الشقّ الثاني هو الذي أغضب فاش أكثر. عاد كوليه الآن إلى كومبيوتره المحمول وانكبّ على القيام بالنصف الآخر من المسؤوليات التي عليه القيام بها الليلة في هذا المكان - نظام تحديد الموقع على الأرض. أظهرت الصورة الموجودة على الشاشة مخططاً تفصيلياً للطابق الذي يوجد فيه جناح دينون، وهو مخطط إنشائي نقل إلى كومبيوتر كوليه من مكتب أمن اللوفر. وترك كوليه عينيه تتبعان متاهة صالات العرض والأروقة حتى وجد ما كان يبحث عنه. بعيداً في قلب صالة العرض الكبرى أخذت نقطة صغيرة حمراء تصدر وميضاً. العلامة. كان فاش قد ربط فريسته هذه الليلة برسن ضيّق جداً، ومعه كل الحق في ذلك. أما روبرت لانغدون فقد أثبت أنه شخص ذو أعصاب من جليد. الفصل التاسع أغلق بيزو فاش هاتفه النقّال كي يضمن ألا يقطع أحد حديثه مع السيد لانغدون. لكن لسوء حظه كان هاتفه من نوع غال جداً مجهّز بميّزة راديو ذي موجة إرسال واستقبال، وخلافاً لأوامره استخدمها أحد رجاله الآن ليتكلّم معه. "حضرة النقيب" قرقع الصوت القادم من الهاتف كصوت اللاسلكي. أحسّ فاش بأسنانه تصرصر من الغضب، فلم يخطر بباله أنّ أيّ أمر مهما بلغت أهميته يكفي لكي يقاطع كوليه المراقبة الخفية - التي يقوم بها الآن خاصة في هذه المرحلة الحاسمة. نظر إلى لانغدون نظرة هادئة معتذراً "لحظة واحدة لو سمحت"، وأخرج الهاتف من حزامه ثم ضغط على زر الراديو ليجيب "نعم؟". سيدي النقيب، لقد وصل أحد عملاء قسم فك التشفير". هدأ غضب فاش مؤقتاً. عميل من قسم فك التشفير؟ بالرغم من توقيته السيئ، فهو قد يحمل أخباراً سارّة. فبعد أن اكتشف فاش النص المشفّر الذي كتبه سونيير على الأرض، قام بتصويره وأرسل الصور إلى قسم فك التشفير على أمل أن يتمكن أحد العملاء هناك من أن يخبره ما الذي كان سونيير يحاول قوله. وإذا جاء الآن أحد عملاء فك التشفير، فهذا قد يعني أنّ أحداً منهم استطاع فك شيفرة الرسالة التي تركها سونيير وراءه. "أنا مشغول الآن"، قال فاش بلهجة لا تترك أدنى شكًّ للعميل بأنه قد تجاوز أحد الخطوط الحمراء. "اطلب من العميل أن ينتظر في المخفر وسوف أعود إليه عندما أنتهي". "ستعود إليها" صححّ له كوليه "إنها العميلة نوفو". كان سخط فاش يزداد مع كل لحظة تمرّ من هذه المكالمة. فصوفي نوفو كانت واحدة من أكبر أخطاء مديرية الشرطة القضائية. فهي عالمة باريسية شابة تعمل في فك التشفير الذي درسته في جامعة هولواي الملكية في إنجلترا. فقد دسّت صوفي نوفو في أنف فاش منذ سنتين كمحاولة من الوزارة لإدماج عدد أكبر من النساء في قوات الشرطة. إن هذا الاجتياح المتزايد باستمرار الذي كانت تقوم به الوزارة باتجاه تصحيح سياساتها، كان يضعف القسم، حسب رأي فاش. فهن لا تنقصهن البنية الجسدية الضرورية في عمل الشرطة فحسب، وإنما مجرد وجودهنّ فرض إلهاء خطيراً للرجال في العمل. وقد تحققت مخاوف فاش حيث أثبتت صوفي نوفو أنها تسبب إلهاء أكثر من معظم النساء في الشرطة. فقد كانت ذات الاثنين والثلاثين عاماً تتمتّع بتصميم رهيب يصل إلى حدّ العناد. وكان حماسها في اعتناق مبادئ المنهجية البريطانية الحديثة في علم تحليل الرموز وفكّ الشيفرات، يثير باستمرار سخط المتمرّسين الفرنسيين في فك الشيفرات عليها. وأكثر ما كان يزعج فاش هو الحقيقة العامة التي لا يمكن إنكارها وهي أنّ وجود شابة جذابة في مكتب يعجّ برجال في الأربعينيات من عمرهم، من شأنه لفت الانتباه والإلهاء عن العمل. قال الرجل عبر الراديو: "لقد أصرّت العميلة نوفو أن تتحدّث معك في الحال سيدي، حاولت جاهداً أن أوقفها لكنها مضت في طريقها متجهة نحو صالة العرض". تراجع فاش إلى الوراء وهو لا يصدّق أذنيه، "هذا غير مقبول أبداً! لقد كنت واضحاً جداً عندما قلت -". فكّر لانغدون للحظات أنّ بيزو فاش كان يتعرّض لأزمة قلبية، فقد كان النقيب في منتصف حديثه عندما توقّف فكّه عن الحركة وجحظت عيناه وتسمّر نظره اللامع على شيء ما وراء كتف لانغدون. وقبل أن يتمكّن لانغدون من الالتفات ليرى ما هو ذلك الشيء، سمع صوت امرأة يرنّ آتٍ من ورائه. "عذراً، آسفة للمقاطعة". التفت لانغدون ليرى شابة تقترب نحوه. كانت آتية عبر الممر تمشي بخطوات واسعة رشيقة... وترى في مشيتها ثقة طاغية. كانت تلبس سترة إيرلندية طويلة بلون قشدي وبنطالاً أسود ضيّقاً، كما أنها كانت جذابة وتبدو في الثلاثين من العمر. وشعرها الأحمر الداكن الكثيف منسدل بحرية على كتفيها مضفياً هالة تحيط بوجهها الدافئ. وعلى عكس أولئك الفتيات الشقراوات المنمقات اللاتي يذرعن سكن هارفرد الجامعيّ، كانت هذه المرأة صحيحة الجسم تتميّز بجمال حقيقيّ غير مصطنع وأصالة تشعّ ثقة في النفس مثيرة للإعجاب. ولدهشة لانغدون، أتت مباشرة إليه ومدّت يدها بأدب وصافحته قائلة: "سيد لانغدون، أنا العميلة صوفي نوفو، من قسم فكّ الشيفرات والرموز في إدارة الشرطة القضائية". كانت كلماتها لا تحمل لكنة الفرنسيين الذين يتكلمون الإنجليزية. "يسعدني لقاؤك". أخذ لانغدون كفها الناعم في يده وشعر للحظات بعينيه تحدقان في عينيها القويتين بلونهما الأخضر الزيتوني - حادتين وصافيتين في آنٍ معاً. تنفّس فاش بعمق وهو يغلي محضّراً تأنيباً رسميّاً للعميلة التي ظهرت دون سابق إنذار. "سيدي النقيب" قالت وهي تلتفت وتتكلم بسرعة لكي تربكه ولا تترك له مجالاً للرد، "أرجو أن تعذر مقاطعتي حديثكم، لكنّني -". فانفجر فاش قائلاً بالفرنسية: "هذا ليس بالوقت المناسب... في ما بعد". فأكملت صوفي كلامها بالإنجليزية احتراماً للانغدون "لقد حاولت أن أتصل بك لكنّ هاتفك النقال كان مغلقاً". "لقد أغلقته لهدف معيّن" همس فاش، "فأنا أتكلم مع السيد لانغدون". فقالت صوفي ببرود "لقد حللت الشيفرة الرقمية". شعر لانغدون بموجة من الإثارة، هل حلّت الشيفرة؟ بدا فاش غير متأكد من ردة فعله. "قبل أن أقوم بالتفسير" قالت صوفي، "أحمل رسالة مستعجلة للسيد لانغدون". تغير تعبير لانغدون إلى اهتمام متزايد "للسيد لانغدون؟". هزّت رأسها إيجاباً، والتفت من جديد إلى لانغدون "يجب أن تتصل بالسفارة الأمريكية، سيد لانغدون، فلديهم رسالة موجهة إليك من الولايات المتحدة". دهش لانغدون وقد تحول إحساسه بالإثارة لحل الشيفرة إلى موجة قلق مفاجئة. رسالة من الولايات المتحدة؟ حاول أن يتخيل من عساه يحاول البحث عنه؟ فعدد قليل فقط من زملائه يعلم بوجوده في باريس. أطبق فاش فكه العريض منزعجاً من هذه الأخبار"سفارة الولايات المتحدة؟" سأل وهو يبدو مرتاباً: "ومن أين لهم أن يعلموا أن السيد لانغدون هنا؟". تنهدت صوفي قائلة: "يبدو أنهم اتصلوا بالفندق الذي يحلّ فيه السيد لانغدون وأخبرهم موظف الاستقبال أن أحد عملاء إدارة الشرطة القضائية قد اصطحبه". بدا الانزعاج على فاش واضحاً "فاتصلت السفارة بقسم حل الشيفرات في الشرطة القضائية؟". "كلا سيدي"، قالت صوفي بلهجة صارمة، "عندما اتصلت بمقسم الهاتف التابع لإدارة الشرطة في محاولة لأتصل بك، كانت لديهم رسالة إلى السيد لانغدون فطلبوا مني إيصالها إليه في حال تمكّنت من العثور عليك". قطّب فاش حاجبيه بارتباك واضح وفتح فمه ليتكلم لكن صوفي كانت قد التفت إلى لانغدون، "سيد لانغدون" قالت بلهجة واثقة، وهي تخرج ورقة صغيرة من جيبها "هذا هو رقم خدمة إيصال الرسائل في سفارتك، لقد طلبوا أن تتصل بهم في أسرع وقت ممكن". وأعطته الورقة وفي عينيها نظرة ذات معنى، "عليك أن تقوم بهذا الاتصال بينما أفسّر أنا هذا الرمز للنقيب فاش". نظر لانغدون إلى قصاصة الورق بتمعّن، كان عليها رقم هاتف في باريس وتحويلة بجانبه. "شكراً لك"، قال لانغدون وهو يشعر بالقلق الآن، "أين يمكنني أن أجد هاتفاً هنا؟". أخذت صوفي تسحب هاتفاً نقالاً من جيب سترتها لكن فاش أشار إليها بأن تتوقف. لقد كان يبدو الآن كما لو أنه بركان فيزوف على وشك الانفجار. ودون أن يحوّل عينيه عن صوفي أخذ هاتفه النقال وأعطاه إلى لانغدون "هذا الخط آمن، يمكنك استخدامه سيد لانغدون". استغرب لانغدون كثيراً من الغضب الذي ظهر على فاش تجاه صوفي. أخذ الهاتف من النقيب وهو يشعر بالارتباك. وفي الحال شدّ فاش صوفيا بضع خطوات إلى الوراء وأخذ يؤنبها بنبرة خافتة. استدار لانغدون مبتعداً عن المواجهة الغريبة وهو يشعر بمقته تجاه فاش يزداد شيئاً فشيئاً، وفتح الهاتف النقال متفحصاً قصاصة الورق وبدأ يضرب الرقم. وبدأ الخط من الطرف الآخر يرنّ. رنّة واحدة... رنتين... ثلاث رنّات... وأخيراً فتح الخط. وتوقّع لانغدون أن يسمع صوت عاملة المقسم في السفارة، لكنه عوضاً عن ذلك وجد نفسه يستمع إلى مجيب آليّ، والغريب في الأمر هو أنّ الصوت على الشريط كان مألوفاً، كان صوت صوفي نوفو. "يوماً سعيداً، أنتم تتصلون بصوفي نوفو" قال صوت المرأة بالفرنسية "أنا لست في المنزل الآن، لكن...". التفت لانغدون من جديد نحو صوفي مرتبكاً "أنا آسف، آنسة نوفو؟ أعتقد أنك قد أعطيتني -". "كلا، هذا هو الرقم الصحيح"، قاطعته صوفي بسرعة، كما لو أنها توقعت ارتباك لانغدون، "إن السفارة لديها نظام أوتوماتيكي للإجابة على الرسائل، عليك فقط أن تضغط على رمز دخول لكي تأخذ رسالتك". حملق لانغدون قائلاً: "ولكن -". "إنه الرمز المؤلف من ثلاثة أرقام وهو موجود على الورقة التي أعطيتها لك". وفتح لانغدون فمه محاولاً أن يشرح الخطأ الغريب، لكنّ صوفي رمته بنظرة غاضبة لتسكته دامت للحظات قصيرة، وبعثت عيناها الخضراوين برسالة واضحة وضوح الشمس. لا تسأل أية أسئلة، نفّذ فقط. ضرب لانغدون وهو لازال مذهولاً رقم التحويلة الموجود على الورقة: 454 فانقطعت الرسالة المستمرة بصوت صوفي، وسمع لانغدون صوتاً إلكترونياً يقول بالفرنسية: "لديك رسالة واحدة جديدة" من الواضح أنّ 454 كان رقم دخول صوفي إلى مجيبها الآلي لأخذ رسائلها عندما تكون خارج المنزل". إنني أتسمّع إلى رسائل هذه المرأة؟ كان بإمكان لانغدون سماع الشريط الآن يعود إلى الوراء، وأخيراً توقّف واشتغلت الآلة. وبدأ لانغدون بالاستماع إلى الرسالة، ومن جديد كان الصوت المتحدث هو صوت صوفي. "سيد لانغدون"، بدأت الرسالة بهمسة مخيفة "لا تبدِ أي رد فعل على هذه الرسالة فقط استمع بهدوء، أنت في خطر الآن. اتّبع تعليماتي بدقّة وحذر". الفصل العاشر جلس سيلاس وراء مقود سيارة الأودي السوداء التي دبّرها له الأستاذ، وراح ينظر من النافذة إلى كنيسة سان سولبيس العظيمة، وقد أضيئت من الأسفل بصف من الأضواء الغامرة، وارتفع برجا الكنيسة الناقوسيان بشموخ كحارسين مفتولي العضلات يتربعان فوق الجزء المركزي الطويل للبناء. ومن كل جانب برز صفّ من الدعامات المصقولة الظليلة كأضلاع حيوان جميل. لقد استخدم الوثنيون بيتاً للرب لإخفاء حجر العقد. مرّة أخرى أكدت الأخوية سمعتها الأسطورية التي اتسمت بالوهم والخداع. كان سيلاس متشوّقاً للعثور على حجر العقد وتسليمه للأستاذ لكي يتمكّنوا من استرداد ما سرقته الأخوية من المؤمنين منذ زمن طويل. كم سيجعل هذا من أوبوس داي قوية وذات نفوذ. تنهّد سيلاس وهو يوقف السيارة في باحة سان سولبيس المقفرة، وراح يهدّئ نفسه كي يصفى ذهنه ويركّز على المهمة التي بين يديه. كان ظهره العريض لا زال يؤلمه من أثر التعذيب الجسدي الذاتي الذي طبّقه على نفسه في بداية هذا اليوم، غير أن كل هذا الألم المبرّح كان لا يذكر مقارنة بالعذاب الذي حطّم حياته قبل أن يتم إنقاذه على يد أوبوس داي. إلا أن ذكريات تلك الحياة لا زالت تطارد روحه أينما كان. تحرّر من كراهيتك، أمر سيلاس نفسه، اغفر لأولئك الذين اعتدوا عليك. ولدى رؤيته أبراج سان سولبيس الحجرية، قاوم سيلاس ذلك التيار الجارف... تلك القوة التي لطالما جرّت ذاكرته إلى ذلك الزمان البعيد لتحبسه من جديد في السجن الذي كان عالمه الوحيد الذي عرفه في شبابه. وعادت إليه ذكريات رحلة العذاب التي كانت دائماً تعرف طريقها إليه لتضرب حواسه كعاصفة هوجاء... برائحة الملفوف الفاسد الكريهة ونتانة الموت وأسانة بول الرجال وبرازهم. وصرخات اليأس التي تحملها رياح البيرينيه التي تعوي في الجبال والنشيج المكتوم للرجال المنسيين. أندورا، فكر سيلاس وعضلاته آخذة في الانقباض. إن الأمر الذي لا يصدق هو أنه في تلك البقعة المهجورة المقفرة بين فرنسا وإسبانيا، هناك حيث كان يرتعش في زنزانته الحجرية متمنياً الموت..هناك كان المكان الذي تم فيه إنقاذ سيلاس. لم يكن ليدرك ذلك آنذاك. وسطع النور بعد الظلام. لم يكن اسمه سيلاس حينذاك، لكنه مع ذلك لا يتذكر الاسم الذي أطلقه عليه أبواه، فكان قد ترك منزله في السابعة من عمره. كان والده السكّير رجلاً ضخم الجثة يعمل حمالاً في المرفأ، أمضى حياته ساخطاً لأنه ابتلي بولد أبرص فكان يصب جام غضبه على زوجته ويضربها باستمرار ويلومها على حالة الولد المحرجة. وعندما كان الولد يحاول الدفاع عن أمه كان يتلقّى نصيبه من الضرب المبرّح. وذات ليلة، دبّ خلاف مرعب وسقطت أمه نتيجة الخلاف دون حراك ولم تستفق منه أبداً فوقف الولد بجانب أمه الميتة وأحس بموجة عارمة من الذنب تعتري حواسه لأنه ترك ذلك يحدث لها. إنها غلطتي! وكما لو أن جنياً تلبّسه، ذهب الولد إلى المطبخ وقبض على سكّين وكأنه منوّم مغناطيسياً مشى إلى غرفة النوم حيث كان والده ممدداً على السرير في حالة سكر شديد لدرجة الغياب عن الوعي، ودون أن ينبس ببنت شفة طعن والده من الخلف فصرخ من شدة الألم وحاول أن يلتفت، لكن ابنه ألحقه بطعنة ثانية وثالثة... هكذا حتى وقعت الشقة في سكوت مطبق. هرب الولد بعد تلك الحادثة من المنزل لكنه لم يجد شوارع مرسيليا أحنّ عليه من البيت الذي هرب منه. فقد جعله شكله الغريب منبوذاً من بين الهاربين الصغار الآخرين وقد اضطر للعيش وحيداً في قبو مصنع خرب، يقتات على الفواكه المسروقة والسمك النيّئ الذي كان يجده في المرفأ وكان عزاؤه الوحيد المجلات الممزقة التي كان يجدها في حاويات القمامة والتي علّم نفسه قراءتها. وبمرور الوقت كبر وأصبح قويّ البنية. وعندما كان في الثانية عشرة من عمره، سخرت منه إحدى الفتيات المشردات - فتاة يبلغ عمرها ضعف عمره - في الشارع وحاولت أن تسرق طعامه فهجم عليها وفي ثوان كانت بين الحياة والموت وبالكاد لحقت به الشرطة وسحبته من فوقها وأنذره رجال الشرطة إما أن يغادر شوارع مارسيليا أو سيكون سجن الأحداث بانتظاره. فانتقل جنوباً عبر الساحل إلى تولون ومع مرور الزمن تحولت نظرات الشفقة التي كان يرمقه بها المارّة إلى نظرات خوف، فقد كبر الولد وأصبح الآن شاباً ضخم الجثة. وعندما كان الناس يمرّون به كان يستطيع سماعهم يتهامسون في ما بينهم ويقولون شبح.. هذا شبح وتتسع حدقات أعينهم من الخوف وهم يحملقون ببشرته البيضاء، شبح بعيني شيطان! وكان يشعر بأنه شبح... شفاف... يطوف من ميناء إلى آخر. كان يبدو كما لو أن الناس يرون من خلاله. وعندما كان في الثامنة عشرة من العمر، وفي مدينة على المرفأ بينما كان يحاول سرقة صندوق من اللحم من سفينة بضائع، قبض عليه رجلان من طاقم السفينة، وكانت تفوح من البحارين رائحة البيرة تماماً كرائحة أبيه. فاستفاقت في رأسه ذكريات الرعب والكراهية كوحش كسر قضبان قفصه. فدقّ الشاب عنق أحد البحارة بيديه ولم ينجُ الآخر من مصير مماثل إلا بوصول الشرطة. وبعد شهرين، وصل إلى سجن أندورا مقيداً بالسلاسل. إنه أبيض كشبح، أخذ السجناء الآخرون يسخرون منه بينما كان الحراس يجرّونه إلى الداخل وهو عار ويشعر بالبرد ينخر عظامه. انظروا إلى الشبح! ربما يستطيع الشبح أن يعبر من خلال الجدران! وعلى مرّ اثني عشر عاماً، كان جسده وروحه يتقوقعان حتى أحس بأنه قد أصبح بالفعل شفافاً. أنا شبح. أنا عديم الوزن. أنا طيف... شاحب كالأشباح... أمشي في هذا العالم وحيداً. وذات ليلة استفاق الشبح على صرخات السجناء. لم يكن يعرف ما هي تلك القوة الخفية التي كانت تهزّ الأرض التي كان نائماً عليها وتلك اليد الجبّارة التي زعزعت بلاط زنزانته الحجرية، إلا أنه حالما قفز على رجليه هبطت صخرة كبيرة وحطّت تماماً على البقعة التي كان ينام فيها. ونظر عالياً إلى المكان الذي سقطت منه الصخرة، فرأى حفرة في الجدار المتداعي ووراءه كان هناك خيال لم يكن قد رآه منذ أكثر من عشرة أعوام.. القمر. حتى أثناء اهتزاز الأرض، وجد نفسه يحفر طريقاً عبر نفق ضيّق وأخذ يزحف حتى وصل إلى أرض واسعة فتعثّر هابطاً نحو الأسفل عند منحدر جبلي مقفر مؤدٍ إلى الغابة. وراح يركض طوال الليل دوماً باتجاه الجنوب وهو يهذي من الجوع والتعب. وجد نفسه عند الفجر وهو يكاد يخرّ فاقداً وعيه، في أرض دون شجر فيها أثر لسكة قطار يمرّ قاطعاً الغابات. لحق السكة الحديدية يمشي وكأنه في حلم ثم رأى عربة بضائع فارغة فزحف إلى الداخل باحثاً عن ملجأ ليرتاح. وعندما استفاق كان القطار يتحرّك. كم من الوقت مضى؟ وإلى أين كان ذاهباً؟ كان في أحشائه ألم متزايد. هل أنا أموت؟ وغطّ من جديد في نوم عميق. لكنه هذه المرة استيقظ على صوت أحد يصرخ في وجهه ويضربه ويركله خارج العربة. أخذ يهيم في ضواحي قرية صغيرة وهو مضرّج بالدماء يبحث عن طعام، لكن دون جدوى. وأخيراً لم يعد جسمه الضعيف قادراً على أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام، فتمدد على الأرض على قارعة الطريق وأغمي عليه. جاء الضوء بعيداً يزحف ببطء وتساءل الشبح كم من الوقت مضى وهو ميت يوم؟ ثلاثة أيام؟ لم يعد هذا مهماً. كان سريره ناعماً كغيمة وكان الهواء من حوله يعبق برائحة حلوة مصحوبة برائحة شموع، والمسيح كان هناك أيضاً ينظر إليه من الأعلى، قال المسيح: أنا هنا، لقد انزاح الحجر وقد ولدت من جديد. نام واستيقظ وكانت أفكاره مشوشة فلم يكن يوماً يؤمن بوجود الجنة، ورغم ذلك كان المسيح يحرسه ويرعاه. وكان هناك طعام بجانب سريره، وأكل الشبح الطعام وهو يكاد يشعر باللحم يكسو عظامه من جديد، ونام مرّة أخرى وعندما استيقظ كان المسيح لا يزال يبتسم في وجهه قائلاً لقد تم إنقاذك بنيّ، إنهم مباركون أولئك الذين يتبعون طريقي. ونام من جديد. كانت صرخة ألم تلك التي أجفلت الشبح من سباته العميق. فوثب من السرير ومشى مترنّحاً عبر رواق متجهاً نحو المكان الذي أتى منه الصراخ. ثم دخل المطبخ ورأى رجلاً ضخماً يضرب رجلاً صغير الحجم. ودون أن يعرف السبب، أمسك الشبح بالرجل الضخم ورماه بعنف إلى الوراء ليصطدم بالحائط. فلاذ الرجل بالفرار تاركاً وراءه الشبح يقف بجانب جسد شاب يرتدي ثوب كاهن. كان أنف الكاهن محطماً تماماً. رفع الشبح الكاهن المضرّج بدمه وحمله ثم وضعه على الأريكة. "شكراً لك يا صديقي"، قال له الكاهن بفرنسية ركيكة "إن أموال الصدقات دائماً تغري اللصوص. كنت تتحدّث بالفرنسية في نومك، هل تتكلم الإسبانية أيضاً؟". هزّ الشبح رأسه نافياً. "ما اسمك؟" تابع بفرنسية ضعيفة. لم يتمكّن الشبح من تذكّر الاسم الذي أطلقه عليه أبواه. ما كان يسمعه هو الألفاظ المهينة والأسماء الساخرة التي كان حرّاس السجن يمطرونه بها. ابتسم الكاهن قائلاً: "لا تقلق هذا غير مهم، اسمي مانويل أرينغاروزا، أنا مبشّر من مدريد لقد أرسلوني إلى هنا لكي أبني كنيسة لصالح أسقفية عمل الربّ". "أين أنا؟" بدا صوته عميقاً. "أنت في أوفييدو في شمال إسبانيا". "كيف وصلت إلى هنا؟". "أحد ما تركك هنا على عتبة بابي. لقد كنت مريضاً وقد أطعمتك. لقد مرّ على وجودك عدّة أيام". تمعّن الشبح في وليّ نعمته الشاب. لقد مرّت سنوات طويلة منذ أن أظهر أي إنسان تعاطفاً تجاهه. "شكراً لك يا أبتي". "لمس الكاهن شفته الملطّخة بالدم وقال: "أنا الذي أدين لك بالشكر والامتنان، يا صديقي". وعندما استيقظ الشبح في الصباح أحس أن عالمه أصبح أكثر صفاء، نظر إلى الصليب المعلّق إلى الأعلى في الحائط فوق سريره، رغم أنه لم يعد يتحدّث إليه إلا أنه أحسّ بشعور من الراحة في حضوره. استقرّ في جلسته مندهشاً لوجود صحيفة على الطاولة بالقرب من سريره. كان هناك مقال في الصحيفة مكتوب بالفرنسية وقد مضى عليه أسبوع. وعندما قرأ القصة، امتلأ قلبه ذعراً، كانت حول هزة أرضية ضربت الجبال وأدّت إلى تهديم سجن وتحرير العديد من المجرمين الخطرين. وأخذ قلبه يخفق بقوة. إنّ الكاهن يعرف من أنا! كان الإحساس الذي غمره قد غاب عنه لفترة طويلة. الخزي والذنب. وقد ترافقا بالخوف من القبض عليه. فقز من سريره. إلى أين أهرب؟ "كتاب الأعمال" قال الصوت القادم من وراء الباب. فالتفت الشبح مذعوراً. دخل الكاهن الشاب الغرفة والابتسامة تغطّي وجهه. كان أنفه مضمّداً بشكل غريب وكان يحمل بيده إنجيلاً قديماً "لقد عثرت على إنجيل بالفرنسية، خذه إنه لك، لقد وضعت علامة على أحد الفصول". أخذ الشبح الإنجيل بتردد ونظر إلى الفصل الذي علّمه الكاهن. المقطع 16. يروي قصة سجين اسمه سيلاس يتمدد عارياً ومقهوراً في زنزانته ويترنّم بتراتيل إلى الرب، وعندما وصل الشبح إلى المقطع 26 شهق بصدمة. "... وفجأة، كانت هناك هزّة أرضية، فتداعت أساسات السجن وفتحت كل الأبواب". رمى الشبح الكاهن بنظرة مذهولة. فابتسم الكاهن ابتسامة دافئة "من الآن فصاعداً يا صديقي، إذا لم يكن لديك اسم آخر فسأسميك سيلاس". هزّ الشبح رأسه بانشداه. لقد حصل على اسم.. على هوية، اسمي سيلاس. "حان وقت الإفطار" قال الكاهن، "ستحتاج إلى قوتك إذا كنت ستساعدني في بناء هذه الكنيسة". على ارتفاع عشرين ألف قدم فوق البحر الأبيض المتوسط، كانت طائرة الخطوط الجوية الإيطالية رقم 1618 تهتزّ بفعل المطبّات الهوائية مسببة حالة عصبية لدى الركاب، لكن القس أرينغاروزا بالكاد انتبه إلى ما كان يجري. كانت أفكاره تسبح بعيداً في مستقبل أوبوس داي. كان متلهّفاً لمعرفة كيف كانت الخطط تسير في باريس وتمنّى لو أنه يستطيع الاتصال بسيلاس. لكن ليس بإمكانه فعل ذلك فقد حذّره الأستاذ من القيام بذلك. "أنا أفعل ذلك من أجل سلامتك" هكذا فسّر له الأستاذ، متحدّثاً الإنجليزية بلكنة فرنسية. فأنا على دراية كافية بالاتصالات الإلكترونية لأعرف بأنه يمكن تعقّبها. ونتائج ذلك قد تكون كارثية عليك بالدرجة الأولى". كان أرينغاروزا يعلم بأنه على حقّ، فقد كان الأستاذ يبدو رجلاً حذراً فهو لم يكشف هويته حتّى لأرينغاروزا، إلا أنه بالرغم من ذلك أثبت أنّه رجل يستحقّ أن يطاع. فبالنهاية هو الذي تمكّن بطريقة ما من الحصول على معلومات غاية في السرّية. أسماء أعضاء الأخوية الأربعة الكبار! هذه كانت إحدى الضربات الموفقة التي أقنعت القسّ بأن الأستاذ قادر بالفعل على تسليمه الجائزة التي ادّعى أّنه قادر على كشف مكانها. "أيها القسّ"، كان قد قال له الأستاذ، "لقد قمت بكل الترتيبات لأضمن نجاح خطّتي، لذا يجب أن تسمح لسيلاس بأن يردّ عليّ ويمتثل لأوامري أنا فقط وذلك لعدّة أيام، ولن تتصلا ببعض في هذه الفترة. وسأقوم أنا بالاتصال به من خلال طرق آمنة". "وستعامله باحترام؟". "إنّ رجل دين يستحق أحسن معاملة". "ممتاز، إذن سيلاس وأنا لن نتحدّث مع بعض حتى ينتهي هذا الأمر". "أنا أفعل ذلك لأحمي اسمك واسم سيلاس واستثماري". "استثمارك؟". "أيها القسّ العزيز، إذا كانت لهفتك لمعرفة تطور الأحداث أولاً بأول ستودي بك إلى السجن، عندئذ لن تتمكّن من دفع أتعابي". ابتسم القسّ "أنت على حقّ، فنحن متفقون في الهدف الذي نسعى إليه. ليكن الرب معك". عشرون مليون يورو، فكّر القسّ، وهو ينظر الآن إلى الفضاء الرحب عبر نافذة الطائرة. كان المبلغ يساوي تقريباً نفس القيمة بالدولار الأمريكيّ. وهو مبلغ تافه مقابل شيء يحمل قوّة عظيمة. وشعر بثقة متجددة بأن الأستاذ وسيلاس لن يفشلا، فالمال والإيمان كانا دائماً أفضل الدوافع. الفصل الحادي عشر "دعابة رقمية؟" قال فاش بالفرنسية وقد اصفرّ وجهه وأخذ يحملق في صوفي نوفو غير مصدّق أذنيه. مزحة رقمية؟ "إن تقييمك المحترف لهذه الأرقام هو أنها مزحة رقمية؟". كان فاش غير مدرك على الإطلاق هدف هذه المرأة وراء ما تفعل، فهي لم تكتف بأنها اقتحمت التحقيق على فاش بكل بساطة ودون استئذان، بل أخذت الآن تحاول إقناعه بأن سونيير وفي اللحظات الأخيرة من حياته هبط عليه الإلهام ليترك وراءه خدعة رياضية؟ "هذه الشيفرة" راحت صوفي تفسّر بسرعة بالفرنسية "هي غاية في البساطة لدرجة السخافة، لا بدّ وأنّ جاك سونيير كان يعرف بأننا سنعرف ذلك في الحال". وسحبت قصاصة ورق من جيب سترتها وأعطتها لفاش، "هذا هو حلّ الشيفرة". ونظر فاش إلى البطاقة. 1-1-2-3-5-8-13-21 "هذا كل شيء؟" صرخ فاش في وجهها بحدّة، "كل ما فعلته هو أنك رتبت الأرقام تصاعدياً!". وكانت لدى صوفي الجرأة الكافية لترسم ابتسامة ارتياح ورضا على شفتيها "بالضبط". انخفض صوت فاش ليتحوّل إلى همهمة "أيتها العميلة نوفو، بصراحة ليست لديّ أدنى فكرة عما تنوين الوصول إليه من وراء كل هذا في النهاية، لكنني أقترح عليك أن تختصري الطريق وتصلي إلى الهدف بسرعة". ونظر بقلق إلى لانغدون الذي كان يقف قريباً منه والهاتف يضغط على أذنه ويبدو كأنه لا زال يستمع إلى الرسالة الهاتفية من السفارة الأمريكية وأحسّ فاش بأن الأنباء التي حملتها الرسالة كانت غير سارة على الإطلاق وذلك من الشحوب الذي غطّى وجهه. "أيها النقيب" قالت صوفي وقد حملت نبرة صوتها تحدياً خطيراً "إنّ متوالية الأرقام التي بين يديك هي إحدى أشهر المتواليات الحسابية في التاريخ". لم يكن فاش يعرف أصلاً بوجود متواليات حسابية توصف بأنها مشهورة، كما أن لهجة صوفي المستهترة لم تعجبه على الإطلاق. "هذه متوالية فيبوناتشي" قالت صوفي وهي تومئ برأسها نحو قطعة الورق التي يمسكها فاش بيده "وهي متوالية أساسها أنّ كل رقم يساوي مجموع الرقمين السابقين". تمعّن فاش بالأرقام وبالفعل كان كل رقم يساوي مجموع الرقمين السابقين، إلا أن فاش لا زال غير قادر على أن يتصور ما هي العلاقة بين كل ذلك وموت سونيير. "لقد اخترع عالم الرياضيات ليوناردو فيبوناتشي هذه المتوالية الرقمية في القرن الثالث عشر. ومن الواضح أنّ كافة الأرقام التي كتبها سونيير على الأرض تنتمي إلى متوالية فيبوناتشي المشهورة، وهذا أمر لا يمكن أن يكون قد حدث عن طريق المصادفة بل كان مقصوداً". حملق فاش في المرأة لعدّة لحظات ثم قال: "حسناً، إذا لم يحدث ذلك صدفة، هلاّ قلت لي لم فعل جاك سونيير ذلك؟ وما الذي يريد قوله؟ وماذا يعني ذلك؟". تنهّدت صوفي "لا شيء على الإطلاق، هذا كل ما في الأمر، إنها دعابة رمزية شديدة البساطة لا أكثر؛ كأن تأخذ قصيدة ما وتخلط كلماتها لا على التعيين لترى إذا كان هناك أحد يستطيع أن يعرف ما هو القاسم المشترك الذي يجمع بين تلك الكلمات". تقدّم فاش خطوة إلى الأمام مهدداً واقترب من صوفي حتى أصبح وجهه على بعد إنشات قليلة من وجهها. "آمل أن يكون لديك تفسير أكثر إقناعاً من ذلك". وتبدلت ملامح صوفي الناعمة لتصبح حادة بشكل غريب ومفاجئ وهي تنحني مقتربة من فاش وتقول له: "أيها النقيب، كان باعتقادي أنك بالنظر إلى المصاعب التي تواجهها هنا هذه الليلة، قد تقدّر المعلومة التي تفيد بأن من الممكن أن جاك سونيير كان يريد التلاعب بك. لكن من الواضح أنك لا تريد ذلك. لهذا سأخبر رئيس قسم فك الرموز بأنك لم تعد بحاجة إلى خدماتنا". وبتلك الكلمات قفلت عائدة من حيث أتت. راقبها فاش بذهول وهي تختفي في جنح الظلام. هل فقدت عقلها؟ لقد وضعت صوفي نوفو بفعلتها هذه تعريفاً جديداً لمفهوم الانتحار المهني. التفت فاش نحو لانغدون الذي لا زال ممسكاً بالهاتف وعلامات القلق بادية عليه أكثر من ذي قبل وهو ينصت بتركيز شديد إلى رسالته الهاتفية. السفارة الأمريكية... كان بيزو فاش يمقت عدّة أشياء غير أن القليل منها كان يثير حنقه أكثر من الغيظ الذي كانت تحرّكه السفارة الأمريكية. فقد كان فاش والسفير الأمريكي على خلاف دائم حول شؤون دولية مشتركة - وكانت المعارك بينهما غالباً ما تدور حول تطبيق القانون على الزوار الأمريكيين. حيث كانت الشرطة القضائية، تقريباً كل يوم، تقوم باعتقال طلاب تبادل دراسي أمريكيين لحيازتهم المخدرات ورجال أعمال أمريكيين لتورطهم مع عاهرات تحت السن القانونية وسواح أمريكيين لقيامهم بسرقة المحال التجارية أو لتدميرهم الممتلكات الخاصة. وحسب القانون فإن السفارة الأمريكية بإمكانها التدخل وترحيل المواطنين المذنبين إلى الولايات المتحدة حيث جل ما تقوم به هو صفعهم على يدهم لا أكثر. وذلك بالضبط هو ما تقوم به السفارة دوماً. وكان فاش يطلق على تلك العملية "خصي الشرطة القضائية". وتعقيباً على ذلك نشرت مجلة باريماتش حديثاً كاريكاتوراً يصوّر فاش على أنه كلب بوليسي يحاول عضّ مجرم أمريكي إلا أنه لا يستطيع الوصول إليه لأنه مربوط بسلسلة إلى السفارة الأمريكية. الليلة لن أسمح بحدوث ذلك، قال فاش في نفسه، فهناك الكثير على المحك. لدى إقفاله للخط، بدا روبرت لانغدون شاحباً إلى حدّ المرض. سأله فاش: "هل كل شيء على ما يرام؟". هزّ لانغدون رأسه وهو يكاد لا يقوى على الحركة. أحس فاش بأن لانغدون قد تلقّى أخباراً سيئة من بلده وقد لاحظ أن الأخير قد بدأ يتصبب عرقاً وهو يعيد إليه الهاتف النقّال. "لقد وقع حادث"، تمتم لانغدون ونظر إلى فاش وعلى وجهه تعبير غريب وقال بتردد "صديق لي"... "سأضطر للسفر إلى بلدي غداً في الصباح الباكر". لم يكن لدى فاش أدنى شك في أن الصدمة التي كانت مرسومة على وجه لانغدون كانت حقيقية، إلا أنه أحس بأن ثمة مشاعر أخرى كانت تخالج لانغدون، كما لو أنه كان هناك شبح من الخوف بدأ يلمع في عينيّ هذا الأمريكيّ. قال فاش مراقباً لانغدون بدقة: "يؤسفني سماع ذلك"، "أتودّ الجلوس؟" وأشار نحو أحد المقاعد المخصصة لمشاهدة التحف في صالة العرض. أومأ لانغدون برأسه بشرود ثم خطا بضع خطوات باتجاه المقعد. توقّف لبرهة ثم قال وهو يبدو أكثر ارتباكاً مع كل لحظة تمر "في الواقع، أعتقد أنني أودّ الذهاب إلى المرحاض". امتعض فاش في سرّهً للتأخير. "آه، بالتأكيد... المرحاض، دعنا نأخذ استراحة لبضع دقائق". وأشار إلى الوراء إلى نهاية الممر الطويل في الاتجاه الذي أتيا منه. "إنّ المراحيض هناك في الخلف بالقرب من مكتب القيّم". أشار لانغدون بتردد نحو الاتجاه الآخر نحو النهاية البعيدة من ممر صالة العرض، وقال: "أعتقد أنه يوجد هناك مرحاض أقرب بكثير". أدرك فاش أن لانغدون كان على حق، فقد كان الاثنان قد قطعا ثلثي الطريق وكانت صالة العرض تنتهي بمرحاضين. "هل آتي معك؟". هزّ لانغدون رأسه نافياً وقد أخذ يمشي في الممر نحو نهاية صالة العرض، "لا تتعب نفسك أعتقد أنني أودّ البقاء بمفردي لبضع دقائق". لم يكن فاش مسروراً لفكرة تجول لانغدون وحيداً على طول الممر، لكنه كان مطمئناً لمعرفته بأن صالة العرض الكبرى كانت نهايتها مسدودة ومخرجها الوحيد كان في الجهة الأخرى - أي من البوابة التي كانا قد دخلا من تحتها. وبالرغم من أن القوانين الفرنسية الخاصة بالحماية من الحرائق، تفرض وجود عدة سلالم للطوارئ لمساحات كبيرة كهذه إلا أنّ تلك السلالم كانت قد أقفلت أوتوماتيكياً عندما أطلق سونيير نظام الإنذار. ومن المؤكد أنّه قد تمت إعادة ضبط ذلك النظام الآن ما يعني فتح الأبواب المؤدية إلى سلالم الطوارئ، لكن هذا لا يهمّ لأن الأبواب الخارجية - إذا فتحت - ستؤدي إلى إطلاق صفارات إنذار الحريق وعلى أية حال فإن تلك الأبواب يحرسها عناصر الشرطة القضائية في الخارج. لذا فإنه من المستحيل أن يخرج لانغدون دون علم فاش. "عليّ الذهاب إلى مكتب السيد سونيير للحظات"، قال فاش، "أرجو أن تأتي إليّ مباشرة سيد لانغدون فلا زال هناك المزيد لنناقشه سويّاً". لوّح لانغدون بيده بهدوء ثم اختفى في الظلام. طفق فاش عائداً وهو يمشي في الاتجاه المعاكس ضارباً الأرض برجليه بغضب، ثم وصل إلى البوابة وانزلق تحتها خارجاً من صالة العرض الكبرى ثم توجه إلى الردهة واقتحم بعصبية مركز القيادة في مكتب سونيير ثم زمجر قائلاً "من الذي سمح لصوفي نوفو بالدخول إلى هذا المبنى؟". كان كوليه أول من تطوع بالإجابة "لقد أخبرت الحراس في الخارج أنها قد حلت الشيفرة". نظر فاش حوله "هل ذهبت؟". "أليست برفقتك؟". "لقد ذهبت". حدّق فاش في الممر المظلم في الخارج. يبدو أن نوفو لم تكن في مزاج يسمح لها بالمرور بالمكتب للثرثرة مع الضباط الآخرين في طريقها إلى الخارج. وفكّر فاش للحظة بأن يصدر أمراً عبر الراديو إلى الحراس في المدخل ليوقفوا صوفي ويجرّوها إلى الداخل نحو مركز القيادة قبل أن تتمكن من ترك المبنى. وفكر ملياً بذلك إلا أن كبرياءه هو الذي كان يملي عليه تلك الأفكار لأنه يريد الكلمة الأخيرة لنفسه. لكنه كان قد أضاع الكثير من وقته حتى الآن هذه الليلة. يمكنك الاهتمام بأمر العميلة نوفو لاحقاً، قال فاش في نفسه وهو متحمس لطردها من الخدمة. أبعد صوفي من ذهنه وحدّق للحظة في مجسّم الفارس القابع على طاولة مكتب سونيير ثم التفت إلى كوليه من جديد وسأله "هل لا زال تحت نظرك؟". هزّ كوليه رأسه إيجاباً وقرّب الكومبيوتر المحمول من فاش. كانت النقطة الحمراء واضحة على مخطط الطابق الذي يظهر على شاشة الكومبيوتر وهي تومض بتواتر في غرفة حملت علامة المراحيض العامة. "جيد" قال فاش وهو يشعل سيجارة ويتمشى ببطء في الردهة. "عليّ إجراء مكالمة هاتفية. تأكد تماماً من أن المرحاض هو المكان الوحيد الذي سيذهب إليه لانغدون". الفصل الثاني عشر أحس لانغدون بالدوار وهو يمشي متعباً نحو الطرف الآخر من صالة العرض الكبرى. وكانت رسالة صوفي الهاتفية تتكرر في رأسه مرة تلو الأخرى. وفي نهاية الممر كانت الإشارات المضيئة التي تحمل العلامة العالمية للمراحيض تقود لانغدون عبر مجموعة من فواصل أشبه بمتاهات تعرض لوحات إيطالية تحجب المراحيض عن الأعين. وحال عثوره على حمّام الرجال، دخل لانغدون وأضاء الضوء. كان الحمام خالياً. مشى نحو المغسلة ونضح وجهه بالماء البارد محاولاً أن يصحو. كانت هناك أضواء فلورية تسطع بقوة من السقف القرميديّ وكان المرحاض يعبق برائحة النشادر النفّاذة. وبينما كان يجفف يديه ووجهه سمع صريراً لباب ينفتح من ورائه فاستدار بسرعة. دخلت صوفي نوفو والخوف ينطلق من عينيها الخضراوين "أحمد الله على مجيئك، هيّا فليس لدينا وقت نضيعه". وقف لانغدون بجانب المغاسل وهو يحدّق بذهول إلى صوفي نوفو، العميلة في قسم حلّ الرموز في الشرطة القضائية. فقبل لحظات فقط، كان لانغدون يستمع إلى رسالتها الهاتفية وهو يعتقد أنّ هذه العميلة التي أتت لتوّها لا بدّ أن تكون مجنونة، وبالرغم من ذلك فإنه كلما استمع إلى المزيد كلما ازداد اقتناعه بصدق ما كانت صوفي نوفو تقوله. لا تبد أي رد فعل على ما سيأتي في هذه الرسالة. فقط استمع بهدوء. أنت الآن في خطر. اتّبع تعليماتي بدقة شديدة. قرر لانغدون أن يفعل تماماً ما أملته عليه صوفي بالرغم من الريبة التي كانت تعتريه. قال لفاش إن الرسالة الهاتفية كانت حول صديق مصاب في الولايات المتحدة ثم استأذنه للذهاب إلى المرحاض الموجود في الطرف الآخر من صالة العرض. وقفت صوفي أمامه الآن وهي لا زالت تحاول التقاط أنفاسها بعد أن هرعت عائدة إلى المرحاض. تحت نور الأضواء الفلورية كان لانغدون متفاجئاً عندما رأى أنّ مظهرها القاسي كان في الحقيقة يخفي ملامح ناعمة في ما عدا نظرتها التي كانت حادة. والتجاور الناشئ عن هذا التضاد أعاد إلى ذهنه صوراً للوحة رونوار المتعددة الطبقات... مبطنة لكنها واضحة في الوقت نفسه. تتميز بجلاء احتفظ بشكل ما بغطاء الغموض الذي يلفها. "أردت أن أحذرك، سيد لانغدون..." بدأت صوفي بالكلام وهي لا زالت تلتقط أنفاسها. "بأنك تخضع لمراقبة خقية دون علمك". وبينما كانت تتكلم بالإنجليزية التي تطبعها اللكنة الفرنسية كانت أصداء كلماتها ترنّ عبر الجدران مضفية على صوتها طابعاً عميقاً. "لكن... لماذا؟" سأل لانغدون. كانت صوفي قد قدّمت له تفسيراً في رسالتها الهاتفية، لكنه كان يريد أن يسمع ذلك منها شخصياً. "لأنّك.." قالت صوفي وهي تخطو نحوه "لأنّك برأي فاش المتهم الرئيس في هذه الجريمة". كان لانغدون مستعداً لسماع تلك الكلمات إلا أنها بالرغم من ذلك كانت تبدو سخيفة جداً بالنسبة إليه. وحسب ما تقول صوفي فإن لانغدون كان قد استدعي إلى اللوفر هذه الليلة ليس بصفته عالماً بالرموز بل متهماً يخضع الآن دون أي علم منه لواحدة من أكثر الطرق المفضلة للاستجواب التي تتبعها الشرطة القضائية الفرنسية - المراقبة الخفية - وهي خداع حاذق تقوم الشرطة من خلاله وبكل هدوء بدعوة المتهم إلى مسرح الجريمة وتتحدث معه على أمل أن يصاب بالذعر ويرتبك فيجرّم نفسه ويعترف خطأً بارتكابه الجريمة. "أدخل يدك في الجيب الأيسر لسترتك" قالت صوفي "وستجد الدليل على أنهم يراقبونك". أحس لانغدون بخوفه يزداد شيئاً فشيئاً. أبحث في جيبي؟ لقد بدا ذلك له وكأنه خدعة سحرية مبتذلة. "هيا... فقط ابحث في جيبك". أدخل لانغدون يده بارتباك في الجيب الأيسر لسترته الصوفية - الجيب الذي لم يستخدمه قط. وأخذ يبحث في الداخل لكنه لم يجد شيئاً. ماذا كنت تتوقع؟ وأخذ يتساءل عندئذ في ما إذا كانت صوفي في النهاية مجرد امرأة مجنونة، ثم مرّت أصابعه بشيء غير متوقع، شيء صغير وقاس؛ التقط لانغدون الشيء الصغير بأصابعه وأخرجه من جيبه وحدّق فيه بذهول. لقد كان ذلك الشيء قرصاً معدنياً بشكل زر بحجم بطارية ساعة اليد. ولم يكن قد رآه من قبل. "ما هذا...؟". "إنها نقطة تعقّب أثر وتحديد موقعه على سطح الأرض" قالت صوفي "إنها تقوم بنقل موقعها إلى قمر صناعي يتمتع بنظام تحديد الموقع على سطح الأرض حيث يكون بإمكان الشرطة القضائية مراقبته. نحن نستخدم هذا النظام لمراقبة أماكن تواجد الناس. ودقته تصل إلى تحديد أي موقع على سطح الأرض بنسبة خطأ لا تتجاوز قدمين. فهم يراقبونك كما لو أنك مربوط برسن إلكتروني. فالعميل الذي أتى لاصطحابك من الفندق قام بدسّها داخل جيبك قبل أن تغادر غرفتك". عاد لانغدون بذاكرته وحاول استرجاع الأحداث التي تمت منذ كان في غرفته... اغتساله السريع، ثم ارتدائه لملابسه ثم هناك عميل الشرطة القضائية الذي كان يحمل له معطفه الصوفي بكل أدب ولطف عندما كانا يغادران الغرفة. إن الجو بارد في الخارج سيد لانغدون، قال العميل، فالربيع في باريس ليس في الحقيقة كما تدّعيه الأغاني الرومانسية. فشكره لانغدون ثم أخذ منه المعطف. كانت نظرة صوفي بلون عينيها الزيتوني حادة وثاقبة. "لقد تعمّدت ألا أذكر نقطة تعقب الأثر مسبقاً لأنني لم أكن أريدك أن تبحث عنها في جيبك أمام فاش. فيجب ألا يعرف أنك قد عثرت عليها". لم يكن لدى لانغدون أدنى فكرة عن كيفية استجابته لما سمعه لتوّه. "لقد تتبعوا أثرك بواسطة نظام تحديد الموقع على الأرض لأنهم كانوا يخشون هروبك". وصمتت للحظة ثم تابعت كلامها "في الواقع، كانوا يتأملون أن تهرب، حيث أن ذلك من شأنه أن يجعل قضيتهم ضدك أقوى". "ولماذا أهرب؟!" قال لانغدون "أنا بريء!". "فاش يعتقد غير ذلك". مشى لانغدون بغضب نحو سلة القمامة ليرمي نقطة تعقب الأثر. "لا تفعل!" أمسكت صوفي بذراعه وأوقفته "دعها في جيبك، إذا رميتها الآن ستتوقف الإشارة عن الحركة وعندئذ سيعلمون أنك عثرت على النقطة. فالسبب الوحيد الذي حدا بفاش ليدعك تذهب لوحدك هو أنه يمكنه مراقبة مكان وجودك. وإذا اعتقد أنك اكتشفت ما يفعله بك..." ولم تكمل صوفي الفكرة وعوضاً عن ذلك انتزعت القرص المعدني من يد لانغدون وأعادته إلى جيب معطفه الصوفي "ستبقي على النقطة معك على الأقل في الوقت الراهن". أحس لانغدون باليأس "كيف يمكن لفاش بحق الجحيم أن يظن أنني قتلت جاك سونيير؟!". "لديه أسباب مقنعة إلى حدٍّ كبير للشك بك". وتحول التعبير على وجه صوفي وأصبح متجهماً "فثمة دليل هنا لم تره بعد. لقد أخفاه فاش عنك بحذر شديد". كان لانغدون مذهولاً لدرجة أنّ كل ما استطاع فعله هو التحديق دون أن ينبس ببنت شفة. "أتذكر الأسطر الثلاثة من النص الذي كتبه سونيير على الأرض؟". هز لانغدون رأسه إيجاباً فتلك الأرقام والكلمات كانت محفورة في ذهنه. خفت صوت صوفي وأخذت تهمس قائلة: "للأسف، إن ما رأيته لم يكن الرسالة بأكملها، فقد كان هناك سطر رابع كان فاش قد صوره ثم مسحه قبل مجيئك". بالرغم من أن لانغدون كان يعلم أن الحبر القابل للحل الذي يستخدم في القلم المائي، يمكن مسحه بسهولة إلا أنه لم يكن بإمكانه أن يتخيل السبب الذي قد يدعو فاش للقيام بمحو دليل في جريمة قتل. "فآخر سطر في الرسالة" قالت صوفي "كان شيئاً لم يكن فاش يريدك أن تعرفه" وصمتت قليلاً ثم استطردت "كان يريد إخفاءه عنك إلى حين الانتهاء على الأقل من التحقيق معك". وأبرزت صوفي نسخة مطبوعة من الكومبيوتر لصورة أخرجتها من جيب سترتها وفضّتها "لقد قام فاش هذا المساء بتحميل صور على الكومبيوتر لمسرح الجريمة وأرسلها إلى قسم حل الرموز على أمل أن نتمكّن من معرفة ما الذي كان سونيير يحاول قوله من خلال الرسالة". وأعطت لانغدون الورقة. نظر لانغدون إلى الصورة وهو لا يصدق عينيه. فقد كشفت الصورة الرسالة المضيئة المكتوبة على الأرضية الخشبية. وجاء السطر الأخير ليصدم لانغدون كما لو أن أحداً وجّه إليه ركلة موجعة في بطنه. 13-3-2-21-1-1-8-5 O, Draconian devil! Oh, lame saint! P.S. Find Robert Langdon الفصل الثالث عشر حملق لانغدون بذهول لعدة ثوانٍ في الصورة الفوتوغرافية حيث ذيّل سونيير رسالته بجملة: بي - إس آتوا بروبرت لانغدون. لقد ذكر سونيير اسمي في حاشية رسالته؟ مهما اشتط به الخيال بعيداً، لم يكن لانغدون ليفهم السبب الذي حدا بسونيير أن يفعل ذلك. "هل تدرك الآن؟" قالت صوفي وعيناها تلحان بالسؤال "لماذا أمر فاش بإحضارك إلى هنا الليلة ولماذا يعتبرك المتهم الرئيس؟". كان الشيء الوحيد الذي فهمه لانغدون في تلك اللحظة هو السبب الذي جعل فاش يبدو شديد الاعتداد بنفسه عندما افترض لانغدون أنه كان على سونيير أن يذكر اسم قاتله في الرسالة التي تركها. آتوا بروبرت لانغدون... "ما الذي جعل جاك سونيير يكتب ذلك؟" تساءل لانغدون وقد أخذ غضبه يتصاعد ليحل محلّ الحيرة التي كانت تنتابه سابقاً. "ما السبب الذي قد يدعوني لقتل جاك سونيير؟". "على فاش أن يكشف الدافع من وراء ذلك، إلا أنه كان يسجل الحديث الذي دار بينكما الليلة بالكامل على أمل أنك قد تعترف بالدافع دون قصد". فتح لانغدون فمه لكن الكلمات لم تتمكن من الخروج من بين شفتيه. "لقد زوّد بميكروفون مصغّر" أخذت صوفي تشرح له، "موصول بجهاز إرسال موجود في جيبه يقوم بنقل الإشارة إلى مركز القيادة". "هذا غير معقول أبداً"، تمتم لانغدون "فأنا لديّ حجة غياب فقد عدت إلى الفندق بعد أن أنهيت محاضرتي مباشرة، يمكنك أن تسألي مكتب الاستقبال في الفندق". "لقد قام بذلك فاش، ويظهر تقريره أنك استعدت مفتاح غرفتك من موظف الاستقبال حوالى الساعة العاشرة والنصف، لكن لسوء الحظ فإن وقت ارتكاب الجريمة هو أقرب للساعة الحادية عشرة حيث كان بإمكانك بكل سهولة أن تغادر غرفتك دون أن يراك أحد". "هذا جنون! فاش لا يمتلك أي دليل على ذلك". اتسعت عينا صوفي وبدت كأنها تريد أن تقول: ليس لديه أي دليل؟ "سيد لانغدون، إن اسمك مكتوب على الأرض بجانب الجثة، ودفتر مواعيد سونيير يذكر أنك كنت معه تقريباً في وقت ارتكاب الجريمة"، وصمتت قليلاً ثم أضافت "إن فاش لديه أكثر من دليل يمكنه من اعتقالك ليحقق معك". شعر لانغدون فجأة أنه بحاجة إلى محامٍ. "أنا لم أفعل ذلك". تنهدت صوفي. "هذا ليس برنامجاً تليفزيونياً أمريكياً، سيد لانغدون. فهنا في فرنسا القوانين تحمي الشرطة لا المجرمين كما أنه يجب أخذ وسائل الإعلام في عين الاعتبار فقد كان جاك سونيير رجلاً ذا مكانة مرموقة كما أنه كان شخصية محبوبةً جداً في باريس وسيكون نبأ مقتله هو أول خبر يذاع في الصباح الباكر. كما أنه ستكون هناك في الحال ضغوط ستمارس على فاش حتى يقوم بالإدلاء بمعلومات إلى الرأي العام حول الجريمة، وبالطبع ستكون صورته أفضل بكثير فيما لو كان تحت يده متهم ما. لذا سواء كنت مذنباً أم لا، فستقوم الشرطة القضائية بالتأكيد باحتجازك إلى حين توصّلهم إلى حقيقة الأمر. أحس لانغدون كأنه حيوان حبيس القفص "لماذا تقولين لي كل هذا؟". "لأنني يا سيد لانغدون أعتقد أنك بريء" ونظرت صوفي بعيداً للحظة ثم عادت ونظرت في عينيه. "هذا بالإضافة إلى أنني مسؤولة إلى حدٍّ ما عن المتاعب التي قد وقعت فيها". "اعذريني فأنا لم أفهم، هل تقولين إن محاولة سونيير الإيقاع بي هي خطأك؟". "لم يكن سونيير يحاول الإيقاع بك. تلك كانت غلطة. فالرسالة التي كتبها على الأرض كانت موجهة إلي أنا". كان لانغدون بحاجة إلى بضع دقائق ليستوعب ذلك. "عفواً هل من الممكن أن تفسري لي ما قلت؟". "لم تكن تلك الرسالة موجهة للشرطة لقد كتبها لأقرأها أنا. أعتقد أنه كان مضطراً لأن يفعل كل شيء على عجل لدرجة أنه لم يدرك كيف سيبدو كل ذلك بالنسبة للشرطة". وتوقفت قليلاً ثم استأنفت كلامها "إن الشيفرة الرقمية لا تحمل أي معنى على الإطلاق وقد كتبها سونيير لمجرد أنه أراد أن يتأكد من أن التحقيق في مقتله سوف يتطلب تدخل قسم حل الرموز في الشرطة القضائية وذلك كي يضمن بأنني سأعرف ما الذي حدث له في أسرع وقت ممكن". شعر لانغدون بأنه بدأ يفقد سلسلة الأحداث شيئاً فشيئاً. فسواء كانت صوفي قد فقدت عقلها أم لا كان هذا لا يهم الآن لأنه بدأ يفهم لماذا كانت صوفي تساعده. بي. إس آتوا بروبرت لانغدون. من الواضح أنها اعتقدت أن القيّم قد ترك لها حاشية رسالة رمزية تطلب منها أن تبحث عن لانغدون وتأتي به. "لكن لماذا تعتقدين أن الرسالة كانت موجهة إليك؟". "الرجل الفيتروفي"، قالت ببساطة، "ذلك الرسم بشكل خاص كان أحب أعمال دافنشي إليّ وقد استخدمه سونيير هذه الليلة ليلفت انتباهي". "انتظري لحظة، أنت تقولين أن القيّم كان يعرف أكثر لوحة فنية تحبينها؟". أومأت صوفي برأسها "أنا آسفة، أعتقد أن الأمور قد اختلطت عليك، دعني أشرح لك إنني وجاك سونيير...". وارتجف صوت صوفي، فأحس لانغدون فجأة أن ثمة حزناً دفيناً فيه وذكريات ماض مؤلم تختبئ في طيات كلماتها. فيبدو أنه كانت هناك علاقة خاصة بين صوفي وجاك سونيير. أمعن لانغدون النظر في المرأة الجميلة الواقفة أمامه وهو يعلم تماماً أن الرجال المسنين في فرنسا غالباً ما يتخذون عشيقات صغيرات في السن. إلا أنه لم يرَ صوفي عشيقة رجل مسن فهي تبدو امرأة مستقلة وذات عزة نفس وامرأة كهذه لا يمكنها أن تقبل بوضع كهذا. "لقد حدث بيننا شجار كبير أدى إلى قطع العلاقة بيننا منذ عشر سنوات" قالت صوفي وقد خفت صوتها ليصبح همساً "وأصبحنا بالكاد نتكلم مع بعضنا منذ ذلك الحين. والليلة عندما تلقى قسم فك الرموز الاتصال الذي أفاد بمقتله ورأيت صور جثته والنص الذي كتبه على أرضية صالة العرض، عرفت عندئذ أنه كان يحاول أن يوصل إليّ رسالة ما". "وعرفت ذلك من خلال لوحة الرجل الفيتروفي؟". "نعم، ومن خلال الحرفين بي. إس P.S. أيضاً". "تعنين حاشية الرسالة؟ Post Script؟". هزت رأسها نافية. "P.S. هما الحرفان الأولان من اسمي". "لكن اسمك هو صوفي نوفو". نظرت بعيداً وقالت: "P.S. هو اللقب الذي أطلقه عليّ عندما كنت أعيش معه". واحمرّت وجنتاها خجلاً. "وهو يرمز إلى Princesse Sophie أو الأميرة صوفي". لم يكن لانغدون يعرف بماذا يجيب. "هذا سخيف، أعرف ذلك" قالت صوفي، "لكن هذا كان منذ سنين طويلة عندما كنت فتاة صغيرة". "كنت تعرفينه منذ كنت فتاة صغيرة؟". "كنت أعرفه جيداً"، قالت ذلك وعيناها كانتا تفيضان بعواطف جياشة. "كان جاك سونيير... جدّي". الفصل الرابع عشر "أين لانغدون؟" سأل فاش بإلحاح وهو يزفر آخر ما تبقى من سيجارته وهو يذرع الطريق إلى مركز القيادة جيئة وذهاباً. "ما زال في المرحاض، سيدي". كان الملازم كوليه يتوقع هذا السؤال. قال فاش متذمراً: "أرى أنه مرتاح تماماً هناك وقد استغرق وقتاً طويلاً أليس كذلك؟". ألقى فاش نظرة بطرف عينه من فوق كتفي كوليه إلى نقطة تحديد الموقع على سطح الأرض، وقد شعر كوليه بحرارة الموقف تزداد شيئاً فشيئاً فقد كان فاش يقاوم رغبة ملحة تدعوه للذهاب وتفقّد لانغدون. وفي أحسن الأحوال، كان يسمح لهدف المراقبة بكامل الحرية الممكنة من حيث الحركة والوقت بحيث تمنح الهدف إحساساً كاذباً ومؤقتاً بالأمان. وكان على لانغدون أن يعود أدراجه بملء إرادته ومع ذلك فقد مضى على غيابه قرابة العشر دقائق. وذلك وقت طويل. "هل هناك احتمال أن يكون لانغدون على علم بأنه مراقب؟" سأل فاش. هز كوليه راسه نافياً وقال: "لازلنا نرى تحركات بسيطة في المرحاض لذا فمن المؤكد أن نقطة تحديد الموقع لازالت موجودة في جيبه. قد لا يكون على ما يرام، وإذا فرضنا أنه قد عثر على النقطة فسيقوم بالتخلص منها ويحاول الفرار بسرعة". نظر فاش في ساعته، "حسناً". إلا أن فاش لا زال يبدو قلقاً ومتوتراً. وطوال المساء كان كوليه يشعر بحدة غير عادية تسيطر على رئيسه الذي عهده دوماً يتصرف بعقلانية بعيداً عن العواطف تجاه القضايا التي تواجهه إضافة إلى كونه يتحكم بأعصابه تحت الضغوطات، لكن فاش كان يبدو الليلة متأثراً جداً بهذه القضية كما لو أن الأمر كان يعنيه شخصياً هذه المرة. وهذا ليس بغريب برأي كوليه حيث أن فاش بحاجة ماسة لهذا الاعتقال، فمؤخراً أصبح مجلس الوزراء ووسائل الإعلام ينتقدون علانية طريقة فاش الهجومية وصداماته المتكررة مع سفارات أجنبية متنفذة والمصاريف المهولة التي يخصصها لوسائل تكنولوجية حديثة. والليلة سيكون اعتقال شخصية أمريكية بارزة تم فيه استخدام تكنولوجيا متطورة أفضل طريقة لإسكات نقاده مما سيساعده على الاحتفاظ بعمله لبضع سنوات حتى يتمكن من التقاعد ويضمن مبلغاً محترماً. الله وحده يعلم كم أن فاش بحاجة لنجاح هذه العملية، فكر كوليه. فقد دمر فاش على الصعيدين المهني والشخصي ولعه الشديد بالتكنولوجيا المتطورة. فقد دارت إشاعات تقول إن فاش قد استثمر مدخراته بالكامل في طفرة التكنولوجيا منذ بضع سنوات خلت وخسرها كلها. وكان فاش رجلاً لا يرضى بالخسارة أبداً. وقد كان هناك الكثير من الوقت الليلة. وبالرغم من أن مقاطعة صوفي نوفو الغريبة للتحقيق كانت غير سارّة إلا أنها لم تؤثر كثيراً على العملية وقد مضت في طريقها الآن ولا زال في يد فاش العديد من الأوراق ليلعب بها. كما أنه كان على فاش أن يخبر لانغدون أن اسمه كان مكتوباً على الأرض بيد الضحية. بي. إس آتوا بروبرت لانغدون... وسيكون رد فعل الأمريكي على هذا الجزء الدقيق من تفاصيل الأدلة مشوقاً بالتأكيد. "حضرة النقيب". أحد عناصر الشرطة القضائية كان يناديه الآن من الزاوية البعيدة للمكتب. "أعتقد أنه من الأفضل أن ترد على هذه المكالمة". وكان يمسك سماعة الهاتف بيده وهو يبدو قلقاً ومتوتراً. "من المتصل؟" قال فاش. قطب العنصر حاجبيه. "إنه مدير قسم حل الرموز". "وبعد؟". "إنه يتصل بخصوص صوفي نوفو سيدي، شيء ما يبدو مريباً". الفصل الخامس عشر هذه هي اللحظة المنتظرة...فقد آن الأوان شعر سيلاس بالقوة وهو يترجل من سيارة الأودي السوداء، كانت نسمات المساء تتخلل ثوبه المفتوح من الأسفل. إن رياح التغيير قادمة لا شك. كان سيلاس يعلم أن المهمة الملقاة على عاتقه تتطلب الكثير من البراعة والدقة والقليل من القوة، لذا فقد ترك مسدسه في السيارة. ذلك المسدس ذو الثلاث عشر طلقة من موديل هيكلر كوخ يو إس بي 40 الذي أعطاه إياه الأستاذ. فلا مكان لسلاح مميت في بيت الرب. كانت الساحة التي تقع أمام الكنيسة العظيمة مهجورة لا أثر لأحد فيها في هذا الوقت المتأخر في ما عدا بضع بائعات هوى مراهقات يبدين من بعيد وهنّ يعرضن مفاتنهنّ على رواد الليل من السواح. وكانت أجسادهن الغضة تشعل في سيلاس رغبة شديدة جعلت فخذه يتلوّى غريزياً حيث أخذ الحزام ذو المسامير المثبت عليه يجرحه مسبباً ألماً شديداً وهكذا تبخّر شبقه في الحال. لقد مضت عشر سنوات حتى الآن وسيلاس يحرم نفسه بكل صرامة من كل المتع والملذات الجنسية وحتى الذاتي منها... فهذا هو أساس الطريقة التي كان من أتباعها. وكان يعلم أنه قد ضحى بالكثير في سبيل اتباع أوبوس داي إلا أنه تلقّى أكثر بكثير في المقابل. وقد كانت النذور التي قطعها على نفسه بالامتناع عن الزواج وتخليه عن كافة متعلقاته الشخصية، كانت كلها تكاد لا تبدو تضحيات على الإطلاق. وبالنظر إلى الفقر المدقع الذي عاشه من قبل والأهوال التي تعرّض لها من جرّاء الأذى الجنسي في السجن، كانت العزوبية تغييراً مرحباً به تماماً. والآن وبعد أن عاد إلى فرنسا للمرة الأولى منذ اعتقاله وترحيله إلى سجن أندورا، كان سيلاس يشعر وكأنّ وطنه يختبره باجتراره ذكريات عنيفة من روحه المعتقة. لقد ولدت من جديد، ذكّر سيلاس نفسه. كانت الخدمة التي أداها اليوم للرب قد تطلّبت منه ارتكاب خطيئة القتل وكان سيلاس يعلم أنّ تلك كانت تضحية سيضطر إلى كتمانها سرّا في قلبه إلى الأبد. إن مقياس إيمانك هو مقياس الألم الذي يمكنك احتماله، ذلك ما قاله له الأستاذ. وسيلاس لم يكن غريباً على الألم وقد شعر بأنه يتوق إلى إثبات نفسه وقدراته أمام الأستاذ الذي أكد له بدوره أن الأفعال التي قام بها كانت بموجب أوامر من جهات عليا. "إنني أقوم بعمل الرب" همس سيلاس وهو يقترب الآن نحو مدخل الكنيسة. وعندما توقف أمام البوابة الكبيرة اخذ نفساً عميقاً. وحتى هذه اللحظة لم يكن سيلاس قد أدرك في الواقع ما الذي هو بصدد القيام به وما الذي ينتظره في الداخل. إنه المفتاح الذي سيرشدنا إلى هدفنا النهائي... ورفع قبضته البيضاء الشاحبة وطرق ثلاث مرات على الباب. بعد لحظات بدأت مزاليج البوابة الخشبية الضخمة تتحرك وتفتح. الفصل السادس عشر تساءلت صوفي كم من الوقت قد يتطّلب فاش كي يعرف بأنها لم تغادر المبنى. ولدى رؤيتها للانغدون الذي كان من الواضح أنه مرتبك تماماً، شكّت صوفي في ما إذا كانت قد فعلت الصواب عندما عرّضته للخطر باحتجازه هنا في المراحيض. ما الذي كان يجب أن أفعله؟ وتخيلت جسد جدها...عار وفي وضعية النسر باسط الجناحين يرقد على الأرض دون حراك. وتذكرت تلك الأيام... عندما كان جدّها هو عالمها كلّه، كان كل حياتها.. إلا أنها الليلة ولدهشتها الشديدة لم تشعر صوفي حتى بالأسى تجاه ذلك الرجل. وكان جاك سونيير بالنسبة لها الآن مجرد غريب لا يمت لها بصلة. وكانت العلاقة بينهما قد انقطعت تماماً وفي لحظة واحدة فقط بعد ما حدث في ليلة من ليالي آذار عندما كانت في الثانية والعشرين من عمرها. منذ عشر سنوات مضت. وذلك كان يوم أتت صوفي إلى البيت قبل عدة أيام من الموعد المقرر عائدة من جامعتها في إنجلترا، حيث شهدت دون قصد جدّها في وضع من الواضح أنه لم يكن من المفترض بها أن تراه أو تعرفه. كانت تلك صورة لم تكن قادرة على تصديقها حتى هذا اليوم. لو لم أكن قد رأيت ذلك بأم عيني... وكان خجلها وذهولها الشديدين قد بلغا حدّا لم تستطع معه أن تتحمل المحاولات المؤلمة واليائسة التي قام بها جدها لتفسير ما رأته تلك الليلة، لذا تركت صوفي المنزل في الحال ورحلت لتعيش على نفقتها حيث سحبت المال الذي كانت قد ادخرته سابقاً وأخذت شقة صغيرة تشاركت فيها السكن مع بعض الزملاء. وقطعت عهداً على نفسها بأنها لن تخبر أي إنسان عن الذي رأته. وقد حاول جدّها جاهداً الاتصال بها عن طريق رسائل وبطاقات تهنئة كان يرسلها إليها يتوسل إليها أن ترضى بمقابلته كي يتسنى له أن يشرح لها ما حدث. كيف سيشرح لها؟ لكن صوفي لم تردّ عليه إلا مرة واحدة وكان ذلك لتمنعه نهائياً من الاتصال بها أو محاولة مقابلتها على الملأ. كانت تخشى أن يكون تفسيره أشد بشاعة وإخافة من الحادثة بحد ذاتها. والغريب في الأمر هو أن سونيير لم يستسلم أبداً وكان لدى صوفي الآن رسائل غير مفتوحة استمر في إرسالها إليها ولمدة عشر سنوات، وقد حفظتها كلها في درج خزانتها. والصدق أن جدها لم يخالف أبداً رغباتها وظل يتصل بها حتى عصر هذا اليوم. "صوفي؟" كان صوته يبدو عجوزاً بشكل لا يصدق عندما سمعته من مجيبها الصوتي. "لقد امتثلت لرغباتك لوقت طويل جداً... ويؤلمني أن أتصل بك، لكنني يجب أن أراك... فقد حدث شيء رهيب..". أحست صوفي وهي واقفة في مطبخ شقتها الباريسية بقشعريرة لدى سماع صوته بعد مرور كل تلك السنين. فقد أعاد إليها صوته الحنون سيلاً من ذكريات عزيزة على قلبها من أيام الطفولة. "صوفي، أرجوك استمعي إليّ.."، كان يتحدث إليها بالإنجليزية كما كان يفعل دائماً عندما كانت طفلة صغيرة. تمرّني على الإنجليزية في البيت وعلى الفرنسية في المدرسة. "لا يمكنك أن تظلي غاضبة إلى الأبد. ألم تقرأي أياً من الرسائل التي بعثت بها إليك كل تلك السنين؟ ألم تفهمي بعد؟" وتوقف للحظة ثم تابع "يجب أن نتكلم لمرة واحدة فقط. أرجوك لبِّ هذه الأمنية الوحيدة لجدّك، اتصلي بي على اللوفر. حالاً... أعتقد أننا.. أنا وأنت في خطر عظيم". حدّقت صوفي في المجيب الصوتي. خطر؟ أي خطر هذا الذي يتحدّث عنه؟ "أميرتي..." اكتسى صوت جدها بعاطفة لم تستطع تحديدها. "أعرف أنني قد أخفيت عنك أموراً كثيرة، كما أعلم أن ذلك قد جعلني أدفع ثمناً غالياً فقد خسرت حبك لكنني فعلت ذلك حرصاً مني على سلامتك والآن يجب أن تعرفي الحقيقة. أرجوك يجب أن أخبرك حقيقة عائلتك". فجأة أخذت صوفي تسمع ضربات قلبها. عائلتي أنا؟ كان أبوا صوفي قد توفيا عندما كانت فقط في الرابعة من عمرها. عندما انحرفت سيارتهما من فوق جسر وسقطت في مياه ذات تيار سريع جرفهما وجدتها وأخاها الصغير اللذين كانا أيضاً في السيارة. فقد انمحت عائلة صوفي بأكملها من الوجود في لحظة واحدة. وكانت صوفي تحتفظ بصندوق فيه قصاصات من الصحف التي أكّدت ذلك الحادث. حرّكت كلماته موجة من الشوق العارم في دمها. عائلتي؟ في تلك اللحظة السريعة استعادت صوفي صوراً من الحلم الذي أيقظها مرات لا تعد ولا تحصى عندما كانت طفلة صغيرة: إن أهلي على قيد الحياة! وسيعودون إلى البيت! ولكن، وكما كان يحدث في الحلم تبخرت الصورة وغرقت في النسيان. إن أهلك قد ماتوا، صوفي، وهم لن يعودوا إلى البيت أبداً. "صوفي..." قال جدها "لقد انتظرت سنوات طويلة لأخبرك..محاولاً إيجاد الوقت المناسب، لكن الوقت نفد. اتصلي بي على اللوفر حالما تصلك هذه الرسالة سوف أنتظرك هنا طوال الليل، أخشى أن نكون أنا وأنت في خطر محدق. ثمة أمور كثيرة يجب أن تعرفيها". وانتهت الرسالة. وفي السكون المخيّم على الغرفة، وقفت صوفي وهي ترتجف لمدّة خيّل إليها أنها استمرت لدقائق طويلة. وعندما فكرت برسالة جدها، قالت في نفسها أنه لا يوجد سوى تفسير منطقي وحيد لما قاله. لقد اتضحت نواياه الحقيقية. كان ذلك طعماً. من الواضح أن جدها كان يريد أن يراها بأي طريقة لذا فقد كان مستعداً للقيام بأي شيء مهما كان. وبذلك ازداد ازدراؤها للرجل. وتساءلت صوفي في ما إذا كان جدها يعاني من مرض عضال دفعه لمحاولته القيام بأي خدعة خطرت في باله لحمل صوفي على زيارته للمرة الأخيرة وإذا كان الأمر كذلك فقد أحسن الاختيار... عائلتي.. أما الآن وحيث كانت صوفي واقفة في الظلام في مرحاض الرجال، كان بإمكان صوفي سماع أصداء الرسالة الهاتفية التي تركها لها جدها عصر هذا اليوم. صوفي، قد نكون نحن الاثنين في خطر. اتصلي بي. لم تتصل به ولا حتى فكرت بأن تتصل به، إلا أن تشكيكها بنوايا جدها ذهب أدراج الرياح الآن فأحداث اليوم أثبتت أنها كانت على خطأ. فها هو جدها قتيل يرقد على الأرض داخل متحفه وقد كتب شيفرة على الأرض. شيفرة لها، هذا هو الأمر الوحيد الذي كانت متأكدة منه. وبالرغم من أن صوفي لم تفهم معنى الرسالة إلا أنها كانت متأكدة من أن الطبيعة الرمزية للرسالة كانت دليلاً آخر على أن الكلمات كانت موجهة إليها. وقد كان ولع صوفي ومهارتها في فك الرموز نتاج نشأتها مع جاك سونيير - الذي كان نفسه شغوفاً بالشيفرات وألعاب الكلمات والأحاجي. فكم من العطل أمضينا سوياً ونحن نعمل على فك الرموز ونحل الكلمات المتقاطعة في الصحف؟ وعندما كانت صوفي في الثانية عشرة من عمرها كانت تستطيع أن تحل الكلمات المتقاطعة في جريدة لوموند بالكامل لوحدها دون مساعدة وكان جدها قد علمها أيضاً كيف تحل الكلمات المتقاطعة بالإنجليزية بالإضافة إلى الأحجيات الرياضية والشيفرات البديلة. وكانت صوفي تلتهم كل تلك المعلومات بنهم شديد. في النهاية وظفت صوفي ولعها ذاك وحولته إلى مهنة حيث أصبحت عالمة في فك الشيفرات تعمل لصالح الشرطة القضائية الفرنسية. والليلة، لم يكن للعالمة داخل صوفي إلا أن تعجب وتحترم المهارة التي تمتع بها جدها حيث استخدم شيفرة بسيطة ليجمع شخصين لا يعرفان بعضهما نهائياً - وهما صوفي نوفو وروبرت لانغدون. لكن السؤال هنا هو لماذا؟ ولسوء الحظ استنتجت صوفي من خلال نظرة الارتباك والذهول التي ارتسمت على وجه لانغدون أنه هو الآخر لم يكن لديه أدنى فكرة عن السبب الذي دفع جدها لرميها في نفس المستنقع. وضغطت عليه من جديد "لقد كنت وجدي على موعد الليلة، حول ماذا كان سيدور اللقاء؟". بدت على وجه لانغدون إشارة استفهام كبيرة وحيرة حقيقية "لقد رتبت سكرتيرته الموعد ولم تذكر سبباً محدداً للقاء، ولم أسألها بدوري عن السبب. فقد افترضت أنه كان قد سمع أنني سألقي محاضرة حول الأيقونات الوثنية في الكاتدرائيات الفرنسية، وبما أنه مهتم بهذا الموضوع فقد فكر أنه من الممتع أن نلتقي لاحتساء المشروبات ومناقشة هذا الموضوع بعد المحاضرة". لم تصدق صوفي ما قاله، فقد كانت هناك حلقة مفقودة لأن جدها كان يعرف كل ما يتعلق بالأيقونات الوثنية أكثر من أي أحد على وجه الأرض. وعلاوة على ذلك فقد كان جدها شخصاً كتوماً وجدياً إلى حدٍّ كبير، ولم يكن ليثرثر وبخاصة مع أساتذة جامعيين أمريكيين لا يعرفهم إلا لسبب وجيه. أخذت صوفي نفساً عميقاً وتابعت ضغطها بشكل أكبر "لقد اتصل بي جدي عصر اليوم وقال لي إن كلانا في خطر عظيم. هل يحمل هذا الكلام أي معنى بالنسبة لك؟". خيّمت غيمة من القلق على عيني لانغدون الزرقاوين "كلا، ولكن نظراً إلى ما حدث للتوّ...". أومأت صوفي برأسها، فبالنظر إلى الأحداث التي حصلت الليلة قد تكون مجنونة إذا لم تتأثر وتصاب بالرعب. أحست صوفي بأن كامل قواها قد استنزفت بينما راحت تمشي باتجاه النافذة الصغيرة التي كانت بشكل صفيحة زجاجية والموجودة في النهاية البعيدة للمراحيض وأخذت تحدق إلى الخارج في صمت عبر شبكة شريط الإنذار المزروع في الزجاج. لقد كانا في مكانٍ عالٍ جداً على ارتفاع أربعين قدماً على الأقل. تنهدت صوفي وهي ترفع عينيها لتتأمل منظر باريس المتألق في الخارج، فإلى اليسار منها وإلى الجانب الآخر من السين كان هناك برج إيفل بأضوائه الخلابة وإلى الأمام يرتفع قوس النصر وإلى يمينها إلى الأعلى يبرز منحدر مونمارتر والقبة الرائعة المزخرفة بالأرابيسك لكنيسة ساكري كور بأحجارها المصقولة التي تلمع بلونها الأبيض كحرم متألق. هنا في أقصى غرب جناح دينون، كان شارع بلاس دو كاروسيل باتجاه شمال جنوب يقع ملاصقاً تقريباً للبناء حيث لا يوجد هناك إلا رصيف ضيق يفصل بينه وبين الجدار الخارجي للّوفر. وبعيداً في الأسفل كانت قافلة من شاحنات تسليم البضائع التي تجوب المدينة ليلاً، واقفة في مكانها ومحركاتها تدور منتظرة الضوء الأخضر لإشارة المرور، وأضواء تلك الشاحنات تغمز ساخرة من صوفي التي تراقبها من الأعلى. "لا أعرف ماذا أقول" قال لانغدون وقد أتى من الخلف. "فمن الواضح أن جدك يحاول أن يقول لنا شيئاً ما. أنا آسف لأنني لم أستطع مساعدتك". عادت صوفي من أمام النافذة، وقد شعرت بصدق في الأسف الذي بدا واضحاً في صوت لانغدون العميق. فبالرغم من كل المشاكل التي أحاطت به من كل جانب، كان يريد فعلاً أن يساعدها. لا بد أنّ المدرّس الذي في داخله كان يحرّكه، فكرت صوفي، فهي قرأت تقرير الشرطة القضائية حول لانغدون - المشتبه به. فقد كان هذا شخصاً أكاديمياً يكره ألا يفهم كل شيء. فكرت صوفي... هذا أمر مشترك بيننا. وبما أن مهنة صوفي كعالمة في حل الشيفرات والرموز كانت تتلخص باستخراج المعاني من معلومات وبيانات تبدو ظاهرياً أنها لا تحمل أي معنى. لذا كان أفضل تخمين استطاعت أن تفكر به هو أن روبرت لانغدون، سواء كان يعرف ذلك أم لا، لديه معلومات هي بأمس الحاجة إليها. أميرتي صوفي، آتِ بروبرت لانغدون. لم يكن بمقدور جدها أن يترك رسالة أوضح من ذلك... ما كتبه كان واضحاً وضوح الشمس. إلا أن صوفي كانت بحاجة لمزيد من الوقت مع لانغدون، وقت للتفكير.. وقت لحل هذا الغموض معاً. لكن للأسف كان الوقت يكاد ينفد. نظرت صوفي إلى لانغدون ولعبت الورقة الوحيدة التي أمكنها أن تفكر بها "سيقوم بيزو فاش باعتقالك في أي لحظة الآن. يمكنني أن أخرجك من هذا المتحف لكن علينا أن نفعل ذلك الآن". ذهل لانغدون واتسعت عيناه لدى سماعه كلامها "تريدينني أن أهرب؟". "إن ذلك سيكون أذكى شيء يمكنك فعله لأنك إذا سمحت لفاش بأن يعتقلك الآن فستقضي أسابيع طويلة في سجن فرنسي بينما تتشاجر الشرطة القضائية والسفارة الأمريكية حول أي محكمة يجب أن تتولى قضيتك، لكن في حال استطعنا إخراجك من هنا وتمكنت من الوصول إلى سفارة بلدك عندها ستقوم حكومتك بحماية حقوقك بينما نثبت أنا وأنت أنه ليست هناك أي علاقة تربطك بهذه الجريمة". لم يبدُ لانغدون مقتنعاً بهذه الفكرة لا من قريب ولا من بعيد "مستحيل أن أفعل ذلك! فقد وضع فاش حراساً مسلحين في كل واحد من مخارج المتحف! وحتى إذا تمكنا من الفرار دون أن يطلقوا علينا النار، فإن هروبنا سيزيد الطين بلة ويجعلني أبدو مذنباً بالفعل. عليك أن تخبري فاش بأن الرسالة المكتوبة على الأرض موجهة إليك وأن اسمي ليس مذكوراً هناك على أنه اتهام". "سأفعل ذلك" قالت صوفي وهي تتكلم على عجل "لكن بعد أن تكون في أمان داخل السفارة الأمريكية. فهي على بعد ميل واحد فقط من هنا وسيارتي واقفة في مكان قريب جداً من المتحف. والتعامل مع فاش من هنا يعد فعلاً مغامرة لا تحمد عقباها. ألا ترى ذلك؟ لقد جعل فاش مهمته الليلة إثبات أنك مذنب. والسبب الوحيد الذي جعله يؤجل اعتقالك هو قيامه بهذه المراقبة على أمل أنك ستفعل شيئاً يؤدي إلى إثبات قضيته ضدك". "بالضبط...كهروبي مثلاً؟". فجأة بدأ الهاتف النقال في جيب كنزة صوفي يرن. قد يكون ذلك فاش. مدّت يدها داخل كنزتها وسحبت الهاتف ثم أطفأته. "سيد لانغدون"، قالت صوفي بسرعة "يجب أن أطرح عليك سؤالاً أخيراً" وقد يعتمد عليه مستقبلك بأكمله. "من الواضح أن الكتابة على الأرض ليست دليلاً على ارتكابك للجريمة، وبالرغم من ذلك فإن فاش قد أخبر فريقنا أنه متأكد من أنك أنت القاتل، هل هناك أي سبب آخر برأيك قد يكون قد أقنعه بأنك مذنب؟". صمت لانغدون لعدة ثوانٍ "نهائياً.. ليس هناك أي سبب على الإطلاق". تنهدت صوفي. إذن فاش كاذب. لماذا؟ لم تكن صوفي تستطيع أن تتصور السبب، لكن الآن لم يكن هذا الأمر ذا أهمية تذكر. تبقى الحقيقة الواضحة هي أن بيزو فاش كان مصمماً على زج روبرت لانغدون في السجن وراء القضبان الليلة مهما كان الثمن. كانت صوفي بحاجة لأن تحتفظ بلانغدون لنفسها وهذه المعضلة لم تترك لها سوى نتيجة منطقية وحيدة. يجب أن أضمن وصول لانغدون إلى السفارة الأمريكية. التفتت صوفي نحو النافذة من جديد وأخذت تنظر من خلال شبكة الإنذار المزروعة في الصفيحة الزجاجية، إلى الارتفاع الشاهق الذي يفصلها عن الرصيف في الأسفل... أربعين قدماً. إن قفزة من هذا العلو قد تؤدي إلى كسر رجلي لانغدون في أحسن الأحوال. غير أن صوفي قررت وانتهى الأمر. روبرت لانغدون كان على وشك الفرار من اللوفر سواء فعل ذلك بإرادته أو رغماً عنه. الفصل السابع عشر "ماذا الذي تقوله؟ كيف لا تردّ على الهاتف؟" بدا فاش وكأنه لا يصدق أذنيه "أنت تتصل بها على هاتفها النقال أليس كذلك؟ أعلم أنها تحمله معها الآن". كان كوليه يحاول الوصول إلى صوفي منذ عدة دقائق دون نتيجة. "ربما نفدت طاقة بطاريات هاتفها، أو أنها أطفأت صوت الرنين في هاتفها". لقد بدا فاش متوتراً منذ أن تحدث عبر الهاتف إلى مدير قسم حل الرموز. فبعد أن أنهى المكالمة مشى نحو كوليه وأمره بأن يطلب العميلة نوفو على الهاتف. والآن وقد باءت محاولات كوليه بالفشل أخذ فاش يذرع المكان جيئة وذهاباً كأسد محبوس في قفص. "لم أتصل بقسم حل الرموز؟" تجرّأ كوليه بالسؤال الآن. التفت فاش وأجابه: "ليخبرونا انهم لم يتوصلوا إلى أي أصل لدراكونيان ديفلز وليم سينتس (Draconian devils-lame saints). "هذا كل شيء؟". "كلا، ليس هذا فقط بل إنهم عرفوا للتو أن المتوالية الحسابية هي متوالية فيبوناتشي المشهورة إلا أنهم يعتقدون أن تلك المجموعة لا تحمل أي معنى على الإطلاق". كان كوليه مرتبكاً فلم يفهم ما يجري "لكنهم سبق وأرسلوا العميلة نوفو لتخبرنا بذلك". هز فاش رأسه نافياً "لم يرسلوا نوفو". "ماذا؟". "بحسب ما قاله المدير، فإنه لدى تلقيه أوامري قام بالاتصال بكافة أعضاء فريقه كي يلقوا نظرة على الصور التي أرسلتها إليه. وعندما وصلت العميلة نوفو إلى هناك ألقت نظرة واحدة إلى صور سونيير والشيفرة ثم تركت المكتب دون أن تنبس ببنت شفة. كما قال المدير إنه لم يناقش سلوكها لأنه كان لها كامل الحق في أن تنزعج لرؤيتها الصور". "ولم تنزعج؟ ألم ترَ في حياتها صورة جثة رجل ميت؟". صمت فاش للحظة "لم أكن على علم بذلك ويبدو أن المدير كذلك حتى أخبره أحد الزملاء... فقد اتضح أن صوفي نوفو هي حفيدة جاك سونيير". كان كوليه عاجزاً عن الكلام. "قال المدير إنها لم تأتِ على ذكر سونيير نهائياً ولا حتى لمرة واحدة وافترض أنها ربما لم تكن تريد أن تلقى معاملة خاصة لأن جدها شخصية مشهورة". ليس غريباً إذن أن تكون الصور قد ضايقتها. كان كوليه يجد صعوبة في تقبّل الصدفة التعسة التي جعلت عالمة شابة تقوم بفك شيفرة كتبها رجل ميت من عائلتها. لكن ذلك لا يبرر تصرفاتها. "لكن من الواضح أنها قد تعرفت إلى الأرقام على أنها متوالية فيبوناتشي لأنها أتت إلى هنا وأخبرتنا بذلك. لكنني لا أفهم لماذا قد تكون تركت المكتب دون أن تخبر أحداً بأنها قد عرفت الأرقام". كان كوليه يمكنه أن يفكر في سيناريو وحيد من شأنه تفسير التطورات المزعجة التي حصلت مؤخراً وهو أن سونيير كان قد كتب شيفرة رقمية على الأرض على أمل أن يستعين فاش في التحقيق بقسم فك التشفير وبالتالي الاستعانة بحفيدته. أما في ما يتعلق ببقية الرسالة فهل كان سونيير يحاول التواصل مع حفيدته بطريقة أو بأخرى؟ وإذا كان الأمر كذلك، بماذا كانت الرسالة تحاول أن تخبرها؟ وأين كان موقع لانغدون من كل هذا؟ وقبل أن يتمكن كوليه من التعمق في تفكيره أكثر، مزق صوت جرس الإنذار سكون المتحف الموحش. وبدا كأن صوت الجرس آتٍ من داخل صالة العرض الكبرى. "جرس الإنذار!" صرخ أحد العملاء وعيناه على المعلومات التي تلقاها من مركز النظام الأمني للّوفر. "الغراند غاليري! مراحيض الرجال!". هرع فاش نحو كوليه "أين لانغدون؟". "لا زال في حمام الرجال!" وأشار كوليه إلى النقطة الحمراء التي تومض في شاشة كومبيوتره التخطيطي النقال "لا بد أنه كسر النافذة!". كان كوليه يعرف بأن لانغدون لن يتمكن من الابتعاد كثيراً. فبالرغم من أن قوانين الحماية من خطر الحريق في باريس كانت تفرض أن تكون النوافذ الموجودة على ارتفاع أكثر من خمسة عشر متر في الأبنية العامة، قابلة للكسر في حال حدوث حريق، إلا أن الخروج من نافذة في الطابق الثاني في اللوفر دون الاستعانة بخطاف وسلّم، يعتبر انتحاراً بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وعلاوة على ذلك فإنه ليس هناك شجر أو عشب في القسم الذي يطل عليه القسم الغربي البعيد من جناح دينون ليخفف من وقع سقوط لانغدون. فتحت نافذة ذلك المرحاض مباشرة، كان هناك شارع بلاس دو كاروسيل ثنائي الاتجاه على بعد عدة أقدام فقط من الجدار الخارجي للمتحف. "يا إلهي!" صرخ كوليه وهو ينظر إلى الشاشة أمامه "إن لانغدون يتحرك نحو حافة النافذة!". لكن فاش كان قد بدأ يتحرك فقد انتزع مسدسه موديل مانورين Manurhin MR-93 من الحامل الجلدي للمسدس المعلق على كتفه واندفع النقيب خارج المكتب. راقب كوليه الشاشة بذهول وهو يرى النقطة المضيئة وقد وصلت إلى حافة النافذة ثم حدث أمر غير متوقع على الإطلاق، تحركت النقطة خارج حدود البناء. ما الذي يجري؟ تساءل كوليه هل يعقل أن يكون لانغدون على حافة النافذة أم أنه...؟ "يا للمسيح!" انتفض كوليه واقفاً على قدميه بينما كانت النقطة قد انطلقت بعيداً خارج الحائط. بدت الإشارة وكأنها تهتز للحظات ثم توقفت النقطة المضيئة فجأة على بعد حوالى عشر ياردات خارج حدود البناء. أخذ كوليه يضغط على الأزرار بارتباك باحثاً عن خريطة لشوارع باريس وأعاد ضبط مكان نقطة تحديد الموقع على الأرض وكبّر الصورة وأصبح بإمكانه الآن أن يرى الموقع الصحيح للإشارة. كانت قد توقفت تماماً عن الحركة في نقطة ميتة في منتصف بلاس دو كاروسيل. لقد قفز لانغدون من النافذة. الفصل الثامن عشر أخذ فاش يركض بأقصى سرعة باتجاه الغراند غاليري بينما كان صوت كوليه يدوي عبر الراديو وصوت جرس الإنذار يسمع من بعيد. "لقد قفز!" كان كوليه يصرخ "إنني أرى الإشارة خارج نافذة المرحاض عند بلاس دو كاروسيل! وهي لا تتحرك نهائياً! يا إلهي! أعتقد أنه قد انتحر لتوّه!". سمع فاش الكلمات لكن ذلك كان غير معقول. وتابع الركض، كان الممر يبدو وكأن لا نهاية له. وبينما كان يتجاوز بسرعة جثة سونيير ركّز نظره على الحواجز الموجودة في النهاية البعيدة لجناح دينون، وكان صوت جرس الإنذار الآن يرتفع أكثر فأكثر. "انتظر!" أخذ كوليه يصرخ من جديد عبر الراديو "إنه يتحرك! يا إلهي إنه حيّ. لانغدون يتحرك!". وتابع فاش جريه وهو يلعن طول الممر مع كل خطوة من خطواته. "إن لانغدون يتحرك بسرعة أكبر!"كان كوليه لازال يصرخ عبر الراديو "إنه يتجه نحو كاروسيل. انتظر قليلاً... إنه يزيد من سرعته.. إنه يتحرك بسرعة كبيرة جداً". لدى وصوله إلى الحواجز شق طريقة بينها فرأى باب المراحيض وانطلق نحوها. كان صوت اللاسلكي يكاد لا يسمعه على الإطلاق بسبب جرس الإنذار الذي طغى على صوته. "أعتقد أنه في سيارة! من المؤكد أنه في سيارة! لا أستطيع أن...". وابتلع صوت جرس الإنذار كلمات كوليه بينما كان فاش يقتحم حمام الرجال ومسدسه في حالة التأهب للإطلاق وقد جفل من صوت جرس الإنذار الحاد الذي يصم الآذان وتفحّص فاش المكان. كانت المراحيض خالية والمغاسل مهجورة لا أثر فيها لأحد وتحولت عينا فاش في الحال إلى النافذة المكسورة في النهاية البعيدة من الحمام وركض نحوها وألقى نظرة من فوق حافتها ولم يكن هناك أي أثر للانغدون. لم يكن فاش قادراً على أن يتصور أن يقوم أحد بمخاطرة كهذه. ومن المؤكد أنه إذا سقط من هذا الارتفاع فسيكون مصاباً بشكل خطير. وأخيراً انقطع صوت جرس الإنذار وأصبح صوت كوليه مسموعاً من جديد عبر اللاسلكي. "... إنه يتحرّك باتجاه الجنوب... بسرعة أكبر... وقد عبر السين فوق جسر دو كاروسيل!" استدار فاش نحو اليسار. وكانت السيارة الوحيدة التي تعبر جسر دو كاروسيل هي شاحنة كبيرة حمراء لنقل البضائع تتحرّك باتجاه الجنوب بعيداً عن اللوفر. كانت الشاحنة مزودة بصندوق مفتوح مغطى بقماش مشمع من الفينيل الذي يكاد يشبه أرجوحة شبكية عملاقة. شعر فاش برعشة تغمره خشية وترقباً. ربما توقفت تلك الشاحنة منذ لحظات فقط على الإشارة الضوئية تماماً تحت نافذة المرحاض. مخاطرة مجنونة، قال فاش في نفسه. فلا يمكن أن يكون لانغدون قد عرف ما الذي قد تحمله الشاحنة تحت ذلك الغطاء. ماذا لو كانت الشاحنة تحمل فولاذاً؟ أو إسمنتاً؟ أو حتى نفايات؟ قفزة من علو أربع وأربعين قدماً؟ لا بدّ أنه فقد عقله. "إن النقطة تدور حول منعطف!" هتف كوليه "إنه يدور باتجاه اليمين على جسر سان بير!". من المؤكد أن الشاحنة التي قد عبرت الجسر كانت تخفف من سرعتها لتقوم بالدوران يميناً على جسر سان بير. فليكن، فكر فاش مذهولاً وقد راقب الشاحنة وهي تختفي أمام عينيه. كان كوليه عندئذ قد أصدر تعليمات إلى رجال الشرطة الموجودين في الخارج بالانسحاب من حدود اللوفر والانطلاق في سياراتهم لملاحقة الشاحنة وقد فعل ذلك بينما كان يقوم بنقل المعلومات المتعلقة بحركة الشاحنة كما لو أنه في بث حي ومباشر غريب من نوعه. لقد انتهى الأمر، كان فاش يعرف ذلك. فسيقوم رجاله بتطويق الشاحنة في لحظات قليلة. ولن يتمكن لانغدون من الإفلات من يده. أعاد فاش سلاحه إلى مكانه وخرج من الحمّام واتصل بكوليه من جديد عبر الراديو. "قم بتجهيز سيارتي، أريد أن أكون هناك عندما يقوم رجالنا باعتقاله". وبينما كان فاش يهرول عائداً من الغراند غاليري تساءل في ما إذا كان لانغدون قد نجا من السقطة على الإطلاق. غير أن ذلك لم يكن ذا قيمة الآن. فلانغدون قد لاذ بالفرار، أي أنه هو المجرم الحقيقي. وعلى بعد خمس عشرة ياردة من المراحيض وقف لانغدون وصوفي في الظلام الذي يخيم على الغراند غاليري وقد التصق ظهر كل منهما بأحد الحواجز الضخمة التي تخفي المراحيض، وقد تمكنا بالكاد من الاختباء قبل أن يتجاوزهما فاش وهو ينطلق كالسهم وقد أشهر مسدسه واختفى في المرحاض. وقد خيّم الغموض على الثواني الستين الأخيرة. كان لانغدون واقفاً داخل حمام الرجال رافضاً فكرة الهروب من جريمة لم يرتكبها عندما أخذت صوفي تتفحص النافذة ذات الصفيحة الزجاجية التي تمر فيها شبكة نظام الإنذار ثم دققت النظر في الشارع إلى الأسفل من الشباك كما لو أنها تقيس مسافة السقوط، وقالت "بقليل من المهارة في التسديد يمكنك الخروج من هنا". دقة في التسديد؟ ودقق النظر من النافذة إلى الخارج. وهناك في أول الشارع كانت هناك شاحنة ضخمة مزودة بصندوقين كبيرين وثمانية عشر عجلة، في طريقها نحو الإشارة الضوئية تماماً تحت النافذة. وقد بسط فوق القسم الرئيسي من البضاعة التي تحملها الشاحنة الكبيرة مشمّع أزرق من الفينيل مغطياً الحمولة. كان لانغدون يتمنى ألا تكون صوفي تفكّر ما يبدو أنها تفكر في فعله. "صوفي، من المستحيل أن أقفز...". "انزع نقطة تعقّب الأثر". تحسس لانغدون جيبه بارتباك حتى لمس بيده قرصاً معدنياً صغيراً فأخرجه وأعطاه إلى صوفي التي أخذته وأسرعت الخطى نحو المغاسل في الحال وانتزعت لوح صابون سميك ووضعت نقطة تعقب الأثر في أعلى اللوح ثم دفعت القرص بإبهامها بقوة في اللوح وبينما كان القرص يغوص في السطح اللين ضغطت صوفي على الثقب الصغير الذي أحدثته لتغطيه تماماً حيث زرعت الجهاز في لوح الصابون. أعطت صوفي اللوح إلى لانغدون وأخذت من تحت المغسلة سلة مهملات أسطوانية ثقيلة الوزن وقبل أن يتمكن لانغدون من الاعتراض على ما تفعله، ركضت صوفي نحو النافذة وهي تحمل السلة كآلة حربية قديمة لدكّ الحصون ووجهت أسفل السلة نحو مركز النافذة وحطمت الزجاج. وانفجرت أصوات جرس الإنذار فوق رؤوسهم بدوي يصم الآذان. "أعطني الصابون!" صرخت صوفي، وصوتها يكاد يكون غير مسموع بسبب صوت جرس الإنذار. فدفع لانغدون بلوح الصابون بقوة ووضعه بيدها. أمسكت صوفي به في راحة يدها ثم دققت النظر من خلال النافذة المحطمة في الشاحنة الكبيرة ذات العجلات الثمانية عشر التي تدور في مكانها تحت النافذة مباشرة. كان الهدف قماش مشمّع ممدد مثبّت على صندوق الشاحنة - وكان على بعد أقل من عشرة أقدام من طرف المبنى. وبينما كانت الإشارة الضوئية الحمراء تنتقل إلى الضوء الأخضر، أخذت صوفي نفساً عميقاً وقذفت بلوح الصابون خارج النافذة في عتمة الليل المظلم. هوى لوح الصابون بسرعة إلى الأسفل نحو الشاحنة، وحطّ على طرف الغطاء ثم انزلق إلى داخل الصندوق حيث وضعت البضاعة حالما تغير لون الإشارة الضوئية إلى الأخضر. "هنيئاً لك" قالت صوفي وهي تدفعه باتجاه الباب "لقد هربت لتوّك من اللوفر". فرّ الاثنان من حمام الرجال وتحرّكا في الظلام نحو الحواجز الموجودة في الممر قبل لحظات قليلة من مرور فاش في المكان. والآن بعد أن أسكتت أصوات إنذار الحريق، كان بإمكان لانغدون سماع صفارات سيارات الشرطة تختفي بعيداً عن اللوفر... بعملية خروج جماعيّ. وأسرع فاش بالخروج أيضاً تاركاً الغراند غاليري مهجورة. "هناك سلّم نجاة على بعد خمسين متر تقريباً في الجهة الخلفية من الغراند غاليري"، قالت صوفي، "والآن بما أن الحراس في طريقهم إلى خارج حدود المبنى، يمكننا الخروج من هنا". قرر لانغدون ألا يتفوه بأي كلمة طوال المساء. فقد كانت صوفي نوفو بالتأكيد تتمتع بذكاء يفوق ذكاءه بمراحل. الفصل التاسع عشر يقال إن كنيسة سانت سولبيس تتمتع بالتاريخ الأكثر غرابة لأي بناء في باريس. فقد بنيت فوق بقايا معبد مصري قديم كان مكرّساً للإلهة إيزيس، كما أن مخطط الكنيسة الهندسي يكاد يتطابق تماماً مع مخطط كنيسة نوتردام. كما أن مقدس الكنيسة احتضن تعميد ماركيز دو ساد وبودلير إضافة إلى مراسم زواج فيكتور هيجو. وإن المعهد اللاهوتي الملحق بالكنيسة يتمتع بتاريخ غير تقليدي موثق بدقة علاوة على أنه كان يوماً قاعة خفية استضافت جمعيات سرية عديدة. هذه الليلة سيطر على صحن كنيسة سان سولبيس الغائر صمت كالقبور وكان الأثر الوحيد للحياة فيه رائحة بخور بقيت من القدّاس الذي أقيم أول المساء. شعر سيلاس بتوتر سيطر على تصرفات الراهبة ساندرين بينما كانت ترشده إلى المقدس. إلا أنه لم يستغرب ذلك فقد كان معتاداً على عدم الارتياح الذي كان يظهر على الناس لدى رؤيته. "أنت أمريكي"، قالت له الراهبة. "أنا فرنسي المولد"، أجابها سيلاس "وقد عيّنت للعمل في إسبانيا والآن أدرس في الولايات المتحدة". أومأت الراهبة ساندرين برأسها. كانت امرأة صغيرة الحجم وتتمتع بعينين هادئتين. "ولم تسبق لك زيارة سان سولبيس أبداً؟". "أدرك تماماً أن ذلك يكاد يعد في حدّ ذاته خطيئة". "إنها تبدو أكثر جمالاً في ضوء النهار". "أنا متأكد من ذلك غير أنني أكون ممتناً جداً لك إذا منحتني هذه الفرصة الليلة". "لقد طلب الأب مني ذلك. من الواضح أن لديك أصدقاء واسعي السلطة". أكثر مما تتصورين، فكر سيلاس... وبينما كان سيلاس يتبع الراهبة نحو الجناح الرئيسي، أثار تقشف المقدس وخلوه تماماً من الزخرفة دهشته. فعلى غير حال كنيسة نوتردام ذات اللوحات الجصية الجدارية الملونة وأعمال المذبح المذهبة والخشب الذي يوحي بالدفء، كانت سان سولبيس بالمقابل باردة قاسية وكأنها قاحلة تذكّر بالكاتدرائيات المتشددة للنسّاك في إسبانيا. وكان خلوها من أي شكل من التزيين والزخرفة جعلها تبدو أكثر اتساعاً من الداخل. وبينما كان سيلاس يدقق النظر في السقف الذي أخذ شكل قبة مضلعة شاهقة الارتفاع، تخيل أنه يقف تحت سفينة عملاقة مقلوبة رأساً على عقب. وهي صورة مناسبة، فكر سيلاس. فسفينة الأخوية كانت على وشك أن تقلب على رؤوسهم إلى الأبد. شعر سيلاس بحماس شديد للبدء بالعمل، وتمنى لو أن الأخت ساندرين تدعه وشأنه. كانت امرأة صغيرة الحجم لدرجة أن سيلاس يمكنه القضاء عليها بسهولة إلا أنه كان قد أقسم على ألا يستخدم القوة إلا في حال الضرورة القصوى. إنها امرأة متدينة ولم يكن خطؤها أن الأخوية اختارت كنيستها كمخبأ تخفي فيه الحجر المفتاح. فهي يجب ألا تحاسب على جرائر غيرها. "أنا محرج منك أختي، لأنك قد استيقظت بسببي". "لا تقلق أبداً، فأنت في باريس لوقت قصير ويجب ألا تفوتك زيارة سان سولبيس. هل أنت مهتم بالجانب المعماري أم التاريخي للكنيسة؟". "في الحقيقة، اهتماماتي روحية ودينية بحتة". فضحكت ضحكة لطيفة. "هذا مفهوم تماماً، لا داع أن تقول ذلك. لكنني أردت فقط أن أعرف من أين تود أن تبدأ الجولة". أحس سيلاس بأن عينيه تركّزان على المذبح "أشكرك، لست بحاجة إلى المساعدة. لقد كنتِ في غاية اللطف معي. يمكنني أن أتجول في المكان لوحدي". "لا توجد هناك أي مشكلة" قالت ساندرين "فأنا مستيقظة بطبيعة الحال". توقف سيلاس عن المشي فقد وصلا الآن إلى المقعد الأمامي وكان المذبح على بعد خمس عشرة ياردة فقط. استدار سيلاس بجسده الضخم ليواجه المرأة بحجمها الصغير مباشرة وكان يمكنه أن يشعر بها وهي تتراجع إلى الوراء وهي تحدّق بعينيه الحمراوين."أرجو ألا تعتبرينني وقحاً أختي، لكنني لست معتاداً أن أدخل بيتاً للرب وأقوم بجولة بكل بساطة. أتمانعين إذا أخذت بعض الوقت لوحدي كي أصلي قبل أن أتجوّل في المكان؟". ترددت الأخت ساندرين "بالطبع، سأنتظرك في الخلف". "وضع سيلاس يده الثقيلة بلطف على كتفها ونظر إلى الأسفل في عينيها تماماً "أختي، إنني أصلاً أشعر بالذنب لإيقاظك. وسأكون ثقيل الظل إذا طلبت منك أن تظلي صاحية من أجلي. لذا أرجوك أن تعودي إلى سريرك وبإمكاني التمتع بجولتي وسأخرج لوحدي عندما أنتهي". بدت مرتبكة ومتوترة "أمتأكد بأنك لن تشعر بالوحدة؟". "كلا على الإطلاق، ففي الصلاة عزلة محببة". "كما تريد". رفع سيلاس يده عن كتفها "ليلة سعيدة أختي، أرجو أن يكون الرب معك ويحفظك من كل شر". "أرجو أن يكون الرب معك أيضاً". وذهبت الأخت ساندرين باتجاه السلالم. "أرجو أن تغلق الباب بإحكام عندما تخرج". "سأفعل، لا تقلقي". راقبها سيلاس وهي تصعد السلالم وتختفي عن الأنظار. ثم عاد وانحنى أمام المقصورة الأمامية وهو يشعر بالحزام ذو المسامير يجرح رجله بحدة. ربّي، أقدّم لك هذا العمل الذي سأقوم به اليوم... ربضت الأخت ساندرين مختبئة في شرفة الكورس (منشدو التراتيل) فوق المذبح وراحت تسترق النظر بهدوء من الدرابزين إلى الراهب ذي الرداء الفضفاض وهو يركع وحيداً. كان الفزع الذي كانت تشعر به رهيباً لدرجة أنها لم تكن قادرة على الثبات في مكانها. وللحظة سريعة، تساءلت في ما إذا كان هذا الزائر الغامض قد يكون العدو الذي حذّروها منه وإذا ما كان عليها الليلة أن تنفذ الأوامر التي حملت سرّها طوال هذه السنين. وقررت البقاء جالسة هناك في الظلام مراقبة كل حركة يأتي بها. الفصل العشرون خرج لانغدون وصوفي من مخبئهما وتسللا باتجاه ممر الغراند غاليري المهجور نحو مخرج سلم الطوارئ. شعر لانغدون وهو يتقدّم وكأنه كان يحاول تجميع قطع أحجية معقدة في ظلام الليل وآخر مستجدات هذا اللغز كان أكثر وجوهه إزعاجاً وهو أن نقيباً في الشرطة القضائية يحاول الإيقاع بي في جريمة قتل. "هل تعتقدين"، "أنه ربما يكون فاش هو الذي كتب تلك الرسالة على الأرض؟". وأجابت صوفي حتى دون أن تلتفت "مستحيل". لم يكن لانغدون متأكداً من ذلك. "من الواضح أنه مصمم جداً على أن يجعلني أبدو مذنباً، ربما ظن أن كتابة اسمي على الأرض سيساعده في القضية؟". "وماذا عن متوالية فيبوناتشي؟ والحرفين P.S؟ ورموز الآلهة ودافنشي؟ لا بد وأنّ ذلك من عمل جدي". كان لانغدون يعلم أنها على حق، فقد كانت مجموعة الرموز التي شكلت مفاتيح اللغز منسجمة مع بعضها تماماً بشكل لا يصدق - النجمة الخماسية والرجل الفيتروفي ودافنشي والآلهة وحتى متوالية فيبوناتشي. تشكل معاً مجموعة رمزية مترابطة منطقياً بلغة علماء الرموز. كلها متعلقة ببعضها بروابط معقدة. "وماذا عن اتصاله بي عصر اليوم؟" أضافت صوفي، "فقد قال لي إنه يجب أن يخبرني بأمر ما وأنا متأكدة من أن رسالته التي تركها في اللوفر كانت آخر محاولة منه ليخبرني بأمر هام، أمر اعتقد أنه يمكنك أن تساعدني على فهمه". قطّب لانغدون جبينه. O, Draconian devil! Oh, lame saint! وتمنى لو كان بإمكانه أن يفهم الرسالة من أجل سلامته وسلامة صوفي في آن معاً، فقد أخذت الأمور تجري من سيئ إلى أسوأ منذ رأت عيناه لأول مرة تلك الكلمات المشفرة. ولم تكن القفزة المزيفة من نافذة المرحاض، من شأنها أن تزيد من شعبيته عند فاش على الإطلاق. فقد كان يشك أن النقيب في الشرطة الفرنسية سيرى في ملاحقة لوح صابون واعتقاله أمراً مسلياً. "لقد اقتربنا من المدخل" قالت صوفي. "هل هناك إمكانية برأيك أن تكون الأرقام المذكورة في رسالة جدك تحمل المفتاح الذي سيؤدي إلى فهم السطور الأخرى؟". فقد كان لانغدون قد عمل مرة على دراسة مجموعة من مخطوطات تعتمد مبدأ فرانسيس بيكون تضمنت شيفرات نقشية فيها سطور معينة كانت مفاتيح تدل على كيفية حل شيفرة السطور الأخرى. "لقد كنت أفكر في الأرقام طوال الليل. لقد ضربتها وقسمتها والنتيجة كانت لا شيء لم أتمكن من استنتاج أي شيء منها. فهي من الناحية الرياضية قد رتبت بطريقة عشوائية... رموز لا تحمل أي معنى. "وهي بالرغم من ذلك جزء من متوالية فيبوناتشي وهذا لا يمكن أن يكون مجرد صدفة". "أنت على حق فلم تكن تلك صدفة، فاستخدام أرقام فيبوناتشي كان طريقة أخرى استعملها جدي للفت نظري - كما هو الأمر في كتابته الرسالة بالإنجليزية أو ترتيب جسده بوضعية تماثل أكثر عمل فني أحبه، أو رسمه للنجمة الخماسية على جسده؛ لقد فعل كل ذلك ليجذب انتباهي". "والنجمة الخماسية تحمل معنى أيضاً بالنسبة إليك؟". "نعم، لم تسنح لي الفرصة لأخبرك عن ذلك. كانت النجمة الخماسية رمزاً خاصاً بيني وبين جدي عندما كنت صغيرة. فقد اعتدنا أن نلعب بأوراق الشدة التي تنبئ بالطالع وذلك على سبيل التسلية وكانت الورقة التي تشير إلى طالعي دائماً هي من بين مجموعة النجوم الخماسية. وأنا متأكدة بأنه كان يغش في ترتيب الأوراق لكن النجوم الخماسية أصبحت مزحتنا السرّية. أحس لانغدون بقشعريرة تسري في جسمه. لقد كانا يلعبان التاروت؟ لعبة أوراق الشدة الإيطالية التي تعود إلى العصور الوسطى، تلك اللعبة كانت متخمة بالرموز الهرطقية الخفية لدرجة دعت لانغدون أن يخصص لها فصلاً كاملاً في كتابه الجديد الذي لا زال قيد الطبع. فقد حملت أوراق اللعب الاثنين والعشرين أسماء كالبابا الأنثى والإمبراطورة والنجمة. وقد استخدمت أوراق التاروت في الأصل كوسيلة سرّية لنقل أفكار ونظريات حرّمتها الكنيسة. وقد عادت إلى الحياة اليوم بطبيعتها الغامضة من خلال منجمي العصر الحديث وقارئي الطالع. إن مجموعة أوراق التاروت التي ترمز إلى ألوهية الأنثى هي النجوم الخماسية، فكر لانغدون وهو يدرك تماما أنه إذا كان سونيير يغش في أوراق لعب حفيدته للتسلية فالنجوم الخماسية هي حتماً دعابة ذات معنى. وصل الاثنان إلى سلالم الطوارئ وسحبت صوفي الباب لتفتحه بهدوء. ولم تنطلق صفارة الإنذار. يبدو أن الأبواب الخارجية فقط موصولة بأسلاك نظام الإنذار. وقادته صوفي إلى مجموعة ضيقة من السلالم المتعرجة تؤدي إلى الطابق الأرضي وأسرع الاثنان بالنزول. قال لانغدون وهو يركض في أثرها بسرعة "عندما أخبرك جدك عن النجمة الخماسية هل ذكر شيئاً يخص عبادة الآلهة الأنثى أو أي استياء كان يشعر به تجاه الكنيسة الكاثوليكية؟". هزت صوفي رأسها نافية "لقد كان اهتمامي منصباً على الجانب الرياضي منها - أي النسبة المقدسة فاي PHI ومتواليات فيبوناتشي، تلك هي الأمور التي كانت تهمني". كان لانغدون مذهولاً، "علّمك جدك كل ما يتعلق بالرقم فاي PHI؟". "بالطبع، النسبة الإلهية". وبدا عليها الخجل. "في الحقيقة كان جدي يمزح معي ويقول إنني نصف مقدسة... أنت تعلم، بسبب الأحرف الموجودة في اسمي". فكر لانغدون للحظة بما قالت ثم ابتسم. s-o-PHI-e وتابع نزول الدرج وهو يفكر من جديد برقم فاي. كان قد بدأ يدرك أن مفاتيح سونيير كانت تصبح شيئاً فشيئاً أكثر انسجاماً مع بعضها مما تصور في بداية الأمر. دافنشي... أرقام فيبوناتشي... النجمة الخماسية. والغريب في الأمر هو أن ثمة قاسماً مشتركاً يجمع كل تلك الأمور معاً، وهو مفهوم على جانب كبير من الأهمية في تاريخ الفن حتى أن لانغدون قد ألقى محاضرات كثيرة في الجامعة حول هذا الموضوع. PHI ووجد لانغدون نفسه يعود بذاكرته فجأة إلى هارفرد وهو يقف في القاعة أمام طلاب مادة "الرمزية في الفن" ويكتب على السبورة رقمه المفضل. 618 . والتفت لانغدون ليواجه حشداً كبيراً من الطلاب المتلهفين إلى سماع ما سيقول. "من منكم يمكنه أن يقول لي ما هو هذا الرقم؟". فرفع طالب طويل القامة من كلية الرياضيات يده "إنه الرقم فاي PHI" ولفظها "في". "أحسنت ستيتنر". قال لانغدون "أعزائي أقدم لكم PHI". "يجب عدم خلطه مع PI" أضاف ستيتنر مبتسماً. "وكما نحب نحن الرياضيون أن نقول: ان حرف H في PHI يجعلها أكثر ظرفاً من PI!" ضحك لانغدون، ولكن لم يشاركه أحد احساسه الفكاهي. جلس ستيتنر. واستأنف "إن هذا الرقم فاي وهو 1.618 هو رقم هام جداً في الفن. هل هناك أحد يعرف السبب؟". فأجاب ستيتنر "لأنه رقم جميل جداً؟". فضحك الجميع. "في الحقيقة" قال لانغدون "لقد أصاب ستيتنر ثانية، فإن فاي يعتبر بشكل عام أجمل رقم في الكون". فتوقفت الضحكات فجأة وارتسمت ابتسامة خبيثة على وجه ستيتنر. وفيما كان لانغدون يرتب شرائح الصور التوضيحية في آلة العرض، أخذ يشرح كيف أن الرقم فاي اشتق من متوالية فيبوناتشي - وهي متوالية حسابية شهيرة ولا تعود شهرتها لكون مجموع كل رقمين متتاليين فيها يساوي الرقم الذي يليه فحسب، بل لأن نواتج قسمة الأرقام المتتالية فيها تتمتع بخاصية مذهلة وهي الاقتراب من الرقم 1,618 - أي فاي أيضاً! وبرغم الأصول الرياضية التي تبدو غامضة، وضّح لانغدون، إلا أن الوجه المذهل لفاي هو دوره كحجر بناء أساسي في الطبيعة. فالنباتات والحيوانات وحتى البشر كلهم يتمتعون بخواص بعدية تعتمد وبدقة متناهية على النسبة فاي إلى واحد. "إن الوجود الكلي لفاي في الطبيعة"، قال لانغدون وهو يطفئ الأضواء، "يتجاوز حتماً الصدفة المحضة لذا فقد اعتقد القدماء بأن خالق الكون هو الذي وضع رقم فاي كما أعلن العلماء قديماً أن 1,618 هو النسبة المقدسة". "انتظر قليلاً"، قالت شابة تجلس في الصف الأمامي، "أنا طالبة في كلية العلوم الطبيعية ولم تسبق لي أبداً رؤية هذه النسبة المقدسة في الطبيعة". "لم تريها؟" وارتسمت على وجه لانغدون ابتسامة عريضة. "هل سبق لك أن درست العلاقة بين ذكور وإناث النحل في خلية للنحل؟". "بالطبع. فعدد إناث النحل يفوق عدد الذكور دائماً". "هذا صحيح، وهل كنت تعلمين أنك إذا قسمت عدد إناث النحل على عدد ذكور النحل في أي قفير في العالم، ستحصلين دائماً على نفس النتيجة؟". "نفس الرقم؟!". "نعم، نفس الرقم بالضبط، فاي". فغرت الطالبة فاها دهشة "غير معقول". "بل هو معقول!" رد لانغدون بنفس الحماس وعلى وجهه ابتسامة وهو يعرض صورة توضيحية لقوقعة بحرية حلزونية الشكل. "هل تعرفين هذا الحيوان؟". "إنه النوتي، حيوان رخوي من رأسيات الأرجل يقوم بضخ الغاز إلى قوقعته كي يحافظ على قدرته على الطفو في الماء. "هذا صحيح، وهل يمكنك أن تخمني نسبة قطر كل التفاف لولبي إلى اللولب الذي يليه؟". بدت الفتاة غير أكيدة وهي تدقق النظر في الأقواس المتراكزة للنوتي الحلزوني. أومأ لانغدون برأسه "والجواب هو فاي. النسبة المقدسة. واحد – فاصلة - ستة – واحد - ثمانية إلى واحد". بدت الفتاة مذهولة مما سمعته. وانتقل لانغدون إلى الصورة التالية - وهي صورة تفصيلية لرأس البذور في زهرة عباد الشمس. "إن بذورعباد الشمس تنمو بشكل لولبي متقابل. هل يمكنك أن تحزري نسبة قطر كل دورة إلى التي تليها؟". أجاب الجميع بصوت واضح "فاي؟". "بالضبط". وأخذ لانغدون يعرض الصور التوضيحية بسرعة الآن واحدة تلو الأخرى - مثل بتلات أكواز الصنوبر والتشكيلات الورقية على سوق النباتات وفصوص الحشرات - كانت كلها تعرض خضوعاً مذهلاً للنسبة المقدسة. هتف أحدهم "هذا رائع!". ردّ آخر: "بالتأكيد، لكن ما دخل تلك النسبة بالفن؟". "تماماً" قال لانغدون "أنا مسرور لأنك سألتني هذا السؤال" وعرض صورة أخرى - وهي صورة لرق أصفر شاحب يعرض عمل ليوناردو دافنشي المشهور الذي صور فيه رجلاً عارياً - وهي لوحة الرجل الفيتروفي - نسبة إلى ماركوس فيتروفيوس وهو مهندس معماري روماني ذكر النسبة الإلهية وأطرى عليها في كتابه "عن العمارة". "فلم يفهم أحد البنية المقدسة لجسم الإنسان بقدر ليوناردو دافنشي. فقد قام فعلياً بنبش الجثث لكي يقوم بقياس النسب الدقيقة لبنية الإنسان العظمية. وقد كان أول من برهن أن جسم الإنسان يتكون حرفياً من كتل بناء نسبها إلى بعضها تساوي دائماً الرقم فاي". رمقه كل من في القاعة بنظرة شك. "أنتم لا تصدقونني؟" قال لانغدون بتحدّ "عندما تستحمون في المرة القادمة تذكروا أن تأخذوا معكم شريطاً للقياس". وأطلق بعض لاعبي كرة القدم ضحكة مكبوتة. "هذا الكلام ليس موجهاً لكم فقط أيها المضطربون" وحث لانغدون الطلاب "أنتم جميعاً، شباباً وبناتاً. جربوا ذلك، قيسوا المسافة بين قمة رأسكم والأرض ثم قسموا الناتج على المسافة بين سرّتكم والأرض واحزروا ماذا سيكون حاصل تلك العملية؟". "فاي؟!" صاح أحد الطلاب دون تفكير غير مصدق أذنيه. "نعم فاي" أجاب لانغدون "واحد – فاصلة – ستة – واحد - ثمانية. أتريدون مثالاً آخر؟ قيسوا المسافة بين كتفكم وأطراف أصابعكم ثم قسموا الناتج على المسافة بين كوعكم وأطراف أصابعكم. فاي من جديد. مثال آخر، المسافة بين الورك إلى الأرض مقسمة على المسافة بين الركبة إلى الأرض. فاي مرة أخرى. سلاميات الأصابع وأصابع القدمين وتقسيمات الحبل الشوكي. كلها فاي.. فاي.. فاي. أعزائي، إن كل واحد منكم هو مثال حي على النسبة المقدسة". كان لانغدون بإمكان رؤية ذهولهم حتى في هذا الظلام الدامس. وأحس بدفء حميم في داخله. هذا هو السبب الذي حبب إليه التدريس. "أصدقائي، وكما ترون فإن العشوائية في هذا العالم تحمل داخلها نظاماً، وعندما اكتشف القدماء فاي، كانوا على ثقة تامة بأنهم قد عرفوا حجر الأساس الذي استخدمه الرب في بناء العالم وقدّسوا الطبيعة لهذا السبب. ويمكن للمرء أن يفهم سبب ذلك. إن يد الرب واضحة في الطبيعة، وحتى يومنا هذا، لا زال هناك أناس يعبدون الطبيعة ودينهم هو تقديس الأم الأرض. وكثير منا يحتفل بالطبيعة بنفس الطريقة التي يتبعها الوثنيون دون علمنا. فاحتفالنا في أول شهر أيار هو أصدق مثال على ذلك؟ فهو يمثل احتفالنا بالربيع... وعودة الأرض إلى الحياة لتعطي غلالها. وقد كتب الأساس الغامض السحري للنسبة المقدسة في بداية خلق العالم. إن قوانين الطبيعة هي التي تسيّر الإنسان في الحياة وبما أن الفن هو محاولة الإنسان تقليد جمال ما خلقه الرب، لذلك يمكنكم أن تتصوروا أننا سنرى الكثير من الشواهد على النسبة الإلهية في هذا الفصل". وطوال النصف ساعة التالية عرض لانغدون عليهم صوراً لأعمال فنية لمايكل أنجلو وألبريخت دورر ودافنشي والكثير من الفنانين، تظهر جميعها تقيد كل من أولئك الفنانين بتقيدهم الدقيق والمقصود بالنسبة المقدسة في تصميم أعمالهم. وكشف لانغدون عن وجود فاي الأبعاد المعمارية لمعبد البارثينون في اليونان وأهرامات مصر وحتى بناء الأمم المتحدة في نيويورك. كما أن فاي يظهر في البنى النظامية لسوناتات موزارت وسيمفونية بيتهوفن الخامسة. كما في أعمال بارتوك وديبوسي وشوبرت. وقال لهم لانغدون أن ستراتيفاريوس أيضاً استخدم الرقم فاي لحساب الموضع الصحيح للفتحات التي تأخذ شكل الحرف f في تصميم كماناته الشهيرة. "وختاماً" قال لانغدون وهو يمشي نحو السبورة، "نعود إلى الرموز". ورسم خمسة خطوط متقاطعة حددت نجمة خماسية "هذا الرمز هو أحد أهم وأقوى الصور التي سترونها في هذا الفصل، وقد عرفت سابقاً بالنجمة السحرية حسب التسمية التي أطلقها عليها القدماء. لقد اعتبر هذا الرمز مقدساً وسحرياً في آن معاً في حضارات متعددة. هل بإمكان أحد أن يخبرني ما الذي قد يكون السبب؟". فرفع طالب الرياضيات ستيتنر يده، "لأنك إذا قمت برسم نجمة خماسية فإن الخطوط ستقسم نفسها تلقائياً إلى أجزاء حسب النسبة المقدسة". أومأ لانغدون رأسه ورمق الشاب بنظرة إعجاب "أحسنت، نعم هذا صحيح فنسب أجزاء الخط في النجمة الخماسية كلها تساوي فاي مما يجعل هذا الرمز التعبير المطلق والأهم عن النسبة المقدسة. ولهذا السبب كانت النجمة الخماسية دائماً رمزاً للجمال والكمال المصاحب للإلهة والأنثى المقدسة". ارتسمت على وجه الفتيات في القاعة ابتسامة عريضة. "ملاحظة أخرى يا شباب، لقد تكلمنا اليوم عن دافنشي عرضاً إلا أننا سنتوسع في دراسته أكثر أثناء هذا الفصل. كان دافنشي حسب كافة الوثائق التاريخية قد نذر نفسه للعبادة القديمة للآلهة الأنثى. سأعرض عليكم غداً لوحته الجدارية العشاء الأخير وهي أعظم تقدمة للأنثى المقدسة على الإطلاق". قال أحدهم: "أنت تمزح أليس كذلك؟ كنت أعتقد أن موضوع لوحة العشاء الأخير هو المسيح!". فغمز لانغدون "في تلك اللوحة رموز مخبأة في أماكن لا يمكن أن تتخيلوها". "هيا... ما الذي يؤخرك؟" همست صوفي، "لقد اقتربنا من الوصول... أسرع!". حملق لانغدون وهو يشعر أنه يعود بأفكاره من مكان بعيد جداً. ولاحظ أنه كان واقفاً في نهاية مسدودة في السلم وقد شلّت حركته من المعلومات التي لمعت في رأسه فجأة. O, Draconian devil! Oh, lame saint! ونظرت إليه صوفي من جديد. فكر لانغدون، لا يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة. لكنه عرف أن الأمر لابد وأن يكون بهذه البساطة. هنا في وسط اللوفر... ودوامة من صور فاي ودافنشي تدور في رأسه...، فجأة وعلى نحو غير متوقع حلّ روبرت لانغدون شيفرة سونيير. "O, Draconian devil! Oh, lame saint" قال لانغدون، "إنها أبسط طريقة في كتابة الشيفرات!". توقفت صوفي عن التقدم أمامه، وحدّقت فيه بارتباك. شيفرة؟ لقد كانت تفكر ملياً في تلك الكلمات طوال الليل دون أن ترى أن هناك شيفرة في الأصل. وحتى لو كانت هناك شيفرة فهي بالتأكيد ليست ببسيطة. "لقد قلتها بنفسك"، ورن صوت لانغدون بحماس "إن أرقام فيبوناتشي لا تعني أي شيء إذا لم تكن الأرقام بالترتيب الصحيح وإلا فهي هراء رياضي لا معنى له". لم يكن لدى صوفي أدنى فكرة عما يقوله. أرقام فيبوناتشي؟ كانت متأكدة من أن القصد من وراء كتابة تلك الأرقام كان الاتصال بقسم فك التشفير الليلة وطلب مساعدتهم في التحقيق لا أكثر. هل كان هناك هدف آخر وراء كتابته لتلك الأرقام؟ وأدخلت يدها في جيبها في الحال وأخذت الصورة التي تحمل رسالة جدها وتأملتها من جديد. 13-3-2-21-1-1-8-5 O, Draconian devil! Oh, lame saint! ماذا عن الأرقام؟ "إن الترتيب العشوائي لمتوالية فيبوناتشي هو مفتاح لفك الشيفرة. قال لانغدون وهو يأخذ الورقة من يدها. "إن الأرقام هي إشارة خفية تدل على طريقة فك تشفير بقية الرسالة. لقد كتب المتوالية بشكل عشوائي ليقول لنا أن نطبق نفس المفهوم على النص. O, Draconian devil? Oh, lame saint? إن تلك السطور لا تعني شيئاً، هي مجرد أحرف كتبت بشكل عشوائي". كانت صوفي بحاجة للحظة لتتمكن من استيعاب ما يفترضه لانغدون الذي يبدو بسيطاً جداً لدرجة أنه يبعث على الضحك. "أتظن أن هذه لعبة أحرف؟" وحدقت فيه. "أتعني أنها أحرف عشوائية كما في تلك اللعبة التي توجد في الصحف؟". ولمس لانغدون التشكيك الذي ظهر على وجه صوفي وتفهم سببه تماماً. فقلة من الناس يعرف أن ترتيب أحرف الكلمات بشكل عشوائي لتشكيل كلمات جديدة هو عملية كانت تتمتع بتاريخ غني من الرمزية المقدسة بالرغم من أنها تعتبر اليوم تسلية حديثة مبتذلة. إن تعاليم طريقة الكابالا على سبيل المثال اعتمدت تلك الطريقة بحذافيرها في إعادة ترتيب أحرف كلمات عبرية لاشتقاق معانٍ جديدة. وكان الملوك الفرنسيون خلال عصر النهضة على قناعة تامة بأن تغيير ترتيب الأحرف حمل قوة سحرية لدرجة أنهم عينوا موظفين خاصين ملكيين لمساعدتهم على اتخاذ قرارات أفضل من خلال تحليل كلمات موجودة في وثائق هامة. وفي الحقيقة، أطلق الرومان على دراسة تلك العملية آرس - ماغنا - أي "الفن العظيم". نظر لانغدون إلى صوفي وتلاقت عيناهما عندئذ "وقد كان المعنى الذي أراده جدك واضحاً أمام أعيننا طوال الوقت وقد ترك لنا أكثر مما يلزم من مفاتيح لحل الشيفرة كي نراها". ودون أن ينطق لانغدون بكلمة أخرى، سحب قلماً من جيب سترته وأعاد ترتيب أحرف كل سطر. O, Draconian devil! Oh, lame saint! كانت في الحقيقة أحرف الكلمات التالية... Leonardo Da Vinci! The Mona Lisa! ليوناردو دافنشي! الموناليزا! الفصل الواحد والعشرون الموناليزا للحظة نسيت صوفي وهي تقف عند مخرج بيت الدرج، أمر محاولة الهروب من اللوفر تماماً. وقد كانت صدمتها لدى سماع ما قاله لانغدون عن الجناس التصحيفي الذي تركه جدها تضاهي خجلها لأنها لم تتمكن من فك شيفرة الرسالة بنفسها. فخبرة صوفي في تحليل الرموز المركبة والمعقدة جعلها تغفل عن ألعاب الكلمات البسيطة، لكن رغم ذلك كان على صوفي أن تراها فقد كانت أمام عينيها طوال الوقت. فقبل كل شيء كانت صوفي قد ألفت ألعاب تغيير حروف الكلمات لتشكيل كلمات جديدة وبخاصة ما كان منها مكتوباً بالإنجليزية. وعندما كانت صوفي صغيرة كان جدها يستخدم تلك الألعاب كي يحثها على تهجئة الكلمات بالإنجليزية. ففي إحدى المرات، قام بكتابة كلمة كواكب بالإنجليزية وقال لها إن هناك اثنان وتسعون كلمة مذهلة أخرى بالإنجليزية يمكن أن تتشكل باستخدام نفس أحرف كلمة كواكب. فأمضت ثلاثة أيام تبحث في قاموس للغة الإنجليزية حتى وجدتها كلها. "لا يمكنني أن أتصوّر..." قال لانغدون، "كيف خطر في بال جدك أن يخترع مثل هذه الكلمات المعقدة في اللحظات الأخيرة التي سبقت موته". كانت صوفي تعرف تفسير ذلك وإدراكها لتلك الحقيقة جعلها تشعر بالسوء أكثر. كان يجب ألا يفوتني ذلك! وتذكرت الآن أن جدها – وهو المعروف بولعه الشديد بالفن وبألعاب الكلمات - كان يسلّي نفسه عندما كان شاباً بإبتداع كلمات جديدة من خلال التلاعب بأحرف الكلمات الخاصة بالأعمال الفنية الشهيرة. وفي الحقيقة، كانت لعبة كلمات اخترعها مرّة هي سبب أوقعه في متاعب كان بغنى عنها. حدث ذلك عندما كانت صغيرة. فبينما كان في مقابلة أجرتها معه مجلة أمريكية للفنون، عبّر سونيير عن نفوره من الحركة التكعيبية العصرانية عندما علّق على تحفة بيكاسو الفنية "آنسات آفينيون" Les Demoiselles d'Avignon قائلاً إنها مجرد "رسم عابث بشع وتافه" أو Vile meaningless doodles. فوجّه بسبب لعبة الكلمات تلك صفعة على وجه كل معحب بأعمال ببيكاسو. "ربما كان جدي قد اخترع تلك اللعبة بالكلمات الخاصة بالموناليزا قبل ذلك بوقت طويل" قالت صوفي وهي تنظر إلى لانغدون. والليلة اضطر لاستخدامها كشيفرة بديلة. كان صوت جدها يستغيث من بعيد طالباً النجدة بدقة تثير القشعريرة في الأبدان. ليوناردو دافنشي! الموناليزا! لماذا كانت كلمات جدها الأخيرة لها تقودها إلى اللوحة الشهيرة، لم يكن لدى صوفي أدنى فكرة، لكن لم تكن تستطيع التفكير إلا في احتمال وحيد. وهو احتمال مثير للقلق. لم تكن تلك الكلمات... كلماته الأخيرة.. هل كان عليها أن تزور الموناليزا؟ هل ترك لها جدها رسالة هناك؟ وبدت هذه الفكرة معقولة تماماً. فعلى أية حال كانت اللوحة الشهيرة معلّقة في قاعة الدول - وهي غرفة عرض خاصة لا يمكن الدخول إليها إلا عن طريق صالة العرض الكبرى الغراند غاليري. وفي الواقع، أدركت صوفي الآن أن الأبواب التي تؤدي إلى الغرفة كانت لا تبعد سوى عشرين متراً عن المكان الذي وجد فيه جدها مقتولاً. لقد كان بإمكانه بسهولة أن يزور الموناليزا قبل موته. أعادت صوفي النظر إلى أعلى حيث كانت سلالم الطوارئ وشعرت بأنها لا تدري ما الذي عليها فعله. فهي كانت تعلن أنها يجب أن تقود لانغدون إلى خارج المتحف في الحال، إلا أن غريزتها كانت ترجوها بأن تفعل العكس. وبينما تذكرت صوفي زيارتها الأولى لجناح دينون في طفولتها، أدركت أنه إذا كان جدها يريد إخبارها بسر فليس هناك مكان مناسب لترك رسالة أفضل من لوحة ليوناردو دافنشي الموناليزا. "لقد اقتربنا من الوصول إليها" همس جدها وهو يمسك بيد صوفي الصغيرة بقوة بينما كان يقودها عبر أرجاء المتحف المهجور في مثل هذه الساعة بعد انتهاء أوقات الزيارة. كانت صوفي آنذاك في السادسة من عمرها. وأحست بأنها ضئيلة وتافهة بينما كانت تدقق النظر إلى الأعلى حيث السقوف الهائلة الارتفاع وإلى الأسفل حيث الأرضية التي تسبب الدوار. وقد أخافها المتحف الخالي من الناس لكنها لن تدع جدها يعرف ذلك فأطبقت فكيها بإحكام وأفلتت يده. "ها هي قاعة الدول إلى الأمام من هنا" قال جدها وهما يقتربان من أشهر صالة في اللوفر. وبالرغم من الحماس الذي كان يغمر جدها كانت رغبة صوفي الوحيدة هي العودة إلى المنزل. فقد كانت قد رأت صوراً للموناليزا في الكتب ولم تعجبها على الإطلاق. ولم تفهم لم يثير الجميع ضجة حولها بهذا الشكل. "هذا ممل" دمدمت صوفي بالفرنسية. فصحح لها جدها بالإنجليزية. "الفرنسية في المدرسة والإنجليزية في البيت". فتحدته صوفي وقالت بالإنجليزية "لكن اللوفر ليس بيتي!". فأطلق ضحكة "أنت على حق. إذن دعينا نتكلم الإنجليزية للتسلية فقط". فلوت صوفي شفتيها استياء وتابعت السير. وبينما كانا يدخلان قاعة الدول تفحصت صوفي الصالة الضيقة واستقرت عيناها في مكان الشرف - وسط الحائط في الجهة اليمنى حيث علقت لوحة وحيدة وراء جدار واق من الزجاج غير القابل للكسر. وقف جدها للحظة عند المدخل ثم أشار بيده إلى اللوحة. "هيا صوفي اقتربي منها. أنت محظوظة فقليل من الناس ينالون فرصة رؤيتها وحدهم". أطاعته صوفي دون اعتراض ومشت ببطء عبر الصالة. وبعد كل ما سمعته عن الموناليزا، شعرت كما لو أنها كانت تقترب من شخصية ملكية. وعندما أصبحت أمام الزجاج الواقي، حبست صوفي نفسها ثم نظرت إلى الأعلى مغطية اللوحة بأكملها بنظرة واحدة. لم تكن صوفي متأكدة من الشعور الذي كانت تتوقع أن تحس به، لكنه لم يكن بالتأكيد ما تحسه الآن. فلم تشعر بموجة عارمة من الدهشة أو لحظات من الذهول والعجب. فقد بدا الوجه الشهير تماماً كما صوّرته الكتب. فوقفت هناك في صمت للحظات خال لها أنها لن تنتهي أبداً، بانتظار حدوث أي شيء. "ما رأيك؟" همس جدها وقد وقف وراءها. "جميلة أليس كذلك؟". "إنها صغيرة جداً". ابتسم سونيير. "أنت صغيرة لكنك جميلة جداً". أنا لست جميلة، فكرت صوفي. فقد كانت تكره شعرها الأحمر والنمش الذي على وجهها كما أنها كانت أطول من كل الصبية في صفها ونظرت ثانية إلى الموناليزا وهزت رأسها "إنها تبدو أسوأ حتى مما هي عليه في الكتب. فوجهها... ضبابي". وقالت ذلك بالفرنسية. فصحح لها جدها بالإنجليزية. فكررت صوفي الكلمة بالإنجليزية لعلمها بأن كلامها مع جدها لن يستمر إلا إذا كررت هذه المفردة الجديدة. "هذا أسلوب في الرسم يطلق عليه اسم سفوماتو أو الدخاني"، قال لها "وهو صعب للغاية وكان ليوناردو دافنشي أفضل من رسم باستخدام هذا الأسلوب من أي أحد آخر". وبالرغم من ذلك لم تعجب صوفي بتلك اللوحة. "إنها تبدو وكأنها تخفي شيئاً... مثل أولئك الأولاد في المدرسة عندما يكتمون سرّاً". وضحك جدها "هذا أحد أسباب شهرتها الواسعة. فالناس يحبون أن يخمنوا سبب ابتسامتها". "هل تعرف لماذا تبتسم؟". "ربما". غمز جدها، "يوماً ما سأخبرك كل شيء عنها". فضربت صوفي الأرض برجلها. "قلت لك أنا لا أحب الأسرار!". "أميرتي"، وابتسم "الحياة مليئة بالأسرار ولا يمكنك أن تعرفيها كلها دفعة واحدة". "سأعود إلى الأعلى"، قالت صوفي بإصرار وصدى صوتها يتردد في بيت الدرج. "إلى الموناليزا؟" وتراجع لانغدون إلى الوراء. "الآن؟". فكرت صوفي ملياً بهذه المجازفة "أنا لست متهمة بالقتل. سوف أقوم بالمخاطرة. فأنا بحاجة لأن أعرف ما الذي كان جدي يحاول أن يقوله لي". "ماذا عن السفارة؟". وشعرت صوفي بالذنب لأنها جعلت لانغدون فاراً من العدالة وكانت ستتخلى عنه الآن. إلا أنها لم تكن تمتلك أي خيار آخر. لكنها لم تفعل. أشارت بيدها نحو أسفل الدرج حيث كان هناك باب معدني. "اذهب من هذا الباب واتبع إشارات الخروج المضيئة. كان جدي قد اعتاد اصطحابي إلى هنا. ستقودك الإشارات إلى باب دوار للحماية. إنه ذو اتجاه واحد ويؤدي إلى الخارج" وأعطت لانغدون مفتاح سيارتها. "سيارتي هي السمارت كار الحمراء الموجودة في مرآب موظفي المتحف الذي ستجده مباشرة خلف هذا الباب الخارجي. هل تعرف كيف تصل إلى السفارة؟". أومأ لانغدون برأسه وهو يتفحص المفتاح الذي في يده. "اسمع" قالت صوفي، وصوتها ترقّ "أعتقد أن جدي ربما يكون قد ترك لي رسالة حيث الموناليزا - يمكن أن تكون مفتاحاً يدلني على قاتله أو سبب كوني في خطر، أو ما الذي حدث لعائلتي. "يجب أن أذهب لأتحقق من ذلك". "لكن لو كان يريد أن يخبرك عن سبب أنك في خطر، لماذا لم يقم بكتابة ذلك ببساطة على الأرض حيث قتل؟ ما هو السبب وراء لعبة الكلمات المعقدة هذه؟". "مهما كان الذي يحاول جدي أن يخبرني به، لا أعتقد أنه أراد أحداً آخر أن يعرفه. حتى الشرطة!" من الواضح أن جدها قد فعل كل ما بوسعه كي يبث إرسالاً سرياً مباشراً إليها. وقد كتبه بشيفرة تضمنت أحرف اسمها الذي كان يطلقه عليها والذي لا يعرفه أحد غيرهما وطلب منها أن تبحث عن روبرت لانغدون - الأمر الذي كان حكيماً نظراً إلى أن عالم حل الرموز الأمريكي هو الذي فك شيفرته. "وبقدر ما قد يبدو هذا غريباً، إلا أنني أعتقد أنه أراد أن أصل إلى الموناليزا قبل أن يقوم أحد آخر بذلك". "سآتي معك". "كلا! فنحن لا نعلم إلى متى سيبقى الغراند غاليري خالياً. يجب أن تذهب أنت". بدا لانغدون متردداً وقد رأى أن فضوله الأكاديمي بدأ يؤثر ويطغى على سلامة أحكامه وقد يجرّه إلى قبضة فاش من جديد. "اذهب الآن"، ونظرت إليه صوفي بامتنان"، "سأراك قريباً في السفارة سيد لانغدون". بدا لانغدون منزعجاً. "سأراك ولكن على شرط"، أجاب لانغدون بحزم. فوقفت صوفي وقد عقدت لسانها الدهشة. "وما هو هذا الشرط؟". "ألا تناديني سيد لانغدون". لاحظت صوفي أثر ابتسامة جانبية ترتسم على وجه لانغدون، فشعرت بأنها تبتسم. "حظاً سعيداً روبرت". وعندما وصل لانغدون إلى أسفل السلم اشتم رائحة نفاذة مخرشة يعرفها تماماً وهي رائحة زيت بذور الكتان وغبار الجص. وإلى الأمام وجد إشارة الخروج المضيئة وتحتها سهم يشير إلى ممر طويل. فدخل لانغدون إلى القاعة. كان إلى اليمين منها قاعة ترميم مظلمة وقد احتوت على كم هائل من التماثيل في مراحل إصلاح مختلفة. وإلى اليسار، رأى لانغدون مجموعة من القاعات تشبه ورشات ومحترفات تدريس الفنون في هارفرد - التي تحتوي على صفوف من الحوامل واللوحات وأدوات تأطير اللوحات - أي خط لترميم وتجميع التحف الفنية. وبينما كان لانغدون يجتاز الرواق أخذ يتساءل في ما إذا كان سيصحو فجأة في أي لحظة الآن في سريره في كامبريدج. فقد كانت الليلة برمّتها وكأنها حلم غريب. أنا الآن على وشك الهروب من اللوفر... كفارّ من العدالة. وكانت رسالة سونيير المشفرة لا زالت تدور في رأسه، وتساءل لانغدون عما قد تجده صوفي عند الموناليزا... في حال عثرت على شيء ما. فقد بدت واثقة من أن جدها أراد منها أن تذهب لزيارة اللوحة الشهيرة ثانية. وبقدر ما كان هذا التفسير يبدو معقولاً إلا أن لانغدون الآن كان منزعجاً من المشاعر المتناقضة التي كان يحس بها. بي. أس آتوا بروبرت لانغدون. لقد كتب سونيير اسم لانغدون على الأرض وقد طلب من صوفي أن تبحث عنه. لكن لماذا؟ لمجرد أن يقوم بمساعدتها في حل لعبة كلمات؟ يبدو ذلك احتمالاً بعيداً. ففي النهاية، لم يكن لدى سونيير أي مبرر ليعتقد بأن لانغدون كان ماهراً في حل ألعاب الكلمات بشكل خاص. حتى أننا لم نلتقِ ولا مرة. والأهم من ذلك كله هو أن صوفي قد اعترفت ببساطة أنه كان عليها أن تفك الشيفرة لوحدها دون مساعدة من أحد. فصوفي هي التي عرفت متوالية فيبوناتشي وكانت صوفي دون شك، ستفك شيفرة الرسالة دون أي مساعدة من لانغدون لو كان لديها مزيد من الوقت. كان من المفترض أن تقوم صوفي بفك تلك الشيفرة وحدها. شعر لانغدون فجأة بأنه متأكد من هذا الأمر، ومع ذلك أهمل استنتاجه هذا حلقة مفقودة في المنطق الذي اتبعته سلسلة أفعال سونيير. لماذا اختارني أنا بالذات؟ تساءل لانغدون وهو يتجه نحو الردهة. لم كانت آخر أمنية لسونيير قبل موته أن تعثر حفيدته المبعدة عليّ؟ ما هو الأمر الذي يظن سونيير أنني أعرفه؟ فجأة وعلى نحو غير متوقع، تسمّر لانغدون في مكانه وقد اتسعت عيناه مد يده إلى جيبه وسحب بسرعة الورقة التي أعطته إياها صوفي. تمعّن في السطر الأخير من رسالة سونيير. بي. إس آت بروبرت لانغدون. P.S. Find Robert Langdon ركّز لانغدون على الحرفين P.S في تلك اللحظة بالذات، شعر لانغدون بأن المزيج الرمزي الغامض لسونيير أصبح فجأة واضحاً كالشمس. كهزيم الرعد هبطت عليه نتائج سنوات طويلة من دراسة التاريخ وعلم الرموز وحلها. وكل ما فعله سونيير الليلة أصبح فجأة منطقياً تماماً. تدافعت الأفكار في رأس لانغدون وهو يحاول أن يستوعب نتائج ما يعنيه ذلك كله. استدار وحدّق في الاتجاه الذي جاء منه. هل هناك وقت كاف؟ كان يعلم أن هذا لم يعد مهماً الآن. ودون تردد انطلق لانغدون يركض مسرعاً نحو السلالم. الفصل الثاني والعشرون كان سيلاس يركع في مقعد في الصف الأول ويتظاهر بالصلاة بينما كان يتفحص مخطط المقدس. كانت سان سولبيس قد بنيت كمعظم الكنائس على شكل صليب روماني عملاق. وكان قسمه الطويل المركزي - أي صحن الكنيسة - يؤدي مباشرة إلى المذبح حيث كان يتقاطع بشكل مستعرض مع قسم أقصر يعرف بجناح الكنيسة. ويتم تقاطع الصحن والجناح تحت القبة الأساسية مباشرة ويعتبر ذلك المكان قلب الكنيسة... وأكثر نقاط الكنيسة قدسية وغموضاً. ليس الليلة، فكر سيلاس فسان سولبيس تخفي أسرارها في مكان آخر. أدار رأسه نحو اليمين وحذّق في جناح الكنيسة الجنوبي باتجاه المنطقة الخالية فوق الأرضية وراء آخر صف من المقاعد الخشبية إلى الشيء الذي كان ضحاياه قد وصفوه له. ها هو. وهو شريط نحاسي رفيع مصقول مزروع في الأرضية الغرانيتية الرمادية اللون، وقد لمع بلونه البراق داخل الحجر... خط ذهبي ينحدر بشكل مائل عبر أرضية الكنيسة. وقد حمل هذا الشريط علامات مدرجة كالمسطرة، كان هذا الشريط ميلاً، هكذا قيل لسيلاس، أداة فلكية وثنية تشبه الساعة الشمسية جذبت السياح والعلماء والمؤرخين وعابدي الطبيعة الوثنيين من شتى أنحاء العالم الذين كانوا يأتون لزيارة سان سولبيس ليحدّقوا في هذا الخط الشهير. الخط الوردي. أخذ سيلاس يلاحق بعينيه مسار الشريط النحاسي وهو يأخذ طريقه عبر الأرضية من يمينه حتى اليسار مائلاً أمامه بزاوية غريبة تخالف الاتساق الذي تتميز به الكنيسة. بدا الخط الذي يقطع المذبح الرئيسي لسيلاس كأثر جرح على وجه جميل. كان الشريط يخترق حاجز مكان العشاء الرباني ويقطعه إلى قسمين ثم يجتاز عرض الكنيسة بالكامل حتى يصل في النهاية إلى زاوية جناح الكنيسة الشمالي. حيث ينتهي أخيراً عند قاعدة تشكيل شديد الغرابة. مسلة مصرية ضخمة. هنا كان ينعطف الخط الوردي اللماع عمودياً بزاوية 90 درجة ويستمر بالصعود مباشرة إلى الأعلى حتى يصل إلى وجه المسلة نفسها، صاعداً ثلاثة وثلاثين قدماً إلى قمة الرأس الهرمي حيث يتوقف أخيراً. الخط الوردي، فكر سيلاس. لقد خبأت الأخوية الحجر المفتاح عند الخط الوردي. فالليلة عندما أخبر سيلاس الأستاذ أن مفتاح العقد الخاص بالجماعة كان مخبأً داخل كنيسة سان سولبيس، بدا الأستاذ متشككاً. لكن عندما أضاف سيلاس أن أعضاء الجماعة كلهم قد أعطوه وصفاً دقيقاً لنفس المكان الذي يتعلق بخيط نحاسي يقطع سان سولبيس، تلهف الأستاذ شوقاً. "أنت تتكلم عن الخط الوردي!". أخبر الأستاذ سيلاس على عجل عن غرابة التصميم المعماري المشهور لكنيسة سان سولبيس - حيث أن هناك شريطاً نحاسياً يقسم المقدس بدقة على محور شمال - جنوب. وقد كان هذا الشريط ميلاً لنوع من الساعات الشمسية القديمة وهو أحد الآثار الباقية من معبد وثني كان موجوداً في ذلك المكان بالتحديد. وعندما تدخل أشعة الشمس عبر نافذة الجدار الجنوبي ينتقل الضوء على تدرجات الخط الوردي دالاً على مرور الوقت من أطول يوم في السنة حتى أقصر يوم فيها. وقد عرف هذا الشريط الذي يأخذ اتجاه شمال - جنوب بالخط الوردي. وعلى مرّ القرون كان رمز الوردة يترافق بخرائط ودلالات ترشد الناس إلى الاتجاه الصحيح. فالبوصلة أو كما تدعى بالإنجليزية البوصلة الوردية - ترسم على معظم الخرائط لتدل على الشمال والشرق والجنوب والغرب. كانت تعرف أساساً بالرياح الوردية التي كانت تحدد اتجاه الرياح الاثنين وثلاثين، التي تهب من اتجاهات الرياح الثمانية الرئيسة، وأنصاف الرياح الثمانية وأرباع الرياح الستة عشر. وعندما تمثل بشكل بياني داخل دائرة، تصبح هذه النقاط الاثنتان والثلاثون للبوصلة مشابهة تماماً لاثنتين وثلاثين بتلة تقليدية لزهرة الورد. وإلى يومنا هذا لا زالت أداة الملاحة الأساسية تعرف باسم البوصلة الوردية. واتجاه أقصى الشمال فيها لا زال يحدد برأس سهم... أو بتحديد أكثر، رمز زهرة الزنبق. وعلى كرة أرضية، الخط الوردي - أو خط التنصيف أو الطول - كان خطاً وهمياً يصل بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي. وهناك بالطبع عدد لانهائي من الخطوط الوردية لأن كل نقطة على الكرة الأرضية يمكن أن يمر منها خط طول يصل القطب الشمالي بالجنوبي. وقد كان السؤال بالنسبة للملاحين القدماء هو أي تلك الخطوط يمكن أن يسمى بالخط الوردي - خط الصفر الطولي - الخط الذي بواسطته يمكن قياس كل خطوط الطول على الأرض. ذلك الخط اليوم هو في غرينتش في إنجلترا. لكنه لم يكن هناك قديماً. ففي وقت سبق كثيراً تنصيب غرينتش على أنها خط الطول الأساسي، كان خط الطول الصفر للعالم بأكمله يمر من باريس مباشرة وعلى وجه التحديد من كنيسة سان سولبيس. والخط النحاسي في سان سولبيس كان ذكرى أول خط طولي أساسي للعالم. وبالرغم من أن غرينتش جردت باريس من هذا الشرف عام 1888، إلا أن الخط الوردي الأصلي لا زال موجوداً حتى اليوم. "إذن، الأسطورة حقيقية"، قال الأستاذ لسيلاس. "فقد قيل إن حجر المفتاح الخاص بالأخوية موجود تحت علامة الوردة". والآن حيث كان سيلاس لا زال راكعاً على ركبتيه على المقعد الخشبي، راح ينظر حوله ويصغي السمع ليتأكد من عدم وجود أي أحد. للحظة ظن أنه سمع خشخشة في شرفة المرتلين فالتفت ونظر إلى الأعلى لعدة لحظات. لا أحد هناك. أنا وحدي. وقف الآن أمام المذبح وانحنى ثلاث مرات ثم التفت إلى اليسار وتبع الخط النحاسي إلى الشمال باتجاه المسلة. في تلك اللحظة، في مطار ليوناردو دافنشي الدولي في روما، أجفل صوت اصطدام العجلات التي ضربت المدرج الأسقف أرينغاروزا وأيقظته من نومه. لقد غفوت، فكر الأسقف وقد تعجب من أنه كان مسترخياً تماماً حتى نام دون أن يشعر بذلك. "أهلاً بكم في روما"، أعلن صوت المضيف عبر الميكروفون. وقف أرينغاروزا وعدّل ثوبه الكهنوتي الأسود وارتسمت على وجهه ابتسامة نادراً ما كانت تظهر. فقد سرّ بالقيام بهده الرحلة بشكل خاص. لقد كنت في وضع الدفاع لفترة طويلة أكثر من اللازم. غير أن قوانين اللعب تغيرت هذه الليلة. فقبل خمسة أشهر فقط، كان أرينغاروزا خائفاً على مستقبل الطريقة والإيمان بالرب. أما اليوم، وبقوة الرب وإرادته، جاء الحل من تلقاء نفسه. تدخل إلهي... والليلة إذا تم تنفيذ ما خطط له على أكمل وجه في باريس، سيحصل أرينغاروزا قريباً على شيء من شأنه أن يجعل منه أقوى رجل في العالم المسيحي. الفصل الثالث والعشرون وصلت صوفي لاهثة الأنفاس إلى الأبواب الخشبية الضخمة لقاعة الدول - الغرفة التي احتضنت الموناليزا. وقبل أن تدخل حدقت بتردد بعيداً إلى آخر الردهة، على بعد نحو عشرين ياردة، في المكان الذي لا زال جثمان جدها يرقد فيه تحت ضوء المصباح الكشاف. كان الشعور بتأنيب الضمير الذي سيطر عليها قوياً ومفاجئاً، واعتصر قلبها حزن عميق امتزج بإحساس بالذنب. فقد حاول الرجل استعطافها مرات عديدة على مدى السنوات العشر الماضية، لكن صوفي ظلت متبلدة المشاعر - وقد تركت رسائله وطروده البريدية دون أن تفتحها في درج مهمل ورفضت كل محاولاته لرؤيتها. لقد كذب عليّ! وأخفى عني أسراراً رهيبة! ما الذي كان يفترض بي أن أفعله؟ وهكذا نفته من حياتها تماماً. والآن كان جدها ميتاً وهو يكلّمها من قبره. الموناليزا. مدت يدها إلى الأبواب الخشبية الكبيرة ودفعتها فانشقت وفتحت. وقفت صوفي على عتبة الباب للحظة، وتفحصت الغرفة الكبيرة المستطيلة التي كانت على وشك الدخول إليها. كان يغمر هذه الغرفة أيضاً ضوء أحمر خافت. كانت قاعة الدول واحدة من غرف المتحف النادرة التي ليس لها مخرج وهي الغرفة الوحيدة التي كانت وسط الغراند غاليري لكنها منفصلة عنه. وهذا الباب وهو نقطة الدخول الوحيدة إلى الغرفة، كان يواجه لوحة رائعة لبوتيشلّي بطول خمسة عشر قدماً معلقة على الجدار البعيد. وإلى الأسفل منها كانت تتوسط الغرفة ذات الأرضية الخشبية أريكة مثمنة الشكل استخدمت كنقطة ترحيب للآلاف من الزوار كي يريحوا أقدامهم بينما يتأملون أثمن تحفة فنية في اللوفر. وحتى قبل أن تدخل كانت صوفي تعلم بأنها قد نسيت شيئاً. الضوء الأسود. حدّقت في الردهة بعيداً حيث رقد جدها تحت الأضواء وقد طوقته المعدات الإلكترونية. وإذا كان جدها قد كتب شيئاً ما هنا فلا بد أنه استخدم قلم الحبر المائي. أخذت صوفي نفساً عميقاً وهرعت نحو مسرح الجريمة الذي كان مناراً بأضواء كاشفة. لم تكن صوفي قادرة على النظر إلى جدها، فانصرفت إلى التركيز على أدوات البحث الجنائي. وعندما عثرت على قلم ضوئي صغير يكشف الأشعة فوق البنفسجية، دسته في جيب معطفها وأسرعت عائدة عبر الردهة نحو أبواب قاعة الدول المفتوحة. استدارت صوفي وخطت فوق العتبة. إلا أنها بينما كانت تهمّ بالدخول سمعت صوت خطى تركض مسرعة نحوها على نحو غير متوقع من داخل الغرفة. هناك أحد ما في الغرفة! وفجأة ظهر خيال رجل أتى من الغمامة الحمراء. فقفزت صوفي مرتدة إلى الوراء. "أنت هنا!" قطع همس لانغدون الأجش سكون الليل بينما توقف أمامها مباشرة. وأحست صوفي بارتياح مؤقت. "روبرت، لقد قلت لك أن تخرج من هنا! إذا عرف فاش -". "أين كنت؟". "كان عليّ أن أحضر الضوء الأسود"، همست صوفي وقد حملته بيدها إلى الأعلى. "إذا كان جدي قد ترك لي رسالة -". "صوفي، اسمعي" التقط لانغدون أنفاسه بينما ركّز بعينيه الزرقاوين عليها. "هل يعني الحرفان P.S.... معاً أي شيء آخر بالنسبة لك؟ أي شيء على الإطلاق؟". خشيت صوفي أن يتردد الصوت في أرجاء الردهة فسحبته إلى داخل قاعة الدول وأغلقت البابين المزدوجين الضخمين بهدوء وأقفلت عليهما الباب من الداخل. "لقد قلت لك إن الحرفين يعنيان الأميرة صوفي Princess Sophie". "أعرف ذلك، لكن هل سبق لك أن رأيتهما في أي مكان آخر؟ هل سبق لجدك أن استخدمهما بأي طريقة أخرى؟ في لعبة للكلمات مثلاً؟ أو ربما كان يذيل بهما الرسائل أو أوراقه الشخصية". أذهلها روبرت بسؤاله. كيف تسنى له أن يعرف ذلك؟ فقد رأت صوفي بالفعل الحرفين P.S. مرة في السابق بشكل رمزي. كان ذلك قبل عيد ميلادها التاسع بيوم واحد. عندما كانت تجوب البيت باحثة عن هدايا مخفية بمناسبة عيد ميلادها. فحتى في سنها المبكر لم تكن تحتمل أن يخفي أحد عنها أي سرّ. ترى ماذا أحضر لي جدي لعيد ميلادي هذه السنة؟ وأخذت تقلب الخزانات والدروج بحثاً عن الهدايا. هل أحضر لي اللعبة التي أردتها؟ ترى أين أخفاها؟ وعندما لم تعثر صوفي على أي شيء في البيت كله، استجمعت شجاعتها وتسللت إلى غرفة نوم جدها. كان غير مسموح لها أن تدخل هذه الغرفة لكن جدها كان نائماً على الأريكة في الطابق السفلي. سوف أسترق نظرة سريعة! دخلت على رؤوس أصابعها كيلا تحدث الأرضية الخشبية من تحتها صريراً وفتحت أبواب خزانته. ألقت صوفي نظرة على الرفوف وراء ثيابه فلم تجد شيئاً ثم فتشت تحت السرير. لا شيء أيضاً فانتقلت إلى مكتبه وفتحت الأدراج واحداً تلو الآخر وأخذت تبحث بيديها بحذر. لا بد أن يكون هناك شيء ما لي! وعندما وصلت إلى الدرج السفلي، لم تجد أي أثر للعبة. فشعرت بخيبة أمل، وفتحت الدرج الأخير وألقت جانباً بعض الثياب السوداء التي لم تكن قد رأت جدها يلبسها أبداً وعندما كانت على وشك إغلاق الدرج لمحت بريق ذهب أسفل الدرج. بدا كسلسلة ساعة جيب لكنها كانت تعرف أنه لم يحمل ساعة جيب. وتسارعت ضربات قلبها عندما أدركت ما هو بالتأكيد. لا بد أن يكون عقداً! وسحبت صوفي السلسلة من الدرج بتأنٍ. وقد أثار دهشتها وجود مفتاح ذهبي برّاق مربوط في نهاية السلسلة وكان ثقيلاً ولماعاً رفعته عالياً وقد سحرتها روعته فلم يكن يشبه أياً من المفاتيح التي رأتها في حياتها. فمعظم المفاتيح كانت مسطحة وذات أسنان خشنة لكن هذا كان عموداً مثلث الشكل تغطيه ثقوب صغيرة وكثيرة ورأسه الكبير الذهبي كان بشكل صليب لكنه لم يكن صليباً عادياً بل كان متساوي الأضلاع كإشارة الزائد. وقد حفر في منتصف الصليب رمز غريب - حرفان متشابكان يربطهما تصميم بشكل نوع من أنواع الزهور. "P.S." همست صوفي مقطبة وهي تقرأ الحرفين. ماذا عسى ذلك أن يكون؟ "صوفي؟" نادى جدها من مدخل الغرفة. فالتفتت وقد أجفلتها المفاجأة فأوقعت المفتاح على الأرض مصدراً رنيناً عالياً. حدّقت في المفتاح المرمي أرضاً لخوفها من النظر إلى وجه جدها. "لقد كنت... أبحث عن هدية عيد ميلادي"، قالت وهي مطأطئة رأسها لأنها كانت تعلم بأنها قد خانت ثقته. وقف جدها بصمت عند المدخل لفترة خال لها أنها لن تنتهي أبداً. وأخيراً تنهد بانزعاج واضح. "التقطي المفتاح، صوفي". استعادت صوفي المفتاح. فدخل جدها إلى الغرفة. "صوفي، عليك احترام خصوصية الآخرين". وانحنى بلطف نحوها وأخذ منها المفتاح. "إن هذا المفتاح مهم وخاص جداً. لو أنك أضعته...". وكان صوت جدها الهادئ قد جعل صوفي تشعر بالسوء أكثر "أنا آسفة، جدي. حقيقة أنا آسفة" صمتت للحظة. "لقد اعتقدت أنه عقد أخفيته عني لتهديني إياه في عيد ميلادي". فحدق فيها لعدة لحظات "سأقول هذا مرة أخرى، صوفي لأن هذا هام جداً عليك أن تتعلمي احترام خصوصية الآخرين". "نعم، جدي". "سنتكلم في هذا الأمر في وقت لاحق، أما الآن فعليك أن تقومي بإزالة الأعشاب الضارة من الحديقة". أسرعت صوفي إلى الخارج للقيام بالأعمال المنزلية التي عليها القيام بها. وفي صباح اليوم التالي، لم تحصل صوفي على أي هدايا من جدها بمناسبة عيد ميلادها. وهي لم تتوقع أن يهديها أي شيء خاصة بعد الذنب الذي اقترفته. حتى أنه لم يتمنَ لها عيد ميلاد سعيد طوال اليوم. ذهبت تلك الليلة إلى غرفتها لتخلد للنوم وقد سيطر عليها الحزن إلا أنها وبينما كانت تصعد إلى سريرها وجدت على مخدتها بطاقة وقد كتبت عليها أحجية بسيطة. فارتسمت ابتسامة على شفتيها حتى قبل أن تحل الأحجية. أنا أعرف هذا! فقد فعل جدها نفس الشيء صباح عيد الميلاد الماضي. إنه بحث عن الكنز! وانكبت على اللغز بلهفة حتى قامت بحله. وقادها الحل إلى قسم آخر من المنزل وهناك كانت بانتظارها بطاقة أخرى وأحجية أخرى. وحلت هذه الأحجية أيضاً. وهرعت لتجد البطاقة التالية وهكذا أخذت تركض في كافة أرجاء المنزل بحماس من دليل إلى آخر حتى عثرت أخيراً على دليل قادها من جديد إلى غرفة نومها فصعدت صوفي السلالم راكضة ودخلت غرفتها بسرعة وتوقفت فجأة وقد عقدت لسانها المفاجأة ففي منتصف الغرفة كانت هناك دراجة حمراء اللون براقة ذات شريطة مربوطة على مقودها. فأطلقت صوفي صيحة سرور. "أعرف أنك كنت تريدين لعبة"، قال جدها وهو يبتسم في زاوية الغرفة. "فكرت بأنك قد تحبين هذه أكثر". وفي اليوم التالي علمها جدها كيف تركب الدراجة وهو يركض بجانبها على طول الممشى في الحديقة. وعندما كانت تقود الدراجة على المرج السميك فقدت توازنها سقطا معاً على العشب وأخذا يتدحرجان ويضحكان سوية. "جدي" قالت صوفي وهي تعانقه "أنا آسفة جداً بشأن المفتاح". "أعرف ذلك حبيبتي. لقد صفحت عنك فأنا لا أقدر أن أظل غاضباً منك. فالأجداد والحفيدات يغفرون لبعضهم دائماً". كانت صوفي تعرف بأنها يجب ألا تسأل إلا أنها لم تستطع أن تصمت. "ما الذي يفتحه؟ أنا لم أرَ مفتاحاً كهذا في حياتي. إنه جميل جداً". لم يتكلم جدها للحظات طويلة وكان بإمكان صوفي أن ترى بأنه لم يكن يعرف كيف يجيبها. إن جدي لا يكذب أبداً. "إنه يفتح صندوقاً"، قال أخيراً "حيث أحتفظ بكثير من الأسرار". فلوت صوفي شفتيها باستياء. "أنا أكره الأسرار". "أعرف ذلك لكن تلك الأسرار هامة جداً، ويوماً ما ستعرفين قيمتها وتقدرينها كما أقدّرها أنا تماماً". "لقد رأيت على المفتاح أحرفاً وزهرة". "هذا صحيح، تلك هي زهرتي المفضلة، واسمها زهرة الزنبق، لدينا منها في الحديقة. إنها تلك البيضاء. في الإنجليزية نسمي هذا النوع من الزهور ليلي". "نعم إني أعرفها! إنها المفضلة لدي أنا أيضاً". "إذن سأعقد معك اتفاقاً" ورفع جدها حاجبيه كما يفعل دائماً عندما يكون على وشك أن يتحدّاها. "إذا استطعت أن تحتفظي بأمر مفتاحي هذا سراً، وألا تتكلمي عنه أبداً أو تذكريه لي أو لأي أحد آخر على الإطلاق. فسأعطيه لك يوماً ما". لم تصدق صوفي أذنيها. "ستفعل؟". "أعدك، أنه عندما يحين الوقت سيكون المفتاح لك، فاسمك محفور عليه". فقطبت صوفي. "كلا، اسمي ليس عليه، فقد حفر عليه P.S. واسمي ليس P.S.!". أخفض جدها صوته ونظر حوله كما لو أنه يريد التأكد بأن ليس هناك أحد يسمعهما. "حسناً صوفي، إذا كان لا بد لك أن تعلمي، إن P.S. هو شيفرة. إنها الأحرف الأولى من اسمك السرّي". اتسعت عينا صوفي تعجباً. "أنا لدي أحرف سرية؟". "بالطبع، الحفيدات لديهن دوماً أحرف لأسماء سرية يعرفها فقط جدودهنّ". "P.S.?". فدغدغها. "الأميرة صوفي Princesse Sophie". قهقهت قائلة "أنا لست أميرة". فغمزها "أنت أميرتي". ومنذ ذلك اليوم، لم يأتيا على ذكر المفتاح أبداً وهي أصبحت أميرته صوفي. داخل قاعة الدول وقفت صوفي بصمت وأحست بمرارة عميقة لفقدانه. "الحرفين، صوفي؟" همس لانغدون وهو ينظر إليها باستغراب "هل رأيتهما؟". أحست صوفي بصوت جدها يهمس في ممرات المتحف. لا تذكري هذا المفتاح لأي أحد على الإطلاق صوفي، حتى لي أنا. كانت تعرف أنها قد خيبت أمله لأنها لم تسامحه وتساءلت في ما إذا كان يمكنها أن تخون ثقته مرة أخرى. بي. إس آت بروبرت لانغدون. لقد أراد جدها أن يساعدها لانغدون. أومأت صوفي برأسها. "نعم، لقد رأيت هذين الحرفين معاً مرّة عندما كنت صغيرة جداً". "أين؟". ترددت صوفي. "على شيء في غاية الأهمية بالنسبة إليه". نظر لانغدون في عينيها مباشرة "صوفي، هذا أمر حساس جداً. هل يمكنك أن تقولي لي إذا ظهر الحرفان مع رمز؟ زهرة زنبق؟". فقدت صوفي توازنها وتراجعت إلى الوراء في ذهول. "لكن... كيف أمكنك أن تعرف ذلك!". أطلق لانغدون نفساً طويلاً وأخفض صوته. "أنا متأكد إلى حدٍّ ما أن جدك كان عضواً في مجمع سرّي، أخوية قديمة جداً تعمل في الخفاء". أحست صوفي بمعدتها تنقبض. فهي كانت متأكدة من ذلك أيضاً. فقد مضت عشر سنوات وهي تحاول أن تنسى تلك الحادثة التي كانت تؤكد لها هذه الحقيقة المرعبة. فما شهدته كان شيئاً رهيباً. كان شيئاً لا يغتفر. "فزهرة الزنبق"، قال لانغدون "إذا اجتمعت مع الحرفين P.S. معاً، يتشكل رمز الأخوية الرسمي وشعار النبالة الخاص بهم وعلامتهم المميزة". "وكيف عرفت ذلك؟" كانت صوفي تتمنى من أعماق قلبها ألا يقول لها لانغدون أنه هو نفسه عضو فيها. "لقد كتبت عن هذه الجماعة"، قال ذلك وصوته يرتجف حماساً. "فالدراسة والبحث في رموز المجتمعات السرّية هو تخصصي. إنهم يطلقون على أنفسهم اسم جمعية سيون ومقرها الرئيسي هنا في فرنسا ويجتذبون أعضاء متنفذين من كل أنحاء أوروبا. ويمكن القول إنهم إحدى أقدم المجتمعات السرّية في العالم والتي لا زالت فاعلة حتى اليوم". لكن صوفي لم تسمع في حياتها عن تلك الجماعة. أخذ لانغدون يتكلم الآن بسرعة وعنف. "وقد ضمت عضوية الجمعية أفراداً من أرفع الشخصيات في التاريخ ومنهم: بوتيشلّي والسير إسحق نيوتن وفيكتور هوجو" وتوقف عن الكلام لحظة ثم استطرد بصوت مترع بالحماس الأكاديمي. "وليوناردو دافنشي". حملقت صوفي. "دافنشي كان عضواً في مجتمع سري؟". "كان دافنشي رئيس الجمعية من العام 1510 حتى العام 1519 والمعلم الأكبر فيها، وهذا قد يساعدك على فهم ولع جدك الكبير بأعمال ليوناردو فالرجلان يتقاسمان رابطة أخوية تاريخية. وكل ذلك يتفق تماماً مع انبهارهما بأيقونات الآلهة الأنثى وتقديس الطبيعة وألوهية المرأة وازدراء الكنيسة. وللجمعية تاريخ موثق من تبجيل للأنثى المقدسة". "أتقول لي أن هذه الجماعة هي مذهب وثني يعبد آلهة أنثى؟". "بل هي المذهب الوثني لعبادة الآلهة الأنثى بذاته. لكن الأهم هو أنهم يعرفون كحماة سرّ قديم. السرّ الذي جعلهم أقوياء لدرجة رهيبة". بالرغم من الإيمان الراسخ الذي كان يشع في عيني لانغدون، كانت صوفي لا زالت تشعر بأنها لا تصدق أبداً ما تسمع. مذهب وثني سرّي؟ وقد ترأسه ليوناردو دافنشي يوماً؟ كان ذلك كله يبدو سخيفاً تماماً. لكنها بالمقابل حتى بعد أن رفضت ذلك أحست بأن ذاكرتها أخذتها عشر سنوات إلى الوراء وبالتحديد إلى تلك الليلة حيث فاجأت جدها وشهدت شيئاً لا يمكنها أن تقبله حتى اليوم. هل يمكن أن يفسر ذلك...؟ "إن هوية أعضاء الأخوية الذين لا زالوا على قيد الحياة، هي سرّ طي الكتمان." قال لانغدون، "إلا أن الحرفين P.S. وزهرة الزنبق التي رأيتها في صغرك هي دليل قاطع. ولا يمكنها أن تكون مرتبطة إلا بالجمعية". أدركت صوفي الآن أن لانغدون كان يعرف معلومات عن جدها أكثر بكثير مما كانت تتصور. ومن الواضح أن هذا الأمريكي لديه الكثير ليطلعها عليه بهذا الخصوص، لكن هذا لم يكن المكان المناسب. "لا يمكنني أن أدعهم يقبضون عليك روبرت، فعلينا مناقشة الكثير من الأمور. يجب أن تذهب!". سمع لانغدون همهمة ضعيفة فقط لصوتها وهي تتكلم. ولم يكن ذاهباً إلى أي مكان. كان تائهاً في مكان آخر الآن حيث طفت إلى السطح أسرار قديمة كانت دفينة يوماً وحيث عادت الأحداث المنسية في أعماق التاريخ إلى الحياة وخرجت من الظلمات إلى النور. أدار لانغدون رأسه ببطء كما لو أنه يتحرك تحت الماء ونظر بعيداً محدقاً عبر الضوء الأحمر الخافت نحو الموناليزا. زهرة الزنبق... زهرة ليزا... الموناليزا. لقد انسجم كل شيء مع بعضه وأصبح واضحاً، كسيمفونية صامتة تردد صدى أعمق أسرار جمعية سيون وليوناردو دافنشي. وعلى بعد عدة أميال، وعلى ضفة النهر وراء شارع ليزانفاليد، وقف السائق المذعور لشاحنة قاطرة ومقطورة، تحت تهديد المسدس وتفرّج على النقيب في الشرطة القضائية الذي أطلق زمجرة غضب مرعب ورمى بلوح من الصابون في مياه السين. الفصل الرابع والعشرون نظر سيلاس بتمعن نحو الأعلى إلى مسلة سان سولبيس، ملقياً نظرة فاحصة إلى جذعها الرخامي الضخم. شعر بشد في عضلاته من فرط الحماس. ألقى نظرة حول الكنيسة ليتأكد من أنه لوحده. ثم انحنى على قاعدة المسلة لا من باب الاحترام بل لإتمام مهمته. إن مفتاح العقد مخبأ تحت الخط الوردي. في قاعدة مسلة سولبيس. هذا ما اتفق عليه كل أعضاء الأخوية. وبعد أن ركع سيلاس على ركبتيه مرر يديه على الأرضية الحجرية. ولم يرَ أي شقوق أو علامات تدل على وجود قطعة بلاط غير ثابتة، فأخذ يطرق بلطف بمفاصل أصابعه على الأرض. تبع الخط النحاسي القريب من المسلة وطرق على كل بلاطة مجاورة للخط. أخيراً، أصدرت إحدى البلاطات صدى غريباً. هناك مكان مجوف تحت الأرضية! ابتسم سيلاس. لقد نطق ضحاياه بالحقيقة. انتصب واقفاً وراح يبحث في المقدس عن شيء ما يستطيع بواسطته كسر بلاطة الأرضية الحجرية. وإلى الأعلى، في الشرفة كتمت الأخت ساندرين شهقة، فقد تحقق ما كانت تخشى حدوثه طوال حياتها. لم يكن هذا الزائر في الحقيقة مثل ما كان يبدو عليه. فلم يأتِ راهب أوبوس داي الغامض هذا إلى سان سولبيس بغرض الزيارة بل لغرض آخر مختلف تماماً. غرض سرّي. وفكّرت، أنت لست الوحيد الذي يحمل في جعبته الأسرار. كانت الأخت ساندرين بييل أكثر من مجرد مديرة شؤون هذه الكنيسة. لقد كانت الحارسة الأمينة عليها. والليلة كان الوقت قد أزف. وكان وصول هذا الرجل الغريب إلى قاعدة المسلة إنذاراً من الأخوية. كان نداء استغاثة صامت ينذر بالخطر. الفصل الخامس والعشرون تتألف السفارة الأمريكية في باريس من مجموعة مبانٍ تقع في جادة غابرييل شمال الشانزيليزيه تماماً. ويعتبر هذا المجمع الذي يغطي مساحة ثلاث إيكرات أرضاً أمريكية مما يعني أن كل من يقف عليها تطبق بحقه نفس القوانين المطبقة في الولايات المتحدة كما أنه يتمتع بنفس الحماية الي تؤمن له كما لو أنه في الولايات المتحدة الأمريكية. كانت عاملة مقسم الهاتف المناوبة هذه الليلة تقرأ مجلة التايم الطبعة الدولية عندما قاطعها رنين الهاتف. فردت "السفارة الأمريكية". "عمت مساء". كان المتصل يتكلم الإنجليزية بلكنة فرنسية. "أنا بحاجة لمساعدتك". بالرغم من الأدب الواضح في كلمات الرجل إلا أن نبرته كانت جافة ورسمية. "لقد قيل لي إن هناك رسالة هاتفية لي على نظام الرسائل الآلي لديكم. والرسالة هي باسمي، لانغدون لكنني للأسف نسيت رمز الدخول الثلاثي لتلقي الرسالة. لو أمكنك مساعدتي سأكون في غاية الامتنان". صمتت عاملة الهاتف للحظة وأجابت بارتباك "أنا آسفة سيدي، يبدو أن رسالتك قديمة نوعاً ما. فقد تم إنهاء ذلك النظام منذ سنتين لأسباب أمنية. كما أن رمز الدخول كان يتألف من خمسة أرقام لا ثلاثة. من الذي أخبرك بأن هناك رسالة لك في السفارة؟". "لا يوجد لديكم نظام آلي للرسائل الهاتفية؟". "كلا سيدي، وأي رسالة لك سيتم تسجيلها باليد في قسم الخدمات لدينا. هل يمكنك أن تقول لي ما اسمك ثانية؟". لكن الرجل كان قد أقفل الخط. شعر بيزو فاش بأنه مصعوق وهو يذرع ضفاف السين جيئة وذهاباً. لقد كان متأكداً أنه رأى لانغدون يقوم بالاتصال برقم محلي ثم يدخل رمزاً من ثلاثة أرقام ويستمع إلى تسجيل صوتي. لكن إذا لم يكن لانغدون قد اتصل بالسفارة إذن بمن اتصل؟ ولم يدرك حتى هذه اللحظة أن جميع الإجابات كانت في متناول يده حتى نظر إلى هاتفه النقال. لانغدون استخدم هاتفي ليقوم بذلك الاتصال. ضغط فاش مفتاح قائمة المحتويات في هاتفه النقال وألقى نظرة على قائمة الأرقام التي تم الاتصال بها مؤخراً ووجد الرقم الذي اتصل به لانغدون. كان رقم هاتف في باريس متبوعاً برمز من ثلاثة أرقام 454. أعاد فاش الاتصال بذلك الرقم وانتظر حتى يجيبه أحد على الهاتف الذي بدأ يرن. وأخيراً، أجابه صوت امرأة. "يوماً سعيداً، أنتم تتصلون بمنزل صوفي نوفو"، قال المجيب الآلي "أنا لست موجودة في المنزل الآن، لكن...". بدأ دم فاش يغلي وهو يضرب الأرقام 4... 5... 4. الفصل السادس والعشرون بالرغم من الشهرة الواسعة التي تتمتع بها الموناليزا، كانت مجرد لوحة بطول 31 وعرض 21 إنش - هي أصغر حتى من الملصقات التي تحمل صورتها والتي تباع في محل الهدايا في اللوفر. كانت معلقة على الجدار الشمالي الغربي في قاعة الدول خلف لوح بسماكة إنشين من الزجاج الواقي وغير القابل للكسر. وقد رسمت على لوحة من خشب الحور وكانت السمة الخيالية الضبابية التي تميز اللوحة تعود إلى براعة دافنشي الفائقة وتفوقه في أسلوب سفوماتو الضبابي الذي تبدو فيه الأشكال في العمل الفني وكأن حدودها تتلاشى فتتداخل مع بعضها البعض. ومنذ أن استقرت الموناليزا - أو الجوكوندا كما يلقبونها في فرنسا - في اللوفر تعرضت للسرقة مرتين، كان آخرها في العام 1911 عندما اختفت من "القاعة التي لا يمكن اختراقها" - الصالون المربع. في ذلك اليوم تعالى نواح الباريسيين وبكاؤهم في الشوارع وكتبوا مقالات في الصحف توسلوا فيها اللصوص ليعيدوا اللوحة. وبعد سنتين عثر على الموناليزا مخبأة أسفل صندوق خفي في غرفة فندق في فلورنسا. والآن بعد أن أوضح لانغدون لصوفي أنه لا ينوي الخروج من اللوفر في الوقت الحاضر، مشى معها في قاعة الدول باتجاه الموناليزا التي كانت لا تزال على بعد عشرين ياردة إلى الأمام منهما عندما شغّلت الضوء الأسود فانتشر الضوء المائل إلى الزرقة المنبعث من القلم على الأرضية أمامهم. وأخذت صوفي تلوّح بالشعاع الضوئي من الأمام إلى الخلف ممشطة الأرضية وكأنها تبحث عن ألغام أرضية، علّها تجد أي أثر للحبر المضيء. كان لانغدون قد بدأ يشعر بوخز خفيف في جسمه من فرط الإثارة التي ولدها لقاؤه وجهاً لوجه مع الأعمال الفنية الرائعة التي كان يمرّ بها وهو يمشي جنباً إلى جنب مع صوفي. قام لانغدون بجهد كبير ليتمكن من الرؤية التي تعذرت بسبب الحاجز الضوئي المائل إلى اللون البنفسجي الذي انبعث من الضوء الأسود الذي كانت تحمله صوفي. ظهرت إلى يساره الأريكة المثمنة الشكل والمخصصة للزوار والتي بدت وكأنها جزيرة مظلمة وسط بحر الغرفة الخالي. وتمكن لانغدون الآن من رؤية اللوح الزجاجي الغامق على الجدار والذي علقت خلفه أشهر لوحة في العالم آمنة ووحيدة في زنزانتها الانفرادية. وكان لانغدون يعلم أن المنزلة الرفيعة التي تحتلها الموناليزا كأشهر تحفة فنية في العالم، لا تعود إلى ابتسامتها الغامضة ولا إلى التأويلات الغريبة التي نسبها إليها بعض مؤرخي الفن والمتحذلقين ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة. والأمر ببساطة هو أن الموناليزا كانت مشهورة لأن ليوناردو دافنشي أعلن على الملأ أنها كانت أفضل إنجازاته. كان يحمل اللوحة معه أينما سافر ومهما كانت وجهته وإذا سئل عن السبب أجاب أنه صعب عليه أن يبتعد عن أسمى عمل عبّر فيه عن الجمال الأنثوي. وبالرغم من ذلك فقد شك كثيرون من مؤرخي الفن بأن حب دافنشي للموناليزا كان مردّه براعته الفنية الفائقة في رسمها. لأن الحقيقة هي أن اللوحة لم تكن أكثر من صورة عادية جداً رسمت بأسلوب سفوماتو الضبابي. وقد ادعى كثير من الباحثين أن تبجيل دافنشي لعمله هذا كان لسبب أكثر عمقاً ألا وهو الرسالة الخفية التي تكمن في طبقات الألوان. فقد كانت الموناليزا في الواقع واحدة من أكثر الدعابات الخفية في العالم. وقد تم الكشف عن تركيبة المعاني المزدوجة والتلميحات الهازلة الموثقة والواضحة في اللوحة، في معظم كتب تاريخ الفن. وبالرغم من ذلك كانت الغالبية العظمى من الناس لا زالت تنظر إلى ابتسامة الموناليزا على أنها سرّ عظيم وغامض. لا غموض فيها على الإطلاق، فكر لانغدون وهو يتقدم إلى الأمام ويتمعن في الحدود الخارجية للوحة التي كانت بعيدة وأخذت تتوضح شيئاً فشيئاً. لا غموض فيها على الإطلاق.. فقد قام لانغدون مؤخراً بمشاركة سرّ الموناليزا مع مجموعة غريبة بعض الشيء - مجموعة من المجرمين في سجن مقاطعة إيسّيكس. كانت الحلقة الدراسية التي حاضر فيها لانغدون في السجن جزءاً من برنامج نظمته جامعة هارفرد بهدف إدراج التعليم في نظام السجون، أو "الثقافة للمجرمين"، على حدّ تعبير زملاء لانغدون الذين أطلقوا عليه هذا الاسم. وقف لانغدون عند جهاز عرض الصور في مكتبة السجن المعتّمة وأخذ يشاطر السجناء الحاضرين - الذين كانوا رجالاً أذكياء بالرغم من فظاظتهم وخشونتهم - سرّ الموناليزا. "يمكنكم أن تلاحظوا" قال لهم لانغدون وهو يتجه نحو صورة الموناليزا المعروضة على حائط المكتبة، "أن الخلفية المرسومة وراء وجهها غير مستوية"، وأشار لانغدون إلى الاختلاف الواضح. "لقد رسم دافنشي خط الأفق من جهة اليسار أخفض بشكل كبير من اليمين". "لقد أخطأ في رسمها إذن؟" سأل أحد السجناء. أطلق لانغدون ضحكة خافتة. "كلا. لم يفعل دافنشي ذلك في معظم الأحيان. في الواقع إن هذه خدعة بسيطة قام بها دافنشي. عندما رسم دافنشي الريف من جهة اليسار بشكل أخفض، جعل الموناليزا تبدو أكبر بكثير من جهة اليسار عما هي في جهة اليمين. وهي تلميح خفي قام به دافنشي. فعلى مرّ العصور حددت مفاهيم الذكر والأنثى جهتين، فاليسار هو الأنثى واليمين هو الذكر. وبما أن دافنشي كان شديد الإعجاب بالمبادئ الأنثوية، لذا جعل الموناليزا تبدو أعظم من الجانب الأيسر". "لقد سمعت أنه كان لوطياً منحرفاً"، قال ذلك رجل قصير القامة ذو لحية صغيرة. تبدلت ملامح وجه لانغدون لدى سماعه تلك الكلمة. "لم يستخدم المؤرخون تلك الكلمة بهذه الطريقة تماماً. لكن هذا صحيح، فقد كان دافنشي شاذاً جنسياً". "هل كان ذلك هو السبب الذي جعله مهتماً بالشؤون الأنثوية والأمور من هذا القبيل؟". "في الواقع، كان دافنشي يؤمن بالتوازن بين الذكر والأنثى. ويعتقد بأن الروح البشرية لا يمكنها أن ترتقي إلا بوجود العناصر المذكرة والمؤنثة". "أتقصد أعضاء الرجال والنساء؟" هتف أحدهم. وأثار ذلك موجة من الضحك. فكر لانغدون بأن يقدم لهم كمعلومة جانبية تفسيراً لغوياً لكلمة "خنثى" وعلاقتها بالإله هيرمس والإلهة أفروديت حيث أن أصل كلمة خنثى هو "هيرمافروديت" إلا أن إحساسه أنبأه بأن ذلك سيضيع هباء على هذه المجموعة. "يا سيد لانغفورت"، ناداه رجل مفتول العضلات. "أصحيح أن الموناليزا هي صورة ليوناردو دافنشي نفسه؟ لقد سمعت أن تلك هي حقيقة تلك اللوحة". "احتمال وارد". أجاب لانغدون. "فدافنشي كان شخصاً يحب المزاح والمقالب، كما أنه قد تم تحليل بواسطة الكمبيوتر للموناليزا وصورة دافنشي نفسه أكد وجود نقاط تشابه مذهل بين وجهيهما. لكن مهما كان يريد دافنشي قوله في اللوحة" قال لانغدون "فإن موناليزته هي لا ذكر ولا أنثى إنها التحام بين الاثنين وهي رسالة أراد دافنشي من خلالها الإشارة إلى الجنسين معاً في آن واحد". "أمتأكد أنت أن هذا ليس مجرد هراء هارفردي للقول ببساطة أن الموناليزا ليست إلا فتاة قبيحة؟". عندئذ ضحك لانغدون. "قد تكون على حق. لكن دافنشي قد ترك بالفعل دليلاً واضحاً يؤكد أنه يفترض باللوحة أن تكون خنثى. هل سبق لأحدكم أن سمع بإله مصري يدعى أمون؟". "طبعاً!" قال الرجل الضخم. "إنه إله الخصوبة الذكرية!". دهش لانغدون. "إن هذا مكتوب على كل علبة من علب الواقي الذكري أمون" ابتسم الرجل المفتول العضلات ابتسامة عريضة. "فعلى العلبة من الأمام كانت هناك صورة رجل برأس خروف وكتابة تقول إنه الإله المصري للخصوبة الذكرية". لم تكن تلك الماركة مألوفة للانغدون إلا أنه كان مسروراً لأن مصنعي الواقيات الذكرية قد أصابوا بالهيروغليفية!". "أحسنت، إن أمون بالفعل ممثل على هيئة رجل برأس خروف وترتبط قرونه المقوسة الغريبة بالكلمة الدارجة التي نستخدمها اليوم بالإنجليزية للدلالة على شخص مثار جنسياً عندما نقول هورني "Horny" التي أتت من هورن "Horn" أي قرن". "أنت تمزح!". "كلا أبداً". قال لانغدون. "وهل تعلم من هو نظير أمون؟ الإلهة المصرية للخصوبة الأنثوية؟". وقوبل سؤاله بصمت دام عدة لحظات. "إنها إيزيس"، قال لانغدون وقد أمسك بقلم شمعي. "لدينا إذن الإله الذكر أمون" وكتب ذلك. "والإلهة المؤنثة إيزيس والتي كانت تكتب بحروف تصويرية ليزا L'Isa". انتهى لانغدون من الكتابة ثم تراجع إلى الوراء مبتعداً عن جهاز عرض الصور. AMON L'ISA أمون ليزا "هل يذكّركم هذا بشيء ما؟". "موناليزا... يا للهول!" هتف أحدهم. أومأ لانغدون برأسه." أيها السادة، ليس وجه الموناليزا هو الذي يبدو خنثى فحسب بل واسمها أيضاً الذي هو عبارة عن كلمة مدموجة تدل على الاتحاد المقدس بين الذكر والأنثى. وهذا، أصدقائي الأعزاء هو سرّ دافنشي وسبب ابتسامة الموناليزا الغامضة". "لقد كان جدي هنا" قالت صوفي وركعت فجأة على ركبتيها. والآن وقد أصبحا على بعد عشرة أقدام فقط عن اللوحة، وجهت صوفي الضوء الأسود بتردد نحو بقعة في الأرضية الخشبية. لم يرَ لانغدون أي شيء في البداية، لكنه عندما انحنى إلى جانبها رأى نقطة صغيرة من سائل مضيء كان قد جف. هل هذا حبر؟ وفجأة تذكر لم كان يستخدم الضوء الأسود أصلاً. للدم. فتنبهت حواسه. كانت صوفي على حق. فقد قام جاك سونيير فعلاً بزيارة الموناليزا قبل أن يموت. "لا يمكن أن يكون قد جاء إلى هنا دون سبب"، همست صوفي وهي تقف. "أنا متأكدة من أنه قد ترك لي رسالة ما هنا". ومشت بسرعة مجتازة الخطوات الأخيرة التي كانت تفصلها عن الموناليزا ثم أضاءت الأرضية التي كانت مقابل اللوحة مباشرة وأخذت تلوّح بالضوء إلى الأمام والخلف فوق الأرضية الخشبية الخالية. "لا شيء هنا!". وفي تلك اللحظة رأى لانغدون بريقاً بنفسجياً ضعيفاً على الزجاج الواقي أمام الموناليزا فانحنى قليلاً وأمسك معصم صوفي وحرّك الضوء ببطء إلى الأعلى وسلّطه على اللوحة نفسها. فتسمّر الاثنان في مكانهما دون حراك. كانت هناك ست كلمات تتوهج في الظلام مكتوبة على وجه الموناليزا مباشرة. الفصل السابع والعشرون كان الملازم كوليه جالساً في مكتب سونيير عندما أخذ يضغط سماعة الهاتف بقوة على أذنه وهو لا يصدق ما يسمعه. هل سمعت فاش جيداً، "لوح صابون؟ لكن كيف استطاع لانغدون أن يعرف بنقطة تعقب الأثر؟". "صوفي نوفو" أجاب فاش. "هي التي أخبرته". "ماذا، لكن لم فعلت ذلك؟". "هذا بالفعل سؤال وجيه، لكنني استمعت لتوّي إلى تسجيل صوتي يؤكد أنها هي التي حذّرته". صمت كوليه فجأة لا يعرف ماذا يقول. ما الذي كانت نوفو تفكر به عندما فعلت ذلك؟ أكان فاش يمتلك دليلاً يفيد بأن صوفي خربت عملية اعتقال مجرم كانت تقوم بها الشرطة القضائية؟ إن هذا لن يؤدي إلى طرد صوفي من عملها فحسب بل سيدخلها السجن أيضاً. "لكن، سيدي... أين لانغدون الآن إذن؟". "هل انطلقت صفارات إنذار الحريق هناك؟". "كلا سيدي". "ولم يخرج أحد من تحت بوابة الغراند غاليري؟". "لدينا أحد موظفي أمن اللوفر يقوم بحراسة البوابة هناك، تماماً كما أمرت". "إذن لا بد أن لانغدون لا زال داخل الغراند غاليري". "لا زال في الداخل؟ لكن ما الذي يفعله هناك؟". "هل موظف الأمن الموجود هناك مسلح؟". "نعم سيدي، إنه حارس عالي الرتبة". "دعه يعود إلى الداخل" أمره فاش، "فعودة رجالي إلى المتحف ستستغرق عدة دقائق، ولا أريد أن يفلت لانغدون من قبضتي". صمت فاش للحظة. "ويفضّل أن تخبر الحارس أن العميلة نوفو قد تكون معه في الداخل". "ظننت أنها قد خرجت". "هل رأيتها تخرج بالفعل؟". "كلا سيدي، لكن -". "في الواقع لم يرها أحد تخرج من المتحف أيضاً لقد رأوها تدخل فقط". كان كوليه مصعوقاً من وقاحة صوفي نوفو. لا زالت داخل البناء؟ "أنت تدبر الأمر"، أمره فاش. "أريد أن يكون لانغدون ونوفو تحت تهديد السلاح عندما أعود". بعد أن ابتعدت الشاحنة، جمع النقيب فاش رجاله. لقد أثبت لانغدون الليلة أنه فريسة مراوغة وصعبة المنال والآن مع مساعدة العميلة نوفو له، قد يصبح القبض عليه أصعب مما كان يتوقع. قرر فاش ألا يغامر. وكي يتجنب وقوع المزيد من المشاكل، أعطى نصف رجاله أمراً بالعودة إلى اللوفر. وأرسل النصف الآخر لحراسة المكان الوحيد في باريس الذي يمكن للانغدون أن يلتجئ إليه طلباً للأمان. الفصل الثامن والعشرون كان لانغدون داخل صالة الدول يقف محدقاً بذهول في الكلمات الستة المتوهجة فوق الزجاج الواقي. بدا النص وكأنه معلّق في الفضاء مضفياً ظلاً خشناً على ابتسامة الموناليزا الغامضة. "الأخوية"، همس لانغدون "هذا يثبت أن جدك كان عضواً فيها!". نظرت إليه بارتباك."هل فهمت هذه الرسالة؟". "لا غبار عليها"، قال لانغدون وقد أومأ برأسه بينما كانت أفكاره تدور في دوامة عنيفة. "إنها إعلان واضح عن إحدى أهم الفلسفات والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الأخوية!". بدت صوفي مرتبكة تحت بريق الرسالة المكتوبة على وجه الموناليزا. خداع الرجل كريه للغاية SO DARK THE CON OF MAN "صوفي"، قال لانغدون "إن تعاليم عبادة الآلهة الخالدة ترتكز على معتقد يقول إن هناك رجالاً متنفذين وأقوياء في الكنيسة المسيحية الأولى "خدعوا" العالم من خلال نشر أكاذيب حطت من شأن المرأة ورجحوا بذلك كفة الميزان لمصلحة الرجل". ظلت صوفي صامتة محدقة في الكلمات دون أن تنبس ببنت شفة. "تعتقد الأخوية أن قسطنطين وخلفاءه الذكور نجحوا في تحويل العالم من الوثنية المؤنثة إلى المسيحية الذكورية وذلك بإطلاق حملة تشهير حولت الأنثى المقدسة إلى شيطان مريد ومحت تماماً أي أثر للآلهة الأنثى في الدين الحديث". لا زال تعابير وجه صوفي تنطق بالشك. "هل أتى بي جدي إلى هنا لأجد هذا؟ لا بد أنه يحاول أن يقول لي أكثر من ذلك". فهم لانغدون قصدها. فهي تعتقد أن هذه الرسالة هي شيفرة أخرى. وسواء كان هناك معنى خفي هنا أم لا، فإن لانغدون لم يكن يستطيع أن يحكم على ذلك في الحال. فقد كان الوضوح الجريء الذي ظهر في رسالة سونيير لا زال يسيطر على تفكيره. خداع الرجل كريه للغاية، فكر لانغدون، إنه حقاً كريه. لا يمكن أحد أن ينكر الخير العميم الذي نشرته الكنيسة الحديثة في العالم المليء بالاضطرابات هذه الأيام، لكن بالرغم من ذلك فقد كان للكنيسة تاريخ مطبوع بالعنف والخداع. فحملتها الشعواء التي شنتها بهدف "إعادة الأديان الوثنية التي تقوم على تقديس الأنثى إلى جادة الحق وطريق الصواب"، استمرت على مدى ثلاثة قرون استخدمت فيها طرقاً ووسائل تثير الرعب في النفوس. وقد قامت محكمة التفتيش الكاثوليكية بنشر الكتاب الذي يمكن أن يصنف على أنه أكثر منشور دموي عرفه تاريخ البشرية على الإطلاق وهو مالوس مالفيكاروم - أو مطرقة الساحرات - هذا الكتاب الذي لقّن العالم فكرة "خطر النساء الملحدات ذوات الأفكار المتحررة" وعلّمت الإكليروس كيفية العثور عليهن وتعذيبهن وقتلهن. ومن بين اللواتي كانت تحكم عليهن الكنيسة بأنهن "ساحرات" كنّ كل العالمات والكاهنات والغجريات والمتصوفات ومحبات الطبيعة وجامعات الأعشاب الطبية وأي امرأة "يشك بأنها تنسجم مع العالم الطبيعي". وكان يتم قتل القابلات بسبب ممارستهم المهرطقة حيث يستخدمن الخبرة والمعرفة الطبية لتخفيف آلام الوضع - وهي حسب ادعاء الكنيسة آلام فرضتها العدالة الإلهية على النساء عقاباً لهن على ذنب حواء التي أكلت من تفاحة المعرفة، هذا الادعاء كان أساساً لنشوء فكرة الخطيئة الأولى. وعلى مدى ثلاث مائة عام من مطاردة الساحرات، حرقت الكنيسة خمسة ملايين امرأة!! في النهاية أثمر تشويه الحقيقة وإراقة الدماء. والعالم اليوم هو دليل حي على ذلك. فالنساء اللواتي كنّ يوماً نصفاً أساسياً في التنور الروحي والديني طردوا اليوم من معابد العالم. فلا توجد اليوم حاخامات يهوديات ولا كاهنات كاثوليكيات ولا شيخات مسلمات. والاتحاد الجنسي الفطري - بين الرجل والمرأة والذي يكتمل من خلاله كل منهما ليصبح كلاًّ روحياً واحداً - الذي كان يوماً فعلاً مقدساً، تغير مفهومه وأصبح فعلة مشينة. ورجال الدين الذين كانوا يوماً يأمرون بالاتحاد الجنسي مع الأنثى التي تكملهم للتقرب من الرب. خافوا اليوم من حاجاتهم الجنسية الفطرية ونظروا إليها على أنها عمل من الشيطان بالتعاون مع شريكه المفضل... المرأة. وحتى ارتباط المرأة بالجانب الأيسر تمكن من الإفلات والنجاة من قبضة الكنيسة التي أخذت تعمل فيه تشويهاً وإساءة. ففي فرنسا وإيطاليا اتخذت كلمة اليسار معنى سلبياً خطيراً، بينما كان نظراؤهم من الجانب الأيمن مثالاً للاستقامة والتفوق والصواب. وحتى يومنا هذا اعتبر الفكر الراديكالي أنه ينتمي للجناح الأيسر والفكر غير العقلاني عقلاً يسارياً وكل ما هو شرير وفاسد. لقد ولّى زمن الآلهة الأنثى وانقلبت الآية. فأصبحت الأم الأرض عالماً للرجل وأرباب الدمار والحروب يقبضون الثمن. وقد أمضى الغرور الذكري ألفي سنة يصول ويجول طليقاً دون نظيرته الأنثى. واعتقدت أخوية سيون أن محو أثر الأنثى المقدسة من الحياة المعاصرة هو سبب ما سماه شعب الهوبي من سكان أمريكا الأصليين "كويانيسكواستي" أي "الحياة دون توازن" وهو وضع غير مستقر أكبر دليل عليه حروب غذّاها التستوستيرون وكثرة الجماعات المنظمة التي تقوم على الكراهية ضد النساء وإهمال متزايد للأم الأرض. "روبرت!" قالت صوفي، وانتزعته همستها بعنف من شروده. "هناك أحد ما قادم!". سمع وقع الخطوات التي كانت تقترب آتية من مدخل القاعة. "بسرعة إلى هنا!" أطفأت صوفي الضوء الأسود وبدت كأنها تبخرت أمام عيني لانغدون. أحس للحظة كأنه أصيب بالعمى. هنا.. هنا! وعندما اتضحت الرؤية عنده رأى خيال صوفي وهي تركض مسرعة نحو مركز الغرفة وتتوارى عن الأنظار مختبئة خلف المقعد المثمن. وكان على وشك الاندفاع وراءها عندما دوى فجأة صوت يأمره بالوقوف. "قف مكانك!" صرخ رجل من مدخل الغرفة. تقدّم رجل أمن اللوفر إلى الأمام مجتازاً المدخل نحو قاعة الدول وقد شهر مسدسه وصوّبه باتجاه صدر لانغدون. أحس لانغدون بذراعيه يرتفعان بشكل لاشعوري نحو السقف. "انبطح أرضاً!" أمره الحارس. فارتمى لانغدون بوجهه على الأرض في ثوانٍ. وأسرع الحارس إليه وركله ليباعد ساقيه. "فكرة سيئة سيد لانغدون" قال له وهو يضغط المسدس بقوة في ظهره. "فكرة سيئة". وبينما كان يواجه الأرضية الخشبية وساقاه وذراعاه منفرجتان، أحس بالأقدار تسخر منه وهو في هذه الوضعية. الرجل الفيتروفي... فكر لانغدون... لكن الفرق كان وجهه الذي يقابل الأرض. الفصل التاسع والعشرون داخل كنيسة سان سولبيس، حمل سيلاس شمعدان النذور الحديدي الذي أخذه من المذبح وعاد نحو المسلة قد تكون مفيدة ليدك بها البلاط. وعندما تفحص البلاطة التي كانت من الرخام الرمادي التي كانت تغطي الفراغ الموجود في الأرضية، أدرك أنه لن يتمكن من كسر البلاط دون أن يثير ضجة عالية. حديد يطرق الرخام... لا بد وأن يتردد صدى هذا الصوت عبر السقوف المقببة. هل ستسمعه الراهبة؟ لا بد أنها قد نامت الآن. إلا أن سيلاس كان يفضل ألا يقوم بتلك المجازفة. نظر حوله باحثاً عن قماش ليلفه حول رأس العمود الحديدي فلم يجد إلا غطاء المذبح الكتاني الذي لم يكن يريد تدنيسه. ردائي، فكر سيلاس، ففك رداءه وخلعه عن جسده لعلمه أنه كان وحيداً في الكنيسة العظيمة. لكنه بينما كان يخلعه شعر بلسعة حيث علقت ألياف ردائه الصوفي بالجروح الملتهبة في ظهره. قام سيلاس الذي أصبح عارياً الآن في ما عدا القماش الذي كان يستر عورته، بلف ردائه حول نهاية القضيب المعدني، ثم وجّه ضربة قوية برأس القضيب نحو منتصف البلاطة. فصدرعنها صوت مكتوم ولم ينكسر الحجر فضربها مرة أخرى. صوت مكتوم أيضاً لكنه رافقه هذه المرة شق في الحجر. وأخيراً عندما سدد الضربة الثالثة تحطمت البلاطة وسقطت قطع الحجر الصغيرة في حفرة تحت الأرضية. إنه صندوق! وبسرعة أخذ سيلاس يلتقط قطع الحجر الصغيرة من الفتحة ثم حدّق في التجويف. وأخذ قلبه يخفق بقوة وهو ينحني على ركبتيه أمام الفتحة. رفع ذراعه البيضاء الباهتة ثم أقحمها في الداخل. في البداية لم يحس بوجود أي شيء وكانت أرضية الحفرة مجرد حجر أملس عار. لكنه عندما تلمس أسفل الحفرة وقد أدخل ذراعه بالكامل تحت الخط الوردي، تحسس شيئاً ما! إنه لوح حجري سميك. فوضع أصابعه حول حوافه ثم أمسك به ورفعه بلطف. وعندما وقف وتفحص لقيته أدرك أن بين يديه لوحاً حجرياً خشناً غير مصقول نقشت عليه كلمات ما. وللحظة شعر كأنه موسى العصر الحديث. ودهش سيلاس لدى قراءته للكلمات المحفورة على اللوح فقد توقع أن يكون مفتاح العقد خريطة أو مجموعة معقدة من التعليمات حتى أنها قد تكون مشفرة. غير أن مفتاح العقد حمل أبسط كتابة على الإطلاق. العمل 11:38 كلمات من الإنجيل؟ كان سيلاس مذهولاً للبساطة الجهنمية. المخبأ السرّي لما بحثوا عنه طويلاً مذكور في الإنجيل؟ إن الأخوية فعلاً لم تتوان عن القيام بأي شيء يمكنها من السخرية من الحق! الفصل الثامن والثلاثون. المقطع الحادي عشر. بالرغم من أن سيلاس لم يحفظ ما جاء في المقطع الحادي عشر بدقة إلا أنه كان يعلم أن كتاب العمل تحدث عن قصة رجل اختبر الرب إيمانه مرات عدة وتمكن من اجتياز تلك الاختبارات. هذا معقول. فكر سيلاس وهو بالكاد يتمكن من كتمان حماسه. نظر إلى الخط الوردي البراق محدقاً فلم يستطع أن يخفي الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه. فإلى الأعلى من المذبح الرئيسي كان هناك قاعدة كتب مذهبة وضع عليها إنجيل ضخم ذو غلاف جلدي. وإلى الأعلى في الشرفة كانت الأخت ساندرين ترتعد خوفاً، وقبل لحظات عندما كانت على وشك الفرار سريعاً وتنفيذ الأوامر، قام الرجل الموجود في الأسفل بخلع ردائه وعندما رأت جسده الأبيض بلون المرمر سيطر عليها ذهول مرعب جعلها تتسمر في مكانها. فقد كان ظهره الضخم الشاحب مغطى بجروح حمراء قانية. واستطاعت حتى من مكانها أن ترى أن الجروح كانت حديثة. لقد جلد هذا الرجل بالسوط بلا رحمة! ورأت أيضاً الحزام اللعين ذا المسامير حول فخذه والجرح تحته يقطر دماً. ما هو هذا الرب الذي يريد أن يعذب الجسد بهذه الطريقة؟ كانت الأخت ساندرين متأكدة أنها طقوس أوبوس داي التي كانت شيئاً لا يمكن أن تفهمه أبداً. لكن هذا الأمر كان آخر ما يشغل بالها في تلك اللحظة. إن أوبوس داي تبحث عن حجر العقد. لم تكن الأخت ساندرين تتصور كيف علموا بأمره غير أنها كانت تعرف بأن لا وقت لديها للتفكير. كان الراهب المضرج بالدم الآن يلبس من جديد رداءه بهدوء وقد قبض على كنزه الثمين بإحكام وهو يمشي باتجاه المذبح نحو الإنجيل. تركت الأخت ساندرين الشرفة بصمت تام وهرعت مسرعة عبر الصالة إلى مسكنها. ولدى وصولها إلى غرفتها ركعت على الأرض ومدت يدها تحت سريرها الخشبي وأخذت ظرفاً مغلقاً كانت قد أخفته منذ سنين طويلة. فتحته بسرعة فوجدت داخله أربعة أرقام هواتف في باريس. وبدأت تتصل وهي ترتعش. وفي الطابق السفلي وضع سيلاس اللوح الحجري على المذبح وأدار يديه المتلهفتين نحو الإنجيل ذي الغلاف الجلدي. كانت أصابعه البيضاء الطويلة الآن تنضح عرقاً وهو يقلب الصفحات. وأخذ يبحث في العهد القديم فوجد كتاب الأعمال وحدد مكان الفصل الثامن والثلاثين. وبينما كان يمرر أصابعه على العمود الذي يوجد فيه النص كان يتوقع الكلمات التي كان على وشك قراءتها. هذه هي الكلمات التي ستقودنا إلى المكان الصحيح! ووجد سيلاس المقطع الحادي عشر وأخذ يقرأ النص الذي كان عبارة عن سبع كلمات فقط فاستغرب وقرأه مرة أخرى وهو يشعر أن هناك أمراً لا يبشر بخير أبداً. كانت الكلمات ببساطة هي: ستأتي اليوم إلى هنا، لكنك لن تبتعد أكثر. الفصل الثلاثون كان حارس الأمن كلود غروارد يغلي غيظاً وهو يقف فوق أسيره المنبطح أرضاً أمام الموناليزا. لقد قتل هذا الحقير جاك سونيير! سونيير الذي كان بمثابة أب لغروارد وفريقه الأمني الذي كان يكنّ له كل الحب والاحترام. لم يكن غروارد يرغب بأي شيء أكثر من أن يضغط على الزناد ويدفن طلقة في ظهر روبرت لانغدون. فهو نظراً إلى أنه مراقب ذو رتبة عالية كان من القلائل من الحراس الذين يحملون سلاحاً ملقماً بالفعل. إلا أنه ذكّر نفسه بأن قتل لانغدون سيكون قدراً رحيماً جداً إذا ما قورن بالبؤس الذي سيراه على يد بيزو فاش ونظام السجون الفرنسية. انتزع غروارد جهازه اللاسلكي من حزامه وحاول إرسال إشارة طلباً للدعم لكنه لم يسمع إلا صوت تشويش. وذلك بسبب نظام الإنذار الإلكتروني الإضافي في هذه الغرفة والذي كان دائماً يخّرب الاتصالات بين الحراس. يجب أن أذهب إلى المدخل. أخذ غروارد يتراجع ببطء باتجاه المدخل وهو لا زال موجهاً مسدسه نحو لانغدون. وعندما قام بخطوته الثالثة لمح شيئاً جعله يتسمر مكانه دون حراك. ما هذا بحق السماء! كان هناك سراب غامض يتجسد بالقرب من وسط الغرفة. ظل شخص ما. هل يوجد أحد آخر في الغرفة؟ كانت هناك امرأة تتحرك في الظلام، تمشي بخفة نحو الحائط الأيسر البعيد. وأمامها شعاع ضوئي يميل لونه إلى البنفسجي كانت تلوّح به إلى الأمام والخلف فوق أرض الغرفة كما لو أنها تبحث عن شيء ما بواسطة ضوء كشاف ملون. "من هناك؟" سأل غروارد وهو يشعر بموجة من الأدرينالين تنطلق داخله للمرة الثانية في الثواني الثلاثين الأخيرة. وفجأة لم يعد يعرف إلى أين عليه أن يصوب مسدسه أو بأي اتجاه يجب أن يتحرك. "ش.ت.ع"، أجابت المرأة بهدوء وهي لا تزال تمسح أرضية الغرفة بضوئها. الشرطة التقنية والعلمية؟ كان غروارد قد بدأ يتعرق الآن. ظننت أن كل العملاء قد ذهبوا جميعاً! وقد تعرف الآن إلى الضوء الذي كان أشعة فوق بنفسجية الذي يلازم دوماً فريق الشرطة التقنية والعلمية، غير أنه لم يفهم السبب الذي قد يدعو الشرطة القضائية للبحث عن دليل ما في هذا المكان. "قولي ما اسمك!" صرخ غروارد وحدسه ينبئه بأن هناك شيئاً ما كان ناقصاً. "أجيبي!". "هذا أنا"، أجاب الصوت بفرنسية هادئة. "صوفي نوفو". هناك في أعماق ذاكرة غروارد كان الاسم يبدو مألوفاً. صوفي نوفو. كان هذا اسم حفيدة سونيير، أليس كذلك؟ لقد اعتادت أن تأتي إلى هنا عندما كانت صغيرة، لكن ذلك كان منذ سنين طويلة مضت. لا يمكن أن تكون هذه هي! وحتى لو كانت صوفي نوفو لم يكن هذا سبباً كافياً يدعوه أن يثق بها، فقد كان غروارد قد سمع إشاعات كثيرة عن الخلاف الكبير الذي حدث بين سونيير وحفيدته. "أنت تعرفني"، هتفت المرأة، "وروبرت لانغدون لم يقتل جدي. صدقني". لم يكن المراقب غروارد ليأخذ كلمتها على محمل الثقة. أنا بحاجة إلى مساندة! وجرّب جهازه اللاسلكي من جديد لكنه لم يسمع إلا تشويشاً. كان المدخل لا زال بعيداً عنه مسافة عشرين ياردة إلى الخلف. فبدأ غروارد يتراجع ببطء وقد قرر أن يترك مسدسه موجهاً نحو الرجل المنبطح على الأرض. وبينما كان يرجع إلى الوراء استطاع أن يرى المرأة في الجانب الآخر من الغرفة ترفع ضوءها ذا الأشعة فوق البنفسجية وتدقق النظر في لوحة ضخمة معلقة على الطرف البعيد من قاعة الدول مقابل الموناليزا تماماً. شهق غروارد. وقد أدرك أي لوحة كانت. ما الذي تظن نفسها فاعلة بحق الرب؟ وفي الطرف الآخر من الغرفة شعرت صوفي بعرق بارد يقطر على جبينها وكان لانغدون لا زال على الأرض منفرج الذراعين والساقين. تماسك، روبرت. لحظات وسأخلصك. ولثقتها بأن الحارس لن يقوم بإطلاق النار فعلاً على أي منهما أبداً، صرفت انتباهها من جديد إلى المسألة التي بين يديها الآن. فمسحت بالكامل المنطقة التي تحيط بلوحة محددة - عمل آخر لدافنشي. لكن الأشعة فوق البنفسجية لم تكشف أي شيء غير عادي. لا شيء على الأرض ولا على الجدران ولا حتى على اللوحة نفسها. لا بد أن أجد شيئاً ما هنا! كانت صوفي تشعر بأنها متأكدة تماماً من أنها قد فهمت قصد جدها بشكل صحيح. ما الذي يمكن أن يقصده أيضاً؟ كانت التحفة الفنية التي تتفحصها لوحة بطول خمسة أقدام. كان المشهد الذي رسمه دافنشي قد تضمن مريم العذراء جالسة بوضعية غريبة مع المسيح الرضيع ويوحنا المعمدان والملاك يورييل على مجموعة نتوءات صخرية خطرة. عندما كانت صوفي صغيرة، لم تكن أي رحلة إلى الموناليزا تكتمل دون أن يجرّها جدها عبر الغرفة لرؤية هذه اللوحة الثانية. أنا هنا جدي... لكنني لا أرى ما تريدني أن أراه! كانت صوفي تسمع الحارس من خلفها يحاول من جديد طلب المساعدة عن طريق جهاز الإرسال. فكري صوفي! واستعادت صورة الرسالة التي كتبها جدها على الزجاج الواقي أمام الموناليزا. خداع الرجل كريه للغاية SO DARK THE CON OF MAN. لم تكن اللوحة الموجودة أمامها مزودة بزجاج واقٍ يمكنه أن يكتب عليه أي رسالة. وكانت صوفي تعلم أن جدها لا يمكنه أبداً أن يشوه هذه التحفة الفنية بالكتابة عليها مباشرة. ترددت قليلاً. على الأقل لن يكتب عليها من الأمام. ركزت نظرها في أعلى اللوحة وحدقت في السلاسل المتدلية من السقف لحمل اللوحة. هل يمكن أن تكون هناك؟ أمسكت الجانب الأيسر من الإطار الخشبي المنقوش بإحكام ثم شدته إليها. كانت اللوحة كبيرة فالتوت بطانتها الخلفية وهي تهزها بعيداً عن الحائط. دسّت صوفي رأسها وكتفيها وراء اللوحة ورفعت الضوء الأسود لتعاينها من الخلف. ولم يتطلب الأمر سوى ثوانٍ قليلة من الوقت كي تدرك أن حدسها كان خاطئاً. فقد كانت اللوحة من الخلف شاحبة اللون وخالية لا يوجد عليها نص بنفسجي كان هناك ذلك اللون البني فقط الذي يظهر على اللوحات القديمة و -. لحظة! تسمرت عينا صوفي على البريق الساطع لقطعة معدنية بالقرب من الحافة السفلى لغطاء الإطار الخشبي. لقد كان ذلك الشيء صغيراً وقد دسّ بشكل جزئي في الشق الذي يلتقي فيه قماش اللوحة بالإطار. وقد تدلت منه سلسلة ذهبية براقة. تملكت صوفي دهشة شديدة لدى رؤيتها للمفتاح الذهبي الذي علق بالسلسلة فقد كان مألوفاً برأسه العريض المصقول الذي كان على شكل صليب نقش عليه ختم بشكل زهرة الزنبق والحرفين P.S.. هذا المفتاح الذي لم تره منذ كانت في التاسعة من عمرها. وفي تلك اللحظة أحست صوفي بشبح جدها يهمس في أذنها. عندما يحين الوقت، سيكون المفتاح لك. فشعرت بغصة في حلقها وقد أدركت أن جدها قد حافظ على وعده حتى في موته. إن هذا المفتاح يفتح صندوقاً، كان صوته يقول لها، حيث أخفي الكثير من الأسرار. أدركت صوفي الآن أن الهدف الأساسي من لعبة الكلمات التي أمضيا الليل بطوله يحاولان حلها كان الوصول إلى هذا المفتاح الذي كان جدها يحتفظ به عندما قتل. وبما أنه لم يكن يريد أن يقع تحت يد الشرطة قام بإخفائه خلف اللوحة ثم ابتكر تلك الأحاجي العبقرية ليتأكد من أن صوفي فقط هي التي ستعثر عليه. "النجدة!" صاح الحارس. انتزعت صوفي المفتاح بسرعة من خلف اللوحة ودسته في جيبها مع قلم الأشعة فوق البنفسجية. استرقت نظرة من وراء اللوحة فاستطاعت أن ترى الحارس الذي لا زال يحاول جاهداً طلب مساندة عبر جهاز الإرسال اللاسلكي. وكان يتراجع نحو المدخل ومسدسه لا زال موجهاً بثبات إلى لانغدون. "النجدة!" وصرخ من جديد في جهازه اللاسلكي. تشويش. إنه لا يستطيع أن يقوم بإرسال الإشارة، كانت صوفي واثقة من ذلك وقد تذكرت أن السياح الذين يحملون هواتف نقالة غالباً ما كانوا يشعرون بالإحباط هنا عندما كانوا يحاولون الاتصال ببلدهم ليتبجحوا برؤيتهم للموناليزا. وكان السبب في ذلك هو أسلاك أجهزة المراقبة الإضافية الموجودة داخل الجدران والتي جعلت من التقاط إشارة ما أمراً مستحيلاً تماماً إلا إذا خرج المتصل إلى القاعة. كان الحارس يتراجع بسرعة الآن نحو المخرج. وأّدركت صوفي أن عليها أن تتصرف في الحال. وعندما نظرت صوفي عالياً إلى اللوحة الكبيرة التي كانت تختبئ خلفها، أدركت أن ليوناردو دافنشي كان هناك مرة أخرى لمساعدتها. خمسة أمتار أخرى فقط. قال غروارد لنفسه وقد حافظ على مسدسه موجهاً بثبات. "توقف! وإلا سأخربها!" تردد صدى صوت المرأة في أرجاء الغرفة. حملق غروارد فيها وتوقف مكانه. "يا إلهي، كلا!". ومن خلال الضوء الأحمر كان بإمكانه أن يرى أن المرأة قد رفعت اللوحة الكبيرة وانتزعتها بالفعل من سلاسلها وسندتها على الأرض أمامها. كانت اللوحة التي يبلغ طولها خمسة أقدام تكاد تخفي جسدها بالكامل. كان أول ما خطر في باله هو تعجبه من السبب الذي منع الأسلاك المربوطة إلى اللوحة من إطلاق صفارة الإنذار. لكنه تذكر أنه بسبب ما حدث الليلة كان يجب إعادة ضبط حساسات الأسلاك المربوطة إلى الأعمال الفنية. ماذا تفعل هذه المرأة! عندما رأى ما تفعله، تجمد الدم في عروقه. بدأ قماش اللوحة يبرز من الإطار وبدأت الحدود الرقيقة لأشكال مريم العذراء والمسيح الرضيع ويوحنا المعمدان تتشوه. "كلا..!" صرخ غروارد، وقد تسمر في مكانه مرتاعاً وهو يراقب لوحة دافنشي التي لا تقدر بثمن على وشك أن تتمزق. كانت المرأة تدفع بركبتها نحو وسط اللوحة من الوراء! "لا!". التفت غروارد بسرعة وصوب مسدسه نحوها لكنه أدرك في الحال أن تهديدها كان فارغاً. فرغم أن اللوحة كانت من القماش إلا أنه كان لا يمكن اختراقه - كان درعاً يبلغ ثمنه ستة ملايين دولار. لا يمكنني أن أطلق الرصاص على لوحة لدافنشي! "ضع مسدسك وجهاز اللاسلكي جانباً" قالت المرأة بفرنسية هادئة، "وإلا سأمزق هذه اللوحة بركبتي. أعتقد أنك تعرف كيف سيكون شعور جدي حيال ذلك". شعر غروارد بالدوار. "أرجوك... لا تفعلي. هذه لوحة سيدة الصخور!" ورمى مسدسه وجهاز اللاسلكي ثم رفع يديه فوق رأسه. "شكراً لك"، قالت المرأة. "والآن نفذ ما أقوله لك تماماً وسيكون كل شيء على ما يرام". وبعد لحظات، كان قلب لانغدون لا زال يخفق بقوة وهو ينزل بجانب صوفي سلالم الطوارئ بسرعة باتجاه الطابق الأرضي. لم ينطق كلاهما بأي كلمة منذ أن تركا حارس اللوفر المذهول مرمياً على الأرض في قاعة الدول. كان مسدس الحارس الآن في قبضة لانغدون الذي لم يكن يطيق الانتظار للتخلص منه. وأحس بالسلاح ثقيلاً وغريباً عنه بشكل خطير. وتساءل لانغدون وهو ينزل درجات السلالم راكضاً في ما إذا كانت لدى صوفي أدنى فكرة عن قيمة اللوحة التي لا تقدر بثمن والتي كانت على وشك تخريبها. وبدا اختيارها لتلك اللوحة طريفاً بالنظر إلى مغامرة الليلة. فلوحة دافنشي التي أمسكتها كانت كالموناليزا من حيث إثارتها للجدل في أوساط مؤرخي الفن وذلك بسبب مجموعة الرموز الوثنية الخفية. "لقد اخترت رهينة ثمينة" قال وهو يركض. "سيدة الصخور"، أجابت "لكنني لم أخترها، جدي هو الذي اختارها. وقد ترك لي شيئاً وراء اللوحة". رمقها لانغدون بنظرة ذهول. "ماذا؟! لكن كيف عرفت أي لوحة؟ لماذا سيدة الصخور Madonna of the rocks بالذات؟ "خداع الرجل كريه للغاية So dark the con of man". وابتسمت ابتسامة انتصار. "لقد فاتني حل شيفرتين، روبرت. لم أكن أنوي أن أدع الثالثة تفوتني". الفصل الواحد والثلاثون "لقد ماتوا!" تمتمت الأخت ساندرين في سماعة الهاتف في مسكنها في سان سولبيس. كانت تترك رسالة على المجيب الآلي. "أرجوك أجب! لقد ماتوا جميعاً!". وقد كانت نتيجة الاتصال بالأرقام الثلاثة الأولى على القائمة مروعة - أرملة مصابة بالهيستيريا ومحقق يعمل في وقت متأخر من الليل في مسرح جريمة قتل وقس حزين يحاول مواساة عائلة مفجوعة بفقدان أحد أفرادها. والآن عندما اتصلت بالرقم الرابع والأخير - الرقم الذي يفترض ألا تتصل به إلا إذا لم تتمكن من التوصل إلى الثلاثة الآخرين - رد عليها المجيب الآلي. لم تذكر الرسالة الصوتية التي رد بها المجيب الآلي أي اسم لكنها طلبت ببساطة من المتصل ترك رسالة لدى سماع الإشارة. "لقد كسر بلاط الأرضية!" توسلت وهي تترك الرسالة "لقد قتل الثلاثة الآخرون!". لم تكن الأخت ساندرين تعرف هوية الأشخاص الأربعة الذين كانت تقوم بحمايتهم، لكن الأرقام الأربعة الخاصة التي خبأتها تحت سريرها كان عليها الاتصال بها في حالة واحدة فقط. إذا كسر بلاط تلك الأرضية يوماً ما، قال لها الرسول المجهول، هذا يعني أنه تم اختراق الصف الأعلى وأحدنا قد تم تهديده بالقتل فاضطر أن يروي كذبة يائسة. عندئذ اتصلي بهذه الأرقام وحذري الآخرين. لا تخذلينا في هذه المهمة. كان ذلك إنذاراً صامتاً وشديد البساطة. فقد أذهلتها الخطة عندما سمعتها لأول مرة. إذا تم الكشف عن هوية أحد الأعضاء يمكنه أن يروي كذبة تقوم بدورها بتحريك آلية تحذر الآخرين. لكن يبدو أن الليلة تم كشف هوية أكثر من واحد منهم. "أجب أرجوك"، همست بخوف. "أين أنت؟". "أقفلي السماعة" قال صوت عميق أتى من المدخل. فالتفتت وهي ترتعد خوفاً ورأت الراهب الضخم الجثة متشبثاً بالشمعدان الحديدي الثقيل. فارتعشت وأعادت سماعة الهاتف إلى مكانها. "لقد ماتوا" قال الراهب. "أربعتهم، جميعاً. وقد تلاعبوا بي وكذبوا عليّ. أخبريني أين هو حجر العقد؟". "لا أعلم!" قالت الأخت ساندرين بصدق. "إن هذا السرّ يحميه أشخاص آخرون" آخرون موتى! تقدم الرجل وقبضته البيضاء تشد على الشمعدان الحديدي بقوة. "أنت راهبة في كنيسة للرب ومع ذلك تساعدينهم؟". "لقد ترك المسيح رسالة حقيقية واحدة فقط" قالت الأخت ساندرين بتحد "ولا يمكنني أن أرى تلك الرسالة تتحقق في أوبوس داي". فانفجر الغضب مشتعلاً في عيني الراهب. واندفع بقوة نحو الأمام وراح يضرب الراهبة بالشمعدان بعنف. وفيما كانت الراهبة تهوي على الأرض كان آخر شيء شعرت به هو إحساس قوي بالشؤم. لقد مات الأربعة كلهم. وضاعت الحقيقة الثمينة إلى الأبد. الفصل الثاني والثلاثون طار الحمام في حدائق التويلري القريبة من المتحف على أثر دوي جرس الإنذار الذي انطلق في القسم الغربي لجناح دينون لدى اندفاع لانغدون وصوفي بسرعة عبر الباب الخارجي من عتمة المتحف إلى ليل باريس الرحب. وبينما كانا يجتازان الساحة ركضاً باتجاه سيارة صوفي، سمع لانغدون صفارات الإنذار لسيارات الشرطة تدوي من بعيد. "ها هي.. هناك". هتفت صوفي وهي تشير إلى سيارة حمراء تشبه أنفاً أفطس لا تتسع إلا لشخصين متوقفة في الساحة. لا بد أنها تمزح، أليس كذلك؟ كانت هذه السيارة ببساطة أصغر سيارة رآها لانغدون في حياته. "سمارت كار" قالت صوفي، "يمكنها أن تسير مائة كيلومتر بلتر بنزين واحد". كان لانغدون قد رمى بنفسه في المقعد الأمامي بالكاد قبل أن تندفع صوفي بالسيارة وتنطلق بسرعة البرق وقد داست الحاجز الحجري عند حافة الشارع الممهد بالحصى. فتشبث بلوحة أجهزة القياس بينما تجاوزت الطريق بقوة ماشية فوق الرصيف لتثب من جديد إلى الأسفل وتصل إلى دوار صغير عند كاروسيل دو لوفر. بدت صوفي للحظة وكأنها تفكر أن تسلك طريقاً مختصراً بحيث لا تدور حول الدوار بل تشقه لتعبر إلى الطرف الآخر إلى الأمام مباشرة وتتسلل بين الشجيرات التي كان تطوق الدوار كحاجز دائري وتدوس بذلك المرج الموجود في المنتصف بين الشجيرات. "لا!" صاح لانغدون، لعلمه بأن السياج الشجري عند كاروسيل دو لوفر كان هناك بهدف إخفاء الفجوة الخطيرة في الوسط وهي الفتحة السماوية للهرم المقلوب التي كان قد رآها من داخل المتحف. لقد كانت كبيرة إلى درجة أنه يمكنها ببساطة التهام سيارتهما بلقمة واحدة. لكنها لحسن الحظ قررت أن تسلك الطريق الأكثر سلامة فدورت المقود بعنف نحو اليمين بحيث دارت السيارة حول المنعطف بشكل صحيح وخرجت منه باتجاه اليسار وسلكت المسار الشمالي منطلقة نحو شارع ريفولي. كان دوي صفارات سيارات الشرطة يعلو أكثر فأكثر وراءهم. وكان لانغدون في تلك الأثناء يرى أضواءها في مرآته الجانبية. أخذ محرك السيارة يئن مقاوماً ضغط صوفي على دواسة البنزين وهي تحثه ليزيد من سرعته بعيداً عن اللوفر. وعلى بعد خمسين ياردة إلى الأمام تغيرت الإشارة الضوئية عند شارع ريفولي من الضوء الأخضر إلى الأحمر فراحت صوفي تطلق اللعنات وتابعت طريقها مسرعة باتجاه الإشارة. أحس لانغدون بعضلاته تنشد. "صوفي؟". أبطأت صوفي من سرعتها قليلاً عندما وصلا إلى التقاطع وأعطت إشارة تنبيه بالأضواء الأمامية وألقت نظرة سريعة بالاتجاهين قبل أن تضغط على دواسة البنزين من جديد وتلفّ نحو اليسار عبر المنعطف الخالي من السيارات باتجاه ريفولي. وانطلقت صوفي غرباً لمسافة ربع ميل ثم انعطفت يميناً لتدور حول دوار واسع وبعد ذلك بقليل أصبحا في الطرف المقابل عند جادة الشانزيليزيه. وبينما كان الاثنان يعدّلان من جلستهما، استدار لانغدون في مقعده إلى الخلف ومطّ رقبته ليلقي نظرة من النافذة الخلفية باتجاه اللوفر. لم يبدُ أن الشرطة كانت تطاردهم. كان بحر الأضواء الزرقاء متجمعاً عند المتحف. وعندما هدأ قلبه أخيراً عاد والتفت إلى الأمام. "كان ذلك مثيراً". يبدو أن صوفي لم تسمعه. فقد ظلت عيناها تركزان إلى الأمام في الطريق العام الطويل للشانزيليزيه الذي يمتد بطول ميلين من الواجهات الأنيقة للمحال الفاخرة والذي كان كثيراً ما يطلق عليه الجادة الخامسة - فيفث آفنيو - باريس. كانت السفارة على بعد ميل واحد فقط فارتاح لانغدون في مقعده وأخذ يتأمل... So dark the con of man كان تفكير صوفي السريع مذهلاً. Madonna of the Rocks لقد قالت صوفي أن جدها قد ترك لها شيئاً خلف اللوحة. رسالة أخيرة؟ لم يستطع لانغدون إخفاء إعجابه الشديد باختيار جدها العبقري للمخبأ؛ فقد كانت لوحة مادونا أوف ذا روكس حلقة أخرى تضاف إلى سلسلة الليلة من الرموز المرتبطة ببعضها البعض. ويبدو أن سونيير كان في كل مرة يظهر ولعه الشديد بالجانب الغامض والعبثي لليوناردو دافنشي. كانت المهمة الأصلية التي أوكل بها ليوناردو دافنشي هي رسم لوحة مادونا أوف ذا روكس - سيدة الصخور - وقد كلفته بها جمعية دينية كاثوليكية تطلق على نفسها اسم "الحَبَل بلا دَنَس" - Immaculate conception"، والتي كانت بحاجة للوحة لتزين بها المنطقة المركزية بين الأقسام الثلاثة من المذبح في كنيستهم "كنيسة سان فرانشيسكو" في ميلانو. وقد أعطت الراهبات ليوناردو الأبعاد المحددة والتفاصيل التي أردن أن تكون موجودة في اللوحة - مريم العذراء والطفل يوحنا المعمدان ويورييل والمسيح الطفل يحتمون جميعاً في مغارة. وبالرغم من أن دافنشي فعل ما طلب منه إلا أنه عندما سلّم العمل كان رد فعل الجماعة هو الاشمئزاز والرعب. فقد كانت اللوحة مليئة بتفاصيل خطيرة ومزعجة. لقد أظهرت اللوحة مريم العذراء بثوبها الأزرق جالسة تحضن طفلاً المفروض أنه المسيح. وجلس في المقابل يورييل وهو يحضن طفلاً أيضاً المفروض أنه يوحنا المعمدان. والأمر الذي كان غريباً هو أنه بدل الوضع المعروف الذي يكون فيه المسيح مباركاً يوحنا المعمدان كان هنا يوحنا هو الذي يبارك المسيح... وكان المسيح هو الذي يخضع لسلطة يوحنا! وكان الأمر الأسوأ هو رسم مريم رافعة يدها عالياً فوق رأس الطفل يوحنا تقوم بإشارة تهديد - حيث كانت أصابعها تبدو كمخالب النسر تقبض فيها على رأس غير مرئي. وأخيراً الصورة الأكثر وضوحاً ورعباً: تحت أصابع مريم الملتفة مباشرة كان يورييل يقوم بحركة قاطعة بيده - كما لو أنه يقص رقبة الرأس غير المرئي الذي تمسك به مريم بيدها. وكان طلاب لانغدون يسرّون دائماً عندما يخبرهم بأن دافنشي قد هدأ من روع تلك الجمعية الدينية برسمه لوحة ثانية نسخة عن مادونا أوف ذا روكس - سيدة الصخور - كان جميع الأشخاص فيها كما أرادتهم الجمعية بشكل يتناسب مع الكنيسة الكاثوليكية. وهذه النسخة محفوظة اليوم في متحف لندن المحلي تحت اسم فيرجن أوف ذا روكس - عذراء الصخور - غير أن لانغدون لا زال يفضل نسخة اللوفر الأكثر إثارة. وبينما كانت صوفي تنطلق مسرعة في الشانزيليزيه، قال لانغدون: "اللوحة.. ماذا الذي كان خلفها؟". ظلت عيناها على الطريق. "سأريك إياه عندما نكون في أمان داخل السفارة". "ستريني إياه؟" دهش لانغدون "أترك لك شيئاً مادياً؟". أومأت صوفي برأسها. "وقد حفر عليه الحرفين P.S. وزهرة الزنبق". لم يستطع لانغدون أن يصدق أذنيه. سنصل إلى هناك بسلام، أنا واثقة من ذلك، فكرت صوفي وهي تدير مقود السمارت كار نحو اليمين متجاوزة بسرعة فندق كريون الفخم دخولاً إلى الحي الديبلوماسي المشجر في باريس. كانت السفارة الآن على بعد أقل من ميل. فشعرت أخيراً أنها يمكن أن تتنفس بشكل طبيعي من جديد. حتى أثناء القيادة كان ذهن صوفي مشغولاً بالمفتاح الذي في جيبها وذكرى ذلك اليوم الذي رأته فيه منذ سنوات طويلة، ذلك الرأس الذهبي بشكل صليب متساوي الذراعين ومقبضه المثلثي والأثلام والختم المحفور عليه بشكل زهرة الزنبق والحرفين P.S.. بالرغم من أن المفتاح لم يخطر في بال صوفي طوال تلك السنوات إلا أن عملها في مجتمع للمخابرات علّمها الكثير حول إجراءات الأمان والآن لم تعد تلك النقوش المحفورة على المفتاح تبدو غامضة. فهي محفورة بالليزر، لذا لا يمكن نسخها أو تقليدها. وعلى عكس المفتاح العادي الذي يعمل بإدخال الأسنان في مكانها وإدارتها في القفل، يعمل هذا المفتاح بواسطة المجموعات المعقدة من الأثلام المحروقة بالليزر التي تفحصها عين كهربائية. وإذا حددت العين أن الأثلام المسدسة الشكل مرتبة ومتوضعة ومتناوبة بشكل صحيح يفتح القفل. لم تكن صوفي تتخيل ما الذي يمكن أن يفتحه مفتاح كهذا لكنها شعرت بأن روبرت قد يستطيع أن يخبرها. ففي النهاية كان روبرت هو الذي وصف لها الختم المحفور على المفتاح دون أن يكون قد رآه في حياته. إن وجود الصليب في مقدمته يوحي بأن المفتاح يعود إلى منظمة مسيحية ما، غير أن صوفي لم تكن تعرف أية كنيسة تستخدم مفاتيح تم صنعها بواسطة تقنية ليزرية. وعلاوة على ذلك جدي لم يكن يوماً مسيحياً... وقد شهدت صوفي الدليل على ذلك منذ عشر سنوات مضت. والطريف في الأمر أن ما رأته كان مفتاحاً من نوع آخر - مفتاحاً طبيعياً إلى حدٍّ كبير - كان هو الذي كشف حقيقته أمامها. كان عصر ذلك اليوم حاراً عندما حطت طائرتها في مطار شارل ديغول واستقلت سيارة أجرة إلى المنزل. سيتفاجأ جدي برؤيتي، فكرت صوفي... فقد عادت من جامعتها في بريطانيا لتقضي عطلة الربيع وقد أتت قبل الموعد بعدة أيام فلم تكن تطيق الانتظار لأن تراه وتخبره كل شيء كانت تدرسه حول طرق التشفير. لكنها عندما وصلت إلى بيتهما في باريس لم يكن جدها موجوداً هناك فشعرت بخيبة أمل لكنها كانت تعلم أنه لم يكن يتوقع مجيئها لذا فهو يمكن أن يكون في مكتبه في اللوفر. لكنها تذكرت أن هذا هو عصر يوم السبت وهو نادراً ما يعمل أثناء العطل. ففي العطل عادة - هرعت صوفي إلى الكراج مبتسمة ابتسامة عريضة. وهي متأكدة من أن سيارته لن تكون موجودة هناك. فقد كان اليوم عطلة نهاية الأسبوع. كان جاك سونيير يكره قيادة السيارة في المدينة وكان يمتلك سيارة ليستخدمها للذهاب إلى وجهة واحدة فقط - قصره المخصص للعطلات في نورماندي غرب باريس. وبعد أشهر طويلة قضتها صوفي في ازدحام لندن الخانق، كانت تتوق إلى روائح الطبيعة وإلى أن تبدأ عطلتها في الحال. كان المساء لا يزال في أوله وقررت أن تذهب فوراً وتفاجئه. فاستعارت سيارة صديق لها واتجهت غرباً وانعطفت نحو الهضاب الخالية التي ينيرها ضوء القمر بالقرب من كروللي. وصلت إلى هناك بعد العاشرة بقليل ودخلت إلى الطريق الخاصة متجهة نحو قصر جدها. وكان هذا المدخل يبعد أكثر من ميل عن البناء وكانت في منتصف هذه الطريق عندما تمكنت من رؤية البيت من بين الأشجار - كان قصراً قديما ضخماً حجرياً تحتضنه الغابات الموجودة على طرف هضبة. كانت صوفي شبه متأكدة من أن تجد جدها نائماً في هذا الوقت لكنها تجسمت عندما رأت القصر يلمع بالأضواء. غير أن سرورها تحول إلى دهشة عندما وصلت ورأت المدخل إلى القصر يعج بسيارات واقفة هناك - من طراز مرسيدس وبي إم في وأودي ورولز رويس. فحدقت للحظة ثم انفجرت ضحكاً. جدي أنا الناسك المشهور! جاك سونيير، يبدو أنه كان أقل انعزالية مما كان يحب أن يدّعي. من الواضح أنه كان قد أقام حفلة بينما كانت في جامعتها ومن شكل السيارات في الخارج يبدو أن الحضور هم من كبار الشخصيات في باريس. هرعت صوفي إلى الباب الأمامي وهي بشوق لأن تفاجئه إلا أنها عندما وصلت إلى هناك وجدته مقفلاً فطرقت عليه لكن لم يجبها أحد فأصابتها الدهشة فمشت نحو الباب الخلفي لكنه كان مقفلاً أيضاً. ولم يجب أحد. وقفت هناك للحظات وأنصتت وقد أصابتها الحيرة. كان الصوت الوحيد الذي كانت تسمعه هو صوت هواء نورماندي الذي كان يطلق أنيناً خافتاً يتردد في الوادي. لا صوت للموسيقى. ولا للأصوات. ولا لأي شيء آخر. وفي سكون الغابات أسرعت صوفي نحو طرف المنزل وتسلقت بجهد كومة من الخشب وضغطت وجهها على زجاج نافذة غرفة الجلوس لكن ما رأته لم يكن معقولاً على الإطلاق. "لا أحد هنا!؟". وبدا الطابق الأول برمّته مهجوراً. أين اختفى كل الناس؟ تسارعت ضربات قلبها وشعرت بالارتباك. عندئذ ركضت نحو سقيفة الخشب وأخذت المفتاح الاحتياطي الذي كان جدها يخفيه تحت الصندوق الذي يحتفظ فيه بمواد إشعال الخشب. ثم ذهبت إلى الباب الأمامي بسرعة ودخلت إلى المنزل. وعندما خطت داخل البهو المهجور أخذت مفاتيح لوحة نظام الإنذار تومض بضوء أحمر - تحذيراً للداخل بأن لديه عشر ثوان لضرب الرمز الصحيح قبل أن تنطلق صفارة الإنذار. هل ضبط نظام الإنذار وهو يقيم حفلة في الداخل؟ ضربت صوفي الرمز بسرعة وعطلت النظام. وعندما أصبحت في الداخل وجدت المنزل بكامله خالياً لا أحد فيه. حتى الطابق العلوي أيضاً وعندما نزلت ثانية إلى غرفة الجلوس الخالية وقفت للحظة بصمت وهي تتساءل عما يجري. في تلك اللحظة تماماً سمعت صوفي ذلك. مزيجاً من الأصوات. ويبدو أنها كانت آتية من تحتها. لم تكن صوفي تتصور ذلك. فجثمت ووضعت أذنها على الأرض وأنصتت. نعم كان ذلك الصوت قادماً من الأسفل بالتأكيد. لقد بدت الأصوات كأنها تغني أو... تنشد؟ وأصيبت بالهلع. فالأمر الذي أخافها أكثر من الصوت نفسه هو معرفتها أن هذا المنزل لم يكن فيه طابق تحت الأرض أصلاً! أو على الأقل لم يكن هناك طابق تعرف بوجوده! وقفت صوفي الآن وأخذت تتفحص غرفة الجلوس، فوقعت عيناها على الشيء الوحيد في البيت كله الذي لم يكن في مكانه - وهو القطعة الأثرية المفضلة لدى جدها، قطعة الأوبوسّون التي تكون معلقة عادة على الحائط الشرقي بجانب موقد الحطب لكنها الليلة كانت منزاحة عن القضيب النحاسي الذي يحملها وقد كشفت الحائط خلفها. وعندما اقتربت صوفي من الحائط الخشبي الخالي شعرت بأن الإنشاد بدأ يعلو. فمالت ووضعت أذنها على الحائط بتردد. وأصبحت الأصوات أوضح الآن. كان الناس ينشدون حتماً... ترنيمات لم تتمكن صوفي من تمييزها. هناك تجويف وراء الجدار! أخذت تتلمس أطراف الألواح الخشبية التي تغطي الحائط فعثرت على زر غائر في الجدار حفر في مكان سري. باب متحرك! خفق قلبها بقوة وهي تدخل يدها في التجويف وتضغط الزر. ودون أن يصدر أي صوت وبدقة تامة انزاح الجدار الثقيل وترددت الأصوات من وراء الظلام الحالك في الأسفل. تسللت صوفي عبر الفتحة ووجدت نفسها على درج من الحجر الخشن يلتف بشكل لولبي نحو الأسفل. لقد كانت تأتي إلى هذا المنزل منذ أن كانت طفلة صغيرة إلا أنها لم تعرف حتى بوجود هذا الدرج على الإطلاق! وبينما كان تنزل أخذ الهواء يزداد رطوبة والأصوات ترتفع وتصبح أكثر وضوحاً. وصارت تسمع أصوات رجال ونساء الآن. وكان مدى رؤيتها محدوداً بالشكل اللولبي للدرج لكن الدرجات الأخيرة التي نزلتها كانت الآن تلتف لتصبح ضمن مجال نظرها. ومن هناك تمكنت من رؤية رقعة صغيرة من أرضية القبو الحجرية المضاءة بالوهج البرتقالي المتقطع لضوء النار في المشاعل. حبست صوفي نفسها ونزلت عدة درجات أخرى ثم انحنت إلى الأسفل لتلقي نظرة. وقد ذهلت لثوان قبل أن تستوعب الذي رأته. كانت الغرفة مغارة اصطناعية من الحجر غير المصقول - تجويفاً حفر وفرّغ من غرانيت الهضبة نفسها. والضوء الوحيد فيها كان يأتي من المشاعل الموجودة على الجدران. وعلى ضوء اللهب المشتعل وقف ثلاثون شخصاً أو أكثر في دائرة وسط الغرفة. لا بد أنني أحلم، قالت صوفي لنفسها. هذا حلم بالتأكيد. وإلا ما عساه يكون غير ذلك؟ كان كل الموجودين في الغرفة يضعون أقنعة. كانت النساء يرتدين أثواباً رقيقة بيضاء اللون وأحذية ذهبية. وكانت أقنعتهن بيضاء ويحملن كرات ذهبية. أما الرجال فكانوا يرتدون أثواباً سوداء طويلة مشدودة عند الخصر وكانت أقنعتهم سوداء. لقد كانوا يبدون كرقعة شطرنج عملاقة. وكان الجميع في الدائرة يهزون إلى الأمام وإلى الخلف بحركة رتيبة وينشدون احتراماً لشيء كان على الأرض أمامهم... شيء لم تتمكن صوفي من رؤيته. أصبح الإنشاد مستمراً من جديد. ثم تسارعت وتيرته شيئاً فشيئاً حتى أخذ يدوي بعنف كهزيم الرعد. ثم تقدم المشاركون خطوة إلى الأمام وركعوا. في تلك اللحظة فقط استطاعت صوفي أخيراً أن ترى على ماذا كان الجميع يشهدون. حتى عندما تراجعت إلى الوراء من أثر الرعب الذي أصابها، أحست صوفي بأن تلك الصورة طبعت في ذاكرتها إلى الأبد. شعرت صوفي باشمئزاز شديد فأصيبت بالدوار وكادت تقع فتمسكت بالجدران الحجرية وتسلقت الدرجات بصعوبة لتعود إلى الأعلى ثانية. أغلقت الباب وراءها وهربت من المنزل الخالي مباشرة وعادت إلى باريس مصدومة وعيناها تفيضان دمعاً لهول ما رأت. في تلك الليلة حزمت أمتعتها وتركت منزلها وقد مزق قلبها الشعور بالخيانة وخيبة الأمل. وقبل أن ترحل تركت رسالة. لقد كنت هنا، لا تحاول أن تبحث عني. ووضعت بجانب الرسالة المفتاح الاحتياطي للقصر الذي أخذته من سقيفة الخشب. "صوفي!" قطع صوت لانغدون حبل أفكارها. "توقفي! توقفي!". عادت صوفي من شرودها في الذكريات وداست على المكابح بعنف فانزلقت السيارة إلى الأمام قليلاً ثم توقفت تماماً. "ماذا؟ ماذا حدث؟!". أشار لانغدون إلى الشارع الطويل أمامهم. وعندما رأت ذلك تجمد الدم في عروقها. فعلى بعد مائة ياردة من أمامهم كان التقاطع مسدوداً بسيارتين من سيارات الشرطة القضائية التي كانت واقفة بشكل منحرف عن اتجاه الشارع وكان هدفهم من ذلك واضح. لقد أغلقوا جادة غابرييل! تنهد لانغدون بتجهم. "أفهم من ذلك أن السفارة أصبحت خياراً مستحيلاً هذه الليلة أليس كذلك؟". وهناك في آخر الشارع، كان اثنان من رجال الشرطة القضائية الواقفين هناك قد أخذا ينظران باتجاههما وقد أثارت فضولهما على ما يبدو الأضواء الأمامية للسيارة التي توقفت بشكل مفاجئ في أول الشارع. حسناً صوفي استديري ببطء شديد. جهزت صوفي السيارة في وضعية الاتجاه العكسي وقامت بالتفافة مركبة على ثلاث مراحل ثم عكست اتجاه السيارة. وعندما انطلقت سمعت صوت العجلات تصرخ مسرعة في أثرهما. وعاد صوت صفارات سيارات الشرطة إلى الحياة. أطلقت صوفي اللعنات وضغطت بعنف على دواسة البنزين لتزيد من السرعة. الفصل الثالث والثلاثون طارت سيارة صوفي السمارت كار عبر الحي الديبلوماسي تاركة خلفها السفارات والقنصليات ثم وصلت أخيراً إلى شارع جانبي ثم انعطفت يميناً لتعود من جديد إلى شارع الشانزيليزيه العريض. جلس لانغدون في مقعده الأمامي متجمداً من الخوف ثم استدار إلى الخلف وعينه على الطريق وراءهم ليرى إذا ما كان هناك أي أثر للشرطة. وفجأة تمنى لو أنه لم يقرر الهرب. أنت لم تفعل، ذكّر نفسه. لقد كانت صوفي هي التي اتخذت القرار عنه عندما رمت بقرص تعقب الأثر من نافذة الحمام. والآن بينما كانا يسرعان بعيداً عن السفارة وقد اندسّا بين السيارات القليلة في الشانزيليزيه، شعر لانغدون بأن خياراته كانت تقلّ أكثر فأكثر. ورغم أن صوفي تمكنت من تضليل الشرطة على ما يبدو، على الأقل في الوقت الحاضر، إلا أن لانغدون كان يشك في أن الحظ سيقف في صفهم طويلاً. ومن وراء المقود كانت صوفي تبحث في جيب معطفها عن شيء ما وعندها أخرجت شيئاً صغيراً معدنياً وأعطته إياه. "روبرت، يجب أن تلقي نظرة على هذا الشيء، هذا ما تركه لي جدي خلف لوحة "Madonna of the Rocks". أخذ لانغدون ذلك الشيء وتفحّصه وقد اعترته رعشة من الترقب والحماس. كان ثقيل الوزن وعلى شكل صليب. وكان حدسه ينبئه بأنه كان يحمل تذكاراً جنائزياً - نسخة مصغرة لمسمار تذكاري ضخم صمم ليغرس في أرض المدفن. لكنه لاحظ بعدئذ أن الجذع الناتئ عن الصليب كان ذا شكل موشوري مثلثي. ويحمل مئات الأثلام الصغيرة والمسدسة الشكل التي بدت أنها قد حفرت بدقة وبعثرت عشوائياً. "إنه مفتاح حفر بأشعة الليزر"، قالت له صوفي، "وهذه الأثلام السداسية تتم قراءتها والتعرف عليها بواسطة عين كهربائية". مفتاح؟ لم يرَ لانغدون في حياته كلها مفتاحاً كهذا. "انظر إلى الجانب الآخر"، قالت ذلك وهي تغير مسارها وتتجاوز تقاطعاً. وعندما قلب المفتاح إلى الطرف الآخر، فغر فاه من فرط الدهشة. فقد كانت هناك في مركز الصليب زهرة زنبق محفورة بأسلوب معقد وأنيق وإلى جانبها الحرفان P.S.! "صوفي، هذا هو الختم الذي أخبرتك عنه! إنه شعار أخوية سيون!". أومأت صوفي برأسها مجيبة "كما قلت لك في السابق، لقد رأيت المفتاح منذ سنوات طويلة وقد طلب مني ألا آتي على ذكره إطلاقاً". كان نظر لانغدون لا زال مسمّراً على المفتاح ذي النقوش. فمصنعيته عالية التقنية ورموزه الموغلة في القدم أفرزتا مزيجاً مخيفاً بين العالمين القديم والحديث. "وأخبرني أن المفتاح كان يفتح صندوقاً يخفي داخله الكثير من الأسرار". شعر لانغدون برعشة لمجرد تخيل ما هي تلك الأسرار التي قد يخفيها رجل مثل جاك سونيير. وماذا تفعل أخوية قديمة بمفتاح يبدو وكأنه قادم من المستقبل؟ لم يكن لدى لانغدون أدنى فكرة. وقد أسست الأخوية لهدف واحد فقط وهو الاحتفاظ بسرٍّ ما وحمايته. سرّ يتمتع بقوة لا تصدق قوة عظيمة.. هل يمكن أن يكون هذا المفتاح له علاقة بذلك السرّ؟ كانت هذه الفكرة رهيبة... "هل تعرفين ماذا يفتح؟". وبدت خيبة الأمل على وجهها. "لقد كنت آمل أن تعرف أنت ذلك". ظل لانغدون صامتاً وهو يقلّب الصليب في يده ويتفحّصه. وألحت صوفي. "يبدو كأنه صليب مسيحي". لم يكن لانغدون متأكداً من ذلك. فرأس هذا المفتاح لم يحمل الشكل التقليدي للصليب المسيحي ذي الساق الطويلة بل كان صليباً مربعاً - ذا أربعة أذرع متساوية الطول - سبق ظهوره المسيحية بألف وخمسمائة عام. وهذا النوع من الصلبان لا يحمل أياً من المدلولات المسيحية التي تشير إلى التعذيب بالصلب الذي يترافق مع الصليب الروماني ذي الساق الطويلة والذي ابتكره الرومان كآلة تعذيب. والأمر الذي كان يثير دهشة لانغدون على الدوام هو أن قلة قليلة من المسيحيين الذين كانوا يتأملون كلمة كروسيفيكس "الصليب" أدركوا أن التاريخ العنيف لرمزهم ينعكس في الاسم بحد ذاته فكلمة كروس أو كروسيفيكس اشتقت من الفعل اللاتيني كروشار أي يعذّب. "صوفي"، قال لانغدون "كل ما يمكنني أن أقوله لك هو إن الصلبان ذوي الأذرع المتساوية الأطوال كهذا الصليب تعتبر صلبان سلام فنسبها المتساوية لا تصلح أداة تعذيب وعناصرها الأفقية والعمودية المتوازنة تظهر الاتحاد الطبيعي بين الذكر والأنثى بحيث يتوافق ذلك مع فلسفة الأخوية". رمقته صوفي بنظرة تنم عن مللها من حديثه. "ليست لديك أدنى فكرة أليس كذلك؟". قطب لانغدون جبينه "ولا أي فكرة نهائياً..". "حسناً، يجب أن نذهب إلى مكان ما" ألقت صوفي نظرة على المرآة الأمامية لترى إذا كان أحد ما يتبعهما. "نحن بحاجة إلى مكان آمن كي نتوصل إلى معرفة ما يفتحه هذا المفتاح". وفكر لانغدون عندئذ بتوق شديد في غرفته المريحة في الريتز. من الواضح أن ذلك لم يكن أحد الخيارات المتاحة لهما. "ما رأيك أن نذهب إلى الذين استضافوني في الجامعة الأمريكية في باريس؟". "سيكون ذلك مكشوفاً جداً من المؤكد أن فاش سيراجعهم". "لا بد أن لديك معارفَ فأنت تعيشين هنا". سيراجع فاش الأرقام الموجودة في دليلي الهاتفي وعناوين بريدي الإلكتروني وسيتحدث مع زملائي في العمل. لذا دعك من معارفي. ولن نستطيع أن نعثر على فندق يستقبلنا فكل الفنادق تطلب البطاقات الشخصية". وتساءل لانغدون من جديد فيما لو كان من الأفضل له أن ترك فاش يعتقله في اللوفر. "لنتصل بالسفارة. يمكنني أن أشرح لهم ما يجري وأطلب منهم أن يرسلوا أحداً لملاقاتنا في مكان ما". "ملاقاتنا؟!" التفتت صوفي نحوه وحدقت فيه كما لو أنه كان مجنوناً. "روبرت، لا بد أنك تحلم. سفارتك ليس لها أي سلطة خارج مبناها الخاص. وفي حال بعثوا بشخص ما لملاقاتنا سيعتبر هذا مساعدة فار من الحكومة الفرنسية. وذلك لن يحدث في أية حال من الأحوال. إن دخولك إلى سفارتك طلباً للجوء مؤقت هو أمر مقبول، لكن أن تطلب منهم اتخاذ إجراء ضد رجال الشرطة الفرنسية أثناء تأديتهم لعملهم؟" وهزت صوفي رأسها "اتصل بسفارتك الآن وسيقولون لك أن تتجنب المزيد من الخسائر وتسلم نفسك إلى فاش. ثم سيعدونك بالتوصل إلى محاكمة عادلة عبر الطرق الديبلوماسية". نظرت إلى صف الواجهات الأنيقة لمحال الشانزيليزيه. "كم معك من المال؟". فتح لانغدون محفظته ليتأكد. "مائة دولار وبعض الفئات الصغيرة من اليورو. لماذا تسألين؟". "وبطاقات الاعتماد؟". "بالطبع". وعندما أسرعت صوفي أحس لانغدون بأنها قد أعدت خطة ما. وإلى الأمام عند نهاية الشانزيليزيه شمخ قوس النصر - نصب تذكاري لبراعة نابليون وتفوقه العسكري بارتفاع مائة وأربعة وستين قدماً - يحيط به أكبر دوار في فرنسا على الإطلاق ذي تسعة مسارات عريضة. كانت عينا صوفي على مرآة الرؤية الخلفية من جديد عندما كانا يقتربان من المنعطف. "لقد تمكنا من تضليلهم حتى الآن لكن ذلك لن يستمر خمس دقائق أخرى إذا بقينا في هذه السيارة". إذن، لنسرق واحدة غيرها، تأمل لانغدون، بما أننا الآن مجرمون. "ماذا ستفعلين الآن؟". انطلقت صوفي بسرعة نحو الدوار. "ضع ثقتك بي". لم يبد لانغدون أي استجابة. فالثقة لم تنفعه هذا المساء نهائياً. رفع كم معطفه ونظر في ساعته - وهي ساعة كلاسيكية، إصدار مميز من ساعات اليد من ميكي ماوس كانت هدية من أبويه في عيد ميلاده العاشر. وبالرغم من قرصها الصبياني الذي لطالما كان محط نظرات ساخرة، لم يقتنِ لانغدون أي ساعة أخرى غيرها في حياته. فقد كانت صور ديزني المتحركة أول مدخل له إلى سحر الشكل واللون. وميكي اليوم هو الذي يذكره كل يوم بأن يحافظ على شباب قلبه. إلا أن ذراعي ميكي في تلك اللحظة كانتا تميلان بزاوية غريبة وتشيران إلى ساعة غريبة أيضاً. 2:51 صباحاً. "يا لها من ساعة"، قالت صوفي وهي تنظر إلى ساعته وتناور السمارت كار حول الدوار الواسع بعكس عقارب الساعة. "إنها قصة طويلة". قال لانغدون وقد أعاد كمه إلى الأسفل. "لا بد أنها كذلك!" وابتسمت ابتسامة سريعة ثم خرجت من الدوار متجهة نحو الشمال بعيداً عن مركز المدينة. وتجاوزت بالكاد إشارتين بالضوء الأخضر وعندما وصلت إلى التقاطع الثالث انعطفت نحو اليمين باتجاه جادة مالزيرب. وهنا تركا الشوارع المشجرة الغنية في الحي الديبلوماسي وغاصا في حي صناعي أكثر ظلمة. انعطفت صوفي بسرعة نحو اليسار وبعد لحظات أدرك لانغدون أين كانا. محطة سان لازار. وأمامهم كانت محطة القطار ذات السقف الزجاجي تشبه الذرية الغريبة التي أتت منها البيوت البلاستيكية وهنجارات الطائرات. كانت محطات القطار الأوروبية لا تنام أبداً. وحتى في هذه الساعة المتأخرة كانت سيارات الأجرة واقفة تتزاحم بالقرب من المدخل الأساسي. والباعة المتجولون يقفون أمام عرباتهم التي تحمل السندويش والمياه المعدنية بينما يخرج من الباب فتية رثو الملابس يفركون أعينهم وينظرون حولهم كأنهم يحاولون أن يتذكروا في أي مدينة انتهى بهم المطاف. وفي أول الشارع كان هناك رجلا شرطة واقفين عند المنعطف يرشدان بعض السياح التائهين إلى الاتجاه الصحيح. توقفت صوفي خلف صف من سيارات الأجرة ثم أوقفت السيارة في منطقة ممنوع الوقوف فيها بالرغم من وجود الكثير من المواقف النظامية في الطرف الآخر من الشارع. وقبل أن يتمكن لانغدون من أن يسأل عما يجري، كانت صوفي قد خرجت من السيارة وذهبت مسرعة نحو شباك سيارة الأجرة التي كانت واقفة أمامهما وبدأت تتحدث مع السائق. وعندما خرج لانغدون من السيارة رأى صوفي تعطي سائق السيارة رزمة ضخمة من المال. أومأ السائق برأسه ثم انطلق من دونهما ولانغدون مذهول لا يفهم شيئاً مما يجري. "ما الذي حدث؟" سأل لانغدون بإصرار وقد انضم إلى صوفي عند المنعطف بينما اختفت سيارة الأجرة عن الأنظار. كانت صوفي تذهب باتجاه المدخل الرئيسي لمحطة القطار."هيا تعال، سنشتري بطاقتين على القطار التالي الذي سيغادر باريس". أسرع لانغدون ومشى بجانبها. في البداية كان الأمر هروباً إلى السفارة الأمريكية التي كانت على بعد ميل واحد والآن تطور ليصبح عملية جلاء كامل عن باريس. كان ندم لانغدون لموافقته على تلك الفكرة يزداد أكثر فأكثر. الفصل الرابع والثلاثون توقف السائق الذي أتى لاصطحاب الأسقف أرينغاروزا من مطار ليوناردو دافنشي الدولي، أمام سيارة فيات سوداء متواضعة. فتذكر أرينغاروزا يوم كانت كل مواصلات الفاتيكان عبارة عن سيارات كبيرة فاخرة تتميز بمصابع مزركشة بتزيينات نافرة وأعلام مزخرفة بشعار الأبرشية المقدسة. لقد ولّت تلك الأيام. فقد أصبحت سيارات الفاتيكان الآن أقل لفتاً للأنظار وفي معظم الأحيان لا تحمل أي علامة تدل على الفاتيكان. وقد ادعى الفاتيكان أن ذلك كان بسبب الحدّ من المصاريف الزائدة بهدف تخصيص مال أكثر لخدمة الأسقفية بشكل أفضل. غير أن أرينغاروزا كان يعتقد أن ذلك يعود إلى أسباب أمنية. فقد كان العالم في حالة هياج وغضب عارم ففي أنحاء كثيرة في أوروبا كان الإعلان عن حبك للمسيح أشبه برسم دريئة لتلقي الرصاص على سقف سيارتك. حزم أرينغاروزا رداءه الكهنوتي الأسود جيداً حول خصره وصعد إلى المقعد الخلفي واستقر في جلسته استعداداً لرحلة طويلة نحو كاستيل غاندولفو. ستكون هذه الرحلة نفس تلك التي قام بها منذ خمسة أشهر. رحلة السنة الماضية إلى روما... وتنهد أرينغاروزا، كانت تلك الليلة أطول ليلة في حياتي. فمنذ خمسة أشهر، تلقى اتصالاً من الفاتيكان يطلب حضوره على جناح السرعة إلى روما. ولم يقدموا أي تفسير لذلك الطلب. ستجد تذكرتك في المطار. لقد عملت الأبرشية المقدسة جاهدة للحفاظ على ستار من الغموض حتى على أعلى مراتب الإكليروس. كان أرينغاروزا يعتقد أن هذا الاستدعاء المفاجئ ربما يكون فرصة أراد البابا وبعض موظفو الفاتيكان استغلالها للظهور تحت الأضواء وينسبوا إلى نفسهم جزءاً من النجاح الشعبي الذي تتمتع به أوبوس داي هذه الأيام - الذي تجسد في إنهاء مقرهم العالمي الرئيسي في مدينة نيويورك. والذي كتبت عنه مجلة العمارة بأنه "منارة الكاثوليكية المضيئة التي تندمج بسمو ورفعة مع المظهر الحديث". كما يبدو أن الفاتيكان كان مؤخراً ينجذب إلى أي شيء وكل شيء يتضمن كلمة "حديث". لم يكن لأرينغاروزا أي خيار سوى قبول الدعوة لكن على مضض. بما أن أرينغاروزا لم يكن من المعجبين بالإدارة البابوية الحالية لذا وككثيرين غيره من رجالات الدين المحافظين، أخذ يراقب بقلق شديد كيف كان البابا الجديد يستقر في سنته الأولى من المنصب. لقد كان هذا البابا ليبرالياً لم يسبق لأحد أن سبقه في ذلك. وقد قام قداسته بتأمين بابويته خلال أحد أكثر الاجتماعات السرّية - التي تعقد لانتخاب البابا - إثارة للجدل في تاريخ الفاتيكان. والآن بدل أن يتواضع بسبب صعوده المفاجئ وغير المتوقع إلى السلطة، لم يضع الأب المقدس أي وقت في استعراض العضلات والمباهاة التي تأتي مع توليه أعلى منصب في العالم المسيحي مستغلاً الدعم الكبير الذي حصل عليه من داخل مؤسسة الكرادلة. فقام البابا اليوم بإعلان عنوان لرسالته التبشيرية البابوية وهو "إعادة روح الشباب إلى سياسة الفاتيكان وتحديث الكاثوليكية لتتماشى مع متطلبات الألفية الثالثة". مما يعني وبكلمات أصح، أن الرجل كان في الحقيقة متكبراً - كما خشي أرينغاروزا - لدرجة أنه ظن أنه بإمكانه إعادة كتابة قوانين الرب ليفوز بقلوب أولئك الذين أحسوا أن متطلبات الكاثوليكية الحقيقية أصبحت تضايقهم إلى حدّ لا يحتمل في هذا العالم الحديث. كان أرينغاروزا قد استخدم كل نفوذه السياسي الضخم، نظراً إلى العدد الكبير لأنصار أوبوس داي وضخامة التمويل الذي يقدمونه، ليقنع البابا ومستشاريه أن إضعاف قوانين الكنيسة وتليينها لم يكن كفراً وجبناً فحسب، بل هو انتحار سياسي أيضاً. وذكّرهم بأن التعديل السابق لقوانين الكنيسة - فشل فاتيكاني 2 - كان قد أدى إلى نتائج كارثية فقد أصبح الحضور إلى الكنيسة الآن أقل مما كان عليه بكثير كما أن التبرعات أخذت تنضب ولم يكن هناك عدد كاف من القساوسة ليشرفوا على كنائسهم. إن الناس بحاجة إلى التوجيه والنظام، أصرّ أرينغاروزا، لا التدليل والرفق! وفي تلك الليلة، منذ عدة أشهر خلت، عندما انطلقت الفيات بعيداً عن المطار، تفاجأ أرينغاروزا عندما لم يجد نفسه متجهاً إلى مدينة الفاتيكان بل نحو الشرق عبر طريق جبلي متعرج. "إلى أين سنذهب؟" سأل السائق مستفسراً. "إلى ألبان هيلز"، أجاب الرجل. "إن الاجتماع سيكون في كاستل غاندولفو". في مقر إقامة البابا الصيفي؟ لم يذهب أرينغاروزا إلى هناك أبداً ولم يكن يرغب حتى في رؤيته. فبالإضافة إلى أن تلك القلعة التي تعود إلى القرن السادس عشر كانت بيت البابا الصيفي، كانت تحتضن أيضاً السبيكولا فاتيكانا - المرصد الفلكي الفاتيكاني - وهو أحد أكثر المراصد الفلكية تطوراً في أوروبة. لم يفهم أرينغاروزا يوماً حاجة الفاتيكان التاريخية لدس أنفه في العلوم. فما هي الفائدة من الخلط بين العلم والإيمان؟ فلا يمكن لرجل مؤمن بالرب أن يطبق العلوم المحايدة كما أن الدين ليس بحاجة إلى إثباتات مادية وعلمية. مع ذلك، ها هي، فكر أرينغاروزا وقد ظهرت قلعة غاندولفو شامخة في سماء نوفمبر المزدانة بالنجوم. ومن بعيد كانت غاندولفو تشبه وحشاً حجرياً ضخماً على وشك القيام بقفزة انتحارية. حيث أن القلعة كانت جاثمة على حافة منحدر صخري شاهق مطلة على مهد الحضارة الإيطالية – الوادي الذي شهد الحرب بين قبيلتي كورياتزي وأوراتزي قبل تأسيس روما بزمن طويل. حتى من بعيد كانت غاندولفو منظراً يستحق المشاهدة فهي مثال مثير للإعجاب عن عمارة القلاع الدفاعية التي تقام على ارتفاعات شاهقة، محاكية قوة وعظمة هذا الجرف الصخري الرائع. لكن للأسف، رأى أرينغاروزا الآن أن الفاتيكان قد خرب القلعة ببناء قبتين من الألمنيوم كمرقبين فلكيين على سطح القلعة جعلا الصرح الذي كان يوماً صرحاً مشرفاً يبدو كفارس مغوار يرتدي قبعتين من قبعات الحفلات السخيفة. وعندما ترجّل أرينغاروزا من السيارة كان بانتظاره كاهن يسوعي شاب هرع إليه ليقدم له التحية. "أهلاً بك أيها القس، أنا الأب مانغانو، عالم فلك هنا". أحسنت... دمدم أرينغاروزا بالتحية وتبع مضيفه نحو الداخل إلى بهو القلعة الذي كان عبارة عن مساحة واسعة مفتوحة ديكورها مزيج قبيح من فن عصر النهضة وصور فلكية. تبع أرينغاروزا مرافقه إلى الأعلى حيث صعدا السلالم العريضة ذات الأحجار الرخامية الجيرية وفي الطريق نحو الأعلى رأى إشارات لمراكز اجتماعات وقاعات لإلقاء المحاضرات العلمية ومكتب استعلامات للسياح. وقد أذهله التفكير في فشل الفاتيكان كل مرة في تقديم معلومات تشكل أساساً صلباً وصارماً للنمو الروحي والديني ومع ذلك إيجاده الوقت الكافي لإلقاء محاضرات في الفيزياء الفلكية للسياح. "قل لي"، قال أرينغاروزا للكاهن الشاب، "منذ متى صار الذيل هو الذي يهز الكلب؟". فنظر إليه الكاهن باستغراب."عفوك سيدي؟". فصمت أرينغاروزا وقد قرر ألا يخوض في تلك الحادثة ثانية هذه الليلة. لقد أصيب الفاتيكان بالجنون. فأصبح أشبه بأب وجد أنه من الأسهل الإذعان لأهواء طفله المدلل بدل اتخاذ مواقف صارمة وتعليمه القيم. فقد كانت الكنيسة تلين في كل مرة محاولة تكييف نفسها من جديد لتتناسب مع حضارة انحرفت عن جادة الصواب. كان ممر الطابق الأعلى رحباً واسعاً مزيناً بفخامة وكان يؤدي إلى اتجاه واحد فقط - نحو مجموعة ضخمة من الأبواب المصنوعة من خشب السنديان والتي تحمل إشارة نحاسية. المكتبة الفلكية كان أرينغاروزا قد سمع بهذا المكان - مكتبة الفاتيكان الفلكية - الذي يشاع بأنه يحتوي على أكثر من خمسة وعشرين ألف مجلد من ضمنها مؤلفات نادرة لكوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر ونيوتن وسيكي. ويقال إن هذه المكتبة هي المكان الذي يعقد فيه موظفو البابا ذوو الرتب العليا اجتماعاتهم السرّية... تلك الاجتماعات التي كانوا لا يفضلون عقدها داخل جدران مدينة الفاتيكان. وعندما اقترب القس أرينغاروزا من الباب لم يكن ليتصور على الإطلاق الأخبار الصاعقة التي كان على وشك أن يتلقاها في الداخل أو سلسلة الأحداث القاتلة التي ستترتب عليها. وقد استغرق الأمر ساعة بعد خروجه من الاجتماع مذهولاً ليستوعب النتائج المدمرة التي ستترتب على ما حدث في الداخل. ستة أشهر من الآن! فكر أرينغاروزا... فليساعدنا الرب! والآن انتبه القس أرينغاروزا، وهو جالس في الفيات، أن يديه متشابكتان بإحكام لمجرد تفكيره بذلك الاجتماع الأول. فحرر يديه وحاول استنشاق الهواء ببطء ليرخي عضلاته. سيكون كل شيء على ما يرام، قال لنفسه بينما كانت الفيات تصعد إلى الأعلى داخل الجبال. غير أنه تمنى لو يرن هاتفه النقال. لماذا لم يتصل بي المعلم حتى الآن؟ يجب أن يكون سيلاس قد حصل على مفتاح العقد الآن. في محاولة منه لتهدئة أعصابه، أخذ يتأمل حجر الأماتيست الأرجواني في خاتمه متلمساً حلية الصولجان الأسقفي ذي النهاية المعقوفة على الخاتم والأسطح الماسية فيه. وذكّر نفسه أن هذا الخاتم الأسقفي كان رمزاً لقوة أقل بكثير من تلك التي كان على وشك الحصول عليها. الفصل الخامس والثلاثون كانت محطة سان لازار من الداخل تبدو كأي محطة قطار في أوروبا، فهي عبارة عن تجويف كهفي ذي ممرات للدخول والخروج ينتشر فيها نفس الناس المعتادون - مشردون يحملون لوحات من الكرتون عليها كتابات ما ومجموعات من الشباب ينامون بعيون مرهقة فوق حقائب الظهر على الأرض وعلى أحزمتهم مشغّل الموسيقى الجيبي MP3 وبعض الحمالين ذوو الزي الأزرق يدخنون السجائر. نظرت صوفي إلى لوحة المغادرة الضخمة في الأعلى. تغيرت اللوحات الإلكترونية على لوحة المغادرة وأخذت تقلب من جديد لتظهر وجهات القطارات التالية وأوقات المغادرة. وعندما انتهى تحديث المعلومات تفحص لانغدون الجدول الجديد وكان على رأس القائمة: ليل - القطار السريع - 3:06 "ليته كان مغادراً قبل ذلك الوقت"، قالت صوفي "لكن ليل ستفي بالغرض". "قبل ذلك الوقت؟" نظر لانغدون في ساعته كانت 2:59 صباحاً سيغادر القطار في غضون سبعة دقائق ولم يشتروا التذاكر بعد. دلّت صوفي لانغدون إلى شباك التذاكر وقالت له: "اشترِ لنا تذكرتين وادفع ببطاقة الائتمان الخاصة بك". "كنت أظن أنه بطاقات الائتمان يتم تعقبها عن طريق -". "بالضبط". قرر لانغدون ألا يحاول أن يتذاكى على صوفي. اشترى تذكرتين إلى ليل بواسطة بطاقة الفيزا ثم أعطاهما إلى صوفي. تقدمت صوفي أمامه إلى الخارج نحو مسارات سكة القطار حيث انطلقت نغمة مألوفة تبعها صوت أعلن عن النداء الأخير للركاب المتوجهين إلى ليل للصعود إلى القطار. كان هناك ستة عشر مساراً تنتشر أمامهم، وبعيداً إلى اليمين عند الرصيف الثالث كان القطار المتجه إلى ليل يصفر استعداداً للانطلاق. لكن صوفي كانت قد وضعت يدها بيد لانغدون وتقدمت في الاتجاه المعاكس تماماً ومشيا بسرعة عبر غرفة انتظار جانبية مروراً بمقهى يفتح طوال الليل وأخيراً خرجا من باب جانبي إلى شارع منعزل يقع إلى الجانب الغربي من المحطة. كانت هناك سيارة أجرة واقفة عند المدخل ومحركها يدور. رأى السائق صوفي فأومض لها. قفزت صوفي وجلست في المقعد الخلفي وتبعها لانغدون. وعندما انطلقت السيارة بعيداً عن المحطة أخرجت صوفي التذكرتين اللتين اشتراهما لتوه ومزقتهما. تنهد لانغدون... سبعون دولاراً صرفت في المكان المناسب. لم يشعر لانغدون أنهما قد هربا فعلاً إلا عندما سمع الهمهمة الرتيبة لمحرك السيارة التي انطلقت شمالاً نحو شارع كليشي. وهناك استطاع لانغدون أن يرى إلى اليمين من نافذته مونمارتر وقبة ساكريه كور - القلب المقدس - الرائعة. وقطع تلك الصور الجميلة ضوء سيارات الشرطة المبهر التي مرت بهم ذاهبة بالاتجاه المعاكس. أحنى لانغدون وصوفي رأسيهما بسرعة حتى خبا صوت صفارات سيارات الشرطة. لقد طلبت صوفي من السائق ببساطة أن ينطلق بهما خارج المدينة، وأحس لانغدون بمجرد رؤية فكها المطبق بإحكام أنها كانت تفكر في الخطوة التالية التي يجب أن يقوما بها. تفحص لانغدون المفتاح الصليبي الشكل من جديد حيث رفعه نحو الشباك وقرّبه من عينيه على أمل أن يتمكن من العثور على علامة ما قد تشير إلى مكان صنعه. وعلى ضوء أنوار الشوارع المتقطعة لم يرَ أية علامة سوى شعار الأخوية. وقال أخيراً: "هذا غير منطقي". "عم تتكلم؟". "من غير المعقول أن يتكبد جدك كل هذا العناء ليعطيك مفتاحاً لا تعرفين ما تفعلينه به". "أوافقك الرأي". "هل أنت متأكدة من أنه لم يكتب شيئاً آخر خلف تلك اللوحة؟". "لقد فتشت المنطقة بالكامل وهذا كل ما كان هناك، المفتاح الذي كان محشوراً خلف اللوحة فقط. رأيت شعار الأخوية عليه فدسسته في جيبي ثم ذهبنا سوية". قطب لانغدون وأخذ يتأمل الآن النهاية الدائرية لعمود المفتاح المثلثي الشكل. لم يجد شيئاً. ثم حدّق من جديد بالمفتاح وقد قرّبه من عينيه أكثر ثم فحص حافة رأس المفتاح. لا شيء أيضاً. "أعتقد أن هذا المفتاح قد نظّف منذ فترة قريبة". "لماذا؟". "لأن رائحته كرائحة الكحول الذي يستخدم في التنظيف". التفتت صوفي. "عفواً، ماذا قلت؟". "إن رائحته توحي بأن أحداً ما قد مسحه بمنظف ما". قرّب لانغدون المفتاح من أنفه واستنشق. "إن الرائحة أقوى على الطرف الآخر". وقلبه إلى الطرف الآخر. "نعم، إنها رائحة شيء ذي أساس كحولي، لقد لمّع بمنظف ما أو -". وتوقف لانغدون فجأة عن الكلام. "ماذا؟". رفع المفتاح وقربه من الضوء ثم نظر إلى السطح الناعم على ذراع الصليب الطويلة. يبدو أنها تلمع وكأنها مبتلّة... "هل نظرت جيداً إلى المفتاح من الخلف قبل أن تضعيه في جيبك؟". "ماذا؟ كلا لم أفعل فقد كنت على عجلة من أمري". فالتفت لانغدون نحوها. "هل ما زلت تحتفظين بالضوء الأسود؟". أدخلت صوفي يدها في جيبها ثم أخرجت القلم الذي يصدر الأشعة فوق البنفسجية. أخذه لانغدون وأضاءه مسلطاً الأشعة على المفتاح من الخلف. فشعّ المفتاح في الحال. كانت هناك كتابة عليه بخط يد كتبته على عجل لكنه كان على أية حال مقروءاً. "حسناً"، قال لانغدون مبتسماً، "أعتقد أننا عرفنا الآن من أين أتت رائحة الكحول". حدقت صوفي بذهول في الكتابة الأرجوانية التي خطت على الوجه الخلفي من المفتاح. 24 شارع آكسو هذا عنوان! لقد كتب لي جدي عنواناً! "أين يقع هذا المكان؟"، سأل لانغدون. لم تكن لدى صوفي أي فكرة. فالتفتت إلى الأمام وانحنت قليلاً نحو السائق وسألته بحماس "هل تعرف أين يقع شارع آكسو؟". فكر السائق للحظة ثم أومأ برأسه وقال لصوفي أنه كان بالقرب من ملعب التنس الذي يقع في الضواحي الغربية لباريس. فطلبت منه أن يوصلهما إلى هناك على الفور. "إن أقرب طريق إلى هناك يمر بغابات بولوني"، قال السائق ذلك بالفرنسية. "هل أنت موافقة؟". قطبت صوفي جبينها. كان في بالها المرور بطرقات أقل رذيلة وخزياً إلا أنها لن تكون صعبة الإرضاء الآن فلا وقت لديها. "نعم". فلنتسبب للزائر الأمريكي بصدمة لن ينساها. نظرت صوفي إلى المفتاح من جديد وتساءلت عما يمكن أن يكون موجوداً في 24 شارع آكسو. كنيسة؟ أو ربما مقر ما للأخوية؟ امتلاً رأسها ثانية بصور الطقس السرّي الذي شهدته في القبو الكهفي منذ عشرة أعوام. وتنهدت بحزن. "روبرت، هنا أمور كثيرة أريد إخبارك عنها" صمتت قليلاً ونظرت في عينيه مباشرة بينما انطلق السائق بأقصى سرعة باتجاه الغرب. "لكنني أريدك أولاً أن تخبرني كل ما تعرفه عن أخوية سيون". الفصل السادس والثلاثون خارج أبواب قاعة الدول كان فاش يستشيط غضباً بينما أخذ مراقب اللوفر يشرح له كيف جرده لانغدون وصوفي من سلاحه. لو كنت أطلقت النار على تلك اللوحة اللعينة لانتهينا من الأمر الآن! "سيدي!" ظهر الملازم كوليه أمامهما فجأة قادماً من مقر القيادة، لقد سمعت لتوي أنه قد تم العثور على سيارة العميلة نوفو!". "هل تمكنت من الوصول إلى السفارة؟". "كلا، لقد استطاعت الوصول إلى محطة القطار واشترت تذكرتين وقد غادر القطار منذ قليل". صرف فاش المراقب غروارد ثم قاد كوليه إلى زاوية جانبية وخاطبه بصوت منخفض. "إلى أين كانت وجهة القطار؟". "ليل". "ربما تكون تلك خدعة". تنفس فاش بعمق وأخذ يرسم خطة في ذهنه. "حسناً، أرسل إشارة إلى المحطة التالية ودعهم يوقفوا القطار ويفتشوه تحسباً. اترك السيارة في مكانها وانشر عناصر متخفين بالقرب منها فيما لو حاولا العودة إليها. وابعث برجال لتمشيط الشوارع حول المحطة في حال قاما بالفرار مشياً على الأقدام. هل هناك باصات تنطلق من المحطة؟". "ليس في هذا الوقت سيدي، هناك طابور سيارات الأجرة فقط". "حسناً، إذن تحقق من السائقين إذا ما كانوا قد رأوا شيئاً، ثم اتصل بعامل الاتصالات في شركة النقل وأعطه أوصافهما ودعه يرسل تعميماً بذلك على كافة سائقي سيارات الأجرة. وسأقوم أنا بالاتصال بالإنتربول". بدا كوليه متفاجئاً. "ستلجأ إليهم من أجل هذا الموضوع الآن؟". أحس فاش بالموقف الحرج المقبل، لكنه لم يرَ أي خيار آخر في الأفق. سدّ في وجههما كافة الطرقات بسرعة. وضيق عليهما الخناق. كانت الساعة الأولى هامة جداً، ففي الساعة الأولى بعد الفرار تكون أفعال الهاربين متوقعة ويمكن التنبؤ بها. فهم دائماً بحاجة ليقوموا بنفس الأشياء. السفر والمبيت والنقود. الثلاثية المقدسة. وكانت الإنتربول لديها السلطة لتجعل تلك الثلاثية تختفي تماماً في غمضة عين. فبتعميمها لصور لانغدون وصوفي على مكاتب السفريات والهيئات المسؤولة عن السفر في باريس والفنادق والبنوك، بذلك كله لن يترك الإنتربول لهما أي خيار - فلا سبيل للخروج من المدينة ولا مكان للاختباء ولا طريقة لسحب النقود دون أن يتم التعرف عليهما. عادة في مثل هذه الحالة يصاب الهاربون بالهلع في الشوارع ولا يعرفون ما يفعلون فيقدمون على ارتكاب الحماقات كأن يسرقوا سيارة أو محلاً تجارياً أو يستخدموا بطاقة بنكية في محاولة يائسة للحصول على السيولة. ومهما كانت الغلطة التي سيرتكبونها ستؤدي في النهاية إلى تحديد مكانهم بسرعة وإعلام السلطات المحلية بذلك. "لانغدون فقط، أليس كذلك؟" قال كوليه، "لن تطلب منهم ملاحقة صوفي نوفو أيضاً؟ إنها أحد عناصرنا!". "بالطبع سأطلب منهم ذلك!" انفجر فاش في وجهه، "فما الفائدة من ملاحقة لانغدون وحده إذا كانت تستطيع هي الاهتمام بقذارته؟ إنني أنوي أن أعود إلى ملفها الوظيفي لأستخرج منه معلومات حول أصدقائها ومعارفها وعائلتها وكل ما يخصها وبكلمات أدق كل من يمكنها أن تلجأ إليه. لا أعرف ماذا تظن نفسها فاعلة، لكن من المؤكد أنها ستدفع ثمن ذلك غالياً جداً أكثر بكثير من فقدانها لعملها فقط!". "أتريدني أن أكون على الهاتف أم في الميدان؟". "في الميدان، اذهب إلى محطة القطار وقم بالإشراف على عملية التنسيق مع الفريق هناك. يمكنك تولي زمام الأمور هناك. لكن لا تقدم على أي خطوة قبل أن تستشيرني". "نعم سيدي" ثم مضى كوليه إلى مهمته. شعر فاش بالتوتر بينما كان يقف جانباً. خارج النافذة كان الهرم الزجاجي يبدو مضيئاً ينعكس نوره متموجاً على البرك التي كانت تحركها الرياح. لقد كنت قريباً جداً من الإمساك بهما... لقد تسللا من بين يدي. قال ذلك لنفسه ليتمكن من الاسترخاء. ستقوم الإنتربول بحصار عنيف لدرجة أن عميلاً متمرساً في قوى الشرطة لن يقوى على تحمل ضغطه. امرأة تعمل في فك التشفير وأستاذ جامعي؟ لن يتمكنا من الصمود حتى الفجر... الفصل السابع والثلاثون كان يطلق على المنتزه المكسو بالأشجار الذي يعرف باسم غابات بولوني أسماء عديدة لكن السلطات الباريسية كانت تعرفه "بحديقة المسرات الدنيوية" وهي صفة علة بالرغم من أنها تبدو إطراء إلا انها كانت في الحقيقة عكس ذلك تماماً. فمن رأى لوحة بوش الفظيعة التي تحمل الاسم ذاته يمكنه أن يفهم تلك الطعنة. فقد كانت تلك اللوحة كالمنتزه مخيفة ومنحرفة، وجنة المسوخ والشواذ. وعندما يهبط الليل كانت ممرات الغابة المتعرجة تعج بمئات الأجساد البراقة الجاهزة للاستخدام. مسرات دنيوية... لإشباع أعمق رغبات المرء المكبوتة سواء كان رجلاً أو امرأة أو أي شيء بين الجنسين.. بينما كان لانغدون يستجمع أفكاره ليحدث صوفي عن أخوية سيون، عبرت سيارتهم المدخل الخشبي للمنتزه وأخذت تتجه غرباً على الطريق المفروش بالحصى. كان لانغدون يواجه صعوبة في التركيز حيث أخذ بعض سكان المنتزه الليليين المنتشرين هنا وهناك ينبثقون من العتمة بين الأشجار ليعرضوا بضاعتهم بزهو وخيلاء على ضوء الأنوار الأمامية للسيارة. وإلى الأمام ألقت مراهقتان عاريتا الصدر نظرات نارية إلى داخل السيارة ومن الخلف التفت إليهم شاب أسود ذو جسد يلمع زيتاً اقتصر لباسه على حبل ضيق يغطي عانته، وأخذ يشد ردفيه بطريقة استعراضية. وإلى جانبه رفعت شقراء رائعة الجمال تنورتها القصيرة لتكشف أنها ليست في الحقيقة امرأة على الإطلاق... أنجدني يا رب! التفت لانغدون من جديد إلى الداخل وأخذ نفساً عميقاً. "حدّثني عن أخوية سيون" قالت صوفي. أومأ لانغدون الذي أدهشه عدم الانسجام بين القرف في الخارج والأسطورة العظيمة التي كان على وشك الحديث عنها. وتساءل من أين يبدأ. يمتد تاريخ الأخوية أكثر من ألف عام... تاريخ مذهل من الأسرار والابتزاز والخيانة وحتى العذاب العنيف على يد بابا غاضب. "أخوية سيون"، بدأ حديثه "أسست في القدس عام 1099م على يد ملك فرنسي يدعى غودفروا دو بويون بعد احتلاله للمدينة مباشرة". أومأت صوفي وعيناها مركزتان عليه تتابعان حديثه باهتمام. "يقال إن الملك غودفروا كان يحتفظ بسرّ عظيم، سرّ كان في عائلته منذ زمن المسيح وخوفاً من أن يضيع هذا السرّ بعد موته، قام بتأسيس جمعية سرية وهي أخوية سيون وكلف أعضاءها بحماية سره وذلك بنقله من جيل إلى آخر. وخلال السنوات التي قضوها في القدس، سمع أعضاء الأخوية بوجود وثائق سرية مدفونة تحت أنقاض معبد هيرودوت والذي بدوره كان مبنياً على أنقاض هيكل سليمان. وحسب اعتقادهم كانت تلك الوثائق تثبت سرّ غودفروا العظيم. كما أنها كانت خطيرة بمحتواها إلى الحدّ الذي يجعل الكنيسة مستعدة لفعل أي شيء على الإطلاق للحصول عليها". بدت صوفي متشككة. وقطع أعضاء الأخوية على نفسهم عهداً بأن يحصلوا على هذه الوثائق من تحت أحجار المعبد عاجلاً أم آجلاً كي يحافظوا عليها ويحموها إلى الأبد حتى لا تموت الحقيقة أبداً. ولتحقيق هذا الهدف قام أعضاء الأخوية بإنشاء فرقة عسكرية وهي مجموعة تتألف من تسعة فرسان أطلقوا عليهم اسم "أخوية فرسان المسيح وهيكل سليمان الفقراء" صمت لانغدون للحظة. "التي تعرف أكثر باسم فرسان الهيكل". لمعت عينا صوفي بنظرة تنم عن الاهتمام والذهول في آن معاً. لقد ألقى لانغدون محاضرات عديدة عن فرسان الهيكل لدرجة أنه متأكد أن كل شخص على وجه الأرض قد سمع بهم على الأقل بصورة عرضية. وبالنسبة إلى العلماء والأكاديميين، كان تاريخ فرسان الهيكل عالماً مشكوكاً فيه حيث أصبحت الحقائق، والمعتقدات، والتقاليد، والمعلومات الخاطئة متشابكة ببعضها إلى الحدّ الذي جعل الخلوص إلى الحقيقة الأصلية أمراً شبه مستحيل. وفي هذه الأيام كان لانغدون يتردد حتى في ذكر فرسان الهيكل أثناء محاضراته لأن ذلك كان يؤدي دائماً إلى وابل من الأسئلة المعقدة التي تنتهي بمجموعة من نظريات المؤامرة. بدا الانزعاج على صوفي ولانغدون لم يكمل القصة بعد. "هل تقول إن أخوية سيون هي التي شكلت فرسان الهيكل للحصول على مجموعة من الوثائق السرّية؟ لقد ظننت أن فرسان الهيكل قد أوجدوا لحماية الأرض المقدسة". "إنه خطأ شائع. وفكرة حماية الحجاج كانت الغطاء الذي عمل من تحته الفرسان للقيام بمهمتهم. وكان الهدف وراء وجودهم في الأرض المقدسة هو استعادة الوثائق من تحت أنقاض المعبد". "وهل عثروا عليها؟". ابتسم لانغدون. "لا أحد يعرف ذلك بصورة قاطعة، لكن هناك أمر واحد يتفق عليه العلماء وهو أن الفرسان اكتشفوا شيئاً ما تحت تلك الأنقاض... شيئاً جعلهم أغنياء ومتنفذين إلى حدٍّ يفوق الخيال". وأعطاها لانغدون بسرعة الصورة الإجمالية لتاريخ فرسان الهيكل بالنسخة التي يعترف بصحتها العلماء والتي تحكي كيف أن الفرسان كانوا في الأرض المقدسة خلال الحملة الصليبية الثانية وقالوا للملك بلدوين الثاني إنهم هناك لحماية الحجاج في الطريق. فبالرغم أن الفرسان لم يحصلوا على أي عائد مادي مقابل هذه المهمة وفاء لقسمهم بأن يظلوا فقراء، إلا أنهم أخبروا الملك برغبتهم في الحصول على مكان بدائي يبيتون فيه ليلاً وطلبوا منه الإذن ليسكنوا في الإسطبلات الموجودة تحت أنقاض المعبد. فوافق الملك على طلب الجنود واتخذ الفرسان مسكنهم البائس تحت ركام المقام الخرب. تابع لانغدون، وبالطبع لم يكن اختيارهم الغريب لذلك المسكن عشوائياً على الإطلاق. فقد كان الفرسان على ثقة تامة بأن وثائقهم المنشودة كانت مدفونة في مكان عميق تحت الأنقاض في حجرة تحت قدس الأقداس حيث يعتقد أن الرب بذاته يسكنها. وكانت هذه الحجرة حرفياً مركز الدين اليهودي. عاش الفرسان التسعة هناك حوالى عقد كامل من الزمان يحفرون الصخر الأصم بسرية تامة. نظرت إليه صوفي. "وقد قلت إنهم وجدوا شيئاً؟". "بالطبع" قال لانغدون مفسراً كيف أن ذلك استغرق تسع سنوات لكن الفرسان في النهاية عثروا على ما بحثوا عنه طويلاً. ثم أخذوا الكنز من المعبد وسافروا به إلى أوروبا حيث أصبح نفوذهم واسعاً جداً بين ليلة وضحاها. لا أحد يعلم بالتحديد فيما إذا كان الفرسان قاموا بابتزاز الفاتيكان أو أن الكنيسة اشترت ببساطة سكوتهم، لكن الأمر المؤكد هو أن البابا إينوسنت الثاني قام في الحال في خطوة لم يسبق حدوثها من قبل، بإصدار أمر رسمي بابوي يقضي بمنح فرسان الهيكل سلطة لامحدودة وأعلن أن لهم قوانينهم الخاصة بهم وأنهم قوة عسكرية تتمتع بالاستقلال الذاتي التام بعيداً عن أي تدخل من الملوك والأساقفة أي أنهم مستقلون دينياً وسياسياً. وبفضل هذه السلطة المطلقة التي منحها إليهم الفاتيكان توسع فرسان الهيكل إلى حدٍّ كبير من حيث العدد والقوة السياسية وجمعوا أراض وممتلكات عديدة في أكثر من اثنتي عشرة دولة. وأخذوا يمدون الملوك المفلسين بالقروض مع فرض فوائد عليها مما أدى إلى زيادة ثرواتهم ونفوذهم أكثر فأكثر وبذلك كانوا نواة نظام البنوك الحديثة. ومع حلول العام 1300م، كان قانون الفاتيكان قد مكّن فرسان الهيكل من حشد قوة عظمى إلى درجة قرر معها البابا كليمانت الخامس أنه يجب أن يوضع لهم حد. فقام بالتنسيق مع ملك فرنسا فيليب الرابع بالتخطيط لعملية عبقرية لسحق فرسان الهيكل والاستيلاء على كنزهم. وبذلك يصبح بإمكان الكنيسة وضع يدها على الأسرار التي حجبت طويلاً عن الفاتيكان. وبمناورة عسكرية جديرة بالمخابرات الأمريكية، أصدر البابا أوامر سرية مختومة على أن يفتحها جنوده في نفس الوقت في كافة أنحاء أوروبا يوم الجمعة في الثالث عشر من شهر أكتوبر في العام 1307م. وفي فجر اليوم الثالث عشر، فتحت الوثائق وكشفت محتواها المروع. فقد ادعى كليمانت في رسالته أن الرب قد زاره في الحلم وحذره من أن فرسان الهيكل هم هراطقة مجرمون يعبدون الشيطان وشاذون جنسياً، ويستخفون بالصليب، ولوطيون، وسلوكيات كافرة أخرى. وقد طلب الرب من البابا كليمانت أن يطهر الأرض منهم بالقبض عليهم وتعذيبهم حتى يعترفوا بجرائمهم التي اقترفوها بحق الرب. تم تنفيذ عملية البابا الماكيافيلية بحذافيرها. ففي ذلك اليوم تم أسر عدد لا يحصى من الفرسان وتم تعذيبهم بلا رحمة وأخيراً حرقوا على الأعمدة كالهراطقة والسحرة. وتنعكس أصداء هذه المأساة اليوم في الحضارة الحديثة حيث يعتبر يوم الجمعة الذي يقع في الثالث عشر من الشهر يوم شؤم. بدا الارتباك على صوفي. "هل قضي على فرسان الهيكل جميعاً؟ ظننت أنه لا زالت هناك أخويات لفرسان الهيكل حتى اليوم؟". "هذا صحيح، فهم موجودون حتى اليوم لكن تحت أسماء مختلفة، فبالرغم من التهم الزائفة التي ألصقها بهم كليمانت والجهود الحثيثة التي قام بها للقضاء عليهم، كان هناك حلفاء ذوي نفوذ واسع تمكنوا من مساعدة بعض الفرسان وتمكن البعض الآخر من الهرب من قبضة الفاتيكان. أما الهدف الحقيقي الذي كان يسعى كليمانت وراءه فكان كنز فرسان الهيكل العظيم الذي يتألف من مجموعة من الوثائق والذي يبدو أنه كان مصدر قوتهم، لكنه لم يتمكن من الحصول عليه. فقد كانت الوثائق في عهدة مهندسي فرسان الهيكل الغامضين، أخوية سيون التي كان أعضاؤها محاطين بسرية تامة جعلتهم في مأمن من مجزرة الفاتيكان. وعندما ضيق الفاتيكان الخناق على فرسان الهيكل قام أعضاء الأخوية بتهريب الوثائق خلسة تحت جنح الليل من مقر للفرسان في باريس على متن سفن تابعة لهم في لاروشيل. "وإلى أين ذهبت الوثائق؟". هز لانغدون كتفيه. "إن الإجابة عن هذا السؤال الغامض لا تعرفها إلا أخوية سيون. وقد ظلت هذه الوثائق مثاراً لتحقيق متواصل وتخمينات لا تنتهي حتى اليوم، يعتقد أنها قد نقلت وأعيد إخفاؤها مرات عديدة. وتفيد التخمينات الحديثة أن الوثائق موجودة في مكان ما في المملكة المتحدة". شعرت صوفي بالتوتر. "وعلى مدى ألف سنة"، تابع لانغدون، "تم تناقل الأساطير حول هذا السرّ ومجموعة الوثائق الكاملة وسبب قوتها والأسرار التي تكشفها وكل ذلك أصبح يعرف اليوم باسم وحيد سانغريال - Sangreal. الكلمة التي ألفت مئات من الكتب عنها والتي كانت أكثر المواضيع إثارة للجدل والاهتمام في أوساط المؤرخين". "السانغريال؟ هل لهذه الكلمة علاقة بالكلمة الفرنسية Sang أو الإسبانية Sangre - التي تعني "دم"؟ أومأ لانغدون. إن الدم هو العمود الفقري للسانغريال لكن ليس بالمعنى الذي ربما تكون صوفي قد تخيلته. "إن الأسطورة معقدة، إلا أن الأمر الهام الذي يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن الأخوية تحرس الدليل وتزعم أنها تنتظر التوقيت المناسب في التاريخ لكشف الحقيقة". "أية حقيقة؟ ما هو السرّ الذي يمكن أن يكون بهذه القوة؟". أخذ لانغدون نفساً عميقاً ونظر إلى الخارج حيث الوجه القذر لباريس ينظر إليه شزراً من بين الظلال. "صوفي، إن كلمة سانغريال هي كلمة قديمة لكنها تطورت عبر العصور إلى مصطلح آخر... فأصبحت اسماً أكثر حداثة". وصمت للحظة. "عندما سأخبرك باسمها الحديث ستدركين أنك تعرفين الكثير عنها، وفي الواقع كل إنسان على وجه الأرض تقريباً قد سمع بقصة السانغريال". بدت صوفي متشككة. "لم أسمع بها في حياتي". "أنا واثق من أنك تعرفينها تمام المعرفة". وابتسم لانغدون. "لكنك تعودت على سماعها باسمها الآخر "الكأس المقدسة". الفصل الثامن والثلاثون أمعنت صوفي النظر في لانغدون وهما جالسان في المقعد الخلفي للسيارة. لا بد أنه يمزح. "الكأس المقدسة؟". أومأ لانغدون موافقاً وعلى وجهه تعبير جدي. "إن الكأس المقدسة هي المعنى الحرفي للسانغريال. وقد ترجع هذه اللفظة إلى اللغة الفرنسية سانغرال - Sangraal - التي تطورت لتصبح سانغريال - Sangreal - والتي تم شطرها أخيراً إلى كلمتين سان غريل - San Greal". الكأس المقدسة. استغربت صوفي كيف أنها لم تلاحظ الرابطة اللغوية على الفور. ومع ذلك لم يكن ادعاء لانغدون منطقياً بالنسبة لها. "لقد كنت أعتقد أن الغريل كان كأساً. والآن أنت تخبرني بأن السانغريال هو مجموعة من الوثائق التي تكشف سراً خطيراً؟". "هذا صحيح، لكن وثائق السانغريال لا تشكل إلا نصف كنز الكأس المقدسة. فهي مدفونة مع الكأس ذاته... وتكشف معناه الحقيقي. لقد منحت الوثائق فرسان الهيكل قوة عظيمة لأنها قد كشفت في صفحاتها طبيعة الكأس الحقيقية". طبيعة الكأس الحقيقية؟ أحست صوفي الآن بالضياع أكثر من قبل. فقد كانت تظن أن الكأس المقدسة هي الكأس التي شرب منها المسيح في العشاء الأخير والتي جمع فيها لاحقاً جوزيف من آريماثيا دم المسيح عندما صلب. "الغريل المقدسة هي كأس المسيح"، قالت صوفي. "كيف يمكن أن يكون الأمر أكثر بساطة من ذلك؟". "صوفي"، همس لانغدون، وقد اقترب منها الآن "وفقاً لأخوية سيون، فإن الكأس المقدسة ليست كأساً على الإطلاق. فهم يزعمون بأن أسطورة الكأس هي في الحقيقة تعد قصة رمزية عبقرية. وفي حقيقة الأمر فإن قصة الغريل تستخدم الكأس كاستعارة تعبر عن شيء آخر، شيء أقوى بكثير.." وتوقف قليلاً عن الكلام. "شيء يتوافق تماماً مع كل ما كان جدك يحاول أن يخبرنا به هذه الليلة، ومن ضمنها الرموز المرتبطة بالأنثى المقدسة". لا زالت صوفي غير مقتنعة بذلك، وشعرت من ابتسامة لانغدون الصبورة أنه تفهم حيرتها لكن نظرته لا زالت جدية. "لكن إذا لم تكن الغريل المقدسة كأساً" سألته صوفي، "فما هي إذن؟". كان لانغدون يعلم بأنها ستسأله هذا السؤال. ومع ذلك فإنه لا زال يشعر بأنه غير متأكد من كيفية شرحه لها بالضبط. فلو أنه لم يقدم لها الإجابة من خلال الخلفية التاريخية الحقيقية، لكان قد أصابها بذهول مفاجئ - وهو التعبير الذي رآه لانغدون مرتسماً على وجه محرره قبل عدة أشهر بعد أن سلّمه لانغدون مسودة الكتاب الذي انتهى من كتابته. "ماذا الذي يقوله هذا الكتاب!؟" كاد المحرر أن يختنق واللقمة في فمه، فوضع شرابه الذي كان في يده جانباً وأخذ يحدق في لانغدون من فوق صحن الطعام أمامه. "لا يمكن أن تكون جاداً". "إنني جاد تماماً إلى حدّ دفعني أن أقوم بالبحث في هذا الموضوع لمدة سنة كاملة". شد المحرر الشهير في نيويورك جوناس فوكمان لحيته الصغيرة بعصبية. فقد كان فوكمان قد سمع دون شك أفكاراً لكتب جريئة وغريبة خلال حياته المهنية اللامعة إلا أنه يبدو أن هذه تركت أثراً صاعقاً على الرجل المسكين. "روبرت"، قال فوكمان أخيراً، "لا تسئ فهمي. أنا أحب أعمالك، وقد كنا منسجمين تماماً لفترة طويلة. 0247x لكنني إذا وافقت على نشر فكرة كهذه، فسأضطر إلى مواجهة حشود غاضبة سترابط على باب مكتبي لعدة أشهر. بالإضافة إلى أن ذلك من شأنه الإساءة إلى سمعتك بشكل كبير. فأنت مؤرخ بارز في هارفرد، حباً بالله، لا مغن شعبي تافه يحاول تحقيق شهرة سريعة. ومن أين لك الحصول على دليل موثوق لدعم نظرية كهذه؟". أخرج لانغدون ورقة من جيب معطفه الصوفي وأعطاها إلى فوكمان وابتسامة هادئة ارتسمت على وجهه. كان على الورقة قائمة مراجع ذكر فيها أكثر من خمسين كتاباً بقلم مؤرخين معروفين بعضهم معاصر والبعض الآخر يعود إلى قرون خلت. والعديد منهم يعد من أهم الأكاديميين. وكل عناوين تلك الكتب طرحت نفس الفكرة التي افترضها لانغدون لتوه. وعندما انتهى فوكمان من قراءة القائمة بالكامل بدا وكأنه اكتشف لتوه أن الأرض في الحقيقة مسطحة. "أنا أعرف بعض هؤلاء المؤلفين. إنهم... مؤرخون حقيقيون!". ابتسم لانغدون ابتسامة عريضة. "كما رأيت جوناس، هذه ليست فرضيتي وحدي فقط. فقد كانت معروفة منذ زمن طويل. لقد اعتمدت ببساطة عليها في البحث. فلم يقم أحد حتى الآن بدراسة أسطورة الكأس المقدسة من وجهة نظر رمزية. والدليل الأيقوني الذي وجدته لدعم هذه النظرية هو... مقنع إلى حدٍّ يفوق الخيال". كان فوكمان لا يزال محدقاً في القائمة. "يا إلهي، لقد ألف أحد هذه الكتب السير لاي تيبينغ، المؤرخ الملكي البريطاني المعروف". "لقد كرس تيبينغ معظم سنيّ حياته لدراسة الكأس المقدسة. لقد التقيت به. وكان في الحقيقة جزءاً كبيراً من إلهامي في هذا البحث. إنه إنسان مؤمن جوناس، هو وكل من في القائمة". "أتريد أن تقول لي إن كل هؤلاء المؤرخين يؤمنون بالفعل أن..." وابتلع فوكمان ريقه، غير قادر على نطق الكلمات. وابتسم لانغدون مرة أخرى. "تعد الكأس المقدسة حسب رأي الكثير من الباحثين أكثر كنز لهث وراءه العالم في تاريخ الإنسانية جمعاء. فقد كانت الكأس قد خلقت أساطير وتسببت بحروب وكانت الضالة المنشودة أبداً. هل من المنطقي برأيك أن تكون الغريل مجرد كأس؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن هناك آثاراً أخرى يجب أن تثير نفس الكم من الاهتمام والبحث مثل إكليل الشوك والصليب الأصلي الذي صلب المسيح عليه والتيتولوس، لكنها بالرغم من ذلك ليست على نفس القدر من الأهمية. وعلى مرّ السنين كانت الكأس المقدسة هي الأغلى والأهم". وابتسم لانغدون من جديد. "والآن عرفت السبب وراء ذلك". كان فوكمان لا زال يهز رأسه. "لكن مع كل هذا الكم من الكتب التي ألفت حول هذه الفرضية لماذا لم تكن معروفة على نطاق أوسع؟". لأن هذه الكتب لا يمكنها منافسة قرون من التاريخ الرسمي وبخاصة إذا كان قد صادق عليه أكثر الكتب مبيعاً في العالم أجمع". توسعت عينا فوكمان بذهول. "لا تقل لي أن قصة هاري بوتر هي عن الكأس المقدسة". "إنما كنت أشير إلى الإنجيل". خجل فوكمان من نفسه. "عرفت ذلك". "دعه من يدك!" شقت صيحة صوفي الصمت داخل السيارة. "ضعه جانباً!". ارتد لانغدون إلى الخلف عندما اقتربت صوفي إلى الأمام وصاحت في وجه السائق. كان بإمكان لانغدون أن يرى السائق متشبثاً بجهاز الإرسال الذي كان يتكلم من خلاله. عندئذ التفتت صوفي ودست يدها في جيب معطف لانغدون. وقبل أن يدرك لانغدون ما الذي جرى للتو كانت قد سحبت المسدس ولقمته ثم وضعته في رأس السائق من الخلف. رمى عندها السائق جهاز الإرسال من يده في الحال ورفع اليد الحرة الأخرى فوق رأسه. "صوفي!" صرخ لانغدون. "ما الذي -؟!". "توقف حالاً!" أمرت صوفي السائق. انصاع السائق لأمر صوفي وهو يرتعد خوفاً وأوقف السيارة. وفي تلك اللحظة فقط سمع لانغدون صوت عامل الاستقبال في شركة النقل آتياً من جهاز الإرسال في لوحة مفاتيح السيارة. "... اسمها العميلة صوفي نوفو..." طقطق الصوت من الراديو. "وأمريكي يدعى روبرت لانغدون...". وتجمد الدم في عروق لانغدون. هل عثروا علينا؟ "انزل" صاحت به صوفي. أبقى السائق الذي كان يرتجف رعباً ذراعيه فوق رأسه وهو ينزل من سيارته وخطا بضع خطوات إلى الخلف. كانت صوفي قد فتحت شباكها وصوبت المسدس نحو السائق المذهول. "روبرت" قالت بهدوء. "أمسك بالمقود فأنت ستقود السيارة الآن". لم يكن لانغدون ليجادل امرأة تحمل في يدها مسدساً. فترجل من السيارة ثم قفز إلى مقعد السائق وجلس وراء المقود. كان السائق يطلق اللعنات وذراعاه لا زالتا فوق رأسه. "روبرت" قالت صوفي من المقعد الخلفي، "أعتقد أنك رأيت ما يكفي من غابتنا الساحرة". أومأ لانغدون... أكثر من اللازم. "حسناً إذن دعنا نذهب بعيداً من هنا". نظر لانغدون إلى جهاز القيادة وتردد قليلاً. اللعنة. حاول إيجاد ناقل الحركة ودواسة الدوبرياج. "صوفي؟ ربما يمكنك -". "انطلق!" صاحت به. وفي الخارج كانت بعض المومسات يقتربن من السيارة ليروا ما يحدث. وكانت إحداهن تقوم باتصال من هاتفها النقال. داس لانغدون على دواسة الدوبرياج ثم دفع بناقل الحركة بخشونة إلى الوضع الذي تمنى أن يكون هو الوضع الأول الصحيح. ثم لمس بقدمه دواسة البنزين ليجربها. دفع لانغدون ناقل الحركة بعنف ودوى أنين إطارات السيارة في الفضاء وهي تثب فجأة نحو الأمام. وأخذت السيارة تترنح ذات اليمين وذات الشمال فانفض الحشد من حولها هرباً ووثبت المرأة التي كانت تحمل هاتفاً نقالاً وفرت نحو الغابات وقد نجت من الموت دهساً تحت عجلات السيارة. "تمهل!" قالت صوفي بينما كانت السيارة تترنح على الطريق. "يا إلهي! ماذا تفعل؟!". "حاولت أن أحذرك"، صاح لانغدون رافعاً صوته ليصبح أعلى من صرير المسننات في محرك السيارة. "فأنا أقود سيارة أتوماتيك!". الفصل التاسع والثلاثون بالرغم من أن الغرفة البسيطة في البيت الذي يقع في شارع لابرويير كانت قد شهدت الكثير من المعاناة والعذاب إلا أن سيلاس كان يشك في وجود أي ألم في هذه الحياة يضاهي الكرب الذي سيطر على جسده الشاحب. لقد خدعت. ضاع كل شيء. لقد احتالوا على سيلاس.. ومات أعضاء الأخوية وقد فضلوا الموت على أن يكشفوا حقيقة سرّهم. لم يكن سيلاس قادراً على الاتصال بالأستاذ. فهو لم يقتل الأشخاص الأربعة الوحيدين الذين كانوا يعرفون مخبأ مفتاح العقد فحسب، بل قتل راهبة في كنيسة سان سولبيس أيضاً. كانت تقوم بأعمال ضد الرب! وقد استهزأت بعمل أوبوس داي! كانت تلك جريمة غضب، جريمة متهورة.. وقد زاد موت المرأة الأمور تعقيداً. فالقس أرينغاروزا هو الذي كان قد قام بالاتصال الذي مكن سيلاس من الدخول إلى سان سولبيس ماذا سيفكر الأب عندما يعلم بمقتل الراهبة؟ بالرغم من أن سيلاس قام بوضعها في سريرها بعد أن قتلها، إلا أن الجرح في رأسها كان واضحاً. كما أن سيلاس حاول أن يعيد البلاطات المحطمة إلى مكانها إلا أن الضرر الذي أصابها كان واضحاً للعيان أيضاً وسيعلمون بالتأكيد أن أحداً ما كان هناك. كان سيلاس قد خطط أن يختبئ في أحد مقرات أوبوس داي حال انتهاء مهمته هنا. سيحميني القس أرينغاروزا. لم يكن سيلاس يتخيل مكاناً أكثر روحانية وبركة من حياة التأمل والصلاة داخل أسوار مقر أوبوس داي الرئيسي في نيويورك. لن يخطو خارج ذلك المكان مرة أخرى في حياته. كان كل ما يحتاج إليه متوفر في ذلك الحرم. لن يفتقدني أحد. ولسوء الحظ، كان سيلاس يعلم أن شخصية بارزة مثل القس أرينغاروزا لا يمكنها الاختفاء بهذه السهولة. لقد عرّضت القس للخطر. حدّق سيلاس بشرود في أرضية الغرفة وفكر ملياً بالانتحار. ففي الحقيقة كان أرينغاروزا هو من أعاد إليه الحياة أصلاً... هناك في تلك الكنيسة الصغيرة في إسبانيا، حيث علمه وهذب طباعه ومنحه هدفاً لحياته. "صديقي"، قال له أرينغاروزا يوماً، "لقد ولدت أبرصَ. لا تدع الآخرين يصمونك بالعار لهذا السبب ألا تعلم كم يجعلك هذا مميزاً عن الآخرين؟ ألا تعرف أن نوح نفسه كان أبرصَ؟". "النبي نوح؟" لم يسمع سيلاس بذلك أبداً. وابتسم أرينغاروزا عندئذ. "نعم، سيدنا نوح ذاته صاحب السفينة. كان أبرصَ مثلك تماماً. كان يتمتع ببشرة بيضاء كالملائكة. خذ ما سأقوله لك الآن بعين الاعتبار. لقد أنقذ نوح كل من في الأرض. وأنت أيضاً سيلاس، قدرك أن تقوم بأشياء عظيمة. فقد حررك الرب لغاية ما. لديك مهمة ستقوم بها. إن الرب بحاجة إلى مساعدتك لتنفذ تعاليمه وتقوم بعمله في الأرض". ومع مرور الوقت، تعلم سيلاس أن يرى نفسه بصورة جديدة تماماً. أنا صاف.. أبيض.. جميل كالملائكة. لكن في تلك اللحظة حيث كان في غرفته في سكن أوبوس داي، أخذ صوت أبيه الخائب الرجاء يهمس في أذنه من الماضي البعيد. أنت مصيبة... أنت شبح.. عندئذ، ركع سيلاس على الأرضية الخشبية وتوسل الرب أن يغفر له، ثم خلع ثوبه وراح يجلد جسده بالسوط من جديد. الفصل الأربعون تمكن لانغدون بعد صراع عنيف مع ناقل الحركة من أن يحتال على سيارة الأجرة المخطوفة ويصل بها إلى نهاية متنزه غابات بولوني حيث لم يتوقف معه المحرك عن الدوران إلا مرتين فقط. لكن صوت عامل الهاتف في شركة النقل الذي كان ينادي السائق باستمرار عبر جهاز الإرسال طغى على سخرية الموقف الذي أثارته قيادة لانغدون المضحكة. "السيارة رقم خمسة - ستة - ثلاثة. أين أنت؟ أجب!". وعندما وصل لانغدون إلى مخرج المتنزه، تخلى عن كبريائه الرجولي وضغط على المكابح بقوة. "من الأفضل أن تقودي أنت". بدا الارتياح على صوفي وهي تقفز إلى مقعد السائق وتجلس خلف المقود. وخلال ثوان كانت السيارة تهمهم بسلاسة متجهة نحو الغرب بمحاذاة آليه دولونشان تاركة وراءها حديقة الملذات الدنيوية. "في أي اتجاه يقع شارع آكسو؟" سأل لانغدون وهو يراقب عداد السرعة التي كانت تزيد على مائة كيلومتر في الساعة. ظلت صوفي مركزة على الطريق أمامها. "قال السائق إنه يقع بالقرب من ملعب تنس رولان غاروس. وأنا أعرف تلك المنطقة". أخرج لانغدون المفتاح الثقيل من جيبه ثانية شاعراً بثقل وزنه في راحة يده. فأحس بأنه كان شيئاً ذا أهمية عظيمة والذي قد يكون مفتاح حريته أيضاً. أدرك لانغدون قبل قليل عندما كان يحدث صوفي عن فرسان الهيكل أن هذا المفتاح كان يمتلك شيئاً يربطه بأخوية سيون بطريقة ذكية بالإضافة إلى أنه كان يحمل نقشاً يمثل شعار الأخوية. كان الصليب المتساوي الذراعين رمزاً للتوازن والانسجام إلا أنه كان يعود أيضاً إلى فرسان الهيكل. فقد رأى الجميع لوحات تصور فرسان الهيكل بأثوابهم البيضاء الطويلة تزينها صلبان حمراء متساوية الذراعين. صحيح أن أذرع صلبان فرسان الهيكل كانت متسعة قليلاً نحو الخارج بشكل بوق غير أنها كانت في النهاية متساوية في الطول. صليب مربع... تماماً كالصليب في هذا المفتاح. شعر لانغدون أن خياله قد بدأ يشت بعيداً حيث أخذ يتصور ما قد يجدانه هناك. الكأس المقدسة؟ كان على وشك أن يضحك بصوتٍ عالٍ من سخافة تلك الفكرة. كان يعتقد أن الغريل موجود في مكان ما في إنجلترا مدفون في حجرة سرية تحت إحدى كنائس فرسان الهيكل العديدة حيث خبئ منذ العام 1500م على أقل تقدير. حقبة المعلم الكبير دافنشي. وقد اضطر أعضاء الأخوية إلى تغيير مكان وثائقهم السرّية الهامة مرات عديدة في القرون الأولى وذلك لكي يحفظوها في أمان. ويقدر المؤرخون اليوم بأنه قد تم تغيير مكانها ست مرات منذ أن نقلت من القدس إلى أوروبا. وكانت آخر "مشاهدة" للغريل عام 1447م عندما وصف عدة شهود عيان حريقاً اندلع وكاد يلتهم الوثائق قبل أن يتم نقلها إلى برّ الأمان في صناديق كبيرة تطلب حمل كل منها ستة رجال أقوياء. وبعد تلك الحادثة لم يزعم أي أحد أنه رأى الغريل مرة أخرى أبداً. وكل ما تبقى هو إشاعات كانت تنطلق بين الحين والآخر تفيد بأن الغريل مخبأ في مكان ما في بريطانيا العظمى موطن الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة. وأينما خبئ الغريل بقيت هناك حقيقتان هامتان لا يمكن لأحد أن ينكرهما: أن ليوناردو دافنشي كان يعلم طوال حياته أين خبئ الغريل. وأن ذلك المخبأ السرّي قد يكون هو ذاته لم يتغير منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا. ولهذا السبب لا زال أنصار الغريل والمتحمسون لهذه القضية يتأملون حتى اليوم أعمال دافنشي ومذكراته علّهم يعثرون على دليل خفي يرشدهم إلى موقع الغريل الحالي. البعض منهم يدّعي أن الخلفية الصخرية في لوحة مادونا أوف ذا روكس "سيدة الصخور" تطابق طبوغرافية مجموعة من الهضاب الصخرية ذات الكهوف في سكوتلاندة. أما البعض الآخر فيصر أن الترتيب الغريب للحواريين في لوحة العشاء الأخير كان مفتاح شيفرة ما. ويزعم البعض أن تصويراً بأشعة إكس للوحة الموناليزا كشف أنها كانت قد رسمت في الأصل وعلى عنقها قلادة من اللازورد تصور إيزيس – وهو أحد التفاصيل التي يشاع أن دافنشي قد قرر لاحقاً أن يرسم فوقها. إلا أن لانغدون لم يرَ أي دليل على تلك القلادة المزعومة ولم يستطع لانغدون أن يتصور كيف يمكنها أن تكشف مخبأ الغريل. إلا أن المولعين بأمر الغريل لا ينفكون يناقشون ذلك مراراً وتكراراً عبر نشرات الإنترنت الدورية وفي غرف المحادثة على الشبكة العنكبوتية العالمية. فكل الناس يحبون ربط كل شيء بنظرية المؤامرة. وتوالت المؤامرات التي كان آخرها على الساحة الاكتشاف المدوي الذي قال إن لوحة دافنشي الشهيرة "عبادة المجوس" كانت تخفي في طياتها سراً غامضاً. فقد كشف خبير الفن الإيطالي ماوريتزيو سيراتشيني تلك الحقيقة المزعومة والتي أبرزتها مجلة نيويورك تايمز وسلطت الضوء عليها في قصة عنوانها "مؤامرة دافنشي". فقد كشف سيراتشيني بشكل لا يقبل الشك أنه على الرغم من أن الخلفية الرمادية المائلة إلى الأخضر للوحة العبادة كانت بالفعل قد رسمت بيد دافنشي إلا أن اللوحة نفسها لم تكن كذلك. فالحقيقة هي أن رساماً مجهولاً قد أكمل لوحة دافنشي بطريقة الرسم بالأرقام بعد سنوات عديدة من موت دافنشي. لكن الأكثر غرابة في الأمر هو ما قد خفي وراء لوحة الرسام المحتال. فقد أظهرت الصور التي أخذت بواسطة الأشعة تحت الحمراء وأشعة إكس أن هذا الرسام المحتال وبينما كان يكمل لوحة دافنشي الأولية انطلق من نقاط غامضة في الرسم المبدئي... كما لو أنه أراد أن يخرب عمداً المقصد الحقيقي لدافنشي والفكرة التي أراد إيصالها إلى الناس من خلال هذه اللوحة. ولكن مهما كانت الحقيقة التي تخفيها لوحة دافنشي الأولية كان لا بد من إعلانها على الملأ كي يعرف الناس بذلك. غير أن موظفي صالة عرض أوفيتزي في فلورنسا الذين أصيبوا بالإحراج من هذا الاكتشاف، قاموا بالتخلص من هذه اللوحة في الحال برميها في مستودع في الجانب الآخر من الشارع. ويجد الزائر اليوم في قاعة دافنشي في صالة العرض تلك مكان لوحة عبادة المجوس، لوحة معدنية مضللة ومخزية حملت الكتابة التالية: هذا العمل يخضع لاختبارات تشخيصية تحضيراً لترميمه ويبقى ليوناردو دافنشي اللغز الأعظم في العالم المحظور للباحثين المعاصرين عن الغريل. حيث أن أعمال دافنشي كانت تبدو دائما وكأنها تنضح بالأسرار التي ظلت مخفية ترفض أن تنطق وتبوح بحقيقتها التي ربما كانت تختبئ تحت طبقة من الألوان أو بشكل شيفرة دست في مشهد عادي أو حتى لم تكن ثمة أسرار أصلاً. وربما تكون مجموعة دافنشي من مفاتيح الألغاز المحيرة ليست سوى وعد فارغ تركه وراءه ليغيظ الفضوليين ويرسم سخرية على وجه موناليزته الحكيمة. "هل من المعقول.." سألت صوفي وقد أعادت لانغدون من شروده، "أن يكون المفتاح الذي تحمله 0257x هو مفتاح مخبأ الكأس المقدسة؟". بدت ضحكة لانغدون مفتعلة حتى هو شعر بذلك.. "في الحقيقة لا يمكنني أن أتصور ذلك. وعلاوة على ذلك فإنه يعتقد أن الغريل مخبأ في مكان ما في المملكة المتحدة وليس في فرنسا" وقدم لها تلك النبذة التاريخية السريعة. "لكن يبدو أن الغريل هو الاستنتاج المعقول الوحيد" أصرت صوفي. "فلدينا هنا مفتاحٌ محكم تماماً مزود بنقش يحمل خاتم أخوية سيون سلمه لنا أحد أعضاء أخوية سيون، الأخوية التي أخبرتني لتوك بأنها حامية الغريل المقدس". كان لانغدون يعلم أن رأيها منطقي جداً غير أن عقله لم يستطع أن يتقبل ذلك. وقد أفادت الشائعات أن الأخوية قد أقسمت بأن تعيد الغريل يوماً ما إلى مثواه الأخير في فرنسا، لكن لا يوجد حتماً أي دليل تاريخي يثبت أن هذا ما قد حدث بالفعل. وحتى وإن كانت الأخوية قد تمكنت من إعادة الغريل إلى فرنسا فإن العنوان 24 شارع آكسو بالقرب من ملعب تنس كان أبعد ما يكون عن مخبأ سري لشيء نبيل وثمين كهذا. "حقيقةً صوفي، لا أعتقد أن يكون لهذا المفتاح أي علاقة بالغريل". "وذلك لأنه يفترض أن يكون الغريل في إنجلترا؟". "ليس لهذا السبب فقط، بل لأن موقع الكأس المقدسة هو أحد أكثر الأسرار حفظاً في تاريخ الإنسانية. لذا فإن أعضاء الأخوية ينتظرون عقوداً وهم يثبتون أنهم أهل للثقة قبل أن يتم ترفيعهم إلى أعلى الرتب التي وضعتها الأخوية ليعرفوا مكان الغريل. وهذا السرّ محمي بواسطة نظام معقد من المعرفة المقسمة إلى أجزاء مستقلة بذاتها وعلى الرغم من أن عدد أعضاء الأخوية ضخم جداً إلا أن أربعة منهم فقط هم الذين يعرفون المكان الذي خبئ فيه الغريل وهم المعلم الكبير وأتباعه الثلاثة. واحتمال أن يكون جدك أحد أولئك الأربعة الكبار هو احتمال ضعيف جداً. كان جدي واحداً منهم، فكرت صوفي وهي تضغط بقوة على دواسة البنزين. فقد كانت هناك صورة مطبوعة في ذاكرتها تؤكد مكانة جدها داخل الأخوية... صورة تدحض كل الشكوك. "وحتى لو كان جدك يحتل المرتبة الأعلى فلن يسمح له على الإطلاق أن يفصح عن أي شيء لأي أحد خارج الأخوية. فمن غير المنطقي أن يأتي بك إلى الدائرة الداخلية". إنني أصلاً في الداخل، فكرت صوفي وهي تستعيد بذاكرتها صورة ذلك الطقس في القبو. وتساءلت فيما إذا ما كان هذا هو الوقت المناسب لتخبر لانغدون عما كانت قد شهدته تلك الليلة في قصر نورماندي. فقد منعها مجرد الخجل الذي أحست به عندئذ من أن تبوح بما رأته لأي إنسان. ومجرد التفكير به الآن اقشعر بدنها. دوى صوت صفارات سيارات الشرطة في مكان ما من بعيد. أحست بأن الإرهاق الشديد يلقي بثقله عليها. "هناك!" قال لانغدون وهو يشعر بحماس حيث وقع نظره على المجمع الضخم الذي كان يضم ملعب رولان غاروس للتنس إلى الأمام منهم. شقت صوفي طريقها نحو الملعب. وبعد عدة محاولات تمكنا من تحديد التقاطع الذي يقع عنده شارع آكسو ثم انعطفوا في اتجاهه، وذهبوا باتجاه أرقام الأبنية ذات الأرقام الأدنى وأصبح الشارع يأخذ شكلاً صناعياً أكثر فقد كان الشارع يعج بالأعمال والأشغال. يجب أن نصل إلى الرقم 24، قال لانغدون لنفسه. مدركاً أنه كان في سره يبحث في الأفق عن أبراج كنيسة ما. لا تكن سخيفاً. هل تتوقع أن تجد كنيسة تعود إلى فرسان الهيكل هنا في حي كهذا؟ "ها هو" قالت صوفي وقد أشارت بيدها نحو الأمام. فنظر لانغدون إلى البناء الذي كان هناك. يا إلهي! هل يعقل هذا؟! كان البناء حديثاً. يبدو كقلعة منخفضة ينير واجهته ضوء النيون بشكل صليب متساوي الأذرع. وتحت الصليب كتبت الكلمات التالية: بنك زيوريخ للودائع كان لانغدون سعيداً لأنه لم يطلع صوفي على أمله في العثور على كنيسة لفرسان الهيكل. كانت إحدى مساوئ مهنة عالم الرموز هي المحاولة الدائمة لاستخلاص معانٍ خفية من مواقف بسيطة لا تحمل في طياتها أي غموض. وفي هذه الحالة كان الأمر كذلك فقد نسي لانغدون تماماً في غمرة حماسه أن الصليب المسالم المتساوي الأذرع كانت سويسرا قد تبنته كرمز مناسب لعلمها كدولة حيادية. على الأقل تم حل اللغز. كان صوفي ولانغدون يحملان مفتاحاً لخزنة في بنك سويسري. الفصل الواحد والأربعون تدفق تيار الهواء الجبلي البارد خارج قلعة غاندولفو قادماً من قمة المنحدر الصخري وعبر الجرف العالي. فشعر القس أرينغاروزا بقشعريرة تسري في جسده وهو يترجل من الفيات. كان يجب أن أرتدي شيئاً يبعث على الدفء أكثر من هذا الرداء. فكر أرينغاروزا، وهو يقاوم تلك الرعشة. فآخر ما يحتاجه هو أن يبدو هذه الليلة خائفاً أو ضعيفاً. كانت القلعة مظلمة تماماً في ما عدا النوافذ الموجودة في قمة البناء التي كانت مضيئة بشكل مثير للقلق. المكتبة.. فكر أرينغاروزا. إنهم مستيقظون في انتظاري. أحنى رأسه في مواجهة الرياح وتابع سيره دون حتى أن يلقي نظرة نحو قباب المرصد. كان القس الذي استقبله يبدو نعساناً. وكان هو نفس الكاهن الذي استقبله هنا منذ خمسة أشهر. إلا أن هذه المرة كان استقباله بارداً للغاية. "لقد قلقنا عليك، حضرة القس"، قال الكاهن وهو ينظر إلى ساعته ويبدو عليه الانزعاج أكثر من القلق. "أقدم اعتذاري. ففي هذه الأيام لا يمكن الوثوق بمواعيد الطائرات على الإطلاق". تمتم الكاهن عندئذ بكلام غير مسموع ثم قال: "إنهم في انتظارك في الأعلى. سأرافقك إلى هناك". كانت المكتبة غرفة واسعة مربعة الشكل ذات كسوة خشبية تمتد من الأرضية وحتى السقف. وعلى جميع الجدران عجت الرفوف العالية بالمجلدات. كانت الأرضية من الرخام ذي اللون الكهرماني المقلم بالبازلت الأسود. وهو تذكير أنيق بأن هذا البناء كان في يوم من الأيام قصراً منيفاً. "أهلا بك أيها القس" قال رجل يجلس في الطرف الآخر من الغرفة. حاول أرينغاروزا أن يرى من الذي كان يتكلم لكن الأضواء كانت خافتة بشكل كبير، أخفت بكثير مما كانت عليه في زيارته الأولى، عندما كان كل ما في الغرفة يشتعل غضباً... ليلة اليقظة الكاملة. أما الليلة فكان أولئك الرجال جالسين في العتمة كما لو أنهم خجلون نوعاً ما مما كان على وشك الحدوث. دخل أرينغاروزا على مهله بمشية ملكية. واستطاع أن يرى خيال ثلاثة رجال يجلسون على طاولة طويلة في الجانب البعيد من الغرفة. وتمكن في الحال من التعرف على شكل الرجل الجالس في الوسط، وهو أمين سرّ الفاتيكان المسؤول عن كافة الشؤون القانونية داخل أسوار مدينة الفاتيكان. أما الاثنان الآخران فكانا كاردينالين إيطاليين ذوي رتبة عالية. عبر أرينغاروزا المكتبة واتجه نحوهم. "أرجو أن تقبلوا اعتذاري على الساعة التي تأخرتها. فنحن كما تعلمون في منطقتين على اختلاف كبير في التوقيت. لا شك أنكم متعبون". "كلا أبداً" قال أمين سرّ الفاتيكان وقد شبك يديه على كرشه الضخم. "نحن ممتنون أنك قد قطعت شوطاً كبيراً على طريق تحقيق المهمة، وأقل ما يمكننا فعله هو أن نبقى مستيقظين للقائك. هل نقدم لك فنجاناً من القهوة أو المرطبات؟" "أفضل ألا ندّعي بأن هذه زيارة اجتماعية. فعليّ أن ألحق موعد الطائرة القادمة. دعونا ندخل في صلب موضوع العمل". "بالطبع، كما تريد". قال أمين السرّ. "لقد بدأت بالعمل بسرعة أكثر مما تخيلنا". "أتعتقد ذلك؟". "لا زال أمامك شهر كامل". "لقد أبديتم اهتمامكم البالغ بهذا الموضوع منذ خمسة أشهر" قال أرينغاروزا "فلم الانتظار؟". "هذا صحيح ونحن في غاية السرور من طريقة معالجتك للموضوع". طارت عينا أرينغاروزا إلى الطرف البعيد من الطاولة حيث كانت هناك حقيبة جلدية سوداء. "هل هذا هو ما طلبته؟". "نعم" بدا الرجل وكأنه مضطرب. "غير أنني عليّ أن أعترف أننا قلقون من هذا الطلب فهو يبدو...". "خطراً"، أكمل الجملة أحد الكرادلة. "أمتأكد أنت من أنه لا يمكننا تحويل هذا المبلغ إلى حسابك في مكان ما؟ فالمبلغ مهول كما تعلم". إن الحرية غالية الثمن. "أنا لست خائفاً على نفسي فالرب معي". بدا الرجال متشككين مما يقوله. "هل المبلغ هو ما طلبته بالتحديد؟". أومأ الرجل برأسه. "سندات مالية ذات فئات كبيرة تصرف لحاملها مسحوبة على بنك الفاتيكان تعامل على أنها نقود في أي مكان في العالم". مشى أرينغاروزا نحو آخر الطاولة وفتح الحقيبة. التي احتوت على كدستين سميكتين من الصكوك تصرف قيمتها لأي شخص يحملها". بدا أمين السرّ متوتراً "عليّ أن أعترف أيها القس أننا قد نكون أقل قلقاً لو أنك طلبت نقوداً بدل السندات". لا يمكنني أن أحمل كل تلك الكمية من المال، فكر أرينغاروزا وهو يقفل الحقيبة. "إن السندات تعامل معاملة النقود تماماً، لقد قلت ذلك بنفسك". تبادل الكرادلة نظرة توحي بعدم الارتياح وأخيراً قال أحدهم: "نعم هذا صحيح لكن المشكلة أن هذه السندات يمكن تعقبها ومعرفة مصدرها الأساسي وهو بنك الفاتيكان". ابتسم أرينغاروزا في سره. فهذا هو السبب بالضبط الذي حدا بالمعلم بأن يقترح على أرينغاروزا أن يطلب ذلك المبلغ بشكل سندات مسحوبة على بنك الفاتيكان لأن ذلك يمكنه أن يكون ضماناً لهما. نحن جميعاً متورطون في هذه القضية الآن. "إنه إجراء قانوني لا غبار عليه"، انبرى أرينغاروزا مدافعاً. "فأوبوس داي جزء لا يتجزأ من مدينة الفاتيكان ويمكن لقداسته أن يصرف المال عليها بالطريقة التي يراها مناسبة. لا يوجد هناك أي قانون يمنعه من ذلك". "هذا صحيح ولكن..." اقترب أمين السرّ إلى الأمام فصرّ الكرسي من تحته ينوء بحمله الثقيل. "نحن لا نعرف ما الذي تنوي فعله بهذا المبلغ لكن إذا كان مخالفاً للقانون بأي شكل من الأشكال...". "نظراً إلى ما طلبتموه مني"، رد عليه أرينغاروزا، "ما سوف أفعله بهذا المال هو أمر لا يعنيكم أبداً". ساد الغرفة صمت طويل. إنهم يعلمون أنني على حق، فكر أرينغاروزا. "والآن أعتقد أن لديكم أوراقاً عليّ أن أوقعها؟". قفز الجميع من مكانهم يدفعون بالأوراق بحماس نحوه وكأنهم يودون لو أنه يرحل عنهم في أسرع وقت ممكن. حدق أرينغاروزا في الورقة التي أمامه. كانت تحمل الخاتم البابوي. "هل هذه هي النسخة مطابقة للنسخة التي أرسلتموها إلي؟". "نفسها بالضبط". كان أرينغاروزا مستغرباً لأنه لم يشعر بأي شيء وهو يوقع الوثيقة بعكس الرجال الثلاثة الحاضرين الذين تنهدوا بارتياح. "شكراً لك"، قال أمين السرّ، "لن تنسى الكنيسة أبداً هذه الخدمة التي قدمتها لها". حمل أرينغاروزا الحقيبة وهو مفعم بالأمل والإحساس بالسلطة التي مدته بها الحقيبة. نظر كل واحد من الرجال الأربعة إلى الآخر للحظات وكأنهم كانوا يريدون أن يقولوا شيئاً ما بعد، لكن يبدو أنه لم يبقَ هناك كلام يقال. فاستدار أرينغاروزا ومشى نحو الباب. "أيها القس!" ناداه أحد الكاردينالات عندما وصل أرينغاروزا إلى عتبة الباب. فتوقف والتفت إلى الوراء. "نعم؟". "إلى أين ستذهب بعد أن تخرج من هنا؟". أحس أرينغاروزا بأن هذا السؤال كان روحانياً أكثر من كونه جغرافياً ومع ذلك لم يكن في نيته أن يناقش موضوع الأخلاق في هذه الساعة من الليل. "إلى باريس"، أجابه ثم خرج مباشرة. الفصل الثاني والأربعون كان بنك زيوريخ للودائع يعد خزينة للذهب متوفرة على مدار الأربع والعشرين ساعة بحيث يقدم عدداً كبيراً من الخدمات العصرية المتكاملة للأشخاص دون الحاجة بهم إلى التعريف عن أسمائهم بطريقة مماثلة للحسابات السويسرية التي تعتمد على الأرقام. وقد افتتح البنك مكاتب جديدة في زيوريخ وكوالا لمبور ونيويورك وباريس موسعاً ومطوراً خدماته في السنوات الأخيرة لتشمل خدمات عهود تنفيذ مشفرة تتم عن طريق الكومبيوتر ودعماً رقمياً بعيداً عن الهويات والأسماء. وكان أساس تلك الخدمات هو نفس الطريقة القديمة والبسيطة التي تتلخص في خدمات "إسدال الستار" والمعروفة أيضاً بخزائن الودائع المغفلة. بحيث يمكن للعملاء الذين يودون إيداع أي شيء سواء كان ذلك سندات أمانة أو لوحات ثمينة، أن يودعوا مقتنياتهم تلك دون أن يعلنوا عن شخصيتهم وذلك بواسطة مجموعة من أنظمة السرّية ذات التقنية العالية التي تمكنهم بسحب أي شيء قاموا بإيداعه متى شاؤوا ودون التعريف بأنفسهم أيضاً. وعندما أوقفت صوفي سيارة الأجرة مقابل البنك أخذ لانغدون يحدق في هندسة البناء التي تتسم بالقسوة وأحس أن بنك زيوريخ للودائع كان صارماً لكنه يتمتع بقدر قليل من حس الفكاهة. فقد كان البناء بشكل مستطيل خالٍ تماماً من النوافذ وكأنه قد صب بأكمله من الفولاذ المعتم. وقد انتصب بعيداً عن الشارع يضيء واجهته نيون بشكل صليب متساوي الأضلاع بارتفاع خمسة عشر قدماً مما جعله يبدو كمستطيل معدني هائل. إن سمعة سويسرا في السرّية البنكية قد أصبحت أحد أهم صادرات هذه الدولة. كما أن هذه التسهيلات قد أصبحت مثيرة للجدل في الأوساط الفنية حيث إنها كانت توفر المكان الأمثل للصوص الأعمال والتحف الفنية لإخفاء مسروقاتهم ولعدة سنوات حتى تهدأ الضجة حول العمل المسروق. وبما أن الودائع كانت في مأمن من تفتيش الشرطة وذلك وفقاً لقوانين السرّية البنكية إضافة إلى كونها مرفقة بأرقام حسابات لا بأسماء أشخاص، لذا كان بإمكان اللصوص أن يطمئنوا تماماً لعلمهم أن بضائعهم المسروقة كانت في أمان ولا يمكن تعقبهم من خلالها أبداً. أوقفت صوفي سيارة الأجرة عند بوابة كبيرة تسد الطريق المؤدي إلى مدخل البنك الذي كان ذا حاجز إسمنتي ينزل تحت البناء. وكانت هناك كاميرا مراقبة موجهة مباشرة نحوهم وكان إحساس لانغدون ينبئه بأن هذه كانت حقيقية بعكس تلك الموجودة في اللوفر. أنزلت صوفي الشباك ودققت النظر في الجدار المنخفض ذي اللوحة الإلكترونية الموجودة في جهة مقعد السائق وهناك كانت شاشة الكريستال السائل التي احتوت على تعليمات مفسرة بسبع لغات على رأسها الإنجليزية. أدخل المفتاح فأخذت صوفي المفتاح الذهبي ذا الأثلام الليزرية من جيبها ثم عادت لتركز انتباهها على الجدار فوجدت ثقباً مثلث الشكل تحت الشاشة تماماً. "إن حدسي ينبئني بأن المفتاح سيتوافق مع هذا الثقب" قال لانغدون. فرفعت صوفي المفتاح إلى مستوى الثقب المثلثي وأدخلته فيه وزلقته نحو الداخل حتى اختفى عموده بالكامل. يبدو أنه لا حاجة لإدارة المفتاح في الثقب. وفي الحال بدأت البوابة تفتح. فرفعت صوفي قدمها عن دواسة الفرامل وتركت السيارة تنزل ببطء فوصلت إلى بوابة ثانية وجدار آخر. عندئذ أغلقت البوابة الأولى واحتجزتهما كفأرين في مصيدة. كره لانغدون ذلك الشعور بأنه محتجز ضمن هذه المسافة الضيقة. لنأمل أن تفتح هذه البوابة أيضاً. وحملت اللوحة الثانية التعليمات المألوفة ذاتها. أدخل المفتاح وحالما أدخلت صوفي المفتاح، فتحت البوابة الثانية مباشرة. وبعد عدة لحظات تجاوزا الحاجز واتجها نحو الأسفل وأصبحا داخل المبنى. كان المرآب الخصوصي صغيراً ومعتماً يتسع اثنتي عشرة سيارة على وجه التقريب. وفي الجانب الآخر بعيداً لمح لانغدون المدخل الرئيس للبناء. وقد مدت سجادة حمراء على الأرضية الإسمنتية ترحب بالزوار وتقودهم إلى باب كبير يبدو وكأنه قد صب من معدن قاس. تلميحات مختلطة...، فكر لانغدون، مرحباً بكم وانصرفوا من هنا. أوقفت صوفي سيارة الأجرة في موقف قريب من المدخل الرئيس وأطفأت المحرك. "من الأفضل أن تترك المسدس هنا". بكل سرور، فكر لانغدون وأخفى المسدس تحت المقعد. ترجل لانغدون وصوفي من السيارة ومشيا على السجادة الحمراء باتجاه الباب الفولاذي. كان الباب غير مزود بمقبض لكن كان هناك ثقب آخر مثلث الشكل على الحائط بجانب الباب ولم تكن ثمة لوحة تعليمات هذه المرة. "ذلك من شأنه أن يبعد بطيئي الاستيعاب" قال لانغدون. ضحكت صوفي وقد بدا عليها التوتر. "لقد اقتربنا من غايتنا" وأدخلت المفتاح في الثقب ففتح الباب 0268x من الأمام وصدرت عنه همهمة خافتة. تبادل لانغدون وصوفي النظرات ثم دخلا. أغلق الباب وراءهما مصدراً صوتاً مكتوماً. كان بهو بنك زيوريخ للودائع يتمتع بأفخم ديكور رآه لانغدون في حياته. فبينما اكتفت معظم البنوك بالرخام اللماع والغرانيت الذي جرت العادة على استخدامه، آثر مصمم هذا البنك النمط المعدني الذي يطغى على كل شيء في ديكوره. من الذي نفذ هذه التصميمات؟ تساءل لانغدون. اتحاد الفولاذ العالمي؟ بدت صوفي متوترة مثله بينما كانت تتفحص المكان بعينيها. كان المعدن الرمادي في كل مكان على الأرضية والجدران والنضد والأبواب حتى المقاعد بدت وكأنها قد شكلت من قوالب من الحديد. وبالرغم من ذلك كله كان الانطباع الذي يتركه المكان مؤثراً. والرسالة شديدة الوضوح... فكان الدخول إلى هذا المكان أشبه بولوج خزينة هائلة. ولمحهما رجل ضخم الجثة يجلس وراء النضد وهما يدخلان فأطفأ التلفاز الصغير الذي كان يشاهده وحياهما بابتسامة لطيفة. وبالرغم من مظهر عضلاته المفتولة والسلاح الواضح على جنبه إلا أن لباقته كانت أشبه بالتهذيب الذي يشتهر به حاملو الأمتعة في الفنادق السويسرية. "مساء الخير" قال بالفرنسية. "كيف يمكنني أن أساعدكم؟" أردف بالإنجليزية. كان أسلوب التحية باللغتين هو آخر ما توصلت إليه اللباقة عند المضيف الأوروبي. فهي لا تفترض معرفته لغة محددة وتفسح المجال للضيف ليجيب بأي لغة يرتاح إليها. لكن صوفي لم تجب بأي من اللغتين. فقد وضعت المفتاح الذهبي ببساطة على النضد أمام الرجل. فنظر الرجل إلى المفتاح وحالما رآه عدّل من وقفته. "حسناً، إن مصعدكما في نهاية القاعة سأعلم أحد المساعدين بقدومكما". أومأت صوفي واستعادت المفتاح. "أي طابق؟". رمقها الرجل بنظرة غريبة. "سيقوم مفتاحك بتوجيه المصعد إلى الطابق المطلوب". فابتسمت."أوه.. نعم بالطبع". راقب الحارس القادمين الجديدين وقد مشيا في طريقهما إلى المصعد ثم ركبا فيه واختفيا؛ وحالما أغلق باب المصعد أمسك الحارس سماعة الهاتف بسرعة. لم يكن ينوي الاتصال بأي أحد ليخطره بوصولهما حيث إنه لم تكن هناك حاجة لذلك. فقد سبق وأعلم بقدومهما المسؤول عن خزنتهما أوتوماتيكياً عندما أدخل العميل المفتاح في الخارج عند بوابة الدخول. إلا أن الحارس كان يتصل بالمدير الليلي للبنك. وعندما رن الهاتف في الطرف الآخر أشعل الحارس التلفاز من جديد وأخذ يحدق فيه. كانت الأخبار التي يشاهدها على وشك أن تنتهي لكن ذلك لم يكن مهماً الآن. ألقى نظرة أخرى على الوجهين اللذين ظهرا على الشاشة. رد المدير. "نعم؟". "أننا نواجه موقفاً محرجاً هنا". "ماذا حدث؟" سأله المدير بقلق. "الشرطة الفرنسية تبحث عن فارين من العدالة هذه الليلة". "وما دخلنا نحن بذلك؟". "لقد دخل الاثنان للتو إلى البنك". أطلق المدير اللعنات بصوت منخفض. "حسناً، سأتصل حالاً بالسيد فيرنيه". عندئذ أقفل الحارس الخط وقام باتصال آخر. هذه المرة اتصل بالإنتربول. كان لانغدون متفاجئاً لشعوره بأن المصعد كان يهبط بسرعة نحو الأسفل بدل أن يصعد إلى الأعلى. لم تكن لديه أي فكرة عن عدد الطوابق التي نزلاها تحت بنك زيوريخ للودائع قبل أن يفتح باب المصعد أخيراً. لم يكن يهمه ذلك على أية حال. المهم أنه قد خرج من المصعد بسلام. كان هناك مضيف يقف في انتظارهما بلباقة مثيرة للإعجاب. كان رجلاً مسناً وعلى قدر عالٍ من اللطف. يرتدي بدلة صوفية أنيقة جعلته يبدو وكأنه لا ينتمي إلى هذا المكان بطريقة غريبة. فهو موظف بنك من العالم القديم في العالم الحديث ذي التقنية العالية. "مساء الخير". قال الرجل بالفرنسية. "عمتم مساء. هلا تبعتماني من فضلكما؟" قال ذلك بالإنجليزية ودون أن ينتظر الرد هرع مسرعاً إلى ممر معدني ضيق. مشى لانغدون مع صوفي عبر مجموعة من الممرات وتجاوزا عدة غرف كبيرة تعج بكومبيوترات كبيرة ذات وميض متقطع. "ها هي!" قال المضيف وقد وصل إلى باب فولاذي وفتحه لهما. "تفضلا بالدخول". دخل لانغدون وصوفي إلى عالم آخر فقد كانت الغرفة الصغيرة أمامهما تبدو كغرفة جلوس غاية في الأناقة في فندق فخم. ولم يكن هناك أي أثر فيها للمعدن الذي تم استبداله بالسجاد الشرقي وأثاث مصنوع من خشب السنديان الغامق وكراسي موسدة. وكان في انتظارهما كأسان من الكريستال وبجانبهما زجاجة بيرييه تفور قد فتحت للتو وآنية قهوة ساخنة إلى جانبها على الطاولة العريضة في منتصف الغرفة. غاية في الدقة... فكر لانغدون، هذا هو بحق الأسلوب السويسري. ارتسمت على وجه الرجل ابتسامة تعاطف مع الدهشة التي بدت عليهما. "يبدو أن هذه زيارتكما الأولى لنا؟". ترددت صوفي ثم أومأت برأسها. "مفهوم... فإن مفاتيح كهذه تورّث ومن يستخدمها للمرة الأولى لا يكون على علم بالبروتوكول المتبع هنا". أشار إلى طاولة المشروبات. "إن هذه الغرفة لكما بإمكانكما استخدامها على راحتكما". "هل قلت أن مفاتيح كهذه تكون ميراثاً أحياناً؟" سألته صوفي. "بالطبع، فمفتاحك هذا كحساب له رقم في بنك سويسري وتلك الحسابات غالباً ما تورث وتتناقلها الأجيال. وفي حساباتنا الذهبية، أقصر مدة لاستئجار صندوق خزينة الودائع هو خمسون سنة تدفع مقدماً. لذا فنحن نرى الكثير من أفراد العائلة يتوالون على صندوق واحد. حدق لانغدون. "هل قلت خمسين سنة؟". "كحدٍّ أدنى". أجاب مضيفهما. "إلا أنه يمكنك طبعاً أن تستأجر الخزينة لمدة أطول بكثير من ذلك. لكن في تلك الحالة يجب اتخاذ تدابير أخرى والأخذ بعين الاعتبار أنه إذا لم تجرِ أي عملية على الحساب لمدة خمسين سنة فيتم التخلص من محتويات الصندوق أوتوماتيكياً. هل أبدأ بالإجراءات التي تمكنكما من الدخول إلى الصندوق الخاص بكما؟". أومأت صوفي إيجاباً. "لو سمحت". رفع المضيف ذراعه وأشار إلى الصالون الفخم. "هذه هي غرفة المعاينة الخاصة بكما وعندما سأخرج من الغرفة يمكنكما إمضاء الوقت الذي تحتاجان إليه هنا لمراجعة وتعديل محتويات صندوق الودائع الخاص بكما الذي سيأتي إلى... هنا" ثم انتقل بهما نحو الجدار البعيد في آخر الغرفة حيث كان هناك حزام ناقلة يدخل الغرفة ملتفاً بلطف ويبدو إلى حدٍّ ما كالحزام الذي تنقل عليه أمتعة المسافرين من الطائرة إلى المطار. "عندئذ تدخل المفتاح في ذلك الثقب هناك...". أشار الرجل إلى لوحة إلكترونية كبيرة مقابل حزام الناقلة. كان على اللوحة بالفعل ثقب مألوف مثلث الشكل. "وعندما يقوم الكومبيوتر بالتأكد من العلامات الموجودة على المفتاح ومطابقتها، تقومان بإدخال رقم الحساب الخاص بكما عندها ستحصلان آلياً على الصندوق الذي يحتوي على الوديعة من الخزينة في الأسفل كي تتمكنا من معاينتها. وعندما تنتهيان من الصندوق، قوما بإعادته إلى حزام الناقلة، وأدخلا المفتاح من جديد وستنعكس العملية. وبما أن كل شيء هنا مؤتمت فستضمنا خصوصية تامة بعيداً حتى عن موظفي هذا البنك. وإذا كنتما بحاجة لأي شيء على الإطلاق اضغطا فقط على زر الاستدعاء الموجود على الطاولة التي تحتل وسط الصالون". كانت صوفي على وشك أن توجه إليه سؤالاً عندما قاطعهم رنين الهاتف. بدا الرجل مستغرباً ومحرجاً. "أستميحكما عذراً"، مشى نحو الهاتف الذي كان على الطاولة بجانب القهوة والبيرييه. "نعم"، أجاب الرجل. غار حاجبه وهو ينصت إلى المتصل. "نعم... نعم... حسناً". أغلق الخط ونظر إليهما بانزعاج وتكلف الابتسام. "أنا آسف لكن عليّ أن أترككما الآن. تصرفا كأنكما في المنزل". وذهب بسرعة نحو الباب. "لو سمحت"، نادته صوفي. "هل يمكنك أن توضح لي شيئاً قبل أن تذهب؟ لقد ذكرت أنه علينا أن ندخل رقم حساب؟". توقف الرجل عند الباب وقد بدا شاحباً. "بالطبع، إن صناديق الودائع الخاصة بنا ترتبط برقم لا باسم شخص مثلما هي الحال في معظم البنوك السويسرية؛ حيث يكون لديك مفتاح ورقم حساب شخصي لا يعرفه أحد غيرك. فمفتاحك هو نصف هويتك فقط ورقم الحساب الشخصي هو النصف الآخر. لأنك إن أضعت مفتاحك فيكون بإمكان أي شخص آخر أن يستخدمه. ترددت صوفي. "وإذا كان الشخص الذي ترك لي المفتاح لم يزودني برقم حساب؟". خفق قلب الموظف بقوة. إذن من الواضح أنه ليس هناك أي معنى لوجودكما هنا! ابتسم لهما بهدوء. "سوف أطلب المساعدة من أحد الموظفين. سيكون هنا في أسرع وقت ممكن". عندئذ خرج الموظف من الغرفة وأغلق الباب وراءه ثم أدار قفلاً ثقيلاً فاحتجزا في الداخل. وفي الطرف الآخر من المدينة كان كوليه واقفاً في محطة قطار الشمال غار دو نور عندما رن هاتفه. كان المتصل فاش. "لقد وصلت إخبارية إلى الإنتربول" قال فاش، "انس أمر القطار. فقد دخل لانغدون ونوفو لتوهما إلى فرع بنك زيوريخ للودائع في باريس. أريدك أن ترسل رجالك إلى هناك في الحال". "هل ظهرت أية أدلة حول ما أراد سونيير أن يقوله للعميلة نوفو وروبرت لانغدون؟". أجاب فاش بنبرة باردة: "إذا قمت باعتقالهما أيها الملازم كوليه عندها يصبح بإمكاني أن أوجه إليهما هذا السؤال شخصياً". فهم كوليه قصده. "24 - شارع آكسو. حاضر سيدي" أقفل كوليه الخط ثم أرسل إشارة إلى رجاله بالتوجه إلى هناك. الفصل الثالث والأربعون كان أندريه فيرنيه - مدير فرع بنك زيوريخ للودائع في باريس – يسكن في شقة فخمة فوق البنك. وبالرغم من وسائل الراحة المغرقة في الترف التي كان يتمتع بها، إلا أنه كان يحلم دائماً بامتلاك شقة على ضفة النهر في ليل سان لوي حيث يمكنه أن يكون على احتكاك بالناس الحقيقيين بدلاً من أن يكون هنا حيث كان يلتقي هنا بالأشخاص الفاحشي الثراء فقط. عندما أتقاعد، كان فيرنيه يقول لنفسه، سأملأ قبو النبيذ في بيتي بزجاجات نبيذ بوردو النادرة وأزين البهو بأعمال فراغونار وربما بوشيه أيضاً وسأقضي ما تبقى من أيامي في تصيد الأثاث الأثري والكتب النادرة في الحي اللاتيني. والليلة، بالرغم من أن فيرنيه قد استيقظ منذ ست دقائق ونصف، إلا أنه كان يبدو وهو يمشي بسرعة عبر ممر البنك تحت الأرض، كما لو أن خياطه الخاص وحلاقه قد أمضيا ساعات في إضافة لمسات الأناقة الرفيعة على شعره وهندامه. وها هو ببدلته الحريرية الرائعة يمشي مسرعاً ويبخ في فمه معطر النفس ثم يعدل ربطة عنقه. وقد كان فيرنيه معتاداً على أن يصحو في أي وقت لكي يكون حاضراً لمساعدة العملاء المهمين الذين يأتون من شتى أنحاء العالم لذا فقد عدّل نظام نومه وفقاً لعادات محاربي ماساي - القبيلة الأفريقية المشهورة التي اشتهر أفرادها بقدرتهم على الاستيقاظ من النوم العميق والانتقال إلى حالة من الجاهزية الكاملة للقتال وذلك في غضون ثوانٍ فقط. أنا جاهز للقتال، فكر فيرنيه، وهو يخشى ألا تكون المقارنة هنا مناسبة تماماً هذه الليلة. فمجيء عميل يحمل المفتاح الذهبي يتطلب عادة اهتماماً زائداً. غير أن مجيء عميل يحمل المفتاح الذهبي ويكون مطلوباً من الشرطة القضائية فذلك يعد أمراً حساساً للغاية. فقد كان البنك أصلاً على خلاف مع قوات الشرطة حول حقوق السرّية لعملائهم دون إثبات أن بعضهم كانوا مجرمين. خمس دقائق. قال فيرنيه لنفسه، هذا هو الوقت الذي أحتاجه. يجب أن أتخلص من أولئك الأشخاص وأخرجهم من البنك قبل مجيء الشرطة. وإذا تحرك بسرعة سيكون بإمكانه تفادي الكارثة التي كانت على وشك الحدوث. وسيتمكن عندئذ من أن يخبر الشرطة أن أولئك الفارين قد دخلوا بالفعل إلى البنك حسب البلاغ الذي وصل إلى الشرطة لكن بما أنهم لم يكونوا من العملاء ولم يكن لديهم رقم حساب، فقد تم طردهم. وتمنى فيرنيه لو أن المراقب الغبي لم يتصل بالإنتربول. لكن من الواضح أن كتمان الأسرار والتحفظ هي كلمات غير موجودة في قاموس المراقب الذي تكلف ساعته البنك خمسة عشر يورو. عندما توقف عند المدخل أخذ نفساً عميقاً وأرخى عضلاته ثم رسم ابتسامة متكلفة على وجهه ثم أدار القفل في الباب وفتحه ودخل إلى الغرفة بلطف كنسمة هواء دافئة. "عمتم مساء" قال ذلك وعيناه تبحثان عن العميلين. "أنا أندريه فيرنيه، كيف يمكنني أن أسا -". وعلق باقي الجملة في حلقه. فقد كانت المرأة هي آخر شخص في العالم يمكن لفيرنييه أن يتوقع رؤيته. "عفواً ولكن هل تعرفني؟" سألته صوفي التي لم تتعرف إليه لكنه بدا للحظة وكأنه قد رأى شبحاً. "كلا..." ارتبك مدير البنك. "كلا... لا أعتقد ذلك فخدماتنا في هذا البنك مغفلة ونحن لا نعرف عملاءنا". ثم تنهد وأجبر نفسه على الابتسام. "أخبرني مساعدي بأن لديك مفتاحاً ذهبياً لكن بدون رقم الحساب؟ أيمكنني أن أسألك كيف حصلت على هذا المفتاح؟". "لقد أعطاه جدي إلي"، أجابت صوفي وهي تراقب الرجل عن كثب وقد أصبح توتره واضحاً تماماً الآن. "حقاً؟ هل أعطاك جدك المفتاح ولم يزودك برقم الحساب؟". "أعتقد أنه لم يكن لديه الوقت الكافي ليقوم بذلك". قالت صوفي. "فقد قتل الليلة". كان وقع كلماتها عنيفاً إلى درجة جعلت الرجل يرتد متراجعاً إلى الوراء. "هل مات جاك سونيير؟ "سأل بإلحاح وقد امتلأت عيناه رعباً. "لكن... كيف حدث ذلك؟". عندئذ أصيبت صوفي بدوار وشعرت بالخدر في جسمها من هول الصدمة. "هل كنت تعرف جدي؟". بدا أندريه فيرنيه مصعوقاً مثلها تماماً. حاول أن يقف باعتدال بعد أن فقد توازنه فاستند إلى طرف الطاولة. "كنا أنا وجاك صديقين مقربين. متى حدث ذلك؟". "أول هذا المساء في اللوفر". مشى فيرنيه نحو كرسي جلدي مريح وجلس منهاراً عليه. "يجب أن أوجه إليكما سؤالاً هاماً جداً" ونظر إلى لانغدون أولاً ثم إلى صوفي. "هل لأي منكما علاقة بموته؟". "كلا" ردت صوفي بقوة. "على الإطلاق". تجهم وجه فيرنيه، ثم صمت للحظة واستغرق في التفكير. "لقد نشر الإنتربول صوركما في كل مكان. لهذا تعرفت إليكما. أنتما مطلوبان للعدالة بتهمة القتل". انهارت صوفي على الكرسي. هل يعقل أن يكون فاش قد أرسل إشارة إلى الإنتربول بهذه السرعة؟ يبدو أن النقيب كان متحمساً لهذه القضية أكثر مما كانت صوفي تتوقع. أخبرت صوفي فيرنيه بسرعة عن لانغدون وعما حدث الليلة داخل اللوفر. بدا فيرنيه مذهولاً. "وبينما كان جدك يعاني سكرات الموت ترك لك رسالة يخبرك فيها أن تأتي بالسيد لانغدون؟". "نعم، وترك لي هذا المفتاح أيضاً". ألقت صوفي المفتاح على طاولة القهوة أمام فيرنيه، وقد أخفت الجانب الذي نقش عليها شعار أخوية سيون. نظر فيرنيه إلى المفتاح لكنه لم يأتِ بأي حركة ليمسه بيده. "هل ترك لك هذا المفتاح فقط؟ لا شيء آخر؟ ولا حتى قصاصة ورق؟". كانت صوفي تعلم أنها كانت مستعجلة داخل اللوفر إلا أنها واثقة أنها لم ترَ أي شيء آخر وراء لوحة مادونا أوف ذا روكس. "كلا لا شيء سوى هذا المفتاح". تنهد فيرنيه بيأس. "يؤسفني أن أخبرك بأن كل مفتاح مرتبط إلكترونياً برقم حساب مؤلف من عشرة أرقام تعد كلمة السرّ التي تفتح الصندوق وبدون هذا الرقم لا قيمة لمفتاحك على الإطلاق". عشرة أرقام. حسبت صوفي الاحتمالات الرمزية والناتج كان عشرة ملايين احتمال! حتى لو أتت بأكثر الكومبيوترات تعقيداً في الشرطة القضائية فهي ستحتاج إلى أسابيع في أحسن الأحوال لتتمكن من فك الشيفرة. "أنا واثقة سيدي من أنك تستطيع مساعدتنا نظراً إلى الظروف الخاصة التي نمرّ بها الآن". "أنا آسف حقاً لكنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً بهذا الصدد. فالعملاء هم الذين يقومون باختيار أرقام حساباتهم بأنفسهم عن طريق خط كومبيوتر آمن أي أن أرقام الحسابات لا يعرفها إلا العملاء والكومبيوتر. وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا أن نضمن بواسطتها إغفال شخصية العميل وحماية موظفينا في آنٍ معاً". فهمت صوفي قصده فقد كان على حق. كان أصحاب المتاجر أيضاً يعتمدون هذه الطريقة نفسها. حيث أن الموظفين لم يكن يسمح لهم بحمل مفاتيح الخزنة. من الواضح أن هذا البنك لم يكن يريد أن يخاطر في حال قام لص بسرقة المفتاح ثم احتجز أحد الموظفين كرهينة ليخبر اللص برقم الحساب. جلست صوفي بجانب لانغدون ونظرت إلى المفتاح ثم إلى فيرنيه. "هل لديك أي فكرة عما يكون جدي قد خبأه في هذه الخزنة؟". "كلا أبداً ولهذا السبب بالتحديد سمي هذا البنك خزانة الذهب - Geldschrank". "سيد فيرنيه"، ضغطت عليه صوفي "إن وقتنا الليلة قصير جداً لذا سأكون واضحة جداً إذا سمحت لي". عندئذ أمسكت بالمفتاح الذهبي وقلبته وأخذت تراقب عيني الرجل وهي تكشف شعار أخوية سيون المحفور على المفتاح". "هل يحمل الرمز المحفور على المفتاح أي معنى بالنسبة لك؟". تأمل فيرنيه شعار زهرة الزنبق ولم يظهر أي رد فعل. "كلا لكن العديد من عملائنا يحفرون شعار شركاتهم أو أحرف أسمائهم على مفاتيحهم". تنهدت صوفي وهي لا زالت تراقبه بحذر."إن هذا الشعار هو رمز جمعية سرية تعرف بأخوية سيون". ومرة أخرى لم يظهر فيرنيه أي رد فعل. "أنا لا أعرف أي شيء عن هذا الموضوع. كان جدك صديقاً عزيزاً عليّ، لكننا كنا نتكلم في معظم الأوقات عن العمل". عدّل الرجل ربطة عنقه وبدأ يبدو عليه التوتر الآن. "سيد فيرنيه" ألحت صوفي بنبرة صارمة. "لقد اتصل بي جدي هذه الليلة وأخبرني أنني أنا وهو معرضان لخطر عظيم، وقال إنه يجب أن يعطيني شيئاً؛ وقد أعطاني مفتاحاً لصندوق في هذا البنك. والآن هو ميت لذا فإن أي معلومة تقدمها لنا من الممكن أن تكون مفيدة". بدأ فيرنيه يتصبب عرقاً. "يجب أن نخرج من هنا بسرعة. لأنني أعتقد أن الشرطة ستكون هنا في غضون دقائق. فقد شعر الحارس بأنه مضطر للاتصال بالإنتربول". هذا ما كانت تخشاه صوفي. وقررت أن تقوم بآخر محاولة مع فيرنيه. "قال جدي بأنه يجب أن يخبرني بالحقيقة حول عائلتي هل يعني هذا أي شيء لك؟". "آنستي، لقد مات أفراد عائلتك في حادث سيارة عندما كنت طفلة صغيرة. أنا آسف. وقد كنت أعلم أن جدك أحبك كثيراً وذكر لي عدة مرات كم آلمه الخلاف الذي وقع بينكما وأدى إلى قطيعة مؤسفة. لم تكن صوفي تعرف بماذا ترد عليه. سأله لانغدون: "هل من الممكن أن تكون محتويات هذا الحساب متعلقة بالسانغريال؟". نظر إليه فيرنيه باستغراب. "لا أعلم عمّا تتحدث" وفي تلك اللحظة تماماً رن هاتف فيرنيه النقال فانتزعه بسرعة من جيبه. "نعم؟" أنصت للحظة وتعبير وجهه كان ينتقل من المفاجأة إلى القلق والتوتر المتزايدين. "الشرطة؟ وبهذه السرعة؟" أخذ يسب ويلعن، ثم أعطى بعض التعليمات السريعة بالفرنسية وقال أنه سيصعد إلى الأعلى ويكون في البهو بعد دقيقة. أقفل الخط ثم التفت نحو صوفي من جديد "لقد استجابت الشرطة بسرعة أكبر من عادتها بكثير، إنهم في طريقهم إلى هنا بينما نتكلم الآن". لم يكن في نية صوفي أن ترحل خالية الوفاض. "قل لهم إننا قد أتينا ثم غادرنا وإذا أرادوا أن يفتشوا البنك طالبهم بمذكرة تفتيش. سيأخذ هذا بعض الوقت". "اسمعي!" قال فيرنيه. "كان جاك صديقي، وبنكي ليس بحاجة إلى هذا النوع من الدعاية لذا ولهذين السببين ليس في نيتي أن أسمح لعملية الاعتقال والمداهمة هذه أن تتم تحت سقفي. أنا بحاجة لدقيقة واحدة وسأرى ما يمكنني فعله لمساعدتكما على الخروج من هنا دون أن يلاحظ أحد ذلك، لكنني لن أستطيع أن أتورط إلى حدّ أبعد من ذلك". عندئذ وقف فيرنيه ومشى مسرعاً نحو الباب. "ابقيا هنا سأقوم أنا ببعض الترتيبات ثم أعود إلى هنا بأسرع وقت ممكن". "لكن ماذا عن صندوق الودائع؟" قالت صوفي بإصرار."لا يمكننا أن نرحل هكذا ببساطة". "ليس بإمكاني فعل أي شيء بهذا الشأن" قال فيرنيه وهو يركض نحو الباب. "أنا آسف". وقفت صوفي محدقة للحظات بعد أن خرج من الغرفة، وبدأت تسائل نفسها في ما إذا كان رقم الحساب مدفوناً في أحد الرسائل والطرود الكثيرة التي كان جدها قد أرسلها إليها خلال الأعوام الماضية والتي تركتها دون أن تفتح أياً منها. وقف لانغدون فجأة وأحست صوفي ببريق من السرور المفاجئ يشع من عينيه. "روبرت؟ أنت تبتسم". "إن جدك كان عبقرياً". "عفواً ما الذي تقوله؟". "عشرة أعداد؟". لم يكن لدى صوفي أية فكرة عن الذي كان روبرت يحاول قوله. "رقم الحساب"، قال لانغدون وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة جانبية مألوفة. "أنا واثق تماماً من أن جدك قد ترك لنا رقم الحساب". "أين؟". أخرج لانغدون صورة مسرح الجريمة ووضعها على طاولة القهوة. كان على صوفي أن تقرأ السطر الأول منها فقط لتعرف أن لانغدون كان على حق. 13-3-2-21-1-1-8-5 O, Draconian devil! Oh, lame saint! P.S Find Robert Langdon الفصل الرابع والأربعون "عشرة أعداد"، قالت صوفي وحواسها التحليلية تتيقظ وهي تتفحص الصورة. 13-3-2-21-1-1-8-5 لقد كتب جدي رقم حسابه على أرضية اللوفر! عندما رأت صوفي متوالية فيبوناتشي المكتوبة بعشوائية على الأرضية الخشبية، افترضت أن الهدف الوحيد من ورائها كان حث الشرطة القضائية على الاستعانة بقسم تحليل الرموز وبالتالي إجبار صوفي على التدخل في الأمر. ولاحقاً أدركت أن الأرقام كانت أيضاً مفاتيح تدلها على كيفية تحليل الأسطر الأخرى - متوالية غير مرتبة... أحجية رقمية. أما الآن فقد أصيبت بالذهول عندما رأت أن الأرقام كانت تحمل معنى أيضاً. ومن المؤكد أن تكون هذه الأرقام هي المفتاح الأخير لفتح صندوق الودائع الغامض الخاص بجدها. "لقد كان المعلم الأكبر في التورية" قالت صوفي وهي تلتفت نحو لانغدون. "كان مولعاً بكل ما يحمل في طياته من معانٍ مختلفة. رموز في داخلها شيفرات...". كان لانغدون قد تقدم نحو الجدار ذي اللوحة الإلكترونية بالقرب من حزام الناقلة. أخذت صوفي الصورة ولحقت به. كان الجدار مزوداً بلوحة مفاتيح شبيهة بلوحة الصراف الآلي. وكان يظهر على الشاشة شعار الصليب الخاص بالبنك. وإلى جانب لوحة المفاتيح كان هناك ثقب مثلث الشكل. لم تضيع صوفي أي لحظة وأدخلت المفتاح في الثقب. فأضاءت الشاشة في الحال. رقم الحساب - - - - - - - - - أخذ السهم يومض. في الانتظار عشرة أعداد. قرأت صوفي الأرقام الموجودة على الصورة ثم طبعها لانغدون على اللوحة الإلكترونية. رقم الحساب 1332211185 وعندما كان يدخل الأعداد أضاءت الشاشة من جديد وظهرت عليها رسالة بعدة لغات وكانت الإنجليزية على رأسها. تحذير: قبل أن تضغط زر الإدخال، الرجاء التحقق من صحة رقم حسابك. فإذا لم يتعرف الكومبيوتر على رقم حسابك سيتم إغلاق هذا النظام أوتوماتيكياً وذلك حرصاً منا على حماية حسابك. "خطوة واحدة" قالت صوفي بالفرنسية وقد قطبت جبينها. "يبدو أننا لن نحظى إلا بمحاولة واحدة" إن آلات الصراف الآلي العادية تسمح للمستخدم بثلاث محاولات لإدخال الرمز السرّي قبل أن تصادر كارت البنك. من الواضح أن هذه لم تكن آلة عادية لسحب المال. "إن الأرقام تبدو صحيحة" أكد لانغدون وهو يتحقق بدقة من الأرقام التي طبعها ويقارنها مع الأرقام الموجودة في الصورة. ثم أشر بيده نحو مفتاح الإدخال وقال: "هيا انطلق". مدت صوفي سبابتها نحو لوحة المفاتيح، لكنها ترددت فقد طرأت على بالها فجأة فكرة غريبة. "هيا"، استعجلها لانغدون. "سيعود فيرنيه في أي لحظة". "كلا". أبعدت يدها. "ليس هذا هو رقم الحساب الصحيح". "بالطبع هذا هو الرقم الصحيح! فهو يتألف من عشرة أعداد. إذا لم يكن كذلك فما هو الرقم إذن؟". "إنه عشوائي جداً". عشوائي جداً؟ كان لانغدون يخالفها الرأي وبشدة. فكل بنك ينصح عملاءه باختيار رمز سري أرقامه مرتبة بشكل عشوائي حتى لا يتمكن أي أحد من تخمينه. ومن المؤكد أن العملاء هنا قد سمعوا نفس هذه النصيحة. ألغت صوفي كل الأعداد التي كانت قد أدخلتها ونظرت إلى لانغدون بثقة. "إن هذا الرقم تتوافق أعداده بشكل غريب بحيث أن هذا الترتيب الذي يفترض أن يكون عشوائياً يمكن أن يعاد ترتيبه من جديد ليشكل متوالية فيبوناتشي". أدرك لانغدون أنها قد تكون على حق. فعندما رتبت صوفي الأعداد التي تشكل رقم الحساب بحسب متوالية فيبوناتشي. من كان يظن أن هذا كان ممكناً؟ ذهبت صوفي إلى لوحة المفاتيح من جديد وأدخلت رقماً مختلفاً وكأنها تضربها من ذاكرتها. "علاوة على ذلك، ومع ولع جدي بالرمزية والشيفرات، كان لا بد له من أن يختار رقماً يحمل معنى بالنسبة إليه، رقماً يمكن أن يتذكره بسهولة". انتهت صوفي من إدخال الرقم وابتسمت ابتسامة خبيثة. "رقماً يبدو عشوائياً... لكنه ليس في الحقيقة كذلك". نظر لانغدون إلى الشاشة. رقم الحساب: 1123581321 لقد تطلب الأمر لحظات كي يدرك لانغدون ما حدث ولكن حالما وقعت عيناه على الرقم عرف أن صوفي كانت على حق. متوالية فيبوناتشي 1-1-2-3-5-8-13-21 عندما وضعت الأعداد التي تشكل متوالية فيبوناتشي أمام بعضها كرقم واحد أصبحت غير معروفة على الإطلاق. وهي سهلة الحفظ مع أنها تبدو عشوائية. رمز سري عبقري من عشرة أعداد لا يمكن أن ينساه سونيير أبداً. وعلاوة على ذلك، كان هذا يفسر بشكل واضح لماذا كانت الأعداد العشوائية التي كتبها سونيير على أرضية اللوفر، قابلة لإعادة الترتيب لتشكل المتوالية الشهيرة. مدت صوفي يدها وضغطت زر الإدخال. لم يحدث شيء. أو بالأصح لم يعرفا إذا ما كان قد حدث شيء ما. وفي تلك اللحظة، تحتهم في خزنة البنك الكبيرة الموجودة تحت الأرض، دبت الحياة في الملقط الآلي، الذي ينزلق على نظام متحرك ذي محور مزدوج معلق في السقف، فانطلق بحثاً عن الإحداثيات الصحيحة. وفي الطابق الإسمنتي في الأسفل، كانت هناك مئات من الصناديق بشكل أقفاص بلاستيكية ترقد متراصفة على لوح كبير جداً... كصفوف من التوابيت الصغيرة في مدفن تحت سطح الأرض. تحرك الملقط محدثاً أزيزاً ثم توقف فوق البقعة الصحيحة على الأرض وهبط إلى الأسفل فقامت عين كهربائية بالتحقق من الرمز الصحيح على الصندوق ثم قبض الملقط المبرمج بواسطة الكومبيوتر على الصندوق ورفعه بشكل عمودي تماماً. والآن أخذت أجهزة أخرى تتدخل في العملية ونقل الملقط الصندوق إلى الطرف البعيد من الخزنة ثم توقف عند حزام الناقلة. عندئذ قامت ذراع الملقط بوضع الصندوق على الحزام بلطف ثم تراجعت. وعندما تحررت الذراع عاد حزام الناقلة إلى الحياة من جديد... وفي الطابق الأعلى، تنهد لانغدون وصوفي بارتياح لدى رؤيتهم لحزام الناقلة وقد بدأ يتحرك. فوقفا بجانبه وقد أحسا كأنهما مسافران أنهكهما التعب وهما يقفان أمام مكان وصول الأمتعة بانتظار حقيبة محتواها مجهول. دخل حزام الناقلة الغرفة من جهة اليمين عبر كوة مستطيلة ضيقة ذات باب قابل للحركة. انزلق هذا الباب المعدني نحو الأعلى فظهر صندوق بلاستيكي كبير. كان الصندوق أسود اللون مشكلاً من البلاستيك الثقيل وأكبر بكثير مما تخيلته. وكان يبدو كقفص لنقل الحيوانات الأليفة عبر طائرات الشحن الجوي لكن بدون فتحات تهوية. حطّ الصندوق أمامهما مباشرة. وقف لانغدون وصوفي هناك يحدقان بصمت في الصندوق الغامض. وكما هي حال كل ما في هذا البنك، كان الصندوق ذا تصميم حديث حيث زود بمشابك معدنية وورقة تحمل رمزه الخاص ملصقة أعلاه ومسكة مقولبة ثقيلة. أحست صوفي أنه يبدو كصندوق عدة عملاق. لم تضيع صوفي أي لحظة ففكت مشبكي الصندوق ثم نظرت إلى لانغدون فرفعا الغطاء الثقيل للصندوق معاً وتركاه يسقط إلى الخلف. تقدم الاثنان خطوة إلى الأمام وألقيا نظرة فاحصة داخل الصندوق. من النظرة الأولى فكرت صوفي أن الصندوق كان فارغاً لكنها عندما أمعنت النظر رأت شيئاً وحيداً يرقد في أسفل الصندوق. كان الصندوق الخشبي الذي رأته أنيقاً ناعم الملمس وبحجم علبة الحذاء وذا مفصلات مزخرفة. وقد كان لون الخشب قرمزياً داكناً قوي اللمعان. خشب الورد... فهمت صوفي... لقد كان المفضل عند جدها. كان الغطاء يحمل تصميماً جميلاً بشكل وردة. تبادل لانغدون وصوفي نظرات استغراب. انحنت صوفي وأمسكت الصندوق وأخرجته من مكانه. يا إلهي، إنه ثقيل! حملته بحذر شديد ووضعته على طاولة مجاورة. وقف لانغدون بجانبها وأخذ كلاهما يحدقان بكنزهما الصغير الذي على ما يبدو أن جدها قد أرسلهما لاستعادته. تفحص لانغدون الزخرفة المطبقة يدوياً على الغطاء بذهول - الوردة خماسية البتلات. لقد كان قد رأى هذا النمط من الزخرفة التي تحمل شكل الوردة هذه مرات عديدة. "الوردة خماسية البتلات"، همس لانغدون، "هي الرمز الذي اعتمدته الأخوية للتعبير عن الكأس المقدسة". التفتت صوفي ونظرت إليه. فهم لانغدون ما الذي خطر في بالها فقد كان هو أيضاً يفكر بنفس الشيء. فأبعاد الصندوق ووزنه الثقيل ورمز الغريل... كل ذلك كان يوحي بتفسير واحد فقط... وهو أن كأس المسيح توجد داخل هذا الصندوق الخشبي. قال لانغدون في نفسه إن هذا غير معقول أبداً. "إنه حجم مثالي". همست صوفي. "ليحمل... الكأس لا يمكن أن يكون هناك كأس داخل الصندوق. شدت صوفي الصندوق عبر الطاولة إليها استعداداً لفتحه. إلا أنها عندما حركته حدث شيء غير متوقع. صدر من الصندوق صوت قرقرة غريب. أصابت لانغدون دهشة فلم يعرف ماذا يقول. هل هناك سائل داخل الصندوق؟ بدا الارتباك على صوفي أيضاً. "هل سمعت ذلك...؟". أومأ لانغدون برأسه. وحاول أن يتصور ما الذي يمكن أن يوجد داخل الصندوق. "سائل؟". مدت صوفي يديها إلى الأمام وفكت المشابك بتأنٍ ثم رفعت الغطاء. كان الشيء الموجود في الداخل لا يشبه أي شيء رآه لانغدون في حياته. غير أن هناك أمراً واحداً أصبح واضحاً بالنسبة لهما الآن وهو أن ما في الصندوق لم يكن حتماً كأس المسيح. الفصل الخامس والأربعون "إن رجال الشرطة سدوا الشارع"، قال أندريه فيرنيه وهو يدخل غرفة الانتظار. "سيكون إخراجكما من هنا أمراً صعباً". وعندما أغلق فيرنيه الباب وراءه رأى الصندوق البلاستيكي المتين على حزام الناقلة فتسمر في مكانه. يا إلهي! لقد تمكنا من الدخول إلى حساب سونيير. كان لانغدون وصوفي يقفان بجانب الطاولة منهمكين بشيء يبدو كأنه صندوق مجوهرات خشبي كبير. أقفلت صوفي الغطاء فوراً ثم نظرت إلى فيرنيه. "كان الرقم لدينا طوال الوقت لكننا لم ننتبه له". وقف فيرنيه عاجزاً عن الكلام. هذا يغير كل شيء. حوّل نظره عن الصندوق احتراماً لخصوصية الأمر وحاول التفكير بالخطوة التالية. يجب أن أخرجهما من البنك! ولكن مع الحاجز الذي أقامته الشرطة في وسط الطريق، لم يتمكن فيرنيه من التفكير إلا بطريقة واحدة فقط ليفعل ذلك. "آنسة نوفو، إذا استطعت أن أخرجكما بأمان من البنك، هل ستأخذين معك ما وجدته في الصندوق أم ستعيدينه إلى الخزنة؟". ألقت صوفي نظرة إلى لانغدون ثم أعادت النظر إلى فيرنيه. يجب أن نأخذه معنا". هز فيرنيه رأسه. "حسناً إذن مهما كان ذلك الشيء، أقترح أن تلفيه في معطفك حتى نتجاوز الممرات. أفضل ألا يراه أحد". وبينما خلع لانغدون معطفه، أسرع فيرنيه إلى حزام الناقلة وأغلق الصندوق البلاستيكي الذي أصبح فارغاً الآن وأدخل في اللوحة الإلكترونية مجموعة من الأوامر البسيطة. فبدأ حزام الناقلة يتحرك من جديد حاملاً الصندوق ليعيده إلى مكانه في الأسفل حيث الخزنة الأساسية. ثم سحب المفتاح الذهبي من مكانه وأعاده إلى صوفي. "من هنا.. بسرعة". عندما وصلوا إلى مكان التحميل، كان باستطاعة فيرنيه أن يرى وميض أضواء سيارات الشرطة ينتشر في مرآب البنك تحت الأرض فتجهم. ربما قاموا بسد مدخل المرآب. ترى هل ستنطلي عليهم هذه الحيلة؟ بدأ يتعرق الآن من شدة توتره. أشار فيرنيه إلى إحدى شاحنات البنك المصفحة الصغيرة. فقد كان التوصيل الآمن خدمة أخرى من الخدمات التي يقدمها بنك زيوريخ للودائع. "اصعدا إلى مخزن الحمولة". قال فيرنيه وهو يفتح الباب الخلفي الضخم ويشير بيده إلى المقصورة الفولاذية اللامعة. "سأعود على الفور". وفيما كان لانغدون وصوفي يصعدان إلى الشاحنة، ركض فيرنيه مسرعاً إلى الجانب الآخر من مكان التحميل نحو مكتب مراقب تحميل الشاحنات. دخل إلى المكتب وأخذ مفاتيح الشاحنة وعثر على سترة سائق وقبعته النظامية فخلع معطفه وربطة عنقه وبدأ يرتدي سترة السائق ثم أعاد النظر في الأمر فأخذ جيب مسدس يوضع على الكتفين وارتداه تحت لباس السائق الرسمي وفي طريقه إلى خارج المكتب أخذ مسدساً خاصاً بأحد السائقين من أحد الرفوف ووضع فيه مشط طلقات ثم دسه في الجيب المخصص له وبعد ذلك زرر السترة النظامية فوقه. وفي طريقه نحو الشاحنة وضع فيرنيه قبعة السائق على رأسه وأنزلها قليلاً على وجهه وألقى نظرة باتجاه لانغدون وصوفي اللذين كانا واقفين في مقصورة الشاحنة الفولاذية الفارغة. "يجب أن أشعل هذا لتتمكنوا من الرؤية" قال فيرنيه ومد يده داخل المقصورة وضغط مفتاحاً على جدار المقصورة ليشعل الضوء الوحيد الموجود في سقف المكان. "كما أنه من الأفضل أن تجلسا ولا تأتيا بأي حركة في طريقنا إلى خارج البوابة". جلس لانغدون وصوفي على الأرضية المعدنية للمقصورة. وحضن لانغدون الكنز الذي كان قد لفه بسترته الصوفية. ثم أقفل فيرنيه الأبواب الضخمة وأصبح الاثنان محتجزين في الداخل. ثم صعد إلى السيارة وأدار المحرك. وفيما شقت الشاحنة المصفحة طريقها نحو البوابة، أحس فيرنيه بعرقه يتجمع تحت قبعته حيث رأى أن عدد رجال الشرطة في الخارج كان يفوق كثيراً الحدّ الذي تصوره. وبينما كانت الشاحنة تصعد نحو الأعلى، فتحت البوابة الداخلية لتفسح أمامهم الطريق للخروج. عندئذ تقدم فيرنيه إلى الأمام وانتظر حتى أغلقت البوابة الداخلية من ورائه ثم انطلق إلى الأمام بعد أن شغل مفتاح الآلة التي تفتح البوابة الثانية وبعد أن تجاوزها وصل إلى المخرج. وهناك كانت سيارة الشرطة تسد المخرج تماماً. وضع فيرنيه يده على حاجبه وتقدم إلى الأمام. ترجل ضابط طويل ونحيل الجسم من السيارة وأشار له بأن يتوقف على بعد أمتار من الحاجز الذي أقامته الشرطة في وسط الطريق. كانت هناك أربع سيارات لدورية الشرطة واقفة في وجه المخرج. فتوقف فيرنيه وشد قبعة السائق إلى الأسفل وغير سحنته وتعابير وجهه إلى أقصى حدّ تسمح به نشأته الرفيعة المقام. ولم يتزحزح من خلف المقود، وفتح الباب ونظر إلى الأسفل حيث كان الضابط واقفاً ووجهه شاحب ومتجهم. "ماذا يحدث هنا؟" سأل فيرنيه بنبرة قاسية. "أنا جيروم كوليه" قال الضابط. "ملازم في الشرطة القضائية". وأشار إلى مقصورة الحمولة. "ما الذي يوجد في الداخل هناك؟". "وكيف يفترض بي أن أعرف؟ رد فيرنيه بفرنسية خشنة. "أنا مجرد سائق هنا". لم يستغرب كوليه ذلك الرد. "إننا نبحث عن مجرمين". ضحك فيرنيه. "لقد أتيت إذن إلى المكان الصحيح. فبعض أولئك السفلة الذين أعمل لديهم يملكون كميات من المال لا يمكن أن يحصّلها إلا المجرمون". عرض عليه الضابط صورة لروبرت لانغدون. "هل كان هذا الرجل في البنك هذه الليلة؟". هز فيرنيه كتفيه. "ليست لدي أي فكرة على الإطلاق فأنا مجرد سائق أقود الشاحنة وأقوم بالتحميل. إنهم يمنعوننا من الاقتراب من العملاء. عليك أن تدخل وتسأل مكتب الاستقبال. "لقد طالبنا المسؤولون في البنك بمذكرة تفتيش كي يسمحوا لنا بالدخول". تظاهر فيرنيه بالاشمئزاز. "آه من الإداريين لا تجعلني أبدأ بالكلام عنهم". "افتح صندوق الشاحنة لو سمحت". أشّر كوليه بيده إلى مقصورة الحمولة. حدّق فيرنيه بالضابط وافتعل ضحكة بغيضة. "أفتح صندوق السيارة؟ أتعتقد أن المفتاح معي؟ أتظن أنهم يثقون بنا؟ عليك أن ترى المرتب الهزيل الذي يدفعونه لي...". مال رأس الضابط إلى جنب واحد وقد أظهر استخفافاً واضحاً. "هل تريد أن تقنعني بأن مفتاح شاحنتك ليس بحوزتك؟". هز فيرنيه رأسه نافياً. "إنهم لا يعطوننا مفتاح مقصورة الحمولة، معنا المفتاح الذي يشغل الشاحنة فقط. حيث أن هناك مراقبين يقومون بإقفال هذه الشاحنات في مكان التحميل وتنتظر الشاحنات ريثما يقوم أحد الموظفين بإيصال المفتاح إلى الأشخاص المعنيين في مكان الاستلام. وحالما نتلقى اتصالاً يفيد بأن مفتاح الصندوق أصبح بحوزة المتسلم، عندها فقط يسمح لي بالانطلاق ولا يمكنني أن أشغل الشاحنة قبل ذلك حتى بثانية واحدة. لذا فأنا لا أعرف نهائياً ماذا أحمل في شاحنتي". "متى تم إقفال هذه الشاحنة؟". "لا بد أن ذلك كان منذ ساعات. أنا في طريقي إلى سان توريال هذه الليلة فالمفاتيح قد أصبحت هناك الآن". لم يبدِ الضابط أي رد فعل. وأخذت عيناه تسبران أغوار فيرنيه محاولاً أن يقرأ أفكاره ويعرف ما يجول في ذهنه. كانت قطرة عرق على وشك الانزلاق على أنف فيرنيه. "هل من الممكن أن تفسح لي المجال؟" قال فيرنيه ومسح أنفه بكمه ثم أشار إلى سيارة الشرطة التي كانت تقف في طريقه. "لدي جدول مواعيد محدد لذا عليّ الانطلاق بسرعة". "هل يضع كل السائقين ساعات رولكس؟" سأل الضابط وهو يشير إلى معصم فيرنيه. نظر فيرنيه إلى معصمه فرأى السوار البراق لساعته الباهظة الثمن التي تسللت من كم سترته. اللعنة. "قطعة الخردة هذه؟ لقد اشتريتها بعشرين يورو من بائع تايواني متجول في سان جيرمان دي بري. سأبيعك إياها مقابل أربعين يورو". صمت الضابط للحظة وأخيراً تنحى جانباً. "كلا شكراً. اذهب أنت.. مع السلامة". لم يستطع فيرنيه أن يتنفس ثانية حتى قطعت الشاحنة مسافة خمسين متراً. والآن كان لديه مشكلة أخرى. الحمولة في الخلف... إلى أين سآخذهم؟ الفصل السادس والأربعون استلقى سيلاس في غرفته على الحصيرة منكفئاً على وجهه بحيث تتمكن الجروح التي تركتها ضربات السوط على ظهره من التخثر في الهواء. فقد سببت له جلسة العقاب الثانية هذه الليلة الضعف والدوار. وكان عليه أن يخلع الحزام ذا المسامير فقد كان يشعر بتدفق الدم من الجانب الداخلي لفخذه. وبالرغم من ذلك لم يستطع أن يبرر لنفسه خلع الحزام. لقد خذلت الكنيسة.. والأسوأ من ذلك كله... أنني قد خذلت القس. قد كان يفترض أن يكون في هذه الليلة خلاص القس أرينغاروزا. فقبل خمسة أشهر، كان القس قد عاد من اجتماع في مرصد الفاتيكان الفلكي حيث علم خبراً غيّره إلى حدٍّ كبير. فأصيب باكتئاب سيطر عليه لأسابيع طويلة حتى باح أخيراً بمكنوناته إلى سيلاس. "لكن هذا غير معقول!" صاح سيلاس. "لا يمكنني أن أصدق ذلك!". "إنها الحقيقة"، قال أرينغاروزا. "إنه أمر فظيع لكن هذا ما حصل حقيقةً. وخلال ستة أشهر فقط". أرعبت كلمات القس سيلاس. فصلّى من أجل النجاة والخلاص. وحتى في تلك الأيام المظلمة، لم تضعف ثقة سيلاس وإيمانه بالرب وبمذهبهم ولا للحظة واحدة أبداً. وانقشعت غيمة الحزن التي كانت تخيم عليهم بعد شهر واحد فقط وأضاء النور مبشراً بانطلاقة جديدة من شأنها حل تلك المعضلة. تدخل إلهي... هذا ما أطلقه أرينغاروزا على العملية. وبدا القس متفائلاً لأول مرة. "سيلاس"، همس أرينغاروزا، "لقد أنعم الرب علينا بفرصة لنحمي مذهبنا وطريقتنا. ومعركتنا ككل المعارك ستتطلب التضحية. هل ستكون أنت جندي الرب؟". خرّ سيلاس راكعاً على ركبتيه أمام أرينغاروزا - الرجل الذي منحه حياة جديدة - وقال: "أنا حمل الرب فقدني أيها الراعي أينما أرشدك قلبك". وعندما حدثه أرينغاروزا عن الفرصة التي ارتمت من تلقاء نفسها بين يديه، عرف سيلاس أن ذلك لا يمكنه إلا أن يكون من صنع الرب. قدر إعجازي! عرّف أرينغاروزا سيلاس بالرجل الذي اقترح الخطة - هذا الرجل الذي يطلق على نفسه اسم المعلم. وبالرغم من أن سيلاس والمعلم لم يلتقيا وجهاً لوجه على الإطلاق، إلا أن سيلاس وفي كل مرة تكلما فيها عبر الهاتف كان يروعه المعلم بعمق إيمانه ومدى قوته. كان المعلم يبدو وكأنه يعرف كل شيء... كان رجلاً ذا عينين وأذنين مدسوسة في كل مكان. كيف تمكن المعلم من جمع كل تلك المعلومات، كان ذلك أمراً لم يعرفه سيلاس، لكن أرينغاروزا كان يثق بالمعلم ثقة عمياء وطلب من سيلاس أن يثق به أيضاً. "افعل ما يأمرك به المعلم"، قال القس لسيلاس. "وسوف نحقق النصر". النصر... حدّق سيلاس في الأرضية الخالية الآن وهو يشعر بأن النصر قد أفلت من بين أيديهم. لقد تعرض المعلم للخداع. لقد كان حجر العقد نهاية شيطانية مسدودة. وضاع مع هذا الخداع كل أمل في تحقيق النصر. تمنى سيلاس لو أنه كان يستطيع الاتصال بالقس أرينغاروزا ليخبره ماذا حدث ويحذره لكن المعلم قد قطع كل طرق الاتصال المباشر بينهما هذه الليلة. حرصاً على سلامتنا. وأخيراً تغلب سيلاس على خوفه الكبير وزحف على الأرض ووجد رداءه الذي كان على الأرض أيضاً فأخرج هاتفه النقال من جيبه وضرب الرقم ورأسه مطأطأ خجلاً. "يا معلم!" همس سيلاس، "ضاع كل شيء!" وأخبره بصدق عما حدث وكيف تم خداعه. "أنت تفقد إيمانك بسرعة شديدة" أجابه المعلم. "لقد تلقيت أخباراً جديدة لتوي.. أخباراً سارة وغير متوقعة على الإطلاق. إن السرّ لم يمت! فقد تمكن جاك سونيير من نقل بعض المعلومات قبل أن يموت. سأتصل بك قريباً فعملنا الليلة لم ينته بعد!". الفصل السابع والأربعون شعر لانغدون داخل مقصورة الحمولة ذات الإضاءة الخافتة في هذه الشاحنة المصفحة وكأنه ينقل في زنزانة سيارة السجن التي تقله إلى الحبس الانفرادي. فأخذ يحارب الشعور المألوف بالتوتر الذي يسيطر عليه عندما يكون محصوراً في الأماكن المغلقة. قال فيرنيه أنه سيأخذنا إلى وجهة آمنة خارج المدينة. لكن إلى أين. وكم يبعد ذلك المكان؟ تخشبت رجلا لانغدون من الجلوس متربعاً على الأرضية المعدنية فغير وضعيته ورجع بجذعه بسرعة إلى الخلف ليشعر بالدم يعود للتدفق في القسم السفلي من جسمه. وكان لا يزال متشبثاً بذراعيه بالكنز الغريب الذي حرراه من مخبئه في البنك. "أعتقد أننا على الطريق السريع الآن"، همست صوفي. شعر لانغدون بنفس الشيء. فبعد توقف الشاحنة الخطير عند بوابة البنك الخارجية، تقدمت إلى الأمام وشقت طريقها بشكل ملتوٍ يميناً ويساراً للحظات قصيرة ثم انطلقت وأخذت تتسارع إلى الحدّ الذي بدا وكأنه السرعة القصوى. وكانت الإطارات المقاومة للرصاص تهمهم تحتهم على الشارع الأملس مما قطع عليه شروده ولفت انتباهه إلى الصندوق المصنوع من خشب الورد الذي كان يحتضنه بين ذراعيه. عندئذ، وضع الصرة الثمينة على أرضية المقصورة وفض سترته وأخرج منها الصندوق وشده إليه. غيرت صوفي من جلستها فأصبحا يجلسان جنباً إلى جنب. فشعر لانغدون فجأة كأنهما طفلان تحلقا فوق هدية عيد الميلاد. كانت الوردة المنزّلة على الصندوق محفورة من خشب باهت اللون على عكس الألوان الدافئة التي طبعت صندوق خشب الورد. ربما من خشب الدردار الذي كان يضيء بوضوح تحت الضوء الخافت. الوردة... لقد كانت رمز الكثير من الجيوش الجرارة والأديان كما أنها كانت شعار الجمعيات السرّية. مثل الروزيكروشيين... فرسان الصليب الوردي. "هيا.." قالت صوفي، "افتحه!". أخذ لانغدون نفساً عميقاً ومد يده نحو الغطاء وهو ينظر من جديد بإعجاب لا يخفى إلى الزخارف الخشبية المعقدة وعندئذ فك المشابك وفتح الغطاء كاشفاً عن الشيء الموجود في الداخل. لقد كان لانغدون قد شط بخياله بعيداً محاولاً التوصل في ذهنه إلى ما قد يجدانه في هذا الصندوق، لكنه على ما يبدو كان مخطئاً في كل مرة. فقد رقد داخل الصندوق ذي البطانة الداخلية السميكة المغطاة بطبقة من الحرير الوردي، شيء لا يعرف لانغدون عنه أي شيء ولم ير مثيلاً له في حياته. كان ذلك الشيء عبارة عن أسطوانة حجرية مصنوعة من الرخام الأبيض بحجم علبة كرات التنس تقريباً. إلا أن تلك الأسطوانة لم تكن مجرد عمود حجري بل بدت وكأنها قد جمعت من قطع عديدة. فقد رصت خمس أسطوانات بحجم كعكة الدونات من الرخام فوق بعضها وقد وصلها ببعضها إطار نحاسي رقيق. كانت تشبه مشكالاً أنبوبياً متعدد الطبقات. وكانت تغطي كلاً من رأس الأسطوانة وأسفلها قطعة من الرخام أيضاً بحيث كان من المستحيل رؤية ما بداخل الأسطوانة. وبما أن لانغدون قد سمع صوت سائل يصدر منها، لذا افترض أن تكون الأسطوانة مجوفة من الداخل. وبقدر ما كان تركيب الأسطوانة غريباً، إلا أن النقوش التي كانت محفورة على الأقراص هي التي شدت انتباه لانغدون أولاً. فقد حفر على كل قرص منها نفس مجموعة الأحرف العشوائية والتي كانت تشمل كافة أحرف الأبجدية. وقد ذكرته هذه الأقراص ذات الأحرف بأحد ألعاب طفولته التي كانت عبارة عن عمود صفت عليه حلقات عليها أحرف قابلة للدوران بحيث تشكل كلمات مختلفة. "إنها مذهلة أليس كذلك؟" همست صوفي. نظر إليها لانغدون. "لا أعلم... ما هذا الشيء أصلاً؟". عندئذ لمعت عينا صوفي. "لقد اعتاد جدي أن يصنع مثل هذه الأشياء بيديه على سبيل الهواية. وهي أحد اختراعات ليوناردو دافنشي". حتى تحت هذا الضوء الخافت استطاعت صوفي أن ترى الدهشة التي ارتسمت على وجه لانغدون. "دافنشي؟" تمتم لانغدون وهو ينظر مرة أخرى إلى الصندوق. "نعم، إنها تدعى كريبتيكس. وبحسب ما أخبرني به جدي فإن مخططات الكريبتكس أخذت من مذكرات دافنشي السرّية". "وما هو الهدف منها؟". نظراً إلى أحداث هذه الليلة، فكرت صوفي أن الإجابة عن هذا السؤال قد تحمل في طياتها معاني مهمة. "إنها خزينة" قالت صوفي.. "لحفظ معلومات سرّية". اتسعت عينا لانغدون أكثر من قبل. أوضحت له صوفي كيف أن إحدى هوايات جدها المفضلة كانت صنع نماذج من اختراعات دافنشي. كان جاك سونيير فناناً موهوباً اعتاد أن يمضي ساعات طويلة في ورشة الأخشاب والمعادن الخاصة به. وكان يستمتع بتقليد الفنان العظيم فابيرجيه، وبعض فناني الأسلوب المجتزع - كلوازونيه، والفنان الأكثر عملية والأقل جمالية ليوناردو دافنشي. وإن نظرة خاطفة في مذكرات العظيم دافنشي تظهر كيف أنه كان معروفاً بعدم متابعته لأعماله بنفس القدر الذي اشتهرت به عبقريته الفذّة. فقد رسم مئات المخططات لاختراعات لم يقم بصنعها أبداً. وكانت أفضل تسلية بالنسبة لجاك سونيير هي إعادة أكثر أفكار دافنشي عبقرية وغموضاً إلى الحياة من ساعات ومضخات مائية وكريبتكس وحتى نموذج مفصل بشكل كامل لفارس فرنسي يعود إلى العصور الوسطى يقف الآن بشموخ على الطاولة في مكتبه. وقد صممه دافنشي عام 1495 فكان ثمرة لدراساته في علم التشريح والحركة. وكانت الآلية الداخلية للفارس تتميز بوجود مفاصل وأوتار متقنة الصنع وقد كان مصمماً ليقوم بعدة حركات كالوقوف والجلوس وتحريك ذراعيه ورأسه بواسطة رقبة قابلة للانثناء كما أن بإمكانه فتح فمه وإغلاقه بفضل فك غاية في الاتقان من الناحية التشريحية. ولطالما اعتقدت صوفي أن هذا الفارس المدرع هو أجمل شيء صنعه جدها على الإطلاق... ذلك كان قبل أن ترى الكريبتكس في هذا الصندوق المصنوع من خشب الورد. "لقد صنع لي مثل هذا الكريبتكس عندما كنت صغيرة"، قالت صوفي، "لكنني لم أرَ في حياتي أي كريبتكس يحمل هذه الزخرفة الرائعة وبهذا الحجم الكبير". ظلت عينا لانغدون معلقتين بالصندوق طوال الوقت. "لم أسمع في حياتي بشيء يدعى كريبتس". لم تستغرب صوفي ذلك. فمعظم اختراعات ليوناردو التي لم يتم تطبيقها على أرض الواقع وبقيت على المخطط لم تتم دراستها ولا حتى أطلقت عليها أسماء أبداً. وربما كان مصطلح كريبتكس من اختراع جدها. وهو اسم مناسب لهذه الأداة التي استخدمت علم الكريبتولوجيا – الكتابة بالشيفرة - لحماية المعلومات المكتوبة على لفافة الورق أو المخطوطة الموجودة بداخلها. كان دافنشي رائداً في علم الكتابة بالشيفرة، كانت صوفي تعرف ذلك، إلا أنه نادراً ما اعترف بفضله في هذا المجال. وكان أساتذة صوفي في الجامعة، أثناء تعليمهم طرق التشفير التي يستخدمها الكومبيوتر لحماية المعلومات، كانوا ينسبون الفضل في تطور هذا العلم إلى علماء الكتابة بالشيفرة المعاصرين أمثال زيمرمان وشناير لكنهم لم يأتوا أبداً على ذكر ليوناردو دافنشي الذي كان أول من وضع أسس وأشكال الكتابة بالشيفرة منذ قرون خلت. وقد كان جد صوفي هو الذي أخبرها كل ذلك بالطبع. وبينما كانت شاحنتهما المصفحة تهدر في الطريق السريع، أخذت صوفي تشرح للانغدون كيف أن الكريبتكس كان الحل الذي أتى به دافنشي لمعضلة إيصال الرسائل بطريقة آمنة عبر مسافات طويلة. ففي عصر لم تكن فيه هواتف أو بريد إلكتروني، كان المرء إذا أراد أن ينقل معلومات سرية إلى شخص ما بعيداً عنه، لم يكن يملك أي خيار سوى أن يدون تلك المعلومات على الورق ويثق برسول يحمل له الرسالة. غير أنه إذا شك الرسول في أن الرسالة التي يحملها تحتوي على معلومات قيمة، عندها يمكنه أن يحصل على مبلغ من المال إذا ما باع تلك المعلومات إلى الخصوم، أكبر بكثير مما سيحصل عليه في حال سلم الرسالة إلى الشخص المطلوب بأمانة. قام العديد من العباقرة على مرّ العصور باستنباط حلول للكتابة بالشيفرة من أجل التحدي الذي يكمن في التوصل إلى طريقة لحماية المعلومات السرّية. فيوليوس قيصر على سبيل المثال ابتكر نظاماً للكتابة باستخدام الرموز أطلق عليه اسم صندوق قيصر، وماري الملكة الاسكوتلاندية اخترعت طريقة بديلة للكتابة الرمزية استخدمتها في مراسلاتها السرّية من السجن. كما أن العالم العربي العبقري أبو يوسف إسماعيل الكندي ابتكر طريقة تشفير مبدعة متعددة الأبجديات لحماية أسراره. غير أن دافنشي استعاض عن الرياضيات والكتابة الرمزية بابتكار حل ميكانيكي، ألا وهو الكريبتكس. وهو صندوق محمول يمكنه حفظ الرسائل والخرائط والمخططات وأي شيء على الإطلاق. فحالما يقفل على المعلومات المنقولة داخل الكريبتكس، لا يمكن أن يفتحه إلا الشخص المرسل إليه والذي يحمل الرمز السرّي الصحيح الذي يمكنه من فتحه. "نحن بحاجة إلى الرمز السرّي"، قالت صوفي، وهي تشير إلى الأحرف الموضوعة على الأقراص. "إن طريقة عمل الكريبتكس تشبه إلى حدّ كبير عمل قفل الدراجة التوافقي. فإذا اصطفت الأرقام الموجودة على كل من الأقراص المعدنية ونزلت في مكانها الصحيح، عندئذ يفتح القفل. ويتألف مفتاح هذا الكريبتكس من خمسة أحرف. عندما تدورها لتنزل في مكانها الصحيح تصطف ريش القفل على خط واحد فتنفتح الأسطوانة بكاملها مباشرة". "ماذا عما في داخل الأسطوانة؟". "حالما تفتح الأسطوانة، تجد في الداخل علبة مركزية مجوفة، قد تحتوي على لفافة من الورق توجد عليها المعلومات السرّية التي تريد حفظها". بدا لانغدون وكأنه لا يصدق ما سمع. "قلت إن جدك صنع لك أشياء كهذه عندما كنت صغيرة؟". "نعم، إلا أنها كانت صغيرة الحجم. لقد صنع لي مثلها عدة مرات وكان ذلك بمناسبة عيد ميلادي. حيث أنه أعطاني كريبتكس وقال لي أحجية. وكان حل الأحجية هو الرمز السرّي لفتح الكريبتكس وعندما أتوصل إلى حل الأحجية عندئذ يمكنني فتحه لأجد بطاقة تهنئة بعيد ميلادي". "هذا مجهود كبير للحصول في النهاية على مجرد بطاقة". "ليست مجرد بطاقة، فهي كانت تحمل دائماً أحجية أو دليلاً آخر. كان جدي يحب أن يخلق ألعاباً هدفها العثور على الهدية المخبأة في مكان ما في أرجاء بيتنا عن طريق سلسلة من الأدلة التي تقودني في النهاية إلى هديتي الحقيقية. وكان البحث في كل مرة بمثابة اختبار للأهلية والشخصية للتأكد من أنني أستحق الجوائز التي أحصل عليها. ولم تكن تلك الاختبارات يوماً بسيطة على الإطلاق". تفحص لانغدون تلك الأداة من جديد، وهو لا زال متشككاً. "لكن لم لا يتم فكها باستخدام مفك؟ أو حتى تحطيمها ببساطة؟ فالمعدن يبدو رقيقاً والرخام حجر سهل الكسر". ابتسمت صوفي. "لأن دافنشي أذكى بكثير من أن يفوته ذلك. فقد صمم الكريبتكس بحيث أنه إذا حاول أحد فتحه بالقوة بأي طريقة، يتم تخريب المعلومات تلقائياً. راقب هذا". مدت صوفي يدها إلى الصندوق وأخرجت الأسطوانة بحذر بالغ. "إن المعلومات على اختلاف محتواها، كانت تكتب أولاً على لفافة من ورق البردي". "ألم تكن تكتب على الرق؟". هزّت صوفي رأسها نفياً. "بل على البردي، أنا أعرف أن جلد الخراف كان أكثر انتشاراً ومتانة في تلك الأيام، إلا أنه كان لا بد من استخدام البردي، فكلما كانت اللفافة أرق كان ذلك أفضل". "حسناً". "قبل أن يتم إدخال البردي في القسم الداخلي من الكريبتكس، كان يلف حول قارورة زجاجية رقيقة." قلبت صوفي الكريبتكس فقرقر السائل بداخله. "قارورة فيها سائل". "وما هو هذا السائل؟". ابتسمت صوفي. "إنه خل". تردد لانغدون للحظات ثم هزّ برأسه. "عبقري". فكرت صوفي.. خل وورق بردي.. إذا حاول أحد أن يفتح الكريبتكس بالقوة، فستنكسر القارورة الزجاجية وسيقوم الخل بسرعة بإذابة ورقة البردي، وفي الوقت الذي يأخذه في محاولة إخراج الرسالة السرّية، تكون الورقة قد أصبحت عجينة لا معنى لها. "وكما ترى"، "قالت صوفي، "فإن الطريقة الوحيدة للوصول إلى المعلومات الموجودة في الداخل هي في معرفة رمز الدخول السرّي الذي يتألف من خمسة أحرف. وبما أن لدينا خمسة أقراص، وكل واحد فيه ستة وعشرون حرفاً، فهذا يساوي ست وعشرين مرفوعة للأس خمسة". وقامت بعمليات حسابية سريعة لتقدير الرقم. "لدينا اثنا عشر مليون احتمال تقريباً". "كما تريدين"، قال لانغدون وهو يبدو وكأن هناك اثني عشر مليون سؤال يدور في رأسه. "ما هي المعلومات التي قد تكون موجودة في الداخل برأيك؟". "مهما كانت هذه المعلومات فإن جدي كان يريدها بشدة أن تبقى طي الكتمان" وصمتت للحظة وهي تغلق غطاء الصندوق وتحدق في نقش الوردة الخماسية البتلات المحفور عليه. كان هناك شيء ما يضايقها. "هل قلت قبل قليل أن الوردة هي رمز الغريل؟". "بالضبط، ففي مصطلحات الأخوية الرمزية كانت الوردة والغريل كلمتين تعبران عن الشيء نفسه". رفعت صوفي حاجبها. "هذا غريب فعلاً، فقد كان جدي يخبرني دائماً بأن الوردة تعني السرّية. وقد اعتاد أن يعلق وردة على باب مكتبه في البيت عندما يقوم باتصال سري ولم يكن يريدني أن أزعجه. وقد شجعني على أن أفعل الشيء نفسه". حبيبتي، كان جدي يقول، بدلاً من أن نقفل الأبواب في وجه بعضنا، يمكن أن يقوم كل منا بتعليق وردة - وهي زهرة الأسرار - على باب غرفتنا عندما نحتاج إلى الخصوصية. وهكذا نتعلم أن نحترم ونثق ببعضنا. إن تعليق وردة على الباب هو عادة رومانية قديمة. "تحت الوردة"، قال لانغدون، "كان الرومان يعلقون وردة على أبواب قاعات اجتماعاتهم للدلالة على أن الاجتماع كان سرّياً وكان كل من يحضر الاجتماع يفهم أن كل ما يقال تحت الوردة أو سوب - روزا يجب أن يبقى طي الكتمان. وفسر لانغدون لصوفي بسرعة كيف أن ارتباط الوردة بالسرّية لم يكن السبب الوحيد الذي جعل الأخوية تستخدمها كرمز للغريل فالروزا روغوزا، وهي واحدة من أقدم فصائل الورد، تتميز بأنها تتألف من خمس بتلات ذات تناسق خماسي تماماً مثل نجمة فينوس، مما يمنحها ارتباطاً رمزياً وثيقاً بالأنوثة. بالإضافة إلى ذلك فإن الوردة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم "الاتجاه الصحيح". فالبوصلة Compass Rose ساعدت المسافرين على مرّ العصور في إرشادهم إلى الوجهة الصحيحة، وكذلك خطوط الطول التي ترسم على الخرائط والتي كان يطلق عليها اسم الخطوط الوردية. لهذا فقد كانت الوردة هي الرمز الذي يمثل الغريل على عدة مستويات - السرّية والأنوثة والإرشاد - أي الكأس الأنثى والنجم الدليل الذي هدى إلى الحقيقة المخفية. وعندما انتهى لانغدون من شرحه. بدا وكأن شيئاً ما قد ألم به فجأة. "روبرت، هل أنت على ما يرام؟". كانت نظره مركز على الصندوق. "Sub… rosa" تحت الوردة... واختنقت الكلمات في حلقه وبدت مسحة من الذهول الذي يشوبه الرعب على وجهه. "لا يمكن... هذا مستحيل". "ما هو المستحيل؟". رفع لانغدون نظره ببطء عن الصندوق وهمس "تحت علامة الوردة". "هذا الكريبتكس... أعتقد أنني أعرف ما بداخله!". الفصل الثامن والأربعون كان لانغدون يكاد لا يصدق الافتراض الذي توصل إليه لتوه. إلا أنه بالنظر إلى من قام بإعطاء الأسطوانة الحجرية لهما، وكيف أعطاهما تلك الأسطوانة والآن هذه الوردة المحفورة على الصندوق، لم يكن يسع لانغدون إلا أن يتوصل إلى هذه النتيجة الوحيدة. إنني أحمل الحجر المفتاح الخاص بالأخوية! فقد كانت كلمات الأسطورة محددة. الحجر المفتاح هو حجر يحمل شيفرة ويكمن تحت علامة الوردة. "روبرت؟" كانت صوفي تراقبه. "ماذا يحدث؟". كان لانغدون بحاجة إلى بضع لحظات كي يستجمع أفكاره. "هل أخبرك جدك يوماً عن شيء يدعى مفتاح العقد؟" قال لانغدون بالفرنسية. "مفتاح الخزينة؟" أجابت صوفي بالإنجليزية. "كلا، ليس مفتاح لخزينة، تلك هي الترجمة الحرفية. فمفتاح العقد أو الحجر المفتاح أي بالفرنسية Clef de Voute هو مصطلح معماري معروف. فكلمة voute الفرنسية لا تعني vault أي خزينة بنك بالإنجليزية بل تعني vault بالمعنى المعماري مثل السقف المقبب vaulted ceiling". "لكن الأسقف المقببة ليس لديها مفاتيح". "في الحقيقة لديها مفاتيح، فكل قنطرة أو قبة حجرية تحتاج إلى حجر مركزي إسفيني الشكل في قمتها يقوم بتثبيت القطع الحجرية الأخرى على بعضها ويحمل وزن القبة أو القنطرة بالكامل. وهذا الحجر بالمعنى المعماري هو مفتاح القبة. ونحن نطلق عليه بالإنجليزية اسم الحجر المفتاح أو مفتاح العقد". راقب لانغدون عينيها محاولاً أن يرى أي بريق يشير إلى أنها قد عرفت عن ماذا يتكلم. هزّت صوفي كتفيها باستهجان ونظرت إلى الكريبتكس. "لكن من الواضح أن هذا ليس الحجر المفتاح". لم يعرف لانغدون من أين يبدأ بالكلام. فحجر المفتاح كتقنية معمارية لبناء القباب والعقود الحجرية كان أحد أهم أسرار الأخوية الماسونية الأولى. ورتبة العقد الملكي والعمارة ومفتاح العقد، كلها كانت مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً. فالمعرفة السرّية لكيفية استخدام حجر مفتاح لبناء عقد مقنطر كانت جزءاً من الحكمة التي جعلت من الماسونيين حرفيين أغنياء، وقد كان ذلك سرّاً محفوظاً بعناية. كانت مفاتيح العقود دائماً تتمتع بغطاء تقليدي من السرّية. إلا أن الأسطوانة الحجرية الموجودة في صندوق خشب الورد كان من الواضح أنها شيء مختلف. فمفتاح العقد الخاص بالأخوية – على فرض أن ما يحملانه هو بالفعل مفتاح الأخوية - لم يكن على الإطلاق كما تخيله لانغدون. "إن مفتاح العقد الخاص بالأخوية ليس من ضمن اختصاصي" أقر لانغدون. "إن اهتمامي بالكأس المقدسة هو من الناحية الرمزية فقط. لذا فأنا أنزع إلى إهمال الأقاويل والتقاليد والمعارف المتعلقة بكيفية العثور عليها فعلاً". قطبت صوفي حاجبيها. "العثور على الكأس المقدسة؟". أومأ لانغدون رأسه بقلق، وأخذ ينطق بكلماته التالية بحذر. "صوفي، حسب المعلومات الواردة عن الأخوية، فإن الحجر المفتاح هو خريطة مشفرة... خريطة تكشف مخبأ الكأس المقدسة". شحب وجه صوفي لدى سماعها تلك الكلمات. "أنت تعتقد أن ما بداخل الكريبتكس هو تلك الخريطة؟". لم يعرف لانغدون ماذا يقول. فحتى بالنسبة إليه كان ذلك يبدو أمراً لا يصدق، غير أن الحجر المفتاح هو النتيجة المنطقية الوحيدة التي تمكن عقله من أن يأتي بها: حجراً يحمل شيفرة، مخبأ تحت علامة الوردة. كما أن فكرة أن ليوناردو دافنشي هو الذي صمم الكريبتكس وهو المعلم الأكبر السابق لأخوية سيون، لمعت كدليل ساطع على أن هذا هو بالفعل الحجر المفتاح. تصميم لمعلم أكبر سابق... أعيد إلى الحياة بعد قرون عدة على يد عضو آخر في الأخوية... كانت الصلة قوية جداً لدرجة أنه لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها. وطوال السنوات العشر الأخيرة، كان المؤرخون يبحثون عن الحجر المفتاح في الكنائس الفرنسية. وكان المنقبون عن الكأس المقدسة والذين كانوا على اطلاع بتاريخ الأخوية المتسم بالرمزية والمعاني المزدوجة، قد توصلوا أخيراً إلى أن "la clef de voute" يعني حرفياً مفتاح العقد – أي إسفيناً معمارياً - حجر نقشت عليه شيفرة وقد أدخل في عقد مقنطر في إحدى الكنائس. تحت علامة الوردة... كانت الوردة من أكثر عناصر الزخرفة انتشاراً في عمارة الكنائس. فهناك النوافذ الوردية والزخرفة بالنحت البارز الوردي الشكل وبالطبع الوردة الخماسية البتلات المنتشرة بكثرة كحلية معمارية تتوضع في قمة العقود فوق مفتاح العقد مباشرة. لقد بدا مخبأ المفتاح بسيطاً وواضحاً إلى درجة مثيرة للسخرية. فالخريطة التي تقود إلى الكأس المقدسة كانت مخبأة في الأعلى في مفتاح قنطرة في إحدى الكنائس المنسية هازئة برواد الكنيسة الذين يطوفون فيها كل يوم ويمرون تحتها وقد عموا عنها تماماً. "لا يمكن أن يكون هذا الكريبتكس هو الحجر المفتاح". اعترضت صوفي. "إنه ليس بهذا القدم. أنا متأكدة من أن جدي هو الذي صنعه. لذا فهو لا يمكن أن يكون جزءاً من أي أسطورة قديمة عن الكأس المقدسة". "في الحقيقة"، أجاب لانغدون، وهو يحس بوخز خفيف من الحماس يسري في جسده. "يعتقد بأن الحجر المفتاح قد ابتكرته الأخوية في وقت ما في العشرين سنة الأخيرة". لمعت عينا صوفي وقد أذهلها ما سمعته لتوها. "لكن إذا كان هذا الكريبتكس يكشف عن مخبأ الكأس المقدسة فلماذا أعطاه جدي لي أنا؟ فأنا لا أعرف كيف أفتحه وما الذي يفترض بي أن أفعل به. فأنا لا أعلم حتى ما هي الكأس المقدسة!". أدرك لانغدون فجأة أنها على حق. لم تكن قد أتيحت له الفرصة بعد ليفسر لصوفي الطبيعة الحقيقة للكأس المقدسة. لكن هذا لم يكن الوقت المناسب لذلك. ففي هذه اللحظة كانا يهتمان بموضوع الحجر المفتاح. إذا كان هذا فعلاً هو المفتاح... أخذ لانغدون يخبر صوفي على ضجيج الإطارات المقاومة للرصاص كل ما كان قد سمعه عن الحجر المفتاح. يقال إن سرّ الأخوية الأعظم وهو مخبأ الكأس المقدسة، لم تتم كتابته أبداً طوال القرون الماضية. حيث أنه يتم نقله شفهياً لأسباب أمنية إلى العضو الذي يترفع إلى أعلى مرتبة - سينيشال - وذلك في احتفال سرّي. إلا أنه في مرحلة ما في القرن الماضي، أطلقت إشاعات تفيد بأن الأخوية قد غيرت تلك السياسة. ربما كان السبب وراء ذلك هو تقنيات التنصت الإلكترونية الحديثة. غير أن الأخوية أقسمت منذ ذلك الحين ألا تأتي على ذكر المكان الذي خبئت فيه الكأس المقدسة أبداً. "لكن كيف سيتمكنون من تمرير السرّ؟" سألته صوفي. "هنا يأتي دور الحجر المفتاح". بدأ لانغدون يفسر لها ذلك. "عندما يموت أحد الأعضاء الأربعة الذين يحتلون الرتبة الأعلى في الأخوية، يقوم الثلاثة الآخرون باختيار أحد الأعضاء من الرتبة الأدنى كمرشح للترفيع إلى الرتبة الأعلى ليصبح واحداً من الأربعة الكبار - السينيشال. وعوضاً عن إخبار السينيشال الجديد عن المكان الذي خبئ فيه الغريل أو الكأس المقدسة، يقوم الأعضاء باختباره ليروا إذا ما كان قادراً على أن يثبت أنه أهل لتلك الترقية". بدا على صوفي التوتر عندما سمعت ذلك، عندئذ تذكر لانغدون أنها قد أخبرته كيف اعتاد جدها أن يلعب معها لعبة البحث عن الجائزة أو اختبارات إثبات الجدارة. كان لا بد للانغدون أن يعترف بأن الحجر المفتاح كان يقوم على المبدأ نفسه، لكن في نهاية الأمر كانت اختبارات كهذه شائعة جداً في أوساط الجمعيات السرّية. وأشهرها كانت الأخوية الماسونية حيث كان يترفع الأعضاء فيها إلى درجات أعلى بعد أن يثبتوا أنهم قادرون على الاحتفاظ بالسرّ وأداء طقوس خاصة واختبارات جدارة متعددة وذلك على مدى سنين عدة. وتصبح المهمات أصعب تدريجياً حتى تبلغ قمتها في نجاح المرشح للعضوية بقبوله في درجة الماسون الثانية والثلاثين. "إن الحجر المفتاح إذاً اختبار جدارة"، قالت صوفي. "فإذا تمكن سينيشال صاعد من فتحه، يثبت أنه يستحق الحصول على المعلومات التي بداخله". أومأ لانغدون. "لقد نسيت بأنك خبيرة في مثل هذه الأمور". "ليس فقط بسبب جدي. ففي علم تحليل الرموز، يطلق على ذلك "لغة ذاتية التحليل" أي أنك إذا كنت على قدر كاف من الذكاء لتقرأ تلك اللغة، عندئذ يسمح لك بأن تعرف ما الذي جاء فيها". تردّد لانغدون للحظة. "صوفي، أنت تدركين أنه إذا كان هذا فعلاً هو الحجر المفتاح فهذا يعني أن معرفة جدك بمكانه تدل على أنه كان ذا نفوذ كبير جداً في أخوية سيون. وأنه لا بد أن يكون أحد الأعضاء الأربعة الكبار". تنهدت صوفي. "كان شخصية بارزة في جمعية سرّية. أنا متأكدة من ذلك. ولا يمكنني إلا الافتراض بأن تكون تلك الجمعية هي أخوية سيون". استغرب لانغدون. "كنت تعلمين أنه عضو في جمعية سرّية؟". "لقد رأيت بالصدفة بعض الأمور التي لم يكن من المفروض أن أراها منذ عشر سنوات ولم نتكلم مع بعضنا أبداً منذ ذلك اليوم". صمتت قليلاً. "فجدي لم يكن عضواً ذا درجة عالية في تلك المجموعة فحسب، بل أعتقد أنه كان العضو الأعلى رتبة فيها". لم يستطع لانغدون أن يصدق ما قالته لتوها. "المعلم الأكبر؟ لكن... من المستحيل أن يكون بإمكانك أن تعرفي أنت بذلك!". "أفضّل ألا أخوض في هذا الحديث" أشاحت صوفي بنظرها بعيداً وقد بدا عليها التصميم والألم في آنٍ معاً. جلس لانغدون صامتاً وقد سيطر عليه الذهول. جاك سونيير؟ المعلم الأكبر؟ بالرغم من النتائج المذهلة التي قد تترتب على ذلك في ما إذا كانت هذه هي الحقيقة، إلا أن لانغدون خالجه شعور قوي غامض بأن ذلك كان منطقياً تماماً. ففي النهاية، كان المعلمون الكبار السابقون أيضاً شخصيات اجتماعية بارزة وذوي روح فنية. وقد تم الكشف عن الدليل على هذه الحقيقة منذ عدة سنوات في مكتبة باريس الوطنية في أوراق أصبحت تعرف بالملفات السرّية. وقام كل مؤرخ للأخوية وكل باحث ومهتم بالكأس المقدسة بقراءة هذه الملفات التي صنفت تحت الرقم 4 Lm 249 بعد أن تم توثيقها وتدقيقها على يد العديد من الاختصاصيين وقد أكدت هذه الملفات بشكل لا يقبل الجدل شكوك المؤرخين على مرّ السنين بأنه كان من بين المعلمين الكبار في الأخوية ليوناردو دافنشي وبوتيشلّي والسير إسحق نيوتن وفيكتور هوجو وحديثاً جان كوكتو، الفنان الباريسي المعروف. لم لا يكون جاك سونيير واحداً منهم؟ وقد زاد من شك لانغدون أنه كان على موعد مع جاك سونيير الليلة. لقد قام المعلم الأكبر بتحديد موعد للقاء بي. لماذا؟ لكي يثرثر معي في أمور فنية؟ بدا ذلك فجأة غير منطقي على الإطلاق. وفي نهاية الأمر، في حال أصاب حدس لانغدون، عندئذ يكون المعلم الأكبر لأخوية سيون قد نقل لتوه الحجر المفتاح الأسطوري الخاص بالأخوية إلى حفيدته وأمرها في الوقت ذاته أن تجد روبرت لانغدون. هذا أمر لا يقبله العقل! لم تكن مخيلة لانغدون قادرة على تصور أي تسلسل للأحداث والظروف من شأنه تفسير تصرف سونيير. فحتى لو أن سونيير كان يخشى أن يقتل، يبقى هناك الأعضاء الثلاثة الكبار الذين يحتفظون بالسرّ والذين يمكنهم أن يحافظوا على سرّ الأخوية وأمنها. لماذا أقدم سونيير على هذه المجازفة الخطيرة بإعطاء حفيدته الحجر المفتاح، خصوصاً وأنهما على خلاف؟ ولم ورط لانغدون... وهو الغريب عنهما تماماً؟ هناك قطعة مفقودة في هذه الأحجية، فكر لانغدون. يبدو أن الإجابة عن هذه الأسئلة هو أمر سيطول انتظاره. وقد تنبه الاثنان وتبادلا نظرات الترقب حيث خفت صوت المحرك. وسمع صوت الحصى وهو ينسحق تحت الإطارات. لماذا أوقف السيارة الآن؟ تساءل لانغدون. فقد كان فيرنيه قد أخبرهما أنه سيأخذهما بعيداً خارج المدينة إلى مكان آمن. تباطأت سرعة الشاحنة إلى حدٍّ كبير وأخذت تشق طريقها فوق أرض قاسية. نظرت صوفي إلى لانغدون بقلق وتوتر وأغلقت صندوق الكريبتكس بسرعة وأقفلته بإحكام ولبس لانغدون سترته بسرعة. وعندما توقفت الشاحنة تماماً، ظل المحرك يدور وبدأت الأقفال في مقصورة الشاحنة الخلفية تفتح. وعندما فتحت الأبواب على مصراعيها، دهش لانغدون عندما رأى أنهم قد توقفوا في منطقة غابات بعيداً تماماً عن الطريق الرئيس. تقدم فيرنيه نحوهما ونظر إليهما بتوتر بالغ. وكان يحمل في يده مسدساً. "أنا آسف... أنا مضطر أن أفعل هذا"، قال فيرنيه. "فليس لدي أي خيار آخر". الفصل التاسع والأربعون بدا أندريه فيرنيه غريباً والمسدس بيده، لكن كان هناك تصميم قوي في عينيه جعل لانغدون يشعر بأنه لم يكن من الحكمة اختباره. "أخشى أنني مصرّ على ذلك". قال فيرنيه وهو يصوب مسدسه نحوهما خلف الشاحنة التي لا زال محركها يدور. "ضعي الصندوق جانباً". تشبثت صوفي بالصندوق وضمته إلى صدرها. "لقد قلت إنك كنت صديقاً لجدي". "إن واجبي هو حماية مقتنيات جدك"، رد فيرنيه. "وهذا بالضبط ما أقوم به. والآن ضعي الصندوق على الأرض". "لقد ائتمنني جدي عليه!" أصرت صوفي. "هيا بسرعة"، أمرها فيرنيه ورفع المسدس في وجهها. وضعت صوفي الصندوق عند قدميها. راقب لانغدون فيرنيه وهو يلوح المسدس باتجاهه الآن. "سيد لانغدون"، قال فيرنيه، "ستحضر إليّ الصندوق. وثق تماماً أنني أطلب ذلك منك أنت لأنني لن أتردد عن قتلك أنت بالذات". حدق لانغدون في مدير البنك بذهول. "لم تفعل هذا؟". "لماذا أفعل هذا برأيك؟ رد فيرنيه بحدة، وقد أصبحت كلماته التي تشوبها لكنة فرنسية أكثر تهذيباً الآن. "لأحمي ممتلكات عميلي". "نحن عملاؤك الآن"، قالت صوفي. تحول وجه فيرنيه بشكل غريب واكتسى ببرودة قاسية. "آنسة نوفو، لا أعرف كيف حصلت على المفتاح ورقم الحساب الليلة، لكن من الواضح أن هناك لعبة قذرة وراء ذلك. ولو كنت قد عرفت مدى جرائمك لما كنت قد ساعدتك على الهروب من البنك". "لقد قلت لك"، قالت صوفي، "ليس لنا أي يد في مقتل جدي!". نظر فيرنيه إلى لانغدون. "ومع ذلك ادعت الأخبار الواردة في الراديو أنكما مطلوبان ليس بتهمة قتل جاك سونيير فحسب بل بتهمة قتل ثلاثة رجال آخرين أيضاً". "ماذا!" صعق لانغدون. ثلاث جرائم أخرى؟ صدمه الرقم غير المتوقع أكثر من حقيقة أنه كان المتهم الأساسي. كان هذا الرقم يبدو أكثر من مجرد صدفة. الثلاثة الكبار؟ نظر لانغدون من جديد إلى الصندوق الخشبي. إذا كان الأعضاء الثلاثة الكبار قد قتلوا، فلا بد أن سونيير لم يكن يمتلك أي خيار آخر سوى تمرير الحجر المفتاح إلى شخص ما. "يمكن أن تتولى الشرطة حل هذه المسألة عندما أقوم بتسليمكما إليهم"، قال فيرنيه. "فقد ورطت بنكي إلى حدٍّ كبير حتى الآن". حملقت صوفي في فيرنيه بغضب. "من المؤكد أنك لا تنوي تسليمنا للشرطة. فقد كان بإمكانك أن تعيدنا إلى البنك. لكنك عوضاً عن ذلك أتيت بنا إلى هنا وهددتنا بمسدسك هذا؟". "لقد استخدم جدك بنكي لهدف واحد فقط، وهو الحفاظ على سلامة وسرّية مقتنياته. ومهما كان محتوى هذا الصندوق فليس في نيتي تركه ليصبح دليلاً في تحقيق للشرطة. سيد لانغدون. اجلب لي الصندوق". هزّت صوفي رأسها. "كلا، لا تفعل". دوى صوت رصاصة أطلقها فيرنيه ضربت سقف الشاحنة فوق رأس لانغدون. وهز ارتداد الطلقة القسم الخلفي من الشاحنة حيث وقعت الرصاصة الفارغة على أرض مقصورة الحمولة. سحقاً! تسمر لانغدون في مكانه. تكلم فيرنيه بثقة أكبر الآن. "سيد لانغدون، التقط الصندوق". رفع لانغدون الصندوق. "والآن آتني به". كان فيرنيه مصوباً مسدسه إلى مقتله وقد وقف وراء المصد الخلفي وسدد الآن إلى داخل صندوق الحمولة. تقدم لانغدون الآن من الداخل نحو الباب المفتوح والصندوق بيده. يجب أن أفعل شيئاً! فكر لانغدون. فأنا على وشك أن أسلمه مفتاح الأخوية! وعندما تقدم لانغدون نحو الباب، أصبح واقفاً في موضع أعلى بشكل واضح. فبدأ يتساءل في ما إذا كان باستطاعته استغلال هذا الوضع لمصلحته بطريقة أو بأخرى. فمع أن مسدس فيرنيه كان مرتفعاً نحو الأعلى، إلا أنه كان على مستوى ركبته. هل أركله ركلة قوية توقعه على الأرض؟ لكن لسوء الحظ، عندما اقترب لانغدون من الباب، بدا فيرنيه وكأنه قد أحس بالتطور الحركي الخطير فرجع عدة خطوات إلى الوراء ووقف على بعد ستة أقدام بعيداً عن الشاحنة. "ضع الصندوق بجانب الباب". لم يكن أمام لانغدون أي خيار آخر، فانحنى ووضع صندوق الخشبي على حافة مقصورة الحمولة أمام الباب المفتوح مباشرة. "والآن قف". هم لانغدون بالوقوف على قدميه لكنه انتظر قليلاً واسترق النظر إلى الرصاصة الفارغة على أرض المقصورة بالقرب من عتبة الشاحنة المصنوعة بدقة تامة. "قف وابتعد عن الصندوق". انتظر لانغدون مدة أطول متفحصاً العتبة المعدنية قبل أن يدفع الرصاصة الفارغة بقدمه إلى الحافة حتى وصلت إلى النتوء المعدني الضيق الذي كان العتبة الأدنى للباب. تراجع لانغدون بضع خطوات إلى الوراء وقد انتصب على قدميه تماماً الآن. "عد إلى الحائط الخلفي ثم استدر". أطاعه لانغدون. كان فيرنيه يكاد يسمع ضربات قلبه وقد صوب مسدسه نحو لانغدون بيده اليمنى، ومد يده اليسرى ليمسك بالصندوق الخشبي. فاكتشف أنه كان أكثر ثقلاً مما كان يتوقع. أنا بحاجة ليدي الاثنتين. أعاد النظر إلى أسيريه ثم قام بحساب المجازفة التي كان على وشك القيام بها. كان الاثنان على بعد خمسة عشر قدماً تقريباً يواجهان الجدار في نهاية مقصورة الحمولة. فحسم عندئذ فيرنيه أمره. وبسرعة وضع المسدس على المصد وحمل الصندوق بكلتا يديه ووضعه على الأرض، ثم أمسك بالمسدس في الحال وسدده من جديد إلى المقصورة. لم يكن أي من السجينين قد أتى بأي حركة. حسناً، كل ما عليّ فعله الآن هو أن أغلق الباب ثم أقفله. ترك فيرنيه الصندوق على الأرض للحظة وأمسك بالباب المعدني وبدأ يدفعه كي يغلقه. وعندما دار الباب أمامه مد يده إلى الأعلى كي يمسك بالمزلاج الوحيد الذي كان بحاجة لأن ينزلق وينزل في مكانه المناسب. أغلق الباب بضربة واحدة وبسرعة أمسك فيرنيه بالمزلاج وسحبه نحو اليسار، فانزلق عدة إنشات ثم توقف فجأة قبل أن ينزل في مكانه. ماذا جرى؟ سحبه فيرنيه مرة أخرى، لكنه لم يقفل. كان هناك شيء ما معطل في ميكانيكيته. إن الباب لم يغلق تماماً! دفع فيرنيه الباب من الخارج وقد شعر بموجة من الرعب، بكل ما أوتي من قوة لكنه لم يتزحزح. لا بد وأن شيئاً ما يعيقه! فاستدار ليلقي بثقل جسمه على الباب. لكن هذه المرة فتح الباب بعنف نحو الخارج فضرب فيرنيه في وجهه وقذفه في الهواء نحو الوراء فطرح أرضاً وقد تحطم أنفه فصرخ متألماً. وطار المسدس بينما كان فيرنيه يتحسس وجهه حيث شعر بالدم ينزف من أنفه. عندئذ قفز لانغدون من الشاحنة ووقع على الأرض بالقرب من فيرنيه الذي حاول أن ينهض لكنه لم يستطع أن يرى شيئاً وقد تشوش نظره فتراجع إلى الوراء ووقع على الأرض ثانية. في تلك الأثناء كانت صوفي نوفو تصرخ. وبعد لحظات أحس فيرنيه بسحابة من التراب والدخان تغطيه وسمع صوت الإطارات وهي تسحق الحصى تحتها وعندما تمكن من النهوض قليلاً رأى قاعدة لف الشاحنة العريضة لا تتمكن من الدوران ثم سمع صوت اصطدام حيث ضرب المصد الأمامي شجرة. زمجر المحرك وانحنت الشجرة وأخيراً استسلم المصد وانتزع نصفه فترنحت الشاحنة ثم انطلقت بعيداً وهي تجر المصد الأمامي. عندما وصلت الشاحنة إلى الطريق المعبّد، أنارت العتمة الحالكة أضواء السيارات المسرعة في الطريق وراء الشاحنة التي مضت في طريقها إلى الأمام. أعاد فيرنيه نظره نحو الأرض حيث كانت الشاحنة. وعلى ضوء القمر الشاحب، استطاع فيرنيه أن يرى أنه لم يكن هناك أي شيء على الأرض. لقد اختفى الصندوق الخشبي. الفصل الخمسون أخذت سيارة الفيات التي خرجت من كاستيل غاندولفو تسير جنوباً بسرعة تاركة وراءها هضاب الألب متجهة نحو الوادي في الأسفل. كان القس أرينغاروزا يجلس في المقعد الخلفي وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه وهو يشعر بوزن الأوراق المالية في الحقيبة التي كانت على حضنه متسائلاً كم من الوقت سينتظر حتى يتمكن هو والمعلم من القيام بعملية المبادلة. عشرون مليون يورو... ستأتي له هذه النقود بنفوذ يستحق مبلغاً أعلى بكثير من هذا المبلغ. وبينما كانت السيارة تعود مسرعة إلى روما، وجد أرينغاروزا نفسه يتساءل من جديد عن السبب الذي جعل المعلم يتأخر في الاتصال به حتى الآن. أخرج هاتفه النقال من جيب ردائه وتحقق من إشارة الإرسال. كانت ضعيفة جداً. "إن إشارة النقال متقطعة هنا"، قال السائق وهو ينظر إليه في المرآة الخلفية. "بعد خمس دقائق سنخرج من هذه المنطقة الجبلية وعندها ستتحسن الإشارة. "شكراً لاهتمامك". شعر أرينغاروزا بموجة عارمة من القلق تعتريه. ليست هناك إشارة في الجبال؟ ربما كان المعلم يحاول الاتصال به طوال الوقت. ربما طرأ أمر خطير على الخطة. عندئذ تحقق أرينغاروزا بسرعة من المجيب الصوتي في الهاتف. لم تكن هناك أية رسالة. لكنه تنبه إلى أنه من المستحيل أن يترك المعلم رسالة فقد كان رجلاً شديد الحذر عندما يتعلق الأمر بالاتصالات. ولم يكن باستطاعة أي أحد أن يقدر خطورة التحدث بحرية هذه الأيام كالمعلم. وكان بواسطة التقنيات الإلكترونية الحديثة هو الذي مكّن المعلم من جمع هذا الكم من المعلومات السرّية الخطيرة. لهذا السبب يتخذ المعلم تدابير احتياطية أكثر من اللازم. لكن لسوء الحظ، كانت بروتوكولات الحيطة التي فرضها المعلم تتضمن رفضاً تاماً لأن يعطي أرينغاروزا أي طريقة للاتصال به. أنا سأتصل بك فقط. هذا ما قاله له المعلم. لذا احتفظ بهاتفك قريباً منك دائماً. والآن بعد أن انتبه أرينغاروزا إلى أن هاتفه قد لا يكون جاهزاً لتلقي الاتصالات طوال الوقت، خشي أن يكون المعلم قد اتصل به أكثر من مرة وعندما لم يجبه أحد. قد يفكر أن هناك أمراً ما لا يسير على ما يرام.. أو أنني لم أوفق في الحصول على السندات. بدأ القس يتصبب عرقاً. والأسوأ من كل هذا هو أن يفكر أنني قد أخذت النقود وهربت بها! الفصل الواحد والخمسون بالرغم من السرعة المتواضعة التي لم تتجاوز ستين كيلومتراً في الساعة، كان المصد الأمامي المتدلي من الشاحنة المصفحة يحتك بأرض الطريق الريفية الخالية من السيارات بقوة مصدراً صريراً عالياً يصم الآذان ومطلقاً شرراً وصل حتى غطاء محرك الشاحنة. يجب أن نبتعد عن الطريق العام، فكر لانغدون. فهو حتى الآن لم يكن يعرف إلى أين كانت وجهتهما. والضوء الأمامي الوحيد الذي كان يعمل، قد ضرب فانحرف عن المركز وأخذ يطلق شعاعاً ضوئياً ضعيفاً مائلاً نحو الغابات الموجودة على جانب الطريق العام. يبدو أن التصفيح في هذه "الشاحنة المصفحة" كان ينطبق فقط على مقصورة الحمولة الخلفية لا على القسم الأمامي منها. جلست صوفي في المقعد الأمامي محدقة بشرود في الصندوق الخشبي الذي كان في حضنها. "هل أنت على ما يرام؟" سألها لانغدون. بدت صوفي مصدومة. "هل صدقت ما قاله؟". "عن الجرائم الثلاث الأخرى؟ بالطبع، فهذا يجيب عن الكثير من التساؤلات كمحاولة جدك اليائسة لتمرير الحجر المفتاح وكره فاش الشديد لي وتصميمه على مطاردتي والقبض عليّ". "كلا، كنت أسألك إذا صدقت فيرنيه أنه يحاول حماية بنكه". نظر لانغدون إليها. "ماذا تقصدين؟". "ماذا لو كان يريد المفتاح لنفسه؟". لم تكن هذه الفكرة قد خطرت في بال لانغدون على الإطلاق. "كيف له أن يعرف حتى ما الذي يحتويه الصندوق؟". "لقد كان وديعة في خزينة بنكه. كما أنه كان يعرف جدي. قد يكون على علم بأمور لا نعرفها نحن. ربما قرر أنه يريد الغريل لنفسه". هز لانغدون رأسه نافياً. فلم يكن فيرنيه يبدو أنه ينتمي إلى تلك النوعية من الناس. "بحكم خبرتي، هناك سببان فقط وراء بحث الناس عن الغريل؛ فهم إما أناس بريئون وبسيطون لدرجة أنهم يؤمنون بأنهم يبحثون عن كأس المسيح التي طال اختفاؤها...". "أو؟". "أو أنهم يعرفون الحقيقة واكتشافها سيدمرهم. فعلى مرّ العصور كان هناك العديد من المجموعات التي حاولت العثور على الغريل للتخلص منه". ضاعف الصمت الذي ساد بينهما فجأة من حدة الصرير الذي نجم عن احتكاك المصد بأرض الطريق. لقد كانا قد قطعا عدة كيلومترات الآن وبينما كان لانغدون يراقب الشرر المتطاير من أمام الشاحنة تساءل في ما إذا كان ذلك يشكل خطراً عليهما وفي كافة الأحوال فالشاحنة ستلفت النظر إليهما إذا تجاوزا سيارة أخرى. لذا فقد حسم لانغدون الأمر. "سوف أرى إذا كان بإمكاني لوي هذا المصد وأعيده إلى مكانه". نحى لانغدون الشاحنة جانباً ثم أوقفها على حافة الطريق. ساد السكون. وبينما كان لانغدون يمشي إلى أمام الشاحنة، أحس أنه يقظ ومتنبه تماماً. حيث إنه قد تعرض إلى تهديد المسدس الذي أشهر في وجهه للمرة الثانية هذه الليلة مما جعل طاقاته تتجدد. أخذ نفساً عميقاً من هواء الليل المنعش وحاول أن يستجمع قواه. فإضافة إلى خطورة كونه فاراً من العدالة، كان لانغدون قد بدأ يشعر بثقل المسؤولية التي ألقيت على كاهله حيث إنه وصوفي ربما كانا يحملان خريطة مشفرة ترشدهما إلى واحد من أكثر الأسرار غموضاً في تاريخ البشرية. وكما لو أن هذا الحمل لم يكن ثقيلاً بما فيه الكفاية، ومما زاد الأمر سوءاً أن أي احتمال لإيجاد طريقة لإعادة المفتاح إلى الأخوية تبخر الآن. والأخبار التي سمعها لانغدون حول مقتل الثلاثة الآخرين، كانت تنذر بنتائج كارثية. فقد تم اختراق الأخوية. وافتضح أمرها. يبدو أن أحداً ما كان يتجسس عليهم، أو أنه كان بين صفوفهم أحد يعمل ضدهم في الخفاء. مما يفسر لماذا قام سونيير بتمرير المفتاح إلى صوفي ولانغدون كونهما خارج دائرة الأخوية لذا فهما لن يكونا في خطر لأن لا أحد يعلم بأمرهما. ليس بإمكاننا أن نعيد المفتاح إلى الأخوية. فحتى لو كان لانغدون يعرف كيف يجد أحد أعضاء الأخوية، فهناك احتمال كبير أن يكون أي عضو منهم هو العدو ذاته. يبدو في الوقت الحالي، على الأقل، أن المفتاح كان بين يدي صوفي ولانغدون سواء أرادا ذلك أم لا. كانت حالة الشاحنة من الأمام أسوأ مما كان لانغدون يتخيل. فقد كان الضوء الأمامي الأيسر قد اختفى. أما اليميني فكان متدلياً إلى الأسفل ككرة عين سقطت من محجرها فقومه لانغدون لكنه سقط. إلا أن الخبر السار الوحيد هو أن المصد الأمامي كان قد انتزع من مكانه بالكامل تقريباً، فركله لانغدون ركلة قوية وأحس بأنه قادر على تحطيمه بالكامل. وبينما كان يركل المعدن الملتوي واحداً تلو الآخر، تذكر حديثه مع صوفي. عندما أخبرته أن جدها كان قد ترك لها رسالة هاتفية حيث قال إنه يجب أن يخبرني بحقيقة عائلتي. لم يكن هذا الكلام يعني أي شيء في ذلك الحين، لكنه عندما فكر فيه الآن وبعد أن عرف علاقة جدها بأخوية سيون، شعر لانغدون بأن هناك احتمالاً مذهلاً سيظهر على الساحة. وأخيراً انفصل المصد عن السيارة محدثاً ضجة عالية. توقف لانغدون للحظات ليرتاح ويلتقط أنفاسه. على الأقل لن تبدو بعد الآن بالشرر الذي كان يتطاير منها كالألعاب النارية في احتفالات الرابع من يوليو. أمسك لانغدون بالمصد وأخذ يجره نحو الغابة بعيداً عن الأنظار وهو يتساءل إلى أين يجب أن يذهبا الآن. فهما لا يعرفان كيف يفتحان الكريبتكس ولا السبب الذي دعا سونيير لإعطائهما إياه. وللأسف فإن حياتهما هذه الليلة تعتمد على الإجابة عن هذين السؤالين بالذات. نحن بحاجة للمساعدة، قرر لانغدون. مساعدة شخص محترف. ففي عالم الكأس المقدسة وأخوية سيون، كان هناك شخص واحد فقط يمكن أن يقدم لهما المساعدة. لكن التحدي، بالطبع، يكمن في إقناع صوفي بهذه الفكرة. بينما كانت صوفي تنتظر عودة لانغدون، داخل الشاحنة المصفحة، شعرت بثقل الصندوق الخشبي على حضنها واستاءت منه. لماذا أعطاني جدي هذا؟ لم تكن لديها أدنى فكرة عما يجب أن تفعل به. فكري صوفي! استخدمي عقلك. جدك يحاول أن يقول لك شيئاً! فتحت صوفي الصندوق وتفحصت الأقراص المدرجة. إثبات جدارة... كانت تشعر بيد جدها في الموضوع. إن الحجر المفتاح هو خريطة لا يمكن أن يتبعها إلا من كان جديراً بذلك. كانت تلك الكلمات تبدو وكأنها تخرج من فم جدها... أخرجت صوفي الكريبتكس من الصندوق ومررت أصابعها على الأقراص. خمسة أحرف. وأدارت الأقراص الواحد تلو الآخر، فتحركت بسلاسة. ثم صفت الأقراص بحيث توضعت الأحرف التي اختارتها على خط شاقولي واحد بين الأسهم النحاسية الموجودة في نهايتي الأسطوانة. فشكلت التدريجات كلمة تتألف من خمسة أحرف عرفت صوفي أنها لا تصلح أن تكون هي كلمة السرّ لأنها واضحة إلى درجة كبيرة، لكن لم يكن هناك ضير من التجربة. G - R - A - I - L أمسكت صوفي نهايتي الأسطوانة بلطف ثم شدت مطبقة ضغطاً خفيفاً عليها. لكن الكريبتكس لم يتزحزح، وسمعت الخل يقرقر في الداخل فتوقفت عن الشد وحاولت من جديد. V - I - N - C - I ومرة أخرى، لم يتحرك. V - O - U - T - E لا شيء. لا زال الكريبتكس مقفلاً بإحكام. فتجهمت، وأعادته إلى الصندوق الخشبي وأغلقت الغطاء فوقه. وعندما نظرت إلى الخارج حيث كان لانغدون واقفاً، شعرت بالامتنان لأنه كان في هذه الليلة معها. P.S. آت بروبرت لانغدون. كان السبب الذي دعا جدها للاستعانة بروبرت لانغدون بدا منطقياً وواضحاً تماماً الآن. فلم تكن صوفي مزودة بالمعرفة اللازمة لفهم مقاصد جدها ولهذا فقد أوكل إلى روبرت لانغدون مهمة إرشادها، كمعلم ليتأكد من المعلومات التي تلقتها على يد جدها. لكن ذلك كان من سوء حظ لانغدون، الذي تحول في نهاية الأمر إلى أكثر بكثير من مجرد معلم هذه الليلة. فقد أصبح هدفاً يطارده بيزو فاش... وقوة خفية مصممة على الوصول إلى الكأس المقدسة. بغض النظر عما قد تكون عليه حقيقة هذه الكأس. تساءلت صوفي إذا ما كان الكشف عن تلك الحقيقة يساوي حياتها. فيما انطلقت الشاحنة المصفحة بسرعة من جديد، كان لانغدون مسروراً لأن قيادة الشاحنة أصبحت أسهل وأفضل بكثير الآن بعد أن نزع المصد الأمامي. "هل تعرفين كيف يمكننا الذهاب إلى فرساي من هنا؟". فحدقت فيه صوفي بدهشة. "تريد أن تزوره الآن؟". "كلا، لدي خطة. هناك مؤرخ ديني أعرفه يسكن بالقرب من فرساي، لا أتذكر بالتحديد أين كان منزله لكن يمكننا أن نبحث عنه هناك فقد زرته عدة مرات. اسمه لاي تيبينغ وهو مؤرخ ملكي بريطاني سابق". "ويعيش في باريس؟". "إن الغريل هو ولع حياته الأزلي. فمنذ خمسة عشر عاماً، عندما أطلقت إشاعات حول الحجر المفتاح الخاص بالأخوية، انتقل إلى باريس ليبحث عنه في الكنائس على أمل العثور عليه. وقد ألف عدة كتب حول الحجر المفتاح والكأس المقدسة - الغريل. قد يتمكن من مساعدتنا في التوصل إلى كيفية فتحه والتصرف فيه. كان هناك شك في عيني صوفي. "هل يمكنك الوثوق به؟". "من أي ناحية؟ من أنه لن يسرق المعلومات؟". "وألا يبلغ الشرطة عنا". "أنا لا أنوي أن أخبره بأن الشرطة تطاردنا. فأنا آمل أن يدخلنا إلى منزله حتى نتمكن من تصور حل يخرجنا من هذا المأزق". "روبرت، هل خطر في بالك أن كل محطات التلفزة الفرنسية قد تكون الآن قد حضّرت صورنا لتبثها عبر شاشاتها؟ علاوة على أن من عادة بيزو فاش استغلال الإعلام لمصلحته. وسيجعل تحركنا في باريس دون أن يتعرف علينا أحد أمراً مستحيلاً". هذا رائع. فكر لانغدون. سيكون ظهوري الأول على التليفزيون الفرنسي في برنامج "المجرمون الأكثر خطراً في باريس". وهذا سيفرح على الأقل جوناس فوكمان ففي كل مرة سيظهر فيها لانغدون في نشرة الأخبار سترتفع مبيعات كتبه. "هل هذا الرجل صديق مقرب إليك إلى حدٍّ ما؟" سألت صوفي. كان لانغدون يشك بأن تيبينغ كان شخصاً يشاهد التليفزيون، وخاصة في هذه الساعة من الليل. لكن بالرغم من ذلك كان السؤال يستحق التفكير. كان حدس لانغدون ينبئه بأن تيبينغ شخص موثوق به تماماً. وهو ملاذ آمن مثالي. وبالنظر إلى الظروف الراهنة، فإن تيبينغ سيقوم على الأرجح بأي شيء لمساعدتهم، ليس لأنه مدين للانغدون بخدمة فحسب، بل لأن تيبينغ كان باحثاً في الغريل أيضاً. وإذا كان جد صوفي فعلاً هو المعلم الأكبر في أخوية سيون كما تظن هي، وفي حال سمع تيبينغ بذلك فسوف يسيل لعابه لمجرد فكرة مساعدتهم. "قد يكون تيبينغ حليفاً قوياً"، قال لانغدون. ذلك يعتمد على الكم من المعلومات التي تريدين إخباره بها. "قد يعرض فاش مكافأة مالية". ضحك لانغدون. "صدقيني، المال هو آخر شيء يحتاجه هذا الرجل". فقد كانت ثروة لاي تيبينغ تكاد توازي ثروة بلد صغير. وكان تيبينغ سليل أول دوق بريطاني للانكاستر، وقد حصل على ثروته بالطريقة التقليدية ذاتها فقد ورثها عن عائلته. وكان يمتلك قصراً بعيداً عن باريس يعود إلى القرن السابع عشر مزود ببحيرتين خاصتين به. كان لانغدون قد التقى بتيبينغ للمرة الأولى عن طريق محطة الإذاعة البريطانية بي. بي. سي. وذلك عندما تقدم تيبينغ للمحطة بعرض يقدم فيه برنامجاً وثائقياً تاريخياً يكشف فيه التاريخ الخطير للكأس المقدسة للمشاهد العادي. وقد حاز عرض تيبينغ المثير بفكرته وبحثه ومصادره على الإعجاب الشديد من المنتجين، لكنهم قلقوا من عدم تقبل المشاهد لهذا الموضوع بسبب حساسيته الشديدة والصدمة التي من شأنه أن يسببها مما قد يؤدي إلى خسارة المحطة لسمعتها كمؤسسة صحفية معروفة بتقديم برامج ذات نوعية عالية. فقامت المحطة، بناء على اقتراح تيبينغ بحل مسألة مصداقية البحث من خلال استشارة ثلاثة من أهم المؤرخين في العالم وكلهم أكدوا الطبيعة المدهشة لسرّ الكأس المقدسة في أبحاثهم. كان لانغدون أحد المؤرخين الثلاثة الذين تم اختيارهم. وقد أرسلت البي. بي. سي. لانغدون بالطائرة إلى قصر تيبينغ في باريس لتصوير الوثائق. جلس لانغدون آنذاك أمام الكاميرات في قاعة الاستقبال الفخمة وروى قصته معترفاً بتشكيكه في البداية عندما سمع بقصة الكأس المقدسة البديلة غير المتعارف عليها، ثم شرح كيف أن سنين من البحث الجاد أقنعته بأن القصة البديلة كانت حقيقية. وفي النهاية، قدم لانغدون بعض أبحاثه الخاصة التي كانت عبارة عن مجموعة من الصلات الرمزية التي دعمت بشدة الادعاءات التي كانت تبدو مثيرة للجدل. وقد أثار البرنامج حال عرضه في بريطانيا زوبعة من الرفض والعداء بسبب الفكرة التي قام عليها والتي ضربت أساس وصلب المعتقد المسيحي بشدة بالرغم من إجماع المؤرخين في البرنامج على صحة الفكرة والأدلة الموثقة التي دعمت القصة. ولم يتم عرضه في الولايات المتحدة على الإطلاق. إلا أن صداه قد تردد على امتداد المحيط الأطلسي. وبعد ذلك بفترة قصيرة، تلقى لانغدون بطاقة بريدية من صديق قديم، أسقف كنيسة الكاثوليك في فيلادلفيا، كتب على البطاقة بالفرنسية ثلاث كلمات فقط: وأنت روبرت؟ "روبرت، هل أنت متأكد أنه يمكننا الوثوق بهذا الرجل؟" سألته صوفي. "بالطبع. فنحن زملاء، وهو ليس بحاجة للمال، وأنا أعرف أنه يكره السلطات الفرنسية. فالحكومة الفرنسية تجبره على دفع ضرائب باهظة لأنه اشترى معلماً تاريخياً. أنا واثق أنه لن يتعاون مع فاش على الإطلاق". حدقت صوفي في الطريق المظلم في الخارج. "إذا ذهبنا إليه، ما هو حجم المعلومات التي تريد أن تخبره بها؟". بدا لانغدون مطمئناً. "ثقي تماماً أن لاي تيبينغ يعرف عن أخوية سيون والكأس المقدسة أكثر من أي شخص آخر على سطح الأرض". فنظرت إليه صوفي. "أكثر مما يعرفه جدي؟". "كنت أقصد أكثر من أي أحد خارج الأخوية". "ما الذي يدعوك إلى الظن أنه ليس عضواً في الأخوية؟". "لقد أمضى تيبينغ سني حياته كلها محاولاً أن يكشف حقيقة الكأس المقدسة إلى الملأ. في حين أن قسم الأخوية هو إخفاء حقيقتها عن الناس". "يبدو هذا لي تضارباً في المصالح". فهم لانغدون سبب توتر صوفي وقلقها. فقد أعطاها سونيير الكريبتكس بشكل مباشر، وبالرغم من أنها لم تكن تعرف ماذا يحتوي في داخله أو ما الذي يجب أن تفعله به، إلا أنها كانت مترددة بشأن إطلاع شخص غريب عليه. وذلك نظراً إلى خطورة المعلومات التي قد تكون موجودة داخله، ربما كانت مصيبة في رأيها. "ليس من الضروري أن نخبر تيبينغ عن الحجر المفتاح في الحال. أو حتى على الإطلاق. سيمنحنا منزله فرصة للاختباء والتفكير بحل ما، وربما ستأخذين فكرة عن السبب الذي جعل جدك يترك لك هذا، عندما نتحدث معه عن الغريل". "لماذا تركه لنا"، ذكرته صوفي. شعر لانغدون بالفخر وتساءل من جديد عن السبب الذي دفع سونيير لاختياره هو بالذات. "هل تعرف عنوان السيد تيبينغ على وجه التقريب؟ سألت صوفي. "إن قصره يدعى شاتو لافاليت". التفتت صوفي إليه وفي عينيها دهشة واضحة. "شاتو لافاليت نفسه؟". "بالضبط". "جميل أن يكون للمرء هكذا أصدقاء". "هل تعرفين المكان؟". "لقد مررت به. إنه في منطقة القصر. ويبعد عشرين دقيقة من هنا". قطب لانغدون جبينه. "إنه بعيد جداً". "نعم، مما سيمنحك الوقت الكافي لتقول لي ما هي حقيقة الكأس المقدسة". صمت لانغدون للحظة. "سأخبرك بذلك عندما نكون في منزل تيبينغ. فنحن نتخصص في نواح مختلفة من الأسطورة، لذا فبوجودنا نحن الاثنين سوية ستسمعين القصة بالكامل". ابتسم لانغدون. "بالإضافة إلى أن الغريل كان حياة تيبينغ كلها. وإذا سمعت قصة الكأس المقدسة منه هو أشبه بسماع النظرية النسبية من آينشتاين بنفسه". "أرجو ألا يمانع في استقبال الزوار الذين يأتونه في آخر الليل". "لمعلوماتك، إنه السير لاي". لقد ارتكب لانغدون هذا الخطأ مرة واحدة فقط لذا أراد أن يحذرها كيلا تقع في الخطأ نفسه. "إن تيبينغ هو بحق شخصية متميزة. فقد منحته الملكة لقب فارس منذ عدة سنوات بعد أن قام بتأليف كتاب شامل عن تاريخ عائلة يورك". نظرت صوفي إليه غير مصدقة ما سمعته. "أنت تمزح، أليس كذلك؟ سنقوم بزيارة فارس؟". ارتسمت على وجه لانغدون ابتسامة غريبة. "نحن نبحث عن الغريل، صوفي. من أفضل من الفارس يقدم لنا يد المساعدة؟". الفصل الثاني والخمسون كان قصر فيليت الرائع الذي يمتد على مساحة 185 أكر، يقع على بعد خمس وعشرين دقيقة إلى الشمال الغربي من باريس في ضواحي فرساي. وكان هذا القصر الذي صممه فرانسوا مانسار عام 1668م لكونت أوفلي، واحداً من أهم القصور الأثرية في باريس؛ وكانت تكمل القصر بحيرتان مستطيلتا الشكل وحدائق قام بتصميمها لو نوتر، بحيث كان أشبه بقصر ملكي أكثر من بيت يقطنه شخص واحد. وكان غالباً ما يطلق عليه فرساي الصغير. أوقف لانغدون الشاحنة المصفحة بشكل مفاجئ عند مدخل القصر الذي كان يبعد ميلاً عن البناء نفسه. كان منزل السير لاي تيبينغ يبدو شامخاً من بعيد على المرج الأخضر وراء البوابة الخارجية المهيبة. كانت الكلمات على اللافتة الموجودة على البوابة مكتوبة بالإنجليزية: ملكية خاصة - ممنوع الدخول. لم يعلق تيبينغ لافتاته بالإنجليزية فحسب، بل وضع نظام الاتصال الداخلي على البوابة الخارجية لقصره من جهة اليمين بالنسبة لسائق السيارة الداخلة إلى القصر أيضاً حسب النظام الإنجليزي بدلاً من اليسار كما هو الحال في كافة أنحاء أوروبة وكأنه يعلن على الملأ بأن منزله هو جزيرة بريطانية قائمة بذاتها. رمقت صوفي الإنتركوم الذي كان في المكان الخطأ بنظرة استغراب. "ماذا لو أتى شخص إلى هنا دون أن يكون معه أحد في المقعد الأمامي؟". "لا تسألي". فقد كان لانغدون قد خاض في هذا النقاش مع تيبينغ. "إنه يفضل أن يكون كل شيء حوله كما لو أنه في إنجلترا". أنزلت صوفي شباكها. "روبرت، من الأفضل أن تتولى أنت الحديث". غير لانغدون من جلسته واقترب نحو صوفي ليتمكن من ضغط زر الإنتركوم. وبينما كان يقوم بذلك، ملأت نفحة من عطر صوفي المغري منخريه فانتبه إلى أنه أصبح قريباً جداً منها. فانتظر هناك وهو منكب إلى الأمام بوضع غريب، بينما كان هاتف الإنتركوم قد بدأ يرن عبر مكبر الصوت الصغير. وأخيراً، طقطق الإنتركوم ورد رجل بإنجليزية تطغى عليها لكنة فرنسية وقد بدا على صوته الانزعاج. "قصر فيليت، من هناك؟". "أنا روبرت لانغدون"، رد لانغدون. وقد انحنى بصعوبة فوق صوفي. "أنا صديق السير لاي تيبينغ. وأنا بحاجة إلى مساعدته". "إن سيدي نائم وكذلك كنت أنا قبل أن توقظني، ما الذي تريده منه؟". "أريده لأمر خاص. أمر ينطوي على أهمية كبيرة بالنسبة له". "إذن أنا واثق أنه سيسر لاستقبالك في الصباح". عدّل لانغدون جلسته من جديد. "إن الأمر في غاية الأهمية". "وكذلك نوم السير لاي. ولو كنت صديقه لعرفت أن صحته ليست على ما يرام". لقد كان لاي تيبينغ قد أصيب بشلل الأطفال عندما كان صغيراً وكان يستخدم الآن أطواقاً حديدية يلبسها حول رجليه ويستعين بعكاز للمشي، إلا أن لانغدون وجده في الزيارة الأخيرة رجلاً مفعماً بالحيوية لدرجة جعلته لا يتعامل معه كرجل مريض. "أرجو أن تخبره من فضلك أنني قد اكتشفت معلومات جديدة عن الغريل، وهذه المعلومات لا يمكنها الانتظار حتى الصباح". ساد الصمت للحظات. انتظر لانغدون وصوفي الرد وصوت محرك الشاحنة يدوي عالياً. ومضت دقيقة كاملة. وأخيراً، تكلم شخص ما. "صديقي العزيز، اسمح لي أن أقول لك أنك لا زلت تعتمد توقيت هارفرد". كان ذلك الصوت لطيفاً ومنخفضاً. ابتسم لانغدون وقد تعرف على اللكنة البريطانية الثقيلة. "لاي، أنا آسف لإيقاظك في هذه الساعة المتأخرة". "لقد أخبرني الخادم أنك لست في باريس فقط بل وتحمل أخباراً عن الغريل أيضاً". "لقد ظننت أن ذلك سيكون كفيلاً بإيقاظك من النوم وبإخراجك من السرير". "وقد أصبت في ذلك تماماً". "هل بإمكانك أن تفتح البوابة لصديق قديم؟". "أولئك الذين ينشدون الحقيقة هم أكثر من أصدقاء، إنهم إخوة". التفت لانغدون نحو صوفي ونظر إليها. لقد كان معتاداً على ميل سلوك تيبينغ الدرامي وكلامه الغريب. "بالطبع، سأفتح البوابة"، صرح تيبينغ، "لكنني يجب أن أتأكد أولاً من صفاء قلبك. واختباراً لتميزك، ستجيبني على ثلاثة أسئلة". همهم لانغدون بسخرية، وهمس لصوفي. "تحملي معي. فكما ذكرت، إنه يتميز بشخصية فريدة من نوعها". "السؤال الأول"، قال تيبينغ بنبرة هرقلية. "ماذا سأقدم لك، شاياً أم قهوة؟". كان لانغدون يعرف شعوره تجاه ظاهرة القهوة الأمريكية. "شاي"، أجاب لانغدون. "إيرل غراي". "ممتاز. والآن السؤال الثاني. مع حليب أو سكر؟". تردد لانغدون. "حليب"، همست صوفي في أذنه. "أعتقد أن الإنجليز يضيفون الحليب إلى الشاي". "حليب"، قال لانغدون. سكون... "سكر؟". لم يرد تيبينغ. انتظر لحظة! تذكر لانغدون الآن الشراب المر الذي قدمه إليه في آخر زيارة له، فأدرك أن السؤال كان ملغوماً. "ليمون!" صاح لانغدون. "شاي إيرل غراي مع ليمون". "بالضبط". بدا تيبينغ مسروراً جداً الآن. "وأخيراً، يجب أن أسألك السؤال الأخطر". صمت تيبينغ للحظة ثم استطرد بنبرة جدية. "في أي عام كانت آخر مرة يتفوق فيها أحد من هارفرد على أكسفورد في سباق القوارب في هنلي؟". لم يكن لدى لانغدون أي فكرة، لكن باعتقاده كان هناك سبب وحيد لسؤاله هذا. "من المؤكد أن هذه المهزلة لم تحدث أبداً". وفتحت البوابة. "إن قلبك مخلص يا صديقي. يمكنك أن تدخل الآن". الفصل الثالث والخمسون "سيد فيرنيه!" شعر المدير الليلي لبنك زيوريخ للودائع بالارتياح لسماع صوت رئيس البنك عبر الهاتف. "إلى أين ذهبت سيدي؟ إن الشرطة هنا والجميع بانتظارك!". "إنني أواجه مشكلة بسيطة" قال الرئيس وهو يبدو في غاية الانزعاج. "أنني بحاجة لمساعدتك في الحال". إن ما تواجهه الآن هو أكثر بكثير من مشكلة صغيرة، فكر المدير. فقد كانت الشرطة قد طوقت البنك بالكامل وهددت بأن تأتي بنقيب الشرطة القضائية بنفسه حاملاً مذكرة التفتيش الذي طالب بها البنك. "كيف يمكنني أن أساعدك سيدي؟". "الشاحنة المصفحة التي تحمل الرقم ثلاثة. يجب أن أجدها". تفحص المدير باستغراب جدول التسليم. "إنها هنا في الأسفل عند مكان التحميل". "في الحقيقة، هي ليست هناك. لقد قام الاثنان اللذان تلاحقهما الشرطة بسرقة الشاحنة". "ماذا؟ كيف استطاعا الخروج من البنك؟". "لا يمكنني مناقشة التفاصيل عبر الهاتف، لكن لدينا وضع حساس هنا قد يؤثر سلباً على سمعة البنك". "ما الذي تريدني أن أفعله سيدي؟". "أريدك أن تقوم بتفعيل رادار الطوارئ الموجود في تلك الشاحنة". نظر المدير إلى صندوق التحكم الذي كان في آخر الغرفة. كانت كل شاحنة من شاحنات البنك المصفحة قد جهزت، كالعديد من الشاحنات المصفحة الأخرى، بجهاز إرسال يتم التحكم فيه عن بعد ويمكن تفعيله من البنك. وقد استخدم المدير نظام الطوارئ هذا مرة واحدة فقط. أثناء عملية سطو، وقد عمل النظام بنجاح حيث حدد مكان الشاحنة وأرسل إحداثياته إلى السلطات المختصة بشكل أوتوماتيكي. غير أن المدير أحس أن الأمر كان مختلفاً هذه الليلة وأن الرئيس كان متحفظاً بعض الشيء في هذا الخصوص. "سيدي، أنت على علم بأنني إذا قمت بتفعيل نظام الطوارئ فسوف يرسل الرادار إشارة على الفور إلى الشرطة مبلغاً إياهم بأننا نواجه مشكلة ما". صمت فيرنيه لعدة لحظات. "نعم، أعرف ذلك. افعل ما قلته لك على أية حال. الشاحنة رقم ثلاثة. سأنتظر على الخط. أريد أن أعرف موقع تلك الشاحنة بالتحديد حالما تتوصل إليه". "حالاً سيدي". وبعد ثلاثين ثانية، على بعد أربعين كيلومتر، في مكان مخفي أسفل الشاحنة المصفحة، عاد جهاز إرسال صغير للحياة وأخذ يومض بضوء متقطع. الفصل الرابع والخمسون شعرت صوفي بأن عضلاتها قد بدأت تسترخي عندما انطلقا بشاحنتهما المصفحة نحو المنزل عبر الطريق الخاصة الملتفة بشكل لولبي وقد صفت على طولها أشجار الحور من كلا الجانبين. كانت تشعر بالراحة لأنهما ابتعدا أخيراً عن الطريق وأخذت تفكر بأن هذا القصر الخاص ذا البوابة الضخمة التي جعلته معقلاً حصيناً والذي يملكه أجنبي لطيف طيب المعشر، كان أفضل مكان يلتجئان إليه. دارا في الطريق الدائرية الواسعة فظهر إلى يمينهما قصر فيليت. كان القصر يرتفع ثلاثة طوابق بطول ستين متراً على الأقل. وكانت واجهة القصر من الحجر الرمادي الخشن تضيئها مصابيح كشافة خارجية. وقد انتصبت في مكان مجاور تماماً للحدائق الرائعة الجمال وبرك المياه النقية. وكانت أضواء القصر الداخلية قد أشعلت للتو. أوقف لانغدون الشاحنة في مكان بعيد عن الأنظار بين الأشجار الخضراء الباسقة بدلاً من أن يوقفها عند الباب الأمامي للقصر. "لا داعيَ للمجازفة بترك السيارة تحت أعين المارة في الطريق العام أو دفع تيبينغ للتساؤل عن سبب مجيئنا بشاحنة مصفحة محطمة". قال لانغدون. أومأت صوفي. "ماذا سنفعل بالكريبتكس؟ ربما لا يتوجب علينا أن نتركه هنا، لكن المشكلة هي أنه إذا أخذناه معنا سيراه تيبينغ وسيستفسر عما في داخله بالتأكيد". "لا داعيَ للقلق". قال لانغدون وقد خلع معطفه وهو يترجل من السيارة. ولف الصندوق بالمعطف الصوفي وحمله كطفل رضيع بين ذراعيه. بدت صوفي متشككة. "أيها الماكر!". "تيبينغ لا يفتح باب قصره بنفسه أبداً فهو يفضل الدخول بشكل مهيب. سأجد مكاناً ما في الداخل أخفي فيه هذا قبل أن يدخل ويراه". صمت لانغدون للحظة. "في الحقيقة، أعتقد أن عليّ أن أحذرك منه قبل أن تلتقي به. فالسير لاي تيبينغ يتمتع بحس دعابة يجدها معظم الناس غريبة بعض الشيء". شكت صوفي بأن هناك أي شيء بإمكانه أن يصدمها بغرابته بعد هذه الليلة. كان الممر المؤدي إلى المدخل الرئيس مرصوفاً بالحصى وكان الباب منحوتاً من خشب السنديان والكرز ومقرعته النحاسية كانت بحجم رمانة كبيرة. وقبل أن تقوم صوفي بطرق الباب، فتح من الداخل. وقف أمامهما خادم أنيق وقد زم شفتيه بتكلف وهو يقوم بالتعديلات الأخيرة على ربطة عنقه البيضاء وبذته السوداء التي يظهر أنه ارتداها للتو. وكان يبدو في حوالى الخمسين ذا وجه ناعم القسمات ينطق بانزعاج واضح من وجودهما هنا. "سوف ينزل السير لاي لملاقاتكما في الحال"، أكد لهما ذلك بلكنة فرنسية ثقيلة. "فهو يرتدي ثيابه. لأنه لا يحبذ ملاقاة ضيوفه مرتدياً ثياب النوم. هلا أعطيتني معطفك؟" وعبس لدى رؤيته المعطف الصوفي الذي كان لانغدون قد صرّه وحمله بين ذراعيه. "شكراً لك. أفضل أن أبقيه معي". "كما تريد، اتبعاني من فضلكما". تقدم الخادم أمامهما عبر بهو فخم ذي أرضية رخامية أنيقة ليصل إلى غرفة استقبال رائعة التصميم والزخارف. كانت القاعة مضاءة بمصابيح تصدر إضاءة خافتة تعود إلى العصر الفيكتوري مزينة بالشرابات المتدلية بشكل متجعد. كان الجو داخل الغرفة يعبق برائحة العتق والقدم مع أثر لرائحة تبغ الغليون وأوراق الشاي والنبيذ الإسباني، مع العبير الأرضي للعمارة الحجرية. وعلى الحائط في نهاية الغرفة كانت هناك بين مجموعتين من الدروع المعدنية بأكمله. مشى الخادم نحو الموقد ثم انحنى وأشعل كبريتاً في قطع محضرة مسبقاً من خشب الحور التي صبت عليها مواد الاشتعال. فانبعثت النار ملتهبة في غضون ثوانيَ فقط. وقف الخادم أمامهما بعد أن أشعل النار في الموقد وعدّل سترته. "إن سيدي يطلب منكما أن تتصرفا بحرية كما لو أنكما في منزلكما". وخرج تاركاً لانغدون وصوفي منفردين. تساءلت صوفي على أي قطعة من الأثاث الأثري الموجود بالقرب من المدفأة يفترض بها أن تجلس. على الأريكة المخملية التي تعود إلى عصر النهضة، أو على الكرسي الهزاز الخشبي الذي كان بشكل مخلب النسر، أو على أحد المقعدين الحجريين اللذين كانا يبدوان وكأنهما قد أخذا من معبد بيزنطي. فض لانغدون معطفه وأخذ الكريبتكس ثم مشى إلى الأريكة المخملية وزلق الصندوق الخشبي تحتها بعيداً تماماً عن الأنظار. ثم نفض المعطف ولبسه من جديد بعد أن ملّس ياقته وابتسم لصوفي وجلس مباشرة فوق كنزه المخبأ. اختيار موفق، فكرت صوفي. وجلست بجانبه. بينما كانت صوفي تحدق في النار المشتعلة متمتعة بالدفء، انتابها إحساس قوي بأن جدها كان ليحب هذه الغرفة التي كانت جدرانها مغطاة بألواح الخشب التي تزينها لوحات أثرية أصلية عرفت صوفي أحدها وكانت لوحة للفنان بوسان الذي كان ثاني أفضل رسام بالنسبة لجدها. وعلى الرف فوق الموقد كان هناك تمثال نصفي من المرمر لإيزيس يطل على الغرفة. وتحت تمثال الآلهة المصرية وداخل الموقد كان هناك تمثالان حجريان للكرغل البشع بفم مفتوح يكشف عن الحلق المخيف استخدمت كمناصب توضع عليها أخشاب الموقد. لطالما أخافت تلك المخلوقات البشعة صوفي عندما كانت طفلة صغيرة، تلك كانت الحال دائماً إلى أن عالج جدها ذلك الخوف في يوم من الأيام عندما اصطحبها إلى كاتدرائية نوتردام في أثناء عاصفة مطرية. "أميرتي، انظري إلى هذه المخلوقات السخيفة" قال لها جدها وهو يشير إلى ميازيب الكرغل التي كان الماء يتدفق من فمها. "هل تسمعين هذا الصوت المضحك الذي يصدر من حلقها؟" أومأت صوفي برأسها وقد ابتسمت لدى سماعها صوت التجشؤ الصادر من حلقها. "إنها تتغرغر!"، قال لها جدها. "ومن هنا أتى اسمها السخيف من الغرغرة". ولم تعد صوفي تخاف من الكرغل بعد ذلك اليوم. أثارت هذه الذكرى العزيزة ألماً وحزناً وقد ضربتها حقيقة مقتل جدها القاسية وعادت لتعصر قلبها من جديد. لقد مات جدي. استعادت صوفي في ذهنها صورة الكريبتكس الذي كان تحت الأريكة وتساءلت إذا ما كان لاي تيبينغ يمتلك أي فكرة عن كيفية فتحه. أو إذا ما كان يتوجب علينا أساساً أن نسأله. فقد كانت كلمات جدها الأخيرة لها هي أن تجد روبرت لانغدون، وهو لم يقل لها أي شيء عن الاستعانة بأي شخص آخر. لكننا كنا بحاجة إلى مكان نختبئ فيه، فكرت صوفي، وقد قررت أن تثق بحكم لانغدون. "سير روبرت!" جأر صوت أتى من مكان ما وراءهما. "أرى أنك تسافر برفقة عذراء جميلة". وقف لانغدون ليحييه. وقفزت صوفي من مكانها هي أيضاً. لقد أتى الصوت من أعلى درج لولبي الشكل كان يلتف إلى الأعلى حتى الطابق الثاني. وفي قمة الدرج، تحرك شبح رجل دون معالم واضحة في الظلام الحالك. "مساء الخير"، قال لانغدون. "سير لاي، اسمح لي أن أقدم لك صوفي نوفو". "تشرفت بمعرفتك" تقدم تيبينغ نحو الضوء. "شكراً لاستقبالك لنا"، قالت صوفي وقد رأت الآن أن الرجل كان يلبس في رجليه أطواقاً حديدية وكان يستعين بعكاز للمشي. كان ينزل السلالم درجة درجة. "أنا أعرف أن الوقت متأخر". "إن الوقت متأخر جداً، عزيزتي... بل إنه مبكر". وضحك تيبينغ وسألها بالفرنسية. "أو لست أمريكية؟". هزت صوفي رأسها نفياً. "أنا باريسية". "إنك تتكلمين الإنجليزية بطلاقة وروعة". "شكراً لك. لقد درست في جامعة هولوي الملكية". "هذا يفسر ذلك إذن". تابع تيبينغ نزوله على الدرج وهو يعرج آتياً من الظلام. "ربما أخبرك لانغدون أنني درست في جامعة قريبة من جامعتك، في أكسفورد". ركّز تيبينغ نظره على لانغدون وابتسم بخبث. "إلا أنني تقدمت بالطبع بطلب للدراسة في هارفرد أيضاً في حال لم يتم قبولي في أكسفورد". بدا مضيفهما لصوفي وقد أصبح أسفل الدرج، أبعد ما يكون عن الفرسان ولعل السير إلتون جون يبدو فارساً أكثر منه. فالسير لاي تيبينغ كان ذا وجه سمين ياقوتي اللون وشعر كثيف أحمر وعينين مرحتين بندقيتي اللون تلمعان كلما تكلم. كان يرتدي بنطالاً ذا ثنيات وقميصاً حريرياً واسعاً تحت صدرية من البيسلي. وبالرغم من أطواق الألمنيوم التي كانت تحيط برجليه إلا أنه كان يمشي بشموخ واستقامة رافعاً رأسه بفخر بدا وكأنه كان بسبب أصله النبيل أكثر من كونه نتيجة مجهود مقصود. وصل تيبينغ أخيراً ومد يده ليصافح لانغدون. "روبرت لقد فقدت بعض الوزن". ابتسم لانغدون. "وأنت وجدته". ضحك تيبينغ من قلبه مربتاً على كرشه الممتلئ. "لقد أصبت. يبدو أن متعي الدنيوية هذه الأيام تقتصر على الطعام". ثم التفت نحو صوفي، وأخذ يدها برفق وأحنى رأسه قليلاً وتنفس بلطف على أصابعها ثم نظر في عينيها مباشرة. "سيدتي". نظرت صوفي إلى لانغدون، غير متأكدة ما إذا كانت قد عادت بالزمن إلى الوراء أو أنها في مستشفى للأمراض العقلية. دخل الخادم الذي كان قد فتح لهما الباب الآن يحمل عدة الشاي ورتبها على الطاولة مقابل الموقد. "هذا ريمي لوغالوديك"، قال تيبينغ، "خادمي". حياهما الخادم النحيل بإيماءة خشنة ثم اختفى من جديد. "إن ريمي من ليون". همس تيبينغ كما لو أن ذلك كان مرضاً مؤسفاً. "لكنه يعد صلصات لذيذة جداً". بدا لانغدون متسلياً. "كنت أعتقد أنك قد تأتي بطاقم خدم إنجليزي". "يا إلهي، كلا مستحيل! إنني لا أتمنى أن يأكل أحد من يد طباخ إنجليزي إلا جباة الضرائب الفرنسيين". ونظر إلى صوفي. "اعذريني آنسة نوفو. لكن ثقي بأن كرهي للفرنسيين يطال السياسيين ومنتخب فرنسا لكرة القدم فقط. فحكومتكم تسرقني وفريقكم لكرة القدم قد مرّغ كرامتنا في الأرض حديثاً". ابتسمت له صوفي بارتياح. حدق تيبينغ في عينيها للحظات ثم حوّل نظره نحو لانغدون. "لقد حدث أمر خطير فأنتما الاثنان يبدو عليكما التوتر والخوف". أومأ لانغدون. "لقد مرت علينا ليلة مثيرة، لاي". "لا شك في ذلك. فقد جئتني دون سابق إنذار في منتصف الليل وتتحدث بشأن الغريل. اصدقني القول، هل أتيت إلى هنا فعلاً بخصوص الغريل أم أنك قلت ذلك لمجرد أنك تعلم أن هذا هو الموضوع الوحيد الذي قد يخرجني من سريري في مثل هذا الوقت من الليل؟". قليل من الاثنين... فكرت صوفي، وهي تتخيل الكريبتكس المخبأ تحت الأريكة. "لاي"، قال لانغدون، "نود أن نحدثك بشأن أخوية سيون". رفع تيبينغ حاجبيه الكثيف مستغرباً. "الحماة. إذن الأمر يتعلق فعلاً بالغريل. أقلت إنك أتيت بمعلومات جديدة، روبرت؟". "ربما، نحن لسنا متأكدين بعد. قد نعرف أكثر إذا تمكنا من الحصول على بعض المعلومات حول هذا الموضوع منك أولاً". هز تيبينغ إصبعه. "لن تتغير أبداً.. ستظل دائماً الأمريكي المحتال. واحدة بواحدة... حسن جداً. أنا في خدمتك. ما الذي يمكنني أن أخبرك به؟". تنهد لانغدون. "كنت آمل أن تتلطف وتفسر للآنسة نوفو الطبيعة الحقيقية للكأس المقدسة". بدا تيبينغ مذهولاً. "إنها لا تعرف؟". هز لانغدون رأسه نافياً. كانت الابتسامة التي ارتسمت على وجه تيبينغ عندئذ تبدو كأنها ابتسامة قذرة. "روبرت، لقد أتيتني بعذراء؟!". أحس لانغدون بالإحراج فنظر إلى صوفي مفسراً. "عذراء هو تعبير مجازي يستخدمه الباحثون في الغريل لوصف أي شخص لم يسبق له أن سمع قصة الغريل الحقيقية". التفت تيبينغ إلى صوفي بحماس. "ما الذي تعرفينه عن الغريل بالضبط عزيزتي؟". شرحت له صوفي باختصار ما أخبرها به لانغدون عن أخوية سيون وفرسان الهيكل ووثائق السانغريال والكأس المقدسة التي يدعي الكثيرون أنها ليست مجرد كأس...بل شيئاً أهم وأقوى من ذلك بكثير". "هذا كل شيء؟" رمق تيبينغ لانغدون بنظرة لوم قاسية. "روبرت، كنت أظن أنك رجل نبيل. لقد حرمتها من ذروة النشوة!". "أعرف ذلك لكنني اعتقدت أنني أنا وأنت يمكننا أن..." يبدو أن لانغدون قد تنبه فجأة أن التعابير المجازية قد وصلت إلى حدّ غير مقبول. كان تيبينغ قد جعل صوفي تتعلق بعينيه اللامعتين محدقة فيهما باهتمام. "أنت عذراء غريل، عزيزتي. لكن ثقي تماماً أنك لن تنسي أبداً تجربتك الأولى معه". الفصل الخامس والخمسون كانت صوفي جالسة على الأريكة بجانب لانغدون وقد شربت الشاي وأكلت الكعك فشعرت في الحال بتأثير الطعام والكافيين الذي كان جسدها بأمس الحاجة إليه. كان سير لاي تيبينغ يذرع الغرفة جيئة وذهاباً بشكل غريب أمام النار المشتعلة وأطواق رجليه تطقطق على الموقد الحجري. "الكأس المقدسة"، قال تيبينغ بنبرة واعظة. "يسألني معظم الناس عادة أين هي. أخشى أن هذا سؤال قد لا تتسنى لي فرصة الإجابة عنه أبداً". ثم التفت ونظر في عيني صوفي مباشرة. "إلا أن السؤال الأهم هنا هو التالي: ما هي الكأس المقدسة؟". شعرت صوفي الآن بجو من الحماس الأكاديمي يسيطر على مرافقيها الاثنين. "لكي نتمكن من فهم الغريل"، تابع تيبينغ، "يجب أن نفهم الإنجيل أولاً. ما مدى معرفتك بالعهد الجديد؟". هزت صوفي كتفيها. "لا أعرفه على الإطلاق، فقد تربيت على يد رجل كان يعبد ليوناردو دافنشي". بدا تيبينغ مذهولاً ومسروراً من كلامها في آن واحد. "روح حرة. ممتاز! إذن، يجب أن تكوني على علم بأن ليوناردو كان أحد حماة سرّ الكأس المقدسة، وقد أخفى أدلة رمزية ترشد إلى الغريل في أعماله الفنية". "نعم، لقد أخبرني روبرت عن أشياء من هذا القبيل". "وهل تعرفين وجهة نظر دافنشي في ما يخص العهد الجديد؟". "ليست لدي أدنى فكرة". لمعت عينا تيبينغ مرحاً وهو يشير إلى رف الكتب في الجانب الآخر من الغرفة. "روبرت، هلا أحضرت ذاك الكتاب. في الرف الأسفل، قصة ليوناردو". ذهب لانغدون إلى آخر الغرفة، ووجد كتاباً كبيراً عن الفنون فأحضره إلى تيبينغ ثم وضعه على الطاولة بينهم. دفع تيبينغ الكتاب لتتمكن صوفي من رؤيته بوضوح ثم فتح الغلاف الثقيل وأشار إلى مجموعة من الشواهد داخل الغلاف الخلفي. "من مذكرات دافنشي في اللاهوت الجدلي والتأمل"، قال تيبينغ مشيراً إلى أحد الشواهد بالتحديد. "أعتقد أنك ستجدين هذا الشاهد وثيق الصلة بحديثنا هذا". قرأت صوفي الكلمات. كثيرون هم الذين اتخذوا من الأوهام. والمعجزات الزائفة وخداع البشر تجارة لهم. - ليوناردو دافنشي. "هاك قولاً آخر"، قال تيبينغ، مشيراً إلى قول آخر. الجهل يعمي أبصارنا ويضللنا. أيها البشر الفانون! افتحوا أعينكم! - ليوناردو دافنشي شعرت صوفي بقشعريرة تسري في جسدها. "هل كان دافنشي يتكلم عن الإنجيل؟". أومأ تيبينغ برأسه. "إن مشاعر دافنشي تجاه الإنجيل ذات صلة مباشرة بالكأس المقدسة. في الواقع قام دافنشي برسم الكأس الحقيقية التي سأريها لك بعد لحظات، لكننا يجب أن نتكلم عن الإنجيل أولاً". وابتسم تيبينغ. "وكل شيء أنت بحاجة لمعرفته عن الإنجيل ستجدينه ملخصاً بيد الكاهن العظيم الدكتور مارتين بيرسي". تنحنح تيبينغ ثم قال: "إن الإنجيل لم يرسل من السماء عن طريق الفاكس". "عفواً؟". "إن الإنجيل هو كتاب من تأليف بشر، يا عزيزتي. ولم ينزل بوحي من الإله. وهو لم يهبط بشكل خارق من الغيوم في السماء. فهو من ابتكار الإنسان الذي ألفه لتسجيل الأحداث التاريخية في تلك العصور التي طبعتها النزاعات والفتن، وقد تطور وتحرف من خلال ترجمات وإضافات ومراجعات لا تعد ولا تحصى. والنتيجة هي أنه لا توجد نسخة محددة للكتاب في التاريخ كله". "نعم". "كان يسوع المسيح شخصية تاريخية ذات تأثير مذهل، قد يكون أكثر قائد غامض وملهم عرفه العالم. فقد أسقط يسوع ملوكاً وألهم الملايين وابتكر فلسفات جديدة بصفته النبي المخلّص، وكان يمتلك حقاً شرعياً للمطالبة بعرش ملك اليهود حيث أنه كان يتحدر من سلالة الملك سليمان والملك داود. بسبب ذلك كله، تم تسجيل حياته بيد الآلاف من أتباعه في كل أنحاء الأرض". توقف تيبينغ عن الكلام للحظات ليرتشف شايه ثم أعاد فنجانه إلى مكانه على رف الموقد. "فقد تم أخذ أكثر من ثمانين إنجيلاً بعين الاعتبار لتشكل العهد الجديد، إلا أن القليل منها فقط تم اختياره في النهاية وهي إنجيل متّى ومرقص ولوقا ويوحنا". "من الذي قرر أي إنجيل يجب اختياره لتشكيل العهد الجديد؟". "آها!" انفجر تيبينغ حماساً. "هذا هو بالضبط التناقض الأساسي المثير للسخرية في المسيحية! فالإنجيل كما نعرفه اليوم، كان قد جمع على يد الإمبراطور الوثني قسطنطين العظيم". "كنت أعتقد أن قسطنطين كان مسيحياً"، قالت صوفي. "بالكاد" تهكم تيبينغ. "لقد كان وثنياً طوال حياته ولم يتم تعميده إلا وهو على سرير الموت، حيث كان أضعف من أن يعترض على ذلك. في عصر قسطنطين، كان الدين الرسمي في روما هو عبادة الشمس أو بالأصح عبادة الشمس التي لا تقهر، وكان قسطنطين هو كبير كهنتها. لكن لسوء حظه، كان هناك اهتياج ديني متزايد يجتاح روما. فقد كان عدد أتباع المسيح قد تضاعف بشكل مهول، وذلك بعد مرور ثلاثة قرون من صلبه. عندئذ بدأ المسيحيون والوثنيون يتحاربون وتصاعدت حدة النزاع بينهم حتى وصلت لدرجة هددت بانقسام روما إلى قسمين. فرأى قسطنطين أنه يجب اتخاذ قرار حاسم في هذا الخصوص. وفي عام 325 قرر توحيد روما تحت لواء دين واحد، ألا وهو المسيحية". أصيبت صوفي بالدهشة. "لكن لماذا يقوم إمبراطور وثني باختيار المسيحية كدين رسمي لإمبراطوريته؟". أطلق تيبينغ ضحكة خافتة. "كان قسطنطين رجل أعمال حاد الذكاء. فقد استطاع أن يرى أن نجم المسيحية كان في صعود فقرر ببساطة أن يراهن على الفرس الرابحة. ولا زال المؤرخون حتى اليوم يتعجبون لذكاء قسطنطين في الطريقة التي اتبعها في تحويل الوثنيين عن عبادة الشمس إلى اعتناق دين المسيحية. حيث أنه خلق ديناً هجيناً كان مقبولاً من الطرفين وذلك من خلال دمج الرموز والتواريخ والطقوس الوثنية في التقاليد والعادات المسيحية الجديدة". "عملية تشويه في الشكل"، قال لانغدون، "فآثار الدين الوثني في الرموز المسيحية شديدة الوضوح ولا يمكن نكرانها. فأقراص الشمس المصرية أصبحت الهالات التي تحيط برؤوس القديسين الكاثوليكيين، والرموز التصويرية لإيزيس وهي تحضن وترضع طفلها المعجزة حورس أصبحت أساس صورنا الحديثة لمريم العذراء تحتضن المسيح الرضيع. وكل عناصر الطقوس الكاثوليكية مثل تاج الأسقف والمذبح والتسبيح والمناولة وطقس "طعام الرب"، كلها مأخوذة مباشرة من أديان قديمة وثنية غامضة". همهم تيبينغ ساخراً من لانغدون. "لا تفكري حتى بسؤال عالم بالرموز عن الأيقونات المسيحية. فليس هناك أي شيء أصلي في الدين المسيحي. الإله الفارسي مثرا مثلاً الذي يعود إلى ما قبل المسيحية - والذي كان يلقب أيضاً بابن الرب ونور العالم - كان قد ولد في الخامس والعشرين من ديسمبر وعندما مات دفن في قبر حجري ثم بعث حياً بعد ثلاثة أيام. وبالمناسبة، إن الخامس والعشرين من ديسمبر هو ذكرى ميلاد أوزيريس وأدونيس وديونيزوس أيضاً. والرضيعة كريشنا تجلت مزينة بالذهب ومعطرة بالمر والبخور. وحتى يوم العطلة الأسبوعية الدينية في المسيحية كان قد سرق من الوثنيين عابدي الشمس". "ماذا تقصد؟". "في البداية"، قال لانغدون، "كان المسيحيون يتعبدون الرب في نفس يوم اليهود شبّاط أو السبت، لكن قسطنطين غيره ليتوافق مع اليوم الذي يقوم فيه الوثنيون بعبادة الشمس Sunday". صمت قليلاً وابتسم. "حتى هذا اليوم يرتاد معظم الناس الكنيسة صباح كل أحد لحضور القداس دون أن تكون لديهم أي فكرة أنهم هناك يوم احتفال الوثنيين بالشمس المقدسة Sunday أو يوم الشمس". كان رأس صوفي قد بدأ يدور. "وكل هذا له علاقة بالكأس؟". "طبعاً"، قال تيبينغ. "ركزي معي. أثناء عملية دمج الأديان تلك، كان قسطنطين بحاجة لتوطيد التعاليم المسيحية الجديدة، وقام بعقد الاجتماع المسكوني المشهور الذي عرف بالمجمع النيقاوي نسبة إلى مدينة نيقية". كانت معرفة صوفي بتلك المدينة لا تتعدى كونها المكان الذي شهد ولادة قانون الإيمان المسيحي. "في هذا الاجتماع"، قال تيبينغ، "تمت مناقشة العديد من مظاهر المسيحية والتصويت عليها - مثل اليوم الذي سيتم فيه الاحتفال بعيد الفصح ودور الأساقفة وإدارة الأسرار المقدسة وأخيراً ألوهية يسوع المسيح". "لم أفهم ما قلت.. هل قلت ألوهية المسيح؟". "عزيزتي"، قال تيبينغ بثقة. "حتى تلك اللحظة في تاريخ البشرية، كان المسيح في نظر أتباعه نبياً فانياً... رجل عظيم وذو سلطة واسعة، إلا أنه كان رجلاً... إنساناً فانياً". "ليس ابن الرب؟". "هذا صحيح"، قال تيبينغ، "ففكرة (ابن الرب) كانت قد اقترحت رسمياً وتم التصويت عليها من قبل المجلس النيقاوي". "تمهل قليلاً. أنت تقول أن ألوهية المسيح كانت نتيجة تصويت؟". "وبالمناسبة كان الفرق في الأصوات يكاد لا يذكر" أضاف تيبينغ. "غير أن تأكيد فكرة ألوهية المسيح كان ضرورياً جداً لتوطيد الوحدة في الإمبراطورية الرومانية ولإقامة القاعدة الجديدة لسلطة الفاتيكان. ومن خلال المصادقة الرسمية على كون المسيح ابناً الرب، حول قسطنطين المسيح إلى إله مترفع عن عالم البشر... كينونة تتمتع بسلطة لا يمكن تحديها أبداً. وهذا الأمر لم يعمل على وضع حدّ لتحديات الوثنيين للمسيحية فحسب، بل بسبب ذلك لن يتمكن أتباع المسيح الآن من التحرر من الخطايا إلا بواسطة طريق مقدسة جديدة وهي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية". نظرت صوفي إلى لانغدون فأومأ برأسه بلطف مشيراً إلى أنه يتفق وتيبينغ في الرأي. "إن المسألة كلها كانت مسألة سلطة ونفوذ لا أكثر"، تابع تيبينغ. "إن المسيح كمخلّص كان ضرورياً لتفعيل وظيفة الكنيسة والدولة. يدّعي الكثير من الباحثين أن الكنيسة الأولى قامت بسرقة المسيح حرفياً من أتباعه الأصليين وذلك بمصادرة رسالته الإنسانية ودفنها في عباءة لا يمكن اختراقها من الألوهية الكاذبة التي استغلوها لتوسيع نفوذهم. لقد ألّفت عدة كتب حول هذا الموضوع". "يمكنني أن أتخيل أنك تتلقى كل يوم آلاف الرسائل من المتدينين المسيحيين يخبرونك فيها عن مدى كرههم لك". "ولم يفعلون ذلك؟" عارضها تيبينغ. "إن الغالبية العظمى من المسيحيين المثقفين يعرفون تاريخ دينهم. وقد كان المسيح رجلاً عظيماً وجباراً بحق. والمناورات السياسية الماكرة التي كان قسطنطين قد قام بها لا تقلل أبداً من شأن مهابة حياة المسيح. لم يقل أحد أبداً أن المسيح كان دجالاً أو ينكر أن المسيح كان موجوداً وألهم الملايين وسما بهم إلى حياة أفضل. كل ما نقوله هو أن قسطنطين قام باستغلال تأثير المسيح الهائل وأهميته العظيمة في العالم. وبذلك شكّل وجه المسيحية كما نعرفها الآن". ألقت صوفي نظرة على كتاب الفن أمامها وهي متلهفة لرؤية لوحة دافنشي المتعلقة بالكأس المقدسة. "وهنا لب الموضوع"، قال تيبينغ وقد أخذ يسرع في الكلام الآن. "بما أن قسطنطين قد قام برفع منزلة المسيح بعد مضي حوالى أربعة قرون على موته، فقد كانت هناك الآلاف من الوثائق التي قد سجلت حياته على أنها حياة إنسان فانٍ. عرف قسطنطين أنه لكي يتمكن من إعادة كتابة التاريخ، كان بحاجة إلى ضربة جريئة. ومن هنا ولدت أهم لحظة في التاريخ المسيحي". صمت تيبينغ قليلاً ونظر إلى صوفي محدقاً. "فقد أمر قسطنطين بإنجيل جديد وقام بتمويله. أبطل فيه الأناجيل التي تحدثت عن السمات الإنسانية للمسيح وزين تلك التي أظهرت المسيح بصفات إلهية. وحرمت الأناجيل الأولى وتم جمعها وحرقها". "ملاحظة مثيرة للاهتمام". أضاف لانغدون. "وكان كل من يفضل الأناجيل الممنوعة على نسخة قسطنطين، يتهم بالهرطقة وكلمة مهرطق تعود إلى تلك اللحظة التاريخية. وإن الكلمة اللاتينية هيريتيكوس haereticus تعني "الاختيار". لذا فإن أولئك الذين "اختاروا" التاريخ الأصلي للمسيح كانوا أول (المهرطقين) في التاريخ". "ولحسن حظ المؤرخين"، قال تيبينغ، "فإن بعض الأناجيل التي حاول قسطنطين محوها من الوجود تمكنت من النجاة. فقد تم العثور على وثائق البحر الميت عام 1950 مخبأة في كهف بالقرب من قمران في صحراء النقب. كما عثر على الوثائق القبطية عام 1945 عند واحة حمادي. وقد تحدثت تلك الوثائق عن كهنوت المسيح بمصطلحات إنسانية تماماً بالإضافة إلى أنها روت قصة الغريل الحقيقية. وقد حاول الفاتيكان جاهداً كعادته في إخفاء الحقيقة وتضليل البشر، حاول أن يمنع نشر تلك الوثائق. ولم لا يفعل؟ حيث أن الوثائق تلقي الضوء على تناقضات وفبركات تاريخية فاضحة تؤكد بشدة أن الإنجيل الحديث كان قد جمع ونقح على يد رجال ذوي أهداف سياسية تتجلى بنشر أكاذيب حول ألوهية الإنسان يسوع المسيح واستخدام تأثيره لتدعيم قاعدة سلطتهم ونفوذهم". "إلا أن"، عارضه لانغدون، "من الأهمية بمكان أن نتذكر أن رغبة الكنيسة الحديثة بمنع نشر هذه الوثائق تأتي من إيمانهم الصادق في رؤيتهم الراسخة للمسيح كإله. فالفاتيكان يتكون اليوم من رجال متدينين وأتقياء يؤمنون بعمق بأن هذه الوثائق التي تعارض ما يعرفونه لا يمكنها أن تكون إلا شهادات زائفة". أطلق تيبينغ ضحكة خافتة وقد جلس على كرسي مقابل صوفي. "كما ترين، إن أستاذنا هنا يمتلك مشاعر رقيقة تجاه روما أكثر مني. إلا أنه على صواب في ما يتعلق بالإكليروس المعاصر حيث إنهم يؤمنون بالفعل أن هذه الوثائق المعارضة هي دلائل كاذبة. وهذا مفهوم. بما أن إنجيل قسطنطين هو الحقيقة الوحيدة التي عرفوها لعصور خلت. فلا أحد أكثر تمذهباً من الذي تم تلقينه". "ما يعنيه"، قال لانغدون، "هو أننا نعبد آلهة آبائنا". "ما أعنيه"، عارضه تيبينغ، "هو أن كل ما علمنا إياه آباؤنا عن المسيح هو خاطئ تقريباً. وكذلك القصص حول الكأس المقدسة". نظرت صوفي من جديد إلى قول دافنشي في الكتاب الذي كان أمامها. الجهل يعمي أبصارنا ويضللنا. أيها البشر الفانون! افتحوا أعينكم! أخذ تيبينغ الكتاب وقلب صفحاته حتى وصل إلى منتصفه. "وأخيراً، وقبل أن أريك لوحات دافنشي التي كانت تشير إلى الكأس المقدسة، أريدك أن تلقي نظرة سريعة على هذا". وفتح الكتاب على صفحة كان عليها رسم ملون احتل صفحتين كاملتين من الكتاب. "أعتقد أنك تعرفين هذه اللوحة الجدارية؟". إنه يمزح، أليس كذلك؟ كانت صوفي تحدق في أشهر لوحة جدارية في التاريخ - لوحة العشاء الأخير - لوحة دافنشي الأسطورية على جدار كنيسة سانتا ماريا ديلله غراتزية في ميلانو. كانت اللوحة الجدارية الأثرية تصور يسوع ورسله في اللحظة التي أعلن فيها أن أحدهم سيخونه. "نعم، أعرف هذه اللوحة الجدارية". "إذن هلا تفضلت وقبلت أن تلعبي هذه اللعبة البسيطة معي؟ أغمضي عينيك لو سمحت". أغمضت صوفي عينيها بتردد. "أين يجلس المسيح؟" سألها تيبينغ. "في الوسط". "حسناً، ما الذي يأكله هو ورسله؟". "خبزاً" بالطبع. "ممتاز. وماذا يشربون؟". "نبيذاً، إنهم يشربون النبيذ". "عظيم جداً. وسؤال أخير الآن. ما هو عدد كؤوس النبيذ الموجودة على الطاولة؟". صمتت صوفي للحظة، فقد عرفت أن هذا هو السؤال الذي ينطوي على الخدعة. وبعد العشاء، شرب قدحاً من النبيذ بصحبة رسله. "كأساً واحدة"، قالت صوفي. "كأس القربان" كأس المسيح. الكأس المقدسة. "لقد مرر المسيح قدحاً واحداً من النبيذ، كما يفعل المسيحيون اليوم أثناء المناولة تماماً". تنهد تيبينغ. "افتحي عينيك الآن". وفعلت. كان تيبينغ يضحك بمكر. وعندما نظرت صوفي إلى اللوحة أمامها، ذهلت لرؤية كل واحد على الطاولة وأمامه قدح من النبيذ بما فيهم المسيح. ثلاثة عشر قدحاً. وعلاوة على ذلك، كانت الأقداح صغيرة وليست لها ساق وكانت مصنوعة من الزجاج. لم يكن هناك كأس قربان في اللوحة. لا وجود للكأس المقدسة. لمعت عينا تيبينغ. "ألا تعتقدين أن هذا غريب بعض الشيء؟ نظراً إلى أن الإنجيل وأسطورة الكأس المقدسة المألوفة يمجدان معاً تلك اللحظة على أنها اللحظة الحاسمة لظهور الكأس المقدسة. والغريب في الأمر هو أن دافنشي يبدو وكأنه قد نسي أن يرسم كأس المسيح. "من المؤكد أن الباحثين في الفن قد لاحظوا ذلك". "ستصدمين عندما تعرفين كم هي كثيرة الأشياء الشاذة الموجودة هنا والتي إما لم يرَها الباحثون أو أنهم قرروا تجاهلها ببساطة. إن هذه اللوحة الجدارية في الحقيقة، هي المفتاح الأساسي لحل غموض الكأس المقدسة. فليوناردو قام بفضح كل شيء على الملأ في "لوحة العشاء الأخير". تفحصت صوفي اللوحة باهتمام بالغ. "هل تخبرنا هذه اللوحة عن ماهية الكأس المقدسة الحقيقية؟". "لن تخبرنا عن ماهيتها"، همس تيبينغ. "بل عن هويتها. فالكأس المقدسة ليست شيئاً مادياً. بل هي في الحقيقة... شخص محدد". الفصل السادس والخمسون حدقت صوفي بتيبينغ للحظة طويلة ثم التفتت نحو لانغدون. "الكأس المقدسة هي شخص؟". أومأ لانغدون. "في الحقيقة، إنها امرأة". فهم لانغدون من نظرة الذهول التي ارتسمت على وجه صوفي أن الدهشة قد عقدت لسانها. فتذكر رد فعله الذي كان مماثلاً لرد فعلها عندما سمع تلك الجملة للمرة الأولى. ولم تتوضح له عندئذ علاقة الغريل بالأنثى إلا عندما فهم الرمزية التي تكمن وراء الكأس. من الواضح أن تيبينغ كان يفكر بنفس الشيء. "روبرت، ربما يكون هذا هو الوقت المناسب كي يقوم عالم الرموز بالتوضيح؟" وقام تيبينغ من مكانه واتجه نحو طاولة جانبية قريبة ووجد ورقة صغيرة فأخذها ووضعها أمام لانغدون. أخرج لانغدون قلماً من جيبه. "صوفي، هل تعرفين الرمزين المستخدمين حديثاً للدلالة على الذكر والأنثى؟" ورسم الرمز المعروف للأنثى والذكر. "بالطبع"، قالت صوفي. "هذه"، قال بهدوء، "ليست الرموز الأصلية للذكر والأنثى. ويفترض الكثير من الناس خطأً أن رمز الذكر قد أخذ من شكل الدرع والسهم، بينما يمثل رمز الأنثى باعتقادهم مرآة تعكس جمال الأنثى. إلا أن أصل هذين الرمزين يعود إلى علم الفلك. حيث أن رمز الذكر هو رمز الكوكب الإله مارس - المريخ، ورمز الأنثى هو رمز الكوكب الآلهة فينوس - الزهرة. لذا فكما ترين، الرمزين الأصليين هما أكثر بساطة مما يتخيل المرء". رسم لانغدون على الورقة شكلاً رمزياً آخر. "هذا الرمز هو الشكل الأصلي الذي يمثل الذكر"، قال لانغدون. "وهو شكل بدائي لقضيب الرجل". "رسم يشير إلى الفكرة بشكل مباشر". قالت صوفي. "بالضبط"، أضاف تيبينغ. تابع لانغدون. "إن هذا الشكل كان يعرف سابقاً بالسيف. وهو يمثل العنف والرجولة. وفي الواقع، إن رمز القضيب هذا بالتحديد لا زال يستخدم حتى اليوم في اللباس العسكري للدلالة على الرتبة". "هذا صحيح، فكلما ازداد عدد قضبانك، ارتفعت رتبتك العسكرية... لا أمل، الرجال سيظلون رجالاً ولن يتغيروا". ارتبك لانغدون. "فلننتقل إلى الحديث عن رمز الأنثى. يمكنك أن تتصوري شكله. فهو عكس رمز الذكر تماماً". رسم شكلاً آخر على الورقة. "يطلق على هذا الرمز اسم شاليس أو الكأس". نظرت صوفي إلى الشكل وقد بدا عليها الاستغراب. استطاع لانغدون أن يرى أن صوفي قد تمكنت من الربط بين الشكل والرمز. "الشاليس أو الكأس، يشبه القدح أو الإناء والأهم من ذلك أنه يشبه رحم المرأة حيث يمثل هذا الرمز الأنوثة والخصوبة". نظر لانغدون في عينيها مباشرة الآن. "صوفي، إن الأسطورة تخبرنا بأن الكأس المقدسة هي قدح، لكن وصف الغريل كقدح هو في الحقيقة مصطلح مجازي استخدم ليحمي سرّ الطبيعة الحقيقي للكأس المقدسة. وهكذا فإن الأسطورة استعارت لفظ القدح أو الكأس للتعبير عن شيء أكثر أهمية من الكأس بكثير". "يرمز إلى امرأة". "بالضبط". ابتسم لانغدون. إن الغريل أو الكأس بالمعنى الحرفي للكلمة، هو رمز قديم للأنوثة والكأس المقدسة تمثل المرأة المقدسة والآلهة الأنثى، وقد ضاع هذا المعنى بالطبع الآن بسبب محوه تماماً وبشكل عملي على يد الكنيسة. لقد كانت قوة المرأة وقدرتها على إنتاج الذرية ومنح الحياة في قديم الزمان، أمراً مقدساً لكنه كان يهدد قيام الكنيسة التي سيطرت عليها السلطة الذكورية. لذا فقد ألصقت الصفات الشيطانية بالأنثى المقدسة وشوهت سمعتها. لقد كان الإنسان لا الرب هو الذي اخترع مفهوم الخطيئة الأصلية حيث أكلت حواء من التفاحة وسببت طرد الجنس البشري من الجنة إلى الأرض. فأصبحت المرأة التي كانت يوماً مانحة الحياة، أصبحت اليوم عدو الإنسانية". "يجب أن أضيف"، قاطعه تيبينغ، "إن المفهوم الذي يقول إن المرأة هي التي تعطي الحياة كان أساس الأديان القديمة. حيث أن عملية الولادة كانت حدثاً سحرياً ومؤثراً. لكن من المؤسف ان الفلسفة المسيحية قررت أن تسرق قوة المرأة المبدعة من خلال إنكار الحقيقة البيولوجية وجعل الرجل هو الخالق. يخبرنا سفر التكوين أن حواء خلقت من ضلع آدم. وبذلك أصبحت المرأة فرعاً من الرجل والأسوأ هو أنها ارتكبت خطيئة من أجل ذلك. كان سفر التكوين هو بداية النهاية بالنسبة للآلهة الأنثى". "إن الكأس"، قال لانغدون، "هي رمز الآلهة الضائعة. فعندما جاءت المسيحية، لم تمت الأديان الوثنية بسهولة. وأساطير بحث الفرسان عن الكأس المقدسة، كانت في الحقيقة قصصاً تروي حكاية الحملات المحرّمة للعثور على الأنثى المقدسة. والفرسان الذين ادعوا أنهم يبحثون عن الكأس، كانوا يتحدثون باستخدام شيفرة وذلك كوسيلة لحماية أنفسهم من كنيسة استعبدت النساء، ونفت الآلهة، وحرقت الملحدين، ومنعت الوثنيين من عبادة الأنثى المقدسة". هزت صوفي رأسها. "عفواً، لكن عندما قلت أن الغريل المقدس كان شخصاً، ظننت أنه كان شخصاً من لحم ودم". "وهو كذلك". قال لانغدون. "وليس أي شخص..." قال تيبينغ دون تفكير، وقد وثب بحماس من مكانه. "إنها امرأة حملت معها سراً خطيراً، قد يهدم أساس المسيحية في حال تم كشفه!". بدت صوفي مذهولة من وقع كلماته. "وهذه المرأة، هل هي معروفة في التاريخ؟". "إلى حدٍّ ما" عندئذ حمل تيبينغ عكازيه وأشار إلى الغرفة التي كانت في نهاية القاعة. "وإذا انتقلنا إلى المكتب، يا صديقيّ العزيزين، فسيكون لي الشرف أن أريكما اللوحة التي رسمها دافنشي لها". وفي المطبخ، على بعد غرفتين، وقف الخادم ريمي لوغالوديك بصمت أمام التلفاز يشاهد نشرة الأخبار، حيث نشرت صورة لرجل وامرأة... هما نفس الشخصين اللذين قدم لهما ريمي الشاي لتوه. الفصل السابع والخمسون وقف الملازم كوليه خارج بنك زيوريخ للودائع متسائلاً عن سبب تأخر فاش ومعه مذكرة التفتيش إلى هذا الحدّ. فمن الواضح أن موظفي البنك يخفون شيئاً في الداخل. فقد ادعوا أن لانغدون ونوفو كانا قد أتيا لكنهم لم يسمحوا لهما بالدخول لأنه لم يكن معهما الرقم الصحيح للدخول إلى الحساب. إذا كان ذلك صحيحاً، لماذا إذن لم يسمحوا لنا بالدخول لإلقاء نظرة على المكان؟ وأخيراً رن هاتف كوليه النقال. لقد كان الاتصال من مركز القيادة في اللوفر. "هل حصلتم على مذكرة تفتيش أم لا؟" سأل كوليه. "انس أمر البنك أيها الملازم"، قال له العميل". فقد وردتنا معلومات جديدة. لقد حددنا بدقة الموقع الذي يختبئ فيه لانغدون ونوفو. جلس كوليه بقوة على غطاء سيارته. "أنت تمزح". "لدي هنا عنوان في ضواحي باريس. في مكان قريب من فرساي". "هل النقيب فاش على علم بذلك؟". "كلا، ليس بعد. إنه مشغول بمهمة عاجلة". "أنا في طريقي إلى هناك. دعه يتصل بي حال انتهائه من مهمته". سجل كوليه العنوان وركب سيارته بسرعة. ولدى انطلاقه من البنك، انتبه كوليه أنه نسي أن يسأل عن الشخص الذي أخبرهم بتلك المعلومات. لم يكن ذلك مهماً على أية حال. فما حصل كان من حسن حظه حيث أن الفرصة أتيحت له ليقوم بتصحيح أخطائه السابقة. فقد كان على وشك القيام بأهم عملية اعتقال في حياته المهنية. أرسل كوليه إشارة إلى السيارات الخمس التي كانت برفقته. "لا تطلقوا الصفارات، أيها الرجال، فيجب ألا ندع لانغدون يشعر بقدومنا". وعلى بعد أربعين كيلومتراً عن باريس وقفت سيارة أودي سوداء على طرف طريق ريفية وتوقفت في الظلام على حافة حقل أخضر. ترجل سيلاس من السيارة واسترق النظر من خلال فتحات سور فولاذي كان يطوق المجمع الواسع أمامه. ونظر إلى أعلى المنحدر الذي كان يضيئه نور القمر حيث كان القصر يظهر من بعيد. كانت أضواء الطابق الأرضي كلها مشتعلة. أمر غير عادي في مثل هذه الساعة. فكر سيلاس وارتسمت ابتسامة على شفتيه. يبدو أن المعلومات التي أعطاه إياها المعلم كانت صحيحة. لن أغادر هذا البيت إلا ومعي الحجر المفتاح. أخذ سيلاس على نفسه عهداً بذلك. لن أخذل القس والمعلم. تأكد سيلاس من عدد الطلقات الموجودة في مسدسه الهيكلر كوخ ثم دفع به من بين القضبان وتركه يسقط على الأرض الخضراء داخل السياج. ثم تشبث بقمة السور ورفع جسده إلى الأعلى ثم قفز إلى الطرف الآخر واستعاد مسدسه وبدأ يمشي في الطريق الطويلة صعوداً نحو القصر متجاهلاً ألم الحزام الذي كان يشق لحمه. الفصل الثامن والخمسون كانت غرفة مكتب تيبينغ تختلف عن كل الغرف التي رأتها صوفي في حياتها. فقد كانت أكبر من أكبر وأفخم غرفة بست أو سبع مرات على الأقل. وكانت غرفة عمل هذا الفارس عبارة عن مزيج غير متناسق لعدة غرف فقد جمعت في جنباتها مخبراً علمياً ومكتبة أرشيفية وسوقاً للبضائع القديمة الأثرية. وكانت تضيؤها ثريات تتدلى من السقف العالي. أما الأرضية المكسوة بأناقة، فكانت مغطاة بمجموعات من طاولات العمل المدفونة تماماً تحت الكتب والأعمال الفنية والتحف وكمية مهولة من المعدات الإلكترونية من كومبيوترات وآلات عرض إلى مجاهر وآلات نسخ وماسحات ليزرية. "لقد كانت هذه الغرفة قاعة للرقص، فحولتها إلى مكتب". قال تيبينغ وقد بدا عليه الارتباك وهو يجر قدميه إلى داخل الغرفة. "ففرصي في الرقص محدودة بعض الشيء". شعرت صوفي كما لو أن الأمسية بأكملها قد أصبحت في حالة من اللامعقولية حيث كانت كل الأحداث تجري فيها بطريقة غير متوقعة نهائياً. "هل تستخدم هذا كله في عملك؟". "إن البحث عن الحقيقة قد أضحى حب حياتي"، قال تيبينغ. "والسانغريال هي عشيقتي المفضلة". إن الكأس المقدسة هي امرأة، فكرت صوفي، وقد أصبح عقلها كملصّقة من الأفكار المتشابكة والتي بدت غير منطقية على الإطلاق. "لقد قلت إن لديك صورة للمرأة التي ادعيت أنها هي الكأس المقدسة". "نعم، لكنني لست أنا من ادعى ذلك. المسيح بذات نفسه هو الذي ادعى ذلك". "أي لوحة من هذه اللوحات هي؟" سألته صوفي وهي تتفحص الجدران. "دعيني أرى..." كان تيبينغ يحاول أن يبدو وكأنه أنه قد نسي أي لوحة كانت. "الكأس المقدسة... السانغريال... القدح". ودار فجأة ثم أشار بيده إلى الحائط في آخر الغرفة. وهناك كانت نسخة من لوحة العشاء الأخير بطول ثمانية أقدام، معلقة على الحائط. لقد كانت هذه الصورة هي نفس الصورة التي كانت صوفي تنظر إليها بالضبط. "ها هي!". كانت صوفي واثقة من أنه لا بد أن يكون هناك شيء قد فاتها. "لكن هذه هي نفس اللوحة التي أريتني إياها لتوك". فغمزها. "أعرف ذلك، لكنها تبدو أكثر إثارة وروعة وهي بهذا الحجم. ألا تظنين ذلك؟". التفتت صوفي نحو لانغدون لتستنجد به. "أنا لا أفهم شيئاً". ابتسم لانغدون. "يبدو في النهاية أن الكأس المقدسة كانت حاضرة بالفعل في العشاء الأخير. فقد أظهرها دافنشي بوضوح في لوحته". "انتظر لحظة"، قالت صوفي. "لقد أخبرتني أن الكأس المقدسة هي امرأة. لكن العشاء الأخير هو لوحة لثلاثة عشر رجلاً". "هل هي كذلك؟" قوّس تيبينغ حاجبيه. "اقتربي منها أكثر ودققي النظر فيها". اقتربت صوفي من اللوحة بتردد وأخذت تتفحص الأشكال الثلاث عشرة. كان يسوع المسيح في الوسط وستة من أتباعه على يساره وستة على يمينه. "إنهم جميعاً رجال". أكدت صوفي. "متأكدة؟" قال تيبينغ. "ماذا عن الشخص الذي يجلس في مكان الشرف على يمين المسيح؟". دققت صوفي بالشخص الذي كان إلى يمين المسيح مباشرة. وركزت نظرها عليه. وعندما تفحصت وجه الشخص وجسده، أحست بموجة عارمة من الذهول تسري في جسدها. كان ذلك الشخص ذا شعر أحمر كثيف ويدين ناعمتين مطويتين وصدر صغير. لقد كان ذلك الشخص دون أي شك... امرأة. "إنها امرأة!" صاحت صوفي بدهشة. كان تيبيتغ يضحك. "مفاجأة... صدقيني، لم تكن تلك غلطة. فليوناردو كان بارعاً في رسم الفوارق بين الجنسين". لم تستطع صوفي أن ترفع عينيها عن المرأة التي كانت جالسة بجانب المسيح. هذا مستحيل.. فلوحة العشاء الأخير يفترض أن يكون فيها ثلاثة عشر رجلاً. من هي هذه المرأة؟ بالرغم من أن صوفي كانت قد رأت هذه الصورة الكلاسيكية مرات عديدة، إلا أنها لم تلاحظ هذا التناقض الواضح ولا مرة. "لا أحد ينتبه إليها"، قال تيبينغ. فأفكارنا المسبقة التي كونها عقلنا عن هذا المشهد، قوية لدرجة أن عقلنا ينكر ما يتعارض مع تلك الأفكار ويتجاهل ما تنقله إليه أعيننا". "إن هذه الحالة تدعى سكيتوما"، أضاف لانغدون، تحصل هذه الحالة في الدماغ عندما يتعامل مع رموز قوية". "قد يكون هناك سبب آخر وراء عدم انتباهك لتلك المرأة"، قال تيبينغ، "وهو أن معظم الصور الموجودة في كتب الفن تعود إلى ما قبل عام 1945م عندما كانت التفاصيل لا زالت مخبأة تحت طبقات من الأوساخ المتراكمة عليها وترميمات أجريت فوقها بأيد خرقاء في القرن الثامن عشر. أما الآن فقد تم تنظيف اللوحة الجدارية أخيراً حتى عادت إلى حالتها الأصلية عندما رسمها دافنشي". وأشار إلى الصورة. "ها هي ذي!". اقتربت صوفي من الصورة أكثر. كانت المرأة الجالسة على يمين المسيح صبية صغيرة في السن ويبدو عليها الورع وذات وجه يتسم بالرزانة والحشمة وشعر أحمر كثيف ويدين مطوقتين بطمأنينة. هذه هي المرأة التي بإمكانها ببساطة قلب الكنيسة رأساً على عقب؟ "من هي هذه المرأة؟" سألت صوفي. "تلك يا عزيزتي"، أجابها تيبينغ، "هي مريم المجدلية". التفتت صوفي. "المومس؟". أخذ تيبينغ نفساً قصيراً، كما لو أن الكلمة جرحته في الصميم. "لم تكن المجدلية كذلك أبداً. وتلك الفكرة الخاطئة هي الإرث الذي خلفته الحملة القذرة التي أطلقتها الكنيسة الأولى. فقد كانت الكنيسة بحاجة لتشويه سمعة مريم المجدلية وذلك للتغطية على سرها الخطير وهو دورها ككأس مقدسة. "دورها؟". "كما ذكرت"، أوضح تيبينغ، "فإن الكنيسة كانت بحاجة لإقناع العالم بأن النبي الفاني يسوع المسيح كان كائناً إلهياً. ولهذا فإن أي إنجيل من الأناجيل كان يتضمن في طياته وصفاً لمظاهر إنسانية فانية من حياة المسيح، كان يجب حذفه من الإنجيل الذي جمع في عهد قسطنطين. لكن من سوء حظ المحررين الأوائل، كان هناك موضوع بشري مزعج يتكرر في كل الأناجيل. وهو موضوع مريم المجدلية". صمت لحظة. "وبكلمات أصح، موضوع زواجها من يسوع المسيح". "عفواً، ماذا قلت؟" نظرت صوفي إلى لانغدون ثم نظرت إلى تيبينغ ثانية. "إن ذلك كله مذكور في السجلات التاريخية، لم يكن ذلك كلامي أنا"، قال تيبينغ، "وكان دافنشي على علم تام بهذه الحقيقة". ولوحة العشاء الأخير هي صرخة للعالم للفت نظرهم إلى أن يسوع والمجدلية كانا زوجين". حدقت صوفي من جديد في اللوحة الجدارية. "لاحظي أن يسوع والمجدلية يلبسان ثياباً متماثلة تماماً لكن بألوان متعاكسة". أشار تيبينغ إلى الشخصين اللذين كانا في وسط اللوحة الجدارية. كانت صوفي تكاد لا تصدق عينيها. هذا صحيح، لقد كانت ثيابهما متعاكسة في اللون؛ فيسوع كان يرتدي ثوباً أحمر وفوقه عباءة زرقاء في حين أن مريم المجدلية كانت ترتدي ثوباً أزرق وفوقه عباءة حمراء. ين ويانغ. "والآن لننتقل إلى ما هو أكثر غرابة"، قال تيبينغ، "لاحظي أن يسوع وعروسه يبدوان وكأنهما متصلان عند الورك، ثم يبتعدان عن بعضهما في الطرف العلوي وكأنهما بهذه الوضعية يرسمان شكلاً واضحاً ألا وهو الكأس...". رأت صوفي شكل V الواضح تماماً في مركز اللوحة بالضبط، قبل حتى أن يمرر تيبينغ إصبعه على اللوحة ليريها إياه. كان ذلك هو نفس الرمز الذي رسمه لانغدون قبل قليل كناية عن الكأس المقدسة، القدح... رحم الأنثى. "وأخيراً"، قال تيبينغ، "إذا نظرت إلى المسيح والمجدلية باعتبارهما عناصر تركيبية لا على أنهما شخصان، ستجدين أنهما يكونان شكلاً آخر أكثر وضوحاً". صمت لحظة. "وهو حرف من حروف الأبجدية". فلاحظته صوفي في الحال. وفجأة كان هذا الحرف هو الشيء الوحيد الذي استطاعت صوفي رؤيته في اللوحة. كانت الخطوط التي تشكل حرف M عملاق دقيقة إلى حدّ لا يترك مجالاً للشك، وكانت ساطعة في مركز اللوحة بشكل يعمي الأبصار تصرخ بصوت عال لتلفت نظر المشاهد إليها. "ألا تعتقدين أنها شديدة الوضوح والتناسق لدرجة أنها لا يمكن أن تكون هناك بمحض الصدفة؟" سألها تيبينغ. لكن صوفي كانت مذهولة. "لكن ما هو القصد وراء رسمها هنا؟". هز تيبينغ كتفيه وأجابها. "إذا سألت الباحثين الذين يقولون بنظرية المؤامرة فسيجيبونك بأن ذلك الحرف يرمز إلى كلمة ماتريمونيو – زواج - أو مريم المجدلية. ولكي أصدقك القول، لا أحد يعرف الإجابة عن ذلك السؤال بشكل أكيد. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي أن وجود حرف M بشكل مخفي في تلك اللوحة، لم يكن عن طريق الخطأ. هذا بالإضافة إلى أنه كانت هناك أعمال كثيرة جداً ذات صلة بالكأس المقدسة احتوت على حرف M بشكل مخفي سواء كان ذلك كعلامة مائية أو بشكل مخبأ تحت اللوحات أو كإشارات مبتكرة لا تظهر للناظر إلا إذا دقق فيها. إلا أن أوضح M بلا منازع هي تلك التي تزين مذبح كنيسة سيدة باريس في لندن، والتي صممت على يد زعيم كبير سابق لأخوية سيون، وهو جان كوكتو". فكرت صوفي للحظات في المعلومات التي سمعتها لتوها. "إنني أعترف أن حروف M المخفية تثير الفضول والدهشة، إلا أنه من غير المعقول أن يدعي أي أحد أن ذلك يعد دليلاً دامغاً على زواج يسوع بالمجدلية". "لا.. لا نهائياً"، قال تيبينغ وذهب نحو أحد الطاولات المليئة بالكتب. "كما قلت لك سابقاً، إن زواج يسوع ومريم المجدلية هو جزء من حقيقة وسجلات تاريخية". وأخذ ينبش في مجموعة الكتب التي كانت بين يديه. "علاوة على أن يسوع كرجل متزوج هو أمر منطقي أكثر من فكرتنا الإنجيلية التقليدية التي تقول إنه كان عازباً". "لماذا؟" سألت صوفي. "لأن يسوع كان يهودياً"، قال لانغدون وقد استلم دفة الحديث عن تيبينغ الذي كان يبحث عن كتاب يريد أن يريه لصوفي، "وقد كان العرف الاجتماعي في ذلك العصر يحرم تماماً على الرجل اليهودي أن يكون أعزب. كما أن الامتناع عن الزواج كان ذنباً يعاقب عليه بحسب التقاليد اليهودية، وكان واجب الأب اليهودي أن يجد زوجة مناسبة لابنه. فلو كان المسيح أعزب، لكان ذلك قد ذكر في أحد الأناجيل وتم تفسير حالة عدم زواجه غير المألوفة على الإطلاق". عثر تيبينغ على كتاب كبير وسحبه نحوه من فوق الطاولة. كانت هذه النسخة من الكتاب ذي الغلاف الجلدي الفاخر بحجم ملصق كبير وتبدو أشبه بأطلس ضخم. كان عنوان الكتاب: الأناجيل الغنطوسية. فتحه تيبينغ بحماس وانضم إليه لانغدون وصوفي. لاحظت صوفي أن الكتاب كان يضم بين دفتيه صوراً بدت كأنها مقاطع مكبرة لوثائق قديمة اتضح أنها أوراق بردي ممزقة تحتوي على نص مكتوب بخط اليد. لم تتمكن من التعرف على اللغة القديمة، إلا أن الصفحات المقابلة حملت ترجمة مطبوعة لتلك النصوص. "هذه صور للفائف البردي التي عثر عليها في واحة حمادي وفي البحر الميت، التي قد حدثتك عنها"، قال تيبينغ. "إنها السجلات المسيحية الأولى. والتي لا تتوافق معلوماتها للأسف مع الأناجيل التي جمع منها إنجيل قسطنطين". قلب تيبينغ صفحات الكتاب حتى وصل إلى منتصفه ثم أشار إلى أحد المقاطع. "إن إنجيل فيليب هو دائماً أفضل واحد نبدأ به". قرأت صوفي المقطع الذي أشار إليه. ورفيقة المخلّص هي مريم المجدلية. أحبها المسيح أكثر من كل الحواريين واعتاد أن يقبلها في معظم الأحيان من فمها. وقد تضايق باقي الحواريين من ذلك وعبروا عن استيائهم. وقالوا له، "لماذا تحبها أكثر منا؟". لقد فاجأت تلك الكلمات صوفي، إلا أنها لم تكن تبدو مقنعة. "إنها لم تأتِ على ذكر الزواج نهائياً". "بالعكس" قال تيبينغ بالفرنسية ثم ابتسم مشيراً إلى السطر الأول. "إذا سألت أي عالم باللغة الآرامية فسيقول لك أن كلمة رفيقة في تلك الأيام كانت تعني حرفياً الزوجة". وافقه لانغدون على ذلك بإيماءة من رأسه. قرأت صوفي السطر الأول مرة أخرى. ورفيقة المخلّص هي مريم المجدلية. قلّب تيبينغ في الكتاب ثانية وأشار إلى عدة مقاطع أخرى دلت بوضوح على أن يسوع والمجدلية كانا على علاقة عاطفية، مما أثار دهشة صوفي الشديدة. وبينما أخذت تقرأ تلك المقاطع، عادت إلى ذاكرتها صورة قس غاضب طرق باب بيت جدها ذات يوم عندما كانت طالبة في المدرسة. "هل هذا منزل جاك سونيير؟" سأل القس بإلحاح وهو يحدق بالطفلة صوفي التي فتحت له الباب. "أريد أن أتحدث إليه بشأن هذه الافتتاحية التي كتبها". ورفع القس جريدة كانت في يده. نادت صوفي جدها ثم اختفى الاثنان داخل غرفة مكتبه وأغلقا الباب وراءهما. جدي كتب شيئاً في الجريدة؟! عندئذ ركضت صوفي في الحال إلى المطبخ وقلبت صفحات جريدة ذلك الصباح. فرأت اسم جدها تحت عنوان مقال كتب في الصفحة الثانية، فقرأته. لم تفهم صوفي أي كلمة مما كتب في المقال، لكنه كان يبدو أنه حول الحكومة الفرنسية وأنها تحت ضغط من القساوسة وافقت على حظر فيلم أمريكي يدعى الإغواء الأخير للمسيح، والذي كان يتحدث عن ممارسة المسيح للجنس مع سيدة تدعى مريم المجدلية. وكتب جدها في مقاله أن الكنيسة كانت متكبرة ومخطئة في حظره. لا عجب أن يكون القس غاضباً إلى هذا الحدّ. فكرت صوفي. "إنها إباحية! واحتقار لكل ما هو مقدس!" صاح القس، خارجاً من المكتب ومسرعاً نحو الباب الأمامي. "كيف يمكنك أن توافق على ذلك؟ لا بل وتدعمه؟! وهذا الأمريكي مارتين سكورسيزي الكافر... سوف لن تسمح له الكنيسة بالكلام في فرنسا أبداً". وأغلق القس الباب بعنف وهو في طريقه إلى الخارج. وعندما دخل جدها إلى المطبخ، رأى الجريدة في يدها فقطب جبينه. "إنك سريعة". قالت صوفي. "أتعتقد أن المسيح كان عنده صاحبة؟". "كلا عزيزتي، لقد قلت إنه يجب ألا يسمح للكنيسة أن تملي علينا الأفكار والمفاهيم التي علينا أن نقبل أو لا نقبل بها". "هل كان المسيح على علاقة مع امرأة ما؟". صمت جدها لعدة لحظات ولم يجب، ثم سألها. "هل يكون ذلك سيئاً جداً برأيك إذا كان له صاحبة؟". فكرت صوفي بذلك ثم هزت كتفيها. "أنا شخصياً لا أمانع". كان السير لاي تيبينغ لا زال يتكلم. "لن أضجرك بقراءة العدد الكبير من الشواهد التي تدل على زواج يسوع والمجدلية. فقد قام المؤرخون المعاصرون بالبحث في هذا الموضوع مراراً وتكراراً. إلا أنني أود أن أشير إلى المقطع التالي، وهو مأخوذ من إنجيل مريم المجدلية". لم تكن صوفي على علم بوجود إنجيل بكلمات المجدلية. قرأت النص: وقال بطرس، "هل قام المخلّص فعلاً بالتحدث مع امرأة دون علمنا؟ هل سينصرف عنا وهل سنضطر جميعاً للانصياع لأمرها؟ هل فضّلها علينا؟". وأجابه ليفي، "بطرس، لقد كنت دائماً حاد الطباع. وأرى الآن أنك تعارضها وكأنك خصمها. إذا كان المخلّص قد جعلها شخصاً مهماً، فمن أنت لترفضها؟ من المؤكد أن المخلّص يعرفها حق المعرفة. لذلك هو يحبها أكثر منا". "إن المرأة التي يتحدثان عنها هي مريم المجدلية. وبطرس يغار منها". فسر لها تيبينغ. "لأن يسوع فضّل مريم عليهم؟". "ليس هذا فقط، بل إن الأمر يصبح أخطر من مجرد الإعجاب. وفي تلك الفترة حسب ما يذكر الإنجيل، يشعر يسوع بأنه سوف يتم القبض عليه وصلبه قريباً. لذا فهو يقوم بإعطاء مريم المجدلية تعليمات حول كيفية متابعة كنيسته بعد أن يموت. ونتيجة لذلك يعبر بطرس عن استيائه حول قيامه بدور ثانوي لامرأة تحتل البطولة. يمكنني القول إن بطرس كان متعصباً للرجال". كانت صوفي تحاول استيعاب ما قاله. "هذا الذي تتحدث عنه هو القديس بطرس. الصخرة التي بنى عليها يسوع كنيسته؟". "هو بذاته، إلا أن هناك خطأً بسيطاً. فبحسب هذه الأناجيل غير المحرّفة، لم يكن بطرس هو الحواري الذي أعطاه المسيح تعليمات تتضمن كيفية تأسيس الكنيسة المسيحية، بل كانت مريم المجدلية". نظرت صوفي إليه بدهشة. "أنت تقول أن الكنيسة المسيحية كانت ستقوم على يد امرأة؟". "تلك كانت الخطة. فيسوع كان أول نصير للمرأة. كان يريد لمستقبل كنيسته أن يكون بين يدي مريم المجدلية". "وكان بطرس يعارض هذا الأمر"، قال لانغدون مشيراً إلى لوحة العشاء الأخير. "ها هو بطرس هناك. يمكنك أن تري أن دافنشي كان على علم بمشاعر بطرس حيال مريم المجدلية". مرة أخرى ذهلت صوفي ولم تستطع أن تنبس ببنت شفة. ففي اللوحة، كان بطرس ينحني بطريقة مخيفة نحو مريم المجدلية واضعاً يده الشبيهة بالسيف أمام عنقها كما لو أنه يريد ذبحها. نفس الحركة المرعبة في لوحة سيدة الصخور! "وهنا أيضاً"، قال لانغدون، وقد أشار الآن إلى المجموعة الكبيرة من الحواريين بالقرب من بطرس. "مخيف بعض الشيء، أليس كذلك؟". دققت صوفي في اللوحة أكثر فرأت يداً تظهر من بين جماعة الحواريين. "هل تحمل هذه اليد خنجراً؟". "نعم، والأغرب من ذلك هو أنك إذا قمت بعد الأذرع ستجدين أن هذه اليد لا تعود إلى أي أحد على الإطلاق... إنها مفصولة عن الجسد... يد مجهولة". بدأت صوفي تشعر بالارتباك. "عفواً، لكنني إلى الآن لم أفهم كيف يجعل كل ذلك مريم المجدلية هي الكأس المقدسة". "آها!" هتف تيبينغ مرة أخرى. "هنا تكمن الإجابة عن سؤالك!" والتفت من جديد نحو الطاولة وسحب قائمة كبيرة ووضعها أمامها. كانت قائمة بسلسلة نسب طويلة. "القليل من الناس على علم بأن مريم المجدلية كانت امرأة قوية أصلاً، إضافة إلى كونها الساعد الأيمن للمسيح". استطاعت صوفي أن ترى الآن عنوان شجرة العائلة. قبيلة بنيامين "هنا مريم المجدلية"، قال تيبينغ مشيراً إلى قمة الشجرة. تفاجأت صوفي. "كانت من عائلة بنيامين؟". "نعم"، قال تيبينغ. "كانت مريم المجدلية من سلالة ملكية". "لكنني كنت أعتقد أن المجدلية كانت فقيرة". هز تيبينغ رأسه نافياً. "لقد جعلت الكنيسة المجدلية تبدو كمومس وذلك ليمحوا الدليل الذي يثبت أن عائلتها كانت ذات سلطة ونفوذ". وجدت صوفي نفسها تعود لتنظر إلى لانغدون من جديد، الذي وافقها مرة أخرى بإيماءة من رأسه. التفتت مرة ثانية إلى تيبينغ. "لكن لماذا تهتم الكنيسة الأولى إذا ما كانت المجدلية تحمل دماء ملكية؟". ابتسم البريطاني. "طفلتي العزيزة، لم تكن أصولها الملكية هي التي تعني الكنيسة بقدر زواجها من المسيح الذي كان بدوره يحمل دماء ملكية. حيث يخبرنا إنجيل متى، كما تعرفين، أن يسوع كان من عائلة داود. وهو سليل الملك سليمان - ملك اليهود. وبزواجه من عائلة بنيامين ذات النفوذ، يكون قد وحّد بين سلالتين ملكيتين بشكل يتم فيه خلق اتحاد سياسي قوي مع إمكانية المطالبة شرعاً بالعرش وإعادة سلالة الملوك كما كان الأمر في عهد سليمان". أحست صوفي أنه قد وصل أخيراً إلى زبدة الكلام. بدا تيبينغ متحمساً الآن. "إن قصة الكأس المقدسة هي قصة الدماء الملكية. فعندما تتحدث قصة الغريل عن الكأس التي حملت دم المسيح... تكون في الحقيقة تتحدث عن مريم المجدلية – الرحم التي حملت سلالة المسيح الملكية". بدت الكلمات وكأنها ترددت في كافة أنحاء الغرفة قبل أن تعود إلى أذني صوفي ويستقر في عقلها وتستوعبه. مريم المجدلية حملت سلالة المسيح؟ "لكن كيف يمكن أن تكون هناك سلالة للمسيح؟... إلا إذا..." صمتت لحظة ونظرت إلى لانغدون. ارتسمت على وجه لانغدون ابتسامة لطيفة. "إلا إذا كان لهما ابن". وقفت صوفي بذهول. "لاحظي"، أكد تيبينغ، "أكبر سرّ في تاريخ الإنسانية جمعاء. لم يكن المسيح متزوجاً فحسب، بل كان أباً أيضاً. عزيزتي، كانت مريم المجدلية الوعاء المقدس... كانت القدح الذي حمل سلالة يسوع المسيح الملكية. والرحم الذي حمل ورثة المسيحية. والكرمة التي أنتجت الثمرة المقدسة!". اقشعر بدن صوفي. "لكن كيف يمكن لسرّ بهذه الأهمية أن يبقى مخفياً طوال هذه السنوات؟". "يا إلهي!" قال تيبينغ. "إنه أبعد ما يكون عن الكتمان! فسلالة المسيح الملكية هي أساس أهم أسطورة في التاريخ - أسطورة الكأس المقدسة. لقد رويت قصة المجدلية مراراً وتكراراً عبر القرون بكل أنواع وأشكال الرموز والاستعارات واللغات. إن قصتها في كل مكان إذا أردت أن تفتحي عينيك لتريها". "ماذا عن وثائق السانغريال؟" قالت صوفي. "التي يفترض بأنها تحتوي على دليل يثبت أنه كان للمسيح سلالة ملكية؟". "إنها تحتوي على تلك الأدلة بالفعل". "إذن أسطورة الكأس المقدسة بكاملها هي حول السلالة الملكية؟". "هذا صحيح تماماً". قال تيبينغ. "وكلمة سانغريال أتت من سان San وغريل Grail أي الكأس المقدسة. وقد قسمت إلى كلمتين قديماً لكن من مكان مختلف". كتب تيبينغ على قصاصة من الورق شيئاً وأعطاه إلى صوفي. فقرأت ما كتبه. Sang Real عرفت صوفي الترجمة في الحال. سانغريال كانت تعني حرفياً الدم الملكي. الفصل التاسع والخمسون كان موظف الاستقبال الذي يعمل في بهو المقر الرئيسي لأوبوس داي في جادة ليكسينغتون في مدينة نيويورك، كان مندهشاً لسماع صوت القس أرينغاروزا على الهاتف. "عمت مساء سيدي". "هل ترك لي أحد أي رسائل؟" سأله القس بإلحاح، وصوته يبدو قلقاً ومتوتراً على غير العادة. "نعم سيدي، لقد سررت جداً لاتصالك. فقد حاولت الاتصال على شقتك لكنني لم أجدك هناك. لقد وردتك رسالة هاتفية عاجلة منذ حوالى نصف ساعة". "نعم؟" بدا أنه قد اطمأن لسماعه هذا الخبر. "هل ترك المتصل اسمه؟". "كلا سيدي، لقد ترك رقمه فقط". وأعطاه عامل المقسم الرقم. "أول الرقم 33؟ هذا رقم فرنسا أليس كذلك؟". "نعم سيدي، رقم باريس. لقد قال المتصل إن من الضروري جداً أن تتصل به في الحال". "شكراً لك. لقد كنت في انتظار هذه المكالمة". وقطع أرينغاروزا الاتصال بسرعة. وعندما أغلق عامل المقسم السماعة، تساءل لماذا كان هاتف أرينغاروزا يقرقع إلى هذا الحدّ. فقد كان برنامج القس اليومي يظهر أنه سيكون في نيويورك في نهاية الأسبوع. إلا أن صوته كان يبدو وكأنه يتصل من آخر الدنيا. هز عامل المقسم كتفيه. لقد كان القس أرينغاروزا يتصرف بشكل غريب جداً في الأشهر القليلة الأخيرة. من المؤكد أن هاتفي النقال لم يكن مفتوحاً عندما اتصل بي، فكر أرينغاروزا عندما أخذت الفيات تقترب من مخرج مطار تشامبينو في روما. كان المعلم يحاول الاتصال بي. وبالرغم من قلق أرينغاروزا لأنه لم يتمكن من تلقي المكالمة، إلا أنه شعر بأنه قد تشجع لأن المعلم شعر بالثقة الكافية جعلته يقوم بالاتصال بمقر أوبوس داي الرئيسي مباشرة. يبدو أن الأمور قد جرت على أحسن حال هذه الليلة في باريس. وعندما بدأ أرينغاروزا يضرب الرقم، غمره الحماس لأنه سيكون قريباً في باريس. سأكون على أرض فرنسا قبل بزوغ الفجر. كانت هناك طائرة في انتظاره هنا من أجل رحلته القصيرة إلى فرنسا. حيث إن الطائرات التجارية لم تكن أحد الخيارات المتاحة في مثل هذه الساعة وخاصة بالنظر إلى أهمية محتويات حقيبته. بدأ الخط يرن. أجابت امرأة بالفرنسية. "مديرية الشرطة القضائية الفرنسية". شعر أرينغاروزا بأنه متردد. فلم يكن هذا ما توقعه. "نعم... لقد ترك أحدهم لي رسالة بأن أتصل بهذا الرقم؟". "من حضرتك؟" قالت المرأة. "اسمك؟". لم يكن أرينغاروزا متأكداً من أنه يجب أن يكشف هويته. الشرطة القضائية الفرنسية؟ "ما اسمك سيدي؟" سألت المرأة بإلحاح. "القس مانويل أرينغاروزا". "لحظة، لو سمحت". وصدر صوت طقطقة من الخط. وبعد انتظار طويل، تحدث إليه رجل آخر، بصوت أجش وقلق. "أيها القس، أنا سعيد لأنني استطعت الوصول إليك أخيراً. فلدينا الكثير لنناقشه سوية". الفصل الستون سانغريال... الدم المقدس... الكأس المقدسة... السلالة المقدسة. كانت كلها مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً. الكأس المقدسة هي مريم المجدلية... أم السلالة الملكية ليسوع المسيح. شعرت صوفي بموجة جديدة من الضياع تسيطر عليها وهي تقف في صمت قاعة الحفلات وتحدق بروبرت لانغدون. وكلما زاد روبرت لانغدون وتيبينغ من الشرح والتفسير، كلما أصبحت هذه الأحجية غير متوقعة على الإطلاق. "كما ترين عزيزتي"، قال تيبينغ وهو يمشي بصعوبة نحو أحد رفوف الكتب. "فإن ليوناردو ليس الوحيد الذي كان يحاول أن يخبر العالم عن حقيقة الكأس المقدسة. فقد تم تسجيل تاريخ السلالة الملكية ليسوع المسيح بالتفصيل الممل على يد العديد من المؤرخين". ومرر إصبعه على رف يحتوي على عشرات الكتب. أمالت صوفي رأسها وقرأت قائمة العناوين: كشف سرّ فرسان الهيكل: حراس سرّ هوية المسيح الحقيقية المرأة التي تحمل جرة المرمر: مريم المجدلية والكأس المقدسة الآلهة في الأناجيل استعادة الأنثى المقدسة "وهنا المجلد الأكثر شهرة"، قال تيبينغ، وهو يسحب كتاباً قديماً ضخماً ذا غلاف سميك من بين كومة الكتب وأعطاه لها. وكتب على غلافه: دم ملكي، كأس مقدسة الكتاب الرائع الأكثر مبيعاً في العالم نظرت صوفي إلى تيبينغ. "الكتاب الأكثر مبيعاً؟ لم أسمع به في حياتي". "لقد كنت صغيرة عندئذ. وقد أثار الكتاب ضجة لدى صدوره في الثمانينات. وإذا أردت رأيي الشخصي، فقد بالغ مؤلفوه قليلاً في تحليلاتهم، لكن الفكرة الأساسية كانت صحيحة وبفضلهم تمت أخيراً إثارة فكرة سلالة المسيح وطرحها على الملأ". "كيف كان رد فعل الكنيسة حيال الكتاب؟". "السخط الشديد، بالطبع. لكن ذلك كان متوقعاً. ففي النهاية كان هذا الأمر سرّاً حاولت الكنيسة بكل ما أوتيت من قوة أن تدفنه في القرن الرابع. هذا كان أحد أسباب الحملة العنيفة التي شنتها الكنيسة والتي كان هدفها جمع المعلومات حول هذا الموضوع ومن ثم التخلص منها. فقد كان الخطر الذي تشكله مريم المجدلية على رجال الكنيسة الأولى، يمكن أن يكون خطراً مدمراً. حيث إنها لم تكن فقط المرأة التي أوكل إليها المسيح مهمة تأسيس الكنيسة، بل كانت تمتلك أيضاً الدليل المادي الذي يثبت أن الشخص الذي نصبته الكنيسة الحديثة إلهاً، كان في الواقع قد ترك من بعده سلالة من البشر الفانين. وقامت الكنيسة بالمقابل ومن أجل أن تحصن نفسها ضد قوة المجدلية، بتشويه صورتها وإعلانها على أنها مومس، وأخفت الدليل الذي يثبت زواجها من المسيح. وبذلك أسكتت أي ادعاءات تزعم أنه كان للمسيح سلالة من بعده وأنه كان نبياً فانياً". حدقت صوفي بلانغدون الذي أومأ موافقاً. "صوفي، إن الدليل الذي يثبت ذلك هو حقيقي وعلى قدر كبير من الأهمية". "أنا أعترف"، قال تيبينغ، "أن هذه الادعاءات خطيرة، لكن الذي يجب أن تفهميه هو الدوافع القوية التي دعت الكنيسة لنشر تلك الأكاذيب. فلم يكن بمقدور الكنيسة أبداً الصمود في وجه رد فعل الناس إذا علموا بوجود سلالة للمسيح. فوجود ابن للمسيح من شأنه التقليل من أهمية فكرة ألوهية المسيح وبالتالي أهمية الكنيسة المسيحية ودورها الذي تلعبه كطريق وحيد يمكن للبشرية أن تتصل من خلاله بالرب وتمنح المدخل إلى مملكة الجنة". "الوردة ذات البتلات الخمس"، قالت صوفي، وهي تشير فجأة إلى أحد كتب تيبينغ. وهو نفس الشكل المحفور على غطاء صندوق خشب الورد. نظر تيبينغ إلى لانغدون ثم ابتسم. "إنها فعلاً دقيقة الملاحظة". ثم التفت إلى صوفي. "إنه رمز الكأس المقدسة مريم المجدلية عند أخوية سيون، بما أن الكنيسة قد منعت حتى ذكر اسمها، لذا فقد أطلقت عليها أسماء رمزية كثيرة مثل القدح، والكأس المقدسة والوردة". صمت تيبينغ لحظة ثم استأنف. "إن رمز الوردة يرتبط بنجمة فينوس الخماسية والبوصلة - كومباس روز بالإنجليزية. وبالمناسبة، إن كلمة وردة – روز - هي ذاتها بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والعديد من اللغات الأخرى". أضاف لانغدون. "وإذا غيرت ترتيب أحرف كلمة روز Rose ستجدين أنها تشكل كلمة إيروس Eros الإله اليوناني للحب الجنسي". نظرت صوفي إلى تيبينغ باستغراب بينما استمر في حديثه. "لقد كانت الوردة دائماً الرمز الأساسي الذي يعبر عن النشاط الجنسي للأنثى. وفي الديانات القديمة التي كانت تقوم على عبادة الأنثى، كانت البتلات الخمس للوردة تمثل المحطات الخمس في حياة الأنثى: الولادة، والحيض، والأمومة، واليأس، ثم الموت. وفي العصور الحديثة، فقد تطورت الوردة المتفتحة كرمز للأنوثة فأصبحت مرئية أكثر". نظر إلى روبرت. "ربما يستطيع عالم الرموز أن يفسر ذلك بطريقة أفضل". تردد روبرت. ولم ينبس ببنت شفة. "يا إلهي!" تذمر تيبينغ. "أف منكم أنتم الأميريكيين دائماً تتصنعون الاحتشام". ونظر من جديد إلى صوفي. "إن ما خجل روبرت أن يقوله لك، هو حقيقة أن الزهرة المتفتحة تشبه عضو المرأة التناسلي، التفتح الأعظم الذي يخرج منه كل بني آدم ليدخلوا منه إلى العالم. وإذا حدث ورأيت أي لوحة من لوحات جورجيا أوكيف، ستفهمين عندئذ قصدي تماماً". "والفكرة الأساسية هنا"، قال لانغدون مشيراً إلى رف الكتب من جديد، "هو أن كل هذه الكتب تؤكد نفس المزاعم التاريخية". "إن المسيح كان أباً" كانت صوفي لا زالت مشككة في تلك الفكرة. "نعم"، قال تيبينغ. "وأن مريم المجدلية كانت الرحم الذي أنجب سلالته الملكية. وأخوية سيون، إلى يومنا هذا، لا زالت تقدّس مريم المجدلية على أنها الآلهة، والكأس المقدسة، والوردة والأم المقدسة". لمع في ذاكرة صوفي من جديد ذلك الطقس الذي شهدته في القبو. وبحسب معلومات أخوية سيون"، تابع تيبينغ، "فإن مريم المجدلية كانت حاملاً عندما صلب المسيح، وحفاظاً منها على سلامة طفل المسيح الذي لم يولد بعد، لم يكن لديها اي خيار إلا أن تهرب وترحل عن الأراضي المقدسة. فقامت بمساعدة عم المسيح يوسف من أريماتيا بالسفر سراً إلى فرنسا التي كانت تعرف عندئذ ببلاد الغال. وهناك وجدت ملاذاً آمناً في المجتمع اليهودي. وهناك في فرنسا أنجبت ابنتها التي أسمتها سارة". ذهلت صوفي. "أعرفوا حقاً اسم الطفلة؟". "وأكثر من ذلك بكثير، فقد سجل الحماة اليهود حياة الأم وابنتها يوماً بيوم وبكل دقة وأمانة. تذكري أن ابنة المجدلية كانت تنتمي إلى سلالة الملوك اليهود داوود وسليمان. ولهذا السبب اعتبر اليهود في فرنسا أن مريم المجدلية ملكة مقدسة وانحنوا احتراماً لها باعتبارها متحدرة مباشرة من سلالة الملوك. وقد أرّخ الكثير من الباحثين في تلك الحقبة الأيام التي أمضتها مريم المجدلية في فرنسا بما فيها حدث ولادة سارة وشجرة العائلة التي تبعتها". كانت صوفي مشدوهة. "ثمة شجرة عائلة أيضاً للمسيح؟!". "بالطبع، ويقال إنها أهم وثيقة من وثائق السانغريال. وهي تحتوي على شجرة العائلة كاملة لسلالة المسيح". "لكن ما هي فائدة وثيقة بشجرة عائلة المسيح؟" سألت صوفي. "إنها ليست دليلاً كافياً. فلا يمكن أن يقوم المؤرخون بالمصادقة على صحتها". أطلق تيبينغ ضحكة خافتة. "كما أنهم لا يمكنهم المصادقة على صحة الإنجيل". "والمعنى؟". "هذا يعني أن التاريخ دائماً يكتب بيد المنتصر. عندما تقع حرب بين حضارتين، تنفى الخاسرة إلى غياهب النسيان ويصنع الفائز كتب التاريخ، كتب تمجد قضيته وتحقر الخصم. كما قال نابوليون مرة. "ما التاريخ إلا كذبة تم الاتفاق عليها" وابتسم. "إن التاريخ بطبيعته يكون في صف طرف دون آخر دائماً". لم تفكر صوفي في هذا الأمر بهذه الطريقة أبداً. "إن وثائق السانغريال تروي الجانب الآخر من قصة المسيح. وفي النهاية، يصبح تصديقك لجانب من القصة دون آخر مسألة إيمان واكتشاف شخصي، لكن على الأقل تم إيصال المعلومات. تشتمل وثائق السانغريال على عشرات الآلاف من الصفحات التي تحتوي على معلومات خطيرة. يصف شهود عيان رأوا كنز السانغريال، أنه قد تم نقله في أربعة صناديق سيارات ضخمة. يشاع بأن تلك الصناديق حملت أصفى الوثائق –عشرات الآلاف من الصفحات الأصلية غير المحرفة والتي تعود إلى عصر ما قبل قسطنطين، كتبت بيد أتباع المسيح الأوائل الذين احترموه وبجلوه كإنسان ومعلم ونبي. كما يحكى أن وثيقة "Q" الأسطورية هي جزء من هذا الكنز. وهي عبارة عن مخطوط يعترف حتى الفاتيكان بوجودها. ويقال إنها كتاب يحمل تعاليم يسوع، والذي ربما يكون قد كتب بيديه". "كتابات بيد المسيح نفسه؟". "بالطبع"، قال تيبينغ. "ولم لا يكون المسيح قد سجّل أحداث فترة كهنوته؟ معظم الناس كانوا يحتفظون بمذكرات في ذلك العصر. كما يعتقد بوجود وثيقة أخرى شديدة الخطورة في الكنز أيضاً. وهي مخطوطة تدعى مذكرات المجدلية وهي روايتها الشخصية لعلاقتها مع المسيح وقصة صلبه والوقت الذي قضته في فرنسا". جلست صوفي بصمت للحظات بدت طويلة. "وهذه الصناديق الكبيرة من الوثائق هي الكنز الذي عثر عليه فرسان الهيكل تحت هيكل سليمان؟". "بالضبط. هذه هي الوثائق التي مدّت الفرسان بقوة عظيمة. وهي الوثائق التي كانت هدف حملات البحث عن الغريل على مر العصور". "لكنك قلت إن الكأس المقدسة هي مريم المجدلية. وإذا كان الناس يبحثون عن الوثائق لماذا لا زلت تطلق عليه بحث عن الكأس المقدسة؟". نظر تيبينغ في عينيها وقد أصبحت قسمات وجهه ألطف. "لأن مخبأ الكأس المقدسة يشتمل على تابوت". كانت الرياح تعصف بالأشجار في الخارج. تكلم تيبينغ بصوت منخفض الآن. إن البحث عن الكأس المقدسة هو بالتحديد الرغبة في الانحناء أمام رفات مريم المجدلية. هو رحلة للصلاة عند قدمي المطرودة، الأنثى المقدسة المفقودة". فوجئت صوفي. "مخبأ الكأس المقدسة هو في الحقيقة... مدفن؟". اكتست عينا تيبينغ العسليتان بمسحة من الغموض. "هذا صحيح، هو مدفن يحتوي على بقايا جسد مريم المجدلية والوثائق التي تروي قصة حياتها الحقيقية. إن المقصد الحقيقي من وراء البحث عن الكأس المقدسة كان دائماً بحثاً عن المجدلية، الملكة التي لم تنصب على عرشها والمدفونة مع الدليل الذي يثبت أحقيتها في السلطة". انتظرت صوفي لحظات حتى استجمع تيبينغ أفكاره. لا زال هناك الكثير من الأمور التي تبدو غامضة بخصوص جدها. "هل كان أعضاء الأخوية"، قالت صوفي، "خلال هذه السنوات الطويلة مسؤولين عن حماية وثائق السانغريال وقبر مريم المجدلية؟". "نعم، لكن أعضاء الأخوية كان يتوجب عليهم أيضاً القيام بمهمة أعظم بكثير، وهي حماية سلالة المسيح نفسها التي كانت تحت خطر محدق على الدوام. فقد خشيت الكنيسة الأولى من نمو السلالة وتزايد عدد أفرادها لأن ذلك قد يؤدي في النهاية إلى كشف سرّ علاقة المسيح بالمجدلية مما يقود إلى تحدي أساس المذهب الكاثوليكي الذي يؤمن بالمسيح الإله الذي لم يكن على علاقة بأي امرأة ولم يقم بأي فعل جنسي أبداً". وصمت لحظة ثم استطرد. "إلا أن سلالة المسيح ازدهرت في الخفاء وتحت أسماء مختلفة في فرنسا حتى قامت بحركة جريئة في القرن الخامس عندما اختلطت عن طريق الزواج بالدماء الملكية الفرنسية فخلقت سلالة تعرف بالميروفنجية". لقد أثارت هذه الأخبار دهشة صوفي. فكلمة ميروفنجي كانت مصطلحاً يتعلمه كل تلميذ في فرنسا. "فالميروفنجيون هم الذين أنشأوا باريس". "نعم، فهذا هو أحد الأسباب التي جعلت قصة الغريل مشهورة في فرنسا. وإن العديد من حملات الفاتيكان التي أرسلت للبحث عن الغريل كانت في الحقيقة بعثات سرية هدفها التخلص من أفراد السلالة الملكية. هل سمعت بالملك داغوبير؟". تذكرت صوفي الاسم بصعوبة فقد سمعته في أثناء محاضرة في مادة التاريخ وذلك خلال الحديث عن قصة رهيبة. "داغوبير كان ملكاً ميروفينجياً، أليس كذلك؟ الذي قتل وهو نائم بطعنة في عينه؟". "بالضبط. لقد قتل بتدبير من الفاتيكان بالتواطؤ مع بيبان ديريستال، في أواخر القرن السابع. وبمقتل داغوبير، أوشكت سلالة الميروفنجيين على الانقراض. لكن لحسن الحظ، تمكن سيجيسبير ابن داغوبير من النجاة سرّاً من الهجوم الذي استهدف العائلة واستمرت العائلة بالنمو على يده، والتي أنجبت في ما بعد غودفروا دو بويون - مؤسس أخوية سيون. "وهو نفس الرجل"، قال لانغدون، "الذي أمر فرسان الهيكل بأن يستعيدوا وثائق السانغريال من مخبئها تحت هيكل سليمان وبالتالي إحضار الدليل الذي يثبت صلة الدم التي تربط الميروفنجيين بيسوع المسيح". أومأ تيبينغ، وتنهد بعمق. "إن أخوية سيون المعاصرة قد أوكلت إليها مهمة خطيرة جداً. وهي مسؤولية ذات ثلاثة شقوق. فهي يجب أن تقوم بحماية وثائق السانغريال، كما أن عليها حماية قبر مريم المجدلية، وأخيراً فهي يجب أن ترعى وتحرس سلالة المسيح، أفراد العائلة القلائل الباقين الذين بقوا حتى هذا اليوم". علقت الكلمات في الفضاء الواسع وأحست صوفي بصدى غريب كما لو أن هناك حقيقة جديدة لم تعرفها من قبل دوّت في عظامها. أفراد العائلة المتحدرة من سلالة المسيح يعيشون اليوم!". سمعت صوت جدها من جديد يهمس في أذنها. أميرتي، يجب أن أطلعك على حقيقة عائلتك. سرت قشعريرة في جسدها دم ملكي لم يكن بإمكانها تصور ذلك... الأميرة صوفي.. "سير لاي؟" قرقعت كلمات الخادم عبر جهاز الاتصال الداخلي الإنتركوم الذي كان معلقاً على الحائط، فوثبت صوفي من مكانها. "هلا أتيت إلى المطبخ لحظة واحدة لو سمحت؟". عبس تيبينغ وقد انزعج من المقاطعة التي لم تكن في وقتها أبداً. فقام واتجه نحو الإنتركوم وضغط الزر. "ريمي، أنت تعلم أنني مشغول مع ضيفيّ هنا، إذا احتجنا لأي شيء من المطبخ الليلة، فسنأتي به بنفسنا. شكراً لك وتصبح على خير". "أود أن أقول لك كلمة فقط قبل أن أنصرف، سيدي، إذا كان هذا ممكناً". ضاق تيبينغ ذرعاً من إلحاحه وضغط الزر. "هيا تكلم بسرعة، ريمي". "إنه أمر خاص بشأن من شؤون المنزل، سيدي، وأخشى أن نزعج به ضيفيك". لم يصدق تيبينغ مدى إصراره. "ولا يمكن أن ينتظر هذا الأمر حتى الصباح؟". "كلا سيدي. لن يأخذ سؤالي من وقتك إلا دقيقة واحدة". قلّب تيبينغ نظره ثم نظر إلى لانغدون وصوفي. "أتساءل أحياناً من الخادم ومن السيد فينا؟" ضغط الزر من جديد. "سآتي في الحال ريمي، هل تود أن أحضر لك شيئاً في طريقي؟". "الحرية فقط سيدي". "ريمي، أنت تعلم أن شرائح اللحم بالفلفل التي تعدها هي السبب الوحيد الذي يبقيك هنا تعمل عندي". "نعم سيدي هذا ما تقوله لي دائماً... هذا ما تقوله لي دائماً". الفصل الواحد والستون الأميرة صوفي شعرت صوفي بالفراغ وهي تسمع ضربات عكاز تيبينغ على الأرض وصوتها يخفت شيئاً فشيئاً حتى اختفى عند الممر في الخارج. أدارت رأسها نحو لانغدون في القاعة الخالية وهي تشعر بخدر في جسمها. كان لانغدون يهز رأسه نفياً وكأنه كان يقرأ أفكارها. "كلا، صوفي" همس وفي عينيه نظرة مطمئنة. "لقد خطرت في بالي نفس الفكرة عندما أخبرتني أن جدك هو عضو في الأخوية، وعندما تنبهت إلى أنك قلت إنه أراد أن يخبرك بسرّ يتعلق بعائلتك. لكن هذا غير ممكن". صمت لانغدون. "فسونيير ليس لقباً ميروفنجياً". لم تعرف صوفي بماذا تشعر بالارتياح أم الخيبة. فمنذ بعض الوقت، سأل لانغدون سؤالاً عابراً أحست بأنه غريب ولم تعرف لماذا كان يريد أن يعرف لقب أمها قبل الزواج. شوفيل. إلا أنها فهمت الآن ماذا كان يقصد بسؤاله. "وشوفيل؟" سألته بلهفة. إلا أنه هز رأسه ثانية. "أنا آسف. أعلم أن ذلك كان من شأنه الإجابة عن بعض أسئلتك حول عائلتك. غير أنه لم يبقَ هناك إلا عائلتان تتحدران مباشرة من سلالة الميروفنجيين وهما بلانتار وسان كلير. وكلتا العائلتين تعيشان في مكان سري غير معروف وتقوم الأخوية بحمايتهما على الأرجح". كررت صوفي اسم العائلتين في ذهنها ثم هزت رأسها. لم يكن هناك أي أحد في عائلتها يحمل لقب بلانتار أو سان كلير. شعرت صوفي الآن بموجة من الإرهاق والكآبة تزحف إليها. وأدركت أنها لم تقترب قيد أنملة من فهم الحقيقة التي أراد جدها أن يكشفها لها، عما كانت عليه عندما كانت في اللوفر. وتمنت لو أن جدها لم يأتِ على ذكر عائلتها أبداً عصر هذا اليوم. فقد فتق جروحاً قديمة عادت لتشعر بمرارتها الآن أكثر من أي وقت مضى. لقد ماتوا صوفي... ولن يعودوا أبداً. تذكرت أمها عندما كانت تغني لها في الليل لتنام وأباها الذي كان يحملها على كتفيه ويدور بها. وجدتها وأخاها الصغير عندما كانا يبتسمان لها بعينين خضراوين متقدتين. كان كل هذا قد سرق منها. وكان جدها هو كل من تبقى لها. والآن رحل هو الآخر أيضاً. أنا وحيدة... التفتت صوفي بصمت نحو لوحة العشاء الأخير وحدقت في شعر مريم المجدلية الأحمر وعينيها الهادئتين. كان هناك شيء في ملامح وجه هذه المرأة يعكس ألماً لخسارة حبيب عزيز على قلبها. كان بإمكان صوفي أن تشعر بذلك أيضاً. "روبرت؟" قالت بلطف. فاقترب منها. "أعرف أن لاي قال إن قصة الغريل هي في كل مكان حولنا، لكنني أسمع بكل هذا لأول مرة هذه الليلة". بدا لانغدون وكأنه يريد أن يربت بيده على كتفها ليطمئنها، لكنه تراجع. "لقد سمعت بها صوفي، والكل قد سمع بها لكن كل ما في الأمر هو أننا لا ننتبه لها عندما نسمع بها". "لم أفهم". "إن قصة الغريل موجودة في كل شيء حولنا، لكن ليس بطريقة مباشرة. فعندما قامت الكنيسة بتحريم الحديث عن المنفية مريم المجدلية، كان يجب أن يتم تناقل قصتها وأهميتها عبر الأجيال لكن بطرق غير مباشرة وأكثر تحفظاً... طرق تعتمد على التعابير المجازية والرمزية". "بالطبع.. عن طريق الفن". أشار لانغدون إلى لوحة العشاء الأخير. "هذه هي أبلغ مثال على ذلك، فأكثر الفنون تأثيراً اليوم، من أدب وموسيقى تروي بشكل غير مباشر قصة يسوع ومريم المجدلية". أخبرها لانغدون بسرعة عن أعمال لدافنشي، وبوتيشلّي، وبوسان، وبيرنيني، وموتزارت، وفيكتور هوجو جميعها همست سرّاً بقصة البحث عن الأنثى المقدسة المطرودة واستعادتها من جديد. فالأساطير الخالدة مثل سير غاوين والفارس الأخضر والملك آرثر والأميرة النائمة، كانت كناية عن الغريل. كما أن رائعة فيكتور هوجو أحدب نوتردام وسمفونية الناي السحري لموتزارت كانت مليئة بالرموز الماسونية وأسرار عن الغريل. "عندما تفتحين عينيك للكأس المقدسة"، قال لانغدون، "سترينها في كل مكان. في اللوحات والموسيقى والكتب. حتى في الرسوم المتحركة، ومدن الملاهي وأفلام السينما الشعبية". رفع لانغدون ساعته التي رسم داخلها ميكي ماوس وقال لها إن هدف والت ديزني في الحياة الذي عمل طول عمره على تحقيقه، كان تمرير قصة الغريل إلى الأجيال القادمة. وقد لقّب ديزني بليوناردو دافنشي العصر الحديث. فكلا الرجلين كانا سابقين لعصرهما، كما أنهما كانا فنانين يتمتعان بموهبة فريدة من نوعها، وكان الاثنان ينتميان إلى جمعيات سرّية وقد كانا يتمتعان بشكل خاص بروح دعابة لا مثيل لها. وكان والت ديزني كليوناردو، يحب أن يدس رسائل مخفية ورموزاً سرّية في فنه. وكانت مشاهدة فيلم قديم من أفلام ديزني بالنسبة لعالم متمرس بالرموز، كمن يمطر بوابل من التلميحات والاستعارات. وكانت رسائل ديزني المخفية في معظمها تتعامل مع موضوع الدين والأساطير الوثنية وقصص عن الآلهة المستعبدة. فلم يكن محض صدفة قيام ديزني بإعادة إحياء قصص مثل سندريللا، والأميرة النائمة، وبياض الثلج. حيث إن كل تلك القصص تعاملت مع قضية أسر الأنثى المقدسة وسجنها. ولم يكن المرء بحاجة لخلفية في علم الرموز كي يفهم أن بياض الثلج - وهي أميرة سقطت من الجنة بعد أن أخذت قضمة من تفاحة مسمومة – كانت تلميحاً واضحاً لهبوط حواء من جنة عدن. أو أن قصة الأميرة النائمة أورورا – الاسم الذي يرمز إلى الوردة، والتي اختبأت في أعماق الغابة لتحتمي من براثن الساحرة الشمطاء، كانت قصة الغريل بنسختها التي أعدت للأطفال. كان ديزني، بالرغم من صورتها التجارية المهنية البحتة، لا زالت تتمتع بذلك الذكاء الطفولي الذي ينتشر بين موظفيها. كما أن فنانيها لا زالوا يتسلون بدس صور رمزية في منتجات ديزني بين الفينة والأخرى. لن ينسى لانغدون أبداً ذلك اليوم الذي أحضر فيه أحد تلاميذه إلى قاعة الدراسة فيلم كرتون الملك الأسد وضغط زر الإيقاف فجمد الصورة ليكشف عن كلمة جنس بشكل واضح تماماً وقد شكلتها جزيئات الرمال فوق رأس أحد الشخصيات ويدعى سيمبا. وبالرغم من أن لانغدون كان واثقاً من أن تلك لم تتعد كونها مزحة قام بها رسام كرتون مبتدئ وليست شكلاً من أشكال الإشارة إلى فكرة وثنية تقوم على مبدأ جنسانية الإنسان. وقد علمته تلك الحادثة ألا يقلل من شأن فهم ديزني للرمزية. كما أن قصة الحورية الصغيرة كانت مثالاً صارخاً على الرمزية الروحانية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بموضوع الآلهة الأنثى إلى حدّ لا يمكن اعتبارها محض صدفة فحسب. عندما شاهد لانغدون فيلم الحورية الصغيرة لأول مرة صاح بصوت عالٍ عندما انتبه إلى اللوحة في بيت آرييل تحت الماء لم تكن في الحقيقة إلا لوحة المجدلية التائبة التي رسمها الفنان جورج دولاتور والتي تعود إلى القرن السابع عشر. والتي كانت تحية إجلال مشهورة لذكرى المنفية مريم المجدلية. ولم تتوقف الإشارات الرمزية هنا فقط بل اتضح في نهاية الأمر أن الفيلم بأكمله كان عبارة عن تسعين دقيقة من ملصقات رمزية صارخة تشير إلى قدسية إيزيس وحواء وبرج الحوت باعتباره آلهة أنثى؛ إضافة إلى الإشارة بشكل متكرر إلى مريم المجدلية. كما أن اسم الحورية الصغيرة آرييل كان يرتبط بالأنثى المقدسة وفي إنجيل إيسايا كان الاسم مرادفاً للمدينة المقدسة المحاصرة". وبالطبع فإن شعر الحورية الأحمر المسترسل لم يكن محض صدفة على الإطلاق. اقترب صوت عكازات تيبينغ مطقطقة في المدخل. وكانت خطاه قد أصبحت سريعة فجأة. وعندما دخل مضيفهما إلى المكتب، كانت ملامح وجهه قد اكتست بصرامة غريبة. "من الأفضل أن تشرح لي الأمر، روبرت"، قال ببرود. "فأنت لم تكن صادقاً معي". الفصل الثاني والستون "لقد تم الإيقاع بي.. لاي"، قال لانغدون، محاولاً المحافظة على هدوئه. أنت تعرفني. لست أنا من يرتكب جريمة قتل. لم تلن نبرة تيبينغ. "روبرت إن صورتك تعرض على التلفاز بحق المسيح. هل تعرف أنك مطلوب من السلطات؟". "نعم". "إذن فقد خنت ثقتي. أنا مندهش كيف تقوم بوضعي في موقف حرج بمجيئك إلى هنا لتطلب مني أن أثرثر حول الغريل حتى تتمكن من الاختباء في بيتي". "أنا لم أقتل أحداً". "إن جاك سونيير ميت الآن والشرطة تقول إنك أنت من قتله". بدا على تيبينغ الحزن الشديد. "يا لها من خسارة لأهم المساهمين في مجال الفن...". "سيدي؟" أتى الخادم الآن ووقف خلف تيبينغ وذراعاه معقودتان على صدره. "هل أريهما الطريق إلى الخارج؟". "تنحَّ قليلاً لو سمحت" مشى تيبينغ وهو يعرج إلى الطرف الآخر من الغرفة وفتح مجموعة من الأبواب الزجاجية المؤدية إلى حديقة جانبية. "أرجو أن تتجها إلى سيارتكما وتذهبا من هنا حالاً". لم تتحرك صوفي من مكانها. "لدينا معلومات حول مفتاح العقد. المفتاح الخاص بالأخوية". حدق تيبينغ بها لعدة لحظات ثم قال متهكماً: "حيلة يائسة... فروبرت يعلم كم بحثت عنه طويلاًً". "إنها تقول الحقيقة"، قال لانغدون. "هذا هو السبب الذي دفعنا للمجيء إليك الليلة. لنتحدث إليك عن الحجر المفتاح". تدخل الخادم الآن. "ارحلا، وإلا سأطلب الشرطة". "لاي"، همس لانغدون. "نحن نعرف مكانه". بدا تيبينغ وكأنه قد فقد توازنه للحظة. مشى ريمي نحوهما وقال بفظاظة: "ارحلا من هنا فوراً! وإلا سأكون مضطراً". "ريمي!" صاح تيبينغ وانتفض في وجه خادمه. "دعنا لوحدنا للحظة". فغر الخادم فاه. "سيدي؟ إنني أعترض. إن هذين الشخصين هما". "سأهتم أنا بهذا الأمر". أشار تيبينغ إلى البهو. وبعد فترة من الصمت المشوب بالذهول، توارى ريمي عن الأنظار بهدوء ككلب مطرود. كانت نسمات الليل الباردة تدخل من الأبواب المفتوحة عندما التفت تيبينغ نحو لانغدون وصوفي وملامح وجهه لا زالت تتسم بالحذر. "من الأفضل أن يكون ما تقولانه صحيحاً. ماذا تعرفان عن الحجر المفتاح؟". في الأجمة الكثيفة الأشجار خارج مكتب تيبينغ، كان سيلاس يسترق النظر من خلال الأبواب الزجاجية ويقبض على مسدسه بإحكام. منذ لحظات قليلة فقط، كان قد دار حول المنزل ورأى لانغدون والمرأة يتحدثان في غرفة المكتب الكبيرة وقبل أن يتمكن من الاقتراب، دخل رجل يستند إلى عكازين وصاح في وجه لانغدون وفتح الأبواب بعنف ثم طلب من ضيفيه أن يرحلا. ثم ذكرت المرأة شيئاً عن الحجر المفتاح، وفجأة تغير كل شيء. فتحولت الصيحات إلى همسات. وزال التوتر الذي سيطر عليهم ثم أغلقت الأبواب الزجاجية بسرعة. والآن جثم سيلاس في الظلام وأخذ يختلس النظر إلى ما يجري في الداخل من خلال الزجاج. إن المفتاح موجود في مكان ما داخل المنزل. كان سيلاس يشعر بذلك. ظل سيلاس رابضاً في الظلام واقترب قليلاً من الزجاج متلهفاً لسماع الحديث الذي يدور في الداخل. سيمنحهم سيلاس خمس دقائق. وإذا لم يبوحوا بالمكان الذي أخفوا فيه الحجر المفتاح سيضطر للدخول عنوة ويقنعهم بالقوة. وداخل المكتب أحس لانغدون بذهول مضيفهما لدى سماعه كلمات صوفي. "المعلم الأكبر؟!" علقت الكلمات في حلق تيبينغ، وهو يحملق في صوفي. "جاك سونيير؟". أومأت صوفي، وقد رأت الصدمة في عينيه. "لكن من المستحيل أن تتمكني من معرفة ذلك!". "جاك سونيير كان جدي". تراجع تيبينغ إلى الوراء من هول المفاجأة وكاد يقع أرضاً، ورمق لانغدون بنظرة استفهام فأومأ الأخير مؤكداً صحة ما قالته صوفي. فالتفت تيبينغ من جديد نحو صوفي. "آنسة نوفو، أنا عاجز عن الكلام. إذا كان هذا صحيحاً، فأنا في غاية الأسف لفقدانك جدك. أعترف أنني في الأبحاث التي قمت بها، كتبت قائمة بأسماء الرجال في باريس الذين يمكنهم أن يكونوا أعضاء في الأخوية. وجاك سونيير كان على القائمة من بين آخرين. لكنك تقولين إنه كان المعلم الأكبر؟ هذا فعلاً عصي على التصديق". صمت تيبينغ عدة لحظات ثم هز رأسه غير مصدق. "لكن هذا غير منطقي. فحتى لو كان جدك هو المعلم الأكبر في الأخوية وحتى لو أنه صنع بيده الحجر المفتاح، فهو لا يمكن أن يخبرك عن كيفية العثور عليه. فهذا المفتاح يكشف عن الطريق الذي يؤدي إلى كنز الأخوية الأعظم، وسواء كنت حفيدته أم لا فأنت غير مؤهلة لتلقي معلومات كهذه". "كان السيد سونيير يموت عندما مرر تلك المعلومات"، قال لانغدون. "لم يكن لديه أي خيار آخر". "لم يكن بحاجة لأي خيارات"، جادله تيبينغ. "فهناك ثلاثة أعضاء مساعدين على علم بهذا السرّ أيضاً، هذا هو ما يميز نظامهم. فنظراً لموت المعلم الأكبر يترفع أحد الأعضاء الثلاثة الكبار إلى مرتبة المعلم الأكبر ويرقى آخر يحل محله ليصبح أحد الثلاثة المساعدين ويشاركهم سرّ الحجر المفتاح". أعتقد أنك لم تشاهد نشرة الأخبار كاملة"، قالت صوفي. "فقد قتل ثلاثة من أبرز الشخصيات الباريسية اليوم إضافة إلى جدي. وكلهم قتلوا بنفس الطريقة. والجميع بدوا وكأنه قد تم استجوابهم". فغر تيبينغ فاه. "وتظنين أنهم كانوا...". "الأعضاء الثلاثة الكبار"، قال لانغدون. "لكن كيف؟ مستحيل أن يعرف القاتل هوية الأعضاء الأربعة الكبار في أخوية سيون! انظري إلي، أنا الذي قضيت عشرات السنين أبحث عنهم، ولا زلت حتى الآن غير قادر على معرفة اسم واحد فقط من أعضاء الأخوية. يبدو لي ذلك غريباً جداً، فهل يعقل أن يتم اكتشاف هوية الثلاثة الكبار والمعلم الأكبر وقتلهم في يوم واحد فقط؟". "أشك في أن كل تلك المعلومات قد جمعت في يوم واحد"، قالت صوفي. "تبدو تلك عملية قص رأس أعد لها منذ زمن، وهي تقنية نستخدمها لمحاربة مجموعات الجريمة المنظمة. فإذا أرادت الشرطة القضائية القضاء على مجموعة معينة، تقوم بالتنصت عليها ومراقبتها سراً لعدة أشهر وتتعرف على هوية الشخصيات الرئيسة الفاعلة في المجموعة، ثم تقوم بالتدخل وتقضي عليهم جميعاً في وقت واحد. فتكون بذلك قطعت رأس المجموعة. ودون وجود القيادة تدب الفوضى في المجموعة وتكشف جميع أسرارها. لذا فمن الممكن أن أحدهم قام بمراقبة الأخوية لفترة طويلة ثم شن هجومه على أمل أن يقوم الأعضاء الكبار بالبوح بمكان الحجر المفتاح". "بدا تيبينغ كأنه لم يقتنع بكلامها. لكن الأعضاء لا يمكنهم أن يتكلموا فقد أقسموا على السرّية. حتى في مواجهة الموت". "تماماً"، قال لانغدون. "مما يعني أنهم إذا لم يبوحوا بالسرّ وقتلوا...". شهق تيبينغ. "عندئذ سيضيع مكان الحجر المفتاح إلى الأبد!". "ومعه"، قال لانغدون، "المكان الذي خبئت فيه الكأس المقدسة". بدا تيبينغ وكأنه يترنح من وقع كلمات لانغدون. ثم ارتمى على كرسي كما لو أنه لم يتمكن من الوقوف دقيقة أخرى، وراح يحدق من النافذة إلى الخارج. مشت صوفي نحوه وقالت بصوت ناعم: "نظراً إلى وطأة الظرف الذي كان يرزح جدي تحته، وعندما لم يجد أي سبيل آخر، يبدو أنه حاول أن يمرر السرّ إلى أحد خارج الأخوية. أحد فكر أنه يمكن الوثوق به. أحد من عائلته". شحب وجه تيبينغ. "لكن الشخص القادر على القيام بهجوم كهذا... واكتشاف كل تلك الأسرار عن الأخوية..." سكت تيبينغ لحظة وقد سيطر عليه خوف من نوع آخر. "ذلك الخطر لا يمكنه أن يأتي إلا عن طريق قوة واحدة. وتسريب المعلومات حول الأخوية لا يمكن حصوله إلا عبر أقدم عدو للأخوية". نظر إليه لانغدون. "الكنيسة". "ومن غيرها؟ فقد كانت روما في سعي حثيث وراء الغريل منذ قرون طويلة خلت وحتى يومنا هذا". كانت صوفي في شك من ذلك. "أتظن أن الكنيسة كانت وراء قتل جدي؟". أجاب تيبينغ: "إذا كان ذلك صحيحاً فلن تكون هذه أول مرة في التاريخ ترتكب فيها الكنيسة جريمة قتل لتحمي نفسها. إن الوثائق المرافقة للكأس المقدسة ذات محتوى مدمر بالنسبة للكنيسة التي كانت تسعى للتخلص منها منذ زمن طويل". كان لانغدون يجد صعوبة في تصديق فكرة تيبينغ في أن الكنيسة قد تقتل الناس بكل صفاقة للحصول على تلك الوثائق. كان لانغدون قد التقى بالبابا الجديد والعديد من الكرادلة، لذا فهو واثق أنهم رجال شديدو التدين والورع ولا يمكنهم أن يقدموا أبداً على ارتكاب جرائم قتل مهما كان السبب. بدت صوفي وكأنها كانت تفكر بنفس الطريقة. "ألا يمكن أن يكون أحد من خارج الكنيسة هو الذي قتل أعضاء الأخوية؟ شخص لا يعرف ما هي حقيقة الكأس المقدسة؟ ففي النهاية يعتبر كأس المسيح كنزاً مغرياً بحق. وأنا واثقة من أن صيادي الكنوز قد يقتلون من أجل الحصول على أقل من ذلك بكثير". "إن تجربتي قد علمتني"، "قال تيبينغ، "أن الرجال قد يفعلون أي شيء لتجنب ما يخشونه أكثر مما قد يبذلونه للحصول على شيء يرغبون فيه. وحدسي ينبئني بأن اليأس هو السبب وراء هذا الاعتداء على الأخوية". "لاي"، قال لانغدون، "إن هذه الحجة تنطوي على مفارقة واضحة، فلماذا يقدم رجال من الإكليروس الكاثوليكي على قتل أعضاء ينتمون إلى أخوية سيون في محاولة منهم للعثور على وثائق والتخلص منها وهم أصلاً يؤمنون تماماً بأن تلك الوثائق إنما تحتوي على شهادات كاذبة؟ ضحك تيبينغ بتهكم. "يبدو يا روبرت أن برج هارفرد العاجي قد جعل منك ساذجاً. نعم إن رجال الدين في روما يتمتعون بنعمة الإيمان القوي، ولهذا فإن معتقداتهم تمكنهم من الخروج بحل لأي مشكلة بما فيها ظهور وثائق تناقض كل ثوابت دينهم ومعتقدهم. لكن ماذا عن باقي العالم؟ ماذا عن أولئك الذين لم ينعموا بالإيمان المطلق؟ وأولئك الذين ينظرون إلى ما يحدث في العالم ويتساءلون أين الرب في هذا الزمان؟ وأولئك الذين يرون فضائح الكنيسة ويسألون من هم هؤلاء الرجال الذين يدعون بأنهم ينطقون بالحقيقة عن المسيح وفي الوقت نفسه يكذبون لتغطية الإيذاء الجنسي للأطفال على يد كهنتهم؟ صمت تيبينغ لحظة. "ما الذي سيحدث لأولئك الناس، روبرت، في حال ظهور دليل علمي مقنع يثبت أن رواية الكنيسة لقصة المسيح ليست صحيحة، وأن أعظم قصة رويت ما هي في الحقيقة إلا أكبر كذبة لفقت؟ لم يجب لانغدون. "سأقول لك ماذا سيحدث إذا ظهرت تلك الوثائق إلى النور"، قال تيبينغ. "سيواجه الفاتيكان أزمة ثقة لم يسبق لها مثيل خلال تاريخ امتد لألفي عام". وبعد صمت طويل، قالت صوفي، لكن إذا كانت الكنيسة هي التي ارتكبت تلك الجرائم. لماذا اختارت هذا التوقيت؟ بعد مرور كل تلك السنين؟ علاوة على أن الأخوية تحتفظ بوثائق السانغريال مخبأة بسرّية تامة. فهي لا تشكل أي خطر داهم على الكنيسة". تنهد تيبينغ وقد غلبت عليه الكآبة ونظر إلى لانغدون. "روبرت، أعتقد أنك تعرف ماهي المهمة الأخيرة للأخوية؟". "شعر لانغدون بنفسه ينقطع عندما فكر بها. "نعم". "آنسة نوفو"، قال تيبينغ، "هناك اتفاق ضمني بين الكنيسة والأخوية كان سارياً لسنين طويلة. يقوم على أن الكنيسة لا تهاجم الأخوية أو تعاديها، بشرط أن تبقي الأخوية الوثائق طي الكتمان". صمت قليلاً. "غير أن جزءاً من تاريخ الأخوية كان يتضمن دائماً خطة لكشف السرّ. وبحلول يوم محدد في التاريخ، ستقوم الأخوية بكسر حاجز الصمت والاحتفال بنصرها العظيم برفع الستار عن وثائق السانغريال وعرضها على الملأ وتفجير قنبلة قصة المسيح الحقيقية أمام العالم". حدقت صوفي في تيبينغ بصمت. وأخيراً جلست هي الأخرى. "وتعتقد أن هذا الموعد بات قريباً؟ وأن الكنيسة على علم بهذا الموعد؟". "تخمين فقط"، قال تيبينغ، "لكن من المؤكد أن ذلك سيدفع الكنيسة لشن حملة شعواء للعثور على الوثائق قبل أن يكون الأوان قد فات". كان يراود لانغدون شعور بالقلق ينبئه بأن تيبينغ قد يكون على حق. "أتظن أن الكنيسة قد تكون قادرة فعلاً على العثور على دليل يؤكد الموعد الذي وضعته الأخوية لكشف السرّ؟". "ولم لا، خاصة وأننا افترضنا جدلاً أن الكنيسة تمكنت من كشف هوية أعضاء الأخوية، لذا فمن المؤكد أنها استطاعت أن تعرف بمخططاتهم. وحتى إذا لم يكونوا على علم بالموعد بالضبط. فسيدفعهم بالتأكيد توجسهم شراً إلى الإسراع أكثر". "توجسهم؟" سألت صوفي. "من حيث النبوءة"، قال تيبينغ. "فنحن الآن في حقبة تطبعها تغييرات كبيرة. فقد مضت الألفية حديثاً وانتهت معها ألفا سنة من حقبة برج الحوت وهو برج المسيح أيضاً. وكما سيقول لك أي عالم بالرموز الفلكية إن مفهوم الحوت يقول إن الإنسان يجب أن تملى عليه أفعاله من سلطات عليا لأنه غير قادر على التفكير بشكل مستقل. لذا فقد كانت تلك الحقبة فترة ازدهار للدين. إلا أننا الآن على عتبة حقبة الدلو - حامل الماء - الذي تزعم تنبؤاته أن الإنسان سوف يكتشف الحقيقة ويتعلم أن يفكر بشكل مستقل عن أفكار الآخرين. إن هذه القفزة الأيديولوجية النوعية كبيرة جداً، وهي تحدث الآن". شعر لانغدون بقشعريرة تسري في جسده. لم تكن تنبؤات الأبراج تحمل أي مصداقية بالنسبة للانغدون الذي لم يكن يعيرها أي اهتمام. إلا أنه كان يعلم أن ثمة رجالاً في الكنيسة كانوا يتابعونها باهتمام. "تطلق الكنيسة على هذه المرحلة الانتقالية آخر الأيام". بدت صوفي متشككة. "أتعني نهاية العالم؟ يوم القيامة؟". "كلا، قال لانغدون. "هذا خطأ شائع. فعديدة هي الأديان التي تتحدث عن آخر الأيام. إلا أنها لا تعني بذلك نهاية العالم، بل نهاية الحقبة التي عشناها أي حقبة الحوت والتي بدأت في ميلاد المسيح وامتدت ألفي سنة وولّت مع انقضاء الألفية. والآن مع بداية حقبة الدلو، حلت نهاية الأيام". "يعتقد العديد من المؤرخين الباحثين في الكأس المقدسة"، أضاف تيبينغ، "أنه إذا كان في نية الأخوية أن تكشف الحقيقة فعلاً، فهذه الفترة في التاريخ هي أنسب وقت للقيام بذلك. ومعظم الأكاديميين المعنيين بالأخوية، وأنا واحد منهم، توقعوا أن يتصادف موعد كشف السرّ تماماً مع الألفية الجديدة. لكن من الواضح أن ذلك لم يحدث. إلا أن التقويم الروماني، كما هو معروف لدى الجميع، لا يتفق تماماً مع العلامات الفلكية، لذا فهناك منطقة رمادية غير معروفة في النبوءة. وسواء حصلت الكنيسة الآن على معلومات سرّية تفيد بأنه قد تم تحديد موعد يلوح في الأفق، أو أنها قد أصيبت بالهلع والارتباك بسبب النبوءة الفلكية، هذا شيء لا أعرفه. وعلى أية حال، ليس ذلك بالأمر المهم. فكلتا القصتين تفسران سبب اندفاع الكنيسة لشن هجوم وقائي على الأخوية". قطب تيبينغ جبينه. "وكوني على ثقة بأنه إذا عثرت الكنيسة على الكأس المقدسة فستتخلص منها هي وآثار مريم المجدلية والوثائق في الحال". بدت عيناه مجهدتين. "وعندها يا عزيزتي، ومع ضياع وثائق الدم الملكي، ستضيع الحقيقة إلى الأبد. وستكون الكنيسة قد كسبت حربها الأزلية وستعيد كتابة التاريخ وسيمحى الماضي إلى الأبد". عندئذ أخرجت صوفي من جيب سترتها المفتاح الذي كان على شكل صليب وأعطته لتيبينغ. أخذ تيبينغ المفتاح وتفحصه جيداً. "يا إلهي. هذا شعار الأخوية. من أين أتيت بهذا؟". "أعطاه جدي لي الليلة قبل أن يموت". مرر تيبينغ أصابعه على الصليب. "أهو مفتاح كنيسة؟". أخذت نفساً عميقاً. "هذا المفتاح يؤدي إلى الحجر المفتاح". رفع تيبينغ رأسه فجأة، واكتسى وجهه بالذهول. "مستحيل! ترى أي كنيسة فاتتني؟ فقد فتشت في كل كنيسة في فرنسا!". "هذا ليس مفتاح كنيسة"، قالت صوفي. "إنه مفتاح خزينة في بنك سويسري للودائع". انطفأ الحماس الذي كان في عيني تيبينغ. "الحجر المفتاح موجود في بنك؟". "في خزنة"، تطوع لانغدون بالإجابة. "خزنة بنك؟" هز تيبينغ رأسه بعنف. "كلا، هذا غير ممكن. فالمفتاح يفترض به أن يكون تحت علامة الوردة". "هذا صحيح"، قال لانغدون. "كان محفوظاً في صندوق من خشب الورد ذي نقش بشكل وردة خماسية البتلات". بدا تيبينغ مصعوقاً. "لقد رأيتما الحجر المفتاح؟". أومأت صوفي. "لقد قمنا بزيارة البنك". اقترب تيبينغ منهما وعيناه ممتلئتان رعباً. "صديقيّ العزيزين، يجب أن نفعل شيئاً. فالحجر المفتاح في خطر! إن واجبنا الآن أن نحميه. ماذا لو كان هناك مفاتيح أخرى؟ سرقها القاتل من الأعضاء الثلاثة الكبار قبل أن يقتلهم؟ وإذا تمكنت الكنيسة من الدخول إلى البنك كما فعلتما". "سيكونون عندئذ قد تأخروا كثيراً"، قالت صوفي، "فقد أخذنا الحجر المفتاح". "ماذا! أخذتما المفتاح من مخبئه؟". "لا تخف" قال لانغدون. "فالمفتاح مخبأ في مكان آمن الآن". "مخبأ في مكان آمن جداً، على ما أعتقد!". "في الحقيقة"، قال لانغدون، وهو غير قادر على إخفاء ضحكته، "ذلك يعتمد على عدد المرات التي تنظف فيها الأرض تحت أريكتك". كانت الرياح تهب بقوة خارج قصر فيليت، والهواء يضرب رداء سيلاس وهو لا زال جاثماً بالقرب من النافذة. وبالرغم من أنه لم يتمكن من سماع معظم الحديث، إلا أن عبارة الحجر المفتاح تسللت من خلال الزجاج عدة مرات. إنه في الداخل.. كانت كلمات المعلم لا زالت تتردد في رأسه. ادخل قصر فيليت وخذ الحجر المفتاح. لا تؤذِ أحداً.. والآن، انتقل لانغدون والآخرون فجأة إلى غرفة أخرى، وقاموا بإطفاء الأنوار في غرفة المكتب وهم يخرجون منها. شعر سيلاس كأنه نمر يطارد فريسته وهو يزحف نحو الأبواب الزجاجية التي وجدها غير مقفلة، فتسلل إلى الداخل وأغلق الأبواب وراءه بهدوء. وسمع أصواتاً مكتومة تأتي من غرفة أخرى. سحب سيلاس المسدس من جيبه ولقّمه ثم مشى بخفة نحو البهو. الفصل الثالث والستون وقف الملازم كوليه وحيداً عند مدخل الطريق إلى قصر لاي تيبينغ وحّدق في المنزل الضخم. كان منعزلاً ومعتماً... المكان الأنسب للاختباء. راقب كوليه رجاله الستة وهم ينتشرون بهدوء على طول السور. يمكنهم أن يتجاوزوا هذا السور ويطوقوا المنزل في غضون دقائق معدودة. لم يكن لانغدون ليختار بقعة مثالية لرجال كوليه ليقوموا بهجوم مفاجئ أفضل من هذا المكان. كان كوليه على وشك الاتصال بفاش بنفسه عندما رن هاتفه النقال أخيراً. لم يبد فاش مسروراً من التطورات التي طرأت على العملية كما كان كوليه يتصور. "لماذا لم يعلمني أحد بظهور دليل على مكان لانغدون؟". "لقد كنت تتحدث على الهاتف و". "أين أنت الآن بالضبط، ملازم كوليه؟". أعطاه كوليه العنوان. "تعود ملكية القصر إلى مواطن بريطاني يدعى تيبينغ. وقد قطع لانغدون مسافة طويلة للوصول إلى هنا، وقد أوقف الشاحنة داخل البوابة الأمنية. ولا توجد علامات تدل على دخوله عنوة. فلانغدون على الأرجح يعرف صاحب القصر". "أنا في طريقي إليك"، قال فاش. "لا تقم بأي حركة. سأهتم بهذا الأمر شخصياً". صعق كوليه. "لكن سيدي، أنت على بعد عشرين دقيقة من هنا! يجب أن نتحرك في الحال. لقد قمت بمحاصرته. أنا برفقة ثمانية رجال إجمالاً. أربعة منا يحملون بنادق والآخرون يحملون مسدسات". "انتظرني، لا تتحرك!". "سيدي، ماذا لو كان لانغدون يحتجز أحداً كرهينة في الداخل؟ وماذا لو رآنا وقرر الفرار مشياً على قدميه؟ يجب أن نقوم بالهجوم الآن! فرجالي في مواقعهم في حالة تأهب كامل". "ملازم كوليه، ستنتظر قدومي قبل القيام بأي حركة. وهذا أمر"، وعلى ذلك قطع فاش الخط. أغلق الملازم كوليه الخط مذهولاً. لم طلب مني فاش أن أنتظره؟ إلا أن كوليه كان يعرف الإجابة عن هذا السؤال. فبالرغم من أن فاش مشهور بحدسه الصادق، إلا أنه عرف بكبريائه العالي. يريد فاش أن ينسب عملية الاعتقال هذه لنفسه. فبعد أن نشر فاش صور الأمريكي في كافة محطات التلفزة الفرنسية، أراد أن يتأكد من أن وجهه سيحتل نفس الوقت في النشرات الإخبارية. فما كان على كوليه الآن إلا أن يحافظ على جاهزية رجاله في مواقعهم بينما يأتي رئيسه ليقوم بعملية الاعتقال البطولية. وبينما كان واقفاً هناك، لمع في رأسه تفسير آخر محتملاً لهذا التأخير. الحدّ من الخسائر. ففي سلك الشرطة، لا يكون هناك تردد في عملية الاعتقال إلا في حال ظهور شك في ذنب المتهم. وإذا كان فاش متردداً حيال كون لانغدون الرجل المطلوب؟ كانت هذه الفكرة مخيفة. فقد ذهب النقيب فاش الليلة إلى أبعد حدّ لاعتقال روبرت لانغدون من مراقبة خفية إلى اتصاله بالأنتربول والآن بث القضية على شاشات التلفزة الفرنسية. فحتى رجل عظيم كبيزو فاش لن يتمكن من تحمل فضيحة سياسية كهذه في حال كان مخطئاً بتلطيخه سمعة شخصية أمريكية بارزة بنشر صورته في كافة محطات التلفزة الفرنسية على أنه مجرم فار من العدالة، وإذا أدرك الآن أنه قد أخطأ، عندئذ سيكون من الحكمة أن يطلب منه فاش ألا يقوم بأي حركة. فآخر شيء كان فاش يحتاجه الآن هو اقتحام كوليه لقصر رجل بريطاني بريء وإخراج لانغدون منه تحت تهديد السلاح. وعلاوة على ذلك، فقد أدرك كوليه أنه إذا كان لانغدون بريئاً فذلك من شأنه تفسير أحد أكثر مفارقات القضية غموضاً وهو السبب الذي دعا صوفي نوفو حفيدة القتيل لمساعدة المتهم بقتل جدها على الهرب. فهي لن تفعل ذلك إلا إذا عرفت أن لانغدون قد اتهم خطأً. كان فاش قد افترض كل ما يمكن التفكير به لتفسير سلوك صوفي الغريب ومن بين تلك الافتراضات أن صوفي كونها وريثة سونيير الوحيدة، قامت بإقناع عشيقها السرّي روبرت لانغدون بقتل سونيير لترث ثروته كلها. وعندما شك سونيير بذلك وهو يموت ترك رسالة للشرطة تدعوهم إلى ملاحقة روبرت لانغدون. إلا أن كوليه كان شبه متأكد من أن ذلك لم يكن السيناريو الصحيح للأحداث. فقد بدت صوفي نوفو ذات شخصية أكثر صلابة وقوة من أن تتورط في جريمة بهذه القذارة. "حضرة الملازم؟" ناداه أحد رجاله وهو يركض مسرعاً نحوه. "لقد عثرنا على سيارة هنا". لحق كوليه به لمسافة حوالى خمسين ياردة من المدخل. أشار العميل إلى فسحة واسعة في الجهة المقابلة من الطريق، حيث كانت هناك سيارة أودي سوداء واقفة في الغابة بعيداً عن الأنظار. كانت لوحتها تشير إلى أنها مستأجرة. تحسس كوليه غطاء المحرك فوجد أنه لا زال ساخناً. "قد تكون هذه هي السيارة التي استخدمها لانغدون للمجيء إلى هنا"، قال كوليه. "اتصل بشركة تأجير السيارات وتحقق إذا ما كانت السيارة مسروقة". "حاضر سيدي". لوّح له عميل آخر ليعود كوليه باتجاه السور. "سيدي، انظر إلى هذا". وأعطى كوليه منظاراً ثنائي العينين ذا نظام رؤية ليلية. "مجموعة الأشجار بالقرب من أول الطريق المؤدية إلى القصر". وجه كوليه المنظار نحو أعلى التلة وعدّل قرصي تكثيف الصورة. فأصبحت الأشكال الخضراء واضحة شيئاً فشيئاً. ثم حدد منعطف الطريق المؤدية إلى القصر وتابع النظر محركاً المنظار حتى وصل إلى الأجمة. عندئذ كل ما كان بإمكانه أن يفعله هو التحديق بذهول. فقد كانت هناك شاحنة مصفحة بين الأشجار. شاحنة شبيهة بتلك التي سمح لها كوليه الليلة بالخروج من بنك زيوريخ للودائع. وتمنى أن تكون هذه مجرد مصادفة غريبة، لكنه كان يعرف ضمناً أن الأمر ليس كذلك. "من الواضح"، قال العميل. "إن هذه هي الشاحنة التي استخدمها لانغدون ونوفو للهروب من البنك". لم ينبس كوليه ببنت شفة. وفكر بسائق الشاحنة المصفحة الذي أوقفه عند الحاجز الذي كانت الشرطة قد أقامته عند مدخل البنك. ساعة الرولكس التي كانت في يده وإصراره على الانطلاق بسرعة. لم أقم أبداً بتفقد صندوق الشاحنة الخلفي. أدرك كوليه عندئذ أن أحداً ما من البنك قد كذب على الشرطة حول مكان وجود لانغدون وصوفي ثم ساعدهما على الهروب. لكن من الذي فعل ذلك؟ ولماذا؟ تساءل كوليه إذا ما كان هذا هو السبب الذي جعل فاش يطلب منه ألا يقوم بالتحرك للقبض على لانغدون. ربما عرف فاش أن هناك أشخاصاً غير لانغدون وصوفي متورطين هذه الليلة في سلسلة الجرائم. لكن إذا كان لانغدون وصوفي قد جاءا إلى هنا بالشاحنة المصفحة، إذاً من هو سائق سيارة الأودي؟ وعلى بعد مئات الأميال إلى الجنوب، كانت الطائرة من طراز بارون 58 تحلق باتجاه الشمال فوق القسم الإيطالي للبحر المتوسط. وبالرغم من هدوء الرحلة وخلو السماء من المطبات الهوائية، إلا أن القس أرينغاروزا كان متشبثاً بكيس خوفاً من أن يتقيأ في أي لحظة. فاتصاله بباريس لم يكن على الإطلاق حسب ما كان يتوقع. كان أرينغاروزا وحيداً في مقصورة الطائرة الصغيرة، أخذ يفرك خاتمه الذهبي محاولاً التخفيف من حدة شعوره الغامر بالخوف واليأس. لقد جرت الأمور في باريس بشكل سيئ جداً. أغمض القس عينيه وتلا صلاة راجياً من ربه أن يتمكن بيزو فاش من التوصل إلى طريقة لإصلاح الأمور. الفصل الرابع والستون جلس تيبينغ على الأريكة واحتضن الصندوق الخشبي وأخذ يتأمل بإعجاب الوردة المحفورة بشكل أنيق على الغطاء. لقد أصبحت هذه الليلة أغرب وأروع ليلة في حياتي. "ارفع الغطاء"، همست صوفي وقد وقفت بالقرب منه إلى جانب لانغدون. ابتسم تيبينغ. لا تستعجليني. فقد أمضى تيبينغ أكثر من عشر سنوات وهو يبحث عن هذا المفتاح، لذا فإنه أراد أن يستمتع بكل جزء من كل ثانية من هذه اللحظات. مرر يده على الغطاء الخشبي مستشعراً بنية الزهرة المحفورة. "الوردة"، همس تيبينغ. الوردة هي المجدلية وهي الكأس المقدسة. الوردة هي البوصلة التي ترشد إلى الطريق الصحيح. أحس تيبينغ بالغباء. فقد قضى سنينَ طويلة سافر إلى الكاتدرائيات والكنائس في كافة أنحاء فرنسا وهو يدفع رسوم دخول إضافية ليدقق ويتفحص مئات القباب والعقود تحت النوافذ الوردية بحثاً عن مفتاح العقد، الحجر المفتاح الموجود تحت علامة الوردة. فتح تيبينغ الغطاء ببطء ثم رفعه. وعندما رأت عيناه أخيراً محتوى الصندوق، عرف في الحال أن هذا لا يمكن أن يكون إلا الحجر المفتاح. فأخذ يحدق بالأسطوانة الحجرية التي صنعت من أقراص مدرجة حفرت عليها أحرف. بدت هذه الأداة مألوفة بشكل غريب بالنسبة له. "إنها مصممة بحسب ما جاء في مذكرات دافنشي اليومية"، قالت صوفي. "كان جدي يمضي أوقات فراغه في صناعة هذه الأشياء كهواية". بالطبع، أدرك تيبينغ ذلك الآن، فقد رأى سابقاً المخططات والتصاميم. إن المفتاح الذي يؤدي إلى الكأس المقدسة موجود في هذا الحجر. أخرج تيبينغ الكريبتكس الثقيل من الصندوق وحمله بلطف. بالرغم من أنه لم تكن لديه أية فكرة عن كيفية فتح الأسطوانة، إلا أنه شعر بأن قدره يكمن داخلها. لقد تساءل تيبينغ في أوقات كان يشعر فيها بمرارة الفشل، في ما إذا كان بحثه الذي دام طول حياته سيثمر يوماً ما. والآن ذهبت تلك الشكوك إلى غير رجعة. وكان يكاد يشعر بتلك الكلمات القديمة... نشوء أسطورة الكأس المقدسة: لن تجدوا الكأس المقدسة... هي التي ستجدكم... والليلة أتاه المفتاح الذي يؤدي إلى العثور على الكأس المقدسة ودخل عليه بنفسه من باب بيته الأمامي. بينما جلس تيبينغ وصوفي يتحدثان عن الكريبتكس والحل والأحرف المحفورة على الأقراص وما عساها تكون كلمة السرّ، حمل لانغدون الصندوق الخشبي إلى الطرف الآخر من الغرفة ووضعه على طاولة وجهت عليها إضاءة جيدة ليتمكن من تفحصه بدقة. فقد قال تيبينغ شيئاً للتو جعل لانغدون يفكر فيه الآن. إن المفتاح الذي يؤدي إلى الكأس مخبأ تحت علامة الوردة. حمل لانغدون الصندوق إلى أعلى باتجاه الضوء وتفحص رمز الوردة المحفور على الصندوق. على الرغم من أن معرفة لانغدون بالفنون لم تكن تشمل أعمال النقش والحفر على الخشب أو المفروشات التي تزخرف بطريقة الحفر والتنزيل، إلا أنه تذكر لتوه السقف المكسو بالآجر لذلك الدير الإسباني المشهور الذي يقع خارج مدريد، حيث إنه بعد مرور ثلاثة قرون على بنائه، بدأ الآجر يتساقط من السقف كاشفاً عن كتابات سرّية خطها رهبان على الجص تحت الآجر. نظر لانغدون مرة أخرى إلى الوردة. تحت الوردة.. السرّ.. التفت لانغدون فجأة على صوت ارتطام أتى من المدخل وراءه. لكنه لم يرَ أي شيء إلا ظلالاً غير واضحة المعالم. كان ذلك على الأغلب خادم تيبينغ يمرّ من أمام مدخل الغرفة. عاد لانغدون ليركز على الصندوق. مرر إصبعه على الحافة الملساء للمكان الذي نزّلت فيه الوردة وتساءل إذا كان بمقدوره انتزاع الوردة من مكانها لكن مصنعيتها كانت دقيقة جداً. ولم يعتقد أن أي شيء مهما كان دقيقاً سيتمكن من أن يندس بين الوردة المنزلة والانخماص الذي حفر بعناية لتنزل الوردة فيه، حتى شفرة الحلاقة. فتح لانغدون الصندوق وتفحص الغطاء من الداخل. كان أملسَ. إلا أنه عندما غير موضعه التقط الضوء شيئاً بدا وكأنه ثقب صغير على الجانب السفلي من الغطاء متوضعة في المركز تماماً. أغلق لانغدون الغطاء وتمعن في الشعار المنزّل من الأعلى. لم يكن هناك ثقب في الأعلى. إن الثقب السفلي لا يمر من الوردة. وضع لانغدون الصندوق على الطاولة ونظر حوله فوجد كومة من الأوراق وعليها مشبك للأوراق. أخذ المشبك وعاد إلى الصندوق وفتحه وتفحص الثقب ثانية. ثم فرد ثنية المشبك وأدخل طرفه في الثقب. ودفعه بلطف إلى الداخل. لم يتطلب ذلك أي جهد. سمع عندئذ شيئاً ما يقع بهدوء على الطاولة. أغلق لانغدون الغطاء ليرى ما الذي وقع. كانت تلك قطعة صغيرة من الخشب وكأنها قطعة من أحجية. لقد خرجت الوردة الخشبية من مكانها في الغطاء وسقطت على الطاولة. أخذ لانغدون يحدق في المكان الفارغ على الغطاء حيث كانت الوردة وما رآه هناك جعله عاجزاً عن الكلام. فقد حفر على الخشب نص من أربعة أسطر كتبت كلماته ببراعة بخط اليد بكل دقة لكن كانت هذه أول مرة يرى فيها لانغدون هذه اللغة التي كتب بها النص. بدت الحروف كأنها حروف لغة سامية، فكر لانغدون... إلا أنني لا أعرف ما هي هذه اللغة! لفتت انتباه لانغدون حركة مفاجئة. ومن حيث لا يدري وجهت إلى لانغدون ضربة عنيفة على رأسه طرحته أرضاً. وعندما كان يقع، ظن للحظة أنه قد رأى شبحاً أبيض يحوم حوله وبيده مسدس. ثم غاب عن الوعي. الفصل الخامس والستون بالرغم من أن صوفي كانت تعمل في الشرطة إلا أنها الليلة كانت تتعرض لتهديد السلاح للمرة الأولى. أما المسدس الذي كانت تحدق به الآن فقد كان في قبضة يد شاحبة لرجل أبرص ذي شعر طويل أبيض. نظر إليها الرجل بعينين حمراوين تشعان بنظرة زجاجية مخيفة. كان يبدو بردائه الصوفي ذي الحبل المربوط على خصره وكأنه راهب من القرون الوسطى. لم يكن بإمكان صوفي أن تتخيل من هو هذا الرجل، إلا أنها شعرت فجأة بأن شكوك تيبينغ حول تورط الكنيسة في هذا الأمر كانت في محلها. "أنت تعرفين ما الذي جئت من أجله"، قال الراهب بصوت عميق. كان نيبينغ وصوفي جالسين على الأريكة وأيديهما مرفوعة إلى الأعلى كما أمرهما الرجل. ولانغدون يئن من ألمه وهو مرمي أرضاً. وقعت عينا الراهب في الحال على الحجر المفتاح الذي كان في حضن تيبينغ. تكلم تيبينغ بنبرة يملؤها التحدي. "لن تتمكن من فتحه". "إن معلمي حكيم جداً" رد الراهب وهو يقترب أكثر منهما، وينقّل مسدسه بين تيبينغ وصوفي. تعجبت صوفي من أن خادم تيبينغ لم يأتِ ليستطلع ما يجري... ألم يسمع روبرت وهو يقع على الأرض؟ "من هو معلمك؟" سأل تيبينغ. "ربما نتمكن من الوصول إلى اتفاق مالي". "إن الكأس المقدسة لا تقدر بثمن". واقترب أكثر. "أنت تنزف" علّق تيبينغ بهدوء مشيراً إلى كاحل الراهب الأيمن حيث كانت قطرات من الدم تسيل من رجله. "وأنت تعرج". "وأنت تعرج أيضاً". رد عليه الراهب، مشيراً إلى العكازات المعدنية الملقاة إلى جانب تيبينغ. "والآن أعطني الحجر المفتاح". "أنت تعرف بالحجر المفتاح؟" قال تيبينغ وهو يبدو مستغرباً. "إن ما أعرفه لا يعنيك في شيء. قف بتمهل وأعطني إياه". إن الوقوف صعب بالنسبة لي". "هذا ما أريده بالضبط. فأنا أفضّل ألا يحاول أي أحد القيام بحركات سريعة". وضع تيبينغ يده اليمنى في أحد عكازاته وأمسك الحجر المفتاح باليسرى. نهض وهو يترنح ثم وقف منتصباً، وأمسك الأسطوانة الثقيلة براحة يده اليسرى واتكأ على عكازه باليمنى وهو يكاد يفقد توازنه. أصبح الراهب الآن على مقربة عدة أقدام من تيبينغ ومسدسه لا زال مصوباً مباشرة إلى رأس تيبينغ. شعرت صوفي بالعجز وهي تراقب الراهب يمد يده ليأخذ الأسطوانة. "لن تنجح في ذلك"، قال تيبينغ. "فالجدير بها فقط هو الذي يتمكن من فك هذا الحجر". الرب وحده هو الذي يقدّر من الذي يستحقها... فكر سيلاس. "إنها ثقيلة"، قال الرجل المتكئ على العكازات، ويداه ترتعشان الآن. "أخشى أنك إذا لم تأخذها من يدي بسرعة، فسوف تقع على الأرض!" وترنح حتى كاد يقع. تقدم سيلاس إلى الأمام بسرعة ليأخذ الحجر، وعندما فعل، فقد الرجل ذو العكازات توازنه. وانزلق العكاز من تحته وبدأ يترنح نحو اليمين. لا! اندفع سيلاس بقوة لينقذ الحجر، فخفض سلاحه أثناء ذلك. لكن الحجر المفتاح كان يبتعد عنه الآن. ولدى وقوع الرجل على جنبه الأيمن انثنت يده اليسرى إلى الخلف وهوت الأسطوانة من راحة يده على الأريكة. وفي نفس اللحظة بدا العكاز المعدني الذي انزلق من تحت الرجل وكأن سرعته قد زادت وشكل قوساً واسعاً عبر الهواء واتجه نحو ساق سيلاس. مزق الألم جسد سيلاس حيث أن العكاز ضرب ساقه مباشرة على حزامه فدخلت مسامير الحزام في لحمه الذي كان أصلاً ينزف بغزارة. فانهار سيلاس على ركبتيه متلوياً من الألم، مما جعل الحزام يعمل في لحمه تمزيقاً. وبينما كان سيلاس يقع على الأرض سقط منه المسدس وانطلقت منه رصاصة مصدرة دوياً يصم الآذان إلا أن أحداً لم يصب فقد دفنت الرصاصة في أرضية الغرفة. وقبل أن يتمكن من أن يرفع مسدسه ليطلق النار، وجهت له المرأة ركلة أصابته تحت فكه تماماً. سمع كوليه الذي كان واقفاً أسفل الطريق الخاصة المؤدية صوت إطلاق النار. أثار صوت الطلقة الرعب في قلبه. ربما فاش كان في الطريق إليهم، تبددت كل آمال كوليه في الحصول على الفضل لنفسه لعثوره على لانغدون هذه الليلة. لكن كوليه سيقطع إرباً أمام هيئة التحقيق الوزارية بتهمة الإهمال وكل ذلك قد يتسبب به غرور فاش. حدث إطلاق نار داخل قصر خاص وأنت كنت واقفاً تنتظر أسفل المدخل؟ أدرك كوليه الآن أن الفرصة بالتسلل خلسة إلى القصر قد فاتته الآن. كما أنه كان متأكداً من أنه إذا ما بقي في مكانه لحظة أخرى فسيتدمر مستقبله المهني قبل أن يأتي صباح اليوم التالي. وعندما حدق في بوابة القصر الفولاذية، حزم أمره وقرر الهجوم. "افتحوا البوابة واقتحموا المكان". سمع لانغدون صوت إطلاق نار في الأعماق البعيدة لدماغه المشوش من أثر الضربة التي تلقاها. وسمع أيضاً صرخة ألم. هل كانت تلك صرخته هو؟ شعر لانغدون وكأن مثقاباً يحفر ثقباً إلى الخلف من جمجمته، وفي مكان ما بالقرب منه، سمع صوت أناس يتحدثون. "أين كنت بحق الجحيم؟" كان تيبينغ يصرخ. أسرع الخادم نحو الغرفة. "ماذا جرى؟ آه، يا إلهي! من هذا؟ سأتصل بالشرطة!". "سحقاً لك! إياك والاتصال بالشرطة. ساعدنا هنا.. آتني بشيء أشد به وثاق هذا الوحش". "ومكعبات من الثلج أيضاً!" صاحت صوفي. غاب لانغدون عن الوعي ثانية. المزيد من الأصوات... والحركة.. والآن حملوه إلى الأريكة. كانت صوفي تحمل بيدها كيساً من الثلج وتضعه على رأسه. كانت جمجمته تؤلمه. وعندما اتضحت الرؤية عند لانغدون أخيراً، وجد نفسه يحدق في جسد مطروح أرضاً. هل هذه مجرد هلوسة؟ كان ذلك جسد راهب أبرص مقيد ومرمي على الأرض وفمه مسدود بشريط لاصق وكانت ذقنه مشقوقة نصفين. وكان الرداء فوق فخذه الأيمن يقطر دماً. وقد بدا أنه قد عاد إلى وعيه الآن. التفت لانغدون إلى صوفي. "من هذا؟ ماذا الذي... حصل؟". مشى تيبينغ نحوه وهو يعرج. "لقد أنقذك فارس يلوّح بسيف الملك آرثر المصنوع بيد أعظم مجبّر أعضاء على الإطلاق". ماذا؟ حاول لانغدون أن ينهض. فربتت صوفي عليه بيد رغم أنها كانت ترتعش إلا أنها كانت حنونة. "استرح دقيقة واحدة فقط روبرت". "أظن"، قال تيبينغ، "أنني قد أظهرت لصديقتك الآنسة هنا منافع مرضي، لكن رب ضارة نافعة... يبدو أن الكل هنا لا يعطيك حق قدرك". أخذ لانغدون يحدق إلى الأسفل من مكانه على الأريكة حيث كان الراهب وحاول أن يستوعب الأحداث التي جرت. "لقد كان يضع سيليساً - الحزام ذا المسامير" فسر تيبينغ. "يضع ماذا؟". أشار تيبينغ إلى أرض الغرفة حيث كان هناك شريط جلدي ملطخ بالدم ذو نتوءات مدببة. "إنه حزام تأديب النفس، كان يضعه حول فخذه. لقد كنت دقيقاً عندما ضربته في فخذه". فرك لانغدون رأسه. كانت لديه فكرة عن حزام تأديب النفس. "لكن ما الذي أدراك... بها". ضحك تيبينغ بتهكم. "إن المسيحية هي أساس كافة أبحاثي، روبرت. وهناك بعض الطرائق المسيحية التي تجعل الناس يعذبون أنفسهم بطريقة غريبة". وأشار بعكازه إلى بقع الدم التي كانت على رداء الراهب. "كما هي الحالة هنا". "أوبوس داي"، همس لانغدون، وقد استعاد في ذاكرته الضجة الإعلامية التي أثيرت حول عدد من رجال الأعمال البارزين في بوسطن الذين كانوا أعضاء في أوبوس داي. عندما قام زملاؤهم في العمل باتهامهم زوراً وبشكل علني بأنهم يرتدون أحزمة تعذيب ذاتي تحت بدلاتهم الأنيقة والعصرية. لكن الحقيقة أثبتت أنهم لم يفعلوا ذلك. فقد كانوا كباقي أعضاء أوبوس داي ذوي الرتب العليا والذين لم يمارسوا طقوس التعذيب الجسدي الذاتي على الإطلاق. بل كانوا كاثوليكيين ملتزمين وآباء عطوفين وأعضاء بارزين ومتفانين في المجتمع. إلا أن الإعلام لم يسلط الضوء على الانتماء الديني لتلك الشخصيات الهامة إلا كمقدمة للحديث عن القيم الخطيرة للأعضاء الأكثر تزمتاً وصرامة في الطريقة... أعضاء كهذا الراهب هنا المرمي على الأرض أمام لانغدون. كان تيبينغ ينظر بتمعن إلى الحزام الملطخ بالدم. "لكن لماذا تسعى أوبوس داي للحصول على الكأس المقدسة؟". كان لانغدون مشوشاً لدرجة أنه لم يكن قادراً على التفكير بذلك. "روبرت"، قالت صوفي، وهي تمشي نحو الصندوق الخشبي. "ما هذا؟" كانت تحمل الوردة التي كانت نزعها لانغدون عن الغطاء. "كانت تغطي نقشاً حفر على الصندوق. أعتقد أن النص سيرشدنا إلى كيفية فتح الحجر المفتاح". وقبل أن يتمكن تيبينغ وصوفي من الرد، عمت المكان فجأة أضواء سيارات الشرطة الزرقاء ودوت صفاراتها بصوت يصم الآذان حيث أتت من أسفل التلة وشقت طريقها مجتازة نصف ميل وصولاً إلى مدخل القصر. قطب تيبينغ جبينه. "صديقي العزيزين، يبدو أن علينا أن نتصرف سريعاً قبل فوات الأوان فلا وقت لدينا". الفصل السادس والستون اقتحم كوليه ورجاله قصر السير لاي تيبينغ ودخلوه من الباب الأمامي ملوحين بمسدساتهم. وبعد أن انتشروا في أرجاء القصر، بدأوا بتفتيش كافة غرف الطابق الأول. فوجدوا ثقباً أحدثته رصاصة في أرضية غرفة المكتب حيث كانت هناك آثار تدل على حدوث شجار عنيف، وكمية قليلة من الدم، إضافة إلى حزام جلدي ذي مسامير وشريط لاصق استخدم جزء منه. وبدا الطابق بأكمله خالياً لا أحد فيه. وعندما كان كوليه على وشك توزيع رجاله لتفتيش القبو والأرض المحيطة بالقصر، سمع أصواتا في الطابق العلوي. "إنهم في الأعلى!". هرع كوليه ورجاله وأخذوا يصعدون السلالم بسرعة ثم تنقلوا من غرفة إلى غرفة في أرجاء البيت الفسيح وهم يفتشون الغرف المظلمة والقاعات ويقتربون من مصدر الصوت بحذر. كان الصوت يبدو وكأنه آتٍ من غرفة النوم الأخيرة في رواق طويل جداً وصل الرجال إلى نهاية الممر بعد أن سدوا كافة المخارج. وعندما أصبح الرجال عند غرفة النوم الأخيرة. رأى كوليه أن الباب كان مفتوحاً على مصراعيه. وكانت الأصوات قد توقفت فجأة ليحل محلها صوت أزيز غريب وكأنه صوت محرك سيارة. وفي هذه اللحظة رفع كوليه يده وأعطى رجاله إشارة بالتقدم. وعندما مد كوليه يده متحسساً إطار الباب وجد مفتاح الضوء، وأداره. واندفع إلى الغرفة وتدفق الرجال بعده. عندئذ صاح كوليه ووجه مسدسه إلى... لا شيء. كانت هذه الغرفة عبارة عن غرفة نوم للضيوف إلا أنها كانت قديمة وخالية لا أحد فيها. كانت أصوات محرك سيارة يدور تصدر من لوحة إلكترونية سوداء توجد على الحائط بجوار السرير. كان كوليه قد رأى مثلها في مكان آخر في المنزل. كانت عبارة عن نظام اتصال داخلي في المنزل. ركض نحوها، وكان فيها عدد كبير من الأزرار ذات كتابة بأسماء الغرف. المكتب... المطبخ... غرفة الغسيل... القبو... إذن من أين يأتي صوت السيارة؟؟ غرفة النوم الرئيسة... غرفة التعرض لأشعة الشمس... الحظيرة... المكتبة... الحظيرة! نزل كوليه إلى الطابق الأرضي في ثوانيَ وأخذ يركض نحو الباب الخلفي مصطحباً أحد رجاله في الطريق إلى هناك. تجاوز الاثنان المرج الخلفي حتى وصلا، بعد أن انقطع نفسهما من الركض، إلى أمام حظيرة قديمة. وقبل أن يدخلا استطاع كوليه أن يسمع الأصوات البعيدة لمحرك سيارة، شهر مسدسه وأسرع في الدخول ثم أشعل الضوء. كان الجانب الأيمن من الحظيرة عبارة عن ورشة بدائية تحتوي على جزازات عشب ومعدات خاصة بالسيارات ومواد عناية بالحدائق. وبالقرب منه كانت هناك لوحة نظام اتصال داخلي مألوفة معلقة على الحائط. وكان أحد أزرارها قد ضغط لينقل الصوت إلى داخل البيت. غرفة النوم الثانية المخصصة للضيوف استدار كوليه وقد استشاط غضباً. لقد خدعونا بصوت الإنتركوم ليغرونا بالصعود إلى الأعلى! وعندما راح يفتش الطرف الآخر من الحظيرة، وجد صفاً طويلاً من مواقف السيارات المعلّمة بدل مرابط الخيول التي يفترض أن يجدها المرء في الحظيرة. يبدو أن المالك كان يفضل نوعاً آخر من قوة الحصان... فقد حول المالك مرابط الخيول إلى موقف رائع للسيارات مجهز بأحدث التسهيلات اللازمة. كانت مجموعة السيارات مذهلة.. فيراري سوداء ورولز رويس قديمة الطراز وسيارة أوستن مارتن رياضية كوبيه من أقدم النماذج المصممة وبورش كلاسيكية موديل 356. لكن الموقف الأخير كان خالياً. مشى كوليه بسرعة نحو الموقف الخالي ورأى بقع زيت على الأرض. لن يتمكنوا من الخروج من المنطقة المحيطة بالقصر وحدائقه. فقد كانت تعترض الطريق الخاصة المؤدية إلى القصر ومدخل القصر نفسه سيارتا شرطة منعاً لحدوث أمر كهذا تحديداً. "سيدي؟" أشار العميل إلى آخر المواقف. كان باب الحظيرة الخلفي مفتوحاً على مصراعيه مؤدياً إلى منحدر مظلم وموحل تكسوه حقول وعرة واسعة تمتد بلا نهاية وراء الحظيرة في ظلام الليل. ركض كوليه نحو الباب محاولاً أن يرى ما وراء الظلام الحالك. لكن كل ما تمكن من رؤيته هو خيال غير واضح لغابة بعيدة. لم تكن هناك أنوار أمامية لأي سيارة في الأفق. من الممكن أن يكون هذا الوادي المشجر متقاطعاً مع الكثير من البقع غير المأهولة وممرات الصيد الوعرة التي لا وجود لها على الخرائط. إلا أن كوليه كان واثقاً من أن طريدته لن تتمكن من الخروج من تلك الغابات أبداً. "أحضر بعض الرجال ودعهم ينتشروا هناك. قد يكونون عالقين في مكان ما قريب من هنا. فهذه السيارات الرياضية الفخمة لا يمكنها تحمل قساوة هذه الطرقات الوعرة". "ماذا سيدي؟" أشار العميل إلى لوحة علقت عليها عدة مجموعات من المفاتيح. وكانت البطاقات الموجودة فوق المفاتيح تحمل أسماء مألوفة. ديملر... رولز رويس... آستون مارتن... بورش... إلا أن العلاّقة الأخيرة لم تكن تحمل مفتاحاً. وعندما قرأ كوليه البطاقة التي تحمل نوع السيارة عرف أنه يواجه مشكلة عويصة. الفصل السابع والستون كان الرانج روفر الأسود بلون لؤلؤة جاوة، ذات دفع رباعي وجهاز نقل الحركة كان عادياً وليس أوتوماتيكياً. أما الأضواء الأمامية فكانت من البوليبروبلين عالي الجودة. وكان المقود من جهة اليمين. كان لانغدون مسروراً لأنه لم يكن هو الذي يقود السيارة. كان ريمي خادم تيبينغ هو الذي كان يقوم، بناء على أوامر سيده، بمناورات رائعة في السيارة عبر الحقول المضاءة بنور القمر وراء قصر فيليت. وقد تمكن من اجتياز هضبة مكشوفة بنجاح ودون استخدام الأضواء الأمامية. وأخذ يهبط الآن منحدراً طويلاً في محاولة منه للابتعاد عن القصر وملحقاته. وبدا كأنه يتجه نحو أطراف أرض كثيفة الأشجار. التفت لانغدون الذي كان جالساً في المقعد الأمامي محتضناً الحجر المفتاح ونظر إلى تيبينغ وصوفي اللذين كانا في الخلف. "هل ما زال رأسك يؤلمك، روبرت؟" سألت صوفي وقد بدت قلقة. أجبر لانغدون نفسه على الابتسام في وجهها رغم ألمه. "كلا أشعر أنني أصبحت أفضل من قبل، شكراً لسؤالك". لقد كان الألم يكاد يقتله. التفت تيبينغ الذي كان بجانب صوفي إلى الوراء ليلقي نظرة على الراهب المقيد الذي كان ممدداً في مكان الأمتعة وراء المقعد الخلفي. كان مسدس الراهب في حضن تيبينغ فبدا ذلك المنظر وكأنه صورة قديمة كصياد بريطاني في رحلة سفاري يقف بفخر بجانب صيده الثمين. "أنا في غاية السرور لأنك مررت بي الليلة روبرت"، كان يبتسم ابتسامة عريضة وكأنه كان يستمتع للمرة الأولى منذ سنوات طويلة. "أنا آسف لأنني ورطتك بهذا الأمر، لاي". "أرجوك لا تعتذر، لقد انتظرت طوال حياتي لأتورط بهذا الأمر بالذات". نظر تيبينغ عبر زجاج السيارة الأمامي إلى الخارج فرأى خيالاً بعيداً لسياج طويل من الأشجار الكثيفة. وربت على كتف ريمي من الخلف. "تذكر، لا تدس على المكابح فهي تصدر ضوءاً خلفياً. استخدم عند الضرورة فقط مكبح الطوارئ اليدوي. لأنني أريد أن نتوغل في الغابة قليلاً. فآخر ما نحتاجه هو أن ندعهم يروننا من المنزل". فخفف ريمي من سرعته إلى حدّ كبير وتابع طريقه في الرانج روفر عبر فتحة في السياج المشجر. وبينما كانت السيارة تتمايل على الطريق الوعرة المكسوة بالأعشاب، حجبت الأشجار العالية فيها ضوء القمر في الحال. لا يمكنني أن أرى شيئاً، فكر لانغدون وهو يحاول جاهداً تمييز أي شكل أمامهم. لكن كان كل شيء مكسواً بالسواد الحالك. وعندما احتكت أغصان الأشجار بالطرف اليساري من السيارة صحح ريمي اتجاه السيارة فأصبحت تسير بشكل مستقيم الآن إلى حدّ ما، وتقدم إلى الأمام مسافة ثلاثين ياردة تقريباً. "أنت تقوم بعمل رائع ريمي"، قال تيبينغ. "أعتقد أننا أصبحنا بعيدين عن أعينهم الآن. روبرت، هلا ضغطت ذلك الزر الأزرق الصغير هناك تحت فتحة التهوية تماماً. أرأيته؟". وجد لانغدون الزر وضغطه. فظهر ضوء أصفر أنار الطريق أمامهم، كاشفاً عن شجيرات كثيفة على طرفي السيارة. لاحظ لانغدون أن تلك كانت أضواء الضباب... التي أمدتهم بالنور اللازم لمتابعة الطريق، علاوة على أنهم كانوا الآن قد توغلوا عميقاً في الغابات بحيث أنها لن تكشف مكانهم. "حسناً ريمي"، قال تيبينغ مبتهجاً. "الآن وقد أشعلت الأضواء أصبحت حياتنا بين يديك". "إلى أين سنذهب؟" سألت صوفي. "إن هذا الطريق يمتد حوالى ثلاثة كيلومترات داخل الغابة" قال تيبينغ. "قاطعاً الأرض المحيطة ببيتي ثم ينعطف نحو الشمال. وإذا لم يقف في طريقنا أي عائق كأشجار مقطوعة أو مياه جارية، فسنخرج سالمين إلى الطريق العام رقم خمسة". سالمين؟ كان ذلك يتعارض مع الألم الذي يشعر به لانغدون في رأسه. نظر الآن إلى حضنه حيث كان الحجر المفتاح يرقد بأمان في صندوقه الخشبي. أما الوردة فكانت قد أعيدت إلى مكانها على الغطاء. وبالرغم من أن لانغدون لا زال يشعر بالدوار إلا أنه كان متلهفاً لنزع الوردة ثانية ليتفحص النقش المحفور تحتها عن قرب. وعندما فك قفل الغطاء وبدأ يرفعه، وضع تيبينغ يده على كتفه من الخلف. "تحلّ بالصبر، روبرت"، قال تيبينغ. "فالطريق مظلم ووعر. ليكن الرب في عوننا إذا تعرض أي شيء للكسر. وبما أنك لم تتعرف على تلك اللغة تحت الضوء القوي، فمن المؤكد أنك لن تتمكن من القيام بذلك في الظلام. دعنا نركز الآن على الخروج من هنا بسلام. موافق؟ سيكون لدينا قريباً الكثير من الوقت للقيام بذلك". أقر لانغدون بأن تيبينغ كان على حق. فأومأ برأسه موافقاً وأغلق الغطاء. كان الراهب في الخلف يئن الآن ويحاول التخلص من قيوده. وفجأة أخذ يضرب رجليه في أرض السيارة بعنف. فالتفت تيبينغ إلى الوراء وصوب مسدسه نحوه. "أنا لا أصدق أنك تتذمر سيدي، فقد قمت بالدخول عنوة إلى بيتي ووجهت ضربة قاسية إلى رأس صديق عزيز عليّ. وإذا قمت الآن بإطلاق رصاصة في رأسك ورميتك لتتعفن في الغابة خارجاً، فسيكون ذلك من حقي تماماً ولن أكون مذنباً أبداً". عندها توقف الراهب عن الحركة تماماً. "هل أنت متأكد من أنه كان علينا أن نحضره معنا؟" سأله لانغدون. "بالطبع!" هتف تيبينغ بقوة. "أنت مطلوب في جريمة قتل روبرت، وهذا الوغد هو ورقتك الرابحة التي ستأتي لك بالحرية. فمن الواضح أن الشرطة تريد القبض عليك بشدة إلى الحدّ الذي دفعها للّحاق بك إلى بيتي". "كان ذلك خطأً مني"، قالت صوفي. "فربما كانت السيارة المصفحة مزودة برادار دل على مكانها". "هذا ليس أمراً مهماً الآن". قال تيبينغ. "أنا لم أستغرب أن الشرطة تمكنت من معرفة مكانك، إلا أنني قد دهشت من تمكن هذا الشخص الغريب من أوبوس داي من اللحاق بك إلى بيتي، إلا إذا كان على اتصال بالشرطة القضائية أو بأحد ما من بنك زيوريخ للودائع". وجد لانغدون أن كلام تيبينغ كان معقولاً. فقد كان بيزو فاش يبدو مصرّاً على العثور على كبش فداء يحمّله مسؤولية جرائم الليلة. كما أن فرينيه انقلب ضدهم بشكل مفاجئ. إلا أنه بالنظر إلى كون لانغدون متهماً بارتكاب أربعة جرائم قتل، جعل تغيير موقف رئيس البنك حيالهم يبدو مفهوماً تماماً. "إن هذا الراهب لا يعمل لوحده روبرت"، قال تيبينغ، "وإلى أن تتمكن من معرفة من وراء كل هذا، ستكونان أنتما الاثنان في خطر. غير أن الأمر الإيجابي هنا هو أن هذا الوحش الموجود خلفي يمتلك تلك المعلومات، ولا بد أن الشخص الذي يسيّره مصاب الآن بتوتر شديد". كان ريمي قد أخذ يزيد السرعة حيث أنه بدأ يرى الطريق أمامه. مع أن السيارة قد غاصت قليلاً في الماء وصعدت تلة صغيرة ثم أخذت تهبط من جديد. "روبرت، هلا أعطيتني ذلك الهاتف، من فضلك؟" أشار تيبينغ إلى هاتف السيارة تحت لوحة القيادة. أعطاه لانغدون الهاتف، وضرب تيبينغ رقماً وانتظر طويلاً قبل أن يجيبه أحد. "ريتشارد؟ هل أيقظتك؟ بالطبع فعلت، سؤال غبي. أنا آسف، لكنني أواجه مشكلة صغيرة. فأنا متوعك قليلاً لذا فأنا وريمي بحاجة للسفر إلى إنجلترا لأتلقى علاجي. حسناً في الحال، في الواقع. أعتذر لأنني لم أمنحك وقتاً كافياً هل بإمكانك أن تجهز لي إليزابيث في حوالى عشرين دقيقة؟ أعرف ذلك، افعل ما بوسعك. أراك قريباً". وأغلق الخط. "إليزابيث؟" قال لانغدون. "طائرتي الخاصة. لقد كلفتني مبلغاً يفتدى به الملوك". التفت لانغدون إلى الوراء بشكل كامل ونظر إلى تيبينغ. "ماذا؟" سأله تيبينغ. "هل تتوقعان أنتما الاثنان أنه بإمكانكما البقاء في فرنسا وجهاز الشرطة الفرنسية بأكمله يلاحقكما؟ ستكونان في مأمن أكثر في لندن". فالتفتت صوفي نحوه أيضاً. "أتظن أن علينا مغادرة البلاد؟". "يا عزيزيّ، إنني أتمتع بنفوذ في العالم المتحضر أكثر بكثير من نفوذي هنا في فرنسا. علاوة على أنه يفترض أن تكون الغريل في بريطانيا العظمى. وأنا متأكد أننا إذا تمكنا من فتح الحجر المفتاح سنجد خريطة تشير إلى أننا قمنا بالتحرك في الاتجاه الصحيح". "إنك تقوم بمجازفة خطيرة"، قالت صوفي، "فبمساعدتك لنا، لن تكسب ود الشرطة الفرنسية أبداً". قام تيبينغ بحركة تدل على الاشمئزاز. "لقد انتهيت من أمر فرنسا. فقد جئت إلى هنا أصلاً للعثور على الحجر المفتاح. وهذا عمل قد انتهيت منه الآن. ولن أهتم لعدم رؤية قصر فيليت ثانية على الإطلاق". بدت صوفي متشككة. "كيف سنتمكن من تجاوز أمن المطار؟". ضحك تيبينغ. "إنني أسافر من مطار لوبورجيه وهو مطار صغير خاص بالقرب من هنا. فالأطباء الفرنسيون يسببون لي التوتر، لذا فأنا أسافر كل أسبوعين شمالاً لتلقي العلاج في إنجلترا. ولهذا السبب فأنا أدفع مبالغ إضافية للحصول على امتيازات خاصة في المطار هنا وفي إنجلترا أيضاً. وعندما نصبح على متن الطائرة يمكنك أن تقرر في ما إذا أردت الاتصال بالسفارة الأمريكية لترسل أحداً لملاقاتنا هناك". شعر لانغدون فجأة أنه لا يريد التفكير في أمر السفارة على الإطلاق، فلم يكن في ذهنه الآن إلا الحجر المفتاح والنقوش المحفورة عليه وفي ما إذا كانت سترشدهم إلى الكأس المقدسة أم لا. وتساءل إذا ما كان تيبينغ على حق بشأن بريطانيا. إلا أنه مما لا شك فيه هو أن معظم الأساطير والقصص الحديثة تقول إن الكأس المقدسة مخبأة في مكان ما في المملكة المتحدة. فحتى جزيرة آفالون الغامضة جزيرة الملك آرثر ذات القصة الغنية بالرموز عن الغريل، يعتقد الآن أنها ليست في الحقيقة إلا غلاستنبري في إنجلترا. وأينما كانت الكأس المقدسة، لم يكن لانغدون يتخيل يوماً أنه سيقوم فعلاً بالبحث عنها. وثائق الدم الملكي... التاريخ الحقيقي ليسوع المسيح وقبر مريم المجدلية. شعر لانغدون فجأة وكأنه يعيش الليلة حالة انتقالية... وكأنه في فقاعة لا يمكن فيها للعالم الحقيقي أن يصل إليه. "سيدي؟" قال ريمي. "هل تفكر فعلاً بالعودة إلى إنجلترا بشكل نهائي؟". "ريمي، لا تقلق"، طمأنه تيبينغ. "إن عودتي إلى عالم الملكة لا تعني أبداً أنني أنوي أن أعّرض بطني لقرف الطعام الإنجليزي الكريه إلى آخر حياتي. فأنا أريدك أن تأتي للإقامة عندي بشكل دائم. لأنني أخطط لشراء فيلا رائعة في ديفونشير، وسوف يتم شحن كافة أغراضك إلى هناك في الحال. إنها مغامرة ريمي... إنها حقاً مغامرة!". لم يستطع لانغدون أن يخفي ابتسامته، وتيبينغ يمضي في حديثه عن خططه لعودة منتصرة إلى إنجلترا. فشعر لانغدون بأنه أصيب بحماس الرجل المعدي. حدق لانغدون بشرود خارج النافذة في الغابات التي كانوا يمرون بها والتي بدت صفراء شاحبة تحت ضوء الضباب. وكانت المرآة الجانبية مائلة نحو الداخل بسبب ارتطام أغصان الأشجار بها. فرأى لانغدون انعكاس صورة صوفي فيها وهي تجلس بهدوء في المقعد الخلفي. راقبها لبرهة طويلة وشعر فجأة بموجة من الرضا والسرور. فبالرغم من المتاعب التي وقع فيها لانغدون هذه الليلة، إلا أنه كان ممتناً لأنه كان بصحبة صوفي. وبعد مرور عدة دقائق، وكأن صوفي أحست أنه كان ينظر إليها، انحنت قليلاً إلى الأمام ووضعت يديها على كتفيه ودلكتهما قليلاً. "هل تشعر بتحسن؟". "نعم"، قال لانغدون. "إلى حدٍّ ما". عدّلت صوفي من جلستها، ولمح لانغدون ابتسامة هادئة ترتسم على شفتيها. فأدرك أنه هو الآخر كان يبتسم ابتسامة عريضة. كان سيلاس منحشراً في القسم الخلفي من الرانج روفر إلى درجة أنه كان يجد صعوبة في التنفس. فقد لويت ذراعاه إلى الوراء وربطتا بإحكام إلى كاحليه بحبال من القنب الذي يستخدم في المطبخ وثبتتا بشريط لاصق. وفي كل مرة ترتطم فيها السيارة بحجر في الطريق كان يشعر بألم رهيب وكأن سيخ نار يدخل في كتفيه الملويين. إلا أنه ارتاح على الأقل من الحزام المدبب حيث نزعه عنه هؤلاء الذين أسروه. وبما أنه لم يكن قادراً على استنشاق الهواء بسبب الشريط اللاصق المثبت على فمه، فأخذ يتنفس من منخريه اللذين كانا ينسدان شيئاً فشيئاً بسبب الغبار الذي كان يغطي القسم الخلفي الذي كان يعد صندوقاً للسيارة حيث كان محشوراً. فبدأ يسعل. "أعتقد أنه يختنق"، قال السائق الفرنسي وقد بدا عليه القلق والاهتمام. فالتفت البريطاني الذي كان قد ضرب سيلاس بعكازه وألقى نظرة إلى الخلف، وقطب ببرود في وجه سيلاس. "من حسن حظك أننا نحن البريطانيين لا نحكم على مدى نبل الإنسان من خلال تعاطفه مع أصدقائه بل بتعاطفه مع أعدائه". ومدّ البريطاني يده إلى الأسفل ونزع الشريط اللاصق عن فمه بحركة واحدة سريعة. فأحس سيلاس وكأن النار قد اشتعلت في شفتيه، لكن الهواء الذي بدأ يتدفق إلى رئتيه كان هدية من الرب. "لحساب من تعمل؟" سأله البريطاني. "إنني أقوم بتنفيذ أوامر الرب"، تكلم سيلاس بصعوبة متألماً من فكه حيث ركلته تلك المرأة. "أنت عضو في أوبوس داي"، قال الرجل. هذا أمر واضح. "أنت لا تعرف أبداً من أنا". "لماذا تريد أوبوس داي الحصول على الحجر المفتاح؟". لم يكن في نية سيلاس الإجابة عن هذا السؤال. فالحجر المفتاح هو الطريق المؤدي إلى الكأس المقدسة والكأس المقدسة هي المفتاح الذي يؤدي إلى حماية أوبوس داي. إنني أقوم بعمل الرب. فالطريقة في خطر. والآن، بينما كان سيلاس يحاول أن يتحرر من قيوده في الرانج روفر، شعر بأنه قد خذل المعلم والقس إلى الأبد. فلم تكن هناك أي طريقة للاتصال بهما كي يخبرهما بالتطور الرهيب للأحداث. إن الحجر المفتاح بحوزة مختطفيّ الآن! وسيصلون إلى الكأس المقدسة قبلنا! صلّى سيلاس في الظلام الخانق. وترك ألمه يغذي توسلاته معجزة، يا رب. أنا بحاجة لمعجزة. لم تكن هناك أي طريقة تمكن سيلاس من أن يعرف بأنه سيحصل على معجزته بعد ساعات من الآن. "روبرت؟" كانت صوفي لا تزال تراقبه. "لقد ارتسمت على وجهك نظرة غريبة". نظر روبرت إليها متأملاً وقد انتبه إلى أن فكه كان مطبقاً بإحكام وقلبه كان يخفق بقوة. فقد تبادرت إلى ذهنه للتو فكرة لا تصدق. هل يعقل أن يكون التفسير بسيطاً لهذه الدرجة؟ "صوفي، أنا بحاجة إلى استخدام هاتفك النقال". "الآن؟". "أعتقد أنني قد توصلت إلى استنتاج". "ما هو؟". "سأقول لك ما هو، انتظري دقيقة فقط، أنا بحاجة إلى هاتفك". بدت صوفي مترددة. "لديّ شك بأن فاش يتعقب مكالماتي الآن، لكن حاول أن تتكلم لأقل من دقيقة في حال كان يتعقب الاتصالات". أعطته صوفي هاتفها. "كيف أتصل بالولايات المتحدة؟". "يجب أن تطلب منهم دفع ثمن المكالمة فليست لدي خدمة الاتصال الخارجي". ضرب لانغدون الصفر وهو يعلم أن الستين ثانية القادمة قد تجيب عن سؤال ظل يفكر فيه طوال الليل. الفصل الثامن والستون كان المحرر جوناس فوكمان في نيويورك قد صعد للتو إلى سريره لينام عندما رن جرس الهاتف. أعتقد أن الوقت متأخر بعض الشيء ليتصل أحد بي... تمتم غاضباً وهو يرفع السماعة. سأله عامل مقسم الهاتف، "هل تقبل أن تدفع كلفة مكالمة من روبرت لانغدون؟". دهش جوناس وأشعل الضوء. "نعم... بالتأكيد". فتح الخط. "جوناس؟". "روبرت؟ أتوقظني من النوم وتدفعني ثمن المكالمة أيضاً؟". "اعذرني جوناس"، قال لانغدون. "لن أطيل عليك لكنني بحاجة ماسة لمعرفة أمر ضروري بخصوص المخطوط الذي أعطيتك إياه، هل قمت -". "روبرت أنا آسف، أعرف أنني قد وعدتك بأن أرسل إليك النسخة المنقحة هذا الأسبوع لكنني كنت غارقاً في العمل. سأرسلها إليك يوم الاثنين القادم. أعدك بذلك". "أنا لست قلقاً بشأن التنقيح لكنني أريد أن أعرف إذا كنت قد أرسلت أي نسخ للتعريف بالكتاب دون أن تعلمني بذلك". تردد فوكمان. فقد كان آخر كتاب للانغدون - وهو بحث في تاريخ عبادة الآلهة الأنثى - يشتمل على عدة أقسام حول مريم المجدلية من شأنها أن تثير الجدل. وبالرغم من أن مادة الكتاب موثقة بشكل جيد وتم الاستشهاد فيها برأي العديد من الباحثين، إلا أن فوكمان لم يكن ينوي طبع نسخة كاملة جاهزة للقراءة من كتاب لانغدون الجديد دون الحصول على الأقل على توثيق أكثر من بعض المؤرخين البارزين والأعلام من الباحثين في الفن. وكان جوناس قد اختار عشرة أسماء رنانة في مجال تاريخ الفن في العالم وأرسل لهم مسودة الكتاب مرفقة برسالة مهذبة يطلب فيها منهم بلطف كتابة مصادقة بجملة لا أكثر على ما جاء في المسودة لتطبع على الغلاف. وبحسب خبرة فوكمان، فإن معظم الناس يطيرون فرحاً عندما تأتيهم فرصة ظهور أسمائهم على الكتب. "جوناس؟" ألح لانغدون. "لقد أرسلت مسودة كتابي، أليس كذلك؟". عبس جوناس، وقد شعر بأن لانغدون لم يكن مسروراً مما فعله. "لقد كانت المسودة جاهزة للطبع لا أخطاء فيها، روبرت، إضافة إلى أنني أردت أن أفاجئك ببعض التعليقات الرائعة على كتابك". ساد الصمت للحظة. "هل أرسلت نسخة إلى القيّم على اللوفر؟". "بالطبع.. فكتابك يشير إلى مجموعة اللوفر عدة مرات ومؤلفاته مذكورة في قائمة مراجعك وقد حققت كتب الرجل مبيعات هائلة في فئة الكتب الأجنبية. كان إرسال المسودة إلى سونيير أمراً لا يحتاج إلى تفكير". استمر الصمت على الطرف الآخر لحظات طويلة. "متى أرسلتها؟". "منذ حوالى شهر. وقد ذكرت في الرسالة أيضاً أنك ستكون في باريس قريباً واقترحت أن تتحادثا سوية حول الكتاب. بالمناسبة هل اتصل بك ليطلب اللقاء بك؟" سكت فوكمان للحظة وهو يفرك عينيه. "انتظر لحظة، ألا يفترض بك أن تكون في باريس هذا الأسبوع؟". "أنا في باريس الآن". جلس فوكمان منتصباً الآن. "أنت تتكلم من باريس وحوّلت تكلفة الاتصال إليّ؟". "يمكنك أن تقتطعها من مبيعات الكتاب، جوناس. هل قام سونيير بالرد عليك؟ هل أعجبه الكتاب؟". "لا أعرف إذا كان قد أعجبه فلم أسمع منه بعد". "حسناً لا تنتظر رده. عليّ الذهاب الآن، لكن ما قلته لي يفسر الكثير. شكراً". "روبرت -". لكن لانغدون كان قد قطع الاتصال. أقفل فوكمان الخط، وهو يهز رأسه وهو لا يصدق ما جرى. آه من المؤلفين... فكر فوكمان.. حتى العقلاء منهم مجانين... داخل الرانج روفر، أخذ تيبينغ يقهقه. "روبرت هل تقول إنك كتبت مخطوطاً يخوض في تفاصيل حول جمعية سرية، وقام محرر الكتاب بإرسال نسخة إلى تلك الجمعية السرّية؟". أخفض لانغدون رأسه. "هذا ما حدث فعلاً". "إنها مصادفة قاسية بحق، يا صديقي". كان لانغدون يعلم أن ما حدث ليس بمصادفة أبداً. فأن يطلب من جاك سونيير المصادقة على مخطوط حول عبادة الآلهة الأنثى، هو كأن يطلب من تايغر وودز المصادقة على كتاب حول الغولف. علاوة على أنه من البديهي أن يتطرّق أي كتاب حول عبادة الآلهة الأنثى إلى ذكر أخوية سيون". "إليك سؤال المليون دولار الآن"، قال تيبينغ، وهو لا زال يضحك. "هل كان موقفك من الأخوية إيجابياً أم سلبياً؟". فهم لانغدون المعنى الحقيقي الذي قصده تيبينغ بوضوح وجلاء. فالعديد من المؤرخين تساءلوا عن سبب احتفاظ الأخوية بوثائق الدم الملكي سرّاً لغاية الآن. وقد شعر البعض أنه كان عليهم أن يطلعوا كل العالم على تلك المعلومات منذ وقت طويل. "لم أتخذ أي موقف حيال أفعال الأخوية". "تعني عدم قيامها بأي فعل". تنهد لانغدون. يبدو أن تيبينغ هو من تلك الفئة التي تحبذ نشر الوثائق السرّية. "إن كل ما قمت به هو تقديم نبذة عن تاريخ الأخوية كما وصفتهم على أنهم جماعة تقوم بعبادة الآلهة الأنثى، وأنهم حماة الكأس المقدسة وحرّاس وثائق قديمة". نظرت صوفي إليه. "هل أتيت على ذكر الحجر المفتاح؟". ارتبك لانغدون. لقد ذكره عدة مرات. "لقد تكلمت عن الحجر المفتاح المفترض كمثال عن المدى الذي قد تبلغه الأخوية لحماية وثائق الدم الملكي". بدت صوفي مذهولة. "أعتقد أن هذا يفسر الرسالة التي تركها جدي –بي. إس. آت بروبرت لانغدون". أحس لانغدون أن شيئاً آخر في المخطوط هو الذي أثار اهتمام سونيير، إلا أنه سيناقش هذا الموضوع مع صوفي على انفراد. "إذن"، قالت صوفي، "فقد كذبت على النقيب فاش". "ماذا؟" سألها لانغدون بإلحاح. "لقد أخبرته بأنه لم تكن هناك مراسلات بينك وبين جدي أبداً". "وهذه هي الحقيقة! فمحرري هو الذي أرسل له المخطوط". "فكر قليلاً روبرت. إذا لم يعثر النقيب فاش على الظرف الذي أرسله المحرر والذي كان يحتوي على المخطوط، سيدفعه ذلك إلى استنتاج أنك أنت الذي قمت بإرساله". توقفت لحظة عن الكلام. "والأسوأ من ذلك، قد يفترض بأنك قد سلمته المخطوط باليد وكذبت بهذا الخصوص". عندما وصلت الرانج روفر إلى مطار لوبورجيه، توجه ريمي إلى هنغار صغير في نهاية مهبط الطائرات. وعندما اقتربوا من الهنغار، خرج من الهنغار رجل أشعث الشعر يرتدي ثياباً كالجنود بلونها الكاكي ولوّح بيديه ثم فتح الباب المعدني الضخم المموج لتظهر منه طائرة نفاثة أنيقة ذات لون أبيض. حدق لانغدون في جسم الطائرة اللماع."هل هذه هي إليزابيث؟". ضحك تيبينغ. "هذه هي قاهرة المانش اللعين". أسرع الرجل نحوهم وهو غير قادر أن يفتح عينيه بشكل كامل بسبب أضواء السيارة الأمامية التي ضربت وجهه. "تكاد الطائرة تجهز للإقلاع سيدي"، قال ذلك بلكنة بريطانية. "أقدم اعتذاري عن التأخير الذي حصل لكنك فاجأتني و -"، توقف فجأة عن الكلام عندما ترجلت المجموعة من السيارة. ونظر إلى صوفي ولانغدون ثم إلى تيبينغ. قال تيبينغ: "لدينا أنا وأصدقائي عمل مستعجل في لندن. وليس لدينا أي وقت لنضيعه. ارجو أن تستعد للانطلاق في الحال". وبينما كان يتحدث تيبينغ إلى الرجل، أخرج المسدس من السيارة وأعطاه إلى لانغدون. توسعت عينا ربان الطائرة لدى رؤيته للمسدس. فتقدم نحو تيبينغ وهمس قائلاً: "سيدي، أريد أن أعتذر منك لأن الإذن الديبلوماسي للطيران الذي بحوزتي هو خاص بك وبخادمك حصراً، لذا لا يمكنني أن أقلّ ضيوفك". "ريتشارد"، قال تيبينغ وهو يبتسم بلطف. "إن ألفي جنيه استرليني وهذا المسدس المحشو الذي بيدي يقولان إنه يمكنك أن تقلّ ضيفيّ"، وأشار إلى الرانج روفر. "والرجل المسكين المرمي في صندوق السيارة أيضاً". الفصل التاسع والستون دوى صوت المحركين من طراز TFE - 731Garett في طائرة الهوكر 732، حيث دفعاها بقوة مخيفة نحو السماء. وقد بدا مطار لوبورجيه من نافذة الطائرة وكأنه يتلاشى بسرعة مذهلة. إنني أهرب خارج البلد، فكرت صوفي وجسدها مشدود إلى الوراء في المقعد الجلدي. فحتى هذه اللحظة، كانت صوفي تعتقد أن لعبة القط والفأر التي تلعبها مع فاش، يمكن تبريرها أمام وزارة الدفاع حيث إنها كانت تحاول حماية إنسان بريء. لقد كنت أحاول تحقيق ما أوصاني جدي به وهو يموت. إلا أن صوفي عرفت أن تلك الفرصة قد فاتت الآن. فقد كانت تغادر البلد دون أي وثيقة وبصحبة رجل مطلوب من العدالة وتنقل رهينة مشدودة الوثاق. وإذا كان هناك خط للمنطق يبرر أفعالها، فهي قد تجاوزته لتوها وبسرعة الصوت أيضاً. كانت صوفي جالسة مع لانغدون وتيبينغ بالقرب من المقصورة الأمامية ذات التصميم الفاخر الخاص بكبار الشخصيات، وفقاً لما كتب على اللوحة الذهبية المعلقة على باب الطائرة. وكانت المقاعد الأنيقة القابلة للدوران مثبتة على الأرضية بطريقة تجعل بالإمكان تغيير مكانها وتثبيتها حول طاولة مستطيلة الشكل من الخشب القاسي. وكانت هناك أيضاً غرفة مكتب مصغرة. إلا أن المحيط الفاخر من حولهما لم يتمكن تماماً من التغطية على الوضع المزري في القسم الخلفي من الطائرة حيث كان ريمي خادم تيبينغ يجلس في مكان منفصل عنهم بالقرب من المرحاض والمسدس بيده ينفذ رغماً عنه أوامر تيبينغ ويحرس الراهب اللعين الذي كان موثقاً ومرمياً على الأرض كقطعة من الأمتعة. "قبل أن نقوم بالتركيز على أمر الحجر المفتاح"، قال تيبينغ، "كنت أود أن أقول شيئاً إذا سمحتما لي". بدا تيبينغ قلقاً كما لو أنه أب على وشك أن يحدث أولاده لأول مرة عن الجنس. "صديقي العزيزين، أنا أعرف أنني لست سوى ضيف في هذه الرحلة ولي الشرف أن أكون كذلك. غير أنني أشعر أن من واجبي أن أحذركما، كوني شخصاً أمضى عمره كله يبحث عن الغريل، أنكما على وشك الدخول إلى عالم لا رجعة منه مهما كانت الأخطار التي ستواجهكما". والتفت إلى صوفي. "آنسة نوفو، إن جدك قد أعطاك هذا الكريبتكس على أمل أنك ستبقين سرّ الكأس المقدسة حياً". "نعم". "أنتما تدركان أنكما ستكونان مجبرين على المضي قدماً مهما انتهى إليه الدرب". أومأت صوفي، إلا أنها أحست بدافع آخر لا زال يحرق أضلاعها. حقيقة عائلتي. فبالرغم من تأكيد لانغدون لها أن الحجر المفتاح ليست له أي علاقة على الإطلاق بماضيها، إلا أن صوفي لا زالت تشعر بأن شيئاً ما يمسها شخصياً يرتبط بهذا السرّ ارتباطاً وثيقاً، كما لو أن هذا الكريبتكس الذي شكّله جدها بيديه الاثنتين كان يحاول أن يخبرها بشيء ويجد لها حلاً يملأ الفراغ الذي كانت تشعر به طوال هذه السنين. "لقد قتل الليلة جدك وثلاثة آخرون"، تابع تيبينغ، "وكان سبب موتهم هو حماية هذا المفتاح وإبقاؤه بعيداً عن الكنيسة. كما أن أوبوس داي كانت قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليه. لذا فأنا آمل أن تكوني مدركة أن ذلك يحملك مسؤولية استثنائية. فقد تسلمت شعلة لا زال لهيبها يضطرم منذ ألفي عام ويجب ألا ندعها تنطفئ. كما أنها لا يمكن أن تقع في أيد غير أمينة". توقف عن الكلام لحظة وأخذ ينظر إلى الصندوق الخشبي. "أنا أعلم أنك لم تملكي الخيار في هذا الأمر، آنسة نوفو، لكن نظراً لخطورة الموضوع هنا، عليك إما أن تضطلعي بهذه المسؤولية... أو أن تحمّليها لشخص آخر". "لقد ترك جدي هذا الكريبتكس لي أنا. ولهذا فأنا واثقة أنه اعتقد أنه يمكن تحمل مسؤوليته". بدا تيبينغ متحمساً لكنه لم يقتنع بكلامها تماماً. "هذا جيد، فالإرادة القوية هي أمر ضروري. ومع ذلك، فأنا لا أعلم إذا ما كنت تدركين أنه في حال تمكنا من فتح الحجر المفتاح بنجاح، فسيجلب هذا اختباراً أصعب بكثير مما تتخيلين". "وكيف ذلك؟". "عزيزتي، تخيلي أنك تحملين فجأة الخريطة التي ترشد إلى مكان الكأس المقدسة، في تلك اللحظة بالذات، ستكون في يدك الحقيقة القادرة على تغيير التاريخ إلى الأبد. وستكونين حامية الحقيقة التي بحث عنها الإنسان لقرون طويلة. كما أنك ستواجهين مسؤولية كشف تلك الحقيقة وإطلاع العالم بأسره عليها. وكونك الشخص الذي سيقوم بذلك، ستقابلين بالاحترام والتبجيل من بعض الناس وبالكره والاحتقار من البعض الآخر. لكن السؤال الأهم هنا هو: هل ستتحلين بالقوة الكافية للقيام بهذه المهمة؟". ترددت صوفي. "أنا لست متأكدة من أن هذا القرار يعود إلي". قطب تيبينغ حاجبيه. "ماذا تقولين؟ إذا لم يكن هذا القرار عائداً إلى من يمتلك الحجر المفتاح، فلمن يعود إذن؟". "إلى الأخوية التي حافظت على السرّ بنجاح لسنين طويلة". "الأخوية؟" بدا تيبينغ مشككاً. "لكن كيف؟ فقد مزقت أشلاء الأخوية الليلة - قطع رأسها - على حدّ تعبيرك الذي وجدته مناسباً تماماً للوضع. فسواء تم اختراق صفوفهم من خلال التنصت عليهم أو كان ذلك عمل جاسوس من بين أعضاء الأخوية نفسهم، فذلك أمر لن نعرف كنهه أبداً، لكن تبقى الحقيقة الواقعة هنا هي أن أحداً تمكن منهم وكشف هوية الأعضاء الأربعة الكبار. لذلك لن أثق بأي أحد يتقدم من الأخوية في هذه المرحلة لو كنت مكانك". "ماذا تقترح إذن؟" سأل لانغدون. "روبرت أنت تعلم مثلي تماماً أن الأخوية لم تقم بحماية الحقيقة كل هذه السنوات لتراكم عليها الغبار إلى الأبد. فقد كانوا ينتظرون فقط التوقيت المناسب ليزيحوا الستار عن سرّهم. وذلك عندما يكون العالم مستعداً لسماع الحقيقة وتحمل تبعاتها". "وأنت تعتقد أن هذا الوقت قد حان؟" سأله لانغدون. "طبعاً، لا يمكن أن يكون الأمر واضحاً أكثر من ذلك. فكل الإشارات التاريخية تدل على ذلك. ولو لم يكن في نية الأخوية أن تفشي السرّ قريباً، فلماذا إذن قررت الكنيسة الهجوم الآن؟". عارضته صوفي. "لكن الراهب لم يخبرنا بعد بمقاصده". "إن هدف الراهب هو نفسه هدف الكنيسة"، رد تيبينغ، "وهو التخلص من الوثائق التي تكشف الخدعة الكبيرة. فقد اقتربت الكنيسة الليلة أكثر من أي مرة على الإطلاق من الحصول على مبتغاها، وقد وضعت الأخوية كل ثقتها فيك آنسة نوفو. فمهمة إنقاذ الكأس المقدسة تتضمن حتماً تحقيق الرغبات الأخيرة للأخوية وهي إطلاع كل العالم على الحقيقة". تدخل لانغدون. "لاي، إن مطالبتك صوفي باتخاذ قرار بهذه الخطورة هو حمل ثقيل تلقي به على كاهلها خاصة وأنها لم تعرف بوجود وثائق الدم الملكي إلا منذ ساعة فقط". تنهد تيبينغ. "أعتذر إذا كنت قد ألححت عليك آنسة نوفو. وذلك لأنني لطالما اعتقدت بأن هذه الوثائق يجب أن تنشر، لكن في نهاية الأمر، القرار يعود إليك. إنني أشعر ببساطة أنه من الضروري أن تفكري بما سيحدث إذا تمكنا من فتح الحجر المفتاح". "سيدي العزيز"، قالت صوفي بنبرة حازمة. "أنت قلت بالحرف الواحد "إنك لن تجد الكأس المقدسة بل هي التي ستجدك" لذا فأنا متأكدة من أن الكأس المقدسة قد جاءت إلي أنا لسبب ما، وعندما يحين الوقت، سأعرف ما الذي عليّ القيام به". ذهل الرجلان مما سمعا منها. "هيا إذن"، قالت صوفي، وهي تشير إلى الصندوق الخشبي. "دعونا نبدأ العمل". الفصل السبعون كان الملازم كوليه واقفاً في غرفة المكتب في قصر فيليت يراقب النار وهي تخمد والكآبة تسيطر عليه. فالنقيب فاش كان قد وصل منذ عدة دقائق وهو الآن في الغرفة المجاورة يصيح في سماعة الهاتف محاولاً تسوية الخطأ الذي أدى إلى فشل محاولة العثور على الرانج روفر المفقودة. قد تكون في أي مكان الآن، فكر كوليه. فبعد أن عصى أوامر فاش الصريحة وضيّع لانغدون للمرة الثانية، كان كوليه ممتناً عندما عثر فريق الجنائية على ثقب أحدثته رصاصة في أرضية الغرفة، والذي من شأنه على الأقل دعم أقوال كوليه بأنه قد حدث إطلاق نار. لكن بالرغم من ذلك، كان مزاج فاش سيئاً جداً وشعر كوليه بأنه ستكون هناك تداعيات كارثية بعد أن تهدأ الأمور. يبدو، لسوء الحظ، أن الأدلة التي ظهرت لم تلقِ الضوء على الأحداث التي جرت ولم يعرف بالضبط من كان متورطاً فيها. أما الأودي السوداء التي كانت واقفة في الخارج، فقد كانت مستأجرة تحت اسم مزيف وبطاقة بنك زائفة أيضاً ولم تتطابق البصمات التي عثر عليها في السيارة مع تلك الموجودة في سجلات الإنتربول. دخل عميل آخر إلى غرفة الجلوس مسرعاً وفي عينيه أخبار طارئة. "أين النقيب فاش؟". أجابه كوليه وقد رفع عينيه بالكاد عن الجمرات الملتهبة. "إنه يتحدث على الهاتف". "لقد انتهيت من الهاتف"، رد فاش بحدة، وهو يدخل إلى الغرفة بتكبر. "ماذا عندك؟". قال العميل الثاني. "سيدي، لقد اتصل أندريه فيرنيه من بنك زيوريخ للودائع بالمركز وأخبرهم أنه يريد التحدث إليك على انفراد. وقد غير روايته لما حدث". "ماذا؟" قال فاش. نظر إليهما كوليه الآن. "لقد اعترف فيرنيه أن لانغدون ونوفو كانا في بنكه هذه الليلة". "لقد تمكنا من معرفة ذلك"، قال فاش. "لماذا كذب فيرنيه عندما سألناه؟". "قال إنه سيتحدث إليك حصرياً، لكنه تعهد بأن يتعاون معنا بشكل كامل". "مقابل ماذا؟". "مقابل أن نبقي اسم بنكه خارج نطاق الأخبار وأن نساعده أيضاً لاستعادة ممتلكات مسروقة من البنك. يبدو أن لانغدون وصوفي قد سرقا شيئاً من حساب سونيير قبل هروبهما". "ماذا؟" صاح كوليه متعجباً. "كيف؟". لم يرمش لفاش جفن وحول نظره إلى العميل الثاني. "ماذا سرقا؟". "لم يذكر فيرنيه أي تفاصيل، لكنه بدا مستعداً للقيام بأي شيء لاستعادته". حاول كوليه أن يتصور كيف أمكن لهذا أن يحدث. ربما هدد لانغدون وصوفي أحد الموظفين بالقتل؟ ربما أجبرا فيرنيه بالقوة أن يفتح حساب سونيير ويسهل لهما الهروب في الشاحنة المصفحة. ومهما كان الأمر، كان كوليه لا زال يجد صعوبة في تصديق أن صوفي نوفو قد تتورط في أمر كهذا. صاح عميل آخر من المطبخ منادياً فاش. "سيدي؟ لقد راجعت آخر رقم اتصل به السيد تيبينغ، وأنا على الخط الآن مع مطار لوبورجيه. وأخشى أنني أحمل أخباراً سيئة". وبعد مرور ثلاثين ثانية، كان فاش يرتب معداته استعداداً لمغادرة قصر فيليت. فقد وردته معلومات للتو تفيد بأن تيبينغ كان يمتلك طائرة خاصة بالقرب من قصره في مطار لوبورجيه وأن الطائرة قد أقلعت منذ حوالى نصف ساعة. عندما كان المسؤول في مطار لوبورجيه على الخط، ادعى أنه لا يعرف من كان على متن الطائرة أو إلى أين كانت متجهة. حيث أن الرحلة لم تكن متوقعة ولم يكن هناك موعد للطيران هذه الليلة. كان في ذلك بالطبع مخالفة للقانون حتى بالنسبة لمطار صغير كهذا. كان فاش واثقاً أنه إذا ضغط عليه بشدة، فسوف يتمكن من الحصول على الإجابات التي كان يبحث عنها. "ملازم كوليه"، زمجر فاش وهو يتجه نحو الباب، "أنا مضطر لأن أتركك هنا مسؤولاً عن التحقيقات في الأدلة الجنائية. حاول أن تفعل شيئاً بطريقة صحيحة لمرة واحدة فقط". الفصل الواحد والسبعون عندما توازنت الطائرة في الجو وتوجهت نحو إنجلترا، رفع لانغدون الصندوق الخشبي من حضنه بحذر، حيث كان يحميه في أثناء الإقلاع. والآن وبينما كان يضع الصندوق على الطاولة، أحس بصوفي وتيبينغ ينحنيان إلى الأمام بحماس شديد. وعندما فك لانغدون قفل الغطاء ثم رفعه وفتح الصندوق، لم يركّز نظره على الأحرف الموجودة على الكريبتكس بل على الثقب الصغير في الجانب الداخلي لغطاء الصندوق. وقام بنزع الوردة المنزلة بعناية مستخدماً رأس قلم، فظهر النص الذي كان منقوشاً تحتها. تحت الوردة... فكر لانغدون، آملاً أنه بالنظر إليه من جديد ستوضح له معاني النص التي استعصت عليه سابقاً. فركز كل طاقاته وتفحص النص الغريب. وبعد مرور ثوانٍ عدة، بدأ يشعر بالإحباط الذي شعر به أول مرة رأى فيها النص. "لاي، يبدو أنني لم أتمكن من تحديد لغة النص". لم تتمكن صوفي بعد من رؤية النص حيث إنها كانت تجلس على الطرف الآخر من الطاولة، إلا أن عجز لانغدون عن التعرف على اللغة في الحال أصابها بدهشة. هل كان جدي يتكلم لغة شديدة الغموض لدرجة أن عالماً بالرموز لم يتمكن من التعرف عليها؟ لكنها أدركت بسرعة أنها يجب ألا تجد ذلك أمراً مفاجئاً. فلم يكن هذا أول سرّ يقوم جاك سونيير بإخفائه عن حفيدته. كان لاي تيبينغ جالساً مقابل صوفي يشعر كأنه يكاد ينفجر حماساً، ينتظر بلهفة فرصته ليلقي نظرة على النص، فانحنى قليلاً إلى الأمام محاولاً أن يقترب من لانغدون الذي كان ظهره لا يزال محنياً فوق الصندوق. "لا أعرف"، همس لانغدون. "كان تخميني الأول أنها لغة سامية لكنني لست واثقاً من ذلك الآن. فمعظم اللغات السامية الأولية تحتوي على حركات لكن هذا النص لا توجد فيه أي حركة". "ربما تكون هذه اللغة سامية قديمة؟" اقترح تيبينغ. "حركات؟" سألت صوفي. لم يرفع تيبينغ عينيه عن الصندوق أبداً. "معظم الأبجديات السامية الحديثة لا تحتوي على أحرف صوتية لكنها تستخدم حركات عوضاً عنها - وهي عبارة عن نقاط وشحطات صغيرة توضع تحت أو فوق الأحرف الساكنة - تدل على الحرف الصوتي الذي يرافقها. إلا أن هذه الحركات تعتبر إضافة حديثة نسبياً على اللغة من الناحية التاريخية". كان لانغدون لا يزال منكباً على النص. "ربما تكون... كتابات عبرية شرقية سفارديمية؟" لم يستطع تيبينغ أن ينتظر أكثر من ذلك. "ربما أعرف إذا..." وانحنى إلى الأمام وحرك الصندوق تدريجياً من أمام لانغدون ثم سحبه نحوه. لم يكن تيبينغ يشك في أن لانغدون كان على دراية باللغات القديمة الأساسية كاليونانية واللاتينية واللغات الرومانسية. لكن النظرة الخاطفة التي ألقاها تيبينغ على هذه اللغة، دفعته إلى الاعتقاد بأنها أكثر تخصصاً، قد تكون كتابة راشي أو ستام. أخذ تيبينغ نفساً عميقاً وتأمل النص الموجود أمامه. ولم ينطق بكلمة واحدة للحظات طويلة. ومع كل ثانية كانت تمر، كان يشعر بثقته تضمحل. "أنا مذهول فعلاً"، قال تيبينغ. "فهذه اللغة لا تشبه أي شيء رأيته في حياتي!". تراجع لانغدون في مقعده بيأس. "هل يمكنني أن أراها؟" سألت صوفي. تظاهر تيبينغ بأنه لم يسمعها. "روبرت، لقد قلت سابقاً إنك تظن أنك قد رأيت شيئاً يشبه هذا من قبل؟". بدت الحيرة بشكل واضح على لانغدون. نعم، ظننت ذلك. لكنني لست متأكداً. فالكتابة تبدو مألوفة نوعاً ما". "لاي؟" نادته صوفي بإلحاح، وقد بدا عليها الحنق منهما حيث أهملاها وتابعا الحديث. "هل يمكنني أن أطّلع على الصندوق الذي صنعه جدي؟". "بالطبع عزيزتي"، قال تيبينغ ودفع الصندوق نحوها. فهو لم يقصد أن يبدو وكأنه يستخف بها لكن صوفي كانت أصغر سناً وأقل خبرة بكثير منهما. فإذا لم يتمكن مؤرخ بريطاني ملكي وبروفيسور يدرّس علم الرموز في هارفرد من مجرد التعرف على اللغة -. "نعم..." قالت صوفي بعد لحظات من تفحص الصندوق. "كان لا بد أن أخمن ذلك". إستدار تيبينغ ولانغدون سوية محملقين فيها. "تخمني ماذا؟" سأل تيبينغ. ابتسمت صوفي. "أخمن أن هذه هي اللغة التي سوف يستخدمها جدي". "هل هذا يعني أنه بإمكانك قراءة هذا النص؟" صاح تيبينغ. "وببساطة شديدة"، تهكمت صوفي التي بدت مستمتعة جداً بما تفعله الآن. "لقد علّمني جدي هذه اللغة عندما كان عمري ست سنوات فقط. وأنا أجيدها تماماً". وانحنت إلى الأمام ورمقت تيبينغ بنظرة عتاب. "وبصراحة سيدي، ونظراً لولائك للتاج، فأنا متفاجئة بعض الشيء أنك لم تتعرف عليها". عندئذ عرف لانغدون الخدعة التي لمعت فجأة في رأسه. لا عجب أن النص يبدو مألوفاً للغاية! فمنذ عدة سنوات، كان لانغدون قد حضر معرضاً في متحف فوغ في هارفرد، عندما عاد بيل غيتس الذي ترك هارفرد قبل إكمال دراسته الجامعية، إلى جامعته القديمة ليقدّم إلى متحفها واحدة من أهم مقتنياته التي لا تقدر بثمن وهي عبارة عن ثماني عشرة ورقة اشتراها حديثاً في مزاد من قصر أرماند هامار. حيث كان سعره في المزايدة هو الأعلى 30.8 مليون دولار وكان كاتب تلك الصفحات ليوناردو دافنشي. وقد كانت تلك الأوراق الثماني عشرة - والتي يطلق عليها الآن مخطوطات ليوناردو لايسيستر تيمناً بمالكها الشهير إيرل لايسيستر - كانت كل ما تبقى من إحدى أهم وأروع مفكرة لليوناردو دافنشي والتي اشتملت على اختبارات ورسومات تبين نظريات دافنشي المتطورة حول علوم الفلك والجيولوجيا والآثار والهيدرولوجيا. لن ينسى لانغدون أبداً رد فعله بعد أن انتظر دوره ليتمكن أخيراً من رؤية المخطوط الذي لا يقدر بثمن. خيبة أمل عظيمة... فقد كانت الصفحات غير مقروءة على الإطلاق. فبالرغم من أن المخطوط كان محفوظاً بشكل جيد والنص مكتوب بخط أنيق - بالحبر الوردي على ورق أصفر شاحب - إلا أن الكلمات بدت وكأنها بربرة غير مفهومة. في البداية ظن لانغدون أنه لم يتمكن من قراءتها لأن دافنشي كتب مذكراته بلغة إيطالية قديمة. لكنه بعد أن تفحص المخطوط عن قرب، أدرك أنه لم يستطع التعرف على أي كلمة إيطالية أو حتى أي حرف منها. "جرب هذه سيدي"، همست المدرّسة التي كانت واقفة عند صندوق العرض الزجاجي. وأشارت إلى المرآة المثبتة بسلسلة في إطار الصندوق. التقطها لانغدون ورفعها إلى الأعلى وتفحص النص الذي انعكست صورته في المرآة. وظهر النص واضحاً في الحال. لقد كان لانغدون متلهفاً للتمعن في بعض أفكار المبدع العظيم لدرجة جعلته ينسى أن إحدى مواهب الرجل الفنية العديدة كانت قدرته على كتابة نص معكوس في المرآة لا يستطيع أحد أن يقرأه إلا هو. ولا زال المؤرخون حتى اليوم يتجادلون في ما إذا كان دافنشي قد كتب بهذه الطريقة لمجرد التسلية أم ليمنع الناس من اختلاس النظر من وراء كتفه وسرقة أفكاره. لكن كل هذا لا قيمة له، لأن دافنشي كان يفعل ما يحلو له ببساطة. ابتسمت صوفي بينها وبين نفسها عندما رأت أن روبرت فهم مقصدها. "يمكنني أن أقرأ الكلمات الأولى"، قالت صوفي. "إنها بالإنجليزية". كان تيبينغ لا زال يتلعثم. "ماذا يجري هنا؟". "النص مكتوب بالمقلوب"، قال لانغدون. "نحن بحاجة إلى مرآة". "كلا هذا ليس ضرورياً". قالت صوفي. "أنا واثقة أن هذه القشرة الخشبية تفي بالغرض". وحملت الصندوق عالياً وبدأت تفحص الجانب الداخلي للغطاء على ضوء مصباح معلق على الحائط. لم يكن جدها في الحقيقة يعرف أن يكتب بالمقلوب، لذا فقد كان دائماً يلجأ إلى الغش بالكتابة بشكل عادي ثم يقلب الورقة ويتتبع الأحرف ليكتب فوقها وكان تخمين صوفي هو أن جدها قام بنقش النص العادي بواسطة الحرق على قطعة خشب ثم نعّم قطعة الخشب تلك من الخلف بسنفرتها حتى أصبحت رقيقة كورقة وأصبح النص المحروق واضحاً بحيث أنه يمكن رؤيته من خلال الخشب، ثم قام ببسطة بقلب القطعة ونزّلها في غطاء الصندوق. وعندما قرّبت صوفي الغطاء إلى الضوء، اكتشفت أنها كانت على حق. فقد مرّ شعاع الضوء القوي من خلال طبقة الخشب الرقيقة وبدا النص في الجانب الداخلي للغطاء مقلوباً. فصار مقروءاً في الحال. "إنه مكتوب بالإنجليزية!"، قال تيبينغ بصوت خفيض وقد طأطأ رأسه خجلاً، "لغتي الأم". أما في القسم الخلفي من الطائرة، فقد كان ريمي لوغالوديك يحاول جاهداً أن يصيخ السمع لكن صوت المحركات المدوّي منعه من ذلك علاوة على أن الحديث في الأمام لم يكن مسموعاً. لم يكن ريمي مسروراً أبداً من تطور الأحداث هذه الليلة. ألقى نظرة على الراهب المقيد والمطروح أرضاً. كان الرجل مستلقياً بلا حراك، كما لو أنه في حالة استسلام، أو ربما كان يصلي بصمت من أجل الخلاص. الفصل الثاني والسبعون كانت الطائرة تحلق بعيداً عن الأرض بارتفاع خمسة عشر ألف قدم، وكذلك كان لانغدون بعيداً كل البعد عن الأرض وما فيها، حيث شعر أن العالم المادي يتلاشى شيئاً فشيئاً وأفكاره كلها تنصب على قصيدة سونيير المعكوسة والتي كانت تضيء من خلال غطاء الصندوق. عثرت صوفي بسرعة على ورقة ونسخت القصيدة عليها. وعندما انتهت من كتابتها تناوب الثلاثة على قراءة النص. كانت تبدو كلعبة كلمات متقاطعة أثرية... فقد كانت أحجية ترشد إلى طريقة فتح الكريبتكس. قرأ لانغدون القصيدة بعناية. كلمة من معارف الأقدمين ستحرر هذا المخطوط... وتساعدنا على لمّ شمل عائلتها بالشكل المضبوط... شاهد ضريح يبجله فرسان الهيكل هو المفتاح... ويضيء أتباش نور الحقيقة كشمس الصباح... قبل حتى أن يبدأ لانغدون بالتساؤل عن الكلمة السرّية التي كانت القصيدة تحاول كشفها، شعر بشيء ما يعتمل في داخله، ألا وهو البحر الذي نظمت على أساسه القصيدة. بحر العمبق1 الخماسي التفاعيل. لقد مرّ لانغدون بهذا البحر عدة مرات على مرّ السنين عندما كان يقوم بأبحاث حول الجمعيات والمنظمات السرّية في أوروبا، كانت آخرها السنة الماضية في أرشيف الفاتيكان السرّي. فقد كان بحر العمبق الخماسي التفعيلات هو الوزن الشعري المفضل لقرون طويلة لرجال الأدب البارزين حول العالم من الكاتب اليوناني القديم أرخيلوخوس إلى شكسبير وميلتون وتشوسّر وفولتير وكلهم كانوا أشخاصاً ذوي أرواح جريئة اختاروا كتابة تعليقاتهم الاجتماعية بوزن يعتقد الكثير من الباحثين اليوم بأنه ذو مزايا غامضة سحرية. حيث إن جذور بحر العمبق الخماسي التفعيلات وثنية حتى النخاع. عمبق.. مقطعان لكلمة تحمل في طياتها تضاداً في المعنى... الشد واللين.. الين واليانغ... الزوج المتوازن. والذي تحدده خطوط خمسة أساسية. الوزن الخماسي. خمسة ترمز إلى نجمة فينوس الخماسية والأنثى المقدسة. "إنه البحر الخماسي التفعيلات!" هتف تيبينغ والتفت نحو لانغدون. "والقصيدة مكتوبة بالإنجليزية! اللغة الصافية!". أومأ لانغدون. فقد كانت الأخوية، كالعديد من الجمعيات السرّية في أوروبة على خلاف مع الكنيسة، لذا كانت تنظر إلى الإنجليزية على أنها اللغة الصافية الوحيدة على مدى قرون طويلة. حيث إن الإنجليزية كانت منفصلة من الناحية اللغوية عن آلة الفاتيكان الإعلامية على عكس اللغة الفرنسية والإسبانية والإيطالية التي كانت كلها ذات جذور لاتينية أي لغة الفاتيكان. ولهذا السبب، أصبحت الإنجليزية اللغة السرّية المقدسة لتلك الجمعيات السرّية التي كانت على درجة من الثقافة لتتعلمها. "إن هذه القصيدة"، هتف تيبينغ بحماس، "لا تشير إلى الكأس المقدسة فحسب بل إلى فرسان الهيكل وعائلة مريم المجدلية المتناثرة الأشلاء أيضاً! ماذا يمكن أن نطلب أكثر من ذلك؟". "كلمة السرّ"، قالت صوفي وهي تنظر إلى القصيدة ثانية. "يبدو أننا بحاجة إلى كلمة ما من حكمة القدماء". "أبراكادابرا" تطوع تيبينغ وعيناه تلمعان. كلمة من خمسة أحرف... فكر لانغدون متأملاً العدد المهول من الكلمات القديمة التي قد تعتبر كلمات حكيمة - مختارات من الترانيم الغامضة، والنبوءات الفلكية، ومناصب الجمعيات السرّية، وتعويذات السحر والشعوذة، وأعمال السحر المصرية الغامضة وألفاظ الوثنيين من عبّاد الطبيعة، والقائمة لا تنتهي. "إن كلمة السر"، قالت صوفي، "تبدو أنها مرتبطة بفرسان الهيكل"، وقرأت النص بصوتٍ عالٍ. "شاهد ضريح يبجله فرسان الهيكل هو المفتاح". "لاي"، قال لانغدون، "أنت المختص في ما يتعلق بفرسان الهيكل. هل من أفكار؟". صمت تيبينغ عدة لحظات ثم تنهد. "إن شاهد الضريح في القصيدة هو من الواضح شاهد قبر أحد ما. من المحتمل أن القصيدة تشير إلى شاهد قبر قدسه فرسان الهيكل في ضريح المجدلية، لكن هذا لا يساعدنا كثيراً لأننا لا نعرف أين يقع قبرها". "لقد جاء في السطر الأخير"، قالت صوفي، "سيضيء أتباش نور الحقيقة. لقد سبق أن سمعت هذه الكلمة. أتباش". "هذا ليس بغريب"، رد لانغدون. "ربما تكونين قد سمعت بها في مادة علم الرموز 101، فشيفرة أتباش تعد واحدة من أقدم الشيفرات التي عرفها الإنسان". بالطبع! فكرت صوفي. نظام التشفير العبري الشهير. كانت شيفرة أتباش فعلاً قد احتلت جزءاً كبيراً من تدريباتها الأولى في علم تحليل الرموز. كان ذلك النظام يعود إلى العام 500 ق.م وأصبح يستخدم اليوم كمثال في قاعات الدراسة على نظام الاستبدال الدوراني. كان الأتباش شكلاً معروفاً في نظام التشفير اليهودي يعتمد ببساطة على الأبجدية العبرية التي تتألف من اثنين وعشرين حرفاً. حيث تقوم طريقة الأتباش على استبدال الحرف الأول بالحرف الأخير في الكلمة الواحدة ثم يستبدل الحرف الثاني بالحرف ما قبل الأخير وهكذا... "إن طريقة الأتباش مناسبة تماماً في هذه الحالة هنا"، قال تيبينغ. "والنصوص التي استخدمت في تشفيرها طريقة أتباش عديدة. وتوجد في الكابالا – التعاليم السرّية في اليهودية - وفي مخطوطات البحر الميت وحتى في التوراة. ولا زال الباحثون والمتصوفة اليهود يكتشفون معانيَ خفية باستخدام طريقة أتباش إلى يومنا هذا. ومن المؤكد أن الأخوية قد استخدمت هذه الطريقة كجزء من تعاليمها". "إلا أن المشكلة الوحيدة"، قال لانغدون، "هو أنه ليس لدينا أي شيء نطبق عليه هذه الشيفرة". تنهد تيبينغ. "لا بد أن تكون هناك كلمة سرّ على الشاهد. يجب أن نعثر على ذلك الشاهد الذي يبجله فرسان الهيكل". أحست صوفي من التجهم الذي بدا على وجه لانغدون أن العثور على شاهد فرسان الهيكل لن يكون عملاً سهلاً. أتباش هو المفتاح، فكرت صوفي. لكن ليس لدينا باب. بعد ثلاث دقائق تنهد تيبينغ بيأس وهز رأسه. "صديقيّ العزيزين.. لقد أصبت بالإحباط. دعاني أفكر قليلاً بينما أقوم بإحضار لقمة لنأكلها وأتفقد ريمي وضيفنا في المؤخرة". ثم وقف واتجه إلى مؤخرة الطائرة. شعرت صوفي بالتعب وهي تشاهده يرحل. خارج النافذة، كانت عتمة ما قبل بزوغ الفجر حالكة السواد. شعرت صوفي أنها قد قذفت في الفضاء دون أن تعرف أين سينتهي بها المطاف. وبما أنها قد شبّت على حل أحجيات جدها، فقد تولد لديها الآن إحساس غريب بأن هذه القصيدة تحتوي على معلومات لم يتمكنوا من رؤيتها بعد. هناك المزيد، قالت في نفسها. شيء تم إخفاؤه بدهاء... لكنه موجود حتماً. ومما كان يزيد في حنقها أنها كانت تخشى من أن ما قد يجدونه داخل الكريبتكس قد لا يكون ببساطة خريطة للكأس المقدسة. فبالرغم من ثقة لانغدون وتيبينغ العمياء من أن الحقيقة تكمن داخل الأسطوانة الرخامية، إلا أن خبرة صوفي في حل أحجيات جدها علمتها أن جاك سونيير لا يكشف أسراره بهذه البساطة. الفصل الثالث والسبعون كان مراقب حركة الطائرات في المناوبة الليلية في مطار لوبورجيه، جالساً أمام شاشة رادار خالية يغالبه النعاس عندما اقتحم النقيب في الشرطة القضائية المكان. "طائرة تيبينغ"، انفجر فاش في وجهه، وتقدم إلى الأمام داخلاً إلى البرج الصغير. "إلى أين اتجهت؟". كان أول رد للمراقب ثرثرة غير مفهومة وذلك كمحاولة يائسة قام بها حفاظاً منه على خصوصية زبونهم البريطاني الذي كان أكثر زبون محترم في مطار لوبورجيه. إلا أن تلك المحاولة باءت بالفشل الذريع. "حسناً"، قال فاش، "سأقوم باعتقالك الآن لأنك أعطيت الإذن بالمغادرة لطائرة خاصة دون تسجيل مسبق لموعد الطيران"، أشار فاش لضابط آخر فاقترب والأصفاد بيده. فشعر المراقب بموجة من الرعب تسري في جسده. وفكر بكل تلك المقالات في الصحف المحلية التي كانت تجادل في ما إذا كان هذا النقيب بطلاً للأمة أم خطراً يتهددها. لقد حصل الآن على إجابة لهذا السؤال. "انتظر لحظة!" سمع المراقب نفسه وهو يئن لرؤية تلك الأصفاد. "يمكنني أن أخبرك بهذا القدر. إن السير لاي تيبينغ يقوم برحلات متكررة إلى لندن للعلاج. وهو ينزل في مطار بيغين هيل لرجال الأعمال في كنت بالقرب من لندن". أشار فاش إلى الرجل الذي يحمل الأصفاد بالانصراف. "وهل كان الليلة متجهاً نحو بيغين هيل؟". "لا أعرف"، قال المراقب بصدق. "فقد غادرت الطائرة سالكة الطريق المعتادة، وكانت آخر إشارة من الرادار تشير إلى أن وجهتها كانت المملكة المتحدة. وبيغين هيل هو احتمال قوي". "هل كان هناك آخرون على متن الطائرة؟". "أقسم لك سيدي أنه لا يمكنني أن أكون على علم بذلك. فزبائننا يمكنهم أن يذهبوا مباشرة إلى طائراتهم ويصعدون إليها كما يشاؤون. أما من يكون على متن الطائرة، فهذه مسؤولية ضباط المطار في البلد الذي يذهبون إليه". نظر فاش في ساعته ونظر إلى الخارج حيث كانت الطائرات النفاثة مبعثرة أمام مواقفها. "إذا كانوا متجهين نحو بيغين هيل، كم يلزمهم من الوقت ليكونوا هناك؟" راجع المراقب سجلاته بسرعة. "إنها رحلة قصيرة، قد تكون طائرته على الأرض في الساعة... في حوالى الساعة السادسة والنصف. أي بعد خمس عشرة دقيقة من الآن". قطب فاش جبينه والتفت إلى أحد رجاله. "حضروا لي طائرة بسرعة. فأنا سأسافر إلى لندن. واتصلوا بشرطة كنت المحلية. ولا تطلبوا قوات M15 البريطانية. فأنا أريد أن تتم العملية بهدوء. أخبروهم بأنني أريدهم أن يعطوا طائرة تيبينغ الإذن بالهبوط. ثم أريدهم أن يطوقوا الطائرة عند الممشى. لا أحد يغادر الطائرة حتى أكون هناك". الفصل الرابع والسبعون "لم هدأت فجأة؟" سأل لانغدون، وهو ينظر إلى صوفي التي كانت في الجانب الآخر من المقصورة. "أنا تعبة فقط"، أجابته. "والقصيدة.. لا أعلم". كان لانغدون يشعر بنفس الإحساس. فقد كان لصوت المحركات واهتزاز الطائرة تأثير منوم، كما أن رأسه لا زال يدور من أثر الضربة التي تلقاها من الراهب. كان تيبينغ لا يزال في مؤخرة الطائرة، فأراد لانغدون أن يستغل فترة غيابه وبقائه وحيداً مع صوفي ليخبرها بشيء كان يفكر فيه. "أظن أنني أعرف جزءاً من السبب الذي دفع جدك لأن يجمعنا سوية. أعتقد أنه أرادني أن أفسر لك شيئاً". "ألم يكن تاريخ الكأس المقدسة ومريم المجدلية كافياً؟ أهناك أمر آخر بعد؟". لم يعرف لانغدون كيف سيتابع حديثه. "شيء يتعلق بالشقاق الذي كان بينكما. السبب الذي دفعك لمقاطعته لعشر سنوات. إنه كان يأمل بأن أتمكن بطريقة ما أن أصلح ذلك بأن أفسر لك الحادثة التي أدت إلى هذا الصدع العميق الذي فرق بينكما". ارتبكت صوفي فأخذت تتحرك بضيق في مقعدها. "لكنني لم أخبرك عن السبب الذي أدى إلى تلك القطيعة". نظر لانغدون إليها بحذر. "لقد شهدت طقساً جنسياً، أليس كذلك؟". تراجعت صوفي بذهول. "وكيف عرفت ذلك؟". "صوفي، لقد قلت لي إنك شهدت شيئاً جعلك توقنين بأن جدك كان عضواً في جمعية سرية. ومهما كان ذلك الذي رأيته، فلا بد أنه أثر فيك لدرجة أنه دفعك لمقاطعة جدك منذ ذلك اليوم. وبما أنني أعرف الكثير عن الجمعيات السرّية، فلست بحاجة لأكون بذكاء دافنشي لأخمن ما رأيته". حدقت صوفي بشرود. "هل كان ذلك في الربيع؟" سألها لانغدون. "وقت الاعتدال الربيعيّ؟ في منتصف شهر مارس؟". نظرت صوفي من النافذة إلى الخارج. "لقد كان ذلك في عطلة الربيع، عندما عدت إلى المنزل من الجامعة قبل عدة أيام من موعد قدومي". "هل تريدين أن تحدثيني عما جرى آنذاك؟". "أفضل ألا أفعل". والتفتت فجأة نحو لانغدون وعيناها تفيضان انفعالاً. "لا أعرف ماذا رأيت". "هل كان هناك نساء ورجال؟". ترددت صوفي للحظة ثم أومأت برأسها. "هل كانوا يرتدون ثياباً سوداء وبيضاء اللون؟". مسحت صوفي عينيها ثم أومأت وقد بدت وكأنها ارتاحت بعض الشيء وأصبحت مستعدة للبوح بمكنونات نفسها. "كانت النساء يرتدين أثواباً رقيقة بيضاء... وأحذية ذهبية. وكنّ يحملن كرات ذهبية. أما الرجال فكانوا يرتدون أثواباً طويلة سوداء مشدودة بحزام عند الخصر... وأحذية سوداء". حاول لانغدون أن يكبح جماح انفعالاته وحماسه، إلا أنه لم يستطع أن يصدق أذنيه. فقد شهدت صوفي نوفو دون قصد منها احتفالاً دينياً يقام مرة كل ألفي عام. "هل كانوا يضعون أقنعة؟" سألها لانغدون وهو يحاول أن يبقي صوته منخفضاً. "أقنعة واحدة للذكور والإناث؟". "نعم. كان الجميع يضعون نفس الأقنعة على وجوههم، لكن أقنعة النساء كانت بيضاء وأقنعة الرجال سوداء". كان لانغدون قد قرأ عما يحدث في ذلك الاحتفال وفهم تماماً جذوره الدينية السحرية. "إنه يدعى ييروس غاموس". قال بلطف. "ويعود هذا الطقس الاحتفالي إلى أكثر من ألفي سنة خلت. وكان الكاهنات والكهنة المصريون يؤدونه بانتظام للاحتفال بخصوبة الأنثى المتجددة". صمت لانغدون قليلاً وانحنى نحوها. "وإذا شهدت هذا الطقس دون أن تكوني مستعدة لذلك تماماً ودون أن تفهمي معناه، فباعتقادي أنه قد يسبب لك صدمة عنيفة". لم تنبس صوفي ببنت شفة.. "إن ييروس غاموس هو المصطلح الإغريقي الذي يعني الزواج المقدس". "إن ما شاهدته لم يكن زواجاً". "الزواج بمعنى الاتحاد، صوفي". "أنت تقصد بمعنى الجنس". "كلا". "كلا؟"، قالت صوفي وفي عينيها تحدّ. تراجع لانغدون. "حسناً... نعم، بطريقة ما، ولكن ليس كما نفهمه اليوم". فسر لها أنه وبالرغم أن ما رأته قد يكون طقساً جنسياً، إلا أن الييروس غاموس لم يكن مرتبطاً نهائياً بالشهوة الجنسية. فقد كان فعلاً دينياً وروحانياً بحتاً. فقد كان الاتصال الجنسي قديماً هو الفعل الذي يتقرب من خلاله الذكر والأنثى إلى الرب. وقد اعتقد الأقدمون أن الذكر يكون ناقصاً دينياً حتى يحصل على المعرفة الجنسية من الأنثى المقدسة. لذا فقد ظلَّ الاتحاد الجسدي مع الأنثى هو الوسيلة الوحيدة التي يكتمل الذكر بواسطتها دينياً ويتوصل إلى المعرفة الروحية المطلقة أو معرفة الرب. ومنذ عهد إبزيس، كانت الطقوس الجنسية تعد الجسر الوحيد الذي ينقل الإنسان من الأرض إلى الجنة. "وذلك عن طريق الاتحاد مع المرأة"، قال لانغدون. "فالإنسان يمكنه أن يتوصل إلى لحظة يمحى فيها كل شيء في دماغه وعندها فقط يتمكن من رؤية الرب". بدت صوفي مشككة. "هل تعني أن بلوغ النشوة الجنسية هو بمثابة تأدية الصلاة؟". هز لانغدون كتفيه، فبالرغم من أن صوفي كانت على حق من حيث المبدأ. إلا أنه من الناحية الفيزيولوجية، تترافق النشوة الجنسية عند الذكر بحالة فراغ ذهني كامل تستمر لجزء من الثانية. وهي لحظة صفاء ذهني مطلق يمكن أن يلمح الرب أثناءها. وقد تمكن معلمو التأمل من الوصول إلى حالات مماثلة من الفراغ الذهني الكامل دون ممارسة الجنس. وقد وصفوا النيرفانا على أنها نشوة روحية لا تنتهي. "صوفي"، قال لانغدون بهدوء، "عليك أن تتذكري دائماً أن نظرة القدماء إلى الجنس كانت مختلفة تماماً عن نظرتنا له اليوم. فالجنس يؤدي إلى خلق حياة جديدة وهي المعجزة الأعظم على الإطلاق ولا تصنع المعجزات إلا على يد رب فقط. لذا فإن قدرة المرأة على أن تأتي بحياة جديدة من رحمها جعلتها آلهة مقدسة. والممارسة الجنسية كانت الاتحاد المقدس بين نصفي الروح الإنسانية –الذكر والأنثى - والذي يتمكن الذكر من خلاله أن يتوصل إلى الكمال الروحي والاتحاد مع الرب. فالطقس الذي رأيته لم يكن يدور حول الجنس بل كان طقساً روحانياً ودينياً بحتاً. فالييروس غاموس ليس شكلاً من أشكال الانحراف الجنسي، بل هو احتفال مقدس إلى أبعد حد". بدت كلماته كأنها تضرب على الوتر الحساس. فقد كانت صوفي متماسكة طوال الليل بشكل ملفت، إلا أن لانغدون رأى الآن وللمرة الأولى، هالة الاتزان التي كانت تحيط صوفي نفسها بها وقد بدأت تختفي. واغرورقت عيناها بالدموع ثانية فمسحتها بكمها. صمت لانغدون للحظة... فقد كان يعترف بأن فكرة الجنس كوسيلة للتقرب من الرب كانت فكرة مرعبة ومثيرة للاشمئزاز في البداية. تذكر لانغدون طلابه اليهود الذين صعقوا عندما قال لهم أول مرة أن التقاليد اليهودية الأولى كانت تتضمن ممارسة الجنس كطقس تعبدي. حتى أن ذلك كان يتم في المعبد! حيث إن اليهود الأقدمين كانوا يؤمنون أن قدس الأقداس في هيكل سليمان لم يكن بيت الرب فحسب، بل كان بيت الربة شيكينا أيضاً. لذا فقد كان الرجال الباحثون عن الكمال الروحي يأتون إلى المعبد ليزوروا الكاهنات أو خادمات الهيكل ويمارسوا معهن الجنس للتواصل مع الرب من خلال الاتحاد الجسدي. والاسم المقدس للرب عند اليهود والذي يتألف من أربعة أحرف "يهوه" YHWH أو بالإنجليزية Jehovah هو الاتحاد الجسدي بين المذكر ياه Jah والاسم العبري القديم لحواء Havah. "بالنسبة إلى الكنيسة القديمة"، قال لانغدون مفسراً بنبرة لطيفة، "كانت فكرة ممارسة الإنسان للجنس كطريقة مباشرة للتواصل مع الرب، تشكل خطراً يتهدد قاعدة السلطة الكاثوليكية، بحيث أن ذلك يقلل من أهمية الكنيسة التي نصبت نفسها الطريق الوحيدة المؤدية إلى الرب. ولتلك الأسباب الواضحة، عملت الكنيسة جاهدة على تحقير الجنس وجعله عملاً شيطانياً وخطيئة مقرفة. وحذت أديان رئيسية أخرى حذوها". كانت صوفي صامتة، لكن لانغدون شعر بأنها قد بدأت تفهم جدها بطريقة أفضل. والطريف في الأمر هو أن لانغدون كان قد أثار هذه النقطة بالذات في محاضرة ألقاها في الفصل الماضي. "ألا تجدون خلافنا في الرأي حول موضوع الجنس أمراً غريباً؟" سأل تلاميذه. "فإرثنا الحضاري القديم وفلسفاتنا تقول لنا إن الجنس هو أمر طبيعي وطريق مقدسة تقود إلى السعادة الروحية المطلقة، وبالرغم من هذا كله، يصفه الدين حديثاً بأنه مخز وحقير بحيث يعلمنا أن نخاف من رغباتنا الجنسية على أنها يد الشيطان التي تريد البطش بنا". عندها قرر لانغدون ألا يصدم تلاميذه بحقيقة أنه كان هناك أكثر من اثنتي عشرة جمعية سرية في العالم، ويتمتع أكثرها بنفوذ واسع، لا زالت تمارس طقوس الجنس المقدس لتبقي على هذا التقليد القديم حياً. وقد اكتشفت الشخصية التي لعبها توم كروز في فيلم عيون محدّقة مغمضة، تلك الحقيقة بعد أن مرّ بتجربة صعبة وذلك عندما تسلل إلى اجتماع لنخبة من سكان مانهاتن ووجد نفسه يشهد طقس ييروس غاموس. وبالرغم من أن منتجي الفيلم أظهروا معظم التفاصيل بطريقة مغلوطة، إلا أن الفكرة الأساسية كانت موجودة في الفيلم الذي صور جمعية سرّية يلتقي أعضاؤها للاحتفال بسحر الاتحاد الجنسي. "أستاذ لانغدون؟" رفع أحد الطلاب يده وهو يبدو متفائلاً. "هل تقول إننا يجب أن نمارس الجنس أكثر بدلاً من الذهاب إلى الكنيسة؟". ضحك لانغدون الذي لم يكن ليأكل الطعم ويجيب على سؤال ملغوم كهذا. فما سمعه عن الحفلات التي كانت تقام هنا في هارفرد، جعله على علم بأن هؤلاء الشباب كانوا يمارسون الجنس إلى حدّ المغالاة. "أيها السادة"، قال لانغدون وقد عرف أنه كان في أرض خطرة، "أود أن أقدم اقتراحاً موجهاً إلى الجميع هنا. دون أن أكون وقحاً وأشجع ممارسة الجنس قبل الزواج ولا أن أكون ساذجاً ليتبادر إلى ذهني بأنكم ملائكة طاهرة. سأقدم لكم هذه النصيحة البسيطة بخصوص حياتكم الجنسية". تقدم كل الرجال من الحضور إلى الأمام وأصاخوا السمع باهتمام بالغ. "عندما ستكونون مع امرأة بعد هذه المحاضرة، ابحثوا في قلوبكم وحاولوا أن تروا إذا لم تستطيعوا أن تنظروا للجنس على أنه طقس صوفي وروحاني. تحدوا أنفسكم وحاولوا أن تجدوا ذلك الكمال المقدس الذي لا يمكن للرجل أن يبلغه إلا من خلال الاتحاد مع الأنثى المقدسة". ابتسمت النساء في القاعة ابتسامة ذات معنى وأومأن موافقات على كلامه.. أما الرجال فتبادلوا النكات والضحكات الخبيثة. تنهد لانغدون... يا لرجال الجامعات.. ليسوا إلا أطفالاً صغار العقول. كان جبين صوفي بارداً فقد ألصقته بنافذة الطائرة وأخذت تحدق بشرود في الفراغ، محاولة استيعاب ما أخبرها به لانغدون للتو. وشعرت بندم عميق يعذب روحها. عشر سنوات. راحت تستعيد في ذاكرتها أكوام الرسائل التي أرسلها لها جدها والتي لم تكلف نفسها حتى عناء فتحها. سوف أخبر روبرت كل شيء. وبدأت صوفي تتكلم بهدوء وخوف دون أن تزيح نظرها عن النافذة. وعندما بدأت تروي ما حدث في تلك الليلة، شعرت بأنها قد عادت كلياً إلى الماضي... عندما ترجلت من سيارتها في الغابة خارج قصر جدها في نورماندي... وفتشت المنزل الخالي بارتباك وحيرة... ثم سمعت أصواتاً تصدر من تحتها... وعندما وجدت الباب السرّي، فتحته ونزلت السلم الحجري درجة درجة لتجد نفسها في قبو محفور في الصخر وقد عششت في أنفها رائحته الترابية الرطبة. كان ذلك في شهر مارس.. راحت تراقب أولئك الغرباء، من مخبئها المظلم على الدرج الحجري، وهم يتمايلون وينشدون ترانيم على ضوء الشموع البرتقالية الخافقة. أنا في حلم... قالت صوفي في نفسها. لا بد أن هذا حلم... فما عساه يكون غير ذلك؟ كان الرجال والنساء مصطفين كأحجار الشطرنج، أبيض ثم أسود ثم أبيض وهكذا.. وقد تماوجت أثواب النساء الجميلة البيضاء الشفافة عندما رفعن الكرات الذهبية باليد اليمنى وهتفن بصوت واحد: "كنت معك منذ البداية، عند بزوغ فجر كل ما هو مقدس وحملتك في رحمي قبل بداية الزمن". أخفضت النساء كراتهن وبدأ الجميع بالانحناء إلى الأمام ثم إلى الخلف كما لو أنهم في حالة نشوة لا يشعرون بما حولهم. كانوا ينحنون احتراماً لشيء ما في مركز الدائرة. ما الذي كانوا ينظرون إليه؟ تسارعت الأصوات الآن. وأصبحت أعلى.. وأسرع. "إن المرأة التي تنظر إليها الآن هي الحب!" هتفت النساء ورفعن كراتهن الذهبية من جديد. رد الرجال، "إن مسكنها في الزمان الأبدي!". عادوا إلى الإنشاد الذي أصبح مستمراً مرة أخرى. وتسارعت وتيرته. وارتفعت الأصوات الآن وصارت مدوية كهزيم الرعد. عندها تقدم المشاركون خطوة إلى الأمام وركعوا. وفي تلك اللحظة فقط تمكنت صوفي أخيراً من رؤية ما الذي كان الجميع يشاهدونه. في مركز الدائرة، كان هناك رجل على مذبح وطيء مزخرف. كان ذلك الرجل عارياً ومستلقياً على ظهره وقد وضع قناعاً أسود على وجهه. عرفت صوفي ذلك الجسد في الحال والوحمة التي كانت على كتفه أيضاً. كانت على وشك أن تصرخ بأعلى صوتها منادية جدي! كانت تلك الصورة وحدها كفيلة بأن تسبب صدمة عنيفة لصوفي، إلا أنه كان هناك المزيد... كان جدها مفرشخاً رجليه وفوقه امرأة عارية تضع قناعاً أبيض وشعرها الفضي الكثيف يتهدل مسترسلاً من وراء القناع. كانت تلك المرأة ممتلئة ذات جسد مترهّل وكانت تتحرك فوق جد صوفي بشكل رتيب متناغم مع الإنشاد. أرادت صوفي أن تشيح بوجهها وتركض هرباً من هذا المكان، إلا أنها لم تستطع. فقد كانت جدران الكهف الحجرية تضيق عليها الخناق وتحبسها بينما أخذت الأصوات ترتفع شيئاً فشيئاً حتى أصبحت تدوي بعنف محموم. بدا المشاركون المتحلقون حول جدها وكأنهم يغنون الآن، وارتفع الصوت تدريجياً واتخذ شكل نوبة هستيرية. وفجأة أطلق الجميع صرخة مدوية في وقت واحد وكأنهم قد أصيبوا بهزة الجماع. أما صوفي فلم تستطع أن تأخذ نفساً. وتنبهت فجأة أنها كانت تنشج بالبكاء دون أن تشعر بذلك. عندئذ استدارت وصعدت الدرج بصمت ورجلاها لا تقويان على حملها، وغادرت المنزل، وقادت سيارتها وهي ترتعش عائدة إلى باريس. الفصل الخامس والسبعون كانت الطائرة النفاثة قد عبرت للتو فوق أضواء موناكو المتلألئة عندما قطع أرينغاروزا اتصاله مع فاش للمرة الثانية. مد يده ليأخذ الكيس فقد أصيب بدوار الجو لكنه لم يقوَ حتى على التقيؤ. فقط قم بإنهاء هذا الأمر! بدت آخر الأخبار التي نقلها له فاش غامضة لا تفسير لها. لكن أحداث هذه الليلة كلها لم تعد منطقية على الإطلاق. ما الذي يجري؟ لقد خرج كل شيء عن السيطرة كدوامة عصفت ودمرت كل شيء في طريقها. ما الذي ورطت سيلاس فيه؟ وما الذي ورطت نفسي فيه! مشى أرينغاروزا نحو غرفة القيادة برجلين مرتعشتين. "يجب أن نغير وجهتنا". التفت الطيار نحوه وضحك. "أنت تمزح، أليس كذلك؟". "كلا، يجب أن أذهب إلى لندن فوراً". "هذه طائرة أيها الأب وليست سيارة أجرة". "سأدفع لك مبلغاً إضافياً بالطبع. كم تريد؟ إن لندن لا تبعد إلا ساعة فقط باتجاه الشمال، ولا تتطلب إلا تغييراً طفيفاً بالاتجاه، لذا -". "إن الأمر لا يتعلق بالمال، فهناك أمور أخرى". "عشرة آلاف يورو. وأدفعها لك الآن". التفت الطيار نحوه وقد توسعت عيناه من هول الصدمة. "ماذا قلت؟ كم؟ أي كاهن أنت لتحمل مبلغاً كهذا؟". عاد أرينغاروزا إلى مكانه وأحضر محفظته السوداء وفتحها وأخرج منها سنداً لحامله، وأعطاه للطيار. "ما هذا؟" سأله الطيار. "إنه سند لحامله بقيمة عشرة آلاف يورو مسحوب على بنك الفاتيكان". بدا الطيار وكأنه يشك في كلام الكاهن. "إنه كالمال تماماً". "المال هو مال فقط". قال الطيار وأعاد له السند. شعر أرينغاروزا بأنه سيقع في أية لحظة فاستند إلى باب ركن الطيار. "إنها مسألة حياة أو موت. يجب أن تساعدني أنا بحاجة ماسة للذهاب إلى لندن". دقق الطيار النظر في خاتم أرينغاروزا الذهبي. "هل هذه ماسات حقيقية؟". نظر أرينغاروزا إلى الخاتم. "لا يمكنني أن أخلع هذا الخاتم أبداً". هز الطيار كتفيه والتفت وراح يحدق في ما وراء الحاجب الزجاجي. أحس أرينغاروزا بحزن عميق. نظر إلى الخاتم. كان كل ما يمثله هذا الخاتم على وشك أن يضيع على أية حال. وبعد لحظات طويلة، نزع الخاتم من إصبعه ووضعه بلطف على لوحة القيادة. خرج أرينغاروزا بصمت من ركن الطيار وعاد إلى مكانه. وبعد مرور خمس عشرة ثانية، أحس أرينغروزا أن الطيار قد أمال اتجاه الطائرة بضع درجات نحو الشمال. وبالرغم من ذلك، فقد شعر أن لحظة انتصاره قد ذهبت أدراج الرياح. لقد بدأت القضية على أساس أنها قضية مقدسة، ذات مخطط رسم بذكاء خارق. أما الآن فقد أخذت تنهار كبيت من ورق اللعب... ولم تكن النهاية واضحة في الأفق. الفصل السادس والسبعون رأى لانغدون أن صوفي لا زالت متأثرة إلى حدٍّ كبير بعد أن روت له تفاصيل تجربتها المؤلمة مع ييروس غاموس. أما هو فقد كان مذهولاً لسماع تلك القصة. فصوفي لم تشهد فقط الطقس الديني بتفاصيله الدقيقة، بل كان جدها هو الذي يحتفل به... المعلم الأكبر لأخوية سيون. يا لها من مجموعة مميزة.. دافنشي، وبوتيشلّي، وإسحق نيوتن، وفيكتور هوجو، وجان كوكتو و... جاك سونيير. "لا أعرف ما الذي يمكنني أن أقوله لك بعد". قال لانغدون بلطف. كان لون عيني صوفي أخضر غامقاً الآن وقد اغرورقتا بالدموع. "لقد رباني كما لو كنت ابنته". عرف لانغدون الآن تلك العاطفة التي كانت تبدو واضحة في عينيها بينما كانا يتحدثان. لقد كانت تشعر بتأنيب الضمير. كان شعوراً مختلفاً وعميقاً. لقد أقصت صوفي نوفو جدها عن حياتها لكنها الآن أصبحت تراه من زاوية مختلفة تماماً. وفي الخارج، كان الفجر يبزغ بسرعة في الأفق، وكانت هالته الوردية تظهر من ميمنة الطائرة. وكان الليل لا يزال يلف الأرض تحتهم بظلام حالك. عاد تيبينغ بروح مرحة. "صديقيّ العزيزين.. ما رأيكما ببعض المؤونة؟" قال تيبينغ مازحاً وهو يلوح ببعض علب كوكاكولا ومعها علبة تحتوي على بسكويت قديم. واعتذر منهما بشدة لعدم توفر الطعام والشراب المناسب وهو يقدم لهما البسكويت والشراب. "إن صديقنا الراهب لم يتكلم بعد"، قال تيبينغ بنبرة عالية. "لكنه سيفعل مع مرور الوقت". وقضم بسكويتة وأخذ يتمعن القصيدة. "ها يا آنستي الجميلة، هل من جديد؟" نظر إلى صوفي. "ما الذي يحاول جدك أن يقوله لنا هنا؟ أين هو شاهد الضريح هذا؟ هذا الشاهد الذي يبجله فرسان الهيكل؟". هزت صوفي رأسها وظلت صامتة. بينما عاد تيبينغ إلى استغراقه في قراءة القصيدة، فتح لانغدون علبة كوكاكولا وأدار وجهه نحو النافذة، تسيطر على أفكاره صور لطقوس سرية وشيفرات لم تحل بعد. شاهد ضريح يبجله فرسان الهيكل هو المفتاح... أخذ رشفة من العلبة. شاهد ضريح يبجله فرسان الهيكل. كان الشراب ساخناً. بدا ستار الليل الثقيل وكأنه ينزاح بسرعة، وعندما كان لانغدون يراقب انقلاب الليل إلى نهار، رأى المحيط بمياهه البراقة يمتد تحتهم. القناة الإنجليزية. لقد اقتربوا الآن من الوصول إلى وجهتهم. أمل لانغدون أن يأتي نور الصباح بشكل آخر من الاستنارة، إلا أنه كان يزداد بعداً عن الحقيقة مع كل شعاع من النور يضيء في السماء. كان يسمع إيقاعات الوزن الخماسي التفعيلات، والإنشاد، والييروس غاموس، والطقوس السرّية يتردد صداها مع ضجة محرك الطائرة. "شاهد ضريح يبجله فرسان الهيكل". كانت الطائرة تحلق فوق اليابسة من جديد عندما لمعت في رأسه فكرة. وضع لانغدون علبة الكوكاكولا الفارغة جانباً. "لن تصدقا هذا"، قال ذلك والتفت نحوهما. "شاهد الضريح... لقد فهمت الأمر". نظر تيبينغ إلى الصحن أمامه. "هل تعرف أين هو شاهد الضريح؟". ابتسم لانغدون. "لا أعرف أين هو بل ما هو؟". انحنت صوفي إلى الأمام لتتمكن من سماع ما يقول. "أعتقد أن كلمة Headstone أو شاهد الضريح تشير إلى رأس حجري بالمعنى الحرفي"، فسر لانغدون فكرته وهو يتمتع بحلاوة الحماس المألوف لاكتشافه الأكاديمي. "لا إلى شاهد قبر". "رأساً حجرياً؟" سأل تيبينغ. بدت صوفي وكأن الأمور قد اختلطت عليها مثل تيبينغ تماماً. "لاي"، قال لانغدون، ملتفتاً نحوهما، "في أثناء محاكم التفتيش، ألصقت الكنيسة بفرسان الهيكل تهماً بمختلف أشكال الهرطقة، أليس كذلك؟". "هذا صحيح، فقد لفقت لهم كل أنواع الجرائم من اللواط، إلى التبول على الصليب، وعبادة الشيطان، والقائمة تطول". "وقد اشتملت تلك القائمة أيضاً على تهمة عبادة آلهة زائفة، أليس كذلك؟ وقد اتهمت الكنيسة فرسان الهيكل على وجه الخصوص بتأدية طقوس اشتملت على عبادة رأس حجري منحوت والصلاة له... الإله الوثني -". "بافوميت!"هتف تيبينغ. "يا إلهي، روبرت أنت على حق! رأس حجري يبجله فرسان الهيكل!". فسر لانغدون لصوفي بسرعة أن بافوميت كان إله الخصوبة الذي يمتلك القدرة الخلاقة على الإنجاب. وكان هذا الإله يتمثل بشكل رأس خروف أو معزاة وهو رمز للخصوبة والإنجاب. كان فرسان الهيكل يتحلقون حول ذلك الرأس الحجري ويرتلون صلوات خاصة. "بافوميت"، أطلق تيبينغ ضحكة خافتة. "كان ذلك الطقس يبجل السحر الخلاق للاتحاد الجنسي، لكن البابا كليمانت أقنع الجميع بأن رأس بافوميت كان في الحقيقة رأس الشيطان. لقد استخدم البابا رأس بافوميت أساساً في قضيته ضد فرسان الهيكل". وافقه لانغدون الرأي. فالاعتقاد المعاصر الذي يقول إن الشيطان ذا القرون المعروف باسم إبليس، يمكن تتبع أصوله إلى بافوميت ومحاولات الكنيسة تغيير صورة إله الخصوبة ذي القرنين وتحويلها إلى رمز للشر. من الواضح أن الكنيسة قد نجحت في ذلك، لكن نجاحها لم يكتمل. فموائد عيد الشكر الأمريكية التقليدية لا زالت تحمل رموز خصوبة وثنية ذات قرون. فالوعاء ذو الشكل القرني أو ما يسمى بقرن الخصب كان تحية إجلال لخصوبة بافوميت ويعود أصله إلى زيوس الذي أرضعته المعزاة التي انكسر قرنها وامتلأ بأعجوبة بالفواكه الشهية. كما أن بافوميت يعود ليظهر في الصور التذكارية عندما يقوم أحدهم مازحاً برفع إصبعيه وراء رأس صديقه بشكل حرف V رمز القرنين. ومن المؤكد أن معظم أولئك المازحين لا يعرفون أن حركتهم الساخرة هذه كانت في الحقيقة تدلّ على خصوبة الشخص الذي يمزحون معه. "نعم، نعم"، كان تيبينغ يقول بحماس. "لا بد أن بافوميت هو الذي تشير إليه القصيدة. رأس حجري يبجله فرسان الهيكل". "حسناً"، قالت صوفي، "لكن إذا كان بافوميت هو الرأس الحجري الذي يبجله فرسان الهيكل، فستكون هناك مشكلة أخرى". أشارت إلى الأحرف على الكريبتكس. "إن كلمة بافوميت تتألف من ثمانية أحرف. ونحن بحاجة إلى خمسة أحرف فقط". ابتسم تيبينغ ابتسامة عريضة. "عزيزتي، هنا تبدأ شيفرة أتباش بلعب دورها". الفصل السابع والسبعون نظر لانغدون بإعجاب إلى تيبينغ الذي انتهى للتو من تدوين الأحرف الاثنين والعشرين التي تؤلف الأبجدية العبرية، حيث أنه كتبها من ذاكرته إلا أنه استخدم في كتابتها الأحرف الرومانية المماثلة لها بالطبع بدلاً من الأحرف العبرية. وبالرغم من ذلك، فقد كان يقرأها دون أي خطأ في اللفظ. A B G D H V Z Ch T Y K L M N S O P Tz Q R Sh Th "آلف، بيت، جيمل، دالت، هيه، فاف، زاين، شيت، طيط، يود، كاف، لامد، ميم، نون، سامخ، عين، باي، تصادق، كوف، ريش، شين، تاف". مسح تيبينغ العرق عن حاجبه وتابع. "في اللفظ العبري المنهجي، لا تكتب الأحرف الصوتية. ولهذا عندما نكتب كلمة بافوميت باستخدام الأبجدية العبرية ستسقط ثلاثة أحرف صوتية في الترجمة، ويتبقى لنا -". "خمسة أحرف"، صاحت صوفي. أومأ تيبينغ موافقاً وبدأ يكتب من جديد. "حسناً، هذه هي اللفظة الصحيحة لبافوميت بالأحرف العبرية. سأكتب الأحرف الصوتية المفقودة هنا للتوضيح فقط. B a P V o M e Th "يجب أن نتذكر أولاً" أضاف تيبينغ، "أن العبرية تكتب عادة بالاتجاه المعاكس أي من اليمين إلى اليسار، لكن يمكننا استخدام أتباش بهذه الطريقة وبكل سهولة. والآن كل ما علينا فعله هو أن نقوم بابتكار مخطط الاستبدال الخاص بنا وذلك من خلال إعادة كتابة أحرف الأبجدية بالكامل بترتيب عكسي مقابل الأبجدية الأصلية". "هناك طريقة أسهل"، قالت صوفي، وأخذت القلم من تيبينغ. "إن هذه الطريقة تنفع في كل شيفرات الاستبدال الانعكاسية بما فيها الأتباش. وهي خدعة بسيطة تعلمتها في أثناء دراستي في جامعة هولوي الملكية". قامت صوفي بكتابة النصف الأول من أحرف الأبجدية من اليسار إلى اليمين، ثم كتبت تحته النصف الثاني من اليمين إلى اليسار. "يطلق عليها علماء تحليل الرموز اسم عملية الطيّ. وهي تختصر تعقيدات كثيرة ونتائجها سريعة ومضمونة". نظر تيبينغ بتمعن في ما كتبته وضحك. "أحسنت. أنا مسرور جداً لأن الشباب في هولوي يقومون بعملهم على أكمل وجه". شعر لانغدون برعشة تسري في جسده وهو يتأمل مصفوفة الاستبدال التي كتبتها صوفي، حيث إنه تخيل الشعور الذي أحسه الباحثون الأوائل عندما استخدموا شيفرة أتباش للمرة الأولى في حل لغز شيشاك. فقد احتار الباحثون في علم الأديان لسنوات طويلة في أمر الإشارات الكثيرة في الإنجيل لمدينة تدعى شيشاك. فلم تظهر هذه المدينة على أية خريطة أو أية وثيقة أخرى وبالرغم من ذلك فقد ذكرت مرات عديدة في إنجيل إرميا حيث ذكر ملك شيشاك ومدينة شيشاك وسكان شيشاك. وأخيراً طبق أحد الباحثين شيفرة أتباش على الكلمة وكانت النتيجة مذهلة. فقد كشفت الشيفرة أن شيشاك كانت في الحقيقة كلمة مشفرة ترمز إلى مدينة مشهورة جداً. وكانت عملية حل الشيفرة بسيطة جداً. تكتب شيشاك في العبرية: ش - ش - ك. إذا وضعنا ش - ش - ك في الجدول السابق فستصبح ب - ب - ل. وإن ب - ب - ل في العبرية تعني بابل. وبعد أن اكتشف أن شيشاك الغامضة ليست إلا مدينة بابل، بدأت نوبة من الأبحاث الإنجيلية. وفي غضون أسابيع قليلة، تم كشف كلمات عديدة استخدمت في تشفيرها طريقة أتباش في التوراة، مما أدى إلى إزاحة الستار عن الكثير من المعاني الخفية والتي لم يعتقد الباحثون أنها كانت موجودة أصلاً. "لقد اقتربنا جداً من الحل"، همس لانغدون، وهو غير قادر على السيطرة على حماسه. "لحظة، روبرت"، قال تيبينغ، ثم نظر إلى صوفي وابتسم. "هل أنت مستعدة؟". أومأت موافقة. "حسناً، إن بافوميت تكتب بالعبرية: B-P-V-M-Th. والآن نطبق بكل بساطة جدول الاستبدال الذي وضعتِه لترجمة الكلمة التي تتألف من خمسة أحرف لنحصل على كلمة السرّ التي نريدها". خفق قلب لانغدون بقوة. B-P-V-M-Th. كانت أشعة الشمس تتسلل إليهم عبر النافذة الآن. ونظر إلى جدول الاستبدال الذي وضعته صوفي وبدأ يقوم بعملية التحويل. B هي Sh... P هي V... كان تيبينغ يضحك فرحاً كطفل تلقى للتو هدية عيد الميلاد. "وتكشف شيفرة أتباش..." وصمت لحظة. "يا إلهي!" شحب وجهه فجأة. رفع لانغدون رأسه بسرعة. "ماذا بك؟" سألته صوفي. "لن تصدقي هذا" نظر تيبينغ إلى صوفي. "أنت بالذات". "ماذا تقصد؟" قالت صوفي. "إن هذا...عبقري"، همس تيبينغ. "إنه العبقرية بذاتها!"، كتب تيبينغ على الورقة شيئاً آخر. "فلتقرع الطبول. ها هي الكلمة السرّية". وأراهما ما كتبه. Sh-V-P-Y-A قطبت صوفي حاجبيها. "ما هذا؟". لم يتعرف لانغدون على الكلمة أيضاً. ارتعش صوت تيبينغ وجلاً. "هذه يا صديقتي في الحقيقة هي كلمة حكمة من معارف الأقدمين". قرأ لانغدون الأحرف ثانية. كلمة حكمة قديمة تحرر هذا المخطوط. وبعد لحظة استوعب الفكرة. فهو لم يكن يتوقع ذلك على الإطلاق. "كلمة حكمة قديمة!". كان تيبيغ يضحك. "بالحرف الواحد!". نظرت صوفي إلى الكلمة ثم إلى القرص. ولاحظت على الفور أن لانغدون وتيبينغ لم ينتبها إلى شيء هام جداً وخطير. "انتظرا لحظة! لا يمكن أن تكون هذه هي الكلمة السرّية" وتابعت. "إن الكريبتكس لا يحتوي على حرف ش Sh على قرصه المدرج. فقد كتب عليه بالأحرف الرومانية التقليدية". "اقرأي الكلمة"، ألح عليها لانغدون. "لكن خذي بعين الاعتبار أمرين، الأول هو أن الرمز "ش" Sh في اللغة العبرية يلفظ أحياناً "س" S، وذلك بحسب اللهجة، والأمر الثاني هو أن الحرف P كذلك يمكن أن يلفظ F". فكرت صوفي والحيرة تتملكهاSVFYA ! "يا للعبقرية!" أضاف تيبينغ. "إن الحرف فاف V يحل غالباً محل الحرف الصوتي O!". نظرت صوفي إلى الأحرف مرة أخرى وأخذت تقرأ حرفاً حرفاً. "S…o….f…..y….a". وعندما سمعت صوتها، لم تصدق نفسها. "صوفيا؟ تلك الأحرف تشكل كلمة صوفيا؟". أومأ لانغدون بحماس. "نعم! إن كلمة صوفيا تعني حرفياً حكمة باليونانية. إن أصل اسمك صوفي هو "كلمة حكمة" بالمعنى الحرفي". فجأة شعرت صوفي باشتياق كبير لجدها. لقد كتب جدي شيفرة الكلمة السرّية للحجر المفتاح باسمي أنا. أحست بغصة في حلقها. بدا كل شيء صحيحاً الآن. لكنها عندما حولت نظرها نحو أقراص الكريبتكس ذات الأحرف الخمسة، لاحظت أن هناك مشكلة أخرى. "تمهل لحظة... إن كلمة صوفيا Sophia بالأحرف الرومانية تتألف من ستة أحرف لا خمسة". لم تختفِ الابتسامة العريضة من شفتي تيبينغ للحظة. "انظري إلى القصيدة مرة أخرى. لقد كتب جدك "كلمة حكمة قديمة". "وماذا يغير ذلك في الأمر؟". غمزها تيبينغ. "إن كلمة حكمة في اليونانية القديمة تكتب S-O-F-I-A". الفصل الثامن والسبعون شعرت صوفي بحماس مجنون وهي تحتضن الكريبتكس، وبدأت بوضع الأحرف المطلوبة في مكانها الصحيح على الأقراص. كلمة حكمة قديمة تحرر هذا المخطوط. بدا لانغدون وتيبينغ وكأنهما قد توقفا عن التنفس وهما يراقبانها. S…..O…..F….. "توخي الحذر"، نبهها تيبينغ. "أرجوك توخي أقصى الحذر". ……I……A... وضعت آخر حرف في مكانه. "والآن"، همست صوفي، ونظرت إليهما. "سأقوم بفتحه". "تذكري الخل" همس لانغدون بابتهاج يشوبه الخوف. "كوني حذرة". كانت صوفي تعرف بأنه إذا كان هذا الكريبتكس كتلك التي اعتادت أن تفتحها في صغرها، فكل ما عليها أن تفعله هو أن تمسك الأسطوانة من نهايتيها بعيداً قليلاً عن الأقراص، وتسحب مطبقة ضغطاً بطيئاً ومستمراً في الاتجاهين المتعاكسين. في حال كانت الأقراص مصطفة فوق بعضها على خط مستقيم بحسب الكلمة السرّية التي وضعتها، عندئذ ستنزلق إحدى النهايتين وتفتح كغطاء عدسة، وستتمكن صوفي عندها من مدّ يدها نحو الداخل لتخرج ورقة البردي الملفوفة حول زجاجة الخل. لكن إذا كانت الكلمة السرّية التي أدخلتها غير صحيحة فستنتقل قوة صوفي الدافعة نحو الخارج إلى عتلة متمفصلة تدور حول محور إلى الأسفل في التجويف وتضغط على القارورة الزجاجية وتكسرها إذا شدت صوفي النهايتين بقوة. اسحبي بلطف، قالت لنفسها. انحنى لانغدون وتيبينغ إلى الأمام بينما أمسكت صوفي براحتيها نهايتي الأسطوانة. في غمرة الحماس الذي شعرت به صوفي عندما تم فك الشيفرة، كادت تنسى ما الذي توقعوا أن يجدوه في الداخل. هذا هو الحجر المفتاح الخاص بالأخوية. وحسب ما قاله تيبينغ، فإنه يحتوي على خريطة تدل على مكان الكأس المقدسة وتكشف عن ضريح مريم المجدلية وكنز الدم الملكي... أعظم كنز يكشف الحقيقة السرّية. والآن أمسكت صوفي بالأسطوانة الحجرية وتأكدت مرة ثانية من أن كل الأحرف كانت متراصفة بشكل صحيح مع المؤشر، ثم شدّت ببطء. لم يحصل أي شيء. فطبقت قوة أكبر. وفجأة انزلق الحجر وفتح كتيليسكوب مصنوع ببراعة فائقة. وتحررت نهاية الأسطوانة الثقيلة فظلت بيد صوفي. وثب تيبينغ ولانغدون من مكانهما. وخفق قلب صوفي بقوة وهي تضع نهاية الأسطوانة على الطاولة وتقلبها برفق لتلقي نظرة داخلها. إنه مخطوط! وعندما نظرت صوفي إلى الفراغ داخل الورقة الملفوفة، رأت أن المخطوط كان يحيط بشيء أسطواني فافترضت أنه قارورة الخل. إلا أن الغريب في الأمر هو أن الورقة التي كانت تحيط بالخل لم تكن ورقة البردي الرقيقة المألوفة، بل كانت رقاً. هذا فعلاً غريب، فكرت صوفي، إن الخل لا يمكنه أن يذيب جلد الخراف. ونظرت ثانية إلى التجويف داخل المخطوط فانتبهت إلى أن الشيء الذي في الوسط لم يكن في نهاية الأمر قارورة خل، كان شيئاً آخر تماماً. "ما المشكلة؟" سأل تيبينغ. "اسحبي المخطوط". أمسكت صوفي وهي مقطبة الرق الملفوف والشيء الذي كان يحيط به، وأخرجتهما معاً من العلبة. "هذا ليس ورق بردي"، قال تيبينغ. "إنه أثقل بكثير من أن يكون بردي". "أعرف هذا، إنه قماش تبطين". "من أجل ماذا؟ قارورة الخل؟". "كلا". فردت صوفي المخطوط وكشفت ما كان ملفوفاً داخله. "من أجل هذا". عندما رأى لانغدون الشيء الذي كان داخل الرق كاد قلبه أن يتوقف. "فليساعدنا الرب"، قال تيبينغ، وقد تراجع إلى الوراء. "إن جدك كان فعلاً مهندساً لا يرحم". حدق لانغدون بذهول. من الواضح أنه ليس في نية سونيير أن يجعل هذا أمراً سهلاً. كان على الطاولة أمامهم كريبتكس آخر. لكنه كان أصغر. مصنوع من العقيق الأسود. وقد كان محفوظاً داخل الكريبتكس الأول. كان سونيير مولعاً بالثنوية. كريبتكسين. كل شيء مزدوج. التورية بمعنى إخفاء معنى في قلب معنى. ذكر وأنثى. الأسود داخل الأبيض. شعر لانغدون بشبكة الرمزية تمتد وتتسع دائرتها. الأسود الذي يولد من الأبيض. كل رجل خلق من امرأة. أبيض - أنثى. أسود – ذكر. اقترب لانغدون ورفع الكريبتكس الأصغر الذي بدا مطابقاً للأول إلا أنه كان بنصف حجمه وبلون أسود. سمع القرقرة المألوفة. من الواضح أن صوت قرقرة الخل في القارورة الذي كان قد سمعه وصوفي، كان في الحقيقة صادراً عن الكريبتكس الأصغر. "حسناً روبرت"، قال تيبينغ وهو يمرر له مخطوط الرق. "أعتقد أنه سيسرك أن تسمع أننا متجهون على الأقل إلى المكان الصحيح". تفحص لانغدون الرق السميك الذي كتب عليه بخط يد مزخرف مقطع شعري من أربعة أسطر. ومرة أخرى كان على وزن بحر العمبق. كان النص رمزياً، لكن لانغدون لم يكن بحاجة ليستمر في القراءة إلى ما بعد السطر الأول ليدرك أن خطة تيبينغ للذهاب إلى بريطانيا كانت في محلها. في لندن.. يرقد فارس دفنه أحد البابوات أما باقي القصيدة فقد أشارت بوضوح إلى أنه يمكن العثور على الكلمة السرّية التي تفتح الكريبتكس الثاني من خلال زيارة ضريح هذا الفارس المدفون في مكان ما داخل المدينة. التفت لانغدون بحماس إلى تيبينغ. "هل لديك أي فكرة عن أي فارس تتحدث القصيدة؟". ضحك تيبينغ. "كلا، على الإطلاق. لكنني أعرف في أي سرداب بالتحديد علينا أن نبحث". في تلك اللحظة، وعلى بعد خمسة عشر ميلاً إلى الأمام، كانت هناك ست سيارات تابعة لشرطة كنت المحلية تندفع بسرعة البرق نحو مطار بيغينغ هيل لرجال الأعمال عبر الطرقات الغارقة بمياه الأمطار الغزيرة. الفصل التاسع والسبعون أخذ الملازم كوليه زجاجة بيرييه من براد تيبينغ وعاد بسرعة إلى غرفة المكتب. بدلاً من مرافقة فاش إلى لندن حيث كانت تدور الأحداث المهمة، كان يحضن الآن فريق الشرطة الجنائية الذي انتشرت عناصره في أرجاء قصر فيليت. لم تكن الأدلة التي عثروا عليها حتى الآن مفيدة في التحقيق، فقد وجدوا رصاصة قد ثقبت الأرضية، وورقة رسمت عليها بعض الرموز وكتبت عليها كلمتا كأس وسيف أو حزاماً ذا مسامير ملطخاً بالدماء، قال لكوليه أحد عناصر الشرطة الجنائية إنه يعود لأحد أعضاء الجماعة الكاثوليكية المحافظة أوبوس داي التي أثارت ضجة مؤخراً عندما فضح برنامج إخباري ممارساتهم العنيفة في تطويع الأعضاء في باريس. تنهد كوليه. حظاً سعيداً في الخروج بأي نتيجة منطقية من هذا الخليط الغريب من الأدلة. مشى كوليه في رواق فخم ثم دخل إلى قاعة الحفلات الواسعة التي حولت إلى غرفة مكتب كبيرة حيث كان المحقق الجنائي مشغولاً في رفع البصمات. كان رجلاً بديناً يرتدي حمالات. "هل من جديد؟" سأل كوليه وهو يدخل القاعة. هز المحقق رأسه نافياً. "لا جديد. مجموعات متعددة من البصمات فقط تطابق تلك التي وجدناها في باقي غرف المنزل". "ماذا عن البصمات الموجودة على الحزام؟". "لا زالت الأنتربول تعمل على ذلك. لقد نقلت كافة المعلومات التي توصلنا إليها إلى الكومبيوتر وأرسلتها إليهم عن طريق الإنترنت". أشّر كوليه إلى كيسين مقفلين يحتويان على أدلة كانا على الطاولة. "ما هذه؟". هز الرجل كتفيه. "إني أفعل هذا بحكم العادة. فأنا أجمع كل ما أجده غريباً". تقدم كوليه نحوه. غريباً؟ "إن هذا البريطاني غريب الأطوار"، قال المحقق. "انظر إلى هذا". فتّش في أكياس الأدلة ثم انتقى أحدها، وأعطاه إلى كوليه. كانت صورة يظهر فيها مدخل لكاتدرائية قوطية، ذلك النوع من المداخل التقليدية التي تتميز بوجود عقد مقنطر ذي شكل مدبب والذي يضيق ممتداً على عدة طبقات ذات دعامات منتهياً إلى باب صغير. تفحص كوليه الصورة والتفت نحو المحقق. "ما الغريب في هذا؟". "اقلب الصورة". وجد لانغدون خلف الصورة ملاحظات مكتوبة بالإنجليزية تصف صحن الكنيسة المجوف الطويل على أنه إشارة إجلال سرّية وثنية لرحم المرأة. إن هذا غريب فعلاً. إلا أن الملاحظات التي تصف مدخل الكاتدرائية هي التي صعقته. "انتظر لحظة! إنه يعتقد أن مدخل الكنيسة يمثل عضو المرأة التناسلي؟". أومأ المحقق. "أجل بالشكل الكامل بما فيه الشفران وبظر صغير جميل ذو خمسة فصوص يزين المدخل". تنهد المحقق. "مما يجعلك ترغب بشدة في العودة إلى الكنيسة". حمل كوليه كيس الأدلة الثاني. ورأى من خلال البلاستيك الشفاف صورة كبيرة لماعة لورقة بدت وكأنها صورة لوثيقة قديمة. وقد كتب في أعلاها العنوان التالي: الوثائق السرّية - رقم 4 ل م 249 "ما هذا؟" سأل كوليه. "ليست لدي أية فكرة. لكن لديه نسخ منها في كافة أنحاء المنزل، لذا فقد أخذتها". تأمل كوليه الوثيقة. جمعية سيون الدينية - المعلمون الكبار جان دو جيزور 1188 - 1220 ماري دو سان كلير 1220 - 1266 غيوم دو جيزور 1266 - 1307 إدوار دو بار 1307 - 1336 جان دو بار 1336 - 1351 جان دو سان كلير 1351 - 1366 بلانس ديفرو 1366 - 1398 نيكولا فلاميل 1398 - 1418 رين دانجو 1418 - 1480 يولاند دو بار 1480 - 1483 ساندرو بوتيشلّي 1483 - 1510 ليوناردو دافنشي 1510 - 1519 كونيتابل دو بوربون 1519 - 1527 فيردينان دو غونزاك 1527 - 1575 لوي دو نيفير 1575 - 1595 روبرت فلاد 1595 - 1637 ج. فالنتين أندريا 1637 - 1654 روبرت بويل 1654 - 1691 إسحق نيوتن 1691 - 1727 تشارلز رادكليف 1727 - 1746 شارل دو لورين 1746 - 1780 ماكسيميليان دو لورين 1780 - 1801 شارل نودييه 1801 - 1844 فيكتور هوجو 1844 - 1855 كلود دوبوسي 1855 - 1918 جان كوكتو 1918 - 1963 جمعية سيون الدينية؟ تعجب كوليه. "حضرة الملازم؟" دخل إلى الغرفة عنصر آخر. "إن العناصر في مقسم الهاتف لديهم اتصال عاجل للنقيب فاش، لكنهم لم يتمكنوا من العثور عليه. هل تريد أن تتلقى الاتصال نيابة عنه؟". عاد كوليه إلى المطبخ ورد على الهاتف. كان أندريه فيرنيه هو المتصل. لم يتمكن المصرفي بلهجته المهذبة من إخفاء التوتر الواضح في صوته. "ظننت أن النقيب فاش قال إنه سيتصل بي لكنني لم أسمع منه بعد". "إن النقيب مشغول جداً الآن"، رد كوليه. "هل تمكنني مساعدتك؟". "لقد أكد لي بأنه سيطلعني على تطورات القضية أولاً بأول". فكر كوليه للحظة أنه قد تعرف إلى رنة صوت هذا الرجل، لكنه لم يتمكن تماماً من تحديد هويته. "سيد فرنيه، أنا حالياً المسؤول عن التحقيقات التي تجري في باريس. اسمي الملازم كوليه". ساد الصمت للحظات طويلة على الخط. "حضرة الملازم، هناك أحد يتصل بي الآن. أرجو أن تعذرني. سأعاود الاتصال بك لاحقاً". وأقفل الخط. ظل كوليه ممسكاً بالسماعة لعدة لحظات. ثم تذكر فجأة. لقد كنت متأكداً أنني قد عرفت ذلك الصوت! جعله اكتشافه هذا يتميز غيظاً. إنه سائق الشاحنة المصفحة. بساعته الرولكس المزيفة. فهم كوليه الآن لماذا قطع مدير البنك اتصاله بهذه السرعة. فقد تذكر فيرنيه اسم الملازم كوليه، الضابط الذي كذب عليه هذا المساء وبكل وقاحة. فكر كوليه بعمق بالنتائج التي قد تترتب على هذا التطور الغريب على مجريات الأحداث. إن فيرنيه متورط بهذه العملية. فأنبأه حدسه بأنه يجب أن يتصل بفاش فوراً. وعرف في داخله أن هذه الفرصة الرائعة قد أتت في الوقت المناسب ليلمع نجمه في هذه القضية. اتصل كوليه بالأنتربول على الفور وطلب كل المعلومات التي يمكنهم الحصول عليها عن بنك زيوريخ للودائع ورئيسه أندريه فيرنيه. الفصل الثمانون "من فضلكم، اربطوا الأحزمة"، أعلن كابتن طائرة تيبينغ بينما كانت طائرة الهوكر 713 تهبط في جو كئيب ممطر. "سنكون على اليابسة خلال خمس دقائق". شعر تيبينغ بالسعادة لرجوعه إلى وطنه عندما رأى هضاب كنت من بين الضباب تمتد واسعة تحت الطائرة الآخذة بالهبوط. كانت إنجلترا على بعد أقل من ساعة من باريس، إلا أنه كان يشعر وكأنها على بعد آلاف الأميال عنها. وهذا الصباح بشكل خاص بدا صباح بلده الربيعي المبلل الأخضر مرحباً بقدومه. إن بقائي في فرنسا قد انتهى. أنا عائد إلى إنجلترا منتصراً. لقد عثرت على الحجر المفتاح. لكن يبقى السؤال الأهم الآن... إلى أين سيودي بهم الحجر المفتاح في نهاية المطاف؟ في مكان ما في المملكة المتحدة. لكن أين بالضبط؟ لم يكن لدى تيبينغ أية فكرة. لكنه كان يحس بحلاوة النصر منذ الآن. نظر لانغدون وصوفي إلى الأمام، أما تيبينغ فوقف ثم اتجه نحو الطرف الآخر من المقصورة ثم أنزل لوحة في الحائط ليكشف عن خزينة مخفية في الحائط. ثم ضرب الرقم السرّي وفتحها وأخرج منها جوازي سفر. "وثائق شخصية لي ولريمي". ثم أخرج رزمة سميكة من الأوراق النقدية من فئة الخمسين جنيه. "ووثائق لكما أنتما الاثنان". بدت صوفي مشككة. "رشوة؟". "بل ديبلوماسية خلاقة. فمطارات رجال الأعمال لها ترتيباتها الخاصة، حيث يأتي ضابط المطار ليحيينا في المكان المخصص لطائرتي ثم يطلب الإذن بالصعود إلى الطائرة. عندها بدلاً من أن أسمح له بأن يصعد، سأخبره بأن على متن الطائرة شخصية فرنسية مشهورة تفضل ألا يعرف أحد بوجودها في إنجلترا، وذلك خوفاً من الصحافة، وسأقدم له هذا البقشيش السخي تعبيراً عن شكري لتكتمه على الأمر". بدا الذهول على لانغدون. "وهل سيقبل الضابط بذلك؟". "إنهم لا يقبلون ذلك من أي شخص، لكن هؤلاء الأشخاص يعرفونني حق المعرفة. فأنا لست تاجر أسلحة، حباً بالله! فأنا أحمل رتبة فارس". ابتسم تيبينغ. "إن هذه العضوية لها مزاياها الخاصة". اقترب ريمي من الممشى الآن وبيده مسدس الهوكلر كوخ. "سيدي، ما الذي عليّ أن أفعله الآن؟". نظر تيبينغ إلى خادمه. "أريدك أن تبقى في الطائرة مع ضيفنا حتى نعود. فلا يمكننا أن نجره معنا في أنحاء لندن". بدت صوفي قلقة. "لاي، لقد كنت جادة عندما أخبرتك أن الشرطة الفرنسية قد تتمكن من العثور على طائرتك قبل أن نعود". ضحك تيبينغ. "نعم، تصوري دهشتهم عندما يصعدون إلى الطائرة ويجدون ريمي فيها". بدت صوفي متفاجئة من موقفه الوقح. "لاي لقد قمت بنقل رهينة مقيدة عبر حدود دولية. وهذا عمل خطير". "وكذلك طاقم المحامين الخاص بي". أشار إلى الراهب الذي يرقد في مؤخرة الطائرة. "إن ذلك الحيوان اقتحم منزلي وكاد يقتلني. هذه حقيقة واقعة، وريمي سيدعم أقوالي". "لكنك قيدته وسافرت به إلى لندن!" قال لانغدون. رفع تيبينغ يده اليمنى وتظاهر بأنه يؤدي القسم في المحكمة. "سيدي القاضي، هلا عذرت فارساً عجوزاً غريب الأطوار لتحيزه السخيف للمحكمة البريطانية. أنا أعرف أنه كان يتوجب عليّ أن أتصل بالسلطات الفرنسية، لكنني إنسان متكبر ولا أثق بأولئك الفرنسيين الذين يطبقون سياسة عدم التدخل في إجراء محاكمة عادلة. لقد كاد هذا الرجل أن يقتلني. نعم، لقد أقدمت على عمل متهور عندما أجبرت خادمي على أن يساعدني في إحضاره إلى إنجلترا، لكنني كنت تحت ضغط كبير. أعترف بذنبي... أعترف بذنبي". لم يصدق لانغدون ما سمعه لتوه. "قد ينطلي ذلك عليهم، لاي، كونك أنت الذي قلته". "سيدي؟" ناداه الطيار. "لقد تلقيت إشارة من برج المراقبة تقول إن هناك مشكلة في الصيانة بالقرب من هنغارك، لذا فقد طلبوا مني أن أوقف الطائرة عند فتحة نزول الركاب مباشرة بدلاً من المكان المخصص لها". كان تيبينغ يطير نحو بيغن هيل منذ أكثر من عشر سنوات ولم يسبق أن حدث شيء كهذا من قبل. "هل قالوا لك ما هي تلك المشكلة؟". "كان كلام المراقب مبهماً. فقد ذكر شيئاً عن تسرب بنزين في محطة وقود. هل هذا ممكن؟ وقد طلب مني أن أوقف الطائرة أمام فتحة نزول الركاب وأن يبقى جميع من في الطائرة على متنها حتى إشعار آخر. وذلك لسلامة الركاب. لذا فيجب ألا ننزل من الطائرة حتى نحصل على إذن من أمن المطار". كان تيبينغ مشككاً. يا له من تسرب خطير. فقد كانت المحطة تبعد أكثر من نصف ميل عن هنغاره. بدا ريمي قلقاً أيضاً. "سيدي، يبدو هذا أمراً غير مألوف البتة". التفت تيبينغ نحو صوفي ولانغدون. "صديقيّ العزيزين، أعتقد أن هناك لجنة ترحيب على وشك أن تقابلنا". تنهد لانغدون مكتئباً. "أظن أن فاش لا زال يعتقد أنني ضالته". "إما أنه يعتقد ذلك"، قالت صوفي، "أو أنه قد قطع شوطاً طويلاً في اتهامه لك لدرجة أن كرامته لم تسمح له بالاعتراف بخطئه". لم يكن تيبينغ منصتاً. فبغض النظر عن مخططات فاش، كان عليه أن يفكر بحل سريع للمشكلة الراهنة. لا تحد عن الهدف النهائي. الغريل. لقد أصبحنا قاب قوسين من الحصول عليها. "لاي"، قال لانغدون وصوته ينم عن إحساس عميق بتأنيب الضمير. "يجب أن أسلم نفسي للشرطة وأقوم بتسوية الأمور بالطريقة القانونية. وأخرجك من هذه الورطة التي أوقعتك فيها". "يا إلهي روبرت!"، لوح له تيبينغ بيديه. "هل تظن فعلاً أنهم سيدعوننا طليقين هكذا؟ لقد قمت أنا بتهريبك على متن طائرتي بشكل غير قانوني، أما الآنسة نوفو فقد سهلت عليك الهروب من اللوفر، ولدينا هنا رجل مشدود الوثاق في مؤخرة الطائرة. فلنكن واقعيين الآن! نحن جميعاً متورطون في هذه القضية". "هل يمكننا الهبوط في مطار آخر إذن؟" قالت صوفي. هز تيبينغ رأسه نافياً. "إذا لم نهبط في هذا المطار الآن، فستكون حفلة الترحيب بنا، ريثما نحصل على إذن في الهبوط في أي مطار آخر، قد اشتملت على دبابات حربية". أعيت صوفي حيلة.. شعر تيبينغ بأنه إذا كانت هناك أية فرصة في تأجيل المواجهة مع السلطات البريطانية والمماطلة لبعض الوقت ريثما يعثرون على الغريل، فلا بد من اتخاذ خطوات جريئة. "لحظة واحدة فقط"، قال تيبينغ، وهو يمشي بسرعة برجله العرجاء نحو ركن الطيار. "ماذا ستفعل؟" سأله لانغدون. "اجتماع مبيعات طارئ"، قال تيبينغ وهو يتساءل كم سيكلفه إقناع طياره بالقيام بمناورة خطيرة ومخالفة لكافة القواعد والأنظمة. الفصل الواحد والثمانون كانت طائرة الهوكر على بعد بضعة أقدام من المهبط.. أخذ الضابط المسؤول عن الخدمات التنفيذية في مطار بيغينغ هيل سايمون إدواردز يذرع برج المراقبة جيئة وذهاباً، وهو ينظر بعصبية واضحة إلى المدرج الذي بللته مياه الأمطار التي كانت تهطل بغزارة. كان يكره أن يوقظه أحد في وقت مبكر صباح يوم السبت، ومما زاد الأمر سوءاً اليوم هو أنه استدعي اليوم ليشرف على عملية اعتقال واحد من أهم زبائن المطار. حيث إن السير لاي تيبينغ لم يكن يدفع للمطار مبلغاً كبيراً مقابل موقف خاص لطائرته فحسب، بل كان يدفع أيضاً رسوماً للهبوط في المطار وذلك لرحلاته المتكررة أيضاً. كان المطار عادة يتلقى إشعاراً مسبقاً ببرنامج رحلاته فتتم تحضيرات دقيقة تنفذ لدى وصوله. كان تيبينغ يحب أن تجري الأمور على هذا النحو. فيجب أن تكون سيارة الجاغوار الليموزين المصممة خصيصاً له والتي يبقيها في هنغاره الخاص، بانتظاره وقد تم تنظيفها وتلميعها وملؤها بالوقود، ووضعت في مقعدها الخلفي جريدة التايمز. كما أنه يجب أن يكون بانتظاره في الهنغار ضابط المطار ليسرع من عملية تفتيش الأمتعة والتحقق من الأوراق الثبوتية. وفي بعض الأحيان كان ضباط المطار يقبلون منه مبالغ كبيرة ينفحها لهم على أنها بقشيش وذلك مقابل غضهم البصر عن إحضاره لبعض المنتجات العضوية التي لا ضير منها والتي غالباً ما تكون أطعمة غالية الثمن كالحلزون الفرنسي وجبنة الروكفورد الطازجة من أجود الأنواع وبعض الفاكهة النادرة. فقد كانت معظم قوانين الجمارك سخيفة على أية حال، وإذا لم يوفر بيغينغ هيل وسائل الراحة لزبائنه فستقوم بذلك بالتأكيد المطارات المنافسة الأخرى. كان بينغيغ هيل يؤمن لتيبينغ ما يريده ويقطف موظفوه ثمار تلك الخدمات. شعر إدواردز بأعصابه تتوتر أكثر فأكثر الآن وقد اقتربت الطائرة وكانت على استعداد للهبوط. وتساءل في ما إذا كان ميل تيبينغ لتبذير ثروته قد أوقعه في المتاعب، فقد بدت الشرطة الفرنسية مصممة على القبض عليه. إلا أن إدواردز لم يعرف بعد ما هي التهم الموجهة إليه، لكن من الواضح أنها خطيرة. فقد أمرت شرطة كنت مراقب الحركة في مطار بينينغ هيل، بناء على طلب السلطات الفرنسية، أن يرسل إشارة إلى طيار الهوكر بأن يتجه مباشرة إلى فتحة سلم نزول الركاب بدلاً من هنغار الزبون. وقد وافق الطيار الذي يبدو أنه صدق القصة السخيفة عن تسرب الوقود. بالرغم من أن عناصر الشرطة البريطانية لا يحملون عادة أسلحة، إلا أن خطورة الوضع جلبت فريقاً مسلحاً إلى الموقع. والآن وقف داخل بناء المطار ثمانية رجال مسلحين بانتظار اللحظة التي تتوقف فيها محركات الطائرة عن الدوران. وعندما يحدث ذلك، سيقوم المسؤول عن مدرج الطائرة بوضع أسافين أمان تحت عجلات الطائرة لمنعها من الحركة. ثم ستتدخل عناصر الشرطة ويأمرون الركاب بالبقاء في أماكنهم إلى أن تصل الشرطة الفرنسية لتتسلم زمام الأمور. كانت الهوكر تطير على ارتفاع منخفض الآن مارة بسرعة فوق قمم الأشجار من جهة اليمين. نزل سايمون إدواردز إلى الأسفل ليراقب عن قرب هبوط الطائرة على الممر المعبد. كان رجال شرطة كنت يقفون باستعداد بعيداً عن الأنظار وعامل الصيانة ينتظر ليضع الأسافين. ظهرت الطائرة الآن وهي تهبط على المدرج ومقدمتها إلى الأعلى وعجلاتها لامست الأرض مصدرة دخاناً كثيفاً. ثم استقرت الطائرة على المدرج استعداداً للإبطاء من سرعتها الشديدة وهي تعبر من اليمين إلى اليسار أمام بناء المطار، ولونها الأبيض يلمع في الطقس الممطر. إلا أنها بدلاً من أن تفرمل وتنعطف نحو البناء لتتوقف عند فتحة هبوط الركاب، تابعت طريقها وتجاوزت الممر المؤدي إلى البناء وتوجهت نحو هنغار تيبينغ. التفت كل عناصر الشرطة إلى إدواردز وحدقوا فيه، وقال له أحدهم. "لقد اعتقدت أنك قلت إن الطيار وافق على إيقاف الطائرة عند فتحة نزول الركاب في البناء!". كان إدواردز مرتبكاً. "لقد قال لي أنه موافق!". وبعد لحظات، وجد إدواردز نفسه منحشراً في سيارة شرطة تطير مسرعة على المدرج نحو الهنغار البعيد. كانت قافلة الشرطة لا زالت تبعد عن الهنغار مسافة خمسمائة ياردة تقريباً عندما كانت طائرة تيبينغ تدرج ببطء في الهنغار الخاص ثم تختفي في الداخل. وعندما وصلت السيارات أخيراً وتوقفت خارج باب الهنغار، اندفع رجال الشرطة منها وشهروا مسدساتهم. وقفز إدواردز من السيارة أيضاً. كان الصوت يصم الآذان. وكانت محركات الهوكر لا زالت تدوي بينما انتهت الطائرة من دورانها المعتاد في الهنغار لتتوقف ومقدمتها إلى الخارج استعداداً للمغادرة لاحقاً. وعندما دارت الطائرة بزاوية 180 درجة وتوجهت إلى أمام الهنغار، رأى إدواردز وجه الطيار الذي بدا خائفاً ومتفاجئاً لرؤية هذا المتراس من سيارات الشرطة التي تقف أمام الطائرة. أوقف الكابتن الطائرة وأطفأ المحركات. فاندفع عناصر الشرطة إلى الداخل محاصرين الطائرة من كافة الاتجاهات. انضم إدوارد إلى رئيس المحققين الذي تقدم نحو باب الطائرة بحذر. وبعد عدة لحظات، فتح الباب. وظهر لاي تيبينغ عند المدخل بعد أن نزل سلم الطائرة الكهربائي بلطف على الأرض. وعندما حدق في بحر الأسلحة الموجهة إليه عدّل وضع عكازيه ووقف منتصباً ثم حك رأسه. "سايمون، هل ربحت يانصيب الشرطة عندما كنت مسافراً؟" وبدا مذهولاً أكثر منه قلقاً. تقدم سايمون إدواردز إلى الأمام، وبلع ريقه بصعوبة. "صباح الخير سيدي. أعتذر عن هذه الفوضى. لكن كان هناك تسرب في الوقود وأخبرنا طيارك بأنه سيوقف الطائرة عند مدخل البناء". "نعم، نعم، حسناً، أنا قلت له أن يوقفها هنا. فلدي موعد هام وقد تأخرت، أنا أدفع الكثير لأوقف طائرتي في هذا الهنغار. وقد بدا هذا الهراء حول وجود تسرب في الوقود وكأنه حذر زائد عن الحدّ ولا داعي له". "أنا آسف لكن وصولك اليوم قد فاجأنا، سيدي". "أعرف ذلك، فهذه الرحلة لم يكن مخطط لها، وأنا، بيني وبينك، لست على ما يرام فالدواء الجديد الذي أستعمله بات يسبب لي بعض المشاكل. لذا فكرت بأن آتي إلى هنا لإجراء فحوصات". تبادل رجال الشرطة جميعهم نظرات ذات معنى. تراجع إدواردز إلى الوراء قليلاً. "حسناً، سيدي". "سيدي"، قال رئيس المحققين في شرطة كنت وقد تقدم إلى الأمام. "يتوجب عليّ أن أطلب منك أن تبقى على متن الطائرة لحوالي نصف ساعة أو أكثر قليلاً". بدا تيبينغ منزعجاً وهو ينزل السلم بصعوبة. "أنا آسف لكن هذا غير ممكن. فأنا على موعد مع الطبيب". ولامست قدماه الأرض. "لا يمكنني أن أفوت هذا الموعد". غيّر رئيس المحققين مكانه بحيث وقف في طريق تيبينغ ليمنعه من التقدم بعيداً عن الطائرة. "أنا هنا بأمر من الشرطة القضائية الفرنسية التي تزعم أنك تنقل فارين من العدالة على متن هذه الطائرة". حدق تيبينغ في رئيس المحققين للحظات طويلة ثم انفجر ضاحكاً. "هل هذا واحد من برامج الكاميرا الخفية؟ فالخدعة تبدو محبوكة للغاية!". لم ترمش عين رئيس المحققين ولا للحظة. "إن هذا أمر جدي سيدي. والشرطة الفرنسية تدعي أيضاً أنك تحمل رهينة على متن الطائرة". ظهر ريمي خادم تيبينغ عند مدخل الطائرة في أعلى السلم. "أشعر أنني رهينة بحكم عملي الشاق عند السير لاي إلا أنه لا ينفك يقول لي بأنني حر في الذهاب متى شئت". نظر ريمي في ساعته. "لقد تأخرنا كثيراً سيدي". وأشار نحو الجاغوار الليموزين الواقفة في الزاوية البعيدة من الهنغار. كانت السيارة الضخمة بلون أسود وأغطية إطاراتها بلون أبيض وزجاج شبابيكها دخاني اللون لا يمكن رؤية من بداخل السيارة من خلاله. "سأحضر السيارة". وبدأ ريمي ينزل السلم. "أنا آسف لكن لا يمكننا ان ندعك تذهب"، قال رئيس المحققين. "عودا إلى الطائرة لو سمحتما. أنتما الاثنان. وسيصل قريباً ممثلون عن الشرطة الفرنسية". نظر تيبينغ الآن نحو سايمون إدواردز. "سايمون، حباً بالله، هذه فعلاً سخافة! ليس هناك أي أحد معنا. فليس هناك أحد غيري وريمي والطيار، ربما يمكنك أن تكون وسيطاً بيننا؟ اصعد إلى الطائرة وتحقق بنفسك من أنها خالية تماماً". أدرك إدواردز أن تيبينغ قد حاصره ولن يتمكن من الرفض. "نعم سيدي، يمكنني أن ألقي نظرة". "كلا لن تفعل!" عارضه رئيس المحققين، الذي يبدو أنه يعرف مطارات رجال الأعمال حق المعرفة لذا فقد شك بأن سايمون إدواردز قد يكذب بخصوص الأشخاص الموجودين على متن الطائرة وذلك ليتأكد من بقاء تيبينغ الزبون الأهم لبيغينغ هيل. "سأتحقق بنفسي". هز تيبينغ رأسه. "كلا لن تفعل، أيها المفتش، هذه ملكية خاصة وستبقى خارج طائرتي إلى أن تأتي بمذكرة تفتيش. إنني أعرض عليك حلاً معقولاً. بإمكان السيد إدواردز أن يفتش الطائرة". "كلا، هذا غير ممكن". رد تيبينغ ببرود. "أيها المفتش، ليس لدي وقت لأضيعه في ألاعيبك. لقد تأخرت وسأمضي في طريقي الآن. وإذا كان إيقافي مهماً جداً بالنسبة لك، فما عليك إلا أن تطلق عليّ الرصاص". عندها، مشى تيبينغ وريمي حول رئيس المحققين وتقدما إلى الأمام نحو الليموزين. شعر رئيس المحققين في شرطة كنت بالاشمئزاز من ذلك الرجل الذي كان يعرج أمامه بتحد. يا لأولئك الرجال ذوي المزايا الخاصة، دائماً يشعرون بأنهم فوق القانون. لكنهم ليسوا كذلك. استدار رئيس المحققين وصوب مسدسه إلى ظهر تيبينغ. "قف مكانك! وإلا أطلقت النار". "هيا افعل ذلك"، قال تيبينغ دون حتى أن يكلف نفسه عناء الوقوف أو الالتفات إلى الوراء. "وسيقطعك المحامون الذين يعملون لدي إرباً وإذا تجرأت وصعدت إلى طائرتي دون مذكرة تفتيش فسيأكلون كبدك على الفطور". لم تؤثر كلمات تيبينغ في رئيس المحققين الذي كان معتاداً على التعامل مع هذه النوعية من الناس. غير أن تيبينغ كان عملياً على حق. فالشرطة بحاجة إلى مذكرة تفتيش للصعود إلى طائرته، لكن بما أن الطائرة قد أتت قادمة من فرنسا، وبسبب الثقل الذي فرضه نفوذ بيزو فاش في هذه القضية، لذا فقد شعر رئيس المحققين في شرطة كنت بأنه من الأفضل له من الناحية المهنية أن يعرف ما الذي يوجد على متن هذه الطائرة والذي يدعو تيبينغ لأن يكون مصراً على إخفائه إلى هذا الحدّ. "أوقفوهما"، أصدر رئيس المحققين أمره إلى رجاله. "سأقوم بتفتيش الطائرة". أسرع الرجال نحوهما وقد شهروا مسدساتهم وصوبوا نحوهما وسدوا الطريق عليهما بأجسامهم ومنعوا تيبينغ وخادمه من الوصول إلى الليموزين. عندئذ التفت تيبينغ. "أيها المفتش، أحذرك للمرة الأخيرة. إياك أن تفكر في الصعود إلى تلك الطائرة. ستندم كثيراً لو فعلت". تجاهل رئيس المحققين التهديد وأمسك بمسدسه وتقدم نحو سلم الطائرة وصعد. ثم ألقى نظرة إلى الداخل وبعد لحظة دخل إلى المقصورة. يا إلهي ما هذا؟ لقد كانت الطائرة خالية تماماً في ما عدا الطيار الخائف الذي كان في غرفة القيادة. لم يكن هناك أي أحد على الإطلاق. تحقق المفتش بسرعة من الحمام والمقاعد ومنطقة الأمتعة. لكنه لم يجد أي أحد مختبئاً هناك... ما الذي ورطني فيه بيزو فاش؟ يبدو أن لاي تيبينغ كان يقول الحقيقة. وقف رئيس المحققين في شرطة كنت وحيداً في المقصورة الخالية وشعر بغصة في حلقه. اللعنة. احمر وجهه حنقاً. تراجع إلى الوراء حتى وصل إلى فتحة باب الطائرة ونظر إلى آخر الهنغار حيث كان لاي تيبينغ وخادمه يقفان هناك بالقرب من الليموزين والمسدسات موجهة نحوهما. "دعوهما يمضيا في طريقهما". أمر المفتش. "فالمعلومات التي وردتنا ليست صحيحة. كانت عينا تيبينغ تشع تهديداً تمكن المفتش من رؤيته حتى من ذلك المكان البعيد حيث كان تيبينغ واقفاً. "توقع أن يتصل بك محاميّ عن قريب. ولمعلوماتك، لا يمكن الوثوق بالشرطة الفرنسية". وعلى ذلك، فتح خادم تيبينغ الباب الخلفي لليموزين وساعد سيده المشلول على الصعود إلى السيارة، ثم مشى إلى الأمام وصعد إلى السيارة وجلس خلف المقود وأدار المحرك. فانتشر رجال الشرطة بعيداً عن السيارة التي مضت في طريقها خارج الهنغار. "لقد لعبتها ببراعة أيها الرجل الطيب"، ضحك تيبينغ الذي كان يجلس في المقعد الخلفي مرتاحاً تماماً بينما أخذت سرعة الليموزين تتزايد وهي تخرج من المطار. حول عينيه الآن إلى المنطقة الأمامية الواسعة. "هل الجميع مرتاحون؟". أومأ لانغدون. فقد كان لا يزال جاثماً على الأرض هو وصوفي بجانب الأبرص المقيد. فقبل عدة لحظات بينما كانت الطائرة تدرج في الهنغار الخالي، أنزل ريمي السلم عندما وقفت الطائرة وقفة مؤقتة قبل أن تكمل دورتها داخل الهنغار. وقبل أن تأتي الشرطة لتضيق عليهم الخناق، تعاون لانغدون وصوفي في جر الراهب على السلم نحو الأرض واختبأوا خلف الليموزين. ثم دوى صوت محركات الطائرة ثانية ودارت الطائرة بشكل كامل عندما هجمت سيارات الشرطة مقتحمة الهنغار. والآن، بينما أخذت الليموزين تسرع متجهة نحو كنت زحف لانغدون وصوفي بصعوبة ليصلا إلى القسم الخلفي من الليموزين تاركين وراءهما الراهب المشدود الوثاق مطروحاً على أرض السيارة، ثم استقرا على المقعد الطويل مقابل تيبينغ. ارتسمت على وجه الرجل البريطاني ابتسامة ماكرة وهو يفتح الخزانة الصغيرة الموجودة أعلى البار. هل يمكنني أن أقدم لكما كأساً من الشراب؟ وبعضاً من رقائق البطاطس؟ أو المكسرات؟". هز لانغدون وصوفي رأسيهما نفياً. ابتسم تيبينغ وأغلق البار. "حسناً والآن دعونا نتحدث عن قبر ذلك الفارس...". الفصل الثاني والثمانون "شارع فليت؟" سأل لانغدون، محدقاً في تيبينغ في المقعد الخلفي لليموزين. هناك سرداب في شارع فليت؟ حتى الآن كان تيبينغ متكتماً بشكل مثير للأعصاب في ما يتعلق بالمكان الذي اعتقد أنهم قد يعثرون فيه على "ضريح الفارس" والذي سيجدون فيه الكلمة السرّية التي ستفتح الكريبتكس الصغير بحسب كلمات القصيدة. ابتسم تيبينغ ثم التفت إلى صوفي. "آنسة نوفو، امنحي صبي هارفرد هذا فرصة ثانية ودعيه يتفحص كلمات القصيدة مرة أخرى، هلا فعلت ذلك؟". أدخلت صوفي يدها في جيبها وأخرجت منه الكريبتكس الأسود الذي كان ملفوفاً بجلد الماعز؛ حيث إنهم كانوا قد قرروا جميعاً ترك صندوق خشب الورد والكريبتكس الأكبر في خزنة الطائرة وحملوا معهم ما يحتاجون إليه فقط وهو الكريبتكس الأسود الذي كان أكثر سهولة في الحمل وأقل لفتاً للأنظار. فردت صوفي الرق وأعطته إلى لانغدون. بالرغم من أن لانغدون كان قد قرأ القصيدة عدة مرات في الطائرة، إلا أنه لم يتمكن من الخروج منها بأي مكان محدد للضريح. أما الآن عندما بدأ يقرأ الكلمات ثانية، أخذ يستوعبها بعناية وبطء أكثر من قبل على أمل أن تكشف له التفعيلات الخماسية عن معنى أوضح الآن وقد أصبح على اليابسة. في لندن يرقد فارس دفنه بابا. جلبت له أعماله عقاباً إلهياً. أنت تبحث عن كرة ملكية يُفترض أنها موجودة على قبره. تحكي قصة جسد وردي ورحم حمل روحاً في قلبه. كانت الكلمات بسيطة للغاية. فهناك فارس مدفون في لندن. فارس فعل شيئاً أغضب الكنيسة. فارس كان ضريحه يفتقد إلى كرة كان يجب أن تكون موجودة فيه. أما الإشارة الأخيرة في القصيدة - جسد وردي ورحم حمل روحاً في قلبه - فكانت تقصد مريم المجدلية الوردة التي حملت بذرة المسيح. وبالرغم من الصراحة والوضوح اللذين اتسمت بهما القصيدة، إلا أن لانغدون لا زال يجهل تماماً هوية ذلك الفارس والمكان الذي دفن فيه. إضافة إلى أنهم حتى إذا تمكنوا من العثور على الضريح، فهم لا زالوا يبحثون عن شيء غير موجود. الكرة التي يجب أن تكون على قبره؟ "لم تخرج بأية فكرة؟" سأله تيبينغ وقد بدت عليه خيبة الأمل، إلا أن لانغدون أحس بأن المؤرخ الملكي كان مستمتعاً بأنه قد تفوق عليه هذه المرة. "ماذا عنك آنسة نوفو؟". هزت رأسها هي الأخرى. "ماذا يمكن أن تفعلا بدوني؟" قال تيبينغ. "حسن جداً، سأدلكما على الطريق. إن الأمر بسيط للغاية. فالسطر الأول هو المفتاح. هلا قرأته لو سمحت؟". قرأ لانغدون بصوت عال. "في لندن يرقد فارس دفنه بابا". "بالضبط، فارس دفنه بابا"، ونظر في عيني لانغدون مباشرة. "ما الذي تفهمه من هذا الكلام؟" هز لانغدون كتفيه. "فارس دفنه بابا؟ فارس كان على رأس جنازته بابا؟". قهقه تيبينغ بصوت عال. "آه منك ومن تفاؤلك يا روبرت. انظر إلى السطر الثاني. من الواضح أن هذا الفارس قد فعل شيئاً تسبب له بعقاب مقدس من الكنيسة. فكر ثانية. وتذكر الخلاف بين فرسان الهيكل والكنيسة. فارس دفنه بابا؟". "فارس قتله بابا؟" سألت صوفي. ابتسم تيبينغ وربت على ركبتها. "أحسنت عزيزتي. فارس قتله بابا". تذكر لانغدون الهجوم الشهير على فرسان الهيكل عام 1307 يوم الجمعة الثالث عشر المشؤوم عندما قتل البابا كليمانت المئات من فرسان الهيكل. "لكن لا بد وأن هناك قبوراً لا تعد ولا تحصى لفرسان قتلوا على يد البابوات". "كلا هذا ليس صحيحاً!"، قال تيبينغ. "فقد حرق معظمهم على الخازوق ورمي الآخرون بكل احتقار في نهر التيبر. لكن هذه القصيدة تشير إلى ضريح. ضريح في لندن تحديداً. وقلة هم الفرسان الذين دفنوا في لندن". صمت لحظة ونظر إلى لانغدون وكأنه ينتظر أن تلمع الفكرة في رأسه. وأخيراً تأفف منه. "روبرت حباً بالله! الكنيسة التي بنيت في لندن على يد القوة العسكرية لأخوية سيون، فرسان الهيكل أنفسهم!". "كنيسة الهيكل؟" أخذ لانغدون نفساً طويلاً وقد أصابته الدهشة. "هل يوجد فيها ضريح؟". "أكثر عشرة قبور إثارة للرعب ستراها في حياتك". لم يسبق للانغدون أن زار كنيسة الهيكل، على الرغم من أنه قد مرّ بذكرها عدة مرات خلال الأبحاث التي أجراها حول أخوية سيون. فقد كانت هذه الكنيسة في يوم من الأيام مركزاً لكافة فعاليات فرسان الهيكل وأخوية سيون في المملكة المتحدة. وقد سميت هذه الكنيسة بكنيسة الهيكل تيمناً بمعبد سليمان الذي أخذ فرسان الهيكل لقبهم منه أساساً وكذلك وثائق الدم الملكي التي منحتهم ذلك النفوذ العظيم في روما. وقد كثرت الأقاويل حول تأدية الفرسان لطقوس غريبة وسرّية داخل الحرم غير العادي لكنيسة الهيكل. "هل كنيسة الهيكل حقاً في شارع فليت؟". "في الحقيقة، إن الكنيسة تقع بالقرب من شارع فليت في زقاق المعبد الداخلي". بدا الخبث واضحاً على تيبينغ. "لقد أردت فقط أن أراكما تتعبان قليلاً قبل أن أكشف ذلك". "شكراً لك". "ألم تقوما بزيارة هذه الكنيسة أبداً؟". هز لانغدون وصوفي رأسيهما نفياً. "لا أستغرب ذلك"، قال تيبينغ، "فالكنيسة الآن قد اختفت وراء أبنية أكبر منها بكثير. والقلة القليلة من الناس تعرف بوجود الكنيسة هناك أصلاً في ذلك المكان القديم المخيف والذي تتسم عمارته في صميمها بأنها عمارة عباد الطبيعة الوثنيين". بدت صوفي مندهشة. "عمارته وثنية؟". "وثنية حتى النخاع!" هتف تيبينغ. "فالكنيسة دائرية. حيث أن فرسان الهيكل قد تجاهلوا في تصميمها المخطط المسيحي التقليدي الصليبي الشكل وبنوا كنيسة بشكل دائرة كاملة تكريماً للشمس". ورقّص حاجبيه بمكر. "ولم تكن تلك حركة لطيفة تنم عن احترام للشباب هناك في روما، ولم يكن ينقص إلا أن ينصبوا أعمدة حجرية كمعبد للشمس في وسط لندن حتى يعبروا عن استهزائهم بالكنيسة". نظرت صوفي إلى تيبينغ. "ماذا عن تتمة القصيدة؟". تلاشت سيماء المرح من وجه المؤرخ. "لا أعرف تماماً. فهي محيرة. علينا أن نتفحص كلاً من القبور العشرة بعناية. وإذا حالفنا الحظ فسيظهر لنا أن أحدها قد فقد كرته". أدرك لانغدون أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى غايتهم المنشودة. إذا كشفت الكرة المفقودة الكلمة السرّية، فسيكون بإمكانهم فتح الكريبتكس الثاني. إلا أنه وجد صعوبة في تصور ما قد يجدونه داخله. تأمل لانغدون القصيدة من جديد. كانت كأحجية بدائية من الكلمات المتقاطعة. كلمة من خمسة أحرف تصف الغريل؟ لقد جربوا، عندما كانوا على متن الطائرة، كل الكلمات السرّية المحتملة مثل غريل وغرال وفينوس ومريم ويسوع وسارة، لكن الأسطوانة لم تنفتح. فقد كانت تلك الكلمات واضحة جداً لدرجة أنها لا يمكن أن تكون كلمة سرّ. يبدو أن هناك كلمات أخرى من خمسة أحرف تشير إلى رحم الوردة الذي يحمل سلالة المسيح. وفكرة أن تلك الكلمة قد فاتت اختصاصياً كتيبينغ، لم تكن تعني إلا أمراً واحداً وهو أن تلك الكلمة لم تكن كلمة مألوفة من حيث علاقتها بالغريل. "سير لاي؟" ناداه ريمي الذي كان يراقبهم من خلال المرآة الخلفية عبر الحاجز المفتوح. "هل قلت إن شارع فليت يقع بالقرب من جسر بلاكفرايرز؟". "نعم، اذهب عن طريق جسر فيكتوريا". "أنا آسف، لكنني لا أعرف أين يقع هذا الجسر. فنحن لا نذهب عادة إلا إلى المستشفى". دور تيبينغ عينيه إلى لانغدون وصوفي وتذمر، "أقسم أنني أحياناً أشعر وكأنني أقوم برعاية طفل صغير. لحظة من فضلكما. أرجو أن تتفضلا وتأخذا بعض المشروبات والوجبات الخفيفة الشهية". وانصرف عنهما قليلاً وتقدم إلى الأمام ليتكلم مع ريمي عبر الفاصل. التفتت صوفي إلى لانغدون الآن، وقالت له بصوت منخفض: "روبرت، لا أحد يعلم أنني وأنت في إنجلترا". انتبه لانغدون أنها كانت على حق. فستخبر شرطة كنت فاش أن الطائرة كانت خالية وسيفترض فاش عندها أنهما لا زالا في فرنسا. لقد اختفينا عن الأنظار تماماً الآن. لقد جعلتهما خدعة تيبينغ الصغيرة يكسبان الكثير من الوقت. "لن يستسلم فاش بسهولة"، قالت صوفي. "فمستقبله المهني برمته يعتمد على هذه العملية الآن". لقد كان لانغدون يحاول طوال الوقت ألا يفكر في فاش. لقد وعدته صوفي أن تبذل كل ما في وسعها لتبرئة لانغدون عندما ينتهي كل هذا، لكن لانغدون قد بدأ يخشى أن ذلك لم يعد باستطاعتها. فقد يكون فاش نفسه جزءاً من هذه الحبكة. وبالرغم من أن لانغدون لم يكن يتصور أن تكون الشرطة القضائية متورطة في قضية الكأس المقدسة، إلا أنه أحس أن الأحداث التي جرت الليلة كانت أكثر من مجرد مصادفة وأن كل الدلائل كانت تشير إلى أن فاش قد يكون خصماً محتملاً. ففاش رجل متدين وهو مصرّ على أن يلصق بي تلك التهم. لكن صوفي كانت مصرة على أنه كان متحمساً جداً لإلقاء القبض عليه لأن الأدلة ضده كانت قوية جداً. فقد كان اسم لانغدون مكتوباً بخط يد الضحية سونيير على أرض اللوفر وفي مفكرته أيضاً. إضافة إلى أنه بدا الآن وكأنه كان قد كذب بخصوص مخطوطه. وهروبه من التحقيق - بناء على اقتراح صوفي. "روبرت، أنا آسفة لأنك قد تورطت كثيراً في هذا الأمر". قالت صوفي ووضعت يدها على ركبته. "لكنني سعيدة جداً أنك هنا معي". بدا تعليقها هذا عملياً أكثر منه رومانسياً، غير أن لانغدون شعر فجأة بموجة من الانجذاب نحوها. وابتسم في وجهها وقد ظهر التعب على وجهه. "إن رفقتي ألطف بكثير عندما أكون مرتاحاً ونائماً". صمتت صوفي لعدة لحظات. "لقد أوصاني جدي بأن أثق بك. وأنا سعيدة لأنني قد استمعت لنصيحته لأول مرة في حياتي". "لكن جدك لم يكن يعرفني". "ومع ذلك، فلا يسعني إلا أن أفكر أنك قمت بكل شيء وفقاً لرغباته. فقد ساعدتني على إيجاد الحجر المفتاح وحدثتني عن الدم الملكي وأخبرتني عن الطقس الذي شهدته في القبو"، توقفت عن الكلام للحظة. "أنا أشعر الليلة بأنني قريبة إلى جدي أكثر من أي وقت مضى. وأنا واثقة من أنه سيكون سعيداً لحصول هذا". بعيداً أخذت لندن تظهر في الأفق شيئاً فشيئاً الآن من بين قطرات المطر التي غسلت صباحها الندي. هذا الأفق الذي كان يوماً تطل منه ساعة بيغ بين وبرج الجسر، انحنى اليوم لعين الألفية، وهي عجلة فيريس عملاقة - آلة ميكانيكية يركبها الناس في حدائق الملاهي - كانت على ارتفاع خمسمائة قدم، تظهر منها المدينة بأبهى حللها. حاول لانغدون أن يركبها مرة، إلا أن "غرف المراقبة الصغيرة" فيها ذكرته بالنواويس الحجرية المغلقة، ففضل أن يبقي قدميه على الأرض ويكون بأمان متمتعاً بالمنظر من ضفاف نهر التايمز. شعر لانغدون بضغط على ركبته أعاده من شروده، وكانت عينا صوفي الخضراوين عليه. فأدرك أنها كانت تتحدث إليه. "ماذا يجب أن نفعل برأيك بوثائق السانغريال إذا ما عثرنا عليها؟" همست له. "إن رأيي لا أهمية له"، قال لانغدون. "لقد ترك لك جدك الكريبتكس، ويجب عليك أنت أن تفعلي ما يمليه عليك عقلك وقلبك". "أنا أود أن أعرف رأيك. فمن الواضح أنك كتبت شيئاً في مخطوطك جعل جدي يثق بحكمك. وقد حدد موعداً للقاء خاص معك وهذا أمر نادر الحدوث". "ربما أراد أن يقول لي بأن ما كتبته كان خطأً". "لماذا طلب مني إذن أن أعثر عليك؟ لا بد أنه كان معجباً بأفكارك. هل كنت مشجعاً في كتابك لفكرة أنه يجب كشف وثائق الدم الملكي، أم أنها يجب أن تبقى مدفونة في الخفاء؟". "لم أُبدِ أي رأي في هذا الموضوع. فكتابي يتحدث عن الرمزية المتعلقة بالأنثى المقدسة. والعودة إلى جذورها الأيقونية عبر التاريخ. ولم أدّعِ نهائياً أنني على علم بالمكان الذي خبئت فيه الغريل ولم أبد رأيي بخصوص كشف تلك الوثائق". "ومع ذلك فقد كتبت كتاباً عنها، لذا فلا بد أن يكون شعورك بأن هذه المعلومات يجب أن يعرفها كل الناس". "هناك فرق شاسع بين مناقشة تاريخ بديل للمسيح، و...". وصمت للحظة. "وماذا؟". "وتقديم آلاف من الوثائق القديمة للعالم بأسره على أنها دليل علمي يثبت أن العهد الجديد هو دليل زائف عن تاريخ المسيح". "لكنك قلت لي إن الإنجيل يحتوي على معلومات ملفقة ومختلقة". ابتسم لانغدون. "صوفي، إن كل دين في العالم يعتمد على اختلاق لأشياء غير موجودة في الحقيقة. إن هذا هو تعريف الدين فهو الإيمان بأمور نعتقد بأنها حقيقية، أشياء لا يمكننا أن نثبت وجودها أو صحتها. إن كل دين من الأديان يصف الرب من خلال الرموز والصور والمبالغات، بدءاً من المصريين القدماء وحتى مدرسة الأحد المعاصرة. فالرموز هي إحدى الطرق التي تساعد عقولنا على استيعاب ما لا يمكن فهمه. وتنشأ المشاكل عندما نبدأ بالإيمان فعلياً بالرموز التي وضعناها نحن بأنفسنا". "إذن أنت تحبذ إبقاء وثائق الدم الملكي مدفونة إلى الأبد؟". "أنا مؤرخ. لذا فأنا أعارض رمي الوثائق والتخلص منها، ويسرني أن أرى الباحثين في الأديان يحصلون على معلومات أكثر ليتمكنوا من تأمل حياة يسوع المسيح الاستثنائية". "أنت تناقش سؤالي من الجهتين". "إن الإنجيل يمثل قانوناً أساسياً يسير على نهجه ملايين البشر في الكرة الأرضية، والحال نفسه في القرآن والتوراة وكتاب الهند القديمة، فهي تهدي الناس الذين يتبعون الأديان الأخرى. وإذا قمنا، أنا وأنت، بالكشف عن وثائق تناقض قصصاً مقدسة رويت في الديانة الإسلامية واليهودية والبوذية والوثنية، فهل نفعل ذلك؟ هل نعلن الحرب على البوذيين ونقول لهم إن بوذا لم يأتِ في الحقيقة من زهرة لوتس؟ أو أن المسيح لم يولد من أم عذراء فعلاً؟ إن أولئك الذين يفهمون دينهم حقاً، يعرفون أن كل تلك الروايات هي روايات رمزية". بدت صوفي مشككة. "إن أصدقائي من المسيحيين المتدينين لديهم إيمان كامل بأن المسيح مشى على الماء، وحوّل الماء إلى نبيذ حقاً، وولد من أم عذراء فعلاً". "هذا يثبت وجهة نظري تماماً"، قال لانغدون. "فالرموز الدينية قد أصبحت جزءاً من نسيج الحقيقة. والعيش في هذه الحقيقة يساعد ملايين الناس على تحمّل هذه الحياة والتأقلم معها ويدفعهم ليكونوا أناساً أفضل". "لكن يبدو أن حقيقتهم زائفة". ضحك لانغدون. "ليست أكثر زيفاً من عالمة في تحليل الرموز الرياضية تؤمن بالرقم الخيالي “i” لأنه يساعدها على فك الشيفرات". كشّرت صوفي. "هذا ليس عدلاً". مرت لحظات... "ماذا كان سؤالك؟" سأل لانغدون. "لم أعد أذكر". فابتسم لانغدون. "إن هذه الحيلة تنطلي على الناس كل مرة". الفصل الثالث والثمانون أشار عقرب ساعة لانغدون الميكي ماوس إلى السابعة والنصف عندما ترجل من الليموزين الجاغوار هو وصوفي وتيبينغ في زقاق المعبد الداخلي. ومشى الثلاثة في متاهة من الأبنية حتى انتهوا في ساحة صغيرة خارج كنيسة الهيكل. لمع الحجر الخشن في مياه الأمطار وسجع الحمام الذي كان معششاً في البناء. كانت كنيسة الهيكل القديمة في لندن مبنية بالكامل من حجر كاين الذي أتي به من شمال فرنسا. كان بناؤها متميزاً ذا مخطط دائري وواجهة غريبة، كما كان فيها برج مركزي وصحن متوسع من طرف واحد فقط. بدت الكنيسة أشبه بمعقل عسكري من دار للعبادة. تم تكريس الكنيسة في العاشر من شباط عام 1185 على يد هيراكليوس بطريرك القدس. وقد عايشت هذه الكنيسة ثمانية قرون من الاضطرابات السياسية حيث تمكنت من النجاة من حريق لندن الكبير والحرب العالمية الأولى، إلى أن تضررت بشدة من قنابل طائرات الرايخ التي تسببت في إحراقها عام 1940، أما بعد الحرب، فقد تم ترميمها وأعيدت إلى عظمتها الأصلية. فكر لانغدون ببساطة بالمخطط الدائري، حيث كانت هذه هي المرة الأولى التي يتأمل فيها جمالها. كانت عمارة الكنيسة خشنة وبسيطة، تذكّر بقلعة سانت أنجلو القوية والقاسية في روما أكثر من معبد البانثيون الفخم الأنيق. كان البناء الصندوقي الشكل الملحق بالكنيسة من جهة اليمين، شوكة كريهة في عين الناظر. إلا أنه لم يؤثر كثيراً على بنية الكنيسة الأصلية. "إننا في صباح السبت"، قال تيبينغ وهو يمشي برجله العرجاء نحو المدخل. "لا أظن أننا سنضطر للتعاطي مع أي مسؤول عن الخدمات هنا". كان مدخل الكنيسة عبارة عن محراب حجري في وسطه باب خشبي كبير. وقد علقت على يسار الباب لوحة نشرات كان مكانها غير مناسب على الإطلاق تغطيها مواعيد حفلات موسيقية وإعلانات لمناسبات دينية. قطب تيبينغ حاجبيه عندما قرأ ما كتب على اللوحة. "لا تفتح الأبواب للزوار إلا بعد بضع ساعات". تقدم نحو الباب وحاول فتحه. إلا أن الباب لم يتزحزح فوضع أذنه على الباب الخشبي وحاول أن ينصت. وبعد لحظات تراجع إلى الخلف وقد ارتسمت على وجهه نظرة تنطق خبثاً وأشار بيده إلى لوحة النشرات. "روبرت، هلاّ ألقيت نظرة على برنامج المناسبات الدينية؟ من الذي سيترأسها هذا الأسبوع؟". أما داخل الكنيسة، فكان صبي المذبح يكاد ينتهي من تنظيف وسادات الركوع أثناء المناولة، عندما سمع صوت طرق على باب الحرم. فتجاهله، فالكاهن هارفي نولز لديه مفتاح كما أنه لن يأتي الآن فموعده هنا بعد عدة ساعات. ربما يكون ذلك أحد السياح الفضوليين أو أحد الفقراء بحاجة إلى ملجأ. استمر صبي المذبح بالتنظيف، لكن الطرق استمر. ألا يعرفون القراءة؟ فقد كتب على باب الكنيسة بوضوح أنها لا تفتح أبوابها قبل الساعة التاسعة والنصف صباحاً أيام السبت. وتابع صبي المذبح عمله. وفجأة تحول الطرق إلى ضربات عنيفة، وكأن أحداً كان يضرب الباب بعصا معدنية. عندها أطفأ الشاب المكنسة الكهربائية وتقدم بغضب نحو الباب. وأدار القفل من الداخل وفتح الباب على مصراعيه. كان هناك ثلاثة أشخاص يقفون عند المدخل. لا بد أنهم سياح.. تمتم بحنق. "نحن نفتح في الساعة التاسعة والنصف". تقدم الرجل البدين، الذي يبدو أنه دليلهم، إلى الأمام مستعيناً بعكازيه المعدنيين. "أنا السير لاي تيبينغ"، قال الرجل بلهجة بريطانية تنم عن مكانته الرفيعة. "لا بد أنك على علم بأنني أرافق السيد كريستوفر رين الرابع وحرمه". وتنحى جانباً وأومأ متباهياً إلى الزوجين الجذابين. كانت المرأة تتمتع بوجه ناعم الملامح وشعر كثيف خمري اللون. أما الرجل فكان طويل القامة وشعره غامق وكان وجهه يبدو مألوفاً للغاية. لم يعرف صبي المذبح كيف يجيب. فقد كان السير كريستوفر رين أهم المحسنين لكنيسة الهيكل. وبفضله تم ترميم الكنيسة بعد الأضرار الجسيمة التي تعرضت لها من جراء الحريق الكبير. وقد مات في بداية القرن الثامن عشر. "تشرفت بلقائكم". قطب الرجل ذو العكازات. "حمداً لله أنك لا تعمل في مجال البيع أيها الشاب، فأنت لا تعرف كيف تتعامل مع الناس. أين الكاهن نولز؟". "إن اليوم هو السبت وهو يأتي عادة في وقت متأخر هذا اليوم". ازداد عبوس الرجل الأعرج. "يا لذوق هذا الرجل، لقد أكد لي أنه سيكون هنا، لكن يبدو أننا سنقوم بالجولة لوحدنا. لن يستغرق ذلك وقتاً طويلاً على أية حال". ظل صبي المذبح واقفاً أمام الباب ولم يتزحزح. "أنا آسف، لكن ما هو الذي لن يستغرق وقتاً طويلاً؟". نظر إليه الزائر بحدة الآن وانحنى قليلاً إلى الأمام وهمس للشاب وكأنه يريد أن يجنب الجميع إحراجاً لا داعي له. "أيها الشاب، من الواضح أنك جديد هنا. فكل عام يقوم المتحدرون من سلالة السير كريستوفر رين بإحضار حفنة من رفات الرجل الميت لنثرها في حرم المعبد. لقد كانت هذه إحدى رغباته ووصيته التي أرادها أن تتحقق بعد موته. وهذه الرحلة لا تسر أحداً هنا لمعلوماتك، لكن ما الذي يمكننا فعله؟". لقد مضى على وجود صبي المذبح عدة سنوات يعمل هنا لكنه لم يسمع أبداً بهذا الأمر. "يفضل أن تنتظروا حتى التاسعة والنصف، فالكنيسة لم تفتح بعد، وأنا لم أنته بعد من تنظيف المكان". حملق الرجل ذو العكازين فيه بحنق. "أيها الشاب، إذا كان هناك أي بناء قد ظل باقياً حتى الآن لتنظفه، فذلك بفضل الرجل الطيب الذي تحمله تلك المرأة في جيبها". "عفواً؟". "سيدة رين"، قال الرجل الأعرج، "هلا تفضلت وأريت هذا الشاب الوقح الوعاء الذي يحتوي على رفات الرجل". ترددت المرأة للحظة ثم وضعت يدها في جيبها، وكأنها تستفيق من حالة ذهول عن الدنيا، وأخرجت أسطوانة صغيرة لفت بقماش واق. "ها هو، أرأيت؟" انفجر الرجل في وجهه. "والآن، إما أن تساعدنا على تحقيق رغبة رجل ميت وتدعنا ننثر رفاته في الحرم أو سأخبر السيد نولز عن الطريقة السيئة التي قوبلنا بها". تردد صبي المذبح الذي كان يعرف تماماً حرص السيد نولز على تقاليد الكنيسة... والأهم من هذا كله، هو أنه كان على علم بمزاجه الكريه الذي يتعكر إذا مس الضريح المقدس الذي يعد أهم شيء في حياته أي شيء غير أشعة الشمس اللطيفة. ربما نسي السيد نولز ببساطة أمر قدوم أفراد هذه العائلة. وإذا كانت هذه هي الحال، فإن من الأفضل له أن يدخلهم بدلاً من أي يخاطر بعمله إذا رفض أن يدخلهم إلى الكنيسة. فعلى أية حال، قالوا إن الأمر لن يستغرق أكثر من دقيقة واحدة. ما الضرر الذي قد ينتج عن ذلك؟ وعندما تنحى صبي المذبح ليفسح لهم المجال ليدخلوا، كاد يقسم أن السيد والسيدة رين بديا مرتبكين ومتفاجئين مما حدث مثله تماماً. عاد الشاب إلى عمله والشك يسيطر عليه وأخذ يراقبهم بطرف عينه. لم يستطع لانغدون أن يمنع نفسه من الابتسام بينما كانوا يتقدمون داخل الكنيسة. "لاي"، همس لانغدون، "أنت أكبر كذاب رأيته في حياتي". لمعت عينا تيبينغ. "نادي المسرح في أوكسفورد. لا زال الجميع هناك يتحدثون عن أدائي في مسرحية يوليوس قيصر. أنا واثق من أنه لم يسبق لأي أحد أن مثّل المشهد الأول من الفصل الثالث بالبراعة التي أديت دوري فيها". "نظر لانغدون إليه. "لكنني اعتقدت أن قيصر كان ميتاً في ذلك المشهد". فضحك تيبينغ. "هذا صحيح، لكن ثوبي الروماني تمزق عندما وقعت، فاضطررت أن أستلقي لنصف ساعة بكاملها وعضوي متدلٍ من الثوب. وبالرغم من ذلك فلم يرمش لي جفن. لقد كنت رائعاً صدقني". شعر لانغدون بالإحراج. آسف لأنها فاتتني. بينما أخذت المجموعة تتقدم إلى الأمام عبر ملحق الكنيسة المستطيل الشكل نحو الممر المقنطر المؤدي إلى الكنيسة، كان لانغدون متفاجئاً من بساطة الكنيسة وتقشفها. بالرغم من أن تصميم المذبح كان يشبه مثيله في الكنائس المسيحية التقليدية، إلا أن قطع الأثاث كانت قليلة وباردة. ولم تكن تحمل أي زخرفة أو نقوش تقليدية. "يا للكآبة"، همس لانغدون. ضحك لانغدون. "كنيسة إنجليزية. إن الإنجليكان يشربون دينهم مباشرة. لا يحبون أن يلهيهم أي شيء عن تعسهم". أشارت صوفي إلى الفتحة الواسعة المؤدية إلى القسم الدائري للكنيسة. يبدو ذلك أشبه بقلعة"، همست صوفي. وافقها لانغدون، فقد لاحظ قبل حتى أن يدخل أن الجدران كانت خشنة غليظة. "كان فرسان الهيكل محاربين غلاظ القلب"، ذكّرهما تيبينغ، وصوت عكازي الألمنيوم يتردد في هذه المساحة الخالية. "كانوا يشكلون مجتمعاً دينياً عسكرياً. وكانت كنائسهم هي معاقلهم وبنوكهم في آن معاً". "بنوك؟" سألت صوفي وهي تنظر إلى لاي. "نعم، بالطبع. ففرسان الهيكل هم الذين اخترعوا فكرة البنوك التي نعرفها اليوم. فبالنسبة للنبلاء الأوروبيين، كان سفرهم، وهم يحملون الذهب، أمراً خطيراً، لذا فقد سمح فرسان الهيكل لأولئك النبلاء بأن يودعوا الذهب في أقرب كنيسة معبد إليهم، ثم يسحبوه من أي كنيسة معبد أخرى في أي مكان في أوروبا. وكل ما كانوا بحاجة إليه هو امتلاك الوثائق الصحيحة التي تثبت ملكيتهم للذهب". غمزها تيبينغ. "بالإضافة إلى عمولة بسيطة. لقد كانوا آلات الصرف الأصلية". أشار تيبينغ إلى نافذة زجاجية حيث كانت أشعة الشمس تنكسر عبر تمثال أبيض لفارس يمتطي جواداً وردي اللون. "ألانوس مارسيل"، قال تيبينغ. "رئيس المعبد في أوائل القرن الثاني عشر. وقد احتل هو ومن خلفه المقعد النيابي كبارون أول في المملكة –Primus Baro Angiae". تفاجأ لانغدون. "البارون الأول في المملكة؟". أومأ تيبينغ. "فقد كان رئيس المعبد، كما يدّعي البعض، يتمتع بنفوذ وصلاحيات أوسع حتى من الملك نفسه". وعندما أصبحوا خارج الغرفة المستديرة، ألقى تيبينغ نظرة خاطفة إلى صبي المذبح، فرأى أنه لا زال ينظف المكان بمكنسته الكهربائية. "هل تعلمين"، همس تيبينغ لصوفي، "أنه يحكى أن وثائق الكأس المقدسة قد خبئت مرة في هذه الكنيسة لليلة واحدة بينما كان فرسان الهيكل ينقلونها من مخبأ إلى آخر. هل تتصورين أن أربعة صناديق ضخمة تحتوي على وثائق السانغريال كانت هنا مع تابوت مريم المجدلية الحجري؟ إن مجرد تخيلي لذلك المنظر يصيب جسدي بقشعريرة". شعر لانغدون أيضاً بقشعريرة تسري في جسده عندما دخلوا إلى الغرفة المستديرة. حيث تابعت عيناه درجة انحناء الحدود الخارجية لأحجار الغرفة الشاحبة، فرأى منحوتات الكرغل القبيحة إلى جانب منحوتات تمثل شياطين ووحوشاً ووجوهاً إنسانية متألمة، وكانت كلها تحدق إلى مركز الغرفة الدائرية. وتحت المنحوتات كانت هناك مصطبة حجرية وحيدة تلتف بشكل دائري على محيط الغرفة بالكامل. "مسرح دائري"، همس لانغدون. رفع تيبينغ عكازه مشيراً إلى أقصى يسار الغرفة ثم إلى أقصى يمينها. كان لانغدون قد رآهم قبل حتى أن يشير تيبينغ إليهم. عشرة فرسان من الحجر. خمسة إلى اليمين. وخمسة إلى اليسار. كانت التماثيل بالحجم البشري ترقد على الأرض بسلام متخذة وضعية الاستلقاء على الظهر. وقد تم تصوير الفرسان وهم يحملون دروعهم وسيوفهم، شعر لانغدون لدى رؤيته لتلك التوابيت بإحساس مخيف وكأن أحداً ما قد تسلل إلى الغرفة وصبّ جصاً على الفرسان وهم نيام. كانت كل التماثيل قد تعرضت للتخريب بفعل العناصر الجوية، لكن بالرغم من ذلك، كان كل منها مميزاً بوضوح من حيث قطع الدروع ووضع الأذرع والأرجل وتعابير الوجه والعلامات على الدروع. في لندن، يرقد فارس قتله بابا... شعر لانغدون أنه يرتجف عندما أخذ يسير ببطء داخل الغرفة المستديرة. لا بد أن هذا هو المكان المنشود. الفصل الرابع والثمانون أوقف ريمي لوغالوديك الليموزين الجاغوار وراء صف من حاويات مخلفات صناعية، في زقاق تملأه القمامة المنتشرة في كل مكان بالقرب من كنيسة الهيكل. أطفأ ريمي المحرك ثم تفحص المكان حوله. لا أحد هناك، كان المكان خالياً. خرج من السيارة ومشى نحو الخلف وصعد من جديد إلى السيارة لكن هذه المرة إلى المقصورة الأساسية حيث كان الراهب مرمياً. أحس الراهب بحضور ريمي، فخرج من حالة اللاوعي الأشبه بالصلاة. وبدت عيناه المحمرتان وكأنهما تنطقان بالفضول أكثر من الخوف. كان ريمي منبهراً طوال المساء من قدرة هذا الرجل المقيد على المحافظة على هدوئه. فبعد المقاومة التي أبداها الراهب في الرانج روفر، بدا وكأنه تقبل الورطة التي أوقع نفسه فيها وسلّم أمره إلى قوى إلهية أعلى من الجميع. حلّ ريمي ربطة عنقه وفك الأزرار العلوية وياقة قميصه المكوي المنشّى وشعر بأنه يستطيع أن يتنفس للمرة الأولى منذ سنين طويلة. ثم اتجه نحو بار المشروبات في الليموزين وصب لنفسه كأساً من فودكا سميرنوف وشربه دفعة واحدة وأتبعه بآخر. قريباً سأصبح رجلاً حراً. بحث ريمي في البار عن أداة حادة فوجد فتاحة زجاجات النبيذ، نقرها بإصبعه فظهرت شفرة سكين حادة تستخدم عادة في قطع الغطاء المعدني لفلين زجاجات النبيذ، لكنها ستستعمل هذا الصباح لهدف أكثر أهمية. التفت ريمي وواجه سيلاس وهو يرفع بيده الشفرة اللماعة. والآن لمعت تلك العينان الحمراوان بالرعب الشديد. ابتسم ريمي وتقدم نحو مؤخرة الليموزين. تراجع الراهب وحاول أن يقاوم قيوده. "لا تتحرك"، همس ريمي وهو يرفع السكين. لم يكن سيلاس يستطيع أن يصدق أن الرب قد تخلى عنه. فحتى الألم الجسدي المبرح الذي كان يحسه من جراء قيوده، استطاع أن يحوله إلى تمرين روحي وهو يطلب من النبض في عضلاته المتعطشة للدم، أن يذكره بالألم الذي تحمله المسيح. لقد كنت أصلي طوال الليل متوسلاً أن يحررني الرب. والآن عندما شقت السكين طريقها إليه، أغمض سيلاس عينيه. شعر سيلاس بألم رهيب يمزق كتفيه. وصرخ بصوت عال وهو لا يصدق أنه سيموت هنا في مؤخرة الليموزين دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه. لقد كنت أقوم بعمل الرب. قال المعلم إنه سيحميني. أحس سيلاس بقرصة من السخونة تسري في ظهره وكتفيه، فبدأ يتخيل دمه يسيل على جسده. وأحس الآن بألم يمزق فخذيه كما لو أن سيخاً من النار يمرّ من خلالهما. وبدأ يدخل في حالة فقدان وعي وهي ميكانيكية دفاع في الجسم ضد الألم. وعندما أخذت الحرارة تنتشر في جسمه كله، أطبق عينيه بإحكام أكثر مصمماً ألا تكون آخر صورة في عقله هي صورة قاتله. فتخيل عوضاً عنها صورة القس أرينغاروزا عندما كان شاباً، وهو يقف أمام الكنيسة الصغيرة في إسبانيا... الكنيسة التي بناها وسيلاس بأيديهما. كانت تلك بداية حياتي.. شعر سيلاس وكأن جسمه كله يحترق. "اشرب"، همس الرجل الذي يرتدي بذة رسمية بلكنة فرنسية. "سيساعد الشراب على جريان الدم في عروقك". فتح سيلاس عينيه مذهولاً من هول المفاجأة. كانت صورة الرجل غير واضحة تماماً وهو يقدم له كأساً من الشراب. وكومة من الشرائط اللاصقة الممزقة على أرض السيارة بجانب السكين التي لم تكن عليها ولا قطرة دم. "اشرب هذا"، قال ثانية. "إن الألم الذي تشعر به هو من الدم الذي يندفع بسرعة في عضلاتك". أحس سيلاس أن النبض الحارق قد تحول الآن وخزات لاسعة. كان طعم الفودكا رهيباً، لكنه شربها على أية حال وهو يشعر بالامتنان. فقد وجه إليه القدر هذه الليلة ضربات مؤلمة من الحظ السيئ، لكن الرب خلصه من كل ذلك بمعجزة غيرت مجرى الأحداث. لم يتخلَّ ربي عني. عرف سيلاس ما قد يطلق القس أرينغاروزا على حادثة كهذه.. تدخل إلهي. "لقد كنت أريد أن أفك وثاقك من قبل"، اعتذر الخادم، "لكن ذلك كان مستحيلاً. مع اقتحام الشرطة لقصر فيليت، ثم ما حدث في مطار بيغينغ هيل. هذه كانت اللحظة الأولى التي أمكنني فعل ذلك فيها. أنت تفهم قصدي سيلاس، أليس كذلك؟". تراجع سيلاس مذهولاً. "أنت تعرف اسمي؟". ابتسم الخادم. جلس سيلاس الآن، وأخذ يفرك عضلاته المتيبسة، وهو يشعر بسيل من الانفعالات والعواطف تعتمل في نفسه بين عدم التصديق والامتنان والارتباك. "هل أنت... المعلم؟". هز ريمي رأسه نافياً وضحك من هذه الفكرة. "أتمنى لو أنني اتمتع بقوة من هذا النوع. كلا، لست أنا المعلم. بل أنا أخدمه مثلك تماماً. لكن المعلم يتحدث عنك بإعجاب. اسمي ريمي". كان سيلاس مذهولاً. "أنا لا أفهم، إذا كنت تعمل لدى المعلم، لماذا إذن أحضر لانغدون الحجر المفتاح إلى منزلك؟". "إن ذلك ليس منزلي. بل منزل أهم مؤرخ للكأس المقدسة في العالم. السير لاي تيبينغ". "لكنك تسكن هناك. إن الصدفة...". ابتسم ريمي، الذي بدا وكأنه لم يستغرب الصدفة الواضحة التي دفعت لانغدون للمجيء إلى هناك بمحض إرادته. "لقد كان كل شيء متوقعاً تماماً. فقد كان الحجر المفتاح بحوزة لانغدون الذي كان بحاجة للمساعدة. ما هو المكان المنطقي الأمثل ليلجأ إليه غير منزل لاي تيبينغ؟ وكوني أسكن هناك، هو السبب الذي جعل المعلم يلجأ إليّ في المقام الأول". صمت لحظة. "ما الذي جعل المعلم يعرف كل تلك المعلومات عن الكأس المقدسة برأيك إذن؟". فهم سيلاس القصة الآن فعقدت الدهشة لسانه. لقد جنّد المعلم الخادم الذي كان يتمتع بالقدرة على الاطلاع على كافة أبحاث السير لاي تيبينغ. إن المعلم عبقري فعلاً. "هناك الكثير من المعلومات التي يجب أن أطلعك عليها"، قال ريمي، وسلمه مسدس الهيكلر كوخ المحشو بالطلقات. ثم مد يده عبر الفاصل المفتوح وأخذ مسدساً صغيراً بحجم راحة اليد من صندوق القفازات في مقدمة السيارة. "لكن هناك عمل يجب أن نقوم به أنا وأنت أولاً". نزل النقيب فاش من طائرته التي حطت في مطار بيغينغ هيل وأنصت إلى رواية رئيس المحققين في شرطة كنت عما حدث في هنغار تيبينغ وهو لا يصدق أذنيه. "لقد فتشت الطائرة بنفسي"، أصر المفتش، "ولم يكن فيها أي أحد". وقد تغيرت لهجته فأصبح يتحدث بتعجرف. "كما يجب ان أضيف أنه إذا رفع السير لاي تيبينغ قضية ضدي، فسوف...". "هل استجوبت الطيار؟". "بالطبع لا. إنه فرنسي وصلاحيات سلطتنا تتطلب...". "خذني إلى الطائرة". عندما وصل إلى الهنغار، لم يحتج فاش إلى أكثر من ستين ثانية ليلاحظ وجود بقعة غريبة من الدم على الرصيف بالقرب من المكان الذي كانت الليموزين تقف فيه. تقدم فاش نحو الطائرة وضرب بعنف على جسمها. "أنا النقيب في الشرطة القضائية الفرنسية. افتح الباب! فتح الطيار باب الطائرة وهو يرتعد خوفاً وأنزل السلم. صعد فاش إلى الطائرة، وبعد مرور ثلاث دقائق وبمساعدة مسدسه حصل على اعتراف كامل بما فيه أوصاف الراهب الأبرص المقيد. وأخبره الطيار أيضاً أنه قد رأى لانغدون وصوفي يتركان صندوقاً خشبياً في خزنة تيبينغ، وبالرغم أن الطيار أنكر معرفته بمحتوى الصندوق، إلا أنه اعترف بأن ذلك الصندوق كان محط اهتمام لانغدون طوال الوقت الذي استغرقته الرحلة إلى لندن. "افتح الخزنة"، أمره فاش. بدا الطيار مرعوباً. "لا أعرف الرقم السرّي!". "من المؤسف أنك لا تعرف كيف تفتحها، كنت سأدعك تحتفظ برخصتك لو أنك فتحتها". عصر الطيار يديه. "أعرف بعض الرجال في قسم الصيانة هنا. قد نتمكن من ثقبها". "لديك نصف ساعة فقط". وثب الطيار من مكانه ليرسل إشارة لاسلكية إلى الرجال في قسم الصيانة. مشى فاش بسرعة إلى مؤخرة الطائرة وصب لنفسه كأساً من شراب كحولي قوي. كان الوقت لا زال مبكراً، لكنه لم يكن قد نام بعد، لذا فلم يعتبر أنه شرب الكحول قبل الظهر. جلس فاش على الكرسي المنخفض الفخم وأغمض عينيه محاولاً أن يستوعب أحداث الليلة الفائتة. إن الحماقة التي ارتكبتها شرطة كنت قد تكلفني غالياً. كان الجميع الآن يبحثون عن سيارة ليموزين جاغوار. رن هاتف فاش، كان يتمنى أن يحظى بدقيقة من السلام. "آلو؟". "أنا في طريقي إلى لندن"، كان ذلك القس أرينغاروزا. "سأكون هناك في غضون ساعة". عدل فاش من جلسته. "ظننت أنك ذاهب إلى باريس". "أنا في غاية القلق. لقد غيرت خطتي". "لم يكن عليك أن تفعل هذا". "هل عثرت على سيلاس؟". "كلا، فقد فر الذين أسروه من يد الشرطة المحلية قبل أن تصل طائرتي". فانفجر أرينغاروزا بحنق في وجه فاش. "لقد أكدت لي أنك ستوقف الطائرة!". خفض فاش صوته. "أيها القس، نظراً إلى حساسية موقفك، أنصحك بشدة ألا تختبر صبري اليوم بالذات. سأعثر على سيلاس والآخرين بأسرع وقت ممكن. في أي مطار ستنزل؟". "انتظر لحظة". وضع أرينغاروزا يده على السماعة ثم عاد إليه. "إن الطيار يحاول أن يحصل على إذن بالهبوط في مطار هيثرو. فأنا الراكب الوحيد في الطائرة، وتغيير المسار لم يكن مقرراً من قبل". "قل له أن ينزل في مطار بيغينغ هيل لرجال الأعمال في كنت. سأحصل له على إذن هنا. وفي حال لم أكن هناك عندما تصل. سأترك لك سيارة في انتظارك". "شكراً لك". "كما أخبرتك في السابق، أيها القس، تذكر جيداً أنك لست الرجل الوحيد الذي على وشك أن يخسر كل شيء". الفصل الخامس والثمانون أنت تبحث عن كرة ملكية موجودة على قبره. كان كل تمثال من تماثيل الفرسان في كنيسة الهيكل مستلقياً على ظهره ورأسه يرتاح على وسادة حجرية مستطيلة الشكل. سرت قشعريرة في جسم صوفي. فإشارة القصيدة إلى الكرة الملكية أعادت إلى ذاكرتها صوراً من تلك الليلة التي رأت فيها جدها في القبو. الزواج المقدس. الكرات. تساءلت صوفي في نفسها في ما إذا كانت تلك الطقوس قد أديت في هذا الحرم بالذات. فقد بدت هذه الغرفة المستديرة وكأنها قد صممت خصيصاً للقيام بطقوس وثنية كهذه. مع وجود مصطبة حجرية تحيط بفسحة خالية في الوسط. مسرح دائري، كما أحب روبرت أن يطلق عليه. تخيلت صوفي هذه الغرفة في الليل، وهي تعج بأناس يضعون أقنعة على وجوههم وينشدون على ضوء المشاعل، ويشهدون جميعاً طقس "اتحاد مقدس" في وسط الغرفة. صرفت صوفي تلك الصورة من رأسها وتقدمت مع لانغدون وتيبينغ نحو أول مجموعة من الفرسان. بالرغم من إصرار تيبينغ على أن بحثهم يجب أن يتم بدقة وتحقق من التفاصيل مهما كانت صغيرة، إلا أن صوفي كانت متلهفة لرؤية كل شيء دفعة واحدة. لذا فقد سبقتهما وراحت تتجول بين الفرسان الخمسة الموجودين إلى اليسار. نظرت صوفي بإمعان إلى هذه الأضرحة الأولى، فلاحظت أوجه التشابه والاختلاف بينها. كان كل من الفرسان يستلقي على ظهره لكن كانت أرجل ثلاثة من الفرسان ممدودة إلى الأمام، أما الاثنان الآخران فقد كانت أرجلهما متشابكة. لكن يظهر أن هذا الاختلاف لم يكن يدل على الكرة المفقودة. تفحصت صوفي ملابسهم فلاحظت أن اثنين من الفرسان يرتديان فوق الدرع رداء قصيراً مشدوداً عند الخصر. بينما ارتدى الثلاثة الآخرون أثواباً طويلة تصل إلى الكاحل. ومرة أخرى لم يكن ذلك يحمل أي أهمية. صبت صوفي انتباهها الآن على الفرق الآخر الوحيد الذي كان واضحاً للعيان، وهو وضعية أيديهم. فقد كان اثنان من الفرسان يقبضان على سيف. واثنان في وضعية الصلاة وواحد كانت ذراعاه ممدودتين على جانبيه. وبعد أن نظرت طويلاً إلى وضعية أيديهم، هزت كتفيها بإحباط حيث أنها لم ترَ أي إشارة واضحة تدل على الكرة المفقودة. شعرت صوفي بثقل الكريبتكس في جيب معطفها، فالتفتت نحو لانغدون وتيبينغ اللذين كانا يتقدمان ببطء ولا زالا عند الفارس الثالث ويبدو أنه لم يحالفهما الحظ بعد. لم تكن صوفي في مزاج يسمح لها بالانتظار أكثر، فابتعدت عنهما واتجهت نحو المجموعة الثانية من الفرسان. وبينما كانت تتجه نحو الطرف الآخر، أخذت تكرر القصيدة التي كانت قد قرأتها عدة مرات الآن حتى انطبعت في ذهنها. في لندن يرقد فارس دفنه بابا. جلبت له أعماله عقاباً إلهياً. أنت تبحث عن كرة ملكية كان يجب أن تكون على قبره. تحكي قصة جسد وردي ورحم حمل روحاً في قلبه. وعندما أصبحت صوفي عند المجموعة الثانية من الفرسان، رأت أن هذه المجموعة كانت مماثلة للأولى. حيث كان جميع الفرسان مستلقين على الأرض بوضعيات مختلفة ويحملون سيوفاً ودروعاً. تلك كانت حال كل الفرسان ما عدا الفارس العاشر والأخير. أسرعت صوفي نحوه وحدقت فيه. لم تكن هناك وسادة ولا درع ولا ثوب ولا سيف. "روبرت؟ لاي؟" نادتهما وصوتها يتردد في أنحاء الغرفة. "هناك شيء ما مفقود هنا". نظر إليها الرجلان معاً واتجها على الفور نحوها. "الكرة؟" هتف تيبينغ بحماس. وعكازاه يطقطقان بصوت رتيب على الأرض وهو يهرع مسرعاً نحو صوفي. "هل هناك كرة مفقودة؟". "كلا، ليس تماماً"، قالت صوفي، وهي تتفحص الضريح العاشر. "يبدو أن الفارس كله مفقود". وعندما أصبح الرجلان بجانبها أخذا يحدقان بحيرة بالضريح العاشر فبدلاً من أن يكون هناك تمثال لفارس مستلقٍ أمامهما، كان هناك تابوت حجري مقفل بشكل شبه منحرف ضيق من عند القدمين يأخذ بالاتساع نحو الأعلى وكانت هناك نتوءات على غطائه. "لماذا لم يتم تصوير هذا الفارس؟" سأل لانغدون. "هذا مذهل"، قال تيبينغ، وهو يفرك ذقنه. "لقد نسيت تماماً هذا الأمر. فقد مرت سنون طويلة منذ أن كنت هنا آخر مرة". "يبدو أن هذا التابوت قد نحت بيد نفس النحات وفي نفس الفترة الزمنية التي نحتت فيها التوابيت التسعة الأخرى. لماذا إذاً رقد هذا الفارس في تابوت بدل أن يتم إظهار شكله؟" سألت صوفي. هز تيبينغ رأسه. "إنه أحد أسرار هذه الكنيسة. وعلى حدّ علمي، فلم يتمكن أي أحد من إيجاد تفسير لذلك. "عفواً" قال صبي المذبح الذي أتى ونظرة انزعاج قد ارتسمت على وجهه. "اعذروا جرأتي، لكنكم قلتم لي إنكم تريدون نثر رماد الميت، لكنني أرى أنكم تتجولون في المكان بقصد الزيارة". عبس تيبينغ في وجه الصبي ثم التفت إلى لانغدون. "سيد رين، من الواضح أن إحسان وتبرع عائلتك لم يعد يكفي ليدعك تمضي بعض الوقت هنا كالسابق، لذا فأنا أعتقد أن علينا أن نسرع في نثر الرفات ونمضي في طريقنا". التفت تيبينغ نحو صوفي. "سيدة رين؟". سايرته صوفي وأخرجت من جيبها الكريبتكس الملفوف بالرق. "والآن"، صاح تيبينغ في وجه الصبي. "هل يمكنك أن تمنحنا بعض الخصوصية؟". لكن الشاب لم يتحرك قيد أنملة. وكان يتفحص وجه لانغدون. "إن وجهك يبدو مألوفاً تماماً". تأفف منه تيبينغ. "ربما يكون السبب في ذلك هو أن السيد رين يأتي إلى هنا كل عام!". أو ربما... خافت صوفي الآن لأنه قد رأى لانغدون عندما ظهر على شاشة التلفاز في الفاتيكان السنة الماضية. "لم يسبق لي أن رايت السيد رين"، قال صبي المذبح. "أنت مخطئ"، قال لانغدون بأدب. "أعتقد أننا تقابلنا في العام الماضي. إلا أن السيد نولز لم يعرفنا ببعض بشكل رسمي، لكنني تعرفت إلى وجهك عندما دخلنا. والآن، أنا أعرف أن هذا تطفل، لكن أرجو أن تمنحني دقائق قليلة أخرى، فقد قطعت مسافات طويلة لأنثر هذا الرماد بين هذه الأضرحة". وقال لانغدون كلماته تلك بمصداقية تيبينغية. فتحولت ملامح الصبي لتصبح أكثر تشكيكاً. "هذه ليست أضرحة". "عفواً؟" قال لانغدون. "بالطبع هي أضرحة"، هتف تيبينغ. "ما الذي تقوله؟". هزّ صبي المذبح رأسه نافياً. "إن القبور عادة تحتوي على أجساد الموتى. وهذه ليست إلا تذكارات حجرية نحتت كذكرى لرجال حقيقيين، ولا يوجد تحت أي منها أي جسم بشري". "إن هذا مدفن!" قال تيبينغ. "هذا مذكور في كتب التاريخ القديمة التي أكل عليها الزمان وشرب. فقد كان يعتقد بأن هذه قبور لكن اكتشف أنها ليست كذلك عندما تم تجديد الكنيسة في العام 1950". والتفت إلى لانغدون. "أعتقد أن السيد رين يعرف ذلك تماماً، نظراً لأن عائلته هي التي كشفت هذه الحقيقة". ساد صمت متوتر بين الحاضرين لعدة لحظات. وكسر حاجز الصمت صوت باب ينصفق في الملحق. "لا بد أن ذلك هو السيد نولز"، قال تيبينغ. "ربما عليك أن تذهب لترى من هناك؟". بدا صبي المذبح متردداً لكنه عاد أدراجه نحو الملحق. وترك وراءه صوفي ولانغدون وتيبينغ يتبادلون نظرات يائسة. "لاي"، همس لانغدون. "لا توجد هنا جثث؟ ماذا يقصد بذلك؟". بدا تيبينغ مضطرباً. "لا أعرف. لطالما اعتقدت أن... أنا متأكد أن هذا هو المكان المطلوب. لا أتصور أنه يدري ما يقول. فهذا غير معقول أبداً!". "هل يمكنني أن ألقي نظرة على الكريبتكس مرة أخرى؟" قال لانغدون. أخرجت صوفي الكريبتكس من جيبها وأعطته إياه بحذر. فرد لانغدون الرق وأمسك الكريبتكس بيده وأخذ يتأمل القصيدة. "نعم، إن القصيدة تشير حتماً إلى قبر لا لتمثال". "هل يمكن أن تكون القصيدة على خطأ؟" سأل تيبينغ. "هل من المحتمل أن يكون جاك سونيير قد وقع في نفس الخطأ الذي وقعت فيه أنا لتوي؟". فكر لانغدون في ذلك للحظة ثم هز رأسه نافياً. "لاي، لقد قلتها بنفسك. لقد بنيت هذه الكنيسة على يد فرسان الهيكل، الجناح العسكري للأخوية، وأعتقد أن المعلم الأكبر في الأخوية هو أكثر شخص يمكنه أن يعرف في ما إذا كان هناك فرسان مدفونون في هذا المكان أم لا". بدا تيبينغ مصعوقاً. "لكن هذا هو المكان الأمثل". وعاد بسرعة إلى حيث كانت التماثيل. "لا بد أن شيئاً ما قد فاتنا هنا!". عندما دخل صبي المذبح إلى الملحق، أصيب بدهشة لأنه لم يجد أحداً هناك. "سيد نولز؟" أنا متأكد أنني سمعت صوت الباب، قال لنفسه وتقدم إلى الأمام كي يتمكن من رؤية المدخل. كان هناك رجل نحيل الجسم يقف بالقرب من المدخل، يحك رأسه ويبدو كأنه قد ضل طريقه. فتأفف صبي المذبح منزعجاً عندما تذكر أنه نسي أن يعيد إقفال الباب بعد أن أدخل الآخرين إلى الكنيسة. والآن دخل أحد اللوطيين المثيرين للشفقة إلى الكنيسة وأخذ يتجول فيها يريد أن يسأل أحداً عن عنوان عرس في تلك الأنحاء على ما يبدو. "أنا آسف"، قال بصوت عال، "لكن الكنيسة لم تفتح بعد". سمع صبي المذبح حركة وراءه، لكنه قبل أن يتمكن من الالتفات إلى الخلف، تراجع رأسه إلى الوراء بحركة خاطفة، وأطبقت يد قوية على فمه بشدة من الخلف لتكتم صرخته. كانت اليد المطبقة على فم الصبي ناصعة البياض ورائحة كحول تصدر منها. أخرج الرجل المتأنق بهدوء مسدساً صغيراً جداً وصوبه إلى جبين الصبي مباشرة. شعر صبي المذبح بحرارة في فخذيه فأدرك أنه قد بال في ثيابه. "أنصت جيداً"، همس الرجل ذو البذلة الأنيقة. "ستخرج من هذه الكنيسة بهدوء وستركض ولن تتوقف أبداً. هل كلامي واضح؟". أومأ الصبي بقدر ما سمحت له اليد التي تطبق على فمه. "وإذا اتصلت بالشرطة..." ضغط الرجل ذو البذلة الأنيقة المسدس على جلده. "كن واثقاً أنني سأعثر عليك". ولم يدرِ الصبي بنفسه إلا وهو يركض بأقصى سرعته عبر الساحة الخارجية نحو الشارع دون أي نية بالوقوف حتى ينهار تماماً. الفصل السادس والثمانون تسلل سيلاس كشبح خلف هدفه. إلا أن صوفي نوفو شعرت بوجوده بعد فوات الأوان. فقبل أن تتمكن من الالتفات إلى الوراء، ضغط سيلاس فوهة المسدس على عمودها الفقري ولف ذراعه القوية بعنف على صدرها وشدها إلى الخلف نحو جسده الضخم. فصرخت من هول المفاجأة. فالتفت عندئذ تيبينغ ولانغدون معاً، واكتست ملامح وجهيهما بالرعب والذهول. "ماذا...؟" اختنقت الكلمات في حلق تيبينغ. "ماذا فعلت بريمي؟!". "إن همك الوحيد"، قال سيلاس بأعصاب باردة، "هو أنني سأترك هذا المكان ومعي الحجر المفتاح". إن مهمة الاسترداد هذه، كما وصفها ريمي، يجب أن تكون نظيفة وبسيطة، أدخل إلى الكنيسة، خذ الحجر المفتاح، ثم ارحل... دون قتل أو ضرب. أمسك سيلاس صوفي بقوة، ثم أنزل يده التي كانت على صدرها إلى خصرها ودسها داخل جيوب معطفها وأخذ يفتش فيها. وراحت رائحة عطرها الناعم المنبعثة من شعرها تداعب مشاعر سيلاس الذي كان نفسه يعبق برائحة الكحول. "أين هو؟" همس سيلاس. لقد كان الحجر المفتاح في جيب معطفها. فأين هو الآن. "إنه هنا"، رن صوت لانغدون من الطرف الآخر من الغرفة. التفت سيلاس ليرى لانغدون وبيده الكريبتكس الأسود، وهو يلوح به إلى الأمام والخلف وكأنه مصارع ثيران يحاول إثارة حيوان أبله. "ضعه على الأرض"، أمره سيلاس. "دع صوفي ولاي يذهبا من الكنيسة"، رد لانغدون. "يمكننا أنا وأنت أن نسوّي هذه المسألة". دفع سيلاس صوفي بعيداً عنه وصوب مسدسه باتجاه لانغدون وتقدم نحوه. "لا تقم بأي خطوة أخرى إلى الأمام"، قال لانغدون. "ليس قبل أن يتركا البناء". "لست في موقع يخولك بأن تطلب أي شيء". "إنني أخالفك الرأي". رفع لانغدون الكريبتكس عالياً فوق رأسه. "لن أتردد في أن أرمي هذا على الأرض وأكسر القارورة الزجاجية في داخله". بالرغم من أن سيلاس سخر في الظاهر من تهديده، إلا أنه شعر في داخله بموجة من الخوف، فلم يكن ذلك متوقعاً. فصوب المسدس إلى رأس لانغدون وحافظ على ثبات صوته ويده. "لن تقدم على كسر الحجر المفتاح أبداً، فأنت تتوق للعثور على الغريل بقدر ما أريد وأكثر". "أنت مخطئ. فأنت تريدها أكثر بكثير. فقد أثبت بالدليل القاطع أنك مستعد لأن تقتل للحصول عليها". وعلى بعد أربعين قدم منهم، كان ريمي لوغالوديك يسترق النظر من بين المقاعد الحجرية في الملحق بالقرب من المدخل المقنطر، فأحس بالتوتر والخوف. ذلك لأن المناورة لم تجرِ حسب الخطة. فحتى من مكانه هناك، كان بإمكانه أن يرى أن سيلاس كان متردداً حيال كيفية تسوية المشكلة. وتنفيذاً لأوامر المعلم، منع ريمي سيلاس من إطلاق النار من مسدسه. "دعهما يذهبان"، أصر لانغدون وهو يحمل الكريبتكس عالياً فوق رأسه ويحدق في مسدس سيلاس. امتلأت عينا الراهب الحمراوان حنقاً وغضباً، فانشدت أعصاب ريمي خوفاً من أن يطلق سيلاس النار على لانغدون وهو يحمل الكريبتكس. لا يمكن أن يقع الكريبتكس! فالكريبتكس على وشك أن يكون تذكرة ريمي نحو الحرية والغنى. فمنذ سنة أو أكثر بقليل، كان ببساطة خادماً في الخامسة والخمسين من عمره، يعيش داخل جدران قصر فيليت يلبي رغبات ذلك الرجل المشلول الذي لا يطاق السير لاي تيبينغ. ثم قدّم إليه عرض رائع. فكانت علاقته بالسير لاي تيبينغ، أهم مؤرخ باحث في مجال الغريل في العالم، ستأتي لريمي بكل ما حلم به طوال حياته. ومنذ ذلك الحين، كانت كل دقيقة يقضيها داخل قصر فيليت تعجل به نحو الوصول إلى مبتغاه. أنا قريب جداً، قال ريمي في نفسه، وهو ينظر إلى داخل حرم كنيسة الهيكل وإلى الحجر المفتاح الذي يحمله روبرت لانغدون. إذا أوقعه لانغدون، سيضيع كل شيء ويذهب أدراج الرياح. هل سيكون بإمكاني أن أكشف نفسي؟ كان الأستاذ قد منع حدوث هذا منعاً باتاً. وريمي كان الشخص الوحيد الذي يعرف هوية المعلم. "هل أنت متأكد من أنك تريد أن يقوم سيلاس بتنفيذ هذه المهمة؟" كان ريمي قد سأل المعلم هذا السؤال منذ أقل من نصف ساعة من الآن، عقب تلقي الأوامر بسرقة الحجر المفتاح. "أنا بنفسي قادر على تنفيذ المهمة". كان المعلم مصمماً على ذلك. "لقد خدمنا سيلاس بأمانة بخصوص أعضاء الأخوية الأربعة. وسوف يستعيد الحجر المفتاح. يجب ألا تكشف نفسك. وإذا رآك الآخرون، فسيتوجب علينا أن نتخلص منهم. وقد حدث الكثير من القتل اليوم. لا تدعهم يرون وجهك". سيتغير وجهي، فكر ريمي. فبواسطة النقود التي وعدت أن تدفعها لي، سأصبح رجلاً جديداً تماماً. فالجراحة قد تغير حتى بصمات أصابعه، هكذا قال له المعلم. سيصبح حراً عما قريب - وجه جميل آخر لا أحد يعرفه يستمتع بشمس البحر التي تلفحه بحرارتها. "مفهوم"، قال ريمي. "سأقوم بمساعدة سيلاس من بعيد". "ولمعلوماتك الخاصة، ريمي"، كان المعلم قد أخبره، "إن القبر المطلوب ليس في كنيسة الهيكل. لذا لا تخف، فهم يبحثون في المكان الخطأ". ذهل ريمي عندها. "أو تعرف أين يقع ذلك القبر؟". "بالطبع، وسأخبرك عنه في ما بعد. أما الآن، فعليك أن تتصرف بسرعة. فإذا عرف الآخرون بالمكان الحقيقي للقبر وغادروا الكنيسة قبل أن تحصل على الكريبتكس، فقد يضيع منا الغريل إلى الأبد". لم يكن ريمي مهتماً بأمر الغريل في أي شكل من الأشكال، في ما عدا أن المعلم رفض بأن يدفع له حتى يحصل على الغريل. كان ريمي يشعر بالدوار كل مرة يفكر فيها بالمال الذي كان على وشك الحصول عليه. الثلث من عشرين مليون يورو. مبلغ يكفيه للاختفاء إلى الأبد. كان ريمي قد تصور مراراً المدن الصغيرة على شاطئ الكوت دازور حيث خطط أن يمضي باقي عمره مستمتعاً بأشعة الشمس الدافئة والجميع يخدمه على سبيل التغيير. أما الآن فقد كان مستقبل ريمي في خطر، حيث كان لانغدون يهدد بكسر الحجر المفتاح هنا في كنيسة الهيكل. لم يستطع ريمي أن يتحمل فكرة كونه على وشك أن يخسر كل شيء بعد أن أصبح قاب قوسين أو أدنى من الحصول عليه. وعلى ذلك، قرر ريمي التصرف بجرأة. كان المسدس الصغير الذي يحمله بشكل حرف "J" ماركة ميدوسا ويمكن إخفاؤه بسهولة، إلا أنه كان سلاحاً قاتلاً إذا ما استخدم من مدى قريب. مشى ريمي الذي قرر أن يكشف نفسه، نحو الغرفة المستديرة وعندما دخل، صوب مسدسه إلى رأس تيبينغ مباشرة. "أيها الرجل العجوز، لقد انتظرت وقتاً طويلاً لأفعل هذا". كاد قلب تيبينغ أن يتوقف عن الخفقان فعلاً عندما رأى ريمي يسدد نحوه. ماذا يفعل؟! تعرف تيبينغ على مسدس الميدوسا الصغير، كان مسدسه الخاص الذي يحتفظ به في الصندوق الأمامي الصغير في الليموزين تحسباً لأي خطر قد يواجهه. "ريمي؟" تلعثم تيبينغ من هول الصدمة. "ماذا يجري؟". بدا صوفي ولانغدون مذهولين مثله تماماً. دار ريمي حول تيبينغ وعندما أصبح خلفه تماماً ألصق فوهة المسدس في ظهره عالياً إلى اليسار، خلف قلبه مباشرة. أحس تيبينغ بعضلاته تنقبض من الرعب. "ريمي، أنا لا...". "سأسهل عليكم الأمر"، قال ريمي بحدة، وهو يراقب لانغدون من وراء كتف تيبينغ. "ضع الحجر المفتاح على الأرض، وإلا سأطلق النار". بدا لانغدون وكأنه قد شلّ. "إن الحجر المفتاح لا يحمل أي قيمة بالنسبة لك"، تمتم لانغدون. "لن تتمكن من فتحه". "يا لكم من متعجرفين أغبياء" قال ريمي بسخرية واحتقار. "ألم تلاحظوا أنني كنت أستمع الليلة إلى حديثكم وأنتم تتناقشون بشأن القصيدة؟ وقد نقلت كل ما سمعت إلى أشخاص آخرين. آخرون يعرفون أشياء أكثر منكم. أنتم لستم في المكان الصحيح أصلاً. فالقبر الذي تبحثون عنه هو في مكان آخر تماماً!". ذعر تيبينغ. ماذا يقول هذا الغبي! "لماذا تريد الحصول على الغريل؟" سأله لانغدون. "لتتخلص منه؟ قبل أن تحل النهاية؟". هتف ريمي بالراهب. "سيلاس، خذ الحجر المفتاح من السيد لانغدون". وعندما تقدم الراهب إلى الأمام، تراجع لانغدون خطوة إلى الخلف رافعاً الحجر المفتاح عالياً وقد بدا مستعداً تماماً لرميه على الأرض. "أفضل أن أكسره"، قال لانغدون، "على أن أراه وقد وقع في يد من لا يستحقه". شعر تيبينغ الآن بموجة من الرعب لدى رؤيته لتعبه طوال حياته وهو يتبخر أمام عينيه. وكل أحلامه وهي على وشك أن تتحطم على صخرة الواقع المر. "روبرت، كلا!" صاح تيبينغ. "لا تفعل! لا تنسَ أن ما تحمله هو الغريل! لا يمكن أن يطلق ريمي النار عليّ أبداً. فنحن نعرف بعضنا منذ عشر...". صوب ريمي الميدوسا نحو السقف وأطلق النار. كان صوت الانفجار الذي أصدره هذا المسدس هائلاً بالنسبة لحجمه، دوت الطلقة كالرعد وتردد صداها داخل الغرفة الحجرية. فتسمر الجميع في مكانهم. "إنني لا أقوم بأية ألاعيب هنا"، قال ريمي. "والثانية ستكون في ظهره. أعطِ الحجر المفتاح لسيلاس". مد لانغدون يده على مضض. فتقدم سيلاس خطوة إلى الأمام وأخذه منه، وعيناه الحمراوان تلمعان بنشوة الانتقام. دس سيلاس الحجر المفتاح في جيب ردائه ثم تراجع إلى الوراء وهو لا يزال مصوباً مسدسه نحو لانغدون وصوفي. شعر تيبينغ بذراع ريمي وهي تلتف حول رقبته وأخذ الخادم يتراجع في طريقه للخروج من البناء، جاراً تيبينغ معه والمسدس لا زال يضغط على ظهره. "دعه يذهب"، قال لانغدون بتصميم. "سنأخذ السيد تيبينغ في جولة قصيرة"، قال ريمي، وهو لا زال يتراجع إلى الخلف. "إذا اتصلت بالشرطة، سأقتله وإذا قمت بأي تدخل، فسيموت. هل هذا واضح؟". "خذني أنا عوضاً عنه". ألحّ لانغدون، وصوته يتقطع من فرط انفعاله. "دع لاي يذهب". قهقه ريمي ضاحكاً. "لا أعتقد ذلك، فلدينا نحن الاثنين تاريخ طويل. كما أنه قد يكون مفيداً". تراجع سيلاس الآن أيضاً وصوفي ولانغدون على مرمى مسدسه بينما سحب ريمي لاي نحو المخرج وجر عكازيه وراءه. قالت صوفي بنبرة صارمة: "لحساب من تعمل؟". رسم سؤال صوفي ابتسامة متصنعة على وجه ريمي الذي كان في طريقه إلى الخارج. "سيفاجئك ذلك، آنسة نوفو". الفصل السابع والثمانون كان المستوقد في غرفة المكتب في قصر فيليت بارداً، وبالرغم من ذلك، أخذ كوليه يذرع الغرفة جيئة وذهاباً من أمامه بينما كان يقرأ الفاكسات التي وردته من الأنتربول. لم تكن نتيجة البحث كما توقعها على الإطلاق. فقد كان أندريه فيرنيه، حسب ما ورد في السجلات الرسمية، مواطناً مثالياً. ولم يكن لديه ملف عند الشرطة، فهو لم يرتكب حتى مخالفة مرورية. كما أنه قد درس في ثانوية جيدة ثم أكمل دراسته الجامعية في السوربون ومن ثم حصل على مرتبة الشرف في دراسته لإدارة الموارد المالية العالمية. وقد جاء في التقرير أيضاً أن اسم فيرنيه يذكر في الصحف بين الفينة والفينة حيث إنها تطنب على الدوام في الرجل الذي يبدو أنه عمل شخصياً على تصميم نظام الأمان الذي جعل بنك زيوريخ للودائع رائداً في عالم أنظمة الأمان الإلكترونية الأحدث في العالم. وتظهر سجلات الكروت الائتمانية الخاصة بفيرنيه ولعه بكتب الفن والنبيذ الفاخر وأسطوانات الموسيقى الكلاسيكية - معظمها للموسيقار برامز - والتي يحب سماعها من نظام ستيريو عالي التقنية كان قد اشتراه منذ عدة سنوات. تنهد كوليه. صفر الوفاض... كانت الراية الحمراء الوحيدة التي وردتهم من الأنتربول، بخصوص مجموعة من البصمات التي يبدو أنها تعود لخادم تيبينغ. كان رئيس المحققين الجنائيين يقرأ التقرير وهو جالس على كرسي مريح في الطرف الآخر من الغرفة. نظر كوليه إليه. "هل من جديد؟". هز المحقق كتفيه. "بصمات تخص ريمي لوغالوديك، المطلوب للعدالة لجرائم بسيطة. لا شيء هام. يبدو أنه قد طرد من الجامعة لسرقته توصيلات الهاتف ليحصل على خدمة مجانية... وبعدها قام بعملية سرقة بسيطة. كسر وخلع. كما أنه قد تملص مرة من دفع فاتورة مستشفى عندما دخل إلى طوارئ المستشفى من أجل عملية برق الرغامى". ثم نظر إلى كوليه وضحك. "حساسية من الفول السوداني". أومأ كوليه، وتذكر تحقيقاً للشرطة في قضية مطعم لم يسجل في قائمة الطعام أن صلصة التشيلي الحارة كانت تحتوي على زيت الفول السوداني. فمات أحد الزبائن على الطاولة بعد أن أكل لقمة واحدة فقط بسبب حساسيته من الفول السوداني. "ربما كان لوغالوديك يعيش هنا خوفاً من أن يتم القبض عليه". ضحك المحقق ساخراً. "وهذه هي ليلة سعده". تنهد كوليه. "حسناً، عليك الآن أن تمرر هذه المعلومات إلى النقيب فاش". وحالما خرج المحقق اندفع آخر بالدخول إلى غرفة الجلوس. "حضرة الملازم! لقد وجدنا شيئاً في الحظيرة". من النظرة القلقة في عيني العنصر، خمن كوليه أن ذلك لا يمكن أن يكون إلا "جثة؟". "كلا سيدي، شيء..." تردد العنصر "غير متوقع على الإطلاق". فرك كوليه عينيه ولحق بالعنصر إلى الحظيرة. وعندما دخلا إلى الحظيرة القديمة الواسعة، أشار العنصر إلى وسط الغرفة حيث كان هناك الآن سلم معلق عالياً يوصل إلى العوارض الخشبية، وقد استند إلى رف مخزن للتبن معلق فوقهم في أعلى الحظيرة. "لم يكن هذا السلم هنا من قبل"، قال كوليه. "كلا، سيدي أنا وضعته هنا. فقد كنا نرفع البصمات بالقرب من الرولز رويس عندما رأيت السلم مرمياً على الأرض. ولم أكن لأعيره أي اهتمام لو لم أجد درجاته بالية وتحمل آثار وحل، فاستنتجت أنه لا بد وأن يكون قد استخدم حديثاً. وكان ارتفاع المخزن في الأعلى مطابقاً لارتفاع السلم، لذا رفعته وصعدت إلى أعلى لألقي نظرة". تبعت عينا كوليه ميلان السلم الذي كان شبه عمودي على مخزن التبن الشاهق الارتفاع. هل يعقل أن يصعد أحد إلى مكان بهذا العلو بانتظام؟ كان المخزن يبدو، من حيث كان كوليه واقفاً، مكاناً منبسطاً خالياً، إلا أنه لم يكن واضحاً للعيان بشكل كامل بالنسبة لخط رؤية كوليه. ظهر أحد العناصر من ذوي الرتب العالية في شرطة البحث الجنائي في أعلى السلم ونظر إلى الأسفل "يجب أن ترى هذا، أيها الملازم"، قال العنصر ولوح لكوليه بيده التي يغطيها قفاز مطاطي وأشار له أن يصعد. أومأ كوليه تعباً، ومشى إلى أسفل السلم القديم ثم تمسك بالدرجات السفلية وبدأ يتسلق السلم الذي كان عتيقاً ذا تصميم مستدق الطرف أخذ يضيق كلما صعد كوليه إلى أعلى. وعندما اقترب من قمته، كادت قدمه تزل عن الدرجة الدقيقة. وشعر بالحظيرة تلف من تحته. فزاد من حذره الآن وتابع صعوده حتى وصل أخيراً إلى القمة. مدّ العنصر يده لكوليه الذي أمسكها بقوة ثم انتقل بحركة سريعة إلى السطح. "ها هي هناك"، قال عنصر الشرطة الجنائية، وقد أشار إلى آخر المخزن الذي كان غاية في النظافة. "لا يوجد أي شيء هنا إلا مجموعتين من البصمات التي سنعرف صاحبها بعد قليل". نظر كوليه إلى الحائط البعيد وحاول أن يرى من خلال الضوء الضعيف ما الذي كان هناك. وعندما اتضحت الرؤية ذهل كوليه. فقد ثبتت على الجدار البعيد محطة كومبيوتر كاملة مجهزة بكامل التجهيزات التي اشتملت على وحدتي معالجة مركزية، وشاشة مسطحة لنظام فيديو ذي دارة مغلقة مزود بمكبرات صوت بالإضافة إلى مجموعة من الأقراص الصلبة وخزانة مسجل صوتي ضخم متعدد القنالات والذي يبدو أنه كان مزوداً بمأخذ كهربائي مفلتر خاص به. ترى ما هو السبب الذي قد يدعو أي أحد للقيام بأي عمل في هذا المكان؟ تقدم كوليه نحو المعدات. "هل قمت بفحص النظام؟". "إنها محطة تنصت". هتف كوليه. "وحدة مراقبة؟". أومأ العنصر. "وحدة مراقبة ذات تقنية عالية". وأشار إلى طاولة كبيرة امتلأت بقطع إلكترونية وكتيبات إرشادات وأدوات وأسلاك وسبائك لحام حديد ومركبات إلكترونية أخرى. "يبدو أن أحداً ما كان يدير عملية كبيرة من هذا المكان. فالكثير من هذه المعدات يضاهي تجهيزاتنا فهناك ميكروفونات مصغرة وخلايا شحن كهرضوئية ورقاقات ذاكرة عشوائية RAM ذات سعة كبيرة. حتى أن لديه بعض الأقراص الصلبة الجديدة التي حجمها غاية في الصغر". وقف كوليه منبهراً. "هاك نظاماً كاملاً"، قال العنصر، وأعطى كوليه آلة صغيرة حجمها أكبر بقليل من الآلة الحاسبة التي توضع في الجيب وكان يتدلى من هذه الآلة الغريبة الشكل سلك بطول قدم واحدة وفي نهايته قطعة معدنية بحجم طابع بريدي رقيقة جداً. "إن أساس هذه الآلة هو عبارة عن قرص صلب سعته كبيرة يحمل عليه نظام تسجيل صوتي متكامل مزود ببطارية قابلة للشحن. أما الرقاقة المعدنية الموجودة في نهاية السلك فهي عبارة عن أداتين في آلة واحدة، ميكروفون وخلية كهرضوئية قابلة للشحن". كان كوليه يعرف كل تلك المعدات جيداً. فهذه الرقاقات المعدنية - الميكروفونات التي تعتمد على الخلايا الضوئية - كانت اختراعاً ضخماً ضج به العالم منذ سنين قليلة. فاليوم يمكن تثبيت مسجل قرص صلب خلف مصباح على سبيل المثال، ويمكن تكييف الميكروفون - الرقاقة المعدنية - بشكل يتناسب مع القاعدة وصبغها باللون المراد. وطالما كان الميكروفون متوضعاً بشكل يسمح له بتلقي ضوء الشمس لعدة ساعات في النهار، يمكن للخلايا الضوئية عندها أن تستمر في إعادة شحن النظام. لذا فإن أدوات تنصت كهذه قادرة على الاستماع والتسجيل إلى ما لانهاية. "ماذا عن طريقة الاستقبال؟" سأل كوليه. أشار العنصر إلى سلك معزول كان خارجاً من خلف الكومبيوتر ويمتد على الحائط ثم يخرج من ثقب في سقف الحظيرة. "موجة راديو بسيطة وهوائي صغير على السطح". كان كوليه يعرف أن أنظمة التسجيل هذه كانت تستخدم عادة في المكاتب ويتم تفعيلها بواسطة الصوت لتوفير مساحة على القرص الصلب وكانت تسجل مقاطع من أحاديث تمت في أثناء النهار وتنقل ملفات صوتية مضغوطة في الليل تجنباً لأن يتم التقاطها. وبعد أن تنتقل تلك الملفات، يمحي القرص الصلب المعلومات التي يحملها بشكل ذاتي ويتحضر ليقوم بالعملية نفسها في اليوم التالي. نظر كوليه الآن إلى رف تكدست عليه مئات أشرطة الكاسيت، وقد صنفت بحسب التواريخ والأرقام. لقد كان أحدها مشغولاً تماماً بعملية تبدو هامة للغاية. التفت ثانية نحو العنصر. "هل لديك أية فكرة عن هوية الهدف الذي تم التنصت عليه؟". "في الواقع، أيها الملازم"، قال العميل، وهو يتجه إلى الكومبيوتر ويخرج أحد برامج التخزين على الكومبيوتر. "إن هذا من أغرب الأشياء...". الفصل الثامن والثمانون شعر لانغدون بأنه مستهلك بكل ما تحمل الكلمة من معنى عندما تخطى هو وصوفي الباب الدوار لمحطة المعبد في قطار الأنفاق واندفعا بسرعة إلى داخل متاهة الأنفاق والأرصفة القذرة. ومما زاد الأمر سوءاً شعور لانغدون بالذنب الذي كان يعتصر قلبه. لقد ورطت لاي، والآن هو في خطر جسيم. كان تورط ريمي في الأمر مفاجئة لم يتوقعها أحد، إلا أن ذلك كان يحمل في طياته شيئاً من المنطق. فكان لا بد للشخص الذي يلهث وراء الغريل أن يجند أحداً من الداخل. وقد لجأ ذلك الشخص إلى تيبينغ لنفس السبب الذي دفعني للجوء إليه. فعلى مرّ القرون، كان أولئك الذين يمتلكون معلومات عن الغريل وكأنهم مغناطيس يجذب الباحثين واللصوص على حدّ سواء. وهذه الحقيقة التي جعلت تيبينغ هدفاً طوال الوقت، كان من شأنها التخفيف عن لانغدون من حيث شعوره بالذنب لتوريط تيبينغ. لكن ذلك لم يجعل لانغدون أقل شعوراً بالذنب تجاهه. يجب أن نعثر على لاي ونساعده فوراً. تبع لانغدون صوفي إلى المنطقة التي ينطلق منها القطار المتجه غرباً ورصيف الخط الدائري، حيث أسرعت نحو هاتف عمومي للاتصال بالشرطة بالرغم من تحذير ريمي الذي هدد بقتل لاي في حال اتصالهم بالشرطة. جلس لانغدون في تلك الأثناء على مقعد متسخ حقير بانتظار صوفي وهو يشعر بتأنيب الضمير. إن أحسن ما يمكننا فعله لمساعدة لاي"، أخذت صوفي تكرر وهي تضرب الرقم، "هو أن نضع شرطة لندن في الصورة وعلى الفور، صدقني". لم يوافق لانغدون على هذه الفكرة في بداية الأمر، لكن عندما أخبرته صوفي بالخطة كاملة، رأى أنها كانت منطقية. إن تيبينغ كان في أمان الآن، فحتى لو كان ريمي والآخرون على علم بموقع قبر الفارس، فهم لا زالوا بحاجة لمساعدة تيبينغ في تحليل رمز الكرة التي أشارت إليها القصيدة. لكن ما أثار قلق لانغدون هو ما سيحدث بعد أن يعثروا على خريطة الغريل. سيصبح تيبينغ عندها عبئاً ثقيلاً عليهم. إذا كانت هناك أي فرصة لأن يقوم لانغدون بمساعدة لاي، أو رؤية الحجر المفتاح ثانية، فيجب عليه أن يعثر على القبر أولاً. لكن للأسف فإن طرف الخيط كان بحوزة ريمي. كان الإبطاء من سرعة ريمي هو مهمة صوفي. والعثور على القبر الصحيح هو مهمة لانغدون. حيث إنه كان على صوفي أن تجعل شرطة لندن تلاحق ريمي وسيلاس فيضطرا للاختباء أو الأفضل من ذلك، يتم القبض عليهما. إلا أن خطة لانغدون كانت نتائجها غير مضمونة تماماً. حيث إنه كان عليه أن يستقل القطار إلى جامعة الملك القريبة منهما والتي تشتهر بقاعدة بياناتها الإلكترونية في علم اللاهوت. وهي أكبر وأهم محرك بحث، هذا ما كان يقال عنها. حيث إنها تقدم إجابات فورية على أي سؤال يتعلق بتاريخ الدين. لنرى عما قد تقوله قاعدة البيانات هذه عن "فارس قتله بابا". وقف لانغدون وراح يذرع الرصيف جيئة وذهاباً وتمنى أن يصل القطار بسرعة. عند الهاتف العمومي، تمكنت صوفي أخيراً من الاتصال بشرطة لندن. "قسم شرطة سنو هيل"، قال الموظف في مقسم الهاتف. "كيف يمكنني أن أساعدك؟". "أريد التبليغ عن عملية اختطاف". كانت صوفي تعرف كيف تنقل الرسالة للشرطة باختصار. "الاسم لو سمحت؟". صمتت صوفي للحظة. "صوفي نوفو عميلة في الشرطة القضائية الفرنسية". كان لاسمها التأثير المطلوب على الموظف. "حالاً سيدتي، سأصلك بمحقق على الخط". وبينما كانت تنتظر على الخط، تساءلت فيما إذا كانت الشرطة ستصدق أوصاف مختطفي تيبينغ. رجل يرتدي بذلة سوداء أنيقة. هل يمكن أن يكون التعرف على مشتبه به كهذا أكثر سهولة؟ وحتى إذا قام ريمي بتغيير ثيابه، فشريكه الذي كان برفقته هو راهب أبرص. لا يمكن أن تتوه الشرطة عنهما. وعلاوة على ذلك، لا يمكنهما استخدام المواصلات العامة لأن معهما رهينة. كما أنها كانت تشك بأن يكون هناك عدد كبير من سيارات الجاغوار الليموزين في لندن. طال انتظار صوفي للمحقق على الخط كثيراً. هيا! أين أنت؟ كانت تسمع أصوات تحويل المكالمة من جهة إلى أخرى دون أن يتحدث أحد إليها. مرت خمس عشرة ثانية وهي تنتظر. وأخيراً، ظهر أحد ما على الخط. "العميلة نوفو؟". ذهلت صوفي عندما سمعت ذلك الصوت الذي عرفته على الفور. "العميلة نوفو"، ألح بيزو فاش. "أين أنت بحق الجحيم؟". لم تستطع صوفي أن تنطق بأي كلمة. يبدو أن النقيب فاش قد طلب من عامل الهاتف في شرطة لندن أن يعلمه في حال اتصلت صوفي. "اسمعي"، قال فاش. وأخذ يتحدث معها بفرنسية مهذبة. "لقد ارتكبت الليلة خطأً فادحاً. إن روبرت لانغدون بريء. وقد أسقطت كل التهم الموجهة إليه. ومع ذلك فأنتما الاثنان في خطر. يجب أن تعودا إلى باريس". فغرت صوفي فاها وقد صعقها كلام فاش. فلم تعرف بماذا ترد. فلم يكن فاش من الرجال الذين قد يعتذرون لأي سبب. "لم تخبريني"، تابع فاش. "أن جاك سونيير كان جدك. وأنا مستعد تماماً لأن أتجاوز عصيانك لأوامر رؤسائك في العمل على حساب الضغط العاطفي الذي كنت تعانين منه. أما الآن فعليك أنت ولانغدون الذهاب إلى أقرب مركز للشرطة في لندن لتكونا في مأمن". إنه يعرف أنني في لندن؟ ما الذي يعرفه فاش أيضاً؟ سمعت صوفي أصواتاً بدت وكأنها أصوات آلات وحفارات تعمل في الخلفية. وسمعت طقطقة غريبة في الخط أيضاً. "هل تتبع هذه المكالمة، أيها النقيب؟". أخذ فاش يتحدث الآن بنبرة صارمة. "يجب أن نتعاون أنا وأنت، أيتها العميلة نوفو. فلدينا الكثير على المحك هنا ويجب أن نحاول الحدّ من خسائرنا. لقد أخطأت في الحكم الليلة الماضية، وإذا نجم عن تلك الأخطاء موت بروفيسور أمريكي ومحللة رموز في الشرطة الفرنسية، ستكون هذه نهاية مستقبلي المهني تماماً. وقد كنت أحاول أن أقودكما إلى بر الأمان طوال الساعات الماضية". هبت ريح ساخنة في المحطة الآن عندما وصل القطار إليها وأوشك على التوقف. كانت صوفي تنوي أن تكون على متن هذا القطار في أسرع وقت ممكن. ويبدو أن لانغدون كان يفكر بنفس الشيء حيث أنه حزم أمره على الذهاب وتقدم نحوها الآن. "إن الرجل المطلوب هو ريمي لوغالوديك"، قالت صوفي. "إنه خادم تيبينغ. وقد قام باختطاف تيبينغ داخل كنيسة الهيكل و...". "عميلة نوفو!" جأر فاش بصوته عندما وصل القطار بصوت مدوٍ كالرعد إلى المحطة. "ليس هذا أمراً يناقش على الهاتف الآن. ستأتين أنت ولانغدون في الحال. وذلك لحمايتك أنت شخصياً! هذا أمر مباشر!". أغلقت صوفي الخط واندفعت بسرعة نحو القطار. الفصل التاسع والثمانون كانت المقصورة الفخمة في طائرة تيبينغ الأنيقة قد تغطت الآن ببرادة الفولاذ وعبقت برائحة الهواء المضغوط وغاز البروبان. لقد أرسل بيزو فاش كل العناصر بعيداً وجلس وحيداً مع شرابه والصندوق الخشبي الثقيل الذي وجده في خزنة تيبينغ. مرر إصبعه على الوردة المنزّلة ورفع غطاء الصندوق المزخرف فوجد داخله أسطوانة حجرية مكونة من أقراص مدرجة عليها أحرف رومانية. وقد رتبت الأقراص الخمسة لتشكل كلمة صوفيا "SOFIA". حدق فاش بالكلمة لعدة دقائق ثم رفع الأسطوانة من الصندوق الموسد الذي كانت ترقد فيه وأخذ يتفحص كل إنش فيها. ثم شدها من نهايتيها بحذر، ثم فتح غطاء إحدى النهايتين، فوجد أن الأسطوانة كانت خالية. أعاد فاش الأسطوانة إلى الصندوق وأخذ يحدق بشرود إلى الهنغار من شباك الطائرة، وأخذ يفكر ملياً في مكالمته المقتضبة مع صوفي، وفي المعلومات التي تلقاها من فريق البحث الجنائي في قصر فيليت. ولم يستفق من أحلام اليقظة إلا على رنة هاتفه الذي أعاده إلى الواقع. كان ذلك مقسم الهاتف في مديرية الشرطة القضائية. اعتذر الموظف منه بشدة. لكنه أخبره أن رئيس بنك زيوريخ للودائع كان يتصل باستمرار مع أنهم أخبروه بأن النقيب كان يقوم بمهمة عاجلة في لندن، لكنه ظل يتصل وهو على الخط الآن. فطلب فاش منه بامتعاض أن يحول له الاتصال. "سيد فيرنيه"، قال فاش، دون أن يفسح المجال للرجل بأن يتفوه حتى بكلمة واحدة. "أنا آسف لأنني لم أتصل بك مؤخراً فقد كنت مشغولاً جداً. لكنني التزمت بوعدي ولم آت على ذكر البنك أمام وسائل الإعلام. فما الذي أنت قلق بشأنه؟". كان صوت فيرنيه متوتراً وهو يخبره كيف أخذ لانغدون وصوفي صندوقاً خشبياً صغيراً من البنك وكيف أقنعاه بأن يساعدهما على الهرب. "ثم عندما سمعت في الراديو أنهما كانا مجرمين"، قال فيرنيه، "أوقفت السيارة وطالبتهم بإعادة الصندوق، هجما عليّ وسرقا الشاحنة". "أنت مهتم بالصندوق الخشبي"، قال فاش، وتأمل الوردة المنزلة في الغطاء ثم فتحه ثانية بلطف ليكشف على الأسطوانة البيضاء. "هل يمكنك أن تقول لي ما الذي كان في الصندوق؟". "إن ما بداخل الصندوق لا يعنيني في شيء"، رد عليه فيرنيه بلهجة دفاعية. "إن ما يهمني هو سمعة بنكي. فنحن لم نتعرض للسرقة أبداً. إن ذلك يمكنه أن يدمر البنك إذا لم أتمكن من استعادة هذه الوديعة إلى حساب عميلي". "لقد قلت أن العميلة نوفو وروبرت لانغدون كانا على علم بالكلمة السرّية اللازمة لفتح الخزنة إضافة إلى مفتاحها، أليس كذلك؟ ما الذي يجعلك تقول إذا إنهما قاما بسرقة الصندوق؟". "لقد قتلا أرواحاً بريئة هذه الليلة. ومن بينها جد صوفي نوفو. لذا فمن المؤكد أنهما قد حصلا على المفتاح وكلمة السرّ بالإكراه". "سيد فيرنيه، لقد قام رجالي بالتحري عن خلفيتك واهتماماتك. واتضح لي أنك رجل على درجة عالية من الثقافة والتهذيب. ويبدو لي أنك رجل ذو كرامة وعزة نفس أيضاً. وأنا كذلك، وبقولي هذا، أعطيك كلمة شرف ضابط في الشرطة القضائية أن صندوقك، ومعه سمعة بنكك، في أيد أمينة". الفصل التسعون وقف كوليه في مخزن التبن في الأعلى، محدقاً بذهول في شاشة الكومبيوتر أمامه. "هل من المعقول أن يغطي نظام التنصت هذا كل هذه المواقع؟". "نعم"، قال العميل. "يبدو أن هذه البيانات قد تم تجميعها على مدى سنة كاملة". قرأ كوليه القائمة مرة أخرى وهو لا يستطيع أن يصدق عينيه. كولبير سوستاك - رئيس المجلس الدستوري. جان شافيه - القيم على متحف جو دو بوم. إدوار ديروشيه - القيم على سجلات مكتبة ميتيران. جاك سونيير - القيم على متحف اللوفر. ميشيل بروتون - مدير داس (إدارة المخابرات الفرنسية). أشار العميل إلى الشاشة. "الرقم أربعة هو ذو أهمية خاصة". أومأ كوليه بوجه خالٍ من أي تعبير. فقد لاحظ ذلك على الفور. لقد كان جاك سونيير تحت المراقبة. نظر كوليه مرة أخرى إلى باقي الأسماء التي كانت على القائمة. كيف يمكن لأي أحد أن يتمكن من مراقبة هذه الشخصيات البارزة؟ "هل سمعت أياً من الملفات الصوتية؟". "البعض منها. هاك واحداً من الملفات التي سجلت مؤخراً" وضرب العميل بعض الأزرار في لوحة مفاتيح الكومبيوتر. فطقطق مكبر الصوت. "حضرة النقيب، لقد جاء أحد العملاء من قسم تحليل الرموز". لم يستطع كوليه أن يصدق أذنيه. "هذا أنا! هذا صوتي أنا!" تذكر أنه قال ذلك عندما كان جالساً في مكتب سونيير وهو يعطي إشارة باللاسلكي إلى فاش في الغراند غاليري ليعلمه بمجيء صوفي نوفو. أومأ العميل."من الممكن أن يكون التحقيق الذي قمنا به في اللوفر الليلة قد سمعه أي أحد يهمه هذا الأمر". "هل أرسلت أحداً ليقوم للبحث عن أجهزة التنصت ومعرفة المكان الذي زرعت فيه؟". "لا حاجة لذلك. فأنا أعرف مكانها بالضبط." ذهب العميل نحو كومة من الأوراق القديمة والتصاميم التي كانت على طاولة العمل. وانتقى ورقة منها وأعطاها إلى كوليه. "هل يبدو هذا مألوفاً بالنسبة لك؟". ذهل كوليه. كان يحمل نسخة عن رسم تخطيطي قديم يصور آلة بسيطة. لم يكن باستطاعته أن يقرأ التعابير والشروحات التي كانت مكتوبة بخط يد بالإيطالية، لكنه مع ذلك عرف الرسم الذي كان أمامه. كان ذلك نموذجاً مفصلاً بشكل كامل لفارس قروسطي فرنسي. إنه الفارس الموجود على الطاولة في مكتب سونيير! انتقلت عينا كوليه إلى الهوامش، حيث سجل شخص ما فيها بعض الملاحظات كتبها بقلم تخطيط أحمر. وقد كانت تلك الملاحظات بالفرنسية ويبدو أنها كانت أفكاراً موجزة عن الطريقة الأمثل لزرع جهاز تنصت داخل الفارس. الفصل الواحد والتسعون جلس سيلاس في المقعد الأمامي لسيارة الجاغوار الليموزين التي كانت متوقفة بالقرب من كنيسة الهيكل. وقد أمسك الحجر المفتاح بيديه المبللتين وانتظر ريمي لينتهي من شد وثاق تيبينغ بالحبل الذي وجده في صندوق السيارة وكم فمه. وأخيراً نزل ريمي من المقعد الخلفي لليموزين، ودار من حول السيارة إلى الطرف الآخر ثم ركب في مقعد السائق إلى جانب سيلاس. "هل ربطته جيداً؟" سأله سيلاس. ضحك ريمي ونفض قطرات المطر عنه ثم ألقى نظرة من خلال الفاصل المفتوح على لاي تيبينغ الذي انكمش على نفسه في مؤخرة السيارة. "اطمئن فهو لن يتزحزح من مكانه". تناهى إلى سمع سيلاس صوت صرخات تيبينغ المكتومة فلاحظ أن ريمي قد استخدم الشريط اللاصق القديم لتكميم فمه. "اخرس!" التفت ريمي إلى الوراء وصاح في وجه تيبينغ، ثم مدّ يده إلى لوحة التحكم التي كانت فوق لوحة أجهزة القياس، وضغط على أحد الأزرار فارتفع حاجز من البللور المعتم من خلفهم فانعزل القسم الخلفي من السيارة واختفى تيبينغ وانكتم صوته. نظر ريمي إلى سيلاس وقال: "لقد سئمت من سماع نشيجه وأنينه لسنوات طويلة من عمري". بعد مضي عدة دقائق وبينما كانت الليموزين تجوب شوارع المدينة، رن هاتف سيلاس النقال. المعلم. فرد بحماس. "آلو؟". "سيلاس"، قال المعلم بلكنته الفرنسية المعهودة، "لقد أثلج صدري سماع صوتك. هذا يعني أنك في أمان الآن". كان سيلاس يشعر بالاطمئنان لسماع صوته هو الآخر. فقد مضت ساعات طويلة على آخر مكالمة بينهما. وقد انحرفت الأمور عن جادة الصواب طويلاً. أما الآن فقدً عاد كل شيء إلى نصابه أخيراً. "إن الحجر المفتاح أصبح بحوزتي". "هذه أخبار رائعة". قال له المعلم. "هل ريمي برفقتك؟". تفاجأ سيلاس عندما سمع أن المعلم قد نطق باسم ريمي. "نعم، فريمي هو الذي حررني". "لقد فعل تماماً ما أمرته به. لكنني آسف لأنك اضطررت لتحمل الأسر لوقت طويل". "إن العذاب الجسدي لم يؤثر فيّ. فأهم شيء الآن هو أن الحجر المفتاح هو بحوزتنا الآن". "نعم. أريدك أن تسلمه لي في الحال، فالوقت يكاد يداهمنا". كان سيلاس متلهفاً لرؤية المعلم أخيراً وجهاً لوجه. "نعم سيدي، يشرفني ذلك". "سيلاس، أريد أن يحضره إليّ ريمي". ريمي؟ شعر سيلاس بخيبة أمل شديدة. فبعد كل ما فعله سيلاس من أجل المعلم، كان يظن أنه هو الذي سيسلمه الغنيمة. المعلم يفضل ريمي؟ "أشعر بخيبة أملك"، قال له المعلم، "مما يجعلني أحس بأنك لم تفهم قصدي". وخفض صوته حتى تحول كلامه إلى همس. "يجب أن تعلم بأنني أفضل كثيراً أن أستلم الحجر المفتاح منك شخصياً حيث أنك رجل متدين ولست بمجرم كريمي، لكنني يجب أن أصفي حسابي مع ريمي الذي عصى أوامري وارتكب خطأً فادحاً عرّض مهمتنا بأكملها لخطر جسيم". شعر سيلاس بقشعريرة في جسده ونظر إلى ريمي. فلم يكن اختطاف تيبينغ جزءاً من الخطة، وكانت المشكلة الجديدة التي يواجهانها الآن هي أنهما لم يعرفا ماذا يفعلان بتيبينغ. "أنت وأنا نؤمن بالرب"، همس المعلم. "لذا فنحن لا يمكننا أن نحيد عن هدفنا"، ساد صمت ينذر بالشر. "ولهذا السبب فقط، سأطلب من ريمي أن يحضره لي. هل فهمتني الآن؟". أحس سيلاس بغضب واضح في صوت المعلم واستغرب أنه هو نفسه لم يكن متفهماً لما حدث. فقد كان تدخل ريمي وكشف هويته أمراً لا يمكن تجنبه. فكر سيلاس. لقد فعل ريمي الصواب. فقد أنقذ الحجر المفتاح. "فهمت"، قال سيلاس بامتعاض. "حسناً، والآن يجب أن تذهب في الحال إلى مكان آمن تحتمي به. فستبحث الشرطة عن الليموزين قريباً ولا أريدهم أن يلقوا القبض عليك. إن هناك سكناً عاماً لأوبوس داي في لندن، أليس كذلك؟". "طبعاً". "وهل أنت مرحب بك هناك؟". "كما لو كنت أخاً للجميع". "إذن اذهب إلى هناك. وابقَ بعيداً عن الأنظار. سأتصل بك بعد أن يصبح الحجر المفتاح بحوزتي وبعد أن أجد حلاً لمشكلتي الراهنة". "هل أنت في لندن؟". "افعل ما أطلبه منك وسيكون كل شيء على ما يرام". "حاضر سيدي". تنهد المعلم كما لو أن ما كان عليه أن يفعله الآن هو شيء يدعو للأسف الشديد. "والآن يجب أن أتحدث إلى ريمي". مرر سيلاس الهاتف إلى ريمي وهو يشعر بأن هذه هي آخر مكالمة سيتلقاها ريمي في حياته. وعندما أخذ ريمي الهاتف عرف في قرارة نفسه أن هذا الراهب المسكين المختل لم تكن لديه أية فكرة عن القدر المشؤوم الذي ينتظره الآن بعد أن انتهت مهمته. "لقد استغلك المعلم يا سيلاس". "وقسك كان الأداة التي استخدمها لتحقيق مآربه". قال في نفسه. كانت قدرة المعلم على الإقناع لا زالت تبهره. فقد جعل القس أرينغاروزا يثق به ثقة عمياء. فقد تاه عن الحقيقة بسبب يأسه. كان أرينغاروزا يتوق إلى تصديقه والإيمان بقدراته. وبالرغم أن ريمي لم يكن معجباً تماماً بالمعلم، إلا أنه شعر بالفخر لأنه كسب ثقة الرجل وساعده إلى حدٍّ كبير. لقد استحقيت قوت يومي. "أنصت إليّ بعناية"، قال المعلم. "خذ سيلاس إلى مقر سكن أوبوس داي ودعه ينزل قبل عدة حارات. ثم انطلق إلى منتزه سانت جيمس. إنه يقع بجوار البرلمان وبيغ بن. يمكنك أن توقف الليموزين عند مكان استعراض الخيالة. سنتكلم هناك". وبذلك، انتهت المكالمة. الفصل الثاني والتسعون كانت جامعة الملك التي أسسها الملك جورج الرابع عام 1829، قد أقامت قسم اللاهوت والدراسات الدينية في بناء مجاور للبرلمان في ملكية منحها إياها الملك نفسه. ويفتخر قسم الدراسات الدينية في جامعة الملك بخبرة مائة وخمسين عاماً في التدريس والبحث، بالإضافة إلى تأسيسها عام 1982 لمعهد الأبحاث في اللاهوت المنظوم الذي يمتلك إحدى أهم وأكبر المكتبات الإلكترونية المتطورة والمختصة في البحث الديني في العالم. كان الشعور بعدم الأمان لا زال يسيطر على لانغدون وهو يدخل مع صوفي إلى المكتبة ويتركان وراءهما الأمطار الغزيرة في الخارج. كانت غرفة البحث الأساسية، كما وصفها تيبينغ تماماً، عبارة عن غرفة مثمنة الشكل تتوسطها طاولة مستديرة كبيرة كانت لتناسب الملك آرثر وفرسانه لولا الاثنا عشر كومبيوتر بشاشات مسطحة التي كانت عليها. وفي الجانب الآخر من الغرفة بعيداً، كانت أمينة المكتبة تصب فنجان الشاي الصباحي وتتحضر لبدء يوم عمل جديد. "يا له من صباح جميل"، قالت بمرح وهي تترك شايها وتتقدم باتجاههما. "هل يمكنني أن أساعدكما؟". "شكراً لك، نعم"، رد لانغدون. "اسمي...". "روبرت لانغدون". ارتسمت ابتسامة لطيفة على وجهها. "أعرف من أنت". خاف لانغدون للحظة من أن يكون فاش قد نشر صورته أيضاً في التليفزيون الإنجليزي أيضاً، لكن الابتسامة التي كانت على شفتي أمينة المكتبة طمأنته. فهو لم يعتد بعد على لحظات الشهرة غير المتوقعة كهذه. لكن إذا كان هناك أي شخص على الأرض يمكنه أن يتعرف إليه، فسيكون ذلك الشخص أمين مكتبة مختصة بمراجع الأبحاث الدينية. "باميلا غيتوم"، قالت أمينة المكتبة، ومدت يدها لتصافحه. كانت تتمتع بوجه لطيف يدل على معرفة واسعة وصوت صاف، وكانت نظارتها التي تتدلى من رقبتها ذات عدسات داكنة وسميكة. "تشرفت بمعرفتك"، قال لانغدون. "هذه صديقتي صوفي نوفو". حيت كل منهما الأخرى. والتفتت غيتوم بعد ذلك مباشرة إلى لانغدون. "لم أعرف أنك كنت قادماً إلى هنا". "لم نكن قد خططنا للمجيء. نحن بحاجة ماسة لمساعدتك في العثور على بعض المعلومات إذا كان ذلك ممكناً". تغيرت ملامح غيتوم وبدت مترددة. "إن المكتبة تقدم خدماتها بناء على عريضة أو موعد مسبق فقط، إلا إذا كنت تحل ضيفاً على أحد ما في الجامعة؟". هزّ لانغدون رأسه نافياً. "أخشى أننا قد جئنا دون موعد مسبق، لدي صديق أخبرني الكثير من الأمور الحسنة عنكم. السير لاي تيبينغ؟" شعر لانغدون بألم يعتصر قلبه عندما نطق باسمه. "المؤرخ الملكي البريطاني". ابتهجت غيتوم عندئذ وأخذت تضحك. "بالطبع، نعم. يا له من شخصية فريدة من نوعها. إنه مهووس! ففي كل مرة يأتي فيها إلى هنا، يبحث في نفس الموضوع دائماً وأبداً. الغريل والغريل ثم الغريل أيضاً. أقسم أن هذا الرجل سيموت قبل أن يتخلى عن بحثه الحثيث عن الغريل"، قالت غامزة. "الفراغ والمال يمنحان المرء رفاهيات رائعة كهذه، أليس كذلك؟ ذلك الرجل هو دون كيشوت بكل معنى الكلمة". "هل بإمكانك مساعدتنا؟" سألت صوفي. "فالأمر شديد الأهمية". نظرت غيتوم في أرجاء المكتبة الخالية ثم غمزتهما. "حسناً، لا يمكنني الادعاء بأنني مشغولة كثيراً الآن، وطالما أنكما ستقومان بتسجيل اسميكما على قائمة الدخول، لا أعتقد أن ذلك سيزعج أي أحد. ما الذي تبحثان عنه؟". "أننا نحاول أن نعثر على ضريح في لندن". بدت غيتوم مترددة. "هناك حوالى عشرين ألف ضريح هنا. هل بإمكانك أن تكون أكثر تحديداً؟". "إنه ضريح فارس. لكننا لا نعرف اسمه". "فارس؟ إن هذا يضيق نطاق البحث كثيراً فهذا ليس موجوداً هنا بكثرة". "ليس لدينا الكثير من المعلومات عن الفارس الذي نبحث عنه"، قالت صوفي. "لكن هاك ما نعرفه". وأخرجت ورقة كتبت عليها أول بيتين من القصيدة فقط. فقد كان لانغدون وصوفي مترددين حيال كشف القصيدة أمام أشخاص غرباء، لذا فقد قررا أن يعرضا عليها أول بيتين منها، ذلك البيتين اللذين يتحدثان عن الفارس. شيفرة مقسمة إلى أجزاء مستقلة، هكذا أسمته صوفي. فعندما تقوم المخابرات بتحويل نص إلى شيفرة تتضمن معلومات سرية، يقوم كل من محللي الشيفرات بالعمل على قسم من الشيفرة لا يعرفه الآخرون. وهكذا لا يمتلك أي منهم الرسالة المشفرة بالكامل. غير أن الحذر في هذه الحالة كان مبالغاً فيه، فحتى لو رأت أمينة المكتبة القصيدة بالكامل، وعرفت ضريح الفارس والكرة المفقودة، فستكون المعلومات بلا أية أهمية بدون الكريبتكس. أحست غيتوم بأن هناك ضرورة ملحة في عيني الباحث الأمريكي المشهور، وكأن العثور على قبر ذلك الفارس كان أمراً على قدر كبير من الأهمية. كما أن المرأة ذات العينين الخضراوين كانت تبدو متلهفة وقلقة أيضاً. وضعت غيتوم نظارتها وقد احتارت في أمرهما، وراحت تتأمل الورقة التي أعطياها إليها للتو. في لندن يرقد فارس دفنه بابا. جلبت له أعماله عقاباً إلهياً. نظرت إلى ضيفيها. "ما هذا؟ أهي أحجية ترشد إلى الكنز على طريقة هارفرد؟". بدت ضحكة لانغدون مصطنعة. "نعم، شيء من هذا القبيل". صمتت غيتوم وقد شعرت بأنهما لم يخبراها بالقصة كاملة. وبالرغم من ذلك فقد شعرت بالفضول ووجدت نفسها تتأمل بيت الشعر بإمعان. "بحسب بيت الشعر هذا، فإن هناك فارس فعل شيئاً أغضب الرب ومع ذلك فقد كان البابا متسامحاً معه فسمح بدفنه في لندن". أومأ لانغدون. "هل يبدو ذلك مألوفاً بالنسبة لك؟". ذهبت غيتوم إلى أحد الكومبيوترات. "كلا لم يخطر في بالي أي شيء له علاقة بذلك الآن، لكن لنرَ ما الذي يمكننا أن نعرفه من قاعدة البيانات". على مرّ العقدين الأخيرين، قام معهد الأبحاث في منظوم اللاهوت في جامعة الملك، باستخدام برنامج يقوم بالتعرف على الحروف بصرياً بالإضافة إلى أجهزة لترجمة اللغات وذلك لتحويل وأرشفة المجموعات الهائلة من النصوص كالموسوعات الدينية وسير ذاتية دينية ومخطوطات مقدسة كتبت بلغات عدة وكتب تاريخ ومراسلات الفاتيكان ومذكرات لرجال الدين وكل ما يعرّف على أنه مكتوب حول دين الإنسان. وبما أن المجموعات الضخمة قد أصبحت الآن بشكل رقمي مجرد وبسيط بدلاً من الصفحات المادية، لذا فإن الحصول على المعلومات الآن صار مائة مرة أكثر سهولة من ذي قبل. عندما استقرت غيتوم أمام أحد الكومبيوترات، نظرت بإمعان إلى قصاصة الورق وبدأت تضرب على لوحة المفاتيح. "في البداية سنقوم بالبحث مباشرة على الطريقة البولية - طريقة ترميز تنسب للعالم الإنجليزي جورج بول - باستخدام بعض الكلمات الأساسية الواضحة في القصيدة ولننتظر لنرى النتيجة التي سنحصل عليها. "شكراً لك". ضربت غيتوم الكلمات القليلة التالية: لندن، فارس، بابا ثم ضربت زر البحث، وكانت تسمع من مكانها همهمة الكومبيوترات الأساسية الهائلة في الأسفل وهي تبحث عن البيانات بسرعة خمسمائة ميغابايت في الثانية. "لقد طلبت من النظام أن يعرض أي وثائق يتضمن نصها الكامل الكلمات الثلاث الأساسية. وسنحصل بالتأكيد على نتائج لسنا بحاجة إليها كلها. لكنها قد تكون بداية جيدة على أية حال". بدأت بعض النتائج تظهر على الشاشة الآن. رسم البابا. مجموعة اللوحات التي يمتلكها السير جوشوا رينولدز. جريدة جامعة لندن. هزّت غيتوم رأسها. "من الواضح أن هذا ليس ما نبحث عنه". وانتقلت إلى نتيجة البحث الثانية. مؤلفات لندن عن ألكسندر البابا. بقلم ج. ويلسون نايت. هزّت رأسها نفياً مرة أخرى. وأخذت نتائج البحث تظهر تباعاً وبسرعة أكبر من السابق. وظهرت على الشاشة عشرات من النصوص، والتي أشارت في معظمها إلى الكاتب الإنجليزي الذي يعود إلى القرن الثامن عشر ألكسندر البابا الذي كتب شعراً ملحمياً ساخراً من الدين، ويبدو أنه يحتوي الكثير من الإشارات إلى الفرسان ولندن. ألقت غيتوم نظرة سريعة إلى الحقل الرقمي في أسفل الشاشة. حيث أن هذا الكومبيوتر يعطي تخميناً أولياً للكم من المعلومات المتوقع إيجادها وذلك عن طريق حساب رقم النتائج الحالية مضروباً بالنسبة المئوية لقاعدة البيانات التي لا زالت قيد البحث. وهذا البحث بالذات سيعطي كماً هائلاً من البيانات على ما يبدو. عدد النتائج بشكل تقريبي: 2.692 "يجب أن نضيق نطاق البحث أكثر من ذلك"، قالت غيتوم، وقد أوقفت البحث. "هل هذه هي كل المعلومات التي لديكم بخصوص الضريح؟ لا شيء آخر يمكن الاعتماد؟". نظر لانغدون إلى صوفي نوفو، وقد بدا متردداً. شعرت غيتوم أن هذه ليست مجرد أحجية بحث عن الكنز، فقد سمعت إشاعات كثيرة عن تجربة لندن في روما العام الماضي. حيث سمح لهذا الأمريكي بالدخول إلى أكثر مكتبة ذات حراسة عالية ونظام أمن لا يمكن اختراقه في العالم. وهي أرشيف الفاتيكان السرّي. وتساءلت عن الأسرار التي قد يكون لانغدون اطلع عليها في الداخل، وما إذا كان بحثه اليائس هذا عن ضريح غامض في لندن له علاقة بالمعلومات التي عرفها داخل أسوار الفاتيكان. فخبرة غيتوم الطويلة كأمينة مكتبة جعلها تعرف أن أكثر سبب شائع يدعو الناس للمجيء إلى لندن بحثاً عن الفرسان هو الغريل. ابتسمت غيتوم وعدّلت من وضعية نظارتها. "أنت صديق لاي تيبينغ، وأنت في إنجلترا الآن وتبحث عن أحد الفرسان" طوت غيتوم يديها. "وذلك يدعوني للافتراض أنك في حملة بحث عن الغريل". تبادل لانغدون وصوفي نظرات استغراب ودهشة. ضحكت غيتوم. "إن هذه المكتبة هي معسكر أساسي للباحثين عن الغريل. ومن بينهم لاي تيبينغ. أتمنى أن آخذ شيلينغ عن كل مرة أبحث فيها عن معلومات حول الوردة ومريم المجدلية والسانغريال وميروفينجان وأخوية سيون... إلخ... إلخ. فالكل يبحث عن نظرية المؤامرة وراء كل شيء" خلعت نظارتها وأخذت تتأملهما. "أنا بحاجة لمعلومات أكثر". شعرت غيتوم خلف جدار الصمت الذي ساد للحظات أن رغبة ضيفيها في المحافظة على سرية الأمر فاقتها الآن لهفتهما بالحصول على نتيجة سريعة. "هاك"، قالت صوفي دون تفكير. "هذا كل ما نعرفه". واستعارت قلماً من لانغدون وكتبت سطرين آخرين على قصاصة الورق وأعطتها إلى غيتوم. "أنت تبحث عن كرة ملكية موجودة على قبره". "تحكي قصة جسد وردي ورحم حمل روحاً في قلبه". ابتسمت غيتوم بينها وبين نفسها. لقد كان حدسي صحيحاً. إنه فعلاً الغريل. فكرت غيتوم وقد لاحظت الإشارة إلى الوردة ورحمها الذي يحمل بذرة المسيح. "يمكنني أن أساعدكما"، قالت ذلك وهي تنظر إليهما بعد أن رفعت عينيها عن الورقة. "أيمكنني أن أسأل من أين أتيتما بهذه القصيدة؟ ولماذا تبحثان عن الكرة الملكية؟". "يمكنك أن تسألي عن ذلك"، قال لانغدون وعلى وجهه ابتسامة لطيفة، "لكن تلك قصة طويلة ووقتنا ضيق جداً". "تبدو تلك طريقة مهذبة لتقول لي"اهتمي بشؤونك ولا تتدخلي في ما لا يعنيك". "سأكون ممتناً لك إلى الأبد باميلا"، قال لانغدون، "إذا أمكنك أن تعرفي هوية ذلك الفارس وأين دفن". "حسن جداً"، قالت غيتوم، وضربت كلمات أخرى. "سأسايركما. إذا كان هذا موضوعاً متعلقاً بالغريل، فعلينا إذن أن نقوم بتضييق نطاق البحث أكثر من ذلك ونضمنه كلمات ذات علاقة بالغريل. سأضيف مقياساً تقريبياً وأمحو عنوان البحث القديم. فذلك من شأنه الحدّ من النتائج غير ذات الصلة والإبقاء على النتائج التي تتضمن كلمات مفاتيح متعلقة بالغريل". بحث عن: فارس، لندن، بابا، ضريح. في نطاق 100 كلمة تحتوي على: غريل، وردة، سانغريال، قدح. "كم من الوقت ستستغرق هذه العملية؟" سألت صوفي. "لنرَ... بضع مئات التريليونات من البيتات مع عدة حقول من العناوين وكافة الملاحظات التي كتبت عن الموضوع؟". لمعت عينا غيتوم وهي تضرب مفتاح البحث. "حوالى خمس عشرة دقيقة". لم ينطق لانغدون وصوفي بأية كلمة، إلا أن غيتوم أحست أن ذلك بدا لهما وكأنه انتظار سيطول إلى الأبد. "شاي؟" سألت غيتوم، وهي تقف ثم تتجه نحو إبريق الشاي الذي حضرته قبل مجيئهما. "إن لاي يحب أن يتناول دائماً الشاي الذي أحضّره". الفصل الثالث والتسعون كان مركز أوبوس داي في لندن عبارة عن بناء متواضع من الآجر يقع في 5 شارع أورم كورت ويطل على القسم الشمالي من حدائق كينسنغتون. لم يسبق لسيلاس أن زاره، لكنه شعر وهو يقترب من البناء مشياً على قدميه بأنه سيكون الملاذ الآمن الذي سيلتجئ إليه. أنزل ريمي سيلاس على بعد مسافة قصيرة من البناء لأنه أراد أن يبقي الليموزين بعيدة عن الشارع العام، بالرغم من الأمطار التي كانت تهطل بغزارة. إلا أن سيلاس لم يمانع المشي تحت المطر، حيث إنه شعر أن المطر كان مطهراً للخطايا. قام سيلاس، بناء على اقتراح ريمي، بمسح بصماته عن مسدسه ثم رماه في أحد مجارير تصريف المياه في الشارع. كان سعيداً جداً للتخلص منه وشعر بثقل ينزاح عنه. لكنه لا زال متألماً من ربط رجليه طوال ذلك الوقت. إلا أنه قد تحمل أوجاعاً أكثر إيلاماً من هذه بكثير. وتساءل في نفسه عن مصير تيبينغ الذي كان ريمي قد تركه مشدود الوثاق في مؤخرة الليموزين. لا بد وأن ذلك البريطاني قد بدأ يحس بشعوره الآن. "ما الذي ستفعله بشأنه؟" كان سيلاس قد سأله وهما في الطريق إلى هنا. هز ريمي كتفيه دون اهتمام. "هذا القرار يعود للمعلم". كان هناك جزم غريب في نبرة صوته. أما الآن وقد أخذ سيلاس يقترب من بناء أوبوس داي، بدأت الأمطار تهطل بغزارة أكثر من قبل، مبللة رداءه الثقيل ولاسعة جروح اليوم الفائت. كان سيلاس مستعداً لأن يترك وراء ظهره خطايا الأربع والعشرين ساعة الماضية ويطهر روحه. فقد انتهى عمله الآن. تقدم سيلاس نحو الباب الأمامي عبر فناء صغير، ولم يتفاجأ عندما وجد أن الباب لم يكن مقفلاً. ففتحه ودخل إلى الردهة التي كانت صغيرة جداً. وعندما داس سيلاس على السجادة في الداخل رن جرس مكتوم في الأعلى. كان هذا النوع من الأجراس مألوفاً في مثل هذه القاعات حيث يمضي المقيمون معظم ساعات النهار في الصلاة في غرفهم. سمع سيلاس حركة في الأعلى على الأرضية الخشبية. نزل رجل يرتدي ثوباً كهنوتياً. "هل يمكنني أن أقدم لك المساعدة؟" كان ينظر إليه بعينين حانيتين لم تظهر عليهما الدهشة لرؤية شكله المرعب. "شكراً لك. اسمي سيلاس. أنا عضو في أوبوس داي". "أنت أمريكي؟". أومأ سيلاس. "أنا في المدينة ليوم واحد فقط. هل يمكنني أن أرتاح هنا؟". "لست بحاجة لأن تسألني. هناك غرفتان خاليتان في الطابق الثالث. هل أحضر لك بعض الخبز والشاي؟". "شكراً لك" كان يكاد يموت جوعاً. صعد سيلاس إلى الطابق الأعلى ودخل إلى غرفة متواضعة فيها نافذة، حيث خلع رداءه المبلل وركع ليصلي في ثيابه الداخلية. وسمع مضيفه وهو يصعد إلى غرفته ويترك صينية عند باب غرفته. أنهى سيلاس صلواته وأكل طعامه ثم استلقى لينام. وفي الأسفل عند الطابق الأرضي، كان الهاتف يرن، فرد العضو الذي استقبله. "هنا شرطة لندن"، قال المتصل. "نحن نحاول العثور على راهب أبرص. وردتنا معلومات أنه قد يكون عندكم. هل رأيته؟". ذهل المضيف. "نعم، إنه هنا. ما المشكلة؟". "هل هو عندك الآن؟". "نعم إنه يصلي في الأعلى. ماذا جرى؟". "لا تدعه يتحرك من مكانه أبداً"، أمره الضابط. "لا تنطق بحرف لأي أحد عما قلته لك. وسأرسل رجالاً إليك في الحال". الفصل الرابع والتسعون كان منتزه سانت جيمس غابة خضراء وسط لندن. وهو حديقة عامة تحاذي قصور ويستمنستر وباكينغهام وسانت جيمس. كانت هذه الحديقة مخصصة للملك هنري الثامن حصراً حيث كان يصيد فيها الغزلان. أما اليوم فهي مفتوحة للعامة. وفي الأيام المشمسة يتنزه فيها اللندنيون في أوقات العصر مستظلين بأشجار الصفصاف الوارفة ويطعمون في بحيرتها الهادئة سكانها من طيور البجع التي كان أجدادها هدية من السفير الروسي إلى الملك تشارلز الثاني. لم يرَ المعلم اليوم أي بجع في البحيرة. فقد أتى الطقس العاصف بالنوارس البحرية من المحيط بدلاً من البجع. كانت تلك الطيور تغطي مروج الحديقة الخضراء بلونها الأبيض حيث كانت تقف مئات منها بصبر في الاتجاه نفسه في مواجهة الرياح المحملة بالأمطار. وبالرغم من الضباب الصباحي الكثيف، إلا أن الجالس في الحديقة يمكنه أن يرى مناظر أخاذة لمقر البرلمان وساعة بيغ بين. نظر المعلم إلى الطرف الآخر من المروج المنحدرة متجاوزاً بركة البط وأشجار الصفصاف الباكي، فاستطاع أن يرى أبراج البناء الذي يوجد فيه ضريح الفارس - ولهذا السبب طلب من ريمي أن يأتي إلى هذا المكان. وعندما اقترب المعلم من الباب الأمامي لليموزين الواقفة في مكانها، انحنى ريمي إلى الطرف المقابل وفتح له الباب. وقف المعلم لحظة في الخارج وأخذ رشفة من كأس الكونياك التي كان يحملها ورطب شفتيه بلسانه ثم ركب بجانب ريمي وأغلق الباب. رفع ريمي الحجر المفتاح عالياً كما لو أنه كأس ذهبية. "لقد كاد يضيع منا". "لقد أحسنت صنعاً"، قال المعلم. "نحن أحسنّا صنعاً"، رد ريمي ووضع الحجر المفتاح بيد المعلم المتلهفة شوقاً لحمله أخيراً. تأمله المعلم بإعجاب لعدة لحظات وابتسم. "ماذا عن المسدس؟ هل مسحت عنه البصمات؟". "نعم، وقد أعدته إلى صندوق القفازات الأمامي حيث وجدته". "ممتاز". أخذ المعلم رشفة أخرى من الكونياك وأعطى القارورة لريمي. "لنشرب نخب نجاحنا. فقد أصبحت النهاية قريبة". أخذ ريمي القارورة منه بامتنان. كان طعم الكونياك مالحاً، لكن ريمي لم يبالِ بذلك. فقد أصبح والأستاذ شريكين بحق الآن. وبدأ يشعر أنه قد صعد إلى مرتبة أعلى في الحياة. لن أكون خادماً لأحد أبداً. وعندما نظر ريمي إلى الأسفل حيث كانت بركة البط، بدا قصر فيليت وكأنه يبعد عنه آلاف الأميال. أخذ ريمي رشفة أخرى من القارورة وشعر بالكونياك يدفئ دمه. إلا أن الدفء في دم ريمي تحول فجأة إلى حرارة مخيفة. فحل ربطة عنقه وبدأ يشعر وكأن هناك حبيبات ذات طعم كريه في فمه، فأعاد القارورة إلى المعلم. "أعتقد أنني شربت بما فيه الكفاية"، قال ذلك بصعوبة. أخذ المعلم القارورة من يده وقال: "ريمي أنت تعرف جيداً أنك الشخص الوحيد الذي يعرف وجهي. وقد وضعت ثقتي كلها فيك". "نعم"، قال ريمي وهو يشعر أنه محموم فنزع ربطة عنقه. "وسأحتفظ بهذا السرّ إلى أن أوارى الثرى". صمت المعلم للحظات طويلة. "أنا أصدقك". ووضع الحجر المفتاح والقارورة الصغيرة في جيبه، ثم مدّ يده إلى صندوق القفازات وأخرج منه مسدس الميدوسا الصغير. في تلك اللحظة، شعر ريمي بموجة من الرعب تسري في جسده. إلا أن المعلم دس المسدس في جيب بنطاله بكل بساطة. ماذا يفعل؟ شعر ريمي فجأة بأنه يتصبب عرقاً. "أعرف أنني قد وعدت بمنحك الحرية"، قال المعلم وقد بدا الندم في صوته الآن. "لكن نظراً لظروفك، فإن هذا هو أفضل شيء يمكنني فعله". انتفخ حلق ريمي فجأة فأحس به كهزة أرضية. فتمايل مقابل عمود القيادة وأمسك بلعومه وقد أحس بطعم القيء في الرغامى التي كانت تضيق أكثر فأكثر. فحاول أن يصرخ بأعلى صوته إلا أن صرخته كانت مكتومة ولم تصل حتى إلى خارج السيارة. وأدرك في تلك اللحظة لماذا شعر بطعم مالح في الكونياك. إنني أموت... إنني أقتل! لم يصدق ريمي ما يحدث له. التفت ليرى المعلم جالساً بكل هدوء إلى جانبه، ينظر إلى الأمام بشرود عبر حاجب الريح. لم تعد الرؤية عند ريمي واضحة، وأخذ يلهث محاولاً أن يأخذ نفساً. لقد فعلت المستحيل لأجله! كيف أمكنه أن يفعل هذا بي! سواء كان المعلم قد خطط لقتله من البداية أو أن ما فعله ريمي في كنيسة الهيكل هو الذي جعل المعلم يفقد ثقته فيه ويقرر قتله، لم يكن ريمي ليعرف ذلك قط. وشعر الآن برعب وغضب شديد يغلي في داخله وحاول أن يهجم على المعلم، لكن جسده المتصلب لم يتمكن من الحركة. لقد وثقت بك ثقة عمياء! حاول أن يرفع قبضتيه المتشنجتين ليطلق نفير السيارة لكنه عوضاً عن ذلك انزلق ووقع على جنبه بالقرب من المعلم، وهو لا يزال متشبثاً بحلقه. تساقطت الأمطار بغزارة أكثر الآن. لم يعد بإمكان ريمي أن يرى، لكنه أحس بدماغه الذي انقطع عنه الأوكسيجين وهو يناضل ليتشبث بآخر ذرة من الحياة. وبينما كان عالم ريمي لوغالوديك يتحول شيئاً فشيئاً إلى ظلام دامس، كان ليقسم أنه سمع صوت الأمواج المتكسرة على شاطئ الريفييرا. ترجل المعلم من الليموزين، وسرّ لأنه لم يكن هناك أي أحد ينظر إليه. لم يكن لدي أي خيار آخر، قال في نفسه، مستغرباً من أنه لم يكن لديه أدنى شعور بتأنيب الضمير لما أقدم على فعله لتوه. لقد ختم ريمي قدره بيده. فقد كان المعلم قد خشي منذ البداية أن يضطر للتخلص من ريمي بعد أن ينتهي من مهمته، لكن بعد أن كشف ريمي نفسه بوقاحة في كنيسة الهيكل، دفع عجلة قدره المحتوم بيده مما أدى إلى التسريع في مقتله. لقد جلبت زيارة روبرت لانغدون غير المتوقعة إلى قصر فيليت للمعلم مفاجأة سارة ومشكلة معقدة في آنٍ معاً. حيث أن لانغدون قد أتى بالحجر المفتاح مباشرة إلى قلب العملية، الأمر الذي كان مصادفة سعيدة، إلا أنه جر الشرطة وراءه. وبصمات ريمي كانت في كل مكان في قصر فيليت وفي مركز التنصت في الحظيرة أيضاً حيث كان ريمي يقوم بالمراقبة. كان المعلم ممتناً لأنه كان توخى الحذر الشديد في قطع أي صلة بين نشاطات ريمي ونشاطاته. هكذا لن يتمكن أي أحد أن يورط المعلم إلا إذا تكلم ريمي، وهذا لم يعد احتمالاً وارداً الآن. لم يعد هناك إلا مشكلة واحدة يجب أن أقوم بحلها وبسرعة، فكر المعلم وهو يتقدم الآن إلى باب الليموزين الخلفي. لن تعرف الشرطة ماذا حدث هنا... فلم يبقَ أي شاهد على قيد الحياة ليخبرهم. ألقى نظرة حوله ليتأكد من عدم وجود أي أحد يراقبه، ثم فتح الباب وركب في المقصورة الخلفية الواسعة. وبعد عدة دقائق، تجاوز المعلم منتزه سانت جيمس. لم يبقَ الآن سوى شخصين. لانغدون ونوفو. لقد كان التخلص منهما أكثر تعقيداً ممن سبقهما. لكن لن يصعب عليه ذلك. أما في الوقت الراهن، فكان على المعلم أن ينظر في أمر الكريبتكس. نظر المعلم إلى الجانب الآخر من المنتزه منتشياً بنصره، فاستطاع أن يرى وجهته. في لندن يرقد فارس دفنه البابا. حالما سمع المعلم تلك القصيدة، عرف الجواب. ومع ذلك فهو لم يستغرب عندما لم يعرفها الآخرون. فأنا قد تفوقت عليهم بطريقة غير عادلة. بما أنه كان قد أمضى شهوراً طويلة وهو يتنصت على أحاديث سونيير، فسمع المعلم الأكبر يذكر ذلك الفارس المشهور في مناسبة عبر فيها عن إعجابه به بشكل يكاد يساوي الإعجاب الذي يكنه لدافنشي. وكانت الإشارة إلى هوية الفارس في القصيدة بسيطة جداً إذا انتبه إليها المرء، وقد كانت تلك حركة ذكية قام بها سونيير، إلا أن السؤال الذي لم يتمكن من الإجابة عنه بعد هو كيف سيكشف هذا الضريح كلمة السرّ الأخيرة؟ أنت تبحث عن كرة ملكية موجودة على قبره. استعاد المعلم في ذهنه صوراً من الضريح الشهير وتذكر بشكل خاص الكرة الضخمة التي كانت تعلو القبر والتي كان حجمها يكاد يساوي القبر نفسه. وكان وجود الكرة بالنسبة للمعلم شيئاً مشجعاً ومزعجاً في آن واحد. فمن جهة، كانت تمثل نقطة علام تدل على الفارس. ومن جهة أخرى، وحسب ما جاء في القصيدة، كانت القطعة المفقودة في الأحجية كرة يجب أن تكون على قبره... لا واحدة موجودة هناك أصلاً. لذا فقد كان يعوّل الكثير على فحص دقيق للضريح عن قرب عندما يذهب إلى هناك ليتمكن من معرفة الجواب. كانت الأمطار تهطل بغزارة أكثر الآن، دس المعلم الكريبتكس في الجيب الأيمن لمعطفه خوفاً عليه من البلل. كما أبقى على مسدسه الميدوسا الصغير في الجيب الأيسر، بعيداً عن الأنظار. وفي غضون دقائق، دخل المعلم إلى الحرم الهادئ لأهم بناء عمره تسعمائة سنة في لندن. وفي الوقت الذي دخل فيه المعلم إلى البناء وقد احتمى من المطر، حطت طائرة القس أرينغاروزا وسط الأمطار الغزيرة. وعلى الممر المبلل في مطار بيغينغ هيل، ظهر القس أرينغاروزا الذي نزل من طائرته الصغيرة وحزم رداءه الكهنوتي بإحكام خوفاً من البرد القارس. وكان يأمل أن يستقبله النقيب فاش، لكنه وجد في انتظاره ضابطاً شاباً في الشرطة البريطانية، اقترب منه حاملاً مظلة بيده. "القس أرينغاروزا؟ لقد اضطر النقيب فاش للذهاب. لكنه طلب مني أن أعتني بك، وقد اقترح أن آخذك إلى سكوتلانديارد حيث ستكون في أمان". في أمان؟ نظر أرينغاروزا إلى الأسفل حيث كان متشبثاً بالمحفظة الثقيلة التي تحتوي على سندات الفاتيكان. لقد كاد ينساها تماماً. "نعم، شكراً لك". صعد أرينغاروزا إلى سيارة الشرطة وهو يتساءل في نفسه عن مكان سيلاس الآن. وبعد دقائق قليلة، أتاه الجواب عبر اللاسلكي الذي قرقع صوته في السيارة. 5 أورم كورت. عرف أرينغاروزا هذا العنوان في الحال. مقر أوبوس داي في لندن. فهتف بالسائق. "خذني إلى هناك فوراً!". الفصل الخامس والتسعون لم يستطع لانغدون أن يحول عينيه عن شاشة الكومبيوتر منذ أن بدأت عملية البحث. مرت خمس دقائق، ولم تظهر سوى نتيجتين والاثنتان لا علاقة لهما بالموضوع. فبدأ يقلق. كانت باميلا غيتوم في الغرفة المجاورة تحضر مشروبات ساخنة. وقد سألها لانغدون وصوفي إذا كان هناك بعض القهوة الساخنة إضافة إلى الشاي الذي قدمته لهما، ومن صوت الصفير الذي صدر عن المايكرويف في الغرفة المجاورة، خمن لانغدون أنهما كانا على وشك أن يكافآ بفنجانين من النسكافيه الساخنة. وأخيراً طن الكومبيوتر بسعادة... "يبدو أنكما حصلتما على جديد". هتفت غيتوم من الغرفة الأخرى. "ما هو العنوان؟". حدق لانغدون في الشاشة. قصة الكأس المقدسة الرمزية في أدب القرون الوسطى بحث عن السير غيوين والفارس الأخضر "قصة الفارس الأخضر"، أجابها لانغدون. "ليس هذا ما تبحثان عنه"، قالت غيتوم. "فليس هناك الكثير من العمالقة الخضر الأسطوريين مدفونين في لندن". جلس لانغدون وصوفي أمام الشاشة ينتظران بصبر حيث كان هناك عنوانين آخرين. لكن عندما طن الكومبيوتر ثانية كانت النتيجة غير متوقعة على الإطلاق. حيث كتب بالألمانية: أعمال ريتشارد فاغنر الأوبرالية. "أوبرا فاغنر؟" سألت صوفي. ألقت غيتوم نظرة من الممر وهي تحمل ظرفاً من مسحوق القهوة الجاهزة. "يبدو ذلك تطابقاً غريباً. هل كان فاغنر فارساً؟". "كلا"، قال لانغدون، وهو يشعر بمكيدة مفاجئة. "لكنه كان ماسونياً معروفاً" وكذلك موزارت، وبيتهوفن، وشكشبير، وغيرشوين، وهوديني، وديزني. فقد كتبت مجلدات ضخمة عن العلاقة التي تربط الماسونيين بفرسان الهيكل وأخوية سيون والكأس المقدسة". "أود أن أطلع على هذه. كيف يمكنني أن أقرأ النص بالكامل؟". "لست بحاجة لأن تقرأ النص بالكامل"، قالت غيتوم. "انقر على عنوان النص وسيعرض لك الكومبيوتر الجمل التي تحتوي على الكلمة الأساسية التي ضمنتها بحثك بالإضافة إلى كلمة واحدة قبلها وثلاث بعدها لفهم فحوى الجملة". لم يفهم لانغدون كلمة واحدة مما قالته لتوها، لكنه نقر على العنوان على أية حال. فظهرت نافذة جديدة على الشاشة. ... الأسطوري الفارس اسمه بارسيفال الذي... ... بحث غريل رمزي الذي يحتمل... ... سمفونية لندن كانت عام 1855... أوبرا البابا سمتها ريبيكا "المغنية". قبر فاغنر في بايرث، المانيا... "ليس هذا البابا المطلوب"، قال لانغدون وقد أصيب بخيبة أمل، إلا أنه كان مذهولاً من سهولة استخدام هذا النظام. وقد كانت الكلمات المفاتيح مع السياق الذي وردت فيه، كافية لتذكيره بأن أوبرا فاغنر "بارسيفال" كانت تحية لمريم المجدلية وسلالة يسوع المسيح من خلال قصة فارس شاب في مهمة هدفها البحث عن الحقيقة. "عليك أن تتحلى بالصبر فقط". ألحت عليه غيتوم. "إنها لعبة أرقام. دع الآلة تعمل". أظهر الكومبيوتر، في الدقائق القليلة اللاحقة، عدة إشارات أخرى عن الغريل بما فيها نص حول التروبادوريين – وهم شعراء فرنسا الغنائيون المتجولون الذين اشتهروا بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر ميلادية. كان لانغدون يعرف أن اشتراك كلمة Minstrel أو الشاعر الغنائي وكلمة Minister أو كاهن بنفس الجذر اللغوي الإنجليزي، لم يكن مجرد مصادفة. فقد كان التروبادوريون في الحقيقة كهنة جوالين يخدمون كنيسة مريم المجدلية مستخدمين الموسيقى لنشر قصة الأنثى المقدسة في أوساط العامة من الناس. وحتى يومنا هذا، كان التروبادوريون يترنمون بأغانيَ تمجد مناقب "سيدتنا" - وهي امرأة جميلة غامضة نذروا نفسهم لها إلى الأبد. قرأ لانغدون النص بلهفة لكنه لم يجد أي شيء يهمه فيه. طن الكومبيوتر ثانية. فرسان، خدم، بابوات، ونجوم خماسية: تاريخ الكأس المقدسة من خلال التاروت: ورق اللعب السحري. "هذا ليس بغريب"، قال لانغدون لصوفي. "فبعض الكلمات المفاتيح التي نبحث عنها تحمل نفس أسماء أوراق اللعب". وحرك الفأرة لينقر على الجملة ليقرأ النص المتعلق بها. "لا أعرف إذا ذكر لك جدك شيئاً عن ذلك عندما كنت تلعبين معه بالتاروت، صوفي، فهذه اللعبة تلخص العقيدة الأساسية للعروس الضائعة التي قمعتها الكنيسة الشريرة". حدقت فيه صوفي وقد بدت مشدوهة. "لم تكن لدي أية فكرة حول هذا الموضوع". "هذا هو بيت القصيد. فقد قام المؤمنون بالغريل بنشر أفكار عقيدتهم عن طريق لعبة رمزية أخفت رسالتهم عن عيون الكنيسة". وكان لانغدون يتساءل في نفسه إذا ما كان لاعبو الورق المعاصرون على علم بأن أوراقهم التي تتألف من أربع مجموعات، كانت في الحقيقة رموزاً متعلقة بالغريل أتت مباشرة من مجموعات أوراق التاروت الأربع: السيوف والكؤوس والصولجانات والنجوم الخماسية. فالبسطوني كانت تمثله سيوف - النصل. الذكر. الكوبة كانت كؤوساً - القدح. الأنثى. الاسباتي كان صولجانات. السلالة الملكية. أفراد العائلة الملكية. الديناري كانت نجوماً خماسية. الآلهة. الأنثى المقدسة. وبعد أربع دقائق، عندما بدأ لانغدون يشعر بالخوف من أنهما لن يجدا ما أتيا لأجله. أظهر الكومبيوتر نتيجة أخرى للبحث. الجاذبية الأرضية للعبقري: سيرة فارس معاصر "الجاذبية الأرضية لعبقري؟" هتف لانغدون لغيتوم. "سيرة فارس معاصر؟". أقحمت غيتوم رأسها بينهما. "إلى أي حدّ هو معاصر؟ أرجوك لا تقل لي إنه السير الأمريكي رودي جولياني. فأنا شخصياً أجد ذلك غير ملائم على الإطلاق وقد تجاوز كل الحدود". كان لانغدون لديه بعض التحفظات أيضاً بخصوص ميك جاغر الذي منح لقب فارس مؤخراً، لكن هذا لم يكن أبداً الوقت المناسب لمناقشة السياسات البريطانية الحديثة المتبعة في منح لقب الفروسية. "دعونا نلقِ نظرة". نقر لانغدون على الكلمات ليظهر النص المخزن. ... الموقر، الفارس، السير إسحق نيوتن... ... في لندن عام 1727 و... ... في قبره في دير وستمنستر... ... ألكسندر البابا، صديقه وزميله... "أعتقد أن كلمة "معاصر" هي كلمة نسبية"، قالت صوفي لغيتوم. "إنه كتاب قديم عن السير إسحق نيوتن". هزت غيتوم رأسها وهي تمشي في الممر. "ليس هذا ما تبحثون عنه. فقد دفن نيوتن في دير وستمنستر، مركز البروتستانتية الإنجليزية. لذا لا يمكن أن يكون قد حضر جنازته بابا كاثوليكي. أتريدان مع القهوة قشدة وسكر؟". أومأت صوفي. انتظرت غيتوم. "روبرت؟". كان قلب لانغدون يخفق بسرعة شديدة. وفجأة رفع عينيه عن الشاشة ووقف. "السير إسحق نيوتن هو فارسنا". ظلت صوفي جالسة في مكانها لم تتحرك. "ماذا تقول؟". "إن نيوتن مدفون في لندن"، قال لانغدون. "وأعماله أدت إلى نشوء علوم جديدة أثارت غضب الكنيسة عليه. كما أنه كان المعلم الأكبر في أخوية سيون. ماذا نريد أكثر من ذلك بعد؟". "أكثر من ذلك؟" أشارت صوفي إلى القصيدة. "ماذا عن فارس دفنه بابا؟ لقد سمعت ما قالته الآنسة غيتوم. لم يدفن إسحق نيوتن على يد بابا كاثوليكي". حرك لانغدون الفأرة. "من ذكر أي شيء عن بابا كاثوليكي؟" نقر على كلمة بابا فظهرت الجملة المخزنة كاملة. مراسم دفن السير إسحق نيوتن، حضرها الملوك والنبلاء وترأسها صديقه وزميله في العمل ألكسندر بابا، الذي ألقى تأبيناً مؤثراً قبل أن يذري التراب على قبره. نظر لانغدون إلى صوفي. "لقد حصلنا على البابا الصحيح في بحثنا الثاني. ألكسندر". صمت لحظة. "أ. بابا - A. Pope". في لندن يرقد فارس دفنه بابا... وقفت صوفي الآن وقد بدت مذهولة. جاك سونيير ملك الرموز والتورية، أثبت من جديد أنه كان رجلاً يتمتع بذكاء مرعب. الفصل السادس والتسعون استفاق سيلاس مجفلاً. لم يعرف ما الذي أيقظه أو كم من الوقت قد مضى وهو نائم. هل كنت أحلم؟ جلس الآن على حصيرة القش التي كان نائماً عليها. وأخذ ينصت إلى سكون قاعات مقر أوبوس داي الذي كانت تتخلله الهمسات الناعمة لأحد ما يصلي جهراً في غرفته التي تقع تحت غرفة سيلاس. تلك كانت أصواتاً مألوفة اعتاد على سماعها ويفترض بها أن تشعره بالراحة والاطمئنان. إلا أنه شعر بخطر مفاجئ يتربص به من حيث لا يدري. وقف سيلاس بثيابه الداخلية ومشى إلى النافذة. هل تبعني أحد إلى هنا؟ كان الفناء في الأسفل خالياً تماماً كما كان عند دخوله. أصاخ السمع. لا شيء إلا السكون. لماذا إذاً أشعر بالقلق؟ لقد تعلم سيلاس منذ زمن بعيد أن يثق بحدسه. فحدسه فقط هو الذي أبقاه حياً عندما كان صغيراً يجوب شوارع مرسيليا قبل أن يزج به في السجن بوقت طويل... قبل أن يشهد ولادته الثانية على يد القس أرينغاروزا. وعندما ألقى نظرة إلى خارج السور رأى سيارة على سقفها إشارة الشرطة. عندئذ سمع صرير الألواح الخشبية على أرضية الممر ثم تحرك مزلاج الباب. فاندفع دون أن يشعر واختبأ خلف الباب الذي فتح بعنف. واقتحم الشرطي الأول الغرفة ملوحاً مسدسه إلى اليسار ثم إلى اليمين نحو ما بدا له غرفة خالية. وقبل أن ينتبه إلى مكان سيلاس، دفع سيلاس الباب بعنف بكتفه فطرح شرطياً ثانياً على الأرض كان على وشك الدخول إلى الغرفة. وعندما كان الشرطي الأول على وشك أن يطلق النار عليه ركله سيلاس على رجليه فانطلقت الرصاصة وطارت فوق رأس سيلاس وفي اللحظة التي ركل سيلاس الشرطي على قصبة رجله وأوقعه فاصطدم رأسه بالأرض، استجمع الشرطي الثاني قواه ووقف في الممر مترنحاً فالتفت سيلاس وضربه بركبته على مفصل فخذه ثم زحف بصعوبة فوق جسد الشرطي الذي كان يتلوى ألماً في وسط الردهة. اندفع سيلاس بسرعة بجسده الأبيض ونزل السلالم وهو شبه عار. لقد عرف الآن أن أحدهم وشى به. لكن من فعل ذلك؟ وعندما وصل إلى المدخل كان رجال الشرطة يندفعون نحو الداخل. فاستدار نحو الجهة الأخرى واندفع متوغلاً في السكن فأصبح عند مدخل قسم النساء الذي يحتوي كل مبنى من مباني أوبوس داي على واحد مثله. اندفع سيلاس عبر الممرات الضيقة، ثم تسلل إلى مطبخ أمام العاملات اللواتي ارتعبن فلذن بالفرار لرؤية الأبرص العاري وقد قلب الأواني والقدور الفضية رأساً على عقب بعد أن تخبط في الممر المعتم بالقرب من غرفة المرجل. وأخيراً رأى الباب الذي كان يبحث عنه، حيث أضاءت إشارة "مخرج" فوقه. وما أن رأى سيلاس الباب ركض بأقصى سرعته نحو الخارج وقفز فوق منبسط الدرج ولم يرَ الشرطي الذي كان قادماً من الاتجاه المعاكس إلى أن فات الأوان فاصطدم الاثنان فطحن كتف سيلاس العريض عظم قفص الرجل بقوة رهيبة فتراجع الشرطي إلى الوراء وسقط على الرصيف ووقع سيلاس فوقه وطار مسدس الشرطي بعيداً. وسمع سيلاس أصوات رجال يركضون نحو الردهة يصرخون. فتدحرج من فوق الرجل وقبض على المسدس الطليق. في نفس اللحظة التي ظهر فيه رجال الشرطة. دوى صوت رصاصة أطلقت من جهة السلالم، فشعر سيلاس بألم حارق تحت أضلاعه. فاستشاط غضباً وفتح النار على ثلاثة عناصر فسالت دماؤهم غزيرة. اقترب من سيلاس طيف أسود لم يعرف من أين أتى وكأنه هبط من السماء، وكانت اليدان اللتان قبضتا على كتفيه العاريتين وكأنهما تتمتعان بقوة الشيطان نفسه. وزمجر الرجل في أذنه. سيلاس، لا... فاستدار سيلاس وأطلق النار. وتلاقت عيناهما. فصرخ سيلاس وقد جن جنونه لدى وقوع القس أرينغاروزا على الأرض. الفصل السابع والتسعون كان هناك أكثر من ثلاثة آلاف قبر وضريح في كنيسة وستمنستر. وكان القسم الداخلي الحجري الواسع من الكنيسة يعج برفات الملوك ورجال الدولة والعلماء والشعراء والموسيقيين. وكانت قبورهم محشورة في كل مشكاة وفجوة في البناء، وتتنوع في ضخامتها وفخامتها من الأضرحة الملكية - كضريح الملكة إليزابيث الأولى الذي يتألف من ناووس حجري ضخم ذي ظلة ويتمتع بحرمه الخاص ذي الشكل القبوي - ونزولاً إلى أكثرها تواضعاً حيث كان القبر عبارة عن حفرة وفوقها بلاطة نقش عليها اسم الميت وقد بليت وانمحى الاسم من كثرة الأقدام التي وطئتها على مرّ القرون، تاركة اسم الشخص الذي ترتاح رفاته تحت الأرض لخيال المارة. وكانت كنيسة وستمنستر قد صممت على طراز الكاتدرائيات العظيمة في آميان وشارتر وكانتربري، إلا أنها لا تعد كاتدرائية أو أبرشية بل تدخل تحت تصنيف ملكية خاصة بالعرش وتتبع للسيادة الملكية. فمنذ أن احتضنت حفل تتويج ويليام الفاتح في ذكرى ميلاد المسيح عام 1066، شهدت الكنيسة الرائعة احتفالات ملكية ومناسبات دولية متوالية - من إعلان الملك إدوارد "المعترف" قديساً إلى حفل زواج الأمير أندرو وسارة فيرجسون وجنازة هنري الخامس والملكة إليزابيث الأولى والأميرة ديانا. ومع ذلك كله، لم يكن روبرت لانغدون الآن مهتماً بأي من أحداث الكنيسة التاريخية ما عدا حدث واحد، ألا وهو جنازة الفارس البريطاني السير إسحق نيوتن. في لندن يرقد فارس دفنه بابا. دخل لانغدون وصوفي على عجل عبر الرواق المعمد في الجناح الشمالي للكنيسة حيث كان هناك حراس أدخلوهما وطلبوا منهما بكل أدب أن يمرا من خلال جهاز كاشف للمعادن، وهو آخر إضافة ألحقت بالكنيسة، ويوجد منه الآن في معظم الأبنية الأثرية في لندن. فمرّ الاثنان عبره دون أن تنطلق صفارته وتابعا التقدم نحو مدخل الكنيسة. وعندما خطا لانغدون فوق عتبة كنيسة وستمنستر، شعر فجأة أن العالم الخارجي قد تبخر من حوله. واختفت ضجة السيارات وصوت المطر ولم يكن هناك إلا السكون الذي يصم الآذان والذي بدا وكأن صداه كان يتردد في أرجاء البناء كما لو أنه يهمس لنفسه. اتجهت عينا لانغدون وصوفي في الحال إلى الأعلى، كما هي حال كل الزوار، حيث كان سقف الكنيسة شاهق العلو كما لو أنه يرتفع إلى السماء اللامحدودة. كما كانت الأعمدة الحجرية الرمادية اللون تنتصب عالياً وكأنها جذوع شجرة جبارة باسقة، ثم تتقوس برشاقة فوق المساحات الواسعة ثم تعود لتهبط على الأرضية الحجرية. وإلى الأمام كان المجاز العريض للجناح الشمالي يمتد وكأنه واد عميق تحيط به منحدرات شفافة من الزجاج الملون. في الأيام المشمسة كانت أرضية الكنيسة تبدو كرقعة تزدان بالألوان البراقة من الأضواء. إلا أن المطر والظلام اليوم أحاطا فراغ الكنيسة الهائل بهالة مخيفة... تذكر بحقيقة المكان الذي كان يعج بالموت والقبور. "إنها خالية تماماً"، همست صوفي. شعر لانغدون بخيبة أمل، فقد كان يأمل بأن يكون هناك الكثير من الناس. كي يكون المكان مأهولاً. فلانغدون لم يكن يريد أن تتكرر تجربته في كنيسة الهيكل المهجورة. كما أنه كان يشعر بالأمان نوعاً ما بالذهاب نحو وجهة سياحية مشهورة. لكن الذكريات التي حملها لانغدون عن حشود صاخبة في كنيسة رائعة الإضاءة، كانت قد طبعت في ذهنه خلال فصل الصيف الحافل بالسياح. لكن في هذا اليوم الماطر من شهر أبريل، كل ما كان أمام عيني لانغدون هو مساحات واسعة مهجورة مقفرة ومحاريب خالية بدلاً من الجماهير الغفيرة والزجاج الملون اللماع. "لقد مررنا عبر جهاز كشف المعادن"، ذكرته صوفي التي يبدو أنها أحست بقلق لانغدون وتوتره. "فإذا كان أي أحد من خصومنا في هذا المكان، فلن يكون مسلحاً". أومأ لانغدون موافقاً لكنه في قرارة نفسه لا زال قلقاً. فقد كان يريد أن يأتي بشرطة لندن إلى هذا المكان، لكن مخاوف صوفي لأنها لا تعلم بعد من هي الجهات التي قد تكون متورطة بهذه العملية، قد سدت الأبواب في وجه لانغدون في حال فكر بالاتصال بأية جهة حكومية. يجب أن نستعيد الكريبتكس، كانت صوفي قد قالت له مراراً وتكراراً. إنه مفتاح كل شيء. وكانت على حق طبعاً. فهو مفتاح استعادة لاي حياً. ومفتاح العثور على الكأس المقدسة ومفتاح معرفة من وراء كل هذا. وللأسف، فإنه يبدو أن فرصتهما الوحيدة في استعادة الكريبتكس كانت هنا والآن... عند قبر إسحق نيوتن. فيجب على الشخص الذي يحتفظ بالكريبتكس أن يقوم بزيارة للقبر وذلك ليحلل شيفرة الدليل الأخير. وكان في نية لانغدون وصوفي أن يعترضا سبيل أولئك الأشخاص إذا لم يكونوا قد جاؤوا ورحلوا. مشى لانغدون وصوفي بخطىً واسعة نحو الجدار الأيسر ليبتعدا قليلاً عن عيون الحراس فتابعا التقدم ليصبحا في جناح جانبي معتم خلف صف من الأعمدة. لم يستطع لانغدون أن يبعد عن ذهنه صورة لاي تيبينغ وهما يختطفانه، والذي قد يكون الآن مقيداً ومرمياً في مؤخرة سيارته الليموزين. هذا إذا لم يكن في حال أسوأ من ذلك، فالشخص الذي قد أمر بقتل الأعضاء الكبار في أخوية سيون لن يتردد في التخلص من أي أحد يقف عقبة في طريقه. ومن سخرية الأقدار أن يحتجز تيبينغ، وهو فارس بريطاني معاصر، كرهينة في أثناء البحث عن مواطنه السير إسحق نيوتن. "أي اتجاه علينا أن نسلك؟" سألت صوفي وأخذت تنظر حولها. القبر. لم تكن لدى لانغدون أية فكرة. "يجب أن نبحث عن أحد الأدلاء ونسأله". كان لانغدون يعلم بأنه ليس من الحكمة أبداً أن يتجول هكذا دون هدف في هذا المكان. حيث أن كنيسة وستمنستر كانت تكتظ بالنواويس الحجرية والأضرحة وغرف الدفن. وكانت كالغراند غاليري في اللوفر مزودة بنقطة دخول واحدة فقط، وهو الباب الذي دخلا منه للتو، الذي يجعل الدخول سهلاً لكن الخروج أمر مستحيل. فخ نصب للسواح. هذا ما كان قد قاله مرة أحد زملاء لانغدون المخبولين. وكان تصميم الكنيسة يتبع التصميم التقليدي للكنائس حيث كان على شكل صليب ضخم. إلا أن مدخلها، بعكس معظم الكنائس، كان في القسم الجانبي من الكنيسة بدلاً من المدخل التقليدي الذي يكون عادة في القسم الخلفي عبر المجاز أسفل صحن الكنيسة. وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت الكنيسة تتميز بمجموعة من الأروقة المعمدة المسقوفة ملحقة بها. فخطوة واحدة قد يخطوها الزائر نحو المجاز المقنطر الخاطئ، وسيضيع حتماً في متاهة من الممرات الخارجية المحاطة بجدران عالية. "إن الأدلاء يرتدون أثواباً وردية اللون"، قال لانغدون مقترباً من مركز الكنيسة. وعندما نظر بشكل غير مباشر عبر المذبح المذهب البرجي الشكل إلى النهاية البعيدة من المجاز الجنوبي، رأى عدة أشخاص يزحفون على أيديهم وأرجلهم. وهذا السجود الذي يقوم به بعضهم عند حجهم إلى زاوية الشعراء هو حدث ليس بغريب في هذا المكان. كما أنه كان يبدو أكثر قدسية مما هو في الحقيقة. حيث إنه كان بكل بساطة، مجموعة من السياح يتمسحون بالقبور لا أكثر. "لا أرى أي أدلاء هنا"، قالت صوفي. "قد نتمكن من العثور على الضريح بمفردنا". ودون أن ينطق لانغدون بأية كلمة، تقدم بها عدة خطوات إلى الأمام نحو مركز الكنيسة وأشار إلى اليمين. أخذت صوفي نفساً عميقاً ووقفت لحظة تتأمل بذهول امتداد صحن الكنيسة فتبينت عظم حجم الكنيسة واتساعها الهائل. "يا إلهي!"، قالت صوفي. "لنجد دليلاً يرشدنا إلى الضريح". وفي تلك اللحظة، وعلى بعد مائة ياردة جنوب صحن الكنيسة، بعيداً عن الأنظار وخلف شاشة جوقة المرتلين، كان هناك زائر وحيد في ضريح السير إسحق نيوتن الرائع. وقف المعلم يتأمل الأثر الرائع طيلة عشر دقائق حتى الآن. كان ضريح نيوتن يتألف من ناووس حجري ضخم من الرخام الأسود وعليه تمثال للسير إسحق نيوتن وهو يرتدي زياً كلاسيكياً يتكئ بفخر على كومة من كتبه التي كتبها وألفها وهي الألوهية، والكرونولوجيا، والبصريات، والفلسفة الطبيعية لمبادئ الرياضيات. وعند قدمي نيوتن وقف صبيان مجنحان يحملان مخطوطاً. وخلف جسد نيوتن المستلقي على الأرض انتصب هرم بسيط. وبالرغم من غرابة وجود هذا الهرم هناك، إلا أن الشكل الضخم الذي كان في منتصف الهرم هو الذي حير المعلم. إنها كرة ملكية. فكر المعلم بأحجية سونيير المحيرة. أنت تبحث عن الكرة الملكية التي كان يجب أن تكون على قبره. كانت الكرة الضخمة البارزة عن الهرم من الأمام محفورة بطريقة "باسو ريلييفو" حيث تكاد الأشكال المنحوتة تكون غير بارزة عن الخلفية، وقد صورت الأشكال التي كانت عليها كافة أنواع الأجرام السماوية من كواكب، وأبراج فلكية، ومذنبات، ونجوم وتعلوها صورة آلهة الفلك تحت مجموعة كبيرة من النجوم. كرات لا تعد ولا تحصى... كان المعلم على قناعة تامة بأنه حالما يعثر على الضريح، فسيكون من السهل عليه أن يميز الكرة المفقودة. لكنه الآن لم يكن متأكداً من ذلك. فقد كان يتأمل خريطة معقدة من السموات. هل كان هناك كوكب مفقود في تلك المجموعة؟ هل أهمل أحد الأجرام من المجموعة عمداً؟ هذا أمر لم يكن يعرفه. ومع ذلك فإن المعلم كان واثقاً بأن الحل هو في غاية الوضوح والبساطة – فارس دفنه بابا - ما هي الكرة التي يجب أن أبحث عنها؟ من المؤكد أن المعرفة الواسعة بعلم الفلك لم تكن شرطاً للعثور على الكأس المقدسة، أليس كذلك؟ تحكي قصة جسد وردي ورحم حمل روحاً في قلبه. انقطع حبل أفكاره باقتراب بعض السياح، فأعاد الكريبتكس إلى جيبه وراقب الزوار بقلق حيث اتجهوا إلى طاولة قريبة ثم وضعوا بعض النقود في كأس التبرعات وتزودوا من جديد بأدوات حك القبور التي تقدمها الكنيسة مجاناً. ثم انطلقوا بعدتهم من أقلام الفحم والأوراق المقواة الكبيرة نحو القسم الأمامي للكنيسة حيث كانت زاوية الشعراء لزيارة قبر تشوسر وتينيسون وديكنز ليتمسحوا بقبورهم بكل قوة. وعندما أصبح المعلم وحيداً من جديد، اقترب من الضريح وأخذ يتفحصه بعناية من قمة رأسه وحتى أخمص قدميه. فبدأ من الظلة المشكاة التي تزينها النجوم مروراً بالكرة الضخمة التي نحتت عليها مجموعة الكواكب والأبراج ثم الهرم والصبيان اللذان يحملان المخطوط الرياضي وحتى كتب نيوتن عن العلوم ثم نيوتن وصولاً إلى قدميه الشبيهين بالمخالب اللذين كانا أسفل الناووس الحجري. ما هي الكرة التي كان يجب أن تكون هنا... لكنها غير موجودة؟ لمس المعلم الكريبتكس في جيبه وكأنه يحاول أن يستوحي الإجابة عن هذا السؤال من أسطوانة سونيير الرخامية. لا يفصلني عن الغريل سوى خمسة أحرف. تقدم المعلم الآن نحو زاوية شاشة الكورس وأخذ نفساً عميقاً ثم نظر عبر صحن الكنيسة إلى المذبح الرئيس البعيد. فتحولت عيناه عن المذبح المذهب حيث لفت نظره الرداء الوردي البراق لأحد أدلاء الكنيسة الذي ناداه شخصان يعرفهما المعلم حق المعرفة. لانغدون ونوفو. فتراجع المعلم خطوتين إلى الوراء ليختفي خلف شاشة الكورس. لقد كان ذلك سريعاً. فقد كان يتوقع أن يحل لانغدون وصوفي شيفرة القصيدة ويأتيا إلى قبر نيوتن في نهاية الأمر، إلا أنهما كانا أسرع مما كان يتخيل. أخذ المعلم نفساً عميقاً ودرس الخيارات المتاحة أمامه الآن. فقد أصبح معتاداً على التعامل مع المفاجآت. إن الكريبتكس بيدي الآن. ومد يده إلى جيبه فتحسس الشيء الآخر الذي منحه ثقته بنفسه؛ ألا وهو مسدس الميدوسا. كما توقع المعلم، فقد أصدر جهاز كشف المعادن طنيناً عندما كان يمر من خلاله والمسدس في جيبه. وكما كان متوقعاً أيضاً، تراجع الحراس وانصرفوا عنه عندما حملق المعلم فيهم بغضب مبرزاً بطاقته الشخصية. فصفته الرسمية كانت تنال الاحترام الذي يليق بها دائماً. على الرغم من أن المعلم كان يأمل أن يفتح الكريبتكس بمفرده تجنباً لأي تعقيدات قد تحدث، إلا أنه شعر الآن أن مجيء لانغدون وصوفي كان تطوراً ساراً للأحداث. فنظراً للفشل الذي واجهه في موضوع "الكرة" قد يتمكن الآن من الاستفادة منهما. وإذا كان لانغدون قد استطاع أن يحل شيفرة القصيدة لمعرفة مكان الضريح، فإن هناك احتمالاً كبيراً أن يكون قد عرف كلمة السرّ أيضاً وعندها سيتمكن من انتزاعها منه بتطبيق ضغط بسيط عليه. لن يتم هذا هنا بالطبع.. يجب أن يكون هذا في مكان مغلق بعيد عن الأنظار. تذكر المعلم أنه كان قد رأى إشارة في طريقه إلى الكنيسة. فعرف على الفور المكان الأمثل للإيقاع بهما. لكن السؤال الأهم الآن هو... ما هو الطعم الذي يجب أن يستخدمه؟ الفصل الثامن والتسعون تقدم لانغدون وصوفي ببطء عبر الجناح الشمالي وهما يحاولان البقاء بعيداً عن الأنظار خلف الأعمدة التي كانت تفصله عن صحن الكنيسة المفتوح. بالرغم من أنهما كانا قد قطعا مسافة طويلة وهما يتقدمان في الصحن إلا أنهما لم يحظيا على رؤية واضحة بعد لضريح نيوتن. كان الناووس يرقد في فجوة في الحائط مخفياً لا يظهر من هذه الزاوية المائلة. "على الأقل لا يوجد أي أحد هنا"، همست صوفي. أومأ لانغدون باطمئنان. كان القسم الكامل من صحن الكنيسة المجاور لضريح نيوتن مهجوراً. "سأذهب أنا لألقي نظرة"، همس لانغدون. "يجب أن تظلي مختبئة في حال كان هناك أحد ما...". "- يراقبنا" تنهد لانغدون وركض ليلحق بها. كانت صوفي قد خرجت من مخبئها واتجهت نحو الضريح قبل أن ينهي كلامه. تجاوز لانغدون وصوفي صحن الكنيسة بزاوية مائلة ووقفا مشدوهين عندما وقعت عيناهما على الضريح العظيم... ناووس من الرخام الأسود... تمثال لنيوتن في وضعية الاستلقاء... صبيان مجنحان... وهرم ضخم... و... كرة هائلة الحجم. "هل كنت على علم بهذا؟" سألت صوفي بدهشة. هز لانغدون رأسه نافياً، وهو لا زال مشدوهاً. "تبدو هذه وكأن كواكب المجموعة الشمسية قد نحتت عليها"، قالت صوفي. وعندما اقتربا من الفجوة الجدارية شعر لانغدون بالهزيمة فقد كان ضريح نيوتن مغطى بالكرات من نجوم ومذنبات وكواكب. أنت تبحث عن كرة ملكية كان يجب أن تكون على قبره؟ سيكون ذلك كالبحث عن إبرة في كومة قش. "أجرام فلكية". قالت صوفي، وقد بدت قلقة. "والكثير منها". قطب لانغدون جبينه. فالصلة الوحيدة التي تربط بين الكواكب والغريل التي كان بإمكان لانغدون أن يتخيلها هي نجمة فينوس الخماسية، وهو قد جرب كلمة "فينوس" في الطريق إلى كنيسة الهيكل لكن محاولته لم تفلح. توجهت صوفي مباشرة نحو الناووس لكن لانغدون ظل واقفاً على بعد عدة أقدام منها ليراقب المكان من حولهما. "الألوهية"، قالت صوفي، وقد أمالت رأسها لتقرأ العناوين التي كان نيوتن يتكئ عليها. "الكرونولوجيا. البصريات. الفلسفة الطبيعية لمبادئ الرياضيات؟" والتفتت نحوه. "هل يبدو هذا مألوفاً بالنسبة لك؟" اقترب لانغدون منها وهو يفكر في الأمر. "إن ’مبادئ الرياضيات‘ على ما أذكر، لها علاقة بقوى التجاذب بين الكواكب... التي تعد كرات في الحقيقة، لكن هذا يبدو احتمالاً بعيداً جداً". "ماذا عن دائرة البروج؟" سألته صوفي، وهي تشير إلى الأبراج المنحوتة على الكرة. "لقد سبق أن تحدثت عن برج الحوت والدلو، أليس كذلك؟" نهاية الأيام، فكر لانغدون. "نهاية أيام الحوت وبداية الدلو، هذه هي الإشارة التاريخية التي يقال إن الأخوية قد انتظرتها لنشر وثائق الدم الملكي أمام العالم أجمع". لكن الألفية قد أتت ومضت دون أي حادثة تذكر مما ترك المؤرخين في حيرة من أمرهم لا يعلمون متى ستظهر الحقيقة. "يبدو ذلك ممكناً" قالت صوفي، "فمن المحتمل أن تكون خطة الأخوية لكشف الحقيقة مرتبطة بآخر بيت في القصيدة". تحكي قصة جسد وردي ورحم حمل روحاً في قلبه. شعر لانغدون بقشعريرة في جسمه. فهو لم يكن قد فكر بالبيت الأخير من القصيدة بهذه الطريقة من قبل. "لقد سبق أن أخبرتني"، قالت صوفي، "إن التوقيت الذي تعزم فيه الأخوية على كشف الستار عن حقيقة ’الوردة‘ ورحمها الخصب، مرتبط بشكل مباشر بمواضع الكواكب-الكرات". أومأ لانغدون وقد بدأ يتعلق بخيوط الأمل الضعيفة. إلا أن حدسه أنبأه بأن الفلك ليس المفتاح الذي ينشدانه. فكل الحلول التي قدمها المعلم الأكبر كانت تتمتع بمعنى رمزي بليغ، من الموناليزا إلى سيدة الصخور وصوفيا. ومن المؤكد أن هذه البلاغة كانت عنصراً مفقوداً في فكرة الكواكب ودائرة البروج هذه، وعلاوة على ذلك، فإن جاك سونيير قد أثبت أنه كاتب شيفرات لا مثيل له في العالم، وكان لانغدون مؤمناً تماماً بأن كلمة السرّ الأخيرة، المؤلفة من خمسة أحرف والتي ستكشف الستار عن سرّ الأخوية الأعظم، ستثبت أنها ليست مناسبة تماماً من الناحية الرمزية فحسب بل وأنها واضحة وضوح الشمس أيضاً. وإذا كان حل هذه الأحجية يشبه حلول الأحاجي السابقة فسيكون بديهياً لدرجة تبعث على البكاء عندما يتوصلان إليه. "انظر!" شهقت صوفي، قاطعة سلسلة أفكاره وهي تقبض على ذراعه بقوة. ظن لانغدون أن هناك أحداً يقترب منهما من الرعب الذي أحس به وهي تمسك بذراعه. وعندما التفت نحوها رآها تحدق بدهشة بقمة الناووس الرخامي الأسود. "أحد ما كان هنا"، همست صوفي، وأشارت إلى بقعة على الناووس بالقرب من قدم نيوتن اليمنى. لم يفهم لانغدون سبب قلقها. فكل ما في الأمر، هو أن سائحاً قد ترك دونما انتباه قلم فحم يستخدم في حك القبور على غطاء الناووس قرب قدم نيوتن. ومدّ لانغدون يده ليلتقطه، لكنه عندما انحنى نحو الناووس سلط الضوء على البلاطة الرخامية السوداء المصقولة، فتسمر لانغدون في مكانه. وفجأة عرف سبب خوف صوفي. فقد كتبت على غطاء الناووس عند قدمي نيوتن رسالة غير واضحة بقلم الفحم تقول: إن تيبينغ معي اخرجا عبر قاعة الاجتماعات من المخرج الجنوبي، باتجاه الحديقة العامة قرأ لانغدون الكلمات مرتين، وقلبه يخفق بسرعة شديدة. التفتت صوفي وألقت نظرة فاحصة على صحن الكنيسة. بالرغم من الخوف الذي سيطر على لانغدون عندما رأى تلك الكلمات، إلا أنه قال لنفسه إنها تحمل في طياتها أخباراً سارة. فهي تعني أن لاي لا زال على قيد الحياة. كما أنها تدل على شيء آخر أيضاً. "إنهم لا يعرفون كلمة السرّ أيضاً". همس لانغدون. أومأت صوفي رأسها بالموافقة. فإذا لم يكن الأمر كذلك، لماذا أعلنوا عن وجودهم هنا إذاً؟ "ربما يريدون أن نعطيهم كلمة السرّ مقابل إطلاق سراح تيبينغ". "أو قد يكون ذلك فخاً". هز لانغدون رأسه نفياً. "لا أظن ذلك فالحديقة تقع خارج أسوار الكنيسة، مما يجعلها مكاناً عاماً". كان لانغدون قد زار مرة حديقة الجامعة المشهورة الخاصة بالكنيسة، وهي عبارة عن بستان صغير من أشجار الفاكهة والأعشاب الطبية وهي ما تبقى من الأيام الغابرة عندما كان الرهبان يحضرون الأدوية في هذا المكان الذي كان يفتخر بوجود أقدم أشجار الفاكهة التي لا زالت حية في بريطانيا. وقد كانت حديقة الجامعة مكاناً يحب أن يزوره كل السياح دون أن يضطروا للدخول إلى الكنيسة. "أظن أن دعوتنا إلى الخارج هي لطمأنتنا، لكي نشعر بالأمان من طرفهم". بدت صوفي مشككة في صدق نواياهم: "أنت تعني في الخارج حيث لا توجد أجهزة لكشف المعادن". عبس لانغدون. "قد تكون على حق في ذلك". قال في نفسه. حدق لانغدون من جديد في الضريح الذي تعج الكرات فيه وتمنى لو أن لديه أية فكرة عن كلمة السرّ التي تفتح الكريبتكس... كي يتمكن من المفاوضة. لقد ورطت لاي في هذه المشكلة وسأفعل كل ما بوسعي لمساعدته. "لقد جاء في الرسالة أن علينا الذهاب عن طريق قاعة الاجتماعات نحو المخرج الجنوبي". قالت صوفي. "قد نتمكن من رؤية الحديقة من خلال المخرج، وذلك سيجعلنا قادرين على تقييم الوضع من مكاننا قبل أن نمشي إلى هناك ونعرض أنفسنا للخطر". كانت هذه فكرة جيدة. تذكر لانغدون قاعة الاجتماعات حيث إنها قاعة كبيرة مثمنة الشكل كان يعقد فيها أعضاء البرلمان البريطاني قديماً اجتماعاتهم قبل أن تتم إقامة المبنى الجديد. لقد مرّت سنوات طويلة على زيارته لذلك المكان لكنه تذكر أنه كان يتم الذهاب إليه عبر رواق الكنيسة المعمد المسقوف. مشى لانغدون عدة خطوات إلى خلف الضريح وألقى نظرة حول شاشة الكورس إلى يمينه، عبر صحن الكنيسة إلى الجانب المقابل للجانب الذي نزلا منه إلى الضريح. كان هناك ممر مقبب بالقرب منهما وكان يحمل لافتة كبيرة. هذا الطريق يؤدي إلى: الأروقة المعمدة مكتب العميد مبنى الكلية المتحف غرفة القربان المقدس كنيسة سانت فيث قاعة الاجتماعات كان لانغدون وصوفي مسرعين عندما مرّا باللافتة فلم ينتبها إلى الإعلان الصغير الذي جاء فيه اعتذار للزوار لأن بعض المناطق كانت مغلقة وذلك لأعمال الصيانة والتجديد. خرج لانغدون وصوفي في الحال إلى فناء ذي جدران عالية وسقف مفتوح تساقطت مياه الأمطار الصباحية من خلاله. وكانت الرياح من فوقهم تعصف مصدرة طنيناً خافتاً وكأن أحداً كان ينفخ الهواء فوق فوهة قارورة زجاجية. وعندما دخلا إلى الممرات الضيقة ذات الجدران المنخفضة التي تحدّ الفناء، عاود لانغدون الضيق الذي يشعر به دائماً عند تواجده في مكان مغلق. وهذه الممرات تدعى أروقة معمدة مما نبهه إلى أن هذه الأروقة بشكل خاص التي تدعى بالإنجليزية Cloisters كانت تثير نفس الشعور بالضيق الذي تثيره الكلمة اللاتينية التي ترتبط بها ارتباطاً وثيقاً Claustrophobic أو الخوف من الأماكن المغلقة. حاول لانغدون أن يركز تفكيره على نهاية الممر وأخذ يتبع اللافتات التي ترشد إلى البناء الذي يحتضن قاعة الاجتماعات. كانت الأمطار تهطل بغزارة الآن وقد أصبح الممر بارداً ومبللاً بقطرات المطر التي رشحت من الحائط الوحيد المدعّم الذي كان مصدر الضوء الوحيد في الرواق المعمد. تجاوزهما شخصان كانا يعدوان في الاتجاه الآخر هرباً من الطقس الذي كان يزداد سوءاً. بدت الأروقة مهجورة الآن، فهي في الحقيقة كانت أسوأ قسم في الكنيسة عندما يكون الطقس عاصفاً وممطراً. وعلى بعد أربعين ياردة إلى شرق الرواق، ظهر أمامهما مدخل مقنطر إلى يسارهما مؤدياً إلى مدخل آخر. وبالرغم من أن هذا هو المدخل الذي كانا يبحثان عنه، إلا أن فتحة الباب كانت مسدودة بشريط متدل ولافتة رسمية كتب عليها: مغلق لإجراء الإصلاحات غرفة القربان المقدس كنيسة سانت فيث قاعة الاجتماعات كان الدهليز الطويل المهجور خلف الشريط يعج بالسقالات والخرق الواقية من الدهان التي كانت مبعثرة هنا وهناك. وتمكن لانغدون من رؤية المدخلين المؤديين إلى غرفة القربان المقدس وكنيسة سانت فيث على اليمين واليسار، من خلف الشريط، إلا أن المدخل المؤدي إلى قاعة الاجتماعات كان في آخر الممر لذلك لم يتمكن من رؤيته بوضوح. غير أنه استطاع أن يرى من مكانه أن بابه الخشبي الضخم كان مفتوحاً على مصراعيه وأن القاعة المثمنة كانت منارة بضوء طبيعي انبعث إلى داخلها من خلال شبابيكها الكبيرة المطلة على حديقة الكلية. خرجا عبر قاعة الاجتماعات من المخرج الجنوبي، باتجاه الحديقة العامة. "لقد خرجنا من الرواق الشرقي لتونا"، قال لانغدون، "لذا فلا بد أن يكون المخرج الجنوبي المؤدي إلى الحديقة من هناك ثم إلى اليمين". كانت صوفي قد داست على الشريط وتقدمت إلى الأمام. وبينما كانا يمشيان في الممر المظلم على عجل، أخذت أصوات الرياح والمطر التي كانت تأتي من الرواق المفتوح، تخفت شيئاً فشيئاً حتى اختفت تماماً. كانت قاعة الاجتماعات ذات بنية أشبه بقمر تابع لكوكب كبير حيث كانت قاعة ضخمة ملحقة بالبناء الرئيس يصلها به ممر طويل وذلك لتأمين الخصوصية الضرورية في أثناء اجتماعات البرلمان التي كانت تتم في هذه القاعة. "إنها تبدو ضخمة جداً". همست صوفي وقد أوشكا على الدخول إليها. كان لانغدون قد نسي كم كانت هذه القاعة كبيرة. فحتى من مكانه خارج المدخل، استطاع لانغدون أن ينظر عبر الأرضية الواسعة إلى الشبابيك الرائعة في الطرف الآخر من الغرفة، والتي كانت بارتفاع خمسة طوابق تنتهي بسقف مقبب. من المؤكد أنهما سيحظيان برؤية أفضل للحديقة من هنا. وعندما تجاوز لانغدون وصوفي عتبة القاعة، أغمضا عينيهما نصف إغماضة من الضوء الكثيف الذي كان في القاعة. فبعد العتمة التي كانت تسيطر على الأروقة، كانت هذه القاعة أشبه بغرفة خاصة للاستطباب بأشعة الشمس. وكان الاثنان قد تقدما مسافة عشرة أقدام تقريباً داخل القاعة وهما يبحثان عن الجدار الجنوبي، عندما وجدا أن الباب الموعود لم يكن له أي أثر. فقد كانا يقفان مقابل طريق مسدودة. وفجأة سمعا صرير الباب الضخم وراءهما فالتفتا نحو الصوت، وعندها أغلق الباب بقوة ونزل المزلاج في مكانه. بدا الرجل الذي كان واقفاً بالباب هادئاً وهو يصوب مسدساً صغيراً نحوهما. وقد كان ممتلئ الجسم ويستند على زوج من العكازات من الألمنيوم. للحظات اعتقد لانغدون أنه كان يحلم. كان ذلك الرجل... لاي تيبينغ. الفصل التاسع والتسعون شعر السير لاي تيبينغ بالحزن وهو ينظر من فوق ماسورة مسدسه الميدوسا إلى روبرت لانغدون وصوفي نوفو. "يا صديقيّ"، قال تيبينغ، "منذ اللحظة التي دخلتما فيها إلى بيتي في الليلة الفائتة، فعلت كل ما بوسعي لكي أبقيكما بعيداً عن طريق الخطر، لكن إصراركما وضعني في موقف صعب". عندما نظر إلى صوفي ولانغدون، رأى صدمة وشعوراً بشعاً بالخيانة يرتسم على وجهيهما، غير أنه كان واثقاً أنهما سيفهمان قريباً تسلسل الأحداث الذي قاد ثلاثتهم إلى تقاطع طرقهما بهذه الطريقة الغريبة. "لدي الكثير لأبوح به لكما... الكثير الذي لم تفهماه بعد..." "صدقاني... أرجوكما"، قال تيبينغ، "فلم يكن في نيتي أن أورطكما أبداً، أنتما جئتماني إلى البيت. أتيتما بحثاً عني". "لاي"، تمكن لانغدون أخيراً من الكلام. "ما الذي تفعله بحق السماء؟ لقد ظننا أنك في خطر وأتينا إلى هنا لمساعدتك!". "لقد كنت واثقاً أنكما ستفعلان ذلك، فهناك الكثير من الأمور التي علينا أن نناقشها سوية". بدا صوفي ولانغدون مذهولين لدرجة أنهما لم يكونا قادرين على تحويل نظرهما عن المسدس الموجه نحوهما. "إنه بيدي لأتأكد فقط من انتباهكما الكامل"، قال تيبينغ. "ولو كنت أريد أن أؤذيكما، لكنتما الآن في عداد الأموات. وعندما أتيتما إلى منزلي البارحة، خاطرت بكل شيء للحفاظ على حياتكما. فأنا إنسان أتمسك بكلمة الشرف وقد أقسمت في أعماق نفسي أن أضحي فقط بأولئك الذين خانوا الدم الملكي". "ما الذي تقوله؟" قال لانغدون، "خانوا الدم الملكي؟" "لقد اكتشفت حقيقة مريعة"، قال تيبينغ متنهداً. "لقد عرفت لماذا لم تكشف وثائق السانغريال للعالم. وعرفت أن الأخوية في النهاية قد قررت عدم إزاحة الستار عن الحقيقة أبداً. ولهذا مرت الألفية دون أن يكشف أي أمر، لماذا لم يحدث اي شيء عندما دخلنا نهاية الأيام". أخذ لانغدون نفساً وكان على وشك أن يحتج على كلام تيبينغ. "إن الأخوية قد أنيطت بها مسؤولية مقدسة لإطلاع العالم على الحقيقة ونشر وثائق الدم الملكي عندما تحل نهاية الأيام. فعلى مرّ القرون الطويلة، ضحى رجال مثل دافنشي وبوتيشلّي ونيوتن بكل ما يملكون لحماية الوثائق والحفاظ على تلك المسؤولية. والآن وقد أزفت ساعة الحقيقة، غير سونيير رأيه. الرجل الذي كان له شرف حمل أعظم مسؤولية في تاريخ المسيحية، تخلى عن واجبه وقرر أن الوقت لم يحن بعد". التفت تيبينغ إلى صوفي. "لقد خذل الغريل وخذل الأخوية وخذل ذكرى كل الأجيال التي عملت جاهدة لتحقيق هذه المهمة". "أنت؟" صاحت به صوفي، ونظرت إليه بعينين ينطقان بالحنق والغضب. "أنت المسؤول عن مقتل جدي؟" ضحك تيبينغ باستهزاء. "إن جدك ومساعديه الثلاثة خانوا الغريل". "شعرت صوفي بدمها يغلي غضباً. يا لك من كاذب!" قالت صوفي. قال تيبينغ بنبرة قاسية لا شفقة فيها: "إن جدك باع نفسه للكنيسة. من الواضح أنهم قد ضغطوا عليه ليبقي الحقيقة طي الكتمان". هزت صوفي رأسها نافية. "لم يكن للكنيسة يوماً أي سلطة أو تأثير على جدي!" ضحك تيبينغ ببرود. "عزيزتي، إن الكنيسة تتمتع بخبرة ألفي عام من الضغط على أولئك الذين يهددون بفضح أكاذيبها. فمنذ عهد قسطنطين، نجحت الكنيسة بإخفاء الحقيقة المتعلقة بمريم المجدلية ويسوع المسيح. فيجب ألا نستغرب أنهم الآن، ومرة ثانية، قد وجدوا طريقة لإبقاء العالم في الظلام. واليوم قد لا تستخدم الكنيسة جنوداً يعملون في الكفار تقتيلاً وذبحاً، لكن ثقي تماماً أن الوسائل التي سيستخدمونها لن تكون أقل إقناعاً، أو أقل مكراً". وصمت لحظة، وكأنه يريد التأكيد على وجهة نظره. "آنسة نوفو، منذ فترة وجدك يحاول أن يخبرك الحقيقة بخصوص عائلتك". ذهلت صوفي. "كيف تمكنت من معرفة ذلك؟" "إن الطريقة التي مكنتني من ذلك لا تحمل أي أهمية. لكن ما يجب أن تفهميه جيداً الآن هو الآتي". أخذ نفساً عميقاً. "إن موت والديك وجدتك وأخيك لم يكن بسبب حادث غير مقصود". أصابت كلمات تيبينغ صوفي كسهم خرق قلبها. وعندما فتحت فمها لتتكلم لم تستطع أن تنطق بحرف. هز لانغدون رأسه. "ما هذا الذي تقوله؟" "روبرت، إن ذلك يفسر كل شيء. إن الامر واضح والتاريخ يكرر نفسه. والكنيسة لها سوابق عندما يتعلق الأمر بإسكات كل من يريد كشف وثائق الدم المقدس. ومع اقتراب نهاية الأيام، كان قتل أقرب الناس إلى قلب المعلم الأكبر، قد أرسل رسالة واضحة لسونيير. إخرس وإلا ستلحق أنت وصوفي بهما. "لقد كان ذلك حادث سيارة"، تمتمت صوفي وهي تشعر بألم طفولتها يهيج في قلبها من جديد. "كان حادثاً!" "كانت تلك قصة رويت لك لحمايتك من الألم والحزن"، قال تيبينغ. "فكري بأن اثنين من أفراد العائلة فقط تمكنا من النجاة ولم يمسسهما أي أذى، المعلم الأكبر في الأخوية وحفيدته، الزوج الأمثل الذي سيمنح الكنيسة سلطة تمكنها من التحكم بالأخوية. هل يمكنك أن تتخيلي الرعب الذي سببته الكنيسة لجدك طوال تلك السنين وهم يهددونه بقتلك إذا تجرأ وفضح سرّ سلالة المسيح، ويتوعدونه بالإجهاز على ما تبقى من عائلته إذا لم يقنع باقي أعضاء الأخوية بإعادة النظر في عهودهم القديمة؟" "لاي"، جادله لانغدون وقد بدا الحنق في صوته واضحاً الآن، "من المؤكد أنك لا تملك دليلاً واحداً يثبت أن الكنيسة كانت وراء تلك الجرائم، أو أنها أثرت على قرار الأخوية بالاحتفاظ بالسرّ مكتوماً". "دليل؟" رد عليه تيبينغ بعصبية. "أتريد دليلاً على أنه قد تم التأثير على قرار الأخوية؟ لقد حلت الألفية والعالم لا زال يجهل الحقيقة! أليس هذا دليلاً كافياً بالنسبة لك؟" في صدى كلمات تيبينغ، سمعت صوفي صوتاً آخر يكلمها. صوفي يجب أن أخبرك بالحقيقة عن عائلتك. لاحظت أنها كانت ترتجف. هل من الممكن أن تكون هذه الحقيقة هي التي كان جدها يريد أن يخبرها بها؟ ما الذي تعرفه حقاً عن الحادث الذي أودى بحياة عائلتها؟ لا شيء إلا بعض التفاصيل الغامضة. حتى ما كتب في الصحف حينها كان مبهماً. حادث؟ قصص خيالية؟ تذكرت صوفي فجأة الحذر والحماية الشديدة التي كان جدها يحيطها بها، وكيف أنه لم يتركها وحيدة في البيت أبداً عندما كانت صغيرة. وحتى عندما كبرت وذهبت إلى الجامعة، كان لديها شعور دائم بأن جدها كان يراقبها من بعيد. وتساءلت في ما إذا كان هناك أعضاء من الأخوية يحرسونها طوال حياتها دون أن تشعر بهم. "لقد شككت بأنهم أثروا عليه"، قال لانغدون محدقاً في تيبينغ باستنكار. "فقتلته؟" "لست أنا من ضغط على الزناد"، قال تيبينغ. "فسونيير كان ميتاً منذ سنوات طويلة عندما سرقوا منه عائلته. لقد فضح أمره والآن تحرر من ذلك الألم، وخلع ثوب العار الذي سببه عدم قدرته على القيام بواجبه المقدس. لم يكن هناك أي خيار آخر. هل سيبقى العالم جاهلاً بالحقيقة إلى الأبد؟ هل سيسمح للكنيسة بأن تلصق أكاذيبها في كتب تاريخنا إلى أبد الآبدين؟ وهل سنقبل أن تفرض نفوذها على العالم بواسطة القتل والابتزاز؟ كلا.. أبداً.. كان لا بد من فعل شيء ما لردعها! والآن نحن جاهزون لتنفيذ وصية سونيير وتصحيح خطأ رهيب"، صمت لحظة. "نحن الثلاثة معاً". لم تصدق صوفي أذنيها. "كيف يمكن أن يتبادر إلى تفكيرك أنني سأساعدك؟" سألت صوفي. "لأنك أنت يا عزيزتي سبب إحجام الأخوية عن نشر الوثائق. وحب جدك لك هو الذي منعه من تحدي الكنيسة، وخوفه من قتل آخر فرد من أفراد عائلته شل تفكيره. ولم يحظ بفرصة ليفسر لك الأمر ويطلعك على الحقيقة لأنك كنت تصدينه فقيدت يديه واضطررتيه لأن ينتظر. والآن أنت تدينين بالحقيقة للعالم بأسره ولذكرى جدك بشكل خاص". لم يعد روبرت لانغدون قادراً على الاحتمال أكثر من ذلك. وبالرغم من سيل الأسئلة التي كانت تدور في رأسه، إلا أنه كان يعلم أن أهم شيء الآن هو أن يخرج صوفي من هذا المكان على قيد الحياة. وكل الذنب الذي شعر فيه لانغدون تجاه تيبينغ في السابق انتقل إلى صوفي الآن. أنا الذي قدتها إلى قصر فيليت. أنا المسؤول عن كل ما حصل. لم يستطع لانغدون أن يصدق أن لاي تيبينغ قادر على أن يقتلهما ببرودة أعصاب هنا في قاعة الاجتماعات، إلا أن من المؤكد أن تيبينغ كان متورطاً في قتل آخرين في أثناء هذه الحملة الشعواء. كان لانغدون يخشى أن أي رصاصات ستطلق في هذه القاعة المعزولة ذات الجدران السميكة لن يسمعها أحد في الخارج وخاصة في هذه الأمطار. وقد اعترف لاي بذنبه أمامنا لتوه. نظر لانغدون إلى صوفي التي بدت منهارة. هل يعقل أن تكون الكنيسة وراء قتل عائلة صوفي لإسكات الأخوية؟ كان لانغدون واثقاً أن الكنيسة الحديثة لم تكن لتقتل الناس. لا بد وأن يكون هناك تفسير آخر. "دع صوفي ترحل"، قال لانغدون بإلحاح، وهو يحدق في لاي. "يجب أن نناقش هذا الموضوع أنا وأنت على انفراد". أطلق تيبينغ ضحكة غريبة. "إن هذه ثقة لا يمكنني أن أمنحك إياها الآن للأسف. إلا أنه يمكنني أن أقدم لك هذا"، اتكأ تيبينغ على عكازيه وحافظ على المسدس مصوباً نحو صوفي وأخرج الحجر المفتاح من جيبه. وكاد يفقد توازنه وهو يمد يده ليعطيه إلى لانغدون. "عربون ثقة، روبرت". ارتبك لانغدون ولم يتحرك من مكانه. إن لاي يعيد لنا الحجر المفتاح؟ "خذه"، قال تيبينغ، ومده نحوه بشكل مربك. كان لانغدون شبه متأكد أن هناك سبباً واحداً قد يدفع تيبينغ لإعادة الحجر المفتاح لهما. "لقد فتحته وأخرجت الخريطة". قال روبيرت. هز تيبينغ رأسه نافياً. "روبرت، لو أنني تمكنت من حل أحجية الحجر المفتاح، لكنت قد اختفيت محاولاً العثور على الكأس المقدسة بنفسي ولأبعدتكما عن هذه الورطة. كلا، لم أعرف الإجابة. ويمكنني أن أعترف بهذا بكامل قواي، فالفارس الحقيقي يعرف كيف يهدر عزة نفسه كرامة للكأس المقدسة. ويعرف كيف ينصاع للإشارات التي توضع أمام عينيه. لقد فهمت عندما رأيتك تدخل الكنيسة أنك هنا لسبب محدد. للمساعدة. أنا لا أبحث عن مجد شخصي هنا. فأنا أخدم سيداً أعظم بكثير من كبريائي. الحقيقة. فالإنسانية تستحق أن تعرف تلك الحقيقة. لقد وجدتنا الكأس المقدسة والآن هي تتوسل إلينا لنعتقها من أسرها ونكشف حقيقتها للعالم. يجب أن نعمل معاً لتحقيق ذلك". بالرغم من توسلات تيبينغ من أجل التعاون والثقة، إلا أن مسدسه لا زال مصوباً نحو صوفي بينما تقدم لانغدون خطوة إلى الأمام ليأخذ الأسطوانة الرخامية الباردة من يد تيبينغ. قرقر الخل في داخل الأسطوانة عندها أمسك بها لانغدون وتراجع إلى الوراء. كانت الأحرف لا تزال في ترتيبها العشوائي وظل الكريبتكس مغلقاً. نظر لانغدون إلى تيبينغ بتحدٍّ. "كيف لك أن تعرف بأنني لن أحطمها الآن أمام عينيك؟" أطلق تيبينغ ضحكة مخيفة. "لا بد وأنني قد عرفت ذلك عندما هددت بتحطيمها في كنيسة الهيكل. فقد كان ذلك تهديداً فارغاً. روبرت لانغدون لن يقدم على كسر الحجر المفتاح أبداً. فأنت مؤرخ روبرت، وأنت تحمل بين يديك مفتاح ألفي سنة من التاريخ- مفتاح الدم الملكي الضائع. يمكنك أن تشعر بأرواح كل أولئك الفرسان الذين أحرقوا على الخازوق لحماية سرها. هل ستدع موتهم يذهب سدى؟ كلا فأنت ستنتصر لهم. وستدرج اسمك في صفوف الرجال العظام كدافنشي وبوتيشلّي ونيوتن الذين يتمنى كل منهم أن يكون في مكانك الآن. إن محتويات الحجر المفتاح تنادينا. تتوق لأن نطلقها حرة. لقد آن الأوان والقدر قد جمعنا وقادنا إلى هذه اللحظة التاريخية". "لا يمكنني أن أساعدك، لاي. فأنا لا أعرف كيف أفتح هذا. فقد مررت بقبر نيوتن لدقائق قليلة فقط. وحتى لو كنت أعرف كلمة السر..." صمت لانغدون وقد أدرك أنه قال أكثر مما يجب. "لم تكن لتقولها لي. أليس كذلك؟" تنهد تيبينغ. "لقد خيّبت أملي وفاجأتني، روبرت، لأنك لم تقدّر كم أنت مدين لي. فقد كانت مهمتي أسهل بكثير لو قمت أنا وريمي بالتخلص منكما عندما جئتما إلى قصر فيليت. لكنني بدلاً من أن أفعل ذلك، خاطرت بكل شيء لأتخذ المسار الأنبل". "أتقول أن هذا نبل؟" سأله لانغدون محدقاً بالمسدس. "إنه ذنب سونيير"، قال تيبينغ. "فقد كذب هو والأعضاء الثلاثة الكبار على سيلاس. ولو لم يفعلوا لكنت حصلت على الحجر المفتاح دونما تعقيدات. لم يكن ليخطر في بالي للحظة أن المعلم الأكبر سيصل به الحدّ إلى أن يوصي بالحجر المفتاح بعد موته لحفيدة قاطعته منذ زمن بعيد". نظر تيبينغ إلى صوفي بازدراء. "حفيدة غير مؤهلة لحمل هذه المعرفة لدرجة أنها كانت بحاجة لعالم بالرموز كجليس أطفال". نظر تيبينغ إلى لانغدون من جديد. "ولحسن حظي، روبرت، كان تورطك في الأمر هدية أتتني من السماء. فبدل أن يبقى الحجر المفتاح محبوساً إلى الأبد في بنك زيوريخ للودائع، أخرجته لي وأتيت إلى بيتي بنفسك". إلى أين كان يمكنني أن أذهب؟ فكر لانغدون. فمجموعة مؤرخي الكأس المقدسة صغيرة، وبيني وبين تيبنغ معرفة قديمة. بدا تيبينغ الآن مزهوا بنفسه. "عندما تناهى إليّ أن سونيير قد ترك لك رسالة عندما كان يحتضر، عرفت أنه لا بد أنك تحمل معلومات قيمة عن الأخوية سواء كان الذي تحمله هو الحجر المفتاح بذاته أو كان ذلك معلومات حول مكان وجودها، لكنني لم أكن متأكداً من ذلك. لكن عندما أصبحت الشرطة في أثرك، تولد لدي شك بأنك قد تلجأ إلي". حملق فيه لانغدون مستفزاً "ولو لم آتِ إليك؟" "كنت أفكر في خطة لأمد لك يد العون وبطريقة أو بأخرى كان الحجر المفتاح سيأتي إلى قصر فيليت. وكونك أنت الذي وضعته بين يدي المتلهفتين هو أقوى دليل يؤكد أن قضيتي هي قضية عادلة". "ماذا؟!" صعق لانغدون. قال تيبنغ "كان من المفترض أن يقتحم سيلاس القصر ويسرق منك الحجر المفتاح. وبذلك يخرجك من الصورة دون أن يصيبك أي أذى، ويبعد أي شكوك في تواطئي. إلا أنني عندما رأيت تعقيد شيفرات سونيير، قررت أن أشرككما في بحثي لمدة أطول بقليل، وأجعل سيلاس يسرق الحجر المفتاح في ما بعد، عندما أكون قد حصلت على معلومات كافية لأتابع البحث وحدي". "كنيسة الهيكل"، قالت صوفي، بنبرة من آلمته الخيانة. بدأت تتضح الصورة، فكر تيبينغ. كانت كنيسة الهيكل المكان الأمثل لسرقة الحجر المفتاح من لانغدون وصوفي وكان ارتباطهما الظاهر بالقصيدة جعلهما شركاً قابلاً للتصديق. كانت الأوامر التي أصدرها لريمي واضحة تماماً: ابتعد عن الأنظار بينما يقوم سيلاس بالحصول على الحجر المفتاح. لكن لسوء الحظ، كان تهديد لانغدون بتحطيم الحجر المفتاح على أرض الكنيسة سبباً في إثارة الرعب في قلب ريمي. لو أن ريمي لم يكشف نفسه، فكر تيبينغ بحزن، وهو يتذكر اختطافه المزيف. فقد كان ريمي هو الصلة الوحيدة التي تربطني بالجريمة، وقد كشف هويته! لكن لحسن الحظ، لم يعرف سيلاس هويته الحقيقية وكان خداعه أمراً سهلاً عندما تظاهر ريمي بأنه يربط الرهينة في مؤخرة الليموزين. وعندما رفع الفاصل العازل للصوت بين مقدمة السيارة والقسم الخلفي، تمكن تيبينغ من الاتصال بسيلاس الذي كان جالساً في المقعد الأمامي، ويتحدث إليه بلكنة المعلم الفرنسية ويعطيه الأمر بالتوجه مباشرة إلى مقر أوبوس داي. ولم يتطلب إخراج سيلاس من الصورة بشكل نهائي إلا اتصالاً سريعاً بالشرطة ليرشدهم إلى مكانه. وهكذا تخلص من أول عبء أثقل كاهله. أما العبء الآخر فكان التخلص منه أكثر صعوبة. ريمي. لقد كان هذا قراراً صعباً جداً اتخذه تيبينغ بعد تفكير طويل، لكن في النهاية أثبت ريمي أنه سيكون مسؤولية ثقيلة ستلقى على كاهله. إن البحث عن الكأس المقدسة يتطلب تضحيات كبيرة. وكان الحل الأمثل لتلك المشكلة أمام عيني تيبينغ عند بار الليموزين... زجاجة شراب وبعض الكونياك وعلبة صغيرة من الفول السوداني وسيكون المسحوق في أسفل العلبة كافياً تماماً لإثارة حساسية ريمي القاتلة. عندما أوقف ريمي الليموزين عند مكان استعراض الخيالة، ترجل تيبينغ من المقعد الخلفي خارجاً من السيارة ثم تقدم إلى جهة المقعد الأمامي ثم صعد إلى السيارة وجلس بجانب ريمي. وبعد عدة دقائق، خرج ريمي من السيارة ثم صعد من جديد إلى المقعد الخلفي وتخلص من الأدلة وأخيراً ترجل من السيارة ومشى في طريقه لتنفيذ القسم الأخير من مهمته. كانت كنيسة وستمنستر على بعد خطوات قليلة منه، وبالرغم من أن أطواق رجلي تيبينغ وعكازيه المعدنيين والمسدس الذي كان في جيبه أطلقوا طنين جهاز كشف المعادن، إلا أن أولئك الحراس احتاروا في أمرهم ولم يعرفوا ماذا عليهم أن يفعلوا. هل نطلب منه أن ينزع الأطواق عن رجليه ويدخل زاحفاً؟ هل نصادر جسده المشوه؟ قدم تيبينغ للحراس المرتبكين حلاً سهلاً جداً. فقد أبرز بطاقة تعريف كتب عليها بنقش نافر أفادت بأنه يحمل لقب فارس ملكي. فأخذ الحراس يتدافعون للترحيب به ولمواكبته إلى الداخل. والآن أخذ تيبينغ يحدق بلانغدون ونوفو اللذين كانا مشدوهين، وهو يقاوم الرغبة الملحة لأن يخبرهما كيف جرّ أوبوس داي بعبقريته الفذة إلى هذه المكيدة التي ستؤدي قريباً إلى سقوط الكنيسة بالكامل. لكن ذلك يمكن أن يؤجل. أما الآن فكان عليه الكثير من الأمور التي يجب ان ينهيها. "صديقيّ العزيزين"، قال تيبينغ بفرنسية ممتازة، "لن تعثروا على الكأس المقدسة، فهي التي ستجدكم بنفسها". وابتسم. "إن طريقنا في الحياة لا يمكن أن يكون أوضح من ذلك. فقد وجدتنا الكأس المقدسة". ساد السكون في القاعة. تحدث مهما همساً الآن. "أنصتا. هل بإمكانكما سماعها؟ إن الغريل تتحدث إلينا عبر القرون. وهي تتوسل إلينا لننقذها من حماقة الأخوية. أتوسل إليكما أن تقدّرا هذه الفرصة الثمينة. فلا يمكن أن يكون هناك ثلاثة مجتمعين في هذه اللحظة التاريخية، أقدر منا على تحليل آخر شيفرة وفتح الكريبتكس"، صمت تيبينغ لحظة وقد لمعت عيناه. "يجب أن نؤدي قسماً سوية. عهد أمانة وثقة بيننا. ولاء فروسية لكشف الحقيقة أمام العالم". حدقت صوفي في عيني تيبينغ مباشرة وتكلمت بنبرة صلبة فولاذية. "لن أؤدي قسماً مع قاتل جدي أبداً، إلا قسماً واحداً وهو أنني سأراك في السجن قريباً". هبط قلب تيبينغ، ثم وطد العزم وقال: "أنا آسف لشعورك هذا، آنستي"، التفت الآن ووجه مسدسه إلى لانغدون. "ماذا عنك روبرت، هل أنت معي أم ضدي؟" الفصل المائة كان جسد القس أرينغاروزا قد تحمل ألواناً عديدة من الألم، إلا أن الحرارة اللاسعة التي سببتها الرصاصة التي استقرت في جسده كانت غريبة تماماً عنه. كانت عميقة ومميتة. لم يكن جرحه في الجسد بل كان أقرب للروح. فتح عينيه محاولاً أن يرى ما حوله لكن الأمطار التي كانت في عينيه شوشت رؤيته. أين أنا؟ كان يشعر بذراعين قويتين تحملان جسده الضعيف كلعبة من الخرق وثوبه الكهنوتي الأسود يصفق في الرياح الماطرة. وعندما رفع يده المرهقة ليمسح عينيه، رأى أن الرجل الذي يحمله كان سيلاس. كان الأبرص الضخم يمشي بصعوبة على رصيف مبلل وهو يصرخ مستغيثاً يسأل عن مستشفى قريب، وينشج منتحباً بصوت يفطر القلب. وكانت عيناه الحمراوان تحدق مباشرة في الطريق أمامه ودموعه تسيل غزيرة على وجهه الشاحب الملطخ بالدماء. "أبتِ"، همس أرينغاروزا، "أنت مصاب". نظر سيلاس إليه، ووجهه يتلوى ألماً. "أنا آسف جداً، أبتي". بدا أنه كان متألماً لدرجة أنه لم يستطع أن يتكلم. "كلا سيلاس"، رد أرينغاروزا. "أنا الذي يجب أن أتأسف لك. تلك كانت غلطتي". لقد وعدني المعلم أنه لن يقتل أحد في هذه العملية وأنا طلبت منك أن تطيعه طاعة عمياء. "لقد كنت متلهفاً وخائفاً أكثر من اللازم، لقد خدعنا أنت وأنا". فلم تكن في نية المعلم أن يعطينا الكأس المقدسة أبداً. عاد القس أرينغاروزا، وهو بين يدي الرجل الذي أنقذه من البؤس والشقاء منذ سنين طويلة، عاد بذاكرته إلى الوراء. إلى إسبانيا. وإلى بداياته المتواضعة، عندما بنى بمساعدة سيلاس كنيسة كاثوليكية صغيرة في أوفييدو. ثم بعد ذلك إلى نيويورك حيث جسد انتصار الرب في بناء برج أوبوس داي، المقر الرئيس لهم في جادة ليكسينغتون. ومنذ خمسة أشهر، كان أرينغاروزا قد تلقى أخباراً مريعة. فقد كان كل ما عمل من أجله طوال حياته في خطر محدق. وتذكر بالتفاصيل الدقيقة، اجتماعه داخل قلعة غاندولفو الذي غير حياته... الأنباء التي كانت السبب في هذه الكارثة المروعة. كان أرينغاروزا قد دخل مكتبة غاندولفو الفلكية عندئذ مرفوع الرأس عالياً، متوقعاً حشوداً مرحبة في استقباله متلهفة لأن تربت على كتفه تحية له على عمله الممتاز في نشر الكاثوليكية في أميريكا. لكن كان هناك ثلاثة أشخاص فقط في انتظاره. أمين سرّ الفاتيكان السكرتير. البدين. الصارم. كاردينالان إيطاليان برتبة عالية. منافقون. مارقون. "حضرة أمين السر؟" قال أرينغاروزا بارتباك. صافح مراقب الشؤون القانونية السمين أرينغاروزا وأشار إلى الكرسي الذي كان مقابله. "أرجو أن ترتاح هناك". جلس أرينغاروزا وهو يشعر أن هناك مشكلة ما. "أيها القس، أنا لست بارعاً في المجاملات والمقدمات"، قال أمين السر، "لذا لنكن صريحين ولنتحدث مباشرة عن سبب زيارتك". "أرجو أن تقول كل ما بذهنك وبصراحة". نظر أرينغاروزا إلى الكاردينالين اللذين كانا يرمقانه بنظرة دونية وكأنهما أرباب الفضيلة وهو الشيطان الخاطئ الذي كان على وشك أن ينال عقابه. "أعتقد أنك على علم"، قال الأمين السر، "أن قداسته وآخرين في روما قد أصابهم القلق مؤخراً من جراء النتائج السياسية التي ترتبت على ممارسات أوبوس داي التي أصبحت مثيرة للجدل هذه الأيام". شعر أرينغاروزا بالغضب يسيطر عليه فجأة لدى سماعه تلك الكلمات. فقد اضطر للدخول في نقاش حول هذا الموضوع في عدة مناسبات مع البابا الذي اتضح أنه صوت متحمس جداً مناصر للتغيير الليبرالي في الكنيسة مما أثار القلق والخوف في قلب أرينغاروزا. "أود أن أؤكد لك"، أضاف أمين السرّ بسرعة، "أن قداسته لا يريدك أن تغير من السياسة التي تدير بها كنيستك على الإطلاق". ومن الأفضل ألا يطلب مني هذا! "ما سبب وجودي هنا إذن؟" تنهد الرجل الضخم. "أيها القس، إنني أحاول أن أجد طريقة لطيفة لأنقل لك هذا الخبر، لكنني سأقوله لك مباشرة ودون مقدمات. منذ يومين، تم التصويت بالإجماع في المجلس على إلغاء مصادقة الفاتيكان على أوبوس داي". كان أرينغاروزا واثقاً من أنه لم يسمع ما قاله أمين السرّ بشكل صحيح. "عذراً لكني لم أسمع جيداً". سأقول لك التالي بكل صراحة، بعد ستة أشهر من الآن، لن يعترف بأوبوس داي على أنها كنيسة تابعة للفاتيكان وستكون كنيسة مستقلة بذاتها. ولن يكون للفاتيكان بعدئذ أي علاقة بأوبوس داي. وقد تم التوقيع على هذا القرار وقد بدأ بالفعل بتحضير الأوراق القانونية الخاصة بهذا الأمر". "لكن... هذا غير ممكن!". "بالعكس تماماً، هذا ممكن جداً. بل وضروري أيضاً. فقد ضاق البابا ذرعاً بطرق تجنيدكم العدوانية وممارساتكم للتعذيب الجسدي الذاتي"، توقف عن الكلام للحظة. "وسياستكم إزاء المرأة. ولكي أصدقك القول، لقد أصبحت أوبوس داي عبئاً يثقل كاهل الفاتيكان بل وإحراجاً أيضاً". صعق القس أرينغاروزا. "إحراج؟" "أنا واثق من أنه لا يمكنك أن تتفاجأ بأن الأمر قد وصل إلى هذا الحدّ". "إن أوبوس داي هي المنظمة الكاثوليكية الوحيدة التي يتزايد عدد أفرادها! فلدينا الآن ما يربو على ألف ومائة كاهن!" "هذا صحيح، مما يزيد من قلقنا". وقف أرينغاروزا وقال له بحدة: "اسأل قداسته إذا ما كانت أوبوس داي قد سببت له إحراجاً عام 1982 عندما قدمنا مساعدة مالية لبنك الفاتيكان!" "إن الفاتيكان سيكون ممتناً دائماً لهذه المساعدة"، قال أمين السرّ بنبرة ألطف، "إلا أن هناك أولئك الذين يعتقدون أن تلك المساعدة الكريمة عام 1982 هي السبب الوحيد الذي جعلكم تحصلون على موافقة الكنيسة في المقام الأول". "هذا ليس صحيحاً!" جرح هذا التلميح الوقح أرينغاروزا في الصميم. "على أية حال، لقد وضعنا خطة سترضيك. فسوف نرد تلك الأموال إليكم على خمس دفعات". "هل تريد أن تشتريني؟" سأله أرينغاروزا. "تريد أن تدفع لي لأنصرف بسكوت؟ في الوقت الذي تكون فيه أوبوس داي هي صوت العقل الوحيد المتبقي هذه الأيام!" حدق فيه أحد الكاردينالين. "عذراً لكن هل قلت ’عقل‘؟" انحنى أرينغاروزا إلى الأمام وخاطبه بنبرة قاطعة كحدّ السكين. "هل تساءلت مرة عن السبب الذي يدعو الكاثوليكيين لترك الكنيسة؟ انظر حولك ايها الكاردينال. لقد فقد الناس احترامهم لهذه الكنيسة. فقد ذهبت مبادئ الدين الحقيقي إلى غير رجعة. وقد أصبحت الكنيسة مجرد قاعة للحفلات. من امتناع عن بعض الملذات الدنيوية إلى الاعتراف بالخطايا والمناولة والمعمودية والقداس. اختر ما يحلو لك منها وتجاهل الباقي. ما هو شكل الإرشاد الديني هذا الذي تقدمه الكنيسة؟" "إن قوانين القرن الثالث"، قال الكاردينال الثاني، "لا يمكن أن تطبق على المسيحيين المعاصرين. فتلك المبادئ لا تنفع المجتمع الحديث". "ربما، لكن يبدو أنها قابلة للتطبيق بنظر أوبوس داي!" "أيها القس أرينغاروزا"، قال أمين السرّ بلهجة حاسمة، "احتراماً لعلاقة منظمتك بالبابا السابق، قرر قداسته منح أوبوس داي ستة أشهر لتنفصل طوعاً عن الفاتيكان. أقترح عليك أن تنوه إلى خلافك في الراي مع البابا وتنشئ منظمتك المسيحية بشكل مستقل". "أنا أرفض هذا!" قال أرينغاروزا باحتجاج. "وسأخبره بذلك شخصياً!" "يؤسفني أن أعلمك بأن قداسته لا يريد لقاءك بعد الآن". وقف أرينغاروزا. "إنه لا يجرؤ على إلغاء كنيسة أسسها البابا السابق!" "أنا آسف" ولم ترمش عين أمين السرّ وهو ينطق بهذه الكلمات. "الرب يعطي والرب يأخذ". انصرف أرينغاروزا من ذلك الاجتماع وقد أصيب بالذهول والخوف. وعندما عاد إلى نيويورك، أخذ يحدق في الأفق بخيبة أمل لعدة أيام وقد غمره الحزن على مستقبل المسيحية. وبعد ذلك بعدة أسابيع، تلقى الاتصال الذي غير كل شيء وقلب الأمور رأساً على عقب. بدا المتصل كأنه فرنسي وعرف بنفسه على أنه ’المعلم‘، وهو لقب شائع في الأسقفية. وقال إنه عرف بخطط الفاتيكان بسحب دعمها عن أوبوس داي. كيف تسنى له أن يعرف ذلك؟ تساءل أرينغاروزا في نفسه. فقد كان يأمل بألا يكون هناك الكثيرون في الفاتيكان على علم بأمر الإلغاء الوشيك لأوبوس داي. لكن من الواضح بأن السرّ قد فضح. فعندما يتعلق الأمر باحتواء إشاعة ما داخل أسوار الفاتيكان، لم تكن هناك جدران أكثر نفوذية من تلك التي تحيط بمدينة الفاتيكان. "لديّ آذان في كل مكان، أيها القس"، همس المعلم، "وبهذه الآذان عرفت بعض الأمور المهمة. يمكنني بمساعدتك، أن أكشف مخبأ أثر مقدس سيمدك بقوة عظيمة... قوة من شأنها أن تجعل الفاتيكان يركع أمامك... قوة يمكنها أن تنقذ الكنيسة". صمت لحظة. "ليس من أجل أوبوس داي فقط. بل من أجلنا جميعاً". الرب يأخذ... والرب يعطي... شعر أرينغاروزا بشعاع من الأمل ينير حياته من جديد. "حدثني عن خطتك". كان القس أرينغاروزا غائباً عن الوعي عندما فتحت أبواب مستشفى سانت ميري ودخل سيلاس مترنحاً يهذي من شدة الألم ثم هوى على ركبتيه وصرخ مستنجداً. كل من كان في قسم الاستقبال حدق بذهول في الأبرص الذي كان شبه عار ويحمل على ذراعيه قساً مضرجاً بالدماء. بدا الطبيب الذي ساعد سيلاس على وضع القس الغائب عن الوعي على نقالة، بدا عابساًً وهو يقيس نبض أرينغاروزا. "لقد فقد كمية كبيرة من الدم. لست متفائلاً أبداً". فتح أرينغاروزا عينيه للحظة عاد فيها إلى وعيه، وحاول أن يرى سيلاس. "بني..." عصف الغضب وتأنيب الضمير بروح سيلاس المعذبة. "أبتِ، سأعثر على الرجل الذي خدعنا وأقتله، لو قضيت عمري كله في البحث عنه". هز أرينغاروزا رأسه وقد بدا حزيناً وهم يستعدون لنقله بعيداً. "سيلاس... إذا لم تتعلم أي شيء مني في السابق، فأرجوك أن تتعلم هذا..."، وأمسك بيد سيلاس وشد عليها. "الغفران هو أعظم هدية من الرب". "لكن، أبتي..." أغمض أرينغاروزا عينيه. "سيلاس، يجب أن تصلي". الفصل الأول بعد المائة وقف لانغدون تحت القبة الشاهقة لقاعة الاجتماعات المهجورة محدقاً بمسدس لاي تيبينغ. "روبرت، هل أنت معي، أم ضدي؟" تردد صدى كلمات المؤرخ الملكي في عقل لانغدون. لم يكن هناك جواب يستطيع لانغدون أن يرد به على هذا السؤال، فقد عرف أنه إذا أجاب بنعم، فسيكون قد تخلى عن صوفي وإذا أجاب بلا، فسوف لن يكون هناك خيار أمام تيبينغ إلا أن يقتلهما معاً. إن السنوات الطويلة التي أمضاها لانغدون في التدريس، لم تمده بمهارات متعلقة بكيفية التعامل مع مواجهات تحت تهديد السلاح. إلا أن القاعات الدراسية قد علمته شيئاً عن الإجابة عن أسئلة تحمل في طياتها مفارقات خطيرة. عندما لا يكون للسؤال أية إجابة صحيحة، عندها لا يكون هناك إلا رد وحيد ينطوي على الصدق. وهو المنطقة الرمادية بين نعم ولا. الصمت.. حدق لانغدون بالكريبتكس الذي يحمله بيديه، وقرر أن يتهرب من الإجابة. ودون أن يرفع عينيه عن الكريبتكس تراجع إلى الوراء في فراغ القاعة الواسعة. أرض محايدة. وأمل أن يكون تركيزه على الكريبتكس، قد أعطى إشارة لتيبينغ أن التعاون معه كان احتمالاً وارداً، وأن يكون صمته قد قال لصوفي إنه لم يتخلَ عنها. وفي تلك الأثناء كان يكسب بعض الوقت ليفكر في حل ما. التفكير، هذا بالضبط ما كان تيبينغ يريده منه. ولهذا أعطاني الكريبتكس. وذلك لكي أشعر بأهمية قراري. فقد كان المؤرخ البريطاني يأمل بأن تدفعه لمسة الكريبتكس الذي صنعه المعلم الأكبر إلى أن يشعر بجاذبية أكثر تجاه محتوياته وأن يدغدغ فضوله الأكاديمي ويجعله يطغى على اعتبار آخر، مما سيجبره على إدراك أن فشله في فتح الحجر المفتاح قد يعني خسارة التاريخ نفسه. فكر لانغدون، وهو ينظر إلى صوفي التي كانت في الطرف الآخر من القاعة، أن اكتشافه لكلمة السرّ المحيرة التي ستفتح الكريبتكس هو أمله الوحيد في مقايضة تيبينغ على إطلاق سراح صوفي. فإذا تمكنت من تحرير الخريطة، فسيكون تيبينغ على استعداد للمفاوضة. حاول لانغدون أن يجبر عقله على التركيز على هذه المهمة الخطيرة، فتقدم ببطء نحو النوافذ البعيدة... تاركاً عقله ليحلق بالصور الفلكية العديدة الموجودة في ضريح نيوتن. أنت تبحث عن كرة كرة ملكية كان يجب أن تكون على قبره. تحكي قصة جسد وردي ورحم حمل روحاً في قلبه. أدار لانغدون ظهره لكل ما كان يجري في القاعة ومشى إلى النافذة العالية، علّه يستوحي أي شيء من زجاجها الفسيفسائي الملون. لكنه لم يصل إلى نتيجة. ضع نفسك في عقل سونيير، استحث لانغدون عقله، وأخذ يتأمل حديقة الجامعة. ما الذي يمكن أن يكون باعتقاده ’الكرة‘ التي كان يجب أن توجد على ضريحه؟ لمعت في المطر الهاطل بغزارة صور لنجوم ومذنبات وكواكب، لكن لانغدون تجاهلها كلها فسونيير لم يكن رجل علوم طبيعية بل كان رجل علوم إنسانية، وفن وتاريخ. الأنثى المقدسة... القدح... الوردة... مريم المجدلية المنفية... انهيار الآلهة الأنثى... الكأس المقدسة. لقد صورت الروايات الغريل دوماً على أنها المومس الوحشية الراقصة في الظلمات الحالكة... في الخفاء بعيداً عن الأنظار.. تلك التي تهمس في أذنك وتغريك لتتقدم خطوة إلى الأمام ثم تختفي بين الغيوم. شعر لانغدون وهو يتأمل الأشجار وينصت إلى حفيفها، بحضورها القوي المرح. كان كل ما حوله ينطق بها بوضوح وبساطة. كخيال شاهق يطل من الضباب، كانت أغصان أقدم شجرة تفاح في بريطانيا تحمل الزهور المتفتحة ذات البتلات الخمس، كلها تلمع مضيئة كفينوس. كانت الآلهة في الحديقة الآن، ترقص تحت المطر، وتترنم بأغاني العصور كلها وتختلس النظر من خلف الأغصان المثقلة بالبراعم كما لو أنها تذكر لانغدون أن ثمرة المعرفة كانت تكبر ولا تطالها يده. وفي الطرف الآخر من القاعة، كان السير لاي تيبينغ يراقب لانغدون بثقة وهو ينظر إلى الخارج محدقاً وكأنه كان تحت تأثير سحر سيطر عليه. هذا ما كنت أريده بالضبط، فكر تيبينغ. سيعود إلى رشده ويفعل ما أريد. منذ وقت طويل، كان تيبينغ في شك من أن لانغدون قد يحمل المفتاح الذي يؤدي إلى الغريل. فلم يكن محض صدفة أن تيبينغ بدأ بتنفيذ خطته في نفس الليلة التي كان من المفترض أن يقابل فيها لانغدون جاك سونيير. ومن خلال تنصته على القيم، كان تيبينغ متأكداً أن لهفة الرجل للقاء لانغدون على انفراد كانت تعني شيئاً واحداً فقط. إن مسودة كتاب لانغدون الغامض قد ضربت على وتر حساس للأخوية. لقد تعثر لانغدون بحقيقة بطريق المصادفة، وقد خاف سونيير أن يكشفها على الملأ. كان تيبينغ شبه متأكد أن المعلم الأكبر كان قد استدعى لانغدون بهدف إسكاته. آن الأوان لتفشي الحقيقة بأسرارها فقد طال صمتها! كان تيبينغ يعلم أن عليه أن يتحرك بسرعة. سيصيب هجوم سيلاس عصفورين بحجر واحد. حيث إنه سيمنع سونيير من إقناع لانغدون أن يخفي الحقيقة وسيضمن أنه في الوقت الذي سيصبح الحجر المفتاح بحوزة تيبينغ، سيكون لانغدون في باريس في حال احتاج تيبينغ لمساعدته. وكان تدبير اللقاء بين سيلاس وسونيير الذي سيودي بحياة الأخير سهلاً جداً. فلدي معلومات حول أكبر مخاوف سونيير. والبارحة قام سيلاس بالاتصال بسونيير على أنه كاهن مضطرب جداً. "سيد سونيير، اعذرني، لكنني يجب أن أتحدث معك في الحال. مع أنني يجب ألا أخرق قدسية الاعتراف، لكنني في هذه الحالة أشعر بأن عليّ أن أفعل ذلك. فقد اعترف لي للتو رجل يدعي أنه قتل بعضاً من أفراد عائلتك". كان رد سونيير متوتراً لكنه حذر في الوقت نفسه. "لقد مات أفراد عائلتي بسبب حادث غير مقصود. كان تقرير الشرطة حوله حاسماً". "نعم، في حادث سيارة"، قال سيلاس، وقد وضع بكلماته هذه الطعم لسونيير في الصنارة". فالرجل الذي كلمته قال إنه اضطرهم لأن يحيدوا عن الطريق فوقعت سيارتهم في النهر". صمت سونيير ولم ينبس ببنت شفة. "سيد سونيير، لم أكن لأتصل بك مباشرة إلا لأن هذا الرجل قد قال شيئاً جعلني أخشى على سلامتك". وصمت لحظة. "وقد ذكر الرجل أيضاً حفيدتك صوفي". كان ذكر اسم صوفي كافياً لتحفيز سونيير. فبدأ بالتحرك على الفور. فأمر سيلاس بأن يأتي ليراه في الحال في أكثر مكان آمن يعرفه القيّم، مكتبه في اللوفر. ثم اتصل بصوفي ليحذرها من الخطر الذي يتهددها. ونسي تماماً أمر لقائه مع لانغدون. أما الآن، كان لانغدون قد افترق عن صوفي التي كانت في الطرف الآخر من القاعة، فشعر تيبينغ أنه نجح بإبعاد الرفيقين عن بعضهما. ظلت صوفي واقفة هناك بتحدٍّ، لكن من الواضح أن لانغدون استطاع أن يرى الأمر بشكل صحيح حيث كان يحاول التوصل إلى كلمة السرّ. فهو يدرك أهمية العثور على الغريل وتحريرها من قيودها. "لن يقوم بفتح الكريبتكس"، قالت صوفي ببرود. "حتى وإن كان بإمكانه أن يفعل ذلك". كان تيبينغ ينظر إلى لانغدون وهو لا زال موجهاً مسدسه نحو صوفي. كان شبه متأكد الآن أنه سوف يضطر لاستخدام سلاحه. مع أن الفكرة أزعجته، إلا أنه كان يعلم أنه لن يتردد في قتلها إذا استمرت بالتصرف بهذه الطريقة. لقد منحتها أكثر من فرصة لتفعل الصواب. فالغريل أكبر وأهم من أي أحد منا. وفي تلك اللحظة، التفت لانغدون وقال فجأة: "الضريح..." ونظر إليهما وبصيص من الأمل يلمع في عينيه. "أعتقد أنني أعرف أين أبحث في ضريح نيوتن. نعم، أظن أنه بإمكاني أن أعرف كلمة السرّ!" كاد تيبينغ يطير فرحاً. "أين، روبرت... أخبرني!" بدت صوفي مذعورة. "كلا روبرت! لن تساعده، أليس كذلك؟" تقدم لانغدون نحوهما بخطى واسعة وهو يحمل الكريبتكس بيده وقد حسم أمره. "كلا"، قال بحزم، ورمق لاي بنظرة قاسية. "لن أفعل إلا إذا أطلق سراحك". تحول التفاؤل الذي أضاء وجه تيبينغ إلى تشاؤم واضح. "لقد أصبحنا على بعد خطوات من الوصول إلى مرادنا، روبرت، إياك أن تبدأ بالتلاعب بي!" "إنني لا أريد أن أتلاعب بك أبداً لكن هذا شرطي"، قال لانغدون، "دعها تذهب وسآخذك إلى ضريح نيوتن لنفتح الكريبتكس معاً". "لن أتزحزح من هذا المكان"، قالت صوفي بإصرار وعيناها تقدحان شرراً. "إن جدي ترك هذا الكريبتكس لي أنا. إنه ليس لك لتملك القرار في فتحه". التفت لانغدون إليها وقد بدا مذعوراً. "صوفي،أرجوك! أنت في خطر. وأنا أحاول أن أساعدك!" "وكيف ذلك؟ بكشف السرّ الذي مات جدي في سبيل الحفاظ عليه؟ لقد وثق بك، روبرت. وأنا وثقت بك!" بدا الرعب على عيني لانغدون الزرقاوين الآن فلم يستطع تيبينغ أن يخفي الابتسامة التي ارتسمت على وجهه وهو يراهما وقد انقلبا ضد بعضهما. كما أن محاولات لانغدون ليظهر بمظهر الرجل الشهم النبيل كانت فعلاً مثيرة للشفقة. فهو على وشك كشف أهم سرّ في تاريخ الإنسانية، وبدلاً من الاهتمام بهذا الأمر، أخذ يشغل نفسه بامرأة أثبتت أنها غير جديرة بالمهمة. "صوفي"، ناداها لانغدون متوسلاً. "أرجوك... يجب أن ترحلي". هزت رأسها بعناد. "ليس قبل أن تعيد إلي الكريبتكس أو ترميه على الأرض وأراه قد تحطم تماماً". "ماذا؟" شهق لانغدون. "روبرت، إن جدي يفضل أن يضيع سرّه إلى الأبد على أن يراه بين يدي قاتله". بدت عينا صوفي وكأنها قد اغرورقت بالدموع، إلا أنها لم تبكِ. وحدقت مباشرة في عيني تيبينغ. "اقتلني إذا أردت، فأنا لن أترك إرث جدي بين يديك". حسن جداً. سدد تيبينغ سلاحه نحوها. "لا!" صاح لانغدون، ورفع ذراعه ومدّ الكريبتكس وكان على وشك أن يرميه على الأرضية الحجرية القاسية. "لاي، إذا خطر في بالك أن تطلق النار، ثق تماماً أنني سألقي بهذا على الأرض دون تردد"، قهقه تيبينغ. "هذه الخدعة انطلت على ريمي. ولن تنطلي عليّ. أنا أعرفك حق المعرفة، لا يمكنك أن تفعل هذا أبداً". "هل تعرفني حقاً، لاي؟" نعم أعرفك، وأنت بحاجة لقناع أفضل من هذا الذي تحاول أن تغطي به ملامح وجهك الآن، يا صديقي. لقد خدعتني لثوانٍيَ قليلة فقط، لكن يمكنني أن أرى الآن أنك تكذب. فليست لديك أية فكرة عن المكان الذي يختبئ فيه حل الأحجية في ضريح نيوتن. "أحقاً روبرت، أنك عرفت في أي مكان في الضريح يجب أن نقوم بالبحث؟" "نعم". كان هناك تردد في عيني لانغدون وحاول أن يخفيه، لكن تيبينغ تمكن من ملاحظته. فعيناه تنبئ بوجود كذبة ما. خدعة يائسة مثيرة للشفقة لإنقاذ صوفي. شعر تيبينغ بخيبة أمل كبيرة بروبرت لانغدون. "إنني فارس وحيد، محاط بأرواح تافهة ويجب أن أحلل شيفرة الحجر المفتاح بنفسي". أصبح لانغدون وصوفي الآن يشكلان خطراً عظيماً يتهدد تيبينغ والغريل في آن معاً. وبقدر ما سيكون الحل صعباً عليه، إلا أنه كان يعرف أنه سيقوم بذلك بضمير مرتاح. لكن التحدي الوحيد في هذه الحالة سيكون إقناع لانغدون بوضع الحجر المفتاح جانباً حتى يتسنى لتيبينغ أن ينهي هذه المهزلة بسلام. "هاك عربون ثقة مني"، قال تيبينغ وخفض مسدسه الذي كان مصوباً نحو صوفي. "ضع الحجر المفتاح جانباً لنتحدث بهدوء". عرف لانغدون أن كذبته لم تنطلِ على تيبينغ. وقرأ في عيني تيبينغ عزمه على الشر، فأيقن أن ساعتهما قد حانت. في اللحظة التي سأضع فيها الكريبتكس جانباً، سيقتلنا أنا وصوفي. ودون حتى أن ينظر إلى صوفي، سمع دقات قلبها تتوسل إليه في يأس صامت. روبرت، إن هذا الرجل غير جدير بالغريل. أرجوك، لا تضعه بين يديه مهما كان الثمن... كان لانغدون قد توصل إلى قرار منذ عدة دقائق بينما كان يقف وحيداً عند النافذة التي تطل على حديقة الجامعة. عليك أن تحمي صوفي.. وعليك أن تحمي الغريل... كاد لانغدون أن يصرخ بيأس. لكنني لا أعرف كيف أفعل ذلك! لقد رافقت لحظات اليأس هذه وضوحاً في الرؤية لم يكن قد عرفه من قبل. إن الحقيقة أمام عينيك روبرت، لم يعرف من أين أتته هذه الرؤيا.. إن الغريل لا تسخر منك، بل تستنجد بروح نبيلة. عندئذ انحنى لانغدون كعبد يركع لسيده على بعد ياردات قليلة من تيبينغ ثم خفض الكريبتكس حتى كاد يلامس الأرضية الحجرية. "هيا روبرت"، همس تيبينغ "ضعه على الأرض". انتقلت عينا لانغدون من الارض إلى الأعلى حيث الفراغ الواسع تحت قبة قاعة الاجتماعات. ثم ركع لانغدون أكثر وقد خفض نظره إلى مسدس تيبينغ المصوب نحوه تماماً. "أنا آسف، لاي". وبحركة خاطفة، وثب لانغدون إلى الأعلى ملوحاً ذراعه نحو الأعلى وقذف بالكريبتكس بقوة إلى الأعلى نحو القبة. لم يشعر لاي تيبينغ بإصبعه وهو يضغط على الزناد، لكن الميدوسا أطلق رصاصة دوت في القاعة كالرعد. تغيرت وضعية لانغدون من الركوع إلى الانتصاب الكامل، أما الرصاصة فقد انفجرت على الأرض بالقرب من قدمي لانغدون. وقد حاول نصف دماغ تيبينغ الذي كان يشتعل حنقاً أن يصوب مسدسه من جديد إلى لانغدون، إلا أن النصف الأقوى منه جر عينيه غصباً عنه إلى الأعلى نحو القبة. الحجر المفتاح! بدا الزمن وكأنه قد توقف متحولاً إلى حلم يسير بالتصوير البطيء حيث أصبح عالم تيبينغ كله هو الحجر المفتاح. فشاهده وهو يصل إلى ذروة ارتفاعه... وقد تأرجح في الفضاء للحظات.. ثم تشقلب إلى الأسفل بحركة لولبية، هابطاً إلى الأرضية الحجرية. ومعه انهارت كل أحلام وآمال تيبينغ. يجب ألا يصطدم بالأرض! يمكنني أن أمسك به! تحرك جسد تيبينغ غريزياً. حيث رمى المسدس وتقدم بجسمه إلى الأمام وألقى بعكازيه وهو يرفع يديه الناعمتين ويمد ذراعيه وأصابعه ثم أمسك به فجأة وهو لازال في الهواء. وعندما أخذ تيبينغ يفقد توازنه وقع إلى الأمام وهو متشبث بكل ما أوتي من قوة بالكريبتكس، إلا أنه شعر بأنه يقع بسرعة كبيرة. واصطدمت أولاً ذراعاه الممدودتان بالأرض ومعهما الكريبتكس، بما أنه لم يكن هناك أي شيء يخفف من سقوطه العنيف. فتكسر الزجاج في داخله وتبعثر قطعاً صغيرة على الأرض. للحظة كاملة، لم يتنفس تيبينغ، وظل مستلقياً على الأرض الباردة، يحدق في الأسطوانة الرخامية التي كانت في راحة يده، ثم تلمس القارورة الزجاجية التي كانت داخله. فعبقت في الجو رائحة الخل النفاذة، وأحس بالسائل البارد يتدفق إلى الخارج من بين الأقراص المدرجة على يده. فسيطر عليه رعب غريب. لا! كان الخل يسيل الآن وأخذ تيبينغ يتخيل كيف سيذوب البردي الآن. روبرت، أيها الأحمق! لقد ضاع السرّ! شعر تيبينغ بنفسه وهو ينتحب بجنون. لقد ضاعت الغريل. وكل شيء أصبح خراباً. حاول تيبينغ الذي كان مذهولاً لا يصدق ما فعله لانغدون، أن يفتح الأسطوانة بالقوة متلهفاً لأن يحظى بنظرة خاطفة على التاريخ الزائل قبل أن يذوب إلى الأبد. إلا أنه أصيب بصدمة عندما شد نهايتي الحجر المفتاح، فقد فتحت الأسطوانة. فشهق من دهشته ونظر في داخلها. كانت فارغة في ما عدا كسرات من الزجاج الذي بلله الخل. لم يكن هناك بردي متحلل. فتدحرج تيبينغ ونظر إلى الأعلى محدقاً بلانغدون. كانت صوفي واقفة بجانبه وقد صوبت المسدس نحو تيبينغ. نظر تيبينغ من جديد إلى الحجر المفتاح بذهول، فلاحظ أن الأقراص لم تكن أحرفها عشوائية بل كانت مرتبة لتشكل كلمة ’تفاحة‘. "تلك هي الكرة التي قضمت منها حواء"، قال لانغدون ببرود. "حيث تسببت بغضب الرب. الخطيئة الأولى. رمز سقوط الأنثى المقدسة". شعر تيبينغ بالحقيقة تضربه في رأسه لشدة بساطتها. فالكرة التي كان يجب أن تكون على ضريح نيوتن ليست إلا التفاحة الوردية التي سقطت من السماء ووقعت على رأس نيوتن، وكانت الوحي الذي ألهمه إبداع حياته. ثمرة أعماله! اللب الوردي الذي يحمل بذوراً في داخله! "روبرت"، تمتم تيبينغ، الذي لا زال تحت تأثير الصدمة. "لقد فتحتها. أين... الخريطة؟" مد لانغدون يده إلى جيب معطفه، دون أن يرمش له جفن، وأخرج بعناية شديدة ورقة بردي ملفوفة ورقيقة. وعلى بعد ياردات قليلة فقط من المكان الذي كان تيبينغ مستلقياً فيه، فرد لانغدون المخطوط ونظر إليه. وبعد لحظات طويلة من الصمت، ارتسمت ابتسامة ذكية على وجه لانغدون. إنه يعرف! كان قلب تيبينغ يتوق إلى الحصول على هذه المعرفة. كان حلم حياته أمام عينيه تماماً. "أخبرني!" طالبه تيبينغ بإلحاح. "أرجوك! آه يا إلهي، أرجوك! فلم يفت الأوان!" وعندما تناهى إلى سمع لانغدون صوت الخطوات الثقيلة في الردهة المؤدية إلى قاعة الاجتماعات، لف مخطوط البردي ودسه في جيبه ثانية. "لا تفعل ذلك أرجوك!" قال تيبينغ متوسلاً، ومحاولاً أن يقف لكن دون جدوى. وعندما فتحت الأبواب بعنف، اقتحم بيزو فاش القاعة كثور إلى حلبة المصارعة وأخذ يمسح المكان بعينيه الوحشيتين بحثاً عن هدفه، لاي تيبينغ، الذي كان مطروحاً أرضاً لا حول له ولا قوة. متنهداً بارتياح أعاد مسدسه إلى غمده الموجود عند ذراعه ثم التفت إلى صوفي. "العميلة نوفو، لقد ارتحت جداُ عندما عرفت أنك والسيد لانغدون على ما يرام، كان يجب أن تسمعي كلامي عندما طلبت منك أن تأتي إلى قسم الشرطة". دخلت الشرطة البريطانية على أعقاب فاش واعتقلت السجين المهتاج ثم كبلته بالأصفاد. بدت صوفي مذهولة لرؤية فاش. "كيف تمكنت من العثور علينا؟" أشار فاش إلى تيبينغ. "لقد ارتكب خطأً جسيماً عندما أبرز بطاقته الشخصية عندما دخل إلى الكنيسة، وكان الحراس قد سمعوا نشرة للشرطة تفيد بأنه مطلوب للعدالة". "إنها في جيب لانغدون!"أخذ تيبينغ يصيح وكأنه قد فقد عقله. "الخريطة التي تهدي إلى الكأس المقدسة!" بينما رفعه رجال الشرطة وحملوه إلى الخارج، ألقى تيبينغ برأسه إلى الخلف وأخذ يصرخ بجنون. "روبرت! أخبرني أين هي!" وعندما مرّ تيبينغ بلانغدون، نظر إليه مباشرة في عينيه. "الشريف فقط هو الذي يعثر على الغريل. لاي، أنت علمتني ذلك". الفصل الثاني بعد المائة استقر الضباب على نحو منخفض فوق حدائق كينسينغتون، حيث كان سيلاس يسير مترنحاً باحثاً عن بقعة هادئة بعيدة عن الأنظار. وعندما ركع على العشب المبلل، شعر بسيل من الدم الحار يتدفق بغزارة من الجرح الذي أحدثته الرصاصة تحت ضلوعه. لكنه مع ذلك ظل محدقاً مباشرة إلى الأمام. لقد جعل الضباب هذا المكان يبدو وكأنه الجنة. وعندما رفع يديه الملطختين بالدماء ليصلي، شاهد قطرات المطر تداعب أصابعه وتعيد بياضهما الشاحب. وبينما اشتد هطول المطر على ظهره وكتفيه، أحس بجسده يختفي شيئاً فشيئاً في الضباب. أنا شبح... مرت به نسمة هواء محملة برائحة الأرض النابضة بحياة جديدة. صلى سيلاس بكل خلية حية في جسده المنهار. صلى من أجل الرحمة... صلى من أجل مخلّصه... القس أرينغاروزا... وتضرع إلى ربه ألا يخطفه الموت قبل أوانه. فلا زال أمامه الكثير ليفعله في هذه الدنيا. كان الضباب يلف كل شيء حوله الآن، وأحس سيلاس أن جسمه أصبح خفيفاً لدرجة أنه كان متأكداً أن الضباب كان يحمله فوق السحاب. فأغمض عينيه وتلا صلاة أخيرة. ومن مكان ما في قلب الغيوم، همس مانويل أرينغاروزا في أذنه. إن ربنا رب رؤوف رحيم... وأخيراً بدأ الألم الذي كان يمزق جسد سيلاس يتلاشى، عندها عرف أن القس كان على حق. الفصل الثالث بعد المائة كان الوقت عصراً عندما ظهرت شمس لندن من بين السحب الرمادية وبدأت المدينة تجف. شعر بيزو فاش بالإرهاق بعد أن خرج من غرفة التحقيق وطلب سيارة أجرة. كان السير لاي تيبينغ يصرخ طوال الوقت مدعياً أنه بريء، إلا أن صياحه بصخب وحديثه غير المترابط حول الكأس المقدسة ووثائق سرية وجمعيات تعمل في الخفاء، كل ذلك أوحى لفاش بأن المؤرخ الماكر كان يعد العدة لمحامييه كي يدعوا أنه مجنون في أثناء المرافعة دفاعاً عنه أمام القضاء. بالطبع، فكر فاش. مجنون. فقد أظهر تيبينغ دقة عبقرية في بناء خطة كانت تحمي براءته في كل مرة. وقد استغل كلاً من الفاتيكان وأوبوس داي، الجماعتين اللتين اتضح أنهما بريئتان تماماً. أما عن أعماله القذرة، فقد نفذها راهب متعصب وقس يائس دون حتى معرفتهما بهويته. والأنكى من ذلك كله، هو أن تيبينغ قد أقام مركزه للتنصت الإلكتروني في مكان لا يمكن لرجل مصاب بشلل الأطفال أن يصل إليه. فالمراقبة الفعلية كان يقوم بها خادمه، ريمي وهو الشخص الوحيد الذي كان يعرف هويته الحقيقية والذي مات الآن لحسن حظ تيبينغ في ارتكاس جسمه لحساسية قاتلة. لا يمكن أن تكون هذه الأفعال كلها قد صدرت عن شخص لا يتمتع بكامل قواه العقلية... فكر فاش. أما المعلومات الواردة من كوليه في قصر فيليت أفادت بأن براعة تيبينغ قد وصلت إلى حدّ جعل فاش نفسه يفكر بأن يتعلم منه. فقد لجأ المؤرخ البريطاني إلى خبرة اليونان القدماء وحصان طروادة، فقد تمكن من إخفاء أجهزة تنصت في مكاتب أهم الشخصيات الباريسية. وذلك عن طريق هدايا ثمينة كتحف فنية أرسلها تيبينغ إليهم، والبعض الآخر حصل على أعمال فنية فريدة من مزادات علنية استطاع تيبينغ أن يزرع فيها أجهزة التنصت. أما سونيير فقد تلقى دعوة على العشاء في قصر فيليت لمناقشة إمكانية تمويل تيبينغ لجناح جديد لدافنشي في اللوفر. وقد تضمنت بطاقة الدعوة ملاحظة عبّر فيها تيبينغ عن إعجابه الشديد بفارس آلي قيل أن سونيير قد صنعه. أحضره إلى العشاء، اقترح عليه تيبينغ. ويبدو أن هذا بالضبط هو ما فعله سونيير فقد ترك الفارس دون الانتباه إليه لفترة طويلة مكنت ريمي لوغالوديك من أن يضيف إليه قطعة مخفية دون أن يشعر بذلك. أغمض فاش عينيه الآن وهو جالس في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة. هناك أمر آخر بعد يجب أن أهتم به قبل عودتي إلى باريس. كانت غرفة الإنعاش في مستشفى سانت ميري مشمسة. "لقد أبهرتنا جميعاً"، قالت الممرضة وهي تنظر إليه بابتسامة مشرقة. "فقد كانت نجاتك معجزة حقيقية". ارتسمت على وجه القس أرينغاروزا ابتسامة ضعيفة. "لطالما كنت بنعمة من الرب". أنهت الممرضة حديثها الودي مع القس ثم انصرفت لتتركه لوحده. كان للشمس أثر دافئ ومحبب على وجهه. فقد كانت الليلة الماضية أسوأ ليلة في حياته. لم يستطع أن يقاوم الحزن الشديد الذي أثاره تفكيره بسيلاس الذي عثر على جثته في الحديقة. أرجوك اغفر لي، يا بني. كان أرينغاروزا يتوق لأن يكون سيلاس جزءاً من خطته الرائعة. إلا أن أرينغاروزا كان قد تلقى اتصالاً من بيزو فاش يسأله عن علاقته براهبة قتلت في كنيسة سان سولبيس. عندئذ أدرك القس أن الأحداث في تلك الليلة قد اتخذت منعطفاً خطيراً. وعندما عرف بمقتل أربعة أشخاص آخرين تحول خوفه إلى كرب حقيقي. سيلاس، ما الذي فعلته؟! وعندما لم يتمكن القس من الاتصال بالمعلم، أدرك أنه قد تعرض لخدعة دنيئة. لقد استغله المعلم. وكانت الطريقة الوحيدة لوضع حدّ لسلسلة الجرائم المخيفة التي كان سبباً في حدوثها، هي أن يعترف بكل شيء لفاش. ومنذ ذلك الحين، أصبح أرينغاروزا وفاش في سباق للإمساك بسيلاس قبل أن يقنعه المعلم بأن يقتل ثانية. احس ارينغاروزا بالألم ينخر عظامه، فأغمض عينيه واستمع إلى تغطية تلفزيونية لاعتقال فارس إنجليزي بارز، السير لاي تيبينغ. لقد انكشف أمر المعلم وصار فرجة للعالم. كان قد تناهى إلى سمع تيبينغ أن الفاتيكان كان يخطط لأن يفصل أوبوس داي عنه. لذا فقد وقع اختياره على أرينغاروزا ورقة اللعب الرابحة في خطته. فمن غيره سيلهث دون تفكير وراء الكأس المقدسة وهو الذي كان على وشك أن يفقد كل شيء؟ فالغريل تمد من يحصل عليها بنفوذ هائل. كما قام لاي تيبينغ بإخفاء هويته بدهاء، حيث اصطنع لكنة فرنسية وقلباً ورعاً، وطالب بمقابل مادي وهو الشيء الوحيد الذي لم يكن بحاجة إليه وهو المال.. كان أرينغاروزا قد عمي بصره من لهفته للحصول على مراده، لذا لم يكن ليشك بالمعلم. وكان عشرون مليون يورو مبلغاً تافهاً إذا ما قورن بالجائزة الثمينة ’الكأس المقدسة‘ ومع المبلغ الذي منحه الفاتيكان لأوبوس داي للانفصال عنه، كانت الأمور المالية تسير على ما يرام. يرى المكفوفون ما يريدون رؤيته. أما الإهانة المطلقة التي وجهها تيبينغ، فكانت بالطبع طلبه الغريب في أن يكون الدفع بسندات مالية من الفاتيكان حيث إنه إذا لم تجرِ الأمور حسب خطته، عندئذ ستشير أصابع الاتهام إلى روما. "أنا سعيد لأنك أصبحت بخير، سيدي". تعرف أرينغاروزا إلى الصوت الاجش الذي كان بالباب، إلا أن الوجه لم يكن كما توقعه، فقد كان هذا الرجل ذا وجه صارم ملامحه قاسية وشعر أسود ممشط إلى الخلف ورقبة غليظة مشدودة وكان يرتدي بذة غامقة اللون. "النقيب فاش؟" سأل أرينغاروزا. فالتعاطف والقلق اللذان أبداهما النقيب لحالة أرينغاروزا الليلة الفائتة، استحضرا في ذهنه صوراً لبنية وشكل ألطف بكثير. اقترب النقيب من السرير ورفع بيده محفظة مألوفة سوداء اللون ثقيلة، ووضعها على كرسي. "أظن أن هذه لك". نظر أرينغاروزا إلى المحفظة المملوءة بالسندات وعلى الفور أشاح بوجهه بعيداً خجلاً من نفسه. "نعم... شكراً لك". ولاذ بالصمت وهو يمرر أصابعه على تجعدات ملاءة السرير ويملسها، ثم تابع كلامه. "حضرة النقيب، لقد كنت أفكر بهذا الأمر ملياً، وأنا بحاجة لمساعدتك". "بالطبع، تفضل". "عائلات الضحايا في باريس... الذين قام سيلاس..."، وصمت لحظة، ليكتم انفعاله. "أعرف أن أموال العالم كلها لا يمكنها أن تعوض فقدهم، إلا أنني أود أن تساعدني، إذا لم يكن في ذلك إزعاج لك، على تقسيم محتويات هذه المحفظة بينهم... بين عائلات الضحايا". حدق فاش بعينيه السوداوين في القس للحظات طويلة. "إنها لفتة كريمة منك سيدي. وسأفعل ما بوسعي لتنفيذ رغباتك". ساد صمت طويل بينهما. على شاشة التليفزيون، كان هناك ضابط في الشرطة الفرنسية نحيل الجسم يعقد مؤتمراً صحفياً أمام قصر ضخم. رأى فاش من كان ذلك الضابط فركز انتباهه على الشاشة. "حضرة الملازم كوليه"، قالت مراسلة من شبكة الإذاعة البريطانية BBC بنبرة اتهام واضحة. "لقد قام نقيبكم في الليلة الماضية باتهام شخصين بريئين علناً بارتكاب جرائم قتل. هل سيقوم روبرت لانغدون وصوفي نوفو بمقاضاة قسمكم؟ وهل سيكلف هذا الخطأ النقيب فاش عمله؟" كانت الابتسامة التي ارتسمت على وجه الملازم كوليه مرهقة وهادئة في الوقت ذاته". "بحسب تجربتي مع النقيب فاش، فإنه قلما يرتكب أي خطأ. وأنا لم أتكلم معه بعد حول هذا الأمر. إلا أنني أعرف طريقة معالجته لمثل هذه الأمور، لذا فأنا أظن بأن ملاحقته للعميلة نوفو والسيد لانغدون علناً كانت جزءاً من خدعة للإيقاع بالقاتل الحقيقي". تبادل الصحفيون نظرات الدهشة. تابع كوليه. "وسواء كان السيد لانغدون والعميلة نوفو قد شاركا بهذه العملية بعلمهما أم لا، هذا أمر لا أعرفه. فالنقيب فاش يفضل عادة الاحتفاظ بطرقه الخلاقة لنفسه. لكن ما يمكنني أن أؤكده لكم الآن هو أن النقيب قد قام باعتقال الرجل المسؤول عن تلك الجرائم، وأن كلا من السيد لانغدون والعميلة نوفو بريء وسالم". ارتسم شبح ابتسامة على شفتي فاش وهو يلتفت إلى أرينغاروزا. "إنه رجل طيب، كوليه هذا". مرت عدة لحظات من الصمت. وأخيراً، مرر فاش يده على جبينه ومسح شعره إلى الخلف وحدق في أرينغاروزا. "سيدي، قبل أن أعود إلى باريس، هناك أمر أخير أود أن أتحدث معك بشأنه. لقد قمت بتقديم رشوة إلى الطيار ليغير المسار أثناء رحلتك المفاجئة إلى لندن. وبذلك، تكون قد خرقت بعض القوانين الدولية". أصيب أرينغاروزا بالخجل. "لقد كنت يائساً". "نعم، وكذلك كان الطيار عندما قام رجالي باستجوابه". أدخل فاش يده في جيبه وأخرج منه خاتماً من الأمتيست الأرجواني عليه شعار الأسقفية مصوغاً باليد. شعر أرينغاروزا بالدموع تفيض من عينيه عندما أخذ منه الخاتم وأعاده إلى إصبعه. "لقد كنت في غاية اللطف معي". مد يده وشدّ بها على يد فاش. "شكراً لك". لوح فاش بيده ثم اتجه نحو النافذة وحدق في المدينة أمامه، وأفكاره تسبح بعيداً. وعندما التفت بدا مترددا بعض الشيء. "سيدي ما الذي ستفعله بعد ما حدث؟" لقد سئل أرينغاروزا نفس هذا السؤال الليلة الماضية وهو يغادر قلعة غاندولفو. "أعتقد أن طريقي غامض كطريقك تماماً". "نعم"، صمت فاش لحظة. "أعتقد أنني سأتقدم بطلب تقاعد مبكر". ابتسم أرينغاروزا. "قليل من الإيمان يصنع المعجزات، أيها النقيب. قليل من الإيمان". الفصل الرابع بعد المائة تقع كنيسة روسلين – التي يطلق عليها أيضاً اسم كاتدرائية الشيفرات- على بعد سبعة أميال إلى الجنوب من إدنبرة، وقد بنيت على آثار معبد قديم للإله مثرا –إله النور عند الفرس، على يد فرسان الهيكل عام 1446، وقد تميزت الكنيسة بنقوشها الأخاذة التي تتألف من مجموعة كبيرة من الرموز اليهودية والمسيحية، والمصرية، والماسونية، والوثنية. وتقع الإحداثيات الجغرافية للكنيسة على خط الطول شمال -جنوب الذي يمر من غلاستنبري. وكان هذا الخط الطولاني الوردي هو العلامة التقليدية لجزيرة آفالون جزيرة الملك آرثر كما يعد الدعامة الأساسية لهندسة العمائر البريطانية المقدسة. ويعود اسم روسلين – الذي كان سابقاً يلفظ روزلين - إلى هذا الخط الافتراضي الوردي Rose line. كانت أبراج روسلين الضخمة تلقي بظلالها الطويلة عندما أوقف لانغدون وصوفي السيارة المستأجرة في موقف السيارات المعشب أسفل الهضبة التي قامت عليها كنيسة روسلين. كانت رحلتهما القصيرة من لندن إلى إدنبرة مريحة إلا أنهما لم يتمكنا من النوم وهما يفكران بما سيجدانه لاحقاً. وعندما نظر لانغدون إلى هذا البناء الضخم الذي يقف شامخاً في السماء التي تغطيها الغيوم، شعر وكأنه أليس في بلاد العجائب. لا بد وأنني أحلم. غير أنه كان يعلم تماماً أن نص رسالة سونيير الأخيرة كان محدداً وواضحاً بشكل لا مجال للخطأ فيه. الكأس المقدسة تحت روزلين القديمة تنتظر كان لانغدون قد تخيل أن ’خريطة الغريل‘ التي وضعها سونيير ستكون رسماً فيه إشارات إكس تحدد مكان الغريل بالتحديد. إلا أن سرّ الأخوية الأخير قد تم كشفه بنفس الطريقة التي خاطبهما فيها سونيير منذ البداية. قصيدة شعرية بسيطة. أربعة أبيات أشارت بكل وضوح إلى هذه البقعة تحديداً. فعلاوة على ذكر روسلين بالاسم، أشار البيت إلى العديد من مظاهر الكنيسة المعمارية المشهورة. لكن بالرغم من الوضوح الذي ميّز كشف سونيير الأخير، إلا أن لانغدون كان لا زال يشعر بالحيرة. فقد بدت كنيسة روسلين، بالنسبة له، موقعاً أشهر من أن يكون مخبأ للكأس المقدسة. فقد كانت الكنيسة الحجرية لقرون طويلة مثار إشاعات زعمت أن الكأس المقدسة مخبأة فيها. وقد علت الأصوات بهذا الخصوص مؤخراً عندما كشف رادار تصل إشارته إلى ما تحت الأرض، كشف وجود بنية مذهلة تحت الكنيسة، وهي حجرة كبيرة تحت الأرض. وكان هذا القبو الغامض سبباً في صغر حجم الكنيسة الموجودة فوقه، كما أنه بدا وكأنه لم يكن له مدخل أو مخرج. وعندما تقدم علماء الآثار بطلب إلى المسؤولين عن الكنيسة لإجراء حفريات في الطبقة السفلى للوصول إلى الغرفة السرّية، قوبلوا برفض قاطع ولم يسمح لهم بحفر الموقع المقدس. وهذا بالطبع كان سبباً في تغذية نار الشائعات حول هذه الكنيسة. ما الذي كان يحاول المسؤولون عن هذه الكنيسة إخفاءه؟ وقد أصبحت روسلين اليوم موقعاً يحج إليه الباحثون عن الغموض والأسرار. فمنهم من زعم أن الذي شده إلى هذا المكان هو الحقل المغناطيسي القوي الذي ينبعث من هذه الإحداثيات بشكل لا يمكن تفسيره، وآخرون ادعوا أنهم جاءوا إلى هذا المكان ليبحثوا في منحدر التل عن مدخل خفي للقبو، لكن معظمهم اعترفوا بأنهم أتوا ببساطة للتجول في تلك الأنحاء ليتشربوا روح الكأس المقدسة. بالرغم من أن لانغدون لم يقم بزيارة روسلين من قبل، إلا أنه كان يضحك في نفسه كلما سمع أن الكنيسة توصف على أنها آخر موطن للكأس المقدسة. لكنه لا يمكن أن ينكر احتمال أن روسلين كانت يوماً المكان الذي خبئت فيه الغريل، ذلك كان منذ زمن بعيد... لكن من المؤكد أنها ليست كذلك الآن. فقد انشدت الأنظار إلى روسلين بشكل مبالغ فيه في العقود الأخيرة، وعاجلاً أم آجلاً سيتمكن أحدهم من الدخول إلى الحجرة الخفية عنوة. أما الباحثون الحقيقيون المهتمون بالكأس المقدسة، فقد اتفقوا على أن روسلين هي فخ نصبته الأخوية بشكل مقنع جداً يجذب الفضوليين نحو نهاية مسدودة. إلا أن لانغدون لم يعد واثقاً من معلوماته السابقة هذه الليلة بالذات حيث أن حجر المفتاح الخاص بالأخوية نفسها قد احتوى على قصيدة أشارت بشكل مباشر إلى هذه البقعة. وكان هناك سؤال محير يجول في ذهنه طوال اليوم: لماذا تكبد سونيير كل هذا العناء ليرشدنا إلى موقع معروف إلى هذا الحدّ؟ يبدو أن هناك جواباً منطقياً واحداً عن هذا السؤال. ثمة شيء حول روسلين لم ندركه بعد. "روبرت؟" كانت صوفي واقفة خارج السيارة تنظر إليه. "هل ستنزل أم لا؟" كانت تحمل بيدها صندوق خشب الورد الذي أعاده إليهما النقيب فاش. وفي داخله كان الكريبتكسن معاً وقد أعيدا إلى الوضع الذي كانا عليه من قبل. وكان مخطوط البردي قد لف في الداخل بأمان لكن بدون قارورة الخل الزجاجية. عندما سار لانغدون وصوفي نحو الأعلى على الدرب المفروش بالحصى، مرّا بالحائط الغربي المشهور في الكنيسة. كان الزوار العاديون يظنون أن هذا الجدار الناتئ بشكل غريب كان جزءاً من الكنيسة لم يتم إنهاؤه. لكن على حدّ علم لانغدون، كانت حقيقة الجدار مذهلة ومحيرة في آن معاً. حيث يحكى أنه الجدار الغربي لهيكل سليمان. كان فرسان الهيكل قد صمموا كنيسة روسلين بحسب المخطط المعماري لهيكل سليمان في القدس بالضبط. بجداره الغربي وحرمه المستطيل الضيق وحجرة تحت الأرض تماثل قدس الأقداس حيث عثر الفرسان التسعة الأوائل على كنزهم الثمين. كان على لانغدون أن يعترف أن ثمة توازناً مثيراً في فكرة بناء فرسان الهيكل لمستودع معاصر للغريل بشكل مطابق لمخبئها الأصلي. كان مدخل كنيسة روسلين أكثر تواضعاً مما توقع لانغدون. أما بابها الخشبي الصغير فكان فيه مفصلتان حديديتان ولافتة بسيطة من خشب البلوط كتب عليها: روزلين فسر لانغدون لصوفي أن هذه اللفظة القديمة تعود إلى الخط الطولي الوردي الذي تقع إحداثيات الكنيسة عليه، أوعلى حدّ تعبير الباحثين في الغريل، تعود إلى "خط الورد" أي ذرية مريم المجدلية. كانت الكنيسة على وشك الإغلاق، وعندما شد لانغدون الباب ليفتحه هبت نسمة هواء دافئ من الداخل كما لو أنه البناء العتيق كان يتنهد تعباً بعد يوم شاق طويل. أما أقواس المدخل فقد زينت بنقوش ورود خماسية البتلات. ورود... رحم الآلهة. شعر لانغدون وهو داخل مع صوفي أن مجال رؤيته قد امتد ليشمل الحرم بأكمله في نظرة واحدة. فبالرغم من أنه قد قرأ الكثير من الروايات التي تصف أعمال الحجر في روسلين على أنها غاية في الجمال والدقة، إلا أن رؤيتها على أرض الواقع كانت تجربة مثيرة فعلاً. جنة الرموز... هذا ما قاله عنها أحد زملاء لانغدون. كان كل إنش في الكنيسة قد نقش عليه رمز ما من صلبان مسيحية ونجوم يهودية وشعارات ماسونية إلى صلبان فرسان الهيكل وحليات بشكل قرن الخصب وأهرامات وأبراج فلكية ونباتات وخضار ونجوم خماسية وورود. كان فرسان الهيكل بحق أسياد البناء والعمارة، حيث أقاموا كنائس للهيكل في كافة أنحاء أوروبا، لكن روسلين كانت تعد ذروة عملهم الذي ينم عن الحب والإجلال. ولم يترك البناؤون المهرة حجراً واحداً غير منقوش مما جعل كنيسة روسلين مقاماً لكل الأديان والعبادات... وعلى رأسها عبادة الطبيعة والآلهة الأنثى. كان حرم الكنيسة يكاد يكون خالياً إلا من بعض الزوار الذين كانوا يستمعون لشاب كان يقوم بآخر جولة لهذا اليوم. كان يقودهم في صف طويل أحادي على امتداد مسار على أرضية الكنيسة – وهو ممر غير مرئي يربط ست نقاط معمارية ببعضها داخل الحرم. لقد مشت أجيال من الزوار على هذه الخطوط المستقيمة فربطت من بين تلك النقاط فحفرت خطواتهم رمزاً كبيراً على الأرضية. نجمة داوود، فكر لانغدون. ليس الأمر مجرد مصادفة. كانت هذه النجمة السداسية تعرف أيضاً باسم ’شعار سليمان‘ حيث إنها كانت في يوم من الأيام رمزاً لكهنة النجوم ثم اتخذها في ما بعد ملكا إسرائيل داود وسليمان شعاراً لهما. رأى الدليل لانغدون وصوفي وهما يدخلان ومع أن الوقت كان وقت إغلاق الكنيسة إلا أنه رحب بهما بابتسامة لطيفة وأشار لهما بأن يتجولا في الكنيسة بحرّيّة. أومأ له لانغدون برأسه شاكراً وأخذ يتقدم داخل الحرم. إلا أن صوفي وقفت متسمرة في المدخل وقد بدت الحيرة على وجهها. "ماذا بك؟" سألها لانغدون. حدقت صوفي في الكنيسة من الخارج. "أظن... أنني كنت في هذا المكان يوماً ما". دهش لانغدون. "لكنك قلت إنك لم تسمعي حتى بهذا الاسم من قبل". "هذا صحيح..." وتفحصت الكنيسة، وقد بدت مرتبكة. "لا بد أن جدي قد جاء بي إلى هنا عندما كنت صغيرة جداً. لا أعرف... لكن المكان يبدو مألوفاً". وعندما دققت النظر في الغرفة، أخذت تومئ برأسها بثقة أكبر الآن. "نعم"، وأشارت إلى مقدمة الحرم. "هذان العمودان... لقد رأيتهما من قبل". نظر لانغدون إلى العمودين المنحوتين ببراعة فائقة عند نهاية الحرم، وقد بدت النقوش البيضاء المحفورة عليهما بشكل تخريمات وكأنها تحترق مصدرة لمعاناً مائلاً للاحمرار تحت ضوء شمس الغروب التي أرسلت أشعتها عبر النافذة الغربية. وكان العمودان اللذان يقعان في المكان الذي يكون المذبح فيه عادة، غير متناسقين من حيث النقوش. فالعمود الأيسر كان ذا نقوش بشكل خطوط عمودية بسيطة بينما كان الأيمن مزخرفاً بزهور متوضعة بشكل حلزوني على طول العمود. كانت صوفي قد ذهبت لتتفحصهما عن قرب، فأسرع لانغدون باللحاق بها. وعندما وصلا إلى العمودين، أخذت صوفي تومئ وهي لا تصدق عينيها. "نعم، أنا واثقة تماماً أنني قد رأيتهما من قبل!" "لا أشك في أنك رأيتهما"، قال لانغدون، "لكن ليس من الضروري أن تكوني قد رأيتهما هنا". فالتفتت نحوه. "ماذا تقصد؟" "هذان العمودان هما أكثر البنى المعمارية التي تم تقليدها عبر التاريخ، وتوجد نسخ مطابقة لهما في كل أنحاء العالم". "نسخ عن روسلين؟" بدت صوفي مشككة في كلامه. "كلا، نسخ عن العمودين. هل تذكرين عندما أخبرتك أن روسلين نفسها هي نسخة طبق الأصل عن هيكل سليمان؟ وهذان العمودان هما نسخة مطابقة للعمودين اللذين كانا في مدخل هيكل سليمان". أشار لانغدون إلى العمود الأيسر. "يدعى هذا العمود ’بواز‘ أو العمود الماسوني. والآخر يدعى ’جاكين‘ أو العمود المتدرب". وصمت لحظة ثم تابع كلامه. "وفي الحقيقة، إن كل معبد ماسوني في العالم يحتوي على نفس هذين العمودين". كان لانغدون قد أخبرها من قبل عن الصلات التاريخية القوية بين فرسان الهيكل والجمعيات الماسونية السرّية الحديثة التي كانت رتبها الأولية، الماسوني المتدرب والزميل الماسوني في المهنة والمعلم الماسوني، تعود بجذورها إلى أيام فرسان الهيكل الأولى. وقد أشارت قصيدة جد صوفي الأخيرة إلى المعلمين الماسونيين الذين زخرفوا روسلين بلوحاتهم الفنية المحفورة على الحجر. كما أنها أشارت إلى السقف المركزي لكنيسة روسلين المغطى بنقوش النجوم والكواكب. "لم يسبق لي أبداً أن زرت معبداً ماسونياً"، قالت صوفي وهي لا زالت تدقق النظر بالعمودين. "أنا شبه متأكدة أني قد رأيتهما هنا"، والتفتت نحو الكنيسة وكأنها تبحث عن شيء آخر قد ينعش ذاكرتها. كان ما تبقى من الزوار في طريقهم إلى الخارج الآن، أما الدليل فكان في طريقه إليهما بابتسامته اللطيفة. كان شاباً وسيماً في آخر العشرينيات من عمره، ذا شعر أشقر ولهجة اسكوتلندية. "أنا على وشك إغلاق الكنيسة لهذا اليوم. هل يمكنني أن أساعدكما إذا كنتما تبحثان عن شيء محدد؟" ماذا عن الكأس المقدسة؟ أراد لانغدون أن يسأله عن ذلك. "الشيفرة"، هتفت صوفي فجأة بحماس شديد. "هناك شيفرة في هذا المكان!" بدا الدليل وكأنه قد سرّ لحماسها. "نعم، هذا صحيح سيدتي". "إنها في السقف"، قالت صوفي، والتفتت إلى الجدار الذي كان على يمينها. "في مكان ما... هناك". فابتسم. "هذه ليست زيارتك الأولى إلى روسلين، على ما أعتقد". الشيفرة، فكر لانغدون. كان قد نسي هذه المعلومة البسيطة. فمن بين ألغاز روسلين العديدة، كان هناك مجاز مقنطر برزت منه مئات الكتل الحجرية بشكل ناتئ إلى الأسفل مشكلة سطحاً متعدد الأوجه. وقد نقش على كل كتلة منها رمز يبدو في الظاهر عشوائياً غير مرتب، مشكلاً بذلك شيفرة لا يمكن فهمها. يعتقد البعض أن هذه الشيفرة تكشف مدخل الحجرة السرّية تحت أرض الكنيسة، وآخرون يعتقدون أنها تروي قصة الكأس المقدسة الحقيقية. إلا أن ذلك كله لم يكن مهماً، فقد حاول علماء تحليل الرموز على مدى قرون طويلة أن يفكوا شيفرتها. وإلى يومنا هذا يعرض المسؤولون عن كنيسة روسلين مكافأة مجزية لمن يتمكن من معرفة معناها الخفي، إلا أن الشيفرة ظلت لغزاً لم يعرف حله بعد. "يسرني أن أريكما..." تلاشى صوت الدليل شيئاً فشيئاً. شيفرتي الأولى، فكرت صوفي، وهي تمشي وحيدة شاردة الذهن نحو المجاز ذي الشيفرة الغامضة، وبما أنها كانت قد أعطت لانغدون الصندوق الخشبي، شعرت بأنها قد بدأت تنسى بشكل مؤقت الكأس المقدسة وأخوية سيون وكل الغموض الذي لف أحداث اليوم الفائت. وعندما أصبحت تحت السقف ذي الشيفرة السرّية، ورأت الرموز التي كانت فوق رأسها، عادت إليها الذكريات كسيل جارف سبب لها حزناً عميقاً. كانت فتاة صغيرة... بعد نحو سنة أو أكثر من موت أهلها. كان جدها قد أتى بها إلى اسكوتلاندا في إجازة قصيرة. وكانا قد أتيا إلى كنيسة روسلين لزيارتها قبل العودة إلى باريس. كان الوقت متأخراً والكنيسة قد أقفلت. لكنهما لا زالا في الداخل. "جدي، هل يمكننا أن نعود؟" ترجّته صوفي وهي تشعر بالتعب الشديد. "بعد قليل، عزيزتي، بعد قليل". قال لها بصوت حزين. "لا زال هناك أمر واحد عليّ أن أقوم به هنا. هل يمكنك أن تنتظريني في السيارة؟" "هل ستلتقي بأحد الأشخاص في الخارج مرة أخرى؟" أومأ جدها. "سأختصر الموضوع، أعدك بذلك". "هل يمكنني أن أحلل شيفرة المدخل مرة أخرى؟ لقد كان هذا مسلياً". "لا أعرف. فيجب أن أذهب إلى خارج الكنيسة. ألن تخافي إذا تركتك هنا لوحدك؟" "بالطبع لا!" قالت ذلك بغضب. "فلم يحل الظلام بعد!" ابتسم جدها. "حسن جداً"، واصطحبها إلى المجاز المقنطر الواسع الذي أخذها إليه في السابق. ارتمت صوفي في الحال على الأرض الحجرية واستلقت على ظهرها وأخذت تحدق نحو الأعلى في خليط قطع الأحجية التي كانت فوق رأسها. "سأقوم بحل هذه الشيفرة قبل عودتك!" "هيا إذن بدأ السباق". انحنى جدها وقبل جبينها ثم اتجه نحو الباب الجانبي بالقرب منها. "سأكون عند الباب الخارجي وسأتركه مفتوحاً، إذا احتجت إلي، فقط نادني وسآتي في الحال". وخرج نحو ضوء المساء الخافت. استلقت صوفي على الأرض هناك، وأخذت تحدق نحو الأعلى في الشيفرة. فأحست بالنعاس. وبعد عدة دقائق تشوشت الرموز في عينيها ثم اختفت تماماً. وعندما أفاقت صوفي، شعرت ببرودة الأرضية. "جدي؟" لم يرد عليها أحد. فوقفت، وعدلت ثيابها. كان الباب الجانبي لا زال مفتوحاً وكان الوقت قد أصبح ليلاً. ذهبت إلى الخارج ورأت جدها واقفاً في رواق قريب لمنزل حجري يقع خلف الكنيسة مباشرة. وكان جدها يتحدث بصوت خافت إلى شخص لم تستطع أن تتبين شكله حيث كان خلف الباب الذي يحجب منخله المنزل من الداخل. "جدي؟" نادته صوفي. فالتفت جدها ولوح بيديه، وأشار لها أن تنتظر لحظة فقط ثم قال كلمات أخيرة للشخص في الداخل وأرسل له قبلة في الهواء وعاد إليها بعينين دامعتين. "لماذا تبكين يا جدي؟" فحملها وضمها إلى صدره بقوة. "آه يا صوفي، لقد ودعنا أنا وأنت كثيراً من أحبائنا هذه السنة. وقد كان هذا صعباً". تذكرت صوفي الحادث، وكيف ودعت أمها وأباها وجدتها وأخاها الصغير. "هل كنت تودع شخصاً آخر؟" "نعم، لقد ودعت إنسانة أحبها كثيراً"، أجاب جدها بصوت تملؤه العاطفة. "وأعتقد أنني لن أراها ثانية لفترة طويلة جداً". وقف لانغدون مع الدليل وأخذ يتفحص جدران الكنيسة وهو يشعر بخوف متزايد من أنه كان على وشك الوصول إلى طريق مسدود. كانت صوفي قد ذهبت لتتجول في أرجاء الكنيسة ولتلقي نظرة على الشيفرة وتركت لانغدون وبيده الصندوق الخشبي الذي كان يحتوي على خريطة الغريل التي بدت الآن أنها لم تساعدهما في شيء. فبالرغم من أن قصيدة سونيير ذكرت روسلين بشكل واضح، إلا أن لانغدون لم يكن واثقاً مما عليه أن يفعله الآن وقد وصلا إلى الكنيسة. كما أن القصيدة أشارت إلى وجود "سيف وقدح"، لكن لانغدون لم يرَ أي أثر لهما هنا. الكأس المقدسة تحت روزلين العتيقة تنتظر السيف والقدح يحرسان بواباتها شعر لانغدون من جديد أن ثمة وجهاً آخراً لهذا اللغز لم يتكشف بعد. "أكره أن أتطفل"، قال الدليل متأملاً الصندوق الخشبي الذي كان يحمله لانغدون. "لكن هذا الصندوق... هل يمكنني أن أسألك من أين أتيت به؟" ضحك لانغدون بإرهاق. "إنها قصة طويلة جداً". فاحتار الشاب ونظر ثانية إلى الصندوق الخشبي. "هذا غريب فعلاً، فجدتي لديها نفس هذا الصندوق وهو صندوق مجوهراتها. ذات الخشب اللماع ونفس الوردة المنزلة وحتى المفصلات تبدو نفسها". كان لانغدون متأكداً من أن الشاب على خطأ. فإذا كان ثمة صندوق وحيد من نوعه في العالم، فسيكون هذا هو الصندوق دون أدنى شك، الصندوق الذي صنع خصيصاً ليحتضن الحجر المفتاح الخاص بالأخوية. "قد يكون الصندوقان متماثلين لكن..." صفق الباب الجانبي بعنف، مما شد انتباه الرجلين في الوقت نفسه. كانت تلك صوفي التي خرجت دون أن تنطق بحرف وأخذت تتجول في أسفل المنحدر متجهة نحو منزل حجري بالقرب من الكنيسة. فحدق لانغدون فيها مستغرباً. إلى أين ذهبت؟ لقد كانت تتصرف بغرابة منذ أن وطئت قدماها هذا البناء. التفت لانغدون نحو الدليل. "هل تعرف منزل من هذا؟" فأومأ الشاب. وقد استغرب أيضاً من ذهاب صوفي إلى هناك. "إنه منزل القيّمة على كنيسة روسلين وهي أيضاً رئيسة اللجنة المسؤولة عن روسلين". صمت لحظة. "وهي جدتي أيضاً". "جدتك هي التي ترأس لجنة كنيسة روسلين؟" أومأ الشاب موافقاً. "أنا أعيش معها في ذلك المنزل وأساعد في إدارة الكنيسة كما أنظم الزيارات والجولات في الكنيسة كدليل سياحي". هز الشاب كتفيه..."لقد عشت هنا طوال حياتي. وقد ربتني جدتي في هذا المنزل". ذهب لانغدون نحو الباب لينادي صوفي فقد قلق عليها. لكنه عندما أصبح في منتصف المسافة التي تفصله عنها، توقف فجأة. فقد قال ذلك الشاب شيئاً أثار انتباهه. لقد ربتني جدتي.. نظر لانغدون إلى صوفي التي كانت أسفل المنحدر، ثم نظر إلى الصندوق الخشبي في يده. مستحيل... استدار لانغدون ببطء نحو الشاب. "لقد قلت أن جدتك تمتلك صندوقاً كهذا؟" "يكاد يكون نفسه تماماً". "من أين أتت به؟" "لقد صنعه لها جدي. الذي توفي عندما كنت رضيعاً، لكن جدتي لا زالت تحدثني عنه حتى اليوم. لقد أخبرتني أنه كان عبقرياً في المهارات اليدوية. فكان يصنع بيديه أشياء رائعة". عندئذ تراءت للانغدون شبكة من العلاقات والروابط تفوق الخيال. "لقد قلت أن جدتك هي التي ربتك. هل يمكنني أن أسألك ما الذي حل بأبويك؟" أصيب الشاب بالدهشة. "لقد توفيا عندما كنت صغيراً". صمت لحظة. "في نفس اليوم الذي توفي فيه جدي". خفق قلب لانغدون بقوة. "في حادث سيارة؟" تراجع الدليل إلى الوراء مصعوقاً، وقد بدت نظرة ذهول في عينيه الخضراوين". "نعم. في حادث سيارة. لقد توفي كل أفراد عائلتي في ذلك اليوم. فقد فقدت جدي وأبوي و..." تردد قبل أن ينطق بكلماته التالية، وهو يحدق في الأرض أمامه. "وأختك"، قال لانغدون. في أسفل المنحدر، كان البيت الحجري يبدو تماماً كما كان في ذاكرة صوفي. كان الظلام قد حل الآن وكانت تحيط بالمنزل هالة دافئة وودودة وقد انبعثت رائحة الخبز الطازج من وراء الباب ذي المنخل. وكانت الأضواء تشع من النوافذ. وعندما اقتربت صوفي من المنزل، تناهى إلى سمعها صوت نحيب مكتوم آت من الداخل. رأت صوفي من خلال الباب امرأة متقدمة في السن في المدخل. كانت تجلس وظهرها إلى الباب، لكن صوفي أحست بأنها كانت تبكي. كانت المرأة ذات شعر رمادي طويل أعاد لصوفي ذكريات غير متوقعة. فتقدمت صوفي نحو درج المدخل وقد شعرت بأن شيئاً ما يشدها إلى الداخل. كانت المرأة متشبثة بإطار في داخله صورة رجل وقد أخذت تتحسس وجهه بأطراف أصابعها بحزن وحب. كان ذلك وجهاً تعرفه صوفي حق المعرفة. كان وجه جدها... يبدو أن تلك المرأة قد سمعت نبأ موته الليلة الماضية. صدر صوت صرير تحت أقدام صوفي جعل المرأة تلتفت ببطء إلى الوراء فالتقت عيناها بعيني صوفي. وفجأة أرادت صوفي أن تركض بأقصى سرعة لكنها تسمرت في مكانها دون حراك. لم تتغير نظرة المرأة المتقدة أبداً بل ظلت ثابتة حتى بعد أن وضعت الصورة جانباً واقتربت من الباب. بدا وكأن الزمن قد توقف حيث أخذت المرأتان تحدقان ببعضهما من خلال المنخل الرقيق. ثم تغيرت ملامح وجه المرأة ببطء، كمياه محيط تجمعت شيئاً فشيئاً مشكلة موجة عالية، من التردد... إلى الذهول... ثم الأمل... وأخيراً إلى قمة الفرح. ففتحت الباب بسرعة ومدت يديها الناعمتين لتحتضن وجه صوفي المذهولة. "آه يا طفلتي الحبيبة... كم كبرت!" بالرغم من أن صوفي لم تتعرف إليها، إلا أنها عرفت من تكون. حاولت أن تتكلم لكنها وجدت نفسها غير قادرة حتى أن تتنفس. "صوفي"، أخذت المرأة تنتحب وتقبل جبينها. كانت كلمات صوفي همسات مخنوقة. "لكن... جدي قال إنك..." "أعرف ذلك". وضعت المرأة يديها بحنان على كتفي صوفي ونظرت إليها بعينين حميمتين. "لقد كنا أنا وجدك مضطرين لقول العديد من الأشياء. وقد فعلنا ما اعتقدنا أنه صواب. أنا آسفة جداً. كان كل ذلك حفاظاً منا على سلامتك، أميرتي". عندما سمعت صوفي آخر كلمة قالتها فكرت على الفور بجدها الذي كان يناديها أميرة لسنوات طويلة. بدا صوته وكأن صداه يتردد الآن في حجار روسلين العتيقة ليستقر في باطن الأرض ويدوي في الفجوات والفراغات المجهولة تحت الأرض. طوقت المرأة صوفي بذراعيها ودموعها تنهمر بغزارة. كان جدك يريد بشدة أن يطلعك على الحقيقة ويخبرك كل شيء. لكن الأمور بينكما كانت معقدة للغاية. لقد حاول جاهداً. كان يريد أن يفسر لك الكثير من الأشياء". قبلت جبهة صوفي مرة أخرى، ثم همست في أذنها. "لن يكون هناك أسرار بعد اليوم، أميرتي. فقد آن الأوان لتعرفي حقيقة عائلتنا". كانت صوفي وجدتها جالستين على درجات المدخل تتعانقان والدموع تسيل من عينيهما عندما اندفع الدليل الشاب عبر المرج مسرعاً نحوهما، وعيناه تلمعان بالأمل غير مصدق ما يراه أمامه. "صوفي؟" أومأت صوفي وهي تبكي ووقفت. لم تكن تعرف وجه الشاب أمامها، لكن عندما تعانقا، شعرت بقوة الدم تجري حارة في عروقها... هذا الدم الذي عرفت الآن أنه يربطهما معاً. عندما مشى لانغدون على العشب لينضم إليهم، لم تستطع صوفي أن تصدق أنها بالأمس فقط، كانت تشعر بأنها وحيدة في هذا العالم. والآن بعيداً عن الوطن، وبرفقة ثلاثة أشخاص تعرفت إليهم حديثاً، شعرت بأنها أخيراً أصبحت في وطنها. الفصل الخامس بعد المائة كان الليل قد حل على روسلين. وقف لانغدون وحيداً في شرفة المنزل الحجري مستمتعاً بأصوات الضحك واجتماع الشمل وهي تنطلق من الباب خلفه. كان فنجان القهوة البرازيلية القوية قد منحه شعوراً مؤقتاً بالراحة من إرهاقه المتزايد، غير أنه شعر بأن هذه الراحة كانت ستزول سريعاً، فالتعب كان يوهن جسمه. "لقد خرجت دون أن نشعر بك"، قال له الصوت الذي جاء من خلفه. فالتفت وكانت هناك جدة صوفي وشعرها الفضي يلمع في الظلام. كان اسمها، على الأقل في السنوات الثماني والعشرين الأخيرة، ماري شوفيل. ابتسم لها لانغدون والتعب بادٍ عليه. "أحببت أن أترككم لبعض الوقت لتتحدثوا مع بعضكم حديثاً عائلياً". رأى صوفي من خلال النافذة وهي تتحدث مع شقيقها. جاءت ماري ووقفت بجانبه. "سيد لانغدون. عندما أتاني نبأ مقتل جاك، كان جلّ ما خشيته هو سلامة صوفي. ورؤيتها واقفة ببابي هذه الليلة كانت أعظم راحة أحسست بها في حياتي. لذا فأنا ممتنة لك ولا أعرف كيف يمكنني أن أشكرك". لم يعرف لانغدون كيف يرد عليها. فمع أنه حاول أن يمنح صوفي وجدتها بعض الوقت للحديث على انفراد، فقد أتت ماري لتطلب منه أن يبقى معهم ويستمع إلى حديثهم. من الواضح أن زوجي قد وثق بك، سيد لانغدون، ولهذا فأنا أثق بك أيضاً. وهكذا فقد بقي لانغدون هناك واقفاً بجانب صوفي ينصت بذهول إلى ماري وهي تروي قصة أبوي صوفي. والغريب في الأمر أن الاثنين كانا من عائلتين ميروفينجيتين، اللتين تتحدران مباشرة من سلالة مريم المجدلية ويسوع المسيح. وكان أبوا صوفي وأجدادهما قد غيرا اسم عائلتيهما من بلانتار وسانت كلير إلى أسمين آخرين وذلك خوفاً على حياتهم. وكان أولادهم يمثلون السلالة الملكية التي تعود مباشرة للمسيح والمجدلية لذا فقد كان تؤمن لهم حماية فائقة من قبل الأخوية. وعندما مات أبوا صوفي في حادث سيارة سببه غير معروف، خشيت الأخوية أن تكون هوية السلالة الملكية قد كشفت. "أنا وجدك"، أخذت ماري تشرح لصوفي بصوت يملؤه الألم، "اضطررنا لاتخاذ قرار خطير في اللحظة التي تلقينا فيها المكالمة. كان قد عثر للتو على سيارة أبويك في النهر". ومسحت الدموع من عينيها. "كان من المفترض أن نسافر في تلك الليلة نحن الستة في السيارة، وبما فيهم أنتما الاثنان. ولحسن الحظ، فقد غيرنا خططنا في آخر لحظة، وسافر أبواكما لوحدهما. وعندما سمعنا بالحادث، لم تكن ثمة طريقة تمكننا من معرفة حيثيات الحادث... إذا كان ذلك بالفعل حادثاً غير متعمد"، نظرت ماري إلى صوفي. "لكن الذي كنا متأكدين منه، هو أنه علينا أن نحمي حفيدينا. وقد توصلنا إلى أفضل حل متوفر لمعالجة المشكلة. فخبّر جاك الشرطة أن أخاك وأنا كنا أيضاً في السيارة... وقد جرف التيار جثتينا على ما يبدو في النهر لذا لم يتم العثور علينا. ثم اختفينا أنا وأخوك في مقرات الأخوية بعيداً عن الأنظار. لكن جاك لم يكن باستطاعته الاختفاء معنا بما أنه كان شخصية بارزة. وكان الحل المنطقي هو أن تبقى صوفي في باريس، حيث أنها كانت الأكبر، ليربيها ويعلمها جاك بالقرب من قلب وحماية الأخوية". خفت صوت ماري وأصبح همساً. "كان تفريق العائلة بهذا الشكل هو أصعب شيء اضطررنا لفعله على الإطلاق. وكنا أنا وجاك نادراً ما نلتقي وذلك على فترات متباعدة جداً وفي ترتيبات سرية جداً... تحت حماية الأخوية. حيث كانت هناك طقوس معينة كانت الأخوية تخلص لها وتثابر عليها". شعر لانغدون بأن القصة كانت أعمق من ذلك بكثير، لكنه شعر أيضاً أن ذلك كان شيئاً خاصاً لم يكن عليه أن يسمعه. لذا فقد خرج إلى الشرفة. أخذ لانغدون يحدق بأبراج روسلين الآن ولم يستطع أن يمنع نفسه من التفكير بلغز هذه الكنيسة الغامض الذي لم يحل بعد. هل الغريل فعلاً هنا في روسلين؟ وإذا كان الأمر كذلك، أين هما السيف والقدح اللذان أتى سونيير على ذكرهما في قصيدته؟ "هات هذا عنك"، قالت ماري مشيرة إلى يد لانغدون. "شكراً لك" وأعطاها فنجان القهوة الفارغ. فحدقت فيه. "لقد كنت أشير إلى اليد الأخرى، سيد لانغدون". نظر لانغدون إلى يده فانتبه إلى أنه كان يحمل بيده بردي سونيير. فقد أخذه من الكريبتكس مرة أخرى على أمل أن يرى فيه شيئاً قد فاته في السابق. "بالطبع، أنا آسف". ارتسمت ابتسامة على وجه ماري وهي تأخذ المخطوط. "أعرف رجلاً في بنك في باريس قد يكون متلهفاً لعودة هذا الصندوق إليه بأي شكل. وهو أندريه فيرنيه الذي كان صديقاً عزيزاً لجاك وكان يثق فيه كثيراً. وكان آندريه على استعداد لأن يفعل أي شيء ليحقق رغبة جاك في الاعتناء بهذا الصندوق". بما في ذلك قتلي، تذكر لانغدون، وقد قرر ألا يقول لها إنه ربما يكون قد كسر أنف الرجل. وعندها فكر لانغدون بباريس، تذكر أعضاء الأخوية الثلاثة الكبار الذين قتلوا الليلة الماضية. "والأخوية؟ ما الذي سيحل بها الآن؟" "لقد بدأت العجلات بالدوران هناك، سيد لانغدون. لقد تحملت الأخوية الكثير على مرّ القرون الماضية، وستتمكن من التغلب على هذه الكارثة أيضاً. فهناك دائماً أولئك الذين ينتظرون الانتقال إلى الأعلى لإعادة البناء". كان لانغدون يفكر طوال المساء بجدة صوفي التي لا بد وأنها تطلع عن قرب على عمليات الأخوية ولها يد فيها أيضاً. وهذا ليس بغريب، فلطالما كان هناك أعضاء من الإناث في الأخوية. علاوة على أن تاريخ الأخوية يذكر أربع نساء ترأسن الأخوية. فيما يكون المساعدون الثلاثة الكبار عادة رجالاً حيث إنهم ’الحراس‘. إلا أنهن يتمتعن بدرجات شرف أعلى من تلك بكثير في الأخوية ويمكنهن أن يحتللن أعلى المناصب مترفعين من أية درجة كانت. تذكر لانغدون لاي تيبينغ وكنيسة وستمنستر. بدت له أحداث تلك الليلة وكأنها قد جرت منذ زمن طويل. "هل كانت الكنيسة تمارس ضغوطات على زوجك كيلا ينشر وثائق السلالة الملكية في نهاية الأيام؟" "بالطبع لا. فما نهاية الأيام إلا أسطورة اختلقتها عقول مريضة. فليس هناك أي شيء في مذهب الأخوية يعرف على أنه تاريخ محدد يتم فيه الكشف عن الغريل. بل الحقيقة هي أن الأخوية قد أكدت دوماً على أن الغريل يجب ألا تكشف أبداً". "أبداً؟" ذهل لانغدون. "إن الغموض والسرّية التي تلف الغريل هي التي تغني أرواحنا، لا الغريل بذاتها. وجمال الغريل يكمن في طبيعتها السحرية". أخذت ماري شوفيل تتأمل روسلين الآن. "إن الغريل بالنسبة للبعض هي قدح سيمنحهم الحياة الأبدية. وللبعض الآخر، هي بحث عن عن وثائق ضائعة وتاريخ سري. أما بالنسبة لمعظم الناس، فهي باعتقادي مجرد فكرة عظيمة... وكنز رائع لا يمكن الوصول إليه والذي يمكنه بطريقة ما أن يبث فينا الحياة حتى في هذا العالم الذي تملأه الفوضى. "لكن إذا ظلت وثائق السلالة الملكية طي الكتمان فستضيع قصة مريم المجدلية إلى الأبد". قال لانغدون. "أتظن أنها ستضيع حقاً؟ انظر حولك. إن قصتها تروى في الفن والموسيقى والكتب. ويزداد ذكرها كل يوم أكثر من قبل. إن الوقت يمر. فقد بدأنا نشعر بأخطار تاريخنا... والدروب التي تقودنا إلى الدمار. وقد بدأنا نستشعر الحاجة لاستعادة الأنثى المقدسة في حياتنا". صمتت لحظة. "لقد قلت إنك في صدد تأليف كتاب عن رموز الأنثى المقدسة، أليس كذلك؟" "هذا صحيح". فابتسمت له. "إنه كتابك، سيد لانغدون. ترنم بأغنيتها فالعالم بحاجة لتروبادوريين معاصرين". لم يستطع لانغدون أن يتكلم، فلاذ بالصمت وهو يشعر بثقل المسؤولية التي ألقتها على كاهله. عبر السماء الصافية، كان هناك قمر جديد يصعد إلى السماء متسلقاً الأشجار الباسقة. وعندما التفت لانغدون نحو روسلين، شعر بلهفة طفولية وفضول لمعرفة أسرارها. لا تسأل، قال لنفسه. فليس هذا بالوقت المناسب. ونظر إلى البردي في يد ماري، ثم إلى روسلين ثانية. "اسأل، سيد لانغدون"، قالت ماري مبتسمة. "فقد استأهلت هذا الحق". شعر لانغدون بوجهه يحمر خجلاً. "تريد أن تعرف إذا ما كانت الغريل موجودة هنا في روسلين". "هل يمكنك أن تخبريني؟" فتنهدت بسخط مصطنع. "لماذا لا يستطيع الرجال ببساطة أن يتركوا الغريل وشأنها لترتاح؟" وضحكت، وهي تلهو معه على ما يبدو. "لماذا تعتقد أنها هنا؟" فأشار لانغدون إلى البردي الذي تمسكه بيدها. "لأن قصيدة زوجك تشير إلى روسلين بكل صراحة، إلا أنها تذكر أيضاً سيفاً وقدحاً يقومان بحراسة الغريل، ولم أرَ أية رموز للسيف والقدح هنا". "السيف والقدح؟" سألته ماري. "كيف يبدوان بالضبط؟" أحس لانغدون أنها كانت تتسلى بمماطلته، لكنه جاراها على أية حال ووصف لها الرمزين بسرعة. بدت ماري وكأنها تذكرت هذين الرمزين. "نعم، بالطبع. السيف يمثل كل ما هو مذكر. أظن أنه يرسم بهذا الشكل، أليس كذلك؟" وحددت شكلاً بسبابتها على راحة يدها. "نعم"، قال لانغدون. فقد رسمت ماري الشكل الأقل شيوعاً للسيف، الذي يدعى "المغلق"، غير أن لانغدون كان قد رأى الرمز يرسم بالطريقتين. "وإذا رسمنا الشكل بالمقلوب"، قالت ماري، ورسمته على كفها ثانية، "يكون لدينا رمز القدح، الذي يمثل المؤنث". "هذا صحيح"، قال لانغدون. "وأنت تقول إنه من بين مئات الرموز الموجودة لدينا هنا في كنيسة روسلين، لا يظهر هذان الرمزان في أي مكان فيها؟" "لم أستطع أن أجدهما". "وإذا أريتهما لك، هل ستنام قرير العين الليلة؟" وقبل أن يتمكن لانغدون من الرد على سؤالها، خرجت ماري شوفيل من مدخل بيتها واتجهت نحو الكنيسة. فتبعها لانغدون بسرعة. وعندما دخلت ماري إلى البناء العتيق، أشعلت الأضواء وأشارت إلى مركز أرضية الحرم. "تفضل، سيد لانغدون. ها هما السيف والقدح". حدق لانغدون في الأرضية الحجرية المتآكلة. كانت خالية. "لا شيء هنا..." تنهدت ماري وبدأت تخطو على طول الممشى المشهور المتفتت في أرضية الكنيسة، وهو نفس الممر الذي رأى الزوار يسيرون عليه عندما كان هنا هذا المساء. وحتى بعد أن ركز ليرى الرمز العملاق، كان لا يزال يشعر أن هناك شيئاً قد فاته. "لكن هذه نجمة داو ــ" وقف لانغدون فجأة، وقد أسكتته الدهشة لما رآه أمامه. السيف والقدح. وقد اندمجا ببعضهما. نجمة داود... الاتحاد الكامل بين الذكر والأنثى... ختم سليمان الذي مهر به قدس الأقداس حيث يعتقد أن الإله يهوا والآلهة سكينة كانا يسكنانه كان لانغدون بحاجة لدقيقة واحدة كي يتمكن من إيجاد الكلمات التي سيقولها. "إن القصيدة تشير فعلاً إلى روسلين. تماماً. بالضبط." ابتسمت ماري. "يبدو ذلك". اقشعر جسمه مما لمحّت به لتوها. "الكأس المقدسة إذن ترقد تحتنا في الحجرة السرّية؟" ضحكت ماري. "بروحها فقط. فقد كانت إحدى أقدم واجبات الأخوية أن تقوم يوماً ما بإعادة الغريل إلى موطنها الأصلي في فرنسا حيث ترقد في مثواها الأخير إلى الأبد. فقد تم جرّها لقرون طويلة عبر الأرياف لحمايتها. وكان ذلك الذل بعينه. وعندما أصبح جاك المعلم الأكبر، كانت مهمته هي أن يرد للغريل شرفها وكرامتها وذلك بأن يعيدها إلى فرنسا ويبني لها مرقداً أخيراً يليق بملكة". "وهل نجح في ذلك؟" والآن اكتست ملامح وجهها بالجدية. "سيد لانغدون، نظراً لما فعلته من أجلي الليلة، وبصفتي مسؤولة عن كنيسة روسلين، يمكنني أن أؤكد لك أن الغريل لم تعد هنا". قرر لانغدون عندئذ أن يلح عليها. "لكن ألا يفترض بالحجر المفتاح أن يشير إلى المكان الذي ترقد فيه الكأس المقدسة اليوم؟ لماذا أشار إلى روسلين؟" "من الممكن أن تكون قد أخطأت في فهم معناها. وتذكر، إن الغريل يمكنها أن تخدعك وكذلك زوجي". "لكن كيف يمكن للقصيدة أن تكون أكثر وضوحاً؟" سألها لانغدون. "فنحن نقف فوق حجرة سرية عليها علامة السيف والقدح تحت سقف من النجوم محاط بفن الماسونيين الكبار. إن كل حرف في القصيدة يشير إلى روسلين". "حسن جداً، دعني ألقي نظرة على هذه القصيدة الغامضة". فردت مخطوط البردي وقرأت القصيدة بصوت عال ونبرة متأنية. الكأس المقدسة تحت روسلين القديمة تنتظر السيف والقدح يحرسان بواباتها ترقد هناك مزينة بفن المعلمين بكل عناية ترتاح أخيراً تحت السماء ذات النجوم وعندما انتهت من القراءة، ظلت صامتة لعدة ثوانٍ، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة ذات معنى. "آه منك، جاك". راقبها لانغدون بلهفة. "هل فهمت شيئاً من تلك الكلمات؟" "كما كان الأمر في الرمز الموجود على أرضية الكنيسة، سيد لانغدون، فهناك طرق عديدة لرؤية الأشياء البسيطة". حاول لانغدون جاهداً أن يفهم. المشكلة هي أن كل شيء له علاقة بجاك سونيير يبدو أنه يحمل معنى خفياً غير الذي تقوله كلماته، لكن مع ذلك لم يستطع لانغدون أن يرى أي شيء وراء كلماته هذه المرة. تثاءبت ماري بتعب. "سيد لانغدون، سأعترف لك بأمر، لم أكن يوماً على علم بمكان الغريل الحالي بشكل رسمي. لكنني، بالطبع، متزوجة برجل ذي نفوذ هائل... كما أنني أتمتع بحدس أنثوي قوي". أراد لانغدون أن يتكلم، لكنها تابعت كلامها. "أنا آسفة لأنك بعد كل المجهود الذي قمت به ستغادر روسلين دون الحصول على إجابات حقيقية لأسئلتك. لكن مع ذلك، فأنا أشعر بأنك ستجد ما تبحث عنه. يوماً ما ستتضح الحقيقة أمام عينيك". وابتسمت. "وعندما يحدث ذلك، أنا واثقة بأنك أنت، دون كل الناس، يمكنك أن تحتفظ بالسر". كان هناك صوت أناس قادمين عند المدخل. "أين اختفيتما؟" قالت صوفي، ودخلت إلى الكنيسة. "لقد كنت على وشك الانصراف"، ردت جدتها وذهبت إلى الباب حيث كانت صوفي. "تصبحين على خير أميرتي"، وقبلت جبين صوفي. "لا تدعي السيد لانغدون يسهر لوقت متأخر". راقب لانغدون وصوفي الجدة وهي تعود إلى المنزل الحجري. وعندما التفتت صوفي نحو لانغدون، كانت تملأ عينيها عاطفة غامرة. "ليست هذه هي النهاية التي كنت أتوقعها". هذا ما أظنه أيضاً. فكر لانغدون وقد رأى أنها متأثرة جداً بسبب ما حدث الليلة. فالأخبار التي تلقتها في ليلة واحدة غيرت كل شيء في حياتها الآن. "هل أنت على ما يرام؟ فهذا كله يصعب استيعابه في يوم واحد". فابتسمت باطمئنان. "لدي عائلة الآن. هذا ما سوف أركز عليه الآن. فمن نحن ومن أين أتينا سيأخذ مني بعض الوقت". ظل لانغدون صامتاً. "هلا بقيت معنا بعد هذه الليلة؟"سألته صوفي. "على الأقل لبضعة أيام؟" تنهد لانغدون فقد كان البقاء هنا هو جل ما يتمناه. "أنت بحاجة لقضاء بعض الوقت هنا مع عائلتك، صوفي. وأنا سأعود إلى باريس غداً صباحاً". بدت خيبة الأمل عليها، إلا أنها كانت تعرف أنه كان عليه أن يعود. لم ينطق أي منهما بكلمة لوقت طويل. وأخيراً مدت صوفي يدها وأمسكت بيده وقادته إلى خارج الكنيسة. وسارا جنباً إلى جنب نحو تلة صغيرة على المنحدر، والريف الاسكوتلندي امتد أمامهما يغمره ضوء القمر الذي تسلل إليه من بين الغيوم. وقفا هناك بصمت بأيد متشابكة وكلاهما يقاومان الإرهاق الشديد الذي بدأ يظهر عليهما. بدأت النجوم تظهر الآن في سماء روسلين، لكن كانت هناك نجمة وحيدة إلى الشرق تلمع أكثر من أية نجمة أخرى. ابتسم لانغدون عندما رآها. كانت تلك النقطة المضيئة... فينوس. الآلهة القديمة تنير السماء بضوء مستمر ورفيق. كان البرد يشتد حيث أخذت النسمات الباردة تهب آتية من السهول والوديان المجاورة. وبعد عدة لحظات، نظر لانغدون إلى صوفي. كانت عيناها مغمضتين، وقد ارتسمت على شفتيها المسترخيتين ابتسامة هادئة. فشعر لانغدون أنه هو الآخر يكاد يغمض عيينيه من فرط التعب. فشد على يدها متردداً. "صوفي؟" فتحت صوفي عينيها ببطء والتفتت نحوه. كان وجهها يبدو غاية في الجمال تحت نور القمر. فابتسمت في وجهه وقد أضناها النعاس. "نعم". سيطر على لانغدون حزن مفاجئ عندما تذكر أنه سيعود إلى باريس بدونها. "ربما أكون قد رحلت عندما تستيقظين صباحاً". توقف عن الكلام للحظة وقد شعر بغصة في حلقه. "أنا آسف فأنا لا أحب -" مدت صوفي يدها الناعمة ووضعتها على طرف وجهه، ثم اقتربت منه وقبلت خده بحنان. "متى سأراك ثانية؟" اضطرب لانغدون وقد تاه في عينيها الساحرتين. "متى؟" وصمت لحظة. متسائلاً في نفسه إذا ما كانت صوفي تعرف كم مرة سأل نفسه هذا السؤال. "في الواقع، سألقي محاضرة في مؤتمر في فلورنسا الشهر القادم. سأمكث هناك لمدة أسبوع ولن أكون مشغولاً". "هل يمكنني أن اعتبر هذه دعوة؟" "سنعيش في ترف لمدة أسبوع كامل فقد حجزوا لي غرفة في فندق برونيليشي". ضحكت صوفي بتهكم. "أنت تفترض الكثير من الأمور، سيد لانغدون". فشعر بالخجل لأنها أساءت فهمه. "لقد كان قصدي -" "ليس هناك ما هو أحب إلي من أن ألقاك في فلورنسا، روبرت. لكن على شرط"، قالت بنبرة جدية. "لا متاحف ولا كنائس ولا أضرحة ولا فن ولا آثار". "في فلورنسا؟ لأسبوع كامل؟ ليس هناك أي شيء آخر نفعله". اقتربت صوفي منه وقبلته ثانية، لكن هذه المرة على شفتيه. عندئذ اقتربا من بعضهما أكثر وتعانقا. وعندما ابتعدت عنه، كانت عيناها تلمعان بأمل جديد. "حسناً"، قال لانغدون بصعوبة. "موعدنا هناك". الخاتمة استيقظ روبرت لانغدون مجفلاً. فقد كان يحلم. كان برنس الحمام المعلق بالقرب من سريره يحمل شعار فندق ريتز باريس. رأى ضوءاً خافتاً ينفذ من خلال الستائر السميكة. هل هذا شروق أم غروب؟ تساءل في نفسه. كان جسمه دافئاً ومرتاحاً تماماً. فقد كان أمضى معظم ساعات اليومين الفائتين نائماً بعمق. جلس في سريره بكسل، وتذكر الآن لماذا استيقظ فجأة... فكرة أغرب من الخيال. ففي الأيام الأخيرة حاول أن يرتب أفكاره وينظم كماً كبيراً من المعلومات في ذهنه، إلا أنه وجد نفسه الآن منتبهاً إلى شيء لم يأخذه بعين الاعتبار في السابق. هل يعقل هذا؟ ظل بلا حراك لدقائق طويلة. ثم خرج من سريره ومشى نحو الدش الرخامي. وعندما وقف تحت الدش، فتح مرشة الاغتسال وترك الماء المتدفق بقوة يدلك كتفيه. لكن لا زالت الفكرة تستحوذ على تفكيره. مستحيل... وبعد عشرين دقيقة، غادر فندق ريتز متجهاً نحو ساحة فاندوم. كان الظلام قد حل على المدينة. لقد أفقدته الأيام التي أمضاها في النوم الإحساس بالزمان والمكان... ومع ذلك فقد كان ذهنه صافٍياً بشكل غريب. كان قد وعد نفسه أن يتوقف في بهو الفندق لاحتساء فنجان قهوة بالحليب يساعده على تصفية ذهنه، إلا أنه عوضاً عن ذلك حملته رجلاه مباشرة خارج الباب الأمامي للفندق نحو ليل باريس الصاخب. راح لانغدون يمشي شرقاً في شارع بوتي شان، وهو يشعر بحماس ملتهب، ثم انعطف جنوباً نحو شارع ريشيليو حيث كان الجو يعبق بعبير الياسمين المزهر الآتي من حدائق القصر الملكي الرائعة. تابع لانغدون طريقه جنوباً حتى رأى ما كان يبحث عنه. القنطرة الملكية وهي امتداد من الرخام الأسود المصقول اللامع. فمشى إليها، وعندما أصبح هناك، تفحص البقعة التي كانت تحت قدميه، فوجد الشيء الذي كان يعرف أنه هناك-عدة ميداليات برونزية منزّلة في الأرضية وتحمل الحرفين ’ش‘ و ’ج‘. شمال. جنوب. فاستدار مباشرة إلى جهة الجنوب وتتبعت عيناه أثر الخط المستقيم الذي تشكله الميداليات. وبدأ يتقدم من جديد وهو يتبع الخط مراقباً الرصيف وهو يمشي وعندما تجاوز زاوية الكوميدي فرانسيز، مرت تحت قدميه ميدالية برونزية أخرى. رائع! إن شوارع باريس، كما علم لانغدون منذ بضع سنوات، تزينها 135 من هذه العلامات البرونزية، منزّلة في الأرصفة والساحات والشوارع وهي متوضعة على محور شمال جنوب عبر المدينة. وكان قد تتبع مرة الخط من ساكريه كور نحو الشمال عبر السين ثم وصل أخيراً إلى مرصد باريس الأثري. وهناك اكتشف أهمية الدرب المقدس الذي يرسمه ذلك الخط. خط الطول الأصلي الأول في الأرض. أول نقطة صفر انطلقت منها خطوط الطول. خط باريس الوردي القديم والآن، وهو يسرع عبر شارع ريفولي، كان يشعر بدنوه القريب من هدفه. أقل من وحدة سكنية واحدة. الكأس المقدسة تحت روزلين، الخط الوردي، القديمة تنتظر! كانت الحقائق تتكشف له الآن بشكل متتال. اللفظ القديم الذي استخدمه سونيير لكلمة روزلين... السيف والقدح... الضريح المزخرف على يد الفنانين المعلمين. ترى هل هذا هو السبب الذي جعل سونيير بحاجة للتحدث معي؟ هل خمنت الحقيقة دون قصد مني؟ أخذ لانغدون يهرول وهو يشعر بالخط الوردي تحت قدميه يسدد خطاه ويشده نحو وجهته النهائية. ولدى دخوله نفق ريشيليو الطويل، سرت في جسمه قشعريرة وهو يفكر في اللحظة المرتقبة عندما يصل إلى ضالته. كان يعرف ما الذي ينتظره في نهاية هذا النفق، أكثر معالم باريس غموضاً، والذي فكر به ونفذه عام 1980 أبو الهول بنفسه - فرانسوا ميتيران- الرجل الذي أشيع أنه كان عضواً في جمعيات سرية والذي كان إرثه الحضاري الأخير لباريس مكاناً زاره لانغدون قبل أيام قليلة. شعر لانغدون كما لو أن ذلك كان منذ زمن بعيد وفي حياة أخرى... وبآخر دفعة قوة كانت لديه، انطلق لانغدون من النفق إلى الساحة المألوفة ثم توقف فجأة وكاد نفسه ينقطع، رفع عينيه ببطء وذهول إلى البناء البراق الذي كان أمامه. كان ذلك هرم اللوفر... يضيء عتمة الليل. تأمل لانغدون الهرم لبضع دقائق فقط، حيث إنه كان مهتماً أكثر بما كان على يمينه. فانعطف إلى اليمين وقد شعر من جديد بقدميه تتبعان الدرب غير المرئي للخط الوردي القديم، وتحملانه عبر الساحة إلى كاروسيل دو لوفر وهي دائرة المرج الأخضر الكبيرة التي يحيط بها سياج من الشجيرات المشذبة بعناية، والتي كانت منذ عصور خلت موقعاً باريسياً للاحتفالات المكرسة لعبادة الطبيعة... والتي كانت طقوساً فرحة تمجد الخصب والآلهة الأنثى. شعر لانغدون وكأنه كان يعبر إلى عالم آخر وهو يدخل من بين الأشجار إلى المرج الأخضر. حيث إن المنطقة التي كانت خالية في يوم من الأيام، أصبحت تحتضن اليوم واحداً من أغرب المعالم في باريس، وقد غاص إلى الأسفل وكأنه صدع كريستالي قد شق الأرض. هناك في وسط المرج، ظهر الهرم الزجاجي المقلوب العملاق الذي كان قد رآه قبل بضع ليال عندما كان داخلاً إلى الطابق المنخفض الذي يقع تحت الأرض في اللوفر. مشى لانغدون إلى الحافة وألقى نظرة إلى الأسفل حيث ظهرت قاعات اللوفر الواقعة تحت الأرض، التي تنيرها الأضواء المائلة إلى الصفرة. لكن لم يكن معنياً بالهرم المقلوب الضخم فحسب، بل كان اهتمامه منصباً على ما كان يرقد تحته مباشرة. هناك، على أرضية القاعة التي تقع في الأسفل تماماً، انتصب مجسم بالغ الصغر... بناء صغير كان لانغدون قد ذكره في كتابه. شعر لانغدون الآن بأنه قد تنبه فجأة إلى الحقيقة التي لم تكن لتخطر على باله أبداً. ونظر نحو الأعلى إلى اللوفر ثانية، فأحس أن أجنحة المتحف الضخمة تطوقه... بقاعاتها التي تزينها أرقى الأعمال الفنية في العالم. دافنشي... بوتيشلّي... ترقد هناك مزينة بفن المعلمين بكل عناية نظر لانغدون ثانية نحو الأسفل من خلال الزجاج، وتأمل المجسم الصغير. يجب أن أنزل إلى هناك! خرج لانغدون من الدائرة وأسرع عائداً عبر الفناء إلى مدخل اللوفر. كان زوار آخر النهار يغادرون المتحف على عجل. اندفع لانغدون داخلاً عبر الباب الدوار ثم نزل السلالم اللولبية متجهاً نحو الهرم. وشعر وهو ينزل بأن الهواء أصبح بارداً. وعندما وصل إلى الأسفل، دخل إلى النفق الطويل الذي كان يمتد تحت فناء اللوفر حتى يصل إلى الهرم المقلوب. وعند نهاية النفق، وصل إلى غرفة أكبر. وكان أمامه مباشرة الهرم الزجاجي المقلوب متدلياً من الأعلى إلى الأسفل بشكل حرف V يضيء المكان بروعته التي تسلب الألباب. القدح! تابعت عينا لانغدون شكله الذي يضيق نحو الأسفل حتى يستدق تماماً في نهايته وكان معلقاً بحيث ترتفع نهايته ستة أقدام فقط عن أرض الغرفة. وهناك تحت نهاية الهرم مباشرة، انتصب المجسم الصغير. كان ذلك المجسم هرماً مصغراً بطول ثلاثة أقدام فقط. وهو التركيب الوحيد في هذا المجمع الضخم الذي تم بناؤه بمقياس صغير. كان كتاب لانغدون في أثناء الحديث عن المجموعة الواسعة من الأعمال الفنية التي تتضمن إشارة عن الآلهة الأنثى، قد ذكر ملاحظة عابرة عن هذا الهرم المتواضع. "وكان المجسم المصغر يبرز نحو الأعلى من الأرضية وكأنه قمة جبل جليدي أو رأس غرفة هرمية مخفية تحت الأرض". أضاءت الأنوار الخافتة لهذا الطابق المهجور الهرمين اللذين كانا يواجهان بعضهما تماماً وقد توضعا على محور شاقولي واحد، ويكاد رأساهما يتلامسان. في الأعلى والسيف في الأسفل. السيف والقدح يحرسان بواباتها تذكر لانغدون كلمات ماري شوفيل. يوماً ما سيتضح كل شيء في عقلك. كان لانغدون واقفاً تحت الخط الوردي القديم، محاطاً بأعمال المعلمين. كان سونيير محقاً في اختيار هذا المكان فهو المخبأ الأمثل الذي يستطيع أن يراقبه عن كثب طوال الوقت! والآن أخيراً شعر لانغدون بأنه فهم المعنى الصحيح لقصيدة المعلم الأكبر. فنظر إلى السماء عبر الزجاج وتأمل هذه الليلة الرائعة التي تزينها النجوم. ترتاح أخيراً تحت السماء ذات النجوم ترددت أصداء كلمات منسية، كهمهمات أرواح وأشباح في عتمة الليل... إن البحث عن الكأس المقدسة هو بحث هدفه الانحناء أمام رفات مريم المجدلية. هو رحلة للصلاة عند قدمي المنفية.. وقد أثار ذلك شعوراً مفاجئاً بالاحترام والتبجيل لذكراها... فخر لانغدون راكعاً على ركبتيه. شعر لانغدون للحظة أنه سمع صوت امرأة... ينطق بحكمة العصور يهمس له من أعماق الأرض... Notes [←1] العمبق: بحر عريض مؤلف من مقطع قصير يتبعه مقطع طويل. Table of Contents شيفرة دافنشي الإهداء شكر حقائق مقدمة الفصل الأول الفصل الثاني الفصل الثالث الفصل الرابع الفصل الخامس الفصل السادس الفصل السابع الفصل الثامن الفصل التاسع الفصل العاشر الفصل الحادي عشر الفصل الثاني عشر الفصل الثالث عشر الفصل الرابع عشر الفصل الخامس عشر الفصل السادس عشر الفصل السابع عشر الفصل الثامن عشر الفصل التاسع عشر الفصل العشرون الفصل الواحد والعشرون الفصل الثاني والعشرون الفصل الثالث والعشرون الفصل الرابع والعشرون الفصل الخامس والعشرون الفصل السادس والعشرون الفصل السابع والعشرون الفصل الثامن والعشرون الفصل التاسع والعشرون الفصل الثلاثون الفصل الواحد والثلاثون الفصل الثاني والثلاثون الفصل الثالث والثلاثون الفصل الرابع والثلاثون الفصل الخامس والثلاثون الفصل السادس والثلاثون الفصل السابع والثلاثون الفصل الثامن والثلاثون الفصل التاسع والثلاثون الفصل الأربعون الفصل الواحد والأربعون الفصل الثاني والأربعون الفصل الثالث والأربعون الفصل الرابع والأربعون الفصل الخامس والأربعون الفصل السادس والأربعون الفصل السابع والأربعون الفصل الثامن والأربعون الفصل التاسع والأربعون الفصل الخمسون الفصل الواحد والخمسون الفصل الثاني والخمسون الفصل الثالث والخمسون الفصل الرابع والخمسون الفصل الخامس والخمسون الفصل السادس والخمسون الفصل السابع والخمسون الفصل الثامن والخمسون الفصل التاسع والخمسون الفصل الستون الفصل الواحد والستون الفصل الثاني والستون الفصل الثالث والستون الفصل الرابع والستون الفصل الخامس والستون الفصل السادس والستون الفصل السابع والستون الفصل الثامن والستون الفصل التاسع والستون الفصل السبعون الفصل الواحد والسبعون الفصل الثاني والسبعون الفصل الثالث والسبعون الفصل الرابع والسبعون الفصل الخامس والسبعون الفصل السادس والسبعون الفصل السابع والسبعون الفصل الثامن والسبعون الفصل التاسع والسبعون الفصل الثمانون الفصل الواحد والثمانون الفصل الثاني والثمانون الفصل الثالث والثمانون الفصل الرابع والثمانون الفصل الخامس والثمانون الفصل السادس والثمانون الفصل السابع والثمانون الفصل الثامن والثمانون الفصل التاسع والثمانون الفصل التسعون الفصل الواحد والتسعون الفصل الثاني والتسعون الفصل الثالث والتسعون الفصل الرابع والتسعون الفصل الخامس والتسعون الفصل السادس والتسعون الفصل السابع والتسعون الفصل الثامن والتسعون الفصل التاسع والتسعون الفصل المائة الفصل الأول بعد المائة الفصل الثاني بعد المائة الفصل الثالث بعد المائة الفصل الرابع بعد المائة الفصل الخامس بعد المائة الخاتمة ملاحظات