Table of Contents
عنوان الكتاب
صفحة الحقوق
آيبيلين
الفصل الأولآب/أغسطس 1962
الفصل الثاني
ميني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الآنسة سكيتر
الفصل الخامس
الفصل السادس
آيبيلين
الفصل السابع
الآنسة سكيتر
الفصل الثامن
الفصل التاسع
ميني
الفصل العاشر
الآنسة سكيتر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
آيبيلين
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
مينـي
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الآنسة سكيتر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
آيبيلين
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
ميني
الفصل الرابع والعشرون
الحفلة الخيرية
الفصل الخامس والعشرون
ميني
الفصل السادس والعشرون
الآنسة سكيتر
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
آيبيلين
الفصل التاسع والعشرون
ميني
الفصل الثلاثون
آيبيلين
الفصل الحادي والثلاثون
ميني
الفصل الثاني والثلاثون
الآنسة سكيتر
الفصل الثالث والثلاثون
آيبيلين
الفصل الرابع والثلاثون
قليل من الوفاء ولو بعد حينكاترين ستوكيت، بكلماتها

تأليف
كاثرين ستوكيتKathryn Stockett
ترجمة
حسان البستاني
مراجعة وتحرير
مركز التعريب والبرمجة


يتضمن هذا الكتاب ترجمة الأصل الإنكليزيThe Help
حقوق الترجمة العربية مرخّص بها قانونياً من الناشرAmy Einhorn Books
بمقتضى الاتفاق الخطي الموقّع بينه وبين الدار العربية للعلوم ناشرون، ش.م.ل.Copyright © 2009 by Kathryn Stockett
All rights reserved
Arabic Copyright © 2010 by Arab Scientific Publishers, Inc. S.A.L
الطبعة الأولى
1431 هـ - 2010 م
ISBN: 978-614-421-486-2
جميع الحقوق محفوظة للناشر

عين التينة، شارع المفتي توفيق خالد، بناية الريم
هاتف: (+961-1) 785107 - 785108 - 786233
ص. ب: 13-5574 شوران - بيروت 1102-2050 - لبنان
فاكس: (+961-1) 786230 - البريد الإلكتروني: asp@asp.com.lb
الموقع على شبكة الإنترنت: http://www.asp.com.lb
يمنع نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب بأية وسيلة تصويرية أو الكترونية أو ميكانيكية بما فيه التسجيل الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو أقراص مقروءة أو بأية وسيلة نشر أخرى بما فيها حفظ المعلومات، واسترجاعها من دون إذن خطي من الناشر.
إن الآراء الواردة في هذا الكتاب لا تعبر بالضرورة عن رأي الدار العربية للعلوم ناشرون ش. م. ل
لتنضيد وفرز الألوان: أبجد غرافيكس، بيروت - هاتف (+9611) 785107
الطباعة: مطابع الدار العربية للعلوم، بيروت - هاتف (+9611) 786233
آيبيلين
الفصل الأولآب/أغسطس 1962
  وُلدت ماو موبلي في وقت مبكّر من صباح يوم أحد في آب/أغسطس 1960، ونحب أن ندعوها فتاة دار العبادة. إن الاعتناء بأطفال ذوي البشرة البيضاء هو ما أقوم به، بالإضافة إلى أعمال الطهو والتنظيف. لقد قمت بتربية سبعة عشر طفلاً، وأعرف كيف أجعلهم ينامون، وأوقفهم عن البكاء، وأصطحبهم إلى الحمام قبل أن تنهض أمهاتهم عن السرير في الصباح.
  لكن، لم يسبق لي أبداً أن رأيت طفلة مثل ماو موبلي ليفولت. فعندما دخلتُ المنزل في اليوم الأول، كانت غاضبة جداً، وتصرخ بسبب المغص، وتحاول التخلص من تلك الزجاجة كما لو أنها لِفتة متعفّنة، نظرت الآنسة ليفولت إلى طفلتها. "ما الذي أقوم به بشكل غير صحيح؟ لماذا لا أتمكن من إيقاف ذلك؟".
  ذلك؟ كانت الإشارة الأولى؛ هناك خَطب ما.
  فأخذتُ تلك الطفلة زهرية اللون الصارخة بين ذراعيّ، وهدهدتها، لتحريك الغازات المحتقنة في معدتها، ولم تمضِ سوى دقيقتين حتى توقّفت الطفلة عن البكاء، وابتسمت لي. ولكن الآنسة ليفولت لم تكن تحمل طفلتها طوال اليوم. لقد سبق لي أن رأيت العديد من الأمهات اللواتي يُصبن بالكآبة بعد الوَضع، وافترضتُ أنه السبب الكامن وراء تصرّفها.
  كان هناك أمر ما في شأن الآنسة ليفولت؛ هي دائمة العبوس ونحيلة، وساقاها طويلتان وهزيلتان جداً كما لو أنهما ظهرتا إلى حيّز الوجود قبل أسبوع. كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، ولكنها هزيلة كفتاة في الرابعة عشرة من عمرها، بالإضافة إلى أن شعرها غير كثيف، بنّي اللون، ويمكن الرؤية من خلاله. تحاول تمشيطه، ولكنه يبدو أقل كثافة باستمرار أما وجهها فيشبه وجه الشرير الأحمر الموجود على علبة السكاكر المتوهّجة، في حين أن ذقنها مستدق الرأس. في الواقع، كان جسدها مليئاً بالعُقَد والزوايا الحادة، ولا عجَب في عدم تمكنها من تهدئة تلك الطفلة. فالأطفال يحبون البدانة - لأنهم يقومون بدسّ وجوههم عند ثنية الإبط، ويستسلمون للنوم - السيقان الكبيرة والسمينة أيضاً؛ هذا ما اختبرته بنفسي.
  عندما بلغت عامها الأول، كانت ماو موبلي تتبعني حيثما أذهب، فتحلّ الساعة الخامسة وهي لا تزال متمسكة بحذائي من نوع دكتور شول، وتجرّ نفسها على الأرض، وتبكي كما لو أنني لن أعود أبداً. فتنظر الآنسة ليفولت إليّ بعينين واسعتين كما لو أنني ارتكبت خطأً ما، وتُبعد تلك الطفلة الباكية عن حذائي. هذا ما تواجهونه عندما تدَعون شخصاً آخر يربّي أطفالكم.
  بلغت ماو موبلي عامها الثاني، فاتضحت معالم عينيها الكبيرتين البنيّتين، وخُصل شعرها العسليّة المعقوفة. كانت هناك رقعة خالية من الشعر تقريباً في الجزء الخلفي من رأسها بسبب قيامها بالتخلص من بعض الملابس، ولديها التغضّن نفسه الموجود بين حاجبَي والدتها. إنهما متشابهتان تقريباً، ولكن ماو موبلي سمينة جداً، ولن تغدو ملكة جمال. أعتقد أن هذا الأمر يزعج الآنسة ليفولت، ولكن ماو هي طفلتي المفضَّلة.
♦  ♦  ♦
  لقد فقدتُ ابني تريلور قبل أن أبدأ بخدمة الآنسة ليفولت. كان في الرابعة والعشرين من عمره، وهي أفضل مرحلة في حياة الإنسان. ولكن لم يتسنَّ له العيش في هذا العالم لمدة كافية.
  كان يمتلك شقة صغيرة في شارع فولي، ويواعد فتاة لطيفة حقاً تدعى فرانسز. أتساءل عما إذا كانا سيتزوجان، ولكنه بطيء في اتخاذ قرارات في شأن أمور مماثلة، لا لأنه يبحث عن الأفضل، بل لأنها طريقته في التفكير. كان يضع نظارة كبيرة ويطالع باستمرار، حتى إنه شرع بوضع كتاب عن كون المرء أسود البشرة، ويُقيم ويعمل في الميسيسيبي. يا الله، لقد كان مصدر فخر لي. واصل عمله ذات ليلة في مطحنة سكانلون - تايلر حتى وقت متأخر، وهو يجرّ بجهد مجموعات من ثمانية أكياس من الدقيق إلى الشاحنة لدرجة أن قفّازَيه قد تمزّقا. كان صغيراً وهزيلاً جداً على هذا النوع من العمل، ولكنه بحاجة إليه. شعر بالتعب، وكانت تمطر، فانزلق على رصيف التحميل والتفريغ، وسقط على طريق المركبات. مرّ جرّار ومن دون أن يراه السائق، سحق رئتيه قبل أن يتمكن من التحرك، وعندما اكتشف الأمر كان قد فارق الحياة.
  في ذلك اليوم، غمرت الظلمة عالمي، وبدا الفضاء والشمس أسودَين، فاضطجعت في سريري، وحدّقت إلى الجدران السوداء في منزلي. كانت ميني تزورني كل يوم للتأكد مما إذا كنت أتنفس، وتُطعمني لإبقائي على قيد الحياة. لقد مرّت ثلاثة أشهر قبل أن أنظر إلى خارج النافذة، وأرى أن العالم لا يزال موجوداً. لقد تفاجأت أن الحياة لم تتوقف لأن حياة ابني توقفت.
  بعد خمسة أشهر من المأتم، دفعت نفسي إلى خارج السرير. فارتديت لباسي الرسمي الأبيض، وأعدت وضع الرمز الديني المذهّب الصغير حول عُنُقي، وذهبت لانتظار الآنسة ليفولت لأنها كانت قد أنجبت طفلتها للتوّ. ولكن، لم يمرّ وقت طويل حتى لاحظتُ تبدّل أمر ما داخلي؛ لقد غُرست بزرة المرارة في نفسي، ولم أعد أشعر بالرغبة في التواصل كثيراً مع الآخرين.
♦  ♦  ♦
  قالت الآنسة ليفولت: "رتّبي المنزل، وقومي بعد ذلك بإعداد طبق من سلطة الدجاج".
  إنه يوم نادي البريدج الذي يصادف كل رابع أربعاء من كل شهر، وكنت قد جهّزت كل شيء كالعادة، كويت شراشف المائدة في اليوم السابق، وأعددت سلطة الصباح. كانت الآنسة ليفولت في الثالثة والعشرين من العمر فقط، وتحب سماع نفسها تُملي عليّ ما يتوجب القيام به.
  لقد ارتدت الثوب الأزرق الذي كويته ذلك الصباح، وهو يتضمّن خمساً وستين طيّة بالغة الصِغَر عند الخصر لدرجة أنني نظرت شزَراً عبر نظارتي لكيّه. أنا لا أحمل الكثير من الضغينة في الحياة، ولكنني لست على وفاق تام مع هذا الثوب.
  "تأكدي من ألا تدخل ماو موبلي إلى هنا الآن. أنا غاضبة منها جداً لأنها مزقت أوراقي إلى خمسة آلاف قطعة، ويتعيّن عليّ إعداد خمس عشرة رسالة شكر إلى رابطة الراشدات...".
  فهيّأتُ ما طلبت مني تهيئته احتفاءً بصديقاتها السيدات، ورتّبتُ الأواني الجيدة المصنوعة من الكريستال، وأخرجتُ أواني المائدة الفضية. لا تضع الآنسة ليفولت طاولة أنيقة خاصة بلعبة الورق كما تفعل السيدات الأخريات. انكببنا على إعداد مائدة غرفة الطعام، فوضعنا فوقها غطاء لإخفاء الشق الكبير الذي يشبه حرف L، ونقلنا آنية الزهور من الوسط إلى خزانة الغرفة لإخفاء الخشب المخدوش. فعندما تُعدّ الآنسة ليفولت لحفلة غداء، تحب أن تكون الحفلة مُتقَنة، وتحاول إخفاء العيوب لأن منزلها صغير. إنها ليست ثريّة، أنا واثقة من ذلك. فالأثرياء لا يبذلون قصارى جهدهم ليُظهروا ثراءهم.
  لقد اعتدتُ العمل عند أزواج صغيري السنّ، ولكنني أعتقد أنه المنزل الأصغر حجماً الذي عملت فيه يوماً. يتألف من طابق واحد، غرفتها والسيد ليفولت كبيرة، وهي موجودة في الناحية الداخلية من المنزل، ولكن غرفة الطفلة صغيرة جداً، وغرفة الطعام وغرفة الجلوس العادية غير مفصولتين عن بعضهما. هنالك حمّامان فقط، وهما مصدر ارتياح لي، لأنني عملت في منازل تحتوي على خمسة أو ستة حمّامات، وكان يتطلّبني الأمر يوماً كاملاً لتنظيفها. ولا تدفع الآنسة ليفولت سوى خمسة وتسعين سنتاً في الساعة، أي أقل مما كنت أتقاضاه طيلة سنوات. ولكن، بعد وفاة تريلور، قبلتُ بالأجر المتوفّر لأن صاحب المُلك لم يكن لينتظر مدة أطول لتقاضي الإيجار. بالرغم من صغر حجم منزلها، تسعى الآنسة ليفولت لإظهاره بأفضل حلّة ممكنة. إنها تجيد استخدام ماكينة الخياطة، فعندما تكون عاجزة عن شراء غطاء جديد، تحصل على لوازمها الزرقاء وتخيطه بنفسها.
  قُرع جرس الباب، ففتحته.
  "مرحباً، يا آيبيلين". قالت الآنسة سكيتر التي تتبادل أطراف الحديث مع عاملات المنازل. "كيف حالك؟".
  "مرحباً، يا آنسة سكيتر. أنا بخير. الطقس حار في الخارج".
  كانت الآنسة سكيتر طويلة القامة ونحيلة، وشعرها أصفر وقصيراً حتى كتفَيها، وقد جعلته متجعّداً قبل عام تقريباً. هي الأخرى في الثالثة والعشرين من عمرها، على غرار الآنسة ليفولت والأخريات. فوضعت حقيبة يدها على الكرسي، ومرّرت يدَيها على ملابسها بتلهّف. كانت ترتدي بلوزة بيضاء بشريط ومزرَّرة، كما لو أنها ناذرة عفة، وتنتعل حذاءً منبسطاً، خُيِّل إليّ أنها تنتعله كي لا تبدو أكثر طولاً، وتظهر فتحات تنورتها الزرقاء عند الخصر. تبدو الآنسة سكيتر باستمرار كما لو أن شخصاً آخر يختار لها ملابسها.
  رأيتُ الآنسة هيلي تركن سيارتها على الطريق الخاصة بالمنزل، وترافقها والدتها، الآنسة والترز، ثم أطلقت بوق السيارة. كانت الآنسة هيلي تقيم على مقرُبة منا، ولكنها تأتي بسيارتها. فأدخلتُها، ومرّت بجانبي من دون إلقاء التحية، وتخيّلت أنه وقت ملائم لإيقاظ ماو موبلي من قيلولتها.
  عندما دخلتُ غرفة الطفلة، ابتسمت لي، ومدّت ذراعَيها السمينتين.
  "أنت مستيقظة يا طفلتي؟ لماذا لم تصرخي لي؟".
  فضحكت ورقصت رقصة سريعة تعبيراً عن فرحها في انتظار إخراجها من سريرها. فعانقتُها، وتخيلت أنها لن تحظى بالعديد من المعانقات الجيدة بعد عودتي إلى المنزل. فغالباً ما أجدها في مهدها لدى عودتي إلى العمل، وهي تطلق صيحات بسبب انشغال الآنسة ليفولت بماكينة الخياطة، مقلّبةً عينيها كما لو أنها هرّة ضالّة احتُجزت بين الباب الأساسي والشريط المُنخُلي. فالآنسة ليفولت ترتدي ثياباً أنيقة كل يوم، وتتبرّج على الدوام، ولديها براد فريجيدير ببابَين مع ثلاّجة مبيَّتة، وموقف لسيارتها. أنتم ترونها في متجر جيتني 14 للبقالة، ولا يمكنكم أبداً أن تتصوّروا أن في استطاعتها مغادرة المنزل تاركةً طفلتها في مهدها وهي تبكي على هذا النحو. فعاملة المنزل تواجه هذا الوضع على الدوام.
  لكن ذلك اليوم كان يوماً جيداً لأن الفتاة تبتسم.
  أقول: "آيبيلين".
  فتقول: "آيب - إي".
  أقول: "حُب".
  تقول: "حُب".
  أقول: "ماو موبلي".
  تقول: "آيب - إي". ومن ثم تضحك وتضحك، وتكون مدغدَغة المشاعر عندما تتكلم، ولكن، سرعان ما ينتهي وقت الاستراحة، فأجد نفسي مضطرة إلى قول: "حان وقت العودة إلى العمل". لم يكن تريلور يتفوّه بأي كلمة حتى بلوغه عامه الثاني أيضاً. ولكنه بات يتكلم أفضل من رئيس الولايات المتحدة عندما أصبح في الصف الثالث، فيعود إلى المنزل مع كلمات مثل تصريف أفعال وبرلماني. دخل مدرسة الأحداث العالية، وكنا نمارس اللعبة المتمثلة بإعطائه كلمة بسيطة جداً على أن يجد مرادفاً توضيحياً لها. فأقول هرة منزلية، فيقول سِنّوري جُعل أليفاً؛ أقول خلاّطاً، فيقول حجرة مستديرة مقبَّبة ومؤلَّلة. وقلت ذات يوم كريسكو. فحك رأسه ولم يستطع التصديق أنني فزت حقاً باللعبة بكلمة بسيطة مثل كريسكو. وأصبحت هذه الكلمة دُعابتنا السرّية التي تعني شيئاً ما لا يمكنكم توضيحه مهما حاولتم. بدأنا ندعو والده كريسكو لأنه لا يمكنكم إيجاد شرح لرجل فرّ من عائلته. علاوةً على ذلك، إنه الأكثر تلوّثاً بالشحم والأقل احتراماً للآخرين، وأعتقد أنه لم يسبق لكم أن رأيتم شخصاً مماثلاً.
  حملتُ ماو موبلي إلى المطبخ، ووضعتها في كرسيّها العالي، مفكّرةً في عملَين روتينيَّين كان يتعيّن عليّ إنهاؤهما في ذلك اليوم لأن الآنسة ليفولت مصابة بنوبة مَرَضية، وهما، فرز فُوَط المائدة التي بدأت تبلى، وترتيب أواني المائدة الفضيّة في الخزانة. كان عليّ القيام بذلك في أثناء وجود السيدات كما أعتقد.
  أخرجتُ صينية البيض المشوي إلى غرفة الطعام حيث جلست الآنسة ليفولت على رأس المائدة، وإلى يسارها الآنسة هيلي هولبروك، ووالدة الآنسة هيلي، الآنسة والترز، التي لا تكنّ لها هيلي أي احترام. وإلى يمين الآنسة ليفولت جلست الآنسة سكيتر.
  مرّرتُ الصينية للآنسة والترز المُسنّة أولاً لأنها الأكبر سنّاً. كان الطقس دافئاً هنا في الداخل، ولكنها تضع كنزة صوفية بنّية سميكة على كتفَيها. فغرفت بيضة، وكانت على وشك إفلاتها لأنها تعاني من داء الفالج. وانتقلتُ من ثم إلى الآنسة هيلي، فابتسمت وتناولت اثنتين. وللآنسة هيلي وجه مستدير وشعر بنّي داكن بلون قفير النحل، وبشرتها زيتونية اللون وعليها نمَش وشامات. هي ترتدي الكثير من القماش الأحمر المنقش بالمربعات، وتتثاقل حركتها من الأسفل. وبما أن الطقس حار، فقد كانت ترتدي ثوباً أحمر من دون كمين أو صُدرة. إنها إحدى أولئك السيدات الناضجات اللواتي لا يزلن يرتدين كفتاة صغيرة ملابس تحتوي على شرائط معقودة، وقبّعات ملائمة، وغير ذلك. لم تكن المفضَّلة لديّ.
  انتقلتُ إلى الآنسة سكيتر، ولكنها رفعت أنفها مغضّنةً إياه وقالت: "لا، شكراً". لأنها لا تتناول البيض. كنت أُبلغ الآنسة ليفولت بالأمر كلما اجتمعت لديها عضوات نادي البريدج، ولكنها تطلب مني باستمرار إعداد البيض لهنّ على كل حال. هي تخشى تخييب أمل الآنسة هيلي.
  أخيراً، مرّرتُ الصينية للآنسة ليفولت. إنها المضيفة وهي آخر من يأخذ حاجته من البيض. ولدى انتهائي من تمرير الصينية، قالت الآنسة هيلي: "أرغب في المزيد منها من فضلك". وتناولت بلهفة بيضتين أخريين من دون أن يفاجئني الأمر.
  "احزرن بمن التقيتُ صُدفةً في صالون التجميل؟". قالت الآنسة هيلي للسيدات.
  "بمن؟". سألت الآنسة ليفولت.
  "سيليا فوت. وهل تعرفن ماذا سألتني؟ إذا كان في استطاعتها تقديم المساعدة إلى الحفلة الخيرية".
  قالت الآنسة سكيتر: "جيد، نحن بحاجة إلى ذلك".
  "وضعُنا المالي ليس سيّئاً إلى هذه الدرجة. لسنا بحاجة إلى ذلك. لقد قلت لها: سيليا، عليك أن تكوني عضوة في الرابطة أو مؤيّدة دائمة لتتمكني من المشاركة. ما هي رابطة جاكسون برأيها؟ مؤسسة مفتوحة لكل المندفعات؟".
  "ألن نناقش مسألة غير المنتسبات هذا العام بما أن الرصيد المخصص للحفلة الخيرية أصبح كبيراً؟". سألت الآنسة سكيتر.
  قالت الآنسة هيلي: "حسناً، أجل، ولكنني لم أشأ إخبارها ذلك".
  "لا يمكنني تصديق أن جوني تزوّج بفتاة عديمة الذَّوق مثلها". قالت الآنسة ليفولت، وأومأت الآنسة هيلي برأسها. وبدأت بتوزيع ورق اللعب للبدء بلعبة البريدج.
  سكبتُ السلَطة المبردة بالملعقة، وقدّمتُ شطائر اللحم المقدَّد من دون أن أتمكن من تمالك نفسي عن الاستماع إلى الثرثرة. فالسيدات يتحدثن عن ثلاثة أمور فقط، عن أبنائهنّ وبناتهنّ، ملابسهنّ، وصديقاتهنّ. وتبادر اسم كنيدي إلى مسمعي، وأعلم أنهنّ لا يناقشن الموضوعات السياسية. كنّ يتحدثن عما ترتديه الآنسة جاكي عندما تظهر على التلفاز.
  عندما قدّمتُ الطعام إلى الآنسة والترز، لم تتناول سوى نصف شطيرة.
  "يا أمي". صاحت الآنسة هيلي في وجه الآنسة والترز. "خذي شطيرة أخرى. أنت هزيلة كعمود الهاتف". نظرت الآنسة هيلي إلى الجالسات حول الطاولة. "أقول لها باستمرار إنه إذا لم تكن ميني تلك تجيد الطهو، ليس عليها سوى القيام بطردها".
  انتصبت أذناي لدى سماع ذلك. هنّ يتحدثن عن عاملة المنزل. ميني هي صديقتي المفضَّلة.
  قالت السيدة والترز المسنّة: "ميني تطهو جيداً، ولكنني لم أعُد أشعر بالجوع كما في السابق".
  كانت ميني أفضل طاهية في مقاطعة هيندس تقريباً، وربما في أنحاء الميسيسيبي كافة. فالحفلة الخيرية التي تنظمها رابطة الراشدات تقوم بجمع المعونات كل خريف، وتنتظر السيدات ميني لتقوم بإعداد عشر كعكات بالكاراميل لبيعها في المزاد العلني. كان ينبغي أن تكون عاملة المنزل التي يتم السعي للحصول على خدماتها أكثر من أي عاملة منزل أخرى في الولاية. لكن المشكلة تكمن في أن الألسنة تلوكها لأنها تجيب بفظاظة وقلة احترام على الدوام، فتتجادل يوماً مع مدير متجر جيتني جانغل للبقالة ذي البشرة البيضاء، وفي اليوم التالي مع زوجها، وتتجادل كل يوم مع السيدة بيضاء البشرة التي تقوم على خدمتها. والسبب الوحيد لاستمرارها في خدمة الآنسة والترز هو أن هذه الأخيرة صمّاء كمِقبض باب.
  صاحت الآنسة هيلي: "أعتقد أنك تعانين من سوء التغذية، ذلك أن ميني لا تُطعمك كي تتمكن من سرقة كل تحفة متبقية متوارَثة عن الأجداد". وقامت الآنسة هيلي عن كرسيّها بغضب. "أنا ذاهبة إلى غرفة الملابس. راقبنها، فهي قد تخرّ ميتة من الجوع".
  عندما ذهبت الآنسة هيلي، قالت السيدة والترز بصوت منخفض، "أراهن على أنكن أحببتن ذلك". تصرّف الجميع كما لو أنهنّ لم يسمعن شيئاً. وارتأيتُ أنه من الأفضل الاتصال بميني في تلك الليلة لأخبرها بما قالته الآنسة هيلي.
  في المطبخ، كانت الطفلة واقفة في كرسيّها العالي، ووجهها ملوَّث بأكمله بعصير أرجوانيّ اللون. فابتسمت لي في أثناء دخولي من دون أن تبدي أي اعتراض بسبب وجودها في ذلك المكان بمفردها، ولكنني كنت أكره تركها بمفردها لمدة طويلة من الزمن، لأنني أعلم أنها تقوم بالتحديق إلى ذلك الباب بهدوء تام حتى أعود.
  فربّتُّ على رأسها الأملس، وخرجتُ مجدداً لسكب الشاي المثلَّج. عادت الآنسة هيلي إلى كرسيها وهي تومئ برأسها بسبب أمر آخر.
  قالت الآنسة ليفولت، معيدة ترتيب أوراق اللعب: "آه هيلي، أرجو أن تكوني قد استخدمتِ حمّام الضيوف، لا تنظف آيبيلين الحمّام الموجود في الناحية الداخلية إلا بعد الغداء".
  فرفعت هيلي ذقنها، وأطلقت بعد ذلك إحدى تنحنحاتها: "أح - حم". هي تتنحنح برِفق شديد بحيث إنها تلفت انتباه الجميع من دون أن تدرك ذلك.
  قالت الآنسة هيلي: "لكن حمّام الضيوف هو المكان الذي تقصده عاملة المنزل".
  لم يقل أحد شيئاً لثوانٍ قليلة. ومن ثم، أومأت السيدة والترز برأسها، وشرحت الأمر برمّته. "هي مستاءة لأن الزنجية تستخدم الحمّام الداخلي على غرارنا".
  لا، ليس مجدداً. نظرن أجمعهنّ إليّ في أثناء قيامي بتوضيب دُرج الأواني الفضية في الخزانة، وأدركتُ أن وقت مغادرتي قد حان، ولكن، قبل أن أتمكن من وضع آخر ملعقة فيه، نظرت الآنسة ليفولت إليّ وقالت: "اذهبي وأحضري مزيداً من الشاي، يا آيبيلين".
  فلبّيت طلبها، عِلماً أن أكوابهنّ مليئة حتى الشفة.
  بقيتُ في المطبخ لمدة قصيرة من الزمن من دون أن يكون هناك أي عمل متبقٍّ أقوم به. لذلك كان عليّ التواجد في غرفة الطعام لأتمكن من إنهاء توضيب الأواني الفضية، وترتيب خزانة فُوَط المائدة الموجودة في الردهة خارج الغرفة التي يجلسن فيها. لم أكن راغبة في إطالة البقاء في المنزل حتى وإن كانت الآنسة ليفولت تلعب الورق.
  انتظرتُ بضع دقائق، ومسحتُ مِنضدة. وأعطيتُ الطفلة مزيداً من اللحم المقدَّد، فالتهمته. أخيراً، تسللت خارج الردهة، وتضرعت كيلا تراني إحداهن.
  كن ثلاثتهنّ يحملن سيجارة بيد، وورق اللعب باليد الأخرى. "يا إليزابيت، لو كنتِ تملكين الخيار". سمعتُ الآنسة هيلي تقول: "ألا تفضّلين بناء الحمّام في الخارج؟".
  فتحتُ خزانة فُوَط المائدة بهدوء تام، قلقة من أن تراني الآنسة ليفولت أكثر من قلقي مما يقُلنه. لم يكن هذا الحديث جديداً عليّ. ففي كل منازل المدينة حمّامات لذوي البشرة الملوَّنة. ولكنني نظرت، ورأيتُ الآنسة سكيتر تراقبني، فتسمّرتُ في مكاني ظانّة أنني سأواجه مشكلة ما.
  قالت الآنسة والترز: "أعرض ورقة كُبّة".
  قالت الآنسة ليفولت، محدّقةً إلى أوراقها بوجه عابس: "لا أعلم، مع مباشرة راليه عمله الخاص قبل أقل من ستة أشهر وحلول موسم الضرائب... نجد أنفسنا في وضع حرِج الآن".
  تتكلم الآنسة هيلي ببطء على غرار مدّ الناطف على الكعكة. "ليس عليك سوى إخبار راليه أنه سيستعيد كل سنت ينفقه على ذلك الحمّام عندما تبيعون هذا المنزل". أومأت برأسها كما لو أنها وافقت على ما قالته. "يبنون كل هذه المنازل من دون أن تكون هناك مساكن للخادمات؟ إنه أمر خطِر تماماً. الكل يعلمون أنهنّ ينقلن أنواعاً مختلفة من الأمراض أكثر مما ننقل. أضاعف الرهان".
  فالتقطتُ كدسة من فُوَط المائدة بهدوء تام، وأردتُ أن أسمع ما ستقوله الآنسة ليفولت عن هذا الأمر. إنها من يستخدمني، وأعتقد أن كل شخص يتساءل عن رأي رئيسه به.
  "سيكون من الجيد ألا تستخدم الحمّام الذي في المنزل". قالت الآنسة ليفولت، مدخّنةً سيجارتها ونافثةً الدخان. "أعرض ثلاث أوراق بستوني".
  "لهذا السبب بالتحديد قمت بتصميم مبادرة تعزيز الصحة المنزلية". قالت الآنسة هيلي: "كتدبير للوقاية من الأمراض".
  فتفاجأتُ بمدى تصلّب حَلقي، وانتابني شعور بالعار، تعلّمت أن أكبته مدة طويلة من الزمن. بدت الآنسة سكيتر مُربَكة حقاً. "مبادرة... ماذا؟".
  "مشروع قانون يقضي أن يكون في كل منزل يقطنه ذوو بشرة بيضاء حمّام منفصل لعاملة المنزل ذات البشرة الملوَّنة. حتى إنني أبلغت كبير الأطباء في الميسيسيبي بالأمر للتحقق مما إذا كان يؤيّد الفكرة. أتخلى عن دَوري في اللعب".
  نظرت الآنسة سكيتر إلى الآنسة هيلي مقطَّبَة الجبين. ووضعت أوراقها على الطاولة ووجهها إلى الأعلى، وقالت: "ربما يتعيّن علينا أن نبني لك فقط حمّاماً خارجياً، يا هيلي".
  ساد الهدوء تلك الغرفة.
  فقالت الآنسة هيلي: "لا أظنّ أنه يجدر بك المُزاح في شأن وضع ذوي البشرة الملوَّنة، هذا إذا أردتِ أن تبقي محرّرة الرابطة، يا سكيتر فيلان".
  أطلقت الآنسة سكيتر ما يشبه الضحكة، ولكن يمكنني الجزم أنها لم تعتبر الأمر مُضحكاً. "ماذا، ستطردينني لأنني لا أوافقك الرأي؟".
  رفعت الآنسة هيلي أحد حاجبَيها. "سأقوم بما يجب عليّ القيام به لحماية مدينتنا. العبي الورقة الأولى، يا أمي".
  دخلتُ المطبخ، ولم أخرج منه مجدداً حتى سمعت الباب يُغلَق وراء الآنسة هيلي.
♦  ♦  ♦
  عندما تأكدتُ من مغادرة الآنسة هيلي، وضعتُ ماو موبلي في حظيرة اللعبم، وسحبت وعاء القمامة إلى الشارع لأن الشاحنة تمرّ في ذلك اليوم. وفي نهاية الطريق الخاصة بالمنزل، نظرت الآنسة هيلي ووالدتها المخبولة إليّ وهما في سيارتهما، وصاحتا معبّرتين عن أسفهما الشديد. فدخلتُ المنزل وقد غمرتني السعادة لأن قدمَيّ لم تتعرضا للكسر.
  لدى دخولي المطبخ، كانت الآنسة سكيتر في الداخل، منحنيةً على المِنضدة، وعلى وجهها نظرة جدّية، أكثر جدّيةً من المعتاد. "مرحباً يا آنسة سكيتر. هل أُحضر لك شيئاً؟".
  ألقت نظرة إلى الطريق الخاصة بالمنزل حيث كانت الآنسة ليفولت تتحدث إلى الآنسة هيلي عبر نافذة سيارتها. "لا، أنا... أنتظر فحسب".
  جفّفتُ صينية بمنشفة. وعندما اختلستُ نظرةً إليها، وجدتُ أن عينيها لا تزالان متّجهتين نحو تلك النافذة. هي لا تبدو كالسيدات الأخريات، ناهيك عن كونها طويلة القامة. فعظمتا خدّيها عاليتان حقاً، وعيناها زرقاوان ومُطبقتان جزئياً مما يُضفي عليها طابع الحياء. كان الجوّ ساكناً باستثناء ما يبثّه الراديو الموجود على المنضدة. لقد تمنّيت أن تخرج من هنا.
  "هي عِظة المبشّر غرين التي يبثّها الراديو؟". سألت.
  "أجل، يا سيدتي".
  ابتسمت الآنسة سكيتر. "يذكّرني ذلك كثيراً بتربية خادمتي لي".
  "آه، أعرف كونستنتين". قلت.
  حوّلت الآنسة سكيتر نظرها من النافذة إليّ. "لقد أشرفت على تربيتي، هل تعرفين ذلك؟".
  أومأتُ برأسي، متمنّيةً لو أنني لم أقل شيئاً. أعرف الكثير عن تلك الحالة.
  "لقد حاولتُ كثيراً الحصول على عنوان عائلتها في شيكاغو". قالت: "ولكن أحداً لم يزوّدني بأي معلومات".
  "لا أملك عنوانها أيضاً، يا سيدتي".
  حوّلت الآنسة سكيتر نظرها نحو النافذة مجدّداً باتجاه سيارة الآنسة هيلي من طراز بويك، وهزّت رأسها قليلاً. "يا آيبيلين، ذاك الحديث الدائر هناك... حديث هيلي، أعني...".
  التقطتُ كوب قهوة، وبدأت بتنشيفه جيداً بقطعة قماش.
  "هل تتمنّين أن تتمكني يوماً... من تغيير الأمور؟". سألت.
  فلم أتمالك نفسي، نظرت إليها متسائلة لأنه من أكثر الأسئلة غرابة التي سمعتها يوماً. وبدت على وجهها نظرة مُربَكة كما لو أنها أضافت الملح لا السكّر إلى قهوتها.
  فاستدرت نحو غسيلي كيلا تراني أقلّب عينيّ. "آه، لا يا سيدتي، كل شيء بخير".
  "ولكن ذلك الحديث هناك عن الحمّام...". مشدّدةً على تلك الكلمة، ودخلت الآنسة ليفولت المطبخ.
  "آه، أنت هنا". ورمقتنا بنظرة غريبة. "آسفة، هل... قاطعتُ شيئاً؟". ووقفت كلتانا هناك متسائلتين عما يمكن أن تكون قد سمعته.
  "عليّ الإسراع". قالت الآنسة سكيتر. "أراك غداً، يا إليزابيت". وفتحت الباب الخلفي وقالت: "شكراً يا آيبيلين على الغداء". وغادرت.
  فذهبتُ إلى غرفة الطعام، وشرعتُ بتنظيف طاولة البريدج. وكما توقّعتُ، تبعتني الآنسة ليفولت وعلى وجهها ابتسامتها القلقة، وعُنقها ناتئ كما لو أنها تستعدّ لطرح سؤال عليّ. هي لا تحب أن أتحدث إلى صديقاتها عندما لا تكون موجودة، ولم تحب ذلك أبداً. هي تريد أن تعرف على الدوام ما نتحدث عنه. فمررتُ بجانبها ودخلتُ المطبخ، ووضعتُ الطفلة في كرسيّها العالي، وشرعت بتنظيف جهاز الطهو.
  تبعتني الآنسة ليفولت إلى هناك، وتفحصت عَمداً وعاء كريسكو، ووضعته مجدّداً مكانه. فتحت الطفلة ذراعَيها كي تقوم والدتها بحملها، ولكن الآنسة ليفولت فتحت إحدى الخزائن مدّعيةً أنها لا ترى شيئاً، وأغلقتها بعد ذلك بقوة، وفتحت خزانة أخرى. أخيراً، وقفت هناك فحسب. أما أنا فركعت متكئةً بيدَيّ على الأرض، وأدخلت رأسي في جهاز الطهو ذلك كما لو أنني أحاول خنق نفسي بالغاز.
  "أنتِ والآنسة سكيتر بدوتما كما لو أنكما تتحدثان عن أمر جدّي للغاية".
  "لا يا سيدتي، كانت تسألني فقط عما إذا كنت أريد بعض الملابس القديمة". قلت، وبدا الأمر كما لو أنني في حفرة بئر. وبدأت ذراعاي تتلطخان بالشحم، والرائحة في الداخل أشبه برائحة الإبط. لم يمرّ وقت طويل حتى بدأ العَرَق يسيل من أنفي، وكلما حاولت فركه تركتُ بقعة شحمٍ على وجهي. إن أسوأ مكان في العالم، هو داخل جهاز الطهو، حيث تقومون بالتنظيف أم يتمّ طهوكم. لقد عرفتُ الليلة معنى الحلم الذي كنت أرى نفسي فيه عالقةً داخل جهاز الطهو أُشعل فيه الغاز. لكنني أبقيت رأسي في ذلك المكان الشنيع لأنني أفضّل التواجد في أي مكان على الإجابة عن أسئلة الآنسة ليفولت حول ما كانت الآنسة سكيتر تحاول قوله لي: تسألني عما إذا كنت أريد تغيير الأمور.
  بعد قليل، غضبت الآنسة ليفولت، وخرجت إلى موقف السيارة. فتخيّلتُ أنها تبحث عن المكان الذي ستبني فيه حمّامي الجديد الخاص بذوي البشرة الملوَّنة.
الفصل الثاني
  لن تكتشفوا أبداً أن منطقة جاكسون، ميسيسيبي، تحتوي على مئتي ألف شخص حتى وإن كنتم تقيمون فيها. كنت أرى مجموعات منهم في الصحيفة، وأتساءل عن الأماكن التي يعيشون فيها، تحت الأرض؟! ذلك أنني أعرف كل من يقيم في هذا الجانب من الجسر، حيث توجد العديد من العائلات من ذوي البشرة البيضاء أيضاً، ولكن عدد كل هؤلاء لا يرقى إلى مئتي ألف شخص.
  أَستقل الحافلة ستة أيام في الأسبوع عابرةً جسر وودرو ويلسون، لأبلغ المكان الذي تقيم فيه الآنسة ليفولت، وكل صديقاتها بيضاوات البشرة في حيّ يدعى بيلهافن. ويقع وسط المدينة، وعاصمة الولاية بجانب بيلهافن تماماً. وهناك مبنى الكابيتول الضخم والجميل من الخارج، ولكن لم يسبق لي أن دخلته. لقد تساءلت عن الأجر الذي يدفعونه لقاء تنظيف ذلك المكان.
  بعد عبور بيلهافن، تطالعنا هضاب وودلاند، وغابة شيروود القائمة على امتداد أميال من أشجار السنديان زاهية اللون التي نبت الطُحلُب على أقدامها. لم يكن أحد يعيش هناك بعد، ولكنه المكان الذي سيقيم فيه ذوو البشرة البيضاء عندما يقررون الانتقال إلى مكان آخر. نصل بعد ذلك إلى الريف حيث تعيش الآنسة سكيتر في مزرعة القطن طويل الدالة. هي لا تعرف أنني عملت في قطف القطن هناك عام 1931، في أثناء فترة الركود الاقتصادي، عندما لم يكن لدينا ما نأكله باستثناء الجُبن الذي تقدّمه الولاية.
  منطقة جاكسون هي مجموعة من أحياء متجاورة يقطنها ذوو البشرة البيضاء، ولكن الجزء المخصص لذوي البشرة الملوَّنة في المدينة هو أشبه بكَثيب كبير للنمل، وهو مُحاط بأرض حكومية ليست للبيع. وبازدياد أعدادنا، لا يمكننا التوسع، وتزداد الكثافة السكانية في الجزء المخصص لنا.
  لقد استقللت بعد ظهر ذلك اليوم الحافلة رقم ستة، التي تنطلق من بيلهافن وصولاً إلى شارع فاريش ستريت. ولم تكن الحافلة تحتوي سوى على خادمات متجهات إلى العمل بلباسهنّ الرسمي الأبيض، فتبادلنا أطراف الحديث، وابتسمنا لبعضنا بعضاً، وجلسنا حيثما شئنا لا لأننا مطمئنات على عدم وجود ذوي بشرة بيضاء بيننا، بل لأن شعوراً بالودّ كان يتملكنا.
  رأيت ميني جالسة على المقعد الخلفي الأوسط. كانت قصيرة القامة، بدينة، ولديها خصلات شعر سوداء برّاقة، وتجلس وساقاها ممدودتان، وذراعاها السمينتان متشابكتان على نحو متصالب. إنها أصغر مني بعشرين عاماً، وفي استطاعتها ربما رفع هذه الحافلة فوق رأسها إذا أرادت ذلك. فواحدة متقدّمة بالسنّ مثلي محظوظة أن تتخذها ميني صديقة لها.
  جلست على المقعد أمامها، واستدرت وأصغيت. فالجميع يحبون الاستماع إلى ميني.
  "... لذلك قلت، يا آنسة والترز، لا يريد العالم رؤية مؤخرتك البيضاء بقدر ما يرفضون رؤية مؤخرتي السوداء. الآن، ادخلي هذا المنزل، وارتدي سروالك الداخلي وبعض الملابس".
  "في المدخل الخارجي الأمامي؟! عارية؟!". سألت كيكي براون.
  "ومؤخرتها متدلّية حتى ركبتيها".
  بدأت راكبات الحافلة بالضحك وهزّ رؤوسهنّ.
  قالت كيكي: "يا الله، هذه المرأة مخبولة، لا أدري كيف تحصلين باستمرار على المخبولات، يا ميني".
  قالت ميني لكيكي: "آه، وكأن الآنسة باترسون غير مخبولة؟ هي تدعو الشعر الملفوف للآنسة المخبولة ورقة سباتي". ضحك كل ركاب الحافلة لأن ميني لا تحب أن يقوم أحد بالسخرية من سيدتها ذات البشرة البيضاء باستثنائها. هذه وظيفتها ويحق لها ذلك.
  عبرت الحافلة الجسر، وتوقفت للمرة الأولى في حيّ ذوي البشرة الملوَّنة. نزلت عشر خادمات، وجلستُ على المقعد الطويل بجانب ميني. فابتسمت ورحّبت بي من خلال تسديد لطمة لي بمرفقها. وساد جوّ من الاسترخاء بعد ذلك على المقعد لأنه لم يكن عليها تعميق معرفتها بي.
  "كيف حالك؟ كان عليك كيّ الطيات هذا الصباح؟".
  فضحكتُ وأومأتُ برأسي. "تطلّبني الأمر ساعة ونصف".
  "ماذا أطعمتِ الآنسة والترز اليوم في اجتماع عضوات نادي البريدج؟ لقد عملتُ طيلة الصباح لإعداد تلك الكعكة الساذجة بالكاراميل، ولكنها لم تتناول أي كِسرة منها".
  لقد جعلني هذا الأمر أتذكّر ما قالته الآنسة هيلي على الطاولة اليوم من دون أن تبدي أي من السيدات بيضاوات البشرة الأخريات أي اهتمام، ولكننا أردنا كلنا أن نعرف ما إذا كانت الآنسة هيلي تسعى إلى إيذائنا. لم أعرف كيف أشرح الأمر لميني.
  نظرتُ عبر النافذة في أثناء مرورنا أمام مستشفى ذوي البشرة الملوَّنة ومنصة الفاكهة. "أعتقد أنني سمعت الآنسة هيلي تقول شيئاً ما عن ذلك، عن غدوّ والدتها نحيلة". قلت ذلك بأكبر قدر من الحِرص. "قالت إنها ربما تعاني من سوء في التغذية".
  فنظرت ميمي إليّ. "لقد قالت ذلك، هل قالت ذلك؟". وقد أدى مجرّد ذِكر الاسم إلى اتساع عينيها. "ما الذي قالته الآنسة هيلي أيضاً؟".
  فارتأيتُ أنه من الأفضل إخبار ميني بما أشعر. "أعتقد أنها تتربّص بك شراً، يا ميني. كوني شديدة الحذر معها... فحسب".
  "يجب على الآنسة هيلي أن تكون شديدة الحذر معي. ما الذي تقوله، لا أُجيد الطهو؟ تقول إن كيس العظام المسنّة تلك لا تأكل لأنني لا أُجيد إعداد الطعام؟". ووقفت ميني، ورمت بحقيبة يدها تحت ذراعها.
  "آسفة، يا ميني، لم أخبرك بذلك إلا لتأمني جانبها...".
  "تقول لي ذلك على الدوام، كما تقول إنها ستحصل على قطعة من ميني لوجبة الغداء". نزلت درج الحافلة بغضب.
  فراقبتها عبر النافذة تتجه بخُطى غاضبة نحو منزلها. الآنسة هيلي ليست شخصاً يمكن العبث معه. ربما كان يُفترض بي الاحتفاظ بالمعلومة لنفسي.
♦  ♦  ♦
  بعد أيام قليلة، نزلتُ من الحافلة، ودخلت المجمّع السكني، قاصدةً منزل الآنسة ليفولت. كانت هناك شاحنة قديمة لنقل الأثاث المُهمَل متوقفة أمام المنزل، وفي داخلها رجلان ذوا بشرة ملوَّنة، أحدهما يرتشف كوب قهوة، والآخر نائم وهو جالس بشكل مستقيم. دخلت المطبخ.
  كان السيد راليه ليفولت لا يزال في المنزل ذلك الصباح، وهو أمر نادر الحدوث. وعندما يكون هناك، يبدو كما لو أنه ينتظر مرور الوقت بفارغ الصبر، ليقصد عمله المتمثل بمسك الدفاتر والمحاسبة. هو يعمل يوم السبت أيضاً، ولكنّ هناك أمراً مختلفاً هذه المرة.
  "هذا منزلي وأدفع لقاء كل لعنة تحدث فيه!". صاح السيد ليفولت.
  حاولت الآنسة ليفولت التخفيف من حدة غضبه بتلك الابتسامة التي تعني أنها غير سعيدة. فاختبأتُ داخل غرفة الغسيل. لقد مرّ يومان على سماعي أحاديث تجري داخل الحمّام، وكنت آمل في أن ينتهي ذلك. وفتح السيد ليفولت الباب الخلفي للنظر إلى الشاحنة المتوقفة هناك، وأعاد غلقه بقوة.
  "لقد صبرتُ على الملابس الجديدة، وكل الرحلات اللعينة إلى نيو أورليانز مع صديقاتك في النادي، ولكن هذا الأمر يتطلب مبلغاً طائلاً".
  "لكنه يزيد من قيمة المنزل. لقد قالت هيلي ذلك!". كنت لا أزال في غرفة الغسيل، وأكاد لا أسمع الآنسة ليفولت وهي تحاول إبقاء تلك الابتسامة على وجهها.
  "لا يمكننا تحمّل تكلفة الأمر! كما أننا لا نأتمر بأوامر الزوجين هولبروك!".
  ساد هدوء تام لدقيقة من الزمن، وسمعت بعد ذلك خُطى خُفَّي نوم.
  "أبي؟".
  خرجتُ من غرفة الغسيل، ودخلت المطبخ لأن ماو موبلي هي من ضمن عملي.
  رأيت السيد ليفولت راكعاً أمامها، وعلى وجهه ابتسامة كما لو أنها مصنوعة من المطاط. "احزري يا حبيبتي؟".
  فابتسمت، منتظرةً مفاجأة سارّة.
  "لن ترتادي الكلّية لأن صديقات والدتك لا يدخلن الحمّام نفسه الذي تدخله عاملة المنزل".
  فتوجه إلى الباب بخطى غاضبة، وأغلقه بقوة لدرجة أنه جعل الطفلة تطرف عينيها.
  نظرت الآنسة ليفولت إليها، وبدأت بتحريك إصبعها. "ماو موبلي، تعرفين أنه لا يُفترض بك الخروج من سريرك!".
  كانت الطفلة تنظر إلى الباب الذي أغلقه والدها بقوة، وإلى والدتها العابسة. لقد بدت طفلتي كما لو أنها تبذل جهداً كيلا تبكي.
  مررت بجانب الآنسة ليفولت بسرعة، وحملت الطفلة. وهمستُ: "لنذهب إلى غرفة الجلوس ونلعب بالدُّمية الناطقة. ماذا يقول ذلك الحمار؟".
  "هي تستمر بالنهوض. لقد أعدتُها إلى السرير ثلاث مرات هذا الصباح".
  "لأن هناك من يحتاج إلى تبديل ملابسه. وووويييي".
  قالت الآنسة ليفولت: "حسناً، لم أُدرك ذلك...". ولكنها كانت تحدّق عبر النافذة إلى شاحنة نقل الأثاث المُهمَل.
  ذهبتُ إلى الناحية الداخلية من المنزل شاعرةً بغضب شديد لدرجة أن خطواتي أحدثت ضجيجاً. لقد بقيت الطفلة في ذلك السرير منذ الثامنة من مساء اليوم السابق، إنها بحاجة إلى تبديل ملابسها بالتأكيد! لقد حاولت الآنسة ليفولت الاعتصام لمدة اثنتي عشرة ساعة بسبب الحمّام، فبقِيَت جالسة ولم تقم بأي عمل!
  وضعتُ الطفلة على طاولة تبديل الملابس، محاولةً كبت غضبي. كانت الطفلة تحدّق إليّ في أثناء قيامي بنزع حفاضها. ومن ثم مدّت يدها الصغيرة ولمست فمي برِفق شديد.
  قالت: "ماو مو سيّئة".
  "لا، يا طفلتي، أنت لست سيّئة". قلت، وملّستُ شعرها إلى الوراء. "أنت صالحة. صالحة جداً".
♦  ♦  ♦
  كنت أُقيم في جادة جيسوم حيث استأجرت منزلاً منذ العام 1942. في استطاعتكم القول إن لجيسوم شخصية مميزة. فالمنازل صغيرة ولكن كل فناءٍ أماميّ مختلف عن الآخر، بعضها مقيت الشكل ولا عشب فيه كرجل عجوز أصلع، وتحتوي أخرى على شُجيرات دائمة الخضرة وورود وعشب أخضر غضّ. أظن أن فنائي ينتمي إلى فئة تجمع بين مواصفات تلك الفئتين.
  كان لديّ عدد قليل من شُجيرات الكاميليا أمام المنزل، وينبت العشب في أماكن معيَّنة، ولا يزال يحمل آثار شاحنة تريلور الصغيرة التي بقيت مكانها طوال ثلاثة أشهر بعد الحادث. لا أشجار لديّ، ولكن الفناء الخلفي يبدو رائعاً. فهناك تزرع جارتي، آيدا بيك، خضارها.
  لم يكن لدى آيدا فناء خلفيّ يمكنها الاعتماد عليه بسبب امتلائه بأغراض تافهة تخص زوجها؛ محركات سيارات، وبرّادات، وإطارات قديمة. هي أغراض يقول إنه سيُصلحها، ولكنه لا يقوم بذلك أبداً. لذلك، طلبتُ من آيدا أن تزرع في فنائي الخلفي. بهذه الطريقة، لا يكون عليّ جزّ العشب، كما تسمح لي بقطف ما أحتاج إليه، وادّخار دولارين أو ثلاثة دولارات كل أسبوع. وتقوم بتوضيب ما لا نأكله في أكياس وأوانٍ، وتعطيني قسماً منه لفصل الشتاء، كاللفت الجيد، الباذنجان، البامية، وأنواع القَرع واليقطين كافة. لا أعرف كيف تُبقي شتلات الطماطم بمنأى عن الحشرات، ولكنها تنجح في ذلك، وهي تُنتج حبات جيدة.
  في ذلك المساء، كانت تمطر بشدة في الخارج. فأخرجتُ مرطباناً يحتوي على ملفوف وطماطم، وتناولت آخر قطعة متبقّية من خبز الذُّرة. وجلست بعد ذلك لمراجعة مواردي المالية بسبب حدوث أمرين؛ ارتفاع تكلفة الانتقال بالحافلة إلى خمسة عشر سنتاً، وارتفاع إيجاري إلى ستين دولاراً في الشهر. كنت أعمل لدى الآنسة ليفولت ثماني ساعات في اليوم، وستة أيام في الأسبوع باستثناء أيام السبت. وأتلقى كل يوم جمعة ثلاثة وأربعين دولاراً أي ما يعادل 172 دولاراً في الشهر. فهذا يعني أنه يتبقى لديّ سبعة دولارات وخمسون سنتاً في الأسبوع لبِقالتي وملابسي وتصفيف شعري ودفع ما هو متوجب عليّ لدار العبادة، ناهيكم عن تكلفة إرسال هذه الفواتير عبر البريد والبالغة سنتاً واحداً. وحذاء العمل رقيق جداً لدرجة أنه يبدو متضوّراً من الجوع، ويبلغ ثمن حذاء جديد سبعين دولاراً مما يعني أنني سآكل الملفوف والطماطم حتى أتحول إلى أرنب. أشكر الله على آيدا بيك وإلا لما توافر لي أي طعام.
  رنّ هاتفي مما جعلني أجفل. وقبل أن أتمكن من قول آلو، سمعت صوت ميني. كانت تعمل حتى وقت متأخر في ذلك المساء.
  "الآنسة هيلي تصطحب الآنسة والترز إلى منزل السيدة المسنّة. عليّ إيجاد عمل جديد. وهل تعلمين متى سأرحل؟ الأسبوع القادم".
  "آه لا، يا ميني".
  "أنا أبحث عن عمل، واتصلت بعشر سيدات اليوم. لم يُبدين أي اهتمام بالأمر".
  آسفة للقول إنني لم أتفاجأ. "أول ما سأقوم به يوم غد هو سؤال الآنسة ليفولت عما إذا كانت تعرف من يحتاج إلى عاملة منزل".
  "انتظري قليلاً". قالت ميني. وسمعتُ الآنسة والترز المسنّة تتكلم وتجيبها ميني: "ماذا تظنينني؟ سائقة سيارة؟ لن أوصلك إلى أي نادٍ ريفي تحت المطر المنهمر".
  إن أسوأ ما قد تواجهينه في مهنتك كعاملة منزل هو أن يكون لديك لسان لاذع. ومع ذلك، فهي طاهية ممتازة مما يعوّض عن حدّة طبعها.
  "لا تقلقي، يا ميني. سنجد لك شخصاً أصمّ كمِقبض باب، على غرار الآنسة والترز".
  "تُلمح إليّ الآنسة هيلي بالذهاب للعمل لديها".
  "ماذا؟". قلت بأكبر قدر من الصرامة. "اسمعيني، يا ميني، أنا مستعدة للإنفاق عليك ولكن لن أدعك تعملين لصالح تلك السيدة الشريرة".
  "إلى من توجهين كلامك، يا آيبيلين؟ إلى حمار؟ يمكنني الذهاب أيضاً للعمل للكيه كيه كيه. وتعلمين، لم أصرف النظر أبداً عن عرض العمل لدى يول ماي".
  "آسفة، يا عزيزتي". إنني أشعر بغضب شديد عندما يتعلق الأمر بالآنسة هيلي. "سأتصل بالآنسة كارولاين في هانيساكل، وأرى إن كانت تعرف شخصاً ما. وسأتصل بالآنسة روث، إنها لطيفة جداً لدرجة أنها تفطر لك قلبك. كنت أنظّف لها منزلها كل صباح، ولم يكن عليّ بعد ذلك سوى مرافقتها. توفّي زوجها بسبب الحُمّى القرمزية، مم - همم".
  "شكراً لك، يا آي. الآن، هيا يا آنسة والترز، تناولي حبة لوبياء صغيرة من أجلي". وودّعتني ميني وأنهت الاتصال.
  في صباح اليوم التالي، وصلت أيضاً تلك الشاحنة القديمة الخضراء لنقل الأثاث المُهمَل. وبدأ يُسمَع صوت ضجيج مدوٍّ، ولكن السيد ليفولت لم يكن يسير في الأرجاء بخطى غاضبة. أظن أنه أدرك خسارته لهذه الجولة أيضاً حتى قبل أن تبدأ.
  كانت الآنسة ليفولت جالسة إلى طاولة المطبخ ببُرنس الحمام الأزرق تتحدث عبر الهاتف، وكان وجه الطفلة أحمر ودبقاً، وتتمسّك بركبتي والدتها، وتحاول لفت نظرها.
  قلت: "صباح الخير، يا طفلتي".
  قالت: "ماما! ماما!". وحاولت الزحف إلى حِضن الآنسة ليفولت.
  "لا، يا ماو موبلي". دفعتها الآنسة ليفولت برِفق إلى الأسفل. "الماما تتحدث عبر الهاتف. دعي الماما تتحدث".
  "ماما، احمليني". بكت ماو موبلي متذمّرةً، ومدّت يديها لوالدتها. "احملي ماو مو".
  قالت الآنسة ليفولت هامسةً: "هُش".
  حملتُ الطفلة بسرعة، واصطحبتها إلى المغسلة، ولكنها استمرت بالالتفات من حولها، مادّةً عُنُقها وهي تقول باكيةً: "ماما، ماما". محاولةً لفت انتباهها.
  "تماماً كما طلبتِ مني أن أقول". قالت الآنسة ليفولت على الهاتف، مومئةً برأسها. "عندما ننتقل يوماً ما، ترتفع قيمة المنزل".
  "هيا، يا طفلتي. ضعي يدَيك هنا تحت الماء".
  لكن الطفلة كانت تتلوّى بشدة، وحاولتُ وضع الصابونة على أصابعها. ولكنها التفّت حول نفسها كثعبان، وأفلتت من بين ذراعَيّ، وركضت نحو والدتها مباشرةً، وقرصتها بذَقنها، وهزّت سلك الهاتف بكل قوتها. فأفلتت سمّاعة الهاتف من يد الآنسة ليفولت ووقعت أرضاً.
  قلت: "ماو موبلي!".
  أسرعتُ للإمساك بها، ولكن الآنسة ليفولت أمسكت بها أولاً، فتجعّدت شفتاها من شدة الغضب كاشفةً عن أسنانها كما لو أنها تطلق ابتسامة مُخيفة. وضربت الآنسة ليفولت الطفلة على الجهة الخلفية من ساقيها العاريتين بشدة لدرجة أنها قفزت من شدة الألم.
  بعد ذلك، أمسكت الآنسة ليفولت ماو موبلي من ذراعها وهزّتها بقوة. "لا تلمسي هذا الهاتف مجدداً، يا ماو موبلي!". قالت. "يا آيبيلين، كم مرة يجب عليّ أن أطلب منك إبقاءها بعيدة عني عندما أتحدث عبر الهاتف!".
  قلت: "آسفة". وحملتُ ماو موبلي، وحاولتُ ضمّها إلى صدري، ولكنها كانت تصيح محمرّة الوجه محاوِلةً الإفلات مني.
  "هيا، يا طفلتي، لا بأس، كل شيء...".
  فرمقتني ماو موبلي بنظرات عدائية، وانحنت إلى الوراء ووجّهت إليّ ضربة عنيفة على الأُذن.
  أشارت الآنسة ليفولت إلى الباب وصاحت: "يا آيبيلين، اخرجا".
  فحملتُها إلى المطبخ. كنت شديدة الغضب من الآنسة ليفولت لدرجة أنني عضضت لساني. لو تقوم هذه المخبولة بمنح طفلتها بعض الاهتمام لما حدث ذلك! وعندما نجحت في بلوغ غرفة ماو موبلي، وضعتها في الكرسي الهزاز. وانتحبت على كتفي، ففركتُ ظهرها، وكلّي سعادة أنها لا تستطيع رؤية الغضب على وجهي. لم أكن أرغب في أن تظن أنني غاضبة منها.
  قلت هامسة: "هل أنت بخير، يا طفلتي؟". كانت أذني تؤلمني بسبب الضربة التي وجّهتها إليّ بقبضة يدها، وأشعر بسعادة كبيرة لأنها ضربتني بدلاً من ضرب والدتها لأنني لا أعلم ما الذي كانت ستفعله بها. نظرتُ إلى الأسفل، فرأيت آثار أصابع حمراء على الجهة الخلفية من ساقيها.
  "أنا هنا، يا طفلتي، آيبيلين هنا". وهدهدتها، وهدّأت من رَوعها مراراً وتكراراً.
  لكن الطفلة استمرت في البكاء.
  قرابة فترة الغداء، وعندما حان موعد برنامجي المفضَّل على التلفاز، ساد الهدوء في موقف السيارة. كانت ماو موبلي جالسة في حضني، وتساعدني على إزالة خيوط اللوبياء. كانت لا تزال متوترة منذ الصباح، وأظن أنني كنت متوترة كذلك، ولكنني تمكنت من تخفيض حدة هذا التوتر.
  دخلنا المطبخ، وأعددتُ لها شطيرتها الصغيرة. وفي الطريق الخاصة بالمنزل، كان العمال جالسين في شاحنتهم يتناولون طعام الغداء. كنت سعيدة بالسلام الذي ننعم به. فابتسمت للطفلة، وأعطيتها حبة فراولة، وشعرتُ بالامتنان بسبب وجودي هناك في أثناء المشكلة التي حدثت مع والدتها. كنت أكره التفكير في ما كان يمكن أن يحدث لو لم أكن موجودة. وأقحمَت حبة الفراولة في فمها، فابتسمت لي.
  لم تكن الآنسة ليفولت موجودة، لذلك ارتأيتُ الاتصال بميني في منزل الآنسة والترز للتحقق مما إذا كانت قد عثرت على عمل أم لا. ولكن، قبل أن أقوم بالأمر، قُرع الباب الخلفي. ففتحته ورأيت أحد العمال واقفاً هناك. كان مُسنّاً جداً، ويرتدي ثوب العمل فوق قميص ذات ياقة بيضاء.
  "مرحباً يا سيدتي. هل لي ببعض الماء من فضلك؟". سأل. لم أعرفه. لا بد من أنه يقيم في مكان ما جنوب المدينة.
  قلت: "انتظر قليلاً".
  ذهبت لإحضار كوب ورقي من الخزانة، التي لا تزال تتدلى منها بالونات الذكرى الثانية لميلاد ماو موبلي. كنت أعلم أن الآنسة ليفولت لا تريدني أن أقدّم إليه الماء في أحد الأكواب الزجاجية.
  فشرب الماء بجرعة واحدة، وأعاد إليّ الكوب. كان يبدو على وجهه التعب الشديد، وفي عينيه شعور بالوحدة.
  سألته: "كيف تسير الأمور؟".
  قال: "إنه العمل، لم نصل إلى أنبوب الماء بعد. أظن أننا سنُخرج أنبوباً من الطريق".
  سألته: "هل يريد أحد زملائك شرب الماء؟".
  "هذا لطف شديد من قِبَلك". وأومأ برأسه، وذهبت لأحضر لصديقه كوباً صغيراً أيضاً ذات مظهر غريب ملأته من حنفيّة المغسلة.
  لكنه لم يحمله لصديقه على الفور.
  قال: "اعذريني، ولكن أين...". ووقف هناك لنحو دقيقة من الزمن، ونظر إلى قدميه. "أين يمكنني الذهاب لقضاء حاجتي؟".
  ورفع نظره، ونظرت إليه، واستمررنا بالنظر إلى بعضنا بعضاً الوقت. إنه أمر غريب، ولكنه ليس شديد الغرابة بل يدعو للتساؤل. يوجد في المنزل حمّامان ويتم بناء حمّام آخر، ومع ذلك لا يوجد مكان لهذا الرجل لقضاء حاجته.
  "حسناً...". لم يسبق لي أن وُضعتُ في هذا الموقف من قَبل. ربما كان في استطاعة روبرت الأصغر سناً، والذي ينظف الفناء كل أسبوعين دخول الحمّام بسرعة من دون أن يلاحظه أحد، ولكن هذا الرجل عجوز. فيداه متجعّدتان، وقد أحدث سبعون عاماً من القلق خطوطاً عديدة في وجهه كخارطة.
  سمعتُ نفسي أقول: "أظن أن عليك الذهاب إلى الأجمة خلف المنزل". ولكنني تمنيت لو لم أكن من قال ذلك. "هناك كلب، ولكنه لن يزعجك".
  قال: "حسناً إذاً، شكراً لك".
  شاهدته يعود ببطء حاملاً كوب زميله.
  استمر الحفر والضجيج طيلة بعد الظهر.
  لقد قضوا اليوم التالي بالحَفر في الفناء الأمامي. ولم أطرح على الآنسة ليفولت أي سؤال عن الأمر، كما أنها لم تقدّم لي أي شرح. كانت تحدّق لساعات عبر الباب الخلفي إلى الخارج، لمراقبة ما يجري.
  عند الثالثة، توقف الصخَب، وركب الرجال شاحنتهم، وغادروا. فأطلقت الآنسة ليفولت تنهيدة كبيرة بينما كانت تشاهدهم يبتعدون. ركبت بعد ذلك سيارتها، وذهبت للقيام ببعض الأمور لا سيّما وأن أولئك الأشخاص، ذوي البشرة الملوَّنة الذين يثيرون أعصابها، لم يعودوا بالقرب من منزلها.
  بعد قليل، رنّ الهاتف.
  "الآنسة ليف...".
  "تخبر الجميع في المدينة أنني سارقة! لذلك لا أستطيع الحصول على أي عمل! لقد حوّلتني تلك... إلى عاملة المنزل المجرمة ذات اللسان اللاذع في مقاطعة هيندس!".
  "تمهّلي، يا ميني، التقطي أنفاسك...".
  "قبل العمل هذا الصباح، قصدتُ منزل عائلة رنفرو في سيكامور، وكانت الآنسة رنفرو على وشك أن تطردني من ملكيّتها. لقد قالت لي إن الآنسة هيلي أخبرتها عني، وإن الجميع يعرفون أنني سرقت شمعداناً من منزل الآنسة والترز!".
  كان في استطاعتي سماع إحكام قبضتها على سمّاعة الهاتف كما لو أنها تحاول سحقها بيدها. لقد سمعتُ كيندرا تصيح وتساءلتُ عن سبب وجود ميني في المنزل. فهي لا تغادر عملها في العادة حتى الرابعة.
  "كل ما أقوم به هو إطعام تلك المرأة العجوز طعاماً جيداً، والاعتناء بها!".
  "يا ميني، أعرف أنك صادقة. الله يعرف أنك صادقة".
  خبا صوتها كما يخبو صوت النحل في قرص عسل. "عندما دخلتُ منزل الآنسة والترز، كانت الآنسة هيلي موجودة هناك، وحاولت إعطائي عشرين دولاراً. قالت: خذيها. أعلم أنك بحاجة إليها، وكنت على وشك البصق في وجهها، ولكنني لم أقم بذلك، ولم أجلس". وبدأت بإصدار ذلك الصوت المتلهّف للتجريح، وقالت: "قمتُ بأمور أكثر سوءاً".
  "ماذا فعلتِ؟".
  "لن أخبرك. لن أخبر أحداً عن تلك الفطيرة. ولكنني أعطيتها ما تستحقه!". وبدأت بالبكاء، وشعرتُ بخوف مُثبط للعزيمة، إذ لا خلاص من قبضة الآنسة هيلي. "لن أحصل على عمل بعد الآن. سيعمد ليروي إلى قتلي...".
  وسمعتُ بكاء كيندرا، وأنهت ميني المكالمة من دون توديعي. لم أعرف ما هي قصة الفطيرة، ولكنها تنطوي على أمر سيّئ لأنني أعرف طباع ميني.
  في تلك الليلة، قطفتُ لوازم طبقٍ صغير من السلطة وحبّة طماطم من حديقة آيدا. وجففت بعض اللحم المقدَّد، وقمت بإعداد مرق اللحم لكعكتي الطريّة. ومشّطتُ شعري، ورفعته، ولففته بلُفافات الشعر زهرية اللون، ورششته برذاذ غود ناف. لقد شعرت بالقلق طوال فترة بعد الظهر، وفكّرت في ميني. كان يتعيّن عليّ إخراجها من عقلي إذا أردتُ الحصول على فترة قصيرة من النوم.
  جلست إلى المائدة لتناول الطعام، وشغّلت الراديو في المطبخ. كان ليتل ستيفي واندر يؤدّي أغنية بصمات الأصابع. لم يكن لون بشرة ذلك الفتى ذا تأثير كبير فيه. إنه ضرير في الثانية عشرة من عمره، وقد حقق نجاحاً في الإذاعة. وبعد انتهاء أغنيته، بحثتُ عن عظة الأب غرين، وتوقفت عند محطة دبليو بي أل أيه التي كانت تبثّ موسيقى البلوز.
  أحب سماع تلك الموسيقى، وتناول الشراب عندما يخيّم الظلام وسط عبيق الدخان. فذلك يحملني على الشعور أن منزلي مليء بالناس. وفي استطاعتي أيضاً رؤيتهم يتمايلون في مطبخي، ويرقصون على أنغام موسيقى البلوز. وعندما أُطفئ الضوء المتدلّي من السقف، أتخيّل نفسي في الرايفن حيث الطاولات الصغيرة التي تغطيها الأنوار الحمراء، وأنني في شهر أيار/مايو أو حزيران/يونيو، وأن الطقس دافئ. وتُشعّ ابتسامة رَجُلي كلايد كاشفة عن أسنانه البيضاء، ويقول، يا حيبيتي، هل تريدين تناول كأس؟ فأقول، بلاك ماري. وأضحك من ثم على نفسي بسبب حلم اليقظة هذا لأن مشروب نيهي أرجواني اللون هو أقوى مشروب تناولته يوماً.
  كانت مِمفيس ميني تغنّي عبر الإذاعة أغنية تصف كيف أن اللحم قليل الدِّهن لا يمكن قَليه، عانيةً بذلك كيف أن الحب لا يدوم. كنت أفكر من حين إلى آخر في أنه يمكنني العثور على رجل آخر ينتمي إلى مذهبي. ولكن المشكلة تكمن في أنني لن أحب رجلاً من مذهبي بقدر محبتي لله. فالرجل الذي أرغب فيه يجب ألا يكون عاطلاً عن العمل ويُنفق كل أموالي. لقد ارتكبت هذا الخطأ منذ عشرين عاماً. وعندما هجرني زوجي كلايد لأجل تلك المرأة الفاجرة في شارع فاريش ستريت التي يدعونها كوكوا، اعتبرتُ أنه من الأفضل لي عدم الارتباط بعد ذلك.
  أصدرت سيارة في الخارج صوتاً حاداً أعادني إلى مطبخي القديم. فأطفأت الراديو والضوء، وبحثت عن كتاب الأدعية في حقيبة يدي. إنه مجرد رزمة من أوراق زرقاء اشتريتها من متجر بِن فرانكلين. وكنت أستخدم قلم رصاص كي أتمكن من محو ما أريد محوه قدر ما أشاء حتى أقتنع بما أكتب. لقد دأبتُ على تدوين أدعيتي مذ كنت في مدرسة الأحداث العالية. فعندما أخبرت مدرّسة الصف السابع أنني لن أعود إلى المدرسة لأنه يتعيّن عليّ مساعدة والدتي، صاحت الآنسة روس: "أنت الأكثر ذكاءً في الصف، يا آيبيلين، والطريقة الوحيدة للمحافظة على ذكائك تكمن في القراءة والكتابة كل يوم".
  هكذا، بدأت أدوّن أدعيتي بدلاً من تلاوتها، ولكن أحداً لم ينعتني بالذكاء مذاك الحين.
  قلّبت صفحات كتاب الأدعية لاختيار الشخص الذي سأذكره هذا المساء. لقد فكرت مرات قليلة في ذلك الأسبوع بإضافة الآنسة سكيتر إلى لائحتي، ولم أكن واثقة تماماً من سبب هذه الرغبة. كانت لطيفة على الدوام، ولكن ما أغضبني وحملني على التساؤل هو ما قالته لي في مطبخ الآنسة ليفولت عن رغبتي في تغيير الأمور، ناهيكم عن السؤال عن مكان تواجد عاملة المنزل كونستنتين التي قامت بتربيتها. لقد علمتُ بما جرى بين كونستنتين ووالدة الآنسة سكيتر، ولم أكن أريد أبداً إخبارها بتلك القصة.
  لكن المشكلة تكمن في أنني إذا بدأتُ بالدعاء للآنسة سكيتر لن أتمكن من الامتناع عن إجابتها عن أسئلتها وتساؤلاتها عندما ألتقيها في المرة القادمة، والمرة التي تليها، لأن جوهر الدعاء يقوم على التواصل بين الناس، إنه كالكهرباء التي تضيء على الجميع أياً تكن اختلافاتهم. وموضوع الحمّام لم يكن أمراً أريد مناقشته في الواقع.
  ألقيت نظرة على لائحة من أدعو لهم، والتي تحتل فيها ماو موبلي المرتبة الأولى، تليها فاني لو التي تعاني من الروماتزم، وشقيقتاي إينيز ومابل في بورت غيبسون اللتان تعيشان وسط ثمانية عشر طفلاً يعاني ستة منهم من الإنفلونزا. وعندما يكون الأشخاص المتبقّون على اللائحة قليلي العدد، أذكر تلك المرأة ذات البشرة البيضاء ذات الرائحة النتنة التي تعيش وراء متجر الأغذية، تلك التي فقدت عقلها بسبب شرب مادة تلميع الأحذية. ولكن اللائحة كانت ممتلئة في ذلك المساء.
  هناك من دوّنتُ اسمه أيضاً في تلك اللائحة، برترينا بيسيمر! فالكل يعرفون برترينا التي دعتني زنجية خرقاء بسبب تزوّجي بكلايد منذ سنوات.
  قلت الأحد السابق: "يا ميني، لماذا طلبت مني برترينا الدعاء لأجلها؟".
  في ذلك اليوم، كنا عائدتين من العمل إلى المنزل عند الواحدة بعد الظهر، وأجابت ميني: "تسري شائعة أنه يُستجاب لدعائك أكثر من الأدعية التنوعية المألوفة".
  "ماذا قلتِ؟".
  "عندما كسرت أودورا غرين وركها، وأُدرجت في لائحتك، تمكنت من السير مجدداً بعد أسبوع. وسقط إيسايا من شاحنة القطن، وبعد أن دعيتِ له تلك الليلة عاد إلى العمل في اليوم التالي".
  لدى سماعي ذلك، تساءلت عن سبب عدم إدراج تريلور في لائحة دعائي. لهذا السبب ربما، أخذه الله بهذه السرعة لأنه لم يكن يريدني أن أدخل في جدال معه.
  قالت ميني: "سناف واشنطن، لولي جاكسون. لقد أُدرجت لولي في لائحتك، وبعد يومين تخلّت عن كرسيّها المدولب. الكل في مقاطعة هيندس يعرفون تلك الحادثة".
  قلت: "ولكنني لستُ من شفاها، إنه مجرد دعاء".
  "ولكن برترينا...". وضحكت ميني وقالت: "تعرفين كوكوا التي هرب معها كلايد؟".
  "بههه. تعرفين أنني لا أنساها أبداً".
  "بعد أسبوع من تخلي كلايد عنك، سمعتُ أن كوكوا استيقظت وكانت كمحارة متعفّنة. ولكن حالتها تحسنت بعد ثلاثة أشهر. لقد أخبرتني برترينا، صديقة كوكوا المقرَّبة، بذلك، هي تعلم أن دعاءك نجح في شفاء كوكوا".
  فتحتُ فمي من فَرط الدهشة. لماذا لم تخبريني بذلك من قَبل؟ "تقولين إن الناس يعتقدون أنني أمارس الشعوذة؟".
  "كنت أعرف أن هذا الأمر سيقلقك لو قمت بإخبارك. هم يظنون أنك مؤمنة أكثر مما هي حال معظم الآخرين".
  بدأ إبريق الشاي يُحدث صوتاً على جهاز الطهو، مُعيداً إيّاي إلى الواقع. يا الله، لقد أردت إدراج الآنسة سكيتر في لائحتي، ولكنني ترددتُ في ذلك. لقد عدت بالذاكرة إلى ما لا أريد التفكير فيه، وهو أن الآنسة ليفولت تبني لي حمّاماً لأنها تظن أنني مريضة، وتسألني الآنسة سكيتر عما إذا كنت راغبة في تغيير الأمور كتغيير جاكسون، ميسيسيبي مثلاً، أو لمبة.
  كنت أزيل خيوط اللوبياء في مطبخ الآنسة ليفولت عندما رنّ الهاتف، وأملت في أن تكون ميني المتصلة، وتخبرني أنها عثرت على عمل. كنت قد اتصلت بكل من عملتُ على خدمتهنّ، وقالوا لي الأمر نفسه: "لا نستخدم أحداً". ولكن ما كنّ يعنينه في الواقع هو: "لا نستخدم ميني".
  كان يوم ميني الأخير في العمل قد انقضى قبل ثلاثة أيام، ولكن الآنسة والترز اتصلت بها سرّاً في تلك الليلة، وطلبت منها الحضور لأن المنزل يبدو فارغاً بعد قيام الآنسة هيلي بنقل معظم الأثاث. لم أكن أعرف بعد ما الذي جرى بين ميني والآنسة هيلي، وأظن أنني لم أشأ أن أعرف.
  "منزل ليفولت".
  "أمم، مرحباً. هل هذا...". وتوقفت السيدة وتنحنحت. "مرحباً. هل يمكنني... هل يمكنني التحدث إلى إليزابيت لير - فولت من فضلك؟".
  "الآنسة ليفولت غير موجودة في المنزل الآن. هل يمكنني نقل رسالة ما؟".
  "آه". قالت كما لو أنها اضطربت لسبب مجهول.
  "هل يمكنني أن أسأل من المتصل؟".
  "أنا... سيليا فوت. لقد أعطاني زوجي هذا الرقم ولا أعرف إليزابيت، ولكن... حسناً، قال إنها تعرف كل شيء عن الحفلة الخيرية ورابطة السيدات". كنت أعرف ذلك الاسم، ولكن، لم أتمكن من تذكّره تماماً. فالمرأة تتكلم كما لو أنها من الريف النائي، وتنمو في حذائها حبوب الذرة. وكان صوتها عذباً بالرغم من نبرته العالية، ومع ذلك، لم تبدُ مماثلة للسيدات المحيطات بي.
  قلت: "سأُبلغها رسالتك، ما رقم هاتفك؟".
  "أنا حديثة العهد هنا. حسناً، هذا ليس صحيحاً. أقيم هنا منذ مدة طويلة تعود إلى أكثر من عام. وأنا لا أعرف أحداً في الواقع. لا... أخرج كثيراً من المنزل".
  تنحنحت مجدداً، وتساءلتُ عن سبب قيامها بقول كل هذه الأمور لي. أنا مجرّد خادمة، ولن تحظى بأي صديقة جرّاء التحدث إليّ.
  قالت: "ربما كنت أفكر في إمكانية تقديم المساعدة للحفلة الخيرية من منزلي".
  تذكّرتُ حينذاك من تكون. هي التي تسيء الآنسة هيلي والآنسة ليفولت التحدث عنها لأنها متزوجة بصديق الآنسة هيلي السابق.
  "سأُبلغها الرسالة. ما رقم هاتفك؟".
  "آه، أنا أستعد للذهاب إلى متجر البقالة. آه، ربما يُفترض بي الجلوس والانتظار".
  "ستترك رسالة لك مع عاملة المنزل".
  "لا عاملة منزل لديّ. في الواقع، كنت أخطط لطرح هذا الموضوع معها أيضاً علّها تزوّدني باسم عاملة جيدة".
  "هل تبحثين عن عاملة منزل؟".
  "أكاد أنفجر من محاولة العثور على عاملة منزل يمكنها قطع كل تلك المسافة إلى مقاطعة ماديسون".
  "أعرف عاملة منزل بارعة حقاً. هي تشتهر بطهوها، وتقوم بالاعتناء بالأطفال أيضاً. حتى إنها تستقل سيارتها للذهاب إلى منزلك".
  "آه، حسناً... لا أزال أودّ التحدث إلى إليزابيت عن الأمر. هل أعطيتك رقم هاتفي؟".
  قلت متنهّدة: "لا يا سيدتي، هيا، تفضلي". فالآنسة ليفولت لن توصي أبداً بميني بسبب أكاذيب الآنسة هيلي.
  فقالت: "منزل السيد جوني فوت، إمرسون، رقم الهاتف 260609".
  قلت تحسّباً: "اسمها ميني. هي تقيم في لايكوود، 804432. هل سجّلتِ الرقم؟".
  شدّت الطفلة ثوبي وقالت: "بط - ني يؤلمني". ففركت بطنها.
  فالتمعت فكرة في رأسي وقلت: "لحظة من فضلك، ماذا يا آنسة ليفولت؟ أه - هاه، سأقول لها". وأعدتُ وضع سمّاعة الهاتف على فمي وقلت: "يا آنسة سيليا، لقد دخلت الآنسة ليفولت للتوّ وهي تقول إنها لا تشعر أنها بخير، ولكن من الجيد أن تتصلي بميني. وتقول إنها ستتصل بك إذا كانت بحاجة إلى أي مساعدة للحفلة الخيرية".
  "آه! أخبريها أنني أقول لها شكراً، وأنني آمل حقاً في أن تغدو بصحة أفضل، وأن تتصل بي في أي وقت".
  "تُقيم ميني جاكسون في لايكوود، ورقم هاتفها 804432. لحظة من فضلك، ماذا؟". تناولتُ بسكويتة وأعطيتها لماو موبلي، مسرورةً بما أقوم به. فأنا أكذب ولا يهمّني ذلك.
  قلت للآنسة سيليا فوت: "تقول ألا تخبري أحداً عن فكرتها المتعلقة بميني لأن كل صديقاتها يُرِدن استخدامها وسيشعرن باستياء كبير إذا اكتشفن أنها أوصت بها لشخص آخر".
  "لن أشيع سرّها إذا لم تُشع سرّي. لا أريد من زوجي أن يعرف أنني استعنتُ بعاملة منزل".
  حسناً، إن الخطة غير مُحكَمة ولا أعرف عاقبة ذلك.
  عندما أنهينا المكالمة الهاتفية، طلبتُ رقم ميني بأقصى سرعة ممكنة. ولكن الآنسة ليفولت دخلت باب المنزل بينما كنت أقوم بذلك.
  كان مأزقاً حقيقياً. لقد أعطيت الآنسة سيليا تلك رقم هاتف ميني في المنزل، ولكن ميني موجودة في منزل الآنسة والترز لأنها تشعر بالوحدة. وهكذا، عندما تتصل، سيعطيها ليروي رقم هاتف الآنسة والترز لأنه مخبول. وإذا أجابت الآنسة والترز عبر الهاتف لدى اتصال الآنسة سيليا، تنكشف اللعبة برمّتها، وتخبر الآنسة والترز هذه المرأة بكل ما تشيعه الآنسة هيلي عن ميني. لذلك، كان عليّ التحدث إلى ميني أو ليروي قبل حدوث كل ذلك.
  عادت الآنسة ليفولت إلى غرفة نومها، وأول ما قامت به، كما تصوّرتُ، هو استخدام الهاتف لمدة طويلة. فاتصلت أولاً بالآنسة هيلي، ومن ثم بمصفف الشعر. اتصلت بعد ذلك بالمتجر من أجل هدية زفاف، وتحدثت مُطوَّلاً. وعندما أنهت المكالمة الهاتفية، قدِمت إليّ، وسألت عن العشاء الذي سأُعدّه طوال ذلك الأسبوع. فأخرجتُ دفتر الملاحظات، وألقيت نظرة على اللائحة. لا، هي لا تريد قِطَع لحم غنم، إنها تحاول حمل زوجها على تخفيض المصروف. هي تريد قِطَع لحم بقر مقلي وسلطة خضار، وما عدد السعرات الحرارية التي يحتوي عليها المِرَنغ برأيي؟ لا تُعطي ماو موبلي مزيداً من البسكويت لأنها سمينة جداً، وطلبات أخرى.
  فبالنسبة إلى امرأة لا تطلب مني سوى القيام بهذا الأمر أو ذاك، واستخدام ذلك الحمّام من دون سواه، لقد وجدتُ أن تحدثها إليّ كما لو أنني صديقتها المفضَّلة، أمر مفاجئ. كانت ماو موبلي ترقص بعَجَلة ولهفة، محاولةً لفت انتباه والدتها. وعندما كانت الآنسة ليفولت على وشك الانحناء، ومنح ابنتها بعض الانتباه، انطلقت خارج باب المنزل مسرعةً لأنها نسيت قضاء أمر ما في الموعد المحدد، وقد مرّت ساعة على ذلك.
  أما أنا فلم أستطع طلب رقم الهاتف بسرعة.
  "يا ميني! لقد تدبّرتُ لك عملاً، ولكن عليك البقاء قرب الهاتف...".
  قالت ميني بصوت فاتر: "لقد اتصلت، لقد أعطاها ليروي الرقم".
  قلت: "وأجابت الآنسة والترز".
  "إنها صمّاء كمِقبض باب، ولكن حدثت أعجوبة. لقد سمعَت رنين الهاتف بينما كنت أدخل وأخرج من المطبخ غير منتبهة لما يجري، وسمعتُ اسمي أخيراً. وقام ليروي بالاتصال بي بعد ذلك وعرفت ما جرى". لقد بدت ميني مُرهَقة كما لو أنها لم تتعب من قَبل.
  "حسناً. ربما لم تقم الآنسة والترز بإطلاعها على الأكاذيب التي أطلقتها الآنسة هيلي. لا يمكنك أن تعرفي". ولكنني لست مخبولة لأصدّق ذلك.
  "حتى وإن لم تقم بإخبارها، تعرف الآنسة والترز كل شيء عن جدالي مع الآنسة هيلي. لا تعرفين الأمر الشنيع والمروِّع الذي قمتُ به. لم أشأ أبداً أن تعرفيه. أنا على ثقة تامة من أن الآنسة والترز أخبرت هذه المرأة أنني لست سوى شريرة". وبدا صوتها غريباً على غرار صوت أسطوانة مسجَّلة تجري ببطء شديد.
  "آسفة. ليتني اتصلتُ بك من قَبل لتجيبي على ذلك الهاتف".
  "لقد قمتِ بما تستطيعين القيام به. لم يعد في استطاعة أحد أن يساعدني بأي شيء الآن".
  "سأدعو لك".
  قالت، وقد خبا صوتها: "شكراً لك، وأشكرك لأنك حاولت مساعدتي".
  فأنهينا المكالمة الهاتفية، وشرعتُ بالتنظيف. لقد أخافني صوت ميني.
  كانت على الدوام امرأة قوية ومناضلة. فبعد وفاة تريلور، كانت تحمل إليّ العشاء كل مساء طوال ثلاثة أشهر متواصلة، وتقول لي: "لا، لن تتركيني بمفردي على هذه الأرض المؤسفة". كنت أفكر جدياً في الانتحار.
  كنت قد ربطتُ الحبل عندما وجدته ميني، وهو كناية عن لفافة خاصة بتريلور كان يستخدمها في مشروعه العلمي المؤلّف من بَكَرات وحلقات. لم أكن واثقة باستخدامها لوضع حدّ لحياتي، لأنني لم أكن في كامل وعيي وأعرف أنها خطيئة. ومع ذلك، لم تطرح ميني أي سؤال عن اللفافة بل سحبتها من تحت السرير، ووضعتها في علبة، وأخرجتها إلى الشارع. وعندما عادت، ضربت يديها ببعضهما كما لو أنها تخلصت من أمر ما، فميني هي كل ما تبقى لديّ. أما في ذلك اليوم، فلم تكن تبدو بخير، وراودتني فكرة إلقاء نظرة تحت سريرها في ذلك المساء.
  ووضعتُ أرضاً دلواً للتنظيف من طراز صن شاين كنت أشاهد السيدات على التلفاز يبتسمن على الدوام لدى استخدامه، وجلست طلَباً بعض الراحة. فقدمت ماو موبلي ممسكةً ببطنها، وقالت: "أزيلي الوجع عنه".
  فألقت بوجهها على ساقي، وملّستُ شعرها مراراً وتكراراً حتى هدأت، شاعرةً بالحب في لمستي. وفكرتُ في كل صديقاتي وما فعلنه لأجلي، وما يفعلن كل يوم للنساء بيضاوات البشرة اللواتي يقمن على خدمتهنّ، وذلك الألم في صوت ميني، وميلور مَيت على الأرض. ونظرت إلى الطفلة التي كنت أعرف في أعماقي أنني لن أتمكن من الحؤول دون التخلّق بأخلاق والدتها. وشعرتُ بانقباض في النفس، وأغمضتُ عينيّ، وتلوت دعاء، ولكنني لم أشعر بأي تحسن.
  يا الله ساعدني، ولكن أمراً ما كان على وشك الحدوث.
  لقد تشبثت الطفلة بساقَيّ طوال فترة بعد الظهر، لدرجة أنني كنت على وشك السقوط عدة مرات، ولكنني لم أهتمّ للأمر. فالآنسة ليفولت لم تقل لي، أو لماو موبلي، شيئاً منذ صباح ذلك اليوم، بسبب انهماكها بالعمل على ماكينة الخياطة في غرفة نومها، محاولةً إخفاء أمر ما لا تحب النظر إليه في المنزل.
  بعد قليل، دخلتُ مع ماو موبلي غرفة الجلوس العادية، وحملتُ مجموعة من قمصان الآنسة ليفولت، لكيّها على أن أقوم بعد ذلك بإعداد لحم مشويّ. كنت قد نظّفت الحمّامَين، وبدّلت الملاءات، وكنست السجادات بالمكنسة الكهربائية. كنت أحاول على الدوام إنهاء أعمالي في وقت مبكّر لأتمكن من الجلوس مع الطفلة واللعب معاً.
  دخلت الآنسة ليفولت، وشاهدتني أكوي. كانت تقوم بذلك أحياناً؛ تقطّب جبينها وتنظر، وتبتسم بعد ذلك بسرعة كبيرة عندما أنظر إليها، وتربّت على الناحية الخلفية من شعرها محاوِلةً نفشه.
  "يا آيبيلين، لديّ مفاجأة لك".
  كانت تبتسم ابتسامة عريضة من دون أن تظهر أي سنّ كالعادة. "قررنا، السيد ليفولت وأنا، أن نبني لك حمّامك الخاص". ضربت راحتي يديها ببعضهما بعضاً، وأنزلت ذقنها ناظرةً إليّ. "هناك في المرأب".
  "أجل يا سيدتي". أين أمضيت كل هذا الوقت برأيها؟
  "إذاً، من الآن فصاعداً، وبدلاً من استخدام حمّام الضيوف، يمكنك استخدام حمّامك هناك. ألن يكون ذلك لطيفاً؟".
  "بكل تأكيد يا سيدتي". واستمررت بالكيّ، وكان برنامجي التلفازي على وشك البدء. ومع ذلك، فقد بقيت واقفة هناك تنظر إليّ.
  "إذاً، ستسخدمين الآن ذلك الحمّام الموجود في المرأب، هل فهمتِ؟".
  فلم أنظر إليها، أنا لا أحاول التسبب بأي متاعب، ولكنها قالت ما لديها.
  "ألا تريدين الحصول على منديل ورقي والخروج إلى هناك واستخدامه؟".
  "يا آنسة ليفولت، لا أشعر بالرغبة في الذهاب في هذه اللحظة".
  أشارت ماو موبلي إليّ من حظيرتها النقالة، وقالت: "ماو مو عصير؟".
  قلت: "سأحضر لك بعض العصير يا طفلتي".
  "آه". وعضّت الآنسة ليفولت على شفتيها مرات قليلة. "ولكن عندما تريدين دخول الحمّام، ستذهبين إلى هناك وتستخدمين ذلك الحمّام الآن، أعني... هذا الحمّام فقط، أليس كذلك؟".
  كانت الآنسة ليفولت تضع كمية كبيرة من مسحوق التبرّج مما جعل وجهها يبدو كالقشدة. وكان ذلك المسحوق المائل إلى الصفرة ممتداً حتى شفتيها أيضاً، لدرجة أنكم تكادون لا تلاحظون وجود فم لها. فقلت ما أعرف أنها تريد سماعه: "سأستخدم الحمّام الخاص بذوي البشرة الملوّنة من الآن فصاعداً، وأقوم بتنظيف الحمّام الخاص بذوي البشرة البيضاء بالكلوروكس مرة أخرى وبشكل جيد".
  "حسناً، لا شيء يدعو للعَجَلة. أي وقت من اليوم يكون جيداً".
  لكن وقوفها هناك، وتحريك خاتم زفافها بقلق، عنيا لي ضرورة القيام بالأمر في الحال.
  فوضعتُ المكواة ببطء شديد، وشعرت ببزرة المرارة تنمو في صدري، تلك التي غُرست بعد وفاة تريلور. وعبق وجهي بالحرارة، وارتعش لساني. لم أكن أدري ما أقول لها. كل ما أعرفه أنني لن أقول ما أريد قوله، وأعرف أنها لن تقول ما تريد قوله أيضاً. كان يجري أمر غريب هناك لأن أحداً لا يقول شيئاً وعلينا الشروع بحديث ما.
ميني
الفصل الثالث
  بينما كنت واقفة في ذلك المدخل الأمامي الخارجي لمنزل السيدة ذات البشرة البيضاء، قلت لنفسي، صوني لسانك يا ميني. عليّ التنبّه من زلات اللسان وبالتالي حماية ظهري. كنت أبدو كعاملة منزل تقوم بما يُطلب منها القيام به. في الحقيقة، كنت عصبية المزاج في تلك اللحظة بالذات لدرجة أنني قررت عدم الإجابة بوقاحة مرة أخرى إذا عنى ذلك الحصول على هذا العمل.
  فجذبتُ جوربيّ نحو الأعلى كيلا يرتخيا حول قدمَيّ، وهذه مشكلة كل السمينات القصيرات في العالم. ومن ثم، كرّرت ما يتعيّن عليّ قوله وما يجب الاحتفاظ به لنفسي. تقدّمت، وضعطت على الجرس.
  فرنّ جرس البابا بينغ - بونغ طويلة وملائمة لهذا المنزل الفخم الكبير في الريف. كان يبدو كقلعة ذات جدران مرتفعة من الآجرّ الرمادي في كبد السماء يساراً ويميناً، والغابات تحيط بالمَرج من كل جانب. فلو ذُكر هذا المكان في كتاب قصصي، لكانت هناك مشعوذات في تلك الغابات، مشعوذات تلتهم الأطفال.
  فُتح الباب الخلفي حيث وقفت الآنسة ماريلين مونرو أو إحدى نسيباتها.
  "مرحباً، لقد وصلتِ في الوقت المحدد. أنا سيليا، سيليا راو فوت".
  مدّت السيدة ذات البشرة البيضاء يدها لي، وقمت بتأمّلها. قد تكون مشابهة لماريلين ببنيتها الجسدية، ولكنها لم تكن مستعدة لاختبار في التمثيل. هناك دقيق على تسريحتها الصفراء، وأهدابها المستعارة، وفي كل مكان من تلك البذلة النسائية زهرية اللون غير الأنيقة. فتساءلتُ عن كيفية تمكنها من التنفس بوقوفها في سحابة من الغبار، وارتدائها تلك البذلة الضيقة.
  "أجل يا سيدتي. أنا ميني جاكسون". وملّستُ لباسي الرسمي الأبيض بدلاً من مصافحتها. لم أكن أريد تلويث يدَيّ بالدقيق. "أنت تطهين شيئاً ما؟".
  قالت متنهّدة: "إحدى تلك الكعكات المقلوبة رأساً على عقِب من المجلة، لم ينجح الأمر جيداً".
  تبعتها إلى الداخل حيث اكتشفت أن الآنسة سيليا فوت لا تعاني إلا من تلوّث ضئيل بسبب الدقيق، ولكن التلوث الأكبر موجود في بقية مطبخها. فمساحات العمل المنبسطة، والبراد ثنائيّ الأبواب، والخلاّط، مغمورة بنحو ربع بوصة من الدقيق. كانت الفوضى كفيلة بإصابتي بالجنون. فلم أحصل على العمل بعد، ولكنني بحثت عن إسفنجة في حوض الغسيل.
  فقالت الآنسة سيليا: "أظن أنه عليّ تعلّم بعض الأمور".
  قلت: "بالتأكيد". ولكنني عضضتُ بقوة على لساني. لا تخاطبي هذه السيدة ذات البشرة البيضاء بوقاحة كما فعلتِ مع الأخريات. خاطبيها على هذا النحو وتصبحين في دار العجزة.
  لكن الآنسة سيليا ابتسمت، وغسلت يديها في حوض غسيل مليء بالأطباق. فتساءلتُ عما إذا كان بالإمكان العثور على سيدة صمّاء على غرار الآنسة والترز. لنأمل ذلك.
  قالت: "لا يبدو أنني أجيد العمل المطبخي". ويمكنني القول إنها من الريف بالرغم من صوتها الهامس المماثل لصوت ماريلين في هوليوود. ونظرتُ إلى الأسفل، ورأيت قدمَيها عاريتين وتبدوان كنفايات بيضاء. السيدات بيضاوات البشرة الجيدات لا يتنقّلن عاريات الأقدام.
  إنها أصغر مني سناً ربما بعشرة أو خمسة عشر عاماً، كانت في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين من العمر ورائعة الجمال، ولكن لماذا تضع كل تلك المادة الدَّبقة على وجهها؟ أراهن على أنها تضع ضعف كمية مسحوق التجميل الذي تضعه السيدات الأخريات بيضاوات البشرة. كما أن صدرها كبير مقارنةً مع حجم جسدها أيضاً. في الواقع، لقد كانت بحجمي تقريباً سوى أنها نحيلة وأنا بدينة. وأملتُ في أن تكون مُحِبّة للطعام لأنني طاهية، وهو سبب قيام الناس باستخدامي.
  سألت: "هل أُحضر لك شراباً بارداً؟ اجلسي وسأحضر لك شيئاً ما".
  لا بد من أن أمراً غريباً يجري هنا.
  قلت عندما اتصلت بي منذ ثلاثة أيام، وسألت إذا كنت سآتي لإجراء مقابلة: "يا ليروي، لا بد من أنها مخبولة، لأن كل من في المدينة يعتقدون أنني سرقت الأواني الفضية الخاصة بالآنسة والترز، وأعلم أنها تعتقد ذلك أيضاً لأنها اتصلت بالآنسة والترز عندما كنت هناك".
  قال ليروي: "ذوو البشرة البيضاء غريبو الأطوار، من يعلم، قد لا تشيع عنك تلك السيدة المسنّة إلا الأخبار الجيدة".
  حدّقتُ إلى الآنسة سيليا راو فوت. لم يسبق أن طلبت مني امرأة بيضاء البشرة الجلوس لتقدّم لي شراباً بارداً. بدأت أتساءل عما إذا كانت تخطط لاستخدام عاملة منزلية بالفعل، أم أنها جرّتني كل هذه المسافة كتمرين رياضي فحسب.
  "قد يكون من الأفضل إلقاء نظرة على المنزل أولاً، يا سيدتي".
  فابتسمت كما لو أن فكرة تعريفي إلى المنزل الذي قد أقوم بتنظيفه لم تتبادر أبداً إلى ذهنها المكسوّ بشعر مرشوش بالرذاذ.
  "آه، بالطبع. تفضّلي يا ماكسي، سأريك غرفة الطعام الخيالية أولاً".
  قلت: "اسمي ميني".
  قد لا تكون صمّاء أو مخبولة، بل غبية ربما. وشعّ الأمل في نفسي مجدداً.
  سارت في أنحاء ذلك المنزل القديم كافة، الكبير، وغير المرتَّب، وتبعتُها. كانت هناك عشر غرف في الطابق السفلي، وفي إحداها دب رمادي محشوّ يبدو كما لو أنه التهم الخادمة الأخيرة وهو منحنٍ لالتهام التالية. وهناك علم اتحادي محروق داخل إطار معلَّق على الجدار، وعلى الطاولة مسدس فضي قديم نُقش عليه اسم الجنرال الاتحادي جون فوت. لقد راهنتُ على أن الجد الأكبر فوت كان يخيف بعض العبيد بذلك الشيء.
  خرجنا من تلك الغرفة، وبدأ المنزل يبدو جميلاً كأي منزل لذوي البشرة البيضاء. لكن، لم يسبق لي أن دخلت منزلاً بهذا الحجم بأرضيّاته القذرة وسجاداته المكسوّة بالغبار، والذي يعتبره بعض الناس بالياً. ولكن، يمكنني تمييز المنازل الأثرية القديمة عندما أراها. لقد عملتُ في بعض المنازل الرائعة، وأملتُ في ألا تكون الآنسة سيليا ريفية لدرجة أنها لا تقتني مكنسة هوفر كهربائية.
كهربائية.
  "لا تدعني والدة جوني أزيّن أي شيء. لو عاد الأمر إليّ لفرشت سجاداً أبيض من الحائط إلى الحائط، وزخارف ذهبية، واستغنيتُ عن كل هذا الأثاث القديم".
  سألتها: "من أين تتحدّر عائلتك؟".
  "أنا من... شوغر ديتش". وانخفض صوتها قليلاً. فشوغر ديتش هي المنطقة الأكثر انخفاضاً في الميسيسيبي، وفي كل الولايات المتحدة ربما. هي تقع في مقاطعة تونيكا لناحية ممفيس تقريباً. لقد رأيت صوراً عنها في الصحف ذات مرة، وتظهر فيها تلك الأكواخ الوضيعة المستأجَرة. حتى إن الأطفال ذوي البشرة البيضاء يبدون كما لو أنهم لم يتناولوا وجبة طعام منذ أسبوع.
  حاولت الآنسة سيليا الابتسام، وقالت: "هذه المرة الأولى التي أستعين فيها بعاملة منزل".
  "حسناً، أنت بحاجة إلى واحدة بالتأكيد". حذارِ يا ميني...
  "كنت سعيدة حقاً بالحصول على توصية بك من الآنسة والترز. لقد أخبرتني كل شيء عنك. قالت إن طهوك هو الأفضل في المدينة".
  لم يعنِ لي ذلك أي شيء. هل الأمر صحيح بعد كل ما صدر مني حيال الآنسة هيلي وعلى مرأى من الآنسة والترز؟ "لم تقل... أي أمر آخر عني؟".
  وصعدت الآنسة سيليا درَجاً كبيراً مقوَّس الشكل. فتبعتها إلى ردهة كبيرة حيث أشعة الشمس تدخل عبر النوافذ. وبالرغم من وجود غرفتي نوم صفراوَين للفتيات، وغرفة نوم زرقاء، وأخرى خضراء للفتيان، من الواضح أنه لم يكن هناك أي فتى أو فتاة في المنزل. لا شيء سوى الغبار.
  "لدينا خمس غرف نوم، وخمسة حمّامات هناك في المنزل الرئيس". وأشارت بيدها عبر النافذة، ورأيت بركة سباحة زرقاء كبيرة، منزلاً آخر وراءها. وخفق قلبي بقوة.
  قالت متنهّدة: "هناك منزل البركة".
  كنت مستعدة لتسلّم أي عمل في تلك المرحلة، ولكن منزلاً كبيراً مماثلاً يعود عليّ بأجر كبير. لم أمانع في أن أكون دائمة الانشغال، فأنا لا أخشى العمل. "متى ستُرزَقين ببعض الأطفال وتبدأين بملء كل هذه الأسرّة؟". وحاولتُ الابتسام والظهور بمظهر الشخص الودود.
  "آه، سنُرزَق ببعض الأطفال". وتنحنحت، متململة. "أعني، الأطفال هم الوحيدون الذين يجدر بنا العيش لأجلهم". نظرت إلى قدمَيها، وبعد قليل عادت أدراجها إلى الطابق السفلي. فتبعتها، ولاحظت كيف تمسك درابزين السلّم بإحكام في أثناء نزولها كما لو أنها تخشى السقوط.
  لدى عودتنا إلى غرفة الطعام، بدأت الآنسة سيليا تهز رأسها. قالت: "هناك كمّ هائل من العمل، كل غرف النوم والأرضيات...".
  أجبت: "أجل يا سيدتي، إنه كبير". وفكرتُ في أنها قد تلوذ بالفرار على الأرجح إذا رأت منزلي الذي يحتوي على سرير طفل في الردهة، وحمّام واحد لست مؤخرات. "ولكن، لديّ الكثير من النشاط".
  "... وهناك كل هذه الأواني الفضية التي يتعيّن تنظيفها".
  فتحَت خزانة أوانٍ فضية بحجم غرفة جلوسي، وأصلحَت وضعيّة شمعة تدور بشكل مسلٍّ في الشمعدان، وأدركتُ سبب ارتيابها.
  فبعد أن أشاعت الآنسة هيلي أكاذيبها في المدينة، أنهت ثلاث سيدات على التوالي مكالماتهنّ الهاتفية معي عندما ذكرتُ اسمي لهنّ. استعددت لتلقّي الصدمة. قولي ذلك، أيتها السيدة. قولي ما هو رأيك بي، وبأوانيك الفضية. شعرتُ بالرغبة في البكاء، مفكرةً في هذا العمل الذي سيكون ملائماً لي، وفي ما فعلته الآنسة هيلي لمنعي من الحصول عليه. وركّزت نظري على النافذة، آملةً ومصلّيةً لئلا تنتهي المقابلة عند هذا الحدّ.
  "أعلم، تلك النوافذ عالية جداً. لم أحاول تنظيفها من قبل".
  تنفستُ الصعداء. فالتطرق إلى النوافذ أفضل من التطرق إلى الأواني الفضية بالنسبة إليّ. "لا أخشى أي نوافذ. كنت أنظف نوافذ الآنسة والترز من الأعلى إلى الأسفل كل أربعة أسابيع".
  "هل كان منزلها مؤلّفاً من طابق واحد أو طابقين؟".
  "حسناً، من طابق واحد... ولكن، هناك الكثير من العمل فيه. ففي المنازل القديمة الكثير من الزوايا والصدوع، كما تعلمين".
  أخيراً، عدنا إلى المطبخ، وحدّق كلانا إلى طاولة الفطور، ولكن أيّاً منّا لم تجلس إليها. وأخذتني الحَيرة بما تفكر فيه، وبدأ العرق يتصبّب من رأسي.
  قلت: "لديك منزل كبير وجميل، إنه الأفضل في هذه الناحية من الريف. هناك الكثير من العمل فيه".
  بدأَت بتحريك خاتم زفافها. "أعتقد أن العمل في منزل الآنسة والترز أكثر سهولة من العمل في هذا المنزل. أعني، هذا هو وضعه في الوقت الحاضر، ولكن عندما نُرزَق بأطفال...".
  "تفكرين في الحصول على خادمات أخريات؟".
  فتنهدَت. "قدمت مجموعة منهنّ إلى هنا. لم أجد... الخادمة المناسبة بعد". وقضمت أظافر أصابعها، وحوّلت نظرها عنّي.
  انتظرتُ أن تقول لي إنني لست الخادمة المناسبة كذلك، ولكننا وقفنا هناك نتنفس ذلك الدقيق. في النهاية، لعبتُ ورقتي الأخيرة، وبُحت بمكنونات صدري لأنه كل ما تبقى لديّ لأقوله.
  "تعلمين، لم أترك العمل لدى الآنسة والترز إلا لأنها ستنتقل للعيش في منزل للراحة. لم تقم بطردي".
  لكنها حدّقت فحسب إلى قدميها العاريتين ذات الأخمصين السوداوين من الأسفل لأنه لم يتم تنظيف الأرضيات منذ انتقالها إلى هذا المنزل الكبير، القديم، والقذر. من الواضح أن هذه السيدة لا تريدني.
  قالت: "حسناً، أقدّر قيامك بالقيادة كل هذه المسافة. هل يمكنني أن أعطيك على الأقل بعض المال لوقود السيارة؟".
  فالتقطتُ محفظة يدي، ووضعتها تحت إبطي، ورمقتني بابتسامة تعبّر عن سرورها كان في استطاعتي إزالتها بضربة واحدة. تباً لهيلي هولبروك تلك.
  "لا يا سيدتي، لا يمكنك".
  "كنت أعلم أنه سيكون من الصعب عليّ العثور على شخص ما، ولكن...".
  ووقفتُ هناك أستمع إليها وهي تبدي أسفها، ولكنني قلت في نفسي، أَنهي المسألة يا سيدتي كي أتمكن من إخبار ليروي أنه علينا الانتقال إلى القطب الشمالي بالقرب من سانتا كلوز حيث لا يسمع أحد الأكاذيب التي تحوكها هيلي عنّي.
  "... ولو كنت مكانك لما رغبت في تنظيف هذا المنزل الكبير أيضاً".
  فنظرتُ إليها مباشرةً. كانت تبحث عن أعذار أكثر من المعتاد، مدّعية أنني لن أحصل على العمل لأنني لا أريده.
  "متى سمعتني أقول إنني لا أريد تنظيف هذا المنزل؟".
  "لا بأس، سبق لخمس خادمات أن قلن لي إنه عمل شاق".
  نظرتُ إلى جسدي الذي يبلغ وزنه مئة وخمسة وستين رطلاً، وطوله خمس أقدام، وقلت: "عمل كثير بالنسبة إليّ؟".
  فنظرَت إليّ بعنين طارفتين للحظات. "س... ستقومين بتنظيف المنزل؟".
  "لماذا قدتُ تلك المسافة إذاً إلى هنا، لإحراق الوقود فقط؟". وأطبقتُ فمي بإحكام. لا تُفسدي الأمور الآن، إنها تعرض عليك فرصة العمر. "يا آنسة سيليا، سأكون سعيدة بالعمل لديك".
  فضحكَت المرأة المخبولة، وهمّت بمعانقتي، ولكنني عدت إلى الوراء قليلاً لإعلامها أن الأمور لا تسير على هذا النحو.
  "توقفي الآن، علينا التحدث عن بعض الأمور أولاً. عليك أن تقولي لي في أي أيام تريدين مني المجيء إلى هنا و... هذا النوع من الأمور". مثل، ما الأجر الذي ستدفعينه.
  قالت: "أعتقد... كلما شعرتِ بالرغبة في المجيء".
  "أعمل للآنسة والترز من الأحد حتى الجمعة".
  وقضمت الآنسة سيليا ظفرها زهري اللون. "لا يمكنك القدوم إلى هنا في نهاية الأسبوع".
  "حسناً". كنت بحاجة إلى العمل في تلك الأيام، ولكنها قد تستعين بي لاحقاً في بعض الحفلات أو في أي شيء آخر. "من الاثنين حتى الجمعة إذاً. والآن، في أي وقت تريدين مني أن آتي إلى هنا في الصباح؟".
  "في أي وقت تريدين أن تأتي؟".
  لم أُمنح حق الاختيار في هذا الشأن من قبل، وشعرتُ أن عينيّ تضيقان. "ما رأيك عند الساعة الثامنة؟ كنت أصل إلى منزل الآنسة والترز عند هذه الساعة".
  "حسناً، الساعة الثامنة توقيت جيد". ووقفت هناك كما لو أنها تنتظر خطوتي التالية.
  "الآن، يُفترض بك تحديد وقت مغادرتي".
  سألت سيليا: "في أي وقت؟".
  فقلّبتُ عينيّ ناظرةً إليها. "يا آنسة سيليا، يُفترض بك أن تقولي لي ذلك. هكذا تجري الأمور".
  ابتلعت كما لو أنها تحاول جاهدةً تخطي هذه المرحلة. وأردت الانتهاء من الأمر قبل أن تبدّل رأيها.
  قلت: "ماذا عن الرابعة؟ أعمل من الثامنة حتى الرابعة، وأحصل على بعض الوقت لتناول ما يتوفر لي من طعام في فترة الغداء".
  "جيد".
  قلتُ: "الآن... علينا التحدث عن الأَجر". وبدأت أصابع قدمَيّ تتحرك في حذائي. من المحتمل ألا يكون الأَجر عالياً لأن خمس خادمات رفضن العمل.
  لم تقل أي منا شيئاً.
  "حسناً، هيا يا آنسة سيليا. ما الأجر الذي يقول زوجك إنه يستطيع دفعه؟".
  حوّلت نظرها إلى غسالة فيغ - أو - ماتيك، وأراهن على أنها لا تجيد استخدامها، وقالت: "جوني لا يعرف".
  "حسناً إذاً. اسأليه هذا المساء عن الأجر الذي يريد دفعه".
  "لا، جوني لا يعلم أنني أستعين بخدمات عاملة منزلية".
  وسقط ذقني حتى صدري. "ماذا تعنين أنه لا يعرف؟".
  "لن أخبر جوني". واتسعت عيناها الزرقاوان كما لو أنها تخشاه حتى الموت.
  "وماذا سيفعل السيد جوني إذا عاد إلى المنزل ووجد امرأة ذات بشرة ملوَّنة في مطبخه؟".
  "آسفة، لا أستطيع...".
  "سأخبرك بما سيفعله. سيأتي بمسدسه ويقتل ميني على هذه الأرضية غير المصقولة".
  هزت الآنسة سيليا رأسها. "لن أخبره".
  "إذاً، عليّ الرحيل". قلت. تبّاً، كنت أعلم ذلك. كنت أعلم أنها مخبولة عندما دخلتُ المنزل...
  "لا أريد أن أكذب عليه، ولكنني بحاجة إلى عاملة منزل فحسب...".
  "أنت بحاجة إلى عاملة منزل بالطبع. لقد تلقّت الأخيرة طلقاً نارياً في رأسها".
  "هو لا يأتي إلى المنزل أبداً في أثناء النهار. قومي فقط بأعمال التنظيف التي تتطلب جهداً وعلّميني كيف أُعدّ العشاء، ولن يتطلب الأمر سوى أشهر قليلة...".
  شعرتُ بالوخز في أنفي بسبب رائحة شيء ما يحترق، ورأيت دخاناً ينفث من جهاز الطهو. "وماذا بعد ذلك، هل ستقومين بطردي بعد أشهر قليلة؟".
  قالت، مقطِّبةً جبينها: "حينذاك... أخبره، رجاءً، أريده أن يعتقد أنني قادرة على القيام بالأعمال المنزلية بمفردي. أريده أن يعتقد أنني... جديرة بالعناء".
  "يا آنسة سيليا...". هززت رأسي غير مصدّقة أنني أتجادل مع هذه السيدة من دون أن أكون قد بدأتُ بالعمل لديها. "أعتقد أنك حرقتِ كعكتك".
  فالتقطَت قطعة قماش، وهرعَت إلى جهاز الطهو، وأخرجَت الكعكة بسرعة. "أوو! تبّاً!".
  فوضعتُ حقيبة يدي، ومررتُ بجانبها بطريقة منحرفة. "لا يمكنك استخدام منشفة مبلَّلة لإمساك وعاء ساخن".
  التقطتُ قطعة قماش جافة، وأخرجتُ الكعكة السوداء من جهاز الطهو، ووضعتُها على العتبة الإسمنتية.
  نظرت الآنسة سيليا إلى يدها المحروقة. "قالت الآنسة والترز إنك طاهية ماهرة".
  "تلك المرأة المسنّة تتناول حبّتي فاصولياء وتقول إنها شبعت. لم أستطع حملها على تناول أي شيء".
  "كم كنت تتقاضَين؟".
  قلت: "دولاراً في الساعة". وشعرتُ ببعض الخجل. لقد مضى على عملي هناك خمس سنوات، ولم أتقاضَ بعد الحد الأدنى للأجور.
  "إذاً، سأدفع لك دولارَين".
  فشعرتُ أنني أفقد أنفاسي.
  "متى يخرج السيد جوني من المنزل في الصباح؟". سألتُ بينما كنت أنظف الزبدة الذائبة على المنضدة.
  "عند الساعة السادسة. لا يمكنه المكوث في المنزل طويلاً، ويعود من مكتبه العقاري نحو الخامسة".
  فقمتُ ببعض الحسابات، ووجدتُ أنني سأتقاضى أجراً أكبر، بعدد أقل من ساعات العمل. ولكنني لن أتلقى أي أجر إذا تلقّيت طلقاً نارياً قاتلاً. "سأغادر عند الثالثة إذاً. سأمنح نفسي ساعتين للقدوم والذهاب كي أبقى بعيدة عن طريقه".
  فأومأت برأسها قائلة: "جيد، من الأفضل التزام الحذر".
  على درجة الباب الخلفي، وضعت الآنسة سيليا الكعكة داخل كيس ورقي. "عليّ دفنها في وعاء القمامة كيلا يعلم أنني أحرقت كعكة أخرى".
  فأخذت الكيس من بين يديها. "لن يرى السيد جوني أي شيء. سأرميه في وعاء القمامة عندما أعود إلى منزلي".
  "آه، شكراً لك". هزت الآنسة سيليا رأسها كما لو أنه العمل الأكثر لطافة الذي يقوم به شخص لأجلها، ووضعَت قبضتي يديها تحت ذقنها. وخرجتُ إلى سيارتي.
  فجلستُ على المقعد الغائص لسيارة الفورد التي لا يزال ليروي يدفع اثني عشر دولاراً كل أسبوع لصاحب عمله لتسديد ثمنها. شعرت بالارتياح. لقد حصلتُ أخيراً على عمل، وليس عليّ الانتقال إلى القطب الشمالي. لن يُخيَّب أمل سانتا كلوز.
  "اجلسي على مؤخرتك يا ميني لأنني سأُطلعك على قواعد العمل في منزل سيدة بيضاء البشرة".
  كنت في الرابعة عشرة من عمري، وجلست إلى الطاولة الخشبية الصغيرة في مطبخ والدتي أراقب كعكة الكاراميل الموجودة على رف التبريد. فذكرى المولد هي الأيام الوحيدة في السنة التي كان يُسمح لي فيها بتناول قدر ما أشاء من الطعام.
  كنت على وشك التخلي عن المدرسة، والشروع بعملي الحقيقي الأول. لطالما أرادت والدتي أن أبقى في المدرسة، وأن أرتقي إلى الصف التاسع. لقد رغبَت على الدوام في أن أكون معلمة مدرسة بدلاً من العمل في منزل الآنسة وودرا. ولكن أمر الإعالة كان منوطاً بي وبوالدتي، لأن والدي سكّير ولا خير منه، وتعاني شقيقتي من مشكلة في القلب. كنت أملك بعض المعلومات عن العمل المنزلي، فبعد المدرسة، كنت أطهو وأقوم بأعمال التنظيف. ولكن، إذا ذهبتُ للعمل في منزل شخص ما، من سيهتم لأعمالنا المنزلية؟
  فدفعتني والدتي بكتفَيّ وجعلتني أستدير وألتفت إليها بدلاً من النظر إلى الكعكة. كانت والدتي لائقة ولا تأخذ شيئاً من أحد، فحرّكت إصبعها بالقرب من وجهي مما جعلني حولاء.
  "القاعدة رقم واحد للعمل لدى سيدة بيضاء البشرة، يا ميني: لا شأن لك بما يحدث في ذلك المنزل. لا تتدخلي بمشاكل سيدتك ذات البشرة البيضاء، ولا تُقحميها بمشاكلك، كأن تقولي لها إنك لا تستطيعين دفع فاتورة الكهرباء، وإن قدميك تؤلمانك. تذكّري أمراً واحداً، وهو أنّ ذوي البشرة البيضاء ليسوا أصدقاءك، ولا يريدون سماع مشاكلك. وعندما تفاجئ السيدة ذات البشرة البيضاء رجلها مع السيدة المقيمة في المنزل المجاور، ابقَي بعيدة عما يجري، هل سمعتني؟
  القاعدة رقم اثنين، لا تدعي تلك السيدة بيضاء البشرة تراكِ جالسةً على مرحاضها. إذا لم يكن هناك حمّام لعاملة المنزل في الخارج، جدي لنفسك الوقت عندما لا تكون موجودة لدخول حمّام لا تستخدمه".
  "القاعدة رقم ثلاثة، وأدارت والدتي رأسي باتجاهها، ممسكةً بذقني لأن الكعكة كانت قد أغوتني مجدداً. "القاعدة رقم ثلاثة، عندما تطهين طعام ذوي البشرة البيضاء، قومي بتذوّقه بملعقة مختلفة. ضعي تلك الملعقة في فمك، فكّري في أن أحداً لا ينظر إليك، وأعيدي وضعها في القِدر، أو يمكنك وضعها جانباً.
  القاعدة رقم أربعة، استخدمي الكوب نفسه، والشوكة نفسها، والطبق نفسه كل يوم. أبقيها في خزانة منفصلة، وأخبري تلك المرأة بيضاء البشرة أنك ستستخدمين تلك الأواني من الآن فصاعداً.
  القاعدة رقم خمسة، تناولي طعامك في المطبخ.
  القاعدة رقم ستة، لا تضربي أطفالها. يحب ذوو البشرة البيضاء صفع أطفالهم بأنفسهم.
  القاعدة رقم سبعة، إنها القاعدة الأخيرة يا ميني. هل تستمعين إليّ؟ لا تتكلمي بوقاحة".
  "يا أمي، أعرف كيف...".
  "آه، أسمعك تتذمّرين بصوت خافت، عندما تعتقدين أنني لا أسمعك، عندما يكون عليك القيام بتنظيف أنبوب تصريف دخان الموقد، وعندما تكون قطعة الدجاج الصغيرة المتبقية من نصيب ميني المسكينة. أجيبي امرأة بيضاء البشرة بوقاحة في الصباح، تجدي نفسك تتذمرين في الشارع بعد الظهر".
  لقد شاهدتُ طريقة تصرّف والدتي عندما أدخلَتها الآنسة وودرا إلى منزلها، وكيف تقول باستمرار، أجل يا سيدتي، لا يا سيدتي، أشكرك بكل صدق يا سيدتي. لماذا يجب عليّ أن أتصرف بهذه الطريقة؟ أعرف كيف أواجه الناس بجرأة.
  "الآن، تعالي إلى هنا وعانقي والدتك بمناسبة ذكرى مولدك، يا الله، أنت ثقيلة كمنزل، يا ميني!".
  "لا آكل طوال اليوم، متى يمكنني الحصول على كعكتي؟".
  "لا تقولي لا آكل بل لم آكل. أنت تتكلمين الآن بطريقة صحيحة. لم أربِّك لتتكلمي كبغل".
  في اليوم الأول لوجودي في منزل السيدة ذات البشرة البيضاء، تناولتُ شطيرة لحم مقدَّد في المطبخ، ووضعتُ طبقي في المكان المخصص له في الخزانة. وعندما قامت تلك الطفلة الصغيرة بسرقة حقيبة يدي وإخفائها في جهاز الطهو، لم أضربها على مؤخرتها.
  لكن، عندما قالت السيدة بيضاء البشرة: "أريدك الآن أن تغسلي كل الملابس بيديك في بادئ الأمر وأن تضعيها بعد ذلك في الغسالة الكهربائية لإنهاء غسلها". قلت: "لماذا يجب عليّ غسلها باليد في حين أن الغسالة الكهربائية تقوم بالمهمة؟ إنه أكبر هدر للوقت سمعتُ به يوماً".
  فابتسمت السيدة بيضاء البشرة ابتسامة ساخرة، وبعد خمس دقائق كنت في الشارع.
  بعملي لدى الآنسة سيليا، بات في استطاعتي إيصال أطفالي إلى مدرسة سبان الإعدادية في الصباح، وتخصيص وقت للاهتمام لنفسي في المساء. لم أحصل على قيلولة منذ ولادة كيندرا عام 1957، ولكن، بدوام العمل هذا من الثامنة حتى الثالثة كان في استطاعتي الحصول على قيلولة كل يوم، وهو مفهومي لتمضية وقت جميل. وبما أن أي حافلة لا تصل إلى منزل الآنسة سيليا، كان عليّ استخدام سيارة ليروي.
  "لن تأخذي سيارتي كل يوم، يا امرأة. ماذا لو أصبحت نوبة عملي في النهار واحتجتُ إلى...".
  "إنها تدفع لي سبعين دولاراً نقداً كل يوم جمعة، يا ليروي".
  "ربما أستقلّ دراجة شوغر".
  في يوم الثلاثاء، أي اليوم التالي للمقابلة، ركنتُ السيارة وراء منعطَف في الشارع الذي يوجد فيه منزل الآنسة سيليا كيلا يراها أحد. وركضتُ بسرعة على الطريق الخاوية، ودخلت الممرّ الخاص بالمنزل. لم تكن تمرّ أي سيارة من هناك.
  "أنا هنا، يا آنسة سيليا". أدخلتُ رأسي إلى غرفة نومها، ورأيتها مستلقية وسط أغطيتها بتبرّجها المثالي، وقميص النوم المشدودة الخاصة بيوم الجمعة، عِلماً أنه يوم الثلاثاء، تقرأ مجلة هوليوود دايجست التافهة كما لو أنها كتاب عظيم الأهمية.
  قالت: "صباح الخير، يا ميني! تُسعدني حقاً رؤيتك". اقشعرّ بدني بسبب سماع سيدة بيضاء البشرة تتكلم بهذه المودة.
  فألقيت نظرة على أرجاء الغرفة، مقدّرةً حجم المهمة. كانت كبيرة وتحتوي على سجادة فاتحة اللون، وسرير ملَكي أصفر مسقوف، وكرسيَّين صفراوَين كبيرين. كانت أنيقة ولا وجود لأي ملابس على الأرض، وكان فراش السرير تحت الآنسة سيليا مرتباً، والملاءة مطويّة بشكل جيد وموضوعة على الكرسي. ولكنني راقبتُ ونظرتُ، وكان في استطاعتي الشعور بوجود خَطب ما.
  سألَت: "متى يمكننا البدء بدرس الطهو الأول، هل يمكننا البدء اليوم؟".
  "بعد أيام قليلة كما أعتقد، بعد أن تذهبي إلى المتجر، وتحصلي على ما نحتاج إليه".
  فكرَت في ذلك لبضع ثوانٍ وقالت: "ربما يتعيّن عليك الذهاب بنفسك، يا ميني، بما أنك تعرفين ما يجب شراؤه".
  فنظرت إليها. إن معظم النساء بيضاوات البشرة يرغبن في التسوّق بأنفسهنّ. "حسناً، سأذهب صباح غد إذاً".
  رأيتُ بطانية صوفية صغيرة، زهرية اللون، وسميكة موضوعة بشكل منحرف فوق السجادة بالقرب من باب الحمّام. أنا لست مزيِّنة منازل، ولكنني أُدرك أن بطانية زهرية اللون لا تتلاءم مع غرفة صفراء.
  "يا آنسة سيليا، قبل أن أباشر بالعمل لديك، أريد أن أعرف متى تخططين بالتحديد لإطلاع السيد جوني على أمري؟".
  كانت تطالع والمجلة في حضنها. "بعد أشهر قليلة كما أعتقد. أكون قد تعلّمت الطهو في غضون تلك المدة".
  "هل تعنين بأشهر قليلة شهرَين؟".
  عضّت على شفتيها المكسوّتين بأحمر الشفاه. "كنت أفكر في أكثر من ذلك... أربعة أشهر".
  ماذا أقول؟ لن أعمل أربعة أشهر كمجرمة فارّة. "لن تقومي بإخباره حتى العام 1963؟ لا، يا سيدتي، قبل الميلاد".
  فتنهّدت. "حسناً، ولكن قبل الميلاد مباشرةً".
  قمتُ ببعض الحسابات. "أي بعد مرور مئة... وستين يوماً. ستقومين بإخباره بعد مئة وستين يوماً".
  فرمقتني بوجه عابس قلق. أظن أنها لم تكن تتوقع وجود خادمة تجيد الحساب. أخيراً، قالت: "موافِقة".
  وقلت لها بعد ذلك إن عليها الانتقال إلى غرفة الجلوس لإنهاء عملي في غرفة النوم. وعندما ذهبَت، نظرتُ إلى الغرفة متأمّلةً أناقتها. وببطء شديد، فتحتُ خزانتها وسقط خمسة وأربعون غرضاً على رأسي كما توقعتُ. وألقيتُ نظرةً تحت السرير، فوجدتُ ملابس متّسخة أراهن على أنها لم تُغسَل منذ أشهر.
  كانت الفوضى تعمّ الأدراج، والملابس المتسخة، والجوارب الطويلة الملفوفة، تملأ الزوايا. لقد وجدتُ خمس عشرة علبة قمصان جديدة للسيد جوني تقوم الآنسة سيليا بتزويده بها كيلا يعلم أنها لا تُجيد غسل الملابس وكيّها. أخيراً، رفعت تلك البطانية زهرية اللون والمُضحكة، ووجدت تحتها بقعة كبيرة بلون الصدَأ، فارتجفتُ.
  بعد ظهر ذلك اليوم، وضعتُ والآنسة سيليا لائحة بما يتعيّن طهوه في ذلك الأسبوع، وقمت في صباح اليوم التالي بتسوّق البقالة. ولكن الأمر تطلّبني مدة مضاعَفة من الوقت لأنه كان عليّ القيادة إلى جيتني جانغل الخاص بذوي البشرة البيضاء في المدينة، بدلاً من التسوّق من متجر بيغلي ويغلي الخاص بذوي البشرة الملوَّنة، القائم بجانب منزلي، لأنني تصوّرتُ أنها لن تتناول بقالة من متجر للملوَّنين، ولم ألُمها على ذلك، بسبب حبوب البطاطا التي تحتوي على ثقوب بقياس بوصة، والحليب لاذع الطعم إلى حدٍّ ما. وعندما عدت إلى العمل، كنت مستعدة للشجار معها بشأن الأسباب التي حملتني على التأخر، ولكن الآنسة سيليا كانت على سريرها كما في اليوم السابق، مرتديةً ثيابها من دون أن تكون ذاهبة إلى أي مكان، وتبتسم كأن شيئاً لم يحدث. لقد جلست هناك تقرأ المجلات لمدة خمس ساعات، ولم تنهض إلا لإحضار كوب من الحليب أو لدخول الحمّام. ولكنني لم أقل أي شيء لأنني خادمة ليس إلا.
  بعد تنظيف المطبخ، قصدتُ غرفة الجلوس العادية. فتوقفت عند المدخل ورمقت ذلك الدب الرمادي بنظرة مديدة. كان يبلغ طوله سبع أقدام، ويكشف عن أنيابه، وكان فكاه طويلين ومتقوّسين كفكَّي مشعوذة، ويوجد عند قدمَيه سكين صيد ذو مِقبض مصنوع من العظام. فدنوت منه، ورأيت فراءه مكسوّاً بالغبار، وخيوط العنكبوت بين فكَّيه.
  في بادئ الأمر، أزلت الغبار بالمكنسة، ولكنه كان سميكاً وملتصقاً بالفراء. لذلك، التقطت قطعة قماش، وحاولت إزالة الغبار، ولكنني كنت أُطلق صوتاً عالياً كلما لمس ذلك الشعر السِلكي يدي. يا لذوي البشرة البيضاء! لقد نظفت كل شيء بدءاً بالبرادات وانتهاءً بالأماكن الخلفية، ولكن، ما الذي جعل تلك السيدة تظن أنني أُجيد تنظيف دب رمادي لعين؟!
  ذهبت لإحضار مكنسة الهوفر، وأزلت القذارة عن الفراء، وأظن أنني نجحت في الأمر باستثناء بعض البُقع التي لم تزُل تماماً بالرغم من تركيزي عليها.
  بعد انتهائي من الدب، أزلت الغبار عن الكتب المزخرفة التي لا يقرأها أحد وعن أزرار المعطف الاتحادي، والمسدس الفضي. كان هناك إطار ذهبي لصورة الآنسة سيليا والسيد جوني عند زواجهما، فنظرت عن قُرب لرؤية أي نوع من الرجال هو. وأملت في أن يكون بديناً، وذا سيقانٍ قصيرة كيلا يتمكن من اللحاق بي إذا ما اضطُررت إلى الهرب، ولكنه لم يكن كذلك. كان قوي البنية، طويل القامة، مكتنز الجسم، ومألوفاً بالنسبة إليّ كذلك. يا الله، إنه الشخص الذي كان يرافق الآنسة هيلي طوال تلك السنوات عندما عملتُ في بادئ الأمر لدى الآنسة والترز. لم ألتقِ به أبداً، ولكنني رأيته مرات عدة وهي كفيلة بأن أعرفه. فارتجفتُ، وازدادت مخاوفي أضعافاً مضاعَفة لأن مرافقته للآنسة هيلي كفيلة بمعرفة طباعه.
  عند الساعة الواحدة، قدِمت الآنسة سيليا إلى المطبخ، وقالت إنها جاهزة لدرسها الأول في الطهو، وجلسَت على كرسي بلا ظهر. كانت ترتدي كنزة صوفية حمراء ضيّقة وتنورة حمراء، وتضع مقداراً كبيراً من مساحيق التبرّج كفيلة بإخافة فتاة ليل.
  سألتُ: "ماذا تعرفين عن الطهو؟".
  ففكرَت في الأمر، مغضّنةً جبينها. "لا شيء".
  "لا بد من أن يكون هناك ما تجيدين إعداده. ماذا علّمتك والدتك في أثناء نشأتك؟".
  فنظرت إلى جوربيها الطويلين الشبيهين بنسيج العنكبوت وقالت: "أجيد إعداد خبز الذرة".
  لم أتمالك نفسي من الضحك. "ما الذي تجيدين إعداده إلى جانب خبز الذرة؟".
  "أجيد سلق البطاطا". وغدا صوتها أكثر انخفاضاً. "وأجيد طهو البُرغل. لم يكن لدينا تيار كهربائي حيث كنا نقيم. ولكنني مستعدة للتعلّم على الفور على جهاز طبخ حقيقي".
  يا الله. لم يسبق لي أن التقيت شخصاً أبيض البشرة أسوأ مني باستثناء الآنسة والي المخبولة التي تقيم وراء متجر كانتون، وتتناول طعام الهررة.
  "تُطعمين زوجك البرغل وخبز الذرة كل يوم؟".
  فأومأت الآنسة سيليا برأسها. "ولكنك ستعلّمينني الطهو، أليس كذلك؟".
  قلت: "سأحاول". عِلماً أنه لم يسبق لي أن قلت لامرأة بيضاء البشرة ما يجب عليها القيام به، ولم أكن أعرف كيفية الشروع بذلك. فسحبت جوربي الطويلين نحو الأعلى، وفكّرت في الأمر. أخيراً، أشرت إلى الوعاء المعدني على المنضدة.
  "أعتقد أنه إذا كان هناك ما يتعيّن عليك معرفته عن الطهو، فهو ذلك الموجود في هذا الوعاء المعدني".
  "إنه شحم حيواني، أليس كذلك؟".
  قلت: "لا، ليس شحماً حيوانياً، إنه الاختراع الأكثر أهمية في العمل المطبخي بعد المايونيز".
  "ما الذي يجعله مميَّزاً إلى هذا الحد". وغضّنت أنفها بعد أن قرّبته من الوعاء "شحم حيواني؟".
  "لا، ليس منتوجاً حيوانياً، إنه منتوج نباتي". من في العالم لا يعرف ما الكريسكو؟ "لا يمكنك أن تتخيلي الأمور التي يمكنك القيام بها بواسطته".
  فهزّت كتفيها. "القلي؟".
  "ليس للقلي فقط. ألم يلتصق بشعرك، ذات يوم، شيء ما كعلكة مثلاً؟". ومددت إصبعي باتجاه وعاء الكريسكو. "صحيح، إنه الكريسكو. ادهني بعضاً منه على مؤخرة الطفل، ولن تواجهي أبداً مشكلة الطفح الجلدي الذي يتسبب به الحفاض". ووضعتُ ثلاث ملاعق كبيرة في قِدر طبخ سوداء. "لقد رأيت سيدات يدهنّ منه تحت عيونهنّ، وعلى أقدام أزواجهنّ الحرشفية".
  قالت: "انظري كم هو جميل، كناطف الكعكة الأبيض".
  "نظفي المادة الدَّبقة التي تخلّفها بطاقة السعر بعد نزعها، أزيلي صرير مِفصلة الباب، لدى انقطاع الكهرباء، ضعي فتيلاً فيه، وأشعليه كشمعة".
  أشعلتُ النار، وشاهدناه يذوب في قِدر الطبخ. "وبعد كل ذلك، يقلي الدجاج".
  قالت، مركّزةً بشدة: "كل شيء على ما يُرام، ماذا بعد؟".
  قلت: "ننقع قِطع الدجاج بمَخيض الحليب، والآن، نضيف المستلزمات الجافة". وسكبتُ دقيقاً، وملحاً، ومزيداً من الملح، والفلفل، والفلفل الأحمر، ورشّة فلفل أحمر حر، داخل كيس ورقي مزدوج.
  "الآن، نضع قِطَع الدجاج في الكيس، ونهزّه".
  وضعت الآنسة سيليا فخذ دجاج نيء داخل الكيس، وهزّته بقوة. "على هذا النحو؟ على غرار إعلانات شايك آند بايك على التلفاز؟".
  قلت: "أجل". ومرّرتُ لساني على أسناني لأنه إذا لم تكن هذه الحركة شتيمة، فلا أعرف ما تكون. "على غرار شايك آند بايك". ولكنني تسمّرتُ في مكاني بسبب سماعي صوت محرك سيارة على الطريق. فوقفتُ بلا حراك واستمعت. ورأيت عيني الآنسة سيليا تتسعان، وكانت تستمع أيضاً. كنا نفكر في الأمر نفسه، ماذا لو كان هو، وأين أختبئ؟
  وابتعد صوت محرّك السيارة، فتنفسنا الصُعداء.
  قلت، صارّةً أسناني: "يا آنسة سيليا، هل يُعقل ألا تخبري زوجك عني؟ ألن يعرف عندما تتحسن نوعية الطهو؟".
  "آه، لم أفكر في ذلك! ربما يجدر بنا إحراق قِطَع الدجاج قليلاً".
  نظرتُ إليها جانبياً. لن أحرق أي قِطع دجاج. فهي لم تُجب عن سؤالي، ولكنني سأحصل على الإجابة في وقت قريب.
  بحذر شديد، وضعتُ اللحم داكن اللون في قِدر الطبخ. وبدأ يبقبق كما لو أننا نستمع إلى أغنية، وشاهدنا لون الأفخاذ يتحوّل إلى بنّي. فنظرتُ إلى الآنسة سيليا ورأيتها تبتسم لي.
  "ماذا؟ هناك شيء على وجهي؟".
  "لا". قالت، وترقرقت عيناها بالدموع. فلمست ذراعي. "أنا شديدة الامتنان لأنك موجودة هنا".
  أبعدتُ ذراعي عن يدها. "يا آنسة سيليا، عليك أن تكوني ممتنّة لأمور كثيرة غير وجودي معك".
  "أعلم". نظرَت إلى قِطع الدجاج المُتقَنة كما تنظر إلى أمر سيئ المذاق. "لم أحلم أبداً أن أحصل على كل ذلك".
  "حسناً، ألستِ محظوظة؟".
  "لم أشعر بهذه السعادة كل حياتي".
  لم أُضف أي كلمة أخرى. فبالرغم من كل تلك السعادة، من المؤكد أنها لم تكن تشعر بالسعادة في الصميم.
♦  ♦  ♦
  في تلك الليلة، اتصلتُ بآيبيلين.
  "كانت الآنسة هيلي عند الآنسة ليفولت يوم أمس". قالت آيبيلين. "سألَت عما إذا كان أحد يعرف المكان الذي تعملين فيه".
  "يا الله، لو عرفت بأمري لأفسدَت كل شيء بالتأكيد". لقد مر أسبوعان على ذلك الأمر الشنيع والمروِّع الذي فعلته لتلك المرأة. كنت أعلم أنها تحب أن تراني أُطرَد على الفور.
  سألت آيبيلين: "ماذا قال ليروي عندما أخبرته أنك حصلت على عمل؟".
  قلت: "لقد جال في المطبخ متبختراً أمام الأطفال كديك مزيَّن بالريش، كان يتصرف كما لو أنه الوحيد الذي يُعيل العائلة وأن ما أقوم به هو للتسلية فقط. ومع ذلك، وفي وقت لاحق على السرير، بكى زوجي الذي كنت أظن أنه ثور صلب العود".
  ضحكت آيبيلين. "يشعر ليروي بكثير من الاعتداد بالنفس".
  "أجل، أبقى بعيدة عن نظر السيد جوني كيلا يكتشف أمري".
  "ولم تُطلعك على سبب عدم رغبتها في أن يعرف بوجودك؟".
  "كل ما قالته إنها تريده أن يعتقد أنها تجيد الطهو والتنظيف بنفسها. ولكنه ليس السبب الحقيقي. هي تخفي أمراً ما عني".
  "إن كيفية سير الأمور أمر مضحك. لا تستطيع الآنسة سيليا إخبار أحد وإلا عرف السيد جوني بما يجري. وهكذا، لن تكتشف الآنسة هيلي الأمر لأنه ليس في استطاعة الآنسة سيليا إخبار أحد. ما كنت لتستطيعي تجنّب التعرض للأذى من دون هذه الصُدَف".
  "أمم - همم". هو كل ما قلت. لم أشأ أن أبدو غير ممتنّة بما أن آيبيلين هي التي تدبّرت لي العمل. ولكن، لم أتمكن من عدم التفكير في أن متاعبي تضاعفت، الآنسة هيلي والسيد جوني أيضاً.
  قالت آيبيلين وتنحنحت: "يا ميني، أريد أن أطرح عليك سؤالاً، هل تعرفين الآنسة سكيتر تلك؟".
  "المرأة الطويلة التي اعتادت القدوم إلى منزل الآنسة والترز للعب البريدج؟".
  "أجل، ما رأيك بها؟".
  "لا أعرف، إنها بيضاء البشرة على غرار البقية، لماذا؟ ماذا قالت عني؟".
  قالت آيبيلين: "لم تقل شيئاً عنك، لقد... منذ أسابيع قليلة، لا أعلم لماذا أستمر في التفكير في الأمر. لقد طلبت مني أمراً ما. لقد سألتني عما إذا كنت أريد تغيير الأمور. لم تطرح امرأة بيضاء البشرة سؤالاً مماثلاً من قَبل...".
  لكن ليروي خرج من غرفة النوم بخطى متعثّرة، وطلب إعداد قهوته قبل أن يحين موعد نوبة عمله في وقت متأخر من اليوم.
  قلت: "تبّاً، لقد استيقظ، تكلّمي بسرعة".
  قالت آيبيلين: "لا، لا تقلقي. ليس بالأمر الهام".
  "ماذا؟ ماذا يجري؟ ماذا قالت لك تلك السيدة؟".
  "كانت مجرد ثرثرة. كان هراء".
الفصل الرابع
  في الأسبوع الأول من عملي لدى الآنسة سيليا، نظفت المنزل لدرجة أنه لم تعُد لديّ أي قطعة قماش، أو ملاءة مقلّمة، أو جورب للركض، لإزالة الغبار. في الأسبوع الثاني، نظفت المنزل مجدداً لأنه بدا لي أن القذارة ظهرت مجدداً. وفي الأسبوع الثالث، كنت راضية عن حال المنزل وحدّدت الطرائق التي يجب عليّ اتباعها لتدبّر شؤونه.
  في كل يوم، كان يبدو الأمر كما لو أن الآنسة سيليا لا تصدّق أنني عدت إلى العمل. كنت الشخص الوحيد الذي يقاطع كل السكون القائم من حولها. فمنزلي مليء على الدوام بثلاثة أبناء وبنات، وجيران، بالإضافة إلى زوجي. وكنت ممتنّة في معظم الأيام التي آتي فيها إلى منزل الآنسة سيليا بسبب السلام الذي أحظى به.
  لقد وزّعتُ المهام الموكَلة إليّ لتدبّر شؤون المنزل على أيام الأسبوع؛ يوم الاثنين، أزيّت الأثاث، يوم الثلاثاء، أغسل الملاءات وأكويها، وكنت أكره هذا اليوم، يوم الأربعاء، أفرك حوض الاستحمام جيداً، عِلماً أنني أفركه كل صباح، يوم الخميس، ألمّع الأرضيات وأكنس السجاد بالمكنسة الكهربائية، وأنكبّ على السجاد القديم بمكنسة يدوية كي لا يفقد خيوطه، يوم الجمعة مخصص لإعداد الوجبات الكبيرة لنهاية الأسبوع وللمناسبات. وفي كل يوم، كنت أمسح، وأغسل الملابس، وأكوي القمصان، كي لا تتكدّس الأعمال بحيث لا يعود في استطاعتي إنهاؤها، وأحافظ على نظافة المنزل بشكل عام، وأنظف الأواني الفضية والنوافذ عند الحاجة. وبما أنه لم يكن هناك أي طفل للاعتناء به، وجدت متَّسعاً من الوقت لإعطاء الآنسة سيليا ما يدعى دروساً في الطهو.
  لم تكن الآنسة سيليا تمارس أي نشاطات ترفيهية، لذلك كنا نُعدّ معاً ما تتناوله مع السيد جوني على العشاء، كقطع لحم، دجاج مقلي، لحم بقر مشوي، فطيرة دجاج، عُنُق حمل، بطاطا مقلية، بطاطا مهروسة، بالإضافة إلى الخضار، أو أطهو بنفسي وتتململ الآنسة سيليا كما لو أنها طفلة في الخامسة من عمرها، وليست تلك السيدة الثرية التي تدفع أجري. ولدى انتهاء الدرس، تسارع إلى الاستلقاء. في الواقع، إن المرة الوحيدة التي تقوم فيها الآنسة سيليا بقطع عشر خُطى هي عندما تدخل المطبخ لحضور درسها أو لصعود السلّم كل يومين أو ثلاثة أيام إلى الغرف التي تبعث على القشعريرة.
  لم أكن أعلم ما الذي تقوم به في الطابق الثاني لمدة خمس دقائق. كان يجب أن تكون غرف النوم هذه مليئة بالأطفال الضاحكين، والصائحين، والذين يعيثون في المكان خراباً. ولكن، لا شأن لي بما تفعله الآنسة سيليا خلال يومها، وأنا سعيدة لأنها لا تُلهيني عن عملي. كنت قد تبعت سيدات في أرجاء المنزل حاملةً مكنسة بيد ومجروداً باليد الأخرى لأنظف وراءهنّ. فما دامت في ذلك السرير، يكون لديّ ما أقوم به. وحتى وإن لم يكن لديها أي طفل، وما تقوم به طوال اليوم، فقد كانت المرأة الأكثر كسَلاً التي عرفتها يوماً، بالإضافة إلى شقيقتي دورينا التي لم تحمل يوماً أي شيء بيدَيها، بسبب خلل في قلبها اكتشفنا في ما بعد أنه مرض ناتج عن الذباب، بعد معاينتنا صورة بأشعة إكس.
  لم يكن السرير هو ما تلازمه الآنسة سيليا فحسب، بل المنزل الذي لا تغادره إلا لتصفيف شعرها وتقليم أظافرها. كان قد مضى على عملي هناك ثلاثة أسابيع، ولم يحدث هذا الأمر إلا مرة واحدة. كنت في الثالثة والستين من العمر، ولا أزال أسمع والدتي تقول لي، لا شأن لكِ بالآخرين. ولكنني أردت أن أعرف سبب خشية تلك السيدة من الخروج.
  في أيام قَبض الراتب، كنت أذكّر الآنسة سيليا بالأيام المتبقية لبلوغ موعد قيامها بإخبار السيد جوني عني. في ذلك اليوم قلت: "لا يزال أمامنا تسعة وتسعون يوماً".
  قالت بنظرة مشمئزة: "يمرّ الوقت بسرعة".
  "لقد توقفت سيارة أمام الرُّواق الخارجي هذا الصباح، فظننت أنها سيارة السيد جوني".
  على غراري، كانت الآنسة سيليا تغدو عصبية المزاج أكثر فأكثر كلما اقتربنا من الموعد المحدد. ولم أكن أعرف ردّ فعل ذلك الرجل عندما تطلعه على الأمر، ربما يطلب منها أن تطردني.
  قالت: "آمل في أن يكون هناك وقت كافٍ، يا ميني. هل تظنين أنني أتحسن في الطهو؟". فنظرتُ إليها. كانت تملك ابتسامة جميلة، وأسناناً بيضاء قويمة، ولكنها أسوأ طاهية عرفتها يوماً.
  لذلك، أعدتُ النظر في أسلوبي وعلّمتها أبسط الأمور لأنني أريدها أن تتعلم بسرعة. لقد كنت بحاجة إليها لأشرح لزوجها سبب امتلاك زنجية تزن مئة وخمسة وستين رطلاً مفاتيح منزله، وائتمانها على استرلينياته الفضية، وأقراط الآنسة سيليا الثمينة المصنوعة من الياقوت. كنت بحاجة إلى أن يعرف ذلك قبل أن يكتشف وجودي ذات يوم ويتصل بالشرطة، ويكون عليه ادّخار عشرة سنتات، والاهتمام بشؤون المنزل بنفسه.
  "انقعي اللحم المقدّد بالشراب، واحرصي على إضافة كمية كافية من الماء، تماماً. الآن، أشعلي النار. هل ترين تلك الفُقاعة هناك، هذا يعني أن الماء سعيد".
  حدّقت الآنسة سيليا إلى داخل القِدر كما لو أنها تبحث عن المستقبل. "هل أنت سعيدة يا ميني؟".
  "لماذا تطرحين عليّ أسئلة غريبة مماثلة؟".
  "ولكن، هل أنت سعيدة؟".
  "بالطبع أنا سعيدة. وأنت سعيدة أيضاً. منزل كبير، فناء كبير، زوج يهتم لك". فنظرتُ إلى السيدة سيليا مقطَّبة الجبين من دون أن تراني، متسائلةً عما إذا كان في استطاعتنا إسعاد ذوي البشرة البيضاء هؤلاء بشكل كافٍ.
  كلما أحرقت الآنسة سيليا اللوبياء، أحاول تمالك نفسي لا سيّما وأن والدتي كانت قد أقسمت إنني غير قادرة على تمالك نفسي منذ ولادتي. "تماماً". قلت، صارّةً أسناني: "سنُعدّ عجنة أخرى قبل أن يعود السيد جوني إلى المنزل".
  كم رغبتُ في الإشراف، ولو لساعة واحدة، على النساء اللواتي عملت لديهنّ لأتبيّن حقيقة مشاعرهنّ حيال ذلك. فالآنسة سيليا تحدق إليّ بتلك العينين الكبيرتين، كما لو أنني أفضل ما حدث لها بعد رذاذ الشعر. وبدأت أتساءل عما إذا كانت هناك علاقة بين بقائها على السرير طوال الوقت وعدم إطلاع السيد جوني على أمري. وأعتقد أنه كان في استطاعتها رؤية الارتياب في عينيّ أيضاً لأنها قالت لي ذات يوم وبشكل مفاجئ: "تنتابني تلك الكوابيس كثيراً، أنه سيكون عليّ العودة إلى شوغر ديتش والعيش هناك؟ لذلك أستلقي على السرير طوال الوقت". وأومأت من ثم برأسها بسرعة كبيرة، كما لو أنها كانت تتدرّب منذ مدة على قول ذلك. "لأنني لا أنام جيداً في الليل".
  فابتسمت لها كما لو أنني أُدرك الأمر، وأكملتُ مسح الزجاج.
  "لا تمسحيه جيداً. اتركي بعض البُقع".
  كنا نتقصّد باستمرار ترك غرض ما، أو مرآة، أو أرضية من دون تنظيف، أو إبقاء كوب في حوض الغسيل، أو وعاء القُمامة مليئاً. كانت تقول: "يجب أن نجعل الأمر يبدو قابلاً للتصديق". وأجد نفسي مئات المرات غير قادرة على ترك ذلك الكوب متسخاً، فأقوم بغسله. أحب الأشياء نظيفة وفي مكانها.
  قالت الآنسة سيليا ذات يوم: "أتمنى لو كان في استطاعتي الاعتناء بالشُجيرات دائمة الخضرة تلك في الخارج". لقد اعتادت الاستلقاء على الأريكة في أثناء عرض برامجي التلفازية المفضّلة، وتشتيت انتباهي على الدوام. كنت قد دأبت على متابعة برنامج النور الهادي على راديو والدتي طوال أربعة وعشرين عاماً منذ كنت في العاشرة من العمر وأنا أستمع إليه.
  عُرض إعلان تجاري لدريفت، فحدّقت الآنسة سيليا، عبر النافذة الخلفية، إلى الرجل ذي البشرة الملوّنة الذي يجمع الأوراق. كانت لديها العديد من الشُجيرات لدرجة أن فناءها سيغدو في الربيع كالفناء الموجود في فيلم ذهب مع الريح. لم أكن أحب الشجيرات دائمة الخضرة ولا ذلك الفيلم بالتأكيد، لأنه يجعل الرِّق يبدو كما لو أنه حفلة شاي كبيرة تغمرها السعادة. فلو لعبتُ دور مامي، لطلبتُ من سكارليت إضافة تلك الأقمشة الخضراء على ثوبها الأبيض للفت نظر رجلها.
  قالت الآنسة سيليا: "أعلم أن في استطاعتي جعل تلك الوردة تُزهر إذا قمت بتشذيبها، ولكن أول ما سأقوم به هو قطع شجرة الميموزا تلك".
  "ما خطب تلك الشجرة؟". وضغطتُ بزاوية المكواة على طرف ياقة جوني. لم تكن لديّ أي شجرة ولا حتى جنبة في كل فنائي.
  "لا أحب تلك الورود المكسوة بالشعر". وأشاحت بنظرها عن الشجرة وحدّقت بعيداً. "هي تبدو كشعر طفل صغير".
  لقد حملتني طريقتها في التكلّم على تخيّل ملابس الأطفال. "تجيدين الاعتناء بالورود؟".
  فتنهدَت. "كنت أحب الاعتناء بورودي في شوغر ديتش. لقد تعلمتُ زرع أشياء أملاً في إضفاء الجمال على كل تلك القباحة".
  قلت من دون أن أُظهر الكثير من الحماسة: "اخرجي إذاً، قومي ببعض التمارين. تنشقي هواءً نقياً". اخرجي من هنا.
  أجابت الآنسة سيليا متنهّدة: "لا، لا يُفترض بي التجول في الخارج. يجب عليّ البقاء بلا حراك قدر المستطاع".
  لقد بدأ يثيرني واقع عدم مغادرتها المنزل أبداً، وطريقة ابتسامها كما لو أن دخول الخادمة كل صباح المنزل هو أفضل وقت في يومها. فالأمر أشبه بالشعور برغبة في الحكاك. كل يوم، أحاول مدّ يدي للوصول إلى المكان الذي يستحكّني من دون أن أتمكن من حكّه، ويسوء الأمر أكثر فأكثر يوماً بعد يوم. هي تلازم المنزل باستمرار، ولم أتمكن من إقناعها بوجهة نظري.
  قلت: "ربما يجدر بك الخروج للتعرف إلى بعض الصديقات، هناك كثير من السيدات في المدينة بمثل سنّك".
  فنظرت إليّ عابسة. "أحاول القيام بذلك باستمرار. لا يمكنني أن أحصي عدد المرات التي قمت فيها بالاتصال بتلك السيدات للتحقق مما إذا كان في استطاعتي تقديم المساعدة للحفلة الخيرية، أو القيام بأمر ما انطلاقاً من المنزل. ولكن أيّاً منهنّ لم تُعاود الاتصال بي".
  فلم أقل شيئاً لأن الأمر لم يفاجئني، لا سيما وأن صدرها كبير وشعرها بلون شَذرة الذهب.
  "اذهبي للتسوق إذاً. اذهبي واشتري بعض الملابس الجديدة. اذهبي وقومي بما تقوم به النساء بيضاوات البشرة عندما تكون الخادمة في المنزل".
  قالت: "لا، أظن أنني سأخلد إلى الراحة لوقت قصير". وبعد دقيقتين، سمعت خطاها وهي تتنقل في غرف النوم الفارغة في الطابق العُلوي.
  ارتطم غصن الميموزا بالنافذة، فأُجفلتُ مرتعدة وأحرقت إبهامي، وأغمضت عينيّ لإبطاء خفقان قلبي. كان لا يزال هناك أربعة وتسعون يوماً لإنهاء هذا الوضع الشاذ، ولم أتصوّر بقائي دقيقة واحدة أخرى في هذا المنزل بعد انتهاء الموعد.
  "يا أمي، أعدّي لي شيئاً ما للأكل. أنا جائعة". هذا ما قالته لي ابنتي الصغرى، كيندرا، البالغة من العمر خمس سنوات في الليلة السابقة، واضعةً يدها على وركها، ومادةً قدمها إلى الأمام.
  لديّ خمسة أبناء وبنات، وأشعر بالفخر لأنني علّمتهم قول أجل يا سيدتي، ورجاءً، قبل أن يلفظوا كلمة كعكة محلاّة.
  كلهم باستثناء كيندرا.
  قلت لها: "لن تحصلي على أي شيء حتى العشاء".
  "لماذا تضايقينني؟ أنا أكرهك". صاحت وخرجت من الباب راكضة.
  نظرت إلى السقف، لأنها صدمة لن أعتاد عليها أبداً بالرغم من وجود أربعة أشقاء وشقيقات أكبر منها. فمتى قال لكم ابنكم أو ابنتكم إنه يكرهكم، وكل الأبناء والبنات يمرون بهذه المرحلة، يبدو لكم الأمر كما لو أن ركلة وُجّهت إلى معدتكم.
  لكن كيندرا، يا الله! لا يتعلق الأمر بكونها تمر بمرحلة نموّ، بل يثبت أكثر فأكثر أنها تشبهني.
  كنت أقف في مطبخ الآنسة سيليا، أفكر في ما جرى في الليلة السابقة، في كيندرا وطريقة تكلّمها، في بيني وداء الرَّبو الذي يُلِمّ به، وفي زوجي ليروي الذي عاد في حال يرثى لها إلى المنزل مرتين في الأسبوع السابق. هو يعلم أنه الأمر الوحيد الذي لا يمكنني تحمّله بعد أن اعتنيتُ بوالدي الثمل طيلة عشر سنوات، وكنت ووالدتي نكدّ بالعمل ليحصل على زجاجة كاملة من الشراب. أظن أنه كان يجدر بي أن أكون شديدة الاستياء في الليلة السابقة، ولكن ليروي عاد إلى المنزل مع كيس من البامياء المبكِّرة. هو يعلم أنه الطعام المفضَّل لديّ. فقررت قَلي تلك البامياء مع بعض دقيق الذرة، وتناولها كما لم تسمح لي والدتي أبداً بتناولها.
  لم يكن هذا الأمر متعتي الوحيدة في ذلك اليوم. فقد كان الأول من تشرين الأول/أكتوبر، وأقوم بتقشير الدُراق حيث أحضرت والدة السيد جوني معها من المكسيك، قفصَين ثقيلَين منه. فالدُراق ناضج وحُلو المذاق، وتقطّعونه كما تقطّعون الزبدة. لم أكن أقبل الإحسان من السيدات بيضاوات البشرة لأنني أعرف أنهنّ يُردن أن أكون مدينة لهنّ. ولكن، عندما طلبت مني الآنسة سيليا أخذ دزّينتين من الدُراق إلى منزلي، أحضرتُ كيساً ووضعتُ فيه اثنتي عشرة حبة. وعندما وصلت إلى المنزل في المساء، تناولتُ البامياء المقليّة كوجبة عشاء وعصير الدُراق المثلّج كتحلية.
  لقد شاهدت القشرة الطويلة والوبرية تسقط في وعاء الآنسة سيليا من دون الانتباه البتة للطريق الخاصة بالمنزل. فعندما أكون واقفة أمام حوض الغسيل في مطبخها، أخطط لفراري من السيد جوني. والمطبخ هو أفضل غرفة للفرار لأن النافذة الأمامية تُطلّ على الشارع. فالشجيرات دائمة الخضرة الطويلة تستر وجهي، ولكن، يمكنني الرؤية من خلالها بما يكفي لمشاهدة كل من يدنو من المنزل. فإذا دخل من الباب الأمامي، يمكنني الفرار من الباب الخلفي المؤدي إلى المرأب. وإذا دخل من الباب الخلفي، يمكنني التسلل من الباب الأمامي. وهناك باب آخر موجود في المطبخ يؤدي إلى الفناء الخلفي عند الحاجة. ولكنني كنت في حلم يقظة أقوم بتقشير الدُراق والعصارة تسيل من يدي، ثمِلةً تقريباً برائحة هذه الفاكهة لدرجة أنني لم ألاحظ توقف الشاحنة الزرقاء أمام المنزل.
  كان الرجل قد وصل إلى منتصف الممر عندما نظرتُ إلى الخارج ورأيته. فالتقطتُ قميصاً بيضاء من النوع الذي اعتدتُ كيّها كل يوم، بالإضافة إلى ساق بنطال كاكي من النوع الذي أعلّقه في خزانة السيد جوني، وكبتُّ صرخة كادت تخرج من فمي، ووقع سكّيني في حوض الغسيل مصلصلاً.
  قلت، واندفعتُ مُسرعةً إلى داخل غرفة نومها: "يا آنسة سيليا! السيد جوني في المنزل!".
  فقفزت الآنسة سيليا من سريرها بسرعة غير مسبوقة، ودُرتُ حول نفسي بغباء. أين أذهب؟ أي طريق أسلك؟ ماذا حل بمخطط الفرار؟ وفجأةً، توصلتُ إلى قرار حمّام الضيوف!
  فتسللتُ إلى داخله، وأبقيت الباب مفتوحاً قليلاً. وجثمت على مقعد المرحاض كيلا يرى قدميّ من تحت الباب. كان المكان مُظلماً والطقس حارّاً في الداخل، وشعرت أن رأسي يشتعل. وتقطّر العرَق من ذقني وسقط على الأرض. فشعرت بالغثيان بسبب الرائحة القوية المنبعثة من صابونة الغاردينيا الموضوعة بجانب المِغسلة.
  سمعتُ وَقع خُطى، فحبست أنفاسي.
  توقف وَقع الخطى. كان قلبي يقفز كهرّ في نشّافة ملابس. ماذا لو ادّعت الآنسة سيليا أنها لا تعرفني كيلا تقع في متاعب وتصرَفت كما لو أنني لص؟ آه، كم أكرهها! أنا أكره تلك المرأة الغبية!
  أصغيت، ولكن، كل ما كان في استطاعتي سماعه هو لهاثي وخبطات قلبي داخل صدري. وبدأ كاحلاي يؤلمانني ويُحدثان صريراً بسبب حملهما جسمي الثقيل على هذا النحو.
  غدا نظري أكثر حِدّة في الظلام. وبعد دقيقة من الزمن، رأيت نفسي في المرآة فوق المِغسلة، جاثمةً كالخرقاء على مرحاض سيدة بيضاء البشرة.
  انظروا إليّ. انظروا إلى ما تقوم به ميني جاكسون لكسب رِزقها.
الآنسة سكيتر
الفصل الخامس
  قدت سيارة والدتي، من طراز كاديلاك، بسرعة على الطريق المفروشة بالحصى، وتوجهتُ إلى المنزل. ولم يعد في الإمكان سماع باستي كلاين على الراديو بسبب الحصى التي تُحدث ضجيجاً من جوانب السيارة كافة. لا بد من أن تكون والدتي غاضبة، فقدتُ بسرعة أكبر. ولم أستطع الكف عن التفكير في ما قالته لي هيلي في نادي البريدج.
  فهيلي وإليزابيت وأنا من أفضل الصديقات منذ كنا نرتاد مدرسة باور إلمنتري. وأفضل صورة فوتوعرافية بالنسبة إليّ، هي تلك التي نظهر فيها ثلاثتنا جالسات على المنصات المرتفعة لملعب كرة القدم في مدرسة الأحداث العالية، والكتف على الكتف. واللافت في الأمر، أن المنصات حولنا كانت فارغة تماماً، ومع ذلك، فقد جلسنا بجانب بعضنا بعضاً، لأننا كنا مقرَّبات جداً من بعضنا.
  في أولي ميس، أقمتُ مع هيلي لمدة عامَين قبل أن تغادر لتتزوج، في حين بقيتُ وتخرّجت. كنت ألفّ شعرها كل ليلة في منزل شي أوميغا بثلاث عشرة لفافة. ولكنها هدّدتني مؤخّراً بإخراجي من الرابطة. لم أكن مهتمّة كثيراً للرابطة، ولكن ما آلمني هو استعداد صديقتي لوضعي جانباً بهذه السهولة.
  سلكتُ الطريق الضيّقة المؤدية إلى لونغليف حيث مزرعة القطن التي تملكها عائلتي. وخبا صوت الحصى حيث يغطي الغبار الأصفر والناعم الطريق، وأبطأتُ قبل أن تراني والدتي أقود بسرعة كبيرة. فتوقفتُ أمام المنزل وخرجت. كانت والدتي تتأرجح في الرُّواق الخارجي.
  قالت، مشيرةً إليّ بيدها باتجاه كرسي هزّاز بجانبها: "تعالي واجلسي، يا عزيزتي، لقد قامت باسكاغولا للتوّ بتشميع الأرضيات. دعيها تجفّ قليلاً".
  "حسناً، يا أمي". قبّلتُ وجنتها المكسوّة بمسحوق الذُّرور، ولكنني لم أجلس بل انحنيت على درابزين الرُّواق الخارجي متأملةً أشجار السنديان الطُحلبية الثلاث في الفناء الأمامي. وبالرغم من أن المسافة التي تفصلنا عن المدينة لا تبلغ سوى خمس دقائق، يعتبر معظم الناس أن هذا المكان يقع في الريف. ويحيط بفنائنا عشرة آلاف أَكر من حقول القطن التابعة لوالدي حيث النباتات خضراء، وطويلة حتى خصري. كان عدد قليل من الرجال ذوي البشرة الملوّنة جالسين تحت سقيفة بعيدة يشعرون بالحَرّ. فالجميع ينتظرون الأمر نفسه؛ تفتّح القطن.
  فكرت في كم أن الأمور مختلفة بين هيلي وبيني منذ عودتي من الكلية. ولكن من الشخص المختلف، هي أم أنا؟
  قالت والدتي: "هل أخبرتُك؟ أعلنت فاني بيترو خطوبتها".
  "أمر جيد لفاني".
  "لم يكن قد مر شهر على تسلّمها وظيفة أمينة الصندوق في مصرف المُزارع".
  "إنه أمر عظيم، يا والدتي".
  "أعلم". قالت، والتفتُّ لمشاهدة إحدى نظراتها المتّقدة. "لماذا لا تقصدين المصرف وتقدّمين طلباً للعمل كأمينة صندوق؟".
  "لا أريد أن أكون أمينة صندوق، يا أمي".
  فتنهدت الوالدة، وضيّقت عينيها، ناظرةً إلى الكلب الإسباني، شِلبي، الذي كان يلعق نفسه. ونظرتُ إلى الباب الأمامي، وكلّي رغبة في السير على الأرضيات النظيفة لتلطيخها. لقد أجرينا هذا الحديث مرات عدة.
  سألَت: "مرت أربع سنوات على تخرّج ابنتي من الكلّية، وما الذي حملَته إلى المنزل؟".
  "شهادة دبلوم".
  قالت والدتي: "قُصاصة ورق جميلة".
  قلت: "لقد أخبرتُك. لم ألتقِ بعد الشخص الذي أريد الزواج به".
  فوقفت والدتي واقتربت مني، ونظرتُ إلى وجهها الجميل والناعم. كانت ترتدي ثوباً كحليّ اللون، ضيّقاً، يُظهر مدى نحول عظامها على غرار إصبع أحمر الشفاه. ولكن، عندما جلسَت تحت أشعة شمس بعد الظهر البرّاقة، رأيت بُقَعاً قاتمة، غريبة وجافة، في الناحية الأمامية من ملابسها. فحدّقت بعينين نصف مغمضتين، محاولةً التأكد من وجود البُقَع. "يا أمي؟ هل تشعرين بشيء؟".
  "إن أنتِ أظهرتِ بعض الهمّة، يا أوجينيا...".
  "ثوبك متّسخ من الأمام".
  فشبكت والدتي يدَيها بشكل متصالب. "الآن، لقد تحدثتُ إلى والدة فاني، وقالت إن الفرص المتاحة لفاني تتوالى منذ تسلّمها الوظيفة".
  فأغفلتُ مسألة الثوب. لن أتمكن أبداً من إخبار والدتي أنني أريد أن أكون كاتبة، لأن هذه المهنة تُبعدني برأيها عن الفتيات المتزوجات. ولم يكن في استطاعتي إخبارها أيضاً عن تشارلز غراي، زميلي في مادة الرياضيات في الربيع السابق، في أولي ميس، وكيف أنه ثمل في عام التخرّج وقبّلني، ومن ثم ضغط على يدي بشدة لدرجة أنه كان يُفترض به أن يؤلمني ولكنني لم أشعر بذلك. كانت طريقة إمساكه بي ونظراته إلى عينيّ رائعتين. ولكنه تزوج بجيني سبريغ التي يبلغ طولها خمس أقدام.
  ما كنت بحاجة إلى القيام به هو العثور على شقة في المدينة، في مبنى تعيش فيه فتيات عازبات عاديات، وسكرتيرات، ومدرّسات. ولكن، عندما أعربتُ لوالدتي في ذلك اليوم عن رغبتي في استخدام مدّخراتي المالية، بدأت تذرف دموعاً حقيقية. "ذلك المال ليس مخصّصاً لهذه الأمور، يا أوجينيا، كالإقامة في منزل يحتوي على غرف للإيجار تفوح منه روائح طهو غريبة وتتدلى من نوافذه الجوارب. ماذا يحدث بعد نفاذ المال؟ كيف ستعيشين؟". وألقت بعد ذلك على رأسها قطعة قماش، وقصدت السرير لتمضية بقية اليوم.
  أمسكَت الدرابزين بإحكام في انتظار إشارة مني تشير إلى استعدادي للقيام بما قامت به فاني البدينة لإنقاذ نفسها. كانت والدتي تنظر إليّ كما لو أنني أُربكها تماماً بنظراتي، وطول قامتي، وشعري. لا يمكنني القول إن شعري مجعَّد، بل إنه مليء بالعُقَد، وأشقر مبيضّ يمكن التحكم به بسهولة كالتبن. وبشرتي حسنة المظهر، ويعتبرها بعض الناس قِشدية في حين أنها تبدو شاحبة كالموت عندما أكون جدّية، كما هي حالي على الدوام. وهناك أيضاً حَدبة خفيفة بسبب وجود غُضروف على امتداد أعلى أنفي. ولكن عينيّ زرقاوان كعينيّ والدتي، ويقال لي إنها أفضل ميزة لديّ.
  "لا يتطلب الأمر سوى أن تكوني في وضع يمكّنك من مقابلة شخص ما...".
  قلت وأردت وضع حدّ لهذا النقاش: "يا أمي، هل سيكون الأمر بهذا السوء حقاً إذا لم أقابل أبداً الزوج المناسب؟".
  شبكت الوالدة ذراعيها العاريتين بإحكام كما لو أنها تشعر بالبرد بسبب تلك الفكرة. "لا. لا تقولي ذلك، يا أوجينيا. أرى كل أسبوع في المدينة رجلاً تبلغ طول قامته ست أقدام فأقول لنفسي، لو تقوم أوجينيا بالمحاولة فقط...". ضغطت بيدها على معدتها كما لو أن الفكرة زادت من سوء قرحتها.
  فخلعتُ حذائي الذي لا كعب له، ونزلتُ درجات الرُّواق الخارجي، في حين نادتني والدتي لإعادة انتعال حذائي، محذّرةً من إصابتي بداء السَعفة الجلدي والتهاب الدماغ الذي يتسبب به البعوض. الموت المحتّم بسبب عدم انتعال حذاء! الموت بسبب عدم وجود زوج! فأُصبت بالارتعاش لأن شعوراً مماثلاً للشعور الذي خبرته بعد تخرّجي من الكلّية قبل ثلاثة أشهر قد انتابني؛ لقد وجدت نفسي في مكان لم أعد أنتمي إليه. والمكان الذي أنتمي إليه ليس هنا مع والدتي ووالدي بالتأكيد، وقد لا يكون أيضاً مع هيلي وإليزابيت.
  قالت والدتي: "... ها أنتِ في الثالثة والعشرين من عمرك، وقد أنجبتُ كارلتون الأصغر عندما كنت في سنّك...".
  ووقفتُ تحت شجرة ريحان ذات أوراق مكرَّشة زهرية اللون، مراقبة والدتي في الرُّواق الخارجي. في ذلك اليوم، فقدت الزنابق زهورها، كنا على مشارف شهر أيلول/سبتمبر.
  لم أكن طفلة جذّابة. فعندما وُلدتُ، نظر شقيقي الأكبر، كارلتون، إليّ وقال في غرفة المستشفى: "هي ليست طفلة، إنها بعوضة (Skeeter)!". ولم يفارقني هذا اللقب منذ ذلك الحين. كنت طويلة القامة والساقَين، ونحيلة كالبعوضة، وكسرت الرقم القياسي في المستشفى إذ بلغ طول قامتي خمساً وعشرين بوصة (نحو 62 سنتمتراً)، وغدا اسمي أكثر تآلفاً مع مظهري الخارجي مع اتخاذ أنفي شكل مِنقار مستدق الرأس في طفولتي. أمضت والدتي وقتها محاولة إقناع الناس بدعوتي باسمي الأصلي، أوجينيا.
  لم تكن السيدة شارلوت بودرو كانتريل فيلان تحب الألقاب.
  في سن السادسة عشرة، لم أكن غير جميلة فحسب، بل وطويلة القامة على نحو استثنائي، ذلك الطول الذي يضع الفتاة في الصف الخلفي لدى التقاط صور لطلاب الصف الواحد مع الفتيان، ذلك الطول الذي يحمل والدتكم على تمضية لياليها في تطويل أهداب الملابس، والشد بأكمام الكنزات الصوفية بقوة بهدف منحها مزيداً من الطول، وتسطيح شعرك للمشاركة بالرقصات التي لم تُدعي إليها، وأخيراً ضغط أعلى رأسك نحو الأسفل كما لو أن في استطاعتها إعادتك سنوات إلى الوراء عندما كان عليها تذكيرك بالوقوف بشكل مستقيم. وعندما بلغتُ السابعة عشرة من العمر، كانت والدتي تفضّل أن تراني أعاني من إسهال حاد، بدلاً من رؤيتي واقفة بشكل مستقيم. كان يبلغ طولها 5.4 أقدام وكانت الفائزة الأولى بالمرتبة الثانية في مباريات ملكة جمال كارولاينا الجنوبية. فاعتبرَت أن هناك أمراً واحداً فقط يمكن القيام به في حالتي.
  إنه دليل السيدة شارلوت فيلان للبحث عن زوج، والقاعدة الأولى فيه: يُفترض بالفتاة الجميلة والهيفاء زيادة جمالها من خلال التبرّج واعتماد وقفة جيدة، وأن تكون طويلة القامة وتملك مدّخرات مالية.
  كان يبلغ طول قامتي 5.11 قدماً (177.5 سنتم)، وأملك حساباً مصرفياً بقيمة خمسة وعشرين ألف دولار، وإذا لم أبدُ جميلة بنظر الرجل بالرغم من ذلك، فهو غير أهل إذاً، ليكون فرداً من العائلة.
♦  ♦  ♦
  تقع غرفة نومي التي كنت أستخدمها منذ سنّ الطفولة في الطابق العُلوي من منزل والدَيّ. وتوجد في الحِلية المعمارية المقَولبة أشكال لقطارات مع مقاعد وأطفال مجنَّحين زهريّي اللون. والجدران مكسوّة بورق تزييني نُقِشت عليه براعم ورود خضراء بلون نبات النعناع. إنها في الواقع علية ذات جدران طويلة ومائلة، ولا يمكنني الوقوف بشكل مستقيم في العديد من الأماكن داخلها. وتبدو الغرفة مستديرة بسبب الإطار البارز لنافذة الغرفة. وبعد قيام والدتي بتوبيخي في شأن العثور على زوج في ذلك اليوم، كان عليّ النوم في كعكة زفاف.
  مع ذلك، تبقى هذه الغرفة مكاني المفضل. فالحَرّ يزداد ويتجمع فيها كبالون هواء ساخن لا يرحّب بالآخرين. والدرجات ضيقة ويصعب على الوالدَين صعودها. لقد اعتادت خادمتنا السابقة، كونستنتين، التحديق إلى تلك الدرجات المنحنية إلى الأمام، كما لو أنها تخوض معركة يومية معها. لقد كان الأمر الوحيد الذي يدفعني لعدم الرغبة في الحصول على الطابق العُلوي للمنزل لأنه يفصلني عن كونستنتين التي أحب.
  بعد ثلاثة أيام من الحديث الذي أجريته مع والدتي في الرُّواق الخارجي، وضعتُ على مكتبي إعلانات لأشخاص يطلبون عاملات كنت قد اقتطعتها من صحيفة جاكسون جورنال. وتبعتني والدتي طوال الصباح في أرجاء المنزل لتُطلعني على مستحضر جديد لتثبيت الشعر، في حين كان والدي في الرُّواق الخارجي يتمتم بغضب، ويلعن حقول القطن لأنها تذوب كثلج الصيف. فبالإضافة إلى خنفساء القطن، إن المطر هو أسوأ ما يحدث في موسم الحصاد. كنا في أوائل أيلول/سبتمبر ولكن أمطار الخريف بدأت بالهطول.
  وأمسكتُ القلم بيدي، وقمت بمسح العمود بحثاً عن إعلان مطلوب عاملة: أنثى.
  متجر كنينغتون يطلب بائعات متمرسات، لائقات ومبتسمات!
  تريم، مطلوب سكرتيرة شابة. إجادة الطباعة على الآلة الكاتبة غير ضروري. الاتصال بالسيد ساندرز. يا الله، إذا لم يكن يريد منها الطباعة على الآلة
  الكاتبة، فماذا يريد منها أن تفعل إذاً؟
  مطلوب موظفة اختزال شابة، برسي آند غراي، أل بي، 1.25 دولار في الساعة. إنه إعلان جديد، فرسمتُ دائرة حوله.
  لا يمكن لأحد القول إنني لم أعمل بكدّ في أولي ميس. فبينما كان أصدقائي يحتسون الشراب ويتعاطون في أثناء حفلات في دلتا تيتا، ويلقون باللائمة على أمهاتهم، كنت أجلس في غرفة الدرس وأكتب طوال ساعات أبحاثاً فصلية في الغالب، وقصصاً قصيرة أيضاً، وأشعاراً سيئة، وفصولاً من رواية الطبيب كيلدار، ومقطوعات شعرية بعنوان بال مال، ورسائل شكوى وتذمّر، ورسائل حب لفتيان كنت قد التقيتهم في الصف من دون أن أجد الشجاعة للتحدث إليهم، ولم أرسل أياً منها عبر البريد. بالتأكيد، لقد حلمت أن تكون لديّ مواعيد مع شبّان في أثناء مباريات كرة القدم، ولكن حلمي الحقيقي هو كتابة شيء ما يحب الناس قراءته.
  كنت قد تقدّمت في الفصل الرابع من عام تخرّجي بطلب واحد للحصول على عمل يقع على بُعد ستمئة ميل من الميسيسيبي، ولكنه عمل جيد. لقد استعلمتُ عن منصب محرر في دار نشر هاربر آند روو الواقعة في الشارع الثالث والثلاثين في مانهاتن، مُنفِقةً اثنين وعشرين دايماً في أكسفورد مارت للتحدث عبر الهاتف العمومي. كنت قد رأيت الإعلان في ذي نيويورك تايمز في مكتبة أولي ميس، وأرسلتُ لهم عبر البريد موجزاً عن سيرتي الذاتية في ذلك اليوم عينه، حتى إنني اتصلتُ في لحظة أمل للاستعلام عن شقة في الشارع الثامن والخمسين الشرقي، مؤلّفة من غرفة نوم واحدة لقاء خمسة وأربعين دولاراً في الشهر، على أن أحصل في المقابل على طبق ساخن أيضاً. وأبلغني الموظف في خطوط دلتا الجوية أن تذكرة ذهاب إلى مطار آيدلويلد تبلغ تكلفتها سبعين دولاراً. ولم أكن أشعر بالرغبة في التقدّم بطلب عمل آخر في وقت واحد، ولم أتلقَّ أي جواب منهم.
  انساق نظري وصولاً إلى إعلان مطلوب عامل: ذكر. كانت هناك، على الأقل، أربعة أعمدة مليئة بإعلانات لطلب مدراء مصارف، ومحاسبين، وموظفي مَنح قروض، وعمال لقطف القطن. في هذا الجانب من الصفحة، كانت برسي آند غراي، أل بي، تعرض دفع خمسين سنتاً إضافية في الساعة لموظفة اختزال شابة.
  "يا آنسة سكيتر، اتصال هاتفي لك". سمعتُ باسكاغولا تصيح من أسفل السلّم.
  فنزلتُ إلى الطابق السفلي، حيث الهاتف الوحيد في المنزل، ومدّت باسكاغولا يدها حاملةً إيّاه. كانت صغيرة الحجم كطفل، إذ لا يزيد طولها عن خمس أقدام، سوداء البشرة كالليل، مجعَّدة الشعر، وقد خِيط لباسها الرسمي الأبيض ليتلاءم مع ذراعَيها وساقَيها القصيرة.
  "الآنسة هيلي على الهاتف". قالت، وسلّمتني إيّاه بيد مبتلّة.
  فجلستُ إلى طاولة الكيّ البيضاء. كان المطبخ واسعاً، مربّع الشكل، حارّاً، وبلاطات اللينوليوم السوداء والبيضاء متصدّعة في مكانها ومتآكلة أمام حوض الغسيل. وتقبع آلة غسل الأطباق الفضية الجديدة وسط الغرفة، وهي متصلة بخرطوم مياه ممدود من الحنفية.
  "سيأتي في نهاية الأسبوع التالي". قالت هيلي. "ليلة السبت. هل هناك ما يشغلك؟".
  "دعيني أتحقق من روزنامتي". قلت. لم يكن في صوت هيلي أي أثر للجدال الذي حدث في أثناء لعبنا البريدج. كنت مرتابة ولكن مرتاحة.
  "لا يمكنني التصديق أن هذا الأمر سيحدث أخيراً". قالت هيلي لأنها سعت طيلة أشهر لتعريفي إلى نسيب زوجها. كانت عازمة على الأمر بالرغم من أنه أكثر جمالاً مني، ناهيكم عن كونه ابن سيناتور.
  سألتُ: "ألا تعتقدين أنه يُفترض بنا... أن نلتقي أولاً؟ أعني قبل أن نخرج في موعد فعلي؟".
  "لا تكوني عصبية المزاج. سأكون ووليام بجانبك طوال الوقت".
  فتنهدتُ. لقد أُلغي الموعد مرتين، وكلي أمل في أن يتم إرجاؤه مجدداً. ومع ذلك، شعرت بالإطراء لأن هيلي على ثقة تامة أن شخصاً مثله سيكون مهتماً لشخص مثلي.
  قالت هيلي: "آه، وأريد منك أن تمرّي بي وتدوّني هذه الملاحظات، أريد نشر مبادرتي في النشرة الدَّورية التالية، صفحة كاملة بجانب صفحة صور".
  فتوقفتُ. "قضية الحمّام؟". عِلماً أنها لم تذكر الأمر إلا قبل أيام قليلة في أثناء انعقاد نادي البريدج. كنت قد أملت في أن يتم نسيان الأمر.
  "هي تدعى مبادرة تعزيز الصحة المنزلية انزل يا وليام الأصغر وإلا أمسكتُ بك، يا يول ماي المتهوّرة ادخلي إلى هنا، وأريده هذا الأسبوع".
  كنت محررة النشرة الدَّورية للرابطة، ولكن هيلي رئيستها، وتحاول أن تقول لي ما يجب نشره.
  قلت: "سأرى. لا أعرف إذا كان هناك مكان". ولكنني كنت أكذب.
  من حوض الغسيل، اختلست باسكاغولا نظرةً إليّ كما لو أن في استطاعتها سماع ما تقوله هيلي. ونظرتُ إلى حمّام كونستنتين الذي بات حمّام باسكاغولا، متفحّصةً. هو يقع خارج المطبخ، والباب مفتوح جزئياً، وكانت في استطاعتي رؤية مكان صغير جداً مع مرحاض وحبل لجعل الماء يتدفق في داخله، ومصباح كهربائي، وظِل مائل إلى الصُفرة. تكاد المغسلة الصغيرة الموضوعة في الزاوية لا تتسع لكوب ماء. لم يسبق لي أن دخلتُ الحمّام. فعندما كنا أطفالاً، قالت لنا الوالدة إنها ستصفعنا على مؤخراتنا إذا دخلنا حمّام كونستنتين. كنت أفتقد كونستنتين أكثر من أي أمر آخر افتقدتُه في حياتي.
  قالت هيلي: "إذاً جِدي مكاناً، لأنه أمر هام جداً".
  كانت كونستنتين تقيم على بُعد ميل من منزلنا في حيّ صغير للزنوج يدعى هوتستاك تيمّناً بنبتة القار التي كانت تُزرع هناك. وتمتد الطريق إلى هوتستاك على امتداد الناحية الشمالية لمزرعتنا، وأذكر قيام أطفال من ذوي البشرة الملوَّنة بالسير واللعب على امتداد تلك المسافة البالغ طولها ميلاً، فيركلون الغبار الأحمر، ويتجهون نحو طريق المقاطعة الكبيرة 49 للتمكن من ركوب العربات.
  كنت أقطع ذلك الميل بنفسي سَيراً على القدمين عندما كنت فتاة صغيرة. وكانت والدتي تسمح لي أحياناً بمرافقة كونستنتين إلى منزلها بعد ظهر أيام الجمعة بعد التوسّل. وبعد عشرين دقيقة من السير البطيء، نمر بمتجر فايف - آند - دايم الخاص بذوي البشرة الملوَّنة، وببقّال يمتلك دجاجات رابضة في الناحية الداخلية من متجره، وبعشرات المنازل الوضيعة ذات سطوح من الصَفيح ورُواقات خارجية مسقوفة ومائلة، بالإضافة إلى منزل أصفر يقول الجميع إنه يبيع الشراب الاسكتلندي من الباب الخلفي. فمن المثير للمشاعر أن نكون في عالم مختلف مماثل، وكنت أشعر بالاستياء من مدى جودة حذائي ونظافة المَريلة التي كوتها لي كونستنتين. وكلما اقتربنا من منزل كونستنتين كانت تبتسم أكثر فأكثر.
  تقول كونستنتين لبائع الجذور الجالس على كرسيّه الهزاز على ظهر شاحنته الصغيرة: "مرحباً، كيف حالك، يا كارل بيرد". وكانت هناك أكياس مفتوحة من لحاء الساسفراس وعِرق السوس مُعَدّة للمساومة والبيع، واعتدنا مع الوقت النظر إلى تلك الأشياء بفضول لبعض الوقت، وكان جسد كونستنتين بأكمله يتلوّى حول هذه المنتجات. لم تكن كونستنتين طويلة القامة بل بدينة، وكانت وركاها عريضتين، وتتسبب لها ركبتاها بالمتاعب على الدوام. وعند جِذل الشجرة أمام المفرق المؤدي إلى منزلها، كانت تضع على شفتيها مقداراً ضئيلاً من دقيق التبغ وتبصق العُصارة كالسهم، وتسمح لي بالنظر إلى المسحوق الأسود في علبته المعدنية المستديرة، قائلةً: "لا تخبري والدتك".
  كانت هناك على الدوام كلاب غائرة البطون وجرباء مستلقية على الطريق. وتصيح امرأة صغيرة السن وذات بشرة ملوّنة من تحت أحد الأروقة الخارجية، وتدعى كات - بايت، قائلة: "يا آنسة سكيتر! بلّغي والدك تحيّتي. قولي له إنني بخير". كان والدي قد أطلق عليها هذا الاسم منذ سنوات عندما كان مارّاً، ورأى هرّاً هائجاً يهاجم فتاة صغيرة ذات بشرة ملوَّنة. فحمل الفتاة إلى الطبيب الذي حقنها ضد داء الكلَب لمدة واحد وعشرين يوماً.
  نصل إلى منزل كونستنتين المؤلف من ثلاث غرف من دون وجود أي سجاد، وأنظر إلى الصورة الفوتوغرافية الوحيدة في المنزل، وهي صورة فتاة بيضاء البشرة قالت لي كونستنتين إنها اعتنت بها طوال عشرين عاماً في بورت غيبسون. كنت على ثقة تامة أنني أعرف كل شيء عن كونستنتين، لديها شقيقة واحدة، وترعرعت في مزرعة بالمشاركة في كورينت، ميسيسيبي. كان والداها متوفيين، ولا تتناول اللحم عادةً، وترتدي ثوباً مقاسه ستة عشر، وتنتعل حذاء للسيدات مقاسه عشرة. ولكنني اعتدتُ النظر إلى ابتسامة تلك الفتاة في الصورة التي تكشف عن أسنانها، وكنت أشعر بالغَيرة متسائلةً عن سبب عدم وجود صورة لي أيضاً.
  في بعض الأحيان، كانت تأتي فتاتان من المنزل المجاور لتلعبا معي، وتُدعيان ماري نيل وماري رون. كانتا شديدتي السواد لدرجة أنه لم يكن في استطاعتي تمييز إحداهما عن الأخرى، فأدعوهما ماري.
  قالت لي والدتي ذات مرة: "كوني لطيفة مع الفتيات ذوي البشرة الملوَّنة عندما تكونين هناك". وأتذكّر أنني نظرت إليها بغرابة وقلت: "لماذا لا أكون لطيفة معهنّ؟". ولم تشرح لي والدتي الأمر أبداً.
  بعد ساعة تقريباً، يوقف والدي سيارته، ويخرج منها، ويُعطي كونستنتين دولاراً واحداً. لم تقُم كونستنتين بدعوته إلى الدخول ولو لمرة واحدة. وفهمت في ذلك الوقت أننا على أرضها وليس عليها أن تكون لطيفة مع أي شخص في منزلها الخاص. بعد ذلك، يسمح لي والدي بالذهاب إلى متجر لذوي البشرة الملوّنة لشراء شراب بارد وسكاكر.
  "لا تخبري والدتك أنني أعطيت كونستنتين علاوة".
  أقول: "حسناً، يا أبي". إنه السر الوحيد تقريباً الذي تشاطره والدي معي يوماً.
  كنت في الثالثة عشرة من العمر، عندما دعاني أحدهم بالقبيحة للمرة الأولى. كان أحد أصدقاء شقيقي كارلتون الأثرياء.
  سألتني كونستنتين في المطبخ: "لماذا تبكين يا فتاة؟".
  فأخبرتها بالاسم الذي دعاني به الفتى، والدموع تسيل على وجهي.
  "حسناً؟ هل أنت كذلك؟".
  فطرفتُ عينيّ، وتوقفتُ عن البكاء. "هل أنا ماذا؟".
  "انظري إليّ الآن، يا أوجينيا". لأن كونستنتين هي الوحيدة التي كانت تدعوني باسمي من حين إلى آخر نزولاً عند رغبة والدتي. "القبح موجود في داخلنا. القبح هو أن نكون أشخاصاً حقيرين نتسبب بالألم للآخرين. هل أنت أحد هؤلاء الأشخاص؟".
  قلت، شاهقةً: "لا أعلم. لا أعتقد ذلك".
  فجلست كونستنتين بجانبي إلى طاولة المطبخ، وسمعتُ طقطقة مفاصلها المنتفخة. وضغطَت بإبهامها على راحة يدي بقوة، وهو أمر نعرف كلانا أنه يعني أَصغي، أَصغي إليّ.
  "كل صباح، وحتى تخرّي على الأرض مَيتة، سيكون عليك اتخاذ هذا القرار". كانت كونستنتين قريبة مني جداً لدرجة أنه كانت في استطاعتي رؤية سواد لثّتها. "ستسألين نفسك، هل سأصدّق ما سيقوله هؤلاء الحمقى عني اليوم؟".
  واصلت الضغط بإبهامها على يدي. فأومأتُ برأسي بما معناه أنني فهمت. كنت ذكية بما يكفي لأدرك أنها عنت بكلامها ذوي البشرة البيضاء. وبالرغم من استمراري في الشعور بالبؤس، وعِلمي أنني قبيحة على الأرجح، فقد كانت المرة الأولى التي تتحدث فيها إليّ كما لو أنني أكثر من مجرد فتاة بيضاء البشرة. لقد طُلب مني طيلة حياتي أن أصدّق ما يقال لي عن الشؤون السياسية، وعن ذوي البشرة الملوّنة، وعن كوني فتاة. ولكن، بوجود إبهام كونستنتين الضاغط على يدي، أدركتُ أنني أملك خياراً في تحديد ما يمكنني تصديقه.
  كانت كونستنتين تبدأ العمل في منزلنا عند السادسة صباحاً في الأيام العادية، وعند الخامسة صباحاً في موسم الحصاد. بهذه الطريقة، يمكنها أن تُعِدّ لوالدي كعكات طريّة ومرَق لحم قبل التوجه إلى الحقل. كنت أستيقظ كل يوم تقريباً في أثناء وجودها في المطبخ حيث يبثّ الراديو الموضوع على الطاولة عظة المبشّر غرين، وتبتسم لي عندما تراني. "صباح الخير، أيتها الفتاة الجميلة". كنت أجلس إلى الطاولة، وأطلعها على أحلامي، فتدّعي أن الأحلام تخبر بالمستقبل.
  قلت لها: "كنت في العلية أنظر إلى المزرعة، كانت في استطاعتي رؤية رؤوس الأشجار".
  "ستكونين جرَّاحة دماغ! أعلى المنزل يعني الرأس".
  كانت والدتي تتناول الفطور باكراً في غرفة الطعام، وتنتقل بعد ذلك إلى غرفة الاستجمام للتطريز أو لكتابة رسائل للمبشِّرين في أفريقيا. ومن كرسيّها الأخضر عالي الظهر والجانبَين، كانت في استطاعتها رؤية كل ما يجري في المنزل تقريباً ومعرفة ما تبدّل في مظهري في خلال جزء من الثانية، وهو الوقت الذي يتطلبني للمرور بذلك الباب. كنت أمرّ بسرعة، شاعرةً أنني دريئة مستديرة تستهدفها عين تلك الوالدة الحمراء الكبيرة.
  "يا أوجينيا، تعرفين أن العِلكة ممنوعة في هذا المنزل".
  "يا أوجينيا، اذهبي وضعي كحولاً على تلك اللطخة".
  "يا أوجينيا، اصعدي إلى الطابق العُلوي، ومشّطي شعرك نحو الأسفل، ماذا لو جاءنا زائر غير متوقَّع؟".
  لقد تعلّمتُ أن الجوارب وسيلة أفضل من الأحذية للتسلل. وتعلّمتُ استخدام الباب الخلفي. وتعلّمتُ اعتمار قبّعات، وإخفاء وجهي بيدَيّ عندما أمرّ أمام الغرفة. ولكن أكثر ما تعلّمته هو ملازمة المطبخ.
  قد يمتد شهر الصيف أعواماً في لونغليف. لم يكن لديّ أصدقاء وصديقات يقومون بزيارتي كل يوم. كنا نقيم في مكان بعيد جداً يحول دون وجود جيران من ذوي البشرة البيضاء. في المدينة، كانت هيلي وإليزابيت تمضيان نهاية الأسبوع بأكمله في منزل إحداهما الأخرى، في حين أنه لم يكن يُسمَح لي إلا بالتنزه ليلاً في الخارج، أو التمتع ببعض الرفقة في نهاية الأسبوع بين حين وآخر. لقد تذمّرتُ كثيراً بسبب ذلك، واعتدتُ على كونستنتين على مرّ الأيام، ولكنني أظن أنني كنت أُدرك في معظم الأحيان كم أنا محظوظة بسبب وجودها هناك.
  في الرابعة عشرة من عمري، بدأت بتدخين السجائر. كنت أسحبها خِلسةً من رُزَم علب المارلبورو الخاصة بكارلتون التي يبقيها في دُرج خزانة المطبخ. كان في الثامنة عشرة من عمره تقريباً، وكان يدخن منذ سنوات، وأينما شاء، أينما شاء في المنزل، أو في الحقول مع والدي. كان والدي يدخّن الغليون أحياناً، ولكنه لم يكن من مُحبّي السجائر. ولم تكن والدتي تدخّن أي شيء على الإطلاق بخلاف معظم صديقاتها. قالت لي والدتي إنه لا يُسمح لي بالتدخين حتى أبلغ السابعة عشرة من عمري.
  لذلك، كنت أنسلّ إلى الفناء الخلفي، وأجلس في الأرجوحة تحجبني شجرة السنديان، الضخمة والمعمِّرة، عن الأنظار، أو أتدلى من نافذة غرفة نومي في وقت متأخر من الليل وأدخن. كانت والدتي حادة البصر، أما حاسة الشم لديها فمنعدمة تقريباً. ولكن كونستنتين كانت تُدرك ما يجري على الفور، فتضيق عيناها بابتسامة صغيرة من دون أن تقول شيئاً. وإذا توجهت والدتي إلى الرُّواق الخارجي الخلفي في أثناء وجودي وراء الشجرة، أسرعت كونستنتين إلى الخارج، وضربت درابزين الدَرج الحديدي بمقبض المكنسة.
  "يا كونستنتين، ماذا تفعلين؟". تسألها والدتي. في غضون ذلك أقوم بإطفاء السيجارة، وأرمي عقبها في ثقب الشجرة.
  "أنظف هذه المكنسة القديمة ليس إلا، يا آنسة شارلوت".
  "حسناً، جِدي طريقة أخرى للقيام بذلك بهدوء أكبر، رجاءً. آه، يا أوجينيا، هل ازداد طولك بوصةً في أثناء الليل؟ ماذا سأفعل؟ اذهبي... ارتدي ثوباً ملائماً".
  "أجل يا سيدتي". أقول وكونستنتين في وقت واحد ونبتسم لبعضنا بعضاً.
  آه، ما ألذّ أن يكون هناك شخص تودعينه أسرارك. فلو كان لي شقيق أو شقيقة بعمر أقرب إلى عمري، لكان الوضع على هذه الحال كما أعتقد. ولا يكفي إخفاء أمر التدخين عن الوالدة وتجنّبها، بل يجب أن يكون هناك شخص ما ينظر إليك بعد أن تكون والدتك قد قلقت عليك حتى الموت لأنك طويلة القامة على نحو استثنائي، ومجعَّدة الشعر، وغير عادية، شخص تقول عيناه ببساطة، ومن دون أي كلمات، أنت ملائمة لي. ومع ذلك، لم يكن التحدث إليها أمراً مشوِّقاً.
  عندما كنت في الخامسة عشرة من العمر، أشارت فتاة حديثة العهد إليّ وسألت: "من هذا اللقلق؟". وابتسمت هيلي للفتاة قبل أن تقتادني بعيداً، كما لو أننا لم نسمع ما قالته.
  "كم يبلغ طولك، يا كونستنتين؟". سألتُ، غير قادرة على إخفاء دموعي.
  فضيّقت كونستنتين عينيها، ناظرةً إليّ. "كم يبلغ طولك؟".
  "5.11 قدماً (نحو 177.5 سنتم)"، صرختُ. "أنا أطول قامة من مدرّب فريق الفتيان لكرة السلة.
  "حسناً، يبلغ طولي 5.13 قدماً (182.5 سنتم)، لذلك كفّي عن الشعور بالأسف على نفسك".
  كونستنتين هي المرأة الوحيدة التي احترمتها يوماً ونظرتُ إلى عينيها مباشرةً.
  فما تلاحظونهما أولاً في كونستنتين، بالإضافة إلى طول قامتها، هما عيناها ذات اللون البنّي الفاتح واللتان تبدوان عسليّتين إزاء بشرتها القاتمة. لم يسبق لي أن رأيت عينين بنّيتين لشخص ذي بشرة ملوّنة. في الواقع، تبدو درجات اللون البنّي لا متناهية على كونستنتين. فمِرفقاها سوداوان تماماً، ويكون عليهما غبار أبيض جاف في الشتاء؛ وبشرة ذراعَيها وعُنُقها ووجهها بلون الأَبنوس القاتم؛ وراحتا يدَيها سمراوان مائلتان إلى البرتقالي، مما حملني على التساؤل حول ما إذا كان أخمصا قدمَيها بهذا اللون أيضاً، ولكنني لم أرها يوماً عارية القدمَين.
  قالت مبتسمة: "أنتِ وأنا فقط بمفردنا في نهاية الأسبوع هذه".
  كانت نهاية الأسبوع التي اصطحب فيها والدي ووالدتي كارلتون لتفحّص كلّيتي أل أس يو، وتولان، لأنه سيدخل الكلّية في العام التالي. في صباح ذلك اليوم، نقل والدي السرير القابل للطيّ إلى داخل المطبخ، وبقرب حمّامها، حيث كانت كونستنتين تنام على الدوام عندما تمضي الليل في منزلنا.
  قالت، مشيرةً إلى خزانة المكنسة: "اذهبي وألقي نظرة على ما اصطحبتُ معي". فذهبتُ وفتحتها ورأيت في حقيبتها أُحجية من خمسمئة قطعة عليها صورة لجبل راشموند. فجمع أجزاء أُحجية ما، كان بالنسبة إلينا، أفضل ما نقوم به عندما تنام عندنا.
  في تلك الليلة، جلسنا طوال ساعات نتناول الفول السوداني، ونبحث عن الأجزاء الصغيرة المتناثرة على طاولة المطبخ. وهبّت عاصفة شديدة في الخارج جعلت الغرفة مكاناً دافئاً ومريحاً. وخفتَ ضوء المصباح الكهربائي في المطبخ وشعّ مجدداً.
  "من هذا الشخص؟". سألت كونستنتين، متأملةً بعلبة الأُحجية عبر نظارتها ذات الإطار الأسود.
  "إنه جيفرسون".
  "آه، إنه هو بالتأكيد. ماذا عن الآخر؟".
  "إنه...". وانحنيتُ فوق الصورة. "أظن أنه... روزفلت".
  "لينكولن هو الوحيد الذي تمكنتُ من تمييزه. هو يشبه والدي".
  توقفتُ ممسكةً بقطعة من الأُحجية. كنت في الرابعة عشرة من عمري وأحصل على نتيجة أيه على الدوام في المدرسة. كنت ذكية ولكن ساذجة. فوضعت كونستنتين العلبة رأساً على عقِب، ونظرَت إلى القِطع مجدداً.
  سألتُ: "لأن والدك كان طويل القامة... جداً؟".
  فضحكَت في سرّها. "لأن والدي كان أبيض البشرة. لقد حصلتُ على طول القامة من والدتي".
  ووضعتُ القطعة. "والدك... كان أبيض البشرة، ووالدتك... ذات بشرة ملوَّنة؟".
  قالت: "أجل". وابتسمت، مُحدثةً صوت طقطقة بقطعتين. "حسناً، انظري، لقد حصلتُ على صورة مطابقة".
  كانت لديّ العديد من الأسئلة من كان؟ أين كان؟أعرف أنه لم يكن متزوجاً بوالدة كونستنتين لأن هذا الزواج مخالف للقانون. فأخرجتُ سيجارة من العلبة التي وضعتُها على الطاولة. كنت في هذه السنّ ولكنني أشعر أنني بالغة، وأشعلتُها. وفي أثناء ذلك، خفت الضوء القائم فوق رأسي، وغدا بنّي اللون، شاحباً، ويُصدر أزيزاً خافتاً.
  "آه، كان والدي يحبني كثيراً. لطالما كنت المفضّلة لديه". أسندت ظهرها إلى الكرسي. "لقد اعتاد القدوم إلى المنزل بعد ظهر كل يوم سبت، وإعطائي دفعةً واحدة مجموعة من عشر شرائط حريرية للشعر بعشرة ألوان مختلفة، باريسية الصنع. كنت أجلس على حضنه منذ وصوله وحتى مغادرته، وتلعب والدتي دور بيسي سميث في فيكترولا، وأغنّي معه:
  إنه لأمر غريب جداً من دون شك
  ألاّ يعرفك أحد عندما تخرج منخفضاً
  كنت أصغي بعينين مفتوحتين ومخدَّرتين، واتّقدت مشاعري في غمرة ذلك الضوء الخافت. ولو أن للشوكولا صوتاً، لكان بالتأكيد صوت كونستنتين عندما تغني. ولو أن للغناء لوناً، لكان بالتأكيد لون ذلك الشوكولا.
  "ذات مرة، كنت حزينة، وكانت هناك العديد من الأمور التي تُقلقني كالفقر، والاستحمام في جوّ بارد، والأسنان المتسوّسة. لا أعلم، ولكنه أمسكني برأسي وضمّني إليه في أطول معانقة. وعندما نظرت إليه، كان يبكي أيضاً و... قام بذلك الشيء الذي أفعله لك لتعلمي أنني أعني ما أقول. لقد ضغط بإبهامه على راحة يدي وقال... إنه آسف".
  جلسنا هناك نحدّق إلى قطع الأحجية. لم تكن والدتي ترغب على الأرجح في أن أعرف أن والد كونستنتين أبيض البشرة، وأنه اعتذر لابنته بسبب واقع الحال. إنه أمر لم يكن يُفترض بي معرفته، فشعرت أن كونستنتين منحتني هدية.
  أنهيت سيجارتي، وأطفأتها في مِنفضة الضيوف الرمادية. وشعّ الضوء مجدداً، فابتسمت كونستنتين لي، وابتسمت لها.
  قلت، ناظرةً إلى عينيها البنّيتين: "لماذا لم تخبريني بذلك من قبل؟".
  "لا يمكنني إخبارك بأي شيء، يا سكيتر".
  "ولكن لماذا؟". كانت تعرف كل شيء عني وعن عائلتي، فلماذا تُخفي عني أسراراً؟
  فحدّقت إليّ، ورأيت حزناً دفيناً وكئيباً داخلها. وبعد قليل، قالت: "أُبقي بعض الأمور لنفسي".
  عندما حان دوري لدخول الكلّية، ذرفت والدتي الدموع في أثناء ابتعادي ووالدي بالشاحنة. ولكنني شعرتُ بالحرية بعيداً عن المزرعة وانتقاداتها. كنت أريد أن أسأل والدتي، هل أنت سعيدة؟ ألم تشعري بالارتياح لأنك لن تكوني مضطرة إلى القلق عليّ كل يوم؟ ولكن والدتي بدت بائسة.
  كنت أسعد شخص في مهجعي في العام الجامعي الأول، وأكتب رسالة لكونستنتين كل أسبوع أخبرها فيها عن غرفتي، والصفوف، ونادي النساء، فتوجّه إليّ رسالتين جوابيّتين كل شهر على ورقة رَقّ يمكن طيّها داخل مغلّف. وكان يتعيّن عليّ توجيه الرسائل إليها عبر بريد المزرعة لأن خدمات مكتب البريد لم تكن تشمل هوتستاك، آملةً في ألا تقوم والدتي بفتحها. كان خط كونستنتين كبيراً وجميلاً بالرغم من كونه منحنياً، وأشارت في رسائلها إلى كل تفصيل مُملّ متعلّق بلونغليف: أشعر بآلام في الظهر ولكن قدمَيّ هما الأكثر سوءاً، أو انفصل الخلاّط عن الوعاء فجأةً وطار في المطبخ، فأجفل الهرّ وهرب، ولم أره مذاك الحين. كانت تخبرني أن والدي أُصيب بنزلة صَدرية. كانت رسائلنا أشبه بحوارات ممتدّة تتم الإجابة فيها عن الأسئلة الموجَّهة والواردة، وتتواصل وجهاً لوجه في إجازة الميلاد، أو الإجازة بين دورة صيفية دراسية وأخرى.
  أما رسائل والدتي فكانت تحتوي على العبارتين التاليتين، اتلي الأدعية ولا تنتعلي أحذية بكعوب عالية لأنها تجعلك طويلة جداً، مُرفَقة بشيك مصرفي بقيمة خمسة وثلاثين دولاراً.
  في شهر نيسان/أبريل من عامي الجامعي الأخير، وردتني رسالة من كونستنتين جاء فيها، لديّ مفاجأة لك، يا سكيتر. أنا منفعلة جداً لدرجة أنني لا يمكنني تحمّل نفسي. ولا تسأليني عن الأمر أبداً. ستعرفينه بنفسك عندما تعودين إلى المنزل.
  حدث ذلك قُبَيل الامتحانات النهائية وقبل شهر من التخرّج، وكانت آخر رسالة تلقّيتها منها.
  لم أشارك في احتفال تخرّجي في أولي ميس، وتخلّت كل صديقاتي المقرّبات عن ذلك أيضاً ليتزوّجن، وآثرتُ عدم تكبيد والدتي ووالدي عناء القيادة ثلاث ساعات لمشاهدتي أسير على المنصة ليس إلا، في حين أن والدتي كانت تريد أن تراني أعبر ممرّ دار العبادة برفقة زوجي في الواقع. ولم يَرِدني أي جواب من هاربر آند روو كذلك. وهكذا، وبدلاً من شراء تذكرة سفر بالطائرة إلى نيويورك، عدتُ إلى المنزل في جاكسون، في سيارة بويك تقودها كاي ترنر، وكانت طالبة في العام الثاني، وجلستُ على المقعد الأمامي والآلة الكاتبة عند قدمَيّ، وفستان زفافها بينها وبيني. كانت كاي ترنر تخطط للزواج ببيرسي ستانهوبفي في الشهر التالي. واستمعتُ طيلة ثلاث ساعات إلى القلق الذي يعتريها بسبب نكهات الكعكة.
  عندما وصلتُ إلى المنزل، عادت والدتي خطوةً إلى الوراء لتنظر إليّ بشكل أفضل. قالت: "حسناً، تبدو بشرتك جميلة، ولكن شعرك...". وتنهدت، وهزت رأسها.
  سألتُ: "أين كونستنتين؟ أهي في المطبخ؟".
  فأجابت والدتي كما لو أنها تُخبرني بحال الطقس: "لم تعُد كونستنتين تعمل هنا. والآن، دعينا نفرغ كل تلك الحقائب قبل أن تُتلفي ملابسك".
  فاستدرتُ وطرفتُ عينيّ، ناظرةً إليها. ظننت أنني لم أسمعها جيداً. "ماذا قلتِ؟".
  وقفت والدتي بشكل مستقيم، مملّسةً فستانها. "كونستنتين ذهبت، يا سكيتر. ذهبت للعيش مع أهلها في شيكاغو".
  "ولكن... ماذا؟ لم تقل أي شيء في رسائلها عن شيكاغو". كنت أعرف أنها لم تكن لِتفاجئني بأمر مماثل ولأبلغتني هذا النبأ الرهيب من دون تلكّؤ.
  أخذت والدتي نفَساً عميقاً، وقوّمت ظهرها. "طلبتُ من كونستنتين ألا تكتب لك عن مسألة مغادرتها؛ ليس في أثناء امتحاناتك النهائية. ماذا لو رسبتِ واضطُررتِ إلى البقاء عاماً إضافياً؟ الله يعلم، أربع سنوات في الكلّية هي مدة أكثر من كافية".
  "و... وافقت على ذلك؟ ألاّ تكتب لي وتخبرني أنها مغادرة؟".
  فأشاحت والدتي بنظرها وتنهدت. "سنناقش الأمر لاحقاً، يا أوجينيا. هيا إلى المطبخ، دعيني أعرّفك إلى الخادمة الجديدة، باسكاغولا".
  لكنني لم أتبع والدتي إلى المطبخ، حدّقتُ إلى حقائب الكلّية، مروَّعةً من فكرة إفراغ محتوياتها. لقد بدا المنزل واسعاً وفارغاً. في الخارج، كانت هناك حصّادةٌ درّاسة تئزّ في حقل القطن.
  في شهر أيلول/سبتمبر، لم أفقد الأمل فحسب في تسلّم أي رد من هاربر آند روو، بل وفي العثور على كونستنتين أيضاً. لم يكن أحد يعرف شيئاً عنها كما يبدو، أو عن كيفية الوصول إليها. وتوقفتُ أخيراً عن طرح أسئلة على الناس لمعرفة السبب الذي دفع كونستنتين للمغادرة. لقد بدا الأمر كما لو أنها اختفت فحسب، وكان عليّ القبول أن كونستنتين، حليفتي الحقيقية الوحيدة، تخلت عني، وعليّ النضال بمفردي وسط هؤلاء الأشخاص.
الفصل السادس
  في صباح أحد أيام أيلول/سبتمبر الحارة، استيقظت على سرير طفولتي، وانتعلت الخفّ الذي أحضره لي شقيقي كارلتون من المكسيك. كان حذاءً للفتيان بالطبع لأن أقدام الفتيات المكسيكيات لا يبلغ مقاسها تسعة ونصف. كانت والدتي تكره هذه الأحذية وتقول إن منظرها تافه.
  ارتديت فوق قميص النوم قميص والدي القديمة المزرَّرة حتى الأسفل، وانسللت إلى الخارج عبر الباب الأمامي. كانت والدتي في الرُّواق الخارجي الخلفي مع باسكاغولا وجيمسو يقشرون المَحار.
  "لا يمكنك ترك زنجي وزنجية معاً بمفردهما". كانت والدتي قد همست في أُذُني منذ مدة طويلة. "الذنب ليس ذنبهما، لا يمكنهما تمالك نفسيهما فحسب".
  نزلتُ الدرجات للتحقق مما إذا كانت توجد في الصندوق نسخة عن كتاب كاتشر إن ذي راي الذي طلبت الحصول عليه عبر البريد. كنت أطلب على الدوام الكتب المحظورة من أحد تجار السوق السوداء في كاليفورنيا، متصوّرةً أنه لا بد من أن تكون جيدة لأنه يحظَّر نشرها في ولاية ميسيسيبي. وعندما وصلتُ إلى نهاية الطريق الخاصة بالمنزل، كان الغبار الأصفر قد غطى خُفي وكاحلَيّ.
  كانت حقول القطن إلى جانبَيّ تسطع باللون الأخضر المليء بجوزات القطن. لقد فقد والدي الحقول الخلفية في الشهر السابق بسبب المطر، ولكن غالبية الحقول المتبقية أزهرت من دون الإصابة بأي أذى. وظهرت على الأوراق بقع بنّية اللون، وكان في استطاعتي أن أشم في الهواء الرائحة اللاذعة للسائل الكيميائي الذي رُشَّت به الأوراق لتيبس وتتساقط. لم تكن هناك أي سيارة على طريق المقاطعة، وفتحتُ صندوق البريد.
  هناك، وتحت المجلة المرسَلة إلى والدتي لايديز هوم جورنال، وجدتُ رسالة موجَّهة إلى الآنسة أوجينيا فيلان، وكُتب في الزاوية بأحرف حمراء نافرة، هاربر آند روو، ناشرون. ففتحت المغلّف عند الطريق هناك، ولم أكن أرتدي سوى قميص نومي الطويلة وقميص والدي القديمة من ماركة بروكس براذرز.
4 أيلول/سبتمبر 1962
عزيزتي الآنسة فيلان،
أوجّه إليك شخصياً رسالة جوابية على سيرتك الذاتية، لأنني وجدتُ أن قيام سيدة شابة، لا تملك أي خبرة بالتقدم بطلب لتسلّم عمل تحريري في دار نشر ذات مكانة رفيعة كدارنا، هو أمر جدير بالإعجاب. إن امتلاك خبرة خمس سنوات على الأقل في هذا الميدان هو أمر إلزامي للحصول على عمل مماثل. ولو قمتِ بإجراء أي بحث عن هذه المهنة لأدركتِ ذلك.
مع ذلك، وبما أنني كنت أيضاً سيدة شابة وطموحة، قررت أن أُسدي إليك نصيحة؛ اقصدي صحيفتك المحلّية واحصلي على عمل أوّلي. لقد ضمّنتِ رسالتك أنك "تستمتعين بالكتابة إلى حد كبير. فعندما لا تقومين بإعداد نسخات ستنسل أو تُعدّين القهوة لصاحب عملك، انظري من حولك، استقصي، واكتبي. لا تهدري وقتك على الأمور البديهية. اكتبي عما يزعجك، ولا سيما إذا لم يكن يُزعج أحداً سواك.
المُخلِصة،إلين شتاين، كبيرة المحررين، قسم كتب الراشدين
  تحت الحرف المطبعي الصغير ملاحظة بخط اليد كُتبت على عَجَل بحبر أزرق وبحروف متقطعة:
إذا كنتِ جدّية حقاً، أنا على استعداد للاطّلاع على أفضل أفكارك وإعطائك رأيي. لا أعرض عليك هذا الأمر، يا آنسة فيلان، إلا لأن أحدهم عرض عليّ الأمر نفسه ذات مرة.
  مرّت على طريق المقاطعة شاحنة مليئة بالقطن، هادرة. فانحنى الزنجي الجالس على مقعد الركاب، مادّاً رأسه إلى الخارج، وحدّق. لقد نسيت أنني فتاة بيضاء البشرة في قميص نوم رقيقة. كنت قد تسلّمت رسالة للتوّ، لا بل أيضاً تشجيعاً، من مدينة نيويورك، فلفظتُ الاسم بصوت مرتفع: "إلين شتاين". لم يسبق لي أن التقيت يهودياً.
  ركضتُ بأقصى سرعة على طريق المنزل، محاولةً منع الرسالة من الرفرفة في يدي، لأنني لم أكن أريد تغضينها. فاندفعتُ بسرعة على الدرجات، وصاحت والدتي طالبةً مني خلع ذلك الحذاء المكسيكي الرَّث، وشرعتُ بالعمل مدوِّنةً كل ما يزعجني في الحياة، ولا سيما تلك الأمور التي يبدو أنها لا تزعج الآخرين. لقد زرعَت كلمات إلين شتاين الحماسة في نفسي، فطبعتُ بأسرع ما يمكن. وما حصلتُ عليه بعد ذلك لائحة طويلة جداً.
  في اليوم التالي، كنت مستعدة لتوجيه رسالتي الأولى إلى إلين شتاين، معدّدةً الأفكار التي أظن أنها جديرة أن تكون مواد صحفية: انتشار الأميّة في الميسيسيبي، ارتفاع عدد حوادث السير الناجمة عن الثمالة في بلادنا، فرص العمل المحدودة للنساء.
  لم أدرك إلا بعد توجيه الرسالة عبر البريد أنني ربما اخترت الأفكار التي تثير اهتمام الآخرين أكثر مما تثير اهتمامي.
  أخذتُ نفساً عميقاً، وفتحتُ الباب الزجاجي الثقيل، فرنّ جرس صغير مرحّباً. ونظرت إليّ موظفة استقبال تفتقر إلى الأنوثة. كانت ضخمة القامة وتبدو غير مرتاحة على الكرسيّ الخشبي. "أهلاً وسهلاً في صحيفة جاكسون جورنال. هل يمكنني مساعدتك؟".
  كنت قد اتصلتُ قبل يومين، وبعد ساعة تقريباً من تلقّي رسالة إلين شتاين، طالبةً إجراء مقابلة معي لأي منصب شاغر. فدُهشتُ بقولهم إنهم سيقابلونني في وقت قريب جداً.
  "أنا هنا لرؤية السيد غولدن، من فضلك".
  فتهادت موظفة الاستقبال بثوبها الفضفاض، ودخلَت باباً قائماً وراءها. حاولتُ تهدئة يديّ المرتجفتين، واسترقتُ النظر عبر الباب المفتوح على غرفة مزيَّنة بألواح خشبية، وفي داخلها أربعة رجال ببذلات يضربون بقوة على آلات كاتبة، ويكتبون بأقلام رصاص مُحدثين صريراً. كانوا منكبّين على العمل، شاحبي اللون، وشعر ثلاثة منهم يتخذ شكل نِضوة حصان، والغرفة عابقة بدخان السجائر.
  ظهرت موظفة الاستقبال مجدداً، وأشارت إليّ بإبهامها طالبةً مني أن أتبعها، والسيجارة متدلّية من يدها. "تعالي من الوراء". وبالرغم من حالتي العصبية، فإن كل ما كان في استطاعتي التفكير فيه هو القاعدة القديمة للكلّية، لا يسير متدرّج في شي أوميغا أبداً والسيجارة بيده. وتبعتها إلى مكتب داخلي بين مكاتب رجال محدّقين، ووسط ضباب الدخان.
  "أقفلي ذلك الشيء وراءك". صاح السيد غولدن ما إن فتحتُ الباب ودخلت. "لا تدعي كل ذلك الدخان يدخل".
  فوقف السيد غولدن وراء مكتبه. كان أقصر مني قامةً بنحو ست بوصات، أنيق الملبس، أصغر سناً من والديّ، له أسنان طويلة وأسلوب ساخر، وشعره أسود لمّاعاً يوحي أنه رجل خبيث.
  قال: "ألم تسمعي؟ لقد أعلنوا الأسبوع الماضي أن السجائر تقتلك".
  "لم أسمع بذلك". وأملتُ في ألا يكون هذا الخبر مذكوراً في الصفحة الأمامية من صحيفته.
  "تبّاً، أعرف أن الزنوج البالغين من العمر مئة عام يبدون أصغر سناً من أولئك الأغبياء في الخارج". وجلس مجدداً، ولكنني بقيتُ واقفة بسبب عدم وجود كرسي آخر في الغرفة.
  "حسناً، لنرَ ما لديك". فسلّمتُه سيرتي الذاتية، ونماذج لمقالات كتبتها في الكلّية. لقد نشأتُ والصحيفة موجودة على طاولة مطبخنا، مفتوحة على صفحة التقرير الذي يتناول المزارع أو على صفحة الرياضات المحلية، ولكن لم تتسنَّ لي فرصة قراءتها.
  لم ينظر السيد غولدن إلى مقالاتي فحسب، بل استعان أيضاً بقلم أحمر. "محررة مورّاه هاي لمدة ثلاث سنوات، محررة ريبل روزر لمدة سنتين، محررة شي أوميغا لمدة ثلاث سنوات، اختصاص مزدوج باللغة الإنكليزية والصحافة، متخرّجة وحللتِ بالمرتبة الرابعة... تبّاً، يا فتاة". قال مهمهماً: "ألم تحظَي بأي تسلية ومرح؟".
  فتنحنحت. "هل... لهذا الأمر أهمية؟".
  نظر إليّ. "أنت طويلة القامة بشكل غريب، ولكنني أظن أن فتاة جميلة مثلك تواعِد أفراد فريق كرة السلة كافة".
  فحدّقت إليه، غير واثقة مما إذا كان يهزأ بي أو يُطري عليّ.
  "أفترض أنك تعرفين كيف تنظفين...". نظر مجدداً إلى مقالاتي، ووضع عليها علامات حمراء.
  فاحمرّ وجهي بسرعة. "أنظّف؟ أنا لست هنا لأنظف. أنا هنا لأكتب".
  كان دخان السجائر يعبق تحت الباب كما لو أن النار تلتهم المكان برمّته. وشعرت بالغباء الشديد لأنني فكرت في أنه يمكنني الدخول ببساطة والحصول على عمل صحفي.
  فأطلق تنهيدة عميقة، وسلّمني إضبارة أوراق سميكة. "أظن أنك ستكتبين. لقد ثارت ثائرة الآنسة ميرنا علينا، ربما شربت رذاذ شعر أو شيئاً آخر. اقرأي الأسئلة، وضعي الإجابات كما تفعل، لن يلاحظ أحد الفرق".
  "ماذا... أفعل؟". أخذت إضبارة الأوراق لأنها الخطوة الوحيدة التي كنت أعرف أنه يتعيّن عليّ القيام بها. لم أكن أملك أي فكرة عمن تكون الآنسة ميرنا تلك، وطرحت السؤال الآمن الوحيد الذي تمكنت من التفكير فيه. "ما... الأجر؟".
  فرمقني بنظرة مقيّمة ومفاجئة من حذائي المسطح حتى تسريحة شعري المسطحة. وحثتني فطرتي الراقدة على الابتسام، وتمرير يدي على شعري. فشعرت أن الأمر مثير للسخرية، ولكنني قمت بذلك.
  "ثمانية دولارات، كل يوم اثنين".
  فأومأت برأسي محاوِلةً إيجاد طريقة لمعرفة نوعية عملي من دون أن يلاحظ ذلك.
  انحنى إلى الأمام. "هل تعرفين من تكون الآنسة ميرنا، ألا تعرفين؟".
  "بالطبع. نحن... الفتيات نقرأ فقرتها على الدوام". قلت وحدّقنا إلى بعضنا بعضاً لفترة وجيزة من الزمن كافية ليرنّ هاتف ثلاث مرات.
  "إذاً، ثمانية دولارات غير كافية؟ يا الله، يا للنساء، اذهبي ونظفي مرحاض زوجك مجاناً".
  فعضضتُ شفتي. ولكن، قبل أن أتمكن من التفوه بأي كلمة، قلّب عينيه.
  "حسناً، عشرة. موعد تسليم المواد المُعَدّة للطبع أيام الثلاثاء. وإذا لم يُعجبني أسلوبك، لن أنشر مقالتك أو أدفع لك شيئاً".
  تناولت إضبارة الأوراق، وشكرته ربما أكثر مما يُفترض. فتجاهلني والتقط هاتفه، وأجرى اتصالاً قبل أن أخرج من الباب. وعندما وصلت إلى سيارتي، غرقت في المقعد الجلدي الليّن والمريح لسيارة الكاديلاك. وجلست هناك أبتسم وأقرأ الصفحات في الإضبارة.
  لقد حصلتُ للتوّ على عمل.
  عدتُ إلى المنزل معتدّة بنفسي، منتصبة القامة أكثر مما كانت عليه حالي عندما كنت في الثانية عشرة من عمري قبل أن أنمو بشكل مفاجئ. وبالرغم من أن كل خلية في دماغي كانت ترفض قيامي بإطلاع والدتي على الأمر، لم تكن في استطاعتي مقاومة ذلك. فاندفعتُ إلى داخل غرفة الاستجمام، وأخبرتها بكل شيء عن كيفية حصولي على عمل الآنسة ميرنا التحريري في العمود الأسبوعي لإسداء النصح حول كيفية المحافظة على النظافة.
  "آه، يا لسخرية القدر". أطلقَت تنهيدة تعني أن الحياة غير جديرة أن نحياها في ظل ظروف مماثلة. وأضافت باسكاغولا الماء إلى شايها المثلّج.
  قلت: "إنها بداية على الأقل".
  "بداية لأي شيء؟ إسداء النصح حول كيفية الاهتمام للمنزل عندما...". وتنهدَت مجدداً على نحو ممتد وبطيء على غرار دولاب يفرَّغ من الهواء.
  فأشحتُ بنظري، متسائلةً عما إذا كان كل من في المدينة يفكر في الطريقة نفسها. وبدأت سعادتي تتلاشى.
  "يا أوجينيا، حتى إنك لا تعرفين كيفية تلميع الأواني الفضية، وهو أقل ما يمكنك إسداء النصح في شأنه لإبقاء المنزل نظيفاً".
  ضممتُ الإضبارة إلى صدري. كانت مُحِقة. لن أتمكن من الإجابة عن الأسئلة. ومع ذلك، كنت أظن أنها ستفتخر بي على الأقل.
  "ولن تلتقي أحداً وأنت جالسة وراء الآلة الكاتبة تلك. يا أوجينيا، فكّري في طريقة سليمة".
  شعرتُ بالغضب يتمدد إلى ذراعَي. ووقفتُ بشكل مستقيم مجدداً. "تظنين أنني أريد العيش هنا؟ معك؟". وضحكتُ بطريقة أملتُ في أن تؤذيها.
  رأيت الألم يظهر في عينيها بسرعة، وأطبقَت شفتيها بإحكام. ومع ذلك، لم أشعر بالرغبة في سحب كلماتي لأنني قلت أخيراً أمراً ما تُنصت إليه.
  فوقفتُ هناك، رافضةً المغادرة. أردت أن أسمع ردّها على ما قلت. أردت أن أسمعها تُعرب عن أسفها.
  "أريد أن... أسألك أمراً ما، يا أوجينيا". ولوت مِنديلها، وتجهّم وجهها. "قرأت في ذلك اليوم عن كيفية... فقدان بعض الفتيات لاتزانهنّ، وكيفية تبادر هذه الأفكار غير الطبيعية إلى أذهانهنّ".
  لم أكن أملك أي فكرة عما تتكلم عنه. فرفعتُ نظري إلى مروحة السقف التي كانت تدور بسرعة كبيرة. كلاكتي - كلاكتي - كلاكتي...
  "هل أنت... هل تجدين... الرجال جذّابين؟ هل تتبادر إلى ذهنك أفكار غير طبيعية عن...". وأغمضت عينيها بإحكام. "الفتيات أو... أو النساء؟".
  فحدّقتُ إليها، متمنّيةً خروج مروحة السقف من قاعدتها والتحطم على رأسَينا.
  "لأنه قيل في هذه المقالة إن هناك علاجاً، شاي جذور خاص...".
  قلت، مُغمضةً عينيّ بإحكام: "يا أمي، أريد معاشرة الفتيات بقدر ما تريدين معاشرة... جيمسو". وتوجهتُ إلى الباب، ولكنني ألقيت نظرةً إلى الوراء. "أعني، ما لم تكوني شاذة بالطبع؟".
  فقوّمت والدتي وقفتها وشهقَت. وصعدتُ درجات السلّم بخُطى مدوّية.
  في اليوم التالي، كدّستُ رسائل الآنسة ميرنا بطريقة مُتقَنة. كان هناك ثلاثون دولاراً في حقيبة يدي، وهو المبلغ الشهري الذي لا تزال والدتي تزودني به. ونزلت إلى الطابق السفلي وعلى وجهي ابتسامة عريضة. وكَوني مقيمة في المنزل، عليّ أن أسأل والدتي كلما أردت مغادرة لونغليف إذا كانت في استطاعتي استعارة سيارتها، مما يعني أنها تريد معرفة المكان الذي سأقصده، واضطراري إلى الكذب عليها يومياً، وهو أمر ممتع بحدّ ذاته ولكنه مُخزٍ في الوقت نفسه.
  "أنا ذاهبة إلى دار العبادة للتحقق مما إذا كانوا بحاجة إلى أي مساعدة للاستعداد لمدرسة الأحد".
  "آه، يا عزيزتي، إنه أمر رائع. خُذي وقتك، لست بحاجة إلى السيارة".
  كنت قد قررت تلك الليلة أنني بحاجة إلى شخص محترف يساعدني بفقرتي. وأول ما تبادر إلى ذهني التوجّه بالسؤال إلى باسكاغولا، ولكنني لم أكن أعرفها جيداً، كما أنني لم أتحمّل فكرة قيام والدتي بتقصّي الأخبار والتطفّل، موجّهةً الانتقادات إليّ مراراً وتكراراً. وخادمة هيلي، يول ماي، شديدة الخجل لدرجة أنني أشك في رغبتها في مساعدتي. والخادمة الأخرى الوحيدة التي أراها في أغلب الأحيان هي خادمة إليزابيت، آيبيلين. فآيبيلين تذكّرني بكونستنتين بطريقة ما، بالإضافة إلى أنها أكبر سنّاً مني وتتمتع بكثير من الخبرة كما يبدو.
  في طريقي إلى منزل إليزابيت، مررت بمتجر بِن فرانكلين واشتريت لوحاً مِشبكياً، وعلبة تحتوي على قلمَي رصاص، ومفكّرة زرقاء. كان يتعين عليّ تسليم عمودي في اليوم التالي، ووضعه على مكتب السيد غولدن عند الثانية بعد الظهر.
  "يا سكيتر، ادخلي". فتحت إليزابيت الباب الأمامي الخاص بها، وخشيتُ من ألا تكون آيبيلين موجودة. كانت ترتدي بُرنس حمّام أزرق وتضع على شعرها لُفافات من الحجم الكبير جعلت رأسها يبدو ضخماً، وجسمها أشبه بجسم شخص متشرّد. فإليزابيت تضع لفافات الشعر طوال اليوم عادةً لأنها لا تستطيع أبداً جعل شعرها غير الكثيف منتفخاً.
  "آسفة بسبب الفوضى هذه. لقد أبقتني ماو موبلي مستيقظة نصف الليل، والآن لا يمكنني إيجاد آيبيلين".
  دخلتُ الرَّدهة بالغة الصِّغر. إنه منزل منخفض السقف يحتوي على غرف صغيرة، وكل ما يوجد فيه يبدو غير جديد، الستائر الزهرية بلون أزرق باهت، وغطاء الأريكة المتجعّد. لقد بلغني أن العمل الخاص الجديد الذي شرع به راليه في ميدان المحاسبة لا يسير بشكل جيد. قد يكون مشروعاً جيداً في نيويورك أو في مكان آخر، ولكن الناس في ميسيسيبي، جاكسون، لا يهتمون بالتعاون مع أخرق فظّ ومتعالٍ.
  كانت سيارة هيلي متوقفة أمام المنزل، وآيبيلين متوارية عن الأنظار. وجلست إليزابيت إلى ماكينة الخياطة الموضوعة على طاولة غرفة الطعام. قالت: "أكاد أنتهي، دعيني أدرز هذا الهُدب الأخير...". ووقفت إليزابيت، وحملت ثوباً أزرق وياقة بيضاء مستديرة قامت بخياطتهما لترتديهما عند ذهابها إلى دار العبادة. "الآن، كوني صادقة". همسَت وعيناها تتوسلانني لقول الحقيقة. "هل يبدو منزليّ الصنع؟".
  كان الهُدب في أحد الجانبين أطول منه في الجانب الآخر، متغضّناً، وكان طرف الكُمّ بالياً. "يبدو كما لو أنك اشتريته من المتجر تماماً. من الميزون بلانش مباشرةً". قلت، لأنه المتجر الذي تحلم إليزابيت بشراء ملابسها منه، وهو مؤلف من خمسة طوابق من الملابس باهظة الثمن، وموجود في شارع كانال ستريت في نيو أورليانز، ملابس لا يمكن العثور عليها أبداً في جاكسون. وبادلتني إليزابيت الابتسامة بابتسامة ممتنّة.
  سألتُ: "هل ماو موبلي نائمة؟".
  "أخيراً". عبثت إليزابيت بخصلة شعر أفلتت من لفافتها، وقطّبت حاجبيها بسبب استعصائها. كان صوتها يزداد حدة أحياناً عندما تتحدث عن ابنتها الصغيرة.
  فُتح باب حمّام الضيوف في الرَّدهة، وخرجت هيلي وهي تقول: "أفضل بكثير. يصبح لكل شخص مكان خاص به يقصده".
  عبثت إليزابيت بإبرة الماكينة كما لو أنها قلقة بشأنها.
  "أخبري راليه أنني أقول له أهلاً وسهلاً بك". أضافت هيلي، وأزعجني كثيراً ما قيل. لقد بات لآيبيلين حمّامها الخاص في المرأب.
  فابتسمت هيلي لي، وأدركتُ أنها على وشك طرح مبادرتها للمناقشة.
  سألتُ: "كيف حال أمك؟". عِلماً أنني أعرف أن هذا الموضوع هو من آخر اهتماماتها. "هل استقامت الأمور في المنزل؟".
  "أظن ذلك". شدّت هيلي كنزتها الصوفية نحو الأسفل لتغطي خصرها المكتنز. كانت ترتدي بنطالاً ذا نقوش مربَّعة حمراء وخضراء يزيد من حجم مؤخرتها، ويجعلها تبدو أكثر استدارة من ذي قبل. "بالطبع، هي لا تقدّر أي شيء مما أقوم به حق قدره. كان عليّ طرد تلك الخادمة لأنني فاجأتها وهي تحاول سرقة تلك الآنية الفضية أمام نظري". وضيّقت هيلي عينيها قليلاً. "بالمناسبة، هل بلغكما أن ميني جاكسون تعمل في مكان ما؟".
  فهززنا رأسينا نافيتين أن نكون قد سمعنا أي شيء.
  قالت إليزابيت: "أشك في أن تجد عملاً في هذه المدينة مجدداً".
  أومأت هيلي برأسها، مفكرةً في الأمر مليّاً. فأخذتُ نفساً عميقاً، شاعرةً بالقلق حيال إخبارهما عن عملي الجديد.
  قلت: "حصلتُ على عمل للتوّ في صحيفة جاكسون جورنال".
  وساد الهدوءُ الغرفة. وفجأةً، أطلقت إليزابيت صرخة طويلة مرحّبة، وابتسمت لي هيلي باعتداد بالنفس لدرجة أنني احمررتُ خجلاً، وهززت كتفَيّ كما لو أنه ليس بالأمر الهام.
  قالت هيلي: "من لا يستخدمك يكون أخرق، يا سكيتر فيلان". ورفعت كوب الشاي المثلّج لشرب نخبي.
  سألتُ: "إذاً... أمم، هل قرأت إحداكما في الواقع فقرة الآنسة ميرنا؟".
  قالت هيلي: "لا، ولكنني أراهن أن النساء بيضاوات البشرة الفقيرات والتافهات في جنوب جاكسون يُحببن قراءة الفقرة كما لو أنها الملك جايمس".
  فأومأت إليزابيت برأسها. "كل أولئك النساء الفقيرات اللواتي لا يستخدمن عاملات منازل، أُراهن على أنهنّ يقرأن فقرتها".
  سألتُ إليزابيت: "هل تمانعين إن أنا تحدثت إلى آيبيلين؟ لتساعدني على الإجابة عن بعض الرسائل؟".
  تسمّرت إليزابيت في مكانها لقليل من الوقت. "آيبيلين؟ خادمتي آيبيلين؟".
  "أنا متأكدة من أنني لا أعرف الإجابة عن هذه الأسئلة".
  "حسناً... أعني ما دام ذلك لا يتعارض مع عملها".
  فكففتُ عن الكلام، متفاجئةً بهذا الموقف. ولكنني ذكّرتُ نفسي أن إليزابيت تدفع لها أجرها بالرغم من كل شيء.
  "ليس اليوم لأن ماو موبلي على وشك النهوض، وإلا فسيكون عليّ الاهتمام لها بنفسي".
  "حسناً. ربما... ربما آتي غداً صباحاً؟". وعددتُ الساعات على يدي. إذا أنهيتُ الحديث مع آيبيلين في منتصف فترة الصباح، سيكون لديّ الوقت للإسراع إلى المنزل، وطبع المقالة على الآلة الكاتبة، وإيصالها إلى المدينة عند الساعة الثانية.
  نظرت إليزابيت إلى بَكَرة الخيطان الخضراء متجهّمة الوجه. "ولدقائق قليلة فقط. غداً هو يوم تلميع الأواني الفضية".
  قلت: "لن يطول الأمر، أعدك".
  لقد بدأت إليزابيت تبدو كما لو أنها والدتي.
  في صباح اليوم التالي، فتحت إليزابيت بابها، وأومأت لي برأسها كمدرّسة مدرسة. "حسناً، ادخلي، وليس لوقت طويل. ستستيقظ ماو موبلي في أي وقت".
  فدخلتُ المطبخ، ومفكرتي وأوراقي تحت ذراعي. فابتسمت لي آيبيلين من أمام حوض الغسيل، وسنّها الذهبية تلمع. كانت ممتلئة الجسم في الوسط ولكنها لطيفة وودودة، وأقصر قامةً مني. ولكن، هل هناك من هو ليس أقصر قامة مني! كان حوض الغسيل بنّياً، قاتم اللون، ويشعّ قبالة لباسها الرسمي الأبيض المنشّى، وكان حاجباها رماديَّين بالرغم من سواد شعرها.
  "مرحباً، يا آنسة سكيتر. هل لا تزال الآنسة ليفولت تعمل على الماكينة؟".
  "أجل". من الغريب أن آيبيلين لا تزال تدعو إليزابيت بالآنسة ليفولت وليس بالآنسة إليزابيت أو حتى باسم عائلتها قبل الزواج، الآنسة فريديريكس بعد كل تلك الأشهر التي أمضتها في منزلها.
  "هل تسمحين؟". وأشرت إلى البراد. ولكن قبل أن أتمكن من خدمة نفسي، فتحت لي آيبيلين الباب.
  "ماذا تريدين؟ زجاجة كوكا - كولا؟".
  فأومأتُ برأسي وانتزعَت السدادة بالفتّاحة الموضوعة على المنضدة، وسكَبت المحتوى في كوب.
  أخذتُ نفساً عميقاً، ثم قلت: "يا آيبيلين، كنت أتساءل عما إذا كان في استطاعتي الحصول على مساعدتك في أمر ما". وأخبرتها عن الفقرة التي أُعدّها في المجلة، وشعرت بالامتنان عندما أومأت برأسها، مُقرّةً أنها تعرف الآنسة ميرنا.
  "لذلك، ربما أقرأ لك بعض الرسائل ويمكنك... أن تساعديني على وضع الإجابات. بعد مدة قصيرة من الزمن، قد أتمكن من القيام بالأمر بنفسي و...". وتوقفتُ. لن أتمكن أبداً من الإجابة بنفسي عن الأسئلة التي تتناول التنظيف. بصدق، لم أكن أعتزم تعلّم كيفية التنظيف. "يبدو الأمر غير منصف، أليس كذلك، أن آخذ إجاباتك وأدّعي أنني أعددتها أم أن ميرنا قامت بإعدادها". وتنهّدتُ.
  هزت آيبيلين رأسها. "لا مانع لديّ. لست واثقة من أن الآنسة ليفولت ستوافق على الأمر".
  "قالت إنه لا بأس في ذلك".
  "في أثناء ساعات العمل؟".
  فأومأتُ برأسي، متذكّرةً نبرة الموافقة في صوت إليزابيت.
  "حسناً إذاً". هزّت آيبيلين كتفَيها، ونظرت إلى الساعة فوق حوض الغسيل. "سيكون عليّ التوقف ربما عندما تستيقظ ماو موبلي".
  "هلا جلسنا؟". أشرت إلى طاولة المطبخ.
  ألقت آيبيلين نظرة إلى الباب الدوّار. "تفضّلي، أنا مستعدة".
  لقد أمضيت الليلة السابقة في قراءة كل مقالة للآنسة ميرنا وضعتها قبل خمس سنوات، ولكن، لم يتسنَّ لي الوقت لفرز الرسائل التي لم تتم الإجابة عنها. فوضعتُ لوحي المِشبكي بشكل مستقيم، ممسكةً القلم بيدي. "إليك رسالة من مقاطعة رانكين".
  قرأتُ: "عزيزتي الآنسة ميرنا، كيف أُزيل الأوساخ عن ياقة قميص زوجي المُهمِل وممتلئ الجسم، لا سيّما وأنه كالحيوان و... ويتعرّق كشخصٍ...".
  رائع. عمود عن التنظيف والعلاقات. هما أمران لا أعرف عنهما شيئاً البتة.
  سألَت آيبيلين: "ما الذي تريد التخلص منه؟ الأوساخ أم الزوج؟".
  فحدّقتُ إلى الصفحة. لم أكن أعرف كيف أطلب منها الإجابة عن الأمرين.
  "قولي لها أن تستخدم خلاًّ وتنقعها بباين - سول، ولتضعها في الشمس لبعض الوقت".
  فدوّنتُ ذلك بسرعة. "تضعها في الشمس لأي مدة من الزمن؟".
  "لنحو الساعة، ولتدَعها تجف".
  سحبتُ الرسالة التالية، فأجابت عنها بالسرعة نفسها. وبعد أربع أو خمس رسائل، تنفّستُ الصعداء.
  "شكراً يا آيبيلين. لا فكرة لديك كم ساعدني هذا الأمر".
  "لا مشكلة في ذلك ما دامت الآنسة ليفولت لا تحتاج إليّ".
  جمعتُ أوراقي، وتناولت آخر رَشفة من الكولا، واسترخيتُ لبضع ثوانٍ قبل الانطلاق لوضع المقالة. كانت آيبيلين تنقّب في كيس يحتوي على أوراق سَرخَسيّة خضراء، ويسود الهدوء الغرفة باستثناء الراديو الذي يبثّ بهدوء.
  "كيف عرفتِ كونستنتين؟ أين كنتما تلتقيان؟".
  "نحن... في الجماعة نفسها". وبدّلت آيبيلين وضعية قدميها أمام حوض الغسيل.
  انتابني ما غدا ألماً نفسياً مألوفاً. "حتى إنها لم تترك عنواناً. لا يمكنني التصديق أنها غادرت على ذلك النحو".
  لم ترفع آيبيلين نظرها. لقد بدا الأمر كما لو أنها تتفحص أوراق السرخسية الخضراء بحِرص شديد. "لا، أنا على ثقة تامة أنه تم الاستغناء عن خدماتها".
  "لا، قالت والدتي إنها تركت العمل في نيسان/أبريل الماضي، وذهبت للعيش في شيكاغو مع عائلتها".
  فالتقطت آيبيلين ورقة سرخسية أخرى، وبدأت تغسل جِذعها الطويل وأطرافها الخضراء المتجعّدة. قالت بعد توقف قصير: "لا يا سيدتي".
  تطلّبني الأمر بضع ثوانٍ لأدرك ما تعني.
  قلت، محاولةً النظر إلى عينيها: "يا آيبيلين، تعتقدين حقاً أنه تم طرد كونستنتين؟".
  غدا وجه آيبيلين شاحباً كالسماء الزرقاء. قالت: "لا بد من أن الذاكرة تخونني". ويمكنني القول إنها ربما ظنت أنها بالغت في الكشف عن بعض الأمور لامرأة بيضاء البشرة.
  سمعنا ماو موبلي تنادي، فاستأذنت آيبيلين للانصراف، وخرجت من الباب الدوّار. ومضت ثوانٍ قليلة قبل أن أعي وجوب العودة إلى المنزل.
  عندما دخلتُ المنزل بعد عشر دقائق، كانت والدتي تقرأ على طاولة غرفة الطعام.
  قلت، ضامّةً مفكرتي إلى صدري: "أمي، هل طردتِ كونستنتين؟".
  "هل قمتُ... بماذا؟". سألت والدتي. ولكنني أعلم أنها سمعتني لأنها أفلتت مجلة دي أيه أر من يدها. لقد تطلّب الأمر طرح سؤال عسير عليها لترفع نظرها عن تلك المجلة الآسرة للانتباه.
  قالت: "يا أوجينيا، قلت لك، كانت شقيقتها مريضة، لذلك انتقلت إلى شيكاغو للعيش مع عائلتها، لماذا؟ من قال لك غير ذلك؟".
  لم أكن لأخبرها ولو بعد مليون عام أنها آيبيلين. "لقد سمعتُ بالأمر بعد ظهر هذا اليوم في المدينة".
  "من يتحدث عن أمر مماثل؟". وضيّقت والدتي عينيها وراء نظارة القراءة. "لا بد من أنها إحدى الزنجيات".
  "ما الذي فعلتِه لها، يا أمي؟".
  عضّت والدتي على شفتيها، ورمقتني بنظرة طويلة ومتأمّلة من فوق نظارتها ثنائية البؤرة. "لن تفهمي، يا أوجينيا، إلا بعد أن تستخدمي عاملة منزل بنفسك".
  "لقد... طردتِها؟ لأي سبب؟".
  "لا يهمّ. لقد بات الأمر ورائي الآن، ولن أفكر فيه لدقيقة أخرى".
  قلتُ، شاعرةً بالاشمئزاز من صوتي المتوسل ومطالبي الطفولية: "أمي، لقد أشرفَت على تربيتي. أخبريني الآن بما جرى!".
  فرفعت والدتي حاجبَيها لدى سماع نبرة صوتي، وأزالت نظارتها: "لم تكن سوى شيء ملوّن البشرة، وهذا كل ما سأقوله". وأعادت وضع نظارتها، ورفعَت المجلة إلى مستوى عينيها.
  بدأتُ بالارتجاف، وشعرتُ بغضب شديد، فصعدتُ درجات السلّم بصخَب، وجلستُ أمام آلتي الكاتبة، مصعوقةً من قيام أمي بطرد شخص أسدى لها المعروف الأكبر في حياتها، وربّى ابنها وابنتها، وعلّمني اللطف واحترام النفس. فحدّقتُ عبر غرفتي إلى ورق الجدران المكسوّ بنقوش الورد، وإلى الستائر التي تحتوي على ثقوب تزيينية، وإلى الصور الفوتوغرافية المائلة إلى الصُّفرة والمألوفة كثيراً التي باتت جديرة بالازدراء. لقد عملت كونستنتين لدى عائلتنا لتسعة وعشرين عاماً.
  في الأسبوع التالي، دأب والدي على النهوض من فراشه قبل الفجر، وكنت أستيقظ على صوت محركات الشاحنات، وصخَب قطّافات القطن، وصياح المنادين بالاستعجال. كانت الحقول بنّية اللون وهشّة بسبب سويقات القطن اليابسة والمجرَّدة من الأوراق، لتتمكن الآلات من قطف جوزات القطن. إنه موسم حصاد القطن.
  لم يتوقف والدي عن المشاركة في الاحتفال الديني في أثناء زمن الحصاد، ولكنني تمكنت من التحدث إليه ليلة الأحد في الردهة المُظلمة بين فترة تناول العشاء وخلوده إلى النوم. "يا أبي؟". سألتُ: "هلا أخبرتني عما حدث لكونستنتين؟".
  كان شديد التعب لدرجة أنه تنهّد قبل أن يجيب.
  "كيف أمكن لأمي أن تطردها، يا أبي؟".
  "ماذا؟ يا عزيزتي، لقد استقالت كونستنتين. تعلمين أن والدتك ما كانت لتطردها أبداً". بدا مخيَّب الأمل بي لأنني سألته أمراً مماثلاً.
  "هل تعرف أين ذهبت؟ أو هل لديك عنوانها؟".
  فهزّ رأسه نافياً أن تكون لديه أي معلومات. "اسألي أمك، هي تعرف". وربّت على كتفي. "الناس ينتقلون من مكان إلى آخر، يا سكيتر. ولكنني أتمنى لو بقيَت هنا معنا".
  عبَر الردهة باتجاه السرير. كان رجلاً شديد الصدق ولا يخفي أموراً، لذلك تيقّنتُ من أنه لا يملك معلومات عن الأمر أكثر من معلوماتي.
  في ذلك الأسبوع وفي كل أسبوع، كنت أمرّ إلى منزل إليزابيت مرتين أحياناً للتحدث إلى آيبيلين. في كل مرة، كانت إليزابيت تبدو أكثر تشدداً. فكلما أطلت البقاء في المطبخ، ازدادت توجيهات إليزابيت إلى آيبيلين للقيام بمهام منزلية إضافية، وذلك حتى مغادرتي؛ مقابض الأبواب بحاجة إلى تلميع، أعلى البراد بحاجة إلى إزالة الغبار عنه، أظافر ماو موبلي بحاجة إلى تقليم. وظلّت آيبيلين تكُنّ الوُدّ لي، ولكنها غدت عصبية المزاج، وتقف أمام حوض الغسيل في المطبخ ولا تتوقف عن العمل. ولم يدُم الأمر طويلاً حتى بدأتُ أسلّم مقالتي قبل الموعد المحدد، وبدا السيد غولدن مسروراً بعمودي، وقد تطلّبني الأمر نحو عشرين دقيقة لوضع أول مقالتين فقط.
  كنت أسأل آيبيلين عن كونستنتين كل أسبوع. ألا يمكنها الحصول على عنوانها من أجلي؟ ألا يمكنها إطلاعي على السبب الذي أدى إلى طردها؟ هل حدثت جَلَبة كبيرة، لأنه لا يمكنني أن أتصور كونستنتين تقول أجل يا سيدتي وتخرج من الباب الخلفي. لا بد من أن والدتي ضاقت ذِرعاً بها بسبب ملعقة ملطَّخة، أو قيامها بتقديم شريحة خبز محمَّصة ومحروقة لها طوال أسبوع. لم يكن في استطاعتي أن أتخيّل قيام والدتي بطردها لأسباب مماثلة.
  ولكن توسلاتي لم تؤدِّ إلى أي نتيجة، لأن كل ما كانت تقوم به آيبيلين هو هزّ كتفَيها لي، والقول إنها لا تعرف شيئاً.
  بعد ظهر أحد الأيام، وبعد أن سألتُ آيبيلين عن كيفية إزالة الأوساخ المستعصية عن حوض الاستحمام (لم أفرك في حياتي حوض استحمام)، عدت إلى المنزل، ومررت أمام غرفة الاستجمام. كانت باسكاغولا تشاهد التلفاز على بُعد خمس بوصات من المرقاب، فألقيت نظرة داخل الغرفة وسمعتُ كلمتيّ أولي ميس، ورأيت على الشاشة ذات الصورة غير الواضحة رجالاً بيض البشرة في بذلات محتشدين أمام الكاميرا، والعرَق يسيل على رؤوسهم الصلعاء. فدنوتُ من التلفاز، ورأيت زنجياً بمثل سنّي تقريباً واقفاً وسط الرجال ذوي البشرة البيضاء، وكان هناك جنود وراءه. واتّسع نطاق المشهد، وظهر المبنى القديم لكلّيتي، والحاكم روس بارنيت واقفاً وشابكاً ذراعيه على نحو متصالب، وهو يحدّق إلى الزنجي طويل القامة. وبجانب الحاكم وقف السيناتور ويتوورث الذي كانت هيلي تحاول تحديد موعد عشوائي لي مع ابنه.
  نظرت إلى شاشة التلفاز على نحو آسر. ولكنني لم أكن متأثرة أو مخيَّبة الأمل بسبب الأخبار التي تناولت رجلاً ذا بشرة ملوّنة في أولي ميس، بل متفاجئة بما يجري. ومع ذلك، كانت باسكاغولا تُصدر أنفاساً مرتفعة لدرجة أنه كان في إمكاني سماعها. ووقفَت بلا حراك، غير مدركة أنني وراءها. وبدا رودجر ستيكر، مراسلنا المحلّي، عصبيّ المزاج، مبتسماً، وسريع التكلم. "أمر الرئيس كنيدي الحاكم بالتنحي لصالح جايمس ميريديت. أكرر، رئيس الولايات المتحدة...".
  "يا أوجينيا، يا باسكاغولا! أطفئا ذلك التلفاز في الحال".
  انتفضت باسكاغولا ناظرةً إلى من حولها، ورأتني ووالدتي. فخرجَت من الغرفة بسرعة، موجّهةً نظرها إلى الأرض.
  همست والدتي: "لن أسمح بذلك، يا أوجينيا، لن أسمح لك بتشجيعهنّ على هذا النحو".
  "تشجيعهنّ؟ إنها أخبار على مستوى الأمة بأكملها، يا أمي".
   نخرت والدتي أنفها وقالت: "من غير الملائم أن تشاهَدا معاً". وبدّلت المحطة وتوقفت عند المحطة التي تعرض إعادة للورنس وِلك.
  "انظري، أليس ذلك أفضل؟".
  في يوم سبت حارّ من أواخر أيلول/سبتمبر، وبعد فرم الحقول وتفريغها من محتوياتها، اصطحب والدي معه إلى المنزل تلفازاً ملوَّناً جديداً من طراز أر سي أيه، ونقل التلفاز الأسود والأبيض إلى المطبخ. وقام بتوصيل التلفاز الجديد بالقابس الكهربائي في جدار غرفة الاستجمام، مبتسماً ومعتدّاً بنفسه. ودوّى صوت المشاركين في مباراة كرة القدم بين أولي ميس، وأل أس يو في مختلف أرجاء المنزل طوال بعد الظهر.
  كانت والدتي مذهولة بالطبع بالصور الملوّنة وتطلق عبارات تأوّه لدى مشاهدة اللاعبين المليئين بالقوة والنشاط بملابسهم الحمراء والخضراء. كانت ووالدي من أنصار فريق الثوّار، وترتدي بنطالاً صوفياً أحمر بالرغم من شدة الحرارة، وتغطي الكرسي ببطانية والدي القديمة من ماركة كابا ألفا. ولم يكن أحد مهتماً لجايمس ميريديت.
  فاستقللت سيارة الكاديلاك وتوجهت إلى المدينة. ووجدَت والدتي أن عدم رغبتي في مشاهدة المباراة التي تخوضها كليتي الأم أمر لا يمكن تفسيره. ولكن إليزابيت وعائلتها كانوا في منزل هيلي يشاهدون المباراة، مما يعني أن آيبيلين تعمل في المنزل بمفردها. أملتُ في أن يكون أمر استضافتي أكثر سهولة بالنسبة إلى آيبيلين، لأن إليزابيت غير موجودة. في الحقيقة، لقد أملتُ في أن تخبرني شيئاً ما، أي شيء، عن كونستنتين.
  فأدخلتني آيبيلين، وتبعتها إلى المطبخ. لم تكن أكثر ارتياحاً في منزل إليزابيت الفارغ. نظرَت إلى طاولة المطبخ كما لو أنها أرادت الجلوس في ذلك اليوم. ولكن، عندما سألتها عما إذا كان هناك خَطب ما، أجابت: "لا، أنا بخير. تفضّلي". وتناولت حبة طماطم من قِدر الطبخ الموجودة في حوض الغسيل، وبدأت بتقشيرها بسكين.
  فانحنيتُ باتجاه المنضدة، وطرحتُ أحدث أُحجية، كيف تمنعين الكلاب من دخول مستوعبات القمامة في الخارج، لأن زوجك الكسول نسي أن يضعها في الخارج في اليوم المحدد لجمع النفايات، وهو يشرب كل شراب الشعير اللعين ذلك.
  "اسكبي بعض pneumonia أي التهاب رئوي في تلك القُمامة فتبتعد الكلاب عنها". فسجّلتُها، مصحِّحةً كلمة pneumonia بكلمة ammonia محلول النُّشادر. وفتحتُ الرسالة التالية، وعندما رفعتُ نظري، رأيت آيبيلين تبتسم لي.
  "لا أريد الإساءة إليك، يا آنسة سكيتر، ولكن... أليس من الغريب أن تكوني الآنسة ميرنا الجديدة في حين أنك لا تعرفين شيئاً عن تدبير شؤون المنزل؟".
  لم تعبّر آيبيلين عن رأيها بالطريقة التي اعتمدتها والدتي قبل شهر. ووجدتُ نفسي أضحك، وأخبرتها ما لم أخبر أحداً به عن الاتصالات الهاتفية وسيرتي الذاتية التي أرسلتها إلى هاربر آند روو، وعن رغبتي في أن أكون كاتبة، وعن النصيحة التي تلقيتها من إلين شتاين. من الجيد أن نخبر شخصاً ما بهذه الأمور.
  أومأت آيبيلين برأسها، ووجهت سكينها نحو حبة طماطم حمراء أخرى. "كان ابني تريلور يحب الكتابة".
  "لم أكن أعلم أن لديك ابناً".
  "لقد تُوفّي منذ عامين".
  قلت: "آه، أنا آسفة". سالت عُصارة الطماطم اللينة على حوض الغسيل.
  "كان يحصل على علامات أيه في كل امتحانات اللغة الإنكليزية. وفي وقت لاحق، وعندما كبر، تمكن من الحصول على آلة كاتبة، وبدأ يعمل على فكرة ما...". وهبطت الكتفان المثنيتان للباسها الرسمي. "قال إنه سيضع كتاباً بنفسه".
  سألتُ: "أي نوع من الأفكار؟ أعني، إذا لم تمانعي بإخباري...".
  لم تقل آيبيلين شيئاً لفترة من الزمن، واستمرت في تقشير حبات الطماطم. "لقد قرأ ذلك الكتاب بعنوان الرجل الخفيّ. وعندما انتهى من قراءته، قال إنه سيضع كتاباً عن رجل ملوّن البشرة يعمل لصالح رجل أبيض البشرة في الميسيسيبي".
  فأشحت بنظري، مُدركةً أن والدتي كانت لتوقف الحديث عند هذا الحد. حينذاك، ابتسمت آيبيلين، وغيّرت الموضوع لتتناول موضوع سعر مادة تلميع الأواني الفضية والأرزّ الأبيض.
  "قرأت الرجل الخفيّ أيضاً بعد أن انتهى من قراءته". قالت آيبيلين. "لقد أعجبني".
  فأومأتُ برأسي، عِلماً أنني لم أقرأه قط. ولم أكن أعرف أن آيبيلين من مُحبي القراءة.
  قالت: "كتبَ خمسين صفحة تقريباً، لقد سمحتُ لصديقته فرانسز بالاحتفاظ بها".
  توقفت آيبيلين عن التقشير، ورأيت حنجرتها تتحرك، مبتلعةً الهواء. عندما كانت تبتلع الهواء، قالت: "رجاءً، لا تخبري أحداً أنه". وأكملت بهدوء أكبر، "كان يريد أن يكتب عن صاحب عمله أبيض البشرة". وعضّت شفتها، وصعقني أمر استمرارها في الخشية عليه. فبالرغم من وفاته، كانت تخشى على ابنها بشكل فطري.
  "من الجيد أنك أخبرتني بذلك يا آيبيلين. أعتقد أنها... فكرة شجاعة".
  تسمّرت عينا آيبيلين للحظات. بعد ذلك، تناولَت حبة طماطم أخرى وشرعت بتقشيرها. فراقبتُ، وانتظرتُ سيلان العصارة الحمراء. ولكن آيبيلين توقفت قبل قطعها، ونظرت نحو باب المطبخ.
  "أظن أنه من غير المنصف ألا تعرفي ما حدث لكونستنتين. آسفة لذلك، لا أشعر أنه من الصواب أن أتحدث إليك عن الأمر".
  فبيقتُ هادئة، غير واثقة مما حثها على قول ذلك، وغير راغبة في إفساد الأمر.
  "مع ذلك سأخبرك. يتعلق الأمر بابنتها. لقد أطلعَت والدتك على الأمر".
  "ابنتها؟ لم تخبرني كونستنتين أبداً أن لديها ابنة". لقد عرفتُ كونستنتين لمدة ثلاثة وعشرين عاماً. لماذا تُخفي هذا الأمر عني؟
  "كان الأمر صعباً بالنسبة إليها. لقد وُلدت الطفلة... شاحبة اللون".
  فتسمّرتُ في مكاني، وتذكرت ما قالته لي كونستنتين منذ سنوات. "تعنين، فاتحة اللون؟ كما لو أن بشرتها... بيضاء؟".
  أومأت آيبيلين برأسها، مستمرةً في عملها فوق حوض الغسيل. "كان يجب إبعادها إلى الشمال كما أظن".
  قلت: "والد كونستنتين أبيض البشرة، آه... يا آيبيلين... هل تعتقدين...". وتبادرت إلى ذهني فكرة بشعة، وكنت مصدومة جداً لدرجة أنني لم أتمكن من إنهاء جملتي.
  فهزت آيبيلين رأسها. "لا، لا يا سيدتي. الأمر ليس... كما تظنين. زوج كونستنتين، كونور، ذو بشرة ملوّنة. ولكن، بما أن دم والد كونستنتين يسري في عروقها، وُلدت طفلتها ولون بشرتها أصفر قاتم. هذا... أمر يحدث".
  لقد شعرتُ بالخجل لأنني فكرت في الأسوأ. ومع ذلك، لم أفهم. "لماذا لم تخبرني كونستنتين بذلك أبداً؟". سألتُ من دون أن أتوقع أي جواب. "لماذا أبعدَتها؟".
  أومأت آيبيلين برأسها لنفسها كما لو أنها فهمت الأمر، ولكنني لم أفهم. "لم يسبق لي أن رأيتها في تلك الحال السيئة. كما قلت آلاف المرات، لم يكن في استطاعة كونستنتين انتظار اليوم الذي تستعيد فيه ابنتها".
  "قلتِ ابنتها. هل لذلك علاقة بطرد كونستنتين؟ ماذا حدث؟".
  عند هذا الحد، غدا وجه آيبيلين شاحب اللون، وأقفلت الموضوع. أشارت برأسها إلى رسائل الآنسة ميرنا، موضحةً أن هذا كل ما أرادت قوله.
  بعد ظهر ذلك اليوم، توقفتُ بجانب منزل هيلي التي تقيم حفلة بمناسبة مباريات كرة القدم. كانت سيارات الستايشن والبويك متوقفة على امتداد جانبَي الشارع. فخرجتُ بصعوبة من الباب، عالمةً أنني العزباء الوحيدة هناك. في الداخل، كانت غرفة الجلوس مليئة بالأزواج الجالسين على الأرائك، والكراسي، وأذرعة الكراسي، والعيون مشدودة إلى التلفاز ذي الإطار الخشبي. فوقفتُ في الخلف، وتبادلتُ بعض الابتسامات والتحيات الصامتة. وباستثناء المعلّق التلفازي، كانت الغرفة هادئة.
  "هوووووا!". صاحوا كلهم، وعلَت الأيادي في الهواء، ووقفت النساء مصفّقات. كنت أقضم الجلد حول ظفري.
  "أحسنتم أيها الثوار! لقد لقّنتم أولئك النمور درساً!".
  "هيا، يا ثوار!". هتفت ماري فرانسز ترولي، قافزةً في مكانها وهي ترتدي مجموعة ملابس صوفية تتلاءم مع أجواء المباراة. نظرتُ إلى ظفري، وكان الجلد المحيط به زهريّ اللون ويسبب لي ألماً. كانت الغرفة عابقة برائحة الشراب، وتطغى عليها الملابس الصوفية الحمراء وخواتم الألماس. وتساءلتُ عما إذا كانت الفتيات يُحببن كرة القدم حقاً، أم أنهنّ يتصرّفن بهذه الطريقة لترك انطباع جيد في نفوس أزواجهنّ. ففي الأشهر الأربعة التي أمضيتها في الرابطة، لم تسألني فتاة يوماً: "ما رأيك بفريق الثوار؟".
  شققتُ طريقي عبر بعض الأزواج حتى وصلتُ إلى المطبخ. كانت خادمة هيلي الطويلة والنحيلة، يول ماي، تضع نقانق صغيرة في العجين وتلفّها. وكانت هناك فتاة أخرى ذات بشرة ملوّنة، وأصغر سناًَ، تغسل الأطباق في حوض الغسيل. فلوّحت لي هيلي بينما كانت تتحدث إلى دينا دوران.
  "... أفضل بتيفور تذوّقته يوماً! يا دينا، قد تكونين الطاهية الأكثر تمتعاً بالموهبة في الرابطة!". أقحمت هيلي بقية البتيفور في فمها، مومئةً برأسها ومعبّرةً عن مدى طيب مذاقها.
  قالت دينا بوجه مُشرق: "شكراً لك، يا هيلي، إنها قاسية، ولكنني أظن أنها جديرة بالإطراء". وبدت كما لو أنها على وشك البكاء من شدة الفرح.
  "إذاً، ستقومين بالأمر؟ آه، أنا سعيدة جداً. تحتاج لجنة بيع المنتجات المصنوعة من الدقيق إلى شخص مثلك، حقاً".
  "وكم عدد القطع التي تحتاجين إليها؟".
  "خمسمئة، بعد ظهر يوم غد".
  جمُدَت ابتسامة دينا. "حسناً. أظن أن في استطاعتي... العمل في أثناء الليل".
  قالت هيلي: "يا سكيتر، لقد تمكّنتِ من القدوم". وخرجت دينا من المطبخ.
  قلت، وربما بسرعة كبيرة: "لا يمكنني البقاء مدة أطول".
  "حسناً، لديّ معلومات جديدة". أطلقت هيلي ابتسامة متكلّفة. "سيأتي هذه المرة قَطعاً، بعد ثلاثة أسابيع من اليوم".
  رأيتُ أصابع يول ماي الطويلة تقرص العجين برأس السكين، فتنهّدتُ وأدركتُ في الحال الشخص الذي تقوم بإعداد عجينة النقانق هذه له. "لا أعلم، يا هيلي. لقد حاولتِ مرات عدة. ربما كان ذلك إشارة". في الشهر السابق، وعندما ألغى الموعد قبل يوم من اللقاء، شعرت ببعض الارتياح. لم أكن أشعر حقاً بالرغبة في لقائه.
  "ماذا؟ لا تجرؤي على قول ذلك".
  قلتُ: "يا هيلي". وصررتُ أسناني لأن الوقت قد حان أخيراً لإبداء رأيي بصراحة. "تعلمين أنني لست من النوع الذي يحبه".
  قالت: "انظري إليّ". فلبّيتُ طلبها لأن هذا ما تقوم به أولئك اللواتي يُحِطن بهيلي.
  "يا هيلي، لا يمكنك إجباري...".
  "إنها فرصتك المناسبة، يا سكيتر". أمسكت بيدي، وضغطت عليها بإبهامها وأصابعها بقوة كما كانت تفعل كونستنتين. "إنها فرصتك. وتبّاً، لن أدع هذه الفرصة تفوتك لا لسبب إلا لأن والدتك مقتنعة أنك غير مناسبة لشخص مثله".
  لقد تأثرتُ بكلماتها القاسية والواقعية، لكنني كنت ألزَم الحذر من صديقتي بسبب إصرارها. لطالما كنا، هيلي وأنا، صادقتين تماماً وبعناد مع بعضنا بعضاً، وإن في ما يتعلق بالأمور الصغيرة. لكن هيلي كانت تكذب على الأخريات كما يكذب أفراد الطائفة المشيخية لحملنا على الشعور بالذَّنب. ولكن اتفاقنا غير المُعلَن بالتزام الصدق مع بعضنا بعضاً، قد يكون الأمر الوحيد الذي يبقي على صداقتنا.
  دخلت إليزابيت المطبخ حاملةً طبقاً فارغاً. فابتسمَت، ومن ثم توقفَت، نظرنا ثلاثتنا إلى بعضنا بعضاً.
  قالت إليزابيت: "ماذا؟". يمكنني الجزم أنها تظن أننا كنا نتحدث عنها.
  "بعد ثلاثة أسابيع؟". سألتني هيلي. "هل ستأتين؟".
  قالت إليزابيت: "آه، أجل ستأتين بالتأكيد!".
  نظرتُ إلى وجهيهما الباسمَين، وإلى ما يأملان في أن أبلغ إليه. هو ليس تطفّلاً كتطفّل والدتي، بل رجاءً خالياً من أي شوائب. لكنني كرهتُ قيام صديقتيّ بمناقشة مصيري من وراء ظهري. لقد كرهتُ ذلك، ولكنني أحببته أيضاً.
  عدتُ إلى الريف قبل انتهاء المباراة. عبر النافذة المفتوحة للكاديلاك، بدت الحقول مقطوعة ومحروقة. لقد اختتم والدي موسم الحصاد الأخير قبل أسابيع، ولكن جانب الطريق كان لا يزال أبيض كالثلج بسبب القطن العالق على العشب، ويتطاير بعض منه بخفّة في الهواء.
  تفحّصتُ صندوق البريد من مقعد السائق، وكان في داخله مجلة تقويم المُزارع ورسالة واحدة من هاربر آند روو. سلكتُ الطريق الخاصة بالمنزل، ووضعتُ جهاز نقل الحركة الأوتوماتيكي على صيغة توقف. كانت الرسالة مكتوبة بخط اليد على ورقة رسائل صغيرة مربّعة الشكل.
آنسة فيلان،
من المحتمَل أن تكوني قد شحذتِ مهاراتك الكتابية من خلال موضوعات فاترة تفتقر إلى العاطفة والحماسة كالقيادة في حال السُّكر والأمّيّة. ولكنني كنت آمل لو أنك اخترتِ موضوعات أكثر تأثيراً في القارئ. تابعي البحث، وإذا وقعتِ على موضوع جديد ومبتكَر، عندها يمكنك مراسلتي مجدداً.
  انسللتُ أمام باب غرفة الطعام التي توجد فيها والدتي، وعبرتُ الرَّدهة حيث تقوم باسكاغولا بإزالة الغبار عن الصور، وصعدت درجات السلَّم شديدة الانحدار. كان وجهي يتوهّج حرارةً بسبب الدموع التي ذرفتها فوق رسالة السيدة شتاين، وطلبتُ من نفسي أن أتمالك أعصابي. فأسوأ ما في الأمر هو أنه لا توجد لديّ أفكار أفضل.
  فانكببتُ على الموضوع التالي لتدبير الشؤون المنزلية، وعلى النشرة الدَّورية الخاصة بالرابطة. وتجاهلتُ للأسبوع الثاني على التوالي مبادرة الحمّامات التي طرحتها هيلي. بعد ساعة، وجدت نفسي أحدّق خارج النافذة. كانت نسختي من مجلة دعونا نُثني الآن على مشاهير الرجال موجودة على حافة النافذة. فتوجهتُ إليها والتقطتها، وخشيتُ من أن يكون الضوء قد جعل الغلاف الخارجي للمجلة، وصورة العائلة المتواضعة والفقيرة، باهتة اللون. كانت حارّة بسبب الشمس. وتساءلت عما إذا كنت سأكتب يوماً شيئاً قيّماً، استدرتُ عندما سمعت باسكاغولا تقرع بابي. حينذاك، تبادرت الفكرة إلى ذهني.
  لا. لا يمكنني ذلك. قد يُعتبر الأمر... تخطّياً للحدود.
  لكن الفكرة لم تبارحني.
آيبيلين
الفصل السابع
  أخيراً، انحسرت موجة الحَرّ في أواسط تشرين الأول/أكتوبر، ونعمنا ببرودة معتدلة في ظل حرارة بلغت خمسين درجة. في الصباح، كان مقعد مرحاض ذلك الحمّام في الخارج يغدو بارداً، فيُشعرني بمزيد من النشاط عندما أجلس عليه. كان مجرّد غرفة صغيرة بُنيت داخل موقف السيارة، وتحتوي على مرحاض ومِغسلة صغيرة متصلة بالجدار، وعلى حبل لإضاءة المصباح الكهربائي. كان يتعيّن وضع ورق المرحاض على الأرض.
  عندما كنت أقوم بخدمة الآنسة كوليير، لم أكن مضطرة إلى الخروج من المنزل لأن موقف سيارتها متصل به. في المكان الذي كنت أعمل فيه قبل ذلك كان هناك مسكن للخادمات، بالإضافة إلى سرير صغير للنوم عليه ليلاً. أما في منزل الآنسة ليفولت، فيتعيّن عليّ قطع مسافة في العراء للوصول إلى الحمّام.
  عند ظهر يوم الثلاثاء، حملتُ وجبة غدائي وصعدت درجات السلّم الخلفي، وجلست على الإسمنت معتدل البرودة. لم يكن العشب ينبت جيداً هناك حيث تُرخي شجرة مغنوليا كبيرة بظلالها على معظم الفناء الخلفي. كنت أعلم أن هذه الشجرة ستصبح بعد خمس سنوات تقريباً مكاناً تختبئ فيه ماو موبلي من الآنسة ليفولت.
  بعد قليل، تهادت ماو موبلي على الدرجة الخلفية، وكانت تحمل نصف فطيرة برغر بيدها. فابتسمت لي وقالت: "جيدة".
  سألتُ: "لماذا لستِ مع أمك في الداخل؟". ولكنني كنت أعرف السبب. إنها تفضّل الجلوس هناك في الخارج مع عاملة المنزل بدلاً من مشاهدة والدتها تنظر إلى كل مكان من دون الالتفات إليها. كانت أشبه بصوص مُربَك تبع البط بدلاً من الفصيلة التي ينتمي إليها.
  أشارت ماو موبلي إلى العصافير الزرقاء التي تُعدّ العدّة لفصل الشتاء، وهي تغرّد في الينبوع الرمادي الصغير. "طيري يا عصافير!". وأوقعَت فطيرتها على الدرجة، فظهر على الفور كلب صيد الطيور المسنّ أوبي والتهمها. لم أكن مولَعة بالكلاب، ولكن هذا الكلب يدعو للشفقة. فلاطفته على رأسه، وأراهن على أن أحداً لم يلاطفه منذ الميلاد.
  عندما رأته ماو موبلي، أطلقت صرخة حادّة، وأمسكت بذنبه. فلعق وجهها مرات قليلة. يا للكلب المسكين! وأصدر صوت نحيب، ورمقها بإحدى تلك النظرات المثيرة للشفقة، غدا رأسه مُضحكاً، وحاجباه إلى الأعلى. كان في استطاعتي تقريباً أن أسمعه يطلب منها إفلات ذنبه. لم يكن يعضّ.
  سأحملها على إفلاته، قلت: "ماو موبلي، أين ذنبك؟".
  فأفلتته، وبدأت تنظر إلى مؤخرتها. ففتحت فمها غير مصدّقة كما يبدو أنها أغفلت ذنبها طوال هذا الوقت. ودارت حول نفسها بتمايل محاولةً رؤيته.
  "ليس لديك ذنب". ضحكتُ، وأمسكتُ بها كيلا تسقط عن تلك الدرجة. شمشم الكلب باحثاً عن مزيد من البرغر.
  كنت أغدو مدغدَغة المشاعر كلما تأمّلت هؤلاء الأطفال الذين يصدّقون كل ما يقال لهم. فتايت فوريست، وهو أحد الأطفال الذين اعتنيتُ بهم منذ مدة طويلة، أوقفني في أثناء توجهي إلى متجر جيتني للبقالة قبل أسبوع، وعانقني مطوَّلاً معبّراً عن سعادته برؤيتي. لقد أصبح رجلاً بالغاً. كان الوقت قد حان للعودة إلى منزل الآنسة ليفولت، ولكنه بدأ يضحك ويتذكّر كيف كنت أعامله عندما كان فتى، وكيف قال لي إن قدمه نائمة ومع ذلك فهو يشعر بالدغدغة، فأجبته أن قدمه تغط في نموٍ عميق، وكيف طلبتُ منه عدم تناول القهوة وإلا أصبح ذا بشرة ملوّنة. وأخبرني أنه لا يزال لا يشرب القهوة، وأنه في الحادية والعشرين من العمر. إنه أمر سارّ على الدوام أن نرى الأولاد يكبرون.
  "يا ماو موبلي؟ ماو موبلي ليفولت!".
  لقد لاحظت الآنسة ليفولت أن طفلتها غير موجودة في الغرفة نفسها التي تجلس فيها. "إنها معي في الخارج، يا آنسة ليفولت". قلت من خلال الباب المُنخلي.
  "طلبت منك أن تتناولي طعامك في كرسيّك العالي، يا ماو موبلي. كيف حصلتُ عليك في حين أن كل صديقاتي لديهنّ فتيات مهذبات، لا أعلم...". لكن الهاتف رنّ، وسمعتُها تنهض ضاربةً الأرض بقوة بأخمص قدمَيها.
  فنظرتُ إلى الطفلة، ورأيتها مغضَّنة الجبين بين عينيها. كانت تتأمل أمراً ما.
  لمستُ خدّها. "هل أنت بخير، يا طفلتي؟".
  فقالت: "ماو موبلي سيئة".
  لقد آلمتني طريقة قول ذلك وكأنه أمر واقع.
  قلت، وأردت اختبار أمر ما: "يا ماو موبلي، أنت فتاة ذكية؟".
  نظرَت إليّ فحسب كما لو أنها لا تعرف ذلك.
  قلت مجدداً: "أنت فتاة ذكية".
  فقالت: "ماو موبلي ذكية".
  قلت: "أنت فتاة صغيرة لطيفة".
  نظرت إليّ وحسب. كانت في الثانية من عمرها، ولا تعرف من هي بعد.
  فقلت: "أنت فتاة لطيفة". أومأت برأسها، وكررَت ما قلته. وقبل أن أتمكن من قول شيء آخر، نهضت، وطاردت ذلك الكلب المسكين في أرجاء الفناء وضحكَت، وحينذاك تساءلتُ عما قد يحدث إذا قلت لها أمراً جيداً كل يوم.
  عادت إليّ، وابتسمت وصاحت: "مرحباً، يا آيبي. أحبك، يا آيبي". فشعرتُ بدغدغة ورغبة في الطيران كفراشة، وراقبتها وهي تلعب هناك في الخارج. إنه شعور مماثل للشعور الذي كان ينتابني عندما كنت أقوم بمراقبة تريلور، وقد جعلتني هذه الذكرى حزينة.
  بعد قليل، قدِمت ماو موبلي إليّ، ووضعت وجنتها على وجنتي لمدة من الزمن، كما لو أنها تعرف أنني أتألم في الصميم. فضممتها بإحكام، وهمستُ، "أنت فتاة ذكية. أنت فتاة لطيفة، يا ماو موبلي. هل تسمعينني؟". واستمررتُ في قول ذلك حتى كررَت الكلام من بعدي.
  كانت الأسابيع القليلة التالية هامة جداً بالنسبة إلى ماو موبلي. أنتم تفكرون في ذلك، ولكنكم لا تتذكرون على الأرجح جلوسكم للمرة الأولى على النونيّة بدلاً من التغوّط في حفاض، وقد لا تُعيدون الفضل في ذلك إلى من علّمكم استخدام النونيّة. فلم يدنُ مني أي طفل أشرفتُ على تربيته ويقول، يا آيبيلين، أشكرك حقاً لأنك علّمتني كيف أستخدم النونيّة.
  إنه أمر معقَّد. فإذا حاولتم حمل طفل على التغوّط في النونيّة قبل الأوان، فإن ذلك يدفعه للجنون. ومع ذلك، فقد كنت أعلم أن طفلتي مستعدة لهذه الخطوة، وهي تعلم أنها مستعدة. فوضعتُها على مقعدها الخشبي الخاص بالأطفال، ولكنها قامت وركضت ما إن أدرت ظهري.
  "عليك التبوّل، يا ماو موبلي؟".
  "لا".
  "لقد شربتِ كوبَين من عصير العنب، أعلم أنه يجب عليك التبوّل".
  "لووو".
  "أعطيك بسكويتة إذا قمتِ بذلك لأجلي".
  نظرنا إلى بعضنا بعضاً للحظة. وبدأت تحدّق إلى الباب. لم أسمع شيئاً يحدث في النونيّة. في العادة، كان في استطاعتي جعلهم يتغوّطون في النونيّة بعد نحو أسبوعين، هذا إذا قامت أمهاتهم بمساعدتي. فالفتيان يشاهدون آباءهم يتبوّلون وهم واقفون، والفتيات يشاهدن أمهاتهنّ يقُمن بالأمر وهنّ جالسات. ولكن الآنسة ليفولت لا تدَع تلك الفتاة تقترب منها عندما تكون جالسة على المرحاض، وهنا المشكلة.
  "تبوّلي قليلاً من أجلي، يا طفلتي".
  فمدّت شفتها إلى الأمام، وهزت رأسها.
  كانت الآنسة ليفولت قد قصدت مزيّن الشعر، وإلا لطلبتُ منها مجدداً تعليم ابنتها كيفية القيام بذلك، عِلماً أن تلك المرأة رفضت تلك الفكرة خمس مرات. وعندما قالت لا في المرة الأخيرة، كنت أريد أن أُطلعها على عدد الأطفال الذين أشرفتُ على تربيتهم، وأطلب منها في المقابل أن تُطلعني على عدد الأطفال الذين ربّتهم، ولكنني قلتُ لها لا بأس كالعادة.
  قلت لها: "أعطيك بسكويتتين". عِلماً أن والدتها تتهمني على الدوام أنني سأجعل ابنتها بدينة.
  فهزت ماو موبلي رأسها وقالت: "تبوّلي أمامي".
  لا أقول إنني لم أتلقَّ هذا الطلب من قَبل، ولكنني تمكنت من التملّص من الأمر. كنت أعلم أنه يتعيّن عليها أن ترى كيفية القيام بذلك قبل أن تقوم به بنفسها. فقلت: "لا أشعر بالحاجة إلى التبوّل".
  نظرنا إلى بعضنا بعضاً. وأشارت إليّ مجدداً وقالت: "تبوّلي أمامي".
  بدأَت بعد ذلك بالبكاء والتململ لأن ذلك المقعد يُحدث ثلماً على مؤخرتها، وعلمتُ أنه يتعيّن عليّ أن أكون المثال الذي تحتذي به. لكنني لم أكن أعرف كيفية القيام بذلك. هل أُخرجها إلى حمّامي في المرأب أو أصطحبها إلى الحمّام الموجود في المنزل؟ ماذا لو عادت الآنسة ليفولت في أثناء جلوسي على المرحاض؟ قد تُصاب بسورة غضب.
  فأعدتُ تحفيضها، وذهبنا إلى المرأب الذي تفوح منه رائحة مستنقعية بسبب المطر، وكان مُعتِماً بالرغم من وجود مصباح كهربائي، ولم يكن هناك ورق جدران مزخرف كما هي الحال داخل المنزل، فقط ألواح خشب رقائقية موضوعة بجانب بعضها بعضاً. فتساءلتُ عما إذا كانت ستشعر بالخوف.
  "حسناً، يا طفلتي. ها هو حمّام آيبيلين".
  فمدّت رأسها إلى الداخل، وفتحت فمها كما لو أنها تقول تشيريو، وقالت: "أوووو".
  فخلعتُ ملابسي الداخلية، وتبوّلتُ بسرعة، واستخدمتُ ورق المرحاض، وارتديتُ ملابسي على عجَل كيلا ترى شيئاً. بعد ذلك، أطلقتُ الماء داخل المرحاض.
  قلت: "هكذا تتغوّطين في المرحاض".
  حسناً، لم تبدُ متفاجئة، بل أبقت فمها مفتوحاً كما لو أنها رأت أمراً عجيباً. وخرجتُ، وقبل أن ألاحظ ما يجري في الداخل، قامت الطفلة بخلع حفاضها، وتسلّق ذلك الحمار الصغير الذي يدعوه الكبار مرحاضاً، وتمسّكت بأطرافه بإحكام كيلا تقع، وتبوّلت بنفسها.
  "يا ماو موبلي! أنت تتبوّلين! إنه أمر جيد حقاً!". فابتسمَت، وأمسكتُها قبل أن تغرق فيه. وعدنا إلى المنزل، وحصلت على البسكويتتين.
  في وقت لاحق، وضعتُها على نونيّتها، وقامت بالتبوّل لأجلي مرة أخرى. هاتان المرّتان هما المرحلة الأكثر صعوبة. وفي نهاية اليوم، شعرتُ أنني حققتُ شيئاً ما. ستكون متحدّثة لبِقة، ويمكنكم أن تحزروا كلمة اليوم الجديدة.
  "ماذا فعلت طفلتي اليوم؟".
  قالت: "تي - تي".
  "ماذا سيضعون في كتب التاريخ بجانب هذا اليوم؟".
  قالت: "تي - تي".
  فقلت: "ما رائحة الآنسة هيلي؟".
  قالت: "تي - تي".
  ولكنني قلت لنفسي، ليس تصرّفاً جيداً، وأخشى أن تكرر ذلك على مسامع والدتها.
  في وقت متأخر من بعد ظهر ذلك اليوم، عادت الآنسة ليفولت إلى المنزل وشعرها ممشَّط. كانت تفوح منها رائحة شبيهة برائحة محلول النّشادر.
  قلت: "احزري ما الذي قامت به ماو موبلي اليوم؟ تبوّلَت في النونيّة".
  "آه، رائع!". وعانقت ابنتها، وهو أمر لم أكن أراه كثيراً. كنت أعلم أنها تعني ما تقول لأن الآنسة ليفولت لا تحب تغيير الحفاضات.
  فقلت: "عليك التأكد من أنها تتغوّط في النونية من الآن فصاعداً. سيكون الأمر مُربكاً جداً بالنسبة إليها إن لم تقومي بذلك".
  ابتسمت الآنسة ليفولت وقالت: "حسناً".
  "لنرَ إذا كانت ستتبوّل مرة أخرى في النونيّة قبل أن أذهب إلى المنزل". ودخلنا الحمّام، وفككتُ حفاضها، ووضعتُها على ذلك المرحاض. ولكن الطفلة هزت رأسها.
  "هيا، يا ماو موبلي، ألا يمكنك القيام بذلك من أجل الماما؟".
  "لووو".
  أخيراً، وضعتها على قدمَيها. "لا بأس، لقد قمتِ بعمل جيد اليوم".
  لكن الآنسة ليفولت مدّت شفتيها إلى الأمام، ونظرت إليها مقطَّبة الجبين، مستاءة. وقبل أن أضع لها حفاضها مجدداً، فرّت الطفلة، وركضت بأسرع ما يمكن في أرجاء المنزل وهي عارية. دخلت المطبخ، ورأت الباب المؤدي إلى المرأب مفتوحاً، وحاولت الوصول إلى مقبض باب حمّامي. فركضنا وراءها، وأشارت الآنسة ليفولت بإصبعها إلى ابنتها. فازداد صوتها ارتفاعاً بمعدل عشرة أضعاف. "هذا ليس حمّامك!".
  فهزت الطفلة رأسها يميناً ويساراً. "حمّامي أنا!".
  فأمسكت بها الآنسة ليفولت وجذبتها نحوها، وصفعتها على ساقها.
  "يا آنسة ليفولت، هي لا تُدرك ما الذي تفعله...".
  "عودي إلى المنزل، يا آيبيلين!".
  كنت أكرهها، ولكنني عدت إلى المطبخ، ووقفت في الوسط، وتركت الباب مفتوحاً.
  "لم أُربِّك لتستخدمي حمّام ذوي البشرة الملوّنة!". سمعتُها تهمس في أُذُنها ظنّاً منها أنني لا أسمع ما تقول، وقلت لنفسي، يا سيدة، لم تربِّي طفلتك البتة.
  "المكان متّسخ في الخارج، يا ماو موبلي. تلتقطين أمراضاً! لا لا لا!". وسمعتها تصفعها مراراً وتكراراً على ساقيها العاريتين.
  بعد قليل، أدخلت الآنسة ليفولت ابنتها، جارّةً إياها ككيس بطاطا. وكل ما كان في استطاعتي القيام به هو مشاهدة ما يحدث. فاعتصر قلبي حزناً، وشعرت بانسداد حَلقي. ورمت الآنسة ليفولت ماو موبلي أمام التلفاز ودخلت غرفة نومها، وأغلقت الباب بقوة. فذهبتُ لمعانقة الطفلة، وكانت لا تزال تبكي وتبدو شديدة الارتباك.
  قلتُ بهمس: "آسفة حقاً، يا ماو موبلي". لقد لعنت نفسي لأنني أخذتها إلى الخارج. ولكنني لم أكن أدري ما أقول لها غير ذلك، فضممتها إلى صدري وحسب.
  جلسنا هناك نشاهد ليل راسكالز إلى أن خرجت الآنسة ليفولت، وسألت عن سبب مكوثي بعد دوام العمل. فوضعتُ السنتات العشرة المخصصة للحافلة في جَيبي، وعانقت ماو موبلي مرة أخرى، وهمست قائلة: "أنت فتاة ذكية. أنت فتاة جيدة".
  في طريق العودة إلى المنزل، لم ألاحظ منازل ذوي البشرة البيضاء الكبيرة تمرّ أمام ناظرَيّ خارج النافذة، ولم أتحدث إلى صديقاتي الخادمات. كنت أرى طفلتي تتلقى صفعات بسببي، وأسمعها تُصغي إلى الآنسة ليفولت واصفةً إيّاي بالقذرة وناقلة الأمراض.
  زادت الحافلة من سرعتها على امتداد شارع ستايت ستريت. فمررنا بجانب جسر وودرو ويلسون، وكان فكّي مُطبَقاً بإحكام لدرجة أنني كدتُ أعرّض أسناني للكسر. لقد شعرت ببزرة المرارة تلك تنمو في داخلي، تلك التي زُرعت في نفسي بعد وفاة تريلور. أردتُ الصراخ بصوت مرتفع كي تسمعني طفلتي أقول إن البشرة الملوّنة لا تُعتبر قذارة، وإن ناحية المدينة التي يقيم فيها الزنوج غير موبوءة. لقد أردت إيقاف موعد حلول تلك اللحظة التي تحلّ في حياة كل طفل أبيض البشرة عندما يبدأون بالتفكير في أن ملوَّني البشرة هم أدنى مستوى من ذوي البشرة البيضاء.
  سلكنا شارع فاريش ستريت، فوقفتُ لأننا شارفنا على بلوغ المكان الذي سأترجّل فيه من الحافلة. تضرعت كيلا يكون موعد تلك اللحظة قد حان. لقد تضرعت كي يبقى هناك أمامي متّسع من الوقت.
  كان كل شيء هادئاً في الواقع في الأسابيع القليلة التالية. لقد بدأت ماو موبلي بارتداء سراويل تحتية قصيرة كما لو أنها فتاة كبيرة، ولم تقم بالتبوّل في ملابسها أبداً. بعد ما جرى في المرأب، أبدت الآنسة ليفولت اهتماماً حقيقياً بتصرفات ماو موبلي داخل الحمّام، حتى إنها سمحت لابنتها بمراقبتها وهي تجلس على المرحاض لتكون تصرفات ذوي البشرة البيضاء المَثَل الصالح لها. مع ذلك، فقد فاجأتها مرات قليلة تحاول دخول حمّامي عندما تكون والدتها خارج المنزل. كانت تتبوّل في مرحاضي أحياناً قبل أن أمنعها من ذلك.
  "مرحباً، يا آنسة كلارك". قال روبرت براون عند الدرجات الخلفية، وهو الذي يهتم بفناء الآنسة ليفولت. كان الطقس جيداً في الخارج، ويميل إلى البرودة. ففتحتُ الباب المُنخُليّ.
  قلت وربّتّ على ذراعه: "كيف حالك يا ابني؟ بلغني أنك تنظف كل ياردة في الشارع".
  "أجل، يا سيدتي. هناك شخصان يساعدانني". وابتسم ابتسامة عريضة. كان فتى وسيماً، طويل القامة، قصير الشعر. لقد ارتاد المدرسة الثانوية مع تريلور، وكانا صديقَين مقرَّبَين ويلعبان كرة السلة معاً. لقد لمست ذراعه لأنني كنت بحاجة إلى الشعور بابني مجدداً.
  سألت: "كيف حال جدتك؟". كنت أحب لوفينيا لأنها ألطف إنسان على قيد الحياة. لقد قدِمت إلى المأتم مع روبرت، وجعلني ذلك أتذكّر حلول أسوأ يوم في السنة في الأسبوع التالي.
  قال مبتسماً: "هي أقوى مني، سأكون قرب منزلك يوم الأحد لجزّ العشب".
  كان تريلور يقوم على الدوام بجزّ العشب أمام منزلنا. وها هو روبرت يقوم بذلك من دون أي مقابل. "شكراً لك يا روبرت. أقدّر لك صنيعك".
  "إذا احتجت إلى أي شيء اتصلي بي، اتفقنا، يا آنسة كلارك؟".
  "شكراً لك يا بُنيّ".
  سمعت جرس الباب يُقرع، ورأيت سيارة الآنسة سكيتر متوقفة أمام المنزل. كانت الآنسة سكيتر تزور الآنسة ليفولت كل شهر لتطرح عليّ أسئلة الآنسة ميرنا. فسألَت عن كيفية إزالة البُقَع المستعصية، وكانت إجابتي زُبدة الطرطير. سألت عن كيفية فك لمبة انكسرت داخل المِقبس، فنصحتها بالبطاطا النيئة. وسألتني عما حدث بين خادمتها كونستنتين وبين والدتها، فسرى دم بارد في عروقي. لقد ظننت أنها لن تسألني مجدداً بعد أن أخبرتها قبل أسابيع قليلة أن لكونستنتين ابنة. لكن الآنسة سكيتر استمرت في طرح الأسئلة عليّ. كان في استطاعتي أن أقول لها إنني لا أفهم سبب عدم تمكن امرأة ذات بشرة ملوّنة من تربية طفل أبيض البشرة في الميسيسيبي، والحياة قاسية وموحشة إذا لم نكن نشعر بالانتماء.
  كلما انتهت الآنسة سكيتر من طرح أسئلة عليّ حول كيفية تنظيف هذا الشيء أو ذاك، أو إصلاح شيء ما، أو حول كونستنتين، كنا نتحدث عن أمور أخرى أيضاً. لم أعتد التحدث بشكل مطوَّل إلى أصحاب عملي أو أصدقائي، وكنت أجد نفسي أخبرها كيف أن تريلور لم يحصل على علامة تقلّ عن بي+، وكيف أن مدير الأعمال الجديد لدار العبادة يتسبب لي بحال عصبية لأنه يُثأثئ. كنا نتحدث عن أمور غير هامة لم أعتَد إخبارها لشخص أبيض البشرة.
  في ذلك اليوم، حاولت أن أشرح لها الفرق بين تلميع الفضة عبر صبغها بواسطة الغمس، وبين تلميعها بواسطة الفَرك، وكيف أن المنازل التي لا تُعير للأناقة اهتماماً تعتمد الغمس لأنه أسرع ولكنه يُفقد الأواني الفضية رَونقها. وأمالت الآنسة سكيتر رأسها إلى كتفها، وغضّنت جبينها. "يا آيبيلين، هل تذكرين تلك... الفكرة التي تبادرت إلى ذهن تريلور؟".
  فأومأتُ برأسي، وشعرتُ بالندَم لأنه لم تكن تُفترض بي مشاطرة امرأة بيضاء البشرة هذا الأمر.
  حدّقت الآنسة سكيتر بعينين نصف مُغمضتين كما فعلَت عندما سألتني عن أمور متعلّقة بالحمّام. "لا أزال أفكر في ذلك، وأريد التحدث إليك...".
  قبل أن تتمكن من إنهاء جملتها، دخلت الآنسة ليفولت المطبخ، وفاجأَت الطفلة تلعب بمشطي الموجود داخل حقيبة يدي، وقالت إنه ربما يتعيّن على ماو موبلي الاستحمام باكراً اليوم. فودّعتُ الآنسة سكيتر، وذهبتُ لملء حوض الاستحمام بالماء.
  بعد أن أمضيت عاماً في الخشية من الأمر، أخيراً، حلّ الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر. وأظن أنني نمت ساعتين تقريباً في الليلة السابقة، واستيقظتُ عند الفجر، ووضعتُ قِدر قهوة على جهاز الطهو. لقد شعرتُ بألم في ظهري عندما انحنيتُ لارتداء جوربي. وقبل أن أخرج من الباب، رنّ الهاتف.
  "أتفقّدك فحسب. هل تمكنت من النوم؟".
  "لقد نمتُ جيداً".
  "سأُحضر لك كعكة بالكاراميل الليلة. لا أريد منك أن تفعلي أي شيء. اجلسي فقط في مطبخك وتناولي حساءك". حاولتُ الابتسام، لكن، أي بسمة لم ترتسم على شفتيّ، فشكرتُ ميني.
  قبل ثلاث سنوات بالتحديد، توفّي تريلور. ولكنه يوم تنظيف الأرض وفقاً لعُرف الآنسة ليفولت. فمناسبة الشكر تحل بعد أسبوعين، وعليّ إعداد كثير من الأمور. استمررت في العمل طوال الصباح من دون توقف وحتى الساعة الثانية عشرة ظهراً. لقد أغفلتُ كل برامجي التلفازية لأن السيدات موجودات في غرفة الجلوس، وهنّ يعقُدن اجتماعاً بخصوص الحفلة الخيرية، ولم يكن يُسمح لي بتشغيل التلفاز عندما يكون هناك ضيوف. وبدأت عضلاتي بالارتجاف بسبب التعب الشديد، ولكنني لم أشأ التوقف عن الحركة.
  قرابة الساعة الرابعة، دخلت الآنسة سكيتر المطبخ. وقبل أن تتمكن من إلقاء التحية، تبعتها الآنسة ليفولت. "يا آيبيلين، لقد بلغني للتوّ أن السيدة فريديريكس ستأتي من غرينوود غداً لتمضي مناسبة الشكر. أريد أن تكون الأواني الفضيّة مصقولة، وكل مناشف الضيوف مغسولة. أعطيك غداً لائحة بالأمور الأخرى".
  هزّت الآنسة ليفولت رأسها للآنسة سكيتر كما لو أنها تعاني الأمرَّين، وخرجَت. فذهبتُ وأخرجتُ الأواني الفضيّة من غرفة الجلوس. كنت مُتعبة، وعليّ أن أكون مستعدة للحفلة الخيرية مساء السبت التالي. ولن تكون ميني موجودة في ذلك اليوم مخافة مصادفة الآنسة هيلي.
  كانت الآنسة سكيتر لا تزال تنتظرني في المطبخ عندما عدتُ، وفي يدها رسالة للآنسة ميرنا.
  "لديك سؤال عن التنظيف؟". سألتُ متنهدة. "تفضّلي".
  "الأمر ليس كذلك في الواقع. أردت فقط... أن أسألك... في ذلك اليوم...".
  فتناولتُ ملء سدادة من كريم باين أولا، وبدأت بفرك الآنية الفضية، مروراً بمحيط وردة زخرفية، ووصولاً إلى الطرف والمِقبض. يا الله، ليحلّ الغد سريعاً، أرجوك. لن أتمكن من زيارة موقع الضريح. لا أستطيع تحمّل ذلك، إنه أمر قاسٍ جداً...
  "يا آيبيلين؟ هل أنت بخير؟".
  فتوقفتُ، ونظرت إلى الأعلى، وأدركت أن الآنسة سكيتر كانت تتكلم معي طوال الوقت.
  "آسفة، كنت... أفكر في أمر ما فحسب".
  "تبدين حزينة جداً".
  "يا آنسة سكيتر". شعرتُ بالدموع في عينيّ لأن ثلاث سنوات لم تكن طويلة بما يكفي للنسيان، ولن تكون مئة سنة كافية أيضاً. "هل تمانعين إن ساعدتك على الإجابة عن هذه الأسئلة غداً؟".
  بدأت الآنسة سكيتر تقول شيئاً ما، ولكنها لم تُكمل. "بالطبع. آمل في أن تشعري بتحسن أكبر".
  أنهيت تلميع مجموعة الأواني الفضية، وغسلتُ المناشف، وأخبرت الآنسة ليفولت أنني ذاهبة إلى المنزل، وطلبت منها خصم أجر نصف ساعة، وهي المدة المتبقّية لانتهاء دوام العمل. ففتحَت فمها كما لو أنها تريد الاعتراض، ولفظتُ كذبتي هامسة، لقد تقيّأتُ، فقالت اذهبي، لأن أكثر ما تخشاه الآنسة ليفولت بالإضافة إلى والدتها، هي الأمراض التي ينقلها الزنوج.
  "حسناً إذاً. سأعود بعد ثلاثين دقيقة. سأتوقف هنا تماماً عند التاسعة وخمس وأربعين دقيقة". قالت الآنسة ليفولت عبر النافذة الموجودة بجانب مقعد الركاب. لقد أنزلتني عند متجر جيتني 14 لشراء ما نحن بحاجة إليه لمناسبة الشكر في اليوم التالي.
  "وتحملين لها معك ذلك الإيصال". قالت الآنسة فريديريكس، والدة الآنسة ليفولت المُسنّة والبخيلة. كانت ثلاثتهنّ جالسات على المقعد الأمامي، وماو موبلي محشورة في الوسط وتبدو بائسة لدرجة أنكم تظنون أنها على وشك الحصول على حُقنة كزاز. يا للفتاة المسكينة! كانت الآنسة فريديريكس تعتزم المكوث لمدة أسبوعين هذه المرة.
  قالت الآنسة ليفولت: "لا تنسي الديك الرومي، وعلبتي توت برّي".
  فابتسمتُ. لقد بدأتُ بإعداد الطعام لمناسبة الشكر لذوي البشرة البيضاء منذ كان كالفين كوليدج رئيساًَ.
  قالت الآنسة فريديريكس بحدّة: "كفّي عن التلوّي، يا ماو موبلي، وإلا لكمتك".
  "يا آنسة ليفولت، دعيني أصطحبها معي إلى المتجر لتساعدني على التسوّق".
  كانت الآنسة فريديريكس على وشك الاعتراض، ولكن الآنسة ليفولت قالت: "خذيها". وشقّت الطفلة طريقها بشكل متلوٍّ فوق حضن الآنسة فريديريكس، وتسلّقت النافذة، وارتمت بين ذراعيّ كما لو أنني مخلّصتها. فحملتُها، وانطلقتا باتجاه شارع فورتيفيكايشن ستريت، ضحكتُ والطفلة كتلميذتي مدرسة.
  فدفعتُ الباب المعدني فاتحةً إياه، وتناولتُ عربة نقل، ووضعتُ ماو موبلي فيها في الناحية الأمامية، وثبّتُّ ساقيها في الفتحات. كان يُسمح لي بالتسوّق في متجر جيتني ما دمتُ أرتدي لباسي الرسمي. لقد افتقدتُ الأيام الغابرة عندما كنتم تخرجون من شارع فورتيفيكايشن ستريت وترون المزارعين بعرباتهم المدفوعة باليد يصيحون: "بطاطا حلوة، فاصولياء ليميّة، قرنيات، بامياء، قشدة طازجة، مَخيض الحليب، جبنة صفراء، بيض". ولكن متجر جيتني ليس سيّئاً. لديهم مكيّف هواء جيد.
  "حسناً، يا طفلتي. لنرَ ما نحن بحاجة إليه".
  بادئ ذي بدء، التقطتُ ست حبات بطاطا حلوة، وثلاث حفنات من القرنيات، وحصلتُ على مَأبض لحم مدخَّن من الجزار. كان المتجر برّاقاً وأنيقاً. لم تكن هناك على الأرض أي نُشارة خشب كما هي الحال في متجر بيغلي ويغلي الخاص بذوي البشرة الملوّنة. كانت السيدات الموجودات بيضاوات البشرة في الغالب ويبتسمن، وشعرهنّ مرتَّب ومثبَّت بالرذاذ استعداداً لليوم التالي، بالإضافة إلى أربع أو خمس خادمات يتسوّقن بلباسهنّ الرسمي.
  قالت ماو موبلي: "الغرض الأرجواني!". فسمحت لها بحمل علبة توت برّي. فابتسمَت لها كما لو أنها صديق قديم. كانت تحب الأغراض أرجوانية اللون. وفي قسم السلع الجافة، ألقيتُ كيس الملح الذي يزن رطلين في العربة، والذي سأستخدمه لنقع الديك الرومي. وعَددتُ الساعات على يدي، العاشرة، الحادية عشرة، الثانية عشرة. فإذا نقعتُ الديك بالماء المالح لمدة أربع عشرة ساعة، يعني ذلك أنه يجب أن أضعه في الدَّلو قرابة الساعة الثالثة من بعد الظهر. وأقصد منزل الآنسة ليفولت عند الخامسة صباحاً من اليوم التالي، وأطهو الديك الرومي لمدة ست ساعات. كنت قد خبزتُ في ذلك اليوم قدرين من خبز الذرة، وتركت الخبيز على المنضدة ليغدو سهل القضم، وأعددتُ فطيرة تفاح جاهزة للخبز، ولم يبقَ عليّ سوى صنع كعكاتي الطريّة في الصباح.
  "مستعدة ليوم غد، يا آيبيلين؟". فاستدرتُ ورأيت فراني كوتس ورائي. كانت تقصد دار العبادة نفسها التي أقصدها، وتعمل لدى الآنسة كارولاين في مانشيب. "مرحباً، يا صغيرة، انظري إلى ساقيك السمينتين". قالت لماو موبلي التي كانت تلعق علبة التوت البرّي.
  فحنت فراني رأسها، وقالت: "سمعتِ بما حدث لحفيد لوفينيا براون هذا الصباح؟".
  قلت: "روبرت؟ الذي يقوم بجزّ العشب؟".
  "لقد استخدم حمّام ذوي البشرة البيضاء في بينشمان لون وغاردن. قال إنه لم تكن هناك لافتة فوقه تشير إلى أنه مخصّص لذوي البشرة البيضاء. فطارده رجلان أبيضا البشرة، وضرباه بعصا حديدية".
  آه لا، ليس روبرت. "هو... هل...؟".
  فهزّت فراني رأسها. "لا يعلمون. هو في المستشفى. سمعتُ أنه فقد بصره".
  "يا الله، لا". أغمضتُ عينيّ. لوفينيا هي الإنسانة الأكثر طهارة ولطفاً. لقد ربّت روبرت بعد وفاة ابنتها الوحيدة.
  قالت فراني: "يا للوفينيا المسكينة. لا أدري لِمَ يجب حدوث الأمور السيئة للصالحين".
  بعد ظهر ذلك اليوم، عملتُ كامرأة مجنونة، مقطّعة البصل والكرَفس، ومازجة البطاطا الحلوة بالأرزّ والتوابل، ومزيلة خيوط اللوبياء، وملمّعة الأواني الفضية. بلغني قيام مجموعة من الناس بالتوجه إلى منزل لوفينيا براون عند الخامسة والنصف من ذلك المساء للدعاء لروبرت، ولكن، لم يكن في استطاعتي تحريك ذراعيّ بعد رفع ذلك الديك الرومي البالغ وزنه عشرين رطلاً، ووضعه في الماء المُملَّح.
  لم أُنهِ الطهو حتى السادسة مساءً، أي بعد ساعتين من الوقت المعتاد. كنت أعلم أنني لن أجد القوة للتوجه إلى منزل لوفينيا وقرع بابها، وأنه يتعيّن عليّ القيام بالأمر في اليوم التالي بعد الانتهاء من تنظيف الديك الرومي. عند الموقف، ترجّلتُ من الحافلة، متهادية، وغير قادرة على إبقاء عينيّ مفتوحتين. واستدرتُ عند زاوية جيسوم. كانت هناك سيارة كاديلاك بيضاء كبيرة مركونة أمام منزلي، ورأيت الآنسة سكيتر بثوب أحمر وحذاء أحمر جالسةً على الدرجات الأمامية كميكروفون.
  فعبرتُ ببطء فناء منزلي، متسائلةً عما سيجري. ووقفت الآنسة سكيتر، حاملةً حقيبة يدها بإحكام كما لو أن أحداً يريد انتزاعها منها. فذوو البشرة البيضاء لا يأتون إلى حيّي إلا إذا كانوا يُقلّون عاملات المنازل ذهاباً وإياباً، ومن حسن حظي أن أحداً لا يقلّني. فأنا أمضي اليوم بأكمله في خدمة ذوي البشرة البيضاء، ولا أريد منهم أن يلقوا نظرة داخل منزلي.
  قالت: "آمل ألا تمانعي مروري بمنزلك، لا أعرف مكاناً آخر يمكننا التحدث فيه".
  فجلستُ على الدرجة بالرغم مما أشعر به من ألم في عمودي الفقري، بالإضافة إلى تبوّل طفلتي عليّ بسبب غضبها الشديد من جدتها. كان الشارع مليئاً بالأشخاص المتجهين سَيراً على الأقدام إلى منزل لوفينيا للتضرع من أجل روبرت، وبأطفال يلعبون بالكرة. ونظر الجميع إلينا، معتقدين أنني تعرّضت للطرد أو ما شابه.
  قلتُ متنهّدة: "أجل يا سيدتي، كيف يمكنني مساعدتك؟".
  "لديّ فكرة. أمر ما أريد أن أكتب عنه. ولكنني بحاجة إلى مساعدتك".
  فاستعدتُ أنفاسي، متأفِّفةً. أنا أحب الآنسة سكيتر، ولكن، كنت أفضّل أن تتصل بي أولاً. فهي لا تقصد منزل سيدة بيضاء البشرة من دون الاتصال بها. ولكنها ارتمت عند باب منزلي كما لو أنه يحق لها دخوله من دون استئذان.
  "أريد إجراء مقابلة معك حول ما تكون عليه الحال عندما تعملين كخادمة".
  وتدحرجت كرة حمراء بضع أقدام داخل فنائي. فعبر جونز الصغير الشارع راكضاً للحصول عليها. وعندما رأى الآنسة سكيتر، تسمّر في مكانه. وركض بعد ذلك واختطف الكرة، واستدار، وانطلق مسرعاً كما لو أنه يخشى قيام الآنسة سكيتر بمطاردته والإمساك به.
  قلت بفتور: "على غرار عمود الآنسة ميرنا؟ حول أمور متعلقة بالتنظيف؟".
  قالت، واتسعت عيناها: "ليس على غرار عمود الآنسة ميرنا. أنا أتحدث عن كتاب". وأضافت بحماسة: "أتحدث عن قصص تتناول واقع العمل لصالح عائلة من عائلات ذوي البشرة البيضاء. ما يبدو عليه الأمر لدى العمل مثلاً لصالح... إليزابيت".
  فاستدرتُ، ونظرت إليها. هذا ما كانت تحاول أن تطلبه مني في الأسبوعين السابقين في مطبخ الآنسة ليفولت. "هل تظنين أن الآنسة ليفولت ستوافق على ذلك؟ أُخبر قصصاً عنها؟".
  فأخفضت الآنسة سكيتر رأسها قليلاً. "حسناً، لا. أفكر في عدم إطلاعها على الأمر. سيكون عليّ التأكد من أن الخادمات الأخريات يوافقن على الاحتفاظ بالسر أيضاً".
  فوضعتُ يدي على جبيني، محاولةً فهم ما تطلبه. "خادمات أخريات؟".
  "آمل في الحصول على مساعدة أربع أو خمس خادمات، لأُظهر حقاً كيف تكون عليه حال الخادمة في جاكسون".
  نظرتُ حولي. كنا في العراء. ألا تعرف مدى خطورة التحدث عن هذا الأمر في حين أنّ في استطاعة كل العالم رؤيتنا؟ "أي نوع من القصص بالتحديد تعتقدين أنك ستسمعين؟".
  "الأجور التي تتقاضَينها، طريقة معاملتكنّ، الحمّامات، الأطفال، كل الأمور التي تعتبرنها جيدة، أو سيّئة".
  لقد بدت متحمّسة كما لو أن الأمر مجرد لعبة. واعتقدتُ للحظة أنني قد أشعر بالغضب أكثر من شعوري بالتعب.
  قلت هامسة: "يا آنسة سكيتر، ألا يبدو لك ذلك خطيراً؟".
  "لن يكون كذلك إذا التزمنا الحذر...".
  "ششه، رجاءً. هل تعرفين ماذا سيحدث لي إذا اكتشفت الآنسة ليفولت أنني أتحدث عنها من وراء ظهرها؟".
  "لن نخبرها، أو نخبر أي شخص آخر". وأخفضت صوتها قليلاً ولكن ليس بشكل كافٍ. "ستكون مقابلات خاصة".
  فحدّقتُ إليها فحسب. هل هي مجنونة؟ "هل بلغك خبر الفتى ذي البشرة الملوّنة هذا الصباح؟ لقد ضربوه بعصا حديدية لأنه استخدم من دون قصد حمّام ذوي البشرة البيضاء؟".
  نظرت إليّ، وطرفت عينيها قليلاً. "أعلم أن الأمور غير مستقرة، ولكن هذا...".
  "نسيبتي شينيل في مقاطعة كوتر؟ لقد أحرقوا سيارتها لأنها قصدت مركز الاقتراع".
  أخيراً، قالت بهمس: "لم يسبق لأحد أن وضع كتاباً كهذا". وبدأت تدرك واقع الحال في نهاية المطاف كما أعتقد. "سنتطرق إلى موضوع جديد. إنها نظرة جديدة تماماً إلى الأمور".
  ورأيتُ مجموعة من الخادمات بلباسهنّ الرسمي يمررن بجانب منزلي. فنظرن باتجاه منزلي ورأينني جالسة مع امرأة بيضاء البشرة على الدرجة الأمامية. فصررتُ أسناني، عالمةً أن هاتفي سيرنّ هذا المساء.
  قلت ببطء، محاولةً التأثير فيها: "يا آنسة سكيتر، إذا قمتُ بهذا الأمر، قد يؤدي ذلك إلى إحراق منزلي".
  عندها، بدأت الآنسة سكيتر بقضم ظفرها. "ولكن، سبق لي أن...". وأغمضت عينيها بإحكام. وفكرتُ في أن أسألها، سبق لك أن قمت بماذا، ولكنني خشيت من سماع ما تريد قوله. وأمسكَت حقيبة يدها، وأخرجَت قصاصة ورق وكتبَت رقم هاتفها عليها.
  "رجاءً، هلاّ فكرتِ في الموضوع على الأقل؟".
  فتنهّدتُ، وحدّقتُ إلى الفناء. وقلت بلطف شديد: "لا يا سيدتي".
  ووضعَت قصاصة الورق بيننا على الدرجة، ودخلت من ثم سيارة الكاديلاك. كنت شديدة التعب لدرجة أنه لم يكن في استطاعتي الوقوف. فبقيتُ هناك أراقبها وهي تقود ببطء شديد على الطريق. وأخلى الفتيان الذين كانوا يلعبون بالكرة الطريق، ووقفوا جانباً مسمَّرين في أماكنهم، كما لو أن موكب جنازة يمرّ.
الآنسة سكيتر
الفصل الثامن
  سلكتُ جادة جيسوم أفونيو بسيارة الكاديلاك الخاصة بوالدتي. وكان هناك على جانب الطريق فتى صغير ملوّن البشرة يراقبني، كانت عيناه مفتوحتين واسعاً، ويمسك كرة حمراء. نظرت إلى مرآة الرؤية الخلفية، كانت آيبيلين لا تزال عند الدرج الأمامي لمنزلها بلباسها الرسمي الأبيض. وعندما قالت لي لا يا سيدتي، لم تكن تنظر إليّ. لقد أبقت نظرها مثبَّتاً على رقعة العشب الأخضر تلك في فناء منزلها.
  لقد اعتقدتُ أن زيارتها ستكون مماثلة لزيارة كونستنتين حيث الأشخاص ذوو البشرة الملوَنة يلوّحون، ويبتسمون، ويشعرون بالسعادة لرؤية الفتاة الصغيرة ذات البشرة البيضاء التي يملك والدها مزرعة كبيرة. ولكن، في حيّ آيبيلين، كانت العيون المفتوحة واسعاً تراقبني في أثناء مروري. وعندما اقتربت سيارتي من الفتى الصغير ملوَّن البشرة، استدار ودخل منزلاً على مقربة من منزل آيبيلين، حيث كان نحو ستة أشخاص من ذوي البشرة الملوّنة مجتمعين في الفناء الأمامي، حاملين الصينيات والأكياس. فحككتُ صدغيّ، محاولةً التفكير في أمر آخر يمكنني من خلاله إقناع آيبيلين.
  قبل أسبوع، كانت باسكاغولا قد قرعت باب غرفة نومي.
  "هناك اتصال هاتفي لك من مكان بعيد، يا آنسة سكيتر. من الآنسة... ستيرن كما قالت؟".
  "ستيرن؟". فكّرتُ في صوت مرتفع، ومن ثمّ قوّمتُ وقفتي. "هل تعنين من الآنسة... شتاين؟".
  "أظن... أظن أنها قد تكون شتاين. صوتها مرتفع تقريباً".
  فمررتُ بجانب باسكاغولا بسرعة، ونزلتُ السلّم. ولسبب من الأسباب، استمررت في تمليس شعري المجعَّد كما لو أنني ذاهبة إلى اجتماع وليس للرد على اتصال هاتفي. وفي المطبخ، التقطت الهاتف المعلّق على الجدار.
  قبل ثلاثة أسابيع، كنت قد طبعت الرسالة على ثلاث أوراق سترامور بيضاء، عارضةً للفكرة، والتفاصيل، والكذبة المتمثلة بموافقة خادمة ذات بشرة ملوّنة، محترَمة، وتعمل بكدّ، على السماح لي بإجراء مقابلة معها تصف فيها، وبالتفصيل، واقع العمل لدى نساء بيضاوات البشرة في المدينة. وبعد التفكير مليّاً في الاختيار بين قول الحقيقة المتمثلة بالتخطيط لطلب المساعدة من المرأة ملوّنة البشرة، وبين القول إنها وافقت على المقابلة، وجدتُ أنه سيكون للخيار الثاني أثر كبير في نفس شتاين.
  فمددتُ سِلك الهاتف إلى داخل غرفة المؤونة، وأضأت المصباح الكهربائي. كانت هناك في الغرفة رفوف من الأرض حتى السقف مليئة بمراطبين المخلل والحساء، والدِّبس، والخُضار المبيَّتة، ومحفوظات الطهو. فالحصول على بعض الخصوصية هو خدعة قديمة تعلّمتها في المدرسة الثانوية.
  "آلو؟ أوجينيا تتكلم".
  "انتظري قليلاً، سأحوّل الاتصال". وسمعتُ سلسلة من التكتكات، ومن ثم صوتاً بعيداً وخفيضاً لامرأة تقول: "إلين شتاين".
  "آلو. معك سكيت... أوجينيا فيلان من الميسيسيبي؟".
  "أعرف، يا آنسة فيلان. لقد اتصلتُ بك". وسمعتُ صوتاً مماثلاً لصوت ارتطام، واسنتشاقاً قصيراً وحاداً. "تلقيتُ رسالتك الأسبوع الماضي. لديّ بعض التعليقات".
  "أجل يا سيدتي". وانخفضتُ تدريجياً وصولاً إلى صفيحة طويلة تحتوي على دقيق كينغ بيسكيت. وخفق قلبي بقوة بينما كنت أُصغي إليها. لقد بدا الاتصال الهاتفي من نيويورك هامّاً بمقدار أهميّة قطع آلاف الأميال بين نيويورك وجاكسون، ميسيسيبي.
  "ما الذي أوحى لك بالفكرة؟ إجراء مقابلة مع مدبّرات منازل محلّيات. أشعر بالفضول".
  فشُلَّت حركتي لثوانٍ. لم تقُل آلو أو تتبادل أطراف الحديث معي، ولم تعرّف نفسها. فأدركتُ أنه من الأفضل لي أن أجيبها بالتالي: "لقد... حسناً، لقد أشرفت امرأة ذات بشرة ملوّنة على تربيتي. رأيتُ مدى بساطة الرابط القائم بين العائلات وعاملات المنازل ومدى تعقيده في آن". وتنحنحتُ. كنت أتكلّم بحذر كما لو أنني أتحدث إلى مدرّس.
  "أكملي".
  "حسناً"، وأخذتُ نفساً عميقاً، "أرغب في كتابة ذلك لأُظهر وجهة نظر عاملة المنزل ذات البشرة الملوّنة هنا". وحاولتُ وصف وجهي كونستنتين وآيبيلين. "لقد أشرفت على تربية طفل أبيض البشرة أصبح بعد عشرين عاماً صاحب عمل. ومما يدعو للسخرية أننا نحبهم ويحبوننا، ولكن...". وقمت بحركة ابتلاع بحنجرتي بينما كان صوتي يرتجف قائلة: "لا نسمح لهنّ باستخدام الحمّام الموجود داخل المنزل".
  وساد الصمت مجدداً.
  "و". وشعرتُ أنني مُجبَرة على إكمال حديثي فقلت: "الجميع يعرفون كيف أننا مجّدنا، كشعب أبيض البشرة، صورة مامي التي كرّست كل حياتها لعائلة من ذوي البشرة البيضاء. لقد غطّت مارغريت ميتشل الأمر. ولكن أحداً لم يسأل مامي أبداً عن شعورها حيال ذلك". وتصبب العرق من صدري فامتصّته سترتي القطنية.
  قالت السيدة شتاين: "إذاً، تريدين أن تُظهري جانباً لم يتم التطرّق إليه من قبل".
  "أجل، لأن أحداً لا يتكلم أبداً عن الأمر. لا أحد يتكلم عن أي شيء هنا".
  ضحكت إلين شتاين مزمجرة. كانت لكنتها تشير تماماً إلى أنها من أميركا الشمالية. "يا آنسة فيلان، لقد أقمتُ في أتلنتا طوال ست سنوات مع زوجي الأول".
  وركّزتُ على هذا الرابط الصغير. "إذاً... تعرفين واقع الحال".
  "بما يكفي لدفعي للخروج من هناك". قالت، وسمعتُها تزفر الدخان. "انظري، لقد قرأت مخططك التمهيدي. من المؤكد أنه... فريد من نوعه، ولكنه لن ينجح. لن تجدي من يخبرك الحقيقة؟".
  استطعت رؤية خف والدتي الزهري يمرّ أمام الباب، فحاولتُ تجاهله. ولم أستطع تصديق أن السيدة شتاين تقوم بمناقشة فكرتي. "المرأة الأولى التي سأُجري مقابلة معها... توّاقة إلى إخباري بقصتها".
  قالت إلين شتاين، وعلمتُ أنه ليس سؤالاً: "يا آنسة فيلان، وافقت هذه الزنجية على التحدث إليك بكل صراحة حول واقع عملها لدى عائلة من ذوي البشرة البيضاء؟ لأن ذلك يبدو مخاطرةً كبيرة في مكان مثل جاكسون، ميسيسيبي".
  طرفتُ عينيّ. لقد شعرتُ بأولى مؤشرات القلق أنه لن يكون من السهل إقناع آيبيلين كما سبق لي أن اعتقدتُ. ولم أكن أعرف ما الذي ستقوله لي عند الدرج الأمامي لمنزلها في الأسبوع التالي.
  "لقد شاهدتهم في نشرة الأخبار يحاولون اقتحام محطة الحافلات عندكم". أضافت السيدة شتاين. "لقد وضعوا خمسة وخمسين زنجياً في زنزانة تتسع لأربعة أشخاص فقط".
  فزممتُ شفتيّ. "لقد وافقَت، أجل، لقد وافقت".
  "حسناً. إنه أمر مثير للإعجاب. ولكن، هل تظنين أن خادمات أخريات سيكنّ راغبات في التحدث إليك؟ ماذا لو اكتشف صاحب العمل الأمر؟".
  "ستُجرَى المقابلات بشكل سرّي لأنه أمر ينطوي على قليل من الخطورة هنا كما تعلمين". في الحقيقة، لم أكن أعرف مدى خطورة الأمر. لقد أمضيتُ السنوات الأربع السابقة مسجونة في غرفة الكلّية أقرأ كيتس وأودورا ولتي وأقلق بسبب الأبحاث الفصلية.
  وضحكت "قليل من الخطورة؟ مسيرات في برمينغهام، مارتن لوثر كينغ. كلاب تهاجم أطفالاً من ذوي البشرة الملونة. يا عزيزتي، إنه الموضوع الأكثر سخونة في البلد. ولكن ذلك لن ينجح أبداً، بكل أسف، وإن على صورة مقالة لأن أي صحيفة جنوبية لن تقوم بنشره. وينطبق الأمر نفسه على الكتاب بكل تأكيد. فكتاب مقابلات لن يحقق أي مبيعات".
  فسمعتُ نفسي أقول: آه. وأغمضتُ عينيّ، شاعرةً بنفاد كل الحماسة مني. وسمعتُ نفسي أقول مجدداً: "آه".
  "بصدق، لقد اتصلتُ لأنها فكرة جيدة في الواقع. ولكن... لا وجود لأي إمكانية لطبعها".
  "ولكن... ماذا لو...". وبدأت أنظاري تجوب أنحاء غرفة المؤونة، باحثةً عن فكرة ما تعيد اهتمام السيدة شتاين. ربما يُفترَض بي التحدث عن الموضوع كمقالة، أو كمجلة، ولكنها قالت لا...
  "يا أوجينيا، إلى من تتحدثين هناك؟". وانطلق صوت والدتي عبر فتحة الباب الضيّقة، وفتحَت الباب قليلاً، ولكنني دفعتُه وأغلقته مجدداً. وغطّيتُ جانب تلقّي الصوت في الهاتف بيدي، وهمستُ قائلة: "أتحدث إلى هيلي، يا أمي...".
  "في غرفة المؤونة؟ تتصرفين كمراهِقة مجدداً...".
  "أعني...". وأطلقت السيدة شتاين عطسة حادة. "أعتقد أن في استطاعتي قراءة ما تحصلين عليه. الله يعلم، قد يشهد ميدان وضع الكتب بعض الثرثرة".
  "هل ستقومين بذلك؟ آه، يا سيدة شتاين...".
  "لا أقول إنني موافقة. ولكن... أَجري المقابلة وسأُعلمك بما إذا كان الأمر جديراً بالمتابعة".
  فتمتمتُ بعض الكلمات غير المفهومة، وقلتُ أخيراً: "شكراً لك. يا سيدة شتاين، لا يمكنني أن أعبّر لك عن مدى امتناني لمساعدتك".
  "لا تشكريني. لم يحِن الوقت بعد لذلك. اتصلي بروث، سكرتيرتي، إذا أردتِ الاتصال بي". وأنهت المكالمة.
  يوم الأربعاء، حملتُ بجهد حقيبة مدرسية قديمة، وتوجهت إلى منزل إليزابيت حيث يجتمع أعضاء نادي البريدج. كان في إمكاني الاستناد إليها، أقلّه في ذلك اليوم.
  إنها الحقيبة الوحيدة في منزل والدتي التي وجدتُ أنها كبيرة بما يكفي لتسع رسائل الآنسة ميرنا. كان الجِلد متشققاً ومتقشّراً، وترك حزام الأكتاف السميك، حيث زال صباغ الجِلد، علامة بنّية على سترتي. إنها الحقيبة التي كانت تستخدمها جدتي كلير للاهتمام بالحديقة، فتضع فيها الأدوات وتحملها في أنحاء فناء المنزل. كانت لا تزال حبوب دوّار الشمس في أسفلها، ولم يكن في إمكاني استخدامها لأي غرض آخر. فلم أُعر الأمر أي اهتمام.
  "أسبوعان". قالت لي هيلي، مشيرةً بإصبعيها. "هو قادم". فابتسمَت وبادلتُها الابتسامة. "سأعود على الفور". قلت وانسللت إلى المطبخ، حاملةً حقيبتي المدرسية.
  كانت آيبيلين واقفة أمام حوض الغسيل. قالت بهدوء: "بعد الظهر". لقد مرّ أسبوع على زيارتي لمنزلها.
  فوقفتُ هناك للحظة، مراقبةً إيّاها تحرّك الشاي المثلَّج، وشاعرةً بعدم الارتياح في وقفتها وبهلعها من قيامي مجدداً بطلب مساعدتها في الكتاب. فأخرجتُ بعض الرسائل المتعلقة بتدبير شؤون المنزل، واسترخت كتفا آيبيلين قليلاً بعد أن رأتها. وبينما كنت أقرأ لها سؤالاً عن بُقع التراب، سكبَت قليلاً من الشاي في كوب، وتذوّقَته. وأضافت مزيداً من السكّر في الإبريق.
  "آه، قبل أن أنسى، حصلتُ على إجابة عن سؤال بُقع الماء. قالت ميني، افركيها بقليل من المايونيز". وعصرت آيبيلين نصف ليمونة في الشاي. "وارمي من ثم ذلك الزوج غير الصالح خارج المنزل". وحركَت، وتذوّقَت. "ميني غير مولعة بالأزواج".
  "شكراً، سأدوّن ذلك". قلت. وسحبتُ مغلّفاً من الحقيبة بالطريقة العرضية التي دأبتُ على اتّباعها. "كنت أعتزم إعطاءك هذا".
  واستعادت آيبيلين وقفتها المتصلّبة السابقة. "ماذا لديك هناك؟". قالت من دون أن تمدّ يدها.
  قلت بهدوء: "لقاء مساعدتك، لقد اقتطعتُ لك مبلغ خمسة دولارات لكل مقالة. ويبلغ المجموع خمسة وثلاثين دولاراً".
  التفتت آيبيلين بسرعة إلى الشاي. "لا، شكراً لك، يا سيدتي".
  "خذيها رجاءً، لقد استحققتها".
  سمعتُ صوت إزاحة كراسٍ على أرضية خشبية في غرفة الطعام، تلاه صوت إليزابيت.
  همست آيبيلين: "رجاءً، يا آنسة سكيتر. ستصاب الآنسة ليفولت بسورة غضب إذا رأتك تعطينني مالاً".
  "ليس عليها أن تعرف".
  ورفعت آيبيلين نظرها إليّ. كان بياض عينيها أصفر اللون بسبب الإرهاق. لقد عرفتُ في ما تفكر.
  "سبق أن قلت لك، أنا آسفة. لا يمكنني مساعدتك على تأليف ذلك الكتاب، يا آنسة سكيتر".
  فوضعتُ المغلف على المنضدة، مُدركةً أنني ارتكبت خطأً مروِّعاً.
  "رجاءً، جدي لنفسك خادمة أخرى ملوّنة البشرة، خادمة أصغر سناً، شخصاً... آخر".
  "ولكنني لا أعرف أخريات بشكل كافٍ لمفاتحتهنّ بالأمر". لقد أردتُ مناقشة معنى كلمة صديقات معها، ولكنني لست على هذا القدر من السذاجة لأنني أعرف أننا لسنا صديقتين.
  مدّت هيلي رأسها عبر الباب. "هيا، يا سكيتر، سأوزّع ورق اللعب". وتوارت عن الأنظار.
  قالت آيبيلين: "أتوسّل إليك، خذي ذلك المغلف كيلا تراه الآنسة ليفولت".
  فأومأتُ برأسي، مُحرَجة. ودسستُ المغلف في حقيبتي، مُدركةً أن علاقتنا باتت أسوأ من أي وقت مضى. لقد ظنت أنها رشوة لتسمح لي بإجراء مقابلة معها؛ رشوة مموَّهة بنيّة طيبة وتعبير عن الامتنان. كنت أريد إعطاءها المال على كل حال بعد ازدياد حجم المبلغ، ولكنني اخترت هذا التوقيت بشكل متعمَّد في الواقع، وقد أجفلها الأمر كلّياً.
  "يا عزيزتي، ضعيه على رأسك على سبيل التجربة ليس إلا. لقد كلّفني أحد عشر دولاراً. لا بد من أنه جيد".
  لقد وضعتني والدتي في موقف حرِج في المطبخ. فألقيت نظرة على الباب المؤدّي إلى الرّدهة، ومن ثم على الباب المؤدي إلى الرُّواق الخارجي الجانبي. ودنت مني والدتي أكثر فأكثر، حاملةً ذلك الشيء بيدها، وقد أذهلني مدى نحولة رسغيها، وضعف ذراعيها اللتين تحملان الآلة الرمادية الثقيلة. ودفعتني للجلوس على الكرسيّ، متيقّنةً من أنها ليست شديدة الضعف بالرغم من كل شيء، وعصرَت على رأسي أنبوباً يحتوي على مادة لزجة، مُحدثاً صوتاً مزعجاً. لقد مرّ يومان على قيام والدتي بمطاردتي بالماجيك آند سيلكي شينالايتر.
  فركَت شعري بالمستحضر التجميلي بكلتا يديها. كان في استطاعتي عملياً الشعور بالأمل في أصابعها. فهذا المستحضر التجميلي لن يقوّم أنفي أو يقصّر طول قامتي بمقدار قدم واحدة، ولن يضيف لمسة مميَّزة على حاجبيّ غير المكسوَّين بالشعر بشكل كامل، أو يضيف وزناً إلى بنيتي الهزيلة، ناهيكم عن أن أسناني قويمة تماماً. إذاً، فما تبقى لهذا المستحضر للقيام به هو إصلاح شعري.
  غطّت والدتي رأسي المتقطّر من شدة البلل بقلنسوة بلاستيكية، ووصلَت الأنبوب المثبَّت بالقلنسوة بآلة مربعة الشكل.
  "ما الوقت الذي يستغرقه الأمر، يا والدتي؟".
  فالتقطَت الكتيّب بأصابع لزِجة. "يقال هنا، غطّي الشعر بالقلنسوة الخارقة المقوِّمة، وشغّلي الآلة بعد ذلك، وانتظري النتيجة الخارقة...".
  "عشر دقائق؟ خمس عشرة دقيقة؟".
  سمعتُ طقّة، وهديراً متصاعداً، وشعرت من ثم بدفء بطيء يغمر رأسي. وكانت هناك فرقعة على نحو مفاجئ! لقد أفلت الأنبوب من الآلة، وبدأ ينتفض كخرطوم ماء مجنون في مركز إطفاء. فصرخت والدتي وأمسكت به، ولكنه أفلت من يدها. أخيراً، تمكنت من السيطرة عليه، وأعادت وصله.
  وأخذَت نفساً عميقاً والتقطَت الكتيّب مجدداً. "يجب أن تبقى القلنسوة الخارقة على الرأس لمدة ساعتين من دون رفعها وإلا كانت النتائج...".
  "لمدة ساعتين؟".
  "سأطلب من باسكاغولا أن تُعدّ لك كوباً من الشاي، يا عزيزتي". وربّتت والدتي على كتفي، ودخلت باب المطبخ مُحدِثةً حفيفاً بخفها.
  طوال ساعتين، قمت بتدخين السجائر وقراءة مجلة الحياة. وأنهيتُ قراءة قتل طائر مقلِّد. أخيراً، التقطت صحيفة جاكسون جورنال وقمت بتصفّحها. كان يوم الجمعة، لذلك لم يكن عمود الآنسة ميرنا موجوداً في الصحيفة. وقرأت في الصفحة الرابعة، إصابة فتى بالعمى بسبب حمّام خاضع للتمييز العنصري، ومُشتبَه بهم يخضعون للاستجواب. لقد بدا الأمر... مألوفاً، وتذكرتُ. لا بد من أنه جار آيبيلين.
  كنت قد عرّجت مرتين هذا الأسبوع على منزل إليزابيت، آملةً في ألا تكون موجودة كي أتمكن من التحدث إلى آيبيلين ومحاولة إيجاد طريقة ما لإقناعها بمساعدتي. كانت إليزابيت منحنية فوق ماكينة الخياطة، عازمةً على إنهاء ثوب جديد ترتديه في موسم الميلاد، ولكن، كل ما حصلَت عليه هي عباءة خضراء أخرى رديئة النوعية ومترهّلة. لا بد من أنها أجرت صفقة رابحة في متجر كنينغتون بعد المساومة على سعر لم يبدُ لها مُقنعاً.
  "إذاً، ما الذي سترتدينه للموعد؟". سألت هيلي في المرة الثانية التي قدمتُ فيها. "الأحد القادم؟".
  فهززت كتفيّ. "أعتقد أنه سيكون عليّ الذهاب للتسوق".
  حينذاك، أخرجت آيبيلين صينية قهوة ووضعتها على الطاولة.
  قالت إليزابيت: "شكراً لك". وأومأَت برأسها.
  "شكراً لك، يا آيبيلين". قالت هيلي في أثناء وضع السكّر في فنجانها. "أتعلمين، أنت الأفضل بين ذوي البشرة الملونة في المدينة الذين يُعدّون القهوة".
  "شكراً لك يا سيدتي".
  "يا آيبيلين". أضافت هيلي: "كيف تجدين حمّامك الجديد في الخارج؟ من الجيد أن يكون لك مكان خاص بك، أليس كذلك؟".
  فحدّقت آيبيلين إلى التشقق الموجود على صفحة طاولة الطعام. "أجل يا سيدتي".
  "تعلمين، لقد تدبّر السيد هولبروك أمر بناء ذلك الحمّام، يا آيبيلين، وأرسل العمال والتجهيزات أيضاً". ابتسمت هيلي.
  ووقفت آيبيلين هناك فحسب، وتمنّيتُ لو لم أكن موجودة في الغرفة. رجاءً، قلت لنفسي، رجاءً لا تقولي شكراً.
  "أجل يا سيدتي". فتحت آيبيلين دُرجاً، ومدّت يدها إلى داخله، ولكن هيلي استمرت في النظر إليها. فمن الواضح تماماً أنها كانت تريد سماع أمر آخر.
  مر قليل من الوقت من دون أن يقوم أحد بأي حركة. فتنحنحت هيلي، وأخيراً، أخفضت آيبيلين رأسها. "شكراً لك يا سيدتي". قالت، هامسة، وعادت إلى المطبخ. لا عجب في عدم رغبتها في التحدث إليّ.
  عند الظهر، رفعت والدتي القلنسوة المترجرجة عن رأسي، وغسلَت المستحضر عن شعري بينما كنت منحنية إلى الوراء فوق حوض الغسيل في المطبخ. ولفّت شعري على الفور بنحو عشر لُفافات، ووضعتني تحت مجفف الشعر في حمّامها.
  بعد ساعة، خرجتُ من عملية التزيين زهريّة الوجه، ظمآنة، وأشعر بألم في الرأس. ووضعتني والدتي أمام المرآة، وسحبَت اللفافات. ومشّطَت خُصَل الشعر الدائرية العملاقة على رأسي.
  فحدّقنا مذهولتين.
  "تبّاً". قلت. فكل ما كنت أفكر فيه هو الموعد. الموعد العشوائي في الأسبوع القادم.
  ابتسمت والدتي، مصدومةً، حتى إنها لم توبّخني بسبب الشتيمة التي أطلقتها. لقد بدا شعري رائعاً. لا شك في أن الشينالايتر حقق الغرض المرجوّ منه.
الفصل التاسع
  يوم السبت، أي يوم موعدي مع ستيوارت ويتوورث، جلستُ طوال ساعتين تحت الشينالايتر (دامت النتائج كما يبدو حتى عملية الغَسل التالية لشعري). عندما جفّفته، قصدت متجر كنينغتون، واشتريت الحذاء الأكثر انبساطاً الذي تمكنت من العثور عليه، بالإضافة إلى ثوب أسود من قماش الكريب. كنت أكره التسوّق، ولكنني سُررت بذلك لأنه صرف انتباهي طوال فترة بعد الظهر عن مسألة الكتاب، وعن قلقي في شأن السيدة شتاين، أو آيبيلين. ودفعتُ مبلغ خمسة وثمانين دولاراً من حساب والدتي لأنها كانت ترجوني باستمرار لشراء ملابس جديدة. ("شيء ما يُضفي الجمال على قامتك"). كنت أعلم أن والدتي سترفض بشدة موضة الفستان الذي يكشف بجرأة عن الجزء الأعلى من الصدر. لم يسبق لي أن امتلكتُ ثوباً مماثلاً.
  في موقف السيارات التابع لمتجر كنينغتون، أدرتُ محرك السيارة من دون أن أتمكن من الانطلاق بسبب آلام فجائية في معدتي. فأمسكت بإحكام عجلة القيادة البيضاء المبطَّنة، قائلةً لنفسي للمرة العاشرة إنه من السخف أن أتمنى ما لن أحصل عليه، وأن أفكر في عينيه الزرقاوين استناداً إلى صورة فوتوغرافية بالأسود والأبيض، وأعتبر أن فرصتي المناسبة تعتمد على مجرد صحيفة ورقية ومواعيد عشاء مؤجَّلة. ولكن الفستان وتسريحة شعري الجديدة بدوا مناسبين جداً، وكل ما كان في استطاعتي القيام به هو التحلّي ببعض الأمل.
  لقد أرتني هيلي الصورة قبل أربعة أشهر بجانب بركة السباحة في منزلها. كانت هيلي تكتسب سُمرة تحت الشمس، في حين أنني كنت أهوّي بالمروحة في الظل لأن الطفح الجلدي بسبب الحرارة بلغ ذروته في شهر تموز/يوليو من دون أن تخف حدّته.
  "أنا منشغلة". قلت. وجلست هيلي على حافة البركة، مترهّلة وبدينة كما لو أنها في مرحلة ما بعد الحمل، وواثقة بشكل غير مبرَّر بثوب السباحة الأسود. كانت معدتها ناتئة، ولكن ساقيها نحيلتان وجميلتان كالعادة.
  "حتى إنني لم أخبرك بموعد قدومه". قالت. "وتحدّره من عائلة مرموقة". كانت تتحدث بالطبع عن نسيب أحد والدَي وليام. "التقيه فقط وكوّني فكرة عنه".
  فنظرتُ إلى الصورة مجدداً، عيناه كبيرتان وواثقتان، شعره بنّي فاتح ومجعَّد، هو الأطول قامة وسط مجموعة من الرجال بالقرب من بحيرة، ولكن جسمه محجوب جزئياً بالآخرين.
  "لا عَيب فيه". قالت هيلي. "اسألي إليزابيت، لقد التقته في الحفلة الخيرية العام الماضي في أثناء وجودك في الكلية. ناهيك عن أنه كان يواعد باتريشا فان ديفندر".
  "باتريشا فان ديفندر؟ الفتاة الأكثر جمالاً في أولي ميس لعامين متتاليين؟".
  "كما أنه بدأ مشروعه الخاص في ميدان النفط في فيكسبرغ. لذلك، إذا لم تتقابلا، فإنك لن تلتقيه على الأرجح كل يوم في المدينة".
  أخيراً قلت: "حسناً". وتنهّدتُ للتخلّص من إلحاح هيلي أكثر من أي شيء آخر.
  عدتُ إلى المنزل عند الثالثة والنصف بعد شراء الفستان، وكان من المفترَض بي أن أكون في منزل هيلي عند السادسة للقاء ستيوارت. فوقفتُ أمام المرآة. لقد بدأت خُصل الشعر المعقوفة تفقد أناقتها عند الأطراف، ولكن بقية شعري كانت لا تزال ملساء. لقد شعرت والدتي بالسعادة عندما قلت لها إنني سأستخدم الشينالايتر مجدداً، ولم يكن لدي أي سبب لعدم استخدامه. لم أخبرها عن موعدي في تلك الليلة، ولو اكتشفَت الأمر بطريقة ما، لأمضت الأشهر الثلاثة التالية بطرح أسئلة مستفسِرة مثل "هل اتصل؟". و"ما الخطأ الذي ارتكبتُه؟". إذا لم ينجح الأمر.
  كانت والدتي مع والدي في غرفة الاستجمام في الطابق السفلي، يصيحان ابتهاجاً تأييداً لفريق الثوار. وكان شقيقي كارلتون جالساً على الأريكة مع صديقته الجديدة التي لا تضع أي مساحيق تجميل، وتسريحة شعرها الداكن على صورة ذيل حصان، وترتدي بلوزة حمراء. لقد قدما بعد ظهر ذلك اليوم من أل أس يو.
  عندما التقيتُ كارلتون بمفردنا في المطبخ، ضحك وشدّني بشعري كما لو أننا عدنا طفلين مجدداً. "إذاً، كيف حالك، يا شقيقتي؟".
  فأخبرته عن الوظيفة في الصحيفة، وأنني محررة النشرة الدورية للرابطة. وأخبرته أيضاً أنه يُستحسَن به العودة إلى المنزل بعد التخرج من كلّية الحقوق. "تستحق تمضية بعض الوقت مع والدتي أيضاً. أنال أكثر من حصتي العادلة هنا". قلت، صارّةً أسناني.
  ضحك كما لو أنه فهم ما أعني، ولكن، كيف ذلك؟ فهو أكبر سناً مني بثلاث سنوات، بهيّ الطلعة، طويل القامة، شعره أشقر متماوج، يُنهي دراسته في كلّية الحقوق أل أس يو، وينعم بحماية مئة وسبعين ميلاً من الطرقات المعبَّدة على نحو رديء.
  عندما عاد إلى صديقته، بحثت عن مفاتيح سيارة والدتي من دون أن أعثر عليها في أي مكان. كانت الخامسة إلا خمس دقائق. فذهبتُ ووقفتُ عند الباب، محاولةً لفت انتباه والدتي. كان عليّ انتظارها حتى تنهي طرح وابل أسئلتها على فتاة تسريحة ذيل الحصان، عن أهلها، والمكان الذي تتحدّر منه، ولكن والدتي لم تكن تعتزم الكف عن طرح الأسئلة حتى تعثر على شخص واحد على الأقل على معرفة بالعائلتين. وسألَتها بعد ذلك عن النادي النسائي الذي تنتمي إليه في فاندربيلت، واختتمت أخيراً بطرح سؤال عليها حول ماركة الأواني الفضية التي تمتلكها. فهذا الحديث أفضل من قراءة الطالع، تقول والدتي باستمرار.
  فأجابت فتاة تسريحة ذيل الحصان أن الماركة الموجودة لدى عائلتها هي شانتييي، ولكنها ستختار ماركة جديدة عندما تتزوّج. "بما أنني حرّة التفكير". ولاطفها كارلتون على رأسها، فاندفعت باتجاه يده كالهرّة. ونظرا إليّ وابتسما.
  "يا سكيتر". قالت لي فتاة تسريحة ذيل الحصان: "أنت محظوظة جداً لأنك تمتلكين ماركة من مجموعة فرانسيس الأول. هل ستحتفظين بها عندما تتزوجين؟".
  "مجموعة فرانسيس الأول رائعة جداً". قلت بوجه مبتسم ومُشِعّ. "لذلك أُخرج تلك الشوك طوال الوقت للنظر إليها فحسب".
  فضيّقت والدتي عينيها ونظرت إليّ. وأومأتُ لها لتدخل المطبخ، ولكن مرّت عشر دقائق أخرى قبل أن تأتي.
  "أين مفاتيحك يا أمي؟ لقد تأخرتُ، عليّ الذهاب إلى منزل هيلي. سأبقى هناك الليلة".
  "ماذا؟ ولكن كارلتون في المنزل. ما الذي ستعتقده صديقته الجديدة إذا لم تمكثي معهما؟".
  لقد تجنّبتُ إخبارها بالأمر لأنني أعرف أننا سندخل في نقاش سواءً أكان كارلتون في المنزل أم لا.
  "وأعدّت باسكاغولا لحماً مشوياً، وجهّز أبوك الحطب لإشعال النار الليلة في غرفة الاستجمام".
  "تبلغ الحرارة في الخارج خمساً وثمانين درجة، يا أمي".
  "انظري، شقيقك في المنزل، وأتوقع منك أن تتصرفي كشقيقة جيدة. لا أريدك أن تغادري حتى تجلسي مع تلك الفتاة مدة كافية من الوقت". ونظرَت إلى ساعتها في حين ذكّرت نفسي أنني في الثالثة والعشرين من عمري. قالت: "رجاءً، يا عزيزتي". وتنهّدتُ وحملتُ صينيّة شراب بنكهة النعناع.
  "يا أمي". قلت لها في المطبخ عند الخامسة وثمانٍ وعشرين دقيقة. "عليّ الذهاب. أين مفاتيحك؟ هيلي في انتظاري".
  "ولكننا لم نقضِ وقتاً كافياً معهما".
  "تشعر هيلي... بألم في معدتها". قلت هامسة: "وعليّ مساعدتها اليوم وليس غداً. هي بحاجة إليّ لأعتني بالأطفال".
  فتنهدت والدتي. "هذا يعني أنك ستذهبين معهما إلى دار العبادة أيضاً. أعتقد أن في استطاعتنا الذهاب غداً كعائلة وتناول طعام الغداء معاً".
  قلت: "يا أمي، أرجوك". وبحثت في سلّة حيث تحتفظ بمفاتيحها عادةً. "لا أستطيع العثور على مفاتيحك في أي مكان".
  "لا يمكنك أخذ السيارة الليلة. إنها السيارة التي نستقلّها يوم الأحد".
  كان من المفترض به أن يصل إلى منزل هيلي بعد ثلاثين دقيقة، وعليّ ارتداء ملابسي والتبرّج في منزل هيلي كيلا تشتبه والدتي بأي شيء. ولم يكن في إمكاني الذهاب بشاحنة والدي الجديدة لأنها مليئة بالأسمدة وأعلم أنه سيكون بحاجة إليها فجر اليوم التالي.
  "حسناً، سأستقل الشاحنة القديمة إذاً".
  "أظن أنها موصولة بعربة مقطورة. اذهبي واسألي والدك".
  لكن، لم يكن في إمكاني أن أسأل والدي أمام ثلاثة أشخاص لا بد وأن يشعروا بالسوء لأنني مغادرة. لذلك، التقطتُ مفاتيح الشاحنة القديمة وقلت: "لا يهمّ. أنا ذاهبة إلى منزل هيلي مباشرةً". وخرجتُ مسرعة لأجد الشاحنة القديمة موصولة بعربة مقطورة ويوجد على ظهر تلك العربة أيضاً جرّار يزن نصف طن.
  هكذا، قدتُ إلى المدينة في أول موعد لي بعد عامين في شاحنة شفروليه من طراز العام 1941، رباعية الدَّفع، وأجرّ ورائي آلة لتمهيد التربة من طراز جون دير. فأحدث المحرّك صوت فرقعة وتخبُّط، وتساءلت عما إذا كانت الشاحنة ستنجح في الانطلاق. وتطاير الوحل ورائي عن الإطارات. ولكن المحرك توقف على الطريق الرئيسة، ووقع فستاني وحقيبتي على الأرضية القذرة. كان عليّ المحاولة مرتين لإعادة تشغيله.
  عند الخامسة وخمس وخمسين دقيقة، اندفع شيء أبيض أمامي، وسمعتُ صوتاً أجوف. فحاولتُ التوقف، ولكن الفرملة ليست أمراً يمكنكم القيام به بسرعة مع وجود آلة وراءكم تزن 10.000 رطل. فجرَشتُ وتوقفتُ، وكان عليّ الخروج للتحقق مما حدث. كان الهر واقفاً بشكل ملحوظ وينظر حوله مصعوقاً، وانطلق مسرعاً داخل الغابة بالسرعة التي قدم بها.
  عند السادسة إلا ثلاث دقائق، وبعد انطلاقي بالسرعة القصوى، وإطلاق بوق الشاحنة، وتذمّر المراهقين، ركنتُ الشاحنة على مقربة من منزل هيلي لأنه لا يتوافر في الشارع غير النافذ موقف للسيارات ملائم لتجهيزات المزرعة. التقطتُ حقيبتي، وركضت مسرعة إلى الداخل حتى من دون قرع الباب، لاهثة، متعرّقة، ومنفوشة الشعر، وكانوا ثلاثتهم هناك بمن فيهم الشخص الذي كنت على موعد معه، يتناولون الشراب في غرفة الجلوس الأمامية.
  فتسمّرتُ مكاني في ردهة المدخل ونظر ثلاثتهم إليّ. كان وليام وستيوارت واقفَين. يا الله، إنه أطول مني قامة بأربع بوصات على الأقل. واتسعت عينا هيلي عندما أمسكت بذراعي. "أيها الشابان، سنعود على الفور. اجلسا وتحدثا عن الظَّهير الرُّبعي أو ما شابه".
  سحبتني هيلي إلى غرفة ملابسها، وبدأتُ أروي لها ما حدث معي.
  "يا سكيتر، حتى إنك لا تضعين أحمر الشفاه! ويبدو شعرك كجُحر جرذ!".
  "أعلم، انظري إليّ!". كانت كل آثار الشينالايتر الخارق فد زالت. "لا يوجد مكيّف هواء في الشاحنة. كان عليّ أن أقود والنافذة مفتوحة".
  فغسلتُ وجهي، وأجلستني هيلي على كرسيّها في غرفة الملابس، وبدأَت بتسريح شعري بطريقة مختلفة عن الطريقة التي اعتمدتها والدتي، لافّةً إياه بتلك اللفافات العملاقة، وراشّةً إياه برذاد فاينل نِت.
  سألَت: "حسناً؟ ما رأيك به؟".
  فتنهّدتُ، وأغمضتُ عينيّ اللتين لا يوجد على أهدابهما مسكرة. "يبدو وسيماً".
  وضعتُ المكياج بشكل عشوائي لأنني لا أُجيد القيام بذلك. فنظرت إليّ هيلي وأزالته بقطعة نسيج، وأعادت وضعه مجدداً. ولبستُ الفستان الأسود ذات فتحة على صورة V من الأمام، وانتعلت الحذاء المسطَّح من ماركة دِلمان. ومشّطت هيلي شعري بسرعة، وغسلتُ إبطيّ بقطعة قماش مبلَّلة، ونظرَت إليّ مقلّبةً عينيها.
  قلت: "لقد صدمتُ هرّاً".
  "لقد تناول كأسين في انتظار قدومك".
  فوقفتُ وملّستُ فستاني باتجاه الأسفل. قلت: "حسناً، ضعي لي علامة، من واحد إلى عشرة".
  نظرت هيلي إليّ من الأعلى إلى الأسفل، وتوقفت عند فتحة الفستان، ورفعت حاجبيها. لم يسبق لي أن كشفت عن صدري بهذه الطريقة من قَبل، ربما نسيتُ ذلك.
  قالت: "ستة". وبدت متفاجئة.
  فنظرنا إلى بعضنا بعضاً للحظة. وأطلقت هيلي صرخة صغيرة حادة، وابتسمتُ. لم يسبق لهيلي أن وضعت لي علامة أكثر من أربعة.
  عندما عدنا إلى غرفة الجلوس الأمامية، كان وليام يشير إلى ستيوارت بإصبعه. "سأخوض الانتخابات للفوز بذلك المقعد بمساعدة والدك...".
  "يا ستيوارت ويتوورث". أعلنت هيلي: "أحب أن أعرّفك إلى سكيتر فيلان".
  فوقف، ولم أفكر في أي شيء لمدة دقيقة من الزمن. وعندما قام بمرافقتي، بدوت كما لو أنني تسبّبتُ بالمعاناة لنفسي.
  "ارتاد ستيوارت الكلّية في جامعة ألاباما". قال وليام، وأضاف: "رول تايد".
  "سرّني لقاؤك". وابتسم ستيوارت بإيجاز، وتناول من ثم رشفة طويلة حتى سمعتُ صوت ارتطام الثلج بأسنانه. "إذاً، أين كنا؟". سأل وليام.
  واستقللنا سيارة الأولدزموبيل الخاصة بوليام إلى فندق روبرت. ففتح لي ستيوارت الباب، وجلس بجانبي في الخلف، ولكنه انحنى فوق ظهر المقعد الأمامي، وتحدث إلى وليام عن موسم الأيائل طوال الطريق.
  عند الطاولة، سحب لي الكرسي وجلستُ، وابتسمتُ، وقلت شكراً لك.
  "هل تريدين كأساً؟". سألني من دون النظر باتجاهي.
  "لا، شكراً. ماء فقط، رجاءً".
  فاستدار نحو النادل وقال: "شراب مزدوج من دون تأخير مع إناء ماء".
  وبعد تناوله الكأس الخامسة كما أعتقد، قلت: "لقد أخبرتني هيلي أنك تعمل في ميدان النفط. لا بد من أن يكون ذلك مثيراً للاهتمام".
  "الوضع المالي جيد إذا كان ذلك ما تريدين معرفته".
  "آه، لم أقصد ذلك...". ولكنني توقفت عن الكلام لأنه مدّ عُنُقه للنظر إلى أمر ما. فرفعتُ نظري ورأيته يحدّق إلى امرأة شقراء موجودة عند الباب، ممتلئة الصدر، تضع أحمر شفاه، وترتدي فستاناً أخضر.
  استدار وليام ليرى ما الذي ينظر إليه ستيوارت، ولكنه أدار وجهه بسرعة. فهز رأسه لستيوارت ببطء شديد بما معناه لا ليس الآن، ورأيت صديق هيلي القديم، جوني فوت، متجهاً نحو الباب مع زوجته الجديدة، سيليا. فغادرا، وألقيتُ ووليام نظرة سريعة إلى بعضنا بعضاً، متشاطرين ارتياحنا أن هيلي لم ترهما.
  "يا الله، تلك الفتاة حارّة كزِفت الطريق تونيكا". قال ستيوارت هَمساً، وأظن أنني لم أعد أبالي مذاك الحين بما يحدث.
  في إحدى المراحل، نظرت إليّ هيلي لتتحقق مما يجري. فابتسمتُ كما لو أن كل شيء يسير بشكل جيد، وبادلتني الابتسام، سعيدةً بذلك. "يا وليام! لقد دخل نائب الحاكم للتوّ. لنذهب ونتحدث إليه قبل أن يجلس".
  ذهبا معاً، وتركانا بمفردنا نحن الطائرين المتيّمين جالسين على جانب الطاولة نفسه ونحدّق إلى كل الأزواج السعداء في القاعة.
  "إذاً". قال، وبالكاد أدار رأسه. "لم تحضري أبداً أي مباراة في كرة القدم جرت في ألاباما؟".
  لم يسبق لي أن ذهبتُ إلى كولونيل فيلد التي تبعد عن سريري مسافة خمسة آلاف ياردة، فهل أذهب إلى ألاباما النائية. "لا، لست من هواة كرة القدم في الواقع". ونظرتُ إلى ساعتي. لم تبلغ الساعة بعد السابعة والربع.
  "هكذا إذاً". وحدّق إلى الشراب الذي سلّمه إياه النادل كما لو أنه استمتع حقاً بابتلاعه. "حسناً، كيف تمضين وقتك؟".
  "أكتب... عموداً في صحيفة جاكسون جورنال عن الصيانة المنزلية".
  فغضّن حاجبه، وضحك. "الصيانة المنزلية. تعنين... تدبّر شؤون المنزل؟".
  فأومأت برأسي.
  "يا الله". وهزّ شرابه. "لا يمكنني التفكير في أمر أسوأ من قراءة عمود عن كيفية تنظيف المنزل". قال، ولاحظت أن سنّه الأمامية مُعوَجّة قليلاً. كنت أتوق إلى الإشارة إلى هذا العيب الموجود فيه، ولكنه أنهى فكرته قائلاً: "ربما أرغب في كتابته".
  وحدّقت إليه فحسب.
  "يبدو لي أن العثور على زوج يقتضي اللجوء إلى الحيلة بما أنك خبيرة بتدبير شؤون المنزل".
  "حسناً، لا بد من أنك نابغة. لقد كشفت عن كل ما أخطط له".
  "أليس هذا ما تتخصصن فيه أنتنّ المتخرجات من أولي ميس؟ اصطياد الأزواج بطريقة محترفة؟".
  فحدّقت إليه مذهولة. قد لا أكون خرجت في موعد منذ عدة سنوات، ولكن من يظنّ نفسه؟
  "آسفة، ولكن هل سقطت على رأسك عندما كنت طفلاً؟".
  فطرف بعينيه، وضحك للمرة الأولى في تلك الليلة.
  "لن أقول لك إن هذا ليس من شأنك". قلت: "ولكن عليّ البدء من مكان ما إذا كنت أخطط لأكون صحافية". وأظن أنني أثّرت فيه في الواقع. ولكنه ابتلع الشراب وفقد تركيزه.
  تناولنا العشاء، استطعت مشاهدة المنظر الجانبي لوجهه ورؤية أنفه مستدق الرأس قليلاً، وحاجبَيه الكثَّين، وشعره البنّي الفاتح والخشن. وتبادلنا أطراف الحديث قليلاً. كانت هيلي تتناولنا بحديثها، فتقول مثلاً: "يا ستيوارت، سكيتر تعيش في مزرعة شمال المدينة. ألم ينشأ السيناتور في مزرعة فول سوداني؟".
  طلب ستيوارت كأساً أخرى.
  عندما دخلتُ وهيلي الحمّام، أطلقَت ابتسامة متفائلة. "ما رأيك؟".
  "هو... طويل القامة". قلت، وأذهلني عدم ملاحظتها فظاظة ستيوارت غير المبرَّرة وثمالته المُفرطة.
  أخيراً، حلّت نهاية الوجبة، فتقاسم ووليام التكلفة. ووقف ستيوارت وساعدني على ارتداء سترتي. كان يُحسن التصرف على الأقل.
  قال: "يا الله، لم يسبق لي أن التقيت امرأة ذات ذراعين طويلتين مماثلتين".
  "حسناً، لم يسبق لي أن التقيت شخصاً يعاني من مشكلة مماثلة في تناول الشراب".
  "رائحة معطفك أشبه بـ...". وانحنى، وشمّه، وقطّب جبينه، "الأسمدة".
  ومشى بخُطى واسعة باتجاه غرفة الرجال، وتمنّيتُ لو أنني قادرة على الاختفاء.
  انطلقت السيارة، وساد صمت مُطبَق.
  دخلنا منزل هيلي. فخرجت يول ماي بلباسها الرسمي الأبيض، وقالت: "كلهم بخير، لقد لجأوا إلى السرير". وخرجت من باب المطبخ. واستأذنتُ لدخول الحمّام.
  "يا سكيتر، لماذا لا تُقلّين ستيوارت إلى منزله؟". قال وليام عندما خرجتُ. "أنا مرهَق، ألستِ كذلك يا هيلي؟".
  فنظرت إليّ هيلي كما لو أنها تحاول معرفة ما أعتزم القيام به. لقد ظننت أنني أوضحت موقفي عندما بقيت في الحمّام لمدة عشر دقائق.
  "سيارتك... ليست هنا؟". سألتُ، ناظرةً باتجاه ستيوارت.
  قال وليام ضاحكاً: "لا أعتقد أن نسيبي في وضع يسمح له بالقيادة". وساد الصمت مجدداً.
  قلت: "لقد جئت بشاحنة، لا أتمنى لك الركوب فيها...".
  قال وليام، موجّهاً ضربة بيده إلى ظهر ستيوارت: "تباً، لا مانع لدى ستيوارت في ركوب شاحنة، أليس كذلك، يا صديقي؟".
  قالت هيلي: "يا وليام لماذا لا تقود؟ ويمكنكِ يا سكيتر مرافقتهما".
  قال وليام: "ليس أنا، لقد أسرفتُ في تناول الشراب". عِلماً أنه من قاد السيارة إلى المنزل.
  أخيراً، خرجتُ من الباب، وتبعني ستيوارت من دون أن يعلّق على عدم ركن الشاحنة أمام منزل هيلي أو في الطريق الخاصة بالمنزل. وعندما وصلنا إلى الشاحنة، توقفنا وحدّقنا إلى الجرّار الذي يبلغ طوله خمس عشرة قدماً والموصول بالجزء الخلفي لعربتي.
  "تجرّين هذا الشيء بمفردك؟".
  فتنهّدتُ. لم أخجل من ذلك الجرّار.
  قال: "إنه المشهد الأكثر مدعاةً للضحك الذي رأيته يوماً".
  فابتعدتُ عنه خطوةً إلى الوراء. "يمكن لهيلي أن تصطحبك".
  فاستدار، وركّز نظره عليّ للمرة الأولى طوال الليل. وبعد لحظات طويلة من الوقوف هناك والنظر إلى عينيّ الدامعتين، شعرت بتعب شديد.
  "تبّاً". قال، وأرخى جسده. "انظري، قلت لهيلي إنني غير مستعد لأي موعد".
  "لا...". قلت، مبتعدةً عنه، وعدتُ إلى المنزل، وتبعني ستيوارت مجرجراً قدميه على الأرض. وقرعت على باب غرفة نوم هيلي، وسألتُ وليام الذي كان فمه مليئاً بمعجون الأسنان إن هو لا يمانع إقلال ستيوارت إلى المنزل. صعدت إلى الطابق العلوي حيث توجد غرفة الضيوف قبل أن يجيب.
  في صباح يوم الأحد، نهضت باكراً قبل هيلي ووليام والأطفال وحركة مرور السيارات القادمة إلى دار العبادة. وعدتُ إلى المنزل والجرّار يهدر ورائي. لقد تسببت لي رائحة السَّماد بصداع شديد بالرغم من أنني لم أشرب سوى الماء في الليلة السابقة.
  عند منزل والدَيّ، تخطّيتُ كلاب والدي المستلقية على الرُّواق الخارجي، ودخلت المنزل. وحالما رأتني والدتي، قمت بمعانقتها. وعندما حاولَت الذهاب، لم أسمح لها.
  "ما الأمر، يا سكيتر؟ لم تُصابي بالعدوى من هيلي، أليس كذلك؟".
  "لا، أنا بخير". وتمنّيتُ لو كان في إمكاني إخبارها عن ليلتي. لقد شعرتُ بالذَّنب لعدم كوني أكثر لطافة معها، وعدم الحاجة إليها حتى ساءت الأمور في حياتي. وشعرتُ بالسوء لأنني تمنّيت لو كانت كونستنتين موجودة هناك بدلاً منها.
  فربّتت والدتي على شعري الذي عبث به الهواء بما أنه أضاف بوصتين على الأقل إلى طول قامتي. "هل أنت واثقة من أنك لا تشعرين بالسوء؟".
  "أنا بخير، يا أمي". كنت شديدة التعب بحيث لم أتمكن من المقاومة، ومعدتي تؤلمني كما لو أن أحدهم وجّه ركلة إليها وهو ينتعل حذاءه عالي الساق. ومع ذلك، برحتُ مكاني.
  قالت، مبتسمة: "تعلمين، أعتقد أنها قد تكون الفتاة المناسبة لكارلتون".
  "جيد، يا أمي". قلت. "أنا سعيدة حقاً لأجله".
  عند الحادية عشرة من صباح اليوم التالي، رنّ الهاتف. لحسن الحظ، كنت في المطبخ ورفعتُ السمّاعة.
  "آنسة سكيتر؟".
  فوقفتُ بلا حراك، ونظرت من ثمّ إلى والدتي وهي تتفحّص دفتر شيكاتها على طاولة غرفة الطعام. وكانت باسكاغولا تُخرج لحماً مشوياً من جهاز الطهو. فدخلتُ إلى غرفة المؤونة، وأغلقتُ الباب.
  قلت هامسة: "من، آيبيلين؟".
  لزمَت الصمت للحظة ومن ثم قالت بشكل مفاجئ. "ماذا لو لم يُعجبك ما سأقول؟ أعني عن ذوي البشرة البيضاء".
  "أنا... أنا... لا يتعلق الأمر برأيي". قلت: "لا أهمية لما أشعر به".
  "ولكن كيف أعرف أنك لن تغضبي وترتدّي عليّ؟".
  "لن... عليك أن... تثقي بي فحسب". وحبستُ أنفاسي، آملةً ومنتظرة. وكان هناك انقطاع طويل عن الكلام.
  "ليرحمني الله. أظن أنني سأقوم بالأمر".
  "يا آيبيلين". وخفق قلبي بقوة من شدة الفرح. "لا يمكنك أن تتصوري مدى امتناني...".
  "يا آنسة سكيتر، علينا أن نكون شديدتي الحذر".
  "أعدك بذلك".
  "وسيكون عليك تغيير اسمي، اسم الآنسة ليفولت، وأسماء الجميع".
  "بالطبع". كان من المفترض بي أن أذكر لها هذه الأمور. "متى يمكننا الالتقاء؟ أين يمكننا الالتقاء؟".
  "لا يمكننا القيام بذلك في حيّ ذوي البشرة البيضاء، إنه أمر مؤكَّد. أعتقد... أننا سنقوم بذلك في منزلي".
  "هل تعرفين خادمات أخريات قد يكنّ مهتمات بالأمر أيضاً؟". سألتُ، عِلماً أن السيدة شتاين وافقت على قراءة مقابلة تُجرى مع خادمة واحدة فقط. ولكن، كان عليّ الاستعداد لذلك تحسّباً لإعجاب السيدة شتاين بالخطوة التمهيدية.
  لزمت آيبيلين الصمت للحظات قليلة. "أظن أن في استطاعتي طرح السؤال على ميني. ولكنها غير متحمسة جداً للتحدث إلى أشخاص من ذوي البشرة البيضاء".
  "ميني؟ تعنين... خادمة السيدة والترز المُسنّة". قلت، وشعرتُ فجأةً بفداحة الأمر. فأنا لن أتدخل في حياة إليزابيت فحسب، بل في حياة هيلي أيضاً.
  "لدى ميني بعض الروايات".
  "يا آيبيلين". قلت. "شكراً لك. آه، شكراً لك".
  "أجل يا سيدتي".
  "أريد فقط... عليّ أن أسألك. ما الذي حملك على تبديل رأيك؟".
  فأجابت آيبيلين من دون تردد. "الآنسة هيلي".
  ولزمتُ الصمت، مفكرةً في خطة الحمّام التي وضعتها هيلي، واتهام الخادمة بالسرقة، وحديثها عن الأوبئة. لقد لفظت آيبيلين اسم هيلي بفتور كما لو أنها تشعر بمرارة في فمها أشد من مرارة جَوز البَقّان.
ميني
الفصل العاشر
  ذهبتُ إلى العمل مفكرةً في أمر واحد. كان ذلك اليوم أول يوم من كانون الأول/ديسمبر. ففي حين تقوم بقية الولايات المتحدة برفع الغبار عن مذاود الميلاد وإخراج جواربها النتنة والقديمة، كان عليّ التفكير في رجل آخر. هو ليس سانتا بل السيد جوني فوت الأصغر الذي سيعرف عشيّة الميلاد أن ميني جاكسون هي خادمته.
  كنت أنتظر الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر كما لو أنه تاريخ مثولي أمام المحكمة. لم أكن أعرف رد فعل السيد جوني عندما يكتشف أنني أعمل هناك. ربما قال، جيد! تعالي ونظفي مطبخي في أي وقت! إليك بعض المال! ولكنني لست بهذا الغباء. إن الاحتفاظ بهذا السر قد يكون أمراً لا يصدَّق بالنسبة إليه، بحيث إنه لن يكون راغباً في منحي أي علاوة. وهناك احتمال كبير أن أفقد عملي يوم الميلاد.
  لم يكن الأمر يبارح تفكيري، وكل ما أعرفه هو أنني قررت، قبل شهر، الموت بكرامة على الموت بنوبة قلبية فوق غطاء مرحاض سيدة بيضاء البشرة. بالإضافة إلى كل ذلك، فإن من سيعود إلى المنزل هو الرجل الذي سيضع حداً لحياتي، وليس السيد جوني.
  وما أقلقني أكثر من أي شيء آخر هو الآنسة سيليا. ففي أثناء درس الطهو، كانت لا تزال ترتجف كثيراً بحيث إنها لم تتمكن من وضع كمية الملح الضرورية في الملعقة.
♦  ♦  ♦
  حل يوم الاثنين من دون أن أتمكن من الكف عن التفكير في حفيد لوفينيا براون، روبرت. كان قد خرج من المستشفى في نهاية الأسبوع السابق، وانتقل للعيش مع لوفينيا لأن والديه متوفّيان. وعندما ذهبت لزيارتهما في الليلة السابقة، مصطحبةً معي كعكة بالكاراميل، وجدت على ذراع روبرت جَبيرة للعظام، وعلى عينيه ضمادات. "آه، يا لوفينيا". هو كل ما كان في استطاعتي قوله عندما رأيته. كان روبرت مستلقياً على الأريكة ومستغرقاً في النوم، وقد تمّ حلق نصف رأسه لإجراء العملية. وبالرغم من كل مشاكلها، سألَت لوفينيا عن كل فرد من عائلتي. وعندما بدأ روبرت بالتحرك، سألتني عما إذا كنت لا أمانع العودة إلى منزلي لأن روبرت يستيقظ في العادة وهو يصرخ. لقد اعتبرَت أن ذلك المشهد قد يزعجني، فشعرتُ بالذُّعر وتذكرتُ أنه ضرير. ولم أتمكن أبداً من الكف عن التفكير في الأمر.
  "سأذهب إلى المتجر بعد قليل". قلت للآنسة سيليا، وسلّمتها لائحة البقالة لتطّلع عليها. كنا نقوم بذلك كل يوم اثنين، فتعطيني ثمن البقالة. وعندما أعود إلى المنزل، أدفع بالإيصال أمام وجهها. كنت أريد منها التحقق من أن كل بنس أنفقه مطابق مع الورقة. فتهزّ الآنسة سيليا كتفَيها، ولكنني كنت أُبقي تلك البطاقات في مكان آمن في الدُّرج تحسّباً لأي مساءلة لاحقة.
ميني تطهو:
1 - لحم مقدَّد بالأناناس
2 - فاصولياء منقطة
3 - بطاطا حلوة
4 - فطيرة تفاح
5 - كعكات طرية.
الآنسة سيليا تطهو:
قرنيات بالزبدة
  "لكنني أعددتُ القرنيات بالزبدة الأسبوع الماضي".
  "تعلّمي إعداد تلك الأطباق، فيسهل عليك كل شيء".
  "أعتقد أنني أُحرز تقدّماً على كل حال". قالت. "في استطاعتي الجلوس من دون تململ عندما أقوم بتفتيت حبات الذرة".
  لقد مرت ثلاثة أشهر تقريباً، ولم تتعلّم بعد غلي القهوة. فأخرجتُ عجين الفطيرة، وأردت إعدادها قبل الذهاب إلى المتجر.
  "هل يمكننا إعداد فطيرة بالشوكولا هذه المرة؟ أحب الفطيرة بالشوكولا".
  فصررتُ أسناني. "لا أعرف كيفية طهو الفطيرة بالشوكولا". قلت. لقد كذبتُ. لن أقوم بطهوها أبداً بعد ما حدث مع الآنسة هيلي.
  "لا تعرفين؟ يا الله، ظننت أن في استطاعتك طهو كل شيء. ربما وجب علينا الحصول على وصفة".
  "أي نوع آخر من الفطائر تفكرين فيه؟".
  "حسناً، ما رأيك بفطيرة الدراق التي أعددتِها في المرة السابقة؟". قالت، وسكبت كوب حليب. "لقد كانت ممتازة".
  "كان هناك دراق من المكسيك. لم يحلّ موسم الدراق هنا بعد".
  "ولكنني رأيت إعلاناً عنه في الصفحة".
  فتنهّدتُ. ما من أمور يسيرة معها، ولكنها غضّت الطَّرف عن الشوكولا على الأقل. "هناك أمر واحد عليك معرفته. كل شيء يكون أفضل في موسمه. أنت لا تطهين اليقطين في الصيف، ولا تطهين الدراق في الخريف، لأنك لا تجدينهما معروضين للبيع على جانب الطريق. لنُعِدّ لأنفسنا فطيرة لذيذة بجوز البَقّان بدلاً من ذلك".
  "لقد أحب جوني حلوياتك المصنوعة من مكسَّرات محمَّرة بالسكّر. هو يعتقد أنني الفتاة الأكثر ذكاء التي التقاها يوماً عندما قدّمتها إليه".
  وعدتُ إلى عجيني كيلا تتمكن من رؤية وجهي، ولكنها أثارت غضبي مرتين في غضون دقيقة واحدة. "هل هناك شيء آخر تريدين من السيد جوني أن يظن أنك أعددتِه؟". فإلى جانب خشيتي من سرعة خاطري، سئمت وتعبت من إعداد الطعام لغير أطفالي. فالطهو هو الأمر الوحيد الذي أفخر به.
  "لا، هذا كل شيء". وابتسمت الآنسة سيليا من دون أن تلاحظ أنني مددتُ الفطيرة بشدة مما أحدث خمسة ثقوب فيها. كان لا يزال هناك أربعة وعشرون يوماً لانتهاء هذه المهزلة، ودعوت كيلا يعود السيد جوني إلى المنزل قبل إنهاء الطعام.
  كنت أسمع الآنسة سيليا تتحدث عبر الهاتف في غرفتها إلى سيدات المجتمع كل يوم تقريباً. كان يوم الحفلة الخيرية قد مر منذ ثلاثة أسابيع، وها هي تحاول المشاركة به مجدداً في العام التالي. ولكنها لم تذهب مع السيد جوني إلى الحفلة، ولم يبلغني الكثير عما جرى خلالها.
  لم أُعدّ ليوم الحفلة الخيرية في ذلك العام، وذلك للمرة الأولى منذ عقد. فالمال وفير، بالإضافة إلى أنني لم أكن أريد الالتقاء بالآنسة هيلي.
  "هل يمكنك أن تقولي لها إن سيليا فوت اتصلت مجدداً؟ لقد تركت لها رسالة منذ أيام قليلة...".
  كانت الآنسة سيليا تتحدث عبر الهاتف بصوت مبتهج كما لو أنها تحاول تسويق شيء ما على التلفاز. وكلما سمعت صوتها شعرت بالرغبة في انتزاع الهاتف من يدها، والطلب منها الكف عن تضييع وقتها لأنها تبدو كامرأة فاجرة. وهناك سبب أكثر أهمية لعدم وجود صديقات للآنسة سيليا، وقد عرفتُ ذلك عندما رأيت صورة السيد جوني تلك. لقد أعددتُ وجبات غداء لنادي البريدج بما يكفي لتكوين فكرة عن المرأة بيضاء البشرة في هذه المدينة. لقد تخلى السيد جوني عن الآنسة هيلي في الكلية، وتقرّب من الآنسة سيليا، ولم تتعافَ الآنسة هيلي أبداً من تلك المحنة.
  دخلتُ دار العبادة ليل يوم الأربعاء. كانت ممتلئة جزئياً لأنها كانت السابعة إلا ربعاً ولا يبدأ الكورس بالإنشاد قبل الساعة السابعة والنصف. ولكن آيبيلين طلبت مني القدوم باكراً. كان يغمرني الفضول حول ما ستقوله لي، كما أن ليروي كان في مزاج جيد ويلاعب الأطفال. لذلك، قلت لنفسي، إذا كان يريدهم، يمكنه الحصول عليهم.
  رأيت آيبيلين جالسة على الجانب الأيسر من مقعدنا المعتاد، وهو المقعد الرابع من الأمام بجانب المروحة والنافذة. نحن عضوتان رئيستان ونستحق مكاناً استثنائياً. كان شعرها مسرَّحاً إلى الوراء، وتُرخي خُصل شعر حول عُنُقها، وترتدي فستاناً أزرق ذات أزرار بيضاء كبيرة لم يسبق لي أن رأيته من قبل. فآيبيلين تملك ملابس سيدة بيضاء البشرة، لأن السيدات بيضاوات البشرة يُحببن إعطاءها أغراضهنّ القديمة. وكالعادة، بدت جديرة بالاحترام، ولكنها تُخبر أحياناً دُعابات بذيئة ومرِحة بالرغم من جديتها.
  عبرتُ الممشى بين صفَّي المقاعد، ورأيت آيبيلين مقطَّبة الوجه، محدّقة، ومغضَّنة الجبين. وتمكنتُ للحظات من رؤية فارق السن بيننا البالغ خمسة عشر عاماً، ولكنها ابتسمت بعد ذلك وعاد وجهها فتيّاً وسميناً مرة أخرى.
  "يا الله". قلت بعد أن جلستُ.
  "أعلم. يجب على أحدهم أن يخبرها". وهوّت آيبيلين وجهها بالمنديل. كان دور كيكي براون بالتنظيف في صباح ذلك اليوم، ودار العبادة عابقة برائحة الليمون الذكية التي أعدّتها وتحاول بيع الزجاجة الواحدة بخمسة وعشرين سنتاً. لقد حصلنا على عقد عمل لتنظيف دار العبادة لأن أجرنا أقل من أجر الرجال، ولم يحصل أي رجل على هذا العقد وفقاً لمعلوماتي.
  إلى جانب الرائحة، بدت دار العبادة في أحسن حال. لقد لمعت كيكي المقاعد بطريقة تمكّنكم من تنظيف أسنانكم من خلال النظر إليها. ونُصبت شجرة الميلاد، ومُلئت بزينة مبهرَجة، ووُضعت على رأسها نجمة برّاقة. كانت هناك ثلاث نوافذ مرسوم عليها، وكان زجاج النوافذ السبع الأخرى خالياً من أي رسوم، كنا لا نزال نجمع المال لملئها بالرسوم.
  "هل خفّت حدة الرَّبو لدى بيني؟". سألَت آيبيلين.
  "تعرّض لنوبة خفيفة أمس. لقد تخلى عنه ليروي ولازمه أشقاؤه وشقيقاته لبعض الوقت. لنأمل ألا يودي تناول الليمون بحياته".
  "ليروي". وهزت آيبيلين رأسها وضحكت. "أخبريه أنني أطلب منه أن يُحسن التصرف، وإلا وضعته على لائحة أدعيتي".
  "ليتك تدعين لأجله. آه، يا الله، أُحجب الطعام عنه".
  توجهت برترينا بيسيمر المتعجرفة إلينا، متهادية. وانحنت فوق المقعد أمامنا، مبتسمة، وعلى رأسها قبّعة عصفور أزرق كبيرة وبالية. هي التي نعتت آيبيلين بالخرقاء كل تلك السنوات.
  "يا ميني". قالت برترينا: "أنا سعيدة لحصولك على عمل جديد".
  "شكراً لك، يا برترينا".
  "ويا آيببيلين، أشكرك لأنك وضعتني على لائحة أدعيتك. أنا أفضل حالاً الآن بعد الذبحة الصدرية التي ألمّت بي. سأتصل بك في نهاية هذا الأسبوع ونتبادل أطراف الحديث".
  فابتسمت آيبيلين، وأومأت برأسها. ووقفت برترينا، وتوجهت إلى مقعد آخر، متهادية.
  قلت: "يجب عليك اختيار من تدعين لأجلهم بحِرص أكبر".
  "لم أعُد غاضبة منها البتة". قالت آيبيلين. "وانظري هناك، لقد فقدَت بعض الوزن".
  قلت: "تخبر الجميع أنها فقدت أربعين رطلاً".
  "ليرحمها الله".
  "لقد ازداد وزنها مئتي رطل".
  حاولت آيبيلين عدم الابتسام، وتصرّفَت كما لو أنها تُبعد عنها رائحة الليمون.
  "إذاً، لأي سبب أردتني أن آتي باكراً؟". سألتُ. "هل اشتقتِ إليّ، أم أن هناك أمراً آخر؟".
  "لا، ليس بالأمر الهام. فقط هو أمر قاله أحدهم".
  "ما هو؟".
  فأخذت آيبيلين نفساً، ونظرت حولها للتحقق من أن أحداً لا يستمع إلينا. كنا كأفراد من العائلة المالكة يرمقنا الجميع بنظراتهم.
  سألَت: "تعرفين الآنسة سكيتر تلك؟".
  "قلت لك في ذلك اليوم إنني أعرفها".
  فقالت بصوت هادئ: "حسناً، هل تتذكرين كيف زلّ لساني وأخبرتها أن تريلور كتب أموراً تتعلق بذوي البشرة الملونة؟".
  "أتذكّر. هل تريد مقاضاتك بسبب ذلك؟".
  "لا، لا. إنها لطيفة. ولكنها تجرّأت على الطلب مني، ومن بعض صديقاتي الخادمات، أن نزوّدها بمعلومات حول عملنا لدى ذوي البشرة البيضاء. تقول إنها تضع كتاباً".
  "ماذا تقولين؟".
  أومأت آيبيلين برأسها، ورفعَت حاجبيها. "أمم - همم".
  قلت: "حسناً، قولي لها إن الأمر أشبه بنزهة حقيقية في الرابع من تموز/يوليو. فما نحلم به طوال نهاية الأسبوع هو العودة إلى منازلهم لتلميع أوانيهم الفضية".
  "لقد قلت لها إن كل شيء مدوَّن في كتب التاريخ القديمة. فذوو البشرة البيضاء يعبّرون عن آراء ذوي البشرة الملونة منذ بداية الزمن".
  "هذا صحيح. قولي لها ذلك".
  "لقد فعلتُ، وقلت لها إنها مغفّلة". قالت آيبيلين. "لقد سألتُها، ماذا لو قلنا الحقيقة؟ كيف أننا شديدو الخوف من طلب الحصول على الحد الأدنى للأجور، وكيف أن أحداً لا يستفيد من الضمان الاجتماعي، وكيف تكون عليه الحال عندما يدعوك صاحب عملك...". وهزت آيبيلين رأسها. كنت سعيدة لأنها لم تقل ذلك.
  "كيف نحب أطفالهم عندما يكونون صغاراً...". قالت، ورأيت شفة آيبيلين ترتجف قليلاً. "ويغدون كذويهم في نهاية المطاف".
  نظرتُ إلى الأسفل، ورأيت آيبيلين تمسك حقيبة يدها بإحكام كما لو أنها الشيء الوحيد المتبقي لها في هذا العالم. فآيبيلين تغادر عملها لتتسلّم عملاً آخر، عندما يكبر الأطفال الذين تُشرف على تربيتهم، ويتوقفون عن عدم الاكتراث للون البشرة.
  "حتى ولو بدّلَت كل أسماء العاملات المنزليات، والسيدات بيضاوات البشرة". قالت، ناخرةً أنفها.
  "تكون مجنونة إن هي فكرت في أننا قد نقوم بعمل خطر كهذا، ولأجلها".
  "لا نريد إحداث كل تلك الفوضى". ومسحت آيبيلين أنفها بالمنديل. "إطلاع الناس على الحقيقة".
  قلت: "لا، لا نريد ذلك". وتوقفتُ. هناك أمر ما مرتبط بتلك الكلمة الحقيقة. كنت أحاول منذ الرابعة عشرة من عمري، إخبار النساء بيضاوات البشرة بحقيقة واقع العمل لديهنّ.
  قالت آيبيلين: "لا نريد تغيير أي شيء هنا". والتزمنا الهدوء، مفكرتين في كل الأمور التي لا نريد تغييرها. ولكن آيبيلين نظرت إليّ، مضيّقةً عينيها، وسألت، "ألا تظنين أنها فكرة مجنونة؟".
  "بلى، ولكنني...". عندها، أدركتُ الأمر. نحن صديقتان منذ ستة عشر عاماً، عندما انتقلتُ من غرينوود إلى جاكسون، والتقينا في موقف الحافلات. استطعت قراءة آيبيلين كصحيفة الأحد. "تفكرين في الأمر، أليس كذلك". قلت: "تريدين مكالمة الآنسة سكيتر".
  فهزت كتفيها، وعلمتُ أنني مُحِقة. ولكن، قبل أن تتمكن آيبيلين من الاعتراف بذلك، دنا المبجّل جونسون، وجلس على المقعد وراءنا، وانحنى بين كتفينا. "يا ميني، آسف لأنه لم تسنح لي الفرصة لتهنئتك بعملك الجديد".
  فملّستُ فستاني. "شكراً لك".
  "لا بد من أنك موجودة على لائحة أدعية آيبيلين". قال، مربّتاً على كتف آيبيلين.
  "بالتأكيد. قلت لآيبيلين إنها تحتاج إلى الشروع بزيادة الدعاء في هذه الحال".
  وضحك المبجّل، ونهض ومشى ببطء نحو المنبر. وساد الصمت. لم أصدّق أن آيبيلين تريد إخبار الآنسة سكيتر بالحقيقة.
  الحقيقة.
  هي تُشعرنا بالبرودة كالماء المنسكب على جسدي الساخن والدَّبِق، وتُضفي البرودة على سخونةٍ لطالما أحرقتني طوال حياتي.
  الحقيقة، قلت لنفسي مجدداً لأتحسس ذلك الشعور فحسب.
  ورفع المبجّل جونسون يديه وتكلّم بصوت هادئ وخفيض. وبدأ الكورس وراءه يدندن، فوقفنا كلنا. وبدأتُ بالتعرّق بعد نصف دقيقة.
  "هل تظنين أن الأمر يهمّك؟ أن تتحدثي إلى الآنسة سكيتر؟". همست آيبيلين.
  نظرتُ إلى الخلف، ورأيت ليروي والأطفال الذين وصلوا متأخرين كالعادة. "من، أنا؟". قلت، وعلا صوتي إزاء الموسيقى الناعمة. فأخفّضته ولكن ليس كثيراً.
  "لن أقوم بعمل مجنون مماثل؟".
♦  ♦  ♦
  حلّت موجة حرارة في كانون الأول/ديسمبر لا لشيء إلا لإثارتي. ففي ظل أربعين درجة، كنت أتعرّق كشاي مثلّج في شهر آب/أغسطس. ونهضتُ في صباح ذلك اليوم، وكان الميزان يشير إلى ثمانٍ وثلاثين درجة. لقد أمضيت نصف حياتي محاوِلةً عدم التعرّق كثيراً؛ كاستخدام كريم داينتي لايدي لامتصاص العرَق، وضع بطاطا مثلَّجة في جيوبي، صُرّة ثلج مربوطة برأسي (لقد لجأت إلى طبيب في الواقع، ودفعتُ التعرفة لقاء تلك النصيحة المجنونة)، ولكن ضِمادات التعرّق كانت لا تزال تمتص العرَق في غضون خمس دقائق، فأحمل معي مروحتي أينما ذهبتُ لأنها مفيدة ومجانية.
  لقد تكيّفت الآنسة سيليا مع أسبوع الطقس الحارّ، وخرجت في الواقع للجلوس بجانب بركة السباحة، واضعةً نظارتها الشمسية البيضاء غير الأنيقة، ومرتديةً بُرنُس حمّام متجعّد. الشكر لله لأنها خرجت من المنزل. لقد ظننت في بادئ الأمر أنها قد تكون مريضة بالجسد، ولكنني بدأت أتساءل عما إذا كانت مريضة بالعقل. لا أعني بذلك التكلّم مع أنفسكم على غرار السيدات المماثلات للآنسة والترز بسبب أمراض الشيخوخة، بل الجنون الذي يودي بكم إلى ويتفيلد بسترة تكتيف.
  كنت أصعد درجها الزَّلِق كل يوم تقريباً باتجاه غرف النوم الفارغة، فأسمع وقع خُطاها المتسلّلة في الرَّدهة في الطابق السفلي، مُحدثةً ذلك الحفيف على الأرض. لم أكن أعلّق أي أهمية على الأمر، إنه منزلها. ولكن، ذات يوم، كرّرتِ الأمر أكثر من مرة، وكانت تنتظر قيامي بتشغيل الهوفر أو الانشغال بإعداد الكعكة للتسلل من جديد، مما حملني على الارتياب. كانت تمضي نحو سبع أو ثماني دقائق في الطابق العلوي، وتُدير رأسها الصغير في مختلف الاتجاهات للتأكد من أنني لا أراها تنزل السلّم.
  قال ليروي: "لا تتدخلي في شؤونها، تأكدي فقط من أن تخبر زوجها أنك تقومين بتنظيف المنزل". لقد أمضى ليروي الليلتين السابقتين في مشرب كروو الواقع وراء منشأة الطاقة، يحتسي الشراب بعد انتهاء نوبة عمله. لم يكن غبيّاً، كان يعرف أن ذلك الشيك لن يظهر مجدداً إذا متّ.
  بعد أن قامت بجولتها في الطابق العلوي، دخلت الآنسة سيليا المطبخ وجلست إلى الطاولة بدلاً من العودة إلى سريرها. كم تمنّيت أن تخرج من تلك الغرفة. كنت أسلخ لحم الدجاج عن العظام، وأغلي المَرَق، وأقطّع كرات العجين. لم أكن أريد أن تقوم بمساعدتي على إعداد هذه الوجبة.
  "يتبقى ثلاثون يوماً فقط لتخبري السيد جوني عني". قلت، وكنت أحب تصديق أنها ستقوم بذلك. نهضت الآنسة سيليا من أمام طاولة المطبخ، وتوجهت إلى غرفة نومها. ولكن، قبل أن تخرج من الباب، قالت متمتِمة: "هل عليك أن تذكّريني بهذا الواقع في كل يوم من حياتي؟".
  فوقفتُ بشكل مستقيم. كانت المرة الأولى التي تُبدي فيها الآنسة سيليا اعتراضها على ما أقول. "أمم - همم". قلت لها من دون رفع نظري لأنني سأستمر في تذكيرها حتى يقوم السيد جوني بمصافحتي ويقول سررتُ بلقائك، يا ميني.
  لكنني رفعتُ نظري، ورأيت الآنسة سيليا واقفة هناك وهي تمسك إطار الباب. لقد غدا وجهها أبيض كطلاء جدار بخس الثمن.
  "تلهين بالدجاج البارد مجدداً؟".
  "لا، أنا... متعَبة فقط".
  لكن ثقوب التعرّق على تبرّجها الذي أصبح رمادياً أخبرني أنها ليست بخير. فساعدتها على الوصول إلى السرير، وأحضرت لها زجاجة لايدي - أيه - بينكام. كانت هناك على اللُّصاقة الزهرية صورة سيدة تبتسم كما لو أنها تشعر بحال أفضل، وعلى رأسها عِمامة. فسلّمتُ الآنسة سيليا الملعقة لتسكب فيها مقدار ما تريد تناوله، ولكن تلك المرأة شربته من الزجاجة مباشرةً.
  بعد ذلك، غسلتُ يديّ، وأملتُ في ألا أصاب بالعدوى، أياً يكن مرضها.
  كان اليومُ التالي لغدوّ وجه الآنسة سيليا مُضحكاً، يومَ تبديل الملاءات المزعجة، وهو اليوم الذي أكرهه أكثر من أي يوم آخر. فالملاءات هي غرض شخصي جداً بالنسبة إلى أولئك الذين يتوقون بشدة إلى القيام بكل شيء عليها. فهي مليئة بالشعر، والقِشرة، والمُخاط، وآثار الفطائر الهلامية. ولكن بُقَع الدم هي أسوأ ما في الأمر، وكنت أفركها بيديّ العاريتين لإزالتها، وأتقيّأ بعد ذلك فوق المغسلة. وينطبق الأمر على كل ما يشبه الدم، إذ كانت بقعة فراولة تبقيني منحنية فوق المرحاض بقيّة اليوم.
  كانت الآنسة سيليا تعرف ما أقوم به أيام الثلاثاء، فتنهض عن السرير في العادة لأتمكن من القيام بعملي. ووصلت كتلة هواء بارد في صباح ذلك اليوم حالت دون خروجها للجلوس بجانب بركة السباحة، وقالوا إن حال الطقس ستزداد سوءاً. وحلّت الساعة التاسعة، والعاشرة، والحادية عشرة، وبقي باب غرفة النوم مقفَلاً. فقرعتُ أخيراً.
  "أجل؟". قالت. وفتحتُ الباب.
  "صباح الخير، يا آنسة سيليا".
  "مرحباً، يا ميني".
  "إنه يوم الثلاثاء".
  لم تكن الآنسة سيليا على سريرها فحسب، بل ملتفّة على نفسها بقميص النوم، وفوق الأغطية، من دون وجود أي أثر لمساحيق التبرّج عليها.
  "عليّ غسل الملاءات وكيّها. بعد ذلك، نطهو...".
  "لا درس في الطهو اليوم، يا ميني". لم تكن تبتسم أيضاً كما تفعل عادةً عندما تراني.
  "لستِ بخير؟".
  "أحضري لي بعض الماء، من فضلك".
  "أجل، يا سيدتي". ودخلتُ المطبخ وملأتُ كوباً من المغسلة. لا بد من أنها تشعر بالسوء لأنه لم يسبق لها أن طلبت مني تقديم أي شيء إليها من قبل.
  وعندما عدت إلى غرفة النوم، لم تكن الآنسة سيليا على السرير، وكان باب الحمّام مقفلاً. لماذا طلبت مني إذاً إحضار كوب ماء إذا كانت تريد النهوض ودخول الحمّام؟ إنها لا تقف في طريقي على الأقل. والتقطتُ بنطال السيد جوني عن الأرض، ووضعتُه على كتفي. هذه المرأة لا تبارح المنزل أبداً. آه، لا، يا ميني، لا تفكري في هذه الطريقة. فإذا كانت مريضة، فهي مريضة.
  "هل أنت مريضة؟". صرختُ خارج باب الحمّام.
  "أنا... بخير".
  "في أثناء وجودك في الداخل، سأبدّل هذه الملاءات".
  "لا، أريدك أن تذهبي". قالت عبر الباب. "اذهبي إلى منزلك اليوم، يا ميني".
  فوقفتُ هناك، وضربتُ سجادتها الصفراء بقدمي. لم أكن أريد الذهاب إلى المنزل. إنه الثلاثاء، يوم تبديل الملاءات المزعجة. وإذا لم أقم بتبديلها في ذلك اليوم، يصبح الأربعاء يوم تبديل الملاءات أيضاً.
  "ماذا سيفعل السيد جوني إذا عاد إلى المنزل، ووجد المنزل في حال من الفوضى؟".
  "سيبقى في معسكر الأيائل هذه الليلة. يا ميني، أحضري لي الهاتف من فضلك...". وغدا صوتها أشبه بنواح مرتجف. "اسحبيه إلى هنا، وأحضري دليل الهاتف الموجود في المطبخ".
  "أنت مريضة، يا آنسة سيليا؟".
  لكنها لم تُجِب. لذلك، ذهبتُ وأحضرتُ الدليل والهاتف إلى أمام باب الحمّام وقرعته.
  "دعيهما هناك فحسب". وبدا لي أن الآنسة سيليا تبكي. "أريد منك أن تذهبي إلى منزلك الآن".
  "ولكن...".
  "قلت اذهبي إلى منزلك، يا ميني!".
  فابتعدتُ عن ذلك الباب المُقفَل خطوةً إلى الوراء. وعبق وجهي بالحرارة وشعرت بلسعات عليه، لا لأن أحداً لم يصرخ في وجهي من قبل، بل لأنه لم يسبق للآنسة سيليا أن صرخت في وجهي.
  في صباح اليوم التالي، كان وودي أزاب على القناة الثانية عشرة يحرّك يديه البيضاوَين الحرشفيّتين فوق خارطة الولاية. فجاكسون، ميسيسيبي، مكسوّة بالجليد. لقد أمطرت أولاً، ومن ثم ظهر الثلج الذي غطى الأرض بسماكة نصف إنش، فانكسرت أغصان الشجر، وانقطعت أسلاك الكهرباء، وانهارت سقوف الرُّواقات الخارجية. كان الخارج مغموراً بصفحة صافية وبرّاقة من الورنيش إن صح التعبير.
  وعندما سمع أطفالي أن الطرقات متجمّدة والمدرسة مقفَلة، بدأوا يقفزون في أرجاء المنزل ويهتفون ويصفّرون، وركضوا إلى الخارج ليشاهدوا الثلج ببيجاماتهم.
  "عودوا إلى المنزل وانتعلوا أحذيتكم!". صرختُ عبر الباب، ولكن أحداً منهم لم يمتثل. فاتصلت بالآنسة سيليا لأقول لها إنني لا أستطيع القيادة على الثلج، ولأتحقق مما إذا كانت لديها كهرباء. فبعد أن صاحت في وجهي يوم أمس كما لو أنني زنجية في الطريق، لا بد من أنكم تعتقدون أنني لم أعد مهتمّة لها على الإطلاق.
  وعندما اتصلتُ، سمعتُ، "ألو".
  فخفق قلبي بقوة.
  "من المتكلم؟ من يتصل؟".
  أنهيت المكالمة الهاتفية بحرص شديد. لم يكن السيد جوني في عمله أيضاً في ذلك اليوم، ولم أدرِ كيف تمكّن من بلوغ منزله وسط العاصفة. فكل ما كنت أعرفه هو أنني لم أستطع الكف عن الخوف من ذلك الرجل حتى في يوم العطلة. ولكن، كل شيء كان سينتهي بعد أحد عشر يوماً.
  لقد ذاب الثلج في معظم أنحاء المدينة في يوم واحد. ولم تكن الآنسة سيليا على السرير عندما دخلتُ. كانت جالسة إلى طاولة المطبخ البيضاء تحدّق إلى خارج النافذة، وعلى وجهها نظرة حزينة كما لو أن حياتها باتت جحيماً لا يُطاق، وتنظر إلى شجرة الميموزا الرازحة تحت عبء الثلج. لقد تحطمت نصف أغصانها، وغدت أوراقها الطويلة والنحيفة بنّية اللون ومُشبَعة بالماء.
  قالت، من دون أن تنظر إليّ: "صباح الخير، يا ميني".
  فأومأتُ برأسي. لم يكن لديّ ما أقوله لها، ولا سيما بعد طريقة معاملتها لي قبل يومين.
  قالت الآنسة سيليا: "يمكننا أخيراً وضع حد لذلك الأمر القبيح".
  "تفضلي. ضعي حدّاً لكل شيء". ضعي حدّاً لعملي من دون أي سبب.
  فنهضت الآنسة سيليا، ودنت من حوض الغسيل حيث أقف، وأمسكت ذراعي بإحكام. "آسفة لأنني صحت في وجهك". وترقرقت عيناها بالدموع عندما قالت ذلك.
  "أمم - همم".
  "كنت مريضة وأعلم أن لا عُذر لديّ للقيام بذلك، ولكنني كنت أشعر أنني معتلّة الصحة حقاً، و...". وشهقَت بالبكاء بعد ذلك كما لو أن الصراخ في وجه خادمتها هو أسوأ أمر قامت به في حياتها.
  قلت: "حسناً، لا شيء يستدعي ذلك".
  عانقتني بعد ذلك بقوة لدرجة أنني ربّتّ على ظهرها، وأبعدتُ يديها عن عنُقي. قلت: "هيا، اجلسي، سأُعدّ لك بعض القهوة".
  أعتقد أن الغضب يعترينا كلنا عندما نشعر أننا لسنا بخير.
  في يوم الاثنين التالي، غدت أوراق شجرة الميموزا تلك سوداء كما لو أنها محترقة. فدخلتُ المطبخ لأخبرها بعدد الأيام المتبقية، ولكن الآنسة سيليا كانت تحدّق إلى الشجرة، وفي عينيها بُغض لها على غرار بغضها لجهاز الطهو. كانت شاحبة اللون، ولم تأكل أي شيء وضعتُه أمامها.
  وأمضت يومها كله تزيّن شجرة الميلاد البالغ ارتفاعها عشر أقدام في الرّدهة، بدلاً على من الاستلقاء على السرير، جاعلةً حياتي جحيماً مع كل تلك الأوراق إبرية الشكل المتناثرة في أرجاء الغرفة. وخرجَت من ثم إلى الفناء الخلفي، وبدأت بتقليم شجيرات الورد وقلب التربة حول بصلات الخُزامى. لم يسبق لي أبداً أن رأيتها تتحرك بهذا القَدر. ودخلَت بعد ذلك للحصول على درس في الطهو، والتراب تحت أظافرها، ولم تكن تبتسم.
  قلت: "ستة أيام أخرى قبل أن نخبر السيد جوني".
  فلم تقل شيئاً للحظة، وانخفض صوتها بعد ذلك كما لو أنها تتكلم داخل قدر للطهو. "هل أنت واثقة من أنه يتعيّن عليّ القيام بذلك؟ كنت أفكر في الانتظار قليلاً ربما".
  تسمّرتُ في مكاني، ومَخيض الحليب يسيل من يدَيّ. "اسأليني مجدداً عن مدى رغبتي في ذلك".
  "حسناً، حسناً". وخرجَت مجدداً، لمزاولة هوايتها الجديدة والمفضَّلة المتمثلة بالتحديق إلى شجرة الميموزا تلك، حاملةً الفأس بيدها. ولكنها لم تُزِل أي قطعة من الشجرة.
  كل ما كان في استطاعتي التفكير فيه ليلة الأربعاء، هو تبقّي ست وتسعين ساعة. كنت أشعر بقرصة في معدتي كلما فكرت في أنني قد أجد نفسي بلا عمل بعد الميلاد، وأنه ستكون هناك أمور تقلقني أكثر من قلقي حيال التعرض لطلق ناري وإردائي قتيلة. كان من المفترض بالآنسة سيليا أن تخبره في ليلة الميلاد، بعد مغادرتي، وقبل توجههما إلى منزل والدة السيد جوني. ولكن الآنسة سيليا كانت تتصرف على نحو غريب جداً لدرجة أنني تساءلت عما إذا كانت تحاول إقناعي بإرجاء إخبار زوجها. لا يا سيدتي، قلت لنفسي طوال اليوم.
  لكن، عندما دخلتُ منزلها في صباح يوم الخميس، لم تكن الآنسة سيليا موجودة، ولم أصدّق أنها غادرت المنزل. فجلستُ إلى الطاولة، وسكبتُ لنفسي كوب قهوة.
  نظرتُ إلى الفناء الخلفي. كان الطقس مُشمساً ومُشرقاً. فشجرة الميموزا السوداء تلك قبيحة بلا شك، وتساءلتُ عن سبب عدم قيام السيد جوني بقطعها.
  انحنيتُ أكثر باتجاه عتبة النافذة. "انظري إلى تلك الأشياء". كانت هناك بعض سُعف النخيل الخضراء التي استعادت تألّقها تحت أشعة الشمس.
  "تبدو تلك الشجرة كأبوسوم أميركي".
  أخرجتُ إضمامة ورق من محفظة يدي حيث أحتفظ بلائحة الحاجيات التي يتعيّن شراؤها للآنسة سيليا ولي أيضاً، كالبقالة، وهدايا الميلاد، وأغراض لأطفالي. كانت وطأة الرَّبو قد خفّت قليلاً على بِيني، ولكن ليروي عاد إلى المنزل في الليلة السابقة تفوح منه مجدداً رائحة شراب. لقد دفعني بقوة، وصدمتُ فخذي بطاولة المطبخ. فقررت أن أُعدّ له شطيرة بُرجُمة للعشاء إذا عاد في ليلة ذلك اليوم على هذه الحال.
  اثنان وسبعون ساعة إضافية وأتحرر من هذا القَيد. قد أُطرد ربما، وقد أخرّ ميتة بعد أن يكتشف السيد جوني الأمر، ولكنني أبقى حرة.
  حاولت التركيز على بقيّة أيام الأسبوع، إعداد الوجبات الكبيرة في اليوم التالي، وإعداد العشاء لدار العبادة مساء السبت، وتنظيفها يوم الأحد. ولكن، متى أنظف منزلي؟ وأغسل ملابس أطفالي؟ فابنتي البكر، شوغر، في السادسة عشرة من عمرها وتجيد ترتيب المنزل، ولكنني أحب أن أساعدها في نهايات الأسبوع لأن والدتي لم تكن تساعدني أبداً على القيام بذلك. وهناك آيبيلين، لقد اتصلت بي مجدداً في الليلة السابقة، وسألتني عما إذا كنت سأساعدها والآنسة سكيتر على تأليف الكتاب. أحب آيبيلين، أنا أحبها حقاً، ولكنني كنت أعتقد أنها ترتكب خطأ فادحاً لأنها وثقت بسيدة بيضاء البشرة. فأخبرتها أنها تجازف بعملها وسلامتها، ناهيكم عن سبب قيامها بمساعدة إحدى صديقات الآنسة هيلي.
  يا الله، من الأفضل لي الاحتفاظ بعملي.
  أضفت الأناناس إلى اللحم المقدَّد، وأدخلته إلى جهاز الطبخ. بعد ذلك، رفعت الغبار عن الرفوف في غرفة الصيد، ونظّفت بالمكنسة الكهربائية الدب الذي كان يحدّق إليّ كما لو أنني وجبة طعام سريعة. "أنت وأنا فقط اليوم". قلت له. ولم يقل شيئاً كالعادة. والتقطتُ خِرقة وصابونة، وصعدت السلّم، ولمّعت كل أعمدة الدرابزين. وعندما وصلت إلى الأعلى، توجهت إلى غرفة النوم رقم واحد.
  لقد نظفت الطابق العلوي خلال ساعة من الزمن تقريباً. فالطقس بارد هناك بسبب عدم وجود أي أجساد لتدفئة المكان. كنت أمدّ يدي إلى الأمام والوراء على كل ما هو خشبي. وبين الغرفتين الثانية والثالثة، نزلت إلى الطابق السفلي لتنظيف غرفة نوم الآنسة سيليا قبل عودتها.
  لقد انتابني ذلك الشعور الغامض بالخوف كوني في منزل فارغ. أين ذهبَت؟ فبعد كل تلك المدة التي أمضيتها بالعمل هناك، لم تغادر المنزل إلا ثلاث مرات، وكانت في كل مرة تطلعني على موعد مغادرتها، والمكان الذي تقصده، وسبب مغادرتها، كما لو أنني أهتم بذلك. ولكنها ذهبت كالريح هذه المرة، وكان يجب أن أكون سعيدة لأن تلك المغفّلة غير موجودة. ولكنني شعرت أنني دخيلة بسبب وجودي هناك بمفردي. فنظرت إلى البطانية الصوفية الصغيرة زهرية اللون التي تغطي بقعة الدم أمام باب الحمّام، وقررت القيام بمحاولة أخرى في ذلك اليوم لإزالتها. ولفح هواء بارد في الغرفة، كما لو أن شبحاً يمرّ فيها، فارتجفتُ.
  فكّرت في عدم العمل على بقعة الدم تلك في ذلك اليوم.
  على السرير، كانت الأغطية مرميّة جانباً كالعادة، والملاءات ملتوية وموضوعة بالاتجاه غير الصحيح. كان يبدو الأمر على الدوام كما لو أن مباراة في المصارعة قد جرت هناك. وكففتُ عن التساءل. أنتم تبدأون بالتساؤل عن الأشخاص الذين ينامون على السرير، وتجدون أنفسكم تتدخلون في شؤونهم الخاصة تلقائياً.
  فجرّدتُ إحدى الوسادات من غطائها. كانت مَسكَرة الآنسة سيليا قد تركت آثارها في كل مكان من الغطاء على صورة فراشات فحم خشبي. ووضعتُ الملابس المرميّة على الأرض داخل غطاء الوسادة ليسهل حملها. والتقطت بنطال السيد جوني المطويّ عن المتكأ الأصفر.
  "الآن، كيف يُفترض بي أن أعرف أن هذا البنطال نظيف أم متسخ؟". فوضعته في الكيس على كل حال لأن شعاري في تدبّر شؤون المنزل هو؛ عندما ترتابون بنظافة شيء ما، اغسلوه.
  وحملتُ الكيس ووضعته على المكتب. لقد شعرت بحريق في الرضّة على فخذي عندما انحنيت لالتقاط جوارب حريرية خاصة بالآنسة سيليا.
  "من أنتِ؟".
  وألقيتُ الكيس.
  مشيتُ إلى الوراء بهدوء حتى اصطدمت مؤخرتي بالمكتب. لقد كان واقفاً هناك عند مدخل الباب ينظر إليّ مضيِّقاً عينيه. ونظرتُ ببطء شديد إلى الفأس المتدلية من يده.
  آه، يا الله. لم يكن في استطاعتي الوصول إلى الحمّام لأن السيد جوني قريب جداً ويمكنه قطع الطريق عليّ. ولم يكن في إمكاني تخطيه للخروج من الباب إلا إذا لكمته، ولكن الرجل يحمل فأساً. وشعرت برأسي ينبض وانتابني ذُعر شديد. كنت في موقف حرِج.
  حدّق السيد جوني إليّ، وهزّ الفأس قليلاً، وأمال رأسه وابتسم.
  فقمتُ بالشيء الوحيد الذي يمكنني القيام به. لقد غضّنت وجهي بأفضل طريقة ممكنة ومددتُ شفتيّ إلى الأمام وصرخت: "من الأفضل لك ولفأسك أن تبتعدا عن طريقي".
  نظر السيد جوني إلى الفأس كما لو أنه نسيها، ورفع نظره إليّ بعد ذلك. فحدّقنا إلى بعضنا بعضاً للحظات. لم أتحرك وهو لم يتنفس.
  اختلس نظرة إلى الكيس الذي سقط على الأرض، ليرى ما الذي أقوم بسرقته. كانت ساق بنطال الكاكي الذي يرتديه ناتئة من الأعلى. "الآن، إصغِ إليّ". قلت، وانهمرت الدموع من عينيّ. "يا سيد جوني، طلبتُ من الآنسة سيليا أن تخبرك عني. لقد طلبت منها ذلك ألف مرة...".
  لكنه استمر في الضحك، وهز رأسه. كان يظن أن قيامه بتقطيعي هو أمر مضحك.
  "إصغِ إليّ فقط، قلت لها...".
  لكنه واصل الضحك في سرّه. "اهدئي، يا فتاة. لن أنال منك". قال. "لقد فاجأتني، هذا كل ما في الأمر".
  كنت ألهث وأمهّد الطريق للفرار إلى الحمّام. كان لا يزال يحمل الفأس بيده ويهزّها قليلاً.
  "ما اسمك، على كل حال؟".
  "ميني". قلت بهمس، وكانت خمس أقدام تفصلني عن باب الحمّام.
  "منذ متى تأتين إلى منزلنا، يا ميني؟".
  "منذ مدة غير طويلة". وهززت رأسي بما معناه لا.
  "منذ متى؟".
  "منذ... أسابيع قليلة". قلت. وعضضت شفتي. ثلاثة أشهر.
  فهزّ رأسه. "أعلم أنك تأتين إلى منزلنا منذ مدة أطول".
  نظرت إلى باب الحمّام. ما الفائدة من الاختباء في حمّام لا يمكن إقفال بابه؟ وعندما يكون في استطاعة الرجل تقطيع الباب إرَباً بفأسه؟
  قال: "أُقسم إنني لست غاضباً".
  قلت: "ماذا عن الفأس؟". وصرفت أسناني.
  فقلّب عينيه، ومن ثم وضع الفأس على السجادة، وركلها جانباً.
  "هيا بنا، لنتحدث في المطبخ".
  واستدار، وابتعد. فنظرت إلى الفأس، متسائلةً عما إذا كان يُفترض بي أخذها. كان مجرد النظر إليها يزرع الخوف في نفسي. فدفعتها تحت السرير وتبعته.
  في المطبخ، اقتربت شيئاً فشيئاً من الباب الخلفي، وتحققت من المقبض كي أتأكد من أنه غير مقفَل.
  قال: "يا ميني، لقد قطعتُ عليك وعداً. من الجيد أنك موجودة هنا".
  وراقبتُ عينيه، محاولةً التحقق من أنه لا يكذب. كان رجلاً طويل القامة، وكان بطنه ناتئاً قليلاً من الأمام، ولكنه قوي البنية. "أعتقد أنك ستطردني".
  "أطردك؟". قال، وضحك. "أنت أفضل طاهية عرفتها يوماً. انظري ما الذي فعلتِه بي". ونظر إلى معدته مقطَّب الجبين، وكانت قد بدأت بالنتوء إلى الخارج. "تبّاً، لم أتناول طعاماً مماثلاً منذ أيام كورا بلو. عمليّاً، هي التي أشرفت على تربيتي".
  فأخذت نفساً عميقاً لأن معرفته بكورا بلو يجعلني في أمان أكبر. "كان أبناؤها وبناتها يذهبون إلى دار العبادة نفسها التي أذهب إليها. أنا أعرفها".
  "أنا أفتقدها حقاً". واستدار، وفتح البراد، وحدّق إلى داخله، وأغلقه.
  سأل السيد جوني: "متى تعود الآنسة سيليا؟ هل تعرفين؟".
  "لا أعرف. أظن أنها قصدت مزيّن الشعر".
  "لقد ظننت لمدة قصيرة من الزمن، عندما كنا نتناول طعامك، أنها تعلمت الطهو حقاً. ولكنها في يوم السبت ذاك، وعندما لم تكوني موجودة، حاولَت إعداد البرغر".
  وانحنى فوق حافة حوض الغسيل وتنهّد. "لماذا لم تكن تريدني أن أعرف بوجودك؟".
  "لا أعلم. لم تخبرني".
  فهز رأسه، ونظر إلى العلامة السوداء في السقف التي تسببت بها الآنسة سيليا عندما أحرقت الديك الرومي. "يا ميني، لا أبالي إذا لم ترفع سيليا إصبعاً لبقية حياتها. ولكنها قالت إنها تريد إعداد أشياء لي بنفسها". ورفع حاجبيه قليلاً. "أعني، هل تدركين المآكل التي كنت أتناولها قبل مجيئك؟".
  "إنها تتعلم. هي... تحاول التعلم، على الأقل". ولكنني قلت ذلك بقليل من الاستياء. هناك أمور لا يمكنكم الكذب في شأنها.
  "لا أبالي إذا لم تكن تُجيد الطهو. أريدها هنا فقط". وهز كتفيه.
  فرك جبينه بكمّ قميصه البيضاء، وتحققت من سبب اتساخ قمصانه على الدوام. كان رجلاً أبيض البشرة ووسيماً نوعاً ما.
  قال: "هي لا تبدو سعيدة، هل أنا السبب؟ هل المنزل هو السبب؟ هل نحن بعيدان جداً عن المدينة؟".
  "لا أعرف، يا سيد جوني".
  "إذاً، ما الذي يحدث؟". وأسند يديه إلى المنضدة خلفه، وأمسكها بإحكام. "قولي لي فحسب. هل هي". وابتلع بصعوبة: "هل تقابل شخصاً آخر؟".
  فحاولت ألا أشعر بالأسى عليه، ولكنني لم أتمكن من ذلك لأنه كان أكثر ارتباكاً مني حيال حال الفوضى هذه.
  "يا سيد جوني، هذا ليس من شأني. ولكن، يمكنني أن أقول لك إن الآنسة سيليا لا تقيم أي علاقة خارج هذا المنزل".
  فأومأ برأسه قائلاً: "أنت مُحِقة. كان سؤالاً غبياً".
  حدّقتُ إلى الباب، متسائلةً عن موعد عودة الآنسة سيليا إلى المنزل. لم أعرف ما الذي قد تفعله إذا وجدت السيد جوني هناك.
  قال: "انظري، لا تقولي أي شيء عن التقائك بي. سأدعها تخبرني بذلك عندما تكون مستعدة".
  وأطلقتُ أول ابتسامة حقيقية. "إذاً، أنت تريد مني أن أستمر في عملي؟".
  "اهتمي لها. لا أريدها أن تبقى بمفردها في هذا المنزل الكبير".
  "أجل يا سيدي. بكل سرور".
  "لقد مررتُ اليوم لأفاجئها. كنت أريد قطع شجرة الميموزا تلك التي تكرهها كثيراً، واصطحابها بعد ذلك إلى المدينة لتناول الغداء معاً، واختيار بعض المجوهرات هديّةً لها بمناسبة الميلاد". وسار السيد جوني نحو النافذة، ونظر إلى الخارج، وتنهّد قائلاً: "أظن أنني سأتناول الغداء في مكان ما في المدينة".
  "سأُعدّ لك شيئاً. ماذا تريد؟".
  فاستدار، وابتسم ابتسامة عريضة كما لو أنه فتى صغير. وبدأت أبحث في البراد وأُخرج بعض الحاجيات.
  "هل تتذكرين قطع اللحم التي تناولناها؟". وبدأ بقضم ظفر إصبعه. "هل تُعدّين لنا بعضاً منها هذا الأسبوع؟".
  "سأُعدّها لكم للعشاء هذا المساء. لدينا بعض منها في الثلاجة. وسأُعدّ لكم الدجاج وكرات العجين المطبوخة لمساء غد".
  "آه، كانت كورا بلو تُعدّ لنا تلك الوجبات".
  "اجلس هناك إلى الطاولة وسأُعدّ لك شطيرة بي أل تي لذيذة تأخذها معك في الشاحنة".
  "وتحمّصين الخبز أيضاً؟".
  "بالطبع. لا يمكننا الحصول على شطيرة ملائمة بخبز عادي. وبعد ظهر هذا اليوم، سأُعدّ إحدى أشهر كعكات ميني بالكاراميل. وفي الأسبوع التالي، سنُعدّ لك سمكة سِلّور مقلية".
  وأخرجتُ لحماً مملّحاً ومقدّداً لأعدّه للسيد جوني كوجبة غداء، إضافةً إلى مقلاة. كانت عينا السيد جوني صافيتين وواسعتين، وكل جزء من وجهه يبتسم. فأعددتُ له الشطيرة ولففتها بورق مشمَّع. أخيراً، لقد شعرت بالرضى لأنني أُطعم شخصاً ما.
  "يا ميني، أريد أن أسأل، بما أنك كنتِ موجودة هنا... ما الذي تفعله سيليا طوال اليوم؟".
  فهززت كتفيّ. "لم يسبق لي أن رأيت امرأة بيضاء البشرة تلازم منزلها كما تفعل. فمعظمهنّ دائمات الانشعال، ويخرجن من المنزل لأمر ما، ويتصرّفن كما لو أنهنّ أكثر انشغالاً مني".
  "هي بحاجة إلى بعض الصديقات. لقد سألتُ صديقي ويل إذا كان في استطاعته إقناع زوجته بالقدوم إلى هنا وتعليمها لعبة البريدج، وانتسابها إلى مجموعة من اللاعبات. أعرف أن هيلي تتزعّم كل هذه الأمور".
  فحدّقت إليه، وتسمّرتُ في مكاني، ربما لم يكن ما أفكر فيه صحيحاً. أخيراً، سألت: "تتحدث عن الآنسة هيلي هولبروك تلك؟".
  "هل تعرفينها؟". سأل.
  "أمم - همم". وشعرت بغصّة قي حلقي لفكرة قيام الآنسة هيلي بالتسكّع في هذا المنزل، واكتشاف الآنسة سيليا الأمر الشنيع والمروِّع. من غير الممكن أن تغدو هاتان المرأتان صديقتين. ولكنني كنت أراهن على أن الآنسة هيلي ستقوم بأي شيء لأجل السيد جوني.
  "سأتصل بويل هذا المساء وأسأله مجدداً". وربّت على كتفي، ووجدت نفسي أفكر في تلك الكلمة مجدداً، الحقيقة. فكما أخبرت آيبيلين الآنسة سكيتر بكل شيء، فإنه سيُقضى عليّ إذا ظهرت حقيقتي. لقد قاومتُ من لم يكن عليّ مقاومته.
  "سأعطيك رقم هاتفي في المكتب. اتصلي بي إذا واجهتك أي مشكلة، اتفقنا؟".
  "أجل يا سيدي". قلت، وشعرت أن هلعي من كشف الحقيقة أزال كل ارتياح أحسست به اليوم.
الآنسة سكيتر
الفصل الحادي عشر
  كان معظم البلد يمرّ عملياً بفصل الشتاء، ولكن صرير الأسنان، وفرك الأيدي لا يتوقفان أبداً في منزل والدتي. لقد ظهرت علامات حلول الربيع باكراً جداً، وأصيب والدي بالاضطراب المرافق لعملية زراعة القطن، وكان عليه استئجار عشرة عمال حقول إضافيين للحراثة وقيادة الجرّارات لزرع البذور. وكانت والدتي تطالع مجلة تقويم المُزارع من دون أن تكون مهتمة بالزراعة، فنقلت إليّ النبأ السيّئ ويدها على جبينها.
  "يقولون إن هذا العام سيكون الأكثر رطوبة منذ أعوام". وتنهدَت. ولم يؤدِّ الشينالايتر دوره المطلوب بعد أن استعنتُ به مرات قليلة. "سأشتري المزيد من صفائح الرذاذ الجديد ذات النوعية الممتازة من متجر بيمون".
  ورفعَت نظرها عن المجلة، ونظرت إليّ، مضيّقةً عينيها. "لأي سبب ترتدين هذه الملابس؟".
  كنت أرتدي جوربين قاتمي اللون وفستاني الأكثر قتامة. وجعلني الشال الأسود فوق شعري أبدو ربما شبيهة ببيتر أوتول في لورنس العرب أكثر منه بمارلين ديتريش. وكانت الحقيبة المدرسية الحمراء والقبيحة متدلّية عن كتفي.
  "عليّ القيام ببعض المهام هذا المساء. وسألتقي بعد ذلك... بعض الفتيات في دار العبادة".
  "في ليلة سبت؟".
  "يا أمي، لا يهم في أي يوم نزور دار العبادة". قلت، وتوجهتُ إلى السيارة قبل أن تطرح مزيداً من الأسئلة. كنت ذاهبة في تلك الليلة إلى منزل آيبيلين لإجراء أول مقابلة معها.
  كان قلبي يخفق بسرعة كبيرة، وقدت بأقصى سرعة ممكنة على طرقات المدينة المعبَّدة، متجهةً إلى الناحية الخاصة بذوي البشرة الملوّنة. لم يسبق لي أن جلست إلى الطاولة نفسها مع زنجية لا تتقاضى أجراً لقاء عمل تؤدّيه لي. لقد أُرجئت المقابلة لمدة شهر بسبب حلول الأعياد واضطرار آيبيلين إلى العمل حتى وقت متأخر من كل ليلة تقريباً، مغلّفةً الهدايا ومُعِدّةً وجبات الطعام استعداداً لحفلة الميلاد في منزل إليزابيت. وفي كانون الثاني/يناير، بدأت أشعر بالذُّعر لأن آيبيلين أُصيبت بالإنفلونزا، وقد يؤدّي طول انتظار السيدة شتاين إلى فقدان اهتمامها بالموضوع، أو نسيان سبب موافقتها على قراءة محتوى المقابلة.
  قدتُ الكاديلاك عبر الظُلمة، وسلكتُ جادة جيسوم أفونيو، وهو الشارع الذي تقطن فيه آيبيلين. كان من الأفضل لي الذهاب بالشاحنة القديمة، ولكن من شأن ذلك أن يحمل والدتي على الارتياب، ناهيكم عن أن والدي يستخدمها في الحقول على كل حال. وكما خططنا، توقفت على بعد ثلاثة منازل من منزل آيبيلين، أمام منزل مهجور. كان الرُّواق الخارجي الأمامي للمنزل المخيف متدلّياً، والنوافذ بلا زجاج. فخرجتُ من السيارة إلى الظُلمة، وأقفلت الأبواب، ومشيت بسرعة، مُبقِيةً رأسي مطأطَأً، ولكن كعبي حذائي كانا يُصدران صوتاً على الأرض المرصوفة.
  ونبح كلب، فسقطت مفاتيحي على الأرض وصلصلَت. فألقيت نظرة سريعة حولي، والتقطتُها بعد ذلك. كانت هناك مجموعتان من ذوي البشرة الملوّنة جالسين تحت أروقتهم الخارجية، يراقبون ويتأرجحون. لم تكن هناك مصابيح كهربائية في الشارع، لذلك يصعب التوقع بما إذا شوهدتُ من قِبل أشخاص آخرين. وواصلتُ السير، شاعرةً بعدم القدرة على تفادي الأنظار على غرار سيارتي الكبيرة والبيضاء.
  وبلغتُ منزل آيبيلين الذي يحمل الرقم خمسة وعشرين. فألقيت نظرة أخيرة حولي، متمنّيةً لو أنني لم أصل قبل الموعد بعشر دقائق. لقد بدت الناحية الخاصة بذوي البشرة الملوّنة بعيدة جداً، في حين أنها لا تبعد في الواقع سوى أميال قليلة عن الناحية الخاصة بذوي البشرة البيضاء.
  قرعتُ الباب بهدوء. فسمعتُ وقع خطى، واقترب شخص في الداخل من الباب، وفتحت آيبيلين. "هيا ادخلي". قالت، هامسة، وأغلقته ورائي على الفور وأقفلته.
  لم يسبق لي أن رأيت آيبيلين بملابسها غير البيضاء. أما في تلك الليلة، فكانت ترتدي فستاناً أخضر مع شريط تزييني أسود عند أطرافه. ولفتني واقع أنها بدت أطول قامة منّي في منزلها.
  "تصرّفي بحرّية. سأعود بسرعة".
  كانت الغرفة الأمامية تحتوي على لمبة واحدة، وكانت مظلمة ومليئة بالأغراض البنّية وبالظلال، والستائر مُسدَلة ومثبَّتة بدبابيس بحيث لا نستطيع رؤية أي ثغرة بينها. لم أعلم ما إذا كانت الستائر مُسدَلة على الدوام أم أن آيبيلين أسدلتها لأجلي. وجلستُ على الأريكة الضيقة. كانت هناك طاولة صغيرة خشبية عليها غطاء مخرَّم باليد، والأرضيات عارية. فتمنّيتُ لو أنني لم أرتدِ هذا الفستان غالي الثمن.
  بعد دقائق قليلة، عادت آيبيلين مع صينية يوجد عليها إبريق شاي وكوبان غير مماثلين، وفوَط مائدة ورقية مطويّة على صورة مثلَّثات. وشممتُ رائحة الكعك بالقِرفة الذي أعدّته. فصلصل أعلى الإبريق بينما كانت تسكب الشاي.
  "آسفة". قالت، وأمسكَت بأعلى الإبريق. "لم يسبق لشخص أبيض البشرة أن دخل منزلي من قبل".
  فابتسمتُ بالرغم من عِلمي أنها لم تقل ذلك على سبيل الفكاهة. وتناولتُ رشفة شاي كان يميل إلى المرورة. "شكراً لك". قلت. "الشاي لذيذ".
  وجلسَت وثنت يديها في حضنها، ونظرت إليّ بترقّب.
  "أعتقد أننا سنمهّد للموضوع قبل الدخول مباشرةً في صلبه وطرح الأسئلة". قلت. وأخرجتُ مفكّرتي وراجعتُ الأسئلة التي أعددتها. لقد بدت لي فجأةً أسئلة غير احترافية.
  "اتفقنا". قالت. وجلسَت بشكل مستقيم، واستدارت نحوي.
  "حسناً، في البدء، أمم، متى وأين وُلدتِ؟".
  فابتلعت ريقها، وأومأت برأسها. "عام 1909، في مزرعة بييمون في مقاطعة شيروكي".
  "هل كنت تعلمين، عندما كنت طفلة وفي طور النموّ، أنك ستصبحين خادمة ذات يوم؟".
  "أجل يا سيدتي. أجل. كنت أعرف ذلك".
  فابتسمتُ، وانتظرتُ بعض الشرح. ولكن لم تُضف شيئاً.
  "وكنت تعرفين ذلك... لأن...؟".
  "والدتي كانت خادمة، وجدتي عبدة منزل".
  "عبدة منزل. أه - هاه". قلت، ولكن كل ما قامت به هو الإيماء برأسها، وبقيت يداها مثنيّتين في حضنها تراقب الكلمات التي أدوّنها.
  "هل... حلمتِ يوماً أن تكوني شخصاً مختلفاً؟".
  "لا". قالت: "لا يا سيدتي". وكان هناك هدوء تام مكّنني من سماع أنفاس كلينا.
  "حسناً. إذاً... كيف يبدو أمر تربية طفل أبيض البشرة في حين أن طفلك الوحيد في المنزل...". وابتلعتُ ريقي، مُحرَجة من طرح السؤال وتابعت: "... يقوم شخص آخر بالاعتناء به؟".
  "يبدو...". وظلت جالسة بشكل مستقيم كما لو أن هذه الوضعية تتسبب لها بالألم. "أمم، ربما... يمكننا الانتقال إلى السؤال التالي".
  "آه، حسناً". وحدّقتُ إلى أسئلتي. "ما أكثر ما تحبينه في كونك خادمة، وما الذي تحبينه أقل من سواه؟".
  فرفعت نظرها إليّ كما لو أنني طلبت منها تعريف الأمر بكلمة قذرة.
  "أظن... أظن أنني أحب الاعتناء بالأطفال أكثر من أي شيء آخر". قالت همساً.
  "هل تريدين إضافة... أي شيء... عن الأمر؟".
  "لا يا سيدتي".
  "يا آيبيلين، ليس عليك أن تناديني سيدتي. ليس هنا".
  "أجل يا سيدتي. آه، آسفة". وغطّت فمها.
  وسُمعت أصوات عالية في الشارع، فاتجهت أنظارنا إلى النافذة، وكنا لا نزال هادئتين تماماً. ما الذي قد يحدث إذا اكتشف شخص أبيض البشرة أنني موجودة هناك في مساء يوم الأحد، أتحدث إلى آيبيلين بملابسها العادية؟ هل سيتصلون بالشرطة للإبلاغ عن اجتماع مشبوه؟ لقد شعرت فجأةً أنني على يقين تام أنهم سيقومون بذلك، ويتم اعتقالنا لأن هذا ما يقومون به، ويتهموننا بانتهاك الدمج العنصري. كنت أقرأ عن الأمر في الصحيفة طوال الوقت. كانوا يحتقرون ذوي البشرة البيضاء الذين يلتقون بذوي البشرة الملونة لمساعدتهم في حركة الحقوق المدنية. فلقاؤنا لا علاقة له بالدمج العنصري، ولكن، ما سبب لقائنا؟ فتمنّيت لو أنني أحضرت معي أي رسالة من رسائل الآنسة ميرنا لتبرير موقفي.
  ورأيتُ على وجه آيبيلين خوفاً صريحاً وصادقاً. وتبددت الأصوات التي سُمعت على الطريق ببطء. فتنهّدتُ ولكن آيبيلين بقيت متوترة الأعصاب، محدّقةً إلى الستائر.
  فنظرتُ إلى لائحة الأسئلة، وبحثت عن شيء ما يخفف من عصبية مزاجها ومزاجي. واستمررت في التفكير في الوقت الذي أضعته.
  "وما الذي... كنت تكرهينه في عملك؟".
  فابتلعت آيبيلين ريقها بصعوبة.
  "أعني، هل تريدين التحدث عن الحمّام؟ أو عن الآنسة ليفولت؟ أي شيء عن طريقة تسديد أجرك؟ هل صاحت في وجهك يوماً أمام ماو موبلي؟".
  وتناولت آيبيلين فوطة مائدة وربّتت بواسطتها برفق على جبينها. وشرعَت بالتكلم، ولكنها ما لبثت أن توقفت.
  "لقد تحدّثنا عن الأمر عدة مرات، يا آيبيلين...".
  ووضعَت يدها على فمها. "آسفة، أنا". ونهضَت وتوجهت بسرعة إلى الرّدهة الضيّقة. وأُغلق باب أدّى إلى صلصلة إبريق الشاي والكوبين على الصينية.
  ومرت خمس دقائق. وعندما عادت، كانت تضع منشفة على وجهها على غرار والدتي عندما تتقيّأ لأنها لم تدخل الحمّام في الوقت المحدد.
  "آسفة. ظننت أنني كنت... مستعدة للكلام".
  "فأومأتُ برأسي، غير واثقة مما يتعيّن عليّ القيام به.
  "أعلم... أنك قلت لتلك السيدة في نيويورك إنني وافقتُ على إجراء المقابلة...". وأغمضَت عينيها. "آسفة. لا أظن أنني قادرة على ذلك. أظن أنني أريد الاستلقاء".
  "غداً مساءً. سأجد... طريقة أفضل. لنجرّب مجدداً، و...".
  فهزت رأسها، وأمسكت منشفتها بإحكام.
  في طريق عودتي إلى المنزل، أردت ركل نفسي لأنني ظننت أنه يمكنني دخول منزلها ببساطة والحصول على إجابات، وأنها كفّت عن كونها خادمة لأننا كنا في منزلها ولا ترتدي اللباس الرسمي.
  ونظرت إلى مفكرتي الموضوعة على المقعد الجلدي الأبيض. فبالإضافة إلى المكان الذي ترعرعَت فيه، كانت هناك اثنتا عشرة كلمة فقط، وأربع منها هي أجل يا سيدتي ولا يا سيدتي.
  سمعتُ صوت باستي كلاين عبر أثير إذاعة دبليو جيه دي إكس. وفي أثناء قيادتي على طريق المقاطعة، كانت تغنّي السير بعد منتصف الليل. وعندما توقفتُ على الطريق الخاصة بمنزل هيلي، كانت تغني ثلاث سجائر في مِنفضة. لقد تحطمت طائرتها في صباح ذلك اليوم، والجميع في حداد من نيويورك إلى ميسيسيبي إلى سياتل، ويغنّون أغنياتها. فركنتُ الكاديلاك وحدّقتُ عبر النافذة إلى منزل هيلي الأبيض الفسيح. كانت قد مرت أربعة أيام منذ تقيّؤ آيبيلين وسط مقابلتنا، ولم يَردني أي خبر منها.
  فدخلتُ. كانت طاولة البريدج مُعَدّة في غرفة الجلوس التي تحمل طابع مرحلة ما بعد الحرب، إضافةً إلى ساعة جدها المصابة بالصمم والستائر التي تحمل نقوش زهور مذهَّبة. كانت جميعهن جالسات؛ هيلي، إليزابيت، ولو آن تامبلتن التي حلّت مكان الآنسة والترز. فلُو آن هي إحدى تلك الفتيات اللواتي ترتسم على وجوههن ابتسامة كبيرة على الدوام، ومن دون توقّف. وقد جعلني ذلك أرغب في غرس دبوس مستقيم في وجهها. فعندما لا تنظرون إليها، تحدّق إليكم مع تلك الابتسامة الباردة، كاشفةً عن أسنانها. هي توافق هيلي الرأي بأبسط الأمور.
  كانت هيلي تحمل مجلة لايف وتشير إلى إعلان يتناول منزلاً في كاليفورنيا. يدعونه عريناً كما لو أن حيوانات برّية تعيش فيه.
  "آه، الأمر ليس سيّئاً إلى هذا الحد!". قالت لو آن.
  وتظهر في الصورة سجادة صوفية خشنة ممدودة من الجدار إلى الجدار، وأرائك انسيابية منخفضة، وكراسٍ على صورة بيضة، وأجهزة تلفزة مماثلة لصحون طائرة. وفي غرفة جلوس هيلي رسم لجنرال اتحادي يبلغ ارتفاعه ثماني أقدام. كان الرسم بارزاً كما لو أن الشخص هو أحد الأسلاف وليس نسيباً لأحدهم.
  "منزل ترودي مماثل لذلك المنزل". قالت إليزابيت. كنت مستغرقة في التفكير في مقابلتي مع آيبيلين لدرجة أنني نسيتُ تقريباً الرحلة التي قامت بها إليزابيت الأسبوع السابق لزيارة شقيقتها الكبرى. لقد تزوجت ترودي بمدير مصرف وانتقلا إلى هوليوود. فذهبت إليزابيت إلى هناك لمدة أربعة أيام لرؤية منزلها الجديد.
  "حسناً، إنه ينمّ عن ذَوق سيّئ". قالت هيلي. "لا أقصد إهانة عائلتك، يا إليزابيت".
  "كيف كانت هوليوود؟". سألت لو آن.
  "آه، كانت كالحلم. في منزل ترودي أجهزة تلفزة في كل غرفة، وذلك الأثاث ذو المظهر المستقبلي الذي لا تريدين الجلوس عليه. لقد ذهبنا إلى كل هذه المطاعم الخيالية، حيث يتناول نجوم السينما الطعام ويحتسون الشراب. وذات ليلة، دنا ماكس فاكتور نفسه من الطاولة، وتحدّث إلى ترودي كما لو أنهما صديقان قديمان". وهزّت رأسها قائلة: "كما لو أنهما التقيا في متجر للبقالة". وتنهدت إليزابيت.
  "حسناً، لو قمتِ بطرح السؤال عليّ، فأنتِ الأجمل في العائلة". قالت هيلي. "لا أعني أن ترودي غير جذّابة، ولكنك تتمتعين بالاتزان والتميّز الحقيقيين".
  فابتسمت إليزابيت، ولكنها عبست مجدداً. "وعاملة المنزل موجودة في كل يوم وكل ساعة. ليس عليّ رؤية ماو موبلي البتة".
  فشعرتُ بالانقباض بسبب هذا التعليق، ولكن أحداً غيري لم يلاحظ ذلك كما يبدو. فهيلي تراقب خادمتها، يول ماي، وهي تعيد ملء الأكواب بالشاي. كانت طويلة القامة، نحيلة، ذات مظهر ملَكي تقريباً وقوام أفضل من قوام هيلي. ولدى رؤيتها، شعرتُ بالقلق على آيبيلين. كنت قد اتصلت بها مرتين في ذلك الأسبوع من دون تلقّي أي جواب، وتعزّز يقيني أنها تتجنّبني، فارتأيتُ الذهاب إلى منزل إليزابيت للتحدث إليها سواءً أأحبت ذلك أم لا.
  "كنت أفكر في عزف لحن الفيلم السينمائي ذهب مع الريح في العام القادم على أن تعود عائداته للحفلة الخيرية". قالت هيلي: "واستئجار منزل فيرفيو الفخم ربما لهذا الحدث؟".
  "يا لها من فكرة رائعة!". قالت لو آن.
  "آه يا سكيتر". قالت هيلي: "أعلم أنك اضطُررت إلى عدم حضور حدث هذا العام". فأومأتُ برأسي، وارتسمت على وجهي أمارات الأسف. كنت قد ادّعيت إصابتي بالإنفلونزا لتجنّب الذهاب بمفردي.
  "لن أستعين بفرقة الروك آند رول مجدداً". قالت هيلي: "التي تعزف موسيقى الرقص تلك بسرعة...".
  وربّتت إليزابيت على ذراعي. كانت تضع حقيبة يدها على حضنها. "كدت أنسى إعطاءك هذه الورقة. إنها من آيبيلين، وهو أمر متعلّق بالآنسة ميرنا؟ لقد أبلغتُها أنكما لن تستطيعا عقد اجتماعكما اليوم لأنها أضاعت الكثير من الوقت في كانون الثاني/يناير".
  ففتحتُ الورقة المثنيّة. كانت الكلمات مكتوبة بحبر أزرق وبأحرف متصلة.
  أعرف كيف أجعل إبريق الشاي يتوقف عن الصلصلة.
  "هل هناك من يهتم بكيفية جعل إبريق الشاي يتوقف عن الصلصلة؟". قالت إليزابيت لأنها قرأت محتوى الرسالة.
  وتطلّبني الأمر ثانيتين ورشفة شاي مثلَّج لأفهم المغزى. "لن تصدّقي مدى صعوبة الأمر". قلت لها.
  بعد يومين، جلستُ في مطبخ والدَيّ، منتظرةً هبوط الغسق. فاستسلمتُ لرغبتي الشديدة في التدخين وأشعلتُ سيجارة أخرى بالرغم من أن كبير الأطباء قد ظهر على شاشة التلفاز ليلة اليوم السابق، وهزّ إصبعه للجميع، محاولاً إقناعنا أن التدخين يقتلنا. ولكن والدتي قالت لي ذات مرة إن تبادل القُبَل باللسان يُعمي البصيرة، وبدأتُ أفكر في وجود مؤامرة كبيرة بين كبير الأطباء ووالدتي للتأكد من عدم حصول أي شخص على بعض المرح.
  وفي الثامنة من مساء ذلك اليوم، مشيت باضطراب، وبحرص شديد، في الشارع المؤدي إلى منزل آيبيلين، لأنني أحمل آلة كاتبة من ماركة كورونا يبلغ وزنها خمسين رطلاً. فقرعتُ الباب برِفق، متحرّقةً لسيجارة أخرى لتهدئة حالي العصبية. ففتحته آيبيلين، وانسللت إلى الداخل. كانت ترتدي الثوب الأخضر نفسه مع حذاء أسود رسمي كما في المرة الأخيرة.
  فحاولتُ الابتسام كما لو أنني واثقة من نجاح الأمر هذه المرة، وذلك بالرغم مما قالته لي عبر الهاتف. "هل يمكننا... الجلوس في المطبخ هذه المرة؟". سألتُ: "هل لديك مانع؟".
  "موافقة. ليس هناك ما يُلفت نظرك، ولكن تعالي إلى الناحية الخلفية".
  كان المطبخ بنصف حجم غرفة الجلوس، وأكثر دفئاً منها، وتنتشر فيه رائحة الشاي والليمون. وكان اللينوليوم الأبيض والأسود الذي يكسو الأرضية قد غدا رقيقاً بسبب الفرك، وليست هناك سوى مِنضدة يوجد عليها طقم شاي صيني.
  فوضعتُ الآلة الكاتبة على طاولة حمراء مخدوشة موضوعة تحت النافذة. وبدأت آيبيلين تسكب الماء الساخن في إبريق الشاي.
  "آه، لا أريد شاياً، شكراً". قلت، وأدخلت يدي في حقيبتي. "لقد أحضرت معي بضع زجاجات كوكا - كولا إذا كنت تريدين تناول إحداها". لقد حاولتُ إيجاد وسائل تحمل آيبيلين على الشعور بمزيد من الارتياح. أولاً، لا يجب عليّ ألاّ أحملها على الشعور أنها مُلزَمة بخدمتي.
  "حسناً، أليس ذلك جيداً. لا أتناول الشاي عادةً إلا في وقت متأخر على كل حال". وأحضرَت فتّاحتين وكوبَين، وشربتُ محتويات زجاجتي من القنينة مباشرةً. وحين شاهدتني أقوم بذلك، دفعَت بكوبها جانباً وقامت بالمِثل.
  كنت قد اتصلت بآيبيلين بعد أن أعطتني إليزابيت الورقة، واستمعتُ بأمل إلى شرح لفكرتها والتي كانت تدوين كلماتها بنفسها وإطلاعي من ثم على ما كتبَت. فحاولتُ الظهور بمظهر المتحمسة للفكرة، ولكنني كنت أعلم أنه سيكون عليّ إعادة صياغة كل ما كتبَته وإضاعة مزيد من الوقت. ففكرتُ في أنه قد يكون من الأسهل لها قراءة النص مطبوعاً على الآلة الكاتبة بدلاً من قيامي بقراءته لها، وكان عليّ إخبارها أن الأمر لن ينجح على النحو الذي اقترحَته.
  فابتسمنا لبعضنا بعضاً. وتناولتُ رشفة كوك، وملّستُ سترتي. "إذاً...". قلت.
  كان يوجد أمام آيبيلين مفكرة جُمعت أوراقها بشريط معدني لولبي. "تريدينني... أن أبدأ بقراءتها؟".
  "بالتأكيد". قلت.
  فأخذنا نفَساً عميقاً وبدأت تقرأ بصوت ثابت وهادئ.
  "إن الطفل الأول الذي اعتنيتُ به يدعى ألتون كارينغتون سبيرز. كان ذلك عام 1924، وكنت قد بلغتُ للتوّ الخامسة عشرة من العمر. كان ألتون طفلاً طويل القامة، هزيلاً، مع شعر أشبه بشُعيرات الذُّرة...".
  وبدأتُ أطبع على الآلة الكاتبة الكلمات التي كانت تلفظها بطريقة إيقاعية ووضوح أكبر مما لو كانت محكيّة. "كانت كل نافذة في ذلك المنزل القذر تحمل رسوماً وتحجب النظر، بالرغم من كِبر حجمه ووجود مرجة خضراء واسعة. كنت أعلم أن الهواء ملوَّث وشعرت بالغثيان...".
  "توقفي قليلاً". قلت. لقد طبعتُ كلمة greem بدلاً من green (خضراء). ونفختُ على سائل التصحيح وأعدت طباعة الكلمة. "حسناً، أكملي".
  "عندما توفيت الوالدة بعد ستة أشهر". قرأَت، "بسبب داء في الرئة، أبقوني في المنزل لتربية ألتون حتى انتقالهم إلى ممفيس. لقد أحببت ذلك الطفل وأحبني، وعندها علمت أنني أجيد حمل الأطفال على الشعور بالفخر بأنفسهم...".
  لم أكن أريد حمل آيبيلين على الشعور بالإهانة عندما أطلعتني على فكرتها، وحاولتُ حثّها على التخلّي عنها عبر الهاتف. "الكتابة ليست بالسهولة التي تظنين، ولن تَجدي وقتاً لذلك على كل حال، يا آيبيلين، ولا سيما مع وظيفة بدوام كامل".
  "لا يمكنها أن تكون أصعب من كتابة أدعيتي كل مساء".
  كان أول أمر مثير للاهتمام قالته لي عن نفسها منذ بدأنا بالمشروع. "إذاً، أنت تُعدّين أدعيتك قبل تلاوتها؟".
  "لم يسبق لي أن أخبرت أحداً بهذا الأمر، ولا حتى ميني. لقد وجدتُ أنني قادرة على التعبير أكثر عن مشاعري من خلال كتابتها".
  "إذاً، هذا ما تفعلينه في نهاية الأسبوع؟". سألتُ. "في وقت الفراغ؟". لقد أحببتُ طريقة عيشها للحياة عندما لا تكون تحت أنظار إليزابيت ليفولت.
  "آه لا، أكتب لمدة ساعة واحدة فقط كل يوم، وأحياناً ساعتين. هناك العديد من المرضى في هذه المدينة".
  لقد ترك ذلك الأمر أثراً كبيراً في نفسي. إنها مدة أطول من المدة التي كنت أخصصها للكتابة في بعض الأيام. فقلت لها إننا سنجرّب تلك الطريقة لضمان استمرار المشروع.
  وأخذت آيبيلين نفَساً، وارتشفت الكوك، وقرأَت.
  لقد نهجَت نهجاً معاكساً للنهج الذي اتّبعَته في عملها الأول، عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وتقوم بتنظيف الأواني الفضية من ماركة فرانسيس الأول في منزل الحاكم الفخم. وقرأَت كيف أنها أخطأت في صباح أول يوم لها في العمل عندما سجّلت بشكل خاطئ عدد القِطع الذي يُثبت أنها لم تسرق شيئاً.
  "عدت إلى المنزل في ذلك الصباح بعد طردي، ووقفت خارج منزلي مرتديةً حذاء العمل الجديد، الحذاء الذي دفعت والدتي ثمناً له ما يوازي قيمة فاتورة كهرباء لمدة شهر. أظن أنني فهمتُ آنذاك معنى الخجل ولونه أيضاً. فالخجل ليس أسود، أو أشبه بالقذارة، كما كنت أعتقد على الدوام. إنه بلون لباس رسمي أبيض قامت والدتك بالكيّ طوال الليل لدفع ثمنه، أبيض لا توجد أي لطخة عليه".
  ورفعت آيبيلين نظرها لتتحقق مما أفكر فيه. فتوقفتُ عن الطبع على الآلة الكاتبة. كنت قد توقعتُ أن تكون القصص جميلة وملفتة للانتباه، وأدركتُ أنني قد أحصل على نوعية أفضل من النوعية التي ساومتُ عليها. وتابعَت القراءة.
  "... وهكذا، توجهتُ إلى خزانة الملابس والأدراج بلا تردّد، وجرح ذلك الفتى الأبيض الصغير أصابعه بمروحة تلك النافذة بعد عشر دقائق من طلبي منه الابتعاد عنها. لم يسبق لي أن رأيت ذلك الكمّ من الدماء يخرج من شخص، فأمسكت بالفتى وبأصابعه الأربع، ونقلتُه إلى المستشفى المخصص لذوي البشرة الملوّنة لأنني لم أكن أعرف مكان المستشفى المخصص لذوي البشرة البيضاء. ولكن، عندما وصلت إلى هناك، أوقفني رجل ذو بشرة ملونة وقال، إنه فتى أبيض البشرة!" كانت مفاتيح الآلة الكاتبة تطقطق كالبرَد على السطح، وتقرأ آيبيلين بسرعة مما حملني على تجاهل الأخطاء التي أرتكبها، ولم أكن أوقفها إلا للانتقال إلى صفحة أخرى. وكنت أدفع مِجرّ الآلة الكاتبة جانباً كل ثماني ثوانٍ.
  "وقلت، هيا، فقال، هل هذه أصابعه البيضاء؟ وقلت، هيا، فقال، من الأفضل لك أن تخبريهم أن ذلك الطبيب ذا البشرة الملونة لن يعالج فتى أبيض في مستشفى لذوي البشرة الملونة. وبعد ذلك، أمسك رجل شرطة أبيض البشرة بي وقال، انظروا مَن هنا...".
  وتوقفَت، ورفعَت نظرها. وتوقفت الطقطقة.
  "ماذا؟ قال رجل الشرطة انظروا من هنا، وماذا بعد؟".
  "حسناً، هذا كل ما دوّنته. عليّ اللحاق بالحافلة للذهاب إلى العمل في الصباح".
  فضغطتُ على مفتاح العودة إلى السطر، وأصدرت الآلة الكاتبة طنيناً. فنظرتُ وآيبيلين إلى بعضنا بعضاً، وقلتُ لنفسي إن الأمر قد ينجح في الواقع.
الفصل الثاني عشر
  في كل مساء من أيام الأسبوعين التاليين، كنت أقول لوالدتي إنني خارجة لإطعام الجياع في دار عبادة كانتون البريسبيتارية حيث لا نعرف أحداً لحسن الحظ. كانت تفضّل بالطبع قيامي بالذهاب إلى دار العبادة البريسبيتارية الأولى، ولكن والدتي ليست من أولئك اللواتي يجادلن في شأن أعمال الخير، فأومأت برأسها موافِقة، وطلبت مني بعد الانفراد بي التأكد من غسل يدَيّ جيداً بالصابون بعد انتهاء الزيارة.
  وساعةً بعد ساعة، كانت آيبيلين تقرأ في مطبخها ما كتبَته وأقوم بطبعه على الآلة الكاتبة، فتعددت التفاصيل واتضحت وجوه الأطفال. لقد خُيِّب أملي، في بادئ الأمر، لأن آيبيلين تقوم بكتابة معظم النص في حين أن مهمتي تقتصر على التحرير ليس إلا. ولكنني سأقوم بكتابة قصص خادمات أخريات وسيكون عملاً كافياً بالنسبة إليّ، إذا أُعجبت السيدة شتاين بتلك القصة. إذا أحبّتها... كنت أجد نفسي أكرر هذه الجملة في رأسي، آملةً في ذلك.
  كان أسلوب آيبيلين الكتابي واضحاً وصادقاً. لقد أخبرتها بذلك.
  "حسناً، انظري إلى من أكتب". وضحكت في سرّها. "لا يمكننا أن نكذب على الله".
  كانت قد قطفَت القطن في الواقع طوال أسبوع في مزرعة عائلتي، لونغليف، قبل ولادتي. لقد زلّ لسانها ذات مرة وتحدثت عن كونستنتين من دون أن أطلب منها ذلك.
  "يا الله، في استطاعة كونستنتين تلك، أن تنشد كشخص واقف أمام دار العبادة. فإنشادها يُصيب الجميع بالقشعريرة لدى الإصغاء إلى صوتها الحريري الناعم، وعندما توقفت عن الإنشاد كان عليها منح طفلتها لـ...". وكفّت عن الكلام، ونظرت إليّ.
  فقالت: "على كل حال".
  فآثرتُ عدم الضغط عليها، وكنت أتمنى أن أسمع منها كل ما تعرفه عن كونستنتين، ولكنني قررت الانتظار حتى انتهاء المقابلات. لم أشأ مفاتحتها بالأمر في تلك المرحلة.
  "هل توصلَت ميني إلى قرار ما؟". سألتُ. "إذا أحبت السيدة شتاين قصتك". قلت الكلمات المعهودة بأسلوب موسيقي: "أرغب في أن تكون المقابلة التالية مُعَدّة وجاهزة".
  وهزّت آيبيلين رأسها. "لقد سألتُ ميني ثلاث مرات، وهي لا تزال ترفض الأمر. إنها تتمسك بموقفها، وأنا واثقة من أنها لن تبدّله".
  فحاولتُ إخفاء قلقي. "ربما يمكنك الطلب من أخريات؟ والتحقق مما إذا كنّ مهتمات بالأمر؟". كنت على ثقة تامة أن آيبيلين تملك حظاً أوفر من حظي لإقناع الأخريات.
  وأومأت آيبيلين برأسها. "هناك أخريات يمكنني عرض الأمر عليهنّ. ولكن، ما المدة التي قد تمضي برأيك قبل أن تعلِمك هذه السيدة برأيها في شأن القصة؟".
  فهززتُ كتفيّ. "لا أعلم. إذا أرسلناه عبر البريد الأسبوع القادم، ربما يصلنا جوابها في أواسط شباط/فبراير. ولكنني لست واثقة بذلك التاريخ".
  وأطبقت آيبيلين شفتيها بإحكام، ونظرت إلى صفحاتها. لقد رأيت في عينيها أمراً لم ألاحظه من قبل، بريق حماسة. كنت أهتمّ بأموري الخاصة كثيراً لدرجة أنه لم يخطر ببالي أن تكون آيبيلين متأثرة بقدري في فكرة قيام محررة في نيويورك بقراءة قصتها. فابتسمتُ وأخذتُ نفساً عميقاً، وازداد أملي.
  في جلستنا الخامسة، قرأت لي آيبيلين عن يوم وفاة تريلور. لقد قرأَت عن كيفية قيام أحد المُشرفين على العمال برمي جسده المهشّم على ظهر بيك أب. "وأنزلوه بعد ذلك في المستشفى الخاص بذوي البشرة الملونة. هذا ما قالته لي الممرضة التي كانت واقفة في الخارج". ولم تبكِ آيبيلين، ولكنها صمتت للحظات في أثناء تحديقي إلى الآلة الكاتبة بينما كانت تحدق إلى البلاط الأسود البالي.
  في الجلسة السادسة، قالت آيبيلين: "ذهبت إلى العمل لدى الآنسة ليفولت عام 1960، وكان عمر ماو موبلي آنذاك أسبوعَين". وشعرتُ أن آيبيلين تخطت أزمة الثقة. ووصفَت مبنى حمّام المرأب، وأقرّت بسعادتها بسبب وجودها هناك. فالاستماع إلى آيبيلين أسهل لي من الاستماع إلى هيلي تتذمّر بسبب مشاطرة الخادمة الحمّام نفسه. وقالت لي إنني علّقتُ ذات مرة على قيام ذوي البشرة الملوّنة بالتردد كثيراً إلى دار العبادة، ولم تنسَ ذلك أبداً. فشعرتُ بالانقباض، متسائلةً عن الأمور الأخرى التي قلتها، وغير متنبّهة إلى قيام عاملة المنزل بالاستماع إلى ما أقول أو الاهتمام به.
  وقالت ذات ليلة: "كنت أفكر...". ولكنها توقفت.
  فرفعت نظري عن الآلة الكاتبة، وانتظرتُ. لقد تطلّب الأمر قيام آيبيلين بالتقيّؤ على نفسها لأدرك أنه يتعيّن عليّ منحها الوقت اللازم.
  "كنت أفكر في أنه يتعيّن عليّ القيام ببعض القراءة. قد يساعدني ذلك على إتمام كتابتي".
  "اقصدي مكتبة شارع الولاية. لديهم غرفة مليئة بمطبوعات الكتّاب الجنوبيين. فولكنر، أودورا ولتي...".
  وسعلت آيبيلين عن عمد للفت انتباهي. "تعرفين أنه لا يُسمح لذوي البشرة الملونة بدخول تلك المكتبة".
  فجلستُ هناك لفترة، شاعرةً بالغباء. "لا يمكنني التصديق أنني نسيت ذلك". لا بد من أن تكون المكتبة الخاصة بذوي البشرة الملوّنة سيئة جداً. لقد حصل اعتصام في المكتبة الخاصة بذوي البشرة البيضاء منذ بضع سنوات قامت الصحف بنشر أحداثه. وعندما مثل ذوو البشرة الملوّنة أمام المحكمة، تنحّت الشرطة، مُفسحةً المجال لأفراد الجالية الألمانية. فنظرتُ إلى آيبيلين وتذكرتُ مرة أخرى المجازفة التي تقوم بها بالتحدث إليّ. "يُسعدني أن أُحضر لك الكتب". قلت.
  وأسرعت آيبيلين إلى غرفة النوم وعادت حاملة لائحة. "لقد وضعتُ علامة على الكتب التي أريدها في المقام الأول. لا أزال على لائحة انتظار دَوري منذ نحو ثلاثة أشهر للحصول على كتاب قَتل طائر مقلِّد من مكتبة كارفر. لنرَ...".
  وشاهدتها تضع علامات تَحقُّق بجانب أسماء الكتب، جوهر ذوي البشرة الملونة بقلم دبليو دوبوا، قصائد لإميلي ديكينسون، ومغامرات هاكلبيري فين.
  "لقد قرأت مقتطفات من هذه الكتب عندما كنت في المدرسة، ولكن لم يتسنَّ لي إنهاؤها". واستمرت في وضع العلامات، متوقّفةً للتفكير في الكتاب التالي الذي تريد قراءته.
  "تريدين كتاباً ل... سيغموند فرويد؟".
  "آه، المجانين". وأومأَت برأسها. "أحب قراءة طريقة عمل الرأس. هل حلمتِ يوماً أنك وقعت في بحيرة؟ يقول إنك تحلمين بالطريقة التي وُلدتِ بها. كانت الآنسة فرانسز التي عملتُ لديها عام 1957 تملك كل الكتب".
  ولدى بلوغها عنوان الكتاب الثاني عشر، كان عليّ أن أسأل. "يا آيبيلين، كم مضى على رغبتك في قيامك بطلب هذه الكتب منّي؟ ما دمتُ سأُحضرها لك؟".
  "منذ مدة قصيرة". وهزت كتفَيها. "أعتقد أنني كنت أخشى طلب ذلك منك".
  "هل... طننتِ أنني قد أقول لا؟".
  "إنها قواعد ذوي البشرة البيضاء. لا أعرف القواعد التي تتّبعين وتلك التي لا تتّبعين".
  ونظرنا إلى بعضنا بعضاً للحظات. "لقد سئمتُ القواعد". قلت.
  فضحكت آيبيلين في سرّها ونظرت عبر النافذة، وأدركتُ مدى أهمية هذا البَوح بالنسبة إليها.
  طوال أربعة أيام متواصلة، جلستُ أمام آلتي الكاتبة في غرفة نومي. لقد أصبحت العشرون صفحة من صفحاتي المطبوعة على الآلة الكاتبة، والمليئة بعلامات الشطب والدوائر الحمراء، واحدة وثلاثين صفحة على ورق سترامور الأبيض. وكتبتُ سيرة موجَزة لحياة ساره روس، الاسم الذي اختارته آيبيلين، تيمّناً باسم مدرّستها في الصف السادس التي توفيت قبل سنوات. وضمّنتُ السيرةَ عمرَها، وما كان والداها يعملان لكسب الرِّزق. وأتبعتُ السيرة بقصص آيبيلين كما كتبَتها ببساطة وصراحة.
  في اليوم الثالث، نادت والدتي من أسفل الدرَج لتسأل عما أقوم به طوال اليوم، فصحتُ مجيبة، أطبع بعض الملاحظات للدراسة التي أُعدّها. وسمعتها تقول لوالدي في المطبخ بعد العشاء: "إنها منشغلة بأمر ما". كنت أحمل كتاباً حول الأمور الدينية في أرجاء المنزل لأجعل روايتي أكثر قابلية للتصديق.
  فقرأتُ وقرأتُ، وحملتُ بعد ذلك الصفحات لآيبيلين في المساء، وقامت بالأمر نفسه. فابتسمَت، وكانت تومئ برأسها لدى قراءة الأجزاء المُفرِحة وتنزع نظارة القراءة السوداء بعد قراءة الأجزاء المُحزنة، وقالت: "أعلم أنني كتبتها، ولكنك تريدين حقاً إدخال تعديلات عليها...".
  فقلت: "أجل، لقد قمتُ بذلك". ولكنني فوجئتُ بمحتوى تلك القصص، وبالبرادات الملوّنة المختلفة الموجودة في منزل الحاكم الفخم، وبالنساء بيضاوات البشرة اللواتي كنّ يُصبن بسورات غضب طوال عامين بسبب فوط المائدة المتغضّنة، وبالأطفال البيض الذين ينادون آيبيلين يا أمي.
  عند الثالثة بعد منتصف الليل، وبوجود سائل التصحيح الأبيض في مكانين فقط من الصفحات السبع والعشرين، أدخلتُ المخطوط في مغلف أصفر. كنت قد أجريت في اليوم السابق اتصالاً هاتفياً بعيد المدى بالسيدة شتاين، وقالت سكرتيرتها، روث، إنها في اجتماع، ودوّنَت رسالتي التي جاء فيها أن نص المقابلة في طريقه إليها. ولم يردني أي اتصال هاتفي من السيدة شتاين في اليوم التالي.
  فضممتُ المغلف إلى صدري، وذرفت الدموع تقريباً بسبب الإجهاد والارتياب. وأرسلته في صباح اليوم التالي عبر البريد من كانتون، وعدت إلى المنزل واستلقيت على سريري الحديدي القديم، قلقةً في شأن ما سيحدث... هل ستُعجبها أم لا. ماذا لو اكتشفت إليزابيت أو هيلي الأمر؟ ماذا لو طُردت آيبيلين، وأُرسلَت إلى السجن؟ فشعرتُ أنني أسقط داخل نفَق لولبي. يا الله، هل سيضربونها كما ضربوا الفتى ذا البشرة الملونة الذي استخدم حمّام ذوي البشرة البيضاء؟ ما الذي أقوم به؟ لماذا أعرّضها لهذا الخطر؟
  وخلدت إلى النوم. لقد راودتني أحلام مخيفة في الساعات الخمس عشرة من دون انقطاع.
  إنها الواحدة إلا ربعاً، وكنت وهيلي وإليزابيت جالسات إلى طاولة الطعام في منزل إليزابيت ننتظر وصول لو آن. لم يكن لديّ ما أتناوله في ذلك اليوم سوى الشاي المعالِج الذي وصفته لي والدتي، فشعرت بغثيان وبتوتر عصبي. كانت قدمي تهتزّ تحت الطاولة، وقد لازمتني هذه الحال عشرة أيام منذ قيامي بإرسال قصص آيبيلين عبر البريد إلى إلين شتاين. لقد اتصلتُ ذات مرة وقالت روث إنها مرّرت القصص لها قبل أربعة أيام، ولكنني لم أتلقَّ أي إجابة.
  "هل صادفتما يوماً أمراً أكثر فظاظة؟". ونظرت هيلي إلى ساعتها، وتجهّم وجهها. كانت المرة الثانية التي تتأخر فيها لو آن بالقدوم. فمن غير المرجَّح أن تستمر في مجموعتنا بوجود هيلي.
  ودخلت آيبيلين قاعة الطعام، وبذلتُ جهداً كي لا أنظر إليها لمدة طويلة. كنت أخشى قيام هيلي أو إليزابيت باكتشاف أنني أخفي أمراً ما.
  "كفّي عن هزّ قدمك، يا سكيتر. أنت تهزّين كل الطاولة". قالت هيلي.
  وتنقلت آيبيلين في أرجاء الغرفة بمشيتها الهادئة من دون الكشف عن أي ارتباك. لقد باتت بارعة في إخفاء مشاعرها.
  فخلطت هيلي الورق ووزّعته لاستهلال لعبة روميّ الجنّ. وحاولتُ التركيز على اللعبة، ولكن بعض الوقائع استمرت في التقلّب في رأسي كلما نظرت إلى إليزابيت، كاستخدام ماو موبلي الحمّام في المرأب، عدم تمكّن آيبيلين من الاحتفاظ بغدائها في براد عائلة ليفولت. إنهما من التفاصيل الصغيرة كنت على عِلم بها.
  وقدّمت إليّ آيبيلين كعكة طريّة رفعَتها عن صينية فضية. وملأت كوبي بشاي مثلّج كما لو أننا غريبتان. لقد ذهبتُ إلى منزلها مرتين بعد إرسالي الطرد البريدي إلى نيويورك، وذلك لاسترداد كتب وتسليمها أخرى. كانت ترتدي آنذاك فستانها الأخضر الذي يحتوي على شريط تزييني أسود عند أطرافه، كما كانت تمدّ ساقَيها أحياناً تحت الطاولة. في المرة الأخيرة، أخرجت علبة سكائر مونتكليرز ودخّنَت معي في الغرفة. وها هي في منزل عائلة ليفولت تنظف الفتات المتساقط مني بالمِكشطة المصنوعة من الفضة الخالصة التي أهديتها لإليزابيت وراليه بمناسبة زواجهما.
  "حسناً، في أثناء انتظارنا، لديّ بعض الأخبار". قالت إليزابيت، وعرفتُ معنى النظرة المرتسمة على وجهها، وإيماءة الرأس المتكتمة، ووضع إحدى يديها على بطنها.
  "أنا حامل". وابتسمَت، وارتجف فمها قليلاً.
  "رائع". قلت. ووضعتُ أوراقي ولمست ذراعها. كانت تبدو في الواقع كما لو أنها على وشك البكاء. "متى موعد الولادة؟".
  "تشرين الأول/أكتوبر".
  "حسناً، المسألة مسألة وقت". قالت هيلي، وعانقَتها. "لقد كبرت ماو موبلي عملياً".
  فأشعلت إليزابيت سيجارة، وتنهدت. ونظرت إلى أوراقها. "كلنا متحمّسون حقاً".
  في أثناء اللعب، تحدثت هيلي وإليزابيت عن أسماء الأطفال. فحاولتُ المشاركة في الحديث. "سندعوه راليه بالتأكيد إذا كان فتى". أضفتُ. وتحدثت هيلي عن حملة وليام الذي كان يُعدّ العدّة لخوض الانتخابات في العام التالي لمنصب سيناتور، عِلماً أنه لا يتمتع بأي خبرة سياسية. وكنت ممتنّة عندما طلبت إليزابيت من آيبيلين إعداد مائدة الغداء.
  ولدى عودة آيبيلين مع سلطة الهُلام، جلست هيلي بشكل قويم على كرسيّها. "يا آيبيلين، لديّ معطف قديم لك وكيس ملابس من منزل السيدة والترز". فربّتت على فمها برفق بفوطة المائدة. "لذلك، اخرجي إلى السيارة بعد الغداء، وخذي كل شيء، اتفقنا؟".
  "أجل يا سيدتي".
  "لا تنسَي. لا أستطيع القلق في شأنها مجدداً كي لا أنسى إحضارها معي في المرة القادمة".
  "آه، أليست بادرة لطيفة من الآنسة هيلي، يا آيبيلين؟". قالت إليزابيت وأومأت برأسها. "اذهبي وأحضري تلك الملابس بعد انتهاء الغداء مباشرةً".
  "أجل يا سيدتي".
  كانت هيلي ترفع صوتها أضعافاً مضاعَفة عندما تتحدث إلى ذوي البشرة الملونة، وتبتسم لهم إليزابيت كما لو أنها تتحدث إلى أطفال، بالرغم من أنها لا تبتسم لطفلتها. كنت قد بدأت ألاحظ الأمور من حَولي.
  وعندما وصلت لو آن تامبلتن، كنا قد تناولنا أطباق القريدس والبرغل وشرعنا بتناول التحلية. كانت هيلي متسامحة على نحو مثير للدهشة، فبالرغم من كل شيء، لقد تأخرَت في القدوم بسبب مهمة متعلقة بالرابطة.
  بعد ذلك، قدّمتُ التهنئة إلى إليزابيت مجدداً، وخرجت إلى سيارتي. كانت آيبيلين في الخارج تُحضر المعطف الجديد الذي لم يتم ارتداؤه كثيراً منذ العام 1942، إضافةً إلى ملابس قديمة لم تعطها هيلي إلى خادمتها، يول ماي، لسبب من الأسباب. وتوجهت هيلي نحوي بخطى واسعة وسلّمتني مغلفاً.
  "للنشرة الدَّورية في الأسبوع القادم. ستُدرجين هذه المقالة لأجلي؟".
  فأومأتُ برأسي، وعادت هيلي إلى سيارتها. وبينما كانت آيبيلين تفتح الباب الأمامي لدخول المنزل، رمقتني بنظرات سريعة. فهززت رأسي، ولفظتُ عبارة لا شيء، محركةً فمي. فأومأت برأسها ودخلت المنزل.
  في تلك الليلة، عملت على النشرة الدَّورية، متمنّيةً العمل على القصص بدلاً منها. فتفحّصت الملاحظات التي تعود إلى اجتماع الرابطة الأخير، ووصلت إلى مغلّف هيلي. ففتحته. كان مؤلفاً من صفحة واحدة ومكتوباً بقلم هيلي السميك وخطّه المتجعّد:
  هيلي هولبروك تقدّم مبادرة تعزيز الصحة المنزلية. إنها إجراء وقائي للأمراض. أنشئوا حمّاماً منخفض التكلفة في مرأبكم أو حظيرتكم إذا لم يكن متوافراً خارج منزلكم.
أيتها السيدات، هل تعلمن أن:
-     99بالمئة من كل الأمراض التي يصاب بها ذوو البشرة الملوّنة يتم نقلها بالبَول.
-     قد يصاب ذوو البشرة البيضاء بالعجز الدائم بسبب كل هذه الأمراض تقريباً لأننا نفتقر إلى المناعات التي يحملها ذوو البشرة الملونة في بشرتهم الأكثر قتامة.
-     قد تكون بعض الجراثيم التي يحملها ذوو البشرة البيضاء مؤذية لذوي البشرة الملونة أيضاً. احمين أنفسكنّ. احمين أطفالكنّ. احمين عاملات المنازل.
من عائلة هولبروك نقول، أهلاً وسهلاً بكم!
  ورنّ الهاتف في المطبخ، وتعثّرتُ بقدمَيّ عملياً في أثناء إسراعي للإجابة على المكالمة الهاتفية. ولكن باسكاغولا سبقتني إليه.
  "منزل الآنسة شارلوت".
  فحدّقتُ إلى باسكاغولا صغيرة الحجم، ورأيتها تومئ برأسها وتقول، "أجل يا سيدتي، هي موجودة". وسلّمتني الهاتف.
  "أوجينيا تتكلم". قلت بسرعة. كان والدي في الحقول ووالدتي في موعد في المدينة مع الطبيب، لذلك، مددتُ سلك الهاتف الأسود والملتف وصولاً إلى طاولة المطبخ.
  "معك إلين شتاين".
  فتنفّستُ بعمق. "أجل يا سيدتي. هلى تلقّيتِ طردي البريدي؟".
  "أجل". قالت وتنهدت على الهاتف لثوانٍ قليلة.
  "أحب قصص ساره روس تلك. تحب سرد ما حدث معها من دون التذمّر كثيراً".
  فأومأتُ برأسي.
  "ولكنني لا أزال متمسكة برأيي أن كتاب مقابلات... لا يحقق أي نجاح في العادة. لا وجود للقصة الخيالية فيه، ولكنه غير خالٍ تماماً من عامل التخيّل أيضاً. قد يكون أنتروبولوجياً من دون أن يكون في الإمكان إدراجه في هذه الفئة بشكل كلّي".
  "ولكنك... أحببته؟".
  "يا أوجينيا". قالت، زافرةً دخان السيجارة على الهاتف. "هل شاهدتِ غلاف مجلة لايف ماغازين هذا الأسبوع؟".
  لم أكن قد شاهدت غلاف هذه المجلة منذ شهر بسبب انشغالي الكبير.
  "مارتن لوثر كينغ، يا عزيزتي. لقد أعلن قيام مسيرة في العاصمة، ودعا كل زنجي وكل ذي بشرة بيضاء في أميركا للانضمام إليه. لم يعمل هؤلاء الزنوج والبِيض معاً منذ تصوير الفيلم السينمائي ذهب مع الريح".
  "أجل، لقد سمعتُ ب... حدث... المسيرة". لقد كذبتُ، وغطّيتُ عينيّ متمنّيةً لو أنني قرأت الصحيفة في ذلك الأسبوع. لقد بدوتُ كالغبية.
  "نصيحتي لك هي أن تكتبيه بسرعة. ستُجرَى المسيرة في آب/أغسطس. كان يُفترض بك إنهاء المقابلات في مطلع العام الجديد".
  فشهقتُ. هي تطلب مني أن أكتبه! هي تطلب مني... "هل تقولين إنك ستنشرينه؟ يمكنني إنهاؤه بحلول...".
  "لم أقل شيئاً من هذا القبيل". قالت بغضب. "سأقرأه. أراجع مئة مخطوطة في الشهر وأرفضها كلها تقريباً".
  "آسفة، سوف... أكتبه فحسب". قلت. "سأنهيه في كانون الثاني/يناير".
  "ولن تكون أربع أو خمس مقابلات كافية لوضع كتاب. ستكونين بحاجة إلى اثنتي عشرة تقريباً، وربما أكثر. لقد أعددتِ مقابلات أخرى، كما أفترض؟".
  فأطبقتُ شفتيّ بإحكام. "بعض... منها".
  "حسناً. إذاً استمرّي في عملك قبل انفجار مسألة الحقوق المدنية".
♦  ♦  ♦
  في مساء ذلك اليوم، قصدتُ منزل آيبيلين، وسلّمتها ثلاثة كتب إضافية مُدرَجة في اللائحة التي وضعَتها. كان ظهري يؤلمني بسبب الانحناء فوق الآلة الكاتبة. لقد دوّنتُ، بعد ظهر ذلك اليوم، أسماء كل من أعرف أن لديهنّ خادمات، وأسماء الخادمات. ولكنني لم أتذكر بعض الأسماء.
  "شكراً لك، آه، يا الله، انظري إلى هذا". وابتسمَت، وفتحَت الصفحة الأولى من كتاب والدن، وبدت كما لو أنها تريد الشروع بقراءته.
  "لقد تحدثت إلى السيدة شتاين بعد ظهر اليوم". قلت.
  فتسمّرت يدا آيبيلين على الكتاب. "كنت أعلم أن هناك خطباً ما. لقد رأيت ذلك على وجهك".
  وأخذتُ نفَساً عميقاً. "قالت إنها أحبت قصصك كثيراً. ولكنها... لم تقل إنها ستقوم بنشرها حتى إنهاء كل المقابلات". لقد حاولتُ إظهار بعض التفاؤل. "يجب إنهاء المقابلات بعد العام الجديد".
  "ولكنها أخبار جيدة، أليس كذلك؟".
  فأومأتُ برأسي وابتسمتُ.
  "كانون الثاني/يناير". همست آيبيلين، ونهضَت وغادرت إلى المطبخ، وعادت بروزنامة تعلَّق على الجدار. فوضعَتها على الطاولة، وقلّبَت صفحات الأشهر.
  "يبدو أننا نملك متّسعاً من الوقت، ولكن شهر كانون الثاني/يناير يقع بعد صفحتين... ثلاث صفحات... أربع صفحات... ست صفحات من تاريخ اليوم. سيحلّ من دون أن نلاحظ ذلك". قالت مبتسمة.
  "قالت إنه سيكون علينا إجراء اثنتي عشرة مقابلة على الأقل لتقوم بالاطّلاع عليها". قلت. وبدأ يظهر الانفعال في صوتي.
  "ولكن... لن تكون لديك أي خادمة أخرى للتحدث إليها، يا آنسة سكيتر".
  فأطبقتُ يديّ على بعضهما بإحكام، وأغمضتُ عينيّ. "ليس هناك من أسأله، يا آيبيلين". قلت، رافعةً صوتي. كنت قد أمضيت الساعات الأربع الأخيرة مستغرقةً في التفكير في هذه الحقيقة. "أعني، إلى من يمكنني التحدث؟ باسكاغولا؟ إذا تحدثتُ إليها، ستكتشف والدتي الأمر. لستُ ممن يعرف خادمات أخريات".
  فأشاحت آيبيلين بنظرها عني بسرعة لدرجة أنني أردت البكاء. تبّاً، يا سكيتر. كنت قد زلّلتُ كل عقبة حالت دون إقناع آيبيلين في الأشهر القليلة الماضية، وتمكنتُ من إعادة وصل ما انقطع في غضون ثوانٍ. "آسفة". قلت بسرعة. "آسفة لأنني رفعتُ صوتي".
  "لا، لا، لا بأس. من واجبي تحمّل الآخرين".
  "ما رأيك ب... خادمة لو آن". قلت بهدوء، مُخرجةً لائحتي. "ما اسمها... لوفينيا؟ هل تعرفينها؟".
  فأومأت آيبيلين برأسها. "لقد سألت لوفينيا". كان نظرها لا يزال موجَّهاً إلى حضنها. "تلك التي فقد حفيدها بصره. قالت إنها آسفة جداً وعليها أن تهتم بأمره".
  "وخادمة هيلي، يول ماي؟ هل سألتِها؟".
  "قالت إنها شديدة الانشغال في محاولة إدخال أبنائها الكلية في العام القادم".
  "هل هناك خادمات أخريات يذهبن إلى دار العبادة التي تذهبين إليها؟ هل سألتِهنّ؟".
  فأومأت آيبيلين برأسها. "كلهنّ اختلقن أعذاراً. ولكنهنّ خائفات جداً في الواقع".
  "ولكن كم عددهنّ؟ كم عدد اللواتي سألتِهنّ؟".
  والتقطت آيبيلين مفكرتها، وقلّبت عدداً قليلاً من الصفحات. وتحركت شفتاها بينما كانت تعُدّ بصمت.
  "إحدى وثلاثون". قالت آيبيلين.
  وأطلقتُ أنفاسي. لم أكن أدرك أنني أحبسها.
  "إنه... عدد كبير". قلت.
  أخيراً، نظرت إليّ آيبيلين. "لم أكن أريد أن أطلعك على الأمر". قالت، وتغضّن جبينها. "حتى يصلنا خبر من السيدة..." ونزعت نظارتها، فرأيت قلقاً عميقاً في وجهها حاولَت إخفاءه بابتسامة مرتجفة.
  "سأسألهنّ مجدداً". قالت، وانحنت إلى الأمام.
  "حسناً". قلت، متنهّدة.
  فابتلعَت ريقها بجهد، وأومأَت برأسها بسرعة لتُفهمني مدى اهتمامها بالأمر. "رجاءً، لا تتخلّي عني. دعيني أبقى في المشروع معك".
  فأغمضتُ عينيّ. كنت بحاجة إلى فترة أستريح فيها من رؤية وجهها القلق. كيف أمكنني رفع صوتي في وجهها؟ "يا آيبيلين، اتفقنا. نحن... معاً في هذا المشروع".
  بعد أيام قليلة، جلستُ في المطبخ الحار، شاعرةً بالسأم، وأدخّن سيجارة، وهو أمر لم أتمكن من الكفّ عنه في الفترة الأخيرة. فظننتُ أنني مُدمِنة. هي كلمة يحب السيد غولدن استخدامها. الأغبياء كلهم مُدمنون. فقد كان يستدعيني إلى مكتبه من حين إلى آخر، ويراجع مقالات الشهر بقلم أحمر، مهمهماً.
  "لا بأس". كان يقول. "أنت بخير؟".
  "أنا بخير". أجيب.
  "حسناً إذاً". وقبل مغادرتي، تسلّمني موظفة الاستقبال البدينة شيكاً بمبلغ عشرة دولارات، وهو مبلغ جيد جداً لحلولي مكان الآنسة ميرنا في العمل.
  كان المطبخ حاراً، ولكن، كان عليّ الخروج من غرفتي حيث كل ما أقوم به هو القلق في شأن عدم موافقة خادمات أخريات على العمل معنا. كما وأنه عليّ التدخين في المطبخ لأنها الغرفة الوحيدة في المنزل تقريباً التي لا تحتوي على مروحة معلّقة في السقف تبدّد الرّماد في الأرجاء. فعندما كنت في العاشرة من عمري، حاول والدي تركيب مروحة في السقف الصفيحي للمطبخ من دون أن يسأل كونستنتين. فسخرَت من المروحة، قائلةً إن والدي ركن سيارة الفورد على السقف.
  "إنها لك، يا كونستنتين، كي لا تشعري بالحر بسبب وجودك في المطبخ باستمرار".
  "لم أعمل أبداً في مطبخ لا يحتوي على مروحة في السقف، يا سيد كارلتون".
  "أنا على ثقة أنك ستنعمين بالمروحة. سأصلها بالتيار الآن".
  ونزل والدي عن السلّم. وملأت كونستنتين قِدراً بالماء. "هيا". قالت، متنهّدة: "شغّلها إذاً".
  وضغط والدي على المفتاح الكهربائي، وتطلّب الأمر بضع ثوانٍ لدوران المروحة بقوة مما أدى إلى تبدّد الدقيق من وعاء المزج في أنحاء الغرفة، وتطاير وصفات الطهو عن المنضدة، واشتعالها بنار جهاز الطهو. فأمسكت كونستنتين بسرعة لفافة ورق الرَّق المشتعلة ووضعتها في دلو ماء. ولا يزال هناك ثقب في السقف حيث بقيت المروحة معلّقة لمدة عشر دقائق فقط.
  في الصحيفة، رأيت السيناتور ويتوورث يشير إلى قطعة أرض فارغة حيث كانوا يخططون لبناء كولوسيوم جديد للمدينة، وقلبتُ الصفحة. كنت أكره كل ما يذكّرني بموعدي مع ستيوارت ويتوورث.
  ودخلت باسكاغولا المطبخ بخطى خافتة. وراقبتها وهي تقوم بقطع البسكويتات بواسطة كوب ملوَّن. وكانت النوافذ القائمة خلفي مفتوحة على مصراعَيها، ومُسندة إلى كاتالوغات سيرز، وروباك آند كو، وترفرف في النسيم الصفحات التي تحتوي على إعلانات خلاّطات يدوية يبلغ ثمن كل منها دولارَين، وألعاب يمكن طلبها عبر البريد. كانت الأوراق منتفخة ومتجعّدة بسبب تعرّضها للمطر طوال عقد من الزمن.
  ربما يُفترض بي طرح السؤال فحسب على باسكاغولا. قد لا تكتشف والدتي الأمر. ولكن، من الذي أسخر منه؟ فوالدتي تراقب كل خطوة تقوم بها، وتبدو باسكاغولا خائفة مني، على كل حال، كما لو أنني سأشي بها إذا أخطأت القيام بعمل ما. قد يتطلب الأمر سنوات لاختراق ذلك الخوف، وكان حدسي ينبئني بترك باسكاغولا وشأنها.
  ورنّ الهاتف بطريقة تنذر باندلاع حريق. فضربت باسكاغولا ملعقتها بالقِدر مُحدِثةً رنيناً، والتقطتُ سمّاعة الهاتف قبلها.
  "ستقوم ميني بمساعدتنا". همست آيبيلين.
  فانسللتُ إلى غرفة المؤونة، وجلست على مستوعَب الدقيق الذي اعتدتُ الجلوس عليه. لقد فقدت القدرة على الكلام لمدة خمس ثوانٍ. "متى؟ متى يمكنها البدء؟".
  "الخميس القادم. ولكن، لديها بعض... المطالب".
  "ما هي؟".
  وتوقفت آيبيلين قليلاً. "قالت إنها لا تريد رؤية سيارة الكاديلاك في أي مكان من هذه الناحية من جسر وودرو ويلسون".
  "اتفقنا". قلت. "أظن أن في استطاعتي... قيادة الشاحنة".
  "وقالت... قالت إن ليس في استطاعتك الجلوس معها على جانب واحد من الغرفة. تريد أن تراك وجهاً لوجه طوال الوقت".
  "سوف... أجلس حيثما تريد".
  ولان صوت آيبيلين. "هي لا تعرفك حق المعرفة، هذا كل ما في الأمر. كما أنها تملك ماضياً سيّئاً مع السيدات بيضاوات البشرة".
  "سأقوم بكل ما يتطلّبني الأمر القيام به".
  وخرجتُ من غرفة المؤونة مبتهجة، وعلّقت الهاتف على الجدار. كانت باسكاغولا تراقبني أحمل الكوب الملوّن بيد وبسكويتة باليد الأخرى. فوجّهَت نظرها إلى الأسفل وعادت إلى عملها.
  بعد يومين، قلت لوالدتي إنني أشعر بالذَّنب لأنني أقود الكاديلاك في حين أن كل أولئك الأطفال الفقراء يتضوّرون جوعاً في أفريقيا، وإنني قررت قيادة الشاحنة القديمة في ذلك اليوم. فنظرت إليّ من الكرسي الهزاز الموضوع في الرُّواق الخارجي، مضيّقةً عينيها. وأومأت برأسها، وراقبتني في أثناء قيامي بتشغيل الشاحنة القديمة.
  قدتُ إلى شارع فاريش ستريت، وعلى ظهر الشاحنة حصّادة مروج، وكانت أرضية العربة صدئة. استطعت رؤية لمحات من الرصيف من خلال الأرضية تحت قدمَيّ. ولكنني لم أكن أقطر جرّاراً على الأقل.
  وفتحت آيبيلين الباب ودخلتُ. كانت ميني واقفة في الزاوية الخلفية من غرفة الجلوس واضعةً ذراعَيها بشكل متصالب فوق صدرها الكبير. لقد رأيتها مرات قليلة، عندما كانت تسمح هيلي للسيدة والترز باستضافة نادي البريدج في منزلها. كانت ميني وآيبيلين لا تزالان بلباسهما الرسمي الأبيض.
  "مرحباً". قلت من جانب الغرفة الذي أقف فيه. "تسرّني رؤيتك مجدداً".
  "آنسة سكيتر". أجابت ميني وأومأت برأسها. وجلسَت على كرسي خشبي حملته لها آيبيلين من المطبخ، وأحدث هيكل الكرسي صريراً عندما جلسَت عليه. وجلستُ على الجانب الآخر من الأريكة، في حين جلست آيبيلين على الجانب المقابل بين ميني وبيني.
  فتنحنحتُ، وأطلقتُ ابتسامة تنمّ عن توتّر. كانت سمينة، قصيرة القامة، قوية البنية، وبشرتها أكثر سواداً من بشرة آيبيلين بعشرة أضعاف، برّاقة ومشدودة كحذاء جديدة محميٍّ ببراءة اختراع.
  "سبق لي أن أخبرتُ ميني عن كيفية وضع القصص". قالت لي آيبيلين. "أنت تساعدينني على كتابة قصصي، وهي ستخبرك بقصصها، وتقومين بكتابتها".
  "ويا ميني، كل ما تقولينه هنا يبقى سراً". قلت. "ستتمكنين من قراءة كل ما...".
  "ما الذي يحملك على الظن أن ذوي البشرة الملونة بحاجة إلى مساعدتك؟". ووقفت ميني، وأحدث الكرسي صريراً. "لماذا تهتمين بذلك؟ لا سيما وأنك بيضاء البشرة".
  فنظرتُ إلى آيبيلين. لم يسبق لشخص ذي بشرة ملونة أن تحدث إليّ بهذه الطريقة.
  "كلنا نعمل للأمر نفسه هنا، يا ميني". قالت آيبيلين. "نحن نتحدث ليس إلا".
  "وما هذا الأمر؟". قالت لي ميني وتابعت: "ربما أردتِ أن أخبرك بكل هذه الأمور لأواجه المتاعب بعد ذلك". وأشارت ميني إلى النافذة قائلة: "ميدغار إيفرز، وهو موظف في أن أيه أيه سي بيي، يعيش على بعد خمس دقائق من هنا، فجّروا له موقف سيارته ليل أمس. وتقولين لي للتحدث".
  وتوهّج وجهي من شدة الاحمرار. فتكلمتُ ببطء. "نريد أن نُظهر وجهة نظرك... ليتمكن الناس من فهم طريقة رؤيتك للأمور. نحن... نحن نأمل في أن يتمكن ذلك من تغيير بعض الأمور".
  "ما الذي تظنين أنك ستبدّلينه بواسطة هذه القصص؟ ما القانون الذي تريدين تعديله بحيث ينصّ على معاملة خادمتك بلطف؟".
  "الآن، تمهّلي". قلت. "أنا لا أحاول تغيير أي قوانين هنا. أنا أتحدث فقط عن المواقف و...".
  "تعرفين ما الذي سيحدث إذا عرف الناس بأمرنا؟ كيف لي أن أنسى تلك الحادثة عندما استخدمتُ فيها عرَضاً غرفة تبديل الملابس الخاطئة في متجر ملابس النساء ماكراو، فصُوّبت الأسلحة باتجاه منزلي".
  وكانت هناك لحظات صمت وشعور بالحرَج في الغرفة تخلّلها صوت تكتكة ساعة التايمكس بنّية اللون على الرف.
  "ليس عليك القيام بذلك، يا ميني". قالت آيبيلين. "إذا كنت تريدين تغيير رأيك فلا بأس بذلك".
  وجلست ميني مجدداً على كرسيّها ببطء وحذر. "سأقوم بذلك. أريد التأكد فحسب من أنها تدرك ما يجري. نحن لا نلعب هنا".
  فرمقتُ آيبيلين بنظرات سريعة، وأومأت لي برأسها. فأخذتُ نفَساً عميقاً، وكانت يداي ترتجفان.
  وبدأتُ بطرح الأسئلة التمهيدية، وتطرّقنا بطريقة من الطرائق إلى عمل ميني. كانت تنظر إلى آيبيلين في أثناء تكلّمها كما لو أنها تحاول أن تنسى أنني موجودة في الغرفة. لقد دوّنتُ كل ما قالته، وكان قلمي يحزّ على الورق بسرعة توازي قدرتي على تحريكه. لقد اعتبرنا أن التدوين لا يحمل طابعاً رسمياً كالطبع على الآلة الكاتبة.
  "بعد ذلك، تسلّمتُ عملاً كان عليّ الاستمرار فيه حتى وقت متأخر من كل ليلة. وتعلمين ماذا حدث؟".
  "ما... الذي حدث؟". سألتُ، بالرغم من أنها كانت تنظر إلى آيبيلين.
  "آه، يا ميني". صاحت، "أنت أفضل عاملة منزل حصلنا عليها يوماً. يا ميني الضخمة، سنحتفظ بك للأبد. وذات يوم، قالت إنها ستمنحني إجازة مدفوعة لمدة أسبوع. لم يسبق لي أن حصلت على إجازة، سواءً أكانت مدفوعة أم لا. وعندما عدت بعد أسبوع إلى العمل، كانت قد رحلت. لقد انتقلَت إلى موبايل، وأخبرَت إحداهنّ أنها خشيت من أن أجد عملاً جديداً قبل انتقالها. لم يكن في استطاعة الآنسة لايزي فينغرز تمضية يوم واحد من دون وجود خادمة في انتظارها".
  ووقفَت فجأةً، ورمت حقيبتها على ذراعها. "عليّ الذهاب. أنت تتسببين لي بخفقان سريع في القلب لدى التحدث عن هذه الأمور". وخرجَت، مُغلقةً الباب وراءها بقوة.
  فرفعتُ نظري، ومسحتُ العرَق عن صُدغي.
  "إنها في مزاج جيد". قالت آيبيلين.
الفصل الثالث عشر
  في الأسبوعين التاليين، جلسنا ثلاثتنا في مقاعدنا نفسها في غرفة جلوس آيبيلين الصغيرة والدافئة. كانت ميني تثور غضباً وتهدأ في أثناء قيامها بإخبار قصتها لآيبيلين، وتخرج بعد ذلك مغتاظة كما دخلَت. لقد دوّنتُ أكبر قدر من المعلومات.
  وعندما تتطرّق ميني إلى الآنسة سيليا كقولها: "هي تتنقل خلسةً في الطابق العلوي، ظانّةً أنني لا أراها، ولكنني أعرف أن تلك المرأة المجنونة تقوم بأمر ما هناك". كانت تكتفي بقول القليل على الدوام، كما كانت حال آيبيلين عندما تتحدث عن كونستنتين. "هي ليست جزءاً من قصتي. دعي الآنسة سيليا خارج الموضوع". وكانت تراقبني حتى أتوقف عن الكتابة.
  وإلى جانب غضبها الشديد من ذوي البشرة البيضاء، كانت ميني تحب التحدث عن الطعام. "لنرَ، أضع القرنيات الخضراء أولاً، ومن ثم أستمر في طهو قطع اللحم لأنني، أممم - أممم، أحب إخراجها من المِقلاة ساخنة، كما تعلمين".
  ذات يوم، وبينما كانت تقول، "... حاملةً طفلاً أبيض البشرة على ذراع، وواضعةً القرنيات في القِدر...". توقفَت، ومدّت فكّها إلى الأمام، وضربَت الأرض بقدمها.
  "لا يحصل ذوو البشرة الملونة على حقوقهم. نحن نعمل كل يوم بيومه". وحدّقت إليّ من رأسي حتى أخمص قدمَيّ. "يبدو لي أنك تكتبين سيرة حياة".
  فتوقفتُ عن الكتابة. كانت مُحِقة. لقد أدركتُ أن هذا ما أريد القيام به. فقلت لها: "آمل ذلك". ونهضَت وقالت إن هناك أموراً أكثر أهمية مما آمل في تحقيقه يتعيّن عليها القلق في شأنها.
♦  ♦  ♦
  في مساء اليوم التالي، كنت أعمل في غرفتي في الطابق العلوي، ضاغطةً على مفاتيح آلتي الطابعة من ماركة كورونا. فجأةً، سمعتُ والدتي تصعد السلّم راكضة، ودخلَت غرفتي بعد ثانيتين. "يا أوجينيا!". همسَت.
  فوقفتُ بسرعة لدرجة أن كرسيّ ترنّح، محاولةً إبعاد محتويات ما أقوم بطباعته عن أنظارها. "أجل يا سيدتي؟".
  "لا تهلعي، ولكن هناك رجلاً... رجلاً طويل القامة جداً في الطابق السفلي يريد رؤيتك".
  "من هو؟".
  "قال إن اسمه ستيوارت ويتوورث".
  "ماذا؟".
  "قال إنكما أمضيتما أمسية معاً منذ مدة قصيرة، ولكن، كيف يمكن لذلك أن يحدث، لم أعرف بالأمر...".
  "يا الله".
  "لا تقولي هذا يا أوجينيا فيلان عبثاً. ضعي بعض أحمر الشفاه فقط".
  "صدقيني يا أمي". قلت، ووضعتُ أحمر الشفاه على كل حال.
  ومشّطتُ شعري لأنني عرفتُ أنه مروّع. وغسلتُ كذلك حبر الآلة الطابعة وسائل التصحيح عن يدَيّ ومِرفقَيّ. ولكنني لم أكن أريد تبديل ملابسي لأجله.
  فنظرت إليّ والدتي بسرعة من رأسي حتى أخمص قدمَيّ بثيابي القطنية الخشنة، وقميص والدي البيضاء القديمة. "هل هو من عائلة ويتوورث المقيمة في غرينوود أو ناتشيز؟".
  "هو ابن السيناتور".
  فانخفض فكّ والدتي لدرجة أنه كاد يلامس عقد اللؤلؤ. ونزلتُ السلّم، مارّةً بمجموعة لوحات منذ سنّ الطفولة، كانت عبارة عن صور لكارلتون معلّقة على امتداد الجدار وقد التُقط بعض منها منذ يومين، وصور لي منذ طفولتي وحتى سنّ الثانية عشرة. "أمي، امنحينا بعض الخصوصية". وشاهدتها تجرّ نفسها ببطء إلى غرفتها، ملقيةً نظرة سريعة فوق كتفها قبل أن تتوارى عن الأنظار.
  وخرجتُ إلى الرُّواق الخارجي حيث كان ستيوارت ويتوورث بنفسه واقفاً هناك بعد ثلاثة أشهر من موعدنا، مرتدياً بنطالاً بلون الكاكي، ومعطفاً أزرق، وربطة عنق حمراء، كما لو أنه مستعدّ لعشاء الأحد.
  يا له من غبي.
  "ما الذي أتى بك إلى هنا؟". سألتُ، من دون أن أبتسم. فأنا لا أبتسم له.
  "أردت فقط... المرور بك".
  "حسناً. هل يمكنني تقديم كأس مشروب إليك؟". سألت. "أم يُفترض بي أن أحضر لك زجاجة الشراب بأكملها؟".
  فقطّب جبينه. كان أنفه وجبينه زهريي اللون كما لو أنه عمل تحت أشعة الشمس. "انظري، أعرف أن... الأمر حدث منذ زمن، ولكنني قدمت إلى هنا لأُعرب لك عن أسفي".
  "من أرسلك هيلي؟ وليام؟". وكانت هناك ثمانية كراسٍ فارغة في رُواقي الخارجي، فلم أدعُه للجلوس على أي منها.
  ونظر إلى حقل القطن الجنوبي حيث الشمس تغوص في التربة، ووضع يدَيه في جيبَيه الأماميَّين كما لو أنه فتى في الثانية عشرة من عمره. "أعلم أنني كنت... فظاً تلك الليلة، ولا أزال أفكر في الأمر كثيراً و...".
  فضحكتُ عندئذٍ، وكنت مُحرَجة كثيراً بسبب قدومه إلى منزلي للاعتذار.
  "الآن انظري". قال: "قلت لهيلي عشر مرات إنني غير مستعد للخروج في أي موعد. حتى إنني لم أكن شبه مستعدّ...".
  فصررتُ أسناني. لم يكن في استطاعتي التصديق أنني شعرت بحرارة دموعي في ذلك الموعد لا سيما وأنه جرى قبل أشهر. ولكنني تذكرت كم كنت مهمَلة في تلك الليلة، وكيف أنني تهندمتُ لأجله. "إذاً، لماذا أتيت؟".
  "لا أعرف". وهز رأسه. "تعرفين إصرار هيلي".
  ووقفت هناك في انتظار معرفة سبب قدومه. ومرّر يده على شعره البنّي الفاتح، القوي، والكثيف إلى حد ما. لقد بدا ستيوارت مُتعَباً.
  فأشحتُ بنظري لأنه بدا جذّاباً كفتى مُفرط في النُّضج، وهو أمر لم أكن أريد التفكير فيه في تلك المرحلة. لقد أردته أن يرحل، لم أكن راغبة في اختبار ذلك الشعور المروّع مجدداً، ومع ذلك، فقد سمعت نفسي أقول: "ماذا تعني أنك غير مستعدّ؟".
  "غير مستعدّ فحسب. ليس بعد ما حدث".
  فحدّقت إليه. "تريدني أن أحزر؟".
  "أنا وباتريشا فان ديفندر، كنا مخطوبَين العام الماضي ومن ثم... ظننت أنك على عِلم بالأمر".
  وغاص في كرسيّ هزاز، ولم أجلس بجانبه. ولكنني لم أطلب منه المغادرة.
  "ماذا، هل فرَّت مع شخص آخر؟".
  "تبّاً". وأسقط رأسه بين يدَيه، وتمتم قائلاً: "كان الأمر أشبه بحفلة ماردي غرا لعينة".
  فلم أسمح لنفسي بقول ما رغبتُ في قوله له، وهو أنه يستحق ذلك مهما فعلَت به، ولكنه كان مثيراً للشفقة. وتساءلتُ عما إذا كان مثيراً للشفقة على الدوام من دون تناول الشراب.
  "كنا نخرج في مواعيد مذ كنا في الخامسة عشرة من العمر. تعرفين كيف يكون الأمر عندما تكونين على علاقة وثيقة مع أحدهم طوال تلك المدة".
  ولم أعرف سبب إقراري بالأمر، ولكن، لم يكن هناك ما أخسره. "في الواقع، لا أعرف". قلت. "لم أخرج من قَبل في موعد مع أحد".
  فرفع نظره إليّ، وضحك تقريباً. "حسناً، لا بد أنه السبب".
  "أي سبب؟". قلت، وتذكرت تلميحاته عن السَّماد والجرّار.
  "أنتِ... مختلفة. لم يسبق لي أن قابلتُ أحداً يبوح بما يفكر فيه. ولا حتى امرأة، على كل حال".
  "صدّقني، هناك المزيد مما يتعيّن عليّ قوله".
  وتنهّد قائلاً: "عندما رأيتُ وجهك هناك في الخارج بجانب الشاحنة... لستُ من ذلك النوع من الأشخاص. لستُ سخيفاً".
  فأشحت بنظري، مُحرَجة. لقد بدأتُ أتأثر في ما يقول، وهو أنني مختلفة عن الأخريات ليس بطول قامتي على نحو غريب أو غير عادي فحسب، بل بأمور حسنة أخرى.
  "لقد مررتُ بك لأرى إذا كنت ترغبين في مرافقتي إلى وسط المدينة لتناول العشاء. يمكننا التحدث". قال، ووقف. "يمكننا... لا أعلم، الإصغاء إلى بعضنا بعضاً هذه المرة".
  فوقفت هناك، مصدومة. كانت عيناه زرقاوَين، وصادقتين، ومثبّتتين عليّ كما لو أن جوابي على دعوته هامّ بالنسبة إليه. فأخذت نفَساً عميقاً، وكنت على وشك أن أقول أجل أعني، لماذا أرفض وعضّ شفته السفلية، منتظراً.
  حينئذٍ، فكرت في طريقة معاملته لي كما لو أنني نكرة، وكيف أنه ثمل وكان بائساً بسبب اضطراره إلى المكوث معي. وفكرت كيف قال لي إن رائحة السَّماد تفوح منّي. لقد تطلّبني الأمر ثلاثة أشهر للكف عن التفكير في ذلك التعليق.
  "لا". قلت. "شكراً لك. ولكن لا يمكنني أن أتصوّر حدوث أمور أكثر سوءاً".
  فأومأ برأسه، ووجّه نظره نحو قدمَيه، ونزل درج الرُّواق الخارجي.
  "آسف". قال، بينما كان باب سيارته مفتوحاً. "هذا ما جئت لأقوله، و، حسناً، أظن أنني قلته".
  ووقفت في الرُّواق أستمع إلى أصداء المساء، وصوت الحصى تحت أقدام ستيوارت، وصوت الكلاب التي بدأت تجوب تلك الناحية لدى هبوط الظلام. وتذكرت في لحظة من الزمن تشارلز غراي وقبلتي الوحيدة في الحياة، وكيف أنني انسحبت لأنني كنت واثقة من أنني لم أكن المعنية بالقبلة.
  فدخل ستيوارت سيارته وأغلق الباب. ورفع ذراعه ووضع مِرفقه على جانب النافذة المفتوحة، مُبقياً نظره نحو الأسفل.
  "أمهلني دقيقة فحسب". صحتُ. "دعني أحضر كنزتي الصوفية".
  لا أحد يخبرنا، نحن الفتيات اللواتي لا نخرج في مواعيد، أنه يمكن للذكرى أن تكون جميلة بقدر جمال عَيش الحدث نفسه. صعدت والدتي إلى الطابق الثالث، ووقفت فوقي عندما كنت مستلقية على السرير، ولكنني تظاهرت أنني نائمة لأنني أردت تذكّر الحدث لمدة قصيرة من الزمن.
  كنا قد توجّهنا الليلة السابقة إلى روبرت لتناول العشاء. قبل ذلك، ارتديت كنزة صوفية زرقاء فاتحة اللون وتنورة بيضاء، وسمحت لوالدتي بتمشيط شعري، محاوِلةً تجنّب تعليماتها المعقّدة.
  "ولا تنسي أن تبتسمي. الرجال لا يحبون الفتيات المكتئبات طوال الليل، ولا تجلسي كهندية حمراء. اشبكي...".
  "انتظري، ساقيّ أم كاحليّ...".
  "كاحلَيك. ألا تتذكرين أي شيء من صف السيدة رايمر حول آداب السلوك؟ واكذبي عليه وقولي له إنك تذهبين إلى دار العبادة كل يوم أحد. ومهما فعلتِ، لا تسحقي الثلج بأسنانك عندما تكونين على المائدة. إنه أمر مروِّع. آه، وإذا بدأ يفتُر الحديث، أخبريه عن نسيبنا الذي يشغل منصب عضو مجلس المدينة في كوشيوسكو...".
  وبينما كانت تمشط شعري وتملّسه مراراً وتكراراً، استمرت والدتي في طرح أسئلة عليّ حول كيفية لقائه وما حدث في موعدنا الأخير، ولكنني تمكنت من الفرار من تحت يدَيها ونزول درجات السلم بسرعة، مترنّحةً بسبب تساؤلاتي وعصبية مزاجي. وعندما دخلت وستيوارت الفندق، وجلسنا، ووضعنا فوط المائدة على حضنينا، قال النادل إنهم سيُقفلون قريباً، ولم يقدّموا لنا سوى التحلية.
  بعد ذلك، التزم ستيوارت الهدوء.
  "ماذا... تريدين يا سكيتر؟". سألني وشعرت بتوتّر، آملةً في ألا يكون يخطط للثمل مجدداً.
  "أريد كوكا - كولا مع الكثير من الثلج".
  "لا". وابتسم. "أعني... في الحياة. ما الذي تريدينه؟".
  فأخذت نفَساً عميقاً، مُدرِكةً ما قد تكون نصيحة والدتي لي المتمثلة بأطفال أقوياء، زوج يعتني بعائلته، وأوانٍ جديدة ولمّاعة لطهو وجبات لذيذة وصحية. "أريد أن أكون كاتبة". قلت. "صحافية، وربما روائية. ربما أكون الاثنين معاً".
  فرفع ذقنه ونظر إليّ مباشرةً.
  "يعجبني ذلك". قال، واستمر في التحديق. "كنت أفكر فيك باستمرار. أنت ذكية، أنت جميلة، أنت". وابتسم: "طويلة القامة".
  جميلة؟
  لقد تناولنا السوفليه بالفراولة، وشرب كل منا كأس شراب فرنسي. وتحدّث عن كيفية معرفة وجود نفط تحت حقل قطن، وأخبرته أنني وموظفة الاستقبال المرأتان الوحيدتان اللتان تعملان في الصحيفة.
  "آمل في أن تكتبي حقاً شيئاً جيداً، شيئاً تعتقدين به".
  "شكراً لك. آمل... ذلك أيضاً". ولم أقل أي شيء عن آيبيلين أو السيدة شتاين.
  لم تتسنَّ لي الفرصة للنظر إلى العديد من وجوه الرجال عن قُرب، ولاحظت كم كانت بشرته أسمك من بشرتي، وكيف أن الشعر القاسي على خدَّيه وذقنه ينمو أمام عينيّ. كانت تفوح منه رائحة شبيهة بالنشاء والصنوبر، ولم يكن أنفه مستدقّ الرأس بالرغم من كل شيء.
  وتثاءب النادل في الزاوية، ولكننا تجاهلناه وبقينا جالسَين، وتحدثنا لمزيد من الوقت. وبينما كنت أتمنى لو أنني فركت أسناني على الأقل وغسلت شعري في صباح ذلك اليوم ليزداد تألّقاً، قام بتقبيلي بشكل مفاجئ. لقد قبّلني وسط مطعم روبرت ببطء وبفم مفتوح.
  بعد ظهر أحد أيام الاثنين، وبعد أسابيع قليلة من موعدي مع ستيوارت، توقفتُ عند المكتبة قبل التوجه إلى اجتماع الرابطة. كانت الرائحة في الداخل مماثلة لرائحة المدرسة الابتدائية، كرائحة طعام عجيني، تقيّؤ ليزولد. لقد مررتُ للحصول على مزيد من الكتب لآيبيلين، والتحقق مما إذا كُتب شيء ما عن عاملات المنازل.
  "أنت هناك، يا سكيتر!".
  يا الله. إنها سوزي برنيل. كان بالإمكان انتخابها في المدرسة الثانوية الشخص الأكثر رغبة في الكلام. "سوزي. ماذا تفعلين هنا؟".
  "أعمل هنا لصالح لجنة الرابطة، ألا تتذكرين؟ يتعيّن عليك دخول اللجنة، يا سكيتر، الأمر ممتع حقاً! عليك قراءة كل الإصدارات الأخيرة للمجلات، ووضع كل الأمور في إضبارات، لا بل تصفيح بطاقات المكتبة أيضاً". ووقفت سوزي أمام الماكينة البنّية الضخمة كما لو أنها مشاركة في البرنامج التلفازي السعر صحيح.
  "يا لها من فكرة جديدة ومثيرة".
  "إذاً، ما الذي يمكنني أن أساعدك على إيجاده، يا سيدتي؟ لدينا روايات بوليسية عن جرائم قتل، قصص حب، كيفية ترتيب المواد الطباعية المنضّدة للكتب". وتوقفَت، وأطلقَت ابتسامة سريعة: "زراعة الورد، تزيين المنزل...".
  "أقوم بالتصفّح ليس إلا، شكراً". وأسرعتُ. كنت أريد الابتعاد عن نظرها بين كُوَم الكتب، فمن غير الممكن أن أقول لها عما أبحث، وكان في استطاعتي سماعها تتهامس مع الأخريات في اجتماعات الرابطة، كنت أعلم بوجود أمر غير سويّ في شأن سكيتر فيلان، البحث عن تلك المواد المتعلقة بالزنوج...
  وبحثت بين البطاقات المفهرَسة وعلى الرفوف من دون أن أجد شيئاً عن عاملات المنازل. وفي قسم الكتب غير الخيالية، رأيت نسخة واحدة لفريديريك دوغلاس، عبد أميركي. فالتقطته، وشعرتُ بحماسة كبيرة لتسليمه إلى آيبيلين، ولكنني رأيت الجزء الأوسط ممزَّقاً عندما فتحته، وهناك عبارة كتاب عن الزنوج بحِبر أرجواني. ولم تقلقني الكلمات بقدر ما أقلقني واقع أن خط اليد يبدو كما لو أنه يعود إلى طالب في الصف الثالث من المدرسة الثانوية. فألقيتُ نظرة سريعة من حَولي، ووضعتُ الكتاب في حقيبتي المدرسية. لقد بدا لي ذلك أفضل من إعادته إلى الرف.
  في غرفة تاريخ الميسيسيبي، بحثت عن أي شيء له علاقة بالعلاقات العرقية. فوجدت كتباً عن الحرب الأهلية، وخرائط، وكتباً قديمة عن دليل الهاتف. ووقفتُ على أطراف أصابعي لرؤية ما يوجد على الرف الأعلى. عندها، رأيتُ كتيّباً موضوعاً بشكل جانبي فوق فهرس فيضان وادي نهر الميسيسيبي، ولما استطاع شخص طويل القامة على نحو عادي أن يراه أبداً. فسحبتُه لإلقاء نظرة على الغلاف. كان الكتيّب رقيقاً ومطبوعاً على ورق قويّ شفاف، ملويّ، أوراقه مجموعة برزّات، وكُتب على الغلاف مجموعة قوانين جيم كرو الخاصة بالجنوب. ففتحت صفحة الغلاف مُحدثةً بعض الضوضاء.
  فالكتاب يعدّد ببساطة القوانين التي تشير إلى ما يمكن وما لا يمكن لذوي البشرة الملونة القيام به وفقاً للولايات الجنوبية. وألقيت نظرة على الصفحة الأولى، وأربكني وجودها في ذلك الكتاب. فالقوانين لا تشكل تهديداً ولا تخاطب وُدّ ذوي البشرة الملونة، إنها تعرض الوقائع فحسب:
يجب على أحد ألاّ يطلب من أي أنثى بيضاء البشرة أن تعمل في الأجنحة أو الغرف التي يوجد فيها رجال ذوو البشرة الملونة.
يحظَّر على ذي البشرة البيضاء الزواج إلا بذي بشرة بيضاء. ويُبطَل كل زواج ينتهك هذه الفقرة.
يُمنع أي مزيّن شعر ذو بشرة ملونة من العمل كمزيّن شعر للنساء أو الفتيات.
يُمنع الموظف المسؤول من دفن أي أحد من ذوي البشرة الملونة في مكان مخصص لدفن ذوي البشرة البيضاء.
يُمنع تبادل الكتب بين مدارس ذوي البشرة الملونة ومدارس ذوي البشرة البيضاء، ولكن، يجب استمرار العرق الذي استخدمها أولاً في استخدامها.
  لقد قرأت أربع صفحات من أصل خمس وعشرين صفحة، مذهولة بعدد القوانين القائمة للفصل بيننا. فلا يُسمح للزنوج وبيض البشرة بتشاطر مياه الينابيع، ودور السينما، والاستراحات العامة، والمتنزهات المخصصة للعب الكرة، وكتب دليل الهاتف، وعروض السيرك. ولا يمكن للزنوج دخول الصيدلية التي أدخلها أو شراء طوابع بريدية من النافذة التي أستخدمها. ففكرت في كونستنتين، وفي اصطحاب عائلتي لها إلى مِمفيس، وفي اضطرارنا إلى القيادة من دون توقف لأننا نعلم أن الفنادق لا تسمح لها بالدخول. وفكرت كيف أن أحداً من ركّاب السيارة لم يُشر إلى الأمر، كنا كلنا نعرف هذه القوانين ونعيش هناك من دون أن نتحدث عنها. لقد كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذه القوانين مكتوبة.
  مِنضدات الغداء، المعرض الذي تنظّمه الولاية، طاولات الرهانات، المستشفيات. وكان عليّ قراءة القانون رقم سبعة وأربعين مرتين بسبب أسلوبه الساخر.
  يجب على الإدارة توفير مبنى منفصل على أراض منفصلة لتدريس كل المكفوفين من ذوي البشرة الملوّنة.
  وبعد عدة دقائق، توقفت عن القراءة قائلةً لنفسي إنني لن أضع كتاباً عن التشريعات الجنوبية لأنه مضيعة للوقت. ولكنني أدركت حينذاك، وعلى نحو مفاجئ، أن لا فَرق بين هذه القوانين الحكومية وقيام هيلي ببناء حمّام لآيبيلين في المرأب سوى أن هناك عشر دقائق من التواقيع في عاصمة الولاية في الحال الأولى.
  وفي الصفحة الأخيرة، رأيت عبارة مطبوعة بحجم بيكا جاء فيها مِلكية تابعة لمكتبة الميسيسيبي القانونية. لقد أُعيد الكتيّب إلى المبنى الخاطئ. فدوّنتُ ملاحظتي على قطعة ورق وضعتها داخل الكتيّب، مخطط جيم كرو أو مخطط حمّام هيلي، ما الفرق؟ ووضعته في حقيبتي خِلسةً. وعطست سوزي من وراء المكتب في الناحية الأخرى من القاعة.
  فتوجّهتُ إلى المخرج. كان يتعيّن عليّ حضور اجتماع للرابطة بعد ثلاثين دقيقة. وأطلقتُ ابتسامة شديدة الودّ لسوزي التي كانت تهمس عبر الهاتف. وبدا الكتابان المسروقان في حقيبتي كما لو أنهما ينبضان من شدة الانفعال.
  "يا سكيتر". قالت سوزي مهسهِسة من وراء مكتبها، وعيناها مفتوحتان واسعاً. "هل صحيح أنك قابلتِ ستيوارت ويتوورث؟". وشدّدَت على كلمة أنكِ كي أستمر في الابتسام. فتصرّفتُ كما لو أنني لم أسمعها، وخرجتُ إلى أشعة الشمس الساطعة. لم يسبق لي أن سرقت أي شيء في حياتي قبل ذلك اليوم. لقد شعرتُ ببعض الرضى لأن الأمر جرى في أثناء دوام عمل سوزي.
  كانت اهتماماتي مختلفة على نحو متوقَّع عن اهتمامات صديقاتي. فإليزابيت تنحني فوق ماكينة الخياطة وتحاول إخفاء الدَّرزات في ملابسها لتبدو كما لو أنه تم شراؤها من المتجر. وأنا أدوّن على آلتي الكاتبة أموراً بليغة لن أملك الجرأة أبداً على البَوح بها. وهيلي تقول من وراء المنبر لخمس وستين امرأة إن ثلاث علب غير كافية لإطعام أطفال أفريقيا المتضوّرين جوعاً. ومع ذلك، تعتقد ماري جولاين واكر أن المواد الغذائية المتوافرة تزيد عن الحاجة المطلوبة.
  "أليس إرسال كل هذه العلب عبر العالم إلى أثيوبيا أمراً مرتفع التكلفة؟". سألَت ماري جولاين. "أليس من المنطقي أكثر إرسالها على صورة شيكات مصرفية؟".
  لم يكن الاجتماع قد بدأ رسمياً، ولكن هيلي كانت واقفة وراء المنبر وبدا الاضطراب في عينيها. لم يكن الوقت المفضّل في أمسياتنا، ولكن هيلي دعته جلسة إضافية في فترة بعد الظهر. ففي حزيران/يونيو، يغادر عدد كبير من الأعضاء المدينة لتمضية إجازات الصيف في الخارج. وبعد ذلك، تغادر هيلي في تموز/يوليو للقيام برحلتها السنوية إلى الشاطئ لمدة ثلاثة أسابيع، يصعب عليها الاتكال على مدينة برمّتها للقيام بأعمالها على النحو الملائم.
  فقلّبت هيلي عينيها. "لا يمكنك إعطاء هؤلاء الناس القبليّين المال، يا ماري جولاين. فلا وجود لمتجر جيتني 14 في صحراء أوغادن. وأنّى لنا أن نعرف أنهم يُطعمون أبناءهم وبناتهم بالمال المرسَل إليهم؟ قد يقصدون الخيمة المحلية للفودو ويحصلون على وشم بمالنا".
  "حسناً". قالت ماري جولاين، متمايلة، وبدت مقتنعة بوجهة نظر هيلي. "أظن أنك أكثر اطّلاعاً على الموضوع". ولطالما كان لعيني هيلي المنتفختين تأثير في الناس يجعلها رئيسة ناجحة للرابطة.
  وشققتُ طريقي عبر قاعة الاجتماع المحتشدة، شاعرةً بدفء النظرات المتجهة إليّ كما لو أنه ضوء مُسلَط عليّ. كانت القاعة مليئة بآكلات الكاتو، وشاربات التاب، ومدخّنات السجائر، وكلّهنّ بمثل سنّي تقريباً. وكنّ يهمسن بآذان بعضهنّ بعضاً، موجّهات أنظارهنّ نحوي.
  "يا سكيتر". قالت ليزا بريسلي قبل أن أصل إلى أباريق القهوة: "هل صحيح أنك كنت في مطعم روبرت قبل أسابيع قليلة؟".
  "هل هذا صحيح؟ هل تقابلين حقاً ستيوارت ويتوورث؟". قالت فرانسز غرينبو.
  لم تكن كل الأسئلة غير لطيفة، وذلك بخلاف السؤال الذي طرحته عليّ سوزي في المكتبة. ومع ذلك، فقد هززت كتفَيّ، محاولةً التغاضي عن أنّ طرح أسئلة على فتاة عادية يُعتبر مجرّد جمع للمعلومات، في حين أن هذه المعلومة تصبح خبراً عندما يتعلق الأمر بسكيتر فيلان.
  ولكن الأمر صحيح. لقد قابلتُ ستيوارت ويتوورث منذ ثلاثة أسابيع. قابلته مرتين في روبرت، إذا ما أضفتم الموعد الكارثي الأول، وثلاث مرات إضافية بينما كنا جالسَين في الرُّواق الخارجي الأمامي لمنزلي نتناول المشروب قبل أن يعود بسيارته إلى فيكسبرغ. وبقي والدي مستيقظاً حتى ما بعد الساعة الثامنة للتحدث إليه. "عُمتَ مساءً، يا بُنيّ. قل للسيناتور إننا نقدّر له تخفيض قيمة فاتورة الضريبة تلك الخاصة بالمزرعة". كانت والدتي ترتجف ويتنازعها خوفٌ من أن أُفسد الأمر وسعادةٌ لأنني أحب الرجال حقاً.
  وتبعتني الأنظار المحدّقة والمتسائلة بينما كنت أشق طريقي نحو هيلي. وكانت الفتيات يبتسمن ويومئن برؤوسهنّ لي.
  "متى ستتقابلان مجدداً؟". سألت إليزابيت، لاويةً فوطة المائدة بأصابعها، وفاتحةً عينيها واسعاً كما لو أنها تحدّق إلى حادث سير. "هل قال لك؟".
  "مساء غد حالما يصل إلى منزلنا".
  "جيد". وابتسمت هيلي على غرار طفل سمين منتظر عند نافذة مثلجات سيل - ليلي، ونتأ زرّ معطفها الأحمر. "سنجعله موعداً مزدوجاً إذاً".
  فلم أُجب. لم أكن أريد أن تقوم هيلي ووليام بمرافقتنا. أردت فقط الجلوس مع ستيوارت لينظر إليّ من دون سواي. عندما كنا بمفردنا لمرّتين، قام بإعادة شعري إلى الوراء عندما انسدل على عينيّ. فهو قد لا يعيد شعري إلى الوراء إذا كانا موجودَين.
  "سيتصل وليام بستيوارت الليلة. لنذهب إلى معرض الصور".
  "حسناً". قلت متنهّدة.
  "أتحرّق شوقاً لمشاهدة إنه عالم مجنون، مجنون، مجنون، مجنون. ألن تكون مشاهدته أمراً ممتعاً". قالت هيلي. "أنت وأنا ووليام وستيوارت".
  لقد أذهلتني طريقة ترتيبها للأسماء. كانت تخطط كما يبدو لبقاء وليام وستيوارت معاً بدلاً من بقائي مع ستيوارت. أعرف أنني أُصبت بالذهانة الارتيابية، ولكن، كل شيء كان يدعوني للاحتراس. فقبل ليلتين، وحالما عبرت الجسر المخصص لذوي البشرة الملوّنة، أوقفني رجل شرطة، وسلّط نور مصباحه على الناحية الداخلية للشاحنة، مركّزاً على الحقيبة المدرسية. فسألني عن رخصة القيادة وعن المكان الذي أتوجه إليه. "أحمل شيكاً مصرفياً لخادمتي... كونستنتين. لقد نسيتُ أن أدفع لها". وتوقف شرطيّ آخر في المكان واقترب من نافذتي. "لماذا أوقفتني؟". سألت، وبدا صوتي مرتفعاً أضعافاً مضاعفة مما يكون عليه في العادة. "هل حدث شيء؟". سألت، وكان قلبي يخفق بقوة في صدري. ماذا لو بحث في حقيبتي المدرسية؟
  "بعض اليانكي من الشمال يثيرون المتاعب. سنمسك بهم، يا سيدتي". قال، مربّتاً على هراوته. "أنجزي عملك وعودي عن طريق الجسر".
  وعندما وصلت إلى شارع آيبيلين، ركنتُ الشاحنة على مسافة أبعد من المسافة المعتادة. وتوجهتُ إلى بابها الخلفي بدلاً من استخدام الباب الأمامي. كنت أرتجف بشدة في الساعة الأولى لدرجة أنني كدت لا أستطيع قراءة الأسئلة التي أعددتها لميني.
  وضربت هيلي المنبر بالمطرقة دلالةً على بدء الاجتماع بعد خمس دقائق. فعدت إلى الكرسيّ، ووضعتُ حقيبتي المدرسية في حضني، وتفقدتُ محتوياتها ووقع نظري على كتيّب جيم كرو الذي سرقته من المكتبة. في الواقع، كانت حقيبتي المدرسية تحتوي على كل الأعمال التي أنجزتها، كمقابلات آيبيلين وميني، الخطوط الرئيسة للكتاب، لائحة بالخادمات المحتملات، إجابة قاسية كتبتها لهيلي ردّاً على مبادرتها المتعلقة بالحمّامات ولم أُرسلها عبر البريد، كل ما لا أستطيع تركه في المنزل مخافة قيام والدتي بالتطفل على أغراضي. كنت أبقيها كلها في جَيب جانبي ذات سحّاب مخفيّ تحت حاشية جِلدية متدلّية.
  "يا سكيتر، بناطيل البوبلين تلك هي الأشياء الأكثر ظُرفاً، لماذا لم يسبق لي أن رأيتها من قَبل؟". قالت كارول رينغر الجالسة على بُعد عدد قليل من الكراسي، ونظرتُ إليها وابتسمتُ، قائلةً في نفسي لأنني لا أجرؤ على ارتداء ملابس قديمة لحضور اجتماع، كما أنك لا تجرؤين على ذلك أيضاً. كانت الأسئلة المرتبطة بالثياب تثير حفيظتي بعد كل التعليقات التي سمعتها من والدتي طوال سنوات عديدة.
  وشعرت بيد على كتفي الأخرى، فاستدرت ورأيت هيلي تضع إصبعها على الكتيّب مباشرةً داخل حقيبتي المدرسية. "هل لديك المدوّنات الخاصة بالنشرة الدَّورية في الأسبوع المقبل؟ هل هي معك؟". لم أرها تقترب مني.
  "لا، انتظري!". قلت، وأخفيتُ الكتيّب بهدوء بين أوراقي. "أحتاج إلى... تصحيح أمر واحد. سأسلّمك إياها بعد قليل".
  وأخذتُ نفَساً عميقاً.
  عند المنبر، كانت هيلي تنظر إلى ساعتها، وتلهو بالمطرقة كما لو أنها تتحرق شوقاً لضربها على الطاولة. فدفعتُ بحقيبتي المدرسية إلى تحت الكرسي، وبدأ الاجتماع أخيراً.
  ودوّنتُ الخبر المتعلق بأطفال أفريقيا المتضوّرين جوعاً المُدرَج على لائحة المصاعب التي يتعيّن مواجهتها. كانت روزنامة الأحداث مليئة بلقاءات للّجنة، وطرح أسئلة حول الأطفال، فبدّلتُ وضعية جلوسي على الكرسي الخشبي آملةً في انتهاء الاجتماع قريباً. كان يتعيّن عليّ إعادة سيارة والدتي عند الثالثة.
  وعند الثانية وخمس وأربعين دقيقة، أي بعد ساعة ونصف من بدء الاجتماع، خرجتُ مسرعة من القاعة الحارة باتجاه الكاديلاك، مجازفةً بإدراج اسمي على لائحة المشاكل لأنني غادرت باكراً، ولكن، ما الأسوأ بحق الله، غضب الوالدة أم غضب هيلي؟
  دخلتُ المنزل قبل خمس دقائق من الساعة الثالثة، مدندنةً أَحبّني حقاً ومفكرةً بوجوب شراء تنورة قصيرة كالتي كانت جيني فوشيه ترتديها في ذلك اليوم. قالت إنها اشترتها من مدينة نيويورك من متجر برغدورف غودمان. ولو شاهدتني والدتي أرتدي تنورة قصيرة فوق الركبة عندما يقوم ستيوارت باصطحابي من المنزل يوم السبت لوقعَت مَغشيّاً عليها.
  "أمي، لقد عدتُ". ناديتُ في مدخل المنزل.
  فسحبتُ زجاجة كوكا - كولا من الثلاّجة، وتنهدتُ وابتسمتُ، شاعرةً أنني قوية وفي أفضل حال. وتوجهتُ إلى الباب الأمامي لإحضار حقيبتي المدرسية وكلّي استعداد لتنقيح مزيد من قصص ميني. كانت متلهّفة للتحدث عن سيليا فوت، ولكنها تتوقف باستمرار قبل دقيقة من التطرّق إلى الموضوع وتغيّر الحديث. ورنّ الهاتف فأجبت، ولكن الاتصال كان لباسكاغولا. فدوّنتُ الرسالة على إضمامة الورق. إنها يول ماي، خادمة هيلي.
  "مرحباً، يا يول ماي". قلت، مفكرةً كم أن المدينة صغيرة. "سأُبلغها الرسالة عندما تعود". واتكأت للحظات على المنضدة، متمنّيةً لو كانت كونستنتين موجودة هناك. كم أحببت مشاطرتها كل أمر يحصل معي في أثناء اليوم.
  فتنهدتُ، وأنهيت زجاجة الكوك، وتوجهتُ من ثم إلى الباب الأمامي لإحضار حقيبتي المدرسية، ولكنني لم أجدها. فخرجت وبحثت في السيارة، ولكنني لم أعثر عليها. وفكرتُ، وصعدتُ السلّم، شاعرةً أنني أصبحت شاحبة اللون. هل صعدتُ إلى الطابق العلوي؟ فبحثت في غرفتي، ولكنني لم أجدها. أخيراً، وقفت بلا حراك في غرفة نومي الهادئة، وبدأ الخدَر يزحف إلى عمودي الفِقري. كل شيء موجود في الحقيبة المدرسية.
  إنها والدتي، قلت لنفسي، واندفعتُ إلى الطابق السفلي وألقيت نظرة على غرفة الاستجمام. ولكنني أدركت فجأةً أنها ليست مع والدتي لقد شعرتُ بالخدَر في كل جسمي عندما عرفتُ مكان الحقيبة. لقد تركت حقيبتي المدرسية في مقرّ الرابطة، لأنني كنت على عجَلة كبيرة من أمري لإعادة سيارة والدتي إلى المنزل. ورنّ الهاتف، وعرفتُ أن هيلي موجودة على الجانب الآخر من الخط.
  فالتقطتُ الهاتف عن الجدار، ونادت والدتي من الباب الأمامي، مودّعة.
  "آلو؟".
  "كيف يمكنك ترك هذا الشيء الثقيل؟". سألت هيلي. لم تكن هيلي تتورّع أبداً عن التنقيب في أغراض الآخرين. في الواقع، كانت تستمتع بذلك.
  "يا أمي، انتظري قليلاً!". صحت من المطبخ.
  "يا الله، يا سكيتر، ماذا في داخلها؟". قالت هيلي. كان عليّ اللحاق بوالدتي، ولكن صوت هيلي خمد كما لو أنها تنحني، وتفتح الحقيبة.
  "لا شيء! إنها... كل رسائل الآنسة ميرنا تلك فحسب، تعلمين".
  "حسناً، سأجرّها إلى منزلي، لذلك مرّي بي متى استطعتِ لأخذها".
  وشغّلت والدتي محرك السيارة في الخارج. "أبقيها هناك... فحسب. سأمرّ وآخذها في أسرع وقت ممكن".
  فخرجتُ بأقصى سرعة ممكنة، ولكن والدتي كانت قد انطلقت في الطريق الخاصة بالمنزل. ونظرتُ في أنحاء المكان ووجدتُ أن الشاحنة القديمة غير موجودة أيضاً لأنها تبذر بزور القطن في مكان ما من الحقول. كنت مروَّعة جداً لدرجة أنني شعرتُ بحرارة في معدتي كما لو أنها آجرّة في الشمس الحارقة.
  في الطريق، رأيت الكاديلاك تبطئ، ومن ثم تتوقف. وانطلقَت مجدداً، وتوقفَت. واستدارَت بعد ذلك وعادت أدراجها بشكل متعرّج... ها إن والدتي تعود.
  "لا يمكنني التصديق أنني نسيت كَسرولة سو آن...".
  فقفزتُ إلى مقعد الركاب الأمامي، وانتظرت عودتها إلى السيارة. ووضعَت يديها على عجَلة القيادة.
  "هل توصلينني إلى منزل هيلي؟ أريد إحضار غرض ما". وضغطتُ يدي على جبيني. "آه، يا الله، أسرعي يا أمي قبل أن أتأخر كثيراً".
  ولكن سيارة والدتي لم تتحرك. "يا سكيتر، عليّ القيام بكثير من الأمور اليوم...".
  وبلغت تأثيرات الذُّعر حَلقي. "يا أمي، رجاءً، قودي فحسب...".
  ولكن الكاديلاك دوفيل غرقت في الحصى وبدأت تُصدر تكتكات كما لو أنها قنبلة موقوتة.
  "انظري". قالت والدتي: "عليّ القيام ببعض المهام الخاصة ولا أظن أن الوقت ملائم لاصطحابك معي".
  "لا يتطلبك الأمر سوى خمس دقائق. قودي فحسب، يا أمي!".
  كانت والدتي تضع قفّازَين أبيضَين، وأبقت يدَيها على عجَلة القيادة، مُطبِقةً شفتيها بإحكام.
  "يصادف اليوم قيامي بأمر سرّي وهام".
  لم أستطع تصوّر قيام والدتي بأمر أكثر أهمية من معرفة ما الذي آكله. "ماذا؟ تحاول مكسيكية الانضمام إلى دي أيه أر؟ هل فاجأتِ إحداهنّ تقرأ المُعجم الأميركي الجديد؟".
  فتنهدت والدتي، وقالت: "لا بأس". ووضعَت أداة نقل الحركة بحذر على صيغة القيادة دي. "حسناً، ها نحن ننطلق". وانطلقنا ببطء شديد في الطريق الخاصة بالمنزل بسرعة عُشر الميل في الساعة كي لا يتطاير الحصى ويُفسد طلاء السيارة. في نهاية الطريق، وضعَت الكمّامة كما لو أنها تُجري جراحة في الدماغ، وسلكت طريق المقاطعة. كانت قبضتا يدَيّ مُطبَقتين بإحكام، وضغطتُ على دوّاسة الوقود الوهمية. فكلما قادت والدتي، يبدو الأمر كما لو أنها تقود للمرة الأولى.
  على طريق الولاية، رفعَت السرعة إلى خمسة عشر ميلاً في الساعة، وتمسكَت بعجَلة القيادة بإحكام كما لو أننا نقود بسرعة مئة وخمسة أميال في الساعة.
  "يا أمي". قلت أخيراً، "دعيني أقود السيارة فحسب".
  فتنهدَت، وتفاجأتُ بتوقفها في الناحية التي ينبت فيها عشب طويل.
  فخرجتُ، وركضتُ حول السيارة بينما كانت والدتي تتنحى جانباً. ووضعتُ السيارة على صيغة القيادة دي، وضغطتُ على دوّاسة الوقود حتى بلغنا سرعة سبعين ميلاً في الساعة، ودعوتُ في نفسي قائلة أرجوك يا هيلي، قاومي إغراء التنقيب في أغراضي الخاصة...
  "إذاً، ما السر الكبير، ما الذي يتعيّن عليك القيام به اليوم؟". سألتُ.
  "أنا... أنا ذاهبة لرؤية الطبيب نِيل للقيام ببعض التحاليل المِخبرية. إنه أمر روتيني، ولكنني لا أريد أن يعرف والدك بالأمر. تعلمين كم يغدو مستاءً كلما قصد أحدهم الطبيب".
  "أي نوع من التحاليل المِخبرية؟".
  "إنه تحليل مِخبري لليود لمراقبة تطور القرحة لديّ، وهو مماثل لأي تحليل أُجريه كل عام. أنزليني عند مستشفى المعمدان، ويمكنك بعد ذلك الذهاب بالسيارة إلى منزل هيلي. على الأقل، لن يكون عليّ القلق في شأن رَكن السيارة".
  وألقيت نظرة سريعة عليها للتحقق مما إذا كانت تُخفي عليّ أمراً ما، ولكنها كانت تجلس بشكل مستقيم بفستانها الأزرق الفاتح، وساقاها متشابكتان عند الكاحلَين. لم أتذكر قيامها بإجراء هذه التحاليل المِخبرية في العام السابق. وحتى في أثناء وجودي في الكلّية، لم تذكر كونستنتين أمامي شيئاً عن تلك التحاليل، لا بد من أن والدتي كانت تُبقيها طيّ الكتمان.
  بعد خمس دقائق من وجودنا أمام المستشفى، نزلتُ من السيارة وتوجهتُ إلى الناحية المقابلة لمساعدتها على الخروج من السيارة.
  "رجاءً يا أوجينيا. حتى ولو كنا في مستشفى، فهذا لا يعني أنني عاجزة".
  وفتحتُ لها الباب الزجاجي، ودخلَت مرفوعة الرأس.
  "يا أمي، هل... تريدينني أن أرافقك؟". سألتُ، بالرغم من عِلمي أنني غير قادرة على ذلك، كان عليّ حلّ مسألة هيلي، ولكنني لم أرغب فجأةً في تركها بمفردها هناك.
  "إنه أمر روتيني. اذهبي إلى منزل هيلي وعودي بعد ساعة".
  وشاهدتها تغدو أصغر حجماً في أثناء ابتعادها في الرَّدهة الطويلة، ممسكةً حقيبة يدها بإحكام، وأدركتُ أنه يُفترض بي أن أستدير وأركض. ولكن قبل القيام بذلك، تساءلتُ عن مدى ضعف والدتي. كانت تملأ الغرفة لدى التنفس فحسب، ولكن لم يتبقَّ منها إلا القليل. وتوارَت خلف زاوية وراء جدران بلون أصفر باهت. وواصلتُ النظر للحظات إضافية قبل أن أسارع بالعودة إلى السيارة.
  بعد دقيقة ونصف، قرعتُ جرس منزل هيلي. لو كانت هذه الأوقات أوقاتاً عادية لحدّثتُ هيلي عن والدتي، ولكن، لم يكن في إمكاني إلهاؤها على كل حال. كان في إمكاني معرفة كل ما يدور في خُلدها منذ اللحظة الأولى. فهيلي كاذبة بارعة ولكن ليس في اللحظة التي تسبق تكلّمها مباشرةً.
  وفتحت هيلي الباب. كان فمها مُحكَم الإطباق، مُحمرّاً. فنظرت إلى يدَيها. كانتا معقودتين كالحبال. لقد وصلتُ متأخرة.
  "حسناً، لقد وصلتِ بسرعة". قالت، وتبعتُها إلى الداخل. كان قلبي يخفق بسرعة كبيرة، غير واثقةٍ على الإطلاق من أنني أتنفس.
  "ها هو، ذلك الشيء القبيح. آمل في ألا تمانعي، كان عليّ التحقق من أمر ما بعد دقائق من نهاية الاجتماع".
  فحدّقتُ إلى صديقتي المفضّلة، محاوِلةً تبيان ما قرأته في أغراضي. وعندما لا تكون ابتسامتها رائعة تكون احترافية. ولكن اللحظات التي قد تكشف لي عما تفكر فيه قد انقضت.
  "هل يمكنني إحضار شيء لك لارتشافه؟".
  "لا، أنا بخير". ومن ثم أضفت: "هل تريدين تبادل الكُرات في النادي في وقت لاحق؟ الطقس رائع في الخارج".
  "لدى وليام اجتماع لحملته الانتخابية، وسنذهب بعد ذلك لمشاهدة إنه عالم مجنون، مجنون، مجنون، مجنون".
  وتأمّلتها، ألم تطلب مني قبل ساعتين فقط أن نشاهد هي ووليام، وستيوارت وأنا، ذلك الفيلم في مساء اليوم التالي معاً؟ وتحركتُ ببطء باتجاه الجانب الآخر من مائدة الطعام، كما لو أنني أخشى انقضاضها عليّ إذا تحركتُ بسرعة. والتقطَت شوكة من الفضة الخالصة من الخزانة، ومرّرَت سبّابتها على أطرافها مستدقّة الرؤوس.
  "أجل، أمم، سمعت أن سبنسر ترايسي ستكون رائعة". قلت. ومددتُ يدي عرَضاً إلى الأوراق الموجودة في حقيبتي المدرسية. كانت ملاحظات آيبيلين وميني لا تزال موجودة في عمق الجَيب الجانبي، والحاشية الجلدية المتدلّية تغطي السحاب، والحقيبة مُقفَلة. ولكن مبادرة حمّام هيلي كانت موجودة في الناحية الوسطى المفتوحة مع الورقة التي كتبت عليها مخطط جيم كرو أو مخطط حمّام هيلي، ما الفرق؟ وبجانب هذه الأشياء، هناك مسوّدة النشرة الدورية التي كانت قد تفحّصتها هيلي. ولكن كتيّب القوانين الذي بحثتُ عنه مراراً وتكراراً لم يكن موجوداً.
  وأمالت هيلي رأسها، ونظرت إليّ، مضيّقةً عينيها. "تعلمين، كنت أفكر فحسب في كيفية وقوف والد ستيوارت بجانب روس بارنيت عندما تشاجرا مع ذلك الفتى ذي البشرة الملونة داخل أولي ميس. السيناتور ويتوورث والحاكم بارنيت مقرّبان إلى حد كبير".
  وفتحت فمي لأقول شيئاً ما، أي شيء، ولكن وليام الأصغر البالغ من العمر عامَين دخل مترنّحاً.
  "لقد أتيتَ". وحملته هيلي، وأقحمت أنفها بعُنُقه. "أنت فتاي المثالي!". قالت. فنظر إليّ وليام وصاح.
  "حسناً، استمتعي بمعرض الصور". قلت في أثناء اتجاهي إلى الباب الأمامي.
  "حسناً". قالت. ونزلتُ السلّم. ولوّحت هيلي من مدخل المنزل، وحرّكت يد وليام مودِّعاً. وأغلقتِ الباب قبل أن أصل إلى سيارتي.
آيبيلين
الفصل الرابع عشر
  لقد مررتُ ببعض المواقف العصيبة، ولكن، ما يدعو للعجب، هو أن تكون ميني في جانب من جوانب غرفة الجلوس في منزلي، والآنسة سكيتر في جانب آخر، والموضوع المطروح هو كيف يكون عليه حال زنجية تعمل لدى امرأة بيضاء البشرة، ولا تتعرّض أي منّا لأي أذى.
  لقد نجونا بأعجوبة من بعض هذه المواقف.
  ومن هذه المواقف ما حدث في الأسبوع السابق عندما عرضت لي الآنسة سكيتر الأسباب التي تعتبرها الآنسة هيلي ضرورية ليكون هناك حمّام خاص بذوي البشرة الملوّنة وفقاً للآنسة هيلي.
  "أشعر كما لو أنني أنظر إلى شيء ما من إعداد الكيه كيه كيه". قلت للآنسة سكيتر. كنا في غرفة جلوسي، وبدأت الليلة تميل إلى الحرّ. كانت ميني قد دخلت المطبخ للوقوف أمام الثلاجة، لأنها لا تتوقف عن التعرّق إلا لمدة خمس دقائق في كانون الثاني/يناير، وقد تكون المدة أقصر من ذلك.
  "تريدني هيلي أن أنشر مبادرتها في النشرة الدَّورية الخاصة بالرابطة". قالت الآنسة سكيتر، هازّةً رأسها باشمئزاز. "آسفة، لم يكن يُفترض بي ربما إطلاعك على الأمر. ولكن لا يوجد أحد غيرك يمكنني إطلاعه على ما يجري".
  وبعد دقيقة من الزمن، عادت ميني من المطبخ. فنظرتُ إلى الآنسة سكيتر التي أخفت اللائحة تحت مفكّرتها. لم تبدُ ميني أكثر هدوءاً من المرات السابقة. في الواقع، كانت تبدو طباعها أكثر حدّة من أي وقت مضى.
  "يا ميني، هل تحدّثتِ وليروي يوماً عن الحقوق المدنية؟". سألَت الآنسة سكيتر. "عندما يعود إلى المنزل من العمل؟".
  كانت هناك تلك الكدمة الكبيرة على ذراع ميني التي تسبب بها ليروي عندما عاد من العمل إلى المنزل. لقد قام بدفعها.
  "لا". هو كل ما قالته ميني. فهي لا تحب أن يتدخل الناس في شؤونها.
  "حقاً؟ ألا يشاطرك شعوره حيال المسيرات والتمييز العنصري؟ ربما في العمل، يقوم صاحب عمله بـ...".
  "كفّي عن التحدث عن ليروي". قالت ميني وشبكت ذراعَيها كي تُخفي تلك الكدمة.
  فنكزتُ سكيتر بقدمها، ولكن تلك النظرة العازمة ارتسمت على وجهها.
  "يا آيبيلين، ألا تظنين أنه سيكون من المثير للاهتمام أن نتطرق قليلاً إلى وجهة نظر الزوج؟ يا ميني، ربما...".
  فوقفت ميني بسرعة كبيرة لدرجة أن كُمّة المصباح تحرّكت. "لن أقوم بذلك بعد الآن. تجعلين الأمر شخصياً إلى حد كبير. لا أهتم بإخبار ذوي البشرة البيضاء عن شعوري".
  "يا ميني، حسناً، أنا آسفة". قالت الآنسة سكيتر. "ليس علينا التحدث عن عائلتك".
  "لا، لقد غيّرت رأيي. جِدي شخصاً آخر يُفشي أسراره". كنا قد مررنا بهذا الوضع من قَبل، ولكن ميني انتزعت محفظة نقودها، والتقطت مروحة اليد التي سقطت تحت الكرسي، وقالت: "آسفة، يا آيب. ولكن، لم يعد في إمكاني القيام بهذا الأمر".
  فانتابني شعور مفاجئ بالخوف. كانت تهمّ بالمغادرة حقاً. لا يمكن لميني التخلي عن الأمر. إنها الخادمة الوحيدة التي وافقت على نشر قصصها.
  لذلك، انحنيتُ وسحبتُ ورقة الآنسة هيلي من تحت مفكرة الآنسة سكيتر، وتوقفت أصابعي أمام ميني مباشرةً.
  فنظرَت إلى الورقة. "ما هذا؟".
  فتظاهرتُ بعدم معرفة أي شيء، وهززت كتفيّ. لم أستطع التصرف كما لو أنني أريدها أن تقرأ الورقة لأنها ستمتنع عن قراءتها في هذه الحال.
  والتقطتها ميني وبدأَت بتصفّحها. بعد قليل، استطعت رؤية كل أسنانها الأمامية، ولكنها لم تكن تبتسم.
  بعد ذلك، نظرَت إلى الآنسة سكيتر مطوَّلاً، وقالت: "ربما يمكننا الاستمرار. ولكن لا تتدخلي بأموري الشخصية، هل سمعتِ؟".
  فأومأت الآنسة سكيتر برأسها. كانت تتعلّم أموراً جديدة.
♦  ♦  ♦
  مزجتُ سلطة البَيض كوجبة غداء للآنسة ليفولت والطفلة، ووضعتُ قطعاً صغيرة من المخلَّلات على أطراف الطبق لتزيينه. وجلست الآنسة ليفولت إلى طاولة المطبخ مع ماو موبلي، وبدأَت تخبرها كيف أن الطفل سيكون موجوداً معهم في تشرين الأول/أكتوبر، وكيف أنها تأمل ألا تكون في المستشفى في أثناء مباريات أولي ميس، وكيف أن ماو موبلي ستحصل على شقيقة صغيرة أو شقيق صغير متسائلةً عن الاسم الذي سيختارونه للطفل. كان أمراً جيداً أن تتحدثا بتلك الطريقة. وعند منتصف الفترة الصباحية، كانت الآنسة ليفولت منهمكة بالتحدث إلى الآنسة هيلي عن أمر ما عبر الهاتف، غير مكترثة للطفلة. فما إن يولد الطفل الجديد، لن تحصل ماو موبلي من والدتها سوى على صفعة قوية.
  بعد الغداء، أخرجتُ الطفلة إلى الفناء الخلفي، وملأتُ البركة البلاستيكية الخضراء. كانت الحرارة في الخارج تبلغ خمساً وتسعين درجة. لقد حصلت الميسيسبي على الطقس الأكثر افتقاراً إلى التنظيم في البلد. ففي شباط فبراير، تصل الحرارة إلى خمس عشرة درجة، وتتمنّون حلول الربيع، فترتفع الحرارة في اليوم التالي إلى تسعين درجة وتستمر على هذه الحال طوال الأشهر التسعة التالية.
  كانت الشمس ساطعة، وماو موبلي جالسة وسط تلك البركة بملابس الاستحمام. فأول شيء تقوم به هو انتزاع تلك السدادة. وخرجت الآنسة ليفولت وقالت: "يبدو الأمر ممتعاً! سأتصل بهيلي وأطلب منها إحضار هيذر وويل إلى هنا".
  وقبل أن ألاحظ مرور الوقت، كان الأطفال الثلاثة يلعبون هناك، ويرشّون الماء في أرجاء المكان، ويمضون وقتاً ممتعاً.
  كانت هيذر، ابنة الآنسة هيلي، شديدة الظُّرف، وأكبر من ماو موبلي التي تحبها كثيراً بستة أشهر. كانت لديها خُصل شعر معقوفة، قاتمة اللون، وبرّاقة فوق رأسها، مع بعض النمش الصغير، وكانت ثرثارة حقاً. إنها نسخة مصغَّرة عن الآنسة هيلي، ولكنها تبدو أفضل منها عندما كانت في مثل هذه السن. أما وليام الأصغر فكان في الثانية من عمره، كتّاني الشعر، لا يتفوّه بأي كلمة، ويمشي بخُطى قصيرة ومتمايلة كبطة، تابعاً الفتاتين إلى منطقة العشب العالي عند حافة الفناء، ومن ثم إلى الأرجوحة التي تخيفني حتى الموت لأنها تتحرك باتجاه جانب واحد إذا بلغت ارتفاعاً عالياً، ويعودون بعد ذلك إلى بركة الأطفال.
  وعليّ الإقرار بأمر واحد وهو أن الآنسة هيلي تحب طفلَيها. فقد كانت تقبّل ويل الصغير على رأسه كل خمس دقائق، وتسأل هيذر إذا كانت تحظى بالمرح أو تطلب منها القدوم إليها ومعانقتها، قائلةً لها على الدوام إنها الفتاة الأكثر جمالاً في العالم. وكانت هيذر تحب والدتها أيضاً، وتنظر إليها كما لو أنها تمثال الحرية. فذلك النوع من الحب يجعلني أرغب في البكاء على الدوام، حتى وإن كان الأمر مرتبطاً بالآنسة هيلي، لأنه يذكّرني بتريلور ومدى حبي له. كنت أقدّر رؤية طفل يهيم بوالدته حق قدره.
  كنا، نحن البالغين، جالسين في ظل شجرة المغنوليا بينما كان الأطفال يلعبون. فبقيتُ على مسافة بضع أقدام من السيدات كي يكون الأمر لائقاً. ووضعتا مناشف على كرسيَّيهما الحديديَّين السوداوَين اللتين غدتا شديدتي الحرارة. كنت أحب الجلوس على الكرسي البلاستيكي الأخضر القابل للطيّ وإبقاء ساقيّ باردتين.
  وشاهدتُ ماو موبلي تحمل باربي دول على الغطس من حافة البركة. ولكنني كنت أُبقي نظري على السيدتين أيضاً، وألاحظ كيفية تحدّث الآنسة هيلي إلى هيذر ووليام بلطف وسعادة، ولكن، كلما استدارت نحو الآنسة ليفولت ظهر تعبير استهزائي على وجهها.
  "يا آيبيلين، أَحضري لي مزيداً من الشاي المثلَّج، هلاّ فعلتِ، رجاءً؟". سألت هيلي. فذهبتُ وأحضرتُ الإبريق من البرّاد.
  "أرأيتِ، هذا ما لا أفهمه". سمعتُ الآنسة هيلي تقول عندما كنت قريبة منهما. "لا أحد يريد الجلوس على مقعد مرحاض يكون عليه مشاطرته معهم".
  "الأمر منطقي". قالت الآنسة ليفولت، ولكنها صمتت عندما اقتربتُ لمَلء الكوبَين.
  "شكراً لك". قالت الآنسة هيلي. ومن ثم رمقتني بنظرة محيِّرة حقاً، وقالت: "يا آيبيلين، تحبين أن يكون لك مرحاضك الخاص، أليس كذلك؟".
  "أجل يا سيدتي". كانت لا تزال تتحدث عن ذلك الحمّام الصغير بالرغم من مرور ستة أشهر على الحدث.
  "منفصلون ولكن متساوون". أجابت الآنسة هيلي الآنسة ليفولت. "هذا ما يعتبره الحاكم روس بارنيت صواباً، ولا يمكنك مجادلة الحكومة".
  وضربت الآنسة ليفولت فخذها بيدها كما لو أن أمراً أكثر إثارة للاهتمام تبادر إلى ذهنها لاستبداله بموضوع الحوار السابق، ووافقَتها الرأي. فلتناقشا أمراً آخر. "هل أخبرتُك بما قاله راليه ذلك اليوم؟".
  ولكن الآنسة هيلي هزّت رأسها وقالت: "يا آيبيلين، لا ترغبين في الذهاب إلى مدرسة مليئة بذوي بشرة بيضاء، أليس كذلك؟".
  "لا يا سيدتي". قلت متمتمة. ونهضتُ، وسحبتُ دبوس تسريحة ذَيل الحصان من رأس الطفلة. كانت الكرات البلاستيكية الخضراء تتشابك مع الشعر عندما يبتلّ. ولكن، ما أردت القيام به في الواقع هو وضع يديّ على أذُنيها كيلا تسمع هذا الحديث، والأسوأ من ذلك موافقتي الآنسة هيلي الرأي.
  ولكنني فكرت بعد ذلك؛ لماذا؟ لماذا عليّ الوقوف هنا وموافقتها الرأي؟ وإذا كان على ماو موبلي أن تسمع شيئاً ما، فلتسمع أموراً ذات معنى. فحبستُ أنفاسي، وبدأ قلبي يخفق بقوة، وقلت بأكبر قدر من التهذيب: "ليس إلى مدرسة تحتوي على ذوي بشرة بيضاء فقط، بل إلى مدرسة يكون فيها ملوّنو البشرة وذوو البشرة البيضاء معاً".
  فنظرت هيلي والآنسة ليفولت إليّ، ونظرتُ مجدداً إلى الأطفال.
  "ولكن، يا آيبيلين". وابتسمت الآنسة هيلي بفتور: "إن ذوي البشرة الملونة وذوي البشرة البيضاء... مختلفون جداً". وغضّنت أنفها.
  وشعرتُ بشفتي تتجعّد. بالطبع نحن مختلفون! الجميع يعرفون أن ذوي البشرة الملونة وذوي البشرة البيضاء ليسوا مماثلين.
  وتوقفت المناقشة لأن الآنسة هيلي عادت إلى حديثها مع الآنسة ليفولت. وفجأةً، حجبت سحابةٌ تُنذر بالمطر الشمسَ. فتوقّعتُ أن نشهد وابلاً من المطر.
  "... الحكومة تعرف ما هو الأفضل، وإذا ظنت سكيتر أنها...".
  "يا أمي! يا أمي! انظري إليّ!". صاحت هيذر من البركة. "انظري إلى ضفائر شعري!".
  "أنا أراك! أنا أراك حقاً! سيخوض وليام الانتخابات...".
  "يا أمي، أعطيني مشطك! أريد الادعاء أنني أدير صالون تجميل!".
  "... لا يمكنني الاجتماع بصديقات مؤيّدات لذوات البشرة الملونة...".
  "ياااا أمي! أعطيني مشطك!".
  "لقد قرأتُه. وجدتُه في حقيبتها المدرسية، وأعتزم القيام بأمر ما".
  وهدأت الآنسة هيلي بعد ذلك، باحثةً عن المشط في حقيبة يدها. ودوّى الرَّعد فوق ساوث جاكسون وسمعنا عويل صفارة إنذار تشير إلى هبوب إعصار. كنت أحاول فهم ما قالته الآنسة هيلي؛ الآنسة سكيتر، حقيبتها المدرسية، لقد قرأتُه.
  فأخرجتُ الأطفال من البركة، ولففتهم بالمناشف. وأحدث الرعد دويّاً هائلاً في السماء.
  بعد قليل من هبوط الظلام، كنت جالسة إلى طاولة مطبخي أقلّب قلم الرصاص بيدي، ونسخة هاكلبيري فين التي حصلتُ عليها من المكتبة الخاصة بذوي البشرة البيضاء أمامي، ولكنني لم أتمكن من قراءتها. كان هناك مذاق مرّ في فمي شبيه بمذاق رواسب البنّ في الرشفة الأخيرة. وشعرت بالحاجة إلى مكالمة الآنسة سكيتر.
  لم يسبق لي أن اتصلت بمنزلها إلا مرتين فقط، لأنه لم يكن لدي خيار آخر، وذلك عندما أطلعتها على موافقتي على إجراء المقابلات وموافقة ميني على ذلك أيضاً. كنت أعلم أن الأمر ينطوي على مخاطر. ومع ذلك، نهضتُ، ووضعتُ يدي على الهاتف المعلَّق على الجدار. ولكن، ماذا لو أجابت والدتها، أو والدها؟ كنت أراهن على أن خادمتها عادت إلى منزلها قبل ساعات. كيف ستتمكن الآنسة سكيتر من شرح قيام امرأة ملوّنة البشرة بالاتصال بها هاتفياً؟
  فجلستُ مجدداً. كانت الآنسة سكيتر قد مرّت بمنزلي قبل ثلاثة أيام للتحدث إلى ميني. لقد بدا الأمر كما لو أن كل شيء يسير بشكل جيد بعد أن أوقفتها الشرطة قبل أسابيع قليلة. ولم تقل أي شيء عن الآنسة هيلي.
  وتأففتُ على كرسيّي للحظات، متمنيةً أن يرنّ الهاتف. وركضتُ وراء صرصور في الغرفة حاملةً حذاء العمل، ولكن الصرصور فاز. لقد زحف تحت كيس الملابس التي أعطته لي الآنسة هيلي، وكان موضوعاً هناك منذ أشهر.
  فحدّقتُ إلى الكيس، وبدأت أقلّب ذلك القلم بيدي ثانيةً. كان يتعيّن عليّ القيام بأمر ما بشأن الكيس. لقد اعتدتُ قيام السيدات بيضاوات البشرة بإعطائي ملابس، ولم أُضطر إلى شراء ملابسي الخاصة طوال ثلاثين عاماً. كان يتطلب الأمر بعض الوقت لأشعر أنها لي. وعندما كان تريلور صغيراً، ارتديتُ معطفاً قديماً أعطته لي سيدة كنت أعمل لديها. فنظر إليّ تريلور بطريقة غريبة وتراجع إلى الوراء، وقال إن رائحتي مماثلة لرائحة ذوي البشرة البيضاء.
  ولكن ذلك الكيس الورقي مختلف لأنني لا أستطيع ارتداء الملابس الموجودة فيه ولا يمكنني إعطاؤها لصديقاتي. فكل قطعة في الكيس، البنطال السروالي، القميص ذات ياقة بيتر أن، السترة زهرية اللون التي يوجد عليها بقعة مرَق اللحم، لا بل الجوارب أيضاً عليها كتابة إيتش. دبليو. إيتش بحروف حمراء مطرَّزة ومتصلة بالرغم من أنها تناسب مقاسي. أظن أن يول ماي هي التي قامت بتطريز تلك الحروف. لقد شعرتُ أنني سأكون ملكاً خاصاً بهيلي دبليو هولبروك إذا ما ارتديتُ تلك الملابس.
  فنهضتُ وركلتُ الكيس، ولكن الصرصور لم يخرج. وأخرجتُ مفكرتي، عازمةً على البدء بأدعيتي، ولكنني كنت شديدة القلق من الآنسة هيلي، وتساءلتُ عما عنَته بعبارة لقد قرأته.
  بعد قليل، انجرفت بتفكيري إلى أمر لم أكن أتمنى التفكير فيه. كنت أعرف تماماً كما أظن ما الذي سيحدث إذا اكتشفت السيدات بيضاوات البشرة أننا نكتب عنهنّ، مُخبرات عن حقيقتهنّ. فالنساء لسنَ كالرجال. والمرأة لن تضربكم بعصا، كما أن الآنسة هيلي لن تصوّب مسدساً نحوي. ولن تقوم الآنسة ليفولت بإحراق منزلي.
  لا، فالنساء بيضاوات البشرة يُحببن إبقاء أيديهنّ نظيفة. هنّ يستخدمن مجموعة أدوات صغيرة برّاقة، حادّة كأظافر مرتَّبة وموضوعة بشكل متقَن، على غرار الأدوات الموجودة على صينية طبيب الأسنان، ويخصصن الوقت الكافي لتزيين أنفسهنّ.
  فالأمر الأول الذي تقوم به السيدة بيضاء البشرة هو طردكِ، فتستائين ولكنك تعتبرين أنك ستجدين عملاً آخر عندما تستتب الأمور وتنسى تلك السيدة ما حدث. ولا يكون المال متوافراً معك لتسديد إيجار شهر واحد عن منزلك، فيحمل لك الناس كَسرولات قَرع.
  ولكن بعد أسبوع من فقدانك عملك، تتناولين ذلك المغلف الأصفر الصغير الموضوع داخل بابك المُنخليّ، ويكون على الورقة في داخله عبارة إشعار بالإخلاء. وكل صاحب مُلك في جاكسون أبيض البشرة، تكون زوجته بيضاء البشرة على معرفة بنساء أخريات. فتبدأين بالقلق وتبحثين عن عمل من دون جدوى. وحيثما بحثتِ تُقفَل الأبواب في وجهك، ولا يعود لديك مكان للإقامة فيه.
  وتبدأ الأمور بالتسارع.
  فإذا وُضعت ملاحظة على سيارتك، فهذا يعني أنهم سيستعيدونها.
  وإذا لم تسددي قيمة تذكرة رَكن السيارة، تذهبين إلى السجن.
  وإذا كانت لديك ابنة، فإنك قد تنتقلين للعيش معها. هي تعمل لدى عائلة من ذوي البشرة البيضاء، ولكنها تعود إلى المنزل بعد أيام قليلة وتقول: "يا أمي؟ لقد طُردتُ". وتبدو على وجهها أمارات الألم والخوف، ولا تفهم سبب طردها. فتخبرينها أنك السبب.
  ولكن زوجها يعمل، ويمكنه إطعام الطفل على الأقل.
  ويطردون زوجها بعد ذلك.
  فيشيران إليك، باكيين ومتسائلَين عن سبب طردك، ولكنك لا تتذكرين السبب. وتمرّ أسابيع من دون عمل أو مال أو منزل. وتأملين في أن تضع السيدة بيضاء البشرة نهاية لمحنتك، وأن تكون قد باتت مستعدة لنسيان الماضي.
  ويُقرع بابك في وقت متأخر من الليل من دون أن تكون السيدة بيضاء البشرة عند الباب. فهي لا تقوم بهذه الأمور بنفسها. ولكن عندما تنتابك كوابيس الإحراق أو القَطع أو الضرب، تدركين أمراً لم تعرفيه طوال حياتك؛ السيدة بيضاء البشرة لا تنسى أبداً.
  ولن تكفّ عن ملاحقتك حتى مماتك.
♦  ♦  ♦
  في صباح اليوم التالي، أوقفت الآنسة سكيتر سيارة الكاديلاك على الطريق الخاصة بمنزل الآنسة ليفولت. كنت أحمل دجاجاً نيئاً بيديّ، وكان جهاز الطهو مُشعَلاً، وماو موبلي تبكي بسبب تضوّرها من الجوع من دون أن يكون في استطاعي تحمّل بكائها ثانيةً أخرى. فعبرتُ غرفة الطعام، رافعةً يدَيّ المتسختين في الهواء.
  وسألت الآنسة سكيتر الآنسة ليفولت عن لائحة الفتيات اللواتي يخدمن اللجنة، فقالت الأخيرة: "إلين هي رئيسة لجنة الكعكة كوبيّة الشكل". وأجابت الآنسة سكيتر: "ولكن روكسان هي رئيسة لجنة الكعكة كوبيّة الشكل". فقالت الآنسة ليفولت: "لا، روكسان هي الرئيسة المساعدة للجنة الكعكة كوبيّة الشكل، وإلين هي الرئيسة". لقد أزعجني ذلك الحديث عن الكعكة كوبيّة الشكل لدرجة أنني أردت نَكز الآنسة سكيتر بإصبعي المتسخة، ولكنني آثرت عدم مقاطعتها. لم يتناول الحديث أبداً الحقيبة المدرسية.
  وقبل أن أدرك الأمر، خرجت الآنسة سكيتر.
  يا الله.
  في تلك الليلة، وبعد العشاء، حدّقتُ وذلك الصرصور ببعضنا بعضاً عبر أرضيّة المطبخ. كان كبيراً، يبلغ طوله بوصة أو بوصة ونصف، أكثر سواداً مني، ويُحدث صوتاً بجناحَيه. فحملتُ حذائي بيدي.
  ورنّ الهاتف، فأُجفلنا كلانا.
  "مرحباً، يا آيبيلين": قالت الآنسة سكيتر، وسمعتُ إغلاق باب. "آسفة للاتصال في وقت متأخر".
  فاستعدتُ أنفاسي. "أنا سعيدة أيضاً لأنك اتصلت".
  "أتصل فقط لأعرف إذا حصلتِ على أي... جواب من الخادمات الأخريات، أعني".
  لقد بدت الآنسة سكيتر مشدودة الفك. كانت متّقدة مؤخراً كذبابة سراج الليل من فَرط الحب. وبدأ قلبي يخفق بقوة. ومع ذلك، لم أُمطرها بالأسئلة، لم أكن واثقة من السبب.
  "سألتُ كورين التي تعمل لدى عائلة كوليز، فرفضَت. وسألتُ روندا بعد ذلك، وشقيقتها التي تخدم عائلة ميلرز... ولكنهما رفضتا".
  "ماذا عن يول ماي؟ هل... تحدثتِ إليها مؤخَّراً؟".
  فتساءلتُ حينئذٍ عما إذا كان هذا الأمر هو سبب تصرّف الآنسة سكيتر بتلك الغرابة. فقلت لها إنني سألت يول ماي منذ شهر، ولكنني لم أسألها في الواقع لأنها خادمة الآنسة هيلي هولبروك، وليس لأنني لا أعرف يول ماي جيداً، وكل ما يمتّ بصلة إلى ذلك الاسم يجعلني عصبية المزاج.
  "منذ مدة غير بعيدة. ربما... أسألها مجدداً". قلت، كاذبةً، وقد كرهتُ ذلك.
  وعُدت إلى تقليب القلم بيدي، مستعدّةً لأخبرها ما قالته الآنسة هيلي.
  "يا آيبيلين". قالت الآنسة سكيتر بصوت مرتجف: "عليّ أن أخبرك بأمر ما".
  وصمتت الآنسة سكيتر في ما يشبه الهدوء المخيف الذي يسبق العاصفة.
  "ماذا حدث، يا آنسة سكيتر؟".
  "لقد... تركتُ حقيبتي المدرسية في مقرّ الرابطة، وعثرت عليها هيلي".
  فنظرتُ شزَراً، وشعرتُ أنني لا أسمع جيداً. "الحقيبة الحمراء؟".
  ولم تُجب.
  "آو... يا الله". لقد بدأت الأمور تتضح على نحو يدعو للغثيان.
  "كانت القصص داخل حافظة أوراق أخرى في جَيب جانبي مخفيّ تحت حاشية جلدية متدلّية. أعتقد أن قوانين جيم كرو هو كل ما رأته، إنه... كتيّب حصلتُ عليه من المكتبة، ولكن... لست واثقة من الأمر".
  "آه، يا آنسة سكيتر". قلت وأغمضتُ عينيّ. ليساعدني الله، ليساعد الله ميني...
  "أعرف، أعرف". قالت الآنسة سكيتر وشرعَت بالبكاء على الهاتف.
  "لا بأس، لا بأس". قلت، وحاولتُ التخفيف من غضبي. كان حادثاً، قلت لنفسي، ولن يعود إلقاء اللوم عليها بالفائدة على أحد.
  ولكن الأمر يدعو للغضب.
  "يا آيبيلين، أنا آسفة جداً".
  ومرّت ثوانٍ قليلة لم يُسمع فيها إلا خفقان القلب. وببطء شديد وخوف، بدأ دماغي يقلّب الوقائع القليلة التي زوّدتني بها، إضافةً إلى المعلومات التي أملك.
  "منذ متى حدث ذلك؟". سألتُ.
  "منذ ثلاثة أيام. أردت اكتشاف ما الذي تعرفه قبل أن أخبرك".
  "تحدّثتِ إلى الآنسة هيلي؟".
  "للحظات قليلة فقط عندما ذهبتُ لإحضار الحقيبة. ولكنني تحدثت إلى إليزابيت ولو آن، وإلى أربع نساء أخريات يعرفن هيلي. لم تقل إحداهنّ شيئاً عن الأمر. لذلك السبب... لذلك السبب سألتُ عن يول ماي". قالت. "كنت أتساءل عما إذا سمعَت شيئاً ما في العمل".
  فأخذتُ نفَساً، كارهةً نقل الخبر إليها. "لقد سمعتُ بالأمر، يوم أمس. كانت الآنسة هيلي تحدّث الآنسة ليفولت عنه".
  ولم تقل الآنسة سكيتر شيئاً، وشعرتُ أنني أنتظر قَذف آجرّة ما عبر نافذتي.
  "كانت تتحدث عن خوض السيد هولبروك الانتخابات للفوز بأحد المناصب، وعن تأييدك لذوي البشرة الملوّنة، وقالت... إنها قرأت شيئاً ما". قلت بصوت مرتفع، مُرتجفة، ومستمرة في تقليب القلم بين أصابعي.
  "هل قالت شيئاً ما عن الخادمات؟". سألَت سكيتر. "أعني، هل كانت مستاءة منّي فقط أم أنها ذكرتك أو ذكرت ميني؟".
  "لا، ذكرتك... أنت فقط".
  "حسناً". قالت الآنسة سكيتر وتنفّست الصُعداء في الهاتف. لقد بدت مستاءة، ولكنها لم تكن تعرف ما الذي قد يحلّ بي، وبميني. لم تكن تعرف شيئاً عن الأدوات الحادّة والبرّاقة التي تستخدمها السيدات بيضاوات البشرة، وعن قَرع الباب في وقت متأخر من الليل، وعن وجود رجال من ذوي البشرة البيضاء هناك في الخارج توّاقين إلى سماع خبر عن قيام شخص ملوّن البشرة بتخطي حدوده، حاملين المضارب الخشبية وعيدان الثِّقاب. فأي شيء مهما كان صغيراً يفي بالغرض.
  "لست واثقة مئة بالمئة، ولكن...". قالت الآنسة سكيتر: "إذا عرفت هيلي شيئاً عن الكتاب، أو عنك، أو عن ميني بصفة خاصة، لنشرته في مختلف أنحاء المدينة".
  وفكرتُ في ذلك، وكلّي رغبة في تصديقها. "صحيح، هي لا تحب ميني جاكسون".
  "يا آيبيلين". قالت الآنسة سكيتر، وسمعتها تنهار مجدداً ويرتجف صوتها. "يمكننا التوقف. إذا كنت تريدين الكفّ عن إجراء مقابلات، فأنا أتفهم ذلك تماماً".
  إذا قلت لها إنني لا أريد الاستمرار في الأمر، لن أتمكن من إبلاغ ما كتبته للآخرين وما يجب عليّ كتابته بعد. لا، قلت لنفسي. لا أريد التوقف. وتفاجأتُ بالتفكير في الأمر بصوت مرتفع.
  "لو عرفت الآنسة هيلي بالأمر، لعرفَت هي أيضاً". قلت. "لن يُنقذنا التوقف الآن".
  لم أرَ أو أسمع صوت الآنسة هيلي، أو أشمّ رائحتها طوال يومين. كانت أصابعي تتحرك في جَيبي وعلى منضدة المطبخ كما لو أنني أقلّب القلم حتى عندما لا أحمله، قارعةً بأصابعي كعصا الطبل. أردت أن أعرف ما الذي يدور في خلد الآنسة هيلي.
  لقد تركت الآنسة ليفولت مع يول ماي ثلاث رسائل للآنسة هيلي التي كانت تلازم مكتب السيد هولبروك، مقر قيادة الحملة هو ما كانت تدعوه الآنسة هيلي. فتتنهّد الآنسة ليفولت، وتُنهي المكالمة الهاتفية كما لو أنها لا تعرف سبيلاً إلى التفكير من دون قدوم الآنسة هيلي وقيامها بالضغط على الأزرار الملائمة. وسألتِ الطفلةُ عشر مرات عن موعد قدوم هيذر الصغيرة للّعب سويّاً في البركة البلاستيكية. أعتقد أنهما ستغدوان صديقتين مقرّبتين عندما تكبران، فتعلّمهما الآنسة هيلي واقع الأمور. ولكننا جُلنا جميعاً في أنحاء المنزل بعد ظهر ذلك اليوم، محرّكين أصابعنا، ومتسائلين عن موعد ظهور الآنسة هيلي مجدداً.
  وبعد قليل، قصدت الآنسة ليفولت متجر الأقمشة لأنها أرادت إعداد غطاء لشيء ما لم تختَره بعد. فنظرت ماو موبلي إليّ، وأظنّ أننا كنا نفكر في الأمر نفسه، لقامت تلك المرأة بتغطية كلينا لو أمكنها ذلك.
  كان عليّ العمل حتى وقت متأخر من ذلك المساء. لقد ناولتُ الطفلة عشاءها، ووضعتُها في السرير، لأن السيد والآنسة ليفولت ذهبا لحضور فيلم سينمائي في لامار. كان السيد ليفولت قد وعد باصطحابها فاختارت الفيلم، عِلماً أنه العرض الوحيد المتبقي في ذلك الوقت المتأخر. وعندما عادا إلى المنزل، كانا يتثاءبان، وصراصير الليل مستيقظة. لو كنت أعمل في منازل أخرى لنمتُ في غرفة الخادمة، ولكن، لم تكن توجد غرفة مماثلة في ذلك المنزل. فظننتُ أن السيد ليفولت سيعرض عليّ اصطحابي إلى المنزل، ولكنه توجّه مباشرةً إلى السرير.
  في الخارج، كان عليّ السير في الظُلمة حتى ريفرسايد التي تبعد مسافة عشر دقائق، وحيث توجد حافلة تُقلّ عمّال منشأة الماء في وقت متأخر من الليل. كان النسيم قوياً بما يكفي لإبعاد البعوض عنّي. فجلستُ على حافة المتنزّه وسط العشب وتحت المصباح الكهربائي في الشارع. ووصلت الحافلة بعد قليل، ولم يكن فيها سوى أربعة ركّاب، شخصين ملوّني البشرة، واثنين أبيضي البشرة، وكلهم رجال. لم أكن أعرف أيّاً منهم، وجلستُ على مقعد بجانب النافذة، وراء رجل نحيل ملوّن البشرة. كان بمثل سنّي يرتدي بذلة ويعتمر قبّعة وكانتا بنّيتي اللون.
  فعبرنا الجسر، وتوجهنا إلى مستشفى ذوي البشرة الملوّنة حيث تستدير الحافلة. وأخرجتُ كتاب الأدعية لأتمكن من تدوين بعض الأمور. فركّزتُ على ماو موبلي، وحاولتُ عدم التفكير في الآنسة هيلي. أَهّلني لأعلّم الطفلة أن تكون لطيفة، وتحب نفسها والآخرين طوال مدة وجودي معها...
  ورفعتُ نظري. لقد توقفت الحافلة وسط الطريق. فانحنيتُ فوق الممرّ ورأيتُ بعض الكُتَل الإسمنتية، وأضواء زرقاء تومض في الظلام، وأشخاصاً واقفين في أرجاء المكان؛ كان هناك حاجز.
  فوجّه السائق أبيض البشرة نظره إلى الأمام، وأطفأ المحرّك، وتوقف مقعدي عن الارتجاج، شاعرةً بحدوث أمر غريب. وقوّم قبّعته، وقفز عن كرسيّه. "لازموا أماكنكم. دعوني أتحقق مما يجري".
  والتزمنا الهدوء، منتظرين. وسمعتُ نُباح كلب غير منزلي كما لو أنه يصيح في وجهك. وبعد خمس دقائق، عاد السائق إلى الحافلة، وشغّل المحرّك مجدداً، وأطلق النفير، ولوّح بيده خارج النافذة، وعاد أدراجه ببطء شديد.
  "ماذا يحدث هناك؟". سأل ذو البشرة الملوّنة الجالس أمامي.
  فلم يُجب السائق، وأكمل طريقه. وغدت الأضواء الوامضة أصغر حجماً، وخبا صوت نباح الكلب. واستدار السائق بالحافلة، سالكاً شارع فاريش ستريت، وتوقف عند الزاوية التالية. "لينزل ملوّنو البشرة، إنه الموقف الأخير". صاح، ناظراً عبر مرآة الرؤية الخلفية. "ليُعلمني ذوو البشرة البيضاء بالأماكن التي يريدون بلوغها. سأُقلّكم إلى أقرب مكان ممكن".
  ونظر الرجل ملوّن البشرة إليّ، وأعتقد أن شعوراً سيّئاً انتاب كلَينا. فوقف، ووقفتُ، وتبعتُه إلى الباب الأمامي. كان الهدوء مخيفاً إذ لم نكن نسمع سوى وَقع خُطانا.
  وانحنى الرجل أبيض البشرة باتجاه السائق وقال: "ماذا يجري؟".
  فنزلتُ درج الحافلة وراء الرجل ملوّن البشرة، وسمعتُ السائق يقول ورائي: "لا أعلم، أُطلق نار على بعض الزنوج. ما وُجهتك؟".
  وأُقفل الباب. آه، يا الله، قلت لنفسي، رجاءً، لا تسمح أن يكون أحد معارفي من بينهم.
  لم يكن هناك أي صوت في شارع فاريش ستريت، أو أي شخص، باستثنائنا. ونظر الرجل إليّ. "أنتِ بخير؟ هل أنتِ قريبة من المنزل؟".
  "سأكون بخير. أنا قريبة". كان منزلي على بُعد سبعة مجمّعات سكنية من المكان.
  "هل تريدين أن أرافقك؟".
  لقد رغبتُ في ذلك، ولكنني هززت رأسي. "لا، شكراً لك. سأكون بخير".
  ومرّت شاحنة إخبارية بجانبنا بسرعة، وتوجهَت إلى التقاطع الذي استدارت الحافلة عنده. كانت هناك على جنبها عبارة دبليو أل بي تي - تي في بحروف كبيرة.
  "يا الله، آمل ألا يكون الأمر بهذا السوء...". ولكن الرجل توارى عن الأنظار، وأصبحتُ بمفردي. فانتابني ذلك الشعور الذي يتحدث عنه الناس قبل التعرّض للهجوم مباشرةً. وبعد ثانيتين، كانت فردتا جوربي تحتكان ببعضها بسرعة لدرجة أنهما بدتا كما لو أنهما سحّابتان تُحدثان أزيزاً. ورأيت أمامي ثلاثة أشخاص يسيرون بسرعة على غراري، فاستداروا، ودخلوا منازلهم، وأغلقوا الأبواب.
  كنت على ثقة تامة بعدم الرغبة في البقاء بمفردي لحظة أخرى. فاختصرتُ الطريق، مارّةً بين منزل مول كاتو والناحية الخلفية من مرأب تصليح السيارات، وعابرةً باحة أوني بلاك في الظلام على خرطوم مياه. فشعرتُ أنني سارقة، واستطعت رؤية الأضواء داخل المنازل، والرؤوس منحنية، والأنوار المضاءة التي يُفترض بها أن تكون مطفأة في ذلك الوقت من الليل. فأياً يكن الحدث، كان الجميع يتحدثون عن الأمر أو يُصغون.
  أخيراً، رأيت ضوء مطبخ ميني، كان الباب الخلفي مفتوحاً في حين أن الباب المُنخُليّ مُقفَل. وأحدث الباب صريراً عندما دفعتُه. كانت ميني جالسة إلى الطاولة مع أطفالها الخمسة، ليروي الأصغر، شوغر، فيليتشيا، كيندرا، وبِيني. وعلمتُ أن ليروي الأكبر في العمل. كانوا يحدّقون إلى الراديو الكبير الموضوع وسط الطاولة. وحدث تشوّش في الصوت لدى دخولي.
  "ما الأمر؟". قلت. فقطّبت ميني جبينها، وعبثَت بقُرص المَوجات في الراديو. كانت هناك شريحة لحم مقدَّد مجعَّدة وحمراء في مقلاة، وعلبة معدنية على المنضدة كان غطاؤها مفتوحاً، وأطباق قذرة في حوض الغسيل. لم يكن مطبخ ميني على الإطلاق.
  "ماذا يحدث؟". سألتُ مجدداً.
  وسُمع صوت الرجل عبر الراديو يصيح: "... عشر سنوات تقريباً إمضاء في أن - دابل - أيه - سي - بيي، شاغلاً منصب أمين سر ميداني. ولم يرِدنا أي خبر بعد من المستشفى باستثناء إصابته بجروح قيل إنه...".
  "من؟" سألت.
  فحدّقت إليّ ميني كما لو أنني فاقدة الرُّشد. "ميدغار إيفرز. أين كنتِ؟".
  "ميدغار إيفرز؟ ماذا حدث؟". لقد التقيتُ ميرلي إيفرز، زوجته، في فصل الخريف الماضي، عندما زارت دار العبادة الخاصة بنا مع عائلة ماري بون. كانت تضع ذلك الشال الأحمر والأبيض المربوط عند عُنُقها. وتذكرتُ كيف نظرَت إلى عينيّ، وابتسمَت كما لو أنها سعيدة جداً بلقائي. وكان ميدغار إيفرز يتصرف كالمشاهير في مكان قريب كونه يشغل منصباً عالياً جداً فيأن - دابل - أيه - سي - بيي.
  "اجلسي". قالت ميني. فجلستُ على كرسي خشبي. كانت وجوه الجميع تحدّق إلى الراديو الذي هو بحجم محرك سيارة تقريباً، ومصنوع من الخشب، ويحتوي على أربعة أقراص. حتى إن كيندرا كانت هادئة في حضن شوغر.
  "الكيه كيه كيه أطلقوا النار عليه أمام منزله منذ ساعة".
  فشعرتُ بوَخز يمتدّ إلى عمودي الفِقري. "أين يقيم؟".
  "في غينس". قالت ميني. "حمله الأطباء إلى مستشفانا".
  "لقد... رأيت". قلت، مفكّرةً في الحافلة. لم تكن غينس سوى على بُعد خمس دقائق منّا بالسيارة.
  "... يقول الشهود إن رجلاً واحداً، ذكَراً أبيض البشرة، قفز من بين الشُجَيرات. هناك شائعات عن تورّط الكيه كيه كيه...".
  وسُمع حديث غير منظَّم في الراديو، وصياح أشخاص، وبعض الارتباك. فشعرتُ بالتوتر كما لو أن شخصاً ما يراقبنا من الخارج، شخصاً أبيض البشرة. كانت الكيه كيه كيه في المنطقة على بُعد خمس دقائق من المنزل تطارد شخصاً ملوَّن البشرة، وأردت إغلاق الباب الخلفي.
  "بلغني للتوّ". قال المذيع، لاهثاً: "أن ميدغار إيفرز توفّي".
  "ميدغار إيفرز". وبدا كما لو أن تدافعاً حدث في المكان، وعلت الأصوات من حوله: "لقد بلغني للتوّ أنه توفّي".
  آه، يا الله.
  وركضت ميني باتجاه ليروي الأصغر، وكان صوتها منخفضاً وثابتاً.
  "خذ شقيقك وشقيقاتك إلى غرفة النوم، اجلسوا في السرير، ولازموا الغرفة". يبدو الأمر أكثر مدعاةً للخوف عندما يقوم شخص اعتاد الصياح بالتكلم بهدوء.
  وبالرغم من معرفتي برغبة ليروي الأصغر في البقاء، فقد رمَقهم بنظرة واحدة وتواروا جميعاً عن الأنظار، بهدوء وسرعة. وهدأ المذيع أيضاً، وغدت تلك العلبة للحظات قليلة مجرّد صندوق خشبي بنّي اللون وأسلاكاً. "ميدغار إيفرز". قال، وبدا كما لو أن صوته ينخفض تدريجياً: "أمين السر الميداني في أن - دابل - أيه - سي - بيي تُوفّي". وتنهّد. "ميدغار إيفرز تُوفّي".
  فابتلعتُ لعاباً ملء الفم، وحدّقتُ إلى ورق الجدران التي اصفرّ لونها بسبب شحم الباكون، وآثار أيدي الأطفال، وأقلام تلوين ليروي. لم تكن هناك أي صور أو روزنامات على جدران ميني، محاولةً عدم التفكير في ما يجري. لم أكن أريد التفكير في مقتل شخص ملوّن البشرة لأن ذلك يحملني على التفكير في تريلور.
  وأطبقت ميني قبضتيّ يدَيها، وصرفت أسنانها. "لقد قتلوه أمام أبنائه وبناته مباشرةً، يا آيبيلين".
  "سندعو لعائلة إيفرز، سندعو لميرلي...". ولكنها لم تكن تُصغي إليّ، لذلك توقفتُ.
  "يُقال عبر الراديو إن أفراد عائلته ركضوا إلى خارج المنزل عندما سمعوا الطلقات النارية. وتقول إنه كان يمشي مترنّحاً ومضرَّجاً بالدماء، وغطّى الدماء كل أفراد عائلته...". وضرَبت الطاولة بيدها مما أدّى إلى صلصلة الراديو الخشبي.
  فحبستُ أنفاسي وشعرتُ بدُوار. كان يجب أن أكون قوية ومتماسكة لأحول دون فقدان صديقتي صوابَها.
  "لن تتبدّل الأمور في هذه المدينة، يا آيبيلين. نحن نعيش في جحيم، لقد وقعنا في الشرك. لقد وقع أبناؤنا وبناتنا في الشرك".
  ورفع المذيع صوته مجدداً، وقال: "... رجال الشرطة في كل مكان، يُقيمون الحواجز على الطرقات. من المتوقّع أن يعقد رئيس البلدية تومبسون مؤتمراً صحفياً بعد قليل...".
  فشعرتُ بغصّة بعد ذلك، وسالت دموعي. لقد أثر فيّ وجود أشخاص من ذوي البشرة البيضاء مسلَّحين حول حيّ ذوي البشرة الملوّنة، يصوّبون أسلحتهم باتجاههم. من سيحمي شعبنا؟ فلا وجود لرجال شرطة ملوّني البشرة.
  وحدّقت ميني إلى الباب الذي خرج منه أبناؤها وبناتها، وسال العرَق على جنبَي وجهها.
  "ما الذي سيفعلونه بنا، يا آيبيلين؟ إذا أمسكوا بنا...".
  فأخذتُ نفَساً عميقاً. كانت تتحدث عن القصص. "كلانا نعلم أن الأمر سيّئ".
  "ولكن، ما الذي سيفعلونه؟ يربطوننا ببيك أب ويجرّوننا وراءه؟ يطلقون النار عليّ في باحتي أمام أبنائي وبناتي؟ أم يجعلوننا نتضوّر جوعاً؟".
  وأعرب رئيس البلدية تومبسون عبر الراديو عن مدى أسفه لعائلة إيفرز. فنظرتُ إلى الباب الخلفي المفتوح وانتابني ذلك الشعور مجدداً بسماع صوت رجل أبيض البشرة في الغرفة.
  "نحن لا نطالب بالحقوق المدنية هنا. نحن نخبر قصصاً كما حدثت في الواقع".
  وأطفأتُ الراديو، ووضعتُ يدي بيد ميني. وجلسنا على هذا النحو، ميني تحدّق إلى العُثّة البنّية الملتصقة بالجدار، وأنا أحدّق إلى قطعة اللحم الحمراء والجافّة في المِقلاة.
  بدت في عيني ميني النظرات الأكثر دلالة على الشعور بالوحدة. "ليت ليروي موجود في المنزل". قالت، هامسة.
  وتساءلتُ عما إذا قيلت هذه الكلمات في ذلك المنزل من قَبل.
  مرّت أربعة أيام وجاكسون، ميسيسيبي، في حالة من الغليان. وظهرت على تلفاز الآنسة ليفولت مجموعات كبيرة من ذوي البشرة الملوّنة في مسيرة في شارع هاي ستريت في اليوم التالي لجنازة السيد إيفرز. لقد اعتُقل ثلاثمئة شخص يومذاك. وذُكِر في الصحيفة الخاصة بملوّني البشرة أن آلاف الأشخاص شاركوا بالمسيرة، ولكن عدد ذوي البشرة البيضاء كان قليلاً جداً. وعرفت الشرطة من الذي دعا إلى المسيرة، ولكنهم لم يُطلعوا أحداً على اسمه.
  وتبيّن لي أن عائلة إيفرز لم تكن تعتزم دفن ميدغار في الميسيسيبي، بل سيتم نقل جثمانه إلى واشنطن ليوارى الثرى في مدفن أرلينغتون، وافترضتُ أن ميرلي فخورة بذلك ولكنني أردته أن يبقى هناك بالقرب منا. وقرأتُ في الصحيفة كيف أن رئيس الولايات المتحدة طلب من رئيس البلدية تومبسون معالجة الأمر بشكل أفضل، وإنشاء لجنة من البِيض والسود بهدف إيجاد حل للمسائل العالقة في الميسيسيبي. ولكن رئيس البلدية تومبسون قال للرئيس كنيدي: "لن أعيّن لجنة ثنائية الأعراق. لن نخدع أنفسنا. أعتقد بصوابية الفصل العِرقي، وهكذا ستجري الأمور".
  وبعد أيام قليلة، قال رئيس البلدية على الراديو ثانيةً. "جاكسون، ميسيسيبي، هي المكان الأقرب إلى السماء كما تسير فيها الأمور". قال. "وستبقى على هذه الحال بقيّة حياتنا".
  وظهرت جاكسون، ميسيسيبي، في مجلة لايف للمرة الثانية في غضون شهرَين، وكنا موضوع الغلاف في المرة الأخيرة.
الفصل الخامس عشر
  لم يتم التطرّق أبداً إلى مسألة ميدغار إيفرز في منزل الآنسة ليفولت. لقد انتقلتُ إلى محطة تلفازية أخرى عندما عادت من اجتماع الغداء، وأمضينا فترة بعد ظهرِ يومٍ صيفي جميل. ولم يبلغني شيء عن الآنسة هيلي، وكنت أشعر بقلق كبير لدى التفكير في المقابلات.
  وبعد يوم واحد من جنازة إيفرز، مرّت والدة الآنسة ليفولت للزيارة. كانت تقيم في غرينوود، ميسيسيبي، وتتجه بسيارتها إلى نيو أورليانز. لم تقرع الآنسة فريديريكس الباب، بل دخلت مباشرةً غرفة الجلوس حيث أقوم بكيّ الملابس، وابتسمت لي بطريقة تنمّ عن خيبة أمل. فذهبتُ لأخبر الآنسة ليفولت.
  "يا أمي! لقد أتيتِ في وقت باكر جداً! لا شك أنك استيقظتِ عند بزوغ الفجر، آمل في ألا تكوني منهَكة!". قالت الآنسة ليفولت، وهرعَت إلى غرفة الجلوس، والتقطت الألعاب بأسرع ما يمكن. ورمقتني بنظرة تعني، الآن. فوضعتُ قمصان الآنسة ليفولت المتجعّدة في سلّة، وأحضرتُ قطعة قماش لمسح الحلوى الهلامية عن وجه الطفلة.
  "تبدين نضِرة وأنيقة هذا الصباح، يا أمي". وابتسمت الآنسة ليفولت بقوة بحيث أن عينيها انتفختا. "هل أنت متحمّسة لرحلة التسوّق؟".
  ونظراً إلى امتلاكها سيارة بويك حديثة العهد، وانتعالها حذاءً جميلاً ببكلة، افترضتُ أن الآنسة فريديريكس تملك مالاً أكثر مما يملكه السيد والآنسة ليفولت.
  "أردتُ القيام بنزهة في السيارة، وكنت آمل في أن تصطحبيني إلى مطعم روبرت لتناول الغداء". قالت الآنسة فريديريكس. لم أكن أعرف كيف تُطيق هذه المرأة نفسها. كنت قد سمعتُ السيد والآنسة ليفولت يتجادلان حول كيفية طلبها من الآنسة ليفولت اصطحابها إلى مكان ذات مكانة رفيعة في المدينة وحملها على دفع الفاتورة.
  فقالت الآنسة ليفولت: "آه، لماذا لا تقوم آيبيلين بإعداد الغداء لنا هنا؟ لدينا لحم مقدَّد لذيذ وبعض...".
  "مررتُ بك للخروج وتناول الغداء، وليس لتناول الطعام هنا".
  "حسناً، حسناً، يا أمي، دعيني أُحضر حقيبة يدي فحسب".
  ونظرت الآنسة فريديريكس إلى ماو موبلي تلعب بدميتها الصغيرة، كلوديا، على الأرض. فانحنت وعانقتها، وقالت: "يا ماو موبلي، هل أحببتِ ذلك الفستان المطرَّز الذي أرسلتُه إليك الأسبوع الماضي؟".
  "أجل". قالت الطفلة لجدتها. كنت أكره أن أقول للآنسة ليفولت كم أن الفستان مشدود حول وسط الطفلة التي يمتلئ جسمها أكثر فأكثر.
  وقطّبت الآنسة فريديريكس جبينها، موجّهةً نظرها إلى ماو موبلي. "تقولين، أجل يا سيدتي، أيتها السيدة الشابة. هل سمعتني؟".
  وظهرت على وجه ماو موبلي نظرة فاترة وقالت: "أجل يا سيدتي". ولكنني كنت أعلم بما تفكر فيه، رائع، هذا ما أحتاج إليه اليوم. سيدة أخرى في هذا المنزل لا تحبني.
  وتوجهتا إلى الباب بينما كانت الآنسة فريديريكس تضغط بشكل موجع على الناحية الخلفية لذراع الآنسة ليفولت. "لا تعرفين كيف تستعينين بعاملة المنزل الملائمة، يا إليزابيت. من واجبها التأكد من حسن سلوك ماو موبلي الاجتماعي".
  "حسناً، يا أمي، سنعمل على ذلك".
  "لا يمكنك الاستعانة بأي شخص والأمل في أن يحالفك الحظ".
  بعد قليل، أعددتُ للطفلة شطيرة باللحم يمكنها إشباع الآنسة فريديريكس. ولكن ماو موبلي لم تتناول سوى قضمة واحدة، ودفعَتها بعيداً.
  "لا أشعر أنني بخير. إن فَلقي يؤلمني، يا آيبي".
  كنت أعلم ما الذي عنته بالفلق (حلق) وأعرف كيف أعالج الأمر. لقد أُصيبت الطفلة برَشح الصيف. فسخّنتُ لها كوب ماء بالعسل، ووضعتُ فيه حبة ليمون صغيرة لتحسين المذاق. ولكن، ما كانت هذه الفتاة بحاجة إليه في الواقع هي قصة تساعدها على الخلود إلى النوم. فحملتُها بين ذراعَيّ. يا الله، إنها تكبر. بعد أشهر قليلة، تبلغ عامها الثالث، وهي سمينة كيقطينة.
  وبعد ظهر كل يوم، كنت أجلس مع الطفلة على الكرسي الهزّاز قبل قيلولتها، وأقول لها، أنت لطيفة، أنت ذكية، أنت هامّة. ولكنها تكبر وأعرف أن هذه الكلمات القليلة لن تعود كافية بعد فترة قصيرة.
  "يا آيبي؟ اقرأي لي قصة؟".
  فبحثتُ بين الكتب ووجدتُ ما الذي سأقرأه لها. لا يمكنني أن أقرأ لها قصة جورج الفضولي مرة أخرى لأنها لا تريد سماعها. والأمر نفسه بالنسبة إلى قصتيّ الدجاجة الصغيرة أو ميدلاين.
  لذلك، هززنا على الكرسي لمدة وجيزة، وأحنت ماو موبلي رأسها على لباسي الرسمي. وشاهدنا المطر يتساقط على الماء المتبقّي في البركة الخضراء، ودعوت لميرلي إيفرز، متمنّيةً الحصول على يوم إجازة للمشاركة في الجنازة. وفكرتُ في كيف أن ابنها البالغ من العمر عشر سنوات بكى بهدوء، كما أخبرتني إحداهنّ. فهززتُ ودعوت، شاعرةً بحزن شديد لم أعرف سببه. وخرجت الكلمات من فمي تلقائياً.
  "في يوم من الأيام، كانت هناك فتاتان صغيرتان". قلت. "كانت لإحداهما بشرة سوداء وللأخرى بشرة بيضاء".
  فرفعَت ماو موبلي نظرها إليّ. كانت تستمع.
  "قالت الفتاة الصغيرة ملوّنة البشرة للفتاة بيضاء البشرة، لماذا أنت شاحبة البشرة؟ فقالت الفتاة البيضاء، لا أعلم. لماذا أنت ملونة البشرة؟ ماذا يعني ذلك برأيك؟".
  "ولكن أياً من الفتاتين لم تكن تعرف السبب. لذلك قالت الفتاة البيضاء، حسناً، لنرَ. لديك شعر ولديّ شعر". ونفشتُ شعر ماو موبلي.
  "قالت الفتاة الصغيرة الملوّنة، لديّ أنف، ولديك أنف". وقرصتُ أنفها الصغير. فمدّت يدها للقيام بالأمر نفسه لي.
  "وقالت الفتاة الصغيرة البيضاء، لديّ أصابع قدم، ولديك أصابع قدم". وقمتُ بالأمر الصغير نفسه لأصابع قدمها، ولكنها لم تتمكن من الوصول إلى أصابع قدمي لأنني كنت أنتعل حذاء العمل الأبيض.
  "إذاً، نحن مماثلتان، ولكن اللون مختلف فقط، قالت الفتاة الصغيرة الملوّنة. ووافقتها الفتاة الصغيرة البيضاء الرأي وأصبحتا صديقتين. النهاية".
  ونظرت الطفلة إليّ. يا الله، لو سمعتُ قصة مماثلة لبدت لي حزينة، ولكنني لم أخطط للأمر. فابتسمت ماو موبلي وقالت: "أخبريني القصة مجدداً".
  ففعلتُ. ولكنها نامت في المرة الرابعة، وهمستُ: "سأخبرك قصة أفضل في المرة التالية".
  "ألا نملك مزيداً من المناشف، يا آيبيلين؟ هذه المنشفة جيدة، ولكن لا يمكننا أخذ هذا الشيء القديم. سأكون مُحرَجة حتى الموت. أظن أننا سنأخذ تلك المنشفة فقط".
  كانت الآنسة ليفولت في ارتباك تام. فهي والسيد ليفولت لا ينتميان إلى أي نادٍ للسباحة، ولا حتى إلى بركة برودمور الصغيرة. وكانت الآنسة هيلي قد اتصلت في صباح ذلك اليوم وسألَت عمّا إذا كانت والطفلة تريدان الذهاب للسباحة في نادي جاكسون كاونتري كلوب، وهي دعوة لم تحصل عليها الآنسة ليفولت إلا مرةً واحدة أو مرتين فقط. لقد قصدتُ ذلك النادي أكثر مما قصدَته على الأرجح.
  لا يمكنكم استخدام العُملة الورقية هناك، بل عليكم أن تكونوا أعضاء وتقتطعوا التكلفة من حسابكم. ولكنني أعرف أن الآنسة هيلي لا تحب تغطية تكلفة الأخريات، لذلك، اعتبرتُ أنها تذهب مع سيدات أخريات إلى النادي يتمتّعن بالعُضوية.
  ولم يكن قد بلغنا أي شيء بعد عن الحقيبة المدرسية، كما أنني لم أرَ الآنسة هيلي منذ خمسة أيام، ولم ترَها الآنسة سكيتر كذلك، وهو أمر يُنذر بالسوء، من المفترَض أن تكونا صديقتين مقرَّبتين. كانت الآنسة سكيتر قد أحضرت الفصل الأول لميني في الليلة السابقة. ولم أكن أعلم ما الذي سيحلّ بنا إذا لاحظت الآنسة هيلي أي شيء على صلة بالقصص. وأملتُ فقط في ألا تكون الآنسة سكيتر تخشى إخباري بالأمر إذا بلغها أي جديد.
  فألبستُ الطفلة البيكيني الأصفر. "عليك عدم خلعه. لا يسمحون للأطفال العراة بالسباحة في النادي الريفي". كما أنهم لا يسمحون للزنوج واليهود بدخول النادي. لقد سبق لي أن عملتُ لدى عائلة غولدمانز. كان يهود جاكسون يقصدون نادي كولونيال كاونتري لممارسة السباحة، بينما يقصد الزنوج بحيرة مايز لايك.
  وأطعمتُ الطفلة شطيرة بزبدة الفول السوداني، ورنّ الهاتف.
  "منزل الآنسة ليفولت".
  "مرحباً يا آيبيلين، سكيتر تتكلم. هل إليزابيت موجودة؟".
  "مرحباً، يا آنسة سكيتر...". ونظرتُ إلى الآنسة ليفولت وكنت على وشك تسليمها الهاتف، ولكنها لوّحت بيديها. وهزّت رأسها وفمها، لا. قولي لها إنني غير موجودة.
  "لقد... ذهبَت، يا آنسة سكيتر". قلت ونظرتُ إلى عينيّ الآنسة ليفولت مباشرةً بينما كنت أكذب. لم أفهم الأمر. فالآنسة سكيتر عضوة في النادي، ولن تكون هناك مشكلة بدعوتها.
  عند الظهر، دخلنا ثلاثتنا سيارة الآنسة ليفولت الزرقاء من طراز فورد فيرلين. ووضعتُ على المقعد الخلفي بجانبنا كيساً وترمساً يحتوي على عصير التفاح، والفول السوداني، وزجاجتي كوكا - كولا، سنقوم بتناولها ساخنة على غرار تناول القهوة. وافترضتُ أن الآنسة ليفولت تعلم أن الآنسة هيلي لن تُلحّ علينا الدعوة لتناول الطعام في مطعم الوجبات السريعة. الله يعلم سبب دعوتها في ذلك اليوم.
  وجلست الطفلة على حضني في المقعد الخلفي. فأنزلتُ النافذة ولفح الهواء الدافئ وجهينا. واستمرت الآنسة ليفولت في رفع شعرها. كانت تقود بسرعات متفاوتة جداً، فشعرتُ بالغثيان، وتمنّيت لو أنها تُبقي يدَيها على عجَلة القيادة.
  فمررنا بجانب بِن فرانكلين فايف آند دايم، ومتجر مثلجات سيل - ليلي الذي لديه نافذة انزلاقية في الجانب الخلفي ليتمكن ذوو البشرة الملونة من شراء المثلجات أيضاً. كانت ساقاي تتعرّقان بسبب جلوس الطفلة عليّ. وبعد قليل، سلكنا طريقاً طويلة ووعرة، وعلى جانبيها مراعٍ وأبقار تهز ذيولها للتخلص من الذباب. فعددنا ستاً وعشرين بقرة، ولكن ماو موبلي لم تتخطَّ بالعدّ رقم عشرة لأنه أقصى ما يمكنها بلوغه.
  وبعد نحو خمس عشرة دقيقة، سلكنا طريقاً خاصة مرصوفة. كان النادي مبنى أبيض منخفضاً تحيط به شُجَيرات شائكة، ولم يكن أنيقاً كما وصفه الناس. كانت هناك العديد من مواقف السيارات أمامه، ولكن الآنسة ليفولت فكرت في الأمر للحظات وركنَت سيارتها في مكان بعيد.
  فنزلنا إلى الباحة المزفَّتة، وشعرنا بالحرارة. كنت أحمل الكيس الورقي بيد، وأمسك بيد ماو موبلي باليد الأخرى. واجتزنا قطعة الأرض السوداء التي يتصاعد منها البخار. لقد جعلتنا الخطوط المصبَّعة أشبه بعرانيس الذُّرة المشويّة على مصبَّعات الشواء على الفحم. وشعرتُ بوجهي يحترق تحت أشعة الشمس، وكانت الطفلة تسير ورائي مُمسكةً بيدي وتنظر مذهولة كما لو أنها تعرّضت للصَّفع. ولهثت الآنسة ليفولت عند الباب، وقطّبت جبينها. كانت لا تزال تبعد عشرين ياردة، وتساءلَت كما أعتقد عن سبب ركن سيارتها بعيداً. وشعرت بحريق في رأسي وبرغبة في الحكاك، ولكنني لم أتمكن من القيام بذلك لأن يدَيّ مشغولتان. وبعد ذلك، دخلنا الرّدهة. هووو! من المؤكد أن أحدهم أطفأ اللهب. كانت الرّدهة مُظلمة، باردة. فطرفنا عيوننا لفترة من الزمن.
  ونظرت الآنسة ليفولت حولها، ولم تكن ترى جيداً، وشعرَت بالخجل. فأشرتُ لها إلى الباب الجانبي. "البركة في ذلك الاتجاه، يا سيدتي".
  لقد بدَت ممتنّة لأنها لم تضطر إلى سؤال امرأة جديرة بالازدراء.
  ففتحنا الباب، وسطعت الشمس مجدداً على عيوننا، ولكن الحرارة كانت أكثر اعتدالاً وبرودة، وبركة السباحة تشعّ باللون الأزرق. وبدت التظليلات الواقية من الشمس والمخطَّطة باللونين الأسود والأبيض نظيفة. وكانت تفوح رائحة صابون غسل الملابس، والأطفال يضحكون ويرشّون الماء، والسيدات مستلقيات في أرجاء المكان بثياب السباحة وبنظّاراتهنّ الشمسية يقرأن المجلات.
  ظلّلت الآنسة ليفولت عينيها وبحثت عن الآنسة هيلي. كانت تعتمر قبّعة بيضاء ليّنة على رأسها، وترتدي فستاناً مرقَّطاً باللونين الأسود والأبيض، وتنتعل خفاً أبيض ببُكلة ومقاسه أكبر بكثير من مقاس قدميها. فقطّبت جبينها بسبب شعورها بعدم الانتماء إلى المكان، ولكنها ابتسمت لأنها لم تشأ أن تلاحظها الأخريات.
  "ها هي ذا". وتبعنا الآنسة ليفولت حول البركة، وتوجهنا نحو الآنسة هيلي التي ترتدي ثوب سباحة أحمر. كانت مستلقية على كرسيّ استراحة تراقب طفليها يسبحان. ورأيت خادمتين مع عائلات أخرى لم أعرفهما، ولكن يول ماي لم تكن موجودة.
  "ها هنّ جميعاً". قالت الآنسة هيلي: "يا ماو موبلي، أنت تبدين كشخص بدين بذلك البيكيني. يا آيبيلين، ابني وابنتي هناك في بركة الأطفال. يمكنك الجلوس في الظل والاعتناء بهم. لا تدعي وليام يرشّ الفتاتين بالماء".
  واستلقت الآنسة ليفولت على كرسيّ الاستراحة بجانب الآنسة هيلي، وجلستُ وراءهما إلى الطاولة تحت المظلة على بُعد أقدام قليلة منهما. وخلعتُ جوربيّ لتجفيف ساقيّ من العرق. كنت في موقع جيد لسماع ما تقولان.
  "يول ماي". قالت الآنسة هيلي، هازّةً رأسها للآنسة ليفولت: "يوم إجازة آخر. أُصدقك القول، تلك الفتاة تُفقدني أعصابي". حسناً، لقد حُلّ أحد الألغاز. لقد دعت الآنسة هيلي الآنسة ليفولت إلى النادي لأنها عرفَت أنها ستصطحبني معها.
  وسكبت الآنسة هيلي مزيداً من زبدة الكاكاو على جسدها الممتلئ، وساقيها السمراوين، وفركتها بشكل دائري. لقد غدت مغطاة بالشحم إلى حد كبير لدرجة أنها بدأت تلمع. "لقد أصبحتُ جاهزة للنزول إلى الشاطئ". قالت الآنسة هيلي: "ثلاثة أسابيع على الشاطئ".
  "كم أتمنى لو كان لعائلة راليه منزل هناك". قالت الآنسة ليفولت وتنهّدَت. وسحبَت فستانها إلى الأعلى قليلاً لتشميس ركبتيها البيضاوين. لم يكن في استطاعتها ارتداء أي ثوب سباحة منذ أن غدت حاملاً.
  "بالطبع، علينا دفع أجرة الحافلة لإعادة يول ماي إلى هنا في نهايات الأسبوع، ثمانية دولارات. يجب عليّ خصمها من راتبها".
  وصاح الأطفال قائلين إنهم يريدون النزول إلى البركة الكبيرة. فأخرجتُ علبة الفُقّاعات الرَّغوية من الكيس وأوثقتها حول بطن ماو موبلي. وأعطتني الآنسة هيلي علبتين أُخريين وضعتهما حول بطن وليام وهيذر. ونزلوا إلى البركة الكبيرة وطَفوا كما لو أنهم مجموعة من فلّين صيد السمك. فنظرت الآنسة هيلي إليّ، وقالت: "أليسوا الأكثر ظُرفاً؟". فأومأتُ برأسي. إنهم كذلك بالتأكيد، حتى إن الآنسة ليفولت أومأت برأسها.
  وتحدّثتا واستمعتُ، ولكنهما لم تذكرا الآنسة سكيتر أو الحقيبة المدرسية. وبعد قليل، أرسلتني الآنسة هيلي إلى نافذة وجبات الطعام السريعة لشراء زجاجات كوكا - كولا بنكهة الكرز للجميع، ولي أيضاً. وبدأ الجَراد يئزّ على الأشجار، وغدا الظل أكثر برودة، وشعرت أن عينيّ الموجّهتين إلى الأطفال في البركة بدأتا تُغمضان.
  "يا آيبي، راقبيني! انظري إليّ!". وركّزتُ نظري، وابتسمتُ لماو موبلي بينما كانت تمرح في أرجاء المكان.
  عندئذٍ رأيت الآنسة سكيتر وراء البركة خارج السياج. كانت ترتدي تنورة كرة مضرب وتحمل المضرب بيدها، وتحدّق إلى الآنسة هيلي والآنسة ليفولت، مُميلةً رأسها كما لو أنها تميّز وجهيهما. ولم ترَها الآنسة هيلي والآنسة ليفولت، واستمرتا في الحديث عن بيلوكسي. وشاهدتُ الآنسة سكيتر تدخل عبر البوّابة، وتتجه نحو البركة. وبعد قليل، وقفَت أمامهما من دون أن ترياها.
  "مرحباً". قالت الآنسة سكيتر. كان العرَق يسيل من ذراعيها، وكان وجهها زهريّ اللون ومنتفخاً بسبب الشمس.
  فرفعت الآنسة هيلي نظرها، ولكنها بقيت مستلقية على كرسيّ المَسبح، والمجلة في يدها. وقفزت الآنسة ليفولت عن كرسيّها ووقفَت.
  "مرحباً، يا سكيتر! لماذا لم... حاولنا الاتصال...". وابتسمت ابتسامة عريضة لدرجة أن أسنانها اصطكّت ببعضها.
  "مرحباً، يا إليزابيت".
  "كرة المضرب؟". سألت الآنسة ليفولت، وأومأت برأسها كما لو أنها دمية في لوحة القيادة: "مع من تلعبين؟".
  "كنت أضرب الكرات على الجدار بمفردي". قالت الآنسة سكيتر. ونفخَت خصلة شعر عن جبينها، ولكنها كانت ملتصقة بسبب التعرّق. ومع ذلك، فهي لم تتجنّب الوقوف في الشمس.
  "يا هيلي". قالت الآنسة سكيتر: "هل قالت لك يول ماي إنني اتصلتُ بك؟".
  فابتسمت هيلي قليلاً. "إنها في إجازة اليوم".
  "لقد اتصلتُ بك يوم أمس أيضاً".
  "انظري، يا سكيتر، لم يكن لديّ وقت. كنت في مقر قيادة الحملة منذ يوم الأربعاء نرسل مغلفات لكل شخص أبيض البشرة في جاكسون عملياً".
  "حسناً". قالت الآنسة سكيتر وأومأَت برأسها. وبعد ذلك، نظرَت شزَراً وقالت: "يا هيلي، هل نحن... هل صدر عني أمر ما أزعجك؟". وشعرتُ بأصابعي تهتزّ مجدداً، وتقلّب ذلك القلم غير المرئي في يدي.
  فأغلقت الآنسة هيلي مجلتها، ووضعتها على الإسمنت كيلا تلوّثها بالمادة الدهنية. "يُفترض مناقشة هذا الأمر في وقت لاحق، يا سكيتر".
  وجلسَت الآنسة ليفولت بسرعة، والتقطَت مجلة غود هاوسكيبينغ، وشرعت بقراءتها كما لو أنه لم يسبق لها أن رأت يوماً أمراً أكثر أهمية مما تقرأه.
  "حسناً". قالت الآنسة سكيتر، وهزّت كتفيها. "ظننتُ أن في استطاعتنا التحدث عن... أياً يكن الأمر، لقد أردت التحدث إليك قبل أن تغادري المدينة".
  وكانت الآنسة هيلي على وشك الاحتجاج، ولكنها أخرجَت تنهيدة طويلة. "لماذا لا تخبرينني الحقيقة فحسب، يا سكيتر؟".
  "حقيقة أي...".
  "انظري، عثرتُ على أمتعتك تلك". فابتلعتُ بصعوبة، وحاولت الآنسة هيلي التكلم هَمساً ولكنها لم تكن تجيد ذلك في الواقع.
  وحدّقت الآنسة سكيتر إلى هيلي. كانت هادئة تماماً، ولم تنظر إليّ أبداً. "أي أمتعة تقصدين؟".
  "في حقيبتك المدرسية عندما كنت أطالع المسوّدات؟ يا سكيتر". ونظرَت إلى السماء بسرعة وأعادت تثبيت نظرها على الآنسة سكيتر. "لا أعرف. لم أعد أعرف شيئاً".
  "يا هيلي، ما الذي تتحدثين عنه؟ ماذا رأيتِ في حقيبتي؟".
  وألقيتُ نظرة على الأطفال. يا الله، كدتُ أنسى أمرهم. وشعرتُ أنه سيُغمى عليّ إذا ما استمررت في الاستماع إليهنّ.
  "تلك القوانين التي تحملينها معك؟ عما يمكن...". ونظرت الآنسة هيلي إلى الوراء باتجاهي. واستمررتُ في مراقبة البركة. "عما يمكن لأولئك الأشخاص الآخرين القيام به، وما لا يمكنهم القيام به، وبصدق". وهسهسَت: "أعتقد أنك عنيدة تماماً لظنّك أنك تعرفين أكثر مما تعرفه حكومتنا؟ أكثر من روس بارنيت؟".
  "متى انتقدتُ روس بارنيت؟". قالت الآنسة سكيتر.
  ورفعت الآنسة هيلي إصبعها باتجاه الآنسة سكيتر وهزّتها. كانت الآنسة ليفولت تحدّق إلى الصفحة نفسها، والسطر نفسه، والكلمة نفسها، وكنت أرى المشهد بأكمله من طرف عيني.
  "أنت لست سياسية، يا سكيتر فيلان".
  "حسناً، وأنت كذلك، يا هيلي".
  عندها، وقفت الآنسة هيلي، ووجّهت إصبعها نحو الأرض. "أنا على وشك أن أصبح زوجة سياسي ما لم تؤثّري في ذلك سَلباً. كيف سيتم انتخاب وليام في واشنطن، العاصمة، ذات يوم إذا كان يوجد في مختلانا أصدقاء يؤيّدون الدمج العنصري؟".
  "واشنطن؟". قالت الآنسة سكيتر وقلّبت عينيها. "وليام يخوض الانتخابات للفوز بمقعد سيناتور للولاية، يا هيلي، وقد لا يفوز".
  آه، يا الله. أخيراً نظرتُ إلى الآنسة سكيتر عن عَمد. لماذا تفعلين ذلك؟ لماذا تثيرين حفيظتها؟
  آه، لقد غضبت الآنسة هيلي الآن. فقوّمَت رأسها. "تعلمين جيداً كما أعلم أن هناك عدداً كبيراً من دافعي الضرائب من ذوي البشرة البيضاء في هذه المدينة الذين سيقاومونك حتى الموت. تريدين إدخالهم إلى مسابحنا؟ والسماح لهم بلمس كل ما هو موجود في متاجر البقالة الخاصة بنا؟".
  وحدّقت الآنسة سكيتر طويلاً، وبشكل غير ودّي، إلى الآنسة هيلي. وبعد ذلك، رمقتني الآنسة سكيتر بنظرة سريعة لنصف ثانية، ورأت التوسّل في عينيّ. فأرخت كتفيها وقالت: "آه، يا هيلي، إنه مجرد كتيّب. لقد عثرتُ عليه في مكتبة المطبوعات منخفضة الثمن. أنا لا أحاول تغيير أي قوانين، لقد أخذتُه إلى المنزل لقراءته".
  فأجابت الآنسة هيلي بعد لحظات: "ولكن، إذا كنت تطّلعين على هذه القوانين". وشدّت الآنسة هيلي ساق ثوب السباحة الذي ترتديه نحو الأسفل، "أتساءل عن الأمور الأخرى التي تخططين لها؟".
  وأشاحت الآنسة سكيتر بنظرها، ومرّرت لسانها على شفتيها. "يا هيلي. أنت تعرفينني أكثر مما يعرفني أي شخص آخر في هذا العالم. لو كنت أخطط لأمر آخر، لاكتشفتِ ذلك في لحظات".
  وراقبتها الآنسة هيلي. بعد ذلك، أمسكت الآنسة سكيتر بيد الآنسة هيلي وضغطت عليها. "أنا قلقة في شأنك. لقد اختفيتِ طوال أسبوع كامل، أنت تُجهدين نفسك في هذه الحملة حتى الموت. انظري إلى ذلك". وبرمَت الآنسة سكيتر راحة كف يد الآنسة هيلي. "لديك انتفاخ بسب إعداد كل تلك المغلفات".
  وببطء شديد، رأيت جسد الآنسة هيلي يسترخي ويعود إلى طبيعته. ونظرَت لتتأكد من أن الآنسة ليفولت لا تستمع إلى حديثهما.
  "أنا خائفة جداً". همسَت الآنسة هيلي من خلال أسنانها، ولم أستطع سماع الكثير. "... أنفق وليام مقداراً كبيراً من المال في هذه الحملة، وإذا لم يفُز... بعد العمل ليل نهار...".
  ووضعت الآنسة سكيتر يدها على كتف الآنسة هيلي، وقالت لها شيئاً ما. فأومأت الآنسة هيلي برأسها، وابتسمت لها ابتسامة تنمّ عن شعور بالإرهاق.
  بعد قليل، قالت لهما الآنسة سكيتر إنه يتعيّن عليها الذهاب. ومرّت عبر آخذي حمّام شمسيّ، وتنقلت بين الكراسي والمناشف. فنظرت الآنسة ليفولت إلى الآنسة هيلي بعينين واسعتين كما لو أنها تخشى طرح أي سؤال.
  فأسندتُ ظهري إلى الكرسي، ولوّحت لماو موبلي التي كانت تسبح بشكل دائري في الماء، وحاولتُ التخلص من ألم الرأس من خلال فرك صدغيّ. وفي أثناء ابتعادها، كانت الآنسة سكيتر تلتفت إلى الوراء، ناظرةً إليّ. كانت جميعهن من حَولنا يتشمسن ويضحكن وينظرن بعيون نصف مُغمَضة، غير مدركات أن المرأة ملوّنة البشرة والمرأة بيضاء البشرة التي تحمل المضرب تتساءلان عن الأمر نفسه؛ هل من الغباء إن نحن شعرنا ببعض الارتياح؟
الفصل السادس عشر
  بعد نحو عام من وفاة تريلور، بدأت أحضر اجتماع شؤون الجماعة في دار العبادة لملء وقت الفراغ، وعدم الشعور بالوحدة في الأمسيات. وكانت بسمة شيرلي بون تُغضبني لأنها توحي بادّعاء العِلم بكل شيء. ولم تكن ميني تحب شيرلي كذلك، ولكنها كانت تفضّل الخروج من المنزل على كل حال. ولكن بِيني أصيب بالرَّبو في تلك الليلة، ولم تتمكن ميني من حضور الاجتماع.
  بعد مدة، اتخذت الاجتماعات طابع مناقشة الحقوق المدنية أكثر من مناقشة مسألة إبقاء الشوارع نظيفة واختيار الأشخاص الذين سيعملون في تعاونية الملابس. وكان الناس في الغالب يقولون إن الأمر لا ينمّ عن عدائية، ويدعون لأجل ذلك. ولكن، بعد تعرّض السيد إيفرز لإطلاق النار قبل أسبوع، شعر العديد من ذوي البشرة الملوّنة بالإحباط في هذه المدينة، ولا سيما الأصغر سنّاً. فقد كانوا يعقدون اجتماعات طوال الأسبوع لمناقشة عملية القتل، شاعرين بالغضب، صائحين، وصارخين. كانت المرة الأولى التي أحضر فيها الاجتماع بعد عملية إطلاق النار.
  ونزلتُ السلّم إلى الطابق السفلي. كان الجوّ أكثر برودةً مما هي الحال في دار العبادة بشكل عام، ولكنه كان دافئاً هناك في الأسفل في تلك الليلة، ويضع الناس مكعّبات ثلج في أكواب القهوة. ونظرتُ إلى الموجودين، وارتأيتُ الطلب من بعض الخادمات الأخريات مساعدتنا، لا سيّما وأننا نجحنا في تضليل الآنسة هيلي كما يبدو. لقد رفضت خمس وثلاثون خادمة الأمر، وشعرتُ أنني أبيع شيئاً ما لا يريد أحد شراءه، شيئاً كبيراً، نتِن الرائحة، على غرار كيكي براون ومادة التلميع خاصتها برائحة الليمون. ولكن ما يجعلني وكيكي نبدو مماثلتين هو أنني فخورة بما أبيع، ولم تكن بيدي حيلة. نحن نخبر قصصاً يجب إخبارها.
  وتمنّيت لو أن في استطاعة ميني مساعدتي لأنها تجيد الترويج. ولكننا قررنا منذ البداية ألا يعرف أحد أن ميني تشاركنا القصص بسبب الخطورة الكبيرة التي يشكلها هذا الأمر على عائلتها. ومع ذلك، كان علينا إخبار الخادمات أن الآنسة سكيتر هي صاحبة الفكرة، ولكنهنّ لم يوافقن على الأمر بسبب عدم معرفتهنّ بها أم لأنهنّ لم يعملن معها. ولكن، ليس في إمكان الآنسة سكيتر العَرض للأمر مباشرةً لأنها قد تُخيفهنّ قبل أن تفتح فمها. لذلك، كان الأمر مَنوطاً بي، ولم يتطلّب الأمر سوى عرض الأمر على خمس أو ست خادمات ليعرف الجميع ما أطلبه منهنّ قبل التفوّه بأي كلمة، فيُجبن أن الأمر غير جدير بالمجازفة. وسألنني عن سبب تعريض نفسي للخطر لا سيّما وأن الأمر لا يعود بالفائدة على أحد، فافترضتُ أن الناس بدأوا يظنون أنه لم يعُد يوجد الكثير من حبّات الببايا في سلّتي القديمة.
  كانت كل الكراسي الخشبية القابلة للطي مليئة في تلك الليلة، وكان هناك أكثر من خمسين شخصاً، معظمهم نساء.
  "اجلسي بجانبي، يا آيبيلين". قالت برترينا بيسيمر: "يا غولديلا، ليجلس الأشخاص الأكبر سنّاً على الكراسي".
  وقفزت غولديلا وطلبت مني الجلوس. فبرترينا على الأقل لا تزال تعاملني كما لو أنني غير مجنونة.
  فجلستُ. في تلك الليلة، كانت شيرلي بون جالسة ومدبّر أعمال دار العبادة واقفاً في الأمام، وقال إننا بحاجة إلى عقد اجتماع للدعاء في جوّ هادئ، وإننا بحاجة إلى الشفاء. كنت سعيدة بالأمر. فأغمضنا عيوننا واستهلّ المبجَّل الدعاء لعائلة إيفرز، وميرلي، وأبنائهما. وكان بعض من الموجودين يهمسون ويتمتمون متضرّعين إلى الله، وسادت القاعةَ قوةٌ هادئة على غرار أزيز النحل في قرص عسل. تضرعت إلى الله، وحين أنهيت أدعيتي، أخذتُ نفساً عميقاً وانتظرت انتهاء الآخرين. فعندما أعود إلى المنزل، سأدوّن أدعيتي أيضاً؛ إن الأمر جدير بتخصيص وقت مزدوج للأدعية.
  كانت يول ماي، خادمة الآنسة هيلي، جالسة أمامي، ويسهل معرفتها من الخلف بسبب شعرها الجميل والأملس الذي لا يوجد زِئبر عليه. لقد سمعتُ أنها مثقّفة وارتادت الكلية. هناك بالطبع العديد من الأشخاص الأذكياء في دار العبادة الخاصة بنا الذين يحملون شهادات جامعية، كأطباء، ومحامين، وكالسيد كروس الذي يملك ذي ساوذرن تايمز، صحيفة ملوّني البشرة التي تصدر كل أسبوع. ولكن يول ماي كانت الخادمة الأكثر تعلّماً في رعيتنا. فرؤيتها تحملني على التفكير مجدداً في الخطأ الذي يجب تصحيحه.
  وفتح المبجَّل عينيه، ونظر إلينا بهدوء تام. "الأدعية التي نبتهل بها...".
  "يا ثوروغود". قاطع صوت الهدوء. فالتفتُّ والتفت الجميع وكان هناك جيساب، حفيد بلانتاين فيديليا، الذي يتراوح عمره بين اثنين وعشرين وثلاثة وعشرين عاماً، واقفاً عند باب المدخل ومُطبِقاً قبضتي يديه.
  "ما أريد معرفته". قال ببطء وغضب: "هو ما الذي نخطط له لمواجهة الأمر".
  فتجهّم وجه المبجَّل كما لو أنه تحدّث إلى جيساب من قبل. "الليلة سنتضرّع، وندعو الله، وسنسير بسلام في شوارع جاكسون يوم الثلاثاء القادم. وفي آب/ أغسطس، سألتقيكم في واشنطن للقيام بمسيرة مع الدكتور كينغ".
  "هذا لا يكفي!". قال جيساب، ضارباً راحة يده بقبضته. "لقد أطلقوا عليه النار في الظهر كما لو أنه كلب!".
  "يا جيساب". قال مدبّر أعمال دار العبادة ورفع يده. "الليلة هي للدعاء لأجل العائلة، والمدافعين عن القضية. أفهم غضبك، ولكن، يا بُنيّ...".
  "الدعاء؟ تعني ستجلسون وتدعون فحسب؟".
  وألقى نظرة حَوله على الجميع.
  "تظنون أن الدعاء سيمنع ذوي البشرة البيضاء من قتلنا؟".
  فلم يُجب أحد، ولا حتى المبجَّل. واستدار جيساب وغادر، وسمعنا كلنا وقع قدميه على السلّم، ومن ثم فوق رؤوسنا، وخارج دار العبادة بعد ذلك.
  كان الهدوء يسود القاعة حقاً. وثبّت ثوروغود نظره فوق رؤوسنا على ارتفاع بضع بوصات. كان أمراً غريباً حقاً لأنه لم يعتَد النظر إلاّ إلى عيون الناس. وحدّق إليه الجميع متسائلين عما يجول في خاطره ويحول دون نظره إلى عيوننا. بعد ذلك، رأيت يول ماي تهز رأسها الصغير، وافترضتُ أن المبجَّل ويول ماي يفكران في الأمر نفسه. كانا يفكران في سؤال جيساب، وأجابت يول ماي عنه.
  انتهى الاجتماع نحو الساعة الثامنة، وغادر أولئك الذين لديهم أطفال، وارتشف الآخرون القهوة الموضوعة على الطاولة في الجانب الآخر من القاعة. لم يتم تبادل أطراف الحديث بكثرة، وكان الناس هادئين. فأخذتُ نفساً عميقاً، وقصدتُ يول ماي الواقفة عند إبريق القهوة. لقد أردت فقط التخلص من تلك الكذبة الملتصقة بي كنبتة شائكة. لم أكن أعتزم طلب المساعدة من أي شخص آخر موجود في الاجتماع لأن أحداً لن يوافق على عرضي.
  فأومأَت يول ماي لي، وابتسمَت بتهذيب. كانت في الأربعين من العمر تقريباً، طويلة القامة، نحيلة، وتحافظ على مظهرها الخارجي. كانت لا تزال مرتدية لباسها الرسمي الأبيض المُخاط بشكل ملائم عند الخصر، وتضع باستمرار أقراطاً وحلقات ذهبية بالغة الصِّغر.
  "سمعتُ أن التوأمين سيقصدان مدرسة توغالو في العام القادم. أهنّئك".
  "نأمل ذلك. لا يزال يتعيّن علينا توفير المزيد من المال. اثنان في وقت واحد يكلّفاننا الكثير".
  "لقد ارتدتِ الكلية لفترة وجيزة، أليس كذلك؟".
  فأومأَت برأسها، وقالت: "كلية جاكسون".
  "كنت أحب المدرسة، القراءة والكتابة باستثناء الحساب، فأنا لم أحبّه".
  وابتسمت يول ماي. "كانت اللغة الإنكليزية مادّتي المفضَّلة أيضاً، والكتابة".
  "لي... بعض الكتابات".
  فنظرت إليّ يول ماي، ولم أعرف ما إذا كانت تدري ماذا سأقول لها. واستطعت للحظات رؤية الخجل والخوف اللذَين تُخفيهما كل يوم بسبب عملها في ذلك المنزل. لقد بدت لي مفاتحتها بالموضوع أمراً مُحرِجاً.
  ولكن يول ماي باحت به قبل أن أُضطر إلى ذلك. "أنا على عِلم بالقصص التي تعملين عليها مع صديقة الآنسة هيلي تلك".
  "لا بأس، يا يول ماي. أعلم أن ليس في استطاعتك القيام بذلك".
  "في الأمر... مجازفة لا يمكنني تحمّل نتائجها في الوقت الحاضر. نحن على وشك جمع مقدار وافٍ من المال".
  "لقد فهمتُ". قلت، وابتسمتُ، حاملةً إياها على الشعور أن لا مشكلة في ذلك. ولكن يول ماي لم تغيّر الموضوع.
  "الأسماء... لقد سمعتُ أنك تبدّلينها؟".
  إنه السؤال نفسه الذي تطرحه كلّهنّ.
  "هذا صحيح، واسم المدينة أيضاً".
  ووجّهت نظرها نحو الأرض. "إذاً، سأخبر قصصي عن حياتي كخادمة وتقوم بكتابتها؟ تحريرها أو... شيء من هذا القبيل؟".
  فأومأتُ برأسي. "نريد وضع قصص من مختلف الأنواع، والتكلم عن أمور جيدة لا سيّئة. إنها تعمل مع... خادمة أخرى في الوقت الحاضر".
  فمرّرت لسانها على شفتيها، وبدت أنها تتخيّل ما تكون عليه حال العمل لدى الآنسة هيلي.
  "هل يمكننا... التحدث أكثر عن الأمر؟ عندما يتوافر لي مزيد من الوقت؟".
  "بالطبع". قلت، ورأيتُ في عينيها مدى لطافتها.
  "أنا آسفة، ولكن هنري والفتيين ينتظرونني". قالت: "ولكن هل يمكنني الاتصال بك؟ والتحدث معك بشكل سرّي؟".
  "متى شئتِ وكلما شعرتِ برغبة في ذلك".
  ولمسَت ذراعي ونظرَت إلى عينيّ مباشرةً مرة أخرى. لم يكن في استطاعتي تصديق ما رأيته. لقد بدا الأمر كما لو أنها تنتظر قيامي بمفاتحتها بالموضوع.
  وخرجَت بعد ذلك من الباب، ووقفتُ في الزاوية لفترة وجيزة أرتشف القهوة ذات السخونة الشديدة بسبب حرارة الطقس. فضحكتُ وتمتمتُ بمفردي، عِلماً أن الجميع بدأوا يفكرون في أنني مُصابة بالجنون.
مينـي
الفصل السابع عشر
  "اخرجي من هنا كي أتمكن من القيام بأعمال التنظيف".
  وسحبت الآنسة سيليا الأغطية باتجاه صدرها كما لو أنها تخشى قيامي بجرّها خارج السرير. لقد مضى على وجودي هناك تسعة أشهر وكنت لا أزال لا أعرف ما إذا كانت مصابة بمرض جسدي، أم أن صباغ الشعر أثّر في سلامة عقلها. كانت تبدو في حال أفضل مقارنةً مع ما كانت عليه حالها عندما بدأتُ بالعمل لديها. لقد سَمُن بطنها قليلاً، ولم يعُد خدّاها غائرين كما في السابق، ولم يعُد يُخشى عليها من التضوّر جوعاً مع السيد جوني.
  لقد عملت الآنسة سيليا لفترة قصيرة في الفناء الخلفي، ولكن تلك المرأة المخبولة عادت للجلوس عند أطراف السرير مجدداً. كنت أُسَرّ ببقائها داخل غرفتها، ولكنني أصبحت مستعدة للعمل بعد التقاء السيد جوني. وتبّاً، لقد كنت مستعدة أيضاً للدخول في جدال مع الآنسة سيليا لأحملها على العيش بالطريقة الملائمة.
  "أنت تقودينني إلى الجنون بمكوثك في هذا المنزل طيلة الليل والنهار. انهضي. اذهبي واقطعي شجرة الميموزا المسكينة تلك التي تكنّين لها كُرهاً شديداً". قلت لأن السيد جوني لم يقطع ذلك الشيء.
  ولكن، عندما لم تتحرك الآنسة سيليا عن ذلك الفراش، علمتُ أنه حان وقت استخدام الأسلحة الثقيلة. "متى ستخبرين السيد جوني عنّي؟". قلت لها، لأن ذلك يحملها دائماً على التحرك. وأحياناً، أطرح عليها السؤال للتسلية فقط.
  لم يكن في استطاعتي التصديق أن هذه التمثيلية دامت طويلاً. فالسيد جوني يعرف بأمري، والآنسة سيليا تتنقّل في أرجاء المنزل قلِقة، ومخدوعة. ولم أتفاجأ عندما رجتني إمهالها مزيداً من الوقت عندما حلّ الميلاد. آه، لقد أجبتها بفظاظة، وبدأت ترجوني فوافقتُ كي أُسكتها، وقلتُ لها إنها هدية الميلاد. كان يجب عليها الحصول على جوارب ممتلئة بالفحم بسبب كذبها على السيد جوني.
  وأشكر الله لأن الآنسة هيلي لم تأتِ إلى المنزل للعب البريدج، عِلماً أن السيد جوني حاول إنجاح الأمر قبل أسبوعين. كنت على عِلم بذلك لأن آيبيلين سمعت الآنسة هيلي والآنسة ليفولت تسخران من تلك المحاولة. لقد نظرَت الآنسة سيليا إلى الأمر بجدّية كبيرة لدرجة أنها سألتني عن الطعام الذي سنُعدّه للسيدات، وطلبَت كتاباً عبر البريد بعنوان البريدج للمبتدئين لتتعلّم اللعبة، وكان يجدر بواضع الكتاب أن يدعوه البريدج للمغفّلين. وعندما وصل في صباح ذلك اليوم إلى صندوق البريد، سألتني قبل أن تبدأ بقراءته: "هل ستعلّمينني اللعب، يا ميني؟ ليس لكتاب البريدج هذا أي معنى".
  "لا أُجيد لعب البريدج". قلت.
  "بلى، أنت تعرفين".
  "كيف تعرفين ما الذي يمكنني القيام به أم لا؟". وبدأتُ أُحدث ضجيجاً عالياً بالأوعية الموجودة هناك لأن شكل ذلك الغلاف الأحمر الغبيّ أغضبني. لقد حُلّت مسألة السيد جوني أخيراً، ولكن، بات عليّ القلق في شأن قدوم الآنسة هيلي وإفساد حياتي لأنها ستخبر الآنسة سيليا بالتأكيد بما فعلتُه. تبّاً، لطردتُ نفسي بسبب ما قمت به.
  "لأن السيدة والترز قالت لي إنك كنت تلعبين معها البريدج في صباح أيام السبت".
  وبدأت أفرك القِدر الكبيرة، وكانت برجماتي تصطدم بالجوانب مُحدثةً طنيناً.
  "لعب الورق هو لعبة الشرير". قلت: "ولديّ أعمال كثيرة".
  "ولكنني سأشعر بإرباك كبير إذا طلبتُ من تلك الفتيات تعليمي البريدج. ألن تُريني قليلاً كيف نلعب البريدج؟".
  "لا".
  وأطلقت الآنسة سيليا تنهيدة صغيرة. "يعود السبب إلى أنني طاهية سيئة، أليس كذلك؟ تظنين أنني لا أستطيع تعلّم أي شيء".
  "ما الذي ستفعلينه إذا قامت الآنسة هيلي والسيدات بإخبار زوجك أن لديك خادمة هنا؟ ألن يكشف ذلك الأمر سرّك؟".
  "لقد فكرتُ في ذلك مُسبَقاً. سأخبر جوني أنني سأستعين بعاملة منزل يوم قدومهنّ، فيبدو الأمر ملائماً لنا وللسيدات الأخريات".
  "أممم - هممم".
  "وسأخبره بعد ذلك أنك تعجبينني جداً لدرجة أنني أريد استخدامك بدوام كامل. أعني، يمكنني أن أخبره بذلك... بعد أشهر قليلة".
  عندها، بدأتُ بالتعرّق. "متى تظنين أن السيدات سيأتين إلى حفلة البريدج؟".
  "أنا أنتظر اتصال هيلي. قال جوني لزوجها إنني سأتصل بها. لقد اتصلتُ بها مرّتين وتركت لها رسالتين، لذلك أنا واثقة أنها ستتصل بي في أي وقت".
  فوقفتُ هناك محاوِلةً التفكير في أمر ما لمنع حدوث ذلك اللقاء. ونظرتُ إلى الهاتف، ودعوت كيلا يرنّ مجدداً.
  في صباح اليوم التالي، وعندما وصلتُ إلى منزل الآنسة سيليا، خرجَت من غرفة نومها. لقد ظننت أنها ستصعد إلى الطابق العلوي، ولكنني سمعتها تتحدث عبر هاتف المطبخ، سائلةً عن الآنسة هيلي، فانتابني شعور بالغثيان.
  "أتصل مجدداً لأعرف ما إذا كان بإمكاننا أن نمارس لعبة البريدج معاً!". قالت بسرور كبير، ولم أتحرك حتى عرفتُ أنها تتحدث إلى يول ماي، خادمة هيلي، وليس إلى الآنسة هيلي نفسها. وذكرَت الآنسة سيليا رقم هاتفها كما لو أنها تُنشد مقطوعة شعرية عن مَسح الأرض: "إمرسون 260609!".
  وبعد قليل، طلبَت رقم هاتف شخص آخر من دون اسمه على الصفحة الثانية من تلك الصحيفة المُملّة، كما دأبَت على القيام بذلك كل يوم. لقد عرفتُ ما هي تلك الصحيفة، إنها نشرة دورية مُرسَلة من قِبَل رابطة السيدات، وقد عثرَت عليها، كما يبدو من مظهرها الخارجي، في موقف سيارات نادي السيدات. كانت خشنة كورقة الصَّقل ومتهدّلة كما لو أنها تعرّضت لعاصفة مطَريّة بعد أن عصف بها الهواء من بين يدَيّ إحداهنّ.
  حتى ذلك الحين، لم تتصل أي من تلك النساء، ولكن كلما رنّ ذلك الهاتف قفزَت عليه كما يقفز الكلب على زنجي، ولكن السيد جوني كان على الجانب الآخر من الخط باستمرار.
  "حسناً... قولي لها... فحسب إنني اتصلتُ مجدداً". قالت الآنسة سيليا على الهاتف.
  وسمعتُها تضع السمّاعة بهدوء. فلو كنت مهتمّة بالأمر، لقلتُ لها إن تلك السيدات غير جديرات بالمحاولة. وسمعتُ نفسي أقول: "تلك السيدات غير جديرات بالمحاولة، يا آنسة سيليا". ولكنها تصرّفت كما لو أنها لم تسمع شيئاً، وعادت إلى غرفة نومها وأغلقتِ الباب.
  فكرتُ في قرع الباب والتحقق مما إذا كانت بحاجة إلى أي شيء، ولكن، كانت لديّ أمور أكثر أهمية من القلق على ما إذا فازت الآنسة سيليا أم لا بمسابقة السيدة التي تتمتع بأكبر شعبية. كنت قلقة في شأن مقتل ميدغار إيفرز على عتبة باب منزله، وتذمّر فيليتشيا من عدم تمكّنها من الحصول على رخصة قيادة بعد أن بلغَت سنّ الخامسة عشرة، إنها فتاة صالحة ولكنني حملتُ بليروي الأصغر عندما لم أكن أكبر سنّاً منها بكثير، ولسيارة بويك علاقة بتذمّرها. وكنت قلقة أيضاً في شأن الآنسة سكيتر وقصصها.
  في نهاية حزيران/يونيو، حلّت موجة حرّ شديد بلغت مئة درجة مئوية ودامت طويلاً. كان الأمر أشبه بزجاجة ماء ساخن أُلقيت فوق حيّ ذوي البشرة الملوّنة، فزادت الحرارة عشر درجات مقارنةً مع بقيّة منطقة جاكسون. كان الحر شديداً، ودخل ديك السيد دان منزلي، وجثم أمام مروحة مطبخي. فدخلتُ ورأيته ينظر إليّ كما لو أنه يقول لي لن أتحرك من مكاني، يا سيدتي. فآثرتُ ضربه بالمكنسة بدلاً من إخراجه ببساطة.
  وفي مقاطعة ماديسون، جعلت الحرارة الآنسة سيليا الشخص الأكثر كسلاً في الولايات المتحدة الأميركية، لدرجة أنها لم تعُد تخرج للحصول على محتويات صندوق بريدها، وكان عليّ القيام بذلك. وكانت الحرارة شديدة بالنسبة إلى الآنسة سيليا بحيث إنها لم تعُد تجلس بجانب البِركة، ووجدتُ في ذلك مشكلة.
  قلت لنفسي إن لله حكمة. وعندما أطلقت الآنسة سيليا ابتسامة عريضة وقالت: "صباح الخير" و"تسعدني رؤيتك". تساءلتُ عن كيفية بلوغها هذه المرحلة من الحياة من دون وضع حدود لتصرفاتها مع الآخرين؟ أعني أن اتصالها بسيدات المجتمع الفاسقات هو أمر سيّئ جداً، إضافةً إلى جلوسها وتناول الغداء معي كل يوم منذ بدأت عملي لديها، لا أعني في الغرفة نفسها بل على الطاولة نفسها، تلك الطاولة الصغيرة القائمة تحت النافذة. فكل النساء بيضاوات البشرة اللواتي عملتُ لديهنّ، كنّ يتناولن الطعام في غرفة الطعام وعلى أبعد مسافة ممكنة من عاملة المنزل ملونة البشرة، وكنت راضية بذلك.
  "ولكن لماذا؟ لا أريد تناول الطعام هناك بمفردي في حين أن في استطاعتي تناوله هنا معك". قالت الآنسة سيليا. ولم أحاول أبداً شرح الأمر لها. فالآنسة سيليا تجهل بعض الأمور تماماً.
  وكل امرأة أخرى بيضاء البشرة تعرف أيضاً أن هناك فترة في الشهر لا يجب التحدث فيها إلى ميني. حتى إن الآنسة والترز كانت تعرف أيضاً متى يبلغ جهاز قياس ميني درجة الحرارة القصوى، كانت تشمّ رائحة الكاراميل وتُخرج نفسها من الباب. ولم تسمح للآنسة هيلي أيضاً بتخطي حدودها.
  في الأسبوع السابق، ملأ السُكّر والزبدة منزل الآنسة سيليا بأكمله برائحة الميلاد بالرغم من كوننا في شهر حزيران/يونيو. كنت متوترة كالعادة وأحوّل السكّر إلى كاراميل. فسألتها ثلاث مرات، وبكثير من التهذيب، إذا كان في استطاعتي القيام بالأمر بمفردي، ولكنها أرادت أن تتواجد معي. فقلت لها إنها تشعر بالوحدة لأنها تلازم غرفة النوم طوال اليوم.
  فحاولتُ تجاهلها. ولكن المشكلة تكمن في أنني أتحدث إلى نفسي عندما أُعدّ كعكة بالكاراميل أو أي شيء آخر لدرجة أنني أصبح عصبية المزاج جداً.
  وقلت: "إنه اليوم الأكثر حرارة في تاريخ حزيران/يونيو. تبلغ الحرارة في الخارج مئة وأربع درجات".
  فقالت: "هل لديك مكيّف هواء؟ لدينا واحد هنا بفضل الله لأنني نشأتُ في منزل لا يوجد فيه مكيِّف هواء، وأعرف كيف تكون عليه الحال عندما نشعر بالحرارة".
  وقلت: "لا أستطيع تحمّل تكلفة مكيّف هواء لأنه يلتهم التيار الكهربائي كما تلتهم السوسة جوزة القطن". وبدأتُ أحرّك بقوة لأن اللون البنّي بدأ يتشكل على صفحة الكعكة، ومن الجميل حقاً مشاهدة ذلك المنظر، وقلت: "لم نتمكن من دفع فاتورة الكهرباء في الموعد المحدّد". لأنني لم أكن أفكر بشكل سليم، وهل تعرفون ماذا قالت؟ قالت: "آه، يا ميني، ليتني كنت قادرة على إقراضك المال لأن جوني سيطرح تلك الأسئلة المُضحكة في وقت لاحق". واستدرتُ لأقول لها إنه كلما تذمّرت زنجية من تكاليف العيش فهذا لا يعني أنها تستجدي المال. ولكنني أحرقتُ الكاراميل قبل أن أتمكن من النبس بكلمة واحدة.
  في يوم الأحد في دار العبادة، وقفت شيرلي بون أمام جماعة المؤمنين، وذكّرتنا بشفتَيها الخافقتَين كالراية أن الاجتماع الذي يتناول شؤون الجماعة سيُعقد مساء الأربعاء عند منضدة الغداء أمام وولورث في شارع أميت لمناقشة الاعتصام. وأشارت شيرلي ذات الأنف الكبير بإصبعها إلينا وقالت: "اللقاء عند السابعة، لذلك كونوا هناك في الوقت المحدد. لا أعذار!". لقد ذكّرتني بمدرّسة بيضاء البشرة، قبيحة، وكبيرة البنية، من النساء اللواتي لا يريد أحد الزواج بهن.
  "ستأتين يوم الأربعاء؟". سألَت آيبيلين. كنا عائدتَين إلى المنزل سَيراً على الأقدام في حرّ الساعة الثالثة، ممسكةً مروحة الجنازات بقبضة يدي وملوّحةً بها بسرعة كما لو أنها مزوَّدة بمحرك.
  "لا وقت لديّ". قلت.
  "ستدعينني أذهب بمفردي مجدداً؟ سأُحضر معي بعض الكعك بالزنجبيل وبعض...".
  "قلتُ إنني لا أستطيع الذهاب".
  فأومأت آيبيلين برأسها، وقالت: "حسناً إذاً". وواصلت سيرها.
  "قد... يصاب بِيني بالرَّبو مجدداً. لا أريد أن أتركه بمفرده".
  "أممم-هممم". قالت آيبيلين. "ستخبرينني بالسبب الحقيقي عندما تكونين مستعدة".
  وسلكنا جادة جيسوم، وتجاوزنا سيارة متوقفة وسط الطريق بسبب الحر. "آه، قبل أن أنسى، تريد سكيتر القدوم في وقت مبكّر من مساء الثلاثاء". قالت آيبيلين: "نحو السابعة. هل يناسبك الوقت؟".
  "يا الله". قلت، وغضبتُ مجدداً. "ما الذي أفعله؟ لا بد من أنني مجنونة لأنني أبوح بأسرار ذوي البشرة الملونة لسيدة بيضاء البشرة".
  "إنها الآنسة سكيتر. هي ليست كالأخريات".
  "أشعر أنني أتحدث من وراء ظهري". قلت. كنت قد التقيت الآنسة سكيتر خمس مرات، ولا أزال أشعر بعدم الارتياح.
  "تريدين التوقف عن المجيء؟". سألَت آيبيلين. "لا أريد أن تشعري أنك مضطرة إلى ذلك". فلم أُجبها.
  "هل ستستمرين في المجيء؟". قالت.
  "أريد... أن يعيش أبنائي وبناتي في ظروف أفضل". قلت: "ولكنه واقع مؤسف أن تقوم امرأة بيضاء البشرة بهذا الأمر".
  "تعالي معي إلى اجتماع الجماعة يوم الأربعاء. سنتحدث أكثر عن الموضوع حينذاك". قالت آيبيلين بابتسامة صغيرة.
  كنت أعلم أن آيبيلين لن تتخلّى عن الأمر. فتنهدتُ. "أواجه مشكلة، هل فهمتِ؟".
  "مع من؟".
  "مع شيرلي بون". قلت: "في الاجتماع الأخير، كان الجميع يرفعون أيديهم ويدعون لأجل السماح لملوّني البشرة بدخول حمّامات ذوي البشرة البيضاء، ويتحدثون عن جلوسهم فحسب على كراسٍ في وولورث، وكانوا يبتسمون كما لو أن هذا العالم سيكون مكاناً جديداً مُشرقاً. فأُصبت بسَورة غضب، وقلت لشيرلي بون إن أي كرسي لن يتّسع لمؤخرتها في وولورث".
  "ماذا قالت شيرلي؟".
  وقلّدتُ صوت مدرّستي: "إذا لم يكن في استطاعتك قول أي أمر جيد، يتعيّن عليك إذاً، عدم قول أي شيء البتة".
  وعندما بلغنا منزل آيبيلين، نظرتُ إليها. كانت تكبت ضحكةً بشدة لدرجة أن وجهها بات أرجواني اللون.
  "الأمر لا يدعو للضحك". قلت.
  "أنا سعيدة لأنك صديقتي، يا ميني جاكسون". وعانقتني بقوة حتى قلّبتُ عينَيّ وقلت لها إنه يتعيّن عليّ الذهاب.
  وواصلتُ السَّير، وانعطفتُ عند الزاوية. لم أكن أريد أن تعرف آيبيلين بالأمر. لم أكن أريد أن يعرف أحد بمدى حاجتي إلى قصص سكيتر بعد انقطاعي الكامل عن اجتماعات شيرلي بون. أنا لا أقول إن اجتماعات الآنسة سكيتر ممتعة. فكلما التقينا، أتذمّر، وأشتكي، وأنفجر غضباً. ولكنني أحب رواية قصصي لأنني أشعر أنني أقوم بشيء ما حيال الأمر. وعندما أغادر، أشعر أن تلك الكتلة الإسمنتية أُزيحت عن صدري وبات في استطاعتي التنفس بشكل طبيعي لأيام قليلة.
  كنت أعلم أن هناك العديد من الأمور الأخرى المتعلقة بملوّني البشرة التي يمكنني القيام بها إلى جانب سرد قصصي أو حضور اجتماعات شيرلي بون، كاللقاءات الجماعية في المدينة، المسيرات في برمينغهام، التجمعات الانتخابية في الناحية الشمالية من الولاية. ولكنني لم أكن آبه للاقتراع في الحقيقة، ولا لتناول الطعام على المنضدة مع ذوي البشرة اليبضاء. ما آبه له هو قيام سيدة بيضاء البشرة بعد عشر سنوات، بنعت فتياتي بالقذرات، وتتهمهنّ بسرقة أوانٍ فضية.
  في تلك الليلة، غليتُ حبوب القرنيات بالزبدة، وطهوتُ لحماً مقدداً بالمِقلاة.
  "يا كيندرا، ادعي الجميع". قلت لابنتي البالغة من العمر ست سنوات. "نحن جاهزون لتناول الطعام".
  "سوووببررر". صاحت كيندرا من دون أن تتحرك قَيد أُنملة من مكانها.
  "اذهبي واصطحبي والدك بطريقة لائقة". صرختُ. "ما الذي قلته لك عن الصياح في منزلي؟".
  فنظرت كيندرا إليّ مقلّبةً عينَيها كما لو أنه طُلب منها القيام بالأمر الأكثر غباوة في العالم. وضربت أرض الرَّدهة بقدمَيها وصاحت: " سوووببررر!".
  "يا كيندرا!".
  إن المطبخ هو الغرفة الوحيدة في المنزل التي تتسع لنا كلنا، وما تبقى فهو مُعَدّ ليكون غرف نوم. فالغرفة المخصصة لي ولليروي موجودة في الناحية الخلفية بجانب غرفة ليروي الأصغر وبِيني، وحُوّلت غرفة الجلوس الأمامية إلى غرفة نوم لفيليتشيا وشوغر وكيندرا. لذلك، فالمطبخ هو كل ما تبقى لنا. ويبقى بابنا الخلفي مفتوحاً والباب المُنخلي مُغلَقاً للحؤول دون دخول الذباب، وذلك ما لم يكن البرد قارساً في الخارج. وكان هناك على الدوام صراخ الأطفال، وهدير السيارات، وصخب الجيران، ونباح الكلاب.
  ودخل ليروي وجلس إلى الطاولة بجانب بِيني الذي كان في السابعة من عمره. وملأت فيليتشيا الأكواب بالحليب أو الماء. وحملت كيندرا طبق قرنيات واللحم لوالدها، وعادت إلى جهاز الطهو لملء مزيد من الأطباق. فسلّمتُها طبقاً آخر.
  "هذا الطبق لبِيني". قلت.
  "يا بِيني، انهض وساعد أمك". قال ليروي.
  "بِيني مصاب بالرَّبو. ليس عليه القيام بأي شيء". ولكن فتاي اللطيف نهض على كل حال، وتناول الطبق من كيندرا. كان ابناي وبناتي يعرفون كيفية التصرف.
  وجلسوا بأجمعهم إلى الطاولة باستثنائي، وكان هناك ثلاثة من أبنائي في المنزل في تلك الليلة. فليروي الأصغر الذي كان في صف التخرّج في مدرسة لينيير الثانوية، يضع البقالة في الأكياس في متجر جيتني 14، إنه متجر البقالة الخاص بذوي البشرة البيضاء في حيّ الآنسة هيلي. وشوغر، وهي ابنتي البِكر وكانت في الصف العاشر، تعمل كجليسة أطفال لجارتنا تالولا التي تعمل حتى وقت متأخر. وعندما تنتهي شوغر، تعود إلى المنزل سَيراً على القدمين وتُقلّ والدها بالسيارة إلى منشأة الأنابيب لإتمام نوبة عمله في وقت متأخر من الليل، وتصطحب ليروي الأصغر من متجر البقالة. ويعود ليروي الأصغر مع زوج تالولا من المنشأة الصناعية عند الرابعة صباحاً. كان كل شيء يسير بشكل جيد.
  وتناول ليروي الطعام، ولكن عينَيه كانتا على صحيفة جاكسون جورنال الموضوعة بجانب طبقه. لم يكن يتمتع بمزاج جيد عندما يستيقظ. وألقيت نظرة سريعة من فوق جهاز الطهو، ورأيت على الصفحة الأولى صوراً للاعتصام الذي جرى أمام صيدلية براون. لم يكن المعتصمون من جماعة شيرلي بل كانوا أشخاصاً من غرينوود. وكانت هناك مجموعة من المراهقين من ذوي البشرة البيضاء واقفين وراء المحتجّين الستة الجالسين على كراسٍ، ويسخرون منهم ويلطمونهم ويسكبون الكَتشاب والخردل والملح على رؤوسهم.
  "كيف يقومون بذلك؟". قالت فيليتشيا، مشيرةً بإصبعها إلى الصورة. "يجلسون هناك من دون الدفاع عن أنفسهم؟".
  "هذا ما يُفترض بهم القيام به". قال ليروي.
  "أشعر بالرغبة في البَصق لدى النظر إلى تلك الصورة". قلت.
  "نتحدث عن الأمر في وقت لاحق". قال ليروي، وثنى الصحيفة أربع ثنيات، ودسّها تحت فخذه.
  وقالت فيليتشيا لبِيني: "من الجيد أن أمي لم تكن جالسة على أحد الكراسي تلك، وإلا لما احتفظ أي من ذوي البشرة البيضاء أولئك بأسنانه".
  "ولوُضعت أمي في سجن بارشمان". قال بِيني بصوت مرتفع سمعه الجميع.
  وسندت كيندرا خصرها بذراعها "لا!! لن يضع أحد أمي في السجن. سأضرب هؤلاء الأشخاص البِيض بعصا حتى يدمون".
  وأشار ليروي بإصبعه إلى كلّ منا. "لا أريد أن أسمع كلمة واحدة عن الموضوع خارج المنزل. إن الأمر شديد الخطورة. هل تسمعني يا بِيني؟ فيليتشيا؟". وأشار بعد ذلك بإصبعه إلى كيندرا. "هل سمعتني؟".
  فأومأ بِيني وفيليتشيا برأسيهما، ونظرا إلى طبقَيهما. لقد شعرتُ بالأسف لأنني كنت السبب ببدء كل ذلك، ورمقتُ كيندرا بنظرة تعني أنه يجب عليها إبقاء فمها مُطبَقاً. ولكن الآنسة الصغيرة قذفت شوكتها بقوة على الطاولة، ووقفت. "أكره ذوي البشرة البيضاء! وسأُخبر الجميع متى شئت".
  وقمت بمطاردتها في الرَّدهة. وعندما أمسكتُ بها، أعدتُها إلى الطاولة كما لو أنها كيس بطاطا.
  "آسفة، يا أبي". قالت فيليتشيا لأنها تتحمّل الملامة عن الجميع في كل مرة. "وسأعتني بكيندرا. هي لا تعي ما تقول".
  ولكن ليروي ضرب الطاولة بيده. "لن يتكلم أحد في هذا الموضوع! هل سمعتموني؟". وحدّق إلى ابنه وابنتيه. وعدتُ إلى جهاز الطهو كيلا يرى وجهي. فليساعدني الله إذا اكتشف ما الذي أُعدّ له مع الآنسة سكيتر.
  طيلة الأسبوع التالي، كنت أسمع الآنسة سيليا تتحدث عبر الهاتف في غرفة نومها، تاركةً رسائل في منازل الآنسة هيلي، والآنسة إليزابيت، والآنسة باركر، والشقيقتَين كالدويل، وعشر سيدات مجتمع أخريات، إضافةً إلى منزل الآنسة سكيتر التي لم أكن أحبها أبداً. لقد قلت للآنسة سيليا بنفسي، لا تفكري في معاودة الاتصال بها. لا تزيدي الأمور تعقيداً.
  وما يثير السخط هو أن الآنسة سيليا التقطت سمّاعة الهاتف مجدداً بعد الانتهاء من إجراء تلك المكالمات الغبيّة، وتحققت من أن خط الهاتف يعمل.
  "لا يشكو ذلك الهاتف من شيء". قلت. كانت تستمر في الابتسام لي، وقد دأبَت على القيام بذلك منذ شهر، كما لو أنها حصلت على مِلء جَيب من العملة الورقية.
  "لماذا أنت في مزاج جيد؟". سألتها أخيراً. "هل السيد جوني يعاملك بلطف أم ماذا؟". وكنت أهمّ بقول: "متى ستُخبرينه". ولكنها قاطعتني.
  "آه، إنه شديد اللطف". قالت. "ولن يمرّ وقت طويل حتى أخبره عنك".
  "جيد". قلت وعنيتُ ذلك. لقد سئمتُ من لعبة الكذب هذه. وتخيّلتُ كيف أنها تبتسم للسيد جوني عندما تسلّمه قطع اللحم التي أقوم بطهوها، وكيف يتصرف هذا الرجل اللطيف كما لو أنه فخور بها في حين أنه يعلم أنني من يقوم بالطهو. إنها تخدع نفسها، وتخدع زوجها اللطيف، وتجعلني كاذبة.
  "يا ميني، هل تمانعين إرسال هذا البريد لأجلي؟". سألَت بالرغم من جلوسها هناك مرتديةً ملابسها، ومن تلوّث يدَيّ بالزبدة، ووجود غسيل في الغسالة، وخلاّط آلي يعمل. كانت أشبه بشخص لا يقوم إلا بمهام قليلة يوم الأحد، ولكن، كل يوم كان يوم أحد بالنسبة إليها.
  فغسلتُ يدَيّ وتوجهتُ إلى علبة البريد، وسال مني نحو نصف غالون من العرَق، أعني أن الحرارة بلغت في الخارج تسعاً وتسعين درجة. كان هناك طرد بريدي يبلغ طوله قدمَين موضوعاً على العشب بجانب صندوق البريد. لقد رأيتها في السابق مع هذه الصناديق الكبيرة بنية اللون، وتصوّرتُ أنه نوع من أنواع كريم التجميل تقوم بطلب كميات منه. ولكن، عندما حملتُها، كانت ثقيلة الوزن وتُصدر صوت رنين كما لو أنني أحمل زجاجات كوكا - كولا.
  "هناك شيء ما لك، يا آنسة سيليا". ووضعتُ الصندوق على أرض المطبخ.
  لم يسبق لي أن رأيتها تقفز بهذه السرعة. في الواقع، إن الأمر الوحيد الذي تقوم به الآنسة سيليا بسرعة هو ارتداء ملابسها. "إنه...". وتمتمَت شيئاً ما، وحملَت الصندوق لاهثةً إلى غرفة نومها، وسمعتُ الباب يُغلَق بقوة.
  وبعد ساعة من الزمن، دخلتُ غرفة النوم لتنظيف السجاد. لم تكن الآنسة سيليا مستلقية على سريرها، ولم تكن موجودة في الحمّام. كنت أعلم أنها ليست في المطبخ، أو في غرفة الجلوس، أو بجانب بِركة السباحة في الخارج، ولم أرفع الغبار سوى عن أثاث الغرفة الأولى والثانية، وكنستُ الدب بالمكنسة الكهربائية، مما يعني أنها موجودة في الطابق العلوي بالتأكيد، في الغرف التي تبعث على القشعريرة.
  كنت أنظف قاعات الرقص في فندق روبرت قبل أن أُطرد بسبب قيامي باتهام السيد المدير أبيض البشرة بوضع شعر مستعار. وكانت تلك الغرف الكبيرة والفارغة التي لا تحتوي على أحد، وفوط المائدة الملوَّثة بأحمر الشفاه، ورائحة العطر المتبقّية، تحملني على الشعور بالقشعريرة. هكذا كانت حال الطابق العلوي في منزل الآنسة سيليا، حيث يوجد مهد قديم الطراز، وقبّعة أطفال قديمة للسيد جوني، وخَشخاشة فضية أُقسم إنني كنت أسمعها أحياناً تجلجل بمفردها. ويحملني التفكير في تلك الجلجلة على التساؤل عما إذا كانت لتلك الصناديق علاقة بتسللها إلى تلك الغرف.
  وقررتُ الصعود وإلقاء نظرة بنفسي.
  قمت بمراقبة الآنسة سيليا في اليوم التالي، منتظرةً قيامها بالتسلل إلى الطابق العلوي لأتمكن من اكتشاف ما الذي يشغلها. ونحو الساعة الثانية، أقحمتْ رأسها داخل المطبخ وابتسمت لي ابتسامة غريبة. وبعد دقيقة، سمعتُ صريراً في السقف.
  فتوجهتُ إلى الدَرَج ببطء شديد. وبالرغم من سيري على أطراف أصابعي، صلصلت الأطباق الموجودة في خزانة غرفة الطعام، وصرفَت الألواح الأرضية. في الأعلى، عبرتُ الرَّدهة الطويلة، ومررتُ بثلاثة أبواب غرف نوم مفتوحة. وكان الباب الرابع الأخير شبه مفتوح. فاقتربتُ أكثر فأكثر ورأيتها من خلال الفتحة الضيّقة.
  كانت جالسة على أحد السريرَين الأصفرَين بقرب النافذة تبتسم، والرزمة التي حملتُها لها من جانب صندوق البريد مفتوحة، ويوجد على السرير زهاء عشرين زجاجة مليئة بسائل بنّي اللون. لقد عرفتُ تلك الزجاجات المسطّحة. كنت قد اهتممتُ لمدمن على الشراب غير جدير بالعناية طيلة اثني عشر عام. وعندما توفّي والدي الكسول أخيراً، أقسمتُ والدموع تملأ عينَيّ بألا أتزوّج أبداً رجلاً مُدمناً على الشراب. ولكنني قمتُ بذلك.
  وها أنا أهتمّ لمدمنة أخرى. لم تكن تلك الزجاجات مشتراة من المتجر بل تحتوي على سِدادات مصنوعة من الشمع الأحمر على غرار الزجاجات التي اعتاد العم تود شراءها. وكانت تقول لي والدتي على الدوام إن المُدمن الحقيقي على الشراب، على غرار والدي، يتناول شراباً من صنع منزلي لأنه أكثر فعالية. وعرفتُ أنها بغباء والدي، وليروي المدمن على الشراب، ولكنها لا تطاردني بالمِقلاة الساخنة.
  فالتقطت الآنسة سيليا زجاجة ونظرَت إليها كما لو أنها المخلّص. فنزعتِ السِّدادة، وتناولَت رشفة، وتنهدَت. وشربَت بعد ذلك ثلاث جُرعات واستلقت على وساداتها الأنيقة.
  وبدأ جسمي بالارتجاف، وشاهدتُ تلك الطمأنينة على وجهها. كانت تتوق إلى الحصول على عصيرها لدرجة أنها لم تقفل الباب، وصرفتُ أسناني كيلا أصيح في وجهها. أخيراً، عدتُ أدراجي بهدوء تام إلى الطابق السفلي.
  عندما نزلت الآنسة سيليا بعد عشر دقائق، جلسَت إلى طاولة المطبخ، وسألتني عما إذا كنت مستعدّة لتناول الطعام.
  "هناك لحم مقدَّد في البرّاد ولن أتناول الغداء اليوم". قلت، وخرجتُ من الغرفة مُحدثةً صخَباً بخطواتي.
  بعد ظهر ذلك اليوم، جلست الآنسة سيليا في حمّامها على غطاء المرحاض. كانت تضع مجفف الشعر على خزّان الماء الخلفي، والقُلنسوّة على رأسها المبيَضّ. فبوجود تلك الأداة غريبة الشكل على رأسها، لم يكن في استطاعتها سماع دويّ قنبلة نوويّة.
  وصعدتُ إلى الطابق العلوي مع خِرَق للتنظيف، وفتحت تلك الخزانة. كانت هناك دزينتان من زجاجات الشراب الاسكتلندي مخبأة وراء بعض البطانيات القديمة التي حملتها معها الآنسة سيليا من مقاطعة تونيكا على الأرجح. لم تكن الزجاجات تحمل أي لُصاقات تعريف، بل مجرد ماركة على الزجاج. كانت هناك اثنتا عشرة زجاجة مليئة ومُعَدّة لليوم التالي، واثنتا عشرة زجاجة فارغة من الأسبوع السابق. لا عجب في ألا يكون لتلك الخرقاء أطفال.
  في يوم الثلاثاء الأول من تموز/يوليو، وعند الثانية عشرة ظهراً، نهضت الآنسة سيليا من سريرها لحضور درس في الطهو. كانت ترتدي كنزة صوفية بيضاء ضيّقة جداً لدرجة أنها تجعل الطالحة تبدو صالحة. مما لا شك فيه أن ملابسها تضيق أكثر فأكثر كل أسبوع.
  وجلسنا في أماكننا، أنا أمام جهاز الطهو، وهي على كرسيّها. لم أتحدّث إليها إلا قليلاً منذ عثرتُ على تلك الزجاجات في الأسبوع السابق. لم أكن مستاءة بل غاضبة، ولكنني أقسمتُ في الأيام الستة السابقة على اتّباع القاعدة الأولى لوالدتي. وإذا فاتحتُها بالموضوع، فذلك يعني أنني آبه لها، ولكنني لست كذلك. وإذا كانت خرقاء مُدمنة على الشراب، فهذا ليس من شأني.
  وأخضعنا الدجاج النَّيء لألم شديد بعد أن جعلناه مسطَّحاً من خلال الضرب. وكان عليّ بعد ذلك تذكير تلك المفعَمة بالنشاط للمرة البليون بغسل يدَيها كيلا تقتلنا رائحة الدجاج.
  وسمعتُ الصوت الصادر عن قلي الدجاج، وحاولتُ نسيان وجودها. فالدجاج المَقلي يحملني باستمرار على النظر إلى الحياة بمزيد من الارتياح، ونسيتُ تقريباً أنني أعمل لصالح مُدمنة على الشراب. وبعد إنهاء عملية الطهو، وضعتُ معظم الدجاج على طبق ليكون وجبة غداء لنا. فجلسَت قُبالتي كالعادة إلى طاولة المطبخ.
  "خُذي الصدر". قالت، ونظرت إليّ بعينَين زرقاوَين منتفختَين. "هيا".
  "آكل الساق والفخذ". قلت، وتناولتهما من الطبق. وقلّبتُ صفحات جاكسون جورنال وصولاً إلى قسم قطار الأنفاق، ووضعتُ الصحيفة أمام وجهي كيلا أراها.
  "ولكن لا لحم عليهما".
  "إنهما جيدان. يحتويان على مادة دهنية". واستمررت في القراءة، محاولةً تجاهلها.
  "حسناً". قالت، وتناولَت الصدر: "أظن أن ذلك يجعلنا شريكتَين مثاليَتَين في الدجاج". وقالت بعد قليل: "تعلمين، أنا محظوظة كونك صديقتي، يا ميني".
  فشعرتُ بالغثيان وباشمئزاز في صدري. فأنزلتُ صحيفتي ونظرتُ إليها. "لا، يا سيدتي. نحن لسنا صديقتَين".
  "حسناً... نحن كذلك بالتأكيد". وابتسمَت كما لو أنها تُسديني معروفاً كبيراً.
  "لا، يا آنسة سيليا. لسنا كذلك".
  وطرفَت عينَيها بأهدابها الزائفة. توقفي، يا ميني، كنت أقول لنفسي. ولكنني عرفت من خلال قبضتَي يدَيّ أنه لم يكن في استطاعتي تحمّل الأمر دقيقة واحدة إضافية.
  "هل...". ونظرَت إلى قِطع الدجاج في طبقها: "لأنك ملوّنة البشرة؟ أم لأنك لا... تريدين أن تكوني صديقتي؟".
  "لأسباب عدة. فكونك بيضاء البشرة وكوني ملوّنة البشرة هو سبب من جُملة أسباب".
  وكفّت عن الابتسام قائلة: "ولكن... لماذا؟".
  "لأنني عندما قلت لك إنني تجاوزتُ المهلة المحدَّدة لدفع فاتورة الكهرباء، لم أكن أطلب منك المال". قلت.
  "آه، يا ميني...".
  "لأنك لم تأذني لي بإخبار زوجك أنني أعمل هنا. ولأنك تمكثين في هذا المنزل أربعاً وعشرين ساعة، وتثيرين جنوني".
  "أنت لا تفهمين، لا أستطيع. لا أستطيع المغادرة".
  "ولكن كل ذلك لا يقارَن مع ما أعرفه الآن".
  وغدا وجهها أكثر شحوباً تحت مسحوق التبرّج.
  "كل ذلك الوقت، كنت أفكر في أنك تعانين من مرض سرطان مميت، أو من مرض في الرأس، فأقول طوال اليوم، مسكينة الآنسة سيليا".
  "أعلم أن الأمر كان قاسياً...".
  "آه، أعلم أنك لم تكوني مريضة. لقد رأيتك مع زجاجاتك في الطابق العلوي، ولن تخدعيني بعد الآن".
  "زجاجات؟ آه، يا الله. يا ميني، أنا...".
  "كان يجب عليّ إفراغها في مَصرف المياه المبتذَلة. يجب عليّ إخبار السيد جوني في الحال...".
  فوقفَت، وحرّكَت الكرسي بغضب. "لا تجرؤي على إخبار...".
  "أنت تتصرفين كما لو أنك ترغبين في الأطفال، ولكنك تتناولين كميات من الشراب تكفي لتسميم فيل!".
  "إذا أخبرتِه، سأطردك، يا ميني!". وترقرقت عيناها بالدموع. "إذا لمستِ تلك الزجاجات، سأطردك في الحال!".
  ولكنني لم أكبح جماح رغبتي في الكلام لأنني كنت مغتاظة جداً. "تطردينني! من غيري سيعمل هنا سرّاً بينما تتسكعين في أرجاء المنزل مخمورة؟".
  "تعتقدين أنني لا أستطيع طردك؟ اليوم هو آخر يوم عمل لك، يا ميني!". صاحت مستنكرة، مشيرةً إليّ بإصبعها. "تتناولين طبق الدجاج وتذهبين بعد ذلك إلى المنزل!".
  والتقطَت طبقها الذي يحتوي على لحم أبيض، وانقضّت على الباب الدوّار. وسمعتُ الطبق يطقطق على مائدة غرفة الطعام الطويلة والأنيقة، وقوائم الكرسي تُحدث صريفاً على الأرض. فغرقتُ في مقعدي بسبب ارتجاف ركبتَيّ، وحدّقتُ إلى قِطع الدجاج.
  لقد خسرتُ عملاً آخر.
  استيقظتُ صباح يوم السبت عند الساعة السابعة مع ألم شديد في الرأس ولسان دامٍ. لا بد من أنني عضضته في الليل.
  فنظر إليّ ليروي بطرَف عينه لأنه علم بوجود خَطب ما. لقد لاحظ ذلك في الليلة السابقة لدى تناول العشاء، واكتشف الأمر عندما عاد إلى المنزل عند الخامسة صباحاً.
  "ماذا دهاك؟ لا تواجهين متاعب في العمل، أليس كذلك؟". سأل للمرة الثالثة.
  "لا شيء باستثناء خمسة أبناء وبنات وزوج. أنتم شغلي الشاغل".
  فآخر ما كنت أريد إطلاعه عليه هو قيامي بتوبيخ سيدة أخرى بيضاء البشرة وفقدان عمل آخر. وارتديتُ ثوب المنزل أرجواني اللون، ودخلتُ المطبخ بخطى متثاقلة، ونظّفته كما لو أنه لم يتمّ تنظيفه يوماً.
  "يا أمي، إلى أين تذهبين؟". صاحت كيندرا. "أنا جائعة".
  "أنا ذاهبة إلى منزل آيبيلين. أمك بحاجة إلى الراحة لمدة خمس دقائق". ومررتُ بجانب شوغر الجالسة على الدرَجات الأمامية. "يا شوغر، اذهبي وأعدّي لكيندرا طعام الفطور".
  "سبق لها أن تناولت الطعام منذ نصف ساعة".
  "حسناً، إنها جائعة مجدداً".
  ووصلتُ إلى منزل آيبيلين الذي يبعد مسافة مجمّعَين سكنيَّين عن منزلي، مارّةً بطريق تيك رود وبالغةً شارع فاريش ستريت. وبالرغم من حرارة الطقس الشديدة، وتصاعد البخار من الزفت، كان الفتيان والفتيات يتقاذفون الكرة، ويركلون الصفائح المعدنية، ويثبون فوق الحبل. "مرحباً، يا ميني". كانت إحداهنّ تقول لي كلما قطعتُ خمسين قدَماً. فأومئ برأسي من دون إظهار الوِدّ؛ ليس في ذلك اليوم.
  وعبرتُ حديقة آيدا بيك. كان باب مطبخ آيبيلين مفتوحاً، وهي جالسة إلى الطاولة تقرأ أحد تلك الكتب التي تحملها لها الآنسة سكيتر من المكتبة المخصصة لذوي البشرة البيضاء. ورفعَت نظرها عندما سمعَت صوت الباب المُنخُلي. لقد عرفَت أنني غاضبة كما أعتقد.
  "رحمتك يا الله، من قام بذلك؟".
  "سيليا فوت". وجلستُ قبالتها. فنهضَت آيبيلين وسكبَت لي بعض القهوة.
  "ماذا فعلَت؟".
  وأخبرتها عن الزجاجات التي عثرتُ عليها. لم أكن أعرف سبب عدم إخبارها بالأمر منذ اكتشافي وجود الزجاجات قبل أسبوع ونصف، ربما لأنني لم أكن أريد إخبارها بأمر مروِّع عن الآنسة سيليا. لقد شعرتُ بالسوء لأن آيبيلين هي التي تدبّرت لي العمل، ولكنني كنت شديدة الغضب بسبب إفسادي الأمر.
  "وطردتني بعد ذلك".
  "آه، يا الله، يا ميني".
  "قالت إنها ستجد خادمة أخرى. ولكن، من سيعمل لتلك السيدة؟ خادمة ما من الريف تعيش هناك ولا تجيد خدمة المنازل".
  "هل فكرتِ في الاعتذار؟ ربما تذهبين صباح يوم الاثنين، وتتحدثين إلى...".
  "لن أعتذر من أي مدمن على الشراب. لم يسبق لي أن اعتذرتُ أبداً من أبي، وأنا على ثقة تامة أنني لن أعتذر منها".
  والتزمنا الهدوء، وراقبتُ ذبابة خَيلٍ تئزّ عند باب آيبيلين المُنخُلي، قارعةً برأسها الصلب والقبيح، واب، واب، واب، إلى أن سقطَت على الدرَج ودارت حول نفسها كالمجنونة.
  "لا أستطيع النوم. لا أستطيع تناول الطعام". قلت.
  "سيليا تلك هي أسوأ امرأة عملت عندها يوماً".
  "كلهنّ سيئات، ولكنها أسوأهنّ جميعاً".
  "ألسنَ كذلك؟ هل تذكرين عندما جعلتك الآنسة والترز تدفعين ثمن كوب الكريستال الذي كسرتِه؟ لقد خصمَت عشرة دولارات من أجرك؟ واكتشفتِ في ما بعد أن ثمن كل من هذه الأكواب يبلغ ثلاثة دولارات في متجر كارتر؟".
  "أممم - هممم".
  "آه، وتتذكرين السيد شارلي المخبول الذي كان يدعوك زنجية باستمرار ظانّاً أن الأمر مضحك. وزوجته التي كانت تحملك على تناول الغداء في الخارج، وإن في وسط شباط/فبراير؟ حتى وإن كانت تُثلج؟".
  "إن مجرد التفكير في الأمر يحملني على الشعور بالبَرد".
  "وماذا عن...". كانت آيبيلين تضحك في سرّها، محاوِلةً التكلّم في الوقت نفسه. "ماذا عن الآنسة روبرتا تلك؟ كيف كانت تحملك على الجلوس إلى طاولة المطبخ وتختبر صباغها الجديد على شعرك؟". ومسحت آيبيلين عينَيها. "يا الله، لم يسبق لي أن رأيت شعراً أزرق على رأس امرأة سوداء. وقال ليروي إنك تبدين ككسّارة جوز من الفضاء الخارجي".
  "لا شيء يدعو للضحك. لقد تطلّبني الأمر ثلاثة أسابيع وخمسة وعشرين دولاراً لإعادة شعري إلى لونه الطبيعي الأسود".
  فهزت آيبيلين رأسها، وتأففَت، وتناولَت رشفة قهوة.
  "ولكن الآنسة سيليا". قالت. "طريقة معاملتها لك؟ المبلغ الذي تدفعه لك لقاء عدم معرفة السيد جوني بشأنك ودروس الطهو؟ إنها أفضل منهنّ جميعاً".
  "تعرفين أنها تدفع لي أجراً مضاعَفاً".
  "آه، هذا صحيح. ومع ذلك، فلا صديقات يزرنها ولا تُضطرّين إلى التنظيف بعد رحيلهنّ".
  فنظرتُ إليها.
  "إضافةً إلى أطفالها العشرة أيضاً". فضغطت آيبيلين فوطة المائدة على شفتَيها، وأخفت ابتسامتها. "لا بد من أن صياحهم كان يقودك إلى الجنون طوال اليوم، إضافةً إلى الفوضى التي يحدثونها".
  "أظن أنك عبّرت عن وجهة نظرك، يا آيبيلين".
  فابتسمت آيبيلين، وربّتت على ذراعي. "آسفة، يا حبيبتي. ولكنك صديقتي المفضَّلة، وأظن أن العمل لديها مناسب لك. لماذا تهتمّين إن هي تناولَت رشفة أو رشفتَين من الشراب لتمضية يومها؟ اذهبي وتحدّثي إليها يوم الاثنين".
  فشعرتُ بوجهي يتغضّن. "هل تظنين أنها ستُعيدني إلى العمل؟ بعد كل ما قلتُه؟".
  "لا أحد سواك سيقوم على خدمتها، وهي تعرف ذلك".
  "أجل. يا لغبائها". وتنهّدتُ. "ولكنها ليست غبية".
  وعدت إلى المنزل، ولم أُطلع ليروي على سبب انزعاجي، ولكنني فكرت في الأمر طوال اليوم وطوال نهاية الأسبوع. لقد تمّ طردي مرات عدة تفوق عدد أصابع يدَيّ. فتضرعت إلى الله كي أستعيد عملي يوم الاثنين.
الفصل الثامن عشر
  في صباح يوم الاثنين، قصدتُ منزل الآنسة سيليا، متدرّبةً طوال الطريق على ما يتعيّن عليّ قوله لها. أعلم أنني تكلمت بوقاحة... ودخلتُ المطبخ. وأعلم أنني طُردتُ... ووضعتُ حقيبتي على الكرسي، و... و... إنه الجزء الأصعب. وأنا آسفة.
  واستجمعتُ قواي عندما سمعت وقع خطى الآنسة سيليا في المنزل. لم أكن أعرف ما الذي أتوقّعه، هل ستكون غاضبة أو لا مبالية، أم أنها ستطردني مجدداً. كل ما أعرفه هو أنني سأبدأ بالحديث.
  "صباح الخير". قالت. كانت الآنسة سيليا لا تزال في قميص نومها، حتى إنها لم تمشّط شعرها وكان هناك مقدار أقل من المادة الدَّبقة على وجهها.
  "يا آنسة سيليا، عليّ أن... أقول لك أمراً...".
  فتأوّهَت، ووضعت يدها على معدتها.
  "هل... تشعرين بتوعّك؟".
  "أجل". ووضعَت بسكويتة وقليلاً من اللحم المقدَّد في طبق، وأعادت قطعة اللحم بعد ذلك.
  "يا آنسة سيليا، أريدك أن تعلمي...".
  ولكنها خرجت بينما كنت أتكلم، وأدركتُ أنني أواجه مشكلة ما.
  وشرعتُ بعملي. ربما كنت مجنونة بتصرفي كما لو أنني لا أزال أعمل لديها. ربما لن تدفع لي أجر ذلك اليوم. وبعد الغداء، شغّلتُ التلفاز وشاهدتُ برنامج الآنسة كريستين بينما يدور العالم، وقمتُ بالكيّ. في العادة، كانت الآنسة سيليا تدخل وتشاهد البرنامج معي، ولكنها لم تتصرف على هذا النحو في ذلك اليوم. وعندما انتهى البرنامج، عملتُ في المطبخ لمدة قصيرة من الزمن، ولكن الآنسة سيليا لم تأتِ لحضور درس الطهو. لقد بقي باب غرفة النوم مغلَقاً، ولم أستطع التفكير في أي شيء آخر عند الساعة الثانية إلا بتنظيف غرفة نومها. فشعرتُ برهبة في النفس كما لو أن قِدر طبخ موجودة في معدتي. وتمنّيت لو أنني بُحتُ بما لديّ في الصباح عندما سنحت لي الفرصة بذلك.
  أخيراً، توجهتُ إلى الناحية الداخلية من المنزل، وألقيت نظرة على ذلك الباب المغلَق. فقرعتُ من دون أن أتلقى أي إجابة. في النهاية، جازفتُ وفتحت الباب.
  كان السرير فارغاً، وبات عليّ التساؤل حول باب الحمّام المغلَق.
  "أنا أقوم بعملي هنا". صرختُ من دون أن أتلقى أي إجابة، ولكنني كنت أعرف أنها هناك. كان في استطاعتي الشعور بوجودها وراء ذلك الباب. وبدأتُ بالتعرّق، وأردت الانتهاء من تلك المحادثة.
  فجلتُ الغرفة بالكيس المخصص لجمع الملابس المُعدّة للغسل، واضعةً فيه ملابس نهاية الأسبوع. وبقي باب الحمّام مغلَقاً، ولم أكن أسمع أي صوت. كنت أعرف أن الفوضى تعمّ ذلك الحمّام. فأصغيتُ، في أثناء سحب الملاءات عن السرير، علّني أسمع ما يشير إلى وجود حياة. كانت الوسادة الطويلة بلون الأصفر الباهت الشيء الأكثر قُبحاً الذي رأيته يوماً لأنها أشبه بالنقانق عند طرفَيها. فوضعتها على الفراش بقوة، وملّستُ غطاء السرير.
  ومسحتُ الطاولة بجانب السرير، وكدّستُ على جانبها مجلات لوك وكتاب البريدج الذي اشترته. ووضعتُ الكتب على طاولة السيد جوني بشكل مستقيم. كان يقرأ كثيراً. فالتقطتُ كتاب قتل طائر مقلِّد وقلبتُه.
  "انظري إلى هذا". كان هناك كتاب يحتوي على صور أشخاص ملوني البشرة. لقد دفعني ذلك للتساؤل عما إذا كنت سأجد يوماً كتاب الآنسة سكيتر على طاولة قرب السرير، من دون أن يُذكر فيه اسمي الحقيقي بالتأكيد.
  أخيراً، سمعت ضجيجاً كما لو أن شيئاً ما اصطدم بباب الحمّام. "يا آنسة سيليا". صرختُ مجدداً: "أنا هنا. أريدك أن أُعلمك فحسب".
  ولكنني لم أتلقَّ أي إجابة.
  ما يجري في الداخل ليس من شأني. قلت لنفسي. وصحتُ بعد ذلك، "سأقوم بعملي فحسب وأخرج من هنا قبل عودة السيد جوني إلى المنزل شاهراً المسدس". كنت آمل في حملها على الخروج، ولكن شيئاً لم يحدث.
  "يا آنسة سيليا، هناك بعض الشراب تحت المغسلة. اشربيها واخرجي كي أتمكن من القيام بعملي في الداخل".
  أخيراً، توقفتُ وحدّقتُ إلى الباب. هل أنا مطرودة أم لا؟ وإن لم أكن مطرودة، ماذا لو كانت مخمورة لدرجة أنها لا تسمعني. لقد طلب مني السيد جوني الاعتناء بها، ولا أظن أن كونها مخمورة في حوض الاستحمام من دون القيام بأي شيء يلبّي مطلبه.
  "يا آنسة سيليا، قولي شيئاً فحسب كي أعلم أنك لا تزالين على قيد الحياة في الداخل".
  "أنا بخير".
  ولكنها لم تكن تبدو بخير.
  "إنها الساعة الثالثة تقريباً". ووقفتُ وسط غرفة النوم، منتظرة. "سيعود السيد جوني إلى المنزل قريباً".
  كنت بحاجة إلى أن أعرف ما الذي يجري في الداخل. كنت بحاجة إلى معرفة ما إذا كانت مخمورة ومستلقية، وإذا كنت مطرودة أم لا، وكان يتعيّن عليّ تنظيف ذلك الحمّام كيلا يظن السيد جوني أن الخادمة السرّية لا تقوم بواجباتها، فأُطرَد مرةً أخرى.
  "هيا، يا آنسة سيليا، أنت تعبثين بصباغ الشعر مجدداً؟ لقد ساعدتُك على صبغ شعرك في المرة الأخيرة، هل تتذكرين؟ لقد أعدناه إلى رَونقه".
  وأُدير المِقبض، وفُتح الباب بهدوء. كانت الآنسة سيليا جالسة على الأرض إلى يمين الباب، وركبتاها مثنيّتان تحت قميص نومها.
  فتقدمتُ قليلاً. ومن الجهة الجانبية، استطعت رؤية لون بشرتها الأزرق الحليبي المماثل للون مليِّن القماش.
  استطعت كذلك رؤية دماء في المرحاض، الكثير من الدماء.
  "هل أنت مصابة بتشنّجات عضلية، يا آنسة سيليا؟". همستُ. لقد شعرتُ بتوهّج في أنفي.
  ولم تستدر الآنسة سيليا. كان هناك خط من الدماء على امتداد هُدب قميص نومها الأبيض كما لو أنه غطس في المرحاض.
  "هل تريدين منّي الاتصال بالسيد جوني؟". قلت. لقد حاولتُ الامتناع عن مشاهدة المرحاض المليء بالدماء، ولكنني لم أتمكن من ذلك بسبب وجود شيء ما ذات مظهر صلب في ذلك السائل الأحمر.
  "لا". قالت الآنسة سيليا، محدّقةً إلى الجدار. "أحضري لي... دليل الهاتف".
  فهرعتُ إلى المطبخ، وانتشلتُ الدليل عن الطاولة، وعدتُ مسرعة. ولكن عندما حاولتُ تسليمه إلى الآنسة سيليا، أبعدته بيدها.
  "أرجوك، قومي أنت بالاتصال". قالت. "تحت حرف تي، الطبيب تايت. لا أستطيع القيام بذلك بنفسي".
  فقلّبتُ بسرعة صفحات الدليل الرقيقة. كنت أعرف من هو الطبيب تايت. إنه طبيب معظم السيدات بيضاوات البشرة اللواتي عملتُ لديهنّ، وهو يُخضع إيلين فيرلي لعلاج خاص كل يوم ثلاثاء عندما تكون زوجته على موعد لتصفيف شعرها. تافت... تاغرت... تان. شكراً لله.
  وكانت يداي ترتجفان حول قرص الهاتف الدوّار. فأجابت امرأة بيضاء البشرة. "منزل سيليا فوت، الطريق العامة، اثنان وعشرون، ريف ماديسون". قلت لها بأفضل طريقة ممكنة ومن دون ثرثرة. "أجل يا سيدتي، الكثير من الدم يخرج... هل يعرف كيف يصل إلى هنا؟". فقالت نعم، بالطبع، وأنهت المكالمة الهاتفية.
  "هل هو قادم؟". سألَت سيليا.
  "إنه قادم". قلت. وانتابتني موجة أخرى من الغثيان. سيمضي وقت طويل قبل أن أتمكن من فرك ذلك المرحاض مجدداً من دون كمّ فمي.
  "هل تريدين كوكا - كولا؟ سأُحضر لك زجاجة كوكا - كولا".
  في المطبخ، أخرجتُ زجاجة كوكا - كولا من البرّاد. وعدتُ، وجلستُ على الآجرّ على أبعد مسافة ممكنة من ذلك المرحاض المليء بالدماء من دون ترك الآنسة سيليا بمفردها.
  "ربما يُفترض بنا نقلك إلى السرير، يا آنسة سيليا. هل تظنين أن في استطاعتك الوقوف؟".
  فانحنت الآنسة سيليا إلى الأمام، وحاولَت دفع نفسها للوقوف. فدخلتُ الحمّام لمساعدتها، ورأيت قميص نومها منتقعة بالدماء، والآجرّ الأزرق ملطخاً بما يشبه الغراء الأحمر الممزوج بالمِلاط. لن يكون من السهل إزالة تلك البُقَع.
  وبينما كنت أرفعها لتقف على قدمَيها، انزلقت الآنسة سيليا على بقعة دماء، وأمسكت بحافة المرحاض لتثبيت نفسها. "دعيني أبقى، أريد البقاء هنا".
  "حسناً إذاً". وعدتُ إلى غرفة النوم. "سيصل الطبيب تايت في وقت قريب. هم يتصلون به إلى المنزل".
  "تعالي واجلسي معي، يا ميني؟ أرجوك؟".
  ولكن نسمة ساخنة ومزعجة هبّت من ذلك المرحاض. وبعد أن تخيّلت بعض الأمور، جلستُ على عتبة الحمّام واضعةً نصف مؤخرتي في الداخل والنصف الآخر في غرفة النوم. وكان في استطاعتي شمّ تلك الرائحة على مستوى النظر. كانت أشبه برائحة هامبرغر مُذاب على المِنضدة. فشعرت بالذُّعر عندما تخيّلتُ ذلك.
  "اخرجي من هنا، يا آنسة سيليا. أنت بحاجة إلى بعض الهواء".
  "لا يمكنني تلطيخ... البطانية الصوفية بالدماء، وإلا رآها جوني". وبدت الأوردة في ذراع الآنسة سيليا سوداء تحت جِلدها، وكان وجهها يزداد ابيضاضاً.
  "يبدو مظهرك غريباً. تناولي القليل من الكوكا - كولا".
  فتناولت رشفة وقالت: "آه يا ميني".
  "منذ متى تنزفين؟".
  "منذ الصباح". قالت وشرعَت بالبكاء داخل مِحجن ذراعها.
  "لا بأس، ستكونين بخير". قلت بطريقة مهدّئة وواثقة كما يبدو، ولكن قلبي كان يخفق بقوة. بالتأكيد، سيأتي الطبيب تايت لمساعدة الآنسة سيليا، ولكن، ماذا عن ذلك الشيء في المرحاض؟ ماذا يُفترض بي أن أفعل به، هل أنظّفه بدَفق الماء؟ ماذا لو علق في الأنابيب؟ سيكون عليهم انتشالي إذا حاولتُ فتح تلك الأنانيب. آه، يا الله، كيف سأقوم بذلك؟
  "هناك الكثير من الدماء". قالت متأوّهة، وانحنت عليّ. "لماذا يوجد الكثير من الدماء هذه المرة؟".
  فرفعتُ ذقني ونظرتُ قليلاً داخل المرحاض، ولكن، كان يتعيّن عليّ إلقاء نظرة سريعة أخرى.
  "لا تدَعي جوني يرى ذلك. آه، يا الله، متى... كم الساعة الآن؟".
  "الثالثة إلا خمس دقائق. لدينا بعض الوقت".
  "ما الذي يُفترض بنا القيام به حيال هذا الأمر؟". سألَت الآنسة سيليا.
  بنا. فليسامحني الله، ولكنني تمنّيت لو لم أكن موجودة.
  وأغمضتُ عينَيّ، وقلت: "أظن أنه سيكون على إحدانا سحب ذلك الشيء".
  فاستدارت الآنسة سيليا نحوي بعينَيها المُحاطتَين باحمرار. "وأين نضعه؟".
  لم يكن في استطاعتي النظر إلى الآنسة سيليا. "أظن... في دلو القمامة".
  "أرجوك، قومي بذلك الآن". قالت، ودسّت رأسها بين ركبتَيها كما لو أنها تشعر بالخجَل.
  لم أسمع صيغة الجمع في كلامها؛ سيكون عليك القيام بذلك، هل تنتشلين طفلي المَيت من ذلك المرحاض.
  وهل أملك خياراً آخر؟
  وسمعتُ نفسي أتذمّر. كان الآجرّ ملتصقاً بجسمي. فحرّكتُ مؤخرتي، وهمهمتُ، محاولةً التفكير في كيفية تنظيف المرحاض. أعني، لقد قمتُ بأعمال تنظيف أسوأ من هذا العمل، أليس كذلك؟ ولم تتبادر إلى ذهني أي فكرة، ولكن لا بد من وجود حل ما.
  "أرجوك". قالت الآنسة سيليا: "لم أعُد أستطيع... النظر إليه".
  "حسناً". وأومأتُ برأسي كما لو أنني أعرف ما الذي يتعيّن عليّ القيام به. "سأهتمّ بذلك الشيء".
  فوقفتُ، وحاولتُ أن أكون عملية. كنت أعرف أين سأضعه في دلو القمامة الأبيض بجانب المرحاض وأرمي كل شيء في الخارج بعد ذلك. ولكن، بماذا سأخرجه من المرحاض؟ بيدي؟
  وعضضتُ على شفتي، وحاولتُ التزام الهدوء. ربما يُفترض بي الانتظار فحسب. ربما... ربما رغب الطبيب في اصطحاب ذلك الشيء معه عندما يصل! لتفحصه. فلو تمكنتُ من إلهاء الآنسة سيليا لبعض الوقت، لن أُضطر ربما أبداً إلى التعاطي مع هذا الأمر.
  "سنهتم بالأمر بعد دقيقة". قلت بذلك الصوت المُطَمئن. "في أي شهر كنتِ حاملاً وفقاً لاعتقادك؟". واقتربتُ قليلاً من المرحاض من دون أن أجرؤ على التوقف عن الكلام.
  "خمسة أشهر؟ لا أعلم". وغطت الآنسة سيليا وجهها بخِرقة لغسل الوجه. "كنت أستحمّ وشعرتُ أنه يضغط ليخرج، فآلمني الأمر كثيراً. لذلك، جلستُ على المرحاض وسقط كما لو أنه يريد الخروج مني". وبدأَت بالانتحاب مجدداً وكتفاها تهتزان أمام جسدها.
  فأنزلتُ غطاء المرحاض بحذر، وجلستُ على الأرض.
  "كما لو أنه يفضّل الموت على المكوث في داخلي لحظة أخرى".
  "انظري إليّ، إنها مشيئة الله. هناك أمر ما لا يسير على نحو جيد في أحشائك، ستقوم الطبيعة بحلّ المسألة. في المرة القادمة، ستحملين بشكل طبيعي". ولكنني فكرت حينذاك في تلك الزجاجات، وانتابتني موجة من الغضب.
  "إنها... المرة الثانية".
  "آه، يا الله".
  "تزوجنا لأنني كنت حاملاً". قالت الآنسة سيليا: "ولكنه... سقط أيضاً".
  لم يكن في استطاعتي تحمّل الأمر لحظة أخرى. "ولكن لماذا تدمنين على الشراب؟ تعرفين أنه ليس في استطاعتك الحَمل بوجود باينت واحد من الشراب الاسكتلندي في داخلك".
  "شراب اسكتلندي؟".
  آه، يا الله. لم يكن في استطاعتي النظر إليها بعد إنكارها إدمانها الشراب الاسكتلندي. على الأقل، لم تكن الرائحة سيّئة جداً بوجود الغطاء مُطبَقاً. متى سيأتي ذلك الطبيب الغبي؟
  "ظننتِ أنني...". وهزت رأسها. "إنه دواء مقوٍّ". وأغمضت عينَيها. "حصلتُ عليه من امرأة تدعى شوكتاو في فيليتشيانا باريش...".
  "شوكتاو؟". وطرفتُ عينَيّ. إنها أكثر غباءً مما ظننتُ يوماً. "لا يمكنك أن تثقي بالهنود. ألا تعرفين أننا سمّمنا ذُرَتهم؟ ماذا لو كانت تحاول تسميمك؟".
  "قال الطبيب تايت إنه مصنوع من عسل السكّر الأسود والماء ليس إلا". وبكت واضعةً المنشفة على وجهها. "ولكن، كان عليّ المحاولة. كان عليّ القيام بذلك".
  حسناً. لقد تفاجأتُ بمدى ارتخاء جسمي، وكم كنت مرتاحة لسماع ذلك. "لا مشكلة إذا أخذتِ وقتك، يا آنسة سيليا. صدّقيني، لقد أنجبتُ خمسة أبناء وبنات".
  "ولكن جوني يريد أبناء وبنات الآن. آه، يا ميني". وهزت رأسها. "ما الذي سيفعله بي؟".
  "سيتخطى الأمر، هذا ما سيفعله. سينسى هذين الطفلين، لأن الرجال دائماً يجيدون النسيان. تحلّي بالأمل علّك تلدين بشكل طبيعي في المرة القادمة".
  "هو لا يعلم بشأن هذا الجنين والجنين السابق".
  "تقولين إنه تزوجك لهذا السبب".
  "كان على عِلم بالجنين الأول". وأطلقت الآنسة سيليا تنهيدة كبيرة. "هذه المرة هي... الرابعة في الواقع".
  وتوقفت عن البكاء، ولم يتبقَّ لي أي أمور جيدة لأقولها. وبعد لحظات، كنا شخصَين نتساءل عن سبب اتخاذ الأمور هذا المنحى.
  "استمررت في التفكير". همسَت: "إذا بقيتُ بلا حراك، إذا استعنت بشخص ما للاهتمام بشؤون المنزل والطهو، ربما أتمكن من الحمل بشكل طبيعي". وبكت داخل منشفتها. "كنت أريد من هذا الطفل أن يشبه جوني تماماً".
  "السيد جوني رجل وسيم. لديه شعر جميل...".
  فأنزلَت الآنسة سيليا المنشفة عن وجهها.
  فلوّحتُ بيدي في الهواء، مُدركةً ما الذي فعلتُه للتوّ. "عليّ تنشّق بعض الهواء. الطقس حارّ هنا".
  "كيف عرفتِ...؟".
  فنظرتُ من حَولي، محاولةً التفكير في كذبة ما، ولكنني تنهدتُ أخيراً. "هو يعلم. قدم السيد جوني إلى المنزل ووجدني هنا".
  "ماذا؟".
  "أجل يا سيدتي. طلب مني ألا أخبرك بالأمر كي تستمرّي في الظن أنه فخور بك. هو يحبك كثيراً، يا آنسة سيليا. لقد رأيتُ على وجهه مدى حبه لك".
  "ولكن... منذ متى يعرف؟".
  "منذ أشهر... قليلة".
  "منذ أشهر؟ هل كان... هل كان مستاءً لأنني كذبت؟".
  "بالطبع لا. حتى إنه اتصل بي إلى المنزل بعد أسابيع قليلة من اكتشافه أمري ليتأكد من أنني لا أنوي التوقف عن العمل هنا. إنه يخشى التضوّر جوعاً إذا غادرتُ".
  "آه يا ميني". صاحت. "أنا آسفة. أنا آسفة حقاً بسبب كل شيء".
  "لقد واجهتُ حالات أكثر سوءاً". وفكرت في صباغ الشعر الأزرق، وتناول الغداء في البرد القارس. ولكن الطفل لا يزال في المرحاض، وهو أمر يجب التعاطي معه.
  "لا أعرف ما الذي يجب القيام به، يا ميني".
  "يطلب منك الطبيب تايت الاستمرار في المحاولة، إذاً، أظن أنه عليك الاستمرار في المحاولة".
  "هو يصيح في وجهي ويقول إنني أضيّع وقتي على السرير". وهزّت رأسها. "إنه رجل بغيض".
  وضغطت بالمنشفة على عينَيها. "لم يعُد في استطاعتي القيام بذلك بعد الآن". وكلما اشتد بكاؤها، ازدادت ابيضاضاً.
  فحاولتُ حملها على تناول بضع رشفات من الكوكا - كولا ولكنها أبت ذلك. فهي تكاد لا تستطيع رفع يدها للتلويح بها.
  "أنا على وشك... التقيّؤ. سوف...".
  والتقطتُ مستوعَب القمامة، وراقبتُ الآنسة سيليا تتقيّأ فوقه. عندئذٍ، شعرتُ أنني مبلَّلة. فنظرتُ إلى الأسفل وكان الدم يتدفّق بسرعة وقد بلغ المكان الذي أجلس عليه. وكلما تقيّأَت خرج الدم منها. كنت أعلم أنها تفقد دماء أكثر مما يمكن لشخص أن يتحمّله.
  "اجلسي، يا آنسة سيليا! تنفّسي بشكل سليم". قلت، ولكنها كانت مستندة إليّ.
  "لا... أنت لا تريدين الاستلقاء. هيا". ودفعتُ ظهرها نحو الأعلى، ولكنها فقدت قوتها وشعرتُ بالدموع تندفع من عينَيّ لأنه كان يُفترض بذلك الطبيب اللعين أن يصل. كان يُفترض به إرسال سيارة إسعاف. فطوال السنوات الخمس والعشرين التي أمضيتها في تنظيف المنازل، لم يقل لي أحد ما الذي يجب القيام به عندما تقع عليّ سيدة بيضاء البشرة ميتة.
  "هيا، يا آنسة سيليا!". صرختُ، ولكنها كانت ككتلة بيضاء ليّنة بجانبي، ولم يكن في استطاعتي القيام بأي شيء سوى الجلوس، والارتجاف، والانتظار.
  ومرّت عدة دقائق قبل أن يرنّ الجرس الخلفي. فأسندتُ رأس الآنسة سيليا إلى منشفة، وخلعتُ حذائي كيلا أخلّف آثار دماء في أنحاء المنزل، وركضتُ نحو الباب.
  "لقد ماتت!". قلت للطبيب، واندفعَت الممرضة بجانبي وتوجهَت إلى الداخل كما لو أنها تعرف طريقها. وأخرجَت ملح الاستنشاق ووضعته تحت أنف الآنسة سيليا، فاهتزّ رأسها، وبكت قليلاً، وفتحَت عينَيها.
  فساعدتني الممرضة على إخراج الآنسة سيليا من قميص نومها المبللة بالدماء. كانت عيناها مفتوحتَين ولكنها تكاد تكون غير قادرة على الوقوف. ووضعتُ مناشف قديمة على السرير ومدّدناها عليه. ودخلتُ المطبخ حيث كان الطبيب تايت يغسل يدَيه.
  "إنها في غرفة النوم". قلت. لا تلوّث المطبخ، أيها الثعبان. كان الطبيب تايت في العقد السادس من العمر ويزيدني طولاً بقدم ونصف القدم، بشرته شديدة البياض، ووجه طويلاً وضيقاً لا يُظهر أي أحاسيس. أخيراً، عاد إلى غرفة النوم.
  وقبل أن يفتح الباب، لمستُ ذراعه. "لا تريد أن يعرف زوجها. لن يكتشف الأمر، أليس كذلك؟".
  فنظر إليّ كما لو أنني زنجية وقال: "ألا تعتقدين أن الأمر مرتبط به؟". ودخل غرفة النوم وأغلق الباب بوجهي.
  ودخلتُ المطبخ وذرعتُ المكان ذهاباً وإياباً. ومرّت ساعة، ومن ثم نصف ساعة، وبدأت أقلق بشدة من قدوم السيد جوني إلى المنزل واكتشاف الأمر، وقيام الطبيب تايت بالاتصال به، وترك ذلك الطفل في المرحاض لأتولى مهمة انتشاله. وبدأ رأسي ينبض بقوة. أخيراً، سمعتُ الطبيب تايت يفتح الباب.
  "هل هي بخير؟".
  "لقد أصيبت بالهستيريا. أعطيتها حبة مهدّئة".
  ومرّت الممرضة من حولنا وخرجَت من الباب الخلفي، حاملةً صفيحة معدنية بيضاء. فتنفستُ الصُعداء للمرة الأولى منذ ساعات.
  "راقبيها غداً". قال، وسلّمني كيساً ورقياً أبيض. "أعطيها حبة أخرى إذا بدت شديدة الاهتياج. سيكون هناك مزيد من النزف، ولكن، لا تتصلي بي إلا إذا ساءت حالها".
  "لن تقوم بإخبار السيد جوني بالأمر، أليس كذلك، أيها الطبيب تايت؟".
  وأطلق هسهسة مشمئزّة. "تأكدي من ألا تفوّت موعدها يوم الجمعة. لن أقود كل تلك المسافة إلى هنا لأنها تُهمل القدوم إلى عيادتي بسبب تكاسلها".
  وخرج مسرعاً، وأغلق الباب وراءه بقوة.
  كانت ساعة المطبخ تشير إلى الخامسة، والسيد جوني يعود إلى المنزل بعد نصف ساعة. فالتقطتُ الكلوروكس وخِرَق التنظيف ودلواً.
الآنسة سكيتر
الفصل التاسع عشر
  إنه العام 1963 الذي دعوه عصر الفضاء. لقد دار رجل حول الأرض بمركبة صاروخية، وابتكروا حبة تحول دون حَمل النساء المتزوجات، وبات في المستطاع فتح علبة شراب معدنية بإصبع واحدة بدلاً من الاستعانة بفتّاحة. ومع ذلك، كان لا يزال منزل والدَيّ حارّاً كما في العام 1899 عندما بناه والد جدّي.
  "يا أمي، رجاءً". قلتُ متوسّلة: "متى سنذهب لشراء مكيّف الهواء؟".
  "لقد أمضينا كل تلك المدة الطويلة من دون مكيّف كهربائي، ولا أعتزم وضع إحدى تلك الآلات غريبة الشكل في نافذتي".
  وهكذا، وبمرور شهر تموز/يوليو يوماً بعد يوم، وجدت نفسي مُجبَرة على الانتقال من غرفة نومي في العُلّية إلى سرير نقّال في الرَُّواق الخارجي الخلفي المحميّ بستار واقٍ. ففي طفولتنا، اعتادت كونستنتين النوم في الخارج مع كارلتون ومعي في فصل الصيف، وذلك عندما يذهب والدي ووالدتي لحضور حفلات زفاف خارج المدينة. وكانت كونستنتين تنام بقميص نوم بيضاء قديمة الطراز، تمتد من ذقنها حتى أصابع قدمَيها، بالرغم من كون الطقس حارّاً كما في هايدس. لقد اعتادت أن تغنّي لنا كي ننام. كان صوتها عَذباً للغاية بحيث إنني لم أفهم سبب عدم حضورها أي درس في الغناء. كانت والدتي تقول لي على الدوام إنه لا يمكن للمرء أن يتعلّم أي شيء من دون حضور الدروس الملائمة. لم يكن من المنطقي اعتبارها موجودة في ذلك الرُّواق الخارجي، ولكنني شعرت بوجودها. وتساءلتُ عما إذا كنت سأراها مجدداً.
  وبجانب سريري، كانت هناك آلتي الكاتبة على طاولة بيضاء صدئة، مصقولة، وقابلة للغسل، ويوجد تحتها حقيبتي المدرسية الحمراء. فتناولتُ منديل والدي ومسحتُ جبيني، ووضعتُ ثلجاً مملَّحاً على رُسغَيّ. كان جهاز قياس الحرارة التابع لشركة أفيري لامبر يشير إلى ارتفاع الحرارة من 89 إلى 96 درجة وصولاً إلى نحو مئة درجة في الرُّواق الخارجي الخلفي. ولكن لحسن الحظ، لا يأتي ستيوارت في أثناء النهار عندما تكون الحرارة على أشُدّها.
  فحدّقتُ إلى آلتي الكاتبة من دون أن يكون لديّ ما أطبعه أو أكتبه. كنت قد أنهيت قصص ميني وطبعتها. لقد شعرت بالتعاسة. فقبل أسبوعين، قالت لي آيبيلين إن يول ماي، خادمة هيلي، قد تقوم بمساعدتنا وإنها تُبدي مزيداً من الاهتمام كلما تحدثَت إليها آيبيلين. ولكن، بمقتل ميدغار إيفرز وقيام الشرطة باعتقال أشخاص ملوّني البشرة وضربهم، كنت على ثقة تامة أنها خائفة حتى الموت.
  ربما كان يتعيّن عليّ الذهاب إلى منزل هيلي لأعرف بنفسي ما تعتزم يول ماي القيام به. ولكن لا، فآيبيلين على حق، فأنا قد أخيفها على الأرجح أكثر فأكثر وأبدّد أي فرصة متوافرة.
  تحت المنزل، كانت الكلاب تتثاءب وتنبح من شدة الحرارة. ونبح أحد الكلاب من دون حماسة عندما توقف جرّار على متنه خمسة زنوج من عمال الحقول التابعين لوالدي. وقفز الرجال من الباب الخلفي، وتطاير الغبار تحت أقدامهم، ووقفوا للحظات مذهولين ومذعورين. كان المشرف على العمال يربط قطعة قماش حمراء على جبينه الأسود، وتتدلى على شفتَيه وعُنُقه. وكانت الحرارة شديدة جداً لدرجة أنني لم أفهم كيف يستطيعون الوقوف في الشمس.
  ورفرفت نسخة مجلة لايف الخاصة بي بعد هبوب نسيم نادر الحدوث. كانت أودري هيبورن تبتسم على الغلاف، ولم تكن هناك على شفتها العليا أي قطرات تعرُّق. فالتقطتُها وقلبتُ الصفحات المتغضّنة وصولاً إلى موضوع فتاة الفضاء السوفياتية. كنت أعرف ما الذي تحتويه الصفحة التالية. فوراء وجهها، كانت هناك صورة لكارل روبرتس، وهو مدرّس ملوّن البشرة من بيلاهاتشي التي تبعد مسافة أربعين ميلاً عن منزلنا. "في نيسان/أبريل، أخبر كارل روبرتس المراسلين في واشنطن ماذا يعني أن يكون الرجل ذات بشرة ملونة في الميسيسيبي، واصفاً حاكم الولاية أنه رجل مثير للشفقة متخلّق بأخلاق البغايا. ووُجد روبرتس مشنوقاً على شجرة بَقّان وموسوماً بوسم الماشية".
  لقد قتلوا كارل روبرتس لأنه تكلم بشكل صريح. وفكرتُ في كم كان يسهل عليّ الاعتقاد قبل ثلاثة أشهر أنني قادرة على حمل نحو اثنتَي عشرة خادمة على التحدث إليّ، كما لو أنهنّ ينتظرن طوال الوقت إخبار امرأة بيضاء البشرة قصصهنّ. كم كنت غبية.
  وعندما أجد نفسي غير قادرة على تحمّل الحرارة لحظة أخرى، كنت أذهب للجلوس في المكان الوحيد في لونغليف الذي يتمتع بالبرودة. فأدير مفتاح تشغيل محرك السيارة، وأرفع الزجاج، وأرفع فستاني إلى الأعلى، وأستمتع بهواء المكيّف. وبإحناء رأسي إلى الوراء، ينجرف العالم مُشبَعاً برائحة الفريون وجِلد الكاديلاك. وسمعتُ صوت توقّف سيارة أمام الطريق الخاصة بالمنزل، ولكنني لم أفتح عينَيّ. وبعد لحظات، فُتح باب الراكب في سيارتي.
  "تبّاً، درجة البرودة جيدة في الداخل".
  ودفعتُ بفستاني نحو الأسفل. "ماذا تفعل هنا؟".
  وأغلق ستيوارت الباب، وقبّلني بسرعة على شفتَيّ. "لديّ دقيقة فقط. عليّ التوجه إلى الساحل لعقد اجتماع".
  "كم ستدوم مدة الاجتماع؟".
  "ثلاثة أيام. عليّ إدراك بعض الأشخاص من شركتَي ميسيسيبي أويل وغاز بورد. أتمنّى لو أنني عرفت بالأمر قبل ذلك".
  ومدّ يده وأمسك بيدي، فابتسمتُ. لقد خرجنا معاً طوال الشهرين السابقين مرتَين في الأسبوع، ناهيكم عن المواعيد التي يحيط بها جوّ من الرعب. أظن أنه وقت قصير مقارنةً مع الوقت الذي أمضته فتيات أخريات في المواعدة، ولكنه أطول حدث جرى لي يوماً، وشعرتُ أنه الأفضل.
  "هل تريدين مرافقتي؟". قال.
  "إلى بيلوكسي؟ الآن في الحال؟".
  "في الحال". قال، ووضع راحة يده الباردة عليّ. وكالعادة، انتفضتُ قليلاً، ونظرتُ إلى يده، بعد ذلك نظرت للتأكد من أن والدتي لا تتجسس علينا.
  "هيا، الطقس حارّ جداً هنا. سأُقيم في إيدجواتر على الشاطئ تماماً".
  فضحكتُ، واستحسنتُ الفكرة بعد كل القلق الذي عانيت منه طوال الأسابيع السابقة. "تعني في إيدجواتر... معاً؟ في الغرفة نفسها؟".
  وأومأ برأسه. "هل تعتقدين أنه يمكنك الإفلات مني؟".
  بالنسبة إلى إليزابيت، إن مجرد التفكير في مشاطرة الغرفة مع رجل قبل الزواج به يحملها على الشعور بالخزي، ولقالت هيلي إنني غبية بمجرد التفكير في الأمر. كانتا متمسكتين بعذريّتهما. ومع ذلك، لقد فكرت في الأمر.
  اقترب مني ستيوارت. كانت رائحته أشبه برائحة أشجار الصنوبر والتبغ المشتعل، ورائحة الصابون مرتفع الثمن الذي لم تعرفه عائلتي يوماً. "أمي مريضة، يا ستيوارت، بالإضافة إلى انشغالي بأمور كثيرة...". ولكن رائحته ذكيّة حقاً. كان ينظر إليّ كما لو أنه يريد أكلي، فارتعشتُ بسبب هواء مكيف الكاديلاك.
  "هل أنت واثقة؟". همس، وقبّلني، ولكن ليس بطريقة مهذّبة كما في السابق. وكانت يده لا تزال عليّ، ووجدتُ نفسي مجدداً أتساءل عما إذا كان يتصرف مع خطيبته، باتريشا، على هذا النحو، حتى إنني لم أكن أعرف إذا كان الأمر قد تطور معهما على هذا النحو أم لا. لقد جعلتني فكرة ملامستهما لبعضهما بعضاً أشعر بالغثيان، فابتعدتُ عنه.
  "لا أستطيع... فحسب". قلت. "تعلم أنني لم أُطلع والدتي على الحقيقة...".
  فأطلق تنهيدة أسف طويلة، وأحببتُ تلك النظرة على وجهه، خيبةَ الأمل تلك. لقد أدركتُ حينذاك أن الفتيات يقاومن لأجل نظرة الأسف الجميلة تلك. "لا تكذبي عليها". قال. "تعرفين أنني أكره الكذب".
  "هل ستتصل بي من الفندق؟". سألتُ.
  "سأفعل". قال. "آسف لأنه يتعيّن عليّ المغادرة قريباً. آه، كدتُ أنسى إخبارك أن والدي ووالدتي يريدان منكم القدوم إلى منزلنا يوم السبت، بعد ثلاثة أسابيع، لتناول العشاء".
  فجلستُ بشكل مستقيم. لم يسبق لي أن التقيت والدَيه. "ماذا تعني بـ... منكم؟".
  "أعني أنت ووالدَيك. تأتون إلى المدينة للقاء عائلتي".
  "ولكن... لماذا جميعنا؟".
  فهزّ كتفَيه. "والداي يريدان لقاءكم، وأنا أريد أن يلتقياك".
  "ولكن...".
  "آسف، يا فتاتي". قال، ودفع شعره وراء أذنه: "عليّ الذهاب. هل أتصل بك مساء غد؟".
  فأومأت برأسي. وخرج إلى الحرارة وانطلق بسيارته، ملوّحاً لوالدي الذي كان يسير على الدرب المكسوّ بالغبار.
  وتُركتُ بمفردي في سيارة الكاديلاك قلقة. عشاء في منزل السيناتور، ووالدتي تطرح ألف سؤال وتبدو يائسة بسببي.
  بعد ثلاث ليالٍ حارّة وسيّئة، لم أحصل فيها على تأكيد من يول ماي، أو أي خادمات أخريات، عاد ستيوارت من اجتماعه على الساحل إلى منزلي مباشَرةً. كنت قد سئمتُ الجلوس أمام الآلة الكاتبة وطباعة النشرات الدَّورية والإجابات عن رسائل الآنسة ميرنا. فنزلتُ السلّم على عجَل، وعانقني كما لو أن أسابيع مضت على لقائنا الأخير.
  كان ستيوارت ملفوحاً بالشمس تحت قميصه البيضاء، وكان ظهرها متجعّداً بسبب القيادة، وكمّاها مرفوعَين، وترتسم على وجهه ابتسامة دائمة وشقية تقريباً. فجلسنا على نحو مستقيم قُبالة بعضنا بعضاً في غرفة الاستجمام، محدّقَين أحدنا إلى الآخر. كنا ننتظر لجوء والدتي إلى السرير، عِلماً أن والدي كان قد خلد إلى النوم عند المغيب.
  كانت عينا ستيوارت مسمرتين وتحدقان إلى عينيّ في أثناء قيام والدتي بالتحدث عن الطقس الحار، وكيفية لقاء كارلتون أخيراً بالفتاة المناسبة.
  "ونحن متشوّقون لتناول الغداء مع والدَيك، يا ستيوارت. رجاءً، أخبر والدتك بما قلتُ".
  "أجل يا سيدتي، بالتأكيد".
  وابتسم لي مجدداً. كانت هناك الكثير من الأمور التي أحبها فيه. كان ينظر إلى عينَيّ مباشَرةً عندما نتحدث، وكانت راحتا يدَيه قاسيتَين، ولكن أظافره نظيفة ومقلَّمة. كنت أحب ذلك الشعور الخشن على عُنُقي. ولا أكون صادقة إن لم أُقرّ أنه من الجميل أن يكون هناك من أرافقه إلى حفلات الزفاف والرقص، وأنه ليس عليّ تحمّل نظرة راليه ليفولت عندما يجد أنني أخرج برفقة صديقاتي مجدداً، وحَيرته عندما يكون عليه حمل معطفي مع معطف إليزابيت وإحضار مشروب لي أيضاً.
  ومنذ لحظة دخول ستيوارت المنزل، أشعر أنني محميّة ومُعفاة. فوالدتي لا توجّه إليّ انتقاداتها في حضوره كيلا يلاحظ عيوبي. ولا تتذمّر منّي في حضوره لأنها تعرف أنني سأسيء التصرف وأنتحب، فتتقلّص فرص عثوري على الزوج المناسب. فوالدتي تقوم بخدعة كبيرة عندما تُظهر جانباً واحداً من شخصيتي، معتبرةً أنه لا يُفترض إظهار شخصيتي الحقيقية إلا بعد فوات الأوان.
  أخيراً، وعند الساعة التاسعة والنصف، ملّست والدتي تنّورتها، وطوَت البطانية ببطء وإتقان كما لو أنها رسالة من أحد أحبّائها. "حسناً، أظن أنه حان وقت النوم. سأترككما أيها الشابان بمفردكما. يا أوجينيا؟". ووجهَت نظرها إليّ قائلة: "لا تطيلي السهر؟".
  فابتسمتُ بعذوبة. أنا في الثالثة والعشرين من العمر. "بالطبع لا، يا أمي".
  فغادرَت، وجلسنا نحدّق إلى بعضنا ونبتسم.
  وننتظر.
  ومشت والدتي بخطى خافتة في أنحاء المطبخ، وأقفلَت إحدى النوافذ، وسكبت بعض الماء. وبعد لحظات، سمعنا صوت إغلاق باب غرفة نومها. فوقف ستيوارت وقال: "تعالي إلى هنا". وبعد الانتقال إلى الجانب الآخر من الغرفة بخطوة واسعة، أصبحت إلى جانبه، ووضع يدَيّ على شفتَيه وقبلني بشغف. وكنت قد سمعتُ الفتيات يقلن إن القبلة تحمل شعوراً بذوبان الحبيبين أحدهما في الآخر. ولكنني أعتقد أنها أشبه بالارتفاع والغدوّ أكثر طولاً، والإطلال من فوق الوشيع على مناظر وألوان لم يسبق لكم أن شاهدتموها من قَبل.
  كان يتعيّن عليّ التوقف، فلديّ أشياء أقولها. "تعالَ، اجلس".
  وجلسنا بجانب بعضنا بعضاً على الأريكة، وحاول تقبيلي مجدداً، ولكنني أعدتُ رأسي إلى الوراء. لقد حاولتُ عدم النظر إلى عينَيه اللتين بدتا زرقاوَين بشدة بسبب حروق الشمس، أو إلى الشعر الذهبي والمبيضّ على ذراعَيه.
  "يا ستيوارت...". وابتلعتُ ريقي، مُعِدّةً نفسي لطرح السؤال الرهيب. "عندما كنت مخطوباً، هل شعر والداك بالخيبة؟ متى حدث مع باتريشا... ما حدث؟".
  فتصلّب فمه على الفور، ونظر إليّ. "لقد شعرت والدتي بالخيبة. كانتا مقرّبتَين".
  وشعرتُ بالأسف بسبب التطرق إلى ذلك الموضوع، ولكن كان يجب عليّ أن أعرف. "إلى أي مدى كانتا مقرّبتَين؟".
  فألقى نظرة من حوله. "هل لديك أي شيء في المنزل؟ شراب؟".
  فقصدتُ المطبخ وسكبت له كوباً من زجاجة باسكاغولا المخصصة للطهو، وملأته بالماء. وأوضح لي ستيوارت أنه عندما ظهر للمرة الأولى في الرَُّواق الخارجي لمنزلي، كان قد تخلى عن خطيبته. ولكنني كنت بحاجة إلى معرفة كيفية حدوث الأمر، ليس بسبب فضولي فحسب بل لأنني لم أكن على علاقة مع أحد من قَبل. كنت بحاجة إلى معرفة ما الذي يدعو إلى قطع علاقة ما إلى الأبد، وإلى أي مدى يمكنكم خرق القواعد قبل أن يتم التخلي عنكم، وما هي تلك القواعد.
  "إذاً، لقد كانتا صديقتَين حقيقيتَين؟". سألت، وكنت على وشك لقاء والدته بعد أسبوعين. كانت والدتي قد حددت اليوم التالي موعداً للقيام بالتسوق في متجر كنينغتون.
  وتناول جرعة طويلة، وقطّب جبينه. "كانتا تدخلان الغرفة وتدوّنان ملاحظات حول تنسيق الزهور وأسماء الأزواج". وزالت كل آثار البسمة المتكلّفة. "لقد تعرضت والدتي لصدمة كبيرة، وآثرت العزلة... بعد ذلك".
  "إذاً... ستقوم بمقارنتي بباتريشا؟".
  وطرف ستيوارت عينَيه، ناظراً إليّ. "إنه أمر محتمَل".
  "عظيم. لا أطيق الانتظار".
  "تشعر والدتي بالقلق من أن أتعرّض للأذى مجدداً". وأشاح بنظره عني.
  "أين باتريشا الآن؟ لا تزال تقيم هنا أم...".
  "لا، لقد رحلَت. انتقلت إلى كاليفورنيا. هل يمكننا التحدث عن أمر آخر؟".
  فتنهّدتُ وأسندتُ ظهري إلى الأريكة.
  "حسناً، هل يعلم والداك بما جرى على الأقل؟ أعني، هل يُسمح لي أن أعرف ذلك؟". قلتُ، لأنني شعرت بومضة غضب، معتبرةً أنه لن يخبرني أموراً هامة بأهمية ذلك الأمر.
  "يا سكيتر، لقد أخبرتك، أكره التحدّث عن...". ولكنه صرف أسنانه آنذاك، وأخفض صوته. "فقط والدي يعرف جزءاً من الموضوع. أما والدتي فتعرف القصة الحقيقية، على غرار والدَي باتريشا وباتريشا نفسها". وابتلع ما تبقى من الشراب. "هي تعرف ما الذي قامت به، إنه أمر مؤكد".
  "يا ستيوارت، أريد أن أعرف كيلا أقوم بالأمر نفسه".
  ونظر إليّ وحاول الضحك، ولكن الضحكة خرجت كما لو أنها زمجرة. "لن تفعلي ما فعلَته بعد مليون عام".
  "ماذا؟ ماذا فعلَت؟".
  "يا سكيتر". قال، وتنهّد، ووضع كوبه. "أنا مُتعَب. يُستحسَن بي الذهاب إلى المنزل".
  دخلتُ المطبخ المليء بالبخار في صباح اليوم التالي، مروَّعةً بسبب ما جرى في اليوم السابق. كانت والدتي في غرفتها تستعدّ للقيام برحلة التسوّق لشراء ما يتلاءم وتناولنا العشاء في منزل ويتوورث. وكنت أرتدي جينزاً أزرق وسترة.
  "صباح الخير، يا باسكاغولا".
  "صباح الخير، يا آنسة سكيتر. هل تريدين فطورك المعتاد؟".
  "أجل، رجاءً". قلت.
  كانت باسكاغولا صغيرة الحجم وتتنقل بسرعة. لقد أخبرتها في حزيران/يونيو الماضي، كيف أحب قهوتي السوداء، وشرائح الخبز المحمّص مع قليل من الزبدة، ولم تسألني مجدداً عن ذلك. كانت على غرار كونستنتين في ما يتعلق بنسيان كل ما يتعلق بنا، فتساءلتُ عن عدد وجبات الفطور المتأصلة في عقلها، تلك التي قامت بإعدادها لنساء بيضاوات البشرة. وتساءلتُ عما تكون عليه حال تمضية حياتكم كلها محاولين تذكّر كمّية الزبدة التي يفضّلها الآخرون على شرائح الخبز المحمَّص، وكمية النشاء، وتبديل الملاءات...
  فوضعَت قهوتي أمامي، ولم تسلّمني إيّاها باليد. لقد أخبرتني كونستنتين أن الأمر لا يجري على ذلك النحو، ولا أتذكّر كيف اعتادت كونستنتين تقديم القهوة.
  "شكراً لك". قلت: "شكراً جزيلاً".
  فطرفَت عينَيها للحظات، ناظرةً إليّ، وابتسمَت قليلاً. "على الرَّحب... والسَّعة". لقد أدركتُ أنها المرة الأولى التي أشكرها فيها بإخلاص، وبدت غير مرتاحة.
  "يا سكيتر، هل أنت جاهزة؟". سمعتُ والدتي تقول من الجهة الخلفية للمنزل. فصرختُ، مجيبةً أنني كذلك. فتناولتُ شريحة الخبز المحمَّص، وأملتُ في القيام برحلة التسوق هذه بسرعة. كان يُفترض بوالدتي الكفّ عن اختيار ملابسي منذ عشر سنوات. وألقيتُ نظرة سريعة من حولي ولاحظتُ أن باسكاغولا تراقبني من أمام حوض الغسيل. فاستدارت عندما نظرتُ إليها.
  وتناولتُ صحيفة جاكسون جورنال الموضوعة على الطاولة. فعمود الآنسة ميرنا التالي لن يتم نشره حتى يوم الاثنين، وهو سيكشف النقاب عن لغز البُقع المستعصية. وفي قسم الأنباء المحلية، كانت هناك مقالة عن حبّة دواء جديدة يدعونها فاليوم، تساعد النساء على التعاطي مع التحديات اليومية. يا الله، في استطاعتي تناول عشر حبات في الحال.
  ورفعتُ نظري، وتفاجأتُ برؤية باسكاغولا واقفة بجانبي.
  "هل أنت... هل تريدين شيئاً ما، يا باسكاغولا؟". سألتُ.
  "أريد أن أخبرك بأمر ما، يا آنسة سكيتر، شيء ما عن ذلك...".
  "لا يمكنك ارتداء ثياب قطنية للذهاب إلى متجر كنينغتون". قالت والدتي من مدخل الباب. واختفت باسكاغولا من جانبي كالبخار، وعادت إلى حوض الغسيل لتمدّ خرطوماً مطاطياً أسود من الحنفيّة إلى الجلاّية.
  "اصعدي إلى الطابق العلوي وارتدي شيئاً ملائماً".
  "يا أمي، هذا ما أرتديه. ما الفكرة من ارتداء أفضل الملابس لشراء ثياب جديدة؟".
  "يا أوجينيا، رجاءً، دعينا لا نزيد الأمر صعوبة".
  وعادت والدتي إلى غرفة نومها، ولكنني كنت أعلم أن النقاش لم ينتهِ عند هذا الحد. وملأ صوت الجلاّية الغرفة، واهتزّت الأرض تحت قدمَيّ العاريتَين، وكان الدويّ مهدّئاً ومرتفعاً بما يكفي لمنع حدوث أي نقاش. ورأيت باسكاغولا أمام حوض الغسيل.
  "هل كنت تريدين قول أمر ما لي، يا باسكاغولا؟". سألتُ.
  فألقت باسكاغولا نظرة على الباب. كانت بنصف حجمي وذات طبع خجول جداً، وأُنزل رأسي لدى التحدث إليها. فاقتربت مني.
  "يول ماي هي نسيبتي". قالت باسكاغولا تحت غطاء هدير الآلة. كانت تهمس، ولكن لم يكن يبدو عليها أي خجل.
  "لم... أكن أعرف ذلك".
  "نحن نسيبتان مقرّبتان من بعضنا بعضاً، وتزورني في منزلي كل نهاية أسبوع للاطمئنان عليّ. لقد أخبرتني بما تقومين به". وضيّقَت عينَيها، فظننتُ أنها ستطلب مني أن أترك نسيبتها وشأنها.
  "أنا... نحن نبدّل الأسماء. لقد أطلعَتك على الأمر، أليس كذلك؟ لا أريد التسبب لأحد بأي مشاكل".
  "قالت لي يوم السبت إنها ستساعدك. لقد اتصلَت بآيبيلين من دون أن تتمكن من التحدث إليها. أردت إطلاعك على الأمر قبل ذلك ولكن...". وألقت نظرة سريعة على مدخل الباب مرة أخرى.
  لقد صُعقتُ. "تريد أن تساعدني؟!". ووقفتُ، ولم أتمالك نفسي عن طرح السؤال التالي: "يا باسكاغولا، هل... تريدين المساعدة في القصص أيضاً؟".
  فرمقتني بنظرة طويلة وثابتة. "تعنين أن أخبرك عما تكون عليه حال العمل... لدى والدتك؟".
  ونظرنا إلى بعضنا بعضاً، مفكرتَين على الأرجح بالأمر نفسه، انزعاجها من إخباري، وانزعاجي من الاستماع إليها.
  "ليس والدتي". قلت بسرعة. "نساء أخريات قمتِ بخدمتهنّ من قَبل".
  "إنها المرة الأولى التي أقوم فيها بأعمال منزلية. كنت أعدّ الغداء في دار السيدة العجوز قبل أن تنتقل إلى فلوود".
  "تعنين أن والدتي لم تمانع أن تكون خدمتك لنا هي تجربتك الأولى في العمل المنزلي؟".
  ونظرت باسكاغولا إلى الأرض المكسوّة باللينوليوم الأحمر، وقد انتابها الخجل مجدداً. "لم يشأ أحد غيري العمل لديها". قالت: "بعد ما حدث لكونستنتين".
  فوضعتُ يدي بحرص على الطاولة. "ما رأيك... بذلك؟".
  وخلا وجه باسكاغولا من أي تعبير. وطرفت عينَيها بضع مرات، ومن الواضح أنها تفوقني دهاءً. "لا أعرف شيئاً عن الأمر. أردت فقط أن أخبرك بما قالته يول ماي". وتوجهَت إلى البرّاد، وفتحته وانحنت في داخله.
  وأطلقتُ نفَساً طويلاً وعميقاً. فلأعالج كل مسألة على حِدة.
  لم يكن التسوق مع والدتي أمراً لا يُحتمَل كالعادة، ربما لأنني كنت في مزاج جيد بسبب الخبر الذي تلقّيته من يول ماي. فجلست والدتي على الكرسي في غرفة ارتداء الملابس، واخترت ارتداء بذلة ذكرى السيدة الأولى، المصنوعة من البوبلين الأزرق الفاتح، والمرفَقة بسترة ذات ياقة مستديرة. وتركناها في المتجر نفسه لتطويل الهُدب. لقد فاجأني عدم قيام والدتي بقياس أي شيء. وبعد نصف ساعة طويلة، قالت إنها مُتعَبة، لذلك قدتُ السيارة في طريق عودتنا إلى لونغليف. وتوجهت والدتي إلى غرفتها مباشَرةً للحصول على قيلولة.
  فاتصلتُ بمنزل إليزابيت وقلبي يخفق بقوة، ولكن إليزابيت التقطت الهاتف. لم أكن أملك الجرأة للسؤال عن آيبيلين. فبعد حال الذُّعر التي أحدثتها الحقيبة المدرسية، قطعتُ عهداً على نفسي بالتزام مزيد من الحذر.
  لذلك، انتظرتُ حتى المساء، آملةً في العثور على آيبيلين في منزلها. فجلستُ على صفيحتي المعدنية التي تحتوي على دقيق، محرّكةً أصابعي على كيس أرزّ جاف. لقد أجابت من الرنّة الأولى.
  "ستساعدنا، يا آيبيلين. لقد وافقت يول ماي".
  "ماذا قالت؟ متى اكتشفتِ الأمر؟".
  "بعد ظهر هذا اليوم. لقد أخبرتني باسكاغولا. لم تستطع يول ماي التحدث إليك".
  "يا الله، كان خطي الهاتفي مقطوعاً بسبب تأخري في تسديد الفاتورة هذا الشهر. هل تحدثتِ إلى يول ماي؟".
  "لا، ظننت أنه من الأفضل أن تكلّميها أولاً".
  "الغريب في الأمر أنني اتصلتُ بمنزل الآنسة هيلي بعد ظهر هذا اليوم من منزل الآنسة ليفولت، وقالت لي إن يول ماي لم تعُد تعمل هناك، وأنهت المكالمة الهاتفية. لقد سألتُ عنها، ولكن أحداً لا يعرف شيئاً".
  "قامت هيلي بطردها؟".
  "لا أعلم. آمل في أن تكون قد تخلّت عن العمل تلقائياً".
  "سأتصل بهيلي وأعرف ما جرى. يا الله، آمل في أن تكون بخير".
  "سأستمر في محاولة العثور على يول ماي بعد إعادة تشغيل خطي الهاتفي".
  لقد اتصلتُ بمنزل هيلي أربع مرات ولكن أحداً لم يُجب. أخيراً، اتصلت بمنزل إليزابيت وقالت لي إن هيلي قصدت بورت غيبسون وستمضي الليلة هناك لأن والد وليام مريض.
  "هل حدث شيء ما... مع خادمتها؟". سألتُ بطريقة عرَضية.
  "لقد ذكرَت شيئاً ما عن يول ماي، ولكنها قالت إنها تأخرت وعليها وضع الأمتعة في السيارة".
  وأمضيت بقية الليل في الرُّواق الخارجي الخلفي، مقلّبةً الأسئلة في عقلي، وشاعرةً بالتوتر بسبب القصص التي قد تخبرني إيّاها يول ماي عن هيلي. فبالرغم من عدم اتفاقنا على بعض الأمور، تبقى هيلي إحدى صديقاتي المقرّبات. ولكن الكتاب أهم من أي شيء آخر، لا سيّما وأن آمالي انتعشت في إمكانية إنجازه.
  فاستلقيتُ على السرير النقّال عند منتصف الليل. كان صرير الجداجد خارج الستار الواقي، وغرقتُ في الفراش الرقيق، وتدلّت قدماي، وشعرتُ بارتياح للمرة الأولى منذ عدة أشهر. لم يبلغ عدد الخادمات اثنتَي عشرة، بل ازداد عدد الراغبات في إخبار قصصهنّ واحدة.
  في اليوم التالي، كنت جالسة أمام التلفاز أتابع أخبار الساعة الثانية عشرة. كان تشارلز وارينغ يقول في تقرير إخباري إن ستِّين جندياً أميركياً قُتلوا في فييتنام. فشعرتُ بحزن كبير. كان على ستين رجلاً أن يقضوا في مكان ما بعيداً عن أحبائهم. لقد أزعجني هذا الخبر كثيراً بسبب ستيوارت كما أعتقد، ولكن تشارلز وارينغ بدا مهزوز المشاعر إلى حد كبير.
  فالتقطتُ سيجارة وأعدتها إلى مكانها. كنت أحاول عدم التدخين، ولكنني كنت عصبية المزاج بسبب تلك الليلة. فوالدتي تتذمر باستمرار من قيامي بالتدخين، وأعلم أنه يُفترض بي الامتناع عنه، ولكن لم يكن يبدو أنه سيودي بحياتي. وتمنّيتُ لو كان في استطاعتي طلب المزيد من المعلومات من باسكاغولا عما قالته يول ماي، ولكن باسكاغولا اتصلت في صباح ذلك اليوم، وقالت إنها تواجه مشكلة ولن تتمكن من القدوم حتى بعد الظهر.
  كان في استطاعتي سماع والدتي في الرُّواق الخارجي الخلفي تساعد جيمسو على صنع المثلجات، لا بل أيضاً سماع صوت تكسّر الثلج وسحق الملح. فالصوت لذيذ، وقد جعلني ذلك أتمنى الحصول على بعض المثلجات التي لن تكون جاهزة إلا بعد ساعات. بالطبع، لا أحد يُعدّ المثلجات عند الثانية عشرة ظهراً من يوم حارّ لأنه عمل ليلي، ولكن والدتي كانت تعتزم إعداد مثلجات بالدرّاق، وتبّاً للحرارة.
  وخرجتُ إلى الرُّواق الخلفي وألقيتُ نظرة. كان جهاز إعداد المثلجات الكبير الفضّي بارداً ومتعرّقاً، والأرضية تهتزّ، وجيمسو جالساً على دلو موضوع رأساً على عقِب، واضعاً ركبتَيه على جانبي الآلة ويحرك المِرفق الخشبي بيدَيه، مرتدياً قفّازَين. كان البخار يتصاعد من وعاء المثلجات الجافة.
  "ألم تأتِ باسكاغولا بعد؟". سألت والدتي، واضعةً المزيد من الكريما داخل الآلة.
  "ليس بعد". قلت. كانت والدتي تتعرّق، فدفعَت خصلة شعر وراء أذنها. "سأسكب الكريما بدلاً منك، يا أمي. تشعرين بالحرّ كما يبدو".
  "لن تقومي بذلك على النحو الصحيح. عليّ القيام بالأمر بنفسي". قالت، وطردتني إلى الداخل.
  في النشرة الإخبارية، كان رودجر ستيكر يُدلي بتقريره أمام مكتب بريد جاكسون، وعلى وجهه الابتسامة الغبية نفسها التي ترتسم على وجه مراسلي الحرب. "... يدعى هذا النظام البريدي الحديث شيفرة زد - زد - زيب، هذا صحيح، شيفرة زد - زد - زيب التي تقضي بكتابة خمسة أعداد عند أسفل مغلّفكم...".
  ورفع رسالة، ودلّنا على مكان كتابة الأعداد. وقال رجل ببذلة عمل ولا أسنان لديه: "لن يقوم أحد باستخدام هذه الأعداد. سيستمر الناس في محاولة الاعتياد على استخدام الهاتف".
  وسمعتُ الباب الأمامي يُغلَق. وبعد دقيقة، دخلت باسكاغولا غرفة الاستجمام.
  "والدتي في الرُّواق الخلفي". قلت لباسكاغولا، ولكنها لم تبتسم أو تنظر إليّ. لقد سلّمتني مغلّفاً صغيراً فحسب.
  "كانت سترسله عبر البريد، ولكنني قلت لها إنني سأحمله لك".
  كان يوجد على الناحية الأمامية من المغلّف عنوان منزلي من دون أن يكون هناك اسم المرسِل ولا حتى شيفرة زيب. وخرجت باسكاغولا إلى الرُّواق الخلفي.
  وفتحتُ الرسالة. كان خط اليد مكتوباً بحبر أسود على السطور الزرقاء المستقيمة لورقة مدرسية:
عزيزتي الآنسة سكيتر،
أريد أن أُعرب لك عن مدى أسفي لأنني لن أتمكن من مساعدتك بقصصك. لم أكن راغبة في إطلاعك على السبب، ولكنني أردت أن أكون من يطلعك عليه. كما تعرفين، كنت أقوم بخدمة إحدى صديقاتك. لم أكن أحب العمل لديها وأردت التوقف عن العمل مرات عدة، ولكنني كنت أخشى ذلك. كنت أخشى عدم الحصول على عمل آخر إذا أغضبتُها.
لا تعرفين على الأرجح أنني ارتدتُ الكلّية بعد إنهاء دراستي في المدرسة الثانوية. كنت أنوي التخرّج ولكنني قررت الزواج. وعدم حصولي على إجازة جامعية هو من الأمور القليلة التي أسفتُ عليها في حياتي. ولكنْ، لديّ توأمان جديران بالتضحية. لقد ادّخرتُ وزوجي المال طوال عشر سنوات لإرسالهما إلى مدرسة توغالو، ولكننا لا نزال لا نملك المال الكافي لكليهما بالرغم من عملنا الشاق. ويتمتع فتياي بالذكاء وهما توّاقان إلى التعلم. ولكننا نملك مالاً يكفي لأحدهما فقط، وأطلب منك أن تقولي لي: أيّ من فتييَك التوأمَين تختارين لارتياد المدرسة، وأيّ منهما تختارين للعمل في بيع القار؟ كيف تقولين لأحدهما إنك تحبينه بقدر محبتك للآخر، ولكنك تقررين أنه لن يكون الذي سيحصل على الفرصة في الحياة؟ أنت لا تقولين أي شيء، بل تجدين طريقة لحدوث الأمر.
أفترض أن في استطاعتك اعتبار الأمر رسالة اعتراف. لقد سرقتُ من تلك المرأة خاتماً قبيحاً من الياقوت، آملةً في أن يغطي تكلفة التعليم، خاتماً لم تضعه يوماً في إصبعها، وشعرتُ أنها تدين لي بكل ما عانيت منه في أثناء عملي لديها. بالطبع، إن أيّاً من فتيَيّ لن يرتادا المدرسة الآن. فالغرامة التي حدّدتها المحكمة تساوي تقريباً ما ادّخرناه.
بإخلاص،
يول ماي كروكل
مجمّع النساء 9
سجن ولاية ميسيسيبي
  السجن. فارتعدتُ، ونظرت من حولي بحثاً عن باسكاغولا، ولكنها كانت قد غادرت الغرفة. أردت أن أعرف منها متى حصل ذلك وكيف حصل بهذه السرعة؟ وما الذي يمكن القيام به؟ ولكنها خرجت لمساعدة والدتي، ولم يكن في استطاعتنا التحدث هناك. فشعرتُ بالغثيان وبالرغبة في التقيّؤ، وأطفأتُ التلفاز.
  فتخيّلتُ يول ماي جالسةً في زنزانة السجن تكتب هذه الرسالة. لقد عرفت الخاتم الذي تحدّثَت عنه، لقد قدّمته والدة هيلي لابنتها بمناسبة ذكرى مولدها الثامنة عشرة. واكتشفت هيلي قبل سنوات قليلة أن الحجر الموجود فيه ليس ياقوتاً بل كان عقيقاً أحمر يكاد لا يساوي شيئاً، ولم تضعه في إصبعها بعد ذلك. فأطبقتُ قبضتَي يدَيّ.
  وبدا صوت مَخض المثلجات في الخارج كسحق عظام. فقصدتُ المطبخ لأنتظر باسكاغولا وأحصل منها على إجابات. لقد قررتُ إطلاع والدي على الأمر والتحقق مما إذا كان في استطاعته القيام بأي شيء، وإذا كان على معرفة بمحام ما مستعدّ لتقديم المساعدة لها.
  قصدت منزل آيبيلين عند الساعة الثامنة من تلك الليلة. كان من المفترَض إجراء مقابلتنا الأولى مع يول ماي، ولكنني قررتُ القدوم على كل حال. كان الطقس ماطراً وعاصفاً، فأمسكتُ معطفي وحقيبتي المدرسية بإحكام. كنت قد فكرت في الاتصال بآيبيلين لمناقشة الوضع معها، ولكنني لم أستطع القيام بذلك، بل دعوتُ باسكاغولا لصعود الطابق العلوي بدلاً من ذلك كيلا ترانا والدتي نتحدث، وطلبتُ منها إخباري بكل شيء. "كان ليول ماي محامٍ ممتاز". قالت باسكاغولا. "ولكن الجميع قالوا إن زوجة القاضي هي صديقة مقرَّبة من الآنسة هولبروك، وإن سرقة تافهة تستوجب حُكماً بالسجن لمدة ستة أشهر، ولكن الآنسة هولبروك مارست ضغوطات لرفع مدة السجن إلى أربع سنوات. لقد انتهت المحاكمة قبل أن تبدأ".
  "في استطاعتي أن أسأل والدي. قد يكون في استطاعته توكيل... محام أبيض البشرة لها".
  فهزت باسكاغولا رأسها، وقالت: "كان محامياً أبيض البشرة".
  وقرعتُ باب منزل آيبيلين، وانتابني شعور بالخجَل. لم يكن يُفترض بي التفكير في مشاكلي الخاصة في أثناء وجود يول ماي في السجن، ولكنني كنت أدرك آثار ذلك على الكتاب. فإذا كانت الخادمات يخشين مساعدتنا يوم أمس، فلا بد من أن يكنّ مذعورات اليوم.
  وفُتح الباب، ورأيتُ زنجياُ واقفاً ينظر إليّ، وياقته الكهنوتية البيضاء تومض. فسمعتُ آيبيلين تقول: "لا بأس، أيها المبجّل". فتردّد، ولكنه عاد إلى الوراء لأتمكن من الدخول.
  فدخلتُ ورأيت عشرين شخصاً على الأقل متجمّعين في غرفة الجلوس الصغيرة والمدخل. لم أستطع رؤية الأرض. كانت آيبيلين قد أخرجت كراسيَ من المطبخ، ولكن معظم الأشخاص كانوا واقفين. ورأيت ميني في الزاوية بلباسها الرسمي الأبيض، وبجانبها لوفينيا، خادمة لو آن تامبلتن، ولكنني لم أعرف الآخرين.
  "مرحباً، يا آنسة سكيتر". همست آيبيلين التي كانت لا تزال بلباسها الرسمي الأبيض وحذائها الطبّي الأبيض.
  "هل...". وأشرتُ بإصبعي إلى الباب. "سأعود في وقت لاحق". همستُ.
  فهزت آيبيلين رأسها. "حدث أمر مروّع ليول ماي".
  "أعرف". قلت. وساد الغرفةَ هدوء لم يكن يشوبه إلا بعض السعال وصريف كرسيّ. كانت هناك كتب ترانيم مكدَّسة على الطاولة الخشبية الصغيرة.
  "لقد عرفتُ بالأمر اليوم". قالت آيبيلين. "تم اعتقالها يوم الاثنين وأودعت السجن يوم الثلاثاء. يقال إن المحاكمة لم تدُم أكثر من خمس عشرة دقيقة".
  "لقد تسلّمتُ رسالة منها". قلت: "أخبرتني فيها عن ابنَيها، وقامت باسكاغولا بتسليمي إيّاها".
  "هل أخبرَتك أنه كان ينقصها خمسة وسبعون دولاراً فقط لجمع رسم التعليم؟ لقد طلبَت قَرضاً من الآنسة هيلي على أن تفي جزءاً منه كل أسبوع، ولكن الآنسة هيلي رفضت ذلك، قائلةً إن المؤمن الحقيقي لا يعطي الحسنات إلى الذين يتمتعون بصحة جيدة وإلى القادرين على إعالة أنفسهم. قالت إنه من الأفضل لهم أن يتعلموا تدبّر أمورهم بأنفسهم".
  يا الله، كان في استطاعتي تخيُّل هيلي تُلقي تلك المحاضرة اللعينة، ولم أستطع النظر إلى وجه آيبيلين.
  "ولكن دور العبادة ستتضامن لإرسال ابنَيها إلى المدرسة".
  وساد الغرفةَ هدوءٌ تام، باستثناء صوت آيبيلين وهمسي. "هل يمكنني القيام بأي شيء برأيك؟ تقديم المساعدة بأي طريقة من الطرائق؟ بالمال أو...".
  "لا. لقد وضعَت دار العبادة خطة لتسديد أتعاب المحامي إلى أن يتم عرض إطلاق سراحها المشروط على بساط البحث". ودلّت آيبيلين رأسها. كنت على ثقة تامة بتأثّرها بالكارثة التي ألمّت بيول ماي، ولكن شعوراً خامرني أنها تدرك أيضاً فشل مشروع الكتاب. "سيكونان في سنة التخرج عندما تخرج من السجن. لقد حكمت عليها المحكمة بالسجن لمدة أربع سنوات وبدفع غرامة بقيمة خمسمئة دولار".
  "أنا آسفة يا آيبيلين". قلت. وألقيت نظرة سريعة من حَولي على الناس الموجودين في الغرفة. كانوا مطأطئي الرؤوس كما لو أن النظر إليّ يُحرقهم. فوجّهتُ نظري إلى الأسفل.
  "تلك المرأة شريرة!". قالت ميني بغضب من الناحية الأخرى من الأريكة، وأُجفلتُ، آملةً في أنها لم تكن تعنيني.
  "لقد أُرسلت هيلي هولبروك إلى هنا من قِبل الشرير لتدمير أكبر قدر ممكن من حياة الناس!". همست ميني، ماسحةً أنفها بكمّها.
  "يا ميني، لا بأس". قال المبجَّل. "سنجد سبيلاً لمساعدتها". ونظرتُ إلى الوجوه المتغضّنة، متسائلةً عما يمكن أن يكون ذلك السبيل.
  وساد الغرفةَ مجدداً هدوء لا يُطاق. كان الهواء حارّاً، وانتشرت رائحة مماثلة لرائحة البُنّ المحروق. لقد شعرتُ بوحدة عميقة في ذلك المكان الذي اعتدتُ الشعور براحة كبيرة فيه، وأحسستُ بحرارة الكره والذَّنب.
  فمسح المبجَّل الأصلع عينَيه بمنديل. "شكراً لك، يا آيبيلين، لأنك استقبلتنا في منزلك للدعاء". وبدأ الناس يتحركون، متمنّين تمضية ليلة هانئة لبعضهم بعضاً، ومومئين برؤوسهم برزانة. والتُقطت حقائب اليد، واعتُمرت القبّعات. وفتح المبجّل الباب، مُدخلاً الهواء الرطب، وتبعته امرأة ذات شعر رمادي مجعَّد توقفت أمامي حيث كنت أقف مع حقيبتي المدرسية.
  وفُتح معطفها قليلاً، كاشفاً عن لباس رسمي أبيض.
  "يا آنسة سكيتر". قالت من دون أن تبتسم: "سأساعدك في قصصك".
  فنظرتُ إلى آيبيلين التي رفعَت حاجبَيها وفتحت فمها. واستدرتُ نحو المرأة، ولكنها كانت خارجة من الباب.
  "سأساعدك، يا آنسة سكيتر". قالت امرأة أخرى، طويلة القامة ونحيلة، وارتسمت على وجهها نظرة هادئة مماثلة لنظرة المرأة الأولى.
  "أممم، شكراً... لك". قلت.
  "أنا أيضاً، يا آنسة سكيتر، سأساعدك". ومرّت امرأة بمعطف أحمر بجانبي بسرعة من دون أن تنظر إليّ.
  وبدأتُ بالعدّ. لقد أصبحنَ خمس، ست، سبع نساء، فأومئ لهنّ برأسي، ولكن كل ما كان في استطاعتي قوله لكل منهنّ هو شكراً لك، أجل، شكراً لك. وشعرت بمرارة لأن الأمر تطلّب سجن يول ماي لدفع عجَلة الكتاب إلى الأمام.
  ثماني، تسع، عشر، إحدى عشرة امرأة، ولم تكن أي منهنّ تبتسم عندما تُطلعني على رغبتها في المساعدة. وفرغت الغرفة باستثناء ميني. كانت واقفة في الزاوية البعيدة، وذراعاها مشدودتان على صدرها. وبعد مغادرة الجميع، رفعَت نظرها الذي وقع على نظري للحظة من الزمن، ومن ثم أشاحت به بسرعة باتجاه الستائر البنّية المشبوكة ببعضها بعضاً بالدبابيس، وبصورة مُحكَمة، حاجبةً الرؤية من خلال النافذة. ولكنني رأيتُ الرعشة على فمها، ذلك المقدار الضئيل من الرّقة الكامن وراء غضبها. لقد تقصّدَت ميني حدوث ذلك.
  بسفر الجميع، يكون قد مرّ شهر على توقف مجموعتنا عن لعب البريدج. وفي يوم الأربعاء، التقينا في منزل لو آن تامبلتن، وحيّينا بعضنا بعضاً بضرب الكف على الكف، والإعراب عن سرورنا برؤية إحدانا الأخرى.
  "مسكينة لو آن بهذين الكمين الطويلين في هذا الطقس الحارّ. هل هي الإكزيمة مجدداً؟". سألَت إليزابيت لأن لو آن كانت ترتدي فستاناً صوفياً رماديّ اللون في فصل الصيف الحار.
  ونظرت لو آن إلى حضنها، مُحرَجة قائلة: "أجل، الأمر يزداد سوءاً".
  ولكنني لم أتمالك نفسي من لمس هيلي عندما دنت مني. وعندما تحررتُ من عناقها، تصرّفَت كما لو أنها لم تلاحظ رد فعلي. ولكنها استمرت في النظر إليّ بعينَين ضيّقتَين في أثناء ممارسة لعبة الورق.
  "ماذا ستفعلين؟". سألَت إليزابيت هيلي. "أهلاً وسهلاً بك متى أردتِ اصطحاب الأطفال إلى هنا في أي وقت، ولكن... حسناً...". فقبل انعقاد نادي البريدج، اصطحبت هيلي هيذر ووليام إلى منزل إليزابيت لتتولى آيبيلين أمر الاعتناء بهما في أثناء لعب الورق. ولكنني فهمتُ الرسالة الكامنة وراء ابتسامة إليزابيت، كانت تحب هيلي، ولكن إليزابيت لم تكن تمانع مشاطرة تقديم المساعدة مع أي شخص.
  "كنت أعرف ذلك. كنت أعرف أن تلك الفتاة سارقة منذ اليوم الأول من شروعها بالعمل". وبينما كانت هيلي تروي لنا قصة يول ماي، رسمت دائرة كبيرة بإصبعها للإشارة إلى الحجر الكريم الضخم، تلك الياقوتة التي لا تساوي شيئاً.
  "لقد أمسكتُ بها تأخذ الحليب بعد انقضاء تاريخ صلاحيّة تناوله، وهكذا بدأ الأمر، وتلا ذلك مسحوق الغسيل، وبعد ذلك المناشف والمعاطف. وقبل أن تُدركنَ ذلك، يكنّ قد أخذنَ التُحَف المتوارَثة عن الأجداد، ويقمن برهنها لقاء الحصول على باينتات من الشراب".
  لقد قاومتُ رغبتي الشديدة في قطع أصابعها الملوّحة إلى نصفَين، ولكنني كبحتُ جماح لساني. فلتعتقد أن كل شيء يسير بشكل جيد لأنها الوسيلة الأكثر أمناً للجميع.
  وبعد انتهاء اللعبة، هرعتُ إلى المنزل للإعداد للقاء آيبيلين في ليلة ذلك اليوم، وقد شعرتُ بالارتياح بسبب عدم وجود أحد في المنزل. فألقيتُ نظرة سريعة على رسائل باسكاغولا التي تركتها لي شريكتي في كرة المضرب باستي، سيليا فوت التي أكاد لا أعرفها. لماذا تتصل بي زوجة جوني فوت؟ لقد جعلتني ميني أُقسم على عدم الاتصال بها، ولم أكن أملك الوقت للتساؤل. عليّ الاستعداد لإجراء المقابلات.
  جلستُ إلى طاولة المطبخ في منزل آيبيلين في السادسة من مساء ذلك اليوم. لقد اتفقنا على قدومي إلى منزلها كل مساء تقريباً حتى انتهاء المقابلات. فكل يومَين، كانت امرأة ملوّنة البشرة تقرع الباب الخلفي لمنزل آيبيلين وتجلس إلى الطاولة معي، وتخبرني قصصها. لقد وافقت إحدى عشرة خادمة على التحدث إلينا، ناهيكم عن آيبيلين وميني، مما يجعل المجموع ثلاث عشرة خادمة، عِلماً أن السيدة شتاين اشترطت توافر اثنتَي عشرة منهنّ، لذلك اعتبرتُ أننا محظوظات. فاسم الخادمة الأولى أليس، ولم أسأل عن الأسماء الأخيرة، وكانت آيبيلين تقف في آخر المطبخ تستمع.
  وشرحتُ لأليس أن المشروع يتمحور بوضع مجموعة من القصص الحقيقية ترويها الخادمات عن خبراتهنّ في أثناء عملهنّ لدى عائلات من ذوي البشرة البيضاء. وسلّمتها مغلّفاً يحتوي على أربعين دولاراً قمتُ باقتطاعها من أجري الذي أتقاضاه عن عمود الآنسة ميرنا، والعلاوات التي أحصل عليها، والمال الذي وضعته والدتي في يدي رغماً عنّي لتغطية تكلفة مواعيدي في صالون التجميل الذي لم أقصده أبداً.
  "هناك احتمال كبير في ألا يتم نشره أبداً". كنت أقول لكل منهنّ على حِدة. "وإذا تم نشره، فإن عائداته ستكون قليلة جداً". وعندما قلت ذلك في المرة الأولى، وجّهتُ نظري إلى الأسفل، شاعرةً بالخجل، من دون أن أعرف السبب. فكوني بيضاء البشرة، شعرتُ أنه من واجبي مساعدتهنّ.
  "لقد أوضحت لي آيبيلين الأمر". قالت العديدات منهنّ: "لا أقوم بذلك لهذا السبب".
  وكنت أكرّر لهنّ ما سبق أن توافقنا عليه، وهو أن أخفي أسماءهنّ الواردة في القصص عن غير المنتسبات إلى المجموعة. لقد بُدّلت على الورق أسماؤهنّ وأسماء المدن والعائلات التي عملنَ لديها. وتمنّيتُ لو أن في استطاعتي إضافة سؤال أخير: "بالمناسبة، هل كنت تعرفين كونستنتين بيتس؟". ولكنني كنت على ثقة تامة أن آيبيلين ستقول لي إنها فكرة سيئة. فما يشعرن به من خوف يكفيهنّ.
  "الآن، ستكون المقابلة مع أُولا كَمَن يُمعن النظر إلى محارة ميتة". قالت لي آيبيلين قبل الشروع بإجراء مقابلة مع أولا. كانت تخشى على غراري القيام بإخافتهنّ حتى قبل بدء المقابلة. "لا تشعري بالإحباط إذا لم تبح بالكثير".
  ولكن أولا، المحارة الميتة، بدأت بالكلام قبل أن أجلس على الكرسي، وقبل أن أتمكن من شرح أي شيء، ولم تتوقف حتى العاشرة ليلاً.
  "عندما طلبتُ علاوة، منحوني إيّاها. وعندما كنت بحاجة إلى منزل، اشتروا لي منزلاً. لقد قدِم الطبيب تاكر بنفسه إلى منزلي وانتزع رصاصة من ذراع زوجي لأنه كان يخشى التقاط هنري جرثومة ما في مستشفى ذوي البشرة الملوّنة. لقد عملتُ أربعين عاماً لدى الطبيب تاكر والآنسة سيسي. كانا شديدَي اللطف معي. كنت أغسل شعرها كل يوم جمعة. لم أرَ يوماً تلك المرأة تغسل شعرها". وتوقفَت للمرة الأولى طوال الليل، وبدت كما لو أنها تشعر بوحشة وقلق. "إذا متُّ قبلها، لا أعرف ما الذي ستفعله الآنسة سيسي كي يتم غسل شعرها".
  وحاولتُ عدم الابتسام بحماسة. لم أكن أريد أن أثير الشكوك. فأليس، وفاني أموس، وويني، خجولات، ويحتجن إلى الملاطفة، ويبقين أنظارهنّ موجَّهة نحو أحضانهنّ. أما فلورا لو وكليونتين فتجعلان الأبواب تنفتح والكلمات تتشقلب في أثناء طبعي إيّاها على الآلة الكاتبة بأقصى سرعة ممكنة، راجيةً منهما التمهّل كل خمس دقائق. كانت معظم القصص حزينة، ومريرة. لقد توقّعتُ ذلك. ولكن كان هناك عدد مفاجئ من القصص الجيدة أيضاً. وكانت كلهنّ يلتفتن إلى آيبيلين في مرحلة من المراحل كما لو أنهنّ يسألنها، هل أنت واثقة؟ هل في استطاعتي إخبار امرأة بيضاء البشرة بهذا الأمر؟
  "يا آيبيلين؟ ما الذي سيحدث إذا... طُبع هذا الشيء واكتشف الناس من نحن؟". سألَت ويني الخجولة. "ما الذي سيفعلونه بنا برأيك؟".
  كانت تشكل أنظارنا مثلَّثاً في المطبخ في أثناء نظرنا إلى بعضنا بعضاً. فأخذتُ نفَساً عميقاً، واستعددت لطمأنتها أننا شديدات الحذر والحِرص.
  "نسيبة زوجي... لقد سحبوا لسانها منذ مدة لأنها تحدّثت إلى بعض الأشخاص في واشنطن عن كلان. هل تظنين أنهم سيسحبون ألسنتنا؟ بسبب تحدّثنا إليك؟".
  لم أعرف بما أجيب. ألسنة... يا الله، لم تتبادر الفكرة إلى ذهني. كنت أعتقد أنهنّ قد يُسجنّ، أو توجَّه إليهنّ اتهامات ملفَّقة، أو يُغرَّمن. "كنت... شديدة الحرص". قلت ولكن بطريقة غير مُقنعة. ونظرتُ إلى آيبيلين، ولكنها بدت قلقة أيضاً.
  "لن نعرف حتى يحين الوقت، يا ويني". قالت آيبيلين بهدوء. "ولكن الأمر لن يكون مماثلاً لما نشاهده على التلفاز. السيدة بيضاء البشرة تقوم بأمور مختلفة عن الرجل أبيض البشرة".
  فنظرتُ إلى آيبيلين. لم يسبق لها أن شاطرتني رأيها في ما يمكن أن يحدث. وأردتُ تغيير الموضوع لأنه لن يُفيدنا بشيء.
  "لا". قالت ويني، هازّةً رأسها. "لا أظن ذلك. في الواقع، قد تقوم السيدة بيضاء البشرة بأمور أسوأ".
  "أين تذهبين؟". نادت والدتي من غرفة الاستجمام. كنت أحمل حقيبتي المدرسية ومفاتيح الشاحنة، وواصلت سيري نحو الباب.
  "إلى السينما". أجبت.
  "لقد ذهبت إلى السينما مساء أمس. تعالي إلى هنا، يا أوجينيا".
  فعدتُ ووقفتُ عند مدخل الباب. كانت والدتي تشكو من القرحة ولا تتناول سوى مرَق الدجاج على العشاء، فأشعر بالأسف لحالها. كان والدي قد لجأ إلى السرير قبل ساعة، ولكن لم يكن في إمكاني المكوث معها. "آسفة، يا والدتي، لقد تأخرتُ. هل تريدينني أن أحضر لك أي شيء؟".
  "أي سينما ومع من؟ لقد خرجتِ كل مساء تقريباً هذا الأسبوع".
  "مع بعض الفتيات... فحسب. سأعود عند العاشرة. هل أنت بخير؟".
  "أنا بخير". قالت، وتنهّدَت: "هيا اذهبي، إذاً".
  وتوجّهتُ إلى السيارة، شاعرةً بالذَّنب لأنني أترك والدتي بمفردها عندما لا تكون بخير. لقد شكرتُ الله لأن ستيوارت في تكساس، ولا أستطيع أن أكذب عليه بهذه السهولة. فعندما زارني منذ ثلاث ليالٍ، جلسنا على الأُرجوحة في الرُّواق الخارجي واستمعنا إلى صوت الجداجد. كنت مُتعَبة جداً من العمل حتى وقت متأخر من الليلة السابقة لدرجة أنني كدت لا أستطيع إبقاء عينيّ مفتوحتين، ولكنني لم أُرده أن يرحل. فألقيتُ رأسي على حضنه، ومددتُ يدي وفركت وجهه المكسوّ بشُعيرات قاسية.
  "متى ستسمحين لي بقراءة شيء ما قمتِ بكتابته؟". سأل.
  "يمكنك قراءة عمود الآنسة ميرنا. لقد كتبتُ مقالة رائعة عن العَفَن الفُطري الأسبوع الماضي".
  فابتسم، وهزّ رأسه. "لا، أعني أريد قراءة شيء ما عما يجول في ذهنك. أنا على ثقة تامة أنه لا يتناول أمور تدبير شؤون المنزل".
  وتساءلتُ حينذاك عما سيكون موقفه إذا علِم أنني أُخفي أمراً ما عنه. لقد خشيتُ من أن يكتشف أمر القصص، وشعرت بالسعادة بسبب اهتمامه لما أكتب.
  "عندما تصبحين مستعدّة. لن أضغط عليك". قال.
  "ربما أُطلعك على الأمر يوماً ما". قلت، وشعرتُ أن عينَيّ تُغمَضان.
  "اخلدي إلى النوم، يا حبيبتي". قال، ورفع شعري عن وجهي وأعاده إلى الوراء. "دعني أجلس قليلاً معك هنا".
  وبخروج ستيوارت من المدينة للأيام الستة التالية، بات في استطاعتي التركيز على القصص لا غير، فأتوجّه كل ليلة إلى منزل آيبيلين بأعصاب مشدودة كالمرة الأولى. كانت النساء طويلات القامة، قصيرات القامة، سوداوات كالأسفلت أو بنّيات كالكاراميل. وقيل لي إنه لن يتمّ استخدامك أبداً إذا كانت بشرتك شديدة البياض، فكلما كانت بشرتك ملونة أكثر كان الأمر أفضل. وأصبح الحديث رتيباً مع الوقت مع تذمّرات من انخفاض الراتب، والعمل في أوقات صعبة، ووجود أطفال مزعجين. ولكن، كانت هناك قصص عن أطفال من ذوي البشرة البيضاء يقضون نحبهم على الأذرعة، مُحتفظين بتلك النظرة الهادئة الخالية من أي تعبير في عيونهم الزرقاء.
  "لقد دُعيَت أوليفيا. كانت مجرّد طفلة صغيرة الحجم، تُمسك إصبعي بيدها بالغة الصِّغر، وتتنفّس بصعوبة". قالت فاني أموس في مقابلتنا الرابعة. "لم تكن والدتها في المنزل لأنها ذهبت إلى المتجر لشراء مستخلص النعناع، وبقيتُ مع الوالد الذي لم يسمح لي بإنزالها عن ذراعَيّ، طالباً مني حملها حتى وصول الطبيب. وغدت الطفلة باردة بين ذراعَيّ".
  كان هناك كُره للسيدة بيضاء البشرة لا يمكن إخفاؤه، ومحبة لا يمكن تفسيرها. ولم تستطع فاي بيل المصابة بشلل ارتجافي، وذات البشرة الرمادية، تذكّر عمرها، ولكنها تتذكر اختباءها في قِدر كبيرة للطهو مع فتاة صغيرة بيضاء البشرة عندما دخل جنود اليانكي المنزل. ومنذ عشرين عاماً، حملَت تلك الفتاة بين ذراعيها في أثناء نزاعها الأخير، وكانت فاي قد غدت متقدّمة في السنّ آنذاك. وأعربت فاي والفتاة عن محبّتهما لبعضهما بعضاً، وأقسمتا على أن الموت لا يمكنه تغيير واقع كونهما صديقتين مقرّبتين، لم يكن يعني لون البشرة شيئاً بالنسبة إليهما. ولا يزال حفيد المرأة بيضاء البشرة يسدّد إيجار منزل فاي بيل التي تقصد منزله أحياناً لتنظيف مطبخه عندما تشعر بالقوة.
  وكانت لوفينيا هي موضوع مقابلتي الخامسة. إنها خادمة لو آن تامبلتن، وأعرفها منذ كانت تخدم أعضاء نادي البريدج. لقد أخبرتني لوفينيا كيف أن حفيدها، روبرت، أصبح ضريراً في وقت مبكّر من ذلك العام على يد رجل أبيض البشرة لأنه استخدم حمّاماً مخصَّصاً لذوي البشرة البيضاء. وتذكّرتُ قراءة الحادث الذي تعرّض له في الصحيفة، بينما كانت لوفينيا تومئ برأسها وتنتظرني للانتهاء من الطبع على الآلة الكاتبة. لم يكن هناك غضب في صوتها على الإطلاق. لقد علِمتُ أن لو آن التي كنت أعتبرها حمقاء، مُملّة، ولا أكترث لها أبداً، أعفت لوفينيا من عملها لمدة أسبوعين مدفوعين كي تتمكن من مساعدة حفيدها. لقد أحضرَت كَسرولات إلى منزل لوفينيا سبع مرات في أثناء تلك الأسابيع، وهرعَت بلوفينيا إلى مستشفى ذوي البشرة الملوّنة عندما وردها أول اتصال بشأن روبرت، وانتظرَت معها هناك ست ساعات حتى انتهاء العملية. لم تذكر لو آن هذا الأمر لأيٍّ منا من قبل، وفهمتُ تماماً سبب قيامها بذلك.
  لم نتمكن من التحدث إلا لبضع دقائق بعد مغادرة غريتشن.
  "لنستأنف عملنا". قالت آيبيلين. "لسنا ملزمين... بإدراج تلك القصة".
  فغريتشن هي نسيبة يول ماي، وقد حضرت لقاء الدعاء لأجل يول ماي الذي أقامته آيبيلين في منزلها منذ أسابيع، ولكنها تنتمي إلى دار عبادة مختلفة.
  "لا أعرف سبب موافقتها إذا...". وأردتُ الذهاب إلى المنزل لأنني شعرت بتشنّج في أوتار عنقي، وكانت أصابعي ترتجف بسبب الطباعة والاستماع إلى كلمات غريتشن.
  "آسفة، لم أكن أعرف أنها ستتصرف على ذلك النحو".
  "لست المسؤولة عن ذلك". قلت. وأردت أن أسألها عن مدى صحة ما قالته غريتشن، ولكنني لم أستطع. لم يكن في استطاعتي النظر إلى وجه آيبيلين.
  كنت قد شرحتُ لغريتشن القواعد المتّبَعة على غرار الأخريات، وأسندَت ظهرها إلى الكرسي. فظننتُ أنها تفكر في القصة التي ترغب في إخبارها، ولكنها قالت: "انظري إلى نفسك. امرأة أخرى، بيضاء البشرة، تحاول جني المال من ذوي البشرة الملوّنة".
  فألقيتُ نظرة سريعة على آيبيلين، غير واثقة من ردّ فعلي حيال ذلك. ألم أكن واضحة بشأن المال؟ وأمالت آيبيلين رأسها كما لو أنها غير واثقة من أنها سمعت بشكل صحيح.
  "هل تعتقدين أن هناك من سيقرأ هذا الشيء؟". سألت غريتشن، وضحكَت. كانت ترتدي لباساً رسمياً أنيقاً، وتضع أحمر شفاه زهريّ اللون مماثلاً لذلك الذي أضعه وصديقاتي. كانت صغيرة السنّ وتتكلم بهدوء وحِرص كشخص أبيض البشرة. لم أعرف السبب، ولكن ذلك زاد الأمر سوءاً.
  "كل النساء ملوّنات البشرة التي أجريتِ مقابلات معهنّ، كنّ لطيفات حقاً، أليس كذلك؟".
  "أجل". قلت: "كنّ لطيفات جداً".
  ونظرت غريتشن إلى عيني مباشرةً. "هنّ يكرهنك، تعرفين ذلك، صحيح؟ كل أمر صغير يتعلّق بك. ولكنك غبيّة، تظنين أنك تقدّمين إليهنّ معروفاً".
  "ليس عليك القيام بذلك". قلت: "لقد تطوّعتِ...".
  "هل تعرفين ما ألطف شيء قدّمته إلي امرأة بيضاء البشرة يوماً؟ فُتات خبزها. النساء ملوّنات البشرة يخدعنك بمجيئهنّ إلى هنا. لن يخبرنك بالحقيقة أبداً، يا سيدة".
  "لا فكرة لديك عمّا قالته لي النساء الأخريات". قلت، وتفاجأتُ بمدى ازدياد غضبي وسهولة انفجاري غضباً.
  "قوليها، يا سيدة، قولي الكلمة التي تفكّرين فيها كلما دخلت إحدانا المنزل، زنجية".
  ووقفَت آيبيلين. "هذا يكفي، يا غريتشن. اذهبي إلى منزلك".
  "وهل تعلمين، يا آيبيلين؟ أنت غبيّة مثلها". قالت غريتشن.
  لقد صُدمتُ عندما أشارت آيبيلين بإصبعها إلى الباب وقالت مهسهسة، "اخرجي من منزلي".
  وغادرَت غريتشن، ولكنها رمقتني بنظرة غاضبة عبر الباب المُنخُلي أصابتني بالقشعريرة.
  بعد ليلتين، جلستُ قبالة كالي. كانت في السابعة والستين من العمر، ولا تزال بلباسها الرسمي. كان شعرها مجعداً ورماديّاً بمعظمه، عريضة الجسم وثقيلة الوزن، وتتدلى أقسام منها فوق الكرسي. كنت لا أزال متوترة الأعصاب بسبب المقابلة التي أجريتها مع غريتشن.
  وانتظرتُ انتهاء كالي من تحريك شايها. كان هناك كيس بقالة في زاوية مطبخ آيبيلين مليء بالثياب، وفي الأعلى كان هناك بنطال أبيض. لم أعرف سبب احتفاظ آيبيلين بذلك الكيس، عِلماً أن منزلها يكون مرتَّباً على الدوام.
  وشرعت كالي بالتكلم ببطء، وبدأتُ أطبع على الآلة الكاتبة، ممتنّةً. كانت تحدّق ورائي كما لو أن في استطاعتها رؤية فيلم سينمائي يعرض المشاهد التي تصفها.
  "لقد عملتُ لدى الآنسة مارغريت طوال ثمانية وثلاثين عاماً. كانت تصاب ابنتها بالمَغص، والشيء الوحيد الذي يوقف ألمها هو القيام بحملها. لذلك، كنت أقيّدها بخصري، وأجول بها في أرجاء المنزل طوال اليوم ولمدة عام كامل. كانت تلك الطفلة تحب كسر ظهري، فأضع صرّة ثلج عليه كل ليلة، ولا أزال أقوم بذلك. ولكنني أحببتُ تلك الفتاة، وأحببتُ الآنسة مارغريت".
  وتناولَت رشفة شاي بينما كنت أطبع آخر كلماتها. ورفعتُ نظري، وأكملَت قصتها.
  "كانت الآنسة مارغريت تجعلني على الدوام أرفع شعري بواسطة قطعة قماش لأنها تعتقد أن ملوّني البشرة لا يغسلون شعرهم، كما قالت. وكانت تَعُدّ كل قطعة فضيّة بعد قيامي بتلميعها. وعندما توفّيت الآنسة مارغريت بعد ثلاثين عاماً، ذهبتُ إلى الجنازة. فعانقني زوجها، وبكى على كتفي. وبعد انتهاء الجنازة، أعطاني مغلّفاً يحتوي على رسالة من الآنسة مارغريت، وجاء فيها، شكراً لك لأنك أوقفتِ ألم طفلتي. لن أنسى ذلك أبداً".
  ونزعت كالي نظارتها ذات الإطار الأسود، ومسحَت عينيها.
  "إذا قرأَت كل سيدة بيضاء البشرة قصتي، فهذا ما أريد منهنّ أن يعرفنه، توجيه الشكر عندما يعنين ذلك حقاً، وعندما يتذكرن الخدمة التي قدّمها إليهن شخص ما". وهزّت رأسها، وحدّقَت إلى الطاولة المخدوشة وتابعت: "إنه أمر جيد جداً".
  ونظرت كالي إليّ، ولكن نظري لم يلتقِ نظرها.
  "أحتاج إلى دقيقة فقط". قلت. وضغطتُ بيدي على جبيني. لم أتمالك نفسي عن التفكير في كونستنتين، فأنا لم أشكرها أبداً على نحو ملائم. لم أعتقد أبداً أن الفرصة لن تُتاح لي مجدداً.
  "هل تشعرين أنك بخير، يا آنسة سكيتر؟". سألت آيبيلين.
  "أنا... بخير". قلت: "لنُكمل".
  وأكملت كالي، راويةً قصتها التالية. كانت علبة حذاء الدكتور شول الصفراء موضوعة على المِنضدة وراءها، ولا تزال مليئة بالمغلفات. فباستثناء غريتشن، طالبت النساء العشر بأجمعهنّ تخصيص المال لتعليم فتيي يول ماي.
الفصل العشرون
  كانت عائلة فيلان تنتظر مشدودة الأعصاب عند درج الآجرّ لمنزل السيناتور ويتوورث القائم في شارع نورث ستريت وسط المدينة. إنه منزل مرتفع ذو أعمدة بيضاء تحيط به الشُجيرات دائمة الخضرة، وتؤكد لوحة ذهبية أنه مَعلم تاريخي، وتخفق نار الفوانيس بالرغم من شمس الساعة السادسة الحارّة.
  "يا أمي". قلت هامسة لأنني لم أكن أستطيع الكف عن تكرار ذلك. "رجاءً، رجاءً لا تنسي الأمر الذي تحدّثنا عنه".
  "قلتُ إنني لن أذكره، يا عزيزتي". ولمسَت الدبابيس التي ترفع بها شعرها. "ما لم يكن الأمر مناسباً".
  كنت أرتدي تنورة ذكرى السيدة الزرقاء الفاتحة مع سترة ملائمة، ويرتدي والدي بذلة الجنازة السوداء، وكان حزامه مشدوداً جداً على وسطه ليكون مريحاً لا ليبدو على الموضة، وترتدي والدتي فستاناً أبيض بسيطاً كعروس ريفية، قلت لنفسي، وشعرتُ بالذُعر لأننا ارتدينا كلنا ثياباً مُفرطة في الأناقة، كما لو أن والدتي تعرض للمدّخرات المالية الخاصة بالفتاة القبيحة، وبدَونا كسكان من الريف يزورون المدينة.
  "يا أبي، أرخِ حزامك، هو يشدّ بنطالك نحو الأعلى".
  فنظر إليّ مقطَّب الجبين، ووجّه نظره إلى بنطاله. لم يسبق لي أن قلت لوالدي ما يتعيّن عليه القيام به. وفُتح الباب.
  "مساء الخير". وأومأَت لنا برأسها امرأة ملوّنة البشرة بلباسها الرسمي الأبيض. "إنهم يترقّبون مجيئكم".
  ودخلنا الرَّدهة، وأول شيء رأيته هو الثُريّا الشفافة المتلألئة بالأضواء. ورفعت نظري إلى الالتفافة المجوَّفة للدرَج، وبدا الأمر كما لو أننا داخل صَدَفة ضخمة.
  "مرحباً".
  فوجهتُ نظري إلى الأسفل مشدوهة، وكانت الآنسة ويتوورث تُحدث طقطقةً بحذائها في الرَّدهة، ويداها ممدودتان، وترتدي بذلة مماثلة لبذلتي - والحمد لله - ولكن قرمزيّة اللون. وعندما أومأت برأسها، لم يتحرك شعرها الأشقر المائل إلى اللون الرمادي.
  "مرحباً، يا آنسة ويتوورث، أنا شارلوت بودرو كانتريل فيلان. نشكرك كثيراً لاستقبالنا".
  "يسرّني ذلك". قالت، وصافحت والدَيّ. "أهلاً وسهلاً بكم في منزلنا".
  والتفتت إليّ. "ولا بد من أنك أوجينيا. حسناً، من الجيد أن ألتقيك أخيراً". وأمسكت السيدة ويتوورث بذراعَيّ ونظرت إلى عينَيّ. كانت عيناها زرقاوَين، جميلتَين كالماء البارد، ووجهها أملس حولهما. كانت بطول قامتي تقريباً بكعبي حذائها الحريري.
  "يُسعدني لقاؤك". قلت. "أخبرني ستيوارت الكثير عنك وعن السيناتور ويتوورث".
  فابتسمَت وأنزلت يدها على امتداد ذراعي. فلهثتُ عندما خدشت سنّ من خاتمها بشرتي.
  "ها هي!". ومن وراء السيدة ويتوورث، توجّه نحوي رجل طويل القامة، قويّ البنية، بخطى متثاقلة. فضمّني إليه بقوة وأبعدني عنه بالسرعة نفسها. "لقد طلبتُ من ستو الصغير اصطحاب هذه الشابة إلى المنزل. ولكن بصدق". وخفّض صوته: "لا يزال قليل الخجل".
  ووقفتُ هناك أطرف عينَيّ. "يُسعدني لقاؤك، يا سيدي".
  وضحك السيناتور بصوت مرتفع. "تعرفين أنني لا أزال أمازحك". قال، وعانقني مجدداً بقوة، مربّتاً على ظهري. فابتسمتُ، وحاولتُ التقاط أنفاسي. وذكّرتُ نفسي أنه رجل ليس لديه سوى أبناء.
  والتفتَ إلى والدتي، وانحنى بوقار ومدّ يدَيه.
  "مرحباً، أيها السيناتور ويتوورث"، قالت والدتي. "أنا شارلوت".
  "سُررت بلقائك، يا شارلوت. ناديني ستولي. فكل أصدقائي ينادونني بهذا الاسم".
  "أيها السيناتور". قال والدي، وصافحه بقوة. "نشكرك على كل ما قمتَ به لأجل فاتورة المزرعة تلك. لقد أحدث ذلك فَرقاً كبيراً".
  "تبّاً. حاول بيلابس ذاك التهرّب من الأمر ولكنني قلت له، يا شيكو، إذا لم تكن الميسيسيبي تملك القطن، فهي لا تملك شيئاً".
  وربّت على كتف والدي، ولاحظتُ مدى قِصر قامة والدي بجانبه.
  "ادخلوا جميعكم". قال السيناتور. "لا يمكنني التحدث بالسياسة من دون أن أحمل شراباً بيدي".
  وتوجّه السيناتور بخطى متثاقلة إلى خارج الرَّدهة وتبعه والدي، وشعرتُ بالانقباض لرؤية خط الوحل على حذائه. فلو قام بمسحه مسحة إضافية بواسطة الخِرقة لأزال أي أثر، ولكن والدي لم يعتَد انتعال حذاء جيد يوم السبت.
  وتبعته والدتي، وألقيت نظرة سريعة وأخيرة على الثُريّا المتلألئة. وعندما التفتُّ، رأيتُ الخادمة تحدّق إليّ من الباب. فابتسمتُ لها وأومأَت برأسها. وأومأت برأسها مجدداً، ووجّهَت نظرها نحو الأرض.
  آه، وازدادت عصبيّة مزاجي حدّة عندما أدركتُ ذلك، هي تعلم. فوقفتُ وتسمّرتُ مكاني، مفكرةً في مدى ازدواجية حياتي. قد تحضر إلى منزل آيبيلين وتشرع بإطلاعي على كل ما يتعلق بعملها لدى السيناتور وزوجته.
  "لا يزال ستيوارت في طريق عودته من شريفبورت". صاح السيناتور. "سمعتُ أن هناك كمية كبيرة من النفط هناك".
  لقد حاولتُ عدم التفكير في الخادمة، وأخذتُ نفَساً عميقاً. وابتسمتُ كما لو أن كل شيء يسير على نحو جيد، وكما لو أنني قابلتُ العديد من أهالي أصدقائي من قبل.
  وانتقلنا إلى غرفة الجلوس الرسمية التي تحتوي على حلية معمارية مُقَولبة ومزخرَفة، وأرائك مخملية خضراء، وكانت مليئة بالأثاث لدرجة أنني لم أستطع رؤية الأرض.
  "ما الذي يمكنني تقديمه لكم من شراب؟". قال السيد ويتوورث، مُطلِقاً ابتسامة عريضة كما لو أنه يعرض سكاكر على الأطفال. كان يملك جبيناً عريضاً، وكتفَي خبّاز متمرّس، وحاجبَين كثَّين يهتزان عندما يتكلم.
  فطلب والدي فنجان قهوة، وطلبت ووالدتي شاياً مثلَّجاً. وخبَت ابتسامة السيناتور ونظر إلى الخادمة، طالباً منها إحضار تلك المشروبات الرتيبة والمُملّة. وفي الزاوية، سكب لنفسه ولزوجته شراباً بنّي اللون، وصرفَت الأريكة المخملية عندما جلس.
  "منزلكم جميل جداً. سمعتُ أنه مركز اهتمام سياحي". قالت والدتي. هذا ما كانت تتلهّف والدتي لقوله منذ عرفَت بذلك العشاء. كانت عضوة دائمة في المجلس المحلي التاريخي لمقاطعة ريدجلاند، ولكنها تعتبر السياحة المحلية في جاكسون بمثابة قطن غالي الثمن مقارنةً مع السياحة في ريدجلاند. "هل تفكرون في تعزيز الأهمية السياحية لمنزلكم؟".
  فألقى السيناتور والسيدة ويتوورث نظرةً سريعة على بعضهما بعضاً، وابتسمت السيدة ويتوورث بعد ذلك قائلة: "لقد أخرجناه من لائحة الجولات السياحية هذا العام. لقد... سئمنا ذلك".
  "أخرجتماه من اللائحة! ولكنه أحد المنازل الأكثر أهمية في جاكسون. لقد سمعتُ شيرمان يقول إن المنزل جميل جداً، ولا يجب استثناؤه".
  فأومأت السيدة ويتوورث برأسها فحسب. إنها تصغر والدتي بعشر سنوات، ولكنها بدت أكبر سنّاً منها، لا سيّما وأن وجهها غدا طويلاً وعليه ملامح الوقار المُفرط.
  "لا بد من أنكما تشعران ببعض الالتزام حيال التاريخ...". قالت والدتي، ورمقتُها بنظرة لتقوم بتغيير الموضوع.
  لم يقل أحد شيئاً للحظات، ومن ثم ضحك السيناتور عالياً. "كان هناك نوع من الارتباك". قال بصوت هادر. "فوالدة باتريشا فان ديفندر رئيسة المجلس. لذلك، وبعد كل... ما حدث مع ابننا وابنتها، قررنا إخراجه من جدول الجولات السياحية".
  وألقيتُ نظرة على الباب، داعية لانضمام ستيوارت إلينا في وقت قريب. كانت المرة الثانية التي يُذكَر فيها اسم باتريشا. ورمقت السيدة ويتوورث السيناتور بنظرة مُحبَطة.
  "حسناً، ماذا سنفعل يا فرانسين؟ عدم التحدث عن الأمر مجدداً؟ هناك البناء المُطلّ الذي بنيناه في الفناء الخلفي لأجل الزفاف".
  فأخذت السيدة ويتوورث نفَساً عميقاً، وتذكّرتُ ما قاله لي ستيوارت وهو أن السيناتور لا يعرف إلا جزءاً من موضوع علاقته بباتريشا، ولكن والدته تعرف كل شيء. ولا بد من أن يكون ما تعرفه أكثر سوءاً.
  "يا أوجينيا" قالت السيدة ويتوورث وابتسمَت: "أفهم أن هدفك هو أن تصبحي كاتبة. ما الأمور التي تحبين الكتابة عنها؟".
  وأعدتُ الابتسامة إلى وجهي. ها نحن ننتقل من موضوع مشوّق إلى آخر. "أُعدّ عمود الآنسة ميرنا في صحيفة جورنال جاكسون. هو يصدر كل يوم اثنين".
  "آه، أعتقد أن بيسي تقرأه، أليس كذلك، يا ستولي؟ سأسألها عندما أدخل المطبخ".
  "حسناً، فإذا لم تكن تقرأه، فهي ستبدأ بقراءته". قال السيناتور وضحك.
  "قال ستيوارت إنك تحاولين معالجة موضوعات أكثر جدية. هل هناك موضوع معيَّن؟".
  وتوجّهت كل الأنظار إليّ، بما فيها نظرات الخادمة التي رمقتني بها في أثناء تقديم كوب الشاي إلي. فلم أنظر إلى وجهها، مروَّعة مما قد أراه هناك. "أعمل على... قليل...".
  "تكتب أوجينيا عن أمور دينية". قالت والدتي فجأةً، وتذكّرتُ أحدث كذبة لي لتغطية الليالي التي كنت أمضيها في الخارج.
  "حسناً". قالت السيدة ويتوورث وأومأت برأسها، وقد ترك ذلك انطباعاً جيداً في نفسها كما يبدو: "إنه موضوع يستحق التكريم بالتأكيد".
  فحاولتُ الابتسام، وشعرتُ بالاشمئزاز من صوتي. "الكتابة في الأمور الدينية هامة جداً". ورمقتُ والدتي بنظرة سريعة. لقد ارتسمت على وجهها ابتسامة مُشرقة.
  وأُغلق الباب الأمامي بقوة، متسبّباً برنين كل المصابيح الزجاجية.
  "آسف لتأخري". قال ستيوارت، ودخل بخطوات واسعة وثياب متجعّدة بسبب جلوسه في السيارة، وخلع معطفه الرياضي الكُحلي. فوقفنا جميعاً، ومدّت والدته ذراعَيها إليه، ولكنه توجّه نحوي مباشَرةً، ووضع يدَيه على كتفَيّ وقبّل وجنتي. "آسف". قال هَمساً وتنفّس الصُّعداء، واسترخى أخيراً فانخفض طوله نصف بوصة. فاستدرتُ ورأيتُ والدته تبتسم كما لو أنني انتزعتُ أفضل منشفة ضيوف لديها ومسحتُ يدَيّ القذرتَين بها.
  "اسكب لنفسك كأساً، يا بُنَيّ، اجلس". قال السيناتور. وعندما حصل ستيوارت على شرابه، جلس بجانبي على الأريكة، وأمسك بيدي وضغط عليها ولم يُفلتها.
  وألقت السيدة ويتوورث نظرة سريعة على طريقة إمساكنا بيدَي بعضنا وقالت: "يا شارلوت، لماذا لا أصطحبك وأوجينيا في جولة على أنحاء المنزل؟".
  في الدقائق الخمس عشرة التالية، تبعتُ والدتي والسيدة ويتوورث من غرفة مُعَدّة للفت الانتباه إلى أخرى. ولهثت والدتي لدى رؤية ثقب رصاصة أصلية أحدثها اليانكي في جدار غرفة الاستقبال، وكانت الرصاصة لا تزال مستقرة في الخشب. كانت هناك رسائل لجنود اتحاديين على مكتب فدرالي وُضعت عليه نظارات ومناديل قديمة العهد. فالمنزل هو معلَم أثري للحرب بين الولايات، وتساءلتُ عما كانت عليه حال ستيوارت في أثناء نشأته في منزل لا يمكنك لمس أي شيء فيه.
  وفي الطابق الثالث، انحنت والدتي فوق سرير تعلوه ظُلّة كان روبرت إي لي ينام عليه. وعندما نزلنا أخيراً على درَج سرّي، مررتُ بجانب صور للعائلة في الرُّواق. ورأيت ستيوارت وشقيقَيه عندما كانوا أطفالاً، وستيوارت يحمل كرة حمراء، وتحمله امرأة ملوّنة البشرة ترتدي لباسها الرسمي الأبيض.
  وعبرت والدتي والسيدة ويتوورث الرَّدهة، ولكنني استمررت في النظر بسبب وجود أمر ما محبَّب في وجه ستيوارت عندما كان فتى. كانت وجنتاه سمينتَين، وكانت عينا والدته الزرقاوان تشعّان على غرار عينَيه كما عرفته. كان شعره بلون الهندباء البرّية الصفراء الذي يميل لونها إلى البياض. وفي سن التاسعة أو العاشرة، كان يقف حاملاً بندقية صيد وبطة. وفي سن الخامسة عشرة، كان يقف بجانب أيّل مقتول. كان بهيّ الطلعة، مجعَّد الشعر فدعوت الله ألا يرى ستيوارت أبداً صوري عندما كنت في سنّ المراهقة.
  وتقدّمتُ خطى قليلة ورأيت صورة تخرّجه من المدرسة الثانوية، والصورة التي يظهر فيها فخوراً بلباسه الرسمي في المدرسة الحربية. وفي وسط الجدار، رأيت فسحة مستطيلة الشكل لا يوجد فيها أي إطار، وكان لون ورق الجدران أكثر قتامة بقليل. لقد تمت إزالة صورة ما.
  وسمعتُ ستيورات يقول: "يا أبي، كفانا الحديث عن...". وبدا على صوته التوتّر. وساد الصمت بالسرعة نفسها التي لُفظت بها هذه العبارة.
  "العشاء جاهز". قالت الخادمة، وعدتُ إلى غرفة الجلوس. ودخلنا جميعاً غرفة الطعام وتوجهنا إلى مائدة طويلة وقاتمة اللون. وجلست عائلة فيلان إلى جانب، وعائلة ويتوورث إلى الجانب الآخر، وكنت في الطرف القطري الآخر من ستيوارت على أبعد مسافة ممكنة منه. وفي أنحاء الغرفة، كانت ألواح الكساء الخشبية تحمل رسوماً لمشاهد عن أزمنة ما قبل الحرب الأهلية، ولزنوج سعداء يقطفون القطن، وجِياد تجرّ عربات لنَقل البضائع، ورجال دولة ملتحين على درَجات الكابيتول. وانتظرنا وصول السيناتور الذي كان لا يزال في غرفة الجلوس. "سأكون هناك في الحال، تفضّلوا وابدأوا الطعام". وسمعتُ صوت الثلج، وصوت الزجاجة توضَع مرتَين على الطاولة قبل أن يدخل أخيراً ويجلس على رأس الطاولة.
  وقُدّمت سلَطة والدورف. كان ستيوارت ينظر إليّ كل بضع دقائق ويبتسم. فانحنى السيناتور ويتوورث فوق والدي وقال: "أنا رجل عصامي، كما تعلم، من مقاطعة جيفرسون، ميسيسيبي. كان والدي يجفف الفول السوداني لقاء أحد عشر سنتاً للرطل".
  وهز والدي رأسه. "لم يكن أفقر حالاً من مقاطعة جيفرسون".
  وراقبتُ والدتي تتناول قضمات صغيرة جداً من التفاح، فتتردد، وتمضغ لأطول مدة ممكنة، وتجفل عندما تبتلعها. لم تسمح لي بإطلاع والدَي ستيوارت على المشكلة التي تعاني منها في المعدة، بل سلبَت لُبّ السيدة ويتوورث بإطراءاتها. واعتبرت والدتي ذلك العشاء نقلة هامة في لعبة تدعى هل في استطاعة ابنتي الإيقاع بابنك؟".
  "يستمتع الشابان كثيراً برفقة بعضهما بعضاً". قالت والدتي، وابتسمَت. "يزورنا ستيوارت في منزلنا مرتَين في الأسبوع".
  "هل هذا صحيح؟". قالت السيدة ويتوورث.
  "يُسعدنا أن تقومي والسيناتور بزيارتنا في مزرعة القطن لتناول العشاء، والقيام بنزهة في البستان (orchard)؟".
  ونظرتُ إلى والدتي. فعبارة مزرعة القطن عبارة قديمة العهد تحب استخدامها لإضفاء الرَّونق على كلمة مزرعة، في حين أن كلمة (orchard) تعني شجرة تفاح غير مثمرة، شجرة إجّاص تعاني من مشكلة الديدان.
  ولكن فم السيدة ويتوورث تصلّب. "تزورهم مرتَين في الأسبوع؟ يا ستيوارت، لم أكن أملك أي فكرة عن قدومك إلى المدينة بشكل متكرر".
  وتوقفت شوكة ستيوارت في الهواء، ورمق والدته بنظرة خجولة.
  "لا تزالان صغيرَي السنّ". قالت السيدة ويتوورث، وابتسمَت. "استمتعا بحياتكما. لا حاجة إلى أخذ الأمور بجدية بهذه السرعة".
  وأسند السيناتور مِرفقَيه إلى الطاولة. "هل نسيتَ المرأة التي كانت على عجَلة من أمرها للزواج".
  "يا أبي". قال ستيوارت، صارفاً أسنانه وضارباً شوكته بالطبق.
  وساد الهدوءُ باستثناء قيام والدتي بالمضغ بطريقة مُتقَنة ومنهجية، محاوِلةً تحويل الطعام الصلب إلى عجينة. ولمستُ الخدش الذي كان لا يزال زهريّ اللون على امتداد ذراعي.
  ووضعت الخادمة الدجاج المضغوط في أطباقنا، وأضافت فوقه كمية من صلصة المايونيز، وابتسمنا جميعاً، فرحين بتبدّل المزاج. وفي أثناء تناولنا الطعام، كان والدي والسيناتور يتحدثان عن أسعار القطن وسوسة جوزة القطن. لقد شعرت بالغضب يظهر على وجه ستيوارت منذ أن ذكر السيناتور باتريشا، وكنت أرمقه بنظرة سريعة كل بضع ثوانٍ، ولكن غضبه لم يخفّ كما يبدو. فتساءلتُ عما إذا كان هذا الأمر هو نفسه الذي تجادلا في شأنه من قبل عندما كنت في الرَّدهة.
  وأسند السيناتور ظهره إلى الكرسي. "هل رأيت تلك المقالة في مجلة لايف ماغازين؟ التي سبقت حادثة مقتل ميدغار إيفرز، وتناولت ذلك الشخص كارل... روبرتس؟".
  فرفعتُ نظري وتفاجأتُ بقيام السيناتور بتوجيه ذلك السؤال إليّ. فطرفتُ عينَيّ، مُربَكة، آملةً في أن يكون عملي في الصحيفة سبباً لطرحه. "لقد... لقد أُعدم بلا محاكمة لأنه قال عن الحاكم إنه...". وتوقفتُ ليس لأنني نسيتُ الكلمات بل لأنني تذكرتها.
  "مثير للشفقة". قال السيناتور، واستدار نحو والدي: "ومتخلّق بأخلاق البغايا".
  وزفرتُ، شاعرةً بالارتياح لأن الأنظار رُفعت عني. فنظرتُ إلى ستيوارت لتخمين رد فعله حيال ذلك الأمر. لم يسبق لي أن سألته عن موقفه من الحقوق المدنية، ولكنني لم أكن أعتقد أنه يُصغي إلى المحادثة. لقد ظهر الغضب حول فمه.
  وتنحنح والدي قائلاً: "سأكون صادقاً". قال ببطء: "لقد شعرت بالغثيان عندما سمعت بحدوث ذلك النوع من القسوة". ووضع شوكته بهدوء. فنظر السيناتور ويتوورث إلى عينَيه وتابع: "لديّ خمسة وعشرون زنجياً يعملون في حقولي، وإذا قام شخص ما بوضع يده على أحدهم أو على أي فرد من عائلاتهم...". وتسمّر نظر والدي، ومن ثم أنزل عينَيه. "أشعر بالخجل أحياناً، أيها السيناتور. أشعر بالخجل مما يحدث في الميسيسيبي".
  كانت والدتي تنظر إلى والدي بعينَين واسعتَين. وصُدمتُ بسبب سماع ذلك الرأي، وكانت صدمتي أكبر لأنه عبّر عن رأيه لسياسي على تلك المائدة. ففي المنزل، تُطوى الصحف بحيث تكون الصور نحو الأسفل، ويُطفأ التلفاز عندما يتم التطرق إلى موضوع العِرقية. لقد شعرتُ فجأةً بفخر كبير بوالدي لعدة أسباب، وأقسم إنني رأيتُ للحظات ذلك الانطباع في عينَيّ والدتي يخفيه قلقها من أن يكون والدي قد أفسد مستقبلي. فنظرتُ إلى ستيوارت الذي بدا القلق على وجهه.
  ونظر السيناتور إلى والدي، مضيّقاً عينَيه.
  "أقول لك أمراً، يا كارلتون". قال السيناتور، وهزهز قِطع الثلج في كأسه. "يا بيسي، أحضري لي كأساً أخرى، لو سمحتِ". وسلّم كأسه للخادمة، وعادت بسرعة مع كأس مليئة.
  "من الحكمة ألا نقول كلمات مماثلة عن حاكمنا". قال السيناتور.
  "أوافقك الرأي مئة بالمئة". قال والدي.
  "ولكن السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي مؤخراً هو، هل هي كلمات حقيقية؟".
  "يا ستولي". قالت السيدة ويتوورث، مُهسهسة. ولكنها ابتسمَت على الفَور وجلسَت بشكل قويم. "يا ستولي". قالت كما لو أنها تتحدث إلى طفل، "لا يريد ضيوفنا الدخول في جدال سياسي في أثناء...".
  "يا فرانسين، دعيني أعبّر عن رأيي بصراحة. الله يعلم أنني لا أستطيع القيام بذلك بين التاسعة والخامسة. لذلك، دعيني أعبّر عن رأيي بصراحة في منزلي".
  ولم ترتعش ابتسامة السيدة ويتوورث، ولكن لوناً زهرياً خفيفاً علا وجنتَيها. وتأمّلَت ورود الفلورادورا البيضاء الموجودة وسط المائدة. وحدّق ستيوارت إلى طبقه، وعلى وجهه ملامح الغضب نفسها كما في السابق. لم ينظر إليّ منذ تقديم الدجاج. ولزم الجميع الهدوء، وقام أحدهم بعد ذلك بتغيير موضوع النقاش، متناولاً حالة الطقس.
  بعد انتهاء العشاء أخيراً، طُلب منا الانتقال إلى الرُّواق الخارجي الخلفي لتناول مشروب وقهوة ما بعد العشاء. وبقيت وستيوارت في الرَّدهة. فلمستُ ذراعه، ولكنه سحبها.
  "كنت أعلم أنه سيفقد رشده".
  "يا ستيوارت، لا بأس". قلت لأنني ظننتُ أنه يتحدث عن سياسة والده. "نمضي كلنا وقتاً ممتعاً".
  ولكن ستيوارت بدأ بالتعرّق وارتسمت على وجهه نظرة قلِقة. "يذكر باتريشا على الدوام، وطوال الليل". قال: "كم مرة يريد ذكرها؟".
  "انسَ الأمر، يا ستيوارت. كل شيء بخير".
  ومرّر يده على شعره، ونظر إلى كل اتجاه من دون النظر إليّ. وبدأتُ أشعر أنه لا يشعر بوجودي، وأدركتُ من ثم ما لاحظتُه طوال الليل، ينظر إليّ ولكنه يفكر... فيها. كانت في كل مكان، في عينَيّ ستيوارت الغاضبتين، على لسانَي السيناتور والسيدة ويتوورث، على الجدار حيث انتُزعت صورتها.
  فقلت له إنني بحاجة إلى دخول الحمّام.
  ورافقني في الرَّدهة. "نلتقي في الرُّواق الخارجي الخلفي". قال من دون أن يبتسم. في الحمّام، حدّقتُ إلى انعكاس صورتي في المرآة، وقلتُ لنفسي إنه سرعان ما تمضي الليلة ويصبح كل شيء بخير عندما نخرج من منزله.
  بعد خروجي من الحمّام، مررتُ بجانب غرفة الجلوس حيث كان السيناتور يسكب كأساً أخرى له. كان يضحك في سرّه، ويربّت على قميصه، وينظر بعد ذلك حَوله للتحقق مما إذا كان هناك من رآه يُريق المشروب على ملابسه. فحاولتُ المرور على أطراف أصابعي أمام مدخل الباب من دون أن يراني.
  "لقد رأيتك!". صاح بينما كنت أنسلّ أمام الباب. فعدتُ ببطء إلى مدخل الباب، وأشرق وجهه قائلاً: "هل أنتِ تائهة؟". وخرج إلى الرّدهة.
  "لا، يا سيدي، كنت... ذاهبة للانضمام إلى الجميع فحسب".
  "تعالَي إلى هنا يا فتاة". ووضع ذراعه حولي، فأحرقَت رائحة الشراب عينَيّ، ورأيتُ الناحية الأمامية من قميصه مُشبَعة بالشراب. "هل تمضين وقتاً ممتعاً؟".
  "أجل يا سيدي. شكراً لك".
  "لا تدعي والدة ستيوارت تخيفك. إنها حمائية، هذا كل شيء".
  "آه لا، كانت... شديدة اللطف، وكل شيء بخير". وألقيتُ نظرة سريعة عبر الرَّدهة حيث كان في استطاعتي سماع أصواتهم.
  فتنهّد، وحدّق بعيداً. "لقد أمضينا عاماً قاسياً مع ستيوارت. أظن أنه أخبرك بما جرى".
  وأومأتُ برأسي، شاعرةً بوخز في بشرتي.
  "آه، كان الوضع سيّئاً". قال: "سيّئاً جداً". وابتسم بعد ذلك. "انظري هنا! انظري من جاء ليُلقي التحية عليك". وحمل كلباً أبيض صغير الحجم، ومدّده على ذراعه كمنشفة كرة مضرب. "قل مرحباً، يا ديكسي". قال مدندناً: "قل مرحباً للآنسة أوجينيا". كان الكلب يقاوم، ومدّ رأسه بكل قوته للابتعاد عن قميصه التي تنبعث منها رائحة كريهة.
  والتفت السيناتور إليّ بنظرة محدّقة خالية من أي تعبير. أظن أنه نسي ما الذي كنت أفعله هناك.
  "كنت متجهة إلى الرُّواق الخارجي الخلفي فحسب". قلت.
  "هيا، تعالَي إلى هنا". وشدّني بمِرفقي بقوة، واقتادني عبر باب مكسوّ بألواح خشبية. فدخلتُ غرفة صغيرة تحتوي على مكتب كبير، ويضيء ضوء أصفر الجدران الخضراء القاتمة بطريقة تثير شعوراً بالغثيان. ودفع الباب ورائي وأغلقه، وشعرت على الفور بتبدّل الهواء وبرُهاب الأماكن المغلَقة.
  "انظري، الجميع يقولون إنني أتكلم كثيراً عندما أتناول القليل من الشراب، ولكن...". ونظر السيناتور إليّ، مضيّقاً عينَيه كما لو أننا متآمران قديمان وقال: "أريد أن أُطلعك على أمر ما".
  وتخلّى الكلب عن كل مقاومة بعد أن هدّأَت رائحة القميص من رَوعه. وشعرتُ فجأةً برغبة شديدة في الذهاب للتحدث إلى ستيوارت كما لو أنني أشعر بفقدانه كلما أمضيت ثانيةً بعيدةً عنه. فتراجعتُ إلى الوراء.
  "أظن يُفترض بي الذهاب والعثور...". وأمسكتُ مِقبض الباب، واثقةً تماماً من تصرّفي الفظ، ولكنني لم أكن قادرة على تحمّل الهواء ورائحة الشراب والسيجار هناك.
  فتنهّد السيناتور، وأومأ برأسه بينما كنت أمسك بالمِقبض. "آه. أنتِ أيضاً". وأسند نفسه إلى المكتب، وقد بدا مُحبَطاً.
  وشرعتُ بفتح الباب، ولكن النظرة التي ارتسمت على وجه السيناتور كانت مماثلة للنظرة التي بدت على وجه ستيوارت عندما وصل إلى الرُّواق الخارجي في منزل والدَي. وشعرتُ أنني لا أملك خياراً آخر، فسألته: "أنا ماذا... يا سيدي؟".
  ونظر السيناتور إلى صورة السيدة ويتوورث الكبيرة والرزينة الموضوعة على جدار مكتبه كما لو أنها تحذير. "أراها في عينيك، هذا كل ما في الأمر". وضحك في سرّه بمرارة. "وها أنا آمل في أنك قد تكونين ربما الشخص الذي يحب الرجل المُسنّ نوعاً ما. أعني، إذا انضممتِ يوماً إلى هذه العائلة المسنّة".
  فنظرتُ إليه، وشعرتُ بوخز في بشرتي بسبب كلماته... انضممتِ إلى هذه العائلة المسنّة.
  "أنا... لا أكرهك، يا سيدي". قلت، وبدّلتُ وقفتي.
  "لا أقصد إقحامك بمشاكلنا، ولكن الأمور كانت صعبة جداً هنا، يا أوجينيا. لقد أعيانا القلق بعد كل تلك الفوضى التي حدثت العام الماضي مع تلك الفتاة". وهز رأسه، ونظر إلى الكأس في يده. "غادر ستيوارت شقته في جاكسون، ونقل كل شيء إلى منزل التخييم في فيكسبرغ".
  "أعلم أنه كان... مستاءً جداً". قلت، ولكنني لم أكن أعرف شيئاً البتة في الحقيقة.
  "الأمر أشبه بالموت. تبّاً، لقد قصدتُه لأراه، وكان جالساً هناك أمام النافذة يكسر جوز البَقّان فحسب، حتى إنه لم يكن يتناولها بل يُخرجها من غلافها ويرميها في سلّة المُهمَلات. لم يتحدث إليّ أو إلى أمه... طوال أشهر".
  وتقوقع ذلك الرجل الضخم على نفسه، وأردت الفرار وطمأنته في الوقت نفسه لأنه بدا مثيراً للشفقة، ولكنه نظر إليّ بعينَيه المُحتقنتَين، وقال: "يبدو الأمر كما لو أنني كنت أعلّمه منذ عشر دقائق تلقيم بندقيته الأولى، واصطياد أول طائر يمام. ولكنه أصبح... مختلفاً منذ حدوث ذلك الأمر مع تلك الفتاة. لا يريد أن يخبرني بأي شيء. أريد أن أعرف فقط، هل ابني بخير؟".
  "أعتقد... أعتقد أنه بخير. ولكن بصدق، لا... أعرف في الواقع". وأشحتُ بنظري. وبدأت أُدرك في أعماقي أنني لا أعرف ستيوارت. فإذا ألحقت تلك الحادثة ضرراً به ولا يستطيع التحدث إليّ عن الأمر، إذاً ماذا أكون بالنسبة إليه؟ أأكون مجرّد لهو، مجرد شيء يجلس بجانبه يمنعه من التفكير في ذاك الذي يمزّقه في الواقع من الداخل؟
  ونظرتُ إلى السيناتور، وحاولتُ التفكير في أمر مريح، أمر قد تقوله لي والدتي. ولكنني كنت وسط سكون كلّي.
  "لأرادت فرانسين سلخ جلدي إن هي عرفت أنني أسألك عن ستيوارت".
  "لا تبالِ، يا سيدي". قلت. "لا أمانع قيامك بذلك".
  وبدا مُرهَقاً من كل شيء، وحاول الابتسام. "شكراً لك، يا عزيزتي. اذهبي وانضمّي إلى ابني. سأنضمّ إليكم جميعاً بعد قليل".
  وفررتُ إلى الرُّواق الخارجي الخلفي، ووقفتُ بجانب ستيوارت. كان البرق يومِض في السماء ويضيء الحدائق للحظات على نحو مخيف، ويسود الظلام الدامس بعد ذلك. ولاح البناء المُطلّ الشبيه بالهيكل العظمي في آخر طريق الحديقة. وشعرتُ بالرغبة في الغثيان بسبب كوب الشاي الذي تناولته بعد العشاء.
  وخرج السيناتور، وبدا صاحياً وأكثر رزانة، ويرتدي قميصاً نظيفة ومكوية مماثلة للتي كان يرتديها. كانت والدتي والسيدة ويتوورث تتمشيان بتأنٍّ، مشيرتَين إلى الوردة النادرة نفسها التي تمدّ عُنُقها فوق الرُّواق. ووضع ستيوارت يده على كتفي. كان أفضل حالاً، ولكن حالي كانت تزداد سوءاً.
  "هل يمكننا...؟". وأشرتُ إلى الداخل فتبعني ستيوارت. وتوقفتُ في الرَّدهة التي تحتوي على الدرَج السرّي.
  "هناك أمور كثيرة لا أعرفها عنك، يا ستيوارت". قلت.
  وأشار إلى جدار الصور ورائي حيث توجد فسحة فارغة. "حسناً، تجدين كل شيء هنا".
  "يا ستيوارت، والدك، أخبرني...". وحاولتُ العثور على العبارة الملائمة.
  فنظر إليّ مضيّقاً عينَيه. "ماذا قال لك؟".
  "كم كان الأمر سيّئاً. كم كان الأمر صعباً عليك". قلت. "مع باتريشا".
  "هو لا يعرف أي شيء. هو لا يعرف واقع الأمور، أو...".
  وأسند ظهره إلى الجدار، وشبك ذراعَيه على نحو متصالب، ورأيت ذلك الغضب القديم والعميق مجدداً في عينَيه المحتقنتَين. كان الغضب يتآكله.
  "يا ستيوارت، ليس عليك أن تخبرني الآن. ولكننا سنُجري يوماً ما حديثاً عن هذا الأمر". لقد أدهشني كم بدوتُ واثقة بنفسي، في حين أنني لم أكن أشعر بهذه الثقة بالتأكيد.
  ونظر إلى عينَيّ بعمق، وهز كتفَيه قائلاً: "لقد أقامت علاقة مع شخص آخر، هناك".
  "شخص... تعرفه؟".
  "لا أحد يعرفه. كان أحد أولئك الطُفيليين الذين يتسكعون في أنحاء المدرسة، مُحرِجاً المدرّسين للقيام بشيء ما حيال قوانين الدمج العنصري. حسناً، لقد قامت بأمر صائب".
  "تعني... كان ناشطاً؟ لإقرار الحقوق المدنية...؟".
  "أجل. الآن بتّ تعرفين".
  "هل كان... ملوّن البشرة؟". وغصصت بسبب التفكير في العواقب، لأن الأمر قد يكون مروِّعاً وكارثياً بالنسبة إليّ أيضاً.
  "لا، لم يكن ملوّن البشرة. كان من حثالة المجتمع. إنه يانكيّ ما من نيويورك، من النوع الذي تشاهدينه على التلفاز، طويل الشعر ويرفع رمز السلام".
  وبحثتُ في عقلي عن السؤال الصحيح الذي يجب طرحه، ولكن لم يكن في استطاعتي التفكير في أي شيء.
  "هل تعرفين ما الذي يثير جنوني أكثر من سواه، يا سكيتر؟ لم أتمكن من تخطي الأمر. لم أتمكن من الصفح عنها. لقد طلبت مني ذلك، وأعربت لي عن مدى أسفها، ولكنني كنت أعرف أن حياة والدي ستتدمّر إذا تسرّب خبر إقامة كنّة السيناتور ويتوورث علاقة حميمة مع ناشط يانكيّ لعين. سيدمّر ذلك حياته المهنيّة". وطقطق أصابعه بحركة غاضبة.
  "ولكن والدك قال عندما كان جالساً إلى المائدة إنه يعتقد أن روس بارنيت مخطئ".
  "تعلمين أنه ليس واقع الحال. لا يهمّ بما يعتقد، بل بما تعتقد الميسيسيبي. سيخوض الانتخابات في الخريف القادم للفوز بمقعد في مجلس الشيوخ الأميركي، ويؤسفني هذا الوضع".
  "إذاً، لقد انفصلت عنها بسبب والدك؟".
  "لا، لقد انفصلتُ عنها بسبب خداعها". ونظر إلى يدَيه، واستطعت رؤية الخجل يتآكله. "ولكنني لم أستعِدها كخطيبة بسبب... والدي".
  "يا ستيوارت، هل... لا تزال تحبها؟". سألتُ، وحاولتُ الابتسام كما لو أنه مجرّد سؤال، عِلماً أنني شعرت بالدم يتدفّق إلى قدمَيّ. لقد شعرتُ كما لو أنه سيُغمى عليّ لدى طرحي هذا السؤال.
  وأرخى بجسده قليلاً على ورق الجدران الذي يحمل نقوشاً ذهبية، ولان صوته.
  "لن تفعلي ذلك أبداً. لن تكذبي بتلك الطريقة. ليس عليّ، ليس على أحد".
  لم تكن لديه فكرة عن عدد الأشخاص الذين أكذب عليهم، ولكن ذلك الأمر لم يكن موضوع النقاش. "أجِبني، يا ستيوارت. هل لا تزال تحبها؟".
  وفرك صُدغيه، ووضع يده على عينيه. لقد ظننتُ أنه يُخفي عينيه.
  "أعتقد أنه يتعيّن علينا الانفصال لبعض الوقت". قال هَمساً.
  فمددتُ يدي لألمسه بشكل لاإرادي، ولكنه عاد إلى الوراء. "أحتاج إلى بعض الوقت، يا سكيتر، إلى البقاء على مسافة منك كما أعتقد. أحتاج إلى الذهاب إلى العمل واستخراج النفط و... واستجماع أفكاري لبعض الوقت".
  وشعرتُ أن فمي انفتح. في الرُّواق الخارجي، سمعت المناداة العذبة لأهلنا. لقد حان وقت المغادرة.
  وتبعتُ ستيوارت إلى الناحية الأمامية من المنزل. وتوقفت عائلة ويتوورث في البَهو اللولبي، في حين توجّهنا ثلاثتنا إلى الباب وخرجنا. وفي ما يشبه تعرّضي لغيبوبة سطحية، سمعتُ الجميع يعدون بتكرار العشاء في منزل فيلان. فألقيتُ تحية الوداع عليهم جميعاً، وشكرتهم، ولكن صوتي بدا غريباً بالنسبة إليّ. ولوّح ستيوارت من أعلى الدرجات وابتسم لي كي يشعر أهلنا أن شيئاً لم يتغيّر.
الفصل الحادي والعشرون
  جلسنا، والدتي ووالدي وأنا، في غرفة الاستجمام نحدّق إلى الصندوق الفضّي المثبَّت على النافذة. كان الصندوق بحجم محرك شاحنة فيه أزرار، ومصنوعاً من الكروم اللماع، ويشعّ منه أمل في يوم جديد. لقد كُتب عليه فيدرز.
  "من هؤلاء الفيدرز على كل حال؟". سألَت والدتي: "من أين يتحدّرون؟".
  "هيا، حرّكي ذراع التدوير، يا شارلوت".
  "آه، لا أستطيع. إنه رطب جداً".
  "يا الله، يا أمي، يقول الطبيب نيل إنك بحاجة إلى ذلك. تنحّي جانباً". وحدّق والداي إليّ. لم يكونا على عِلم أن ستيوارت قطع علاقته بي بعد العشاء في منزل ويتوورث، وأنني أتلهّف لتشغيل تلك الآلة والشعور بالراحة. لقد شعرتُ بحرارة كبيرة في تلك الدقيقة، وبألم كبير، وأنني أشتعل.
  وضغطت الزر على السرعة "1"، فخفت ضوء الثريّا فوقنا. وارتفع صوت الأزيز ببطء كما لو أنه يشق طريقه باتجاه أعلى الهضبة، ورأيت عدداً قليلاً من خُصَل شعر والدتي ترتفع برِفق في الهواء.
  "آه... يا". قالت والدتي وأغمضَتْ عينيها. كانت متعبة كثيراً مؤخّراً وتزداد حالة القرحة لديها سوءاً. لقد قال الطبيب نيل إن المحافظة على برودة المنزل يُشعرها بارتياح أكبر.
  "لم يعمل بعد بكامل طاقته". قلت وانتقلتُ إلى السرعة "2". فازدادت سرعة الهواء، وغدا أكثر برودة. فابتسمنا جميعاً، وتبخّر عرقنا عن جبيننا.
  "حسناً، لنكتشف قدراته". قال والدي، ووضعه على السرعة "3"، وهي الأعلى والأكثر برودة، والوضعية الأكثر روعة، فضحكت والدتي. وفتحنا أفواهنا كما لو أن في استطاعتنا أكل الهواء. ولمعت الأضواء مجدداً، وازداد صوت الأزيز، وانبسطت أساريرنا أكثر فأكثر، ومن ثم توقف كل شيء وساد الظلام.
  "ماذا... حدث؟". قالت والدتي.
  فنظر والدي إلى السقف، وخرج إلى الرّدهة.
  "تبّاً، لقد قطع شيء ما التيار الكهربائي".
  وحرّكت والدتي منديلها كالمروحة قُبالة عنقها. "حسناً، يا الله، كارلتون، اذهب وأصلح العطل".
  طوال ساعة من الزمن، سمعتُ والدي وجيمسو يرفعان وينزلان مفاتيح كهربائية ويصلصلان بالأدوات، ويُسمَع صوت وقع خطواتهما على أرضية الرُّواق الخارجي. وبعد إصلاح العطل واستماعي إلى محاضرة ألقاها والدي كيلا أنتقل مجدداً إلى السرعة "3" وإلا انفجر كل المنزل، راقبتُ ووالدتي تشكّل غشاوة بخارية على النوافذ. وغلب النعاس والدتي وهي على كرسيها الأزرق من طراز كوين آن، وقد رفعت البطانية الخضراء حتى صدرها. فانتظرتُ حتى نامت، مُستمعةً إلى غطيطها الناعم، وناظرةً إلى تغضّن جبينها. وأطفأتُ كل الأضواء، والتلفاز، وكل مِقبس كهربائي في الطابق السفلي، باستثناء البرّاد، متنقّلةً على أطراف أصابعي. ووضعتُ المكيِّف على السرعة "3" بحِرص شديد لأنني كنت أتوق إلى عدم الشعور بشيء. أردتُ تجميد داخلي، وأردت أن يهبّ البرد القارس إلى قلبي.
  فانقطع التيار الكهربائي بعد ثلاث ثوانٍ.
  في الأسبوعين التاليين، انكببتُ على المقابلات. وأبقيتُ آلتي الكاتبة في الرُّواق الخارجي الخلفي، وكنت أعمل في معظم النهار والليل. كانت الأبواب المُنخُلية تُضفي الضبابيّة على مشهد الفناء الأخضر والحقول، وأجد نفسي أحدّق إليها من دون أن أكون موجودة هناك، بل في مطابخ جاكسون القديمة مع الخادمات اللواتي يشعرن بالحرارة والرطوبة بلباسهنّ الرسمي الأبيض، وأشعر بالأجساد النديّة للأطفال البِيض وهم يتنفسون، مستلقين على صدري، وأشعر بما شعرَت به كونستنتين عندما أحضرتني والدتي من المستشفى إلى المنزل وسلّمتني إليها. لقد سمحتُ لذكرياتهنّ الملوّنة بإخراجي من حياتي البائسة.
  "يا سكيتر، لم نرَ ستيوارت منذ أسابيع". قالت والدتي للمرة الثامنة. "أنتما لا تلتقيان، أليس كذلك؟".
  في ذلك الوقت، كنت أعدّ عمود الآنسة ميرنا، وكدت أتخطى بطريقة من الطرائق الموعد المحدّد لتسليمه، وذلك للمرة الأولى في غضون ثلاثة أشهر. "إنه بخير، يا أمي. ليس عليه الاتصال كل دقيقة في اليوم". ولكنني لطّفتُ صوتي، فهي تبدو أكثر نحولاً يوماً بعد يوم، وكانت عظمة التَّرقوة مستدقة الرأس كفيلة بتخفيف حدة غضبي بسبب تعليقاتها. "إنه يسافر، يا أمي، هذا كل ما في الأمر".
  لقد أزالَت هذه الذريعة شكوكها كما يبدو في ذلك الوقت، وقلتُ الشيء نفسه لإليزابيت، وأضفتُ بعض التفاصيل القليلة لهيلي، ضاغطةً على ذراعها لأتمكن من تحمّل ابتسامتها المتسائلة. ولكنني لم أعرف ماذا أخبر نفسي. فستيوارت بحاجة إلى "مسافة"، و"وقت"، كما لو أننا أمام درس في الفيزياء وليس في العلاقات الإنسانية.
  لذلك، وعوضاً عن الشعور بالأسف حيال ذاتي كل دقيقة من اليوم، شغلتُ نفسي بالعمل، والطبع على الآلة الكاتبة، والتعرّق. من كان يعلم أن التعاسة الغامرة ستتسبب بكل تلك الحرارة. وعندما تكون والدتي مستلقية على سريرها، أسحب الكرسي، وأجلس قُبالة مكيّف الهواء، وأحدّق إليه، وقد غدا في تموز/يوليو مزاراً فضّياً. وكنت أجد باسكاغولا تتظاهر برفع الغبار بيد وحمل ضفائر شعرها باليد الأخرى أمام المكيّف. لم يكن ابتكاراً جديداً فحسب لتكييف الهواء، بل إنه حمل كل متجر في المدينة يمتلك مكيِّفاً على وضع لافتة على النافذة تشير إلى ذلك، وإضافة هذه الإشارة إلى إعلاناته، لأن المكيّف حيويّ جداً. فأعددتُ لافتة كرتونية خاصة بمنزل عائلة فيلان تقول المنزل مكيَّف الآن، وعلّقتها بمِقبض الباب الأمامي. فابتسمت والدتي، ولكنها تظاهرت أنها غير مسرورة.
  وفي مساء يندر مرور مثيل له في المنزل، جلست مع والدتي ووالدي إلى مائدة العشاء. ومضغَت والدتي عشاءها. لقد أمضت فترة بعد الظهر مُحاوِلةً منعي من اكتشاف سبب تقيّئها. وضغطت بأصابعها على أنفها كي تخفف من ألم رأسها، وقالت: "كنت أفكر في الخامس والعشرين من الشهر، ألا تعتقدين أن الوقت مُبكر جداً لاستضافتهم في منزلنا؟". وكنت لا أزال أمنع نفسي من إخبارها أنني وستيوارت قطعنا علاقتنا.
  ولكن، استطعت رؤية ذلك على وجهها لأن حالتها ازدادت سوءاً في تلك الليلة. كانت شاحبة الوجه وتحاول الجلوس مدة أطول مما تريد. فأمسكتُ يدها وقلت: "دعيني أتحقق من التاريخ، يا أمي. أنا على ثقة تامة من أن الخامس والعشرين سيكون مناسباً". فابتسمَت للمرة الأولى في ذلك اليوم.
♦  ♦  ♦
  ابتسمت آيبيلين لكدسة الأوراق الموجودة على طاولة مطبخها. كانت بسماكة بوصة واحدة، وتبدو كما لو أنها شيء ما يمكن وضعه على الرف. لقد كانت مُنهكة على غراري بسبب عملها طوال اليوم والعودة بعد ذلك إلى المنزل لإجراء المقابلات في المساء.
  "انظري إلى ذلك". قالت: "ذلك الشيء يكاد يكون كتاباً إلى حد ما".
  فأومأتُ برأسي، وحاولت الابتسام، ولكن، كان هناك الكثير من العمل المتبقّي الذي يجب القيام به. كنا على مشارف شهر آب/أغسطس ولا يزال يتعيّن علينا إجراء خمس مقابلات إضافية، عِلماً أن كانون الثاني/يناير هو موعد تسليم الكتاب. لقد تمكنتُ، بمساعدة آيبيلين، من صياغة، وتشذيب، وترتيب خمسة فصول بما فيها فصل ميني، ولكنها كانت لا تزال بحاجة إلى مزيد من العمل. وشكرت الله لأنني أنجزت القسم المتعلق بآيبيلين والمؤلف من إحدى وعشرين صفحة مكتوبة بأسلوب بسيط وخط جميل.
  هناك العديد من الأسماء المبتكَرة لأشخاص بيض وملوّنين، وكان يصعب أحياناً تذكّرها. وعُرفت آيبيلين منذ البداية بساره روس، واختارت ميني اسم غرترود بلاك لسبب أجهله. واخترت لنفسي اسم أنونيموز (أي مجهول الاسم)، عِلماً أن إلين شتاين لم تكن تعرف ذلك بعد. ونايسفيل، ميسيسيبي، هو اسم مدينتنا لأن لا وجود لهذا الاسم، ولكننا قررنا أن اختيار اسم ولاية حقيقية قد يثير الاهتمام. وبما أن ولاية الميسيسيبي هي الأسوأ، تصوّرنا أنه من الأفضل اختيارها.
  وهبّ نسيم عبر النافذة، ورفرفت الصفحات العُلوية. فوضعنا راحات أيدينا عليها بسرعة للإمساك بها.
  "هل تعتقدين... أنها ستطبعه؟". سألَت آيبيلين: "متى نعرف ذلك؟".
  فحاولتُ الابتسام لآيبيلين، وإظهار بعض الثقة الزائفة بالنفس. "آمل ذلك". قلت بأكبر قدر من البراعة. "لقد بدت مهتمّة بالفكرة وهي... حسناً، المسألة مطروحة على بساط البحث، و...".
  وسمعتُ صوتي يتوقف تدريجياً. لم أكن أعرف إذا كانت السيدة شتاين تريد طبعه أم لا. ولكن، ما أعرفه هو أن مسؤولية المشروع مُلقاة على عاتقي وأرى ذلك في العمل الشاق الذي تقوم به الخادمات، ومدى رغبتهنّ في نشر ذلك الكتاب. كنّ قلقات وينظرن إلى الباب الخلفي كل عشر دقائق، شاعرات بالخوف من الإمساك بهنّ يتحدّثن إليّ، ومن تعرّضهنّ للضرب على غرار حفيد لوفينيا، أو إطلاق النار عليهنّ في الفناء الأمامي على غرار ميدغار إيفرز. فالمجازفة التي يقمن بها هي خير دليل على رغبتهنّ في طباعة الكتاب، وكنّ يُردن ذلك بشدة.
  لقد كففتُ عن الشعور بالحصانة كوني بيضاء البشرة. وكنت أنظر من فوق كتفي أحياناً عندما أقود الشاحنة إلى منزل آيبيلين للتحقق من عدم وجود من يلاحقني. فالشرطي الذي أوقفني منذ أشهر قليلة حملني على التنبّه، لقد أصبحتُ مصدر تهديد لكل عائلة بيضاء في المدينة. وبالرغم من كون العديد من القصص جيدة تشيد بالروابط القائمة بين النساء ملونات البشرة والعائلات، فالقصص السيئة هي التي ستلفت انتباه ذوي البشرة البيضاء، وتجعل دمهم يغلي وقبضاتهم تتمايل. كان يجب علينا إبقاء الأمر سرّياً.
  لقد تأخرتُ عمداً خمس دقائق عن اجتماع الرابطة مساء يوم الخميس، وكان الأول منذ شهر. كانت هيلي على الشاطئ ولا تجرؤ على السماح بعقد الاجتماع من دون حضورها. لقد اكتسبَت سُمرة وباتت جاهزة للقيادة. فرفعَت مِطرقتها كما لو أنها سلاح. وكانت النساء جالسات من حولي يدخنّ ويملن سجائرهن فوق المنافض الزجاجية الموضوعة على الأرض، وكنت أقضم أظافري كي أمتنع عن التدخين، لم أدخّن منذ ستة أيام.
  وبالإضافة إلى عدم وجود سيجارة في يدي، زادت الوجوه المحيطة بي من عصبية مزاجي. لقد رأيت سبع نساء في القاعة على صلة بأشخاص في الكتاب، هذا إن لم يكنّ المعنيات مباشَرةً. وأردت الخروج من هناك والعودة إلى العمل، ولكن مرت ساعتان طويلتان وحارّتان قبل أن تضرب هيلي بمطرقتها أخيراً. لقد بدت مرهقة بسبب سماع صوتها.
  ووقفت النساء واستعدن نشاطهنّ، وخرجت بعضهنّ متلهفات للاعتناء بأزواجهنّ. وتبطأَت اللواتي لديهنّ أطفال يملأون المطبخ من دون أن تكون عاملة المنزل موجودة. فجمعتُ أغراضي بسرعة، آملةً في تجنّب التحدث إلى أحد، ولا سيما إلى هيلي.
  ولكن، قبل أن أتمكن من الفرار، وقع نظر إليزابيت على نظري، ولوّحت لي. لم أكن قد رأيتها منذ أسابيع، ولم أستطع الحؤول دون التحدث إليها. وشعرتُ بالذَّنب لأنني لم أقم بزيارتها. فأمسكَت بالجزء الخلفي من كرسيّها ورفعَت نفسها. كانت في شهرها السادس ومُصابة بدُوار بسبب العقارات المهدّئة الخاصة بالحَمل.
  "كيف تشعرين؟". سألتُ. لم يتغيّر شيء في جسمها باستثناء معدتها الكبيرة والمنتفخة. "هل هناك أي تحسّن؟".
  "يا الله، لا، الأمر رهيب ولا تزال هناك ثلاثة أشهر".
  ولزمنا الهدوء. وتجشّأت إليزابيت بوَهَن ونظرَت إلى ساعتها. أخيراً، التقطت حقيبتها وهمّت بالمغادرة، ولكنها أخذَت بيدي. "لقد سمعتُ". همسَت: "ما جرى بينك وبين ستيوارت. أنا آسفة".
  فوجّهتُ نظري إلى الأسفل. لم تفاجئني معرفتها بالأمر بل الوقت الذي مرّ قبل انتشار الخبر. لم أُخبر أحداً، ولكن ستيوارت هو من قام بذلك كما أعتقد. ففي صباح ذلك اليوم، كان عليّ الكذب على والدتي والقول لها إن أفراد عائلة ويتوورث سيكونون خارج المدينة في الخامس والعشرين من الشهر، وهو الموعد الذي حدّدته والدتي لاستقبالهم في منزلنا.
  "آسفة لأنني لم أخبرك". قلت. "لا أحب التحدث عن الأمر".
  "أفهم ذلك. آه، يُستحسَن بي الذهاب. قد يصاب راليه بسورة غضب بسبب وجوده معها". وألقت نظرة أخيرة على هيلي التي ابتسمَت وأومأَت مُعتذرة.
  فجمعتُ ملاحظاتي بسرعة، وتوجهتُ إلى الباب. وقبل أن أتمكن من الخروج، سمعتُ صوتها.
  "انتظري قليلاً، هلاّ فعلتِ، يا سكيتر؟".
  فتنهّدتُ، واستدرتُ. كانت هيلي ترتدي بذلة البحّار الكحليّة، وهي ملابس ترتدونها في سنّ الخامسة، والثَّنيات عند ردفيها مفتوحة كمِنفاخ الأكورديون. لم يكن في القاعة سوانا.
  "هل يمكننا مناقشة هذا الأمر، رجاءً، يا سيدتي؟". ورفعَت الإصدار الأخير للنشرة الدَّورية، وعرفتُ ما ينتظرني.
  "لا يمكنني البقاء. والدتي مريضة...".
  "لقد طلبتُ منك طباعة مبادرتي منذ خمسة أشهر، وها هو أسبوع آخر يمرّ ولم تتبعي تعليماتي".
  وحدّقتُ إليها، وانتابني غضب شديد. فكل ما حاولتُ كبته طيلة أشهر صعد إلى حلقي وثار.
  "لن أطبع تلك المبادرة".
  فنظرت إليّ من دون القيام بأي حركة. "أريد تلك المبادرة في النشرة الدَّورية قبل موعد الانتخابات". قالت وأشارت إلى السقف: "وإلا قمتُ بما يلزم في الطابق العلوي، يا آنستي".
  "إذا حاولتِ رميي خارج الرابطة، سأتصل بجنفييف فون هابسبورغ بنفسي في مدينة نيويورك". قلت مُهسهِسة لأنني عرفتُ بالصُّدفة أن جنفييف هي المِثال الأعلى لهيلي. كانت الرئيسة الأصغر سنّاً لرابطة وطنية في التاريخ، وربما الشخص الوحيد في هذا العالم الذي تخشاه هيلي. ولكن هيلي لم تجفل.
  "وماذا ستقولين لها، يا سكيتر؟ تقولين لها إنك لا تقومين بعملك؟ تقولين لها إنك تحملين موادّ خاصة بالناشطين المؤيدين للزنوج؟".
  فشعرتُ بغضب شديد لم أتمكن من كبته. "أريد استرجاعها، يا هيلي. لقد أخذتِها وهي ليست لك".
  "لقد أخذتها بالطبع. لا يجدر بك حمل أشياء مماثلة. ماذا لو رآها أحدهم؟".
  "من تكونين لتحدّدي ما الذي أستطيع حمله وما الذي لا أستطيع، هل...".
  "إنه عملي، يا سكيتر! تعرفين جيداً كما أعرف أن الناس لن يشتروا قطعة كعكة واحدة من منظمة تأوي دُعاة للدمج العِرقي!".
  "يا هيلي". لقد أردت أن أسمعها تقول ذلك بنفسها: "لمن تُجمَع كل أموال الكعك تلك على كل حال؟".
  فقلّبت عينيها. "للأطفال المتضوّرين جوعاً في أفريقيا؟".
  وانتظرتها حتى تدرك المغزى، وهو أنها ترسل المال لملوّني البشرة وراء البحار وليس لأولئك الموجودين في المدينة. ولكن فكرة أفضل تبادرت إلى ذهني. "سأتصل بجنفييف على الفور وأُطلعها على مدى ادّعائك الإصلاح".
  ووقفت هيلي بشكل مستقيم. لقد ظننت للوهلة الأولى أنني تمكّنت من التأثير فيها بواسطة هذه الكلمات، ولو قليلاً. ولكنها مرّرت لسانها على شفتيها، وأخذَت نفساً عميقاً.
  "تعلمين، لا عجب في أن يقوم ستيوارت ويتوورث بالتخلي عنك".
  فأبقيتُ فكّي مُطبَقاً كيلا تستطيع رؤية أثر تلك الكلمات في نفسي. ولكنني كنت في صميمي كسلّم ينزلق ببطء. لقد شعرت أن كل ما في داخلي ينزلق على الأرض. "أريد استعادة تلك القوانين". قلت بصوت مرتجف.
  "إذاً، اطبعي المبادرة".
  فاستدرتُ وخرجتُ من الباب. ووضعتُ حقيبتي المدرسية في سيارة الكاديلاك وأشعلتُ سيجارة.
  كان ضوء غرفة نوم والدتي مُطفَأً عندما وصلتُ إلى المنزل، وكنت ممتنَّة. وعبرتُ الرّدهة على أطراف أصابعي باتجاه الرُّواق الخارجي الخلفي، وأغلقتُ الباب الذي يُحدث صريراً بهدوء، وجلستُ أمام آلتي الكاتبة.
  ولكنني لم أتمكن من الطباعة. فحدّقتُ كثيراً إلى المربّعات الرمادية بالغة الصِّغر للباب المُنخُلي، لدرجة أنني انزلقتُ بينها. حينذاك، شعرتُ بشيء ما يُفتَح في صميمي، وغدوتُ مجنونة لا أسمع ذلك الهاتف الصامت المُملّ، ومحاولة تقيّؤ والدتي في المنزل، وصوتها عبر النافذة: "أنا بخير، يا كارلتون، لقد زالت". لقد سمعتُ كل ذلك، ولكنني لم أكن أسمع شيئاً، لا أسمع سوى أزيز قوي في أُذُنَيّ.
  فمددتُ يدي إلى حقيبتي المدرسية، وسحبتُ ورقة مبادرة حمّام هيلي. كانت رخوة ورطبة، وطارت عُثّة كانت على إحدى زوايا الورقة، مخلّفةً وراءها بقعة بنّية من مادة طبشورية يفرزها جناحاها.
  وببطء، وبضربات متعمَّدة، بدأت أطبع النشرة الدَّورية؛ ساره شلبي تتزوج بروبرت بريور، رجاءً، احضروا عَرضاً لملابس الأطفال تقدّمه ماري كاترين سيمبسون، حفل شاي تكريماً لمؤيّدينا المخلصين. وطبعتُ بعد ذلك مبادرة هيلي، ووضعتها في الصفحة الثانية قُبالة صفحة الصور حيث يراها الجميع بالتأكيد بعد النظر إلى أنفسهم في احتفال المرح الصيفي. وكل ما استطعت التفكير فيه في أثناء الطباعة هو، ماذا سيكون رأي كونستنتين بي؟
آيبيلين
الفصل الثاني والعشرون
  "كم أصبح عمرك اليوم، أيتها الفتاة الكبيرة؟".
  كانت ماو موبلي لا تزال على السرير. فرفعَت إصبعَين نعسانتين وقالت، ماو موبلي اثنان".
  "لا، بات عمرنا ثلاث سنوات اليوم!". ورفعتُ إحدى أصابعها، وأنشدتُ ما اعتاد والدي أن يقوله لي في ذكرى مَولدي: "ثلاثة جنود أخرجوا الظَّبية، اثنان قالا توقف، والآخر قال هيا".
  لقد بدأَت بالنوم على سرير فتاة كبيرة منذ إصلاح سرير الأطفال للمولود الجديد. "في العام التالي، ننشد أغنية الجنود الأربعة الذين يبحثون عن طعام".
  وتغضّن أنفها لأنه يجب عليها أن تتذكّر قول "ماو موبلي ثلاثة"، بدلاً من "ماو موبلي اثنان" التي اعتادت قولها. فعندما تكونون صغاراً، يُطرَح عليكم سؤالان، ما اسمك وكم يبلغ عمرك، لذلك يُستحسَن بكم أن تُجيبوا بشكل صحيح.
  "أنا ماو موبلي ثلاثة". قالت. واندفعت خارج السرير، منفوشة الشعر. وظهرت مجدداً تلك البقعة الصلعاء على رأسها التي كنت أراها عندما كانت طفلة صغيرة. لقد اعتدتُ تمشيط بعض الشعر فوقها وإخفاءها لدقائق قليلة، ولكن ليس لمدة طويلة. كانت ماو موبلي نحيلة وتفقد خُصَل شعرها المعقوفة، وفي نهاية النهار، يغدو شعرها قاسياً. لم أكن قلقة في شأن عدم ظُرفها، ولكنني حاولت ترتيب شعرها قدر الإمكان لأجل والدتها.
  "تعالَي إلى المطبخ". قلت: "سنُعِدّ لك فطور ذكرى الميلاد".
  كانت الآنسة ليفولت عند مزيّن الشعر، غير مبالية بوجوب التواجد هناك عند الصباح كي تكون بجانب طفلتها الوحيدة في يوم ذكرى مولدها. ولكن الآنسة ليفولت تُحضر لها ما تريد على الأقل. كانت قد اصطحبتني إلى غرفة نوم الطفلة وأشارت لي بإصبعها إلى علبة كبيرة على الأرض.
  "ألن تكون سعيدة؟". قالت الآنسة ليفولت. "إنها دمية تسير وتتكلم وتبكي أيضاً".
  كانت هناك علبة كبيرة زهرية اللون، منقّطة، مغطاة بالسلّوفان من الأمام، وتحتوي على دُمية طويلة القامة مشابهة لماو موبلي، وتدعى أليسون. لديها شعر أشقر معقوف وعينان زرقاوان، وترتدي فستاناً زهريّ اللون، مزركَشاً. وكلما ظهر إعلان تجاري على المحطة التلفازية، كانت ماو موبلي تركض نحو التلفاز مُمسكةً العلبة من جانبَيها، وتضع وجهها بالقرب من الشاشة وتحدق بجدّية. وبدت الآنسة ليفولت كما لو أنها تريد البكاء على نفسها في أثناء النظر إلى اللعبة. أظن أن والدتها المسنّة البخيلة لم تُحضر لها أبداً ما كانت ترغب في الحصول عليه في صغرها.
  في المطبخ، قمت بإعداد بعض البُرغل من دون إضافة التوابل إليه، ووضعت بعض حلوى الخِطمي على وجهه، وحمّصتُ الوجبة قليلاً، وزيّنتها بعد ذلك بقطع الفراولة.
  كانت الشموع الثلاث الصغيرة وزهرية اللون التي أحضرتها معي من المنزل موجودة في محفظة يدي. فأخرجتُها، وأزلت الورق المشمَّع عنها التي لففتها به كيلا تنثني. وبعد إشعالها، وضعتُها على منصة صغيرة على طاولة اللينوليوم البيضاء الموجودة وسط الغرفة.
  وقلت: "ذكرى ميلاد سعيدة، يا ماو موبلي اثنان!".
  فضحكَت وقالت: "أنا ماو موبلي ثلاثة!".
  "أنت كذلك بالتأكيد! الآن، انفخي الشمعات، يا طفلتي، لأنها وصلت إلى بُرغلك".
  وحدّقَت إلى الشعلات الصغيرة، مبتسمة.
  "انفخيها، أيتها الفتاة الكبيرة".
  ونفخَت، وأطفأتها معاً. وامتصّت البُرغل عن الشمعات وشرعَت بالأكل. بعد قليل، ابتسمَت لي وقالت: "كم عمرك؟".
  "آيبيلين ثلاثة وخمسون".
  واتسعَت عيناها. ربما كان عمري ألف عام.
  "هل... لديك ذكرى ميلاد؟".
  "أجل". وضحكتُ. "إنه أمر يدعو للأسف، ولكنني أقوم بذلك. ذكرى مولدي في الأسبوع القادم". لم أستطع التصديق أنني سأبلغ الرابعة والخمسين من العمر. أين ذهب كل هذا العمر؟
  "هل لديك أطفال؟"، سألَت.
  فضحكتُ قائلة: "لديّ سبعة عشر طفلاً".
  لم تكن قد وصلت بعد إلى العدد سبعة عشر في التعداد، ولكنها علِمت أنه عدد كبير.
  "يكفي هذا العدد لملء المطبخ بكامله". قلت.
  واتسعت عيناها البنّيّتان والكبيرتان. "أين هم الأطفال؟".
  "في مختلف أنحاء المدينة. هم الأطفال الذين اعتنيتُ بهم".
  "لماذا لا يأتون ويلعبون معي؟".
  "لأن معظمهم كبروا. وأصبح للعديد منهم أطفال".
  يا الله، لقد بدت مُربَكة. كانت تتخيّل الأطفال كما لو أنها تحاول عدّهم. وقلت أخيراً: "أنت واحدة منهم، أيضاً. هم الأطفال الذين اعتنيتُ وأعتني بهم".
  فأومأت برأسها، وشبكت يديها على نحو متصالب.
  وشرعتُ بغسل الأطباق. فالعائلة تحتفل في مساء ذلك اليوم بذكرى مولد ماو موبلي، وكان عليّ إعداد الكعكات. سأُعدّ أولاً الكعكة بالفراولة المجلَّدة. فلو كان الأمر مَنوطاً بماو موبلي لأضافت الفراولة إلى كل وجباتها. وأقوم بإعداد الكعكة الأخرى في وقت لاحق.
  "لنُعِدّ كعكة بالشوكولا". كانت الآنسة ليفولت قد قالت لي في اليوم السابق. كانت في شهرها السابع وتحب تناول الشوكولا.
  لم أكن قد خطّطتُ لذلك في الأسبوع السابق، وأحضرتُ كل اللوازم. "أممم-هممم. ما رأيك بالفراولة؟ إنه المفضَّل لدى ماو موبلي كما تعرفين".
  "آه لا، هي تريد الشوكولا. سأقصد المتجر اليوم لإحضار كل ما تحتاجين إليه".
  ففكرتُ في إعداد الكعكتين، وسيكون على ماو موبلي نفخ مجموعتين من الشموع.
  نظّفتُ طبق البُرغل، وقدّمتُ إليها بعض عصير العنب لتشربه. كانت قد أحضرت معها إلى المطبخ دُميتها التي تدعى كلوديا، وهي ذات شعر ملوَّن، ويمكنها إغماض عينيها، وإصدار صوت بكاء مثير للشفقة عندما تُلقى على الأرض.
  "ها هي طفلتك". قلت، وربّتَت على ظهرها كما لو أنها تقوم بتجشئتها، وأومأت برأسها.
  وقالت بعد ذلك: "يا آيبي، أنت والدتي الحقيقية". من دون أن تنظر إليّ. لقد قالت ذلك كما لو أنها تتحدث عن الطقس.
  فركعتُ على الأرض حيث تلعب. "والدتك عند مزيّن الشعر. تعرفين أيتها الطفلة من هي والدتك".
  ولكنها هزّت رأسها، ضامّةً تلك الدُمية إلى صدرها. "أنا طفلتك". قالت.
  "يا ماو موبلي، تعلمين أن ما رويتُه عن أطفالي السبعة عشر مُربِك بالنسبة إليك؟ هم ليسوا حقيقيين. لديّ طفل واحد فقط".
  "أعلم". قالت. "أنا طفلتك الحقيقية. أولئك الأطفال الآخرون مختلَقون".
  لقد أشرفتُ على تربية أطفال شعروا بالإرباك. فأول كلمة خرجت من فم جون غرين دادلي هي أمي وكان ينظر إليّ مباشَرةً. ولكنه بدأ يدعو الجميع، بمن فيهم هو نفسه، أمي، ويدعو أباه أيضاً أمي. لقد قام بذلك لمدة طويلة، ولم يقلق أحد حيال الأمر. ولكننا شعرنا ببعض القلق عندما بدأ يلعب وهو مرتدٍ تنورة شقيقته من طراز جويل تايلر، ويشاهد القناة الخامسة.
  لقد اعتنيتُ بعائلة دادلي لمدة طويلة من الزمن فاقت السنوات الست. كان يصطحبه والده إلى المرأب ويضربه بخرطوم مياه مطاطي، محاولاً إخراج الفتاة من ذلك الفتى من خلال الضرب حتى لم يعد في إمكاني تحمّل الأمر. وعندما أعود إلى المنزل، أعانق تريلور بشدة لدرجة أنه يكاد يختنق. وعندما بدأنا بالعمل على القصص، طرحت الآنسة سكيتر عليّ سؤالاً حول أسوأ يوم أتذكّره في عملي كخادمة. فقلتُ لها إنه اليوم الذي وُلد فيه طفل مَيتاً. ولكنه لم يكن كذلك، بل كل يوم بين عامَي 1941 و1947 عندما كنت أنتظر بجانب الباب المُنخُلي توقف الوالد عن ضرب الفتى. وتمنّيتُ لو أنني أخبرت جون غرين دادلي أنه لن يذهب إلى الجحيم، وأنه ليس غير سوي لأنه يشبه الفتيان. وتمنّيتُ لو أنني ملأتُ أُذنَيه بأمور جيدة كالتي أقولها لماو موبلي. ولكنني كنت ألازم المطبخ بدلاً من ذلك في انتظار بلسمة الجروح التي تَسبّب بها خرطوم المياه.
  عندها، سمعنا الآنسة ليفولت تتوقف في الطريق الخاصة بالمنزل. وشعرتُ ببعض القلق حيال رد فعلها عندما تسمع طفلتها تناديني أمي. وكانت ماو موبلي عصبية المزاج أيضاً، وبدأت يداها تخفقان كالدجاجة. "شههه! لا تخبريها!". قالت. "ستضربني على مؤخرتي".
  كانت ماو موبلي قد تحدثت إلى والدتها عن هذا الشأن، ولكن الآنسة ليفولت لم يُعجبها الأمر.
  وعندما دخلت الآنسة ليفولت مصفَّفة الشعر، لم تُلقِ ماو موبلي التحية عليها، بل عادت إلى غرفتها راكضة كما لو أنها تخشى تمكّن والدتها من سماع ما يدور داخل رأسها.
♦  ♦  ♦
  جرت حفلة ذكرى ميلاد ماو موبلي بشكل جيد، أقلّه وفقاً لما أخبرتني به الآنسة ليفولت في اليوم التالي. وفي صباح يوم الجمعة، دخلتُ المنزل ووجدتُ ثلاثة أرباع كعكة الشوكولا موجودة على المنضدة، ولا أثر لكعكة الفراولة. بعد ظهر ذلك اليوم، مرّت الآنسة سكيتر لتسليم الآنسة ليفولت بعض الأوراق. وبعد قليل، دخلت الآنسة ليفولت الحمّام، متهادية. فانسلّت الآنسة سكيتر إلى المطبخ.
  "هل لا يزال موعدنا قائماً لهذا المساء؟". سألتُ.
  "أجل. سأكون هناك". لم تكن الآنسة سكيتر تبتسم كثيراً منذ ابتعادها والسيد ستيوارت عن بعضهما بعضاً. لقد سمعتُ الآنسة هيلي والآنسة ليفولت تتحدثان كثيراً عن الأمر.
  فأحضرَت الآنسة سكيتر لنفسها زجاجة كوكا - كولا من البرّاد، وتكلّمَت بصوت خفيض. "الليلة، سننهي مقابلة ويني، وسأبدأ بفرز الكتاب في نهاية هذا الأسبوع. ولكنني لن أتمكن من التقاء أحد حتى يوم الخميس. لقد وعدتُ والدتي بإقلالها إلى ناتشيز يوم الاثنين". وضيّقت الآنسة سكيتر عينيها، وهو أمر اعتادت القيام به عندما تفكر في أمر هام. "سأغيب لمدة ثلاثة أيام، اتفقنا؟".
  "حسناً". قلت: "أنت بحاجة إلى استراحة".
  وتوجهَت إلى غرفة الطعام، ولكنها التفتت إلى الوراء وقالت: "تذكّري. أغادر صباح يوم الاثنين وسأغيب لمدة ثلاثة أيام، اتفقنا؟".
  "أجل يا سيدتي". قلت، متسائلةً عن سبب تكرار الأمر مرتين.
  كانت الساعة الثامنة والنصف من صباح يوم الاثنين، ورنّ هاتف الآنسة ليفولت.
  "منزل الآنسة ليفولت...".
  "صِليني بإليزابيت!".
  وذهبتُ لإخبار الآنسة ليفولت. فنزلت عن سريرها، وجرّت قدميها على أرض المطبخ، مرتديةً قميص النوم، وواضعةً لُفافات الشعر، والتقطَت سمّاعة الهاتف. بدا الأمر كما لو أن الآنسة هيلي تستخدم مكبّر صوت وليس هاتفاً. كان في استطاعتي سماع كل كلمة.
  "هلاّ مررتِ بمنزلي؟".
  "ماذا. ما الذي تتحدثين...؟".
  "لقد وضعَت موضوع الحمّامات في النشرة الدَّورية. لقد قلت بالتحديد إنه يجب إيصال الملابس القديمة إلى منزلي وليس...".
  "دعيني أحصل على... بريدي. لا أعرف عما...".
  "عندما أعثر عليها سأقتلها بنفسي".
  وأُقفل الخط بقوة في أُذن الآنسة ليفولت. ووقفَت هناك للحظات تحدّق إلى الهاتف، وارتدت بعد ذلك معطفاً منزلياً فوق قميص نومها. "عليّ الذهاب". قالت، باحثةً عن مفاتيحها. "سأعود".
  فخرجَت من الباب راكضة بالرغم من حملها، وهوَت على مقعد سيارتها، وانطلقَت. ونظرتُ إلى ماو موبلي، ورفعَت نظرها إليّ.
  "لا تسأليني، أيتها الطفلة. لا أعرف كذلك".
  ما كنت على معرفة به هو أن عائلة هيلي قد عادت صباح ذلك اليوم من مِمفيس بعد تمضية نهاية الأسبوع فيها. فكل ما تتحدث عنه الآنسة ليفولت هو المكان الذي قصدته الآنسة هيلي ومتى تعود.
  "هيا، أيتها الطفلة". قلت بعد قليل. "لنقم بنزهة على الأقدام ونكتشف ما الذي يحدث".
  فسلكنا طريق ديفين، واستدرنا إلى اليسار مرتين، وبلغنا شارع ميرتل الذي تقطن فيه الآنسة هيلي. وبالرغم من كوننا في شهر آب/أغسطس، كانت النزهة جميلة لأن الطقس لم يكن شديد الحرارة بعد، والعصافير تطير مسرعةً في الأرجاء، مغرّدة. كانت ماو موبلي تمسك بيدي، فقمنا بأرجحة ذراعَينا، ممضيتين وقتاً جميلاً. لقد مرّت بجانبنا العديد من الهررة في ذلك اليوم، وهو أمر غريب لأن ميرتل شارع غير نافذ.
  وانعطفنا باتجاه منزل الآنسة هيلي الكبير الأبيض، ورأينا المشهد.
  فأشارت ماو موبلي بيدها وضحكت. "انظري. انظري، يا آيبي!".
  لم يسبق لي أن رأيتُ أمراً مماثلاً. كانت هناك العشرات منها، كانت هناك مراحيض من مختلف الألوان والأشكال والأحجام مُلقاة في مرجة الآنسة هيلي، بعضها زرقاء، وبعضها الآخر زهرية اللون، والأخرى بيضاء. كانت هناك القديمة، والجديدة، والمراحيض التي تعلوها سلاسل، ويبدو بعضها كحشد من الناس بأغطيتها المفتوحة كما لو أنهم يتحدثون، وبعضها الآخر بأغطيتها المُقفَلة كما لو أنهم أشخاص يُنصتون.
  وعبرنا فوق قناة تصريف المياه لأن حركة السير بدأت تزداد في ذلك الشارع. كان الناس يدورون حول جزيرة العشب الصغيرة في آخر الطريق ونوافذ سياراتهم مفتوحة، ويضحكون عالياً، قائلين: "انظروا إلى منزل هيلي". "انظروا إلى تلك الأشياء". كانوا يحدّقون إلى المراحيض كما لو أنهم لم يروا مثيلاً لها من قبل.
  "واحد، اثنان، ثلاثة". بدأت ماو موبلي تعدّ. ووصلت في العدد إلى اثنتَي عشرة، وكان يتعيّن عليّ الإكمال. "تسع وعشرون، ثلاثون، واحد وثلاثون، أيتها الطفلة".
  واقتربنا قليلاً، ورأيت المزيد منها على الطريق المؤدية إلى المنزل موضوعة بجانب بعضها بعضاً كما لو أنها أزواج. كان هناك مرحاض عند الدرجة الأمامية كما لو أنه ينتظر قيام الآنسة هيلي بفتح الباب.
  "أليس ذلك الأمر مضحكاً...".
  ولكن الطفلة أفلتت من يدي، وركضَت في الباحة، ووصلَت إلى المرحاض زهريّ اللون في الوسط، ورفعت الغطاء. وأنزلَت بنطالها على غفلة مني وتبوّلَت فيه، فقمتُ بمطاردتها منادية إيّاها، وكان هناك رجل يلتقط الصور.
  كانت سيارة الآنسة ليفولت في الطريق الخاصة بالمنزل وراء سيارة الآنسة هيلي، ولكنهما لم تكونا ظاهرتين للعيان. لا بد من أنهما في الداخل تصيحان في شأن ما الذي ستفعلانه بكل تلك الفوضى. كانت الستائر مُغلَقة، ولم أرَ أي حركة. فعقدتُ أصابعي، آملةً في ألا تُمسكا بالطفلة. وحان وقت العودة.
  في طريق العودة إلى المنزل، كانت الطفلة تطرح أسئلة عن المراحيض. لماذا كانت هناك؟ من أين أتت؟ هل يمكنها الذهاب لرؤية هيذر واللعب معها بالمراحيض؟
  وعندما وصلتُ إلى منزل الآنسة ليفولت، لم أُجب على الهاتف الذي رنّ طوال فترة الصباح. لقد انتظرت توقفه مدة كافية كي أتمكن من الاتصال بميني. ولكن عندما دخلت الآنسة ليفولت المطبخ، بدأَت تتحدث عبر الهاتف بسرعة مليون مايل في الساعة. ولم يتطلّبني الأمر طويلاً لأعرف تفاصيل الحديث الذي يدور.
  لقد طبعت الآنسة سكيتر مشروع الحمّام الخاص بهيلي في النشرة الدَّورية، معدّدة الأسباب التي تمنع ذوي البشرة البيضاء وذوي البشرة الملوّنة من مشاطرة مقعد المرحاض نفسه. وأتبعَت ذلك بتذكير بحملة الملابس أيضاً، أو أقلّه هذا ما كان يُفترض بالآنسة سكيتر القيام به. ولكن بدلاً من ذِكر الملابس، جاء في المشروع ضعوا مراحيضكم القديمة في شارع ميرتل 228. سنكون خارج المدينة، لذلك دعوها أمام الباب.
  لسوء حظ الآنسة هيلي، لم تكن هناك أخبار أخرى متداولة. لا أنباء عن فييتنام، ولا جديد عن المسيرة الكبيرة المتوقَّعة في واشنطن برفقة المبجَّل كينغ. وفي اليوم التالي، تصدّرت صورة منزل الآنسة هيلي مع المراحيض الموجودة أمامه الصفحة الأولى في جاكسون جورنال. كان مشهداً مُضحكاً، وتمنّيتُ لو كان ملوّناً لتتمكنوا من رؤية الألوان الزهريّة والزرقاء والبيضاء. كان يُفترض بهم دعوة هذه الحالة إلغاء التفرقة العنصرية بين المراحيض.
  وجاء في العنوان الرئيس، تفضّلوا واجلسوا! لم تكن هناك أي مقالة مُرفَقة بالصورة والتعليق القائل، كان منزل هيلي ووليام هولبروك، من جاكسون، مشهداً جديراً بالمشاهدة صباح اليوم.
  لا أعني أن جاكسون فقط لم تكن تشهد أحداثاً، بل الولايات المتحدة بأكملها. لقد أخبرتني لوتي فريمن التي تعمل في منزل الحاكم الكبير حيث تصل إليه كل الصحف الكبيرة أنها رأت الخبر في ذي نيويورك تايمز في قسم كسب العيش. وجاء في كل من الصحف، منزل هيلي ووليام هولبروك، جاكسون، ميسيسيبي.
  في منزل الآنسة ليفولت، كان هناك الكثير من الأحاديث عبر الهاتف في ذلك الأسبوع، وإيماءات كثيرة بالرأس عندما تسمع الآنسة ليفولت تذمّر الآنسة هيلي. لقد قامت الآنسة سكيتر التي عادت مساء ذلك اليوم من ناتشيز بمجازفة كبيرة لأنها أثارت الآنسة هيلي ضدها. وأملتُ في أن تقوم بالاتصال بي. لقد عرفتُ كما أعتقد سبب مغادرتها.
  في صباح يوم الخميس، لم يكن قد بلغني بعد أي خبر عن الآنسة سكيتر. وشرعتُ بالكيّ في غرفة الجلوس. وعادت الآنسة ليفولت مع الآنسة هيلي وجلستا إلى مائدة غرفة الطعام. لم أرَ الآنسة هيلي هناك منذ ما قبل حادثة المراحيض، فافترضتُ أنها لم تغادر المنزل كثيراً. وشغّلتُ التلفاز وأخفضت صوته، وأصغيتُ.
  "ها هو. هذا الذي أخبرتك عنه". وفتحت الآنسة هيلي الكتيّب، ومرّرت إصبعها على السطور. كانت الآنسة ليفولت تهز رأسها.
  "تعرفين ما يعني ذلك، أليس كذلك؟ تريد تغيير هذه القوانين. لماذا تحمله إذاً، إن لم تكن تريد ذلك؟".
  "لا أستطيع التصديق". قالت الآنسة ليفولت.
  "لا يمكنني أن أُثبت أنها وضعت تلك المراحيض في باحة منزلي. ولكنه". وحملَت الكتيب وربّتت عليه وتابعت: "دليل دامغ على أنها تُعِدّ لأمر ما، وأنوي إطلاع ستيوارت ويتوورث على ذلك أيضاً".
  "ولكنهما انفصلا".
  "حسناً، يجب إعلامه بالأمر تحسّباً لوجود أي رغبة لديه في إعادة علاقته بها، ودرءاً لما قد يُلحق ذلك من أذى بمهنة السيناتور ويتوورث".
  "ولكن، ربما حدث خطأ ما، في النشرة الدَّورية. ربما لم...".
  "يا إليزابيت". قالت هيلي وشبكت ذراعيها على نحو متصالب. "لا أتحدث عن المراحيض. أتحدث عن قوانين هذه الولاية العظيمة. أريدك أن تسألي نفسك، هل تريدين أن تجلس ماو موبلي بجانب فتى ملوّن البشرة في صف اللغة الإنكليزية؟". والتفتت هيلي إلى الوراء وألقت نظرة سريعة عليّ في أثناء قيامي بالكيّ. لقد أخفضت صوتها، ولكنها لم تُجد أبداً الهمس. "هل تريدين من الزنوج أن يُقيموا في هذا الحيّ؟ وأن يلمسُوا مؤخرتك عندما تمرّين في الشارع؟".
  فرفعتُ نظري ووجدتُ أن الآنسة ليفولت بدأت تُدرك الأمر جيداً. وجلَست هيلي بشكل قويم.
  "لقد أُصيب وليام بسَورة غضب عندما رأى ما الذي فعلَته بمنزلنا، ولم يعد في إمكاني التواجد معها تحسّباً لتشويه سمعتي، لا سيّما وأن الانتخابات وشيكة. لقد طلبتُ من جاني كالدويل الحلول مكان سكيتر في نادي البريدج".
  "لقد طردتها من نادي البريدج؟".
  "بالتأكيد، وأفكر في طردها من الرابطة أيضاً".
  "هل في استطاعتك القيام بذلك؟".
  "بالطبع أستطيع. ولكنني قررت إجلاسها في تلك القاعة لتتيقّن غباوة أعمالها". وأومأت الآنسة هيلي برأسها. "يجب أن تعلم أنه ليس في استطاعتها الاستمرار على هذا النحو. أعني أنها ستواجه مشكلة كبيرة مع الآخرين".
  "صحيح، هناك بعض العنصريين في هذه المدينة". قالت الآنسة ليفولت.
  وبعد قليل، نهضتا وانطلقتا بالسيارة. كنت مسرورة لأنني لن أرى وجهيهما لمدة قصيرة من الزمن.
  عند الظهر، عاد السيد ليفولت إلى المنزل لتناول الغداء، وكان أمراً نادر الحدوث. فجلس إلى طاولة الفطور الصغيرة. "يا آيبيلين، أعدّي لي بعض الطعام من فضلك". ورفع الصحيفة، وقوّم عموده الفقري. "سأتناول لحم بقر مشويّاً".
  "أجل يا سيدي". ووضعتُ أمامه طبقاً، وفوطة مائدة، وأواني طعام فضيّة. كان طويل القامة، نحيلاً، ولن يمر وقت طويل حتى يصبح أصلع بالكامل، لديه حلقة سوداء حول رأسه.
  "هل تبقين هنا مدة إضافية من الوقت لمساعدة إليزابيت بالطفل الجديد؟". سأل بينما كان يطالع صحيفته. لم يكن يكترث لي بصورة عامة.
  "أجل يا سيدي". قلت.
  "لأنني سمعتُ أنك تتنقلين كثيراً".
  "أجل يا سيدي". قلت. هذا صحيح، فمعظم الخادمات يقمن لدى العائلة نفسها طوال حياتهنّ، ولكن ليس أنا. فقد كانت لديّ أسبابي الخاصة للانتقال عندما يصبح الأطفال في سنّ الثامنة أو التاسعة. لقد تطلّبني الأمر العمل لدى عدد قليل من العائلات قبل أن أعي ذلك. "أعمل بشكل أفضل مع الأطفال".
  "إذاً، أنت لا تعتبرين نفسك خادمة بل أشبه بحاضنة أطفال". ووضع صحيفته على الطاولة، ونظر إليّ. "أنت متخصصة على غراري".
  فلم أقل شيئاً، وأومأت برأسي فحسب.
  "أنا أتولى احتساب الضرائب للشركات، وقليلون هم الذين يقومون بذلك".
  وشعرتُ بتوتر. كانت المرة الأولى منذ وجودي هناك التي يوجّه فيها إليّ هذا القدر من الكلام.
  "لا بد من أن العثور على عمل جديد كلما بلغ الأطفال سنّاً تسمح لهم بارتياد المدرسة هو أمر صعب".
  "كنت أجد عملاً آخر على الدوام".
  ولم يقل شيئاً، لذلك أكملتُ عملي وأخرجتُ اللحم المشويّ من جهاز الطهو.
  "لا بد من أنك تتمتعين بالمؤهّلات بسبب استمرارك في الانتقال من منزل إلى آخر".
  "أجل يا سيدي".
  "بلغني أنك على معرفة بسكيتر فيلان. إنها صديقة قديمة لإليزابيت".
  فأبقيتُ رأسي منخفضاً، وشرعتُ بقطع اللحم إلى شرائح ببطء شديد. كان قلبي يخفق بسرعة مضاعَفة.
  "تطرح عليّ أحياناً أسئلة عن أعمال التنظيف لأجل المقالة".
  "هل هذا كل شيء؟". قال السيد ليفولت.
  "أجل يا سيدي. تطلب مني بعض المعلومات".
  "لا أريدك أن تتحدثي إلى تلك المرأة بعد الآن، لا لأجل معلومات، ولا حتى لإلقاء التحية عليها، هل تسمعين؟".
  "أجل يا سيدي".
  "بلغني أنكما تتحدثان وستواجهين متاعب جمّة. هل فهمتِ؟".
  "أجل يا سيدي". أجبتُ هَمساً، وتساءلت عما يعرفه ذلك الرجل.
  والتقط السيد ليفولت صحيفته مجدداً. "سأتناول ذلك اللحم في شطيرة. ضعي بعض المايونيز عليها ولا تحمّصيها كثيراً، لا أريدها جافة كثيراً".
  في ذلك المساء، كنت وميني جالستين إلى طاولة المطبخ. كانت يداي لا تزالان ترتجفان منذ بعد ظهر ذلك اليوم.
  "ذلك الأحمق القبيح أبيض البشرة". قالت ميني.
  "تمنّيتُ معرفة ما الذي يدور في خُلده".
  وقُرع الباب الخلفي، فنظرت وميني إلى إحدانا الأخرى. هناك شخص واحد فقط يقرع بابي على هذا النحو، أما الباقيات فيدخلن من دون استئذان. ففتحته ووجدت الآنسة سكيتر. "ميني هنا". همستُ لأنه من الأفضل دائماً أن تعرفوا بوجود ميني في الغرفة التي تدخلونها.
  كنت سعيدة بحضورها بسبب وجود كثير من الأمور التي يتعيّن عليّ إطلاعها عليها، ولم أعرف من أين أبدأ. ولكنني تفاجأتُ بوجود شيء ما أشبه بالابتسامة على وجهها. لقد افترضتُ أنها لم تتحدث إلى الآنسة هيلي بعد.
  "مرحباً، يا ميني". قالت عندما دخلَت.
  ونظرت ميني عبر النافذة. "مرحباً، يا آنسة سكيتر".
  وقبل أن أتمكن من التفوّه بأي كلمة، جلست الآنسة سكيتر وقالت: "تبادرت بعض الأفكار إلى ذهني عندما كنت خارج المدينة. يا آيبيلين، أعتقد أنه يُفترض بنا استهلال الكتاب بفصلك". وسحبَت بعض الأوراق من تلك الحقيبة المدرسية الحمراء الرثّة. "وسنبدّل بعد ذلك قصة لوفينيا بقصة فاي بيل لأننا لا نريد ثلاث قصص مأساوية متتالية. وسنختار في وقت لاحق القصة التي نضعها بينهما، ولكن يا ميني، أظن أنه يُفترض وضع قصتك في نهاية الكتاب".
  "يا آنسة سكيتر... لدي ما أُخبرك به". قلت.
  فنظرت وميني إلى بعضنا بعضاً. "أنا ذاهبة". قالت ميني مقطَّبَة الجبين كما لو أنه بات من الصعب عليها الجلوس على كرسيّها. وتوجهت إلى الباب، ولمست كتف الآنسة سكيتر بسرعة كبيرة، مُبقيةً نظرها إلى الأمام كما لو أنها لم تقُم بذلك، وغادرَت.
  "كنتِ خارج المدينة لمدة قصيرة، يا آنسة سكيتر". وفركتُ الجزء الخلفي من عُنُقي.
  وأخبرتها بعد ذلك أن الآنسة هيلي أخرجت ذلك الكتيّب وأرَته للآنسة ليفولت، والله يعلم ما الذي أشاعته في المدينة.
  فأومأت الآنسة سكيتر برأسها، وقالت: "يمكنني التعاطي مع هيلي. هذا الأمر لا يعنيكِ، ولا يعني الخادمات الأخريات، ولا الكتيب".
  وأخبرتها بعد ذلك بما قاله السيد ليفولت، وكيف أوضح لي أنه لا يجب عليّ التحدث إليها أبداً عن مقالة التنظيف. لم أشأ إطلاعها على تلك الأمور، ولكنها كانت ستعرفها من شخص آخر وأردتها أن تسمعها مني أولاً.
  فأصغت بانتباه، وطرحَت بعض الأسئلة. وعندما انتهيتُ، قالت: "يتفوّه راليه بالكثير من الكلام الفارغ. مع ذلك، عليّ التزام مزيد من الحذَر عندما أقصد منزل إليزابيت. لن أدخل إلى المطبخ أبداً". يمكنني القول إن ذلك الأمر لم يؤثّر فيها، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في ما ستواجهه مع صديقاتها، ومدى خوفنا مما يجري. فأخبرتُها بما قالته الآنسة هيلي عن رغبتها في وضعها في مواجهة مع عضوات الرابطة، وفي طردها من نادي البريدج، وأخبرتها أن الآنسة هيلي ستُطلع السيد ستيوارت على كل شيء تحسّباً لوجود أي مَيل لديه إلى إعادة العلاقة بينهما.
  وأشاحت سكيتر بنظرها عني، وحاولَت الابتسام. "لا يهمّني أمر أي من هؤلاء، على كل حال". وأطلقَت ما يشبه الضحكة، وآلمني ذلك في الصميم.
  "لقد... فضّلتُ أن تسمعي هذه الأمور مني على أن تعرفيها من أشخاص آخرين في المدينة". قلت: "أنت تعرفين ما الذي سيحدث ويمكنك التزام الحذر الشديد".
  فعضّت شفتها، وأومأَت برأسها وقالت: "شكراً لك، يا آيبيلين".
الفصل الثالث والعشرون
  كان الصيف الحار يمضي، وتابع كل شخص ملوّن البشرة في جاكسون البرامج المتوافرة على شاشة التلفاز، كالبرنامج الذي ظهر فيه مارتن لوثر كينغ واقفاً في عاصمة بلدنا ويخبرنا أن لديه حلُماً كبيراً. كنت في الطابق السفلي لدار العبادة أشاهد التلفاز، وكان المبجّل جونسون مشاركاً في المسيرة. فوجدت نفسي أمسح وجوه الحشود بنظري، بحثاً عن وجهه. لم أستطع تصديق وجود ذلك الكمّ الكبير من الناس، كان هناك مئتان وخمسون ألف شخص، ستة آلاف منهم بِيض البشرة.
  "الميسيسيبي والعالم مكانان مختلفان جداً". قال مدبّر أعمال دار العبادة الخاصة بنا، وأومأنا كلنا برؤوسنا لأنها الحقيقة.
  وحلّ شهر أيلول/سبتمبر، وحدث انفجار مدمّر في دار عبادة ببرمينغهام كانت فيها أربع فتيات ملوّنات البشرة. لقد أزال ذلك الحادث كل ابتسامة عن وجوهنا بسرعة كبيرة. يا الله، لقد ذرفنا الدموع كما لو أن الحياة غير قابلة للاستمرار. آه، ولكنها تستمر.
  وكلما رأيت الآنسة سكيتر، بدت لي أكثر نحولاً مع مزيد من السرور في عينيها. كانت تحاول الابتسام كما لو أن فقدان كل صديقاتها ليس بتلك الصعوبة.
  في شهر تشرين الأول/أكتوبر، جلست الآنسة هيلي إلى مائدة الآنسة ليفولت في غرفة الطعام. كانت الآنسة ليفولت قد بلغت مرحلةً من الحمل جعلتها عاجزة تقريباً عن تركيز نظرها. في غضون ذلك، كانت الآنسة هيلي تضع قطعة فِراء كبيرة حول عُنُقها بالرغم من بلوغ الحرارة في الخارج ستين درجة. فأخرجَت المغلف زهري اللون من كوب الشاي وقالت: "ظنت سكيتر أنها شديدة الذكاء برمي كل تلك المراحيض في باحة منزلي الأمامية. حسناً، كل شيء يسير بشكل جيد حتى الآن. لقد وضعنا ثلاثة منها في مرائب وأكواخ، حتى إن وليام قال إنها نعمة مموَّهة".
  لم أكن أريد إخبار الآنسة سكيتر بالأمر كيلا تدرك أنها دعمت من دون أن تدري القضية التي تحاربها. ولكن إخفائي الأمر عنها لم يكن ذا أهمية لأنني سمعت الآنسة هيلي تقول: "قررت ليلة أمس إرسال كلمة شكر إلى سكيتر أخبرها فيها كيف أنها ساعدت على تنفيذ المشروع بسرعة أكبر مما كان متوقَّعاً له".
  بانشغال الآنسة ليفولت كثيراً بإعداد الملابس للطفل الجديد، أمضينا، ماو موبلي وأنا، كل دقيقة من اليوم معاً. لقد بدت كبيرة جداً بالنسبة إليّ لأقوم بحملها على الدوام، ربما أصبحت متقدّمة جداً في السن. وكنت أعانقها بشدة عوضاً عن ذلك.
  "تعالَي وأخبريني قصتي السرّية". قالت همساً، وبابتسامة كبيرة. كانت تريد على الدوام سماع قصتها السرّية بعد دخولي المنزل مباشرةً، وقبل القيام بأي شيء. كنت أقوم بابتكار تلك القصص السرّية.
  ولكن الآنسة ليفولت دخلت ممسكة حقيبة يدها، ومستعدّة للمغادرة. "يا ماو موبلي، سأغادر الآن. تعالَي وعانقي أمك".
  ولكن ماو موبلي لم تتحرك من مكانها.
  فوضعت الآنسة ليفولت يدها على وركها، منتظرةً ابنتها. "هيا، يا ماو موبلي". همستُ. فدفعتُها برِفق، وذهبَت لمعانقة والدتها بشدة كما لو أنها متلهّفة للقيام بذلك، ولكن الآنسة ليفولت كانت تنظر إلى حقيبة يدها بحثاً عن المفاتيح. ولم يُزعج ذلك الأمر ماو موبلي كثيراً كما لو أنها اعتادت الأمر، وهو ما كنت أجد صعوبة في تقبّله.
  "هيا، يا آيبي". قالت ماو موبلي بعد ذهاب والدتها. "حان وقت قصتي السرّية".
  ودخلنا غرفتها حيث كنا نحب الاختلاء بنفسينا. فجلستُ على الكرسي الكبير، واعتلت حضني وابتسمَت. "أخبريني، أخبريني قصة ورقة التغليف البنّية والهدية". لقد شعرَت بإثارة شديدة لدرجة أنها كانت تتلوّى في مكانها، وتقفز عن حضني تعبيراً عن تلك الإثارة، وتزحف مجدداً إلى حضني.
  كانت قصتها المفضَّلة لأنها تحصل على هديّتَين عندما أخبرها بها. كنت أُخرج ورقة التغليف البنية من كيس بقالة بيغلي ويغلي وألف بها شيئاً صغيراً، كقطعة حلوى مثلاً. وألتقط بعد ذلك الورقة البيضاء من كيس صيدلية كول، وألف بها قطعة حلوى أخرى. كانت تنظر بجدّية إلى عملية فضّ الغطاء والورقة، حاملةً إيّاي على إخبار القصة التي تفيد أن ما يهمّ هو ما يوجد داخل الغطاء وليس لون الغطاء نفسه.
  "سأخبرك قصة أخرى اليوم". قلت، ولكنني أصغيتُ قبل ذلك للتأكد من عدم عودة الآنسة ليفولت إلى المنزل بسبب نسيان شيء ما. علينا توقّي الحذر.
  "سأروي لك اليوم قصة رجل من الفضاء الخارجي". كانت تحب سماع قصص عن أشخاص من الفضاء الخارجي، وبرنامج رجل المرّيخ المفضَّل لدي هو برنامجها المفضَّل على التلفاز. فأخرجتُ هوائياتي التي كنت قد صنعتها في الليلة السابقة من صفائح قصديرية، وربطتُها برأسينا. لقد بدَونا كمجنونتين بهذه الأشياء.
  "ذات يوم، نزل رجل حكيم من سكان المريخ (Martian) إلى الأرض لتعليم الناس أمراً واحداً أو أمرَين". قلت.
  "من سكان المريخ؟ كم يبلغ طوله؟".
  "آه، هو بطول اثنتين وستين قدماً".
  "ما اسمه؟".
  "مارشان لوثر كينغ".
  فأخذَت نفَساً عميقاً وأحنت رأسها على كتفي. وسمعتُ قلبها البالغ من العمر ثلاث سنوات يسابق قلبي، خافقاً كالفراشات على لباسي الرسمي الأبيض.
  "كان السيد كينغ مرّيخياً لطيفاً جداً، يشبهنا في أنفه وفمه وشعره ورأسه، ولكن الناس يعتبرونه مُضحكاً أحياناً، وأظن أنهم تصرفوا معه بدناءة أحياناً أخرى".
  كنت أعلم أنني قد أواجه الكثير من المتاعب لأنني أروي لها تلك القصص الصغيرة، ولا سيما مع السيد ليفولت. ولكن ماو موبلي تعرف أنها قصصنا السرّية.
  "لماذا يا آيبي؟ لماذا كانوا يتصرفون معه بدناءة؟". سألَت.
  "لأن بشرته خضراء".
  كان هاتف منزل الآنسة ليفولت قد رنّ مرتين في صباح ذلك اليوم من دون أن أُجيب، لأنني، أولاً، كنت أطارد الطفلة وهي عارية في الباحة الخلفية. ثانياً، لأنني دخلتُ حمّام المرأب. ثالثاً، لأنني لم أكن أتوقّع منها الرد على أي اتصال هاتفي لأنّ ثلاثة أسابيع قد مضت على موعد ولادة ذلك الطفل. ولكنني لم أتوقع منها توجيه انتقادات لاذعة لي لأنني لم أُجب على الهاتف في الوقت المناسب. يا الله، كان يُفترض بي التنبّه إلى ذلك عندما استيقظتُ في صباح ذلك اليوم.
  ففي الليلة السابقة، عملتُ مع الآنسة سكيتر على القصص حتى الثانية عشرة إلا ربعاً ليلاً. لقد شعرتُ بإرهاق شديد، ولكننا أنهينا القصة الثامنة مما يعني أنه كان لا يزال يتعيّن علينا العمل على إنهاء أربع قصص إضافية. فالعاشر من كانون الثاني/يناير هو الحد الزمني الأقصى لتسليم القصص، ولم أكن واثقة من إنهائها في ذلك التاريخ.
  كنا في الأربعاء الثالث من تشرين الأول/أكتوبر، وهو اليوم المخصص للآنسة ليفولت لاستضافة عضوات نادي البريدج. لقد تبدّل كل شيء منذ طرد الآنسة سكيتر من النادي واستبدالها بالآنسة جاني كالدويل التي تنادي الجميع بيا حبيبتي، وحلول لو آن مكان الآنسة والترز. كنّ جميعهنّ مهذّبات حقاً ومتفقات مع بعضهنّ بعضاً طوال ساعتين. لم يعُد الاستماع إلى ما يقلنه أمراً مسلّياً.
  كنت أسكب آخر كوب من الشاي المثلّج عندما رنّ جرس الباب. فتوجهت إلى الباب بسرعة كبيرة لأُظهر للآنسة ليفولت أنني غير بطيئة كما دأبَت على اتهامي.
  وعندما فتحته، فإن أول كلمة تبادرت إلى ذهني هي زهريّ اللون. لم يسبق لي أن رأيتها من قبل، ولكن الأحاديث التي أجريتها مع ميني ساعدتني على معرفتها. من غيرها في هذه الناحية لديه صدر كبير جداً تتسع له كنزة صوفية صغيرة جداً؟
  "مرحباً". قالت، ومرّرَت لسانها على شفتيها المكسوّتين بأحمر الشفاه. ومددتُ يدي لاستلام ما تحمله بيدها، ولكنها صافحتني بطريقة مُضحكة.
  "أدعى سيليا فوت، وأنا هنا لرؤية الآنسة إليزابيت ليفولت، رجاءً".
  لقد استحوذ اللون الزهري على انتباهي كلّياً لدرجة أن الأمر تطلب مني بضع ثوانٍ للتيقّن من مدى خطورة الأمر عليّ وعلى ميني. لقد مرّ على تلك الكذبة وقت طويل.
  "أنا... هي...". كنت أريد أن أقول لها إن لا أحد في المنزل، ولكن طاولة البريدج كانت على بُعد خمس أقدام مني. فنظرتُ إلى الوراء، وكانت السيدات الأربع يحدقن إلى الباب وأفواههنّ مفتوحة كما لو أنهنّ يلتقطن الذباب. وهمست الآنسة كالدويل بأُذُن الآنسة هيلي. وترنّحت الآنسة ليفولت، وارتسمت ابتسامة على وجهها.
  "مرحباً، يا سيليا". قالت الآنسة ليفولت. "لقد مرّ وقت طويل من دون شك".
  فتنحنحت الآنسة سيليا وقالت بصوت مرتفع: "مرحباً، يا إليزابيت. أزورك اليوم لـ...". ونظرت إلى الطاولة حيث تجلس السيدات الأخريات.
  "آه لا، أنا أقاطع. سوف... سأعود في وقت آخر".
  "لا، لا، بماذا أخدمك؟". قالت الآنسة ليفولت.
  وأخذت الآنسة سيليا نفساً عميقاً في تلك التنورة زهرية اللون الضيّقة، وأعتقد أننا ظننّا كلنا للحظات أنها ستنفجر.
  "أنا هنا لأعرض مساعدتي للحفلة الخيرية".
  فابتسمت الآنسة ليفولت وقالت: "آه. حسناً، أنا...".
  "أنا بارعة جداً بتنسيق الزهور، أعني، إنه رأي كل سكان شوغر ديتش، ورأي خادمتي أيضاً بعد أن قالت إنني أسوأ طاهية وقع عليها نظرها يوماً". وقهقهَت للحظات، وحبستُ أنفاسي لدى سماع كلمة خادمة. وعادت الآنسة سيليا إلى جدّيتها مجدداً. "ولكن، يمكنني كتابة العناوين، وإلصاق الطوابع، و...".
  ونهضت الآنسة هيلي، وانحنت نحوها وقالت: "لسنا بحاجة في الواقع إلى أي مساعدة إضافية، ولكن يُسعدنا أن تحضري وجوني الحفلة الخيرية، يا سيليا".
  فابتسمت الآنسة سيليا وبدت ممتنّة لدرجة أنها فطرت قلوب الجميع. ولكن من منهنّ لديها قلب.
  "آه، شكراً لك". قالت. "أتشوّق إلى القيام بذلك".
  "سينعقد مساء يوم الجمعة، في الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، في...".
  "... فندق روبرت". أكملت الآنسة سيليا. "أعرف كل شيء عن الموضوع".
  "نودّ أن نبيعك بعض البطاقات. سيقوم جوني بمرافقتك، أليس كذلك؟ اذهبي وأحضري لها بعض البطاقات، يا إليزابيت".
  "وإذا كان هناك ما يمكنني القيام به للمساعدة...".
  "لا، لا". قالت هيلي، وابتسمَت. "لقد اهتممنا بكل شيء".
  وعادت الآنسة ليفولت بالمغلّف، وأخرجت عدداً قليلاً من البطاقات، ولكن الآنسة هيلي أخذت المغلّف من يدها.
  "بما أنك هنا، يا سيليا، لماذا لا تشترين بعض البطاقات لأصدقائك وصديقاتك؟".
  فتسمّرت الآنسة سيليا في مكانها للحظات. "أممم، حسناً".
  "ما رأيك بعشر بطاقات؟ أنت وجوني وعشرة أصدقاء. عندها، تحصلون على طاولة كاملة".
  وابتسمت الآنسة سيليا بصعوبة لدرجة أنها بدأت بالارتجاف. "أعتقد أن اثنتين ستكونان كافيتين".
  وأخرجت الآنسة هيلي بطاقتين وأعادت المغلّف إلى الآنسة ليفولت التي قصدت الناحية الداخلية من المنزل لإعادته إلى مكانه.
  "دعيني أحرّر لك شيكاً. أنا محظوظة بسبب وجود ذلك الشيء الكبير معي اليوم. لقد أخبرتُ خادمتي ميني أنني سأُحضر لها عظاماً للطهو من المدينة".
  وحرّرت الآنسة سيليا ذلك الشيك بصعوبة على ركبتها. وحافظتُ على رباطة جأشي قدر المستطاع، آملةً في ألا تكون الآنسة هيلي قد سمعت ما قالته. وسلّمتها الشيك، ولكن الآنسة هيلي كانت متغضّنة الوجه تفكر.
  "من؟ ما اسم خادمتك؟".
  "ميني جاكسون. آو! تبّاً". ووضعت الآنسة سيليا يدها على فمها. "لقد جعلتني إليزابيت أُقسم بألا أقول إنها من أوصى بها، وها أنذا أُفشي السر".
  "إليزابيت... أوصت بميني جاكسون؟".
  وعادت الآنسة ليفولت من غرفة النوم. "يا آيبيلين، لقد استيقظَت. اذهبي وأحضريها. لا يمكنني رفع مِبرد أظافر".
  فتوجهتُ بسرعة كبيرة إلى غرفة ماو موبلي التي استغرقت في النوم مجدداً ما إن دخلتُ. وهرعتُ إلى غرفة الطعام. كانت الآنسة هيلي تُغلق الباب الأمامي.
  وجلست الآنسة هيلي، وبدت كما لو أنها ابتلعت للتوّ الهرّ الذي التهم عصفور الكنار.
  "يا آيبيلين". قالت الآنسة ليفولت. "اذهبي وأعدّي السلَطة في الحال، نحن في الانتظار".
  فدخلتُ المطبخ. وعندما عدتُ، كانت أطباق السلطة تصطكّ كالأسنان على الصينية.
  "... تعنين تلك التي سرقت كل أواني والدتك الفضية، و...".
  "... ظننتُ أن كل من في المدينة علم أن تلك الزنجية سارقة...".
  "... لَما أوصيتُ بها ولو بعد مليون عام...".
  "... هل رأيتِ ما الذي خططَت له؟ من تظنّ...".
  "سأقوم باكتشاف الحقيقة حتى ولو أدى ذلك إلى مقتلي". قالت الآنسة هيلي.
ميني
الفصل الرابع والعشرون
  كنت أمام حوض الغسيل في المطبخ أنتظر عودة الآنسة سيليا إلى المنزل، والخرقة التي أمسح بها ممزّقة. لقد استيقظت تلك المرأة المجنونة صباح ذلك اليوم، وعصرت نفسها بالكنزة الصوفية زهرية اللون الضيقة والأكثر التصاقاً بجسدها، وصاحت قائلة: "أنا ذاهبة إلى منزل إليزابيت ليفولت في الحال بينما لا أزال أملك الشجاعة للقيام بذلك، يا ميني". وانطلقت بسيارتها المكشوفة من طراز بِل إير، وتنورتها متدلّية خارج الباب.
  لقد بقيتُ قلقة إلى أن رنّ الهاتف. كانت آيبيلين مستاءة جداً لدرجة إصابتها بالحازوقة. فالآنسة سيليا لم تخبر السيدات أن ميني جاكسون تعمل لديها فحسب، بل قامت بإعلامهنّ أن الآنسة ليفولت هي التي أوصت بي. هذا ما سمعَته آيبيلين. ولم يتطلّب الأمر تلك الدجاجات المقوقآت سوى خمس دقائق تقريباً لاكتشاف الأمر.
  لذلك، فإن كل ما كان عليّ القيام به هو الانتظار للتحقق مما إذا سيتم طرد صديقتي المفضّلة في كل العالم بسبب الحصول لي على عمل، أولاً؛ وإذا أخبرت الآنسة هيلي الآنسة سيليا بكل تلك الأكاذيب مدّعيةً أنني سارقة، ثانياً؛ وإذا أخبرتها كيف أنني صرختُ في وجهها بسبب تلفيق تلك الأكاذيب، ثانياً ونصف. لم أكن آسفة بسبب ذلك الأمر الشنيع والمروّع الذي فعلتُه بها. وتساءلتُ عما يمكن لتلك السيدة أن تفعله بي بعد أن أودعت خادمتها السجن لتتعفّن فيه.
  لم أرَ سيارة الآنسة سيليا تتوقف أمام المنزل إلا عند الرابعة وعشر دقائق، أي قبل ساعة من موعد مغادرتي. كانت تقهقه في مجاز الحديقة كما لو أن لديها ما تقوله. فسحبتُ جوربيّ نحو الأعلى.
  "يا ميني، لقد تأخر الوقت!". صاحت.
  "ماذا حدث في منزل الآنسة ليفولت؟". قلت، ولم أحاول تصنّع الحياء. لقد أردت معرفة الحقيقة.
  "اذهبي، رجاءً! سيعود جوني إلى المنزل في أي دقيقة". ودفعتني إلى غرفة غسل الملابس حيث أحتفظ بأغراضي.
  "سنتحدث غداً". قالت، ولكنها المرة الأولى التي لم أشأ فيها الذهاب إلى المنزل. أردت سماع ما الذي قالته الآنسة هيلي عني. فسماع أحدهم يقول عن خادمتكم إنها سارقة هو أمر مماثل لسماع أحدهم يقول إن مدرّسة طفلكم تهدر الوقت سُدىً، فتسارعون إلى الاقتصاص منها.
  ولكن الآنسة سيليا لم تخبرني بأي شيء. لقد قامت بطردي إلى الخارج لتتمكن من مواصلة تمثيليتها. فالسيد جوني على عِلم بأمري، والآنسة سيليا تعرف أن السيد جوني على عِلم بأمري. ولكن السيد جوني لا يعرف أن الآنسة سيليا على عِلم بذلك. وبسبب ذلك السخف، كان يجب عليّ أن أغادر عند الرابعة إلا عشر دقائق وأن أصاب بالأرق طوال الليل بسبب الآنسة هيلي.
  في صباح اليوم التالي، اتصلت آيبيلين بي قبل ذهابي إلى العمل.
  "لقد اتصلتُ ببور فاني هذا الصباح لأنني علمتُ أنك كنت قلقة طوال الليل بسبب ما حدث". فبور فاني هي خادمة الآنسة هيلي الجديدة، وكان يجب عليّ أن أدعوها فول فاني (أي فاني المخبولة) لأنها تعمل هناك. "سمعَت الآنسة ليفولت والآنسة هيلي تقولان إنك اختلقتِ أمر التوصية كي تمنحك الآنسة سيليا العمل".
  وزفرتُ مطوَّلاً. "سعيدة لأنك لن تتعرّضي للمشاكل". قلت. وبالرغم من ذلك، فالآنسة هيلي لا تزال تدعوني كاذبة وسارقة.
  "لا تقلقي في شأني". قالت آيبيلين. "احذري فقط من قيام الآنسة هيلي بالتحدث إلى سيدة عملك".
  وعندما عدتُ إلى العمل، كانت الآنسة سيليا مندفعة إلى الخارج بهدف الذهاب لشراء فستان للحفلة الخيرية التي تُقام في الشهر القادم. وقالت إنها تريد أن تكون أول شخص في المتجر. فالأمر مختلف عن تلك الأيام عندما كانت حاملاً، فهي لم تستطع الانتظار للخروج من الباب.
  وخرجتُ إلى الباحة الخلفية ومسحتُ كراسي المرجة. لقد بدأت الطيور بالتغريد باستياء عندما رأتني قادمة، وأحدثت جلبة داخل شُجيرة الكاميليا. في الربيع الماضي، كانت الآنسة سيليا تُلحّ عليّ باستمرار لأخذ تلك الأزهار إلى منزلي. ولكنني أعرف أزهار الكاميليا. تُدخلون باقة منها، متأملين مدى نضارتها، ولكن حالما تقومون بتنشّق رائحتها تكتشفون أنكم أدخلتم جيشاً من العناكب الصغيرة إلى المنزل.
  وسمعتُ صوت انكسار قضيب، وانكسار آخر وراء الشُجيرات. فدخلتُ المنزل، ولم أقم بأي حركة. نحن في مكان ناءٍ ولا أحد يسمع استغاثتنا على بُعد أميال. وأصغيتُ ولكنني لم أسمع أي شيء آخر. فقلتُ لنفسي إن ما أسمعه هو من الرواسب الماضية عندما كنت أترقّب دخول السيد جوني إلى المنزل، أو إنه ذُهان ارتيابي لأنني عملت مع الآنسة سكيتر في الليلة السابقة على الكتاب. كنت أشعر بالقلق باستمرار بعد التحدث إليها.
  أخيراً، استأنفتُ تنظيف كراسي بركة السباحة، ملتقطةً مجلات السينما الخاصة بالآنسة سيليا إضافةً إلى الأنسجة التي خلّفتها الأوراق هناك. ورنّ الهاتف في الداخل. لم يكن يُفترض بي الإجابة على الهاتف لأن الآنسة سيليا تحاول الاستمرار في الكذبة الكبيرة على السيد جوني. ولكنها ليست هناك، وقد تكون آيبيلين مع مزيد من الأخبار. فدخلتُ، وأقفلتُ الباب ورائي.
  "منزل الآنسة سيليا". يا الله، أملتُ في ألا تكون الآنسة سيليا المتصلة.
  "هيلي هولبروك تتكلم. من أنتِ؟".
  واندفع دمي من رأسي إلى قدمَيّ، وغدوتُ كصدفة فارغة خالية من الدماء لنحو خمس ثوانٍ.
  فأخفضتُ صوتي، وجعلته مماثلاً لصوت شخص غريب. "معك دورينا، عاملة المنزل لدى الآنسة سيليا". دورينا؟ لماذا استخدمتُ اسم شقيقتي!
  "يا دورينا، ظننتُ أن ميني جاكسون هي خادمة الآنسة فوت".
  "لقد... تركت العمل".
  "صحيح؟ دعيني أتحدث إلى السيدة فوت".
  "إنها... في المدينة، على الساحل، لكي... لـ...". كان عقلي يسير بسرعة ألف ميل في الساعة، محاوِلةً ابتكار التفاصيل.
  "حسناً، متى تعود؟".
  "بعد وقت طويل".
  "حسناً، عندما تعود، أخبريها أنني اتصلتُ بها. هيلي هولبروك، إمرسون، 3608040؟".
  "أجل يا سيدتي، سأُخبرها بذلك". ولكن بعد مئة عام.
  وأمسكتُ حافة المِنضدة، وانتظرت توقف قلبي عن الخفقان بسرعة ليس لأن الآنسة هيلي لا تستطيع العثور عليّ، أعني أن في استطاعتها البحث عن اسم ميني جاكسون في دليل الهاتف، وتحت خانة تيك روود، والحصول على عنواني. وليس لأنني لا أستطيع إخبار الآنسة سيليا بما حدث وأنني لست سارقة فهي قد تصدّقني بالرغم من كل شيء، بل لأن ذلك الأمر الشنيع والمروّع هو الذي أفسد كل شيء.
  بعد أربع ساعات، دخلت الآنسة سيليا مع خمس علب كبيرة موضوعة فوق بعضها بعضاً. فساعدتها على حملها إلى غرفة نومها، ووقفتُ بعد ذلك بلا حراك خارج الباب، وأصغيتُ للتحقق مما إذا كانت ستتصل بسيدات المجتمع ككل يوم. وسمعتها تلتقط سمّاعة الهاتف وتعيدها إلى مكانها للتحقق من أنني لا أستخدم الهاتف.
  بالرغم من كوننا في الأسبوع الثالث من تشرين الأول/أكتوبر، كان الصيف يمضي ببطء إيقاع مجفِّفة الملابس. فالعشب لا يزال أخضر مكتمل النموّ في فناء الآنسة سيليا، وأشجار الأضاليا البرتقالية تبتسم ثملةً للشمس. وفي كل مساء، يخرج البعوض لصيد بعض الدماء، وارتفع سعر ضمادات امتصاص العرَق ثلاثة سنتات للعلبة الواحدة، وسقطت مروحتي الكهربائية على أرض مطبخي وتعطّلت.
  في صباح ذلك اليوم من تشرين الأول/أكتوبر، وبعد ثلاثة أيام من اتصال الآنسة هيلي، وصلتُ إلى العمل قبل ساعة من الوقت المعتاد بعد تكليف شوغر مهمة إيصال شقيقيها وشقيقتيها إلى المدرسة. ووضعتُ البن المطحون في المصفاة المزخرفة، والماء في القدر. وألقيتُ مؤخرتي على المنضدة، وساد الهدوء، هذا ما كنت أنتظره طوال الليل.
  وأصدر البرّاد أزيزاً، ووضعت يدي عليه لأتحسس الذبذبة.
  "لقد أبكرتِ في المجيء، يا ميني".
  ففتحتُ البرّاد وأقحمتُ رأسي فيه. "صباح الخير". قلت، وكل ما كان في إمكاني التفكير فيه هو، لم يحن الوقت بعد.
  فعبثتُ ببعض حبات الخُرشوف ووخزَت شوكاتها الباردة يدي، وخفق رأسي بقوة. "سأُعدّ لك وللسيد جوني لحماً مشويّاً، وسأُعدّ... بعض...". ولكن الكلمات خرجت من فمي بطبقة صوتية عالية.
  "يا ميني، ماذا حدث؟". سألت الآنسة سيليا، واتجهت نحو باب البرّاد من دون أن أُدرك ذلك. فصدمتُ وجهي، وانفتح الجرح الموجود على حاجبي مجدداً، وشعرتُ بالدم الحار يخزني كشفرة حلاقة. لم تكن تظهر كدماتي في العادة.
  "يا عزيزتي، اجلسي. هل وقعتِ؟". وأسندَت يدها إلى خصر قميص نومها زهرية اللون. "هل تعثّرتِ بسلك المروحة مجدداً؟".
  "أنا بخير". قلت، وحاولتُ الالتفات إلى الناحية الأخرى كيلا تراني. ولكن الآنسة سيليا كانت تستدير معي، وتحدّق إلى الجرح كما لو أنها لم ترَ يوماً أمراً مروّعاً مماثلاً. لقد قالت لي سيدة بيضاء البشرة ذات مرة إن الدم يبدو أكثر احمراراً لدى ملوّني البشرة. فأخرجتُ قطنة من جيبي، ووضعتها على وجهي.
  "إنه جرح بسيط". قلت. "لقد صدمتُ وجهي بحوض الاستحمام".
  "يا ميني، إن ذلك الشيء ينزف. أظن أنك بحاجة إلى بعض القُطَب. دعيني أُحضر الطبيب نيل إلى هنا". فرفعَت سمّاعة الهاتف عن الجدار وأعادتها إلى مكانها بقوة. "آه. إنه في معسكر الصيد مع جوني. سأتصل بالطبيب ستيل إذاً".
  "يا آنسة سيليا، لست بحاجة إلى طبيب".
  "أنت بحاجة إلى رعاية طبّية، يا ميني". قالت، والتقطت الهاتف.
  هل يجب عليّ إطلاعها على الموضوع؟ فصرفتُ أسناني لأخرج ما في صدري. "لن يعالج الأطباء شخصاً ملوّن البشرة، يا آنسة سيليا".
  وأعادت السمّاعة إلى مكانها مجدداً.
  فأدرتُ وجهي إلى حوض الغسيل، واستمررت في التفكير. لا علاقة لأحد بالموضوع، قومي بعملك فحسب، ولكنني لم أنَم دقيقة واحدة. كان ليروي يصيح في وجهي طوال الليل، وقذف وعاء السكّر على رأسي، ورمى ملابسي إلى الرُّواق الخارجي. أعني أن الأمر مختلف عندما يحتسي الشراب... آه، كان شعوري بالخجل كبيراً جداً لدرجة أنني أردت الارتماء على الأرض لإخفاء ذلك الشعور. لقد ضربني هذه المرة بدم بارد.
  "اخرجي من هنا، يا آنسة سيليا، دعيني أقوم ببعض الأعمال". قلت لأنني كنت بحاجة إلى تمضية بعض الوقت بمفردي. كنت قد ظننتُ في بادئ الأمر أن ليروي اكتشف أمر عملي مع الآنسة سكيتر، إنه السبب الوحيد الذي تبادر إلى ذهني في أثناء قيامه بضربي، ولكنه لم يقل شيئاً عن الأمر. كان يضربني بدافع المتعة فحسب.
  "يا ميني؟". قالت الآنسة سيليا، محدّقةً إلى الجرح مجدداً. "هل أنت واثقة من أنك جرحت نفسك بحوض الاستحمام؟".
  وفتحتُ الحنفيّة لإحداث ضجيج في الغرفة. "قلتُ لك إنني جرحت نفسي. اتفقنا؟".
  فرمقتني بنظرة متشككة وأشارت إليّ بإصبعها. "حسناً، ولكنني سأُعدّ لك كوب قهوة، وأريد منك أن تعتبري هذا اليوم يوم عطلة، اتفقنا؟". وتوجّهت الآنسة سيليا إلى مِصفاة القهوة، وسكبت كوبين، وتوقفَت، ونظرت إليّ مستغرِبة.
  "لا أعرف كيف تتناولين قهوتك، يا ميني".
  فقلّبتُ عينَيّ. "كما تتناولينها أنتِ".
  ووضعَت حبتي سكّر في الكوبين، وأعطتني قهوتي، ووقفَت بعد ذلك محدّقةً إلى النافذة الخلفية مشدودة الفَكّ. وشرعتُ بغسل أطباق الليلة السابقة، متمنّيةً أن تدعَني وشأني.
  "تعلمين". قالت بصوت منخفض: "يمكنك التحدث إليّ عن أي شيء، يا ميني".
  فاستمررت في غسل الأطباق، وشعرتُ أن أنفي بدأ بالتوهّج.
  "لقد رأيتُ بعض الأمور عندما كنت أُقيم في شوغر ديتش. في الواقع...".
  ورفعتُ نظري، وكنت على وشك الطلب منها عدم التدخل في شؤوني الخاصة، ولكن الآنسة سيليا قالت بصوت غريب: "علينا الاتصال بالشرطة، يا ميني".
  فوضعتُ الكوب من يدي بقوة كبيرة لدرجة أن القهوة تطايرت منه. "انظري إليّ، لا أريد تدخّل الشرطة...".
  وأشارت بإصبعها إلى خارج النافذة الخلفية. "يوجد رجل، يا ميني! هناك!".
  والتفتُّ إلى المكان الذي تنظر إليه. كان هناك رجل عارٍ بجانب الشُجيرات دائمة الخضرة. وطرفتُ عينَيّ للتحقق من أنه حقيقي. كان طويل القامة، شاحب اللون، أبيض البشرة، يقف على بُعد خمس عشرة قدماً مُديراً ظهره لنا، وشعره البنّي المتشابك طويلاً كشعر شخص متشرّد. كان في استطاعتي القول إنه يلمس نفسه حتى وإن كان مُديراً ظهره.
  "من هو؟". همسَت الآنسة سيليا. "ماذا يفعل هنا؟".
  واستدار الرجل نحونا كما لو أنه سمعنا، وصُعقنا عندما رأيناه...
  "آه... يا الله". قالت الآنسة سيليا.
  ونظر إلى النافذة، ووقع نظره على نظري، محدّقاً إلى خط قاتم عبر المرجة. فارتعدتُ لأنه عرفني كما يبدو. كان يحدّق وشفته متغضّنة كما لو أنني أستحق كل يوم سيّئ عشته، وكل ليلة لم أنم فيها، وكل ضربة تلقّيتها من ليروي. كنت أستحقّ أكثر من ذلك.
  وبدأ يقوم بحركات لم تعجبني كما لو أنه يعرف بالتحديد ما الذي سيفعله بي. وشعرتُ بعيني تنبض مجدداً.
  "علينا الاتصال بالشرطة!". همست الآنسة سيليا. وحدّقت بعينيها المفتوحتَين واسعاً إلى الهاتف الموجود في الجانب الآخر من المطبخ، ولكنها لم تتحرك قَيد أُنمُلة.
  "يتطلّبهم الأمر خمساً وأربعين دقيقة للوصول إلى المنزل". قلت: "يمكنه خلع الباب في هذه الأثناء!".
  وركضتُ إلى الباب الخلفي، وأقفلته. وتوجهتُ إلى الباب الأمامي وأقفلته أيضاً، وانحنيتُ عندما مررتُ بجانب النافذة الخلفية. ووقفتُ على أطراف أصابعي، واختلست النظر عبر النافذة الصغيرة المربّعة الموجودة في الباب الخلفي. وكانت الآنسة سيليا تختلس النظر عبر النافذة الكبيرة.
  وسار الرجل ببطء شديد باتجاه المنزل، وصعد درج الباب الخلفي. فحاول إدارة مِقبض الباب الذي رأيته يهتزّ، وشعرت أن قلبي يخفق بقوة مصطدماً بأضلعي. وسمعت الآنسة سيليا تتحدث على الهاتف، قائلةً: "الشرطة؟ هناك من يحاول اقتحام المنزل! هناك رجل! رجل عارٍ يحاول الدخول إلى...".
  وقفزتُ إلى الوراء مبتعدةً عن النافذة الصغيرة المربّعة بينما كان حجر يرتطم بالزجاج، محطّماً إيّاه، وشعرتُ بقطع الزجاج تصطدم بوجهي. وعبر النافذة الكبيرة، رأيت الرجل يتراجع كما لو أنه يحاول البحث عن مكان آخر يقتحم المنزل من خلاله. يا الله، دعوت؛ لا أريد القيام بذلك، لا تحملني على القيام بذلك...
  وحدّق إلينا مجدداً عبر النافذة، وعلمتُ أنه ليس في استطاعتي الجلوس هناك كما لو أنني عشاء بط في انتظار قيام ذلك الرجل بالتهامه. فكل ما عليه القيام به هو تحطيم زجاج نافذة ممتدة من السقف إلى الأرض، والدخول.
  يا الله، وعرفتُ ما الذي يتعيّن عليّ القيام به. عليّ الخروج والنّيل منه أولاً.
  "ابتعدي عن النافذة، يا آنسة سيليا". قلت بصوت مرتجف. وذهبتُ لإحضار سكين الصيد الخاص بالسيد جوني، وكان لا يزال موجوداً في غِمده داخل جلد الدب. ولكن الشفرة قصيرة جداً، ويجب على ذلك الوغد أن يكون قريباً مني لجرحه، لذلك أخذتُ المكنسة ذات العصا الطويلة أيضاً. وألقيتُ نظرة إلى الخارج، كان وسط الفناء ينظر إلى المنزل، ويخطط.
  ففتحتُ الباب الخلفي وانسللت إلى الخارج. وابتسم الرجل لي عبر الفناء، كاشفاً عن سنَّين في فمه. وتوقف عن القيام بالحركات التي لم تعجبني سابقاً ثم عاد للقيام بها ولكن بشكل سلس وهادئ.
  "أقفلي الباب". قلت مهسهسة. "أبقيه مُقفَلاً". وسمعتُ طقّة القفل.
  ودسستُ السكين في زنّار لباسي الرسمي، وتأكدت من ثباته، وأمسكتُ المكنسة بيدَيّ.
  "اذهب من هنا، أيها المجنون!". صحتُ. ولكن الرجل لم يتحرك. وتقدّمت خطى قليلة باتجاهه، وقام بالمِثل. وسمعتُ نفسي أدعو، يا الله احمني من هذا الرجل الأبيض العاري...
  "معي سكين!". صرختُ. وتقدّمتُ بضع خطى، وقام بالمِثل أيضاً. وعندما أصبحت على بُعد سبع أو ثماني أقدام منه، لهثتُ. وحدّقنا إلى بعضنا بعضاً.
  "أنت زنجية بدينة". قال بصوت غريب ومرتفع، وتابع قيامه بالأمور التي لم تكن قد أعجبتني في السابق وبنفس السلاسة والهدوء.
  فأخذتُ نفَساً عميقاً، وركضتُ باتجاهه، ملوّحةً بالمكنسة. ووش! لقد أخطأته ببضع بوصات، ووثب. واندفعتُ بقوة مرة أخرى، وركض الرجل نحو المنزل، واتجه إلى الباب الخلفي مباشَرةً حيث كان وجه الآنسة سيليا خلف النافذة.
  "لا تستطيع الزنجية الإمساك بي! الزنجية لا تستطيع الركض لأنها بدينة جداً!".
  وصعد الدرج. فأُصبت بالذُّعر بسبب إمكانية قيامه بمحاولة خلع الباب، ولكنه نظر من حوله وركض على امتداد جانب الفناء.
  "اخرج من هنا!". صرختُ، وركضتُ وراءه، شاعرةً بألم حادّ بسبب اتساع جرحي.
  وأخرجته بصعوبة من بين الشُجيرات، وطاردتُه باتجاه بركة السباحة، لاهثة. فأبطأ عند حافة البركة، واقتربتُ منه، ووجّهتُ إليه ضربة قوية على مؤخرته.
  "لم تؤلميني!". وحرك يديه بطريقة مقرفة وتفوه بكلام مقرف.
  وطاردتُه حتى وسط الفناء، ولكن الرجل كان طويل القامة وسريعاً جداً، وغدوت أكثر بُطئاً. لقد أصبحت ضرباتي عشوائية، ولم أعد أستطيع الركض. فتوقفتُ، وانحنيتُ، متنفّسةً بصعوبة، وعصا المكنسة المكسورة بيدي. ونظرتُ إلى الأسفل، ووجدتُ أن السكين قد اختفى.
  وحالما نظرتُ إلى الوراء، تلقّيتُ لكمة على وجهي وترنّحتُ. كان الرَّنين في أُذُنَيّ مُزعجاً ومرتفعاً، مما حملني على التمايل. وغطّيتُ أُذُني، ولكن الرنين ازداد ارتفاعاً. لقد لكمني على جانب الجرح.
  فاقترب مني وأغمضتُ عينَيّ، عالمةً بما سيحلّ بي، مُدركةً أنه يتعيّن عليّ الفرار من دون أن يكون في إمكاني القيام بذلك. أين السكين؟ هل يملك السكين؟ كان الرنين كحلم مزعج.
  "اخرج من هنا قبل أن أقتلك". سمعت ذلك كما لو أنه صوت صادر من صفيحة معدنية، لقد فقدتُ سمعي جزئياً. وفتحتُ عينَيّ، فرأيتُ الآنسة سيليا بقميص نومها زهرية اللون المصنوعة من الساتان. كانت تحمل مِحراك نار ثقيل الوزن، حادّ الأطراف، بيدها.
  عندها تفوه بالكلام المقرف الذي أسمعني إياه وأدى الحركات المقرفة التي أداها أمامي للسيدة سيليا، وتقدمَت من الرجل ببطء كهرة. فأخذتُ نفساً عميقاً بينما كان الرجل يقفز إلى اليسار، ضاحكاً وكاشفاً عن لِثّتيه الخاليتين من الأسنان. ولكن الآنسة سيليا وقفت من دون حراك.
  وبعد ثوان قليلة، قطّب جبينه، وبدا مخيَّب الأمل من عدم إقدام الآنسة سيليا على أي أمر. لم تكن تتمايل، أو تصيح، أو تعبس. فنظر إليّ. "ماذا عنك؟ الزنجية مُتعَبة جداً لـ...".
  كراك!
  ومال فك الرجل، وخرج الدم من فمه. فتمايل، واستدار، وسدّدت الآنسة سيليا ضربة أخرى على الجانب الآخر من وجهه، كما لو أنها أرادت إرجاع التوازن إلى فكَّيه.
  ومشى الرجل بخطى متعثّرة نحو الأمام، وسقط على وجهه.
  "يا الله، لقد... نلتِ منه...". قلت، ولكن، كان هناك ذلك الصوت في الجزء الخلفي من رأسي يسألني بهدوء تام كما لو أننا نحتسي الشاي هناك في الخارج، هل يحدث ذلك حقاً؟ هل تقوم امرأة بيضاء البشرة بضرب رجل أبيض البشرة حقاً لإنقاذي؟ أم أنه خضّ دماغي وأنا مُمدَّدة هناك على الأرض ميتة...
  وحاولتُ تركيز نظري. كانت شفتا الآنسة سيليا متغضّنتين. فرفعَت عصاها، ووجهت إليه ضربة على الجزء الخلفي من ركبتيه.
  لا يحدث هذا الأمر، قلتُ لنفسي. إنه أمر غريب جداً.
  ووجّهت ضربة أخرى إلى كتفيه، وكان يتأوّه مع كل ضربة.
  "لقد، لقد قلتُ إنك نلتِ منه الآن، يا آنسة سيليا". قلت. ولكن الآنسة سيليا لم تكن تظن ذلك كما يبدو. فبالرغم من الرنين في أُذُنَيّ، بدا الأمر وكأن عظام الدجاج تتكسّر تحت وطأة الضربات. فوقفتُ بشكل مستقيم، وركّزتُ نظري قبل أن يتحوّل هذا الأمر إلى جريمة قتل. "لقد سقط، لقد سقط، يا آنسة سيليا". قلت: "في الواقع، قد" - وبذلتُ جهداً للإمساك بمِحراك النار - "قد يكون مَيتاً".
  وأمسكتُ المِحراك أخيراً، ورميته بعيداً في الفناء. فارتدّت الآنسة سيليا عنه، وبصقَت على العشب. كانت الدماء متناثرة على قميص نومها، والقماش ملتصقاً بساقيها.
  "لم يمُت". قالت الآنسة سيليا.
  "إنه على وشك الموت". قلت.
  "هل ضربك بقوة، يا ميني؟". سألَت محدّقةً إليه: "هل آلمك كثيراً؟".
  كان في استطاعتي الشعور بالدم يسيل على صدغي، ولكنني علمتُ أن الجرح الذي أحدثه وعاء السكّر انفتح مجدداً. "ليس بقدر ما آلمتِه". قلت.
  وتأوّه الرجل، وقفزنا إلى الوراء. فالتقطتُ المحراك وعصا المكنسة عن العشب، ولم أُعطها أيّاً منهما.
  وتدحرج جزئياً. كان وجهه دامياً من الجانبين، عيناه متورّمتين ومُطبقتين، فكّاه محطّمين عند المفصل، ولكنه حاول الوقوف على قدميه. وشرع ذلك الشيء المتمايل المثير للشفقة بالابتعاد من دون أن يلتفت إلى الوراء. فوقفنا هناك فحسب وشاهدناه يعرج عبر شُجيرات البَقس الشائكة، ويتوارى عن الأنظار.
  "لن يبتعد كثيراً". قلت، ممسكةً بذلك المِحراك بإحكام. "لقد أبرحتِه ضرباً".
  "هل تعتقدين ذلك؟". قالت.
  فنظرتُ إليها. "على غرار جو لويس وإطاره الحديدي".
  ورفعَت خصلاً من الشعر الأشقر عن وجهها، ونظرت إليّ كما لو أن تعرّضي للضرب آلمها. وفجأةً، أدركتُ أنه يتعيّن عليّ توجيه الشكر إليها، ولكنني لم أكن قادرة على البَوح بأي كلمة في الواقع. لقد وضعنا ابتكاراً جديداً للشكر، وكل ما كان في استطاعتي قوله هو: "تبدين قوية... واثقة بنفسك".
  "كنت مقاتلة جيدة". ونظرَت إلى شُجيرات البَقس، ومسحت عرقها براحة يدها. "لو كنت تعرفينني قبل عشر سنوات...".
  لم تكن توجد على وجهها أي مادة لزجة، وأي رذاذ على شعرها، وكانت قميص نومها أشبه بثوب قديم للمروج. فأخذَت نفساً عميقاً من أنفها، ورأيتها. لقد رأيت فيها تلك الفتاة بيضاء البشرة كما كانت قبل عشر سنوات، قوية، ولا تقبل الكلام الهُراء من أحد.
  واستدارت الآنسة سيليا، وتبعتها إلى المنزل. ورأيت السكين في شُجيرة الورد، فالتقطته. يا الله، لو حصل ذلك الرجل عليه لكنّا ميتتين. في حمّام الضيوف، نظّفتُ جرحي، وغطّيته بضمادة بيضاء. كنت أشعر بألم شديد في الرأس. وعندما خرجتُ، سمعت الآنسة سيليا تتحدث عبر الهاتف إلى شرطة مقاطعة ماديسون.
  فغسلتُ يديّ، متسائلةً كيف يغدو يوم مروِّع أكثر ترويعاً. لقد بدا الأمر كما لو أنكم استنفدتم كل الأمور المروِّعة التي يمكن أن يواجهها إنسان. وحاولتُ العودة إلى الحياة الواقعية مجدداً، وفكرتُ في أنه من المُستحسَن لي تمضية ليلتي في منزل شقيقتي أوكتافيا، لأُظهر لليروي أنني لن أتحمّله بعد ما حدث. فدخلتُ المطبخ، ووضعتُ القرنيات على النار لتغلي. من أخدع؟ كنت أعلم أنني سأعود إلى المنزل في ذلك المساء.
  وسمعتُ الآنسة سيليا تُنهي المكالمة الهاتفية وتتحقق كالعادة من أن الخط الهاتفي مُتاح لها.
  بعد ظهر ذلك اليوم، قمتُ بعمل رهيب. لقد مررتُ بالسيارة بجانب آيبيلين في أثناء عودتها إلى المنزل. فلوّحَت لي بيدها، ولكنني تظاهرت بعدم رؤية صديقتي المفضّلة على جانب الطريق بلباسها الرسمي الأبيض الزاهي.
  وعندما وصلتُ إلى منزلي، أعددتُ صُرّة ثلج لعيني. لم يكن ابناي وبناتي قد عادوا إلى المنزل بعد، وكان ليروي نائماً في الداخل. لم أعرف ما يتعيّن عليّ القيام به حيال ليروي، وحيال الآنسة هيلي. ولم أبالِ بتلقّي لكمة على الأُذُن من رجل عارٍ أبيض البشرة صباح ذلك اليوم، بل جلست وحدّقت إلى جدراني الصفراء المائلة إلى اللون الزيتي. لماذا لا أستطيع تنظيف تلك الجدران؟
  "يا ميني جاكسون. أنت لطيفة جداً لتُقلّي آيبيلين المسنّة؟".
  فتنهدتُ وأدرتُ رأسي المتألّم لتتمكن من رؤيته.
  "آه". قالت.
  ونظرتُ إلى الجدران مجدداً.
  "يا آيبيلين". قلت، وسمعتُ نفسي أتنهّد. "لن تصدّقي ما الذي جرى معي هذا اليوم".
  "تعالي إلى منزلي. سأُعدّ لك بعض القهوة".
  وقبل أن أخرج، رفعتُ تلك الضمادة الزاهية، ووضعتها في جيبي مع صُرّة الثلج. فرؤية أحدهم مجروح العين في محيط إقامتي أمر لا يسترعي الانتباه. ولكنني أفتخر بعائلتي، لديّ ابنان وبنات صالحون، وسيارة بإطارات، وبرّاد. والخجل بالعين أسوأ من الألم.
  وتبعتُ آيبيلين عبر الفناءات الجانبية والفناءات الخلفية، متجنّبتين حركة السير والأنظار. لقد شعرت بالسعادة لأنها تعرفني جيداً.
  وفي مطبخها الصغير، وضعت آيبيلين إبريق القهوة على النار خصيصاً لي، ووضعت غلاّية الشاي لها.
  "إذاً، ماذا ستفعلين حيال الأمر؟". سألَت آيبيلين، وعرفتُ أنها تقصد عيني. ولم نتحدث عن قيامي بالتخلي عن ليروي. فالعديد من الرجال السود يتخلون عن عائلاتهم كما لو أنها نُفاية في كومة قُمامة، ولكن المرأة ملونة البشرة لا تقوم بذلك. هناك أبناء وبنات يجب التفكير فيهم.
  "أفكر في الذهاب إلى منزل شقيقتي، ولكن ليس في استطاعتي اصطحاب ابنيّ وبناتي معي. عليهم ارتياد المدرسة".
  "لن يلحق بهم أي ضرر إذا تغيّبوا عن المدرسة لأيام قليلة، لا سيّما وأنك تحمين نفسك".
  وأعدتُ إلصاق الضمادة، ووضعتُ صُرّة الثلج عليها كيلا يبدو التورّم شديداً عندما يراني ابناي وبناتي في المساء.
  "أخبرتِ الآنسة سيليا أنك انزلقتِ في حوض الاستحمام مجدداً؟".
  "أجل، ولكنها تعرف الحقيقة".
  "لماذا، ماذا قالت؟". سألَت آيبيلين.
  "لقد فعلَت الأمر نفسه". وأخبرتُ آيبيلين كل شيء عن كيفية قيام الآنسة سيليا بضرب الرجل العاري بمِحراك النار في صباح ذلك اليوم. لقد بدا الأمر كما لو أن الحادثة وقعت قبل عشر سنوات.
  "لو كان ذلك الرجل ذا بشرة ملونة، لقُتل، ولأقامت الشرطة حواجز في ثلاث وخمسين ولاية". قالت آيبيلين.
  "كانت على وشك قتله بالرغم من كل تصرفاتها الطفولية وانتعاله حذاء ذي الكعب العالي". قلت.
  وضحكت آيبيلين. "ما الألفاظ المقرفة التي كان يتفوه بها؟".
  "لا تبالي. أحمق ويتفيلد المخبول". وكان عليّ منع نفسي من الابتسام لأنني علمت أن من شأن ذلك أن يُعيد فتح الجرح مجدداً.
  "يا الله، يا ميني، لقد حدثت معك بعض الأمور حقاً".
  "أتساءل كيف أنها لم تجد أي مشكلة في الدفاع عن نفسها ضد ذلك الرجل المجنون، في حين أنها تلاحق الآنسة هيلي بحثاً عن الإهانات؟". قلت بالرغم من عدم اكتراثي في ذلك الوقت لتعرّض مشاعر الآنسة سيليا للأذى. لقد بدا لي أنه من المريح التحدث عن حياة شخص آخر يواجه المتاعب.
  "يبدو لي أنك تهتمين بأمرها". قالت آيبيلين، وابتسمت.
  "هي لا ترى حدوداً لتصرفاتها بينها وبيني، وبينها وبين هيلي".
  وتناولت آيبيلين رشفة طويلة من الشاي. أخيراً، نظرت إليها. "لماذا أنت هادئة إلى هذا الحد؟ أعلم أنك تملكين رأياً في شأن كل ذلك".
  "ستتهمينني بفلسفة الأمور".
  "هيا". قلت. "لستُ خائفة من أي فلسفة".
  "غير صحيح".
  "ماذا قلتِ؟".
  "أنت تتحدثين عن أمر غير موجود".
  فهززت رأسي لصديقتي. "هناك حدود وتعلمين جيداً على غراري أين رُسمت".
  وهزّت آيبيلين رأسها. "كنت أعتقد بوجودها، ولكنني توقفت عن ذلك. هي موجودة في رؤوسنا. فالأشخاص كالآنسة هيلي يحاولون حملنا باستمرار على الاعتقاد أنها موجودة، ولكنها ليست كذلك".
  "أعلم أنها موجودة لأنك تتعرّضين للمعاقبة إذا قمتِ بتخطّيها". قلت. "كما هي حالي على الأقل".
  "يظن الكثيرون أنك إذا أجبتِ زوجك بفظاظة، تكونين قد تخطيتِ الحدود، مما يبرّر تعرّضك للعقوبة. هل تعتقدين حقاً بوجود تلك الحدود؟".
  فنظرتُ إلى الطاولة مقطّبة الجبين. "تعرفين أنني لم أكن أفكّر مليّاً في هذه الحدود".
  "لأنها غير موجودة إلا في عقل ليروي. والحدود بين ذوي البشرة الملونة وذوي البشرة البيضاء غير موجودة أيضاً. لقد اخترعها بعض الأشخاص منذ زمن بعيد وقام البيض التافهون وسيدات المجتمع أيضاً بتبنّيها".
  وفكرتُ في الآنسة سيليا تخرج حاملةً مِحراك النار ذاك، في حين أنه كان في استطاعتها الاختباء وراء الباب. لست أدري. وشعرتُ بألم خفيف. لقد أردت إفهامها واقع الحال مع الآنسة هيلي. ولكن، كيف تُفهمون غبيّة مثلها؟
  "إذاً، تقولين إن لا وجود للحدود أيضاً بين عاملة المنزل وسيدة المنزل؟".
  فهزّت آيبيلين رأسها. "إنها مواقع ليس إلا، كما هي الحال على لوحة الشطرنج. من يعمل لدى من لا يعني أي شيء".
  "إذاً، أنا لا أتخطى الحدود إذا أخبرتُ الآنسة سيليا بالحقيقة المتمثلة أنها ليست من مستوى هيلي؟". والتقطتُ كوبي. كنت أحاول جاهدةً فهم الأمر، ولكن ألم جرحي أثّر في دماغي. "ولكن انتظري، إذا قلتُ لها إن الآنسة هيلي تُدخل عضوات جديدات إلى الرابطة... ألا تكون هناك حدود؟".
  وضحكت آيبيلين، وربّتت على يدي. "كل ما أقوله هو أنه لا حدود للّطف".
  "همم". ووضعتُ الثلج على رأسي مجدداً. "حسناً، ربما سأحاول إخبارها قبل أن تذهب إلى الحفلة الخيرية وتجعل من نفسها غبية زهرية اللون".
  "ستذهبين هذا العام إلى الحفلة الخيرية؟". سألَت آيبيلين.
  "إذا كانت الآنسة هيلي مع الآنسة سيليا في الغرفة نفسها تطلق أكاذيبها عنّي، أريد أن أكون موجودة. كما أن شوغر تريد جَني بعض المال لذكرى الميلاد. سيكون أمراً جيداً بالنسبة إليها لتبدأ بتعلّم خدمة الحفلات".
  "سأكون موجودة أيضاً". قالت آيبيلين. "لقد سألتني الآنسة ليفولت قبل ثلاثة أشهر عما إذا كنت أريد إعداد كعكة إصبع السيدة للمزاد العلني".
  "ذلك الشيء غير المثير مجدداً؟ لماذا يحب ذوو البشرة البيضاء إصبع السيدة كثيراً؟ يمكنني إعداد عشر كعكات بنكهات أفضل من نكهة تلك الكعكة".
  "يعتقدن أنها أوروبية الطابع". وهزت آيبيلين رأسها. "أشعر بالأسى على الآنسة سكيتر. أعرف أنها لا تريد الذهاب، ولكن الآنسة هيلي أعلمتها أنها ستفقد عملها إذا لم تحضر".
  وشربتُ ما تبقى من قهوة آيبيلين اللذيذة، وراقبتُ الشمس تغرق. وغدا الهواء الداخل من النافذة أكثر برودة.
  "أعتقد أنه يتعيّن عليّ الذهاب". قلت، عِلماً أنني كنت أفضّل تمضية بقية حياتي هناك في مطبخ آيبيلين الصغير والحميم، لتشرح لي واقع العالم. هذا ما أحببته بآيبيلين، في استطاعتها تبسيط أكثر الأمور تعقيداً في الحياة وتصغيرها بحيث تتسع جيوبكم لها.
  "هل تريدين القدوم مع ابنيك وبناتك للإقامة معي؟".
  "لا". قلتُ، ورفعتُ الضمادة، وأعدتُها إلى جيبي. "أريده أن يراني". قلت، محدّقة إلى كوب القهوة الفارغ. "يرى ما الذي فعله بزوجته".
  "اتصلي بي عبر الهاتف إذا غدا فظّاً. هل سمعتني؟".
  "لا أحتاج إلى إجراء أي اتصال هاتفي. ستسمعينه يصرخ طالباً الرحمة".
  انخفض ميزان الحرارة الموجود قرب نافذة الآنسة سيليا من سبع وتسعين درجة إلى ستين درجة، وصولاً إلى خمس وخمسين درجة في أقل من ساعة. وأخيراً، هبّت كتلة هوائية باردة من كندا، أو شيكاغو، أو أي مكان آخر. كنت ألتقط الحجارة الصغيرة من بين البازلاء، مفكرةً في كيف أننا نتنفس الهواء نفسه الذي تنفّسه سكان شيكاغو قبل يومين، ومتسائلةً عما إذا كنت قد بدأت بالتفكير في سيرز وروباك في شايك آند بايك، لأن بعض سكان إيلينوي فكروا فيهما قبل يومين. وقد أنساني ذلك الأمر متاعبي لنحو خمس ثوانٍ.
  لقد تطلب مني الأمر أياماً قليلة لوضع خطة، ولكنني قمتُ بذلك أخيراً. لم تكن خطة جيدة، ولكنها خطة على الأقل. كنت أعرف أن كل دقيقة أمضيها منتظرة، هي فرصة ملائمة للآنسة سيليا للاتصال بالآنسة هيلي. لقد انتظرتُ طويلاً، وكانت ستلتقيها في الحفلة الخيرية في الأسبوع التالي. والتفكير في الآنسة سيليا المتلهّفة لإقامة صداقة وثيقة مع تلك النساء، ونظرتها إليّ عندما تسمع ما يخبرنها عني، جعلاني أشعر بالغثيان. لقد رأيت في الصباح اللائحة بجانب سرير الآنسة سيليا. فمن بين الأمور التي تريد القيام بها استعداداً للحفلة الخيرية، تقليم أظافرها، تنظيف سترة السهرة وكيّها، والاتصال بهيلي هولبروك.
  "يا ميني، ألا يبدو اللون الجديد للشعر جديراً بالازدراء؟".
  فنظرتُ إليها فحسب.
  "غداً، سأقصد صالون فاني ماو لإعادة صبغه". كانت جالسة إلى طاولة المطبخ تستعرض مجموعة من النماذج المستطيلة الموضوعة كورق لعب. "ما رأيك؟ باترباتش أو ماريلين مونرو؟".
  "لماذا لا تحبين لون شعرك الطبيعي؟". سألتُ، ليس لأنني لا أملك أي فكرة عما قد يكون عليه لون شعرها، بل لأنني أرغب في ألا يكون هذا اللون أيّاً من لونَي الجرس النحاسي، أو الأبيض الذي يدعو للغثيان، الموجودَين على تلك البطاقات.
  "أظن أن لون باترباتش ذو مظهر احتفالي أكثر من الآخر، للمناسبات وكل شيء. أليس كذلك؟".
  "إذا كنت تريدين أن يبدو رأسك كديك باتربول الرومي".
  فقهقهت الآنسة سيليا. لقد ظنّت أنني أمازحها. "آه، وعليّ أن أُريك هذا الطلاء الجديد للأظافر". وبحثَت في حقيبة يدها، وعثرت على زجاجة تحتوي على سائل زهري اللون من النوع الذي يمكنكم أكله كما يبدو. وفتحت الزجاجة وبدأت بوضع الطلاء على أظافرها.
  "رجاءً، يا آنسة سيليا، لا تلوّثي الطاولة لأنه لن يعود في الإمكان إزالته...".
  "انظري، أليس اللون المطلوب؟ لقد عثرتُ على فستانين ملائمين له تماماً!".
  وانطلقَت مُسرعة، وعادت حاملة فستانين زهريَّين، وابتسمت لهما. كانا طويلين حتى الأرض، متلألئين وبرّاقين، وفيهما شقّان طويلان عند الساق، وفي الوسط حزام مماثل للأسلاك التي يُصنع منها سياج الدجاج. ستقوم النساء بتمزيقها في الحفلة.
  "أي فستان أعجبك أكثر من الآخر؟". سألَت الآنسة سيليا.
  فأشرتُ إلى ذلك الذي لا حافة منخفضة له عند العُنُق.
  "آه، أودّ اختيار الآخر. استمعي إلى الصوت الذي يحدثه عندما أسير". وحرّكت الفستان من الجانبين.
  وفكرتُ في الصوت الذي سيحدثه في الحفلة. فهم سيدعونها فتاة ملهى جُكبُكس مهما كانت النسخة البيضاء لهذه الفتاة خليعة. وهي لن تدرك ما سيحدث، بل ستسمع الهسيس فحسب.
  "تعلمين يا آنسة سيليا". قلت ببطء كما لو أن الفكرة تبادرت إلى ذهني للتوّ. "بدلاً من الاتصال بالسيدات الأخريات، ربما يُفترض بك الاتصال بسكيتر فيلان. سمعتُ أنها لطيفة جداً".
  لقد طلبتُ هذه الخدمة من الآنسة سكيتر منذ أيام قليلة، وهي أن تحاول ملاطفة الآنسة سيليا لإبعادها عن تلك السيدات. حتى ذلك الحين، كنت أُلحّ على الآنسة سكيتر عدم الاتصال بالآنسة سيليا، ولكنه بات الخيار الوحيد المتبقّي.
  "أظن أنك والآنسة سكيتر ستتفقان جيداً". قلت، وأطلقتُ ابتسامة كبيرة.
  "آه، لا". قالت الآنسة سيليا، ونظرت إليّ بعينين واسعتين، حاملةً الفستانين وتابعت: "هل تعلمين؟ لم تعُد عضوات الرابطة يتحملن الآنسة سكيتر فيلان".
  وأطبقتُ قبضتي يديّ. "ألم تلتقيها أبداً؟".
  "آه، لقد سمعتُ كل ذلك في صالون فاني ماو بينما كنت جالسة تحت قُلنسوّة التسخين. لقد قُلنَ إنها تسببت بالإحراج الأكبر الذي شهدته هذه المدينة يوماً، وإنها التي وضعت كل تلك المراحيض في الباحة الأمامية لهيلي هولبروك. هل تتذكرين تلك الصورة التي ظهرت في الصحيفة منذ أشهر قليلة؟".
  فصرفتُ أسناني كيلا أبوح بحقيقة مشاعري. "قلتُ، هل التقيتِها يوماً؟".
  "حسناً، لا. ولكن، إذا لم تكن كل أولئك النساء يحببنها، فلا بد إذاً من أن تكون... حسناً...". وجرجرَت كلماتها كما لو أنه يؤلمها ما ستقول.
  شعور بالغثيان، اشمئزاز، عدم تصديق، لقد أحاطت كل تلك المشاعر بي كلفافة لحم مقدّد. ولمنع نفسي من إنهاء تلك الجملة، التفتُّ إلى حوض الغسيل، وجفّفتُ يديّ ضاغطة عليهما بقوة، فآلمتاني. كنت أعلم أنها غبية، ولكنني لم أعرف أبداً أنها منافقة.
  "يا ميني؟". قالت الآنسة سيليا من الخلف.
  "سيدتي".
  وأبقت صوتها هادئاً، ولكنني سمعتُ الخجل فيه. "حتى إنهنّ لم يوجّهن إليّ الحديث في منزل الآنسة ليفولت. لقد جعلنني أقف على الأدراج في الخارج كبائعة مكانس كهربائية".
  فاستدرتُ، وكان نظرها موجَّهاً نحو الأرض.
  "لماذا، يا ميني؟". همسَت.
  ما الذي كان في إمكاني أن أقوله؟ ملابسك، شعرك، صدرك. وتذكرتُ ما قالته آيبيلين عن الحدود واللطف، وما سمعَته في منزل الآنسة ليفولت عن سبب عدم محبتهنّ لها. لقد بدا كما لو أنه السبب الأكثر لطفاً الذي يمكنني التفكير فيه.
  "لأنهنّ عرفن بحملك في تلك المرة الأولى. لقد أغضبهنّ ذلك إضافةً إلى زواجك بأحد رجالهنّ".
  "هنّ يعرفن ذلك؟".
  "ولا سيما العلاقة طويلة الأمد التي جمعَت الآنسة هيلي بالسيد جوني".
  ونظرَت إليّ للحظات، طارفة عينيها. "قال جوني إنه كان يواعدها، ولكن... هل لمدة طويلة حقاً؟".
  وهززت كتفيّ كما لو أنني لا أعرف، ولكنني كنت أعرف كل شيء. فعندما بدأتُ العمل لدى الآنسة والترز قبل ثماني سنوات، كل ما كانت الآنسة هيلي تتحدث عنه هو كيف أنها والسيد جوني سيتزوجان يوماً ما.
  قلت: "أظن أنهما قطعا علاقتهما ببعضهما بعضاً عندما التقاك".
  وكنت أنتظر أن يترك ذلك الأمر أثراً في نفسها، فتعي أن حياتها الاجتماعية محكوم عليها بالإخفاق، وأن لا معنى للاتصال بسيدات الرابطة بعد الآن. ولكن الآنسة سيليا بدت كما لو أنها تُجري تحليلاً لما جرى، واتضحت لها الأمور بعد ذلك.
  "إذاً، ربما... تظن هيلي أنني كنت أعبث مع جوني بينما كانا لا يزالان على علاقة ببعضهما بعضاً".
  "ربما. واستناداً إلى ما سمعتُ، لا تزال الآنسة هيلي متيَّمة به. لم تنسه أبداً". وفكّرتُ في أن أي امرأة طبيعية ستحقد على امرأة أخرى تكنّ مشاعر الحب لزوجها. ولكنني نسيت أن الآنسة سيليا ليست شخصاً طبيعياً.
  "حسناً، لا عجب في عدم تحمّلهن رؤيتي!". قالت، مبتسمةً ابتسامة عريضة زائفة: "هنّ لا يكرهنني، بل يكرهن ما يعتقدن أنني قمت به".
  "ماذا؟ هنّ يكرهنك لأنهنّ يعتقدن أنك امرأة بيضاء البشرة مبتذَلة!".
  "حسناً، سيكون عليّ شرح الأمر لهيلي، وإعلامها أنني لست سارقة صديقها. في الواقع، سأُخبر هيلي مساء يوم الجمعة عندما ألتقيها في الحفلة الخيرية".
  كانت تبتسم كما لو أنها اكتشفت علاجاً لالتهاب سنجابية الدماغ واستمالة الآنسة هيلي.
  فشعرتُ بتعب شديد، وتخلّيتُ عن محاولة إقناعها.
♦  ♦  ♦
  يوم الجمعة، عملتُ حتى وقت متأخر في تنظيف ذلك المنزل من الأعلى إلى الأسفل. وقليتُ بعد ذلك طبق لحم. لقد ظننتُ أنه كلما كانت الأرضيات أكثر لمعاناً، وزجاج النوافذ أكثر نظافة، تعززت فرص عودتي إلى العمل يوم الاثنين. ولكن العمل الأكثر ذكاءً الذي كان في إمكاني القيام به، هو تقديم طبق لذيذ إلى السيد جوني.
  لم يكن يُفترض به العودة إلى المنزل حتى السادسة مساءً، لذلك مسحتُ المناضد للمرة الأخيرة عند الرابعة والنصف، وتوجّهت بعد ذلك إلى الناحية الداخلية من المنزل حيث تستعدّ الآنسة سيليا للحفلة بعد أربع ساعات. كنت أحب ترتيب سريرهما وتنظيف حمّامهما قبل رحيلي ليبدُوَا نظيفين عندما يعود السيد جوني إلى المنزل.
  "يا آنسة سيليا، ماذا يجري هنا؟". أعني أن جواربها كانت متدلية عن الكراسي، وحقائب يدها مُلقاة على الأرض، وكان هناك كمّ كبير من المجوهرات غير الثمينة تكفي عائلة كاملة من الساقطات، وخمسة وأربعون حذاء ذات الكعوب العالية، وملابس تحتية، ومعاطف، وسراويل داخلية، وحمّالات صدر، وزجاجات مليئة جزئياً بشراب فرنسي أبيض موضوعة مباشرةً على خزانة ملابس بأدراج من دون أن يوضع تحتها أي شيء لمنع اتساخ الخشب.
  وبدأتُ بالتقاط كل أشيائها الحريرية الغبية، وتكديسها على الكرسي. فأقلّ ما كان في إمكاني القيام به هو تنظيف الأرض بالمكنسة الكهربائية.
  "كم الساعة، يا ميني؟". سألت الآنسة سيليا من الحمّام. "سيعود جوني إلى المنزل عند السادسة".
  "لم تصبح الساعة الخامسة بعد". قلت: "ولكن عليّ الذهاب قريباً". كان عليّ اصطحاب شوغر والذهاب إلى الحفلة عند السادسة والنصف للقيام بالخدمة.
  "آه، يا ميني، أشعر بحماسة كبيرة". وسمعتُ صوت حفيف فستان الآنسة سيليا ورائي. "ما رأيك؟".
  فاستدرتُ. "آه، يا الله". وبدوت مشدوهة بذلك الفستان مثل ستيفي واندر الصغيرة. كانت القطع الصغيرة الفضية والزهرية اللون تتلألأ من صدرها الكبير حتى أخمص قدميها.
  "يا آنسة سيليا". همستُ: "حاذري أن تفقدي شيئاً ما".
  وهزّت الآنسة سيليا فستانها. "أليس رائعاً؟ أليس أجمل شيء رأيتِه يوماً؟ أشعر كما لو أنني نجمة سينمائية في هوليوود".
  وطرفَت عينيها اللتين تحملان أهداباً زائفة. كانت تضع مستحضراً لتحمير الخدود، ومستحضرات تجميل أخرى، ويغطي شعرها المصبوغ بلون باترباتش كل رأسها كقُبّعة إيستر. وتظهر إحدى ساقيها خِلسةً من الشق الطولي العالي الذي يكشف عن فخذها، فأشحتُ بنظري، مُحرجةً من النظر. فكل ما فيها يوحي بالإثارة، والإثارة، والمزيد من الإثارة.
  "من أين حصلتِ على أظافرك؟".
  "من بيوتي بوكس في الصباح. آه، يا ميني، أنا شديدة التوتر".
  وتناولَت جرعة كبيرة من كوب الشراب الفرنسي، وترنّحت قليلاً بكعبي حذائها العاليين.
  "ما الطعام الذي ستتناولينه اليوم؟".
  "لا شيء، أنا عصبية المزاج جداً، ولا أريد تناول أي طعام. ماذا عن هذه الأقراط؟ هل هي متدلّية بشكل كافٍ؟".
  "اخلعي ذلك الفستان. دعيني أُعدّ لك بعض الكعكات الطريّة بسرعة".
  "آه، لا، لا يمكنني جعل معدتي ناتئة. لا يمكنني تناول أي شيء".
  وتوجّهتُ إلى زجاجة الشراب الفرنسي الموضوعة على خزانة الملابس والأدراج، ولكن الآنسة سيليا وصلت إليها قبلي، وسكبت المتبقّي في كأسها، وناولتني الزجاجة الفارغة، وابتسمَت. فالتقطتُ معطف الفراء الذي رمته على الأرض، لقد اعتادت على وجود خادمة لديها.
  كنت قد رأيت ذلك الفستان منذ أربعة أيام، وعلمتُ أنه سيلفت الأنظار بالطبع، كان عليها اختيار الفستان ذات الحافة المنخفضة عند العُنُق، ولكنني لم أكن أملك أي فكرة عما قد يحدث عندما تحشر نفسها فيه. كانت تبدو فيه كعرنوس ذُرة مطهو بالكريسكو. فلم أرَ في اثنتي عشرة حفلة خيرية مرفقين وصدراً وكتفين تنتأ على ذلك النحو.
  ودخلت الحمّام، ووضعت مزيداً من مستحضر تحمير الخدود على وجنتيها المبهرجتين.
  "يا آنسة سيليا". قلت، وأغمضتُ عينَيّ، طالبةً من الله مساعدتي على اختيار الكلمات المناسبة. "هذا المساء، عندما ترين الآنسة هيلي...".
  وابتسمَت أمام المرآة. "لقد خططتُ لكل شيء. فعندما يقصد جوني الحمّام، سأقوم بإخبارها أن علاقتهما كانت منتهية عندما بدأت علاقتي بجوني".
  وتنهّدتُ. "ليس هذا ما أعنيه. قد... قد تقول بعض الأمور... عني".
  "تريدين مني أن أُخبر هيلي أنك ترسلين إليها التحية؟". قالت، وخرجَت من الحمّام. "بما أنك عملت كل تلك السنوات لدى والدتها؟".
  وحدّقتُ إليها مرتدية ذلك الفستان زهري اللون المثير، ومنتشية بالشراب الفرنسي لدرجة أنها باتت حولاء تقريباً. وتجشأَت قليلاً. لم تكن هناك أي فائدة من إخبارها بأي شيء في ذلك الحين وهي بتلك الحال.
  "لا، يا سيدتي. لا تقولي لها شيئاً". قلتُ، وتنهّدتُ.
  فعانقتني. "أراك هذا المساء. أنا سعيدة جداً بوجودك هناك لأنه سيكون لديّ من أتحدث إليه".
  "سأكون في المطبخ، يا آنسة سيليا".
  "آه، وسيكون عليّ العثور على تلك الزجاجة التي أجهل اسمها... وترنّحَت فوق خزانة المطبخ، وعبثَت بكل الأشياء التي وضعتُها جانباً.
  ابقَي في المنزل فحسب، أيتها الغبية، هو ما أردت أن أقوله لها، ولكنني لم أفعل. لم تعُد للأمر أي فائدة. فبوجود الآنسة هيلي، لم تعُد للأمر أي فائدة بالنسبة إلى الآنسة سيليا وبالنسبة إليّ أيضاً.
الحفلة الخيرية
الفصل الخامس والعشرون
  تُعرف حفلة الرقص الخيرية السنوية لرابطة راشدات جاكسون باسم الحفلة الخيرية ببساطة من قبل كل من يعيش في نطاق عشرة أميال من المدينة. وعند الساعة السابعة من مساء يميل إلى البرودة في تشرين الثاني/نوفمبر، يصل الضيوف إلى مَقصِف فندق روبرت لحضور كوكتيل طوال ساعة من الزمن. وعند الثامنة، تُفتح أبواب القاعة العامة على قاعة الرقص حيث عُلّقت حبال مخملية خضراء حول النوافذ مزيَّنة بباقات من العِنَبية الحقيقية.
  وتقوم على امتداد النوافذ طاولات وُضعت عليها لوائح بالسلع المعروضة في المزاد العلني وبأسعارها. لقد تم وهب السلع من قِبل عضوات في الرابطة ومتاجر محلية، وكان من المنتظر أن يحقق المزاد العلني في ذلك العام أكثر من ستة آلاف دولار، أي أكثر مما حققه في العام الأسبق بخمسمئة دولار. وتذهب العائدات إلى أطفال أفريقيا المتضوّرين جوعاً.
  في وسط القاعة، وتحت ثريّا ضخمة، كانت هناك ثمانٍ وعشرون طاولة مُعَدّة للعشاء عند التاسعة. وتوجد باحة للرقص ومنصة للجوقة الموسيقية في أحد جوانب القاعة المقابلة للمنبر حيث ستقوم هيلي هولبروك بإلقاء كلمتها.
  وبعد العشاء، تجري حفلة راقصة، فيثمل بعض الرجال، ولكن الزوجات العضوات لا يثملن أبداً. فكل عضوة في الرابطة تعتبر نفسها مضيفة، وتسمعونهنّ يطرحن على بعضهنّ بعضاً السؤال التالي: "هل يسير الأمر بشكل جيد؟ هل قالت هيلي شيئاً؟". فجميعهن يعرفن أنها ليلة هيلي.
  عند الساعة السابعة تماماً، بدأ الأزواج بالدخول من الأبواب الأمامية، مسلِّمين الفراء والمعاطف إلى رجال ملوَّني البشرة يرتدون بذلات الصباح الرمادية. وكانت هيلي، التي وصلت عند الساعة السادسة تماماً، ترتدي فستان تَفتة طويلاً كستنائيّ اللون، والكشاكش تضغط على عُنُقها، والكاتالوغات تغطي جسمها، والكمان الضيقان يغطيان ذراعيها. فأصابعها ووجهها هي الجزء الأصلي لهيلي الذي يمكنكم رؤيته.
  وكانت بعض النساء يرتدين فساتين مسائية جذّابة، وترون أكتافاً عارية هنا وهناك، وتضمن قفّازات مصنوعة من جِلد الجدي ظهور بوصات قليلة فقط من البشرة. بالطبع، وككل عام، تكشف ضيفة عن ساقها أو عن بعض صدرها. ومع ذلك، لا يمكن التعليق على الأمر لأنهنّ لسن عضوات في الرابطة.
  ووصلت سيليا فوت وزوجها عند السابعة وخمس وعشرين دقيقة، متأخرين عن موعدهما الذي خطّطا للوصول فيه. فعندما عاد جوني إلى المنزل من العمل، توقف عند مدخل باب غرفة النوم، ونظر إلى زوجته شذَراً، وكان لا يزال حاملاً حقيبته. "يا سيليا، ألا تعتقدين أن ذلك الفستان قد يكون... أممم... مفتوحاً من الأعلى؟".
  فدفعته سيليا باتجاه الحمّام. "آه، يا جوني، أنتم الرجال لا تعرفون شيئاً عن الموضة. الآن، أسرع واستعدّ".
  وتخلّى جوني عن الأمر قبل أن يحاول تغيير رأي سيليا. لقد كانا متأخرين عن موعدهما.
  لقد دخلا القاعة بعد الطبيب بول وزوجته. واتجه الزوجان بول إلى اليسار، في حين اتجه جوني إلى اليمين وبقيت سيليا واقفة تحت العِنَبيات بفستانها زهري اللون المثير والبرّاق.
  في غرفة الانتظار، بدا الجوّ هادئاً. كان الأزواج يحتسون الشراب الاسكتلندي برشفات متوسطة وينظرون إلى المرأة زهرية اللون عند الباب. وتطلب الأمر لحظات قليلة لتترسخ الصورة في أذهانهم. كانوا يحدّقون من دون أن يستوعبوا ما يرون. ولكن وجوههم أشعّت ببطء عندما عادوا إلى الواقع ورأوا بشرة حقيقية، وهدة عند الصدر، وربما شعراً أشقر مصبوغاً. كانوا يفكرون جميعاً في الأمر نفسه كما يبدو أخيراً... ولكن جَبهاتهم تغضّنت عندما شعروا بأظافر زوجاتهم المحدّقات أيضاً والمتأبطات أزواجهنّ. لقد بدا الندم في عيونهم، وهزأوا بحياتهم الزوجية (لا تدعني أبداً أقوم بأي عمل مسلٍّ)، وعادوا إلى شبابهم (لماذا لم أذهب إلى كاليفورنيا في ذلك الصيف؟)، وتذكّروا حبهم الأول (روكسان...) لقد حدث كل ذلك في غضون خمس ثوان تقريباً، وعادوا للتحديق.
  وأمال وليام هولبروك كأسه المليئة بخليط الشراب، وأراق نصفها على حذائه الجلدي الملتصق بقدمي المساهم الأكبر في حملته.
  "آه، يا كليربون، اعذري زوجي الذي يفتقر إلى اللياقة". قالت هيلي: "يا وليام، أعطِه منديلاً!". ولكن أيّاً من الرجلين لم يتحرك، ولم يتعدَّ الأمر تحديق أحدهما إلى الآخر.
  فتبعَت عينا هيلي الأنظار المحدّقة، ووقعتا أخيراً على سيليا. لقد أصبحت السنتمترات البادية من بشرتها في العُنُق مشدودة.
  "انظر إلى صدر تلك المرأة". قال رجل عجوز. "أشعر لدى النظر إلى هذه الأشياء أنني لست في السادسة والسبعين من عمري".
  فتجهّم وجه زوجة العجوز، إليانور كوزويل، وهي مؤسِّسة أصيلة للرابطة. "النهدان". قالت، ووضعت يدها على صدرها وتابعت: "هما لغرف النوم والإرضاع، وليسا للمناسبات المهيبة".
  "حسناً، ماذا تريدين منها أن تفعل يا إليانور؟ أتتركهما في المنزل؟".
  "أريد منها تغطيتهما حتى الأعلى".
  وأمسكَت سيليا ذراع جوني في أثناء توجههما إلى داخل القاعة. كانت تترنّح قليلاً في مشيتها، ولكن هل الشراب هو السبب أم أنّ حذاءها بكعبيه العاليَين هو السبب؟ لم يكن الأمر واضحاً. وطافا المكان، متحدّثَين إلى أزواج آخرين. في الحقيقة كان جوني يتحدث وسيليا تبتسم ليس إلا. لقد احمرّ وجهها مرات قليلة، ونظرت إلى نفسها. "يا جوني، هل تعتقد أنني أرتدي ملابس مفرطة في الأناقة لهذه المناسبة؟ جاء في الدعوة أنه يُفترض بالملابس أن تكون رسمية، ولكن النساء هنا يرتدين ملابس محتشمة جداً".
  وابتسم لها جوني بطريقة متعاطفة. فهو لن يقول لها أبداً: "هذا ما قلته لكِ". بل همس عِوَضاً عن ذلك: "تبدين رائعة. ولكن، إذا كنت تشعرين بالبرد، يمكنك وضع سترة عليك".
  "لا يمكنني ارتداء سترة رجل على فستان حفلة راقصة". ونظرَت إليه، مقلّبةً عينيها، وتنهّدت. "ولكن شكراً، يا حبيبي".
  وضغط جوني على يدها، وأحضر لها كأس شراب أخرى من المقصف، هي الخامسة حتى تلك اللحظة، بالرغم من عدم معرفته بذلك. "حاولي اتخاذ بعض النساء صديقات لك. سأعود على الفور". وتوجّه إلى قاعة الرجال.
  وتُركت سيليا واقفة بمفردها. فسحبت حافة فستانها عند العُنُق نحو الأعلى، وهزّته عند الخصر.
  وغنّت سيليا لنفسها أغنية ريفية قديمة برِفق: "... هناك ثقب في الدَّلو يا عزيزتي ليزا، يا عزيزتي ليزا...". ضاربةً الأرض بقدمها، وناظرةً حولها في أرجاء القاعة بحثاً عن شخص ما تعرفه. ووقفت على أطراف أصابعها ولوّحَت فوق رؤوس الناس المتجمّعين. "هِيه، هيلي، يو - هو".
  ورفعت هيلي نظرها في أثناء تحدّثها إلى إحداهنّ، ورأت سيليا على بُعد زوجين منها. فابتسمَت ولوّحت بيدها، ولكنها ابتعدت واختلطت بالحشد بينما كانت سيليا تتجه نحوها.
  وتوقفت سيليا في المكان حيث كانت هيلي موجودة، وتناولت رشفة أخرى من كأسها. كانت هناك مجموعات صغيرة ومتراصة من الناس حولها يتحدثون عن كل تلك الأمور التي يتناولها الناس في أثناء الحفلات، كما اعتقدَت، ويضحكون.
  "آه، هِيه، يا جوليا". نادت سيليا. كانتا قد التقيتا في إحدى الحفلات القليلة التي حضرها جوني وسيليا منذ تزوّجهما.
  فابتسمت جوليا فنواي، وألقت نظرة سريعة على من حولها.
  "أنا سيليا، سيليا فوت. كيف حالك؟ آه، كم أحب ذلك الفستان. من أين اشتريته؟ من جويل تايلر شوب؟".
  "لا، كنت ووارن في نيو أورليانز منذ أشهر قليلة...". ونظرت جوليا حولها، ولكن لم يكن هناك شخص قريب بما يكفي لإنقاذ نفسها. "وأنت تبدين... فاتنة الليلة".
  وانحنت سيليا باتجاهها وقالت: "حسناً، لقد سألتُ جوني، ولكنك تعرفين الرجال جيداً. هل تظنين أنني مفرطة في التأنّق؟".
  فضحكت جوليا، ولكنها لم تنظر إلى عيني سيليا أبداً. "آه، لا، لا عيب في مظهرك".
  وضغطت إحدى زميلات جوليا في الرابطة على ساعدها. "يا جوليا، نحن بحاجة إليك قليلاً، اعذرينا". وابتعدتا، ملقيتين رأس إحداهما على الآخر، وباتت سيليا بمفردها مجدداً.
  بعد خمس دقائق، فُتحت أبواب غرفة الطعام واسعاً، وتقدّم الحشد. وعرف الضيوف طاولاتهم بمساعدة بطاقات صغيرة يحملونها بأيديهم، بينما كانت التأوّهات تصدر من طاولات عرض الأسعار الموجودة على امتداد الجدار. كانت مليئة بقِطع فضيّة، وملابس للأطفال مُخاطة باليد، ومناديل قطنية، ومناشف للأيدي طُرِّزت عليها الأحرف الأولى للأسماء، وكان هناك طقم شاي للأطفال مستورَد من ألمانيا.
  كانت ميني عند إحدى الطاولات في الناحية الخلفية من القاعة تلمّع الكؤوس. "يا آيبيلين". همسَت: "ها هي".
  فرفعت آيبيلين نظرها، وشاهدت المرأة التي قرعت باب منزل الآنسة ليفولت قبل شهر. "من الأفضل للسيدات أن يتمسكن بأزواجهنّ الليلة". قالت.
  ومرّرت ميني قطعة القماش على حافة إحدى الكؤوس. "أعلميني إذا رأيتها تتحدث إلى الآنسة هيلي".
  "سأفعل. لقد دعوت لأجلك طوال اليوم".
  "انظري، ها هي الآنسة والترز، الخفاش المسنّ. وها هي الآنسة سكيتر".
  كانت سكيتر ترتدي فستاناً مخملياً أسود، طويل الكمين، محفوراً عند العُنُق، شعرها أشقر، وتضع أحمر شفاه. لقد قدِمت بمفردها، ووقفَت في فسحة فارغة. فألقت نظرة شاملة على الغرفة، وبدت سئِمة، ورأت بعد ذلك آيبيلين وميني. فأشاحت ثلاثتهنّ بنظرهنّ على الفور.
  وتوجهت إحدى عاملات المنزل ملونات البشرة، كلارا، إلى طاولتهما، وتناولت كأساً. "يا آيبيلين". همسَت، مُبقيةً نظرها على عملية التلميع. "هل تلك هي المرأة؟".
  "أي امرأة؟".
  "تلك التي تدوّن قصصاً عن عاملات المنزل ملونات البشرة. لماذا تقوم بذلك؟ لماذا هي مهتمة بالأمر؟ لقد سمعتُ أنها تأتي إلى منزلك كل أسبوع".
  فأنزلَت آيبيلين ذقنها. "انظري، علينا أن نُبقي الأمر سرّاً".
  وأشاحت ميني بنظرها. لا يعلم أحد من المجموعة أنها مشاركة في هذا الأمر. هنّ على عِلم بآيبيلين فحسب.
  وأومأت كلارا برأسها. "لا تقلقي، لن أخبر أحداً بأي شيء".
  ودوّنت سكيتر كلمات قليلة على دفترها، ملاحظات لمقالة عن الحفلة الخيرية تُنشَر في النشرة الدَّورية. ونظرت إلى أرجاء الغرفة، متأمّلةً الحبال المخملية الخضراء، والعِنبيات، والورود، وأوراق المغنوليا المجفَّفة الموضوعة على وسط كل طاولة. واستقرّ نظرها على إليزابيت الموجودة على بُعد أقدام قليلة وهي تنقّب في حقيبة يدها. لقد بدت مُرهَقة بعد إنجاب طفلها قبل شهر فقط. وشاهدت سكيتر سيليا فوت تقترب من إليزابيت. وعندما رفعت إليزابيت نظرها ورأت من يتجه نحوها، بدأت تسعل، ووضعت يدها على حلقها كما لو أنها تحمي نفسها من هجمة ما.
  "لست واثقة من وُجهتي، يا إليزابيت؟". سألت سكيتر.
  "ماذا؟ آه، يا سكيتر، كيف حالك؟". وأطلقت إليزابيت ابتسامة سريعة وواسعة. "كنت... أشعر بالحرارة هنا. أعتقد أنني بحاجة إلى هواء نقيّ".
  وراقبت سكيتر إليزابيت تغادر مُسرعة وتتبعها سيليا فوت مصدرة صوتاً بفستانها المريع. إنها القصة الواقعية، قالت سكيتر لنفسها. ليس تنسيق الزهور أو عدد الثنايا في الناحية الخلفية من فستان هيلي. هذا العام، سيكون الحدث موضة سيليا فوت الكارثية.
  بعد لحظات، أُعلن عن موعد العشاء وجلس الجميع على المقاعد المخصصة لهم. وجلست سيليا وجوني مع عدد قليل من الأزواج من خارج المدينة، أصدقاء أصدقاء ليسوا في الواقع أصدقاء أحد. وجلست سكيتر مع عدد قليل من الأزواج المحليين، ولكن ليس مع هيلي الرئيسة، أو أمينة السر في ذلك العام، إليزابيت. كانت القاعة مليئة بالثرثرة، وبإطراء على الحفلة والشاتوبريون. وبعد الطبق الرئيس، وقفت هيلي وراء المنبر، وحدثت جولة من التصفيق، وابتسمت هيلي للحاضرين.
  "مساء الخير، أشكركم كلكم بسبب مجيئكم الليلة. هل يستمتع الجميع بعشائهم؟".
  وظهرت إيماءات بالرؤوس تعبيراً عن الرِّضى.
  "قبل أن نبدأ بالبلاغات، أودّ شكر الأشخاص الذين يُنجِحون هذه الليلة". ومن دون إشاحة نظرها عن الحاضرين، أومأت هيلي إلى يسارها حيث اصطفت اثنتا عشرة عاملة منزل ملوّنة البشرة بملابسهنّ الرسمية البيضاء، ووقف وراءهنّ اثنا عشر رجلاً من ملوَّني البشرة يرتدون التوكسيدو الرمادية والبيضاء.
  "لنصفّق لعاملات المنزل ولكل الطعام الرائع الذي طهونه وقدّمنَه، ولأطباق التحلية التي أعددنها لمناسبة المزاد العلني". عندها، التقطت هيلي بطاقة وقرأت، "بطريقتهنّ الخاصة، هنّ يساعدن الرابطة على بلوغ هدفها المتمثل بإطعام أطفال أفريقيا المتضوّرين جوعاً، وأنا على ثقة تامة أنه أمر عزيز على قلوبهنّ أيضاً".
  وصفّق ذوو البشرة البيضاء للخادمات والخدّام، وابتسم بعض الخدّام، ولكن العديد منهم كانوا يحدّقون إلى الفضاء فوق رؤوس الحشد.
  "نودّ بالتالي شكر تلك غير المنتسبات إلى عضوية الرابطة في هذه الغرفة اللواتي خصصن وقتهنّ ومساعدتهنّ، لأنهن جعلن مهمتنا أكثر سهولة".
  وجرى تصفيق خفيف، وشوهدت بعض الابتسامات الفاترة وإيماءات رؤوس وسط العضوات وغير العضوات. يا للأسف، كانت تقول العضوات لأنفسهنّ كما يبدو. يا للعار لأنكنّ لم تتمتعن أيتها الفتيات بالكياسة الضرورية للانضمام إلى نادينا. وأكملت هيلي شاكرةً بصوت وطني موسيقي. وقُدّمت القهوة، وشرب الأزواج أكوابهم، ولكن معظم النساء كنّ مأخوذات بهيلي. "... شكراً لبون هاردوير... دعونا لا ننسى متجر بن فرانكلين للسلع الرخيصة...". واختتمت اللائحة بقولها: "وبالطبع نشكر المساهم مجهول الاسم لما قدّمه من تجهيزات لمبادرة تعزيز الصحة المنزلية".
  وضحك قليل من الأشخاص بعصبية، ولكن معظمهم أداروا رؤوسهم للتحقق مما إذا كانت سكيتر تملك الجرأة الكافية للظهور.
  "بدلاً من الشعور بالخجل، أودّ أن تصعد وتقبل امتناننا. صدقاً، لما تمكنّا من تحقيق العديد من الأمور من دونك".
  وأبقت سكيتر أنظارها على المنبر بوجه هادئ غير متأثر. وأطلقت هيلي ابتسامة سريعة ومُشرقة. "وأخيراً، أوجّه شكراً خاصاً لزوجي، وليام هولبروك، الذي قدّم جائزة يمضي بموجبها الفائز نهاية أسبوع في معسكره الخاص لصيد الأيائل". وابتسمت لزوجها، وأضافت بنبرة أكثر انخفاضاً: "ولا تنسوا أيها الناخبون الاقتراع لهولبروك سيناتوراً للولاية".
  وضحك الضيوف بوِدّ لإعلان هيلي.
  "ماذا، يا فرجينيا؟". ووضعت هيلي يدَها على أُذُنها لتسمع بشكل أفضل. "لا، أنا لا أخوض الانتخابات معه. ولكن أعضاء الكونغرس موجودون معنا الليلة، وإذا لم تعدّلي موقفك من المدارس المنفصلة، لا تعتقدي أنني لن أقصدك وأقوم بالأمر بنفسي".
  وكان هناك مزيد من الضحك. فأومأ السيناتور والسيدة ويتوورث الجالسان إلى طاولة في الناحية الأمامية برأسيهما وابتسما. ووجّهت سكيتر الجالسة إلى طاولتها في الناحية الخلفية نظرها إلى حضنها. كانا قد تبادلا الحديث في وقت مبكّر في أثناء ساعة الكوكتيل، ولكن السيدة ويتوورث اقتادت السيناتور بعيداً عن سكيتر قبل أن يتمكن من معانقتها مجدداً. ولم يأتِ ستيوارت.
  بعد انتهاء العشاء والخطاب، نهض الناس للرقص، وتوجّه الأزواج إلى المِقصف، وأسرع آخرون إلى طاولة المزاد العلني لمزايدات الدقيقة الأخيرة. كانت هناك جدّتان تخوضان حرب مزايدات على طقم شاي قديم العهد خاص بالأطفال. لقد أطلق أحدهم شائعة تقول إن ذلك الطقم يخصّ عائلة مالكة، وقد هُرِّب على متن عربة نقل يجرّها حمار إلى خارج ألمانيا حتى وصل في النهاية إلى متجر مغنوليا للسلع قديمة العهد في شارع فيرفيو ستريت. فارتفع السعر من خمسة عشر دولاراً إلى خمسة وثمانين دولاراً بلحظات.
  في الزاوية القائمة بجانب المِقصف، كان جوني يتثاءب وكان جبين سيليا متغضناً. "لا يمكنني أن أصدّق ما قالته عن غير العضوات اللواتي يقدمن المساعدة. قالت لي إنهنّ لسنَ بحاجة إلى أي مساعدة هذا العام".
  "حسناً، يمكنك تقديم المساعدة في العام التالي". قال جوني.
  ورأت سيليا هيلي التي كانت مُحاطة في ذلك الوقت بعدد قليل من الأشخاص.
  "يا جوني، سأعود". قالت سيليا.
  "وبعد ذلك، دعينا نخرج من هنا. لقد سئمتُ بذلة القرد هذه".
  وضرب ريتشارد كروس، وهو عضو في معسكر جوني لصيد البط، بيده على ظهر جوني. لقد قالا أمراً ما، ومن ثم ضحكا. ومرّرا نطريهما على الحشد.
  وكادت سيليا هذه المرة تتمكن من التحدث إلى هيلي لولا قيام هذه الأخيرة بالانسلال وراء المِنبر. وعادت سيليا كما لو أنها تخشى الاقتراب من هيلي التي بدت قوية جداً قبل دقائق قليلة.
  وبتواري سيليا عن الأنظار في غرفة السيدات، توجهت هيلي إلى الزاوية.
  "يا جوني فوت". قالت هيلي. "لقد تفاجأت برؤيتك هنا. الكل يعرفون أنه لا يمكنك تحمّل حفلات كبيرة كهذه". وضغطت على ذراعه.
  فتنهّد جوني. "هل تعرفين أن موسم الظِّباء يُفتتح غداً؟".
  ووجّهت إليه هيلي ابتسامة بأحمر شفاه خرّوبيّ اللون. فاللون يتلاءم تماماً مع فستانها. لا بد من أنها بحثت عنه طوال أيام.
  "أنا مُرهَقة من سماع ذلك من الجميع. يمكنك تفويت يوم واحد من موسم الصيد، يا جوني فوت. كنت تقوم بذلك لأجلي".
  وقلّب جوني عينيه. "لما فوّتت سيليا هذا الأمر مقابل أي شيء".
  "أين زوجتك تلك؟". سألَت. وشدّت على ذراعه. "ليست في لعبة أل أس يو تقدّم النقانق الساخنة، أليس كذلك؟".
  وعبس جوني في وجهها. كان قد التقى سيليا في ذلك المكان.
  "آه، أنت تعلم أنني أغيظك. لقد تواعدنا طوال مدة كافية تمكّنني من القيام بذلك، أليس كذلك؟".
  وقبل أن يتمكن جوني من الإجابة، ربّت أحدهم على كتف هيلي التي توجهت إلى الزوج التالي، ضاحكة. وتنهّد جوني عندما رأى سيليا قادمة نحوه. "جيد". قال لريتشارد: "يمكننا الذهاب إلى المنزل. سأُسرع في الذهاب". ونظر إلى ساعته قائلاً: "خمس ساعات".
  واستمر ريتشارد في التحديق إلى سيليا في أثناء توجهها إليهما بخطى واسعة. فتوقفت وانحنت لالتقاط منديلها عن الأرض، مقدّمةً مشهداً سخيّاً لصدرها. "الانتقال من هيلي إلى سيليا كان نقلة نوعية، يا جوني".
  فهز جوني رأسه. "كما لو أنني كنت أعيش في الأنتاركتيكا طوال حياتي، وانتقلتُ صباح ذات يوم إلى هاواي".
  وضحك ريتشارد قائلاً: "كمن يذهب إلى السرير في كلية من الكليات المحافظة ويستيقظ في أولي ميس". وضحك الاثنان.
  بعد ذلك، أضاف ريتشارد بصوت أكثر انخفاضاً: "كفتى يتناول المثلجات للمرة الأولى في حياته".
  فرمقه جوني بنظرة. "أنت تتحدث عن زوجتي".
  "آسف، يا جوني". قال ريتشارد، ونظر إلى الأسفل. "لم أقصد الإساءة".
  ووصلت سيليا، وتنهدت بابتسامة مُحبَطة.
  "مرحباً، يا سيليا، كيف حالك؟". سأل ريتشارد وتابع: "تبدين جميلة الليلة".
  "شكراً، يا ريتشارد". وأصابت الحازوقة سيليا التي قطّبت جبينها وغطّت فمها بمنديل ورقي.
  "هل أنت ثملة؟". سأل جوني.
  "هي تمرح فحسب، أليس كذلك، يا سيليا؟". قال ريتشارد. "في الواقع، سأُحضر لك شراباً ستحبّينه كثيراً".
  وقلّب جوني عينيه لصديقه. "ونذهب إلى المنزل بعد ذلك".
  وتم تناول ثلاث كؤوس من الشراب، وأُعلن عن الفائزين في المزاد العلني الصامت. فوقفت سوزي برنيل وراء المِنبر بينما كان الناس يحرّكون كؤوسهم أو يدخّنون وهم جالسون إلى طاولاتهم، أو يرقصون على أغاني لِن ميلر وفرانكي فالي، أو يتحدثون بالرغم من ضجيج الميكروفون. وفي أثناء تلاوة الأسماء، تسلّم الفائزون السلع بحماسة من فاز بمسابقة حقيقية، وكما لو أن الغنيمة كانت مجانية ولم يُدفع ثمنها ثلاثة، أربعة، أو خمسة أضعاف ثمنها في المتجر. وحققت شراشف المائدة وقمصان النوم التي تحتوي على أربطة تُعْقَد باليد أسعاراً مرتفعة. وشهدت أواني المائدة المصنوعة من الفضة الخالصة رواجاً كبيراً، ولا سيما تلك التي تُستخدَم لنقل البَيض كثير التوابل، وإزالة الجبن المفلفل عن حبوب الزيتون، وقطع سيقان السُّمانى. وحان وقت التحلية، كاتوه، شرائح البرالين، قشدية، وبالطبع، فطيرة ميني.
  "... والفائزة بفطيرة ميني جاكسون المصنوعة من الكسترد بالشوكولا وذات الشهرة العالمية هي... هيلي هولبروك!".
  وكان هناك تصفيق أقل، ليس لأن ميني تشتهر بأطباقها، بل لأن اسم هيلي يثير موجة من التصفيق في أي مناسبة.
  وأوقفت هيلي حديثها. "ماذا؟ هل كان ذلك اسمي؟ لم أزايد على أي شيء".
  لم تزايد على أي شيء، قالت سكيتر لنفسها، وكانت جالسة بمفردها إلى طاولة بعيدة.
  "يا هيلي، لقد فزتِ للتوّ بفطيرة ميني جاكسون! أهنّئك". قالت المرأة بجانبها.
  وجالت أنظار هيلي على الموجودين في القاعة، مضيّقةً عينيها.
  وبسماع اسمها واسم هيلي في جملة واحدة، التزمت ميني الحذر الشديد على الفور. كانت تحمل كوب قهوة متسخاً بيد، وصينيّة فضية ثقيلة باليد الأخرى. ولكنها تسمّرت في مكانها.
  ورأتها هيلي، ولكنها لم تتحرك كذلك، بل ابتسمت قليلاً. "حسناً. ألم يكن ذلك لطيفاً؟ لا بد من أن أحدهم أدرج اسمي في المزاد العلني الخاص بتلك الفطيرة".
  ولم ترفع نظرها عن ميني. كان في استطاعة ميني الشعور بذلك، فكوّمت بقية الأكواب على الصينية، وتوجهت إلى المطبخ بأسرع ما يمكن.
  "أهنّئك، يا هيلي. لم أكن أعلم أنك من مُحبّي فطائر ميني!". قالت سيليا بصوت مرتفع. كانت قد قدِمت إليها من الخلف من دون أن تلاحظ ذلك. وفي أثناء توجهها إليها، تعثّرت سيليا بقائمة كرسي، فقهقه الحاضرون.
  وتسمّرت هيلي في مكانها، مراقبةً اقترابها. "يا سيليا، هل هذه دُعابة؟".
  واقتربت سكيتر أيضاً. كانت تشعر بملل كبير بسبب الأحداث التي يمكن التوقع بها في تلك الأمسية، ومُرهَقة من رؤية وجوه مُحرَجة لصديقات قديمات يشعرن بخوف كبير من الاقتراب منها والتحدث إليها. فسيليا هي الأمر الوحيد المثير للاهتمام الذي حدث طوال الليل.
  "يا هيلي". قالت سيليا، ممسكةً ذراع هيلي: "حاولت طوال الليل التحدث إليك. أظن أن هناك سوء فهم بيننا، وأعتقد أنني إذا شرحتُ...".
  "ماذا فعلتِ؟ دعيني أذهب...". قالت هيلي، صارفةً أسنانها. وهزّت رأسها، وحاولت الابتعاد.
  ولكن سيليا أمسكت بكمّ هيلي الطويل. "لا، انتظري! تريّثي قليلاً، عليك أن تصغي...".
  وسحبت هيلي ذراعها، ولكن سيليا لم تُفلتها. لقد مرّتا بلحظات عزم وتصميم، تحاول فيها هيلي الفرار وسيليا تُمسك بها، وسُمع صوت تمزّق.
  وحدّقت سيليا إلى المادة الحمراء بين أصابعها. لقد مزّقت طرف الكمّ خروبي اللون لفستان هيلي.
  فنظرت هيلي إلى الأسفل، ولمست رسغها التي باتت مكشوفة. "ماذا تحاولين أن تفعلي بي؟". قالت، مزمجرة. "هل تلك الزنجية حرّضتك على القيام بذلك؟ أيّاً يكن ما قالته لك، وأيّاًَ تكن الثرثرات التي تفوّهتِ بها هنا لأي شخص -".
  وتجمّع مزيد من الأشخاص حولهما، مستمعين، وناظرين إلى هيلي بوجوه متجهّمة وقلقة.
  "ثرثرتُ! لا عِلم لي بما -".
  وأمسكت هيلي ذراع سيليا. "من أخبرتِ؟". صاحت، غاضبة.
  "لقد قالت لي ميني. أعرف لماذا لا تريدين أن نكون صديقتين". وعلا صوت سوزي برنيل على الميكروفون، مُعلنةً أسماء الفائزين، مما حمل سيليا على رفع صوتها. "أعلم أنك تعتقدين أنني وجوني غدرنا بك". صاحت، وسُمع ضحك من الناحية الأمامية من القاعة بسبب بعض التعليقات، وحدث مزيد من التصفيق. وحالما وضعت سوزي برنيل الميكروفون للنظر إلى ملاحظاتها، صرخت سيليا: "... ولكنني أصبحت حاملاً بعد أن قطعتما علاقتكما". وتردد صدى الكلمات في القاعة، وساد الهدوء طوال ثوانٍ قليلة.
  وغضّنت النساء المحيطات بهما أنوفهنّ، وبدأت بعضهنّ بالضحك. "زوجة جوني ث - م - ل - ة". قالت إحداهنّ.
  فنظرت سيليا حولها، ومسحت العرق المتقطّر على جبينها. "لا ألومك على عدم محبتك لي، لا سيّما وأنك تظنين أن جوني خدعك برفقتي".
  "ما كان جوني لـ -".
  "- وآسفة لقول ذلك، أعتقد أنك كنت متلهّفة للفوز بتلك الفطيرة".
  وانحنت هيلي، وانتزعت زر اللؤلؤ عن الأرض، وانحنت نحو سيليا بطريقة لا تسمح لأحد بسماع ما تقول. "أخبري تلك الخادمة الزنجية أنني سأجعلها تعاني الأمرَّين إذا أخبرَت أحداً عن تلك الفطيرة. تعتقدين أنك ظريفة جداً بإشراكي في ذلك المزاد العلني، أليس كذلك؟ تعتقدين أن في استطاعتك شق طريقك إلى الرابطة من خلال الابتزاز؟".
  "ماذا؟".
  "أخبريني الآن على الفور، من أخبرتِ أيضاً عن -".
  "لم أُخبر أحداً أي شيء عن أي فطيرة، لقد -".
  "أيتها الكاذبة". قالت هيلي، ولكنها وقفت بشكل مستقيم وابتسمت. "يا جوني، يا جوني، أظن أن زوجتك بحاجة إلى عنايتك". ونظرت هيلي بعينين غاضبتين إلى النساء حولها كما لو أنهنّ مشاركات في الدُّعابة.
  "يا سيليا، ما الخطب؟". قال جوني.
  فعبست سيليا به، ومن ثم عبست بهيلي. "لا تتكلم بشكل منطقي، لقد نعتتني بالكاذبة، وهي الآن تتهمني بوضع اسمها للمشاركة في ذلك المزاد العلني المتعلق بتلك الفطيرة، و...". توقفت سيليا، ونظرت حولها كما لو أن أحداً غير موجود هناك. وترقرقت عيناها بالدموع، وتأوّهت، وشعرت بتشنّجات، وتقيأت على السجادة.
  "آه تبّاً!". قال جوني، وسحبها إلى الوراء.
  فأزاحت سيليا ذراع جوني عنها، وركضت إلى الحمّام، وتبعها.
  كانت هيلي تُطبق قبضتيها، ووجهها قرمزيّ اللون على غرار لون فستانها تقريباً. فابتعدت قليلاً وأمسكت ذراع نادل. "نظّفوا المكان قبل أن تفوح الرائحة".
  بعد ذلك، أحاطت النساء بهيلي بوجوه متجهّمة، طارحات أسئلة، وأذرعتهنّ ممدودة كما لو أنهنّ يحاولن حمايتها.
  "سمعتُ أن سيليا تعاقر الشراب، ولكن مسألة الكذب الآن؟". قالت هيلي لإحدى النساء الثرثارات بهدف إطلاق شائعة عن ميني تدحض قصة الفطيرة إذا ما انتشرت. "ماذا يدعون تلك المرأة؟".
  "كاذبة لا تستطيع الامتناع عن الكذب؟".
  "هذه هي التسمية، كاذبة لا تستطيع الامتناع عن الكذب". وابتعدت هيلي مع بعض النساء. "لقد نصبت له سيليا شركاً للزواج به، مُخبرةً إيّاه أنها حامل. أعتقد أنها كاذبة لا تستطيع الامتناع عن الكذب مذاك الحين".
  بعد مغادرة سيليا وجوني، انتهت الحفلة بسرعة. لقد بدت الزوجات العضوات مُرهَقات من كثرة الابتسام. وتناول الحديث المزادَ العلني، ومغادرةَ حاضنات الأطفال إلى منازلهنّ، ولا سيما تقيّؤ سيليا فوت وسط كل ذلك.
  وعندما غدت القاعة شبه فارغة في منتصف الليل، وقفت هيلي وراء المنبر، وقلّبت أوراق المزاد العلني الصامت. كانت شفتاها تتحركان في أثناء إجراء عملية الاحتساب، ولكنها استمرت في رفع نظرها، هازّةًَ رأسها. وكان عليها إعادة عملية الاحتساب، مُطلقةً الشتائم.
  "يا هيلي، أنت متوجهة إلى منزلك".
  فرفعت هيلي نظرها، ورأت والدتها السيدة والترز التي بدت أكثر وَهَناً من المعتاد بلباسها الرسمي. كانت ترتدي فستاناً ممتداً حتى الأرض بلون أزرق سماوي ومزركشاً بالخرَز، يعود تاريخه إلى العام 1943، وتتهدّل زهرة أوركيديا عند عظمة التَّرقوة. وكانت هناك امرأة ملوّنة البشرة بلباس رسمي أبيض بجانبها.
  "يا أمي، لا تدخلي ذلك البرّاد الليلة. لا أريد أن أبقى مستيقظة طوال الليل بسبب شعورك بعسر الهضم. اذهبي إلى السرير مباشرةً، هل سمعتِ؟".
  "ألا يمكنني الحصول على قطعة من فطيرة ميني أيضاً؟".
  فنظرت هيلي إلى والدتها، مضيّقةً عينيها. "أصبحت تلك الفطيرة في القُمامة".
  "حسناً، لماذا رميتها؟ لقد فزتُ بها من أجلك".
  وتسمّرت هيلي في مكانها للحظات، محاولةً استيعاب ما جرى. "أنت! أأنت التي أضفتِ اسمي إلى لائحة المشاركين في المزاد العلني؟".
  "قد لا أتذكر اسمي أو البلد الذي أعيش فيه، ولكن حادثة الفطيرة أمر لن أنساه أبداً".
  "يا لك من مسنّة عديمة النفع...". قالت هيلي، ورمت الأوراق التي كانت تحملها، مبعثرةً إيّاها في كل مكان.
  واستدارت السيدة والترز، واتجهت نحو الباب بمشية عرجاء وهي في عُهدة ممرضة ملوّنة البشرة. "حسناً، اتصلي بالصحف، يا بيسي". قالت: "جُنّ جنون ابنتي مجدداً".
ميني
الفصل السادس والعشرون
  في صباح يوم السبت، استيقظتُ مُتعَبة ومُصابة بألم. فدخلتُ المطبخ حيث كانت شوغر تعُدّ دولاراتها التسعة والخمسين سنتاً، وهو المبلغ الذي كسبته في الحفلة الخيرية مساء اليوم السابق. ورنّ الهاتف، فوصلت إليه شوغر بسرعة أكبر من سرعة نار مُستعرة. كان لشوغر صديق، ولم تشأ أن تعرف والدتها بذلك.
  "أجل، يا سيدي". همست شوغر وسلّمتني الهاتف.
  "آلو؟". قلت.
  "جوني فوت يتكلم". قال. "أنا في معسكر صيد الأيائل، ولكنني أريد أن أُعلمك فقط أن سيليا تشعر باستياء كبير. لقد مرّت بوقت عصيب في الحفلة ليلة أمس".
  "أجل يا سيدي، أعرف ذلك".
  "هل سمعتِ، إذاً؟". وتنهّد. "حسناً، أبقي نظرك عليها في الأسبوع القادم، هلاّ فعلتِ، يا ميني؟ أكون قد ذهبتُ إلى العمل لا أعلم. اتصلي بي فحسب إذا لم تستعد عافيتها. سأعود إلى المنزل باكراً إذا اضطُرني الأمر إلى ذلك".
  "سأعتني بها. ستكون بخير".
  لم أرَ ما حدث في الحفلة، ولكن بلغني ما جرى بينما كنت أنظف الصحون في المطبخ. كان كل الخدّام يتحدثون عن الأمر.
  "هل رأيتِ ذلك؟". كانت فارينا قد قالت لي. "السيدة زهرية اللون التي تعملين لديها ثملة جداً".
  فرفعتُ نظري عن حوض الغسيل ورأيت شوغر قادمة نحوي ويدها على شفتها. "أجل، يا أمي، لقد تقيّأت على الأرض، وكل من في الحفلة رأوا ذلك!". واستدارت شوغر، وضحكت مع الأخريات. ولكنها لم ترَ الصفعة متّجهة إليها، وتطايرت رغوة الصابون في الهواء.
  "أغلقي فمك، يا شوغر". ودفعتُها إلى الزاوية. "لا تدعيني أبداً أسمعك تتحدثين بالسوء عن السيدة التي تُطعمك، وتكسوك! هل سمعتني؟".
  فأومأت شوغر برأسها، وعدتُ إلى أطباقي، ولكنني سمعتها تتذمّر. "تقومين بذلك طوال الوقت".
  فاستدرتُ بسرعة ووضعتُ إصبعي على وجهها. "يحقّ لي ذلك لأنني أعمل كل يوم لدى تلك المرأة المجنونة".
  عندما ذهبتُ إلى العمل يوم الاثنين، كانت الآنسة سيليا لا تزال مستلقية على السرير، داسّةً وجهها تحت الملاءات.
  "صباح الخير، يا آنسة سيليا".
  ولكنها استدارت إلى الناحية الأخرى ولم تنظر إليّ.
  عند وقت الغداء، حملتُ لها صينية شطائر لحم.
  "لست جائعة". قالت، ورمت الوسادة على رأسها.
  فوقفتُ هناك أنظر إليها محنَّطةً بالملاءات.
  "ماذا ستفعلين، هل ستستلقين هناك طوال اليوم؟". سألتُ، عِلماً أنني رأيتها تقوم بذلك مرات عدة من قبل. لم تكن هناك أي مادة لزجة على بشرتها، أو أي ابتسامة على وجهها.
  "رجاءً، دعيني بمفردي فحسب".
  وبدأتُ أقول لها إنها بحاجة إلى النهوض من سريرها، وارتداء ملابسها المبهرَجة، ونسيان ما جرى، ولكنني توقفتُ عن الكلام بسبب كيفية استلقائها هناك بطريقة يرثى لها. فأنا لست طبيبتها النفسية، ولا تدفع لي أجراً لأكون كذلك.
  في صباح يوم الثلاثاء، كانت الآنسة سيليا لا تزال على السرير بقميص نومها الزرقاء التي أحضرتها معها من مقاطعة تونيكا كما يبدو، وكان الكشكش المخطَّط ممزقاً عند العُنُق. كان هناك ما يشبه بُقع فحم خشبي من الأمام. لقد بقيت صينية الغداء على الأرض منذ اليوم السابق من دون أن يُمَسّ الطعام.
  "هيا، دعيني أبدّل الملاءات. لن تصدّقي ما فعلته تلك المخبولة جوليا يوم أمس بالطبيب بيغماوث".
  ولكنها بقيت مستلقية هناك.
  وفي وقت لاحق، أحضرت لها صينية يوجد عليها طبق يخنة دجاج، عِلماً أن ما أردت القيام به حقاً هو الطلب من الآنسة سيليا استجماع قواها والانتقال إلى المطبخ لتناول الطعام بشكل ملائم.
  "يا آنسة سيليا، أعرف أن ما حدث في الحفلة الخيرية أمر مروّع. ولكن، لا يمكنك الجلوس هنا إلى الأبد وأنت تشعرين بالأسى على نفسك".
  فنهضت الآنسة سيليا ودخلت الحمام، وأقفلت على نفسها.
  وبدأتُ بتجريد السرير من كل ملاءة وغطاء. وعندما أنهيت ذلك، التقطتُ كل المناديل الورقية المبلَّلة وكوباً عن منصة الشراب، ورأيت كدسة من البريد. لقد ذهبت المرأة على الأقل إلى صندوق البريد. فرفعتُ تلك الكدسة لمسح الطاولة ورأيت على أعلى إحدى البطاقات حروف إيتش دبليو إيتش. فقرأتُ محتوى البطاقة على الفور من دون أن أعرف اسم المرسل:
عزيزتي سيليا
بدلاً من التعويض عليّ بثمن الفستان الذي مزّقته، يسعدنا، نحن في الرابطة، أن نتلقى منحة لا تقلّ عن مئتي دولار. إضافةً إلى ذلك، نرجو منك الامتناع عن التطوع للقيام بأي نشاطات لصالح الرابطة في المستقبل، كما وأن اسمك وُضع على لائحة المراقبة. نقدّر لك تعاونك في هذه المسألة.
من فضلك، حرّري الشيك باسم مجلس رابطة جاكسون.
بإخلاص،
هيلي هولبروك،
الرئيسة ورئيسة مجلس إدارة المخصصات.
  صباح يوم الأربعاء، كانت الآنسة سيليا لا تزال تحت الأغطية. فأنجزتُ عملي في المطبخ، وحاولتُ تقدير أهمية عدم وجودها معي هناك. ولكنني لم أتمكن من الاستمتاع بالأمر لأن الهاتف كان يرنّ طوال الصباح، ولم تقُم الآنسة سيليا بالرد على الاتصالات وذلك للمرة الأولى منذ أن بدأت العمل لديها. وبعد المرة العاشرة، لم أعُد أستطيع الاستماع إلى رنينه، فالتقطتُ السمّاعة وقلت آلو.
  وذهبتُ إلى غرفة نومها وقلت لها: "السيد جوني على الهاتف".
  "ماذا؟ لا يُفترض به أن يعرف أنني أعرف أنه على عِلم بشأنك".
  فأطلقتُ تنهيدة كبيرة لأُظهر لها أنني غير مستعدة للاستمرار في تلك الكذبة. "لقد اتصل بي في منزلي. انتهت اللعبة يا آنسة سيليا".
  وأغمضت الآنسة سيليا عينيها وقالت: "قولي له إنني نائمة".
  فالتقطتُ هاتف غرفة النوم، ونظرتُ إلى الآنسة سيليا، مستنكرة، وقلت له إنها في حوض الاستحمام.
  "أجل يا سيدي، هي بخير". قلت، ونظرتُ إليها مضيّقةً عينيّ.
  وأنهيت المكالمة الهاتفية، وحملقتُ بها.
  "يريد أن يعرف ماذا تفعلين".
  "لقد سمعتُ".
  "لقد كذبتُ إكراماً لك، تعرفين ذلك".
  وأعادت وضع الوسادة فوق رأسها.
  لم أعد قادرة على احتمال الأمر في فترة بعد ظهر اليوم التالي. فالآنسة سيليا كانت لا تزال في المكان نفسه طوال أسبوع، وغدا وجهها نحيلاً، وشعرها زيتيّ المظهر، وبدأت رائحة الأشخاص القذرين تفوح من الغرفة أيضاً. لقد راهنتُ على أنها لم تستحمّ منذ يوم الجمعة.
  "يا آنسة سيليا". قلت.
  فنظرت إليّ من دون أن تبتسم أو تتكلم.
  "سيعود السيد جوني إلى المنزل مساءً، ولقد أخبرته أنني سأعتني بك. ما الذي سيظنّه إذا رآك مستلقية بقميص نومك القديمة والقذرة التي ترتدينها؟".
  وسمعت الآنسة سيليا تشهق، وتطلق بعد ذلك العَنان لبكائها. "لَما حدث أي من ذلك لو بقيت في المكان الذي أنتمي إليه. لَتزوّج بالمرأة الملائمة له. لَتزوّج ب... هيلي".
  "هيا يا آنسة سيليا. ليس...".
  "إن نظرة هيلي إليّ... كما لو أنني نكرة، كما لو أنني نفاية على جانب الطريق".
  "ولكن، لا أهمية للآنسة هيلي. لا يمكنك الحكم على نفسك انطلاقاً من نظرة تلك المرأة إليك".
  "لستُ مناسبة لهذا النوع من الحياة. لست بحاجة إلى الجلوس إلى طاولة عشاء تتسع لاثني عشر شخصاً. لا أستطيع حمل اثني عشر شخصاً على القدوم حتى ولو توسلتُهم".
  فهززت رأسي لأن تذمّراتها لا تنتهي.
  "لماذا تكرهني إلى هذا الحد؟ هي لا تعرفني". قالت الآنسة سيليا، وبكت. "ونعتتني بالكاذبة أيضاً، واتهمتني أنني من فاز بتلك... الفطيرة لأجلها". وضربَت قبضتي يديها على ركبتيها. "لم يسبق لي أن تعرضتُ لإهانة مماثلة".
  "أي فطيرة؟".
  "لقد فازت إيتش - إيتش - هيلي بفطيرتك، واتهمتني بإشراكها بالمزاد العلني و... بالتحايل عليها". وناحت وشهقت بالبكاء. "لماذا أقوم بذلك؟ أدوّن اسمها على لائحة؟".
  وأدركت ما يجري ببطء شديد. فلم أكن أعرف من أشرك هيلي في مسابقة الفوز بالفطيرة، ولكنني كنت أعرف بالتأكيد سبب قيامها باتهام كل من ظنّت أنه الفاعل.
  وألقيت نظرةً سريعة على الباب، وقال ذلك الصوت في رأسي، اخرجي، يا ميني من هذا المكان. ولكنني نظرت إلى الآنسة سيليا تصيح بقميص نومها القديمة، وشعرتُ بذنب كثيف على غرار كثافة طين يازو.
  "لم يعُد في استطاعتي التسبب لجوني بكل ذلك. لقد اتخذتُ قراراً، يا ميني. سأعود". وناحت: "إلى شوغر ديتش".
  "ستتخلّين عن زوجك لأنك تعرّضت للإهانة في إحدى الحفلات؟". تمهّلي، قلتُ لنفسي، وفُتحت عيناي واسعاً. لا يمكن للآنسة سيليا أن تتخلى عن السيد جوني ما الذي سيحلّ بي؟
  وكان بكاء الآنسة سيليا يشتد كلما تذكّرت ذلك. فتنهّدتُ وراقبتها، متسائلةً عما يجب القيام به.
  يا الله، وافترضتُ أن الوقت قد حان لإطلاعها على الأمر الوحيد الذي لم أشأ إخبار أحد به. كنت سأفقد عملي على كل حال، وباتت في إمكاني المجازفة.
  "يا آنسة سيليا...". قلت، وجلست على الكرسي الأصفر بذراعين الموجود في الزاوية. لم يسبق لي أن جلست في أي مكان من هذا المنزل إلا في المطبخ وعلى أرض حمّامها، ولكن ذلك اليوم استدعى اتخاذ تدابير قصوى.
  "أعرف سبب الغضب الشديد للآنسة هيلي". قلت. "في ما يخص الفطيرة، أعني".
  وأطلقت الآنسة سيليا صيحة عالية في ذلك المنديل الورقي، ونظرت إليّ.
  "لقد فعلتُ لها أمراً ما. كان الأمر شنيعاً ومروِّعاً". وبدأ قلبي ينبض بمجرد التفكير في ذلك. وأدركتُ أنه ليس في استطاعتي الجلوس على ذلك الكرسي وإخبارها تلك القصة في الوقت نفسه. فنهضتُ وتوجهتُ إلى الجانب الأبعد من السرير.
  "ماذا؟". ونخرت أنفها متسائلة: "ماذا حدث، يا ميني؟".
  "اتصلت بي الآنسة هيلي في منزلي العام الماضي، عندما كنت لا أزال أعمل لدى الآنسة والترز لتخبرني أنها سترسل الآنسة والترز إلى دار السيدة العجوز. فأُصبتُ بالهلع لأن لديّ خمسة أبناء وبنات، وزوجي ليروي يقوم بنوبتي عمل".
  وشعرتُ بحرقة ترتفع في صدري. "أعلم أن ما قمتُ به ليس تصرفاً يقوم به الصالحون. ولكن، أي نوع من النساء تلك التي تُرسل والدتها إلى دار رعاية ليقوم الغرباء بالاعتناء بها؟ لا بد من أن تكون تلك المرأة مجنونة لتعتقد أن ما تقوم به صواب".
  وجلست الآنسة سيليا على السرير، ومسحَت أنفها. وبدت كما لو أنها تركز انتباهها.
  "لقد بحثت عن عمل طوال ثلاثة أسابيع. كنت أذهب كل يوم بعد انتهائي من العمل لدى الآنسة والترز للبحث عن عمل آخر. فذهبتُ إلى منزل الآنسة تشيلد، ومنزل عائلة رولي، ولكن من دون جدوى. وقصدتُ أيضاً منزل عائلة ريتشز، وباتريك سميث، لا بل أيضاً منزل الزوجين ثيبودو الكاثوليك اللذين رُزقا بسبعة أبناء وبنات، من دون أن أحظى بأي عمل".
  "آه يا ميني...". قالت الآنسة سيليا. "إنه أمر مروّع".
  وأطبقتُ فكّي بإحكام. "عندما كنت فتاة صغيرة، طلبت مني والدتي عدم مخاطبة الآخرين بوقاحة. ولكنني لم أستمع إليها، وذاع صيتي في أنحاء المدينة. لقد اعتقدتُ أن أحداً لا يريد الاستعانة بخدماتي لهذا السبب".
  "وبدأتُ أشعر بخوف حقيقي قبل يومين من التوقف عن العمل لدى الآنسة والترز، ولم أكن قد وجدت عملاً آخر بعد. فبإصابة بِيني بداء الرَّبو، واستمرار شوغر في الدراسة، وقيام كيندرا... و... كان وضعنا المالي حرِجاً. في ذلك الوقت، قدِمت الآنسة هيلي إلى منزل الآنسة والترز للتحدث إليّ".
  "قالت، تعالَي للعمل لديّ، يا ميني. سأدفع لك خمسة وعشرين سنتاً إضافية في اليوم. ودعَت ذلك جزرة متدلّية كما لو أنني بغل مِحراث". فشعرتُ بقبضتي يديّ تُطبقان. "وأتسبب بطرد صديقتي يول ماي كروكل من العمل لأحلّ مكانها. تظن الآنسة هيلي أن الجميع ذوو وجهين على غرارها".
  ومسحت وجهي بيدي. كنت أتعرّق، والآنسة سيليا تصغي مفتوحة الفم، مذهولة.
  "قلت لها لا شكراً لك، يا آنسة هيلي. فقالت إنها ستدفع لي خمسين سنتاً إضافية، وأجبت، لا يا سيدتي. لا، شكراً لك. فقالت لي إنها تعرف أن عائلات تشيلدس ورولي، والعائلات الأخرى، لم تمنحني أي عمل، وإنها حرِصت على أن يعرف الجميع أنني سارقة. لم أسرق أي شيء في حياتي، ولكنها أخبرت الجميع أنني سارقة، ولم يشأ أحد في المدينة الاستعانة بخدمات زنجية سارقة ووقحة، وذلك كي أُضطرّ إلى العمل لديها مجّاناً".
  "ولذلك قمتُ بما قمتُ به".
  وطرفت الآنسة سيليا عينيها وسألت: "ماذا فعلتِ يا ميني؟".
  "قلت لها أن تأكل غائطي".
  كانت الآنسة سيليا لا تزال جالسة هناك، مذهولة.
  "وعدتُ بعد ذلك إلى المنزل، وأعددت فطيرة الكسترد بالشوكولا تلك. لقد وضعتُ فيها سكّراً، وشوكولا بايكر، والفانيلا التي أحضرتها لي نسيبتي من المكسيك".
  "وحملتُها إلى منزل الآنسة والترز، وكنت أعلم أن الآنسة هيلي موجودة هناك في انتظار انتقال والدتها إلى دار العجزة كي تتمكن من الحصول على أوانيها الفضية وبيع المنزل".
  "وعندما وضعتُ تلك الفطيرة على المنضدة، ابتسمت الآنسة هيلي، معتقدةً أنها هدية إحلال سلام معها، وإبداء لأسفي العميق لما قلتُ. حينئذٍ، رأيتها بنفسي تلتهم قطعتين كبيرتين وتقول، كنت أعلم أنك ستبدّلين رأيك، يا ميني. كنت أعلم أنني سأحصل على ما أريد في النهاية. وضحكَت بشكل مبالغ فيه كما لو أن الأمر مضحك بالنسبة إليها".
  "عندها، قالت الآنسة والترز إنها جائعة قليلاً وتريد الحصول على قطعة من تلك الفطيرة. فقلت لها: لا، يا سيدتي. تلك الفطيرة للآنسة هيلي.
  "فقالت الآنسة هيلي، يمكن لوالدتي الحصول على بعضٍ منها إذا أرادت ذلك، ولكن قطعة صغيرة فقط. ماذا وضعت في الفطيرة، يا ميني، ليبدو مذاقها لذيذاً؟".
  "فقلت تلك الفانيلا الجيدة من المكسيك، وأخبرتُها عما وضعتُه أيضاً في تلك الفطيرة".
  كانت الآنسة سيليا مسمَّرة في مكانها تحدّق إليّ، ولكن لم أستطع النظر إلى عينيها.
  "وفتحت الآنسة والترز فمها، ولم تقل إحداهما في ذلك المطبخ أي شيء لمدة كافية سمحت لي بالخروج من الباب قبل أن تدركا أنني غادرت. ولكن الآنسة والترز شرعت بالضحك بقوة لدرجة أنها كادت تقع عن الكرسي، وقالت، حسناً، يا هيلي، هذا ما حصلتِ عليه، كما أظن. ولو كنت مكانك، لكففتُ عن إطلاق الأكاذيب على ميني وإلا عُرفتِ في مختلف أنحاء المدينة بالسيدة التي تناولت قطعتين من غائط ميني".
  واختلستُ نظرةً إلى الآنسة سيليا. كانت تحدّق بعينين مفتوحتين واسعاً، مشمئزة. وبدأتُ أشعر بالذُّعر لأنني أخبرتها بذلك. فهي لن تثق بي مجدداً. وتوجهتُ إلى الكرسي الأصفر وجلستُ عليه.
  "ظنت الآنسة هيلي أنك تعرفين القصة، وأنك تسخرين منها. لَما تهجّمت عليك لو لم أقم بما قمتُ به".
  كانت الآنسة سيليا تحدّق إليّ فحسب.
  "ولكنني أريد أن أُعلمك أن الآنسة هيلي ستفوز باللعبة إذا تخلّيت عن السيد جوني. عندها، تكون قد تغلّبت عليّ، وعليك...". وهززت رأسي، مفكّرةً في يول ماي وهي في السجن، وفي السيدة سكيتر من دون أصدقاء. "قلّة هم الأشخاص في هذه المدينة الذين لم تقم بسحقهم".
  ولزمت الآنسة سيليا الهدوء لفترة قصيرة، ونظرت إليّ بعد ذلك وبدأت بقول شيء ما، ولكنها أطبقت فمها.
  وقالت أخيراً: "شكراً لك لأنك... أخبرتني بذلك".
  واستلقت مجدداً. ولكن، قبل أن أُغلق الباب، استطعت رؤية عينيها مفتوحتين واسعاً.
  في صباح اليوم التالي، وجدتُ الآنسة سيليا خارج سريرها، وقد غسلَت وجهها، ووضعَت كل مساحيق التبرّج مجدداً. كان الطقس بارداً في الخارج، لذلك قامت بارتداء إحدى كنزاتها الصوفية الضيّقة.
  "هل أنت سعيدة بعودة السيد جوني إلى المنزل؟". سألتُ، ليس لأنني أهتمّ بذلك، بل لأنني أردت أن أعرف إذا كانت فكرة التخلي عن زوجها تتبادر إلى ذهنها.
  ولكن الآنسة سيليا لم تقل الكثير. كان الإرهاق بادياً في عينيها، ولم تكن سريعة في الابتسام لأي شيء. وأشارت بإصبعها إلى خارج النافذة. "أظن أنني سأزرع صفاً من شجيرات الورد على امتداد الناحية الخلفية من المُلكية".
  "متى تُزهر؟".
  "يُفترض بنا أن نرى شيئاً ما في الربيع القادم".
  واعتبرتُ ذلك علامةً جيدة لأنها تخطط للمستقبل. واعتبرتُ أن شخصاً مغادراً لا يتكبّد عناء زرع زهور لن تُزهر حتى العام التالي.
  عملت الآنسة سيليا طوال اليوم في حديقة الزهور، واعتنت بالأُقحوان. وفي اليوم التالي، دخلتُ المنزل ورأيتها جالسة إلى طاولة المطبخ، مُمسكة بالصحيفة ومحدّقة إلى شجرة الميموزا تلك. كان الطقس ماطراً وبارداً في الخارج.
  "صباح الخير، يا آنسة سيليا".
  "مرحباً، يا ميني". كانت الآنسة سيليا جالسة تنظر إلى تلك الشجرة وتحرّك قلماً بيدها. وبدأت تُمطر.
  "ماذا تريدين للغداء اليوم؟ لدينا لحم مشوي أو بعض من فطيرة الدجاج هذه...". وانحنيتُ، وأدخلتُ رأسي في البرّاد. كان يتعيّن عليّ اتخاذ قرار في شأن ليروي، ووضع حد لتصرفاته. إما أن تتوقف عن ضربي، أو أذهب. ولن آخذ الابنين والبنات معي. فعدم اصطحاب ابنيّ وبناتي معي أمر غير صحيح، ولكن من شأن ذلك أن يخيفه أكثر من أي شيء آخر.
  "لا أريد شيئاً". قالت الآنسة سيليا، ووقفَت، وخلعَت حذاءً أحمر اللون ذا كعبٍ عالٍ. ومدّدت ظهرها بينما كانت لا تزال تحدّق عبر النافذة إلى تلك الشجرة، وطقطقَت بُرجُماتها، وخرجَت من الباب الخلفي.
  ورأيتها في الجانب الآخر من الزجاج حاملةً فأساً. لقد أجفلني الأمر قليلاً لأن أحداً لا يحب رؤية امرأة مجنونة تحمل فأساً بيدها. كانت تؤرجحها عالياً في الهواء كعصا غليظة، لقد بدت متمرّسة في استخدام الفأس.
  "يا سيدة، لقد فقدتِ لون شعرك هذه المرة". كان المطر ينهمر على الآنسة سيليا من دون أن تكترث للأمر. وبدأت بقطع تلك الشجرة، فتساقطت الأوراق عليها وانغرزت في شعرها.
  فوضعتُ طبق اللحم المشوي الكبير على طاولة المطبخ وراقبتُ، آملةً في ألا يتحول ذلك الأمر إلى شيء آخر. كانت تفتح فمها، وتمسح المطر عن عينيها، وتزداد ضرباتها قوة بدلاً من الشعور بالإرهاق.
  "يا آنسة سيليا، ادخلي من المطر". صرختُ. "دعي السيد جوني يقوم بذلك عندما يعود إلى المنزل".
  ولكنها لم تكترث. لقد قطعت نصف الجِذع وبدأت الشجرة تتمايل قليلاً على غرار والدي. أخيراً، ارتميتُ على الكرسي الذي كانت تجلس عليه الآنسة سيليا تقرأ، وانتظرت انتهاءها من المهمة. فهززت رأسي ونظرتُ إلى الصحيفة. حينئذٍ، رأيت رسالة الآنسة هيلي مثنيّة تحتها مع الشيك الموجَّه إلى الآنسة هيلي بقيمة مئتي دولار. ونظرتُ عن قُرب. فعلى امتداد أسفل الشيك في الفراغ الصغير الخاص بالمدوّنات، كتبت الآنسة سيليا بخط جميل وحروف متصلة: لأجل قطعتَي هيلي.
  وسمعتُ صريفاً، ورأيتُ الشجرة تسقط على الأرض، وتتطاير أوراق الشجرة وأوراق السرخسية اليابسة في الهواء، وتعلق بشعرها المصبوغ بلون باترباتش.
الآنسة سكيتر
الفصل السابع والعشرون
  حدّقتُ إلى الهاتف في المطبخ. كان كشيء مَيت معلَّق على الجدار لأن أحداً لم يتصل بالمنزل منذ مدة طويلة، ويسود سكون مروّع الأماكن كافة في المكتبة، في الصيدلية حيث أشتري الدواء لوالدتي، في متجر هاي ستريت حيث أشتري حبر الآلة الكاتبة، وفي منزلنا. فاغتيال الرئيس كنيدي الذي حدث قبل أسبوعين صعق العالم. لقد بدا الأمر كما لو أن أحداً لا يُريد أن يكون أول من يكسر جدار الصمت لأن عملية الاغتيال حوّلت الأنظار عن بقية الأحداث.
  وعندما يرنّ الهاتف في وقت متأخر وفي حالات نادرة، يكون المتصل الطبيب نيل للإبلاغ عن نتائج مِخبرية سيّئة، أو أحد الأنسباء للاطمئنان عن صحة الوالدة. ومع ذلك، كنت لا أزال أفكر في ستيوارت أحياناً بالرغم من مرور خمسة أشهر على اتصاله الأخير، وانفصالي عنه في النهاية وإخبار والدتي بالأمر. لقد بدت والدتي مصدومة كما توقّعتُ، ولكنها تنهّدت فحسب، والحمد لله.
  فأخذتُ نفساً عميقاً، وطلبتُ رقم عاملة الهاتف، وأقفلتُ على نفسي في غرفة المؤونة. وزوّدتُ عاملة الهاتف المحلية برقم هاتف مكان بعيد، وانتظرتُ.
  "هاربر آند روو، ناشرون، بمن أصلك؟".
  "بمكتب إلين شتاين، رجاءً".
  وانتظرتُ إجابة سكرتيرتها على الهاتف، متمنّيةً لو أنني أجريت الاتصال قبل ذلك. ولكن، بدا لي أن من الخاطئ الاتصال خلال أسبوع مقتل كنيدي، كما أنني سمعت على النشرات الإخبارية أن معظم المكاتب مقفَلة. وتلا ذلك أسبوع مناسبة الشكر. وعندما اتصلتُ، أعلمني عامل الهاتف أن أحداً لا يجيب في مكتبها، لذلك قمتُ بالاتصال بها بعد أسبوع من الموعد الذي حدّدتُه.
  "إلين شتاين".
  فطرفتُ عينيّ، متفاجئةً أنها المُجيبة وليست سكرتيرتها. "يا سيدة شتاين، أنا آسفة، معك أوجينيا فيلان، من جاكسون، ميسيسيبي".
  "أجل... يا أوجينيا". وتنهّدَت، وقد بدت منزعجة لأنها جازفت بالإجابة عبر هاتفها الخاص.
  "أتصل لأُعلمك أن المخطوط سيكون جاهزاً بعد العام الجديد مباشرةً. سأرسله لك عبر البريد في الأسبوع الثاني من كانون الثاني/يناير". وابتسمتُ لأنني ألقيت بشكل ممتاز ما كنت أتدرّب على إلقائه.
  وساد الصمت باستثناء زفر دخان سيجارة. وانتقلتُ للجلوس على صفيحة الدقيق. "أنا... التي تكتب عن النساء ملونات البشرة؟ في الميسيسيبي؟".
  "أجل، أتذكّر". قالت، ولكن لم يكن في استطاعتي القول إذا كانت قد عرفتني حقاً. ولكنها قالت بعد ذلك: "أنت التي تقدّمتِ بطلب شغل منصب رئيس في مؤسستنا. كيف يسير ذلك المشروع؟".
  "لقد أنهيته تقريباً. لا تزال لدينا مقابلتان لإنجازه، وتساءلتُ عما إذا كان يُفترض بي إرساله إليك مباشرةً أو عبر سكرتيرتك".
  "آه لا، كانون الثاني/يناير غير مقبول".
  "يا أوجينيا؟ هل أنت في المنزل؟". سألت والدتي.
  فغطّيت سمّاعة الهاتف. "دقيقة فقط، يا أمي". أجبتُ، عِلماً مني أنني لو لم أقم بذلك، لدخلت غرفة المؤونة.
  "اللقاء الأخير للمحررين لهذا العام يجري في الحادي والعشرين من كانون الأول/ديسمبر". أكملت السيدة شتاين. "إذا كنت تريدين فرصة لتتم قراءة ما أعددته، يجب أن يكون بين يديّ قبل ذلك التاريخ، وإلا ذهب إلى المحرقة. أنت لا تريدينه أن يذهب إلى المحرقة، يا آنسة فيلان".
  "ولكن... قلتِ لي إن الموعد النهائي هو كانون الثاني/يناير...". وكنا في الثاني من كانون الأول/ديسمبر، ولم يكن يتبقى لي سوى تسعة عشر يوماً لإنهاء كل شيء.
  "في الحادي والعشرين من كانون الأول/ديسمبر يغادر الجميع لتمضية إجازاتهم، وفي العام الجديد نُغرَق بمشاريع الكتّاب والصحافيين المُدرَجة على لائحتنا الخاصة. وإذا لم تكوني معروفة، كما هي حالك، يا آنسة فيلان، فموعد ما قبل الحادي والعشرين هو نافذتك. إنه نافذتك الوحيدة".
  وابتعلتُ ريقي قائلة: "لا أعلم إذا...".
  "بالمناسبة، هل كنت تكلّمين والدتك؟ ألا تزالين تقيمين في المنزل؟".
  وحاولتُ التفكير في كذبة ما، كأنها تزورني فحسب، أو أنها مريضة، لأنني لم أشأ أن تظن السيدة شتاين أنني لم أفعل أي شيء في حياتي. ولكنني تنهّدتُ. "أجل، لا أزال أقيم في المنزل".
  "والزنجية التي أشرفت على تربيتك، أفترض أنها لا تزال هناك؟".
  "لا، لقد رحلَت".
  "أممم، إنه أمر مؤسف للغاية. هل تعرفين ماذا حلّ بها؟ لقد خطر في بالي أنك ستكونين بحاجة إلى تخصيص قسم في الكتاب لخادمتك".
  فأغمضتُ عينيّ، وقاومتُ الإحباط. "لا... أعرف مكانها حقاً".
  "حسناً، اعرفي مكانها وأضيفي ذلك القسم. سيُضفي طابعاً شخصياً على كل ذلك".
  "أجل يا سيدتي". قلت، عِلماً أن لا فكرة لديّ عن كيفية قيامي بإنهاء القسمين المتبقيين في الوقت المحدد، فكيف بوضع قصص عن كونستنتين. لقد جعلتني فكرة الكتابة عنها أتمنى لو كانت موجودة هناك.
  "وداعاً، يا آنسة فيلان. آمل في أن تتمكني من تقديم المخطوط قبل الحد الزمني الأقصى". قالت، ولكنها تمتمت قبل أن تُنهي المكالمة الهاتفية، قائلة: "وحباً بالله، أنت امرأة مثقَّفة في الرابعة والعشرين من العمر. اذهبي واحصلي على شقة".
  أنهيت المكالمة الهاتفية، مصعوقةً بالحد الزمني الأقصى وبإصرار السيدة شتاين على إدخال قصة كونستنتين في الكتاب. كنت أعلم أنني بحاجة إلى استئناف العمل على الفور، ولكنني مررتُ على والدتي في غرفة نومها. ففي الأشهر الثلاثة الماضية، ازدادت حال قرحتها سوءاً. لقد فقدَت مزيداً من وزنها ولا يمرّ يومان من دون أن تتقيّأ. حتى إن الطبيب نيل بدا منذهلاً عندما اصطحبتُها إلى عيادته في الأسبوع السابق.
  ونظرت إليّ والدتي من الأعلى إلى الأسفل. "أليس لديك نادي بريدج اليوم؟".
  "لقد أُلغي. طفل إليزابيت ممغوص". قلتُ، كاذبة. لقد قيل عدد كبير من الأكاذيب، وباتت الغرفة مُثقَلة بها. "كيف تشعرين؟". سألتُ. فالوعاء الأبيض المصقول موجود بقربها على السرير. "هل تقيّأتِ؟".
  "أنا بخير. لا تُغَضّني جبينك على هذا النحو، يا أوجينيا. سيسيء ذلك إلى مظهرك".
  كانت والدتي لا تزال لا تعرف أنني طُردت من نادي البريدج، وأن باستي حصلت على شريكة جديدة في لعبة كرة المضرب. ولم أكن أُدعى إلى حفلات الكوكتيل، أو لحضور عملية تحميم الطفل، أو إلى أي مناسبات تكون هيلي موجودة فيها، باستثناء الرابطة. ففي اجتماعات الرابطة، تكون النساء جافيات معي للغاية لدى مناقشة أمور مرتبطة بالنشرة الدَّورية، فأحاول إقناع نفسي بعدم الاكتراث لذلك. كنت أعمل على الآلة الكاتبة، ولا أغادر المنزل في معظم الأيام، وأقول لنفسي، هذا ما تحصلين عليه عندما تضعين واحداً وثلاثين مرحاضاً في الباحة الأمامية للمرأة الأكثر شعبية. وكان الناس يميلون إلى معاملتك بطريقة مختلفة عن السابق.
  كانت أربعة أشهر قد مرّت على إيصاد الباب بشكل مُحكَم بين هيلي وبيني، باب مصنوع من الجليد السميك الذي يتطلب مئة صيف مماثل لصيف الميسيسيبي لإذابته. كنت أتوقع تلك النتائج، ولكنني لم أظن أنها ستدوم طويلاً.
  كان صوت هيلي على الهاتف مدوّياً، كما لو أنها أمضت الصباح في الصياح. "أنت مريضة". قالت مهسهِسة. "لا تكلّميني، لا تنظري إليّ. لا تحيّي طفليّ".
  "كانت غلطة مطبعية، يا هيلي". هو كل ما كان في استطاعتي التفكير في قوله.
  "سأقصد منزل السيناتور ويتوورث بنفسي لأخبره، يا سكيتر فيلان، أنك ستكونين آفة في حملته الانتخابية في واشنطن، ثُؤلولة على وجه سمعته إذا صادقك ستيوارت مجدداً!".
  لقد شعرتُ بالانقباض لدى ذكر اسمه، عِلماً أن أسابيع مرت على انقطاع علاقتنا. كان في استطاعتي تخيّله مُشيحاً بنظره، وغير مُبالٍ بما أقوم به.
  "لقد حوّلتِ باحتي إلى مكان تافه". قالت هيلي. "منذ متى تخططين لإذلال عائلتي؟".
  فما لم تفهمه هيلي هو أنني لم أخطط لذلك أبداً. فعندما بدأتُ بإعداد مبادرتها للنشرة الدَّورية، طابعةً كلمات مثل مرض وحماية أنفسكم وأهلاً وسهلاً بكم! بدا الأمر كما لو أن أمراً ما انفتح في داخلي، ليس على غرار البطيخ الأحمر، بل شيئاً بارداً، مهدّئاً، وحُلو المذاق. كنت أعتقد على الدوام أن الجنون هو شعور مُظلم ومرير، ولكن تبيّن لي أنه لذيذ ومُشبَع بالعصارة. لقد دفعتُ لكل من أشقاء باسكاغولا خمسة وعشرين دولاراً لوضع تلك المراحيض في مَرجة منزل هيلي. لقد شعروا بالخوف ولكنهم رغبوا في القيام بذلك. وتذكّرتُ كم كان الليل دامساً، وتذكّرتُ كم شعرتُ أن الحظ يحالفني بسبب وجود ذلك العدد من المراحيض في باحة النفايات بعد إفراغ مبنى قديم من محتوياته. لقد حلمتُ مرتين أنني موجودة هناك أقوم بالأمر مجدداً. لم آسف على ما جرى، ولكنني لم أعد أشعر أن الحظ يحالفني.
  "وتعتبرين نفسك مؤمنة حقاً". تلك كانت الكلمات الأخيرة التي قالتها لي هيلي. فقلتُ لنفسي، يا الله، لم يسبق لي أن قمت بذلك.
  في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، فاز ستولي ويتوورث في الانتخابات لشغل مقعد في مجلس الشيوخ في واشنطن. ولكن وليام هولبروك خسر في الانتخابات لشغل منصب سيناتور محلّي. كنت على ثقة أن هيلي تُلقي اللوم عليّ في ذلك أيضاً، ناهيكم عن أن كل محاولاتها للإيقاع بيني وبين ستيوارت باءت بالفشل.
  بعد ساعات قليلة من التحدث إلى السيدة شتاين على الهاتف، عدتُ على أطراف أصابعي للتحقق من وضع والدتي للمرة الأخيرة. كان والدي نائماً بجانبها، وهناك كوب حليب لوالدتي على الطاولة. كانت تُسند نفسها إلى وسائدها ولكن عينيها مغمضتان. ففتحتهما في أثناء اختلاسي النظر.
  "هل أُحضر لك شيئاً، يا أمي؟".
  "أنا أرتاح فقط لأن الطبيب نيل طلب مني ذلك. أين تذهبين، يا أوجينيا؟ إنها السابعة تقريباً".
  "سأعود بعد قليل. سأقوم بنزهة بالسيارة". وقبّلتها، آملةً في ألا تطرح عليّ مزيداً من الأسئلة. وعندما أغلقتُ الباب، استغرقَت في النوم.
  وقدتُ بسرعة إلى المدينة لأُطلع آيبيلين على الحد الزمني الأقصى الجديد. كانت الشاحنة القديمة تُحدث ضجيجاً لدى سقوطها بالحُفَر، وقد ازدادت حالها سوءاً بعد موسم قطن آخر شاق. كان رأسي يصطدم عملياً بالسقف، وأقود والزجاج مفتوح، واضعةً ذراعي على الباب كيلا يُصدر ضجيجاً. ويحمل الزجاج الأمامي آثار اصطدام على صورة مغيب الشمس.
  توقفتُ عند إشارة مرور في شارع ستيت ستريت قبالة مبنى الصحيفة. وعندما نظرتُ إلى جانبي، رأيت إليزابيت وماو موبلي وراليه جالسين على المقعد الأمامي لسيارتهم البيضاء من طراز كورفير، عائدين إلى المنزل بعد تناول العشاء في مكان ما، كما اعتقدتُ. فأشحتُ بنظري عنهم، وتسمّرتُ في مكاني كيلا تراني وتسألني عما أفعله في الشاحنة. ولم أنطلق قبلهم، بل بقيتُ متوقفة أشاهد الأضواء الخلفية لسيارتهم، وأقاوم سخونة ترتفع في حلقي. كان قد مرّ وقت طويل على تحدّثي إلى إليزابيت.
  فبعد حادث المراحيض، ناضلتُ وإليزابيت لنبقى صديقتَين. كنا نجري اتصالات هاتفية ببعضنا بعضاً من حين إلى آخر، ولكنها كفّت عن القيام بذلك في ما بعد، مكتفيةً بإلقاء التحية عليّ، والتوجه إلي ببعض العبارات الخالية من أي معنى في أثناء اجتماعات الرابطة مخافة أن تراها هيلي. والمرة الأخيرة التي مررتُ فيها إلى منزل إليزابيت كانت قبل شهر.
  "لا أستطيع أن أصدّق كم كبرت ماو موبلي". قلت، وابتسمت ماو موبلي بخجل واختبأت وراء ساق والدتها. كانت أطول قامة، ولكنها لا تزال تتمتع ببعض بدانة الأطفال.
  "تنمو كعشب ضارّ". قالت، ناظرةً عبر النافذة، وفكرت في مدى غرابة تشبيه طفلتكم بعشب ضار.
  كانت إليزابيت لا تزال في بُرنُس الحمّام، واللُفافات في شعرها، وقد بدت نحيلة بعد الحمل. وبقيت ابتسامتها مشدودة، واستمرّت في النظر إلى ساعتها، لامسةً لُفافات تجعيد الشعر كل بضع ثوانٍ. ودخلنا المطبخ.
  "هل تريدين الذهاب إلى النادي لتناول الغداء؟". سألتُ. وخرجت آيبيلين من باب المطبخ، ولمحتُ أواني فضيّة وقماش باتنبرغ مخرماً في غرفة الطعام.
  "لا أستطيع أن أطلب منك المغادرة، وأكره ذلك، ولكن... والدتي ستلتقيني في جويل تيلور شوب". ونظرَت خارج النافذة مجدداً. "تعلمين كم تكره والدتي الانتظار".
  "آه، أنا آسفة، لن أؤخّرك". وربّتُّ على كتفها وتوجهتُ إلى الباب. عندها، تبادرت الفكرة إلى ذهني. كيف يمكنني أن أكون بهذا الغباء. إنها الثانية عشرة ظهراً من يوم الأربعاء، موعد نادي البريدج.
  وأرجعتُ السيارة إلى الوراء على الطريق الخاصة بمنزلها، آسفةً بسبب إحراجي لها على هذا النحو. وعندما استدرتُ، رأيتها عند النافذة تراقبني أغادر بوجه مشمئز. حينئذٍ أدركتُ أنها لم تكن مُحرَجة لحملي على الشعور بالسوء. كانت تتجنّب الشعور بالإحراج إذا ما رآها أحدهم برفقتي.
  ركنتُ سيارتي في شارع آيبيلين، وعلى بُعد عدة منازل من منزلها، مُدركةً أننا بحاجة إلى التزام الحذر أكثر من أي وقت مضى. وبالرغم من أن هيلي لن تقصد هذه الناحية من المدينة أبداً، لقد كانت بمثابة تهديد بالنسبة إلينا كلنا، وشعرتُ أن عينيها في كل مكان. كنت أعرف مدى شعورها بالسعادة إذا أمسكت بي. لم أستهِن بما يمكنها القيام به لحملي على المعاناة طوال حياتي.
  كانت ليلة باردة من شهر كانون الأول/ديسمبر، وبدأت تُمطر. فعبرتُ الشارع مُسرعة ومطأطأ الرأس. كنت لا أزال أفكر في حديثي مع السيدة شتاين بعد الظهر، محاولةً وضع الأعمال المتبقية لنا وفقاً لأولويّاتها. ولكن الجزء الأكثر صعوبة هو اضطراري إلى سؤال آيبيلين مجدداً عما حلّ بكونستنتين. لم يكن في استطاعتي الحصول على قصة كونستنتين إذا لم أعرف ما الذي حلّ بها. فسرد جزء من القصة يُضعف مصداقية الكتاب لأنه لا يعرض الحقيقة في هذه الحال.
  واندفعتُ مسرعة إلى مطبخ آيبيلين. لا بد من أن النظرة المرتسمة على وجهي حملتها على الاعتقاد بحدوث مكروه ما.
  "ما الأمر؟ هل رآك أحد؟".
  "لا". قلت، مُخرجةً الأوراق من حقيبتي المدرسية. "لقد تحدثت إلى السيدة شتاين هذا الصباح". وأخبرتها كل ما أعرفه عن الحد الزمني الأقصى وعن إحالة المخطوط إلى المحرقة.
  "حسناً، إذاً...". وكانت آيبيلين تَعدّ الأيام في رأسها كما كنت أفعل طوال فترة بعد الظهر. "إذاً، لدينا أسبوعان ونصف بدلاً من ستة أسابيع. آه، يا الله، هذا الوقت لا يكفي. لا يزال يتعيّن علينا إنهاء كتابة قسم لوفينيا، وتنقيح قسم فاي بيل، وقسم ميني يحتاج إلى مزيد من العمل... يا آنسة سكيتر، حتى إننا لم نضع عنواناً بعد".
  فوضعتُ رأسي بين يدَيّ، وشعرتُ أنني أنزلق تحت الماء. "هذا ليس كل شيء". قلت: "تريدني... أن أكتب عن كونستنتين. لقد طلبت مني... إضافة ما حدث لها".
  ووضعَت آيبيلين كوب الشاي من يدها.
  "لا يمكنني كتابة أي شيء إذا لم أكن أعرف ما حدث، يا آيبيلين. لذلك، إذا لم يكن في استطاعتك إخباري... كنت أتساءل عما إذا كان في إمكان شخص آخر إخباري".
  فهزّت آيبيلين رأسها. "أعتقد أن هناك شخصاً آخر". قالت: "ولكنني لا أريد أن يخبرك شخص آخر بتلك القصة".
  "إذاً... هل ستخبرينني؟".
  ونزعت آيبيلين نظارتها ذات الإطار الأسود، وفركت عينيها، وأعادت وضعها. كنت أتوقع رؤية وجه مُرهَق. لقد عملَت طوال اليوم وستعمل بجهد أكبر، محاولةً عدم تخطي الحد الزمني الأقصى. فتململتُ على الكرسيّ، منتظرةً إجابتها.
  ولكنها لم تكن تبدو مُرهَقة على الإطلاق. كانت جالسة بشكل مستقيم وتومئ لي بطريقة تنمّ عن تحدٍّ. "سأدوّن ذلك. أمهليني أياماً قليلة. سأخبرك بكل ما حدث لكونستنتين".
  عملتُ على مقابلة لوفينيا خمس عشرة ساعة متتالية. وفي مساء الخميس، ذهبت إلى اجتماع الرابطة. كنت متلهّفة للخروج من المنزل بسبب عصبيّة مزاجي الناجمة عن الحد الزمني الأقصى، وازدياد رائحة شجرة الميلاد قوة، وتفسّخ البرتقال المزوَّد بالتوابل على نحو يدعو للغثيان. وكانت والدتي تشعر بالبرد باستمرار، ويبدو منزل والدَيّ كما لو أنه منقوع في وعاء كبير من الزبدة الحارة.
  وتوقفتُ قليلاً عند درج الرابطة، وأخذتُ نفساً عميقاً من هواء الشتاء النقيّ. كان الوضع بائساً، ولكنني كنت سعيدة لأنني لا أزال أحتفظ بعملي في النشرة الدَّورية، وأشعر مرةً واحدة في الأسبوع، في الواقع، أنني أقوم بنشاط ما. ومن يعلم، ربما كانت تلك المرة مختلفة مع بدء المناسبات.
  ولكن ما إن دخلتُ، حتى استدارت الظهور. كان استبعادي أمراً ملموساً كما لو أن جدراناً من الإسمنت ارتفعت حَولي. وأطلقت هيلي ابتسامة رضا عن النفس، وأدارت رأسها للتحدث إلى شخص آخر. ودخلتُ وسط الحشد ورأيتُ إليزابيت. فابتسمَت، ولوّحتُ بيدي. كنت أريد مكالمتها عن والدتي، وإخبارها أنني قلقة في شأنها. ولكن، قبل أن أقترب منها، استدارت، مطأطأة الرأس، وابتعدَت. إنه تصرّف جديد من قِبَلها.
  وبدلاً من الجلوس في مقعدي المألوف في الصف الأمامي، انسللت إلى الصف الخلفي، شاعرةً بالغضب لأن إليزابيت لا تريد إلقاء التحية. كانت هناك راشيل كول برانت بجانبي. لم تكن راشيل تحضر الاجتماعات باستمرار بسبب أطفالها الثلاثة وعملها على نَيل شهادة الماجستير في اللغة الإنكليزية من كلّية ميلسابس. فتمنّيتُ لو أننا صديقتان مقربتان، ولكنني كنت أعلم أنها شديدة الانشغال. ومن الجانب الآخر، كانت هناك ليسلي فولربين وسحابة من رذاذ الشعر. لا بد من أنها تجازف بحياتها كلما أشعلَت سيجارة، وتساءلت عما إذا كان الرذاذ سيخرج من فمها إذا ضغطتُ على أعلى رأسها.
  كانت كل امرأة في القاعة تقريباً متشابكة الساقين، وفي يدها سيجارة مُشعَلة، ويتجمّع الدخان ويتجعّد عند السقف. لم أكن قد دخّنتُ منذ شهرين، وحملتني الرائحة على الشعور أنني مريضة. واعتلت هيلي المنبر، وأعلنت عن الحفلات التي توزَّع خلالها جوائز (حفلة المعاطف، حفلة الصفائح المعدنية، حفلة الكتب، وحفلة العملة القديمة العادية)، ووصلنا بعد ذلك إلى الجزء المفضَّل لهيلي في الاجتماع، لائحة المصاعب التي يتعيّن مواجهتها. في هذا الجزء، تذكر هيلي أسماء كل من تلكّأت في القيام بواجباتها، أو تأخرت في القدوم إلى الاجتماعات، أو أنها لم تنجز مهامها الانتسابية. كنت على تلك اللائحة باستمرار في تلك الفترة بسبب أمر ما.
  كانت هيلي ترتدي فستاناً صوفياً أحمر واسعاً من الأسفل وضيّقاً من الأعلى، وتضع فوقه معطفاً بقلنسوّة من طراز شيرلوك هولمز، بالرغم من الحرارة الشديدة في الداخل المماثلة لحرارة النار، وتقوم بين الفينة والفينة برمي الحاشية الأمامية المتدلية إلى الوراء كما لو أنها تسدّ طريقها، ولكنها بدت مستمتعة كثيراً بتلك الحركة لدرجة أنها أصبحت مشكلة حقيقية بالنسبة إليها. كانت مساعدتها ماري نيل واقفة بجانبها تحمل ملاحظاتها، وتبدو ككلب صغير أشقر يوضَع في الحضن من نوع بكينغيز ذا قوائم صغيرة وأنفٍ مرفوع عند أسفله.
  "الآن، علينا مناقشة أمر مشوّق". وتسلّمت هيلي الملاحظات من الكلب الحضني وألقت نظرة عليها.
  "قررت اللجنة أنه في الإمكان إدخال تعديل على نشرتنا الدَّورية".
  فجلستُ بشكل مستقيم. ألا يُفترض بي اتخاذ قرار بشأن التغييرات التي يتعيّن إدخالها على النشرة الدَّورية؟
  "قبل كل شيء، نحن نبدّل النشرة الدَّورية من نشرة أسبوعية إلى شهرية. لقد ارتفع سعر الطوابع إلى ستة سنتات، وظهرت أيضاً مصاريف إضافية. ونضيف عموداً للموضة يسلّط الضوء على أفضل الملابس التي ترتديها عضواتنا، وعموداً للتبرّج يعرض لأحدث ما توصّل إليه عالم الموضة. آه، وهناك بالطبع لائحة المصاعب التي يتعيّن مواجهتها". وأومأت برأسها، ناظرةً إلى عيون عدد قليل من العضوات.
  "وأخيراً، إليكنّ التغيير الأكثر تشويقاً، لقد قررنا دعوة هذه النشرة الجديدة ذي تاتلر، تيمّناً باسم المجلّة الأوروبية التي تقرأها معظم السيدات".
  "أليس الاسم الأكثر لطافة؟". قالت ماري لو وايت، وكانت هيلي شديدة الاعتداد بنفسها لدرجة أنها لم تضرب المنبر بالمِطرقة لأن ماري لو تكلمت من دون إذن.
  "حسناً إذاً. حان وقت اختيار محرر لنشرتنا الشهرية الحديثة. هل من مرشحين؟".
  وارتفع عدد كبير من الأيدي. ولزمتُ مكاني من دون حراك.
  "جاني برايس، من تختارين؟".
  "أختار هيلي. أنا أرشّح هيلي هولبروك".
  "ألستِ الأكثر لطافة. حسناً، هل من أخريات؟".
  واستدارت راشيل كول برانت ونظرت إليّ قائلة: "هل تصدقين ذلك؟". من الواضح أنها الوحيدة في القاعة التي لا تعرف عما جرى بيني وبين هيلي.
  "هل من مساعِدات لـ...". ونظرت هيلي إلى المنبر كما لو أنها لا تستطيع تذكّر أسماء المرشَّحات. "مساعِدات لهيلي هولبروك المحررِّة؟".
  "أنا مساعدة ثانية".
  "أنا مساعدة ثالثة".
  وضربت هيلي بالمطرقة مرتين، وفقدتُ منصبي كمحررة.
  وحدّقت ليسلي فولربين إليّ بعينين واسعتين لدرجة أنه كان في استطاعتي التحقق من عدم وجود أي شيء في دماغها.
  "يا سكيتر، أليس هذا عملك؟". قالت راشيل.
  "كان عملي". تمتمتُ وتوجّهتُ إلى الأبواب مباشرةً بعد انتهاء الاجتماع. لم تتحدث إليّ إحداهن، ولم تنظر إحداهن إلى عينيّ، وأبقيتُ رأسي مرفوعاً.
  في الرَّدهة، كانت هيلي وإليزابيت تتحدثان. ووضعَت هيلي شعرها القاتم وراء أذنيها، ووجهَت إليّ ابتسامة لبِقة، وتوجهَت بخطوات واسعة نحو شخص آخر لمحادثته، ولكن إليزابيت بقيت مكانها. فلمسَت ذراعي بينما كنت سائرة.
  "مرحباً، يا إليزابيت". تمتمتُ.
  "آسفة، يا سكيتر". همسَت، ونظرنا إلى أعين بعضنا بعضاً، ولكنها أشاحت بنظرها. ونزلتُ الدرج، وخرجتُ إلى موقف السيارات المُظلم. كنت أعتقد أن لديها أمراً إضافياً تريد قوله لي، ولكنني كنت مخطئة.
  لم أذهب إلى المنزل مباشَرةً بعد اجتماع الرابطة. فأنزلتُ كل نوافذ الكاديلاك، وسمحتُ لهواء الليل بلفح وجهي، كان دافئاً وبارداً في آن معاً. كنت أعلم أنه يتعيّن عليّ الذهاب إلى المنزل للعمل على القصص، ولكنني سلكتُ المجازات الواسعة لشارع ستيت ستريت وقدتُ. لم يسبق لي أن شعرت بهذا الفراغ في حياتي، ولم أستطع تمالك نفسي من التفكير في كل ذلك العبء على كاهلي. لن أتمكن أبداً من إنجاز عملي في الحد الزمني الأقصى، وصديقاتي يحتقرنني، وستيوارت تخلّى عني، ووالدتي...
  لم أكن أعرف مما تشكو والدتي، ولكننا أدركنا جميعاً أن الأمر يتعدّى إصابتها بقرحة في المعدة.
  كان مقهى صن وستاند بار مُغلَقاً، فمررتُ بقربه ببطء، وتأمّلتُ لافتة النيون ومدى برودتها عندما تكون مطفأة. ومررتُ بمحاذاة مبنى لامار لايف الشاهق، وبجانب الأضواء الوامضة في الشارع. كانت الثامنة مساءً فقط، ولكن الجميع على أسرّتهم. فالكل نائمون في تلك المدينة بكل طريقة ممكنة.
  "أتمنّى لو أنني أستطيع المغادرة فحسب". قلت، وبدا صوتي غريباً لأن أحداً لا يسمعه. وفي الظلام، ألقيت نظرة إلى نفسي من أعلى الطريق كما في الأفلام السينمائية. لقد غدوتُ أحد أولئك الأشخاص الذين يطوفون الشوارع في الليل بسياراتهم. يا الله، أنا مثل بو رادلي في قتل طائر مقلِّد.
  وضغطتُ على زر تشغيل الراديو، متلهّفة لسماع صخب يملأ أذنيّ. كانت هناك أغنية إنها حفلتي، فبحثتُ عن شيء آخر. كنت قد بدأت أكره أغاني سنّ المراهقة عن الحب وعن اللاّشيء. استمعت إلى محطة دبليو كيه بيي أو في مِمفيس، فإذ بصوت رجل ثمل كما يبدو يغني بسرعة وحزن. وفي شارع مسدود، دخلت ببطء موقف سيارات متجر توت - سام، واستمعتُ إلى الأغنية. كانت أفضل من أي شيء آخر سمعتُه يوماً.
... ستغرق كحجر
وتتغيّر الأزمنة.
  أعلن المذيع عبر الراديو أن اسم المغنّي هو بوب ديلن، ولكن الموجة الإذاعية خبت مع بدء الأغنية التالية. فأسندتُ ظهري إلى مقعدي، وحدّقتُ إلى النوافذ المُظلمة للمتجر. لقد شعرتُ بارتياح لا يمكن تفسيره، وشعرت أنني سمعت شيئاً ما من المستقبل.
  في مقصورة الهاتف خارج المتجر، وضعتُ عشرة سنتات، واتصلتُ بوالدتي. كنت أعلم أنها ستبقى مستيقظة حتى أعود إلى المنزل.
  "آلو؟". كان صوت والدي عند الثامنة والربع ليلاً.
  "أبي... لماذا أنت مستيقظ؟ ماذا يجري؟".
  "عليك العودة إلى المنزل الآن، يا عزيزتي".
  بدا ضوء الشارع ساطعاً فجأةً في عينيّ، والليل شديد البرودة. "هل هي والدتي؟ هل تشعر بالغثيان؟".
  "ستيوارت جالس في الرُّواق الخارجي منذ ساعتين تقريباً. إنه ينتظرك".
  ستيوارت! لم أفهم. "ولكن أمي... هل هي...".
  "آه، أمك بخير. في الواقع، لقد أشرق وجهها قليلاً. عودي إلى المنزل يا سكيتر، واعتني بستيوارت".
  لم يسبق لطريق العودة إلى المنزل أن بدت بهذا الطول. وبعد عشر دقائق، توقفتُ أمام المنزل، ورأيت ستيوارت جالساً على درجة الرُّواق الخارجي. كان والدي جالساً على الكرسي الهزاز. ووقف كلاهما عندما أوقفت عمل محرك السيارة.
  "مرحباً، يا أبي". قلت، ولم أنظر إلى ستيوارت. "أين أمي؟".
  "نائمة، لقد تحققتُ من ذلك". قال والدي وتثاءب. لم أرَه مستيقظاً بعد الساعة السابعة في السنوات العشر الأخيرة عندما تتجمد نبتة القطن في الربيع.
  "عُمتما مساءً. أطفئا الأنوار عندما تنتهيان". ودخل والدي، وبقيت وستيوارت بمفردنا. كان الظلام دامساً، والليل شديد السكون، لدرجة أنني لم أستطع رؤية النجوم أو القمر، أو حتى رؤية كلب واحد في الباحة.
  "ماذا تفعل هنا؟". قلت، وبدا صوتي ضعيفاً.
  "جئت لأتحدث إليك".
  فجلستُ على الدرجة الأمامية، ووضعتُ رأسي على ذراعيّ. "قُل ما تريد بسرعة وارحل". كنت أشعر بتحسن. لقد سمعتُ هذه الأغنية، وشعرت بقليل من التحسن قبل عشر دقائق.
  اقترب مني من دون أن يلامس جسده جسدي، وتمنّيتُ لو أنهما تلامسا.
  "جئت لأقول لك أمراً ما. جئت لأقول لك إنني رأيتها".
  فرفعتُ رأسي. كانت أناني أول كلمة تتبادر إلى ذهني. يا أيها الأناني، تأتي إلى هنا للتحدث عن باتريشا.
  "ذهبتُ إلى سان فرانسيسكو منذ أسبوعين. لقد دخلتُ سيارتي، وقدتُ طوال أربعة أيام، وقرعتُ باب منزلها، وأعطتني والدتها عنوان إقامتها".
  غطّيتُ وجهي. فكل ما استطعت رؤيته هو ستيوارت يدفع بشعرها الأسود إلى الخلف كما اعتاد أن يفعل لي. "لا أريد أن أعرف".
  "قلت لها إنني أظن أنّ ما قامت به هو العمل الأكثر قباحة الذي يمكنك القيام به بحق شخص ما، الكذب بهذه الطريقة. لقد بدت مختلفة جداً. كانت ترتدي ذلك الفستان الذي بدا كسهل مُعشَوشب ورمز سلام. رأيت شعرها الطويل، ولم تكن تضع أحمر شفاه. لقد ضحكت عندما رأتني ودعتني فاجراً". وفرك عينيه بقوة. "هي التي خلعت ملابسها أمام ذلك الرجل قالت لوالدي إنني فاجر، فاجر الميسيسيبي".
  "لماذا تخبرني بذلك؟". وأطبقتُ قبضتي يديّ، وشعرتُ بطعم المعدن في فمي. لقد قضمتُ لساني.
  "ذهبتُ إلى هناك لأجلك. بعد انفصالنا، أدركت أنه يجب عليّ إخراجها من رأسي. وقمتُ بذلك، يا سكيتر. لقد قطعتُ ألفي ميل إلى هناك وعدتُ، وأنا هنا لأخبرك. لم تعُد تعني لي شيئاً".
  "حسناً، جيد، يا ستيوارت". قلت. "جيد بالنسبة إليك".
  اقترب مني، وانحنى كي أنظر إليه، فشعرت بالغثيان والاشمئزاز من رائحة الشراب في أنفاسه. ومع ذلك، كنت لا أزال أريد وضع كل جسدي بين ذراعيه. فأنا أحبه وأكرهه في آن معاً.
  "اذهب إلى المنزل". قلت، غير مصدّقة أنني طلبتُ منه ذلك. "لا مكان متبقٍّ لك في داخلي".
  "لا أصدّق ذلك".
  "لقد تأخرتَ، يا ستيوارت".
  "هل يمكنني القدوم يوم السبت؟ للتحدث قليلاً؟".
  فهززت كتفيّ، وترقرقت عيناي بالدموع. لن أسمح له برميي مجدداً. لقد حدث ذلك عدة مرات، معه، ومع أصدقائي وصديقاتي. سأكون غبية إذا سمحت لذلك بالحدوث مجدداً.
  "لا أبالي حقاً بما تفعل".
  استيقظت عند الخامسة صباحاً، وبدأت العمل على القصص. وبتبقي سبعة عشر يوماً فقط كحدٍّ زمني أقصى، عملت طوال النهار والليل بسرعة وفعالية لم أكن أعلم أنني أملكهما. وأنهيتُ قصة لوفينيا بنصف الوقت الذي استلزمني لكتابة قصص الأخريات، وبعد شعوري بألم حاد ومُحرق في الرأس، أطفأتُ النور مع دخول أولى أشعة الشمس عبر النافذة. فإذا سلّمتني آيبيلين قصة كونستنتين في أوائل الأسبوع التالي، قد أتمكن من إنجاز المخطوط.
  أدركت حينذاك أنه ليست لديّ سبعة عشر يوماً. يا لغبائي. كانت لديّ عشرة أيام عمل لأنني لم أحتسب الوقت الذي يتطلبه إرسال المخطوط عبر البريد إلى نيويورك.
  لقد رغبت في البكاء لو كنت أملك الوقت لذلك.
  بعد ساعات قليلة، استيقظت وواصلت العمل. وعند الخامسة بعد الظهر، سمعت صوت سيارة تتوقف، ورأيت ستيوارت يخرج من سيارته. فسحبتُ نفسي من أمام الآلة الكاتبة، وخرجت إلى الرُّواق الخارجي الأمامي.
  "مرحباً". قلت، واقفةً عند مدخل الباب.
  "مرحباً، يا سكيتر". وأومأ برأسه لي، شاعراً بالخجل كما ظننت، مقارنةً مع ما كانت عليه حاله قبل ليلتين. "مرحباً، يا سيد فيلان".
  "مرحباً، يا بُنَيّ". وقام والدي عن كرسيه الهزاز. "سأدعكما تتحدثان هنا".
  "لا تذهب يا أبي. آسفة، ولكن لديّ الكثير من العمل اليوم، يا ستيوارت. أهلاً وسهلاً بك. اجلس مع والدي هنا قدر ما تشاء".
  عدت إلى داخل المنزل، ومررتُ بوالدتي الجالسة إلى طاولة المطبخ تشرب الحليب.
  "هل مَن رأيتُه هناك في الخارج هو ستيوارت؟".
  دخلتُ غرفة الطعام، ووقفت بعيداً عن النافذة حيث أعلم أنه ليس في استطاعة ستيوارت أن يراني. وراقبته حتى مغادرته، وبعد ذلك استمررت بالمراقبة.
  في تلك الليلة، وكالعادة، ذهبت إلى منزل آيبيلين. فأخبرتها أنه لم يتبقَّ لنا عملياً سوى عشرة أيام كحدٍّ زمني أقصى، وبدت كما لو أنها تريد البكاء. وسلّمتها بعد ذلك فصل لوفينيا لقراءته، وهو الفصل الوحيد الذي كتبتُه بسرعة البرق. كانت ميني جالسة إلى طاولة المطبخ معنا تحتسي الكوك، ناظرةً خارج النافذة. لم أعرف أنها أمضت الليلة هناك، وتمنّيتُ لو أنها تدعنا نعمل.
  وضعته آيبيلين من يدها، وأومأت برأسها. "أظن أن هذا الفصل جيد جداً. قراءته مماثلة لقراءة الفصول المكتوبة بتأنٍّ".
  فتنهدتُ، مُسندةً ظهري إلى الكرسي، ومفكرةً في ما يتعيّن عليّ أيضاً القيام به. "يجب اتخاذ قرار في شأن العنوان". قلت وفركت صدغيّ. "لقد عملتُ على عدد قليل من العناوين. أعتقد أنه يُفترض بنا دعوته الخادمات المنزليات الملوّنات، والعائلات الجنوبية التي يعملن لديها".
  "ماذا قلتِ؟!". قالت ميني، ناظرةً إليّ للمرة الأولى.
  "إنها أفضل طريقة لوصفه، ألا تعتقدين ذلك؟". قلت.
  "كما لو أنك تدوسين على أكواز ذرة".
  "إنه ليس كتاباً خيالياً، يا ميني. إنه كتاب اجتماعي. يجب على العنوان أن يبدو دقيقاً".
  "ولكن، ذلك لا يعني أن يبدو مُملاًّ". قالت ميني.
  "يا آيبيلين". قلت وتنهدتُ، آملةً في أن نتمكن من حل مسألة العنوان في تلك الليلة. "ما رأيك؟".
  فهزت آيبيلين كتفيها، وكان في إمكاني فهم تلك الابتسامة المسالمة. لقد بدا الأمر كما لو أنه يجب عليها تلطيف الأجواء كلما تواجدتُ مع ميني في الغرفة نفسها. "إنه عنوان جيد. ستتعبين بالطبع من طبعه كله فوق كل صفحة". قالت. فقلتُ لها إن الأمور يجب أن تجري على ذلك النحو.
  "حسناً، يمكننا تقصيره قليلاً...". قلت، وأخرجتُ قلمي.
  وفركت آيبيلين أنفها، وقالت: "ما رأيك لو دعيناه... عاملة المنزل فقط؟".
  "عاملة المنزل". كررت ميني، كما لو أنه لم يسبق لها أن سمعت بتلك العبارة.
  "عاملة المنزل". قلت.
  فهزّت آيبيلين كتفيها، ووجهت نظرها إلى الأسفل خجِلة كما لو أنها شعرت بقليل من الحرج. "لا أحاول استبعاد فكرتك، أحب... تبسيط الأمور فحسب، أنت تعرفين ذلك؟".
  "أعتقد أن عنوان عاملة المنزل يبدو لي جيداً". قالت ميني وشبكت ذراعيها على نحو متصالب.
  "أحب... عاملة المنزل". قلت، لأنني أحببت العنوان حقاً. وأضفتُ: "أظن أنه يبقى علينا إضافة شرح تحته لإيضاح الفئة التي ينتمي إليها الكتاب، ولكنني أظن أنه عنوان جيد".
  "جيد هي الكلمة الصحيحة". قالت ميني: "لأنه إذا تمّت طباعة هذا الشيء، فالله يعلم أننا سنكون بحاجة إلى أن نكون في حال جيدة".
  بعد ظهر يوم الأحد، وبتبقي ثمانية أيام، نزلتُ إلى الطابق السفلي، مصابةً بدُوار، وطارفةً عينيّ بسبب التحديق إلى الحروف طوال اليوم. لقد شعرت بالسعادة إلى حدٍّ ما عندما سمعت سيارة ستيوارت تتوقف على الطريق الخاصة بمنزلنا. ففركت عينيّ. ربما أجلس معه قليلاً، فيصفو ذهني، وأعود بعد ذلك للعمل طوال الليل.
  خرج ستيوارت من سيارته الموحلة. كان لا يزال بربطة العنق ذاتها التي كان يضعها نهار الأحد، وحاولتُ تجاهل مدى وسامته. فمددتُ ذراعيّ. كان الطقس حارّاً في الخارج على نحو مثير للسخرية، عِلماً أن الميلاد يحلّ بعد أسبوعين ونصف. كانت والدتي جالسة في الرُّواق الخارجي على كرسيٍّ هزاز تلفّ نفسها بأغطية.
  "مرحباً، يا سيدة فيلان. كيف تشعرين اليوم؟". سأل ستيوارت.
  فأومأت له والدتي برأسها برزانة. "أفضل، شكراً لسؤالك". لقد تفاجأتُ بفتور صوتها. ووجهت نظرها إلى نشرتها، ولم أتمالك نفسي من الابتسام. كانت والدتي تعرف أنه يمرّ بمنزلنا، ولكنها لم تشر إلى الأمر إلا مرة واحدة.
  "مرحباً". قال لي بهدوء، وجلسنا على الدرجة السفلية للرُّواق الخارجي. وراقبنا بصمت هرّنا المسنّ شيرمن ينسلّ وراء شجرة، مؤرجحاً ذنبه، تابعاً مخلوقاً ما لا نستطيع رؤيته.
  وضع ستيوارت يده على كتفي. "لا يمكنني البقاء اليوم. أنا متوجه إلى دالاس على الفور لعقد اجتماع متعلق بالنفط، وسأغيب لثلاثة أيام". قال: "لقد مررتُ لأخبرك بذلك".
  "حسناً". وهززت كتفيّ كما لو أنني غير آبهة بالأمر.
  "حسناً إذاً". قال، ودخل سيارته.
  وعندما توارى عن الأنظار، تنحنحت والدتي. فلم أستدر وأنظر إليها على كرسيِّها الهزاز. لم أشأ أن ترى أمارات الإحباط على وجهي بسبب رحيله.
  "هيا، يا أمي". تمتمتُ أخيراً: "قولي ما تريدين قوله".
  "لا تدعيه يقلّل من احترامك".
  فاستدرتُ نحوها، ونظرت إليها بارتياب، عِلماً أنها كانت ضعيفة جداً تحت الغطاء الصوفي. أشعر بالأسف حيال كل من يحاول الاستهانة بوالدتي.
  "إذا لم يعرف ستيوارت أنني ربّيتك لتكوني ذكية ولطيفة، يمكنه العودة على الفور إلى شارع ستيت ستريت". ونظرت إلى أرض الشتاء مضيّقةً عينيها. "بصدق، لا أبالي كثيراً بستيوارت. لا يعلم كم كان محظوظاً بلقائه بك".
  تركتُ كلمات والدتي تستقر على لساني كقطعة حلوى صغيرة وطيّبة المذاق. ونهضت عن الدرجة، وتوجهت إلى الباب الأمامي. فهناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به، ولم أكن أملك الوقت الكافي لذلك.
  "شكراً لك، يا أمي". وقبّلتها برفق على خدّها، ودخلتُ.
  كنت مرهقة وسريعة الغضب. فكل ما قمت به طوال ثمانٍ وأربعين ساعة هو الطباعة. كنت مأخوذة بوقائع حياة الأخريات، وعيناي تلذعانني بسبب رائحة حبر الطباعة، كما ظهرت شقوق على أصابعي بسبب أطراف الأوراق المسنَّنة. من يعرف أنه يمكن للورق والحبر أن يُلحقا هذا القدر من الضرر.
  بتبقّي ستة أيام فقط، قصدتُ منزل آيبيلين. كانت في إجازة ليوم واحد بالرغم من انزعاج إليزابيت. لقد شعرتُ أنها تعرف ما نحتاج إلى مناقشته قبل أن أتفوّه بأي كلمة. فتركتني في المطبخ وعادت برسالة في يدها.
  "قبل أن أسلّمك هذه... أعتقد أنه يجب عليّ إطلاعك على بعض الأمور كي تستطيعي الفهم بشكل جيد".
  فأومأتُ برأسي. كنت متوترة الأعصاب، وأردت فتح المغلف وإخراج الرسالة.
  وضعت آيبيلين مفكرتها بشكل مستقيم على طاولة المطبخ، وراقبتها تضع قلمي الرصاص الصفراوين بجانب بعضهما بعضاً. "تذكرين عندما أخبرتك أن لكونستنتين ابنة. حسناً. كان اسمها لولابيل. يا الله، لقد وُلدت بيضاء كالثلج، وشعرها بلون التِّبن. لم يكن مجعَّداً كشعرك، كان مستقيماً".
  "هل كانت شديدة البياض؟". سألتُ. كنت أتساءل عن ذلك مذ أخبرتني آيبيلين عن طفلة كونستنتين في أثناء عودتها إلى مطبخ إليزابيت. وفكرتُ في مدى اندهاش كونستنتين بتربية طفلة بيضاء تعرف أنها ابنتها.
  فأومأت برأسها وتابعت: "عندما كانت لولابيل في الرابعة من عمرها، أخذتها كونستنتين...". وبدّلت آيبيلين وضعتها على الكرسي. "إلى... ميتم في شيكاغو".
  "ميتم؟ تعنين... تخلت عن طفلتها؟". كان في استطاعتي أن أتخيّل مدى حب كونستنتين لطفلتها الوحيدة لأنها كانت تحبني كثيراً.
  نظرت آيبيلين إليّ مباشرةً، ورأيتُ في عينيها أمراً نادراً ما أراه؛ رأيت إحباطاً ونفوراً. "تخلت كثيرات من النساء ملونات البشرة عن أطفالهنّ، يا آنسة سكيتر. كنّ يتخلّين عن أطفالهنّ للعمل لدى عائلات البيض".
  وجهتُ نظري إلى الأسفل، متسائلةً عما إذا لم يكن في استطاعة كونستنتين الاعتناء بطفلتها لأنه كان عليها الاعتناء بنا.
  "ولكن معظمهنّ كنّ يتخلّين عن أطفالهنّ لتقوم عائلات أخرى بتربيتهم. والميتم... مختلف بالإجمال".
  "لماذا لم ترسل الطفلة لشقيقتها؟ أو لنسيبة أخرى؟".
  "لم يكن في استطاعة شقيقتها... التعاطي مع الوضع. أن تكوني زنجية ببشرة بيضاء... في الميسيسيبي، هو أشبه بعدم انتمائك إلى أحد. ولكن الأمر لم يكن صعباً على الفتاة فحسب، بل على كونستنتين أيضاً. لقد خشيت... من أن يراها ذوو البشرة البيضاء فيوقفوها ويسألوها عما تفعله مع طفلة بيضاء. لقد اعتاد رجل الشرطة إيقافها في شارع ستيت ستريت، والقول لها إن عليها ارتداء لباسها الرسمي الأبيض. حتى إن ملوَّني البشرة... كانوا يعاملونها بشكل مختلف وبارتياب، كما لو أنها ارتكبت عملاً غير صحيح. لم تستطع إيجاد من يهتم للولابيل في أثناء دوام عملها. لقد ذهبت كونستنتين إلى المكان الذي لا يكون عليها فيه إخراج... لولا كثيراً".
  "هل كانت تعمل لدى والدتي آنذاك؟".
  "كانت تعمل لدى والدتك قبل سنوات قليلة من لقاء الوالد، كونور. كان يعمل في مزرعتكم، ويقيم في هوتستاك". فهزت آيبيلين رأسها. "لقد تفاجأنا كلنا بتصرف كونستنتين. ولم يستحسن بعض الأشخاص في دار العبادة الأمر، لا سيما وأن الطفلة بيضاء ووالدها ملوّن البشرة مثلي".
  "أنا واثقة من أن والدتي لم تكن مسرورة أيضاً". كنت على ثقة بمعرفة والدتي بكل ما جرى. كانت تُخضِع، باستمرار، كل عاملات المنزل ملونات البشرة للمراقبة الشديدة كمراقبة مكان إقامتهنّ، معرفة إن كنّ متزوجات أم لا، كم عدد أطفالهنّ... كانت تريد معرفة من يتجوّل داخل ملكيتها.
  "هل كان ميتماً لملوّني البشرة أو لذوي البشرة البيضاء؟". لأنني فكرت، كما أملتُ، أن كونستنتين أرادت حياة أفضل لطفلتها. ربما ظنت أن عائلة بيضاء ستقوم بتبنّيها كيلا تشعر بالاختلاف.
  "لملوّني البشرة. لم يشأ مدراء مياتم ذوي البشرة البيضاء تسلّمها، كما سمعتُ، لأنهم كانوا يعلمون كما أظن... ربما مرّت عليهم حالات مماثلة".
  "عندما ذهبت كونستنتين مع لولابيل إلى محطة القطار لاصطحابها إلى هناك، سمعتُ أن أشخاصاً من ذوي البشرة البيضاء كانوا على الرصيف يحدّقون، بانتظار معرفة سبب وجود فتاة بيضاء البشرة في سيارة يوجد فيها ملوّنو البشرة. وعندما أودعتها كونستنتين ذلك الميتم في شيكاغو... لم تتقبّل ابنتها الأمر لأنها كانت في الرابعة من العمر، وبدأت بالصراخ. هذا ما قالته كونستنتين لشخص ما في دار العبادة. قالت إن لولا كانت تصرخ وتقاوم، محاولةً حمل والدتها على العودة إليها. ولكن كونستنتين تركتها هناك... بالرغم من قساوة الأمر عليها".
  في أثناء استماعي إلى ما تخبرني به آيبيلين، بدأت الفكرة تراودني. لو لم تكن لديّ هذه الوالدة لما فكرتُ في الأمر. "تخلت عنها بسبب... خجلها؟ لأن ابنتها بيضاء البشرة؟".
  ففتحت آيبيلين فمها لتعارضني الرأي، ولكنها أطبقته، ووجهت نظرها إلى الأسفل. "بعد سنوات قليلة، وجهت كونستنتين رسالة إلى الميتم، وقالت لهم إنها ارتكبت خطأ وتريد استعادة ابنتها. ولكن، كان قد تمّ تبنّي لولا. كانت كونستنتين تقول على الدوام إنها ارتكبت أسوأ خطأ في حياتها". وأسندت آيبيلين ظهرها إلى الكرسي. "وقالت إنها لن تتخلّى أبداً عن لولابيل إذا تمكنت من استعادتها".
  فجلستُ بهدوء، دامية القلب على حال كونستنتين. وبدأت أخشى علاقة والدتي بالأمر.
  "ولكن قبل عامين، تلقت كونستنتين رسالة من لولابيل. أعتقد أنها كانت في الخامسة والعشرين من عمرها آنذاك، وقالت إن والديها بالتبنّي أعطياها العنوان. وبدأتا تكتبان لبعضهما بعضاً، وقالت لولابيل إنها تريد القدوم والبقاء معها لفترة قصيرة من الزمن. يا الله، كانت كونستنتين عصبية المزاج بسبب عدم تمكنها من السير بشكل مستقيم. لم تكن تتناول الطعام أو تشرب الماء. لقد أضفتُها إلى لائحة الأشخاص الذين أدعو لهم".
  منذ عامين، كنت في الكلية. لماذا لم تخبرني كونستنتين في رسائلها بما يجري؟
  "لقد أخذت كل مدّخراتها، واشترت للولابيل ملابس جديدة ومستحضرات تجميل لشعرها، وخاطت لِحافاً جديداً للسرير الذي ستنام عليه. وقالت لنا في أحد اجتماعات المؤمنين، ماذا لو كانت تكرهني؟ ستسألني عن سبب قيامي بالتخلي عنها، وما إذا كنت أقول لها الحقيقة... ستكرهني بسبب ما فعلتُ".
  رفعت آيبيلين نظرها عن كوب الشاي، وابتسمَت قليلاً. "قالت لنا، لا أستطيع انتظار حلول لحظة تقوم سكيتر بمقابلتها بعد العودة من الكلية إلى المنزل. لقد نسيتُ ذلك. لم أكن أعرف من تكون سكيتر آنذاك".
  تذكرتُ الرسالة الأخيرة التي كنت قد تلقيتها من كونستنتين، وقالت فيها إن لديها مفاجأة لي. وأدركتُ حينذاك أنها تريد تعريفي إلى ابنتها. فابتلعتُ دموعي. "ماذا حدث عندما قدمت لولابيل لرؤيتها؟".
  دفعت آيبيلين الرسالة عبر الطاولة. "أظن أنه يجدر بك قراءة ذلك الجزء في المنزل".
  في المنزل، صعدتُ إلى الطابق العُلوي. وقبل الجلوس، فتحتُ رسالة آيبيلين. كانت مكتوبة على صفحتي ورقة من مفكّرتها بقلم رصاص وحروف متصلة.
  بعد ذلك، حدّقتُ إلى الصفحات الثماني التي كنت قد كتبتها عن الذهاب سيراً على الأقدام مع كونستنتين إلى هوتستاك، والأُحجيات التي أنجزناها معاً، والضغط بإبهامها على يدي. وأخذتُ نفساً عميقاً، ووضعت يديّ على مفاتيح الآلة الكاتبة. لم يعُد في استطاعتي تضييع مزيد من الوقت. كان عليّ إنهاء قصتها.
  لقد كتبتُ ما أخبرتني به آيبيلين، وهو أن لكونستنتين ابنة اضطُرت إلى التخلي عنها لتتمكن من العمل لدى عائلتنا، وقد دعوتها عائلة ميلرز، تيمّناً بهنري كاتبي المفضَّل المحظَّرة أعماله. ولم أذكر أن لون بشرة ابنة كونستنتين بيضاء مائلة إلى الصُّفرة، أردت التركيز على أن حب كونستنتين لي بدأ مع افتقادها لابنتها لأن هذا الأمر يجعل القصة فريدة وعميقة، ولم يكن لون بشرتي البيضاء ذا أهمية. كنت أتوق إلى عدم شعور والدتي بالإحباط مني، مقارَنةً مع كونستنتين التي تريد استعادة ابنتها.
  طوال يومين، كتبت عن طفولتي، والسنوات التي أمضيتها في الكلية، وتوجيه الرسائل إلى بعضنا بعضاً أسبوعياً. ولكنني توقفت آنذاك، واستمعتُ إلى سعال والدتي في الطابق السفلي. وسمعتُ وقع خطى والدي متوجّهاً إليها. فأشعلتُ سيجارة وأطفأتها، مفكرةً، لا تعودي إلى التدخين. واندفع ماء المرحاض، حاملاً معه المزيد من جسد والدتي. فأشعلتُ سيجارة أخرى، ودخّنتها إلى أن بلغت أصابعي. لم أستطع كتابة ما جاء في رسالة آيبيلين.
  بعد ظهر ذلك اليوم، اتصلتُ بآيبيلين إلى منزلها. "لا يمكنني وضع ذلك في الكتاب". قلت لها: "عن والدتي وكونستنتين. سأنهي الفصل بذهابي إلى الكلية. لقد...".
  "يا آنسة سكيتر...".
  "أعلم أنه يُفترض بي ذلك. أعلم أنه يُفترض بي التضحية بقدرك وبقدر ميني وبقدركنّ جميعاً. ولكنني لا أستطيع أن أفعل ذلك بوالدتي".
  "لا أحد يتوقع منك القيام بذلك، يا آنسة سكيتر. في الحقيقة، من غير اللائق أن تقومي بذلك".
  في مساء اليوم التالي، قصدتُ المطبخ لتناول بعض الشاي.
  "يا أوجينيا؟ هل أنت في الطابق السفلي؟".
  توجهتُ إلى غرفة والدتي. لم يكن والدي قد لجأ إلى السرير بعد لأنني سمعتُ صوت التلفاز في غرفة الاستجمام. "أنا هنا، يا أمي".
  كانت على سريرها منذ السادسة مساءً، والإناء الأبيض بجانبها. "هل كنت تبكين؟ تعرفين أن ذلك يجعل بشرتك تشيخ، يا عزيزتي".
  جلستُ على كرسي القصب المستقيم بجانب سريرها. وفكرتُ في كيفية التطرق إلى الموضوع. كان جزء مني يفهم سبب تصرّف والدتي بتلك الطريقة، لأن ما فعلته لولابيل أغضب الجميع، ولكنني كنت بحاجة إلى سماع القصة كما ترويها والدتي. أردت أن أعرف إذا أغفلت آيبيلين أمراً ما عن والدتي في الرسالة.
  "أريد التحدث عن كونستنتين". قلت.
  "آه، يا أوجينيا". قالت والدتي موبِّخة، وضربتني برفق على يدي. "لقد مضى على ذلك عامان".
  "يا أمي". قلت، ونظرت إلى عينيها. فبالرغم من نحولها المروِّع وطول عظمة ترقوتها وضيقها كما بدت تحت بشرتها، كانت عيناها تكشفان عن حدة في الذكاء كما هي حالها على الدوام. "ماذا حدث؟ ماذا حدث لابنتها؟".
  تصلّب فك والدتي، وتفاجأَت بمعرفتي هذا الأمر. فتوقعتُ منها رفض التحدث عن الأمر كما في السابق. وأخذَت نفساً عميقاً، وقرّبَت الإناء الأبيض منها، وقالت: "أرسلتها كونستنتين للعيش في شيكاغو. لم يكن في استطاعتها الاعتناء بها".
  أومأتُ برأسي، وانتظرتُ.
  "إنهم مختلفون من هذه الناحية، كما تعرفين. يُرزق هؤلاء الأشخاص بأطفال ولا يفكرون في العواقب إلا بعد فوات الأوان".
  إنهم، هؤلاء الأشخاص. لقد ذكّرني ذلك بهيلي. ورأت والدتي الاشمئزاز على وجهي.
  "انظري، لقد أحسنتُ معاملة كونستنتين. آه، كانت تجيبني في كثير من الأوقات بفظاظة وقلة احترام، وتحمّلتُ ذلك. ولكنها لم تترك لي خياراً في تلك المرة، يا سكيتر".
  "أعلم، يا أمي. أعرف ما حدث".
  "من أخبرك؟ من غيرك يعرف بذلك؟". ورأيت الذُّهان الارتيابي في عينيها. لقد تحقق خوفها الأكبر، وشعرتُ بالأسف عليها.
  "لن أخبرك أبداً من أخبرني بذلك. كل ما يمكنني قوله هو أنه شخص... غير ذي أهمية بالنسبة إليك". قلت: "لا أستطيع تصديق أنك تفعلين ذلك، يا أمي".
  "كيف تجرؤين على الحكم عليّ بعد كل ما قامت به. هل تعرفين حقاً ما حدث؟ هل كنت هناك؟". ورأيت المرأة المسنّة الغاضبة، امرأة يصعب التغلب عليها تحمّلت نزف قرحتها طوال سنوات.
  "تلك الفتاة...". وهزَّت إصبعها المكوَّرة باتجاهي. "لقد حضرَت إلى المنزل. كان هناك اجتماع في المنزل لأعضاء منظمة دي أيه أر كافة. كنتِ في الكلية، وكان جرس الباب يرنّ بلا توقف، وكونستنتين في المطبخ تُعِدّ كل تلك الكمية من القهوة التي أُريقت من مصفاة القهوة على إناءين". ولوّحت والدتي بيدها، تعبيراً عن رائحة القهوة المحروقة. "كانوا كلهم في غرفة الجلوس يتناولون الكيك، كان هناك خمسة وتسعون شخصاً في المنزل، وهي تشرب القهوة. كانت تتحدث إلى ساره فون سيسترن، وتجوب المنزل كما لو أنها ضيفة، وتتناول الكيك، وتملأ الاستمارة لتصبح عضوة".
  أومأتُ برأسي مجدداً. ربما لم أكن أعرف تلك التفاصيل، ولكنها لا تبدّل ما حدث.
  "لقد بدت بيضاء كالجميع، وكانت تعرف ذلك أيضاً. كانت تعرف بالتحديد ما الذي تقوم به، فقلتُ لها، كيف حالك؟ فضحكَت وقالت، بخير، فقلتُ، وما اسمك؟ قالت، تعنين أنك لا تعرفين؟ أنا لولابيل بيتس. أنا راشدة الآن وانتقلتُ للإقامة مع والدتي. وصلتُ إلى هنا صباح يوم أمس. وذهبَت بعد ذلك لتناول قطعة كيك أخرى".
  "بيتس". قلت لأنه تفصيل آخر لم أكن على علم به، بالرغم من عدم أهميته. "لقد اعتمدت الاسم الأخير لكونستنتين".
  "شكراً لله لأن أحداً لم يسمعها. ولكنها بدأت تتحدث بعدئذٍ إلى فوب ميلر، رئيس الولايات الجنوبية في منظمة دي أيه أر. فسحبتُها إلى المطبخ وقلت، يا لولابيل، لا يمكنك البقاء هنا. عليك الاستمرار في حياتك، ونظرت إليّ بتكبّر، وقالت، ماذا، لا تسمحين بدخول زنجيات إلى غرفة الجلوس إذا لم يكنّ يقمن بأعمال التنظيف؟ عندها، دخلت كونستنتين إلى المطبخ، ونظرت مصعوقة على غراري. فقلت، يا لولابيل، اخرجي من هذا المنزل قبل أن أتصل بالسيد فيلان، ولكنها لم تتزحزح من مكانها، وقالت إنني عندما كنت أظن أنها بيضاء البشرة، كنت أعاملها بشكل لائق، وقالت إنها كانت منتسبة في شيكاغو إلى جماعة سرّية. فقلت لكونستنتين، أَخرجي ابنتك من منزلي على الفور".
  وبدت عينا والدتي غائرتين أكثر من أي وقت مضى. وكان أنفها متوهِّجاً غضباً.
  "هكذا، طلبت كونستنتين من لولابيل العودة إلى منزلهما، فقالت لولابيل، حسناً، كنت مغادرة على كل حال، وتوجهَت إلى غرفة الطعام، ولكنني أوقفتها بالطبع. آه، لا، قلتُ، أُخرجي من الباب الخلفي، وليس من الباب الأمامي مع الضيوف البيض. لم أشأ أن تعرف الدي أيه أر هذا الأمر. وطلبتُ من تلك الفتاة البذيئة، التي كنا نعطي أمها عشرة دولارات إضافية كل ميلاد ألا تطأ أرض هذه المزرعة مجدداً. وهل تعرفين ماذا فعلَت؟".
  أجل، قلتُ لنفسي، ولكنني أبقيت وجهي خالياً من أي تعبير لأنني كنت أبحث عن أمر ما يعوّض عمّا ارتكبته والدتي من أخطاء.
  "لقد بصقت في وجهي. زنجية في منزلي تحاول التصرف كفتاة بيضاء البشرة".
  فارتعدتُ. من تجرّأ يوماً على البصق في وجه والدتي؟
  "فقلتُ لكونستنتين إنه من الأفضل لتلك الفتاة ألا تُريني وجهها هنا، أو في هوتستاك، أو في ولاية ميسيسيبي، مرة أخرى، وإنني لن أحتمل وجود علاقة بينها وبين لولابيل ما دام والدك يدفع إيجار منزل كونستنتين ذاك".
  "ولكن، لا علاقة لكونستنتين بذلك".
  "ماذا لو بقيَت؟ لم أستطع أن أتخيّل تلك الفتاة تجوب أنحاء جاكسون، وتتصرف كما لو أنها بيضاء البشرة، في حين أنها ملوّنة البشرة، وتخبر الجميع أنها باتت عضوة في منظمة دي أيه أر في لونغليف. فشكرتُ الله لأن أحداً لم يعرف ما جرى. لقد حاولَت إحراجي في منزلي، يا أوجينيا. وقبل خمس دقائق، كانت تملأ استمارة الانتساب".
  "لم ترَ ابنتها طوال عشرين عاماً. لا يمكنك... أن تقولي لشخص ما إنه لا يستطيع رؤية ابنه أو ابنته".
  لكن والدتي تمسكت بروايتها. "وظنت كونستنتين أن في استطاعتها حملي على تغيير موقفي. فقالت، يا آنسة فيلان، أرجوك، دعيها تبقى في المنزل، لن تقترب من هذه الناحية مجدداً، لم أرَها منذ وقت طويل".
  "قالت لولابيل تلك ويدها على شفتها، أجل، لقد توفّي والدي وكانت والدتي مريضة جداً ولم تستطع الاعتناء بي عندما كنت طفلة. كان عليها أن تهَبني لعائلة أخرى. لا يمكنك فصلنا عن بعضنا".
  أخفضَت والدتي صوتها، وبدت واقعية. "نظرتُ إلى كونستنتين، وشعرتُ أنها مصدر خزي وعار. لقد أصبحَت حاملاً أولاً، وكذبَت بعد ذلك...".
  فشعرتُ بالحرارة وبرغبة في الغثيان، وبتّ مستعدة لإنهاء الحديث.
  وضيّقت والدتي عينيها. "حان الوقت لتعلمي، يا أوجينيا، كيف هي الأمور في الواقع. أنت تحبين كونستنتين كثيراً، ولطالما كنت كذلك". وأشارت بإصبعها إليّ. "ليسوا كالأشخاص المألوفين".
  لم أستطع النظر إليها، فأغمضتُ عينيّ. "وماذا حدث بعد ذلك، يا أمي؟".
  "سألتُ كونستنتين سؤالاً واضحاً بوضوح النهار، هل هذا ما أخبرتها به؟ هل تتستّرين على أخطائك على هذا النحو؟".
  كان الجزء الذي أملتُ في ألا يكون صحيحاً، وأن تكون آيبيلين غير مصيبة في شأنه.
  "لقد أخبرتُ لولابيل الحقيقة. قلت لها، والدك لم يمت. غادر في اليوم التالي لولادتك. ولم تكن والدتك مريضة في يوم من الأيام. لقد منحتك لعائلة أخرى بسبب لون بشرتك الأبيض المائل إلى الصُّفرة. لم تكن تريدك".
  "لماذا لم تستطيعي تركها تعتقد بما قالته لها كونستنتين؟ كانت كونستنتين خائفة جداً من ألا تحبها، لذلك قالت لها تلك الأمور".
  "لأن لولابيل كانت بحاجة إلى معرفة الحقيقة. كانت بحاجة إلى العودة إلى شيكاغو حيث تنتمي".
  غرق رأسي بين يديّ. لا وجود لما يعوّض عما ارتكبته والدتي من أخطاء. لقد عرفتُ أن آيبيلين لم تشأ إخباري. يُفترض بالابن أو الابنة ألا يواجَه أبداً بحقيقة والدته.
  "لم أفكر أبداً في أن كونستنتين ستغادر معها إلى إيلينوي، يا أوجينيا. صدقاً، لقد... أسفتُ لدى رؤيتها تغادر".
  "لم تأسفي". قلت. وفكرتُ في كونستنتين جالسة في شقة صغيرة في شيكاغو بعد مرور خمسين عاماً في الريف، ومدى شعورها بالوحدة، ومدى سوء حال ركبتيها في ذلك الطقس البارد.
  "لقد أسفتُ. وبالرغم من أنني طلبت منها عدم الكتابة لك، لَقامت بذلك ربما لو كانت تملك مزيداً من الوقت".
  "مزيداً من الوقت؟".
  "لقد توفيت كونستنتين، يا سكيتر. أرسلتُ لها شيكاً بمناسبة ذكرى مولدها إلى عنوانها مع ابنتها الذي عثرت عليه، ولكن لولابيل... أعادته مع نسخة عن ورقة النَّعي".
  "كونستنتين...". وبكيتُ، وتمنيتُ لو أنني لم أعرف. "لماذا لم تخبريني، يا أمي؟".
  شهقَت الوالدة، مُبقيةً نظرها إلى الأمام. ومسحَت عينيها بسرعة. "لأنني كنت أعرف أنك ستُلقين اللوم عليّ، في حين أنه ليس خطأي".
  "متى توفيت؟ ما المدة التي أمضتها في شيكاغو؟". سألتُ.
  وسحبت الوالدة الإناء باتجاهها، وضمّته إلى جنبها. "ثلاثة أسابيع".
  فتحت آيبيلين الباب الخلفي لمنزلها، وأدخلتني. كانت ميني جالسة إلى الطاولة تحرك قهوتها. وعندما رأتني، سحبت كمّ فستانها إلى الأسفل، ولكنني رأيت حافة ضمادة على ذراعها. فألقت التحية، مزمجرة، وأكملت التحريك.
  فوضعتُ المخطوط على الطاولة بعزم.
  "إذا أرسلتُه عبر البريد في الصباح، يتبقى ستة أيام ليصل إلى هناك. قد ننجح في ذلك". وابتسمتُ بالرغم من شعوري بالإنهاك.
  "يا الله، إنه كبير الحجم. انظري إلى صفحاته". وابتسمت آيبيلين ابتسامة عريضة، وجلسَت على كرسيّها الذي لا ظهر له. "مئتان وست وستون صفحة".
  "الآن، ننتظر... فحسب ونرى". قلت، وحدّقنا ثلاثتنا إلى كدسة الورق.
  "أخيراً". قالت ميني، واستطعت رؤية أمر ما على وجهها، لم يكن ابتسامة بالتحديد بل ما يشبه الرضى.
  ساد الهدوءُ الغرفة. كان الظلام دامساً خارج النافذة. وكان مكتب البريد مُقفَلاً، لذلك حملتُه إلى هناك لأُريه لآيبيلين وميني للمرة الأخيرة قبل إرساله عبر البريد. في العادة، كنت أحمل معي أقساماً من الكتاب.
  "ماذا لو اكتشفوا الأمر؟". سألَت آيبيلين بهدوء.
  فرفعَت ميني نظرها عن قهوتها.
  "ماذا لو اكتشفوا أن نايسفيل هي جاكسون وعرفوا شخصيات الكتاب".
  "لن يعرفوا ذلك". قالت ميني. "جاكسون ليست مكاناً استثنائياً. هناك عشرة آلاف مدينة مثلها".
  كففنا عن التحدث عن ذلك لقليل من الوقت. فإلى جانب تعليقات ميني عما سيقوله الناس، لم نناقش في الواقع العواقب الفعلية لافتضاح أمرنا وفقدان الخادمات لأعمالهنّ. فطوال الأشهر الثمانية السابقة، كان إنجاز الكتاب شغلنا الشاغل.
  "يا ميني، قد يكتشف ابناك وبناتك الأمر". قالت آيبيلين. "وإذا عرف... ليروي...".
  تبدّلت النظرات الواثقة في عيني ميني إلى حركات مفاجئة، وذُهان ارتيابي. "سيُجنّ ليروي". وسحبت كمها نحو الأسفل مجدداً. "سيُجَنّ ويحزن إذا ألقى ذوو البشرة البيضاء القبض عليّ".
  "هل تظنين أنه يجدر بنا ربما إيجاد مكان يمكننا الذهاب إليه... إذا ازداد الأمر سوءاً؟". سألَت آيبيلين.
  فكّرتا في الأمر، ومن ثم هزتا رأسيهما. "لا أعرف إلى أين نذهب". قالت ميني.
  "فكري في ذلك، يا آنسة سكيتر. فكري في إيجاد مكان لنفسك". قالت آيبيلين.
  "لا يمكنني ترك والدتي". قلت. كنت واقفة، وجلستُ على الكرسي. "يا آيبيلين، هل تظنين حقاً أنهم... سيُلحقون بنا الأذى؟ أعني، كما نقرأ في الصحف؟".
  نظرت إليّ آيبيلين، مُميلةً رأسها ومُربَكة. وغضّنَت جبينها كما لو أن هناك سوء فهم. "سيضربوننا. سيأتون إلى هنا حاملين مضارب البيسبول. قد لا يقتلوننا، ولكن...".
  "ولكن... من هم بالتحديد الذين سيقومون بذلك؟ النساء البيضاوات اللواتي كتبنا عنهنّ... لن يؤذيننا. هل سيؤذيننا؟". سألتُ.
  "ألا تعرفين أن أكثر ما يحبه الرجال البيض هو حماية النساء البيضاوات في مدينتهم؟".
  فشعرتُ بوخز في بشرتي. لم أكن خائفة على نفسي، بل بما قد أتسبب به لآيبيلين، وميني، ولوفينيا، وفاي بيل، وثماني نساء أخريات. وكان الكتاب موضوعاً على الطاولة هناك، فأردتُ وضعه في حقيبتي المدرسية وإخفاءه.
  لكن بدلاً من ذلك، نظرت إلى ميني لأنني ظننتُ لسبب من الأسباب أنها الوحيدة بيننا التي تفهم حقاً عواقب ما قد يحدث. ومع ذلك، لم تكن تنظر إليّ. كانت غارقة في التفكير، وتمرّر إبهامها على شفتها ذهاباً وإيّاباً.
  "يا ميني، ما رأيك؟". سألتُ.
  أبقت ميني نظرها مُركَّزاً على النافذة، وأومأَت في أثناء التفكير. "أظن أننا بحاجة إلى ضمانة ما".
  "لا وجود لأمر مماثل". قالت آيبيلين: "ليس لنا".
  "ماذا لو أضفنا الأمر الشنيع والمروِّع إلى الكتاب؟". سألت ميني.
  "لا يمكننا ذلك، يا ميني". قالت آيبيلين: "سيُفتضح أمرنا".
  "لكن، إذا أضفناه إلى الكتاب، لن تسمح الآنسة هيلي لأحد أن يكتشف أن الكتاب يتناول جاكسون. لن تريد أن يعرف أحد أن تلك القصة تتناولها. وإذا بدأوا بالاقتراب من اكتشاف الحقيقة، ستقوم بتحويل انتباههم".
  "يا الله، يا ميني، في الأمر مجازفة كبيرة. لا أحد يستطيع التوقع بما يمكن لتلك المرأة أن تفعل".
  "لا أحد يعرف تلك القصة سوى الآنسة هيلي ووالدتها". قالت ميني. "والآنسة سيليا، ولكن لا صديقات لها لتخبرهنّ على كل حال".
  "ماذا حدث؟". سألتُ. "هل الأمر مروّع إلى هذا الحد؟".
  نظرت آيبيلين إليّ، وارتفع حاجباي.
  "لمن ستُقرّ بالأمر؟". سألت ميني آيبيلين. "لن ترغب أيضاً في افتضاح أمرك وأمر الآنسة ليفولت، يا آيبيلين، لأن الناس سيكونون على بُعد خطوة واحدة منا. برأيي، إن الآنسة هيلي هي أفضل ضمانة يمكننا الحصول عليها".
  فهزت آيبيلين رأسها، وأومأَت به بعد ذلك، وهزته مجدداً. فراقبناها وانتظرنا.
  "إذا أضفنا الأمر الشنيع والمروِّع إلى الكتاب واكتشف الناس أمرك وأمر الآنسة هيلي، ستواجهين مشكلة كبيرة". وارتعدَت آيبيلين قائلة: "لا مثيل لها".
  "إنها مجازفة سأقوم بها. لقد اتخذتُ قراري. إما تضعونه أو تسحبون الجزء المتعلق بي".
  نظرت آيبيلين وميني إلى بعضهما بعضاً. لم يكن في إمكاننا سحب الجزء المتعلق بميني، إنه الفصل الأخير في الكتاب الذي يشير إلى تعرّضها للطرد تسع عشرة مرة في المدينة الصغيرة نفسها، وإلى كيفية كبتها مشاعر الغضب من دون أن تنجح في ذلك. يبدأ الفصل بقواعد والدتها حول كيفية العمل لدى نساء بيضاوات البشرة، وينتهي بالتوقف عن العمل لدى السيدة والترز. وأردت إبداء رأيي بصراحة، ولكنني أبقيتُ فمي مُطبَقاً.
  أخيراً، تنهدت آيبيلين.
  "حسناً". قالت آيبيلين، هازةً رأسها: "أظن أن من الأفضل إخبارها إذاً".
  فنظرت ميني إليّ، مضيّقة عينيها. وسحبتُ قلم رصاص وإضمامة ورق.
  "أخبرك بذلك لأجل الكتاب فقط، هل تفهمين. لا نتشاطر هنا أسرارنا".
  "سأُعدّ بعض القهوة". قالت آيبيلين.
  في طريق عودتي إلى لونغليف، كنت مُرتعدة، وأفكر في قصة فطيرة ميني. لم أكن أعرف أيّاً من الخطوتين ستوفر لنا أمناً أكبر، إضافتها إلى الكتاب أم لا. ناهيكم عن أنني إذا لم أتمكن من إرسال الكتاب عبر البريد في اليوم التالي، سنتأخر يوماً إضافياً، مما يقلل فرص وصول الكتاب في الحد الزمني الأقصى. كان في استطاعتي تخيّل الغضب الأحمر على وجه هيلي، والكره الذي كانت لا تزال تكنّه لميني. أعرف صديقتي القديمة جيداً. فإذا افتُضح أمرنا، ستكون هيلي عدوّتنا اللدودة. وإذا لم يُفتضَح أمرنا، ستتسبب طباعة قصة الفطيرة بسورة غضب لهيلي لم نشهد لها مثيلاً. ولكن ميني مُحقة، إنها ضمانتنا الفضلى.
  كنت أنظر فوق كتفي كلما اجتزتُ ربع ميل. ولم أتخطَّ حدود السرعة، وسلكتُ الطرقات الخلفية. كانت كلمة سيضربوننا ترنّ في أذنيّ.
  لقد أمضيت الليل كله واليوم التالي بأكمله في الكتابة، مقطَّبة الجبين بسبب تفاصيل قصة ميني. وفي الرابعة بعد الظهر، وضعتُ المخطوط في مغلّف رسائل من الورق المقوّى، ولففته بسرعة بورقة تغليف بنّية اللون. فالأمر يتطلب في العادة سبعة أو ثمانية أيام لوصول البريد إلى مدينة نيويورك، ولكن كان عليه الوصول في غضون ستة أيام بطريقة من الطرائق.
  انطلقتُ بأقصى سرعة إلى مكتب البريد بالرغم من خوفي من الشرطة، عِلماً أنه يُقفل عند الرابعة والنصف، واندفعتُ إلى النافذة في الداخل. لم أنم منذ ليلتين، وكان شعري متطايراً. فاتسعَت عينا ساعي البريد.
  "هل الطقس عاصف في الخارج؟".
  "رجاءً. هل يمكنك إرسال هذا اليوم؟ هو مُرسَل إلى نيويورك".
  فنظر إلى العنوان. "لقد انطلقت الشاحنة المخصصة لنقل البريد خارج المدينة، يا سيدتي. سيكون عليه الانتظار حتى الغد".
  ووضع الطابع البريدي، وعدت إلى المنزل.
  حالما دخلتُ، توجهتُ إلى غرفة المؤونة مباشرةً واتصلتُ بمكتب إلين شتاين. فحوّلتني سكرتيرتها لها، وأخبرتها بصوت أجشّ ومُرهَق أنني أرسلتُ المخطوط عبر البريد في ذلك اليوم.
  "سيجري الاجتماع الأخير للمحررين بعد ستة أيام، يا أوجينيا. ليس عليه الوصول إلى هنا في الوقت المحدد فحسب، بل يجب أن يكون لديّ الوقت لقراءته. برأيي، من غير المحتمَل أن يتم التطرق إليه في أثناء الاجتماع".
  لم يتبقَّ لي شيء أقوله، لذلك، همهمتُ قائلة: "أعرف ذلك. شكراً لمنحي الفرصة". وأضفت: "ميلاد مجيد يا سيدة شتاين".
  "ندعوه هانوكاه، ولكن شكراً لك يا آنسة فيلان".
الفصل الثامن والعشرون
  بعد إنهاء المكالمة الهاتفية، قصدتُ الرُّواق الخارجي، وحدّقتُ إلى الأرض الباردة. كنت مُنهَكة لدرجة أنني لم ألاحظ وجود سيارة الطبيب نيل هناك. لا بد من أنه وصل في أثناء وجودي في مكتب البريد. فانحنيت على الدرابزين منتظرةً خروجه من غرفة والدتي. وعبر الرّدهة، ومن خلال الباب الأمامي المفتوح، استطعت رؤية باب غرفة نومها مُغلَقاً.
  بعد قليل، خرج الطبيب نيل إلى الرواق وأغلق باب غرفتها وراءه برفق، ووقف بجانبي.
  "لقد أعطيتها شيئاً يساعد على التخفيف من ألمها". قال.
  "الـ... ألم؟ هل كانت والدتي تتقيّأ هذا الصباح؟".
  فحدّق الطبيب نيل المسنّ إليّ بعينيه الزرقاوين العكرتين. ونظر إليّ مطوَّلاً كما لو أنه يحاول اتخاذ قرار ما في شأني. "والدتك مصابة بالسرطان، يا أوجينيا، في غشاء المعدة".
  فأسندتُ يدي إلى الجدار. لقد شعرت بصدمة، ومع ذلك، ألم أكن أرتاب بذلك؟
  "لم تشأ إخبارك". وهزّ رأسه. "ولكن، بما أنها ترفض المكوث في المستشفى، كان يجب إعلامك بالأمر. ستكون الأشهر القليلة القادمة... قاسية جداً". ورفع حاجبيه لي. "عليها وعليك أيضاً".
  "أشهر قليلة؟ هل هذا... كل ما تبقى لها؟". وغطّيتُ فمي بيدي، وسمعتُ نفسي أتأوّه.
  "ربما مدة أطول، ربما مدة أقصر، يا عزيزتي". وهز رأسه. "ومع ذلك، وبما أنني أعرف والدتك". وألقى نظرة على المنزل وتابع القول: "فهي ستقاوم المرض كما لو أنه الشرير".
  ووقفتُ هناك مذهولة، غير قادرة على الكلام.
  "اتصلي بي في أي وقت، يا أوجينيا. في العيادة أو في المنزل".
  دخلتُ المنزل، عائدةً إلى غرفة والدتي. كان والدي جالساً على الأريكة بجانب السرير يحدّق إلى الفراغ، ووالدتي جالسة بشكل مستقيم. فقلّبت عينيها عندما رأتني.
  "حسناً، أظن أنه أخبرك". قالت.
  سالت الدموع على وجنتيّ قطرات قطرات، وأمسكتُ يديها.
  "منذ متى تعرفين؟".
  "منذ شهرين تقريباً".
  "آه، يا أمي".
  "الآن، كفّي عن ذلك، يا أوجينيا. لن يفيد ذلك بشيء".
  "ولكن، ماذا يمكنني أن... لا يمكنني الجلوس هنا فحسب وأراك...". ولم أستطع اختيار الكلمة المناسبة. فكل الكلمات مروِّعة.
  "ليس عليك الجلوس هنا بالتأكيد. سيغدو كارلتون محامياً، وأنت...". وهزت إصبعها باتجاهي. "لا تعتقدي أنك تستطيعين إهمال نفسك بعد رحيلي. سأتصل بمركز فاني ماو للتجميل حالما أتمكن من السير إلى المطبخ، وأحدد لك مواعيد لتصفيف شعرك طوال العام 1975".
  فجلستُ على الأريكة، ووضع والدي ذراعه حولي. فانحنيتُ عليه وبكيت.
  جفّت شجرة الميلاد التي نصبها جيمسو، وكانت أوراقها الإِبرية تتساقط كلما دخل أحدهم غرفة الاستجمام. كانت لا تزال هناك ستة أيام لحلول الميلاد، ولكن أحداً لم يسقِها. فالهدايا القليلة التي اشترتها والدتي وغلّفتها في تموز/يوليو الأسبق موجودة تحت الشجرة. هدية لوالدي ومن الواضح أنها ربطة عُنُق ليضعها عندما يذهب إلى دار العبادة، وشيء صغير ومربّع لكارلتون، وعلبة ثقيلة لي اشتبهتُ أنها تحتوي كتاباً جديداً. وبعد أن عرف الجميع بمرض والدتي، بدا الأمر كما لو أن الخيوط القليلة التي تُبقيها منتصبة أفلتت. لقد انقطعت خيوط الدُّمية المتحركة، حتى إن رأسها بدا مترنحاً على قاعدته. فأقصى ما كان في إمكانها القيام به هو النهوض والذهاب إلى الحمّام، أو الجلوس في الرُّواق الخارجي لبضع دقائق كل يوم.
  بعد الظهر، حملتُ البريد لوالدتي، مجلة التدبير الجيد لشؤون المنزل، والنشرات الدَّورية لدار العبادة، وآخر نشاطات منظمة دي أيه أر.
  "كيف حالك؟". وأعدتُ شعرها إلى الوراء، وأغمضَت عينيها كما لو أنها تستمتع بذلك الشعور. لقد أصبحت الطفلة وأنا الوالدة.
  "أنا بخير".
  دخلت باسكاغولا، ووضعت صينية حساء على الطاولة. وهزت والدتي رأسها قليلاً عندما غادرَت، محدّقةً إلى مدخل الباب الفارغ.
  "آه، لا". قالت، متجهّمة الوجه: "لا أستطيع الأكل".
  "ليس عليك أن تأكلي، يا أمي. سنقوم بذلك في وقت لاحق".
  "لم يعد الأمر كما في السابق بوجود باسكاغولا، أليس كذلك؟". قالت.
  "أجل". قلت: "الأمر مختلف". كانت المرة الأولى التي تذكر فيها كونستنتين منذ نقاشنا الرهيب.
  "يقولون إن عاملة المنزل الجيدة هي أشبه بالحب الحقيقي. لا تحصلين عليه إلا مرة واحدة في الحياة".
  فأومأتُ برأسي، مفكرةً في مدى لهفتي لتدوين ذلك، وإضافته إلى الكتاب. ولكن لا جدوى من ذلك، بالطبع؛ لقد أُرسل عبر البريد. ولم تكن بيدي حيلة، وكل ما كان في إمكاننا القيام به هو انتظار الآتي.
  كانت عشية الميلاد مُحزنة، ماطرة، دافئة، يخرج والدي من غرفة والدتي كل نصف ساعة، وينظر خارج النافذة الأمامية ويسأل: "هل وصل؟". بالرغم من أن أحداً لم يكن يُصغي. كان شقيقي كارلتون عائداً من كلية الحقوق أل أس يو، وسنشعر كلنا بالارتياح لرؤيته معنا. لقد أمضت والدتي اليوم كله بالتقيّؤ، وتكاد لا تستطيع إبقاء عينيها مفتوحتين، ولا تتمكن من النوم.
  "يا شارلوت، أنت بحاجة إلى مستشفى". قال الطبيب نيل بعد ظهر ذلك اليوم، ولا أعرف كم مرة قال ذلك في الأسبوع السابق. "دعيني على الأقل أصطحب الممرضة إلى هنا لتبقى معك".
  "يا تشارلز نيل". قالت والدتي من دون أن ترفع رأسها عن الفراش: "لن أمضي أيامي الأخيرة في مستشفى، ولن أحوّل منزلي إلى مستشفى".
  تنهد الطبيب نيل فحسب، وأعطى والدي كمية إضافية من دواء جديد، وشرح له كيفية إعطائه لها.
  وسمعتُ والدي يهمس في الرَّدهة: "ولكن هل سيساعدها؟ هل سيحملها على الشعور بتحسن؟".
  فوضع الطبيب نيل يده على كتف والدي وقال: "لا".
  عند الساعة السادسة من ذلك المساء، وصل كارلتون أخيراً، ودخل المنزل.
  "مرحباً، يا سكيتر". قال، وعانقني. كانت ملابسه متغضّنة بسبب قيادة السيارة، ويبدو وسيماً بكنزة كليته الصوفية، وتفوح منه رائحة الهواء المنعش. من الجيد أن يكون هناك شخص آخر معنا. "يا الله، لمَ الجو حار في هذا المنزل؟".
  "تشعر بالبرد". قلت بهدوء: "طوال الوقت".
  ذهبتُ معه إلى الناحية الخلفية من المنزل. كانت والدتي جالسة عندما رأته، ومدّت له ذراعيها النحيلتين. "آه، يا كارلتون، أنت في المنزل". قالت.
  فتسمّر كارلتون في مكانه، وانحنى بعد ذلك، وعانقها برِفق شديد. وألقى عليّ نظرة سريعة، استطعت رؤية هَول الصدمة على وجهه. فاستدرتُ وغطيتُ فمي كيلا أبكي لأنه لم تكن في استطاعتي المغادرة. وأخبرتني نظرة كارلتون بأكثر مما أريد معرفته.
  عندما مرّ ستيوارت بمنزلنا في الميلاد، لم أوقفه عندما حاول تقبيلي، ولكنني قلت له: "أسمح لك بذلك لأن والدتي على فراش الموت".
  "يا أوجينيا". نادت والدتي. كنا في عشية رأس السنة أُعدّ بعض الشاي في المطبخ. لقد مضت فترة الميلاد، وأخرج جيمسو الشجرة في صباح ذلك اليوم. كانت الأوراق الإِبرية لا تزال مبعثَرة في أرجاء المنزل، ولكنني تمكنت من رفع الزينة ووضعها جانباً. كنت مُتعَبة ومُحبَطة، وأحاول لف كل قطعة على غرار والدتي، ووضعها في الخزانة بحيث تكون جاهزة للاستخدام في العام التالي. لم أسمح لنفسي بالتساؤل حول جدوى الأمر.
  لم يَردني أي خبر من السيدة شتاين منذ مدة، ولم أعرف كذلك إذا وصل الطرد البريدي في الوقت المحدد. ففي الليلة السابقة، لم أتمكن من تمالك نفسي واتصلتُ بآيبيلين لأخبرها أن أي خبر لم يصلني بعد، ولأشعر ببعض الارتياح لدى التحدث إلى أحدهم عن الأمر. "لا أزال أفكر في أمور كان يتعيّن علينا إضافتها إلى الكتاب". قالت آيبيلين. "وأستمر في تذكير نفسي أننا أرسلناه".
  "أنا أيضاً". قلت. "أتصل بك حالما يردني أي خبر".
  ذهبتُ إلى الناحية الخلفية من المنزل. كانت والدتي تُسنِد نفسها إلى الوسادة. لقد تعلّمنا أن الجلوس بشكل مستقيم يساعد على إخماد الشعور بالتقيّؤ. كان الإناء المصقول الأبيض بجانبها.
  "مرحباً، يا أمي". قلت: "ماذا يمكنني أن أُحضر لك؟".
  "يا أوجينيا، لا يمكنك ارتداء بنطال فضفاض إلى حفلة هولبروك بمناسبة رأس السنة". وعندما تطرف والدتي عينيها، فإنها تُبقيهما مُغمضتين لحظة إضافية. كانت مرهقة وأشبه بهيكل عظمي في قميص نوم بيضاء ذات شرائط أنيقة على نحو سخيف ورباط مُنشّى، وعُنُقها يسبح في حافة القميص كإوزة تزن ثمانين رطلاً. لم يكن في استطاعتها تناول الطعام إلا من خلال أنبوب ورقي، كما فقدت قدرتها الكاملة على الشم، ومع ذلك، فهي تعرف عندما تكون خزانة ملابسي الموجودة في غرفة مختلفة مخيِّبة للآمال.
  "لقد ألغوا الحفلة، يا أمي". ولكن وفقاً لما أخبرني به ستيوارت، فقد أُلغيت كل الحفلات بسبب وفاة الرئيس، وليس لأنني لن أُدعى لحضورها. وفي ذلك المساء، كان ستيوارت قادماً لمشاهدة ديك كلارك على التلفاز.
  وضعت والدتي يدها شديدة النحول على يدي، وكانت شديدة الضعف لدرجة أن مفاصلها ظهرت تحت الجلد. كان مقاس ملابس والدتي مماثلاً لمقاس ملابسي عندما كنت في الحادية عشرة من العمر.
  فنظرت إليّ بهدوء. "أعتقد أنك بحاجة إلى وضع تلك البناطيل الفضفاضة على اللائحة الآن".
  "ولكنها مريحة، ودافئة، و...".
  وهزت رأسها، وأغمضَت عينيها. "أنا آسفة، يا سكيتر".
  لم يعُد هناك أي جدال. "لا بأس". قلتُ، وتنهدتُ.
  سحبت والدتي إضمامة الورق من تحت الأغطية، ووضعتها في الجيب غير المرئي الذي خاطته في كل ثوب، حيث تحتفظ بحبوب الدواء المضادة للتقيّؤ، وبالمناديل الورقية، واللوائح الدكتاتورية الصغيرة. فبالرغم من نحولها الشديد، تفاجأتُ بثبات يدها عندما كتبت على لائحة لا ترتدي: "بناطيل رمادية، سيّئة المظهر، وتَليق برجل". وابتسمَت، راضية.
  كانت توحي والدتي بالموت، ولكن عندما أدركَت أنها لن تتمكن بعد وفاتها من إطلاعي على ما يجب الكفّ عن ارتدائه، وضعَت ذلك النظام المبتكَر لما بعد الوفاة. كانت تفترض أنني لن أذهب أبداً بمفردي لشراء ملابس جديدة مناسبة. ربما كانت مُحقة.
  "لم تتقيّأي بعد؟". سألتُ، لأنها الساعة الرابعة، وكان هناك بجانب والدتي وعاءان من الحساء، ولم تتقيّأ مرة واحدة في ذلك اليوم. كانت تتقيّأ في العادة ثلاث مرات على الأقل حتى تلك الساعة.
  "أبداً". قالت، ولكنها أغمضت عينيها، واستغرقت في النوم في غضون ثوان.
  في يوم رأس السنة، نزلتُ إلى الطابق السفلي لأتعلّم طهو البازلاء المرقَّطة طلَباً للحظ السعيد. كانت باسكاغولا قد وضعتها في الليلة السابقة في الخارج لتنتقع، وعلّمتني كيف أضعها في القدر وأشعل النار، وأُضيف مأبض اللحم إليها. كانت عملية بخطوتين، عِلماً أن الجميع بدوا عصبيي المزاج بسبب إشعال جهاز الطهو. وتذكرتُ قدوم كونستنتين على الدوام في أول كانون الثاني/يناير لتُعِدّ وجبة البازلاء الجالبة للحظ السعيد بالرغم من أنه يوم إجازة. كانت تُعدّ قِدراً مليئة ولكنها تضع حبة واحدة في كل طبق من أطباق أفراد العائلة، وتراقبنا لتتأكد من تناولنا إيّاها، كانت تعتقد بالخُرافات. وتقوم بعد ذلك بغسل الأطباق وتذهب إلى الناحية الخلفية من المنزل. غير أن باسكاغولا لم تعرض علينا القدوم في يوم إجازتها، ولم أطلب منها ذلك، مفترضةً أنها تمضي يوم الإجازة مع عائلتها.
  لقد شعرنا بالحزن لأنه كان يتعيّن على كارلتون المغادرة في صباح ذلك اليوم. فمن الجميل أن يكون شقيقي موجوداً للتحدث إليه. وكانت كلماته الأخيرة لي قبل أن يعانقني ويعود إلى الكلّية: "لا تُحرقي المنزل". وأضاف بعد ذلك: "سأتصل غداً للاطمئنان على حالها".
  أطفأتُ النار، وخرجتُ إلى الرُّواق. كان والدي منحنياً على الدرابزين يقلّب بذور القطن بين أصابعه، ويحدّق إلى الحقول الفارغة التي لن تُزرَع إلا بعد شهر.
  "يا أبي، هل أنت قادم لتناول الغداء؟". سألتُ. "البازلاء جاهزة".
  فاستدار وابتسم قليلاً، راغباً بشدة في إيجاد تفسير.
  "هذا الدواء الذي وصفوه لها...". وتفحّص بذوره وتابع: "يُجدي نَفعاً كما أعتقد. تستمر في القول إنها تشعر بتحسن".
  فهززت رأسي غير مصدّقة. لا يمكنه تصديق ذلك في الواقع.
  "لقد مر يومان ولم تتقيّأ سوى مرة واحدة...".
  "آه، يا أبي. لا... ليس سوى... يا أبي، لا تزال مصابة بالمرض".
  كانت هناك نظرة خالية من أي تعبير في عينيه، فتساءلتُ عما إذا سمعني أم لا.
  "أعلم أن هناك أماكن أفضل لتتواجدي فيها، يا سكيتر". وترقرقت عيناه بالدموع. "ولكن، لا يمر يوم واحد لا أشكر فيه الله على وجودك معها".
  أومأتُ برأسي، شاعرةً بالذَّنب لاعتقاده أنني ألازم المنزل بملء إرادتي. فعانقته وقلت له: "أنا سعيدة بوجودي هنا، يا أبي".
  عندما أعاد النادي فتح أبوابه في الأسبوع الأول من كانون الثاني/يناير، ارتديتُ تنورتي والتقطتُ المضرب، وعبرتُ مطعم الوجبات السريعة، متجاهلةً باستي، شريكتي القديمة في لعبة كرة المضرب التي تخلت عني. كانت هناك ثلاث فتيات أخريات يدخنّ عند الطاولات الحديدية السوداء، فانحنينَ وهمسنَ لبعضهنّ بعضاً عندما مررتُ. لم أكن أريد حضور اجتماع الرابطة في مساء ذلك اليوم، وللأبد. كنت قد وجهتُ رسالة استقالة قبل ثلاثة أيام.
  ضربتُ الكرة بقوة على اللوح الخشبي، محاولةً بجهد عدم التفكير في أي شيء. وفي وقت لاحق، وجدت نفسي أدعو الله هَمساً بجُمل طويلة لا تنتهي، ملتمسةً منه منح والدتي بعض الشعور بالارتياح، ومناشدةً إيّاه وصول أنباء جيدة عن الكتاب، وطالبةً منه أحياناً إشارة ما حول ما يتعيّن عليّ القيام به في شأن ستيوارت. كنت أجد نفسي في بعض الأحيان أدعو عندما لا أعرف ماذا أفعل.
  عندما عدت من النادي إلى المنزل، توقفت سيارة الطبيب نيل ورائي. فرافقته إلى غرفة والدتي حيث كان والدي بالانتظار، وأغلقا الباب وراءهما. ووقفتُ في الرَّدهة، متململة كطفل. كان في استطاعتي فهم سبب تمسّك والدي بقليل من الأمل. لقد مضت أربعة أيام من دون أن تتقيّأ والدتي السائل الأصفر المائل إلى الخُضرة، وكانت تتناول دقيق الشوفان كل يوم وتطلب المزيد.
  بعد خروج الطبيب نيل، بقي والدي جالساً على الكرسي بجانب السرير، وتبعتُ الطبيب إلى الرُّواق الخارجي.
  "هل أخبرتكَ؟". سألتُ: "عن تحسن حالها؟".
  فأومأ برأسه، وهزّه بعد ذلك. "لا معنى لنقلها إلى المستشفى لإجراء صورة بأشعة إكس. سيكون الأمر قاسياً عليها".
  "ولكن... هل هي؟ هل من الممكن أنها تتحسن؟".
  "لقد رأيتُ حالات مماثلة من قبل، يا أوجينيا. في بعض الأحيان، يشعر المرضى ببعض القوة. إنها هبة من الله، كما أعتقد، كي يتمكنوا من إنهاء أعمالهم. هذا كل ما في الأمر، يا عزيزتي. لا تتوقعي أكثر من ذلك".
  "لكن، هل رأيتَ لون وجهها؟ تبدو أفضل حالاً بكثير، ولا تتقيّأ الطعام...".
  فهز رأسه قائلاً: "حاولي توفير الراحة لها".
  في أول شباط/فبراير 1964، لم يعد في استطاعتي الانتظار، فسحبتُ الهاتف إلى داخل غرفة المؤونة. كانت والدتي نائمة بعد تناولها وعاءً ثانياً من دقيق الشوفان، وتركتُ باب غرفة نومها مفتوحاً كي أتمكن من سماعها عندما تنادي.
  "مكتب إلين شتاين".
  "آلو، أنا أوجينيا فيلان أتصل من مسافة بعيدة. هل هي موجودة؟".
  "آسفة يا آنسة فيلان، ولكن السيدة شتاين لم تعُد تتلقى أي اتصالات في شأن المجموعة المختارة من المخطوطات".
  "آه. ولكن... هل يمكنك أن تقولي لي على الأقل إذا تلقّته؟ لقد أرسلتُه عبر البريد قبل انتهاء الحد الزمني الأقصى و...".
  "لحظة من فضلك".
  وساد الصمت عبر الهاتف، وعادت بعد دقيقة تقريباً.
  "يمكنني التأكيد أننا تلقّينا طردك البريدي في أثناء الأعياد. سيقوم شخص ما من مكتبنا بإبلاغك بعد اتخاذ السيدة شتاين قرارها. شكراً لاتصالك".
  وسمعتُ صوت إقفال الخط في الجانب الآخر.
  بعد ليالٍ قليلة، وبعد فترة بعد ظهرٍ أمضيتها مسمَّرة في مكاني أجيب على رسائل الآنسة ميرنا، جلست وستيوارت في غرفة الاستجمام. كنت سعيدة برؤيته وبمحو الصمت من المنزل. فجلسنا نشاهد التلفاز بسكون. وبُثّ إعلان تاريتون الذي تظهر فيه فتاة تدخّن سيجارة وتوجد كدمة حول عينها يفضّل مدخِّنو تاريتون الأميركية المقاومة بدلاً من تغيير الدخان!
  كنت وستيوارت نرى بعضنا مرة واحدة في الأسبوع في تلك المرحلة. لقد ذهبنا إلى السينما بعد الميلاد، وتناولنا العشاء ذات مرة في المدينة، ولكنه كان يقصد المنزل في العادة لأنني لم أشأ ترك والدتي. كان متردداً في شأني ويشعر بخجل ملؤه الاحترام. وحلّ الصبر في عينيّ مكان الذُّعر الذي كنت أشعر به عندما أكون برفقته. لم نكن نتحدث عن أي أمر جِدّي، فيروي لي قصصاً عن الصيف، وعن المدة التي أمضاها في الكلية، وعن العمل في أبراج حفر آبار النفط في خليج المكسيك حيث يستحمون بالمياه المالحة للمحيط الأزرق والنقيّ حتى قعره. كان الأشخاص الآخرون يزاولون هذا العمل الشاق لإطعام عائلاتهم، ولكن ستيوارت الثري يعود إلى الكلية. إنها المرة الأولى، كما قال، التي اضطُر فيها إلى الكد في العمل.
  "أنا سعيد لأنني كنت أعمل على ذلك البرج آنذاك. لم يعُد في استطاعتي القيام بذلك الآن". كان قد قال لي، كما لو أن الأمر حدث منذ زمن طويل وليس قبل خمس سنوات. لقد بدا أكبر سنّاً.
  "لماذا لا تستطيع العمل هناك الآن؟". سألت. كنت أبحث عن مستقبلٍ لي، وأحب سماع الاحتمالات التي يطرحها الآخرون.
  فنظر إليّ، مغضّناً جبينه. "لأنني لا أستطيع تركك".
  فتقبّلتُ الأمر بنَهَم، وخشيت الإقرار بمدى سعادتي لسماع ذلك.
  وانتهى الإعلان التجاري وتابعنا التقرير الإخباري. كانت هناك مناوشات في فييتنام، ولكن الأمر سينتهي من دون كثير من الجلَبة برأي المراسل.
  "اسمعي". قال ستيوارت بعد فترة قصيرة من الصمت: "لم أشأ مناقشة الأمر معك من قبل ولكنني... أعرف ما يقوله الناس في المدينة، عنك. أنا لا أبالي. أريدك أن تعرفي ذلك".
  فأول ما تبادر إلى ذهني هو الكتاب. لقد سمع شيئاً ما، وشعرت بالتوتر في أنحاء جسمي كافة. "ماذا سمعتَ؟".
  "تعرفين. عن تلك الخدعة التي استهدفتِ بها هيلي".
  وشعرت بالارتياح قليلاً، ولكن ليس بالكامل. لم يسبق لي أن تحدثت مع أحد عن ذلك الأمر باستثناء هيلي نفسها. فتساءلتُ عما إذا قامت هيلي بالاتصال به تنفيذاً لتهديدها.
  "وفي استطاعتي تصوّر رأي الناس، وظنّهم أنك ليبرالية مجنونة متورطة في كل تلك الفوضى".
  وحدّقتُ إلى يدَيّ، قلقةً في شأن ما يمكن أن يكون قد سمع، وشاعرةً بالانزعاج أيضاً. "كيف تعرف؟". سألت: "بمَ أنا متورطة؟".
  "لأنني أعرفك، يا سكيتر". قال برِفق: "أنت أذكى من التورط في أمر مماثل. لقد قلت لهم ذلك أيضاً".
  فأومأت برأسي، وحاولت الابتسام. وبالرغم من ظنّه أنه يعرفني، سُررتُ بوجود شخص ما يهتمّ بأمري ويؤيّدني.
  "لن نتحدث عن هذا الأمر مجدداً". قال. "أردتك أن تعرفي رأيي، هذا كل شيء".
  مساء يوم السبت، تمنّيتُ لوالدتي تمضية ليلة هانئة. كنت أرتدي معطفاً طويلاً كيلا تتمكن من رؤية ملابسي، وأبقيتُ الأضواء مُطفَأة كيلا تستطيع التعليق على شعري. لقد طرأ تحسّن بسيط على صحتها، وحالها مستقرة توقّفت عن التقيّؤ ولون بشرتها أبيض مائل إلى الرمادي، وبدأ شعرها بالتساقط. فلمست يديها، ومسستُ وجنتيها برِفق.
  "يا أبي، اتصل بالمطعم إذا احتجت إليّ؟".
  "سأفعل، يا سكيتر. اذهبي واحصلي على بعض المرح".
  فدخلتُ سيارة ستيوارت الذي اصطحبني للعشاء في فندق روبرت. كانت القاعة مبهرَجة بالفساتين الطويلة، والورود الحمراء، ورنين أواني المائدة الفضية. كان هناك جوّ مثير وشعور أن الأمور تعود إلى طبيعتها شيئاً فشيئاً بعد وفاة الرئيس كنيدي؛ فالعام 1964 عام جديد بالرغم من كل شيء. لقد كنا محطّ الأنظار.
  "تبدين... مختلفة". قال ستيوارت، ولم يفارقه هذا التعليق طوال الليل، وبدا مُربَكاً أكثر من كونه متأثراً. "ذلك الفستان... قصير جداً".
  فأومأتُ برأسي، وأعدتُ شعري إلى الوراء كما اعتاد أن يفعل.
  في صباح ذلك اليوم، كنت قد قلت لوالدتي إنني سأخرج للتسوق. ولكنها كانت مُتعَبة جداً، فبدّلتُ رأيي. "ربما لا يُفترض بي الخروج".
  فطلبت مني والدتي أن أُحضر لها دفتر الشيكات. وعندما عدتُ، أعطتني شيكاًَ على بياض بالإضافة إلى ورقة نقدية من فئة مئة دولار مثنيّة وموضوعة في الناحية الجانبية من محفظة نقودها. كانت كلمة تسوّق تجعلها تشعر أنها في حال أفضل.
  "لا تقتصدي، ولا بناطيل فضفاضة. تأكدي من قيام الآنسة لافول بمساعدتك". وألقت رأسها على وسادتها. "تعرف كيف يُفترض بالشابات أن يرتدين".
  لكنني لم أتمالك نفسي من التفكير في يديّ الآنسة لافول المتجعّدتين موضوعتين على جسمي وتفوح منهما رائحة القهوة والنفتالين. وتوجهتُ بالسيارة إلى وسط المدينة، وسلكتُ الطريق العامة 51، وتوجهتُ إلى نيو أورليانز. فقُدتُ، شاعرةً بالذَّنب بسبب ترك والدتي طوال تلك المدة، عالمةً أن الطبيب نيل سيمرّ بمنزلنا بعد الظهر، وأن والدي سيلازمها طوال اليوم.
  بعد ثلاث ساعات، دخلتُ متجر ميزون بلانش في شارع كانال ستريت. لقد قصدت المتجر مع والدتي عدة مرات، ومرتين مع إليزابيت وهيلي، وقد استرعت الأرض المكسوة بالرخام الأبيض، والصفوف الطويلة من القبّعات والقفازات والسيدات السعيدات اللواتي يضعن ذُرور البودرة على وجوههنّ ويبدين بصحة جيدة، انتباهي الكلّي. وقبل أن أتمكن من طلب المساعدة، قال رجل نحيل: "تعالي معي، لديّ ما يناسبك في الطابق العُلوي". ورافقته إلى المصعد، وانتقلنا إلى الطابق الثالث حيث توجد قاعة تدعى ملابس النساء العصريات.
  "ما كل هذا؟". سألتُ. كانت هناك عشرات النساء، وموسيقى الروك آند رول، وكؤوس شراب خفيف، وأضواء برّاقة متلألئة.
  "عزيزي إميليو بوتشي، أخيراً!". وابتعد عني وقال: "ألستِ هنا للعرض المُسبَق؟ لديك بطاقة دعوة، أليس كذلك؟".
  "في مكان ما". قلت، ولكنه كفّ عن الاهتمام بذلك بينما كنت أتظاهر بالتنقيب في حقيبة يدي.
  لقد بدت الملابس من حولي متجذّرة في الأرض ومُزهرة على علاّقات الثياب. وفكّرتُ في الآنسة لافول وضحكتُ. لم تكن هناك ملابس بَيض الفصح، بل كانت هناك زهور، وشرائط كبيرة وبرّاقة، وأهداب تكشف عن عدة بوصات من الفخذ! كان الأمر مثيراً، رائعاً، ومسبِّباً للدُّوار.
  فاشتريتُ، بواسطة الشيك على بياض، ملابس تكفي لملء مقعد الكاديلاك الخلفي. وبعد ذلك، دفعتُ في شارع ماغازين ستريت خمسة وأربعين دولاراً لتفتيح لون شعري، وتصفيفه، وكيّه لإزالة التجاعيد منه. لقد ازداد طولاً في أثناء الشتاء واكتسب لون الماء القذر الذي غُسلت به الصحون. وفي الرابعة، كنت في طريق العودة أعبر جسر ليك بونتشارترين وأستمع إلى أغنية لفرقة تدعى رولينغ ستونز، والهواء يداعب شعري الحريري، وأقول لنفسي، الليلة، سأُزيل كل ذلك التكلّف وأعود إلى عهدي السابق مع ستيوارت.
  تناولت وستيوارت الشراب، مبتسمَين، ومتحدّثَين. ووجّه نظره إلى الطاولات الأخرى، معلّقاً على الأشخاص الذين يعرفهم. ولكن أحداً لم ينهض ويلقي التحية.
  "نخب بدايتنا الجديدة". قال ستيوارت ورفع كأس شرابه.
  فأومأتُ برأسي، راغبةً في القول إن كل البدايات تكون جديدة. ولكنني ابتسمتُ بدلاً من ذلك وشربت كأس الشراب الفرنسي الثانية. لم أحب الشراب قط في الواقع حتى ذلك اليوم.
  بعد العشاء، خرجنا إلى الرَّدهة، ورأينا السيناتور والسيدة ويتوورث جالسَين إلى إحدى الطاولات يتناولان شراباً، والناس من حولهما يشربون ويتحدثون. لقد أمضينا نهاية الأسبوع في المنزل، كما سبق لستيوارت أن قال لي، وذلك للمرة الأولى منذ انتقالهما إلى واشنطن.
  "يا ستيوارت، ها هما والداك. هل يُفترض بنا الذهاب وإلقاء التحية عليهما؟".
  ولكن ستيوارت اقتادني باتجاه الباب، ودفعني إلى الخارج.
  "لا أريد أن تراك والدتي بذلك الفستان القصير". قال. "أعني، صدّقيني، هي تحترمك، ولكن...". ووجّه نظره إلى هدب الفستان. "ربما لم يكن الخيار الأفضل لهذا المساء". وفي طريق العودة إلى المنزل، فكرتُ في إليزابيت وفي لفافات شعرها، ولكنني خشيتُ من أن تراني عضوات نادي البريدج. لماذا يوجد باستمرار شخص ما يخجل بي؟
  ووصلنا إلى لونغليف عند الحادية عشرة. فملّستُ فستاني، مفكرةً في أن ستيوارت على حق، إن الفستان قصير جداً. كانت الأضواء في غرفة نوم والدَيّ مطفأة، لذلك، جلسنا على الأريكة.
  ففركتُ عينيّ وتثاءبتُ. وعندما فتحتهما، كان يحمل خاتماً في يده.
  "آه... يا الله".
  "أردت القيام بذلك في المطعم، ولكن...". وابتسم ابتسامة عريضة. "هنا أفضل".
  فلمستُ الخاتم. كان من الذهب ويأسر الألباب، وعلى جانبي الماسة ثلاث ياقوتات. ونظرتُ إليه، شاعرةً فجأةً بحر شديد. فرفعتُ كنزتي الصوفية عن كتفيّ، وابتسمتُ، وكنت على وشك البكاء في الوقت نفسه.
  "عليّ أن أقول لك أمراً ما يا ستيوارت". قلتُ: "هل تعدني بعدم إخبار أحد؟".
  فحدّق إليّ وضحك قائلاً: "تمهّلي، هل وافقت؟".
  "نعم، ولكن...". كان عليّ معرفة أمر ما أولاً. "هل تعدني؟".
  فتنهّد، وبدا مُحبَطاً لأنني أُفسد لحظته وقال: "بالتأكيد، أعدك".
  لقد صدمني عرضه الزواج بي، ولكنني بذلت جهدي لأشرح وجهة نظري. فنظرت إلى عينيه، وأطلعته على الوقائع والتفاصيل التي كان في إمكاني تشاطرها معه بأمان في ما يخص الكتاب وما قمت به في العام الماضي. ولم أتطرّق إلى الأسماء، بل ركّزتُ على المعنى الضمني للكتاب، عِلماً مني أنه أمر غير جيد. وبالرغم من عرضه الزواج بي، لم أكن أملك معلومات كافية عنه تجعلني أثق به كلّياًَ.
  "هذا ما كنت تكتبين عنه في الأشهر الاثني عشر الماضية، لم يكن كتاباً دينياً؟".
  "لا، يا ستيوارت. لا".
  وعندما أخبرته أن هيلي عثرت على قوانين جيم كرو في حقيبتي المدرسية، انخفض ذقنه، وكان في إمكاني التحقق من أنني أكدت له أمراً سبق لهيلي أن أخبرته به، أمراً لم يصدّقه بسبب ثقته الساذجة.
  "الحديث... في المدينة. قلت لهم إنهم مُخطئون تماماً. ولكنهم كانوا... مُحقّين".
  عندما أخبرته عن الخادمات الملوّنات اللواتي مررن أمامي واحدة تلو الأخرى بعد لقاء...، امتلأتُ فخراً بما قمنا به. فنظر إلى كأس شرابه الفارغة.
  وأخبرته بعد ذلك عن إرسال المخطوط إلى نيويورك، وأنه سيظهر وفقاً لاعتقادي بعد ثمانية أشهر إذا قرروا نشره. وقلت لنفسي إن الخطوبة قد تتحول إلى زواج في هذا التاريخ تقريباً.
  "كُتِب بأسماء مستعارة". قلت: "ولكن، وبوجود هيلي، هناك احتمال كبير في أن يكتشف الناس أنني الكاتبة".
  لكنه توقف عن الإيماء برأسه أو دفع شعري وراء أُذُني، وكان خاتم جدته قابعاً على أريكة والدتي المخملية كما لو أنها استعارة لغوية مثيرة للسخرية. ولزمنا الصمت، وبقيت عيناه ثابتتين على بُعد بوصتين من وجهي من دون أن ينظر إليّ.
  بعد دقيقة، قال: "لا... لا أفهم سبب قيامك بهذا الأمر. لماذا... تهتمين بذلك، يا سكيتر؟".
  فاقشعرّ بدني، ونظرتُ إلى الخاتم الأنيق والبرّاق.
  "لم... أعنِ ذلك". قال مجدداً: "ما عنيتُه هو أن الأمور تسير بشكل جيد. لماذا تريدين إثارة المشاكل؟".
  كان في استطاعتي الجزم من خلال صوته أنه يريد جواباً مني. ولكن، كيف يمكنني شرح ذلك؟ فستيوارت رجل صالح، وفهمتُ ارتباكه وارتيابه بقدر ما كنت متيقّنة من صوابية ما قمت به.
  "أنا لا أثير المشاكل، يا ستيوارت. المشكلة قائمة ولا حاجة إلى من يثيرها".
  من الواضح أنه لم يكن الجواب المطلوب. "أنا لا أعرفك".
  فوجّهت نظري إلى الأسفل، متذكّرةً أنني فكرت في الأمر نفسه منذ لحظات. "أظن أننا نملك ما تبقى من العمر لمعالجة الأمر". قلت، محاوِلةً الابتسام.
  "لا... لا أظن أن في استطاعتي الزواج بشخص لا أعرفه".
  فحبستُ أنفاسي، وفُتح فمي من دون أن أتمكن من قول أي شيء للحظة من الزمن.
  "كان عليّ إخبارك". قلت لنفسي أكثر مما قلت ذلك له. "كنتَ بحاجة إلى معرفة الأمر".
  نظر إليّ للحظات، مفكّراً. "أعدك. لن أخبر أحداً". قال، وصدّقته. قد يكون ستيوارت أي شيء، ولكنه ليس كاذباً.
  فوقف، ورمقني بنظرة أخيرة مستغرِقة، والتقط الخاتم، وخرج.
  في تلك الليلة، وبعد مغادرة ستيوارت، طفتُ من غرفة إلى أخرى، شاعرةً بالجفاف في فمي وبالبرد. فالشعور بالبرد هو ما تضرعت لأجله عندما تخلى عني ستيوارت في المرة الأولى، وهذا الشعور هو ما حصلت عليه.
  وفي منتصف الليل، سمعت صوت والدتي تنادي من غرفة نومها.
  "يا أوجينيا؟ هل هذا أنت؟".
  فعبرتُ الرَّدهة. كان الباب مفتوحاً جزئياً ووالدتي جالسة بقميص نومها البيضاء المنشّاة، وكان شعرها منسدلاً على كتفيها. لقد صعقني مدى جمالها. كان مصباح الرُّواق الخارجي الخلفي مضاءً ويضفي هالةً بيضاء حول جسمها. فابتسمَت، وظهر طقم أسنانها الاصطناعي الجديد الذي أعدّه لها الطبيب سايمون عندما بدأت أسنانها تتآكل بسبب الحمض الذي تفرزه معدتها. كانت ابتسامتها أكثر براءةً منها في صور الاحتفال في سنّ المراهقة.
  "يا أمي، ماذا يمكنني أن أُحضر لك؟ هل تشعرين بألم؟".
  "تعالي، يا أوجينيا. أريد أن أقول لك أمراً ما".
  توجهتُ إليها بهدوء. كان والدي قطعة طويلة نائمة، مُديراً ظهره لها. ففكرتُ في إمكانية إخبارها بما جرى الليلة بطريقة معدَّلة. كلنا نعلم أنه ليس لدينا سوى قليل من الوقت، وفي استطاعتي إسعادها في أيامها الأخيرة، والادّعاء أن الزواج سيتمّ.
  "لديّ شيء أقوله لك، أيضاً". قلت.
  "آه؟ أخبريني أولاً".
  "طلب ستيوارت يدي للزواج". قلت، مُطلقةً ابتسامة مصطنعة. وشعرتُ بالذُّعر بعد ذلك، عِلماً مني أنها ستطلب رؤية الخاتم.
  "أعرف". قالت.
  "تعرفين؟".
  فأومأت برأسها. "بالطبع. لقد جاء قبل أسبوعين وطلب من كارلتون ومني يدك للزواج".
  منذ أسبوعين؟ وضحكتُ قليلاً. بالطبع، فوالدتي أول من يعرف أمراً بهذه الأهمية. كنت سعيدة لأنها استمتعت بهذا الخبر مدة أطول من الزمن.
  "ولدي أمر أخبرك به". قالت. كان الإشراق المحيط بوالدتي غير أرضي، وضّاءً كالفوسفور، ومردّ ذلك هو ضوء مصباح الرُّواق الخارجي. ولكنني تساءلتُ عن سبب عدم رؤيتي ذلك من قبل. وأمسكت بيدي كما تمسك الوالدة بيد ابنتها المخطوبة. وتحرك والدي، وجلس بشكل مستقيم.
  "ماذا؟". سأل لاهثاً: "هل تتقيّئين؟".
  "لا، يا كارلتون. أنا بخير. لقد قلت لك ذلك".
  فأومأ برأسه على نحو خَدِر، وأغمض عينيه، ونام قبل الاستلقاء مجدداً.
  "ما الذي تريدين إخباري به يا أمي؟".
  "أجريتُ حديثاً مطوّلاً مع والدك، واتخذتُ قراراً".
  "آه، يا الله"، قلتُ، متنهّدة. كان في استطاعتي أن أتخيّلها تشرح الأمر لستيوارت عندما طلب يدي. "هل الأمر مرتبط بالوديعة المصرفية؟".
  "لا". قالت، وفكرتُ، إذاً لا بد أنه أمر مرتبط بالزفاف. وشعرتُ بحزن مروِّع لأن والدتي لن تقوم بالتخطيط لزفافي، ليس لأنها ستكون متوفاة بل لأنه لن يحدث أي زفاف. ومع ذلك، شعرتُ أيضاً بارتياح يغلّفه شعور رهيب بالذَّنب لدرجة أنني لم أشأ مناقشة الأمر معها.
  "أعرف أنك لاحظت تلك الأمور التي حدثت في الأسابيع القليلة الماضية". قالت: "وأعرف ما قاله الطبيب نيل عمّا أشعر به من قوة زائفة". وسعلَت، وتقوّس جسدها النحيل كصَدَفة. فناولتُها منديلاً ورقياً، وقطّبَت جبينها، وربّتت على فمها.
  "ولكن كما قلت، لقد اتخذت قراراً".
  وأومأتُ برأسي، وأصغيت بالخدر نفسه الذي بدا على وجه والدي منذ لحظات.
  "قررت الصمود".
  "آه... يا أمي. يا الله، أرجوك...".
  "لقد اتخذت قراري وانتهى الأمر". قالت، مُبعدةً يدي.
  ومرّرَت راحتي يديها على بعضهما بعضاً، كما لو أنها تتخلص من مرض السرطان. وجلسَت بشكل مستقيم في قميص نومها، تلفّ هالةُ الضوء المشرق شعرَها، ولم أستطع الكفّ عن تقليب عينيّ. يا لغبائي. بالطبع، ستكون والدتي عنيدة حيال موتها كما كانت حيال كل تفصيل في حياتها.
♦  ♦  ♦
  حلّ يوم الجمعة، 18 كانون الثاني/يناير، 1964. كنت أرتدي فستاناً أسود واسعاً من الأسفل وضيّقاً من الأعلى، وأظافري مقلمة، وظننتُ أنني سأتذكر كل تفصيل من ذلك اليوم، وما قاله الناس عن عدم نسيان الشطائر التي كانوا يتناولونها أو الأغنية التي كانوا يسمعونها على الراديو عندما بلغهم خبر مقتل كنيدي.
  ودخلتُ مطبخ آيبيلين الذي أصبح مكاناً مألوفاً لي. كان الظلام لا يزال مخيّماً في الخارج، والمصابيح الكهربائية الصفراء ساطعة. فنظرت إلى ميني ونظرَت إليّ. كانت آيبيلين جالسة بيننا كما لو أنها تحول دون وقوع أمر ما.
  "هاربر آند روو". قلت: "تريد نشره".
  ولزم الجميع الهدوء، حتى إن الذبابات توقفت عن الأزيز.
  "أنت تمازحينني". قالت ميني.
  "تحدثتُ إليها بعد ظهر هذا اليوم".
  أطلقت آيبيلين صيحة لم أسمعها تخرج منها من قبل. "يا الله، لا يمكنني التصديق!". صرخت، ومن ثم تعانقنا آيبيلين وأنا، وميني وآيبيلين. ونظرت آيبيلين باتجاهي.
  "اجلسا كلتيكما!". قالت آيبيلين. "أخبريني، ماذا قالت؟ ماذا سنفعل الآن؟ يا الله، لم أُعدّ القهوة بعد!".
  فجلسنا، وحدّقتا إليّ، منحنيتين. كانت عينا آيبيلين مفتوحتين واسعاً. لقد بُلِّغتُ بالأمر قبل أربع ساعات، وقالت لي السيدة شتاين بوضوح إنها صفقة صغيرة، ويجب علينا إبقاء توقعاتنا في حدّها الأدنى. فشعرتُ أن الواجب يقتضي إبلاغ آيبيلين بالأمر كيلا تشعر بالخَيبة، وذلك قبل أن أكتشف وَقع الخبر عليّ.
  "اسمعي، قالت إنه ليس علينا الشعور بحماسة كبيرة، وإن عدد النسخ التي سيطبعونها ستكون قليلة جداً".
  وانتظرتُ عبوس آيبيلين، ولكنها قهقهت، وحاولت إخفاء الأمر بيدها.
  "ربما بضعة آلاف من النسخ".
  وضغطت آيبيلين بيدها على شفتيها أكثر فأكثر.
  "لقد اعتبرته السيدة شتاين... مُحزناً".
  بات وجه آيبيلين أكثر قتامة. وقهقهت مجدداً داخل براجمها؛ من الواضح أنها لم تفهم المقصود.
  "وقالت إنها من أصغر الدفعات المُسبَقة التي شهدَتها من قَبل...". كنت أحاول أن أبدو جدّية، ولكنني لم أستطع لأن آيبيلين كانت على وشك الانفجار ضحكاً، وترقرقت عيناها بالدموع.
  "ما مدى... صِغر الدفعة المُسبقة؟". سألَت من وراء يدها.
  "ثمانمئة دولار". قلت: "مُقَسَّمة إلى ثلاث عشرة حصة".
  انفجرت آيبيلين ضحكاً، ولم أتمالك نفسي من الضحك معها. ولكن النتيجة متواضعة، كانت بضعة آلاف من النسخ وواحداً وستين دولاراً وخمسة سنتاتٍ للشخص؟
  سالت الدموع على وجنتيّ آيبيلين. وأخيراً، ألقت رأسها على الطاولة. "لا أعرف لماذا أضحك. لقد بدا الأمر مضحكاً فجأة".
  نظرت إلينا ميني، مقلّبةً عينيها. "كنت أعرف أنكما مجنونتان".
  بذلتُ جهدي لأروي لهما التفاصيل. لم أتصرّف بشكل أفضل في أثناء تحدثي إلى السيدة شتاين على الهاتف. كانت قد بدت واقعية وغير مهتمة تقريباً. وماذا فعلتُ؟ هل بقيتُ عمليّة، وطرحتُ أسئلة ذات صلة بالموضوع؟ هل شكرتُها بسبب تبنّي موضوع محفوف بالمخاطر؟ لا، فبدلاً من الضحك، حدّقتُ إلى الهاتف منتحبة وباكية كطفلة تلقت حقنة لالتهاب سنجابية الدماغ.
  "اهدأي، يا آنسة فيلان". قالت لي: "قد لا يشهد الكتاب رواجاً". ولكنني استمررت في البكاء في أثناء تزويدي بالتفاصيل. "نعرض دفع أربعمئة دولار فقط مُسبَقاً، وأربعمئة دولار أخرى عندما ينتهي... هل... تسمعين؟".
  "أجل، يا سيدتي".
  "عليك القيام ببعض أعمال التحرير. فقِسم ساره هو الأفضل". قالت. وأخبرتُ آيبيلين بذلك بين نوبة انفعال وأخرى.
  نخرت آيبيلين أنفها، ومسحَت عينيها، وابتسمَت. فهدأنا أخيراً، وتناولنا القهوة التي قامت ميني بسكبها لنا.
  "لقد أحبت غرترود أيضاً". قلت لميني. والتقطتُ الورقة، وقرأتُ الاقتباس الذي كنت قد دوّنته كيلا أنساه. "غرترود هي كابوس كل امرأة جنوبية بيضاء البشرة. أنا أهيم بها".
  نظرت إليّ ميني مباشرة، ولانت ملامح وجهها، وابتسمَت كطفلة. "ماذا قالت؟ عني؟".
  فضحكت آيبيلين. "كما لو أنها تعرفك من مسافة خمسمئة ميل".
  "قالت إنه سيظهر بعد ستة أشهر على الأقل خلال شهر آب/أغسطس".
  كانت آيبيلين لا تزال تبتسم، غير آبهةٍ لما أقول، وشعرتُ بالامتنان بصدق. لقد عرفتُ أنها ستشعر بالحماسة، ولكنني خشيت من أن تشعر بالخيبة أيضاً. فرؤيتها بتلك الحال جعلتني أدرك أنني غير مخيَّبة الأمل. كنت سعيدة ليس إلا.
  جلسنا، وتحدثنا لدقائق قليلة أخرى، محتسيات القهوة والشاي، إلى أن نظرتُ إلى ساعتي. "قلتُ لوالدي إنني سأعود إلى المنزل بعد ساعة". كان والدي في المنزل مع والدتي، فجازفتُ بترك رقم هاتف آيبيلين إذا ما حدث أي طارئ، قائلةً له إنني ذاهبة لزيارة صديقة تدعى ساره.
  فرافقتاني إلى الباب، وهو أمر لم يسبق لميني أن قامت به. وقلت لآيبيلين إنني سأتصل بها ما إن أحصل على ملاحظات السيدة شتاين عبر البريد.
  "إذاً، بعد ستة أشهر سنعرف ماذا سيحدث". قالت ميني: "أمر جيد، أمر سيّئ، أو لا شيء".
  "قد لا تكون هناك أي ردود فعل". قلت، متسائلةً عما إذا كان شخص ما سيقوم بشراء الكتاب.
  "حسناً، أنا أعتمد على ردود الفعل الجيدة". قالت آيبيلين.
  فشبكت ميني ذراعيها على نحو متصالب فوق صدرها. "أعتمد على ردود الفعل السيئة إذاً. على أحدنا الاعتماد على ذلك".
  لم تبدُ ميني قلقة حيال مبيعات الكتاب. لقد بدت قلقة حيال ما سيحدث عندما تقرأ نساء جاكسون ما كتبنا عنهنّ.
آيبيلين
الفصل التاسع والعشرون
  لقد تسرّب الحر داخل كل شيء، وبلغت الحرارة طوال أسبوع مئة درجة مع تسعة وتسعين بالمئة من الرطوبة، ولو قمنا بممارسة السباحة لغدونا أكثر ابتلالاً. لم تكن ملاءاتي تجفّ على حبل الغسيل، ولم يُغلَق بابي الخارجي بسبب الرطوبة. ولم يكن في استطاعتي خفق مزيج المرنغ، حتى إن شعري المستعار الخاص الذي أضعه عندما أذهب إلى دار العبادة بدأ يتجعّد.
  في صباح ذلك اليوم، لم أستطع ارتداء جوربيّ. كانت ساقاي منتفختَين. ففكرت في القيام بذلك عندما أصل إلى منزل الآنسة ليفولت المكيَّف. لا بد من أن الحرارة بلغت درجة عالية لا سابق لها، لأنني أعمل على خدمة ذوي البشرة البيضاء طوال واحد وأربعين عاماً، وهي المرة الأولى في التاريخ التي أذهب فيها إلى العمل من دون جوربيّ.
  لكن منزل الآنسة ليفولت كان أكثر حرارة من منزلي. "يا آيبيلين، اذهبي واغلي الشاي و... نشّفي أطباق السلَطة... الآن...". لم تدخل إلى المطبخ في ذلك اليوم. كانت في غرفة الجلوس على كرسي بجانب فتحة التهوئة في الجدار، والهواء الصادر عن مكيّف الهواء يلفح قميصها التحتية. فهذا كل ما كانت ترتديه، مجرد قميص تحتية وقرطيها. لقد عملتُ على خدمة نساء بيضاوات البشرة كنّ يخرجن من غرفة النوم عاريات، ولكن الآنسة ليفولت لم تكن تحب ذلك.
  كان مكيّف الهواء يُصدر صوتاً بين الحين والآخر كما لو أنه على وشك التوقف عن العمل. لقد اتصلت الآنسة ليفولت مرتين بالمصلِّح، ووعدها بالقدوم، ولكنني راهنتُ على أنه لن يأتي. كان الحر شديداً.
  "ولا تنسي... ذلك الشيء الفضي، إنه في...".
  ولكنها توقفت عن الكلام كما لو أن الحر الشديد حال دون تمكّنها من إعلامي بما يتعيّن عليّ القيام به. لقد بدا الأمر كما لو أن كل من في المدينة أصيب بجنون الحرّ. كان كل شيء غامضاً ومخيفاً في الخارج تماماً كما هي عليه الحال قبل هبوب الإعصار، أم أن ذلك الشعور، أي عصبيّة مزاجي، كان بسبب الكتاب. كان من المتوقع أن يصدر يوم الجمعة.
  "هل تعتقدين أنه يجدر بنا إلغاء نادي البريدج؟". سألتها من المطبخ. لقد انتقل موعد نادي البريدج إلى أيام الاثنين، ومن المتوقع وصول السيدات بعد عشرين دقيقة.
  "لا، لقد تمّ إعداد... كل شيء". قالت، ولكنني كنت أعلم أنها لا تفكر بشكل سليم.
  "سأحاول خفق الكريما مجدداً، وعليّ بعد ذلك الذهاب إلى المرأب لارتداء جوربيّ".
  "آه، لا تقلقي في شأن ذلك يا آيبيلين. الحر شديد جداً، ولا تستطيعين تحملهما". ونهضت الآنسة ليفولت أخيراً، وجرّت نفسها إلى المطبخ، ملوِّحةً بمروحة المطعم الصيني شوو - شوو. "آه يا الله، لا بد من أن الحرارة في المطبخ أكثر ارتفاعاً منها في غرفة الجلوس بخمس عشرة درجة!".
  "سأُطفئ الفرن بعد دقيقة. لقد خرج الطفلان مجدداً للّعب".
  فنظرت الآنسة ليفولت عبر النافذة إلى الطفلين اللذين يلعبان برشّاشة الماء. كانت ماو موبلي بسروالها الداخلي، وروس الذي أدعوه الرجل الصغير بحفاضه. لم يبلغ بعد عامه الأول، ولكنه يسير كفتى كبير، حتى إنه لم يدبّ.
  "لا أعلم كيف يستطيعون تحمّل الحر في الخارج". قالت الآنسة ليفولت.
  كانت ماو موبلي تحب اللعب مع شقيقها الصغير والاهتمام له كما لو أنها والدته، ولكنها لم تعُد تُطيق البقاء معنا في المنزل طوال اليوم. فطفلتي بدأت بارتياد روضة برودمور باتيست كل صباح. وكان ذلك اليوم، يوم العمال، وكل العالم في إجازة، لذلك فهي لم تقصد روضة الأطفال. كنت سعيدة جداً ولا أعرف عدد الأيام المتبقية لي معها.
  "انظري إليهما في الخارج". قالت الآنسة ليفولت، واقتربتُ من النافذة حيث تقف. كان الماء المقذوف يبلغ أعلى الشجرة، مُشكّلاً قوس قُزَح، وماو موبلي تمسك بيدي الرجل الصغير ويقفان تحت الرّذاذ مُغمضي الأعين.
  "هما مميَّزان حقاً". قالت، متنهّدة كما لو أنها اكتشفت الأمر للتوّ.
  "هما كذلك بالتأكيد". قلت، وظننتُ أننا سنتشاطر، الآنسة ليفولت وأنا، تلك اللحظة، ناظرتين عبر النافذة إلى الطفلين اللذين نحبهما كلانا. وحملني ذلك على التساؤل عما إذا تبدّلت الأمور قليلاً. كنا في العام 1964 بالرغم من كل شيء، وقد سُمح للزنوج بالجلوس على منضدة وولورث في وسط المدينة.
  لقد انتابني شعور بالقنوط في ذلك الوقت، متسائلةً عما إذا ذهبتُ بعيداً لأنه قد لا تتسنى لي رؤية هذين الطفلين مجدداً إذا افتُضح أمرنا بعد صدور الكتاب. ماذا لو لم أتمكن من إلقاء تحية الوداع على ماو موبلي، والقول لها للمرة الأخيرة إنها فتاة لطيفة؟ والرجل الصغير، من سيروي له قصة مارشان لوثر كينغ الأخضر؟
  لقد سبق لي أن فكرت في ذلك أكثر من عشرين مرة. ولكن الأمر بدا أكثر واقعيةً في ذلك اليوم. فلمستُ زجاج النافذة كما لو أنني ألمسهما. فإذا اكتشفَت... آه، سأفتقد هذين الطفلين.
  والتفتُّ إلى الآنسة ليفولت ورأيتها تنظر إلى ساقيّ العاريتين. لقد ظننتُ أنها فضولية، كما تعلمون، وراهنتُ على أنه لم يسبق لها أن رأت ساقين ملونتين عاريتين من هذه المسافة القريبة. ولكنها قطّبت جبينها، ورفعَت نظرها إلى ماو موبلي، رامقةً إيّاها بذلك العبوس المُبغض نفسه. لقد لوّثت الطفلة جبينها بالوحل والعشب، وها هي تزيّن شقيقها بتلك المادة كما لو أنه حيوان في زريبة، ورأيتُ ذلك الاشمئزاز القديم الذي تكنّه الآنسة ليفولت لابنتها الوحيدة، وليس للرجل الصغير، لقد خصصَته لها من دون سواها.
  "هي تخرّب الباحة!". قالت الآنسة ليفولت.
  "سأذهب لإحضارهما. سأعتني...".
  "ولا يمكنك خدمتنا بهذا الشكل، كاشفةً عن ساقيك!".
  "لقد قلت لك...".
  "ستصل هيلي بعد خمس دقائق، وقد أفسدَت كل شيء!". صرخَت. لقد سمعتها ماو موبلي عبر النافذة كما أعتقد لأنها نظرت إلينا، وتسمّرَت في مكانها، وخبت بسمتها. وبعد ثانية، بدأت تمسح الوحل عن وجهها ببطء شديد.
  فوضعتُ مريولاً لأنني أردتُ غسلهما بخرطوم المياه، وذهبتُ بعد ذلك إلى المرأب لارتداء جوربيّ. سيصدر الكتاب بعد أربعة أيام.
♦  ♦  ♦
  كنا نعيش أنا، ميني، الآنسة سكيتر، وكل الخادمات اللواتي روين قصصهنّ، في حال من التوقعات المستمرة. لقد بدا الأمر كما لو أننا كنا ننتظر طوال الأشهر السبعة السابقة بلوغ الماء، في قدر غير مرئية، درجة الغليان. وبعد الشهر الثالث من الانتظار تقريباً، كنا قد كففنا عن التحدث عن الأمر لأنه يثير مشاعرنا.
  طوال الأسبوعين السابقين، كان هناك فرح وهلع سريان في داخلي لدرجة أن عملية تلميع الأرضيات كانت تجري ببطء أكبر، وأصبح غسل الملابس الداخلية أشبه بخوض سباق صعودي. وتحوّل كيّ الثنيات إلى عملية أزلية، ولكن ما العمل؟! كنا على ثقة تامة أن شيئاً لن يقال عن الأمر في البداية. فكما قالت السيدة شتاين للآنسة سكيتر، لن يشهد هذا الكتاب رواجاً مما أبقى توقعاتنا ضعيفة. وطلبت منا الآنسة سكيتر ألا نتوقع شيئاً لأن معظم الشعب الجنوبي مكبوت. وإذا شعروا بشيء، فقد لا يقولون أي كلمة، بل يحبسون أنفاسهم وينتظرون مرور المرحلة كالغاز.
  قالت ميني: "آمل في أن تحبس نفسها حتى تنفجر في أنحاء مقاطعة هيندس كافة". عانيةً الآنسة هيلي. وتمنّيتُ لو أن ميني تصبح أكثر لطافة، ولكنها لا تتغيّر أبداً.
  "تريدين تناول وجبة خفيفة، أيتها الطفلة؟". سألتُ ماو موبلي عندما عادت من المدرسة إلى المنزل يوم الثلاثاء. آه، لقد أصبحت فتاة كبيرة! تكاد تبلغ الرابعة من العمر. كانت طويلة القامة بالنسبة إلى سنّها، معظم الناس يظنون أنها في الخامسة أو السادسة من العمر. وبالرغم من كونها نحيفة كوالدتها، فقد بدت سمينة مقارنة بمن هم في مثل سنها، ولا يبدو شعرها في حال جيدة. لقد قررَت قصّ شعرها بنفسها بواسطة مقص الورق، وتعرفون كيف ينتهي الأمر بالشعر. فاصطحبتها الآنسة ليفولت إلى صالون تجميل البالغين، ولكنهم لم يتمكنوا من تحسينه بشكل جيد، كان لا يزال قصيراً من أحد الجوانب من دون وجود شيء من الأمام.
  فأعددتُ لها طعاماً ذا سُعرات حرارية منخفضة لأن هذا ما تسمح لي الآنسة ليفولت بتقديمه إليها. بسكويتات رقيقة هشة وسمك طون أو جيلو من دون كريمة مخفوقة.
  "ماذا تعلّمتِ اليوم؟". سألتُها، عِلماً أنها ليست في مدرسة حقيقية. وعندما طرحتُ عليها السؤال نفسه في يوم سابق، قالت: "الأوروبيون. جاؤوا ولم يجدوا ما يأكلونه، فأكلوا الهنود".
  ما هذا الذي يضعونه في رؤوس هؤلاء الأطفال! وفي كل أسبوع، كانت تحصل على درس آيبيلين، فأروي لها القصة السرّية. وعندما يكبر الرجل الصغير بما يكفي ليتمكن من الاستماع، سأروي له القصة أيضاً. أعني، إذا احتفظتُ بوظيفتي هناك. ولكنني لم أظن أن الأمر سيكون مماثلاً مع الرجل الصغير. كان يحبني، ولكنه كحيوان غير مروَّض يأتي ويتمسك بركبتيّ بقوة، وسرعان ما يبتعد للاهتمام بأمر آخر. ولم أشعر بالسوء إذا لم أتمكن من الاهتمام له على غرار شقيقته لأنه يُصغي إلى كل ما تقوله ماو موبلي بالرغم من عدم قدرته على قول أي كلمة بعد.
  عندما سألتُها في ذلك اليوم عما تعلّمته، قالت ماو موبلي: "لا شيء". ومدّت شفتيها.
  "كيف تبدو مدرّستك؟". سألتها.
  "إنها جميلة". قالت.
  "جيد". قلت: "أنت جميلة أيضاً".
  "لماذا أنت ملوّنة البشرة، يا آيبيلين؟".
  لقد طرح أطفالي الآخرون، ذوو البشرة البيضاء، عليّ هذا السؤال، وكنت أكتفي بالضحك، ولكنني أردتُ إجابتها. "لأن الله خلقني ملوّنة البشرة". قلت: "ولا وجود لأي سبب آخر في العالم".
  "تقول الآنسة تايلر إن الأطفال ملوني البشرة لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة لأنهم لا يتمتعون بالذكاء الكافي".
  فخرجتُ من وراء المِنضدة حينذاك، ورفعتُ ذقنها، وملّستُ شعرها ذا المظهر المضحك. "هل تظنين أنني خرقاء؟".
  "لا". همسَت، مؤكّدةً، كما لو أنها تعني ما قالت.
  "ماذا يمكنك القول عن الآنسة تايلر إذاً؟".
  فطرفَت عينيها كما لو أنها تُصغي بشكل جيد.
  "هذا يعني أن الآنسة تايلر غير مُحِقة على الدوام". قلت.
  عانقتني، وقالت: "أنت مُحِقة أكثر من الآنسة تايلر". كانت كلمات جديدة بالنسبة إليّ.
  عند الرابعة بعد ظهر ذلك اليوم، مشيتُ بأقصى سرعة ممكنة من موقف الحافلة إلى دار عبادة الحمَل. وانتظرتُ في الداخل، موجهةً نظري إلى الخارج عبر النافذة، ومراقبةً. وبعد عشر دقائق من محاولة التنفس وضرب العتبة بأصابعي، رأيت سيارة تتوقف وتخرج منها سيدة بيضاء البشرة. فاختلستُ النظر. لقد بدت تلك السيدة كإحدى الهيبيات اللواتي أَراهنّ على تلفاز الآنسة ليفولت. كانت ترتدي فستاناً أبيض قصيراً وتنتعل خفّاً، كان شعرها طويلاً مجعداً، ولا رذاذ عليه. فضحكتُ مُخفيةً ضحكتي بيدي، متمنّيةً لو أن في استطاعتي الخروج ركضاً ومعانقتها. لم أتمكن من مقابلة الآنسة سكيتر طوال ستة أشهر منذ إنهائها الأعمال التحريرية وتسليم النسخة النهائية.
  سحبت الآنسة سكيتر صندوقاً كبيراً بنّي اللون من المقعد الخلفي، وحملَته إلى باب دار العبادة كما لو أنها تضع ملابس قديمة. وتوقفَت للحظات ونظرَت إلى الباب، ولكنها عادت إلى سيارتها وابتعدَت. لقد شعرتُ بالحزن لأنه كان عليها القيام بذلك بهذه الطريقة، ولكننا لم نكن نريد إفساد الأمر قبل أن يبدأ.
  بعد قليل من مغادرتها، ركضتُ إلى الخارج، وحملتُ الصندوق إلى الداخل، والتقطتُ نسخة، وحدّقتُ إليها، ولم أحاول البكاء. إنه أجمل كتاب رأيته يوماً، كان الغلاف أزرق باهتاً بلون السماء، وكان هناك طائر أبيض كبير كحمامة سلام يبسط جناحيه بين جانبي الغلاف، وكان العنوان عاملة المنزل مكتوباً بحروف سوداء كبيرة. الأمر الوحيد الذي أزعجني هو اسم واضع الكتاب أنونيموز (أي مجهول الاسم). لقد تمنّيتُ لو أن الآنسة سكيتر تمكنت من وضع اسمها عليه، ولكنها مجازفة تنطوي على مخاطر جمّة.
  وقررتُ في اليوم التالي القيام بتسليم النسخ الأولى إلى كل النساء اللواتي نُشرت قصصهنّ في الكتاب، على أن تتولى الآنسة سكيتر مهمة تسليم نسخة إلى يول ماي في الستيت بن، لأن الخادمات الأخريات وافقن على مساعدتها. ولكنني سمعت أن يول ماي قد لا تستلم العلبة لأن السجينات لا يستلمن إلا غرضاً واحداً من أصل عشرة أغراض تُرسَل إليهنّ بسبب قيام الحارسات بمصادرتها لأنفسهنّ. وقالت الآنسة سكيتر إنها سترسل عشر نسخات، نسخة في كل مرة، للتأكد من تسلّم يول ماي نسخة عن الكتاب.
  حملتُ ذلك الصندوق الكبير إلى المنزل، وأخرجتُ نسخة واحدة، ووضعت الصندوق تحت سريري. وتوجّهتُ بعد ذلك إلى منزل ميني التي كانت حاملاً في شهرها السادس من دون أن يكون في إمكان أحد ملاحظة الأمر. وعندما وصلتُ إلى هناك، كانت جالسة إلى طاولة المطبخ تتناول كوب حليب، وليروي نائماً في الداخل، وبِيني وشوغر وكيندرا يقشّرون الفول السوداني في الباحة الخلفية. كان المطبخ هادئاً. فابتسمتُ وسلّمتُ ميني نسختها.
  فألقت نظرةً عليها. "أظن أن طائر الحمام يبدو جيداً".
  "تقول الآنسة سكيتر إن حمامة السلام هي دلالة على أزمنة أفضل، وتقول إن الناس يضعونها على ملابسهم في كاليفورنيا".
  "لا يهمّني أمر أي شخص في كاليفورنيا". قالت ميني، محدّقةً إلى ذلك الغلاف: "كل ما يهمّني هو ما سيقوله الناس في جاكسون، ميسيسيبي، عن الكتاب".
  "ستظهر النسخ في متاجر بيع الكتب والمكتبات غداً. ألفان وخمسمئة نسخة في الميسيسيبي، والنصف الآخر في مختلف أنحاء الولايات المتحدة". كان العدد أكبر بكثير من العدد الذي سبق للسيدة شتاين أن حددته، ولكنها قالت إن الناس يتابعون أخبار الولاية بمزيد من الاهتمام منذ بدء مسيرات الحرية، واختفاء عاملين في ميدان الحقوق المدنية في سيارة الستايشن تلك في الميسيسيبي.
  "كم عدد النسخ التي ستُرسَل إلى مكتبة جاكسون؟". سألَت ميني: "لا شيء؟".
  فهززت رأسي، مبتسمة وقلت: "ثلاث نسخ. أخبرتني الآنسة سكيتر بالأمر هذا الصباح عبر الهاتف".
  وبدت ميني مصعوقة. فقبل شهرين فقط، بدأت المكتبة المخصصة لذوي البشرة البيضاء بالسماح لملوّني البشرة بدخولها. لقد قصدتُها مرتين.
  وفتحت ميني الكتاب، وبدأت بقراءته على الفور. ودخل ابناها وبناتها، وزوّدتهم بتوجيهات حول ما يتعيّن عليهم القيام به من دون رفع نظرها عن الكتاب. ولم تتوقف عيناها عن مسح محتويات الصفحة. كنت قد قرأته عدة مرات في أثناء انشغالي به في العام السابق. ولكن ميني قالت إنها لا تريد قراءته حتى صدوره، لم تكن تريد إفساده.
  جلستُ هناك مع ميني لمدة وجيزة. كانت تطلق ابتسامة عريضة بين حين وآخر، وضحكَت مرات قليلة، وزمجرَت أكثر من مرة من دون أن أسألها عن السبب. فلم أشأ مقاطعتها، وتوجهتُ إلى المنزل. وبعد أن كتبتُ كل أدعيتي، لجأتُ إلى السرير مع ذلك الكتاب الموضوع على الوسادة بجانبي.
  في اليوم التالي، كل ما كان في استطاعتي التفكير فيه في العمل هو كيفية عرض المتاجر لكتابي على الرفوف. لقد مسحتُ الأرض، وكويتُ، وبدّلتُ حفاضات، ولكنني لم أسمع كلمة واحدة عن الأمر في منزل الآنسة ليفولت. لقد بدا الأمر كما لو أنني لم أضع كتاباً. لا أعرف ما الذي أصابني، بدا كأنه نوع من أنواع الاضطراب. كان يوم جمعة حاراً عاديّاً، والذباب يئزّ على الباب المُنخلي.
  في تلك الليلة، اتصلت بمنزلي ست خادمات شاركن في الكتاب، وسألن عما إذا قال أحد شيئاً عن الأمر. وتحدّثنا طويلاً كما لو أن الواقع يتبدّل إذا تنفسنا لمدة طويلة عبر الهاتف.
  واتصلت الآنسة سكيتر أخيراً. "مررتُ بالقرب من بوك وورم بعد الظهر، ووقفتُ هناك لفترة وجيزة، ولكن أحداً لم يأبه له".
  "قالت أُولا إنها مرّت بمتجر الكتب الخاص بملوّني البشرة. لقد حدث الأمر نفسه".
  "حسناً". قالت، متنهّدة.
  ولكننا لم نسمع شيئاً طوال نهاية الأسبوع تلك وفي بداية الأسبوع التالي. كانت الكتب القديمة نفسها موضوعة على طاولة الليل التابعة للآنسة ليفولت. إتيكيت لفرانسز بنتون، بايتون بلايس، الكتاب القديم والمكسوّ بالغبار الذي تُبقيه بجانب السرير من دون قراءته. ولكن، يا الله، ليتني لا أستمر في النظر إلى تلك الكدسة من الكتب كما لو أنها لطخة.
  يوم الأربعاء، لم يكن هناك ما يشير إلى اكتشاف محتوى الكتاب. فلم يشترِ أحد أي نسخة من متجر الكتب الخاص بذوي البشرة البيضاء. وقال متجر شارع فاريش ستريت إنهم باعوا نحو اثنتي عشرة نسخة، وهو أمر جيد. ربما قامت الخادمات الأخريات بشراء نسخات لصديقاتهنّ.
  في يوم الخميس، وهو اليوم السابع، رنّ هاتفي قبل مغادرتي إلى العمل.
  "لديّ أخبار". همست الآنسة سكيتر. لقد افترضتُ أنها تُقفل على نفسها في غرفة المؤونة.
  "ماذا حدث؟".
  "اتصلت السيدة شتاين وقالت إننا سنظهر في برنامج المقابلات لدنيس جايمس".
  "الناس يتحدثون؟ البرنامج التلفازي؟".
  "ستتم مراجعة الكتاب. قالت إنه سيظهر على القناة الثالثة يوم الخميس المقبل عند الواحدة ظهراً".
  يا الله، سنظهر على دبليو أل بي تي - تي في! إنه برنامج محلي في جاكسون يُعرَض بالألوان بعد نشرة أخبار الساعة الثانية عشرة.
  "ماذا تعتقدين أن مراجعة الكتاب ستكون؟ جيدة أم سيئة؟".
  "لا أعرف. حتى إنني لا أعرف إذا قام دنيس بقراءة الكتاب أم أنه سيقول ما يُطلَب منه قوله".
  فشعرتُ بالإثارة والخوف في آن معاً. سيحدث أمر ما بعد ذلك.
  "قالت السيدة شتاين إن شخصاً ما شعر بالأسف حيالنا في قسم الإعلان التابع لهاربر آند روو، وأجرى بعض الاتصالات. وقالت إن كتابنا هو أول كتاب لا يحظى بأي ميزانية إعلانية".
  فضحكنا، ولكننا بدونا عصبيّتَي المزاج.
  "آمل في أن تتمكني من مشاهدة البرنامج في منزل إليزابيت. وإذا لم تستطيعي، أتصل بك وأخبرك بكل ما قيل".
♦  ♦  ♦
  مساء يوم الجمعة، وبعد أسبوع من صدور الكتاب، استعددت للذهاب إلى دار العبادة. كان مدير أعمال دار العبادة توماس قد اتصل بي في صباح ذلك اليوم، وطلب مني حضور اجتماع خاص سيعقدونه. وعندما سألته عن موضوع الاجتماع، قال إن عليه الذهاب. وقالت ميني إنها تلقت الاتصال نفسه. لذلك، قمت بكيّ فستان جميل من الكتّان أعطتني إياه الآنسة غرينلي، وتوجهتُ إلى منزل ميني لنسير معاً إلى دار العبادة.
  كالعادة، كان منزل ميني أشبه بقفص دجاج مشتعل. فميني تصرخ، والأغراض تتطاير في الأرجاء، وابناها وبناتها يصيحون. لقد رأيتُ أولى دلالات الحَمْل على بطن ميني تحت فستانها، وكنت ممتنّة لأنها كشفت عن الأمر أخيراً. فليروي لا يضرب ميني عندما تكون حاملاً، وميني تعرف ذلك، فافترضتُ أنهما سيُرزقان بمزيد من الأطفال بعد ذلك الطفل.
  "يا كيندرا! انهضي عن الأرض!". صاحت ميني: "من الأفضل أن تكون حبوب القرنيات ساخنة عندما يستيقظ والدك!".
  أما كيندرا، البالغة من العمر سبع سنوات، فأجابت بوقاحة، وتوجهَت إلى جهاز الطهو بمؤخّرتها الناتئة وأنفها المرفوع في الهواء. وملأ دويّ اصطدام قدر الطهو المكان. "لماذا أُعدّ العشاء؟ إنه دور شوغر!".
  "لأن شوغر في منزل الآنسة سيليا وتريدين أن تعيشي لتري شقيقك الثالث".
  ودخل بِيني وغمرني من الوسط. فابتسم ابتسامة عريضة، وكشف لي عن السنّ التي فقدها، وركض.
  "يا كيندرا، أطفئي النار قبل أن تحرقي المنزل بأكمله!".
  "يُستحسن بنا الذهاب، يا ميني". قلت لأن هذا الوضع قد يدوم طوال الليل. "سنتأخر".
  نظرت ميني إلى ساعتها، وهزت رأسها. "لماذا لم تعُد شوغر إلى المنزل بعد؟ لم تكن الآنسة سيليا تُبقيني حتى هذا الوقت المتأخر".
  في الأسبوع السابق، كانت ميني قد بدأت باصطحاب شوغر إلى العمل لتدريبها كي تحل مكانها عندما تُرزق بالطفل. وفي تلك الليلة، طلبت الآنسة سيليا من شوغر العمل حتى وقت متأخر، ووعدَت أن تقلّها إلى المنزل.
  "يا كيندرا، لا أريد رؤية الكثير من حبوب القرنيات في حوض الغسيل ذاك لدى عودتي. نظّفي المكان جيداً". وعانقتها ميني وقالت: "يا بِيني، اذهب وقل لأبيك إنه يُستحسن به النهوض من ذلك السرير".
  "أوو، يا أمي، لماذا...".
  "هيا، كن شجاعاً. لا تقف بقربه عندما يستيقظ".
  فخرجنا من الباب، وسلكنا الشارع قبل أن نسمع صراخ ليروي بسبب قيام بِيني بإيقاظه. وسرتُ بسرعة أكبر كيلا تعود وتسدّد لليروي ما يستحقّه.
  "سعيدة لأننا ذاهبتان إلى دار العبادة هذا المساء". قالت ميني، وتنهدت. ومررنا حول شارع فاريش ستريت، وصعدنا الدرج. "أعطيني ساعة لا أفكر فيها في كل ذلك".
  بعد دخولنا ردهة دار العبادة، انسلّ وراءنا أحد الأخوة براون، وأقفل الباب. كنت على وشك السؤال عن السبب عندما بدأ الأشخاص الثلاثون غريبو الأطوار بالتصفيق، وشرعنا ميني وأنا بالتصفيق معهم. لقد تصوّرتُ أن أحداً ما دخل الكلية أو ما شابه.
  "لمن نصفّق؟". سألتُ راشيل جونسون، زوجة المبجَّل.
  فضحكت وساد الهدوء، وانحنت راشيل نحوي.
  "يا عزيزتي، نحن نصفّق لك". ومدّت يدها بعد ذلك، وسحبت نسخة عن الكتاب من حقيبة يدها. فنظرتُ حولي، وكان الجميع يحملون نسخات في أيديهم، بمن فيهم الموظفون الهامّون ومدبّرو شؤون دار العبادة.
  اقترب مني المبجَّل جونسون. "يا آيبيلين، إنها مناسبة هامة لك ولدار العبادة".
  "لا بد من أنك اشتريت كل النسخ الموجودة في متجر الكتب". قلت، فضحك الحشد بتهذيب.
  "نريد أن نُعلِمك أنها المرة الأولى والأخيرة التي تُقرّ دار العبادة بإنجازك، وذلك حفاظاً على سلامتك. أعلم أن العديد من الأشخاص ساهموا في هذا الكتاب، ولكن بلغني أنه ما كان ليُنجز من دونك".
  فنظرتُ إلى ميني التي كانت تبتسم، وعلمتُ أنها مشاركة بهذه المفاجأة.
  "وُجّهت رسالة سرّية إلى جماعة المؤمنين وكل أفراد الجالية الملونة بعدم البَوح بالأسماء الحقيقية لشخصيات الكتاب واسم كاتبته إذا عرفوها. وهذه الليلة استثناء. آسف" وابتسم، وهزّ رأسه قائلاً: "ولكننا لم نتمكن من غضّ الطرف من دون الاحتفال بذلك".
  سلّمني الكتاب. "نعرف أنك لم تستطيعي وضع اسمك فيه، لذلك وقّعنا كل أسمائنا عليه لأجلك". وفتحتُ الغلاف الأمامي ولم يكن هناك ثلاثون أو أربعون اسماً فقط، بل مئات الأسماء، وربما خمسمئة اسم على الصفحات الأمامية والخلفية، وعلى امتداد حاشية الصفحات الداخلية. لقد وقّع كل الأشخاص في دار العبادة حيث أمارس شعائري، ودور العبادة الأخرى أيضاً أسماءهم. آه، انهرتُ حينذاك، لقد حدث كل شيء دُفعةً واحدة بعد عامَين من الكدّ والأمل. وبعد ذلك، اصطف الجميع، ومرّوا أمامي، وعانقوني، وقالوا لي إنني شجاعة، ولكنني أجبتهم أن هناك العديد من الشَجعى الأخريات أيضاً. لقد كرهت الاستئثار بكل الاهتمام، ولكنني كنت ممتنّة لعدم ذِكر الأسماء الأخرى. لم أشأ أن يعانين من المشاكل، ولم يكنّ يعرفن، كما أعتقد، أن ميني مشاركة أيضاً في الكتاب.
  "قد تكون هناك أوقات عسيرة". قال لي المبجَّل جونسون: "إذا حدث ذلك، ستساعدك دار العبادة بشتى الوسائل".
  فبكيتُ وبكيتُ هناك أمام الجميع. نظرتُ إلى ميني التي كانت تضحك. من الغريب كيف أن الناس يعبّرون عن مشاعرهم بطرائق مختلفة. وتساءلتُ عن رد فعل الآنسة سكيتر لو كانت موجودة هناك، وقد أحزنني ذلك. فما من شخص في المدينة سيوقّع كتابها ويقول لها إنها شجاعة، ولن يقول لها أحد إنه سيعتني بها.
  وبعد ذلك، سلّمني المبجَّل علبة ملفوفة بورقة بيضاء، ومربوطة بشريط أزرق فاتح بلون الكتاب. ووضع يده عليه كما لو أنه يقوم بمباركته. "هذا الكتاب، إنه للآنسة البيضاء. قولي لها إننا نحبها كما لو أنها فرد من عائلتنا".
  يوم الخميس، استيقظتُ مع شروق الشمس، وذهبت إلى العمل باكراً. كان ذلك اليوم يوماً عظيماً. لقد أنجزتُ الأعمال المطبخية بسرعة، وعند الساعة الواحدة، قمت بالكيّ أمام تلفاز الآنسة ليفولت الموضوع على القناة الثالثة. كان الرجل الصغير في قيلولة وماو موبلي في المدرسة.
  حاولتُ كيّ بعض الثَّنيات، ولكن يدَيّ كانتا ترتجفان وأصابعي ملتوية. فرششتُ بعض الماء وكويتها مجدداً، عابسةً ومُظهرةً اهتماماً زائداً. أخيراً، حان الوقت.
  ظهر دنيس جايمس على الشاشة، وأشار إلى ما سيقوم بمناقشته في ذلك اليوم. كان هناك الكثير من الرذاذ على شعره الأسود لدرجة أنه لم يكن يتحرك. إنه المتحدث الجنوبي الأسرع، وقد حملني صوته على الشعور أنني على سكة حديد الملاهي. كنت عصبية المزاج جداً لدرجة أنني شعرت بالرغبة في التقيّؤ على بذلة السيد راليه التي يرتديها إلى دار العبادة.
  "... وننهي البرنامج بمراجعة كتاب". وبعد الإعلان التجاري، عرض لغرفة إلفيس بريسلي، ولمبنى إنترستيت 55 الذي سيتم تشييده، وتطرّق إلى أمور في جاكسون وصولاً إلى نيو أورليانز. وعند الواحدة واثنتين وعشرين دقيقة، قدِمت امرأة وجلست بجانبه. هي تدعى جولين فرانش، وقالت إنها مراجعة الكتب المحلية.
  في تلك اللحظة بالذات، دخلت الآنسة ليفولت المنزل، مرتدية بذلة الرابطة ومنتعلة حذائها ذي الكعبين العاليين اللذين يُحدثان ضجيجاً، وتوجهت مباشرةً إلى غرفة الجلوس.
  "أنا سعيدة جداً لهدوء موجة الحر، لدرجة أنني قادرة على القفز من شدة الفرح". قالت.
  كان السيد دنيس يتحدث عن كتاب ما بعنوان الرجل الكبير الصغير. فحاولتُ أن أوافق الآنسة ليفولت الرأي ولكنني شعرتُ فجأةً بتصلّب وجهي. "سأُطفئ ذلك الشيء".
  "لا، أبقيه مُشغَّلاً!". قالت الآنسة ليفولت. "إنها جولين فرانش على التلفاز! من الأفضل أن أتصل بهيلي وأخبرها".
  فدخلت المطبخ، وتحدثت إلى الخادمة الثالثة لهيلي في غضون شهر. لم تكن إرنستين تملك سوى ذراع واحدة. فمكاسب الآنسة هيلي تتناقص باستمرار.
  "يا إرنستين، الآنسة إليزابيت تتكلم... آه، غير موجودة؟ حسناً، قولي لها حالما تصل إن زميلتنا في الأخوية على التلفاز... صحيح، شكراً لك".
  عادت الآنسة ليفولت بسرعة إلى غرفة الجلوس، وجلست على الأريكة، ولكن كان هناك إعلان تجاري. كنت أتنفس بصعوبة. ماذا تفعل؟ لم يسبق لنا أن شاهدنا التلفاز معاً. كانت مأخوذة كمن يشاهد نفسه على شاشة التلفاز!
  انتهى إعلان صابونة دايل فجأةً، وعاد السيد دنيس مع كتابي بيده. لقد بدا الطائر الأبيض أكبر من الحياة. كان يحمل الكتاب، مشيراً بإصبعه إلى كلمة أنونيموز. وللحظات قليلة، شعرت بالفخر أكثر من شعوري بالخوف، وأردتُ أن أصرخ هذا كتابي! هذا كتابي على التلفاز! ولكن، كان يتعيّن عليّ التزام الهدوء كما لو أنني أشاهد برنامجاً تافهاً. كنت أتنفس بصعوبة!
  "... بعنوان عاملة المنزل مع شهادات لبعض مدبّرات المنازل في الميسيسيبي...".
  "آه، ليت هيلي في المنزل! بمن يمكنني الاتصال؟ انظري إلى ذاك الحذاء اللطيف الذي تنتعله، أراهن على أنها اشترته من باغالو شوب".
  رجاءً اصمتي! ومددتُ يدي، ورفعتُ صوت التلفاز قليلاً، ولكنني تمنّيتُ آنذاك لو أنني لم أقم بذلك. ماذا لو تحدّثا عنها؟ هل ستعرف الآنسة ليفولت حيالها؟
  "... قرأتُه الليلة الماضية وتقوم زوجتي بقراءته الآن...". كان السيد دنيس يتحدث كرجل يدير مزاداً علنياً، ويضحك، ويرفع حاجبيه ويُخفضهما، مشيراً إلى كتابنا. "... وهو مؤثّر حقاً. إنه منوِّر، يمكنني القول إنهم استخدموا اسم مدينة نايسفيل، ميسيسيبي، المبتكَر، ولكن من يعلم؟". وغطى فمه جزئياً، وهمس بصوت منخفض: "قد تكون جاكسون!".
  ماذا قال؟
  "الآن، أنا لا أقول إنها جاكسون، ولكن يمكن أن تكون أي مكان آخر. وإذا أردتم الحصول على هذا الكتاب، تأكدوا من ألا تكونوا مذكورين فيه! تحسّباً ليس إلا. ها - ها - ها - ها...".
  تسمّرتُ في مكاني، وشعرتُ بخدر في عنقي. لا يوجد فيه ما يشير إلى جاكسون. قُل لي مجدداً إنه يمكن أن يكون أي مكان آخر، يا سيد دنيس!
  ورأيتُ الآنسة ليفولت تبتسم لصديقتها على التلفاز كما لو أن الغبيّة لم ترَها منذ مدة طويلة، والسيد دنيس يضحك ويتكلم، ولكن وجه تلك الزميلة في الأخوية، الآنسة جولين، غدا أحمر اللون كإشارة مرور.
  "... إنه عار على الجنوب! عار على النساء الجنوبيات الصالحات اللواتي أمضين حياتهنّ بالاعتناء بعاملات المنازل. ما أعرفه هو أنني أعامل عاملة المنزل لديّ كما لو أنها فرد من العائلة، وكل صديقاتي يقمن بالمِثل...".
  "لماذا تقطِّب جبينها بهذه الطريقة على التلفاز؟". قالت، شاكية: "يا جولين!". وانحنت وربّتت بإصبعها على جبين الآنسة جولين قائلة: "لا تعبسي! لا تبدين ظريفة على هذا النحو!".
  "يا جولين، هل قرأتِ تلك الخاتمة؟ عن الفطيرة؟ لو كانت خادمتي، بيسي ماو، تستمع، يا بيسي ماو، أنا أحترم ما تقومين به كل يوم. ولن أتناول الفطيرة بالشوكولا بعد الآن! ها - ها - ها...".
  لكن الآنسة جولين كانت تحمل الكتاب كما لو أنها تريد إحراقه. "لا تشتروا هذا الكتاب! يا سيدات جاكسون، لا تدعمن هذا الافتراء بالمال الذي يكدّ أزواجكنّ لجنيه...".
  "هاه؟". سألت الآنسة ليفولت. وظهر إعلان تجاري عن تايد.
  "ما الذي كانا يتحدثان عنه؟". سألتني الآنسة ليفولت.
  فلم أُجب. كان قلبي يخفق بقوة.
  "تحمل صديقتي جولين كتاباً بيدها".
  "أجل يا سيدتي".
  "ما عنوانه؟ عاملة المنزل أو ما شابه؟".
  ضغطتُ رأس المكواة على ياقة قميص السيد راليه. كان عليّ الاتصال بميني، والآنسة سكيتر، ومعرفة ما إذا سمعتا ذلك. ولكن الآنسة ليفولت كانت واقفة هناك تنتظر جوابي، وعرفتُ أنها مصرّة على ذلك. لم يسبق لها أن أصرّت على هذا النحو.
  "هل سمعتهما يقولان إنه يتناول جاكسون؟". قالت.
  وواصلتُ التحديق إلى مكواتي.
  "أظن أنهما قالا جاكسون. ولكن، لماذا لا يريداننا أن نشتريه؟".
  كانت يداي ترتجفان. كيف يمكن لذلك أن يحدث؟ وواصلتُ الكيّ، محاوِلةً تمليس ما قمتُ بتمليسه.
  بعد لحظات، انتهى الإعلان التجاري عن تايد، وظهر دنيس جايمس مجدداً حاملاً الكتاب، والآنسة جولين محمرّة الوجه. "هذا كل شيء لليوم". قال: "ولكن، تأكدوا من الحصول على نسختكم من كتابَي الرجل الكبير الصغير وعاملة المنزلمن راعينا ستيت ستريت بوكستور. وتأكدوا بأنفسكم إذا كانت جاكسون هي المعنية أم لا". وسُيّرت الموسيقى التصويرية، وصاح: "نهاركِ سعيد، يا ميسيسيبي!".
  فنظرت الآنسة ليفولت إليّ وقالت: "هل رأيتِ ذلك؟ قلتُ لك إن الكتاب يتناول جاكسون!". وبعد خمس دقائق، خرجت إلى متجر الكتب لشراء نسخة عن الكتاب الذي كتبتُه عنها.
ميني
الفصل الثلاثون
  بعد برنامج المقابلات الناس يتحدثون، التقطتُ جهاز سبيس كومند للتحكم عن بُعد وضغطتُ على زر إطفاء. فقصصي على وشك الانتشار، ولكنني لم آبه لذلك، وكان على الطبيب سترونغ والآنسة جوليا أن يجولا العالم من دوني في ذلك اليوم.
  فكرتُ في إجراء اتصال هاتفي بدنيس جايمس والقول له، من تظن نفسك لتنشر أكاذيب مماثلة؟ لا يمكنك إخبار كل منطقة قطار الأنفاق أن كتابنا يتناول جاكسون! لا تعرف المدينة التي هي محور كتابنا!
  سأقول لكم ما الذي يقوم به هذا المغفّل. هو يتمنى أن يكون الكتاب عن جاكسون. هو يتمنى أن تكون جاكسون، ميسيسيبي، مثيرة للاهتمام بما يكفي لوضع كتاب كامل عنها... حسناً، وبالرغم من أن جاكسون هي المعنية في الكتاب، فهو لم يكن على عِلم بذلك.
  دخلتُ المطبخ مُسرِعة واتصلت بآيبيلين، ولكن الخط كان لا يزال مشغولاً بعد محاولتين، فأقفلتُ الخط. في غرفة الجلوس، تناولتُ المكواة بعنف، وانتشلت قميص السيد جوني البيضاء من سلّة الغسيل، وتساءلتُ للمرة الألف عما سيحدث عندما تقرأ الآنسة هيلي الفصل الأخير، من الأفضل لها أن تخبر الجميع أن مدينتنا ليست المعنيّة بالكتاب. وقد تمضي فترة بعد الظهر طالبةً من الآنسة سيليا أن تقوم بطردي، ولكن الآنسة سيليا لن تلبّي طلبها. فكره الآنسة هيلي هو الأمر الوحيد المشترك بين تلك المرأة المجنونة وبيني. ولكنني لا أعرف ما ستقوم به هيلي بعد فشل محاولتها، ستكون حربنا الخاصة، بيني وبين الآنسة هيلي، ولن يؤثّر ذلك في الأخريات.
  آه، لا، كنت في مزاج سيّئ. ومن حيث أقوم بالكيّ، استطعت رؤية الآنسة سيليا في الفناء الخلفي ببنطالها الزهري الخمري المصنوع من الساتان وقفازيها البلاستيكي الأسود. كان هناك تراب على ركبتيها، وقد طلبتُ منها مئة مرة الكف عن حفر التراب بملابسها الأنيقة. ولكن، تلك الآنسة لا تُصغي أبداً.
  كان العشب أمام بركة السباحة مغطّى بمدمّات تمشيط التُّربة وأدوات يدوية. فكل ما تقوم به الآنسة سيليا هو نَكش الباحة وزراعة المزيد من الأزهار متعددة الألوان، بالرغم من قيام السيد جوني باستخدام عامل بدوام كامل منذ أشهر قليلة للاهتمام بالباحة، ويدعى جون ويليس. لقد أمل في أن يوفر نوعاً من الحماية بعد ظهور الرجل العاري، ولكنه كان مُسنّاً ومقوَّس الظهر كمِشبك ورق، ونحيلاً كذلك الرجل. كنت أشعر أنه يتعيّن التحقق من أنه لا يتصرف على غرار الرجل العاري وسط الشُجَيرات. أظن أن السيد جوني لم يكن يريد استبداله بشخص أصغر سنّاً لأنه يشفق عليه.
  رششتُ مزيداً من النشاء على ياقة السيد جوني، وسمعتُ الآنسة سيليا توجّه تعليمات بصوت مرتفع حول كيفية زرع شُجَيرة. "تلك الأَرطنسية، لنضع مزيداً من الحديد في تُربتها. اتفقنا، يا جون ويليس؟".
  "أجل يا سيدتي". أجاب جون ويليس، صائحاً.
  "اصمتي، يا سيدتي". قلت. فطريقة صياحها تحمله على الظن أنها صمّاء.
  رنّ الهاتف، وأسرعتُ للإجابة.
  "آه، يا ميني". قالت آيبيلين على الهاتف: "لقد اكتشفوا المدينة، ولن يمرّ وقت طويل قبل أن يكتشفوا الشخصيات".
  "إنه مجنون".
  "كيف نعرف أن الآنسة هيلي ستقرأه؟". قالت آيبيلين بصوت مرتفع. وأملتُ في ألا تتمكن الآنسة ليفولت من سماعها. "يا الله، يجب أن نفكر في الأمر، يا ميني".
  لم يسبق لي أن سمعت آيبيلين تتكلم بتلك الطريقة. لقد بدا الأمر كما لو أننا نملك شخصيتين مماثلتين. "اسمعي". قلت، لأن شيئاً ما بدا لي منطقياً: "بما أن السيد جايمس أثار ضجة حول الكتاب، نعلم أنها ستقرأه. كل من في المدينة سيقوم بقراءته". وفي أثناء قولي ذلك، بدأتُ أُدرك أن ما أقوله صحيح. "لا تفقدي الأمل لأن الأمور تجري ربما على النحو الذي نريد".
  بعد خمس دقائق من إنهاء المكالمة الهاتفية، رنّ هاتف الآنسة سيليا. "منزل الآنسة سيليا...".
  "تحدثتُ للتوّ إلى لوفينيا". همست آيبيلين. "قدِمت الآنسة لو آن إلى المنزل مع نسخة لها ونسخة لصديقتها المفضَّلة، هيلي هولبروك".
  ها قد بدأنا.
  طوال الليل، أُقسم إنني استطعت رؤية الآنسة هيلي تقرأ الكتاب همساً بصوت بارد وهائج. وعند الثانية بعد منتصف الليل، نهضتُ من السرير، وفتحتُ نسختي الخاصة، وحاولتُ أن أحزر أي فصل تقرأ. هل هو الأول أو الثاني أو العاشر؟ أخيراً، حدّقتُ إلى الغلاف الأزرق. لم يسبق لي أن رأيت كتاباً بهذا اللون الجميل. ومسحتُ اللطخة عن الغلاف الأمامي.
  بعد ذلك، أعدتُ إخفاءه في جيب معطفي الشتوي الذي لم أرتدِه أبداً بما أنني لم أقرأ أي كتاب بعد زواجي بليروي، ولم أشأ إثارة ريبته في شأن ذلك الكتاب. أخيراً، عدتُ إلى السرير، قائلةً لنفسي إنني لن أتمكن من معرفة المكان الذي بلغته الآنسة هيلي في قراءة الكتاب. فما أعرفه أنها لم تصل بعد إلى الجزء المتعلق بها. لقد عرفتُ ذلك لأنني لم أسمع زعيقها في رأسي بعد.
  عند الصباح، أُقسم إنني كنت سعيدة بذهابي إلى العمل. كان يوم فرك الأرض، وأردت نسيان كل شيء. فارتميتُ في السيارة، وقدتُ خارج مقاطعة ماديسون. كانت الآنسة سيليا قد قصدت طبيباً آخر بعد ظهر اليوم السابق للتحقق من قدرتها على الإنجاب، ومما قلتُه لها إن في استطاعتها إنجاب طفل. كنت على ثقة تامة أنها ستطلعني على التفاصيل كافة. لقد تخلّت تلك المجنونة على الأقل عن الطبيب تايت.
  توقفتُ أمام المنزل. كنت قد بدأتُ أركن سيارتي أمام المنزل بعد أن كفّت الآنسة سيليا عن اعتماد الحيلة مع السيد جوني الذي عرف كل شيء. وأول ما رأيته هي سيارة السيد جوني الذي كان لا يزال في المنزل. فانتظرتُ في سيارتي. لم يسبق لي أن وجدتُه في المنزل عندما أصل.
  دخلتُ المطبخ، ووقفتُ في الوسط ونظرتُ. هناك من أعدّ القهوة. وسمعتُ صوت رجل في غرفة الطعام؛ يحدث أمر ما في المنزل.
  فانحنيتُ نحو الباب، وسمعت صوت السيد جوني الذي كان لا يزال في المنزل عند الثامنة والنصف من صباح يوم عمل، وطلب مني صوت في رأسي الفرار من الباب. من المؤكد أن الآنسة هيلي اتصلت به وقالت له إنني سارقة، وعرف بأمر الفطيرة. لقد علم بأمر الكتاب. "يا ميني؟". نادت الآنسة سيليا.
  دفعتُ الباب الدوّار بحذر شديد، واختلستُ النظر. كانت الآنسة سيليا جالسة إلى رأس الطاولة والسيد جوني جالساً بجانبها. فنظرا إليّ.
  لقد بدا السيد جوني أكثر ابيضاضاً من ذلك الرجل الأمهق الذي يقيم وراء منزل الآنسة والترز.
  "يا ميني، أحضري لي كوب ماء، رجاءً؟". قال، وانتابني شعور سيّئ.
  فأحضرتُ له الماء. وعندما وضعتُ الكوب على فوطة المائدة، وقف السيد جوني، ورمقني بنظرة مطوَّلة وعميقة. يا الله، لقد بدأنا.
  "أخبرتُه عن الطفل". همست الآنسة سيليا: "عن كل الأطفال".
  "يا ميني، لولاكِ لَفقدتُها". قال، ممسكاً بيدي بإحكام. "أشكر الله على وجودك هنا".
  نظرتُ إلى الآنسة سيليا التي بدت شديدة الحزن. لقد عرفتُ ما قال لها الطبيب؛ لن يولَد لها أي طفل حيّ. فشدّ السيد جوني على يديّ، وتوجّه نحوها بعد ذلك، وركع على ركبتيه، ووضع رأسه على حضنها. فملّست شعره مراراً وتكراراً.
  "لا تغادري. لا تتخلّي عني أبداً، يا سيليا". صاح.
  "أخبرها، يا جوني. أخبر ميني ماذا قلت لي".
  فرفع السيد جوني رأسه، منفوش الشعر، ونظر إليّ. "سيكون لديك عمل عندنا باستمرار، يا ميني، ولبقية حياتك إذا أردت".
  "شكراً لك يا سيدي". قلت، وعنيتُ ذلك. كانت تلك أفضل كلمات سمعتها في ذلك اليوم.
  ومددتُ يدي إلى الباب، ولكن الآنسة سيليا قالت بلطف شديد: "ابقَي هنا قليلاً. هلاّ فعلتِ، يا ميني؟".
  فأسندتُ يدي إلى خزانة غرفة الطعام لأن الطفل يزداد وزناً في أحشائي، وتساءلتُ عن سبب إنجابي العديد من الأطفال، في حين أنها لا تستطيع إنجاب طفل واحد. وبكى، وبكت. كنا ثلاثة مجانين يبكون في غرفة الطعام.
  "كما قلتُ لك". قلتُ لليروي في المطبخ بعد يومين. "تضغط على الزر فتتبدّل القناة، وليس عليك النهوض عن كرسيّك".
  ولم يرفع ليروي عينيه عن صحيفته. "غير معقول، يا ميني".
  "لقد حصلت الآنسة سيليا عليه، ويدعى سبيس كومند. هو علبة بنصف حجم رغيف الخبز".
  فهز ليروي رأسه. "يا لذوي البشرة البيضاء الكسالى. لا يستطيعون النهوض لكبس زر".
  "أعتقد أن الناس سيطيرون إلى القمر في وقت قريب". قلت، من دون أن أستمع إلى ما يخرج من فمي. كنت أستمع إلى الصراخ مجدداً. متى ستنتهي تلك السيدة؟
  "ماذا لدينا للعشاء؟". قال ليروي.
  "أجل، يا أمي، متى سنأكل؟". سألت كيندرا.
  وسمعتُ صوت سيارة تتوقف في الطريق الخاصة بالمنزل. فأصغيتُ، وانزلقت الشوكة داخل قِدر حبوب القرنيات. "كريما بالحنطة".
  "لن أتناول عشاء كريما بالحِنطة!". قال ليروي.
  "لقد تناولتها على الفطور!". صرخت كيندرا.
  "أعني لحماً مقدداً وقرنيات". وتوجهتُ إلى الباب وأغلقتُه بقوة، وأنزلتُ المِزلاج، ونظرتُ خارج النافذة. كانت السيارة تعود إلى الخلف، إنها تستدير.
  فنهض ليروي، وأعاد فتح الباب الخلفي بقوة. "الطقس حار هنا!". واقترب من جهاز الطهو حيث أقف. "ماذا دهاك؟". سأل، على بُعد بوصة واحدة من وجهي.
  "لا شيء". قلت، ورجعتُ قليلاً إلى الوراء. في العادة، لم يكن يعبث معي عندما أكون حاملاً. ولكنه اقترب مجدداً، وضغط على ذراعي بقوة.
  "ماذا فعلتِ هذه المرة؟".
  "لم... لم أفعل شيئاً". قلت. "أنا مُتعَبة فحسب".
  شد قبضته على ذراعي، وبدأ وجهي يتّقد. "أنت لا تتعبين ولا حتى في الشهر التاسع".
  "لم أفعل شيئاً، يا ليروي. اذهب فحسب واجلس، ودعني أُعدّ العشاء".
  فأفلتني، رامقاً إيّاي بنظرة مطوَّلة. لم أستطع النظر إلى عينيه.
آيبيلين
الفصل الحادي والثلاثون
  كلما ذهبت الآنسة ليفولت للتسوق، أو خرجت إلى الباحة، أو دخلت الحمّام، أقوم بتفقّد الطاولة بجانب السرير حيث تضع الكتاب، متظاهرةً أنني أرفع الغبار، ومتحققةً من موقع المؤشرة في الكتاب وما إذا حققت تقدّماً في قراءته. لقد بدأت بقراءته منذ خمسة أيام، وكانت لا تزال في الفصل الأول وفي الصفحة الرابعة عشرة، وتتبقى لها مئتان وخمس وثلاثون صفحة. يا الله، هي تقرأ ببطء.
  مع ذلك، فقد أردت أن أقول لها، أنت تقرأين عن الآنسة سكيتر، ألا تعرفين؟ وعن نشأتها مع كونستنتين. كنت خائفة حتى الموت، ولكنني أردت أن أقول لها، استمري في القراءة، يا سيدتي، لأن الفصل الثاني سيكون عنك.
  كنت عصبية المزاج كهرة بسبب رؤية ذلك الكتاب في منزلها، وتنقلتُ على أطراف أصابعي في المنزل طوال الأسبوع. لقد اقترب مني الرجل الصغير ذات مرة من الخلف ولمس ساقي، وكنت على وشك القفز من حذاء العمل. لقد لزمتُ الحذر الشديد يوم الخميس بصفة خاصة عندما قدِمت الآنسة هيلي، وجلستا إلى طاولة غرفة الطعام، وعملتا على الحفلة الخيرية. فقد كانتا ترفعان نظرَيهما بين الحين والآخر وتبتسمان، وتطلبان مني أن أحضر لهما شطيرة بالمايونيز أو شاياً مثلَّجاً.
  لقد دخلت الآنسة هيلي مرتين المطبخ، ونادت خادمتها إرنستين. "هل تنقعين ثوب هيذر الخارجي الفضفاض كما علّمتُك؟ آه - هاه، وهل رفعتِ الغبار عن قُبّة المظلة؟ آه، لم تفعلي، حسناً اذهبي وقومي بذلك في الحال".
  ودخلتُ لأرفع طبقيهما، وسمعتُ الآنسة هيلي تقول: "لقد وصلتُ إلى الفصل السابع". وتسمّرتُ في مكاني، وبدأ الطبقان يطقطقان في يدي. فرفعت الآنسة ليفولت نظرها وغضّنت أنفها.
  ولكن الآنسة هيلي كانت تهز إصبعها للآنسة ليفولت. "وأعتقد أنهم مُحِقّون، يبدو أن أحداث الكتاب تجري في جاكسون".
  "هل تعتقدين ذلك؟". سألت الآنسة ليفولت.
  فانحنت الآنسة هيلي وهمست. "أراهن على أننا نعرف بعض هذه الخادمات الزنجيات".
  "هل تعتقدين ذلك حقاً؟". سألت الآنسة ليفولت، وشعرتُ ببرودة في جسمي، وبالكاد تمكنتُ من تحريك قدمي باتجاه المطبخ. "قرأتُ القليل...".
  "أعتقد ذلك حقاً. وهل تعرفين؟". وابتسمت الآنسة هيلي بمَكر. "سأعرف كل واحدة منهنّ".
  في صباح اليوم التالي، كان قلبي يخفق بقوة وسرعة عند موقف الحافلة لدرجة شعوري بالاختناق بسبب التفكير في ما قد تفعله الآنسة هيلي عندما تصل إلى القسم الذي يتناولها، وتساءلتُ عما إذا قرأت الآنسة ليفولت الفصل الثاني. وعندما دخلتُ منزلها، كانت الآنسة ليفولت تقرأ كتابي وهي جالسة إلى طاولة المطبخ. فرفعتِ الرجل الصغير عن حضنها، وسلّمتني إيّاه من دون رفع نظرها عن الصفحة. واتجهت بعد ذلك إلى الناحية الخلفية من المنزل وهي تقرأ وتسير في آن معاً. لقد بدت مهتمة بالكتاب فجأةً بعد أن أعربت الآنسة هيلي عن اهتمامها به.
  بعد بضع دقائق، عدت إلى غرفة نومها لجمع الثياب المتّسخة. كانت الآنسة ليفولت في الحمّام، ففتحتُ الكتاب عند المؤشرة. لقد وصلت إلى الفصل السادس، فصل ويني، حيث أُصيبت السيدة البيضاء بداء المحنَّكين وكانت تتصل بقسم الشرطة كل صباح بسبب دخول امرأة ملوّنة البشرة منزلها. وهذا يعني أن الآنسة ليفولت قرأت الجزء الخاص بها، وهي مستمرة في القراءة.
  لقد شعرتُ بالخوف، ولم أتمالك نفسي من تقليب عينيّ، وراهنتُ على أن الآنسة ليفولت لم تَعي أنها المعنيّة في ما كتبتُ، وشكرتُ الله على ذلك. ربما هزت رأسها في السرير في الليلة السابقة في أثناء القراءة عن تلك المرأة المروِّعة التي لا تعرف كيف تحب طفلتها الوحيدة.
  بعد قليل من مغادرة الآنسة ليفولت إلى موعدها مع مزيّن الشعر، اتصلتُ بميني. فكل ما كنا نقوم به في الفترة الأخيرة هو رفع قيمة فاتورة الهاتف لسيداتنا البيضاوات.
  "لا، لا شيء، هل أنهته الآنسة ليفولت؟". سألت.
  "لا، ولكنها وصلت إلى فصل ويني مساء أمس. ألم تشترِ الآنسة سيليا أي نسخة بعد؟".
  "لا تبحث تلك السيدة إلا عن الأشخاص التافهين. قادمة". صاحت ميني. "لقد علقت المجنونة مجدداً في قلنسوة تجفيف الشعر. لقد طلبتُ منها عدم وضع رأسها هناك عندما تكون فيه لُفافات كبيرة".
  "اتصلي بي إذا سمعتِ أي شيء". قلت: "سأقوم بالمِثل".
  "سيحدث أمر ما قريباً، يا آيبيلين. يجب أن يحدث شيء ما".
  بعد ظهر ذلك اليوم، توجّهتُ إلى متجر جيتني لشراء بعض الفاكهة والجبن الأبيض البلدي لماو موبلي. لقد فعلتها الآنسة تايلر تلك مجدداً. كانت الطفلة قد خرجت من السيارة في ذلك اليوم وتوجهت إلى غرفة نومها مباشرةً، وارتمت على سريرها. "ماذا هناك، أيتها الطفلة؟ ماذا حدث؟".
  "لقد لوّنتُ نفسي بالأسود". صاحت.
  "ماذا تعنين؟". سألتُ: "قمتِ بذلك بواسطة قلم التأشير؟". والتقطتُ يدها، ولكن لم يكن هناك أي حبر على بشرتها.
  "طلبت منا الآنسة تايلر أن نرسم أكثر ما نحبّه في أنفسنا". ورأيت بعد ذلك ورقة مجعَّدة في يدها. ففتحتُها، ووجدتُ أن طفلتي رسمت نفسها ولوّنت الرسمة بالأسود.
  "قالت إن الأسود يعني وجهاً متّسخاً وسيّئاً". فدسّت وجهها في الوسادة وبكت بشدة.
  الآنسة تايلر. بعد كل ذلك الوقت الذي أمضيته في تعليم ماو موبلي كيف تحب كل الناس ولا تحكم عليهم من خلال لون بشرتهم. لقد شعرت بانقباض في صدري. هل هناك من لا يتذكر مدرّسة الصف الأول؟ ربما لا يتذكرون ما يتعلمون، ولكنني أقول لكم إنني أشرفتُ على تربية ما يكفي من الأطفال لأعرف أنهم يتأثرون بمدرّساتهم.
  كانت هناك برودة على الأقل في جيتني. لقد شعرتُ بالسوء لأنني نسيت أن أشتري لماو موبلي وجبة طعام سريعة في الصباح. فأسرعتُ كيلا يكون عليها الجلوس مع والدتها لمدة طويلة. لقد أخفت ورقتها تحت السرير كيلا تراها والدتها.
  في قسم الأغذية المعلَّبة، التقطتُ علبتي سمك طون، وواصلتُ السير فعثرتُ على بودرة الجيلو الأخضر، والتقيتُ لوفينيا اللطيفة بلباسها الرسمي الأبيض تنظر إلى زبدة الفول السوداني. سأربط لوفينيا بالفصل السابع بقية حياتي.
  "كيف حال روبرت؟". سألتُ، مربّتةً على ذراعها. فلوفينيا تعمل طوال اليوم لدى الآنسة لو آن، وتعود إلى منزلها بعد ذلك لاصطحاب روبرت إلى مدرسة الضرير ليتعلّم القراءة بأصابعه. ولم يسبق لي أن سمعتُ لوفينيا تتذمّر.
  "يتعلّم التأقلم مع محيطه". قالت، وأومأت برأسها. "هل أنت بخير؟ هل تشعرين أنك بخير؟".
  "أنا عصبية المزاج فحسب. هل سمعتِ شيئاً ما؟".
  فهزت رأسها. "تقوم سيدة عملي بقراءته". لقد أحسنت الآنسة لو آن التصرف مع لوفينيا بعد الحادث الذي تعرّض له روبرت.
  سرنا في الممرّ حاملتين السلّتين. كانت هناك سيدتان من ذوي البشرة البيضاء تتحدثان بجانب مفرقعات غراهام. لقد بدتا مألوفتين لي، ولكنني لم أعرف اسميهما. وعندما اقتربنا منهما، صمتتا ونظرتا إلينا. من الغريب أنهما لم تكونا تضحكان.
  "عُذراً". قلت ومررتُ أمامهما. وبعد تقدّمنا خطوات قليلة، سمعتُ إحداهما تقول: "تلك الزنجية التي تعمل لدى إليزابيت...". وأحدثت عربة النقل ضجيجاً حال دون سماع ما تقول.
  "أراهن على أنك مُحقة". قالت الأخرى: "أراهن على أنها...".
  وواصلتُ ولوفينيا السير بهدوء تام، موجّهتين أنظارنا إلى الأمام. فشعرتُ بوخز في عنقي لدى سماع طقطقة كعاب السيدتين وهما تبتعدان. كنت أعرف أن لوفينيا سمعت بشكل أفضل لأن أذنيها أصغر من أذنيّ بعشر سنوات. وفي آخر الممرّ، بدأنا باتخاذ وجهتين مختلفتين، ولكننا استدرنا، ونظرنا إلى بعضنا بعضاً.
  هل ما سمعتُه صحيح؟ قلت بعينيّ.
  ما سمعتِه صحيح، أجابت لوفينيا.
  رجاءً، يا آنسة هيلي، اقرأيه. اقرأيه بسرعة.
ميني
الفصل الثاني والثلاثون
  مرّ يوم آخر ولا أزال غير قادرة على سماع الآنسة هيلي تنطق بالكلمات في أثناء قراءة السطور. لم أسمع الصراخ، ليس بعد. ولكنها تقترب.
  لقد أخبرتني آيبيلين بما قالته السيدتان في متجر جيتني في اليوم السابق، ولكننا لم نسمع شيئاً منذ ذلك الحين. واستمررت في إيقاع الأغراض، وكسرتُ آخر كوب للمقادير لديّ في المساء، وكان ليروي ينظر إلي كما لو أنه يعرف ما يجري. كان يتناول القهوة إلى الطاولة، وكان ابناي وبناتي منتشرين في كل مكان من المطبخ يُنجزون فروضهم المدرسية.
  أُجفلتُ عندما رأيت آيبيلين واقفةً عند الباب المُنخُليّ. فوضعت إصبعها على شفتيها وأومأت لي، وتوارت بعد ذلك.
  "يا كيندرا، ضعي الأطباق، يا شوغر، راقبي حبوب القرنيات، يا فيليتشيا، ليوقّع والدك على ذلك الامتحان، فالماما بحاجة إلى تنشق الهواء". وتواريتُ عن الأنظار خارج الباب المُنخُلي.
  كانت آيبيلين واقفة إلى جانب المنزل بلباسها الرسمي الأبيض.
  "ماذا حدث؟". سألتُ. في الداخل، سمعت ليروي يصيح. فهو لن يلمس أحداً بل يصرخ فحسب، هذا ما يُفترض بالآباء أن يقوموا به.
  "اتصلت إرنستين ذات الذراع الواحدة وقالت إن الآنسة هيلي تتحدث في أنحاء المدينة كافة عن محتويات الكتاب. هي تطلب من السيدات بيضاوات البشرة طرد خادماتهنّ من دون أن تعرف الهويات الحقيقية لشخصيات الكتاب!". وبدت آيبيلين قلقة، وترتجف. كانت تلفّ فوطة بواسطة حبل أبيض. أراهن على أنها لم تدرك أنها تحمل فوطة مائدة العشاء.
  "ممن تطلب ذلك؟".
  "لقد طلبت من الآنسة سينكلير طرد أنابيل. فطردتها، وأخذت منها مفاتيح السيارة لأنها أقرضتها نصف ثمنها. كانت أنابيل قد سدّدت معظم القرض، ولكنها لم تحصل على السيارة".
  "تلك المشعوذة". همستُ، صارفةً أسناني.
  "ليس هذا كل شيء، يا ميني".
  وسمعتُ وقع خطوات حذاء في المطبخ. "أسرعي قبل أن يُمسك بنا ليروي نتهامس".
  "قالت الآنسة هيلي للآنسة لو آن، خادمتك لوفينيا مشاركة في الكتاب. أعرف أنه يجب عليك طردها. يجب عليك إرسال تلك الزنجية إلى السجن".
  "لكن لوفينيا لم تقل أمراً سيئاً عن الآنسة لو آن!". قلت: "وعليها الاعتناء بروبرت! ماذا قالت الآنسة لو آن؟".
  فعضّت آيبيلين شفتها، وهزت رأسها، وسالت الدموع على وجهها.
  "قالت... إنها ستفكر في الأمر".
  "بأي أمر؟ الطرد أو السجن؟".
  فهزت آيبيلين كتفيها قائلة: "في الأمرين معاً كما أعتقد".
  "يا الله". قلت، وأردت ركل شيء ما، شخص ما.
  "يا ميني، ماذا لو لم تُنهِ الآنسة هيلي قراءة الكتاب أبداً؟".
  "لا أعرف، يا آيبيلين. لا أعرف".
  تحوّلت أنظار آيبيلين نحو الباب فجأةً ورأت ليروي يراقبنا من وراء الباب المُنخُلي. لقد وقف هناك بهدوء حتى ألقيت تحية الوداع على آيبيلين، وعدت إلى الداخل.
  عند الخامسة والنصف من صباح ذلك اليوم، ارتمى ليروي على السرير بجانبي، واستيقظت على صرير سدة زجاجة الشراب، وصرفتُ أسناني، داعية ألا يفتعل شجاراً. كنت مُنهَكة، ناهيكم عن أنني لم أنم بشكل جيد بسبب قلقي على آيبيلين ومن أخبارها. فبالنسبة إلى الآنسة هيلي، ستكون لوفينيا مفتاح سجن آخر في حزام تلك المشعوذة.
  كان ليروي يُحدث ضجيجاً، غير آبهٍ أن زوجته الحامل تحاول النوم. وعندما هدأ المجنون، سمعتُه يهمس: "ما السر الكبير، يا ميني؟".
  كان في استطاعتي الشعور بمراقبته لي، وبنفَسه على كتفي، وبرائحة الشراب. فلم أتحرك.
  "تعرفين، سأكتشف الأمر". قال، مهسهِساً: "لطالما فعلتُ ذلك".
  بعد نحو عشر ثوانٍ، تباطأت أنفاسُهُ لدرجة أنه بدا مَيتاً، ورمى ذراعه عليّ. أشكركَ على هذا الطفل، دعوت، لأن هذا الطفل الموجود في بطني هو الشيء الوحيد الذي أنقذني، وهي الحقيقة المروِّعة.
  استلقيتُ هناك، صارفةً أسناني، متسائلةً، وقلقة. فليروي يخطط لأمر ما، والله يعلم ماذا سيحدث لي إذا اكتشف الحقيقة. هو يعلم بأمر الكتاب، فالجميع يعلمون، ولكن ما لا يعرفه هو أن زوجته مشاركة في الكتاب، ربما يعتقد الناس أنني لا أبالي باكتشافه الأمر، أعرف ما يفكر فيه الناس. هم يعتقدون أن في استطاعة ميني القوية الدفاع عن نفسها، ولكنهم لا يعرفون أنني أصبح امرأة مثيرة للشفقة عندما يقوم ليروي بضربي. فأنا أخشى قيامي بضربه كيلا يتخلى عني. أعلم أن لا أهمية لوجوده معي، وأشعر بغضب شديد بسبب ضعفي! كيف أحب رجلاً يضربني بشدة؟ لماذا أحب مُدمناً مجنوناً؟ ذات مرة، طرحت عليه السؤال التالي: "لماذا؟ لماذا تضربني؟". فانحنى ونظر إلى وجهي.
  "لو لم أضربك، يا ميني، من يعلم الحال التي كنت ستغدين عليها".
  كنت عالقةً في زاوية غرفة النوم ككلبة، ويضربني بحزامه. عندها، فكرت في الأمر للمرة الأولى. من يعلم الحال التي كنت سأغدو عليها إذا كفّ ليروي عن ضربي.
  في مساء اليوم التالي، حملتُ الجميع على الخلود إلى النوم باكراً، بمن فيهم أنا. كان ليروي في منشأة الأنابيب حتى الخامسة صباحاً، وشعرت بتأثير الحَمْل عليّ. يا الله، ربما كنت حاملاً بتوأم. لم أكن أدفع للطبيب ليُطلعني على ذلك الخبر السيّئ. فهذا الطفل أكبر من الآخرين ليس إلا، وكنت لا أزال في الشهر السادس.
  استسلمتُ لنوم عميق، وحلمتُ أنني جالسة إلى طاولة خشبية طويلة في أثناء وليمة. كنت أقضم ساقاً كبيرة لديك رومي مشويّ.
  فاستيقظتُ فجأةً، وجلستُ على سريري ألهث. "من هناك؟".
  كان قلبي يصطدم بصدري. ونظرتُ إلى أرجاء غرفة نومي المُظلمة. كان الوقت قد تخطى منتصف الليل بنصف ساعة، وليروي غير موجود، شكراً لله، ولكن أمراً ما أيقظني بالتأكيد.
  أدركتُ حينذاك ما الذي أيقظني. لقد سمعتُ ما أنتظر سماعه، وما كنا كلنا في انتظاره.
  لقد سمعت صراخ الآنسة هيلي.
الآنسة سكيتر
الفصل الثالث والثلاثون
  فتحتُ عينيّ فجأةً، وكان قلبي يخفق بقوة، وأتعرّق، والكَرمة المنقوشة على ورق الجدران الأخضر تشق طريقها متلوّية باتجاه أعلى الجدار. ما الذي أيقظني؟ ما كان ذلك؟
  نهضتُ عن السرير وأصغيتُ. لم يكن الصوت صادراً عن والدتي. كان صوتاً عالي الطبقة، إنه صراخ شبيه باندفاع مادة ما بصعوبة داخل قطعتين ممزَّقتَين.
  فجلستُ مجدداً على السرير، ووضعتُ يدي على قلبي، كان لا يزال يخفق بقوة. لم يجرِ أي شيء كما هو مخطَّط له، وعرف الناس أن الكتاب يتناول جاكسون. لم يكن في إمكاني التصديق أنني نسيت مدى بطء هيلي في القراءة، وراهنتُ على أنها تخبر الناس أنها قرأته مراراً. لقد بدأت الأمور تخرج عن السيطرة، وطُردت خادمة تدعى أنابيل، وتتهامس النساء بيضاوات البشرة في شأن آيبيلين ولوفينيا وغيرهما. والمثير للسخرية أنني أقضم أظافري بانتظار قيام هيلي بالتعبير عن رأيها بصراحة عندما أكون الوحيدة المتبقية في المدينة التي لا تأبه لما ستقوله.
  ماذا لو كان الكتاب خطأ مروِّعاً؟
  أخذتُ نفساً عميقاً ومؤلماً، وحاولت التفكير في المستقبل، وليس في الحاضر. فقبل شهر، أرسلتُ خمسة عشر موجَزاً عن سيرتي الذاتية إلى دالاس، ومِمفيس، وبرمينغهام، وخمسة موجَزات إلى مدن أخرى، وموجَزاً إلى نيويورك مرةً أخرى. لقد قالت لي السيدة شتاين إن في استطاعتي ذِكر اسمها كمرجع، وربما تكون التوصية من شخص ما في ميدان النشر الأمر الوحيد البارز في الصفحة. وأضفتُ الوظائف التي شغلتُها في السنة السابقة:
كاتبة عمود أسبوعي في موضوع تدبّر شؤون المنزل في صحيفة جاكسون جورنال.
محررة النشرة الدَّورية في جاكسون، الصادرة عن رابطة الراشدات.
كاتبة عاملة المنزل، وهو كتاب مثير للجدل عن مدبرات المنازل ملونات البشرة ومستخدماتهنّ بيضاوات البشرة، هاربر آند روو.
  لم أشأ في الواقع الإشارة إلى الكتاب في الرسالة، ولكنني ذكرته مرة واحدة فقط. ولكن، حتى ولو حصلتُ على عرض عمل في مدينة كبيرة، لم يكن في استطاعتي التخلي عن آيبيلين وسط حال الفوضى هذه، لا سيّما وأن الأمور تزداد سوءاً.
  لكن يا الله، عليّ الخروج من الميسيسيبي. فباستثناء والدتي ووالدي، لم يتبقَّ لي شيء هناك، لا أصدقاء، لا عمل آبه له حقاً، ولا ستيوارت. وعندما وجّهتُ موجَزاً عن سيرتي الذاتية إلى نيويورك بوست، وذي نيويورك تايمز، وهاربرز ماغازين، وذي نيويوركر ماغازين، شعرتُ مجدداً بما شعرتُ به في الكلّية في شأن مدى رغبتي في أن أكون هناك، لا في دالاس، ولا في مِمفيس بل في نيويورك سيتي حيث يُفترض بالكتّاب أن يعيشوا. ولكن، لم يردني أي جواب منهم. ماذا لو لم أغادر أبداً؟ ماذا لو علقتُ هنا إلى الأبد؟
  فاستلقيتُ وشاهدتُ أولى أشعة الشمس تدخل عبر النافذة، وارتعدتُ. لقد أدركت أن ذلك الصراخ هو صراخي.
  كنت في صيدلية برِنتس دراغستور أُحضر مرهم لاستر، ولوح صابون فينوليا لوالدتي، بينما كان السيد روبرتس يعمل على إعداد وصفتها الطبية. لقد قالت والدتي إنها لم تعُد بحاجة إلى الدواء، وإن الدواء الوحيد لداء السرطان هو أن تكون لديها ابنة لا تقص شعرها، ولا ترتدي أيام الآحاد فساتين قصيرة لا يتخطى طولها الرُّكبتين، لأنه لا أحد يعرف كيف ستكون عليه حالي بعد وفاتها.
  كنت ممتنّة لأن والدتي تتحسن. فإذا كانت خطوبتي بستيوارت التي دامت خمس عشرة ثانية هي التي حرّكت رغبة والدتي في الحياة، فإن واقع فقداني هذا الشريك مجدداً شدّد عزيمتها أكثر فأكثر. من الواضح أن انفصالنا خيَّب أملها، ولكنها نهضت بسرعة من كَبوتها، حتى إن والدتي ذهبت بعيداً في ذلك لدرجة أنها عرّفتني بنسيب بَعيد القُربى في الخامسة والثلاثين من العمر، بهيّ الطلة، ولكنه كان يبدو غير سوي من الناحية الجنسية. "يا أمي". قلت عندما غادر بعد العشاء، عانيةً بذلك كيف أنها لم تلاحظ الأمر. "إنه...". ولكنني توقفتُ، وربّتّ على يدها. "قال إنني لست نوعه المفضَّل".
  أسرعتُ بالخروج من الصيدلية قبل أن يدخل شخص ما أعرفه. كان يُفترض بي أن أكون قد اعتدتُ عزلتي، ولكن ذلك لم يحدث. كنت أفتقد وجود أصدقاء لي. ليس هيلي، بل إليزابيت أحياناً، إليزابيت اللطيفة كما كانت في أيام المدرسة الثانوية. لقد ازداد الأمر صعوبة بعد إنهاء الكتاب، ولم أعد أستطيع أن أزور آيبيلين، لقد قررنا أن في الأمر مجازفة. فأكثر ما افتقدتُه ذهابي إلى منزلها والتحدث إليها.
  كنت أتحدث إلى آيبيلين عبر الهاتف كل بضعة أيام، ولكن الأمر ليس مماثلاً للجلوس معها. أرجوك، قلتُ لنفسي عندما كانت تزوّدني بالمستجدات في المدينة، أرجوك يا الله، لتكن هناك بعض النتائج الحسنة. ولكن حتى تلك اللحظة، لم يتحقق أي شيء مما تمنّيته. نساء فقط يُطلقن إشاعات ويعتبرن الكتاب لعبة، محاولاتٍ اكتشاف الشخصيات، بينما تتهم هيلي أشخاصاً لا علاقة لهم بالأمر. أنا التي أكّدتُ للخادمات ملونات البشرة أنه لن يُكشَف أمرنا، وأنا المسؤولة عن ذلك.
  رنّ جرس الباب الأمامي. فنظرتُ ورأيتُ إليزابيت ولو آن تامبلتن تدخلان. فانسللت وراء رفوف مستحضرات التجميل، آملةً في ألا ترياني. ومددتُ رأسي لأرى أين أصبحتا. كانتا متجهتين إلى منضدة الغداء، ملتصقتين ببعضهما بعضاً كتلميذتين. كانت لو آن ترتدي كميها الطويلين المعتادين في حر الصيف، وتبتسم ابتسامة ثابتة. فتساءلتُ عما إذا كانت تعرف أنها مذكورة في الكتاب.
  كان شعر إليزابيت منفوشاً من الأمام، وتغطي الناحية الخلفية من شعرها بشال، ذلك الشال الأصفر الذي أهديتها إيّاه بمناسبة ذكرى ميلادها الثالثة والعشرين. ووقفتُ هناك للحظات، شاعرةً بمدى غرابة كل ذلك، مراقبةً إيّاهما، وعالمةً بما أعلم. لقد قرأت حتى الفصل العاشر كما قالت لي آيبيلين مساء اليوم السابق، ولم تلاحظ بعد أنها تقرأ عن نفسها وعن صديقاتها.
  "يا سكيتر؟". نادى السيد روبرتس من مقعده فوق مسجّلة النقد. "دواء والدتك جاهز".
  فتوجّهتُ إلى الناحية الأمامية من المتجر، وكان عليّ المرور بجانب إليزابيت ولو آن الجالستين إلى منضدة الغداء. فأدارتا ظهريهما لي، ولكنني استطعت رؤية أعينهما في المرآة تلاحقني. كانتا توجّهان نظريهما إلى الأسفل في الوقت نفسه.
  دفعتُ ثمن الدواء، وثمن أنبوب معجون الأسنان لوالدتي، والمادة اللزجة، وعدتُ إلى الناحية الخلفية عبر الممرات. وبينما كنت أحاول الفرار من الجانب الأبعد للمتجر، خرجت لو آن تامبلتن من وراء رف فراشي الشعر.
  "يا سكيتر". قالت: "هل لديك دقيقة؟".
  فوقفتُ هناك مستغربة، طارفةً عينَيّ. لم يطلب أحد التحدث إليّ ولو لثانية واحدة منذ أكثر من ثمانية أشهر."أممم، بالتأكيد". قلت بحذر.
  ألقت لو آن نظرة خارج النافذة، ورأيت إليزابيت متجهة إلى سيارتها، وكوب مزيج الحليب بيدها. فأومأت لي لو آن لأقترب إلى جانب رفوف غَسول الشعر.
  "والدتك، آمل في أنها تتحسن؟". سألت لو آن، ولم تكن ابتسامتها مُشرقة كالعادة. وسحبت كمَّي فستانها الطويلين نحو الأسفل بالرغم من وجود قليل من العرق على جبينها.
  "هي بخير. تتحسن... باستمرار".
  "أنا سعيدة جداً". وأومأت برأسها ووقفنا هناك محرجتين، ننظر إلى بعضنا بعضاً. وأخذت لو آن نفساً عميقاً. "أعلم أننا لم نتبادل أطراف الحديث منذ مدة، ولكنني". وأخفضت صوتها وتابعت: "قلتُ لنفسي إنه يُفترض بك معرفة ما تقوله هيلي. هي تقول إنك وضعتِ الكتاب... عن الخادمات".
  "سمعتُ أن واضع الكتاب أغفل اسمه". كان جوابي السريع، غير راغبة في التصرف كما لو أنني قمت بقراءته، عِلماً أن كل شخص في المدينة قام بقراءته. لقد نفذت النسخ من متاجر الكتب الثلاثة، وهناك أشخاص ينتظرون شهرَين للحصول على نسخاتهم من المكتبة.
  رفعت راحة يدها كما لو أنها تطلب مني التوقف. "لا أريد أن أعرف إذا كان الأمر صحيحاً. ولكن هيلي...". واقتربت مني وقالت: "اتصلت بي هيلي هولبروك منذ أيام وطلبت مني طرد خادمتي لوفينيا". وتصلّب فكها، وهزت رأسها.
  رجاءً. وحبستُ أنفاسي. رجاءً، لا تقولي إنك طردتِها.
  "يا سكيتر، لوفينيا...". ونظرت لو آن إلى عينَيّ، وقالت: "هي السبب الوحيد الذي يمكّنني من النهوض عن سريري أحياناً".
  فلم أقل شيئاً. ربما كانت مكيدة أعدّتها هيلي.
  "أنا على ثقة تامة أنك تعتبرينني فتاة خرقاء... لأنني أوافق هيلي الرأي بكل ما تقول". وترقرقت عيناها بالدموع، وارتجفت شفتاها. "يريدني الأطباء أن أذهب إلى مِمفيس ل... تلقيّ العلاج بالصدمات الكهربائية...". وغطت وجهها، ولكن دمعة انزلقت عبر أصابعها. "بسبب الكآبة، و... محاولات الانتحار". همست.
  فنظرتُ إلى كمَّيها الطويلين، وتساءلتُ عما إذا كانت تُخفي تحتهما شيئاً. لقد أملتُ في ألا أكون مُحقّة، ولكنني ارتعدتُّ.
  "بالطبع، يقول هنري إنني بحاجة إلى تحسين مظهري وإلا تخلّى عني". وقامت بحركة ابتعاد، محاوِلةً الابتسام، ولكن سرعان ما عاد الحزن إلى وجهها.
  "يا سكيتر، لوفينيا هي أشجع شخص عرفته يوماً. فبالرغم من كل متاعبها، هي تجلس معي وتتحدث إليّ، وتساعدني على عيش أيامي. وعندما قرأتُ ما كتبت عني وعن المساعدة التي أقدّمها إليها للاهتمام لحفيدها، كنت شديدة الامتنان ولم يسبق لي أن شعرتُ بذلك في حياتي. كان أفضل ما شعرتُ به طوال أشهر".
  لم أدرِ ما أقول. إنه الأمر الجيد الوحيد الذي سمعتُه عن الكتاب، وأردتها أن تخبرني بالمزيد. أظن أن آيبيلين لم تسمع ذلك بعد، ولكنني شعرت بالقلق أيضاً لأن لو آن على عِلم بالأمر كما يبدو.
  "إذا كتبتِه حقاً، وإذا كانت الشائعة التي تطلقها هيلي صحيحة، أريدك أن تعرفي أنني لن أطرد لوفينيا أبداً. قلت لهيلي إنني سأفكر في الأمر، ولكنني سأقول لهيلي هولبروك في وجهها إنها تستحق تلك الفطيرة وأكثر إذا طلبت مني مرة أخرى طرد لوفينيا".
  "كيف، ما الذي يجعلك تظنين أنها هيلي؟". حمايتنا ضمانتنا، نفقد كل شيء إذا كُشف سر الفطيرة.
  "ربما كانت هي، وربما لا. إنه الحديث المتداول". وهزت لو آن رأسها. "في هذا الصباح، سمعتُ هيلي تقول للجميع إن الكتاب لا يتناول جاكسون. من يعرف السبب".
  فتنهدتُ سرّاً، وهمستُ: "شكراً لله".
  "حسناً، سيعود هنري إلى المنزل قريباً". ووضعت حقيبة يدها على كتفها وقوّمت وقفتها، وعادت البسمة إلى وجهها كما لو أنها قناع.
  توجهت إلى الباب، ونظرت إليّ في أثناء فتحه. "سأقول لك أمراً إضافياً واحداً. لن تحصل هيلي هولبروك على صوتي لرئاسة الرابطة في كانون الثاني/يناير، ولا في أي وقت آخر".
  خرجت، وأحدث الجرس رنيناً وراءها.
  بقيتُ مكاني عند النافذة. في الخارج، بدأ مطر خفيف بالهطول غامراً السيارات المتوقفة بغشاوة من الماء، وصاقلاً الرصيف الأسود. وشاهدتُ لو آن تغادر موقف السيارات، قائلةً لنفسي، هناك أمور كثيرة تجهلينها عن شخص ما. وتساءلتُ لو أنه كان في استطاعتي جعل أيامها أكثر اطمئناناً لو عاملتها بلطف أكبر. أليست الفكرة الرئيسة في الكتاب؟ نحن شخصان لا نختلف عن بعضنا كثيراً بخلاف ما اعتقدتُ.
  لكن، لو آن فهمت مغزى الكتاب قبل أن تقرأه. من فاته المغزى هذه المرة هو أنا.
♦  ♦  ♦
  في مساء ذلك اليوم، اتصلت بآيبيلين أربع مرات، ولكن خطها الهاتفي كان مشغولاً. فأقفلتُ الخط، وجلست قليلاً في غرفة المؤونة، محدّقةً إلى مراطبين مربّى التين التي أعدّتها كونستنتين قبل يباس شجرة التين. لقد قالت لي آيبيلين إن الخادمات يتحدثن طوال الوقت عن الكتاب وما تجري فيه من أحداث. كانت تتلقى ستة أو سبعة اتصالات هاتفية في الليلة.
  وتنهّدتُ. كان يوم الأربعاء، وسأسلّم في اليوم التالي عمود الآنسة ميرنا الذي كتبتُه منذ ستة أسابيع. لقد أعددتُ نحو عشرين مقالة بشكل مُسبَق لأنه لم يكن لديّ ما أقوم به. وبعد ذلك، لم يعُد لديّ ما أفكر فيه، وكل ما تبقى لي هو القلق.
  أحياناً، وعندما أشعر بالملل، لم أكن أتمالك نفسي عن التفكير في ما ستؤول إليه حياتي لو لم أضع الكتاب. لَلَعبتُ البريدج يوم الاثنين، ولَذهبتُ في صباح اليوم التالي إلى اجتماع الرابطة، وسلّمتُ النشرة الدَّورية، ولاصطحبني ستيوارت مساء يوم الجمعة إلى العشاء، وبقينا في الخارج حتى وقت متأخر. ولَشعرتُ بالإرهاق عندما أستيقظ يوم السبت لمزاولة كرة المضرب، مُرهَقة، قانعة، و... مُثبَطة العزيمة لأن هيلي ستدعو خادمتها سارقة بعد الظهر، ولجلستُ هناك واستمعتُ، ولأمسكت إليزابيت بذراع طفلتها بقوة، وأشحتُ بنظري غاضّةً الطَّرف عما يجري. ولكنت مخطوبة لستيوارت، ولما ارتديتُ فساتين قصيرة، لاكتفيت بشعري القصير. ولما فكرتُ في المجازفة بأي شيء كوضع كتاب عن مدبّرات المنازل ملونات البشرة، ولما خشيتُ كثيراً عدم موافقتهن. لن أكذب على نفسي، وأقول إنني بدّلتُ رأي أشخاص مثل هيلي وإليزابيت، ولكن لم يكن عليّ التظاهر على الأقل أنني أوافقهم الرأي.
  خرجتُ من غرفة المؤونة تلك ذات التهوئة السيئة مع شعور بالذُّعر. وانتعلت حذاء منخفض الكعبين، وخرجتُ إلى الليل الدافئ. كان القمر بَدراً، ويوجد مِقدار كافٍ من الضوء. لقد نسيتُ تفحّص صندوق البريد بعد ظهر ذلك اليوم، وكنت الوحيدة التي تقوم بذلك على الدوام. ففتحته، ووجدتُ فيه رسالة واحدة من هاربر آند روو؛ لا بد من أنها السيدة شتاين. لقد أُصبت بالدهشة بسبب قيامها بتوجيه الرسالة إلى هناك، عِلماً أن كل العقود المتعلقة بالكتاب أُرسلت إلى صندوق البريد في مكتب البريد، تحسُّباً لافتضاح الأمر. كان الظلام دامساً، ولم أتمكن من قراءة المضمون، لذلك وضعتُه في الجيب الخلفي للجينز الأزرق.
  بدلاً من القيام بنزهة على الطريق سيراً على القدمين، عبرتُ البستان متحسّسةً العشب الطريّ تحت قدميّ، ومتنقّلةً بين حبات الإجاص التي سقطت عن الأشجار. لقد حلّ شهر أيلول/سبتمبر مجدداً، وكنت لا أزال هناك، في حين انتقل ستيوارت إلى مكان آخر. لقد جاء في مقالة عن السيناتور تعود إلى أسابيع خلت أن ستيوارت نقل شركته النفطية إلى نيو أورليانز ليتمكن من تمضية الوقت مجدداً للعمل على أبراج آبار النفط في البحر.
  سمعتُ صوت صريف الحصى، ولكنني لم أستطع رؤية السيارة تسلك الطريق الخاصة بالمنزل بالرغم من أن مصابيحها الأمامية مُضاءة.
  رأيتها تركن سيارة الأولدزموبيل أمام المنزل وتوقف عمل المحرك، ولكنها بقيت داخلها. كانت مصابيح رُواقنا الخارجي الأمامي مضاءة بلون أصفر تحوم حوله حشرات الليل الطائرة. كانت منحنية على عجلة القيادة كما لو أنها تحاول رؤية من الموجود في المنزل. ماذا تريد؟ فراقبتُ لثوانٍ قليلة، وقلتُ لنفسي بعد ذلك، اذهبي إليها أولاً. اذهبي إليها قبل أن تنفّذ ما تخطط للقيام به.
  فعبرتُ الباحة بهدوء. وأشعلَت سيجارة، ورمت عود الثِّقاب من النافذة المفتوحة على طريقنا الخاصة.
  واقتربتُ من سيارتها من الخلف، ولكنها لم ترَني.
  "هل تنتظرين شيئاً؟". سألت عند النافذة.
  فأُجفلت هيلي، وأسقطت سيجارتها على الحصى. واندفعت خارج السيارة، وأغلقت الباب بقوة، مبتعدةً عني.
  "لا تقتربي بوصة واحدة". قالت.
  فتوقفتُ مكاني، ونظرتُ إليها. من يستطيع النظر إليها؟ كان شعرها الأسود أشعث، وهناك خُصلة معقوفة ومنتصبة إلى الأعلى، وكنزتها الصوفية مرفوعة جزئياً، وبدانتها تضغط على الأزرار، وكان في استطاعتي التحقق من زيادة وزنها. كانت هناك... بقعة يغطيها القشب عند طرف فمها الأحمر. لم يسبق لي أن رأيت هيلي على هذه الحال منذ أن قطع جوني علاقته بها في الكلّية.
  نظرت إليّ من الأعلى إلى الأسفل قائلة: "من أنت، هيبيّة من نوع ما؟ يا الله، لا بد من أن والدتك المسكينة مُحرَجة بمظهرك".
  "يا هيلي، لماذا أنت هنا؟".
  "لأخبرك أنني اتصلت بمحاميّ، هيبي غودمان، الذي صودِف أنه أفضل خبير في قوانين التشهير في الميسيسيبي، وأنت في مأزق كبير. ستذهبين إلى السجن، هل تعرفين ذلك؟".
  "لا يمكنك إثبات أي شيء، يا هيلي". كنت قد ناقشتُ الأمر مع الدائرة القانونية في هاربر آند روو، والتزمنا الحذر الشديد، مُضفين طابع السرّية على تحرّكنا.
  "حسناً، كنت على ثقة تامة أنك كتبته، لأنه لا وجود لأي شخص عديم الذَّوق مثلك في المدينة يناصر الزنجيات على هذا النحو".
  من المحيِّر حقاً كيف أننا كنا صديقتين في ما مضى. ففكرتُ في الدخول وإقفال الباب، ولكن كان هناك مغلّف في يدها، وقد جعلني ذلك عصبية المِزاج.
  "أعرف أن هناك الكثير من الأقاويل، والكثير من الشائعات...".
  "آه، تلك الأقاويل لا تهمّني. كل من في المدينة يعرف أن جاكسون ليست المدينة المعنية. إنها مدينة ابتكرتها في رأسك الصغير المريض، وأعرف من عاونك أيضاً".
  فتصلّب فكّاي. من الواضح أنها كانت على عِلم بميني ولوفينيا، وأعرف ذلك، ولكن هل هي على عِلم بآيبيلين؟ أو بالأخريات؟
  لوّحت هيلي بالمغلّف وقهقهت. "أنا هنا لأُبلِغ والدتك بما فعلتِ".
  "ستخبرين والدتي عني؟". ضحكتُ، ولكن الحقيقة هي أن والدتي لا تعرف شيئاً عن الموضوع. لقد أردتُ عدم إطلاعها على ما يجري كيلا تُجرَح مشاعرها وتخجل بي و... نظرتُ إلى المغلف. ماذا لو حملها ذلك على التقيّؤ مجدداً؟
  "سأقوم بذلك بالتأكيد". وصعدت هيلي الدرج الأمامي، مرفوعة الرأس.
  تبعتُها بسرعة إلى الباب الأمامي. ففتحته ودخلَت كما لو أنها في منزلها.
  "يا هيلي، أنا لم أدعُك للدخول". قلت، ممسكةً بذراعها. "عليك...".
  ولكن والدتي ظهرت من وراء الزاوية، وأنزلتُ يدي.
  "آه، هيلي". قالت والدتي. كانت في بُرنُس الحمّام وعكّازها يهتزّ بيدها في أثناء سيرها. "لقد مضى وقت طويل، يا عزيزتي".
  نظرت هيلي إليها، طارفةً عينيها مرات عدة. لم أدرِ ما الذي صدم هيلي أكثر؛ طريقة نظر والدتي إليها أم مظهرها. فوالدتي التي كانت في ما مضى ذات شعر بنّي كثّ، أصبح شعرها خفيفاً وأبيض كبياض الثلج. ويخيَّل لمن لم يرَها، بعد ازدياد حالها الصحية سوءاً، أن يدها المرتجفة على عكّازها تشبه الهيكل العظمي. لكن الأسوأ من ذلك أن والدتي لم تكن تضع كل أسنانها بل تلك الأمامية فقط. كانت التجويفات في خدَّيها عميقة إلى أقصى حدّ.
  "يا سيدة فيلان، أنا... أنا هنا لـ...".
  "يا هيلي، هل أنت مريضة؟ مظهرك مُريع". قالت والدتي.
  مرّرت هيلي لسانها على شفتيها. "حسناً، لم... لم يتسنَّ لي الوقت للاهتمام بمظهري...".
  هزّت والدتي رأسها. "يا هيلي، يا عزيزتي. لا يوجد زوج صغير السن يرغب في العودة إلى المنزل ورؤية هذا. انظري إلى شعرك، وإلى...". وعبست والدتي، وألقت نظرة عن قُرب على تلك البقعة التي يغطيها القشب. "تلك البقعة ليست جذّابة، يا عزيزتي".
  أبقيتُ نظري على الرسالة. وأشارت والدتي بإصبعها إليّ. "سأتصل بفاني ماو غداً، وأحدد موعداً لكليكما".
  "يا سيدة فيلان، ليس...".
  "لا حاجة إلى شكري". قالت والدتي: "هو أقلّ ما يمكنني القيام به لأجلك، لا سيّما وأن والدتك العزيزة لم تعُد بالقرب منك لمساعدتك. الآن، سألجأ إلى السرير". وتوجهت والدتي إلى غرفة نومها متكئةً على العكّاز. "لم يفُتِ الأوان، أيتها الفتاتان".
  وقفت هيلي هناك للحظات، فاتحةً فمها. أخيراً، توجهت إلى الباب، وفتحته بقوة وخرجت. كانت لا تزال تمسك الرسالة بيدها.
  "تواجهين متاعب جمّة، يا سكيتر". قالت مهسهسة بفم أشبه بقبضة اليد. "وكذلك زنجياتك تلك؟".
  "ما الذي تتحدثين عنه بالتحديد، يا هيلي؟". قلت: "أنت لا تعرفين شيئاً".
  "لا أعرف، أليس كذلك؟ لوفينيا تلك؟ آه، لقد اهتممتُ بأمرها وبأمر لو آن أيضاً". وتمايلت خصلة الشعر المعقوفة في أعلى رأسها بينما كانت تومئ به.
  "قولي لآيبيلين تلك عندما تريد أن تكتب عن صديقتي العزيزة إليزابيت، أه - هاه". قالت، مُطلقةً ابتسامة جلِفة: "تتذكرين إليزابيت؟ دعتك إلى زفافها؟".
  توهّج أنفي، وأردت ضربها لدى سماع اسم آيبيلين.
  "لنقُل إنه كان يُفترض بآيبيلين أن تكون أكثر ذكاءً وعدم ذكر ذلك الشق الذي يشبه حرف L الموجود في طاولة طعام إليزابيت المثيرة للشفقة".
  توقّف قلبي. يا لغبائي، كيف أمكنني قول ذلك؟
  "ولا تظني أنني نسيت ميني جاكسون. لديّ مخططات كبيرة لتلك الزنجية".
  "حذارِ يا هيلي". قلت من بين أسناني. "لا تفضحي أمرك". وبدوتُ شديدة الثقة بالنفس، ولكنني كنت أرتجف من الداخل، متسائلةً عن تلك المخططات.
  فتحت عينيها واسعاً. "لستُ من تناول تلك الفطيرة!".
  استدارت، وتوجهت إلى سيارتها، وفتحتِ الباب بقوة. "أخبري أولئك الزنجيات أن يبقين أنظارهنّ فوق أكتافهنّ. من الأفضل لهنّ الاحتراس من الآتي".
  اهتزت يدي عندما طلبتُ رقم هاتف آيبيلين. وأدخلتُ سمّاعة الهاتف إلى غرفة المؤونة، وأغلقتُ الباب. كانت رسالة هاربر آند روو بيدي الأخرى. لقد بدا الأمر كما لو أننا في منتصف الليل، ولكنها لم تكن سوى الثامنة والنصف.
  فأجابت آيبيلين، وقلتُ بسرعة: "قدِمت هيلي هذا المساء، وهي تعرف".
  "الآنسة هيلي؟ تعرف ماذا؟".
  من ثم سمعتُ صوت ميني في الخلفية، كانت تسأل: "هيلي؟ ماذا عن هيلي؟".
  "ميني موجودة... هنا معي". قالت آيبيلين.
  "حسناً، أظن أن عليها سماع ذلك أيضاً". قلت، عِلماً أنني تمنّيتُ أن تقوم آيبيلين بإخبارها في وقت لاحق بعد إنهاء المكالمة الهاتفية. كنت أنتظر قيامها بتكرار كل شيء لميني بين حين وآخر، في أثناء وصفي كيفية قدوم هيلي واقتحامها المنزل.
  عادت آيبيلين إلى الهاتف، وتنهّدت.
  "لقد اكتشفت هيلي الأمر بالتأكيد... لأنني أدرجت في قصتي الشقّ في طاولة طعام إليزابيت".
  "يا الله، ذلك الشق. لا أستطيع التصديق أنني ذكرتُ ذلك".
  "لا، كان يُفترض بي الانتباه إلى الأمر. أنا آسفة، يا آيبيلين".
  "هل تظنين أن الآنسة هيلي ستخبر الآنسة ليفولت أنني كتبت عنها؟".
  "لا يمكنها إخبارها". صاحت ميني: "وإلا أقرّت أن المدينة المعنيّة في الكتاب هي جاكسون".
  أدركتُ مدى أهمية خطة ميني. "أوافق ميني الرأي". قلت: "أعتقد أن هيلي مروَّعة، يا آيبيلين. هي لا تعرف ما يتعيّن عليها القيام به. قالت إنها ستخبر والدتي عني".
  بعد مرور الصدمة التي تسببت بها كلمات هيلي، هزأتُ من فكرة قيامها بإخبار والدتي. كان هذا الأمر من آخر اهتماماتنا. فوالدتي التي تجاوزت فسخ خطوبتي يمكنها تجاوز هذه المسألة. سأتعاطى مع الأمر عندما يحدث.
  "أعتقد أنه ليس بيدنا حيلة سوى الانتظار، إذاً". قالت آيبيلين، وبدت عصبية المزاج. وقد لا يكون الوقت الأفضل لإطلاعها على أخباري الأخرى، ولكنني لم أستطع ذلك.
  "تلقّيتُ... رسالة اليوم من هاربر آند روو". قلت: "اعتقدتُ أنها من السيدة شتاين، ولكنها لم تكن كذلك".
  "من أرسلها إذاً؟".
  "إنه عرض عمل في مجلة هاربرز ماغازين في نيويورك، في منصب مساعدة محررة. أنا على ثقة تامة أن السيدة شتاين تدبّرت العمل لي".
  "إنه أمر جيد!". قالت آيبيلين، وأضافت: "يا ميني، تلقّت الآنسة سكيتر عرض عمل في مدينة نيويورك!".
  "يا آيبيلين، لا يمكنني قبول العرض. أردت فقط تشاطر الأمر معك. أنا...". كنت ممتنّة لتمكّني على الأقل من إخبار آيبيلين.
  "ماذا تعنين، لا يمكنك قبول العرض؟ هذا ما كنت تحلمين به".
  "لا يمكنني المغادرة الآن، لا سيّما وأن الأمور تزداد سوءاً. لن أترككنّ وسط هذه المعمعة".
  "ولكن... ستحدث أمور سيئة سواءً أكنت موجودة أم لا".
  يا الله، لقد أردت البكاء لدى سماعها تقول ذلك. وأطلقتُ تأوّهاً.
  "لم أعنِ ذلك. نحن لا نعرف ما الذي سيحدث. يا آنسة سكيتر، عليك قبول ذلك العمل".
  لم أكن أعرف حقاً ما الذي يتعيّن عليّ القيام به. فجزء مني يقول إنه لم يكن يُفترض بي إخبار آيبيلين لأنها ستطلب مني الذهاب بالطبع، ولكن كان عليّ إخبار شخص ما. وسمعتها تهمس لميني: "تقول إنها لن تقبل العرض".
  "يا آنسة سكيتر". قالت آيبيلين: "لا أقصد زيادة آلامك ولكنك... لا تحظين بحياة جيدة هنا في جاكسون. فوالدتك في تحسن، و...".
  سمعتُ كلمات خفيضة، وإمساك أحدهم بالسمّاعة، وظهر صوت ميني عبر الهاتف. "أصغي إليّ، يا آنسة سكيتر. سأعتني بآيبيلين وستعتني بي. ولكن، لم يتبقَّ لك شيء هنا سوى عدوات في رابطة الراشدات، ووالدة سيقودك وضعها الصحي إلى معاقرة الشراب. لقد قطعتِ الطريق على كل إمكانية للتراجع، ولن تحصلي على أي صديق آخر في هذه المدينة، والكل يعرفون ذلك. لذلك، لا تتباطأي في الانتقال إلى نيويورك".
  أنهت ميني المكالمة الهاتفية، وجلستُ محدّقة إلى سمّاعة الهاتف التي أُمسكها بيد، وأحمل الرسالة باليد الأخرى. هل أستطيع القيام بذلك حقاً؟
  فميني مُحِقة، وآيبيلين كذلك. لم يتبقَّ لي شيء هنا سوى والدتي ووالدي، والبقاء هنا لأجل والدَيّ سيفُسد بالتأكيد العلاقة القائمة بيننا، ولكن...
  انحنيتُ على الرفوف، وأغمضتُ عينيّ. سأذهب، سأذهب إلى نيويورك.
آيبيلين
الفصل الرابع والثلاثون
  كان يوجد على أواني المائدة الفضية للآنسة ليفولت بقع غريبة في ذلك اليوم بسبب ارتفاع درجة الرطوبة كما يبدو. فقمت بتلميع كل قطعة موجودة على طاولة نادي البريدج أكثر من مرة للتأكد من أنها لا تزال موجودة هناك. كان الرجل الصغير قد بدأ بانتشال الأغراض، والملاعق، ودبابيس الشعر، ودسّها في حفاضه لإخفائها، وغدا تغيير الحفاض أحياناً أشبه باكتشاف كنز.
  رنّ الهاتف، فدخلتُ المطبخ، وأجبت.
  "لديّ أخبار قليلة اليوم". قالت ميني.
  "ماذا سمعتِ؟".
  "قالت الآنسة رنفرو إنها تعرف أن من أكل تلك الفطيرة هي الآنسة هيلي". وقهقهت ميني، ولكن خفقان قلبي ازداد أضعافاً مضاعفة.
  "يا الله، ستصل الآنسة هيلي بعد خمس دقائق. من الأفضل لها أن تُثير تلك المسألة على الفور". لقد بدت مناصرتها أمراً جنونياً، واختلطت الأمور في رأسي.
  "اتصلتُ بإرنستين ذات الذراع الواحدة...". ولكن ميني صمتت. لا بد من أن الآنسة سيليا دخلت الغرفة.
  "حسناً، لقد ذهبت. لقد اتصلتُ بإرنستين، وقالت إن الآنسة هيلي استمرت في الصراخ على الهاتف طوال اليوم. والآنسة كلارا على عِلم بفاني أموس".
  "هل طردتها؟". لقد أدخلتِ الآنسة كلارا ابن فاني أموس إلى الكلّية، وهو ما ذُكر في إحدى القصص المُشيدة.
  "لا. لقد جلست هناك، فاتحةً فمها والكتاب في يدها".
  "شكراً لله. اتصلي بي إذا سمعتِ المزيد". قلت: "لا تقلقي في شأن اتصالاتك الهاتفية. سأقول للآنسة ليفولت إن الأمر مرتبط بشقيقتي المريضة". يا الله، لا تحاسبني على تلك الكذبة أرجوك. فآخر ما كنت بحاجة إليه هو شقيقة مريضة.
  بعد دقائق قليلة من إنهاء المكالمة الهاتفية، رنّ جرس الباب، وتظاهرتُ أنني لم أسمع. كنت عصبية المزاج بسبب اضطراري إلى رؤية وجه الآنسة هيلي بعد ما قالته للآنسة سكيتر. لم أستطع التصديق أنني ذكرت ذلك الشق الذي يشبه حرف L. فخرجتُ إلى حمّامي وجلستُ، مفكرةً في ما سيحدث إذا كان عليّ ترك ماو موبلي. يا الله، تضرعت، إذا كان عليّ تركها فليكن ذلك لصالحها. لا تدَعها مع الآنسة تايلر، ومع ما تخبرها به أن الأسود هو علامة الاتساخ، ومع الآنسة ليفولت الباردة، وجدتها التي تنتزع منها كلمات الشكر. ورنّ جرس باب المنزل مرة أخرى، ولكنني لزمت مكاني. سأقوم بذلك يوم غد، قلت لنفسي. سألقي تحية الوداع على ماو موبلي يوم غد تحسّباً لأي طارئ.
  عندما عدتُ، سمعتُ كل السيدات يتحدثن وهنّ جالسات إلى الطاولة. كان صوت الآنسة هيلي عالياً، ووضعتُ أذني على باب المطبخ، خائفةً من الدخول.
  "... ليست جاكسون. هذا الكتاب هراء، هذا ما هو عليه. أراهن على أن كل الأمر من اختلاق زنجية ما...".
  سمعتُ صرير كرسيّ، وعرفتُ أن الآنسة ليفولت قادمة للبحث عني. لم أستطع إرجاء الأمر.
  ففتحتُ الباب، حاملةً إبريق الشاي المثلّج بيدي. وبرمتُ حول الطاولة، مُبقيةً نظري على حذائي.
  "سمعتُ أن شخصية بيتي قد تكون شارلين". قالت الآنسة جاني بعينين مفتوحتين. وبجانبها، كانت الآنسة لو آن مُشيحةً بنظرها كما لو أنها غير مبالية بطريقة أو بأخرى. لقد تمنّيتُ لو أن في استطاعتي التربيت على كتفها وإطلاعها على مدى سعادتي كونها سيدة العمل البيضاء للوفينيا من دون الإفصاح عن أي شيء، ولكنني لم أتمكن من ذلك. لم يكن في استطاعتي قول أي شيء عن الآنسة ليفولت لأنها مقطَّبة الجبين كالعادة، ولكن وجه الآنسة هيلي كان أرجوانيّ اللون كالخَوخ.
  "والخادمة في الفصل الرابع؟". أكملت الآنسة جاني: "سمعتُ سيسي تاكر تقول...".
  "الكتاب ليس عن جاكسون!". صاحت الآنسة هيلي، وأُجفلتُ في أثناء سكب الشاي. فسقطت نقطة بشكل عرضي على طبق الآنسة هيلي الفارغ، ونظرت إليّ، وتحوّلت أنظاري إلى أنظارها كالمغناطيس.
  فقالت بصوت منخفض وبارد: "لقد أرقتِ القليل، يا آيبيلين".
  "آسفة، لم...".
  "امسحيه".
  فمسحتُه، مرتجفة، بفوطة كنت أُمسك مِقبض الإبريق بها.
  حدّقت إلى وجهي، وكان عليّ توجيه نظري إلى الأسفل. لقد شعرتُ بالسر الكبير الذي نتشاطره. "أَحضري لي طبَقاً نظيفاً لم تلوّثيه بفوطتك المتّسخة".
  فأحضرتُ لها طبقاً نظيفاً، وتأملته، وشمّته على نحو مسموع. استدارت من ثم إلى الآنسة ليفولت وقالت: "حتى إنه لا يمكنك تعليم هؤلاء الناس كيفية التنظيف".
  كان عليّ العمل على خدمة الآنسة ليفولت حتى وقت متأخر من ذلك المساء. وفي أثناء نوم ماو موبلي، سحبتُ كتاب الأدعية، وشرعتُ بالدعاء لأجل الأشخاص المذكورين على لائحتي. كنت سعيدة جداً لأجل الآنسة سكيتر التي اتصلت بي في صباح ذلك اليوم، وقالت إنها وافقت على العمل، وستنتقل إلى نيويورك بعد أسبوع! ولكن يا الله، لم أتمكن من التوقف عن الإجفال كلما سمعتُ صوتاً، مفكرةً في أن الآنسة ليفولت ربما ستدخل من الباب وتقول إنها تعرف الحقيقة. وعندما عدت إلى المنزل، كنت عصبية المزاج جداً لدرجة أنني لم أستطع الخلود إلى النوم. فعبرتُ الظُلمة القاتمة كالزفت إلى الباب الخلفي لميني. كانت جالسة إلى طاولتها تقرأ الصحيفة. إنه الوقت الوحيد من يومها الذي لا تقوم فيه بتنظيف شيء ما، أو إطعام شخص ما، أو حثّ أحد الأشخاص على القيام بأمر ما بالطريقة الصحيحة. كان المنزل شديد الهدوء لدرجة أنني شعرت بوجود خطب ما.
  "أين الجميع؟".
  فهزت كتفيها. "خلدوا إلى النوم، أو ذهبوا إلى العمل".
  وسحبتُ كرسيّاً وجلستُ. "أردتُ فقط أن أعرف ما الذي سيحدث". قلت: "أعلم أنه يجدر بي الشعور بالامتنان لأن الأمر لم ينفجر بوجهي بعد، ولكن هذا الانتظار يثير جنوني".
  "سيحدث في وقت قريب". قالت ميني كما لو أننا نتحدث عن نوع القهوة التي نتناولها.
  "يا ميني، كيف يمكنك أن تكوني هادئة إلى هذا الحد؟".
  فنظرت إليّ، ووضعت يدها على بطنها الذي انتفخ في الأسبوعين الأخيرين. "تعرفين الآنسة شوتارد التي تقوم ويلي ماي بخدمتها؟ لقد سألت ويلي ماي يوم أمس إذا كانت تعاملها بشكل سيّئ على غرار تلك السيدة في الكتاب". ونخرت ميني أنفها. "قالت لها ويلي ماي إن في إمكانها التعاطي معها بشكل أفضل، ولكنها ليست سيّئة جداً".
  "هل سألتها ذلك حقاً؟".
  "بعد ذلك، أخبرتها ويلي ماي كيف كانت السيدات بيضاوات البشرة الأخريات، الجيدات منهنّ والسيئات، يعاملنها، وأن السيدات بيضاوات البشرة كنّ يُصغين إليها. وقالت ويلي ماي إنه مرّ سبعة وثلاثون عاماً على وجودها في منزل الآنسة شوتارد، وهذه هي المرة الأولى التي تجلسان فيها إلى الطاولة نفسها".
  فإلى جانب خبر لوفينيا، لقد كان أول خبر جيد نسمعه، وحاولتُ الاستمتاع بالأمر، ولكنني عدتُ إلى الواقع. "ماذا عن الآنسة هيلي؟ ماذا قالت الآنسة سكيتر؟ يا ميني، ألستِ عصبية المزاج قليلاً؟".
  ووضعت ميني الصحيفة من يدها. "انظري، يا آيبيلين، لن أكذب عليك. أخشى من أن يقوم ليروي بقتلي إذا اكتشف الأمر. وأخشى من أن تقوم الآنسة هيلي بإضرام النار في منزلي. ولكن". وهزت رأسها: "لا يمكنني شرح الأمر. لديّ هذا الشعور أن الأمور تحدث ربما تماماً كما يُفترض بها أن تحدث".
  "حقاً؟".
  ضحكت ميني، وقالت: "يا الله، أبدو مثلك، أليس كذلك؟ لا بد من أنني أتقدم في السنّ".
  نكزتها بقدمي. لقد قمنا بأمر شجاع وجيد، ولا تريد ميني ربما أن تُحرَم من الأمور التي تتماشى مع الشجاعة والصلاح، وتلك التي تُظهر سوءها أيضاً. ولكنني لم أفهم ذلك الشعور بالهدوء الذي يملأها.
  بعد قليل، نظرت ميني إلى صحيفتها مجدداً، ويمكنني القول إنها لم تكن تقرأ. كانت تحدّق إلى الكلمات فحسب، مفكرةً في أمر آخر. وأُغلق باب سيارة أحدهم بقوة في الجوار، فأُجفلت. ورأيت عندئذٍ القلق الذي تحاول إخفاءه. ولكنني تساءلتُ عن السبب، لماذا تُخفي عني الأمر؟
  كلما أمعنت النظر، فهمتُ أكثر فأكثر ما الذي يجري هناك، وما قامت به ميني. لم أكن أعرف سبب تفكيري في ذلك في تلك اللحظات. لقد حملتنا ميني على إضافة قصة الفطيرة لتحمينا، لا لتحمي نفسها بل لتحميني وتحمي الخادمات الأخريات. كانت تعلم أن تلك الخطوة ستزيد الأمر سوءاً بينها وبين هيلي، ولكنها قامت بها لأجلنا. لم تكن تريد أن تُظهر لأحد مدى خوفها.
  فمددتُ يدي وضغطتُ على يدها. "أنت إنسانة صالحة، يا ميني".
  قلّبت عينيها، ومدّت لسانها كما لو أنني أقدّم لها طبق بسكويت هشّ. "كنت أعرف أنك تغدين خرفة". قالت.
  ضحكنا في سرّنا. وتأخر الوقت وشعرنا بالإرهاق، ولكنها نهضت وأعادت ملء كوبها بالقهوة، وأعدّت لي كوب شاي ارتشفتُه ببطء. وتحدّثنا حتى وقت متأخر من الليل.
  في اليوم التالي، يوم السبت، كنا كلنا في المنزل؛ كل أفراد عائلة ليفولت بالإضافة إليّ. وكان السيد ليفولت في المنزل أيضاً. لم يكن كتابي موجوداً على الطاولة بجانب السرير. وتساءلتُ للحظات عن المكان الذي وضعته فيه. ورأيت بعد ذلك محفظة يَد الآنسة ليفولت على الأريكة، وكان الكتاب موضوعاً داخل المحفظة، مما يعني أنها تأخذه معها إلى مكان ما. واختلستُ النظر، ووجدتُ أن مؤشرة الكتاب غير موجودة.
  أردت النظر إلى عينيها لأعرف ما الذي تعرفه، ولكنها بقيت في المطبخ معظم اليوم محاوِلةً إعداد كعكة، ولم تسمح لي بالدخول لمساعدتها. لقد قالت إنها ليست مماثلة لكعكاتي التي أُعدّها، إنها وصفة غير عادية حصلت عليها من مجلة غورميه. كانت تُعدّ العدة لاستضافة أشخاص على الغداء في اليوم التالي، وغرفة الطعام مليئة بأغراض خاصة بالحفلات. لقد اقترضت ثلاث أقدار ذات سخّانات من الآنسة لو آن، وثمانية أطقم أواني مائدة فضية من الآنسة هيلي، بسبب قدوم أربعة عشر شخصاً يرتادون دار العبادة، ويحظّر عليهم استخدام شوكات معدنية عادية.
  كان الرجل الصغير في غرفة نوم ماو موبلي يلعب معها، والسيد ليفولت يتجول في أنحاء المنزل، ويتوقف أمام غرفة نوم الطفلة من حين إلى آخر، ويواصل سيره بعد ذلك. ربما كان يفكر في أنه يُفترض به اللعب مع طفليه، ولكنني افترضت أنه لا يعرف كيفية القيام بذلك.
  هكذا، لم يتبقَّ لي الكثير من الأماكن للذهاب إليها. لقد أصبحت الساعة الثانية، وقد نظّفتُ المنزل بأكمله، ولمّعتُ الحمّامات، وغسلتُ الثياب، وكويتُ كل الملابس من دون أن ألاحظ التغضّن على وجهي. لقد حُرمتُ من دخول المطبخ، ولا أحب أن يظن السيد ليفولت أن كل ما أقوم به هو اللعب مع الطفلين. أخيراً، بدأتُ بالتجول في أنحاء المنزل أيضاً.
  عندما كان السيد ليفولت في غرفة الطعام، اختلستُ النظر، ورأيت ماو موبلي تحمل ورقة في يدها، وتعلّم روس أمراً جديداً. كانت تحب أن تلعب مع شقيقها الصغير لعبة المدرسة.
  دخلتُ غرفة الجلوس، وشرعتُ بإزالة الغبار عن الكتب للمرة الثانية. من الواضح أنني لن أُلقي عليها تحية الوداع في ذلك اليوم بسبب وجود هذا الحشد من الناس.
  "سنلعب لعبة". سمعتُ ماو موبلي تقول لشقيقها. "الآن، اجلس على المنضدة لأنك ستكون السيد وولوورف، وأنت ملوّن البشرة، وعليك البقاء هناك مهما فعلتُ وإلا ذهبتَ إلى السجن".
  فتوجّهتُ إلى غرفة نومها بأسرع ما يمكن، ولكن السيد ليفولت كان هناك يشاهدهما عند الباب. فوقفتُ وراءه.
  وشبك السيد ليفولت ذراعيه على نحو متصالب فوق قميصه البيضاء، وأمال رأسه. كان قلبي ينبض بسرعة ألف ميل في الساعة. لم يسبق لي أن سمعت ماو موبلي تخبر قصصنا السرّية بصوت مرتفع لأي شخص آخر غيري، عندما تكون والدتها خارج المنزل، ولا يوجد أحد لسماع ما نقول. ولكنها لم تكن تدرك أن والدها يستمع إليها.
  "حسناً". قالت ماو موبلي، واقتادت شقيقها المترنّح، وأجلستُه على الكرسي. "يا روس، ستبقى هناك جالساً إلى منضدة وولوورف. لا تنهض".
  وأردتُ التكلم، ولكن لم أستطع قول أي شيء. كانت ماو موبلي تسير وراء روس على أطراف أصابعها، وتُفرغ علبة من الأقلام على رأسه. فقطّب الرجل الصغير جبينه، ولكنها نظرت إليه بصرامة، وقالت: "لا يمكنك التحرك. يجب أن تكون شجاعاً. ولا تدَع وجهك يحمرّ". وبعد ذلك، مدّت له لسانها وبدأت تُصدر أزيزاً ممسكةً بحذاء الدمية. فنظر إليها الرجل الصغير كما لو أنه يقول لماذا عليّ تحمّل هذا الهراء؟ وزحف خارج الكرسي، نائحاً ومتذمّراً.
  "لقد خسرتَ!". قالت: "الآن، تعالَ، سنلعب لعبة في الجزء الخلفي من الحافلة واسمك روزا باركس".
  "من علّمك هذه الأشياء، يا ماو موبلي؟". سأل السيد ليفولت. وأدارت الطفلة رأسها بسرعة، وكانت عيناها مفتوحتين كما لو أنها رأت شبحاً.
  لقد شعرتُ بعجز عن الوقوف. كان كل شيء يطلب مني الدخول للتأكد من عدم تعرّضها للمتاعب، ولكنني لم أكن أتنفس بشكل جيد، وكنت عاجزة عن التحرك. ونظرت الطفلة إليّ، وأنا واقفة وراء والدها مباشرةً، فاستدار السيد ليفولت ورآني، ونظر مجدداً إليها.
  حدّقت ماو موبلي إلى والدها. "لا أعلم". وأشاحت بنظرها إلى لعبة اللوح الخشبي المُلقى على الأرض كما لو أنها تحاول اللعب به. لقد رأيتها تقوم بذلك من قبل، وعلمتُ في ما تفكر. هي تفكر في الانشغال بأمر آخر وتجاهل والدها كي يذهب.
  "يا ماو موبلي، طرح عليك والدك سؤالاً. أين تعلّمتِ هذه الأشياء؟". وانحنى باتجاهها. لم أستطع رؤية وجهه، ولكنني عرفتُ أنه يبتسم لأن ماو موبلي بدت خجلة، فكل الطفلات يحببن آباءهنّ. وقالت بعد ذلك بصوت مرتفع وواضح:
  "السيدة تايلر علّمتنا إيّاها".
  وقف السيد ليفولت بشكل مستقيم، ودخل المطبخ، فتبعتُه. وأدار الآنسة ليفولت بكتفيها نحوه وقال: "غداً، تذهبين إلى تلك المدرسة، وتضعين ماو موبلي في صف آخر. لا أريد الآنسة تايلر بعد اليوم".
  "ماذا؟ لا يمكنني تغيير مدرّستها...".
  فحبستُ أنفاسي، ودعوت. بلى، يمكنك. رجاءً.
  "قومي بذلك فحسب". وكما يفعل الرجال، خرج السيد راليه من الباب من دون أن يكون عليه شرح أي شيء لأحد.
  طوال يوم الأحد، لم أكفّ عن شكر الله بسبب إبعاد الطفلة عن الآنسة تايلر. كانت عبارة شكراً لك يا الله، شكراً لك يا الله، شكراً لك يا الله تتردد في رأسي كترنيمة. وفي صباح يوم الاثنين، توجهت الآنسة ليفولت إلى مدرسة ماو موبلي بملابسها الأنيقة، فابتسمتُ لأنني أعرف ما الذي ستقوم به.
  بينما كانت الآنسة ليفولت خارج المنزل، انكببتُ على تنظيف أواني المائدة الفضية للآنسة هيلي. لقد وضعتها الآنسة ليفولت على طاولة المطبخ بعد غداء اليوم السابق. فغسلتُها، وأمضيت الساعة التالية ألمّعها، متسائلةً كيف تقوم إرنستين ذات الذراع الواحدة بذلك. فتلميع أواني المائدة من ماركة الغران باروك بمقابضها وأشكالها المعقوفة يتطلب العمل بذراعين.
  عندما عادت الآنسة ليفولت، وضعت محفظة نقودها على الطاولة وقالت: "آه، كنت أعتزم إعادة تلك الأواني الفضية هذا الصباح، ولكنني اضطُررت إلى الذهاب إلى مدرسة ماو موبلي التي تعاني من رشح لأنها كانت تعطس طوال الصباح، وإنها العاشرة تقريباً...".
  "هل ماو موبلي مريضة؟".
  "ربما". وقلّبت الآنسة ليفولت عينيها. "آه، لقد تأخرتُ على موعد تصفيف الشعر. عندما تُنهين تلميعها، أعيديها إلى منزل هيلي بدلاً مني. سأعود بعد الغداء".
  عندما أنهيت تلميعها، لففتُ أواني الآنسة هيلي الفضية بقطعة قماش زرقاء، وذهبتُ لإخراج الرجل الصغير من السرير. كان قد استيقظ من قيلولته، فطرف عينيه لي وابتسم.
  "هيا، أيها الرجل الصغير، لنضع لك حفاضاً جديداً". ووضعته على طاولة تبديل الملابس، ونزعتُ الحفاض المبتلّ، ووجدت فيه ثلاث لعب وأحد مشابك الآنسة ليفولت. فشكرت الله لأنه كان حفاضاً مبتلاًّ وليس جافّاً.
  "يا فتى". وضحكتُ قائلة: "أنت تحب فورت نوكس". فابتسم ابتسامة عريضة وضحك. وأشار إلى المهد، فذهبتُ وبحثتُ بين الأغطية، وعثرتُ على لُفافة شعر، وملعقة لقياس المقادير، وفوطة مائدة للعشاء. يا الله، سيكون علينا القيام بأمر ما حيال ذلك، ولكن ليس الآن. كان يجب عليّ التوجه إلى منزل الآنسة هيلي.
  فوضعتُ الرجل الصغير في عربة الأطفال، ودفعتُه باتجاه منزل الآنسة هيلي. كان الطقس حارّاً، مُشمِساً، وهادئاً. وسلكنا الطريق الخاصة بمنزلها، وفتحت إرنستين الباب. كانت كتلة صغيرة بنّية اللون تنتأ خارج كمّها الأيسر. فكل ما كنت أعرفه عنها، هو أنها تحب التكلم بشكل ملائم، وترتاد دار العبادة الميثودية.
  "مرحباً، يا آيبيلين". قالت.
  أومأت برأسها، ونظرت إلى الرجل الصغير. كان يراقب تلك الكتلة الصغيرة كما لو أنه يخشى انقضاضها عليه.
  "قدِمتُ إلى هنا قبل أن تأتي الآنسة هيلي". همست إرنستين وقالت: "أظن أنك سمعتِ بالأمر".
  "سمعتُ بماذا؟".
  التفتت إرنستين إلى الوراء، ومن ثم انحنت. "الآنسة هستر بيضاء البشرة، سيدة عمل فلورا لو؟ صاحت في وجه فلورا لو هذا الصباح".
  "هل طردتها؟". لقد روت فلورا لو بعض القصص السيّئة، كانت غاضبة. فالآنسة هستر التي يعتقد الجميع أنها لطيفة، أعطت فلورا لو غَسولاً خاصاً بالأيدي لتستخدمه كل صباح. اتّضح في ما بعد أنه مادة مبيّضة. لقد أرتني فلورا أثر الحرق.
  هزت إرنستين رأسها. "أخرجت الآنسة هستر ذلك الكتاب، وبدأت بالصياح، هل هذه أنا؟ هل كتبت عني؟ فقالت فلورا لو، لا يا سيدتي، لم أضع أي كتاب. لم أُنهِ الصف الخامس، ولكن الآنسة هستر صاحت قائلة، لم أكن أعرف أن الكلوروكس يحرق البشرة، لم أكن أعرف أن الحد الأدنى للأجور هو دولار واحد وخمسة وعشرون سنتاً. لو لم تقل هيلي للجميع إن المدينة المشار إليها في الكتاب ليست جاكسون لطردتُك بسرعة تحمل رأسك على الدوران. فقالت فلورا لو، تعنين أنني لست مطرودة؟ وصرخت الآنسة هستر، مطرودة؟ لا أستطيع طردك وإلا علم قومك أنني شخصية الفصل العاشر. ستعملين هنا لبقية حياتك! ومن ثم، ألقت الآنسة هستر رأسها على الطاولة، وطلبت من فلورا لو إنهاء غسل الأطباق".
  "يا الله". قلت، شاعرةً بالدُّوار: "آمل... في أن تجري كل الأمور على نحو جيد".
  صاحت الآنسة هيلي، مناديةً إرنستين. "لو كنت مكان فلورا لو لما انتظرتُ تلك النتيجة". همست إرنستين، وسلّمتُها قطعة القماش المليئة بأواني المائدة الفضية. فمدّت يدها السليمة وتناولتها، وامتدّت الكتلة الصغيرة أيضاً، فظننتُ أنها عادة.
  في تلك الليلة، هبّت عاصفة مروِّعة، ودوّى الرَّعد، وكنت جالسة إلى طاولة مطبخي أتعرّق، وأرتجف، محاوِلةً كتابة أدعيتي. لقد حالف الحظ فلورا لو، ولكن ماذا سيحدث بعد ذلك؟ كان هناك الكثير من القلق والأمور المجهولة و...
  قرع أحدهم بابي الأمامي.
  من هناك؟ وجلستُ بشكل مستقيم. كانت الساعة فوق الفرن تشير إلى الثامنة وخمس وثلاثين دقيقة. في الخارج، كان المطر ينهمر بغزارة، ولو كان الطارق يعرفني لاستخدم الباب الخلفي.
  توجهتُ على رؤوس أصابعي إلى الباب الأمامي. وقُرع الباب مجدداً، وكنت على وشك القفز خارج حذائي.
  "من، من الطارق؟". سألت، وتحققتُ من أن الباب مُقفَل.
  "هذه أنا".
  يا الله. وتنفستُ الصُعداء، وفتحتُ الباب. كانت الآنسة سكيتر، مبتلّة ومرتجفة، وتضع حقيبتها المدرسية الحمراء تحت معطف المطر.
  "رحمتك يا الله...".
  "لم أستطع الوصول إلى الباب الخلفي، فالباحة مليئة بالوحل".
  كانت عارية القدمين وتحمل حذاءها الموحل بيدها. فأغلقتُ الباب وراءها بسرعة. "لم يرَك أحد، أليس كذلك؟".
  "لا يمكنك رؤية أي شيء في الخارج. كنت أريد الاتصال بك، ولكن الهاتف متوقف عن العمل بسبب العاصفة".
  كنت أعرف أن أمراً ما سيحدث، ولكنني شعرت بسعادة كبيرة لدى رؤية وجهها قبل أن تغادر إلى نيويورك. لن نرى بعضنا شخصياً طوال ستة أشهر. فعانقتها مطوَّلاً.
  "يا الله، دعيني أرى شعرك". ورفعت الآنسة سكيتر قلنسوّتها، وهزت شعرها الطويل على امتداد كتفيها.
  "إنه جميل". قلتُ، عانيةً ذلك.
  ابتسمت كما لو أنها مُحرَجة، ووضعت حقيبتها المدرسية على الأرض. "والدتي تكرهه".
  فضحكتُ وأخذتُ نفساً عميقاً، محاولةً الاستعداد لما ستخبرني به مهما كان سيّئاً.
  "المتاجر تطالب بمزيد من النسخ، يا آيبيلين. لقد اتصلت السيدة شتاين بعد ظهر هذا اليوم". وأخذت بيدَيّ. "ستكون هناك طبعة أخرى، خمسة عشر ألف نسخة إضافية".
  نظرتُ إليها فحسب. "لم... لم أعرف أن في استطاعتهم القيام بذلك". قلت وغطّيتُ فمي. كتابنا موجود في خمسة آلاف منزل على الرفوف، على طاولات الليل، ومنضدات التبرّج؟
  "سيصلنا مزيد من المال، أقلّه مئة دولار لكل منكنّ. ومن يعلم؟ قد يكون هناك المزيد".
  فوضعتُ يدي على قلبي. لم أُنفق أي سنتٍ من الدولارات الواحد والستين الأولى، وها هي تقول لي إن هناك المزيد؟
  "هناك أمر آخر". نظرت الآنسة سكيتر إلى الحقيبة المدرسية. "قصدتُ الصحيفة يوم الجمعة، واستقلتُ من عمل الآنسة ميرنا". وأخذت نفساً عميقاً. "وقلتُ للسيد غولدن، أظن أنه يُفترض بكِ أن تكوني الآنسة ميرنا التالية".
  "أنا؟".
  "قلت له إنك من كان يزوّدني بالإجابات طوال الوقت. فقال إنه سيفكر في الأمر، واتصل بي اليوم ووافق ما دمتِ لا تُخبرين أحداً، وتكتبين الإجابات على غرار الآنسة ميرنا".
  سحبت مفكرة زرقاء من حقيبتها وسلّمتها إليّ. "قال إنه سيدفع لك كما كان يدفع لي، عشرة دولارات في الأسبوع".
  أنا؟ أعمل لصحيفة ذوي البشرة البيضاء؟ وجلستُ على الأريكة، وفتحتُ المفكرة، ورأيتُ الرسائل والمقالات السابقة. وجلست الآنسة سكيتر بجانبي.
  "شكراً لك، يا آنسة سكيتر على هذا الأمر، وعلى كل شيء".
  فابتسمت، وأخذت نفساً عميقاً كما لو أنها تمتنع عن ذرف الدموع.
  "لا أستطيع التصديق أنك ستكونين في نيويورك غداً". قلت.
  "في الواقع، سأذهب إلى شيكاغو أولاً لليلة واحدة فقط. أريد رؤية كونستنتين، أعني ضريحها".
  فأومأتُ برأسي. "أنا سعيدة".
  "لقد أرتني والدتي ورقة النَّعي. الضريح موجود داخل المدينة، وسأتوجه إلى نيويورك في صباح اليوم التالي".
  "بلّغي كونستنتين تحياتي".
  فضحكتُ. "أنا عصبية المزاج جداً. لم أزُر شيكاغو أو نيويورك من قبل. لم يسبق لي أن سافرتُ على متن طائرة".
  جلسنا هناك للحظات، مستمعتين إلى العاصفة. وفكرتُ في المرة الأولى التي قدمت فيها الآنسة سكيتر إلى منزلي، وكم كانت مُحرَجة. ولكنني شعرتُ في تلك اللحظات أننا عائلة واحدة.
  "هل أنت خائفة، يا آيبيلين؟". سألت. "مما قد يحدث؟".
  استدرتُ كيلا ترى عينيّ. "أنا بخير".
  "أحياناً، لا أعلم إذا كان الأمر جديراً بالمحاولة. فلو حدث أمر لك... كيف سأحيا في ذلك الواقع، لا سيما وأنه حدث بسببي؟". ووضعت يدها على عينيها كما لو أنها لا تريد رؤية ما الذي سيجري.
  قصدتُ غرفة نومي، واصطحبتُ معي رزمة سلّمني إيّاها المبجّل جونسون. فنزعتِ الورقة وحدّقت إلى الكتاب وإلى كل الأسماء الموقَّعة فيه. "كنت سأرسله إليك إلى نيويورك، ولكنني شعرتُ أنك تحتاجين إليه الآن".
  "لا... أفهم". قالت: "هل هو لي؟".
  "أجل يا سيدتي". وأبلغتُها بعد ذلك رسالة المبجّل وهي أنها فرد من عائلتنا. "عليك أن تتذكري أن كلاًّ من هذه التواقيع يعني أن الأمر جدير بالمحاولة". وقرأت كلمات الشكر، والأمور الصغيرة التي كتبوها، ومرّرت أصابعها فوق الحبر، وترقرقت عيناها بالدموع.
  "أظن أن كونستنتين كانت لتفخر بك حقاً".
  ابتسمت الآنسة سكيتر، وتأمّلتُ مدى صِغر سنّها. فبعد كل ما كتبناه، والساعات التي أمضيناها مُنهَكات وقلقات، لن أرى الفتاة لمدة طويلة جداً.
  "هل أنت واثقة من أن الأمور ستكون بخير؟ إذا تركتُك وكل شيء...".
  "اذهبي إلى نيويورك، يا آنسة سكيتر. اذهبي للبحث عن حياتك".
  فابتسمت، وطرفت عينيها لكبح دموعها، وقالت: "شكراً لك".
  في تلك الليلة، استلقيتُ على السرير أفكر. كنت سعيدة للغاية لأجل الآنسة سكيتر لأنها ستُعيد بناء حياتها. وسالت الدموع على صدغيّ وصولاً إلى أذنيّ، مفكرةً في سيرها في الجادات الكبيرة لتلك المدن التي أراها على التلفاز، مسدولة الشعر. وتمنّى جزء مني أن تكون لي بداية جديدة أيضاً. فمقالات التنظيف تلك جديدة، ولكنني لم أعُد صغيرة السن، وحياتي على وشك الانتهاء.
  وكلما صعُب عليّ النوم، علمتُ أكثر فأكثر أنني سأبقى مستيقظة معظم الليل. وبدا الأمر كما لو أن في استطاعتي سماع الشائعات في مختلف أنحاء المدينة، وتحدّث الناس عن الكتاب. كيف يستطيع الجميع النوم مع هذا المقدار من الهواجس؟ وفكرتُ في فلورا لو، وفي كيفية قيام الآنسة هيلي بإخبار الجميع أن الكتاب لا يتناول جاكسون، وفي رغبة الآنسة هستر في طردها. آه، يا ميني، قلتُ لنفسي. لقد قمتِ بعمل جيد. في استطاعتك الاعتناء بالجميع باستثناء الاعتناء بنفسك. ليتني أستطيع حمايتك.
  ظهر ما يشير إلى إمكانية افتضاح أمر الآنسة هيلي. فكل يوم، كان شخص آخر يقول إنه يعلم أنها من تناولت تلك الفطيرة، وكافحتِ الآنسة هيلي بصعوبة أكبر لإخفاء الحقيقة. وتساءلتُ للمرة الأولى في حياتي، في الواقع، عمن سيفوز بهذه المواجهة. كنت أقول الآنسة هيلي من قبل، ولكنني لم أعد أعرف. فهي، قد تخسر هذه المرة.
  لقد تمكنتُ من النوم لبضع ساعات قبل بزوغ الفجر. ومن الغريب أنني لم أشعر بالتعب عندما نهضتُ عند السادسة. فارتديتُ لباسي الرسمي النظيف الذي غسلتُه في الليلة السابقة في وعاء غسل الثياب. وفي المطبخ، شربتُ كوب ماء معتدل البرودة من الصنبور. وأطفأتُ ضوء المطبخ، وتوجّهتُ إلى الباب، ولكنني سمعت رنين الهاتف. يا الله، الوقت مبكّر للاتصالات الهاتفية.
  فرفعتُ السمّاعة، وسمعتُ نواحاً.
  "يا ميني؟ هل هذه أنتِ؟ ماذا...".
  "لقد طردوا ليروي مساء أمس! وعندما سأل ليروي عن السبب، قال صاحب عمله إن وليام هولبروك طلب منه ذلك. قال له هولبروك إن زوجة ليروي الزنجية هي السبب، وقدِم ليروي إلى المنزل وحاول قتلي بيدَيه!". كانت ميني تلهث وتتنهّد. "لقد رمى ابنينا وبناتنا في الباحة، وأقفل عليّ في الحمّام، وقال إنه سيُضرم النار في المنزل!".
  يا الله، الأمر يحدث. فغطّيتُ فمي، وشعرتُ أننا نقع في تلك الحفرة السوداء التي حفرناها بأنفسنا. لقد بدت ميني في كل تلك الأسابيع شديدة الوثوق بنفسها، وها هي...
  "تلك المشعوذة". صرخت ميني: "سيقتلني بسببها!".
  "أين أنت الآن، يا ميني، أين ابناك وبناتك؟".
  "في محطة الوقود، لقد ركضتُ إلى هنا حافية القدمين! هرب ابناي وبناتي إلى المنزل المجاور...". كانت تلهث، وتشهق، وتزمجر. "أوكتافيا قادمة لاصطحابنا. قالت إنها ستقود بأقصى سرعة ممكنة".
  كانت أوكتافيا في كانُن على بُعد عشرين دقيقة من المكان، وإلى الشمال من المنطقة التي يقع فيها منزل الآنسة سيليا. "يا ميني، سأتوجه إلى هناك بأقصى سرعة...".
  "لا، لا تُقفلي الخط، أرجوك. ابقي معي على الهاتف حتى تصل إلى هنا".
  "هل أنتِ بخير؟ هل لحق بك أي مكروه؟".
  "لم يعد في استطاعتي تحمّل الأمر، يا آيبيلين. لم يعُد في استطاعتي القيام بذلك...". وانفجرت بالبكاء على الهاتف.
  كانت المرة الأولى التي أسمع فيها ميني تقول ذلك. فأخذتُ نفساً عميقاً، مدركةً ما يتعيّن عليّ القيام به. كانت الكلمات شديدة الوضوح في رأسي، وارتأيت أنها الفرصة المناسبة الوحيدة لكي تسمعني وهي واقفة حافية القدمين عند هاتف محطة الوقود. "يا ميني، أصغي إليّ. لن تفقدي عملك أبداً لدى الآنسة سيليا. لقد قال لك السيد جوني ذلك بنفسه. هناك المزيد من المال من عائدات الكتاب، كما أوضحت الآنسة سكيتر ليلة أمس. يا ميني، أصغي إلى ما أقول، لستِ مضطرة إلى التعرض للضرب من قِبل ليروي بعد الآن".
  وشهقت ميني.
  "لقد حان الوقت، يا ميني. هل تسمعينني؟ أنت حرة".
  تراجع بكاء ميني ببطء حتى هدأت تماماً. ولو لم أسمع تنفّسها لظننتُ أنها أقفلت الخط. رجاءً، يا ميني، قلت لنفسي. رجاءً، استفيدي من هذه الفرصة للخروج من حياته.
  أخذت نفساً عميقاً ومرتعشاً، وقالت: "سمعتُ ما قلتِ، يا آيبيلين".
  "دعيني آتي إلى محطة الوقود لأنتظر معك. سأقول للآنسة ليفولت إنني سأتأخر".
  "لا". قالت: "ستصل... شقيقتي قريباً. سنمكث معها الليلة".
  "يا ميني، هل ستبتعدين عنه هذه الليلة فقط، أم...".
  أطلقت نفساً طويلاً عبر الهاتف "لا". قالت: "لا أستطيع. سأبتعد عنه لمدة طويلة". وبدأت ميني جاكسون تلتقط أنفاسها مجدداً. كان صوتها يرتجف، وعلمتُ أنها خائفة، ولكنها قالت: "ليساعده الله، ولكن ليروي لا يعرف ما الذي ستغدو عليه ميني جاكسون".
  فخفق قلبي بسرعة وقلت: "يا ميني، لا يمكنك قتله، وإلا ذهبتِ إلى السجن كما تأمل الآنسة هيلي".
  يا الله، وساد صمت طويل ورهيب.
  "لن أقتله، يا آيبيلين. أعدك بذلك. سنبقى مع أوكتافيا حتى نجد مكاناً خاصاً بنا".
  فتنهّدتُ.
  "لقد وصلت". قالت: "سأتصل بك الليلة".
  عندما وصلتُ إلى منزل الآنسة ليفولت، كان المنزل هادئاً تماماً. فافترضتُ أن الرجل الصغير لا يزال نائماً، وماو موبلي في المدرسة. ووضعتُ حقيبتي في غرفة غسل الملابس. كان الباب الدوّار لغرفة الطعام مُغلَقاً، والمطبخ مجرّد مربَّع معتدل البرودة.
  فوضعتُ القهوة على النار، ودعوت متضرعة لأجل ميني. في استطاعتها البقاء في منزل أوكتافيا لفترة من الزمن، وهو منزل مزارع متوسط الحجم كما أخبرتني ميني. كانت ميني قريبة من عملها، ولكن منزل شقيقتها بعيد عن مدرسة ابنيها وبناتها. ومع ذلك، والأهم من كل ذلك، فإن ميني بعيدة عن ليروي. لم يسبق لي أن سمعتُها تقول إنها تريد التخلي عن ليروي، وهي لا تكرّر الأمور مرتين.
  أعددتُ زجاجة حليب للرجل الصغير، وأخذت نفساً عميقاً. لقد شعرتُ أن يومي انقضى عِلماً أننا لا نزال في الثامنة صباحاً. ولكنني لم أكن مُتعَبة، ولم أعرف السبب.
  فتحتُ الباب الدوّار، ورأيتُ الآنسة ليفولت والآنسة هيلي جالستين إلى جانب واحد من طاولة الطعام تنظران إليّ.
  فوقفتُ هناك، ممسكةً زجاجة الحليب. كانت الآنسة ليفولت لا تزال مجعّدة الشعر، مُرتديةً بُرنُس الحمّام الأزرق المبطَّن. ولكن الآنسة هيلي كانت ترتدي ملابس رسمية بالإضافة إلى بنطال أزرق ذا نقوش مربَّعة، ولا تزال تلك البقعة الحمراء، التي يغطيها القشب على طرف شفتها.
  "صباح الخير". قلت، وشرعتُ بالسير إلى الناحية الخلفية.
  "روس نائم". قالت الآنسة هيلي: "لا حاجة إلى الذهاب إلى هناك".
  فتوقفتُ مكاني، ونظرتُ إلى الآنسة ليفولت، ولكنها كانت تحدّق إلى ذلك الشق المضحك الذي يشبه حرف L الموجود على طاولة الطعام.
  "يا آيبيلين". قالت الآنسة هيلي، ومرّرت لسانها على شفتيها. "عندما أعدتِ أواني المائدة الفضية يوم أمس، كانت هناك ثلاث قطع مفقودة في تلك اللفافة. لم أجد الشوكة الفضية، والملعقتين الفضيتين".
  فتنهّدتُ سرّاً. "دعيني... دعيني أذهب لألقي نظرة في المطبخ، ربما نسيتُ وضع بعضٍ منها". ونظرتُ إلى الآنسة ليفولت لأتحقق مما إذا كانت تريد مني القيام بذلك، ولكنها أبقت عينيها على الشق. وشعرتُ بوخز يمتد إلى عُنُقي.
  "تعلمين كما أعلم أن تلك الأواني الفضية ليست في المطبخ، يا آيبيلين". قالت الآنسة هيلي.
  "يا آنسة ليفولت، هل بحثتِ في سرير روس؟ لقد اعتاد أخذ بعض الأشياء ودسّها...".
  فصاحت الآنسة هيلي: "هل تسمعينها، يا إليزابيت؟ هي تحاول إلقاء اللوم على طفلك الدارج".
  كان عقلي في سباق مع الزمن، وحاولتُ أن أتذكّر ما إذا عددتُ الأواني الفضية قبل وضعها في اللفافة. أعتقد أنني قمت بذلك كما كانت الحال على الدوام. يا الله، قل لي إنها لن تقول ما أعتقد أنها ستقوله...
  "يا آنسة ليفولت، هل بحثتِ في المطبخ؟ أو في خزانة أواني المائدة الفضية؟ يا آنسة ليفولت؟".
  لكنها كانت لا تزال ترفض النظر إليّ، ولم أعرف ما يتعيّن عليّ القيام به. لم أكن أعرف بعد مدى سوء الوضع. ربما لم يكن الأمر مرتبطاً بالأواني الفضية بل بالآنسة ليفولت والفصل الثاني...
  "يا آيبيلين". قالت الآنسة هيلي: "يمكنك إعادة تلك القطع إلي هذا اليوم، وإلا وجّهت إليك إليزابيت تُهَماً".
  فنظرت الآنسة ليفولت إلى الآنسة هيلي، وتنهّدت سرّاً كما لو أنها استغربت الأمر. وتساءلتُ عن صاحبة تلك الفكرة. هل هي الآنسة هيلي فقط أم كلاهما؟
  "لم أسرق أي أوانٍ فضية، يا آنسة ليفولت". قلت، وأردتُ الفرار.
  فهمست الآنسة ليفولت: "قالت إنها ليست معها، يا هيلي".
  تظاهرت الآنسة هيلي بعدم سماع ذلك، ونظرت إليّ، رافعةً حاجبيها، وقالت: "إذاً، من المناسب لي أن أُعلمك أنك مطرودة، يا آيبيلين". ونخرتْ الآنسة هيلي أنفها. "سأتصل بالشرطة. هم يعرفونني".
  "ما - مااا". صاح الرجل الصغير من مهده في الناحية الخلفية من المنزل. فنظرت الآنسة ليفولت وراءها، ومن ثم إلى هيلي، كما لو أنها غير واثقة مما يتعيّن عليها القيام به. فافترضتُ أنها تفكر في ما ستكون عليه الحال إذا لم تعُد لديها أي خادمة.
  "يا آي - بي". نادى الرجل الصغير، وشرع بالبكاء.
  "يا آي - بي". نادى صوت صغير آخر، وأدركتُ أن ماو موبلي في المنزل، ولم تذهب إلى المدرسة في ذلك اليوم. فضعطتُ على صدري. يا الله، لا تدَعها ترى ذلك، أرجوك. لا تدَعها تسمع ما تقوله الآنسة هيلي عني. فُتح باب الرَّدهة وخرجت ماو موبلي. فنظرت إلينا، طارفةً عينيها، وسعلت.
  "يا آيبي، حَلقي يؤلمني".
  "سأذهب إلى غرفتك في الحال، يا طفلتي".
  سعلت ماو موبلي مجدداً، وبدا الأمر سيئاً كنباح كلب، وبدأتُ بالسير نحو الرَّدهة، ولكن الآنسة هيلي قالت: "يا آيبيلين، ابقَي مكانك، في استطاعة إليزابيت الاهتمام لطفليها".
  فنظرت الآنسة ليفولت إلى هيلي كما لو أنها تقول لها، هل عليّ القيام بذلك؟ ولكنها نهضت، وعبرت الرَّدهة بعناء، واصطحبت ماو موبلي إلى غرفة الرجل الصغير، وأغلقتِ الباب. وبقيت والآنسة هيلي بمفردنا.
  أسندت الآنسة هيلي ظهرها إلى الكرسي، وقالت: "لن أتساهل مع الكاذبين".
  وتمايل رأسي، وأردت الجلوس. "لم أسرق أي أوانٍ فضية، يا آنسة هيلي".
  "لا أتكلم عن الأواني الفضية". قالت، منحنية إلى الأمام. وهسهست، هامسة، كيلا تسمعها الآنسة ليفولت. "أنا أتكلم عن تلك الأمور التي كتبتِها عن إليزابيت. لا فكرة لديها عن أن الفصل الثاني يتناولها، وأعتبر نفسي صديقة حميمة لها كيلا أُطلعها على الأمر. وقد لا أتمكن من إرسالك إلى السجن بسبب ما كتبتِه عن إليزابيت. ولكن، في استطاعتي إرسالك إلى السجن كونك سارقة".
  لن أذهب إلى أي سجن. لن أذهب، هو كل ما كان في استطاعتي التفكير فيه.
  "وصديقتك ميني؟ ستتلقّى مفاجأة جميلة. سأتصل بجوني فوت وأخبره أن عليه طردها في الحال".
  سادت الضبابية الغرفة. فهززتُ رأسي، وضغطتُ على قبضتي يديّ.
  "أنا على صلة وثيقة بجوني فوت. هو يستمع إلى ما...".
  "يا آنسة هيلي". قلت بصوت مرتفع وواضح، فتوقّفت. أراهن على أن أحداً لم يقاطع الآنسة هيلي منذ عشر سنوات.
  وقلت: "هناك أمر أعرفه عنك ولا تنسي ذلك".
  فنظرت إليّ، مضيّقةً عينيها، ولكنها لم تقل شيئاً.
  "استناداً إلى ما سمعتُه، لديّ المتّسع من الوقت لكتابة العديد من الرسائل في السجن". كنت أرتجف، وبدا نفسي كالنار. "لدي الوقت لأكتب لكل شخص في جاكسون عن حقيقتك. الكثير من الوقت، والورق مجّانيّ".
  "لن يصدّق أحد أي شيء مما تكتبينه، أيتها الزنجية".
  "لا أعلم. لقد قيل لي إنني كاتبة جيدة".
  فمدّت لسانها، ولمست تلك البقعة المغطاة بالقشب، ونظرت إلى الأسفل، مُشيحةً بنظرها عن نظري.
  قبل أن تتمكن من قول أي شيء، فُتح باب الرَّدهة واسعاً. لقد عادت ماو موبلي بقميص نومها، وتوقفت أمامي. كانت تشهق وتبكي، وأنفها الصغير أحمر كوردة. لا بد من أن والدتها أخبرتها أنني مغادرة.
  يا الله، تضرعت، قل لي إنها لم تكرر أكاذيب الآنسة هيلي.
  فالتقطت الطفلة تنورة لباسي الرسمي ولم تُفلِتها. ووضعتُ يدي على جبينها، كان يغلي بسبب الحمّى.
  "يا طفلتي، عليك العودة إلى السرير".
  "لووو". صاحت: "لا تذهبي، يا آيبي".
  خرجت الآنسة ليفولت من غرفة النوم، مقطَّبة الجبين، وحاملةً الرجل الصغير.
  "يا آيبي!". نادى، مبتسماً ابتسامة عريضة.
  "مرحباً... أيها الرجل الصغير". همستُ. كنت سعيدة لأنه لا يفهم ما يجري. "يا آنسة ليفولت، دعيني أصطحبها إلى المطبخ، وأعطيها بعض الدواء. إنها تعاني من حمى شديدة".
  فألقت الآنسة ليفولت نظرة سريعة على الآنسة هيلي التي بقيت جالسة متصالبة الذراعين. "حسناً، اذهبي". قالت الآنسة ليفولت.
  فأمسكتُ الطفلة بيدها الصغيرة الساخنة واصطحبتُها إلى المطبخ. وأطلقت ذلك السعال المخيف مجدداً، وأعطيتها حبة أسبيرين للأطفال وشراباً للسعال. وهدأت قليلاً بسبب وجودي معها هناك، ولكن الدموع كانت لا تزال تنهمر على وجهها.
  وضعتُها على المِنضدة، وسحقتُ لها حبة صغيرة زهرية اللون، ومزجتُها مع بعض عصير التفاح، وناولتها إياها بملعقة. فابتلعتِ المزيج، وعرفتُ أنها شعرت بألم في حلقها. وملستُ شعرها إلى الوراء. كانت كتلة الشعر تلك التي قصّتها بالمقص تنمو مجدداً. لم يكن في استطاعة الآنسة ليفولت النظر إليها في الفترة الأخيرة.
  "رجاءً لا تغادري، يا آيبي". قالت، وشرعت بالبكاء.
  "عليّ المغادرة، يا طفلتي، أنا آسفة جداً". حينئذٍ، بدأتُ بالبكاء. لم أشأ المغادرة، ومن شأن هذا الأمر أن يزيد من سوء حالها، ولكنني لم أتمكن من التوقف.
  "لماذا؟ لماذا لا تريدين رؤيتي مجدداً؟ هل ستذهبين للاهتمام لفتاة صغيرة أخرى؟". وتغضّن جبينها تماماً كما تفعل عندما تزعجها والدتها. يا الله، شعرت أن ذلك يُدمي قلبي حتى الموت.
  فأخذتُ وجهها بين يدَيّ، متحسسةً الحرارة المخيفة الصادرة عن خدَّيها. "لا، يا طفلتي، إنه ليس السبب. لا أريد التخلي عنك، ولكن...". كيف أفسّر لها الأمر؟ لم يكن في إمكاني القول لها إنني طُردتُ، ولم أشأ أن تُلقي اللوم على والدتها وزيادة الأمر سوءاً بينهما. "لقد حان الوقت لأتقاعد. أنتِ طفلتي الصغيرة الأخيرة". قلت، لأنها الحقيقة، ولم أتخذ القرار بملء إرادتي.
  تركتُها تبكي لدقيقة من الزمن على صدري، وأخذتُ من ثم وجهها بين يديّ مجدداً. وأخذتُ نفساً عميقاً، وطلبتُ منها أن تقوم بالمِثل.
  "يا طفلتي". قلت. "أريدك أن تتذكري كل ما قلته لك. هل تتذكرين ما قلت لك؟".
  استمرت في البكاء، ولكنها كفّت عن الشهيق. "أن أمسح مؤخرتي جيداً عندما أنتهي من التغوّط؟".
  "لا، يا طفلتي، الأمر الآخر، ما أنتِ عليه".
  نظرتُ بعمق داخل عينيها البنّيّتين الصافيتين، ونظرت داخل عينَيّ. يا الله، لديها عينا شخص مُسنّ كما لو أن عمرها يبلغ ألف عام. وأُقسم إنني رأيت فيهما المرأة التي ستكون عليها عندما تكبر، كانت ومضة من المستقبل. رأيتها طويلة القامة، مستقيمة الوقفة، فخورة بنفسها، تعتمد طريقة أفضل لقص شعرها، وتتذكر الكلمات التي وضعتُها في رأسها وقد غدت امرأة مكتملة النضج.
  بعد ذلك، قالت الأمر الآخر، وكنت بحاجة إلى سماعه: "أنت لطيفة جداً". قالت: "أنت لطيفة، أنت ذكية، أنت هامّة".
  "آه، يا الله". وضممتُ جسدها الحار الصغير إلى صدري، وشعرتُ كما لو أنها قدّمت إلي هدية. "شكراً لك، يا طفلتي الصغيرة".
  "على الرَّحب والسَّعة". قالت، كما علّمتُها. ولكنها ألقت رأسها على كتفي، وبقينا على هذه الحال، وبكينا لمدة قصيرة من الزمن إلى أن دخلت الآنسة ليفولت المطبخ.
  "يا آيبيلين". قالت الآنسة ليفولت بهدوء.
  "يا آنسة ليفولت، هل... أنت واثقة من أن هذا ما...". ودخلت الآنسة هيلي وراءها وحدّقت إليّ. وأومأت الآنسة ليفولت برأسها، وبدت كما لو أنها تشعر بذنب حقيقي.
  "آسفة، يا آيبيلين. يا هيلي، إذا كنت تريدين توجيه تُهَم، فهذا الأمر عائد إليك".
  نظرت الآنسة هيلي إليّ، ونخرت أنفها، وقالت: "الأمر غير جدير بتضييع وقتي لأجله".
  تنهّدت الآنسة ليفولت كما لو أنها شعرت بالارتياح. وللحظات، التقت نظراتنا ببعضها بعضاً، وكان في استطاعتي التحقق من أن الآنسة هيلي مُحِقة؛ فالآنسة ليفولت لا تعرف أبداً أن الفصل الثاني يتناولها. وحتى وإن كانت ترتاب بذلك، فهي لن تُقرّ أبداً بالأمر.
  أبعدتُ ماو موبلي عني بطريقة لطيفة ونظرت إليّ، ونظرت من ثم إلى والدتها بعينيها المحمومتين الناعستين. لقد بدت كما لو أنها تخشى السنوات الخمس عشرة القادمة من حياتها، ولكنها تنهّدت كما لو أنها مُتعَبة جداً لتتمكن من التفكير في ذلك. وأنزلتُها على قدميها، وقبّلتها على جبينها، ولكنها بسطت يديها باتجاهي. كان عليّ الابتعاد.
  ودخلتُ غرفة غسل الثياب، وأخذتُ معطفي وحقيبة يدي.
  وخرجتُ من الباب الخلفي، مُصغيةً إلى صوت بكاء ماو موبلي المروِّع. وعبرتُ الطريق الخاصة بالمنزل، باكيةً أيضاً، مدركةً كم سأفتقد ماو موبلي، داعية أن تتمكن والدتها من إظهار بعض الحب لها. ولكنني شعرتُ، في الوقت نفسه، أنني حرة على غرار ميني، وأكثر حرّية من الآنسة ليفولت المُغلَقة على نفسها لدرجة أنها لم تعرف نفسها عندما قرأت الكتاب، وأكثر حرّية من الآنسة هيلي التي ستمضي بقية حياتها محاوِلةً إقناع الناس أنها لم تتناول تلك الفطيرة. وفكرتُ في يول ماي قابعة في السجن، ولكن الآنسة هيلي كانت في سجنها الخاص مع حكم بالسجن لمدى الحياة.
  سلكت رصيف الشارع الحارّ عند الثامنة والنصف من الصباح، متسائلةً عما سأفعله في ما تبقى من يومي، وما تبقى من حياتي. كنت أرتجف وأبكي، ومرّت بي سيدة بيضاء البشرة ونظرت إليّ، وقطّبت جبينها. ستدفع لي الصحيفة عشرة دولارات في الأسبوع، وهناك المبلغ الذي سأتلقاه عن الكتاب بالإضافة إلى أموال أخرى قادمة. ومع ذلك، ليس هناك ما يكفي لتمضية بقية حياتي. فلن أتمكن من الحصول على عمل آخر كخادمة، لا سيّما وأن الآنسة ليفولت والآنسة هيلي تدعوانني سارقة. كانت ماو موبلي طفلتي البيضاء الأخيرة، وكان لباسي الرسمي آخر لباس اشتريته.
  كانت الشمس ساطعة، وعيناي مفتوحتين واسعاً بالرغم من ذلك. فانتظرتُ عند موقف الحافلة كما كنت أفعل طوال أربع سنوات غريبة. لقد تبدّلت حياتي بأكملها في غضون ثلاثين دقيقة. ربما يتعيّن عليّ مواصلة وضع مقالات للصحيفة بالإضافة إلى كتابة شيء آخر أيضاً عن كل الناس الذين عرفتُهم وعن الأمور التي صادفتُها وقمتُ بها. ربما لم أكن مُسنّة جداً لاستهلال عمل جديد، ففكرتُ، وضحكتُ، وبكيتُ، في الوقت نفسه. وتيقّنتُ في تلك الليلة من أنني أعيش حياة جديدة.
قليل من الوفاء ولو بعد حينكاترين ستوكيت، بكلماتها
  كانت خادمة عائلتنا، ديمتري، تقول إن قطف القطن في الميسيسيبي في عزّ الصيف هو أسوأ تسلية، إذا لم تأخذوا بالاعتبار قطف البامياء، وهي نبتة أخرى شائكة ومنخفضة الارتفاع. واعتادت ديمتري سرد مختلف أنواع القصص عن قطف القطن عندما كانت فتاة صغيرة، فتضحك وتهز إصبعها لنا، محذّرةً إيّانا من المساوئ المرافقة لقطف القطن كتدخين السجائر أو الإدمان على الشراب، كما لو أننا مجموعة من أطفال بِيض أثرياء معرضين للابتلاء بهذه المساوئ.
  "قطفتُ وقطفتُ طوال أيام. ونظرتُ إلى بشرتي بعد ذلك، ووجدتُ أنني مُصابة بحروق. فأخبرتُ والدتي. لم يسبق لأي منا أن رأى شخصاً أسود البشرة مُصاباً بحروق شمس. كان ذوو البشرة البيضاء يصابون بتلك الحروق!".
  كنت صغيرة جداً لأدرك أن ما دأبت ديمتري على إخبارنا به لم يكن ضرباً من ضروب الخيال. لقد وُلدت ديمتري في لامبكين، ميسيسيبي، في العام 1927، ومن المروِّع أن تولد قبل حدوث أزمة الركود الاقتصادي مباشرةً، وتعيش حياتها بأدق تفاصيلها كطفلة فقيرة، ملوّنة البشرة، في مرزعة يتم استثمارها بالمشارَكة.
  قدِمت ديمتري للقيام بأعمال الطهو والتنظيف لعائلتي عندما كانت في الثامنة والعشرين من العمر، وكان والدي آنذاك في سنّ الرابعة عشرة، وعمّي في سنّ السابعة. كانت ديمتري جريئة، داكنة البشرة، ومتزوّجة بمُدمن على الشراب، بخيل، ويسيء معاملتها. لم تكن تجيبني عندما أطرح عليها أسئلة عنه. ولكنها كانت تحدّثنا طوال اليوم من دون التطرق إلى زوجها كلايد.
  يا الله، كم كنت أحب التحدث إلى ديمتري، فأجلس معها بعد المدرسة في مطبخ جدتي، أستمع إلى قصصها، وأراقبها تُعِدّ الكعك والدجاج المقلي. كان طهوها متميّزاً، ويتحدث عنه الناس مطوَّلاً بعد تناول الطعام إلى مائدة جدتي. أنتم تقعون في غرام الكعك بالكاراميل الذي تُعدّه ديمتري عندما تتذوّقونه.
  لكن، لم يكن يُسمح لشقيقي الأكبر ولشقيقتي ولي بإزعاج ديمتري في أثناء استراحة الغداء الخاصة بها، فتقول جدتي: "دعوها وشأنها الآن، دعوها تتناول الطعام، هذا الوقت مخصص لها". وأقف عند باب المطبخ، متلهّفة للاستمتاع برفقتها. فجدتي تريد من ديمتري أن تستريح كي تتمكن من إنهاء عملها، عِلماً أن ذوي البشرة البيضاء لا يجلسون إلى مائدة الطعام عندما يقوم ملوّنو البشرة بتناول طعامهم.
  كانت القواعد بين الملونين والبِيض جزءاً طبيعياً من الحياة. وكفتاة صغيرة، أتذكر أنني كنت أُشفق على الملونين في ناحية المدينة المخصصة لذوي البشرة الملوّنة، حتى وإن كانوا في ملابس أنيقة أو عادية. وأشعر بحرَج الآن عندما أُقر بذلك.
  لكنني لم أكن أُشفق على ديمتري لأنني اعتبرتُ طوال سنوات عدة أنها محظوظة جداً بالعمل لدينا. كان عملاً آمناً في منزل جميل، وكانت تقوم بأعمال التنظيف لعائلة مؤمنة. وبما أن ديمتري لم تُرزَق بأطفال، كنا نشعر أننا نملأ فراغاً في حياتها. فإذا سألها شخص ما عن عدد أطفالها، رفعت أصابعها وقالت، ثلاثة، أي شقيقتي، سوزان، وشقيقي، روب، وأنا.
  ويُنكر شقيقي وشقيقتي أنني كنت الأكثر تقرّباً من ديمتري. فلم يكن أحد يتجرّأ على إغضابي عندما تكون ديمتري في الجوار. كانت تضعني أمام المرآة وتقول: "أنت جميلة. أنت فتاة جميلة". في حين أنني لم أكن كذلك في الواقع. كنت أضع نظّارة، وشعري بنّيّ اللون، وَتَريّ المظهر، وأكره حوض الاستحمام. كانت والدتي تمضي الكثير من الوقت خارج المدينة، ولم أكن ألازم سوزان وروب طويلاً لأنهما سئما مني، فشعرتُ أنني وحيدة، وشعرت ديمتري بذلك، فأخذت بيدي وقالت لي إنني فتاة صالحة.
  انفصل والداي عندما كنت في السادسة، وأصبحت ديمتري أكثر أهمية بالنسبة إليّ. وعندما كانت والدتي تقوم بإحدى رحلاتها المتكررة، كان يضعنا والدي في الموتيل الذي يملكه، ويصطحب ديمتري للمكوث معنا، فأبكي وأبكي على كتفها، مفتقدةً والدتي كثيراً لدرجة إصابتي بالحمّى.
  في تلك المرحلة، فقد شقيقي وشقيقتي اهتمام ديمتري لهما، فكانا يجلسان في ظُلّة الموتيل للعب مع موظفي الاستقبال.
  أتذكر أنني كنت أراقبهما بغَيرة لأنهما أكبر سنّاً مني، وأقول لنفسي في الوقت نفسه، لم أعد طفلة. ليس عليّ مرافقة ديمتري في حين أن الآخرين يلعبون.
  هكذا، دخلتُ اللعبة، وخسرتُ بالطبع وعدت إلى حضن ديمتري، متظاهرةً أنني طُرِدتُ، ومراقبةً الآخرين يلعبون. وبعد دقيقة واحدة فقط، أُسنِد جبيني إلى عُنُقها الطري، فهدهدتني كما لو أننا شخصان في مركب.
  "إنه المكان الذي تنتمين إليه، هنا معي". قالت، وربّتت على ساقي الساخنة بيديها الفاترتين على الدوام. كنت أشاهد الآخرين يلعبون الورق، غير آبهةٍ كثيراً لابتعاد والدتي عني مراراً وتكراراً. كنت في المكان الذي أنتمي إليه.
  لقد جعلتنا سلسلة الروايات السلبية المتداولة عن الميسيسيبي في الأفلام السينمائية، والصحف، والتلفاز، مجموعة دفاعية وحذرة من المواطنين الأميركيين. كنا نشعر باعتداد كبير في النفس والخجل، ولكن اعتدادنا بأنفسنا كان أكبر.
  مع ذلك، خرجتُ من ذلك المكان. لقد انتقلتُ إلى مدينة نيويورك عندما كنت في الرابعة والعشرين من العمر. وتعلّمتُ أن أول سؤال يطرحه أي شخص في هذه المدينة العابرة هو: "من أين تأتين؟". فأقول: "من الميسيسيبي". وأنتظر بعد ذلك الجواب.
  لأولئك الذين يبتسمون ويقولون: "بلغني أن المكان جميل جداً هناك". أقول: "مدينتي الأم هي الثالثة في الوطن لجهة الجرائم التي ترتكبها عصابات". وللذين يقولون: "يا الله، لا بد من أنك سعيدة بخروجك من ذلك المكان". أقول ببرودة: "ما أدراك؟ المكان جميل هناك".
  ذات مرة، وفي أثناء حفلة راقصة على سطح أحد المباني، سألني رجل ثريّ ثمِل، مماثل لأولئك الذين يستقلون قطار الأنفاق من الناحية الشمالية من المدينة، عن المكان الذي أتحدّر منه، فقلت له الميسيسيبي. فاستهزأ بالأمر وقال: "أنا متأسف جداً".
  فدُستُ على قدمه بالجزء مستدق الرأس من حذائي، وأمضيت الدقائق العشر التالية أزوّده بمعلومات عن مسقط رأس وأماكن إقامة وليام فوكنر، وأودورا ولتي، وتنيسي وليامز، وإلفيس بريسلي، وبي. بي. كينغ، وأوبرا وينفري، وجيم هانسون، وفيث هيل، وجايمس أيرل جونز، وكريغ كليربورن، المحرر والناقد المخبول لذي نيويورك تايمز. وأعلمتُه أن الميسيسيبي استضافت أول عملية زرع للرئة وأول عملية زرع للقلب، وأن أسس النظام القانوني في الولايات المتحدة تم تطويرها في جامعة الميسيسيبي.
  كنت أشعر بحنين إلى الوطن، وأنتظر شخصاً مثله.
  لم أكن أتمتع بالكياسة أو اللياقة، فشعر المسكين بالحرَج وبدا عصبيّ المزاج طوال الحفلة. ولكنني لم أتمكن من مساعدته.
  فالميسيسيبي هي كوالدتي، ويُسمح لي بالتذمّر في شأنها متى شئت. ولكن، ليكن الله في عون الشخص الذي يسيء الكلام عنها في حضوري، ما لم تكن والدتَه أيضاً.
  وضعتُ هذا الكتاب في أثناء إقامتي في نيويورك لأنني اعتبرت أن كتابته هناك أكثر سهولة منها في الميسيسبي حيث أحدّق إلى وجوه الجميع. لقد عزّز بُعد المسافة طريقة نظري إلى الأمور. فوسط مدينة تغمرها السرعة والأزيز، تمكنت من العودة بإفكاري ببطء إلى الوراء والتذكّر.
  هذا الكتاب قصة خيالية بالإجمال. ومع ذلك، وبينما كنت أضع الكتاب، تساءلتُ كثيراً عما سيكون رأي عائلتي به، وأي شخصية أوحت لهم بديمتري، عِلماً أنها توفّيت منذ زمن بعيد. كنت خائفة في كثير من الأحيان من تخطّي حدود رهيبة كوني أعبّر عن رأي شخص ملون البشرة. وخشيتُ من فشلي في وصف علاقة كان لها الأثر الأكبر في حياتي، علاقة محبّة كانت للتاريخ والأدب الأميركيين آراء مبسَّطة ومشوَّهة حيالها.
  كنت شديدة الامتنان لقراءة مقالة هويل راينز الفائز بجائزة بوليتزر "هدية غرادي":
بالنسبة إلى الكاتب الجنوبي، لا وجود لموضوع أكثر تعقيداً من موضوع المودّة القائمة بين شخص ذي بشرة ملونة وشخص ذي بشرة بيضاء في عالم التمييز العنصري غير العادل. ذلك أن الكذب الذي يقوم عليه مجتمع ما يضع كل شعورٍ موضع الشبهة، ويجعل من المستحيل معرفة ما إذا كان الشعور بين شخصين شعوراً صادقاً أم شفقة أم براغماتية.
  قرأت ذلك وسألت نفسي، كيف وجد طريقة للتعبير عن واقع الحال بكلمات موجَزة؟ ووجدتُ نفسي أمام الموضوع الزَّلق نفسه الذي ناضلتُ للإمساك به كما لو أنه سمكة مبتلّة. لقد تمكن السيد راينز من إيضاحه بجمل قليلة، وشعرتُ بالسعادة عندما علِمت أنني برفقة آخرين في نضالي.
  على غرار مشاعري حيال الميسيسيبي، تتضارب مشاعري حيال عاملة المنزل. ففي ما يتعلق بالحدود القائمة بين النساء ذوات البشرة الملونة وذوات البشرة البيضاء، أخشى أن أكون قد استفضتُ بالموضوع. لقد لُقّنتُ عدم التحدث عن أمور مزعجة مماثلة، لأن من يسمعنا قد يعتبر أننا نفتقر إلى اللياقة والتهذيب.
  أخشى أنني لم أفِ الموضوع حقه. فبالرغم من أن تلك الحياة كانت أكثر سوءاً بالنسبة إلى النساء ذوات البشرة الملونة العديدات اللواتي عملنَ في منازل الميسيسيبي، كان هناك حب بين العائلات والخادمات ذوات البشرة الملونة أكبر مما يمكن للحبر أو للزمن وصفه.
  فما أنا على ثقة به هو التالي؛ لا أتجرّأ على الاعتقاد أنني أعرف كيف تكون عليه حال امرأة ذات بشرة ملونة في الميسيسيبي، ولا سيما في الستينيات. ولا أعتقد أنه أمر تفهمه حقاً أي امرأة بيضاء تسلّم شيكاً لامرأة ذات بشرة ملونة. ولكن محاولة فهم ذلك هي أمر حيوي لإنسانيّتنا. ففي كتاب عاملة المنزل هناك حدود واحدة أعتقد بها حقاً...
  ألم تكن تلك الفكرة الرئيسة في الكتاب؟ ويجب على النساء أن يُدركن أننا شخصان لا نختلف عن بعضنا كثيراً بخلاف ما اعتقدتُ.
  أنا على ثقة تامة أنه يمكنني القول إن أحداً في عائلتي لم يسأل ديمتري أبداً عما تكون عليه حال شخص ذي بشرة ملونة في الميسيسيبي يعمل لدى عائلتنا البيضاء. ولم يخطر في بالنا أبداً أن نطرح عليها هذا السؤال، لأننا كنا نعيش معاً حياة يومية ولم نشعر أن هناك ما يدعونا إلى ذلك.
  لقد تمنّيت طوال سنوات أن أكون كبيرة في السن، وعميقة التفكير بما يكفي لأطرح على ديمتري ذلك السؤال. لقد توفّيت عندما كنت في السادسة عشرة من العمر، وأمضيت سنواتي أتخيّل ما يمكن أن يكون جوابها. لذلك السبب وضعتُ الكتاب.

ي   حظيرة اللعب Playpen قفص نقال يلعب الطفل ضمنه بأمان.