######OpenITI# #META# 000.SortField :: Shamela_0022797 #META# 000.BookURI :: NOCODE #META# 010.AuthorAKA :: NODATA #META# 010.AuthorNAME :: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) #META# 011.AuthorBORN :: NOTGIVEN #META# 011.AuthorDIED :: 728 #META# 019.AuthorDIED :: NODATA #META# 020.BookTITLE :: جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس #META# 020.BookTITLESUB :: NODATA #META# 021.BookSUBJ :: كتب ابن تيمية #META# 022.BookVOLS :: NODATA #META# 025.BookLANG :: NODATA #META# 029.BookTITLEalt :: NODATA #META# 030.LibURI :: Shamela_0022797 #META# 030.LibURIextra :: NODATA #META# 031.LibREADONLINE :: http://shamela.ws/browse.php/book-22797 #META# 031.LibURL :: http://shamela.ws/index.php/book/22797 #META# 031.LibURLFILE :: NODATA #META# 031.LibURLextra :: NODATA #META# 040.EdALL :: NODATA #META# 040.EdEDITOR :: محمد عزير شمس #META# 041.EdNUMBER :: الأولى، 1422 هـ #META# 041.EdNumber :: NODATA #META# 043.EdPUBLISHER :: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع #META# 044.EdPLACE :: NODATA #META# 045.EdYEAR :: NODATA #META# 049.EdISBN :: NODATA #META# 049.EdPAGES :: NODATA #META# 049.EdPHYSICAL :: NODATA #META# 049.EdVOLUME :: NODATA #META# 090.RecMISC :: NODATA #META# 999.MiscINFO :: NODATA #META#Header#End# ### | فصل في معنى "الحي القيوم" # PageV01P035 # بسم الله الرحمن الرحيم # ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم # الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن ~~سيئات أعمالنا، من هداه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ~~لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله ~~عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى آله وصحبه وسلم. # فصل # في معنى اسمه "الحي القيوم" # قال الله سبحانه وتعالى: (الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (1) . # وقال تعالى: (الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (2) . وقال تعالى: ~~(*وعنت الوجوه للحى القيوم) (3) . وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ~~وغيره "الحي القيام" (4) . والقيام فيعال، والقيوم فيعول، وفيعال من جنس ~~فعال، وفيعول من جنس فعول، لأن الحرف المضعف يعاقب الحرف المعتل، كقولهم ~~تقضى البازي وتقضض. PageV01P037 # والقيوم والقيام من قام يقوم، فهو معتل، فإن عينه واو، فلهذا قيل فيه: ~~فيعال وفيعول، ولو لم يكن في ألفاظه حرف معتل لا ياء ولا واو لقيل: فعال، ~~كما قيل "حماد" و"ستار"، وفعول كما قيل "سبوح" و"قدوس"، والغالب فعول ~~بالفتح، وهو القياس في شرح "قدوس"، ولكن جاءت دلالة اللفظ على غير القياس ~~بالضم سبوح وقدوس وذو الروح. # وقد تبين أن قراءة الجمهور "القيوم" أتم معنى من قراءة "القيام"، فإن ~~فعول وفيعول أبلغ من فعال وفيعال، لأن الواو أقوى من الألف، والضم أقوى من ~~الفتح، وهذا عينه مضمومة، والمعتل منه واو، فهو أبلغ مما عينه مفتوحة ~~والمعتل منه ألف. ودائما في لغة العرب الضم والواو أقوى من الياء والكسرة، ~~والياء والكسرة أقوى من الألف والفتحة، وهكذا هو في النطق، وكذلك في سائر ~~الحركات، فإن المتحرك إلى أسفل كحركة الماء أثقل من المتحرك إلى فوق كالريح ~~والهواء، والمتحرك على الوسط هو الفلك أقوى منهما. # ولهذا كان الرفع لما هو عمدة في الكلام، وهو: الفاعل، والمفعول القائم ~~مقامه، والمبتدأ، والخبر. وكان النصب لما هو فضلة في الكلام، كالمفاعيل ~~وغيرها ms0001: المفعول المطلق والمفعول به وله ومعه، والحال والتمييز. وكان الجر ~~لما هو متوسط بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه، فإنه تضاف إليه العمدة ~~تارة والفضلة تارة، فتقول: قام غلام زيد، وأكرمت غلام زيد. # ولما كانت "كان" وأخواتها أفعالا تستعمل تارة تامة مكتفية بالفاعل، وتارة ~~ناقصة فتحتاج إلى منصوب، كان الرفع فيها مقدما، فإنه العمدة، ولابد منه في ~~النوعين التامة والناقصة. # PageV01P038 # وأما "إن" وأخواتها فإنها تختص بالجمل الاسمية، لكن أشبهت الأفعال، فصار ~~لها منصوب ومرفوع كالأفعال، ونقصت درجتها عن درجة الأفعال، فقدم منصوبها ~~لذلك، ولأنه أخف، ولأن الخبر يكون غير اسم، مثل الجار والمجرور به، فلا ~~يظهر فيه النصب، بل قد يقدم على الاسم. # وأما باب "ظننت" وأخواتها فإنها أفعال، تستعمل تارة مع الاقتصار على ~~الفاعل، وتارة يذكر معها المفعولات، ولكن تعلق على العمل إذا تصدر ماله صدر ~~الكلام، فلا يعمل ما قبله فيما بعده، مثل لام الابتداء وحروف الاستفهام، ~~وما الناقصة، كقوله تعالى: (لنعلم أى الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)) ~~(1) ، وقوله تعالى: (ولقد علموا لمن أشتراه ما له في الآخرة من خلاق) (2) . ~~وتارة تلغى عن العمل إذا قدم المفعولات أو وسط الفعل بينهما، كقولك: "زيد ~~منطلق ظننت"، والإلغاء هاهنا أحسن، وقولك "زيد ظننت منطلق". # وكان الفرق بين باب "ظننت" وباب "كسوت" أن المفعولين هاهنا المبتدأ ~~والخبر، بخلاف باب كسا، فإن الثاني غير الأول، ولهذا يجوز في باب كسا ~~الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب ظننت، فإنه لا يجوز ذلك فيه، كما لا ~~يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر. # وقد تبين أن المبتدأ وخبره مع نواسخه قد استوعبت الأقسام الممكنة، فإنهما ~~إما مرفوعان، كما إذا تجردا عن العوامل اللفظية؛ وإما منصوبان، وهو باب ~~ظننت، إذ الأول مرفوع، وهو باب "كان"؛ PageV01P039 # أو الأول منصوب وهو باب "إن". وتبين أن الرفع لما هو عمدة، والنصب لما هو ~~فضلة. # وكذلك الضم والفتح والكسر التي هي حركات لنفس الكلمة، وتسمى مناسبة إذا ~~كانت في الآخر لم ### | .... # (1) عامل للإعراب، كقولك: خرج وخرج، وكره وكره، والغسل والغسل ms0002 ونحو ذلك، ~~فالخرج والكره والغسل مصدر الفعل الثلاثي المتعدي، وهو قياس، تقول: ضربه ~~ضربا، وأكله أكلا ونحو ذلك، وأما الخرج والكره فهو نفس الشيء المكروه ~~والمخروج، والعين أقوى من الفعل، والغسل بالضم اسم الاغتسال، واغتسال ~~الإنسان لنفسه أكمل من غسله لغيره، تقول في هذا: غسل الجمعة وغسل الجنابة، ~~لأن المراد الاغتسال؛ وتقول في ذلك: غسل الميت وغسل الثوب، لأن المصدر غسل ~~الإنسان لغيره. هذا هو اللغة المشهورة سماعا وقياسا، وما نقل غير ذلك فإما ~~خطأ وإما شاذ. # فتبين أن "القيوم" أبلغ من "القيام"، ذلك يفيد قيامه بنفسه باتفاق ~~المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه ~~عليه؟ فيه قولان. وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه، لما فيه من المبالغة ~~لقيوم وقيام. ولهذا قال غير واحد من السلف: القيوم الذي لا يزول، كما قال ~~ابن أبي حاتم (2) : حدثنا علي بن الحسين نا عيسى الصائغ ببغداد نا سعد بن ~~عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الحسن رضي الله عنه: القيوم الذي لا زوال ~~له. PageV01P040 # وقد ظن طائفة من النفاة - كبشر المريسي وغيره - أن مرادهم بذلك أن لا ~~تقوم به الأفعال الاختيارية ولا يتحرك ونحو ذلك، ورد عليهم عثمان بن سعيد ~~الدارمي وغيره، وبينوا خطأه فيما فهمه من ذلك عمن نقل ذلك عنه من السلف، ~~وهو إنما نقله عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا ~~الإسناد وحده مما لا يعتمد عليه أهل الحديث، فذكروا ضعفه (1) ، ثم ذكروا ~~عدم دلالته على ما طلبه. ولكن قد روي هذا بغير هذا الإسناد، فبينوا خطأ من ~~فهم ذلك المعنى، وأن المراد بقولهم "لا يزول": أنه دائم باق لا ينقص عن ~~كماله فضلا عن أن يفنى أو يعدم، كقوله تعالى: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ~~ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف ~~فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن ~~كان مكرهم لتزول منه الجبال (46)) (2) . وفيه قراءتان (3) : أكثر القراء ms0003 ~~يقرءون "لتزول"، فيدل على النفي، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. # وقرأ بعضهم "لتزول" بالرفع على الإثبات، أي: إن كان مكرهم تزول، هذا ~~تقدير البصريين. والكوفيون يقدرون: ما كان مكرهم ألا تزول. وكلا القراءتين ~~لهما معنى صحيح، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع (4) . # وقوله تعالى "تزول منه الجبال" مثل قوله تعالى: (إن الله يمسك ~~PageV01P041 # السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) (1) ومنه ~~قول لبيد (2) : # ألا كل شيء ما خلا الله باطل # وقد قال له عثمان (3) بن مظعون رضي الله عنه وهو ينشد: # "صدقت". ثم قال: # وكل نعيم لا محالة زائل # فقال له: "كذبت، إن نعيم الجنة لا يزول" (4) . # وليس المراد بقوله (ما لكم من زوال (44)) وبقبم له تعالى (لتزول منه ~~الجبال (46) و (يمسك السموات والأرض أن تزولا) هو الحركة، فإنهم كانوا ~~يتحركون، والكواكب متحركة، بل الأفلاك التي فيها الكواكب متحركة. و"زال" ~~يستعمل لازما ويستعمل ناقصة من أخوات "كان"، فيقال في اللازم: زال يزول ~~زوالا، كما في قوله تعالى (أن تزولا) و (مالكم من زوال (44)) و (وإن كان ~~مكرهم لتزول منه الجبال (46)) . ومنه: زالت الشمس تزول زوالا. وليس المراد ~~بزوالها حركتها، فإنها لا تزال متحركة في رأي العين منذ تطلع إلى أن تغرب. # ولا يقال إنها زالت إلا إذا انحطت عن غاية الارتفاع، فإذا ارتفعت على ~~رءوس الناس كان غاية ارتفاعها، وهو قبل الزوال، ثم إذا PageV01P042 # انحطت بعد هذا وانحطت ومالت قيل: زالت، ويقال لها قبل الزوال: قد قام ~~قائم الظهيرة، فيعبر عن هذا بلفظ القيام، وعن آخرها يلفظ في الانحطاط بلفظ ~~الزوال، كما يعبر عنه بلفظ الاستواء، فيقال: استوت الشمس، وعند الزوال ~~بالميل فيقال مالت الشمس؛ فكأن لفظ الزوال يدك على النقص بعد الكمال، ~~والانخفاض بعد الارتفاع. # والذين أقسموا من قبل "ما لهم من زوال" لم يريدوا أنهم لا يموتون، فإن ~~هذا لا يقوله أحد من العقلاء، ولكن ظنوا دوام ماهم فيه من الملك والمال، ~~وأن ذلك لا يزول عنهم. وهذا باطل ms0004. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~لما سبقت ناقته العضباء وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، ~~فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن حقا على الله أن لا يرفع شيء ~~من الدنيا إلا وضعه" (1) . فكلما ارتفع شيء من الدنيا فإن الله تعالى يضعه، ~~وذلك من زواله. # والزائل الذي لم يكتسب به ما يدوم نفعه يسمى باطلا، فالموت حق والحياة ~~باطل، فإن الباطل ضد الحق، والحق يقال على الموجود، فيكون الباطل هو ~~المعدوم. ويقال أيضا على ما ينفع وينفى نفعه، فيكون الباطل اسما لما لا ~~ينفع، أو لما لا يدوم نفعه. # ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل لهو يلهو به الرجل باطل منه ~~إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنهن الحق". رواه أبو ~~داود وغيره (2) . PageV01P043 # ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الرجل لا يحب الباطل" (1) ، ~~وهو مالا ينفع النفع الباقي، وهو النافع في الآخرة، فكل مالا ينفع في ~~الآخرة فهو باطل، وإن كان لذة حاضرة، فإنها تزول وتعد بلا نفع يبقى، فهي ~~باطل بهذا الاعتبار. # وقال الله تعالى: (ذلك بأن الله هو وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (2) ~~، فهذا باطل من الجهتين: من جهة أن استحقاق الإلهية معدوم، فهو لا ينفع ولا ~~يضر؛ ومن جهة أن عبادته لا تنفع وإن كانت موجودة (3) في الحياة الدنيا، ~~فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا. ومن هذا قوله - صلى الله ~~عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر لبيد: # ألا كل شيء ماخلا الله باطل (4) # قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورا) (5) ، ~~وقال تعالى: (مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24)) ~~إلى قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي ~~الأخرة) (6) . والثابت ضد الزائل، فالباطل الزائل الذي لا ينفع في الآخرة ~~هو الذي شرع فيه الزهد، فالزهد مشروع في كل مالا ينفع في الآخرة، والورع ~~مشروع في كل ما قد ms0005 يضر في PageV01P044 # الآخرة. فالورع عن المحرمات واجب، لأنها سبب الضرر، والورع عن الشبهات ~~حسن، لأنه قد يكون في ذلك محرم، وقد يدعو الوقوع فيها إلى الوقوع في ~~الحرام، كما في الصحيحين (1) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور ~~مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن ~~وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن ~~لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا ~~صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب". # فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من ترك الشبهات التي لا يعلم ~~كثير من الناس أحلال هي أم حرام، استبرأ لعرضه ودينه، وإن وقع فيها وقع في ~~الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع، ويقرب أن يواقعه. # وبين أن حمى الله تعالى محارمه التي حرمها، وفي هذا ما دل على أن الشبهات ~~لا تخفى على جميع الناس، بل كسبهم من غير الحلال منها من الحرام. ومن تبين ~~له ذلك فأخذ الحلال وترك الحرام لم يكن ممن وقع في الشبهات، وإنما الذي يقع ~~فيها من لم يتبين له أحلال هي أم حرام. وفيه ما دل على أن شريعته في ترك ~~الشبهات يتضمن سد الذريعة، فإنها داعية إلى الحرام، وما كان ذريعة يترك، ~~إلا إذا كان مصلحة فعله راجح. # مثال ذلك أن يشتبه عليه الحلال بالحرام، فلا يقطع بواحد PageV01P045 # منهما، فهذا يرغب في الترك، لأنه شبهة، إلا أن يكون إذا ترك ذلك تضمن ترك ~~واجب محقق أو فعل محرم محقق، فلا يكون حينئذ مرغبا في ترك الشبهة، بل يكون ~~مأمورا بفعلها، لأنه إذا فعلها لم يعلم أنه يأثم، وإذا تركها وتضمن ذلك ترك ~~واجب أو فعل محرم كان إثما. # والورع المشروع هو ما قاله - صلى الله عليه وسلم - للحسن رضي الله ms0006 عنه: ~~"دع ما يريبك إلى مالا يريبك" (1) ، وهنا إذا تركه لم يدعه إلى مالا يريبه، ~~بل إلى ماهو يريبه قطعا، وذلك يظن أنه قد يريبه. # ومثل هذه المسألة المشهورة عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وقد ذكرها أبو ~~طالب وأبو حامد وغيرهما في كتاب الورع للمروذي (2) وغيره، أنه سئل عمن مات ~~أبوه وعليه دين، وله مال فيه شبهة، وهو يتورع عن قبض ذلك المال، أيدع ذمة ~~أبيه مرتهنة فبين ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه أن قضاء دين الميت من المال ~~الذي خلفه واجب، وأن الوارث عليه أن يفعل ذلك، أو يمكن الغرماء من قبضه، ~~وإن لم يمكن قضاؤه إلا بفعل الوارث تعين عليه ذلك، فإنه واجب على الكفاية، ~~وهو متعين عليه إذ لم يقم من غيره. وأما قبضه الشبهة فليس محرما، بل ورع ~~مستحب، فكيف يفعل مستحبا بترك واجب؟. # وهكذا من عليه ديون وله مال يقضي به الديون، وفيه شبهة، فقضاء الديون ~~واجب، والورع بقضاء الديون واجب، وليس ترك الشبهة واجبا. ولو قدر أن في ملك ~~الشبهة ظلم قليل، فهو أخف من PageV01P046 # ظلم أرباب الديون بمنع حقوقهم. مثل أن يكون له ألف درهم فيها مئة لغيره ~~مثلا، وعليه ألف درهم، فإذا لم يوف الغرماء حقوقهم ظلمهم بألف درهم، وذاك ~~أعظم إثما من ظلم مئة، هذا إذا قدر أنه لا يعرف قدر ما في ماله من الظلم، ~~وإلا فإذا عرف قدر ذلك فإنه يخرج مقدار الحرام، فيعطيه لمستحقه إن عرفه، ~~وإلا تعرف به وصرفه في مصالح المسلمين عنه إذا لم يعرفه، كما نقل عن السلف ~~من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أكثر الفقهاء، كمالك وأبي حنيفة والإمام ~~أحمد بن حنبل وغيرهم، أعني صرفه إذا جهل صاحبه إلى مصرف مال الله تعالى ~~ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو صرفه في كل ما أمر الله تعالى به ~~ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. # وليس هذا كاللقطة التي له أن يتملكها، فإن اللقطة عرفها حولا وأخذها ~~بفعله، فإذا لم يجد صاحبها صارت بمنزلة ما يملكه ms0007 من المباحات بفعله ما دام ~~صاحبها مجهولا، وله أن يتصدق بها عنه، فإن عرف صاحب المال في الموضعين ~~فالأمر إليه، إن شاء أجاز ما فعله من تصرفه لنفسه أو صدقة بها عنه، وإن شاء ~~رد ذلك وطلب بدل ماله، كما قال الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في المال، ~~وفي امرأة المفقود أيضا، قالوا: يخير الزوج القادم بين المرأة وبين مهرها، ~~وهو مبني على هذا، فإنه لما انقطع خبره جاز التصرف في بضع امرأته، كما جاز ~~التصرف في المال الملتقط الذي جهل صاحبه، وفي غيره، ثم ظهر خبره، صار حينئذ ~~مخيرا، وكان ذلك التصرف الأول الذي كان مع عدم العلم به جائزا باطنا ~~وظاهرا، كمال اللقطة، فإنه بعد حلول التعريف يملك الملتقط باطنا وظاهرا، ~~وكذلك يملكه من تصدق عليه، فإذا جاء المالك وطلبه عاد إليه ملكا جديدا. # PageV01P047 # وأما الشبهة إذا اجتنبها أوقعته فيما يتردد بين الكراهة والتحريم قطعا، ~~فهذا مما يتنازع الفقهاء فيه، مثل إذا شك من الطلاق الثلاث فمن الفقهاء من ~~يستحب له اجتنابها، بل يستحبون له إيقاع الطلاق يقينا لتباح لغيره بلا شك، ~~مثل أن يقول: إن لم يكن وقع بك فقد أوقعته بك. ومنهم من يستحب له إمساكها، ~~ويرى ذلك خيرا (1) من مفارقتها ومن إيقاع الطلاق عليها، فإنه إذا ملكها لم ~~يأثم، فإن الأصل عدم الطلاق، وإمساكها جائز لا إثم فيه، وأما الطلاق فهو ~~مكروه أو محرم، فمن قطع بتحريمه فإنه يقطع بأنه ليس له أن يطلقها لأجل ~~الشك، ومن قال مكروه فقد يتردد اجتهاده لكون كراهة الطلاق أشد أم كراهة ~~إمساكها مع الشك. وأما من تردد هل الطلاق محرم أو مكروه فإمساكها أولى ~~عنده، لأنه هناك متردد بين حلال وحرام، وهنا متردد بين حرام ومكروه. وأما ~~من قال: الطلاق مباح لا كراهة فيه، فإيقاعه عنده أولى من إمساكها مع الشك. ~~وقد بسطنا هذه المسائل في غير هذا الموضع. والصواب أن الطلاق في الأصل ~~محظور، وإنما أبيح للحاجة. # والمقصود هنا أن مالا يستعان به على النفع الدائم ms0008 فهو نفع يتعقبه، ومنه ~~يسمى العبث واللعب باطلا، وإن كان العابث اللاعب فيه منفعته زائلة، لما فيه ~~من اللذة الحاضرة، لكن هو باطل إذا لم يستعن به على الحق الذي يدوم نفعه. ~~ولهذا قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين ~~كفروا) (2) ، وقال تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ~~(38)) (3) ، وقال تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم PageV01P048 # عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) (1) . فإن الدنيا وإن كان فيها نوع لذة ~~ومنفعة حاضرة فتلك زائلة منقطعة، فهي باطلة، والفعل لمثل ذلك من باب العبث ~~واللعب، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك، إنما خلق هذا الذي ينقص ويزول لما ~~يبقى ويدوم، والذي يبقى ويدوم هو الحق، والذي يزول وينقص قد فسد وهلك. ~~ولهذا قيل في قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) (2) : كل عمل باطل إلا ما ~~أريد به وجهه. وفي الدعاء المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار ~~أرضك باطل إلا وجهك الكريم". وقد قال تعالى: (كل من عليها فان (26) ويبقى ~~وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)) (3) . فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم، ~~وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسد هالك، لا ~~يبقى ولا يدوم. # قالوا لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن فلانا عمل موطأ مثل موطأك، فقال: ~~وطأوا ووطأنا، وما كان لله عز وجل فهو يبقى (4) . # ولما استقر في الفطر أن ### | كل عمل لا يبقى نفعه فهو عبث ولعب وباطل، # صار كل من الناس يسمي مالا يبقى نفعه بالنسبة إلى ما يبقى عبثا وباطلا ~~ولعبا وباطلا، فالصبيان إذا لعبوا سمى الرجال العقلاء فعلهم لعبا وباطلا ~~وعبثا، وإن كان للصبيان فيه لذة ومنفعة حاضرة، لكنها لا تدوم وتبقى، بل إذا ~~فرغوا من اللعب احتاجوا إلى أمور لا PageV01P049 # تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصل له قوتا وكسبا ونحو ذلك من المقاصد ~~عندهم صاحب جد وحق، ليس بصاحب لعب وباطل، فإن هذا يبقى ويدوم وينفع أعظم من ~~ذاك؛ ومن كان عنده ms0009 أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال، ~~كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرض عن ذلك صاحب لعب وباطل بالنسبة إلى ~~مطلوبه ومقصوده، فإن المال لا ينتفع به صاحبه إلا إذا أخرجه وأنفقه، ~~فمنفعته في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلما قوي وحصل كان الانتفاع به أكثر، ~~وصاحبه يمكنه أن يحصل به من المال مالا يمكن صاحب المال أن يحصل به من ~~الجاه، فلهذا كان هذا أعقل وأكيس وأبعد عن اللعب والباطل من ذاك. # ثم إن صاحب الحق الذي قد علم أن الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها ~~لا جاه ولا مال، بل هذا وهذا يقول يوم القيامة: (ما أغنى عنى ماليه (28) ~~هلك عنى سلطانيه (29)) (1) . وقد روى الترمذي وغيره (2) عن كعب رضي الله ~~عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد ~~لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". [قال] الترمذي: حديث حسن صحيح. ~~بين - صلى الله عليه وسلم - أن حرص المرء على المال والشرف والرئاسة يفسد ~~الدين مثل أو أبلغ من إفساد الذئبين الجائعين إذا أرسلا في زريبة غنم. وهذا ~~الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعه بعد الموت، فلو قدر ~~أن الإنسان طلب من PageV01P050 # المال والشرف مالا ينفعه بعد الموت، لكان صاحب باطل ولعب وعبث، فكيف إذا ~~طلب ماهو صار له بعد الموت يفسد ما ينفعه، كإفساد الذئبين الجائعين لزريبة ~~الغنم. ولهذا إنما جعل ذلك الحرص على المال والشرف، والحرص يوجب الشح، فإن ~~الشح أصله شدة الحرص. # وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إياكم الشح، ~~فإن الشح أهلك من قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، ~~وأمرهم بالقطيعة فقطعوا". # ورئي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف وهو يقول: "رب قني شح نفسي، رب ~~قني شح نفسي"، فقيل له: ما أكثر ما تدعو بذلك! فقال: إذا وقيت الشح وقيت ~~البخل والظلم والقطيعة (2) . # وذكر رجل لابن مسعود رضي الله عنه أنه يكره إخراج ms0010 المال، أفشحيح هو؟ فقال ~~ابن مسعود رضي الله عنه: ذلك البخيل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشح أن تحب ~~أخذ مال أخيك (3) . # ولهذا الشح كان أعظم من البخل، فإن البخيل يبخل بما عنده، والشح هو شدة ~~الحرص، فهو عمل على الحسد حتى يكره أن يعطي الله تعالى غيره من فضله، وعمل ~~على الظلم والقطيعة حتى يأخذ مال غيره بغير حق. ولهذا قال الله تعالى: (ولا ~~يجدون في صدورهم حاجة PageV01P051 # مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك ~~هم المفلحون (9)) (1) . فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما ~~أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبا لما أنعمه الله عليهم، بل ~~نفوسهم غنية، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة ~~العرض، وإنما الغنى غنى النفس" (2) . والحاسد والحريص أنفسهم فقيرة محتاجة ~~لا غنى فيها، فالحاسد شر من البخيل، والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني ~~الذي لا يحسن. ولهذا جاء في الحديث (3) : "الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء ~~الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". # والحسد يكون على المال والجاه جميعا، كما قد يكون على الدين والعلم، قال ~~الله تعالى: "أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله فقد ءاتينا ءال ~~إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما (54)) (4) ، وقال تعالى: (ود ~~كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من ~~بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره) (5) . وإذا أحب ~~أن يحصل له من الخير الذي حباه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك ~~النعمة عنه، فهذا غبطة، ويسمى حسدا لكنه حسن. كما في الصحيحين (6) عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - أنه PageV01P052 # قال: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ~~ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق". فإن هذا وهذا مما يحبها ~~الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسيجازى صاحبهما في الآخرة، فإذا ms0011 أحب ~~الرجل أن يكون له مثل ما لغيره من ذلك فهذا حسن، وهو من المنافسة التي رغب ~~فيها بقوله تعالى وتبارك: (وفى ذلك فليتنافس المتنافسون (26)) (1) . وأما ~~إذا تمنى زوال النعمة عنه فهذا مذموم معيب، وإن أحب أن يكون له مثلها من ~~المال والرئاسة من غير زوال لذلك عنه فهذا من جنس حب المال والرئاسة ~~ابتداء، فهو باطل وعبث ولعب، إلا ما ينتفع به في الآخرة، والحرص عليه يفسد ~~الدين كما تقدم. وقال شداد بن أوس رضي الله عنه (2) : يا بقايا العرب! إن ~~أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما ~~الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة. وقال سفيان الثوري رحمه الله: رأيناهم ~~يزهدون في الطعام والشراب واللباس، فإذا نوزع أحدهم الرئاسة ناطح نطاح ~~الكباش. # فطلاب الرئاسة عند الذين يريدون ما أحبه الله ورسوله - صلى الله عليه ~~وسلم - أولى بالذم والنقص والعيب، من طلاب المال عند طلاب الرئاسة، حيث ~~أرادوا مالا يدوم نفسه ولا يبقى، بل يزول ويفنى، فطلبوا الباطل الذي يفنى، ~~وتركوا الحق الذي يبقى. وقد قال بعضهم: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، فكيف ~~والدنيا خزف يفنى، والآخرة ذهب يبقى! # ولهذا قال السحرة لما آمنوا وتبين لهم الحق، وقال لهم فرعون PageV01P053 # (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا ~~أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا ~~فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا (72) إنا ءامنا بربنا ليغفر ~~لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73)) (1) . # والمقصود هنا ذكر معنى الزوال، وقد تقدم أن لفظ "زال" يستعمل لازما تاما، ~~ويستعمل ناقصا من أخوات كان، وهو كثير، كقوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي ~~بنوا ريبة في قلوبهم) (2) ، وقوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين (118) إلا من ~~رحم) (3) ، وقوله تعالى: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم) ~~(4) . ويقال: "لم يزل كذلك"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ~~(وكان الله عزيزا حكيما (158)) ، (سميعا بصيرا (58)) فكأنه ms0012 كان ثم مضى، ~~فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (وكان الله غفورا رحيما (96)) تسمى بذلك، ~~وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك. رواه البخاري في صحيحه (5) عنه. وكذلك قال ~~الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لم يزل الله عز وجل عالما متكلما غفورا. # وقال رضي الله عنه أيضا: لم يزل متكلما إذا شاء. ذكره في رواية عبد الله ~~فيما كتبه في "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكت فيه من متشابه القرآن ~~وتأؤلته على غير تأويله" (6) . PageV01P054 # وهذا يقال فيه: ما زال، ولم يزل؛ والأول يقال فيه: زال يزول، ذاك بالواو، ~~وهذا بالألف، لأن معنى الواو أكمل، وذاك فعل تام يراد به لم يزل المذكور، ~~وهنا يراد به: لم يزل أو لا يزال على هذه الصفة وهذه الحال. فالمراد هناك ~~دوام نفسه وبقاؤها، والمراد هنا دوام صفته المذكورة وبقاؤها. ودوام نفسه ~~وبقاؤها من غير زوال ونقص يستلزم دوام صفات الكمال وبقاءها. وأما إذا قيل: ~~لم يزل كذلك، فقد يكون المذكور صفة نقص، كقوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين ~~(118)) (1) ، وقد يكون صفة كمال، وإذا كان صفة كمال فهو داخل في الأول. # فلهذا كان اسمه "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كماله، ويتضمن ~~أنه لم يزل ولا يزال دائما باقيا أزليا أبديا موصوفا بصفات الكمال، من غير ~~حدوث نقص أو تغير بفساد واستحالة ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، ~~فإنه سبحانه وتعالى "القيوم". ولهذا كان من تمام كونه قيوما لا يزول أنه لا ~~تأخذه سنة ولا نوم، فإن السنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما ~~من النقص بزوال كمال الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص ~~العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى ~~الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ~~أهل الجنة: أينامون؟ فقال: "لا، النوم أخو الموت" (2) . PageV01P055 # والنوم جعل للناس في الدنيا سباتا، كما قال تعالى (1) . جعل الليل لباسا ~~والنوم سباتا، ليسكن الإنسان فيه ويستريح بدنه ms0013 من الحركات التي لو دامت ~~عليه لأهلكته (2) ، ولهذا يغتذي الإنسان بالنوم لاحتياجه إليه، ويقوم من ~~نومه كأنه خلق جديدا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ من ~~نومه يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور" (3) . # والرب تبارك وتعالى منزه عن كل نقص، قال تعالى: (ولقد خلقنا السماوات ~~والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)) (4) ، وقال تعالى: ~~(وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم (255)) (5) ~~قالوا: لا يكرثه ولا يثقل عليه. # وإذا كان القيوم الذي لا يزول فقد دخل في ذلك أنه لا يأفل، كما قال ~~الخليل - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحب الأفلين (76)) (6) ، فإنه من ~~المعلوم أن أفول الشمس والقمر والكواكب أبلغ في النقص من زواله إذا كان ~~الآفل غاب واحتجب، ولم يبق له في عابده فعل ولا نفع، ولا يمكن عابده أن ~~يوجه وجهه إليه، بخلاف زوال الشمس، فإنه فيه نقص لها وانخفاض وانحطاط عن ~~حال كمال ارتفاعها. والزوال بدء حصول الأفياء المزيلة لشعاعها، فإن الظل ~~يكون ممدودا قبل طلوعها، كما PageV01P056 # قال تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا ~~الشمس عليه دليلا (45) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (46)) (1) . فإذا طلعت ~~انبسط شعاعها على وجه الأرض، ونسخ الظل الذي يقع عليه، فنسخ الظلال الشرقية ~~كلها، ولا يزال ينسخ الغربية شيئا بعد شيء حتى تستوي الشمس، فيكون قد نسخ ~~الظلال الشرقية والغربية جميعا، وهذا غاية نسخ الشمس الظلال. فإذا زالت ~~انحطت وانخفضت، ففاءت الأفياء. والفيء اسم للظل الذي بعد الزوال، والظل يعم ~~ما قبله وما بعده، لأنه يفيء الفيء ويعود، فيعود الفيء إلى ناحية المشرق، ~~بعد أن كان قد نسخ عنها، ولا يزال الفيء يمتد ويطول كلما انخفضت الشمس إلى ~~أن تغرب، فيعود الظل ممدودا بأفولها، كما يكون ممدودا قبل طلوعها، فكان ~~أفولها غاية بطلان أثرها في ذلك الزوال، مبدأ ذلك بالأفول، كما نقصها الذي ~~ابتدأ من الزوال، وكأنه كمال زوالها. ولهذا فسر دلوكها بهذا وبهذا في ms0014 قوله ~~عز وجل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) (2) ، فطائفة من السلف ~~قالوا: دلوكها غروبها، والتحقيق أن الزوال أول دلوكها، والغروب كمال ~~دلوكها، فمن حين الزوال إلى الغروب دالكة، كما هي زائلة بارحة، ولهذا سميت ~~"براح"، ويقال: دلكت براح. ولهذا قال تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى ~~غسق اليل) ، فالدلوك يتناول الظهر والعصر، وغسق الليل يتناول المغرب ~~والعشاء، وصلاة العشي (3) فيها مشترك عند الحاجة. وكذلك صلاة العشاء، فإن ~~ذلك كله دلوك، وهذا كله PageV01P057 # غسق، ولا يجوز تفويت صلاة غسق الليل إلى الفجر لدلوك الغسق # الليل، كما لا يجوز تفويت صلاة الفجر إلى غسق الليل (1) . قال - صلى الله ~~عليه وسلم - # في الحديث الصحيح: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" (2) . # وقال أيضا - صلى الله عليه وسلم -: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله" ~~(3) . وهي # الصلاة الوسطى، كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة (4) ، وهي # بين صلاتي ليل وصلاتي نهار. # فالحي القيوم سبحانه وتعالى الذي لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل # قد زال قطعا، واسم "القيوم" تضمن أنه لا يزول، ولا ينقص شيء # من صفات كماله، ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم # يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال. وهذا يتضمن كونه قديما، # فالقيوم يتضمن معنى القديم، وزيادات صفات الكمال دوامها الذي # لا يدل عليه لفظ القديم. ويتضمن أيضا كونه موجودا بنفسه، وهو # معنى كونه واجب الوجود، فإن الموجود بغيره كان معدوما ثم وجد، # وكل مفعول فهو محدث، وتقدير قديم أزلي مفعول كما يقوله بعض # المتفلسفة باطل في صريح العقل، وهو خلاف ما عليه جماهير العقلاء # المتقدمين والمتأخرين. # فالقيوم الذي لم يزل ولا يزال لا يكون إلا موجودا بنفسه، PageV01P058 # والموجود بنفسه لا يكون إلا قديما واجب الوجود، فإن وجوده [لو] . # لم يكن واجبا لكان ممكنا، يمكن وجوده ويمكن عدمه، وما أمكن وجوده وعدمه ~~لم يكن إلا محدثا كائنا بعد أن لم يكن. فليس هو القيوم الذي لا يزول، بل لم ~~يزل ولا يزال. # ومن الناس من يطلق هنا ms0015 أنه لم يزل ولا يزال ولا يكون بغيره (1) ، وهذا إن ~~كان لغة فكونه موجودا بنفسه من معاني كونه قيوما، أو، إذا ما وجد بغيره ليس ~~هو قيوما، لحاجته إلى من يوجده ويقيمه، بل ليس له من القيومية بنفسه، إذ هو ~~دائما محتاج فقير إلى القيوم، وما كان موجودا بنفسه يمتنع أن يكون معدوما ~~تارة وموجودا أخرى، [وما] كان ممكنا محدثا لم يكن وجوده بنفسه، فإن ما ~~وجوده بنفسه وجوده ملازم له لا يكون معدوما قط، بل من تصورت نفسه تصور أنه ~~موجود، والمعدوم يتصور نفسه معدومة وموجودة أخرى، فليس الوجود ملازما لها. # فقد تبين أن الوجود الواجب القديم وما يستلزم ذلك من صفات الكمال ودوام ~~ذلك وبقائه، كل ذلك يدخل في اسمه "القيوم"، واقترانه بالحي يستلزم سائر ~~صفات الكمال، ف ### | جميع صفات الكمال يدل عليها اسم "الحي القيوم"، # ويدل أيضا على بقائها ودوامها وانتفاء النقص والعدم عنها أزلا. ولهذا كان ~~قوله سبحانه وتعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أعظم آية في كتاب ~~الله عز وجل، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ~~والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ~~محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. PageV01P059 ### | قاعدة جليلة # في إثبات علو الله تعالى على جميع خلقه # PageV01P061 # بسم الله الرحمن الرحيم # قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية ~~رضي الله عنه: # قاعدة جليلة بمقتضى النقل الصريح في إثبات علو الله تعالى الواجب له على ~~جميع خلقه فوق عرشه، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة والإجماع والعقل الصريح ~~الصحيح والفطرة الإنسانية الصحيحة الباقية على أصلها. # وهي أن يقال: كان الله ولا شيء معه، ثم خلق العالم، فلا يخلو: إما أن ~~يكون خلقه في نفسه واتصل به، وهذا محال، لتعالي الله عز وجل عن مماسة ~~الأقذار والنجاسات والشياطين والاتصال بها. # وإما أن يكون خلقه خارجا عنه ثم دخل فيه، وهذا محال أيضا، لتعالي الله عز ~~وجل عن الحلول ms0016 في المخلوقات. وهاتان الصورتان مما لا نزاع فيها بين ~~المسلمين. # وإما أن يكون خلقه خارجا عن نفسه ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز ~~غيره، ولا يقبل الله منا ما يخالفه، بل حرم علينا ما يناقضه. # وهذه الحجة هي من بعض حجج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، التي احتج ~~بها على الجهمية في زمن المحنة. ولهذا قال عبد الله بن المبارك فيما صح عنه ~~أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: # PageV01P063 # بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه (1) . # وعلى ذلك انقضى إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع الأئمة الذين لهم ~~في الأمة لسان صدق، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله. # ومن ادعى أن العقل يعارض السمع ويخالفه فدعواه باطلة، لأن العقل الصريح ~~لا يتصور أن يخالف النقل الصحيح. وإنما المخالفون للكتاب والسنة والإجماع، ~~والمدعون حصول القواطع العقلية إنما معهم شبه المعقولات لا حقائقها، ومن ~~أراد تجربة ذلك وتحقيقه فعليه بالبراهين القاهرة والدلائل القاطعة التي هي ~~مقررة مسطورة في غير هذا الموضع (2) . والله أعلم. # *** PageV01P064 ### | فتوى فيمن يدعي أن ثم غوثا وأقطابا وأبدالا # PageV01P065 # سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام حبر الأمة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد ~~الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه، فيمن يدعي أن ثم غوثا ~~وأقطابا وأبدالا وأولياء، وأن بهم يستسقى الغيث وتنزل الرحمة ويكشف العذاب، ~~وإذا غضب الله على أحد من أهل الأرض وأراد أن ينزل غضبه، نظر إلى قلوب ~~هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلا رفعه، وكذلك الرحمة والنصر ~~والرزق، وأن الغوث بمكة مقيم. ومن يدعي أن هؤلاء المولهين والبهاليل الذين ~~لا يصلون، ولا يتوقون نجاسة ولا غيرها. # فأجاب رضي الله عنه قائلا: # الحمد لله رب العالمين. الذي دل عليه الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة ~~وخلفها الصالحون المتبعون للسلف -: أن لله تعالى أولياء، كما له أعداء، ~~وأولياء الله هم المنعوتون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف ~~عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا ms0017 يتقون (63) لهم البشرى في ~~الحياة الدنيا وفى الأخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) ~~(1) . # وفي صحيح البخاري (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب ~~إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى ~~أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره PageV01P067 # الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي ~~يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. لئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ~~ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره ~~مساءته، ولابد له منه". # فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أولياء الله أنه ما يقرب ~~العباد إليه بمثل أداء الفرائض، ثم ذكر أنه لا يزال العبد يتقرب إليه ~~بالنوافل بعد الفرائض، حتى يحبه، فيصير العبد يسمع بالله، ويبصر بالله، ~~ويبطش بالله، ويمشي بالله، فيصير سمعه وبصره ومشيه وبطشه بيده لرضا الله ~~ومحبته، فإنه لما في قلبه من محبة الله وموالاته وعبادته وطاعته، يصير قلبه ~~منيبا إلى الله، ويصير ممن هداه الله واجتباه، فيجتبي قلبه إليه، ويقذف من ~~نوره في قلبه، كما قال تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى ~~به في الناس) (1) ، وقال تعالى: (يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وءامنوا ~~برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) (2) ، وقال تعالى: ~~(* الله نور السماوات والأرض مثل نوره) (3) قال محمد بن كعب: مثل نوره في ~~قلب المؤمن. # وقال تعالى: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى ~~به من نشاء من عبادنا) (4) . فإذا جعل الله في قلبه من نوره صار بذلك النور ~~يسمع ويبصر ويبطش ويمشي. # و ### | أولياء الله نوعان: # مقربون سابقون، ومقتصدون أبرار أصحاب PageV01P068 # يمين، كما ذكر الله هذين الصنفين في سورة الواقعة في أولها وفي آخرها، ~~فذكر تعالى أن الناس ثلاثة أصناف وقت القيامة الكبرى ms0018 ووقت الموت، فقال ~~تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) ~~وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10)) (1) . # وكذلك قال في آخر السورة: (فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان ~~وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين ~~(91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم ~~(94)) (2) . # وكذلك ذكر الأصناف الثلاثة في سورة هل أتى على الإنسان، وفي سورة ~~المطففين. وقد ذكر في سورة فاطر تقسيم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ~~ثلاثة أصناف في قوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ~~ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (3) ، فالظالم لنفسه: هو ~~المفرط بترك المأمور أو فعل المحظور، والمقتصد (4) : المؤدي للفرائض، ~~المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات: المؤدي للواجب والمستحب، والتارك ~~للمحرم والمكروه. # وأولياء الله المتقون ### | لهم كرامات يكرمهم الله بها، # فخواص أولياء الله المتبعون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يكون كراماتهم ~~إما لحجة في الدين، أو لحاجة للمسلمين، كما كانت معجزات الرسول - صلى الله ~~عليه وسلم - كذلك، فهم يتقربون إلى الله بما يكرمهم به من الخوارق، ويعبدون ~~الله بها، ويزدادون بها قربا إلى الله، لا يطلبون بها علوا في الأرض ولا ~~فسادا. PageV01P069 # وقد كان كثير من السلف يسمي من يسمي من هؤلاء الأبدال، وقد قيل في معنى ~~الأبدال (1) : إنهم الذين بدلوا السيئات بالحسنات، كما قال تعالى: (إلا من ~~تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) (2) . ولا ريب ~~أن الصالحين من عباد الله لهم سبب في الرزق والنصر، كما قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص: "يا سعد، وهل تنصرون وترزقون إلا ~~بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . فهذا ونحوه حق جاء به الكتاب ~~والسنة، ولا وصول للخلق إلى رضوان الله وكرامته إلا بالإيمان برسله ~~وطاعتهم، فهم الوسائط والسفراء بين الله وبين خلقه، والأنبياء صلوات الله ~~عليهم وسلامه أفضل الخلق، فمن ظن أنه يصل إلى رضوان الله وكرامته بدون ~~اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو لأحد ms0019 من الخلق طريق إلى رضوان الله ~~وكرامته غير اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر ملحد. ومن ادعى ~~أن أحدا من أولياء الله الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ~~يصل إلى رضوان الله وكرامته بغير كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله ~~عليه وسلم - فهو ملحد ضال مفتر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا. بل محمد - ~~صلى الله عليه وسلم - رسول الله إلى جميع الخلق الثقلين إنسهم وجنهم، وهو ~~رسول الله إلى جميع الإنس: أسودهم وأحمرهم، وعربهم وعجمهم. # فأولياء الله المتقون هم العالمون العاملون بما بعث الله به محمدا - صلى ~~الله عليه وسلم -، ولا يكون لله ولي إلا من يتبع محمدا، ومن لم يتبع محمدا ~~فهو PageV01P070 # عدو الله، لا ولي له، وإن كان مع ذلك له أحوال شيطانية، يحصل له بها ~~مكاشفة وتصرف يعين بذلك أعداء محمد ويخفرهم، فهم من أعداء الله الملاعين، ~~لا من أوليائه المتقين. وهو من جنس السحرة والكهان الذين كانت الشياطين ~~تخبرهم ببعض المغيبات، وتساعدهم على بعض مطالبهم، وهؤلاء من أعداء الله ~~المجرمين، لا من أوليائه المتقين، بل هم كفار يجب قتلهم، بل يقتلون بلا ~~استتابة عند كثير من علماء المسلمين. # وأما أن يكون في العالم أحد من البشر لا ينزل الله رزقا أو نصرا أو هدى ~~إلا بواسطته، فهذا من أقوال المفترين الملحدين، وهو من جنس قول النصارى، ~~إما في المسيح، وإما في الباب. بل الناس يدعون الله، فيجيب دعاءهم، ويسمع ~~كلامهم. والمشركون كانوا يدعون الله إذا اضطروا، فيجيب دعاءهم، فكيف ~~بالمؤمنين! # وليس أحد من الخلق يكون هو الذي يرفع دعاء العباد كلهم إلى الله سبحانه ~~وتعالى، ولا لعباد الله الصالحين وأوليائه المتقين عدد معين، لا أربعة ولا ~~سبعة ولا اثنا عشر ولا أربعون ولا ثلاث مئة وثلاثة عشر، بل يكثرون تارة ~~ويقلون أخرى. وقد كان حين بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أول ~~الأمر كانوا من أقل الناس، ثم إنه بعد هذا انتشر الإيمان. # وقد أغرق الله أهل الأرض ms0020 في زمن نوح عليه السلام إلا من آمن معه، وما آمن ~~معه إلا قليل. # وفي الحديث الصحيح (1) أن الخليل عليه السلام قال لسارة لما طلبها ~~الكافر، وكان يأخذ امرأة الرجل إذا أعجبته، فقال الخليل لها: إذا سألك ~~PageV01P071 # فقولي إنك أختي، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك. # وقول القائل: إن الله إذا غضب على أحد من أهل الأرض وأراد أن ينزل به ~~العذاب، نظر إلى قلوب هؤلاء المذكورين، فإن وجدهم راضين بإنزال العذاب على ~~الذي قد استحقه أنزله، وإن لم يجدهم راضين بذلك رفعه- كذب مفترى، بل قد ~~أنزل الله العذاب على قوم لوط مع مجادلة إبراهيم الخليل عنهم. قال تعالى: ~~(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن ~~إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك ~~وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود (76)) (1) . # وقال تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما استغفر للمنافقين: (سوآء ~~عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (2) . # ومحمد وإبراهيم أفضلا الخلق، هذا خليل الله، وهذا خليل الله. # والخليل إبراهيم استغفر لأبيه. ثم لما مات أبو طالب قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "لأستغفرن لك مالم أنه عنك" (3) ، فانزل الله تعالى: (ما كان ~~للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما ~~تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (4) . فقال بعض المسلمين: إن إبراهيم قد ~~استغفر لأبيه، فأنزل الله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن ~~موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) (5) . PageV01P072 # وقد ثبت (1) أنه يوم القيامة يراجع الناس الشفاعة، فيأتون إلى آدم ليشفع ~~لهم، فيردهم إلى نوح، ويردهم نوح إلى إبراهيم، ويردهم إبراهيم إلى موسى، ~~ويردهم موسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى ~~سائر النبيين وال كل وسائر الصالحين، فإذا أتوا محمدا أفضل الشفعاء وأعظم ~~الخلق جاها عند الله قال: "فآتي ربي، فإذا رأيته خررت له ساجدا، وأحمد ربي ms0021 ~~بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، ~~وسل تعطه، واشفع تشفع". فلا يشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة، كما قال ~~تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) ، وقال تعالى: (ولا تنفع ~~الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (3) . # فإذا كان أفضل الخلق لا يشفع في أحد إلا بإذن الله عز وجل، فكيف يقال: إن ~~الله لا يعذب أحدا إلا إذا رضي هؤلاء أن يعذبهم؟ # ومعلوم أن العبد عليه أن يتبع رضا الله عز وجل، فيفعل ما أمر، ويرضى بما ~~قدر. وأما الرب عز وجل إذا أراد أن يهلك أعداءه هل يشاور أحدا، أو يتوقف ~~فعله على رضا أحد من عباده؟ بل هؤلاء العباد إن كانوا راضين بما أمرهم أن ~~يرضوا به، وإلا وجبت التوبة عليهم. إلا ترى أن الله تعالى لما أغرق أهل ~~الأرض، وأغرق فيهم ابن نوح الذي قال له نوح: (يا بنى اركب معنا ولا تكن مع ~~الكافرين (42) قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر ~~الله إلا من PageV01P073 # رحم) (1) . وبعد هذا دعا نوح ربه فقال: (رب إن ابنى من أهلى # وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)) (2) ، قال الله: (يا نوح إنه ليس من # أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم) (3) . فإذا كان الله ~~لما # استحق ابن نوح الهلاك أهلكه، وسأل نوح فيه فعاتب الله نوحا على # سؤاله، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فكيف يقال: إنه # لا يعذب أحدا إلا برضا طائفة من عباده؟ فهل يكون أحد أفضل من أولي العزم: ~~نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟ # وقد (اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو ~~شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هى إلا فتنتك) أي ~~محنتك واختبارك (تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فأغفر لنا ~~وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة ms0022 ... ) (4) ~~الآية. # وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن ~~يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض ~~جميعا) (5) . # فهذا حال الرسل مع الله يرد على من يغلو فيهم، فكيف يقال: إن له عبادا لا ~~يعذب أحدا إلا برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العباد لو أراد أن يهلكهم فمن يملك ~~دفع بأس الله عنهم؟ وهؤلاء العباد عليهم PageV01P074 # أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في ~~اليوم أكثر من سبعين مرة". # وفي صحيح مسلم (2) عن الأغر المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة". # وقال - صلى الله عليه وسلم - (3) : "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر ~~الله في اليوم سبعين مرة". # وثبت عنه في الصحيحين (4) أنه كان يقول: "اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي ~~وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما ~~أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت". # وهذا وأمثاله في دعاء الأنبياء وتضرعهم واستغفارهم وتوبتهم كثير في ~~الكتاب والسنة، وهم يسألون الله رحمته لهم ولغيرهم، ويستعيذون بالله من ~~عذابه أن ينزل بهم أو بمن يطلبون دفعه عنهم، فكيف يكون تعذيب رب العالمين ~~لمن شاء تعذيبه لا يكون إلا برضا بعض الناس؟. # لكن قد ثبت في الصحيحين (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر عليه ~~بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال: "وجبت"، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها ~~PageV01P075 # شرا، فقال: "وجبت"، قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت: # وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت: وجبت لها # النار، أنتم شهداء الله في الأرض". # وفي المسند (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشك أن ~~تعلموا أهل # الجنة من أهل النار"، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن # والثناء السيىء". # ف ### | أولياء الله ms0023 المتقون هم شهداء الله في الأرض، # بما جعله الله من # النور في قلوبهم، فمن أثنوا عليه خيرا كان من أهل الخير، ومن أثنوا # عليه شرا كان من أهل الشر. وأيضا فقد يدعون الله لمن يحبونه، فينفعه الله ~~بدعائهم، ويدعون على غيره، فيتضرر بدعائهم. # والملائكة يؤيد الله بهم عباده المؤمنين، كما قال تعالى: (ثم أنزل الله ~~سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) (2) ، وقال: (إذ ~~يوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا) (3) . وقال: (فأرسلنا ~~عليهم ريحا وجنودا لم تروها) (4) . وقال ### | .... # (5) . # وأما حزب الشيطان فيعاونهم الشياطين شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى: ~~(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم PageV01P076 # من الناس وإنى جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنى برئ ~~منكم) (1) . ### | .... # (2) . # فصل # ولفظ الغوث والقطب في حق البشر لم ينطق به كتاب ولا سنة، ولا تكلم به أحد ~~من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذا المعنى، بل غياث المستغيثين على ~~الإطلاق هو الله تعالى، كما قال: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) (3) . # ولم يجعل الله أحدا من الخلق غوثا يغيث الخلق في كل ما يستغيثونه فيه، لا ~~ملك ولا نبي ولا غيرهما. بل في الصحيحين (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: "لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول: ~~يا رسول الله أغثني أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا. يا عباس عم قد ~~أبلغتك". # وهذا كقوله (5) : "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا؛ يا عباس ~~عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا؛ يا صفيه عمة رسول الله، لا أغني ~~عنك من الله شيئا، سلوني ما شئتم". وهذا من تأويل قوله: (وأنذر عشيرتك ~~الأقربين (214)) (6) . PageV01P077 # وقد يكون بعض الناس سببا لشر يندفع في بعض الأمور، فيقال: فلان يستغيث ~~بفلان، كما قال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) (1) . ~~هذا كلفظ النصر والرزق والهدى، فالله هو الهادي النصير الرازق، وليس هذا ~~النعت ms0024 على الإطلاق لأحد إلا لله وحده، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل. لكن من ~~الخلق من يكون سببا في رزق أو هدى أو نصر يحصل لغيره، وهو في ذلك سبب، لا ~~يستقل بالحكم، بل لابد معه من أسباب أخر، ولابد من موانع يدفعها الله، وإلا ~~لم يحصل المطلوب. وأما أن يكون بشر أو ملك يغيث الخلق في كل ما يستغيثون ~~فيه بالله، فمن ادعى هذا فهو أكفر من النصارى من بعض الوجوه، فإن أولئك ~~قالوا: إن الله هو الذي يغيث، لكن زعموا أنه اتحد أو حل في المسيح، وهذا ~~جعل بعض المخلوقات يفعل ما يفعله الخالق. ومن زعم أن ثم غوثا يكون على يديه ~~ما ينزله الله من هدى ونصر ورزق، فقد افترى على الله، ليس ما ينزله الله في ~~ذلك على عباده لشخص واحد. # ومن ضلال بعض هؤلاء أنهم يجعلون الغوث مقيما بمكة دائما. # فيقال لهم: من هذا الغوث الذي كان غياث الخلق على عهد رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، ولم يكن أحد منهم مقيما بمكة؟ ومن كان ~~بمكة من هو أفضل من الرسول وخلفائه؟ وهؤلاء من جنس قول الإفرنج في "الباب"، ~~فإنهم يدعون فيه نحوا من ذلك. # وأما لفظ "القطب"، فما دار عليه أمر من الأمور قيل: إنه قطبه، كقطب الرحا ~~وقطب الفلك. فمن كانت له مرتبة من إمارة أو علم أو PageV01P078 # دين فهو قطب تلك الأمور التي دارت عليه، فالملك قطب الملك، والوالي قطب ~~الولاية، ونحو ذلك. وقطب الدين الذي يؤخذ عنه ولا يزاحمه أحد هو محمد - صلى ~~الله عليه وسلم -، ومن الصالحين من يجري الله على يديه من الخير ما يكون ~~قطب أمته. # وأما أن يكون للوجود قطب يدور عليه أمره، به ينزل المطر مطلقا، وبه يحصل ~~الهدى مطلقا، وبه يحصل النصر مطلقا، فهذا لا يكون لمخلوق البتة، ولكن قد ~~يكون من المخلوقين من يحصل به ما يحصل من نصر ورزق وهدى، كما قال النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: "وهل تنصرون وترزقون إلا ms0025 بضعفائكم، بدعائهم وإخلاصهم ~~وصلاتهم؟ " (1) . # ومن كان تاركا للصلاة مع قدرته على الصلاة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ~~قتل، وليس في هؤلاء من هو ولي لله، بل فيهم من معه شياطين توحي إليه ~~بأشياء، وتعاونه بأشياء، فيخبرون ببعض الأمور الغائبة كما كانت الكهان ~~تخبر، ويتصرفون في بعض الأمور بشياطينهم من جنس تصرف السحرة، فتارة يقتلون ~~الرجل، وتارة يمرضونه، إلى أمور أخرى من جنس الحوادث، فيظن من لا يعرف ~~حقيقة أمرهم أنهم أولياء الله وأن هذه كرامات، وقد يكون في هؤلاء من هو ~~كافر بالله. ومن هؤلاء من يصلي، ويكون له ذنوب كبائر يكون بها فاسقا، وله ~~شياطين تعينه. وطائفة ثالثة خير من هؤلاء، وهؤلاء فيهم خير ودين، وفيهم قلة ~~معرفة بأمر الله ونهيه، يقترن بهم جن من جنسهم، فتارة يطيرون بهم في ~~الهواء، فيذهبون بهم إلى مكة، ويقفون بعرفات من غير أن يحجوا الحج الذي أمر ~~الله به ورسوله، فلا يحرمون، ولا PageV01P079 # يلبون، ولا يجتنبون محظورات الإحرام، ولا يقيمون بمزدلفة، ولا يطوفون ~~بالبيت، بل يحملون في الهواء فيقفون بعرفات، ثم يحملون فيصبحون في بلدهم. ~~وهذا من تلاعب الشياطين بهم. # ومن ظن هذا من كرامات أولياء الله فهو جاهل، فإن هذا عمل محرم، ليس مما ~~أمر الله به ورسوله، فلا يحل لأحد أن يذهب إلى عرفات، فيقف مع الناس ~~بثيابه، من غير أن يحج الحج الذي أمر الله به ورسوله. بل قد روي أن عمر بن ~~الخطاب رأى بعرفات ناسا عليهم الثياب، فأراد أن يعاقبهم عقوبة بليغة. # والقلم لم يرفع إلا عن المجنون، وليس كل من رفع عنه القلم يكون وليا لله، ~~بل من المجانين من يكون يهوديا ونصرانيا ومشركا، فلا يكون وليا لله وإن رفع ~~عنه القلم، بخلاف من كان مؤمنا بالله وبرسوله وله صلاح ودين، فأصابه خلط ~~أفسد مزاجه، فهذا إذا غاب عقله رفع عنه القلم، وإذا صحا (1) تكلم بكلام أهل ~~الإيمان، و [له] قلب يحب الله ورسوله ويحب ما أحبه الله ورسوله. # وأما من اقترنت به الشياطين، وغيبت عقله ms0026 في بعض الأحوال، فهذا قد يتكلم ~~الشياطين على لسانه بالإثم والعدوان، ويبغض إليه ما يحبه الله من الطهارة ~~والصلاة والقرآن، ويحبب إليه ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان. ومن ~~علامات هؤلاء أنه لا يحصل لهم الخوارق عند أفعال الخير التي يحبها الله ~~ورسوله، كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء وقيام الليل، بل إنما يحصل إذا ~~أشركوا بالله، فاستغاثوا ببعض المخلوقين، أو عاشروا النسوان والمردان ~~معاشرة قبيحة، أو PageV01P080 # حضروا سماع المكاء والتصدية، وإذا اجتمعت المحرمات كانت أحوالهم أقوى. ~~فهذا مما يبين أنهم من حزب الشياطين وأوليائه، لا من حزب الرحمن وأوليائه، ~~قال تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ~~ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بينى ~~وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في ~~العذاب مشتركون (39)) (1) . # وأما الذين يسمونهم (2) الناس رجال الغيب، كالذين يظهرون بالأماكن التي ~~ليس فيها جمعة ولا جماعة ولا آثار الرسالة، بل يظهرون في الأماكن التي ~~ينفرد بها بعض الناس عن الجمعة والجماعة، إما جبل من الجبال، كجبل لبنان ~~وجبل الفتح وجبل الأحبس وغير ذلك من الجبال، وإما مغارة من المغارات، ~~كمغارة الدم، وإما غيرها، وإما غير ذلك من المواضع التي لم يأمر الله ~~ورسوله بقصدها للعبادة، وإنما يقصدها الجهال. فهؤلاء هم من الجن والشياطين، ~~وقد سماهم الله رجالا، كما قال: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من ~~الجن فزادوهم رهقا (6)) (3) . والكلام على هؤلاء وتفصيل أحوالهم وما عرفناه ~~من هذه الأمور يطول (4) ، وهذا مقدار ما وسعته هذه الورقة. # تمت هذه الورقات [من] الجواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على ~~سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. PageV01P081 ### | فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان # PageV01P083 # بسم الله الرحمن الرحيم # وبه الإعانة # الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز ~~عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)) (1) . # وقال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ~~يتلوا عليهم ms0027 ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (2) . # وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك ~~السماوات والأرض لا إله إلا هو يحى ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي ~~الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)) (3) . # وقال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين ~~آمنوا وكانوا يتقون (63)) (4) . # فمن كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، من أي صنف كان. # وفي الصحيحين (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أوليائي ~~المتقون PageV01P085 # حيث كانوا ومن كانوا". # وفي صحيح البخاري (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يقول ~~الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل ~~أداء ما افترضت عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا ~~أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ~~ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. ولئن سألني ~~لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض ~~نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه". # فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ### | أولياء الله نوعان: # المقربون السابقون، والأبرار أصحاب اليمين، هم الذين تقربوا إليه ~~بالنوافل بعد الفرائض. # والآخرون هم المؤدون للفرائض المجتنبون للمحارم، كما قال تعالى: (ثم ~~أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم ~~سابق بالخيرات) (2) . فالظالم لنفسه: هو صاحب الذنوب والخطايا؛ والمقتصد: ~~هو الذي يفعل ما فرضه الله عليه ويترك ما حرمه الله عليه؛ والسابق ~~بالخيرات: هو الذي لا يزال يتقرب إلى الله بما يقدر عليه من النوافل بعد ~~الفرائض. وهؤلاء هم المتبعون لخاتم المرسلين وإمام المتقين وأفضل خلق الله ~~أجمعين محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما، الذي بعثه الله إلى الناس ~~بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة، ~~وأرشد به من الغواية، وفتح به PageV01P086 # أعينا عميا وآذانا صما ms0028 وقلوبا غلفا، حين فرق الله به [بين] الحق والباطل، ~~وبين المعروف والمنكر، وبين الخير والشر، وبين طريق الجنة وطريق النار، ~~وبين أولياء الله وأعداء الله. # فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والطريق إلى الله هو ~~طاعة أمره، فلا طريق إلى الله إلا متابعة رسول الله. # قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ~~ذنوبكم) (1) . # وقال تعالى: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في ~~السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)) (2) . # وقد بعث الله محمدا بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، فقال - صلى الله عليه ~~وسلم -: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول ~~الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت" (3) . # وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ~~ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره". وقال: "الإحسان أن تعبد ~~الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4) . # فقد بين شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، فكل من دعا إلى شريعة أو حقيقة ~~تخالف ما بعثه الله به فهو ضال من إخوان الشياطين، خارج PageV01P087 # عن طريق الله ودين المرسلين، ليس من أولياء الله المتقين ولا حزب الله ~~المفلحين ولا عباده الصالحين. # وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في ~~خطبته: "إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور ~~محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". # وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ~~بليغة ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! # كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، ~~فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كبيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء ~~الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ~~ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. # ف ### | من سلك مسلك المبتدعين الضالين لم يكن من ms0029 أولياء الله # المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، مثل الذين يظهرون الإشارات ~~الشيطانية، كإشارة الدم والسكر والنيل واللادن وماء الورد والزعفران، ~~وملابسة النيران، فحين يلبسهم الشيطان قد يزيد أحدهم، ويتكلم الشيطان على ~~لسانه كما يتكلم الجن على لسان المصروع، وإذا أفاق من سكره لم يعرف ما تكلم ~~به الشيطان على لسانه، كما لا يعرف المصروع إذا أفاق ما تكلم به الشيطان ~~على لسانه، ومثل أكل الحيات والعقارب والزنابير، وأكل آذان الكلاب والحمير، ~~وغير ذلك PageV01P088 # من الخبائث التي يأكلونها، والمنكرات التي يفعلونها، مثل الرقص على ~~الغناء والمزامير، ورفع الأصوات بالخوار كما يخور الثور، وقد قال تعالى: ~~(واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)) (1) . ~~وهؤلاء الضلال الغواة حزب الشيطان لا يقصدون في مشيهم، ولا يغضون من ~~أصواتهم، بل يرفعون الأصوات المنكرات، ويرقصون كرقص الدباب ونحوها من ~~الحيوانات، ويعرضون عن كتاب الله وسنة رسوله، فلا يرغبون في سماع كلام الله ~~وكلام رسوله وكلام الصحابة كما يرغبون في سماع مزامير الشيطان، بل سماع ~~مزامير الشيطان أحب إليهم من سماع كلام الملك الرحمن. # وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدا ~~منهم أن يقرأ، والباقي (2) يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى ~~الأشعري: يا أبا موسى! ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون. # ومر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فقال: ~~"مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع لقراءتك"، فقال: يا رسول الله! # لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا (3) . # وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعالمين والعارفين، كما بين ~~الله ذلك في كتابه، قال تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ~~ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا ~~PageV01P089 # إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)) (1) . # وقال تعالى: (* وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ~~مما عرفوا من الحق) (2) . # وقال تعالى: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم ms0030 يخرون للأذقان ~~سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون ~~للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109)) (3) . # وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود ~~الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (4) . # وقال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) (5) . # وأما اتخاذ التصفيق والغناء والمزامير قربة وطاعة وطريقا إلى الله، فهذا ~~من جنس دين المشركين الذين قال الله فيهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا ~~مكاء وتصدية) (6) . والمكاء: هو التصويت بالفم، كالصفير والغناء، والتصدية: ~~التصفيق باليد. فذم الله هؤلاء المشركين الذين يجعلون هذا قائما مقام ~~الصلاة. # وأهل البدع والضلالة أتباع الشيطان يحبون السماع بالدف والكف أكثر مما ~~يحبون سماع القرآن، ويرون ذلك طريقا لهم يقدمونه على PageV01P090 # استماع القرآن، [و] يختارون سماع أبيات الشيطان على سماع آيات الرحمن. ~~وقد قال عبد الله بن مسعود (1) : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت ~~الماء البقل، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل. # ولهذا كان هؤلاء المبتدعون الضالون أتباع الشيطان لا تأتيهم الإشارات ~~الشيطانية إلا عند الباع التي لم يشرعها الله ولم يأذن بها، مثل اجتماعهم ~~على سماع أبيات الشيطان ومزاميره، لاسيما إذا كان هناك جيران من الصبيان ~~وأخواتهم من النسوان، فهنالك يكون أظهر لحال الشيطان. # سمعوا القران فاطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاه # أما الغناء فكالحمير تناهقوا والله مارقصوا من أجل الله # دف ومزمار ونغمة شاهد فمتى رأيت عبادة بملاهي # يا أمة ما ضر دين محمد وجنى عليه ومن له إلا هي # وأيضا فهم يشركون بالرحمن، فيستغيثون بالمخلوق الميت والغائب، يرجونه ~~ويخافونه ويدعونه، وهو لا يسمع كلامهم ولا يرى مكانهم، ولكن الشياطين قد ~~تخاطبهم وقد تتمثل في صورته، فيظنونه أن ذلك هو المسيح المستغاث به، وإنما ~~هو شيطان تمثل لهؤلاء المشركين، كما تتمثل الشياطين للنصارى في صورة من ~~يستغيثون به مثل جرجس وغيره، مثل ما تدخل الشياطين في الأصنام، وتكلم ~~عابديها أحيانا، مثل ما كان يجري للمشركين من العرب، ومثل ما يجري للمشركين ms0031 ~~من الترك والهند وغيرهم. فإذا حضر أولياء الله المتقون وحزبه PageV01P091 # المفلحون وجنده الغالبون، فذكروا الرحمن وقرأوا آية الكرسي ونحوها من ~~آيات القرآن نزلت الملائكة، فطردت الشياطين، وبطلت أحوالهم. كما قال النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب ~~الله ويتدارسونه إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وحفتهم ~~الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" (1) . و"من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى ~~فراشه لم يزل عليه من الله حافظ، لا يقربه شيطان حتى يصبح" (2) . كما صدق ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخبر بذلك. # وهؤلاء المبتدعون الضالون يجب على كل قادر أن ينهاهم عن هذه البدع ~~المضلة، ويذم من يفعلها، فإن لم ينته وإلا عاقبه بما يستحقه شرعا، وأقل ذلك ~~أن يهجرهم، فلا يقربهم ولا يعاشرهم حتى يتوبوا، ويتبعوا الكتاب والسنة ~~والطريق التي بعث الله بها رسوله، ولا يعطون من الزكاة حتى يتوبوا، فإن ~~الزكاة جعلها الله رزقا لمن يعبده ويطيعه ويطيع رسوله من عباده المؤمنين، ~~فلا يعان بها أهل البدع الضالين الذين يضلون الناس عن سبيل الله، ويدعونهم ~~إلى خلاف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. # والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيد المرسلين محمد وآله ~~وصحبه أجمعين، كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون، وسلم تسليما ~~كثيرا. والله الموفق للصواب. # (تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبي ~~العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه، ~~وجعل الجنة منقلبه ومثواه) . PageV01P092 ### | مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال # PageV01P093 # مسألة # عن الأحوال وأرباب الأحوال، هل هم قسمان: أولياء لله تعالى أحوالهم ~~ربانية؛ وأولياء للشيطان أحوالهم شيطانية؟ وإذا كان كذلك فما الفرق بين ~~هؤلاء وهؤلاء؟ فإن جماعة من الناس انحرفوا، حتى أنكروا كرامات الأولياء، ~~وآخرين اعتقدوا كل خارق دليل (1) على الولاية الرحمانية. # أجاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد ~~السلام ابن تيمية - أيده الله ووفقه لما يرتضيه بمنه وكرمه ms0032 -: # الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة من أعظم المسائل التي يحتاج إليها ~~جميع الناس، فإنه من لم يفرق بين الخوارق التي تكون آيات وبراهين ومعجزات ~~للأنبياء، وتكون مما يكرم الله به الأولياء؛ وبين الخوارق التي تكون للسحرة ~~والكهان وغيرهم من حزب الشيطان، وإلا (2) اشتبه عليه الأنبياء وأتباعهم ~~أولياء الله المتقون بالمنتسبين الكذابين وشبههم الكذابين الضالين. # ولهذا اضطرب في هذا الأصل كثير من أهل النظر والكلام في أصول الدين ~~والعلوم الإلهية، ومن أهل العبادة والزهد والفقراء والصوفية. وأما اشتباه ~~ذلك على عموم الناس ومن شدا طرفا من العلم أو كان له حظ من العبادة، فأعظم ~~من أن يوصف. PageV01P095 # والله سبحانه بعث رسوله وأنزل كتابه لبيان الفرق بين هذا وهذا، وختمهم ~~بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل رسول بعثه بأفضل كتاب إلى أفضل أمة ~~بأفضل شريعة، فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي ~~والرشاد، وأولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجند الله المفلحين وحزب إبليس ~~اللعين. وقد بسط الكلام عليه [في] غير هذا الموضع، مثل "بيان الفرقان بين ~~أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لأجل سؤال من سأل عن ذلك من أهل الملك ~~والعلم والدين. # فمن أنكر كرامات أولياء الله المتقين فهو من أهل البدع الضالين، كمن أنكر ~~ذلك من المعتزلة وغيرهم، ولهذا كان أفضل متأخريهم أبو الحسين البصري مقرا ~~بكرامات أولياء الله المتقين، وإن كان بعض أهل الإثبات -كأبي إسحاق ~~الإسفرايني- وافق المعتزلة على إنكار الكرامات. فإنكار كرامات أولياء الله ~~المتقين قول مبتدع في الإسلام، مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف الماضين ~~وأئمة الدين، بل من أنكر خوارق أهل السحر وأتباع الشياطين فهو من أهل البدع ~~الضالين، كما أنكر طائفة من الفلاسفة والأطباء وجود الجن، وأنكر كثير من ~~المعتزلة أن يدخلوا في الإنسان ويصرعوه ويتكلموا على لسانه. فكلا القولين ~~من الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة وأقوال الأئمة، بل من المخالف ~~لصحيح المنقول وصريح المعقول، وإن كان إنكار الجن كفر ظاهر (1) ، فكثير ما ~~في الكتاب والسنة من ذكرهم، بخلاف دخولهم في الإنسان فإنه أخفى، ولهذا ms0033 كان ~~إنكار الثاني بدعة وإنكار الأول إلحادا ظاهرا. PageV01P096 # والمقصود [أن] من أنكر خوارق العادات مطلقا للأنبياء وغيرهم فهذا كافر ~~باتفاق أهل الملل، وكذلك إن جعل ذلك من قوى النفس، كما يقوله ابن سينا ~~وأمثاله من المتفلسفة، فهؤلاء ملحدون باتفاق أهل الملل، وقد بسط الكلام على ~~هؤلاء في مجلد كبير يسمى "الصفدية" وغيرها. # ومن قال إن العادات لا تخرق إلا للأنبياء، وأنكر الكرامات والسحر الخارق ~~للعادة، فهو من أهل البدع الخارجين عن الجماعة كأكثر المعتزلة. وكذلك من ~~قال: إنها لا تخرق إلا للأنبياء والأولياء، وجعل يستدل بمجرد خرق العادة ~~على أن من خرقت له العادة كان وليا لله، وإن كان مخالفا للكتاب والسنة. ~~فهؤلاء ضالون، وهم شر من المعتزلة، وهم من جنس أتباع الدجال وأتباع مسيلمة ~~الكذاب والأسود العنسي وغيرهم من الكذابين. # ولهذا اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء ~~لم يعتبر حتى ينظر متابعته لأمر الله ونهيه. فإن هؤلاء يستلزم أقوالهم أن ~~يجعلوا كثيرا من المشركين وأهل الكتاب - اليهود والنصارى - من أولياء الله ~~المتقين، فإن لهؤلاء خوارق كثيرة، فمن أنكر وجودها كان كمن أنكر خوارق ~~الأولياء وأنكر السحر والكهانة، ومن أقر بوجودها وجعلها دليلا على أن ~~صاحبها ولي لله فهو جعل خوارق السحرة والكهان دليلا على أنهم أنبياء ~~وأولياء الرحمن، وكلا القولين يوجب الخروج عن دين الإسلام، والخروج من ~~النور إلى الظلام. بل يجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء بما بينه الله من ~~الآيات والبراهين، وبما بعث به سيد المرسلين، فيعلم أن أولياء الله هم ~~المذكورون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم # PageV01P097 # يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا ~~وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) . # فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وهم نوعان: الأبرار وأصحاب اليمين؛ ~~والسابقون المقربون. فالأولون هم المقربون إلى الله بفعل ما فرضه وترك ما ~~حذره؛ والآخرون هم الذين يتقربون إليه بعد الواجبات بالنوافل المستحبات، ~~كما روى البخاري ms0034 في صحيحه (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما ~~تقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ~~حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده ~~التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي ~~يمشي. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا ~~فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له ~~منه". # فقد بين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث نوع أولياء الله المتقربين ~~بالفرائض، # ونوع أهل النوافل بالمحبة. ومالم يكن من الواجبات ولا من المستحبات، ولم ~~يأمر الله به ورسوله لا أمر إيجاب ولا استحباب، ولا فضله الله ورسوله ~~بالترغيب فيه، فليس من الأعمال الصالحة، وليس من العبادات التي يتقرب بها ~~إلى الله، وإن كان كثير من عباد المشركين وأهل الكتاب والمبتدعين يتقربون ~~بما يظنونه عبادات، PageV01P098 # وليس مما أوجب الله ورسوله ولا أحبه الله ورسوله، فهؤلاء ضالون مخطئون ~~طريق الله. # وهم في الضلال درجات: فمنهم كافر، ومنهم فاسق، ومنهم مذنب، ومنهم مؤمن ~~مخطىء أخطأ في اجتهاده. والخوارق التي تحصل بمثل هذه الأعمال التي ليست ~~واجبة ولا مستحبة، بل هي من الأحوال الشيطانية، لا مما يكرم الله به ~~أولياءه. كالخوارق التي تحصل بالشرك والكواكب وعباداتها، وعبادة المسيح ~~والعزير وغيرهما من الأنبياء، وعبادة الشيوخ الأحياء والأموات، وعبادة ~~الأصنام، فإن هؤلاء قد تجعل لهم أرواح تخاطب ببعض الأمور الغائبة، ولكن ~~لابد أن يكذبوا مع ذلك، كما قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ~~(221) تنزل على كل أفاك أثيم (222)) (1) . وقد تقتل بعض الأشخاص أو تمرضه، ~~وقد تأتيه بما تسترقه من الناس، إما دراهم وإما طعام وإما شراب أو لباس أو ~~غير ذلك. وهذا كثير جدا. # فمن كذب بمثل هذه الخوارق فهو جاهل بالموجودات، ومن ظن أن هذه كرامات ~~أولياء الله ms0035 المتقين فهو كافر بدين رب الأرض والسماوات، بل هذه من جنس ~~أحوال الكهنة والسحرة، مثل مكاشفة عبد الله بن صياد للنبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، وكان قد ظنه بعض الصحابة الدجال، ولم يكن هو الدجال، وتوقف فيه ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تبين له أنه ليس هو الدجال، لكن كان له ~~حال شيطاني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد خبأت لك خبيئة" (2) ~~، فقال: الدخ الدخ، وكان قد خبأ له سورة الدخان، PageV01P099 # فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اخسأ، فلن تعدو قدرك، فإنما أنت ~~من إخوان الكهان". وقال له (1) : "ما ترى؟ " قال: أرى عرشا على الماء، ~~وقال: يأتيني صادق وكاذب. وذلك العرش هو عرش إبليس. وقد ثبت في صحيح مسلم ~~(2) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان ينصب عرشه على ~~البحر، ويبعث سراياه". # وأما كرامات أولياء الله تعالى فيها الإيمان والتقوى، سببها ما أمر الله ~~به من الأعمال الواجبات والمستحبات، وأكابر أولياء الله يقتدون بنبيهم - ~~صلى الله عليه وسلم -، فلا يستعملون الخوارق إلا لحاجة المسلمين، أو لحجة ~~في الدين، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تجري الخوارق على ~~يديه لحجة للدين أو لحاجة المسلمين، كتكثير الطعام والشراب عند الحاجة. # و ### | الأحوال التي تحصل عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلها شيطانية، # ولهذا تبطل أحوالهم إذا قرئت عليهم آية الكرسي، فإنها تطرد الشيطان، وإذا ~~أرادوا (3) دعوا شيوخهم وتوجهوا إلى ناحيتهم جاءتهم الشياطين، وقد تتكلم ~~على ألسنتهم حال الوجد الشيطاني بكلام لا يفهمه صاحبه إذا أفاق، كما يتكلم ~~الجني على لسان المصروع، وقد يطير أحدهم في الهواء. فهذا ونحوه من الأحوال ~~الشيطانية. # وأما كرامات أولياء الله كمثل ما جرى للعلاء بن الحضرمي لما غزا البحرين، ~~فمشى هو والعسكر الذي معه بخيولهم على البحر، فما PageV01P100 # ابتلت لبود سروجهم. وكذلك أبو مسلم الخولاني ومن معه، ومثل صلاة أبي مسلم ~~ركعتين لما ألقاه الأسود العنسي في النار، فصارت عليه بردا وسلاما. # وقد بسطنا هذا في "بيان الفرقان بين ms0036 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (1) ~~، وهذا قدر ما احتملته الورقة. والله أعلم. # *** PageV01P101 ### | مسألة في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه # PageV01P103 # مسألة # سئل الشيخ الإمام العالم الأوحد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ~~بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه، في رؤية ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل، هل كانت بعين رأسه أم بقلبه؟ # الجواب # الحمد لله. أما رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه بعين رأسه في ~~الدنيا فهذا لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من ~~الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المشهورين، لا أحمد بن حنبل ولا غيره. ولكن ~~الذي ثبت عن الصحابة - كأبي ذر وابن عباس وغيرهما - والأئمة كأحمد بن حنبل ~~وغيره أنه يقال: رآه بفؤاده، كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن ابن عباس أنه ~~قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين. # وقد ثبت عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله ~~الفرية (2) . # ولم ترو عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئا، ولا روى أبو ~~بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئا. وأما الحديث الذي يذكره ~~بعض الجهال أنه قال لعائشة: "لم أره"، وقال لأبي بكر: "بل رأيته"، وأنه ~~أجاب كل واحد على قدر عقله - فهذا كذب، ولم يرو هذا الحديث أحد من علماء ~~المسلمين، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعروفة. PageV01P105 # ثم من العلماء من جمع بين قول عائشة وقول ابن عباس، وقال: إن عائشة أنكرت ~~رؤية العين، وابن عباس ذكر رؤية الفؤاد، ولا منافاة بينهما. ومنهم من ~~جعلهما قولين مختلفين. وأكثر أهل السنة يرجحون قول ابن عباس، لما فيه من ~~الإثبات، ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رأيت ربي" ~~(1) . وليس في شيء من الحديث الثابت أنه قال: رأيت ربي بعيني، بل قد روى ~~بعضهم هذه الأحاديث التي فيها رؤية العين، كأبي بكر الخلال، ونصر هذا القول ~~طائفة ms0037، منم القاضي أبو يعلى. # وذكر عن أحمد في الرؤية ثلاث روايات (2) : رواية أنه رآه بعين رأسه، ~~ورواية بعين قلبه، ورواية أنه يقول: رآه، ولا يقول: بعين رأسه، ولا بعين ~~قلبه. ونصر هذا طائفة من أهل الكلام من أتباع ابن كلاب، لكن رؤية العين عند ~~هؤلاء إنما هي زوال مانع في العين، [و] ليست الرؤية المعروفة عند سلف الأمة ~~وأئمتها، وهؤلاء إنما وافقوا ابن كلاب في مسألة الكلام فقط، وأما مسألة ~~الرؤية المناسبة فخالفوه فيها، وخالفوه أيضا فيما يثبته من الصفات الخبرية: ~~الرؤية والعلو وغيرهما، وإن كانوا ينتسبون إلى مذهبه لموافقتهم له في أكثر ~~أقواله، وأكثر هؤلاء يجعلون تكليم الله لموسى إفهامه الكلام القائم بالذات، ~~ويجعلون رؤيته إنما هي خلق الإرادة في العين فقط. فسلك طريق هؤلاء الجهمية ~~الاتحادية وغيرهم، وصار منهم من يزعم أن الله يكلمه كما كلم موسى بن عمران، ~~ومن يزعم أنه يرى الله في الدنيا بعينه من الحلولية والاتحادية، حتى ~~يقولون: إنهم يرون الله في كل PageV01P106 # صورة في الدنيا والآخرة. # واتفق هؤلاء غلاة المعطلة وغلاة المجسمة على أنه يرى في الدنيا بالعينين، ~~وحتى يزعموا (1) أنهم يؤاكلونه ويشاربونه ويجالسونه في الدنيا، وأمثال هذه ~~الترهات. # وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجميع علماء المسلمين على أن غير النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لا يرى الله في الدنيا (2) ، وثبت في الصحيح (3) عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى ~~يموت". # ولذلك اتفق الصحابة وسلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة ~~بالأبصار عيانا كما يرى الشمس والقمر، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -. فمن قال: إنه لا يرى في الآخرة فهو جهمي ضال، ومن ~~قال: إن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - يراه في الدنيا بالفؤاد فهو أيضا ~~مبتدع ضال كاذب، والحلولية والاتحادية يجمعون بين النفي # والإثبات. ومن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه بعينه في الدنيا ~~فهو أيضا غالط، قائل قولا لم يقله أحد من ms0038 الصحابة ولا الأئمة. # والمنقول في رؤية العين في الدنيا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كله ~~كذب موضوع باتفاق أهل العلم. وكذلك عن أحمد، فإنه لم يقل قط: إنه رآه ~~بعينه، وإنما قال مرة: رآه، ومرة قال: بفؤاده، وأنكر على من أنكر مطلق ~~الرؤية، وذكر أنه يتبع ما نقل في ذلك من الآثار، وروى بإسناده عن أبي ذر ~~أنه رآه بفؤاده. PageV01P107 # وقد ثبت في صحيح مسلم (1) أن أبا ذر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وقال: هل رأيت ربك؟ فقال: "نور، أنى أراه! ". وفي لفظ: "رأيت نورا". فأبو ~~ذر هو السائل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجابه النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - بهذا الجواب. وقد روى بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده، واتبع ~~أحمد ذلك. # وقد روي أحاديث فيها ذكر الرؤية، وأنه رآه في صورة كذا، وأنه وضع يده بين ~~كتفيه حتى وجد برد أنامله، وقال له: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: في ~~الكفارات والدرجات، وقال في آخره: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك ~~المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني ~~إليك غير مفتون". رواه الترمذي وغيره (2) ، وذكر تصحيحه. # وهذا الحديث ونحوه كلها رؤيا منام، وكانت بالمدينة بعد المعراج، وأما ~~أحاديث المعراج المعروفة فليس في شيء منها ذكر رؤيته البتة أصلا. # فالواجب اتباع الآثار الثابتة في ذلك وما كان عليه السلف والأئمة، وهو ~~إثبات مطلق الرؤية، أو رؤية مقيدة بالفؤاد. أما رؤيته بالعين ليلة المعراج ~~أو غيرها، فقد تدبرنا عامة ما صنفه المسلمون في هذه المسألة وما نقلوا فيها ~~قريبا من مئة مصنف، فلم نجد أحدا روى بإسناد ثابت - لا عن صاحب ولا إمام - ~~أنه رآه بعين رأسه. والله أعلم. # *** PageV01P108 ### | قاعدة شريفة في تفسير قوله # (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم) # (كتبها بقلعة دمشق في آخر عمره) # PageV01P109 # بسم الله الرحمن الرحيم # (من كلام شيخنا الجديد الذي كتبه بقلعة دمشق في آخر عمره) # الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله ms0039 من شرور أنفسنا ومن سيئات ~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. # وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ~~صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. # فصل # في قوله تعالى (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا ~~يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14)) (1) . # القراءة المتواترة التي بها يقرأ جماهير المسلمين قديما وحديثا - وهي ~~قراءة العشرة وغيرهم -: "وهو يطعم ولا يطعم". وروي عن طائفة أنهم قرأوا: ~~"وهو يطعم ولا يطعم" بفتح الياء. قال أبو الفرج (2) : وقرأ عكرمة والأعمش: ~~"ولا يطعم" بفتح الياء. قال الزجاج (3) : وهذا الاختيار عند البصراء ~~بالعربية، ومعناه: وهو يرزق ويطعم ولا يأكل. PageV01P111 # قلت: الصواب المقطوع به أن القراءة المشهورة المتواترة أرجح من هذه، فإن ~~تلك القراءة لو كانت أرجح من هذه لكانت الأمة قد نقلت بالتواتر القراءة ~~المرجوحة. والقراءة التي هي أحب القراءتين إلى الله ليست معلومة للأمة، ولا ~~مشهودا بها على الله، ولا منقولة نقلا متواترا، فتكون الأمة قد حفظت ~~المرجوح، ولم تحفظ الأحب إلى الله الأفضل عند الله، وهذا عيب في الأمة ونقص ~~فيها. # ثم هو خلاف قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) (1) ، فإنه ~~على قول هؤلاء يكون الذكر الأفضل الذي نزله ما حفظه حفظا يعلم به أنه منزل، ~~كما يعلم الذكر المفضول عندهم. # وأيضا فللناس في هذه القراءة وأمثالها مما لم يتواتر قولان (2) : منهم من ~~يقول: هذه تشهد بأنها كذب، قالوا: وكل مالم يقطع بأنه قرآن فإنه يقطع بأنه ~~ليس بقرآن. قالوا: ولا يجوز أن يكون قرآن منقولا بالظن وأخبار الآحاد، فإنا ~~إن جوزنا ذلك جاز أن يكون ثم قرآن كثير غير هذا لم يتواتر. قالوا: وهذا مما ~~تحيله العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن، فكما لا يجوز ~~اتفاقهم على نقل كذب، لا يجوز اتفاقهم على كتمان صدق. # فعلى قول هؤلاء يقطع بأن هذه وأمثالها كذب فيمتنع أن ms0040 يكون أفضل من القرآن ~~الصدق. PageV01P112 # والقول الثاني: قول من يجوز أن تكون هذه قرانا وإن لم ينقل بالتواتر. ~~وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يقرأ بها في السبعة والعشرة، لا ~~يشترط فيها التواتر. وقد يقولون: إن التواتر منتف فيها أو ممتنع فيها. ~~ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف، وأما ~~كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغ ~~للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - تلفظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من ~~القطع بثبوته. وما كان تلفظه به على وجهين كلاهما صحيح المعنى، مثل قوله: ~~(وما الله بغافل عما تعملون (85)) (1) ويعملون (2) ، وقوله: (إلا أن يخافا ~~ألا يقيما حدود الله) (3) إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله (4) ، فهذه ~~يكتفى فيها بالنقل الثابت وإن لم يكن متواترا، كما يكتفى بمثل ذلك في إثبات ~~الأحكام والحلال والحرام، وهو أهم من ضبط الياء والتاء، فإن الله سبحانه ~~وتعالى ليس بغافل عما يعمل المخاطبون بالقرآن، ولا عما يعمل غيرهم، وكلا ~~المعنيين حق قد دل عليه القرآن في مواضع، فلا يضر أن لا يتواتر دلالة هذا ~~اللفظ عليه. بخلاف الحلال والحرام الذي لا يعلم إلا بالخبر الذي ليس ~~بمتواتر. # والعادة والشرع أوجب أن ينقل القرآن نقلا متواترا، كما نقلت جمل الشريعة ~~نقلا متواترا، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وأن صلاة PageV01P113 # الحضر أربع إلا المغرب والفجر، وأنه يخافت في صلاة النهار ويجهر في صلاة ~~الليل، ويجهر في صلاة الفجر وإن قيل: إنها من صلاة النهار، وأنها ركعتان ~~حضرا وسفرا، والمغرب ثلاث حضرا وسفرا، ونحو ذلك. # ثم كثير من الأحكام التي يعملها الخاصة دون العامة، تعلم بالأخبار التي ~~يعلمها الخاصة، كذلك بعض الحروف التي يضبطها الخاصة من القراء قد تكون من ~~هذا الباب. # وعلى هذا الوجه فيمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ ~~بتلك القراءة أكثر، ويعلمها لأمته أكثر، وجماهير الأمة لم تنقلها ولم ms0041 ~~تعرفها، فنقل جمهور الأمة لها خلفا عن سلف توجب أنها كانت أكثر وأشهر من ~~قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان قرأ بالأخرى، وإن كان لم يقرأ ~~بالأخرى لم تعدل بهذه. فنحن نشهد شهادة قاطعة أنه قرأ بهذه، وأن تلك إما ~~أنه لم يقرأ بها أو قرأ بها قليلا، والغالب عليه قراءته بهذه، لأنه يمتنع ~~عادة وشرعا أن تكون قراءته بتلك أكثر، وجمهور الأمة لم تنقل عنه ما هو أغلب ~~عليه، ونقل عنه ما كان قليلا منه. # فهذا من جهة نقل إعراب القرآن ولفظه. # فصل # وأما من جهة معناه ومفهومه فيقال: نفس القراءة المتواترة أرجح وأظهر ~~وأتم، وذلك من وجوه: أحدها: أن معنى هذه موافق لمعنى قوله في الآية الأخرى ~~(وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن ~~يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)) (1) . فقوله: (وما ~~أريد أن يطعمون (57)) PageV01P114 # نفي لإرادته منهم أن يطعموه، فهو نفي لإطعامهم، وهذا موافق لقوله (وهو ~~يطعم ولا يطعم) على البناء للمفعول. ولو أريد نظير تلك القراءة لقال: "فإني ~~لا أطعم" ونحو ذلك. ولا ريب أنه سبحانه منزه عن الأكل والشرب، بل الملائكة ~~لا تأكل ولا تشرب، فكيف بالسبوح القدوس رب الملائكة والروح؟ # وهذا المعنى قد دل عليه في مواضع: # منها: اسمه "الصمد"، فإن من معناه الذي لا يأكل ولا يشرب، كما قد بين هذا ~~في تفسير هذه السورة (1) . # ومنها: قوله (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه ~~صديقه كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ~~(75)) (2) . وهو سبحانه ذكر هذا بعد قوله: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو ~~المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من ~~يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ~~(72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن ~~لم ينتهوا عما يقولون ليمسن ms0042 الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون ~~إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد ~~خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ~~ثم انظر أنى يؤفكون (75)) (3) . PageV01P115 # فهذا كلام في سياق نفي الإلهية عن المسيح وغيره، وتكفير من قال: إنه ~~الله، أو إن الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذه وأمة إلهين من دون الله، فبين ~~غايته وغاية أمه، فقال (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ~~وأمه صديقه) ، وهو رد على اليهود والنصارى. # ثم قال: (كانا يأكلان الطعام) ، وهو يقتضي أن أكل الطعام مناف للإلهية، ~~فمن يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلها. ولولا منافاته للإلهية لم يذكر ~~دليلا على نفيها، فإن الدليل يستلزم المدلول عليه، فعلم أن أكل الطعام ~~يستلزم نفي الإلهية. # وقد ذكروا في ذلك وجهين (1) ، أشهرهما أن من يأكل ويشرب يعيش بالغذاء، ~~ومن يقيمة اكل والشرب كان مفتقرا إلى غيره، فلا يصلح أن يكون إلها. وهذا هو ~~الذي ذكره أكثر المفسرين. # وقال طائفة منهم ابن قتيبة (2) : إنه نبه على عاقبته، وهو الحدث، إذ لابد ~~لأكل الطعام من الحدث. قال: وقوله (انظر كيف نبين لهم الآيات) من ألطف ما ~~يكون من الكناية. # وهذا الوجه صحيح في حق المسيح وأمثاله من البشر في الدنيا، فإن أكلهم ~~الطعام يستلزم الحدث، وخروج الحدث من أبين الأشياء دلالة على انتفائه إلهية ~~من يبول ويغوط، وذلك أعظم من كونه يلد. والدليل يجب طرده ولا يجب عكسه، فلا ~~يلزم أن يكون كل من PageV01P116 # يتغوط أو من لا يأكل ويشرب إلها. كما أنه [لو] استدل على انتفاء الإلهية ~~بأنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، كان دليلا صحيحا، ولم يلزم أن يكون كل من ~~يتكلم ويسمع ويبصر إلها، بل انتفاء صفات الكمال يناقض الإلهية، وإن كان ~~ثبوت جنسها لا يستلزم إلهية. كما أنه إذا قيل: إن الإله يجب أن يكون موجودا ~~قائما بنفسه حيا عليما قديرا، فانتفاء هذه الأمور يستلزم انتفاء ms0043 الإلهية، ~~ولا يستلزم أن يكون كل موجود حي عليم قدير إلها. # وأما إن أريد بهذا الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من لزوم الحدث طرد ~~الدليل، فيحتاجون أن يفسروا الحدث بجنس الخارج من الآكل الشارب، فإن أهل ~~الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، كما ثبت ذلك في الأحاديث ~~الصحيحة (1) ، لهم رشح كرشح المسك، وهذا من جنس العرق الذي يخرج من المشام. ~~وهو أيضا ينافي الصمدية، فإن الصمد هو الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه ~~شيء، فخروج الخارج ولو كان كرشح المسك ينافي الصمدية التي هي من لوازم ~~البارىء، فيكون لزوم الحدث للأكل دالا على نفي إلهيته من هذه الجهة أيضا. ~~والصمدية هي المنافية للأكل والشرب وسائر ما يدخل ويخرج، كما قد بسط في ~~تفسير السورة (2) . # الوجه الثاني: أن هذه الآية لم تسق لبيان تنزهه عن الأكل، فإن ~~PageV01P117 # ذلك مبين فيما يناسب ذلك من السور التي فيها تنزيهه عن النقائص، ومن ~~الآيات الدالة على أن هذه النقائص مستلزمة لكون صاحبها مخلوقا لا إلها ونحو ~~ذلك. وإنما سيقت لبيان حاجة الخلق إليه وإحسانه إليهم، وبيان غناه عنهم ~~وامتناع إحسانهم إليه، فإنه يطعمهم وهم لا يطعمونه، وهذا الوصف دال على هذا ~~المقصود. كما إذا قيل: يعلمهم ولا يعلمونه، ويعطيهم ولا يعطونه. وهو من ~~معاني الصمد، أن كل ما سواه محتاج إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه، ثم كونه ~~في نفسه لا يأكل ولا يشرب مدح له وتنزيه من جهة أخرى، فإن نفس كونه يطعم ~~ولا يطعم وصف اختص به. فالحيوان إنسهم وجنهم وبهائمهم يأكلون، فإذا قدر ~~أنهم أطعموا فهم يطعمون، والملائكة وإن كانوا لا يأكلون ولا يشربون فهم لا ~~يطعمون الخلق، فليس من يطعم ولا يطعم إلا الله. وإذا قدر قادر يطعم غيره ~~ويحسن إليه ويرزقه، وأولئك لا يطعمونه ولا يرزقونه ولا يحسنون إليه، كان هو ~~المنعم عليهم، واستحق أن يشكروه، وإن كان هو يأكل ويشرب من ملكه، لكن ليس ~~هو محتاجا إليهم، ولا هم يحسنون إليه. # فتبين أن ms0044 هذا الوصف وصف مدع يختص به، ويبين ربوبيته وافتقار الخلق إليه ~~وإحسانه إليهم، وإذا قيل: وهو يطعم ولا يطعم، كان دلالته على هذا المعنى ~~بطريق اللزوم، فإنه إذا كان لا يطعم في نفسه امتنع أن يطعمه أحد. # الوجه الثالث: أن مجرد كون الشيء يطعم غيره ولا يطعمه يوجب المدح، فهذه ~~صفة كمال حيث كانت، وأما كون الشيء في نفسه لا يطعم ولا يأكل ولا يشرب، ~~فهذا إنما يكون مدحا في حق الكامل المستغني عن الطعام والشراب لكماله، وأما ~~من لا يطعم ولا # PageV01P118 # يشرب لنقصه، كالجامدات وكالحيوان المريض، فهذا ليس ممدوحا بذلك، فلو قدر ~~مريض موسر يطعم الناس، وهو في نفسه لا يطعم لمرضه، لم يمدح بأنه يطعم ولا ~~يطعم، والناس إذا لم يطعموه لكونه لا يطعم لمرضه ونقصه لم يكن ممدوحا بأنهم ~~لا يطعمونه، بخلاف ما إذا لم يطعم لغناه، فإنه يمدح بأنه يطعم ولا يطعم، ~~وإن كان هو في نفسه يأكل ويشرب من ماله، مع أن المريض لابد أن يطعم، وأما ~~ما لا يطعم بمال لنقصه كالجامدات، فالأرض يخرج منها صنوف الثمرات، وهي لا ~~تأكل لنقصها، فقد يقال: إنها تطعم ولا تطعم أي لا تأكل لنقصها، لكن هي ~~محتاجة إلى السقي والشرب، وهذا حاجة منها إلى ما يقيها ويغذيها. # ولهذا قال تعالى: (وهو يطعم ولا يطعم) ، فوصفه بالإثبات المطلق والنفي ~~العام، وصفه بأنه يطعم، وهذا مطلق يصلح أن يدخل فيه كل إطعام، كما إذا قيل: ~~يخلق ويرزق ويعطي ويمنع، كما في الحديث الصحيح الإلهي (1) : "يا عبادي! ~~كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من ~~أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني ~~أكسكم". وقال: (وما بكم من نعمة فمن الله) (2) ، وقال: (هل من خالق غير ~~الله يرزقكم من السماء والأرض) (3) ، وقال الخليل: (الذي خلقني فهو يهدين ~~(78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80)) (4) . ~~PageV01P119 # وفي الحديث المأثور أنه يقال على الطعام (1) : "الحمد لله الذي أطعمني ~~هذا ورزقنيه من غير حول مني ms0045 ولا قوة"، وأنه من قال ذلك غفر له. وفي الحديث ~~الآخر (2) : "الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، من علينا فهدانا، وأطعمنا ~~وسقانا، ومن كل خبر آوانا" (3) . وقد قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت ~~(3) الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف (4)) (4) . # وبالجملة فضرورة الخلق إلى الرزق دائما أمر باهر علما وذوقا ووجدا، فكونه ~~"يطعم" من أطعم بيان نعمه وكرمه وإحسانه، وقوله "ولا يطعم" نفي عام، فإن ~~الفعل نكرة في سياق النفي، فلا يطعمه أحد بوجه من الوجوه، فلا يكون أحد ~~محسنا إليه، ولا مكافئا له على هذه النعمة. كما رواه البخاري (5) عن أبي ~~أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا رفعت مائدته: "الحمد ~~لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا". # وأما إذا قيل: يطعم وهو لا يأكل، لم يكن المنفي عنه من جنس المثبت له، بل ~~ذكر تنزيهه عن الأكل، فلا يبين المقصود من أنه PageV01P120 # يحسن إليهم الإحسان الذي يضطرون إليه، مع أن أحدا من الخلق لا يحسن إليه، ~~فإن دلالة القراءة المشهورة على نفي إحسان الخلق إليه مع إحسانه إليهم أبين ~~من دلالة كونه لا يأكل، فإن تلك تدل على المدح مطلقا مع قطع النظر عن كونه ~~هو يأكل أو لا يأكل، حتى لو قدر على سبيل الفرض أنه يأكل لم يكن محتاجا ~~إليهم، ولا كانوا هم الذين يطعمونه، كما قال: (وما خلقت الجن والأنس إلا ~~ليبجون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو ~~الرزاق ذو القوة المتين (58)) (1) . # وقد نبهنا على هذا وأنه إذا كان مخلوق يحسن إلى غيره ويطعمه، وهو لا ~~يحتاج إليه في أمر لا إطعام ولا غيره، كان محسنا إليه إحسانا محضا، وإن كان ~~محتاجا إلى غير هذا الشخص، فكيف بمن هو سبحانه لا يحتاج إلى أحد بوجه من ~~الوجوه؟ ثم إنه من كمال إحسانه إلى عباده بين أن من لم يطعم أولياءه ولم ~~يعدهم، فهو كمن لم يطعمه ولم يعده، كما ms0046 في الحديث الصحيح (2) : "يقول الله ~~تعالى: عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ ~~فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده. عبدي! جعت فلم ~~تطعمني، فيقول: رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي ~~فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي". فقال: "لوجدت ذلك عندي"، ولم يقل: ~~"لوجدتني قد أكلته". وقال: "لوجدتني عنده"، ولم يقل: "لوجدتني إياه". ~~PageV01P121 # الوجه الرابع: أن يقال: قوله (وهو يطعم) يتناول إطعام الأجساد ما تأكل ~~وتشرب، وإطعام القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوت به من العلم والإيمان ~~والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوت للقلوب، فإنه هو الذي يقيت القلوب ~~بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالم لم يعلمه أحد، هاد لم يهده أحد، متصف بجميع ~~صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يعطيه غيره شيئا من ذلك. فإذا قال: "وهو ~~يطعم ولا يطعم" تناول القسمين، وإذا قيل: "لا يطعم" لم يكن المراد إلا ~~الأكل والشرب، لم يكن المراد ذكره وعلمه وهدايته. # وحينئذ فيكون قوله "وهو يطعم" لا يتناول إلا مأكول الجسد ومشروبه، ومعلوم ~~أن ذاك أشرف القسمين، فالقراءة التي تتناول القسمين أكمل من القراءة التي ~~لا تتناول إلا أحدهما. # بيان ذلك ما في الصحاح (1) من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ~~نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست كأحدكم، إني أبيت - وروي: ~~أظل - عند ربي يطعمني ويسقيني". وأظهر القولين عند العلماء (2) أن مراده ما ~~يطعمه ويسقيه في باطنه، من غير أن يكون أكلا وشربا في الفم لوجهين. # أحدهما: أنه لو كان يطعمه ويسقيه من فمه لم يكن مواصلا، فإن المواصل هو ~~من لا يأكل ولا يشرب، ولو قدر أنه أتي بطعام من الجنة فأكله، لكان آكلا لا ~~مواصلا. PageV01P122 # الثاني: أنه روي "إني أظل عند ربي"، وهذا يتناول النهار، والأكل في ~~النهار حرام مفطر ولو كان من طعام الجنة. فتبين أنه سمى ما يرزقه ويقيت ~~قلبه ويغذيه إطعاما وإسقاء. # وقد وصف النبي - صلى الله عليه ms0047 وسلم - بالطعم والذوق والوجد والحلاوة ما ~~في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1) عن العباس ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، ~~وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا". فهذا ذائق طعم الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه، ~~يظهر أثره إلى سائر بدنه، ليس هو ذوقا لشيء يدخل من الفم، وإن كان ذوقا ~~لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائم تسمن من أقواتها، والآدمي يسمن من ~~أذنه. # وفي الصحيحين (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من كن فيه ~~وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب ~~المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله ~~منه، كما يكره أن يلقى في النار". فأخبر أن من كانت فيه هذه الثلاث وجد ~~حلاوة الإيمان، والحلاوة ضد المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبين أن ~~الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طعم الإيمان، والله سبحانه هو الذي ~~يذيقه طعم الإيمان، وهو الذي يجعله واجدا لهذه الحلاوة. فالمؤمنون يذوقون ~~هذا الطعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللذة والسرور والبهجة ما هو أعظم ~~من لذة أكل البدن وشربه. PageV01P123 # والرب تعالى له الكمال الذي لا يقدر العباد قدره في أنواع علمه وحكمته ~~ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلت عليه ~~الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غني عن كل ~~ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسار ~~والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جعله ~~تائبا حتى فرح بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحد سواه. # والتعبير بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يقيت القلوب ويغذيها ~~كثير جدا، كما قال بعضهم: أطعمهم طعام المعرفة، وسقاهم شراب المحبة. وقال ~~آخر: # لها أحاديث من ذكراك يشغلها عن الشراب ويغنيها عن الزاد # وكثيرا ما توصف ms0048 القلوب بالعطش والجوع، وتوصف بالري والشبع. وفي الصحيحين ~~(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت كأني أتيت بقدح، فشربت حتى ~~إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر"، قالوا: فما أولته يا ~~رسول الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يشرب. # وفي الصحيحين (2) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن ~~مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها ~~طائفة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت ~~الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا، وكانت منها PageV01P124 # طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين ~~الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ~~ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". فقد بين أن مثل ما بعثه الله به من ~~الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتخرج فنون الثمرات، وتمسكه أرض ~~لتنتفع به الناس، وأرض ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن ~~القلوب تشرب ما ينزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن ~~المطر شراب للأرض، والأرض تعطش وتروى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله ~~ويروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد ~~شيئا، بل هو الذي يعلم ولا يتعلم من غيره شيئا. # وفي مناجاة داود: إني ظمئت إلى ذكرك كما تظمأ الإبل إلى الماء، أو نحو ~~هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه. # وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد (1) لما ذكر أن من الناس من شرب براري ~~قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلع لسانه من ~~العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل: # شربت الحب كأسا بعد كأس فما فني الشراب وما رويت # ويقال: فلان ريان من العلم، ويقال: هذا الكلام يشفي العليل ويروي الغليل، ~~وهذا الكلام لا يشفي ms0049 العليل ولا يروي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل (2) : ~~"من أخلص لله أربعين يوما تفجرت PageV01P125 # ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه (1) : "كونوا ~~ينابيع العلم مصابيح الحكمة أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب أخلاق ~~الثياب، تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض". # وقد شبه حياة القلوب بعد موتها بحياة الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله ~~عليها، فيسقيها وتحيا به، وشبه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على ~~الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديا كبيرا يسع ماء كثيرا، وواديا صغيرا يسع ~~ماء قليلا، كما قال: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (2) . وبين ~~أنه يحتمل السيل زبدا رابيا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، (فأما ~~الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله ~~الأمثال (17)) (3) . فالأرض تشرب ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع ~~وتحفظه، كما ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ومثل ما بعثه الله به ~~من الهدى والعلم كغيث أصاب أرضا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت ~~الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يسقي ويزرع، وبعض الأرض قيعان ~~لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. ثم قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما ~~بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك PageV01P126 # رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (1) . فجعل قبول القلوب بشربها ~~وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن ~~انتفع به. ولهذا قال: "فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب ~~الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا". فالماء ~~أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم ~~تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم ~~ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله (2) ~~- قال: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم ~~النافع، وعلم اللسان ms0050 حجة الله على عباده". # وبعض الناس قال: إن. الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين. # والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ ~~معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل ~~الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول ~~مالم يفهمه الثاني. PageV01P127 # وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه ~~وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب ~~قلبه معناه فأثر في قلبه كما أثر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من ~~ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له، ~~وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت ~~الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر ~~الكلأ والعشب. قال الحسن البصري (1) : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ~~ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. # وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا إن في ~~الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ~~ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه ~~وآياته" (3) وغير ذلك (4) . # والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسما لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه ~~خطيبا، كما قال ابن مسعود (5) : إنكم في زمن كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، كثير ~~معطوه قليل سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه، كثير ~~سائلوه، قليل معطوه". PageV01P128 # وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري (1) لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: "هذا أوان يرفع العلم"، فقال له زياد: كيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن، ~~فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: "إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والانجيل عند ~~اليهود والنصارى؟ فماذا يغني عنهم؟ ". # وقد قال الله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ~~وإن ms0051 تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ~~قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)) (2) . # وقال تعالى: (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون (7)) ~~(3) . # وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون ~~بها) الآية (4) . # وفي الحديث (5) : "خصلتان لا تكونان في منافق: حسن سمت PageV01P129 # ولا فقه في الدين". فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب، ~~والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق. # وقال الكفار لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) (1) مع أن شعيبا ~~خطيب الأنبياء. # وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الناس ~~معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وهذا إنما يكون ~~بفهم القلب للحق، وأتباعه له. # وفي الصحيحين (3) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل ~~المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل ~~المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق ~~الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها". فهذا قارىء ~~القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالما بتفسيره ~~وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم ~~المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون ~~في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تصد القلب ~~عن اتباع الحق، قال تعالى: (إن شر الدواب عند PageV01P130 # الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ~~ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)) (1) . فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق ~~به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يفهمهم إياه، ولو علم فيهم خيرا ~~لأفهمهم إياه، ولما لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولوا وهم ms0052 معرضون، ~~فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصد للخير ~~والحق وطلب له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق. # وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين أن مثل هذا العلم والفهم الذي لا ~~يقترن به العمل بموجبه لا يكون تاما، ولو كان تاما لاستلزم العمل، فإن ~~التصور التام للمحبوب يستلزم حبه قطعا، والتصور التام للمخوف يوجب خوفه ~~قطعا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تاما. # قال بعض السلف (2) : من عرف الله أحبه. ولهذا قال السلف: # كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علما، ~~وكفى بالاغترار بالله جهلا (3) . وقيل للشعبي: أيها العالم! # فقال: إنما العالم من يخشى الله (4) . وهذا مبسوط في مواضع. PageV01P131 # ولهذا قال تعالى: (هدى للمتقين (2)) (1) ، وقال: (لينذر من كان حيا) (2) ~~، وقال: (سيذكر من يخشى (10)) (3) ، إلى أمثال ذلك. # ولهذا يجعل الرسول نفس الفقه موجبا للسعادة، كما يجعل عدمه موجبا للشقاء، ~~ففي الصحيحين (4) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الناس معادن كمعادن ~~الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". فجعل مسمى ~~الفقه موجبا لكونهم خيارا، وذلك يقتضي أن العمل داخل في مسمى الفقه لازم ~~له. # وفي الصحيحين (5) أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، فمن لم ~~يفقهه في الدين لم يرد به خيرا، فلا يكون من أهل السعادة إلا من فقهه في ~~الدين. والدين يتناول كل ما جاء به الرسول، كما في الصحيحين (6) لما جاء ~~جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: "هذا ~~جبريل جاءكم يعلمكم دينكم". فجعل هذا كله دينا. # والمقصود هنا كان الكلام في أن الله يطعم القلوب ويسقيها، وقد قال الله ~~تعالى في حق عباد العجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل) (7) ، أي أشربوا حبه. ~~فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه PageV01P132 # القلب حبا يجعل ذلك شرابا للقلب، فحب الرب تعالى أن يكون شرابا يشربه ~~قلوب المؤمنين أولى وأحرى ms0053. # قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ~~والذين آمنوا أشد حبا لله) (1) . ووصف الشعراء وغيرهم أن القلوب تشرب ~~المحبة، وضربهم المثل في ذلك بالشراب الطاهر، وأن شرب المحبة أعلى الشرابين ~~كثير جدا. وهو سبحانه الذي يطعم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته ~~ومحبته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبته وإيمانه - إذ ~~كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى ~~عما يقول الظالمون علوا كبيرا. # وأهل الشرك الذين يعبدون غير الله ومن ضاهاهم من أهل البدع، الذين اتخذوا ~~من دون الله أوثانا يحبونهم كحب الله، لهم شراب من محبتهم وذوق ووجد، لكن ~~ذلك من عبادة الشيطان لا من عبادة الرحمن، فلهذا وقعت باطلا. فإن البدن كما ~~يتغذى بالطيب والخبيث، كذلك القلوب تتغذى بالكلم الطيب والعمل الصالح، ~~وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحة ومرض، وإذا مرضت اشتهت ما ~~يضرها وكرهت ما ينفعها. # وقد ضرب الله مثل الإيمان الذي هو كلمة طيبة بشجرة طيبة، ومثل الشرك الذي ~~هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيبة في قلبه وهي كلمة التوحيد، ~~وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشرك؛ فهذا يتغذى بهذه الكلمة ~~الطيبة، وهذا يتغذى بهذه PageV01P133 # الكلمة الخبيثة، كما تتغذى الأبدان بالطيب والخبيث. قال تعالى: (يا أيها ~~الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (1) ، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر ~~به المرسلين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (2) . # فالتوحيد والإيمان كلمة طيبة، مثلها مثل الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت ~~وفرعها في السماء؛ والشرك والكفر كلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من ~~قرار (3) ، ليس لها أصل راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشرك والضلال ~~لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل ~~بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقاد ونظر، أو في جهل مركب يحسبون أنهم على هدى ~~وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدى من الله. ولهذا قال تعالى ms0054: (الله ~~نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية إلى قوله (نور على نور يهدى ~~الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)) (4) ~~. ثم قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه) إلى آخر الآية (5) . ~~ثم ضرب للكفار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: (والذين كفروا أعمالهم ~~كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) الآية (6) . ~~فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقادات PageV01P134 # الفاسدة. ثم قال: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه ~~سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها) (1) . وهذا مثل الجهل ~~البسيط. # وأهل الضلال يذكرون المحبة وشراب الحب ونحو ذلك، وكثيرا ما يمثلون ذلك ~~بشراب الخمر دون غيرها من الأشربة، ويذكرون أوعية الخمر كالدن والكأس ونحو ~~ذلك، ومواضعها كالحان أو دير الرهبان. والخمر توجب الغي، ولما عرض على ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج اللبن والخمر أخذ اللبن، فقيل ~~له: "أصبت الفطرة، لو أخذت الخمر لغوت أمتك" (2) . # وكلما كان القوم أعظم عنتا وضلالا مثلوا بما هو أقبح من شرب الخمر، فإن ~~شربها وإن كان قبيحا فهو في الحانات مواضع الفحش أقبح، وفي مواضع الكفر ~~كديور الرهبان أقبح وأقبح. ويذكرون السكر من شراب المحبة، كالسكر الذي ~~يعتري من شرب الخمر، كقول بعضهم (3) : # شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم # وهذا الحب والشرب من عبادة الشيطان، لا من عبادة الرحمن. # والتشبيه بالخمر يبين أن ذلك من عبادة الشيطان الذي قال الله فيه: (إنما ~~يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ~~PageV01P135 # ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)) (1) . وذلك من وجهين: أحدهما: ~~أن شرب الخمر محرم، فحب الله ورسوله وشرب القلوب لهذا الحب لا يكون كشرب ~~الخمر، وإنما يكون كشرب الخمر شرب الحب الذي لا يحبه الله ورسوله، كحب ~~المشركين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله. # الثاني: أن شرب الخمر يوجب السكر وزوال ms0055 العقل، فهو والسكر بالحب واتباع ~~الأهواء حال الكفر، كقوم لوط الذين قال الله فيهم: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم ~~يعمهون (72)) (2) . وقد قيل (3) : سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من ~~به سكران ومحبة المؤمنين لله ورسوله لا تستلزم زوال العقل، بل هم أكمل ~~الناس عقلا، وإنما يوجب متابعة الرسول، كما قال: (قل إن كنتم تحبون الله ~~فاتبعوني يحببكم الله) (4) . فالمحبون لله إذا اتبعوا الرسول أحبهم الله. ~~واتباع الرسول فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهو لم يأمر بما يزيل العقل ~~قط، لا باطنا ولا ظاهرا، فلم يأمر بأكل شيء مما يغير العقل سواء كان معه ~~سكر كالخمر، أو لم يكن كالبنج، بل نهى عن ذلك. وكذلك ما في القلوب من حب ~~الله ورسوله وحقائق الإيمان التي يحبها الله ورسوله، ليس فيما أمر الله به ~~ورسوله منها ما يوجب زوال العقل ولا الموت ولا الغشي والصعق. ولهذا لم يكن ~~الصحابة PageV01P136 # أفضل القرون يعتريهم شيء من هذا، ولكن بعض من بعدهم ضعفت قلوبهم عن بعض ~~ما يرد عليها من خوف أو غيره. فصار فيهم من يموت إذا سمع الآية، وفيهم من ~~يغشى عليه. وهؤلاء معذورون مع الصدق والاجتهاد في اتباع الرسول، ويشكر الله ~~لهم ما معهم من الإيمان والخوف الذي ### | ..... # (1) ، وهو ما يحض على فعل الواجب وترك المحرم، وأما الزيادة التي أوجب ~~لهم الموت فحسبهم أن يكونوا فيها معذورين لا مأجورين، كالحاكم إذا اجتهد ~~فأصاب فله أجران، فإذا اجتهد فأخطأ فله أجر. # ومن ظن أن الميت من هؤلاء بسماع آية أفضل من شهداء بدر وأحد ونحوهما، ~~وجعل هؤلاء قتلى القرآن وشهداء الرحمن، وأولئك ماتوا بسيوف الكفار، فقد غلط ~~غلطا عظيما، فإن أولئك فعلوا ما أمروا به وقتلوا شهداء، فهم من أفضل ما خلق ~~الله، وهؤلاء فعلوا مالم يؤمروا به، إما تعديا للحد، وإما تفريطا في الحق، ~~فماتوا بهذا السبب موتا ليس في سبيل الله ولا جهاد أعدائه، ولكن لضعف ~~قلوبهم عما ورد عليها. # والله تعالى ما أنزل القرآن ليقتل به أولياءه ms0056، ولا ليشقيهم به، بل ~~ليهديهم وليشفيهم وينورهم، فهؤلاء ضلوا الطريق، ولهذا أنكر حالهم من أدركهم ~~من الصحابة، مثل ابن عمر وابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم، كما هو ~~مبسوط في موضع آخر. # إذ المقصود هنا أن الرب تعالى هو الذي يقيت عباده، ويغذيهم لأرواحهم ~~وأجسادهم، وهو مستغن عن عباده من كل وجه، فهو PageV01P137 # بنفسه عالم قادر، وكل ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون ~~عليه فهو من إقداره. وهو سبحانه وتعالى كما قال: (ولا يحيطون بشيء من علمه ~~إلا بما شاء) (1) ، وهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. وإذا كان ما للعباد من ~~علم وقدرة فمنه امتنع أن يحصل له منهم علم أو قدرة، فإن ذلك يستلزم الدور ~~القبلي، إذا كان المعلم المقدر لغيره يمتنع أن يكون علمه وقدرته منه. # وأيضا فمن جعل غيره عالما قادرا كان أولى أن يكون عالما قادرا، قال ~~تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج ~~الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ~~(31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32)) ~~إلى قوله: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى ~~إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35)) ~~(2) . فقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى) ~~فيه قراءتان مشهورتان (3) : الإدغام "يهدي"، وأصله يهتدي، فسكنت الياء، ~~وأدغمت في الدال بعد أن قلبت دالا، وألقيت حركتها على الهاء. فأكثر القراء ~~يفتحون الهاء، ومنهم من يسكنها، ومنهم من يختلس. والقراءة الأخرى بالتخفيف ~~"يهدي"، ثم قيل: إنه فعل متعدي، أي يهدي غيره، وقيل: بل فعل لازم، أي ~~يهتدي، وحكوا "هدى" بمعنى اهتدى، وأنه يستعمل لازما ومتعديا. وهذا أصح، ~~والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي PageV01P138 # بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهذا يتناول كل مخلوق، فكل مخلوق لا ms0057 يهتدي إلا ~~أن يهديه الله. ففي الآية النهي عن اتباع كل مخلوق، وأنه لا يتبع إلا الله ~~وحده، الذي يهدي إلى الحق. # فكل هدى في العالم وعلم فهو من هذا وتعليمه، ويمتنع أن يكون غيره هاديا ~~له ومعلما. # وقوله: (أمن لا يهدى إلا أن يهدى) يتضمن نفي اهتدائه بنفسه مطلقا، وأنه ~~لا يهتدي بحال إلا أن يهديه غيره. وهذا حال جميع المخلوقات. # وقد بين أن هذا أحق بالاتباع من هذا، لأنه يهدي الحق وهذا لا يهدي، وذلك ~~نهي عن عبادة ما سواه، وعن استهدائه وعن طاعته، لأن كل معبود فهو متبوع، ~~يتبعه عابده، فإذا لم يتبعه لم يكن عابدا له. # ولهذا يجزون يوم القيامة بنظير أعمالهم، فإن ### | الجزاء من جنس العمل، # كما في الأحاديث الصحيحة: "ينادي مناد ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، ~~فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر"، وذكر ~~إتيان الحق في صورة غير الصورة التي يعرفون، يمتحنهم هل يتبعون غير ربهم، ~~وإنهم يستعيذون بالله منه، ويقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ~~ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيتجلى ~~لهم، ويخرون له سجدا إلا المنافقين، فإن ظهورهم تصير مثل قرون البقر، ثم ~~ينطلق ويتبعونه. والحديث في ذلك طويل، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة ~~وأبي سعيد (1) . وفي مسلم [من] حديث جابر (2) ، PageV01P139 # وهو أيضا معروف من حديث أبي موسى (1) ، ومن حديث ابن مسعود وهو أطولها. # آخره، والله أعلم، الحمد لله وحده. # *** PageV01P140 ### | فصل في سورة حم السجدة [فصلت] # PageV01P141 # فصل # سورة حم السجدة مشتملة على تقرير أمر القرآن بما تضمنه أصول الإيمان، ~~التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بذلك فتحت وبذلك ~~ختمت. كما أن سورة الشورى أيضا بدأت بالوحي، وختمت بالوحي المتضمن للقرآن ~~والإيمان. # قال تعالى: (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرءانا ~~عربيا لقوم يعلمون (3)) (1) في ذكر القرآن ومستمعيه، إلى قوله: (قل إنما ~~أنا بشر مثلكم يوحي إلى أنما إلهكم إله واحد ms0058 فاستقيموا إليه واستغفروه) (2) ~~يتضمن الإخلاص والتوحيد والنبوة. وجماع الأمر الاستقامة إليه والاستغفار، ~~كما في قوله: (فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) (3) ، وكما قال: ~~(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (4) . # وذم المشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فإن الشرك ضد الاستقامة إليه، التي ~~هي الإخلاص، كما فسر أبو بكر الصديق قوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم ~~استقاموا) (5) قال: استقاموا إليه، فلم يلتفتوا يمينا ولا شمالا. فإن ~~المستقيم ضد الزائغ، فالمستقيم إليه ضد الزائغ عنه، والزائغ عنه المشرك به. ~~وعدم إيتاء الزكاة - وهو ما تزكو به PageV01P143 # النفوس من الذنوب فتصير زكية - ضد الاستغفار الذي يمحو الذنوب، فتزكو ~~النفوس. ففي ذلك جمع بين الإخلاص والعمل الصالح، وهو الإيمان والعمل الصالح ~~وإسلام الوجه لله مع الإحسان. # وكل واحد من التوبة والصدقة يمحو الذنوب، كما قال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: "الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار" (1) . ولهذا قال ~~سبحانه: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (2) ، ~~وقال في التوبة: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (3) ، وفي الصدقة: ~~(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم تزكيهم بها) (4) . # ثم ذكر تقرير الربوبية بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وبدء العالم. ثم ~~ذكر أخبار الأشقياء والسعداء في الدنيا والآخرة، فذكر الوعيد في الدنيا بقص ~~الأمم المتقدمة، وفي الآخرة بذكر ما يكون في القيامة، فقال: (فإن أعرضوا ~~فقل أنذرتكم صاعقة) إلى قوله: (ويوم يحشر) (6) ، فيشبه والله أعلم أي ~~"وأنذرتكم يوم يحشر"، وقد يقال: "واذكر يوم يحشر"، إلى قوله: (إن الذين ~~قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (7) ، فإنه ذكر حشر حالهم في الدنيا والآخرة، ~~كما ذكر سوء منقلب أولئك في الدنيا والآخرة. PageV01P144 # ثم ذكر الدين المأمور به، وهو الخلق العظيم، وهو دين الإسلام، ليجمع بين ~~إسلام الوجه لله وبين العمل الصالح بين القصد والعمل، ملة إبراهيم ودين ~~محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما. ثم قرر البعث بالدليل. # ثم عاد إلى مخاطبة الكافرين بالذكر وتقرير أمره، فقال: (إن الذين يلحدون ~~في آياتنا لا يخفون علينا) (1) إلى قوله ms0059: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ~~وإنه لكتاب عزيز (41)) (2) إلى قوله- وهو كان المقصود بالكلام هنا -: (قل ~~أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52)) ~~(3) ، فإن الضمير عائد إلى الكتاب، وهو القرآن. # ثم قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ~~أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) (4) ، فالضمير في قوله (أنه الحق) ~~هو الضمير في قوله (إن كان من عند الله ثم كفرتم به) ، وذلك هو القرآن، أي ~~حتى يتبين لهم أن الكتاب هو الحق لا ما خالفه. # ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) (5) أي أولم يكف ~~بشهادته عليه أنه منزل من عند الله، من الآيات المرتبة في الآفاق وفي ~~الأنفس، كما قال: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة ~~يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)) (6) . وشهادة الله تعالى PageV01P145 # يعلم بما به يعلم أن هذا كلامه، وأن المبلغ صادق، مثل كونهم لا يقدرون ~~على الإتيان بمثله ولا بمثل عشر سور منه ولا سورة واحدة، وما امتاز به من ~~الوصف الذي باين به كلام المخلوقين مما هو معلوم بالعقل والفطرة. كما أصاب ~~عتبة بن ربيعة ونحوه من أكابر عقلاء قريش لما سمعوا منه (حم (1) تنزيل من ~~الرحمن الرحيم (2)) (1) ، وكما قال فيه عاقلهم وفيلسوفهم ورئيسهم الوليد بن ~~مغيرة (2) ، وغير ذلك. # فالكفاية هنا تشبه الكفاية في قوله: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه ~~قل إنما الآيات عند الله) إلى قوله: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب ~~يتلى عليهم) (3) . فنزول الكتاب يتلى عليهم آية كافية، وهو شهادة الله بما ~~أخبر فيه، وبأن الرسول رسوله، ((أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) . ~~فهذا ونحوه طرق يعلم بها شهادة الله. # وثم طرق أخرى، وهي إخبار رسل الله المتقدمين، وإخبار أممهم عنهم بمثل ما ~~أخبر به هذا الرسول، فلذلك قال: (قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده ~~علم الكتب) (4) ، وقال: PageV01P146 # (قل أرأيتم إن كان من عند ms0060 الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على ~~مثله) (1) ، وقال: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) (2) ، ~~وقال: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى قوله: ~~(ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (3) . # فالقرآن قد أخبر الله فيه بأمور، وإخباره بها شهادته بها، وكفى بالله ~~شهيدا، فنفس إخباره وشهادته بما شهد به من أمر الربوبية والرسالة والثواب ~~والعقاب وأحوال أوليائه وأعدائه كاف، وهو الطريق السمعية. وقد قال: (سنريهم ~~آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (4) . فهذه الطريق ~~البصرية التي قد تسمى العقل، وهو أن يرد في أنفسهم وفي الآفاق ما يدلهم على ~~مثل ما دل عليه القرآن، فيروا حال المؤمنين بمحمد وحال الكافرين به كما ~~أخبروا به عن المتقدمين، ويروا أيضا حالهم إذا آمنوا أو كفروا، ويروا أيضا ~~الدلائل الدالة على وحدانية الخالق وصفاته التي شهد بها الرب. # فالكلام في شيئين: في أن القرآن منزل من عند الله، وهذا قد شهد به الله ~~بما أتى به، وسيريهم آيات يعاينونها تبين أنه منزل من عند الله. والثاني: ~~الكلام فيما أخبر به القرآن أيضا كما تقدم، وأن الحق يتناول نسبته إلى ~~الله، ويتناول أنه صدق في نفسه، والله شهيد بالأمرين، وقد أرى آياته على ~~الأمرين. PageV01P147 ### | مسألة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: # "أتدري ما حق الله على العباد؟ " # PageV01P149 # مسألة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: ~~"أتدري ما حق الله على العباد؟ " (1) ، وفي قوله: وما حق العباد على الله"، ~~فهل حقهم واجب عليه كما حقه واجب عليهم على ظاهر اللفظ أم مجاز؟. # أجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد ~~الحليم بن عبد السلام ابن تيمية أيده الله: # الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة ونحوها للناس فيها ثلاثة أقوال، ~~طرفان ووسط (2) : # طائفة تقول: إن الله يجب عليه أشياء، ويحرم عليه أشياء، بالقياس على ~~المخلوقين، وإن العباد بقياس عقولهم يوجبون عليه ms0061 ويحرمون عليه، كما يجب على ~~العباد ويحرم عليهم، فيقولون: يجب عليه أن يفعل في حق كل عبد ما هو الأصلح ~~له في دينه، ولهم في الصلاح الدنيوي نزاع. ويقولون: إنه لا يقدر على أن ~~يفعل غير ما فعل، وإن العباد يقدرون على مالا يقدر عليه الله، وإنه لا يقدر ~~أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا. وهذا قول القدرية من المعتزلة والشيعة ~~وغيرهم. # والقول الثاني: قول من يقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يوجب هو على نفسه ~~شيئا، ولا يحرم على نفسه شيئا، ولا ينزه عن فعل من الأفعال، ويجوز أن يقع ~~منه كل ما هو مقدور، فلا يقدر أن يظلم أحدا، بل الظلم ممتنع لذاته، وإنه ~~ليس في أسمائه الحسنى وصفاته PageV01P151 # العلا ما يدل على تنزهه عن أفعال مذمومة، ولا عن اتخاذه ولدا، ولا عن ~~أمره بأن يشرك به. وخالفوا قوله: (قالوا أتخذ الله ولدا سبحانه) (1) ، ~~وقالوا: إنه يجوز أن يأمر بالفحشاء والمنكر، وقالوا: لا ينزه قط عن فعل من ~~الأفعال، ولا أمر من الأمور، وإن كان أمرا بالشرك والكذب والظلم، وإن كان ~~نهيا عن الصدق والعدل والتوحيد، ولا يميز بين ما يفعله وما لا يفعله إلا ~~بما جرت به العادة، مع أن العادات يمكن خرقها، أو أخبار الأنبياء، مع أن ~~خبرهم عند طائفة منهم لا يفيد اليقين، وخبرهم بالوعد والوعيد عند أكثرهم لا ~~يعلم منه شيء. ويقولون: إنه يخلق ما يخلق لا لسبب ولا لحكمة. وهذا قول ~~الجهمية الجبرية ومن اتبعهم من المتأخرين. # والطائفتان تقولان: إن القادر يرجح أحد المتماثلين لا لمرجح، لكن هؤلاء ~~يجعلون فعله كله كذلك، وأولئك يجعلونه كذلك في الابتداء. وقد ذهب إلى كل من ~~القولين طوائف من أعيان الناس، وإن كان القولان ضعيفين (2) . # والقول الثالث ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها، ~~كالأئمة الأربعة وغيرهم: إنه سبحانه عليم حكيم رحيم، وإنه كتب على نفسه ~~الرحمة كما أخبر في كتابه (3) ، وحرم على نفسه الظلم، كما ثبت في الحديث ~~الصحيح الإلهي عن أبي ذر ms0062 الغفاري (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ~~يخبر به عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي، إني PageV01P152 # حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا". وإنه أوجب على ~~نفسه نصر المؤمنين، كما قال تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين (47)) (1) ~~. فليس للمخلوق بنفسه على الله حق، ولا يقاس الخالق بالمخلوق فيما يفعله، ~~كما لا يقاس بالمخلوق في صفاته وذاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في ~~صفاته ولا في أفعاله، ولكن هو كتب على نفسه الرحمة، [وحرم على نفسه] الظلم ~~كما تقدم. وقد اتفق المسلمون على أنه أخبر بما أخبر به من ثواب المؤمنين ~~وعقوبة الكافرين، وأنه صادق لا يخلف الميعاد، فاتفقوا على ثبوت الخبر، ~~وإنما النزاع في كتابته على نفسه وتحريمه على نفسه، لكن النصوص دلت على ~~ذلك. # وكذلك حلفه "ليفعلن" كقوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم ~~أجمعين (85)) (2) ، وقوله: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس ~~أجمعين (13)) (3) . ومثل هذا القسم ليس خبرا محضا، بل فيه معنى الإرادة ~~والعهد، كما في الوعد. # ومن قال بالقول الثاني يتأول كتابته على نفسه الرحمة وتحريمه على نفسه ~~الظلم، بأن المراد إخباره بوقوع ذلك وعدم وقوع هذا. والظلم عندهم هو ما ~~يمتنع أن يكون مقدورا، وما يمتنع أن يكون مقدورا لا يحرم، وقد علم الناس ~~أنه لا يكون، فلا فائدة بالإخبار أنه لا يكون. PageV01P153 # وأيضا فإنه ذكر ذلك مقدمة لنهيه عباده عن الظلم بقوله: "يا عبادي، إني ~~حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا". # فلو أراد به مالا يكون مقدورا كان المناسب لهذا أن يحرم على عباده مالا ~~يقدرون عليه. # وهذا يناسب قول من قال: الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فيكون قد حرم ~~عليهم ما يفعلونه من ظلم بعضهم بعضا، ولا حرم عليهم الشرك الذي هو ظلم ~~عظيم، ولا حرم عليهم ظلم أنفسهم. # وإذا قيل: أراد بالظلم الذي حرمه على نفسه مالا يكون مقدورا، وبالظلم ~~الذي حرمه على عباده ما يقدرون عليه، لم ms0063 يكن ذكر هذا مناسبا لذكر هذا، وهو ~~قد قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا ~~تظالموا". الضمير إلى الظلم، فلو كان الأول مالا يقدر عليه، لقيل: لا معنى ~~لتحريمه هذا على نفسه. # والمناسب إذا لم يحرم إلا ما يكون مقدورا لهم، وإلا فالمعنى على قول ~~هؤلاء: حرمت على نفسي إذ أجعل الشيء موجودا معدوما، وأجعل الجسم متحركا ~~ساكنا، وأجعل المحدث قديما والقديم محدثا، ونحو ذلك من الأمور التي ليست ~~شيئا باتفاق العقلاء، ولا يتصور العقل وجودها في الخارج، وحرم عليهم ما ~~يقدرون هم عليه، وهو إنما ذكر هذا ليقيم الحجة على خلقه بقوله: يا عبادي ~~إني حرمت الظلم على نفسي، فأنتم أولى أن يكون الظلم محرما عليكم، لأنه ~~سبحانه على كل شيء قدير، ورب كل شيء وخالقه، ولا يتصرف إلا في ملكه، لا في ~~ذلك غيره، وليس فوقه آمر يأمره، فإذا كان مع كمال قدرته وعزته ووحدانيته قد ~~حرم الظلم على نفسه، فكيف بالمخلوق الذي فوقه آمر يأمره، ومجاز يجازيه، وقد ~~يتعدى # PageV01P154 # فيتصرف فيما لا يملكه. # وأما كونه يقول: حرمت على نفسي ماليس مقدورا لي، كالجمع بين الضدين ونحو ~~هذا، ولا يقدر أحد على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا ~~معقب لحكمه، ولا راد لأمره - فهذا مما يعلم يقينا أن الرسول لم يقصد هذا، ~~بل تحريم ماهو مقدور، كما قصد تحريم الظلم الذي يقدرون عليه. # وهو سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، (ولا يظلم ربك أحدا (49)) (1) ، ويقول ~~لعبده إذا حاسبه يوم القيامة: لا ظلم عليك، فلا ينقص أحدا من حسناته شيئا، ~~ولا يحمل عليه سيئات غيره، كما قال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن ~~فلا يخاف ظلما ولا هضما (112)) (2) . قال غير واحد من السلف: الظلم أن يحمل ~~عليه سيئات غيره، والهضم أن يهضم من حسناته (3) . فهذا مما حرمه على نفسه ~~وهو قادر عليه، لكنه منزه قدوس سلام، لا يجوز أن يظلم أحدا، ولا يجوز أن ~~يتخذ صاحبة ولا ولدا، بل هو ms0064 حكيم عليم رحيم، لا يفعل إلا بموجب رحمته ~~وحكمته وعدله. وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان، ومالم يشأ ~~لم يكن. # فكل واحد من قول القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطل، والصواب ~~فيما جاء به الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. PageV01P155 # وهذه المسألة فرع على هذا الأصل، والكلام على هذا مبسوط في مواضع غير ~~هذا، وهذا مقدار ما احتملته الورقة من الجواب. # فعلى هذا فقوله: "أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم. ~~قال: "حقه عليهم أن يعبدوه، لا يشركوا به شيئا"، هو حق استحقه بنفسه على ~~عباده. وقوله: "أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم"، ~~هو حق أحقه على نفسه لعباده، كما قال تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) ~~(1) ، فهو أحقه بنفسه على نفسه، لا لأن العباد بأنفسهم يستحقون عليه شيئا، ~~ولا يقاس على خلقه فيما يستحقه المخلوق على المخلوق، فإنه خلق عباده، ولم ~~يكونوا قبل وجودهم شيئا، بل عدما محضا لا يستحقون شيئا، ثم لما خلقهم فكل ~~ما فيهم من الأمور الوجودية هي مخلوقة له، فيمتنع أن يكون موجبا على الرب ~~عز وجل محرما عليه، وهذا هذا. والله أعلم. # (هذا مختصر جواب الشيخ تقي الدين أثابه الله تعالى) . # *** PageV01P156 ### | فصل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: # سيد الاستغفار أن يقول العبد ### $ "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ... " # PageV01P157 # فصل # في قوله عليه السلام: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا ~~إله إلا أنت" (1) . # قد اشتمل هذا الحديث من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيد ~~الاستغفار، فإنه صدره باعتراف العبد بربوبية الله، ثم ثناها بتوحيد الإلهية ~~بقوله: "لا إله إلا أنت". ثم ذكر اعترافه بأن الله هو الذي خلقه وأوجده ولم ~~يكن شيئا، فهو حقيق بان يتولى تمام الإحسان إليه بمغفرة ذنوبه، كما ابتدأ ~~الإحسان إليه بخلقه. # ثم قال: "وأنا عبدك"، اعترف له بالعبودية، فإن الله تعالى خلق ابن آدم ~~لنفسه ولعبادته، كما جاء ms0065 في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: ابن آدم! خلقت ~~لنفسي، وخلقت كل شيء لأجلك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك ~~له". # وفي أثر آخر: "ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا ~~تتعب. ابن آدم! اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل ~~شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء". # فالعبد إذا خرج عما خلقه الله له من طاعته ومعرفته ومحبته والإنابة إليه ~~والتوكل عليه، فقد أبق من سيده، فإذا تاب إليه ورجع إليه فقد راجع ما يحبه ~~الله منه، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - ~~يخبر عن الله (2) : "لله أشد فرحا بتوبة عبده من واجد راحلته PageV01P159 # عليها طعامه وشرابه بعد يأسه منها في الأرض المهلكة، وهو سبحانه هو الذي ~~وفقه لها، وهو الذي ردها إليه". وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان، ~~وحقيق بمن هذا شانه أن لا يكون شي لا أحب إلى العبد منه. # ثم قال: "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت"، فالله سبحانه وتعالى عهد إلى ~~عباده عهدا أمرهم فيه ونهاهم، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبهم بأعلى ~~المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقه بوعده. أني أنا ~~مقيم على عهدك مصدق بوعدك. # وهذا المعنى قد ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله: "من صام رمضان ~~إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) . والفعل إيمانا هو العهد ~~الذي عهده إلى عباده، والاحتساب هو رجاؤه ثواب الله له على ذلك، وهذا لا ~~يليق إلا مع التصديق بوعده. وقوله "إيمانا واحتسابا" منصوب على المفعول له، ~~إنما يحمله على ذلك إيمانه بأن الله شرع ذلك وأوجبه ورضيه وأمر به، ~~واحتسابه ثوابه عند الله، أي يفعله خالصا يرجو ثوابه. # وقوله: "ما استطعت" أي إنما أقوم بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي ~~لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثبات قوة العبد واستطاعته، وأنه غير مجبور ~~على ذلك، بل له استطاعة هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب ms0066. ففيه رد على ~~القدرية المجبرة الذين يقولون: إن العبد لا قدرة له ولا استطاعة، ولا فعل ~~له البته، وإنما يعاقبه الله على فعله هو، لا على فعل العبد. وفيه رد على ~~طوائف المجوسية وغيرهم. PageV01P160 # ثم قال: "أعوذ بك من شر ما صنعت"، فاستعاذته بالله الالتجاء إليه والتحصن ~~به والهروب إليه من المستعاذ منه، كما يتحصن الهارب من العدو بالحصن الذي ~~ينجيه منه. وفيه إثبات فعل العبد وكسبه، وأن الشر مضاف إلى فعله هو، لا إلى ~~ربه، فقال: "أعوذ بك من شر ما صنعت". فالشر إنما هو من العبد، وأما الرب ~~فله الأسماء الحسنى، وكل أوصافه صفات كمال، وكل أفعاله حكمة ومصلحة. ويؤيد ~~هذا قوله عليه السلام: "والشر ليس إليك" في الحديث الذي رواه مسلم (1) في ~~دعاء الاستفتاح. # ثم قال: "أبوء بنعمتك علي" أي أعترف بأمر كذا، أي أقر به، أي فأنا معترف ~~لك بإنعامك علي، وإني أنا المذنب، فمنك الإحسان ومني الإساءة. فأنا أحمدك ~~على نعمك، وأنت أهل لأن تحمد، وأستغفرك لذنوبي. # ولهذا قال بعض العارفين: ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه كلها نفسين: نفسا ~~يحمد فيه ربه، ونفسا يستغفره من ذنبه. ومن هذا حكاية الحسن مع الشاب الذي ~~كان يجلس في المسجد وحده ولا يجلس إليه، فمر به يوما فقال: ما بالك لا ~~تجالسنا؟ فقال: إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي حمدا؛ وبين ذنب مني ~~يستوجب استغفارا، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستك. فقال: أنت أفقه ~~عندي من الحسن. # ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية، وترقى في درجات ~~المعرفة والإيمان، وتصاغرت إليه نفسه، وتواضع لربه. وهذا PageV01P161 # هو كمال العبودية، وبه يبرأ من العجب والكبر وزينة العمل. والله الموفق ~~الهادي، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ~~ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. # (من كتابة العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن إسحاق التميمي الداري ~~نسبا الحنفي مذهبا، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين آمين آمين ms0067) ~~. # *** # PageV01P162 ### | قاعدة في الصبر # PageV01P163 # بسم الله الرحمن الرحيم # وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. # قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو ~~العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه. # فصل # جعل الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بكل منزلة خيرا منه، فهم دائما في ~~نعمة من ربهم، أصابهم ما يحبون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي ~~يقضيها لهم ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقا يصلون منها إليه، ~~كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم - الذي إذا دعي يوم القيامة كل أناس ~~بإمامهم دعوا به صلوات الله وسلامه عليه - أنه قال (1) : "عجبا لأمر ~~المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلا كان خيرا له، إن ~~أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له". # فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على ~~مكروهها وشكر لمحبوبها، بل هذا داخل في مسمى الإيمان، فإنه كما قال السلف: ~~الإيمان نصفان، نصف صبر، ونصف شكر. # كقوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5)) (2) . وإذا اعتبر ~~العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك PageV01P165 # لأن ### | الصبر ثلاثة أقسام # (1) : # صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد ~~صبر ومصابرة، ومجاهدة لعدوه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه ~~للمأمورات وفعله للمستحبات. # النوع الثاني: صبر عن المنهي حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها وتزيين ~~الشيطان وقرناء السوء تأمره بالمعصية، وتجزئه عليها، فبحسب قوة الصبر يكون ~~تركه لها. قال بعض السلف (2) : أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقدر ~~على ترك المعاصي إلا صديق. # النوع الثالث: الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب، وهي نوعان: # نوع لا اختيار للخلق [فيه] ، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه ~~يسهل الصبر فيها، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وأنه لا مدخل للناس ~~فيها، فيصبر إما اضطرارا وإما اختيارا، فإن فتح الله ms0068 على قلبه باب الفكرة ~~في فوائدها، وما في حشوها من النعم والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى ~~الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذ في حقه نعمة، فلا يزال هجيرا قلبه ~~ولسانه فيها: "رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (3) . وهذا يقوى ويضعف ~~بحسب قوة محبة العبد لله وضعفها، بل هذا يجد أحدنا في الشاهد، PageV01P166 # كما قال بعض الشعراء (1) يخاطب محبوبا له ناله ببعض ما يكره: # لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالكا # النوع الرابع (2) : ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه، فهذا ~~النوع يصعب الصبر عليه جدا، لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، ~~فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصديقون. # وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذا أوذي يقول: "يرحم الله موسى، لقد ~~أوذي بأكثر من هذا فصبر" (3) . وأخبر عن نبي من الأنبياء أنه ضربه قومه، ~~فجعل يقول: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون" (4) . وقد روي عنه - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه جرى له مثل هذا مع قومه، فجعل يقول مثل ذلك (5) . # فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم ~~بأنهم لا يعلمون. # وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والهدى والسرور والأمن، والقوة في ذات ~~الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له، وزيادة العلم. PageV01P167 # ولهذا قال الله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا ~~بآياتنا يوقنون (24)) (1) . فالصبر واليقين ينال [بهما] الإمامة في الدين ~~(2) ، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات ~~السعادة بفضل الله تعالى، و (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل ~~العظيم (21)) (3) . ولهذا قال الله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي ~~بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما ~~يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)) (4) . # ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء: # أحدها: أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، حركاتهم ~~وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، ومالم يشأ ms0069 لم يكن، فلا يتحرك في ~~العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه ومشيئته، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي ~~سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تسترح من الهم والغم. # الثاني: أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى: ~~(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (30) (5) . فإذا شهد ~~العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار ~~من الذنوب التي سلطهم عليه [بسببها] ، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم. وإذا ~~رأيت العبد يقع في الناس إذا PageV01P168 # آذوه، ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار، فاعلم أن مصيبته مصيبة ~~حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة. قال علي بن ~~أبي طالب -كرم الله وجهه- كلمة من جواهر الكلام: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا ~~يخافن عبد إلا ذنبه (1) . وروي عنه وعن غيره: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا ~~رفع إلا بتوبة. # الثالث: أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر، كما قال ~~تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب ~~الظالمين (40)) (2) . ولما كان الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم ~~يأخذ فوق حقه، ومقتصد يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو ويترك حقه، ذكر الأقسام ~~الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها ~~للظالمين. # ويشهد نداء المنادي يوم القيامة: "إلا ليقم من وجب أجره على الله" (3) ، ~~فلا يقم (4) إلا من عفا وأصلح. وإذا شهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام ~~والاستيفاء، سهل علمه الصبر والعفو. # الرابع: أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه، ~~ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو ~~ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا وآجلا، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام ~~أضعافا مضاعفة، ويدخل في قوله تعالى: PageV01P169 # والله يحب المحسنين (134)) (1) ، فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من ~~أخذ منه درهم فعوض عليه ألوفا من الدنانير، فحينئذ يفرح بما من الله عليه ~~أعظم فرحا ms0070 (2) يكون. # الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلا يجده في ~~نفسه، فإذا عفا أعزه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث ~~يقول: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا" (3) . فالعز الحاصل له بالعفو أحب ~~إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عز في الظاهر، وهو ~~يورث في الباطن ذلا، والعفو ذل في الباطن، وهو يورث العز باطنا وظاهرا. # السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه ~~نفسه ظالم مذنب، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله ~~له. فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه سبب لأن يجزيه ~~الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه ويصفح، ويحسن إليه على ذنوبه، ويسهل عليه ~~عفوه وصبره، ويكفي العاقل هذه الفائدة. # السابع: أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه ~~زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه مالا يمكن استدراكه، ولعل هذا ~~أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفا وصفح فرغ قلبه وجسمه ~~لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام. PageV01P170 # الثامن: أن انتقامه واستيفاءه وانتصاره لنفسه، وانتصاره لها، فإن رسول ~~الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على ~~الله لم ينتقم لنفسه، مع أن أذاه أذى الله، ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه ~~أشرف الأنفس وأزكاها وأبرها، وأبعدها من كل خلق مذموم، وأحقها بكل خلق ~~جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها ~~وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم ~~لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها. # التاسع: إن أوذي على ما فعله لله، أو على ما أمر به من طاعته ونهي عنه من ~~معصيته، وجب عليه الصبر، ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله فأجره ~~على الله. ولهذا ms0071 لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في ~~الله لم تكن مضمونة، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله ~~لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في ~~الله تلفه كان على الله خلفه، وإن كان قد أوذي على مصيبة فليرجع باللوم على ~~نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه، وإن كان قد أوذي على حظ (1) ~~فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أمر أمر من الصبر، فمن لم يصبر ~~على حر الهواجر والأمطار والثلوج ومشقة الأسفار ولصوص الطريق، وإلا فلا ~~حاجة له في المتاجر. # وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في طلب شيء من الأشياء بدل من الصبر ~~في تحصيله بقدر صدقه في طلبه. PageV01P171 # العاشر: أن يشهد معيه الله معه إذا صبر، ومحبه الله له إذا صبر، ورضاه. ~~ومن كان الله معه دفع عنه أنواع الأذى والمضرات مالا يدفعه عنه أحد من ~~خلقه، قال تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين (46)) (1) ، وقال تعالى: ~~(والله يحب الصابرين (146)) (2) . # الحادي عشر: أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبدل من إيمانه جزاء في ~~نصرة نفسه، فإذا صبر فقد أحرز إيمانه، وصانه من النقص، والله يدفع عن الذين ~~آمنوا. # الثاني عشر: أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها وغلبة لها، فمتى ~~كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه وأسره وإلقائه في ~~المهالك، ومتى كان مطيعا لها سامعا منها مقهورا معها، لم تزل به حتى تهلكه، ~~أو تتداركه رحمة من ربه. فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه، ~~فحينئذ يظهر سلطان القلب، وتثبت جنوده، ويفرح ويقوى، ويطرد العدو عنه. # الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فالله وكيل من صبر، ~~وأحال ظالمه على الله، ومن انتصر لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر ~~لها. فأين من ناصره الله خير الناصرين إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين ms0072 ~~وأضعفه؟ # الرابع عشر: أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه، ~~وندامته واعتذاره، ولوم الناس له، فيعود بعد إيذائه (3) له PageV01P172 # مستحييا منه نادما على ما فعله، بل يصير مواليا له. وهذا معنى قوله ~~تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) ~~وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)) (1) . # الخامس عشر: ربما كان انتقامه ومقابلته سببا لزيادة شر خصمه، وقوة نفسه، ~~وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه، كما هو المشاهد. فإذا صبر وعفا ~~أمن من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما. وكم قد جلب ~~الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت نفوس ورئاسات ~~وأموال لو عفا المظلوم لبقيت عليه. # السادس عشر: أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر لابد أن يقع في الظلم، فإن ~~النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما ولا إرادة، وربما عجزت ~~عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول ~~ويفعل، فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالما ينتظر المقت ~~والعقوبة. # السابع عشر: أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب إما لتكفير سيئته، أو رفع ~~درجته، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته. # الثامن عشر: أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا ~~كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه وخوفه وخشيته منه ومن الناس، فإن الناس لا ~~يسكتون عن خصمه، وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله. ولهذا تجد كثيرا من ~~الناس إذا شتم غيره أو PageV01P173 # آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلا كان يجده. # التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمه استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح ~~عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه، وكفى بهذا فضلا وشرفا للعفو. # العشرون: أنه إذا عفا وصفح كانت هذه حسنة، فتولد له حسنة ms0073 أخرى، وتلك ~~الأخرى تولد له أخرى، وهلم جرا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب ~~الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها. وربما كان هذا سببا ~~لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك. # والأصل الثاني الشكر، وهو العمل بطاعة الله (1) . # *** PageV01P174 ### | فتوى في العشق # (*) PageV01P175 # بسم الله الرحمن الرحيم # سؤال رفع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد ~~السلام بن تيمية الحراني، وصورته: # ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل عاشق ~~في صورة، وتلك الصورة مصرة على هجره منذ زمان طويل لا يزيده إلا بعدا، ولا ~~يزداد لها إلا حبا، وعشقه لهذه الصورة من غير فسق ولا خنا، وليس هو ممن ~~يدنس عشقه بزنا، وقد أفضى الحال إلى هلاكه لا محالة إن بقي مع محبوبه على ~~هذه الحالة. فهل يحل لمن هذه حاله أن يهجر؟ وهل يجب وصاله على المحبوب ~~المذكور؟ وهل يأثم ببقائه على ما يكره من المحب؟ وماذا يجب من تفاصيل ~~أمرهما وما لكل واحد منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرع والعقل؟ ~~أفتونا مأجورين رحمكم الله. # الجواب # الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين: أحدهما يتعلق بالعاشق، والآخر ~~يتعلق بالمعشوق، ولكل واحد منهما تفاصيل تذكر عند ذكره. ولابد من تقديم ~~مقدمة ينبني عليها الجواب، وهي: # لاشك أنه من المعلوم أن الشرع والعقل قد دلا [على] وجوب تحصيل المصالح ~~وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها، فكلما يرى العاقل أنه إذا دخل في أمر ~~ما يوجب له مصلحة من وجه ومفسدة من # PageV01P177 # وجه وجب عليه عند ذلك الترجيح، فيأخذ لنفسه بالأسد والأكمل والأرشد ~~والأصلح. # ومن المعلوم أنه ### | ليس في عشق الصور مصلحة شرعية # دينية، لما يؤدي إلى الاشتغال بذكر المخلوق عن ذكر الخالق، والعبث بالصور ~~لا المعاني، والالتحاق بالعالم الحيواني غير الناطق في الائتلاف الصوري. ~~كما سئل بعضهم عن العشق، فقال: هي قلوب غفلت عن ذكر الحق، فشغلت بذكر ~~الخلق. فهذا مما يدل على بعد عشاق الصور عن ms0074 الرب العظيم باشتغالهم بالخسيس ~~الذميم. # لكن قد ذكر المتقدمون من عقلاء العرب وظرفائهم وطائفة من الحكماء أن فيه ~~فوائد، مع اتفاقهم على نقصه من جهة ما ذكرنا من أن صاحبه كلما قرب منه بعد ~~عن الله عز وجل. إن فيه فوائد (1) ، من جملتها رقة الطبع وإزالة خبثه ~~وترويح النفس وخفتها ورياضة الجسد، كما روي عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قيل ~~له: إن ابنك عشق فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيره إلى طبع الآدمي. # وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام. # وقال بعضهم: العشق لا يصلح إلا لذي مروءة ظاهرة، أو لذي لسان فاضل وإحسان ~~كامل، أو لذي أدب بارع وحسب خاشع (2) ، ويقبح لسواهم. # وقال بعضهم: العشق يشجع جنان الجبان، ويصفي ذهن الغبي، ويسخي كف البخيل، ~~ويخضع عزة الملوك، ويسكن نوافر الأخلاق. PageV01P178 # وهو أنيس المؤنس وجليس المجالس (1) ، وملك قاهر وسلطان. # وقال بعض العرب (2) : # إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعير في الفلاة سواء # وحكي أن جالينوس قال: من لم تبتهج نفسه للصوت الشجي والوجه البهي فهو ~~فاسد المزاج، يحتاج إلى العلاج. # وقال بعض الحكماء: العشق يروض النفس ويهذب الأخلاق، وإظهاره طبعي، ~~وإضماره تكليفي، حاجبه الصبر وخادمه الجوارح. # فهذه آثار - كما ترى - دالة على أنه ليس في العشق مصلحة شرعية دينية، ~~وإنما مال إليه هؤلاء لما ذكروا فيه من المصالح العقلية والرياضية، من ~~تهذيب النفس ورياضتها، ولو تعلق هؤلاء بمحبة الإله المعبود لألهاهم ذلك عن ~~محبة الأشخاص الفانية، وحصل لهم مقصودهم من رياضة النفس وفرط المحبة وتهذيب ~~الأخلاق المذكورة، وصار كل موجود يحدث لهم الفكر فيه وجدا لموجده، وكل ~~مخلوق يتبين لهم منه محبة لخالقه، فتخاطبهم الموجودات والمخلوقات بألسنة ~~الأحوال، وتوضح لهم أنه لا يستحق المحبة على الكمال غير ذي الإكرام ~~والجلال. # هذا ما يتعلق بالمقدمة وكيفية بناء الأصلين عليها. أما ما يتعلق بالعاشق ~~فقد ذكرنا أنه لابد من تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها، ~~فمن دخل على أمر ما فواجب عليه أن ينظر في ذلك الأمر، فإن كانت ms0075 مصلحته ~~راجحة على مفسدته أخذ بالأرجح. PageV01P179 # وقد دل الدليل كما ذكرنا على أنه ليس في العشق الصوري مصلحة دينية كما ~~ذكرنا، وإنما فيه مصلحة رياضية نفسية، والمصالح الدينية مقدمة، مع ما يقرن ~~بذلك مع أدائه إلى فساد الذهن وتشويش الحواس، وهو ملحق بشرب الخمر المحرم، ~~وليس لصاحبه عذر يعتذر به ولا حجة يقيمها. # مثال ذلك أن من شرب الخمر فسكر، فحصل منه جناية في حق أحد أو عربدة على ~~غيره، فأتلف شيئا، أخذ به، لأن الذي أزال عقله سبب محرم أدخله على نفسه ~~راضيا غير مكره، مع علمه قبل أن يشربه أنه يؤدي به الحال إلى هذا، فإذا ~~اعتذر وقال: لم أع ما قلت، ولا كان عقل أميز به، قلنا له: أنت فرطت حين ~~شربت. # ولهذا جنح بعض العلماء إلى مؤاخذة السكران بما يصدر منه من طلاق وعتاق ~~وجناية، بخلاف من يزول عقله بخلط سوداوي أو روحاني، فإن ذلك ليس هو من ~~فعله، ولا تسبب فيه برضاه، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال (1) : "رفع القلم عن ثلاث"، فذكر المجنون حتى يفيق. # فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يحكم على نفسه عشق الصور، ليؤدي به الحال إلى ~~الهلاك، فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه والمقرر لها، فإذا هلكت فهو الذي ~~أهلكها، وإذا قتلت فهو الذي قتلها، فإنه لولا تكرار نظره إلى وجه معشوقه لم ~~يثبت محبته في قلبه، حتى أداه إلى ما أداه. PageV01P180 # وذلك لأن أول مرتبة المحبة (1) تسمى الاستحسان، وهي المتولدة عن النظر ~~والسماع، ثم تقوى هذه المرتبة بطول الفكرة في محاسن المحبوب وصفاته ~~الجميلة، فتصير مودة، وهي الميل إليه والألفة بشخصه. ثم تتأكد المودة فتصير ~~محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني. فإذا قويت صارت خلة، وهذا أصح ~~الأقوال. والخلة بين الآدميين هي تمكن محبة أحدهما من قلب صاحبه حتى يسقط ~~بينهما السرائر، ثم تقوى الخلة فتصير هوى، والهوى أن المحب لا يخالطه في ~~محبوبه تغير، ولا يداخله تلون. ثم يزيد الهوى فيصير عشقا. # والعشق الإفراط في ms0076 المحبة حتى لا يخلو العاشق من تخيل المعشوق وفكره ~~وذكره، ولا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك يشغل النفس عن استخدام القوة ~~الشهوانية والنفسانية، فيمنع من النوم لاستضرار الدماغ. فإذا قوي العشق صار ~~تتيما، وفي هذا الحال لا يوجد في قلبه فضلة لغير تصور معشوقه، ولا يرضى ~~نفسه بسواها. فإذا تزايد الحال صار ولها، والوله هو الخروج عن الحدود ~~والضوابط حتى تختل أفعاله وتتغير صفاته، ويصير موسوسا لا يدري ما يقول ولا ~~أين يذهب، فحينئذ يعجز الأطباء عن مداواته، وتقصر آراؤهم عن معالجته، ~~لخروجه عن الحدود والضوابط. # قال بعضهم (2) : # الحب أول ما يكون لجاجة يأتي به ويسوقه الأقدار PageV01P181 # حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى جاءت أمور لا تطاق كبار # فلو لم ينتقل العاشق بنفسه في هذه المراتب من مرتبة إلى مرتبة، حتى وصل ~~إلى الحد الذي يؤذيه، لم يصبه أذى، فهو الجاني على نفسه، وأشبه به قول ~~القائل: "يداك أوكتا وفوك نفخ" (1) . فتصور بهذا أنه مخطىء بما صدر منه أو ~~لا، وإن كان ينبغي أن يحتاط لنفسه ولا يورطها فيما فيه هلاكها. # فعلى هذا فالعاشق له ثلاث مقامات (2) : مبتدأ، ومتوسط، ونهاية. # أما مبتدؤه ففي أول الأمر واجب عليه كتمان ذلك وعدم إفشائه للمخلوقين، ~~تقليلا للوشاة عليه، وإمالة لقلب محبوبه إليه، مراعيا في ذلك شرائط الفتوة ~~من العفة مع القدرة، وإلا التحق بالشيطان الرجيم وحزبه، فازداد به الأمر ~~إلى المقام الأوسط، فيغلب عليه الحال، فلا بأس بإعلام محبوبه بمحبته إياه، ~~فيخف بإعلامه له وشكواه إليه ما يجده منه، ويحذر من إطلاع الناس على ذلك، ~~فهو يكون سبب هلاكه. فإن زاد به الأمر حتى يخرج عن الحدود والضوابط ~~المذكورة، فقد التحق من هذا حاله بالمجانين والمولهين. # على أن من رخص في العشق من العقلاء، لما ذكرنا من ترويضه للنفس وتهذيبه ~~للأخلاق، فجعله مشروطا بالعفة المذكورة، كما قال قائلهم: "عفوا تشرفوا، ~~واعفوا تطرفوا". وقال الأحنف بن قيس (3) : PageV01P182 # أتأذنون لصب في زيارتكم فعندكم شهوات السمع والبصر # لا يضمر الشوق إن طال الجلوس به عف ms0077 الضمير ولكن فاسق النظر # وقيل لبعض العشاق: ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: # كنت أمنع طرفي من وجهه، وأروح قلبي بذكره وحديثه، أستر منه مالا يحب ~~كشفه، ولا أصير بفتح القفل إلى ما ينقض عهده. وأنشد (1) : # أخلو به فأعف عنه كأنني خوف الديانة لست من عشاقه # كالماء في يد صائم يلتذه ظمأ فيصبر عن لذيذ مذاقه # وانقسموا قسمين: # قسم قنعوا بالنظرة البعيدة ولو في مدة مديدة، كما قال شاعرهم: # ليس في العاشقين أقنع مني أنا أرضى بنظرة من بعيد # وقال الآخر: # لو مر في خاطري تقبيل وجنته لسيلت فكري عن عارضيه دما # وقال آخر: # وأحفظه عن ناظري ومقلتي مخافة أن العين تجرح خده # واستمروا على هذه الحالة، فمنهم من يموت وهو كذلك، لا يظهر سره لأحد، حتى ~~محبوبه لا يدري به. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عشق ~~فعف فكتمه فمات منه فهو شهيد" (2) . وهذا مقام PageV01P183 # عظيم يرفع، إن تركه وحسم مادته [فهو] أفضل وأقرب إلى الحق كما ذكرنا. # والقسم الثاني أباحوا لمن وصل إلى حد يخاف على نفسه منه- القبلة في الحين ~~قد غلبه نفسه وقهره قوته. قالوا: لأن في تركها ما يؤدي إلى هلاك النفس، ~~والقبلة صغيرة، وهلاك النفس كبيرة، وإذا وقع الإنسان في مرضين خطرين داوى ~~أخطرهما، ولا خطر أعظم من قتل النفس، حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعته على ~~ذلك إذا علم أن تركه ذلك يؤدي إلى هلاكه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ~~(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) (1) ، ~~قالوا: إن سبب نزولها أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ~~يا رسول الله! إني أصبت من امرأة أجنبية كل شيء إلا النكاح، فقال له النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر الله لك. فنزلت ~~هذه الآية (2) . # وبقول الله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش وإذا ما غضبوا ~~PageV01P184 # هم يغفرون (37)) (1) . إلا أنهم كما قال بعض السلف: ما رأيت شيئا ms0078 أشبه ~~باللمم من قول أبي هريرة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب ~~على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، ~~واللسان يزني وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطا، واليد تزني وزناها ~~البطش، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (2) . # وهذه النصوص واردة في حق النساء، وهذا السؤال عن الرجال، لأن أولئك القوم ~~في الزمن الأول لم يكن للغلمان عندهم قدر يهوون من أجله، أما الآن فقد ~~زادوا على الحد، وازدادوا على أولئك في الحد، وهم الفتنة موجودة، وقد نهى ~~الله عز وجل عن إرسال النظر، فقال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) ~~(3) حسما لهذه المادة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "النظرة ~~الأولى لك، والثانية عليك" (4) . حتى قيل: "رب حرب حميت من لفظه، ورب عشق ~~غرس من لحظه". # وقد نقل الشيخ محيي الدين النووي (5) تحريم النظر إلى الأمرد الحسن بشهوة ~~وبغير شهوة، وأفتى به وصححه - رحمه الله - ذهابا إلى سد هذه الثغرة وحسم ~~مادة هذه البلية العظيمة. # فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يدنس عشقه بزنا، ولا PageV01P185 # يصحبه بخنا، فينظر في حاله، إن كان من الطبقة الأولى فقد ذكر شروطهم فيما ~~يتعلق بالكتمان حتى عن المحبوب، وإن كان كافيا لهم ان صدقت دعواهم. وإن كان ~~من الطبقة الثانية فلا بأس بشكواه إلى محبوبه كي يرق عليه ويرحمه. وإن غلبه ~~الحال فالتحق بالثالثة أبيح له ما ذكرنا، بشرط أن لا يكون أنموذجا لفعل ~~القبيح المحرم، فيلتحق بالكبائر، فيستحق القتل عند ذلك، ويزول عنه العذر، ~~ويحق عليه كلمة العذاب، (حقت كلمة العذاب على الكافرين (71)) (1) . # وأما ما يتعلق بالمعشوق فيجب عليه إدامة حمد الله وشكره على ما أعطاه من ~~الجمال والحسن، ويحرص أن لا يجتمع مع حسنه قبيح الفعال، ولا يدنس جماله ~~بخسيس الخصال. فإن ظهر له من محبة هذا صدق دعواه، وفهم سلوك طريق المحبة من ~~نجواه، فعامله المعاملة الجميلة، وأباح له النظر والمحادثة المذكورة، ~~والقبلة في الأحيان بالشروط ms0079 المتقدمة، مع أن هذا يكون تفضلا منه فلا يجب ~~عليه، فإن خست نفس العاشق وجنحت إلى الفسق الصراح هجره، وما عليه في ذلك من ~~جناح، وإن قتله بعشقه فليقتله، فهذا بعض حقه. والله أعلم بالصواب، وعنده ~~علم الكتاب. آخره، والله سبحانه وتعالى أعلم. # *** PageV01P186 ### | مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها # PageV01P187 # مسألة # في الفتوة وآدابها وشرائطها، وهل لها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله؟ ~~وهل الفتوة متصلة بإبراهيم الخليل عليه السلام أو بعلي بن أبي طالب رضي ~~الله عنه؟ وهل إذا كانت متصلة بأحد من الأنبياء أو من الأولياء، فهل للباس ~~والماء والملح الذي يشربونه أصل في ذلك؟ حتى أنه إذا شرب أحدهم الشربة يعد ~~نسبها إلى آدم عليه السلام، وكيف سميت فتوة؟ وأيش السبب في ذلك؟ وهل لأحد ~~من أئمة المسلمين قول في ذلك أم لا؟. # الجواب # الحمد لله. الفتى في كلام العرب هو الحدث بالنسبة إلى غيره، كما قال ~~تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13)) (1) ، وقال تعالى: (قالوا ~~سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60)) (2) ، (وإذ قال موسى لفتاه) (3) ، ~~(وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) (4) . # ثم إنها غلبت في عرف كثير من الناس على مكارم الأخلاق، لكون الشباب ألين ~~أخلاقا من الشيوخ، وصاروا يطلقون الفتوة على ذلك، حتى قال بعض المشايخ: ~~طريقتنا تتفتى وليس تتعرى. وكما قال آخر منهم: التصوف خلق، من زاد عليك في ~~الخلق زاد عليك في التصوف. PageV01P189 # وأعظم مكارم الأخلاق تقوى الله، ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن ~~الفتوة، فقال: ترك لما تخشى. وهذا من قوله: (وأما من خاف مقام ربه ونهى ~~النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41)) (1) . ولهذا يقولون: إن هذه ~~الآية تجمع علم الطريق، وصار يتكلم في الفتوة وما يدخل فيها من طوائف من ~~المشايخ وغيرهم، وجماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين، كما روى حديثا صححه ~~عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ما أكثر ما يدخل ~~الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل ما أكثر ما ms0080 يدخل الناس ~~النار؟ فقال: الأجوفان: الفم والفرج (2) . # فتقوى الله وحسن الخلق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى: (إن الله مع ~~الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) (3) . وسواء سمي ذلك فتوة أم لم يسم، ~~فالاعتبار في الدين بالإخاء التي جاءت (4) في القرآن وما علق بها من مدح ~~وذم، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، فالممدوح مثل اسم الإيمان والإسلام والتقوى ~~والإحسان والبر والصدق والعدل ونحو ذلك، والمذموم مثل الكفر والنفاق ~~والفجور والإساءة والكذب والظلم والفواحش ونحو ذلك. فمن فعل ما يحمد عليه ~~في القرآن حمد، ومن فعل ما يذم عليه في القرآن ذم، ومن فعل ما يحمد وما يذم ~~استحق الحمد والذم جميعا، (وما ربك بظلام للعبيد (46)) (5) . PageV01P190 # وأما سقي الماء والملح وإلباس السراويل ونحو ذلك فبدعة باطلة لا أصل لها، ~~ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء والصالحين، لا إبراهيم ولا علي ولا غيرهما. # ولا يشرع اجتماع طائفة وتحزبهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بعضهم بعضا ~~في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحد اتباع كتاب الله وسنة رسوله، ~~والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى. ~~قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (1) ، وقال تعالى: (إنما وليكم الله ~~ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ~~ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)) (2) ، ~~وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون ~~عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم ~~الله إن الله عزيز حكيم (71)) (3) . # وفي الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مثل ~~المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه ~~عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وقال (5) : "المؤمن للمؤمن ~~كالبنيان يشذ بعضه بعضا"، وشبك بين أصابعه. وقال (6) : "والذي نفسي بيده لا ~~يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه". PageV01P191 # وأمثال هذه الآيات والأحاديث التي إذا آمن الناس بها، وسموا بما سماهم ~~الله ورسوله، جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة. # ولم يكن من ms0081 الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين لا من أهل البيت ولا غيرهم ~~[من] يدعو الناس إلى هذا الاسم، ولا يحزب له أحزابا عليه. ومن نقل عن أمير ~~المؤمنين علي أو غيره شيئا من ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحاله. # وأما الأمور المكروهة في الدين من الظلم والكذب (1) ونحو ذلك، فلا يشك ~~مؤمن بالله ورسوله أنه يجب النهي عن ذلك، بل يجب النهي عن دواعي ذلك ~~وأسبابه وما يقصد به ذلك. # وكثير مما تسميه الناس فتوة في هذا الزمان يقصدون به التعاون على ظلم أو ~~فاحشة، ويجعلون ذلك وسيلة لصيد المردان وإفسادهم، فلو كان الفعل الذي ~~يفعلونه مباحا وكان المقصود به ذلك لكان محرما باتفاق المسلمين، فإن في ~~الصحيحين (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى ~~الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو ~~امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". # فإذا كانت الهجرة التي أمر الله بها عباده، إذا كان مقصود المهاجر [بها] ~~التزوج بامرأة أو طلب دنيا لم يكن له إلا ذلك، ولم يكن له في الآخرة من ~~خلاق، فكيف ممن يفعل البدع لقصد الفواحش والظلم، PageV01P192 # حتى يجرئوا الشباب على القتل المحرم وأخذ الأموال والعشرة في طاعة ~~الشيطان، من جن[س] ما يفعله أهل الدساكر وأهل المياسر. # والواجب النهي عن هذه الشباهة، وعقوبة من يفعل ذلك عقوبة بليغة تردع ~~المتعاونين على الإثم والعدوان المتشبثين بخطوات الشيطان. # والله أعلم. # *** # PageV01P193 ### | مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة # PageV01P195 # مسألة # فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة، كدق المنبر بالسيف في أول درجه ~~وثانيه وثالثه، وقول المؤذنين عند ذلك: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ~~وعلى أبي بكر وعمر ضجيعيه، وفي الثانية: وعلى عثمان وعلي صهريه؛ وفي ~~الثالثة: وعلى آل محمد وعلى الحمزة والعباس عميه. فإذا رقي أعلى المنبر ~~أقبل على الناس وسلم عليهم ورفع يده، فإذا شرع ms0082 في الخطبة وأتى إلى ذكر ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع المؤذنون أصواتهم بالصلاة عليه، فإذا فرغ ~~الخطيب قام بعض المؤذنين ومجد الخطيب وأثنى عليه. # الجواب # البدع التي يفعلها الخطباء في الجمعة متعددة، قد ذكروا منها نحو عشرين ~~بدعة (1) ، منها ما ذكر من الدق بالسيف، ورفع المؤذن صوته بالدعاء للخطيب، ~~أو بالصلاة والترضي. # وأما تسليم الإمام عليهم إذا استقبلهم بعد الاستدبار، فهو مستحب عند ~~الشافعي وأحمد وغيرهما (2) ، وقد جاء ذلك مأثورا عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - (3) ، PageV01P197 # ولكن يسلم السلام الشرعي. # واتفق الأئمة على أن المشروع لمن سمع الخطيب أن ينصت ولا يجهر بشيء، فقد ~~قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قلت لصاحبك - والإمام يخطب يوم الجمعة-: ~~أنصت، فقد لغوت" (1) . فإذا كان الأمر بالإنصات لاغيا فكيف غيره؟ وسواء في ~~ذلك المؤذن وغيره، لا يجهر أحدهم عند تكلم الخطيب بشيء، لا بصلاة على النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - ولا غير ذلك. لكن هل يسكت عند ذكر النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أو يصلي عليه سرا في نفسه؟ هذا فيه نزاع بين العلماء، فأما رفع ~~الصوت بذلك أو غيره فمنهي عنه باتفاق العلماء، وجمهورهم على أن ذلك محرم، ~~كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأحمد في أشهر ~~الروايتين عنه. # وقد تبين أن هذه الأفعال مذمومة إلا سلام الخطيب على المأمومين. # والله أعلم. الحمد لله، وصلى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. # *** PageV01P198 ### | قاعدة في أفعال الحج # PageV01P199 # بسم الله الرحمن الرحيم # قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: # الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات ~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. # وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ~~صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. # فصل # في أعمال الحج والعمرة، وما يشرع منها في غير حج ولا عمرة، وما يختص ~~بالحج، وهل لمن ليس بحاج ولا معتمر أن يدخل معهم ms0083 في بعض ذلك ولا يلتزم ~~شرائطه، وكذلك الصلاة فنقول ### | : أعمال الحج ثلاثة أقسام، # منها ما يختص بالحج، ومنها ما يشترك فيه الحج والعمرة، ومنها ما يشرع ~~منفردا عن الحج والعمرة. # فهذا الثالث هو الطواف بالبيت، فإن الحج لابد فيه من طواف بالبيت، وكذلك ~~العمرة. والطواف عبادة مستقلة، فيطوف بالبيت المحل الذي ليس في حج ولا ~~عمرة، ولا يشترط له إحرام. وهذا متفق عليه بين المسلمين، مشروع للخلق من ~~حين بنى إبراهيم البيت. قال تعالى: (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع ~~السجود (26)) (1) . فهذه PageV01P201 # العبادات الطواف والاعتكاف والصلاة هي مشروعة لجميع الناس، لا يختص شيء ~~من ذلك بالحج والعمرة، بل الاعتكاف مشروع بغير إحرام، وكذلك الصلاة، وكذلك ~~الطواف. لكن الطواف هو ركن في الحج والعمرة، بخلاف الاعتكاف، لقوله تعالى: ~~(ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)) (1) . # وأما الطواف بالصفا والمروة فيختص بالحج والعمرة، لا يشرع منفردا، بل ولا ~~يشرع إلا بعد الطواف بالبيت، ولهذا يجيء في الحديث: "طاف بالبيت وبين الصفا ~~والمروة" (2) . قال تعالى: (*إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت ~~أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (3) ، لم يشرع ذلك مطلقا كما شرع ~~الطواف والاعتكاف والصلاة، وقد ثبت في الصحيح (4) : أن ناسا كانوا يظنون أن ~~الصفا والمروة ليس من شعائر الله، بل ظنوا ذلك من أعمال الجاهلية، وآخرون ~~كانوا لا يطوفون بهما في الجاهلية. فلما جاء الإسلام سألوا عن ذلك، فأنزل ~~الله هذه الآية، يبين أن الصفا والمروة من شعائره، وقد شرع لعباده الطواف ~~بهما، فلا جناح في ذلك على من حج أو اعتمر، وأزال بذلك ما كان قد حصل من ~~الشك والظن. وهذا كما يسأل الرجل عن عبادة مأمور بها، فيظن أنها منهي عنها، ~~فيقال له: لا بأس بذلك، وإن كان ذلك مشروعا مستحبا. # ولم يكن حين نزول هذه الآية قد أوجب الله الحج، بل بين أن PageV01P202 # ذلك مشروع بقوله: إنهما (من شعائر الله) ، وبقوله: (ومن تطوع خيرا فإن ~~الله شاكر عليم (158)) (1) . فهذا وهذا يبين أن ذلك ms0084 عمل صالح، وأن قوله ~~"فلا جناح" لنفي الشبهة التي وقعت لهم في ذلك، وأن قوله "لا جناح عليه" أي ~~لا جناح في التقرب بالطواف واتخاذه عبادة، فإن أحدا لا يطوف بهما إلا على ~~وجه التعبد، ليس ذلك كالسفر الذي يفعل على وجه العبادة وغير وجه العبادة. ~~فلما قال تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) وهو لا يفعل إلا عبادة، كان ~~المعنى: لا جناح [على] من عبد الله بهما، فيدل ذلك على أن الطواف بهما ~~عبادة لله. # وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن تنازعوا: هل ذلك ركن؟ # كما يقوله مالك والشافعي، أو واجب يجبره دم؟ أم لا شيء في تركهما؟ كما ~~يقوله طائفة من السلف، وهي ثلاث روايات عن أحمد (2) . وأقوى الأقوال أنه ~~واجب يجبره دم. # وهذا كما يقول: تقام الجمعة في القرى، وبدون إذن الإمام، وإن كان ذلك ~~واجبا، لما في ذلك من الشبهة. وكما يجوز الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، ~~وإن كان ذلك هو السنة. وكما يجوز إشعار الهدي، وإن كان ذلك هو السنة. وكما ~~يقول: يجوز قضاء الفوائت في أوقات النهي، وإن كان ذلك واجبا، لأن قضاءها ~~على الفور. وكما يجوز قصر الصلاة في السفر وإن كان آمنا، وهذا هو السنة، بل ~~هو واجب في أحد قولي العلماء. ونظائر ذلك كثيرة. # والمقصود هنا أن الطواف بالصفا والمروة مما لا يكون إلا في PageV01P203 # حج أو عمرة بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يفعل مفردا كالطواف، ولا يختص ~~بالحج كالوقوف. وكذلك الإحرام والتلبية والحلق أو التقصير هو مما يشترك فيه ~~الحج والعمرة. # وأما القسم الثالث وهو ما يختص [به] الحج، كالوقوف بعرفة وتوابعه مزدلفة ~~ومنى، ورمي الجمار، فهذه الأعمال يختص بها الحج، وما اختص به الحج فإنه ~~يختص بمكان وزمان. فالوقوف لا يكون إلا يوم عرفة وليلة النحر، وهو مختص ~~بعرفات، لا يسافر إلى غيرها للوقوف، وكذلك توابعه: كالوقوف بمزدلفة، ~~والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فهذا له مكان مخصوص، وهو مشروع في أوقات ~~مخصوصة. # بخلاف العمرة، فإنها مشروعة في جميع السنة، قال ms0085 الله تعالى: (الحج أشهر ~~معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (1) ، وقال: ~~(*يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (2) . # ولهذا اتفق العلماء على أن من طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة، أنه ~~فاته الحج، لأن له وقتا محدودا، وإذا فاته الحج سقطت توابعه - كالوقوف ورمي ~~الجمار - عند عامة العلماء للسلف والخلف، وهو قول الأئمة الأربعة وغيرهم، ~~لكنه هل ينقلب إحرامه عمرة؟ لكونها لا وقت لها، أو يتحلل بطواف الحج وسعيه؟ ~~فيه قولان مشهوران للعلماء، والنزاع في مذهب أحمد وغيره (3) . PageV01P204 # وفيها قول شاذ أنه يتم أعمال الحج من الوقوف بمزدلفة ورمي الجمار، يروى ~~عن الأوزاعي والمزني، وهو رواية ضعيفة عن أحمد. # والصواب ما عليه الجمهور، كما نقل عن الصحابة، ولأن الله إنما أمر بهذه ~~الأعمال من وقف بعرفة، فقال: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر ~~الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من ~~حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم ~~فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) (1) الآية. وإذا كان إنما أمر ~~بذلك من أفاض من عرفات، فمن فاته الحج لم يفض من عرفات، فلا يؤمر بذلك. ~~وهذا كما أن الطواف بين الصفا والمروة إنما يكون تابعا للطواف بالبيت، فلا ~~يفعل إلا بعده، فمن لم يطف بالبيت لم يطف بالصفا والمروة. # وأعظم أعمال الحج الوقوف والطواف، وهما ركنان في الحج باتفاق العلماء، ~~وهذا من جنس السكون، وهذا من جنس الحركة. # فصل # فمن اجتاز بالمواقيت لقصد الحج والعمرة، فعليه الإحرام بالسنة المستفيضة ~~واتفاق العلماء، كما قال ابن عباس في الحديث المتفق عليه (2) ، وقال: وقت ~~لأهل المدينة ذا الحليفة، وأهل الشام الجحفة، وأهل نجد قرنا، وأهل اليمن ~~يلملم، وقال: "هن لهن ولكل آت آتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج أو العمرة، ~~ومن كان دون ذلك PageV01P205 # فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون منها". # وإذا اجتاز بالمواقيت لا يريد الحرم، فليس عليه الإحرام ms0086 بالاتفاق. # وإن اجتاز بها يريد مكة لتجارة أو زيارة أو غير ذلك مما لا يتكرر، فإنه ~~ينبغي له أن يدخل محرما بحج أو عمرة. وهل ذلك واجب؟ فيه قولان للعلماء، ~~والجمهور على الوجوب، وهو مأثور عن ابن عباس، حكاه عنه أحمد وغيره، وهذا ~~مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد. وعنهما أن ذلك ~~مستحب. # ومن قال بالوجوب تنازعوا فيما إذا ترك ذلك، هل يلزمه القضاء؟ # فأوجبه أبو حنيفة، ولم يوجبه الباقون. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~"ممن يريد الحج والعمرة" (1) لا ينافي هذا القول، فإن هؤلاء يوجبون عليه أن ~~يريد الحج أو العمرة، لكن الحديث فيه نفي ذلك عمن (2) لا يريده، مثل ~~المجتاز بالمواقيت إلى غير مكة. # ولو كان منزله بالمواقيت أو دونها لم يوجب أبو حنيفة عليه الإحرام، ~~وأوجبه مالك والشافعي وأحمد - على قولهما بالوجوب -، وقد حكى الطحاوي الأول ~~عن مالك. # والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وخلفاؤه لم يدخل أحد منهم مكة إلا ~~محرما، إلا عام الفتح، فانه دخل وعلى رأسه المغفر (3) ، ولم يكن محرما، لأن ~~الله أحل له القتال فيها يومئذ، وقال: "إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل ~~لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار" (4) . وقال: "فإن PageV01P206 # أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا: إنما ~~أحلها الله لرسوله، ولم يحلها لك، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها أمس" (1) ~~. # فصل # وأما من عمل أعمال الحج والعمرة فهذا عليه أن يفعلها على الوجه المشروع، ~~وليس له أن يجتاز بالمواقيت بلا إحرام، بالسنة واتفاق العلماء. وهو كمن ~~أراد الصلاة، عليه أن يصليها على الوجه المشروع، فيصليها بطهارة وقصد إلى ~~القبلة، وإن كانت الصلاة تطوعا غير فرض، لكن ليس له أن يصلي إلا على الوجه ~~المشروع. # كذلك الحج والعمرة وإن كان متطوعا، فليس له أن يحج ويعتمر إلا على الوجه ~~المشروع. فلو قال: أنا أدخل بلا إحرام، وأطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ~~لم يكن له ذلك. وكذلك لو قال: أنا أدخل بلا ms0087 إحرام، وأقف بعرفة ومزدلفة ~~وأرمي الجمار، لم يكن له ذلك بالسنة واتفاق العلماء. # ولو قال: أنا أريد الوقوف فقط، فأذهب في شأني غير محرم إلى عرفة، فأقف مع ~~الناس وأرجع، فهذا أولى بالمنع، لأن ذاك ترك الإحرام وحده، وهذا ترك ~~الإحرام وتوابع الوقوف. والوقوف بعرفة إنما شرعه الله بعمل قبله - وهو ~~الإحرام -، وعمل بعده - وهو الوقوف بالمشعر الحرام وسائر المناسك-، قال ~~تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما ~~هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ~~واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم PageV01P207 # فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) إلى قوله (*واذكروا الله في ~~أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن ~~اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203)) (1) . # فأمر سبحانه الناس إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروه عند المشعر الحرام، وهو ~~مزدلفة كلها بالسنة واتفاق العلماء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~في عرفة: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة". وقال في ~~مزدلفة: "هذا الموقف، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر". وقال: "منى ~~كلها منحر، وفجاج مكة كلها منحر" (2) . وأمر الناس بقضاء مناسكهم أي ~~إتمامها وإكمالها. وأمرهم أن يذكروه في أيام معدودات، وهن أيام التشريق، ~~وفيها يرمى الجمار الثلاث، ويذكر الله عند رمي الجمار بدعاء بين كل جمرتين. ~~ومزدلفة المبيت بها والوقوف بها ورمي الجمار بمنى واجب عند العلماء قاطبة، ~~ومنهم من جعل الوقوف بمزدلفة ركنا. # فهذا الذي وقف بعرفة إن لم يفعل ما أمره الله من هذه الأعمال فقد عصى ~~الله ورسوله، وترك ما أوجبه الله. وإن فعل ذلك بغير إحرام، وقال: كنت حاجا، ~~فهو أيضا عاص لله ورسوله، فإن هذه هي أفعال الحج، وليس للإنسان أن يأتي ~~بالعبادة بلا قصد التعبد، فإن هذا استهزاء بآيات الله. وهو بمنزلة من يقوم ~~ويركع ويقرأ ويسجد، ويقول: لست مصليا، فلا أحتاج إلى وضوء. PageV01P208 # وليس لأحد ms0088 أن يشهد مجامع الناس في صلاتهم وحجهم إلا إذا شاركهم في ذلك. ~~وفي السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة العصر بمسجد الخيف، ~~فرأى رجلين لم يصليا، فقال علي بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال: ~~"مالكما لم تصليا؟ ألستما مسلمين؟ "، فقالا: يا رسول الله! صلينا في ~~رحالنا، قال: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، ~~فإنهما لكما نافلة" (1) . وكذلك قال عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن ~~وقتها، قال: "صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة" (2) . وفي ~~رواية: "ولا يقل أحدكم قد صليت" (3) . # وكذلك الوقوف بعرفة ومزدلفة، لا يقف هناك مع الحجاج إلا حاج محرم. وقد ~~روي عن عمر بن الخطاب أنه رأى بعرفة قوما عليهم العمائم، فأراد عقوبتهم. # والله سبحانه يباهي الملائكة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، آتوني ~~شعثا غبرا (4) . وهذا شعار الإحرام، فمن لم يحرم لم يأت ربه لا أشعث ولا ~~أغبر. فمن ذهب إلى عرفات بغير إحرام، ووقف مع الناس ثم انصرف منها، كما ~~يحصل لطائفة من الناس ممن PageV01P209 # يحمله الجن والشياطين، يحملونهم إلى عرفات ثم يردونهم، فهؤلاء ضالون ~~مبتدعون خارجون عن شريعة الإسلام، وإن كانوا وقفوا بعرفات بغير إحرام وفي ~~غير حج، ولم يفعلوا ما أمر به المفيضون من عرفات بعد ذلك. # والوقوف بعرفات لا يكون قط مشروعا إلا في الحج باتفاق المسلمين، في وقت ~~معين على وجه معين، فمن قال: أقف ولست بحاج فقد خرج عن شريعة المسلمين، بل ~~إن اعتقد ذلك دينا لله مستحبا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وإن قال: ليس ~~بدين لله ولا هو مستحب، قيل له: إنما فعلت على وجه التدين والتعبد به، وهذا ~~لا يجوز. وإن كنت فعلته على سبيل التنزه والتفرج فهذا شر وشر. # والحج والعمرة لهما شأن يميزهما، فيلزمان بالشروع، كما قال: (وأتموا الحج ~~والعمرة لله) (1) ، فمن دخل فيهما لم يكن له الخروج، فالواقف بعرفة عليه ~~إتمام الحج وإن كان متطوعا، وليس له أن يقف وينصرف باتفاق المسلمين. # فهذا الذي حملته الجن ms0089 إلى عرفة ثم منها إلى بلده، قد ترك ما أمر الله به ~~قبل الوقوف وبعد الوقوف وحال الوقوف، حيث وقف بثيابه من غير إحرام. ولو قدر ~~أنه وقف بعرفة ومزدلفة ومنى كان قد ترك ما يجب عليه من الإحرام، وفعل ذلك ~~في ثيابه بغير عذر. وهذا لا يجوز بالنص والإجماع. # ولهذا يذكر عن بعض المحمولين إلى عرفة من بلد بعيد - إما الإسكندرية أو ~~غيره - أنه رأى في منامه وهو هناك ملائكة تنزل تكتب PageV01P210 # الحجاج، فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست منهم، الحجاج هؤلاء الذين جاءوا ~~ركبانا ومشاة، وأحرموا ووقفوا وهم يتمون الحج. أو كما قيل له. # وأيضا فالله تعالى إنما دعا الناس إلى بيته على لسان الخليل، قال: (وأذن ~~في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) (1) . ~~فجعل الآتين إلى بيته نوعين: رجالا وركبانا، وليس فيهم طائر ولا محمول في ~~الهواء، فدل على أن هذا القسم الثالث ليسوا ممن أجاب دعوة ربهم، ولهذا لا ~~يلبون. # ومنهم من يحمله الشيطان، ويمنعه أن يرى شيئا، فلا يحس بنفسه إلا بعرفة أو ~~بغيرها من الأماكن التي يحمله إليها. وقد حدثني غير واحد من الثقات عن ~~الشيخ إبراهيم الجعبري أنه قال: خرجت مرة، فرأيت بالكسوة - أو قال بغيرها - ~~رجالا ممن يطير في الهواء، فيذهب إلى مكة، فقالوا: لا تذهب معنا؟ فقلت لهم: ~~لا، فإن هذا الذي تفعلونه لا يسقط الفرض عنكم، ولا يتقبله الله حتى تحجوا ~~كما أمر الله ورسوله، فيحصل لكم في طاعة الله من التعب وغيره ما يأجركم ~~الله عليه، وأما هذا الحج فلا فائدة فيه. فقالوا: نحن نقبل منك ونحج معك ~~على السنة. فلما حجوا قالوا: جزاك الله خيرا، فإنا في هذه الحجة ذقنا طعم ~~العبادة لله وحلاوة الحج. # ومن هؤلاء المحمولين الذي تحملهم الجن إلى مكة من يذهب به قبل الحج، ~~فيحرم من الميقات، ويحج حج المسلمين. ولكن هذا محروم، فوت نفسه فضل السير ~~إلى المواقيت راكبا أو ماشيا، فلم PageV01P211 # يكن له أجر الحجاج. ومن هذا ms0090 الباب ما يحكى عن بعض المشايخ - معروف أو ~~غيره - أنه سار في الهواء إلى مكة، فطاف بالبيت، ثم ذهب ليشرب من زمزم، ~~فوقع فشج. فإن هذا وإن كان أهون من الذي حمل يوم عرفة إلى عرفة، كما حمل ~~جماعة كثيرة من أعصار وأمصار متفرقة. وأقدم من حكي هذا عنه حبيب العجمي. ~~فأما الصحابة فكانوا أجل قدرا من أن يطمع الشيطان في أن يضلهم ويصرفهم عن ~~سنة الرسول وشريعته، كما صرف من كان قليل العلم والمعرفة بالسنة والشريعة ~~من العباد والزهاد وغيرهم. # والذين يحملون إلى عرفات أو غيرها، منهم من لا يعرف أن ذلك من الجن، ~~ومنهم من يعرف ذلك، ويظن هؤلاء وهؤلاء أن ذلك كرامة من كرامات الأولياء، ~~وأن هذا العمل مما يحبه الله ويرضاه ويثيب صاحبه عليه. ولو علموا أن ذلك ~~ليس بواجب ولا مستحب في الشريعة، وأنه من إضلال الشياطين لهم، لم يفعلوه ~~لما عندهم من الدين والخير وحسن القصد، رحمة الله عليهم. والمجتهد المخطئ ~~يغفر له خطؤه، ويثاب على حسن قصده وما عمله من عمل مأمور به، والله أعلم. ~~لكن مثل هذا هو مما يعذر فاعله عليه، ليس هو مما يستنكر عليه، بخلاف ما ~~فعله من لم يعرف، فإنه يظن أن هذا من أعظم القربات. ولو علم أن مثل هذا ~~الحمل إلى الأمكنة البعيدة يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين ~~أعظم مما يحصل للمؤمنين، لعلم أنه من عمل الشيطان، لا مما أمر به الرحمن. # وذلك أن الطواف بالبيت مشروع بغير إحرام، لكن نفس الدخول إلى مكة للطواف ~~بغير إحرام لا يجوز عند جماهير العلماء، بل لو جاز لتجارة لم يجز، فكيف ~~للطواف بلا إحرام. ومن لم يوجبه فإنه # PageV01P212 # يستحبه، فهذا فوت نفسه هذه الفضيلة. وذهابه محمولا مع الجن أو غيرهم في ~~الهواء ليطوف ليس من الأعمال الصالحة المشروعة، لا واجبا ولا مستحبا، ولو ~~كان ذلك مشروعا لكان الأنبياء أقدر على ذلك، وكانوا يذهبون في الهواء ~~يحجون، وهذا لم يعرف عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة، والأنبياء ms0091 أفضل ~~الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، ولو كان عملا صالحا لكان هؤلاء ~~أحق به من غيرهم. # ونبينا - صلى الله عليه وسلم - إنما أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد ~~الأقصى ليريه الله من آياته بالمعراج، كما قال: (سبحان الذي أسرى بعبده ~~ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ~~إنه هو السميع البصير (1)) (1) . فالمقصود كان أن يريه الله من آياته، كما ~~أراه ليلة المعراج ما أراه من الآيات. قال تعالى: (أفتمارونه على ما يرى ~~(12) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) ~~إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ~~ربه الكبرى (18)) (2) . وقال تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا ~~فتنة للناس) (3) . # وفي الصحيح (4) عن ابن عباس قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - ليلة أسري به. ولهذا كان قوله (لنريه من آياتنا) دليلا في ~~المعراج الذي كان بعد المسرى إلى المسجد الأقصى، لم يكن المقصود مجرد رؤية ~~الأقصى، فإنه قد رآه المسلم والكافر والبر والفاجر، ولكن هو سبحانه أخبر ~~بذلك ليكون هذا آية للرسول، فإنهم قد رأوا PageV01P213 # المسجد الأقصى، فإذا أخبرهم أنه رآه ووصفه لهم - كما جاء في الحديث ~~الصحيح (1) - كان ذلك حجة له على أنه رآه، ولم يمكنهم تكذيبه في ذلك، بخلاف ~~ما لو أخبر بالعروج إلى السماء ابتداء، فإنهم كانوا إذا كذبوا بذلك لم يكن ~~هناك ما رأوه حتى يصفه لهم. # وهو سبحانه قد أخبر بعروجه إلى السماء في قوله: (ولقد رآه نزلة أخرى (13) ~~عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ~~ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)) (2) . # وهو سبحانه ذكر هذا بعد أن ذكر رؤية جبريل النزلة الأخرى في الأرض، فإنه ~~رآه على صورته مرتين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقال في سورة ~~التكوير وقد ذكر سبحانه بقوله: (إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي ~~العرش مكين (20) مطاع ثم ms0092 أمين (21)) (3) ، فهذا جبريل، ثم قال: (وما صاحبكم ~~بمجنون (22) ولقد رآه بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) وما ~~هو بقول شيطان رجيم (25) فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعالمين (27) لمن ~~شاء منكم أن يستقيم (28) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (29)) ~~(4) . # وهؤلاء الذين يحملون إلى مكة في الهواء: منهم من مثل له فرس أو بعير، ~~يركبه وهو يسير في الهواء، ومنهم من لا يرى شيئا، ومنهم من يعرف أنه محمول. ~~وقد حدثني منهم من حمل، وحدثني جماعات عن جماعات منهم وعمن كان قبلنا. ~~وأحوالهم مع الشياطين بحسب بعدهم عن معرفة ما جاء به الرسول والعمل به، فإن ~~هذا هو PageV01P214 # دين الله، وأهله هم عباد الله الذين لا سلطان للشيطان عليهم، كما قال ~~تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك وكيلا (65)) (1) . # ولما قال الشيطان: (بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين ~~(39) إلا عبادك منهم المخلصين (40)) (2) قال الله: (هذا صراط علي مستقيم ~~(41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ، ثم قال: (إلا من اتبعك من الغاوين) ~~(3) . # وهذا استثناء منقطع في أصح القولين، لقوله في الآية الأخرى. (إن عبادي ~~ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)) (4) ، ولم يستثن منهم أحدا. وقال ~~في الآية الأخرى: (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه ليس له سلطان ~~على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه ~~والذين هم به مشركون (100)) (5) . # و ### | عباد الله هم الذين عبدوه وحده مخلصين له الدين، # وعبادته إنما هي بطاعته وطاعة رسله، وذلك هو الواجب والمستحب، كما في ~~صحيح البخاري (6) وغيره [في] حديث الأولياء من حديث أبي هريرة عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني ~~بالمحاربة" - وروي: فقد آذنته بالحرب - "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما ~~افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت ~~سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي ~~يمشي بها، ولئن سألني لاعطينه، PageV01P215 # ولئن ms0093 استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس ~~عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه". وهذا مبسوط في ~~مواضع (1) . # والمقصود هنا أنه كلما كان الإنسان أقرب إلى الصراط المستقيم الذي بعث ~~الله به رسوله كان أقرب إلى أن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم ~~سلطان، وكلما كان أبعد عن ذلك كان أقرب إلى الشياطين. فهؤلاء الذين يحملهم ~~في الهواء: منهم من يحمله إلى بلاد الكفر، ويدخلون مع الكفار في دينهم، وهم ~~منافقون وإن كانوا في ديار الإسلام يظهرون الإسلام. ومنهم من يحمل من بعض ~~بلاد الكفار إلى بعض، ومن ذلك ما يكون بسحر، ومنه مالا يعرف صاحبه السحر، ~~لكن يكون مشركا أو منافقا يتعبد تعبد المشركين والمنافقين. # والذين يحملون إلى مكة: منهم من لا يدخل المسجد الحرام ولا يصلي فيه، ولا ~~يصلي في الطريق ولا في بلده، والمدة في وصولهم إلى مكة تختلف، منهم من يصل ~~في بعض نهار من مثل مصر والشام والجزيرة والعراق، ومنهم من يصل في يوم أو ~~يومين أو أكثر من ذلك. # وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين أنه كان له رفقة سماهم، وأنهم لم يدخلوا ~~المسجد الحرام، ولا طافوا ولا صلوا، لا فيه ولا في الطريق. ومن هؤلاء من ~~يتمثل له شخص ويقول: أنا الخضر، أو يسمي غير الخضر من الأنبياء والصالحين، ~~ويقول: أنا أذهب بك إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، وقد يكاشفه ببعض ~~الأشياء، وقد PageV01P216 # يحضر له طعاما أو شرابا في الهواء، ويكون ذلك مما قد أخذه من بعض ~~الأماكن، وكثير منه يكون مسروقا قد سرقه وأخذه الشيطان من مال من خان ~~شريكه، أو من مال من لم يذكر اسم الله عليه. # وهؤلاء من جنس الكهان، قد يوحون إلى أوليائهم من الإنس بعض ما يكاشفون ~~به، ولابد أن يكذبوا في بعض ما يخبرون به، لكن ما كان مستورا عنهم قد ذكر ~~صاحبه عليه اسم الله لا يرونه ولا يخبرون به. وهذا من الفروق ms0094 بين إخبار ~~هؤلاء وبين إخبار المسيح بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، فإن المسيح يخبر ~~بالبواطن التي تكون محجوبة عن الجن، كما يحجب عنهم الأشياء بذكر اسم الله ~~تعالى. فالآكل متى ذكر اسم الله لم يشركه الشيطان في طعامه، وإن سمى الله ~~عند دخول المنزل لم يشركه في دخول البيت، وإن لم يسم الله لا في هذا ولا ~~هذا أدرك المبيت والطعام، كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في ~~الحديث المعروف (1) . # والمسيح يخبر بذلك، وأيضا فخبر المسيح صدق كله، ليس في شيء منه كذب، ~~وهؤلاء الذين يخبرون عن إعلام الشياطين لهم لابد أن يكذبوا. قال تعالى: (هل ~~أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون ~~السمع وأكثرهم كاذبون (223)) (2) . والكلام على جنس هذا وأقسامه مذكور في ~~مواضع. # والمقصود أن ### | مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعا # بالإجماع، لا واجبا ولا مستحبا، بل هو منهي عنه لا PageV01P217 # يجوز التعبد به، بل من أراد أن يقف مع المسلمين بعرفة فإنه يحج كما يحج ~~المسلمون، فيحرم إذا حاذى الميقات، وإذا أفاض من عرفات فعل عند المشعر ~~الحرام ومنى ما أمر الله به ورسوله، وطاف بالبيت العتيق. لا يشرع الوقوف ~~إلا على هذا الوجه. ومن حمل إلى عرفات ولم يقف الوقوف المشروع، فهو كمن حمل ~~يوم الجمعة إلى المسجد وهو جنب أو بلا وضوء، فسمع الخطبة ولم يصل مع ~~المسلمين، أو صلى بلا وضوء أو إلى غير القبلة. # والعبد والصبي لا يلزمهما الحج، وإذا حجا صح حجهما ولم يسقط عنهما فرض ~~الإسلام، بل إذا بلغ هذا وعتق هذا فعليه الحج إن استطاعه. # ولو أراد العبد والصبي أن يقف بلا إحرام وحج منع من ذلك. # وليس لأحد أن يقف بعرفة إلا مكشوف الرأس محرما، إلا من كان معذورا. ولو ~~أراد الماشي إلى عرفة والراكب أن يقف مع الناس بلا حج ولا إحرام منع من ~~ذلك، كما لو أراد الماشي والراكب والمحمول في الهواء أن يشهد عند المسلمين، ~~فيكون بين ms0095 صفوفهم ولا يصلي صلاتهم، فهذا يعاقب على ذلك. # والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر النساء أن يخرجن إلى العيد، وأمر ~~الحيض والعواتق وذوات الخدور، وقال: "أما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن ~~الخير ودعوة المسلمين" (1) ، فالحيض مع كونهن معذورات في ترك الصلاة أمرهن ~~أن لا يختلطن بالمصليات، ولا يكن بين صفوف المصليات، بل يعتزلن المصلى، ~~ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. فكيف من لا عذر له إذا أراد أن يختلط ~~بالمصلين في PageV01P218 # صفوفهم ولا يصلي معهم؟ وكذلك من يطوف بالهواء من الإنس، فقد رئي بعض ~~هؤلاء في الهواء عند الكعبة، وتوضأ وسقط من وضوئه على الأرض، فأنكر عليه ~~الرائي وأحسن في إنكاره، فإن الصلاة والطواف في الهواء غير مشروع، بل يطوف ~~بالأرض ماشيا أو راكبا لعذر، وكذلك الصلاة يصلي على الأرض أو راكبا لعذر. ~~فهذا هو الذي يكون عبادة لله واتباعا لما أنزله ولرسله، وقد قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) . # وحمل هؤلاء في الهواء ليس من كرامات أولياء الله، بل من تلعب الشياطين ~~بهم وإضلالهم لهم، كما يفعل الشياطين بالمشركين والنصارى ونحوهم، يفعل بهم ~~أعظم مما هو من هذا، وكذلك ما يفعل مع السحرة والكفان، كما قد بسط في ~~مواضع. وقد قال العفريت لسليمان لما قال: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني ~~بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن ~~تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39)) (2) . فهذا يبين أن العفاريت ~~يقدرون على مثل ذلك، لكن هذا كان لسليمان تسخيرا من الله لسليمان، كما سخر ~~له الريح غدوها شهر ورواحها شهر، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين ~~في الأصفاد. # والشياطين أضلت كثيرا من بني آدم، فذكروا لكثير من الإنس أن سليمان كان ~~سحر الجن بأسماء وكلمات يقوم بها وهي شرك، وكتبوا ذلك في كتب، وقد قيل: ~~إنهم دفنوها، حتى ظهرت تلك الكتب، وقالوا: إن سليمان كان يسحر الجن بهذا، ~~فصار أهل الضلال فريقين: PageV01P219 # فريقا قدحوا في سليمان وبينوا أنه ساحر ms0096، كما يقول ذلك من يقوله من أهل ~~الكتاب، وفريقا قالوا: إنه نبي، وإن هذه الأسماء والكلمات علمه الله إياها، ~~فعملوا بها فكفروا. فنزه الله سليمان عن قول الطائفتين، وبين كفر من اتبع ~~الشياطين، وذم أهل الكتاب الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما ~~تتلو الشياطين على ملك سليمان، قال تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله ~~مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم ~~لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ~~ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت ~~وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ~~ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ~~ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من ~~خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو أنهم آمنوا واتقوا ~~لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103)) (1) . وبسط هذا له مواضع ~~أخر، والله سبحانه أعلم. # *** PageV01P220 ### | فتوى في البيع بفائدة إلى أجل # PageV01P221 # بسم الله الرحمن الرحيم # سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - رضي الله عنه - عن رجل ~~احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجل فطلب منه دراهم، فقال الرجل: ما عندي إلا ~~قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئة درهم بمئة وخمسين إلى أجل؟ أو يشتري ~~له قماشا من غيره، ثم يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة ~~قبل أن يشتري له البضاعة؟ وما مقدار ما يجوز له أن يكسب في البضاعة إذا ~~كانت تساوي مئة درهم إلى سنة؟ وهل تجوز المماكسة عند وزن الدراهم في البيع ~~الحاضر أم لا؟ فإن أعطى البائع بطيبة قلبه، فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته ~~خمسون درهما بمئة إلى أجل معلوم؟ وكيف يصنع بتجارته إذا جلبها؟ وكيف يدينها ~~إلى أجل؟. # فأجاب، فقال رحمه الله، ومن خطه ms0097 نقلت: # الحمد لله رب العالمين. متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأي طريق سلكوه ~~إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل - فهي معاملة فاسدة، ~~وذلك حقيقة الربا، فإن حقيقة الربا أن يبيعه ذهبا بذهب إلى أجل، أو فضة ~~بفضة إلى أجل، حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس ~~بالباطل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما ~~لكل امرئ ما نوى" (1) . PageV01P223 # فمتى كان المقصود ما حرمه الله ورسوله، فالتوسل إليه بكل طريق محرم، ~~وإنما يباح للإنسان أن يتوسل إلى ما أباحه الله ورسوله من البيع المقصود ~~والتجارة المقصودة، فإن الله أحل البيع وحرم الربا، وقال: (لا تأكلوا ~~أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1) . فالتاجر الذي ~~يشتري السلعة ليبيعها، ويربح فيها إما بنقلها من موضع إلى موضع، أو حبسها ~~من وقت إلى وقت، فهذا يقصد السلعة التي يربح فيها، لا يقصد أن يبيعها بأقل ~~من ثمنها ولا بمثل ثمنها. والبيع مثل أن يكون قصده السلعة لينتفع بها، إما ~~بأكل أو شرب أو لبس أو ركوب، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع التي أباحها الله ~~بالأموال. # فإذا لم يكن قصده أن ينتفع بالمال، ولا أن يبيعه ليربح فيه، وإنما مقصوده ~~أن يبيعه ويأخذ ثمنه، فهذا مقصوده مقصود الربا، ومتى واطأه الآخر على ذلك ~~كان مربيا، سواء اتفقا على أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقل مما ~~باعها، كما قالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين! ~~إني بعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمان مئة درهم، ثم ابتعته منه ~~بست مئة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا ~~أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب (2) . # وسئل ابن عباس عمن باع حريرة ثم ابتاعها بأقل، فقال: دراهم بدراهم دخلت ~~بينهما حريرة. PageV01P224 # وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا ms0098 مما حرم الله ورسوله. # وقال ابن عباس: إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت ~~بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم. # و"استقمت" بلغة أهل مكة بمعنى قومت. # وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من باع بيعتين ~~في بيعة فله أوكسهما أو الربا". فمتى اتفقا على أن يبيعه السلعة ثم ~~يبتاعها، فقد باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما، وهو الثمن الأقل، مثل أن ~~يتفقا على أن يبيعه إلى أجل بمئة، ويبتاعها بثمانين، فتعود السلعة إلى ربها ~~بالبيع الثاني، ويعطي الطالب ثمانين، فليس له أن يطالبه إلا بالأوكس، وهو ~~الثمانون. # وكذلك لو كان رب السلعة هو المحتاج، مثل أن يحتاج الجندي أو الفلاح أو ~~نحو ذلك إلى القرض، فيقول: اشتر فرسي أو ثوري بثمانين حالة ثم بعنيه بمئة ~~مؤجلة، فليس له إلا الثمانون. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له مالم ~~يفسخاه، والشرط العرفي الذي جرت به العادة بمنزلة اللفظي، والمقاصد في ~~العقود معتبرة، فإنما الأعمال بالنيات. # وكذلك إذا اتفقا على أنه يشتري سلعة من غيره بثمن حال، ثم يبيعه إياها ~~إلى أجل بأكثر من ذلك الثمن، ثم إن المشتري يعيدها إلى صاحب الحانوت، فهذه ~~الحيلة الثلاثية، ومتى درى صاحب الحانوت بقصدهما كان شريكهما في الربا. ~~PageV01P225 # وأما اشتراط الربح قبل أن يشتري البضاعة في مثل هذا، فلأن مقصودهما دراهم ~~بدراهم إلى أجل. وأما إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتجر ~~فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها، فهذا جائز، والربح عليه إن كان ~~مضطرا إليها يكون بالمعروف. فإذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير أو شراب عنده ~~أو لباس، كان عليه أن يبيعهم إياه بقيمة المثل، فيربح الربح المعروف، وكذلك ~~يربح على المسترسل الذي لا يماكسه، كما يربح على سائر الناس، فإن غبن ~~المسترسل ربا. # وإذا تفرق المتبايعان عن تراض لزم، وكان على المشتري أن يوفيه جميع ~~الثمن، ولا يحل له أن يمكسه شيئا منه، بل لا يحل له أن يسأله أن يضع ms0099 عنه ~~شيئا منه إذا كان غنيا، فإن سؤال الغني لغيره حرام، وهذا يسأل غيره أن يسقط ~~عنه حقه. ولا يحل له أن يمكن غلامه أن يطلب منه شيئا من الثمن، فإذا أعطاه ~~البائع بطيب نفسه كان صدقة عليه، والصدقة أوساخ الناس، فإن اختار أن يقبل ~~أوساخ الناس من غير حاجة فقد رضي لنفسه بما لا يرضى به العاقل. # وأما إذا باعها إلى أجل معلوم لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز؛ فإن ~~باعها مزايدة لم ينضبط ذلك، وإن باعها مرابحة كان الربح ما يتفقان عليه ~~ويرضيان إذا لم يكن المشتري مضطرا، وإن كان مضطرا ربح عليه ما يربحه على ~~غير المضطر. والله أعلم. # آخرها، لله الحمد والمنة، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم ~~تسليما. # (علقها أحمد بن المحب من خط المجيب - رحمه الله - في ليلة حادي عشري رجب ~~سنة 747) . # PageV01P226 ### | مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح، # والفرق بين الجائحة في الثمر والزرع وغير ذلك # أجاب عنها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني رحمة الله عليه # PageV01P227 # بسم الله الرحمن الرحيم # سأل أبو عبد الله سؤالا صورته: # ما تقول السادة العلماء - رضي الله عنهم أجمعين - في الرجل يستأجر أرضا ~~ليزرعها، أو يضمن بستانا، فينقطع الماء عن الأرض والبستان، أما ماء المطر ~~أو النهر فيفسد بعض الزرع والثمر، فهل يحط عن المستأجر أو الضامن من الأجرة ~~شيء أم لا؟ وكذلك إذا استأجر طاحونا يديرها الماء فينقطع، وكذلك إذا استأجر ~~ظئرا للإرضاع، فينقص لبنها، وأمثال ذلك. وكذلك إذا أصاب الأرض الجراد أو ~~الفار أو النار، فتلف الزرع أو الثمر، هل يوضع الجائحة فيضمن المؤجر ما تلف ~~بالآفة السماوية. وما الفرق بين وضع الجوائح في الثمرة المشتركة والزرع في ~~الأرض؟ بينوا لنا ذلك. # وفي الرجل يضمن بستانا بألف مثلا، وفيه عشرة أصناف من الفاكهة، فيتعطل ~~بعض المنافع، ويرتفع سعر الباقي فيزيد على الألف. وكذلك الطاحونة إذا كانت ~~عدة أحجار، فيعطل البعض، وزاد السعر. وكذلك في الحانوت وغيره. # أفتونا وابسطوا القول مثابين ms0100، رضي الله عنكم. # أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية: # الحمد لله رب العالمين. نعم ### | يحط عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة، # وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء. قال أحمد # PageV01P229 # ابن القاسم: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن رجل اكترى أرضا ~~فزرعها، وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر ~~مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. # وهذه المسألة لها صورتان (1) : # أحدهما أن ينقطع الماء بالكلية، بحيث لا يمكن الانتفاع بها لشيء من ~~الزرع، فهذا لا أعلم نزاعا أن للمستأجر الفسخ هنا، وفيما إذا انهدمت الدار ~~المستأجرة. لكن هل ينفسخ الإجارة بنفس الانقطاع؟ # أو يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد: # إحداهما أنه ينفسخ بمجرد انقطاع الماء. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو ~~المنصوص عن أحمد، لأنه أمر أن يحط عن المستأجر بقدر انقطاع الماء، ولم يعلق ~~ذلك باختياره، فأسقط الأجرة من حين انقطاع الماء. وهذا معنى الانفساخ. # والثاني: يثبت له الفسخ، وهو المنصوص عن الشافعي في صورة انقطاع الماء، ~~ونص في صورة الهدم على الانفساخ. # فخرجت المسألتان على قولين. ومأخذ من قال: له الفسخ، أنه قال: المنفعة لم ~~تتعطل، بل يمكن الانتفاع بالأرض في غير الازدراع، فأما إذا قدر أن المنفعة ~~تعطلت بالكلية فلا نزاع بين الأئمة في انفساخ الإجارة. وهذا هو الصواب في ~~المسألتين، لأن المنفعة المقصودة بالعقد إذا كانت هي الازدراع، لم يكن ~~الانتفاع بها في غير ذلك PageV01P230 # مستحقا بالعقد، فوجوده كعدمه. # والأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه متى تعطلت المنفعة ~~المقصودة بالعقد انفسخت الإجارة. مثل أن يستأجر ظئرا، فيموت في أثناء ~~المدة؛ أو يستأجر جمالا أو حميرا للركوب أو الحمل، فيموت قبل التمكن من ~~استيفاء المنفعة؛ ونحو ذلك مما يتلف فيه العين المستأجرة، فإنه ينفسخ ~~الإجارة عند الأئمة الأربعة. وقال أبو ثور: لا ينفسخ الإجارة إذا كان ~~المستأجر قد تسلم العين المستأجرة، وإن تلفت عقب التسلم، لأن ذلك تلف بعد ~~القبض، فأشبه ms0101 ما لو تلف المبيع بعد القبض، فإنه يكون من ضمان المشتري، ~~فكذلك إذا تلف الموجود بعد القبض كان من ضمان المستأجر، لاسيما من يقول: ~~إنه لا يوضع الجوائح في الثمر المبيع بعد بدو صلاحه إذا تلف بعد قبض ~~المشتري، فإن هذا قياس قوله، لأنه يقول هناك قد تلف بعد القبض، وإن كان ~~المشتري لم يتمكن من الجداد والحصاد، كذلك المنافع هنا تلفت بعد القبض، وإن ~~كان المستأجر لم يتمكن من استيفاء المنفعة بالبيع عند الأكثرين، كمالك ~~والشافعي وأحمد في أقوى الروايات. # ولولا قبضه لها لما جاز ذلك، وله أن يربح فيها عندهم، مع النهي عن الربح ~~فيما لم يضمن، فدل ذلك على أنها من ضمانه. # ومذهب الجمهور هو الصواب، لما روى مسلم في صحيحه (1) عن جابر بن عبد الله ~~قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو بعت من أخيك تمرا، فأصابته ~~جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ". ~~PageV01P231 # وفي رواية لمسلم (1) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع ~~الجوائح. # فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الثمرة التالفة من ضمان ~~البائع، ونهى البائع أن يأخذ من المشتري شيئا من الثمن، وبين أنه أكل مالا ~~بالباطل، مع أن الثمرة بعد بدو صلاحها عين موجودة، فإنه قد يمكن الانتفاع ~~بها ببعض الوجوه، فالمنافع التي لم توجد بعد ولا يمكن المستأجر من استيفاء ~~شيء منها أولى وأحرى أن لا يكون من ضمانه، بل من ضمان المؤجر. ولهذا كان ~~أبو حنيفة والشافعي في الجديد يقولان: المنفعة تتلف من ضمان المؤجر، ~~والثمرة من ضمان المشتري. فإذا كان النص قد ورد في الثمار بأنها من ضمان ~~البائع، فلأن تكون المنافع من ضمان المؤجر أولى. # وأيضا فإن تلف المنافع قبل التمكن من استيفائها كتلف الأعيان المبيعة قبل ~~التمكن من استيفائها، وإذا كان المبيع التالف قبل التمكن من قبضه من ضمان ~~البائع، فكذلك المنافع التالفة قبل التمكن من استيفائها، ومعلوم أنه لم ~~يتمكن من استيفائها، وطرد ms0102 ذلك الثمرة بعد ظهور صلاحه وقبل كماله، فإن ~~المشتري لما لم يتمكن من جدادها على الوجه المعروف كانت من ضمان البائع، ~~فإن التمكن إنما يحصل عند إمكان الجداد على الوجه المعروف. # فإن قيل: بل المستأجر قد قبض المنفعة قبضا حكميا، فقبض العين بدليل جواز ~~التصرف فيها بالإجارة، وبدليل أنه يجب عليه تسليم الأجرة. # قيل: هذا فيه نزاع، فأما إجارة المستأجر لما استأجره فعن أحمد ~~PageV01P232 # فيها أربع روايات (1) : # إحداها: لا يجوز بحال، بناء على هذا، إذ المنافع لو تلفت لتلفت من ضمان ~~المؤجر. وكذلك عنه في بيع المشتري للثمرة المشتراة قبل الجداد روايتان، ~~والنزاع في ذلك معروف عن الصحابة ومن بعدهم. # والثانية: يجوز بمثل الأجرة، ولا يجوز بزيادة إلا إذا جدد فيها عمارة، ~~فإن فعل تصدق بالزيادة. وهذا قول أبي حنيفة وطائفة. # والثالثة: لا يجوز إلا بإذن المؤجر. # والرابعة: يجوز مطلقا، كقول الشافعي وكثير من العلماء. # وكذلك يجوز على المشهور عنه للمشتري أن يبيع الثمرة قبل كمال صلاحها، ~~وعلى هذا فنقول: وجد القبض للمبيع، ولم يوجد كمال القبض الذي يوجب أن يتلف ~~من ضمان المشتري والمستأجر. # والدليل على أنه لم يوجد القبض التام أن البائع عليه سقي الثمرة إلى كمال ~~صلاحها، فلو تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع بلا نزاع. وإذا كان على ~~البائع تمام التوفية علم أنه لم يوجد كمال القبض. # وكذلك المؤجر عليه عمارة ما شعث من العين المؤجرة، وما يحتاج إليه الآدمي ~~والبهيمة من النفقة هو على المؤجر، والإنفاق على العين المؤجرة من تمام ~~التسليم المستحق بالعقد. فعلم أنه لم يوجد كمال القبض، وإنما وجد التخلية ~~التي لا يتمكن معها من كمال الاستيفاء. PageV01P233 # وإنما جاز فيها التصرف بالبيع وغيره، لأن البائع قد فعل ما يمكنه من ~~الإقباض، وكذلك في الإجارة قد فعل المؤجر غاية ما يمكنه، وانتقلت بهذا إلى ~~ضمان المستأجر من بعض الوجوه، وهو أنه إذا تلفت المنفعة تحت يده تلفت من ~~ضمانه، فلا يكون إذا ربح فيها قد ربح فيما لم يضمن، فالاعتبار في الضمان ~~بتمكنه ms0103، إذا تمكن من استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، والمستأجر بعد ~~تسليم العين قد تمكن من استيفائها شيئا فشيئا، كما كان يتمكن المؤجر، فلو ~~تركها تلفت من ضمانه، فإذا باعها باعها بعد قبض مثلها. وإن كان القبض التام ~~الذي يوجب إذا تلفت بغير اختياره أن يكون من ضمان المؤجر لم يوجد. # وهكذا الثمرة بعد بدو صلاحها إذا خلي بينه وبينها كان متمكنا من قبضها ~~والانتفاع بها إن شاء، ولو قطعها لضمنها بالمسمى، لم يضمنها ضمان الغصب. # ثم يقال: أما كونها مضمونة على البائع فهو ثابت بالنص، وأما جواز التصرف ~~فيها ففيه نزاع، وحينئذ فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا منع الحكم، فإن ما ثبت ~~بالنص لا يجوز دفعه بغير نص يعارضه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- من غير وجه أنه قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" (1) . وثبت ~~عنه أنه قال: "إن بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ ~~منه شيئا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (2) . فيجب العمل بالحديثين، ~~فإن كان القبض PageV01P234 # المبيح للتصرف هو كمال القبض الذي يرفع ضمان البائع لم يجز للمشتري بيع ~~الثمرة؛ وإن أريد به أصل القبض فهو موجود هنا، والسنة دلت على أن ضمان ~~المشتري وجواز تصرفه لا يتلازمان، بل قد يكون مضمونا عليه من بعض الوجوه ~~مالا يجوز له بيعه، وقد يجوز أن يبيع ما يكون مضمونا على البائع من بعض ~~الوجوه. وهذا ظاهر مذهب أحمد، وهو الذي ذكره الخرقي وغيره، وإن كان من ~~أصحابه من يقول بتلازمهما، كمذهب أبي حنيفة والشافعي. وذلك أنه قد ثبت في ~~الصحيحين (1) عن ابن عمر أنه قال: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا ~~مجموعا فهو من مال المبتاع". فإذا باعه حيوانا، وتمكن المشتري من قبضه ولم ~~يقبضه، كان من ضمان المشتري. وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه. # وكذلك إذا اشترى صبرة طعام جزافا، وتمكن من نقله، كان من ضمان المشتري في ~~ظاهر مذهب أحمد، مع أنه لا ms0104 يجوز له بيعه حتى ينقله، كما في الصحيح (2) عن ~~ابن عمر أنه قال: "لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~يبتاعون جزافا - يعني الطعام - فيضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى ~~رحالهم". وفي لفظ (3) : "كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه ~~إلى مكان سواه قبل أن نبيعه". فابن عمر نقل هذا وهذا، وكلاهما مذهب مالك ~~وأحمد في المشهور عنه، فالموجب PageV01P235 # للضمان تمكن المشتري من القبض المقصود بالعقد، سواء قبض أو لم يقبض، فإذا ~~لم يكمل الصلاح لم يتمكن من القبض المقصود بالعقد. # وكذلك إذا تلفت العين المؤجرة، وإذا اشترى عبدا وقدر على أخذه، فقد تمكن ~~من القبض المقصود بالعقد، وأما بيعه فيعتمد القبض الممكن، فإذا قبض الشجرة ~~والعين المؤجرة فقد قبضها القبض الممكن، وإذا لم ينقل الصبرة لم يقبضها ~~القبض الممكن. وهذا لأن ما أمكن فيه كمال القبض كالصبرة يمكن أن يوقف البيع ~~على كمال القبض فيها، ومالم يمكن فيه ذلك كالثمر والمنفعة، فإنه قد جاز ~~بيعها قبل وجودها للحاجة، فكذلك يجوز بيعها بعد القبض الممكن فيها للحاجة ~~أيضا، لأن الشارع يعتبر الشروط بحسب الإمكان. إلا ترى أنه فهى عن بيع ~~الثمار قبل بدو صلاحها، إذ لا حاجة إلى بيعها في هذه الحال، وهو بيع غرر قد ~~يفضي إلى أكل المال بالباطل، وأما بعد بدو الصلاح فهم محتاجون إلى بيعها في ~~هذه الحال، إذ تأخير البيع إلى كمال الصلاح متعذر، فإنه حينئذ قد تتلف ~~وتفسد هي أو بعضها قبل أن تشترى. وما فيه من الخطر جبره الشارع بوضع ~~الجائحة. # و ### | ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع، # بل هذا قول طائفة من الفقهاء، وخالفهم آخرون، فهو مورد نزاع لم يدل عليه ~~نص ولا قياس صحيح، بل الشارع منع من البيع حيث يكون فيه مفسدة ولا حاجة ~~إليه، وأباحه حيث يحتاج إليه ms0105، وأزال ما فيه من المفسدة بما شرعه من الضمان. # والطعام المنقول يمكن تأخير بيعه إلى حين نقله، بخلاف الثمر على الشجر ~~والمنفعة في الإجارة، كما أن الثمرة يمكن تأخير بيعها إلى بدو صلاحها، ~~بخلاف تأخيره بعد بدو الصلاح. ولهذا كان الصحيح # PageV01P236 # جواز بيع المقاثي، وأنه إذا بدا الصلاح في بعض ثمر البستان بيع ذلك ~~النوع، بل بيع ذلك الجنس، بل بيع جميع الأجناس التي في البستان، إذا كان ~~بيع بعض الأجناس دون بعض من البستان الواحد فيه ضرر، كما في تأخير بيع ~~الثمر بعد بدو الصلاح. والبيع الذي يحتاج الناس إليه لم تحرمه الشارع، بل ~~أوجب فيه وضع الجوائح، وإنما نهى عما لا يحتاج إليه. # فصل # ولو اكترى أرضا للزرع فزرعها، ثم أصابها غرق أو آفة من غير الشرب، فلم ~~تنبت، فالمنقول عن أحمد أنه يلزمه الكرى، بخلاف ما لو غرقت في وقت زرعها، ~~فلم يمكنه الزراعة، فإنه لا يلزمه الأجرة، لتعذر التسليم، وهكذا نقل عن ~~مالك. # وقد فرق الأصحاب بين هذه الصورة وبين صورة انقطاع الماء بأنه هناك تعطلت ~~المنفعة المستحقه بالعقد، وهنا تلف مال المستأجر، فأشبه مالو تلف ماله في ~~الدار المؤجرة، فإن المؤجر لا يضمن ما تلف للمستأجر في العين المؤجرة، كما ~~لو سرق ماله الذي على الدابة المكتراة. # ولم أقف بعد على لفظ أحمد في هذه المسألة، وقياس نصوصه وأصوله بل وأصول ~~غيره: أنه إذا أصابت العين آفة عطلت منفعتها انفسخت الإجارة فيما بقي، كما ~~إذا تعطلت بالانهدام وانقطاع الماء والموت، فإنه إذا أصاب الأرض غرق تعذر ~~معه نبات الأرض فقد تعطل نفعها، وكذلك لو أصابها حريق أو ركبها جراد يمتنع ~~معه نبات الزرع فقد تعطل نفعها، كما تعطل بغير ذلك، ولكن لا يضمن المؤجر # PageV01P237 # الزرع التالف، ولا توضع الجائحة عن المستأجر فيما تلف من زرعه، كما توضع ~~عن المشتري، لأن المؤجر لم يبعه الزرع، وإنما باعه منفعته. # و ### | نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر، # فإن المؤجر وإن لم يضمن متاعه ms0106 فإنه لا أجرة له من حين تعطلت المنفعة، ~~وكذلك لو تلفت الحمولة وما عليها بأمر سماوي، فإنه لا يضمن المؤجر ما ~~عليها، ولكن تبطل الإجارة من حينئذ، فكذلك الأرض إذا أصابتها آفة سماوية ~~أفسدت الزرع وعطلت المنفعة لم يكن على المؤجر ضمان الزرع، ولم تبطل الإجارة ~~إذا تعطلت المنفعة، والمنفعة المقصودة ليست مجرد وضع البذر فيها، بل ~~المقصود أن ينبت الزرع فيها ويكمل نباته إلى حين الحصاد، وإذا نبت وغرقت ~~الأرض فهو كما إذا نبت وانقطع الماء، وهو في انقطاع الماء لا يضمن زرع ~~المستأجر، كذلك في الغرق. وهذا بخلاف ما إذا باعه ثمرة على البائع سقيها، ~~فإنه هنا إذا تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع، بل وكذلك إذا تلفت بغير ~~العطش، لأن البائع باعه ثمرة، فتلف الثمرة كتلف المنفعة. وأما تلف الزرع ~~الثابت للمستأجر فهو كتلف متاع المستأجر الذي في الدار، فأين هذا من هذا؟ # فمن قال: إن المؤجر لا يضمن الزرع فقد أصاب، ومن قال: إنه لا يجب على ~~المستأجر أجرة المنفعة المتعطلة فقد أخطأ. # ونظير هذا ضامن البستان إن كان اشترى ثمرة، فإذا تلفت بالعطش فهي في ~~ضمانه في مذهب الشافعي، كما هو في مذهب مالك وأحمد، وإن تلفت بآفة سماوية ~~فهي مسألة وضع الجوائح. وأما إذا كان الضامن مستأجرا ضمنها على أنه يخدمها ~~ويسقيها، فهذا مستأجر متى تلفت # PageV01P238 # الثمرة بالعطش أو غيره فهو كتلف الزرع لا يضمنه المؤجر، لكن إن تعطلت ~~المنفعة سقط من الأجرة بقدر ما تعطل منها. وذلك أن الثمرة قد تكون تساوي ~~جملة، والزرع حصل بعمل المستأجر، وقد يساوي ذلك أكثر من الأجرة، فلا يجب ~~على المؤجر إلا ضمان الأجرة فقط، فإذا تعطلت المنفعة بآفة سماوية سقطت ~~الأجرة، وما تلف مع ذلك للمستأجر من ثمر وزرع فهو من ضمانه، لا من ضمان ~~المؤجر. # هذا هو الواجب في هذا ونظائره، ومن تدبره وتدبر نظائره وأصول الشرع علم ~~أن هذا مما لا ينازع فيه من فهمه، وإنما وقعت الشبهة حيث قد يظن الظان، أنه ~~توضع ms0107 الجوائح في الإجارة، كما توضع في البيع، بمعنى أن المؤجر يضمن ما تلف ~~من زرع المستأجر، كما يضمن ما تلف من الثمرة المبيعة، وهذا خطأ. نعم لو ~~باعه زرعا، فتلف بآفة سماوية، فإنه توضع الجائحة فيه في أحد الوجهين في ~~مذهب أحمد ومالك، كما يوضع في الثمرة، وفي الآخر لا يوضع، قالوا: لأن الزرع ~~إنما يباع بعد كمال صلاحه، فلا يحتاج إلى وضع الجائحة فيه. # فصل. # وأما إذا نقصت المنفعة، مثل نقص الماء المعتاد عن السماء وعن الأرض، بحيث ~~ينتفع به نصف المنفعة المستحقة أو أقل أو أكثر، فكلام أحمد وأصوله تقتضي ~~أنه يحط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، فإنه قال: يحط عنه من ~~الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. ولو تغيبت المنفعة ~~أو كانت معيبة، فقياس مذهبه أن للمستأجر المطالبة بالأرش مع الإمساك، كما ~~يقول ذلك في البيع وأولى، لاسيما وعنه في ممسك المصراة هل له المطالبة ~~بالأرش # PageV01P239 # روايتان. ومن أصحابه من قال: ليس له الإمساك إلا بكل الأجرة، وضعف هذا ~~على أصل أحمد ظاهر بين. وإنما الكلام إذا قلنا: إنه ليس للبائع إلا ~~المطالبة بالأرش مع إمكان الرد. # ف ### | نظير هذه المسألة في الإجارة # أن تظهر العين المؤجرة معيبة في استيفاء شيء من المنفعة، فهذه الصورة ~~كالبيع، وأما إذا كان قد ازدرع الأرض، ثم عابت في أثناء المدة، ونقصت ~~منفعتها، فهنا لا عليه رد جميع المنفعة، بل غايته الفسخ في المستقبل. وإذا ~~فسخ في المستقبل كان له إبقاء زرعه بأجرة المثل، ومعلوم أن إبقاءه بقسطه من ~~الأجرة أولى. كما نقول: إذا تعطلت المنفعة في أثناء المدة أنه ينفسخ ~~الإجارة فيما بقي من المدة، ويجب للماضي قسطه من الأجرة. هذا مذهب مالك ~~وأحمد والشافعي، وجعل بعض أصحابه له قولا بالانفساخ في الجميع، ووجوب أجرة ~~المثل للماضي، كالهلاك الطارئ في بعض المبيع، ومعلوم أن المستأجر إذا كان ~~له زرع في الأرض لم يمكنه إذا فسخ رد المنفعة، بل له إبقاؤه بأجرة المثل، ~~فإبقاؤه ms0108 بقسطه من المسمى مع أنه يحط عنه قسط ما نقص من المنفعة أولى. فعيب ~~المنفعة في الإجارة إن كانت قبل تسلم شيء من المنفعة فهذا كالبيع، وإن كانت ~~بعد استيفاء شيء من المنفعة فلها صورتان: # إحداهما: أن يتعذر رد العين المؤجرة لما له فيها من الزرع ونحو ذلك. # والثانية: أنه يمكن رد العين، كالدار المعيبة والطاحون والحانوت. # فهنا يتوجه قول من يقول: ليس له إلا الفسخ، أو الإمساك بالأجرة كلها، إذا ~~قلنا بمثل ذلك في البيع. ويتوجه أن يقال: بل هنا يحط عنه من الأجرة، وإن ~~قلنا: ليس له في البيع أن يمسك بالأرش مع # PageV01P240 # إمكان الرد، لأنه قد استوفى بعض المنفعة، وتلف بعضها، فهو كما لو اشترى ~~أعيانا، فتلف بعضها قبل التمكن من القبض، فإنه يحط عنه من الثمن بقدر قسط ~~التالف قبل التمكن من القبض، كما لو تلف بعض الثمرة في الجوائح، وكان أكثر ~~من الثلث، فإنه يحط عنه من الثمن بقدر التالف بلا نزاع عند من يقول بوضع ~~الجوائح، فتلف بعض المنفعة كتلف بعض الثمرة، ومعلوم أن انقطاع بعض الماء أو ~~تعطل بعض الأرض ذهاب بعض المنفعة. # (آخر ما كتب فيها، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد ~~وآله وصحبه وسلم. # علقها لنفسه أحوج الخلق إلى رحمة الله محمد بن أبي شامة الحنبلي، عفا ~~الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين) . # *** # PageV01P241 ### | فصل في الطلاق، وتقسيمه إلى سني وبدعي، وبيان أن الطلاق البدعي لا يقع # من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية مما كتبه في ~~القلعة بدمشق في آخر عمره رحمة الله عليه # PageV01P243 # بسم الله الرحمن الرحيم # الحمد لله رب العالمين. # وقال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن ~~تيمية رحمه الله، ونقلته من خطه. # فصل # الطلاق منقسم إلى طلاق سنة مأذون فيه، وطلاق بدعة منهي عنه بالكتاب ~~والسنة والإجماع، ولكن تنازع الناس في الطلاق المحرم المنهي عنه هل يقع أم ~~لا. # واتفقوا على أن ### | الطلاق السني المباح ms0109 # أن يطلق واحدة في طهر لم يصبها فيه، وكذلك إذا طلقها حاملا قد تبين ~~حملها، فهذا وهذا جائز بالنص والإجماع، ولكن هل يسمى طلاق الحامل طلاق سنة، ~~أو لا يسمى سنة إلا طلاق من تحيض؟ فيه قولان، وهو نزاع لفظي. والصغيرة التي ~~لم تحض والآيسة ليس في حقهما طلاق بدعة من حيث الوقت. # وأما العدد ففيه نزاع مشهور، وأكثر السلف على أنه لا يحل له أن يطلق إلا ~~طلقة واحدة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو ظاهر مذهب أحمد الذي رجع إليه - ~~وهو اختيار أكثر أصحابه - بعد أن كان يجوز الثلاث، كما هو قول الشافعي، وهو ~~اختيار الخرقي، وقد بسط الكلام على هذه المسائل في مواضع (1) . PageV01P245 # والذي تبين دلالة الكتاب والسنة عليه وأصول الشرع أن ### | الطلاق المحرم لا يلزم # كما لا يلزم سائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام، كالنكاح الحرام ~~والبيع الحرام، إذا كان التحريم لحق الله، كالنكاح في العدة وبيع الخمر ~~ونحوها من المحرمات، وأما إذا كان النهي لحق آدمي فلو رضي جاز، مثل بيع ~~المعيب المدلس، وبيع المصراة، وتلقي الجلب والاشتراء منهم، ونحو ذلك. فهنا ~~أيضا العقد غير لازم، لكن المظلوم يخير بين الفسخ والإمضاء، فهو موقوف على ~~رضاه، وقد أعطى النهي حقه، فإن المقصود إزالة المفسدة، وذلك يحصل بتمكينه ~~من الفسخ، وإذا علم أنه مظلوم ورضي بذلك جاز، كما لو رضي في ابتداء العقد ~~مع علمه بالعيب والتدليس، فإن هذا جائز بالنص والإجماع. # وهذا هو الجواب في هذا الباب، فإن من الناس من جعل النهي الذي لحق آدمي ~~يقتضي فساد العقد أيضا، وقال أبو بكر عبد العزيز بذلك في المعيب المدلس، ~~فلما أورد عليه المصراة سكت ولم يجب. # ولو أنهم قالوا: النهي يقتضي هنا موجبه من فساد لزوم العقد، فإن العقد لا ~~يقع لازما كلزوم العقود الصحيحة، بل للمظلوم الفسخ، لكان هذا عملا بالنصوص ~~كلها وبالإجماع، مع طرد القاعدة. # وأما من زعم أن النهي هنا يقتضي بطلان العقد بالكلية، فهو قول فاسد مخالف ~~للنص والأجماع، وهو ms0110 قول من لم يعرف مقصود النهي، وهو إزالة الفساد بحسب ~~الإمكان. وهو في مقابلة قول من يقول: إن النهي لا يقتضي الفساد أصلا (1) ، ~~ويحتج بصور متنازع فيها، كطلاق PageV01P246 # الحائض، والصلاة في الدار المغصوبة، إذ ليس معهم صورة منهي عنها مع أنها ~~صحيحة لازمة، لا بنص ولا بإجماع، بل كل ما يذكر في ذلك فهو من صور النزاع، ~~ولا نص في شيء من ذلك على أنه صحيح لازم. ولهذا لم يكن هذا القول معروفا عن ~~أحد من السلف والأئمة، كما لم يعرف ذلك عن أحد من السلف والأئمة، وإنما ~~قاله طائفة من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن تبعهم، وقال هؤلاء: إن ~~فساد العبادات والعقود لا يتلقى من خطاب الشارع بالأمر والنهي والتحليل ~~والتحريم، وإنما يتلقى من خطاب الإخبار بقوله: إن هذا صحيح أو فاسد، أو ~~جعله الشيء شرطا ومانعا وركنا، فيفسد العبادة أو العقد، لفوات شرطه أو ركنه ~~أو لوجود مانعه. # وهذا كلام قوم ليسوا من أهل الاجتهاد والعلم بالأدلة الشرعية، وإنما ~~يتكلمون في مقدرات مفروضة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان، فإن هذا ~~الذي زعموا أنه هو الذي يستدل به على صحة العقود والعبادات وفسادها، لا ~~يوجد في كلام الشارع، لا يوجد في كلامه أنه قال: هذا العقد أو العبادة تصح ~~أو لا تصح، أو هذا ركن أو شرط أو مانع ونحو ذلك. وإنما هذه عبارات الفقهاء ~~الذين فهموا ما فهموه من كلام الشارع، وعبروا عن ذلك بعباراتهم، ثم قد يكون ~~ما عبروا به عن كلام الشارع حقا بالإجماع، وقد يكون فيه نزاع. # وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أهل الاجتهاد ~~فإنهم يحتجون به على فساد العبادات والعقود بالنهي عنها، كما يفسدون نكاح ~~الأمهات والأخوات وغيرهما من المحرمات. # ولهذا لما أفتى ابن مسعود رجلا في تزوج بنت امرأته التي لم يدخل بها، ~~واعتقد أنها كالربيبة، ثم قدم المدينة، فسأل عمر وغيره من # PageV01P247 # الصحابة، فقالوا له: الشرط في الربائب دون الأمهات. فرجع ابن مسعود، فأمر ~~الذي كان ms0111 أفتاه أن يفارق امرأته، لما علم أن هذا مما تناولته آية التحريم، ~~وهو قوله: (وأمهات نسائكم) (1) ، علم أن هذا العقد فاسد. # وكذلك سائر الصحابة والعلماء متفقون على الاستدلال على فساد هذه العقود ~~بالنهي، وهذا في العبادات أظهر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. # والمقصود هنا أن الذين قالوا: إن الطلاق المحرم يقع، قد احتج بعضهم بقوله ~~تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله ~~واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) (2) . قالوا: ~~والمراد لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الولد، فدل ذلك على ~~أنه طلقها بعد أن أصابها، وإلا فلو طلقها في طهر لم يصبها فيه لم يكن ~~حاملا، ولو طلقها وقد استبان حملها لم يمكنها كتمان الحمل. # وهذه الحجة مما يعتمد عليها من يراها حجة قوية، وسنبين إن شاء الله أن ~~هذه الآية حجة عليهم لا لهم، وممن ذكر ذلك أبو علي الجبائي في تفسيره، فقال ~~بعد أن نصر أن الأقراء هي الحيض: وقد دلت هذه الآية على أن الطلاق قد يلزم ~~لغير السنة، وذلك أن المطلق للسنة هو من طلق امرأته وهي طاهر من غير جماع، ~~أو طلقها بعد أن تبين الحمل بها، والمطلقة إذا كانت طاهرا من غير جماع لا ~~يجوز أن PageV01P248 # يظهر بها الحبل، فيحرم كتمانه، والتي قد ظهر بها الحبل لا يجوز أن تكتمه ~~وتبينه من نفسها بعد الطلاق، وإن يكتم ذلك زوجها الذي طلقها علمنا أن هذه ~~المطلقة الكاتمة لحبلها كانت طلقت بعدما جومعت في الطهر من غير أن يتبين ~~بها حبل. وإذا كانت كذلك لم تكن في وقت سنة، وقد لزمها الطلاق مع ذلك بنص ~~القرآن. # قال: وهذا يدل على بطلان مذهب الرافضة في قولهم: إن الطلاق لا يلزم إلا ~~للسنة. # فإن قيل: قوله: (ما خلق الله في أرحامهن) قد يكون هو الحيض. # قيل: إن الحيض لا يكون حيضا وهو في الرحم، ولا يكون حيضا حتى يخرج عن ms0112 ~~الرحم، وإذا خرج عن الرحم فليس هو في الأرحام. وإنما أمرهن الله أن لا ~~يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، فليس يجوز أن يكون عنى بذلك إلا الحبل. # قلت: فقد فسر الآية بأن المراد الحبل دون الحيض، وادعى أنه لا يجوز إرادة ~~الحيض، لأنه إنما يكون حيضا إذا كان ظاهرا، دون ما إذا كان في الرحم. وهذه ~~حجة ضعيفة، والسلف قد أطلق بعضهم القول بأنه الولد، وأطلق بعضهم القول بأنه ~~الحيض، وبعضهم ذكر النوعين جميعا (1) ، وهو الصواب، فإن لفظ الآية يعم هذا ~~وهذا، ومن أطلق القول بأحدهما فقد يكون مراده التمثيل لا الحصر، فإن مثل ~~هذا كثير فاش في كلام السلف. يذكرون في تفسير الآية ما يمثلون به المراد من ~~ذكر بعض الأنواع، لا يقصدون تخصيصها بذلك. كما يقول المترجم إذا ترجم بعض ~~الألفاظ وعين مسماها، فإذا قال له PageV01P249 # الأعجمي: ما الخبز؟ أخذ الرغيف وقال: هذا. وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر ~~(1) . # وأما الاحتجاج بقوله: (في أرحامهن) فيقال: هو سبحانه قال: # (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) ، فالظرف متعلق بقوله ~~(خلق) ، فما خلق الله في رحمها لم يحل لها كتمانه، وكتمانه إخفاؤه عن ~~غيرها، وذلك يتناول كتمانه بعدما يخرج من الرحم، مثل كتمان الولد إذا ~~ولدته، وكتمان الدم إذا حاضت، فإنها إذا كتمت ذلك عن الزوج وغيره، ولم تخبر ~~بذلك، فقد كتمت ما خلق الله في رحمها، فإن هذا خلق في رحمها، وإن كان قد ~~خرج من الرحم بعد ذلك، وهي منهية عن كتمانه مطلقا، لم يخص النهي بوقت وجوده ~~في الرحم، لاسيما وهو إذا فسره بالولد، فولدته وكتمته، لم يقل إنها ولدت، ~~لئلا يظن أن عدتها انقضت، أو لتضيع نسبه، على أنه كان ذلك محرما، وكانت ~~منهية عن ذلك. ولو قيل: الرجل يكتم ما تحت ثيابه أو ما في منديله، كان ~~كإمساكه، وإن خلع ثيابه حيث لا يرى، وإن أخرج ما في المنديل حيث لا يرى، ~~فالظرف هنا متعلق بالفعل العامل فيه، كالاستقراء وكالخلق في ms0113 الآية ليس ~~معلقا بالكتمان، والمنهي عنه الكتمان مطلقا، وحيث نهي الإنسان عن الكتمان ~~فإنه متناول لمثل هذا، كقوله: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم ~~قلبه) (2) ، وقوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (3) ، وقوله: ~~(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس ~~PageV01P250 # في الكتاب) (1) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم ~~يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (2) . # فلو تكلم بالشهادة حيث لا ينتفع صاحبها، ولم يظهرها حيث ينتفع بأدائها، ~~كان كاتما لها، وإن كان قد أخرجها من فمه. وكذلك كاتم العلم. والمرأة على ~~كتمان الحيض أقدر منها على كتمان الولد، فإنها إذا كانت حاملا انتفخ بطنها، ~~وعرف حملها كثير من الناس، ثم إذا ولدته فإنه يظهر أعظم مما يظهر دمها، فإن ~~دمها قد يسيل ويخرج ولا يعلم بذلك أحد، فتكون دلالة الآية على النهي عن ~~كتمان الحيض أقوى، وإن كانت قد تدل على الآخر. # فصل # وأما كون ### | الآية حجة على نقيض ما ذكروه # فهو قول من قال: إن الطلاق إنما هو الطلاق الشرعي الذي أذن الله فيه ~~وملكه للإنسان، وأما مالم يأذن فيه فإنه لم يملكه للإنسان، كما لم يملكه ~~الطلاق بعد انقضاء العدة، ولا طلاق غير المدخول بها إذا أبانها بواحدة، ثم ~~أراد أن يطلقها تمام الثلاث، وكذلك البائن بالخلع عند أكثر السلف والخلف لم ~~يملكه طلاقها، ولم يملكه طلاق الأجنبية. وإذا كان الإنسان ليس له طلاق إلا ~~فيما يملك، ولا عتاق إلا فيما يملك، كما جاء في الحديث (3) ، PageV01P251 # فطلاقه لواحدة من هؤلاء طلاق باطل، إذ كان الله لم يملكه إياه. # وكذلك طلاق الحائض والموطوءة التي تبين حملها لم يملكه الله طلاقها، فإنه ~~لم يأذن في ذلك ولم يبحه، بل نهى عنه، وما نهى عنه العبد من نكاح وطلاق ~~وعتق وبيع فإنه لم يملكه ذلك، فتصرفه فيه تصرف في غير ملك، ولو سمي ملكا ~~فهو محجور عليه فيه منهي عنه، وتصرف المحجور عليه فيما حجر عليه ms0114 فيه لا ~~يجوز، فتصرف من حجر الله ورسوله عليه أولى أن لا يصح، لاسيما وهو سفيه حيث ~~خالف أمر الله ورسوله، وفعل ما نهى عنه، وهم يسلمون أن الوكيل في الطلاق لا ~~يملك إلا ما أذن له فيه، ولو طلق غير ذلك لم يقع، بل هو محجور عليه فيه، ~~فما لم يأذن الله فيه وحجر على صاحبه فيه أولى أن لا يقع. والله تعالى قد ~~نهاه عن الطلاق إلا في العدة، كما نهاه عن النكاح في العدة، ولو تزوج في ~~العدة لم يصح بالاتفاق، فكذلك إذا طلق لغير العدة، فإن الذي حرم هذا حرم ~~هذا، والحكم إنما استفيد من تحريمه، ليس في كلامه يصح أو لا يصح، أو يشترط ~~أو لا يشترط، بل الدلالة في كلامه على هذا من جنس الدلالة في كلامه على ~~هذا. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. # والمقصود هنا بيان دلالة الآية على نقيض ما استدلوا عليه، فنقول: قوله ~~(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (1) إنما يتناول من كانت عدتها ~~الأقراء، لا يتناول الحامل، فان الحامل لا تتربص ثلاثة قروء، بل عدتها كما ~~قال تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (2) . # وإذا كانت المرأة حاملا لم تتربص ثلاثة قروء، ولكن ربما ظنت أن ~~PageV01P252 # عدتها القروء، ثم يتبين أنها حامل، كما أنه ربما ظنت أن أجلها وضع الحمل، ~~ثئم يتبين أنها حامل. وحينئذ فالنساء ثلاثة أقسام. # أما المطلقة طلاق السنة التي طلقت في طهر لم يصبها فيه فالظاهر من هذه ~~أنها ليست حاملا، والتي استبان حملها ظاهر أمرها أنها حامل، والتي وطئها ~~ولم يعلم أحملت أم لا فهذه مشكوك فيها، لا تدري أعدتها القروء أو وضع ~~الحمل. والأولى طلاقها جائز بالاتفاق، والثانية أيضا طلاقها جائز بالاتفاق، ~~وهذه الثالثة لا يجوز طلاقها، لأنه يحتمل أن تكون عدتها القروء، ويحتمل أن ~~تكون عدتها الحمل. # والله إنما أباح الطلاق للعدة، وذلك إنما هو لمن علمت عدتها، وهي القروء ~~أو الحمل، وهي المطلقة في الطهر قبل الجماع، أو المطلقة وقد استبان حملها ms0115. ~~وإذا كان كذلك فالآية تضمنت أمر المطلقة بأن تتربص ثلاثة قروء، وهذا الأمر ~~لا يكون إلا لمن طلقت بعد الطهر وقبل الجماع، فأما من استبان حملها فلا ~~تؤمر بذلك. ومن شك هل هي حامل أم لا، لو كان طلاقها جائزا لم تؤمر بذلك، بل ~~يقال لها: انظري، فإن كنت حاملا فعدتك الحمل، وإن كنت حائلا فعدتك القروء. ~~فلما كان الله تعالى أمر المطلقات بتربص ثلاثة قروء، وأمره لم يتناول هذه ~~المشكوك فيها، لم تدخل في الآية. فتبين بذلك بطلان قولهم إن الآية ~~تناولتها. # ثم نقول: إذا كان في هذه الآية أمر كل مطلقة بعد الدخول بتربص ثلاثة ~~قروء، وإن كانت من أولات الأحمال فأجلها وضع الحمل، وهذه لا تؤمر عقب ~~الطلاق لا بهذا ولا بهذا، علم أنها ليست مطلقة، فدل على أنه لا طلاق لها. # ومما يوضح هذا أن الآية أمرت المطلقات بتربص ثلاثة قروء، # PageV01P253 # وذلك من حين الطلاق، فهي من حين الطلاق تتربص، وهذه لو كانت مطلقة لم ~~تؤمر بتربص ثلاثة قروء من حين الطلاق، ولا هي من أولات الأحمال، فعلم أنها ~~ليست مطلقة. # ومما يوضح ذلك أن قوله (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) إما أن ~~يقال: إنها عامة في كل مطلقة، ثم استثنيت ذات الحمل، كما قال ذلك طائفة؛ ~~وإما أن يقال: بل هي مختصة بغير ذات الحمل لم تتناول لغيرهن، فإن القرآن قد ~~بين أن غير المدخول بها لا عدة عليها بقوله: (إذا نكحتم المؤمنات ثم ~~طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) (1) . ولهذا قال ~~من قال: إن هذه الصورة مستثناة مخصوصة من هذا العموم. # وقد يقال: الآية لم تشمل غير المدخول بها، فإنه قد قال في سياقها: () ~~ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) (2) ، وقبل الدخول ليس لها حق في المعاشرة. ~~وقال أيضا: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) (3) ، وهذا مختص ~~بالمدخول بها، فغير المدخول بها يرجع إليه نصف مهرها الذي أعطاها، بقوله: ~~(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم فنصف ms0116 ما فرضتم) (4) . ولأن قوله: ~~(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) (5) يتناول الحيض والولد. ~~ومن لم يدخل بها ليس له منها ولد. PageV01P254 # فإن قيل: قد يكون الضمير في آخرها أخص منه في أولها، كما قالوا: إن قوله ~~(والمطلقات) يعم البائنات والرجعيات، وقوله (وبعولتهن) يختص بالرجعيات. ~~وتنازعوا هل يقال: التخصيص في الضمير فقط أو التخصيص في أولها فقط؟ ليتطابق ~~المضمر والمظهر، أو بالوقف؟ على ثلاثة أقوال، وهي أقوال معروفة (1) . # قيل: هذا على قول من يقول: إن المطلقات فيهن بانت بعد الدخول، وهو أحد ~~القولين في مذهب أحمد وغيره، ثم رجع أحمد عن هذا، وقال: تدبرت القرآن فإذا ~~كل طلاق فيه فهو الرجعي. فظاهر مذهبه أن الطلاق بعد الدخول لا يكون رجعيا. ~~وأما الثلاث فذاك هو الطلاق المحرم، وقد بينه بعد هذا بقوله: (الطلاق ~~مرتان) (2) ، أي الطلاق المذكور في الآية، وهو الرجعي. # وهذه الآية وأمثالها مما يستدل به على أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا ~~رجعيا، ولهذا يذكر الله فيه الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهو مما ~~يدل على أن ### | الخلع ليس بطلاق # (3) ، لأنه لا رجعة فيه، فإن الله سماه افتداء، ولهذا كان لا رجعة فيه ~~عند عامة العلماء، وهو في أحد القولين - وهو الثابت عن عثمان وابن عباس ~~وغيرهما - أنها تستبرأ منه بحيضة، فلا تتربص ثلاثة قروء، وهو إحدى ~~الروايتين عن أحمد، وقول إسحاق وغيره وقول طائفة من السلف، وإذا كان فسخا ~~لم يكن له عدد. فهذه خصائص الطلاق المذكورة في الآية، PageV01P255 # وهي ثلاثة: تربص ثلاثة قروء، واستحقاق البعل الرجعة، وأنه مرتان، ثلاثتها ~~منفية في الخلع، لأنه افتداء افتدت به المرأة نفسها من زوجها كما يفتدي ~~الأسير، فقد اشترت ذلك وعاوضت عليه. وقد يشبه بالإقالة أيضا، ولهذا قال من ~~قال: ينبغي أن لا يكون بزيادة على المسمى كالإقالة. # وإذا قيل: هو فسخ، فهل يصح مع الأجنبي؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد. # أحدهما: لا يصح، فإنه حينئذ يكون كالإقالة، والإقالة لا تكون مع الأجنبي. ~~وهذا قول أبي ms0117 المعالي والرافعي، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره من أصحاب أحمد. # والثاني: يصح مع الأجنبي، وهو الصحيح المشهور عند أصحاب أحمد، وكذلك ذكره ~~العراقيون من أصحاب الشافعي، كأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، وذلك لأنه ~~كافتداء الأسير، ويجوز بذل الأجنبي العوض في افتداء الأسير. وبسط هذا له ~~موضع آخر (1) . # والمقصود هنا أن القرآن من تدبره تدبرا تاما تبين له اشتماله على بيان ~~الأحكام، وأن فيه من العلم مالا يدركه أكثر الناس، وأنه يبين المشكلات ~~ويفصل النزاع بكمال دلالته وبيانه إذا أعطي حقه، ولم تحرف كلمه عن مواضعه. # فقوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) نص في أن المراد ذات ~~الأقراء. وقد تنازع الناس هل يعم لفظها لذوات الحمل والمتوفى عنها، ثم قد ~~خص منها ذلك؟ أو لا يعم لفظها لهؤلاء؟ PageV01P256 # على قولين (1) . والأول قاله بعض أهل التفسير، كما ذكره مقاتل بن سليمان، ~~وكما روي عن الضحاك أيضا، وهو شيخ مقاتل. قالوا: إن الله استثنى من هذه ~~الآية من لم يدخل بها، واستثنى منها ذوات الحمل، واستثنى الصغيرة والكبيرة. # فأما استثناء من لم يدخل [بها] (2) فقد قاله غير هؤلاء، ورواه أبو داود ~~في سننه (3) عن ابن عباس، وتقدم القول فيه. # وأما استثناء هؤلاء وإخراجهن من الآية فقول ضعيف. والصواب أن الآية لم ~~تشمل هؤلاء: # أما الصغيرة والكبيرة فإنهن لا يحضن، وقوله (ثلاثة قروء) هي الحيض التي ~~يكون فيها طهر، فلابد أن يكون ذلك فيمن تحيض وتطهر، ويمتنع أن يقال لمن لا ~~قروء لها: تتربص ثلاثة قروء. فالآية لم تشمل أولئك. # ولم يقل أحد: إنه استثني منها المتوفى عنها، فإن لفظ المطلقات لا يتناول ~~من مات عنها زوجها. # وأما أولات الأحمال فنقول: لو شملها اللفظ لكانت تحتاج أن تتربص ثلاثة ~~قروء بعد وضع الحمل وانقضاء النفاس، فإن العادة الغالبة أن الحامل لا ترى ~~دما، وقد تراه نادرا، والفقهاء مختلفون هل هو حيض أم لا؟ ولو قيل: هو حيض ~~نزاع أنه لا تقضي به العدة، ثم إنها ترى النفاس، ثم تتربص ثلاثة قروء، ~~فتبقى في العدة ms0118 أكثر من PageV01P257 # سنة في الغالب، ومعلوم أن الله كما لم يرد ذلك بهذه الآية، فلم يدل لفظها ~~على ذلك، لأنه قال: (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ، والتربص الانتظار، فجعل ~~مدة التربص ثلاثة قروء، كما قال: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) ~~(1) . والتربص في الموضعين من حين السبب، وهو الإيلاء أو الطلاق، فإنه لما ~~قال: (والمطلقات يتربصن) كان أمرا لهن بالتربص من حين طلقهن، وإذا وجب ~~عليها من حين الطلاق تربص ثلاثة قروء حينئذ امتنع أن يكون بين الطلاق وهذه ~~القروء عدة أخرى كالحمل، والله تعالى أمر بطلاقها للعدة، فالعدة التي هي ~~القروء، فستعقب الطلاق لا تتراخى عنه، ولأن قوله (ثلاثة قروء) عدد، فعلم ~~أنها لا تتربص زيادة على ذلك. # فهذا وغيره مما يبين أن لفظ الآية لم يشمل إلا المطلقة التي لها قروء عقب ~~الطلاق، لم يتناول الصغيرة ولا الكبيرة ولا الحامل، كما لم يتناول المتوفى ~~عنها، وإذا كان كذلك تبين أنها أيضا لم يتناول من لا تدري أتعتد بالقروء أو ~~بوضع الحمل، فإن هذه ليست مأمورة من حين الطلاق أن تتربص ثلاثة قروء، ~~والآية قد دلت على أن المطلقات المذكورات في الآية مأمورات أن تتربص كل ~~واحدة منهن ثلاثة قروء عقب الطلاق، فلم تدخل في الآية الحامل، ولا من لا ~~يعرف هل هي حامل أو حائل، ولو كانت هذه مطلقة لوجب أن تشملها الآية على ~~تقدير، فيجب عليها إن لم تكن حاملا أن تتربص من حين الطلاق ثلاثة قروء، ~~فلما لم تشملها الآية علم أنها ليست مطلقة. والمطلقات المذكورات هنا هن ~~المطلقات المذكورات في قوله: (إذا طلقتم النساء PageV01P258 # فطلقوهن لعدتهن) (1) ، والطلاق للعدة لا تدخل فيه هذه، فإنها ليست مطلقة ~~للعدة، فعلم أنها لا تكون مطلقة. # وأما الجواب عما احتجوا به فيقال: الآية سواء شملت الولد والحيض، أو قدر ~~أنها مختصة بالولد، فلا يمتنع أن يطلق للسنة وتكتم الحمل والولد، تارة تكره ~~الزوج فتكتمه، لئلا يعلم به فيراجعها، وتارة تكتمه لتطول العدة فتأخذ ~~النفقة، وقد تكتمه لتنفيه عن أبيه، وذلك ms0119 أنه إذا طلقها وقد رأت الطهر، فقد ~~تكون مع ذلك حاملا، فإن الحامل قد ترى الدم باتفاق الناس، وهل يكون حيضا؟ ~~على قولين، والطهر دليل ظاهر على براءة الرحم وليس قاطعا، فقد تكون حاملا ~~لاسيما في أوائل الحمل، وترى الدم [في] الطهر، فيطلقها يظنها حائلا، وتكون ~~حاملا تكتم ذلك. وقد يكون في ابتداء الخبر، فتخبر أنها حاضت وطهرت، ~~ليطلقها، رغبة منها في الطلاق وكراهة التزوج. # وقوله (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) (2) يقتضي تحريمه ~~في هذه الحال أيضا، فإنه إذا حرم عليها الكتمان بعد الطلاق، فقبل الطلاق ~~أولى أن يحرم عليها الكتمان، لأنه حينئذ يحتاج أن يعرف هل هي طاهر فيباح له ~~الطلاق، أم لا؟ وهل هي حامل لئلا يطلقها، أم لا؟ فإذا كتمت الحمل وزعمت ~~أنها طاهر ليطلقها، كانت أولى بالإثم من أن تكتم ذلك في آخر العدة، فإن هذه ~~قصدت أن توقعه في طلاق محرم، وأن تخرج نفسها من ملكه بالحيلة، وقد قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المنتزعات والمختلعات هن المنافقات" (3) ~~، وقال: "أيما امرأة سألت PageV01P259 # زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" (1) . فإذا كان هذا ~~بسؤالها واختياره فكيف باحتيالها ومكرها. وهذا مما يدل على بطلان الطلاق، ~~فإن الشارع حكيم ينبغي أن يعاقبها بنقيض قصدها، فلا يحصل لها ما طلبته من ~~المكر والخداع المحرم. فإذا كتمت الحمل وقالت: إني طاهر، حتى طلقها، ولم ~~تكن طاهرا بل كانت موطوءة، ولم يتبين حملها فهذه لا يقع بها الطلاق، على ~~هذا القول الذي نصرناه، وقد وقع مثل هذه القضية، وإذا تبين أنها قد تكتم ~~الحبل بعد الطلاق وقبل الطلاق، مع أن المطلقة مأمورة بثلاثة قروء، تبين أن ~~هذا القول هو المتضمن للعمل بالآية دون ذاك. # وقد ذكر بعض أهل التفسير (2) أنهن في الجاهلية كن يفعلن ذلك، فقال ابن ~~السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كانت المرأة إذا كانت راغبة في زوجها قالت: ~~أنا حبلى، وليست حبلى، لكي يراجعها. # وإن كانت حبلى وهي ms0120 كارهة قالت: لست بحبلى، لكي لا يقدر على مراجعتها، أو ~~لكيلا يراجعها. فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قوله، فقال: (يا أيها ~~النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) (3) . # ثم نزلت: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (4) . # قلت: وهذا يقتضي أنهم كانوا يطلقون الموطوءة قبل نزول آية PageV01P260 # الطلاق، وحينئذ فقد تقول: أنا حبلى، فيراجعها، وقد تقول: لست حبلى، فلا ~~يراجعها. فلما أنزل الله آية الطلاق أمر بالطلاق للعدة أن تكون طاهرا أو ~~حاملا قد تبين حملها، وأنزل آية البقرة، فصار الطلاق وهي طاهر، والغالب ~~أنها لا تكون حبلى، فما بقيت تتمكن مما كانت تتمكن منه في الجاهلية. # وقد ذكر بعض أهل التفسير أنهم كانوا يراجعون الحامل بعد الطلاق الثلاث، ~~وأن الآية نزلت في ذلك، ففي "تفسير الخمس مئة" لمقاتل قال: (ولا يحل لهن أن ~~يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) يعني من الولد، (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) ~~يعني أزواجهن أحق بردهن يعني برجعتهن في ذلك، يعني في الحمل. كان هذا في ~~أول الإسلام، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما ~~دامت في العدة، ثم نزلت: (وبعولتهن أحق بردهن) في الحبل بعدما طلقها ثلاثا ~~معلومة في كتاب الله ممكنة. وفسر الآيات إلى قوله: (وتلك حدود الله) يعني ~~ما بين من الزوج والمرأة في الطلاق والرجعة (يبينها لقوم يعلمون (230)) . ~~فمن طلق امرأته ثلاثا وهي حبلى أو غير ذلك، فقد بانت منه، ولا تحل له حتى ~~تنكح زوجا غيره. # وفي تفسير عاصم بن سليمان الكوزي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: وقوله ~~(وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) يعني في الحامل، في أول الإسلام كان الرجل إذا ~~طلق امرأته ثلاثا وهي حامل أو غير حامل، فهو أحق برجعتها ما دامت حاملا. ثم ~~نزلت في امرأة رجل لم يعلم بحملها، فطلقها زوجها، ولم تخبره المرأة بحملها. ~~فذلك قوله: (إن أرادوا إصلاحا) إذا تراجعا ما بينهما، ثم نسخت هذه الآية ~~التي بعدها، فقال: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف) يقول ms0121: بحسن # PageV01P261 # الصحبة، إلى أن قال: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) التطليقة الثالثة ~~(حتى تنكح زوجا غيره) حاملا كانت أو غير حامل. # قلت: أما كون الطلاق في الجاهلية وفي أول الإسلام كان بغير عدد، يطلق ~~الرجل المرأة ما شاء ثم يراجعها، فهذا مشهور معروف، قد ذكره عامة العلماء، ~~ولا فرق في ذلك كان بين الحامل وغيرها. # ولم يكن في الجاهلية عدة ولا عدد للطلاق، وأنزل الله العدة أولا، فكان ~~الرجل المضار يطلقها، حتى إذا لم يبق من العدة إلا قليل راجعها، ثم يطلقها، ~~فتستأنف العدة، فيمهلها، حتى إذا بقي منها قليل طلقها، ثم كذلك يفعل، حتى ~~يبقى دائما يطلقها ثم يراجعها، فأنزل الله الثلاث. وكان له أن يرتجعها بعد ~~الطلاق الثلاث إذا كانت في العدة، سواء كانت العدة حملا أو قروءا، كما ذكر ~~هؤلاء. ولم يكونوا إذ ذاك أمروا بالطلاق للعدة، فإنه إذا كان يملك أكثر من ~~ثلاث أمكنه تطويل العدة وإضرارها وإن طلقها للعدة، ولكن لما قصروا على ~~الثلاث أمروا أن لا يطلقوا إلا للعدة، لتكون العدة عقب الطلاق، فلا يقع ضرر ~~أصلا. # وما ذكر من أن المرأة كانت تكتم الحمل تارة لبغضها للرجل، وتارة لئلا ~~يراجعها، وتقول: إني حبلى، وتكتم الحيض تارة لحبها له، ليمسكها، وأن رجلا ~~طلق امرأته ولم تعلمه أنها حامل، فهو يوافق ما ذكرناه من أنها قد تكتم ~~الحمل حين الطلاق. # وقولهم: "إن هذا في الحمل، وكان هذا في أول الإسلام"، فمعناه أنه في أول ~~الإسلام لما كان الطلاق بغير عدد، ولم تكن هناك سنة وبدعة، كانت المرأة ~~تتمكن من كتمان الحمل تارة وكتمان الحيض، ودعوى الحمل تارة، لهواها في ~~الحالين. فلما صار الطلاق # PageV01P262 # ثلاثا ما بقي يتمكن من المراجعة إلا في الطلقتين، وأمر أن لا يطلقها حتى ~~يعلم أنها حامل أو غير حامل، فإن كانت حاملا كانت عدتها الحمل، وأقدم على ~~علم فلا يندم، ولا تغره وتكتمه وتكذب عليه. وإن ظهر أنها ليست حاملا، ~~لكونها في طهر لم يصبها فيه، كان كذلك، وما ms0122 بقي الكذب الذي يضره يمكنها إلا ~~في صور نادرة، إذا طهرت ثم تبين أنها حامل، أو فيما إذا كتمت الحمل أولا ~~وقالت: إني طاهر، وهو مع ذلك وفي كلا الموضعين إنما يمكنها الخداع على قول ~~من يوقع الطلاق. ومن لا يوقع إلا طلاق السنة يقول: إذا تبين أنها كانت ~~حاملا ولم يعلم، لم يقع الطلاق، فإنها لم تكن طاهرا، ولا كان ذلك دم حيض. # وأيضا فقد يكون مرادهم أن هذه الآية - آية القروء - نزلت قبل الأمر ~~بالطلاق للعدة، فكانوا في تلك الحال لهم أن يطلقوا المرأة حائضا وموطوءة، ~~وحينئذ فقد تكون حاملا وتكتم الزوج ذلك، أو حائلا وتكتم ذلك، فكان النهي عن ~~الكتمان في تلك الحال عاما. ثم إنه بعد ذلك أمر بالطلاق للعدة، ونهي الرجل ~~أن يطلق امرأة بمرة إلا إذا تبين حملها، فزال هذا الفساد، كما قيل لهم: ~~(ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) (1) ، لما كان الطلاق بلا عدد فأمر بالعدة ~~أولا، ثم قصروا على الثلاث ثانيا، ثم أمروا بطلاق السنة ثالثا. # وهذا يبين حقائق الأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولهذا قال في سورة ~~الطلاق (2) : (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) ، فدل على PageV01P263 # أن العدة كانت مشروعة قبل ذلك، وأن آية العدة نزلت قبل الأمر بطلاق ~~السنة، وهذا يحقق ما ذكر، والحمد لله رب العالمين. # وكذلك إذا كتمت الحمل وقالت: إني طاهر، فإنه لا يقع الطلاق. # فهذا كله ما يبين أن ### | القول بأن طلاق البدعة لا يقع هو أرجح القولين، # وعليه يدل الكتاب والسنة، وهو الموافق لمقاصد الشرع، وهو الذي يسد باب ~~الضرار والمخادعة والمكر، الذي أراده الله بأمره بطلاق السنة، وبقصره ~~الطلاق على ثلاث، وإلا فإذا قيل بوقوع طلاق البدعة كان الضرر الذي كان في ~~الجاهلية من هذا الوجه باقيا. فإذا قيل: إن الطلاق بعد الطهر لازم أمكنها ~~حينئذ أن تكتم الحمل إذا كانت زاهدة في الرجل لئلا يرتجعها، وأن تكتم الحيض ~~وتدعي الحمل إذا كانت راغبة في الرجل ليرتجعها. # وما ذكره بعض أهل التفسير من أن نهيها ms0123 عن كتمان ما خلق الله في رحمها كان ~~في أول الإسلام، إن قيل: أرادوا بذلك أن النهي كان في أول الإسلام قبل ~~قصرهم على الثلاث وأمرهم بطلاق السنة، لأن الحامل حينئذ كانت تطلق من غير ~~أن يعلم أنها حامل، فاحتاجوا إلى ذلك. وأما بعد أن بين الله أنها لا تطلق ~~حتى يعلم أنها حائل أو حامل، فلا حاجة إلى ذلك. فهذه حجة قوية على من احتج ~~بالآية على وقوع طلاق البدعة كما تقدم. لكن الآية تبين أنهن نهين عن ~~الكتمان في الحال التي أمرت بها المطلقة أن تتربص ثلاثة قروء، وقيل فيها: ~~(الطلاق مرتان) (1) ، وهذا هو آخر الأمر، فيكون النهي يشمل هذه الحال ~~وغيرها بطريق الأولى كما تقدم، وإذا نهين عن PageV01P264 # الكتمان لم يدل ذلك على أن كتمانها ينفعها إذا علم بها، بل قد لا يعلم ~~كتمانها، فتكتمه الحمل، فيطلق يظنها طاهرا، ويستمر الأمر إلى أن تضع الحمل، ~~فربما غيبت الولد وكتمت الولادة. كما روي أن امرأة لعمر فعلت ذلك، وأن عمر ~~عاقبها بمنعها من الأزواج. وربما مات الولد أو قتلته، وربما كره الزوج ~~مراجعتها بعد ذلك. هذا مع العلم بأن طلاقها لا يقع، فكيف وأكثر الناس يظنون ~~أن طلاقها يقع، فيكون كتمانها مضرة في هذه الحال. والزوج قد يعتقد أن ~~طلاقها يقع كما يعتقده غالب الناس، فيتضرر حينئذ بمكرها وكيدها، فنهي الله ~~لها عن الكتمان فيه كمال المصالح للعالم والجاهل في مسائل الإجماع والنزاع. ~~ثم من كان أبصر وأخبر بحكمة الرب ورحمته ومحاسن الإسلام تبين له أن الرب لم ~~يجعل لها طريفا إلى أن تضار الرجل، حتى توقعه في طلاق أو تمنعه من رجعة، ~~إلا إذا كان حكم الله ورسوله خفيا عليه، فيؤتى من عدم علمه، لا من نقص في ~~حكم الله ورسوله. # والله أعلم وأحكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. # آخره، والحمد لله رب العالمين. # (بلغ مقابلة بالأصل خط المؤلف، ومنه نقل. والحمد لله رب العالمين) . # *** # PageV01P265 ### | فتوى في طلاق السنة وطلاق البدعة # PageV01P267 # بسم الله الرحمن الرحيم # الحمد ms0124 لله رب العالمين. # سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه، ومن خطه نقلت: # ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في طلاق ~~السنة وطلاق البدعة ما هو؟ وهل طلاق البدعة حلال أو حرام؟ # وهل طلاق الثلاث بكلمة واحدة من السنة أو البدعة؟ وهل هو حلال أو حرام؟ ~~بينوا لنا هذه المسألة، رحمكم الله وهداكم. # فأجاب رحمه الله: # الحمد لله. طلاق السنة الذي أباحه الله ورسوله أن يطلق الرجل امرأته طلقة ~~واحدة في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تقضي العدة، فإن كان له فيها غرض ~~راجعها في العدة، أو يراجعها بعقد جديد بعد انقضاء العدة، وإن لم يكن له ~~فيها غرض تركها. فإذا فعل ذلك فقد طلق للسنة، وهذا الطلاق الذي أباحه الله ~~بالكتاب والسنة والإجماع. # فأما إذا طلقها في الحيض فإنه يكون عاصيا لله مبتدعا باتفاق الأئمة، ~~وكذلك إذا طلقها بعد أن وطئها قبل أن يستبين حملها، فإنه طلاق بدعة. وكذلك ~~إذا طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات في طهر واحد فإنه يكون عاصيا لله ~~مبتدعا عند جماهير السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر ~~الروايتين عنه، بل لو # PageV01P269 # طلقها واحدة ثم أتبعها بطلقتين قبل أن تنقضي العدة فانه يكون أيضا مبتدعا ~~في مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه. # والقرآن والسنة يدل على أن الله إنما أباح للرجل أن يطلق طلقة واحدة، ~~فإذا راجعها ثم أراد أن يطلق الثانية فله ذلك، وكذلك الثالثة، فإذا طلقها ~~ثلاثا كذلك لم يكن مبتدعا. وإذا وقع به الطلاق الثلاث حرمت عليه حتى تنكح ~~زوجا غيره. فإذا طلقها على الوجه المشروع لم يندم. وهو قول الله تعالى: (يا ~~أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم ~~لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ~~ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1) ~~فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ms0125 بمعروف أو فارقوهن بمعروف) إلى قوله (ومن يتق ~~الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب) (1) . # فهذا إنما يكون لمن طلق أقل من ثلاث، فيمسك بمعروف، أو يفارق بمعروف، وفي ~~مثل هذا يقال: "لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا"، وهو أن يبدو له فيراجعها. ~~فأما إذا وقع الثلاث فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ وأي رجاء يكون بعدها؟ فلهذا ~~قال جمهور السلف والخلف: إن جمع الثلاث بدعة منهي عنها، والمطلق ثلاثا ~~بكلمة واحدة مبتدع عاص. # ولم يثبت أن أحدا أوقع الطلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- بكلمة واحدة، بل زوج فاطمة ابنة قيس طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات. ~~والملاعن كان باللعان قد ثبت حكم الفرقة بينه وبين PageV01P270 # امرأته، فطلق ثلاثا، ولو لم يطلقها لكانت محرمة عليه. فالطلاق لم يفد ~~شيئا. # فأما أن يكون المسلمون يطلقون ثلاثا بكلمة واحدة على عهد النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - - كما يفعل الناس في زماننا - فهذا لم يثبت فيه حديث ~~صحيح، ولهذا كان الصحابة يذمون من يطلق ثلاثا بكلمة واحدة، ويقولون: إنه ~~عاص لله، والطلاق إذا وقع لم يرتفع بالكفارة بإجماع المسلمين، وإنما ~~الكفارة في الأيمان، لا في إيقاع الطلاق. والله # أعلم. # (صورة خطه) كتبه أحمد بن تيمية. # (بلغ مقابلة بأصله، ومنه نقل) . # *** # PageV01P271 ### | فصل في جمع الطلاق الثلاث # PageV01P273 # بسم الله الرحمن الرحيم # (قال شيخ الإسلام وبحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ~~بن عبد السلام بن تيمية الحراني - رحمه الله ورضي عنه -، ومن خطه نقلت:) . # فصل ### | جمع الطلاق الثلاث محرم عند جمهور السلف والخلف، # وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في آخر الروايتين عنه، واختيار أكثر ~~أصحابه. ثم هل يقع عند هؤلاء أو لا يقع، أو تقع واحدة، أو يفرق بين المدخول ~~بها وغير المدخول بها، فيه نزاع (1) . والنزاع بين السلف إنما هو هل تقع ~~واحدة أو ثلث. وأما القول بأنه لا يقع شيء فإنما هو منقول عن بعض أهل البدع ~~من أهل الكلام والرافضة. # وقالت طائفة: بل هو ms0126 مباح. # والكلام في مقامين: # أحدهما: أنه محرم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ~~والاعتبار بالأصول المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فمن وجوه: # أحدها: أنه سبحانه قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن ~~PageV01P275 # لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن ~~إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ~~لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ~~أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به ~~من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من ~~حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله ~~لكل شيء قدرا (3)) إلى قوله: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن ~~لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن ~~لكم فآتوهن أجورهن) (1) . # ومعلوم أن هذه السورة هي سورة الطلاق، وقد ذكر الله فيها من أحكام الطلاق ~~والرجعة والعدد ونفقة الحامل والمرضع وغير ذلك مالم يذكره في موضع آخر، وهي ~~تدل على تحريم جمع الثلاث من وجوه: # أحدها: أنه قال (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا ~~الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) إلى ~~قوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ~~بمعروف أو فارقوهن بمعروف) . ومعلوم أن هذا لا يكون في الطلاق الثلاث، فإن ~~الثلاث لا إمساك بعدهن، وبعد الثلاث لا يحدث الله للزوج رجعة بدون رضاها. ~~ولهذا قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء - كابن عباس وجابر ~~وفاطمة بنت قيس - وفقهاء الحديث ومن وافقهم من العلماء: إن هذا في الرجعية. ~~PageV01P276 # الثاني: أن قوله (فطلقوهن) إذن في مطلق الطلاق، ليس إذنا في كل طلاق. ومن ~~ظن أن هذا عام فقد غلط ولم يفرق بين العام والمطلق، فإن قول القائل "كل" ~~و"بع ms0127" ونحو ذلك إذن في مطلق الأكل والبيع، لا يتعرض للعموم لا بنفي ولا ~~إثبات. ولهذا لم يكن تقييد هذا المطلق رفعا لمدلول اللفظ ولا نسخا له، وإذا ~~لم يكن فيه عموم فهو لم يأذن إلا في الطلاق الذي وصفه، وهو أن يطلق للعدة ~~وأن يحصي العدة ويتقي الله، وأنه إذا بلغن أجلهن أمسك بمعروف أو فارق ~~بمعروف. وهذه الصفة إنما هي في الطلاق دون الثلاث، كما أنها إنما هي في ~~الطلاق لاستقبال العدة، فمن طلقها حائضا فلم يطلق كما أمره الله تعالى. ~~كذلك من لم يطلق الطلاق الموصوف بأن صاحبه لا يدري لعل الله يحدث بعده ~~أمرا، وبأنه إذا بلغت المرأة أجلها فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بمعروف، ~~فلم يطلق الطلاق الذي أمر الله به. # الثالث: أنه أمر بإحصاء العدة وأن يتقي الله، وأمر إذا بلغن أجلهن أن ~~يمسك بمعروف أو يسرح بمعروف، وهذا لا يحتاج إليه في الثلاث، فإن الثلاث ~~إنما يحتاج إلى إحصاء العدة لتحل لغيره، لا لأجل إمساكه وتسريحه. # الرابع: أنه قال (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة ~~مبينة) ، وهذا حكم المطلقة الرجعية، فإن زوجها أحق بها ما دامت في العدة، ~~فليست كالزوجة من كل وجه، ولا كالبائن من كل وجه، بخلاف الزوجة فإن لها أن ~~تخرج بإذن زوجها، والبائن لزوجها أن يخرجها بلا إذنها، فإنها لا تستحق عليه ~~السكنى ولا النفقة، إلا أن يختار هو أن يحصنها، فله إلزامها بالسكنى لحقه ~~في # PageV01P277 # العدة. وقد دل على ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة في ~~فاطمة بنت قيس حيث قال لها: "ليس لك سكنى ولا نفقة" (1) . ولم يعارض ذلك ~~أحد بمعارضة صحيحة، فإن القرآن لا يخالف ذلك بل يوافقه، فإن الله قال: ~~(أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات ~~حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) (2) ، والضمير عائد على ما تقدم، وهي ~~الرجعية. وما ذكره في الحامل والمرضع فبين فيه أن النفقة حينئذ لأجل الحمل ms0128، ~~لا لأجل النكاح، ولهذا قال: (حتى يضعن حملهن) ، فهذا ذكره لغاية نفقة ~~الحمل، وإلا فقد بين عدة الحامل بقوله (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن ~~حملهن) (3) ، وقوله بعد ذلك: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) (4) . وقد ثبت ~~بالإجماع أن أجرة الرضاع نفقة الولد، وهي تجب للنسب لا للنكاح، فدل ذلك على ~~أن نفقة الحامل لذلك. # ولهذا كان أصح القولين أن نفقة الحامل تجب للحمل (5) ، وحكمها حكم نفقة ~~الولد التي تجب على والده، وهذا مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه، ~~والشافعي في أحد قوليه، ومن قال: إنها تجب للزوجة من أجل الحمل، فكلامه ~~متناقض لا يعقل. # الخامس: أنه قال (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1)) ، وهو كما قال ~~غير واحد من الصحابة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث، فإن PageV01P278 # الله ذكر هذا ليبين أنه قد يحدث بعد رغبة في الزوجة وندم على الطلاق، ~~فيكون له سبيل إلى رجعتها. # السادس: أنه قال في سياق الآية: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2)) ، وقد ~~قال الصحابة لمن طلق ثلاثا (1) : لو اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا، فعلم ~~أن جامع الثلاث لم يتق الله. # السابع: أنه قال (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ~~وأشهدوا ذوي عدل منكم) ، والإشهاد إنما يؤمر به في حكم الطلاق الرجعي، وهو ~~واجب على الرجعة في أحد القولين، ويستحب في الآخر. # الثامن: أنه قال (فإذا بلغن أجلهن) أي وصلن إلى آخر المدة، فإن الأجل هو ~~آخر المدة، والعدة مجموعها، ولهذا قال تعالى في الآيسات: (فعدتهن ثلاثة ~~أشهر) ، وقال: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ، فجعل الأجل وضع ~~الحمل، ولم يجعل ذلك عدة، لأن العدة ما يعد، وهي المدة التي تعد. وأما ~~الأجل فهو آخر المدة. # ولهذا دلت هذه الآية على أن الحامل لا أجل لها إلا وضع الحمل، سواء كانت ~~متوفى عنها أو مدخولا بها، ولهذا قال ابن مسعود (2) : أشهد أن سورة النساء ~~القصرى نزلت بعد الطولى، (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وقال ~~سبحانه: (فإذا بلغن أجلهن) ، لأنه ms0129 إنما يخير بين الإمساك والتسريح عند آخر ~~المدة، بخلاف أثنائها، فإنه لا PageV01P279 # يسرحها حينئذ، وهذا إنما يكون في الرجعية. # التاسع: أنه خيره بين الإمساك والتسريح، وليس المراد بالتسريح هنا تطليقا ~~بائنا باتفاق المسلمين، فإن ذلك لا يختص ببلوغ الأجل، بل المراد به تخلية ~~سبيلها، كما قال: (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما ~~لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49)) (1) ، فأمر ~~بتسريح المطلقة قبل المسيس، وتلك ليست رجعية، ولا يلحقها الطلاق الثاني، ~~وإنما المراد تخلية سبيلها وإزالة يده عنها، فإن له يدا على الرجعية، فإذا ~~بانت لم يكن له عليها بد. # الموضع الثاني من كتاب الله قوله تعالى: (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع ~~عليم (227) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما ~~خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ~~ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ~~والله عزيز حكيم (228) الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل ~~لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن ~~خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا ~~تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له ~~من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن ~~يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230) وإذا طلقتم ~~النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا ~~لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة ~~الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا ~~أن الله بكل شيء عليم (231) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ~~ينكحن PageV01P280 # أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله ~~واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله ms0130 يعلم وأنتم لا تعلمون (232)) (1) . # وهذه الآيات تدل على أن المشروع هو الطلاق الرجعي دون الثلاث، من وجوه: # الأول: أنه قال (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227) والمطلقات ~~يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن ~~كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) ، ~~وهذا يدل على أن كل مطلقة فإنها تتربص ثلاثة قروء، وأن بعلها أحق بردها في ~~ذلك، فلو كان المطلق مخيرا بين إيقاع واحدة وثلاث لم تكن كل مطلقة كذلك، بل ~~كان هذا وصف بعض المطلقات. # فإن قيل: فهذا يرد عليكم فيمن طلقت الطلقة الثالثة. # قيل: قد بين ذلك بقوله فيما بعد (الطلاق مرتان) ، تبين أن هذا الطلاق هو ~~مرتان فقط، والثالثة قوله (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا ~~غيره) . وقبله قوله (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) ، فكان تمام الكلام ~~يبين المراد، ولم يك في ذلك خروج عن مدلول القرآن ومفهومه وظاهره، بخلاف ما ~~إذا قيل: إن المطلق مخير بين الواحدة والثلاث. # وأيضا فالآية عامة في كل مطلقة، والمطلقة طلقة ثالثة قد خصها في تمام ~~الكلام بقوله (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) ، فيبقى ما ~~سواها على ظاهر القرآن وعمومه. PageV01P281 # الوجه الثاني: أن الله ذكر حكم الطلاق الذي أذن فيه وشرعه، فإنه لما قال: ~~(فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ~~(227)) ، وقال: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) ، وقال: (إذا نكحتم ~~المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) ونحو ذلك، دل على أنه أذن في ~~الطلاق وأباحه في الجملة، وهو سبحانه لم يأذن في كل طلاق ولا أباحه، بل ~~الطلاق ينقسم إلى مباح ومحظور بالكتاب والسنة والإجماع. وإنما الكلام هنا ~~في جمع الثلاث هل هو من المباح أو المحظور، فإذا قيل: إن الله بين حكم ~~الطلاق الذي أباحه، ولم تكن الثلاث مباحة، كان القرآن على ظاهره وعمومه؛ ~~وإذا قيل: هو من ms0131 المباح، والقرآن يعم الطلاق المأذون فيه والمحظور، كان ذلك ~~مخالفا لظاهر القرآن. # الوجه الثالث: أنه قال (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) ، وهذا صفة الطلاق ~~الرجعي، فدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الموصوف في كتاب الله بقوله ~~(والمطلقات) ، فالمطلق ثلاثا ابتداء لا رجعة له، ومن لم يوقع إلا طلاقا لا ~~رجعة فيه فقد خالف كتاب الله. # الوجه الرابع: أنه قال بعد ذلك (الطلاق مرتان) ، ثم قال: (فإمساك بمعروف ~~أو تسريح بإحسان) . وفي الحديث المرسل عن أبي رزين الأسدي الذي رواه الإمام ~~أحمد وغيره (1) أنه قيل: يا رسول الله! فأين الطلقة الثالثة؟ قال: في قوله ~~(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) . وهذا معناه أنه جوز إمساكها بعد ~~الثانية، فعلم أنها تكون زوجة بعد الثانية، لا PageV01P282 # تحرم بالثانية. ثم ذكر حكمه إذا أوقع الثالثة بقوله: (فإن طلقها فلا تحل ~~له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) . وقد فسر بعضهم (1) معناه بان قوله (أو ~~تسريح بإحسان) هو الطلقة الثالثة، وهذا غلط من وجوه كما قد ذكر في موضع ~~آخر. ومعلوم أن هذا لا يتناول الثلاث المجموعة، فإنه ليس بعد وقوع الثلاث ~~إمساك بمعروف. # الوجه الخامس: أن قوله (الطلاق مرتان) لفظ معرف باللام، فيعود إلى الطلاق ~~المعهود، وهو الطلاق الذي تقدم ذكره في كتاب الله بقوله (والمطلقات يتربصن) ~~، وهو الطلاق الرجعي، فدل ذلك على أن الطلاق المشروع في كتاب الله هو ~~الطلاق الرجعي الذي يقع مرة بعد مرة، وبعدهما إمساك بمعروف أو تسريح ~~بإحسان، والثالثة قوله (فإن طلقها) . # الوجه السادس: أن قوله (مرتان) إما أن يريد به مرة بعد مرة، كما في قوله ~~(ثم ارجع البصر كرتين) (2) ، وكما في قوله تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت ~~أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات) (3) الآية. ومعلوم أن ~~الثلاث في الاستئذان لا تكون بكلمة واحدة، فلو قال: "سلام عليكم، أأدخل ~~ثلاثا" لم يكن قد استأذن ثلاثا. وكما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"من قال في يوم مئة مرة سبحان الله وبحمده حطت عنه خطاياه، ولو كانت ms0132 مثل ~~زبد البحر" (4) ؛ وفي مثل قوله: "سبح ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين، ~~وكبر ثلاثا وثلاثين" (5) ؛ وقوله: "كان إذا سلم PageV01P283 # سلم ثلاثا" (1) ، وأمثال ذلك مما يقتضي لفظ العدد فيه تكرير القول. # لاسيما وهو لم يقل: "الطلاق طلقتان"، وإنما قال (الطلاق مرتان) . # وإذا قال: "هي طالق ثلاثا" قد يقال: إنه طلقها ثلاثا، لكن لا يقال: طلقها ~~ثلاث مرات، بل إنما طلقها مرة واحدة. وكذلك لو قال: "هي طالق طلقتين" إنما ~~يقال: طلقها مرة واحدة، لا يقال: طلقها مرتين. # وإما (2) أن يريد به "طلقتان" سواء كان بكلمة أو كلمتين، ولو أريد هذا ~~لقيل: "الطلاق ثلاث"، لم يقل: "الطلاق مرتان"، بخلاف ما إذا أريد الأول، ~~فإن المراد الطلاق المذكور، وهو الطلاق الرجعي مرتان: مرة بعد مرة؛ ~~والثالثة الطلاق بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو قوله (فإن ~~طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) ، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق ~~طلقتان"، ولم يقل "الطلاق مرتان". وقوله تعالى (نؤتها أجرها مرتين) (3) هو ~~على مقتضاه، أي مرة ومرة، وليس المراد إيتاء واحدا، بل إيتاء مرتين. # الوجه السابع: أن الطلاق اسم مصدر طلق تطليقا، ومعلوم أن التطليق فعل ~~يفعله المطلق بكلامه الذي يتكلم به، وهذا لا يعقل أن يكون مرتين، إلا إذا ~~قيل مرة بعد مرة، فأما إذا طلقها بكلمة واحدة فهذا لم يصدر منه الطلاق إلا ~~مرة واحدة لا مرتين. وإن جاز أن يقال: إنه طلقها طلقتين، فلا يجوز أن يقال: ~~إنه طلقها مرتين، ولا يفهم لفظ "طلقها مرتين" بدون تكرير التطليق. # يدل على ذلك أن قوله "الطلاق مرتان" يدل على ما يدل عليه PageV01P284 # قول القائل "طلقها مرتين"، ولو قال ذلك لم يفهم منه إلا أنه طلقها مرة ~~بعد مرة، فكذلك قوله "الطلاق مرتان". وإذا قال القائل: "سبح مرتين أو ~~ثلاثا" و"هلل مرتين أو ثلاثا" ونحو ذلك، فهم منه أنه قال ذلك مرة بعد مرة، ~~وكذلك إذا قيل "كلمه مرتين أو ثلاث مرات". # ومنه قوله تعالى: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر ms0133 الله لهم) (1) ، ~~وقوله تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) إلى قوله (ثلاث مرات) (2) ، ~~وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (3) : "من قال في يوم مئة ~~مرة سبحان الله وبحمده، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال في ~~يوم مئة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على ~~كل شيء قدير، كتب الله له مئة حسنة، وحط عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من ~~الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال ~~مثلما قال أو زاد عليه". # وقوله في الحديث الصحيح (4) : "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في ~~اليوم مئة مرة"، وقوله في الحديث الصحيح (5) : "أيها الناس! توبوا إلى ~~ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من ~~سبعين مرة". # الوجه الثامن: أنه قال بعد قوله "الطلاق مرتان": (فإمساك بمعروف أو تسريح ~~بإحسان) ، فأمره بعد الطلاق مرتين أن يمسك بمعروف PageV01P285 # أو يسرح بإحسان، وهذا لا يكون إلا فيما إذا أخر الطلقة الثالثة عن ~~الطلقتين، لا إذا جمع الجميع. # الوجه التاسع: أنه قال بعد ذلك (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح ~~زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) ، ومعنى ذلك باتفاق ~~المسلمين: فإن طلقها الذي طلقها مرتين فلا تحل له من بعد هذا الطلاق الثالث ~~حتى تنكح زوجا غيره، فإن طلقها هذا الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج ~~الأول أن يتراجعا، أي ينكحها نكاحا ثانيا إن ظنا أن يقيما حدود الله، ~~وحينئذ فالله تعالى إنما حرمها في القرآن بطلقة وقعت بعد الطلاق مرتين. # الوجه العاشر: أنه قال (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ~~أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) ، ~~فقوله "وإذا طلقتم" عام في كل تطليق، فإنه نكرة في سياق الشرط، فأمر عند ~~بلوغ الأجل بالإمساك أو التسريح، وهذا لا يكون مع جمع الثلاث، فعلم أن ms0134 جمع ~~الثلاث لم يدخل في ذلك. فلا يكون داخلا في مسمى التطليق، فلا يكون مشروعا، ~~فإنه لو دخل في مسماه لزم مخالفة ظاهر القرآن وتخصيص عمومه. # فإن قيل: فهذا يرد عليكم في الثالثة إذا أوقعها بعد ثنتين. # قيل: قد بين ذلك بقوله (الطلاق مرتان) إلى قوله (فإن طلقها) ، فقد بين أن ~~الطلاق الذي ذكر فيه الإمساك إنما هو مرتان فقط. # الوجه الحادي عشر: أنه قال (الطلاق مرتان) ، ولم يقل "ثلاثا"، مع العلم ~~بأنه يملك أن يطلقها ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، فعلم أنه أراد أن يبين أن ~~الطلاق الذي هو أحق برجعتها فيه مرتان، ولو # PageV01P286 # قيل: أراد: الطلاق الرجعي طلقتان، لم يستقم ذلك إذا جمعها، فإن الرجعي ~~حينئذ يكون طلقة واحدة، وطلقة بعد طلقة، وطلقتان مجموعتان، بخلاف ما إذا ~~قيل "مرتان"، فنه لا يكون إلا مرة بعد مرة. # فن قيل: فإذا كان المراد أن الطلاق الرجعي مرتان علم أن لنا طلاقا رجعيا ~~وطلاقا غير رجعي، وذلك يتناول البائن والمحرم، وهو الثلاث. # قيل: لفظ الطلاق إما أن يعم كل طلاق أو يعود إلى الطلاق المتقدم، وهو ~~المعهود، وعلى التقديرين فنه يقتضي أن كل طلاق إنما يكون مرة بعد مرة، ولا ~~يكون إلا رجعيا، فمن أثبت طلاقا بكلمة توجب البينونة فقد خالف دلالة ~~القرآن، فضلا عن طلاق واحد يوجب التحريم. # الوجه الثاني عشر: أنه قال (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) ، وهذا لا يتأتى ~~في جمع الثلاث. # الوجه الثالث عشر: أنه قال (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) ، وقد روي أن جمع ~~الثلاث من اتخاذ آيات الله هزوا، كما رواه النسائي (1) من حديث ابن وهب ~~أخبرني مخرمة عن أبيه سمعت محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال: ~~أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! أفلا ~~أقتله؟ # الوجه الرابع عشر: أنه قال (واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من ~~الكتاب والحكمة يعظكم به) ، وهذه ms0135 النعمة تظهر فيما إذا وقع للعبد أن ~~PageV01P287 # يطلقها مرة بعد مرة، وأن يراجعها بعد التطليق، فأما إذا حرمها عليه في ~~أول تطليق يطلقه فهذه حرمت عليه في أول مرة، وتحريم الطيبات ليس من باب ~~النعم، بل قد جعله عذابا بقوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات ~~أحلت لهم) (1) ، وقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) (2) . # الوجه الخامس عشر: قوله (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) ، ~~والوعظ هو الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون) ~~(3) أي يؤمرون به، وقوله: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله) (4) أي ينهاكم ~~الله. فدل عل أنه سبحانه أمرهم ونهاهم في الطلاق الذي ذكره، ولو كان قد ~~أباح لهم الثلاث جميعا لم يكن فيما ذكره من الطلاق أمر ولا نهي، فإنه بعد ~~الثلاث لا إمساك ولا تسريح ولا وعظ، وفاعلها إذا كان لم يذنب فلا يوعظ قبل ~~التطليق ولا بعده، والقرآن يدل على أنه وعظهم فيما ذكره من الطلاق. # الوجه السادس عشر: قوله (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ~~ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) ، فإن هذا عام في الطلاق الذي ~~ذكره الله في كتابه، وجعله مرتين، فلو كان قد أذن في جمع الثلاث لم تكن ~~الآية على عمومها، بل كان هذا في بعض التطليق المذكور دون بعض، وهو خلاف ~~ظاهر القرآن وعمومه. # الوجه السابع عشر: أن القرآن خطاب للصحابة ابتداء، ثم للأمة بعد الصحابة، ~~ومعلوم أن الخطاب بالطلاق الذي ذكر الله أحكامه، PageV01P288 # كقوله: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) ، وقوله: (الطلاق ~~مرتان) ، وقوله: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن ~~بمعروف) ، وقوله: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) لا يتناول ~~جمع الثلاث، وإنما يتناول من طلق مرة بعد مرة، فدل ذلك على أن هذا هو ~~الطلاق المعروف عند المخاطبين بالقرآن ابتداء. # ودل ذلك على أن جمع الثلاث لم يكن من الطلاق الذي يعرفونه، إذ لو كان ~~كذلك لكان يستثنيه ويبينه، وإلا كان القرآن قد أريد به خلاف ms0136 ظاهره وعمومه ~~بلا بيان من الله ورسوله. # الوجه الثامن عشر: أن يقال: معلوم أن ظاهر القرآن وعمومه يدل على أن ~~الطلاق المشروع طلقة بعد طلقة، فإذا أريد خلاف ظاهره فلابد من بيان من الله ~~أو رسوله لذلك. ومعلوم أنه ليس في القرآن آية تدل على إباحة جمع الثلاث، ~~ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك، فإن حديث فاطمة بنت ~~قيس إنما فيه أن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات، وحديث الملاعنة لما طلقها ~~ثلاثا إنما فيه طلاق من لا سبيل له إلى المقام معها، وهذا كما لو طلق من ~~حرمت عليه بغير الطلاق ثلاثا، وطلاق هذه زيادة توكيد في مفارقتها، بل هو ~~لغو لم يوجب الفرقة التي يوجبها الطلاق، بل وجوده كعدمه. والطلاق الثلاث ~~حرمت عليه ليكون له سبيل إلى رجعتها، وهذا المعنى منتف في حق هذه. ولو قدر ~~أنه فعل منكرا، فالمنكر إذا بين الله ورسوله أنه منكر لم يجب بيان ذلك في ~~كل مجلس. وهذا جواب ثان عن حديث فاطمة بنت قيس، فليس معهم إلا مجرد سكوت ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إذا بين تحريم الشيء لم يكن سكوته عن ~~إنكاره كل وقت دليلا على الجواز. # الوجه التاسع عشر: أن الله حرمها عليه بعد الطلقة الثالثة حتى # PageV01P289 # تنكح زوجا غيره، ولم يبح له أن يطلقها رابعة، وهذا عقوبة له، كما قال ~~تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) (1) ، وقوله: ~~(ذلك جزيناهم ببغيهم) (2) . فنها إذا حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لم يكن ~~قادرا على تزوجها ولو رضيت به، بل من الممكن أنها لا تتزوج بغيره، أو تتزوج ~~بمن لا يطلقها، ومن طبع الإنسان أنه يكره أن تتزوج امرأته بغيره. ولهذا حرم ~~على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح أزواجه من بعده، إكراما ~~للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فدل على أن تحريمها حتى تنكح زوجا غيره ~~إهانة له، فإنه إذا كان منع غيره من التزوج بامرأته إكرام، فاشتراط تزويج ~~غيره ms0137 في الحل وجعل ذلك واجبا في عودها إليه إهانة له، والإهانة لا تكون إلا ~~لمذنب. # فإن قيل: فالله أباح الطلاق. # قيل: لم يبحه مطلقا، لكن أباحه بعدد محصور، وأن تحرم عليه امرأته بعد ~~الثالثة، والأمر الذي لم يبح فيه إلا مقدار معين وحرمت عليه بعد ذلك ~~المقدار - لا يكون مباحا مطلقا، بل هو بمنزلة ما أبيح من الحرير، فإنه أبيح ~~للنساء، وأبيح منه عرض كف للرجال؛ وبمنزلة الهجرة والإحداد ومقام المهاجر ~~بمكة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه ~~فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (3) . ~~وقال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث" ~~(4) . وأذن للمهاجر أن PageV01P290 # يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. فكان الأصل في هجرة المسلم والإحداد على ~~غير الزوج ومقام المهاجر بما هاجر عنه أن يكون منهيا، لكن رخص في الثلاث ~~منه للحاجة إلى ذلك. # كذلك الطلاق، لما لم يبح منه إلا الثلاث دل على أن الأصل فيه الحظر، ~~والمعنى أن الرجل خير بين أن يطلقها فتحرم عليه، وبين أن لا يطلقها، ومعلوم ~~أنه إذا أبيح مجموع التطليق وتحريمها عليه لم يكن. الطلاق وحده مباحا، فمن ~~ظن أن الطلاق مباح مطلقا كما يباح الأكل والشرب فقد غلط، بل إذا اقتصر على ~~ثلاث تطليقات وحرمت بعد الثالثة دل على أنه أبيح منه قدر الحاجة، ومعلوم أن ~~جمع الثلاث لا حاجة إليه، فلا يباح (1) . # *** PageV01P291 ### | فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث # PageV01P293 # والأحاديث في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم ### | - ليس فيها حديث ثابت يدل على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، # بل فيها في الصحيح والسنن ما يدل على أن الثلاث بكلمة واحدة لا تكون ~~لازمة لكل من أوقعها. # مثل الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وغيرهما ~~(1) عن طاوس عن ابن عباس: أن الطلاق كان على عهد النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ms0138 طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس ~~قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أنفذناه عليهم، فأنفذه ~~عليهم. # وهذا الحديث بطرقه وألفاظه مذكور في غير هذا الموضع، والذي رواه طاوس كان ~~يفتي بموجبه كما قد ذكر في غير هذا الموضع (2) . # والمقصود هنا حديث ركانة (3) ، فإنه قد احتج به غير واحد من أهل العلم ~~على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ~~أردت إلا واحدة؟ قال: ما أردت إلا واحدة. وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه ~~في هذه المسألة (4) . # وحديث ركانة هذا قد ضعفه طائفة (5) كأحمد وأبي عبيد وابن حزم، ~~PageV01P295 # مع أنه رواه ابن حبان في صحيحه (1) . وقال الشافعي (2) : عمي ثقة، وعبد ~~الله بن علي بن السائب ثقة. وأما نافع بن عجير فروى عن علي بن أبي طالب وعن ~~ركانة، وروى له أبو داود والنسائي. وهذا الإسناد مع الإسناد الآخر (3) الذي ~~رواه أيضا أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه يوجب حسن الحديث، فإنهما ~~إسنادان ليس فيهما متهم، لكن رواته ليسوا معروفين بالعلم، ولا يعرف لقاء ~~بعضهم بعضا، كما سيأتي بيانه. # وفي الجملة لو لم يعارضه غيره لأمكن أن يقال هو حسن أو صحيح على طريقة ~~بعضهم، وأما إذا عارضه ما هو أرجح منه فإنه يقدم الراجح. وقد يقال: إنه لم ~~يعارضه غيره. وطائفة أخرى عارضوه بأنه قد روي فيه أنه طلقها ثلاثا. فأما ~~إذا تدبرنا الروايات في هذا الباب وتتبعناها لم نجد بين الحديثين خلافا، بل ~~في حديث الثلاث دلالة صريحة على أن الثلاث لا تقع بكلمة واحدة، ونحن نذكر ~~ذلك. # قال أبو داود في السنن (4) : باب في نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. ~~حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن ~~أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ~~ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن PageV01P296 # ما خلق الله في أرحامهن) (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته ~~فهو ms0139 أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك، فقال: (الطلاق مرتان) (2) ~~الآية. # قلت: هذا مروي عن عائشة وغير واحد من السلف (3) . ثم ذكر أبو داود (4) ~~حديث طاوس، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج، ~~أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت ~~الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ~~وثلاث من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم. # وكأنه - والله أعلم - ذكره أبو داود هنا لقول من قال: إن هذا الحديث ~~منسوخ، وإنه كان هذا حكمه لما كان الطلاق بغير طلاق. # وهذا من جملة ما حمل عليه هذا الحديث، وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا. ~~لكن من المعلوم أن ذلك المنسوخ لم يكن محصورا بثلاث، بل كان إذا طلقها أكثر ~~من ثلاث راجعها بغير اختيارها، وكان إذا طلقها ثلاثا مفترقات، كل واحدة بعد ~~رجعة أو عقد جديد، له أن يراجعها. وهذا هو المنسوخ بلا ريب، وأما كون ~~الثلاث تجعل واحدة فهذا حكم غير الحكم المنسوخ، إذ المنسوخ لم تجعل الثلاث ~~فيه واحدة، ولا كان الطلاق مقصورا على ثلاث، بل الثلاث والخمس والعشر ~~والواحدة كانت فيه سواء. # ثم إن ذلك المنسوخ لم يعمل به لعد نسخه على عهد النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - PageV01P297 # ولا أبي بكر ولا خلافة عمر، بل قد نزل القرآن بأنها بعد الثالثة تحرم ~~عليه حتى تنكح زوجا غيره، وتواترت بذلك السنة، وشاع ذلك في المسلمين. ولم ~~يكن هذا من جنس تحريم نكاح المتعة الذي خفي على بعضهم، فإن هذا لم ينزل ~~نسخه صريحا في القرآن، ولا ظهر أمره كظهور الطلاق الثلاث، فإن طلاق الرجل ~~المرأة الطلقة الثالثة بعد ثنتين مما تكرر وقوعه على عهد النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - وخليفتيه، مثل فاطمة بنت قيس لما أرسل إليها زوجها أبو حفص بن ~~المغيرة بآخر ثلاث تطليقات، وكان قد ذهب مع علي إلى اليمن (1) ، وكان هذا ~~في آخر الأمر قريبا من حجة الوداع. وكذلك امرأة ms0140 رفاعة القرظي تميمة بنت ~~وهب، لما طلقها رفاعة، فأبت طلاقها بالثلاث، ونكحت بعده عبد الرحمن بن ~~الزبير، وجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله العود إلى رفاعة، ~~فقال: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (2) . # وكلا القصتين مشهورة ثابتة في الصحيح والمساند والسنن من غير وجه، وهذا ~~بخلاف سر المتعة. فلو كان أحد يمسك امرأته بعد الطلقة الثالثة لكان ذلك مما ~~يظهر للمسلمين. وأما المتعة فلما حرمت تركها من علم التحريم، ومن لم يعلمه ~~فعلها قليل منهم وهي تفعل سرا. ولم ينقل أحد أن أحدا بعد النسخ أمسك امرأته ~~بعد ثلاث تطليقات، كل طلقة بعد رجعة أو عقد، ولا أنه طلق بغير عدد، مع ~~PageV01P298 # أن الآثار التي فيها أن الطلاق كان بغير عدد آثار قليلة خفية لا يعلمها ~~جمهور الناس، ولم يرو أهل الصحيح منها شيئا، وإنما رواها طائفة من أهل ~~السنن والتفسير والفقه. # وأما الآثار بتحليل المتعة في أول الإسلام فهي مشهورة صحيحة معروفة عند ~~المسلمين، فكانت شبهة من اعتقد بقاء حل المتعة من هذه الجهة، ولهذا ذهب إلى ~~ذلك طائفة من السلف من أصحاب ابن عباس وغيرهم، إذ كان ابن عباس أفتى بها. ~~وقد قيل: إنه رجع عنها، وقيل: إنه إنما أفتى بها عند الضرورة، حتى روى له ~~علي بن أبي طالب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، كما أخرج ذلك أهل ~~الصحيح وغيره (1) . # وأما جواز التطليق بغير عدد فلم يذهب إليه مسلم، بل هو مما يعلم فساده ~~بالضرورة من دين الإسلام، فكيف يقال: إن هذا كان بعد النسخ موجودا على عهد ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر؟. # وأيضا ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر ~~كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم. فدل ذلك على أنه ~~أنفذ عليهم ما كانت لهم فيه أناة، فلو كان ما فعلوه هو المنسوخ المحرم لم ~~تكن لهم أناة في شيء قد ظهر تحريمه بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع، ولم ms0141 ~~يكن إنفاذه عليهم مما يتعلق باجتهاد الأئمة. # ثم ذكر أبو داود في سننه حديثا ثابتا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في أن جمع الثلاث بكلمة يكون واحدة، كما في حديث أبي الصهباء. ~~PageV01P299 # وذكر ما يعارضه، فقال (1) : حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ~~ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد - أبو ركانة ~~وإخوته - أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني عني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها ~~-، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية، فدعا بركانة ~~وإخوته، ثم قال لجلسائه: "أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد، ~~وفلان منه كذا وكذا؟ ". قالوا: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد ~~يزيد: "طلقها"، ففعل. [ثم] قال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته"، فقال: إني ~~طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: "قد علمت، راجعها". وتلا (يا أيها النبي ~~إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) (2) . # قال أبو داود: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد ابن ركانة عن ~~أبيه عن جده: أن ركانة طلق امرأته، فردها إليه النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- - أصح، لأنهم ولد الرجل، وأهله أعلم به (3) ، إن ركانة إنما طلق امرأته ~~البتة، فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة. # ثم روى هذا الحديث أبو داود (4) من طريق الشافعي: حدثني عمي محمد بن علي ~~بن شافع، عن عبد الله (5) بن علي بن السائب، PageV01P300 # عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة طلق امرأته. وفي لفظ: عن ~~ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته سهيمة البته، فأخبر النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - بذلك، وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: "والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت ~~إلا واحدة، فردها ms0142 إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فطلقها الثانية ~~في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان. # ورواه أبو داود (1) أيضا وابن ماجه (2) وأبو حاتم بن حبان في صحيحه (3) ~~من حديث جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ~~ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البته، فأتى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فقال: "ما أردت"؟ قال: واحدة، قال: "آلله"؟ قال: آلله! # قال: "هو على ما أردت". # ورواه الترمذي (4) : فقلت: يا رسول الله! إني طلقت امرأتي البته، فقال: ~~ما أردت بها؟ قلت: واحدة، قال: والله؟ قلت: والله! # قال: فهو ما أردت. وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه. # وقال ابن ماجه (5) : سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث! ~~قال ابن ماجه: أبو عبيد تركه ناحية، وأحمد جبن عنه. PageV01P301 # قال أبو داود (1) : وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ~~ثلاثا، لأنهم أهل بيته، وهم أعلم به. وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي ~~رافع عن عكرمة عن ابن عباس. # قلت: فجعل أبو داود - رضي الله عنه - القصتين واحدة، وهو كما قال: ويرد ~~عليه أنه في حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، وليس هذا في حديث ~~ابن جريج الذي رواه هو، وإنما فيه أن عبد يزيد - أبا ركانة وإخوته - طلق أم ~~ركانة، ونكح امرأة من مزينة، وأنها اشتكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وذكرت أنه عنين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين كذبها بأن أولادها ~~يشبهونه، فدل على أنهم منه، وأنه ليس بعنين. ثم إنه أمر عبد يزيد أبا ركانة ~~أن يطلق هذه المزنية المشتكية، وإنه أمره أن يراجع أم ركانة التي طلقها ~~ثلاثا. # هذا هو الذي في حديث ابن جريج، ليس في حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ~~ثلاثا. لكن قد يقال: إن القصة واحدة، وإن هذا الراوي غلط في بعض ألفاظ ~~القصة في المطلق والمطلقة، كما يقول من يقول: إنه غلط في ms0143 عدد الطلاق. وقد ~~يقال: من قال هذا لم يكن له أن يقول في حديث ابن جريج أن ركانة طلق ثلاثا، ~~بل هذا يبين أن قائل ذلك لم يتأمل الحديث حق التأمل، فإذا تأملهما علأن ~~المنقول في هذا الحديث قصة غير المنقول في الآخر، فلا المطلق المطلق، ولا ~~المطلقة المطلقة، فإن المطلقة في هذا سهيمة امرأة ركانة، وهناك أمه؛ ولا ~~لفظ التطليق لفظ التطليق. وفي هذا من تزويج عبد يزيد لامرأة مزنية، ودعواها ~~عنته، وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشبه أولاده له، مالا ~~PageV01P302 # يمكن أن يكون في حديث ركانة، فإن ركانة لم يكن له أولاد أدركوا النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - يعدون من الصحابة، وإنما المعدود من الصحابة هو ~~وإخوته وأبوه، كما في حديث ابن جريج. # لكن يجاب عن هذا بأن عبد يزيد أبا ركانة لم يذكره في الصحابة الزبير بن ~~بكار ولا ابن عبد البر ولا غيرهما من المصنفين في الصحابة فيما علمنا (1) ، ~~بل قال الزبير بن بكار في كتاب "نسب قريش وأخبارها" (2) : وولد هاشم بن ~~المطلب بن عبد مناف: عبد يزيد، وأمه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف. فولد عبد ~~يزيد بن هاشم: ركانة وعجير وعبيد وعمير بني عبد يزيد، وأمهم العجلة بنت ~~العجلان ونسبها إلى كنانة. # قال: وركانة بن عبد يزيد الذي صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل ~~الإسلام، وكان أشد الناس، فقال: يا محمد! إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أشهد أنك ساحر. ثم أسلم بعد، وأطعمه ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين وسقا بخيبر. ونزل ركانة المدينة، ~~ومات بها في أول خلافة معاوية (3) . # قال: وعجير بن عبد يزيد أطعمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين ~~وسقا (4) . PageV01P303 # قال: وولد عبيد بن عبد يزيد: السائب، أسر يوم بدر، وكان يشبه بالنبي - ~~صلى الله عليه وسلم - (1) . # فقد بين أن ركانة وابنه كانا من الصحابة، بخلاف أبيه عبد يزيد. # وأيضا فلا يجوز أن يكون في الصحابة من يسمى بهذا الاسم ms0144، فتبين أن المطلق ~~ركانة لا أبوه. # وإذا قال القائل: ما في حديث ابن جريج من قصة عبد يزيد أبي ركانة لا ~~يعارضه حديث ركانة بوجه من الوجوه، [و] لم يجز دفع أحدهما بالآخر، بل يبقى ~~النظر في رواة هذا الحديث، وهم ثقات معروفون إلا بعض بني أبي رافع، فإنه ~~يحتاج إلى معرفتهم، فإنهم ليسوا من ولده لصلبه، إذ ولده لصلبه عبد الله ~~وعبيد الله كاتب علي رضي الله عنه، وهذان قديمان لا يرويان عن عكرمة، ولا ~~يروي عنهما ابن جريج. # قيل: هذا الحديث قد روي بإسناد آخر معروف الرجال، وهو يبين أن القصة ~~واحدة، رواه أحمد والبيهقي وغيرهما (2) من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن ~~إسحاق، فجعل المطلق ركانة. ورواه القاضي الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم من ~~حديث يونس بن بكير، فقال في "كتاب الطلاق": ثنا محمد بن الحسين، ثنا ابن ~~(3) ، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ~~ابن عباس أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- PageV01P304 # فقال: يا رسول الله! طلقت امرأتي ثلاثا بكلمة واحدة، وإني قد وجدت عليها ~~وجدا شديدا، فقال: "أتريد أن ترتجعها"؟ قال: قلت نعم يا رسول الله، قال: ~~"فإنما هي واحدة". # وقد رواه البيهقي فقال في "السنن الكبير" (1) : وقد روى محمد ابن إسحاق ~~عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في ~~مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~كيف طلقها، قال: طلقتها ثلاثا، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: إنما ~~تلك واحدة، فارجعها إن شئت، فراجعها. وكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل ~~طهر، فتلك السنة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها (فطلقوهن ~~لعدتهن) (2) . # قال البيهقي: أخبرناه أبو بكر بن الحارث، ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا سلم ~~(3) بن عصام، ثنا عبيد الله (4) بن سعد، ثنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق، ~~حدثني داود ms0145 بن الحصين، فذكره. # قال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به حجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس ~~فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة أن طلاق ركانة كانت واحدة. # قلت: أما المعارضة بفتيا ابن عباس ففيها كلام مذكور في موضع آخر (5) . ~~وأما حديث أولاد ركانة فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله، PageV01P305 # لكن البيهقي ذكر في حديث أن المطلق ركانة، وهو الصواب. وقد رواه أحمد في ~~المسند (1) من هذا الوجه فقال: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي عن محمد بن ~~إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق ~~ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا ~~شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها؟ قال: ~~طلقتها ثلاثا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: إنما تلك واحدة، فارجعها ~~إن شئت، قال: فرجعها. فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر. # وهذا الحديث خرجه أبو عبد الله المقدسي في صحيحه (2) الذي هو خير من صحيح ~~الحاكم. فقد اتفق يونس بن بكير وإبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق على هذا ~~الحديث، لكن قال أحدهما: إن المطلق ثلاثا أبو ركانة، كما في حديث ابن جريج، ~~وقال الآخر: إنه ركانة. فإن كان المطلق أبا ركانة فلا منافاة بينه وبين ~~حديث ركانة في البتة، وإن كان المطلق ركانة فهذه الرواية من هذين الوجهين ~~تعارض من روى أنه قال: لم أطلق إلا واحدة. ورواة هذا الحديث مشهورون بحمل ~~العلم، بخلاف ذاك، لكن ذاك من رواية أهل بيته. # ويعضد رواية من روى أن الطلاق كان ثلاثا حديث ابن عباس الذي في صحيح مسلم ~~(3) أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي ~~بكر. فهذا يوافق رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس من وجهين عن عكرمة يصدق ~~أحدهما صاحبه، فإن عكرمة عن PageV01P306 # ابن عباس أثبت من عبد الله بن علي بن [يزيد بن] (1) ركانة عن أبيه عن ~~جده ms0146. وقد قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء (2) . وابن إسحاق يدخله أبو حاتم ~~وابن خزيمة وابن حزم في الصحيح. # والبيهقي اعتقد أن القضية واحدة، كما اعتقدها أبو داود، ولكن ما رووه ~~يخالف ذلك، فإما أن يكون الغلط فيما رووه، أو الغلط منهم في فهم ما رووه، ~~ولا ريب أنهم صادقون فيما رووه رضي الله عنهم. # وهذا الحديث عمل به رواته، فكان ابن إسحاق يعمل به، ويقول: إن الثلاث ~~بكلمة واحدة واحدة (3) . وكذلك عكرمة راويه عن ابن عباس. وروي ذلك عن ابن ~~عباس أيضا، كما قال أبو داود في سننه (4) : وروى حماد بن زيد عن أيوب عن ~~عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة. قال: وروى ~~إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله ~~قول عكرمة. # وذكر أبو داود (5) عن ابن عباس من ستة أوجه أنه أوقع الثلاث بمن أوقعها ~~بكلمة واحدة، من رواية مجاهد وسعيد بن جبير ومالك ابن الحويرث وعطاء وعمرو ~~بن دينار ومحمد بن إياس بن البكير. PageV01P307 # وكان عطاء ونحوه يدخلون على ابن عباس مع العامة، وكان طاوس يدخل عليه مع ~~الخاصة، وكذلك عكرمة مولاه كان من خاصته. فلهذا حمل من حمل قول ابن عباس ~~على مثل فعل عمر، من أن هذا من العقوبات التي يجتهد فيها الأئمة، ليس شرعا ~~لازما، وهو عقوبة لمن لم يتق الله. ولهذا كان ابن عباس يقول لمن يفتيه: لو ~~اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا (1) . # وأبو داود (2) روى حديث حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلا ~~يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان ~~إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، على عهد رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى! كان ~~الرجل إذا طفق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول ~~الله وأبي ms0147 بكر وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى - يعني عمر - الناس قد تتايعوا ~~فيها قال: أجيزهن عليهم. # ثم روى (3) من حديث ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: ~~كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت حتى ~~ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن ~~عباس يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2)) ~~(4) ، وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن ~~الله قال: PageV01P308 # (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن) (1) في قبل عدتهن. # قلت: لا يقال مثل هذا الكلام إلا لمن علم أن جمع الثلاث محرم، ثم فعله ~~عامدا لفعل المحرم، فإن هذا لم يتق الله بل تعدى حدوده. أما من لم يعلم أن ~~ذلك محرم، ولا قامت [عليه] حجة بتحريم ذلك، ولو علم أنه محرم لم يفعله، فن ~~هذا لا يخرج عن التقوى بذلك، ولا يقال له: إنك لم تتق الله فلا أجد لك ~~مخرجا، ولا يقال له: عصيت ربك. # ففي فتيا ابن عباس هذه ونحوها إيقاع الثلاث بمثل هذا لما تتايع الناس ~~فيما نهوا عنه، فأجازه عليهم عمر ومن روي أنه وافقه، كعثمان (2) وعلي (3) ~~وابن مسعود (4) وزيد بن ثابت (5) وابن عباس (6) وابن عمر (7) وأبي هريرة ~~(8) وعبد الله بن عمرو (9) وغيرهم الذين أجازوا الثلاث على PageV01P309 # الناس المتتايعين فيما نهوا عنه من ذلك، كما وافقوا عمر على أن حد في ~~الخمر بثمانين لما كثر شرب الناس لها واستقلوا العقوبة بأربعين (1) . # وكان عمر رضي الله عنه أحيانا ينفي في الخمر ويحلق الرأس فيغلظ عقوبتها ~~بحسب الحاجة، إذ لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حد مقدر موقت ~~القدر والصفة لا يزاد عليه ولا ينقص منه، كما في حد القذف، بل كان قدر ~~العقوبة فيها وصفتها موكولة إلى اجتهاد الأئمة بحسب الحاجة، فمن أدناها ~~أربعون بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وهذا من أخف العقوبات ms0148 قدرا وصفة، ثم ~~أربعون بالسياط، وهذا أعلى في الصفة دون القدر، ثم ثمانون بالسياط، وهذا ~~أعلى منهما. وهل يعاقب فيها بالقتل بعد الثالثة أو الرابعة إذا لم ينتهوا ~~إلا بذلك؟ فيه أحاديث ونزاع ليس هذا موضعه (2) . # فحديث عبد يزيد أو ركانة مروي من هذين الوجهين، وأقل أحواله حينئذ أن ~~يكون حسنا، فإن الحسن عند الترمذي هو ما روي من وجهين ولم يعلم في رواته ~~متهم بالكذب، ولم يعارضه ما يدل على غلطه، وهو من أحسن ما يحتج به الفقهاء. ~~وقد يقال: هو صحيح، وابن. حبان وإن كان قد صحح حديث البتة فإنه يصحح حديث ~~ابن إسحاق هو وغيره كابن خزيمة وابن حزم وغيرهما، PageV01P310 # وابن حزم وغيره يضعفون حديث البتة كما ضعفه أحمد رحمه الله. # وابن إسحاق إمام حافظ، لكن يخاف أن يدلس ويخلط الأحاديث بعضها ببعض، فإذا ~~قال "حدثني" زالت الشبهة. وقد ذكر أن داود بن الحصين حدثه وعمل بما حدثه ~~به. # ولا يستريب أهل العلم بالحديث أن هذا الإسناد أرجح من إسناد البتة، هذا ~~لو انفرد، وأما مع موافقته لحديث أبي الصهباء الذي في صحيح مسلم فإن ذلك ~~مما يؤكد الاحتجاج بذلك الحديث، ويرد على من علله بما لا يقدح في صحته، ~~كقول من قال: إن ابن عباس روي عنه بخلافه، فصار حديث عكرمة يروى عن ابن ~~عباس من وجهين، وجهالة الراوي في أحدهما كجهالة أولاد ركانة، فإنهم لا ~~يعرفون بعلم ولا حفظ. والإسناد الآخر رجاله من مشاهير أهل العلم والفقه ~~والصدق. وحديث طاوس عن ابن عباس الذي لا ريب في صحته موافق، فصارت الأحاديث ~~بأن الثلاث كانت واحدة يصدق بعضها بعضا، ولم يرو أحد من أهل العلم حديثا ~~ثابتا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم بثلاث مفرقة. # وقد جاء حديث ثالث في. الثلاث مجتمعة، رواه النسائي (1) فقال: أخبرنا ~~سليمان بن داود، أبنا ابن وهب، أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعت محمود بن ~~لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث ~~تطليقات ms0149 جميعا، فقام غضبان، ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم"؟! ~~حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! # أفلا أقتله؟. PageV01P311 # ففي هذا الحديث أنه غضب على من طلق ثلاثا بكلمة واحدة، وجعل هذا لعبا ~~بكتاب الله، وأنكر أن يفعل هذا وهو بينهم، حتى استأذنه رجل في قتله، ومع ~~هذا فلم يذكر أنه فرق بينه وبين امرأته، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا ~~يجوز، ولا يقال: كان هذا معلوما بينهم. فإن هذا يشتبه، وقد ثبت أنهم كانوا ~~يجعلون الثلاث واحدة، ونفس التحريم يشتبه على العلماء فضلا عن العامة، حتى ~~أن كثيرا منهم يقولون: ليس هو بحرام. # فإن قيل: المطلق كان يعتقد وقوع الطلاق بالثلاث. # قيل: كما كان يعتقد إباحته. ولم ينقل أحد بإسناد ثابت أن أحدا طلق امرأته ~~ثلاثا بكلمة واحدة، وهي ممن يباح له إمساكها، فأوقع به النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -. وقد روى طائفة من المصنفين في الحديث والفقه والخلاف أحاديث ~~ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم بالحديث، فلا حاجة إلى ذكرها، ولكن الذي يظن ~~أن فيه حجة ثلاثة أحاديث: ### | حديث فاطمة بنت قيس، # ففي رواية غير واحد أنها قالت: طلقني ثلاثا (1) ، وفي لفظ بعضهم: طلقني ~~البتة (2) . ولكن هذا مجمل فسره ما ثبت في الصحيح (3) من رواية الزهري عن ~~أبي سلمة وعبيد الله عنها أن زوجها أبا حفص بن المغيرة خرج مع علي إلى ~~اليمن، وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها. PageV01P312 # والثاني ### | : حديث العجلاني # (1) ، قال أبو بكر بن أبي عاصم لما ذكر اختلافهم في طلاق العجلاني: قال ~~مالك بن أنس في حديثه: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -. وقال إبراهيم بن سعد: ففارقها، وقال ابن إسحاق: هي طلاق ~~البتة، وقال ابن أبي ذئب: ففارقها، وقال الأوزاعي: ففارقها، وقال عقيل: ثم ~~فارقها. ولم ينقل عنه لفظ طلاق، بل قال: كذبت عليها إن أمسكتها، ولكن ~~الراوي عبر عن مفارقته إياها بهذه الألفاظ التي تدل على أنه فارقها فراقا ~~باتا قبل أن يؤمر بذلك، فإن كان ms0150 الراوي عبر عن مفارقته بقوله "طلقها ثلاثا" ~~- لأن مقصوده أنه حرمها عليه - فليس فيه حجة؛ وإن كان هو تكلم بلفظ الطلاق ~~بقوله "طلقها ثلاثا" قد يراد به مفرقة، كقوله: هي طالق، هي طالق، هي طالق، ~~كما في حديث فاطمة وغيرها أن زوجها طلقها ثلاثا، وكان المراد ثلاثا مفرقات، ~~فلا حجة فيه أيضا؛ وإن قال: "هي طالق ثلاثا" فلا حجة فيه أيضا، كما سنذكره. # والثالث ### | : حديث امرأة رفاعة # (2) ، وهو أيضا لفظ مجمل، فقد يكون الطلاق الثلاث وقع مفرقا، كما وقع في ~~حديث فاطمة بنت قيس. # بل (3) وأما حديث البتة (4) إن صح ففيه أنه أتى إلى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - PageV01P313 # وقال: ما أردت إلا واحدة، وأنه استحلفه ما أردت إلا واحدة. # ومنطوق هذا لا حجة فيه، لأنه إذا لم يرد إلا واحدة لم يقع به إلا واحدة. ~~وفيه حجة على مسألة النزاع المشهورة بين الفقهاء. وأما مفهومه فمجمل، لو ~~قال: أردت ثلاثا حتى كان يغضب عليه ويؤدبه لفعله المحرم الذي نهى عنه، كما ~~غضب على غيره، ويؤخر إذنه له في الرجعة تأديبا له، أو كان يوقعها به. وليس ~~في الحديث بيان لأحدهما، والطريق الآخر الذي هو أصح فإنه أوقع ثلاثا، ولا ~~يجوز أن يثبت تحريم عام يلزم الأمة بمسكوت مجمل أو بحديث مضعف، قد عارضه ما ~~هو أصح منه لا بيان فيه للوقوع، وإنما فيه الفرق بين أن يريد الواحدة أو ~~أكثر، والفرق ثابت بدون إيقاع الثلاث. # وقد روى مسلم في صحيحه (1) عن عائشة قالت: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن ~~يدخل بها، فأراد زوجها الأول أن يتزوجها، فسئل رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - عن ذلك، فقال: "لا، حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول". وهذه ~~هي قصة تميمة التي تزوجها رفاعة، وكان يدعي أنه وطئها. # وتطليقها ثلاثا قد يكون مفرقة، وقد يكون طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، ولكن ~~بانت بواحدة إذا لم يكن دخل بها. فليس فيه دلالة على أن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - جعل ذلك ثلاثا. # *** PageV01P314 ### | فصل ms0151 في الطلاق الثلاث # PageV01P315 # أمكنني (1) ، وبقيت على ذلك مدة ... فلم أجد دليلا شرعيا يوجب إيقاع ~~الثلاث بكلمة واحدة، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من ~~القياس. # أما القرآن ... إلا على طلاق يستلزم الرجعة إذا كان بعد الدخول ... ~~الثالثة، كما قال أحمد بن حنبل في آخر الروايتين: تدبرت القرآن فلم أجد فيه ~~إلا طلاقا رجعيا، ولا يدل قط إلا على طلقة واحدة ### | ..... # وقد ادعى طائفة من العلماء أنه يدل على وقوع الثلاث، واحتجوا بأنه أمر ~~بالطلقة الواحدة، كما في قوله: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا ~~العدة واتقوا الله ربكم) إلى قوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) ~~(2) . قالوا: فأمره الله بالطلاق ### | ..... # وليكون له سبيل إلى الرجعة بقوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ~~(1)) ، فلو كان لا يقع بالثلاث إلا واحدة أو ### | ..... # بحال لم يحتج إلى ذلك، بل كان سواء طلق واحدة أو ثلاثا، فإن له أن ~~يراجعهما. # وهذا الدليل ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ~~ولا حجة فيه، لأن التعليل قد يكون للشرع الذي يتناول الأمر والنهي والصحة ~~والفساد، وقد يكون لمجرد الأمر والنهي، أو لنفس المأمور به والمنهي عنه ~~فقط، فعلى قولهم يكون تعليلا PageV01P317 # للمأمور به، أي طلقوا بواحدة ليكون لكم سبيل إلى الرجعة، ولا تطلقوا ~~بثلاث فلا يكون لكم سبيل إلى الرجعة. وهذا إنما يصح أن لو كانت الثلاث تقع ~~بكلمة واحدة، فإن كانت الثلاث تقع هكذا صح أنه تعليل للمأمور به، لكن لا ~~يثبت أنه تعليل للمأمور به حتى يثبت أنه تقع الثلاث المجموعة؛ فإذا استدلوا ~~به عليه لم يلزم أنه تقع الثلاث المجموعة حتى يثبت أنه هذا تعليل للمأمور ~~به، وهذا دور يمنع صحة الدلالة. # وذلك أنه يجوز أن يكون هذا تعليلا لنفس الأمر والشرع، والمعنى أن الله ~~شرع لكم أن توقعوا واحدة وأمركم بذلك، ولم يشرع لكم أن توقعوا الثلاث ~~مجموعة، فإنه لو شرع لكم ذلك أفضى (1) إلى الندم. # ومعلوم أنه إذا لم يشرع ms0152 إيقاع الثلاث بكلمة واحدة، بل نهى عن ذلك، ولم ~~يجعل الثلاث ### | ..... # في هذا أبلغ في عدم الندم، فإنه لو نهى عنه وأوقعوه إذا تكلموا به فقد ~~يكون فيهم من يعصي النهي، وقد يكون فيهم من لا يبلغه، فيقع في الندم، فإذا ~~لم يجعله مشروعا بحال كان هذا أبلغ في انتفاء المفسدة. # وأيضا فإن القرآن إنما يعلل شرع الله الذي شرعه لعباده، والشرع المذكور ~~إذا كان تحريما للزيادة وإبطالا لها كان ذلك أبلغ في تحصيل مقصود الشارع في ~~الحكم وفي حكمته، بخلاف ما إذا كان تعليلا لمجرد النهي. وهذا كما أنه لو ~~نهى أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها، وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك ~~قطعتم أرحامكم" (2) ، كان هذا PageV01P318 # تعليلا للنهي والفساد المنهي عنه بحيث لا يحل له الجمع، ولو جمع لكان ~~العقد فاسدا، لأنه لو وقع المنهي عنه لزم الفساد، بل الفساد ينشأ من صحة ~~المنهي عنه أكثر من فعله، فإنه إذا جمع ولم يصح العقد كان الفساد أقل منه ~~إذا انعقد المنهي عنه وصححه الشارع، فكذلك هاهنا الفساد إذا صح المنهي عنه ~~أكثر منه إذا فعله ولم يصح. # وهذا يقرر أن النهي يوجب فساد المنهي عنه، فإن الشارع إنما نهى عن الشيء ~~لرجحان المفسدة فيه على المصلحة، فإذا جعله صحيحا بحيث يترتب عليه حكمه ~~ويحصل به مقصوده لزم وقوع المفسدة، فأما إذا أبطله فلم يترتب عليه مقصود ~~المنهي الذي ارتكبه انتفت المفسدة بالكلية. # ولهذا إنما يحكم بالفساد فيما إذا أمكن أن لا يحصل به مقصوده، فأما ~~الأفعال التي حصل المنهي عنها مقصوده بها فلا يقال إنها باطلة أو غير ~~منعقدة، كالمنهي عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإنه إذا فعل ذلك فقد فعل ~~مقصوده من المنهي عنه، فلا يمكن إبطاله. وأما المنهي عن الصلاة بلا طهارة ~~والطواف عريانا فمقصوده براءة ذمته وحصول الأجر، فيمكن إبطال ذلك بأن لا ~~تبرأ ذمته ولا يحصل الأجر؛ وكذلك المنهي عن البيع المحرم والنكاح المحرم ~~مقصوده حصول الملك وحل الانتفاع، فيمكن أن لا يحصل مقصوده ms0153 من الملك وحل ~~الانتفاع، فيكون البيع باطلا، كما اتفق عليه المسلمون من بطلان نكاح ذوات ~~المحارم وبطلان بيع الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك. # وأما الظهار فنهي عنه لأنه منكر من القول وزور، لا لمجرد كونه مزيلا ~~للملك أو موقعا للتحريم الذي تزيله الكفارة، فإن الزوج له أن # PageV01P319 # يزيل الملك بالطلاق، والتحريم الذي تزيله الكفارة لا ينافي الشرع، فإن ~~المرأة قد تحرم على زوجها إلى غاية، كتحريم المحرمة والصائمة والمعتكفة، ~~وتحريم الحلال يوجب كفارة على ظاهر القرآن، وهو أحد قولي العلماء. وإنما ~~نهي عن الظهار لاشتماله في نفسه على القول المنكر والزور، وهذا المعنى لا ~~يمكن إبطاله بعد وقوعه، كما أن من نهي عن الكذب وشهادة الزور فكذب وشهد ~~بالزور لا يمكن أن يقال: ما كذب ولا شهد بالزور، وكذلك من نهي عن الكفر ~~والقذف فكفر وقذف لا يمكن أن يقال: إنه ما وقع منه كفر ولا سب، فكذلك ~~الظهار، لكن كانوا في الجاهلية وأول الإسلام يجعلونه طلاقا مزيلا للملك، ~~فرفع الله ذلك، ولم يجعله مزيلا للملك، بل للرجل أن يمسك المرأة إن شاء ~~ويطأها إذا كفر. # ثم قال الشافعي: موجبه إما إزالة الملك بالطلاق، وإما التكفير. # وقال الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد: بل موجبه الامتناع من الوطء أو ~~التكفير، فجعلوه يشبه اليمين التي يكون موجبها إما الامتناع من فعل المحلوف ~~عليه وإما التكفير، لكن الكفارة في الظهار تجب قبل العود، لأن الظهار محرم، ~~لاشتماله على منكر من القول والزور، فلم يكن له أن يطأها حتى يأتي بالتحلة ~~التي فرضها الله له، وكان ما رفعه الله من إيقاع الطلاق بالظهار كما كانوا ~~عليه في أول الأمر دليلا على أنه ليس كل لفظ قصد به الطلاق يقع به الطلاق، ~~فإن هذا اللفظ كانوا يقصدون به الطلاق، ثم لم يوقع الله به الطلاق، بل نسخ ~~ما كانوا عليه. ولابد لهذا من سبب يوجب الفرق بينه وبين لفظ الطلاق. فلما ~~كان من أوقع الطلاق بلفظه يقع ومن أوقع بلفظ الظهار لا يقع-: لم ms0154 يكن بد من ~~الفرق بينهما في نفس الأمر. # PageV01P320 # ولا يسوغ أن يعلل الشرع بما يقوله من يقول من الفقهاء: لفظ الظهار صريح ~~في حكمه، وقد وجد نفاذا فيه، فلا يكون كناية في غيره. # فإنه يقال له: السؤال هو عن علة هذا الحكم: لم جعل هذا القول صريحا في ~~غير الطلاق بحيث لا يقع به الطلاق وإن نواه، فإن هذا يقتضي أن الأقوال عند ~~الشارع نوعان: نوع إذا نوى به الطلاق وقع؛ ونوع إذا نوى به الطلاق لم يقع، ~~فلابد لأحد القولين من أن يختص بمعنى يوجب اختصاصه بذلك الحكم، فما هو ~~الفارق عند الشارع بين هذا القول وهذا القول حتى جعل الطلاق يقع بهذا ولم ~~يجعله يقع بهذا، بل عدل به عن الطلاق الذي كانوا يوقعونه، إلى أن أوجب فيه ~~الكفارة. وهذا أمر ثابت في نفس الأمر لابد منه. # فلقائل أن يقول: العلة في ذلك أن هذا القول منكر من القول وزور، فلا يقع ~~الطلاق بمنكر من القول وزور، فيكون هذا حجة لمن قال: إن الطلاق المنهي عنه ~~لا يقع، لأنه أيضا محرم كما أن هذا محرم؛ فإن كون الكلام منكرا من القول ~~وزورا يوجب النهي عنه وتحريمه. ويشاركه في ذلك كل كلام محرم، فإن جميعها ~~أقوال محرمة ينهى الله عنها ورسوله. فإن كان المتكلم بالكلام الحرام إذا ~~نوى به الطلاق وقع، فما الفرق بين هذا الكلام المحرم وغيره؟. # وقد شد بعض متأخري الفقهاء فزعم أن الظهار ليس بمحرم. # لكن هذا خلاف النص والإجماع القديم، فإنه قد حكى الإجماع على تحريم ذلك ~~غير واحد من العلماء، ولم يعلم نزاع قديم يقدم في ذلك كما علم في غيره. ~~والذي نقطع به أنا لا نعلم فيه خلافا قديما. # وقد يقال: بل هذا القول لا يتضمن إزالة الملك، بل هو كذب # PageV01P321 # في نفسه، وهو منكر لكونه جعل امرأته بمنزلة أمه. والأقوال التي بها يقع ~~الطلاق لابد أن يتضمن إزالة الملك، ولهذا جعل أحمد التحريم صريحا في ~~الظهار، لأنه أيضا بمنزلته في كونه منكرا ms0155 وزورا. لكن يرد على هذا أنه إذا ~~قصد التشبيه ونوى أنك إذا وقع بك الطلاق صرت مثل أمي، فإن هذا الوصف لازم ~~لو زال الملك. وليس من شرط التشبيه التساوي من كل وجه، فقوله "أنت مثل أمي" ~~أي طلقتك فصرت مثل أمي، كقوله "أنت خلية وبريه وبائن"، فإن المعنى: طلقتك ~~فصرت كذلك. وقوله "أنت طالق" معناه طلقتك فصرت طالقا، فإذا قال "مثل أمي" ~~أي جعلتك مثل أمي في كونك لا تبقي (1) زوجة. # وهذا هو الذي كانوا يقصدونه، وإلا فهم يعلمون أن المرأة لا تصير مثل أمه ~~محرمة على التأبيد، فإذا كان ما قصدوه مما يمكن أن يقصد بهذا اللفظ وأمثاله ~~ولم يعتبره الشارع علم أنه أبطل ذلك لكون القول في نفسه منكرا وزورا، ~~فيشاركه في ذلك ما كان كذلك، فقول القائل "أنت طالق ثلاثا" منكر من القول، ~~لأن الله حرمه، وكل واحد من كون القول منكرا يوجب إبطاله. وقوله تعالى ~~(وزورا (4)) ، الزور: هو نوع من المنكر، فإن كل زور منكر، فيمكن أن يكون ~~هذا وجه كونه منكرا. # وإن قيل: هو جزء علة. # قيل: كل ما كان منكرا فإن الله ينهى عنه، سواء كان زورا أو لم يكن. # وكذلك إن قيل: هو علة ثانية، وحينئذ فالقول المحرم لا يكون PageV01P322 # سببا لنقل الملك، فلا يزول ملكه ويباح لغيره بقول محرم. فهذا قد يحتج به ~~من يقول: إن الطلاق المحرم لا يصح، كما أن النكاح المحرم لا يصح، وهذا موجب ~~الأصول على قول الجمهور الذين يقولون: النهي يقتضي الفساد، لاسيما والطلاق ~~في الأصل مكروه بل محرم يبغضه الله، وإنما أباح منه قدر الحاجة، فيكون ما ~~أبيح من قدر الحاجة إنما أبيح لمن تكلم به بكلام مباح، وأوقعه على الوجه ~~المأذون فيه، أما من تكلم به بكلام محرم وفعله على الوجه الذي نهي عنه، ~~فالشارع لم يبح له ذلك الطلاق، فيكون باقيا على الحظر، فلا يكون من الطلاق ~~المشروع، كطلاق الأجنبية والطلاق قبل النكاح. # يوضح ذلك أن ما كان محظورا وأبيح للحاجة كان رخصة ms0156، والرخص لا تستباح على ~~الوجه المحرم، فيكون من طلق طلاقا لم يؤذن له به - كمن طلق بلفظ الظهار - ~~فلا يقع الطلاق بذلك. # يوضح ذلك أن إيقاع الطلاق ممن أوقعه على الوجه المحرم إما أن يكون عقوبة ~~له، وإما أن يكون رخصة له. والثاني ممتنع، لأن فعل المحرم لا يناسب النعمة ~~بالرخصة. وإن قيل: هو عقوبة، فيقال: فكان ينبغي أن يعاقب المتظاهر بوقوع ~~الطلاق به، فلما لم يعاقبه الشارع بذلك علم أن الشارع لم يجعل نفس وقوع ~~الطلاق عقوبة للخلق، بل إنما عاقبهم بالكفارات، لأن الكفارات من جنس ~~العبادات، والله يحب أن يعبد، فإذا فعلوها فعلوا ما يحبه الله ورسوله، كما ~~إذا أقاموا الحدود لله، التي جعلت عقوبات، فإن الله أمر بها وجعلها واجبة، ~~وما تقرب العباد إلى الله بأفضل من أداء ما افترض عليهم. # فالعقوبات التي يشرعها الشارع هي مما يجب وقوعه ويرضاه ويأمر به، وهو لا ~~يحب وقوع الطلاق ولا يأمر به ولا يرضاه لغير حاجة، # PageV01P323 # فكيف يشرع وقوعه ويجعله عقوبة؟! # يوضح ذلك أنه تعالى يبغض وقوع الطلاق، فكيف يشرع العقوبة بوجود ما يبغضه؟ ~~وهو إنما يشرع العقوبة لئلا يوجد ما يبغضه، فيمتنع أن يحكم بوجود ما يبغضه ~~لئلا يوجد ما يبغضه، فإن هذا جمع بين النقيضين، لاسيما إذا كان الذي عاقب ~~به هو نفس ما يبغضه. # فهو مثل أن يقال: اسقوه الخمر لئلا يشرب الخمر! وهذا ممتنع. # فإن قيل: فقد حرمها عليه بعد الطلقة الثالثة عقوبة له. # قيل: هناك لما استوفوا الطلاق الذي أباحه لهم للحاجة حرمها عليهم بعد ~~الثالثة، فكانت العقوبة بالتحريم عليه لا بوقوع الطلاق عليه، فلم يعاقبهم ~~بوقوع طلاق قط. والعقوبة بالتحريم إلى غاية مما جاءت به الشريعة، كما حرم ~~الله على المظاهر المرأة حتى يكفر، والعقوبة بالتحريم المؤبد كان من شرع من ~~قبلنا، كما قال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) ~~(1) ، وكما قال: (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)) (2) . فإن قيل: ~~فهلا منع وقوع الطلاق الثلاث إذا كان يبغضه؟ وقال: لا ms0157 يقع الطلاق الثلاث ~~وإن فرقها. # قيل: هذا كان يقتضي المنع من الطلاق بالكلية كدين النصارى، وفي ذلك حرج ~~عظيم، لحاجة الناس إلى الطلاق بعض الأوقات إذا كان يبغضها أو كانت تبغضه. ~~ولهذا أباح الله الافتداء إذا خافا أن لا PageV01P324 # يقيما حدود الله، فلم يبح الله الخلع إلا عند الحاجة. وكذلك الطلاق، لكن ~~لما أبيح الطلاق للحاجة لم يبح منه إلا الثلاث، فإنها قدر الحاجة، وحرمها ~~عليه بعد الثالثة، لئلا يكون ذلك مانعا من استيفاء العدد الذي أبيح رخصة مع ~~قيام السبب الحاظر. كما أنه لم يرخص في اقتناء الكلاب إلا للحاجة. # فإن قيل: فهلا أبيح له بعد الثالثة أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح ~~زوجا غيره؟. # قيل: كانت النفوس تطمع في عودها بعد الثالثة باختيار الزوجين، فلم يكن ~~هذا وحده زاجرا للنفوس عن استيفاء الثلاث، كما بسطناه في موضع آخر. وعلى ~~هذا فيظهر حكمة الشارع في أحكامه، ويتبين تناسب الأصول الشرعية، وما في ذلك ~~من الرحمة والعدل والحكمة، وإلا فلماذا جعلت هذه الكلمة يقع بها الطلاق ~~وهذه لا يقع مع قصد الإنسان للوقوع في الحالين؟ ولماذا حرمت عليه بعد ~~الثالثة؟ ولماذا جعل في الظهار الكفارة؟ وقولنا "لماذا" تنبيه على حكمة ~~الشارع وعدله ورحمته، وإن الأقوال التي توافق ذلك هي التي توافق شرعه، دون ~~ما يخالف ذلك من الأقوال المتناقضة. # والمقصود في هذا المقام أن القرآن ليس فيه ما يدل على وقوع الثلاث جملة. ~~وأما السنة فليس فيها أيضا شيء من ذلك، بل لا يعرف أن أحدا أوقع الثلاث ~~جملة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها وقعت به. وما روي في ذلك ~~من الأحاديث فهي ضعيفة بل موضوعة كذب عند أهل العلم بالحديث، بل قد نقل ~~نقيض ذلك. # وحديث فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها ثلاثا إنما كانت الثالثة # PageV01P325 # آخر ثلاث تطليقات، كما جاء ذلك مفسرا في الصحيح (1) . وحديث المتلاعنين ~~طلقها ثلاثا بعد اللعان، واللعان حرمها عليه أشد من تحريم الطلاق، فكان ~~وجود الطلاق كعدمه. # وإذا قيل: فلماذا ms0158 لم ينهه عن التكلم بالثلاث إن كانت لا توجب طلاقا في ~~هذه الحال؟ # قيل: كما أنه لم ينهه عن أصل التطليق في هذه الحال مع أنه عندهم لا يفيد ~~ولا يقع بها طلاق، وذلك لأن النهي إنما كان لمفسدة الوقوع، فلما لم يكن هنا ~~محل يقع به الطلاق لم تكن هنا مفسدة، كما لو طلق أخته التي تزوجها، فإذا ~~تزوج من تحرم عليه على التأبيد وطلقها كان هذا توكيدا للتحريم، فكذلك طلاق ~~الملاعنة توكيد لمقصود الشارع، فإنه بين أن مقصوده تحريمها عليه، والشارع ~~قصد ذلك أيضا. بخلاف من قصد الشارع أن لا يحرمها عليه بالثلاث، بل نهاه عن ~~إيقاع الثلاث جملة بها، ولهذا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - على من ~~أوقع الثلاث في غير الملاعنة، دون من أوقعه في الملاعنة. # وأما حديث ركانة بن عبد يزيد (2) فقد روي أنه طلقها ثلاثا فردها عليه بعد ~~الثلاث، وروي أنه طلقها البتة وأنه حلفه ما أراد إلا واحدة، فقال: ما أردت ~~إلا واحدة، فردها. وقد روى أهل السنن أبو داود وغيره هذه وهذه، ورجحوا ~~الثانية لأنها من رواية أهل بيته، لكن أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم من ~~العلماء ضعفوا حديث ركانة، وذلك أن رواته قوم لم يعرفوا بحمل العلم، ولا ~~يعرف من عدلهم PageV01P326 # وضبطهم ما يوجب أن تثبت بمثل نقلهم سنة للمسلمين توجب حكما عاما للأمة. # وأيضا فالرواية الثانية لا تدل بمنطوقها، بل غاية ما تدل بمفهومها، وهو ~~لو قال "أردت ثلاثا" كان يحتمل أن يؤدبه على ذلك ويعاقبه لكون ذلك محرما، ~~ويحتمل أنه كان يوقعها به، فاستفهامه له يدل على اختلاف الحكم بين إرادة ~~الواحدة وإرادة الثلاث. لكن هل كان الإحلاف لأجل التحريم والمعصية أم لأجل ~~الوقوع؟ هذا ليس في الحديث ما يبينه. # وفي سنن النسائي (1) أن رجلا طلق امرأته ثلاثا على عهد النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - فغضب عليه وقال: أتتلاعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقال ~~الرجل: أفأقتله يا نبي الله؟ # فهذا فيه غضبه عليه حتى استأذنه بعض ms0159 المسلمين في قتله، وليس فيه أنه أوقع ~~به الثلاث، فدل ذلك على أن هذا كان منكرا عند النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، وفاعله مستحق للذم والعقاب، وليس فيه أنه أوقعه به، فقد يكون استفهام ~~ركانة لهذا. فهذا الحديث لا يدل على وقوع الثلاث بل على تحريمها، ودلالته ~~على أنها لا تقع أقوى. # ثم قد ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره عن ابن عباس أن الثلاث كانت واحدة على ~~عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر، ثم قال ~~عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم [فيه] أناة، فلو أنا أمضيناه ~~عليهم، فأمضاه عليهم. PageV01P327 # وأما قول القائل: إن ابن عباس أفتى بخلافه، فقد اختلفت فتيا ابن عباس في ~~ذلك، فنقل عنه إيقاع الثلاث بكلمة واحدة، وروي عنه أنه لا تقع، كما ذكر ذلك ~~أبو داود في سننه وغيره (1) . # والمقصود هنا أنه ليس في السنة قط أن أحدا طلق ثلاثا جملة على عهد النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - فأوقعها به، وهذا لا ريب فيه. # وأما الإجماع فلا إجماع في المسألة (2) ، بل قد نقل عن أكابر الصحابة - ~~مثل الزبير وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس - أنه لا تقع ~~الثلاث بكلمة واحدة، وهو قول غير واحد من التابعين ومن بعدهم، كطاوس وعكرمة ~~وابن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقول طائفة من أصحاب مالك من أهل قرطبة ~~وغيرهم، وقول طائفة من فقهاء الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكان جدنا أبو ~~البركات يفتي بذلك أحيانا، وقول [طائفة] من الناس من أهل الحديث والكلام ~~والفقه، وهو أحد قولي الظاهرية بل أكثرهم، وقول الشيعة. # وأما القياس ف ### | لا قياس في وقوعه، بل القياس أنه لا يقع، # لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، بمعنى أنه لا يحصل للمنهي ~~قصده، والمنهي عن الطلاق المحرم قصده وقوعه، ففساده يوجب أن لا يحصل ~~مقصوده. كما أن المكره الظالم لما كان قصده وقوع الطلاق بالمكره لم يقع ~~الطلاق من المكره. PageV01P328 # فإن قيل: المنهي ms0160 عنه إذا كان سببا للإباحة فينبغي أن لا يباح له، لأن ~~المعصية لا تكون سببا للنعمة، وأما إذا كان سببا لإيجاب أو تحريم فإنه يصح، ~~كالنذر والظهار، فإنه نهي عن النذر وانعقد، ونهي عن الظهار وانعقد. # قيل: أما الظهار فقد تقدم القول فيه، وبينا أنه نفسه قول منكر وزور، ~~وأنهم كانوا يجعلونه طلاقا، فأبطل الشارع ذلك، وذكرنا أن هذا مما يحتج به ~~من يقول "النهي يقتضي الفساد"، حيث لم يوقع الطلاق. وأما إيجاب الكفارة فيه ~~فلكونه أتى بالمنكر من القول والزور، والكفارة قربة وطاعة، كما أوجب ~~الكفارة في نظائر ذلك من الأمور المنهي عنها، كالجماع في رمضان وغيره. # وأما النذر فإنه يمين، وهو حجة لنا، فإنه إذا نذر ماليس بقربة لم يلزمه، ~~بل يجزئه كفارة يمين. وأما إذا نذر القرب فالقرب يحبها الله ورسوله، وإنما ~~نهي عن النذر لاعتقاد أنه يقضي حاجته، لا لكون المنذور مكروها. وقال - صلى ~~الله عليه وسلم -: "إنه يستخرج به من البخيل" (1) ، والاستخراج من البخيل ~~مما يحبه الله ورسوله، فلم يحصل بانعقاد النذر إلا ما يحبه الله ورسوله، ~~لكن يخاف عليه أن لا يوفي. كما أن المحرم قبل الميقات يخاف عليه أن يرتكب ~~المحظورات، وكذلك الشارع في التطوعات يخاف عليه أن لا يأتي بها، وما كان ~~مفضيا إلى الطاعة لم يبطل خوفا من عدم الإتمام، بل قد يأمر بإتمامه، كما ~~قال تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) (2) . PageV01P329 # والمفسدة التي نهي عنها إنما هي إذا لم يفعل المنذور، أما مع فعله ~~فالمصلحة راجحة، وإذا لم يفعل كان كاذبا، لكونه التزم مالم يف به، وهو ~~مذموم على الكذب، كما قال تعالى: (*ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله ~~لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم ~~معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما ~~وعدوه وبما كانوا يكذبون (77)) (1) . وقد ذكرنا أن نفس المنهي عنه إذا كانت ~~المفسدة فيه فلا يمكن رفعها، وإنما يمكن رفع ما يترتب على ذلك. وأما ~~الأفعال ms0161 كالقتل والوطء والشرب إذا رفع محرما فهنا لا يمكن أن يقال: لا حكم ~~له، بل وجوده كعدمه، بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم، فإن هذا العقد باطل، ~~وجوده كعدمه. # والأقوال قسمان: قسم هو بمنزلة الفعل، كالكفر وشهادة الزور ونحو ذلك، فإن ~~هذا إذا كذب لم يمكن أن يقال: وجود الكذب كعدمه. وكذلك إذا اعتقد الكفر ~~بقلبه أو قاله بلسانه غير مكره استهزاء بآيات الله لم يمكن إن يقال: وجود ~~ذلك كعدمه. فالطلاق والعتاق عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد في ~~القسم الأول من جنس البيع والنكاح وغيرهما، لا من جنس الكذب. # والقول الموجب للصدق إذا كذب صاحبه كان الذنب له، ولم يكن رفع المفسدة ~~إلا بأن يقال: الصيغة ليست التزاما وعهدا، وهذا ممتنع، إلا ترى أنه لما ~~التزم فعل المحرمات أبطل الشارع ذلك، ولما التزم فعل المباحات لم يأمره ~~بذلك، بل شرع الكفارة في الموضعين PageV01P330 # عند من يقول بذلك كأحمد وغيره، أو لا شيء عليه كما يقوله الشافعي وغيره. # وأيضا فإنه إذا نذر الطاعات إن جعل وجود العقد كعدمه ففيه صد عن الترغيب ~~في الطاعات، والشارع يرغب في ذلك من لم ينذر، فكيف إذا نذر؟ وكذلك إن قيل: ~~فيه كفارة يمين مطلقا ففيه صد عن الطاعات التي هي أحب إلى الله من الكفارة، ~~وهذا بخلاف المحرمات، فإن الكفارة أحب إلى الله منها. # ثم الظهار ونذر المعصية أوجب كفارة يتقرب بها إلى الله، أما إيقاع الطلاق ~~الذي نهى الله عنه وهو يوجب ما يبغضه الله من غير مصلحة في ذلك، لا للزوج ~~ولا للمرأة ولا لأحد من المسلمين، ولا فيه ما يحبه الله ورسوله، فكيف يشرع ~~الله وقوع فساد راجح وشر راجح، ولا يجعل للعباد طريقا إلى رفع ذلك الشر ~~والفساد؟! وهذا ليس من شريعة الإسلام ولله الحمد والمنة. # وإذا قيل: العبد هو الذي أوقع ذلك. # قيل: نعم، والعبد هو الذي يعقد سائر العقود المنهي عنها، ويلتزم ما فيها ~~من اللوازم، ومع هذا لما كان فسادها راجحا أبطل الشارع تلك العقود، ولم ms0162 ~~يشرع وقوع ذلك الفساد الراجح، كمن نكح أنكحة منهيا عنها، وباع بيوعا منهيا ~~عنها، ونحو ذلك، فالطلاق المحرم عقد من العقود المنهي عنها. # فإن قيل: فعمر بن الخطاب ألزم الناس بوقوع الثلاث جملة كما ذكرتم، وعمر ~~لم يكن ليخالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلم أنه اطلع على ~~دليل شرعي يوجب ذلك. وقد وافقه علي وابن مسعود وابن # PageV01P331 # عباس وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو (1) ، فهؤلاء أفتوا فيمن ~~أوقع الثلاث جملة أن تقع. واشتهر ذلك عند عامة العلماء حتى ظنه من ظنه ~~إجماعا، وصار نقيض ذلك يحكى عن أهل البدع كالرافضة، ولهذا لما ذكر هذا ~~القول عن الرافضة لأحمد قال: قول سوء، أو نحو ذلك. # قيل: أما المنقول عن عمر رضي الله عنه فظاهره أنه عاقب الناس بإيقاعها ~~جملة لما أكثروا من فعل ما نهوا عنه، ولهذا قال: إن الناس قد أسرعوا في أمر ~~كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. # والذين أفتوا بذلك من الصحابة رأوا رأي عمر في ذلك، وألفاظهم تدل على ~~أنهم فعلوا ذلك عقوبة لمن فعل ما نهي عنه، كقول ابن مسعود لما سئل عمن طلق ~~ثلاثا: أيها الناس! من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، وإلا فوالله ما لنا ~~طاقة بكل ما تحدثون. وفي لفظ: من أتى بدعة ألزمناه بدعته. فعلم أن هذا كان ~~عنده مما نهوا عنه، فألزمهم به. وكذلك ابن عباس قال لمن طلق ثلاثا: إنك لو ~~اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا، ولكنك لم تتق الله فلم يجعل لك فرجا ~~ومخرجا. وكذلك عبد الله بن عمر يقول: إذا فعلت ذلك فقد عصيت الله وبانت منك ~~امرأتك. ومثل ذلك كثير في كلامهم، يذمون فاعل ذلك مع إيقاعهم به الثلاث. ~~وهذا يقتضي أن فاعل ذلك كان مذموما عندهم مع إيقاع الثلاث به. # وقد كان للصحابة رضي الله عنهم اجتهاد في أنواع من العقوبات PageV01P332 # وفي المنع من بعض المباحات، لما يرونه من مصلحة الأمة، كاجتهاد عمر وغيره ms0163 ~~في حد الشارب حتى حدوه ثمانين، وحتى كان عمر ينفيه ويحلق رأسه. وكما كان ~~عمر ينهى عن متعة الحج ليعتمر الناس في غير أشهر الحج، فمنعهم من المباح ~~لما رآهم يتركون به ماهو مشروع للأمة، ولما رأى في ذلك من حض الناس على ~~الطاعة به، ويمنعهم من المباح ليفعلوا خيرا أو لئلا يفعلوا شرا. فلما كثر ~~منهم إيقاع الثلاث جملة، ورأى أنهم لا ينتهون عن ذلك إلا بإلزامهم بها ~~ومنعه من المرأة إذا قال ذلك، فمنعهم من نكاحها بعد الثلاث جملة ومفرقا، ~~لئلا يفعلوا الشر الذي كانوا يفعلونه، كما منعهم من متعة الحج، ليفعلوا ~~الخير - وهو العمرة - في سائر السنة، وكما حرم على الناكح في العدة أن ~~يتزوج المنكوحة أبدا، ليمنعهم بذلك من الشر الذي فعلوه، وهو التزوج في ~~العدة. وكما منع شارب الخمر أن يقيم ببلده، ليمنعه بذلك من شرب الخمر. # وهذه العقوبات لها أصل في الشرع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى ~~المخنث والزاني، ومنع الحميري من السلب الذي أمر خالدا أن يعطيه إياه، ~~فحرمه عليه بعد أن أوجبه له، ليزجر بذلك عن التعدي على ولاة الأمور لما ~~اعتدى عوف بن مالك على خالد (1) . وكذلك ما روي من منع الغال سهمه. وأيضا ~~فإنه لما أمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا أمر أزواجهم بهجرهم، ومنعهن أن ~~يمكنوهم من مضاجعتهم (2) ، مع أن هذا حلال للزوج مع امرأته. وهذا أبلغ من ~~موجب الظهار، فإن هذا تحريم لنسائهم عليهم إلى أن يتوب الله عليهم أو يحكم ~~الله بحكم PageV01P333 # آخر. والمظاهر تحرم عليه إلى أن يكفر، فاثبت موجب الظهار تعزيرا لمن ~~استحق التعزير بالهجرة. وعاقب المتلاعنين بتحريم كل منهما على الآخر، وهذا ~~أبلغ من موجب الطلاق. فإذا كان قد عاقب بتحريم أخف من موجب الطلاق وبتحريم ~~أبلغ من موجب الطلاق، وجعل الثاني شرعا مطلقا، وجعل الأول تعزيزا يسوغ أن ~~يفعله الأئمة بمن أذنب مثل ذلك الذنب -: لم يمتنع أن يكون أمير المؤمنين ~~عمر بن الخطاب - مع كمال علمه ونصحه للأمة - رأى أن يعاقب ms0164 المستكثرين مما ~~نهى الله عنه، الذين لم يرتدعوا بمجرد نهي الشارع، بما هو من جنس العقوبات ~~المشروعة. وقد كان أحيانا يهم بنهيهم عن أشياء وعقوبتهم بالمنع، ثم يتبين ~~له الصواب في ذلك، كما هم أن يمنعهم من الزيادة في قدر الصداق على ما فعله ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - بأزواجه وبناته، ويجعل فعله شرعا لازما لهم ~~لا يزدادون عليه، وأن يعاقب من جاوز فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بجعل ~~الزيادة في بيت المال، حتى تبين له أن ذلك مما أباحه الله لهم، فلا يمنعون ~~منه ولا يعاقبون عليه. # وإلا فهل يظن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعرف حال السابقين الأولين أن ~~عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين كان يعمد إلى نسخ شرع النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -؟ وأن المسلمين يقرونه على ذلك مع علمه وعلمهم بأن هذا ~~نسخ لشرعه! نعم، الأمور الاجتهادية التي يفعلها أحد الخلفاء تارة يوافقه ~~عليها جماعتهم، وتارة يوافقه عليها بعضهم وينكرها بعضهم إنكار مجتهد على ~~مجتهد، كما أنكر عمران بن حصين وغيره على عمر ما قاله في متعة الحج (1) ، ~~مع أنه قد ثبت عن عمر أنه لم يحرمها، وأنه كان له فيها اجتهاد متنوع. ~~PageV01P334 # وإذا كان هذا مخرج ما فعله عمر فيقال: من كانوا عالمين بالتحريم وأقدموا ~~عليه بعد علمهم بالتحريم، واستكثروا منه بعد علمهم بالتحريم، فمن ألزمهم به ~~فقد اقتدى بعمر في ذلك وبمن وافقه من الصحابة. # وأما من لم يعلم أن ذلك محرم أو اعتقد أنه مباح وفعله، فهذا لا يستحق أن ~~يعاقب، ولا يمكن إلزامه به على وجه العقوبة، إلا أن يكون الشارع ألزمه ~~بالثلاث. وظهر مقصود عمر، فإنهم إذا كانوا يعتقدون تحريمه، والشارع نهاهم ~~عنه، وإذا أوقعوه جعله واحدة، فإذا صاروا يوقعونه قاصدين للثلاث صاروا ~~يقصدون ما نهوا عنه، وقد يعتقد عامتهم وقوع الثلاث به، فعاقبهم عمر على ذلك ~~بإلزامهم ما قصدوه وما اعتقدوه. # فإن قيل: فقد تقدم أن الشارع لم يعاقب بوقوع الطلاق. # قلنا: نعم، ليس في الكتاب ms0165 والسنة عقوبة بوقوع الطلاق، ولكن جعل هذا عقوبة ~~هو مما يقوله كثير من السلف والخلف بالاجتهاد، كما يقول كثير من الفقهاء: ~~إنما يوقع الطلاق بالسكران عقوبة له، ونحن ذكرنا مقاصد اجتهاد عمر رضي الله ~~عنه. # وأيضا فعمر رضي الله عنه رأى أن في إلزامهم به منعا لهم من إيقاعه، فرأى ~~أن ما ينتفي من وقوع الطلاق البغيض إلى الله أكثر مما يقع منه، فدفع أعظم ~~الفسادين بالتزام أدناهما، فإنهم إذا كانوا يوقعون الثلاث المحرمة ولا ~~يرونها إلا واحدة، وكانوا يقصدون الثلاث أولا بالقول المحرم مع علمهم أنه ~~لا يلزمهم ذلك، يكثر منهم تكلمهم بالثلاث وقصدهم إيقاعها، وذلك بغيض إلى ~~الله، ووقوعه أيضا بغيض، لكن ما فعله أوجب دفع أكبر البغيضين وقوعا ~~بأدناهما وقوعا، فإنهم إذا علموا أنه يلزمهم بالثلاث الثلاث امتنعوا عن ~~التكلم بالثلاث، # PageV01P335 # فكان في ذلك دفع أمور كثيرة بغيضة إلى الله بإلزام أمور أقل منها، ولما ~~رأى أنهم لا ينتهون إلا بذلك فعل ذلك. # وكان عمر ينهى عن التحليل ويقول: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما، ~~فلو رأى عمر أن إيقاع الثلاث يفضي إلى التحليل الذي حرمه الله ورسوله وإلى ~~كثرته العظيمة لم ينه عنه، لعلمه بأن القول بأن الثلاث لا تقع إلا واحدة ~~خير من التحليل، وأن المفسدة في التحليل أضعاف المفسدة في أن يتكلموا ~~بالثلاث فلا يقع بهم إلا واحدة. فمتى دار الأمر بين أن تقع الثلاث ويحلل، ~~وبين أن لا تقع الثلاث، كان أن لا يقع أولى. ولا يرتاب في هذا من نور الله ~~قلبه بالإيمان، فإن التحليل فيه شر كبير ليس في عدم إيقاع الثلاث جملة منها ~~شيء. # وكان نكاح التحليل قليلا جدا في زمن الصحابة، ولهذا سئلوا عنه في وقائع ~~مخصوصة، وقال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقد ~~لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له (1) . # ولم يكن على عهده من يظاهر بذلك، لكن قد يكون من يفعل ذلك باطنا ومن ~~يقصده، فلعنه كما لعن ms0166 آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، لتنزجر النفوس بذلك ~~عن قصد التحليل، فلا يقع منه شيء لوجهين: أحدهما: لتتم عقوبة الله للمطلق ~~الذي طلق الثالثة بعد طلقتين، فلا يقصد أحد إعادة امرأته إليه، فينزجر بذلك ~~عن إيقاع الثلاث مفرقة. PageV01P336 # والثاني: لأن التحليل من جنس السفاح لا من جنس النكاح، فإنه غير مقصود. ~~ولهذا كان الزوج مشبها فيه بالتيس المستعار، الذي يقصد استعارته لا ~~مصاحبته. # فلما كان مفسدة وقوع الثلاث قليلة لقلة التحليل، وكان الناس قد أكثروا ~~مما نهوا عنه من إيقاع الثلاث جملة، رأى عمر أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم، ~~لئلا يفعلوا ذلك، فالشارع حرم عليهم المرأة بعد الثالثة عقوبة لهم، فرأى ~~عمر وغيره أنهم إذا أكثروا من إيقاعها مجتمعة استحقوا هذه العقوبة. بخلاف ~~ما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وأول خلافته، ~~فإنها كانت قليلة في الناس، وكانوا ينتهون بنهي الشارع، فلم يكن في وقوعها ~~قليلا حاجة إلى عقوبة. ولا ريب أنه إذا كثر المحظور احتاج الناس فيه إلى ~~زجر أكثر مما إذا كان قليلا. # ولهذا لما رأى الصحابة رضي الله عنهم كثرة شرب الناس الخمر واستخفافهم ~~بالعقوبة التي هي أربعون جلدوا ثمانين، وكان عمر مع ذلك ينفي ويحلق الرأس، ~~لأن عقوبة الشارب لم يقدر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها قدرا مؤبدا ~~كما قدر في القذف، لا عددا ولا صفة، بل أقل ما ضرب أربعين، وكان يضرب ~~بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقد أمر بقتل الشارب في الرابعة (1) ، فكان ~~صفة عقوبته وقدرها مفوضا إلى اجتهاد الأئمة، ولو كان النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أوجب فيها حدا حرم ما زاد عليه لامتنع عليهم أن يبدلوا شريعته، ~~فإنهم لا يتفقون على ضلالة. # وإذا كان هذا فعله عمر على وجه العقوبة والتعزير بذلك لكثرة إقدام الناس ~~على المحظور، لا لأنه شرع لازم لكل من تكلم بذلك، PageV01P337 # سواء كان عالما بالتحريم أو جاهلا، وسواء كان الناس يحتاجون إلى العقوبة ~~بذلك أو لا يحتاجون، لم يكن على أن إيقاع الثلاث ms0167 بكلمة واحدة لكل من تكلم ~~بها دليل شرعي أصلا. وإذا كان كثير من الفقهاء يوقعون الطلاق بالسكران، ~~ويقولون: نوقعه عقوبة ونجعل ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أن هذا لا يوجب ~~انتهاء الناس عن الشكر، فكيف لا يكون ما فعله عمر رضي الله عنه من العقوبة ~~مما يسوغ فيه الاجتهاد؟ مع أن ذلك أقرب إلى الأدلة الشرعية ومقصود المعاقب ~~من هذا. # ولو قدر أن بعض الصحابة رأى وقوع الثلاث جملة بكل من تكلم بها، ورأى هذا ~~شرعا عاما لازما، فقد نازعه في ذلك غيره، مع أن هذا بعيد، فإن الذين روي ~~عنهم إيقاع الثلاث جملة روي عنهم نفي ذلك، كعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس ~~(1) ، فحمل كلامهم على اختلاف حالين أولى من حمل كلامهم على التناقض، ~~واعتقادهم فساد أحد القولين (2) . وقد قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء ~~فردوه إلى الله والرسول) . # فإن قيل: فإذا لم يكن الطلاق المحرم لازم الوقوع، فيلزم أن المطلقة في ~~الحيض أيضا لا يجب أن يلزم فيها الوقوع. وحديث ابن عمر قد ثبت في الصحيحين ~~(3) أنه لما طلق امرأته في الحيض غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ~~"مره فيراجعها، حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم PageV01P338 # تطهر، ثم إن شاء بعد أمسكها، وإن شاء طلقها، فتلك العدة التي أمر الله أن ~~يطلق لها النساء". وقد روي عن ابن عمر (1) أنه قيل له: أتعتد بها؟ قال: ~~أفرأيت إن عجز واستحمق. وقال: إن طلقتها ثلاثا عصيت ربك وبانت منك امرأتك. # قيل: أولا حديث ابن عمر قد روي فيه أنه حسبها من الثلاث، وروي أنه لم ~~يحسبها، وكلا الإسنادين جيد. وقوله "راجعها" مثل قوله "ردها" ونحو ذلك، ~~وهذه الألفاظ تستعمل في العقد المبتدأ، وتستعمل في إمساك المطلقة، وتستعمل ~~في إمساك من لم يقع بها طلاق، قال تعالى: (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن ~~يتراجعا) (2) ، فهذا عقد جديد. وقال تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) ~~(3) ، فهذا رجعة المطلقة. وقال: فردها علي. # وابن عمر رضي الله عنه إما أن يكون ms0168 كان يعلم أن الطلاق في الحيض لا يجوز، ~~بل يجب إذا طلق المرأة أن يطلقها لعدتها كما أمر الله بذلك؛ وإما أنه لم ~~يكن يعلم هذا، فإن كان يعلمه وألزم بما أوقع فقد يكون من جنس إلزام عمر لهم ~~بالثلاث، وإن لم يكن علم بالتحريم وألزم بها فهو دليل على أنها تلزم، ~~فيحتاج الاستدلال بحديثه إلى مقدمتين: # إحداهما: أنه أمر بمراجعة هي مراجعة من وقع بها الطلاق. # والثانية: أن وقوع الطلقة لم يكن عقوبة عارضة على ذنب، بل PageV01P339 # هي شرع لازم لكل من طلق في الحيض. # وكلا المقدمتين تحتاج إلى دليل. # ثم قد يستدل على نقيض ذلك بأن علة تحريم الطلاق في الحيض هي إطالة العدة ~~عليها عند كثير من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وعلله آخرون من ~~أصحاب أبي حنيفة وأحمد بأن الحيض زمن النفرة عن المرأة والزهد فيها، والطهر ~~زمن الميل إليها والرغبة فيها. وبالجملة فلا بد لهذا الحكم من علة، وقد ~~بحثوا عن الأوصاف الثابتة في محل الحكم، فلم يجدوا وصفا مناسبا إلا هذا أو ~~هذا، والسبر مع المناسبة والاقتران من أقوى الطرق التي تثبت بها العلة. # وإذا كانت العلة ما ذكره الأولون، فإذا وقع الطلاق فإنما يؤمر به لإزالة ~~تلك المفسدة، والأيمان كانت لا تزول، فلا فائدة في الأمر بالمراجعة. # والفقهاء لهم في وجوب المراجعة قولان هما روايتان عن أحمد، ولهم في ~~ارتجاعها في الحيضة التي تلي ذلك الطهر قولان هما روايتان عن أحمد (1) . ~~ومن قال: إن الرجعة لا تجب، وإنها تشرع في الطهر الذي يلي الحيضة، لم يكن ~~في الأمر بالرجعة عنده فائدة، ولا زال بها مفسدة طلاق الحيض، بل ذلك أشد في ~~الضرر عليها، فإنه يرتجعها وهو في الحيض لا يطأها، ثم يطلقها في الطهر ~~الأول، فيحتاج إلى استئناف العدة عليها، فيزداد الطول والضرر. وهذا أشهر ~~القولين. ومن قال: إنها تبني لم يكن في الارتجاع عنده فائدة؛ ومن قال: لا ~~يطلقها إلا في الطهر الثاني فإنه لا يوجب وطئها في الطهر PageV01P340 # الأول، فإذا ms0169 أمسكها ولم يطأها وطلقها في الطهر الثاني استأنفت العدة أيضا ~~عند الجمهور، فكان ارتجاعها زيادة شر. وإن بنت على العدة فلا فائدة في ~~الرجعة. # وهذا بخلاف ما إذا لم يقع الطلاق، فإنه لا عدة عليها فيردها، لأنها ~~امرأته، ولا يطلقها في الطهر الأول لأنه لم يتمكن بعد من وطئها، فالنفور ~~بينهما قد لا يزول، فإذا تركها إلى الطهر الثاني تمكن من وطئها، فربما بسبب ~~ذلك تفتر رغبته عن الطلاق. # والشارع نهى الرجال أن يطلقوا إلا لاستقبال العدة، لئلا تطول بذلك العدة. ~~فهذا حكمة نهي الشارع، لكن إذا فعلوا ما نهوا عنه، فإن أوقع الطلاق لغير ~~العدة فقد حصل الشر الذي كرهه الله ورسوله، وحصل طول العدة لا محالة، لأن ~~هذا الطلاق إذا وقع أوجب عدة، فتكون طويلة، ومراجعتها بعد ذلك - إذا قيل: ~~إن الطلاق قد وقع - لا ترفع هذه العدة الطويلة، ولا تزيل هذا الضرر، بل إما ~~أن تزيده ضررا وطولا آخر، كما هو قول الجمهور الذين يوجبون على المرتجعة ~~إذا طلقت قبل الدخول عدة أخرى، وقد ذكر الثوري أن هذا إجماع الفقهاء. وإما ~~أن تبقى العدة طويلة مضرة كما كانت، كما هو قول للشافعي ورواية عن أحمد. # فإن قيل: بل في الرجعة في الحيض تمكنه من الاستمتاع بغير الوطء، وفي ~~تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني تمكنه من وطئها في ذلك الطهر. # قبل: هذا الذي لا يزول الضرر إلا به لا يأمرون به، ولم يأمر الشارع به، ~~وإنما أمر على قولكم بمجرد رجعة للمطلقة، وهذا المأمور # PageV01P341 # به على قولكم يزيد الضرر، فإنه يكون قد طلقها واحدة، فيطلقها ثنتين. وهذا ~~أيضا دليل آخر، وذلك أن مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايات أن تفريق الثلاث ~~في ثلاثة أطهار بدعة، وهو الصحيح، وأن السنة أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى ~~تنقضي عدتها، فإذا كانت الأولى قد وقعت ثم أبيح له الثانية في الطهر الأول ~~أو الثاني، كان في هذا. خلاف للسنة بأن طلقها ثانية بعد أولى. # فإن قيل: لكن طلقها الثانية بعد أن ms0170 راجعها، وهذا سنة بالاتفاق. # قيل: بل في هذا وجهان ذكرهما أبو الخطاب، أحدهما: أنه بدعة، وعلى هذا ~~التقدير فالحديث حجة عليهم صريحة. والثاني - وهو الأظهر -: هو سنة لمن ~~طلقها ثم راجعها ثم اختار طلاقها أن يطلقها، أما من كان غرضه طلاقها، وقد ~~طلق واحدة، فيؤمر بما يلزم أن يوقع ثانية. # وأيضا فإن تطويل العدة وضررها يزول بذلك. # وأيضا فالاعتداد بتلك الطلقة من الثلاث أعظم ضررا على الزوجين من تطويل ~~العدة عليها، ولو خيرت المرأة بين هذا وهذا لاختارت طول العدة على أن تحسب ~~من الثلاث. فكيف تقصد مصلحتها بما هو عليها أشد ضررا. # وأما ما ذكره الآخرون فإنهم قالوا: أراد بذلك تقليل الطلاق، فإنه منع منه ~~زمن الزهد فيها، وأذن فيه زمن الرغبة فيها. وإذا كان هذا مقصود الشارع فهذا ~~المقصود لا يحصل إذا أمر المواقع له بالرجعة، وقيل له: طلق بعد ذلك، لأنه ~~حينئذ لا يكون في الرجعة إلا تكثير الطلاق، لأن الأول لا يرتفع، والثاني قد ~~يحصل، بل هو # PageV01P342 # الأظهر ممن غرضه الطلاق، فيكون ما أمر به لا يرفع المفسدة بل يزيدها، ~~بخلاف ما إذا لم يقع، فإن المفسدة تعدم حينئذ. # فصل ### | أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلا للحاجة، # والحاجة تندفع بثلاث متفرقة، كل واحدة بعد رجعة أو عقد، فما زاد على هذا ~~فلا حاجة إليه فلا يشرع، فإنه إذا فرق الثلاثة عليها في ثلاثة أطهار لم تكن ~~به حاجة إلى الثانية والثالثة، فإن مقصوده من الطلاق يحصل بالأولى، كما أنه ~~لا حاجة به إلى الثلاث. # فإن قيل: قد يكون مقصوده رفع نفقتها، فيطلقها ثلاثا لئلا تجب لها نفقة، ~~ولا يجب أيضا سكنى عند فقهاء الحديث. # قيل: هذا يمكنه عند من يوجب للمبتوتة النفقة والسكنى بأن يطلقها طلقة ~~بائنة، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهذا رواية عن أحمد، وإن لم يقل بوجوب ~~النفقة للمبتوتة، لكن عنده له أن يبتها بواحدة، فتسقط النفقة بإسقاط رجعته. ~~وأما على قول الباقين فيقولون: نفقتها في الرجعة حق لها، فليس له ms0171 أن يسقطه ~~إلا برضاها، فإذا رضيت أن يختلعها سقطت النفقة، وإذا كانت هي تريد أن ينفق ~~عليها ويتمكن من ارتجاعها لم يكن له إسقاط ذلك. ونفقة العدة أمر هين، ليس ~~له لأجلها أن يوقع نفسه في الثلاث التي يحصل بها ضرر عظيم، كما أنه ليس ~~لأجلها أن يعجل طلاقها في الحيض بالكتاب والسنة والإجماع، فعلم أن تسويغ ~~تغيير الطلاق الشرعي لأجل إسقاط النفقة من المناسبات التي يشهد لها الشرع ~~بالإبطال والإهدار. # وأيضا فإن الله أمر المطلق أن يمتع المطلقة، فيعطيها متاعا لما # PageV01P343 # حصل لها من الذلة بالطلاق، فكيف يسوغ الطلاق الذي يكرهه ويحرمه. # وأيضا فإن هذا الكلام يقتضي جواز إيقاع الثلاث جملة، ونحن في هذا المقام ~~إنما نتكلم على القول بتحريمه، فأما مع القول بجوازه فلا ريب في وقوعه. # وإذا عرف أن هذا مقصود الشارع فالطلاق المسمى الشرعي لا يترتب عليه مفسدة ~~راجحة، بخلاف غيره من أنواع الطلاق البدعي المنهي عنه، فإن فيه من المفسدة ~~الراجحة ما أوجب أن الله ينهى عنه. والفساد الحاصل في الطلاق والتحليل وخلع ~~اليمين وغير ذلك إنما هو لخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما شرع لهم من ~~الطلاق، فلما فعلوا ما نهوا عنه أوجب ذلك لهم ضررا في دينهم أو دنياهم، ~~فإنهم إن لم يخالفوا أمرا آخر حصل لهم ضرر في دنياهم بمفارقة الأهل وخراب ~~البيت وتشتيت الشمل وتفرق الأولاد، وبالمطالبة بالصدقات المتأخرة وفرض ~~النفقات، وغير ذلك من أنواع الشرور الحاصلة بالطلاق في الدنيا، وإن دخلوا ~~فيما نهوا عنه من تحليل وغيره حصل لهم ضرر في دينهم مع الضرر في الدنيا ~~أيضا، بالعار بدخولهم فيما نهوا عنه من الطلاق البدعي، يوجب لهم الضرر ~~والشر لا محالة، فإذا أوقعوه فقيل إنه يقع حصل هذا الضرر، فإن الضرر لم ~~ينشا من إيقاع لا وقوع معه، وإنما نشأ من إيقاع معه وقوع. فإذا قيل: إنه ~~يقع، فالضرر حاصل لم يزل، والفساد واقع لم يرتفع، ولم يكن في النهي ما يرفع ~~الفساد ويصلح العباد، بل كان أن لا ينهوا ms0172 عنه ويحرم عليهم أقل لضررهم، فإن ~~الضرر حاصل بوقوعه إذا أوقعوه، لكن إذا كان محرما زاد الضرر بالإثم، فيبقون ~~آثمين مضرورين، وفساد النهي عنه حاصل مع أن المنهي عنه من باب العقود، ~~والكلام # PageV01P344 # الذي يقبل الصحة والفساد ليس من باب الأفعال والتأثيرات التي لا يمكن رفع ~~موجبها، فإن الطلاق كالنكاح والعتاق والظهار ونحو ذلك مما إذا تكلم به يقع ~~تارة ولا يقع أخرى، ليس وقوعه من لوازم إيقاعه. # والطلاق عند أصحابنا وغيرهم ينقسم إلى صحيح وفاسد، كما قالوا - واللفظ ~~لأبي الخطاب في "الانتصار" - في مسألة المكره: إنه قول حمل عليه بغير حق ~~فلم يلزمه حكمه كالإقرار بالطلاق. قال: وهذا لأن لفظ ### | الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسد، # وليس نفوذه أمرا محسوسا لا مرد له، فإذا كان محمولا عليه بالباطل كان ~~مردودا، لأن الشرع يحكم في الرد والقبول، وقرر ذلك. # وأما من قال: إن ### | طلاق المكره # يقع، كما يقول أبو حنيفة، فإنه يقول مالا يقبل الرفع، كالنكاح والعتاق ~~والخلع، فإنه كالفعل ينفذ مع الإكراه، بخلاف ما يقبل الرفع كالبيع والإجارة ~~والهبة. وعندنا الجميع يقبل الرفع، وإذا كان كذلك فمحرمه يقع فاسدا. # فإن قيل: لو أوقعه سنيا لغير حاجة؟. # قيل: فإن الإنسان أخبر بمصلحة نفسه، فإذا أوقعه على الوجه المشروع لم ~~يمكن أن نقول: ذلك محرم عليه. # فإن قيل: فأنتم تقولون: الطلاق لغير حاجة محرم أو مكروه وإن كان سنيا. # قيل: هذا كلام مجمل، ولابد من تفصيله. قيل: هذا السؤال يرد على الجمهور ~~الذين قالوا بان الثلاث يحرم جمعها، فإن هؤلاء قالوا: إن الطلاق لغير حاجة ~~محرم، والحاجة لا تدعو إلا إلى واحدة. ثم لما أورد عليهم هذا السؤال قالوا: ~~العاقل لا يتكلف النكاح والتزام # PageV01P345 # المهر وحقوق النكاح ثم يقدم على الفراق إلا لحاجته إليه، إما لعدم إرادته ~~للمرأة وعدم محبته لها؛ أو لعدم حصول مقصوده بنكاحه بها: لكونها ممتنعة ~~منه، أو لكونها تكلفه ما يضره، أو لكون أهلها يكلفونه ذلك؛ أو لبغضه لها: ~~إما بغضا لصورتها أو لخلقها أو لدينها أو لظلمها ms0173 له؛ أو لغير ذلك. فأما مع ~~كونه مريدا لها إرادة راجحة على كراهتها فلا يقصد إيقاع الطلاق أصلا. # ولهذا لم يقع الطلاق إلا ممن له قصد صحيح يقصد به مصلحته، فلم يقع ~~بالمجنون بالاتفاق، وإن كان يتكلم باختياره ويفعل باختياره، فإن البهائم ~~تفعل باختيارها، فكيف المجنون، لكن لما تغير عقله الذي يوجب أن لا يميز بين ~~قصد ما ينفعه وما يضره لم يقع به الطلاق باتفاق المسلمين. وكذلك لا يقع ~~بالنائم والمبرسم ولا بمن زال عقله بغير فعل محرم منه كالمغمى عليه، ~~بالاتفاق. # ولكن تنازع المسلمون في السكران، والذي نصرناه في غير هذا الموضع (1) أنه ~~لا يقع به أيضا، كما هو قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عثمان ~~بن عفان وعبد الله بن عباس وعقبة بن عامر، ولم نعلم أنه ثبت عن صحابي خلاف ~~ذلك صريحا، وهو قول طوائف من أئمة التابعين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ~~اختارها أئمة من أصحابه، كأبي بكر الخلال وأبي الخطاب وغيرهما، وهو طرد ما ~~ذكرناه من الطلاق إذا كان إنما أبيح للحاجة، وهي جلب منفعة أو دفع مضرة، ~~فلم يقع إلا ممن له قصد صحيح يجلب به المنفعة ويدفع به المضرة، وحينئذ ~~فإقدامه عليه دليل الحاجة. PageV01P346 # وأما الهازل فذاك لزمه عند من يقول به، لأنه اتخذ آيات الله هزوا، كما ~~يلزم الكفر لمن تكلم به مستهزئا، لأنه اتخذ آيات الله هزوا، لئلا يستهزئ ~~أحد بآيات الله. وهذا إذا قيل عوقب به كانت العقوبة تدفع أن يستهزئ أحد ~~بآيات الله، كما أن تكفير المسلم بآيات الله هزوا يمنع أن يستهزئ أحد بآيات ~~الله، فكان في إيقاع الطلاق به زوال هذه المفسدة، وكان ما حصل له من الضرر ~~ضررا بمن يستحق هذا الضرر، بخلاف المكره وبخلاف السكران، فإن ذنبه هو ~~الشرب، ليس ذنبه إيقاع الطلاق، والشارع لا يعاقبه على الشرب بالتزام ما ~~يمكن أن يتكلم به، ولو كان ذلك لعاقبه بالقتل، لأن السكران قد يتكلم ~~بالكفر، كما قد يتكلم بالطلاق. # وعلى هذا فإذا قالوا ms0174: الطلاق لغير حاجة محرم أو مكروه، قالوا: إن الطلاق ~~الشرعي مباح مأذون فيه. وهذا معنى قوله: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" (1) ~~، أي أبغض ما أبيح للحاجة وهو محرم بغيض إلى الله بدونها: الطلاق، كما ~~تقول: أبيحت المحرمات للمضطر، أي أبيح له عند الضرورة ما كان محرما بدونها، ~~ليس المراد به أن الشيء في حال واحدة يكون حلالا حراما، كذلك الشيء في حال ~~واحدة لا يكون بغيضا إلى الله مأذونا فيه من جهته، فإن هذا تناقض. # فصل # ومما يبين هذا أن الله إذا كان يحب شيئا فإنه يأمر به أمر إيجاب ~~PageV01P347 # أو استحباب، أمرا ييسر أسبابه، فإنه ما لا يتم المأمور به إلا به فهو ~~مأمور به، وإذا كان يكرهه فهو ينهى عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه، والنكاح في ~~الأصل حسن مأمور به، وأدنى أحواله الإباحة، لا ينهى عنه إلا لمعارض راجح: ~~كالعجز عن واجباته أو الاشتغال به عما هو أوجب منه، كما إذا تعارض الحج ~~المتعين والنكاح فإنه يقدم الحج ونحو ذلك. والطلاق منهي عنه إلا لحاجة كما ~~قد عرف، فالذي يناسب ذلك تيسير حصول النكاح وتشديد حصول الطلاق، كما قال ~~تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) (1) ، ~~فأمر بالتعاون على ما يحب، ونهى عن التعاون على ما يكره. وطائفة من الناس ~~يعكسون الأمر، فتجدهم يشددون النكاح ويصعبون صحته، فلا يوقعون ما يحبه الله ~~إلا بشرائط كثيرة، وكثير منها لا أصل له في الكتاب والسنة، كاشتراط بعضهم ~~لفظين معينين، وهو الإنكاح والتزويج؛ واشتراط بعضهم أن يكون ولي المرأة ~~عدلا؛ واشتراط بعضهم حضور شاهدين عدلين مبرزين؛ واشتراط بعضهم في صحته ~~الكفاءة في النسب والدين واليسار والصناعة والحرية؛ واشتراط بعضهم أن يكون ~~القبول عقب التلقظ بالإيجاب. وهذه الشروط ونحوها لا أصل لها، بل الأصول ~~والنصوص تدل على بطلان اشتراطها. # ثم إن طائفة من الناس يشددون في انعقاده، ويعيدون اللفظ على العامي مرتين ~~أو ثلاثا، ويزيدون على ما ذكره الفقهاء أمورا من جنس الوسواس الذي يزيدونه ~~في نيات العبادات ms0175. ثم الطلاق الذي يبغضه الله لغير حاجة تجدهم سراعا إلى ~~وقوعه، فيوقعونه على المكره والسكران والحالف الحانث الناسي والمكره ~~والجاهل وغير هؤلاء. PageV01P348 # هذا مع أن الشارع يضيق إيقاعه، فنهى عن إيقاعه في الحيض وفي طهر أصابها ~~فيه، وعن إيقاع الثلاث جملة، بل أمر أن لا يطلق إلا واحدة في طهر لم يصبها ~~فيه، ولا يردفها بطلاق حتى تقضي العدة إن لم يكن له غرض في رجعتها. وهذا من ~~الشارع تضييق لوقوعه. # والنكاح يشرع وقت حيض المرأة ونفاسها وصومها واعتكافها وصوم الرجل ~~واعتكافه، وإن كان الوطء متعذرا، ويشرع في الأوقات الفاضلة. فالواجب منع ~~وقوع ما يبغضه الله إلا حيث يكون في وقوعه مصلحة راجحة، وتيسير وقوع ما ~~يحبه الله إلا إذا كان في وقوعه مفسدة راجحة، وحيث لا تكون مصلحة وقوعه ~~راجحة فالأصول تقتضي أنه لا يقع، لأن الشارع لا يوقع إلا ما تكون مصلحته ~~محضة أو راجحة، وما كان مفسدته محضة أو راجحة فإنه يرفعه ولا يوقعه. # والله أعلم. # (نقلته من خط مصنفه شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية ~~رحمه الله. # قوبل بالأصل بعد نقله منه) . # *** # PageV01P349 ### | فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة # PageV01P351 # سئل شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ~~الحراني - قدس الله روحه ونور ضريحه - عن رجل طلق امرأته ثلاثا بكلمة ~~واحدة، فهل يقع به واحدة أم ثلاث؟. # فأجاب: # أما جمع الطلقات الثلاث فمحرم عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن ~~بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه واختيار ~~أكثر أصحابه، وقال: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي - ~~يعني طلاق المدخول بها - غير قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى ~~تنكح زوجا غيره) (1) . # وعلى هذا القول فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة، بأن يفرق ~~الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلقها في كل طهر طلقة؟ فيه قولان، هما روايتان ~~عن أحمد: # إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة ms0176. # والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك، وأصح ~~الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه، كأبي بكر عبد العزيز والقاضي ~~أبي يعلى وأصحابه. # والقول الثاني: إن جمع الثلاث ليس بمحرم، بل هو ترك الأفضل، وهو مذهب ~~الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، واختارها الخرقي. # واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة PageV01P353 # ثلاثا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا، وبان الملاعن طلق امرأته ~~ثلاثا ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك (1) . # وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة فيه أنه طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في ~~الصحيح أن الثالثة كانت آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا. ~~وقول الصحابي "طلق ثلاثا" يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات، بأن يطلقها ~~ثم يراجعها ثم يطلقها. وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على ~~عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معنى الطلاق ثلاثا. وأما جمع ~~الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم، إنما يقع قليلا، فلا يجوز حمل اللفظ ~~المطلق على القليل المنكر دون الكثير المحق، ولا يجوز أن يقال طلق ثلاثا ~~مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قول بلا دليل، بل بخلاف الدليل. # وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة، التي تحرم ~~بها المرأة أعظم ما تحرم بالطلقة الثالثة، فكذا مؤكدا لموجب اللعان. ~~والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، ولاسيما النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قد فرق بينهما، فإن كان قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن ~~كان بعدها فدل على بقاء النكاح. # واستدل الأكثرون بأن القرآن يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي ~~وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ~~فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) إلى قوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك ~~أمرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) (2) ، ~~PageV01P354 # وهذا إنما يكون في الرجعي. وقوله (فطلقوهن لعدتهن) يدل على أنه لا ms0177 يجوز ~~إرداف الطلاق الطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، وإنما أباح الطلاق للعدة، ~~أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية أو الثالثة قبل الرجعة بنت على ~~العدة، فلنم تستأنفها باتفاق المسلمين، وإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن ~~حزم قد بينا فساده في موضع آخر. فلم يكن ذلك طلاقا للعدة. # ولأنه قال: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) ، فخيره ~~بين الرجعة وبين أن يدعها حتى تنقضي العدة، فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها ~~ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان، وقد قال: ~~(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في ~~أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) (1) ، ~~فهذا يقتضي أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق. ثم قال: (الطلاق ~~مرتان) أي هذا الطلاق المذكور مرتان، وإذا قيل: سبح مرتين أو ثلاث مرات، لم ~~يجز أن يقول: "سبحان الله مرتين"، بل لابد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة، ~~وكذلك لا يقال: طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة. فإذا قال: أنت طالقة ~~ثلاثا أو طلقتين لم يجز أن يقال: طلق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال ~~طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين، لكن يقال: طلق مرة واحدة. # وقال بعد ذلك: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) (2) ، ~~فهذه الطلقة الثالثة، فلم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين، وقد ~~PageV01P355 # قال الله: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) ~~(1) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق. فعلم أن جمع الثلاث ~~ليس بمشروع. # ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار. ~~وسبب ذلك أن ### | الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، # كما ثبت في الصحيح (2) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم ~~فتنة، فيأتيه الشيطان ms0178 فيقول: ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان ~~فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويلتزمه ويقول: ~~أنت أنت!! ". # وقال الله تعالى في ذم السحرة: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء ~~وزوجه) (3) . # وفي السنن (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المختلعات ~~والمنتزعات هن المنافقات". # وفي السنن (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما امرأة ~~سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة". # وفي السنن (6) أيضا: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". PageV01P356 # ولهذا لم تبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح ~~زوجا غيره. وإذا كان إنما أبيح للحاجة فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد باق ~~على الحظر. # والناس في الطلاق المحرم هل يقع أم لا؟ على قولين، وأقوال الصحابة رضي ~~الله عنهم في جمع الطلقات الثلاث كثير مشهور، روي الوقوع فيها عن عمر ~~وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن الحصين ~~وغيرهم؛ وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر وعن عمر سنتين من خلافته وعن علي ~~بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس و. عن الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن ~~عوف (1) . # قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتاب "الوثائق" له (2) : فطلاق ~~البدعة أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق. # ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال ~~علي بن أبي طالب وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس. # وقال: وذلك لأن قوله "ثلاث" لا معنى له، لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما ~~يجوز قوله "ثلاث" إذا كان مخبرا عما مضى، فيقول: طلقت ثلاث مرات، يخبر عن ~~ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل يقول: قرأت سورة كذا ثلاث مرات، ~~فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات كان كاذبا. وكذلك لو ~~حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله ms0179 فقال: ~~PageV01P357 # أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلفه إلا يمينا واحدة. والطلاق مثله. # قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كله ~~عن ابن وضاح. يعني الإمام محمد بن وضاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل ~~وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون ابن سعيد وطبقتهم. # قال: وبه قال شيوخ قرطبة: ابن زنباع شيخ هدى (1) ، ومحمد بن عبد السلام ~~الخشني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من ~~فقهاء قرطبة. # قلت: وقد ذكر التلمساني هذا رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي ~~من أئمة الحنفية، حكاه عنه المازري وغيره، ويفتي بذلك أحيانا الشيخ أبو ~~البركات ابن تيمية. وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه" ~~وأبو داود وغيرهما (2) عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق ~~الثلاث واحد، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد أستعجلوا في أمر كانت فيه ~~أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية: إن أبا الصهباء قال ~~لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر ~~تتابع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم. # والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكل حديث PageV01P358 # فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم الثلاث بمن أوقعها جملة - مثل ~~حديثا روي عن علي، وآخر عن عبادة، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك - ~~فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل موضوعة. # وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت من غير وجه عن ابن عباس أنه أفتى بلزوم ~~الثلاث (1) . # وجواب المستدلين أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة أيضا أنه كان يجعلها ~~واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعا إلى النبي - ~~صلى الله عليه وسلم ms0180 - وموقوفا على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -. فالمرفوع أن ركانة طلق امرأته ثلاثا (2) ، فردها ~~عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا المروي عن ابن عباس في ### | حديث ركانة # من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن زيد بن ركانة ~~ونافع بن عجير أنه طلقها البتة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحلفه ~~ما أردت إلا واحدة. فإن هؤلاء مجاهيل الصفات، لا تعرف أحوالهم ليوافقها، ~~وقد ضعف أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم حديثهم. # قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء. # وقال أيضا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، لأن ابن إسحاق ~~يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا. ~~PageV01P359 # فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الذي فيه أنه طلقها ~~ثلاثا، وقال: أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا البتة، وهذا يدل على ثبوت ~~الحديث عنده. وكذلك ثبته غيره من الحفاظ. # وقد روى أبو داود هذا الحديث في سننه عن ابن عباس من وجه آخر، كلاهما ~~موافق لحديث طاووس عنه. وأحمد كان يعارض حديث طاووس ب ### | حديث فاطمة بنت قيس # أن زوجها طلقها ثلاثا ونحوه. وكان أحمد يروي (1) جمع الثلاث جائزا، ثم ~~رجع عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو رجعي. واستقر مذهبه ~~على ذلك، وعليه جمهور أصحابه. وتبين أن حديث فاطمة إنما كانت ثلاثا متفرقات ~~لا مجموعة. فإذا كان قد ثبت حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من ~~جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ~~يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص ~~والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن ~~القول بحديث ركانة وغيره كان أولى، لما تعارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث ms0181، ~~وكان ذلك يدل على النسخ، ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا ~~المعارض وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن ~~المعارض، ولكن علل حديث طاووس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذه علة في إحدى ~~الروايتين عنه. # وأما ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه فذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لاسيما ~~وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب في PageV01P360 # الإلزام، وهو عذر ابن عباس أيضا، وهو أن الناس لما تتايعوا فيما حرم الله ~~عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل ~~ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم. # وهذا كما أنهم أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب الشارب ~~ثمانين وينفي فيها ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -. وكما قاتل علي رضي الله عنه بعض أهل القبلة، ولم يكن ذلك على عهد ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. # [و] التفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به، إما مع بقاء النكاح، ~~وإما بدونه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين تخلفوا ~~وبين نسائهم - حتى تاب الله عليهم - من غير طلاق. والمطلق ثلاثا حرمت عليه ~~امرأته حتى تنكح زوجا غيره، عقوبة له ليمتنع عن الطلاق. # وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه كمالك وأحمد - في إحدى الروايتين ~~- حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدا، لأنه استعجل ما أحله الله، ~~فعوقب بنقيض قصده. والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بين الزوجين بلا ~~عوض إذا رأيا الزوج متعديا، لما في ذلك من منعه من الظلم، ورفع الضرر عن ~~الزوجة، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة والآثار، وهو مذهب مالك، وأحد القولين ~~في مذهب الشافعي وأحمد. # والمقصود هنا التنبيه على مآخذ الناس، فالذين لا يرون الطلاق المحرم ~~لازما يقولون: هذا الأصل الذي عليه الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ~~وهو أن العقود المحرمة لا تقع لازمة، كالبيع المحرم والنكاح المحرم ~~والكتابة المحرمة. ولهذا أبطلوا نكاح ms0182 الشغار ونكاح المحلل، وأبطل مالك ~~وأحمد البيع عند النداء يوم الجمعة. ولكن # PageV01P361 # الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوها لما بلغهم من الآثار، فلما ~~ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون ~~بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع. واعتقد طائفة أن لزوم هذا إجماع، لكونهم لم ~~يعلموا فيه خلافا، لاسيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم ~~ينفردوا عن أهل السنة بحق. # قال المستدلون لهم: أما الشيعة وطائفة من أهل الكلام فيقولون: جامع ~~الثلاث لا يقع به شيء. وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم ~~الإجماع على نقضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة أو ثلاث، والنزاع بين السلف ~~في ذلك ثابت لا يمكن دفعه. # وليس مع من ألزم بالثلاث وجعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها، لا ~~من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع، وإن كان قد احتج بعضهم بالكتاب، وبعضهم ~~بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وبعضهم بالقياس، وقد يحتج بعضهم بحجتين أو أكثر. ~~لكن المنازع تبين له أن هذه كلها حجج ضعيفة، وإن كان الكتاب والسنة ~~والاعتبار إنما يدل على عدم اللزوم. وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل ~~الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة من الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا ~~يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما ~~شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام ~~ذلك إذا كثر ولم تنته الناس عنه، وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة في ~~غير هذا الموضع. والعقوبة إنما تكون لمن علم التحريم وأقدم عليه، وأما من ~~لم يعلم التحريم فلا تجوز عقوبته. # وعامة الآثار المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى ~~الله بإيقاعها جملة، فأما من كان متقيا لله فإن الله يقول: # PageV01P362 # (ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب) (1) ، فمن لم ~~يعلم التحريم حتى أوقعها، ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى ~~المحرم ms0183، فهذا لا يستحق أن يعاقب. وليس في الأدلة الشرعية - الكتاب والسنة ~~والإجماع والقياس - ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته ~~محرمة على الغير بيقين. وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع علمه، وذريعة ~~إلى نكاح التحليل الذي ذمه الله ورسوله. # ونكاح التحليل لم يكن ظاهرا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة بعد الطلقة الثالثة أعيدت إلى زوجها بنكاح ~~تحليل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد خلفائه، بل لعن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له، ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه ~~وشاهده (2) . ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي، لأن ~~التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما، يقصده المحلل ويتواطأ عليه هو والمطلق ~~والمرأة ووليها، لا يعلم قصدهم، ولو علم لم يرض أن يزوجه، فإنه من أعظم ~~المستقبحات والمستنكرات عند الناس. # فلما لم يكن على عهد عمر تحليل، ورأى أن في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن ~~المحرم، فعل ذلك باجتهاده رضي الله عنه. أما إذا كان الفاعل لا يستحق ~~العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم بالنص والإجماع - ~~إجماع الصحابة - والاعتبار، وغير ذلك من المفاسد، لم يجز أن تزال مفسدة ~~بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذه الحال - كما كان على عهد ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - أولى. PageV01P363 # ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال ~~دون حال، كما نقل عن الصحابة، وهذا إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي ~~يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر، والنفي فيها وحلق ~~الرأس؛ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارة لازما، وتارة غير لازم. # وبالجملة ف ### | ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا لازما دائما لا يمكن تغييره، # فإنه لا نسخ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يجوز أن يظن بأحد ~~من علماء المسلمين أنه يقصد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدين. # وإنما يظن مثل ذلك ms0184 في الصحابة أهل الجهل والضلالة من الرافضة والخوارج، ~~الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه. ولو قدر أن أحدا فعل ذلك لم يقره ~~المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن ~~تجتمع على مثل ذلك. لكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي، فيصيب فيكون له ~~أجران، ويخطىء فيكون له أجر واحد. # وما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا معلقا بسبب، إنما يكون ~~مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة. # وبعض الناس ظن أن هذا نسخ (1) ، لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أعز ~~الإسلام وأهله، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا الظن غلط، ولكن عمر ~~استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا ~~لنسخه. كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل أو الغارم. ~~PageV01P364 # ونحو ذلك متعة الحج، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عنها، وكان ~~ابنه عبد الله وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل، ~~وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل ~~من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة. حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد ~~المنصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، وأفرد الحج في أشهره فهذا ~~أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد. # ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، وقالوا: إن هذا يحرم ~~ولا يجوز، وإن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من الفسخ ~~[كان] خاصا لهم. وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي. ~~وآخرون من السلف والخلف قالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا ~~متمتعا مبتدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في ~~حجة الوداع. وهذا قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء ~~الحديث. # وعمر لما نهى عن المتعة خالفه ms0185 غيره من الصحابة، كعمران بن الحصين وعلي بن ~~أبي طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء، فإن عليا ~~وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة ~~متعة النساء، فقال له: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر. فأنكر علي على ابن عباس ~~إباحة لحوم الحمر وإباحة متعة النساء. # فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم ~~فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم، وهو بيان # PageV01P365 # أن الناس قد أحدثوا ما استحقوا به عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما ~~أن يكون كالنهي عن منع الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصا بالصحابة، وهو باطل، فإن ~~هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك. ~~وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن أن ذلك منسوخ كنسخ متعة النساء. وإن قدر أن عمر ~~رأى ذلك لازما فهو اجتهاد منه، كاجتهاد من اجتهد في المنع من فسخ الحج، ~~لظنه أن ذلك كان خاصا. وهذا قول مرجوح، قد أنكره غير واحد من الصحابة، ~~والحجة الثابتة مع من أنكره. # وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعل قول عمر فيه شرعا لازما، قيل له: فهذا ~~اجتهاد قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما ~~تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. فإما ~~أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا الأمرين بعمر (1) . # ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين: # من جهة أن العقوبة بذلك هل تشرع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا ~~يرى غيره العقوبة به، كتحريق علي - رضي الله عنه - الزنادقة، وقد أنكره ~~عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس في ذلك. # ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن ~~يجعل الله له فرجا ومخرجا ms0186، ولم يستحق العقوبة. # ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم، ولما علم أن ذلك محرم تاب PageV01P366 # من ذلك، والتزم أن لا يطلق إلا طلاقا سنيا، فنه من المتقين في باب ~~الطلاق. فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها. # وهذه المسألة من المسائل الكبار، وقد بسطت الكلام عليها في مواضع في نحو ~~مجلدين وأكثر (1) ، وإنما نبهنا عليها تنبيها لطيفا. # وعلى هذا الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة، ويراجع امرأته. # والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد ~~وعلى آله وصحبه وسلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل. # (تمت المسألة لله الحمد والمنة يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة ~~1187. # بلغ مقابلة وتصحيحا) . # *** PageV01P367 ### | فصل في الإيلاء # من كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه # كتبه أخيرا بقلعة دمشق # PageV01P369 # بسم الله الرحمن الرحيم # الحمد لله رب العالمين. # قال شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله: # فصل # في طلاق الإيلاء # قال تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله ~~غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227)) (1) . والذي ~~عليه جمهور الصحابة والعلماء أنه لا يقع به الطلاق، حتى تمضي الأربعة، فإما ~~أن يفئ وإما أن يطلق، وإن طلق قبل ذلك جاز. وقد قالت طائفة: إن عزيمة ~~الطلاق انقضاء الأربعة أشهر، فإذا مضت وقع به طلقة، وهذا مذهب أبي حنيفة، ~~والأول مذهب الثلاثة، وقولهم هو الصواب كما قد بين في غير هذا الموضع (2) . ~~لكن المقصود أنه متى طلق فقد قيل: إنه لا يقع إلا بائنا لئلا يملك الرجعة، ~~وقيل: يقع رجعيا، وله الرجعة، ثم تضرب له مدة الإيلاء. وقيل: للإمام أن ~~يطلق عنه إذا امتنع ثلاثا. # وهذه أقوال ضعيفة، والصواب القول الآخر الذي دل عليه القرآن، وهو أنه إذا ~~طلق أو طلق عنه الإمام لم يقع إلا طلقة رجعية، لأن الله PageV01P371 # ذكر قوله (والمطلقات) عقب قوله (وإن عزموا الطلاق) ، فيجب أن تكون هذه ~~المطلقة داخلة ms0187 في قوله (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (1) . ولهذا ~~يجب عليها العدة ثلاثة قروء باتفاق العلماء، وإن كان له عنها أربعة أشهر، ~~وهذا يؤيد ما قررناه من أنها جعلت ثلاثة قروء لحق الزوج في الرجعة، وإذا ~~كانت هذه المطلقة داخلة في قوله (والمطلقات) وجب أن يكون بعلها أحق بردها ~~في العدة كما بينه القرآن. # لكن يقال: إن الله خيره بين شيئين: بين أن يفيء أو يطلق، وهو تخيير بين ~~إمساك بمعروف أو تسريح بحسان، فإذا طلق ثم أراد الرجعة فقد قدم على الطلاق، ~~فيكون قد فاء بعد الطلاق، وحينئذ فعليه أن يطأها عقب هذه الرجعة إذا طلبت ~~ذلك، ولا يمكن من الرجعة إلا بهذا الشرط، لأن الله خيره بين أن يفيء ~~فيمسكها بمعروف، وبين أن يسرحها بإحسان، فإذا أراد أن يرتجعها فيمسكها بغير ~~معروف لم يكن له ذلك. ولأن الله إنما جعل الرجعة لمن أراد إصلاحا بقوله ~~(وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) (2) . وإذا لم يكن مقصوده ~~حسن عشرتها بالوطء لم يكن مريدا للإصلاح، فلا يمكن من الرجعة. ولأن الله ~~لما خيره بين أن يفيء وبين أن يطلق، فإن طلق واستمر على ذلك فقد اختار ~~الطلاق، ولكن الله جعله أحق من غيره في العدة، فإذا ارتجعها كان قد اختار ~~إمساكها، لم يرد استمرار الطلاق، وحينئذ فيكون كمن لم يطلق، ولو لم يطلق ~~كان عليه أن يطأها إذا لم يختر الطلاق، كذلك هذا. ولأنه لو سوغ أن يرتجع ~~ولا يطأها أربعة أشهر، ثم يطلق ثم PageV01P372 # يرتجعها ولا يطأها أربعة لكان قد جعل له تربص سنة، وذلك خلاف القرآن، ~~وفيه إضرار عظيم بها، والله أعلم. # فصل # وهو سبحانه قال: (يؤلون من نسائهم) (1) . والإيلاء هو اليمين، وهو القسم، ~~وهو الحلف، يقال آلى وائتلى، كقوله (ولا يأتل أولو الفضل منكم) (2) ، ~~ويقال: تألى يتألى. وهو سبحانه عداه بحرف "من" فقال: (من نسائهم) ، وكذلك ~~الاستعمال، كقول عائشة رضي الله عنها: "آلى من نسائه شهرا" (3) ، وهذا ~~استعمال الناس كافة يقولون "آلى من نسائه". # فحكى ابن الأنباري ms0188 (4) عن بعض اللغويين أنه قال: "من" بمعنى في أو على، ~~والتقدير: يحلفون على وطء نسائهم، فحذف الوطء وأقام النساء مقامه، وقيل: ~~تقديره يولون أي يعتزلون من نسائهم. # وكلاهما ضعيف، لأن حروف المعاني لا يقوم بعضها مقام بعض عند البصريين، ~~لأنه لو صرح فقال: يحلفون على وطء نسائهم، لم يدل على أنه حلف لا يطأ، بل ~~هذا يفهم منه أنه حلف على الفعل، والحذف إن لم يكن في الكلام ما يدل عليه ~~كان غير جائز. # وأيضا فإنه يقال: اعتزل امرأته، لا يقال: اعتزل منها. لكن قوله (يؤلون من ~~نسائهم) كقوله (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) (5) و (والذين PageV01P373 # يظاهرون من نسائهم) (1) ، وكلاهما مضمن معنى الامتناع، فإن المولي يمتنع ~~باليمين من امرأته، وكذا المظاهر يمتنع بالظهار من امرأته، وكلاهما مقصوده ~~الامتناع والبعد والنفور منها والهرب منها والتخلص منها والفرار منها، فمن ~~هي لابتداء الغاية، ولكن الفعل هنا قد ترك. # وإذا قلت: سرت من مكة إلى المدينة فالمجرور بمن مبدأ الفعل، كذلك إذا ~~قلت: غضبت من هذا، أو خفت من هذا، أو حذرت من هذا، أو فزعت من هذا ونحو ~~ذلك، كان المجرور هو مبدأ الغاية للفعل المذكور، والمولي والمظاهر هو تارك ~~للمرأة، والمولي ممتنع من وطئها، وإنما يكون بسبب منها، وإن كانت قد تكون ~~مظلومة لكونه يبغضها ويغضب منها وينفر عنها، وإن كانت مظلومة، فبكل حال هو ~~ممتنع منها أي من وطئها، وهو نافر منها. لكنه في الإيلاء هو ممتنع باليمين، ~~وفي الظهار ممتنع بتحريمها لما شبهها بأمه التي تحرم عليه. ولهذا كانوا ~~يعدون هذا وهذا في الجاهلية طلاقا، إذ لم يكن في شرعهم كفارة يمين ولا ~~كفارة ظهار، فمتى حرمها فلا تحرم إلا بالطلاق، ومتى ألزمته اليمين ترك ~~وطأها، فالزوجة لا تكون ممنوعا من وطئها، فإذا زال لازم النكاح زال. # والله سبحانه في البقرة ذكر الأيمان ثم الطلاق، كما أنه في سورتي التحريم ~~والطلاق ذكر الأيمان ثم الطلاق، وفرق بين الأيمان والطلاق هاهنا وهاهنا، ~~وهو مما يبين الفرق بين الأيمان والطلاق، كما ms0189 قد بسط في غير هذا الموضع (2) ~~، ويبين أن الحلف بالطلاق من باب الأيمان لا من باب الطلاق، كما أن الحلف ~~بالنذر من باب الأيمان لا PageV01P374 # من باب النذر، وكذلك الحلف بالكفر من باب الأيمان لا من باب الكفر، وطرده ~~الحلف بالعتاق والظهار والحرام. # وهو سبحانه في سورة المائدة ذكر كفارة الأيمان، وفي سورة التحريم أحال ~~عليها فقال: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) (1) . وأما البقرة فنزلت قبل ~~المائدة، فذكر فيها النهي أن يجعلوا الله عرضة لأيمانهم (أن تبروا وتتقوا ~~وتصلحوا بين الناس) (2) ، فتضمنت النهي عن أن يجعل الحلف بالله مانعا من ~~فعل الخير، لكن هذا يقتضي في أول الأمر النهي عن الحلف على ذلك حين لم تشرع ~~الكفارة، فلما شرعت الكفارة صار النهي عن جعل هذه اليمين مانعة من فعل ما ~~يحبه الله، فإنه إما أن لا يحلف بها فيجعلها مانعة، وإما أنه إذا حلف لا ~~يجعل الحلف بها مانعا، فإن الكفارة مشروعة عن اليمين. # ولهذا تنوعت عبارات المفسرين للآية، قال أبو الفرج (3) : وفي معنى الآية ~~ثلاثة أقوال: # أحدها: أن معناها لا تحلفوا بالله أن لا تبرو ولا تتقوا ولا تصلحوا بين ~~الناس. هذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن جبير وإبراهيم والضحاك وقتادة ~~والسدي ومقاتل والفراء وابن قتيبة والزجاج في آخرين. # والثاني: أن معناها لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبروهم ~~وتصلحوا بينهم بالكذب. روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس. PageV01P375 # والثالث: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين مصلحين، فإن كثرة الحلف ~~ضرب من الجرأة عليه. هذا قول ابن زيد. # قلت: الحلف بالله كاذبا لا يجوز مطلقا، ولكن هذه الآية لم يقصد بها النهي ~~عن الحلف الكاذب، وأما الإكثار من الحلف به مع الصدق فإنه ليس بمحرم، ~~والآية تضمنت نهيا يوجب التحريم، والحلف بالله تعظيم له. وقد حلف النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - مرات متعددة، وأمر الله تعالى بالحلف في ثلاث مواضع، ~~قال تعالى: (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) (1) ، وقال تعالى: ~~(وقال الذين كفروا لا ms0190 تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) (2) ، وقال ~~تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) (3) . # وما يروى عن الله تعالى أنه قال: "لا تحلفوا بي صادقين ولا كاذبين" كلام ~~لا إسناد له عن الله تعالى، ليس مما أنزله الله على محمد، ولا نقل عن نبي ~~قبله بإسناد يعرف. وطائفة من النساك يستحبون أن لا يحلف أحد قط، وينهون عن ~~ذلك، ولكن ليس هذا شرع الإسلام. كما أن طائفة يستحبون الصمت مطلقا حتى عن ~~الكلام الواجب والمستحب، وليس هذا من شرع الإسلام، بل قال - صلى الله عليه ~~وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" (4) . فما ~~كان واجبا أو مستحبا فقوله خير من السكوت عنه، والسكوت عن الواجب ~~PageV01P376 # محرم. وما لم يكن خيرا فهو مأمور بالصمت عنه، فإنه عليه لا له، كما قد ~~بسط هذا في مواضع (1) . # وفي الحديث المرفوع: "لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون" ~~(2) . وهذا مبسوط في موضعه. # وعامة السلف والخلف على أن المراد بالآية المعنى الأول، وهو أن لا يجعل ~~الحلف بالله مانعا من فعل ما أمر الله به، فإن هذا حرام لا يجوز، لم يبح ~~الله أن يجعل الحلف به مانعا من فعل ما أمر به، بل ما أمر به هو يحبه ~~ويرضاه، وهو واجب أو مستحب، والحلف به على ترك ذلك يمين ليست بواجبة ولا ~~مستحبة، فلا يجوز أن يجعل ماليس بطاعة لله مانعا من طاعة الله. والله تعالى ~~لما أنزل الكفارة جعل الكفارة تحلة اليمين، كما ثبت عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو ~~خير، وليكفر عن يمينه" (3) . # وأما قبل إنزاله الكفارة فآيات البقرة ليس فيها كفارة، فقيل: كان يجوز ~~الحنث بلا كفارة، لكن هذا لم يثبت. وقيل: بل كان منهيا عن الحلف، ثم إذا ~~حلف كان عاصيا قد ورط نفسه بين ذنبين، والحنث منهي عنه، وجعل اليمين مانعة ~~من الخير منهي عنه. ثم ms0191 إن الله تعالى شرع الكفارة، فصار الحالف قادرا على ~~التكفير. # وهذه العبارة التي ذكرها أبو الفرج من أن معناها النهي، عن الحلف ~~PageV01P377 # بالله على ترك طاعته، يناسب ما كان الأمر عليه قبل الكفارة، وعبارة كثير ~~من المفسرين أن معناها إذا حلفت فلا تجعل حلفك بالله مانعا من فعل الطاعة، ~~وهذا يناسب الحال بعد الكفارة، والآية تتناول هذا وهذا. قال كثير من ~~المفسرين - واللفظ للبغوي (1) -: معنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببا ~~مانعا لكم من البر والتقوى، يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو بر فيقول حلفت بالله ~~أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البر. وذكر الحديث الذي في الصحيح (2) عن ~~مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: "من حلف بيمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه، وليأت ~~الذي هو خير". # وروى ابن أبي حاتم وغيره (3) ما في تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولا ~~تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع ~~الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. # قال ابن أبي حاتم (4) : وروي عن مسروق وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ~~والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري والحسن وعكرمة وطاوس ومكحول ومقاتل بن حيان ~~وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي نحو ذلك. وقال (5) : ~~حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل نا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه ~~عن عطاء قال: PageV01P378 # جاء رجل إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرت إن كلمت فلانا فكل ~~مملوك لي عتيق لوجه الله، وكل مال لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعل مملوكيك ~~عتقاء لوجه الله، ولا تجعل مالك سترا للبيت، فإن الله يقول: (ولا تجعلوا ~~الله عرضة لأيمانكم) الآية، قالت: فكفر عن يمينك. # وروى (1) عن السدي قال: وأما "تبروا" فالرجل يحلف أن لا يبر ذا رحمه، ~~فيقول: قد حلفت، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبره ~~ولا يبال بيمينه. # وعن ms0192 عبد الكريم الجزري (2) قال في قوله (أن تبروا وتتقوا) قال: التقوى ~~يحلف ويقول: قد حلفت أن لا أعتق ولا أصدق. # وعن سعيد بن جبير (3) في قول الله (وتتقوا وتصلحوا بين الناس) قال: كان ~~الرجل يريد الصلح بين اثنين، فيغضبه أحدهما أو يتهمه، فيحلف أن لا يتكلم ~~بينهما في الصلح، قال: أن تصلوا القرابة وتتقوا وتصلحوا بين الناس فهو خير ~~من وفاء اليمين في المعصية. # قال ابن أبي حاتم (4) : وروي عن السدي نحو ذلك، وقال: هذا قبل أن تنزل ~~الكفارات. # وأما تفسير اللفظ من جهة العربية، فقال الفراء (5) : والمعنى ولا ~~PageV01P379 # تجعلوا الله معترضا لأيمانكم. وقال أبو عبيد (1) : نصبا لأيمانكم. وقال ~~طائفة- واللفظ للبغوي (2) -: العرضة أصلها المد (3) والقوة، ومنه قيل ~~للدابة التي تصلح للسفر عرضة لقوتها عليه، ثم قيل لكل ما يصلح لشيء: هو ~~عرضة له، حتى قالوا للمرأة: هي عرضة للنكاح إذا صلحت له. والعرضة كل ما ~~يعترض له فيمتنع عن الشيء. ثم قال: ومعنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله ~~سببا، إلى آخر كلامه المتقدم. # قلت: فعلى هذا يكون التقدير لا تجعلوا الله معروضا لأيمانكم تقصدون الحلف ~~به لئلا تفعلوا الخير، ويكون قوله (أن تبروا وتتقوا) من تمام ما نهوا عنه، ~~أي لا تجعلوا الله محلوفا به لئلا تفعلوا الخير، فتجعلوا ما يجب من تعظيم ~~حقه والحلف به مانعا لكم من فعل ما يحبه ويرضاه من البر والتقوى والإصلاح ~~بين الناس. فإذا قيل: هو عرضة لكذا، أي هو أهل أن يتعرض إليه بكذا، فلا ~~تجعلوه عرضة لليمين أن تبروا وتتقوا، أي كراهة أن تبروا وتتقوا. هذا تقدير ~~البصريين. # وتقدير الكوفيين لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا (4) ، أي السبب الداعي لكم ~~إلى أن يكون عرضة لأيمانكم كراهة فعل الخير، فلما كرهتم فعل ما يحبه ~~جعلتموه عرضة ليمينكم، لتكون اليمين به مانعة لكم من فعل ما كرهتموه من ~~الخير، فهذا لا يجوز. # وعلى ما قال السدي المعنى: لا تجعلوا الله معترضا بينكم وبين PageV01P380 # ما أمر به. لكن لفظ الآية (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن ms0193 تبروا) ، ~~ولم يقل "بينكم"، فتضمن العرضة معنى المنع، لأن المعترض بين الشيئين مانع ~~بينهما، ويكون المعنى لا تجعلوا الله مانعا لكم من البر والتقوى، ويكون (أن ~~تبروا وتتقوا) منصوبا (1) بالعرضة. لكن هذا ضعيف في العربية، فإنه قال: ~~(عرضة لأيمانكم) ، فدل على أنه معروض لليمين، وهو فعلة بمعنى المفعول، لا ~~بمعنى الفاعل، وهو المعارض المانع. # (آخر ما كتب فيها، والحمد لله وحده. بلغ مقابلة بالأصل خط المؤلف، ومنه ~~نقل. والحمد لله رب العالمين) . # *** PageV01P381 # فصل في الظهار # من كلام شيخ الإسلام، إمام الأئمة الأعلام، تقي الدين، أوحد العلماء ~~العاملين أبي العباس ابن تيمية رحمة الله عليه # مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير # PageV01P383 # بسم الله الرحمن الرحيم # رب يسر وأعن # الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات ~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. # وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ~~صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. ### | فصل في الظهار # قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله ~~يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1) الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن ~~أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ~~وإن الله لعفو غفور (2) والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ~~فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) ~~فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ~~ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم ~~(4)) (1) . # وقد عرف أنها نزلت في خولة بنت ثعلبة لما تظاهر منها أوس بن الصامت (2) ، ~~وكان الظهار والإيلاء طلاقا عندهم، فلما أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وجادلته واشتكت إلى الله أنزل هذه السورة. وكانت قد قيل لها: إنه ~~PageV01P385 # وقع بك الطلاق، على ما كانت عادتهم، وذلك أن موجب هذا اللفظ. # أنها تحرم عليه أبدا ms0194، لأنه شبهها بأمه يقصد تحريمها، فمقصوده تحريمها، ~~والتحريم لا يكون إلا بزوال الملك بالطلاق، فلهذا كان طلاقا. # والإيلاء هو حلف على أنه لا يطأها، ولم يكن عندهم لليمين كفارة، فكانت ~~اليمين تمنعه من وطئها، والمرأة لا تكون محرمة الوطء أبدا، فتقع به الطلاق. # فالظهار أوجب تحريم وطئها، والإيلاء أوجب تحريم وطئها، وكلاهما ينافي ~~موجب النكاح، فإن النكاح لا يكون إلا مع حل الوطء. # فلهذا كانوا يرون هذا وهذا طلاقا، حتى أنزل الله تعالى في الظهار الكفارة ~~الكبرى، والمولي خيره بين أن يفيء وبين أن يطلق، فإنه إذا فاء ورجع كان له ~~مخرج بالكفارة، كما قال: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) (1) ، وقال: (لم ~~تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) (2) . # قال سبحانه: (ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) (3) ، كما قال ~~في الآية الأخرى: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) (4) . # وهم كانوا يعرفون أنهم ما هن أمهاتهم، لكن شبهوهن بهن، فأقاموا الزوجة ~~مقام الأم، وجعلوها مثل الأم، فبين الله تعالى بطلان هذا التشبيه، وأن الأم ~~هي التي ولدتك، والزوجة لم تلد، فامتنع أن تكون أما أو مثل الأم. ~~PageV01P386 # ثم قال: (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) (1) . فالمنكر ضد المعروف، ~~والزور الكذب، والكذب يكون في الأخبار، والمنكر هو المكروه المذموم المعيب، ~~وذلك يكون في الأفعال والإنشاءات، كالأمر والنهي وصيغ العقود، كقوله: أنت ~~علي كظهر أمي، تضمنت إنشاءا وإخبارا، فكانت منكرا من القول باعتبار ما فيها ~~من الإنشاء، وكانت زورا باعتبار ما فيها من الإخبار، فإن كونه يجعل زوجته ~~الحلال التي ما ولدته مثل أمه الحرام التي ولدته أمر منكر مكروه بغيض، تنفر ~~عنه القلوب لما فيه من القبح، وهو زور أيضا لما فيه من الكذب. فدل القرآن ~~على أن المنكر من القول والزور لا يقع به طلاق، وإن قصد به الإنسان الطلاق، ~~كما كانوا يقصدون الطلاق بهذا القول. ودل القرآن على أنه ليس كل لفظ يقصد ~~به الإنسان الطلاق يقع به الطلاق، بل لابد أن ms0195 يكون ذلك القول ليس منكرا من ~~القول ولا زورا. # فكان في هذا دلالة على مذهب الجمهور من السلف والخلف أن صيغة الحرام لا ~~يقع بها طلاق إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، فإن هذا هو مثل قوله: أنت علي ~~كظهر أمي، لكنه هنا صرح بالحكم الذي هو مقصود التشبيه، وهو منكر من القول، ~~حيث جعل الحلال حراما، وهو زور أيضا، فإن الحلال لا يكون حراما. وقول من ~~قال: إنه طلاق هو شبيه بقولهم في الجاهلية: إن الظهار طلاق. # بل دل هذا على أن الحرام لا يكون طلاقا ولو قصد به الطلاق، كما أن الظهار ~~لا يكون طلاقا وإن قصد به الطلاق. وقد نص على ذلك أحمد وغيره. PageV01P387 # وللناس هنا ثلاثة أقوال (1) : # فذهب بعض المالكية إلى أن الظهار إذا قصد به الطلاق كان طلاقا كالحرام، ~~وهذا قياس قولهم، لكنه هو قولهم في الجاهلية، وهذا رجوع إلى قول أهل ~~الجاهلية. # وذهب طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه إذا قصد بالحرام ~~الطلاق كان طلاقا، خلاف الظهار. وهؤلاء أرادوا أن يجمعوا بين نص الظهار ~~وبين ما اعتقدوه قياسا في الكنايات، وأنه أي لفظ قصد به الطلاق وقع، ~~فتناقضوا؛ فإن لفظ الظهار إذا قصد به الطلاق لم يقع، ولا فرق بينه وبين لفظ ~~الحرام. # فإن قالوا: اللفظ إذا كان صريحا في حكم، ووجد نفاذا فيه، لم يجز جعله ~~كناية في غيره. # قيل لهم: فهذا يدل على أنه ليس كل ما احتمله اللفظ كان كناية فيه، بل ~~لابد أن يكون صريحا في حكم آخر، وحينئذ فلم قلتم: إن الحرام ليس بصريح في ~~الظهار كلفظ الظهار؟ وما الفرق بينه وبين لفظ الظهار؟. # وأما أحمد فإن نصوصه المتواترة عنه أنه يجعله صريحا في الظهار، # لا يقع به الطلاق ولو نواه به. # وأيضا فإما أن يجعل الظهار كناية في الطلاق، وإما أن لا يجعل، فمن جعله ~~كناية فيه فقد أتى بقول أهل الجاهلية الذي أبطله القرآن، PageV01P388 # ومن لم يجعله كناية فإما أن يقيس عليه ما كان ms0196 في معناه فلا يقع به طلاق، ~~وإما أن لا يقيس، فإن لم يقس فإنه يقول: اللفظ إذا كان صريحا في حكم ووجد ~~نفاذا لم يكن كناية في غيره، وجعلوا هذا هو عمدتهم في الفرق بين الطلاق ~~بالظهار والطلاق بغيره، فيقولون: الظهار صريح في حكم، وقد وجد نفاذا فيه، ~~فلا يكون كناية في الطلاق، بخلاف غيره من الألفاظ، مثل لفظ الحرام والخلية ~~والبرية، فإن تلك ليست صريحة في حكم، فلهذا كانت كناية في الطلاق. # فيقال: هذا الفرق باطل من وجوه: # أحدها: أن قول القائل "اللفظ إذا كان صريحا في حكم ووجد نفاذا لم يكن ~~كناية في غيره" دعوى مجردة لم يقم عليها دليلا، ولم يثبتها بنص ولا إجماع ~~ولا قياس صحيح. # الوجه الثاني: أن يقال: هذه الدعوى باطلة، فإن اللفظ الصريح في حكم ليس ~~من شرطه أن لا يكون مستعملا في غيره، لا مطلقا ولا مقيدا، بل ولا يجب أن ~~يكون نصا فيه، بل إذا كان ظاهرا فيه بحيث يكون هو المفهوم عند الإطلاق فهو ~~صريح فيه، وإن كان محتملا لغيره، وإن كان قد يراد به غيره مع التقييد ~~والقرينة، وحينئذ فإذا كان صريحا في حكم فمعناه أن المفهوم منه عند الإطلاق ~~هو المعنى المقتضي لذلك الحكم. كلفظ التطليق، هو عند الإطلاق يفهم منه ~~إيقاع الطلاق، وإن قيل: إنه صريح في المعنى الموجب للحكم فهو صريح في ~~الإيقاع المقتضي للوقوع، وكذلك إن قيل: هو صريح فيهما. وإذا كان هذا معنى ~~الصريح أمكن أن يكون مستعملا في معنى آخر يريده به المتكلم مع القرينة، ~~وحينئذ فلا يكون صريحا في معنى مانعا عن استعماله في معنى آخر، كسائر ~~الألفاظ التي هي ظاهرة في # PageV01P389 # معنى وتستعمل في غيره مع القرينة. # الوجه الثالث أن يقال: عامة الألفاظ الصريحة في معنى وحكم تكون كناية في ~~غيره مع وجود النفاذ، كلفظ التطليق، فإنه صريح في الإيقاع إيقاع الطلاق، ثم ~~إذا قال: أنت طالق من وثاق، أو من زوج كان قبلي، أو من نكاح قبل هذا، ووصله ~~بهذا ms0197 لم يقع بها طلاق، وهذا مما لا أعلم فيه نزاعا، ولو قصد ذلك بقلبه ~~فقال: أنت طالق، ومراده من وثاق، أو من الجبل الذي كنت مقيدة به، أو من زوج ~~قبلي، أو مني قبل هذا النكاح، فإنه لا يقع به الطلاق في الباطن، بل يدين ~~فيما بينه وبين الله. وهل يقبل في الحكم؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، ~~فاللفظ صريح، ووجد نفاذا، ومع هذا كان كناية في الطلاق من الوثاق. # وفي حديث فيروز الديلمي (1) لما خيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ~~زوجتيه، وكان قد جمع بين الأختين، قال: فعمدت إلى إحداهما، فطلقتها. # أراد بتطليقها إرسالها وتسريحها، وإلا فإحداهما قد حرمت عليه، لا تحتاج ~~إلى طلاق. وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد وغيرهما فسخ لا طلاق، وقد سماها ~~طلاقا. # وكذلك لو قال في الخلع: هي طالق تالق، كان خلعا موجبا للبينونة، لأنه ~~قيده بالعوض، فتكون فرقة بائنة، كما لو كان بغير لفظ الطلاق في أحد قولي ~~العلماء، كما قد بسط في موضعه. PageV01P390 # وكذلك لفظ الحرية الذي يقولون: إنه صريح في العتق، من نوى به أنه عفيف ~~غير فاجر، لم يقع به العتق، بل يقبل منه، لاسيما عند القرينة، كما لو قيل ~~له: ما حال مملوكك هذا؟ وكيف دينه وخلقه؟ # فقال: هو حر. فهذه القرينة تبين أنه أراد أنه عفيف، لم يرد إعتاقه، فلا ~~يعتق، وإن قيل: هو صريح وقد وجد نفاذا. # وكذلك لفظ النكاح والتزويج، هما صريح في العقد، ثم إذا قال: أنكحت أو ~~زوجتك فلانة، ومع هذا فهو محتمل للخبر عن عقد ماض. وكذلك سائر صيغ العقود، ~~إذا نوى ذلك كان محتملا، وإن كانت القرينة تدل على ذلك قبل منه. # وأيضا فلو قيل: زوجتك بهذه، فهو محتمل قرنتك بها، كما في قوله: (أو ~~يزوجهم ذكرانا وإناثا) (1) . وهذا يراد باللفظ مع ما يدل على ذلك، كما لو ~~جمع بين الصغار بين كل صغير وصغيرة في موضع قيل: زوج هذه بهذا وهذه بهذا، ~~أي اقرنها به. # وقد يقال: أنكحتك فلانة، بمعنى ms0198 مكنتك من سبيها وأخذها، كما قال الشاعر: # ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال (2) # وكذلك لفظ الوقف، يراد به تحبيس الأصل، وقد يقال: وقفت هذا، أي وقفته في ~~السوق لأبيعه. وكذلك ألفاظ الإيلاء، إذا قال: والله لا وطئت، فقد يراد: لا ~~وطئتك برجلي، ولو أراد ذلك لم يكن موليا في الباطن، وفي قبوله في الحكم ~~نزاع. PageV01P391 # فعامة الألفاظ الصريحة تكون كناية في معنى آخر، مع كون المحل قابلا لمعنى ~~الصريح. فعلم أن هذه الدعوى باطلة، وإنما ذكرت في الظهار ليفرق بها، وليس ~~هو فرقا صحيحا. # الوجه الرابع: أنه لو سلم أن الأمر كذلك، فلا ريب أن لفظ الظهار كان في ~~عرفهم يراد به الطلاق، أو يحتمل أن يراد به الطلاق، فكان صريحا في الطلاق ~~أو كناية فيه، والأرجح أنه كان صريحا فيه، فإنه إذا كان ظاهرا أوقعوا به ~~الطلاق، ولم يسألوه عن نيته، فإن مقتضاه تحريم الوطء على التأبيد، والزوجة ~~لا تكون كذلك، وسواء كان صريحا أو كناية فالشارع أبطل إيقاع الطلاق به. وإن ~~قصدوه دون غيره من ألفاظ الصرائح والكنايات، فلابد من فرق بينه وبين غيره ~~لأجله فرق الشارع بينهما، وإلا فلم أبطل وقوع الطلاق بهذا اللفظ دون غيره ~~من الألفاظ المحتملة؟ ولم جعل له حكما آخر غير وقوع الطلاق؟ فذلك المعنى إن ~~كان مختصا بهذا اللفظ، وإلا قيس به ما كان في معناه، ومعلوم أن قوله "أنت ~~علي حرام" في معنى "أنت علي كظهر أمي"، فيجب أن يقاس به. # فإن قال هؤلاء: نحن نقيس به لفظ التحريم، لأنه في معناه. # قيل: وإن كان هذا في معناه، فالشارع إنما علل بكونه منكرا من القول ~~وزورا، فيجب أن لا يقع الطلاق بقول منكر ولا بقول زور، وإن كان صاحبه قصد ~~الطلاق. وهذا يقتضي أن لا يقع الطلاق بلفظ محرم. والمطلق في الحيض مطلق ~~بلفظ محرم، وهو منكر من القول، فيجب أن لا يقع به الطلاق، وكذلك المطلق ~~ثلاثا بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقد قد أتى بمنكر ms0199 من القول، فيجب أن لا ~~يقع به، وكلاهما أتى بزور، فإن الزور الكذب، وكلاهما اعتقد أنه يملك # PageV01P392 # ما أوقعه، وذلك زور وكذب، فلم يملكه الله إلا الطلاق المباح، وأما الحرام ~~فلم يملكه إياه. # وفي الآية سؤال، وهو أن الله قال: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن ~~أمهاتهم) (1) ، كما قال في الآية الأخرى: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون ~~منهن أمهاتكم) (2) . والمتظاهر ما قال: إن زوجته أمه، لكنه شبهها بها، وهو ~~لم يقل: "ما هن مثل أمهاتهم"، بل قال: "ما هن أمهاتهم". # فيقال: المتظاهر مقصوده تحريم الوطء، وقوله "أنت علي كظهر أمي" معناه: ~~وطؤك مثل وطء أمي، فمقصوده تشبيه الوطء بالوطء، وأن يكون وطؤها مثل وطء ~~أمه، وذلك يقتضي أن تكون حراما، ووطؤها لا يكون مثل وطء أمه إلا إذا كانت ~~من جنس أمه، وإلا فإذا تباينت الحقائق تباينت أحكامها، فكان موجب قولهم أن ~~تكون الأزواج من جنس الأمهات، كما تكون أم الأب والأم من جنس الأم في ~~التحريم والمحرمية، فبين الله تعالى أن هذا الجنس ما هو هذا الجنس، بل جنس ~~آخر، فقال: (ما هن أمهاتهم) ، وقال (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن ~~أمهاتكم) ، كما قال (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) (3) . وهم لم يكونوا ~~يقولون: هو مولود منه، بل جعلوه من جنس المولود، فجعلوا حكمه حكم المولود ~~منه الذي هو الابن، فقال تعالى: هذا ما هو من جنس الابن، فلا يكون حاله ~~حاله. PageV01P393 # والمعقول من الكتاب والسنة أنه إذا كان إنما لم يقع به الطلاق لأنه منكر ~~من القول وزور، فكل قول هو منكر أو زور لا يقع به طلاق، والطلاق المحرم ~~منكر من القول، لأنه محرم، وكل محرم منكر، وكونه منكرا يوجب أن لا يترتب ~~أثره عليه. # وقد يقال: هو زور، لكونه اعتقد أنه يملك إيقاعه، وهو كاذب في هذا ~~الاعتقاد، فإن الله لم يملك أحدا ما هو محرم، فكل قول أو فعل محرم فإن الله ~~نهى عنه، ولم يأذن فيه، ولم يجعل العبد مالكا له. # والظهار لما كان محرما ms0200 لم يملك أحد أن يظاهر، ولم يبحه، وإذا ظاهر لم ~~يترتب على الظهار موجبه، وهو التحريم الموجب لزوال الملك ووقوع الطلاق، كما ~~كانوا عليه في الجاهلية، بل جعل عليه كفارة إذا اختار بقاء امرأته ووطئها، ~~لكونه حرمها، وهو قد فرض التحلة، وإن اختار أن يفارقها ويطلقها فقد أنشأ ~~طلاقا شرعيا مباحا، وذلك له، ولا كفارة عليه، بل عليه أن يستغفر الله من ~~الظهار، فإنه ذنب. # والكفارة لا تجب بكل ذنب، كما لو حرم الحلال بيمين أو غير يمين فإنه منهي ~~عن ذلك بقوله: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) (1) ، وقوله: (لم تحرم ما ~~أحل الله لك) (2) ، ومع هذا فلا كفارة عليه إلا إذا عاد فاستحل ما حرمه، ~~دون ما إذا اجتنبه، وذلك أنه إذا اجتنبه وطلق المرأة، ففي هذا من الحرج ~~والضرر عليه ما يشبه جزاء ذلك الذنب، فلابد من التكفير أو اجتناب ما حرمه، ~~وهو في المرأة بطلاقها، PageV01P394 # وكانوا قبل أن يشرع الله الكفارة يتعين اجتناب ما حرموه، لا يباح بكفارة. # وهذا الذي ذكرناه من أن الكفارة لا تجب إلا إذا عاد، هو قول جمهور ~~المسلمين من السلف والخلف (1) ، وحكي عن طائفة أن الكفارة تجب بمجرد ~~الظهار، حكي ذلك عن مجاهد والثوري. قال الحاكي عنهما: والمراد من العود هو ~~العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار. # وهذا القول في تفسير العود هو معروف عن ابن قتيبة، فإنه لما أنكر على من ~~قال: إنه لا يقع بلفظ واحد، قال (2) : وإنما تأويل الآية أن أهل الجاهلية ~~كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في ~~الجاهلية، وأنزل قوله: (والذين يظاهرون من نسائهم) يريد في الجاهلية (ثم ~~يعودون لما قالوا) في الإسلام، أي يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام. ~~وهذا كما قد قيل في قوله في الصيد: (عفا الله عما سلف) أي في الجاهلية، ~~(ومن عاد) أي في الإسلام (فينتقم الله منه) (3) . # قلت: وهذا قول ضعيف، فإنه قال: (ثم يعودون لما قالوا) ، فلابد ms0201 من عود بعد ~~الظهار، والعود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية هو نفس الظهار. PageV01P395 # وأيضا فأول ظهار كان في الإسلام أنزل الله فيه هذه الآية، ولم يكونوا بعد ~~قد نهوا عن الظهار حتى يقال: إنه كان عائدا إلى ما نهوا عنه. # وأيضا فليس من شرط ثبوت الظهار أن يكون قد تظاهر من امرأته في الجاهلية، ~~ولو كان ما ذكروه صحيحا لم يثبت إلا فيمن تظاهر منها في الجاهلية، ثم عاد ~~إلى ذلك في الإسلام. وهذا معلوم البطلان باتفاق المسلمين. # وأيضا فأوس بن الصامت لم يكن قد تظاهر من امرأته قبل ذلك، ولو كان قد ~~تظاهر منها لكان ذلك طلاقا عندهم. # وأيضا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله هل تظاهرت منها قبل هذا. # وأيضا هو لم يقل: "والذين تظاهروا منكم" بصيغة الماضي، بل قال: ~~"يظاهرون"، وهذا يتناول الحالف بالاتفاق. # وقريب من هذا القول قول الشافعي: إنه إذا أمسكها عقب الظهار زمانا يتسع ~~للطلاق ولم يطلقها فيه لزمته الكفارة. والعود عنده هو مجرد إمساكها هذا ~~الزمن اليسير بلا طلاق، فن طلقها عقب الظهار، أو مات أحدهما عقب الظهار، ~~فلا كفارة. # وهذا القول لم ينقل عن أحد من السلف، وهو ضعيف أيضا، فإنه قال: (ثم ~~يعودون لما قالوا) ، و"ثم" توجب الترتيب، وتقتضي المهلة، فلابد أن يحصل بعد ~~الظهار عود مرتب عليه في زمان متمهل فيه، ولو كان العود لا يكون إلا عقب ~~الظهار لقال: "فيعودون إلى ما قالوا". # وأيضا فإن العود يقتضي إنشاء فعل أو كلام، ومجرد الإمساك # PageV01P396 # ترك محض، واستصحاب لحال، وهذا لا يسمى عودا. # وأيضا فإن الطلاق عقب الظهار قد يكون محرما، لكونه ليس زمن طهر لم ~~يجامعها فيه، بل قد تكون المرأة حائضا، أو موطوءة في الطهر، فلا يحل له ~~طلاقها، ولا له غرض في إمساكها، بل هو يختار طلاقها، لكن الشرع أمره أن ~~يؤخر الطلاق إلى طهر لم يجامعها فيه، فكيف يكون هذا مختارا لها عائدا إلى ~~ما قال؟ مع كمال بغضه وكراهته لها. # وأيضا فن طلقها ms0202 طلاقا رجعيا فهي زوجه، ترثه ويرثها، وذلك لا ينافي بقاء ~~النكاح، وإن طلقها غير رجعي فذلك منهي عنه، كما دل عليه الكتاب والسنة. # وأيضا فقد يقف مترددا هل يمسكها أو يفارقها؟ فكيف يجعل عائدا بمجرد ترك ~~الطلاق؟. # وصاحب هذا القول إنما قاله لما رأى قول من قال هو الوطء أو العزم عليه، ~~فيه إشكال، ورأى أن الظهار اقتضى خروجها من ملكه، فإن طلقها فقد أنفذ ~~موجبه، وإن لم يطلقها فقد ناقض موجب الظهار، فقد عاد إلى ما قال. # وليس كذلك، فقد يكون في زمن التردد والتطويل يعود أو يطلق، وإنما يكون ~~عائدا إذا أتى بخصيصة النكاح، وهي الوطء. # والذي عليه عامة السلف والفقهاء أن العود هو الوطء أو العزم عليه، وجمهور ~~السلف قالوا: هو الوطء، كذلك قال طاوس والحسن والزهري وقتادة، وهو قول أحمد ~~وغيره. وقالت طائفة: هو العزم على الوطء، كما يحكى عن أبي حنيفة ومالك ~~وطائفة من أصحاب أحمد. # PageV01P397 # وسبب النزاع في ذلك أن عليه إخراج الكفارة قبل الوطء بنص القرآن، قال ~~تعالى: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) . # وأما قول من قال: هو تكرير لفظ الظهار، فهو من أضعف الأقوال أيضا، فإن ~~ذلك مخالف لأصول الشرع، إذ كان القول المحرم تحرم منه المرة الواحدة ~~والمرتان والثلاث، وكلما كرره كان أعظم إثما. والأحكام المعلقة به إنما هي ~~معلقة بجنسه، كالقذف واليمين الغموس وشهادة الزور، وتحريم الحلال بغير ~~الظهار، إما بصيغة قسم وإما بغير ذلك، وكذلك الكفر والردة، وأمثال ذلك ~~الحكم المعلق بهذه معلق بجنسها، وإذا غلظ القول وكرره تغلظ الإثم وتكرر. ~~لكن ليس فيها ما يقال: إنه لا يلزمه بالمرة الواحدة حكم، لكن إن كرره لزمه ~~الحكم، وإنما يقال هذا فيمن لزمه الحكم أولا، أو تاب ورجع، ثم عاد إلى ما ~~نهي عنه، فهذا قد يختلف حكمه، فكذلك ما فعله أولا قبل العلم بالتحريم، أو ~~فعله ناسيا أو مخطئا، فعفي عنه. فهذا قد يقال فيه: إنه إذا عاد لزمه الحكم، ~~لكون العود ليس من جنس الأول، بل الثاني ms0203 فعله عالما عامدا. # وهذا كما قد اختلف العلماء فيمن تاب من الردة ثم عاد، وهو الذي تكررت ~~ردته، فهذا فيه نزاع (1) ، كما قيل في الصيد: (عفا الله عما سلف ومن عاد ~~فينتقم الله منه) (2) ، فهذا عود بعد العفو، قيل (3) : إنه عفي عما كان في ~~الجاهلية وقبل التحريم، ومن عاد بعد النهي فينتقم الله منه. وقيل: عفا الله ~~عن أول مرة بالجزاء، ومن عاد ثانيا لم يحكم PageV01P398 # عليه وقيل له: ينتقم الله منك. # وهذا قول ضعيف، والجمهور على أنه يحكم عليه ثانيا وثالثا، ومن قال: لا ~~يحكم عليه ثانيا، قال: لأنه قد تاب من الأول، وعفي عنه بالجزاء. ولم يقل ~~أحد: إن أول مرة لا حكم فيه، كما قيل مثل ذلك في الظهار. # وأما إذا تكلم المرتد بالكفر مرة أو مرتين أو ثلاثا، فإنه يوجب تغليظ ~~الردة، وهو كالكافر الأصلي، إذا تكلم بالكفر مرة بعد مرة لا يقال: إن الأول ~~لا حكم له، وإنما الحكم إذا كرره. # وكذلك القاذف إذا قذف مرة بعد مرة، فالقذف الأول موجب للحد، ولكن قد ~~يتنازعون في الثاني هل يدخل في الأول؟ وباب التداخل إذا كان الجميع حقا ~~لله، وهي من جنس واحد دخل بعضها في بعض، كما لو زنى ثم زنى، أو سرق ثم سرق، ~~ولم يعاقب على الأول، فإنه إنما يقام عليه حد واحد، لأن الحد مشروع في جنس ~~هذا الفعل، فقليله وكثيره في الحد سواء جعل الشارع القطع حدا لمن سرق ~~النصاب أو أضعاف النصاب. وكذلك حد الزنا لمن أولج مرة أو مرات. # وأما الشرب فقد قيل: إنه من هذا الباب، وليس كذلك؛ فإن حده غير مقدر، بل ~~من شرب كثيرا ومرات فإنه يزاد في عقوبته بحسب الاجتهاد. وهذا بناء على أن ~~الأربعين الزائدة على الأربعين يفعلها الإمام تعزيرا بحسب الاجتهاد، كما ~~يقوله الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (1) . PageV01P399 # فهذه أصول الشرع كلها تبين أن الجنس المحرم لا يسقط حكم المرة، ويغير ~~الحكم في المرتين، فمدعي مثل ذلك في الظهار ادعى على الشارع ما ms0204 هو مخالف ~~لأصوله وقواعده ومقاصده المعروفة. # وهؤلاء إنما أتوا من لفظ (ثم يعودون لما قالوا) ، ظنوا أن المراد بذلك أن ~~يكرر قوله الأول، وهذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى، فلا يقال لمن ~~كرر قوله: إنه عاد إلى قوله، إلا إذا اختص الثاني بمعنى يقتضي أنه لا يعود، ~~مثل أن يستتاب من قول ثم يعود إليه، فيقال: عاد إلى قوله؛ لأن التوبة تقتضي ~~رجوعه عنه، فإذا نقضها فقد عاد إلى الذنب. وكذلك إذا نهي عن فعل أو قول ثم ~~فعله وقاله. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما ~~نهوا عنه) (1) ، وقال تعالى في حق بني إسرائيل: (عسى ربكم أن يرحمكم وإن ~~عدتم عدنا) (2) أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وإن عدتم إلى ~~التوبة عدنا إلى الرحمة. فأما من كرر القول أو الفعل، مثل من يسبح في ~~الصلاة ثلاثا أو أكثر من ذلك، أو يستغفر مرات، فإنه لا يقال في المرة ~~الثانية والثالثة: إنه عاد. # فهؤلاء غلطوا في فهم القرآن واللغة التي بها نزل القرآن، ولهذا قال ~~الزجاج (3) : هذا قول من لا يدري اللغة. ومثل هذا يقع كثيرا ممن يدعي ~~التمسك بظاهر القرآن والحديث، وقد غلط في ذلك، ليس ما ادعاه هو الظاهر الذي ~~دل عليه اللفظ. # ولفظ الإعادة والعود حيث استعمل لابد أن يكون بينه وبين الابتداء ~~PageV01P400 # نوع فرق، حتى يتميز المعاد من المبتدأ، فأما إذا كان هو إياه من كل وجه ~~فهذا لا يقال فيه: إنه أعاده، ولا عاد إليه. # وقد يقال لمن فعل فعلا وقطعه لتعب أو شغل ونحو ذلك: عد إلى ما كنت، وعد ~~إلى حالك، لأن الأول حصل عقبه فتور تميز به عن الثاني، فلو وصل الثاني ~~بالأول لم يقل: إنه عاد. فإذا قال: أنت على كظهر أمي، أنت على كظهر أمي، أو ~~قال: والله لا أطأك، والله لا أطأك، لم يقل: إن قول الثاني عود إلى الأول، ~~بل هو تكرير محض. # وأيضا فالذي قالوه لو كان صحيحا ms0205 محتملا إنما يجب الجزم به إذا كانت ما ~~مصدرية، أي ثم يعودون إلى قولهم، وليس في الآية ما يوجب ذلك، بل يجوز أن ~~تكون ما موصولة، أي إلى الذي قالوه. # وهذا أظهر، فإن كونها موصولة أكثر في الكلام، ولفظ العود يستعمل في مثل ~~هذا، كقوله: (ثم يعودون لما نهوا عنه) (1) . # وهذا منشأ غلط طائفة من الناس في الآية، فإنهم ظنوا أن ما مصدرية، وأن ~~المعنى: ثم يعودون لقولهم، ولم يفهموا معنى كونها موصولة. # ثم هؤلاء الذين ظنوا أنها مصدرية قالوا أقوالا كلها باطلة، فقال داود ومن ~~وافقه (2) : إن العود تكرير القول. وهذا القول لا يعرف عن أحد قبلهم، وقيل: ~~إنه مروي عن بكير بن الأشج. # وقال طائفة من أهل العربية ما قاله ابن قتيبة من أن قوله: يتظاهرون في ~~الجاهلية، ثم يعودون إليه في الإسلام. وهو قول فاسد أيضا. PageV01P401 # وقال أبو علي الفارسي قولا ثالثا، قال: ليس الأمر كما ادعاه من قال ~~بتكرير اللفظ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه، وقيل: سميت ~~الآخرة معادا، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. # وقال الهذلي (1) : # وعاد الفتى كالطفل ليس بقائل سوى الحق شيئا واستراح العواذل # وهذا أيضا ضعيف من وجوه: # أحدها: أن لفظ العود لابد أن يتضمن رجوعا عن شيء أو إلى شيء، فقوله "وعاد ~~الفتى كالطفل"، وقوله: ### | .... # فعادا بعد أبوالا (2) # وفي الحديث (3) : "تعاد روحها" هو رجوع عن حال كانوا عليها إلى حال أخرى. ~~فأما الأمر المبتدأ إذا فعله الإنسان فلا يقال: إنه عاد إليه. # وأيضا فما ذكروه إنما هو في لفظ العود مجردا، فماذا قيل: عاد إلى كذا، ~~ورجع إليه، وعاد فيه، كما قال: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون ~~لما نهوا عنه) (4) ، وقال أصحاب الكهف: (إنهم إن يظهروا عليكم PageV01P402 # يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20)) (1) . وقال النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" (2) . فهذا ~~ونحوه إنما يعرف إذا عاد إلى مثل ما كان عليه أولا. والمعاد ms0206 سمي معادا لأن ~~الله يعيد الخلق فيه بالنشأة الثانية، كما قال: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم ~~يعيده) (3) ، وقال: # (كما بدأنا أول خلق نعيده) (4) ، وقال: (كما بدأكم تعودون (29)) (5) . # وأيضا فإنهم يعودون إلى ربهم، كما يقال: إنهم يرجعون إليه ويردون إليه، ~~كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع. # وأيضا فهب أن لفظ العود لا يقتضي ذلك، فلابد من تفسير قوله (ثم يعودون ~~لما قالوا) . وأبو علي لم يذكر معنى الكلام. # وقد قيل فيها قول رابع وخامس على أصل من يقول: إنها مصدرية، قال الزجاج ~~(6) : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. # فجعل اللام لام كي، لم يجعلها معدية ليعودون. # وأضعف منه قول من يقول (7) : هو محمول على التقديم والتأخير، والمعنى: ~~والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، أي يعودون إلى ما كانوا عليه من ~~الجماع، فتحرير رقبة من أجل ما قالوا. PageV01P403 # وهذا فاسد من وجوه: # أحدها: أنه لم يقل "فلما قالوا تحرير رقبة" أو "تحرير رقبة لما قالوا"، ~~بل قال: (ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) . ولا يجوز أن يقال: "لما قالوا ~~فتحرير رقبة"، فإن الفاء هي جواب الشرط، والشرط هو ما في الاسم الموصول من ~~معنى الشرط، والاسم الموصول أو النكرة الموصوفة - إذا كان في الصلة أو ~~الصفة معنى الشرط - دخلت الفاء في خبر المبتدأ، كقوله: (الذين ينفقون ~~أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم) (1) ، ومثله قوله: ~~(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (2) ، وقوله: (والذان يأتيانها منكم ~~فآذوهما) (3) . ولو دخلت "إن" على المبتدأ ففيه نزاع، والقرآن قد جاء ~~بالفاء في قوله: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) (4) . فقوله ~~(والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) (5) بمنزلة ~~قوله: "من تظاهر ثم عاد فعليه تحرير رقبة". ولا يجوز أن يقال: "لما عاد ~~فعليه تحرير رقبة". # وأيضا فتحرير الرقبة لم يجب لمجرد العود، بل الموجب له الظهار، والعود ~~شرط، أو الموجب مجموعهما، فقولهم: إن الرقية إنما وجبت لأجل العود فقط غلط. # وقول الزجاج: ثم يعودون إلى إرادة الجماع ms0207 من أجل ما قالوا، PageV01P404 # فاسد أيضا، فإنهم إذا عادوا مع الظهار وجبت الكفارة، وإن لم يعودوا لأجل ~~ما قالوا. # وأيضا فهم لا يعودون لأجل ما قالوا، بل يعودون لرغبتهم في المرأة لا ~~للقول، بل القوع مانع من العود، فكيف يجعل علة له وداعيا إليه. # وهذه كلها أقوال من لم يفهم الآية ولا حكم الشرع، بل ظنوا أن "ما" ~~مصدرية، ولم يفهموا المعنى إذا كانت موصولة. # وفيها قول سادس، وهو أنها مصدرية، لكن المصدر بمعنى المفعول، ذكره ~~المهدوي وغيره. # والصواب أنها موصولة، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وكما في ~~نظائرها من القرآن، ولبطلان معنى المصدرية، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين ~~نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه) (1) ، وقال تعالى: (بل بدا لهم ما ~~كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28)) (2) ~~. # وقد أطلق العود في قوله (وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين) (3) ، وفي ~~قوله: (وإن تعودوا نعد) (4) ، وفي قوله: (وإن عدتم عدنا) (5) . # والذي قالوه هو المقول، كما في قوله: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك ~~بيت طائفة منهم غير الذي تقول) (6) ، فإنهم بيتوا غير الذي PageV01P405 # أمرهم به وقالوا فيه طاعة، وهو غير المقول، ليس المراد أنهم بيتوا لفظا ~~غير اللفظ الذي لفظت به، فإن هذا لا يضر إذا كان المعنى موافقا لما قاله. # وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا ~~عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3)) (1) . فقوله "مالا تفعلون" هو مفعول ~~القول، وهو المقول، وهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه، فكان ~~إخبارهم عن أنفسهم أنهم إذا علموا الأحب فعلوه، ووعدهم بذلك، والمقول هو ~~فعلهم للأحب، وهو الموعود به المخبر عنه، فلامهم على أن قالوا مقولا هو ~~موعود مخبر به ولم يفعلوه، وكان الفعل نفسه هو المقول، فالمقول هو المخبر ~~عنه إن كان القول خبرا، والمأمور به والمنهي عنه إن كان القول أمرا أو ~~نهيا. فإذا قال: لا أفعل، ثم فعل، فقد عاد لما ms0208 قال، وإذا قال لأفعلن، ولم ~~يفعل، فلم يفعل ما قال. وهذا هو المعنى المفهوم في مثل هذا اللفظ عند عامة ~~الناس الخاصة والعامة، بل وفي سائر اللغات، فإذا قيل: فلان قد حلف أن لا ~~يكلم فلانا، أو قال: لا أكلمه، ثم عاد إلى ما قال، فهموا منه أنه عاد إلى ~~أن يكلمه، لم يفهموا أن ما مصدرية. # فصل # ومعنى قوله (ثم يعودون لما قالوا) (2) أي إلى الذي امتنعوا عنه بقولهم، ~~فإن القول إذا كان خبرا فالمقول هو المخبر عنه، وإن كان أمرا فالمقول هو ~~المأمور به، وإن كان نهيا فالمقول هو المنهي عنه. PageV01P406 # والظهار في معنى المنهي، فن مقصود المظاهر أن يحرم عليه امرأته، وينهى ~~نفسه عن اتخاذها زوجة، فلا يطأها، فمقوله هو ما نهى عنه نفسه من اتخاذها ~~زوجة والاستمتاع بها، فإذا عاد إلى ذلك فقد عاد إلى ما نهى عنه نفسه، وهو ~~مقوله، وهذا العود يتضمن رجوعه وندمه، ولفظ العود يدل على ذلك، ولهذا فسر ~~ابن عباس العود بالندم، فقال: يندمون، يرجعون إلى الألفة (1) . قال الفراء ~~(2) : يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي بعض ما قال، يعني رجع عما ~~قال. ولهذا قال الشافعي: إذا أمسكها لحظة فقد عاد. # لكن يقال: مجرد الكف لا يكون عودا، فإنه قد يكون اعتقد أن الظهار حرمها ~~عليه ووقع به الطلاق، فلا يحتاج إلى طلاق ثان، وقد تكون نيته أن يطلقها ~~فيما بعد، أو يطلقها إذا جاء وقت الطلاق المشروع، وقد يكون مترددا هل ~~يطلقها أو يمسكها، فمجرد مرور لحظة لا يوجب أن يقال: إنه عاد. # وإذا عزم على الوطء فليس له أن يطأ حتى يكفر بنص القرآن واتفاق الناس، ~~لكن لو رجع عن هذا العزم، وبدا له أن يطلقها، أو مات أحدهما قبل الوطء، فقد ~~قيل: إنه تستقر عليه الكفارة، لأنه عاد، والصحيح الذي عليه جمهور السلف أن ~~الكفارة لا تستقر إلا بالوطء، فأما مجرد العزم فلا يوجب شيئا، فإن في ~~الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ms0209: "إن الله تجاوز ~~لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل به". وهذا عازم على العود، ~~ولم يعد بعد، وإنما PageV01P407 # يكون عائدا إذا وطئها. فقوله (ثم يعودون) كقوله (فإذا قرأت القرآن فاستعذ ~~بالله) (1) ، وقوله (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) (2) . # ومعلوم أن المراد إذا عزمت. # فصل # وقال تعالى: (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) (3) ، ولم يقل: "من قبل ~~أن يتماسا" كما ذكر في الإعتاق والصيام، فلهذا تنازع العلماء هل يجب ~~الإطعام قبل التماس كما يجب الإعتاق والصيام، أم يجوز تأخيره؟ على قولين ~~مشهورين (4) ، هما روايتان عن أحمد، والقول بوجوب تقديمه قول الشافعي وأبي ~~حنيفة والأكثرين، والآخر يحكى عن مالك. # ومن قال ذلك قال: إن الله أطلق الإطعام، ولم يقيده كما قيد الصيام، وهما ~~حكمان مختلفان، فيحمل المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، بخلاف العتق، ~~فإنه حكم واحد. # وفي العتق أيضا قولان (5) هما روايتان عن أحمد، فالشافعي يشترط الإيمان ~~في رقبة الظهار، وكذلك مالك، وأبو حنيفة لا يشترطه، فصار من الناس من يحمل ~~المطلق على المقيد في الموضعين، ومنهم من يحمله في العتق فقط، لأن الحكم ~~واحد، ومنهم من يحمله في تقديم الكفارة فقط، لأن السبب واحد. PageV01P408 # والمقصود هنا هو التقديم في الكفارات الثلاث، وهو سبحانه لم يقل في ~~الثلاث: "من قبل أن يتماسا"، لأن فيما تقدم بيان له، كما أنه لم يقل في ~~الصيام: "ذلكم توعظون به"، لأن فيما تقدم بيان له، ولكن ذكر التماس في ~~الصيام، ولم يكتف بذكره في العتق، لأن في الصيام يصوم شهرين متتابعين قبل ~~التماس، فيتأخر التماس هذه المدة الطويلة، فلو لم يذكره لظن الظان أنه في ~~العتق وجب التقديم لأن الزمان يسير، يمكنه أن يعتق ثم يطأ تلك الليلة، وأما ~~الصيام فيتأخر الوطء شهرين متتابعين، وفي هذا مشقة عظيمة، فلا يفهم هذا من ~~مجرد تقييده في العتق، فلهذا أعيد ذلك في الصيام. وأما الإطعام فمعلوم أنه ~~دون الإعتاق ودون الصيام، وقد جعل بدلا عنه، فإذا كانت الكفارة المتقدمة ~~الفاضلة يجب عليه أن يقدمها ms0210 على الوطء، والمرأة محرمة قبل التكفير، فلأن ~~تكون الكفارة المؤخرة المفضولة كذلك بطريق الأولى؛ فإن الظهار أوجب تحريمها ~~إلى التكفير بالكفارة المقدمة، فكيف يبيحها قبل التكفير إذا كفر بالكفارة ~~المفضولة المؤخرة؟. # هذا مما يعلم من تنبيه الخطاب وفحواه أن الشارع لا يشرع مثله، فكان إعادة ~~ذكره مما لا يليق ببلاغة القرآن وفصاحته وحسن بيانه، بل نفس تحريمها قبل ~~صيام الشهرين - وهو الأصل المبدل منه - يوجب تحريمها قبل البدل، وهو ~~الإطعام، بطريق الأولى. # وتقديم الإطعام على التماس أسهل من تقديم الصيام. # وهو في الإعتاق قال: (ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير) (1) ، ولم ~~يقل مثل ذلك في الصيام والإطعام، وقد علم أنهما كذلك، PageV01P409 # وأنهم يوعظون بالصيام والإطعام، كما يوعظون بالإعتاق. والوعظ أمر ونهي ~~بترغيب وترهيب، فهم يوعظون بالتحريم قبل التكفير، أي ينهون به ويزجرون به ~~عن الظهار، فإن الظهار محرم بالنص والإجماع، فإذا علم المتظاهر أن المرأة ~~تحرم عليه إلى أن يكفر، كان ذلك مما يعظه، فينهاه ويزجره أن يتظاهر منها. # وأيضا فإنه قال بعد ذلك: (وتلك حدود الله) (1) ، والحدود هي الفاصلة بين ~~الحلال والحرام، والحد إما آخر الحلال وإما أول الحرام، فلهذا قيل في ~~الأول: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) (2) ، وقيل في الثاني: (فلا تقربوها) ~~(3) . وقد قال بعد ذلك: (وتلك حدود الله) ، فعلم أن هنا محرم له حد، وقوله ~~"وتلك" إشارة إلى ما تقدم كله، فلو كانت لا تحرم إلا إذا كانت الكفارة ~~طعاما لم يكن هنا حد، بل كانت حلالا كما كانت، فلم يكن هناك حد ينهى عن ~~تعديه أو قربانه. # وأيضا فقوله (فإطعام ستين مسكينا) إن كان تقديره: "من قبل أن يتماسا" فقد ~~اتفقت الكفارات، وثبت أنها محرمة قبل التكفير بالأنواع الثلاثة، وإن لم يكن ~~هذا تقديره، بل قوله "فإطعام ستين مسكينا" إيجاب للإطعام، لم يعلم متى يجب ~~الكفارة بالإطعام، فإنه لم يقل: "فإطعام ستين مسكينا بعد التماس". # فإن قيل: يجب إذا وطئها. # قيل: ليس في الآية ما يدل على ذلك، ليس فيها ما يدل على أن PageV01P410 # الإطعام ms0211 يجب بعد الوطء لا قبله، بل اللفظ إن كان مطلقا كما زعموه فلا ~~دلالة له، لا على هذا ولا على هذا. وهذا غلط ينزه القرآن عنه وأيضا فقوله ~~(فإطعام ستين مسكينا) اقتضى إيجاب الإطعام، وليس في الآية ما يقتضي تأخير ~~الوجوب إلى بعد التماس، فيبقى الإيجاب يتناول الحالين، ما قبل التماس وما ~~بعده، فهو واجب قبل التماس، فإن لم يفرق الواجب حتى تماسا فعليه إخراجه بعد ~~ذلك. # وأيضا فقوله (ثم يعودون لما قالوا) مع قوله (فتحرير رقبة من قبل أن ~~يتماسا) دل على أن العود له مبدأ وله منتهى كسائر الأفعال، فمبدؤه إذا عزم ~~عليه، ومنتهاه إذا وطىء. وقوله "ثم يعودون" لم يرد به توقيف الكفارة على ~~تمام العود، فإنه لو أراد ذلك لم تجب الكفارة إلا بعد تمام العود، وهو خلاف ~~قوله "من قبل أن يتماسا". بل أراد به أنه يجب إخراجها بعد الشروع في العود ~~بالعزم عليه، قبل إتمامه بالوطء. وإذا كان هذا هو مقتضى قوله "ثم يعودون" ~~مع قوله "من قبل أن يتماسا"، فهو إنما أوجب التكفير بالإطعام بعد هذا ~~العود، فعلم أنه واجب إذا شرع في العود، وإن لم يحصل تمام العود، وإلا لزم ~~اختلاف معنى العود في الآية. # وأيضا فالكفارات هي من جنس العبادات، وفيها معنى العقوبات، كما أن الحدود ~~هي عقوبات، وهي أيضا عبادات، ولهذا قال: (ذلكم توعظون به) ، أي تزجرون به، ~~وتنهون به، وتعاقبون به، وقد جعل من تمام العقوبة أن تحرم عليه إلى أن ~~يكفر، فذا قيل: إنها لا تحرم على المكفر بالإطعام زالت العقوبة الواجبة ~~بالتحريم، لاسيما والتكفير.. (1) . PageV01P411 ### | بين يدي الكتاب # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. # أما بعد، فهذه مجموعة ثانية من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية تحتوي على ~~ثلاثة من أهم آثاره، وهي: ### $ 1- فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد. ### | 2- # قاعدة في الاستحسان. ### | 3- # قاعدة في شمول النصوص للأحكام. # وقد وصلت إلينا الرسالتان الأولى والثانية بخط الشيخ، أما الثالثة فتوجد ~~منها عدة نسخ كاملة ms0212 وناقصة، وسيأتي وصفها جميعا في مواضعها من مقدمات هذه ~~الرسائل. # ونظرا إلى أهمية الموضوعات التي تناولتها هذه الرسائل عنيت بها عناية ~~خاصة، فقمت بضبطها ومقابلتها على الأصول عدة مرات، والتعليق عليها بما يفيد ~~في التوثيق والتخريج، والربط بين كلام المؤلف هنا وبين ما هو مبثوث في ~~مواضع أخرى من كتبه وفتاواه، والتنبيه على بعض الأخطاء والتحريفات التي ~~وقعت في نسخ الرسالة الثالثة والتي شوهت معالمها، والإشارة إلى ما في أصلي ~~المؤلف للرسالتين من العبارات التي قد تشكل أو تستغرب، # ومحاولة توجيهها. # PageV02P005 # وقد قدمت لكل رسالة بمقدمة مستقلة، قصت فيها بتوثيق نسبتها إلى المؤلف، ~~ووصف النسخ الخطية، ودراسة الموضوعات التي تناولتها، وبيان منهج المؤلف ~~فيها. وتوسعت في الحديث عن بعض القضايا وبيان موقف شيخ الإسلام منها، والرد ~~على بعض الشبه التي أثيرت قديما وحديثا. # وقد طبعت "قاعدة في الاستحسان" من قبل بصورة مفردة، ثم رأيت أن تنشر ضمن ~~هذه المجموعة. وأرجو أنني قد وفقت في تقديم هذه الرسائل التي تضيف الجديد ~~المفيد إلى عالم المطبوعات، والطريف المثير إلى عالم الفكر. وأدعو الله أن ~~يجعلها نافعة للعلماء والطلاب وعامة الناس، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى ~~الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. # محمد عزير شمس # PageV02P006 ### | فتوى # في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد # PageV02P007 # مقدمة # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد # وعلى آله وصحبه أجمعين. # وبعد، فهذا أثر من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية بخطه، ينشر لأول مرة بعد ~~سبعة قرون من كتابته، يتناول فكرة القطب والأبدال والأوتاد، التي شاعت لدى ~~الصوفية وعامة الناس منذ القرن الرابع تحت تأثير بعض الثقافات الوافدة إلى ~~المجتمع الإسلامي، واستنادا إلى بعض الأحاديث الباطلة الموضوعة على النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، حتى جاء كبير الصوفية وفيلسوفهم في عصره ابن عربي ~~المتوفى سنة 638، فوضع نظاما للأولياء ورجال الغيب، وجعلهم في مراتب ~~ودرجات، وحدد لكل مرتبة عددا معينا منهم، وخصهم ببعض العلوم والصفات ~~والوظائف. وتبعه من جاء بعده من الصوفية، بل زادوا عليه أشياء من خيالاتهم ms0213 ~~وأوهامهم، فتحدثوا عن مملكة وهمية يجتمع فيها رجال الغيب ويصدرون قراراتهم، ~~ويقررون كل ما يجري في العالم!! # لقد كان لهذه الفكرة آثار سيئة في المجتمع الإسلامي، حيث تعلق كثير من ~~الناس بالغوث والقطب والأبدال والأوتاد، وظنوا أن الشدة إذا نزلت بأهل ~~الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره ~~حتى تنفرج تلك النازلة، وادعى # PageV02P009 # بعضهم أن مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان يكون من جهته، ~~وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق، وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء ~~ويصرفهما عمن يشاء، إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة التي تجعل للقطب والغوث ~~نوعا من الألوهية والربوبية، وهي من أعظم الكذب والمحال والشرك والضلال ~~والإلحاد. # ومن الغريب أن كثيرا من العلماء المتأخرين تأثروا بمقولات الصوفية في هذا ~~الباب، ووافقوهم في الغالب، ونقلوا هذه الخرافات إلى مؤلفاتهم في التفسير ~~والحديث والعقيدة والسيرة والأخلاق والفتاوى والأدب واللغة والتاريخ ~~والتراجم بدون النكير عليها، بل ألف بعضهم رسائل مستقلة لتأييدها. # ونظرا لخطورة هذه الفكرة وما في شيوعها وانتشارها من ضرر على العامة ~~والخاصة في عقيدتهم، قام بعض العلماء لمناقشتها والرد عليها، وبيان ما فيها ~~من مخالفة للعقل والشرع، ونقد الأحاديث التي يحتج بها الصوفية. وقد كان شيخ ~~الإسلام ابن تيمية أقواهم كلاما في الباب، وأوسعهم ردا على هذه الفكرة، وقد ~~كتب كتابات عديدة في هذا الموضوع يأتي بيانها (ص 39- 49) ، أطولها هذه ~~الفتوى التي أنشرها اليوم. # وأقدم لهذه الفتوى ببعض الفصول التي تعتبر شرحا لهذه الفكرة عند الصوفية، ~~وبيانا لمصدرها، وأثرها في المجتمع الإسلامي، ودرجة الأحاديث التي يستندون ~~إليها، واستعراضا لمن نقد هذه الفكرة، وإبرازا لموقف شيخ الإسلام منها في ~~ضوء كتاباته، # PageV02P010 # وتحليلا لمحتويات هذه الفتوى، ووصفا لنسختها الخطية. وما توفيقي إلا ~~بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. # • فكرة القطب والأبدال عند الصوفية # لم تكن فكرة القطب والأبدال (كما ذكرها الصوفية) موجودة في القرون ~~الثلاثة الأولى، فلا أساس لها في الكتاب والسنة، ولم يذكرها السلف من ~~الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يعتقدوها كما ms0214 تعتقد الصوفية. وبعد استعراض ~~مجموعة من المصادر توصلت إلى أن أقدم من ينقل عنه عدد الأولياء ورجال الغيب ~~وذكر مساكنهم هو أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتاني (ت 322) أحد مشايخ ~~الصوفية، فقد قال -كما نقل عنه-: "النقباء ثلاث مائة، والنجباء سبعون، ~~والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء ~~المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في ~~الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر ~~العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، ثم ~~أجيبوا، وإلا ابتهل الغوث، فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته" (1) . ~~PageV02P011 # أما أبو طالب المكي (ت 386) فيعبر عنها بقوله: "القطب اليوم الذي هو إمام ~~الأثافي الثلاثة والأوتاد السبعة والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاث مائة ~~كلهم في ميزانه وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدل من أبي بكر رضي الله ~~تعالى عنه، والأثافي الثلاثة بعده إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده، ~~والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاث مائة وثلاثة عشر ~~إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين" (1) . # نلاحظ هنا أن أبا طالب ذكر "الأثافي الثلاثة" مكان "العمد الأربعة"، ~~و"الأوتاد" مكان "الأخيار"، والأربعين والسبعين وثلاث مائة جعلهم كلهم ~~"أبدالا"، ولم يقسمهم إلى "بدلاء" و"نجباء" و"نقباء". # ويأتي الهجويرى (ت465) بعدهما، فيقول: "أهل الحل والعقد وقادة حضرة الحق ~~جل جلاله، فثلاث مائة يدعون الأخيار، وأربعون آخرون يسمون الأبدال، وسبعة ~~آخرون يقال لهم الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد، وثلاثة آخرون يقال لهم ~~النقباء، وواحد يسمى القطب والغوث. وهؤلاء جميعا يعرفون أحدهم الآخر، ~~ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض" (2) . # وذكر ابن عربي أن المجمع عليه من أهل الطريق أنهم على PageV02P012 # ست طبقات أمهات: أقطاب وأئمة وأوتاد وأبدال ونقباء ونجباء (1) . # وجعلهم لسان الدين ابن الخطيب سبع طبقات (2) . وأوصلهم داود القيصري (3) ~~وحسن العدوى الحمزاوي (4) إلى عشر. وهكذا نجد أن الصوفية في مختلف العصور ~~زادوا ونقصوا في هذه الألقاب والمراتب، وأسهم كل واحد منهم في وضع هذا ms0215 ~~النظام وإقامة أسسه بما لديه من تصورات وخيالات، وبينهم خلاف كبير في تعداد ~~الملقبين بلقب معين. # • معاني هذه الألقاب # نأتي الآن إلى معاني هذه الألقاب ووظائف أصحابها وصفاتهم عند الصوفية، ~~وأول من تحدث عنها بتفصيل هو ابن عربي، وتبعه من جاء بعده من المؤلفين في ~~التصوف والمصطلحات الصوفية، وقد جمع عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت ~~والجواهر" (2/79- 83) أقوال ابن عربي من "الفتوحات المكية"، وأقوال غيره من ~~مصادر مختلفة في هذا الموضوع. وسنعرض هنا باختصار بعض ما قالوه بالاعتماد ~~على المصادر القديمة المعتمدة لديهم. # (1) أما القطب فهو -عند الصوفية- عبارة عن الواحد الذي هو PageV02P013 # موضع نظر الله من العالم في كل زمان، ويقال له "الغوث " (1) باعتبار ~~التجاء الملهوف إليه. أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون ~~وأعيانه الباطنة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، فهو يفيض ~~روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته ~~الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته (2) . # واسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق ~~بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة، وهو مرآة الحق تعالى ومجلى ~~النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية وصاحب الوقت وعين الزمان وصاحب علم سر ~~القدر، وله علم دهر الدهور، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء (3) . ولم ~~يخل زمان من الأقطاب، وقد عد ابن عربي خمسة وعشرين قطبا من عهد آدم عليه ~~السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وسماهم (4) . # والقطب عند الصوفية نوعان، أحدهما: هو المتمكن في PageV02P014 # القطبية الصغرى أو الحسية، والآخر: هو المتمكن في القطبية الكبرى أو ~~المعنوية، وهو المعبر عنه بباطن نبوة محمد أو الحقيقة المحمدية (1) . # يقول ابن عربي: القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب من ~~حيث النشء الإنساني إلى يوم القيامة هو روح محمد - صلى الله عليه وسلم - ~~(2) . وهذه القطبية الثانية هي التي عرفها الجرجاني فقال: "القطبية الكبرى ~~هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد، فلا يكون خاتم الولاية وقطب ~~الأقطاب إلا ms0216 على باطن خاتم النبوة" (3) . # ولمزيد من الشرح ننقل هنا كلام التيجاني حيث قال: "أعلم أن حقيقة ~~القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقا في جميع الوجود جملة وتفصيلا، ~~حيثما كان الرب إلها كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه ~~ألوهية الله تعالى، ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل ~~إلى الخلق شىء كائنا ما كان من الحق إلا بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق ~~في ذلك وتوصيله كل قسمة إلى محلها، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة ~~من ذرات الوجود جملة وتفصيلا، فترى الكون كله أشباحا لا حركة لها، وإنما هو ~~الروح القائم فيها جملة PageV02P015 # وتفصيلا" (1) . # كل من يقرأ هذه التصريحات يقتنع بأن الصوفية يخرجون بالقطب عن نطاق ~~البشرية، ويحلقون به في عالم الربوبية، وقد ذكروا له خمس عشرة علامة (2) ، ~~منها أنه يكشف له عن حقيقة الذات الإلهية، ويحيط علما بصفات الله تعالى، ~~وأن علم القطب لا حدود له، فلا يخفى عليه شيء من الدنيا والآخرة. ويحيط ~~بمعرفة أحكام الشريعة ولو كان أميا (3) ، وهو أكمل الخلق وأفضل جماعة ~~المسلمين في كل عصر (4) ، ولا حدود لمرتبته فهو محيط بجميع المراتب (5) ، ~~ويبصر بجميع أجزاء بدنه ما عدا العين (6) ، ولا يطيق رؤيته إلا الخواص (7) ~~. واشترط بعضهم أن يكون قطب الأقطاب من أهل البيت (8) ، وذكروا أنه يستقر ~~بمكة، وقال آخرون: إنه يدور في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران ~~الفلك في أفق السماء، وهو بجسده حيث شاء من الأرض (9) . ومن وظائفه: التصرف ~~في الكون PageV02P016 # والتأثير في حوادثه والحكم الشامل التام في جميع المملكة الإلهية (1) ، ~~ووقاية المريدين من السؤال والحساب في الآخرة (2) ، ولا يجري في عالم ~~المخلوقات شىء إلا بإذنه حتى ولو كان جريانه في القلوب (3) . # نكتفي بهذا القدر في بيان القطب وصفاته ووظائفه عند الصوفية، وننتقل إلى ~~المراتب والألقاب الأخرى. # (2) الإمامان: هما اللذان أحدهما عن يمين القطب، ونظره في عالم الملكوت، ~~وهو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي ~~هي مادة ms0217 الوجود والبقاء؛ والآخر عن يساره، ونظره في الملك، وهو مرآة ما ~~يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي ~~يخلف القطب إذا مات (4) . # (3) الأوتاد: هم أربعة في كل وقت لا يزيدون ولا ينقصون، منازلهم على ~~منازل الأربعة الأركان من العالم: شرق وغرب PageV02P017 # وشمال وجنوب، مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة، يحفظ الله بهم العالم، لهم ~~روحانية إلهية وروحانية إلية، يحوون على علوم جمة كثيرة. ومنهم من هو على ~~قلب آدم، والآخر على قلب إبراهيم، والآخر على قلب عيسى، والآخر على قلب ~~محمد (1) . # (4) الأبدال أو البدلاء: هم سبعة يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكل بدل ~~إقليم، وإليهم تنظر روحانيات السماوات والأرض (2) . # وجعل بعض الصوفية السبعة الأبدال خارجين عن الأوتاد، ومنهم من قال: إن ~~الأوتاد الأربعة من الأبدال، وقالوا: سموا أبدالا لكونهم إذا مات واحد منهم ~~كان الآخر بدله، وقيل: سموا أبدالا لأنهم أعطوا من القوة أن يتركوا بدلهم ~~حيث يريدون، لأمر يقوم في نفوسهم على علم منهم، فيرتحلون إلى بلد، ويقيمون ~~في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا منه، بحيث إن كل من رآه ~~لا يشك أنه هو (3) . # (5) النجباء: هم أربعون، مشغولون بحمل أثقال الخلق (وهي من حيث الجملة كل ~~حادث لا تفيء القوة البشرية بحمله) ، وذلك لاختصاصهم بوفور الشفقة والرحمة ~~الفطرية، فلا يتصرفون إلا في PageV02P018 # حق الغير، إذ لا مزيد لهم في ترقياتهم إلا من هذا الباب (1) . وذكر بعضهم ~~أنهم ثمانية في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون، عليهم أعلام القبول في ~~أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، أهل علم الصفات الثمانية، ~~ومقامهم الكرسي، لا يتعدونه ما داموا نجباء، ولهم القدم في علم تسيير ~~الكواكب كشفا واطلاعا، لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن (2) . # (6) النقباء: هم ثلاث مائة، وهم الذين تحققوا بالاسم الباطن، فأشرفوا على ~~بواطن الناس، فاستخرجوا خفايا الضمائر، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه ~~السرائر. وهم ثلاثة أقسام: نفوس علوية، وهي الحقائق الأمرية، ونفوس سفلية، ~~وهي الخلقية، ونفوس وسطية، وهي الحقائق ms0218 الإنسانية، وللحق تعالى في كل نفس ~~منها أمانة منطوية على أسرار إلهية وكونية (3) . # عرضنا فيما سبق- باختصار- بعض ما عثرنا عليه من النصوص التي تبين تعداد ~~رجال الغيب ومراتبهم وألقابهم وصفاتهم ووظائفهم. # وكل من يطلع عليها يستغرب وجودها في المصادر، ولكن هذا هو الأمر الواقع ~~عند الصوفية، وهذه معتقداتهم التي أعلنوا عنها في PageV02P019 # مؤلفاتهم بشان الأولياء ورجال الغي ### | ب. # • أحاديث الأبدال # احتج الصوفية ومن تابعهم لهذه الفكرة بالأحاديث التي ورد فيها ذكر ~~الأبدال، ويلاحظ أنه لم يرد ذكر هذا اللفظ في شيء من الأحاديث في الكتب ~~الستة إلا في حديث واحد عند أبي داود (4286) ، وهو حديث ضعيف لا تقوم به ~~حجة (1) . # أما الأحاديث الأخرى التي اشتملت على لفظ "الأبدال" خارج الكتب الستة فقد ~~أخرجها بعض المحدثين، مثل: عبد الرزاق في "المصنف" (11/249- 250) ، وأحمد ~~في "المسند" (1/112، 5/322) ، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" (بأرقام ~~8، 57- 59) ، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول " (ص 69- 71) ، والطبراني ~~في "المعجم الكبير" و"الأوسط" (كما في "مجمع الزوائد" 10/63) ، وابن عدي في ~~"الكامل" (في مواضع متفرقة) ، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/8- 9) ~~و"أخبار أصبهان" (1/ 180) ، وأبو محمد الخلال في "كرامات الأولياء"، ~~والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/439) ، والديلمي في "الفردوس" (1/154) ، وابن ~~عساكر في "تاريخ دمشق " (1/289-304، 334- 341) وغيرهم. PageV02P020 # وقد أفردها السخاوى وبين عللها في جزء سماه "نظم اللآل في الكلام على ~~الأبدال" (1) ، وجمعها السيوطي في "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد ~~والنجباء والأبدال" (2) ، ولكنه سردها دون نقدها وبيان ما فيها من العلل. ~~وكان الدافع له على تأليفه إنكار بعضهم ما اشتهر عن الصوفية من أن منهم ~~أبدالا ونقباء ونجباء وأوتادا وأقطابا، فحاول إثبات ذلك بجمع الأحاديث ~~والآثار الواردة في هذا الباب. ولم يفلح السيوطي في إثبات المدعى، فلم يصح ~~من هذه الأحاديث شيء عند المحدثين النقاد، وعلى فرض ثبوت بعضها عند ~~المتساهلين في التصحيح فليس فيها ما يفيد وجود رجال الغيب ومراتبهم وصفاتهم ~~ووظائفهم واجتماعاتهم وقراراتهم حسب ما يتصورها الصوفية. # وقد أورد السيوطي هذه الأحاديث أو بعضها في مؤلفاته الأخرى، مثل: ~~"اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 330-332) و ms0219"التعقبات على ~~الموضوعات" (ص 471) و"الدر المنثور" (1/765- 767) و"الجامع الصغير" (3/167- ~~170 بشرح المناوي) ، وادعى صحتها وتواترها. وقلده في إيرادها وتصحيحها من ~~جاء بعده من المؤلفين (3) ، والواقع أنه لا يبقى منها PageV02P021 # شىء يصلح للاحتجاج بعد نقدها على منهج المحدثين، فبعضها أوهى من بعض، ~~ومنها ما هو موضوع، ومنها ما هو شديد الضعف ومنكر، ولذا ضعفها القاضي أبو ~~بكر ابن العربي في "سراج المريدين" (1) ، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع ~~وذكرها في "الموضوعات" (3/150- 152) ، وقال ابن الصلاح في "فتاواه" (ص 53) ~~: "لا يثبت". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (2) أن هذه ~~الأسماء الدائرة على ألسنة الصوفية ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي ~~مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا ~~لفظ "الأبدال" فقد روى فيه حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب ~~مرفوعا. PageV02P022 # وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 136) : "أحاديث الأبدال والأقطاب ~~والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -. وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإن فيهم البدلاء، كلما ~~مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر". ذكره أحمد، ولا يصح أيضا، فإنه ~~منقطع". # وذكر الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص 408- 410) الأحاديث التي أوردها ابن ~~الجوزي، وحكم عليها بالوضع. وذكر في "ميزان الاعتدال" (3/105) حديث أنس ~~منها، وقال: "هذا باطل". # وأورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث في "تفسيره" (1/669- 670) و"تاريخه" ~~(9/213، 214) و"جامع المسانيد والسنن" (19/240- 241، 7/134- 137) ، وقال في ~~الموضع الأخير بشأن حديث عبادة بن الصامت: "فيه نكارة شديدة جدا". # وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 8) : "حديث الأبدال له طرق عن أنس ~~رضي الله عنه مرفوعا بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة". ثم ذكر بعض الأحاديث وقال ~~(ص9) : "بعضها أشد في الضعف من بعض". # وبعد أن أورد الأمير الصنعاني بعض هذه الأحاديث في "الإنصاف في حقيقة ~~الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف " (ص 58- 59) قال: "في صحتها عند ~~أئمة الحديث مقال". # وليس هنا مجال لنقد هذه الأحاديث واحدا واحدا، حتى نعرف صحة هذه الأحكام ~~التي ms0220 أصدرها النقاد، ويمكن مراجعة تعليقات العلامة عبد الرحمن بن يحيى ~~المعلمي على "الفوائد المجموعة" # PageV02P023 # للشوكاني (ص 245- 249) ، وكلام الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث ~~الضعيفة" (بأرقام 935- 936، 1474- 1479، 2498) ففيهما غنية لمن أراد الوصول ~~إلى الحق والصواب. وفي مجلة "المنار" المجلد 11 (1908) ص 50- 56 نقد لحديث ~~ابن مسعود الذي يستند إليه الصوفية، بقلم السيد محمد رشيد رضا. # وأود أن أقف هنا مع كلام للمناوي في "فيض القدير" (3/ 170) يشتمل على ~~القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية ورميه بالتهور والمجازفة في الحكم على هذه ~~الأحاديث، وبالعناد والتعصب لكونه لم يقوها بكثرة الطرق وتعدد المخرجين. ~~قال المناوي: "زعم ابن تيمية أنه لم يرد لفظ الأبدال في خبر صحيح ولا ضعيف ~~إلا في خبر منقطع، فقد أبانت هذه الدعوى عن تهوره ومجازفته، وليته نفى ~~الرواية، بل نفى الوجود، وكذب من ادعى الورود". # لم ينقل المناوي كلام شيخ الإسلام بنصه، بل تصرف فيه، ونصه كما في ~~"مجموعة الرسائل والمسائل" (1/48) (1) : "فهذه الأسماء [أي الغوث والأوتاد ~~والأقطاب والأبدال والنجباء] ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضا مأثورة ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ ~~الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب ~~مرفوعا". PageV02P024 # فانظر كيف حرف المناوي هذا الكلام، اختار لفظ "الأبدال" بدلا من "هذه ~~الأسماء" التي تشير إلى الألفاظ الخمسة، وحذف لفظ "محتمل" بعد "ضعيف"، ~~ليوهم أن شيخ الإسلام ينفي ورود هذه الألفاظ بإسناد ضعيف مهما كان ضعفه. ~~والذي يتأمل كلام الشيخ يفهم منه بوضوح أنه ينكر ورود الألفاظ المذكورة ~~بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل، ولا ينكر أن يرد شىء منها في حديث موضوع أو ~~ضعيف غير محتمل. وكل ما ذكره السيوطي وغيره من هذا القبيل، فورود مثل هذا ~~لا ينقض قول شيخ الإسلام، بل هو أدرى بمثل هذه الأحاديث الواهية من غيره. # واستدراكه فيما بعد بقوله "إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي ~~منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا"- لأنه أحسن ما ورد في الباب، وقد ms0221 ~~رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 112) ، فاستحق التنويه. ومع ذلك فهو منقطع ~~الإسناد. قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/289) : "هذا منقطع بين شريح [بن ~~عبيد] وعلي، فإنه لم يلقه". وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على ~~"المسند" (2/171) : "إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عبيد الحمصي لم يدرك ~~عليا، بل لم يدرك إلا بعض متأخري الوفاة من الصحابة". # أما قول الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/62) : "رواه أحمد، ورجاله رجال ~~الصحيح غير شريح بن عبيد، وهو ثقة، وقد سمع من المقداد، وهو أقدم من علي"- ~~فقد وهم فيه اغترارا بما # PageV02P025 # ذكره المزي في ترجمة شريح، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر. فالصواب أنه لم يلق ~~عليا، والحديث منقطع الإسناد كما قال شيخ الإسلام. # وقد اكتفى بذكر هذا الحديث كنموذج، لأنه أحسن ما ورد في الباب، ومع ذلك ~~فهو منقطع، أما الأحاديث الأخرى فنكارتها واضحة وبطلانها ظاهر، ولذا لم يشر ~~إليها، مع أن حديث عبادة بن الصامت منها أخرجه أيضا أحمد في "مسنده" ~~(5/322) وقال عقب روايته: "هو منكر"، فلم يستحق التنويه مثل غيره من ~~الأحاديث الواهية في المصادر الأخرى. # بهذا التفصيل يظهر لنا جليا مقصود شيخ الإسلام من نفي ورود هذه الألفاظ ~~"بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل"، والغرض من استدراك لفظ "الأبدال" والإشارة ~~إلى وروده في حديث شامي منقطع. فنسبة المناوي إلى الشيخ أنه ينكر ورود لفظ ~~"الأبدال" في خبر صحيح أو ضعيف إلا في خبر منقطع- غلط، ورميه بالتهور ~~والمجازفة يدل على عدم فهمه للمقصود، فلم ينف الشيخ ورود لفظ "الأبدال" ~~بإسناد ضعيف غير محتمل، ولم يكذب من ادعى ذلك، وكل ما ورد في هذا الباب لا ~~يبطل ما قاله. # أما قول المناوي: "وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعها، لكن لا ينكر تقوي ~~الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهل بالصناعة الحديثية أو ~~معاند متعصب"- فهو خطأ وقع فيه كثير من العلماء المتأخرين حيث أطلقوا أن ~~الحديث الضعيف إذا # PageV02P026 # جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ~~ضعف ms0222 الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع ~~ازداد ضعفا إلى ضعف، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم ~~بحيث لا يرويه غيرهم يرفع الثقة بحديثهم، ويؤيد ضعف روايتهم (1) . وعلى هذا ~~فمن قوى أحاديث الأبدال التي انفرد بروايتها المتهمون بالكذب والمتروكون ~~ونحوهم يكون على الجادة أم من ينكر تقويتها؟ # • مصدر هذه الفكرة # رأينا فيما سبق أن الأحاديث التي يستند إليها الصوفية كلها موضوعة ~~وواهية، ثم إنها لا تساعدهم على صياغة فكرة "القطب" الذي يرأس رجال الغيب ~~في نظرهم، فلا ذكر لهذا اللفظ في شيء من الأحاديث والآثار. ولذا يرى أكثر ~~الباحثين أنها فكرة دخيلة استمدها الصوفية من غيرهم، واختلفوا في تحديد ~~المصدر، فذكر بعضهم أن مفهوم "القطب" بوصفه المبدأ الفعال (أو الباطن) (2) ~~لكل إلهام شبيه بالعقل "النوس" في الأفلاطونية الحديثة، ويشبه عقيدة ~~الإسماعيلية القائلة بتجسيد العقل الأول (الإمام) في الناطق (3) . ~~PageV02P027 # وهناك باحثون آخرون التفتوا إلى التشابه القائم بين مفهوم الشيعة عن ~~"الإمام" بوصفه تجليا للكلمة الإلهية ومفهوم "القطب" الأكبر عند الصوفية، ~~والتقاء أحدهما بالآخر (1) . كما لاحظ باحثون عديدون ذلك التوازي بين ~~التدرج الرئاسي للقائمين على الدعوة الإسماعيلية والتدرج الرئاسي في التصوف ~~برئاسة القطب، وقرروا أنه مستمد من الإسماعيلية (2) . وقد صرح بعض علماء ~~الشيعة أن القطب والإمام مصطلحان معناهما واحد، وينطبقان على شخص واحد (3) ~~. وأكد المستشرق هنري كوربان في عدد من بحوثه ودراساته أن فكرة القطب هذه ~~انتقلت إلى التصوف من الشيعة، وأنها فارسية الأصل (4) . # ويرى أحمد أمين (5) أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالا وثيقا، وأخذت فيما ~~أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمته "قطبا"، وكونت مملكة من ~~الأرواح على نمط مملكة PageV02P028 # الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي ~~في التشيع. # وقد سبق هؤلاء الباحثين بعض العلماء القدامى، فأدركوا التشابه بين القطب ~~عند الصوفية وبين الإمام المنتظر عند الشيعة وبين الباب عند النصيرية، منهم ~~شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما. وسيأتي ذكر موقفهما فيما بعد إن ~~شاء الله ms0223. ومما يؤكد أن هذه الفكرة مأخوذة من الشيعة أن أحد علماء الشيعة ~~حيدر ابن علي الآملي (ت بعد 782) قرر في كتابه " نص النصوص" (1) جميع ما ~~عند الصوفية بشأن رجال الغيب وأولياء الله، وذكر أن "القطبية الكبرى هي ~~مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون ~~إلا لورثته، لاختصاصه عليه السلام بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب ~~الأقطاب إلا على باطن ختم النبوة". # بعد هذا العرض الموجز لآراء بعض الباحثين المحدثين والعلماء القدامى نصل ~~إلى أن فكرة "القطب" فكرة دخيلة عند الصوفية، انتقلت إليهم من الشيعة ~~القائلين بالإمام المنتظر، ومن الإسماعيلية الذين جعلوا رجالهم في مراتب ~~ودرجات. وقد كان الصوفية القدامى إلى منتصف القرن الرابع بعيدين عنها، ثم ~~تسربت إليهم وتحكمت فيهم بعد اتصالهم بالشيعة ومخالطتهم لهم في بلاد العجم. ~~وتطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى نظرية "الديوان الباطني" PageV02P029 # الذي يجتمع فيه رجال الغيب برئاسة القطب، ويديرون شئون العالم المرئي ~~وغير المرئي (1) . ولا تزال هذه النظرية عند الصوفية مسلمة إلى يومنا هذا ~~(2) . # • أثرها في المجتمع الإسلامي # لقد كان لنظرية القطب والأبدال هذه آثار خطيرة في المجتمع الإسلامي من ~~نواع عديدة، أهمها في مجال العقيدة، فقد قرر الصوفية أن للأولياء القدرة ~~النافذة على التصرف المقيد والمطلق في شئون العالم العلوي والسفلي، فأربعة ~~منهم يمسكون العالم من جوانبه الأربعة (هم الأوتاد) ، وسبعة آخرون كل واحد ~~منهم مشرف على قارة من قارات الأرض السبع (هم الأبدال) ، وفوقهم جميعا ولي ~~واحد هو موضع نظر الله (يسمى القطب أو الغوث) ، وهو الذي يدبر شأن الملك، ~~ومن جهته يكون مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان، وبواسطته يفيض ~~الخير إلى سائر الخلق. وإذا نزلت الشدة بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى ~~حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. ~~PageV02P030 # هذه الأمور وغيرها مما ذكرها الصوفية (والتي تحدثنا عنها فيما مضى مع ذكر ~~النصوص من المصادر المعتمدة لديهم) لا يخفى ما في الاعتقاد بها من خطورة ~~على عقيدة التوحيد ms0224، فهي محاولة خبيثة لتجريد الإله الحق سبحانه وتعالى من ~~اختصاصاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وجعلها مشاعا بين الخالق والمخلوق ~~على حد سواء، وهذا هو الشرك في الربوبية -والعياذ بالله-، وهو أقبح أنواع ~~الشرك، فقد كان المشركون القدامى على علم بربوبية الله وخصوصيته في الخلق ~~والرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة وغيرها من أمور الربوبية كما حكى ~~عنهم القرآن. فالذي يعتقد ذلك في الأولياء هو أجهل من أولئك المشركين وأضل. # وبهذا نعرف ما نتج عن فكرة القطب هذه من مخاطر جسيمة في باب العقيدة لدى ~~عامة الناس، الذين تعلقوا بها واعتقدوها ونشأوا عليها في البيئات الصوفية، ~~ولقنوها منذ الصغر. ولا زلنا نرى في البلاد الإسلامية من ينادي "الغوث" ~~للمدد، ويعتقد في الأولياء بما لا يجوز اعتقاده إلا في الله، فإنا لله وإنا ~~إليه راجعون. # وكان من آثارها السيئة على العلماء أن كثيرا منهم نقلوا مقالات الصوفية ~~في هذا الباب، وأدرجوها في مؤلفاتهم دون نقد أو تعقيب، وقد تسربت هذه ~~الفكرة إلى كتب التفسير وشروح الحديث، والفقه والفتاوى، والسيرة والأخلاق، ~~والتاريخ والتراجم، والأدب واللغة وغيرها، ويطول بنا القول لو ذكرنا جميع ~~النصوص في المصادر التي رجعنا إليها، ولذا نقتصر على # PageV02P031 # الإشارة إلى بعضها تاركين التفصيل لموضع آخر. # لقد كانت كتب التفسير إلى القرن السادس خالية من الإشارة إلى فكرة ~~الأبدال، فلا نجد لها ذكرا عند الطبري والبغوي وابن عطية وابن الجوزي ~~وغيرهم في تفاسيرهم، حتى جاء القرطبي في القرن السابع فنقل في تفسيره (1) ~~عن بعض العلماء في تفسير قول الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ~~لفسدت الأرض) أن المدفوع بهم الفساد هم الأبدال! ثم ذكر بعض ما ورد من ~~الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، وسكت عنها. # وجاء بعده السيوطي، فسرد هذه الروايات في تفسيره (2) دون نقد وتمحيص، ~~ففتح المجال لغيره من المفسرين أن يوردوها، ويفسروا بعض الآيات القرآنية ~~بها، ويتكلموا على القطب والأبدال وغيرهما بأدنى مناسبة (3) . # ولم يكن قد اشتهر عند شراح الحديث والمشتغلين به إلى زمن الحافظ ابن حجر ~~الكلام ms0225 على القطب والأبدال ومراتب رجال الغيب كما هي عند الصوفية -وإن وجد ~~عند أبي جمرة في "بهجة النفوس" شي من ذلك-؛ بل كانوا يقتصرون على رواية ~~الأحاديث الواردة في هذا الباب بأسانيدها ليبرءوا من عهدتها، أو نقدها ~~وتضعيفها وبيان عللها. وجاء المتأخرون فسردوا هذه الروايات دون نقدها ~~PageV02P032 # وتمحيصها، وادعوا صحتها وتواترها، وتلقوها بالقبول، ثم تكلموا على شرحها ~~وبيان معانيها بالاستناد إلى أقوال الصوفية، ويكفي أن نذكر هنا كمثال: ~~المناوي (1) وملا علي القاري (2) ، اللذين قررا ما قاله الصوفية، ونقلا ~~عنهم نصوصا غريبة في أثناء شرح الحديث دون استنكار أو تعليق. # أما كتب الفقه والفتاوى فنذكر منها نص فتوى الشيخ زكريا الأنصاري (الملقب ~~بشيخ الإسلام لدى الشافعية) ، لما سئل عن شخص ادعى أن القطب ليس له وجود في ~~زمن من الأزمنة، ولا ثم شيء في الوجود يقال له القطب، هل هذه الدعوى صحيحة ~~أو لا؟ فأجاب بأن القطب موجود في كل زمان، كلما مات قطب أقام الله مقامه ~~آخر، نفعنا الله ببركتهم. وهذا أمر مشهور، والمنكر لذلك محروم من بركة ~~الأقطاب، معترف بأن منة الله بلقائهم لم تواجهه. وليته إذا فاته الوصول ~~إليها لا يفوته الإيمان بها (3) . # هذا نص كلامه الذي يقرر فيه وجود القطب في كل زمان، وأن منكره محروم من ~~بركته، وعليه أن لا يفوت الإيمان به إن لم يقدر له الوصول إليه!! # وذكر ابن حجر الهيتمي (4) أنه كان في مجلس الشيخ محمد PageV02P033 # الجويني يوما، فانجر الكلام إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال ~~وغيرهم، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة، وقال: هذا كله لا حقيقة له، وليس ~~فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الهيتمي: "معاذ الله! بل ~~هذا صدق وحق لا مرية فيه، لأن أولياء الله أخبروا به، وحاشاهم من الكذب، ~~وممن نقل ذلك الإمام اليافعي، وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة"، ~~فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه عليه. ثم ذهبا إلى الشيخ زكريا الأنصاري الذي ~~عاتب الجويني عليه، فآمن الجويني بذلك وصدق به وأقر بثبوته!! هذا ms0226 نموذج مما ~~كان يجري بين الفقهاء في هذا الموضوع، فلا يسع المنكر إنكار ذلك، ويضطر إلى ~~الإيمان به والتصديق به والإقرار بثبوته إذا أراد أن يعيش بينهم. وعلى هذا ~~فلا نستغرب أن يدخل بعض المؤلفين هذا الموضوع في كتب العقيدة، كما فعل ~~إبراهيم اللقاني في "عمدة المريد لجوهرة التوحيد"، ويتكلم عنه المؤلفون في ~~السيرة النبوية ويعتبروا وجود الأقطاب والأبدال من خصائص الأمة المحمدية، ~~كما فعل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/430- 431) ، والحلبي في "السيرة ~~الحلبية"، وابن التلمساني في "حواشي الشفا"، والزرقاني في "شرح المواهب ~~اللدنية" (5/396- 401) وغيرهم. # بهذا العرض الموجز نستطيع أن نقدر كم تكدرت ينابيع الثقافة الإسلامية ~~بهذه الفكرة الخرافية التي لا أساس لها من الكتاب والسنة، ولم يقل بها أحد ~~من سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم. # PageV02P034 # • الذين نقدوا هذه الفكرة # نظرا لخطورتها على العقيدة وما في شيوعها من آثار سيئة على المجتمع، ~~انتقدها بعض العلماء وذكروا أنها من مخترعات الصوفية وأباطيلهم. ومن أوائل ~~من رد عليها وبين ضلال القائلين بها القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي، ~~فقد تكلم عليها في كتابه "سراج المريدين " الذي ألفه في التصوف (1) . ومنهم ~~من اقتصر على نقد الأحاديث الواردة في الأبدال، والحكم عليها بالوضع ~~والبطلان، وقصد بذلك هدم الفكرة من أساسها، وبيان أنه لا مستند لها في ~~الكتاب والسنة، وهذا ما فعله ابن الجوزي وغيره من العلماء الذين سبق ذكرهم ~~فيما مضى عند الكلام على أحاديث الأبدال، فلا نعيده هنا. # وسئل ابن الصلاح: هل ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "على كل ~~قدم نبي من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولى من أولياء الله تعالى"؟ ~~وأن القطب على قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وأن في الأرض سبعة ~~أوتاد وأبدال ونجباء ونقباء؟ كلما مات رجل أقام الله عز وجل PageV02P035 # عوضه رجلا، ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن وفي علم الظاهر إلى ~~قيام الساعة. الأمر على مما ذكر أم لا؟ # فأجاب: لا يثبت هذا الحديث، وأما الأبدال فأقوى ما رويناه فيهم قول علي ms0227 ~~رضي الله عنه إنه بالشام الأبدال، وأيضا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء ~~المسلمين وصلحائهم. وأما الأوتاد والنجباء والنقباء فقد ذكرهم بعض مشايخ ~~الطريقة، ولا يثبت ذلك. ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن ~~تقوم الساعة، وهم العلماء (1) . # وللعز بن عبد السلام رسالة في إبطال قول الناس أن قطب الأقطاب والأبدال ~~لهم تصرف، بين فيها بطلان قول الناس فيهم، ورد على من يقول بوجودهم، وأقام ~~النكير على قولهم "بهم يحفظ الله الأرض" (2) . وقد وصلت إلينا نسختان من ~~هذه الرسالة: إحداهما في مكتبة الأوقاف ببغداد برقم [2/9683 مجاميع] في ~~ثماني ورقات؛ والأخرى في معهد الاستشراق في ليننغراد في ست ورقات (3) . ~~PageV02P036 # جاء بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية فكتب كتابات عديدة في هذا الموضوع، ~~وناقش الصوفية في القطب والأبدال والأوتاد وغيرها من الألفاظ، وبين ما ورد ~~منها على لسان السلف ومعانيها عندهم، وأبطل الأحاديث الواردة في هذا الباب، ~~وفصل الكلام على مخالفة هذه النظرية للدين والعقل. وسنعرض آراءه في هذا ~~الموضوع في الفصل القادم إن شاء الله. # وممن تأثر بشيخ الإسلام تلميذه ابن القيم الذي حكم على أحاديث الأبدال ~~والأوتاد بأنها باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . واختصر ~~مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه (2) فتوى لشيخ الإسلام، وظن أن السيوطي لم ~~يطلع على كلام الشيخ، لأنه لم يتعرض لذكره، ولا لرد ما احتج به مما لا يمكن ~~رده. وأرى أن السيوطي وقف على كلام الشيخ، ولكن تجاهله لأنه لم يقدر على ~~مناقشته، فأحب السكوت عنه. وقد صرح المناوي في شرح كتابه "الجامع الصغير" ~~(3) أن المؤلف (السيوطي) خالف عادته هنا باستيعاب طرق حديث الأبدال إشارة ~~إلى بطلان قول ابن تيمية. # وانتهج الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي (4) نهج شيخ الإسلام في PageV02P037 # الرد على من يدعي أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل ~~الكرامة، وأن منهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين ~~وأربعة، والقطب هو الغوث للناس. فقال: "هذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل ~~فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما ms0228 فيه من روائح الشرك المحقق، ~~ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه ~~الأمة". # ثم أطال في مناقشته هذه الدعاوي، وقال في آخر البحث: إنها من موضوعات ~~إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي ~~وابن تيمية. # أما ابن خلدون (1) فيكشف عن صلة هذه النظرية بما عند الإسماعيلية ~~والشيعة، فيقول: "كان سلفهم (أي الصوفية) مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من ~~الرافضة، الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب ~~كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في ~~كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن ~~يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل ~~العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" في فصول التصوف ~~منها، فقال: "جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد ~~بعد PageV02P038 # الواحد"، وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من ~~أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب ~~وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء". # هذه آراء بعض العلماء القدامى ونتف من انتقاداتهم، تؤكد أن هذه النظرية ~~أجنبية عن الفكر الإسلامي الأصيل، تسربت إلى الصوفية من غيرهم وتحكمت فيهم ~~عبر القرون. # • موقف شيخ الإسلام منها # لم يناقش فكرة القطب والأبدال أحد مثلما ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية، ~~فله كتابات عديدة في هذا الباب، كتبها ردا على بعض الأسئلة التي وجهت إليه، ~~أو تناولها عرضا في بعض كتبه. وأكثرها تفصيلا واستيعابا هذه الفتوى التي ~~بين أيدينا والتي وصلت إلينا بخطه، وفتوى أخرى (مخطوطة) لم تنشر بعد (1) ، ~~وفتوى ضمن السؤال عن أهل الصفة (2) ، وفتوى ضمن السؤال عن زيارة القبور (3) ~~، وتكلم عليها عرضا في بعض PageV02P039 # مؤلفاته (1) وفتاواه (2) . وفيما يلي استعراض لأهم الجوانب التي تناولها ~~شيخ الإسلام بالبحث، ودراسة لموقفه منها، في ضوء هذه الفتوى والكتابات ~~الأخرى التي سبق ذكرها ms0229. # ذكر شيخ الإسلام دعوى الصوفية أن في الأرض ثلاث مائة وبضعة عشر هم ~~"النجباء"، وسبعين هم "النقباء"، وأربعين هم "الأبدال "، وسبعة هم ~~"الأقطاب" على عدد الأقاليم السبعة، وأربعة هم "الأوتاد" كالأوتاد التي ~~يذكرها المنجمون، وواحدا هو "الغوث"، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا ~~نابتهم نائبة فزعوا إلى الثلاث مائة وبضعة عشر، وأولئك إلى السبعين، ~~والسبعون إلى الأربعين، وهكذا يرفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر ~~إلى "الغوث"، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. وأن "الغوث" يطلع على ~~أسرار قلوب العباد، علمه ينطبق على علم الله. # ويزعمون أنه على قدم كل نبي من الأنبياء وليان: ولي ظاهر وولي ~~PageV02P040 # باطن. ويقولون: إن هؤلاء الأولياء يستسقى بهم الغيث وتنزل الرحمة ويكشف ~~العذاب، وإذا غضب الله على أحد من أهل الأرض وأراد أن ينزل غضبه نظر إلى ~~قلوب هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلا رفعه. ويدعون أن مدد ~~الخلائق في نصرهم ورزقهم يكون بواسطة الغوث، بل إن مدد الملائكة في السماء ~~والطير في الهواء والحيتان في البحر أيضا بواسطته، وهو يعطي الملك والولاية ~~لمن يشاء، ويصرف عمن يشاء. # ثم بدأ يناقشهم، فذكر أن هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها في ~~الكتاب والسنة، ولا قول أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين ~~وشيوخهم. وهذه الأعداد والمراتب والصفات والأسماء ذكرها بعض المتأخرين من ~~الصوفية، وقد زادوا فيها ونقصوا، ولهم أقوال مختلفة في هذا الباب، وقد ادعى ~~بعضهم أنه ينزل كل عام على الكعبة ورقة مكتوب فيها اسم غوث ذلك العام ~~وخضره، وان لكل زمان خضرا، وأنه نقيب الأولياء، وأنه مرتبة محفوظة لا شخص ~~معين، ونحو هذه الدعاوي التي يعلم كل عاقل بطلانها وضلال معتقدها. # وهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة # عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل. وقد روي في ~~"الأبدال" حديث عن علي بن أبي طالب مرفوعا، ولكنه بإسناد منقطع، فهو من ~~رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، ولم يسمعه منه ms0230. # PageV02P041 # وقد بحث شيخ الإسلام عن معاني هذه الألفاظ والأسماء في اللغة والشرع، ~~وذكر أن ما ورد منها على لسان بعض السلف ليس على الوجه الذي يتصوره ~~الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين. # أما "الغوث" فلا أصل له في كلام أحد من السلف، ولم يعرف عن أحد منهم أنه ~~قال: فلان غوث هذه الأمة، أو أن للأمة غوثا بمكة ونحوه، فهذا من محدثات ~~الصوفية ومخترعاتهم. ولا يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى. # ولفظ "النقباء" ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله تعالى في ~~قوله: (* ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) . ~~وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار اثني عشر نقيبا على عدد نقباء ~~موسى. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يعرفون العرفاء وينقبون النقباء، ~~ليعرفوهم بأخبار الناس وينقبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في ~~الكتاب والسنة، وإطلاق هذا اللفظ على أولياء الله ليس له أصل في كلام ~~السلف. # أما لفظ "الأبدال" فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف، فروي عن الشافعي ~~في بعضهم: كنا نعده من الأبدال، وقال البخاري في رجل: كانوا لا يشكون أنه ~~من الأبدال، وقال يزيد بن هارون: الأبدال 0هم أهل العلم، وقال أحمد: إن لم ~~يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. وكذا وصف غير هؤلاء من النقاد والحفاظ ~~والأئمة غير واحد بانه من الأبدال. وكان المقصود # PageV02P042 # منه أنهم أبدال عن الأنبياء وخلفاء لهم وورثتهم، يخلفونهم في سننهم، ~~ويحملون الأمة على طريقهم. وقد جاء في حديث وصف الذين يحبون السنة ~~ويعلمونها الناس بأنهم خلفاء النبي، وفي حديث آخر أن "العلماء ورثة ~~الأنبياء". والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعض ~~ما بعثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في بعض الأمر ~~كان بدلا منهم في ذلك. ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءهم للخلق، وما ~~يحصل بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامهم في بعض ذلك كان ~~بدلا ms0231 منهم في ذلك البعض. # ومن زعم من الصوفية أن البدل إذا غاب عن مكانه أبدل بصورة على مثاله، ~~ولذا سموا أبدالا، فهذا باطل، ولم يكن السلف يعنون به هذا المعنى. # أما اسم "القطب" فهو مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه الرحى، فالشخص ~~الذي يدور عليه أمر من الأمور فهو قطب ذلك الأمر، وأفضل الخلق هم الرسل، ~~وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وإمام الصلاة يدور عليه أمر الإمامة، فهو ~~قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب الحكم، وأمير الحرب ~~قطب هذه الإمارة، وكان الخلفاء الراشدون أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح ~~الأمة في دينها ودنياها ما لم يدر على أحد مثله. # وقد يكون في عصر رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد # PageV02P043 # يكون رجلان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويحصل بدعائهم وعبادتهم من الخير ~~ويندفع من الشر ما لا يحصل بدون ذلك، كما في قول النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (1) . ~~وقد قال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم ~~يستغفرون (33)) ، وقال: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن ~~تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا ~~لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25)) . فهذا ونحوه مما يوافق أصول ~~الدين. # وأما ما يدعيه الصوفية في القطب والمرتبة التي يسمونها القطبية فمن الغلو ~~الذي يشبه غلو النصارى والرافضة، حيث قالوا: إن مدد أهل الأرض يكون من ~~جهته، وإن الله إذا أنزل إلى الأرض خيرا من هدى ورزق ونصر فإنه ينزله عليه، ~~ثم منه يفيض إلى سائر الخلق. لم يكن السلف يفهمون من القطب هذا المعنى، ولا ~~خطر ببالهم إلا معناه اللغوي الذي سبق ذكره. ولا يعرف أنهم تكلموا بهذا ~~الاسم في الرجال، ولا جعلوا اسم "القطب" مما يعبر ول عن أحوال أولياء الله ~~المتقين، بخلاف اسم "الأبدال" في نقل عنهم التكلم بذلك في مواضع. # أما "الأوتاد" فقد ورد ms0232 على لسان بعض المتأخرين، والوتد هو المثبت لغيره، ~~كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبت الله به PageV02P044 # الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثبت بدعائه وعبادته نصرهم ورزقهم، ~~كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك. # أما "النجباء" فلم يرد إطلاقه عند السلف على أولياء الله، ولم يثبت شيء ~~من الآثار التي رويت في ذلك. # بهذا التفصيل نعرف أن السلف عند استخدامهم لبعض هذه الألفاظ لم يفهموا ~~منها تلك المعاني والخصائص التي استقرت في أذهان الصوفية، ولذا فاستناد ~~هؤلاء إلى الآثار التي وردت فيها تلك الألفاظ على لسان بعض السلف لا يجديهم ~~شيئا، فهي -على فرض ثبوتها عنهم- ليست على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل ~~بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين. # وعندنا أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع، الأول: أن أولياء الله هم ~~المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: (إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا ~~يعلمون (34)) وقال: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) ~~(الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)) . # والثاني: أن الله يجلب للناس المنافع ويدفع عنهم المضار بدعاء عباده ~~المؤمنين وصلاتهم وعبادتهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "وهل ~~تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم". # إذا عرفنا هذين الأصلين تبين لنا أنه ليس لأولياء الله عدد محصور تتساوى ~~فيه الأزمنة، ولا لهم مكان معين من الأمكنة، بل هم يزدادون وينقصون بحسب ~~زيادة أهل الإيمان والتقوى # PageV02P045 # ونقصانهم. وقد بعث الله رسوله بالحق، وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل ~~من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل من سبعين، ثم أقل من ثلاث مائة، فأين ~~كان أولئك الأبدال وغيرهم ممن يذكرهم الصوفية بالعدد والترتيب والطبقات؟ هل ~~كانوا في الكفار؟ # ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وبها انعقدت ~~بيعة الخلفاء الراشدين، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل ~~منهم، فمن كان هو الغوث الذي يدعي الصوفية وجوده بمكة بعد الهجرة؟ # ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان ms0233 في المؤمنين في كل ~~وقت من أولياء الله المتقين عدد لا يحصى، ولا يحصرون بثلاث مائة ولا بثلاثة ~~آلاف، فكل من جعل لهم عددا محصورا فهو من المبطلين عمدا أو خطأ. # ونسألهم من كان القطب والأبدال وغيرهم من زمن آدم ونوح وإبراهيم وقبل ~~محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ وإن زعموا ~~أنهم كانوا بعد رسولنا ففي أي زمان كانوا؟ ومن أول هؤلاء؟ وبأي آية وبأي ~~حديث مشهور وبأي إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبت وجود هؤلاء بهذه ~~الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعتقد إلا من هذه الأدلة الثلاثة ومن ~~البرهان العقلي، (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)) ، فإن لم يأتوا ~~به فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم. # وقولهم "إن النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق" # PageV02P046 # ونحو هذا على الإطلاق باطل قطعا، فإن هذه البلاد كانت في أول الإسلام ~~ديار كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله، ولما صارت دار إسلام صار فيها من ~~أولياء الله بحسب ما في أهلها من الإيمان والتقوى. ولا يختص إقليم من هذه ~~الأقاليم بالأبدال، ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلا بالشام فقد أخطأ، فإن ~~خيار هذه الأمة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة، ~~ولما فتحت الأمصار كان في كل مصر من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله. # وإذا كان الأبدال أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، ~~فإن طائفته كانت أولى بالحق من طائفة معاوية بشهادة النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فكيف يكون الأبدال خارجين عن جماعة علي ويكونون بالشام؟ # ومما يبين أنهم ليسوا مخصوصين بالشام أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من ~~السلف كانوا يجعلون منهم من ليس بالشام، وهذا كثير في كلامهم، فما يدعيه ~~الصوفية غلط. # وقولهم "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى ~~ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة" من أعظم ~~الكذب والبهتان، فإن هذا "الغوث" المدعى ليس بأعظم ms0234 من الرسل، وهم قد يمنعون ~~ما يسألون، وقد كان الأنبياء يجتهدون في الدعاء، فكيف يكون غيرهم لا يرفع ~~بصره حتى تدفع النوازل؟ وقد نزل بهذه الأمة من الشدائد ما لا يحصيه # PageV02P047 # إلا الله، واتصل بعضها مدة، فأين كان هذا الغوث؟ وكان المسلمون لا يرفعون ~~أمر هذه الشدائد إلى غير الله ولا يتركونها لشخص معين، فمن هذا الأدنى الذي ~~يرفعها إلى الأعلى؟ وإذا كان الله يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يحوج ~~عباده المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه؟ وأين الحاجة إلى الوسائط ~~والله يسمع ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟ # ومن أباطيل الصوفية ادعاؤهم أنه "على قدم كل نبي وليان: ولى ظاهر وولي ~~باطن"، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الأنبياء، النبي ~~يجيء وحده، والنبي يجيء معه رجل، والنبي يجيء معه رجلان، فإذا كان النبي قد ~~لا يتبعه أحد، أو لا يتبعه إلا رجل واحد، فكيف يجب أن يكون له في كل عصر ~~اثنان على قدمه من أمة غيره؟ # وأيضا فقول القائل إن الولي على قدم النبي لا يجوز أن يريد به اتباع ~~شريعته، فإنه بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله من أحد ~~إلا شريعته. ثم إن غالب الأنبياء لم يقصوا على نبينا - صلى الله عليه وسلم ~~-، ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبي لا يعرفه ولا ~~يعرف قدمه؟ # وخلاصة القول أن هذا الكلام لا دليل عليه، ولو كان حقا لكان معروفا عند ~~أهل العلم والإيمان، فإذا لم يكن له أصل عندهم علم بطلانه. # ومن أشنع ما يزعمه الصوفية قولهم في "الغوث القطب": إنه # PageV02P048 # يطلع على أسرار قلوب العباد، وينطبق علمه على علم الله، ويعرف جميع ~~الأولياء، وتنتهي إليه حوائج الخلق، وبواسطته يكون مدد الخلائق في نصرهم ~~ورزقهم. وقد ناقشهم شيخ الإسلام وبين أن هذه الدعاوي كلها باطلة، وهي نظير ~~ما يدعيه النصارى في "المسيح" والرافضة في "المنتظر" والنصيرية في "الباب" ~~والفلاسفة في "العقل الفعال"، وأظهر في ms0235 الشرك والضلال والكفر والفساد من أن ~~نعرض لها. وقد أطال شيخ الإسلام في الرد عليها، وذكر نصوصا من الكتاب ~~والسنة تدل على أنها من الشرك في الربوبية، ولا يجوز نسبة الأمور المذكورة ~~إلى الأنبياء والرسل، فكيف تصح لهذا "الغوث" المزعوم الذي لا وجود له إلا ~~في أذهان الصوفية؟ ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المواضع التي أشرنا ~~إليها في أول هذا الفصل، وليقرأ هذه الفتوى التي فصل الكلام فيها حول هذا ~~الموضوع. # هذا عرض موجز لآراء شيخ الإسلام في هذا الباب، وبه يظهر أنه بحث دعاوي ~~الصوفية في القطب والأبدال من نواح متعددة، وناقشهم مناقشة طويلة بالعقل ~~والنقل، وهدم أساس نظريتهم، وأبطل كل شبهة تعلقوا بها. وهذه الفتوى التي ~~تنشر الآن لأول مرة هي أطول فتوى له فيها. # • وصف النسخة الخطية # توجد نسخة فريدة من هذه الفتوى بخط المؤلف ضمن مجاميع المدرسة العمرية ~~بدار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 3845 عام [مجاميع 109] (الورقة 235- 257) ~~باستثناء الورقة 256 أ- ب، # PageV02P049 # فهي من "سنن أبي داود"، وفيها الأحاديث ذات الأرقام (1302- 1308) . ~~ويلاحظ أن الورقة مقلوبة، فصفحة ب سابقة في الترتيب على أ. ويبدو أنها ورقة ~~ضائعة من نسخة قديمة من "السنن" عليها آثار التصحيح والمقابلة. # تبتدىء هذه النسخة بنص السؤال الذي قدم إلى شيخ الإسلام، وبعده بدأ الشيخ ~~كتابة الجواب في أسفل الصفحة بقوله "الحمد لله "، وانتهى منها في الورقة ~~(255 أ) ، حيث قال في آخرها: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". ثم ~~رأى الزيادة على ما سبق، فشطب على العبارة المذكورة، وكتب صفحتين، وقال في ~~الأخير: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". # وقد كانت هذه الفتوى بلا عنوان، فكتب في أولها أحد المفهرسين "فتوى ~~الأقطاب والأبدال" بخط حديث. وبجانبه في أعلى الصفحة بخط قديم: "نقله محمد ~~بن المحب"، مما يفيد أن هذه الفتوى نسخت منها نسخة بخط محمد بن المحب، ناسخ ~~بعض مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وهو الحافظ شمس الدين أبو بكر ~~محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله ms0236 المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، ~~المشهور بالصامت لكثرة سكوته (713- 789) ، ترجم له الحافظ في "الدرر ~~الكامنة" (3/465) ، وقال: "تفقه إلى أن فاق الأقران، وأفتى ودرس، وكان كثير ~~المروءة حسن الهيئة، من رؤساء أهل دمشق". # وله أخ اسمه أبو الفتح أحمد (719- 749) ، ترجمته في # PageV02P050 # "الدرر الكامنة" (1/179) ، وهو أيضا ناسخ كثير من مؤلفات شيخ الإسلام ~~التي وصلت إلينا. وخط هذين الأخوين متقن، ومتشابه إلى حد كبير، وأكثر ~~منسوخاتهما بالاعتماد على الأصول والمسودات التي بخط الشيخ. وقد شرقت هذه ~~النسخ وغربت، وتفرقت في بلدان عديدة، وضاع كثير منها وبقي بعضها في ~~المكتبات. وتعتبر هذه النسخ أهم ما وصل إلينا من مؤلفات شيخ الإسلام بعد ~~الأصول التي بخطه. وإذا عثرت على شيء منها بخط أحدهما فلا تلتفت إلى نسخ ~~أخرى متأخرة، ولا تتعب في جمعها وتحصيلها، فهي لا تفيدك إلا زيادة التصحيف ~~والتحريف والسقط، كما هو مجرب لدي بعد فحص مثل هذه النسخ. # ونظرا لأهمية النسخة التي نقلها ابن المحب بحثت عنها في فهارس المكتبات، ~~فلم أعثر عليها مع الأسف، ولذا عكفت على أصل المؤلف، وبذلت جهدي في قراءته، ~~واستطعت أن أقدمه بالشكل الذي يراه الناظرون. # وقد سبق لي وصف خط المؤلف في مقدمتي على "قاعدة في الاستحسان" (ص 14، 42) ~~، وكل ما ذكرته هناك ينطبق على هذا الكتاب، فأحيل القراء إليها. # وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج أثر مهم من آثار شيخ ~~الإسلام بخطه، وأشكر الإخوة الذين جلبوا لي المصورات الفلمية والمكبرة عن ~~الأصل، حتى تمكنت من قراءة الكلمات والأسطر التي كانت ساقطة أو مطموسة في ~~مصورتي، # PageV02P051 # وأخص بالذكر منهم الأخوين الكريمين والمحققين الفاضلين علي ابن محمد ~~العمران وأحمد حاج محمد، فقد سعيا في ذلك كثيرا، جزاهما الله أحسن الجزاء ~~عن العلم وأهله، ووفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب. # محمد عزير شمس # PageV02P052 # نماذج من الأصل # PageV02P053 # نص الفتوى # PageV02P055 # بسم الله الرحمن الرحيم # ما تقول السادة العلماء أئمة الهدى ومصابيح الدجى فيمن يزعم أنه على قدم ~~كل نبي من الأنبياء وليان: ولي ظاهر وولى باطن، وهما ms0237 أقطاب الغوث (1) الذي ~~ينتهي إليه حوائج الخلق، وأن له أربعة أوتاد وسبعة نجباء واثنا عشر (2) ~~نقيبا وأربعين بدلا، وأن كلما مات من الاثنا عشر واحدا (3) أخذ من ~~الأربعين، ومن السبعة أخذ من الاثنا عشر (4) ، وكل ينزل من أكثر العدد إلى ~~أقل العدد بحسب مراتب الأوضاع، وأن الغوث بمكة، والقطبين أحدهما بالمشرق ~~والآخر بالمغرب، والأربعة بأركان الأرض، والنجباء بمصر، والأبدال بالشام، ~~والنقباء بالعراق، وأن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى، ~~حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. ويدعون ~~أن لكل قطب علم (5) لا يعرفه الآخر، ويسمون أنواعا من العلوم الظاهرة ~~والباطنة. PageV02P057 # والمسئول معرفة الحق المشروع، هل هذه الأشياء المسماة لها دليل من كتاب ~~أو سنة؟ أو لها وجود أو لها تأثير؟ أو لها حقيقة ترجع إلى تمثلها في ~~الأكوان أو الأذهان؟ وهل الحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"لا تسبوا أهل الشام، فإن فيهم الأبدال"، هل هو صحيح أم ضعيف؟ وإن كان ~~صحيحا ما حكمه؟ # أفتونا مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى. # PageV02P058 # الحمد لله. هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها من كتاب ولا سنة، ~~ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين وشيوخهم، الذين ~~لهم في الأمة لسان صدق، وإنما يذكر بعض هذا الكلام عن بعض الشيوخ ~~المتأخرين، مع أنه لا أصل له، وزاد في ذلك من بعدهم ونقصوا، وغيروا في ~~الأعداد والمراتب والصفات،/ وقالوا أشياء نعلم مخالفتها لدين المسلمين، بل ~~ولعقل عقلاء العالمين. وقد يروون في ذلك أحاديث موضوعة، مثل روايتهم أنه ~~كان للمغيرة بن شعبة غلام اسمه هلال، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: "إنه من السبعة" (1) . # وقد روى هذا الحديث بعض المصنفين في الرقائق، كما روى غيره من الموضوعات، ~~وأما الشهادة لمعين بالجنة فهذا صحيح، فقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- بالجنة لغير واحد من الصحابة، كالعشرة وثابت بن قيس وغيرهم. PageV02P059 # وهؤلاء الذين تكلموا في هذا من المتأخرين يجعلون الأقطاب سبعة على ms0238 عدد ~~الأقاليم، ويجعلون الأوتاد أربعة كالأوتاد التي يذكرها المنجمون، ويجعلون ~~الغوث واحدا مقيما بمكة، ويجعلون مدد أهل الأرض منه، ويقولون: إنه منه يفيض ~~على أهل الأرض ما ينزل عليهم من الهدى والرزق ونحو ذلك، ويقولون: إنه لابد ~~لكل زمان من ذلك، كما يقول الرافضة: إنه لابد لكل زمان من إمام معصوم، وكما ~~يقول النصارى: إنه لابد من الباب الذي به يحفظ أهل الأرض (1) . # فقيل لبعض هؤلاء: فإذا كان لابد كذلك فمن الغوث الذي كان بمكة بعد الهجرة ~~على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، الذي كان هو ~~الممد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وهو أفضل منهم؟ ~~فبهت مدعي ذلك. # وقد يقولون مع ذلك بأن لكل زمان خضرا، ويجعلون الخضر مرتبة محفوظة لا ~~شخصا معينا، ويدعون أنه ينزل كل عام على البيت ورقة مكتوب فيها اسم غوث ذلك ~~العام وخضره. ونحو هذه الدعاوي التي يعلم كل عاقل بطلانها، وضلال معتقدها، ~~وكذب المخبر بها عمدا أو خطأ. # ومن هؤلاء من يعين لكل قرية من القرى واحدا من هذا العدد PageV02P060 # أو أقل أو أكثر، ويتكلمون في ذلك نظما ونثرا بكلام يناقض العقل ويخالف ~~دين الإسلام. # وحقيقة الأمر في ذلك أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون (1) ، كما قال ~~تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا ~~وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (2) # /وفي صحيح البخاري (3) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي ~~عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى ~~أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي ~~يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ~~(وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) (4) ، وما ترددت عن شىء أنا ~~فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت ms0239 وأكره مساءته، ولابد له ~~منه". # وأيضا فإن الله بعبادات عباده المؤمنين ودعائهم يجلب للناس PageV02P061 # المنافع ويدفع عنهم المضار، كما في السنن (1) أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم". ~~وانتفاع الخلق بدعاء المؤمنين وصلاتهم كانتفاع الحي والميت بدعاء المؤمنين ~~واستغفارهم، ونزول الغيث بدعاء المؤمنين واستغفارهم، والنصر على الأعداء ~~بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك مما اتفق عليه المؤمنون. # فهذان الأصلان هما أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع. وليس لأولياء ~~الله عدد محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكان معين من الأمكنة، بل هم ~~يزدادون وينقصون بحسب زيادة أهل الإيمان والتقوى ونقصانهم. فبعث الله محمدا ~~- صلى الله عليه وسلم - إلى الناس، وكان الأمر كما أخبر في الحديث الصحيح ~~(2) : "إن الله نظر إلى أهل 236 ب الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم،/ إلا بقايا ~~من أهل الكتاب". # وقد ثبت في الصحيح (3) أن إبراهيم الخليل قال لسارة: "إنه ليس على وجه ~~الأرض مؤمن غيري وغيرك". وقد أخبر الله عن نوح PageV02P062 # أنه (ما ءامن معه إلا قليل (40)) (1) ، وأن الله أغرق أهل الأرض إلا من ~~كان معه في السفينة. # وقد كانت الشام قبل أن يخرج إليها موسى وبنو إسرائيل يغلب على أهلها ~~الكفر، فأورثها الله لبني إسرائيل، فصار فيها من الأنبياء والصالحين ما لم ~~يكن فيها نظيره قبل ذلك. # ولما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - آمن به طائفة قليلة، فكان ~~أول من آمن به أبو بكر وعلي وزيد وخديجة، وآمن على يدي أبي بكر عثمان وطلحة ~~والزبير وسعد وعبد الرحمن، ثم تزايد أهل الإيمان حتى بلغوا أربعين، فلم يكن ~~بمكة قبل ذلك أربعون مؤمنا، بل ولا عشرة مؤمنون، بل ولا أربعة. ثم إن ~~الإيمان زاد، وهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وكثر ~~السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي ~~الله عنهم ورضوا عنه، وكل هؤلاء من سادات أولياء الله المتقين، فبايعه تحت ~~الشجرة أكثر من ألف وأربع مائة قد رضي الله عنهم، وكلهم من أهل الجنة ms0240، قال ~~الله فيهم: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من ~~الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) (2) . # وفي الصحيح (3) أنه قال لخالد بن الوليد لما (4) ساب PageV02P063 # عبد الرحمن بن عوف: "يا خالد، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق ~~أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مذ أحدهم ولا نصيفه ". وخالد هو ممن أنفق من بعد ~~الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد/ الحديبية (1) ، فجعل النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - هؤلاء التابعين من الصحابة بالنسبة إلى السابقين منهم بهذه المنزلة. # وانتشر الإسلام بعد هذا في أرض اليمن والشام والعراق وخراسان ومصر ومغرب ~~(2) ، حتى بقي في العصر الواحد من هذه البلاد من أولياء الله ألوف مؤلفة. ~~فمن قصرهم حينئذ على الأربعين أو ثلاث مائة كان جاهلا، كما أن من بلغ بهم ~~في أول الإسلام هذا العدد كان جاهلا. # وأما الأسماء المذكورة فتسمية "الغوث" لا أصل لها في كلام أحد من السلف ~~بالمعنى الذي يدعيه هؤلاء (3) ، ولا يعرف عن أحد من السلف أنه قال: فلان هو ~~غوث هذه الأمة، أو إن للأمة غوثا بمكة أو يجيء مكة. # وأما لفظ "النقباء" فإنما ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله ~~في قوله: (* ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا PageV02P064 # منهم اثني عشر نقيبا) (1) . وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ~~للأنصار اثني عشر نقيبا على عدد نقباء موسى (2) . وكذلك قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لأصحابه عام حنين لما أطلق لهوازن السبي فقال: "ليرفع لنا ~~عرفاؤكم من طيب ممن لم يطيب" (3) . وكان العسكر اثني عشر ألفا. # وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يعرفون العرفاء وينقبون الئقباء، ليعزفوهم ~~بأخبار الناس، وينقبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب ~~والسنة وكلام السلف. # وأما من جعل لأولياء الله نقباء هم، اثنا عشر، أو جعل الخضر نقيب ~~الأولياء، فهذا باطل، فإن أولياء الله لا يعرف أعيانهم على التفصيل أحد من ~~البشر، لا نبي ولا غير نبي. وقد كان على عهد النبي - صلى ms0241 الله عليه وسلم - ~~بمدينته مؤمنون (4) ومنافقون، وقد قال الله له: (وممن حولكم من الأعراب ~~منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (5) . # وإذا لم يقع التمييز بين هؤلاء وهؤلاء لخير الخلق، فغيره PageV02P065 # أولى، ومن لم يعرف أعيان المنافقين جوز على من ظاهره الإسلام أن يكون ~~مؤمنا، وإذا لم يعلم فجوره جاز أن يكون تقيا، وكل مؤمن تقي ولي لله. # وقالوا لعمر بن الخطاب: من يعطى المغازي؟ قيل: فلان وفلان وآخرون لا ~~يعرفهم أمير المؤمنين، فقال: إن لا يكن عمر يعرفهم فإن الله يعرفهم، وقد ~~قال تعالى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (1) . # وقد ثبت في الصحيح (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف أمته يوم ~~القيامة بسيماهم، فإنهم يكونون غرا محجلين من آثار الوضوء. # وأيضا فأولياء الله إذا كان لهم نقباء كان النقباء أخبر بهم ممن يرفعون ~~أخبارهم إليه، ومعلوم أن الذين يرفعون أخبارهم إليه سواء كان نبيا أو غير ~~نبي، هو أعلى مرتبة من النقباء، فيكون المفضول أعلم بأولياء الله من ~~الفاضل، وهذا ممتنع. بخلاف النقباء الذين جاء بهم الكتاب والسنة، فإنهم ~~يرفعون أخبارهم الظاهرة التي يشهد بها الشهود ويحكم بها الحكام، وإن كان قد ~~يكون في ذلك ما يستدل به على الإيمان والتقوى، لكن الدليل لا ينعكس، فلا ~~يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول عليه، فلا يشهد على شخص معين أنه ~~ليس من أولياء الله إلا بعليم يقتضي ذلك. والنقباء لا PageV02P066 # يشهدون بذلك، ومن لم يشهد بذلك لم يكن عالما بمن هو ولي ممن ليس بولي. # وأما لفظ "الأبدال" (1) فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف: فلان كان ~~يعد من الأبدال. ولفظ "الأوتاد" (2) جاء في كلام بعضهم. # فأما لفظ "الأبدال " فقد فسر بثلاث معاني: # قيل: سموا أبدالا لأنهم أبدال عن الأنبياء، وهذا المعنى صحيح. # فإن الأنبياء،/لهم خلفاء، كما كان الخلفاء الراشدون خلفاء للنبي - صلى ~~الله عليه وسلم - وقد كان له في حياته ولغيره من الأنبياء خلفاء في أمر دون ~~أمر، فإنه كان ms0242 إذا خرج في غزو أو حج أو عمرة استخلف على المدينة بعض ~~أصحابه، كما كان يستخلف ابن أم مكتوم وغيره، واستخلف علي بن أبي طالب [في] ~~غزوة تبوك، وكان قد خرج معه عامة أصحابه، ولم يبق بالمدينة من المؤمنين إلا ~~معذور، غير الثلاثة الذين خلفوا، فخرج إليه على، فقال: يا رسول الله، ~~أتدعني مع النساء والصبيان؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من ~~موسى؟ " (3) وقد قال تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ~~ولا تتبع سبيل المفسدين (142)) (4) . PageV02P067 # فاستخلف موسى هارون مدة ذهابه للميقات إلى أن عاد. # وكذلك كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ولاة على الأمصار كعتاب ~~بن أسيد وخالد بن سعيد وغيرهما، وسعاة على الصدقات ونواب في التعليم، كمعاذ ~~وأبي موسى، وكل من هؤلاء خليفة له وبدل عنه في بعض الأمور دون بعض. # وجاء في حديث وصف الذين يحيون السنة ويعلمونها الناس بأنهم خلفاء النبي ~~(1) ، وللأنبياء أيضا ورثة كما في الحديث المشهور في السنن: "العلماء ورثة ~~الأنبياء" (2) . والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن ~~نال بعض ما بعثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في ~~بعض الأمر فقد خلفهم في ذلك على البدلية، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان ~~بدلا منهم في ذلك. وقد استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا ~~نتوسل إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" (3) . # ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءهم للخلق، وما يحصل PageV02P068 # بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامهم في بعض ذلك كان بدلا ~~منهم في ذلك البعض. # وقيل: سموا أبدالا لأنه كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا. # وهذا لا يصح، ولا مدح فيه/فإن كون الشخص إذا مات قام مقامه غيره قد يكون ~~مع إيمانه، وقد يكون مع كفره، والله جعل بعض بني آدم خلفاء بعض مع اختلاف ~~أعمالهم. قال تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) (1) ، وقال: (ولقد ~~أهلكنا القرون من قبلكم ms0243 لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ~~ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين (13) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم ~~لننظر كيف تعملون (14)) (2) . فقد جعل أمة محمد خلائف عمن أهلك من القرون ~~المكذبين الظالمين. # وقد قال نوح له (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ~~(27)) (3) ، فهذا الولد الفاجر الكفار بدل عن أبيه. فليس في إبدال شخص مكان ~~شخص مدح إلا أن يكون الأول ممدوحا، فإن لم يعتبر في معنى البدل أن يكون ~~بدلا عن نبي أو من يقوم مقام نبي لم يكن في كونه بدلا عمن كان قبله صفة ~~مدح. # وأيضا فلو كان كل من مات قام مقامه غيره للزم أن يقوم مقام PageV02P069 # أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أمثالهم، ولم يكن كذلك. وهؤلاء أفضل خلفاء ~~الرسل وأبدالهم ووراثهم. # وأيضا فمن يكون بدلا عن الأنبياء كثيرون إذا كثر الإيمان والتقوى، قليلون ~~إذا قل ذلك، ومعلوم أن المؤمنين المتقين ليسوا إذا مات منهم واحد قام مقامه ~~غيره. # وقد قيل في معنى الأبدال: إنهم بدلوا سيئاتهم حسنات. وهذا معنى التائبين، ~~فكل مؤمن تاب من سيئاته له هذا المعنى. # وزعم بعضهم أن البدل إذا غاب عن مكانه أبدل بصورة على مثاله. وهذا باطل، ~~ولم يكن السلف يعنون بالبدل هذا المعنى، ولا يجعلون ذلك لازما لمن يسمونه ~~بهذا الاسم. # وأما اسم "القطب" (1) فالقطب مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه ~~الرحى، وكذلك قطب الفلك وغير ذلك من الأجسام الدائرة. ف ### | الشخص الذي يدور عليه أمر من الأمور هو قطب ذلك الأمر، # وأفضل الخلق هم الرسل، وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وتبليغهم أمره ~~ونهيه ووعده ووعيده،/وكل من دار عليه أمر من الأمور فهو قطبه، فإمام الصلاة ~~قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب القضاء، وأمير ~~الحرب قطب هذه الإمارة، وأئمة الهدى -كالشيوخ الذين يقتدى بهم في دين الله- ~~هم أقطاب ما دار عليهم من ذلك. ومن ينصر المسلمون ويرزقون PageV02P070 # بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم هم أقطاب ما دار عليهم. # وفي الصحيحين ms0244 (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كلكم راع ~~وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، ~~والرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على مال زوجها، وهي ~~مسئولة عن رعيتها، والمملوك راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته، فكلكم ~~راع، وكلكم مسئول عن رعيته". # وكان الخلفاء الراشدين (2) أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح الأمة في ~~دينها ودنياها ما لم يدر على أحد مثله، ثم بعدهم تفرق الأمر، فصار الملوك ~~والأمراء يقومون ببعض الأمر، وأهل العلم والدين يقومون ببعض الأمر، وهؤلاء ~~من أولي الأمر، وهؤلاء من أولى [الأمر] (3) . وقوله تعالى: (أطيعوا الله ~~وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (4) يتناول الطائفتين العلماء والأمراء ~~إذا أمروا بطاعة الله، فمن أمر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية ~~الخالق، وقد جاء في الأثر: "صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء ~~PageV02P071 # والأمراء" (1) . # وقد يكون في الزمان رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد يكون رجلان وثلاثة ~~وأربعة، ولكن ليس في الوجود/رجل هو أفضل أهل الأرض، وفيه ما يقتضي أنه ~~بوجوده يحصل للناس الرزق، وينتصرون على الأعداء، وتهتدي قلوبهم مع كونهم ~~معرضين عن طاعة الله ورسوله. بل كان نوح أفضل أهل الأرض، وقد مكث في قومه ~~ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، وقد قال نوح: (رب إني دعوت قومي ~~ليلا ونهارا (5) فلم يزدهم دعائي إلا فرارا (6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم ~~جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7)) ~~(2) . لم إن الله أغرق أهل الأرض إلا من آمن به. وكذلك غيره من الرسل، كهود ~~وصالح وشعيب ولوط وغيرهم. # نعم قد يحصل بدعائه وعبادته من الخير ويندفع من الشر ما لا يحصل بدون ~~ذلك، كما في قوله: "بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . وقد قال تعالى لنبيه: ~~(وما كان الله ليعذبهم PageV02P072 # وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)) (1) وقال تعالى: ~~(ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة ~~بغير علم ليدخل الله ms0245 في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم ~~عذابا أليما (25)) (2) . يقول: لولا أن تطأوا أولئك المؤمنين والمؤمنات ~~الذين لم تعلموهم إذا دخلتم مكة بالسيف، لسلطكم على أهل مكة، ولو تميز ~~المؤمنون من الكفار لعذبنا الكفار عذابا أليما. فهذا ونحوه مما يوافق دين ~~المسلمين. # /وأما ما يدعيه قوم في القطب والمرتبة التي يسمونها "القطبية" ~~و"القطبانية" فمن الغلو الذي يشبه غلو النصارى والرافضة، كقول أحدهم: القطب ~~الغوث الفرد الجامع، وتفسيرهم ذلك بأن مدد أهل الأرض يكون من جهته، وأن ~~الله إذا أنزل إلى أهل الأرض خيرا من هدى ورزق ونصر فإنه ينزله عليه، ثم ~~منه يفيض إلى سائر الخلق. # وقد يدعي أحدهم أنه منه مدد ملائكة السماوات وطير الهواء وحيتان الماء، ~~وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء ويصرف ذلك عمن يشاء. ونحو هذه ~~المقالات التي تجعل للقطب نوعا من الإلهية والربوبية التي لم تحصل ~~للأنبياء. # وآخرون يجعلون ذلك للغوث، ويجعلون مسمى الغوث أعلى PageV02P073 # من مسمى القطب. وآخرون يجمعون بين الاسمين فيقولون: "القطب الغوث"، كما ~~تقدم. # فهذا وأمثاله من أعظم الكذب والمحال، ومن أعظم الشرك والضلال، وهو شبيه ~~بالإفك والشرك الذي ذم الله به المشركين وأهل الكتاب. وهو سبحانه كثيرا ما ~~يجمع بين الكذب والشرك، كقوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله ~~غير مشركين به) (1) ، وقول الخليل: (أئفكا آلهة دون الله تريدون) (86) (2) ~~، وفي له تعالى:) (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74) ~~ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ~~ما كانوا يفترون (75)) (3) . # /وما ينزل الله على قلوب عباده من الهدى والإيمان هو بمنزلة ما يعطيهم ~~إياه من الرزق، ومعلوم أن ما ينزله من المطر وينبته من النبات لم ينزله قبل ~~ذلك على شخص من البشر، وكذلك ما يغذي به عباده من الطعام والشراب والهواء ~~لم يتغذ به قبله واحد من الناس، ثم انتقل عنه إلى الناس، وأنه ... (4) من ~~الهدى هم الرسل صلوات الله عليهم، فالرسول يدعو إلى الله ويتلو عليهم آياته ms0246 ~~ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وهو يهديهم بمعنى أنه PageV02P074 # يدعوهم ويبين لهم، وليس في قدرته أن يجعل الهدى ولا الضلالة في قلب أحد، ~~بل ذلك لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى: (إنك لا تهدى من أحببت) (1) ، ~~وقال تعالى: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل (37)) (2) أي من ~~يضله الله لا يهدى، كما قال: (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ~~وليا مرشدا (17)) (3) ، وقال: (*ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء)) ~~(4) . ولهذا أمر الله عباده أن يقولوا (اهدنا الصراط المستقيم (6)) (5) ، ~~وهذه الهداية المطلوبة من الله، لا يقدر عليها إلا الله. # وفي الصحيح (6) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل ~~يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، ~~عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني ~~لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". # وقد ثبت في الصحيحين (7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مثل ~~ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت PageV02P075 # منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة ~~أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان/ لا تمسك ~~ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به ~~من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت ~~به". # فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن مثل ما أرسله الله به كالماء، والماء ~~مختلف باختلاف المحل الذي يصل إليه، فهكذا ما بعث الله به رسوله يختلف أثره ~~باختلاف القلوب التي يصل إليها، فكما أن الزرع يحصل من الماء ومن التربة ~~الطيبة، فهكذا الهدى، يحصل من هداية الأنبياء ومن القلوب القابلة لذلك. # فإذا كان هذا حال الرسل مع من يخاطبه الرسول ويكلمه ويحرص على هداه، لا ~~يقدر على جعل الضال مهتديا، فكيف يجعل شخص دون ms0247 الرسل بكثير يهدي الخلق ~~كلهم، لا سمعوا كلامه ولا رأوه، ولا عرفوه ولا عرفوا ما قال؟ وهل هذا إلا ~~من جنس قول الرافضة في المنتظر الذي لم يسمع له أحد بحس ولا بخبر، ولا وقع ~~له على عين ولا أثر. # وفي الجملة فما يقوم بقلب الإنسان من معرفة الهدى والعلم والإيمان، لا ~~ينتقل عنه ويقوم بغيره، ولكن قد يقوم بغيره (1) إذا علمه وخاطبه، مع بقاء ~~الهدى والعلم في قلب الأول. ولهذا يشبه PageV02P076 # العلم بالمصباح الذي يقتبس منه الناس وهو لا ينقص، فإن المقتبس من ~~المصباح يحدث الله له نارا في ذبالة مصباحه من غير أن ينتقل إليه من ذلك ~~المصباح شيء، فهكذا العلم. وقد يعطي الله رجلا من العلم والهدى نظير ما ~~أعطى غيره بدون تعليم الأول وخطابه. # فهذا الغوث القطب/ إذا لم يعلم الناس ويخاطبهم كان ما جعله الله في قلوب ~~الناس من الهدى والعلم نظير ما في قلبه إذا قدر من0.. (1) ، ولكن لم يكن ~~سببا في ذلك، فضلا عن أن يكون من قلبه فاض إلى قلوبهم، لاسيما إذا لم يره ~~الناس ولا عرفوا ما قال ولا فعل، فإن الإنسان قد يرى كيان الرجل وآثاره، أو ~~يرى وجهه وعمله، فيحصل له بذلك من الهدى والعلم ما يسره الله له، أما بدون ~~سمع هذا وبصره لذلك، وبدون خطاب دال له أو لمن يوصل إليه، فكيف يصل إليه ~~منه هدى؟ فضلا عن أن يكون منه يحصل هدى جميع الخلق. # فليتدبر اللبيب هذا يتبين له أن ما وصفوا به قطبهم وغوثهم أمر لا يقدر ~~عليه الأنبياء في العلو، ومع هذا فمعلمو الكتاتيب ومقرئو القرآن ومعلموهم ~~آداب الإسلام أهدى للخلق من هذا القطب الغوث الذي قدروه في الأذهان، ولا ~~حقيقة له في الأعيان، كما قدر الرافضة وعبدة الصلبان. وإذا كان هذا في ~~الهدى الذي يحصل PageV02P077 # بالتعليم والخطاب، فما الظن بالرزق الذي هو أعيان تنتقل من محل إلى محل، ~~أو اغتذاء يقوم بالإنسان لا يتصور أن يقوم بغيره. نعم يمكن أن يحصل بالدعاء ~~المستجاب ms0248 للإنسان من الهدى والرزق والنصر ما لا يحصل بدون ذلك، كما ذكرناه ~~أولا في قوله: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم ~~وإخلاصهم". # وكذلك توجه القلوب والهمم له من الأمر بحسب ما يقدره الله، وهذا عام ~~الوجود لا يختص/ بشخص معين، ولا يكون الأمر في ذاك عاما للخلق. أما وهذا ~~أمر لم يحصل للأنبياء والمرسلين، فكيف من دونهم؟ # ولا ريب أن هؤلاء الضالين الغلاة من الذين جعلوا بين الله وبين خلقه ~~وسائط جعلوهم له أندادا وشركاء وشفعاء، كما فعلته النصارى بالمسيح وأمه ~~والأحبار والرهبان. قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون ~~الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو ~~سبحانه عما يشركون (31)) (1) . ولهذا أمر نبيه أن يقول: (يا أهل الكتاب ~~تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا ~~يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ~~(64)) (2) . # ودين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه أثبت وساطة الرسل PageV02P078 # بين الله وبين خلقه، فيبلغونهم أمره ونهيه وخبره ووعده ووعيده، ويقطعون ~~وساطة المخلوقات في العبادة والاستعانة والدعاء والتوكل، فلا يعبد إلا ~~الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعى إلا هو، فإنه لا رب غيره، ولا خالق ~~غيره، ولا إله سواه. وكل ما خلقه من الأسباب فإنه موقوف على سبب آخر يشركه ~~ويعينه، وله مانع يحجبه ويعوقه، فما من الموجودات شيء يستقل بالتأثير غير ~~الله، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ما جعل سببا كإحراق النار ~~فلابد له من معين، وهو قبول المحل، وقد يحصل مانع كما حصل في نار ~~إبراهيم،/وبهدى الرسل ودعائهم يهتدي الخلق، ولكن هدى الخلق موقوف على ~~قبولهم. # وقد يكون القلب مائلا للهدى، لكن يحصل له مانع يعارضه، كما قال: (وكذلك ~~جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ~~غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112)) (1) . وقال تعالى ms0249: (يا ~~أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما ~~الله بغافل عما تعملون (99)) (2) . # وقال تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37)) . وقال ~~تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ~~(27) يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر ~~PageV02P079 # بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)) (1) . ونظائر هذا كثير. # فمن عدل عن سبيل المرسلين، فلم يتابعهم ويطع أمرهم ونهيهم قطع ما بينه ~~وبين الله، فصار مشركا بالله يدعو غير الله، إما الملائكة وإما الكواكب ~~وإما الجن، وإما البشر كالأنبياء والصالحين، وإما صور هؤلاء وتماثيلهم، ~~وإما ما يظنه موجودا من هؤلاء. ويتخيل في هؤلاء من صفات الإلهية ما لا ~~حقيقة له، ويثبت الوسائط في خلق الله وربوبيته، ويجعل له شركاء وشفعاء بغير ~~إذنه، وهو سبحانه كما قال: (ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) ،/وقال ~~تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ~~ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع ~~الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (3) . # والناس في الشفاعة على طرفين ووسط (4) : # فالمشركون والنصارى ونحوهم أثبتوا شفعاء لهم بدون إذنه، وهذه الشفاعة ~~التي نفاها الله في كتابه، فقال تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل ~~أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله PageV02P080 # الشفاعة جميعا (44) (1) . وقال تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم ~~أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم ~~أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94)) (2) . # وقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء ~~شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ~~سبحانه وتعالى عما يشركون (18)) (3) . وقال تعالى: (ما لكم من دونه من ولي ~~ولا شفيع) (4) . وقال تعالى: (قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا ~~شفاعة) (5) . وقال تعالى ms0250: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل ~~منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) (6) . # /وأما الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- لأهل الكبائر من أمته، فنفوا الشفاعة بإذن الله وبغير إذنه، وهؤلاء ضلال، ~~وإن كان ضلال الأولين أعظم، إذ ذلك الضلال شرك بالله، وهذا من البدع ~~المحدثة في الإسلام. ومع هذا فقد صار كثير من المتأخرين المنتسبين إلى ~~العمل والعبادة، يثبت نوعا من هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، ~~فصاروا أسوأ حالا من الخوارج والمعتزلة من هذه الجهة، كما أن هؤلاء ونحوهم ~~PageV02P081 # يثبتون القدر الذي نفته المعتزلة ونحوهم من القدرية، فتكون بذلك خيرا ~~منهم، لكنهم قد يحتجون به على الشرع، بل قد يلاحظونه، ويعرضون عن الأمر ~~والنهي، ويجعلونه الحقيقة التي تدفع مقتضى الشريعة، وهي الحقيقة الكونية، ~~فيصيرون بذلك مضاهين للمشركين الذين قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا ~~آباؤنا ولا حرمنا من شيء) (1) . # ومعلوم أن هؤلاء المشركين شر ممن جحد القدر من المعتزلة ونحوهم، فهؤلاء ~~الذين يدفعون الأمر والنهي الشرعيين ناظرين إلى الحقيقة الكونية، ويثبتون ~~الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، شر من الخوارج والمعتزلة من هذا ~~الوجه ومن هذا الوجه،/ فإنهم جمعوا بين الإشراك والبدع في العبادات وبين ~~الاحتجاج بالقدر. # وهذا حال المشركين الذين ذمهم الله في كتابه، فإنهم كانوا تارة يعبدون ~~غير الله، وتارة يزعمون عبادة لم يشرعها، ويحرمون ما أحله، وتارة يحتجون ~~بالقدر. وقد ذكر الله عنهم في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما فيه عبرة ~~للمعتبرين، فإنه سبحانه قرر في سورة الأنعام توحيده وعبادته وحده لا شريك ~~له، وأنه هو الذي يدعى عند الشدائد، وهو الذي يكشف الضر وينزل الرحمة، ~~كقوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله ~~تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ~~وتنسون ما تشركون (41) (2) . وقوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم ~~وأبصاركم PageV02P082 # (وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم ms0251 هم ~~يصدفون (46)) (1) . وقوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ~~ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51) ولا تطرد الذين يدعون ~~ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك ~~عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52)) (2) . # وهذه الآية عامة في كل من أراد الله بعمله. ودعاؤهم بالغداة والعشي ~~يتناول من صلى صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، وليست هذه الآية مختصة بأهل ~~الصفة ولا نزلت فيهم، فإن هذه الآية نزلت بمكة (3) . # /وكذلك الآية الأخرى التي في سورة الكهف: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ~~ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة ~~الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28)) ~~(4) . فإن سورة الكهف مكية أيضا باتفاق العلماء، والصفة إنما كانت ~~بالمدينة، لم تكن بمكة، ولكن طلب PageV02P083 # قوم من رؤساء المشركين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد المؤمنين ~~الضعفاء والفقراء عنه، فأنزل الله هذه الآية (1) ، يأمره فيها بأن لا يطرد ~~أحدا لأجل ضعفه أو فقره إذا كان مؤمنا يريد وجه الله، فإن الناس إنما ~~يقربهم إلى الله الإيمان والتقوى، لا عبرة بالغنى ولا بالفقر. # وقد ذكر سبحانه ما يناسب هذه الآيات في سورة الأنعام إلى قوله: (قل من ~~ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن ~~من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)) (2) ~~. # ثم إنه سبحانه قرر في السورة بعد التوحيد الرسالة والكتاب المنزل، وذكر ~~ما ذكره من رسله صلوات الله عليهم، وذكر المعاد والثواب والعقاب، ثم إنه ~~ختم السورة بذم حال المشركين وما حرموه وما شرعوه من الدين الذي لم يأذن به ~~الله، فقال: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (3) إلى ~~قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا ~~حرمنا من شيء PageV02P084 # كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ms0252 قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ~~إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)) (1) . # فأخبر عن المشركين أنهم احتجوا فيما شرعوه من الدين # وحرموه من الأشياء بالقدر، فقالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ~~ولا حرمنا من شيء) . قال تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي كذبوا بأمر ~~الله ونهيه وخبره الذي بعث به رسله، فإن هذا تكذيب منهم للشرع محتجين عليه ~~بالقدر. # ثم قال: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم ~~إلا تخرصون (148)) ، فبين أن الاحتجاج بالقدر ليس بدليل على صحة قول ~~المحتج، فإن القدر متناول لكل كائن، فالمحتج به لا علم عنده، إن يظن إلا ~~ظنا، وهو في ذلك من الخارصين الحازرين الكاذبين (2) . # وفي صحيح مسلم (3) عن عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ~~أخبر به عن الله أنه قال: "خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت ~~عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن ربي ~~قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت: أي رب إذا يثلغوا رأسي حتى يجعلوه خبزة. ~~فقال: إني PageV02P085 # مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان. ~~فابعث جندا أبعث مثلهم، وأنفق أنفق عليك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك". # وهذا الأصل مبين في الكتاب والسنة، فمن شرع دينا لم يأذن به الله، أو ~~احتج بالقدر، وجعل الحقيقة الكونية معارضة للأمر والنهي الشرعيين فقد ضاهى/ ~~هؤلاء المشركين. # ولهذا كان المتكلمون في علوم الحقائق على ثلاثة (1) درجات: إحداها: أهل ~~الحقيقة الدينية الشرعية، الذين يتكلمون في حقائق الإيمان، كالحب لله، ~~والتوكل عليه، وإخلاص الدين له، والخوف منه، والرجاء له، والصبر لحكمه، ~~والشكر لنعمه، ونحو ذلك من حقائق الدين بما يوافق الكتاب والسنة. فهذا أهل ~~طريق أولياء الله المتقين وحزبه المصلحين وعباده الصالحين. # والثانية: من خاض في حقائق الدين بمجرد ذوقه ووجده ورأيه، سواء وافقت ~~الكتاب والسنة أو خالفت. فهذا (2) يصيبون تارة ويخطئون تارة، ويكونون من ~~أهل السنة ms0253 تارة ومن أهل البدعة أخرى. # الثالثة: من وقف عند الحقيقة الكونية القدرية، ولم يميز بين أولياء الله ~~وأعدائه، ولا بين طاعته ومعصيته، ولا بين ما يحبه PageV02P086 # ويرضاه وبين سائر ما قدره وقضاه. فهؤلاء أهل ضلال وتعطيل، قد حققوا ~~التوحيد الذي أقر به المشركون، ولم يدخلوا في توحيد الله ودينه الذي كان ~~عليه الأنبياء والمرسلون. فإن انتقلوا من ذلك إلى الحلول ووحدة الوجود ~~والإلحاد فقد صاروا من أعظم أهل الكفر والإلحاد. وهؤلاء فيهم من الإشراك ~~بالله والمخالفة لدينه ما لا يعلمه إلا الله، كما قد بسطنا الكلام على هذه ~~الأمور في غير هذا الموضع (1) . # والمقصود هنا الكلام على اسم "القطب" ومسماه،/ وما علمت أن السلف تكلموا ~~بهذا الاسم في الرجال. (2) ، ولا جعلوا اسم القطب مما يعثر به عن أحوال ~~أولياء الله المتقين. بخلاف اسم "الأبدال"، فإنه نقل عنهم التكلم بذلك في ~~مواضع. # وقد تكلم بعض المتأخرين بلفظ "الوتد"، والوتد: المثبت لغيره، كما أن ~~الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبت الله به الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده، ~~أو ثبت بدعائه وعبادته نصرهم ورزقهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك. # وأما قول القائل: "إن على قدم كل نبي من الأنبياء وليان (3) : ولي ظاهر ~~وولي باطن"، فهذا كذب بلا ريب، فإن الأنبياء مائة ألف PageV02P087 # وأربعة وعشرون ألف نبي (1) ، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~الذين صحبوه أفضل الخلق، وما بلغوا هذا العدد، بل مكث النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - إلى حين الفتح أكثر من عشرين سنة، وما آمن معه إلا بضعة عشر ~~ألفا. # ومعلوم أن هؤلاء الأولياء لا يكونون بعد مبعثه في غير أمته، فإذا كانت ~~أمته في سنين كثيرة لا تبلغ هذا العدد علم قطعا بطلان ذلك. # وأيضا فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الأنبياء، النبي ~~يجيء وحده، والنبي يجيء معه الرجل، والنبي يجيء معه الرجلان (2) . # فإذا كان النبي قد لا يتبعه أحد، أو لا يتبعه إلا رجل واحد، فكيف يجب أن ~~يكون له في كل ms0254 عصر اثنان على قدمه من أمة غيره؟ PageV02P088 # وأيضا فقوله: "وفي باطن وولي ظاهر" إن أريد به ولي يعرفه الناس ويظهر لهم ~~ولايته، وولي لا يظهر لهم، فمن المعلوم أن الناس لا يظهر لهم ولاية مائة ~~ألف ولا عشرة ألف (1) ، ولا يشهد بالولاية إلا لمن ثبت أنه ولي، إما بنص أو ~~بما يقوم مقامه. وإن كان لا يشهد بنفيها، لكن نحن نعلم قطعا أنه لا يظهر ~~ولاية هذا العدد للناس. # وإن أريد بظهوره وجوده بين الناس وعلمهم به، فعامة الأولياء ظاهرون بهذا ~~الاعتبار، بل ليس من الأولياء من لم يره الناس، وإذا قدر أن فيهم من يختفي ~~عن الناس كثيرا من أوقاته أو أكثرها، فلا بد أن يظهر لبعضهم في بعض ~~الأوقات، ولو أنه ظهر/لأبويه ومن رباه إذا كان صغيرا. ثم هؤلاء في غاية ~~القلة، وهم من أضعف الأولياء ولاية، بل القرون الفاضلة كان وجود هؤلاء فيها ~~نادرا أو معدوما، فإن سكنى البوادي والجبال والغيران واعتزال المسلمين من ~~جمعهم وجماعتهم إما أن يكون منهما عنه، وإما أن يكون صاحبه إذا عذر عاجزا ~~منقوصا. # وأيضا فقول القائل "إن الولي على قدم النبي" لا يجوز أن يريد به اتباع ~~شريعته، فإن بعد مبعث محمد لا يتقبل الله من أحد إلا شريعته، ولو كان موسى ~~حيا ثم اتبعه متبع وترك شريعة محمد كان ضالا (2) ، فلم يبق إلا موافقته في ~~بعض أخلاقه وأحواله، كما شبه PageV02P089 # النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبه عمر بنوح ~~وموسى (1) ، وحينئذ فيحتاج أن تكون أخلاق الأنبياء متفاوتة هذا التفاوت، ~~وهذا غير معلوم. # وأيضا فإن غالب الأنبياء لم يقصوا على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ~~ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبي لا يعرفه ولا يعرف ~~قدمه؟ # وأيضا فهذا كلام لا دليل عليه، ولم يقله من له قول في الأمة، ولو كان مثل ~~هذا حقا لكان معروفا عند أهل [العلم] (2) والإيمان. # فإن مثل هذا لو كان حفا مما لا يخفى على ms0255 أهل العلم والإيمان من هذه ~~الأمة، فإذا لم يكن له أصل عندهم علم بطلانه. PageV02P090 # فصل # وأما ### | قول القائل: "الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق" # ، فحوائج الحلق لا تنتهي إلا إلى الله، كما قال سبحانه: (وما بكم فن نعمه ~~فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53)) (1) ، وقال تعالى: (ما يفتح ~~الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) (2) ، وقال ~~تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ~~(56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ~~ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)) (3) . قال طائفة من السلف: كان ~~أقوام يدعون الملائكة والمسيح والعزير، فأنزل الله هذه الآية (4) . # وقال تعالى: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا ~~أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) (102) (5) . وأفضل الخلق: الرسل، والله سبحانه ~~PageV02P091 # بعثهم مبشرين ومنذرين (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (1) ، ~~وجعلهم سفراء بينه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وسائر ~~كلامه سبحانه وتعالى. # ولم يضمن الرسل للخلق لا رزقا ولا نصرا ولا هدى، بل قال أولهم نوح: (قل ~~لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) (2) ، ~~وأمر خاتمهم وأفضلهم- صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم تسليما -أن يقول ~~ذلك، فقال: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم ~~الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) (3) ، وقال له: (إنك لا تهدى من ~~أحببت) (4) ، وقال له: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) (5) ~~، وقال له: (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40)) (6) ، وقال: (إنما أنت ~~منذر) (7) ، (لست عليهم بمصيطر) (8) . PageV02P092 # /فقول القائل: "إن حوائج الخلق تنتهي إليه"، إن أراد به ما يحتاج إليه ~~الخلق من الرزق والهدى والرزق (1) يحدثه الله بواسطته، فقد جعل بين الله ~~[و] (2) بين خلقه ربا متوسطا، كما يزعمه المتفلسفة في العقل الفعال، وهو ~~كفر صريح بإجماع أهل الملل. # ثم إنه من ms0256 أظهر الكذب، فإن أفضل الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم -، ~~وبعده أولو العزم كإبراهيم وموسى وعيسى، ونحن نعلم قطعا أن عامة ما كان ~~الله يحدثه في زمانهم لم يكونوا متسببين فيه، ولا كانوا يعلمون به، وقد قال ~~الخضر لموسى لما نقر العصفور في البحر: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا ~~كما نقص هذا العصفور من هذا البحر" (3) فإذا كان هذا في العلم الذي لا ~~تأثير معه، فكيف بالتأثير في الملك. # ومن قال: إن طير الهواء وحيتان البحر ووحوش الفلا والكفار الذين بأرض ~~الهند والأجنة في بطون الأرحام تجري منافعهم ومصالحهم على يد رجل من البشر، ~~فقد قال نظير ما يقوله النصارى في المسيح، وكان قوله من أعظم الكذب القبيح ~~(4) . PageV02P093 # /وإن قال: إن أهل الأرض إذا احتاجوا إلى شئ دعا الله فيعطيه بدعائه، كان ~~هذا من نمط الذي قبله، فإنه قد علم أن الله يجيب دعوة المضطر إذا دعاه وإن ~~كان كافرا، فإذا كان المشركون يدعون الله بلا واسطة فيجيب دعاءهم، ~~فالمسلمون الذين هم عباده أولى. وقد يدعو الله بدعاء لم يعلم به أحد من ~~البشر. # فإن قيل: ذلك الغوث يطلع على أسرار قلوب العباد. كان هذا القول أظهر في ~~الكفر والفساد، فسيد ولد آدم يظهره على شئ ويجيب عليه أشياء. وقد قال له: ~~(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا ~~تعلمهم نحن نعلمهم) (1) . # وقال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) (2) . وقد رميت ~~أم المؤمنين بالإفك وأخفي عنه أمرها مدة، لما كان في ذلك له من المحنة، ~~تعظيما لأجره ورفعا لدرجته. # وكذلك لما جاء قوم زكوا بني أبيرق الذين كانوا قد سرقوا طعام جارهم ~~ودرعه، ظن صدق المزكين ودفع عن المتهمين، حتى أنزل الله تعالى: (إنا أنزلنا ~~إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (3) الآيات. PageV02P094 # وفي الصحيح (1) عنه أنه قال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن ~~بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ". وفي لفظ ms0257: "فأحسبه صادقا. فمن ~~قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار". # ولما رآهم يلقحون النخل [قال] : "ما أظنه يغني شيئا"، فتركوه، فصار شيصا، ~~فقال: "إنما أخبرتكم عن ظني، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله ~~فلق أكذب على الله" (2) . وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم، فما كان من أمر ~~دينكم فإلي " (3) . ومثل هذا كثير، فإذا كان هذا أفضل الخلق وأعلمهم فكيف ~~يجوز أن يقال في غيره إنه يعلم جميع أسرار من يحتاج إلى الله؟ # /ثم قد علم بالقرآن والتواتر والتجارب أن الخلق مازالوا يحتاجون إلى ~~الله، ويضطرون إلى دعائه، إما في إعطائهم ما ينفعهم، كإنزال المطر، وإثبات ~~النبات، وغفران الذنوب، والإعانة على الطاعات؛ وإما في دفع ما يكرهون، مثل ~~دفع الأعداء وتفريج PageV02P095 # الكربات، وهو يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم تحقيقا لقوله: (وإذا سألك عبادي ~~عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم ~~يرشدون (186)) (1) من غير أن يرفعوا أمرهم إلى واسطة بينهم وبين الله. # وأيضا ف ### | مازال الناس يجدبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوث لا ينفع ولا يدفع، # فيا ليت شعري ماذا هي الحوائج التي يقضيها؟ أهي التي سألوا الله فيها؟ ~~فالله مجيب المضطر إذا دعاه، وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، أم التي ~~لم تقض بعد لأحد فيها؟ أم النعم التي ابتدأهم الله بها من غير سؤالهم؟ فهو ~~سبحانه يرزق الكفار ويمنعهم، بل وينصرهم إذا شاء، كما نصرهم يوم احد، ~~(ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) ~~وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141)) (2) . # فإن كان هذا الغوث ساعيا في ذلك كان عاصيا لله ورسوله، محاربا لله ~~ورسوله، فإن من حارب الله ورسوله وعباده المؤمنين كان من أعداء الله لا من ~~أولياء الله. وما يرويه أهل الكذب والضلال من أن أهل الصفة قاتلوا النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما انهزم أصحابه يوم حنين أو غير يوم حنين، ~~وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان مع الله ms0258 كنا معه، من أعظم الكذب الموضوع ~~(3) /وأعظم الكفر بالله PageV02P096 # ورسوله، وهذا يقوله من ينظر إلى مجرد ما يقدره الله ويقضيه، ويشهد ~~الحقيقة الكونية، معرضا عما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه، وبعث ~~به رسله وأنزل به كتبه. ومن طرد هذا القول كان أكفر من اليهود والنصارى، ~~فإن أولئك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وصاحب هذا المشهد لا يؤمن بشيء ~~من الكتاب، وغايته في شهوده تحقيق توحيد المشركين كأبي لهب وأبي جهل ~~وأمثالهما من الكفار، فإن أولئك كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء وخالقه، ~~كما أخبر الله عنهم بقوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن ~~الله) (1) . فمن جعل غاية تحقيقه في توحيده أن يشهد ذاك، كان منتهاه هذا ~~الإشراك. # والله سبحانه بعث الرسل بتوحيد الإلهية، وهو أن لا يعبد إلا الله، ولا ~~يخاف إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ويخلص له الدين، ويطيع رسله ويتبعهم، ~~ويحب ما أحب ويبغض ما أبغض، ويوالي من والى ويعادي من عادى، ويأمر بما أمر ~~وينهى عما نهى، حتى يكون الدين كله له، كما قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك ~~من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)) (2) ، وقال تعالى: ~~(واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة PageV02P097 # يعبدون (45)) (1) ، وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا ~~الله واجتنبوا الطاغوت) (2) ،/وقال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله ~~الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن ~~كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن ~~تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) (3) . # فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر، فكيف بغيرهم؟ وقد ~~قال عن النصارى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن ~~مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ~~(31) (4) . ومعلوم أن النصارى لم تجعل الأحبار والرهبان شركاء لله في خلق ms0259 ~~السماوات والأرض، ولا جعلت النبيين كذلك، بل جعلتهم وسائط بينهم وبين الله ~~في الإعطاء والمنع والضر والنفع، وأعطوهم من الدعاء والطاعة ما لا يستحقه ~~إلا الله، وظنوا أنهم يشفعون لهم عند الله كما يشفع المخلوق عند ملوك ~~الدنيا، يشفع عنده من يعز عليه ومن يحتاج إليه، والله تعالى ليس كمثله شيء، ~~لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله ولا أحكامه، ولا شيء من دونه سبحانه ~~وتعالى، فهو الذي يأذن للشفيع فيشفع، وهو الذي يقبل شفاعته، فالأمر منه ~~وإليه، لا PageV02P098 # خالق غيره ولا رب سواه، فلا يرجى غيره، والشفاعة من جملة الأسباب التي ~~قدرها وقضاها، يفعل بها كما يفعل بسائر ما يقدره من الأسباب. # وأما لفظ "النجباء" فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف من أقسام عباد ~~الله الصالحين وأولياء الله المتقين، وإنما تكلم به بعض الشيوخ المتأخرين. # PageV02P099 ### | فصل # وأما قول القائل: "إن النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق" ~~ونحو هذا الكلام، فهذا الكلام على الإطلاق باطل قطعا، فإن ### | هذه الأمصار كانت في أول الإسلام ديار كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله، # ولما صارت دار إسلام صار فيها من أولياء الله المتقين بحسب ما في أهلها ~~من الإيمان والتقوى، ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال. ومن قال إن ~~الأبدال لا يكونون إلا بالشام فقد أخطأ، فإن خيار هذه الأمة من السابقين ~~الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة النبوية، ولما فتحت الأمصار ~~كان في كل مصر من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله. # وقد جاء في فضائل الشام وأهله أحاديث معروفة (1) لم يجىء مثلها في العراق ~~وغيره من الأمصار، مثل قوله في الحديث الصحيح: "إن ملائكة (2) الرحمن باسطة ~~أجنحتها على الشام" (3) . PageV02P100 # وقوله: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" (1) . وفي ~~القرآن أربع آيات تدل على حصول البركة في الشام (2) . ومثل قوله لعبد الله ~~بن حوالة لما قال: "إنكم ستجندون أجنادا مجندة جندا بالشام وجندا باليمن ~~وجندا بالعراق"، فقال عبد الله بن حوالة: يا رسول ms0260 الله! اختر لي، فقال: ~~"عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فمن ~~أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غدره، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله". رواه ~~أبو داود وغيره (3) . # وفي "صحيح مسلم" وغيره عنه أنه قال:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم ~~من خالفهم حتى تقوم الساعة" (4) . قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل ~~الشام./وهذا الذي قاله = فضائل الشام" (ص 11) ~~. # (1) أخرجه البخاري (1037، 7094) من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضا أحمد ~~(2/90، 118) والترمذي (3953) . # (2) هي خمس آيات في سورة الأعراف: 137؛ وسورة الإسراء: 1؛ وسورة ~~الأنبياء: 71، 81؛ وسورة سبأ: 18. وانظر "مجموع الفتاوى" (27/506) . # (3) أخرجه أبو داود (2483) وأحمد (4/110) من طريق أبي قتيلة عن ابن ~~حوالة، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/33) والحاكم في "المستدرك" (4/510) من ~~طريق مكحول عن ابن حوالة بنحوه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وللحديث طرق ~~أخرى في "تاريخ دمشق" (1/56- 81) . وذكرها الألباني في "تخريج أحاديث فضائل ~~الشام ودمشق" (ص 12-13) وتكلم عليها. # (4) أخرجه مسلم (1925) وأبو يعلى في "مسنده" (783) وأبو نعيم في "الحلية" ~~(3/95- 96) من حديث سعد بن أبي وقاص. # PageV02P101 # أحمد هو معروف عند السلف، كانوا يسمون أهل الشام وما يغرب عنها أهل الغرب ~~(1) ، ويسمون أهل نجد والعراق وما يشرق عن ذلك أهل الشرق. فإن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - كان بالمدينة النبوية، فما يغرب عنها فهو غرب، وما يشرق ~~عنها فهو شرق. # وقد جاء في بعض الآثار أن أكثر الأبدال بالشام (2) . # فأما الحديث المأثور "لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم الأبدال، أربعين رجلا، ~~كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا"، فهذا يروى عن علي بن أبي طالب بإسناد ~~منقطع، وهو في "المسند" (3) وغيره، وهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن ~~علي، وهو لم يسمعه منهم، وإنما بلغه عن علي بلاغا، فلم يضبط له لفظه. # و ### | إذا كان الأبدال الأربعون أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام، # فإن الأمة في زمن علي كانوا ثلاثة أصناف: # صنف قاتلوا معه، كعمار وسهل بن حنيف وأمثالهم، فهؤلاء مع PageV02P102 # علي بن أبي طالب لم يكن بالشام مثلهم ms0261، بل علي ومن معه أولى بالحق من ~~معاوية ومن معه من الشاميين، كما في الصحيحين (1) عن أبي سعيد عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين ~~يقتلهم أولى الطائفتين بالحق"، وفي لفظ: "أدناهما إلى الحق". # فهذا حديث صحيح صريح بأن عليا وطائفته أولى بالحق من الطائفة الأخرى ~~معاوية وطائفته. # /والصنف الثاني من المؤمنين من لم يقاتل، لا مع علي ولا معاوية، كسعد بن ~~أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأمثالهم، فهؤلاء ~~أيضا أفضل من أهل الشام، وقد كان في لفيف أهل الشام من هو أفضل من كثير من ~~أهل العراق والحجاز. # أما من لم يشهد القتال مع معاوية فإن في الشاميين من لم يقاتل معه كأبي ~~أمامة الباهلي وغيره. وأما من كان في عسكره فقد كان في عسكره أيضا قوم ~~صالحون لهم اجتهاد وحسن مقصد، وبكل حال فلا يعتقد مسلم أن علي بن أبي طالب ~~وسعد بن أبي وقاص وسهل بن حنيف ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين ~~الأولين الذين يشهد الكتاب والسنة بفضلهم على من بعدهم، كان PageV02P103 # الأبدال الأربعون الذين هم أفضل الأمة خارجين عنهم في حياتهم. # فهذا الأصل المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع لا يعارضه خبر واحد رواه ~~الثقات، بل ينسبون في ذلك إلى الغلط، فكيف بحديث منقطع فيه من الريبة ما لا ~~يخفى. # /ومما يبين ذلك أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون من ~~الأبدال من ليس بالشام، كما في حكاية أن مالك ابن دينار ومحمد بن واسع ~~وغيرهما من الأبدال (1) ، وفي حديث معدان الذي سأل الثوري عن قوله: (ما ~~يكون من نجوى ثلاثة) (2) فقال: بعلمه (3) ، قالوا: وكان معدان من الأبدال. ~~ومثل هذا كثير في كلامهم. # وأما لفظ "النقباء" و"النجباء" في أولياء الله، فقد تقدم أنه ليس لذلك ~~أصل في كلام السلف. PageV02P104 ### | فصل # وأما قول القائل: "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى ~~الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا ms0262 يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة"، ~~فهذا من أعظم البهتان من وجوه: # أحدها: أن هذا الغوث المدعى ليس بأعظم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ~~ومحمد وغيرهم. وهؤلاء سادة الخلائق، يجيب الله من دعائهم ما لا يجيب من ~~دعاء غيرهم، وهم الذين تطلب منهم الشفاعة يوم القيامة، حتى ينتهى إلى خاتم ~~الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر ~~الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: "فيأتوني، فأذهب إلى ربي، فإذا ~~رأيته خررت ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي ~~محمد, ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع". قال: "فأرفع رأسي فأقول ~~أمتي أمتي، فيحذ لي حدا يدخلهم الجنة ... " الحديث بطوله (1) . وأحاديث ~~الشفاعة من أصح الأحاديث وأشهرها. # فهذا سيد الخلائق وصاحب المقام المحمود لا يبتدىء PageV02P105 # بالشفاعة بل بالسجود والثناء،/حتى يؤذن له بالشفاعة فيشفع ثم يشفع. # أما في الدنيا ففي الصحيح (1) عنه قال: "سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين ~~ومنعني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم، ~~فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل ~~بأسهم بينهم، فمنعنيها". # وفي الصحيح (2) أنه قال لعمه: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله ~~تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي ~~قربى) (3) . وقد صلى على عبد الله بن أبى ودعا له (4) ، حتى أنزل الله: ~~(ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) (5) . وقال له: (سواء ~~عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (6) . PageV02P106 # وثانيه في الفضيلة الخليل، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) أنه خير البرية، ~~وهو أفضل الرسل بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استغفر لأبيه بقوله: ~~(ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)) (2) ، ومع هذا فآزر ~~في جهنم. وقد اعتذر الله عن إبراهيم من استغفاره له (3) . # وأيضا فقد قال تعالى: (ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في ~~قوم لوط ms0263 (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ~~قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود (76)) (4) . # وأيضا فالأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يجتهدون في الدعاء، كما كان ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو في مقامات معروفة، ففي يوم بدر كان ~~يناشد ربه ويجتهد في الدعاء حتى أتته البشرى بنزول الملائكة (5) ؛ وفي ~~الاستسقاء اجتهد في الدعاء (6) ، تارة في المسجد وتارة في (1) مسلم (2369) عن أنس. وأخرجه أيضا أحمد (3/178، 184) ~~وأبو داود (4782) وا لتر مذي (3352) . # (2) سورة إبراهيم: 41 # (3) في سورة التوبة: 114 (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة ~~وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ~~(114)) # (4) سورة هود: 74- 76. # (5) أخرجه البخاري (2915، 3953، 4875، 4877) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم ~~(1763) عن عمر بن الخطاب. # (6) وردت أحاديث عديدة في الاستسقاء، منها حديث عبد الله بن زيد الذي ~~أخرجه البخاري (1023- 1025) ومسلم (894) ، وفيه ذكر الدعاء قبل الصلاة. ~~وحديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (933، 1013، 1019، 1021) ومسلم (897) ~~، وفيه ذكر الدعاء في خطبة الجمعة. # PageV02P107 # الصحراء، حتى نزل الغيث. فإذا كانت الشدة لم تزل إلا بعد اجتهادهم/في ~~الدعاء في هذه المواطن، فكيف يكون غيرهم لا يرفع بصره حتى تدفع النوازل؟ # ثم إن الأمة قد نزل بها من الشدائد ما لا يحصيه إلا الله، واتصل بعضها ~~مدة، فأين كان هذا الغوث؟ وحدثوني عن الشيخ عبد الواحد بن القصار- وكان من ~~الشيوخ العارفين- أنه في اليوم الذي أخذت فيه بغداد، كشف له عن ذلك والسيف ~~يعمل في أهلها، فجعل يقول: أين القطب، أين الغوث؟ هذا السيف يعمل في أمة ~~محمد - صلى الله عليه وسلم -. # وأيضا فكل مسلم يعلم من نفسه أن هذه الشدائد العامة لم يتركها هو وأصحابه ~~لشخص معين، بل دعوا الله سبحانه كما يدعونه عند الاستسقاء، وكما يدعونه عند ~~الاستنصار على الأعداء، لا أحد يرفع أمره إلى غير الله، الفهم إلا ما يقوله ~~بعض الناس لبعض كما جرت به العادة، فمن الأدنى الذي يرفع هذه الأمور إلى ~~الأعلى؟ # وأيضا فقد أخبر الله عن المشركين أنهم ms0264 يدعونه إذا مسهم الضر مخلصين له ~~الدين, فيجيبهم، قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ~~فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)) (1) . وقال تعانى: ~~(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره ~~مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين PageV02P108 # ما كانوا يعملون (12)) (1) . وقال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله ~~مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بما ~~آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66)) (2) . ونظائره في القرآن كثيرة. # وقد قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ~~فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186) (3) ، فهو سبحانه قريب مجيب. # وفي الصحيحين (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "إنكم لا ~~تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى ~~أحدكم من عنق راحلته". # وقد قال الخليل: (إن ربى لسميع الدعاء (39)) (5) ، وقال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - والمؤمنون في الصلاة: "سمع الله لمن حمده". فإذا كان هو سبحانه ~~سميع الدعاء، مجيبا لدعوة عباده، قريبا منهم، يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، ~~فكيف يحوج عباده المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه كما يفعله الملوك؟ # وهو سبحانه يكلم عباده يوم القيامة ليس بينه وبينهم حاجب PageV02P109 # ولا ترجمان، كما في الصحيح (1) عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا ~~ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ~~شيئا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو ~~بشق تمرة فليفعل، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة". # والمصلي يقول في الصلاة: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) (2) . وفي الصحيح ~~(3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن المصلي يناجي ربه"، وقال ~~(4) : "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه". ~~ف ### | إذا ms0265 كان العبد يناجي ربه ويخاطبه، والله يسمع كلامه ويجيب دعاءه، فأين حاجته إلى الوسائط # التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ /التي يعلم كل عاقل من أهل الإيمان أنها ~~من تأويل أهل الشرك والبهتان. وشواهد هذه الأصول كثيرة، قد بسطت في غير هذا ~~الموضع. # والكتاب والسنة مملوء (5) بما يناقض دعوى هؤلاء المفترين. PageV02P110 # وهذا كله- الذي عليه هم- شعبة قوية من شعب دين النصارى، الذين (اتخذوا ~~أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ~~ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31) (1) . # وقد أمرنا الله أن نقول في صلواتنا: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط ~~الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (2) قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" (3) . فاليهود ~~شبهوا الخالق بخلقه، فوصفوه بصفات النقص والعيب، كالفقر والبخل واللغوب. ~~والنصارى شبهوا المخلوق بالخالق، فوصفوه بصفات الإلهية التي لا يستحقها إلا ~~الله، حتى أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. ولهذا قال تعالى: (لقد كفر ~~الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد ~~أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا (17)) (4) . # وقال تعالى: (المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله PageV02P111 # الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام (75)) (1) . # /وفي الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تطروني ~~كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله". ~~وقد حسم - صلى الله عليه وسلم - مواد الشرك قولا وعملا، حتى قال: "لا يقولن ~~أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد" (3) . وقال: ~~"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور ~~أنبيائهم مساجد" (4) . وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور ~~أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا (5) . # وقال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون PageV02P112 # القبور مساجد، إلا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (1) . ~~ونهى عن ms0266 الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها (2) . # والله سبحانه لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا وإن كان بدأ باسمه بالسؤال ~~أحدا، فلم يأمره به، بل قال تعالى: (فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب ~~(8)) (3) . وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن ~~بالله" (4) . # وفي الصحيح (5) عنه أنه قال في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم ~~الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". فجعل من ~~فضائلهم أنهم لا يطلبون من غيرهم رقية وإن كانت الرقية دعاء. فهذا وصف خواص ~~عباد الله. وهذا باب واسع، قد بسط في غير هذا الموضع (6) . PageV02P113 # /وغاية ما يراد بالمشايخ الصالحين ما يراد من الأنبياء والمرسلين، ~~والمراد منهم تبليغ رسالات الله وهداية عباد الله، والدعوة إلى الله، هذا ~~هو المقصود الأعظم. ولهم أيضا من الدعاء لعباد الله والشفاعة لهم ما هو من ~~الأمور المطلوبة، لكن الأمر كله لله، وقد جعل الله لكل شيء قدرا. # ودعاء الله من الأنبياء والمؤمنين للعبد هو من نعم الله عليه، وأسعد ~~الناس بذلك أعظم إخلاصا لله وتوكلا عليه، كما في الصحيح (1) أن أبا هريرة ~~قال: يا رسول الله، أي الناس أسعد بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن ~~لا يسألني عن هذا الحديث أحد قبلك، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا ~~الله يبتغي بها وجه الله". # فالعبد مأمور أن لا يتوكل إلا على الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يخاف إلا ~~إياه، ولا يعمل إلا له. والله ييسر له من الأسباب ما لم يكن له في حساب، ~~فإنه سبحانه يتولى الصالحين، وهو كاف عبده، وقد قال تعالى: (يا أيها النبي ~~حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)) (2) أي حسبك وحسب من اتبعك من ~~المؤمنين الله، فهو وحده كاف عباده لا يحتاج إلى ظهير ولا شريك. قال تعالى: ~~(وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي ~~من PageV02P114 # الذل) (1) . فإن المخلوق ذليل يتولى من يتولاه لذله، فإنه إن لم ms0267 يكن له ~~من يعينه وينصره/عجز وذل، وقهره عدوه. والله تعالى لا يوالي عباده من الذل، ~~بل برحمته وفضله وجوده وإحسانه، وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير ~~إليه، (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن (29) (2) . قال ~~تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ~~ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع ~~الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (3) . # وقال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا ~~يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا ~~يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28)) (4) . وقال تعالى: (إن كل ~~من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94) ~~وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95) (5) . # وهذا كثير في كتاب الله، والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية ~~PageV02P115 ### | قاعدة في الاستحسان # PageV02P117 # مقدمة # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. # وبعد، فبين أيدينا كتاب مهتم من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث من ~~مباحث أصول الفقه، وهو الاستحسان، حرر القول فيه وأجاد، وبين وجه الخلاف ~~بين القائلين به والمانعين منه، ودرس تلك المسائل التي يذكر العلماء أنها ~~استحسان على خلاف القياس، بطريقة لم يسبق إليها. # وقد كنت عثرت على نسخة من هذا الكتاب ضمن مجموعة سيأتي وصفها، وتأملت ~~فيها فرأيت أنها بخط شيخ الإسلام ومسودته، بدلالة الشطب على كثير من ~~الكلمات والعبارات والإلحاق في مواضع عديدة، وهي خالية من النقط تقريبا. ~~وبدأت في قراءتها ونسخها، وكنت أقف على بعض الكلمات، وأقلبها على وجوهها، ~~حتى أصل إلى وجه الصواب فيها. # أخذ مني النسخ والقراءة وقتا طويلا، لأني قمت بنسخها في فترات مختلفة، ~~كنت أنسخ جزءا منها وأنصرف عنها لمدة طويلة أو قصيرة، لصعوبة الاستمرار ~~فيها، وكثرة تلك الكلمات التي لا أهتدي لصوابها، حتى عثرت على بعض النصوص ~~المقتبسة من هذا الكتاب ms0268 # PageV02P119 # عند ابن القيم في "بدائع الفوائد"، والتي حلت لي بعض الإشكالات، ورجعت ~~إلى كتاب "العدة" لأبي يعلى الذي نقل منه المؤلف نصوصا عديدة، وقرأت مبحث ~~الاستحسان في معظم كتب الأصول عند الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية، ~~وأخيرا فتشت عن الموضوعات التي تناولها شيخ الإسلام هنا بالبحث والدراسة في ~~كتبه ورسائله وفتاواه، فوجدت ما يشبهها أحيانا بالنص والعبارة في مواضع ~~عديدة، وقد ساعدني هذا كثيرا في فك الرموز والاهتداء إلى الصواب في كثير من ~~الكلمات والعبارات التي كانت غامضة ومبهمة. # واستقام لي النص تقريبا بعدما كلفني عرق القربة، وأحببت نشره كما هو بدون ~~تعليق أو تخريج أو توثيق، كما نشرت رسائله وفتاواه في "مجموع الفتاوى". ثم ~~عدلت عن هذا الرأي، لأن نشر الكتاب بهذا الشكل يحول دون فهم كثير من ~~المسائل الواردة فيه، والوصول إلى حقيقتها. # وقد كان الغرض من كتابة التعليقات على الكتب في تراثنا الإسلامي الإشارة ~~إلى ما في الأصل من خطأ أو صواب، وضبط المشكل من الأسماء والألفاظ، وشرح ~~الغريب والحوشي منها، وإيضاح الغامض والمبهم من العبارات ليساعد ذلك على ~~فهم النص. يقول ابن جماعة فى تذكرة السامع والمتكلم (ص 186، 191) : "ولا ~~يكتب إلا الفوائد المهمة المتعلقة بذلك الكتاب، مثل تنبيه على إشكال أو ~~احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك، ولا يسوده بنقل المسائل والفروع الغريبة، ~~ولا يكثر الحواشي كثرة تظلم الكتاب أو تضيع مواضعها على طالبها". # PageV02P120 # فاتبعت هذا المنهج الوسط في تعليقي، ووضعت نصب عيني أمورا: منها توثيق ما ~~نقله المؤلف من الأحاديث والآثار والمذاهب والنصوص، والإشارة إلى آرائه في ~~كتبه ورسائله وفتاواه في الموضوعات التي بحث فيها هنا، وشرح الغريب وتوضيح ~~الغامض من الكلمات، والإشارة إلى ما في الأصل من العبارات التي قد تشكل أو ~~تستغرب، ومحاولة توجيهها. # وهذه فصول تتعلق بالكتاب جعلتها مدخلا إلى قراءة النص ودراسته، ليكون ~~القارئ على بصيرة منه قبل الشروع فيه. # • عنوان الكتاب # لم يرد ذكر عنوان الكتاب بخط المؤلف في النسخة الفريدة التي وصلتنا، وقد ~~كتب أحد المفهرسين أو القراء في ms0269 أعلى الصفحة الأولى منها: "في الاستحسان ~~والقياس" استنباطا مما كتبه المؤلف في أوله بعد الخطبة: "فصل في الاستحسان ~~القياس وموضع الاستحسان هل يق وتخصيص العلة ... ". ولكنه لم يلاحظ أن ~~المؤلف شطب على العبارة التي تحتها خط، فكان ينبغي للشخص المذكور أن لا ~~يذكر "والقياس" في العنوان الذي اجتهد في استنباطه. والكتاب لا يبحث إلا في ~~موضوع الاستحسان، ولم يذكر من مباحث القياس إلا ما يتعلق بتخصيص العلة، ~~ومسألة القياس على المخصوص من جملة القياس، وللمؤلف كتاب مستقل في معنى ~~القياس. والذي بين أيدينا أفرده لبيان معنى الاستحسان وحقيقة # PageV02P121 # الخلاف فيه. # ولم يكن من عادة المؤلف أن يسمي كتبه ورسائله ويختار لها عناوين مناسبة ~~في مقدماتها كما يفعله عامة المؤلفين المتأخرين، بل كان يبدأ في الكتابة في ~~موضوع معين بعد البسملة أو الحمدلة بقوله: "فصل في ... " أو "قاعدة في ... ~~"، وأحيانا يدخل في الموضوع مباشرة، أو يذكر سبب التأليف، دون أن يختار ~~عنوانا محددا له. وعندما يحيل في مصنفاته إلى كتبه ورسائله الأخرى يشير إلى ~~موضوعها، أو يكتفي بقوله: "كما بسط ذلك في موضع آخر" ونحوه. وأكثر مؤلفاته ~~ورسائله التي وصلت إلينا اختير لها عناوين في حياته أو بعد وفاته من قبل ~~تلاميذه وأصحابه الذين قاموا بنسخها وتبييضها ونشرها، وعلى رأسهم أبو عبد ~~الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رشيق (ت 749) كاتب مصنفات شيخ ~~الإسلام، الذي كان أبصر بخط الشيخ منه، وإذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه ~~(1) . PageV02P122 # وهذا أحد أسباب اختلاف العناوين لمؤلفات شيخ الإسلام، فكتاب واحد يذكره ~~المترجمون له بعناوين مختلفة، وتصلنا نسخه الخطية بأسماء غريبة يستنبطها ~~الناسخ أو القارئ أو المفهرس، ويغتر بها الباحثون فيعدونها كتبا مستقلة. ~~وجل من صنع من المحدثين فهرسا لمؤلفات الشيخ في دراسات مفردة أو مقدمات ~~التحقيق لكتب الشيخ وقع في هذا الوهم. وعذرهم في ذلك أنهم في أغلب، الأحيان ~~لم يطلعوا على هذه النسخ، ولم يقوموا بالمقارنة بينها، حتى يصلوا إلى ~~حقيقتها، وإنما نظروا في فهارس المخطوطات التي تذكر هذه العناوين ms0270 المختلفة، ~~فظنوها كتبا مختلفة. # والواجب على من يريد معرفة العنوان الصحيح أو الأقرب إلى الصواب لكتاب من ~~كتب شيخ الإسلام أن يرجع إلى القوائم الأساسية لمؤلفاته التي أعدها تلاميذ ~~الشيخ وأصحابه. وأكثرها جمعا واستيعابا ثلاث قوائم عملها ابن رشيق المذكور، ~~وابن عبد الهادي (ت 744) ، والصفدي (ت764) . # أما ابن رشيق فله "رسالة في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" نشرت ~~منسوبة لابن القيم (ت751) (1) بالاعتماد على نسخة خطية منها توجد في دار ~~الكتب الظاهرية بدمشق. وقد عثرت على نسخة أخرى منها، وهي وإن كانت ناقصة ~~إلا أن فيها زيادات على المطبوعة، وتحتوي على نصوص اقتبسها ابن عبد الهادي ~~في العقود PageV02P123 # الدرية (ص 27- 28) وصرح بنسبتها إلى ابن رشيق، وأشار إلى القائمة التي ~~صنعها. # وكشفت المقابلة بين المخطوطة الثانية وبين المطبوعة عن أمر مهم آخر، وهو ~~أن ناسخ النسخة التي كان عليها الاعتماد في النشر (وهو الشيخ جميل العظم) ~~تصرف في إثبات العناوين تصرفا عجيبا، حيث اختصرها وهذبها وجعلها على نمط ~~واحد، وقدم وأخر، وحذف ما لم ير فيه فائدة، وهذا نموذج من المخطوطة الثانية ~~والمطبوعة يظهر به الفرق بينهما: # المخطوطة المطبوعة # سورة اقرأ باسم ربك 84- تفسير سورة اقرأ باسم ربك. # * فسرها وبين أنها أول سورة أنزلت وبين # أنها تضمنت أصول الدين، في مجلد # لطيف. # قل هو الله أحد 89 - تفسير سورة الإخلاص في مجلد. # * فسرها في مجلد # * وتكلم في مجلد لطيف على كونها # PageV02P124 # تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن # بعضه على بعض. # * وله قواعد في التفسير مجملة، تكلم # فيها على المصنفات وعلى المفسرين، # وما هو متصل وغير متصل، ومن يعتمد # عليه ومن لا يعتمد عليه، رأيت منها نحو # مجلد كبير. # * وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى # * وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي # والزمخشري أيها أفضل؟ # * وله قاعدة في فضائل القرآن. 90- قاعدة في فضائل # القرآن. # ولعل الشيخ جميل العظم أراد تهذيب العناوين والأسماء من أجل كتابه الذي ~~ألفه بعنوان "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون تصنيفا فمائة فأكثر"، ولو ~~أنه حافظ على الأصل كما ms0271 هو ولم يتصرف فيه لكان أجدى وأنفع وأوثق وأدق في ~~وصف الكتب والدلالة على ما أراد المؤلف بيانه. # PageV02P125 # هذا ما يتعلق بالقائمة التي أعذها ابن رشيق، والتي نسبت إلى ابن القيم ~~خطأ، فأوقعت جمهرة من الباحثين والدارسين والمحققين في الوهم خلال خمسة ~~وأربعين عاما. # أما ابن عبد الهادي فذكر قائمة من مؤلفات الشيخ في العقود الدرية (ص 26- ~~64) وقال في آخرها: "وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط ~~مؤلفاته في موضع آخر غير هذا. وأبين ما صنفه منها بمصر، وما ألفه منها ~~بدمشق، وما جمعه وهو في السجن. وأرتبه ترتيبا حسنا غير هذا الترتيب، بعون ~~الله تعالى وقوته ومشيئته". ولا ندري هل وجد ابن عبد الهادي فرصة لصنع هذا ~~الفهرس أم لا؟ # ورتب الصفدي قائمة مؤلفات الشيخ على الموضوعات في ترجمته في "الوافي ~~بالوفيات" و"أعيان العصر"، واعتمد عليه ابن شاكر الكتبي (ت 764) في ترجمة ~~الشيخ في "فوات الوفيات". # هذه القوائم الأساسية إذا اتفقت على عنوان الكتاب فلا يعدل عنه إلى غيره ~~مما هو مثبت على مخطوطاته المختلفة إلا إذا كان ذلك العنوان بخط المؤلف ~~نفسه، فيرجح على غيره. أما إذا اختلفت في ذكر العنوان فيكون الترجيح للاسم ~~الذي يكون مطابقا لإحدى النسخ الخطية القديمة التي وصلتنا. # لننتقل الآن إلى الكتاب الذي بين أيدينا، ولنبحث عن عنوانه الصحيح بعدما ~~رأينا أن المفهرس أو أحد القراء وقع في الخطأ # PageV02P126 # عندما أثبت عنوانه "في الاستحسان والقياس"، وبينا سبب وقوعه في الخطأ. ~~وإذا رجعنا إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها وجدنا أن ابن رشيق لم ~~يشر إلى هذا الكتاب، أو بعبارة أدق: لم نجد ذكره في النسخة المهذبة ~~المختصرة المنشورة من الكتاب، ولعله ذكره في الأصل الذي لم يصل إلينا إلا ~~نصفه تقريبا بصورته الأصلية. # أما الصفدي فذكر هذا الكتاب بعنوان "قاعدة في الاستحسان" في الوافي ~~بالوفيات (7/27) وأعيان العصر (1/35 أ [عاطف أفندي 1809] ) وتبعه ابن شاكر ~~الكتبي في فوات الوفيات (1/78) ، وعن ابن شاكر نقل محمود شكري الآلوسي في ~~غاية الأماني في ms0272 الرد على النبهاني (1/384) ، وكلهم ذكروا الكتاب ضمن ~~المؤلفات في أصول الفقه. # ووجدت عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 45) كتابا بعنوان "قاعدة ~~في الإحسان"، وربما يكون "الإحسان" تصحيفا عن "الاستحسان"، فقد جاء ذكره في ~~سياق كتب الفقه والأصول، وسبق أن ذكر (ص 48) "قاعدة في الإيمان المقرون ~~بالإحسان، وفي الإحسان المقرون بالإسلام" فلا وجه لتكراره إلا أنني رجعت ~~إلى طبعات أخرى لكتاب العقود الدرية، فوجدت جميعها تتفق على إثبات العنوان ~~المذكور، فترددت في القول بوقوع التصحيف فيه. # ولم أجد الآن نسخا خطية من الكتاب لأحقق هذا الأمر. # ولم أجد من ذكر هذا العنوان غير المؤلفين الثلاثة (إذا استثنينا ابن عبد ~~الهادي) ، وهو العنوان الموافق لمضمون الكتاب الذي بين # PageV02P127 # أيدينا، فلم أعدل عنه إلى غيره. وأثبته على الغلاف، وإن كانت نسخة المؤلف ~~خالية منه، لما ذكرت من أن هذا العنوان وضع من قبل أحد تلاميذ الشيخ ~~وأصحابه، فيرجح على ما يستنبطه أحد المفهرسين أو القراء. # • توثيق نسبته إلى المؤلف # قررنا فيما سبق أن لشيخ الإسلام ابن تيمية كتابا بعنوان "قاعدة في ~~الاستحسان"، إلا أن هذا لا يكفي لصحة نسبة الكتاب الذي بين أيدينا إليه ما ~~لم تكن هناك أذلة أخرى مقنعة تؤكد ذلك، وبعد الدراسة المتأنية له والرجوع ~~إلى بعض المصادر يظهر لنا جليا أنه من تأليف شيخ الإسلام، وأنه الكتاب الذي ~~أشار إليه المترجمون له. # أما أنه من تأليفه فأكبر دليل على ذلك أنه مسودة كتبها بخطه، كما هو واضح ~~لكل من اطلع على شيء من مؤلفاته بخطه المعروف والموصوف بالسرعة وكونه في ~~غاية التعليق والإغلاق (1) ، حتى أن كثيرا من أصحابه عجزوا عن نقله، وكان ~~هذا أحد أسباب ضياع كثير من مؤلفاته. يقول ابن عبد الهادي: "كان كثيرا ما ~~يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا، ويسأل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا فلا ~~يدرى أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم ~~عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب، PageV02P128 # ولا يعرف اسمه" (1) . # والكتاب ms0273 الذي بين أيدينا نموذج من هذا الخط الدقيق، ولعله بقي عند بعض ~~أصحابه، ولم تنسخ منه نسخ، ولا انتشر ذكره مثل بقية مؤلفاته المشهورة، فلم ~~نجد له ذكرا في فهارس المخطوطات، بل المكتبة التي تحتفظ بهذا المخطوط ~~الفريد لا يوجد في فهارسها ذكره، ولذا بقي مجهولا لدى الباحثين إلى يومنا ~~هذا. # ومما يدك على أنه لشيخ الإسلام أن في الكتاب إشارة إلى # كتاباته الأخرى في موضعين: ### | 1- # بعدما قرر أن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال، قال: "وهذا هو ~~الصواب، كما قد بسطناه في مصنف مفرد، بمناسبة أنه ليس في الشرع شيء بخلاف ~~القياس الصحيح أصلا" (ص 197- 198) . يشير هنا إلى رسالته في معنى القياس، ~~وهي من مؤلفاته المطبوعة والثابتة النسبة له (2) . ### | 2- # قال: "وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأحكام كلها بلفظ الشارع ومعناه، ~~فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني المؤثرة، ~~فمعانيه أيضا متناولة لجميع الأحكام " (ص 206-207) . يشير هنا إلى " قاعدة ~~في شمول النصوص للأحكام"، حيث أطال الكلام في هذا الموضوع، وقرر أن النصوص ~~وافية PageV02P129 # بجمهور الأحكام، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال ~~الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. وهذه القاعدة مذكورة ضمن مؤلفات ~~الشيخ في "العقود الدرية" (ص 45) . # وفي الكتاب موضوعات عديدة بحث فيها شيخ الإسلام في # كتبه ورسائله الأخرى، وتكلم عليها بنحو الكلام الذي نجده هنا، # ورجح ما رجحه هنا، وهذا التوافق لا يدع مجالا للشك في أن الكتاب # للمؤلف نفسه. والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أشرت في تعليقي إلى # هذه المواضع. وهذه نماذج منها: # الموضوع - الكتاب - مجموع الفتاوى # قياس المشركين 53 ,20/539 ,540و19/287 # إذا صلى الإمام قاعدا كيف # يفعل المأمومون 54-55 ,23/249و405 ,406 # الكلام على من يجعل إجارة # الظئر على خلاف القياس 61 ,20/531 ,532و30/197-200 # الكلام على من يجعل الإجارة # والقراض على خلاف القياس 61, 20/514, 515 # الكلام على خبر المصراة 67, 20/556-558 # الكلام على من جعل حمل # العاقلة على خلاف القياس 67, 20/552-554 # العلة نوعان: تامة ومقتضية # PageV02P130 # أولا 69-70, 20/167, 168و21/356, 357 # هل العقوبة المالية منسوخة؟ 73, 28/111 وما بعدها # تضعيف الغرم على من # درىء عنه القطع ms0274 73, 28/113, 118-119, 333 # نهي الإمام أحمد عن التأويل # والقياس 74, 7/392 # معنى "المجمل" في كلام # الأئمة 74, 7/391 # محل سجود السهو عند الإمام # أحمد 75-76, 23/17 وما بعدها # نفي كون علة الربا هي الوزن 78, 29/471 # القياس الصحيح والقياس # الفاسد 79, 19/285-288 # هل يقاس على المعدول به # عن سنن القياس؟ 82-83, 20/555, 556 # القصر في السفر الطويل # والقصير 87, 24/34-35, 12-13, 15 # منع قصر المكيين مخالف # للسنة 87, 20/361-362, 24/10-11, 26/130 # PageV02P131 # مناقشة أدلة القائلين بالتيمم # لكل صلاة 94-96, 21/354-361, 435-438 # معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصليت # بأصحابك وأنت جنب؟ " 96-97, 21/404-405 # المضارب إذا خالف: ماذا # يستحق؟ 97-99, 30/85-86, 91, 28/ ### | 84-85 # تصرف الفضولي 99, 20/577 # القول بوقف المعقود 101, 20/579-580, 29/249 # السنة في اللقطة 101, 20/577, 29/250 # أثر عمر بن الخطاب في # المضارب واختلاف العلماء # في المسألة 102, 30/87, 323, 329 # تصرف الغاصب 102, 20/562-563 # من غصب أرضا فزرعها فالزرع # لرب الأرض وعليه النفقة، # مناقشة من قال: إنه على # خلاف القياس 104-105, 29/124 # شراء المصحف واستبداله 106, 31/212-213 # بيع الأرض الخراجية، الرد # على من منع منه لأنها وقف 107-109, 29/206-209, 28/ ### | 588-589 # , 31/230- # PageV02P132 # 231، 17/488- 489 # قبول شهادة أهل الذمة في # الوصية في السفر 109-110, 15/299 # قبول شهادة النساء فيما لا يطلع # عليه الرجال 111, 15/299 # من نذر ذبح نفسه أو ولده # ماذا عليه؟ 112-113, 35/343-345 # وأخيرا فإن ما نقله ابن القيم في "بدائع الفوائد" (4/124- 126) من هذا ~~الكتاب يعتبر دليلا قاطعا على صحة نسبته إلى شيخ الإسلام، وهو وإن لم يصرح ~~بعنوان الكتاب فانه ينقل النصوص منه بقوله: "ونازعهم شيخنا ... " و"قال ~~شيخنا". وهي متطابقة تماما مع النصوص الموجودة في الكتاب (ص 166-183) وقد ~~علق ابن القيم على هذه المقتبسات أحيانا، وميز تعليقاته بقوله "قلت". ~~واختصر بعض النصوص، وحذف بعض الكلام، فلم ينقل منه إلا ما يدل على المقصود. ~~ولاحظت في مطبوعته تصحيفات في مواضع ينبغي أن تصحح بعد المقابلة مع هذا ~~الأصل المنقول منه. # • تاريخ تأليفه # لا نستطيع أن نحدد في ضوء المعلومات التي لدينا متى ألف شيخ الإسلام هذا ~~الكتاب، فلم تسعفنا المصادر بشيء يفيدنا في هذا الباب، ولا تحمل النسخة أي ~~إشارة إلى التاريخ الذي فرغ فيه المؤلف من تأليفه. أما الموضوعات المشتركة ~~التي بحث عنها هنا وفي رسائله # PageV02P133 # وكتبه الأخرى فلا يمكن استنباط التقدم والتأخر في ضوئها، لأن المؤلف ~~كثيرا ما يكرر فكرة معينة في مؤلفاته وفتاواه، فلو استطعنا معرفة تواريخ ms0275 ~~بعضها فهذه لا ترشدنا إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهل كان ذلك قبلها أو ~~بعدها. # ولكني أكاد أجزم بأنه ألفه في أواخر حياته، وبالتحديد بعد سنة 712. ~~والدليل على ذلك أن المؤلف أحال فيه (ص 197) إلى رسالته في معنى القياس، ~~وهي عبارة عن جواب سؤال سئل فيه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: ~~هذا خلاف القياس. وكان السائل مجهولا (1) حتى وجدت في إعلام الموقعين ~~(1/383) أن ابن القيم هو الذي كان وجه هذا السؤال إلى شيخه، كما ذكر ذلك ~~بنفسه. ولشدة إعجابه بهذا الجواب أورد معظمه في كتابه المذكور (1/384- 401 ~~ثم 2/3-38) مع التعليق عليه في مواضع. # وتفيدنا بعض المصادر (2) أن ابن القيم لازم شيخه ستة عشر عاما (أي 712- ~~728) حتى رافقه في سجنه في آخر حياته. وعلى هذا فيكون كتابه في معنى القياس ~~من مؤلفات هذه الفترة قطعا، ويكون الكتاب الذي بين أيدينا قد ألف بعده. ~~وهذا يناسب ما ذكره بعضهم (3) من أن شيخ الإسلام بعد رجوعه من مصر إلى ~~الشام سنة 712 تفرغ للتأليف وكتابة الرسائل والأعمال العلمية الأخرى، ~~PageV02P134 # وكانت من أخصب فترات عمره التي ألف فيها كثيرا. من كتبه. # • سبب تأليفه # أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى سبب تأليفه، فذكر أن المؤلفين في الأصول ~~خاضوا في مباحث الاستحسان وتخصيص العلة، والقياس على موضع الاستحسان وادعوا ~~في بعض الأحكام التي ثبتت بالنص والإجماع أنها مخالفة للقياس، واضطربوا ~~فيها غاية الاضطراب. وكانت الحاجة ماسة إلى تحقيق القول فيها، لأن كثيرا من ~~مسائل الشريعة أصولها وفروعها لها علاقة بهذه الموضوعات. # وهذا ما دعا المؤلف إلى الكتابة في هذا الباب وتحرير الكلام فيه، وبيان ~~وجه الخلاف بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وأن الخلاف بين ~~الفريقين حقيقي، وليس لفظيا كما ذكره عامة الأصوليين. # ويبدو لي أنه عندما وجد أبا يعلى وأبا الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهم ~~من الأصوليين الحنابلة سايروا الحنفية في القول بالاستحسان وتعريفه بأنه ~~مخالفة القياس لدليل، ونصوا على أنه مذهب الإمام أحمد، ونقلوا عنه مسائل ~~قال فيها بالاستحسان-: أراد أن يبين وجه ms0276 الحق والصواب في هذه القضية، وأن ~~الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث لم يقولوا بالاستحسان الذي قال به ~~الحنفية، وأن هناك خلافا منهجيا كبيرا بين الفريقين في هذا الباب، وأن ~~المسائل الاستحسانية التي نقلت عن الإمام أحمد ليست مخالفة للقياس، وأن ~~القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال. # PageV02P135 # هذه الأمور وغيرها كانت تحتاج إلى البسط والتفصيل والحجاج والمناقشة، ~~فنشط لها المؤلف، وألف هذا الكتاب الذي أتى فيه بنظرات جديدة حول الموضوع، ~~وتناوله بطريقة لم يسبق إليها. # • منهج المؤلف فيه # للمؤلف منهج متميز لا يحيد عنه في جميع مؤلفاته، فهو يعتمد على الكتاب ~~والسنة وأقوال السلف في الكلام على أي مسألة، سواء كانت في العقيدة أو ~~الأصول أو المصطلح أو التفسير أو الفقه أو غيرها، وينقل المذاهب والآراء من ~~المصادر المعتمدة لدى أصحابها، ولا ينسب إليهم إلا ما يقولون به ملتزما ~~الأمانة العلمية في ذلك. ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم بالحجج والبراهين، ~~ويبين وجه خطئهم، ومدى قربهم أو بعدهم من منهج السلف. ويحرر القول في ~~المسألة تحريرا بالغا، ويرد على جميع الشبه والاعتراضات التي قد ينخدع بها ~~العامة والخاصة، ويستطرد أحيانا إلى موضوعات أخرى يأتي فيها بفوائد علمية ~~جليلة. كل ذلك بأسلوب سهل ميسر يجري كالماء سلاسة وعذوبة، يكاد يفهمه ~~الجميع: المتعلم منهم وغير المتعلم. وقد انتقد المؤلف الأسجاع والزخارف ~~اللفظية التي يلجأ إليها عامة الكتاب والأدباء، فقال: "وأما تكلف الأسجاع ~~والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء ~~والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء ~~منهم، ولا كان ذلك مما يهتم به العرب، وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير ~~فائدة مطلوبة من المعاني، # PageV02P136 # كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان" (1) . # فهو ينزه أسلوبه عن الزخارف والأسجاع والتعقيدات اللفظية والمعنوية، ~~ويكتب بأسلوب سلس فصيح يعبر بوضوح عن المعاني والأفكار التي يرمي إليها، ~~ولا يبقي أي غموض أو إبهام فيها. # هذه ملامح عامة من منهجه وأسلوبه في الكتابة، نجدها بارزة في هذا الكتاب ~~أيضا ms0277 مثل بقية مؤلفاته، فهو ينقل أولا عن الأصوليين ما قالوه في هذا الباب، ~~ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم، ويبين وجه الخطأ والصواب عندهم، ويحرر ~~المسألة تحريرا بالغا بأسلوبه الذي عرفناه، مستندا في كل ذلك إلى الكتاب ~~والسنة وأقوال السلف الصالح، كما سنرى ذلك فيما بعد إن شاء الله. # • مصادره # إن أهم مصدر رجع إليه المؤلف عند كتابته في هذا الموضوع: كتاب "العدة" ~~لأبي يعلى، فقد نقل عنه نصوصا عديدة في مواضع مختلفة، وصرح فيها باسم أبي ~~يعلى أو لقبه بالقاضي، وكان اعتماده عليه دون غيره من كتب الأصول لأنه من ~~أجمعها عند الحنابلة، وكل من جاء بعده مثل الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما ~~اعتمدوا عليه في مؤلفاتهم، ولذا أحال إليه المؤلف ونقل عنه نصوصا في مبحث ~~الاستحسان (ص 167، 175- 176) ، ومبحث تخصيص العلة (ص180- 182) ومبحث القياس ~~على المخصوص من القياس (ص 198- 200، (1) ~~منهاج السنة النبوية 4/158، 159 (ط. بولاق) . # PageV02P137 ### | 200- 201 # ، 202-203، 204) . وهي عند أبي يعلى في العدة (5/1605 و ~~1607-4/1386-1388, 1394, 1397- 1401, 1402, 1403, 1408) . وكذلك ما يتعلق ~~باستحسانات الإمام أحمد بن حنبل برواية صالح والميموني والمزوذي وبكر بن ~~محمد (ص 172-174) يبدو أنه منقول عن العدة (5/1604- 1605) أيضا. وكذا ما ~~ذكره عن الإمام أحمد برواية [أحمد بن] الحسين بن حسان، وما ذكره عن ابن ~~شاقلا في "شرح الخرقي "، وما ذكره عن أبي الحسن الخرزي في "جزء فيه مسائل ~~من الأصول" (ص181 - 182) -: كله بواسطة كتاب "العدة" (4/1386- 1387) . # وهناك مؤلفون آخرون في الأصول أشار إلى آرائهم وإن لم يقتبس نصوص كلامهم، ~~وهم: # - أبو الخطاب الكلوذاني (ص 174، 180، 182) ، وآراؤه المشار إليها في ~~كتابه "التمهيد" (4/92، 69) . # - ابن عقيل) ص 174، 180، 184) ، وآراؤه المذكورة في كتابه "الواضح " ~~(1/144أ، 144ب، 145أ) . # - أبو الحسين البصري (ص 178) ، كلامه في كتابه "المعتمد" (2/839) . # - الجصاص الرازي (ص 178) ، قوله في كتابه "الفصول في الأصول" (ق 297 أ- ~~ب) . # - أبو حامد المروزي وأبو الطيب الطبري (ص 184) كلاهما # PageV02P138 # من أئمة الشافعية، لا أدري هل ذكر المؤلف رأيهما بالاعتماد على كتبهما أو ~~بواسطة مصدر آخر؟ # أما المسائل الفقهية فلا يذكر المؤلف مصادره فيها غالبا؟ لأنه كان حافظا ~~لها. وقد صرح بالنقل عن مختصر الخرقي (ص 215، 216) في موضعين ms0278 فقط. وكذلك ~~الأمر بشأن الأحاديث والآثار، فإنها كانت على طرف لسانه، حتى قيل: "كل حديث ~~لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " (1) . وفي موضع واحد فقط قال بعد إيراد ~~حديث: "رواه البخاري " (ص 225) . # وأشار في موضع إلى كتب الإمام مالك وأصحابه، بشأن ورود لفظ الاستحسان ~~فيها (ص 165) ، كما أشار إلى كلام الشافعي في إبطال الاستحسان (ص 166) . # هذه بعض المصادر التي نقل عنها أو أشار إليها، وسنرى فيما بعد أنه لم ~~يقتصر على النقل والاقتباس، بل علق على كل نص بما يؤيده أو يفنده مع ذكر ~~الدليل على ذلك. # • تحليل مباحث الكتاب ورأي المؤلف في الاستحسان # خصص المؤلف هذا الكتاب لدراسة مبحث الاستحسان، فبين معناه، وذكر اختلاف ~~العلماء فيه، وفضل القول في تحرير محل النزاع بينهم، وذكر أنواع الاستحسان ~~عند القائلين به، وهل الاستحسان تخصيص العلة أم لا؟ ودرس تلك المسائل التي ~~يقال إنها استحسان PageV02P139 # على خلاف القياس، وبين وجه ذم بعض الأئمة له تارة والقول به أخرى، وجاء ~~فيه بتحقيقات من عنده، ونظرات في هذا الموضوع لم يسبق إليها. # وقبل أن نقوم بتحليل هذه المباحث ودراسة آراء المؤلف فيها، ينبغي الإشارة ~~إلى أن بعض الباحثين لم يتعرضوا لموضوع الاستحسان عند شيخ الإسلام (1) ، ~~بسبب عدم عثورهم على هذا الكتاب، وحاول آخرون أن يجمعوا نتفا من كلامه من ~~كتبه ورسائله، ومنهم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي توصل بعد ~~دراستها إلى أن شيخ الإسلام جعل الاستحسان قسمين (2) : ### | 1- # الاستحسان بمجرد الرأي، وهذا يرده، ويعتبر القول به شرعا في الدين بما لم ~~يأذن به الله، ويعتبر كل استحسان خالف النص بالرأي استحسانا باطلا لا يجوز ~~القول به ولا اعتباره. ### | 2- # الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وهذا القسم يقول ~~به ابن تيمية. # واستند في ذلك إلى قوله: "فنجد القائلين بالاستحسان الذين تركوا القياس ~~لنمن خيرا من الذين طردو القياس وتركوا النص" (3) . PageV02P140 # وأنه روي عن أحمد مسائل قال فيها بالاستحسان، ونقل جملة من تفسيرات ~~الاستحسان، وذكر أن مرد القول به إلى ms0279 ترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولم ~~يعترض على شيء من ذلك حيث قال بعد نقل كلام الحلواني: "وهذا الكلام منه ~~يقتضي أن الاستحسان ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وهذا معنى قول القاضي. ~~ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن، وإنما يكون في شيئين حسنين، ~~وإنما يوصف القول بالحسن إذا جاز العمل به لو لم يعارض" (1) . # أما الأستاذ حمزة زهير حافظ فأشار أولا إلى ذكر شيخ الإسلام لأمثلة ~~الاستحسان التي وردت عن الإمام أحمد، ونسبة القول به إلى أصحاب أبي حنيفة، ~~وإنكار الشافعي له، وعقب عليه بقوله: "ولم يبين مقصد الشافعي من إنكاره" ~~(2) . # ثم نقل عن المسودة كلام الحلواني السابق وتعليق شيخ الإسلام عليه، وقال: ~~"كلام ابن تيمية هنا ينبهنا على نقطة مهمة، وهي: أن تركنا للقياس في مواضع ~~معينة لا يعني القدح في هذا الأصل الشرعي، بل إن القياس في المسألة التي ~~تركناه فيها دليل قوي في نفسه، لولا أن جاء دليل أقوى منه، فقدمناه عليه. ~~وهذا لا يقدح مطلقا فيه. بل إن ابن تيمية أشار إلى أن اتباع القياس حسن، ~~ولذلك وصف الدليل PageV02P141 # المعارض الذي يكون أقوى منه وصفه بأنه حسن" (1) . # ثم تعرض لموضوع: هل الاستحسان من باب تخصيص العلة أم لا؟ ونقل عن المسودة ~~نصا في ذلك. وجاء باحث آخر، وهو الدكتور عمر بن عبد العزيز، فتوصل بعد ~~دراسته لرسالة شيخ الإسلام في معنى القياس إلى أنه منع من إطلاق "المخالف ~~للقياس" على ما ثبت شرعا على الوجه المخصوص، وأن المسائل الفقهية التي قيل ~~بمخالفتها للقياس بين شيخ الإسلام موافقتها له، ولكنه بعد ذلك جعله من ~~القائلين بالاستحسان، الذي يلتقي في بعض أنواعه مع المعدول به عن القياس، ~~أو ما يسمى بالمخالف للقياس، واعتبر هذا موقفا آخر، وحاول التوفيق بين ~~الموقفين وقال: "إن اعترافه بالاستحسان وإنكاره للمخالف للقياس ينسجمان ~~انسجاما لا يشوبه شبهة التعارض ... ذلك أنه إنما أنكر اسم "خلاف القياس" ~~لما ثبت شرعا، لإفضائه إلى اللوازم الستة التي سبق ذكرها، إذ كان فيه إشعار ~~بثبات ذلك القياس ms0280 بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم آخر بدليل شرعي آخر ... أما ~~الاستحسان فإنه يشعر بأن دور القياس المعدول عنه قد انتهى بالنسبة لهذا ~~الذي أفرد بحكم، وأنه ما ينبغي أن يدخل هذا الفرد في نطاقه، ويأخذ حكمه، ~~فلا يستلزم أيا من تلك اللوازم الستة الباطلة. أضف إلى، ذلك أن اسم ~~الاستحسان يشعر بالمدح والثناء"!! (2) . PageV02P142 # هذه آراء بعض الباحثين الممتازين في بيان موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، ~~حيث ذكروا أنه من القائلين به إذا كان الاستحسان لدليل، وهو العدول عن ~~القياس لما هو أقوى منه، وأن الاستحسان هو اختيار الأحسن، وأن ترك القياس ~~في مواضع معينة لا يعني القدح فيه، فإنه يحرك لدليل أقوى منه. ولو أنهم ~~اطلعوا على هذا الكتاب لعرفوا أن جميع ما توصلوا إليه خلاف ما قرره شيخ ~~الإسلام هنا، وأن ما استنبط من كلامه ليس رأيه الصريح في هذه القضية، بل هو ~~نقل عن الآخرين وتوجيه لأقوالهم وبيان لما يقصدون إليه. # وسنعرض فيما يلي مباحث الكتاب لنعرف موقف شيخ الإسلام من الاستحسان ومن ~~القائلين به والمانعين منه، ومدى موافقته لأحد الفريقين، وكيف ينظر إلى تلك ~~المسائل التي قيل فيها: إنها استحسان على خلاف القياس. # بدأ المؤلف كتابه بخطبة الحاجة، وبيان سبب التأليف الذي سبق الحديث عنه، ~~ثم ذكر التعريف المشهور للاستحسان وهو أنه مخالفة القياس لدليل، وبين ~~اختلاف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب: فالظاهرية والمعتزلة والشيعة ينكرون ~~هذا اللفظ مطلقا، وأبو حنيفة وأصحابه يقرون به بهذا المعنى، ويجوزون مخالفة ~~القياس للاستحسان، ويعملون بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. والشافعي ~~وأحمد ومالك وغيرهم يذمون الاستحسان تارة ويقولون به تارة. وكان الشافعي من ~~أعظم الأئمة إنكارا له، وقد تكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، ~~ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان في بعض # PageV02P143 # المواضع. ونقل عن أحمد أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف ~~القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس. فيدعون الذي يزعمون أنه الحق ~~بالاستحسان. وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه". # بين المؤلف مراد ms0281 أحمد من هذا القول، وهو أنه يستعمل النصوص كلها، ولا ~~يقيس على أحد النصين قياسا يعارض النص الآخر، كما يفعل الحنفية، حيث يقيسون ~~على أحد النصين، ثم يستثنون موضع الاستحسان إما لنص أو غيره، فينقضون العلة ~~التي يدعون صحتها مع تساويها في محالها. أما أحمد فيوجب طرد العلة الصحيحة، ~~ويقول: إن انتقاضها مع تساويها في محالها يوجب فسادها، وبالتالي فساد ~~القياس المبني على تلك العلة المزعومة. ثم شرح المؤلف الفرق بين المنهجين ~~بذكر بعض الأمثلة على ذلك، وتوصل إلى أن منهج فقهاء الحديث كيحيى بن سعيد ~~والشافعي وأحمد وغيرهم العمل بالنصين الواردين في المسألة، وعدم قياس ~~أحدهما على الآخر قياسا يناقض الآخر، أو جعل أحدهما منسوخا بالثاني. # بعد بيان هذا الفرق بين المنهجين ذكر المسائل التي قال فيها أحمد ~~بالاستحسان، وأشار إلى أن أبا يعلى فهم منها ومن النص السابق عن أحمد أن ~~المسألة على روايتين عنه: إبطال الاستحسان والقول به، وأن أبا يعلى وأتباعه ~~كأبي الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما نصروا القول بالاستحسان كقول ~~الحنفية، وفسروه # PageV02P144 # كتفسيرهم، ووافقوهم في ذكر أنواعه، وهي: الاستحسان للكتاب، والاستحسان ~~للستة، والاستحسان للإجماع، مع ذكر الأمثلة على ذلك. # انتقل المؤلف بعد ذلك إلى نقطة أخرى، وهي: هل الاستحسان تخصيص العلة؟ ~~فنقل أولا اختلاف العلماء في جواز تخصيص العلة ومنعه، ثم ذكر أن القاضي أبا ~~يعلى وابن عقيل وغيرهما يمنعون تخصيص العلة مع قولهم بالاستحسان، وأن أبا ~~الخطاب الكلوذاني يختار تخصيص العلة موافقة للحنفية. ونقل نصوصا من كتاب ~~أبي يعلى وحجج الفريقين ومناقشاتها مع ذكر الأمثلة على ذلك. ثم ذكر قولا ~~ثالثا في هذا الموضوع، وهو تقديم النص وخبر الواحد على قياس الأصول عند من ~~يقول بذلك في حالة التعارض بينهما. وقولا رابعا، وهو أنه يجوز تخصيص العلة ~~المنصوصة دون المستنبطة. # وفي آخر هذا البحث ذكر أن النزاع بين الفريقين القائلين بجواز تخصيص ~~العلة ومنعه إنما هو في علة قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما ~~إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يعلم خلوه عن ms0282 التأثير والسلامة عن ~~المفسدات فكلهم متفقون على أن التخصيص يبطل تلك العلة، وأنه لا عبرة بها ~~عند أحد من العلماء. # رأينا أن المؤلف نقل إلى هنا آراء الآخرين ونصوصهم في هذا الباب، ولم ~~يعلق عليها إلا في موضع واحد عندما بين مراد الإمام أحمد من قوله السابق ~~ذكره. ولما انتهى من سرد المذاهب والأقوال بدأ في المناقشة والنقد وإبداء ~~رأيه في الخلاف الذي دار حول هذا # PageV02P145 # الموضوع، فذكر أن التحقيق في هذا الباب أن العلة قد تطلق على العلة ~~التامة المستلزمة لمعلولها بحيث يمتنع تخلف الحكم عنها، فهذه لا يتصور ~~تخصيصها ونقضها، ومتى انتقضت بطلت. وقد يراد بالعلة ما كان مقتضيا للحكم، ~~أي أن فيها معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجبا، وتسمى المؤثرة أو ~~المقتضية أولا، فهذه إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق به بين صورة النقض وغيرها ~~من الصور لم تفسد. فمن قال: إن العلة لا يجوز تخصيصها مطلقا لا لفوات شرط ~~ولا لوجود مانع فهو مخطئ قطعا، وقوله مخالف لإجماع السلف، فكلهم يقولون ~~بتخصيص العلة لمعنى يوجب الفرق. # ومورد النزاع في الاستحسان هو تخصيص العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين ~~صورة التخصيص وغيرها، وهذه العلة إما أن تكون مستنبطة أو منصوصة: # أ- فإن كانت مستنبطة وخصت بنص، ولم يبين الفرق المعنوي بين صورة التخصيص ~~وغيرها، فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان ينكره كثيرا الشافعي وأحمد ~~وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة. لأن العلة المذكورة لم تعلم ~~صحتها إلا بالرأي، فإذا عارضها النص كان مبطلا لها، والنص إذا عارض العلة ~~دل على فسادها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده. # ب- وإن كانت منصوصة، وقد جاء نصن بتخصيص بعض صور العلة، فهذا مما لا ~~ينكره أحمد والشافعي وأصحابهما. كما إذا جاء نص في صورة، ونص يخالفه في ~~صورة أخرى، لكن بينهما # PageV02P146 # شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم، فهؤلاء يقرون النصوص، ولا يقيسون ~~منصوصا على منصوص يخالف حكمه. ولكن ms0283 الذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: ~~الصورتان سواء لا فرق بينهما، فيكون أحد النصين ناسخا للآخر. ومثل هذا ~~كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومخالفوهم ممن يقيس منصوصا على منصوص، ~~ويجعل أحد النصين منسوخا لمخالفته قياس النص الآخر. # وله أمثلة ذكر المؤلف كثيرا منها وقال: فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة ~~الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما كان ينكره أحمد وغيره. # بقيت صورة، وهي أن يجيء نصان بحكمين مختلفين في صورتين، وهناك صور مسكوت ~~عنها، فهل يقال: القياس هو مقتضى أحد النصين، فما سكت عنه نلحقه به وإن لم ~~نعرف المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان المتنازع فيه الذي ~~يقول به أصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد. أما الآخرون فيقولون: لابد ~~أن يعلم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت عنه بأحد النصين أولى من ~~إلحاقه بالآخر. وإذا علم المعنى في أحد النصين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن ~~يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يلحق بواحد منهما إلا بدليل. # والتحقيق أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، ~~وإما أن يعلم افتراقهما، وإما أن لا يعلم واحد منهما. # ففي الحالة الأولى متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم # PageV02P147 # أن العلة باطلة، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون ~~الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما. فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك ~~دليلا على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يعرف الفرق. وإن علم أنه سوى ~~بينهما كان ذلك دليلا على استوائهما. # وإن لم يعلم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك. # وأحمد إنما قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا ~~من باب تخصيص العلة للفارق المؤثر، وأنكر الاستحسان إذا خصت العلة من غير ~~فارق مؤثر، فإن مثل هذا الاستحسان المعدول به عن القياس المخالف له يقتضي ~~فرقا وجمعا بين الصورتين بلا دليل شرعي. # توضيح ذلك: أن القياس إذا ms0284 لم ينص الشارع على عقته، ولكن رأى الرائي ذلك ~~لمناسبة أو مشابهة ظنها مناط الحكم، ثم خص من ذلك المعنى صورا بنص يعارضه ~~كان معذورا في عمله بالنص، لكن مجيء النص بخلاف تلك العلة في بعض الصور ~~دليل على أنها ليست علة تامة قطعا، فإن العلة التامة لا تقبل الانتقاض. # وإن كان مورد الاستحسان أيضا معنى ظنه مناسبا أو مشابها، فانه يحتاج ~~حينئذ إلى إثبات ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف. فلا يكون قد ترك ~~القياس إلا لقياس أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها ~~وبين غيرها، فلا يكون حينئذ لنا استحسان يخرج عن نص أو قياس. وعلى هذا فلا ~~يكون # PageV02P148 # الاستحسان الصحيح عدولا عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه ~~بحال. هذا هو الصواب كما قرره المؤلف في رسالته في معنى القياس أيضا. # وتنبني عليها مسألة أخرى ذكرها الأصوليون وفضل المؤلف الكلام حولها، وهي ~~مسألة القياس على صور الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس، وهي من جنس ~~تخصيص العلة والاستحسان، فمن جوز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي ~~قال: المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارق معنوي، فلا يقاس عليه، ~~وهم أصحاب أبي حنيفة. أما أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: إذا عرف ~~المعنى الفارق الذي لأجله ثبت الحكم فيها يجوز القياس عليها. # وما ذكر فيه أنه خالف القياس في صور الاستحسان، فلابد أن يكون قياسه ~~فاسدا، أو يكون تخصيصه بالاستحسان فاسدا إذا لم يكن هناك فارق مؤثر. هذا هو ~~الصواب في هذا الباب، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين ~~بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرق مؤثر بينهما. # وحقيقة هذا كله أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس في نفس الأمر، فمن ~~يقول بالاستحسان من غير فارق مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر، وبمنع ~~القياس على المخصوص من جملة القياس-: يثبت أحكاما على خلاف القياس الصحيح ~~في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما ms0285، # PageV02P149 # فهم تارة ينكرون صحة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارة ينكرون ~~مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان الذي ليس بدليل شرعي، ~~وتارة ينكرون صحة الاثنين، فلا يكون القياس صحيحا، ولا يكون ما خالفوه ~~لأجله صحيحا، بل كلاهما ضعيف. # وبعدما انتهى المؤلف من بيان حقيقة الخلاف في هذه القضية عقد فصلا لدراسة ~~تلك المسائل التي يدعون فيها أنها تثبت على خلاف القياس الصحيح، أو أن ~~العلة الشرعية الصحيحة خصت بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن ~~الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي. # فذكر أن الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة: الشافعي وأحمد وغيرهما، ~~وإن كان الواحد من هؤلاء قد يناقض نفسه أيضا فيخص ما يجعله علة بلا فارق ~~مؤثر، كما أنه يقيس بلا علة مؤثرة. # وكان قصده من ذلك ضبط الأصول الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة ~~يى فيها تناقض أصلا، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلا تناقضا. وبعد دراسة ~~كل مسألة من هذه المسائل الاستحسانية ذكر أنها ليست مخالفة للقياس أصلا، أو ~~أن هناك فرقا مؤثرا، أو أن الاستحسان فيها ليس صحيحا بسبب عدم وجود فارق ~~مؤثر. # هذا تحليل موجز لمباحث الكتاب، وخلاصة رأي المؤلف في الاستحسان، وبهذا ~~نعرف أنه تناول هذه المسألة بطريقة جديدة، ولم يوافق على ما قاله عامة ~~الأصوليين إن الخلاف فيها لفظي، فقد حرر # PageV02P150 # وجه النزاع بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وبين سبب ذم بعض ~~الأئمة له ثم القول به في بعض المسائل، وقرر أن الاستحسان الصحيح لا يمكن ~~أن يكون على خلاف القياس الصحيح، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه ~~بحال. # • قيمته العلمية # تظهر قيمة الكتاب العلمية عندما يوضع في قائمة الكتب والدراسات التي ~~تتعلق بموضوع معين، والتي ترتب تاريخيا حسب تأليفها وظهورها، ثم يقارن بينه ~~وبين غيرها من حيث الجدة والأصالة والابتكار. فكل كتاب يحتوي على آراء ~~جديدة مع الاحتجاج لها، ومناقشات تدل على شخصية المؤلف، بمنهج علمي متميز، ~~وأسلوب طريف ms0286 مثير-: ينسب إليه فضل السبق، ويعترف لمؤلفه بالإمامة، ويكون ~~موضع العناية والاهتمام من قبل المؤلفين والباحثين. والكتب التي تكون على ~~العكس من ذلك مهما بلغت شهرتها وكثرت نسخها الخطية والمطبوعة، لا يخفى ضعف ~~قيمتها على النقاد، وزيفها وانتحالها- أحيانا- على المدققين الذين يقومون ~~بالموازنة بينها وبين غيرها. # ونحن إذا نظرنا إلى هذا الكتاب نجد أن المؤلف جاء فيه برأي جديد في ~~الموضوع لم يسبق إليه، ورد على من يقول: إن في الشريعة أحكاما على خلاف ~~القياس مبنية على الاستحسان، كما سبق تفصيله وبيان وجهة نظره فيما مضى. ~~وعلى هذا فتكون للكتاب قيمة علمية كبيرة تجعله من أهم الكتب التي ألفت في ~~هذا الباب، لتميزه # PageV02P151 # وأصالته ونقده للرأي السائد في الموضوع. # • أثره # مضى على تأليف هذا الكتاب سبعة قرون، وبقي بصورة المسودة التي وصلتنا. ~~ولعلها لم تبيض، فلا نجد من الكتاب نسخة أخرى في فهارس المخطوطات التي بين ~~أيدينا. ولا نعرف مؤلفا رجع إليه أو اقتبس منه إلا العلامة ابن القيم في ~~كتابه "بدائع الفوائد" (4/124- 126) ، ولكنه لم ينقل الفكرة الأساسية، التي ~~بنى عليها المؤلف كتابه، ولم يذكر منه إلا تعريف الاستحسان وأنواعه عند ~~القائلين به، والمسائل التي قال فيها الإمام أحمد بالاستحسان، وقوله في ~~رواية أبي طالب: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: ~~نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان" هل يدل ~~على إبطال الاستحسان أم لا؟ وتعليق المؤلف على كلام أبي يعلى وأتباعه في ~~المراد من هذا القول. # وهذه المباحث كلها في بداية الكتاب، وتعتبر تمهيدا للدخول في الغرض ~~الأساسي من تأليفه، وهو بيان حقيقة الاستحسان الذي يقول به الحنفية ويمنعه ~~الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث، ودراسة المسائل التي نسب ~~إليهم فيها القول بالاستحسان مع ذمهم له، وهل هي مخالفة للقياس كما قيل؟ # ولو أن ابن القيم نقل هذا الكتاب بكامله كما فعل مع رسالة # PageV02P152 # أخرى لشيخه في معنى القياس في "إعلام الموقعين" (1/383- 401، 2/3- 38) ، ~~واطلع عليه المؤلفون في الأصول، لكان له أثر كبير ms0287 في كتاباتهم حول هذا ~~الموضوع. ولكنهم لم يعرفوا الكتاب والنصوص المقتبسة منه، فلم يفيدوا منه ~~شيئا. # أما الباحثون المحدثون فلم يعرفوه كذلك لكونه مجهول العنوان والمؤلف. ~~ولعل نشره يثير هممهم، فيدرسون في ضوئه موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، ~~ومنهجه في تناول هذا الموضوع، ويصلون به إلى حقيقة الخلاف بين أهل الرأي ~~وأهل الحديث في هذا الباب. وأتوقع أن يكون لهذا الكتاب أثر طيب في المستقبل ~~إن شاء الله. # • وصف النسخة الخطية # توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق مجموعة برقم [91 مجاميع] تحتوي على ~~أكثر من ثلاثين رسالة وكتابا معظمها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضها لغيره، ~~منها: # - أول كتاب "إثبات صفة العلو" لابن قدامة (ق 21- 22) # - الجزء الأول من حديث أبي عبد الله محمد بن مخلد الدوري (ق 36- 44) # - الجزء التاسع من الفوائد المنتقاة من حديث أبي الحسن علي ابن أحمد بن ~~عمر بن حفص المقرئ الحمامي عن شيوخه (ق 203-210) # PageV02P153 # - قطعة من كتاب "السنن" للأثرم (ق 213- 220) # - ثبت لأحد تلاميذ البرزالي والمزي (ق 293- 307) # - رسالة في الاستعاذة (نقلا من أول تفسير الرازي) (ق 309- 324) وماعداها ~~من تأليف شيخ الإسلام، وبعضها بخطه، ولا توجد على أكثرها عناوين، ولذا فنحن ~~نشير إلى الأوراق التي هي بخطه دون ذكر عناوينها، لأنها تحتاج إلى دراسة ~~متأنية، ومقابلتها على مؤلفاته ورسائله المطبوعة، والرجوع إلى القوائم ~~الأساسية التي أشرنا إليها لمعرفة عناوينها الصحيحة. وهذه الأوراق هي: (1- ~~8، 53- 78، 119- 137, 150، 157- 164. 165- 181، 182- 183، 184- 188، 189- ~~191، 263- 266، 325- 333) . أما الرسائل الأخرى فقد كتبت بخطوط مختلفة، ~~وبعضها ناقصة الأول والأخير، وترتيب الأوراق في بعض المواضع منها مضطرب. # ونسخة هذا الكتاب الذي بين أيدينا تقع في آخر هذه المجموعة النفيسة التي ~~لا تقدر بثمن (ق 325- 333) . وهي مسودة المؤلف نفسه، ولعلها لم تبيض فبقيت ~~مسودة كما كتبت لأول مرة. وقد ذكر البرزالي (1) أن لشيخ الإسلام تصانيف ~~كثيرة وتعاليق مفيدة PageV02P154 # في الأصول والفروع، ثم قسمها ثلاثة أقسام، وقال: ### | 1- # كفل منها جملة، وبيضت وكتبت عنه، وقرئت عليه أو بعضها. ### | 2- # وجملة كبيرة لم يكملها. ### | 3- # وجملة كملها، ولم تبيض إلى الآن. # وبعد دراسة هذه النسخة نستطيع أن نقول: إنها من القسم الثالث ms0288، فإننا لم ~~نعثر على نسخة أخرى من الكتاب في أي مكتبة، ومما يؤيد ذلك أن المؤلف شطب ~~فيها على كثير من الكلمات والعبارات وأبدلها بغيرها، وأضاف إليها تعليقات ~~واستدراكات طويلة في هوامش بعض الصفحات من جميع الجهات. ومن أغرب هذه ~~الإضافات ذلك الاستدراك الطويل في الورقة (331 أ) الذي يستمر في هوامش ~~الصفحة، ثم ينتقل الكلام إلى هوامش الصفحة الماضية (330 ب) ثم هوامش الصفحة ~~التي قبلها (330 أ) ، وينتهي بالسطر الذي كتبه المؤلف معكوسا، للدلالة على ~~أن ما فيه نهاية لهذا التعليق الطويل، وليس مرتبطا بالكلام الموجود بداخل ~~الحوض في تلك الصفحة، ولعل هذا التعليق كتب بعد الانتهاء من تأليف الكتاب. # لا توجد لهذه النسخة صفحة عنوان، ولا كتب المؤلف عنوان الكتاب بخطه (كما ~~ذكرنا ذلك في تحقيق عنوان الكتاب) ، ولا توجد لها خاتمة يذكر فيها عادة اسم ~~الناسخ أو المؤلف وتاريخ النسخ أو التأليف. # PageV02P155 # هذه المسودة وغيرها من الكتب التي وصلت إلينا بخط شيخ الإسلام يقع القارئ ~~أو المحقق بإزائها في حيرة، فهو يكتب غالبا بدون نقط وإعجام، ولايميز ~~الحروف بداخل الكلمة ويمزج بعضها ببعض، ويكتب بسرعة وفي غاية التعليق ~~والإغلاق، حتى عجز كثير من أصحابه عن نقله (كما سبق ذكره فيما مضى) . ~~فقراءة كل كلمة فيه تحتاج إلى تقليبها على الوجوه الممكنة، ولا مساعد في ~~ترجيح أحد الوجوه على غيرها إلا السياق والموضوع. فالباء والتاء والثاء ~~والفاء والقاف والنون والياء في بداية الكلمات تكتب عنده بطريقة واحدة ~~تقريبا، و"من" و"في" تتشابهان في مواضع كثيرة، ويكتب "الذي" و"الذين" ~~و"الدين" برسم واحد تقريبا، ويسقط بعض الحروف من الكلمة، فمثلا كلمة ~~"القهقهة" كتبها مرتين "القهقه". # ويتبع الرسم القديم في كتابة كثير من الكلمات بحذف الألف أو الهمزة أو ~~غيرهما، مثل: صلح (صالح) ، السلم (السلام) ، يحتج (يحتاج) ، مسله (مسألة) ، ~~ادعا (ادعى) ، صلوته (صلاته) ، اسحق (إسحاق) ، وحا (وجاءا) ، العا معنا ~~(ألغى معنى) ، ثلثه (ثلاثة) ، ملك (مالك) ، فيعطا (فيعطى) ، واحراه ~~(وإجراؤه) . ولا تظهر الميم عنده إذا وقعت تلو حرف الباء أو التاء ms0289 أو الياء ~~ونحوها، فيكتب "اتها" (= أتمها) ، "انا" (= إنما) ، " ائه " (- أئمة) ، ~~"الا" (= الماء) ، (الحظور" (= المحظور) ، الانع (= المانع) وغيرها. # هذه بعض الأمثلة لطريقة كتابته للكلمات، ويكفي القارئ أن يلقي نظرة على ~~نماذج من الأصل، ويتأمل فيها بنفسه، ويبذل مجهوده # PageV02P156 # في قراءتها، ويقارن بينها وبين قراءتي لها. # ولا يخفى أن نسخة الكتاب بخط المؤلف توفر على المحقق الوقت والجهد في جمع ~~النسخ ودراستها والمقابلة بينها ومعرفة علاقة بعضها ببعض. ولكن المخطوطة ~~التي نحن بصددها زادت مشاكلها فوق ما كنت أتصور، وكان تقديم نص سليم لها من ~~أصعب الأمور، وقد بذلت كل ما في وسعي لقراءتها قراءة صحيحة، ونسخها ملتزما ~~الرسم الإملائي الحديث، ولم أزد إلا النقط والإعجام والفواصل والهمزات ~~وتغيير الفقرات، وأبقيت الكلمات التي يبدو أن فيها خطأ إعرابيا أو صرفيا ~~كما هي، وأشرت إليها في التعليق. أما الكلمات والعبارات التي شطب عليها ~~المؤلف وأبدلها بغيرها فلم أنبه إليها، لأنها كثيرة في هذه المسودة، ولا ~~فائدة من ذكرها. # وفي الختام أرجو أنني قد وفقت في قراءة هذه المسودة قراءة سليمة، وأدعو ~~الله أن ينفع بها الباحثين في علم الأصول خاصة، والقراء والمثقفين عامة، ~~إنه سميع مجيب. # محمد عزير شمس # PageV02P157 # نماذج من الأصل # PageV02P159 # نص الكتاب # PageV02P161 # الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات ~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله ~~إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى ~~آله وسلم تسليما. # فصل في الاستحسان وتخصيص العلة، وموضع الاستحسان هل يقاس عليه أم لا، وما ~~يرد من الأحكام الثابتة بالنص والإجماع ويقال: إنها مخالفة للقياس. فإن هذه ~~قواعد كثر اضطراب الناس فيها، والحاجة ماسة إلى تحقيقها في كثير من مسائل ~~الشريعة أصولها وفروعها. # أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفة القياس لدليل (1) ، وقد ~~يراد به غير ذلك (2) . والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على PageV02P163 # ثلاثة أقوال: # منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقا، وهم نفاة القياس، كداود وأصحابه ms0290 (1) ، ~~وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلة الشرع ~~لا قياس ولا استحسان. # ومنهم من يقر به بهذا المعنى، ويجوز مخالفة القياس للاستحسان، ويعمل ~~بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. وهذا هو المعروف عن أبي حنيفة وأصحابه ~~(2) . PageV02P164 # ومنهم من ذم الاستحسان تارة، وقال به تارة، كالشافعي وأحمد بن حنبل ومالك ~~وغيرهم، ففي كتب مالك وأصحابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع (1) . والشافعي ~~قال: من استحسن فقد PageV02P165 # شرع (1) ، وتكلم في إبطال الاستحسان، وبسط القول في ذلك (2) . وكان من ~~أعظم الأئمة إنكارا له، وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه. ومع هذا فقد ~~قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهما" (3) . ~~ولهذا حكي للشافعي في الاستحسان قولان: قديم وجديد. # وكذلك أحمد بن حنبل، نقل عنه أبو طالب (4) أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا ~~قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا PageV02P166 # وندع القياس. فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. قال: وأنا أذهب ~~إلى كل حديث جاء، ولا أقيس عليه (1) . # قال القاضي أبو يعلى (2) : وظاهر هذا يقتضي إبطال القول بالاستحسان، وأنه ~~لا يقاس المنصوص عليه على المنصوص عليه. # قلت: مراد أحمد أني أستعمل النصوص كفها، ولا أقيس على أحد النصين قياسا ~~يعارض النص الآخر، كما يفعل من ذكره، حيث يقيسون على أحد النصين، ثم ~~يستثنون موضع الاستحسان إما لنص أو غيره، والقياس عندهم يوجب العلة ~~الصحيحة، فينقضون العلة التي يدعون صحتها مع تساويها في محالها./ # وهذا من أحمد يبين أنه يوجب طرد العلة الصحيحة، وأن انتقاضها مع تساويها ~~في محالها يوجب فسادها. ولهذا قال: لا أقيس على أحد النصين قياسا ينقضه ~~النص الآخر، فإن ذلك يدك على فساد القياس. # وهو يستعمل مثل هذا في مواضع، مثل حديث أم سلمة وفيه PageV02P167 # قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد أحدكم أن يضحي ودخل العشر فلا ~~يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئا" (1) ، مع حديث عائشة: كنت أفتل قلائد هدي ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يبعث به وهو مقيم، فلا ms0291 يحرم عليه شيء ~~مما يحرم على المحرم (2) . # والناس في هذا على ثلاثة أقوال: # منهم من يسوي بين الهدي والأضحية في المنع، ويقول: إذا أرسل المحرم هديا ~~لم يحل حتى ينحر، كما يروى عن ابن عباس (3) وغيره. # ومنهم من يسوي بينهما في الإذن، ويقول: بل المضحي لا يمنع عن شيء كما لا ~~يمنع المهدي، فيقيسون على أحد النصين ما يعارض الآخر. # وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا ~~بالنصين، ولم يقيسوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لما أحل البيع وحرم ~~الربا (4) لم يقس المسلمون أحدهما على PageV02P168 # الآخر، وإنما هذا قياس المشركين. وكذلك لما أحل المذكى وحزم الميتة (1) ~~لم تقيسوا أحدهما على الآخر، بل هذا قياس المشركين (2) . # وكذلك لما جاء (3) الكتاب والسنة بالقرعة (4) ، وجاءا بتحريم القمار (5) ~~لم يقيسوا هذا على هذا، بل أجازوا القرعة، وحزموا PageV02P169 # الميسر والاستقسام بالأزلام، بخلاف من جعل القرعة من القمار أو من ~~الاستقسام بالأزلام، ولم يعلق بها حكما. وأحمد أكثر الفقهاء عملا بالقرعة ~~(1) ، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار. # وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - الناس إذا صلى الإمام قاعدا أن يصلوا قعودا أجمعين (2) . ثم لما ~~افتتحوا الصلاة قياما أتمها بهم قياما" (3) . عمل بالحديثين، ولم يقس على ~~أحدهما قياسا يناقض الآخر ويجعله منسوخا" (4) ، كما فعل PageV02P170 # طائفة من الفقهاء، كالشافعي (1) والحميدي (2) وغيرهما (3) . واستدل هو ~~وغيره بأن الصحابة بعده لفا صلوا جلوسا أمروا من خلفهم بالجلوس، وقد شهدوا ~~صلاته في آخر عمره، مثل أسيد بن الحضير (4) ، وهو من أفضل السابقين الأولين ~~من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر، فإنه قتل في قتال المرتدين من ~~حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب (5) ./ PageV02P171 # وقد قال أحمد بالاستحسان المخالف للقياس في مواضع، كقوله في رواية صالح ~~(1) في المضارب: إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال، فالربح لصاحب ~~المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط باجرة مثله فيذهب. وكنت ~~أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت ms0292 (2) . PageV02P172 # وقال في رواية الميموني (1) : أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، ولكن القياس أنه ~~بمنزلة الماء حتى يحدث أو يجد الماء (2) . # وقال في رواية المروذي (3) : يجوز شرى (4) أرض السواد (5) ، PageV02P173 # ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف تشترى ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول، ~~ولكن هو استحسان. واحتج بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رخصوا في ~~شرى المصاحف وكرهوا بيعها، وهذا يشبه ذاك (1) . # وقال في رواية بكر بن محمد (2) فيمن غصب أرضا وزرعها: الزرع لرب الأرض، ~~وعليه النفقة، وليس هذا شيئا يوافق القياس. # أستحسن أن يدفع إليه نفقته (3) . # وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألة على روايتين، ونصر هو وأتباعه كأبي ~~الخطاب (4) وابن عقيل وابن PageV02P174 # [الزاغوني] (1) القول بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة وفسر هؤلاء وهؤلاء ~~الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. وقيل: هو ~~أولى القياسين (2) . قالوا- وهذا لفظ القاضي (3) -: والحجة التي يرجع إليها ~~في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة. والاستدلال ~~بترجح (4) شبه بعض الأصول على بعض. # كما (5) قلنا ب ### | الاستحسان لأجل الكتاب # في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم نجد مسلما" ~~(6) . PageV02P175 # قال: ومما قلنا فيه ب ### | الاستحسان للسنة # فيمن غصب أرضا وزرعها، فالزرع لرب الأرض، وعلى صاحب الأرض النفقة لصاحب ~~الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من زرع في ~~أرض قوم فالزرع لرب الأرض وله نفقته" (1) . وقد كان القياس أن يكون الزرع ~~لزارعه (2) . # قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع جواز سلم الدراهم والدنانير في ~~الموزونات، وكان القياس أن لا يجوز ذلك لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس، ~~وهي الوزن، إلا أنهم استحسنوا فيه للإجماع (3) . # قلت: ومن ذلك أن ### | نفقة الصغير وأجرة مرضعه على أبيه دون أمه # بالنص (4) والإجماع. والقياس- عند من يجعل النفقة على كل PageV02P176 # وارث بفرض أو تعصيب، أو على كل ذي رحم (1) محرم، أو على عمودي النسب ~~مطلقا- أن يكون على الأبوين. # وكذلك يقولون ### | : جواز إجارة الظئر # ثابت بالنص (2) والإجماع على خلاف القياس ms0293، بل وقد يقولون ب ### | جواز الإجارة، # بل و ### | جواز القرض والقراض # وغير ذلك على خلاف القياس (3) للإجماع. PageV02P177 # لكن إذا أبدوا معنى يقتضي التخصيص مثل الحاجة، قيل: هذا يقول به جميع ~~الأمة، بل جميع علماء السنة، مثل إباحة الميتة للمضطر للضرورة، وصلاة ~~المريض قاعدا للحاجة، ونحو ذلك. وإنما يتنازعون إذا لم يظهر في إحدى ~~الصورتين معنى يوجب الفرق./ # ولهذا فسر غير واحد الاستحسان بتخصيص العلة، كما ذكر ذلك أبو الحسين ~~البصري (1) والرازي (2) وغيرهما، وكذلك هو، فإن غاية الاستحسان- الذي يقال ~~فيه: إنه يخالف القياس حقيقة- تخصيص العلة. والمشهور عن أصحاب الشافعي منع ~~تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القول بتخصيصها (3) ، كالمشهور ~~PageV02P178 # عنهما في منع الاستحسان وإجازته. ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز ~~تخصيص العلة (1) ، كما في مذهب مالك (2) وأحمد (3) . PageV02P179 # ومن الناس من حكى قول الأئمة الأربعة جواز تخصيص العلة. وقد ذكر أبو ~~إسحاق بن شاقلا (1) عن أصحاب أحمد في تخصيص العلة وجهين. ومن الناس من يحكي ~~ذلك روايتين عن أحمد. والقاضي أبو يعلى وأكثر أتباعه كابن عقيل يمنعون ~~تخصيص العلة (2) مع قولهم بالاستحسان. وكذلك أصحاب مالك (3) . # وأما أبو الخطاب فيختار تخصيص العلة (4) موافقة لأصحاب أبي حنيفة، فإن ~~هذا هو الاستحسان كما تقدم. وهؤلاء يجوزون تخصيصها بمجرد دليل يدك على ~~التخصيص، وإن لم يبيق اختصاص صورة النقض فقدان شرط أو وجود مانع. وهذا ~~حقيقة ما ذكره القاضي وهؤلاء في الاستحسان، كما ذكره في الأمثلة. # ولكن القاضي وغيره ممن يقول بالاستحسان ومنع تخصيص العلة فرقوا بينهما ~~فقالوا- واللفظ للقاضي (5) -: لا يجوز تخصيص PageV02P180 # العلة الشرعية، وتخصيصها نقضها. # قال: وقد قال أحمد في رواية الحسين بن حسان (1) : القياس أن يقاس الشيء ~~على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال ~~فهذا خطأ (2) . # قال: وهذا الكلام يمنع من تخصيصها. # قال: وقد ذكر أبو إسحاق- يعني ابن شاقلا- في "شرح الخرقي" فقال: أصحابنا ~~على وجهين: منهم من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذاك. # وقال: وقد ذكرها أبو ms0294 الحسن الخرزي (3) في "جزء فيه مسائل من الأصول ": لا ~~يجوز تخصيصها. PageV02P181 # قال: وقول أحمد "القياس كان يقتضي أن لا يجوز شرى أرض السواد، لأنه لا ~~يجوز بيعها" ليس بموجب لتخصيص العلة، فإنها في حكم خاص (1) ، وما ذكر أحمد ~~إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول ~~للخبر (2) . # ولذلك أجاب من احتج على جواز تخصيصها بالاستحسان فقال (3) : فإن قيل: ~~أليس قد قال أحمد في رواية المروذي وقد قيل: كيف تشترى ممن لا يملك؟ فقال: ~~القياس كما تقول، وإنما هو استحسان. واحتج بقول الصحابة في المصاحف. # ثم قال في الجواب: قيل: تخصيص العلة ما يمنع من جريها في حكم خاص. وما ~~ذكره أحمد إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول. ولأنهم قد يعدلون في ~~الاستحسان عن قياس وعن غير قياس (4) ، فامتنع أن يكون معناه تخصيص (5) ~~بدليل. وقد ناقضه أبو الخطاب (6) ./ # وهذا الذي ذكره القاضي قد ذكره كثير من العلماء فيما إذا عارض النص قياس ~~الأصول، فقالوا: يقدم النص. واختلفوا فيما إذا PageV02P182 # عارض خبر الواحد قياس الأصول، كخبر المصراة (1) ونحوه (2) . وأما الأول ~~فمثل حمل العاقلة (3) ، فإنهم يقولون: هو خلاف قياس PageV02P183 # الأصول، وهو ثابت بالنص والإجماع. وهذا يذكره بعض الناس قولا ثالثا في ~~تخصيص العلة. # ويذكرون قولا رابعا، وهو أنه يجوز تخصيص (1) المنصوصة دون المستنبطة (2) ~~. وأكثر الناس في التخصيص من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حامد (3) وأبي الطيب ~~(4) والقاضي أبي يعلى وابن عقيل PageV02P184 # وغيرهم يقولون: إذا خصت المنصوصة تبينا أنها نقض العلة (1) ، وإلا فلا ~~يجوز تخصيصها بحال. # وهذا النزاع إنما هو في عل! قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما ~~إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يعلم خلوه عن التأثير والسلامة عن ~~المفسدات، فهذه تبطل بالتخصيص باتفاقهم. وأما الطرد المحض الذي يعلم خلوه ~~عن المعاني المعتبرة فذاك لا يحتج به عند أحد من العلماء المعتبرين. وإنما ~~النزاع في الطرد الشبهي، كالمجوزات - الشبهية التي يحتج بها كثير من ~~الطوائف الأربعة، لاسيما قدماء أصحاب الشافعي، فإنها كثيرة في حججهم أكثر ~~من ms0295 غيرهم./ # والتحقيق في هذا الباب (2) أن العلة تقال على العلة التامة، PageV02P185 # وهي المستلزمة لمعلولها، فهذه متى انتقضت بطلت بالاتفاق. وتقال على العلة ~~المقتضية أولا، وتسمى المؤثرة ويسمى السبب دالا ودليل العلة ونحو ذلك. فهذه ~~إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق فيه بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تفسد. ثم ~~إذا كانت صورة الفرع التي هي صورة النزاع في معنى صورة النقض ألحقت بها، ~~وإن كانت في معنى صورة الأصل ألحقت بها. # فمن قال: إن العلة لا يجوز تخصيصها مطلقا لا لفوات شرط ولا لوجود مانع ~~فهذا مخطئ قطعا، وقوله مخالف لإجماع السلف كلهم الأئمة الأربعة وغيرهم، ~~فإنهم كلهم يقولون بتخصيص العلة لمعنى يوجب الفرق، وكلامهم في ذلك أكثر من ~~أن يحصر. وهذا معنى قول من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة. # و ### | القول بالاستحسان المخالف للقياس لا يمكن إلا مع القول # بتخصيص العلة. # وما ذكروه من اعتراض النص على قياس الأصول فهو أحد أنواع تخصيص العلة، ~~وهذا تسليم منهم لكون العلة تقبل التخصيص في الجملة. وأما من جوز تخصيص ~~العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين صورة التخصيص وغيرها فهذا مورد النزاع ~~في PageV02P186 # الاستحسان المخالف للقياس وغيره. # ثم هذه العلة إن كانت مستنبطة وخصت بنص، ولم يبين الفرق المعنوي بين صورة ~~التخصيص وغيرها فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان ينكره كثيرا الشافعي ~~وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم. وكلام أحمد فيما ~~تقدم أراد به هذا، فإن العلة المبينة لم تعلم صحتها إلا بالرأي، فإذا ~~عارضها النص كان مبطلا لها. والنص إذا عارض العلة دل على فسادها، كما أنه ~~إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده بالإجماع. # وأما إذا كانت العلة منصوصة، وقد جاء نص بتخصيص بعض صور العلة، فهذا مما ~~لا ينكره أحمد، بل ولا الشافعي وغيرهما، كما إذا جاء نص في صورة ونص يخالفه ~~في صورة أخرى، لكن بينهما شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم فهؤلاء يقرون ~~النصوص، ولا يقيسون منصوصا ms0296 على منصوص يخالف حكمه، بل هذا من جنس الذين ~~قالوا: (إنما البيع مثل الربا) (1) . وهذا هو الذي قال أحمد فيه: "أنا أذهب ~~إلى كل حديث كما جاء، ولا أقيس عليه "، أي لا أقيس عليه صورة الحديث الآخر، ~~فأجعل الأحاديث متناقضة، وأدفع بعضها ببعض، بل أستعملها كلها./ # والذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواء لا فرق بينهما، ~~فيكون أحد النصين ناسخا للآخر. ومثل هذا PageV02P187 # كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومن ينازعهم ممن يقيس منصوصا على ~~منصوص، ويجعل أحد النصين منسوخا لمخالفته قياس النص الآخر في طي هذا ~~القياس. # ويبقى الأمر دائرا هل دل الشرع على التسوية بين الصورتين حتى يجعل حكمهما ~~سواء، ويجعل الحكم الوارد في إحداهما منسوخا بالحكم المضاد له الوارد في ~~الأخرى، كما يقوله من يجعل ### | القرعة منسوخة بآية الميسر # (1) ، وأمر المأمومين بأن يتبعوا الإمام، فإذا كبر كبروا، وإذا ركع ~~ركعوا، وإذا صلى جالسا صلوا جلوسا أجمعين-: منسوخا بدوام قيامهم في الصلاة ~~التي صلوا بعضها خلف إمام قائم، وباقيها خلف إمام قاعد. ويجعل حديث الأضحية ~~والهدي أحدهما منسوخا بالآخر (2) . ويجعلون قطع جاحد العارية (3) منسوخا ~~إذا سلموا أنه قطعها لذلك، منسوخا" (4) بقوله: "ليس على PageV02P188 # المختلس ولا المنتهب ولا الخائن قطع " (1) . ويجعلون ### | العقوبة المالية منسوخة بالنهي عن إضاعة المال # (2) ، ويجعلون تضعيف الغرم على من درىء عنه القطع منسوخا بقوله: (وجزاء ~~سيئة سيئة مثلها) (3) . # ويجعل (4) تقضية ما شرطه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين ~~المشركين في الهدنة (5) منسوخا بقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو ~~باطل" (6) . PageV02P189 # وكثير مما يدعونه في الناسخ لا يعلمون أنه قيل بعد المنسوخ. # فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما كان ~~ينكره أحمد وغيره. # وكان أحمد يقول: " أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس" (1) . ~~وقال: "ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل والقياس" (2) ~~. ومراده أنه لا يعارض بهما ما ثبت بنص خاص، ولا يعمل بمجردهما قبل النظر ~~في النصوص والأدلة الخاصة المقيدة. والمطلق يدخل ms0297 في كلامه وكلام غيره من ~~الأئمة كالشافعي وغيره في المجمل، لا يريدون بالمجمل مالا يفهم معناه كما ~~يظنه بعض الناس (3) ، ولا مالا يستقل بالدلالة، فإن هذا لا يجوز الاحتجاج ~~به بحال. PageV02P190 # وأما إذا جاء نصان بحكمين مختلفين في صورتين وثم صور مسكوت عنها فهل ~~يقال: القياس هو مقتضى أحد النصين؟ فما سكت عنه نلحقه به وإن لم نعرف ~~المعنى الفارق بينه وبين الآخر. # فهذا هو الاستحسان الذي تنوزع فيه، فكثير من الفقهاء يقول به، كأصحاب أبي ~~حنيفة وكثير من أصحاب أحمد وغيرهم. وهذا هو الذي ذكره القاضي بقوله (1) : ~~"اعتراض النص على قياس الأصول ". وهو في الحقيقة قول بتخصيص العلة كما ~~تقدم. # ومن لم يجوز تخصيصها إلا بفارقي بين صورة التخصيص وغيرها يقول: لابد أن ~~يعلم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت بأحد النصين بأولى من إلحاقه ~~بالآخر. وإذا علم المعنى في أحد النصين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن يكون ~~المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يلحق بواحد منهما إلا بدليل. وإذا ~~علم المعنى في أحد النصين ووجوده في المسكوت عنه، ولم يعلم المعنى في الآخر ~~فهذا أقوى من الذي قبله، فإنه هنا قد علم مقتضى القياس الصحيح وشموله لصورة ~~المسكوت. وأما وجود الفارق فيه فمشكوك فيه. # وهذا نظير أخذ أحمد بالنصوص الواردة في سجود سهو (2) ، PageV02P191 # فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجئ ~~فيه نص ألحقه بما قبل السلام، لأنه القياس عنده (1) ./ # و ### | تحقيق هذا الباب أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يعلم افتراقهما، وإما أن لا يعلم واحد منهما، # ونعني بالعلم ما يسميه الفقهاء علما، وهو أن يقوم الدليل على التماثل ~~والاستواء، أو الاختلاف والافتراق، أو لا يقوم على واحد منهما. PageV02P192 # فالأول ### | متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم أن العلة باطلة، # وهذا مثل دعوى من يدعي أن الموجب للنفقة نفسر الإيلاد، أو نفس الرحم ~~المحرم، أو مطلق الإرث ms0298 بفرض أو تعصيب، ويقول: إذا اجتمع الجد والجدة كانت ~~النفقة عليهما. فإنه لما ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمع الأبوان كانت ~~النفقة على الأب (1) ، علم أن العصبة في ذلك يقدم على غيره، وإن كان وارثا ~~بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وعلم أن قوله (وعلى الوارث مثل ذلك) ~~(2) هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجودا، لأن عمر جبر بني عم منفوس ~~على نفقته (3) . # وهذه الآية صريحة في إيجاب نفقة الصغير على الوارث العاصب، وقال بها ~~جمهور السلف (4) . وليس لمن خالفها حجة أصلا. ولكن ادعى (5) بعضهم أنها ~~منسوخة، وقيل ذلك عن مالك (6) . وبعضهم PageV02P193 # قال: عليه أن لا يضار" (1) ، فتركها بدعوى نسني أو تأويل هو من نوع تحريف ~~الكلم عن مواضعه لغير معارض لها أصلا مما يحلم بطلانه كل من تدبر ذلك. # وإذا كانت الأم أقرب الناس إليه لا نفقة عليها مع الأب، وهي تحوز الثلث ~~معه، فأن لا يجب على الجدة مع الجد وهي تحوز السدس أولى وأقوى. # والقائلون بذلك يقولون: القياس يقتضي وجوب ثلثها على الأم، لكن ترك ذلك ~~للنص. # فيقال: أي قياس معكم؟ إنما يكون قياسا لو كان معهم نص يتناول هذه الصورة ~~بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النص بهذا يوجب ~~إلحاق نظائره به، فيقاس كل عاصب معه فرضن أوجبه من وراث الفرض على الأب مع ~~الأم. # وكذلك إسلام النقدين في الموزونات يقدح في كون العلة الوزن، ولم يثبت ذلك ~~بين، بل بعلة مستنبطة قد عارضها ما هو PageV02P194 # أقوى منها (1) ، فإن لم يبين الفرق بين النقدين وغيرهما وإلا كان ~~انتقاضها مبطلا لها. # فانتقاض العلة يوجب بطلانها قطعا إذا لم تختص صورة النقض بفرق معنوي ~~قطعا، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان ~~متماثلتين، ثم يخالف بين حكميهما، بل اختلاف الحكمين دليل على اختلاف ~~الصورتين في نفس الأمر. فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك دليلا على ~~افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يعلم بمجيء الفرق. وإن علم ms0299 أنه سوى بينهما ~~كان ذلك دليلا على استوائهما. وإن لم يعلم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ~~ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك (2) . # وهذا معنى قول إياس بن معاوية: "قس للقضاء ما استقام PageV02P195 # القياس، فإذا فسد فاستحسن" (1) . فأمر بمخالفة القياس إذا تغير الأمر ~~بحصول مفاسد تمنع القياس./ # وأحمد قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من ~~باب تخصيص العلة للفارق المؤثر، وهذا حق. وأنكر الاستحسان إذا خصت العلة من ~~غير فارق مؤثر، ولذا قال: "يدعون القياس الذي هو حن عندهم للاستحسان "، ~~وهذا أيضا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو منكر كما أنكروه. ~~فإن هذا الاستحسان وما عدل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقا وجمعا بين ~~الصورتين بلا دليل شرعي، بل بالرأي الذي لا يستند إلى بيان الله ورسوله ~~وأمر الله ورسوله، فهو ليس له وضع الشرع أبدا، وقد قال تعالى: (أم لهم ~~شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (2) . # وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارع على علته، ولا دل PageV02P196 # لفظ الشرع على عموم المعنى فيه، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبة أو لمشابهة ~~ظنها مناط الحكم، ثم خص من ذلك المعنى صورا بنص يعارضه كان معذورا في عمله ~~بالنص. لكن مجيء النص بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليست علة ~~تامة قطعا، فإن العلة التامة لا تقبل الانتقاض. فإن لم يعلم أن مورد النص ~~مختص بمعنى يوجب الفرق لم يطمئن قلبه إلى أن ذلك المعنى هو العلة، بل يجوز ~~أن تكون العلة معنى آخر، أو أن يكون ذلك المعنى بعض العلة، وحينئذ (1) فلا ~~يفترق الحكم من جميع موارد ما ظنه علة. # وإن كان مورد الاستحسان هو أيضا معنى ظنه مناسبا أو مشابها فإنه يحتاج ~~حينئذ إلى أن يثبت ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف، فلا يكون قد ~~ترك القياس إلا لقياس أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق ~~بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذ لنا استحسان يخرج ms0300 عن نص أو قياس. # وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما في الاستحسان، وما قال به ~~فإنما هو عدول عن أنه قياس، لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرق. وحينئذ ف ### | لا يكون الاستحسان الصحيح عدولا عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحال. # وهذا هو الصواب، كما قد بسطناه في مصنف مفرد، بمناسبة PageV02P197 # أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلا (1) . وعلى هذا فصور ~~الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس يقاس عليها عند أصحاب مالك والشافعي ~~وأحمد وغيرهم إذا عرف المعنى الذي لأجله ثبت الحكم فيها. # وذكروا عن أصحاب أبي حنيفة أنه لا يقاس عليها (2) ، وهو من جنس تخصيص ~~العلة والاستحسان، فإن من جوز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي قال: ~~المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارق معنوي، فلا يقاس عليه، لأن ~~من شرط القياس وجود العلة وتفريقها. ومن قاس قال: بل لا يكون إلا ~~لفارق،/فإذا عرفناه قسنا. # قال القاضي (3) وغيره: مسألة: المخصوص من جملة القياس PageV02P198 # يقاس عليه ويقاس على غيره، أما القياس عليه فإن أحمد قال في رواية ابن ~~منصور (1) : "إذا نذر أن يذبح نفسه يفدي نفسه بذبح كبش"، فقاس من نذر ذبح ~~نفسه على من نذر ذبح ولده، وإن كان ذلك مخصوصا من جملة القياس. وإنما ثبت ~~بقول ابن عباس (2) . # وأما قياسه على غيره فإن أحمد قال في رواية المزوذي: يجوز شرى أرض ~~السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل: كيف تشترى ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما ~~تقول، ولكن هذا استحسان. واحتج بأن الصحابة رخصوا في شرى المصاحف دون ~~بيعها. وهذا يشبه ذاك. # قال: فقد قاس مخصوصا من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال ~~الشافعي. # وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقاس (3) على غيره ولا يقاس [غيره] (4) عليه، ~~إلا أن تكون علته منصوصة أو مجمعا على جواز القياس عليه (5) . PageV02P199 # فالمنصوص كقوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات " (1) . والمجمع عليه ~~كالتحالف في الإجارة قياسا على التحالف في البيع، لاتفاق من أوجب التحالف ms0301 ~~في البيع أن حكمهما سواء (2) . والممنوع مثل قياس الجنازة على الصلاة في ~~الإسقاط بالقهقهة (3) ، وإسقاط الكفارة في الاستقاءة لا يقاس عليه الأكل ~~(4) ، والوضوء بنبيذ التمر لا يقاس عليه غيره من الأنبذة، وجواز البناء على ~~صلاته إذا أحدث لا يقاس عليه من أمنى بالاحتلام ونحوه (5) . # واحتج أصحاب الشافعي وأحمد بحجج، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى، قال (6) : ~~وأيضا فإنا إذا قسنا على المخصوص، أو (7) قسنا PageV02P200 # المخصوص على غيره، وحملنا النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على ~~الكلام، فإن مخالفنا يعترف بصحة القياس، وأنه يجب حمل النبيذ على غيره من ~~المائعات والقهقهة على الكلام، ويدعي أنه استحسن تركه لما هو أولى منه (1) ~~. # قالوا: وهذا غير صحيح لوجهين: # أحدهما: أنه يلزمه أن يبين الأولى، وإلا حكم القياس متوجه عليه. وهذا كما ~~لو قال: القرآن يدك على كذا، ولكن تركته للسنة، فتكون حجة القرآن لازمة له ~~ما لم يبين السنة التي هي أقوى من القرآن، ولا يكفي في ذلك مجرد الدعوى. # والثاني: أنه يدعي أن الاستحسان أقوى من القياس، فلهذا تركه. والقياس إذا ~~عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلا، ولم يكن له حكم. كما لو عارضه نمن ~~كتاب أو سنة أو إجماع. ولما حكم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون ما عارضه ~~أقوى منه ومانعا من استعماله (2) . # قلت: مضمون هذا إبطال أن يكون هذا مخصوصا من جملة القياس، وقياسه على ~~سائر الصور، وهذا إبطال للاستحسان، وهذا يقتضي أن الاستحسان إذا خالف ~~القياس لزم بطلان الاستحسان إن كان القياس صحيحا، أو بطلان القياس إن كان ~~الاستحسان المعارض PageV02P201 # له صحيحا. وهذا لا يتوجه فيمن يقول بالاستحسان، وجعل معارضة الاستحسان ~~للعفة كمعارضته لحكمها، وهذا قول نفاة الاستحسان مطلقا. # والتحقيق في ذلك أنه إذا تعارض القياس والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرق، ~~وإلا لزم بطلان أحدهما، وهو مسألة تخصيص العلة بعشها. فإن لم يكن بين ~~الصورة المخصوصة وغيرها فرق لزم التسوية، وحينئذ فإما أن تكون العلة باطلة، ~~وإما أن يكون تخصيص تلك الصورة باطلا. # وهذا هو الصواب في ms0302 هذا كفه، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على ~~القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرق مؤثر ~~بينهما، كما لم يأتوا بفرق مؤثر بين نبيذ التمر وغيره من المائعات، ولا بين ~~القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرهما مما ~~يشترطون فيه الطهارة./ # وذكروا أدلة أخرى جيدة، كقولهم- واللفظ للقاضي (1) -: # وأيضا فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلا بنفسه، فوجب القياس عليه كسائر ~~الأصول (2) . وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول له بأولى من رذ تلك ~~الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل PageV02P202 # واحد منهما في مقتضاه، وإجراؤه على عمومه. وأيضا فإن القياس يجري مجرى ~~خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن. ثم ثبت أنه يصح أن ~~يرد مخالفا لقياس الأصول، كذلك القياس مثله (1) . # قلت: ومن هذا الباب جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بعرفة ~~ومزدلفة (2) ، لو لم يرد به نص في أسفار أخر. وأما قصره الصلاة بعرفة بأهل ~~مكة وغيرهم فليس مخالفا لعادته، فإنه مازال يقصر في السفر، بل هو بيان ~~استواء السفر الطويل والقصير في ذلك (3) . فأما منع قصر المكيين فهو مخالف ~~للسنة الثابتة بلا ريب (4) . وإنما خالف ذلك من PageV02P203 # غفل عن هذه السنة. وأما قصر غير المكيين فلأن القصر ليس من خصائص الحج ~~ولا متعلقا به. وإنما هو متعلق بالسفر طردا وعكسا. # وكلامهم في هذه المسألة تقتضي أن ما قيل فيه إنه خالف القياس في صور ~~الاستحسان فلا بد أن يكون قياسه فاسدا، أو أن يكون تخصيصه بالاستحسان ~~فاسدا، إذا لم يكن هناك فرق مؤثر. وهذا هو الصواب في هذا الباب. # قالوا (1) : واحتج المخالف بأن إثبات الشيء لا يصح مع وجود ما ينافيه، ~~فلما كان القياس مانعا مما ورد به الأثر لم يجز لنا استعمال القياس فيه، ~~لأنه لو جاز ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصول التي يمنع قياسها منه. ~~فكان يخرج حينئذ من كوبه مخصوصا من جملة القياس. # قالوا: والجواب عنه من وجهين: # أحدهما ms0303: أنا لا نسلم أن هاهنا ما ينافيه، لأن المنافاة تكون بدليل خاص، ~~وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل. # والثاني: أن المنافاة إنما تحصل بقياسه على غيره في إسقاط حكم النص، فأما ~~قياس غيره عليه فلا ينافيه، لأنه لا يسقط حكم النص عندهم، فيصح القياس عليه ~~(2) . PageV02P204 # قلت: هذا الثاني جواب عن قياس غيره عليه، والأول جواب عن قياسه على غيره، ~~ومنع لكونه مخصوصا من جملة القياس. # والتحقيق أنه وإن كان مخصوصا من جملة القياس فهو مخصوص من قياس معين، لا ~~من كل قياس، وإنما يخص لمعنى فيه يوجب الفرق بينه وبين غيره. فإذا قيس عليه ~~غيره بذلك المعنى لم يناف ذلك كونه مخصوصا من ذلك القياس الأول. # وحقيقة هذا كفه أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر، ~~فمن يقول بالاستحسان من غير فارق مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر، ~~وبمنع القياس على المخصوص، يثبت أحكاما على خلاف القياس الصحيح في نفس ~~الأمر. # وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الأكثرون، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وهم ~~تارة ينكرون صحة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارة ينكرون مخالفة ~~القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان (1) الذي ليس بدليل شرعي، و ### | تارة ينكرون صحة الاثنين، # فلا يكون القياس صحيحا، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحا، بل كلا الحجتين ~~(2) ضعيفة، وإنكار هذا كثير في كلام هؤلاء./ PageV02P205 # فصل # وقد تدبرت عامة هذه المواضع التي يدعي من يدعي فيها من الناس أنها تثبت ~~على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلة الشرعية الصحيحة خضت بلا فرق شرعي من ~~فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس ~~الصحيح من غير فرق شرعي، فوجدت الأمر بخلاف ذلك، كما قاله أكثر الأئمة ~~كالشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض أيضا، فيخص ما ~~يجعله علة بلا فارق مؤثر، كما أنه قد يقيس بلا علة مؤثرة. # فالمقصود ضبط أصول الفقه الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة ليس ms0304 ~~فيها تناقض أصلا، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلا تناقضا، فإن القياس ~~الصحيح هو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، والجمع بين ~~الأشياء فيما جمع الله ورسوله بينها فيه، والفرق بينهما فيما فرق الله ~~ورسوله بينها فيه. # والقياس هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطا ~~للحكم، وذلك المعنى قد يكون لفظ شرعي عام (1) أيضا، فيكون الحكم ثابتا ~~بعموم لفظ الشارع ومعناه. وقد بينا PageV02P206 # في غير هذا الموضع (1) أن الأحكام كلها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه ~~تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضا ~~متناولة لجميع الأحكام. لكن قد يفهم المعنى من لم يعرف اللفظ العام، وقد ~~يعرف اللفظ العائم ودلالته من لم يفهم العلة العامة. وكثيرا ما يغلط من ~~يظنه قال لفظا ولم يقله، أو يجعله عاما أو خاصا ويكون مراد الشارع خلاف ~~ذلك، كما يغلط من ينفي لفظا قاله، وكما يغلط من يظنه اعتبر معنى لم يعتبره، ~~أو ألغى معنى وقد اعتبره، ونحو ذلك. # ولنأتين بما يذكر العلماء أنه استحسان على خلاف القياس: # فمن ذلك ما يقوله أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان، فإنه ~~قد ذكر عنه روايتين (2) كما تقدم، والقول الثالث وهو الذي يدك عليه أكثر ~~نصوصه أن الاستحسان المخالف للقياس PageV02P207 # صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جمع بغير ~~دليل شرعي وفرق بغير دليل شرفي، وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح. # أما قوله "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، لكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى ~~يجد الماء أو يحدث" (1) فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي ~~حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم (2) ، وهو الصواب، كما دل عليه الكتاب والسنة. # وقوله "القياس" هو قياس الشرع لفظا ومعنى. فإن قول النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: " الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين " (3) ، ~~وقوله: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" (4) ونحو ذلك، ألفاظ PageV02P208 # دالة على أن التراب طهور كالماء./والقران يدل على أنه طهور بقوله لما ذكر ~~التيمم ms0305: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته ~~عليكم) (1) . والذين أمروه بالتيمم لكل صلاة تمسكوا بآثار رويت عن بعض ~~الصحابة، هي ضعيفة (2) ، وعنهم ما يخالفها. وقالوا: إنه لا يرفع الحدث، ~~وإنما هو مبيح، فيبيح بقدر الضرورة. قالوا: ولو رفع الحدث لما كان إذا قدر ~~على استعمال الماء يستعمله بحكم الحدث السابق من غير تجدد حدث. واحتجوا ~~بقوله لعمرو بن العاص: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " (3) . PageV02P209 # وجواب هذا (1) أن قولهم "لا يرفع بل يبيح " كلائم لا حقيقة له، ولو صح لم ~~يكن لهم فيه حجة، فإن الحدث ليس هو أمرا محسوسا كطهارة الجنب، بل هو أمر ~~معنوي يمنع الصلاة، فمتى كانت الصلاة جائزة، بل واجبة معه امتنع أن يكون ~~هنا مانع من الصلاة، بل قد ارتفع المانع قطعا. # وإن قالوا: هو مانع، لكنه لا يمنع مع التيمم. # فالمانع (2) الذي لا يمنع ليس بمانع. # فإن قيل: هو يمنع إذا قدر على استعمال الماء. # قيل: هو حينئذ! يوجد المانع. # فإن قالوا كيف يعود المانع من غير تجدد حدث؟ # قيل: كما عاد الحاظر من غير تجدد حدب، فالحاظر للصلاة هو المانع، والمبيح ~~لها هو الرافع لهذا المانع. # فإن قيل: أباحها إلى حين القدرة على استعمال الماء. # قيل: وأزال المانع إلى حين القدرة، فكما يقال: أباح إباحة موقتة، يقال: ~~إنه رفع رفعا موقتا. # وإن قالوا: نحن لا نقبل إلا ما يرفع مطلقا كالماء. PageV02P210 # قيل: ولا نقبل إلا ما يبيح مطلقا كالماء. وأيضا فالله ورسوله قد سماه (1) ~~طهورا، وجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طهور المسلم ما لم يجد الماء، ~~وجعل تربة الأرض طهورا. والطهور ما يتطهر به، وقد قال تعالى: (وإن كنتم ~~جنبا فاطهروا" (2) . والتيمم قد يطهر، ومع الطهارة لا يبقى حدث، فإن ~~الطهارة مناقضة للحدث، إذ غايته أن تكون نجاسة معنوية، والطهارة تناقض ~~النجاسة. # فإن (3) قيل: الصلاة بالتيمم رخصة كأكل الميتة في المخمصة، والرخصة ~~استباحة المحظور مع قيام الحاظر ومنع المانع، فلو بقي مانعا لم تجز الصلاة. ~~فعلم زوال المانع. # ولا ms0306 يجوز أن يقال هنا: إنه استباح الصلاة مع قيام الحاظر لها، فإن كون ~~الحاظر حاظرا زائل من الميتة لمعارض راجح، وذلك أن المعنى المقتضي للحظر ~~القائم بالميتة موجود حال المخمصة، كما هو موجود في حال القدرة، فإن الميتة ~~في نفسها لم تتغير، وإنما تغير حال الإنسان، كان غنيا عنها، ثم صار محتاجا ~~إليها (4) . فهذا PageV02P211 # يمكن دعواه في الميتة، ولا يمكن دعواه هنا، لأنه لا تحصل له إلا الميتة، ~~وقد تغير حاله إليها، وحاجته تدفع الفساد الحاصل بأكلها، فكذلك التيمم. # قيل: هذا قياس فاسد، وذلك أنه صاد ميتة وأكل، والميتة لم تتغير، لكن تغير ~~حال الآكل، وهنا ليس إلا المحدث الذي كانت الصلاة محرمة عليه، ثم صارت ~~واجبة عليه أو جائزة بالتيمم، فلو لم يتغير حاله بالتيمم لما جازت صلاته، ~~وليس هنا إلا الحدث في الشرع، فأبيحت (1) له الصلاة في حال، وحرمت عليه في ~~حالي، مع تسميته في حال الإباحة متطهرا، وجعل التراب طهورا كما جعل الماء ~~طهورا. # وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: "أصليت بأصحابك وأنت ~~جنب؟ " استفهام (2) ، فسأله: أكان ذلك أم لم يكن؟ وليس هو خبرا أنه صفى وهو ~~جنب، فلما أخبره أنه تيمم لخشية البرد تبين أنه لم يكن جنبا، فأقره النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -. وإلا فلو كان المراد الخبر وهو قد صفى مع الجنابة ~~صلاة جائزة لم يسأله. وإن كانت الجنابة مانعة من الصلاة مطلقا لم يقبل ~~عذره. وهو لم يقل: "أصليت وأنت (3) جنب بلا تيمم " ليكون قد استفهمه عن حال ~~التحريم، بل أطلق الصلاة مع الجنابة. وهم يقولون: يجوز مع الجنابة تارة، ~~ولا يجوز أخرى، PageV02P212 # وكلام الرسول يقتضي منعها مع الجنابة مطلقا، وأن هذا استفهام إنكار، وأنه ~~لما بئن أنه تيمم تبين أنه لم يكن جنبا، فلا إنكار عليه بهذا أبدا، والله ~~أعلم (1) . # فقد تبين هنا أن القياس هو الصحيح، دون الاستحسان الذي يناقضه، وتخصيص ~~العلة، وهو كون هذا بدلا طهورا مبيحا يقوم مقام الماء عند تعذره في جميع ~~أحكامه، ثم يخص ms0307 بعض الأحكام من حكم البدلية والطهوريه والإباحة، والبدل ~~يقوم مقام المبدل في حكمه لا في صورته، والحكم جواز الصلاة به ما لم يجد ~~الماء أو يحدث. فذلك القول مخالف للقياس وتخصيص للعلة بلا ريب، والعفة ~~صحيحة بلا ريب. # ونحن إذا قلنا: لا يجوز تخصيص بدون فارق مؤثر أفاد شيئين: أحدهما: أنه ~~إذا ثبت أنها علة صحيحة لم يجز تخصيصها مثل هذا الموضع. # والثاني: أنه إذا ثبت تخصيصها علم بطلانها، وهذا معنى قولنا: لا يجتمع ~~قياس صحيح واستحسان صحيح إلا مع الفارق المؤثر في الشرع. # وأما قوله في المضارب (2) : إذا خالف فاشترى غير ما أمر به PageV02P213 # صاحب المال، فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح ~~يحيط بأجرة مثله فيذهب، قال: وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال فاستحسنت. ~~ف ### | هذا استحسان بفرق رآه مؤثرا، # والقياس مستنبط، والاستحسان مستنبط، وهو تخصيص لعلة مستنبطة بفرق مستنبط. ~~وأحمد لا يرد مثل هذا الاستحسان، لكن قد تكون العفتان أو إحداهما فاسدة، ~~كما لا يرد تخصيص العلة المنصوصة بفرق منصوص./ # والفرق أن المضارب مأمور بالعمل بجعل، بل هو شريك في الربح، وعمله له ~~ولصاحب المال جميعا، ولهذا كان للعلماء فيما يستحقه في المضاربة الفاسدة ~~ونحو ذلك قولان: هل يستحق قسط مثله في الربح، أو أجرة مقدرة تكون أجرة مثله ~~(1) ؟ والقول الأول هو الصواب قطعا، وهذا قياس مذهب أحمد، فإن من أصله أن ~~هذه المعاملات مشاركة، لا مؤاجرة بأجرة معلومة، والقياس عنده صحتها. # وإنما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة. ويقول: القياس يقتضي ~~فسادها، والمأجور فيها مأجور للحاجة. وبكل حال PageV02P214 # فهو يعمل لنفسه لاستحقاق القسط أو الأجر، ويعمل لرب المال، فليس هو ~~بمنزلة الغاصب الذي جعل عمله لصاحب المال كالمتبرع، فإن هذا إنما قبض المال ~~ليعمل فيه بالعوض، وهو بالمخالفة لا يخرج عن كون المال بيده قبضه ليعمل فيه ~~بالعوض، ولكن عمل غير ما أمر به، فيكون ضامنا لتعديه، ولكن ليس إذا كان ~~ضامنا يكون وجود عمله كعدمه، مع أنه مأذون له ms0308 في التجارة به في الجملة، ليس ~~هو كمن لم يؤذن له في ذلك. # وهو أيضا من أصل آخر، وهو أنه إذا تصرف بغير أمره كان فضوليا (1) ، فيكون ~~المعقود موقوفا. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي ~~ذكرها الخرقي في مختصره: أن بيع الفضولي وشراه ليس باطلا بل موقوفا (2) ، ~~فإن باع أو اشترى PageV02P215 # بعين المال فهو موقوف، وإن اشترى فى الذمة فهو موقوف. فإن أجازه المشترى ~~له وإلا لزم المشتري (1) . # وأما القاضي وأتباعه فاختاروا أن تصرفه مردد (2) إلا إذا اشترى في الذمة. ~~والذي ذكره الخرقي أصح، لكنه قرن هذه المسألة في مواضع من مختصره بالعامل ~~إذا خالف كان متصرفا له بغير إذنه، فإذا أجازه وطلب نصيبه من الربح صار ~~مجيزا له، وصار العامل مأذونا له. والعامل إنما عمل لأجل نصيبه من الربح، ~~فيستحق نصيبه من الربح. # وقول أحمد: "كنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت" رجوع منه ~~إلى هذا، وجعله الربح في جميع الصور للمالك يقتضي أنه يصحح تصرف الفضولي ~~إذا أجيز، وإلا كان البيع باطلا. # وكذلك الشرى بعين المال، كما يقوله الشافعي ومن نصر الرواية الأخرى"، ~~ويكون عليه ضمان ما فوته من ماله فقط، ليس للمالك غير هذا، ولا يكون للعامل ~~أيضا ربح، لأنه لم يعمل شيئا. والآثار المأثورة عن الصحابة والتابعين في ~~باب البيع والنكاح والطلاق وغير ذلك تدل على أنهم كانوا يقولون بوقف ~~المعقود، PageV02P216 # لاسيما حيث تعذر استئذان المالك (1) . # ولهذا أحمد يقول بوقفها هنا كما في مسألة المعقود، اتباعا للصحابة في ~~ذلك. وإنما ادعى أنها خلاف القياس من لم يتفطن لما فيها من وقف المعقود، ~~كما في اللقطة (2) . وتكلم السلف فيمن يتجر بمال غيره في الربح دليل على ~~صحة التصرف عندهم إذا أجازه المالك. # وبهذا ظهر ما استحسنه أحمد ورجع إليه أخيرا، لأنه إذا صار بالإجازة ~~كالمأذون له، وهو لم يعمل إلا بجعل برضا المالك، فلا يجوز منعه حقه. وهذا ~~بناء على أنه إذا تصرف ابتداء فالربح كله للمالك، وهو أحد الأقوال في ms0309 ~~المسألة، وقيل: يتصدقان به، وهو رواية عن أحمد. وقيل: هو للعامل، كقول ~~الشافعي. وقيل: هما شريكان فيه، وهو أصح الأقوال، وهو المأثور عن عمر (3) ~~في PageV02P217 # المضاربة (1) ،/لأن المالك لما أذن فيه صار كالمضارب، وهو لم يعمل ليكون ~~الربح للمالك كالمبضع (2) ، فإنه لو فعل ذلك لكان الربح للمالك، وإنما اتجر ~~ليكون الربح له أو بينهما، والمالك قد أجاز بيعه، ولم يجزه ليكون الربح كله ~~له، فيكون النماء حاصلا بمال هذا وبيع هذا، والتصرف صحيحا مأذونا فيه، ~~فيكون الربح بينهما. ومن قال: "يتصدقان به" جعله كغير المأذون فيه، فيكون ~~خبيثا، وهو متعد، لأن الحق لهما لا يعدوهما، فإذا أجاز التصرف جاز. # وكذلك في جميع تصرف الغاصب، لاسيما من لم يعلم أنه غاصب، إذا تصرف في ~~المغصوب بما أزال اسمه، كطحن الحب ونسج الثوب ونحو ذلك، ففيه ثلاثة أقوال ~~في مذهب أحمد وغيره: # قيل: كل ذلك للمالك دون الغاصب، وعليه ضمان النقص، كقول الشافعي. # وقيل: يملكه الغاصب، وعليه بدله، كقول أبي حنيفة. # وقيل: يخير المالك بينهما، كقول مالك. وهذا أصح (3) ، بناء PageV02P218 # على وقف التصرفات، فإن شاء المالك أجاز تصرفه، وطالبه بالنقص، كما في ~~العامل المخالف، وإن شاء طالبه بالبدل لإفساده عليه، وبأخذه ذلك لأدائه ~~عوضه، فيخير على المعاوضة لحق المالك. # وإذا رضي المالك به فهل يكون الغاصب شريكا لما في عمله؟ فيه وجهان، ~~والأظهر في الجميع أن أثر عمله له، وكونه ظالما يظهر في تضمينه له، لا في ~~أن يؤخذ أثر عمله، فيعطى لغيره بلا عوض، فإن هذا ظلم له، والواجب إزالة ~~الظلم بالعدل، لا بظلم آخر، "وجزاؤا سيئة سيئة مثلها" (1) لا زيادة عليها. # وأما قوله فيمن غصب أرضا فزرعها: "الزرع لرب الأرض، وعليه النفقة، وليس ~~هذا شيئا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته" (2) ، فهذا قاله بالنص ~~كما تقدم، لحديث رافع بن خديج. فيجب أن يكون القياس المخالف لهذا النص ~~فاسدا إن لم يدل نص على صحته، ويظهر الفارق المؤثر، وإلا فالقياس إذا خالف ~~النص كان فاسدا. أما فساد الحكم المخالف للنص ms0310 فبالاتفاق، وفساد العلة على ~~قول الجمهور الذين لا يرون (3) تخصيص العلة إلا بفارق مؤثر، PageV02P219 # وهذا نص قد خالف القياس. # وقولهم: "القياس أن الزرع لزارعه" ليس معهم بذلك نص ولا نظير، بل القياس ~~(1) أن الزرع إما أن يكون بينهما كالمزارعة، أو يكون لرب الأرض، لأن الزرع ~~في الأرض كالحمل في البطن، وإلقاء البذر كإلقاء المني، ولو وطيء ذكر أنثى ~~كان الحمل لمالك الأنثى دون مالك الذكر، وهذا اختيار ابن عقيل وغيره. لكن ~~المني لا يقوم، بخلاف الزرع، فلهذا جعل له نفقته، فإن الزرع عامته في ~~الأرض، في ترابها ومائها وهوائها وشمسها، كما أن الحمل في البطن عامته في ~~الأم، وماء الأب قليل، كما أن الحب قليل./ # وكذلك الشجر إذا لقح أنثاه بذكر فإن الثمر لصاحب الأنثى، لا لصاحب ~~اللقاح، والحب كاللقاح. # وقول أحمد: "عليه نفقته" يقتضي مثل البذر، ويقتضي أجرة عمله وعمل فدانه ~~(2) . فقوله: "ليس هذا شيئا يوافق القياس" كقوله في العامل المخالف: "ثم ~~استحسنت أن يعطيه الأجرة"، فكان قياسه على ما يراه في الغاصب أن لا يكون له ~~أجرة عمله وعمل فدانه، فهو PageV02P220 # مخالف للقياس في هذه الحجة (1) ، لأنه إنما عمل ليأخذ العوض، لم يعمل ~~مجانا كالعامل في المضاربة، ولأن البذر له، فليس غاصبا محضا. # وقد اختلفت الرواية عن أحمد: هل يعطى ما أنفق أو أجرة مثله؟ والنص ورد ~~بالأول بقوله: "فليس له في الزرع شيء، وله نفقته"، والقياس يقتضي الثاني. ~~فقد يكون قوله على خلاف القياس من هذا الوجه، وما ورد به النص قد يكون ما ~~أنفق وأجرة مثله فيه سواء. # وأما شرى المصاحف والسواد (2) فإنما فرق فيهما بين الشرى والبيع، لأن ~~العلة موجودة في البيع دون الشرى، فإن المشتري راغب في المصحف، معظم له، ~~باذل فيه ماله، والبائع معتاض عنه بالمال، والشرع يفرق بين هذا وهذا (3) ، ~~كما فرق في إعطاء المؤلفة PageV02P221 # قلوبهم بين المعطي والآخذ، وكذلك في افتداء الأسير وغير ذلك. ومعلوم أنه ~~لو أعطاه المصحف والأرض الخراجية بلا عوض جاز، وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا ~~يجوز ms0311 تملكه كالخمر وغيرها، فإذا بذل له هذا فيه العوض لم تكن مضرته إلا على ~~البائع. # فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب معلم إلا بثمن فينبغي أن يجوز بذله، ~~وإن لم يجز أخذه. # قيل: إن لم يكن بينهما فرق مؤثر في الشرع فهكذا (1) هو، وإن قيل هناك: ~~يجب عليه إعطاء الكلب بلا عوض , بخلاف الأرض والمصحف، فهذا فرق. مع أن ~~الثابت عن الصحابة كراهة بيع المصحف، وابن عباس كان يكرهه (2) ، وكان أيضا ~~يجوزه ويقول: إنما هو مصور, وله أجرة تصويره (3) . فدل على أنها كراهة ~~تنزيه. وروي عن غيره: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف (4) ، وهذا تغليظ ~~تحريم. ولهذا اختلفت الرواية عن أحمد: هل هو نهي تنزيه أو تحريم. # وأما شراه ومبادلته فهل هو مباح أو مكروه على روايتين، وعن ابن عباس يجوز ~~أن يبيعه ويشتري بثمنه مصحفا آخر، وليس PageV02P222 # في المبادلة والشرى استبدال به عرضا من الدنيا، فالأظهر جواز ذلك بلا ~~كراهة (1) ، وأن البيع أيضا لا يحرم، بل يكره تعظيما لكتاب الله، إذ ليس ~~على التحريم دليل شرعي. # وكذلك الأرض الخراجية ليس في منع بيعها دليل شرعي أصلا (2) ، فإن الذين ~~منعوها من الفقهاء قالوا: إنها وقف، وبيع الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في ~~الوقف الذي يبطل حق أهل الوقف ببيعه، وهو الذي لا يورث ولا يوهب، والأرض ~~الخراجية تورث وتوهب، والوقف الذي لا يباع لا يورث ولا يوهب، وذلك أن ~~المشتري لها يقوم مقام البائع، لا يبطل حق أهل الوقف./ PageV02P223 # وأحمد في ظاهر مذهبه يجوز بيع المكاتب لهذا المعنى (1) ، لان ذلك لا يبطل ~~حقه من الكتابة، بل يكون عند المشتري كما كان عند البائع، وهو يورث ~~بالاتفاق. ولكن لما انعقد فيه سبب الحرية تخيل من منع بيعه أنه يباع حر، ~~كما تخيل أولئك أنه يباع وقف، وليس الأمر كما تخيلوه، بل بيع الحز هو أن ~~يستعبد فيصير بخلاف ما كان حرا، وبيع الوقف هو أن يجعل طلقا ويصرف فعله إلى ~~غير مستحقيه. # والأرض الخراجية فعلها هو فعلها لم ms0312 يتغير، وهو الخراج المضروب عليها، ~~سواء كان ضريبة كخراج عمر، أو صار مقاسمة كما فعله متأخرو الخلفاء بأرض ~~السواد وغيرها، كما فعله المنصور. فعلى التقديرين حق المسلمين باق، كما ~~يبقى مع الموت والهبة. # والصحابة الذين كرهوا شراها إنما كرهوه لدخول المسلم في خراج أهل الذمة، ~~أو إبطال حق المسلمين به، فإن المشتري إن أدى الخراج - وهو جزية- فقد التزم ~~الصغار، وإن لم يؤده أبطل حق المسلمين، فلذا كره ذلك عمر وغيره من الصحابة، ~~وهم نهوا عن الشرى. # وأما البيع فإنما كان يبيعها أهل الذمة، لأن الأرض الخراجية PageV02P224 # إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضا لئلا يشتغل المسلمون بالفلاحة ~~والصغار عن الجهاد. فلما كثر المسلمون، وصار أكثرهم غير مجاهدين، وصار ~~أداؤهم الخراج أنفع لعموم المسلمين من كونها بأيدي الذمة، لم يصر في ذلك من ~~الصغار ما كان يكون في أول الإسلام إلا لمن يشتغل بعمارة الأرض عن الجهاد. ~~وهذا لا يختص بالخراجية، بل قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سكة فقال: ~~"ما دخلت هذه دار قويم إلا دخلها الذل ". رواه البخاري (1) . مع أن الأنصار ~~كانوا هم الفلأحين لأرضهم، فهذا على الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد، ~~وهذا لا يختص بالخراجية. # وأما ما ذكره القاضي من ### | قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر # (2) ، فلا ريب أن الفرق هنا ظاهر، وهذا من الاستحسان PageV02P225 # وتخصيص العلة التي ظهر فيها الفرق، والمنع من شهادتهم على المسلمين ثبت ~~بالنص، والإذن فيها هنا ثبت بالنص أيضا للحاجة. وهل يعدى هذا إلى جميع ~~مواضع الحاجة؟ فيه عن أحمد روايتان (1) ، بناء على أن العلة معلومة، وهي ~~موجودة/في غير هذا الموضع. هذا وجه القول بالجواز. # وأما وجه المنع فإما أن نقول: لم نعلم العلة وإنها مشتركة، أو علمنا ~~اختصاصها بهذه الصورة للضرورة العامة فيها. هذا إذا ثبت عموم المنع في غير ~~هذه الصورة، إما لفظا وإما معنى. وألفاظ القرآن لا عموم فيها بالمنع، وكذلك ~~السنة ليس فيها لفظ عام بالمنع. لم يبق إلا القياس، وتلك المواضع أمر ms0313 فيها ~~بإشهاد المسلمين، ومعلوم أن ذلك إنما هو عند القدرة على إشهادهما، وهذا ~~واجب في الوصية في السفر. وأما إذا تعذر إشهادهما على الذين في السفر أو ~~على الرجعة فليس في القرآن ما يدل على المنع من ذلك. وإذا لم يكن في الكتاب ~~والسنة منع من إشهاد أهل الذمة عند تعذر إشهاد المسلمين، لم يكن هنا قياس ~~يخالف هذه الآية، وقد عمل بها PageV02P226 # الصحابة وجمهور التابعين. والذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافها لا نص ~~ولا إجماع ولا قياس، وقد تأولوها ناجزين (1) من غير أصل يسلم، وقال بعضهم: ~~هي منسوخة، وقال بعضهم: الشهادة اليمين. والأقوال الثلاثة باطلة من وجوه ~~كثيرة. # وقول من قال: "لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحال " ليس معهم ~~بذلك لا نص ولا قياس، ولكن كثير من الناس يغلطون لأنهم يجعلون الخاص من ~~الشارع عاما، والله أمر بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن، فظن من ظن ~~أن هذا يقتضي أنه لا يشهد غيرهم ولو لم يوجد مسلم. # وباب الشهادات مبناها على الفرق بين خال القدرة وحال العجز، ولهذا قبلت ~~شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. وقد نصن أحمد على شهادتهن في ~~الجراح وغيرها إذا اجتمعن ولم يكن عندهن رجال، مثل اجتماعهن في الحمامات ~~والأعراس ونحو ذلك. وهذا هو الصواب (2) ، فإنه لا نص ولا إجماع ولا قياس ~~يمنع شهادة النساء في مثل ذلك. وليس في الكتاب والسنة ما يمنع شهادة النساء ~~في العقوبات مطلقا (3) . PageV02P227 # وأما إذا نذر ذبح ولده أو نفسه فأحمد اتبع ما ثبت عن ابن عباس (1) ، وهو ~~مقتضى القياس والنص، فإن. كان قادرا كان عليه كبش، وإن سلف فيه بمال فعليه ~~كفارة يمين. وهذا أصح الروايات عن أحمد (2) ، وهو الذي يصرح به في مواضع. ~~وقيل: عليه كفارة يمين في الجميع. وقيل: كبش في الجميع (3) . وقيل: لاشيء ~~عليه (4) . وذلك لأن من نذر نذرا فعليه المنذور أو بدله في الشرع، وهنا لما ~~تعذر المنذور انتقل إلى البدل الشرعي، وهو الكبش، كما في نظائره، فليس هنا ms0314 ~~ما يخالف القياس الصحيح (5) . PageV02P228 # وهذا الباب- باب تدبر العموم والخصوص من ألفاظ الشرع ومعانيه التي هي علل ~~الأحكام- هو الأصل الذي تعرف منه شرائع الإسلام. والله أعلم، والحمد لله، ~~وصلى الله على محمد وآله. # PageV02P229 ### | قاعدة في شمول النصوص للأحكام # PageV02P231 # مقدمة # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. وبعد، فإن مباحث القياس لم تحرر على طريقة فقهاء أهل الحديث في كتب ~~الأصول التي وصلتنا، وأكثرها على منهج المتكلمين وأهل الرأي الذين لم ~~ينصفوا أهل الحديث في الغالب، ونسبوا إليهم ما لا يقولون به، وعدوهم مثل ~~الظاهرية مخالفين للقياس. ونحن نعرف أن الظاهرية أنكروا القياس وحجيته ~~والحاجة إليه، وسدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم ~~والمصالح، فاحتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، وحملوهما فوق الحاجة، ~~ووسعوهما أكثر مما يسعانه، فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه، وحيث لم يفهموه ~~منه نفوه وحملوه على الاستصحاب. فهم وإن أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص وعدم ~~تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة ~~وبيانهم تناقض أهلها واضطرابهم في القياس تأصيلا وتفصيلا، وذكر أمثلة من ~~تفريقهم بين المتماثلين وجمعهم بين المختلفين- إلا أنهم أخطأوا من وجوه ~~عديدة: # منها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته # PageV02P233 # التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ. # ومنها: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكيم دل عليه النص ولم يفهموا ~~دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه ~~وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين. # ومنها: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه، لعدم علمهم ~~بالناقل. وليس عدم العلم علما بالعدم. # أما أصحاب الرأي والقياس فلم يعتنوا بالنصوص كما ينبغي، ولم يعتقدوها ~~وافية بالأحكام ولا شاملة لها، حتى قال بعضهم: إن النصوص لا تفي بعشر معشار ~~أحكام العباد، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وقالوا: إن ~~النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ~~ممتنع. فوسعوا طرق الرأي والقياس، وعلقوا الأحكام بأوصاف ms0315 لا يعلم أن الشارع ~~علقها بها، واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارم شرع الأحكام لأجلها. ثم ~~اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس؟ ثم اضطربوا فتارة ~~يقدمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير ~~المشهور، واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت ~~على خلاف القياس. فكان خطؤهم من وجوه: # أحدها: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث. # PageV02P234 # الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس. # الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف القياس، وادعوا ~~فيها الاستحسان، فظنوا أن الاستحسان خلاف القياس. # الرابع: اعتبارهم عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللا ~~وأوصافا اعتبرها الشارع. # الخامس: تناقضهم في نفس القياس، ففرقوا- كثيرا- بين المتماثلين وجمعوا ~~بين المختلفين. # والصواب الذي عليه أئمة السنة والحديث أن الله تعالى قد أنزل الكتاب ~~والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تتناقض ~~دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح ~~والقياس الصحيح، بل كلها متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضا، ويشهد بعضها ~~لبعض. # والنصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يحلنا الله ورسوله على # الرأي، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح ~~حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان. وقد تخفى دلالة النص أو لا ~~تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا، ~~وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا. # هذا المذهب الثالث- الذي هو مذهب فقهاء أهل الحديث- # PageV02P235 # وسط بين الظاهرية وأهل الرأي كما نرى، ولكنا لا نجد من الأصوليين من نصره ~~عند كلامه على القياس، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عليه وقرره في ~~مواضع من رسائله وكتاباته، وأهمها هذه القاعدة التي ننشرها الآن. وتبعه ~~تلميذه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/350- 383) ، فنقل معظم ~~مباحث هذه القاعدة بلفظها أو بمعناها، مع زيادة التوضيح والشرح بأسلوبه ~~المعروف. # وهو وإن لم يذكر شيخه في هذا الموضع، فقد أشار إليه عند ms0316 الكلام على أنه ~~ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (1/383) . # وهذه القاعدة أحد الفصول الثلاثة التي يقول ابن القيم فيها إنها "من أهم ~~فصول الكتاب" (1/355) ، فلا نستغرب أن يقتبسها من شيخه، على طريقته في ~~الاستفادة من كتبه، كما يظهر ذلك لكل من يقرأ كلام الشيخين في موضوع واحد. # والكتاب مقسم إلى قسمين: في القسم الأول منهما تأصيل لقاعدة شمول النصوص ~~للأحكام وموافقتها للقياس الصحيح. وفي الثاني تطبيق لها على أحكام الفرائض، ~~فإنها من أشكل الأشياء، والنصوص الواردة فيها قليلة محصورة، ومع ذلك شملت ~~جميع الأحكام التي نحتاج إليها، فهذا من أظهر الأدلة على صحة القاعدة ~~المذكورة. # وقد أفرد القسم الثاني- لأهميته- في بعض النسخ، كما سيأتي ذكرها فيما ~~بعد، وذكره ابن رشيق (1) بعنوان "شمول النصوص في PageV02P236 # الفرائض". ونشر مختصر من هذا القسم بحذف كثير من كلام المؤلف (1) ، وتدل ~~بدايته على أنه تكملة لكلام سابق، فقد بدأ بقوله: "والمقصود هنا أن النصوص ~~شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء، ليستدل به ~~على ما سواه ... ". # وقد ظهرت نسختان كاملتان للكتاب تحتويان على القسمين، فاعتمدنا عليهما في ~~نشرتنا له كما كتبه المؤلف دون اختصار، عسى الله أن ينفع به القراء ~~والباحثين. ### | عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف # ذكر ابن رشيق (2) وابن عبد الهادي (3) والصفدي (4) وابن شاكر الكتبي (5) ~~هذا الكتاب ضمن مؤلفات شيخ الإسلام بعنوان "قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، ~~ووصفه بعضهم بأنه "مجلد PageV02P237 # لطيف". وقد تحرف هذا العنوان في بعض المصادر (1) إلى "شمول النفوس لأحكام ~~الفقه المنصوص"! ولا يستفاد منه معنى صحيح ولا سجع مقبول، فلا يلتفت إليه. ~~ويكون المعتمد ما ذكره تلاميذ شيخ الإسلام وأصحابه، لكونه موافقا لبداية ~~النسختين الكاملتين للكتاب. # وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا الكتاب في "قاعدته في الاستحسان" (ص ~~206-207) فقال: "وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأحكام كلها بلفظ الشارع ~~ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني ~~المؤثرة، فمعانيه أيضا متناولة لجميع الأحكام". والكتاب الذي بين أيدينا ~~فصل فيه الكلام على ms0317 الموضوع الذي أشار إليه، وقرر أن الله تعالى بين جميع ~~ما أمر به ونهى عنه، وجميع ما أحله وحرمه، وبهذا أكمل الدين، ولكن قد يقصر ~~كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، فيقولون: إن النصوص لا تحيط ~~بأحكام الحوادث. وبمقابل هؤلاء قوم من نفاة القياس نفوا القياس الجلي ~~الظاهر حتى فرقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة ~~أصلا، ونفوا تعليل خلقه وأمره، واقتصروا في معرفة الأحكام على مجرد ~~الظواهر، فحيثما فهموا من النص حكما أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه وأثبتوا ~~الأمر على موجب الاستصحاب. ثم بين خطأ الفريقين، وناقشهما مناقشة طويلة، ~~وقرر أن السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وأن النصوص PageV02P238 # شاملة لجميع الأحكام، ولو أعطي حقها من المعرفة والفهم لدلت على جميع ~~الأحكام. ويعتبر القياس دليلا صحيحا آخر يوافق دلالة الظاهر والتعليل ~~الصحيح. # وقد تكلم شيخ الإسلام في هذا الموضوع في مواضع أخرى من كتاباته وفتاواه، ~~فذكر في فتوى له (1) أن الناس تنازعوا في ذلك: فقوم زعموا أن أكثر أحكام ~~أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس، وقوم زعموا أن ~~جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر حتى أنكروا فحوى ~~الخطاب وتنبيهه. وقوم يقدمون القياس تارة، لكون دلالة النص غير تامة أو ~~لكونه خبر الواحد، وقوم يعارضون بين النص والقياس، ويقدمون النص ويتناقضون. ~~ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض ~~الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة، ~~ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة. فان القياس الصحيح حقيقته التسوية بين ~~المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل. # وفي الكتاب الذي بين أيدينا قرر المؤلف أن قياس الجمع والفرق يكون ~~بالأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا كله من الميزان الذي أنزله الله مع رسله ~~كما أنزل الكتاب، وإذا ثبت أن الكتاب PageV02P239 # والميزان منزلان فلا يجوز أن يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة ~~النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا ms0318 دلالة النص الصحيح والقياس ~~الصحيح. وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح والباطل الذي ليس بصحيح، فأما ~~الصحيح الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا (1) . # وقال في موضع آخر (2) : إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضا، وإن ~~دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية. فإذا علمنا بأن ~~الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس ~~المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد. # وذكر في فتوى أخرى (3) في هذا الموضوع أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة ~~المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لم يفهم ~~معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال ~~العباد. ثم مثل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال ~~عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة ~~الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلا آخر PageV02P240 # يوافق النص. ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب ~~الأحكام بالنصوص وبالأقيسة. # ورد في موضع آخر (1) على من يقول إن "الحشيشة" لم يرد فيها آية ولا حديث، ~~وقال: هذا من جهله، فان القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة ~~وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن ~~والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص. ثم ذكر أمثلة ~~لهذه الألفاظ وشرح معانيها، منها: "الناس" و"الميسر" و"الأيمان" و"الماء" ~~و"المشركين" و"الذين أوتوا الكتاب"، وقال: هذا وأمثاله نظير عموم القرآن ~~لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص. ولو قدر بأن اللفظ لم ~~يتناوله، وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار ~~والقياس. وقد بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالكتاب والميزان ~~ليقوم الناس بالقسط، والكتاب: القرآن، والميزان: العدل، والقياس الصحيح هو ~~من العدل، لأنه لا يفرق بين المتماثلين. # وقد أشار المؤلف إلى هذا ms0319 المعنى في الكتاب الذي بين أيدينا فقال: "وإذا ~~كان أهل المذاهب جعلوا لهم قواعد يضبطون بها ما يحل ويحرم، فالله ورسوله ~~أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بجوامع الكلم"، ~~فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة PageV02P241 # عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأشخاصا". ثم مثل لها ببعض الأمثلة (1) . # هذه النصوص المتشابهة التي عرضناها تؤكد أن الكتاب الذي بين أيدينا من ~~تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد فصل هنا ما أجمله في مواضع أخرى، ورأيه ~~فيه هو رأيه المعروف في سائر كتاباته، وكلامه هنا في موضوعات عديدة يشبه ~~كلامه في كتبه الأخرى، كما أشرت إلى ذلك في تعليقاتي على الكتاب، فلا حاجة ~~إلى الإعادة. وأذكر على سبيل المثال كلامه في "الاستصحاب" هنا (ص 283-287، ~~290-295) ، فهو موافق لما ذكره في مواضع أخرى (2) ، كما يظهر ذلك ~~بالمقارنة، وهو هنا أكثر تفصيلا وتوضيحا. ### | وصف النسخ الخطية # وصلت إلينا نسختان كاملتان من الكتاب، وثلاث نسخ ناقصة تحتوي على بيان ~~شمول النصوص في الفرائض وهو القسم التطبيقي للنظرية التي شرحها المؤلف ~~قبله. # أما النسختان الكاملتان فإحداهما في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا برقم ~~[1336] (ق160 ب- 171 أ) ، ليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، وهي مكتوبة ~~بخط مغربي متأخر، لعله من خطوط القرن PageV02P242 # الحادي عشر. والنسخة بحجم كبير، وعدد الأسطر في كل صفحة 33 سطرا، ومتوسط ~~عدد الكلمات في كل سطر 16 كلمة. ولعل هذه النسخة أصابها البلل، فانطمست بعض ~~الكلمات في الركن الأعلى من كل ورقة. ويلاحظ في هذه النسخة أن الناسخ كثيرا ~~ما يكتب جزءا من الكلمة في آخر السطر وتكملتها في السطر التالي. # انظر مثلا السطر الثاني في أول الكتاب، تجد أنه كتب "موا" في آخر السطر، ~~و"فقة" في السطر التالي، لتصبح "موافقة"! # والنسخة الثانية ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط برقم [ق 209] (ص ~~156-178) ، كتبت في رمضان سنة 1001، بخط مغربي أيضا. وعدد الأسطر في كل ~~صفحة منها 27 سطرا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة. وهي مرقمة ~~الصفحات. # وبعد دراسة النسختين والمقابلة بينهما ظهر لي أنهما ms0320 من أصل واحد، فهما ~~تتفقان كثيرا في التصحيف والتحريف والسقط، وكلتاهما تبدأ ب "الحمد لله وحده ~~حق حمده. وله رحمه الله تعالى فصل ### | … # ". وتنتهي ب "والله سبحانه أعلم". وفي النسختين اضطراب في الترتيب وتداخل ~~في الكلام أديا إلى اختلال المعنى، وسبب ذلك أن أصلهما كان مضطرب الأوراق، ~~فنسخت عنه النسختان، وانتقل إليهما هذا الاضطراب الذي يبدأ في النسخة ~~الأولى من السطر التاسع من الورقة (168 ب) بعد قوله "فلما بطل سقوطها ~~وفرضها"، وينتهي بالسطر السابع عشر من الورقة (169 أ) # PageV02P243 # بقوله: "رجل ذكر ... ". وكذا فيما يوافق هذا الموضع من النسخة الثانية. ~~وهذا مما يؤكد أن أصل النسختين واحد. # وقد اهتديت إلى الترتيب الصحيح لكلام المؤلف بمراجعة النسخ الثلاث ~~الناقصة التي كانت تحتوي على تلك النصوص بسياقها الطبيعي، وهي: ### | 1- # نسخة فيسبادن بألمانيا برقم [3968] (ق 141-155) . ### | 2- # نسخة دار الكتب المصرية برقم [695] (ق98-109) . ### | 3- # نسخة المكتبة السعودية التابعة للإفتاء برقم [572/86] (ق6-14) . # هذه النسخ الثلاث تتفاوت في الصحة، وبعضها أسوأ من بعض، فلا يمكن ~~الاعتماد على واحدة منها، لشيوع التصحيف والتحريف والسقط فيها جميعا، كما ~~يظهر ذلك بمقابلتها على النسختين المغربيتين. إلا أنها أفادت في معرفة ~~الترتيب الصحيح لكلام المؤلف كما ذكرت، وترجيح بعض الكلمات الموجودة فيها ~~إذا كان ما في النسختين لا وجه له أو مبنيا على التحريف الواضح. # وكان منهجي في إثبات النص أن أختار من النسختين الكاملتين ما هو أصح ~~وأنسب في السياق وأقرب إلى أسلوب المؤلف، وأشير إلى ما يخالفه في التعليق، ~~ولم أذكر جميع الفروق والتحريفات، فلا فائدة منها في فهم الكلام، ولا يجوز ~~نسبتها إلى المؤلف، لأن النص لم يصل إلينا بخطه. # PageV02P244 # وإذا اطمأننت إلى صحة النص في ضوء النسختين لم ألتفت إلى النسخ الثلاث ~~الباقية، لكثرة التحريف الواقع فيها، ولكن إذا كان النص محرفا وغير مفهوم ~~فيهما رجعت إلى بقية النسخ في القسم الذي تحتوي عليه، وأثبت ما هو الصواب ~~أو الراجح في نظري، مع الإشارة إلى ما في النسختين، وقد جعلت نسخة ~~الإسكوريال هي الأصل، ورمزت لها ب "س"، ولنسخة ms0321 الخزانة العامة ب "ع". وأشرت ~~إلى النسخ الثلاث الناقصة بقولي "سائر النسخ" أو "بقية النسخ"، ولم أعتمد ~~على واحدة منها بعينها. # وراجعت كذلك كتاب "إعلام الموقعين" لترجيح بعض الكلمات على غيرها، وقد ~~ذكرت فيما مضى أنه يحتوي على أكثر مباحث الكتاب بالنص أو بالمعنى، مع زيادة ~~التوضيح والتمثيل والتعليق. ولكني لم أثقل الهوامش بالنقل عنه، وعلى القراء ~~والباحثين أن يراجعوه عند قراءة هذا الكتاب للمزيد من الشرح والتفصيل ~~والبيان. # وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج هذا الأثر النفيس من ~~آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأدعوه أن يجعله نافعا للعلماء والطلاب، إنه ~~سميع مجيب. # محمد عزير شمس # PageV02P245 ### | نماذج من النسخ الخطية # PageV02P247 # النص المحقق # PageV02P251 # بسم الله الرحمن الرحيم # (صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. الحمد لله وحده حق ~~حمده. # وله رحمه الله تعالى:) (1) ### | فصل # في شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح # قال الله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) (2) ، وقال: ~~(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس ~~بالقسط) (3) . فأخبر أنه أنزل مع رسوله الكتاب والميزان ليقوم الناس ~~بالقسط. وقوله: (وأنزلنا معهم) دليل على أن الميزان مما جاءت به الرسل، كما ~~ذكر أنه أنزل الكتاب والحكمة، وأنه أوحى القرآن والإيمان في قوله: (وكذلك ~~أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان ولكن جعلناه ~~نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (4) . PageV02P253 # وفي الصحيحين (1) عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - # حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة تنزل في جذر ~~قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة. ثم حدثنا ~~عن رفع الأمانة، قال: "ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل ~~أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل ~~المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء" ... الحديث ~~(2) . # والجذر: الأصل، والأمانة: الإيمان. فأخبر أن الله سبحانه أنزل الإيمان في ~~أصل قلوب ms0322 الرجال، وقد قال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) ~~(الأمثال (17)) إلى قوله (الأمثال (17)) (3) . # وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب) أرضا، PageV02P254 # فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير؛ وكانت منها ~~طائفة أمسكت الماء، فشربت الناس وسقوا وزرعوا؛ وكانت منها طائفة إنما هي ~~قيعان، لا تمسك ماء (1) ، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ~~ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم ~~يقبل هدى الله الذي أرسلت به ". # فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مثل ما جاء به ~~بالماء الذي ينزل على الأرض، وشبه القلوب بالأرض، والهدى والعلم الذي أنزله ~~الله تعالى بالماء الذي نزل على الأرض، وجعل الناس ثلاثة أقسام: قسما سمعوا ~~وفقهوا وعلموا، وقسما حفظوه وبلغوا غيرهم فانتفعوا به، وقسما لا هذا ولا ~~هذا. # هذا المثل يطابق المثل الذي في القرآن (2) ، حيث شبه الله القلوب ~~بالأودية التي منها كبار تسع ماء كثيرا، وصغار لا تسع إلا ماء قليلا، كما ~~أن القلوب منها ما (3) تسع علما عظيما، ومنها ما لا تسع إلا دون ذلك، وأن ~~الماء بمخالطة الأرض يحتمل زبدا رابيا لا PageV02P255 # ينفع، كذلك العلم الذي نزل على القلوب يحتمل من الشهوات والشبهات بسبب ~~مخالطته الأنفس ما يكون كالزبد الذي لا ينفع. وبين أن الزبد الذي يذهب جفاء ~~فيخفى، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك العلم في القلوب ما ينفع الناس. # وقال تعالى: (كذلك يضرب الله الأمثال (17)) ، فأخبر أن هذا مثل مضروب. ~~وقال تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا) (1) ~~. وقال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) (2) . # فبين أنه يلهم المؤمنين (3) الإيمان وما ينفعهم، وذلك إيحاء إليهم وإن لم ~~يكونوا أنبياء. # . وفي الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد كان في ~~الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن ms0323 في أمتي أحد فعمر". # وفي المسند والترمذي (5) حديث النواس بن سمعان عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط PageV02P256 # سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة/ [161/أ] ، وعلى رأس ~~الصراط داع يدعو، يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعا ولا تخرجوا، ~~وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ~~ويحك لا تفتحه، [فإنك إن تفتحه] (1) تلجه ". وفي رواية (2) : "فلا يقع أحد ~~في حدود الله حتى يكشف الستر". قال: والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله ~~تعالى، والأبواب المفتحة: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله، ~~والداعي في جوف الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم". # فبين أن في قلب كل مؤمن واعظا يعظه، والوعظ هو الأمر والنهي، ترغيب ~~وترهيب (3) ، قال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) [أي يؤمرون به] (4) ~~(لكان خيرا لهم) (5) . وقال تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن ~~كنتم مؤمنين (17)) (6) أي ينهاهم، وذلك يسمى إلهاما ووحيا. # وأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان، وقد قال كثير من السلف: PageV02P257 # الميزان: العدل (1) ، وقال بعضهم: الميزان اسم لما يوزن به، والمقصود به ~~العدل، كما قال تعالى: (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) ~~(2) . فأخبر أن المقصود بإنزال ذلك أن يقوم الناس بالقسط. فدل ذلك على أنه ~~أنزل في القلوب من الميزان ما يعلم [به] (3) القسط. ومن ذلك: الاعتبار، وهو ~~اعتبار الشيء بنظيره، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في دية الأصابع: هلا ~~اعتبرتموها بدية الأسنان؟ (4) يعني إذا كانت ديتها واحدة مع اختلاف ~~منافعها، فكذلك الأصابع ديتها واحدة مع اختلاف منافعها، كما أن النفوس ~~مختلفة الفضائل مع (5) أن ديتها واحدة، إذ (6) كان جعل (7) الديات المقررة ~~بالشرع مختلفة باختلاف التلف أمرا (8) لا يقدر البشر على معرفته وضبطه، وما ~~عجزوا عن العلم به سقط عنهم الأمر به، كما يسقط فيما يعجزون عن العمل به. ~~PageV02P258 # ولهذا قال تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها) ~~(1) . فبين أنه لا ms0324 يكلف النفوس (2) إلا وسعها، لا يكلفها من القسط الذي ~~أمروا به ما يعجزون عن معرفته، ولهذا يقال: هذا أمثل من هذا وأشبه، أي أقرب ~~إلى العدل الثابت في نفس الأمر، الذي لا يمكن العباد معرفته، وإنما كلفوا ~~من ذلك ما يطيقونه، وهو الأقرب إليه. ولهذا يقال لمثل هذه الطريقة: المثلى، ~~ثم كل قوم يسمون ما يرونه أقرب إلى العدل: الطريقة المثلى، ويقولون: هذا ~~أمثل، كما قاله فرعون: (ويذهبا بطريقتكم المثلى (63)) (3) . # ولهذا كان ### | ضمان النفوس والأموال مبناه (4) على العدل، # كما قال: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (5) ، وقال (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ~~ما عوقبتم به) (6) ، وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى ~~عليكم) (7) . # والتماثل المأمور به معتبر (8) بحسب الإمكان، والاجتهاد في PageV02P259 # معرفة التماثل هو من باب الاجتهاد الذي اتفق عليه العلماء: مثبتو القياس ~~ونفاته، وقد يكون في نوع من الأنواع، وقد يكون في عيني معينه، ويسمى تحقيق ~~المناط. كاختلافهم في ### | المظلوم بالضرب واللطم ونحو ذلك # (1) ، مما لا (2) يمكن فيه أن يفعل بخصمه مثل ما فعل به من كل وجه. فأيما ~~أقرب إلى العدل: أن يقتص منه، ويعتبر التماثل بحسب الإمكان، كما كان (3) ~~الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة يفعلون ذلك، وهو المنقول عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - (4) ؛ أو أن يعزر الظالم تعزيرا يرد إلى اجتهاد ~~الوالي؟ على قولين. والأول هو المنصوص عن أحمد، وهو قول جمهور السلف، ~~والثاني قول طائفة من متأخري أصحابه، وهو المنقول عن أبي حنيفة ومالك ~~والشافعي، قالوا: لأنه لا يمكن فيه المماثلة، والقصاص لا يكون إلا مع ~~المماثلة. # ونظر (5) الأول أكمل (6) ، وهم أتبع للكتاب والميزان للنص PageV02P260 # والقياس، لأن المماثلة [من كل] (1) وجه متعذرة، فلو لم يبق إلا أحد ~~أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عن المماثلة، فالأول أولى؛ ~~لأن التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها، بل قد يعزره بالسوط أو ~~العصا، وتكون إما لطمة بيده، وقد يزيد وينقص، وكانت العقوبة بجنس ما فعله،/ ~~[161/ب] وتحري المماثلة (2) في ذلك بحسب الإمكان في ذلك أقرب ms0325 إلى العدل ~~الذي أمر الله به، وأنزل له الكتاب والميزان. # وكذلك تنازع العلماء في ### | المتلف من المال # (3) ، إذا لم يوجد مثله من كل وجه، كالحيوان والآدميين والعقار والثياب ~~والأبنية، وأكثر المعدودات والمذروعات، فمنهم من قال: لا يجب في ذلك إلا ~~القيمة بنقد البلد، فيعطى المظلوم الذي فوت عليه حفه من الدراهم ما يقاوم ~~به ذلك في الشوق (4) . وقالوا: لأن المثل في الجنس متعذر. # ثم من هؤلاء من طرد قياسه، فقال: وكذلك إذا تلف صيده في الحرم والإحرام، ~~إنما تجب قيمته كما لو كان مملوكا، وقالوا: لا يجوز قرض ذلك، لأن موجب ~~القراض رد المثل، وهذا لا مثل PageV02P261 # له، فلا يجوز قرضه، وهذا قول أبي حنيفة. # ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد، لدلالة الكتاب والسنة وآثار ~~الصحابة على أن الصيد يضمن بمثله من النعم (1) ، وهو مثل مقيد بحسب ~~الإمكان، ليس مثلا من كل وجه، وهو في النعامة بدنة، وفي بقرة الوحش بقرة، ~~وفي الظبي (2) شاة. # وهذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء يجوزون (3) قرض الحيوان ~~أيضا (4) ، لأن السنة دلت عليه، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - استسلف بكرا، وقضى جملا خيارا رباعيا، وقال: "إن خياركم ~~أحسنكم قضاء". # ثم (6) من هؤلاء من قال: إن [كان] (7) القرض حيوانا رد قيمته، طردا ~~للقياس أصله في الإتلاف، فإنه قال: كما يضمن في PageV02P262 ### | الغصب والإتلاف # بالقيمة، فكذلك (1) في القرض، إذ لا مثل له. وهذا قول في مذهب أحمد ~~وغيره، وقال الأكثرون: بل يجب المثل من الحيوان بحسب الإمكان، كما دلت عليه ~~السنة، وهذا هو المنصوص عن الأئمة. # واختلفت (2) أقوالهم في الغصب والإتلاف، فتارة يقولون: # يضمن بالقيمة، وتارة يقولون: يضمن ما سوى الحيوان بالقيمة، وتارة يقولون: ~~بل الجميع يضمن بالمثل بحسب الإمكان. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد. ~~وقد اختلف في ذلك قول (3) مالك والشافعي أيضا، فقال الشافعي في الجدار ~~المهدوم ظلما: يعاد مثله، وقال في مواضع: يضمن بالقيمة. # ولم يكن مع من يوجب القيمة في الإتلاف من النصوص ms0326 إلا قول النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - (4) : "من أعتق شركا له في عبد، وكان له من المال ما بلغ ~~ثمن العبد، فقوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، وأعطي شركاؤه حصصهم، وعتق ~~عليه العبد". # قالوا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في نصيب الشريك القيمة، ولم ~~يوجب نصف عبد، ولو كان العبد يضمن بالمثل لأوجب نصف عبد. PageV02P263 # وهذا غلط على الشارع، فإن هذا ليس من باب ضمان المتلف، بل هو من باب تملك ~~ملك (1) الغير بالقيمة، فإن نصيب الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه بعد ~~ذلك، لا يتلفه قبل أن يملكه (2) ، بخلاف ما لو قتله، فإن ذلك إتلاف. ~~والعلماء القائلون بالسراية متفقون على أنه يعتق على ملك الغير والولاء (3) ~~دون الشريك. وتنازعوا هل يسري عقب الإعتاق، أو لا يعتق حتى يؤدي الثمن؟ على ~~قولين مشهورين لهم: الأول هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول ~~مالك، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل (4) ، كما قد ~~بسط في موضعه (5) . # وعلى هذا فإذا أدى هل يعتق من حين الأداء، أو يتبين أنه عتق من حين ~~الإعتاق؟ على قولين. # وعلى هذا ينبني لو أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول، فعلى القول الذي ~~ذكرنا أنه الصحيح يجوز عتقه، وعلى الآخر لا يجوز. # وعلى هذا ينبني إذا قال أحدهما: إذا أعتقت نصيبك (6) فنصيبي حر، فعلى ~~القول الذي بينا رجحانه يصح هذا التعليق، ويعتق PageV02P264 # نصيب الشريك المعلق من ماله، وعلى القول الآخر لا يصح التعليق، ويعتق كفه ~~من نصيب المعتق إن كان موسرا، وإن كان المعتق معسرا صح وعتق عليهما على ~~القولين. # وأيضا فإنه يفرق بين أن يكون المتلف (1) عينا كاملة أو بعض عين، فإذا ~~كان/ [162أ] ، المتلف (2) بعض عين فإنه إن وجب نظر ذلك الجزء، لكن بحسب ~~القيمة إذا طلبها الشريك، فإن كان المشترك (3) مما ينقسم عنه، وإلا بيع إذا ~~طلب أحدهما ذلك، وقسم الثمن، فلو أتلف أحد الشريكين عينا مشتركة تمكن ~~قسمتها، فالواجب جز مقسوم لا مشاع إذا طلب أحدهما ms0327 ذلك، وإن تراضيا بالشركة ~~وجب جزء مشترك، وإن كان مما لا تمكن قسمته فإنما يجب نصف عين إذا تراضيا ~~بذلك، وإلا وجب نصف القيمة لأجل وجوب القيمة. # والمقصود هنا أن الذين يوجبون في ضمان المتلف القيمة ليس معهم أصل يقيمون ~~(4) عليه قولهم، لا كتاب ولا سنة، وإنما هو رأي محض، ظنوا أن المثل إنما ~~يكون في القيمة. ثم من طرد منهم قياسه ظهر تناقضه (5) للكتاب والسنة، ومن ~~لم يطرده ظهر مناقضته PageV02P265 # ومخالفته لبعض النصوص أيضا. # وهذا الأصل هو الحكومة المذكورة في كتاب الله (1) ، التي حكم فيها داود ~~وسليمان إذ حكما في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، والحرث هو البستان، وقد ~~روي أنه كان بستان عنب الذي يسمى الكرم، ونفش الغنم إنما يكون بالليل، فقضى ~~سليمان بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يعمروا ~~البستان حتى يعود كما كان. وأما مغله من حين الإتلاف إلى حين الكمال فأعطى ~~أصحاب البستان ماشية أولئك، ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، وقد ~~اعتبر النماءين فوجدهما سواء. كما أن داود لما حكم لأصحاب البستان بالغنم ~~نفسها قد اعتبر قيمتها، فوجدها بقدر ما أتلف (2) من البسمتان، ولم يكن لهم ~~مال غيرها، وقد رضوا بأخذها ما لم يطالبوا بدراهم، أو تعذر بيعها بدراهم. # وقد تنازع علماء المسلمين في مثل هذه القضية على أربعة PageV02P266 # أقوال (1) : # فمنهم من حكم بمثل حكم (2) سليمان عليه السلام في النفش وفي المثل، وهذا ~~هو الصواب، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد ذكر (3) ذلك وجها في ~~مذهب الشافعي ومالك. # والثاني: موافقته في النفش دون المثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك ~~والشافعي وأحمد. # والثالث: بالعكس، وهو موافقته في المثل دون النفش، وهو قول من قاله من ~~أهل الظاهر كداود وغيره. # والرابع: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو كان لم يكن بالمثل بل بالقيمة، ~~وهو مذهب أبي حنيفة. # وهذا من اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل الذي اتفقوا على صحة أصله، ~~فإنهم متفقون على ما دل عليه القرآن من أن جزاء ms0328 سيئة سيئة مثلها، وأن ~~المعاقبة تكون بالمثل، وأن من اعتدى يعتدى عليه بمثل ما اعتدى (4) . فما ~~كانت المماثلة فيه ظاهرة لم يتنازعوا فيه، PageV02P267 # كما لو أتلف مكيلا أو موزونا متماثل الأجزاء، كالدرهم والحنطة ونحو ذلك، ~~فإن الواجب هنا المثل إذا أمكن. وكذلك يجب في القرض مثل ذلك. # وكذلك لم يتنازعوا فيما ظهرت فيه المماثلة في القصاص، كما لو قطع عنقه ~~بالسيف، فاتفقوا على أنه يقطع عنقه بالسيف. # ولكن تنازعوا فيما إذا قتله بالجرح في غير العنق، أو بغير القتل كالتحريق ~~والتغريق (1) : هل يفعل به كما فعل- كما يقوله مالك والشافعي وأحمد في (2) ~~إحدى الروايات-؛ أو لا قود إلا بالحديد في العنق- كقول أبي حنيفة واحمد في ~~إحدى الروايات-؛ أو يفرق بين الجرح المزهق وغير المزهق- كالرواية الثالثة ~~عن أحمد-؛ أو بين المزهق وما كان موجبا للقود بنفسه كقطع اليد، وبين ما ليس ~~من هذين النوعين- كالرواية الرابعة عن أحمد-؟ # فهذا من اجتهاد العلماء في (3) تحقيق القياس والعدل والتماثل الذي اتفقوا ~~على اعتباره، متى (4) تعذرت المماثلة المطلقة من كل وجه. والذي يدك عليه ~~النص والاعتبار الصحيح هو القول الأول، وهو أن يفعل به كما فعل، فإن مات ~~بذلك، وإلا قتل، فإن النبي PageV02P268 # - صلى الله عليه وسلم - أمر برضخ رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية، لما ~~اعترف بأنه قتلها (1) ، وكان/ [162ب] هذا قتلا بالقصاص لا بنقض العهد، إذ ~~لو قتله بمجرد نقض العهد- كما يقتل الحربي الأسير- لقتله في العنق. وأيضا ~~فالعدل في أن يفعل به كما فعل أقرب من أن تضرب عنقه بالسيف، مع كونه حرق ~~الأول، أو قطع أربعته، أو مثل به. # وقد أباح الله أن نمثل بمن مثل بنا، وإن كانت المثلة بدون ذلك منهيا عنها ~~بقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) (2) ، فدل على أن ~~التمثيل بجدع الأنف والأذن هو من العقوبة بالمثل. # وإذا قل: هذا يفضي إلى أن يؤخذ أكثر. # قيل: وما ذكرتم يفضي غالبا إلى (3) أن يؤخذ أنقص من الواجب. وهذا أقرب ~~إلى المماثلة ms0329، فإنه يكون تارة أكثر، وتارة يكون أنقص، ولكن هذا أقرب إلى ~~العدل من الذي يكون دائما أنقص. # وإذا قيل: في غير الجرح المزهق ربما نقص منه، فيفضي إلى جرحه مرتين. ~~PageV02P269 # قيل: لو ضربه في العنق فلم يمت (1) ، كان له أن يضربه ثانية بالاتفاق، ~~وإن كان في ذلك ضرب مرتين، لأن هذا أقرب إلى العدل. # والمقصود بهذا أن ننبه على أن الناس يتنازعون في التماثل الواجب، حيث ~~اتفقوا على وجوب المثل، وأن الاجتهاد في مثل هذا متفق عليه، فكذلك التماثل ~~في غير هذا يتنازعون فيه، وذلك مما يدل على أن تنازع الناس في كثير من ~~القياس لا يمنع أن يكون أصل القياس- الذي يقاس فيه الشيء بمثله وضده- قياسا ~~صحيحا، فاعتباره بمثله يوجب قياس الطرد الذي يوجب التسوية بينهما، واعتباره ~~بضده يوجب قياس العكس الذي يوجب تضاد حكمهما. # كما إذا اعتبرنا دم السمك الذي (2) تباح ميتته بدم ما لا تباح ميتته، ~~فقلنا: يجب أن نفرق بين الدمين، لأن ذلك لا يباح إلا بسفح دمه، وهذا يباح ~~بدون سفح دمه، فدل على افتراق حكم الدمين. # وكذلك الوتر لما ثبت بالسنة الصحيحة أنه يصفى على الراحلة (3) ، ثبت بذاك ~~الفرق بينه وبين الواجبات التي لا يجوز فعلها على الراحلة، فعلم أنه مفارق ~~لها لا مماثل لها. # والطرد هو قياس الجمع، والعكس هو الفرق، والجمع والفرق PageV02P270 # يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيجمع بين ما جمع الله بينه، ويكون ~~الجمع والفرق بالأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله. فهذا كفه من الميزان ~~الذي أنزله (1) الله مع رسوله (2) ، كما أنزل الله الكتاب. PageV02P271 # فصل # وإذا تبين أن الكتاب والميزان منزلان، فلا يجوز أن يناقض الكتاب بتناقض ~~الميزان (1) ، ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص ~~الصحيحة لا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح، ~~وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح واالباطل الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح ~~الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا. وقد بسطنا هذا المعنى في مواضع ~~(2) . # والمقصود هنا أن نقول ### | : النصوص محيطة ms0330 بجميع أحكام العباد، # فقد بين الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميع ما أمر الله به وجميع ما نهى ~~عنه، وجميع ما أحله وجميع ما حرمه، وبهذا أكمل الدين، حيث قال: (اليوم ~~أكملت لكم دينكم) (3) . ولكن ### | قد يقصر فهم كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، # والناس PageV02P272 # متفاوتون في الأفهام، ولذلك قال تعالى: (ففهمناها سليمان) (1) ، ولو كان ~~الفهم متماثلا لما خص به. وكذلك في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ~~القضاء إلى أبي موسى الأشعري: "الفهم الفهم فيما أدلي إليك" (2) . # وفي الحديث الصحيح (3) عن علي رضي الله عنه: "إلا فهما يؤتيه الله عبدا ~~في كتابه". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (4) وكان أبو بكر رضي الله عنه ~~أعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصحيح (5) PageV02P273 # أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس رضي الله عنه فقال: ~~"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". # لكن الناس صاروا هنا ثلاثة أقسام (1) : # (1) قوم من مثبتة القياس قالوا: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا ~~منهم من قال: ولا بعشر معشار الحوادث (2) ، وقال بعضهم: إن النصوص متناهية، ~~وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة/ [163أ] المتناهي (3) بغير المتناهي ~~ممتنع (4) . # وهذا خطأ (5) ، لأن ما يتناهى لا يمتنع أن يجعل أنواعا، PageV02P274 # فيحكم (1) لكل نوع منه بحكيم، والأفراد التي لا تتناهى تدخل تحت (2) تلك ~~الأنواع. هذا إن قذر وجود ذلك، مع أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها ~~متناهية، ولو قذر أنها لا تتناهى فأفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة ~~متناهية. وهذا كما يجعل الأقارب نوعين: نوعا مباحا، وهن بنات العم والعمة ~~وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام. وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورا ~~(3) ، وما سوى ذلك لا ينقض الوضوء. وكذلك ما يفسد الصوم محصورا (4) ، وما ~~سوى ذلك لا يفسده، وأمثال ذلك. # وإذا كان (5) أهل المذاهب جعلوا لهم قواعد (6) يضبطون بها ما يحل ويحرم، ~~فالله ورسوله أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت ~~بجوامع الكلم" (7) ، فهو يأتي بالكلمة الجامعة ms0331، وهي قاعدة عامة وقضية كلية ~~تجمع أنواعا وأشخاصا (8) ، كقوله لما سئل عن أنواع الأشربة كالبتع والمزر، ~~وكان قد أوتي جوامع PageV02P275 # الكلم، فقال: "كل مسكر حرام " (1) . # والكتاب والسنة ملان (2) من هذا (3) ، كقوله تعالى: (إنما الخمر والميسر ~~والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (4) ، وقوله تعالى: (قد ~~فرض الله لكم تحلة أيمانكم) (5) ، وقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ~~(6) ، إلى غير ذلك من النصوص. # (2) وقوم من نفاة القياس نفوا القياس الجلي الظاهر، حتى فرقوا بين ~~المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة أصلا، ونفوا تعليل خلقه ~~وأمره، فقالوا: إنه لا يخلق ولا يأمر لحكمة ولا لنفع عباده. # وهذا الأصل وإن كان قد قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في ~~إثبات القدر، وخالفوا القدرية في إثبات القدر، فهم وإن أصابوا في إثبات ~~القدر، وبينوا تناقض المعتزلة النفاة للقدر، فقد ردوا أيضا من الحق المعلوم ~~بالشرع والعقل ما (7) صاروا به PageV02P276 # ممن رد بدعة ببدعة، وقابلوا الفاسد بالفاسد، فإنهم أنكروا حكمة الله ~~تعالى في خلقه وأمره، وأنكروا رحمته في خلقه وأمره. # وأصل قولهم هو قول جهم بن صفوان ومن وافقه على قوله في القدر، كما قد بسط ~~الكلام عليهم في غير هذا الموضع (1) ، فإن القدرية من المعتزلة ونحوهم ~~والجهمية الجبرية تناقضوا في هذا الباب تناقضا بينا، والسنة وسط، ليست مع ~~هؤلاء ولا مع هؤلاء. # وهؤلاء صاروا في القياس نوعين: # قوم (2) اقروا به، كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من الفقهاء، وقالوا: إن ~~علل الشرع إنما هي مجرد (3) أمارات محضة وعلامات، كما قالوا ذلك في سائر ~~الأسباب، فقالوا: إن الدعاء إنما هو علامة محضة، والأعمال الصالحة إنما هي ~~علامات، وكذلك سائر ما وجدوه من (4) الخلق والأمر مقترنا بعضه ببعض، قالوا: ~~أحدهما دليل على الآخر لمجرد الاقتران والعادة الموجودة في خلقه وأمره، لا ~~(5) لأن أحدهما سبب للآخر، ولا علة له ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجه من ~~الوجوه (6) . PageV02P277 # وأما الفقهاء المعتبرون وسلف الأمة وأئمتها وجمهورها وجمهور متكلميها ~~فعلى خلاف [هذا] (1) القول، وإثبات الحكمة والرحمة في خلقه ms0332 وأمره، وإثبات ~~لام كي في خلقه وأمره، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع المعقول الصريح، ~~فاتفق على ذلك الكتاب والميزان والسلف والفقهاء. وجمهور الأئمة وأكثر طوائف ~~الكلام ينكرون (2) قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول هؤلاء الجهمية ~~المكذبين بالحكمة والرحمة، فلا يقولون بقول القدرية ولا قول الجهمية. # وعامة البدع الحادثة بالمعقول الفاسد (3) في أصول الدين هي من قول هاتين ~~الطائفتين: الجهمية والقدرية، فالجهمية هم رءوس الجبرية الذين أنكروا حكمته ~~ورحمته، والقدرية أنكروا قدرته ومشيئته، فأولئك أثبتوا له نوعا من الملك ~~بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا له [نوعا] (4) من الحمد بلا ملك. والصواب ما عليه ~~سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والجماعة: أنه سبحانه/ [163ب] له الملك وله ~~الحمد، بل له كمال الملك وله كمال الحمد. # وكلتا (5) الطائفتين ناظرت الفلاسفة الدهرية في خلق الرب PageV02P278 # وأفعاله وأقواله وحدوث العالم مناظرة فاسدة، تنبني (1) على مقدمات مخالفة ~~للشرع والعقل، وهم يظنون أنهم يوافقون الشرع والعقل، ف ### | لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا # (2) ، وصار ما ابتدعوه في أصول الدين سببا لضلال طوائف ممن وافقهم وممن ~~خالفهم، فإن المخالف لهم من الفلاسفة استطال بما ابتدعوه عليهم وعلى ~~المسلمين، وظن أن ما قالوه هو الذي يقوله المسلمون، وصارت الكتب المصنفة في ~~الكلام إنما يذكر فيها قولهم وقول الفلاسفة، ويجعل قولهم هو قول المسلمين، ~~لم يأت فيه كتاب ولا سنة، ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة ~~المسلمين. # ولهذا عظمت الفتنة بالكتب (3) المصنفة في الكلام والفلسفة، حتى آل الأمر ~~بالأفاضل من أهلها (4) إلى الحيرة والشك (5) ، إذ (6) كان فيها من الأمور ~~الإلهية مما يخالف المعقول الصريح والمنقول الصحيح ما يوجب الحيرة والشك ~~لمن لم يعرف الهدى إلا منها، كما أصاب ذلك كثيرا من رؤساء النظار في الكلام ~~المحدث PageV02P279 # والفلسفة، حتى دخل من ذلك في كلام الفقهاء وأهل أصول الفقه ما دخل، فتجد ~~الواحد منهم إذا بحث في الفقه بحث فيه (1) بفطرته وإسلامه، معللا للأحكام ~~بالعلل المناسبة، ذاكرا أن الله أمر بكذا لكذا، وخلق كذا لكذا، وفي موضع ~~آخر ينكر هذا ms0333 ويقول: لا يخلق ولا يأمر لعلة، واللام في ذلك لام العاقبة لا ~~لام كي. # فهذا قول من أثبت القياس من نفاة الحكمة والتعليل في خلقه وأمره. # وأما من نفى القياس فقوله أشبه بهذا الأصل، فإنه إذا لم يأمر لحكمة (2) ~~فلا معنى لتعليل أمره ونهيه، لكن مثبتة القياس من هؤلاء قالوا: إن الحكمة ~~اقترنت (3) بالأمر وإن لم يأمر لها، وقالوا في الأمر كما قالوا في الخلق، ~~فقالوا: كما جرت عادة الله تعالى في خلقه، فخلق الشبع عقب الأكل، والري عقب ~~الشرب، والاحتراق عقب الإحراق، ونحو ذلك، وإن لم يكن خلق هذا لهذا ولا ~~لهذا، ولا جعل سبحانه أحد هذين علة للآخر عندهم. # قالوا: فهكذا أمره، أمر بقطع السارق، لا لأجل حفظ الأموال، بل إذا قطع ~~السارق حفظت الأموال، فاقترن هذا بهذا عادة، وإن لم يأمر بهذا لأجل هذا. ~~فالمصلحة عندهم توجد عند PageV02P280 # هذه الأسباب، لأنها والأفعال تقترن بها المصلحة عادة، وإن لم تكن أسبابا ~~وعللا لها عندهم. # . فهذا قولهم، وهو (1) موجود في أقوال كثير (2) من المنتسبين إلى السنة ~~من أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بن أنس والشافعي وغيرهم، وهي أقوال مبتدعة ~~مخالفة لنصوص الأئمة وأصولهم، ولنصوص الكتاب والسنة، وإجماع السلف، والعقل ~~الصريح، كما قد بسط (3) في غير هذا الموضع. # والمقصود هنا أن نفاة القياس لما سدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل ~~-وهو من الميزان والقسط الذي أنزل الله سبحانه- احتاجوا في معرفة الأحكام ~~إلى مجرد الظواهر، [و] (4) صاروا معتصمين (5) بالظاهر والاستصحاب، فحيث ~~فهموا (6) من النص حكما أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه، وأثبتوا الأمر على ~~موجب الاستصحاب. وهم وإن أحسنوا في كونهم قالوا: إن النصوص تفي بجميع ~~الحوادث، وإن الله ورسوله بين الأحكام، وأكمل الدين، وأغنى الناس عما سوى ~~الكتاب والسنة، وأحسنوا في ردهم ما PageV02P281 # ردوه (1) من الأقيسة الفاسدة- فأخطأوا من ثلاثة أوجه (2) : # أحده ### | ا: رد القياس الصحيح. # والثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص، فلم يفهموا ~~دلالته عليه، فكانوا مقصرين في فهم الكتاب لما قصروا في معرفة ms0334 الميزان. # والثالث: جزمهم بموجب الاستصحاب، لعدم علمهم بالناقل، وعدم العلم ليس ~~علما بالعدم. # وكذا تنازع الناس في استصحاب حال البراءة الأصلية (3) ، فقالت طائفة من ~~أصحاب أبي حنيفة: يصلح للدفع لا للإبقاء، أي يصح أن يدفع به من/ [164 أ] ، ~~ادعى تغيير الحال، لإبقاء الأمر على ما كان، فإذا لم نجد دليلا ناقلا ~~أمسكنا، لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل (4) ندفع من يثبته (5) . فيكون حال ~~المتمسك بالاستصحاب حال المعترض مع المستدل PageV02P282 # يمنعه (1) الدلالة حتى يثبتها، لا [أنه] (2) يقيم (3) دليلا مناقضا له. # وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء ~~الأمر على ما كان عليه، فإنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن ~~بقاء الأمر على ما كان عليه. وهنا لنفي الحكم ثلاث (4) مسالك: # أحدها: التمسك بالاستصحاب المحض، مثل أن يقال في مسألة وجوب الوتر أو ~~الأضحية أو غير ذلك: الأصل عدم الوجوب، والذمة كانت بريئة من الإيجاب، وليس ~~في الشرع ما يزيل ذلك، فالأصل بقاء الذمة بريئة من الوجوب. # وهذا مستقيم فيما لا يجب ولا يحرم إلا بالشرع، كوجوب الوتر والأضحية ~~وسجود التلاوة، وكذلك تحريم ما لا يحرم إلا بالشرع، كالضب واليربوع وسنور ~~البر، ونحو ذلك مما اختلف في تحريمه، وكالعقود المتنازع في تحريمها، ~~كالمساقاة والمزارعة وغير ذلك. # المسلك الثاني: أن نبين من أدلة الشرع العامة ما ينفي الوجوب والحرمة ~~فيما لم يوجبه الشارع ولم يحر مه، كقوله تعالى: PageV02P283 # (قد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) (1) ، وقول النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: # "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على ~~أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما ~~استطعتم" (2) . وقوله لما قال: "إن الله كتب عليكم الحج"، قالوا: أفي كل ~~عام؟ قال: "لا، ولو قلت نعم لوجبت" (3) . # والمسلك الثالث أن يقال: الحكم الشرعي لا يثبت إلا بدليله، والدليل منتف، ~~فلا يثبت. وهذا يسمى حصر المدارك ونفيها، وهذا مضمونه أن ثبوت الحكم في ~~حقنا بدون دليل ms0335 منتف، والدليل منتف، فينتفي الحكم، وإذا انتفى أحد النقيضين ~~ثبت الآخر. والدليل وإن كان لا ينعكس، بل قد يثبت الشيء بدون دليله، فهذا ~~مما (4) ليس علينا معرفته. وأما الأحكام التي هي الأمر والنهي، التي علينا ~~أن نعرفها، فلا تثبت بدون دليلها. # وأيضا فإن قول الله ورسوله هو المثبت لهذه الأحكام، فإذا انتفى الموجب ~~انتفى موجبه، فانتفت لانتفاء (5) موجبها، وهو دليله، فإن خطاب الشارع ليس ~~دليلا مختصا، بل هو الدليل، وهو PageV02P284 # المثبت لها في نفس الأمر، ولا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ورسوله، ولا ~~حرام إلا ما حرمه الله ورسوله. # هذا إذا (1) أثبتنا بموجب الخطاب، مثل أن نقول: أوجب الله ذلك فوجب، ~~وحرمه فحرم، فهنا شيئان: إيجاب ووجوب، وتحريم وحرمة، فالايجاب والتحريم ~~يعود إلى خطاب الشارع وكلامه، والوجوب والحرمة فهو صفة الفعل. والفقهاء ~~يثبتون هذين النوعين من الأحكام (2) ، وأما المعتزلة فلا تثبت إلا الثاني، ~~والجهمية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم لا يثبتون إلا الأول، إذ ليس عندهم ~~للأحكام سبب (3) ولا حكمة. # والمقصود أن كل واحد من النوعين لا يثبت إلا بالدليل الشرعي، فإذا انتفى ~~الدليل الشرعي، لزم انتفاء هذا الحكم، لكون ثبوته مستلزما للدليل الشرعي، ~~وثبوت الملزوم بدون اللازم محال، بخلاف المدلول الذي لا يستلزم الدليل. ~~وهذا لأن الدليل لابد أن يستلزم مدلوله، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت ~~المدلول، ولولا ذلك لم يكن دليلا عليه، إذ لو اقترن به المدلول تارة، وتخلف ~~(4) عنه أخرى (5) ، لم يكن- إذا تحقق الدليل- وجود المدلول معه بأولى ~~PageV02P285 # من عدمه، فلهذا كان الدليل مستلزما للمدلول، إما قطعا (1) إن كان يقينيا ~~(2) ، وإما ظنا (3) إن كان ظنيا، ولا ينعكس، فلا يلزم من عدم الدليل عدم ~~المدلول، كما لا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم، لأن الدليل هو الملزوم، ~~إلا أن تكون الملازمة من الجانبين، بحيث يكون كل من الأمرين لازما للآخر ~~ملزوما له، كالحكم الشرعي والدليل الشرعي، فإنه إذا ثبت الدليل الشرعي [ثبت ~~الحكم الشرعي] (4) ، وإذا ثبت الحكم/ [164ب] الشرعي فلابد له من دليل شرعي. ~~فلما كان ms0336 التلازم (5) من الجانبين جاز الاستدلال بثبوت كل (6) منها على ~~ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه، كالأبوة والبنوة لما تلازما جاز أن ~~يستدل بثبوت كل منهما على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه. # وكذلك إرادة الرب ومراده، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإرادته ~~تستلزم (7) المراد وتدل عليه، فوقوع الكائنات تستلزم إرادته وتدل عليها، ~~ولهذا كان الاستثناء في الأيمان مانعا من الحنث، كما إذا قال: والله لا ~~أفعل كذا إن شاء الله، فإن PageV02P286 # فعله (1) علم وجود المشيئة، وإن [لم] (2) يفعله علم انتفاؤها. # وكذلك كل حكم له سبب واحد، كالقتل العمد العدوان المحض (3) ، فإنه مستلزم ~~لثبوت القود، وثبوت القود مستلزم له. # وكذلك القصر والسفر، فإن القصر ليس له سبب إلا السفر، فحيث كان سفر كان ~~قصر، وحيث كان قصر (4) كان سفر، إما سفر مقدر عند من يقول به، وإما مطلق ~~السفر عند من لا يخص القصر بسفر مقدر. # فنفي الحكم الشرعي تارة يكون بالاستصحاب، وتارة بدليل شرعي يدك على نفسه، ~~وتارة بانتفاء دليله وسببه اللازم له، فإنه إذا انتفى اللازم انتفى ملزومه. # والمقصود هنا أن نفاة القياس لفا سدوا باب التعليل ونفوا (5) التمثيل، ~~وقصروا في معرفة النصوص وفهمها، ظهر من خطئهم في الأحكام ما شنع به عليهم ~~الناس، وإلا فلو أعطوا النصوص حقها من المعرفة والفهم لدلت على جميع ~~الأحكام، واستغنوا بذلك عن القياس، وإن كان القياس أيضا دليلا صحيحا يوافق ~~دلالة الظاهر. PageV02P287 # والتعليل صحيح (1) ، وهم مخطئون في نفي التمثيل والتعليل. # كما أن مثبتة القياس لو لم يقيسوا إلا قياسا صحيحا لما خالفوا نصا قط، ~~لكن حيث خالفوا النصوص بالقياس فلابد أن يكون القياس فاسدا، ولكن قد يخفى ~~فساده، كما قد تخفى صحته إذا دق. فكما تخفى دلالة النص تارة وتظهر أخرى، ~~وخفاء الدلالة وظهورها أمر نسبى، فقد يخفى على هذا ما يظهر لهذا. وإلا (2) ~~فالذين خالفوا أحاديث القرعة (3) والقيافة (4) ، وحديث ذي اليدين (5) ، ~~وحديث أكل الناسي في رمضان (6) ، وحديث الصيد الذي يوجد ميتا بعد المغيب ~~ولا أثر فيه إلا للسهم (7) ، حديث ms0337 إيجاب التسمية على الذبيحة والصيد (8) ، ~~وحديث الشاهد PageV02P288 # واليمين (1) ، وأحاديث الجمع بين الصلاتين (2) ، وحديث قطع الصلاة بالكلب ~~الأسود والمرأة والحمار (3) ، وحديث جعل الطلاق الثلاث واحد (4) ، وحديث ~~يعذب الميت ببكاء أهله عليه (5) ، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة، التي ~~ليس مع مخالفيها إلا ما يظن أنه ظاهر، أو ظاهر نمن آخر، أو مقتضى قياس (6) ~~، متى تدبرت المعارض لذلك لم تجده -ولله الحمد (7) - معارضا صحيحا، بل تجد ~~(8) ما عارض به الظاهر إما حديث ضعيف، وإما PageV02P289 # حديث ظاهر لا دلالة فيه، وإما قياس فاسد، وإما دعوى إجماع قد علم انتفاؤه ~~ووجود النزاع في تلك المسألة. # وكذلك نفاة القياس مع قصورهم في فهم النصوص تجدهم قد اضطروا إلى مقالات ~~في غاية الفساد، كأقوال في الفرائض، فإن المسائل التي تنازع فيها الصحابة- ~~كالعمريتين (1) والحمارية التي تسمى المشتركة (2) ، وأمثال ذلك- لما لم ~~يدخلوا في المعاني، ولا فهموا دلالة النصوص على ذلك، صاروا يعملون بما ~~يظنونه استصحابا للإجماع، فيقولون في مسألة الحمارية -وهي زوج وأم وابنان ~~من ولد الأم وبعض ولد الأبوين- يقولون: قد اتفقوا على توريث ولد الأم، ~~وتنازعوا في توريث ولد الأبوين، ولم يقم دليل على توريثهم، فينتفي توريثهم ~~لانتفاء دليله. # وهذا خطأ، فإن الإجماع إنما انعقد على أنهم يرثون بعض PageV02P290 # الثلث الباقي، وتنازعوا في بعضه الآخر، هل هو لهؤلاء أو (1) هؤلاء، فإذا ~~جعلناه لأحدهما لم يكن ذلك مجمعا عليه، فإن كان معنا دليل غير الإجماع، ~~وإلا فهذا قول بلا دليل أصلا. # وهذا بخلاف تنازعهم في دية الذمي، إذا قال قائل: هي دون الثلث، لأن ~~الإجماع انعقد/ [165أ] على وجوب ذلك، والذمة بريئة مما زاد عليه، ولا بينة ~~إلا بدليل، فإن هذا نفى الزيادة (2) باستصحاب براءة الذمة. والتمسك ~~بالاستصحاب في مثل هذا وإن كان أضعف من غيره -لأنه قد وجد جناية توجب شغل ~~الذمة قطعا، فعلمنا أن الذمة مشتغلة قطعا (3) ، وقد وجب لهذا على هذا حق، ~~لكن لم يعلم مقداره- فليس هذا كالميراث المتنازع فيه، لأنه لأحد المتنازعين ~~قطعا، ولم يجمعوا على وجوبه لأحدهما، ولا يورث أحدهما ms0338 دون الآخر (4) ~~الجميع. # وأما استصحاب حال الإجماع بعد زوال المحل المجمع عليه، كقولهم في المصلي ~~إذا رأى الماء: كانت صلاته صحيحة بالإجماع قبل وجود الماء، والأصل بقاء ما ~~كان على ما كان، ولم يقم دليل على الفساد. # وكذلك قولهم: أم الولد كان بيعها صحيحا قبل الاستيلاد، PageV02P291 # فمن ادعى التحريم فعليه الدليل. # فهذا فيه نزاع مشهور (1) ، يحتج به طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ~~وأحمد وغيرهما، كالمزني والصيرفي وأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن ~~حامد وأبي عبد الله بن الخطيب الرازي وغيرهم. وينكره آخرون، كابي حامد ~~والطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وابن الزاغوني ~~وغيرهم. # والذين أنكروه قالوا: إن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل ~~النزاع، كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد ~~الرؤية فلا إجماع، فيمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع. # وهذا الذي قالوه نقيض الإجماع في محل النزاع، وهذا صحيح، والذين استدلوا ~~به لم يدعوا الإجماع في محل النزاع، بل استصحبوا حال المجمع عليه. # قال المنكرون: فالحكم إذا كان إنما يثبت بالإجماع، يزول الحكم لزوال ~~دليله، ويبقى إثبات الحكم بعد ذلك إثباتا بغير دليل. # وأما المستدلون فيقولون: الحكم لما كان ثابتا، وعلمنا بالإجماع ثبوته، ~~فالإجماع ليس هو علة ثبوته ولا سبب ثبوته في PageV02P292 # نفس الأمر، حتى يلزم من زوال العلة زوال المعلول، ومن زوال السبب زوال ~~حكمه، وإنما الإجماع دليل عليه، وهو في نفس الأمر يستند إلى نص أو معنى نص. ~~فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا ~~يلزم (1) من انتفاء الإجماع انتفاء الحكم، بل يجوز أن يكون نافيا، ويجوز أن ~~يكون منتفيا (2) ، لكن الأصل بقاؤه، فإن البقاء لا يفتقر إلى حادث، ولكن ~~يفتقر (3) إلى بقاء سبب ثبوته. وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل ~~الأول، وإلى ما يحدث الثاني، وإلى ما يبقي (4) الثاني، فكان ما يفتقر إليه ~~الحادث أكثر مما يفتقر الباقي، فيكون البقاء أولى من التغيير. # وهذا مثل ms0339 استصحاب حال براءة الذمة، فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن أنه ~~شاغل (5) ، ومع هذا فالأصل البراءة. # والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، لكن لا يجوز الاستدلال به ~~إلا بعد الاجتهاد في معرفة المزيل، ولا يجوز الاستدلال به لمن لا (6) يعرف ~~الأدلة الناقلة، كما لا يجوز PageV02P293 # الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة. # وبالجملة الاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل، ~~فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع ببقاء الحكم، كما يقطع ببقاء شرع محمد ~~- صلى الله عليه وسلم -، وأنه غير منسوخ، وإن ظن انتفاء الناقل ظن بقاء ~~الحكم، فإن كان الناقل دليلا تبين (1) له انتفاء دلالته ظن انتفاء النقل ~~(2) ، وإن كان معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه، تبين له بقاء النقل، مثل ~~رؤية الماء في الصلاة، فلا يطمئن قلبه إلى بقاء الصلاة إن لم يتبين له أن ~~رؤية الماء في الصلاة لا تبطل الطهارة، وإلا فمع تجويزه لكون هذا ناقضا ~~للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء. # وهكذا في كل من يتورع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه، فإن الأصل بقاء ~~طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين، وبالخارج ~~النادر منهما، وبمس النساء لشهوة ولغير شهوة غير الجماع، ومسن الذكر، وأكل ~~ما مسته النار، وغسل الميت، وغير ذلك، لا يمكن اعتقاد/ [165ب] استصحاب ~~الحال حتى يتبين له بطلان ما يوجب الانتقال، وإلا بقي شاكا، وإن لم يتبين ~~له صحة الناقل، كما لو أخبره فاسق بخبير، فإنه مأمور بالتبين والتثبت، لم ~~يؤثر (3) تصديقه ولا تكذيبه، فإن كلاهما ممكن PageV02P294 # منه، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال، كما كان يستدل به بدون خبره. ~~ولهذا جعل ذلك لوثا وشبهة في أظهر قولي العلماء. وإذا شهد مجهول الحال فإنه ~~هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في حال المشهود به، فإذا تبين عدله ~~تم الدليل، وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة ~~الفاسق، فإن الشهادة قد يكون دليلا، ولكن لم تعرف دلالته، وأما هناك ms0340 فقد ~~علمنا أنه ليس بذلك، لكن يمكن وجود المدلول في هذه الصورة، فإن صدقه ممكن. # PageV02P295 # [فصل] (1) # والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو أشكل ~~الأشياء ليستدل به على ما سواه، والفرائض من أشكلها، إذ نفاة القياس عدلوا ~~في كثير منها عن دلالة النص إلى أن أثبتوا ما ظنوه مجمعا عليه، ونفوا ما ~~ظنوه غير مجمع عليه، وكلاهما غلط: # أما الأول: فقد بيناه. # وأما الثاني: فتقديره عدم الإجماع إذا انتفى دليل بمعين (2) ، فلابد من ~~نفي سائر الأدلة الشرعية، كما ذكروه في ### | مسألة المشركة # (3) ، فإنه لو قدر ثبوت ميراث أحدهما بالإجماع، فعدم الإجماع عن الآخر لا ~~ينفي ميراثه، إذ لم تنتفي (4) سائر الأدلة. PageV02P296 # فنقول: النص والقياس- وهما الكتاب والميزان- دلا على أن الثلث يختص به ~~ولد الأم، كما هو قول علي (1) رضي الله عنه ومن وافقه (2) ، وهو مذهب أبي ~~حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى عنه حرب التشريك، وهو قول زيد (3) ومن ~~وافقه (4) ، وقول مالك والشافعي. # واختلف في ذلك عن عمر وعثمان (5) وغيرهما [من الصحابة] (6) ، حتى قيل: ~~إنه اختلف فيها عن جميع الصحابة إلا علي وزيد رضي الله عنهما؟ فإن عليا رضي ~~الله عنه لم يختلف عنه أنه لم يشرك، وزيد رضي الله عنه لم يختلف [عنه] (7) ~~أنه شرك (8) . PageV02P297 # قال العنبري (1) : القياس ما قال علي رضي الله عنه، [والاستحسان ما قال ~~زيد. قال الخبري (2) : هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة (3) . # فيقال: النص والقياس دلا على ما قال علي] (4) . أما النص فقول الله ~~تعالى: (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) . (5) والمراد به: ولد ~~الأم، فإذا أدخلنا فيهم ولد الأبوين لم يشتركوا في الثلث؛ بل زاحمهم غيرهم. # وإن قيل: ولد الأبوين منهم لكونه من ولد الأم، فهذا غلط، لأن الله تعالى ~~قال: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما ~~السدس) الآية (6) . PageV02P298 # وفي قراءة ابن مسعود (1) وسعد (2) : "من أم". والمراد ولد الأم بالإجماع، ~~ودل على ذلك قوله: () فلكل واحد منهما السدس ms0341) (3) ، وولد الأبوين لم يفرض ~~لواحد منهما السدس. وأيضا فإنه قد ذكر حكم ولد الأبوين والأب في آية الصيف ~~(4) في قوله: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد ~~وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها) (5) . فجعل لها النصف، ~~وله جميع المال، وهذا حكم ولد الأبوين. ثم قال: (وإن كانوا أخوة رجالا ~~ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) (6) . وهذا حكم ولد الأبوين لا الأم، باتفاق ~~المسلمين. # ودل ذكره تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، ولذلك الحكم في تلك الآية، على ~~أن أحد الصنفين غير الآخر. فلا يجوز أن يكون PageV02P299 # ذلك الصنف هو هذا الصنف، وهذا الثاني هو ولد الأبوين والأب بالإجماع. ~~فالأول ولد الأم كما في القراءة الأخرى التي تصلح أن تكون مفسرة لقراءتنا ~~(1) ، ولهذا ذكر ولد الأم في آية الزوجين، والزوجان (2) أصحاب فرض مقدر لا ~~يخرجون عنه، وكذلك ولد الأم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه. وكلاهما لا حظ ~~له في التعصيب بحال (3) . بخلاف من ذكر في آية العمود (4) وفي آية الصيف () ~~، فإن لجنسهم حطا في التعصيب. ولهذا قال سبحانه في آية الشتاء: (6) (غير ~~مضار) ، ولم يذكر في آية العمود، لأن الإنسان كثيرا ما يقصد ضرر الزوج وولد ~~الأم، لأنهم ليسوا من عصبتهم، بخلاف أولاده وآبائه، فإنه (7) لا يضارهم في ~~العادة. # وإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث، فمن نقصهم منه فقد ظلمهم. وولد ~~الأبوين جنس آخر، هم عصبة،/ [166أ] ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى PageV02P300 # رجل (1) ذكر" (2) . وهذا يقتضي أنه إذا لم تبق الفرائض لم يكن للعصبة ~~شيء، وهنا لم تبق الفرائض شيئا. # وأما قول القائل (3) : "هب أن أباهم (4) كان حمارا، فقد اشتركوا (5) في ~~الأم "، فقول فاسد (6) حسا وشرعا. أما الحس فلأن الأب لو كان حمارا لكانت ~~(7) الأم أتانا، ولم يكونوا من بني آدم. # وإذا قيل: قدر وجوده كعدمه. # فيقال: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون معدوما. # وأما الشرع فلأن الله حكم في ms0342 ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم. # وإذا قيل: فالأب إن لم ينفعهم لم يضرهم. PageV02P301 # قيل: بل قد يضرهم ولا ينفعهم، بدليل ما لو كان ولد الأم واحدا وولد ~~الأبوين كثيرين (1) ، فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي (2) يكون لهم ~~كلهم، ولولا الأب لشاركوا هم وذلك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود ~~الأب ينفعهم جاز أن يحرمهم، فعلم أنه قد يضرهم. # وأيضا فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة ذكر وأنثى لا تفرق ~~أحكامها، فالأخ من الأبوين لا يكون كالأخ من أب، ولا (3) كالأخ من الأم، ~~ولا يعطى بقرابة الأم وحدها، كما لا يعطى بقرابة الأب وحده؛ بل بالقرابة ~~المشتركة من الأبوين. وإنما يفرد بحكم إذا كان قرابة الأم منفردة، مثل ابني ~~عم أحدهما أخ لأم (4) ، فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ من الأم السدس، ~~ويشتركان في الباقي. وهو مأثور عن علي (5) رضي الله عنه. وروي عن شريح (6) ~~أنه جعل الجميع للأخ من الأم، كما لو كان ابن عم لأبوين. PageV02P302 # والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم (1) سواء، هما ابنا عم من أبوين أو ~~من أب. والأخوة من الأم مستقلة ليست مقترنة بأبوة حتى يجعل كابن عم لأبوين. # ومما يبين الحكم في مسألة المشتركة: أنه لو كان فيها أخوات لأب لفرض لهن ~~الثلثان، وعالت الفريضة، فلو كان معهن أخوهن سقطن، ويسمى "الأخ المشؤم"، ~~فلما كن يصرن (2) بوجوده عصبة صار تارة ينفعهن، وتارة يضرهن، ولم يجعل ~~وجوده كعدمه في حال الضرار. # كذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى. ~~وعلى هذا مجرى العصوبة، فإن العصبة تارة تحوز المال، وتارة أكثره، وتارة ~~تحوز أقله، وتارة لا يبقى لها (3) شيء، وهو إذا استغرقت الفرائض المال. فمن ~~جعل العصبة تأخذ مع استغراق الفرائض المال فقد خرج عن الأصول المنصوصة في ~~الفرائض. # وقول القائل "هذا استحسان" مخالف للكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للإخوة من ~~الأم؛ حيث يؤخذ حفهم، فيعطاه غيرهم. وإذا كانوا يعقلون عن الميت وينفقون ~~عليه، فعاقلة المرأة يعقلون ms0343 عنها، PageV02P303 # وميراثها لزوجها وولدها، كما قضى بذلك (1) رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -. # والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلا أنها (2) قول زيد، وقد روي ~~عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بها، فعمل بذلك من عمل من أهل المدينة وغيرهم، ~~كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والإخوة، وعملوا بقول زيد رضي الله عنه ~~في غير ذلك من الفرائض، لاتصال العمل عندهم به تقليدا له، وإن كان قد خالفه ~~من هو أفضل منه من الصحابة، وإن كان النص والقياس مع من خالفه. # وبعضهم يحتج لذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"أفرضكم زيد" (3) . وهو حديث ضعيف (4) لا أصل له. ولم يكن PageV02P304 # زيد رضي الله عنه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفا بالفرائض. ~~والحديث الذي روي فيه ذلك قد رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو ضعيف، ~~لم يصح فيه إلا قوله: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن ~~الجراح" (1) . وروي بإسناد أضعف من هذا، وفيه: "وأقضاكم علي، وحبر (2) هذه ~~الأمة ابن عباس" (3) من حديث كوثر بن حكيم، وكوثر هذا يأتي عن نافع بما ~~يعلم أنه باطل، ولا يحتج به باتفاق أهل العلم (4) . # وكذلك اتباعهم في "الجد" لقول زيد رضي الله عنه، مع أن جمهور الصحابة رضي ~~الله عنهم على خلافه (5) . فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد ~~كالأب، يحجب الإخوة (6) وهذا مروي عن بضعة عشر/ [166ب] من الصحابة رضي الله ~~PageV02P305 # عنهم (1) ، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد، ~~واختاره أبو حفص البرمكي من الصحابة، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد. # وأما المورثون الجد مع الإخوة فهم علي وابن مسعود وزيد (2) رضي الله ~~عنهم، ولكل [واحد] (3) قول انفرد به. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ~~متوقفا في أمره (4) . والصواب بلا ريب قول الصديق، لأدلة متعددة ذكرناها في ~~غير هذا الموضع (5) . # منها: أن الذين ورثوا الإخوة عمدتهم أنهم يدلون ببنوة الأب، والجد يدلي ~~بأبوته، والبنوة أقوى. # وهذه الحجة ms0344 فاسدة، مناقضة للكتاب والسنة والإجماع، فإن الجد مقدم على بني ~~الإخوة عند عامة المخالفين في هذا، وابن الابن يقوم مقام الابن ويقدم على ~~الجد، فلو كان بنوة الأب مقدمة لقدمت بنوة الأب. PageV02P306 # ومنها: أن الجد الأعلى مقدم على العم، والعم ابن الجد الأدنى، والجد ~~الأعلى أبوه، فالعم يدلي ببنوته، والجد الأعلى بأبوته، والجد الأعلى مقدم ~~بالإجماع، ونسبة الجد الأعلى إلى العم كنسبة الأدنى إلى الأخ. # ومنها: أن ما ذكروه لو كان صحيحا لوجب تقدم (1) الإخوة، وهذا خلاف إجماع ~~الصحابة. وقد طرد هذا القياس الفاسد من قال في الولاء: إن إخوة المعتق أولى ~~من جده. وهذا من أضعف الأقوال، بل الصواب أن الولاء لجد المعتق فقط دون ~~إخوته، كالميراث. # وأيضا فالبنوة وبنوة البنوة مقدمة على الأبوة وأبوة الأبوة، لأن هذا ~~الجنس مقدم على هذا الجنس. # وأما بنوة الأبوة فليست من هذا البنوة، بل الأبوة وأبوة الأبوة مقدم على ~~بنوة الأبوة في جميع أحكام الشرع، ولم يقدم الأخ على الجد في شيء من ~~الأحكام الشرعية، بل ولا عدل به. فمن جعل مقتضى القياس تقديمه أو مساواته ~~(2) فقد خالف الأصول الشرعية كلها. # وأما ### | العمريتان # (3) فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث PageV02P307 # مع الأب والزوج، بل إنما أعطاها (1) الله الثلث إذا ورثت المال هي والأب، ~~فكان القرآن قد دل على أن ما ورثته هي والأب تأخذ ثلثه، والأب ثلثيه. ~~واستدل بهذا أكابر الصحابة: كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد (2) رضي الله ~~عنهم وجمهور العلماء، على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين، يكونان فيه أثلاثا، ~~قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه، وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدين ~~والوصية. # ومفهوم القرآن ينفي أن تأخذ الأم الثلث مطلقا، [فمن أعطاها الثلث مطلقا] ~~(3) حتى مع الزوجين (4) ، فقد خالف مفهوم القرآن. وأما الجمهور فقد عملوا ~~بالمفهوم، فلم يجعلوا ميراثها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرثه، بل إن ~~ورثه أبواه فلأمه الثلث مطلقا، وأما إذا لم يرثه أبواه، بل ورثه مع من دون ~~الأب: كالجد والعم ms0345 والأخ، فهي بالثلث أولى، فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب ~~PageV02P308 # فمع غيره من العصبة أولى. # فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلا الأم والأب، أو عصبة غير الأب سوى ~~الابن، فللأم الثلث؛ وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وأما الابن ~~فإنه أقوى من الأب، فلها معه السدس. # بقي إذا كان مع العصبة ذو فرض، فالبنات والأخوات قد أعطي للأم معهن ~~السدس. والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم، فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من ~~الإخوة، فمع الأنثى أولى. # وإنما تحجب عن الثلث إلى السدس بالإخوة؛ والواحد ليس إخوة. وإذا كانت ~~تأخذ مع الأخ الواحد الثلث، فمع العم وغيره بطريق الأولى. # وإذا كان مع أحد الزوجين عصبة غير الأب والابن، كالجد والعم وابن العم، ~~فهؤلاء لا ينقصها دون الأب، وإنما جعل الباقي بعد نصيب الزوجة أثلاثا، ~~لأنها والأب في طبقة واحدة، فجعل ذلك بينهما كأصل المال، وهؤلاء ليسوا في ~~طبقتها، فلا يجعلون معها، كالأب، فإنه لا واسطة بينه (1) وبين الميت، بخلاف ~~هؤلاء، فإن بينهم وسائط، وهي لا تسقط بحال، بخلاف هؤلاء، فلم يمكن أن يعطى ~~ثلث الباقي هنا، لما فيه من تسوية هؤلاء بالأب. # ولا نزاع في ذلك إلا في الجد، نزاع يروى عن ابن مسعود PageV02P309 # رضي الله عنه، كأنه ألحقه بالأب، فأعطاها معه ثلث الباقي. والجمهور/ ~~[167أ] ، على أنها معه تأخذ ثلث المال، وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها؛ ~~وهو محجوب بالأب، فلا يحجبها عن شيء من حقها. # وإذا لم يمكن أن تعطى ثلث الباقي، وامتنع أن تعطى السدس لأنه دون ذلك، ~~تعين أن تعطى الثلث. وكان إعطاؤها الثلث مع عدم الأب، سواء كان هناك أحد ~~الزوجين أو لم يكن، وإعطاؤها ثلث الباقي مع أحد الزوجين، مما فهمه جماهير ~~الصحابة والعلماء والأئمة، تارة بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل، وتارة ~~بالاعتبار الذي هو أولى وأحرى، وتارة بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه ~~الأصلين به. # فإن قلت: فهذه دلالة نص أو قياس؟ # قلت لك: القياس المحض أن الأب مع الأم ms0346، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛ ~~لأنهما ذكر وأنثى، من جنس واحد، وهما عصبة. وقد أعطيت (1) الزوجة نصف ما ~~يعطاه الزوج؛ لأنهما (2) ذكر وأنثى من جنس واحد. # وإنما عدل عن هذا في ولد الأم لأنهم يدلون بالأم، فلا عصوبة لهم بحال، ~~بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم PageV02P310 # يدلون بأنفسهم، وسائر العصبة يدلون بذكر، كولد البنين والإخوة للأبوين أو ~~الأب. فإعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين هو معتبر فيمن يدلي بنفسه أو بعصبة، ~~فإنه أهل للتعصيب. فأما من يدلي بغير عصبة فإنه ليس من أهل التعصيب، ~~فالذكورة فيه ليست (1) كالأنوثة، وليس الذكر كالأنثى، لا في باب الزوجية، ~~ولا في الأبوين، ولا في الأولاد والإخوة (2) للأب. فهذا اعتبار. # وأما (3) دلالة الكتاب على (4) ميراث الأم؛ فإن الله تعالى يقول: (لكل ~~واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه ~~فلأمه الثلث) (5) . فالله تعالى فرض لها الثلث بشرطين: أن لا يكون له ولد، ~~وأن يرثه أبواه؛ فكان في هذا دلالة على أنها لا تعطى (6) الثلث مطلقا، مع ~~عدم الولد، إذ لو كانت تعطى الثلث مع عدم الولد مطلقا لكان قوله: (وورثه ~~أبواه) زيادة في اللفظ ونقص (7) في المعنى، وكان عديم الفائدة، وجوده ~~كعدمه، فإنه حينئذ سواء ورثه أبواه أو لم يرثه أبواه، لأمه الثلث. وهذا ~~خلاف دلالة القرآن، وهذا مما يدل على صحة أكابر الصحابة والجمهور ~~PageV02P311 # الذين يقولون: لا تعطى (1) في العمريتين -زوج وأبوين؛ وزوجة وأبوين- ثلث ~~جميع المال، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وموافقوه، فإنها لو أعطيت الثلث ~~لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا. وهو خلاف ما دل عليه القرآن. # وقد روى عنه أنه قال لزيد رضي الله عنه: أين في كتاب الله ثلث ما بقي (2) ~~؛ أي ليس فيه إلا ثلث وسدس. # فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث مطلقا، فكيف تعطيها مع أحد ~~الزوجين الثلث؟! بل في كتاب الله ما يمنع إعطاءها الثلث مع الأب وأحد ~~الزوجين، فإنه لو كان كذلك لكان يقول: "فإن لم ms0347 يكن له ولد فلأمه الثلث ". ~~فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقا؛ فلما خص الثلث ببعض الحال (3) ~~علم أنه لا يستحق مطلقا. # فهذا مفهوم المخالفة (4) الذي يسمى دليل الخطاب، يدل على بطلان قول من ~~أعطاها الثلث في العمريتين، ولا وجه لإعطائها السدس مع مخالفته للإجماع (5) ~~، لأن الله تعالى إنما أعطاها ذلك PageV02P312 # مع الولد والإخوة، وقيده بذلك، ودل ذلك على أنها لا تعطاه (1) مع الأخ ~~الواحد، فعلم أن الثلث قد تستحقه مع الأخ الواحد، ويدل على ذلك أنها إذا ~~أعطيته (2) مع الأب، فمع غيره من العصبات أولى وأحرى. # وهذه دلائل بتنبيه الخطاب ومفهومه، إما مفهوم الموافقة أو مفهوم ~~المخالفة، فلما دل القرآن على أنها لا تعطى الثلث ولا تعطى السدس، وكان ~~قسمة ما يبقى بعد فرض الزوجة أثلاثا، مثل قسمة أصل المال من الأبوين أثلاثا ~~(3) ليس بينهما فرق (4) أصلا- علم بدلالة التقسيم أن الله أراد أن تعطى في ~~هذه الحال هذا، وكانت هذه الدلالة خطابية من جهة دلالة القرآن على إبطال ما ~~سواه، فتعينت بالضرورة، ومن جهة أنها قياس في معنى الأصل، وإذا جعل ما في ~~معنى الأصل (5) دلالة لفظية كانت خطابية أيضا، كما في قوله: "من أعتق شركا ~~له في عبد" (6) ، وقوله: "أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو ~~أحق به" (7) ، فإن لفظ PageV02P313 # "عبد" و"رجل" يتناول في هذا الذكر/ [167ب] والأنثى في عرف الخطاب، من باب ~~التعبير باللفظ الخاص عن المعنى (1) العام. # وهذا باب غير باب القياس، وذلك تارة لكون اللفظ الخاص صار في العرف العام ~~عاما، كقوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (2) ، وقوله: (ما يملكون ~~من قطمير (13)) (3) ، وقوله: (ولا يظلمون نقيرا (124)) (4) ، وقول القائل: ~~"والله ما أخذت له حبه، ولا شربت له قطرة، ولا أكلت له لقمة"، ونحو ذلك مما ~~صار في عرف الخطاب يدل على العام، لا يقصد به النفي (5) الخاص. # وتارة يعبر باللفظ الخاص عن المعنى العام، لكونه صار [في] (6) العرف ~~الخاص عاما، ومن هذا الباب خطاب [المطاع] (7) الواحد في أهل طاعته ms0348 الذين قد ~~استقر عندهم تماثلهم في الحكم، فإن هذا خطاب لجمعهم، كخطاب السيد الواحد من ~~عبيده بأمور يشترك فيها العبيد، وكذلك الملك الواحد من رعيته. ومن هذا ~~PageV02P314 # خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للواحد من أمته، فإن عرف بعادته من ~~خطابه أن هذا حكم لمن هو مثل ذلك الشخص إلى يوم القيامة، وكذلك خطابه لمن ~~حضره، قد علم بعادته أن من غاب عنه إذا كان بمنزلتهم فإنهم يخاطبون بمثل ~~ذلك، لمعرفة المستمع أن حكم الشيء حكم مثله، وأن التعيين (1) هنا لا يراد ~~به التخصيص، بل التمثيل. # وأما إذا كان أحد الزوجين مع سائر العصبة، فهنا (2) لو أعطيت ثلث الباقي ~~لكان جعلا (3) لذلك العاصب معها بمنزلة الأب، وليس الأمر كذلك، فإن الأب ~~(4) في طبقتها، وكان حكمها معه كحكم الذكر مع طبقته من الإناث، وأما غير ~~الأب فبعيد عنها. # والقران لما أعطاها الثلث مع الأب دل على أنه مع غيره من العصبة أولى، ~~وليس إذا أعطيت ثلث الباقي مع الأب يكون غيره من العصبة مثله، ولا أولى (5) ~~من نقصانها، والسدس لا سبيل له لما تقدم. # وقد دل القرآن أنها مع الواحد من الإخوة لا تعطى السدس، فلما بطل إعطاؤها ~~السدس مع العصبة غير الأب وأحد الزوجين، PageV02P315 # وثلث الباقي، تعين الثلث، وكان أعطيت الثلث مع سائر العصبة وأحد الزوجين ~~بمنزلة أن تعطاه مع الأب وحده، فإن الأب وحده يحجب سائر العصبة ويأخذ ~~الثلثين. # ومع أحد الزوجين أعطيناها ثلث الباقي ليأخذ الأب الثلثين الآخرين، إذ ليس ~~هناك عصبة غيره، إذ هو يحجبهم، ومع غيره لو أعطيناها ثلث الباقي لكان ذلك ~~ليأخذ ذلك العصبة الثلثين، وليس ذلك له، بل قد يكون مع الأم محجوبا لا يأخذ ~~شيئا بحال، إذا كان معها أب أو ابن، إذا كان قد يكون محجوبا حجب حرمان، ~~فحجب النقصان أولى (1) . بخلاف الأب، فإنه لا يحجب معها لا حجب حرمان ولا ~~حجب نقصان، فكان إعطاؤها مع الأب الثلث إعطاء (2) مع غير الأب في سائر ~~الأحوال بطريق الأولى، إذ لا حال (3) هناك يستحق ms0349 أحد معها أن يأخذ مثلي ما ~~تأخذ (4) ، كما يستحق الأب ذلك. فإن قوله: (وورثه أبواه فلأمه الثلث) (5) ~~(دل على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله (وورثه أبواه) ،فإنه لما جعل ~~الميراث ميراثا بينهما، ثم أخرج (6) نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا ~~أعطي PageV02P316 # [الأب] (1) الباقي معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطي. # وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب ~~الله) (2) ، وبقوله: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) (3) ، ~~وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما # أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر". (4) . PageV02P317 # فصل # وأما ميراث ### | الأخوات مع البنات # (1) ، وأنهن عصبة كما قال جمهور الصحابة (2) والعلماء- فقد دل عليه ~~القرآن والسنة أيضا، فإن قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ~~إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ~~ولد) (3) يدل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال (4) ~~كله مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما ~~ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد أو لم يكن، فكان ذكر ~~الولد تدليسا وعبثا مضرا، وكلام الله منزه عن ذلك. # وليس هذا من المفهوم الذي هو تخصيص أحد النوعين PageV02P318 # بالذكر، بل هو من باب تخصيص اللفظ العام وتقييده مع أن الحكم يتناول جميع ~~الصور،/ [168أ] ، والتخصيص بعد التعميم ليس بمنزلة التخصيص المبتدأ، فإن ~~ذلك قد يقصد به ذكر ذلك النوع دون الآخر. وأما ذكر الجنس الذي يعمهما ~~والحاجة داعية إلى بيان الحكم العام، وليس في هذا التقييد مقصود، فهنا ~~يمتنع أن يذكر التخصيص إلا لاختصاصه بالحكم. # ومن ذلك قوله تعالى: (ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) (1) وقوله: ~~(فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) (2) ، وإذا علم أنها مع الولد ~~لا ترث النصف، فالولد إما ذكر وإما أنثى. أما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط ~~الأخ ms0350 بطريق الأولى، بدليل قوله: (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) ، (3) [فلم ~~يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد] . والإرث المطلق هو حوز جميع ~~المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يحز المال؛ بل إما أن يسقط وإما ~~أن يأخذ (4) بعضه. فيبقى (5) إذا كان لها ولد: فإما ابن، وإما بنت. فالقران ~~قد بين أن البنت إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر ~~(6) ، إذا PageV02P319 # لم يكن إلا بنت وأخ. # ولما كان فتيا الله إنما هي في الكلالة، والكلالة من لا والد له ولا ولد ~~(1) ، علم أن من له ولد ووالد، ليس هذا حكمه. # ولما (2) كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز مال الأخت فيكون لها عصبة، كان ~~الأب أن يكون عصبة بطرق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق ~~الأولى. # وقد قال تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) (3) ، ~~فإذا كان قد جعل مواليهم واحدهم مولى، وهو الذي يتولى المرء، فيكون مولى ~~ويرث ماله، ويكون من أولى الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إذ ~~كان لكل أحد قد جعل الله عصبته ترث ماله مما ترك، وهم: الوالدان والأقربون. # قال طائفة من المفسرين (4) : أي: من المال الذي ترك. # والموالي: هم الوالدان والأقربون. والموالي يتضمن معنى ورثة، والمعنى: ~~لكل جعلنا ورثة يرثن (5) مما ترك، هم: الوالدان PageV02P320 # والأقربون. # وإذا كان قد جعل الوالدين والأقربين موالي، فالبنون أولى أن يكونوا ~~موالي. ولهذا لما كانوا في أول الأمر إنما يرث الرجل ولده، فرض الله الوصية ~~للوالدين والأقربين بقوله: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا ~~الوصية للوالدين والأقربين) (1) . فلما فرض الوصية لهما دل ذلك على أن ~~الميراث للولد دونهما، وكان ذلك هو الحكم قبل نزول آية الفرائض، فعلم أن ~~الولد أولى من الأبوين والأقربين، وأن (2) الابن أولى أن يكون عصبة من ~~الأب. # وأيضا فإن الله سبحانه قال: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا ~~الوصية للوالدين والأقربين) ، فأوجب ms0351 الوصية للوالدين والأقربين لما كان لا ~~يرث أحدهم إلا ولده، وكان ميراث الولد وأخذ الأب مال ابنه كله معروفا عندهم ~~في الجاهلية، ففرض الله الفرائض لمن سماه. وأما إرث الابن مال أبيه إذا لم ~~يكن غيره، فكان من الأحكام الظاهرة (3) الواضحة التي كانوا عليها في ~~الجاهلية، وأقرهم عليها في الإسلام، ووكد ميراث الابن، حتى ورث الابن سواء ~~كان صغيرا أو كبيرا. # وكذلك سائر الورثة سوى بين (4) الصغير والكبير، وكانوا في PageV02P321 # الجاهلية- أو من كان منهم- لا يورثون إلا الكبير (1) . # ودل أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، ~~فما بقي فلأولى رجل ذكر" أن ما بقي بعد الفرائض فلا يرثه إلا العصبة، وقد ~~علم أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الإخوة. # وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ولد ابن الأم يتوارثون دون بني ~~العلات (2) . فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن ~~(3) ، وكذلك كل بني أب هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربهم إلى ~~الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استووا في الدرجة فمن كان لأبوين ~~أولى ممن كان لأب. # فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور الولد ~~يكون الابن عاصبا، يحجب الأخت ما يحجب أخاها، بقي حال الأخت مع إناث الولد، ~~ليمس في القرآن ما ينفي PageV02P322 # ميراث الأخت في هذه الحال. وإنما ينفي أن يكون لها النصف مع الولد، كما ~~يكون مع [عدم] (1) الولد. # بقي كذا مع البنت: إما أن تسقط، وإما/ [168ب] أن يكون لها النصف، وإما أن ~~تكون عصبة: # ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تزاحم البنت، وأخوها لا يسقط، فلا تسقط هي، ~~ولو سقطت هي لسقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يسقط القريب. # ولا يكون لها النصف فرضا كما يكون لها مع الزوج، لأن الله عز وجل إنما ~~جعل لها النصف معه إذا لم يكن له ولد، ولأنها كانت تساوي البنت مع ~~اجتماعها، والبنت (2) أولى ms0352 منها، فلا تساويها. وأيضا فإنه لو فرض لها النصف ~~لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفرائض، مثل: زوجة وبنت وأخت، فكان يكون ~~للزوجة الثمن، ولكل منهما النصف، فتعول فتنقص البنت عن النصف. # وكذلك لو كان الزوج لكان له الربع، فلو فرض للأخت النصف مع البنت لعالت، ~~فنقصت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرض ولا تعصيب؛ فإن ~~الأولاد أولى منهم. # والله تعالى إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة لا ولد له ~~PageV02P323 # ولا والد، فمن له ولد لا يفرض لها معه النصف. # فلما بطل سقوطها وفرضها (1) لم يبق إلا أن تكون (2) عصبة أولى من عصبة ~~البعيد (3) ، كالعم وابن العم. [وهذا قول الجمهور] (4) ، وقد دل عليه حديث ~~البخاري (5) عن ابن مسعود [لما ذكر له] (6) أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة ~~قالا في بنت وبنت ابن وأخت: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود ~~فسيتابعني (7) 0 [فقال] (8) : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، لأقضين ~~فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للبنت النصف، ولبنت الابن ~~السدس تكملة الثلثين، وما بقي للأخت. PageV02P324 # فأخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -، فدل ذلك على أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها، ~~وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت. فإن البنت/ [169أ] أقوى من أخ ~~الميت (1) ، ولهذا لم يعصبها، بخلاف البنت مع الابن، فإنها ليست أقوى من ~~أخيها، فلهذا عصبها. وفي السنن (2) : أن معاذا أفتى في بنت وأخت، فأعطى ~~الأخت النصف، والبنت النصف. # وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما ~~بقي فلأولى رجلى ذكر"، فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة؛ لقول ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها، ~~وولدها الذي لاعنت عليه" (3) . وإذا كان عاما مخصوصا خصت منه هذه الصورة ~~بما ذكر من الدلالة. PageV02P325 # وإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب. ~~قيل: فالمنازع يقدم المعتق على الأخت ms0353 مع البنت، وليس من الأقارب، وهو - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: "فلأولى رجل ذكر"، ووكد بالذكر ليبين أن العاصب ~~المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول (1) ~~الأنثى، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل وجد متاعه" ونحو ~~ذلك مما (2) يذكر فيه لفظ الرجل، والحكم يعم النوعين: الذكور والإناث. وهذا ~~كقوله - صلى الله عليه وسلم - في فرائض صدقة الإبل: "فإن لم يكن فيها بنت ~~مخاض فابن لبون ذكر" (3) ، فذكر لفظ "الذكر" ليبين أن (4) مراده بابن ~~اللبون: الذكر دون الأنثى، وأن الذكر يجزئ (5) في هذه الحال دون ما إذا كان ~~فيها بنت مخاض، فإن الفرض بنت مخاض. # ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله: (ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ~~ترك) إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما ~~يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلا PageV02P326 # للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة. فلا يجب ~~أن تكون كل صورة من صور المسكوت عنه مخالفة لكل صورة من صور المنطوق، ومن ~~توهم ذلك في دلالة المفهوم فإنه في غاية الجهل. # فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص. # والحكم إذا ثبت بعلة وانتفت؛ جاز أن يخلفها- في بعض الصور أو كلها- علة ~~أخرى. وقصد (1) التخصيص يحصل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نفي إرثها مع (2) ذكور ~~الولد حصل المقصود بدليل الخطاب، ولم يكن في الآية نفي ميراثها مع الأنثى، ~~فيجب أن تكون من أهل الفرائض، أو من العصبة، وهي مع كونها من أهل الفرائض، ~~فقد تكون عصبة، وحينئذ فلا تخرج (3) من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"ألحقوا الفرائض بأهلها"، بل هي من أهل الفرائض، لكن لها التعصيب في بعض ~~الأحوال، كما تكون عصبة مع إخوتها. # وعلى هذا التقدير فلا يكون الحديث مخصوصا، بل عمومه محفوظ، وصار هذا كما ~~لو كان معها إخوتها أو كان مع البنين والبنات أو الإخوة والأخوات أحد ~~الزوجين أو الأم، فإما أن تلحق ms0354 (4) الفرائض بأهلها، وما بقي لا يختص به ~~ذكور الولد PageV02P327 # والإخوة بالنص والإجماع أفإن الله تعالى يقول، (1) (وإن كانوا إخوة رجالا ~~ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) (2) [بعد قوله: (فإن كانتا اثنتين فلهما ~~الثلثان مما ترك) . وقال تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ ~~الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها ~~النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ~~ولد] (3) وورثه أبواه فلأمه الثلث) (4) . # فقد جعل لكل من الأبوين السدس مع الولد، والباقي للولد. # وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا متفق عليه بين ~~المسلمين، فدل ذلك على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن ~~هناك من يكون عصبة بغيره، وهو من أهل الفرائض في بعض الأحوال. # ولو أخذ بما يظن أنه ظاهر الحديث (5) , لكان الباقي بعد الفرض لذكور ~~الإخوة دون الأخوات، والبنين دون البنات، وهذا باطل بالنص وإجماع المسلمين. ~~فعلم أنها إذا كانت عصبة بغيرها لم يكن الباقي لأولى رجل ذكر، وهي في هذه ~~الحال عصبة PageV02P328 # بغيرها (1) ، فليس الباقي لأولى رجل ذكر. ومعلوم أن أخاها أقرب من العم ~~وابن العم، فإذا كان لا يسقطها، بل تكون عصبة معه، فلأن لا يسقطها العم ~~وابنه بطريق الأولى والأحرى، وإذا لم يسقطها ورثت دونه، لأنه أبعد منها ~~بخلاف أختها. # وحينئذ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها" إن أريد به ~~من له فرض في تلك المسألة، فقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" خص منه من ~~الأقارب من يكون عصبة بغيرها، والبنت في هذه الصورة عصبة بغيرها، فتخص منه. # ولو أريد بالفرائض من هو من أهل الفرائض في الجملة، سواء كان لا يرث إلا ~~بفرض، كالزوجين والأم وولد الأم؛ أو كان يرث بفرض تارة وبتعصيب أخرى، كالأب ~~والبنات والأخوات، فيراد بتقديم هذا الضرب، وما بقي بعد فلأولى رجل ذكر، ~~فقد تناولها الحديث. # فإن الورثة أقسام: # ذوو فرض محض: كالزوجين، وولد الأم، والأم ms0355. # وذوو تعصيب محض: كالبنين، والإخوة. # ومن يكون ذا فرض بنفسه، وتعصيب بنفسه: كالأب والجد. # ومن يكون ذا فرض وعصبة بغيره: كالبنات والأخوات. PageV02P329 # [ومعلوم أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" لم ~~يرد به سقوط البنات والأخوات] (1) إذا كن عصبة بغيرهن، بل يرثن في هذه ~~الحال بالإجماع. # والأخوات مع البنات كالأخوات مع إخوتهن (2) ، فإذا لم ينفرد الرجل الذكر، ~~وهو أخوهن ويسقطهن؛ فأن لا ينفرد من هو أبعد منه ويسقطهن بطريق الأولى. # ولهذا لم توجد قط أختا تسقط مع عم، وابن عم، ومن هو أبعد منها. بل لابد ~~أن ترث إما بفرض، وإما بتعصيب حصل بغيرها. # وحينئذ فإذا كن مع البنات وجب أن يرثن بأحد هذين، وقد تعذر به الفرض ~~فتعين التعصيب، كما لو كان معها أخوها. يبين ذلك أن جنس أهل الفرائض يقدمون ~~على العصبات، سواء كانوا (3) أهل فرض محض، أو كانوا مع ذلك لهم تعصيب ~~بأنفسهم أو بغيرهم. # والأخوات من جنس أهل الفرائض، ممن يرثن في حال بفرض، وفي حالي يكن (4) ~~عصبة، وهم مقدمون على من لا PageV02P330 # يرث (1) إلا بالتعصيب المحض كالعم وابن العم، فدل ذلك على أن الأخوات ~~أولى من هؤلاء. # ولا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات، كما لا يجوز أن ~~يستدل به على حرمانهن مع إخوتهن، [بل] (2) ولا على حرمان بنات الابن مع ~~أخيهن ومع ابن أخيهن إذا استكمل البنات الثلثين، بل أتعصب من، (3) في درجته ~~ومن هو أعلى منه عند الجمهور (4) ، ولكن ابن مسعود (5) ومن وافقه [كأبي ~~ثور] (6) يقولون: إنه لا يعصب إلا من يرث دونه، لا يعصب (7) من يسقط بدونه، ~~ودلالة الحديث في هذه المواضع من جنس واحد. # فإما أن يقال: هؤلاء كلهم من جنس أهل الفرائض فإنهن (8) ممن يفرض لهن، ~~ليست بمنزلة العمة والخالة ونحوهما ممن ليس له فرض مقدر. # / [169أ] ، وإما أن يقال: هو مخصوص. وهذا الحديث قد PageV02P331 # روي بألفاظ، فمن جمل ألفاظه (1) : "اقسموا المال بين أهل الفرائض على ~~كتاب الله، فما بقي فلأولى رجل ذكر". وهذا ms0356 لفظ يتناول كل من كان من أهل ~~الفرائض في الجملة، وإن عرض له حال يكون فيها عصبة بغيره، إذا لم يكن ~~محجوبات بغيرهن، كما يحجب بنات الابن بالابن، وما بقي من بعده فلأولى رجل ~~ذكر، ليس المراد به أنه ما بقي بعد الفرائض المقدرة لا يعطاه إلا رجل، ولو ~~قدر أن اللفظ يتناول هذا فقد خص منه صور كثيرة بالنص والإجماع، فهذه الصورة ~~أولى. PageV02P332 # وأما ### | ميراث البنتين # (1) ، فقد قال تعالى: () يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ~~فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) (2) . # فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث، ولها وحدها النصف، ~~ولما فوق اثنتين (3) الثلثان. بقيت البنتان، فكان إذا كان لها مع الذكر ~~الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى؛ ولأنه ~~قال: (وإن كانت واحدة فلها النصف) ، فقيد النصف بكونها واحدة، فدل بمفهومه ~~على أنه لا يكون لها إلا مع هذا الوصف؛ بخلاف قوله: (فإن كن نساء فوق ~~اثنتين) ، فإنه لما ذكر ضمير "كن" و"نساء" وذلك جمع، لم يمكن أن يقال: ~~اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين؛ ولأن الحكم PageV02P333 # لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: (فوق اثنتين) ، لأنه قد عرف حكم اثنتين، ~~وعرف حكم الواحدة. وإذا كانت واحدة فلها النصف، ولما فوق اثنتين الثلثان، ~~امتنع أن يكون للاثنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل ~~واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلا الثلثان، فكيف بما دون الثلاثة؟ ولا ~~يكفيهما النصف، لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، [فلا يكون لها إذا لم تكن ~~واحدة] (11) . # وهذه الدلالة تظهر بقراءة النصب (2) : "وإن كانت واحدة"، فإن هذا خبر ~~كانت، تقديره: فإن كانت بنتا واحدة، أي مفردة ليس معها غيرها فلها النصف، ~~فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفى النصف، وانتفى الجميع، فلم ~~يبق إلا الثلثان. وهذه دلالة من الآية. # وأيضا فإن الله تعالى لما قال: في الأخوات (فإن ms0357 كانتا اثنتين فلهما ~~الثلثان مما ترك) (3) ، كان دليلا على أن البنتين أولى بالثلثين من ~~الأختين. # وأيضا فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما أعطى ابنتي سعد بن ~~الربيع الثلثين، وأمهما الثمن، والعم ما بقي (4) . وهذا إجماع لا يصح فيه ~~PageV02P334 # خلاف عن ابن عباس (1) . # وقال في الأخوات: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) ، لأنه لم ~~يذكر قبل ذلك ما يدل على أن للواحدة مع أخيها (2) الثلث، وإنما ذكره بعد ~~ذلك بقوله: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) ، بخلاف ~~تلك الآية، فإنه ذكر أولا أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فتضمن حكمها مع أخيها، ~~ثم ذكر حكم العدد من النساء بعد ذلك. # ودلت آية "الولد" (3) على أن حكم ما فوق الاثنتين حكم الاثنتين؟ فلذلك ~~قال في الأخوات: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) (4) ، ولم يذكر ~~ما فوقهما؛ فإنه إذا كانت الثنتان (5) تستحقان الثلثين، فما فوقهما بطريق ~~الأولى والأحرى. بخلاف آية PageV02P335 # "البنات " (1) فإنه لم يدل قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) إلا على أن لها ~~الثلث مع أخيها، وإذا كن فوق اثنتين لم تستحق الثلث، فصار بيانه في كل من ~~الآيتين من أحسن البيان. # هناك لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك، بين بعد ~~ذلك ميراث ما زاد على الثنتين. # وفي آية الصيف (2) لما دل الكلام الأول على ميراث الأختين (3) ، وكان ذلك ~~دالا بطريق الأولى على ميراث الثلاثة والأربعة وما زاد، لم يحتج أن يذكر ما ~~زاد على الأختين. # فهناك (4) ذكر ما فوق البنتين دون البنتين، وفي الأخرى (5) ذكر الثنتين ~~دون ما فوقهما، لما يقتضيه حسن البيان في كل موضع، حيث كان هناك قد بين ~~ميراث البنتين دون ما فوقهما، وكان هنا بيان حكمهما بيانا لما فوقهما بطريق ~~الأولى، ولم يكن فيما تقدم بيان حكمهما، فلا يجوز (6) أن يكون للأخوات أكثر ~~من الثلثين، لأن البنات إذا لم يكن لهن أكثر من الثلثين، فالأخوات بطريق ~~الأولى. PageV02P336 # ثم قال تعالى: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر ms0358 مثل حظ الأنثيين) . ~~وأراد بذلك وإن كانوا عددا من الإخوة من جنس / [170أ] الرجال وجنس النساء، ~~لم يرد أن يكون جمع رجال وجمع نساء، فإنه لو كان رجل وامرأتان، أو امرأة ~~ورجل، أو رجلان وامرأتان، لكان ذلك كما لو كانوا ثلاثة رجال وثلاث نساء (1) ~~، وهذا باتفاق الناس. # ولو قيل: الإخوة ثلاثة فصاعدا. # لقيل: وكذلك الرجال والنساء، فلزم أن يكون المعنى إن كانوا ستة إخوة ~~فصاعدا. ولأنه لما بين حكم الأخت الواحدة والأخ الواحد وحكم الأختين ~~فصاعدا، بقي بيان الاثنتين فصاعدا من الصنفين، ليكون البيان مستوعبا ~~للأقسام. # ولفظ "الإخوة" وسائر ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد العدد، ~~لقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) (2) ، ~~وقد يعنى به العدد من غير قصد لقدر منه، فيتناول الاثنين فصاعدا، وقد يعنى ~~به الثلاثة فصاعدا. وفي هذه الآية إنما عني به العدد مطلقا؛ لأنه بين ~~الواحدة قبل ذلك؛ ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرق فيه بين الواحد ~~والعدد، وسوى فيه بين PageV02P337 # مراتب العدد: الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا مما يبين [أن قوله: (فإن ~~كان له إخوة فلأمه السدس) يتناول الاثنين والثلاثة. # وقد صرح بذلك في] (1) قوله تعالى: () وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ~~وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في ~~الثلث) . فقوله "كانوا" ضمير جمع، وقوله "أكثر من ذلك" أي أكثر من أخ وأخت، ~~ثم قال: "فهم شركاء في الثلث"، فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله "فهم"، ~~والمظهر (2) ، وهو قوله "شركاء". ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله: "وله أخ أو ~~أخت "، فذكر حال انفراد الواحد لا حال اجتماعهما. # فدل على أن قوله "أكثر من ذلك" أي: أكثر من أخ وأخت، وأعاد الضمير إليهم ~~بصيغة الجمع، فدل ذلك على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد ~~مطلقا: الاثنين فصاعدا؛ لقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) ، وقوله: ~~(فإن كان له إخوة فلأمه السدس) ، وقوله تعالى: (وإن كانوا ms0359 إخوة رجالا ~~ونساء) . ثم هذه الصيغة تصلح لذلك، وإن كان إنما يراد بها الثلاثة فصاعدا ~~في موضع آخر. # وإن قيل: إن ذلك هو الأصل، فصيغة الجمع قد تختص PageV02P338 # بالتثنية، فيما (1) كان مضافا إلى مثنى وليس فيه إلا واحد منه، كقوله ~~تعالى (فقد صغت قلوبكما) (2) ، ولا يحتمل إلا قلبين (3) ، فهذا يختص ~~بالاثنين، وعدل فيه عن لفظ الاثنين إلى لفظ الجمع للخفة وعدم اللبس، فإنه ~~قد علم أن لكل واحد قلبا، فصار استعمال لفظ الجمع في الاثنين مع البيان هو ~~لغة القوم. ومنه قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (4) ، ولم ~~يقل: "يديهما". # فإذا كانت الصيغة تختص بالاثنين في الموضع المبين، ولم يقل أحد إنها عند ~~الإطلاق تختص بالاثنين، فكذلك تستعمل في الاثنين فصاعدا في الموضع المبين، ~~وإن كانت عند الإطلاق إنما تتناول الثلاثة فصاعدا، وليس شيء من ذلك مجازا؛ ~~بل كله من الموضوع في لغتهم. # وإنما غلط من ظن لفظ الجمع إنما وضع للثلاثة فصاعدا (5) ، أو لاثنين ~~فصاعدا. بل وضع لاثنين فصاعدا في موضع، ولثلاثة فصاعدا في موضع، ولاثنين ~~فقط في موضع، كله من موضوع العرب. والقرينة هنا من وضع العرب. PageV02P339 # وإذا كانت القرينة موضوعة كانت بمنزلة ما يقترن بالفعل من المفعول به، ~~ومعه، وله، والظرفين، والحال، والتمييز، وما يقترن باللفظ من الصفة، وعطف ~~البيان، وعطف النسق، والاستثناء، والشرط، والغاية، وغير ذلك مما يقيد ~~مطلقه، ويكون مانعا له من العموم، موجبا لاختصاصه ببعض ما يدخل فيه عند عدم ~~تلك القيود، فإن هذا كله مما وضعت العرب أجناسه، كما وضعت رفع الفاعل، ونصب ~~المفعول به، وخفض المضاف إليه. # PageV02P340 # وأما الجدة (1) فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء (2) ، فإن ~~الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا، ~~فالجدة وإن سميت أما لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، كما دخلت في ~~لفظ "الأمهات" في قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) (3) . ولكن رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس (4) ، فثبت ميراثها بسنته، ولم ينقل عن ~~النبي PageV02P341 # - صلى الله ms0360 عليه وسلم - لفظ عام في الجدات، بل ورث الجدة التي أتته، فلما ~~جاءت الثانية إلى أبي بكر رضي الله عنه جعلها شريكة الأولى في السدس (1) . # وقد تنازع الناس في الجدات (2) : # فقيل: لا يرث إلا اثنتان: أم الأم وأم الأب، كقول مالك وأبي ثور. # وقيل: لا يرث إلا ثلاث، هاتان وأم الجد؟ لما روى إبراهيم النخعي أن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - ورث ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك، وجدة من قبل أمك ~~(3) . وهذا مرسل حسن، فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد. ~~ولم يرد في النص إلا توريث هؤلاء. # وقيل: بل يرث جنس الجدات المدليات بوارث؛ وهو قول PageV02P342 # الأكثرين، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو وجه في مذهب أحمد. وهذا ~~القول أرجح؟ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة فالصديق لما جاءته الثانية ~~قال لها: لم يكن السدس الذي أعطي إلا لغيرك؟ ولكن هو لكن، فأيتكن خلت به ~~فهو لها. فورث الثانية،/ [170ب] ، والنص إنما كان في غيرها. # ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت، فترث أم أم الأب، وأم أم الأم ~~بالاتفاق، فيبقى أم أبي الجد، أي فرق بينها وبين أم الجد؟ وأي فرق بين أم ~~الأب وأم الجد؟ # ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد؟ بل هو جلى أعلى. # وكذلك الجد كالأب؟ فأي وصف يفرق بين أم أم الجد وأم أبي الجد؟ # فبين ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه ~~وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء (1) ، وأم أبي جده وأم جد جذه بالنسبة ~~إلى جده سواء، وإذا كانت هاتان تشتركان في الميراث، ونسبة تينك إليه كنسبة ~~هاتين وجب اشتراكهما في الميراث. # وأيضا فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث، وأم أبي الأب لا ~~ترث، ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف فإن جدته ~~أم أبيه إذا لم تكن مثل أم أمه، PageV02P343 # لم تكن أدنى منها، فإنها تدلي بعصبة، وبنت ms0361 الابن أولى من بنت البنت، فلم ~~تكن أم الأم أولى من أم الأب. # ونظير هذا في الحضانة، فإنهم متنازعون: هل أم الأم أولى من أم الأب؟ على ~~قولين (1) ، هما روايتان عن أحمد. # وأصل الحضانة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الأم على الأب (2) ، ~~لكن قدمها لكونها أنثى، فهي أحق بالتربية من الذكر، أو لكون جهة الأمومة ~~أحق من جهة الأبوة؟ فإن كان الأول لم تقدم أم الأم بل أم الأب، لأنهما ~~تشتركان في الأمومة، وامتازت تلك بأنها من نساء العصبة، والحضانة لرجال ~~العصبة دون رجال الأم، فان كانت لجهة الأم قدمت أم الأم، وهذا مخالف لأصول ~~الشرع (3) ، فإن أقارب الأم لم يقذفوا في شيء من الأحكام؛ بل أقارب الأب ~~أولى من أقارب الأم في جميع الأحكام، فكذلك في الحضانة. # وكذلك في ميراث الجدة، أم الأب إن لم تكن أولى من أم الأم لم تكن دونها. ~~والصحيح أنها لا تسقط بابنها (4) - أي الأب- كما هو أظهر PageV02P344 # الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه (1) ، ولأنها وإن أدلت ~~به فهي لا ترث ميراثه؛ بل هي معه كولد الأم مع الأم، لما أدلوا بها ولم ~~يرثوا ميراثها، لم يسقطوا بها. # وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به، باطل طردا وعكسا، باطل طردا بولد الأم ~~مع الأم؛ وعكسا بولد الابن مع عمهم، وولد الأخ مع عمهم، وأمثال ذلك مما فيه ~~سقوط شخص بمن (2) لم يدل به. وإنما العلة أنه يرث ميراثه، فكل من ورث ميراث ~~شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقام الأم، فيسقطن بها وإن لم ~~يدلين بها. PageV02P345 # فصل # وأما كون "بنات الابن مع البنت " لهن السدس تكملة الثلثين (1) ، وكذلك ~~الأخت من الأب مع أخت لأبوين (2) ؛ فلأن الله تعالى قال: (يوصيكم الله في ~~أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) ~~(3) . # وقد علم أن الخطاب يتناول ولد البنين دون ولد البنات،. وأن قوله ~~"أولادكم" يتناول من ينسب إلى الميت؛ وهم ولده ms0362 وولد بنيه، فإنه يتناولهم ~~على الترتيب: يدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب؛ لما قد عرف من أن ما ~~أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر، والابن أقرب من ابن الابن، فإذا لم يكن إلا ~~بنت فلها النصف. # وبقي من نصيب البنات السدس؛ فإذا كان هنا بنات ابن فهن استحققن الجميع ~~لولا البنت؛ فإذا أخذت النصف فالباقي لهن. # وكذلك في الأخت من الأبوين وفي أخت من الأب، أخبر ابن مسعود رضي الله عنه ~~أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى للبنت النصف، ولبنت PageV02P346 # الابن السدس تكملة الثلثين (1) . # وأما إذا استكمل البنات الثلثين لم يبق فرض؛ فان كان هناك عصبة من ولد ~~البنين فالباقي له؛ لأنه أولى رجل ذكر؛ وإن كان معه أو فوقه بنت عصبها عند ~~جمهور الصحابة والعلماء كالأئمة الأربعة وغيرهم (2) . وأما ابن مسعود رضي ~~الله عنه فإنه يسقطها (3) ؛ لأنها لا ترث مفردة، فلا ترث مع أخيها ~~كالمحجوبة برق أو كفر. # والجمهور يقولون: هي وارثة في الجملة، وهي ممن تكون عصبة بأخيها، وهنا ~~إنما سقط (4) ميراثها بالفرض لاستكمال الثلثين، وإذا سقط الفرض لم يلزم ~~سقوط التعصيب مع قيام موجبه، وهو وجود أخيها، وإذا كان وجود الأخ يجعلها ~~عصبة فيحرمها وإن ورثت بالفرض، كما في الأخ المشئوم،/ [171أ] ، فكذلك يجب ~~أن يجعلها عصبة فيورثها (5) إذا لم ترث بالفرض. والنزاع في الأخت للأب مع ~~أخيها (6) إذا استكملت الأخوات PageV02P347 # للأبوين الثلثين، كالنزاع في بنت الابن مع أخيها (1) إذا استكمل البنات ~~الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوتهن، يقتسمون النصف الباقي ~~للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص، وتوريثهن هنا ~~أقوى، وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن (2) . PageV02P348 # فصل # فيمن عمي موتهم فلم يعرف أيهم مات أولا، فالنزاع مشهور فيهم (1) . ~~والأشبه بأصول الشريعة أن لا يرث بعضهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثته ~~الأحياء، وهو قول الجمهور، وقول في مذهب أحمد؛ لكنه خلاف المشهور في مذهبه. # وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، بدليل الملتقط، لما جهل حال المالك ~~كان المجهول كالمعدوم ms0363، فصار مالكا لما التقطه؛ لعدم العلم بالمالك. # وكذلك "المفقود" (2) ، قد أخذ أحمد فيه بأقوال الصحابة الذين جعلوا ~~المجهول كالمعدوم، فجعلوها (3) زوجة الثاني مادام الأول مجهولا باطنا ~~وظاهرا، كما في اللقطة، فإذا علم صار (4) النكاح PageV02P349 # موقوفا، لأنه فرق بينه وبين امرأته بغير إذنه، لكن تفريقا جائزا، فصار ~~(1) ذلك موقوفا على إجازته ورده، فيخير بين امرأته والمهر. فإن اختار ~~امرأته كانت زوجته، وبطل نكاح الثاني بنفس ظهور هذا واختياره امرأته، ولم ~~يحتج إلى طلاقه. وإن لم يخترها بقيت زوجة الثاني، وكان للأول المطالبة ~~بالمهر الذي هو عوض خروج بضعها من ملكه بغير أمره، ولم يحتج ذلك إلى إنشاء ~~نكاح الثاني. # فلها ثلاثة أحوال: # حال الجهل بالأول، فهي زوجة الثاني باطنا وظاهرا. # وحال انقضاء نكاحه واختياره المهر، فصارت أيضا زوجة الثاني باطنا وظاهرا. # وحال اختيار الأول لها، فتعود زوجته باطنا وظاهرا. # وحال ظهوره قبل اختياره، فالأمر موقوف كالنكاح الموقوف. # والمقصود هنا أن أحمد اتبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، وهنا ~~(2) إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول، والمجهول كالمعدوم، فيكون ~~(3) تقدم أحدهما على الآخر معدوما، فلا يرث أحدهما من صاحبه. PageV02P350 # وأيضا فالميراث جعل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله، فإذا ماتا على ~~هذه الحال لم يكن انتفاع أحدهما بمال الآخر أولى من العكس، وجعل كل منهما ~~وارثا موروثا مناقض لمقصود الإرث، فإن كونه وارثا يوجب أن يكون حيا يخلف ~~غيره، وكونه موروثا يوجب أن يكون ميتا مخلوفا، فكيف يحكم بحكمين متناقضين ~~في حال واحد؟ # وكما أنهم لم يورثوه إلا من التلاد دون ما ورثه لئلا يلزم الدور؛ فيجب أن ~~لا يورثوه مطلقا لئلا يلزم الدور في نفس المورث (1) لا في عين الموروث. # وأما إذا عاش أحدهما بعد الآخر، ولو لحظة، فإنه بمنزلة الطفل إذا استهل ~~ثم مات، فثبت له حكم الحياة المعلومة، فاستحق الإرث، بخلاف من لا تعلم ~~حياته بعد الآخر، فإن شرط الإرث- وهو العلم بحياته بعده- منتف، فلا يجوز ~~توريثه منه. # وهذا يستفاد من جعل الله هذا وارثا، والوارث ms0364 لا يكون إلا من عاش بعد ~~الموروث، وهذا غير معلوم، فلا يثبت الإرث، فإن الجهل بالشرط بمنزلة عدمه، ~~كما قلنا [في] (2) الربويات: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فالجهل ~~بالتقدم كالعلم بعدم التقدم. # والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم. # *** PageV02P351 # الفهارس ### $ 1- فهرس المصادر والمراجع ### | 2- # فهرس موضوعات "فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد" ### | 3- # فهرس موضوعات "قاعدة في الاستحسان" ### | 4- # فهرس موضوعات "قاعدة في شمول النصوص للإحكام" # PageV02P353 ### | فهرس المصادر والمراجع # - الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، لأحمد بن مبارك السجلماسي، المطبعة ~~الأزهرية، القاهرة، 1306. # - إبطال الاستحسان، للشافعي (ضمن كتاب الأم 7/267- 277) . # - ابن الفارض والحب الإلهي، لمحمد مصطفى حلمي، ط. القاهرة، 1945 م. # - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، لمحمد مرتضى ~~الزبيدي البلكرامي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1311. # - إجابة الغوث ببيان حال النقباء والنجباء والأبدال والأوتاد والغوث، ~~لابن عابدين، (ضمن مجموعة رسائله) ط. الآستانة، 1325. # - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، تحقيق: ~~فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408. # - الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1356. # - الأحكام في أصول الأحكام، للامدي، ط. الرياض 1387. # - الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، بيروت ~~1400. # - إحكام الفصول في أحكام الأصول، للباجي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت ~~1407. # - أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة ~~1392. # - أحكام القرآن للشافعي، جمع ورواية: البيهقي، تحقيق عبد الغني عبد ~~الخالق، # القاهرة 1371. # - أخبار القضاة، لوكيع، بيروت: عالم الكتب، د. ت. # - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، بيروت 1399. # - الاستحسان بين المثبتين والنافين، للأستاذ حمزة زهير حافظ، رسالة ~~ماجستير قدمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، دون ~~تاريخ. # - الاستذكار، لابن عبد البر، ط. عبد المعطي قلعجي، القاهرة. # PageV02P355 # - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، ~~"القاهرة" 1380. # - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، دار الشعب، القاهرة، 1964 ~~م. # - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لملأ علي القاري، تحقيق: محمد ~~الصباغ، دار الأمانة، بيروت، 1391. # - أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن رشيق (ضمن ms0365 "الجامع لسيرة شيخ ~~الإسلام ابن تيمية") جمع: محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم ~~الفوائد، مكة المكرمة 1420. # - الإسماعيلية: تاريخ وعقائد، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، ~~لاهور 1406. # - الأشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر، تحقيق: محمد غريب سراج ~~الدين، قطر 1414. # - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، ط. القاهرة، 1358. # - اصطلاحات الشيخ محيي الدين ابن عربي، (طبع ملحقا بكتاب "التعريفات" ~~للجرجاني) تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م. # - اصطلاحات الصوفية، لعبد الرزاق القاشاني، تحقيق: سبرنجر، كلكتا (الهند) ~~1854 م. # - الأنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف، للأمير ~~الصنعاني، تحقيق: عبد الرزاق البدر، ط. المدينة المنورة، 1421. # - الأصل، لمحمد بن الحسن، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، حيدر آباد 1386. # - أصول الجصاص، [الجزء المتعلق بأبواب الاجتهاد والقياس] ، تحقيق: سعيد ~~الله القاضي، لاهور 1981 م. # - أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، القاهرة 1372. # - أصول الفقه وابن تيمية، للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، القاهرة ~~1405. # - أصول مذهب الأمام أحمد، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الرياض ~~1397. # - الاعتصام، للشاطبي، القاهرة: المكتبة التجارية. # - الأعلام، للزركلي، الطبعة الخامسة، بيروت 1980 م. # - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد ~~الحميد، القاهرة 1374. # PageV02P356 # - أعيان العصر وأعوان النضر، للصفدي، الجزء1، نسخة عاطف أفندي برقم 1809. # - الأم، للشافعي، القاهرة: دار الشعب 1388. # - الأموال، لأبي عبيد، تحقيق: محمد خليل هراس، القاهرة 1396. # - أنساب الأشر اف، للبلاذري، بيروت: دار الفكر 1417. # - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، ~~القاهرة 1375. # - الأولياء، لابن أبي الدنيا، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1413. # - إيضاح المكنون في الذيل على كلشف الظنون، لإسماعيل باشا البغدادي، ط. ~~إستانبول. # - الإيمان، لشيخ الاسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) . # - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد محمد شاكر، ط. مكتبة ~~المعارف، الرياض، 1417. # - البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ط. مطبعة السعادة، القاهرة 1328- ~~1329. # - البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشى، ط. الكويت 1413. # - بدائع الصنائع، للكاساني، ط. القاهرة: مطبعة الإمام. # - بدائع الفوائد، لابن القيم، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. # - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ط. دار الفكر، بيروت. # - البداية ms0366 والنهاية، لابن كثير، ط. القاهرة 1358، وتحقيق: عبد الله بن ~~عبد المحسن التركي، مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، ~~1417. # - البرهان في أصول الفقه، للجويني، تحقيق: عبد العظيم الديب، الدوحة ~~1399. # - البناية في شرح الهداية، للعيني، ط. بيروت: دار الفكر 1400. # - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامى، ط. ~~المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306- 1307. # - تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق: عدنان درويش، دمشق 1994 م. # - تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: ~~دار المعارف. # PageV02P357 # - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ط. القاهرة، 1349. # - تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، ط. دار الفكر، بيروت, 1415. # - التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: محمد حسن هيتو، ~~دمشق 1400. # - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، للحافظ ابن حجر، تحقيق: محمد علي النجار ~~وعلي محمد البجاوي، القاهرة: وزارة الثقافة. # - تتمة المختصر في تاريخ البشر، لابن الوردي، بيروت: دار المعرفة 1389. # - التحرير مع شرحه التيسير، لابن الهمام، القاهرة 1350. # - تخريج أحاديث فضائل الشام ودمثق، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب ~~الأسلامي، بيروت، 1403. # - تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، لابن جماعة، ط. حيدر ~~آباد. # - تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الفتني، إدارة الطباعة المنيرية، ~~القاهرة، 1343. # - الترغيب والترهيب، للمنذري، ط. المطبعة المنيرية، القاهرة. # - التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة، ~~لاهور، 1406. # - التعريفات، للشريف الجرجاني، تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م. # - التعقبات على الموضوعات، للسيوطي، ط. المطبع العلوي، لكنو، 1303. # - تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، لابن تيمية، تحقيق: عبد العزيز ~~بن محمد الخليفة، الرياض 1417. # - تفسير ابن أبي حاتم، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة- الرياض 1417 # - تفسير الطبري (= جامع البيان في تفسير القرآن) ، ط. مصطفى البابي ~~الحلبي، القاهرة، 1373. وتحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ~~1961- 1970 م. # - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط. دار طيبة، الرياض، 1418. # - تقويم الأدلة، لأبي زيد الدبوسي، نسخة مكتبة لاله لي برقم 690. # - التلخيص في أصوات الفقه، للجويني، تحقيق: عبد الله جولم وشبير أحمد ~~العمري، بيروت 1417. # PageV02P358 # - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ ابن حجر، القاهرة ~~1964. # - تلخيص الموضوعات، للذهبي، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، دار الفرقان، ~~الرياض، 1419. # - التمهيد ms0367 في أصول الفقه، للكلوذاني، ج 4، تحقيق: محمد بن علي بن ~~إبراهيم، مكة المكرمة 1406. # - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عراق، مكتبة ~~القاهرة، القاهرة، 1378. # - تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، ط. القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية. # - التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرءوف المناوي، ط. عالم الكتب، ~~الماهرة، 1410. # - تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ~~ط. المكتب الإسلامي، بيروت، 1397. # - جامع الأصول في الأولياء، لأحمد ضياء الدين الكمشخانلي، ط. القاهرة، ~~1328. # - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ط. إدارة الطباعة المنيرية، ~~القاهرة، 1346. # - جامع الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، ط. البابي الحلبي، ~~القاهرة، 1356- 1382. # - الجامع الصحيح، للبخاري (بشرحه"فتح الباري") ، المكتبة السلفية، ~~القاهرة، 1380. # - الجامع الصغير في حديث البشير النذير، للسيوطي، (بشرحه "فيض القدير") . # - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب، القاهرة، 1360. # - الجامع لشعب الإيمان، للبيهقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. # - جامع المسانيد والسنن، لابن كثير، ط. دار الفكر، بيروت، 1415. # - جواهر المعاني في فيض أبي العباس التجاني، لعلي حرازم برادة، مطبعة ~~الحلبي، القاهرة، 1963م. # - حاشية ابن عابدين على الدر المختار= رد المحتار على الدر المختار، ~~القاهرة: بولاق 1272. # - الحاوي الكبير، للماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية 1414. # - حلية الأبدال، لابن عربي، ط. مطبعة الفيحاء، دمشق، 1929 م. # PageV02P359 # - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. مكتبة الخانجي ~~ومطبعة السعادة، القاهرة، 1932- 1938 م. # - حلية العلماء، للشاشي، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم، بيروت 1400. # - الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال (ضمن "الحاوي ~~للفتاوي" 2/241- 255) ، للسيوطي، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، ~~1353. # - ختم الأولياء، للحكيم الترمذي، تحقيق: عثمان إسماعيل يحيى، ط. المطبعة ~~الكاثوليكية، بيروت، 1965 م. # - الخراج، لأبي يوسف، تصحيح: محب الدين الخطيب، القاهرة 1352. # - دائرة المعارف الإسلامية (بالإنجليزية) الطبعة الجديدة، بريل، ليدن. # - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد ~~سالم، ط. جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1399. # - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، دائرة المعارف ~~العثمانية، حيدر اباد (الهند) ، 1348- 1350. # - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، ط. دار الفكر، بيروت، ~~1403. # - ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني ms0368، ط. ليدن، 1931- 1934 م. # - ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1372. # - ذيل القول المسدد في الذب عن المسند للأمام أحمد، لمحمد صبغة الله ~~المدراسي، ط. حيدر آباد، 1400. # - ذيل مشتبه النسبة، لمحمد بن رافع السلامي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، ~~بيروت 1976. # - الرسالة للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1358. # - رسالة في معنى القياس، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) . # - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، للسبكي، نسخة دار الكتب المصرية ~~بالقاهرة. # - رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، لعمر بن سعيد الفوتي، مطبعة ~~الحلبي، القاهرة، 1963 م. # - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للالوسي، إدارة ~~الطباعة # PageV02P360 # المنيرية، القاهرة، 1345. # - روض الرياحين في حكايات الصالحين، لليافعي، ط. القاهرة، 1286. # - روضة التعريف بالحب الشريف، للسان الدين ابن الخطيب، تحقيق: عبد القادر ~~أحمد عطا، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968 م. # - روضة الطالبين، للنووي، بيروت 1388. # - روضة الناظر بشرحه نزهة الخاطر العاطر، لابن قدامة، القاهرة 1342. # - سراج المريدين، لأبي بكر ابن العربي (مخطوط) نسخة دار الكتب المصرية ~~برقم [20348 ت] . # - سلسلة الأحاديث الصحيحة (1- 6) ، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. مكتبة ~~المعارف، الرياض. # - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1- 5) ، لمحمد ناصر الدين الألباني، ~~ط. المكتب الاسلامي، بيروت؛ ومكتبة المعارف، الرياض. # - سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1372. # - سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة، 1371. # - سنن الدارقطني مع التعليق المغني للعظيم آبادي، القاهرة 1386. # - سنن الدارمي، ط. شركة الطباعة الفنية، القاهرة. # - السنن الكبرى، للبيهقي، ط. حيدر آباد (الهند) ، 1344- 1355. # - السنن الكبرى، للنسائي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت. # - سنن النسائي (= المجتبى) ، المطبعة المصرية، القاهرة، 1348. # - السنن والآثار، لسعيد بن منصور، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الدار ~~السلفية، بومبي. # - السنة، لعبد الله بن أحمد، ط. المطبعة السلفية، مكة المكرمة، 1349. # - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: مجموعة من المحققين، بيروت: مؤسسة ~~الرسالة. # - السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة النهضة ~~المصرية، القاهرة، 1355. وط. همام عبد الرحيم سعيد، عمان 1409. # PageV02P361 # - السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني، لمحمد المكي بن ~~مصطفى بن عزوز، ط. تونس ms0369، 1310. # - سيف الله على من كذب على أولياء الله، لصنع الله الحلبي الحنفي، ط. دار ~~الوطن، الرياض، 1420. # - شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، للعز بن عبد السلام، ~~تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الطباع، دمشق، 1410. # - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان، ~~ط. دار طيبة، الرياض، 1409. # - شرح تنقيح الفصول، للقرافي، القاهرة 1393. # - شرح الخرشي على مختصر خليل، بيروت: دار صادر، د. ت. # - شرح صحيح مسلم، للنووي، ط. القاهرة 1349. # - الشرح الكبير على المقنع، لشمس الدين ابن قدامة، بيروت 1392. # - شرح الكوكب المنير، للفتوحي، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكة ~~المكرمة 1408. # - شرح اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد ~~تركي، بيروت 1408. # - شرح مختصر الروضة، للطوفي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن ~~التركي، بيروت 1407. # - شرح مسلم الثبوت= فواتح الرحموت، لبحر العلوم اللكنوي، القاهرة: بو لاق ~~1324. # - شرح معاني الآثار، للطحاوي، القاهرة 1968- 1969 م. # - شرح مقدمة التائية الكبرى، لداود القيصري، (مخطوط) نسخة أياصوفيا برقم ~~[1898] . # - شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، بيروت: عالم الكتب. # - شرح المواهب اللدنية، للزرقاني، ط. بولاق، 1291. # - شرح أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد سعيد خطيب أوغلي، ط. ~~أنقرة، 1971 م. # - الشريعة، للاجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط. مطبعة السنة المحمدية، # PageV02P362 # القاهرة، 1369. # - شفاء السائل لتهذيب المسائل، لابن خلدون، تحقيق: محمد بن تاويت الطنجي، ~~إستانبول، 1958 م. # - شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور، لمرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق: ~~جمال بن حبيب صلاح، ط. الرياض، 1418. # - صحيح ابن حبان (بترتيبه "الإحسان" لابن بلبان الفارسي) ، تحقيق: شعيب ~~الأرناووط، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت. # - صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، بيروت 1400. # - صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1375. # - الصلة بين التصوف والتشيع، لكامل مصطفى الشيبي، ط. القاهرة، 1969 م. # - ضحى الإسلام، لأحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936 ~~م. # - طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1371. # - الطبقات الكبرى، لابن سعد، بيروت: دار صادر 1385. # - الطبقات الكبرى (= لواقح الأنوار في طبقات الأخيار) ، لعبد الوهاب ~~الشعراني، ط. المطبعة الشرفية، القاهرة، 1315. # - طرح التثريب بشرح التقريب، للعراقي وابنه، ط. القاهرة 1353. # - العدة ms0370 في أصول الفقه، لأبي يعلى، تحقيق: أحمد بن علي سير المباركي، ~~الرياض 1410. # - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لابن عبد الهادي، ~~القاهرة 1356. # - غاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الالوسي، ط. لاهور، ~~1403. # - فتاوى ابن الصلاح، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، حلب، 1403. # - الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ~~1970 م. # - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1380. # - فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الأخوان، للحلبي، ط. القاهرة، 1312. # - فتح القدير للعاجز الفقير، لابن الهمام، القاهرة 1315. # PageV02P363 # - الفتوح، لابن أعثم، بيروت: دار الكتب العلمية. # - الفتوحات المكية، لابن عربي، تحقيق: عثمان يحيى، ط. الهيئة المصرية ~~العامة للكتاب، القاهرة، 1972 م. # - فتوى فيمن يدعى أن ثم غوثا وأقطابا، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (مخطوطة) ~~نسخة جامعة برنستون، برقم [5542] . # - فردوس الأخبار، للديلمي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، 1407. # - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ~~(ضمن "مجموع الفتاوى") . # - الفصول في الأصول، للجصاص الرازي، نسخة دار الكتب بالقاهرة. # - فضائل الشام ودمشق، للربعي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، المجمع العلمي ~~العربي، دمشق، 1950 م. # - الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1400. # - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن ~~بن يحى المعلمي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1380. # - فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، الجزء الأول، تحقيق إحسان عباس، بيروت ~~1973 م. # - فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرءوف المناوي، مطبعة مصطفى محمد، ~~القاهرة، 1356- 1357. # - فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن قل عن الصواب، لعبد ربه بن سليمان ~~القليوبي، ط. القاهرة، 1964 م. # - قاعدة في الاستحسان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، قرأها وعلق عليها: محمد ~~عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1419. # - قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي، ط. المطبعة الميمنية، ~~القاهرة، 1310. # - القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال، لنوح أفندي بن مصطفى ~~الرومي، (مخطوط) ، نسخة دار الكتب المصرية برقم [تصوف249] . # PageV02P364 # - القياس في الشرع الإسلامي، لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، القاهرة ~~1346. # - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية ms0371. # - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، ط. دار الفكر، بيروت. # - كرامات الأولياء، لأبي محمد الخلال، (مخطوط) نسخة دار الكتب الظاهرية، ~~[حديث 248] . # - كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد أعلى التهانوي، ط. كللكتا (الهند) ، 1862 ~~م. # - كشاف القناع عن متن الاقناع، للبهوتي، القاهرة 1366. # - كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز البخاري، استانبول 1308. # - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، # لإسماعيل العجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1401. # - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، ط. إستانبول 1941م. # - كشف المحجوب، لعلي بن عثمان الهجويري، دار النهضة، بيروت، 1980 م. # - كشف الوجوه النز لمعاني نظم الدر، للقاشاني، ط. القاهرة، 1319- 1320. # - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلي المتقي البرهانفوري، ط. حلب، ~~1390. # - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، المطبعة التجارية ~~الكبرى، القاهرة، 1963 م. # - لسان الميزان، لابن جحر، ط. دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد، 1329- ~~1331. # - المبسوط، للسرخسي، ط. دار المعرفة، بيروت. # - مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/371/1953- 395. # - مجلة "المسلم" (القاهرة) . # - مجلة "المنار" (القاهرة) . # - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1932- ~~1934 م. # - المجموع شرح المهذب، للنووي، القاهرة: إدارة الطباعة المنبرية، د. ت. # - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن # PageV02P365 # قاسم وابنه محمد، ط. الرياض، 1381- 1386. # - مجموعة الرسائل [الصغرى] ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. القاهرة، 1323. # - مجموعة الرسائل الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، القاهرة 1323. # - مجموعة الرسائل والمسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصحيح: السيد محمد ~~رشيد رضا، ط. مطبعة المنار، القاهرة، 1349. # - مجموعة الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، القاهرة 1329. # - المحصول في أصول الفقه، للرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض 1399. # - المحلى، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1347- 1352. # - مختصر ابن الحاجب بشرح العضد، القاهرة: بولاق 1316. # - مختصر اختلاف العلماء، للجصاص، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، بيروت 1416. # - مختصر الخرقي، ط. دمشق 1402. # - مختصر العلو للذهبي، اختصار محمد ناصر الدين الألباني، المكتب ~~الإسلامي، بيروت، 1401. # - مختصر الفتاوى المصرية، للبعلي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، ~~1949 م. # - مختصر القدوري، ط. القاهرة 1377. # - مختصر المزني بهامش كتاب الأم، القاهرة: دار الشعب 1388. # - المختصر في أصول الفقه، لابن اللحام، تحقيق: محمد ms0372 مظهر بقا، مكة ~~المكرمة، 1400. # - المدونة، رواية سحنون، القاهرة: مطبعة السعادة. # - مرآة الأصول، لمنلا خسرو، استانبول 1272. # - مرقاة المفاتح لمشكاة المصابح، لملا علي القاري، المطبعة الميمنية، ~~القاهرة، 1309. # - مسائل الأمام أحمد، رواية أبي داود، ط. بيروت: محمد أمين دمج، د. ت. # - مسائل الأمام أحمد، رواية صالح، تحقيق: فضل الرحمن دين محمد، دلهي ~~1408. # - المستدرك على الصحيحين، للحاكم، ط. حيدر اباد (الهند) ، 1334. # PageV02P366 # - المستصفى، للغزالي، ط. القاهرة: بولاق 1322. # - المسند، للأمام أحمد بن حنبل، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313. # وتحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1367. # - مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، - ~~مسند الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الهند، 1381. # - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محصي الدين عبد الحميد ~~القاهرة 1384. # - مشتبه النسبة، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، القاهرة 1962 م. # - مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني، لمحمد خضر الشنقيطي، ~~دار البشائر، عمان، 1405. # - مشكاة المصابح، للتبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب ~~الإسلامي، بيروت. # - المصباح المنير، للفيومي، القاهرة: بو لاق 1323. # - مصنف ابن أبي شيبة، ط. الدار السلفية، بومبي 1399. # - المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب ~~الإسلامي، بيروت، 1392. # - المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري، تحقيق: محمد حميد الله، ~~دمشق 1385. # - معجم البلدان، لياقوت الحموي، بيروت: دار صادر. # - المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط. وزارة ~~الأوقات، بغداد، 1398. # - المعدن العدني في فضل أويس القرني، تحقبق: إبراهيم الحازمي، ط. الرياض، ~~1411. # - المعدول به عن القياس: حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ~~منه، للدكتور عمر بن عبد العزيز، المدينة المنورة 1408. # - المغني، لابن قدامة، ط. القاهرة 1367. وتحقيق التركي والحلو، القاهرة ~~1413. # PageV02P367 # - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، ~~للسخاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1375. # - مقدمة ابن خلدون، ط. المطبعة الأدبية، بيروت، 1900 م. # - المقدمة في الأصول، لابن القصار، تحقيق: محمد السليماني، بيروت 1996 م. # - ملخص إبطال الرأي والقياس والاستحسان، لابن حزم، تحقيق: سعيد الأفغاني، ~~دمشق 1389. # - الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، ط. البابي الحلبي، ~~القاهرة 1381. # - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن ms0373 القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبي ~~غدة، ط. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1414. # - منازل القطب، لابن عربي (ضمن "رسائل ابن عربي") ، ط. حيدر اباد، 1361- ~~1367. # - منتخب كنز العمال، لعلي المتقي البرهانفوري، بهامش "مسند أحمد"، ط. ~~المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313. # - المنتظم، لابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية. # - المنتقى للباجي، القاهرة: مطبعة السعادة 1332. # - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام ابن ~~تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ~~الرياض، 1406. وط. بولاق 1320- 1322. # - موارد الظمآن بزوائد ابن حبان، للهيثمي، ط. المطبعة السلفية، القاهرة، ~~د. ت. # - الموافقات، للشاطبي، القاهرة 1341. # - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني، ط. القاهرة، 1326. # - الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة، لعبد العليم البستوي، ط. ~~المكتبة المكية، مكة المكرمة، 1420. # - الموضوعات، لابن الجوزي، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1965- ~~1968 م. # - موطأ مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، # PageV02P368 # القاهرة 1370. # - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، ط. ~~عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1963- 1964 م. # - الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، الرياض ~~1418. # - الناسخ والمنسوخ، للنحاس، القاهرة 1938 م. # - نشر المحاسن الغالية (أو: كفاية المعتقد) ، لليافعي، تحقيق: إبراهيم ~~عطوة عوض، ط. الحلبي، القاهرة، 1410. # - نص النصوص، لحيدر بن علي العلوي الآملي،) مخطوط! نسخة مكتبة مجلس الأمة ~~بطهران، [ملحق رقم 19] . # - النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية، لحسن العدوي الحمزاوي، ط. ~~بولاق، القاهرة، 1297. # - نوادر الأصول، للحكيم الترمذي، ط. إستانبول، 1293. # - هدية العارفين بأسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا ~~البغدادي، ط. إستانبول 1951 م. # - الواضح في أصول الفقه، لابن عقيل، ج 1، نسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق، ~~برقم 2872 عام. وتحقيق عبد الله التركي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1420. # - الوافي بالوفيات، للصفدي، الجزء7، تحقيق: إحسان عباس، بيروت 1982. # - الوصول إلى الأصول، لابن برهان، تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد، ~~الرياض 1404. # - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشعراني، ~~المطبعة الحجازية، القاهرة، 1352. # *** # PageV02P369 # مقدمة # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. # أما بعد، فهذه مجموعة ثالثة من "جامع المسائل" تحوي 28 رسالة وفتوى ms0374 لشيخ ~~الإسلام ابن تيمية، مما لم ينشر ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) . وقد ~~قمت باستخلاصها من مجاميع خطية مختلفة سيأتي وصفها، ووجدت بعضها ضمن مجاميع ~~مطبوعة ولم أعرف أصولها الخطية. فأحببت أن أضمها إلى المجموعة لتكون في ~~متناول القراء والباحثين، وتستدرك على "مجموع الفتاوى". # وهذه المجموعة مثل المجموعتين السابقتين تحتوي على رسائل وفتاوى في ~~موضوعات مختلفة، وفي أثنائها مباحث وفوائد لا توجد في مؤلفات أخرى للشيخ، ~~فهو يستطرد أحيانا إلى تفسير الآيات وتحرير الأقوال الواردة فيها وترجيح ~~بعضها على بعض، ويتوسع في الكلام على مفردات اللغة وقواعدها، وتضعيف آراء ~~بعض اللغويين والنحاة، كما فعل -مثلا- في حديثه عن حرف "لو" (في الرسالة ~~التاسعة عشرة) والكلام على كلمة "الأسباط" (في الرسالة السادسة عشرة) . وفي ~~بعضها مناقشة للمتكلمين والفلاسفة ورد على شبههم واعتراضاتهم (انظر رقمي 6، ~~7) ، ودعوة للشيعة وزوار القبور إلى مذهب أهل السنة والجماعة وبيان ما كان ~~عليه السلف الصالح (رقم3) ، وغير ذلك من الفوائد والتحقيقات التي تميزت بها ~~مؤلفات # PageV03P005 # الشيخ وكتاباته، ولا تظهر إلا لمن قرأها وتأمل فيها واستخرج ما فيها من ~~كنوز. # وأكثر رسائل هذه المجموعة لم يرد ذكرها بهذه العناوين في المصادر ~~القديمة، لكثرة ما كتب الشيخ وأفتى، فلم يقدر أحد من تلاميذه والمترجمين له ~~على إحصاء مؤلفاته، وقد ذكرت في مقدمة المجموعة الأولى (ص10-11) بعض النصوص ~~التي تدل على صعوبة حصر كتبه ورسائله وفتاواه. ومن الكتب التي ورد ذكرها ~~عند القدماء: "مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع" (رقم20) ، فقد ذكره كل من ~~الصفدي وابن شاكر (1) . وذكر ابن عبد الهادي (2) أن الشيخ شرح ما روي عن ~~عمر رضي الله عنه أنه قال: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" وتكلم ~~على "لو". وهي الرسالة رقم (19) من هذه المجموعة. وهناك رسائل أخرى نجد لها ~~عناوين مشابهة في المصادر، ولكنا لا نستطيع أن نجزم بأنها هي أو غيرها، ومن ~~أمثلتها: "قاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل" التي ذكرها ابن رشيق (3) ، ~~هل هي "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل ms0375 بالتكبير ~~والتسبيح بالتحميد" (برقم15) ؟ وذكر ابن رشيق أيضا (4) أنه رأى كلام الشيخ ~~على قوله (الم (1) أيحسب الناس) هو من سورة العنكبوت، فهل هو الموجود هنا ~~بعنوان "تفسير أول العنكبوت"؟ لا نستطيع أن نجزم بذلك، فإن الشيخ كان يكتب ~~في موضوع واحد رسائل عديدة، PageV03P006 # ويفسر الآية في مناسبات مختلفة. # ومهما يكن من أمر فإن الرسائل والمسائل الموجودة في هذه المجموعة ثابتة ~~النسبة إلى الشيخ بالمعايير التي تحدثت عنها في مقدمة المجموعة الأولى ~~(ص11- 12) ، والتي يجب أن تفحص في ضوئها الكتب والرسائل التي تنسب إلى ~~الشيخ، ولا يثبت شيء منها له إلا بعد التأكد من صحة نسبته إليه. # وقد أخطأ كثير من الباحثين والمفهرسين في نسبة بعض المخطوطات والمطبوعات ~~إلى الشيخ، وعندي أمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لذكرها في هذه المقدمة، ~~وإنما أقتصر على ذكر مثال طريف منها، وأبين كيف وقع المفهرس في الوهم. وجدت ~~في فهرس مخطوطات مكتبة جامعة علي كره بالهند (2/129) ذكر كتاب "عمل اليوم ~~والليلة" ونسبته إلى الشيخ، وهو برقم [H.G. 2/33] ، ولما طلبت هذا المخطوط ~~واطلعت عليه وجدته يبدأ بقوله: "الحمد لله، وسلام # على عباده الذين اصطفى، هذا جزء لطيف في عمل اليوم والليلة منتخب من ~~الأحاديث والآثار، محرر معتبر، لخصته من كتابي "منهاج السنة" ومن "الكلم ~~الطيب"، والله الموفق". # ومن هنا ضل المفهرس وانخدع، فنسب المخطوط إلى شيخ الإسلام، لأن "منهاج ~~السنة" و"الكلم الطيب" من أشهر مؤلفاته، فيكون هذا المخطوط أيضا له!! ولم ~~يتأمل في باقي الكتاب ومنهج المؤلف فيه، ولم يقرأ تلك الأدعية التي فيها ~~صريح التوسل بالنبي، ولم يساوره الشك في أسلوب الكتاب الذي هو أبعد ما يكون ~~من أسلوب شيخ الإسلام. وقد نفيت نسبته إلى الشيخ، وبدأت أبحث عن مؤلفه ~~الحقيقي، وبمراجعة "كشف الظنون" (2/1173) ظهر لي # PageV03P007 # أن من بين المؤلفين في "عمل اليوم والليلة": السيوطي العالم المشهور، وله ~~"الكلم الطيب والقول المختار في المأثور من الدعوات والأذكار" (1) ، ~~و"منهاج السنة ومفتاح الجنة" (2) . فيكون المخطوط الذي بين أيدينا للسيوطي، ~~وأسلوب الكتاب ملائم لأسلوبه المعروف في ms0376 سائر كتبه. ثم وجدت الكتاب مطبوعا ~~بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1365 عن نسخة مكتبة عارف حكمت ~~بالمدينة المنورة، وفي آخره: "قال مؤلفه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أبي ~~بكر السيوطي: فرغت من تأليفه في رجب سنة 892 هجرية، والحمد لله رب ~~العالمين". وبهذا تأكدت نسبته إلى السيوطي، وانتفت عن شيخ الإسلام. # يجب علينا إذا تحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف قبل التفكير في خدمته ونشره ~~وتقديمه إلى القراء. وتشتد الحاجة إلى ذلك إذا أردنا نشر شيء من كتب شيخ ~~الإسلام وغيره من أئمة السنة والحديث، لئلا ينسب إليهم من الآراء ~~والاعتقادات ما هم بريئون منه، ولا يجعل ذلك ذريعة إلى القدح فيهم والنيل ~~منهم. ### | وصف الأصول المعتمدة # اعتمدت في نشر هذه المجموعة على أصول خطية من مكتبات مختلفة، وعلى بعض ~~المجاميع المطبوعة التي تحوي رسائل للشيخ لم أهتد إلى مخطوطاتها في ~~المكتبات. وفيما يلي وصف هذه الأصول: PageV03P008 # (1) "فصل في الفرق بين ما أمر الله به ورسوله من إخلاص الدين الله و ... ~~": هذه الرسالة والرسائل الآتية بأرقام (2، 9، 10، 12، 15، 18، 21) ضمن ~~مجموعة خطية في مكتبة عاشر أفندي بإستانبول برقم [1154) (1) ، وهي التي نشر ~~منها الدكتور محمد رشاد سالم عدة رسائل ضمن المجموعة الأولى من "جامع ~~الرسائل"، ووصفها في مقدمتها (صفحة ج-ه) . هذه المجموعة تحتوي على عدد كبير ~~من رسائل الشيخ طبع أكثرها ضمن "مجموع الفتاوى" و"جامع الرسائل"، والبقية ~~تتضمنها المجموعة التي بين أيدينا. # وقد تصحفت مصورة هذه المجموعة الخطية، فوجدت أن عدد الرسائل التي كانت ~~فيها (حسب الفهرس الموجود في أولها) 53 رسالة، منها 51 رسالة من مؤلفات شيخ ~~الإسلام، ولكن الموجود منها الآن 36 رسالة فقط، ونزعت منها الأوراق (112- ~~131، 151- 172، 210- 222، 268-679) ، ففقدت 15 رسالة للشيخ و"رسالة في ~~الكلام على الاستواء على العرش" لابن عبد الهادي. # ويظهر من عناوين الرسائل الضائعة أنها كانت في موضوعات التوحيد والشرك ~~وزيارة القبور والاستغاثة والتوسل والتمذهب والتقليد واللعب بالشطرنج وحكم ~~الحشيشة وغيرها، وكأن أحد القراء المتعصبين لم يعجبه كلام الشيخ في هذه ~~الموضوعات، فنزع تلك الأوراق ومزقها لئلا يطلع الناس عليها. وظن ms0377 أنه بفعله ~~هذا يضيع ما كتبه الشيخ، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظه في نسخ أخرى، وطبع ~~أكثر من طبعة، واستفاد منه الناس في العالم. وقد ظهر لي PageV03P009 # بالتتبع أن معظم هذه الأوراق الضائعة والرسائل الناقصة توجد بتمامها في ~~"مجموع الفتاوى" (ط. الرياض) ، وفيما يلي إشارة إلى بعضها: - # "فصل في قوله تعالى (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) [ق112- 113،] (= مجموع ~~الفتاوى 15/196-197) . # - "فصل في قوله تعالى (يرفع الله الذينءامنوا منكم والذين أوتوا العلم ~~درجات) [ق113-114] (= مجموع الفتاوى 16/48- 51) . # - "فصل في المعاني المستنبطة من سورة الكوثر" [ق 114- 115] (= مجموع ~~الفتاوى 16/526- 533) . # - "فصل في قوله تعالى (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) [ق117- ~~129] (= مجموع الفتاوى 15/62-94) . # - "فصل في قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة ### | … # [ق129- 136] (= مجموع الفتاوى 14/168- 200) . # - "فتوى فيمن ينزل به حاجة من أمور الدنيا والآخرة ثم يقصد بعض قبور ~~الأنبياء والصلحاء، ثم يدعو عنده في كشف كربته، هل هو سنة أم بدعة؟ " ~~[ق155-162] (= مجموع الفتاوى 27/151- 179) . # - "رسالة جامعة في توحيد الله تعالى وإخلاص الوجه والعمل له" [ق162- 167] ~~(= مجموع الفتاوى 1/20- 36) . # - "مسألة في الاستشفاع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- " [ق210-215،) = ~~مجموع الفتاوى 1/313- 368) . # - "مسألة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة واشتغل # PageV03P010 # بعده بالحديث ... " [ق215-217، (= مجموع الفتاوى 20/210- 217) . # - "فتوى في اللعب بالشطرنج" [ق217-218] (= مجموع الفتاوى 32/216-239) . # هذه بحض تلك الرسائل والفتاوى التي فقدت من المجموعة، ولكنها بقيت محفوظة ~~بحمد الله في نسخ أخرى، ولم تنجح محاولة إخفائها وتضييعها من قبل بعض ~~القراء. # كتبت رسائل هذه المجموعة بخطوط مختلفة، بعضها في سنة 735، وبعضها في سنة ~~819. وأغلبها بدون تاريخ، كتبه ناسخ غير معروف بخط نسخي واضح جميل يغلب ~~عليه الصحة، ولعله من خطوط القرن التاسع. وجميع رسائل الشيخ فيها (ما عدا ~~"الواسطية") بهذا الخط، ومنها الرسالة الأولى من مجموعتنا هذه، وتقع بين ~~(الورقة 148- 155) ، والموجود منها الآن إلى الورقة 151ب، ثم يبدأ الخرم ~~الذي ذهب ببقية هذه الرسالة ورسائل أخرى تليها، كما أشرت إلى ذلك قريبا، ~~ولم أجد نسخة أخرى تكمل النقص. # (2) "فصل في حق الله وحق عبادته وتوحيده ms0378": هذه الرسالة أيضا ضمن المجموعة ~~السابقة (ق243ب-247ب) . # (3) "رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر": ~~توجد نسخة فريدة منها في دار الكتب المصرية برقم [2577 تصوف] (1) ، ومعها ~~"الرسالة القبرصية" للشيخ. وهما بخط PageV03P011 # نسخي جميل، كتبه محمد بن سليمان بن داود ابن الجوهري الشافعي، كما هو ~~مثبت على صفحة العنوان. # (4) "مسألة في قصد المشاهد المبنية على القبور للصلاة والنذر وقراءة ~~القرآن وغير ذلك": توجد النسخة الخطية منها في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] ~~ضمن مجموعة في 163 ورقة تحتوي على رسائل مختلفة (1) ، وفي أولها فتاوى ~~للشيخ (ق1-47) بعنوان "فصل من فتاوى شيخنا الشيخ الفاضل الكامل فريد دهره ~~وحيد عصره الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية أمتعنا الله بحياته". ~~وفيها 15 فتوى للشيخ في موضوعات متنوعة، نشر معظمها ضمن "مجموع الفتاوى" ~~وغيره، ومما لم ينشر هذه المسألة التي تقع في (الورقة 8ب-27ب) . والمجموعة ~~بخط نسخي واضح، وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلها من القرن الثامن، وكتبت في ~~حياة الشيخ كما تدل على ذلك عبارات الدعاء في أول المجموعة وفي مواضع ~~مختلفة من الفتاوى. وقد كانت هذه المجموعة في ملك السيد محمد شريف رزاز سنة ~~1243، وفي ملك السيد محمد زكي سنة 1298 كما يظهر من كتابتهما على صفحة ~~العنوان. وعليها ختم "محمد بيري" مما يدل على أنها كانت في حوزته أيضا. # (5) "فصل فيمن يعظم المشايخ ويستغيث بهم ويزور قبورهم": توجد نسختها ~~الخطية أيضا في مكتبة تشستربيتي برقم [3296] ضمن مجموعة تحوي 15 رسالة (2) ~~، منها الفتوى المذكورة التي عنونت PageV03P012 # ب "في السماع" في المجموعة وفي الفهرس، وهي وإن شملت الجواب عن حضور مجلس ~~السماع أيضا في أسطر قليلة، إلا أن معظمها في تعظيم المشايخ والاستغاثة بهم ~~وزيارة قبورهم والنذر لها وما إليها. وتشغل هذه الفتوى الأوراق (7ب-11أ) ، ~~وهي مكتوبة بخط نسخي جيد، ومقابلة على الأصل المنسوخ عنه. وليس عليها تاريخ ~~النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر. # (6) "مسألة في تأويل الآيات في المعية وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت": ~~أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] ، تحتوي على ms0379 عدة رسائل ~~وفتاوى للشيخ (1) ، وهي بخط علي بن حسن بن محمد الحراني كما في آخر ~~المجموع، وقد فرغ من نسخ هذه المسألة في خامس ربيع الأول سنة ست وخمسين ~~وسبع مئة. والمسألة المذكورة تبدأ بالورقة (60ب) ، ثم تضطرب اضطرابا شديدا، ~~وتتداخل مع المسألة التالية في نسبة البارئ تعالى إلى العلو (الآتية برقم7) ~~والتي تبدأ بالورقة (66أ) ، وقد تأملت في المسألتين، ونظرت في الأوراق التي ~~قبلهما وبعدهما، وقرأت المجموعة بعناية، حتى اهتديت إلى ترتيب الكلام فيها، ~~وتمكنت من استخراج المسألتين منها، وهما في المجموعة حسب ما يلي: # - "مسألة في تأويل الآيات في المعية ... " (الورقة 60ب- 63أ/ سطر12، ثم ~~الورقة 53ب/ سطر 8-60ب/ سطر 15، ثم الورقة 72أ/ سطر 9- 74أ/ سطر 14، ثم ~~الورقة 63أ/ سطر 12- 65ب نهاية المسألة) . PageV03P013 # - "مسألة في نسبة البارئ تعالى إلى العلو" (الورقة 66أ-72أ/ سطر8) . وما ~~بعدها من المسألة السابقة، ولم أجد تتمتها ضمن هذه المجموعة. # (7) "مسألة فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلو من جميع الجهات ~~المخلوقة": هي ضمن المجموعة السابقة كما ذكرنا، وناقصة من آخرها، ولم أجد ~~لها نسخة ثانية تكمل النقص. # (8) "مسألة في العلو": توجد منها عدة نسخ في مكتبات مختلفة: # أ- نسخة في مكتبة برلين برقم [We. 1538] . (الورقة 51ب- 55أ) (1) ضمن ~~مجموعة أولها "التدمرية"، مكتوبة سنة 1180. ### | 2- # نسخة في مكتبة ميونخ برقم [885/5] (الورقة 41-51) ، ضمن مجموعة تحتوي على ~~رسائل مختلفة للشيخ وغيره (2) ، وهي بخط نسخي جيد. وبعض رسائل هذه المجموعة ~~مؤرخة بسنة 731 و735 و739، والمسألة المذكورة غير مؤرخة، إلا أنها مكتوبة ~~في القرن الثامن. ### | 3- # نسخة في مكتبة غوطا بألمانيا برقم [84/3] ذكرها بروكلمان في كتابه "تاريخ ~~الأدب العربي" (الملحق 2/122) مع النسختين السابقتين. ### | 4- 6 # : ثلاث نسخ بعنوان "الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل" في مكتبة جامعة ~~الملك سعود بالرياض بالأرقام الآتية: PageV03P014 # [1737/8م] (ص134- 136) ، وهي نسخة ناقصة الآخر، بخط نسخ معتاد، كتبت في ~~القرن الثالث عشر تقديرا. # [2263/3م] (ص126-135) ، نسخة جيدة بخط نسخ معتاد، كتبت في القرن الثالث ~~عشر تقديرا. # [1639/20م] (ص447-456) ، ضمن مجموع بخط نسخ معتاد، كتبه عبد الله بن ms0380 ~~إبراهيم بن محمد المعروف بالربيعي سنة 1350 (1) . ### | 7- # نسخة ناقصة في المكتبة المحمودية بالمدينة برقم [2593] (ق59ب-60ب) كتبت ~~سنة 1184. وتوجد هذه المسألة مع اختلاف كثير ضمن "جلاء العينين في محاكمة ~~الأحمدين" للألوسي (ص437-449 من طبعة المدني سنة 1401) ، ومقتطفات منها في ~~"مجموع الفتاوى" (5/256- 261) . # وقد اعتمدت في تحقيقها هنا على النسخ القديمة، واستعنت بما في "جلاء ~~العينين" دون إثبات جميع الفروق، فإنها كثيرة وقليلة الجدوى. # (9) "قاعدة شريفة في الرضا الشرعي ... ": أصلها من مجموعة عاشر أفندي ~~الموصوفة برقم (1) ، وهي فيها (الورقة 258أ- 259ب) . # (10) "فصل: الأقوال نوعان": هذا أيضا من مجموعة عاشر أفندي (الورقة 207أ- ~~208أ) . # (11) "قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمر الثقلين الجن ~~والإنس": توجد نسختها الخطية في المكتبة الأزهرية برقم [182مجاميع] 4485، ~~وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي PageV03P015 # بتاريخ سادس عشر من صفر سنة 766. # (12) "مسألة فيمن قال: إن عليا أشجع من أبي بكر": أصلها ضمن مجموعة عاشر ~~أفندي بتركيا (الورقة 179 ب- 180 ب) . # (13) "تفسير أول العنكبوت": لم أعثر على نسخته الخطية، وهو ملحق بكتاب ~~"الفوائد" لابن القيم (ص 257- 212 من الطبعة المنيرية سنة 1344) . # (14) "مسألة في قوله تعالى (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله ### | … # ) : أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] # (الورقة 14أ-15أ) . وقد سبق وصف هذه المجموعة برقم (4) . # (15) "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات ... ": هي من مجموعة عاشر أفندي ~~(الورقة 182أ-187ب) . # (16) "مسألة في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟ ": لم أعثر على نسختها ~~الخطية، وقد نقلها السيوطي ضمن "الحاوي للفتاوي" (1/311-312 من الطبعة ~~المنيرية 1352) . # (17) "فتوى في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته": هي ضمن مجموعة في ~~مكتبة جامعة برنستون برقم [4098] (الورقة 61ب- 62أ) ، كتبت في القرن التاسع ~~تقديرا (1) ، وهي بخط نسخي جيد. # (18) "رسالة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دخل أحدكم على أخيه ... ~~": هي من مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 258ب-209أ) . # (19) "جواب سؤال سائل عن حرف لو": توجد منه نسخة خطية PageV03P016 # في دار المخطوطات الوطنية بقبرص برقم [2/1138 A] (الورقة 79ب وما بعدها) ~~، كتبت في القرن العاشر (1) . وقد أورده السيوطي في "الأشباه والنظائر في ms0381 ~~النحو" (3/288-292 من طبعة حيدرآباد 1361) نقلا من خط البرزالي. # (20) "فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع": توجد منه نسخة خطية ضمن مجموعة ~~في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [مجاميع 6454] (2) ، تحتوي على ثماني ~~رسائل للشيخ أولها "التدمرية". وهي مكتوبة في نهاية القرن الثالث عشر. وقد ~~طبعت مفرقة بهامش كتاب "مراتب الإجماع" لابن حزم (طبعة القدسي سنة 1357) . ~~وفي المطبوعة أخطاء في مواضع. # (21) "رسالة في بيان الصلاة وما تألفت هي منه": توجد منها نسختان خطيتان، ~~إحداهما في مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 16أ-17ب) ، والثانية في ~~مكتبة الإسكوريال برقم [1593] (الورقة 62أ-65أ) ، وهي بخط نسخي جيد، وليس ~~عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر. ~~والنسخة الأولى أصح من الثانية، كما ظهر لي بالمقابلة بينهما. # (22) "فتوى في أمر الكنائس": لم أعثر على نسختها الخطية، وقد أوردها ابن ~~القيم في "أحكام أهل الذمة" (2/677-686 طبعة دار العلم للملايين سنة 1961م) ~~. # (23) "مسألة فيمن يسمي خميس النصارى عيدا": توجد منها PageV03P017 # نسختان خطيتان، إحداهما في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [2961عام] ~~(الورقة 76ب- 78أ) ، كتبت سنة 753 (1) . والثانية في مكتبة تشستربيتي برقم ~~[3296] . (الورقة 14ب-15أ) ، وهي نسخة مقابلة مصححة بخط نسخي جيد، كتبت في ~~القرن العاشر تقديرا (2) . # (24) "فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": توجد النسخة الخطية منه ~~في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 42أ- 43أ) . وقد سبق وصفها برقم ~~(6) . # (25) "مسألة في تلاوة القرآن والذكر أيهما أفضل": أصلها ضمن المجموعة ~~السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 40ب-41أ) . وقد أشار الشيخ ~~في هذه المسألة إلى فتاوى أخرى له في هذا الموضوع، يوجد بعضها في "مجموع ~~الفتاوى" (23/56- 60، 62-63) . # (26) "فتوى في السماع": توجد نسختها الخطية ضمن مجموعة في مكتبة ~~تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 30أ-ب) ، وقد سبق وصفه برقم (4) . # (27) "مسألة في رجل شتم شريفا": توجد منها نسختان خطيتان، إحداهما في ~~المجموعة السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 10ب-11ب) . ~~والثانية في مكتبة المدرسة القادرية ببغداد، ضمن مجموعة من فتاوى الشيخ بخط ~~حديث من القرن الرابع عشر بقلم محمد بن علي بن الملا ms0382 أحمد. PageV03P018 # (28) "قاعدة في حضانة الولد": توجد منها نسخة خطية في المكتبة الأزهرية ~~برقم [182 مجاميع] 4485) (الورقة 163-176) (1) ، وهي بخط عبد المنعم ~~البغدادي الحنبلي، كتبها في شهر ربيع الأول سنة 764. والنسخة مقابلة على ~~أصلها، فقد كتب في آخرها: "بلغ مقابلة بحوله ومنه، فصحح حسب الطاقة في ليلة ~~صباحها خامس عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة الأربع والستين وسبعمائة، أحسن ~~الله عاقبتها بمنه وكرمه". # ومنها نسخة ثانية بعنوان "حضانة الصغير" في مكتبة غوطا بألمانيا برقم ~~[71/6] (الورقة 82- 100) ، وثالثة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [3835] ~~(الورقة 122-132) وهي ناقصة من آخرها. # وبعد، فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة في إخراج هذه المجموعة الثالثة من ~~"جامع المسائل"، وقد سبق أن ذكرت منهج التحقيق في مقدمة المجموعة الأولى ~~منه (ص21) ، فأكتفي بالإحالة إليها. # وفي الختام أحمد الله تعالى على توفيقه، وأشكره على تيسيره، وأسأله ~~المزيد من فضله والإعانة على إصدار بقية الكتب والرسائل، إنه نعم المولى ~~ونعم النصير. # محمد عزير شمس PageV03P019 ### | - نماذج من النسخ الخطية # PageV03P021 # فصل # في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسوله # من إخلاص الدين لله وشريعته، وبين ما نهى عنه # من الإشراك والبدع في زيارة القبور ونحو ذلك # PageV03P031 # الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله أجمعين، وسلم تسليما ~~كثيرا. # أما بعد، فهذا فصل في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسوله من إخلاص ~~الدين لله وشريعته، وبين ما نهى عنه من الإشراك والبدع في زيارة القبور ~~ونحو ذلك، فنقول: # زيارة القبور جائزة، سواء كان الميت مسلما أو كافرا، لكن يفرق بينهما في ~~الزيارة، فأما الكافر فيزار قبره ليذكر الموت، ولا يجوز الاستغفار له ولا ~~الدعاء له بالرحمة ونحو ذلك، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر ~~الآخرة". وثبت عنه في الصحيح (2) أنه قال: "استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي ~~فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي. فزوروا القبور فإنها ~~تذكر الآخرة". # وقد زار أمه في ms0383 ألف مقنع عام فتح مكة، فبكى وأبكى من حوله، وقد كانت أمه ~~ماتت كافرة في الجاهلية قبل أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -. # وكذلك في الصحيح (3) أنه حضر عمه أبا طالب حين موته، وعنده أبو جهل وعبد ~~الله بن أبي أمية، فقال: "يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها ~~عند الله"، فقالا: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: "لأستغفرن ~~لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله تعالى: PageV03P033 # (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من ~~بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ~~إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم ~~لأواه حليم (114)) (1) . وذلك أن بعض المسلمين احتج بأن إبراهيم وعد أباه ~~بالاستغفار، واستغفر له بقوله (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم ~~الحساب (41)) (2) ، فأجاب الله عن ذلك، وأمرنا أن نتأسى بإبراهيم في موعده ~~بالاستغفار لأبيه، فقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين ~~معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا ~~بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم ~~لأبيه لأستغفرن لك) الآيات (3) . فذكر سبحانه أن المؤمنين لهم أسوة حسنة في ~~إبراهيم والمؤمنين معه إذ تبرءوا من المشركين وما يعبدون من دون الله، إلا ~~في هذا القول الذي قاله إبراهيم لأبيه، فإنهم ليس لهم في ذلك أسوة. # وأما ### | زيارة قبور المؤمنين # من الأنبياء والصالحين وغيرهم فإنها من جنس الصلاة على جنائزهم، قال الله ~~تعالى في المنافقين: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم ~~كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84)) (4) ، فنهى نبيه عن الصلاة على ~~المنافقين وعن القيام على قبورهم لأجل أنهم كفار، وكان ذلك دليلا على أن ~~المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم. وهذه كانت سنة رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - في PageV03P034 # المؤمنين، فإن الصلاة على ms0384 المسلمين مشروعة بسنة رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - المتواترة بإجماع المؤمنين، وهي فرض على الكفاية. وقد قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن اتبعها ~~حتى يدفن فله قيراطان أدناهما مثل أحد" (1) . # وكذلك بعد الدفن يستحب أن يزار فيسلم عليه ويدعى له بالمغفرة والرحمة ~~ونحو ذلك. ويستحب حين الدفن أن يدعى له أيضا، كما ثبت في سنن أبي داود (2) ~~عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا دفن الميت ~~أصحابه: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل". أي اسألوا ~~له أن يثبته الله بالقول الثابت، كما قال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا ~~بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ~~ما يشاء (27)) (3) ، وقد ثبت في الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر حين يسأل الميت: من ربك وما دينك ~~ومن نبيك؟ # وأما بعد الدفن، فكما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه كان يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "سلام عليكم أهل دار ~~قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم ~~والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا ~~بعدهم، واغفر لنا ولهم" (5) . PageV03P035 # وثبت أيضا في الصحيح أنه كان يخرج إلى أهل البقيع، فيدعو لهم ويستغفر لهم ~~(1) . وثبت أيضا في الصحيح أنه خرج إلى شهداء أحد قبل موته، فصلى عليهم ~~ودعا لهم (2) . # فهذان أمران مشروعان: السلام على الميت والدعاء له. وقد قال ابن عبد البر ~~(3) : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر ~~الرجل كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد ~~عليه السلام" (4) . # وفي سنن أبي داود (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~"ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". # وفيه ms0385 أيضا أنه قال: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن ~~صلاتكم معروضة علي "، فقالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن ~~الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء" (6) . # وأما الدعاء حين الزيارة فمن جنس الدعاء في صلاة الجنازة، كل ذلك حق ~~للميت وعمل صالح من الحي، مثل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~PageV03P036 # والسلام عليه، وسؤال الله له الوسيلة، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات ~~بالمغفرة وغيرها. قال الله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا ~~أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)) (1) . وقد ثبت في الصحيح ~~(2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صلى علي مرة صلى الله ~~عليه عشرا". وثبت في الصحيح (3) أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما ~~يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من ~~عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه ~~شفاعتي يوم القيامة". # وثبت في الصحيح (4) عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكا كلما دعا ~~لأخيه بدعوة قال الملك به: آمين، ولك مثل ذلك ". # فأما [ما] يسميه كثير من الناس زيارة هي من جنس الإشراك بالله وعبادة ~~غيره، مثل السجود لبعض المقابر التي يقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين ~~وأهل البيت أو غيرهم ويسمونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائه ~~ومسألته قريبا من قبره أو بعيدا منه، مثل ما يفعل كثير من الناس-: فهذا كله ~~من أعظم المحرمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن ~~المسلمين (5) متفقون على أنه لا يجوز لأحد أن يدعو أحدا ويتوكل عليه ويرغب ~~PageV03P037 # إليه في المغفرة والرحمة وتفريج الكربات وإعطاء الطلبات إلا الله وحده لا ~~شريك له، ولا يسجد لغير الله لا لحي ولا لميت، حتى إن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - نهى أمته عن اتخاذ القبور مساجد لئلا يفضي ذلك ms0386 إلى الشرك. ففي ~~صحيح مسلم (1) عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ~~قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، إلا فلا ~~تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي الصحيحين (2) عن عائشة رضي ~~الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن ~~الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت ~~عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. # وفي الصحيحين (4) أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - كنيسة رأينها بأرض الحبشة، وذكرتا حسنها وتصاوير فيها، فقال النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: "إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره ~~مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة". # وفي مسند الإمام أحمد (5) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، الذين ~~يتخذون القبور مساجد". # وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله زوارات ~~القبور PageV03P038 # والمتخذين عليها المساجد والسرج". رواه أهل السنن (1) ، وصححه الترمذي أو ~~حسنه. # فلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتخذ القبور مساجد ويسرج عليها ~~سرجا كالشمع والقناديل ونحو ذلك، مثل ما يفعله كثير من الناس، وهذا ما اتفق ~~عليه أهل العلم، فلم يتنازعوا في أن ذلك غير مشروع، بل ينهى عنه، حتى قال ~~العلماء: من نذر لنبي أو غير نبي شمعا أو زيتا أو نحو ذلك فإنه نذر معصية ~~لا يجوز الوفاء به، لكن منهم من يجعل عليه كفارة يمين، ومنهم من يقول: لا ~~شيء. وإذا صرف ذلك إلى مسجد يعبد الله فيه وحده لا شريك له، أو صرفه إلى ~~فقراء المسلمين المؤمنين الذين يستعينون به على عبادة الله كان حسنا. وقد ~~ثبت في صحيح البخاري (2) عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "من نذر ms0387 أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". # وأما اعتقاد بعض الجهال أن حاجته قضيت بسبب هذه النذور فهذا جهل وضلال، ~~فإن نذر الطاعة الذي يجب الوفاء به لا يفيد في قضاء الحوائج، ولا يستحب بل ~~يكره، فكيف نذر المعصية؟ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - من غير وجه أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج ~~به من البخيل" (3) . وقال: "إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر، فيعطي على ~~النذر ما لم يعطه على غيره" (4) . PageV03P039 # لكن إذا كان المنذور طاعة لله تعالى -مثل الصلاة المشروعة والصوم المشروع ~~والحج المشروع والصدقة المشروعة ونحو ذلك- فهذا يجب أن يوفى، وإن كان عقده ~~مكروها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ~~ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (1) . # وأما إذا كان المنذور ليس طاعة لله فلا يجب الوفاء به، بل عليه كفارة ~~يمين لتركه عند طائفة من أهل العلم، لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه قال: "كفارة النذر كفارة يمين" (2) . وفي السنن عنه أنه ~~قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" (3) . # وأما إذا كان المنذور معصية، مثل أن ينذر لوثن من الأوثان: كالنذر ~~للأصنام التي كانت تعبدها العرب، والبدود التي تعبدها الهند والزط (4) ، ~~والنذر لكنيسة أو بيعة، أو النذر لغير نبي أو رجل صالح أو غير ذلك، فهذا ~~كله لا يجوز الوفاء به بإجماع المسلمين. # وإن كان في المنذور طاعة ومعصية أمر بفعل الطاعة ونهي عن فعل المعصية، ~~وإن كان الناذر يعتقد أنها طاعة، كما في صحيح البخاري (5) عن ابن عباس قال: ~~كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، ~~فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، فلا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، ~~ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مروه فليتكلم PageV03P040 # وليستظل وليقعد وليتم صومه". # وهكذا حكم جميع العقود والعهود التي يأخذها المشايخ وغيرهم ms0388 على الناس، ~~يوفى منها ما كان طاعة الله عزوجل، ولا يوفى منها بدين لم يشرعه الله. # وكذلك لا يشرع بإجماع المسلمين أن يبني مسجدا على قبر من القبور، بل هذا ~~ينهى عنه باتفاق المسلمين، وهو محرم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ~~ذلك، ولعن من يفعل ذلك. # والمساجد المبنية على القبور يشرع باتفاق المسلمين إزالتها ويجب # ذلك، فإن كان المسجد قبل القبر فإنه ينبغي أن يساوى القبر ويزال # أثره، أو يعاد المسجد إلى ما كان. وإن كان المسجد يبني على القبر # فيهدم المسجد ويزال، كما هدم مسجد الضرار الذي قال الله تعالى # فيه: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن ~~حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم ~~لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن ~~تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108) أفمن أسس ~~بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ~~فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (109) لا يزال بنيانهم ~~الذي بنوا ريبة في قلوبهم_ إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110)) (1) ~~. # ولهذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرون بهدم مثل ذلك، كما ~~روى حرب الكرماني عن زيد بن ثابت أن ابنا له مات، فاشترى غلام له جضا وآجرا ~~ليبني على القبر، فقال له زيد: حفرت وكفرت، أتريد أن PageV03P041 # تبني على قبر ابني مسجدا؟ ونهاه عن ذلك. # ولهذا لما فتح المسلمون تستر- التي يسمونها العجم "ششتر"- وجدوا عندها ~~قبرا عظيما قالوا: إنه قبر دانيال، ووجدوا عنده مصحفا. قال أبو العالية: ~~أنا قرأت ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم وسيركم ولحون كلامكم، وشموا من ~~القبر رائحة طيبة، ووجدوا الميت بحاله لم يبل، فكتب في ذلك أبو موسى ~~الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفر بالنهار بضعة عشر قبرا، فإذا كان ~~الليل دفنه في قبر من تلك القبور ليخفى ms0389 أثره، لئلا يفتتن به الناس، فينزلون ~~به ويصلون عنده ويتخذونه مسجدا (1) . # وقد اتفق المسلمون على أن ### | الصلاة عند القبور # غير مشروعة، فلا تجب ولا تستحب، ولم يقل قط أحد من علماء المسلمين أن ~~الصلاة عند قبر أو مسجد أو مشهد على قبر سواء كان قبر نبي أو غير نبي، أن ~~ذلك مستحب، أو أن الصلاة هناك أفضل من الصلاة في غيره، فمن اعتقد ذلك أو ~~قاله أو عمل به فقد فارق إجماع المسلمين وخرج عن سبيل المؤمنين. # وقد تنازع العلماء في الصلاة في المقبرة، قيل: هي محرمة أو مكروهة أو ~~مباحة، ولم يقل أحد منهم: إنها مستحبة ولا واجبة. # والذي عليه جماهير العلماء أنها منهي عنها نهي، تحريم أو نهي تنزيه، ~~وكثير منهم يقول: إنها باطلة. # والمقبرة وإن كان قد قال بعضهم: إنها ثلاثة أقبر فصاعدا، فلم PageV03P042 # يتنازعوا في أن المسجد المبني على قبر لا فرق بين أن يبنى على قبر أو ~~أكثر، كالذين لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم إنما كانوا يبنون ~~المسجد على قبر واحد، قبر نبي أو رجل صالح. وإن كان بعض من نهى عن الصلاة ~~في المقبرة علله بالنجاسة، فإنه لا يعلل الصلاة في المسجد المبني على قبر ~~بالنجاسة، بل قد نص هؤلاء -كالشافعي وغيره- على أن العلة هنا خشية الافتتان ~~بالقبر التي هي الشرك. # وأما الصلاة في المقبرة فالعلة الصحيحة عند محققيهم أيضا إنما هي مشابهته ~~للمشركين وأن ذلك قد يفضي إلى الشرك، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، وقال: إنه حينئذ يسجد لها الكفار ~~(1) . ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور، كما ~~ثبت ذلك في صحيح مسلم (2) وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". فنهى أن يكون في ~~القبلة قبر. # وفي صحيح البخاري (3) عن أنس قال: كنت أصلي وهناك قبر، فقال عمر بن ~~الخطاب: القبر القبر! فظننته يقول: القمر ms0390، وإذا هو يقول: القبر. أو كما ~~قال. # وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن الصلاة إلى القبر وإن ~~لم يقصد العبد السجود له، فكيف بمن يسجد للقبر؟ فإن هذا شرك. وقد روى ~~PageV03P043 # الإمام أحمد (1) عن معاذ بن جبل أنه لما قدم الشام وجدهم يسجدون ~~لأساقفتهم، فلما رجع سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما هذا يا ~~معاذ؟ "، فقال: يا رسول الله! رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعظمائهم، ويذكرون ~~ذلك عن أنبيائهم، فقال: "إنه لا يصلح السجود إلا الله، ولو كنت آمر أحدا أن ~~يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها". ثم قال: "يا ~~معاذ! أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدا إليه؟ "، قال: لا، قال: "فلا تسجد ~~لي". فمعاذ كان يعلم أن السجود للقبور لا يجوز. # قال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا ~~يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا ~~يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) ومن يقل منهم إني إله من ~~دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29)) (2) . وهذا في كتاب الله ~~كثير جدا. # وقال تعالى: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله ~~فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ~~(37) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون ~~من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ~~ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38)) (3) . # وقال تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل ~~له من بعده وهو العزيز الحكيم (2) يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل ~~من خالق غير الله PageV03P044 # يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3)) (1) # وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا ~~أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما ms0391 تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي ~~فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)) الآيات إلى (وهم ~~مهتدون (82)) (2) . # وفي الصحيحين (3) عن عبد الله بن مسعود قال: لما (4) [نزلت # (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب رسول الله # - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - "ليس هو كما # تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك ~~لظلم عظيم (13)) ] . # كان يظن أن السجود للحي مشروع، كما ذكر في قصة يوسف، وكما ذكر في قصة أهل ~~الكهف أن أولئك اتخذوا عليهم مسجدا، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~في شريعتنا لا يصلح السجود إلا لله، كما بين في الأحاديث المتقدمة أن الذين ~~اتخذوا على أهل الكهف مسجدا من الذين نهانا رسولنا أن نتشبه بهم. # وكذلك التمسح بالقبور - كاستلامها باليد وتقبيلها بالفم- منهي عنه باتفاق ~~المسلمين، حتى إنهم قالوا فيمن زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه ~~لا يستلمه بيده ولا يقبله بفمه، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي هو ~~الكعبة البيت الحرام، فإن الله شرع أن يستلم الحجر الأسود PageV03P045 # الذي بمنزلة يمينه في الأرض، وأن يقبله أيضا، حتى إنه يستحب إذا لم يمكن ~~تقبيله أن يقبل اليد التي استلمته، حتى إنه يستحب استلامه بالمحجن والعصا ~~ونحو ذلك إذا لم يمكن استلامه باليد. وكذلك الركن اليماني يستحب استلامه. ~~ولم يستلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أركان البيت الأربعة إلا ~~الركنين اليمانيين، لأنهما بنيا على قواعد إبراهيم، وأما الركنان اللذان ~~يليان الحجر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلمهما، ولهذا لا يستحب ~~استلامهما عند الأئمة الأربعة وعامة العلماء، كما لا يستحب أن يستلم الرجل ~~جوانب بيت الله، ولا يستحب تقبيل ذلك أيضا. # وكذلك مقام إبراهيم الذي قال الله تعالى فيه: (واتخذوا من مقام إبراهيم ~~مصلى) (1) لم يستلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبله، ولا يشرع ذلك ~~فيه بل ينهى عنه باتفاق العلماء. فإذا ms0392 كان مقام إبراهيم الذي ذكره الله ~~تعالى في القرآن لا يشرع أن يتمسح العبد به فكيف سائر المقامات والمشاهد ~~التي يقال: إنها أثر بعض الأنبياء والصالحين؟. # وإذا كان قبر نبينا لا يشرع باتفاق المسلمين بأن يقبل أو يمسح به، فكيف ~~بقبر غيره؟ وفي سنن أبي داود (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ~~تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر". وقال أيضا (3) : "صلوا علي ~~حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني". # ولهذا رأى عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب رجلا يكثر ~~الاختلاف إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا هذا! إن رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، فصلوا علي حيثما ~~كنتم، فإن PageV03P046 # صلاتكم تبلغني"، فما أنت ورجل بالأندلس فيه إلا سواء. ذكره سعيد بن منصور ~~في سننه (1) ، وروى بنحو هذا المعنى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه ~~الحسين عن علي بن أبي طالب. ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي ~~الحافظ في صحيحه (2) . # وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا ~~يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". رواه مالك في ~~"الموطأ" (3) ، وعن مالك مرسلا ومسندا. # وقد كانت حجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هو الآن مدفون فيها ~~هي حجرة عائشة، وكانت شرقي المسجد لم تكن داخلة فيه، وكان حجر أزواج النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - قبلي المسجد وشرقيه، وكانت منفصلة عن المسجد على ~~عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الوليد بن عبد الملك، فإنه عمر المسجد وغيره، ~~وكان عمر بن عبد العزيز نائبه على المدينة، فتولى هو عمارة المسجد، فأدخل ~~فيه حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدخل فيه حجرة عائشة، وأمر ~~عمر أن يحرف الحجرة عن يمين القبلة، وأن يسنم مؤخرها، لئلا يصلي أحد إلى ~~قبر.. (4) . PageV03P047 ### | فصل # في حق الله وحق عبادته وتوحيده # PageV03P049 # الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات ms0393 ~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. # وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ~~- صلى الله عليه وسلم - # فصل # في حق الله وحق عبادته وتوحيده # قد ثبت في الصحيحين (1) عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال له: "يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله ~~أعلم، قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا. يا معاذ! أتدري ما حق ~~العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه ~~أن لا يعذبهم". # وروى الطبراني في كتاب الدعاء (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ~~الله يقول: "يا عبادي! إنما هي أربع: واحد لي، وواحدة [لك] ، وواحدة بيني ~~وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي هي لي: تعبدني لا تشرك بي شيئا، والتي ~~هي لك: [عملك] أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك: منك الدعاء ~~وعلي الإجابة، والتي بينك وبين خلقي: فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك". # وضد هذا الظلم، وهو ثلاثة أنواع، كما جاء في الحديث PageV03P051 # مرفوعا (1) وموقوفا على بعض السلف: "الظلم ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر ~~الله منه شيئا، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه ~~شيئا. فالديوان الذي لا يغفره الله هو الشرك، والديوان الذي لا يعبأ الله ~~به شيئا ظلم العبد فيما بينه وبين ربه، والذي لا يترك منه شيئا ظلم العباد ~~بعضهم بعضا. # فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام بالتوحيد الذي هو حق الله، فعبده لم يشرك به ~~شيئا، ومن عبادته التوكل عليه والرجاء له والخوف منه، فهذا يخلص به العبد ~~من الشرك. وإعطاء الناس حقوقهم وامتناعه من العدوان عليهم يخلص به العبد من ~~ظلمهم، وبطاعة الله يخلص من ظلم نفسه. # وتقسيمه في الحديث إلى قوله "واحدة لي وواحدة لك" هو مثل تقسيمه في حديث ~~الفاتحة (2) حيث يقول الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين ms0394 عبدي نصفين: ~~نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل". والعبد يعود عليه نفع الصنفين، ~~والله تعالى يحب الصنفين، لكن هو سبحانه يحب أن يعبد، وما يعطيه العبد من ~~الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك، فإنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته. ~~والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة ~~والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة. فهو يطلب ما يحتاج ~~إليه أولا مما يتوسل به إلى محبوب الرب الذي فيه سعادته. PageV03P052 # وكذلك قوله "عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه"، فإنه يحب الثواب الذي هو ~~جزاء العمل، فإنما يعمل لنفسه، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ثم إذا طلب ~~العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصلة لسعادته، فلا يطلب العبد قط ~~إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له، ~~والرب تعالى يحب أن يعبد لا يشرك به شيئا، ومن فعل ذلك من العباد أحبه ~~وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعيم تبعا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع ~~والمشتري، البائع يريد أولا الثمن، ومن لوازم ذلك إرادة تسليم المبيع، ~~والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك إرادة إعطاء الثمن. # فالرب تعالى يحب أن يعبد، ومن لوازم ذلك أن يحب مالا تحصل العبادة إلا ~~به، والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك محبته لعبادة الله ~~تعالى. فمن عبد الله وأحسن إلى الناس لله فهذا قائم بحق الله وحق عباده ~~لأجله، ومن طلب منهم العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك لم يحسن إليهم لله. ومن ~~خاف الله فيهم ولم يخفهم فقد قام بحق الله في إخلاص الدين له، وقام بحقهم، ~~فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم مالهم ويكف عن ظلمهم؛ ومن [لم] يخف الله ~~بل خاف الناس، ولم يرج الله بل رجا الناس فهذا ظالم في حق الله، حيث خاف ~~غيره ورجا غيره، وظالم للناس لأنه إذا خافهم دون الله فإنه يحتاج أن يدفع ~~شرهم ms0395 عنه، وهو إذا لم يخف الله بنفسه وهواه يختار العدوان عليهم والبغي، ~~فإن طبع النفس ظلم من لا يظلمها، فكيف من يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير ~~الخوف من الخلق كثير الظلم لمن يخافه بحسبه. وهذا مما يوقع الفتن بين ~~الناس. # PageV03P053 # وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابد أن يبغضهم فيظلمهم ~~إذا لم يكن خائفا من الله. وهذا موجود كثيرا، تجد الناس يخاف بعضهم بعضا ~~ويرجو بعضهم بعضا، وكل من هؤلاء وهؤلاء يتظلم من الآخر ويطلب ظلمه، فهم ~~ظالمون بعضهم بعضا، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون ~~لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تعذب النفس عليها، وهو أيضا يجر إلى فعل ~~المعاصي المختصة كالشرب والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ~~لاسيما إذا كان طالبا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به ~~وتدفع به الغم والحزن، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح به، ~~فتستريح بالمحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وغير ذلك. # و ### | لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى، # فإن الإنسان خلق محتاجا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ونفسه مريدة ~~دائما، ولابد لها من مراد يكون غاية مطلوبها، فتسكن إليه وتطمئن به، وليس ~~ذلك إلا الله وحده لا شريك له. فإذا لم تكن مخلصة له الدين عبدت غيره، ~~فأشركت به عبادة واستعانة، فتعبد غيره وتستعين غيره. وسعادتها في أن لا ~~تعبد إلا الله، ولا تستعين إلا الله، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر، ~~وبإعانته تستغني عن معين غيره، وإلا يبقى مذنبا محتاجا. # وهذا حال الإنسان، فإنه محتاج فقير، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلابد له من ~~ربه الذي يسد مفاقره، ولابد له من الاستغفار من ذنوبه. قال تعالى: (فاعلم ~~أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) (1) . PageV03P054 # فبالتوحيد يقوى ويستغني، ومن سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله؛ ~~وبالاستغفار له يغفر له. فلا يزول فقره وفاقته إلا بالتوحيد، لابد له منه، ~~وإلا ms0396 فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرا محتاجا لا يحصل مطلوبه معذبا، والله ~~تعالى لا يغفر أن يشرك به. وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار حصل غناه ~~وسعادته، وزال عنه ما يعذب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. # وهو مفتقر دائما إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى ~~عبادته، فلابد أن يشهد دائما فقره إليه وحاجته في أن يكون معبودا له وأن ~~يكون معينا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال ~~تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) أي يخوفكم أولياءه (فلا تخافوهم ~~وخافون إن كنتم مؤمنين (175)) (1) . هذا هو الصواب الذي علمه جمهور ~~المفسرين (2) ، كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي، وأهل اللغة ~~كالفراء (3) وابن قتيبة (4) والزجاج (5) وابن الأنباري. وعبارة الفراء: ~~يخوفكم بأوليائه، كما قال: (لينذر بأسا شديدا من لدنه) أي ببأس، وقوله: ~~(لينذر يوم التلاق (15)) أي بيوم التلاق. وعبارة الزجاج: يخوفكم من ~~أوليائه. قال أبو بكر الأنباري (6) : والذي نختاره في الآية أن المعنى ~~يخوفكم أولياءه، يقول العرب: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال، ~~فيحذفون المفعول الأول، ويقتصرون على ذكر الثاني. PageV03P055 # قال فهذا أشبه من ادعاء "باء"، وما عليها دليل ولا تدعو إليها ضرورة. # قلت: وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا، ليس له في تخويف ~~ناس [ضرورة] ، فحذف الأول لأنه ليس مقصودا. # وهذا يسمى حذف اقتصار، كما يقال: فلان يعطي الأموال والدراهم. # وقد قال بعض المفسرين (1) : إن المراد يخوف أولياءه المنافقين، ونقل هذا ~~عن الحسن والسدي. وهذا له وجه سنذكره، لكن الأول أظهر، لأن الآية إنما نزلت ~~بسبب تخويفهم من الكفار. قال الله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد ~~جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173)) إلى ~~أن قال: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) ، ثم قال: (فلا تخافوهم وخافون ~~إن كنتم مؤمنين (175)) (2) . فإنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد ~~قال تعالى: (يخوف أولياءه) ثم قال: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) . ~~والضمير عائد إلى أوليائه ms0397 الذين قيل فيهم (فاخشوهم) . # وأما ذلك القول فالذي قاله فسرها من جهة المعنى أن الشيطان إنما يخوف ~~أولياءه، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم. أو أنهم أرادوا ~~المفعول المتروك، أي يخوف المنافقين أولياءه، وإلا فهو يخوف الكفار كما ~~يخوف المنافقين. ولو أريد أنه يخوف أولياءه أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ~~ما يعود إليه، وهو قوله (فلا تخافوهم) . PageV03P056 # وأيضا فهذا فيه نظر، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم، كما قال تعالى: ~~(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس) الآية (1) ~~، وقال: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120)) (2) . ولكن ~~الكفار يوقع الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال ~~تعالى: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله) (3) ، وقال تعالى: (إذ يوحي ربك ~~إلى الملائكة أني معكم) الآية (4) ، وقال: (سنلقي في قلوب الذين كفروا ~~الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) (5) . وفي حديث قريظة (6) أن ~~جبريل قال: إني ذاهب إليهم فأزلزل بهم الحصن. # فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصر للمؤمنين، ولكن الذين ~~قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام وهم ~~يوالونه من العدو، فإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما ~~قال تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56)) ~~(7) ، وقال تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم) إلى قوله (وإن يأت الأحزاب ~~يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم) الآية (8) . ~~PageV03P057 # فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه في الآية هو الذي ~~يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين، كما دل عليه سياق الآية ولفظها، وإذا ~~جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان فجعله خائفا. فالآية ~~دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناسا خائفين أولياءه. # ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز أن يخاف أولياء الشيطان، وعليه أن يخاف ~~الله، فخوف الله أمر به وخوف أولياء الشيطان نهي عنه. وهذا كقوله في الآية ~~الأخرى: (لئلا يكون للناس ms0398 عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) الآية (1) ، ~~فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته تعالى. وقال: (الذين يبلغون رسالات الله ~~ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) (2) ، وقال: (فإياي فارهبون (51)) (3) . # وبعض الناس يقول: يا رب! أخافك وأخاف من لا يخافك. وهذا لا يجوز، بل عليه ~~أن يخاف الله، ولا يخاف من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله ظالم من ~~أولياء الشيطان، وهذا قد نهى الله عن أن يخاف. # وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد سبحانه ~~دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله. أنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك ~~شره، ولم يسلطه عليك، فانه تعالى قال: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (4) . ~~PageV03P058 # وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك ~~واستغفرته [لم يسلطه عليك] ، وقد قال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت ~~فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)) (1) . وفي الآثار: "أنا الله ~~مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن ~~عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم ~~عليكم". # وقد قال لما سلط العدو عليهم يوم أحد: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم ~~مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165)) ~~(2) ، وقال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم ~~في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان ~~قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا ~~وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب ~~الآخرة والله يحب المحسنين (148)) (3) . والأكثرون يقرأون "قاتل معه ربيون ~~كثير"، والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة (4) . ~~قال ابن مسعود وابن عباس- في رواية عنه- والفراء (5) : ألوف كثيرة" وقال ~~ابن عباس -في رواية أخرى- ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي والربيع ~~وابن قتيبة (6) : جماعات كثيرة. وقرئ PageV03P059 # بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة الربيون الذين قاتلوا ms0399 معه هم ~~الذين ما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا. # وأما على قراءة أبي عمرو وابن كثير ونافع "قتل" ففيها وجهان: # أحدهما يوافق معنى هذه الآية، أي قتل معه ربيون كثير، فالربيون مقتولون، ~~فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم. # والثاني أن النبي قتل ومعه ربيون كثير، فما وهنوا لقتل نبيهم. # وهذا يناسب كون يوم أحد صرخ الشيطان بأن محمدا قد قتل. لكن هذا المعنى لا ~~يناسب لفظ الآية، فإنه سبحانه قال: "ربيون كثير"، فالمناسب أنهم مع كثرة ~~المصيبة الشاملة لهم ما وهنوا. ولو أريد أن النبي قتل ومعه ناس لم يخافوا ~~لم يحتج إلى تكثيرهم، بل كان تقليلهم هو المناسب، يقول: هم مع قلتهم وقتل ~~نبيهم لم يخافوا. # وأما إذا كانوا كثيرين لم يكن مدحهم بعدم الخوف فيه عبرة. # وأيضا فإذا وصف من قتل نبيه بكونهم كثيرين لم يكن في هذا حجة على الصحابة ~~ولا عبرة لهم، فإنهم يوم أحد كانوا قليلين، وكان العدو أضعافهم، فكانوا ~~يقولون: أولئك كانوا ألوفا مؤلفة فلهذا لم يهنوا، ونحن قليلون. # وأيضا فقوله (وكأين من نبي) يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يعرف أن أنبياء ~~كثيرين قتلوا في الجهاد. # وأيضا فيقتضي أن المقتولين كان مع كل واحد ربيون كثيرون، فيكون قد قتل ~~أنبياء كثيرون، ومع كل واحد خلق عظيم، وهذا لم يوجد. فإن من قبل موسى من ~~الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى # PageV03P060 # وأنبياء بني إسرائيل لم يقتلوا في الغزاة، والذين قبلهم بنو إسرائيل من ~~الأنبياء لم يقتلوا في جهاد، بل لا يعرف نبي قتل في جهاد، فكيف يكون هذا ~~كثيرا؟ ويكون جنسه كثيرا ولا يعرف هذا في شيء من الأخبار؟!. # وهو سبحانه أنكر على من ينقلب على عقبيه، سواء كان النبي مقتولا أو ميتا، ~~لم يخص حال القتل، فلم يذمهم إذا مات أو قتل على الخوف والرعب، بل على ~~الردة والانقلاب على العقبين. ولهذا تلاها الصديق يوم مات النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها (1) . # ثم ذكر بعدها ms0400 معنى آخر، وهو أن من قبلكم كانوا يقاتلون، فيقتل معهم خلق ~~كثير وهم لا يهنون. ويكون ذكر الكثرة مناسبا؛ لأنه إن قتل منهم كثير فهذا ~~يقتضي الوهن وما وهنوا، وإن كان الذين قاتلوا كثيرين وما وهنوا دل على ~~إيمانهم كلهم مع الكثرة. ولم يقل هنا: وما انقلبوا على أعقابهم، فلو كان ~~المراد أن نبيهم قتل لقال: "فما انقلبوا على أعقابهم"، لأنه هو الذي أنكره ~~إذا مات الرسول أو قتل، فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات الرسول أو ~~قتل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو، ~~ولهذا قال: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) ، ~~ولم يقل: "فما وهنوا لقتل النبي". ولو كان النبي هو المقتول وهم كلهم أحياء ~~لذكر ما يناسب ذلك ولم يقل (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) . ومعلوم ~~أن ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي. PageV03P061 # وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قتل معه ربيون كثير لا يستلزم أن يكون معهم ~~في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من ~~قتل على دينه فقد قتل معه، وحينئذ تظهر كثرة هؤلاء، فإن الذين قاتلوا ~~وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون. ويكون في هذه الآية عبرة لكل ~~المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وإن كان النبي قد مات. والصحابة الذين كانوا يغزون في السرايا ~~والرسول غائب عنهم كانوا معه وكانوا يقاتلون معه، وهم داخلون في قوله (محمد ~~رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (1) ، وفي قوله: ~~(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) (2) . فليس من شرط ~~من يكون مع المطاع أن يكون رائيا للمطاع. # وقد قيل في "ربيين" هنا: إنهم العلماء (3) ، واختاره الرماني والزجاج، ~~وروي عن الحسن وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذلك قال ابن فارس (4) : هم ~~المتألهون العارفون بالله. وهؤلاء جعلوا لفظ "الربي" كلفظ ms0401 "الرباني". وعن ~~ابن زيد قال: هم الأتباع. كأنه جعلهم المربوبين. # والمعنى الأول أصح من وجوه: # أحدها: أن الربانيين غير الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم ~~PageV03P062 # أئمتهم الذين يقتدون بهم في دينهم. ومعلوم أن هؤلاء لا يكونون إلا قليلا، ~~فكيف يقال: هم كثير؟. # والثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهؤلاء، والصحابة لم يكونوا ~~كلهم ربانيين، فيقولون: أولئك أعطوا علما منعهم [من] الخوف. # الثالث: أن استعمال لفظ "الربي" في هذا ليس معروفا في اللغة، بل المعروف ~~الأول. والذين قالوا ذلك قالوا: هو نسبة إلى الرب بلا نون، والقراءة ~~المشهورة: "ربي" بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على قراءة من قرأ "ربيون" ~~بالفتح، وقد قرئ "ربيون" بالضم. فعلم أنها لغات. # الرابع: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء ~~كان من الربانيين أو لم يكن. # الخامس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في ~~مثل قوله: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم وأكلهم السحت) ~~(1) ، وفي مثل قوله: (ولكن كونوا ربانيين) (2) ، وهناك ذكرهم بلفظ ~~الربانيين. # السادس: أن "الرباني" قيل: منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون، ~~كالرقباني واللحياني، وقيل: إنه منسوب إلى ربان السفينة. # وهذا أصح، فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى ~~PageV03P063 # تربية الناس وكونهم يربونهم، وهذه النسبة تختص بهم. وأما نسبتهم إلى الرب ~~فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد فهو منسوب إليه. ولم يسم الله تعالى ~~أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى أنبياءه والرسل ربانيين، فإن الرباني من ~~يرب الناس كما يرب الربان السفينة. ولهذا كان الربانيون يذمون تارة ويمدحون ~~أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب بأنهم عرفوه وعبدوه لم يكونوا مذمومين ~~قط، وهذا هو الوجه السابع: # أن نسبتهم إلى الرب إن جعلت مدحا فقد ذم الله الربانيين في موضع آخر، وإن ~~لم تجعل مدحا لم يكن لهؤلاء خاصة يمتازون بها من جهة المدح. وإذا كان ~~الرباني منسوبا إلى ربان السفينة لا إلى الرب بطل قول من يجعل الرباني ~~منسوبا إلى الرب، فنسبة "الربيون ms0402" إلى الرب أولى بالبطلان. # الثامن: أنه إذا قدر أنهم منسوبون إلى الرب فهذه النسبة لا تدل على أنهم ~~علماء، نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، قاله ابن فارس. وهذا يعم جميع ~~المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئا فهو متأله عارف بالله. # والصحابة كلهم كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا، وكانوا متألهين ~~عارفين بالله، ولم يسموا "ربيون" ولا "ربانيون"، وإنما جاء عن منذر الثوري ~~قال: قال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة (1) ~~، لكونه كان يؤدبهم بما أعطاه الله من PageV03P064 # العلم، فيأمرهم وينهاهم. والخلفاء الراشدون كانوا ربانيين. وقال إبراهيم: ~~كان علقمة من الربانيين. ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربون الناس بصغار ~~العلم قبل كباره. فهم أهل الأمر والنهي والأخبار، يدخل فيه من أخبر بالعلم ~~ورواه عن غيره وحدث به، وإن لم يأمر وينه، وذلك هو المنقول عن السلف في ~~"الرباني" (1) . نقل عن علي رضي الله عنه قال: هم الذين يغذون الناس ~~بالحكمة ويربونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلمون. # قلت: أهل الأمر والنهي [هم الفقهاء المعلمون] . # وعن قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة (2) : ~~واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. وقال أبو عبيد (3) : أحسب الكلمة ليست ~~بعربية، إنما هي عبرانية أو سريانية. وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا ~~تعرف الربانيين. قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم. قال: وسمعت ~~رجلا عالما بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي. # قلت: هذا صحيح، واللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة، ولكن العرب في ~~جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون، لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز ~~وجل، فلهذا لم يشتهر هذا الاسم عنهم. PageV03P065 # وحكى ابن الأنباري (1) عن بعض اللغويين أن الرباني منسوب إلى الرب، لأن ~~العلم مما يطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما ~~قالوا: رجل لحياني إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية. # وهذا قول ضعيف كما تقدم التنبيه عليه. # والله سبحانه ms0403 أعلم. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله ~~وسلم. PageV03P066 ### | رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع # وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر # PageV03P067 # بسم الله الرحمن الرحيم # قال الشيخ الإمام العالم فريد عصره، مفتي الفرق، شيخ الإسلام تقي الدين ~~أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ ~~الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية -رضي الله عنه وأرضاه وأعلى ~~درجته-: # هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين، الذين يتولون الله ~~ورسوله والذين آمنوا (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون ~~الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا ~~فإن حزب الله هم الغالبون (56)) (1) ، الذين يحبون الله ورسوله ومن أحبه ~~الله ورسوله، ويعرفون من حق المتصلين برسول الله ما شرعه الله ورسوله، فإن ~~من محبة الله وطاعته محبة رسوله وطاعته، ومن محبة رسوله وطاعته محبة من ~~أحبه الرسول وطاعة من أمر الرسول بطاعته، كما قال تعالى: (يا أيها الذين ~~آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء ~~فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن ~~تأويلا (59)) (2) . # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع ~~أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" (3) . ~~PageV03P069 # وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي ~~طالب رضي الله عنه: "إنما الطاعة في المعروف" (1) . # وقال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (2) . # سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا ~~هو، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، ونصلي على إمام المتقين وخاتم ~~النبيين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. # أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا بالكتاب والحكمة، ليخرج الناس ~~من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (3) ، وقال الله ~~تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من ms0404 أنفسهم يتلو عليهم ~~آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ~~(164)) (4) ، وقال تعالى: (واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من ~~الكتاب والحكمة يعظكم به) (5) ، وقال لأزواج نبيه: (واذكرن ما يتلى في ~~بيوتكن من آيات الله والحكمة) (6) . PageV03P070 # والذي كان يتلوه هو ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في بيوت أزواجه: كتاب ~~الله والحكمة، فكتاب الله هو القرآن، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه، ~~وهي سنته. فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا. # وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره (1) عن أمير المؤمنين علي بن ~~أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ستكون ~~فتنة"، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما ~~قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من ~~جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، ~~وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا ~~تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. من قال به ~~صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فدي إلى صراط مستقيم". # وقال الله تعالى في كتابه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (2) ، ~~وقال في كتابه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) (3) . # فذم الذين تفرقوا فصاروا أحزابا وشيعا، وحمد الذين اتفقوا وصاروا ~~PageV03P071 # جميعا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعة واحدة للأنبياء، كما قال ~~تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم (83)) (1) . وإبراهيم هو إمام الأنبياء، كما ~~قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس ~~إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)) (2) ، وقال تعالى: ~~(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120)) إلى أن ~~قال: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) . # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أمته أن ms0405 يقولوا إذا أصبحوا: ~~"أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد - صلى الله عليه ~~وسلم -، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين" (4) . # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ~~فلا ألفين رجلا شبعان على أريكته يقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا ~~فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. إلا إني أوتيت الكتاب ~~ومثله معه" (5) . # فهذا الحديث موافق لكتاب الله، فإن الله ذكر في كتابه أنه - صلى الله ~~عليه وسلم - PageV03P072 # يتلو الكتاب والحكمة، وهي التي أوتيها مع الكتاب، وقد أمر في كتابه ~~بالاعتصام بحبله جميعا، ونهى عن التفرق والاختلاف، و [أمر] أن نكون شيعة ~~واحدة لا شيعا متفرقين. وقال الله تعالى في كتابه: (وإن طائفتان من ~~المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي ~~تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن ~~الله يحب المقسطين (9)) (1) . فجعل المؤمنين إخوة، وأمر بالإصلاح بينهم ~~بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي. # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم ~~وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى ~~والسهر" (2) . وقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وشبك بين ~~أصابعه (3) . # فهذه أصول الإسلام التي هي الكتاب والحكمة والاعتصام بحبل الله جميعا، ~~على أهل الإيمان الاستمساك بها. ولا ريب أن الله قد أوجب فيها من حرمة ~~خلفائه وأهل بيته والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ما أوجب، قال ~~الله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها ~~فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار ~~الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)) (4) . PageV03P073 # وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما (1) عن أم سلمة أن هذه الآية لما ~~نزلت أدار النبي - صلى الله عليه وسلم - كساءه على علي وفاطمة والحسن ~~والحسين رضي الله عنهم، فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الزجس ~~وطهرهم تطهيرا". # وسنته تفسر كتاب ms0406 الله وتبينه، وتدل عليه وتعبر عنه، فلما قال: "هؤلاء أهل ~~بيتي" -مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه-علمنا أن أزواجه وإن ~~كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته، لأن ~~صلة النسب أقوى من صلة الصهر. والعرب تطلق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا ~~للاختصاص بأصل الحكم، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين ~~بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين ~~الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يتفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافا" ~~(2) . # بين بذلك أن هذا مختص بكمال المسكنة، بخلاف الطواف فإنه لا تكمل فيه ~~المسكنة، لوجود من يعطيه أحيانا، مع أنه مسكين أيضا. ويقال: هذا هو العالم، ~~وهذا هو العدو، وهذا هو المسلم، لمن كمل فيه ذلك، وإن شاركه غيره في ذلك ~~وكان دونه. # ونظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه (3) عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - PageV03P074 # أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: "مسجدي هذا" يعني مسجد ~~المدينة. مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار (لا تقم فيه أبدا لمسجد ~~أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا ~~والله يحب المطهرين (108)) (1) يقتضي أنه مسجد قباء، فإنه قد تواتر أنه قال ~~لأهل قباء: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟ "، فقالوا: لأننا ~~نستنجي بالماء (2) . لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسسا على التقوى من مسجد ~~قباء، وإن كان كل منهما مؤسسا على التقوى، وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد ~~الضرار، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي قباء كل سبت ~~راكبا وماشيا (3) . فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة، ثم يقوم ~~بقباء يوم السبت، وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى. # ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل ببته ويطهرهم تطهيرا، دعا ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لأقرب أهل بيته وأعظمهم ms0407 اختصاصا به، وهم: علي ~~وفاطمة -رضي الله عنهما- وسيدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قضى ~~لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ~~ليسبغها عليهم، ورحمة من الله وفضل لم PageV03P075 # يبلغوهما لمجرد حولهم وقوتهم، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته ~~وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه. # وقد ثبت أيضا بالنقل الصحيح (1) أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - على أزواجه، وخيرهن كما أمره الله، فاخترن الله ~~ورسوله والدار الآخرة، ولذلك أقرهن ولم يطلقهن حتى مات عنهن. ولو أردن ~~الحياة الدنيا وزينتها لكان يمتعهن ويسرحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى، ~~فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخشى الأمة لربه وأعلمهم بحدوده. # ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور ورفع الوزر بلغنا عن ~~الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام أنه قال: إني لأرجو أن ~~يعطي الله للمحسن منا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين. # وثبت في صحيح مسلم (2) عن زيد بن أرقم أنه قال: خطبنا رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - بغدير يدعى "خم" بين مكة والمدينة، فقال: "وأهل بيتي، ~~أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: ومن ~~أهل بيته؟ قال: الذين حرموا الصدقة: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس. ~~قيل لزيد: أكل هؤلاء أهل بيته؟ قال: نعم. # وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحاح (3) أن الله لما ~~أنزل عليه PageV03P076 # (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا ~~تسليما (56)) (1) سأل الصحابة كيف يصلون عليه، فقال: "قولوا: اللهم صل على ~~محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، ~~وبارك ms0408 على محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". # وفي حديث صحيح (2) : "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته". وثبت عنه (3) ~~أن ابنه الحسن لما تناول تمرة من تمر الصدقة قال له: "كخذ كخ، أما علمت أنا ~~-آل بيت- لا تحل لنا الصدقة؟ " وقال (4) : "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل ~~محمد". # وهذا -والله أعلم- من التطهير الذي شرعه الله لهم، فإن الصدقة أوساخ ~~الناس، فطهرهم الله من الأوساخ، وعوضهم بما يقيتهم من خمس الغنائم، ومن ~~الفيء الذي جعل منه رزق محمد، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد ~~وغيره (5) : "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى PageV03P077 # يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار ~~على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم". # ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامهم بكفاية أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة ~~أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة، لاسيما إذا تعذر أخذهم من ~~الخمس والفيء، إما لقلة ذلك، وإما لظلم من يستولي على حقوقهم فيمنعهم إياها ~~من ولاة الظلم، فيعطون من الصدقة المفروضة ما يكفيهم إذا لم تحصل كفايتهم ~~من الخمس والفيء. # وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به ~~أهل الفيء في كتابه، حيث قال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ~~وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) الآيات (1) . فجعل ~~أهل الفيء ثلاثة أصناف: المهاجرين، والأنصار، (والذين جاءوا من بعدهم ~~يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا ~~غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (10)) (2) . # وذلك أن الفيء إنما حصل بجهاد المهاجرين والأنصار وإيمانهم وهجرتهم ~~ونصرتهم، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفا عن أولئك، مشبها بتناول الوارث ~~ميراث أبيه، فان لم يكن مواليا له لم يستحق الميراث، فلا يرث المسلم ~~الكافر، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضا لهم خرج عن الوصف الذي وصف الله ~~به أهل الفيء، حتى يكون قلبه مسلما لهم، ولسانه داعيا ms0409 لهم. ولو فرض أنه صدر ~~من PageV03P078 # واحد منهم ذنب محقق فإن الله يغفره له بحسناته العظيمة، أو بتوبة تصدر ~~منه، أو يبتليه ببلاء يكفر به سيئاته، أو يقبل فيه شفاعة نبيه وإخوانه ~~المؤمنين، أو يدعو الله بدعاء يستجيبه له. # وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح (1) من رواية أمير ~~المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعة كاتب كفار مكة ~~لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزوهم غزوة الفتح، فبعث إليهم ~~امرأة معها كتاب يخبرهم فيه بذلك، فجاء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - بذلك، فبعث عليا والزبير، فأحضرا الكتاب، فقال: "ما هذا يا حاطب؟ "، ~~فقال: والله يا رسول الله! ما فعلت ذلك أذى ولا كفرا، ولكن كنت امرأ ملصقا ~~من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يحمون بها ~~أهليهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدا أحمي بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب رضي ~~الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه شهد بدرا، ~~وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت ~~لكم". وأنزل الله تعالى في ذلك (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم ~~أولياء تلقون إليهم بالمودة) الآيات (2) . # وثبت في صحيح مسلم (3) أن غلام حاطب هذا جاء إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فقال: يا رسول الله! والله ليدخلن حاطب النار، وكان حاطب يسيء إلى ~~مماليكه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كذبت، إنه قد شهد بدرا ~~والحديبية". PageV03P079 # وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة" (1) ~~. # فهذا حاطب قد تجسس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة فتح مكة ~~التي كان - صلى الله عليه وسلم - يكتمها عن عدوه، وكتمها عن أصحابه، وهذا ~~من الذنوب الشديدة جدا. وكان يسيء إلى مماليكه، وفي الحديث المرفوع: "لن ~~يدخل الجنة سيئ الملكة" (2) . ثم مع هذا لما شهد بدرا ms0410 والحديبية غفر الله ~~له ورضي عنه، فإن الحسنات يذهبن السيئات. فكيف بالذين هم أفضل من حاطب، ~~وأعظم إيمانا وعلما وهجرة وجهادا، فلم يدنب أحد قريبا من ذنوبه؟! # ثم إن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه روى هذا الحديث في خلافته، ورواه ~~عنه كاتبه عبيد الله بن أبي رافع (3) ، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب ~~الكتاب من المرأة الظعينة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد لأهل بدر ~~بما شهد، مع علم أمير المؤمنين بما جرى، ليكف القلوب والألسنة عن أن تتكلم ~~فيهم إلا بالحسنى، فلم يأت أحد منهم بأشد ما جاء به حاطب، بل كانوا في غالب ~~ما يأتون به مجتهدين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتهد ~~الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، وهذا حديث صحيح مشهور ~~(4) . PageV03P080 # وثبت عنه (1) أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فرد الله الأحزاب بغيظهم ~~لم ينالوا خيرا، وأمر نبيه بقصد بني قريظة، قال لأصحابه: "لا يصلين أحد ~~منكم العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فمنهم قوم ~~قالوا: لا نصليها إلا في بني قريظة، ومنهم قوم قالوا: لم يرد منا تفويت ~~الصلاة، إنما أراد المسارعة، فصلوا في الطريق. فلم يعنف النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - واحدة من الطائفتين. # وكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه موافقة لما ذكره الله ~~سبحانه وتعالى في كتابه، حيث قال: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ ~~نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا ~~حكما وعلما) (2) . فأخبر سبحانه وتعالى أنه خص أحد النبيين بفهم الحكم في ~~تلك القضية، وأثنى على كل منهما بما آتاه الله من العلم والحكم. # فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ~~-رضي الله عنهم ورضوا عنه-[كانوا] فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق. # وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من يعش منكم بعدي ~~فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من ~~بعدي ms0411، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل PageV03P081 # بدعة ضلالة" (1) . # وروى عنه مولاه سفينة أنه قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكا" (2) ، ~~فكان آخر الثلاثين حين سلم سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن ~~علي -رضي الله عنهما- الأمر إلى معاوية، وكان معاوية أول الملوك، وفيه ملك ~~ورحمة، كما روي في الحديث: "ستكون خلافة نبوة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ~~ملك وجبرية، ثم يكون ملك عضوض" (3) . # وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوه أنه لما قاتل أهل ~~الجمل لم يسب لهم ذرية، ولم يغنم لهم مالا، ولا أجهز على جريح، ولا اتبع ~~مدبرا، ولا قتل أسيرا، وأنه صلى على قتلى الطائفتين بالجمل وصفين، وقال: ~~"إخواننا بغوا علينا" (4) ، وأخبر أنهم ليسوا بكفار ولا منافقين، واتبع ~~فيما قاله كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله سماهم ~~إخوة، وجعلهم مؤمنين في الاقتتال والبغي، كما ذكر في قوله: (وإن طائفتان من ~~المؤمنين اقتتلوا) (5) . # وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح (6) أنه قال: "تمرق ~~مارقة على PageV03P082 # حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق". وهذه المارقة هم ~~أهل حروراء، الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ~~وأصحابه لما مرقوا من الإسلام، وخرجوا عليه، فكفروه وكفروا سائر المسلمين، ~~واستحلوا دماءهم وأموالهم. # وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق متواترة (1) أنه وصفهم ~~وأمر بقتالهم، فقال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، ~~وقرأنه مع قرآنهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما ~~يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقتلونهم مالهم على لسان محمد - صلى ~~الله عليه وسلم - لنكلوا عن العمل". فقتلهم علي رضي الله عنه وأصحابه، وسر ~~أمير المؤمنين بقتلهم سرورا شديدا، وسجد الله شكرا، لما ظهر فيهم علامتهم، ~~وهو المخدج اليد الذي على يده مثل البضعة من اللحم عليها شعرات، فاتفق جميع ~~الصحابة على استحلال قتالهم، وندم كثير منهم -كابن عمر وغيره- أن ms0412 لا يكونوا ~~شهدوا قتالهم مع أمير المؤمنين. بخلاف ما جرى في وقعة الجمل وصفين، فإن ~~أمير المؤمنين كان متوجعا لذلك القتال، متشكيا مما جرى، يتراجع هو وابنه ~~الحسن القول فيه، ويذكر له الحسن أن رأيه أن لا يفعله. # فلا يستوي ما سر قلب أمير المؤمنين وأصحابه وغبطه به من لم يشهده، مع ما ~~تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه وساءه وساء قلب أفضل أهل بيته ~~حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي قال فيه: "اللهم إني أحبه، فأحب من ~~PageV03P083 # يحبه" (1) . وإن كان أمير المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتله في جميع ~~حروبه. # ولا يستوي القتلى الذين صلى عليهم وسماهم "إخواننا"، والقتلى الذين لم ~~يصل عليهم، بل قيل له: من (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون ~~أنهم يحسنون صنعا (104)) (2) ؟ فقال: هم أهل حروراء. # فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرهم الذي سماه أمير المؤمنين في خلافته ~~بقوله وفعله موافقا فيه لكتاب الله وسنة نبيه-: هو الصواب الذي لا معدل عنه ~~لمن هدي رشده، وإن كان كثير من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان، ~~بل يجعلون السيرة في الجميع واحدة، فإما أن يقصروا بالخوارج عما يستحقونه ~~من البغض واللعنة والعقوبة والقتل، وإما أن يزيدوا على غيرهم ما يستحقونه ~~من ذلك. # وسبب ذلك قلة العلم والفهم لكتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وسيرة ~~خلفائه الراشدين المهديين، وإلا فمن استهدى الله واستعانه بحث عن ذلك، وطلب ~~الصحيح من المنقول، وتدبر كتاب الله وسنة نبيه وسنة خلفائه، لاسيما سيرة ~~أمير المؤمنين الهادي المهدي، التي جرى فيها ما اشتبه على خلق كثير فضلو ~~بسبب ذلك، إما غلوا فيه وإما جفاء عنه، كما روي عنه أنه قال: "يهلك في ~~رجلان: محب غال يقرظني بما ليس في، ومبغض قال يرميني بما نزهني الله منه" ~~(3) . PageV03P084 # وحد ذلك وملاك ذلك شيئان: طلب الهدى ومجانبة الهوى، حتى لا يكون الإنسان ~~ضالا وغاويا، بل مهتديا راشدا. قال الله تعالى في حق نبيه - صلى الله عليه ~~وسلم -: (والنجم ms0413 إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى ~~(3) إن هو إلا وحي يوحى (4)) (1) ، فوصفه بأنه ليس بضال وهو الجاهل، ولا ~~غاو وهو الظالم، فإن صلاح العبد في أن يعلم الحق ويعمل به، فمن لم يعلم ~~الحق فهو ضال عنه، ومن علمه فخالفه واتبع هواه فهو غاو، ومن علمه وعمل به ~~كان من أولي الأيدي عملا ومن أولي الأبصار علما. وهو الصراط المستقيم الذي ~~أمرنا الله سبحانه في كل صلاة أن نقول: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط ~~الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (2) ، فالمغضوب ~~عليهم: الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود، والضالون: الذين يعملون ~~أعمال القلوب والجوارح بلا علم كالنصارى. # ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين ~~يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل ~~الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا ~~بآياتنا وكانوا عنها غافلين) (3) ، ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه بذلك في ~~قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه ~~الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض ~~واتبع هواه (176)) (4) . # ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى: (ولا تتبعوا أهواء قوم PageV03P085 # قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)) (1) ، ووصف بذلك ~~من يتبع هواه بغير علم حيث قال: (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ~~ربك هو أعلم بالمعتدين (119)) (2) ، وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى ~~من الله) (3) . # وأخبر أن من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضل الضالون، ولا يشقى كما ~~شقي المغضوب عليهم، فقال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا ~~يشقى) (4) . قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه إلا يضل ~~في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (5) . # ومن تمام الهداية أن ينظر المستهدي في كتاب الله، وفيما تواتر من سنة ~~نبيه وسنة الخلفاء، وما نقله الثقات الأثبات، ويميز ms0414 بين ذلك وبين ما نقله ~~من لا يحفظ الحديث، أو يتهم فيه بكذب لغرض من الأغراض، فإن المحدث بالباطل ~~إما أن يتعمد الكذب، أو يكذب خطأ لسوء حفظه أو نسيانه أو لقلة فهمه وضبطه. # ثم إذا حصلت، المعرفة بذلك تدبر ذلك، وجمع بين المتفق منه، وتدبر المختلف ~~منه حتى يتبين له أنه متفق في الحقيقة وإن كان الظاهر مختلفا، أو أن بعضه ~~راجح يجب اتباعه، والآخر مرجوح ليس بدليل في الحقيقة وإن كان في الظاهر ~~دليلا. PageV03P086 # أما غلط الناس فلعدم التمييز بين ما يعقل من النصوص والآثار، # أو يعقل بمجرد القياس والاعتبار، ثم إذا خالط الظن والغلط في العلم # هوى النفوس ومناها في العمل صار لصاحبها نصيب من قوله تعالى # (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)) (1) ~~. # وهذا سبب ما خلق الإنسان عليه من الجهل في نوع العلم، والظلم في نوع ~~العمل، فبجهله يتبع الظن، وبظلمه يتبع ما تهوى الأنفس. ولما بعث الله رسله ~~وأنزل كتبه لهدى الناس وإرشادهم، صار أشدهم اتباعا للرسل أبعدهم عن ذلك، ~~كما قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ~~وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه ~~إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ~~آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ~~(213)) (2) . # ولهذا صار ما وصف الله به الإنسان لا يخص غير المسلمين دونهم، ولا يخص ~~طائفة من الأمة، لكن غير المسلمين أصابهم ذلك في أصول الإيمان التي صار ~~جهلهم وظلمهم فيها كفرانا وخسرانا مبينا، ولذلك من ابتدع في أصول الدين ~~بدعة جليلة أصابه من ذلك أشد مما يصيب من أخطأ في أمر دقيق أو أذنب فيه، ~~والنفوس لهجة بمعرفة محاسنها ومساوئ غيرها. # وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحق، ولا يتبع إلا إياه، ولهذا من يتبع ~~المنقول الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه وأئمة أهل ms0415 ~~PageV03P087 # بيته -مثل الإمام علي بن الحسين زين العابدين، وابنه الإمام أبي جعفر ~~محمد بن علي الباقر، وابنه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ ~~علماء الأمة- ومثل مالك بن أنس والثوري وطبقتهما، وجد ذلك جميعه متفقا ~~مجتمعا في أصول دينهم وجماع شريعتهم، ووجد في ذلك ما يشغله وما يغنيه عما ~~أحدثه كثير من المتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك ~~السلف، ممن ينتصب (1) لعداوة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ~~ويبخسهم حقوقهم ويؤذيهم، أو ممن يغلو فيهم غير الحق، ويفتري عليهم الكذب، ~~ويبخس السابقين والطائعين حقوقهم. # ورأى (2) أن في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات، وباب ~~العدل والقدر، وباب الإيمان والأسماء والأحكام، وباب الوعيد والثواب ~~والعذاب، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتصل به من حكم ~~الأمراء أبرارهم وفجارهم، وحكم الرعية معهم، والكلام في الصحابة والقرابة-: ~~ما يبين لكل عاقل عادل أن السلف المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه ~~الأبواب إلا من جنس النزاع الذي أقرهم عليه الكتاب والسنة كما تقدم ذكره، ~~وأن البدع الغليظة المخالفة للكتاب والسنة واتفاق أولي الأمر الهداة ~~المهتدين إنما حدثت من الأخلاف، وقد يعزون بعض ذلك إلى بعض الأسلاف، تارة ~~بنقل غير ثابت، وتارة بتأويل لشيء من كلامهم متشابه. PageV03P088 # ثم إن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول ~~الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في ~~النقل أو التأويل، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في ~~الملل، فكمال الإسلام هو الوسط في الأديان والملل، كما قال تعالى: (وكذلك ~~جعلناكم أمة وسطا) (1) لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين. فكذلك ~~أهل الاستقامة، ولزوم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما عليه ~~السلف، تمسكوا بالوسط، ولم ينحرفوا إلى الأطراف. # فاليهود مثلا جفوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذبوهم، كما قال ~~الله تعالى: (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)) (2) ، والنصارى. غلوا فيهم ~~حتى عبدوهم ms0416، كما قال تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا ~~على الله إلا الحق) الآية (3) . # واليهود انحرفوا في النسخ، حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه، ~~كما ذكر الله عنهم إنكاره في القرآن حيث قال: (سيقول السفهاء من الناس ما ~~ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) (4) ، والنصارى قابلوهم، فجوزوا ~~للقسيسين والرهبان أن يوجبوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا. # وكذلك تقابلهم في سائر الأمور. # فهدى الله المؤمنين إلى الوسط، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه، ~~ووقروهم وعزروهم وأحبوهم، وأطاعوهم واتبعوهم، ولم يردوهم PageV03P089 # كما فعلت اليهود" ولا أطروهم ولا غلوا فيهم فنزلوهم منزلة الربوبية كما ~~فعلت النصارى. وكذلك في النسخ، جوزوا أن ينسخ الله، ولم يجوزوا لغيره أن ~~ينسخ، فإن الله له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره. # وهكذا أهل الاستقامة في الإسلام المعتصمون بالحكمة النبوية والعصمة ~~الجماعية، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطلة وبين المشبهة ~~الممثلة، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية الجبرية والقدرية ~~المجوسية، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرج أهل المعاصي من الإيمان ~~بالكلية كالخوارج وأهل المنزلة، وبين من جعل إيمان الفساق كإيمان الأنبياء ~~والصديقين كالمرجئة والجهمية، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين ~~الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر، وبين المرجئة الذين ~~لا يقولون بنفود الوعيد، وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ~~بين الذين يوافقون الولاة على الإثم والعدوان ويركنون إلى الذين ظلموا، ~~وبين الذين لا يرون أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى لا على جهاد ولا جمعة ~~ولا أعياد إلا أن يكون معصوما، ولا يدخلوا فيما أمر الله به ورسوله إلا في ~~طاعة من لا وجود له. # فالأولون يدخلون في المحرمات، وهؤلاء يتركون واجبات الدين وشرائع ~~الإسلام، وغلاتهم يتركونها لأجل موافقة من يظنونه ظالما، وقد يكون كاملا في ~~علمه وعدله. # وأهل الاستقامة والاعتدال يطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان، فيتقون الله ~~ما استطاعوا، وإذا أمرهم الرسول بأمر أتوا منه ما استطاعوا، ولا يتركون ما ms0417 ~~أمروا به لفعل غيرهم ما نهي عنه، بل كما قال تعالى: # PageV03P090 # (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (1) . ~~ولا يعاونون أحدا على معصية، ولا يزيلون المنكر بما هو أنكر منه، ولا ~~يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف. فهم وسط في عامة الأمور، ولهذا وصفهم النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته ~~وافتراقهم (2) . # ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه وأحد ~~سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء، وكان ~~ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد ~~وغيره (3) عن فاطمة بنت الحسين -وقد كانت قد شهدت مصرع أبيها- عن أبيها ~~الحسين بن علي رضي الله عنهم، عن جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا، ~~إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها". # فقد علم الله أن مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرها مع تقادم العهد، ~~فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أولا، ~~ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه، ورفعا لدرجته ~~ومنزلته عند الله، وتبليغا له منازل الشهداء، وإلحاقا له بأهل بيته الذين ~~ابتلوا بأصناف البلاء. ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل ~~لجدهما PageV03P091 # ولأمهما وعمهما، لأنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في حجور المؤمنين، ~~فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة، أحدهما مسموما والآخر مقتولا، لأن الله ~~عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهل البلاء، كما ~~قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: ~~"الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن ~~كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال ~~البلاء بالمؤمن حتى يمشي على ms0418 الأرض وليس عليه خطيئة" (1) . # وشقي بقتله من أعان عليه أو رضي به. فالذي شرعه الله للمؤمنين عند ~~الإصابة بالمصائب وإن عظمت أن يقولوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقد روى ~~الشافعي في مسنده (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات وأصاب أهل ~~بيته من المصيبة ما أصابهم، سمعوا قائلا يقول: يا آل بيت رسول الله! إن في ~~الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا ~~وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. فكانوا يرونه الخضر جاء يعزيهم ~~بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. PageV03P092 # فأما اتخاذ المآتم في المصائب واتخاذ أوقاتها مآتم فليس من دين الإسلام، ~~وهو أمر لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من السابقين ~~الأولين ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من عادة أهل البيت ولا غيرهم. وقد ~~شهد مقتل علي أهل بيته، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته، وقد مرت على ~~ذلك سنون كثيرة وهم متمسكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا ~~يحدثون مأتما ولا نياحة، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله، أو ~~يفعلون مالا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة. قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: "ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد ~~واللسان فمن الشيطان" (1) ، وقال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا ~~بدعوى الجاهلية" (2) ، يعني مثل قول المصاب: يا سنداه! يا ناصراه! يا ~~عضداه! وقال: "إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة ~~درعا من جرب وسربالا من قطران" (3) . وقال: "لعن الله النائحة والمستمعة ~~إليها" (4) . # وقد قال في تنزيله: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا ~~يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان ~~يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله ~~إن الله PageV03P093 # غفور رحيم (12)) (1) . وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله (ولا ~~يعصينك في ms0419 معروف) بأنها النياحة (2) ، وتبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~من الحالقة والصالقة (3) . والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة، ~~والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة. وقال جرير بن عبد الله (4) : كنا ~~نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة. وإنما السنة ~~أن يصنع لأهل الميت طعام، لأن مصيبتهم تشغلهم، كما قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - لما نعي جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتة فقال: "اصنعوا لآل ~~جعفر طعاما، فقد جاءهم ما يشغلهم" (5) . # وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراء من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة ~~والاغتسال، فهو بدعة أيضا لا أصل لها، ولم يذكرها أحد من الأئمة المشهورين، ~~وإنما روي فيها حديث "من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض تلك السنة، ومن اكتحل ~~يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام" (6) ونحو ذلك، ولكن الذي ثبت عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه صام PageV03P094 # يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، وقال: "صومه يكفر سنة،، وقرر النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أن الله أنجى فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه (1) ، وروي ~~أنه كان فيه حوادث الأمم، فمن كرامة الحسين أن الله جعل استشهاده فيه. # وقد يجمع الله في الوقت شخصا أو نوعا من النعمة التي توجب شكرا، أو ~~المحنة التي توجب صبرا، كما أن سابع عشر شهر رمضان فيه كانت وقعة بدر، وفيه ~~كان مقتل علي. وأبلغ من ذلك أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، وفيه هجرته، وفيه وفاته. # والعبد المؤمن يبتلى بالحسنات التي تسره والسيئات التي تسوءه في الوقت ~~الواحد، ليكون صبارا شكورا، فكيف إذا وقع مثل ذلك في وقتين متعددين من نوع ~~واحد؟ # ويستحب صوم التاسع والعاشر، ولا يستحب الكحل، والذين يصنعون من الكحل من ~~أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت، وإن كانوا مخطئين في فعلهم، ومن ~~قصد منهم أهل البيت بذلك أو غيره، أو فرح أو استشفى بمصائبهم، فعليه لعنة ~~الله والملائكة والناس أجمعين، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"والذي نفسي ms0420 بيده لا يدخلون PageV03P095 # الجنة حتى يحبوكم من أجلي" (1) لما شكا إليه العباس أن بعض قريش يجفون ~~بني هاشم. وقال: "إن الله اصطفى قريشا من بني كنانة، واصطفى بني هاشم من ~~قريش، واصطفاني من بني هاشم" (2) . وروي عنه أنه قال: "أحبوا الله لما ~~يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي" (3) . وهذا ~~باب واسع يطول القول فيه. # وكان سبب هذه المواصلة أن بعض الإخوان قدم بورقة فيها ذكر النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، وذكر سادة أهل البيت، وقد أجري فيها ذكر النذور لمشهد ~~المنتظر. فخوطب من فضائل أهل البيت وحقوقهم بما سر قلبه وشرح صدره، وكان ما ~~ذكر بعض الواجب، فإن الكلام في هذا طويل، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من ~~ذلك. وخوطب فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله، فسأل ~~المكاتبة بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان، فإن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ~~ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (4) . PageV03P096 # أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلط في مواضع متعددة، مثل ذكره أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي في صفر، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد ~~المطلب ابن عمرو بن العلاء بن هاشم، وأن جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد، ~~وغير ذلك. # فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي في شهر ~~ربيع الأول شهر مولده وشهر هجرته، وأنه توفي يوم الاثنين، وفيه ولد وفيه ~~أنزل عليه. وجده هاشم بن عبد مناف، وإنما كان هاشم يسمى عمرا، ويقال له ~~عمرو العلا، كما قال الشاعر (1) : # عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف # وأن جعفرا أبا عبد الله توفي في سنة ثمان وأربعين في إمارة أبي جعفر ~~المنصور. # وأما المنتظر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنساب أهل البيت أن الحسن بن ~~علي العسكري لما توفي بعسكر سامراء لم يعقب ولم ينسل، وقال من أثبته: إن ~~أباه لما توفي سنة ms0421 ستين ومئتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل، وأنه ~~غاب من ذلك الوقت، وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض، لا يتم ~~الإيمان إلا به، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، وأنه يعلم كل ما يفتقر إليه في الدين. # وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يتثبت فيه ويستهدي الله ويستعينه، فإن الله قد ~~حرم القول بغير علم، وذكر أن ذلك من خطوات الشيطان، PageV03P097 # وحرم القول المخالف للحق، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك، ونهى عن اتباع ~~الهوى. # فأما المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد رواه أهل ~~العلم العالمون بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، الحافظون لها، ~~الباحثون عنها وعن رواتها، مثل أبي داود والترمذي وغيرهما. ورواه الإمام ~~أحمد في "مسنده" (1) . # فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو ~~لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله فيه رجلا من ~~أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ~~ملئت ظلما وجورا" (2) . # وروي هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها (3) . # وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "المهدي من ولد ابني هذا"، ~~وأشار إلى الحسن (4) . PageV03P098 # وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال ~~حثوا" (1) ، وهو حديث صحيح. # فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اسمه "محمد بن عبد الله" ليس ~~"محمد بن الحسن". ومن قال: إن أبا جده "الحسين"، وإن كنية الحسين "أبو عبد ~~الله"، فقد جعل الكنية اسمه، فما يخفى على من يخشى الله أن هذا تحريف الكلم ~~عن مواضعه، وأنه من جنس تأويلات القرامطة. # وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حسني لا حسيني، لأن الحسن والحسين مشبهان ~~من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاق، وإن لم يكونا نبيين، ولهذا كان النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول لهما: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان ~~وهامة، ومن كل ms0422 عين لامة" (2) ، ويقول: "إن إبراهيم كان يعوذ بهما إسماعيل ~~وإسحاق" (3) . وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم، ولهذا قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - وهو يخطب على المنبر والحسن معه على المنبر: "إن ابني هذا سيد، ~~وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (4) . # فكما أن غالب الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق، فهكذا كان غالب السادة ~~الأئمة من ذرية الحسين، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبق أمره مشارق الأرض ~~ومغاربها كان من ذرية إسماعيل، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر ~~الخلفاء يكون من ذرية الحسن. PageV03P099 # وأيضا فإن من كان ابن سنتين كان في حكم الكتاب والسنة مستحقا أن يحجر ~~عليه في بدنه، ويحجر عليه في ماله، حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، فإنه يتيم، ~~وقد قال الله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم ~~رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (1) . فمن لم تفوض الشريعة إليه أمر نفسه كيف ~~تفوض إليه أمر الأمة؟ وكيف يجوز أن يكون إماما على الأمة من لا يرى ولا ~~يسمع له خبر؟ مع أن الله لا يكلف العباد بطاعة من لا يقدرون على الوصول ~~إليه، وله أربعمئه وأربعون سنة ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجود ~~له. # وكيف لم يظهر لخواصه وأصحابه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه؟ وما الموجب ~~لهذا الاختفاء الشديد دون غيره من الآباء؟ وما زال العقلاء قديما وحديثا ~~يضحكون ممن يثبت هذا ويعلق دينه به، حتى جعل الزنادقة هذا وأمثاله طريقا ~~إلى القدح في الملة وتسفيه عقول أهل الدين إذا كانوا يعتقدون مثل هذا. # لهذا قد اطلع أهل المعرفة على خلق كثير منافقين زنادقة يتسترون بإظهار ~~هذا وأمثاله، ليستميلوا قلوب وعقول الضعفاء وأهل الأهواء، ودخل بسبب ذلك من ~~الفساد ما الله به عليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله ~~يصلح أمر هذه الأمة ويهديهم ويرشدهم. # وكذلك ما يتعلق بالنذور والمساجد والمشاهد، فإن الله في كتابه وسنة نبيه ~~التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهم قد أمر بعمارة المساجد ms0423، ~~وإقامة الصلوات فيها بحسب الإمكان، ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن ~~من يفعل ذلك. قال الله تعالى: PageV03P100 # (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى ~~الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (18)) (1) . # وقال تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في ~~خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) (2) . # وقال تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها ~~بالغدو والآصال (36)) (3) وقال: (وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا ~~(18)) (4) . # وقال: (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) (5) . # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا ~~في الجنة" (6) . # وقال: "بشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" ~~(7) . PageV03P101 # وقال: "من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح" (1) ~~. # وقال: "صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ~~درجة" (2) . # وقال: "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، وخرج إلى المسجد لا ينهزه إلا ~~الصلاة، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة، والأخرى تضع خطيئة" (3) . # وقال: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى ~~من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر كان أحب إلى الله" (4) . # وقال: "سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ~~ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة" (5) . PageV03P102 # وقال: "يصلون لكم، فإن أحسنوا فلكم، وإن أساءوا فلكم وعليهم" (1) . # وهذا باب واسع جدا. # وقال أيضا: "لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا ~~(2) . قالوا: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (3) ، وهذا ~~قاله في مرضه. # وقال قبل موته بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا ~~فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (4) . # ولما ذكر كنيسة الحبشة قال: "أولئك إذا مات الرجل فيهم بنوا على قبره ~~مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم ms0424 القيامة" ~~(5) . # وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير. # وقال أيضا: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". ~~رواه الترمذي وغيره (6) ، وقال: حديث حسن. PageV03P103 # فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لعن الذين يتخذون على القبور ~~المساجد، ويسرجون عليها الضوء، فكيف يستحل مسلم أن يجعل هذا طاعة وقربة؟ # وفي صحيح مسلم (1) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ~~بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا ~~سويته، ولا تمثالا إلا طمسته". # وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا ~~يعبد" (2) . # وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" ~~(3) . # فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاجتماع عند قبره، وأمر بالصلاة ~~عليه في جميع المواضع، فإن الصلاة عليه تصل إليه من جميع المواضع. # وهذه الأحاديث رواها أهل بيته، مثل على بن الحسين عن أبيه عن جده علي، ~~ومثل عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكانوا هم وجيرانهم من علماء ~~أهل المدينة ينهون عن البدع التي عند PageV03P104 # قبره أو قبر غيره، امتثالا لأمره متابعة لشريعته، فإن من ### | مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين # والعكوف على تماثيلهم، وإن كانت وقعت بغير ذلك. # وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا (لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ~~ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23 وقد أضلوا كثيرا)) (1) . وقد روى ~~طائفة من علماء السلف أن هؤلاء كانوا قوما صالحين، فلما ماتوا عكفوا على ~~قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم (2) . وكذلك قال ابن عباس في قوله (أفرأيتم ~~اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)) (3) ، قال ابن عباس: كان ~~اللات رجلا يلت السويق للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره (4) . # ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" ~~(5) ، ونهى أن يصلى عند قبره. ولهذا لما بنى المسلمون حجرته حرفوا مؤخرها ~~وسئموه، لئلا يصلى إليه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجلسوا ms0425 على ~~القبور ولا تصلوا إليها"، رواه مسلم (6) . # وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم ويدعو ~~لهم (7) ، PageV03P105 # وعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور (1) : "سلام عليكم أهل دار قوم ~~مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكم ~~والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم اجرهم ولا تفتنا بعدهم، ~~واغفر لنا ولهم". # هذا مع أن في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقية وسيدة نساء العالمين ~~فاطمة، وكانت إحداهن دفنت فيه قديما قريبا من غزوة بدر، ومع ذلك فلم يحدث ~~على أولئك السادة شيئا من هذه المنكرات، بل المشروع التحية لهم والدعاء ~~بالاستغفار وغيره. # وكذلك في حقه أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد، وقال: "أكثروا ~~علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي". قالوا: ~~كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني بليت، قال: "إن الله حرم على الأرض أن ~~تأكل أجساد الأنبياء" (2) . # وقال: "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد ~~الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" (3) . # وكل هذه الأحاديث ثابتة عند أهل المعرفة بحديث النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، PageV03P106 # فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبره وغير قبره، وهو الذي ينبغي ~~للمسلم أن يعامل به موتى المسلمين، من الدعاء لهم بأنواع الدعاء، كما أن في ~~حياته يدعو لهم. # وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أن نصلي عليه ونسلم ~~تسليما في حياته ومماته، وعلى آل بيته، وأمرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات ~~في محياهم ومماتهم، عند قبورهم وغير قبورهم، ونهانا الله أن نجعل له ~~أندادا، أو نشبه بيت المخلوق الذي هو قبره ببيت الله الذي هو الكعبة البيت ~~الحرام، فإن الله أمرنا أن نحج ونصلي إليه ونطوف به، وشرع لنا أن نستلم ~~أركانه، ونقبل الحجر الأسود الذي جعله الله بمنزلة يمينه. قال ابن عباس: ~~"الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله ~~وقبل يمينه" (1) . # وشرع كسوة الكعبة وتعليق ms0426 الأستار عليها، وكان يتعلق من يتعلق بأستار ~~الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجار به، فلا يجوز أن تضاهى بيوت المخلوقين ~~ببيت الخالق. # ولهذا كان السلف ينهون من زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ~~يقبله، بل يسلم عليه -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي عليه، كما ~~كان السلف يفعلون. # فإذا كان السلف أعرف بدين الله وسنة نبيه وحقوقه، وحقوق السابقين ~~والتابعين من أهل البيت وغيرهم، ولم يفعلوا شيئا من هذه البدع التي تشبه ~~الشرك وعبادة الأوثان، لأن الله ورسوله نهاهم عن PageV03P107 # ذلك، بل يعبدون الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدين كما أمر الله به ~~ورسوله، ويعمرون بيوت الله بقلوبهم وجوارحهم من الصلاة والقراءة والذكر ~~والدعاء وغير ذلك؛ فكيف يحل للمسلم أن يعدل عن كتاب الله وشريعة رسوله ~~وسبيل السابقين من المؤمنين، إلى ما أحدثه ناس آخرون، إما عمدا وإما خطا؟ # فخوطب حامل هذا الكتاب بأن جميع هذه البدع التي على قبور الأنبياء ~~والسادة من آل البيت والمشايخ، المخالفة للكتاب والسنة، ليس للمسلم أن يعين ~~عليها، هذا إذا كانت القبور صحيحة، فكيف وأكثر هذه القبور مطعون فيها؟ # وإذا كانت هذه النذور للقبور معصية قد نهى الله عنها ورسوله والمؤمنون ~~السابقون، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله ~~فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (1) . وقال - صلى الله عليه وسلم ~~-: "كفارة النذر كفارة يمين" (2) ، وهذا الحديث في الصحاح. # فإذا كان النذر طاعة لله ورسوله، مثل أن ينذر صلاة أو صوما أو حجا أو ~~صدقة أو نحو ذلك، فهذا عليه أن يفي به؟ وإذا كان النذر معصية -كفرا أو غير ~~كفر- مثل أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند، ومثلما كان المشركون ينذرون ~~لآلهتهم، مثل اللات التي كانت بالطائف، والعزى التي كانت بعرفة قريبا من ~~مكة، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة. وهذه المدائن الثلاث هي ~~مدائن أرض الحجاز، كانوا ينذرون لها النذور، ويتعبدون لها، ويتوسلون ~~PageV03P108 # بها إلى الله في حوائجهم، كما أخبر الله ms0427 عنهم بقوله: (ما نعبدهم إلا ~~ليقربونا إلى الله زلفى) (1) . ومثلما ينذر الجهال من المسلمين لعين ماء أو ~~بئر من الآبار أو قناة ماء أو مغارة أو حجر أو شجرة من الأشجار أو قبر من ~~القبور -وإن كان قبر نبي أو رجل صالح-، أو ينذرون زيتا أو شمعا أو كسوة أو ~~ذهبا أو فضة لبعض هذه الأشياء-: فإن (2) هذا كله نذر معصية لا يوفى به. لكن ~~من العلماء من يقول: على صاحبه كفارة يمين، لما روى أهل السنن (3) عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". وفي ~~الصحيح عنه أنه قال: "كفارة النذر كفارة يمين" (4) . # وإذا صرف من ذلك المنذور شيء في قربة من القربات المشروعة كان حسنا، مثل ~~أن يصرف الدهن إلى تنوير بيوت الله، ويصرف المال والكسوة إلى من يستحقه من ~~المسلمين من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسائر المؤمنين، وفي ~~سائر المصالح التي أمر الله بها ورسوله. # وإذا اعتقد بعض الجهال أن بعض هذه النذور المحرمة قد قضت حاجته بجلب ~~المنفعة من المال والعافية ونحو ذلك، أو بدفع المضرة من العدو ونحوه، فقد ~~غلط في ذلك، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ~~وقال: "إنه لا يأتي بخير، ولكنه يستخرج به من البخيل" (5) . فعد ~~PageV03P109 # النذر مكروها، وإن كان الوفاء به واجبا إن كان المنذور طاعة لله ورسوله - ~~صلى الله عليه وسلم -. # وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النذر لا يأتي بخير، وإنما ~~يستخرج به من البخيل، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~من غير وجه فيما كان قربة محضة لله، فكيف بنذر فيه شرك؟ فإنه لا يجوز نذره ~~ولا الوفاء به. # وهذا وإن كان قد غمر الإسلام، وكثر العكوف على القبور التي هي للصالحين ~~من أهل البيت وغيرهم، فعلى الناس أن يطيعوا الله ورسوله، ويتبعوا دين الله ~~الذي بعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يشرعوا من الدين ms0428 ما لم يأذن ~~به الله، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، ~~وليعبدوا الله وحده لا شريك له. # كما قال تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن ~~آلهة يعبدون (45)) (1) . # وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما ~~وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على ~~المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13)) ~~(2) . # وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا ~~الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) (3) . PageV03P110 # وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكة والنبيين) قل ادعوا الذين ~~زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون ~~يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك ~~كان محذورا (57)) (1) . # وقال: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر ~~بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) . # ورد على من اتخذ شفعاء من دونه فقال: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل ~~أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك ~~السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين ~~لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45) قل اللهم ~~فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا ~~فيه يختلفون (46)) (3) . # وقال: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما ~~أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركونى (31)) (4) ~~. # وقال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (5) . # وقال تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد ~~PageV03P111 # أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26)) (1) . # وقال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (2) . # وقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (3) . # وكتب الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين ms0429 لله، لاسيما الكتاب الذي ~~بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو الشريعة التي جاء بها، فإنها كملت ~~الدين، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) (4) ، وقال: (ثم جعلناك على ~~شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)) (5) . # وقد جعل قوام الأمر بالإخلاص لله والعدل في الأمور كلها، كما قال تعالى: ~~(قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما ~~بدأكم تعودون (29) فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) (6) . # ولقد خلص للنبي - صلى الله عليه وسلم - التوحيد من دقيق الشرك وجليله، ~~حتى قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". رواه الترمذي وصححه (7) . # وقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا PageV03P112 # فليحلف بالله أو ليصمت". وهذا مشهور في الصحاح (1) . # وقال: "لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم ~~شاء محمد" (2) . # وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله ~~وحده" (3) . # وروي عنه أنه قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" (4) . # وروي عنه أن الرياء شرك (5) . # وقال تعالى: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ~~ربه أحدا (110)) (6) . # وعلم بعض أصحابه أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك وأنا أعلم، ~~وأستغفرك لما لا أعلم" (7) . # ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقة أو يعطونها لغير الله، مثل ~~PageV03P113 # من يقول: لأجل فلان، إما بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، حتى يتخذ السؤال ~~بذلك ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، ويصير قوم ممن ينتسب إلى محبة آل ~~البيت يعطي الناس، وآخرون ممن ينتسب إلى السنة يعطي الآخرين، والشيطان قد ~~استحوذ على الجميع، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يشرع أن تفعل إلا لله، ~~كما قال تعالى: (وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد ~~عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى (21)) ~~(1) . # وقال تعالى: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ~~(39)) (2) . # وقال: (ومثل الذين ms0430 ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم ~~كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) (3) . # وقال: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه ~~الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا (9)) (4) . # وقال تعالى كلمة جامعة: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما ~~جاءتهم البينة (4) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ~~ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (5)) (5) . PageV03P114 # وعبادته تجمع الصلاة وما يدخل فيها من الدعاء والذكر، وتجمع الصدقة ~~والزكاة بجميع الأنواع من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك. # والله يجعلنا وسائر إخواننا المؤمنين مخلصين له الدين، نعبده ولا نشرك به ~~شيئا، معتصمين بحبله، متمسكين بكتابه، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة، ~~ويصرف عنا شياطين الجن والإنس، ويعيذنا أن تفرق بنا عن سبيله، ويهدينا ~~الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء ~~والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. # والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا. # PageV03P115 # مسألة في قصد المشاهد المبنية # على القبور للصلاة عندها والنذر لها # وقراءة القرآن وغير ذلك # PageV03P117 # مسألة # ما يقول سيدنا الإمام العلامة تقي الدين -أيده الله تعالى- في مشهد فيه ~~شريف مدفون من أولاد زين العابدين، والناس يقصدونه ليصلوا عنده الصلوات ~~الخمس، وينذرون له، ومنهم من يقصد البركة، ومنهم من يعتقد أن الصلاة عنده ~~أفضل مما سواه من المساجد. فهل هم مصيبون أم مخطئون؟ وهل لهم أجر أم لا؟ ~~وهل يثاب من يتصدق أو يبر قيم المشهد المذكور أو الفقراء الذين يقعدون عند ~~المشهد المذكور؟ وأيضا يقعد في المشهد قراء يقرأون القرآن العظيم بلا أجرة ~~من العشاء إلى بكرة، فهل يؤجرون على ذلك أم لا؟ وهل للميت أجر باستماعه ~~القرآن أم لا؟ والذين يقرأون القرآن في الترب بالأجرة وفي الختم التي ~~يعملونها، مثل الذي يسمونه الثالث والسابع وتمام الشهر وتمام الحول، ~~وينشدون الأشعار الفراقيات ليبكي أهل الميت، وينقطوه بالفضة، والوعاظ أيضا ~~والذين يقرأون القرآن في الطرقات والأسواق حتى يتصدق عليهم ms0431، فما حكمهم؟ ~~والحديث الذي يذكر فيه أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وقول عائشة: إنما ~~كانت يهودية، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يعذب بدمع العين ~~ولا بحزن القلب، ولكن بهذا" وأشار إلى لسانه. وإذا كان أحد يتحدث في عليم ~~أو صلاة أو ذكر أو حديث مباح، أو ينام، فهل يجوز لأحد أن يجهر بالقرآن ~~ليشوش عليهم؟ # أفتونا مأجورين، رضي الله عنكم. # أجاب -رضي الله عنه- # الحمد لله. اتفق أئمة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- على # PageV03P119 # أن المشاهد المبنية على القبور، سواء كان قبر بعض الصالحين أو بعض ~~الصحابة أو بعض أهل البيت، أو قبر نبي من الأنبياء أو غير ذلك، سواء كان ~~علم أنه قبر الميت المسمى أو علم أنه ليس قبره أو جهل الحال-: اتفقوا كلهم ~~على أن الصلاة فيها ليست أفضل من الصلاة في المساجد، بل ولا في سائر البقاع ~~التي تجوز الصلاة فيها، وأنه لا يشرع لأحد أن يقصدها لأجل الصلاة عندها، لا ~~الصلوات الخمس ولا غيرها. بل قصدها للصلاة عندها والتبرك بالصلاة هناك ~~خصوصا لم يأمر الله به ولا رسوله، وولا أحد من الصحابة ولا من أئمة ~~المسلمين، لا أهل البيت ولا غيرهم، ولا ذكروا أن في ذلك ثوابا أو أجرا أو ~~قربة. # بل قد استفاضت السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين ~~بالنهي في ذلك، وصرح غير واحد من أئمة المسلمين أن النهي عن اتخاذ المساجد ~~على القبور نهي تحريم، كما في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها وابن ~~عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق ~~يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: ~~"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما ~~صنعوا. # وفي الصحيحين (2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~"قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي صحيح مسلم (3) عن جندب ~~بن عبد الله البجلي قال: سمعت ms0432 النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت ~~بخمس PageV03P120 # وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني ~~خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا ~~بكير خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا ~~فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك". # وعن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ~~تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". رواه مسلم (1) . # وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ~~والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة أبو ~~داود وابن ماجه والنسائي والترمذي (2) ، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: ~~صحيح. # وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ~~مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم ~~مساجد"، لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (3) . # والأحاديث والآثار في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسلف ~~الأمة وأئمتها وسائر علماء الدين كثيرة. فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها ~~فضيلة على غيرها، أو أنه ينبغي أن يقصد الصلاة عندها [و] أن في ذلك أجرا ~~ومثوبة، فهو مخطئ ضال باتفاق أئمة المسلمين. PageV03P121 # وكذلك العكوف عندها والمجاورة عندها ليس مشروعا باتفاق المسلمين ولا ~~واجبا ولا مستحبا، بل ذلك من البدع المذمومة المنهي عنها. وإنما تكون ~~البقعة التي يشرع العكوف فيها والمجاورة فيها: المساجد، كما قال الله ~~تعالى: (تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) (1) . وكان النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - يعتكف في مسجده في العشر الأواخر من رمضان (2) ، واعتكف مرة ~~عشرين يوما (3) ، وترك مرةا لاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فقضاه في ~~شوال (4) . وهذا هو المشروع للمسلمين. # وزيارة القبور جائز على الوجه المأذون فيه، فإن كان الميت كافرا فيزار ~~للاعتبار بالموت ولا يدعى له، كما في صحيح مسلم (5) عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه قال: "استأذنت ms0433 ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته ~~في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة". وإنما ~~زار قبر أمه دون أبيه لأنها كانت على طريقه عام فتح مكة، فاجتاز بقبرها عند ~~مكة فزارها، وروي أنه زارها في ألف مقنع، فبكى وأبكى من حوله (6) . وأما ~~أبوه فلم يمر بقبره. PageV03P122 # ولم يأذن ربه له في الاستغفار له لأن الاستغفار إنما يكون للمؤمنين، قال ~~الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا ~~أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (1) ، ثم قال: (وما ~~كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو ~~لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم (114)) (2) . فإن إبراهيم استغفر لأبيه ~~بقوله فيما ذكر الله عنه (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ~~(41)) (3) ، ووعده بذلك في قوله: (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي ~~حفيا (47)) (4) . فشرع له القدوة بإبراهيم إلا في ذلك بقوله: (قد كانت لكم ~~أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما ~~تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى ~~تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله ~~من شيء) (5) . # ولما نهى المؤمنين عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى فاحتج بعض ~~الناس بإبراهيم، فبين سبحانه الجواب بقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه ~~إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) ، فإن أباه ~~مات كافرا. ومن قال "إنه مات مؤمنا" من الرافضة الجهال أو غيرهم فقد خالف ~~الكتاب والسنة والإجماع. # وكذلك أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمه أبو طالب، وفي صحيح مسلم ~~(6) أن PageV03P123 # رجلا قال: يا رسول الله! أين أبي؟ فقال: "إن أباك في النار". فلما أدبر ~~دعاه فقال: "إن أبي وأباك في النار". وفي الصحيحين (1) أنه لما حضرت أبا ~~طالب الوفاة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم ms0434 - إليه وعنده أبو جهل وعبد ~~الله بن أمية، فقال: "يا عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند ~~الله". فقالا: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء قاله: ~~على ملة عبد المطلب. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لك ما ~~لم أنه عنك"، فأنزل الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا ~~للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) ~~(2) . # وفي الصحيح (3) أن العباس قال: يا رسول الله! عمك الشيخ الضال كان يحوطك ~~ويصنع لك، فهل نفعته بشيء؟ فقال: "وجدته في غمرة من النار، فشفعت فيه، فجعل ~~في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، أو كما قال - ~~صلى الله عليه وسلم -. # وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه مات ~~كافرا، وتبين كذب من ادعى من الجهال الرافضة وغيرهم أنه مات مؤمنا. ويحتج ~~بما ذكر ابن إسحاق في "السيرة" (4) من أنه جعل يهمهم عند الموت، وأن العباس ~~قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد قال الكلمة التي تطلبها أو نحو ~~ذلك. فإن الذي في الصحيح بين أن العباس لم PageV03P124 # يكن حاضرا، وأن العباس علم أنه مات ضالا، وأنه سأل النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - هل نفعه نصره لك مع كفره، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ~~ذلك نفعه، بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف العذاب لا في ~~رفعه، ولو كان قد مات على الإيمان لم يكن في العذاب، ولم ينه النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - عن الاستغفار له، ولقرن ذكره بذكر حمزة والعباس، ولكان قد ~~صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وابنه علي. بل الاستغفار للمنافقين ~~الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر غير نافع لهم ولا جائز إذا علم حالهم، ~~كما قال تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله ~~لهم) (1) ، وقال تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ms0435 ولا تقم على قبره ~~إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84)) (2) . # وأما زيارة قبور المؤمنين فجائزة بل مستحبة، كما سنها رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -، فإن الزيارة نوعان: شرعية وبدعية، والشرعية السلام على ~~الميت والدعاء له، بمثل أن يقال (3) : "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، ~~وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم ~~والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ~~ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فالزيارة المشروعة من جنس الصلاة على ~~الجنازة، وكلاهما المقصود به الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعاء ~~المسلمين، ويرحم الداعين له أيضا، فيثيب هذا وهذا كما يثيب المصلين على ~~الجنازة، فمن صلى على جنازة إيمانا واحتسابا كان له قيراط من الأجر، ومن ~~شيعها حتى تدفن PageV03P125 # كان له قيراطان (1) . # والله تعالى يقبل شفاعة المؤمنين ودعاءهم للميت، كما جاء في الحديث ~~الصحيح (2) أنه إذا شفع فيه مئة من المؤمنين شفعهم الله فيه، وفي حديث آخر ~~في الصحيح (3) : إذا شفع فيه أربعون، وفي حديث آخر (4) : إذا كانوا ثلاثة ~~صفوف. ولهذا كانوا يستحبون أن لا تنقص صفوف الجنازة عن ثلاثة. # والمؤمنون مأمورون بدعاء بعضهم لبعض، حتى يدعو الفاضل للمفضول وبالعكس، ~~قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (5) : "إذا سمعتم المؤذن ~~فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا، ~~ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد ~~الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم ~~القيامة". وقال: "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ~~ملكا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك: ولك بمثل" (6) . # وأما الزيارة البدعية فمثل التمسح بالقبر أو تقبيله أو قصده للصلاة عنده ~~والدعاء وطلب الحوائج من الميت، وأمثال ذلك مما هو من PageV03P126 # جنس فعل المشركين والنصارى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ~~رواه مالك في الموطأ (1) : "اللهم لا ms0436 تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله ~~على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". # وقد ذكر غير واحد من السلف (2) أن أصل عبادة الأصنام كان ذلك، فقالوا في ~~قوله (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ~~(23)) (3) : إن هذه أسماء قوم كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا ~~عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، وهذه الأصنام صارت إلى العرب، حتى ~~بعث الله رسوله بأن يعبد الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك من عبادة ~~الأوثان وغير ذلك، وبين أن أصل الدين أن يعبد الله لا يشرك به شيئا. # وفي الصحيح (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل: "يا ~~معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن ~~يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " ~~قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن لا يعذبهم". # وفي الصحيحين (5) عنه أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبة، ~~أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة ~~من الإيمان". PageV03P127 # وفي الترمذي (1) عنه أنه قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء ~~الحمد لله". # وفي الموطأ (2) : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله ~~وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير". # وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال: "من قال في يوم مئة مرة: "لا إله إلا الله ~~وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، كانت له عدل ~~عشر رقاب، وكتب له مئة حسنة، وحط عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان ~~يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال ~~أو زاد عليه. ومن قال في يوم: "سبحان الله وبحمده" مئة مرة حطت عنه خطاياه ~~ولو كانت مثل زبد البحر". # وأما النذر لها فينبغي أن يعلم أن ### | أصل ms0437 النذر مكروه منهي عنه # بلا نزاع أعلمه بين الأئمة، لما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به [من] ~~البخيل" (4) . # وفي الصحيحين أيضا عنه أنه قال: "إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر، فيعطي ~~على النذر مالا يعطي على غيره" (5) . # فبين - صلى الله عليه وسلم - أن النذر لا يجلب خيرا ولا يدفع شرا، ولكن ~~يقع مع PageV03P128 # النذر ما كان واقعا بدون النذر، فيبقى النذر عديم الفائدة، لكنه يستخرج ~~من البخيل، فإنه يخرج بالنذر مالا يخرجه بدونه، ونهى عن النذر لأن فيه ~~التزام شيء لم يكن لازما، وقد لا يفعله فيبقى متلوما، كما قال تعالى:) ~~ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) ~~فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في ~~قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (1) . # ولهذا يجب الوفاء بالنذر إذا كان المنذور طاعة، وإن كان نفس النذر منهيا ~~عنه، كما أن العبد منهي عن الظهار، وإذا ظاهر لزمته الكفارة، فالمنهي عنه ~~إن كان فيه إيجاب أو تحريم لزم المنهي عقوبة له، وإن كان فيه إباحة لم تبح، ~~لأن المنهي عنه معصية، والمعصية لا تكون سببا للمنعة الشرعية. وفي صحيح ~~البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". وعلى هذا ~~اتفق أهل العلم، اتفقوا على أن المنذور إذا كان طاعة -كالصلاة الشرعية ~~والحج الشرعي والصيام الشرعي والصدقة الشرعية والعتق الشرعي ونحو ذلك- فإنه ~~يوفى به، وإذا كان المنذور معصية لم يجز الوفاء به، لكن هل عليه كفارة ~~يمين؟ على قولين للعلماء، أحدهما: لا شيء عليه، وهو قول أبي حنيفة ومالك ~~والشافعي؟ والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في الصحيح ~~(3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفارة PageV03P129 # النذر كفارة يمين". وفي السنن ms0438 (1) عنه: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة ~~يمين". # وإذا كان كذلك فمن نذر زيتا لقبر ليسرج عليه أو للعاكفين عند القبر وسدنة ~~القبر ونحوهم فهذا نذر معصية، فإن الإيقاد على القبور منهي عنه، والعكوف ~~عند القبور والمجاورة عندها منهي عنه، والإعانة على ذلك إعانة على الإثم ~~والعدوان. ولا يشك أحد من العلماء أنه ليس بطاعة ولا بر، وإذا لم يكن كذلك ~~فلا يجب الوفاء بهذا النذر باتفاق المسلمين، فإن الوفاء إنما يجب بنذر ~~الطاعة، لا بنذر المباح ولا المكروه ولا المحرم، بل تنازع العلماء: هل يجب ~~بنذر كل طاعة أو نذر ما كان جنسه واجبا بالشرع؟ فقال الأكثرون كمالك ~~والشافعي وأحمد بالأول؟ وقال أبو حنيفة بالثاني، ولهذا لا يجب عنده الوفاء ~~إذا نذر إتيان مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس، لأن جنس ذلك ليس واجبا ~~بالشرع بخلاف إتيان مكة للحج والعمرة، فإن الوفاء بذلك لا نزاع فيه، لأن ~~جنس الحج والعمرة واجب بالشرع؛ وعلى قول الجمهور يوفى بالنذر في إتيان مسجد ~~المدينة والمسجد الأقصى لمن يقصد الصلاة هناك أو الاعتكاف، لكن إذا أتى ~~الفاضل أغنى عن المفضول، فمن أتى في نذره ذلك المسجد الحرام أغناه عن ~~الآخرين، ومن أتى مسجد المدينة أغناه عن الأقصى، وأما المسجد الحرام فهو ~~أفضل المساجد، لا يقوم غيره مقامه، به الطواف، وإليه الصلاة والحج. ~~PageV03P130 # و ### | لا ثواب على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقة ولا غيرها، # لا من العوام والفقراء ولا غيرهم. ولا يصلح قصد المقابر للاجتماع على ~~صلاة ولا قراءة ولا غيرها، فإن هذا أعظم من صلاة الآحاد عندها، وقد قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود في سننه (1) : "لا تتخذوا ~~قبري عيدا". وهذا اتخاذ القبر عيدا يعاد إليه فيجتمع عنده. ولم يقل أحد من ~~علماء المسلمين أن الاجتماع هناك لقراءة القرآن أفضل من الاجتماع للقراءة ~~في المساجد والبيوت، بل اتفق المسلمون على أن الاجتماع لقراءة القرآن في ~~المساجد والبيوت أفضل من الاجتماع لقراءته في مشاهد القبور. وفي الصحيح (2) ~~عن ms0439 النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت ~~الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم ~~السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده". # ولم يقل أحد من أئمة الدين أن الميت يؤجر على استماعه للقرآن، وإن قال ~~ذلك بعض المتأخرين الذين ليسوا أئمة، فإنه ثبت في الصحيح (3) عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ~~صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". # فقد أخبر أن عمله ينقطع من سوى المسمى، والاستماع الذي يؤجر عليه من ~~الأعمال، والميت يسمع بلا ريب، كما ثبت ذلك بالنصوص واتفاق أهل السنة، كما ~~في الصحيح (4) أ نه "يسمع خفق نعالهم حتى PageV03P131 # يولون عنه مدبرين"، وأنه لما خاطب أهل قليب بدر قال (1) : "ما أنتم بأسمع ~~لما أقول منهم". ولهذا أمر الزائر أن يسلم على الميت، ولولا أنه يسمع ~~السلام لم يؤمر بالسلام عليه. وقد قال ابن عبد البر (2) : ثبت عنه - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر رجل يعرفه في الدنيا فيسلم ~~عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". لكن الإدراك لا يستلزم ~~أن يكون مما يؤجر عليه ويثاب عليه، وإن كان الميت يتنعم ببعض ما يسمعه، كما ~~يعذب بالنياحة عليه. وليس تعذيبه عقابا على النياحة، لأنها ليست من عمله، ~~وإنما هي من جنس الآلام التي تلحق العبد من غير عمله، كشم الروائح الخبيثة ~~وسمع الأصوات المنكرة ورؤية الأشياء المروعة. ولو كان هذا الاستماع مما ~~يؤجر عليه لكان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين أحق بعمل ذلك. # ولم يكونوا يجتمعون عند القبر لختم القرآن عنده، كما يفعل ذلك بعض ~~المتأخرين، بل تنازع العلماء في القراءة عند القبر: فكرهها أبو حنيفة ومالك ~~وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخص فيها في الرواية الأخرى لما بلغه عن ابن ~~عمر أنه وصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة وخواتمها. والرخصة إما مطلقا ~~وإما ms0440 حال الدفن خاصة، ولكن اتخاذ ذلك سنة راتبة لم يذهب إليه أحد من أئمة ~~المسلمين. # فإذا كان هذا حال من يقرأ القرآن محتسبا فكيف من يقرؤه بالكراء، فإن ~~العلماء قد تنازعوا في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والفقه والحديث ~~والإمامة في الصلاة والأذان والحج عن الغير، فقيل: يجوز ذلك، كما هو في ~~مذهب الشافعي ومالك قريب منه، وقيل: لا يجوز، PageV03P132 # كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وفيها قول ~~ثالث في مذهب أحمد وغيره: إنه يجوز مع الحاجة دون الغني، كما في ولي اليتيم ~~(ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) (1) . # ومنشأ النزاع أن الأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز ~~إيقاعها على غير وجه التقرب؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يجوز الإجارة، لأنها ~~بالعوض تقع غير قربة، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله ~~لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه. ومن جوز الإجارة جوز إيقاعها على ~~غير وجه التقرب، ولا تصح الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر، فأما ~~الاستئجار للتلاوة فليس من هذا الباب. # والعلماء متفقون على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العتق ونحوه من ~~العبادات المالية. وأما العبادات البدنية كالقراءة والصيام والصلاة فلهم ~~فيها قولان مشهوران، ومن جوز إلا هذا فلابد أن يكون ثواب عمل صالح، وهو ما ~~أريد به وجه الله، فإذا وقعت العبادة لمجرد العوض -مثل أن يعطيه عوضا على ~~صلاته أو صيامه أو قراءته- لم تقع قربة، فلا ثواب ولا إهداء، ولكن نفس حفظ ~~القرآن ودراسته وتعلمه وتعليمه من الأعمال المقصودة، وإنفاق المال فيها من ~~القربات والطاعات، كإعانة المسلمين على الجهاد والصيام وغيرهما. # وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من فطر صائما فله مثل أجره" (2) ، وقال ~~- صلى الله عليه وسلم -: "من PageV03P133 # جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" (1) . فإعانة ~~المسلمين على تلاوة القرآن وتبليغه بالمال ونحوه حسن مشروع. # ولهذا لما تغير الناس وصاروا ms0441 يفعلون بدعة ويتركون شرعة، وفي البدعة مصلحة ~~ما إن تركوها ذهبت المصلحة ولم يأتوا بالمشروع، صار الواجب أمرهم بالمشروع ~~المصلح لتلك المصلحة مع النهي عن البدعة، وإن لم يمكن ذلك فعل ما يمكن وقدم ~~الراجح. فإذا كانت مصلحة الفعل أهم لم ينه عنه لما فيه من المفسدة إلا مع ~~تحصيل المصلحة، وإن كانت مفسدته أهم نهي عنه. # وهذه الوقوف التي على الترب فيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته، ~~وكون هذه الأموال معونة على ذلك وخاصة عليه، إذ قد يدرس حفظ القرآن في بعض ~~البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر: من حصول القراءة ~~لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال ~~النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون بذلك ~~فالواجب النهي عن ذلك والمنع منه وإبطاله، وإن ظن حصول مفسدة أكثر من ذلك ~~لم يدفع أدنى الفسادين باحتمال أعلاهما. لهذا جاء الوعيد في حق الشيخ ~~الزاني والملك الكذاب والفقير المستكبر، كما في الصحيح (2) : "ثلاثة لا ~~يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذا ~~وعائل مستكبر". وذلك لضعف الموجب لهذه المعاصي في حقهم. PageV03P134 # فينبغي للمؤمن الذي يقصد وجه الله إذا أراد الله يثيبه ويرحم ميته أن ~~يتصدق عنه، ويقصد بذلك من ينتفع بالمال على مصلحة عامة من أهل القرآن ~~ونحوهم، ولا يشترط عليهم إهداء القرآن إلى الميت ولا قراءته عند القبر ونحو ~~ذلك مما يخرج العمل عن أن يكون خالصا لله أو أن يكون غير مشروع، فإن في ~~الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت ~~عنها؟ قال: نعم. وفي البخاري (2) عن ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيت أمه ~~وهو غائب عنها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن ~~أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقت عنها؟ قال: نعم ms0442. قال: ~~فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها. # وأما الاجتماع يوم الثالث والسابع وتمام الشهر والحول ونحو ذلك على ما ~~ذكره فهو بدعة مكروهة من وجوه، أحدها: أن ### | إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة، # وكذلك كل ما فيه تهييج المصيبة، وكذلك الذين يتسمون الوعاظ، وإنما هم ~~نواحون. وإذا كان النساء قد نهين عن ذلك مع ضعف قلوبهن فكيف بالرجال؟ مع أن ~~النساء يباح لهن من الغناء وضرب الدف مالا يباح للرجال، إلا ترى أنه رخص ~~فيما لا يمكن دفعه من دمع العين وحزن القلب، والنساء نهين عن الأسباب ~~المهيجة للنياحة من اتباع الجنائز وزيارة القبور سدا للذريعة، بخلاف ~~الرجال، فإنهم لقوة قلوبهم لم ينهوا عن ذلك. PageV03P135 # فتبين أن الرجال أحق بالنهي عن النياحة، لأنهم أقل عذرا في ذلك من ~~النساء، فهو بمنزلة من ينوح في المصيبة الصغيرة، فهو أحق ممن ناح في مصيبة ~~كبيرة. وفي صحيح مسلم (1) عن أبي مالك الأشعري أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، ~~والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال (2) : "النائحة ~~إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من ~~جرب". # والبكاء المرخص فيه هو ما كان من دمع العين وحزن القلب، ومع ذلك فلا يصلح ~~استدعاؤه حزنا، بخلاف البكاء للرحمة، وما كان من اللسان واليد فمنهي عنه، ~~فكيف بالإعانة عليه؟! ففي الصحيحين (3) عن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة ~~شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف ~~وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وحده في غاشية -وفي ~~لفظ مسلم: في غشية- فقال: "قد قضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: "إلا تسمعون؟ إن ~~الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- ~~أو يرحم". # وعن ابن عباس قال: لما ماتت ms0443 زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه (4) ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - بيده PageV03P136 # فقال: "مهلا يا عمر"، ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان"، ثم قال؟ "مهما كان ~~من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن ~~الشيطان" (1) . # وعن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد عبد ~~الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجده يجود بنفسه، فأخذه - صلى ~~الله عليه وسلم - فوضعه في حجره، فبكى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أو لم ~~تكن نهيت عن البكاء؟ قال: "لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند ~~مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة". رواه الترمذي (2) وقال: حديث حسن، وذكر ~~غيره (3) تمام الحديث: "وصوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان". # وفي الصحيحين (4) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". # وأما قراءة القرآن في الأسواق والجباية على ذلك فهذا منهي عنه من وجهين: # أحدهما: من جهة قراءته لمسألة الناس، ففي الحديث: "اقرأوا القرآن واسألوا ~~به الله قبل أن يجيء أقوام يقرأونه يسألون به الناس" (5) . PageV03P137 # والثاني: من جهة ما في ذلك من ابتذال القرآن بقراءته لمن لا يستمع إليه ~~ولا يصغي إليه. # وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الميت يعذب ببكاء أهله، ومن نيح ~~عليه يعذب بما يناح عليه" فهذا حديث صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - من رواية عمر بن الخطاب وابنه والمغيرة بن شعبة وغيرهم (1) ، ولكن ~~أشكل معناه على طوائف حتى تفرقوا فيه: # فمنهم من طعن فيه؛ وظن أن راويه لم يحفظه، كما قالت عائشة ومن معها، ~~كالشافعي في كتاب "مختلف الحديث" (2) . ثم روت عائشة لفظين: أحدهما مناسب ~~معناه، وهو قوله: "إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه"، وجعلوا الموجب ~~لضعفه قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (3) . # وأما جماهير السلف والخلف فعلموا أن مثل هذا ms0444 التأويل لا يصلح أن يرد به ~~أحاديث ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كانوا من صغار ~~الصحابة كجابر وأبي سعيد، فكيف بما يرويه عمر ونحوه؟ وذلك أن قوله (ولا تزر ~~وازرة وزر أخرى) إنما فيه أن المذنب لا يحمل ذنبه غيره، وهذا حق لا يخالف ~~معنى الحديث، فإن الحديث ليس فيه أن الميت يحمل ذنب الحي، بل الحي النائح ~~يعاقب على نياحته عقوبة لا يحملها عنه الميت، كما دل على ذلك القرآن. وأما ~~كون الميت يتألم PageV03P138 # بعمل غيره فهذا شيء آخر، كما أنه ينعم بعمل غيره لشيء آخر لا ينافي قوله ~~(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) (1) . # ومن الناس من تأول على ما إذا لم ينه عنه مع اعتيادهم له، فيكون ذلك ~~إقرارا للمنكر يعذب عليه. وهؤلاء ظنوا أن عذاب الميت عقوبة، والعقوبة لا ~~تكون إلا على ذنب، فاحتاجوا أن يجعلوا للميت ذنبا يعاقب عليه، وليس كذلك، ~~بل العذاب قد يكون عقابا على ذنب، وقد لا يكون. قال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: "السفر قطعة من العذاب" (2) . # والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إنه يعاقب، بل يعذب. # وقد جاء ذلك مفسرا، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن النعمان بن بشير ~~قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي واجبلاه! واكذا واكذا! ~~تعد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات ~~لم تبك عليه. # وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت يعذب ببكاء ~~الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! واكاسياه! جبذ الميت وقيل له: ~~أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟ ". رواه الإمام أحمد في المسند (4) . # وروى الترمذي (5) عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~"ما من PageV03P139 # ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه! واسنداه! أو نحو ذلك إلا وكل به ~~ملكان يلهزانه أهكذا أنت؟ ". قال الترمذي: حديث حسن غريب. # وفي سنن أبي داود (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ms0445 لنسوة في ~~جنازة: "ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت". # فهذا ونحوه هو تعذيب الميت بالنياحة. والحي في الدنيا قد يعذب بما يراه ~~ويسمعه ويشمه من أمور منفصلة عنه، وهو التعذيب الذي يلحق من جنس سائر ما ~~يلحقه من هول الفتنة والضغطة وهول القيامة وغير ذلك من أنواع الآلام. ~~والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع (2) . # وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا ~~على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم" (3) وأشار إلى لسانه، فهذا ~~أيضا حق، وهذا كقوله: "ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وما كان من ~~العين والقلب فمن الله" (4) . والميت إنما يعذب بما نهي عنه لا بما أبيح ~~له، ولهذا جاء مفسرا أنه النياحة، وهو البكاء بالمد، فإن من الناس من يقول: ~~البكاء بالمد هو الصوت، وأما بالقصر فهو الدمع، زيادة اللفظ كزيادة المعنى، ~~وينشدون: PageV03P140 # بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل (1) # وأما من يكون في المسجد من مصل وقارئ ومحدث ومفت ونحوهم من يفعل في ~~المسجد ما بني له المسجد، فليس لبعضهم أن يؤذي بعضا، ففي السنن (2) أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقرآن، ~~فقال: "أيها الناس! كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة". ~~فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلين أن يجهر بعضهم على بعض ~~بالقراءة. ومن هذا أن يكون القوم قد صلوا وهم يذكرون الله بعد صلاة الفجر ~~وغيره، فيقوم بعض من يصلي منفردا أو مسبوقا، فيرفع صوته عليهم بالقراءة حتى ~~يشغلهم. # والمنفرد لا يستحب له الجهر عند كثير من العلماء، كأحمد في المشهور عنه ~~وغيره، فإن الجهر إنما يشرع للإمام الذي يسمع المأمونين، ولهذا قال النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: "وإذا قرأ فأنصتوا" (3) . ومن استحب الجهر للمنفرد ~~فإنه ينهاه عن جهر يرفع به صوته على غيره كما نهى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، بل يجهر جهرا خفيا أو يدعه، لما ms0446 فيه من إيذاء الغير الذي ينهى عن ~~إيذائهم. ألا ترى أن استلام الحجر وتقبيله مستحب، فإذا كان هناك زحمة وفي ~~ذلك إيذاء للناس فإنه ينهى عنه، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~PageV03P141 # عمر عن ذلك، ففي المسند (1) عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ~~له: "يا عمر! إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة ~~فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر". وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغنا من الطواف بالبيت: "كيف صنعت ~~يا أبا محمد في استلام الركن؟ "، قلت: استلمت وتركت، قال: "أصبت" رواه أبو ~~حاتم ابن حبان في صحيحه (2) والطبراني في معجمه (3) . # وهذا كما أن رفع الصوت بالتلبية والأذان ونحو ذلك سنة، ثم لما كان رفع ~~المرأة صوتها مفسدة نهي عما فيه المفسدة، وجعل جهرها بالتلبية بقدر ما تسمع ~~رفيقتها. وأمثال ذلك في الشريعة كثير، والله أعلم. # قاله أحمد بن تيمية أيده الله تعالى. PageV03P142 ### | فتوى فيمن يعظم المشايخ # ويستغيث بهم ويزور قبورهم # PageV03P143 # ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قوم يعظمون ~~المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرعون إليهم، ويزورون ~~قبورهم ويقبلونها ويتبركون بترابها، ويوقدون المصابيح طول الليل، ويتخذون ~~لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلة المحيا، فيجعلونها كالعيد ~~عندهم، وينذرون لها النذور، ويصلون عندها. # فهل يحل لهؤلاء القوم هذا الفعل أم يحرم عليهم أم يكره؟ وهل يجوز للمشايخ ~~تقريرهم على ذلك أم يجب عليهم منعهم من ذلك وزجرهم عنه؟ وما يجب على ~~المشايخ من تعليم المريدين وما يوصونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم ~~إجازات بالمشيخة على بلاد أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيات والنار ~~وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمة مساجد يحضرون سماعهم ويوافقونهم على ~~هذه الأشياء؟ وما يجب على ولي الأمر في أمرهم هذا؟ أفتونا مأجورين. # أجاب الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام بقية السلف طراز الخلف بحر ~~العلوم ناصر ms0447 الشريعة قامع البدعة تاج العارفين إمام المحققين العارف ~~الرباني الناسك النوراني علامة الوقت مفتي الفرق تقي الدين أحمد بن عبد ~~الحليم بن تيمية الحراني الحنبلي -رضي الله عنه وأرضاه، ورزقه ما رزق ~~أولياءه-، قال: # الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في ~~الشدائد والكربات، ويطلب منه قضاء الحوائج، # PageV03P145 # فيقول: يا سيدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجوارك؟ أو يقول عند هجوم العدو ~~عليه: يا سيدي فلان! يستوحيه ويستغيث به؟ أو يقول ذلك عند مرضه وفقره وغير ~~ذلك من حاجاته-: فإن هذا ضال جاهل مشرك عاص لله باتفاق المسلمين، فإنهم ~~متفقون على أن الميت لا يدعى ولا يطلب منه شيء، سواء كان نبيا أو شيخا أو ~~غير ذلك. # ولكن إذا كان حيا حاضرا، وطلب منه ما يقدر عليه من الدعاء ونحو ذلك، جاز، ~~كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه في حياته، وكما ~~يطلب منه الخير يوم القيامة. وهذا هو التوسل به والاستغاثة التي جاءت به ~~الشريعة، كما ثبت في صحيح البخاري (1) وغيره عن أنس بن مالك: أن الناس لما ~~أجدبوا استسقى عمر بالعباس، فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك ~~بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: فيسقون. فكان ~~توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته هو توسلهم بدعائه وشفاعته، ~~فلما مات توسلوا بدعاء عمه العباس وشفاعته، لقربه منه، ولم يتوسلوا حينئذ ~~برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا استغاثوا به، ولا ذهبوا إلى قبره ~~يدعون عنده. فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد سد الذريعة في هذا الباب، ~~حتى قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" ~~(2) . وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" (3) . وقال: "لعن الله اليهود ~~والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا (4) . وقال: "إن من ~~كان قبلكم كانوا PageV03P146 # يتخذون القبور مساجد، إلا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" ~~(1) . # فلهذا قال العلماء -رضي الله عنهم-: إنه ms0448 يحرم بناء المساجد على القبور. ~~فإذا كان قبور الأنبياء والصالحين لم تتخذ مساجد، والصلاة عندها لله تعالى ~~قد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا تكون ذريعة إلى الشرك، ~~فكيف إذا كان صاحب القبر يدعى ويسأل ويقسم على الله به ويسجد لقبره أو ~~يتمسح به؟ فإن هذا شرك صريح. # وقد قال الله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ~~ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ~~(22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (2) . وقال تعالى: (قل ادعوا ~~الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين ~~يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن ~~عذاب ربك كان محذورا (57)) (3) . # وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والنبيين كالمسيح وعزير، ~~فقال الله تعالى: إن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون ~~رحمتي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي، ويخافوني كما تخافوني. # وقد قال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم ~~يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون ~~PageV03P147 # الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين ~~أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (1) . فبين سبحانه أن ~~اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، وهذا إنما كان بدعائهم من دون الله، ~~لا بأنهم اعتقدوا أنهم شاركوه في خلق السماوات والأرض، فإن هذا لم يقله ~~أحد. # ولهذا قال عن النصارى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ~~والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه ~~عما يشركون (31)) (2) . فبين أن النصارى مشركون من حيث اتخذوا أحبارهم ~~ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، ولم يقل أحد من النصارى أن ~~الأحبار والرهبان شاركت الله في خلق السماوات والأرض. فإذا كان الداعي ~~المستغيث بمن مات من الأنبياء مشركا فكيف من دعا ميتا غير الأنبياء ms0449 واستغاث ~~به؟! # ولهذا كانت ### | زيارة القبور على وجهين: # زيارة بدعية، وزيارة شرعية. ف ### | الزيارة الشرعية # مقصودها الدعاء للميت كما يصلى على جنازته، فيقال فيها (3) : "السلام ~~عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين ~~منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية في الدنيا والآخرة، اللهم لا ~~تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فهذا من جنس الصلاة على ~~الميت. PageV03P148 # وأما ### | الزيارة البدعية # فهي من جنس الشرك به من جنس النصارى، مثل: دعاء الميت والاستغاثة به، ~~والإقسام به على الله تعالى، وتقبيل قبره والتسمح به، والسجود له، وتعفير ~~الخد عنده، ونحو ذلك مما يتضمن طلب الحاجات منه أو بسببه. فليس شيء من هذا ~~من جنس دين المسلمين، ولم يشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من ~~هذا، ولا فعله أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، بل قد نهوا ~~عنه. حتى قد اتفق أئمة المسلمين على أن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- لا يقبل ولا يتمسح به ولا يسجد عنده. فإذا كان هذا قبره فكيف يكون قبر ~~غيره؟ وهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وأقربهم إليه وسيلة، وأعظمهم عنده ~~جاها. # والحديث الذي يرويه بعض الناس عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم ~~الله فاسألوه بجاهي" حديث موضوع (1) ، لم يروه أحد من أهل العلم، ولا ذكر ~~في شيء من كتب المسلمين المعروفة. # وكذلك إيقاد المصابيح وتعليق الستور على قبور الأنبياء والصالحين من أهل ~~البيت وغيرهم ليس شيء من ذلك مشروعا باتفاق المسلمين جميعا، ولم يفعل ذلك ~~أحد من الأمة ولا أئمتها، ولا استحبه أحد من أئمة الدين. بل في السنن (2) ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله زوارات القبور ~~والمتخذين عليها السرج والمساجد". قال الترمذي: حديث حسن. PageV03P149 # ومن نذر لقبر زيتا أو شمعا أو قناديل أو سترا أو نحو ذلك لم يكن هذا نذر ~~طاعة، ولم يكن على أحد أن يوفي به، وما أعلم في هذا نزاعا بين العلماء. ~~ولكن ms0450 هل عليه كفارة يمين أم لا؟ فيه قولان. # وكذلك الاجتماع عند قبر من القبور لقراءة ختمة أو دعاء أو ذكر أو عمل ~~سماع أو غير ذلك هو من البدع المنهي عنها؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: "لا تتخذوا قبري عيدا"، رواه أهل السنن كأبي داود وغيره (1) . # فإذا كان قد نهي عن اتخاذ قبره عيدا، فقبر غيره أولى بالنهي عن ذلك. ~~والمكان الذي يتخذ عيدا هو أن يعتاد الناس للاجتماع فيه في وقت معين، كما ~~يعتادون الاجتماع فيه بعرفة ومزدلفة ومنى، وكذلك الزمان الذي يتخذ عيدا هو ~~الزمان الذي يعتادون الاجتماع فيه، كيومي الفطر والنحر. # والمشركون الذين كفرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم واستباح ~~دماءهم وأموالهم من العرب لم يكونوا يقولون: إن آلهتهم شاركت الله في خلق ~~السماوات والأرض والعالم، بل كانوا يقرون بأن الله وحده خالق السماوات ~~والأرض والعالم، كما قال الله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ~~ليقولن) (2) ، وقال تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) ~~سيقولون لله) (3) الآيات إلى قوله (تسحرون (89)) وقد قال تعالى: (وما يؤمن ~~أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106)) (4) . PageV03P150 # قال طائفة من السلف: يسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم ~~يعبدون غيره. وإنما كانت عبادتهم إياهم أنهم يدعونهم ويتخذونهم وسائط ~~ووسائل وشفعاء لهم، فمن سلك هذا السبيل فهو مشرك بحسب ما فيه من الشرك. # وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينته، وجب قتله كقتل ~~أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه. وإما إذا ~~كان جاهلا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولاسيما وقد كثر هذا ~~الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة فإنه ضال ~~باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر. # والواجب على المسلمين عموما وعلى ولاة الأمور خصوصا النهي عن هذه الأمور، ~~والزجر عنها بكل طريق، وعقوبة من لم ينته عن ذلك ms0451 العقوبة الشرعية، والله ~~أعلم. # فصل # والواجب على المشايخ أن يأمروا أتباعهم بطاعة الله ورسوله، فيفعلوا ما ~~أمر الله ورسوله به، ويتركوا ما نهى الله ورسوله عنه، ويتبعوا كتاب الله ~~وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المقصود بذلك دعوتهم إلى ~~عبادة الله وحده لا شريك له وطاعة رسوله. والشيوخ يبلغون عن الرسول - صلى ~~الله عليه وسلم - لما أمر به أمته من الدين الذي أمر الله به، ويتبعون ~~لخلفائه الراشدين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه من يعش منكم فسيرى ~~اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها # PageV03P151 # وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) . # والوصية الجامعة من وصية الله التي وصى بها عباده حيث قال. (ولقد وصينا ~~الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) (2) . ولما بعث النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن وصاه ثلاث وصايا، فقال: "اتق الله ~~حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" (3) . # وأما كتابة الإجازات فهي بمنزلة الشهادة للرجل أنه أهل المشيخة، وبمنزلة ~~أمر الناس بمتابعته وطاعته، وليس لأحد أن يفعل هذا إلا أن يكون عالما بمن ~~يصلح للقدوة والاتباع، ومن لا يصلح أن يكون عدلا فيما يقوله ويأمر به. فمن ~~كان جاهلا بطريق الله الذي بعث به رسوله، أو كان صاحب غرض يكتب الإجازة لمن ~~يعطيه مالا ويخدمه، إن لم يكن مستحقا لذلك لم يكن لمثل هذا أن يكتب إجازة، ~~ولا حرمة لمن كتب له مثل هذا إجازة، لاسيما إذا كان مضمون الإجازة أن يعطوه ~~أموالهم. فهذه إجازة الشحاذين والسوال، PageV03P152 # وليس هذا من حكم طريق الله. # ومن قبض أموال الناس على أن يعطيها مستحقها فلابد أن يكون هذا عالما ~~بالمستحقين عدلا يعطي المال لمستحقيه. وأما إذا أخذ أموال الناس يطعم بها ~~من يعاونه على أغراضه، ويأمر بغير ما أمر الله به، وينهى عن شرع الله ~~ودينه، فهذا من الآكلين أموال الناس بالباطل والصادين عن سبيل الله. قال ~~الله تعالى: (يا أيها الذين ms0452 آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون ~~أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) (1) . # وإنما ### | الشيوخ الذين يستحقون أن يكونوا قدوة # متبعين هم الذين يدعون الناس إلى طريق الله، وهو شرع الله ودينه الذي بعث ~~به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ~~وإجماع الأمة، ويصرفون الأموال في مصارفها الشرعية التي يحبها الله ورسوله، ~~فيكونون داعين إلى الله منفقين الأموال في سبيل الله. # وكل من أظهر هذه الإشارات البدعية التي هي فشارات، مثل إشارة الدم ~~واللاذن والسكر وماء الورد والحية والنار، فهم أهل باطل وضلال وكذب ومحال، ~~مستحقون التعزير البليغ والنكال، وهم إما صاحب حال شيطاني، وإما صاحب حال ~~بهتاني، فهؤلاء جمهورهم، وأولئك خواصهم. وهؤلاء يجب عليهم أن يتوبوا من هذه ~~البدع والمنكرات، ويلزموا طريق الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه ~~وسلم -، ليس لهم أن يكونوا قدوة للمسلمين، وليس لأحد أن يقتدي بهم. # ومن كثر جمعهم الباطل، وحضر سماعاتهم التي يفعلونها في PageV03P153 # المساجد وغيرها، أو حسن حالهم، أو قرر محالهم من أئمة المساجد ونحوهم، ~~فإنه مستحق التعزير البليغ الذي يستحقه أمثاله. وأقل تعزيره أن يعزل مثل ~~هذا عن إمامة المسلمين، فإن هذا معين لأئمة الضلالة، أو هو منهم، فلا يصلح ~~أن يكون إماما لأهل الهدى والفلاح. قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر ~~والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (1) ، وقال تعالى: (والعصر (1) إن ~~الإنسان لفي خسر (2)) إلى آخرها (2) . وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون ~~إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)) ~~(3) . والله تعالى أعلم. PageV03P154 ### | مسألة في تأويل الآيات وإمرار # أحاديث الصفات كما جاءت # PageV03P155 # مسألة # سئل عنها الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع أوحد أهل زمانه شيخ ~~الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن ~~تيمية الحراني -رضي الله عنه وأرضاه- وهو بالديار المصرية، في قوله تعالى ~~(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية (2) ، وقوله (وهو معكم أين ما ~~كنتم) (3) ، وقول النبي - صلى الله عليه ms0453 وسلم -: "ينزل ربنا كل ليلة إلى ~~سماء الدنيا (4) ... " الحديث (5) . وقد تأول طائفة هذه الآيات وأمثالها من ~~آيات الصفات التي أنزلها الله تعالى، ولم يتأولوا هذا الحديث ولا أمثاله من ~~أحاديث الصفات. وقد قال طائفة: إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث ~~أيضا التأويل. فما الحجة في تأويل الآيات وإمرار الأحاديث كما جاءت؟ بينوا ~~لنا الصواب في ذلك. # أجاب رضي الله عنه # الحمد لله. الجواب عن هذا من وجوه: # أحدها # أن يقال: يجب اتباع طريقة السلف من السابقين الأولين من PageV03P157 # المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإن إجماعهم حجة قاطعة، وليس ~~لأحد أن يخالفهم فيما أجمعوا عليه، لا في الأصول ولا في الفروع. وحكى غير ~~واحد من أهل العلم بآثارهم وأقوالهم قالوا في قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة ~~إلا هو رابعهم) (1) ونحوه: إنه بعلمه (2) ، وحكوا إجماعهم على إمرار [آيات] ~~الصفات وأحاديثها وإنكارهم على المحرفين لها. # ولهذا لا يقدر أحد أن يحكي عن أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من سلف ~~الأمة بنقل صحيح أنه تأول الاستواء بالاستيلاء أو نحوه من معاني أهل ~~التحريف، بل ينقل عنهم أنهم فسروا الآية بما يقتضي أنه سبحانه فوق عرشه، ~~ويمكنه أن ينقل بالإسناد الصحيح أنهم قالوا في قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة ~~إلا هو رابعهم) أنهم قالوا: بعلمه. # قال أبو عمر ابن عبد البر في كتاب "التمهيد في شرح الموطأ" (3) لما شرح ~~حديث النزول، قال: هذا حديث لم يختلف أهل العلم في صحته، وفيه دليل [على] ~~أن الله في السماء على العرش كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة. ~~وهذا أشهر عند العامة والخاصة، وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته، لأنه ~~اضطرار، لم يؤنبهم (4) عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم. PageV03P158 # وقال أبو عمر أيضا (1) : أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم ~~التأويل قالوا في تأويل قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا ~~خمسة إلا هو سادسهم) : هو على العرش، وعلمه في كل مكان. وما خالفهم في ذلك ~~أحد يحتج ms0454 بقوله. # وقال أيضا (2) : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب ~~والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ~~ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها ~~على الحقيقة، ويزعم أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود. # وقال الشيخ أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" (3) في باب التحذير من مذهب ~~الحلولية: الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله على عرشه فوق سماواته، وعلمه ~~محيط بكل شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلي، وبجميع ما في سبع ~~أرضين، يرفع إليه أعمال العباد. # فإن قال قائل: فما معنى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية ~~التي يحتجون بها؟ قيل له: علمه، والله على عرشه، وعلمه يحيط بهم. هكذا فسره ~~أهل العلم، والآية يدك أولها وآخرها على أنه العلم وهو على عرشه. # هذا قول المسلمين. PageV03P159 # وقال الشيخ أبو عبد الله بن بطة في كتاب "الإبانة" (1) : باب الإيمان بأن ~~الله على عرشه بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه: أجمع المسلمون من الصحابة ~~والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه. فأما قوله (وهو ~~معكم) فهو كما قالت العلماء: علمه. وأما قوله (وهو الله في السماوات وفي ~~الأرض) (2) معناه أنه هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وتصديقه في ~~كتاب الله: (وهو الذي في السماء إله وفى الأرض إله) (3) . واحتج الجهمي ~~[بقول الله تعالى] (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) ، فقال: إن الله ~~معنا وفينا. وقد فسر العلماء أن ذلك علمه. ثم قال في آخرها (إن الله بكل ~~شيء عليم (7)) (4) . # فهؤلاء وأمثالهم الذين هم من أعلم الناس بأقوال السلف من الصحابة ~~والتابعين، وكل منهم له من المصنفات المشهورة ما فيه العلم بأقوال السلف ~~وآثارهم، ما يعلم أنهم أعلم بذلك من غيرهم، وقد حكوا إجماع السلف كما ترى. # الوجه الثاني # أن يقال: الكلام في الآيات والأحاديث كلها على طريقة واحدة، والتأويل ~~الذي ذمه ms0455 السلف والأئمة هو تحريف الكلام عن مواضعه، وإخراج كلام الله ~~ورسوله عما دل عليه وبينه الله به. وقد حده طائفة PageV03P160 # بأنه صرف الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل. ~~فقوله تعالى (وهو معكم أين ما كنتم) ونحوها من الآيات ليس ظاهرها ولا ~~مدلولها ولا مقتضاها ولا معناها أن يكون الله مختلطا بالمخلوقين ممتزجا ~~بهم، ولا إلى جانبهم متيامنا أو متياسرا، ونحو ذلك، لوجوه: # أحدها: أنه لم يقل أحد من أهل اللغة إن المعية تقتضي الممازجة والمخالطة، ~~ولا توجب التيامن ولا التياسر (1) ونحو ذلك من المعاني المنفية عن الله مع ~~خلقه، وإنما تقتضي المصاحبة والمقارنة المطلقة. الثاني: أنه حيث ذكر في ~~القرآن لفظ المعية فإنه لم يدل على الممازجة والمخالطة، كما في قوله: (محمد ~~رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (2) ، فليس معنى ذلك ~~أن ذات المؤمنين ممتزجة بذاته. # وكذلك قال تعالى: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك ~~منكم) (3) ، والمجاهد معهم ليست ذاته ممتزجة بذواتهم ولا مماسة لذواتهم. ~~وقال تعالى: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119)) (4) ، وليس المراد أن ~~ذاته تمتزج بذواتهم ولا مماسة لها. وقال تعالى: (وما آمن معه إلا قليل ~~(40)) (5) ، وقال تعالى: (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119)) (6) . ~~PageV03P161 # وهذا كثير في كتاب الله، وليس في شيء من ذلك أن معنى المعية أن يكون ~~أحدهما حالا في الآخر ولا ممتزجا به ولا مختلطا به، فمن قال: إن ظاهر قوله ~~(وهو معكم) ونحو ذلك أن يكون الله مختلطا بالمخلوقين وممتزجا بهم وحالا ~~فيهم أو مماسا لهم ونحو ذلك، فقد افترى على القرآن وعلى لغة العرب، وادعى ~~أن هذا الكفر هو ظاهر القرآن، وهو كذب على الله ورسوله بلا حجة ولا برهان. # وغاية ما يقال: أن لفظ "مع" ظرف أو ظرف مكان، فيقتضي أن يكون المتعلق ~~بهذا الظرف مكانا (1) من المضاف إليه، كما في قول القائل: هذا فوق هذا، فإن ~~"فوق" من ظروف المكان، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون المكان عن يمين المضاف ~~إليه أو عن ms0456 شماله، ولا يقتضي أن يكون عن يمينه وشماله جميعا، بل أكثر ما ~~يقتضي مطلق المكان، فإذا قذر أنه (2) فوق المضاف إليه لم يكن هذا مخالفا ~~لظاهر المعية. # ومن قال: إنه لابد في المعية من أن يكون ما مع الشيء متيامنا أو متياسرا ~~أو إلى جانبه ونحو ذلك، فقد غلط غلطا بينا. وهذا كما أن قوله (وهو الذي في ~~السماء إله وفي الأرض إله) ليس ظاهره أن ذاته في السماوات والأرض، بل ظاهره ~~أنه إله أهل السماء وإله أهل الأرض، فأهل السماء يألهونه، وأهل الأرض ~~يألهونه. # وكذلك قوله (وهو الله في السماوات وفي الأرض) ليس ظاهره أن نفس الله في ~~السماوات والأرض، فإنه لم يقل: "هو في السماوات والأرض"، بل PageV03P162 # قال: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) ، فالظرف مذكور بعد جملة لا بعد ~~مفرد، فهو متعلق بما في اسم "الله" من معنى الفعل، هو الله في السماوات: أي ~~المعبود الإله في السماوات، والإله المعبود في الأرض، كقوله: (وهو الذي في ~~السماء إله وفي الأرض إله) ، بخلاف قوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم ~~الأرض) (1) وقوله: (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) (2) ، فإنه ~~لم يذكر ما يتعلق به قوله "في السماء" غير نفسه. # وكذلك الأثر الذي يروى عن ابن عباس أنه قال: "الحجر الأسود يمين الله في ~~الأرض، فمن صافحه واستلمه فكأنما صافح الله وقبل يمينه" (3) ، فمن قال: إن ~~هذا يحتاج إلى تأويل فقد أخطأ، فإنه ليس ظاهر هذا أن الحجر هو صفة الله، ~~فإنه قال: "يمين الله في الأرض"، فقيده بكونه "في الأرض"، وهذا بين أنه ليس ~~هو صفة الله. ثم قال: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه"، ~~والمشبه غير المشبه به، فقد صرح بأن المستلم له لم يصافح الله، وإنما هو ~~مشبه بذلك. # الوجه الثالث أن يقال ### | : إخبار الله في القرآن أنه مع عباده جاء عاما وخاصا، # فالعام كقوله: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون ~~من نجوى ms0457 ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا ~~أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله ~~بكل شيء عليم (7)) (4) ، وقال: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ~~ثم استوى PageV03P163 # على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما ~~يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4)) (1) . ففتح ~~الكلام بالعلم وختمه بالعلم. # وأما الخاص فكقوله: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (2) ، ~~فهذا بين أنه ليس مع الفجار والظالمين، ولو كان بذاته في كل مكان لكان ~~مخالفا لهذه الآية. # وكذلك قوله لموسى وهارون: (إنني معكما أسمع وأرى (46)) (3) ، فهو مع موسى ~~وهارون دون فرعون وقومه. # وكقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن ~~الله معنا) (4) ، فهو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، لا مع ~~الكفار كأبي جهل وأمثاله. # فلو كانت المعية معناها الاختلاط والامتزاج، وكان في كل مكان بذاته، لم ~~يجز أن يكون في المعية تخصيص. فمن زعم أن معناها الامتزاج والاختلاط وأن ~~ظاهرها أن يكون في كل مكان فقد أخطأ، ولكن المعية وإن دلت على المصاحبة ~~والمقارنة فهي في كل مكان بحسب ما دل عليه السياق. فلما كان في تلك (5) ~~الآيتين قد افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، دل ذلك على أن من حكم المعية ~~أنه PageV03P164 # عليم بكل شيء. وهنا لما كان السياق يدل على أن المقصود الإعانة والنصر دل ~~على أن من حكم المعية النصر والمعونة، فقول القائل "أنا معك" معناه: أني ~~مصاحبك ومقارنك، وإذا كان كذلك اقتضى أني أعلم حالك، وقد يقتضي إذا أني ~~أعينك وأنصرك على أعدائك. # وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "اللهم أنت ~~الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في ~~أهلنا" (1) . وهذا وأمثاله بين أن لفظ المعية في القرآن ليس فيه هذا ~~التأويل المتنازع فيه، وهو ms0458 صرف اللفظ عن الاحتمال (2) الراجح إلى الاحتمال ~~المرجوح لدليل يقترن بذلك، فإن هذا إنما يكون إذا كان ظاهر قوله (وهو معكم) ~~يقتضي أن يكون الله ممتزجا بنا حالا في أجوافنا، أو أن يكون إلى جوانبنا، ~~وليس هذا مدلول لفظ المعية أصلا، فبطل ما قال. بل يقال: # الجواب الثاني # وهو أن قوله (وهو معكم) يدل على نقيض قول الجهمية، فإنه ذكر نفسه وذكر ~~أنه معهم، ولفظ الخطاب -إذا قيل: هم وأنتم ومعكم ونحو ذلك- يتناول ما ~~يتناوله الاسم الظاهر، واسمهم يتناول جميع ذاتهم وصفاتهم فأبعاضهم، وذلك ~~يمتنع (3) أن يكون في أحدهم شيء من غيره. فإذا كان هو معهم دل ذلك على أنه ~~منفصل عنهم بائن منهم خارج عنهم، كما في نظائره. بل قوله "رب الناس" "ملك ~~PageV03P165 # الناس" و"رب العالمين" ونحو ذلك يقتضي أنه مغاير للناس مباين لهم، لأن ~~الرب مغاير للمربوب، فإذا قيل: "هو معهم أنه اقتضى أنه مغاير لهم، ولمسمى ~~"مع" الذي هو معنى الظرف اللفظي، فإنه إذا قيل: "هذا فوق هذا" اقتضى أنه ~~مغاير مباين لما هو فوقه ولنفس المسمى بلفظ فوقه، ولفظ "مع" هو من هذا ~~الجنس ظرف من الظروف، فيقتضي ذلك أن يكون المتعلق بهذا الظرف مغايرا مباينا ~~له ولما أضيف إليه الظرف، ولا نزاع أن الشيء إذا كان فوق الشيء جاز أن ~~يقال: هو معه، وقد يجعل الأعلى مع الأسفل، كما يقال: "هذا الحمل معي"، وقد ~~يجعل الأسفل مع الأعلى، كما يقال: "هذا المركوب معي"، وقد يقال لما هو ~~مباين منفصل عنه، كما يقال: "هذه الغاشية (1) معي"، وقد يقال: "سرنا ~~البارحة والقمر معنا"، وأمثال ذلك مما يقتضي المباينة والانفصال. # فعلم بذلك أن كونه (وهو معكم) لا ينفي أن يكون الرب مباينا لهم، ولا ~~يقتضي أن يكون على جوانبهم، بل غايته أن يكون بحيث هو مضاف إليه مما يسميه ~~النحاة ظرفا كالفوق ونحوه، فلا يكون بين قوله "فوقهم" وقوله "معهم" منافاة، ~~بل يكون لفظ "المعية" دل على مطلق أنه حيث يضاف إليهم، ولفظ "الفوقية" دل ~~على ms0459 خصوص ذلك ولو معية هي فوقية، ليست تيامنا ولا تياسرا. # وحقيقة الأمر أن لفظ "مع" في الأصل معناه واحد، وهو المصاحبة والمقارنة ~~والمشاركة في مسمى "مع" الذي هو معنى الظرف، وهو ظرف إضافي. فقوله "هذا ~~معه" بمنزلة قوله "هذا مصاحب له مفارق له"، وهو يقتضي مطلق المصاحبة ~~والمقارنة لا نوعا منهم إلا بتفصيل وتخصيص. PageV03P166 # وكذلك إذا قيل: هو يقتضي مطلق الموافقة أو المشاركة فيما قد يسمى مكانا ~~ونحو ذلك من الأسماء، فإنه لا يدل إلا على مطلق هذه الموافقة، لكن قد يكون ~~من لوازم ذلك موالاة أحدهما للآخر محبة ونصرة، كما يقال: فلان معي وفلان ~~على، إذ كان من شأن المتحابين قرب كل منهما إلى الآخر حتى يتفقا في محل ~~واحد، وقد يكون من لوازم ذلك معرفة كل منهما بالآخر أو معاونته، إذ من شأن ~~المجتمعين من الآدميين في محل [أن] يعرف أحدهما الآخر ومعاونته له. # وهذا كما أن لفظ "العلم" في الأصل إنما يقتضي معرفة المعلوم، ثم قد يكون ~~من لوازم ذلك ما يقتضيه العلم من محاسبة الشخص ومجازاته ونحو ذلك، كما في ~~قوله (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى ~~من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108)) (1) ، وكما في قوله (نحن أعلم ~~بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) (2) ، وقوله تعالى (قد يعلم ~~الله الذين يتسللون منكم لواذا) إلى قوله (ألا إن لله ما في السماوات ~~والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل ~~شيء عليم (14)) (3) . # وكذلك "السمع" و"البصر"، مثل قوله: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن ~~الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق) (4) ، ~~وقوله: (الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219)) (5) ، وقوله: ~~PageV03P167 # (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (1) . فهذا ونحوه وإن ~~ذكر فيه لفظ "السمع" و"الرؤية" فالمقصود لوازم ذلك، من إحصاء ذلك والجزاء ~~عليه بالثواب والعقاب، وقد يكون المقصود بذلك قبول الدعاء، كقول الخليل ms0460: ~~(إن ربى لسميع الدعاء (39)) (2) ، وقول المصلي "سمع الله لمن حمده"، كما ~~يعنى بالنظر نظر الرحمة والمحبة، كقوله (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) ~~(3) . فهذه الأمور لما كانت من لوازم العلم والسمع والبصر، [و] من شأنه ~~إحصاء الأعمال والجزاء عليها ونحو ذلك، صارت متضمنة لهذا المعنى. وكذلك ~~المصاحبة لما كان لها لوازم -مثل معرفة الصاحب بحال صاحبه، وموالاته له، ~~وموافقته له- دخلت هذه المعاني فيها حيث دل عليه السياق. # ولفظ "مع" في الأصل يدل على المصاحبة، ويدل على لوازم هذا المعنى: من ~~العلم الذي يتضمن الإحصاء والجزاء على الأعمال عموما، ومن الموالاة ~~والمعونة والنصر الذي يختص المؤمنين ونحو ذلك، فقوله تعالى (هو الذي خلق ~~السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما ~~يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله ~~بما تعملون بصير (4)) (4) ذكر بعد أن أخبر بخلق السماوات والأرض واستوائه ~~على العرش أنه يعلم ما يدخل في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء ~~وما يصعد فيها، وأنه مع الخلق أينما كانوا، وأنه بكل شيء عليم. فدل هذا ~~السياق على PageV03P168 # أنه مع كونه استوى على العرش يعلم باطن الخلق وظاهرهم، وهو معهم لا يغيب ~~عنه شيء من أمرهم. # وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث العباس بن عبد المطلب ~~لما ذكر السماوات والعرش قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (1) ~~. # وكذلك قال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء إلى السماء كذا وكذا" إلى ~~أن قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (2) . # وكذلك ما ذكره في سورة المجادلة (3) من قوله: (ألم تر أن الله يعلم ما في ~~السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا ~~هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم ~~بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم (7)) ، فافتتح الآية ms0461 بالعلم ~~وختمها بالعلم. # ومثل هذا قوله: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ ~~يبيتون ما لا يرضى من القول) (4) . # وأما قوله: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) (5) ، وقوله ~~لموسى وهارون: (إنني معكما أسمع وأرى (46)) (6) ، وقوله PageV03P169 # عن الرسول: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (1) ، فقد علم أن حكم ~~المعية هنا ومقصودها ليس عاما لجميع المخلوقات كالعلم والقدرة، بل مختصا ~~بالمتقين المحسنين (2) دون الفجار الظالمين، وبموسى وهارون دون فرعون ~~وقومه، وبالنبي وصديقه دون مشركي قومه. فهذه الأمور التي فيها خصوص وعموم ~~تضمنها لفظ المعية ودل عليها، كما دل لفظ العلم والسمع والبصر على ما تقدم، ~~وهي في نفسها تقتضي من المصاحبة والمقارنة ما هو معناها في الأصل، ولا ~~تقتضي ممازجة ولا مخالطة ولا تيامنا ولا تياسرا. # بل إذا قيل: إنها تتضمن قربه من خلقه، فقربه ثابت بنصوص صريحة أصرح من ~~لفظ المعية، كقوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع ~~إذا دعان) (3) ، وقو له تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت ~~فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (50)) (4) . وفي الصحيح (5) عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه لما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير: ~~"أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون ~~سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهو سبحانه ~~قريب في علوه علي في دنوه. # وقد تكلمنا على قربه من خلقه وقرب عباده منه بكلام مبسوط، PageV03P170 # وذكرنا أقوال الناس كلهم في ذلك في غير هذا الموضع (1) ، وبينا أن قربه ~~لا ينافي علوه. # الجواب الثالث # أن لفظ "التأويل" فيه اصطلاحات متعددة، فالتأويل الذي يتنازع فيه مثبتة ~~الصفات ونفاتها المراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال ~~المرجوح، وذلك لا يجوز إلا بدليل يوجب ذلك. # وقد يراد بلفظ التأويل تفسير اللفظ، وإن كان التفسير يوافق ظاهره. وهذا ~~اصطلاح ابن جرير الطبري في تفسيره وابن عبد البر ونحوهما. # وقد يراد ms0462 بلفظ التأويل ما يؤول إليه اللفظ، وهو الحقيقة الموجودة في ~~الخارج التي دل الكلام عليها، وبهذه اللغة جاء القرآن، كقوله تعالى: (هل ~~ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ~~ربنا بالحق) (2) ، وقوله تعالي: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في ~~العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (3) ، وأمثال ذلك. # إذا عرف ذلك فنقول (4) : أما التأويل بالمعنى الثالث والثاني فلا نزاع ~~فيه بين الناس. وأما التأويل بالمعنى الأول فيقال: هو صرف اللفظ عن ظاهره ~~إلى ما يخالف ظاهره، أو عن حقيقته أو عن PageV03P171 # الاحتمال الراجح، وحينئذ فالظهور والبطون من الأمور الإضافية، فإن كان ~~الإنسان يظهر له من نصوص الصفات أن صفات الخالق مماثلة لصفات المخلوقات ~~-مثل أن يظن أن استواءه على العرش كاستواء الإنسان على بعيره أو على الفلك، ~~أو أن معيته مع الخلق تقتضي دخوله فيهم، أو أن قوله "الحجر الأسود يمين ~~الله في الأرض" ظاهره أن صفة الله حلت في الأرض، وأن ذلك الحجر صفة للرب، ~~وأن قوله (أأمنتم من في السماء) (1) يقتضي أن يكون الله في جوف الأفلاك، ~~ونحو ذلك- فمن ظن أن هذه المعاني الفاسدة هي ظاهر القرآن، وأن مسماها ظاهره ~~وحقيقته، فيجب على مثل هذا أن يعتقد التأويل في ذلك كله، ويعلم أن هذه ~~النصوص مصروفة عن هذا المعنى الذي ظنه هو الاحتمال الراجح إلى ما يخالف ذلك ~~المعنى. لكن عليه أن يعتقد ويعلم أن السلف والأئمة الأربعة الذين منعوا من ~~التأويل لم يعتقدوا أن هذا المعنى الفاسد ظاهر هذه النصوص، ولا أنها تدل ~~على ذلك. # بل من فهم منها هذا المعنى الفاسد بينوا له أنها لا تدل على هذا المعنى ~~الفاسد، وفي كلام الله ورسوله ما ينفي عن الله هذا المعنى الفاسد. # فمن ادعى أن هذه المعاني الفاسدة قد دل عليها القرآن كان ما في القرآن من ~~التصريح بنفي ذلك مثبتا لنفي هذه المعاني الفاسدة، فإنه قد أخبر في القرآن ~~أنه استوى على العرش، وأن كرسيه وسع ms0463 السماوات والأرض، وأن الأرض جميعا ~~قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأخبر بعلوه في غير موضع من ~~الكتاب. وهذه كلها نصوص تنفي أن تكون صفاته تشبه صفات خلقه (2) ، أو يكون ~~حالا PageV03P172 # في المخلوقات. وأخبر بقوله ليس (ليس كمثله شيء) (1) وبقوله (ولم يكن له ~~كفوا أحد (4)) (2) ونحو ذلك أن يماثله العباد في صفاتهم، فتكون صفاته كصفات ~~خلقه. # فهذه النصوص المفسرة تبين أن تلك المعاني الفاسدة ليست مرادة، سواء سمى ~~المسمي ذلك تأويلا أو لم يسمه. # فقول القائل "إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث أيضا التأويل" ~~حقيقته أنا إذا نفينا عن النصوص أن يراد بها معنى فاسد بين الله تنزهه عنه ~~في موضع آخر، وجب [أن] ننفي عن نصوص أخرى معاني ونفسرها بأمور من غير أن ~~يدل القرآن والسنة لا على نفي هذا ولا على إرادة هذا، ومعلوم أن هذا باطل ~~سواء سماه تأويلا أو لم يسمه، لوجوه: # أحدها: أن ما نفي من المعاني الفاسدة هناك نفاه القرآن، فإن بينوا في ~~بقية (3) النصوص معنى فاسدا نفاه القرآن وجب نفيه أيضا. # الثاني: أن ما فسروا به تلك النصوص هو تفسير يوافق سائر النصوص، لتفسيرهم ~~لها بان الله إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنه بكل شيء عليم، ونحو ~~ذلك. وأما تأويلات الجهمية فهي متناقضة، منها قولهم (4) : "استوى" بمعنى ~~استولى، فإن هذا فاسد من قريب عشرين وجها مذكورة في غير هذا الموضع (5) . ~~PageV03P173 # وقولهم "ينزل أمره أو ملك"، فان هذا فاسد من وجوه كثيرة، فكيف يقاس تأويل ~~فاسد على تأويل صحيح. وهذا كله إذا تنزلنا وسمينا ذلك تأويلا بحسب فهم هذا ~~الفاهم، وإلا فالصواب هو: # الوجه الثالث؟ وهو أن يقال: إذا فهم بعض الناس من كلام الله معنى فاسدا ~~-مثل فهمهم كون المعية تقتضي المخالطة، وأن الحجر صفة الله، وزعم أنه ~~ظاهره- رد عليه هذا الفهم، وقيل له: هذا خطأ في فهمك، وإلا فالنص لم يدل ~~على ذلك، ولا هذا ظاهر النص. وظاهر الخطاب الذي هو مدلوله ومعناه يعلم تارة ~~بمفردات ألفاظه ms0464 وموضوعها، وتارة بالتركيب وبما اقترن بالمفردات من التركيب ~~الذي يبين المراد ويظهر معنى الخطاب، وتارة بالسياق الذي سيق له الكلام. # وإذا كان كذلك لم نسلم أن هذا تأويل، فإن أصر على تسمية هذا تأويلا كان ~~نزاعا لفظيا، وقيل له: ذلك تأويل يوافق مدلول النص ومقتضاه، وهذا تأويل ~~يخالف مدلوله ومقتضاه، وكل تأويل كان من القسم الأول نقول به، وإنما نرد ~~التأويل الذي يخالف مدلول كلام الله ومقتضاه. ### | الجواب الرابع # أن الناس متفقون على أنه لا يسوغ كل تأويل، # من التأويلات ما هو مردود، مثال ذلك أن الأشعري يرد تأويل المعتزلي لعلم ~~الله وقدرته وسمعه وبصره وتكليمه ومشيئته، ويثبت هذه الصفات حقيقة؟ ~~والمعتزلي يرد تأويل المتفلسف في معاد الأبدان والأكل والشرب في الجنة؟ ~~والفيلسوف يرد تأويل القرمطي في الصلاة والزكاة والصوم والحج؟ والقرمطي يرد ~~تأويلات الجمهور الذين (1) ينازعونه فيها. PageV03P174 # وإذا كان كذلك قيل لكل من هؤلاء: بأي شيء رددت بعض التأويلات وقبلت ~~بعضها؟ فلا يذكر شيئا إلا عورض حتى يبين له تناقضه وفساد أصله. # فمن كان من المتأولين (1) يتأول المحبة والرضا والغضب ونحو ذلك، ويقرر ~~الإرادة ونحوها، قيل له: ما الفرق بين ما قررته وبين ما تأولته؟ # فإن قال: لأن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وذلك لا يليق ~~بالله. # قيل له: هذا غضبنا، وغضب الله ليس مثل غضبنا، بل يقال له: # هذا هو مقتضى الغضب فينا أو موجبه، ليس هو نفس الغضب، والله تعالى لا ~~يوصف بما نحتاج إليه نحن في ثبوت الصفات، فإنه عليم، ولا يحتاج في علمه إلى ~~النظر والاستدلال الذي يحصل لنا العلم، وهو قدير ولا يحتاج إلى مزاج وعلاج ~~يحصل له القوة، وهو بصير ولا يحتاج إلى شحمة، وهو متكلم ولا يحتاج إلى لسان ~~وشفتين. # فكذلك غضبه لا يفتقر إلى ما يفتقر إليه غضبنا. # فإن قال: أنا لا أعرف الغضب إلا هكذا. # قيل له: فتأول الإرادة، فإن الإرادة فينا هي ميل القلب إلى جلب ما ينفعه ~~أو دفع ما يضره، والله تعالى لا يوصف بذلك ms0465. # فإن قال: إرادته ليست كإرادتنا. # قيل له: فقل في الغضب كذلك، وهكذا في سائر الصفات. PageV03P175 # فإن قال المعتزلي: أنا أتأول الإرادة والكلام، وأجعل كلامه ما خلقه في ~~غيره، وإرادته ما خلقه في المفعولات والأصوات، أو عرضا خلقه قائما بنفسه. # قيل له: فتأول أسماءه الحسنى، وهو الحي العليم القدير، ولا تثبت له حقائق ~~هذه الأسماء كما يفعل القرمطي، قال: لأن ثبوت هذه الأسماء يقتضي هذه ~~المشابهة بينه وبين خلقه، ويقتضي أنه جسم، إذ لا يسمى بهذه الأسماء إلا ~~جسم. # فإذا قال: أنا أثبت هذه الأسماء له مع الفرق بين المسمى والمسمى. # قيل له: فكذلك أثبت الصفات، وفرق بين الموصوف والموصوف. # فإن قال: الصفات تقتضي التجسيم. # قيل له: والأسماء تقتضي التجسيم. # فإن قال: التجسيم (1) إنما يلزم إذا قلت: هو حي بحياة عليم بعلم قدير ~~بقدرة، وأنا أقول: حي بلا حياة عليم بلا عليم. # قيل له: هذا باطل من ثلاثة أوجه: # أحدها: أن التجسيم الذي تزعمه يلزم في هذا كما يلزم في هذا. # الثاني: أن إثباتك حيا بلا حياة عليما بلا عليم قديرا بلا قدرة مخالف ~~لصريح العقل أكثر من مخالفة ما فررت منه. # الثالث: أن خصومك من النفاة [و] المثبتة يخالفونك في هذا الفرق، فالمثبتة ~~للصفات يقولون: ليس في الجميع تجسيم، أو PageV03P176 # التجسيم الذي نفيته ليس بمنتف، والنفاة القرامطة يقولون: التجسيم في ~~إثبات الأسماء كالتجسيم في إثبات الصفات. # فإن قال المتفلسف: أنا أتأول هذا كفه، وأتأول ما ورد في معاد الأبدان. # قيل له: فتأول ما ورد في معاد الروح ونعيمها، وما ورد في إثبات واجب ~~الوجود وعنايته وإبداعه وعلمه الكلي ونحو ذلك، فالخطاب الوارد فيما نفيته ~~أصرح من الخطاب الوارد فيما أثبته. # فإن قال: ما نفيته يستلزم تركيب واجب الوجود. # قيل له: وكذلك ما أثبته، ولا فرق، فإن الوجود والوجوب والعناية والعقل ~~وأمثال ذلك معان متميزة في العقل كتميز ما أثبتته الصفاتية. # وقيل له: فتأول العبادات كما تأولها القرمطي. # فإن قال: العبادات قد علم بالاضطرار أن الرسول أوجبها، أو ليس فيها ما ms0466 ~~ينافي العقل. # قيل له: منازعون من النفاة والمثبتة يقولون لك ذلك، فالمعتزلة وغيرهم ~~يقولون: إن معاد الأبدان قد علم بالاضطرار أن الرسول قد أخبر به، والصفاتية ~~يقولون: إن إثبات الصفات مما علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به، ويقولون لك: ~~ليس في العقل منافاة لما أثبته من هذه الجزئيات، كما ليس في العقل منافاة ~~لما أثبته من العلميات (1) . # والقرامطة ينازعونك فيما أثبته حتى في النفس، فيقولون: لا يقال هو ~~PageV03P177 # لا موجود ولا معدوم، لأن في هذا تشبيها له بالموجودات والمعدومات. # فان قال (1) : هذا خروج عن النقيضين، وهذا خروج عن العقل، وهو مخالف لما ~~علم بالاضطرار من السمع. # قيل له: وهكذا حال جميع النفاة، فإنهم لابد أن يجمعوا بين النقيضين أو ~~يسلبوا النقيضين كالقرمطي، فمن قال: لا هو مباين ولا محايث ولا داخل ولا ~~خارج، كان بمنزلة من يقول: لا قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث، ~~ولا موجود ولا معدوم، ومن قال: إنه وجود مطلق ليس له حقيقة وراء الوجود ~~المطلق. وقد تقرر في المنطق أن المطلق بشرط إطلاقه لا يوجد في الخارج بل في ~~الذهن، كالجسم المطلق والحيوان المطلق، فإن جعل المطلق بشرط الإطلاق يثبت ~~في الخارج جمع بين النقيضين. # وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هؤلاء أهل التأويلات ~~المبتدعة الذين ينفون الصفات ليس لأحد منهم قانون مستقيم في التأويل، بل ~~يتناقضون. # فيقال لهم: إذا تأولتم هذا فتأولوا هذا، أو لا تتأولوا شيئا. # فإن قالوا: ما دل العقل على إثباته لم نتأوله كالإرادة، بخلاف ما لم يدل ~~على إثباته كالغضب. # كان الجواب من وجوه: # أحدها أن يقال: عدم الدليل ليس دليلا على العدم، فهب أنكم لم تعلموا ~~بالعقل ثبوت صفة أخرى، فمن أين لكم نفيها بلا دليل PageV03P178 # والسمع قد دل عليها؟! # الثاني أن يقال: فهذا عزل للرسول عن الإخبار بصفات مرسله، فإنكم لم ~~تثبتوا إلا ما علمتم بعقولكم، وما لم تثبته عقولكم نفيتموه، فبقي كلام ~~الرسول عديم الفائدة في باب أسماء الله وصفاته. # الثالث: أن يبين ms0467 لهم أن العقل يدل على ما نفيتموه نظير دلالته على ما ~~أثبتموه، وأن ما في الوجود من الإحسان يدل على الرحمة، كما أن ما فيه من ~~التخصيصات يدل على الإرادة، وما فيه من العقوبات للمكذبين يدل على الغضب، ~~كما قد بسط في غير هذا الموضع. # فإن قال: إنما نتأول (1) ما علم نفيه بدليل قطعي من العقل أو النقل. # قيل له: ونحن نسلم لك أن ما علم نفيه بصريح المعقول أو صحيح المنقول فإنه ~~يجب نفيه عن الله، لكن دعواكم أن هذا المنصوص يدل على ما يخالف صريح ~~المعقول وصحيح المنقول قول غير مقبول. # الجواب الخامس # أن يقال: التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال ~~المرجوح، للمثبتة فيه ثلاثة مسالك: # أحدها: أن ينفوه مطلقا، ويقولوا: لا حاجة إليه، وتمام ذلك بان يثبتوا ~~تنزه القرآن والحديث عن الدلالة على المعاني الفاسدة. # المسلك ### | الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليل شرعي، # مثل أن يكون نفي ذلك المعنى قد بينه الشارع في موضع آخر، فيكون هو ~~PageV03P179 # قد بين كلامه بكلامه، فلا يكون كلام الله ورسوله محتاجا في البيان إلى ما ~~يحدثه المحدثون. # المسلك ### | الثالث: أن يسلموا أن كل تأويل قام عليه دليل سمعي أو عقلي فإنه يجب قبوله، # لكن يطالبون منازعيهم بالدلائل القطعية فيما إذا [كانت] حاجة إلى ~~التأويل، ويثبتون أن ذلك لم يخالف دليلا قطعيا، لا عقليا ولا سمعيا، بل ~~يبين أن العقل الصريح يقرر ما أثبته السمع، وأن العقل الصريح لا يخالف ~~النقل الصحيح أصلا، كما يبين أن ما دل عليه القرآن من أن الله مباين ~~لمخلوقاته (1) قد دل عليه العقل، وأن العقل يثبت مباينته للمخلوقات، والسمع ~~زاد على ذلك وأثبت الاستواء على العرش، وذلك لا يعلم بالعقل، فالسمع أثبت ~~ما علم العقل وزاد عليه وفضله، لأن الرسل بعثت بتكميل الفطرة وتقريرها، لا ~~بتحويل الفطرة وتغييرها. والله أعلم. # (تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلواته على سيدنا محمد خير خلقه محمد ~~(2) وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا، بتاريخ ms0468 خامس شهر ربيع الأول سنة ~~ست وخمسين وسبعمئة) . PageV03P180 ### | مسألة # فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى # إلى العلو من جميع الجهات المخلوقة # PageV03P181 # مسألة # سئل عنها سيدنا وشيخنا وإمامنا الشيخ الإمام العالم العامل الناسك البارع ~~المجتهد السالك المحقق المدقق مفتي الفرق ناصر السنن قامع البدع فريد عصره ~~وواسطة عقد دهره، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم ~~بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني -متعنا ~~الله بعلومه الفاخرة، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وأثابه في الدنيا ~~والآخرة- بالديار المصرية، فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلو من ~~جميع الجهات المخلوقة، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وأنه بائن من خلقه، ~~لا يتصور ذلك في الذهن إلا إذا فرضنا أن ذات الحق فلكية محيطة بالفلك؟ إذ ~~الفلك مستدير محيط بالخلق. فهذا التصور حق أم لا؟ وإذا لم يكن حق (2) فما ~~الدليل الخاصم بحجته بما يقبله العقل الصحيح؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم ~~أجمعين. # أجاب -رضي الله عنه- # الحمد لله. بل ### | هذا التصور باطل، # وأما بيان بطلانه فله طرق كثيرة، وذلك أن هذا القائل يقول: لو كان البارئ ~~سبحانه فوق المخلوقات وهو بائن من مخلوقاته، لوجب أن يكون فلكا محيطا ~~بالأفلاك، لأن الفلك التاسع مستدير، وهو محيط بسائر الأفلاك وما في جوفها، ~~والمحدد للجهات هو سطح الفلك التاسع، فلو قدرنا PageV03P183 # شيئا فوقه للزم أن يكون فلكا تاسعا، وهو مبني على أن الأفلاك مستديرة، ~~وهذا ثابت بالسمع والعقل. وربما قال بعضهم: إن الأفلاك هي تحت الأرض، فلو ~~كان فوق العالم للزم أن يكون تحت هذه الأرض ### | … # (1) تحت بعض الناس. # فهذا حقيقة كلامه، وأما بيان بطلانه فمن وجوه: # أحدها أن يقال: لا يخلو إما أن يكون الخالق تعالى مباينا للمخلوقات، وإما ~~أن يكون محايثا لها، وإما أن لا يكون لا مباينا ولا محايثا لها" وإن شئت ~~قلت: إما أن يكون داخل العالم، وإما أن يكون خارجه، وإما أن لا يكون لا ~~داخل العالم ولا ms0469 خارجه؛ وإن شئت قلت: هو سبحانه لما خلق العالم إما أن يكون ~~دخل فيه أو أدخله في نفسه (2) ، أو لا دخل (3) فيه ولا أدخله في نفسه. # فإن قال: إنه داخل العالم محايث له أي هو يحيث العالم، والعالم أجسام قام ~~بها أعراض هي الصفات، فالذي هو داخل فيه محايث له: إما عرض قائم بأجسامه ~~وإما بعض أجسامه، وعلى القول بكون سطح الفلك محيطا به فالقول بكون الفلك ~~محيطا به أبعد عن العقل والدين من كونه محيطا بالفلك. # فإن قال: يمكن في العقل أن يكون داخل العالم ولا يكون جسما من أجسام ~~العالم ولا عرضا قائما به. # قيل له: فإن كان هذا جائزا في العقل فكونه خارجا عن العالم PageV03P184 # مباينا له وكونه عين الفلك أقرب في العقل من كونه فيه والعالم لا يحيط ~~به. وهذا بين واضح. # فإن أثبت أنه في العالم ولا يحيط به العالم كان القول بأنه خارج العالم ~~وليس بفلك أولى في العقل. # وإن قال: إنه فيه، والعالم يحيط به، وذلك ممكن، كان القول بأنه هو المحيط ~~بالعالم أولى في العقل أن يكون ممكنا (1) . # فتبين أنه على التقديرين أي محذور لزمه في كونه خارج العالم مباينا له ~~كان المحذور في كونه داخله محايثا له أعظم وأقوى، فلا يجوز إثبات الأبعد عن ~~العقل والدين بنفي الأقرب إلى العقل والدين. وأما إن قال: إنه لا داخل ~~العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له. # قيل له: فهل يعقل موجودان قائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما داخل الآخر ولا ~~خارجه؟ وهل يعقل إثبات خالق للعالم ليس في العالم ولا مباينا للعالم؟ وهل ~~يعقل أن يكون خلق العالم لا في نفسه ولا خارجا (2) عن نفسه؟ # فإن قال: هذا معقول ممكن متصور. # قيل: فتصور موجود قائم في هذا الباب يستعمل لثلاث معان: أحدها: أن يراد ~~بالمباينة المخالفة التي هي ضد المماثلة، وهي بهذا الاعتبار متفق عليها بين ~~الناس، إذ لا نزاع بينهم أن الخالق سبحانه PageV03P185 # مباين لمخلوقاته بهذا المعنى، لكن هذه المباينة تثبت ms0470 لصفات الموصوف ~~القائمة بمحل واحد، وهي الأعراض القائمة بالجسم، كالطعم واللون والريح ~~والحركة والسكون القائمة بالساحة مثلا، فإن هذه الصفات تباين بعضها بعضا ~~بهذا المعنى، فإن كل واحدة من هذه الصفات التي تسمى أعراضا ليست مثل الآخر. # والمعنى الثاني في المباينة: حد المحايثة، وهو أن يكون أحد الشيئين ليس ~~هو محايثا له، سواء كان ملاصقا له مباينا أو لم يكن كذلك، فكل شيء قائم ~~بنفسه مباين لكل شيء قائم بنفسه بهذا الاعتبار، سواء ماسه أو لم يماسه. ~~وهذه المباينة المذكورة في السؤال، وهي التي أرادها السلف والأئمة كعبد ~~الله بن المبارك وغيره، حيث قالوا: نعرف ربنا بأنه فوق سماواته على عرشه ~~بائن من خلقه. # وكان المتكلمة الصفاتية الذين سلك مسلكهم الأشعري -كعبد الله بن سعيد بن ~~كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وغيرهم- يثبتون هذه المباينة، ~~لاعتقادهم أن الله فوق خلقه وأنه مستو على عرشه، وإنكارهم على الجهمية ~~الذين لا يفرقون بين العرش وغيره. وكذلك ذكر الأشعري ذلك عن أهل السنة ~~والحديث، وذكر أنه هو قوله (1) ، ورد على الجهمية في (2) كتبه المعروفة ~~"كالموجز" و"الإبانة" و"المقالات" وغير ذلك من كتبه. # والمعنى الثالث من معاني المباينة: ما يضاد المماسة والملاصقة، وهذه ~~المباينة المعروفة عند الناس، وهي أخص معانيها. وليس PageV03P186 # المقصود هنا ذكر هذه لا نفيا ولا إثباتا، فإن القائم بنفسه لا يجب أن ~~يكون مباينا لكل قائم بنفسه بهذا الاعتبار، وكل مباينة يجب للمخلوق مع ~~المخلوق فالخالق أحق بها سبحانه وتعالى. # فلما وجب أن يكون المخلوق مباينا للمخلوق بالمعنى الأول والثاني كان ~~الخالق أحق بذلك وزيادة، لامتناع مماثلته للمخلوق ومحايثته له، فإن ~~المماثلة والمحايثة ممتنعان عليه لامتناع مساواته لخلقه أو احتياجه إليهم، ~~والمماثلة والمحايثة توجب ذلك. # والله سبحانه له المثل الأعلى، كما قال تعالى: (للذين لا يؤمنون بالآخرة ~~مثل السوء ولله المثل الأعلى) (1) ، فكل ما يفهم للمخلوق من صفات كمال ~~فالخالق أحق بها وأكمل في اقتضائه، كالعلم والقدرة والحياة والكلام ونحو ~~ذلك. وكل ما نزه عنه شيء من المخلوقات من ms0471 صفات النقص فالخالق أحق بأن ينزه ~~عن ذلك. فإذا كان أهل الجنة لا ينامون ولا يموتون، فالحي القيوم أحق بأن لا ~~تأخذه سنة ولا نوم. وهو الغنى المطلق عما سواه، فكل ما سواه يفتقر إليه، ~~وهو غني عن كل ما سواه. # وهو سبحانه مع أنه مستو على عرشه عال على خلقه فهو الذي يمسك السماوات ~~والأرض أن تزولا، وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما. فالعرش ~~وحملته هو الذي يمسكهم بقوته ومشيئته، بل قد جاء في الأثر (2) أن الله لما ~~خلق العرش وأمر الملائكة بحمله PageV03P187 # قالوا: ربنا! من يطيق حمل عرشك وعليك عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة ~~إلا بالله، فبذلك أطاقوا حمل العرش. # والله سبحانه قد جعل الأعلى من المخلوقات مستغنيا عن الأسفل، فالسماوات ~~فوق الأرض وليست محتاجة إلى الأرض ولا مفتقرة إلى أن تحملها، فالخالق العلي ~~الأعلى كيف يفتقر إلى العرش أو حملته فوق العرش أو إلى غيره من المخلوقات؟ ~~فلو كان محايثا لخلقه لكان وجوده مشروطا بوجود ذلك المحايث، بل كانت ذاته ~~مفتقرة إلى محايث، سواء كان محايثته من جنس محايثة العرض للعرض أو جنس ~~محايثة العرض للجسم، أو من جنس ما يدعيه من يقول بمحايثة الصورة الجوهرية ~~للمادة الجوهرية. وهذا هو المعقول من المحايثات، ولهذا كان القائلون بحلوله ~~في المخلوقات أو اتحاده بها من الجهمية تعود مقالتهم إلى مثل هذا، فآخر ~~أمرهم يجعلونه مع المخلوقات كالمادة مع الصورة، أو كالعرض مع الجسم، حتى ~~قالوا: وجوده وجود المخلوقات، إذ قالوا: إن الماهيات ثابتة بدونه، كما ~~يقوله ابن عربي صاحب "الفصوص" الموافق للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم شيء، ~~فإما أن يجعلوا الوجود صفة للإنسان أو قائما بنفسه مع الأعيان. وكلام ابن ~~سبعين يرجع إلى هذا، فإنه كان متفلسفا، فيجعله مع المخلوق بمنزلة المادة ~~والصورة. # ومن جعله الوجود المطلق، والأعيان لها التعين، فإن جعل للأعيان ماهيات ~~ثابتة في الخارج -كما يقوله من يقوله من المتفلسفة- فقد جعلوه مشروطا بتلك ~~الماهيات، وهو معها إما كالجوهر مع الجوهر أو كالجوهر ms0472 مع العرض. # وإن لم يجعل للأعيان ماهيات ثابتة، فالمطلق لا يكون في # PageV03P188 # الخارج إلا عين المشخص، فافتقاره إلى الأعيان المخلوقة أعظم وأعظم، بل ~~على هذا التقدير ليس مغايرا لها البتة. وقول التلمساني -وهو أحذقهم في ~~مقالتهم التي هي وحدة الوجود- يرجع إلى هذا. # وعلى كل وجه يفرض من وجوه المحايثات فإنه يكون مشروطا بوجود المخلوقات، ~~لا يتحقق ذاته بدون المخلوقات، وما كان كذلك لم يكن خالقا للمخلوقات، بل ~~ولا يجوز أن يكون علة لها، فضلا عن أن يكون خالقا لها؛ لأن العلة متقدمة ~~بالذات على المعلول، والمشروط بالشيء لا يكون متقدما عليه، إذ وجود المشروط ~~المستلزم لشرطه قبل شرطه الملازم للإيجاب، فيمتنع أن يكون علة. بل ولا يكون ~~واجب الوجود بنفسه، لأن نفسه لا تستغني في وجودها، بل لابد لتحققها من ذلك ~~الشرط اللازم لها المقرون بها، فيكون وجودها مفتقرا إلى وجود ذلك الشرط. ~~ولأن محايثة القائم بنفسه محال، وما يذكره المتفلسفة من محايثة الصورة ~~للمادة هو بناء منهم على أن تصور الأجسام مواد هي جواهر قائمة بنفسها. وهذا ~~باطل لا حقيقة له. # وكذلك من قال: إن الجواهر الموجودة ماهيات قائمة بأنفسها غير الموجود ~~المعروف، فقوله باطل بما يذكرونه من الماهيات الثابتة المغايرة للوجود ~~المحسوس، ومن المواد القائمة بنفسها المغايرة للجسم المحسوس، فهو حادث في ~~الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان، سواء قالوا باستغناء المواد عن الصور ~~واستغناء الماهيات عن وجودها -كما يذكر عن أفلاطن وشيعته-، أو قالوا ~~بافتقار المادة إلى الصورة، والماهيات إلى الوجود -كما يقوله أرسطو ~~وشيعته-. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. # فلم يبق إذا محايثة العرض للجسم ومحايثة الصفة للموصوف، # PageV03P189 # وهذا ممتنع لوجهين: # أحدهما: أن الموجودات القائمة بأنفسها لا تحايثها الأعراض، والعرض مفتقر ~~إليها محتاج إليها، والعرض يمتنع أن يكون هذا الفاعل المبدع العلة لمحاله ~~أو غير محاله، وهذا معلوم ببديهة العقل وضرورته، وأدلته كثيرة، فإن الأعراض ~~ذواتها مفتقر [ة] إلى ذوات محالها، فلا تكون واجبة الوجود ودون محالها، ~~والواجب مستغن عمن دونه، فلو لم ms0473 تكن واجبة الوجود امتنع أن تكون مبدعة لها ~~فاعلة لها أو محالها. # الوجه الثاني: أن كلا من المتحايثين يمتنع وجوده دون محايث، فإن العرض لا ~~يوجد دون الجسم، والجسم أيضا يمتنع خلوه عن جميع الأعراض، فانه لابد له من ~~شكل، والأبدان تكون متحركا أو ساكنا. ومن ظن جواز خلو الأجسام عن الأعراض ~~(1) ، وإذا كان كذلك فكل محايث لمخلوق يمتنع وجوده بدون وجود المخلوق، ~~ويكون مشروطا بوجود المخلوق، ومفتقرا في وجوده إلى وجود المخلوق، فيمتنع ~~حينئذ أن يكون هذا المبدع الفاعل له، لوجوب تقدم المبدع مع امتناع تقدم ~~المحايث، فيجب أن يكونا (2) مفعولين لفاعل ثالث، فيكون الخالق مخلوقا ~~والواجب ممكنا، أو يكون كل منهما واجب الوجود بنفسه، فيمتنع جعل أحدهما ~~خالقا والآخر مخلوقا، فلا يكون من العالم شيء مخلوق ولا محدث ولا ممكن، ~~وهذا خلاف الحس، فإنا نشهد الحدوث والعدم يعتقبان على ما شاء الله من ~~PageV03P190 # العالم، وما وجد بعد عدمه وعدم بعد وجوده يمتنع أن يكون واجئا بغيره ~~مطلقا، فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه. # ومن تدبر هذه المعاني وما يشبهها تبين له أن كل من جعله محايثا للمخلوقات ~~امتنع أن يكون عنده خالفا لها أو مبدعا أو علة أو يكون غنيا عنها، بل يجب ~~على قوله أن يكون مفتقرا إليها كافتقارها إليها، كما يصرح بذلك صاحب ~~"الفصوص" وأمثاله من القائلين بوحدة الوجود. ومن المعلوم أن ذلك ينافي ~~وجوبه بنفسه وإمكان غيره، وقد علم بالضرورة أن الوجود فيه من موجود واجب ~~مستغن بنفسه، ومن موجود مفتقر إلى غيره، بل فيه موجود حادث بعد أن لم يكن، ~~والحادث لا يحدث نفسه ولا يحدث بلا محدث، بل لابد للحادث من محدث، فهذا ~~هذا. # الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور أن يقال: المخلوق [يجوز] أن ~~يكون فوق المخلوق ولا يكون فلكا محيطا به، والأفلاك يجوز أن يكون فوقها شيء ~~آخر غير الأفلاك ولا يكون فلكا محيطا بها، مع كونه أكبر منها تارة وأصغر ~~منها أخرى، فكيف يجب في الخالق إذا كان فوقها ms0474 أن يكون فلكا مستديرا؟ # وذلك أن الشمس والقمر والكواكب التي هي في الفلك الرابع أو الثامن أو نحو ~~ذلك هي فوق ما تحتها من الأفلاك، فالشمس التي هي في الفلك الرابع تحقيقا أو ~~تقديرا لا ريب أنها فوق بقية الأفلاك، وهي فوق الأرض، ولا تزال فوق الأرض، ~~وهي قدر الأرض أكثر من مئة وستين مرة، ومع هذا فليست فلكا محيطا بالأرض. ~~والقمر فوق الأرض، ويقال: إن الأرض بقدره أربعين مرة، ومع هذا فليس هو فلكا ~~مستديرا. والكواكب الثابتة منها ما يقال: إنه أكثر من مئة مرة، # PageV03P191 # ومنها ما هو دون ذلك. والكواكب الموجودة ستة أقدار، يقال: إن أصغرها بقدر ~~الأرض ثماني عشر [ة] مرة. # وهذا الكلام على نمط من تكلم باستدارة الأفلاك، فإن ذلك لما كان من علم ~~الحساب كان هذا من توابعه، فلهذا ذكرناه، وإن كان استدارة الأفلاك قد يعلم ~~بالسمع وهذا لا يعلم بالسمع فلا ريب أنه ممكن، وليس في السمع ما يدفعه، ~~ولنا عنه غنية، فنقول: كل كوكب مرئي في السماء هو فوق الأرض مطلقا، مع ~~العلم أنه ليس فلكا محيطا بها، سواء لا قدرنا أنه أكبر من الأرض أو أصغر ~~منها، وهذا لأن العالي على الشيء الذي هو فوقه لا يجب أن يكون مسامتا لجميع ~~أجزائه، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، بل هو فوقه. وعليه سواء كان أكبر ~~منه كالسماء على الأرض ### | … # (1) . PageV03P192 ### | مسألة في العلو # PageV03P193 # سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني -رضي الله ~~عنه وأرضاه-: ما تقول في رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لا ~~يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، وقال الآخر: إن الله سبحانه لا ينحصر في ~~مكان، وهما شافعيان. فبينوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي رضي الله عنه، ~~وما الصواب فيه؟ # فأجاب # الحمد لله. اعتقاد الشافعي رضي الله عنه هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام، ~~كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو ~~اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض ms0475 وأبي سليمان الداراني وسهل بن ~~عبد الله التستري وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول ~~الدين. وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد ~~والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه ~~الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة. # قال الشافعي في أول خطبة "الرسالة" (1) : "الحمد لله الذي هو كما وصف به ~~نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه". فبين رحمه الله أن الله موصوف بما وصف به ~~نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. # وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به ~~رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث. PageV03P195 # وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - ~~صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل ~~يثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلي، ويعلمون أنه ~~ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاته ~~ليست كالذوات المخلوقة فصفاته ليست كالصفات المخلوقة. بل هو سبحانه موصوف ~~بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب. # وهو سبحانه في صفات الكمال لا يماثله شيء، فهو حي قيوم سميع بصير عليم ~~قدير رؤوف رحيم، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم ~~استوى على العرش، وهو الذي كلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا. ولا ~~يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته ~~قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره ~~سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتجليه تجلي أحد. # والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وحريرا ~~وذهبا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء (1) . ~~فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه ms0476 المخلوقات المشاهدة مع اتفاقهما ~~في الأسماء، فالخالق أعظم علوا ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق ~~وإن اتفقت الأسماء. # وقد سمى نفسه حيا عليما سميعا بصيرا ملكا رءوفا رحيما، PageV03P196 # وسمى أيضا بعض مخلوقاته حيا، وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها ~~رءوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ~~ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله ~~تعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (1) ، وقال الله تعالى: (وهو ~~العليم الحكيم (2)) (2) ، وقال: (وبشروه بغلام عليم (28)) (3) ، وقال: (إن ~~الله كان سميعا بصيرا (58)) (4) ، وقال: (إنا خلقنا الأنسان من نطفة أمشاج ~~نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2)) (5) ، وقال: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم ~~(143)) (6) ، وقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص ~~عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (128)) (7) . # وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم ~~الأرض فإذا هي تمور (16) أم أمنتم من في لسماء أن يرسل عليكم حاصبا ~~فستعلمون كيف نذير (17)) (8) . وثبت في الصحيح (9) عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه قال للجارية: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال: "من ~~أنا؟ "، قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". وهذا الحديث ~~PageV03P197 # رواه مالك (1) والشافعي (2) وأحمد بن حنبل (3) ومسلم في صحيحه وغيرهم. # لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه، فإن ~~هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق ~~سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته ~~شيء من مخلوقاته. # وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان (4) . وقالوا ~~لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، ~~بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا (5) . # وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حق قضاها الله في سمائه، فأجمع عليها قلوب ~~أوليائه. وقال الأوزاعي (6) : كنا والتابعون متوافرون نقر بأن الله فوق ~~عرشه، ونؤمن بما وردت به ms0477 السنة من صفاته. # فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش ~~أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على ~~كرسيه= فهو ضال مبتدع جاهل. PageV03P198 # ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ~~ويسجد، وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده= فهو معطل ~~فرعوني ضال مبتاع؛ فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: (يا ~~هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السماوات فأطلع إلى إله ~~موسى وإني لأظنه كاذبا) (1) . # ومحمد - صلى الله عليه وسلم - صدق موسى في أن ربه في السماوات، فلما كان ~~ليلة المعراج وعرج به إلى الله تعالى وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه ~~لما رجع إلى موسى قال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا ~~تطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ~~ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح (2) . # فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا فهو ضال، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال. ~~قال نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه ~~فقد كفر. وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. # وقد قال الله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (3) ، ~~وقال: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) (4) ، وقال: (بل رفعه الله إليه) ~~(5) ، PageV03P199 # وقال: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) (1) ، وقال: ~~(تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1)) (2) ، وقال تعالى: (وله من في ~~السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19)) (3) . # فدل ذلك على أن الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات كلها تحت ~~قدرته. # والقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك ~~من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تحصره ms0478 وتحيط به، فقد أخطأ. وإن ~~أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة ~~وأئمتها من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب. فإنه من ~~لم يعتقد ذلك يكون مكذبا للرسول - صلى الله عليه وسلم - متبعا لغير سبيل ~~المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه نافيا له، فلا يكون له في الحقيقة ~~إله يعبده، ولا رب يسأله ويقصده. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون ~~المعطل. # والله قد فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم ~~إلى العلو، لا يقصدونه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط ~~"يا الله" إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه معنى يطلب العلو، ولا يلتفت ~~يمنة ولا يسرة. # والقائل الذي قال: إن الله لا ينحصر في مكان، إن أراد به أن الله لا ~~ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها= فقد PageV03P200 # أصاب. وإن أراد أن الله ليس فوق السماوات، ولا هو على العرش، وليس هناك ~~إله يعبد، ومحمد لم يعرج به إلى الله= فهذا جهمي فرعوني معطل. # و ### | منشأ الضلال أن يظن أن صفات الرب كصفات خلقه، # فيظن أن الله سبحانه على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل ~~وضلال. وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريره لسقط، والله غني عن ~~العرش وعن كل شيء، والعرش وكل ما سواه فقير إلى الله، وهو حامل العرش وحملة ~~العرش، وعلوه عليه لا يوجب افتقاره إليه، فإن الله قد جعل المخلوقات عاليا ~~وسافلا، وجعل العالي غنيا عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض، وليس هو ~~مفتقرا إليها، وجعل السماء فوق الهواء، وليست محتاجة إليه. فالعلي الأعلى ~~رب السماوات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنيا عن العرش وسائر المخلوقات ~~وإن كان عاليا عليها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. # والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله وجب ms0479 التصديق ~~به، مثل علو الرب واستوائه على عرشه ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في ~~النفي والإثبات مثل قول القائل: هو في جهة أو ليس هو في جهة، وهو متحيز أو ~~ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص، ~~لا عن الرسول ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين، فإن ~~هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله في جهة، ولا قال: ليس هو في جهة؟ ولا قال: ~~هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز؟ ولا قال: هو جسم أو جوهر، ولا قال: ليس ~~بجسم ولا جوهر. فهذه # PageV03P201 # الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا في السنة ولا الإجماع. والناطقون بها ~~قد يريدون معنى صحيحا، وقد يريدون معنى فاسدا، فمن أراد معنى صحيحا يوافق ~~الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مقبولا منه، وإن أراد معنى فاسدا يخالف ~~الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليه. # فإذا قال القائل: إن الله في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه ~~في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السماء؟ أم تريد الجهة ~~أمرا عدميا؟ وهو ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن ~~أردت الجهة الوجودية وجعلت الله محصورا في المخلوقات فهذا باطل، وإن أردت ~~الجهة العدمية وأردت أن الله وحده فوق المخلوقات بائن منها فهذا حق، وليس ~~في ذلك شيء من المخلوقات حصره ولا أحاط به ولا علا عليه، بل هو العالي ~~عليها المحيط بها، وقد قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا ~~قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67)) ~~(1) . # وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقبض ~~الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يهزهز، ثم يقول: أنا الملك، ~~أين ملوك الأرض؟ ". وقال ابن عباس (3) : ما السماوات السبع والأرضون السبع ~~وما فيهن وما بيتهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم. # وفي حديث آخر: أنه يرميها كما يرمي الصبيان ms0480 الكرة. فمن يكون PageV03P202 # جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقارة كيف تحيط ~~به وتحصره؟ # ومن قال: إن الله ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ~~ليس فوق السماوات رب يعبد، ولا على العرش إله، ومحمد لم يعرج به إلى الله ~~تعالى، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه= ~~فهذا فرعوني معطل جاحد لرب العالمين. # وإن كان معتقدا أنه مقر به، فهو جاهل متناقض في كلامه. ومن هنا دخل أهل ~~الحلول والاتحاد كابن عربي، وقالوا: إن الله بذاته في كل مكان، وأن وجود ~~المخلوقات هو وجود الخالق. # وإن قال: مرادي بقولي "ليس في جهة" أنه لا تحيط به المخلوقات، بل هو بائن ~~عن المخلوقات= فقد أصاب في هذا المعنى. # وكذلك من قال: إن الله متحيز، أو قال: ليس بمتحيز، إن أراد بقوله "متحيز" ~~أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ. وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات لا ~~تحويه فقد أصاب. وإن أراد: ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل فيها ولا خارج ~~عنها فقد أخطأ. # و ### | الناس في ذلك ثلاثة أصناف: # أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة. # فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة، ~~فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق، كما هو مذهب ابن عربي صاحب "الفصوص" ~~وابن سبعين ونحوهما. # PageV03P203 # وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج عنه، ولا ~~مباين له ولا حال فيه، ولا فوق العالم ولا فيه، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد ~~إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا يتجلى لشيء ولا يراه ~~أحد، ونحو ذلك. # وهذا قول متكلمة الجهمية، كما أن الأول قول عباد الجهمية. فمتكلمة ~~الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلاهما مرجعهم ~~إلى التعطيل والجحود الذي هو قول فرعون. # وقد علم أن الله كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلقها، فإما أن ms0481 ~~يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل؛ ~~وإما أن يكون بائنا عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق ~~والتوحيد والسنة. # ولأهل الحلول والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله وسنة ~~رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر ~~الله عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة. فإن هذه الأدلة ~~كلها متفقة على أن الله فوق مخلوقاته عال عليها، قد فطر الله على ذلك ~~العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق. وقد ~~قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) : "كل مولود يولد ~~على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينضرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة ~~جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ "يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (فطرت ~~الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) . PageV03P204 # وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب، ~~عليك بما فطره الله عليه. فإن الله فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا ~~بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. # وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية فيريدون أن يغيروا فطرة الله، ~~ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات لا يفهم كثير من الناس مقصودهم ~~بها، ولا يحسن أن يجيبهم. وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع. # وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله، ~~ولا قالها أحد من أئمة المسلمين، كلفظ التحيز والجسم والجهة ونحو ذلك، فمن ~~كان عارفا بحل شبهاتهم بينها، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا ~~يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون ~~في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) (1) . ومن تكلم في الله ~~وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله ~~بالباطل. # وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى ms0482 ~~الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة من الاعتقادات ما لم يقولوه، ~~ويقولون لمن اتبعهم: هذا اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح ~~عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك، كما يتبين كذبهم فيما ينقلونه عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - في كثير من البدع والأقوال الباطلة. # ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام ~~الفلاني لا يخالف العقلاء. ويكون أولئك العقلاء طائفة من PageV03P205 # أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة. # فقد قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف ~~بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على ~~الكلام! فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما ~~بغيرهما؟. # وكذلك قال أبو يوسف القاضي: من طلب الدين بالكلام تزندق. وكذلك قال أحمد ~~بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة. # وكثير من هؤلاء قرأوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا ~~لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوق الخلق للزم التجسيم ~~والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابها. # فإن ### | ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاته بدعة، # لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، لم يقل ~~أحد منهم: إن الله جسم، ولا إن الله ليس بجسم، ولا إن الله جوهر، ولا إن ~~الله ليس بجوهر. # ولفظ "الجسم" لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن، ومن قال: إن الله مثل ~~بدن الإنسان فهو مفتر على الله، ومن قال: إن الله يماثله شيء من المخلوقات ~~فهو مفتر على الله. ومن قال: إن الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يماثله ~~شيء من المخلوقات، فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إن الله ~~ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي، ~~بل # PageV03P206 # القرآن العربي مخلوق أو تصنيف جبريل ونحو ذلك= فهذا مفتر على الله ms0483 فيما ~~نفاه عنه. # وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يظهرون ~~للناس التنزيه، وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نحن لا نجسم، بل نقول: إن ~~الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته، فيقولون: ليس لله ~~علم ولا حياة ولا قدرة ولا كلام ولا سمع ولا بصر، ولا يرى في الآخرة، ولا ~~عرج بالنبي إليه، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتجلى لشيء، ~~ولا يقرب إلى شيء، ولا يقرب منه شيء. ويقولون: إنه لم يتكلم بالقران، بل ~~القرآن مخلوق، أو هو كلام جبريل، وأمثال ذلك من مقالات المعطلة الفرعونية ~~الجهمية. # والله تعالى يقول في كتابه (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (1) أي ~~لا تحيط به، فكما أنه يعلم ولا يحاط به علما، فكذلك سبحانه يرى ولا يحاط به ~~رؤية. فهو سبحانه نفى الإدراك، ولم ينف الرؤية، ونفي الإدراك يدل على ~~عظمته، وأنه من عظمته لا يحاط به. وأما نفي الرؤية فلا مدح فيه، فإن ~~المعدومات لا ترى، ولا مدح لشيء من المعدومات، بل المدح إنما يكون بالأمور ~~الثبوتيه لا بالأمور العدمية، وإنما يحصل المدح بالعدم إذا تضمن ثبوتا، ~~كقوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) (2) ، ~~فنزه نفسه عن السنة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته، ~~PageV03P207 # كما قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (1) ، فهو سبحانه حي لا ~~يموت، قيوم لا ينام. وكذلك قوله تعالي: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما ~~بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)) (2) ، فنزه نفسه المقدسة عن مس ~~اللغوب -وهو الإعياء والتعب- ليتبين كمال قدرته. # فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب، موصوف بالحياة ~~والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، منزه عن الموت والجهل والعجز والصمم ~~والعمى والبكم، وهو سبحانه لا مثل له في شيء من صفات الكمال، وهو منزه عن ~~كل نقص وعيب، فإنه قدوس سلام يمتنع عليه النقائص والعيوب بوجه من الوجوه، ~~وهو سبحانه لا مثل له ms0484 في شيء من صفات كماله، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ~~ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. # ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما ~~وصف به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون ~~له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من ~~مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. قال تعالى (ليس ~~كمثله شيء وهو السميع البصير (11)) (3) ، فقوله (ليس كمثله شيء) رد على ~~الممثلة، وقوله: (وهو السميع البصير (11)) رد على المعطلة. # قال بعض العلماء: المعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما، PageV03P208 # المعطل أعمى، والممثل أعشى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد ~~قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (1) . والسنة في الإسلام كالإسلام في ~~الملل، فأهل السنة وسط في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو ~~الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ~~والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. # فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته، إنه على ~~ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على ~~سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. PageV03P209 ### | قاعدة شريفة # في الرضا الشرعي # وما يحبه الله من الرضا، وبيان # أن الله لا يرضى بالكفر ولا يحبه ولا يشرعه، # ولا يرضى بالمعاصي ولا يحبها ولا يثيب فاعلها # PageV03P211 # الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات ~~أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. # وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ~~- صلى الله عليه وسلم -. # فصل # فيما يحبه الله ويرضاه من رضا العبد، وما لا يحبه من ذلك ويرضاه، فإن هذا ~~الباب مما كثر فيه اضطراب كثير من المتأخرين، فإنهم سمعوا لفظ الرضا ~~بالقضاء وأن ذلك محمود من العبد يثاب عليه بل يؤمن به، وأنه من أعلى مقامات ~~اليقين وأحوال الصديقين، وظنوا أن المراد بذلك ms0485 أن كل ما كان مخلوقا للرب ~~فينبغي أن يرضى ذلك المخلوق. ثم صاروا حزبين: # حزبا قالوا إذا كان القضاء والرضا متلازمين، فمعلوم إلا مأمورون ببغض ما ~~نهى الله ورسوله عنه وسخطه، فلا يكون بقضاء وقدر. # وحزبا قالوا: إذا كانا متلازمين، وقد دعينا إلى الرضا، فنحن نرضى بكل ما ~~يقع من الكفر والفسوق والعصيان. # وكل من هذين الحزبين مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، ~~فالحزب الأول علموا أن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان، قالوا: فلم ~~يخلق ذلك ولم يقدره ولم يقتضه، بل ذلك واقع في الوجود بغير مشيئته ولا ~~قدرته ولا خلقه، ومنهم من قال: ولا علمه قبل أن يقع. وهؤلاء القدرية ~~المكذبون بقدر الله من المعتزلة وغيرهم. ومن أعظم حججهم على ذلك أن قالوا: ~~الرضا # PageV03P213 # بالقضاء من أعظم المقامات، وربما ادعوا إجماع المسلمين على أن الرضا ~~بالقضاء من أفضل المقامات، فلو كانت المعاصي بقضائه لكان ينبغي أن يرضى ~~بها. والرضا بالكفر والفسوق والعصيان لا يجوز باتفاق المسلمين، فعلم أن هذه ~~ليست بقضائه. # ولما أوردوا هذه الحجة أجابهم أهل الإثبات للقدر، كل طائفة بجواب بحسب ~~أصولهم، فإن من يقول: إن رضاه هو إرادته، وإن كل ما قدره فقد رضيه وأحبه ~~وأراده، كما يقول ذلك الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام والتصوف وغيرهم، ~~فله جواب على أصله. # وهؤلاء يقولون: أراد الكفر قبيحا معاقبا عليه، وكذلك رضيه وأحبه قبيحا ~~معاقبا عليه. ومعنى "قبيحا" عندهم أي منهيا عنه، فهم يقولون: أراده ورضيه ~~وأحبه ومع ذلك نهى عنه ونهانا أن نرضى به، فحقيقة قولهم أن الله يحب أمورا ~~ويرضاها مع نهيه لنا عنها أن نحبها ونرضاها. ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري ~~وأبو بكر الباقلاني وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد. # فمن هؤلاء من قال: إنما نرضى بقضائه الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا ~~نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به. وهذا جواب طائفة كالقاضي أبي بكر والقاضي ~~أبي يعلى وغيرهما. # وقد يقولون: نرضى بالقضاء على الجملة، ولا نطلقه على التفصيل. # هذا حكاية ms0486 لفظهم. # ومنهم من قال ما ذكره أبو حامد والرازي وغيرهما، قالوا: نرضى بالقضاء ولا ~~نرضى بالمقضي. # قالت الطائفة الأولى كالقاضيين -وهذا لفظ أبي بكر، فإنه الأسبق # PageV03P214 # إلى هذا الجواب، قال (1) -: # فإن قال: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ # قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا ~~نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله ولا نعترض على ~~حكمه. # وجواب آخر، وهو أنا نقول: نرضى بقضاء الله في الجملة على كل حال. # فإن قال: أفترضون الكفر والمعاصي التي هي من قضاء الله؟ # قيل له: نحن نطلق الرضا بالقضاء في الجملة، ولا نطلقه على التفصيل لموضع ~~الإبهام، كما يقول المسلمون كافة: الأشياء لله، ولا يقولون في التفصيل: ~~الولد والصاحبة والشريك لله، وكما يقولون: الخلق يفنون ويبيدون، ولا ~~يقولون: حجج الله تفنى وتبيد، في نظائر لهذا من القول الذي يطلق من وجه ~~ويمنع من وجه. # ثم يقال لهم: أو ليس قد قضى بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعجز ~~المسلمين عن دفع الكفار، والاستيلاء على ثغورهم وسبي نسائهم، وقضى إعانة ~~الفراعنة والشياطين وسائر الكفار، وبقاءهم واستظهارهم على المؤمنين؟ # فإذا قالوا: أجل. # قيل لهم: أفترضون بذلك أجمع؟ PageV03P215 # فإن قالوا: نعم. # قيل لهم مثله فيما سألونا عنه، وخرقوا الإجماع في ركوب هذا الإطلاق. وإن ~~قالوا: لا. # قيل لهم مثله فيما طالبونا به (1) . # قلت: وقد بسطوا هذا القول أكثر، فقالوا -واللفظ للقاضي أبي يعلى-: قلت: ~~أما تفصيل القول في الرضا بأن بعض المخلوق نرضى به وبعضه لا نرضى به فصواب، ~~لكن لم يثبتوا ما هو الذي نرضى به، فإن قولهم "الذي أمرنا أن نريده ونرضاه" ~~إن كان مرادهم نرضى بما أمرنا أن نفعله وهو الذي أمرنا بإرادته، فالرضا أعم ~~من ذلك، فإنه ينبغي الرضا بأمور غير أفعالنا التي أمرنا بها؟ وإن كان ~~مقصودهم بكل ما أمرنا أن نريده ونرضاه وإن لم يكن من فعلنا. # قلت: فهذا جواب حسن، لكن لا يستقيم على أصل أتباع أبي الحسن في ms0487 قوله الذي ~~خالف به المتقدمين واتبع فيه الجهمية والقدرية، حيث قال معهم: إن المحبة ~~والرضا هي الإرادة، وفرعوا على ذلك أن الله لا يجوز أن يحب ذاته، كما لا ~~يجوز أن تراد ذاته، فإن الإرادة إنما تتعلق بالمتجدد، وهو ما كان معدوما ~~فأريد حدوثه. # قال أبو المعالي: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ومنع إطلاقه: المحبة ~~والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحب الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل ~~معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبة هي PageV03P216 # الإرادة نفسها، وكذلك الرضا والاصطفاء، فيقول: إنه سبحانه يريد الكفر ~~ويرضاه كفرا قبيحا معاقبا عليه، ويحب أن يكون على ما هو عليه. وليس معنى ~~قوله "إنه يحبه ويرضاه" أنه يراه حسنا أو يثني على صاحبه بفعله، بل يذمه ~~بفعله ويلعنه ويعاقبه عليه. # قال أبو المعالي: ومن أصحابنا من قال: نأخذ هذه الإطلاقات بالشرع، فما لم ~~يرد الشرع بإطلاقه لا نطلقه، وهذا هو الأولى، وربما يقول هذا القائل: ~~المحبة من الله صفة خبرية، يتبع في ذلك الخبر. # قال أبو المعالي: وإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة فيترتب على ذلك أن يعلم ~~أنه سبحانه لا تتعلق به المحبة على الحقيقة، فإنها هي الإرادة، والإرادة لا ~~تتعلق إلا بمتجدد. # قلت: وهذا القول الذي قاله أبو الحسن هو اختيار القاضي أبي بكر والقاضي ~~أبي يعلى في أحد قوليه الذي يقول فيه: إن الإرادة والرضا والمحبة واحد، كما ~~قاله في "المعتمد" (1) . وهذا خلاف المعروف عن المتقدمين من أصحاب الأئمة ~~الأربعة وغيرهم، كأبي بكر بن عبد العزيز وغيره، فإنهم يفرقون بين المحبة ~~والرضا (2) . PageV03P217 ### | فصل # الأقوال نوعان # PageV03P219 # الأقوال نوعان: ### | أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقا، # عرفه من عرفه وجهله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادته ~~الأنبياء بأقوالهم. ومن طلب تفسير كلامهم وتأويله، ومقصوده معرفة مرادهم من ~~الوجه الذي به يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى؟ ومن كان مقصوده أن يجعل ما ~~قالوه تبعا له، فإن وافقه قبله وإلا رده، وتكلف له ms0488 من التحريف ما يسميه ~~تأويلا، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء= ~~فهذا محرف للكلم عن مواضعه، لا طالب لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في ~~العلم. # والنوع الثاني: ما ليس منقولا عن الأنبياء، فقد علم أن من سواهم ليس ~~بمعصوم، وحينئذ فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده ومعرفة صلاحه من ~~فساده، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل ~~يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفات وطبائع ~~وخواص يميز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها ~~الموجودة في العالم، ولا خص الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنة ~~مأمورا بها، ولا المنهي عنها بما لأجله كانت سيئات منهيا عنها، وإنه ليس ~~لشيء من القوى والقدر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن ~~والعناصر الأربعة تأثير في شيء، بل لا فرق بين الماء والنار، تخلق الحرارة ~~عند ملاقاتها لا بقوة فيها، # PageV03P221 # والماء يخلق الري عنده لا بسبب عذوبة وقوة فيه، وأمثال ذلك= فهذا مخالف ~~لنصوص القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة. # ولم يقل هذا القول أحد من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في ~~الإسلام الجهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر ~~الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام ~~الله وإنكار رؤيته وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا ~~الأصل كثيرة جدا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) ~~لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخلقين ~~جبلت عليهما أم تخلقت بهما؟ فقال: "بل جبلت عليهما"، فقال: الحمد لله الذي ~~جبلني على ما يحب. وقال تعالى: (إن الأنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر ~~جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21)) (2) . # ومما يدل على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم: (قلنا يا نار كوني بردا ~~وسلاما على إبراهيم (69)) (3) ، فسلب النار ms0489 طبيعة الحرارة التي بها تسخن، ~~وجعلها بردا وسلاما، ولو كان ما يحصل عند ملاقاتها لا أثر لها فيه لم يحتج ~~إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله "بردا ~~وسلاما" يقضي أنه جعل فيها ما توجب برودته PageV03P222 # وسلامته. والأدلة في ذلك كثيرة تخبر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز ~~وجل: (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا (14) لنخرج به حبا ونباتا (15) وجنات ~~ألفافا (16)) (1) ، وقال تعالى: (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به ~~جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد) الآية ~~(2) . وقال تعالى: (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) الآية (3) . ~~وقال تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ~~ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا ... ) (4) ، فذكر أن الرياح تقل السحاب أي ~~تحمله، فجعل هذا الجماد فاعلا بطبعه. # وقال تعالى: (والذاريات ذروا (1)) الآيات (5) . وقال: (وأخرجت الأرض ~~أثقالها (2)) (6) ، وقال: (وترى الأرض هامدة) الآية (7) . وقال تعالى: ~~(انظروا إلى ثمره إذا أثمر) (8) . وقال تعالى (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم ~~تظلم منه شيئا) (9) . وقال تعالى: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل ~~تقيكم بأسكم) (10) ، فوصف السرابيل بأنها تقي الحر والبأس. وقال تعالى: ~~(أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69)) (11) ، PageV03P223 # أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من ~~المعصرات، وهو المراد بقوله (وأنزلنا من السماء) في مواضع أخر (1) ، وبين ~~أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب ~~فرات وهذا ملح أجاج) (2) ، وقال تعالى: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات ~~سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) (3) ، فبين أن كلا من البحرين جعل فيه صفة قائمة ~~به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتن على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب ~~أجاجا، فدل على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلها بها تشرب، وأنه لو ~~جعله أجاجا لما شرب، وبين أن أحد الجسمين يختصه بصفة يحصل بها الانتفاع ~~ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل. # وقال تعالى: (وجعلنا سراجا وهاجا (13) وأنزلنا ms0490 من المعصرات ماء ثجاجا ~~(14) لنخرج به حبا ونباتا (15) وجنات ألفافا (16)) (4) ، وقال تعالى ~~(وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48)) (5) (أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ~~ومنافع للناس) (6) ، وقال تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ~~(138)) (7) ، وقال تعالى: (فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10)) (8) أي صنف ~~كريم، وهو الكثير المنفعة. PageV03P224 # فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد ~~خالف نص الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم: ~~يحدث الشبع عند الأكل إلا، به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع ~~القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى: ~~(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (1) ، وقال تعالى: (يضل به كثيرا ~~ويهدي به كثيرا) (2) ، وقال تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) (3) ، ~~وقال: (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) (4) . # وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادها، في مثل قوله: (وجعلنا من الماء كل ~~شيء حي) (5) ، وقوله تعالى: (خلق الأنسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجان ~~من مارج من نار (15)) (6) ، وقال: (والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم ~~يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18)) (7) . # وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في ~~غير موضع، ولا يسوي بين مختلفين ولا يفرق بين متماثلين، فقال تعالى: (أم ~~حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) (8) ~~الآية. وقال تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا PageV03P225 # وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28)) (1) ، ~~وقال تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35)) (2) الآية. وقال تعالى: (وما ~~يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20)) (3) الآية. وقال ~~تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في ~~التوراة والأنجيل) (4) الآية. فدل في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به ~~هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مصلح لفسادها، ليس معنى كونه ~~معروفا أنه مأمور به، إذ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمر حتى الشيطان، فإنه ~~يأمر بما يأمر به، فعلم أن ms0491 ما يأمر به الرسول مختص بأنه معروف، وما ينهى ~~عنه مختص بأنه منكر، وما يحله مختص بأنه طيب، وما يحزمه مختص بأنه خبيث. ~~ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور. ~~والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله ~~وصحبه أجمعين وسلم تسليما. PageV03P226 ### | قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة # والإجماع أمر الثقلين الجن والإنس، # وما يتعلق بهم من الخطاب وغيره # PageV03P227 # قال سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية ~~الحراني رحمه الله: # قاعدة شريفة # ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أمر الثقلين: الجن والإنس، كما أخبر به ~~في سورة الأنعام في قوله تعالى: (يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم) ~~(1) ، وبقوله: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (2) . # وثبت أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى الثقلين جميعا، ~~كما أخبر به في سورة الرحمن (3) ، وقل أوحي (4) ، والأحقاف (5) ، وكما في ~~الأحاديث المشهورة، مثل حديث ابن مسعود (6) وغيره. # وثبت بالسنة والإجماع مع ما دل عليه القرآن أن القلم مرفوع عن الصبي حتى ~~يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، كما في حديث علي بن ~~أبي طالب وعائشة وغيرهما: "رفع القلم عن ثلاث" (7) ، مع قوله: (يا أيها ~~الذين آمنوا ليستأذنكم PageV03P229 # الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم) إلى قوله (وإذا بلغ ~~الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) (1) ، وقوله: ~~(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم ~~أموالهم) (2) ، وقوله: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ ~~أشده) في غير موضع (3) ، مع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ~~نهيه عن قتل النساء والصبيان، وأنه استعرض قريظة فمن أنبت قتله، ومن لم ~~ينبت لم يقتله. وما روي من الأحاديث التي فيها: "ثلاثة كلهم يدلي على الله ~~بحجته" (4) . # فأما قوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)) (5) ونحو ذلك، فإنما ~~يتناول من لا يعقل من الأطفال والمجانين، فأما ms0492 الصبي المميز فتكليفه ممكن ~~في الجملة، ولهذا يصحح أكثر الفقهاء تصرفاته تارة مستقلا كإيمانه، وتارة ~~بالإذن كمعاوضاته الكبيرة. # واختلفوا في وجوب الصلاة على ابن عشر، وفي وجوب الصوم على من أطاقه. ~~والخلاف فيه معروف في مذهب أحمد، حتى اختلف في صحة شهادته وأمانه وإمامته ~~وولايته في النكاح وعتقه. # وهنا مسائل: PageV03P230 # المسألة الأولى # أن من نتائج التكليف: العقاب والثواب، عقاب العاصي وثواب المطيع. # فأما العقاب: فما علمت أحدا من أهل القبلة خالف في أن الكافر معذب في ~~الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيل عذابه. ونصوص القرآن متظاهرة بعذاب ~~الكافرين، وكذلك الذي عليه عامة المسلمين من جميع الطوائف عقوبة فجار أهل ~~القبلة في الجملة: إما في الدنيا بالمصائب والحدود؟ وإما في الآخرة. وأما ~~غلاة المرجئة فروي عنها أنها نفت ذلك، كما أن الخوارج والمعتزلة جزمت بوقوع ~~ذلك على جميع الفاسقين وخلودهم في النار. # وأما الثواب: فاتفقت الأمة على ثواب الإنس على طاعتهم. # واختلفوا في الجن هل يثابون أو لا ثواب لهم إلا النجاة من العذاب؟ على ~~قولين: الأول قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وأبي يوسف ومحمد ~~وغيرهم. والثاني مأثور عن طائفة، منهم أبو حنيفة. # وقد اختلف في أصول الفقه: هل من شرط الوجوب العقاب على الترك؟ على قولين. ~~وأما الثواب على الفعل فهو واجب، إما بالسمع، وإما بمجرد الإيجاب. # المسألة الثانية # أن من لا تكليف عليه هل يبعث يوم القيامة؟ # فأما الإنس والجن فيبعثون جميعا باتفاق الأمة، ولم يختلفوا # PageV03P231 # -فيما علمت- إلا فيمن لم ينفخ فيه الروح: هل يبعث؟ على قولين. وبعثه ~~اختيار القاضي وكثير من الفقهاء، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه. # وأما البهائم فهي مبعوثة بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: (وما من دابة ~~في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ~~ثم إلى ربهم يحشرون (38)) (1) ، وقال تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) (2) ، ~~والحديث في قول الكافر (يا ليتني كنت ترابا (40)) (3) معروف (4) . وما أعلم ~~فيه خلافا. # لكن اختلف بنو آدم في معاد الآدميين على ms0493 أربعة أقوال: # أحدها -وهو قول جماهير من المسلمين أهل السنة والجماعة، وجماهير ~~متكلميهم، وجماهير اليهود والنصارى والمجوس وجمهور غيرهم- أن المعاد للروح ~~والبدن، وأنهما ينعمان ويعذبان. # والثاني -وهو قول طائفة من متكلمي المسلمين من الأشعرية وغيرهم- أن ~~المعاد للبدن، وأن الروح لا معنى لها إلا حياة البدن، فيحيا البدن وينعم ~~ويعذب. وأما معاد روع قائمة بنفسها ونعيمها وعذابها فينكرونه. # والثالث: ضد هذا، وهو قول الإلهيين من الفلاسفة وطائفة ممن يبطن مذهبهم ~~من بعض متكلمي أهل القبلة ومتصوفتهم، أن المعاد للروح دون البدن. ~~PageV03P232 # الرابع: أنه لا معاد أصلا، لا لروع ولا لبدن، وهو قول أكثر مشركي العرب، ~~وكثير من الطبائعيين والمنجمين وبعض الإلهيين من الفلاسفة. # فعلى هذين القولين ينكر حشر البهائم، وعلى القول الأول يقبل الخلاف. # المسألة الثالثة # أن من لا تكليف عليه -بل قد رفع عنه القلم- هل يعذب في الآخرة؟ # وهنا ### | مسألة أطفال المشركين، # فمن قال من أصحابنا وغيرهم: إنهم يعذبون تبعا لآبائهم، قال بعذاب غير ~~المكلف تبعا؟ ومن قال: يدخلون الجنة من أصحابنا وغيرهم، قال بتنعيمهم. # والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يعذبون جميعهم ولا ينعمون ~~جميعهم، بل فريق منهم في الجنة وفريق في السعير كالبلغ. وهذا مقتضى نصوص ~~أحمد، فإن أكثر نصوصه على الوقف فيهم، بمعنى أنه لا يحكم لأحد منهم لا بجنة ~~ولا بنار، فدل على جواز الأمرين عنده في حق المعين منهم. وأما تجويز ~~الأمرين في حق مجموعهم فلا يلزمه، وهذا قول الأشعري وغيره. # وبهذا أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عنهم فقال: "الله ~~أعلم بما كانوا عاملين" (1) ، فبين أن الأمر مردود إلى علم الله بما كانوا ~~يعملون لو بلغوا. PageV03P233 # وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في البخاري (1) أنه رأى حول إبراهيم ~~عند الجنة أطفال المسلمين والمشركين. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) أن الغلام ~~الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا، مع أنه قتل قبل الاحتلام. قال ابن عباس ~~لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان، فقال: إن كنت ms0494 تعلم منهم ما علمه ~~الخضر من الغلام الذي قتله فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم. هذا مع أن أبويه كانا ~~مؤمنين. وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن أهل ~~الدار من المشركين يبيتون ليصاب من صبيانهم، فقال: "هم منهم". # ويجوز قتل الصبي إذا قاتل، وإذا صال ولم تندفع صولته إلا بالقتل، وكذلك ~~المجنون والبهيمة. فقد يجوز قتل الصبي في بعض المواضع. وحديث عائشة في ~~قولها: عصفور من عصافير الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أو غير ~~ذلك يا عائشة؟! فإن الله خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، ~~وخلق للنار أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم" (4) . # ولهذا قال أصحابنا: لا يشهد لأحد بعينه من أطفال المؤمنين أنه في الجنة، ~~ولكن يطلق القول: إن أطفال المؤمنين في الجنة. # وقد روي بأحاديث حسان (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من لم يكلف ~~في PageV03P234 # الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة- يمتحنون يوم القيامة، ~~فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار. وهذا التفصيل هو الصواب، فإن الله ~~قال في القرآن (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85)) (1) ، فأقسم ~~سبحانه أنه لابد أن يملأ جهنم من إبليس وأتباعه، وأتباعه هم العصاة، ولا ~~معصية إلا بعد التكليف، فلو دخلها الصبي والمجنون لدخلها من هو من غير ~~أتباعه، فلم تمتلئ منهم. # وأيضا فقد قال سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (65)) (2) ، وقال ~~سبحانه: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (3) ، وقال سبحانه: ~~(كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا ~~نذير) الآية (4) ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا ~~من جاءه نذير وأتاه رسول، والطفل والمجنون ليسا كذلك كالبهائم. # وقال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) إلى قوله (إنما ~~أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) (5) . # فأخبر سبحانه أنه استخرج ذرياتهم، وأشهدهم على أنفسهم، لئلا يقولوا: ~~أتهلكنا ms0495 بما فعل المبطلون، فعلم أنه لا يعاقبهم بذنب غيرهم. # وأما البهائم فعامة المسلمين على أنه لا عقاب عليها، إلا ما يحكى عن ~~التناسخية بأنهم مكلفون، فيستحقون العقاب، وهذا نظير قول من يقول: لا تحشر. ~~لكن هنا: PageV03P235 # المسألة الرابعة # وهو ما يشرع في الدنيا من عقوبة الصبيان والمجانين والبهائم على الذنوب، ~~مثل ضرب الصبي على ترك الصلاة لعشر، وما يفعله من قبيح؛ وكذلك ضرب المجنون ~~لكف عدوانه؛ وضرب البهائم حضا على الانتفاع بها كالسوق، ودفعا لمضرتها كقتل ~~صائلها، وما جاء في الحديث (1) أنه يقتص في الآخرة للجماء من القرناء. فهذه ~~الأمور عقوبات لغير المكلفين، وهي نوعان: أحدهما ما كان عقوبة في الدنيا ~~لمصلحة، والثاني ما كان لأجل حق غيره. # فأما النوع الأول فمشروع في حق الصبي والمجنون، فإنه يضرب الصبي على ترك ~~الصلاة ليفعلها ويعتادها، ويضرب المجنون إذا أخذ يؤذي نفسه، ليكف عن إيذاء ~~نفسه. ويجوز أيضا مثل هذا في حق البهائم: أن تضرب لمصلحتها، وهذا غير الضرب ~~لحق الغير، وذلك أن العقوبة لمنفعة المعاقب هي بمنزلة سقي الدواء للمريض، ~~فإن المطلوب دفع ما هو أعظم مضرة من الدواء. # النوع الثاني: العقوبة لأجل حق الغير، وهذا قسمان: # قسم لاستيفاء المنفعة المباحة منه، كذبح البهائم للأكل وضربها للمشي، فإن ~~مالا يتم المباح إلا به فهو مباح. # والقسم الثاني: العقوبة لأجل العدوان على الغير، مثل قتل الصائل من ~~المحاربين والبهائم، وضرب المجانين والصبيان والبهائم إذا اعتدى بعضهم على ~~بعض، أو اعتدوا على العقلاء في أنفسهم وأموالهم. PageV03P236 # فهذا النوع إن كان لدفع ضررهم جاز بلا خلاف، مثل قتل الصائل لدفع صوله، ~~وقتل الكلب العقور الذي يخاف من ضرره في المستقبل، وقتل الفواسق الخمس في ~~الحل والحرم. # وأما إن كان على وجه الاقتصاص، مثل أن يظلم صبي صبيا، أو مجنون مجنونا، ~~أو بهيمة بهيمة، فيقتص للمظلوم من الظالم. وإن لم يكن في ذلك زجر عن ~~المستقبل، لكن لاستيفاء المظلوم وأخذ حقه، فهذا الذي جاء فيه حديث الاقتصاص ~~للجماء من القرناء، كما قال النبي - صلى الله ms0496 عليه وسلم -: "لتؤدى الحقوق ~~إلى أهلها حتى يستوفى للجماء من القرناء" (1) . # وهذا موافق لأصول الشريعة، فإن القصاص بين غير المكلفين ثابت في الأموال ~~باتفاق المسلمين، فمن أتلف منهم مالا أو غصب مالا أخذ من ماله مثله، سواء ~~في ذلك الصبي والمجنون، والناسي والمخطئ. وكذلك في النفوس، فإن الله تعالى ~~أوجب دية الخطأ، وهي من أنواع القصاص بحسب الإمكان، فإن القود لم يمكن ~~إيجابه، لأنه لا يكون إلا ممن فعل المحرم، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا ~~يخاطبون بالتحريم، بخلاف ما كان من باب دفع الظلم وأخذ الحق، فإنه لا يشترط ~~فيه الإثم. ولهذا تقاتل البغاة وإن كانوا متأولين مغفورا لهم، ويجلد شارب ~~النبيذ وإن كان متأولا مغفورا له. # فتبين بذلك أن الظلم والعدوان يؤدى فيه حق المظلوم، مع الإثم والتكليف ~~ومع عدم ذلك، فإنه من باب العدل الذي كتبه الله تعالى على نفسه، وحرم الظلم ~~على نفسه وجعله محرما بين عباده. PageV03P237 # المسألة ### | الخامسة # دار التكليف # فالدنيا دار تكليف بلا خلاف، وكذلك البرزخ وعرصة القيامة، وإنما ينقطع ~~التكليف بدخول دار الجزاء، وهي الجنة أو النار، كما صرح بذلك من صرح من ~~أصحابنا وغيرهم، مستدلين بامتحان منكر ونكر للناس في قبورهم وفتنتهم إياهم؟ ~~وبأن الناس يوم القيامة يدعون إلى السجود، فمنهم من يستطيع، ومنهم من لا ~~يستطيع؟ وبأن من لم يكلف في الدنيا يكلف في عرصات القيامة. # وهذا ظاهر المناسبة، فإن دار الجزاء لا امتحان فيها، وأما الامتحان قبل ~~دار الجزاء فممكن لا محذور فيه، والامتحان في البرزخ لمن كان مكلفا في ~~الدنيا، إلا النبيين، ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم. # وأما امتحان غير المكلفين في الدنيا -كالصبيان والمجانين- ففيهم قولان ~~لأصحابنا وغيرهم: # أحدهما: لا يمتحنون، وعلى هذا فلا يلقنون. وهذا قول القاضي وابن عقيل. # والثاني: يمتحنون في قبورهم ويلقنون. وهو قول أكثرهم، حكاه ابن عبدوس" عن ~~الأصحاب، وذكره أبو حكيم وغيره، وهو أصح، كما ثبت عن أبي هريرة، وروي ~~مرفوعا أنه صفى على طفل لم يعمل خطيئة قط، فقال: "اللهم قه عذاب القبر ~~وفتنة القبر ms0497" (1) . PageV03P238 # وهذا الاختلاف في امتحانهم في البرزخ يشبه الاختلاف في امتحانهم في ~~العرصة، وقول من يقول بامتحانهم أقرب إلى النصوص والقياس من قول من يقول: ~~يعاقبون بلا امتحان. # المسألة ### | السادسة # أن غير المكلف قد يرحم، # فإن أطفال المؤمنين مع آبائهم في الجنة، كما دل عليه قوله: (والذين آمنوا ~~واتبعتهم ذريتهم) الآية (1) ، وكما في الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة وأنس ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "احتجت الجنة والنار، فقالت ~~الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبارون ~~المتكبرون. فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من شئت، وقال للنار: ~~إنما أنت عذابي أعذب بك من شئت، ولكل واحدة منكما ملؤها". فأما النار فلا ~~يزال يلقى فيها وتقول: "هل من مزيد"، حتى يضع رب العزة فيها -وفي رواية: ~~عليها- قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط! قط. وأما الجنة فيفضل فيها ~~فضل، فينشئ الله لها خلفا آخر". فهذا الحديث المستفيض المتلقى بالقبول نص ~~في أن الجنة ينشأ لها في الدار الآخرة خلق يدخلونها بلا عمل، وأن النار لا ~~يدخلها أحد بلا عمل. # وقد غلط في هذا الحديث المعطلة الذين أولوا قوله "قدمه" بنوع من الخلق، ~~كما قالوا: الذين تقدم في علمه أنهم أهل النار. حتى قالوا PageV03P239 # في قوله "رجله": كما يقال: رجل من جراد. وغلطهم من وجوه: # فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حتى يضع"، ولم يقل: حتى يلقي، ~~كما قال في قوله: "لا يزال يلقى فيها". # الثاني: أن قوله "قدمه" لا يفهم منه هذا، لا حقيقة ولا مجازا، كما تدل ~~عليه الإضافة. # الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذبين فلا وجه لانزوائها ~~واكتفائها بهم، فإن ذلك إنما يكون بأمر عظيم، وإن كانوا من أكابر المجرمين ~~فهم في الدرك الأسفل، وفي أول المعذبين لا في أواخرهم. # الرابع: أن قوله "فينزوي بعضها إلى بعض" دليل على أنها تنضم على من فيها، ~~فتضيق بهم من غير أن يلقى فيها شيء. # الخامس: أن قوله "لا يزال يلقى ms0498 فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها ~~قدمه" جعل الوضع الغاية التي إليها ينتهي الإلقاء، ويكون عندها الانزواء، ~~فيقتضي ذلك أن تكون الغاية أعظم مما قبلها. # وليس في قول المعطلة معنى للفظ "قدمه" إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر، ~~والأول أحق به من الآخر. # وقد يغلط في الحديث قوم آخرون ممثلة أو غيرهم، فيتوهمون أن "قدم الرب" ~~تدخل جهنم. وقد توهم ذلك على أهل الإثبات قوم من المعطلة، حتى قالوا: كيف ~~يدخل بعض الرب النار والله تعالى يقول: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) (1) ~~؟. PageV03P240 # وهذا جهل ممن توهمه أو نقله عن أهل السنة والحديث، فإن الحديث: "حتى يضع ~~رب العزة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط ~~وعزتك"، فدل ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأت بهم، كما أقسم ~~على نفسه إنه ليملأنها من الجثة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غير ذلك من ~~خالق أو مخلوق؟. وإنما المعنى أنه توضع القدم المضاف إلى الرب تعالى، ~~فتنزوي وتضيق بمن فيها. والواحد من الخلق قد يركض متحركا من الأجسام فيسكن، ~~أو ساكنا فيتحرك، ويركض جبلا فيتفجر منه ماء، كما قال تعالى: (اركض برجلك ~~هذا مغتسل بارد وشراب (42)) (1) ، # وقد يضع يده على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضى. # المسألة السابعة # أن التكليف بالأمر والنهي ثابت بالشرع باتفاق المسلمين، وفي ثبوته بالعقل ~~اختلاف بين العلماء من أصحابنا وغيرهم، والمسألة مشهورة، مسألة التحسين ~~والتقبيح ووجوب الواجبات وتحريم المحرمات، هل ثبتت بالعقل؟ ومسألة وجوب ~~معرفة الله وشكره، ومسألة الأعيان قبل السمع. وفي المسألة تفصيل كتبته في ~~غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا النكت المستغربة. # وأما الثواب والعقاب فمعلوم بالسمع بلا خلافي بين المسلمين، وهل يعلم ~~بالعقل؟ مبني على المعاد، فإن المعاد معلوم بالسمع بلا ريب، وهل يعلم ~~بالعقل؟ قد اختلف فيه: # فذهب كثير من أهل الكلام وذهب أكثر الناس إلى أن المعاد من PageV03P241 # الأمور السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع، وهو قول كثير من أصحابنا ~~والأشعرية وغيرهم. # وذهب طوائف إلى ms0499 أنه يعلم بالعقل، ثم تنوعت مسالكهم: # منهم من بناه على وجوب العدل، وأن ذلك يقتضي معادا غير هذه الدار، يجزى ~~فيها الظالمون بظلمهم، أو يعوض المعذبون على عذابهم. وهذا مسلك كثير من ~~المعتزلة وغيرهم. # ومنهم من بناه على أن الروح غير البدن، وأنها باقية بعده، وأن لها من ~~النعيم والعذاب الروحانيين ما لا يفارقها. وهذا مسلك كثير من المتفلسفة ومن ~~نحا نحوهم، ومن هؤلاء من يثبت معاد الأرواح العالمة دون الجاهلة، وفيهم من ~~ينكر المعادين. # والصواب أن معرفته بالسمع واجبة، وأما بالعقل فقد تعرف وقد لا تعرف، ~~فليست معرفته بالعقل ممتنعة، ولا هي أيضا واجبة. وأما المتفلسفة فتثبت ~~المعاد بالعقل، وتثبت التكليف العقلي، وأما ما جاء به السمع من المعاد ~~والشرائع فلها فيه تأويلات محرفة. # فصارت الأقسام في الإيمان باليوم الآخر وفي العمل الصالح: هل هو معلوم ~~بالشرع وحده أو بالعقل وحده أو يعلم بكل منهما؟ فيه هذا الخلاف بين أهل ~~الأرض. وإن كان الصواب أن ذلك معلوم جميعه بالشرع قطعا، وقد يعلم بعضه ~~[بالعقل] . # بل مثل هذا الخلاف ثابت في معرفة الله تعالى، لكن التجاء المتكلمين هناك ~~إلى العقل أكثر. وكثير من المتكلمين -كأكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية- لا ~~يعلم عندهم وجود الرب وصفاته إلا بالعقل، كما يزعمه الفلاسفة، مع اضطراب ~~هؤلاء وآخرين في مقابلتهم. # PageV03P242 # وقد كتبت تفاصيل أقوال الناس وبينت مذهب أئمة السنة والحديث في هذا الأصل ~~في "قاعدة نفي التشبيه ومسألة الجسم"، وإنما الغرض هنا التكليف وتوابعه. # وإنما قرنت بين الأصول الثلاثة التي قال الله تعالى فيها: (إن الذين ~~آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل ~~صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (1) ، # فأشرت إلى طرق الناس في معرفتها. # والحمد لله وحده أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، حمدا كثيرا مباركا دائما ~~بدوامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. # (فرغت يوم الثلاثاء سادس عشر من شهر صفر سنة ست وستين وسبع مئة. علقها ~~العبد الفقير إلى رحمة ربه الغفور ms0500، وعفوه وصفحه وجوده وكرمه وستره وبزه ~~ومنه: عبد المنعم البغدادي الحنبلي، عفا الله عنه بمنه وكرمه وعن جميع ~~المسلمين) . PageV03P243 ### | مسألة فيمن قال: # إن عليا أشجع من أبي بكر # PageV03P245 # مسألة # في رجلين تكلما فقال أحدهما: إن عليا أشجع من أبي بكر، وقال آخر: [إن] ~~أبا بكر أشجع الصحابة. # الجواب # الحمد لله. الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن أبا بكر الصديق أعلم الصحابة ~~وأدين الصحابة وأشجع الصحابة وأكرم الصحابة، وقد بسط هذا في الكتب الكبار ~~وبين ذلك بالدلائل الواضحة. وذلك أن الشجاعة ليست [عند] أهل العلم بها كثرة ~~القتل باليد ولا قوة البدن، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أشجع الخلق، ~~كما قال علي بن أبي طالب (1) : كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم كنا ~~نتقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يكون أقرب إلى القوم منا. ~~وقد انهزم أصحابه يوم حنين وهو على بغله يسوقها نحو العدو، ويتسمى بحيث لا ~~يخفي نفسه، ويقول: # أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب (2) # ومع هذا فلم يقتل بيده إلا واحدا، وهو أبي بن خلف، قتله يوم أحد. # وكان في الصحابة من هو أكثر قتلا من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان ~~لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتل ~~مئة رجل مبارزة غير من شرك في دمه. PageV03P247 # ولم يقتل أحد من الخلفاء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا ~~العدد، بل ولا حمزة سيد الشهداء -الذي يقال: إنه أسد الله ورسوله- لم يقتل ~~هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية. وكذلك الزبير بن العوام هو في ~~الشجاعة إلى الغاية، حتى قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث ~~الصحيح: "إن لكل نبي حواريا، وحواري الزبير" (1) ، ولم يقتل في عهد النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - هذا العدد. # وغزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - وسراياه مضبوطة عند أهل العلم ~~بالسيرة والحديث، والله تعالى كان يبارك لنبيه وأصحابه في مغازيهم، فمع ~~العمل القليل يظهر الإسلام ms0501 وتفشو الدعوة ويدخلون في دين الله أفواجا. ~~ومجموع من قتل الصحابة كلهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغون ألف ~~نفس، بل أقل من ذلك، ومع هذا ببركة الإيمان فتحت أرض العرب كلها في حياته. # وكان القتل يوم بدر، وهي أول مغازي القتال، وأسروا منها سبعين أو نحوها. ~~وأما يوم أحد فقتل الكفار قليلا جدا، وكذلك يوم الخندق ويوم فتح مكة، ~~والقتلى في خيبر وحنين ليسوا بالكثير. وأعظم عددا قتلوا جميعا قتلى قريظة، ~~فإنهم بلغوا ثلاث مئة أو أربع مئة قتلهم جميعا. # وجملة مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - بضغ وعشرون غزاة، وكان القتال ~~فيها في تسع: مغازي بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وقريظة (2) وخيبر والفتح ~~وحنين والطائف، وأعظم ما كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم تبوك ~~بلغوا عشرات ألوف، ولكن لم يكن في تبوك قتال، بل أقام النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة، وكان قد جاء لقتال النصارى من ~~الروم والعرب وغيرهم، فلم يقدموا على قتاله. PageV03P248 # وأما هذه المحاربات التي يذكرها الكذابون، وكثرة القتلى التي يذكرها أهل ~~الفرية، فكذبها معروف عند كل عالم. وإذا كان القتلى نحوا ممن ذكروا [و] ~~المقاتلة في الصحابة كثيرون من المهاجرين والأنصار، مثل عمر وعلي وحمزة ~~والزبير والمقداد وأمثالهم، ومثل أبي أيوب وأبي طلحة وأبي قتادة وأبي ~~دجانة، ثم مثل خالد بن الوليد وأمثاله، وقتل الواحد من هؤلاء يقارب قتل عمر ~~وعلي وغيرهما، ينقص عنه أو يزيد عنه، ولهذا لما جاء علي رضي الله عنه أخذ ~~بسيفه إلى فاطمة وقال: اغسليه عن دمهم، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: "إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان" (1) وسمى طائفة من المسلمين-: علم ~~(2) أنه لم يمتنع أن يكون أحد من الخلفاء قتل مئة من الكفار مع النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -. # وأما خالد بن الوليد والبراء بن مالك وأمثالهما فهؤلاء قتل الواحد منهم ~~مئة وأكثر، لمغازيهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم لما غزوا ~~أهل الردة ms0502 وفارس والروم كان القتلى من الكفار كثيرا جدا لكثرة الجموع. ~~والخلفاء الراشدون لم يغز أحد منهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~ولا باشر بنفسه قتال الكفار بعده، وإنما كانوا هم أولي الأمر، فكان أبو بكر ~~يشاور عمر وعثمان وعليا وغيرهم، وكذلك عمر كان يشاور هؤلاء وغيرهم، وهم ~~عنده. ولكن الزبير بن العوام شهد فتح مصر، وسعد ابن أبي وقاص فتح العراق، ~~وأبو عبيدة بن الجراح فتح الشام. # وإذا تبين هذا فالشجاعة هي ثبات القلب وقوته، وقوة الإقدام PageV03P249 # على العدو، والبعد عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلا فالرجل ~~قد يكون بدنه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، ~~وهو ضعيف القلب جبان، وهذا عاجز. وقد يكون الرجل يقتل بيده خلقا كثيرا، ~~وإذا دهمته الأمور الكبار مالت عليه الأعداء، فيضعف عنهم أو يخاف. # وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبا وأربطهم جأشا وأعظمهم ثباتا ~~وأشدهم إقداما وأبعدهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - يصحبه وحده في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه ~~في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبهما ويبذل ديتهما لمن يأتي ~~بهما، وكان معه في العريش يوم بدر وحده والكفار قاصدون الرسول خصوصا. ولهذا ~~لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر من شجاعته وبسالته وصبره وثباته ~~وسياسته وتدبيره وإمامته للدين وقمعه للمرتدين ومعونته للمؤمنين وسد ظهورهم ~~ما لا تتسح هذه الورقة. وكل من له بالشجاعة أدنى خبرة يعلم أنه لم يكن منهم ~~من يقاربه في الشجاعة فضلا أن يشاريه. وكذلك كان عمر، كان أشجعهم بعده، كما ~~أن أبا بكر كان أعلمهم، كما ذكر الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني إجماع ~~العلماء على أن أبا بكر أعلم الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ~~وهو مبسوط في غير هذا الموضع (1) . والله أعلم. PageV03P250 # تفسير أول سورة العنكبوت # PageV03P251 # قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه ~~الله: # فصل # قال الله ms0503 تعالى: (الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا ~~يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن ~~الكاذبين (3) أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4) من ~~كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم (5) ومن جاهد فإنما ~~يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين (6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات ~~لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون (7) ووصينا الإنسان ~~بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم ~~فأنبئكم بما كنتم تعملون (8) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في ~~الصالحين (9) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة ~~الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله ~~بأعلم بما في صدور العالمين (10) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن ~~المنافقين (11)) (1) . # وقال الله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا ~~من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه ~~متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)) (2) . وقال الله تعالى لما ذكر ~~المرتد والمكره بقوله: (من كفر بالله من بعد إيمانه) (3) قال بعد ذلك: ~~PageV03P253 # (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من ~~بعدها لغفور رحيم (110)) (1) . # فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما ~~أن لا يقول: آمنا، بل يستمر على عمل السيئات. فمن قال "آمنا" امتحنه الرب ~~عز وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم ~~يقل "آمنا" فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإن أحدا لن يعجز الله تعالى. # هذه سنته تعالى، يرسل الرسل إلى الخلق، فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال ~~تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الأنس والجن) (2) ، وقال تعالى: ~~(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) (3) ، وقال ~~تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ms0504) (4) . # ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ~~عوقب، فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم. ف ### | لابد من حصول الألم لكل نفس # سواء آمنت أم كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون ~~له العاقبة في الدنيا والآخرة. والكافر تحصل له النعمة ابتداء، ثم يصير في ~~الألم. # سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله! أيما أفضل للرجل أن يمكن أو ~~يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فان الله ابتلى PageV03P254 # نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما ~~صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البته. # وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان ~~مدني الطبع، لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون ~~منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له ~~الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم. # ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئا كثيرا، كقوم يريدون ~~الفواحش والظلم، ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما ~~ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر ~~منها وما بطن والأثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به ~~سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33)) (1) . وهم في مكان مشترك، ~~كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة ~~فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك، أو بسكوتهم عن ~~الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا ~~سلموا من شرهم في الابتلاء، ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ~~ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداء، كمن يطلب منه شهادة الزور ~~أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر، وإما في الأمر أو المعاونة على ~~الفاحشة والظلم، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه، وإن أجابهم فهم ms0505 أنفسهم يتسلطون ~~عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلا عذب بغيرهم. PageV03P255 # فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية، ويروى موقوفا ومرفوعا ~~(1) : "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس -وفي لفظ: رضي الله ~~عنه وأرضى عنه الناس-، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا ~~-وفي لفظ: عاد حامده من الناس ذاما-". # وهذا يجرى فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين ~~أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده ~~امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم، ثم تكون له العاقبة في ~~الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل ~~المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها. # وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة، كالمكره على ~~الكفر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا أنه لابد من ~~الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه البتة. ولهذا ذكر الله ~~تعالى في غير موضع أنه لابد أن يبتلي الناس، والابتلاء يكون بالسراء ~~والضراء، ولابد أن يبتلي الإنسان بما يسره ويسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون ~~صابرا شكورا، قال تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم ~~أحسن عملا (7)) (2) ، وقال تعالى: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم ~~يرجعون (168)) (3) ، وقال تعالى: PageV03P256 # (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ~~ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)) (1) ، وقال تعالى: ~~(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم ~~الصابرين (142)) . هذا في آل عمران (2) ، وقد قال قبل ذلك في البقرة، فإن ~~البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل ~~الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ~~آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)) (3) . # وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب ms0506 الذي لا يخلص جيده ~~من رديئه حتى يفتن في كير الامتحان، إذ كانت النفس جاهلة ظالمة، وهي منشأ ~~كل شر يحصل للعبد، فلا يحصل له شر إلا منها، قال تعالى: (ما أصابك من حسنة ~~فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (4) ، وقال تعالى: (أولما أصابتكم ~~مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) (5) ، وقال: (وما ~~أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (30)) (6) ، وقال تعالى: ~~(ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (7) ~~، (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11)) (8) ~~. PageV03P257 # وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت، وفي كل ذلك يقول: إنهم ظلموا ~~أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم، قالا: (ربنا ~~ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23)) (1) ، وقال ~~لإبليس: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85)) (2) ، وإبليس إنما ~~تبعه الغواة منهم، كما قال: (بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم ~~أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين) (3) ، وقال تعالى: (إن عبادي ليس لك ~~عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) (4) . والغي: اتباع هوى النفس. # وما زال السلف معترفين بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود (5) : أقول ~~فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ~~ورسوله بريئان منه. # وفي الحديث الإلهي حديث أبي ذر (6) الذي يرويه الرسول عن ربه عز وجل: "يا ~~عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد ~~الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". # وفي الحديث الصحيح (7) حديث سيد الاستغفار أن يقول العبد: PageV03P258 # "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ~~ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر ~~لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من ~~يومه ms0507 دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة". # وفي حديث أبي بكر الصديق (1) من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو أن ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا ~~أخذ مضجعه: "اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ~~ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، ~~وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم". قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا ~~أخذت مضجعك. # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته (2) : "الحمد لله، ~~نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا". وقد قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون ~~تهافت الفراش" (3) . # شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته، وهي صغيرة النفس، فإنها جاهلة سريعة ~~الحركة. PageV03P259 # وفي الحديث: "مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة" (1) . وفي حديث آخر: ~~"للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا" (2) . ومعلوم سرعة حركة ~~الريشة والقدر مع الجهل. ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه: إنه استخفه. قال عن ~~فرعون: (فاستخف قومه فأطاعوه) (3) . وقال تعالى (فاصبر إن وعد الله حق ولا ~~يستخفنك الذين لا يوقنون (60)) (4) ، فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش، صاحب ~~اليقين ثابت. يقال: أيقن، إذا كان مستقرا، واليقين: استقرار الإيمان في ~~القلب علما وعملا، فقد يكون علم العبد جيدا، لكن نفسه لا تصبر عند المصائب ~~بل تطيش. قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا ~~شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك. قال ~~تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ~~(24)) (5) . # ولهذا تشبه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها، وغضبها وشهوتها من ~~النار، والشيطان من النار. وفي السنن (6) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه قال: "الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، ~~فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وفي الحديث ms0508 الآخر (7) : PageV03P260 # "الغضب جمر توقد في جوف ابن آدم، إلا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ ~~أوداجه"، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام. وفي الحديث المتفق على صحته ~~(1) : "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم". # وفي الصحيحين (2) أن رجلين استبا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ~~اشتد غضب أحدهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمة لو ~~قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وقد قال ~~تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك ~~وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ~~ذو حظ عظيم (35) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع ~~العليم (39)) (3) ، وقال تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ~~(199) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200)) (4) ، ~~وقال تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96) وقل رب ~~أعوذ بك من همزات الشياطين (97) وأعوذ بك رب أن يحضرون (98)) (5) . ~~PageV03P261 ### $ مسألة في قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله …) # PageV03P263 # مسألة # في قوله عز وجل (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ~~يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون ~~حديثا (78)) الآية (1) . # الجواب # الحمد لله. ### | المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، # كما في قوله تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) (2) ، وقال ~~تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) (3) ، (إن تصبك ~~حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) (4) ، وقال تعالى ~~عن قوم فرعون: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا ~~بموسى ومن معه) (5) . # وهذه الآية نزلت في سياق الأمر بالجهاد وذم المنافقين، فقال تعالى: ~~(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا ~~هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند ms0509 الله فمال ~~هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)) (6) . كانوا إذا أصابهم نصر ورزق ~~ونحو ذلك قالوا: هذا، من الله، وإذا أصابهم خوف وقحط ونحو ذلك قالوا: هذا ~~من PageV03P265 # محمد بسبب الدين الذي جاء به، كما قال قوم فرعون في حق موسى، فقال الله ~~تعالى: (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)) ، فإن محمدا إنما ~~جاءهم بالهدى والحق، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر. # ثم قال (1) : (ما أصابك من حسنة) من نصر ورزق ونحو (فمن الله وما أصابك ~~من سيئة) من خوف وجدب وغير ذلك (فمن نفسك) أي بذنوبك، وكان ذلك بقضاء الله ~~وقدره، ولكن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فليس للعبد على الله حجة، بل لله ~~الحجة البالغة. # ونظير هذا قوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ~~(30)) (2) ، وقوله: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون (36)) ~~(3) وقوله: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من ~~عند أنفسكم) (4) . # وفي الصحيح (5) : "إن الله يقول: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم ~~أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا ~~نفسه". وفي سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، ~~خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، ~~أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". ~~من قال ذلك إذا أصبح موقنا به فمات من يومه دخل الجنة، ومن قاله إذا ~~PageV03P266 # أمسى موقنا به فمات من ليلته دخل الجنة. رواه البخاري (1) . # وقوله "أبوء لك بنعمتك علي" أي أعترف وأقر بنعمتك، وأعترف وأدر بذنوبي. ~~فمن قال: إنه لا يؤاخذ، أو إنه لم يذنب ولم يخطئ، أو إن من شهد الحقيقة سقط ~~الأمر والنهي والعقاب والثواب-: فهو مشرك أكفر من اليهود والنصارى، ومن ~~قال: إن الله لم يقدر ذلك ولم يقضه، فهو من مجوس هذه الأمة القدرية. ومن ~~آمن بأن كل شيء ms0510 بقضاء الله وقدره، وعلم أن القدر يؤمن به ولا يحتج به على ~~الله، وأنه ليس للعبد على ربه حجة، بل لله الحجة البالغة، فإذا عمل حسنة ~~شكر الله عليها، وإذا عمل سيئة استغفر الله منها-: فهو موحد. # ومن قال: إن الحسنات والسيئات في هذه الآية المراد بها الطاعات والمعاصي، ~~كما في قوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا ~~مثلها) (2) فهو مخطئ غالط، فإن هذا يلزم منه تناقض القرآن، فإنه قد أخبر أن ~~كلا من عند الله، وأخبر أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك. وأيضا فإنه قال ~~"ما أصابك"، ولم يقل "ما أصبت"، فلو أراد أفعال العباد لقال: "ما أصبت" أو ~~"ما كسبت" أو "ما فعلت" ونحو ذلك. ولكن أراد النعم والمصائب، وهي جميعها من ~~عند الله، لكن النعم من إنعامه وإحسانه، والمصائب بسبب ذنوب العباد، ولهذا ~~قال: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ~~(33)) (3) . والله أعلم. أجاب به أحمد بن تيمية أيده الله تعالى. ~~PageV03P267 ### | قاعدة حسنة # في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل # بالتكبير والتسبيح بالتحميد # PageV03P269 # الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، ~~وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين. # فصل # في الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر # فقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أفضل ~~الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا ~~الله والله أكبر". وقد ذكرنا ما يتعلق بمعانيها في مواضع (2) ، والمقصود ~~هنا أن نقول ### | : التسبيح مقرون بالتحميد، # والتهليل مقرون بالتكبير، فإن الله تعالى يذكر في غير موضع التسبيح ~~بحمده، كقول الملائكة: (ونحن نسبح بحمدك) (3) ، وقوله: (الذين يحملون العرش ~~ومن حوله يسبحون بحمد ربهم) (4) ، وقوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ~~(5) ، وقوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (6) ، وقو له: ~~(وسبح بحمد ربك حين تقوم (48)) (7) . # ولا ريب أن الصلاة الشرعية تتضمن ما ms0511 أمر به من التسبيح بحمده، كما قد بين ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في مثل حديث جرير المتفق عليه (8) أنه ~~PageV03P271 # نظر إلى القمر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في ~~رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ~~فافعلوا" ثم قرأ (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39)) (1) . # وأيضا ففي صحيح مسلم (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي ~~الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده". وفي ~~الصحيحين (3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان ~~الله وبحمده، سبحان الله العظيم". # وأما التكبير فهو مقرون بالتهليل في الأذان، فإن المؤذن يكبر ويهلل، وفي ~~تكبير الإشراف: كان إذا علا نشزا كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله، وحده ~~لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آئبون تائبون عابدون ~~لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده". ~~وهو في الصحيحين (4) . وكذلك على الصفا والمروة، وكذلك إذا ركب دابة، وكذلك ~~في تكبير الأعياد. # والتكبير مشروع في الأماكن العالية، والتسبيح عند الانخفاض، كما في السنن ~~عن جابر (5) قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا علونا ~~PageV03P272 # كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا". فوضعت الصلاة على ذلك، والمصلي في ركوعه ~~وسجوده يسبح، ويكبر في الخفض والرفع، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. # ومن اقتران التهليل بالتكبير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن ~~حاتم: "يا عدي! ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله ~~إلا الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ". # رواه أحمد والترمذي (1) وغيرهما. # فنقول ### | : التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات، # نفي المعائب وإثبات المحامد، وذلك يتضمن التعظيم، ولهذا قال: (سبح اسم ~~ربك الأعلى (1)) (2) ، وقال: (فسبح ms0512 باسم ربك العظيم (74)) (3) . وقد قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا هذه في ركوعكم، وهذه في سجودكم" (4) ~~. # وقال: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" (5) . فالتسبيح يتضمن التنزيه ~~المستلزم للتعظيم، والحمد يتضمن إثبات المحامد المتضمن لنفي نقائصها. # وأما التهليل والتكبير فالتهليل يتضمن اختصاصه بالإلهية، وما يستلزم ~~الإلهية فهذا لا يكون لغيره، بل هو مختص به، والتكبير PageV03P273 # يتضمن أنه أكبر من كل شيء، فما يحصل لغيره من نوع صفات الكمال -فإن ~~المخلوق متصف بأنه موجود وأنه حي وأنه عليم قدير سميع بصير إلى غير ذلك- ~~فهو سبحانه أكبر من كل شيء، فلا يساويه شيء في شيء من صفات الكمال، بل هي ~~نوعان: نوع يختص به ويمتنع ثبوته لغيره، مثل كونه رب العالمين، وإله الخلق ~~أجمعين، الأول الآخر الظاهر الباطن القديم الأزلي الرحمن الرحيم مالك الملك ~~عالم الغيب والشهادة، فهذا كله هو مختص به، وهو مستلزم لاختصاصه بالإلهية، ~~فلا إله إلا هو، ولا يجوز أن يعبد إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب ~~إلا إليه، ولا يخشى إلا هو. فهذا كله من تحقيق "لا إله إلا الله". # وأما "الله أكبر" فكل اسم يتضمن تفضيله على غيره، مثل قوله: # (اقرأ وربك الأكرم (3)) (1) ، وقوله: (فتبارك الله أحسن الخالقين (14)) ~~(2) ، وقوله: (وأنت أرحم الراحمين (151)) (3) و (وأنت خير الغافرين (155)) ~~(4) ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم: "أيفرك أن يقال: ~~الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ". # وأما قول بعض النحاة إن "أكبر" بمعنى كبير، فهذا غلط مخالف لنص الرسول - ~~صلى الله عليه وسلم - ولمعنى الاسم المنقول بالتواتر. وكذلك قول بعض الناس ~~إنه أكبر مما يعلم ويوصف ويقال، جعلوا معنى "أكبر" أنه أكبر مما في القلوب ~~والألسنة من معرفته ونعته، أي هو فوق معرفة PageV03P274 # العارفين، وهذا المعنى صحيح، لكن ليس بطائل، فإن الأنبياء والرسل ~~والملائكة والجنة والنار وما شاء الله من مخلوقاته هي أكبر مما يعرفه ~~الناس، قال الله تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) ، وقال ~~تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما ms0513 لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب ~~بشر" (2) . # فبعض مخلوقاته هي أكبر في معرفة الخلق من البعض، بخلاف ما إذا قيل إنه ~~أكبر من كل شيء، فهذا لا يشركه فيه غيره. وبذلك فسر النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - هذه الكلمة في مخاطبته لعدي بن حاتم حيث قال: "أيفرك أن يقال الله ~~أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ". # وعلى هذا فعلمه أكبر من كل علم، وقدرته أكبر من كل قدرة، وهكذا سائر ~~صفاته، كما قال تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) ~~(3) . فشهادته أكبر الشهادات. # فهذه الكلمة تقتضي تفضيله على كل شيء مما توصف به الأشياء من أمور ~~الكمالات التي جعلها هو سبحانه لها. وأما التهليل فيتضمن تخصيصه بالإلهية، ~~ليس هناك أحد يتصف بها حتى يقال إنه أكبر منه فيها، بل لا إله إلا الله. ~~وهذه تضمنت معنى نفي الإلهية عما سواه وإثباتها له، وتلك تضمنت أنه أكبر ~~مطلقا، فهذه تخصيص وهذه تفضيل لما تضمنه التسبيح والتحميد من النفي ~~والإثبات، فإن كل ذلك إما أن يكون مختصا به، أو ليس كمثله أحد فيه. ~~PageV03P275 # ولهذا كان التكبير مشروعا على مشاهدة ماله نوع من العظمة في المخلوقات، ~~كالأماكن العالية، والشياطين تهرب عند سماع الأذان، والحريق يطفأ بالتكبير، ~~فإن مردة الإنس والجن يستكبرون عن عبادته ويعلون عليه ويحادونه، كما قال عن ~~موسى وجاءهم رسول كريم: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين ~~(19)) (1) . فالنفوس المتكبرة تذل عند تكبيره سبحانه. # و ### | التهليل يمنع أن يعبد غيره، # أو يرجى أو يخاف أو يدعى، وذلك يتضمن أنه أكبر من كل شيء، وأنه مستحق ~~لصفات الكمال التي لا يستحقها غيره، فهي أفضل الكلمات، كما في الصحيحين عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو ستون، ~~أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (2) . # وفي حديث "الموطأ" (3) : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا ~~الله، وحده لا شريك له ms0514، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". وفي سنن ~~ابن ماجه (4) وكتاب ابن أبي الدنيا (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله". # وهذه الكلمة هي أساس الدين، وهي الفارقة بين أهل الجنة PageV03P276 # وأهل النار، كما في صحيح مسلم (1) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه قال: "الموجبتان: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك ~~بالله شيئا دخل النار". وفي الصحيح (2) عنه: "من مات وهو يعلم أن لا إله ~~إلا الله دخل الجنة". وفي الصحيح (3) أيضا: "لقنوا موتاكم لا إله إلا ~~الله". وهي الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلا كشجرة طيبة، وهي بعث بها ~~جميع الرسل: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا ~~فاعبدون (25)) (4) ، (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون ~~الرحمن آلهة يعبدون (45)) (5) . # وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم في عقبه: (وجعلها كلمة باقية في عقبه ~~لعلهم يرجعون (28)) (6) . وهي دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره، لا ~~من الأولين ولا من الآخرين (إن الدين عند الله الأسلام) (7) ، (ومن يبتغ ~~غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)) (8) . # وكل خطبة لا تكون فيها شهادة فهي جذماء، كما في سنن الترمذي (9) عن أبي ~~هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد ~~فهي PageV03P277 # كاليد الجذماء". و ### | الحمد مفتاح الكلام، # كما في سنن أبي داود (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمر ذي ~~بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم". ولهذا كانت السنة في الخطب أن تفتتح ~~بالحمد، ويختم ذكر الله بالتشهد، ثم يتكلم الإنسان بحاجته، وبها جاء التشهد ~~في الصلاة أوله: "التحيات لله"، وآخره: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن ~~محمدا عبده ورسوله". # وفاتحة الكتاب نصفان: نصف لله، ونصف للعبد، ونصف الرب أوله حمد وآخره ~~توحيد (إياك نعبد) ، ونصف العبد هو دعاء، وأوله توحيد ms0515 (وإياك نستعين (5)) . # والتكبير والتهليل والتسبيح مقدمة التحميد، فالمؤذن يقول: "الله أكبر ~~الله أكبر"، ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، ويختم الأذان بقوله: ~~"الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله". وكذلك تكبيرات الإشراف والأعياد ~~تفتتح والتكبير وتختم بالتوحيد، فالتكبير بساط. وكذلك التسبيح مع التحميد ~~"سبحان الله وبحمده"، (فسبح بحمد ربك) ، لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص ~~والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يحمد عليها. # فصل # وهو في نفس الأمر لا إله غيره، وهو أكبر من كل شيء، وهو المستحق للتحميد ~~والتنزيه، هو متصف بذلك كله في نفس الأمر. فالعباد لا يثبتون له بكلامهم ~~شيئا لم يكن ثابتا له، بل المقصود بكلامهم تحقيق ذلك في أنفسهم، فإنهم ~~يسعدون السعادة التامة، إذا PageV03P278 # صار أحدهم ليس في نفسه إله إلا الله خلص من شرك المشركين، فإن أكثر بني ~~آدم كما قال تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106)) (1) ، فهم ~~يقرون أنه رب العالمين لا رب غيره، ومع هذا يشركون به في الحب أو التوكل أو ~~الخوف أو غير ذلك من أنواع الشرك. # وأما التوحيد أن يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، فلا يحب شيئا مثل ما ~~يحب الله، ولا يخافه كما يخاف الله، ولا يرجوه كما يرجوه، ولا يجله ويكرمه ~~مثل ما يجل الله ويكرمه، ومن سوى بينه وبين غيره في أمر من الأمور فهو ~~مشرك، إذ كان المشركون لا يسوون بينه وبين غيره في كل [شيء] ، فان هذا لم ~~يقله أحد من بني آدم، وهو ممتنع لذاته امتناعا معلوما لبني آدم، لكن منهم ~~من جحده وفضل عليه غيره في العبادة والطاعة، لكن مع هذا لم يثبته ويسو بينه ~~وبين غيره في كل شيء، بل في كثير من الأشياء. فمن سوى بينه وبين غيره في ~~أمر من الأمور فهو مشرك، قال الله تعالى (الحمد لله الذي خلق السماوات ~~والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)) (2) أي ~~يعدلون به غيره، يقال: عدل به أي جعله عديلا لكذا ms0516 ومثلا له. وقال تعالى: ~~(وبرزت الجحيم للغاوين (91)) إلى قوله: (إذ نسويكم برب العالمين (98)) (3) ~~وقال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) (4) ~~. PageV03P279 # فلا إله إلا هو سبحانه، وما سواه ليس بإله، لكن المشركون عبدوا معه آلهة، ~~وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، كما يسمي الإنسان ~~الجاهل عالما، والكاذب صادقا، ويكون ذلك عنده لا في نفس الأمر. وهؤلاء آلهة ~~في نفوس المشركين بهم ليسوا آلهة في نفس الأمر. ولهذا كان ما في قلوبهم من ~~الشرك هو إفكا، قال الله تعالى عن إبراهيم: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا ~~تعبدون (85) أإفكا آلهة دون الله تريدون (86)) (1) ، وقال أيضا: (إنما ~~تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) (2) ، وقال: (هؤلاء قومنا اتخذوا ~~من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله ~~كذبا) (3) ، وقال هود لقومه: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا ~~مفترون (50)) (4) . # والموحد صادق في قوله "لا إله إلا الله"، وكلما كرر ذلك تحقق قلبه ~~بالتوحيد والإخلاص، وكذلك قوله "الله أكبر"، فإنه تعالى كل ما يخطر بنفس ~~العباد من التعظيم فهو أكبر منه، الملائكة والجن والإنس، فإنه أي شيء قدر ~~في الأنفس من التعظيم كان دون الذي هو متصف به، كما أنه سبحانه فوق ما يثني ~~عليه العباد، كما قال أعلم الناس به: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت ~~على نفسك" (5) . # فكلما قال العبد "الله أكبر" تحقق قلبه بأن يكون الله في قلبه أكبر ~~PageV03P280 # من كل شيء، فلا يبقى لمخلوق على القلب ربانية تساوي ربانية الرب، فضلا عن ~~أن يكون مثلها، وهذا داخل في التوحيد لا إله إلا الله، فلا يكون في قلبه ~~لمخلوق شيء من التأله لا قليل ولا كثير، بل التأله كله لله، ولكن المخلوق ~~عنده نوع من القدر والمنزلة والمحبة، وليست كقدر الخالق، والمحبة المأمور ~~بها هي الحب لله، كحب الأنبياء والصالحين، فهو يحبهم لأن الله أمر بحبهم، ~~فهذا هو الحب الله. فأما من ms0517 أحبهم مع الله فهذا مشرك، كما قال تعالى: (ومن ~~الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) (1) . فالحب في الله ~~إيمان، والحب مع الله شرك. # وكذلك إذا قال "سبحان الله والحمد لله" فقد نزه الرب، فنزه قلبه أن يصف ~~الرب بما لا ينبغي له، فكلما سبح الرب تنزهت نفسه عن أن يصف الرب بشيء من ~~السوء، كما قال سبحانه: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180)) (2) ، وقال: ~~(سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (43)) (3) . # فهو سبحانه سبح نفسه عما يصفه المفترون والمشركون، فإذا سبح الرب كان قد ~~زكى نفسه. وقد سمى الله الأعمال الصالحة زكاة وتزكية في مثل قوله: (وويل ~~للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة) (4) . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ~~(ويزكيهم) قال: يعني بالزكاة PageV03P281 # طاعة الله والإخلاص (1) ، فجمع بين التزكية من الكفر والذنوب. وقال مقاتل ~~بن حيان: "يزكيكم": يطهركم من الذنوب. هكذا قال في آية البقرة (2) ، وقال ~~في آية الصيف (3) : يطهرهم من الذنوب والكفر. # وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه. وقال السدي: يأخذ زكاة ~~أموالهم (4) . ففسروا الآية بما يعم زكاة الأموال وغيرها من الأعمال ~~والأفعال، فالإخلاص والطاعة وتزكيتهم من الذنوب والكفر أعظم مقصود الآية. ~~والمشركون نجس، والصدقة من تمام التطهر والزكاة، كما قال تعالى: (خذ من ~~أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) (5) . # وكذلك قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وويل للمشركين، الذين لا ~~يؤتون الزكاة) (6) قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله (7) . وروي ~~عن عكرمة نحو ذلك. وقال قتادة: لا يقرون بها ولا يؤمنون بها. وكذلك قال ~~السدي: لا يدينون بها، ولو زكوا وهم مشركون لم ينفعهم. وقال معاوية بن قرة: ~~ليسوا من أهلها. وقد قال موسى لفرعون: (هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك إلى ~~ربك فتخشى (19)) (8) ، وقال عن الأعمى: (وما يدريك لعله يزكى (3)) (9) ، ~~PageV03P282 # وقال: (قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها) (1) ، وقال: (إنه من يأت ~~ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) إلى قوله: (وذلك جزاء من ms0518 ~~تزكى) (2) . # وكذلك الحمد، كلما حمد العبد ربه تحقق حمده في قلبه معرفة بمحامده ومحبة ~~له وشكرا له. والألف واللام في قوله (الحمد لله) فيها قولان (3) ، قيل: هي ~~للجنس، كما ذكره بعض المفسرين من المعتزلة، وتبعه عليه بعض المنتسبين إلى ~~السنة. والثاني -وهو الصحيح-: أنها للاستغراق، فالحمد كله لله، كما جاء في ~~الأثر: "لك الحمد كله، ولك الملك كله". فله الحمد حمد مستقل، وله الملك ملك ~~مستقل، ولكن هو سبحانه يؤتي الملك من يشاء، والذي يؤتيه هو من ملكه، وكل ما ~~تصرف فيه العبد فهو من ملك الرب، وهو مستقل بالملك، ليس هذا لغيره، كذلك ~~الحمد هو مستقل بالحمد كله، فله الحمد كله وله الملك كله، وكل ما جاء به ~~الإذن من موجود فله الحمد عليه، وكل ما يجعله للعباد مما يحمدون عليه فله ~~الحمد عليه، وإذا ألهمهم الحمد فهو الذي جعلهم حامدين. # والمعتزلة لا يقرون بأنه جعل الحامد حامدا والمصلي مصليا والمسلم مسلما، ~~بل يثبتون وجود الأعمال الصالحة من العبد لا من الله، فلا يستحق الحمد على ~~تلك الأعمال على أصلهم، إذ كان ما أعطاهم من القدرة والتمكين وإزاحة العلل ~~قد أعطى الكفار مثله، لكن المؤمنون استقلوا بفعل الحسنات، كالأب الذي يعطي ~~ابنيه PageV03P283 # مالا، فهذا ينفقه في الطاعة، وهذا ينفقه في المعصية. فهو عندهم لا يمدح ~~على إنفاق هذا الابن، كما لا يذم على إنفاق الآخر. # وأما أهل السنة فيقولون كما أخبر الله تعالى: (ولكن الله حبب إليكم ~~الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (1) ، وقال ~~أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) ~~(2) الآية. وقال الخليل: (رب اجعلني مقيم الصلاة) (3) ، وقال هو وابنه ~~إسماعيل: (واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (4) . ويحمدون الله ~~حمد النعمة وحمد العبادة، كما قد بسط هذا في الكلام في الشكر. # وهو سبحانه جعل من شاء من عباده محمودا، ومحمدا سيد المحمودين، ومحمد ~~تكون صفاته المحمودة أكثر، وأحمد يكون أحمد من غيره، فهذا أفضل، وذاك أكثر ms0519. ~~وهو سبحانه جعله محمدا وأحمد. فهو المحمود على ذلك، وحمد أهل السماوات ~~والأرض جزء من حمده، فإن حمد المصنوع حمد صانعه، كما أن كل ملك هو جزء من ~~ملكه، فله الملك وله الحمد. # والحمد إنما يتم بالتوحيد، وهو مناط التوحيد ومقدمة له، ولهذا يفتح به ~~الكلام، ويثنى بالتشهد. وكل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل ~~خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء. وإذا كان الحمد كله له ### | .... # (5) بخلاف ما إذا أثبت جنس الحمد من غير PageV03P284 # استغراق، فان هذا لا يثبت خصائص الرب التي بها يمتاز عن غيره، فإن الحمد ~~إذا كان للجنس أوجب أن يكون لغيره أفراد من أفراد هذا الجنس، كما تقوله ~~القدرية. وأما أهل السنة فيقولون: الحمد لله كله، وإنما للعبد حمد مقيد، ~~لكون الله تعالى أنعم عليه، كما للعبد ملك مقيد. وأما الملك المستقل والحمد ~~المستقل والملك العام والحمد العام فهو لله رب العالمين، لا إله إلا هو، له ~~الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. # وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال إذا أصبح: اللهم ~~ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد -فقد ~~أدى شكر ذلك اليوم، ومن قال مثل ذلك إذا أمسى فقد أدى شكر تلك الليلة". ~~وقال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53) ~~ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) (2) . وقال تعالى: ~~(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82)) (3) أي تجعلون شكركم على نعمة الله أنكم ~~تضيفونها إلى غيره بقولكم "مطرنا بنوء كذا وكذا". وقال تعالى: (وإذا مس ~~الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) (4) الآية. وقال: (هو الحي لا إله إلا هو ~~فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (65)) (5) . # وفي حديث آخر (6) : "من قال إذا أصبح الحمد لله ربي لا أشرك PageV03P285 # به شيئا، أشهد أن لا إله إلا الله، ظل تغفر له ذنوبه حتى يمسي، وإن قالها ~~حين يمسي ظل ms0520 تغفر له ذنوبه حتى يصبح". رواه أبان المحاربي عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -. # وقال سعيد بن جبير: إذا قرأت (فادعوه مخلصين له الدين الدين الحمد لله رب ~~العالمين (65)) فقل "لا إله إلا الله"، وقل على أثرها: "الحمد لله رب ~~العالمين". ثم قرأ هذه الآية (فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب ~~العالمين) . وقد روي نحو ذلك عن ابن عباس. وقد ثبت في الصحيحين (1) أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر الصلاة: "لا إله إلا الله، ~~ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله ~~مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وهذا قد ذكره في أوائل هذه السورة، ~~فقال تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) إلى ~~قوله (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (14)) (2) . # وفي السنن نوعان من الدعاء يقال في كل منهما لمن دعا به أنه دعا الله ~~باسمه الأعظم، أحدهما (3) : "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله ~~المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام". والآخر (4) : "اللهم ~~إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم PageV03P286 # يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". والأول سؤال بأنه المحمود، والثاني ~~سؤال بأنه الأحد، فذاك سؤال بكونه محمودا، وهذا سؤال بوحدانيته المقتضية ~~توحيدا، وهو في نفسه محمود يستحق الحمد، معبود يستحق العبادة. # والنصف الأول من الفاتحة الذي هو نصف الرب، أوله تحميد وآخره تعبيد، وقد ~~بسط مثل هذا في مواضع، وبين أن التحميد والتوحيد مقرونان، ولابد منهما في ~~كل خطبة، فكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل خطبة ليس ~~فيها تشهد فهي كاليد الجذماء. والحمد مقرون بالتسبيح، ولا إله إلا الله ~~مقرون بالتكبير، كذاك تحميده وهذا توحيده. قال تعالى: (فادعوه مخلصين له ~~الدين الحمد لله رب العالمين (65)) (1) ، ففي أحدهما إثبات المحامد له، ~~وذلك يتضمن جميع صفات الكمال ومنع النقائص، وفي الآخر إثبات وحدانيته في ~~ذلك، وأنه ليس له كفو ms0521 في ذلك. # وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذين الأصلين يجمعان جميع أنواع التنزيه، ~~فإثبات المحامد المتضمنة لصفات الكمال تستلزم نفي النقص، وإثبات وحدانيته ~~وأنه ليس له كفو في ذلك يقتضي أنه لا مثل له في شيء من صفات الكمال، فهو ~~منزه عن النقائص ومنزه أن يماثله شي بلا في صفات الكمال، كما دل على هذين ~~الأصلين قوله تعالى: (قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد ~~(3) ولم يكن له كفوا أحد (4)) (2) . PageV03P287 # واسمه "الله" تضمن جميع المحامد، فإنه يتضمن الإلهية المستلزمة لذلك، ~~فإذا قيل "لا إله إلا الله" تضمنت هذه الكلمة إثبات جميع المحامد، وأنه ليس ~~له فيها نظير، إذ هو إله لا إله إلا هو. والشرك كله إثبات نظير لله عز وجل، ~~ولهذا يسبح نفسه ويعاليها عن الشرك في مثل قوله (ما اتخذ الله من ولد وما ~~كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله ~~عما يصفون (91) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون (92)) (1) . وقال ~~تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21) لو كان فيهما آلهة إلا ~~الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22)) (2) . فان الشرك قول هو ~~وصف، وعمل هو قصد، فنزه نفسه عما يصفون بالقول والاعتقاد وعن أن يعبد معه ~~غيره. # وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، أولها: (الله لا إله إلا هو الحي ~~القيوم) (3) . فقوله "الله" هو اسمه المتضمن لجميع المحامد وصفات الكمال، ~~وقوله "لا إله إلا هو" نفي للنظراء والأمثال. وكذلك أول الكلمات العشر التي ~~في التوراة: "يا إسرائيل! أنا الله لا إله إلا أنا"، جمع بين الإثبات ونفي ~~الشريك، فالإثبات لرد التعطيل، والتوحيد لنفي الشرك. # وهكذا التحميد والتوحيد، فالتحميد متضمن إثبات ما يستحقه من المحامد ~~المتضمنة لصفات الكمال، وهو رد للتعطيل، والتوحيد رد للشرك، والتحميد يتضمن ~~إثبات أسمائه الحسنى، وكلها محامد له، وهو يتضمن ذكر آياته وآلائه، فإنه ~~محمود على آلائه كلها، وآياته PageV03P288 # كلها من آلائه، كما قد بسط في مواضع. فهو ms0522 محمود على كل ما خلق، له الحمد ~~ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد ذلك، فله ~~الحمد حمدا يملأ جميع ما خلقه، ويملأ ما شاء خاصة بعد ذلك، إذ كان كل مخلوق ~~هو محمود عليه، بل هو مسبح بحمده، كما قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح ~~بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)) (1) . # والتوحيد يقتضي نفي كل ند ومثل ونظير، وهو كمال التحميد وتحقيقه ذاك ~~إثباته بغاية الكمال ونفي النقص، وهذا نفي أن يكون له مثل أو ند. # وقوله (وسبح بحمد ربك) قد فسرها كثير من المفسرين أي فصل بحمد ربك ~~والثناء عليه، لم يذكر ابن الجوزي غير هذا القول، قال (2) : وسبح بحمد ربك ~~أي صل له بالحمد والثناء عليه. وتفسير التسبيح بالصلاة فيها أحاديث صحيحة ~~وآثار كثيرة، مثل حديث جرير المتقدم. # وأما قوله (بحمد ربك) فقد فسروه كما تقدم، أي بحمد ربك وشكر ربك وطاعة ~~ربك وعبادة ربك، أي بذكرك ربك وشكرك ربك وطاعتك ربك وعبادتك ربك، ولا ريب ~~أن حمد الرب والثناء عليه ركن في الصلاة، فإنها لا تتم إلا بالفاتحة التي ~~نصفها الأول حمد لله وثناء عليه وتحميد له، وقد شرع قبل ذلك الاستفتاح، ~~وشرع الحمد عند الرفع من الركوع، وهو متضمن لحمد الله تعالى. PageV03P289 # وذكر طائفة من المفسرين كالثعلبي وغيره قولين، قالوا -واللفظ للبغوي (1) ~~-: "وسبح بحمد ربك" أي صل بأمر ربك، وقيل: صل له بالحمد له والثناء عليه. ~~فهذا القول الأول الذي ذكره البغوي هو مأثور عن أبي مالك أحد التابعين ~~الذين أخذ عنهم السدي التفسير من أصحاب ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم (2) عن ~~أسباط عن السدي عن أبي مالك: قوله (بحمد) أي بأمر. وتوجيه هذا أن قوله ~~"بحمده" أي بكونه محمودا، كما قد قيل في قول القائل "سبحان الله وبحمده"، ~~قيل: سبحان الله ومع حمده أسبحه، أو أسبحه بحمدي له، وقيل: سبحان الله ~~وبحمده سبحناه، أي هو المحمود على ذلك، كما تقول: فعلت هذا بحمد ms0523 الله، ~~وصلينا بحمد الله، أي بفضله وإحسانه الذي يستحق الحمد عليه. وهو يرجع إلى ~~الأول، كأنه قال: بحمدنا الله فإنه المستحق لأن نحمده على ذلك. # وإذا كان ذلك بكونه المحمود على ذلك فهو المحمود على ذلك، حيث كان هو ~~الذي أمر بذلك وشرعه، فإذا سبحنا سبحنا بحمده، كما قال تعالى: (لقد من الله ~~على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) (3) الآية. وقد يكون القائل ~~الذي قال: "فسبح بحمد ربك" أي بأمره أراد المأمور به، أي سبحه بما أمرك أن ~~تسبحه به، فيكون المعنى: سبح التسبيح الذي أمرك ربك به، كالصلاة التي أمرك ~~بها. وقولنا "صليت بأمر الله" و"سبحت بأمر الله" يتناول هذا وهذا، يتناول ~~أنه أمر بذلك ففعلته بأمره لم أبتدعه، وأني فعلت بما أمرني به لم أبتدع. ~~PageV03P290 # فأما هذه الآية (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (1) في يذكر ~~البغوي وابن الجوزي إلا أنه الصلاة كما ذكرنا، وكذلك آية "ق"، قال ابن ~~الجوزي (2) : "وسبح بحمد ربك" أي صل بالثناء على ربك والتنزيه عما يقول ~~المبطلون. فذكر الثناء والتنزيه عما يقول المبطلون تفسيرا للحمد. فأما ~~البغوي (3) فإنه قال: فصل حمدا لله. # وهو ينقل ما يذكره الثعلبي في تفسيره في مثل هذه المواضع، والثعلبي يذكر ~~ما قاله غيره، سواء قاله ذاكرا أو آثرا، ما يكاد هو ينشئ من عنده عبارة، ~~وهذه عبارة طائفة قالوا: "سبح بحمد ربك" صل حمدا لله، جعل نفس الصلاة حمدا، ~~كما يقال: افعل هذا حمدا لله أي شكرا. # وهذا بنى على قول من قال: "بحمد ربك" أي بكونه محمودا، ثم جعل المصدر ~~يضاف إلى المفعول. # و ### | ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله. # ولفظ التسبيح يراد به جنس الصلاة، وقد يراد به جنس الصلاة، وقد يراد به ~~النافلة خصوصا، فإن الفرض لما كان له اسم يخصه جعل هذا اللفظ للنافلة، كما ~~في الحديث (4) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على راحلته حيث ~~توجهت به راحلته. وكان ms0524 يصلى سبحة الضحى، ومنه ما رواه مسلم في صحيحه (5) عن ~~حفصة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في سبحته قاعدا، ~~حتى كان قبل وفاته PageV03P291 # بعام -وفي رواية: أو اثنين- فكان يصلي في سبحته قاعدا، وكان يقرأ فيها ~~بالسورة فيرتلها، حتى يكون أطول من أطول منها. ومنه أيضا ما أخرجاه في ~~الصحيحين (1) عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم. # لكن هذا يوجد في كلام الفصحاء، تسمية التطوع سبحة، خصوه بذلك. وأما في ~~كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحتاج إلى نقل عنه. # ويراد بالتسبيح جنس ذكر الله تعالى، يقال: فلان يسبح، إذا كان يذكر الله. ~~ويدخل في ذلك التهليل والتحميد، ومنه سميت "السباحة" للإصبع التي يشير بها، ~~وإن كان يشير بها في التوحيد. ويراد بالتسبيح قول العبد "سبحان الله"، وهذا ~~أخص به. # وفي السنن (2) : لما أنزل الله تعالى (فسبح باسم ربك العظيم (74)) قال: ~~"اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل (سبح اسم ربك الأعلى (1)) قال: "اجعلوها في ~~سجودكم". وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلمتان ~~حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله ~~وبحمده، سبحان الله العظيم". وفي الصحيحين (4) عن أبي هريرة عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: "من قال في يوم مئة مرة: سبحان الله وبحمده، حطت عنه ~~خطاياه ولو كأنت مثل زبد البحر". PageV03P292 # وقد قيل: إن الصلاة إنما سميت تسبيحا لاشتمالها على القيام والقراءة، ~~وتسمى ركعة وسجدة لاشتمالها على الركعة والسجدة. لكن فرق بين قوله "سبح اسم ~~ربك الأعلى" و"العظيم" -فهذه قد فسرت بالتسبيح المجرد قول العبد في ركوعه ~~وسجوده: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى- وبين قوله "فسبح بحمد ربك"، ~~فان هذا إذا قيل: إن المراد بحمدك ربك أمر بالتسبيح وبالحمد، كقوله "سبحان ~~الله وبحمده". # والمصلي إذا ms0525 حمد ربه في القيام، أو في القيام والقعود، وسبح في الركوع ~~والسجود، فقد جمع التسبيح والحمد، فسبح بحمد الله. فالصلاة تسبيح بحمد ربه، ~~كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. # وقد فسر طائفة من السلف قوله (وسبح بحمد ربك حين تقوم (48)) (1) بالتسبيح ~~بالكلام (2) ، وذكروا أنواعا: التسبيح عند افتتاح الصلاة، والتسبيح عند ~~القيام من المجلس، فروى ابن أبي حاتم (3) عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ~~الأحوص: (وسبح بحمد ربك حين تقوم (48)) قال: إذا أراد أن يقوم الرجل من ~~مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك. هكذا رواه وكيع، ورواه أبو نعيم وقبيصة ~~فقالا: يقول سبحان الله وبحمده. # وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "حين تقوم" قال: من كل مجلس. # وعن طلحة عن عطاء: حين تقوم من كل مجلس، إن كنت أحسنت ازددت خيرا، وإن ~~كان غير ذلك كان هذا كفارة له. # وقال طائفة: حين تقوم إلى الصلاة، وكذلك قال الضحاك: حين تقوم إلى الصلاة ~~المفروضة، وكذلك قال ابن زيد: إذا قام إلى الصلاة من PageV03P293 # ليلى أو نهار، وفي رواية جويبر عن الضحاك قال: هو قول الرجل إذا استفتح ~~الصلاة "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". ~~وقال أبو الجوزاء: حين تقوم من منامك من فراشك. وعلى هذا فهو أمر بالصلاة ~~إذا قام من فراشه من قائلة النهار، فهو أمر بصلاة الظهر والعصر. # و"إدبار النجوم" فسرها طائفة بركعتي الفجر (1) ، وروى ابن عيينة عن ابن ~~أبي نجيح عن مجاهد: "وإدبار النجوم" قال ابن عباس: هو التسبيح أدبار ~~الصلاة. # قلت: لعل هذا تفسير لقوله (وأدبار السجود (40)) (2) ، فإنه أنسب. # وقد روي عن طائفة من السلف (3) أن "أدبار السجود" الركعتان بعد المغرب، ~~و"إدبار النجوم" ركعتا الفجر، فإحداهما تشتبه بالأخرى. فقوله (ومن الليل ~~فسبحه وأدبار السجود (40)) ، إذا فسر هذا بالتسبيح دبر الصلاة كان اللفظ ~~دالا على هذا. والسلف الذين فسروها بهذا كأنهم -والله أعلم- أرادوا أن أول ~~ما يكتب في صحيفة النهار ركعتا الفجر، وآخر ما يرفع ركعتا المغرب، فقد روي ~~أنهما ms0526 ترفعان مع عمل النهار. # قلت: ولفظ التسبيح يتناول هذا كله، منه واجب ومنه مستحب. # (آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ~~تسليما كثيرا) . PageV03P294 ### | مسألة # في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟ # PageV03P295 # الذي يدل عليه القران واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء، وليس ~~في القرآن ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا عن أصحابه خبر بأن ~~الله تعالى نبأهم. وإنما احتج من قال إنهم نبئوا بقوله في آيتي البقرة ~~والنساء (والأسباط) (1) ، وفسر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب، والصواب أنه ليس ~~المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته، كما يقال فيهم أيضا "بنو إسرائيل"، وكان ~~في ذريته الأنبياء، فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل. # قال أبو سعيد الضرير: أصل السبط شجرة ملتفة كثيرة الأغصان (2) . # فسموا الأسباط لكثرتهم، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة، كذلك الأسباط ~~كانوا من يعقوب. ومثل السبط الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. وقال ~~تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159) وقطعناهم اثنتي ~~عشرة أسباطا أمما) (3) ، فهذا صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل، ~~كل سبط أمة، لا أنهم بنوه الاثنا عشر. بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر ~~عنهم الأولاد أسباطا، فالحال أن السبط هم الجماعة من الناس. # ومن قال: الأسباط أولاد يعقوب، لم يرد أنهم أولاده لصلبه، بل أراد ذريته، ~~كما يقال: بنو إسرائيل وبنو آدم. فتخصيص الآية ببنيه PageV03P297 # لصلبه غلط، لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى، ومن ادعاه فقط أخطأ خطأ بينا ~~(1) . # والصواب أيضا أن كونهم أسباطا إنما سموا به من عهد موسى للآية المتقدمة، ~~ومن حينئذ كانت فيهم النبوة، فإنه لا يعرف أنه كان فيهم نبي قبل موسى إلا ~~يوسف. ومما يؤيد هذا أن الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: ~~(ومن ذريته داود وسليمان) الآيات (2) ، فذكر يوسف ومن معه، ولم يذكر ~~الأسباط، فلو كان إخوة يوسف نبئوا كما نبئ ms0527 يوسف لذكروا معه. # وأيضا فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء ما يناسب النبوة، ~~وإن كان قبل النبوة، كما قال عن موسى: (ولما بلغ أشده) (3) الآية، وقال في ~~يوسف كذلك، وفي الحديث: "أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ~~نبي من نبي من نبي" (4) . فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا ~~الكرم، وهو تعالى لما قص قصة يوسف وما فعلوا معه ذكر اعترافهم بالخطيئة ~~وطلبهم الاستغفار من أبيهم، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة، ولا شيئا ~~من خصائص الأنبياء، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم، ~~بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار. ولا ذكر سبحانه عن أحد من ~~الأنبياء -لا قبل النبوة ولا بعدها- أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة، من ~~عقوق الوالد وقطيعة الرحم وإرقاق المسلم PageV03P298 # وبيعه إلى بلاد الكفر والكذب البين وغير ذلك مما حكاه عنهم، ولم يحك شيئا ~~يناسب الاصطفاء والاختصاص الموجب لنبوتهم، بل الذي حكاه يخالف ذلك، بخلاف ~~ما حكاه عن يوسف. # ثم إن القرآن يدل على أنه لم يأت أهل مصر نبي قبل موسى سوى يوسف، لآية ~~غافر (1) ، ولو كان من إخوة يوسف نبي لكان قد دعا أهل مصر، وظهرت أخبار ~~نبوته، فلما لم يكن ذلك علم أنه لم يكن منهم نبي. فهذه وجوه متعددة يقوي ~~بعضها بعضا. # وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر، وهو أيضا، وأوصى بنقله ~~إلى الشام، فنقله موسى. # والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حصل من ظن أنهم هم الأسباط، وليس كذلك، ~~إنما الأسباط ذريتهم الذين قطعوا أسباطا من عهد موسى، كل سبط أمة عظيمة. ~~ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال: "ويعقوب وبنيه"، فإنه أوجز ~~وأبين. واختير لفظ "الأسباط" على لفظ "بني إسرائيل" للإشارة إلى أن النبوة ~~إنما حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى. والله أعلم. ~~PageV03P299 ### | فتوى # في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته # PageV03P301 # الحمد الله رب العالمين. # ما تقول أئمة ms0528 الدين -رضي الله عنهم أجمعين، وجعلهم عاملين بما علموا، ~~مخلصين مصيبين- في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته التي أجمع أئمة ~~القراءة عليها، من تمطيط أو ترجيع بالألحان المطربة، أو ملك مجمع على قصره، ~~أو قصر مجمع على مده، أو إظهار ما أجمع على إدغامه، أو إدغام ما أجمع على ~~إظهاره، أو تشديد ما أجمع على تخفيفه، أو تخفيف ما أجمع على تشديده، أو بما ~~يزيل الحرف عن مخرجه أو صفته، وما أشبه ذلك مما يعانيه بعض القراء، هل تجوز ~~تلك القراءة؟ وهل يجوز سماعها أو استماعها؟ فإن لم تجز فهل يلزم سامعها أن ~~ينكر على قارئها؟ فإن لزمه وترك فهل يأثم؟ وإن أنكر على قارئها، ولم يقبل ~~القارئ، فهل يجب عليه شيء أم لا؟ أفتونا مأجورين، رحمكم الله، والحمد لله ~~وحده. # أجاب شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية: # الحمد لله. ### | الناس مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع، # كما كان يقرأه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن القراءة سنة ~~يأخذها الآخر عن الأول. # وقد تنازع الناس في قراءة الألحان، منهم من كرهها مطلقا بل حرمها، ومنهم ~~من رخص فيها (1) ، وأعدل الأقوال فيها أنها إن كانت موافقة لقراءة السلف ~~كانت مشروعة، وإن كانت من البدع المذمومة PageV03P303 # نهي عنها. والسلف كانوا يحسنون القرآن بأصواتهم من غير أن يتكلفوا أوزان ~~الغناء، مثل ما كان أبو موسى الأشعري يفعل، فقد ثبت في الصحيح عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لقد أوتي هذا مزمازا من مزامير آل داود" ~~(1) . وقال لأبي موسى الأشعري: "مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع ~~لقراءتك"، فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا (2) . أي لحسنته لك ~~تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ ~~أبو موسى وهم يستمعون لقراءته. # وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زينوا القرآن بأصواتكم" (3) . ~~وقال: "لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى ~~قينته" (4) . وقال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن ms0529" (5) . # وتفسيره عند الأكثرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تحسين الصوت به. ~~وقد فسره ابن عيينة ووكيع وأبو عبيد على الاستغناء به. فإذا حسن الرجل صوته ~~بالقرآن كما كان السلف يفعلونه -مثل أبي موسى الأشعري وغيره- فهذا حسن. # وأما ما أحدث بعدهم من تكفف القراءة على ألحان. الغناء فهذا PageV03P304 # ينهى عنه عند جمهور العلماء، لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن ~~بالغناء، ولأن ذلك يورث أن يبقى قلب القارئ مصروفا إلى وزن اللفظ بميزان ~~الغناء، لا يتدبره ولا يعقله، وأن يبقى المستمعون يصغون إليه لأجل الصوت ~~الملحن كما يصغى إلى الغناء، لا لأجل استماع القرآن وفهمه وتدبره والانتفاع ~~به. والله سبحانه أعلم. # PageV03P305 ### | رسالة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: # "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما # فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه" # PageV03P307 # الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وسلم ~~تسليما. # روى الإمام أحمد في "مسنده" (1) : حدثنا حسين بن محمد، ثنا مسلم -يعني ~~ابن خالد- عن زيد بن أسلم عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال - صلى ~~الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما، فليأكل من ~~طعامه ولا يسأله عنه، وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله ~~عنه". # هذا حديث رواه مشهورون، ومسلم بن خالد الزنجي وثقه بعض الأئمة وضعفه ~~بعضهم. وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن أبي هريرة، رواه ابن عجلان عن ~~المقبري عن أبي هريرة (2) ، وقد روي موقوفا. وقد رأيت للشيخ أبي عمر بن عبد ~~البر رسالة (3) أملاها حين بلغه -وهو بشاطبة- أن قوما عابوه بأكل طعام ~~السلاطين وقبول جوائزهم: # قل لمن ينكر أكلي لطعام الأمراء # أنت من جهلك هذا في محل السفهاء # لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين وأئمة الدين من المسلمين ~~والسلف الماضين هو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت PageV03P309 # -وكان من الراسخين في العلم- يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد، وكان ابن عمر ~~مع ورعه وفضله يقبل هدايا ms0530 صهره المختار بن أبي عبيد، ويأكل طعامه ويأخذ ~~جوائزه، وكان المختار غير مختار. # وقال عبد الله بن مسعود -وكان قد ملئ علما من قرنه إلى مشاعبه- لرجل سأله ~~فقال: إن لي جارا يعمل الربا، ولا يجتنب في مكسبه الحرام، يدعوني إلى طعامه ~~إذا جئت، فقال: لك المهنأ وعليه المأثم ما لم تعلم الشيء بعينه حراما. # وسئل عثمان بن عفان عن جوائز السلطان فقال: لحم ظبي ذكي. # وكان الشعبي -وهو من كبار التابعين وعلمائهم- يؤدب بني عبد الملك بن ~~مروان، ويقبل جوائزه، ويأكل طعامه. # وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري -مع زهده وورعه- ~~وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء ~~السبعة -حاشا سعيد بن المسيب- يقبلون جوائز السلاطين والأمراء. وقبل الحسن ~~والشعبي جائزة ابن هبيرة لما سألهما عن حاله مع عبد الملك. وكان سفيان ~~الثوري مع فضله وورعه يقول: جوائز السلطان أحب إلي من صلات الإخوان، لأن ~~الإخوان يمنون والسلطان لا يمن. # ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبوابا، ولأحمد بن ~~خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على جمعه ووضعه طعن أهل بلاده ~~عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر إذ نقله إلى المدينة بقرطبة، وأسكنه ~~دارا من دور الجامع قربه، وأجرى عليه الرزق من الطعام والشراب والإدام ~~والناض. وله ولمثله في بيت # PageV03P310 # المال حظ، والمسئول عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله ابن ~~مسعود: لك المهنا وعليه المأثم لما لم تعلم الشيء بعينه حراما. # ومعنى قول ابن مسعود هذا قد اجتمع عليه العلماء ما لم تعلم الشيء بعينه ~~حراما مأخوذا من غير حبه، كالخبزة وشبهها من الطعام والثوب والدائة، وما ~~كان مثل ذلك كله من الأشياء المبيعة غصبا أو سرقة، أو مأخوذة بظلم بين لا ~~شبهة فيه، فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه وسقوط عدالة مستحل الحلة وأخذه ~~وتملكه، وما أعلم أحدا من علماء التابعين تورع عن جوائز السلطان إلا سعيد ~~بن المسيب بالمدينة ms0531 ومحمد بن سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلا بالورع، ~~وسلك سبيلهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشف رحمة الله ~~عليهم أجمعين. # والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يحل لمن وفقه الله تعالى وزهد ~~فيها أن يحرم ما أباح الله منها. والعجب من أهل زماننا يعيبون الشهوات وهم ~~يستحلون المحرمات والمنكرات، ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر عن ~~المحرم يقتل القراد والقملة، فقال للسائلين: من أين أنتم؟ فقالوا: من أهل ~~الكوفة، فقال: تسألوني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي؟! # وروى عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أتاك ~~من غير مسألة فخذه، وتموله" (1) . # وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~معناه (2) ، PageV03P311 # وفي حديث أحدهما: "إنما هو رزق رزقه الله"، وفي لفظ بعض الرواة: "فلا ترد ~~على الله رزقه". # وهذا كله عند أهل العلم مركب مبني على ما أجمعوا عليه، وهو الحق فيمن عرف ~~الشيء المحرم بعينه أنه لا يحل له (1) . والله سبحانه وتعالى أعلم. # والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليما. ~~PageV03P312 ### | جواب سؤال سائل سأل عن # حرف "لو" # PageV03P313 # الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله ~~إلا الله وحده لا شريك له الباهر البرهان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ~~المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما يرضى به الرحمن. # سألت -وفقك الله- عن معنى حرف "لو"، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه: ~~"نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" (1) على معناها المعروف؟ وذكرت ~~أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضبت الجواب اقتضابا أوجب أن أكتب في ذلك ما ~~حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك، وإني ليس ~~يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك. فأقول، والله الهادي النصير: # الجواب مرتب على مقدمات: # إحداها: أن حرف "لو" المسئول عنها من أدوات الشرط، وأن ms0532 الشرط يقتضي ~~جملتين إحداهما شرط والأخرى جزاء وجواب، وربما سمي المجموع شرطا، وسمي أيضا ~~جزاء. ويقال لهذه الأدوات أدوات الشرط وأدوات الجزاء، والعلم بهذا كله ~~ضروري لمن كان له عقل وعلم بلغة العرب، والاستعمال على ذلك أكثر من أن ~~يحصر، PageV03P315 # كقوله تعالى: (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم ~~وأقوم) (1) ، (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم ~~الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)) (2) ، (ولو علم الله فيهم خيرا ~~لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا) (3) ، (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (4) ، ~~(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) (5) ، (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي ~~وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) (6) . # الثانية: أن هذا الذي تسميه النحاة شرطا هو في المعنى سبب لوجود الجزاء، ~~وهو الذي تسميه الفقهاء علة ومقتضيا وموجبا ونحو ذلك، فالشرط اللفظي سبب ~~معنوي. فتفطن لهذا، فإنه موضع غلط فيه كثير ممن يتكلم في الأصول والفقه، ~~وذلك أن الشرط في عرف الفقهاء ومن يجري مجراهم من أهل الكلام والأصول ~~وغيرهم هو ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب، وعلامته أنه يلزم من ~~عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط. # ثم هو منقسم إلى ما عرف كونه شرطا بالشرع، كقولهم: الطهارة والاستقبال ~~واللباس شرط لصحة الصلاة، والعقل والبلوغ شرط لوجوب الصلاة، فإن وجوب ~~الصلاة على العبد يتوقف على العقل والبلوغ، كما تتوقف صحة الصلاة على ~~الطهارة والستارة واستقبال PageV03P316 # القبلة، وإن كانت الطهارة والستارة أمورا خارجة عن حقيقة الصلاة. ولهذا ~~يفرقون بين الشرط والركن بأن الركن جزء من حقيقة العبادة أو العقد، كالركوع ~~والسجود، وكالإيجاب والقبول؛ وبأن الشرط خارج عنه، فإن الطهارة يلزم من ~~عدمها عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجود الصلاة. # وتختلف الشروط في الأحكام باختلافها، كما يقولون في باب الجمعة، منها ما ~~هو شرط للوجوب بنفسه، ومنها ما هو شرط للوجوب بغيره، ومنها ما هو شرط ~~للإجزاء دون الصحة، ومنها ما هو شرط للصحة. وكلام الفقهاء في الشروط كثير ~~جدا، لكن الفرق ms0533 بين السبب والشرط وعدم المانع إنما يتم على قول من يجوز ~~تخصيص العلة منهم، وأما من لا يسمي علة إلا ما استلزم من الحكم ولزم من ~~وجودها وجوده على كل حال، فهؤلاء يجعلون الشرط وعدم المانع من جملة أجزاء ~~العلة. # وإلى (1) ما يعرف كونه شرطا بالعقل وإن دل عليه دلائل أخرى، كقولهم: ~~الحياة شرط في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، والعلم شرط في ~~الإرادة، ونحو ذلك، وكذلك جميع صفات الأجسام وطباعها لها شروط تعرف بالعقل ~~أو بالتجارب أو بغير ذلك. وقد تسمى هذه شروطا عقلية، والأول شروطا شرعية. # وقد يكون من هذه الشروط ما يعرف اشتراطه بالعرف، ومنه ما يعرف باللغة، ~~كما يعرف أن شرط المفعول وجود فاعل، وإن لم PageV03P317 # يكن شرط الفاعل وجود مفعول، فيلزم من وجود المفعول المنصوب وجود فاعل، ~~ولا ينعكس. بل يلزم من وجود اسم منصوب أو مخفوض وجود مرفوع، ولا يلزم من ~~وجود المرفوع لا منصوب ولا مخفوض، إذ الاسم المرفوع -مظهرا أو مضمرا- لابد ~~منه في كل كلام عربي، سواء كانت الجملة اسمية أو فعلية. # فقد تبين أن لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدل عدمه. على عدم المشروط ما لم ~~يخلفه شرط آخر، ولا يدل ثبوته من حيث هو شرط على ثبوت المشروط. # وأما الشرط في الاصطلاح الذي يتكلم به في باب أدوات الشرط اللفظية -سواء ~~كان المتكلم [نحويا] أو فقيها وما يتبعه من متكلم وأصولي ونحو ذلك- فان ~~وجود الشرط يقتضي وجود المشروط الذي هو الجزاء والجواب، و ### | عدم الشرط هل يدل على عدم المشروط؟ # مبني على أن عدم العلة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل قد أومئ ~~إليه. # الخوف (1) لو فرض عدمه لكان مع هذا العدم لا يعصي الله، لأن ترك المعصية ~~له قد يكون لخوف الله، وقد يكون لأمر آخر: إما لنزاهة الطبع أو إجلال الله ~~أو الحياء منه أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التيمي: إنه ~~كان لا يحسن أن يعصي الله. فقد أخبرنا عنه أن ms0534 عدم خوفه لو فرض موجودا لكان ~~مستلزما لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضاف إلى أمور أخرى: إما عدم مقتض ~~أو وجود مانع، مع أن هذا الخوف حاصل. PageV03P318 # وهذا المعنى يفهمه من الكلام كل أحد صحيح الفطرة، لكن لما وقع في بعض ~~القواعد اللفظية والعقلية نوع توسع -إما في التعبير وإما في الفهم- اقتضى ~~ذلك خللا إذا بنى على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم، فإذا كان للإنسان ~~فهم صحيح رد الأشياء إلى أصولها، وقرر النظر على معقولها، وبين حكم تلك ~~القواعد وما وقع فيها من تجوز أو توسع، فإن الإحاطة في الحدود والضوابط غير ~~تحرير (1) . # ومنشأ الإشكال أخذ كلام بعض النحاة مسلما أن المنفي بعد "لو" مثبت، ~~والمثبت بعدها منفي، أو أن جواب "لو" منتف أبدا، وجواب "لولا" ثابت أبدا، ~~وأن "لو" حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، و"لولا" حرف يدل على امتناع ~~الشيء لوجود غيره مطلقا. فإن هذه العبارات إذا قرن بها "غالبا" كان الأمر ~~قريبا، وأما أن يدعى أن هذا مقتضى الحرف دائما فليس كذلك، بل الأمر كما ~~ذكرناه من أن "لو" حرف شرط تدل على انتفاء الشرط، فإن كان الشرط ثبوتيا فهي ~~"لو" محضة، وإن كان الشرط عدميا مثل "لولا" و"لو لم" دلت على انتفاء هذا ~~العدم بثبوت نقيضه، فيقتضي أن هذا الشرط العدمي مستلزم لجزائه، إن وجودا ~~وإن عدما، وأن العدم منتف. وإذا كان عدم شيء سببا في أمر فقد يكون وجوده ~~سببا في عدمه، وقد يكون وجوده أيضا سببا في وجوده، بأن يكون الشيء لازما ~~لوجود الملزوم ولعدمه، والحكم ثابت مع العلة المعينة، ومع انتفائها لوجود ~~علة أخرى. # وإذا عرفت أن مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشرط، وأن PageV03P319 # فهم نفي الجزاء منها ليس أمرا لازما، وإنما يفهم باللزوم العقلي أو ~~العادة الغالبة، وعطفت على ما ذكرته من المقدمات زال الإشكال بالكلية. # وكان يمكننا أن نقول: إن حرف "لو" دالة على انتفاء الجزاء، وقد تدل ~~أحيانا على ثبوته: إما بالمجاز المقرون بقرينة أو ms0535 بالاشتراك، لكن جعل اللفظ ~~حقيقة في القدر المشترك أقرب إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائل كان سائغا ~~في الجملة، فإن الناس ما زالوا يختلفون في كثير من معاني الحروف: هل هي ~~مقولة بالاشتراك أو بالتواطؤ أو بالحقيقة والمجاز، وإنما الذي يجب أن نعتقد ~~بطلانه ظن ظان ظن أن لا معنى ل "لو" إلا عدم الجزاء والشرط، فإن هذا ليس ~~بمستقيم البتة. والله سبحانه أعلم. # PageV03P320 ### | فصل # في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع # PageV03P321 # هذا فصل فيما ذكره الحافظ تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية في الكلام ~~على الإجماعات، ومن جملتها الكلام على ما ذكره الشيخ الإمام أبو محمد ابن ~~حزم. # قال أبو محمد ابن حزم في كتابه المصنف في مسائل الإجماع: أما بعد، فإن ~~الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية، يرجع إليه ويفزع نحوه ويكفر من ~~خالفه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع. وإنا أملنا بعون الله أن نجمع ~~المسائل التي صح فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع فيها ~~الخلاف بين العلماء. # إلى أن قال: وقد أدخل قوم في الإجماع ما ليس فيه، فقوم عدوا قول الأكثر ~~إجماعا، وقوم عدوا مالا يعرفون فيه خلافا، وإن لم يقطعوا على أنه لا خلاف ~~فيه، فحكموا على أنه إجماع، وقوم عدوا قول الصاحب المشهور المنتشر إذا لم ~~يعلموا له من الصحابة مخالفا إجماعا، وقوم عدوا اتفاق العصر الثاني على أحد ~~القولين أو أكثر كانت للعصر الأول قبله إجماعا. # قال: وكل هذه الآراء فاسدة. ويكفي من فسادها أنهم يتركون في كثير من ~~مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع. وإنما نحوا في تسمية ما وصفنا إجماعا عنادا ~~منهم وشغبا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى ترك اختياراتهم الفاسدة. # قال: وأيضا فإنهم لا يكفرون من خالفهم في هذه المعاني، ومن شرط الإجماع ~~الصحيح أن يكفر من خالفه بلا اختلاف من أحد من المسلمين في ذلك، فلو كان ما ~~ذكروه إجماعا لكفر مخالفوهم، بل # PageV03P323 # لكفروهم لأنهم يخالفونها كثيرا. # قلت: أهل العلم والدين لا يعاندون، ولكن ms0536 قد يعتقد أحدهم إجماعا ما ليس ~~بإجماع، لكون الخلاف لم يبلغه، وقد يكون هناك إجماع لم يعلمه. فهم في ~~الاستدلال بذلك كما هم في الاستدلال بالنصوص، تارة يكون هناك نص لم يبلغ ~~أحدهم، وتارة يعتقد أحدهم وجود نص ويكون ضعيفا أو منسوخا. # وأيضا فما وصفهم هو به قد اتصف هو به، فإنه يترك في بعض مسائله ما قد ذكر ~~في هذا الكتاب أنه إجماع. # وكذلك ما ألزمهم إياه من تكفير المخالف غير لازم، فإن كثيرا من العلماء ~~لا يكفرون مخالف الإجماع، وقوله "إن مخالف الإجماع يكفر بلا اختلاف من أحد ~~من المسلمين" هو من هذا الباب. فلعله لم يبلغه الخلاف في ذلك، مع أن الخلاف ~~في ذلك مشهور مذكور في كتب متعددة. والنظام نفسه المخالف في كون الإجماع ~~حجة لا يكفره ابن حزم والناس أيضا. فمن كفر مخالف الإجماع إنما يكفره إذا ~~بلغه الإجماع المعلوم، وكثير من الإجماعات لم تبلغ كثيرا من الناس. وكثير ~~من موارد النزاع بين المتأخرين يدعي أحدهما الإجماع في ذلك، إما أنه ظني ~~ليس بقطعي، وإما أنه لم يبلغ الآخر، وإما لاعتقاده انتفاء شروط الإجماع. # وأيضا فقد تنازع الناس في كثير من الأنواع هل هي إجماع يحتج به؟ كالإجماع ~~الإقراري، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع العصر الثاني على أحد القولين ~~للعصر الأول، والإجماع الذي خالف فيه بعض أهله قبل انقراض عصرهم، فإنه مبني ~~على انقراض العصر، بل # PageV03P324 # هو شرط في الإجماع، وغير ذلك. فتنازعهم في بعض الأنواع هل هو من الإجماع ~~الذي يجب اتباعهم فيه، كتنازعهم في بعض أنواع الخطاب هل هو مما يحتج به، ~~كالعموم المخصوص ودليل الخطاب والقياس وغير ذلك. فهذا ونحوه مما يتبين به ~~بعض أعذار العلماء. # قال أبو محمد ابن حزم: وقوم قالوا: الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقال ~~قوم: إجماع كل عصر إجماع صحيح إذا لم يتقدم قبله في تلك المسألة خلاف. وهذا ~~هو الصحيح لإجماع العلماء عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وترك ما أصلوه ~~له. # إلى أن قال: وصفة الإجماع ما ms0537 تيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء ~~الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل أن ~~المسلمين خرجوا من الحجاز إلى اليمن، ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام، ~~وأن بني أمية ملكوا دهرا، ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفين والحرة، ~~وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة. # وقال: إنما ندخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا مخالف فيه البتة، ~~الذي يعلم كما يعلم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأن شهر رمضان ~~هو الذي بين شوال وشعبان، وأن هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى ~~الله تعالى عليه وسلم وأخبر أنه وحي من الله إليه، وأن في خمس من الإبل ~~شاة، ونحو ذلك. وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوه ~~نقله، إذا تتبعها المرء في نفسه في كل ما جربه من أحوال دنياه وجده ثابتا ~~مستقرا في نفسه. # PageV03P325 # وقال أيضا في آخر كتابه -كتاب الإجماع هذا-: كل ما كتبنا فهو يقين لاشك ~~فيه، متيقن لا يحل لأحد خلافه البتة. # قلت: فقد اشترط في الإجماع ما يشترطه كثير من أهل الكلام والفقه كما ~~تقدم، وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع متواترا. وجعل العلم ~~بالإجماع من العلوم الضرورية كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين. ~~ومعلوم أن كثيرا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبا من هذا الوصف، فضلا عن ~~أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلاف معروف، وفيها ما هو نفسه ينكر الإجماع ~~فيه ويختار خلافه من غير ظهور مخالف! # وقد قال: إنما نعني بقولنا "العلماء" من حفظ عنه الفتيا. # وقال: وأجمعوا أنه لا يجوز التوضؤ بشيء من المائعات وغيرها حاشا الماء ~~والنبيذ. # قلت: وقد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى -وهو من أجل من يحكي ابن حزم قوله- ~~أنه يجزئ الوضوء بالمعتصر كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصم، لكن ~~الأصم ليس ممن يعده ابن حزم في الإجماع. # وقال: وأما الماء الجاري ms0538 فاتفقوا على جواز استعماله ما لم تظهر فيه ~~نجاسة. # قلت: الشافعي في الجديد من قوليه وأحد القولين في مذهب أحمد أن الجاري ~~كالراكد في اعتبار القلتين، فينجس ما دون القلتين بوقوع النجاسة فيه وإن لم ~~تظهر فيه. # PageV03P326 # وقال: واتفقوا على أن غسل الذراعين إلى منتهى المرفقين فرض في الوضوء. # قلت: وزفر يخالف في وجوب غسل المرفقين. وحكي ذلك عن داود وبعض المالكية، ~~اللهم إلا أن يعني بمنتهى المرفقين منتهاهما من جهة الكف. # قال: واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة وبكل طاهر ما لم يكن طعاما أو ~~رجيعا أو نجسا أو جلدا أو عظما أو فحما أو حممة جائز. قلت: في جواز ~~الاستجمار بغير الأحجار قولان معروفان هما روايتان عن أحمد، إحداهما لا ~~يجزئ إلا بالحجر، وهي اختيار أبي بكر ابن المنذر وأبي بكر عبد العزيز. # قال: واتفقوا على أن كل إناء لم يكن فضة ولا ذهبا ولا صفرا ولا رصاصا ولا ~~نحاسا ولا مغصوبا ولا إناء كتابي ولا جلد ميتة ولا جلد مالا يؤكل لحمه وإن ~~ذكي، فإن الوضوء منه والأكل والشرب جائز كل ذلك. # قلت: الآنية الثمينة التي تكون أغلى من الذهب والفضة كالياقوت ونحوه، ~~فيها قولان للشافعي، وفي مذهب مالك قولان. # قال: وأجمعوا أن الحائض وإن رأت الطهر ما لم تغسل فرجها أو تتوضأ فوطؤها ~~حرام. # قلت: أبو حنيفة يقول: إذا انقطع دمها لأكثر الحيض أو مر عليها وقت صلاة ~~جاز وطؤها، وإن لم تغتسل ولم تتوضأ ولم تغسل فرجها. # قال: واتفقوا أن الصلاة لا تسقط ولا يحل تأخيرها عمدا عن # PageV03P327 # وقتها عن العاقل البالغ بعذر أصلا، وأنها تؤدى على قدر طاقة المرء من ~~جلوس واضطجاع، بإيماء وكيف أمكنه. # قلت: النزاع معروف في صور، منها حال المسايفة، فأبو حنيفة يوجب التأخير، ~~وأحمد في إحدى الروايتين يجوزه. ومنها المحبوس في مصر. ومنها عادم الماء ~~والتراب، فمذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك أنه لا يصلي، رواه معن ~~عن مالك، وهو قول أصبغ، وحكي ذلك قولا للشافعي ورواية عن أحمد ms0539. وهؤلاء في ~~الإعادة لهم قولان هما روايتان في مذهب مالك وأحمد، والقضاء قول أبي حنيفة. # قال: واتفقوا على أن المرأة لا تؤم الرجال وهم يعلمون أنها امرأة، فإن ~~فعلوا فصلاتهم فاسدة لا بالإجماع. قال: وروي عن أشهب أن من ائتم بامرأة وهو ~~لا يدري حتى خرج الوقت ثم علم، فصلاته تامة، وكذا من ائتم بكافر وهو لا ~~يعلم أنه كافر. # قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في ~~المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان. # قال: واتفقوا على أن وضع الرأس في الأرض والرجلين في السجود فرض. # قلت: المنقول عن أبي حنيفة أنه لا يجب السجود إلا على الوجه، وهو قول ~~الشافعي ورواية عن أحمد. ويقتضي هذا أنه لو سجد على يديه ووجهه وركبتيه ~~أجزأه. # قال: واتفقوا على أن الفكرة في أمور الدنيا لا تفسد الصلاة. # PageV03P328 # قلت: إذا كانت هي الأغلب ففيها نزاع معروف، والبطلان اختيار أبي عبد الله ~~بن حامد وأبي حامد الغزالي. # قال: واتفقوا على جواز الصلاة في كل مكان، ما لم يكن جوف الكعبة أو الحجر ~~أو ظهر الكعبة أو معاطن الإبل، أو مكانا فيه نجاسة، أو حماما أو مقبرة أو ~~إلى قبر أو عليه، أو مكانا مغصوبا يقدر على مفارقته، أو مكانا يستهزأ فيه ~~بالإسلام، أو مسجد الضرار، أو بلاد ثمود لمن لم يدخلها باكيا. # قلت: الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق لا تصح في المشهور عند ~~كثير من أصحاب أحمد بل أكثرهم. والصلاة في الحش كذلك عند جمهورهم، وإن صلى ~~في مكان طاهر منه. # قال: واتفقوا أن صلاة العيدين وكسوف الشمس وقيام ليالي رمضان ليست فرضا، ~~وكذلك التهجد على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -. # قلت: العيدان فرض على الكفاية في ظاهر مذهب أحمد، وحكي عن أبي حنيفة ~~أنهما واجبان على الأعيان. وعن عبيدة السلماني أن قيام الليل واجب كحلب ~~شاة، وهو قول في مذهب أحمد. # قال: واتفقوا أن كل صلاة ما عدا الصلوات الخمس وعلى الجنائز والوتر وما ~~نذره المرء ليست ms0540 فرضا. # قلت: في وجوب ركعتي الطواف نزاع معروف، وقد ذكر في وجوب المعادة مع إمام ~~الحي وركعتي الفجر والكسوف. # قال: واتفقوا أن من أسقط الجلسة الوسطى من صلاة الظهر والعصر والمغرب ~~والعتمة ساهيا، أن عليه سجدتي السهو. # PageV03P329 # قلت: الشافعي لا يوجب سجود السهو. # قال: واتفقوا أن في كل مائتي درهم خمسة دراهم، ما لم يكن حلي امرأة أو ~~حلية سيف أو منطقة أو مصحفا أو خاتما. # قلت: النزاع في كل حلي مباح أو حلي الخوذة والران، وحمائل السيف كالمنطقة ~~في مذهب أحمد وغيره. والذهب اليسير المتصل بالثوب كالطراز الذي لا يتجاوز ~~أربعة أصابع مباح في إحدى الروايتين عنه، وحلية السلاح كله كحلية السيف في ~~إحدى الروايتين عنه. # وللعلماء نزاع في غير ذلك من الحلية. # قال: واتفقوا على أن وقت الوقوف ليس قبل الظهر في التاسع من ذي الحجة. # قلت: أحد القولين -بل أشهرهما- في مذهب أحمد أنه يجزئ الوقوف قبل الزوال ~~وإن أفاض قبل الزوال، لكن عليه دم، كما لو أفاض قبل الغروب. # وقال بعد أن ذكر من محظورات الإحرام اللباس والطيب والتغطية: واتفقوا أنه ~~من فعل من كل ما ذكرنا أنه يجتنبه في إحرامه شيئا عامدا أو ناسيا أنه لا ~~يبطل حجه ولا إحرامه. واتفقوا أن من جادل في الحج فإن حجه لا يبطل ولا ~~إحرامه. واختلفوا فيمن قتل صيدا متعمدا، فقال مجاهد: بطل حجه وعليه الهدي. # قلت: وقد اختار في كتابه (1) ضد هذا، وأنكر على من ادعى هذا الإجماع الذي ~~حكاه هنا، فقال: الجدال بالباطل وفي الباطل عمدا PageV03P330 # ذاكرا لإحرامه مبطل لإحرامه والحج، بقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا ~~جدال في الحج) (1) . وقال: كل نسوق تعمده المحرم ذاكرا فقد أبطل إحرامه ~~وحجه وعمرته، لقوله تعالى:: (فلا رفث ولا فسوق) . # قال: ومن عجائب الدنيا أن الآية وردت كما تلونا، فأبطلوا الحج بالرفث ولم ~~يبطلوه بالفسوق. وقال: كل من تعمد معصية أي معصية كانت، وهو ذاكر لحجه منذ ~~يحرم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ورمي جمرة العقبة، فقد ms0541 بطل حجه. قال: ~~وأعجب شيء دعواهم الإجماع على هذا. # قلت: الإجماع فيه أظهر منه في كثير مما ذكره في كتابه. # قال: واتفقوا أن كل صدقة واجبة في الحج أو إطعام، أنه إن أداه بمكة ~~أجزأه، واختلفوا فيمن أدى ذلك في غير مكة، حاشا جزاء الصيد، فإنهم اتفقوا ~~أنه لا يجزئ إلا بمكة. # قلت: مذهب أبي حنيفة ومالك أنه يجزئ الإطعام في جزاء الصيد في غير مكة. ~~وكذلك عندهما تفرقة اللحم تجزئ في غير الحرم، وإنما الواجب في الحرم عندهما ~~إراقة الدم، بخلاف الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فإنهم أوجبوا ذبحه في الحرم، ~~وأوجبوا تفرقته في الحرم. وكذلك الصدقة تقوم مقام ذلك. # قال: واتفقوا أن من يوم النحر -وهو العاشر من ذي الحجة- إلى انسلاخ ذي ~~الحجة وقت لطواف الإفاضة ولما بقي من سنن الحج. قلت: إن أخره عن أيام منى ~~جاز في مذهب الشافعي وأحمد PageV03P331 # والليث والأوزاعي وأبي يوسف وغيرهم، وهكذا نقل عن مالك. # وقال أبو حنيفة وزفر والثوري في رواية: إن أخره إلى ثالث أيام التشريق ~~لزمه دم -وهو قول مخرج في مذهب أحمد- وإن أخره إلى المحرم فلا شيء عليه إلا ~~عند مالك، فإنه عليه دم. ولفظ المدونة: إذا جاوز أيام منى وتطاول ذلك لزمه، ~~ولم يوقت فيه. وأما رمي الجمار فلا يجوز بعد أيام التشريق، لا نزاع نعلمه، ~~بل على من تركها دم، ولا يجزئ رميها بعد ذلك. # قال: واتفقوا على أن إيجاب الهدي فرض على المحصر. # قلت: قد نقل غير واحد عن مالك أنه لا يجب الهدي على المحصر، وهو المشهور ~~من مذهب مالك. # قال: واتفقوا على أن من حلف لخصمه دون أن يحلفه حاكم أو من حكماه على ~~أنفسهما، أنه لا يبرأ بتلك اليمين من الطلب. # قلت: قد نص أحمد على أنه إذا رضي بيمين خصمه فحلف له، لم يكن له مطالبته ~~باليمين بعد ذلك. # قال: وأجمعوا على أن كل من لزمه حق في ماله أو ذمته لأحد، فرض عليه أداء ~~الحق إلى من هو له ms0542 عليه، إذا أمكنه ذلك وبقي له بعد ذلك ما يعيش به أياما ~~هو ومن تلزمه نفقته. # قلت: مذهب أحمد أنه يترك له من ماله ما تدعو إليه الحاجة من مسكن وخادم ~~وثياب، وكذلك قال إسحاق. وظاهر مذهب أحمد أيضا أنه إذا لم تكن له صنعة يترك ~~له ما يتجر به لقوته وقوت عياله، وإن كان ذا حرفة ترك له آلة حرفته. وقد ~~نقل عنه عبد الله ابنه أنه قال: يباع عليه كل شيء إلا المسكن وما يواريه من ~~ثيابه والخادم، إن كان # PageV03P332 # شيخا كبيرا أو زمنا وبه حاجة إليه. فلم يستثن ما يكتسب به لقول الأكثرين. # قال: وأجمعوا أن المملوكة لا يجبر سيدها على إنكاحها، ولا على أن يطأها ~~وإن طلبت هي ذلك، ولا على بيعها من أجل منعه لها الوطء والإنكاح. # قلت: مذهب أحمد المنصوص المعروف من مذهبه أن الأمة إذا طلبت الإنكاح فإن ~~سيدها يستمتع بها، وإلا لزمه إجابتها، وكذلك إذا كانت ممن لا تحل له، وكذلك ~~مذهبه في العبد. ومذهب الشافعي -إذا كانت ممن لا تحل له فهل يلزمه إجابتها- ~~على وجهين. # قال: واتفقوا أن التعريض للمرأة وهي في العدة حلال، إذا كانت العدة في ~~غير رجعية أو كانت من وفاة. # قلت: في المعتدة البائنة بالثلاث أو بما دون الثلاث كالمختلعة ثلاثة أوجه ~~في مذهب أحمد، وقولان للشافعي، أحدها: يجوز التعريض بخطبتها، وهو قول مالك ~~وأحد قولي الشافعي. والثاني: لا يجوز، والثالث: يجوز في المعتدة بالثلاث، ~~لأنها محرمة على زوجها، وكذلك كل محرمة، ولا يجوز في المعتدة بما دون ذلك، ~~لإمكان عودها إليه، وهو أحد قولي الشافعي. # قال: واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفة واقع إن وافق وقت طلاق، ثم ~~اختلفوا في وقت وقوعه، فمن قائل الآن، ومن قائل هو إلى أجله. واتفقوا أنه ~~إذا كان ذلك الأجل في وقت طلاق أن الطلاق قد وقع. # قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرج مخرج اليمين أيلزم أم لا؟ # PageV03P333 # قال: واتفقوا على أن ألفاظ الطلاق: "طلاق" وما تصرف من ms0543 هجائه مما يفهم ~~معناه، والبائن والبتة والخلية والبرية، وأنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ ~~طلقة واحدة سنية لزمته كما قدمنا. # قال: ولا نعلم خلافا في أن من طلق ولم يشهد أن الطلاق لازم، ولكنا لسنا ~~نقطع على أنه إجماع. # قلت: فقد ذكر فيما إذا كان قصده الحلف بالطلاق أيلزم أم لا؟ قولين (1) ، ~~وذكر أن المؤجل والمعلق بصفة -يعني إذا لم يكن في معنى اليمين- أنه يقع ~~بالاتفاق. # وقد اختار في كتابه الكبير في الفقه "شرح المجلى" (2) خلاف هذا، وأنكر ~~على من ادعى الإجماع في ذلك. وكذلك اختار (3) أن الطلاق بالكناية لا يقع، ~~ولا يقع إلا بلفظ الطلاق. وهذان قول الرافضة، وكذلك قولهم: إن الطلاق لا ~~يقع إلا بالإشهاد. وقد أنكر في كتابه من ادعى إجماعا في هذا وهذا وهذا، كما ~~هو عادته في أمثال ذلك، مع أنه قد ذكر هنا فيه الإجماع الذي اشترط فيه ~~الشروط المتقدمة. ومعلوم أن الإجماع على هذا من أظهر ما يدعى فيه الإجماع، ~~لكن هو في غير موضع يخالف ما هو إجماع عند عامة العلماء، وينكر أنه إجماع، ~~كدعواه وجوب الضجعة بعد ركعتي الفجر، وبطلان صلاة من لم يركعهما (4) ، ~~ودعواه وجوب الدعاء في التشهد PageV03P334 # الأول (1) بقوله "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن ~~فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" (2) . # ونحو ذلك مما يعلم فيه الإجماع أظهر مما يعلم في أكثر ما حكاه. بل إذا ~~قال القائل: إن الأمة أجمعت أن الدعاء لا يشرع في التشهد الأول، كان هذا من ~~الإجماعات المقبولة، فضلا عن أن يقول أحد: إن هذا الدعاء واجب فيه، وإن ~~صلاة من لم يدع فيه باطلة. وإنما النزاع في وجوبه في التشهد الذي يسلم فيه، ~~وكان طاووس يأمر من لم يدع بالإعادة، وذكر ذلك وجه في مذهب أحمد. # قال: واتفقوا أن عدة الحرة المسلمة المطلقة التي ليست حاملا ولا مستريبة، ~~وهي لم تحض أو لا تحيض، إلا أن البلوغ متوهم منها= ثلاثة أشهر متصلة. # قلت: من بلغت ms0544 من سن المحيض ولم تحض، ففيها عن أحمد روايتان، أشهرهما عند ~~أصحابه أنها تعتد عدة المستريبة تسعة أشهر، ثم ثلاثة أشهر، كالتي ارتفع ~~حيضها لا تدري ما رفعه. # قال: واتفقوا على أن استقراض ما عدا الحيوان جائز، واختلفوا في جواز ~~استقراض الرقيق والجواري والحيوان. # قلت: الاتفاق إنما هو في قرض المثليات المكيل والموزون، وأما ما سوى ذلك ~~فأبو حنيفة لا يجوز قرضه، لأن موجب القرض المثل، ولا مثل له عنده، فالنزاع ~~فيه كالنزاع في الحيوان. PageV03P335 # قال: واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز، وأن الوصية بالبر وبما ليس ببر ~~ولا معصية ولا تضييعا للمال جائزة. # قلت: الوصية بما ليس ببر ولا معصية، والوقف على ذلك، فيه قولان في مذهب ~~أحمد وغيره، والصحيح أن ذلك لا يصح، فإن الإنسان لا ينتفع ببذل المال بعد ~~الموت إلا أن يصرفه إلى طاعة الله، وإلا فبذله بما ليس بطاعة ولا معصية لا ~~ينفعه بعد الموت، بخلاف صرفه في الحياة في المباحات كالأكل والشرب واللباس، ~~فإنه ينتفع بذلك. # وقال في الجزية: واتفقوا على أنه إن أعطى -يعني من يقبل منه الجزية عن ~~نفسه وحدها- أربعة مثاقيل ذهب في كل عام، على أن يلتزموا ما ذكره من شروط ~~الذمة، فقد حرم دم من وفى بذلك وماله وأهله وظلمه. # قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد ~~على أربعة دنانير؟ [قولان] ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مذهب عطاء ~~والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم. # قال: واتفقوا أنه لا ينفل من ساق مغنما أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر ~~من ثلثه في الخروج. # قلت: في جواز تنفيل ما زاد على ذلك إذا اشترطه الإمام، مثل أن يقول: من ~~فعل كذا فله نصف ما يغنم، قولان هما روايتان عن أحمد. وأما تنفيل الزيادة ~~بلا شرط فلا أعلم فيه نزاعا، ويمكن أن يحمل كلام أبي محمد ابن حزم على هذا، ~~فلا يكون فيما ذكره نزاع. # قال: واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس ms0545 بسكران، إذا أمن # PageV03P336 # أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا أو على ~~الجلاء، أو أمن سائر الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك ~~بلادهم، واللحاق بأرض حرب أخرى، لا بأرض ذمة ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم ~~لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين حيث كانوا. # قلت: ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه. ~~وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصح من كل مسلم ~~كما ذكره ابن حزم. # قال: واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسل منهم، فإن الحكم الذي عقده ~~أجدادهم -وإن بعدوا- جار على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم. # قلت: هذا هو قول الجمهور، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما يستأنف له ~~العقد، وهذا منصوص الشافعي، والثاني لا يحتاج إلى استئناف عقد، كقول ~~الجمهور. # قال: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع ~~الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكان واحد. # قلت: النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام ~~والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم جواز ذلك، وأن عليا كان إماما ومعاوية كان ~~إماما. وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلا منهما ينفذ حكمه في أهل ولايته ~~كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء فهذا لا يفعل مع ~~اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كل من الطائفتين لإمامين، ولكن كل ~~طائفة إما أن تسالم # PageV03P337 # الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالمة خير من محاربة يزيد ضررها على ضرر ~~المسألة. وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء. # قال: واتفقوا أنه إذا كان الإمام من ولد علي، وكان عدلا، ولم يتقدم بيعته ~~بيعة أخرى لإنسان حي، وقام عليه من دونه، أن قتال الآخر واجب. # قلت: ليس للأئمة في هذه بعينها كلام ينقل عنهم، ولا وقع هذا في الإسلام، ~~إلا أن يكون في قصة علي ومعاوية. ومعلوم أن أكثر علماء الصحابة لم يروا ~~القتال مع ms0546 واحد منهما، وهو قول جمهور أهل السنة والحديث، وجمهور أهل ~~المدينة والبصرة، وكثير من أهل الشام ومصر والكوفة وغيرهم من السلف والخلف. # وقد قال: إنما أدخلنا هذا الاتفاق على جوازه لخلاف الزيدية، هل تجوز ~~إمامة غير علوي أم لا؟ وإن كنا مخطئين لهم في ذلك ومعتقدين صحة بطلان هذا ~~القول، وأن الإمامة لا تتعدى فهر بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم، ~~ولكن لم يكن بذ في صفة الإجماع الجاري عند الكل مما ذكرنا. # قلت: قد ذكر هو أنه لا يذكر إلا خلاف أهل الفقه والحديث دون المعتزلة ~~والخوارج والرافضة ونحوهم. فلا معنى لإدخال الزيدية في الخلاف وفتح هذا ~~الباب، فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) نزاعا في ذلك، وأن طائفة ادعت ~~النص على العباس، وطائفة ادعت النص على عمر. # قال: واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر. ~~PageV03P338 # قلت: في ذلك نزاع مشهور بين الفقهاء. # قال: واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع، ~~أنه لا يؤكل. # قلت: هذا فيه نزاع معروف، فمذهب طائفة أنه يلقى ما قرب منها ويؤكل، سواء ~~كان جامدا أو مائعا. قال البخاري في صحيحه (1) : باب إذا وقعت الفأرة في ~~السمن الجامد أو الذائب. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني ~~عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة ~~وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: "ألقوها ~~وما حولها، وكلوه". قيل لسفيان: فإن معمرا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن ~~المسيب عن أبي هريرة، قال: سمعت الزهري يقوله عن عبيد الله عن ابن عباس عن ~~ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعته منه مرارا. # حدثنا عبدان (2) حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك- عن يونس عن الزهري: ~~عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها. ~~قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ms0547 بفأرة ماتت في سمن، ~~فأمر بما قرب فطرح، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. ثم رواه من ~~طريق مالك كما رواه من طريق ابن عيينة. # وهذا الحديث رواه عن الزهري كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه. # وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب عن أبي ~~هريرة، وقال فيه: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن PageV03P339 # كان مائعا فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعا فاستصحبوا به". واضطرب ~~عن معمر فيه. # وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن ثبته محمد بن ~~يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري. # وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعللوا حديث معمر وبينوا غلطه، والصواب ~~معهم (1) . فذكر البخاري هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعته من الزهري مرارا ~~لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله "ألقوها وما ~~حولها وكلوا"، وكذلك رواه مالك وغيره. وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن ~~الدابة تموت في السمن الجامد وغير الجامد، فأفتى بأن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزهري في ~~الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث استواء حكم النوعين ~~بالحديث، ورواه بالمعنى فقال: "وأمر أن يطرح وما قرب منها"؟. # وروى صالح بن أحمد في "مسائله" (2) عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل ~~حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن فارة ماتت في سمن، ~~قال: تؤخذ الفأرة وما حولها. # قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كله، قال: عضضت بهن أبيك! إنما ~~كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت. # ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء ~~رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جر فيه زيت وقع PageV03P340 # فيه جرو، فقال: خذه وما حوله، فالقه وكله. # وروي نحو ذلك عن ابن مسعود ms0548 -وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين ~~عن مالك- أن الكثير من الطعام والشراب المائع لا ينجسه يسير النجاسة، بل هو ~~كالماء. # قال أبو محمد: واختلفوا في بيعه والانتفاع به، واختلفوا في المائعات وفي ~~السمن الجامد وفي كل شيء جامد. # قال: واتفقوا أن من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها. # واختلفوا أيلزمه لذلك كفارة أم لا؟ واختلفوا في النذر المطلق الذي ليس ~~معلقا بصفة، وفي النذر الخارج مخرج اليمين، أيلزم أم لا؟ وأفيه كفارة أم ~~لا؟ # قال: واتفقوا أن من نذر مالا طاعة فيه ولا معصية أنه لا شيء عليه. # قلت: بل النزاع في نذر المباح هل يلزم فيه كفارة إذا تركه كالنزاع في نذر ~~المعصية وأوكد، وظاهر مذهب أحمد لزوم الكفارة في الجميع، وكذلك مذهب أكثر ~~السلف، وهو قول أبي حنيفة وغيره، لكن قيل عنه إذا قصد بالنذر اليمين. # قال: واتفقوا أن إزالة المرء عن نفسه ظلما -بأن يظلم من لم يظلمه قاصدا ~~إلى ذلك- لا يحل، وذلك مثل أن يحل عدو المسلمين بساحة قوم فيقول؟ أعطوني ~~مال فلان، أو أعطوني فلانا، وهو لا حق له عنده بحكم دين الإسلام. أو قال: ~~أعطوني امرأة أو أمة فلان، أو افعلوا كذا لبعض ما لا يحل في دين الإسلام، ~~فإنه لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لا يجاب إلى ذلك، وإن كان في منعه ~~اصطلام الجميع. # PageV03P341 # قلت: دعوى الإجماع في مثل هذا الأمر العام الذي يتناول أنواعا كثيرة ليس ~~مستنده نقلا في هذا عن أهل الإجماع، ولكن هو بحسب ما يعتقده الناقل في أن ~~مثل هذا ظلم محرم لا يبيحه عالم. وفي بعض ما يدخل في هذا نزاع وتفصيل. كما ~~لو تترس الكفار بأسرى المسلمين وخيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه ~~يجوز أن يرموا بقصد الكفار، وإن أفضى إلى قتل هؤلاء المعصومين، لأن فساد ~~ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين. وهذا مذهب الفقهاء ~~المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. ولو لو يخش على ms0549 جيش المسلمين ~~ففي جواز الرمي قولان لهم: أحدهما يجوز، كقول أبي حنيفة وبعض أصحاب ~~الشافعي؟ والثاني لا يجوز، كالمعروف من مذهب أحمد والشافعي. وكذلك لو أكره ~~رجل رجلا على إتلاف مال غيره، وإن لم يتلفه قتله، جاز له إتلافه بشرط ~~الضمان. والعدو المحاصر إذا طلب مال شخص، وإن لم يدفعوه اصطلمهم العدو، ~~فإنهم يدفعون ذلك المال، ويضمنونه لصاحبه. وأمثال ذلك كثيرة. # وقد ذكر -رحمه الله تعالى- إجماعات من هذا الجنس في هذا الكتاب، ولم يكن ~~قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عرف انتقاضها، فإن هذا يزيد على ما ~~ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه لا نعلم فيه نزاعا، ~~وإنما المقصود أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبززه في ذلك على ~~غيره، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في ~~الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في ~~الإجماع. وسبب ذلك دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أن الإجماع ~~الإحاطي هو الحجة لا غيره. فهاتان قضيتان لابد # PageV03P342 # لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع، فمن ادعى الإجماع في الأمور ~~الخفية بمعنى أنه يعلم عدم المنازع فقد قفا ما ليس له به علم. وهؤلاء الذين ~~أنكر عليهم الإمام أحمد. وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع ~~فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه ~~المسائل. # وقد ختم الكتاب بباب من الإجماع في الاعتقادات، فكفر من خالفه، فقال: ~~اتفقوا أن الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل ~~وحده، ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، ~~والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق. # قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء ~~فهذا حق، ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فان القدرية -الذين ~~يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله- أكثر من أن يمكن ms0550 ذكرهم من حين ~~ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ، والمعتزلة كلهم قدرية، ~~وكثير من الشيعة بل عامة الشيعة المتأخرين وكثير من المرجئة والخوارج ~~وطوائف من أهل الحديث والفقه نسبوا إلى ذلك، منهم طائفة من رجال الصحيحين، ~~ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء. بل هو نفسه قد ذكر في أول كتابه أنه لا يكفر ~~هؤلاء. والمنصوص عن مالك والشافعي وأحمد في القدرية أنهم إذا جحدوا العلم ~~كفروا، وإذا لم يجحدوه لم يكفروا. # وأيضا فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) أن الصحابة وأئمة الفتيا لا ~~يكفرون من أخطأ في مسألة في الاعتقاد ولا فتيا. وإن كان PageV03P343 # أراد بقوله أتى المسلمون على هذا فهذا أبلغ. ومعلوم أن مثل هذا النقل ~~للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن ~~الله خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة، حكى الإجماع على هذا، ~~ثم اعتقد أن من خالف الإجماع كفر بإجماع. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية ~~على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاع في كل منهما. # وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا ~~شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء. ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب ~~الله ولا تنسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل الذي في الصحيح ~~(1) عنه حديث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان الله ~~ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات ~~والأرض"، وفي لفظ: "ثم خلق السماوات والأرض". وروي هذا الحديث في البخاري ~~بثلاثة ألفاظ (2) : روي "كان الله ولا شيء قبله"، وروي "ولا شيء غيره"، ~~وروي "ولا شيء معه" (3) ، والقصة واحدة، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - إنما قال واحدا من هذه الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى. وحينئذ ~~فالذي يناسب لفظ ما ثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح (4) أنه كان يقول في ~~دعائه: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر ms0551 فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر ~~فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء". فقوله PageV03P344 # في هذا "أنت الأول فليس قبلك شيء" يناسب قوله "كان الله ولا شيء قبله". ~~وقد بسط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع (1) . # والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات. # فهذا اللفظ ليس في كتاب الله، وهذا الحديث لو كان نصا فيما ذكر فليس هو ~~متواترا، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاع كثير، فكيف ومقصود الحديث غير ~~ما ذكر. ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فكيف ~~يدعى فيها الإجماع ويدعى الإجماع على كفر من خالف ذلك؟ ولكن الإجماع ~~المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بينه في القرآن، وهو أن خلق السماوات ~~والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع ~~(2) . فإذا ادعى المدعي الإجماع على هذا وتكفير من خالف هذا كان قوله ~~متوجها. وليس في خبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ~~ما ينفي وجود مخلوق قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادة كانت قبلهما، كما ~~أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجن، وإنما خلق الإنسان من مادة وهي ~~الصلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة ~~وإجماع السلف الذي لا يعلم فيه نزاع أن الله لما خلق السماوات والأرض وما ~~بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء قبل ذلك، فكان العرش موجودا قبل ~~ذلك، وكان الماء موجودا قبل ذلك. PageV03P345 # وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض ~~بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء". # وقد أخبر سبحانه أنه استوى إلى السماء الدنيا وهي دخان، فقال لها وللأرض: ~~(ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)) (2) . # وثبت عن غير واحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين أنه خلق ~~السماء من ms0552 بخار الماء. ونحو ذلك من النقول التي يصدقها ما يخبر به أهل ~~الكتاب عن التوراة وما عندهم من العلم الموروث عن الأنبياء. وشهادة أهل ~~الكتاب الموافقة لما في القرآن أو السنة مقبولة، كما في قوله تعالى: (قل ~~كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43)) (3) . ونظائر ذلك ~~في القرآن. # وهذا الموضع أخطأ فيه طائفتان: # طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم ظنوا أن إخبار الله ~~بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضي أنهما لم يخلقا من شيء، بل لم يكن ~~قبلهما موجود إلا الله. ومعلوم أن خبر الله مخالف لذلك، والله قد أخبر أنه ~~خلق الإنسان والجان من مادة ذكرها. والذين يثبتون الجوهر الفرد من هؤلاء ~~وغيرهم يعتقدون أن خلق الإنسان وغيره مما يخلقه في هذا العالم ليس هو خلقا ~~لجوهر قائم بنفسه، بل هو إحداث أعراض يحول بها الجواهر المنفردة من ~~PageV03P346 # حال إلى حال. وهذا مخالف للشرع والعقل، كما قد بسط في موضعه، فإن هؤلاء ~~يقولون: إنا لم نشهد خلق عين من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهر المنفردة، ~~ثم الخلق بعد ذلك إنما هو إحداث أعراض قائمة بها. # وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء، يتأولون خلق السماوات والأرض ~~بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول ~~للرب، وأنه يوجب بذاته لم يزل ولا يزال. وقولهم بالإيجاب هو معنى القول ~~بالتولد، فإن ما حصل عن غيره بغير اختيار منه فقد تولد عنه، لاسيما إن كان ~~حيا. وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك وأنه لم يزل ولا يزال. # فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفر من قال ~~بقولهم، كان قولا متوجها، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر ~~بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادعى أن الصانع لم ~~يزل معطلا، والفعل والكلام عليه ممتنعا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من ~~الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الرب قادرا على الفعل أو الفعل ~~والكلام بعد أن ms0553 لم يكن قادرا على ذلك. فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور ~~العقلاء معلومة الفساد بالعقل مع فسادها في الشرع، ومعلوم عند من له معرفة ~~بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط. ولكن ~~ظن من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلوا على ذلك بالكلام ~~الذي أنكره السلف والأئمة عليهم من أن مالا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان ~~الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل الذي خالفوا فيه الشرع ~~والعقل. # PageV03P347 # وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع (1) ، وذكر منشأ غلط الطائفتين ~~حيث لم يفرقوا بين النوع والعين، وذكر قول السلف والأئمة: إن الله لم يزل ~~متكلما إذا شاء، وإنه لا نهاية لكلمات الله، وإن وجود مالا نهاية له من ~~كلمات الله في الماضي، كما ثبت في المستقبل وجود مالا نهاية له أيضا، وإن ~~كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك ~~ممتنع عقلا باطل شرعا؛ فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء. والقول بأن الخالق ~~علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطل عقلا وشرعا، وموجبة أنه يمتنع ضرورة ~~وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن ~~يمتنع مقارنة معلولها بها، بل قد بين أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة ~~مستلزمة للمفعول باطل، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء. لكن فرق بين حدوث ~~الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء. # وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل: ~~هو موجب بالذات، فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه= فهذا لا ~~ينافي فعله بمشيئته وقدرته؛ وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن ~~سينا ونحوه من أن ذاتا مجردة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور ~~المختلفة الحادثة= فهذا من أفسد الأقوال عقلا وسمعا، فإن إثبات ذات مجردة ~~عن الصفات أو إثبات وجود مجرد عن جميع القيود أو ms0554 مقيد بالسلوب لا يختص بأمر ~~وجودي مما لا يمكن تحققه في الخارج، وإنما يقدره الذهن كما يقدر سائر ~~PageV03P348 # الممتنعات. ودعوى أن الصفة هي الموصوف، وأن إحدى الصفتين هي الأخرى كما ~~يقوله هؤلاء المتفلسفة: إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد، واللذة ~~واللذيذ والملتذ شيء واحد، وأن العلم والقدرة والإرادة شيء واحد، والقدرة ~~هي القادر، والعلم هو العالم، ونحو ذلك من أقوالهم التي قد بسط الكلام على ~~فسادها وتناقضها في غير هذا الموضع= هي دعاو باطلة. # والمقصود هنا الإشارة إلى ما قد يتوهمه بعض الناس من الإجماع لنوع من ~~الاشتباه، فيظن أمورا داخلة في الإجماع ولا تكون كذلك، كما يظن أمورا خارجة ~~عنه ولا تكون كذلك، كما يصيب بعض الناس فيما يدخلونه في نصوص الكتاب والسنة ~~وفيما يخرجونه، ولهذا يذكر هؤلاء أمورا مختلفة فيها، وإذا نظر إلى مستندهم ~~في الخلاف وجد فيه من الخطأ أمور أخرى كذلك، إما نقل ضعيف، وإما لفظ مجمل، ~~وإما غير ذلك مما قد يقع الغلط في صحته تارة وفي فهمه تارة، كما يقع مثل ~~ذلك فيما ينقلونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلط، ويكون قد نشأ ~~من الإسناد تارة ومن فهم المتن تارة. والله سبحانه أعلم. # PageV03P349 ### | رسالة في بيان الصلاة وما تألفت منه # PageV03P351 # فصل # قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: # اعلم أن ### | الصلاة مؤلفة من أقوال وأفعال، # ف ### | أعظم أقوالها القرآن، # وأعظم أفعالها الركوع والسجود. # وأول ما أنزله الله من القرآن (اقرأ باسم ربك الذي خلق (19)) (1) ، ~~وختمها بقوله (واسجد واقترب (1)) (2) ، # فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، وكل منهما يكون عبادة ~~مستقلة، فالقراءة في نفسها عبادة مطلقا إلا في مواضع، والسجود عبادة بسبب ~~السهو والتلاوة وسجود الشكر وعند الآيات على قول. # فالتلاوة الخاصة سبب السجود. # وقد ذكر الله الركوع والسجود في مواضع، فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا ~~اركعوا واسجدوا) (3) ، فهذا أمر بهما. وقال تعالى: # (تراهم ركعا سجدا) (4) ، فهذا ثناء عليهم بهما، وإن كان ذكرهما منتظما ~~لبقية أفعال الصلاة، كما في القراءة والقيام ms0555 والتسبيح والسجود المجرد، وهو ~~من باب التعبير بالبعض عن الجميع، وهو دليل على وجوبه فيه. وقال تعالى لبني ~~إسرائيل: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43)) (5) ، ~~فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويشبه -والله أعلم- أن ~~يكون فيه معنيان: PageV03P353 # أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم، فأمرهم بالركوع، إذ كانوا لا يفهمون ~~ذلك من نفس الصلاة. # الثاني: أن قوله (مع الراكعين (43)) أمر بصلاة الجماعة، ودل بذلك على ~~وجوبها، وأمر بالركوع معهم لأنه بالركوع يكون مدركا للركعة، فإذا ركع معهم ~~فقد فعل بقية الأفعال معهم، وما قبل الركوع من القيام لا يجب فعله معهم، ~~فما بعده لازم. بخلاف مالو قال "قوموا" أو "اسجدوا" لم يدل على ذلك. # وقال لمريم: (اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)) (1) قد يكون ~~أمرا لها بصلاة الجماعة -وإن كانت امرأة- لأنها كانت محررة منذورة لله ~~عاكفة في المسجد. وقال تعالى: (وخر راكعا وأناب) (2) ، قد قيل: إنه السجود. ~~وقال تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون (48)) (3) . # وذكر السجود والقيام في قوله: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) (4) ، ~~وفي قوله: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما (64)) (5) . # وذكر السجود في قوله: (واسجد واقترب (19)) (6) ، وفي قوله: (يوم يكشف عن ~~ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد ~~كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون (43)) (7) ، وقوله: (وقلنا لهم ادخلوا ~~الباب PageV03P354 # سجدا) (1) ، وقوله: (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98)) (2) ، وقوله: ~~(فسبحه وأدبار السجود (40)) (3) ، وقوله: (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم) ~~(4) .. # وآيات سجود التلاوة كقوله تعالى: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن ~~عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)) (5) ، وقوله: (ولله يسجد من في السماوات ~~والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال (15)) (6) ، وقوله: (ولله يسجد ~~ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49) ~~يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50)) (7) ، وقوله: (إن الذين ~~أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107)) (8) الآية، ~~وقوله: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)) (9) ، وقوله ~~تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من ms0556 في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ~~والنجوم والجبال والشجر والدواب) (10) الآية، وقوله: (اركعوا واسجدوا) (11) ~~، وقوله: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا ~~وزادهم PageV03P355 # نفورا (60)) (1) ، وقوله: (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات ~~والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25)) (2) ، وقوله: (إنما يؤمن بآياتنا ~~الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) (3) ، ~~وقوله: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن) (4) الآية. ~~وقوله: (فاسجدوا لله واعبدوا (62)) (5) ، وقوله: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا ~~يسجدون (21)) (6) ، وقوله: (واسجد واقترب (19)) (7) . # فآية الأعراف والرعد والنحل والحج فيها الخبر عن سجود المخلوقات، لكن في ~~الأعراف سجود الملائكة، وفي الرعد سجود المخلوقات طوعا وكرها، وفي النحل ~~المخلوقات والملائكة، وفي الحج سجود المخلوقات الطوعية، ولهذا لم يعم بني ~~آدم. وسجود الكائنات مطلقا ليس بمقيد بركوع، فشرع السجود عند ذكره، لأن ~~المؤمن داخل في ذلك أو متشبه بصاحبه. وقوله (إن الذين أوتوا العلم من قبله) ~~(8) الآية وقوله (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن) (9) خبر عن سجود بسبب ~~التلاوة، فأمر بالسجود عند التلاوة. ونظيره (وإذا قرئ عليهم القرآن لا ~~يسجدون (21)) (10) ، وقوله PageV03P356 # (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) (1) ، وقوله (ومن آياته الليل ~~والنهار والشمس والقمر) (2) نهي عن السجود لغير الله مطلقا وأمر بالسجود ~~له، فشرع السجود المقابل للمنهي عنه. وقوله (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن ~~قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا (60)) (3) ، فأخبر عن ~~امتناع الكافر عن السجود مطلقا، فيشرع السجود المقابل له، وهو مطلق السجود ~~هناك في مقابلة المعبود الباطل، وهنا في مقابلة الكافر الممتنع عن الحق. # وأما قوله (اركعوا واسجدوا) (4) فلا ريب أن هذا أمر بسجود الصلاة، فلذلك ~~جرى فيه النزاع، فقيل: هو أمر به، كما في قوله (اقنتي لربك واسجدي واركعي) ~~(5) ، وقيل: هذا لا يمنع أن يكون أمرا به وبالسجود عنه بسماعه. وقوله ~~(فاسجدوا لله واعبدوا (62)) (6) وقوله (واسجد واقترب (19)) (7) ، وذلك سجود ~~الصلاة، فقيل: هو مختص به، وقيل: ذلك لا يمنع أن يكون سببا، كما أن آيات ~~التلاوة والسجود ms0557 تتضمن السجود في الصلاة عقب سماع القرآن. # فصل # ولما كثر ذكر السجود في القرآن، تارة أمرا به، وتارة ذما لمن PageV03P357 # يتركه، وتارة ثناء على فاعله، وتارة إخبارا عن سجود عظماء الخليقة ~~وعمومهم، كان ذلك دليلا على فضيلة السجود. وهذا ظاهر، فإن السجود فيه غاية ~~الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها، حتى إن مواضع ~~الصلاة سميت به، فقيل "مسجد"، ولم يقل "مقام" ولا "مركع"، لوجهين: # أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر. # والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد ~~يسجد على سبعة أعضاء، وإنما يقوم على رجلين. وأما الركوع فسيان نسبة الأرض ~~إليه وإلى القيام، فلهذا قيل "مسجد"، وهو موضع السجود دون موضع الركوع. ~~والركوع نصف سجود، والسجود شرع مثنى مثنى، في كل ركعة سجدتان، ولم يشرع من ~~الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جعل أيضا مثنى، وهو سجدتا السهو. ~~وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسميهما "المرغمتين"، وقال في الشك: "إن ~~كانت صلاته وترا شفعتا له صلاته، وإن كانت تامة كانتا ترغيما للشيطان" (1) ~~. فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة، لأن الركن الأعظم من كل ركعة ~~هما السجدتان. # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله ~~بها درجة، وحط عنك بها خطيئة" (2) . وقال: "أعني على نفسك بكثرة السجود" ~~(3) . وقال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (4) . PageV03P358 # ولما كانت الصلاة مثنى مثنى جعل في كل ركعة السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين ~~معقودتان بركعة، فتصير وترا، سجدتان وركوع، والركوع مقدمة أمامهما كتقدمة ~~الوقوف على طواف الزيارة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:إ إذا ~~أدركتمونا ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك" ~~(1) ، كما قال: "الحج عرفة" (2) ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج، ومن فاته ~~التعريف فإنه يفعل الطواف والسعي ولكن لا يكون مدركا للحج، لكن يكون متحللا ~~بعمرة أو عمل عمرة. # ولهذا قيل: (واركعوا مع الراكعين (43)) (3) ، ف ### | الركوع مع السجود تقدمة وتوطئة وباب إليه ms0558، # وهو مشترك بين القيام والسجود وبرزخ بينهما، فالقيام قيام القراءة قبله، ~~وأما القيام بعده فهو -والله أعلم- لأجل السجود بعده، ليكون السجود عن ~~قيام، وهو السجود الكامل، فالرفع منه تكميل للركوع، والخفض من القيام تكميل ~~للسجود. ولهذا هو ركن تام كما جاءت به السنة، وليس معادلته لبقية الأركان ~~-كما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "لا يقبل الله صلاة من ~~لا يقيم صلبه في الركوع والسجود" (4) - لعدم تكميلها، فإنه أيضا إذا لم يقم ~~صلبه بين السجدتين لا يكون قد أكمل الأولى برفعها ولا الثانية بخفضها. # فالسجود إذا شرع في الانحناء وهو قاعد، أما إذا كان وجهه قريبا من ~~PageV03P359 # الأرض وألصقه فليس هذا بسجود. # ومن هنا غلط من غلط وقال: إن الاعتدالين ليسا بركنين طويلين، لما ظنوا أن ~~المقصود مجرد الفضل، والصواب ما جاءت به السنة إيجابا للاعتدال واستحبابا ~~لإتمامه وتسويته بسائر الأركان، لأن هذا القيام والقعود وإن كانا تابعا (1) ~~من بعض الوجوه فالقعود في آخر الصلاة أيضا تابع من بعض الوجوه للسجود، ~~وإنما المقصود المحض: القيام المشتمل على القراءة المقصودة، والسجود الذي ~~هو غاية الخضوع، كما قال: (ساجدا وقائما) (2) . فإذا كان بعض أركان الصلاة ~~الفعلية أفضل من بعض وأبلغ في كونه مقصودا لم يمنع إيجاب التابع المفضول، ~~كالركعتين الأخريين مع الأوليين، وكإيجاب الطمأنينة. # وحرف المسألة أن إتمام الأركان فرض، ولا يتم إلا بذلك، وإتمام الصلاة من ~~إقامتها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، فإن قوله في الخوف والسفر (أن ~~تقصروا من الصلاة) (3) -فالخوف يبيح قصر الأفعال والسفر قصر الأعداد- دليل ~~على وجوب الإتمام في الأمن والطمأنينة في الطمأنينة، لقوله تعالى (فإذا ~~اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (4) ، وإتمامها من إقامتها كما جاءت به السنة، ~~حيث قال للمسيىء في صلاته: "ارجع فصل، فإنك لم تصل"، وقال: "فإذا فعلت هذا ~~فقد تمت صلاتك" (5) ، فجعل من لم يتمها لم يصل. والله سبحانه أعلم. ~~PageV03P360 ### | فتوى في أمر الكنائس # PageV03P361 # ورد على شيخنا استفتاء في أمر الكنائس صورته: # ما يقول السادة العلماء -وفقهم الله- في إقليم توافق ms0559 أهل الفتوى في هذا ~~الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوة من غير صلح ولا أمان، فهل ملك المسلمون ~~ذلك الإقليم المذكور بذلك؟ # وهل يكون الملك شاملا لما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع ~~والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ~~ذلك، أو يختص الملك بما عدا متعبدات أهل الشرك؟ # فإن ملك جميع ما فيه فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك من النصارى ~~واليهود -بذلك الإقليم أو غيره- الذمة على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من ~~البيع والكنائس والديورة ونحوها متعبدا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في ~~كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟ # فإن لم يجز -لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه- فهل يكون حكم ~~الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يتصرف فيه الإمام تصرفه في الغنائم أم لا؟ # وإن جاز للإمام أن يعقد الذمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها فهل يملك من عقدت ~~له الذمة بهذا العقد رقاب البيع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك ~~المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا؟ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع. # وإذا لم يملكوا ذلك وبقوا على الانتفاع بذلك، وانتقض عهدهم # PageV03P363 # بسبب يقتضي انتقاضه، إما بموت من وقع عقد الذمة معه ولم يعقبوا، أو ~~أعقبوا، فإن قلنا: إن أولادهم يستأنف معهم عقد الذمة -كما نص عليه الشافعي ~~فيما حكاه ابن الصباغ، وصححه العراقيون، واختاره ابن أبي عصرون في ~~"المرشد"- فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقد لكم الذمة إلا بشرط أن لا ~~تدخلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جهل ~~مستحقوها وأيس من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد ~~الذمة، بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس ~~والديورة التي تحقق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك ~~عند التردد في أن ذلك كان موجودا عند الفتح، أو حدث بعد الفتح، أو يجب عليه ~~مطلقا فيما تحقق أنه كان موجودا قبل ms0560 الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة ~~الشك فهل يكون ما وقع الشك في أنه كان قبل الفتح، وجهل الحال فيمن أحدثه ~~لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟ # وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عقدت معهم الذمة -وإن سلفوا- ومن غيرهم ~~لا يحتاجون أن تعقد لهم الذمة، بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقق أنه من ~~أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقد ~~وذمة؟ # وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ، فهل تحتاج [كنائسهم] ~~وبيعهم إليه أم لا؟ # فأجاب: # الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، وكعامة أرض الشام وبعض مدنها، وكسواد العراق إلا # PageV03P364 # مواضع قليلة فتحت صلحا، وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فتحت عنوة على خلافة ~~أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد روي في أرض مصر أنها فتحت ~~صلحا، وروي أنها فتحت عنوة، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء ~~المتأملون للروايات الصحيحة في هذا الباب (1) ، فإنها فتحت أولا صلحا، ثم ~~نقض أهلها العهد، فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ~~يستمده، فأمده بجيش كثير فيهم الزبير بن العوام، ففتحها المسلمون الفتح ~~الثاني عنوة. # ولهذا روي من وجوه كثيرة (2) أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ~~أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلال قسم الشام (3) ، فشاور الصحابة في ذلك، ~~فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئا للمسلمين ~~ينتفع بفائدتها أول المسلمين وآخرهم. ثم وافق عمر على ذلك بعض من كان ~~خالفه، ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك. # فما فتحه المسلمون عنوة فقد ملكهم الله إياه كما ملكهم ما استولوا عليه ~~من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخل في العقار معابد الكفار ~~ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر ~~أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها ~~عن ms0561 ملك المسلمين، فإن ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما ~~أن يكون مبدلا أو محدثا لم PageV03P365 # يشرعه الله قط، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعه. # [و] قد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله لله، ~~وتكون كلمة الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق ~~الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويعطوا الجزية عن ~~يد وهم صاغرون. # ولهذا لما استولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أرض من حاربه من ~~أهل الكتاب وغيرهم -كبني قينقاع والنضير وقريظة- كانت معابدهم مما استولى ~~عليه المسلمون، ودخلت في قوله (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) (1) ، وفي ~~قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم) (2) و (ما أفاء الله على رسوله ~~من أهل القرى) (3) . # لكن وإن ملك المسلمون ذلك فحكم الملك متنوع، كما يختلف حكم الملك في ~~المكاتب والمدبر وأم الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين ~~يؤسرون، وفي النساء والصبيان الذين يسبون، كذلك يختلف حكمه في المملوك نفسه ~~والعقار والأرض والمنقول. وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام ~~مختصة بها لا تقاس بسائر الأموال المشتركة. # ولهذا لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر أقر أهلها ذمة للمسلمين ~~في مساكنهم، وكانت المزارع ملكا للمسلمين عاملهم عليها رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر رضي الله ~~عنه في PageV03P366 # خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقروهم فيه من المساكن والمعابد. # فصل # وأما أنه هل يجوز للإمام عقد الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه ~~خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركها لهم، ~~لأنه إخراج ملك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهد قديم. ومنهم من يقول ~~بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن ~~والمعابد التي كانت بأيديهم ms0562. # فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار، منهم من يوجب ~~إبقاءه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية؛ ومنهم من يخبر الإمام فيه ~~بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في ~~المشهور عنه، وعليه دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قسم نصف ~~خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين. # ومن قال: "يجوز إقرارها بأيديهم" فقوله أوجه وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا ~~الإقرار رقاب المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنهم لا يملكون ما ترك ~~لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرهم فيه ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المساكن والمعابد. # ومجرد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت ~~المال ينتفع بغلته، أو سلم إليه مسجد أو رباط ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا ~~له، بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منهم إذا ~~اقتضت المصلحة ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - # PageV03P367 # من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها. وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد ~~بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق، ~~فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقر ذلك عمر بن عبد العزيز ~~أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم، فإن المسلمين لما ~~أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه، وكانت من كنائس ~~الصلح، لم يكن لهم أخذها قهرا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة ~~التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضا عن كنيسة الصلح التي لم يكن ~~لهم أخذها عنوة. # فصل # و ### | متى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلا عن كنائس العنوة، # كما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان لقريظة والنضير لما نقضوا ~~العهد، فإن ناقض العهد أسوأ حالا من المحارب الأصلي، كما أن ناقض الإيمان ~~بالردة أسوأ حالا من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهل مصر من ms0563 الأمصار، ~~ولم يبق من دخل في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من ~~المعابد وغيرها فيئا. # فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لم يعقد لهم الذمة أن ~~يقرهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد ~~الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه، ~~وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئا للمسلمين. # أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قسم العقار فظاهر. # وأما على قول من يوجب قسمه سمه فلأن عين المستحق غير معروف، # PageV03P368 # كسائر الأموال التي لا يعرف لها مالك معين. # وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقدير لا حقيقة له، فإن إيجاب إعطائهم ~~معابد العنوة لا وجه له، ولا أعلم به قائلا، فلا يفرع عليه، وإنما الخلاف ~~في الجواز. # نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نقل بدخولهم في عهد آبائهم، لأن لهم شبهة ~~الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له، ~~فإن صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عرف أنه حقه، وما وقع الشك فيه على ~~هذا التقدير فهو لبيت المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقض عهد ~~فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما ~~يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين، لأن الصبي لما لم يكن مستقلا ~~بنفسه جعل تابعا لغيره في الإيمان والأمان. # وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه والمسلمين في ~~إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر. وهذا الجواب ~~حكمه فيما كان من معابدهم قديما قبل فتح المسلمين، أما ما أحدث بعد ذلك ~~فانه يجب إزالته، ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس، كما شرط عليهم عمر ~~بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه (1) : "إلا يجددوا في مدائن ~~الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا ms0564 قلاية"، امتثالا لقول ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكون قبلتان ببلد واحد". رواه أحمد ~~وأبو داود بإسناد جيد (2) ، ولما PageV03P369 # روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا كنيسة في الإسلام" (1) . # وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال ~~من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينقذ ذلك ويعمل به، مثل عمر بن عبد ~~العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى، فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب ~~إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمها بصنعاء ~~وغيرها. # وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: "من السنة أن تهدم الكنائس ~~التي في الأمصار، القديمة والحديثة" (2) . وكذلك هارون الرشيد في خلافته ~~أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب بشروط ~~عمر استفتى علماء وقته في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى ~~الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سواد العراق، وذكر الآثار عن الصحابة ~~والتابعين، فمما ذكره ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (3) : ~~أيما مصر مصرته العرب -يعني المسلمين-، فليس للعجم -يعني أهل الذمة- أن ~~يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسا، ولا يشربوا فيه خمرا. # وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب، فإن للعجم ما في عهدهم، ~~وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلفوهم فوق طاقتهم. PageV03P370 ### | مسألة فيمن يسمي الخميس عيدا # PageV03P371 # مسألة # ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن يسمي ~~الخميس المعروف بعيد النصارى عيدا؟ وفيمن يعتقد أن مريم ابنة عمران -عليها ~~السلام- تجر ذيلها ذلك اليوم على الزرع، فينمو ويلحق اللقيس بالبكير، ~~ويخرجون في ذلك اليوم ثيابهم وحلي النساء يرجون البركة من ذلك اليوم وكثرة ~~الخير، ويكحلون الصبيان، ويمغرون الدواب والشجر لأجل البركة، ويصبغون البيض ~~ويقامرون به ويعتقدون حله، ويدفون البخور ويتبخرون به قصد البركة. # أفتونا مأجورين. # الجواب # قال الشيخ الإمام العالم العامل مفتي الفرق، أبو العباس أحمد بن عبد ~~الحليم بن عبد السلام ms0565 ابن تيمية الحراني الحنبلي -رحمه الله ورضي عنه-: # الحمد لله وحده. كل ما يفعل في أعياد الكفار من الخصائص التي يعظم بها ~~فليس للمسلم أن يفعل شيئا منها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من ~~تشبه بقوم فهو منهم" (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من تشبه ~~بغيرنا" (2) . # وقد شارط عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الكتاب أن لا يظهروا ~~PageV03P373 # شيئا من شعائرهم بين المسلمين، ولا شيئا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا ~~غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شرطه عليهم أمير المؤمنين. # وسواء قصد المسلم التشبه بهم أو لم يقصد ذلك بحكم العادة التي تعودها ~~فليس له أن يفعل ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيص عيدهم (1) بلباس وطعام ~~ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلمين. # ومن قال: إن مريم تجر ذيلها على الزرع فينمو، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا ~~قتل، فإذا هذا اعتقاد الكفار النصارى، وهو من أفسد الاعتقادات، فإن من هو ~~أفضل من مريم من الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- لا سعي لهم في إنبات ~~النبات وإنزال القطر من السماوات، فكيف يكون ذلك من مريم عليها السلام؟ ~~وإنما هذا اعتقاد النصارى فيها وفي شيوخهم القسيسين أنهم ينفعونهم أو ~~يضرونهم، وهذا من شركهم الذي ذمهم الله تعالى به، كما قال تعالى: (اتخذوا ~~أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ~~ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (2) ، وقال ~~تعالى (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس ~~كونوا عبادا لي من دون الله) (3) . فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين ~~أربابا هو كافر، فكيف من اتخذ مريم أو غيرها من الشيوخ؟ PageV03P374 # وقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا ~~تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون ~~رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)) (1) . قال طائفة من ~~السلف: كان قوم ms0566 يدعون العزير والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء ~~الأنبياء والملائكة الذين تدعونهم يرجون رحمتي ويخافون عذابي، كما ترجون ~~رحمتي وتخافون عذابي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي، وأخبر أنهم لا يملكون ~~كشف الضر عنهم ولا تحويلا. # فإذا كان هذا في الملائكة والنبيين فكيف بمن دونهم؟ كمريم وغيرها من ~~الصالحين الرجال والنساء. فمن دعا غير الله تعالى أو عبده فهو مشرك بالله ~~العظيم، وإن كان ذلك رجلا صالحا (2) أو امرأة صالحة. # وكذلك التزين يوم عيد النصارى من المنكرات، وصنعة الطعام الزائد عن ~~العادة، وتكحيل الصبيان، وتحمير الدواب. والشجر بالمغرة وغيرها، وعمل ~~الولائم وجمع الناس على الطعام في عيدهم. ومن فعل هذه الأمور يتقرب بها إلى ~~الله تعالى راجيا بركتها فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن هذا من إخوان ~~النصارى. كما لو عظم الرجل الصليب، وصلى إلى المشرق، وتعمد بالمعمودية، فإن ~~من فعل هذا فهو كافر مرتد يجب قتله شرعا وإن أظهر مع ذلك الإسلام. # وكذلك صبغ البيض فيه. وأما القمار فيه فإنه حرام في كل وقت، فيه وفي ~~غيره. وكذلك البخور فيه ونحو ذلك. # وبالجملة ف ### | ليس ليوم عيدهم مزية على غيره، # ولا يفعل فيه شيء PageV03P375 # مما يميزونه هم به. ولكن لو صامه الرجل قصدا لمخالفتهم فقد كرهه كثير من ~~العلماء، كما روي عن أنس بن مالك والحسن البصري وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي ~~الله عنهم، لأن في (1) تخصيص أعياد الكفار بالصوم نوع تعظيم لها، وإن كانوا ~~هم لا يصومونه، فكيف إذا كان التعظيم من جنس ما يفعلونه؟ # إلا ترى أن اليهود كانوا يتخذون يوم عاشوراء عيدا، فيصومونه ويظهرون ~~السرور فيه، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيامه مرة واحدة قبل أن ~~يفرض رمضان، فلما فرض رمضان سقط وجوبه (2) وبقي صومه مستحبا. ثم إن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: إن اليهود والنصارى يتخذونه عيدا قال: ~~"لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع" (3) . فقال أكثر أهل العلم: مراده صوم ~~التاسع والعاشر، لئلا يخص يوم عاشوراء بالصوم، كما نهى عن إفراد ms0567 يوم الجمعة ~~بالصوم (4) ، وكان يقول: "صوموا يوما قبله أو يوما بعده" (5) . وهو - صلى ~~الله عليه وسلم - فعل هذا في عاشوراء بعد أن كان أمر بصيامه ليخالف اليهود، ~~ولا يشاركهم في إفراد تعظيمه. # هذا مع أن عاشوراء لم يشرع فيه غير الصوم باتفاق علماء المسلمين، فكل ما ~~يفعل فيه غير ذلك من الاختضاب والكحل والتزين والاغتسال والتوسع على العيال ~~غير العادة فيه من حبوب أو غيرها هو من البدع المحدثة في الدين، لم يستحبها ~~أحد من العلماء PageV03P376 # ولا السلف، بل كل ما روي فيها من الأحاديث المرفوعة فهي أحاديث موضوعة. # فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره نوعا من التشبه بهم في ~~عاشوراء، فكيف بالمياليد والشعانين والخميس وغير ذلك من أعياد الكافرين؟ ~~وقد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل خصائص عيدهم، وقال بعضهم: من ذبح ~~فيه بطيخة فكأنما ذبح خنزيرا. # فالواجب على ولاة الأمور نهي الناس عن هذه المنكرات المحرمة، وأمرهم ~~بملازمة شعائر الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، ف (إن الدين عند الله ~~الأسلام) (1) ، (ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من ~~الخاسرين (85)) (2) . آخرها، والله سبحانه وتعالى أعلم. # (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم) . ~~PageV03P377 ### | فصل. # في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر # PageV03P379 # فصل # قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن ~~المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون ~~وأكثرهم الفاسقون (110)) (1) . قال بعض السلف: هم خير أمة إذا قاموا بهذا ~~الشرط، فمن لم يقم بهذا الشرط فليس من خير أمة. # قال: واتفق أئمة الدين على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب ~~على الناس، لكنه فرض على الكفاية كالجهاد وتعلم العلم ونحو ذلك، فإذا قام ~~به من يستكفى به سقط عن الناس، وكان الأجر والدرجة لمن قام به. ومن كان ~~عاجزا عما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأراد أن يقوم ~~به وجب على غيره أن ms0568 يعاونه، حتى يحصل المقصود الذي أمر الله به ورسوله، كما ~~قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) ~~(2) . # فكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن ~~المنكر. والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والمنكر اسم جامع لكل ~~ما يكرهه ويسخطه. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعقوبة الدنيا ~~قبل الآخرة، فلا يظن الظان أنها تصيب الظالم الفاعل للمعصية دونه مع سكوته ~~عن الأمر والنهي، بل تعم الجميع. PageV03P381 # وينبغي أن يكون الآمر فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا ~~فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حكيما فيما ينهى عنه، رفيقا عالما قبل ~~الأمر والنهي، رفيقا حين الأمر والنهي، حليما صبورا بعد الأمر والنهي، كما ~~قال تعالى في قصة لقمان: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ~~إن ذلك من عزم الأمور (17)) (1) ، فإن الآمر إنما هو مجاهد في سبيل الله، ~~إذ (2) ### | … ### | … ### | … ### | … ### | … ### | … # أن يفعل ذلك عبادة لله، وطاعة لله ورسوله، وطلبا للنجاة من عقاب الله، ~~ونصحا لعباد الله، لا يفعله لطلب العلو والرئاسة على الناس، ولا لعداوة أو ~~حقد في نفسه على المأمور والمنهي، ولا لغرض يناله بذلك، يكون أمره بالمعروف ~~معروفا غير منكر، ونهيه أيضا معروف غير منكر. وإلا فمتى أراد أن يزيل منكرا ~~بمنكر كان كمن يريد غسل الخمر بالبول، ومن فعل ذلك فقد يكون خسرانه أكثر من ~~ربحه، وقد يكون أقل أو أكثر. والله أعلم. PageV03P382 ### | مسألة # في تلاوة القرآن والذكر، أيهما أفضل # PageV03P383 # الحمد لله. سئلت أي الأمرين أفضل: تلاوة القرآن أو الذكر؟ # فأجبت قائلا: الظاهر أن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان ~~الشخص ممن أوتي فهما في كتاب الله تعالى، إذا تلا متدبرا لآياته ازداد في ~~الحكم والأحكام، وتجلت له معان وحقائق في أصول الدين وفروع الحلال والحرام، ~~كانت التلاوة في حقه أفضل، كيف وتلاوة القرآن من أفضل الأذكار، والنظر في ~~أحكام الله تعالى من أفضل أعمال الأبرار. وكان عطاء لا رحمه ms0569 الله تعالى ~~يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تبيع وتشتري وتصلي وتصوم ~~وتحج وتطلق ونحو ذلك. # وإن لم يكن الرجل ممن له أهلية الفهم عن كلام الله تعالى، وكان الذكر ~~أجمع لهمته وأصفى لخاطره، كان اشتغاله بالذكر أفضل والحالة هذه. # وينبغي للسالك وطالب الزيادة من الخير أن لا يترك حطه منهما، فيذكر الله ~~تعالى إلى أن يجد عنده سأمة ما، فينتقل إلى الذكر بتلاوة القرآن متدبرا ~~بترتيل وتفكر، وتعظيم عند آيات التوحيد والتنزيه، وسؤال عند آيات الوعد ~~والرجاء، وتضرع واستعاذة عند آيات الخوف والوعيد، واعتبار عند آيات القصص. ~~فإن القرآن الكريم لا يسأم قارئه، لاختلاف المعاني الواردة فيه. # وعند اشتغاله بالذكر ينبغي أن لا يفوته دقيقة نبه عليها بعض المحققين، ~~وهي أن يقصد مثلا عند ذكر "لا إله إلا الله" تلاوة قوله تعالى في سورة محمد ~~- صلى الله عليه وسلم -: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) (1) لتثمر له هذه ~~PageV03P385 # الكلمة المباركة ثمرة الذكر والتلاوة، فيكون جامعا بين الفضيلتين. # ولكل من التلاوة والذكر آداب وشروط ذكرها العلماء، فينبغي له أن يتحرى في ~~المحافظة عليها، وإن كان له شيخ يربيه ألقى زمام أمره إليه، ليشير بما هو ~~الأولى له عليه. والله أعلم. # PageV03P386 ### | فتوى في السماع # PageV03P387 # ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- هل السماع ~~بالقضيب على المخاد (1) مباح وحلال أو حرام؟ لأنه عدل به عن الدف والشبابة، ~~وما هو ذلك؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى. # أجاب سيدنا وشيخنا الشيخ تقي الدين ابن، تيمية- أطال الله في عمره-: # الضرب بالقضيب على المخاد هو التغبير الذي قال فيه الشافعي: خلفت ببغداد ~~شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن. ويذكر فيه ~~الإمام أحمد وغيره من الأئمة، ونهوا الناس عن الحضور معهم. وكان الذين ~~يحضرونه أهل زهد وعبادة ودين، يحضرونه لما فيه من التزهيد والترقيق وتحريك ~~القلوب بالحب والحزن والخوف ونحو ذلك، فعده الأئمة من البدع المحدثة في ~~الإسلام، لأن الله إنما شرع للمسلمين سماع القرآن، فهو سماع ms0570 النبيين ~~والعالمين والعارفين والمؤمنين، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه. # ولم يحضر هذا التغبير أعيان الشيوخ المعروفين، كالفضيل بن عياض وإبراهيم ~~بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطى، بل ولا الشيخ ~~العارف عبد القادر الكيلاني ولا الشيخ عدي والشيخ أبي مدين والشيخ أبي ~~البيان والشيخ حيا، وأمثال هؤلاء من شيوخ المسلمين، والله سبحانه أعلم. ~~وكتبه أحمد ابن تيمية عفا الله عنه. PageV03P389 ### | مسألة في رجل شتم شريفا # PageV03P391 # مسألة # في رجل من أهل العلم شتمه شريف وقال له: يا جاهل! فقال هو للشريف: الجاهل ~~جدك، ولم يعلم أنه شريف، فقال له الشريف: كفرت لأنك شتمت جدي رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -. # الجواب # لا يحل تكفير المسلم بمثل ذلك، ومن عرف إيمانه لا يقصد بمثل هذا اللفظ ~~لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ادعى على معروف بالخير والدين أنه ~~قصد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يعزر هذا المفتري على أهل ~~الخير والدين، كما لو ادعى على أحد أنه سرق ماله أو قطع الطريق عليه ونحو ~~ذلك من دعاوي التهم التي يعلم براءة المتهم فيها، فإنه يعزر في قولي ~~العلماء من يفتري على أهل الخير بمثل ذلك. # وسواء كان المتكلم بهذا يعلم أن المخاطب شريف أو لم يكن يعلم لا يحمل ذلك ~~على مراده النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن تكون هناك قرينة تدل على ~~ذلك، مثل أن يكون القائل معروفا بالنفاق والاستهزاء بالرسالة والقرآن ودين ~~الإسلام ونحو ذلك، فمتى ظهرت هذه الكلمة ممن هو معروف بالنفاق كان ذلك ~~قرينة تقوي إرادته النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحبس حينئذ المتهم، ~~ويكشف عن بقية أحواله، ويعاقب إما بالقتل وإما بدونه، لئلا يجترئ أهل ~~النفاق والزندقة على انتهاك حرمة الرسالة. # والجد المطلق يتناول أبا الأب، وقد يتناول من هو أعلى منه بقرينة، ومن ~~الأشراف العالم والجاهل والبر والفاجر والصادق # PageV03P393 # والكاذب، ويجب عليهم طاعة الله ورسوله كما يجب على سائر الأمة، ويجب أن ~~تقام عليهم الحدود كما تقام ms0571 على غيرهم، فإن في الصحيحين (1) أن امرأة كانت ~~ذات شرف سرقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - بقطع يدهما، فشق ذلك على أهلها، وقالوا: من يكلم فيها ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن ~~زيد، فكلمه فيها أسامة، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا ~~أسامة! أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا ~~إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. # والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". # و ### | ليس لأحد أن يعتدي على أحد سواء كان شريفا أو لم يكن، # ومتى اعتدى الشريف أو غيره على الناس كان لهم أن يعتدوا عليه بمثل ما ~~اعتدى عليهم، فإن قال لمسلم: يا كلب يا خنزير! كان له أن يقول له: يا كلب ~~يا خنزير!، ولو قال له: لعنك الله، كان له أن يقول له: لعنك الله، وإن ضربه ~~بغير حق ضرب كما ضربه، وإن أخذ ماله بغير حق أخذ من ماله بقدر ما أخذ من ~~ماله. فإن المسلمين متفقون على أن القصاص ثابت بين الشريف وغير الشريف في ~~الدماء ونحوها. ولو قذف الشريف رجلا محصنا أقيم عليه حد القذف كما يقام على ~~غيره. وليس لأحد أن يسب من لا يسب، سواء كان شريفا أو لم يكن، بل له أن ~~يعاقب من ظلمه ولا يتعدى إلى غيره. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه قال: "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه"، PageV03P394 # قالوا: وكيف يسب والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب ~~أمه". ومن يسب من لم يسبه من الأشراف أو غيرهم عزر. ولا يقتل أحد إلا بسب ~~نبي من الأنبياء، فمن يسب نبيا من الأنبياء وجب قتله. وفي الرافضة الذين ~~يسبون الصحابة تفصيل ونزاع. والله أعلم. (هذا جواب الشيخ تقي الدين أحمد ~~ابن تيمية، أثابه ms0572 الله ورضي عنه، وجزاه عن هذه الأمة كل خير في الدنيا ~~والآخرة) . # PageV03P395 ### | قاعدة في حضانة الولد # PageV03P397 # قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رضي ~~الله عنه: # الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن ~~سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن ~~لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله ~~عليه وعلى آله وسلم تسليما. # فصل # في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هو ~~للأب أو للأم؟ أو يخير بينهما؟. # فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبع سنين خير بين ~~أبويه، أما الجارية فالأب أحق بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعا. # وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة، ولم يبلغهم ~~سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدا، وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير ~~من المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من كان يأخذ عنه العلم. فأبو بكر ~~الخلال قد طاف بالبلاد، وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا (1) ~~، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه. وأما ما جمعه من نصوصه في أصول ~~PageV03P399 # الدين مثل: "كتاب السنة" نحو ثلاث مجلدات، ومن أصول الفقه والحديث مثل: ~~"كتاب العلم" الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث مثل "كتاب العلل" ~~الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في ~~الرجال والتاريخ= فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه. # والمقصود هنا أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما: في مسألة البنت، ~~وفي مسألة الابن. وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال: هل تكون مع الأم أو ~~مع الأب أو تخير؟ لكن في الابن ثلاث روايات. وأما البنت فالمنقول عنه ~~روايتان: هل هي للأم أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجه مخرج في مذهبه (1) . # فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في ms0573 "محرره" ~~(2) . وعنه في الجارية روايتان، وممن ذكرهما أبو عبد الله ابن تيمية في ~~كتابه "التلخيص" و"ترغيب القاصد" (3) . والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها ~~وأسانيدها في عدة كتب. # وممن ### | ذكر هذه الروايات # القاضي أبو يعلى في "تعليقه"، نقل عن أحمد في الغلام: أمه أحق به حتى ~~يستغني عنها، ثم الأب أحق به. قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام ~~واستغنى عن الأم PageV03P400 # فالأب أحق به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام إذا عقل ~~واستغنى عن الأم. # وهذا يشبه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قال: ~~إذا أكل وحده ولبس وحده وتوضأ وحده فالأب أحق به. ونقل ابن المنذر أنه يخير ~~حينئذ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور. # والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجود في كتب أصحابه. وهو إحدى الروايتين عن ~~مالك، فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى يثغر. ولكن المشهور عنه: أن ~~الأم أحق به ما لم يبلغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد. # والرواية الثالثة عن أحمد أن الأم أحق بالغلام مطلقا، كمذهب مالك. قال في ~~رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار، فالأم أعطف عليهم ~~مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأب أحق بهم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب ~~أحق بولده غلافا كان أو جارية. # قال الشيخ أبو البركات (1) : فهذه الرواية تدل على أنه إذا كبر وصار يعقل ~~الأدب فإنه يكون مقره أيضا عند الأم، لكن في وقت الأدب -وهو النهار- يكون ~~عند الأب. # وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب ~~مالك في "المدونة" (2) أن الأم أحق به ما لم يبلغ، PageV03P401 # وللأب تعاهده عندها وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم. # قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل ~~المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، ~~وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل ms0574 بن ~~سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي ~~حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك ~~المسائل أحمد وغيره، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق. وأما ~~الذين كانوا يسألونه مطلقا -مثل الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم- فكثيرون. # وأما حضانة البنت إذا صارت مميزة فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد ~~نقلهما غير واحد من أصحابه، كأبي عبد الله ابن تيمية وغيره: # إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه. # والثانية: أن الأم أحق بها. # قال في رواية إسحاق بن منصور: يقضى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا ~~احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها. # وقال في رواية مهنا بن يحيى: الأم والجدة أحق بالجارية حتى يتزوج الأب. # قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد": وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير ~~تخيير، وعنه: الأم أحق بها حتى تحيض. # PageV03P402 # وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك. ففي "المدونة" ~~(1) : مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرا أو أنثى. ~~فإذا بلغ وهو أنثى نظرت، فإن كانت الأم في حرز ومنعة وتحصين فهي أحق بها ~~أبدا ما لم تنكح وإن بلغت أربعين سنة؟ وإن لم تكن في موضع حرز وتحصين أو ~~كانت غير مرضية في نفسها، فللأب أخذها منها. # وكذلك الأولياء والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين. # ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ، فإن كانت ~~الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت، إلا أن تكون ~~صغيرة لا يخاف عليها. # وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض، ومن سوى الأم ~~والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهي. هذا هو المشهور، ولفظ الطحاوي (2) : ~~"حتى تستغني" كما في الغلام مطلقا. # ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام: حتى تأكل وحدها وتلبس وحدها وتتوضأ ~~وحدها، ثم تكون مع ms0575 الأب. # وأبو حنيفة أيضا يجعل الأب أحق بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في ~~الابن، لكن يستثني الأم والجدة خاصة. # وأما المشهور عن أحمد -وهو تخيير الغلام بين أبويه- فهو مذهب الشافعي ~~وإسحاق بن راهويه. وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، ~~وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما. وكان يثني عليهما ويعظمهما ويرجح ~~أصول مذاهبهما على من ليست أصول PageV03P403 # مذاهبه كأصول مذاهبهما. وعندهم أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، ~~والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث. # وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة (1) . ~~وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في ~~موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت ~~الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها. # وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا لا عن أحمد ~~ولا عن إسحاق، كما ونقل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نقل عن الحسن بن حي ~~أنها تخير إذا كانت كاعبا. # والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وإسحاق، ~~للحديث الوارد في ذلك، حيث خير النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاما بين ~~أبويه (2) ، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا. # والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف (3) مخالف لإجماعهم. PageV03P404 # والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة، لا تخيير ~~رأي ومصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره، كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في ~~الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح ~~للمسلمين، ثم قد يصيب ذلك الأصلح للمسلمين، فيكون مصيبا في اجتهاده حاكما ~~بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه، فيثاب على استفراغ وسعه، ولا ~~يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة. كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنو ~~قريظة على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما سأله فيهم بنو عبد ~~الأشهل قال: "ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى ms0576 سيدكم سعد بن معاذ؟! فرضوا بذلك، ~~وطمع من كان يحب استبقاءهم أن سعدا يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في ~~الجاهلية من الموالاة. فلما أتى سعا حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ~~ذراريهم، وتغنم أموالهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت ~~فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" (1) . وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك ~~لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر، وإن كان لابد من إنفاذه. # ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره من حديث بريدة المشهور، قال فيه: ~~"وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم ~~الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك". ~~PageV03P405 # ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا، فنزلوا على حكم حاكم، جاز ~~إذا كان رجلا مسلما حرا عدلا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا ~~بما فيه حظ للإسلام من قتل أو رق أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن، ~~فأباه الإمام، هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ~~ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه ~~للمسلمين. # والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ~~مصلحة، بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في ~~أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه. # ولكن معنى قولنا "يخير" أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، ~~بل قد يتعين فعل هذا تارة وفعل هذا تارة. وقول الله في القرآن (فإما منا ~~بعد وإما فداء) (1) يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تعين هذا في حال ~~وهذا في حال، كما في قوله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن ~~نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) (2) . فتربص أحد ~~الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عين علينا بعض الأوقات، فحينئذ ~~يصيبهم الله ms0577 بعذاب بأيدينا، كما في قوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ~~ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم) (3) . # ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين: (إنما PageV03P406 # جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو ~~يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في ~~الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (1) لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير ~~مشيئة، فيفعل أي هذه الأربعة شاء، بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال ~~وهذا في حال. # ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن ~~أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي ~~حنيفة والشافعي وأحمد (2) ، وروي في ذلك حديث مرفوع (3) . # ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام، كقول مالك، فإن رأى أن القتل ~~هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قتل. # ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيئا ~~وجعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في ~~المشهور عنه، فإنهم قالوا: إن رأى المصلحة في جعلها غنيمة قسمها بين ~~الغانمين، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر؛ وإن رأى أن لا ~~يقسمها جاز، كما لم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة مع أنه فتحها ~~عنوة، كما شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور ~~العلماء. ولأن خلفاءه بعده أبا بكر وعمر وعثمان PageV03P407 # فتحوا ما فتحوه من أرض المغرب والروم وفارس، كالعراق والشام ومصر ~~وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا ~~السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئا للمسلمين داخلا في قوله (ما ~~أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) الآية (1) . ولم يستأذنوا ~~في ذلك الغانمين، بل طلب أكابر الغانمين قسمة العقار، فلم يجيبوهم إلى ذلك، ~~كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم ms0578 أرض مصر، ~~فلم يجيبوهم إلى ذلك. ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك، ~~فضلا عن أن يستطيب أنفس جميع الغانمين. # وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيئا بنفس الفتح، ومن نصر مذهبه كإسماعيل ~~بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلة في الغنيمة؛ فإن الله حرم على ~~بني إسرائيل المغانم وملكهم العقار، فعلم أنه ليس من المغانم. وهذا القول ~~يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي: أنه يجب قسمة ~~العقار والمنقول، لأن الجميع مغنوم. # وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة بل صلحا، فلا يكون فيها حجة. ومن حكى ~~عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة -كصاحب "الوسيط" (2) وفروعه- فقد غلط عليه. ~~وقال في السواد: لا أدري ما أقول فيه، إلا أني أظن فيه ظنا مقرونا بعلم وظن ~~أن عمر استطاب أنفس الغانمين، لما روي من قصة المثنى بن حارثة. وبسط هذا له ~~موضع آخر. PageV03P408 # وقول الجمهور أعدل الأقاويل، وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين ~~قالوا: يخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة، لا تخيير شهوة ومشيئة، ~~وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية، كناظر الوقف ~~ووصي اليتيم والوكيل المطلق، لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ~~ونظر وطلب، ويجزى للأصلح. # كالرجل المبتلى بعدوين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما، فيبتدئ بماله ~~نفع. وكالإمام في تولية من ولاه الحرب والحكم والمال يختار الأصلح فالأصلح. ~~فمن ولى رجلا على عصابة، وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ~~وخان رسوله وخان المؤمنين. # وهذا بخلاف من خير بين شيئين وله أن يفعل أيهما شاء، كالمكفر إذا خير بين ~~الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل ~~المفضول. وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل، وإن كان أحدهما ~~أفضل. وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما ~~أفضل. # وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان ms0579 ~~نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة، حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن ~~كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة ~~الأربعة وغيرهم من أهل العلم. # وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون ~~الثلاثة. وتخيير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور. # وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلا متمتعا، وأنه يتعين الفطر في السفر، ~~كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة، فلا يجيء هذا على ~~أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور # PageV03P409 # الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ليس له أن يصلي أربعا، ~~فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد ~~من أصحابه في حياته. وحديث عائشة التي تذكر فيه أنه أو أنها صلت في حياته ~~في السفر أربعا كذب عند حداق أهل العلم بالحديث، كما قد بسط في موضعه (1) . # إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خير فيما يفعله لغيره ~~بولايته عليه، أو بوكالة مطلقة، لم يبح له فيها فعل ما شاء، فعليه أن يختار ~~الأصلح. وأما من تصرف لنفسه، فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب ~~اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء بل وأصلح الأحكام في نفس ~~الأمر. وتارة يبيح له ما شاء من الأنواع التي خير بينهما، كما تقدم. هذا ~~إذا كان مكلفا. # وأما الصبي المميز فيخير تخيير شهوة، حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر، ~~ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح ~~للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب. بل قد يكون بعض الآباء ~~أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. ~~فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا. بخلاف الصغير، فإن الأم أصلح له من الأب، ~~لأن النساء أوثق بالصغير وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ~~ذلك وأرحم به ms0580، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع. فتعينت الأم في ~~حق الطفل غير المميز بالشرع. # ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم PageV03P410 # مقدمة على قرابة الأب في الحضانة أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من ~~الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على ~~أقارب الأم، مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ~~ومثل: العمة والخالة، ونحو ذلك. # هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد. # وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، فتقدم الأخت من الأب على ~~الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم. وهو الذي ذكره الخرقي في ~~"مختصره" (1) وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب. # وعلل ذلك من علله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة ~~الأم، فإن قرابتها فيها رحم وتعصيب، بخلاف قرابة الأم، فإن فيها رحما بلا ~~تعصيب. فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من ~~الأم، والعمة مقدمة على الخالة. كما يقدم أقارب الأب من الرجال على أقارب ~~الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال. بل قد قيل: إنه ~~لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وإن الحضانة لا تثبت إلا لرجل من ~~العصبة أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم. # وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في ~~مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، ~~فلما لم يترجح رجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها. PageV03P411 # وأيضا فمجموع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب في الميراث والعقل والنفقة ~~وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من ~~الأحكام، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة. # ولكن قدموا الأم لكونها امرأة، وجنس النساء مقدمات في الحضانة على ~~الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد، كما قدمت الأم على الأب، ~~وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته ms0581 على أخواله. هذا هو ~~القياس والاعتبار الصحيح. # وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول، ~~ولهذا كان من قال هذا في موضع يتناقض، ولا يطرد أصله. # ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى ~~يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا ~~الجنس. فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين في مذهب أحمد، وهو ~~قول مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على ~~الأخت من الأم، ثم يقدم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد وطائفة ~~من أصحاب أحمد. وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمات على العمات لكونهن من ~~جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولى، ثم ~~من كانت لأب، ثم من كانت لأم. # وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم ~~قرائب الأم ظهر التناقض. وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على ~~الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ~~ولهذا قالوا في القول # PageV03P412 # الآخر: إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي القديم. ~~وهذا أطرد لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع. # وطائفة أخرى طردت أصلها، فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، ~~كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه، حتى قدم ~~الخالة على الأخت من الأب، كقول زفر ورواية عن أبي حنيفة، ووافقهم ابن ~~سريج. ولكن أبو يوسف استشنع ذلك، فقدم الأخت للأب، ورواه عن أبي حنيفة. # وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه، حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم ~~الأب. وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا ~~أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام. وكان يقول في القياس: قياس ~~زفر أقبح من البول في المسجد. # وزفر كان معروفا بالإمعان في ms0582 طرد قياسه، لكن الشأن في الأصل الذي قاس ~~عليه وفي علة الحكم في الأصل، وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل ~~استقام قياسه. # وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل فيه التوقيت، ويصح النكاح ~~لازما. وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد. # فكان مضمون هذا القول أن نكاح المتعة يصخ لازما غير موقت، وهو خلاف ~~النصوص وخلاف إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين، لم يكن ~~لمن بعدهم إحداث قولي يناقض القولين، ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول ~~عن الصواب. وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطل، أو يصخ مؤجلا، ~~فالقول بلزومه مطلقا خلاف الإجماع. # وسبب هذا القول اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل، # PageV03P413 # وينعقد النكاح لازما بدون حصول غرض المشترط. فألزموه ما لم يلتزمه ولا ~~ألزمه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاح الشغار ونحوه مما شرط فيه نفي ~~المهر، وصححوا نكاح التحليل لازما مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك. # وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". فدك النص ~~على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا ~~كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد، ~~وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط، فكيف بالشروط ~~في النكاح؟. # وأصل عمدتهم كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة ~~والإجماع. فقاسوا النكاح الذي شرط فيه نفي المهر على النكاح الذي ترك تقدير ~~الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد. ثم ~~طرد أبو حنيفة قياسه، فصحح نكاح الشغار بناء على أن لا موجب لفساده إلا ~~إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدا. # وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بين الشغار وغيره، ~~بأن فيه تشريكا في البضع أو ms0583 تعليقا للعقد أو غير ذلك، مما قد بسط في غير ~~هذا الموضع (2) ، وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة، وأن الصواب مذهب أهل ~~المدينة مالك وغيره، PageV03P414 # وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة ~~في إفساده هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه ~~نفي المهر أو مهر فاسد. فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول ~~النكاح بلا مهر. فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن ~~الله فيه، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنا غير مسافح، كما ~~قال تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) ~~(1) . فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله. وهذا بخلاف من اعتقد ~~أنه لابد من مهر لكن لم يقدره، كما قال تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم ~~النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) إلى قوله (وإن طلقتموهن من قبل ~~أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة) الآية (2) . فهذا نكاح المهر المعروف، وهو ~~مهر المثل. # قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل -وهو ~~السعر- أو الإجارة بثمن المثل لا يصح، بخلاف النكاح. # وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في ~~البيع. وأما في الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه ~~يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها ~~الناس بالكراء، أو سكن في خان أو حجرة جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو ~~خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة، أو ~~PageV03P415 # ركب دابة مكارئ يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب الناس بالأجرة. فإن ~~هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ~~ذلك. فهذه إجارة بأجرة المثل. وكذلك لو ابتاع طعاما بمثل ما ينقطع به ~~السعر، أو ms0584 بسعر ما يبيع الناس، أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا ~~يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. # وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري ~~أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا القول الآخر بفساد هذه العقود، كقول الشافعي ~~وغيره. وبسط هذه المسائل في مواضع أخر. # والمقصود هنا كان مسائل الحضانة، وأن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم ~~قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت فروعهم اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، ~~وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم. بل الصواب بلا ريب أنها قدمت لكونها ~~أنثى، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل، فتقدم الأم على الأب، ~~والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. ~~وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب، فهذا لبسطه موضع آخر، إذ المقصود ~~هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبية والصبي. # فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا ~~كان تعيين الأب كما قال مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة. ولهذا ~~قالوا: إذا اختار الأب مدة ثم اختار الأم فله ذلك. حتى قالوا: متى اختار ~~أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إن اختار ابتداء. وهذا قول القائلين ~~بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل. وقالوا: إذا اختار الأم ~~كان عندها ليلا، # PageV03P416 # وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه. هذا مذهب الشافعي وأحمد، ~~وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهده عندها وأدبه ~~وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم. # قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارا، ولم يمنع ~~من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل. # فأما البنت إذا خيرت -فكانت عند الأم تارة وعند الأب تارة- أفضى ذلك إلى ~~كثرة مرورها وتبرجها وانتقالها من مكان إلى مكان، ولا يبقى الأب موكلا ~~بحفظها ولا الأم موكلة بحفظها، وقد عرف بالعادة أن ما تناوب الناس على ms0585 حفظه ~~ضاع. ومن الأمثال السائرة: لا تصلح القدر بين طباختين. # وأيضا فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة، فلا يبقى ~~الأب تام الرغبة في حفظها، ولا الأم تامة الرغبة في حفظها. وليس الذكر ~~كالأنثى، كما قالت امرأة عمران (1) (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) إلى ~~قوله (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر ~~كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) ~~فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا) إلى قوله (وما ~~كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) . فهذه مريم احتاجت إلى من ~~يكفلها ويحضنها، حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء؟ # وهذا أمر يعرف بالتجربة: أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا ~~يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها. PageV03P417 # ولهذا كان لباسها المشروع لباسا لما يسترها، ولعن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - من يلبس منهن لباس الرجال (1) ، وقال لأم سلمة في عصابتها: "لية لا ~~ليتين"، رواه أبو داود وغيره (2) . وقال في الحديث الصحيح (3) : "صنفان من ~~أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على ~~رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها؛ ورجال معهم سياط ~~مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله". # وأيضا فأمرت المرأة في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها، وفي ~~الإحرام أن لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقى فوق الصفا ~~والمروة، كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها. ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي ~~محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرة ~~مميزة، وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ وفي الحديث: ~~"النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه" (4) . # فهذا مما يبين أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها ~~وصونها، وترددها بين الأبوين مما يخل بذلك، من جهة أنها ms0586 هي لا يجتمع قلبها ~~على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين PageV03P418 # على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال ~~حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها ومرورها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد ~~الأبوين مطلقا، ولا تمكن من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين ~~مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم. # وليس في تخييرها نص صريح ولا قياس صحيح. # والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لاسيما والذكر محبوب مرغوب فيه، ~~فلو اختار أحدهما كانت محبة الآخر له تدعوه إلى مراعاته. والبنت مزهود ~~فيها، فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه، فكيف مع زهدها فيه؟ ~~فالأصلح لها لزوم أحدهما لا التردد بينهما. # ثم هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما. فمن عين الأم -كمالك وأبي حنيفة ~~وأحمد في إحدى الروايتين- لابد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها، ولهذا ~~قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو ~~كانت غير مرضية فللأب أخذها منها. وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي ~~اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعا، وقد عللوا ذلك ~~بحاجتها إلى الحفظ والتزويج، والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لابد ~~من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة ~~لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج ~~في بدنها إلى أحد. والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم. # وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر، فلو قدر أن ~~الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو يهمل حفظها لاشتغاله عنها أو لقلة دينه، ~~والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تقدم الأم في هذه الحال. # PageV03P419 # فكل ما قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها واندفعت به ~~مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب. حتى ~~الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما ms0587 نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال ~~مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن لا يصونه والأم تصونه لم يلتفت إلى ~~اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ~~ويكون الصبي قصده الفجور ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين ~~والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر يذوده ~~ويصلحه. ومتى كان كذلك فلا ريب أنه لا يمكن ممن يفسد معه حاله. # ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه ### | لا حضانة لفاسق، # وكذلك قال الحسن بن حي. وقال مالك: كل من له الحضانة من أب أو ذات رحم أو ~~عصبة ليس له كفاية، ولا موضعه بحرز، ولا يؤمن في نفسه= فلا حضانة له. ~~والحضانة لمن فيه ذلك وإن بعد، وينظر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز، ~~فرب والد يضيع ولده. # وكذلك قالوا -وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في "خلافه"-: إنما يكون التخيير ~~بين أبوين مأمونين عليه، يعلم أنه لا ضرر عليه من كونه عند واحد منهما. ~~فأما من لا يقوم بأمره ويخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه. # والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها ~~لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (1) . فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك، ~~PageV03P420 # والآخر لا يأمره، كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر، لأن ذلك الآمر له ~~هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص الله ورسوله. # فلا يقدم من يعصي الله فيه على من يطيع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد ~~الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله، والآخر ~~لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام= قدم من يفعل الواجب ولو اختار ~~الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال. # بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إما أن يرفع يده عن ~~الولاية ويقام من يفعل الواجب؛ وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب. فإذا ~~كان مع حصوله عند ms0588 أحد الأبوين يحصل طاعة الله ورسوله لاحقه، ومع حصوله عند ~~الآخر لا يحصل له= قدم الأول قطعا. وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل ~~بالرحم والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرا وعاجزا، بل هو من جنس ~~الولاية ولاية النكاح والمال التي لابد فيها من القدرة على الواجب وفعله ~~بحسب الإمكان. # وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة، وهو يتركها عند ضرة أفها، لا تعمل مصلحتها ~~بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها، فالحضانة ~~هنا للأم قطعا، ولو قدر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأم، فكيف إذا لم ~~يكن كذلك؟ # ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام على تقديم أحد الأبوين ~~مطلقا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقا. والعلماء متفقون على أنه لا يتعين ~~أحدهما مطلقا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر لا يقدم من يكون كذلك ~~على البر العادل المحسن القائم بالواجب. # PageV03P421 # وقد عللوا أيضا تقديم الأب بعلة ثانية: بأنها إذا صارت مميزة صارت ممن ~~تخطب وتزوج، واحتاجت إلى تجهيزها. فإذا كانت عند الأب كان أنظر لها وأحرص ~~على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم. # وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة ~~وسائر النساء، بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحق به مطلقا. لكن ~~قال: الأم والجدة أحق من الأب. فكلاهما قدم الأب وغيره من العصبة على ~~النساء، لكن أحمد طرد القياس، فقدمه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرق بين ~~عمود النسب وغيره. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "الخالة أم" (1) ~~. فإذا قدم الأب على النساء اللائي يقدمن عليه في حال صغرها دل ذلك على أن ~~الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء. وتبين أن أصل هذا القول ليس في مفردات ~~أحمد، بل هو طرد فيه قياسه. وبكل حال فهو قول قوي متوجه، ليس بأضعف من غيره ~~من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رجح الأم مطلقا بأقوى منه. # ومما يقوي هذا القول أن ms0589 الولد مطلقا إذا تعين أن يكون في مدينة أحد ~~الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنا في مصير والأم ساكنة في مصر آخر، فالأب ~~أحق به مطلقا، سواء كان ذاكرا أو أنثى عند عامة العلماء، كشريح القاضي ~~وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إن الأب إذا أراد سفر نقلة لغير ~~الضرار إلى مكان بعيد فهو أحق به، لأن كونه مع الأب أصلح له، لحفظ نسبه ~~وكمال تربيته PageV03P422 # وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تضيع مصلحته. ولا يختر الغلام هنا عند ~~أحدهما لا يخرج إلى الأحق، فالأب أيضا أحق، لأن كونه عند الأب أصلح له. ~~وهذا المعنى منتف في الابن، لأنه يختر، ولأن تردد الابن بينهما لا مضرة ~~عليه فيه، بخلاف البنت. # واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادت أن تسافر بالذكر أو الأنثى من المصر ~~الذي فيه عقد النكاح فالأب أحق به، فلم يرجح أحد منهم الأم مطلقا. فدل ذلك ~~على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقا -ذكرا كان أو أنثى- مخالف لهذا الأصل ~~الذي اتفقوا عليه. وعلم أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذر الجمع ~~بينهما، وهذا ثابت في الولد وإن كان طفلا يكون في بلد أبيه، بخلاف ما إذا ~~كان الأبوان في مصر واحد، فهاهنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعا بين ~~المصلحتين. # ومما يقويه أيضا أن الغلام إذا بلغ معتوها كانت حضانته للأم كالصغير، وإن ~~كان عاقلا كان أمره إلى نفسه، ليسكن حيث شاء إذا كان مأمونا على نفسه، عند ~~الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن كان غير مأمون على نفسه فلم يجعل أحد الولاية ~~عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمه إليه وتأديبه، والأب يمنعه من السلفة. # وأما الجارية إذا بلغت فنقل عن مالك: الوالد أحق بضمها إليه حتى تزوج ~~ويدخل بها الزوج، ثم هي أحق بنفسها، وتسكن حيث شاءت، إلا أن يخاف منها هوى ~~أو ضيعة أو سوء موضع، فيمنعها الأب بضمها إليه. # وقد تقدم في "المدونة" (1) : أن الأم أحق بها ما لم تنكح، وإن ~~PageV03P423 # بلغت أربعين ms0590 سنة. وكذلك قال أبو حنيفة في البكر، قال: الأب أحق بها ~~مأمونة كانت أو غير مأمونة، والثيب هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة. وقال ~~الشافعي: هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة، بكرا كانت أو ثيبا. # وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في "المحرر" (1) روايتين ووجها: # أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوج ويدخل بها الزوج. # وهذا هو الذي نصره القاضي وغيره في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت ~~وكانت بكرا فعليها أن تكون مع أبيها، حتى تتزوج ويدخل بها الزوج. ولم ~~يذكروا فيه نزاعا. # والرواية الثانية عن أحمد: تكون عند الأم. وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ ~~أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه ~~على هذه الرواية نقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية: ~~الأم والجدة أحق بالجارية ما لم تتزوج. # فجعلها أحق بها ما لم تتزوج في رواية مهنا. وقال في رواية ابن منصور: ~~يقضى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها. ~~فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعد، وهذا يكون ~~بالبلوغ. # وأما القول الثالث في مذهبه وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام، ~~فهذا يجيء على قول من يخيرها كما يخير الغلام. فمن خير الغلام قبل بلوغه ~~كان أمره بعد البلوغ إلى نفسه، كما قاله PageV03P424 # الشافعي وأحمد وغيرهما. لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في ~~"محرره" (1) في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير ~~البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند ~~الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة ~~وأحمد في رواية ومالكا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند ~~الأب. وهذا يدل على أن الأب أحفظ لها وأصون وأنظر في مصلحتها، فإذا كان ~~كذلك فلا فرق بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك. # فتبين أن هذا القول -وهو ### | جعل البنت ms0591 المميزة عند الأب- أرجح # من غيره. والله أعلم. # فصل # والتخيير قد جاء فيه حديثان. وأما تقديم الأم على الأب في حق الصغير ~~فمتفق عليه، وقد جاء فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: ~~يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له ~~سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال: "أنت أحق به ما لم تنكحي". رواه أحمد ~~(2) وأبو داود (3) ، لكن في لفظه: "وأن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني". # وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا ~~افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى ~~الأنصاري والزهري ومالك والثوري PageV03P425 # والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وقد روينا عن أبي بكر الصديق أنه حكم ~~على عمر به، وبصبي لعاصم لأمه أم عاصم، وقال: حجرها وريحها ومسها خير له ~~منك حتى يشب فيختار. # وأما التخيير: فعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير غلاما ~~بين أبيه وأمه. # رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه (1) ، ورواه أبو داود (2) وقال فيه: ~~"إن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد ~~سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~"استهما عليه". قال زوجها: من يحاققني في ولدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: "هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت". فأخذ بيد أمه، فانطلقت ~~به. ورواه النسائي (3) كذلك، ولم يذكر "استهما عليه". ورواه أحمد (4) كذلك ~~أيضا، لكنه قال فيه: "جاءت امرأة قد طلقها زوجها"، ولم يذكر فيه قولها "قد ~~سقاني ونفعني". # وقد روي تخيير الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي ~~هريرة، فروى سعيد بن منصور وغيره (5) أن عمر بن الخطاب خير غلاما بين أبيه ~~وأمه. وعن عمارة الجرمي أنه قال: خيرني علي بين عمي وأمي وكنت ابن سبع أو ~~ثمان (6) . وروي ms0592 نحو ذلك عن PageV03P426 # أبي هريرة (1) ، ولم يعرف لهم مخالف، مع أنها في مظنة الاشتهار وأما ~~الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده أن جده أسلم وأبت ~~امرأته أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يبلغ، قال: فأجلس النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - الأب هاهنا والأم هاهنا، ثم خيره وقال: "اللهم اهده"، فذهب إلى ~~أبيه. هكذا رواه أحمد والنسائي (2) . # ورواه أبو داود (3) عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدي رافع ~~بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبيهه، وقال رافع: ابنتي. فقال له رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -: "اقعد ناحية"، وقال لها: "اقعدي ناحية"، وأقعد ~~الصبية بينهما، ثم قال: "ادعواها"، فمالت إلى أمها، فقال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "اللهم اهدها"، فمالت إلى أبيها فأخذها. # وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان ~~الأنصاري. وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم، فقال ابن المنذر: في إسناده مقال، ~~وقال غيره: هذا الحديث لا يثبته أهل النقل، وقد روي على غير هذا الوجه، وقد ~~اضطرب فيه هل كان المخير ذكرا أم أنثى؟ ومن روى أنه كان أنثى قال فيه: ~~"إنها فطيم" أي مفطومة. # وفعيل بمعنى مفعول إذا كان صفة يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: عين ~~كحيل، وكف خضيب، فيقال للصغير "فطيم" وللصغيرة "فطيم". ولفظ "الفطيم" إنما ~~يطلق على قريب العهد بالفطم، فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يخير ~~باتفاق العلماء. PageV03P427 # وأيضا فإنه خير بين مسلم وكافر، وهذا لا يجوز عند الأئمة الأربعة وغيرهم، ~~فإن القائلين بالتخيير لا يخيرون بين مسلم وكافر، كالشافعي وأحمد. وأما ~~القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يخيرون. لكن ~~أبو ثور يقول بالتخيير، فيما حكاه عنه ابن المنذر. والجمهور على أنه لا ~~حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوار وعبد الله بن الحسن. # وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن ms0593 القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة، ~~وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الإصطخري من أصحاب الشافعي. وقد ~~قيد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحق بولدها ما لم يعقل الأديان، ويخاف أن يألف ~~الكفر. # والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلما باتفاقهم. وكذلك إن كانت الأم مسلمة ~~عند الجمهور، كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة، فإنه يتبع عند الجمهور في الدنيا ~~خيرهما دينا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو ~~الرق يتبع الأم بالاتفاق. # وقد حمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنها ~~تختار الأب بدعائه، فكان ذلك خاصا في حقه. # وأيضا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن ~~الأب كان من الأنصار فأسلم، والأم لم تسلم. # وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار، فلم يكن فيهم إلا مسلمة، حتى قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء ~~الأنصار" (1) . PageV03P428 # ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة لم يكره أحدا على ~~الإسلام، ولا ضرب الجزية على أحد، ولكن هادن اليهود مهادنة. وأما الأنصار ~~ففشا فيهم الإسلام، وكان فيهم من لم يسلم، بل كان مظهرا لكفره، فلم يكونوا ~~ملتزمين لحكم الإسلام. وكذلك كان عبد الله بن أبي ابن سلول وغيره قبل أن ~~يظهروا الإسلام. # وقد ثبت في الصحيحين (1) من حديث أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~ذهب يعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس من الأنصار ... الحديث. ففي، هذا الحديث ~~وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير ~~إسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~إذ التزام حكمه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم ~~يكن المشركون كذلك. فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن ~~يهدي الصغير، فاستجاب الله. ودعاؤه له أن يهديه دليل على أنه كان طالبا ~~مريدا لهداه، وهداه أن يكون عند ms0594 المسلم لا عند الكافر. لكن لم يمكنه ذلك ~~بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه المقبول. وهذا ~~يدل على أنه متى أمكن أن يجعل مع المسلم لا يجعل مع الكافر. # وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمين جريان حكم الله ورسوله ~~عليهم، يحكم بينهم بذلك. نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل ~~الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريان حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن ~~الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذ في تغليب الإسلام بالدعاء ~~كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان الاجتهاد في ظهور الإسلام ~~ودعاؤه واجبا بحسب الإمكان. # وعلى هذا فالحديث إن كان ثابتا دليل على التخيير في الجملة. # لكن قد اختلف في المخير: هل كان صبيا أو صبية؟ فلم يتبين أحدهما، فلا ~~يبقى فيه حجة على تخيير الأنثى، لا سيما والمخيرة كانت فطيما، وهذه لا تخير ~~باتفاقهم، وإنما كان تخيير هذه إن صح الحديث من جنس آخر. # (آخر ما وجد، والحمد لله وحده، وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ~~وسلم. وكتب في شهر ربيع الأول من شهود سنة أربع وستين وسبعمئة، أحسن الله ~~عاقبتها بمنه وكرمه، آمين يا رب العالمين. وكتبها أضعف العباد عبد المنعم ~~البغدادي الحنبلي عفا الله عنه بمنه وكرمه) . PageV03P429 # مقدمة # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. # وبعد، يسرني أن أقدم إلى القراء ### | المجموعة الرابعة # من "جامع المسائل"، التي تحتوي على مسائل وفتاوى كثيرة لم تنشر من قبل، ~~ومعظمها مما كتبه شيخ الإسلام مدة إقامته في مصر في السنوات (705-712) . ~~وقد كانت الفتاوى المصرية جمعت بواسطة بعض تلاميذ الشيخ فبلغت ستة مجلدات ~~أو سبعة. يقول ابن القيم في نونيته (1) : # وكذاك أجوبة له مصرية في ست أسفار كتبن سمان # ويذكر ابن رجب أن الفتاوى المصرية سبع مجلدات (2) . أما ابن عبد الهادي ~~(3) فلم يحدد عدد المجلدات، بل قال: "وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من ~~فتاويه الفروعية ms0595، وبوبها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تعرف بالفتاوى ~~المصرية، سماها بعضهم الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية". وذكر بعض ~~المترجمين له PageV04P005 # - مثل الصفدي (1) وابن شاكر (2) - أن بعض الناس جمع فتاويه بالديار ~~المصرية مدة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة. # ولعل هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف النسخ، فبعضها كانت في ستة مجلدات، ~~وأخرى في سبعة، وأخرى في ثلاثين جزءا من الأجزاء الصغار. أو أن الثلاثين ~~كانت تحتوي على الفتاوى التي أفتى بها في مصر وفي غيرها، فالمجلدات الستة ~~أو السبعة كانت قسما من عامة مجلدات فتاواه التي جمعت. ومما يؤيد هذا الرأي ~~أن ابن القيم ذكر أن الأجوبة المصرية في ست أسفار، ثم ذكر بعد أبيات (3) : # وكذا فتاواه، فأخبرني الذي أضحى عليها دائم الطوفان # بلغ الذي ألفاه منها عدة ال أيام من شهر بلا نقصان # سفر يقابل كل يوم، والذي قد فاتني منها بلا حسبان # يقصد أن ما وجد من عامة فتاواه كان ثلاثين مجلدا، أما ما لم يوجد منها أو ~~لم يجمع بل تفرق في البلدان فهذا لا يعد ولا يحصى. # ومهما يكن من شيء فإن مجموعة الفتاوى المصرية للشيخ كانت مرتبة على ~~الأبواب، وكانت تسمى "الدرر المضية". ومما يؤسف له أنها أصبحت شذر مذر، ولم ~~توجد كاملة حتى الآن، PageV04P006 # وبعد البحث الشديد والتتبع الطويل في مكتبات المخطوطات وفهارسها وقفت على ~~أربعة مجلدات منها، وبقي مجلدان أو ثلاثة لازلت في البحث عنها، ولعل الله ~~ييسر الحصول عليها في المستقبل. # وقد تم نشر كثير من الفتاوى المصرية المتفرقة ضمن بعض المجلدات من ~~"مجموعة الفتاوى الكبرى" (طبعة مصر) و"مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، ولكن ~~دون تمييز بين الفتاوى المصرية وغير المصرية، ولا يمكن معرفتها إلا بالرجوع ~~إلى الأصول أو مقابلتها مع "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي (ت 777) ، وهو ~~مطبوع، مرتب على الأبواب كالأصل (1) ، وفيه اختصار شديد للفتاوى، اقتصر فيه ~~المختصر على النكت والفوائد والمسائل المستغربة من كلام الشيخ، واقتبس ~~أحيانا سطرا أو سطرين أو أسطرا قليلة من الفتاوى الطويلة. ومن ms0596 أمثلة ذلك: ~~الفتوى رقم (9) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/8-23) ، نجد منها في ~~"المختصر" (ص 14- 15) ستة أسطر فقط، والفتوى رقم (17) من "مجموعة الفتاوى ~~الكبرى" (1/39-42) ، اقتبس منها في "المختصر" (ص 27) نصف سطر. وهكذا في ~~كثير من الفتاوى والمسائل. ولذا أرى أن هذا المختصر وإن كان "فيه من ~~الفوائد ما لم يوجد في غيره من المطولات" - كما قال الحافظ ابن حجر (2) - ~~ونافعا لمعرفة آراء PageV04P007 # شيخ الإسلام في المسائل التي سئل عنها، فإنه لا يغني عن الرجوع إلى أصل ~~كلامه الذي أورد فيه الحجج، وناقش أصحاب الأقوال المرجوحة، وفصل القول في ~~بعض المسائل، واستطرد إلى مباحث وفوائد أخرى مهمة، كما يظهر ذلك بالمقارنة ~~بين الأصل والمختصر. # عثرت على مجلد من الأصل في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن ~~مجموعة المكتبة المحمودية برقم [1402] ، وهو الجزء الثاني منه، عدد أوراقه ~~207 ورقة. وقد كتب الناسخ في آخره: "وكان الفراغ من هذا الجزء الثاني من ~~كتاب الدرر فتاوى الشيخ رحمه الله ورضي عنه على يد أبي بكر بن أحمد بن عبد ~~الله ابن عبد الغني بن أبي بكر بن أبي القاسم البعلي - عفا الله عنه - في ~~خامس شهر جمادى الآخر (كذا) سنة اثنتين وأربعين وسبعمئة ببعلبك". # والنسخة بخط نسخي جيد، والأخطاء فيها قليلة، وهي مقابلة على الأصل ~~المنسوخ منه كما يظهر من الدوائر المنقوطة ومن الإلحاقات والتصحيحات على ~~هوامشها. # وهذا الجزء يحتوي على قسم من باب الأدعية والأذكار، وباب الكسوف، وباب ~~الاستسقاء، وباب الحكم في ترك الصلاة، وكتاب الجنائز. وعدد المسائل ~~والفتاوى الموجودة فيه مئة مسألة. وقد أفردت منها تلك المسائل التي لم تنشر ~~ضمن "مجموع الفتاوى"، فكان عددها 54 مسألة، بعضها طويلة جدا، مثل المسألة ~~الأولى في شرح حديث أبي بكر "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ... "، ~~والمسألة الثانية والتسعين في إهداء الثواب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-. وقد ورد # PageV04P008 # ذكر المسألتين في بعض المصادر القديمة، فقد ذكر الأولى ابن رشيق (1) ~~بعنوان "شرح دعاء أبي بكر"، وابن عبد الهادي (2) بعنوان " [شرح] حديث ~~الدعاء الذي علمه النبي - صلى ms0597 الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق "اللهم إني ~~ظلمت نفسي ظلما كثيرا"". والمسألة الأخرى ورد ذكرها بعنوان "رسالة في إهداء ~~الثواب للنبي - صلى الله عليه وسلم - " عند ابن رشيق (3) . وهناك مسائل ~~أخرى كثيرة في حكم تارك الصلاة وغير ذلك تنشر في هذه المجموعة لأول مرة. # ووجدت 13 مسألة من الفتاوى المصرية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم ~~[3537] (الورقة 89 أ-97ب) مكتوبة في سنة 756 بخط علي بن حسن بن محمد ~~الحرانى كما هو مثبت في آخرها. فضممتها إلى ما استخلصتها من المجموعة ~~السابقة. # أما المسائل الأخرى التي تلي الفتاوى المصرية في هذه المجموعة فهي مأخوذة ~~من نسخة حديثة الخط من فتاوى الشيخ، محفوظة في المكتبة القادرية ببغداد ~~برقم [491] ، عدد أوراقها 193 ورقة، وهي بخط نسخي معتاد، كتبها محمد بن علي ~~بن الملا أحمد سبته، وفرغ منها في 21 من شعبان سنة 1306. وهذه النسخة تحتوي ~~على "مسائل وردت من الصلت" ومسائل أخرى لم تنشر ضمن "مجموع الفتاوى". وقد ~~ذكر ابن عبد الهادي (4) "أجوبة PageV04P009 # كثيرة عن مسائل وردت من الصلت"، وذكرها ابن رشيق (1) بعنوان "أجوبة مسائل ~~الصلط"، وذكرها الصفدي وابن شاكر (2) بعنوان "جواب مسائل وردت من الصلت". ~~وكانت هذه المسائل في حكم المفقود، حتى وفقني الله للعثور عليها في هذه ~~النسخة، فالحمد لله على ذلك. # وأجوبة هذه المسائل مختصرة موجزة في أسطر قليلة، اقتصر فيها الشيخ على ~~ذكر الحكم في المسألة دون الخوض في التفاصيل والحجج والمناقشات. أما ~~المسائل الأخرى في المجموع فهي على أسلوبه المعروف في الاستطراد والتفصيل، ~~وبعد مقابلتها على "مجموع الفتاوى" حصلت على قدر لا بأس به من المسائل التي ~~لم تنشر ضمنه، فأدخلتها في هذه المجموعة الرابعة. # والرسالة الأخيرة هنا كانت مجهولة العنوان والمؤلف ضمن مجموع من مجاميع ~~المدرسة العمرية الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 91] ، ~~(الورقة 137-146) ، وهذا المجموع يحتوي على كثير من رسائل شيخ الإسلام، ~~وبعضها بخطه. وقد تأملت في هذه الرسالة فوجدتها مضطربة في الترتيب، وينبغي ~~أن يكون ترتيب أوراقها كما يلي: (146، 138-145، 137) . والرسالة بخط نسخي ~~جيد، وقد كتب في ms0598 أعلى الورقة (137/أ) بيد بعض المفهرسين "الكلام في ~~الصفات"، ولما قرأت PageV04P010 # فيها بعد ترتيب أوراقها وجدتها في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن ~~حمويه (ت 652) ، ناقش فيها بعض آرائه في التصوف ووحدة الوجود، وبين ~~مصادرها، وانتقدها في ضوء الكتاب والسنة. # وقد ذكر شيخ الإسلام ابن حمويه في بعض مؤلفاته (1) ورد عليه، ولم أجد من ~~أشار إلى مؤلف له في هذا الموضوع، وعلى هذا فتكون لهذه الرسالة قيمة كبيرة، ~~وتضاف إلى جملة مؤلفاته في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ابن عربي ~~وأمثاله) . # وقد بعث المؤلف هذه الرسالة إلى أحد أتباع سعد الدين بن حمويه، ولم أتمكن ~~من تحديد اسمه لكونها ناقصة الأول والآخر في هذه النسخة التي وصلت إلينا، ~~والتي تبدأ بأثناء نص مقتبس من كلام الشخص المذكور وتعليق المؤلف عليه، ~~وكتب في آخرها: "بياض كبير". وهذا يدل على أن الأصل المنسوخ عنه كان ناقصا ~~من آخره. ولم أجد نسخة أخرى من هذه الرسالة تكمل النقص، فأبقيتها كما هي ~~حفاظا على الموجود منها ليستفاد. # وفي الختام أحمد الله على توفيقه لإخراج هذه المجموعة، وأدعوه أن يجعلها ~~نافعة للباحثين وطلاب العلم، وأرجو منهم أن لا ينسوني في دعواتهم الصالحة. ~~والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. # محمد عزير شمس PageV04P011 ### | - نماذج من الأصول الخطية # PageV04P013 # مسائل من الفتاوى المصرية # PageV04P021 # بسم الله الرحمن الرحيم # مسألة # في شرح الحديث الذي ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي بكر ~~الصديق رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في ~~صلاتي، فقال: قل: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا ~~أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" (1) . # شرحه الحكيم فقال (2) : هذا عبد اعترف بالظلم، ثم التجأ إليه مضطرا، لا ~~يجد لذنبه ساترا غيره، ثم سأله مغفرة من عنده. # والأشياء كلها من عنده، ولكن أراد شيئا مخصوصا ليس مما بذله للعامة، فلله ~~تعالى رحمة قد عمت الخلق برهم وفاجرهم، سعيدهم ms0599 وشقيهم، في أرزاقهم ومعايشهم ~~وأحوالهم؛ ثم له رحمة خص بها المؤمنين، وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمة خص ~~بها المتقين، وهي رحمة الطاعة لله تعالى؛ ولله رحمة خص بها الأولياء نالوا ~~بها الولاية، وله رحمة خص بها الأنبياء نالوا بها النبوة. ولما ذكر في ~~PageV04P023 # تنزيله الأنبياء قال: (ووهبنا لهم من رحمتنا) (1) . وقال الراسخون في ~~العلم: (وهب لنا من لدنك رحمة) (2) . فإنما سألوه رحمة من عنده. # فهذا صورة ما شرحه الحكيم الترمذي، ولم يذكر صفة الظلم وأنواعه كما ذكر ~~صفات الرحمة. # والمسئول شرح ما مفهوم قول الصديق "ظلمت نفسي ظلما كثيرا"؟ والذنب بين ~~يدي الله تعالى لا يحتمل المجاز، والصديق من أئمة السابقين، والرسول - صلى ~~الله عليه وسلم - أمره بذلك، فسيدي بسط القول في ذلك مما يفهمه السائل، وما ~~هو الظلم الذي نسبه الصديق إلى نفسه كما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-؟ # أجاب # الحمد دلله. الدعاء الذي فيه ### | اعتراف العبد بظلم نفسه ليس من خصائص الصديقين # ومن دونهم، بل هو من الأدعية التي يدعو بها الأنبياء وهم أفضل الخلق، قال ~~الله تعالى عن آدم وحواء: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا ~~لنكونن من الخاسرين (23)) (3) ، وقال موسى عليه السلام: (رب إنى ظلمت نفسى ~~فاغفر لى فغفر له إنه هو PageV04P024 # الغفور الرحيم (16)) (1) ، وقد دعا غيرهم بنحو هذا الدعاء، كقول الخليل ~~عليه السلام: (ربنا اغفرلى ولولدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)) (2) ، # وقال: (والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين (82)) (3) ، وقال هو ~~وإسماعيل: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين ~~لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ~~(128)) (4) ، وقال موسى عليه السلام: (أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت ~~خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا ~~إليك) (5) ، وقال نوح عليه السلام: (رب أنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به ~~علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين (47)) (6) ، وقال يونس: (لا إله ~~إلا أنت سبحانك إنى كنت ms0600 من الظالمين (87)) (7) . # وقد ثبت في الصحيح (8) من حديث علي عليه السلام عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، ~~أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، فإنه ~~لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن PageV04P025 # الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف ~~عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك ~~وإليك، أستغفرك وأتوب إليك". وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، ~~وعلانيته وسره، وأوله وآخره". # وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول بين التكبير والقراءة: "اللهم ~~باعد (3) بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من ~~الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء ~~والثلج والبرد". # وثبت أيضا في صحيح مسلم (4) أنه كان يقول نحو هذا الدعاء إذا رفع رأسه من ~~الركوع بعد التسميع والتحميد، وبعد أن يقول: "أهل الثناء والمجد أحق ما قال ~~العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا ~~الجد منك الجد" (5) . PageV04P026 # وثبت عنه في الصحيحين (1) عن أبي موسى أنه كان يقول في دعائه: "اللهم ~~اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر ~~لي هزلي وجدي وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، ~~وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت ~~على كل شيء قدير". # وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول في دعائه بالليل: "اللهم لك الحمد ~~أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن ~~فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ~~ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد ms0601 - صلى ~~الله عليه وسلم - حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، ~~وبك خاصمت، وإليك حاكمت. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما ~~أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت". # وثبت عنه في الصحيح (3) عن عائشة أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك ~~اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن، أي يمتثل ما أمر به في ~~قوله: (فسبح بحمد ربك واستغفره PageV04P027 # إنه كان توابا (3)) (1) . كما امتثل بتلك الأدعية ما أمره في قوله: ~~(فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار (55)) ~~(2) ، (فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (3) ~~. # وهذا الدعاء الذي ذكرته عائشة بعد نزول قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ~~ذنبك وما تأخر) (4) ، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن سورة "إذا جاء نصر الله ~~والفتح" آخر سورة أنزلت. وأيضا فأبو موسى الأشعري وأبو هريرة إنما صحباه ~~بعد نزول قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) ، فإن هذه الآية ~~قد ثبت في الصحيح (6) أنها نزلت عام الحديبية لما بايعه الصحابة بيعة ~~الرضوان تحت الشجرة وانصرف، وقد خالط أصحابه كآبة وحزن لرجوعهم، ولم يتموا ~~العمرة التي خرجوا لها، وقد صالحوا المشركين، لما أن في ظاهره غضاضة عليهم، ~~حتى كرهه كثير منهم، وجرت فيه فصول، فأنزل الله سورة الفتح بنصرته من ~~الحديبية، وهو في الطريق قبل وصوله إلى المدينة، ثم إنه تجهز من المدينة ~~لفتح خيبر، وفي أواخر غزاة PageV04P028 # خيبر قدم عليه أبو موسى والأشعريون، وفي تلك المدة أسلم أبو هريرة. ولما ~~أنزل الله عليه هذه الآية (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال له ~~الناس: يا رسول الله! هذا لك، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى (هو الذي أنزل ~~السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) (1) . # وفي هذا رد على طائفة من الناس - كبعض المصنفين في السير وفي مسألة ~~العصمة - يقولون في قوله (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) : وهو ذنب ms0602 آدم، ~~(وما تأخر) ذنب أمته، فإن هذا القول وإن كان لم يقله أحد من الصحابة ~~والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقوله من يعقل ما يقول، فقد قاله طائفة ~~من المتأخرين (2) ، ويظن بعض الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله ~~وتحريف الكلم عن مواضعه، فإنه قد ثبت في الصحاح (3) في أحاديث الشفاعة أن ~~الناس يوم القيامة يأتون آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر إليهم ويقول: إني ~~نهيت عن الشجرة فأكلت منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيا بعد نبي إلى أن يأتوا ~~المسيح، فيقول: ائتوا محمدا فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما ~~تأخر. فلو كانت "ما تقدم" هو ذنب آدم لم يعتذر آدم. PageV04P029 # وأيضا فلما نزلت الآية قالت الصحابة: هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله: (هو ~~الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) ، فلو كان "ما تأخر" مغفرة ذنوبهم ~~لقال: هذه لكم. # وأيضا فقد قال تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (1) ، ففرق ~~بين ما أضاف إليه وما يضاف إلى المؤمنين والمؤمنات. # وأيضا فإضافة ذنب غيره إليه أمر لا يصلح في حق آحاد الناس، فكيف في حقه - ~~صلى الله عليه وسلم -؟ حتى تضاف ذنوب الفساق من أمته إليه، ويجعل ما جعلوه ~~(2) من الكبائر - كالزنا والسرقة وشرب الخمر - ذنبا له - صلى الله عليه ~~وسلم -، والله يقول في كتابه: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (3) ، ويقول في ~~كتابه: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112)) (4) ~~، قالوا (5) : الظلم أن تحمل عليه سيئات غيره، والهضم أن ينقص هو من ~~حسناته، وهو أفضل من عمل من الصالحات وهو مؤمن، فكيف تحمل عليه سيئات غيره ~~وتضاف إليه؟ وأي فرق بين ذنب آدم وذنب نوح والخليل وكلهم آباؤه؟ وأي فرق ~~بين ذنب الإنسان وذنب غيره (6) حتى يضاف إليه هذا دون هذا؟ والله يقول: (أم ~~لم ينبأ بما في PageV04P030 # صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)) (1) ~~والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لرجل معه ابنه: "لا يجني عليك ولا تجني ~~عليه" (2) . # وأيضا ms0603 فقد قال الله في غير موضع في القرآن (3) إنه ليس عليه إلا البلاغ ~~المبين، وقال: (فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) (4) . فإذا ~~كان على أمته ما حملوا وهو ليس عليه إلا البلاغ المبين كيف تكون ذنوب أمته ~~ذنوبه؟ ومثل هذا القول لا يخفى فساده على من له أدنى تدبر، وإن كان قاله ~~طوائف من المصنفين في العصمة، حتى يرى ذلك بعض من له في السنة والفقه ~~والحديث قدم، لكن الغلو أوجب اتباع الجهال الضلال، فإن مثل هذه التفاسير ~~إنما يصدر في الابتداء عن أهل التحريف لكتاب الله: إما من الزنادقة ~~المنافقين، وإما من المبتدعة الضالين. # وأول من دخل في الغلو من أهل الأهواء هم الرافضة، فإنهم لما ادعوا في علي ~~وغيره أنهم معصومون حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبتوا ذلك للأنبياء بطريق ~~الأولى والأحرى، ولما نزهوا عليا ومن هو دون علي من أن يكون له ذنب يستغفر ~~منه كان تنزيههم PageV04P031 # للرسل أولى وأحرى. # ثم جاءت القرامطة الزنادقة المنتسبون إلى الشيعة لما ادعوا عصمة أئمتهم ~~الإسماعيلية العبيدية القرامطة الباطنية الفلاسفة الدهرية صاروا يقولون: ~~إنهم معصومون يعلمون الغيوب، وصار من صار منهم يعبدهم ويعتقد فيهم الإلهية، ~~كما كانت الغالية تعتقد في علي وغيره الإلهية أو النبوة. # وأما الإمامية الاثنا عشرية الذين لا يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر بل ~~بإمامة موسى بن جعفر، فهم [و] إن كانوا لا يقولون بإلهية علي ولا نبوته، ~~فهم يقولون بالعصمة حتى في المنتظر الذي دخل في سرداب سامراء سنة ستين ~~ومائتين وهو طفل غير مميز، قيل: كان له سنتان، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: خمس. ~~ويقولون: إنه إمام معصوم لا يجوز عليه الخطأ، ويقولون: إن الإيمان لا يتم ~~إلا به، ومن لم يؤمن به فهو كافر. وقد علم أهل العلم بالأنساب أن (1) الحسن ~~بن علي العسكري أباه لم يكن له نسل ولا عقب، ولو كان له ولد صغير لكان تحت ~~الحجر على ماله، وأن يحضنه من يستحق الحضانة، فلا يكون له ولاية لا على ~~نفسه ms0604 ولا على ماله حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، فحينئذ يسلم إليه ماله، فكيف ~~يكون لمثل هذا ولاية على المسلمين؟ فضلا عن أن يكون معصوما، فضلا عن أن ~~يكون اتباعه ركنا في الإيمان. PageV04P032 # ثم لما صار مثل هذا يدعى ادعى ابن التومرت صاحب "المرشدة" أنه المهدي ~~الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقال في الخطبة له: ~~"المهدي المعلوم" و"الإمام المعصوم" حتى رفع ذلك. # وصار من الغلاة في مشايخهم يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك، فإما أن يقول: ~~هو معصوم، أو يقول: هو محفوظ، والمعنى عنده واحد، وإما أن ينكر ذلك بلسانه ~~ولكن يعامله معاملة المعصوم. # فهؤلاء إذا كان أحدهم يعتقد في بعض الرجال المؤمنين أنهم معصومون من ~~الذنوب بل ومن الخطأ، كيف لا يعتقدون ذلك في الأنبياء؟ فغلوهم فيمن غلوا ~~فيه من أئمتهم أهل المشيخة أو النسب يوجب عليهم أن يغلوا في الأنبياء بطريق ~~الأولى، فإن كان من المسلمين اعتقدوا أن الأنبياء أفضل منهم، وإن كانوا ممن ~~يعتقد في الشيخ والإمام أنه أفضل من النبي - كما يقول ذلك المتفلسفة ~~والشيعة وغلاة المتصوفة الاتحادية وغير الاتحادية - فهم لابد أن يقروا ~~الغلو في الأنبياء حتى توافقهم الناس على الغلو في أئمتهم. # وهذا كله من شعب النصرانية الذين وصفهم الله بالغلو في القرآن، وذمهم ~~عليه ونهاهم فقال: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله ~~إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح ~~منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله ~~واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله ~~وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن ~~يستنكف عن عبادته ويستكبر # PageV04P033 # فسيحشرهم إليه جميعا (172)) (1) الآية، وقال تعالى: (يأهل الكتاب لا ~~تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا ~~كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)) (2) . # وقد ثبت عن النبي - صلى ms0605 الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تطروني كما أطرت ~~النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" (3) . وقال: ~~"إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" (4) . ~~وهذا قال لهم بسبب رمي الجمار لئلا يغلوا فيها، فكيف فيما هو أعظم من ذلك؟ ~~وهؤلاء أهل الغلو النصارى ومن شابههم من هذه الأمة في الغلو - كما ثبت عنه ~~في الصحيحين (5) أنه قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى ~~لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" - هم قصدوا تعظيم الأنبياء والصالحين بالغلو ~~فيهم، فوقعوا في تكذيبهم وبغضهم ما جاءوا به، فإن المسيح قال للنصارى كما ~~أخبر الله عنه أنه قال: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى ~~وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم ~~وأنت على كل شئ شهيد (117)) (6) وقال المسيح: (إني عبد PageV04P034 # الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)) (1) . والغلاة فيه كذبوه وعصوه، ~~فقالوا: ما هو عبد الله بل هو الله، وأشركوا به الشرك الذي نهاهم عنه. # وكذلك الغالية في علي وفي غيرهم (2) من أهل العلم والإيمان، وعلي عليه ~~السلام يقول: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري" ~~(3) . وحرق الغالية فيه بالنار، ويقول ما نقل عنه من نحو ثمانين وجها: "خير ~~هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" (4) ، ويذكر ذلك لابنه محمد بن ~~الحنفية كما رواه البخاري في الصحيح (5) عنه، والشيعة تكذبه وتخالفه. # فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى. وكذلك (6) أتباع الشيوخ ~~الصالحين المهتدين يضلون فيهم، ويتركون اتباعهم على الطريقة التي يحبها ~~الله ورسوله. # و ### | هذا باب دخل فيه الشيطان على خلق كثير # فأضلهم، حتى يجعل أحدهم قول الحق تنقصا له، فإذا قيل للنصارى في المسيح: ~~PageV04P035 # (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة) (1) ~~قالوا: هذا تنقيص بالمسيح وسوء أدب معه، وهم مع هذا يشتمون الله ويسبونه ~~مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ms0606، كما كان معاذ بن جبل يقول في النصارى: "لا ~~ترحموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر". # وفي الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يقول الله ~~تعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، ~~فأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ~~ولم يكن له كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، أوليس ~~أول الخلق بأهون علي من إعادته؟ ". # وهؤلاء الغالية يجمعون بين شتم الرب وتكذيبه، وهكذا الغالية المنتسبون ~~إلى هذه الأمة تجد أحدهم يغلو في قدوته، حتى يكره أن يوصف بما هو فيه، ~~ويقال عليه الحق، وهو مع هذا يقول في الله العظائم التي ما قالتها فيه لا ~~اليهود ولا النصارى، حتى يقول: إن الله موصوف بكل ذم وكل عيب كما هو موصوف ~~بكل حمد وكل مدح، وإنه هو إبليس وفرعون والأصنام، كما قالته النصارى في ~~المسيح، والله سبحانه عاب على المشركين ما هو دون هذا، حيث قال: (وجعلوا ~~لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ~~فما كان لشركائهم فلا PageV04P036 # يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)) (1) ~~،وقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (2) ~~. # وهؤلاء يريدون أن يقال في أئمتهم الحق، ويقولون على الله الباطل، ويرضون ~~بأن يسب الله ويشتم، ولا يرضون بأن يسب متبوع أحدهم على ما افتراه على الله ~~ورسوله، بل لا يرضون أن يقال فيه الحق أو أن يضاف إليه خطأ جائز عليه وواقع ~~منه. وقال تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا ~~تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق ~~بالأمن إن كنتم تعلمون (81)) (3) . قال تعالى: (الذين أمنوا ولم يلبسوا ~~إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)) (4) . # كان المشركون يخوفون المؤمنين بآلهتهم، ويقولون: إنكم إذا ms0607 لم تتخذوها ~~شركاء وشفعاء فإنها تضركم، فأنكر الخليل عليه السلام وقال: (وكيف أخاف ما ~~أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) ، أي كيف ~~أخاف ما تدعونه من دون الله؟ وهو لا يضر ولا ينفع إلا بإذن الله، وأنتم لا ~~تخافون الله حيث أشركتم به فجعلتم له أندادا، فأعدلتموهم به، تدعون من دونه ~~PageV04P037 # وتخافونهم وترجونهم، وهو لم ينزل بذلك عليكم سلطانا، وهو الكتاب المنزل ~~من السماء، (فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81)) . # وفي الصحيحين (1) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الذين أمنوا ولم ~~يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هو ~~الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (إن الشرك لظلم عظيم (13)) (2) ". # وهذا باب يطول وصفه، وإنما المقصود التنبيه عليه. # إذا عرف هذا فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجميع الطوائف الذين لهم قول ~~يعتبر أن من سوى الأنبياء ليس بمعصوم، لا من الخطأ ولا من الذنوب، سواء كان ~~صديقا أو لم يكن، ولا فرق بين أن يقول: هو معصوم من ذلك، أو محفوظ من ذلك، ~~أو ممنوع من ذلك. # قال الأئمة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -، فإنه هو الذي أوجب الله على أهل الأرض الإيمان به وطاعته، بحيث يجب ~~عليهم أن يصدقوه بكل ما أخبر ويطيعوه في كل ما أمر. # وقد ذكر الله طاعته واتباعه في قريب من أربعين موضعا في PageV04P038 # القرآن، كما قال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (1) ، وقال: (وما أرسلنا ~~من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (2) وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى ~~يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ~~(65)) (3) ، وقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) ، ~~إلى قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أؤ يصيبهم عذاب ~~أليم (63)) (4) ، وقال تعالى: (والله ورسوله ms0608 أحق أن يرضوه) (5) ، وقال ~~تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (6) ،وقال تعالى: ~~(فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (7) ، وقال تعالى: (ومن يطع ~~الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين ~~والشهداء والصالحين) (8) . # وطاعة الله والرسول هي عبادة الله التي خلق لها الجن والإنس، فهي غايتهم ~~التي يحبها الله ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاء من بعضهم ما ~~هو بخلاف ذلك وخلقهم له، فتلك غاية PageV04P039 # شاءها وقدرها، وهذه غاية يحبها ويأمر بها ويرضاها. والكلام على هذا مبسوط ~~في غير هذا الموضع (1) . # والعبادة لله أن يجمع غاية الحب له بغاية الذل له، فكل خير وكل كمال ~~ومقام وحال قرب إليه ونحو ذلك مما يحمد من العباد ويطلب منهم ويرضى لهم فهو ~~داخل في طاعة الله ورسوله أو مستلزم لذلك. ولهذا اتفقت الأمة على أنه معصوم ~~فيما يبلغه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصود الرسالة لا يتم إلا بذلك، وكل ~~ما دل على أنه رسول الله من معجزة وغير معجزة فهو يدل على ما قال - صلى ~~الله عليه وسلم -:" فإني لن أكذب على الله" (2) . # وقد اتفقوا أنه لا يقر على خطأ في ذلك، وكذلك لا يقر على الذنوب لا ~~صغائرها ولا كبائرها، ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعض الصغائر مع التوبة ~~منها أو لا يقع بحال؟ # فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا ~~يقع منهم الصغيرة بحال، وزادت الشيعة حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا ~~غير خطأ. # وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث ~~من أصحاب الأشعري وغيرهم فلم يمنعوا الوقوع إذا كان مع التوبة، كما دلت ~~عليه نصوص الكتاب والسنة، PageV04P040 # فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإذا ابتلى بعض الأكابر بما يتوب ~~منه فذاك لكمال النهاية، لا لنقص البداية، كما قال بعضهم: لو لم يكن التوبة ~~أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه. وفي الأثر (1) : "إن ~~العبد ليعمل السيئة ms0609 فيدخل بها الجنة، وإن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها ~~النار"، يعني أن السيئة يذكرها ويتوب منها فيدخله ذلك الجنة، والحسنة يعجب ~~بها ويستكبر فيدخله ذلك النار. # وأيضا فالحسنات والسيئات تتنوع بحسب المقامات، كما يقال: "حسنات الأبرار ~~سيئات المقربين"، فمن فهم ما تمحوه التوبة وترفع صاحبها إليه من الدرجات ~~وما يتفاوت الناس فيه من الحسنات والسيئات زالت عنه الشبهة في هذا الباب، ~~وأقر الكتاب والسنة على ما فيهما (2) من الهدى والصواب. # فإن الغلاة يتوهمون أن الذنب إذا صدر من العبد كان نقصا في حقه لا ينجبر، ~~حتى يجعلوا من فضل بعض الناس أنه لم يسجد لصنم قط. وهذا جهل منهم، فإن ~~المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضل من أولادهم وغير ~~أولادهم ممن ولد على الإسلام، وإن كانوا في أول الأمر كانوا كفارا يعبدون ~~الأصنام، بل المنتقل من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى PageV04P041 # الحسنات يضاعف له الثواب، كما قال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا ~~صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70)) (1) . # وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله يوم القيامة يظهر لعبده فيقول: "إني قد ~~أبدلتك مكان كل سيئة حسنة"، فحينئذ يطلب كبائر ذنوبه. # وقد ثبت في الصحاح (3) من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~أخبر أن الله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل (4) راحلته بأرض دوية مهلكة ~~عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما ~~استفاق إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا ~~براحلته. # وهذا أمر عظيم إلى الغاية. فإذا كانت التوبة بهذه المنزلة كيف لا يكون ~~صاحبها معظما عند الله؟ وقد قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات ~~والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما ~~جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب ~~الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله PageV04P042 # غفورا رحيما (73)) (1) ، فوصف الإنسان بالجهل والظلم، وجعل الفرق بين ~~المؤمن والكافر والمنافق أن يتوب الله ms0610 عليه، إذ لم يكن له بد من الجهل ~~والظلم. ولهذا جاء في الحديث (2) : "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين ~~التوابون". # واعلم أن كثيرا من الناس يسبق إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقة ونحو ~~ذلك، فيستعظم أن كريما يفعل ذلك، ولا يعلم أن أكثر عقلاء بني آدم لا يسرقون ~~بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا ~~قبل الإسلام لا يرضون (3) أن يفعلوا مثل هذه الأعمال، ولما بايع النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - هندا بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية بيعة النساء على أن ~~لا يسرقن ولا يزنين، قالت: أو تزني الحرة؟ (4) فما كانوا في الجاهلية ~~يعرفون الزنا إلا للإماء. ولهذا قولهم "حرة" تراد به العفيفة، لأن الحرائر ~~كن عفائف. # وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يعرفه، ولم يكن هذا يعرف في العرب قط. ~~PageV04P043 # ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ~~ورسله واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العلو في ~~الأرض والفخر والخيلاء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين ~~هم متعففون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإن الإخلاص ~~لله والتوكل على الله والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر ~~على حكم الله والتسليم لأمر الله= كل هذا من الواجبات، وكذلك الجهاد في ~~سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات، ~~وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول تفصيله في هذا السؤال، حتى يفطن ~~هذا ثم يفتح له الباب. # وقد ذكر الله الذين وعدهم بالحسنى فلم ينف عنهم الذنوب، ولكن ذكر المغفرة ~~والتكفير فقال: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33) لهم ما ~~يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ~~ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35)) (1) ، وقال تعالى: (أولئك ~~الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد ~~الصدق الذي كانوا ms0611 يوعدون (16)) (2) . # وقد ثبت في الصحيح (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن يدخل أحد ~~منكم الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن ~~يتغمدني الله برحمته". PageV04P044 # فصل # إذا ثبت هذا فظلم العبد نفسه يكون بترك ما ينفعها وهي محتاجة إليه، أو ~~بفعل ما يضرها، كما أن ظلم الغير كذلك يكون إما بمنع حقه أو التعدي. والنفس ~~إنما تحتاج من العبد إلى فعل ما أمر الله به، وإنما يضرها فعل ما نهى الله ~~عنه، فظلمها لا يخرج عن ترك حسنة مأمور بها أو فعل سيئة منهي عنها، وما ~~يضطر العبد إليه من أكل وشرب ولباس وغير ذلك هو داخل في هذا، فإن جميع ذلك ~~هو من الواجبات المأمور بها، حتى أكل الميتة عند الضرورة يجب في المشهور من ~~مذهب الأئمة الأربعة، قال مسروق: من اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل ~~النار. # وكذلك ما يضرها من جنس العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها أو ~~يقتلها، أو الاغتسال بالماء البارد الذي يقتلها ونحو ذلك، هو من ظلمها ~~المحظور، فالله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، كما قال ~~قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما ~~نهاهم عنه بخلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، ~~ولهذا جاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد في غير موضع. # والصلاح كله في طاعة الله، والفساد كله في معصية الله، فالصلاح والطلاعة ~~متلازمان، والمعصية والفساد متلازمان، كتلازم الطيب والحل، وكل طيب حلال ~~وكل حلال طيب، وكل خبيث # PageV04P045 # حرام وكل حرام خبيث. والمعروف ملازم مع الطاعة والصلاح، والمنكر ملازم مع ~~المعصية والفساد، ولكن بعض الناس قد تبين له اتصاف الفعل ببعض هذه الصفات ~~قبل بعض، كما يعلم كثيرا من العبادات ولا يعلم ما فيها من الصلاح، وكثيرا ~~من المحرمات ولا يعلم ما فيها من الفساد، وكذلك قد يرى مصالح كثيرة ولا ~~يعلم أمر الشارع بها. # والمؤمن يعلم أن ms0612 الله يأمر بكل مصلحة وينهى عن كل مفسدة، فإذا كان في بعض ~~الأفعال رأى أنه مصلحة ولم يأمر به كان مخطئا من أحد الوجهين: إما أن يكون ~~في نفس الأمر مصلحة لما ترجح فيه من مفسدة لا يعلمها هو؛ وإما أن يكون ~~داخلا فيما أمر الله به ولم يعلم. # ولهذا تنازع العلماء في المصالح المرسلة التي لم يعلم أن الشارع اعتبرها ~~ولا أهدرها، فقيل: يستدل بكونها مصلحة على أن الله اعتبرها، لأنه لا يهمل ~~المصالح، وقيل: بل يستدل بعدم اعتبار الشارع لها على أنها ليست مصلحة، بل ~~مضرتها راجحة إذ لو كانت مصلحتها راجحة لاعتبرها الشارع. وتتفاوت فطن الناس ~~في ذلك بحيث تعرفها بجهة الاعتبار والإهدار. # ومما يجب أن يعرف أن العبد قد يجب عليه أسباب أمور لا تجب عليه بدونها، ~~فإن قام بها كان مصلحا محسنا إلى نفسه، وإلا كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن ~~تركها ظلما في حق من لم يقبل تلك الأسباب، مثل من ولي ولاية، ففي "المسند" ~~(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - PageV04P046 # أنه قال: "أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام ~~جائر". # وكذلك (1) من لغيره عليه حقوق، كالزوجة والأولاد والجيران، فقد ذكر الله ~~الحقوق العشرة في قوله: (*واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين ~~إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب ~~والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) (2) . فبدأ سبحانه بحقه، كما ~~في الصحيحين (3) أن النبي # - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على ~~عباده"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، يا ~~معاذ! # أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، ~~قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم". # فكلما ازدادت معرفة الإنسان بالنفوس ولوازمها وتقلب القلوب، وبما عليها ~~من الحقوق لله ولعباده، وبما حد لهم من الحدود= علم أنه ### | لا يخلو أحد عن ترك بعض الحقوق أو تعدي بعض الحدود. # ولهذا أمر الله عباده ms0613 المؤمنين أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم في ~~اليوم والليلة في المكتوبة وحدها سبع عشرة مرة، وهو صراط الذين أنعم الله ~~عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع الله ورسوله فهم ~~هؤلاء. PageV04P047 # فالصراط المستقيم طاعة الله ورسوله، وهو دين الإسلام التام، وهو اتباع ~~القرآن، وهو لزوم السنة والجماعة، وهو طريق العبودية، وهو طريق الخوف ~~والرجاء. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته (1) : ~~"الحمد لله نستعينه ونستغفره" لعلمه أنه لا يفعل خيرا ولا يجتنب شرا إلا ~~بإعانة الله له، وأنه لابد أن يفعل ما يوجب الاستغفار. # وفي الحديث الصحيح (2) : "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا ~~إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من ~~شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر ~~الذنوب إلا أنت". # فقوله "أبوء لك بنعمتك علي" يتناول نعمته عليه في إعانته على الطاعات، ~~وقوله "أبوء لك بذنبي" يبين إقراره بالذنوب التي تحتاج إلى الاستغفار. ~~والله تعالى غفور شكور، يغفر الكثير من الزلل، ويشكر اليسير من العمل. وجاء ~~عن غير واحد من السلف أنه كان يقول: إني أصبح بين نعمة وذنب، فأريد أن أحدث ~~للنعمة شكرا وللذنب استغفارا. # فقوله "الحمد لله نستعينه ونستغفره" يتناول الشكر والاستعانة والاستغفار، ~~الحمد لله وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما PageV04P048 # كان بعض المشايخ يقرن بين هذه الثلاثة، فالشكر يتناول ما مضى من إحسانه، ~~والاستغفار لما تقدم من إساءة العبد، والاستعانة لما يستقبله العبد من ~~أموره. وهذه الثلاث لابد لكل عبد منها دائما، فمن قصر في واحد منها فقد ظلم ~~لنفسه بحسب تقصير العبد. # وأصل الإحسان هو التصديق بالحق ومحبته، وأصل الشر هو التكذيب به أو بغضه، ~~ويتبعه التصديق بالباطل ومحبته. والتصديق بالحق وحبه هو أصل العلم النافع ~~والعمل الصالح، والتكذيب به وبغضه هو من الجهل والظلم. فالإنسان إذا لم ~~يعلم من الحق ما يحتاج إليه أو لم يقر به أو لم ms0614 يحبه كان ظالما لنفسه، وإن ~~أقر بباطل أو أحبه واتبع هواه كان ظالما لنفسه، فظلم النفس يعود إلى اتباع ~~الظن وما تهوى الأنفس، وهذا يكون في اتباع الآراء والأهواء، فأصل الشر ~~البدع، وهو تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على امتثال الأمر، وأصل ~~الخير اتباع الهدى، كما قال تعالى: (فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي ~~فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم ~~القيامة أعمى (124)) (1) . قال ابن عباس (2) : تكفل الله لمن قرأ القرآن ~~وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية. # والضلال والشقاء هو خلاف الهدى والفلاح الذي أخبر به عن المتقين الذين ~~يهتدون بالكتاب، حيث قال: (ذلك الكتاب لا ريب PageV04P049 # فيه هدى) إلى قوله (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)) (1) . ~~والضلال والشقاء هو أمر (2) الضالين والمغضوب عليهم المذكورين في قوله (غير ~~المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (3) ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" (4) ، فإن اليهود عرفوا الحق ولم ~~يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم. # ومن عرف الحق ولم يعمل به كان متبعا لهواه، واتباع الهوى هو الغي، ومن ~~عمل بغير علم كان ضالا. # ولهذا نزه الله نبيه عن الضلال والغي بقوله: (والنجم إذا هوى (6) ما ضل ~~صاحبكم وما غوى (2)) (5) . قال تعالى في صفة أهل الغي: (سأصرف عن آياتي ~~الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل أية لا يؤمنوا بها وإن يروا ~~سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) (6) ، وقال: (واتل عليهم نبأ الذي أتيناه ~~آيتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175)) (7) ، وقال في ~~الضلال: (وإن كثيرا ليضلون بأهوآئهم PageV04P050 # (بغير علم) (1) ، وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) (2) . # والعبد إذا عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال سبحانه: (ولو ~~أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من ~~لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)) (3) ، وقال: (والذين ms0615 ~~اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)) (4) ، وقال: (اتقوا الله وآمنوا ~~برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) (5) ، وقال: (يهدي ~~به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (6) . # فإذا ترك العمل بعلمه عاقبه الله بأن أضله عن الهدى الذي يعرفه، كما قال: ~~(فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (7) ، وقال: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم ~~يؤمنوا به أول مرة) (8) ، وقال: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) (9) . # وفي الحديث الذي رواه الترمذي (10) وصححه عن أبي هريرة PageV04P051 # عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه ~~نكتة سوداء، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد يزيد فيها حتى يعلو ~~قلبه، فذلك الران الذي قال الله: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) ~~(14) (1) ". # فهذه الأمور تتبين بها أجناس ظلم العبد نفسه، لكن كل إنسان بحسبه وبحسب ~~درجته، فما من صباح يصبح إلا ولله على عبده حقوق لنفسه ولخلقه عليه أن ~~يفعلها، وحدود عليه أن يحفظها، ومحارم عليه أن يجتنبها، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم ~~محارم فلا تنتهكوها" (2) . # فإن ### | أجناس الأعمال ثلاثة: # مأمور به، فالواجب منه هو الفرائض؛ ومنهي عنه وهو المحارم؛ ومباح له حد ~~ينتهي إليه، فتعديه تعد لحدود الله، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات ~~والمستحبات تعد (3) لحدود الله، وذلك هو الإسراف، كما قال المؤمنون قبلنا: ~~(ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) (4) . والذنوب PageV04P052 # تتناول جنس الذنوب، وأما الإسراف فهو تعدي الحدود، كما قال تعالى: ~~(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) (1) . # فالإثم جنس المنهي عنه، والعدوان تعدي الحد في المأذون فيه، والبر جنس ~~المأمور به، والتقوى حفظ الحدود، بل يفعل المأمور به ويترك المنهي عنه، ~~ويفعل المباح من غير تعدي الحدود في ذلك. # إذا تبين هذا الأصل فقول السائل: "ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلما ~~كثيرا"، والدعاء بين يدي الله لا يحتمل المجاز، والصديق من أئمة السابقين، ~~والرسول أمره بذلك ms0616" يتضمن شبهة في هذا الدعاء، ومثار الشبهة أن يقال: ~~الصديق أجل قدرا من أن تكون له ذنوب تكون ظلما كثيرا، فإن ذلك ينافي مرتبة ~~الصديقية. # وهذه الشبهة تزول بوجهين: # أحدهما: أن الصديق بل والنبي والرسول إنما كملت مرتبته وانتهت درجته، وتم ~~علو منزلته في نهايته لا في بدايته، وإنما قال ذلك بفعل ما أمر الله به من ~~الأعمال الصالحة، وأفضل أعماله بل PageV04P053 # أفضلها التوبة، فإن التوبة تكون من الكفر والفسوق والعصيان، وما من صديق ~~إلا ويمكن أن يتوب من الكفر والفسوق والعصيان كالصديقين من السابقين ~~الأولين، وما وجد قبل التوبة فإنه لم ينقص صاحبه إذا تعقبته التوبة ولم يغض ~~من منزلته، ولا يتصور أن بشرا يستغني عن التوبة، كما في الحديث المرفوع: ~~"كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (1) . # وفي صحيح البخاري (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيها الناس! ~~توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم ~~أكثر من سبعين مرة". # وفي صحيح مسلم (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنه ليغان على ~~قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". فقد أمر النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أمته بالتوبة عموما، وأخبر أنه يستغفر الله ويتوب إليه في ~~اليوم أكثر من سبعين مرة، بل قوله الذي في الحديث المتفق عليه (4) : "اللهم ~~اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر ~~لي هزلي وجدي، وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، ~~وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي PageV04P054 # لا إله إلا أنت". فهذا الدعاء فيه من الاعتراف أعظم مما في الدعاء الذي ~~أمر به الصديق. # و ### | الصديقون يجوز عليهم جميع الذنوب # بإتفاق الأئمة، فقد يكون الرجل كافرا ثم يتوب من الكفر ويصير صديقا، وقد ~~يكون فاسقا أو عاصيا ثم يتوب من الفسق والمعصية ويصير صديقا. وإنما تنازع ~~الناس في الأنبياء، وإن كان القول بعصمة الأئمة قد يقوله بعض من يقوله من ~~الرافضة، حتى الإسماعيلية ms0617 يقولون: إن بني عبيد الله بن ميمون القداح كانوا ~~معصومين لا يجوز عليهم الخطأ ولا الذنوب، فهؤلاء زنادقة مرتدون ليسوا من ~~أهل القبلة الذين ينصب معهم الخلاف. والرافضة الذين يعتقدون العصمة في ~~الاثني عشر أجهل الخلق وأضلهم، ليس لهم عقل ولا نقل، ويشبههم من يعتقد في ~~شيخه أو متبوعه العصمة، لكرامة رآها منه أو لحسن ظن به، فهؤلاء كلهم من ~~الجهال الذين ليس لقولهم أصل يبنى عليه. # ومع هذا فتقدير أن يكون أحد هؤلاء معصوما أو محفوظا إنما ذاك عندهم بعد ~~أن يبلغ منزلة الولاية أو الصديقية، وأما قبل ذلك فليس بمعصوم باتفاق ~~الناس، وإن كان الصواب الذي عليه أئمة الدين ومشايخ الدين أن الولي والصديق ~~لا يجب أن يكون معصوما، لا من الخطأ ولا من نحوه، بل قد قال الصديق الأكبر ~~خير هذه الأمة بعده نبيها أبو بكر رضي الله عنه لما ولي الناس: "أيها ~~الناس! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي ~~حتى آخذ له الحق، أطيعوني فيما أطعت الله، # PageV04P055 # فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم" (1) . # وثبت في الصحيح (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قص رؤيا رآها، فقال ~~أبو بكر: دعني يا رسول الله أعبرها، فلما عبرها قال: أصبت يا رسول الله أم ~~أخطأت؟ فقال: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا". # وقال الصديق في الكلالة (3) : "أقول فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن الله، ~~وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان". # وأفضل هذه الأمة بعد أبي بكر عمر، وكان محدثا ملهما، كما في الصحيحين (4) ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، ~~فإن يكن في أمتي أحد فعمر". وفي حديث آخر: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر ~~وقلبه" (5) . # فعمر رضي الله عنه أفضل المخاطبين المحدثين من هذه الأمة، والصديق أفضل ~~منه، فإن الصديق يتلقى عن الرسول لا عن قلبه، PageV04P056 # ولهذا سمي صديقا، وما جاء به الرسول فهو معصوم أن يستقر فيه خطأ، فما ~~يأخذه الصديق فهو صدق كله ms0618 وحق كله، وأما المحدث الذي يأخذ عن قلبه فقلبه قد ~~يصيب وقد يخطيء، فيجب على كل محدث ومكاشف أن يعرض ما وقع عليه على الكتاب ~~والسنة، فإن وافق ذلك وإلا رده، كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إنه ~~ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب ~~والسنة. وقال: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمله حتى يسمع فيه بأثر، ~~فإذا سمع بالأثر كان نورا على نور. # وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ~~ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا. # وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو ~~باطل. # وقال أبو عمرو بن نجيد أو غيره: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق ~~بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله يقول: ~~(وإن تطيعوه تهتدوا) (1) . # ومثل هذا كثير في كلام المشايخ، فما يلقى لأهل المكاشفات والمخاطبات من ~~المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل الرأي والقياس من العلم منهم، وكل ذلك فيه ~~حق وفيه باطل، وليس أحد منهم معصوما، وكل منهم عليه أن يزن ذلك بالكتاب ~~والسنة والإجماع، PageV04P057 # فما خالف ذلك فهو باطل. # و ### | منزلة الصديق والفاروق # دلت على أن [من] يأخذ من علم النبوة الثابت عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أرفع منزلة ممن يأخذ من أهل القلوب عن قلوبهم، فإن غاية الواحد من ~~هؤلاء أن يكون مشابها لعمر ولا يكون مثله قط، ومنزلة الصديق أفضل، ولهذا ~~كان الصديق يعلم عمر ومعاوية في غير قصة، كما جرى له معه يوم الحديبية لما ~~قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: ~~بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: ألست رسول الله حقا؟ # قال: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله، وهو ناصري ولست ~~أعصيه، قال: ألم تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فقلت لك ms0619 إنك ~~تأتيه في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آت البيت ومطوف به. ثم جاء عمر إلى ~~أبي بكر، فقال: يا أبا بكر! # ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: ~~أليس هو رسول الله حقا؟ قال: بلى، قال: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: إنه ~~رسول الله وهو ناصره وليس يعصيه، قال: ألم يكن يحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف ~~به؟ قال: بلى، أقال لك إنك تأتيه هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آت البيت ~~وتطوف به (1) . # فأبو بكر أجاب بمثل ما أجاب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من غير ~~أن يسمع كلامه في تلك القصة التي اضطربت فيها أكثر الصحابة، حتى ~~PageV04P058 # قال سهل بن حنيف - وهو من كبار المؤمنين وشهد مع علي صفين -: "أيها ~~الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن ~~أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته" رواه البخاري (1) . # فإذا كان الصديق والفاروق - وهما خير الخلق بعد رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -، وهما اللذان قال فيهما: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ~~- هما مع الرسول كما ترى، فما الظن بغيرهما؟ وبهذا يعلم أن كل من ادعى ~~استغناءه عن الرسالة بمكاشفة أو مخاطبة، أو عصمة ذلك له أو لشيخه ونحو ذلك= ~~فهو من أضل الناس. # ومن احتج على ذلك بقصة الخضر مع موسى ففي غاية الجهل لوجوه: # أحدها: أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع ~~موسى، بل قال له موسى: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت ~~على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه، ولما سلم عليه قال: وأنى بأرضك ~~السلام؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم (2) . فالخضر لم ~~يعرف موسى حتى عرفه نفسه. وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو رسول الله ~~إلى جميع الخلق، فمن لم يتبعه كان كافرا ضالا من جميع من بلغته دعوته ms0620، ومن ~~قال له كما قال الخضر لموسى كان كافرا. PageV04P059 # الوجه الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن خارجا عن شريعة موسى، ولهذا لما ~~بين له الأسباب التي أبيح له بها خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار ~~بغير جعل أقره على ذلك، بل كانت الأسباب المبيحة لذلك قد علمها الخضر دون ~~موسى، كما يدخل الرجل دار غيره، فيأكل طعامه ويأخذ ماله، لعلمه بأنه مأذون ~~له في ذلك، وقتل الآخر لعدم علمه بالإذن قد يكون سببا ظاهرا وقد يكون بسبب ~~باطن، وعلى التقديرين هما في الشريعة. # الوجه الثالث: أن الخضر إن كان نبيا فليس لغير الأنبياء أن يتشبه إليه، ~~وإن لم يكن نبيا - وهو قول الجمهور - فأبو بكر وعمر أفضل منه، فإن هذه ~~الأمة خير أمة أخرجت للناس، وخيار هذه الأمة القرن الأول من المهاجرين ~~والأنصار، وخير القرن الأول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ~~وخيرهم أبو بكر وعمر. # فإذا كان أبو بكر وعمر أفضل من الخضر، وحالهما مع رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - هذه الحال، ونحن مأمورون أن نقتدي بهما، لا بأن نقتدي بالخضر، ~~كان من ترك الاقتداء بهما في حالهما مع محمد - صلى الله عليه وسلم - واقتدى ~~بالخضر في حاله مع موسى= من أضل الناس وأجهلهم. بل من اعتقد أنه يجوز له أن ~~يخرج عن طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه في شيء من أموره ~~الباطنة أو الظاهرة فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كائنا من كان. # وإذا عرف أن التوبة ترفع منزلة صاحبها وإن كان فيه قبل ذلك ما كان، لم ~~يكن لأحد أن ينظر إلى صديق ولا غيره باعتبار ما وقع # PageV04P060 # منه قبل التوبة والاستغفار، ومن فعل ذلك كان جاهلا أو ظالما مهما أمكن أن ~~يقع، إلا إذا كانت التوبة قد وجدت منه، فقد زال أمره وارتفعت بالتوبة ~~درجته. فلا يستكبر بعد هذا أن يقع من صديق قدر ماذا عسى أن يقع، وإن كان ~~صديق هذه الأمة كان من أبعد الناس عن الذنوب قبل الإسلام ms0621 وبعده، حتى إنه لم ~~يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام، وكان معروفا عندهم بالصدق والأمانة ~~ومكارم الأخلاق، لكن المقصود أن يحسم مادة مثل هذا السؤال، لكن مع كونه من ~~أبعد الناس عن الذنوب فكل بني آدم يحتاج أن يتوب ويعترف بظلم نفسه، كما ~~اعترف بذلك من هو أفضل من أبي بكر. # وتمام ذلك بالوجه الثاني، وهو أن ### | ظلم النفس أنواع مختلفة ودرجات متفاوتة # كما تقدم التنبيه عليه، وكل أحد ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وما ~~يمكننا أن نحصر ما فعله كل شخص من أشخاص الصديقين، فإن أحوال العباد مع ~~الله أسرار فيما بينهم وبين الله، وإنما يمكن أن يعرف أنواع ذلك كما دل ~~عليه الكتاب والسنة، ولا حاجة بنا إلى معرفة تفصيل ذلك، فإن هذا ليس مما ~~يقتدى فيه بأحد، فإن الاقتداء إنما يكون في الحسنات لا في السيئات التي ~~يثاب فيها. والإنسان لا يقنط من رحمة الله ولو عمل من الذنوب ما عسى أن ~~يعمل، كما قال تعالى: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة ~~الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) (1) . PageV04P061 # ونحن نعلم أن التوكل على الله فرض، والإخلاص له فرض، ومحبة الله ورسوله ~~فرض، والصبر على فعل ما أمر الله وعما نهى الله عنه وعلى المصائب التي ~~تصيبه فرض، وخشية الله وحده دون خشية الناس فرض، والرجاء لله وحده فرض، ~~وأمثال ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة والتي يحصل التقصير في كثير منها ~~لعامة الخلق. # وأي نوع من هذه الأنواع إذا تدبر بعض الصديقين فيه حاله يجده قد ظلم نفسه ~~فيه ظلما كثيرا، دع ما سوى ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ~~في سبيل الله، وكالقيام بحقوق الأهل والجيران والمؤمنين، وإكمال كل واجب ~~كما أمر به، وأمثال ذلك مما لا يحصى. # وقد ذكر البخاري (1) عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد ~~كلهم يخاف النفاق على نفسه. وفي الصحيح (2) أن حنظلة الكتاب لما قال: نافق ~~حنظلة، قال أبو بكر: إنا لنجد ms0622 ذلك. # فهؤلاء كانوا يخافون على أنفسهم النفاق لكمال علمهم وإيمانهم، ولهذا كان ~~عبد الله بن مسعود وغيره من السلف يستثنون الإيمان فيقول أحدهم: أنا مؤمن ~~إن شاء الله. وقد تقدم التنبيه على مجامع الظلم. والله سبحانه أعلم. # وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذي من أصناف الرحمة فلا ريب أن ~~الرحمة أصناف متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له PageV04P062 # رحمة عمت الخلق مؤمنهم وكافرهم، ورحمة خصت المؤمنين، ثم رحمة خصت خواص ~~المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديث ليس فيه "رحمة من عندي"، وإنما فيه ~~"فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني"، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: (وهب لنا ~~من لدنك رحمة) (1) ، وهو قد جعل هذه المغفرة المسئولة من عنده مغفرة مخصوصة ~~ليست مما تبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تبذل ~~للعامة. # وهذا الكلام في بعضه نظر، فالحكيم الترمذي رحمه الله في الحديث والتصوف، ~~وتكلمه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك بما يذكره من الآثار، وما يبديه ~~عليها (2) من المناسبات والاعتبار= هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في ~~فنون (3) العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيرا ما يوجد في هذه الكتب من ~~الآثار الضعيفة بل المضلة ما لا يجوز الالتفات إليه، وكذلك الحكيم الترمذي، ~~فإن له كتبا (4) متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائد ~~ومقاصد مستحسنة مقبولة، وفيها أيضا أقوال لا دليل عليها وأقوال مردودة يعلم ~~فسادها، وآثار ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها. PageV04P063 # ومن أضعف ما ذكره ما تكلم عليه في كتاب "ختم الولاية" (1) ، فإنه تكلم ~~على حال من زعم أنه خاتم الأولياء بكلام مردود ومخالف لإجماع الأئمة، ~~ويناقض في ذلك. وهذا كان سبب من تكلم في ختم الأولياء وادعى ذلك لنفسه، ~~كابن العربي وابن حمويه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارا من الخطأ، فزادوا ~~على ذلك زيادات كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وكل متكلم في الوجود ~~يوزن كلامه بالكتاب والسنة. # وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر: # أحدهما: فإن قوله "مغفرة من عندك ms0623"، وقوله (وهب لنا من لدنك رحمة) ونحو ~~ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاص هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول، ~~ولو كان كذلك لما كان يسوغ لغيره أن يدعو بهذا الدعاء، وهذا خلاف الإجماع. # وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك ~~يمكن أن يقال في كل مطلوب بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء. # وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد ينال بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضا ~~قد ينال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تنال ~~إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما PageV04P064 # يطلب من الله قد ينال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سبب لنيل ~~المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سبب غير الدعاء في غير هذا ~~الموضع فكذلك في هذا الموضع. # وأيضا فقوله "من عندك" ليس فيه ما يدل على اختصاصه بالطلب ولا بالمطلوب، ~~وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يفسرون ~~الألفاظ لما أرادوا، وأكثر أهل الإشارات الذين يقعون في أشياء مثل قطعة ~~كثيرة من الحكايات المذكورة في "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي، ~~والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار. # وهي كشبه غير المنطق بالمنطق لكونه في معناه أو أولى بالحكم منه، كما ~~يفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: (لا يمسه إلا ~~المطهرون (79) (1) إذا كان المصحف الذي كتب فيه طاهرا لا يمسه إلا البدن ~~الطاهر، فالمعاني التي هي باطن القرآن لا يمسها إلا القلوب المطهرة، وأما ~~القلوب المنجسة لا تمس حقائقه، فهذا معنى صحيح، قال تعالى: (سأصرف عن آياتي ~~الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) (2) . قال بعض السلف: أمنع قلوبهم فهم ~~القرآن. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أذنب العبد نكت في قلبه ~~نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زيد فيها حتى تعلو ~~قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى فيه: (كلا ms0624 بل ران على PageV04P065 # قلوبهم ما كانوا يكسبون (14)) (1) . # فالذنوب ترين على القلوب حتى تمنعها فهم القرآن، وإذا كان هذا المعنى ~~صحيحا فقياس طهارة القلب على طهارة البدن فيما يشترط له الطهارة من مس ~~القرآن إشارة حسنة، فأما أن يفسر (2) المراد للفظ بغير المراد وبما لا يدل ~~عليه اللفظ فهذا خطأ. # وقد قال زكريا: (هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38)) (3) ، ~~ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يخرج الأنبياء من ~~أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته - والله أعلم - أنه إذا قال: "من عندك" ~~و"من لدنك"، كان مطلوبا فعل العبد، فإن ما يعطيه الله للعبد على وجهين: # منه ما يكون بسبب فعله، كالرزق الذي يرزقه بكسبه، والسيئات التي تغفر له ~~بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي ~~يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها. # ومنه ما يعطيه للعبد ولا يحوجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر، ~~كما أعطى زكريا الولد مع أن امرأته كانت عاقرا، وكان قد بلغ من الكبر عتيا، ~~فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يهبه PageV04P066 # بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي ~~علمه الخضر من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا ~~قال: (إنك أنت الوهاب (8)) (1) . # وقوله: "مغفرة من عندك"، لم يقل فيه "من لدنك مغفرة" بل "من عندك"، ومن ~~الناس من يفرق بين "لدنك" و"عندك"، وهكذا قد يفرق بين التقديم والتأخير، ~~فإن لم يكن بينهما فرق فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرة من عندك لا تصلها ~~بأسباب، لا من عزائم المغفرة التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما ~~يوجب المغفرة لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تهبها لي وتجود بها علي بلا عمل ~~يقتضي تلك المغفرة. # ومن المعلوم أن الله تعالى قد يغفر الذنوب بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات ~~الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد ~~وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه ms0625 إذا فسر به قوله: "من ~~عندك" كان أحسن وأشبه مما ذكر من الاختصاص. # وأما قوله: "والأشياء كلها من عنده"، فيقال: [إن] للأشياء وجهين: منها ما ~~جعل سببا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابة ~~لسؤاله وإحسانا إليه. واستعمال لفظ "من عندك" في هذا المعنى هو المناسب، ~~دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله "من عندك" دلالته على الأول أبين، ~~PageV04P067 # ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: "أعطنى من عندك" لما يطلبه منه بغير سبب، ~~بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدين والنفقة، فإنه لا يقال فيه "من ~~عندك". # والله تعالى وإن كان الخلق لا يوجبون عليه شيئا فهو قد كتب على نفسه ~~الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، وأوجب بوعده ما يجب لمن وعده إياه، فهذا قد ~~يصير واجبا بحكم إيجابه ووعده، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمال لفظ "من ~~عندك" في هذا هو شبيه باستعماله فيما يطلب من الناس من الإحسان ذو ~~المعاوضات. # وأيضا فقوله "من عندك" يراد به أن يكون مغفرة تجود بها أنت علي لا تحوجني ~~فيها إلى خلقك، ولا يحتاج إلى أحد يشفع في أو يستغفر لي، واستعمال لفظة "من ~~عندك" في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك (1) لما جاء إلى ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك ~~أمك"، فقلت: يا رسول الله! # أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: "بل من عند الله"، فأخبره - صلى الله ~~عليه وسلم - أن الله تاب عليه من عنده. # وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد ~~عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من ~~يشاء بغير حساب (37)) (2) ، فلما كان الرزق لم يأت به بشر ولم PageV04P068 # يسع فيه السعي المعتاد قالت: "هو من عند الله". فهذه المعاني وما يناسبها ~~هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلام الحكيم ms0626 ~~الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولا محتملا، ~~وقد قال عمر: احمل كلام أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، والله ~~أعلم. # PageV04P069 # مسألة # في رجل قال: إن نبيا من الأنبياء أكله القمل، فاشتكى إلى الله، فأوحى ~~الله إليه: لئن اختلج هذا في سرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان الأنبياء. # الجواب # الحمد لله. لا يجوز لأحد أن يقول مثل هذا القول من غير بيان حاله، فإن ~~هذا ليس من المنقول الثابت، بل من النقول الباطلة، ولو كان من النقول ~~الصحيحة لم يجز لأحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع مثل هذه ~~الحكاية ويبني عليها طريقه إلى الله تعالى. # وذلك أن الحكايات الإسرائيليات (1) إن ثبتت عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أو نقلت بالتواتر ونحو ذلك علم صحتها، وإذا صحت فما وافق الشريعة ~~اتبع، وما خالف منها شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يتبع؛ فإن الله ~~تعالى يقول: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (2) . # وفي النسائي (3) وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو كان ~~موسى PageV04P070 # حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم". وفي رواية (1) : "لو كان موسى حيا ما ~~وسعه إلا اتباعي". وقد قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ~~آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ~~أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من ~~الشاهدين (81)) (2) . قال ابن عباس (3) : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه ~~العهد والميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ ~~الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. # وهذا كما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله بعث محمدا - صلى الله ~~عليه وسلم - إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، إنسهم ~~وجنهم. فلا يقبل الله من أحد عملا يخالف شريعته وإن كان ذلك العمل مشروعا ~~لبعض الأنبياء. فمن اتبع الشرعة والمنهاج الذي كان مشروعا لموسى وعيسى ms0627 ونسخ ~~على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر باتفاق المسلمين، وإذا كان ~~هذا فيما علم أنه مشروع للأنبياء، فكيف بما يحكى عنهم ولا يعلم صحته؟ فلا ~~يجوز لأحد أن يثبت بالإسرائيليات لا صحيحها ولا ضعيفها حكما يخالف شريعة ~~محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمنقولات من PageV04P071 # الإسرائيليات تارة يعلم صحتها، وتارة يعلم أنها كذب، وتارة لا يدرى. # وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ~~حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، ~~وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه". # إذا تبين هذا فنقول: أجمع المسلمون على أن المسلم يجوز له أن يشتكي إلى ~~الله ما نزل من الضر، والله سبحانه في كتابه قد أمر بذلك، وذم من لا يفعله، ~~قال تعالى: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (42)) (2) ، وقال ~~تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (76)) (3) ، ~~وقال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55)) (4) . # وفي الصحيح (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: ~~"اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة ~~الأعداء". وفي الصحيح (6) أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ~~يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك (7) ، وفجاءة ~~PageV04P072 # نقمتك، وجميع سخطك". # وفي الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يدعو دعاء ~~إلا ختمه بقوله: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب ~~النار (201)) . وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس وغيره أن يسأل ~~العافية في الدنيا والآخرة (2) ، وعلم رجلا أن يدعو فيقول: "اللهم اغفر في ~~وارحمني واهدني وعافني وارزقني" (3) ، ومثل هذا كثير. # والعبد إذا اشتكى إلى ربه ما نزل به من الضر وسأله إزالته لم يكن مذموما ~~على ذلك باتفاق المسلمين، و ### | الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، # بل الشكوى إلى الخلق قد تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام قال: (فصبر ~~جميل) (4) ، وقال: (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ms0628) . وكان عمر بن ~~الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله: (قال ~~إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) فسمع نشيجه من أواخر الصفوف. # وهذا مما يدل على كذب الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما ~~أصابه بفراق ولده من البث والحزن، ولم يكن PageV04P073 # مذموما بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال: (أني مسني الضر وأنت أرحم ~~الراحمين (83)) قال: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم ~~معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84)) (1) . # وقد قال تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في ~~الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87) فاستجبنا له ~~ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88)) (2) . وقال تعالى: (ولقد نادانا ~~نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)) (3) . # فهؤلاء الأنبياء قد اشتكوا إلى الله، وأزال ما اشتكوا منه من الضر والغم ~~والحزن ونحو ذلك، فكيف يمحى [نبي من] الأنبياء إذا اشتكى من ضر القمل ~~وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سره؟ وأكثر ما يقال: ~~إن العبد ينبغي له أن يرضى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه: # أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء بل يستحب، وإنما الواجب ~~الصبر، والصبر لا ينافي الشكوى. # الثاني: أن الرضا لا ينافي القضاء مطلقا، بل يرضى في الحاضر، ويسأل الله ~~في المستقبل أمرا آخر، فإن الرضا إنما يكون PageV04P074 # بعد القضاء، والدعاء إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعه، فالرضا بما مضى لا ~~ينافي طلب زوال المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدوم الرضا، فيسأل الله ~~زوال الشدة التي يخاف معها زوال رضاه، فالداعي قد يكون راضيا وغير راض، كما ~~أن الراضي قد يكون داعيا وغير داع. # الثالث: أن اختلاج المصيبة في السر لا ينافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا ~~يدخل هذا في التكليف، فضلا عن أن يكون ذنبا، أو أن يستحق صاحبه زوال نبوته. # وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعة محمد - صلى الله ms0629 عليه وسلم - لا ~~تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبا، وإما أن تكون غير مشروعة لنا في دين ~~الإسلام، فلا يحل لأحد أن يحكيها لمن يتبعها، ولا أن يستحسن العمل بها في ~~ديننا، ولا يمدح على ذلك. # PageV04P075 # مسألة # في قوله تعالى: (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) (1) ، هل ~~"من" هاهنا للتبعيض؟ فيكون الحكم بالعداوة على البعض؛ أو تكون "من" زائدة؟ ~~فيحكم على كل واحد ولد وكل زوج بالعداوة. # فإن قلتم: إنها للتبعيض فما حكمكم على من يعتقد زيادتها؟ # ويزعم أنه يستدل على الحديث والقرآن بكلام العرب، وهل من دليل على ذلك ~~فيما ذكر من القرآن والحديث وكلام العرب؟ فبينوه، أم ليس الأمر كذلك؟ # الجواب # الحمد لله. بل "من" هنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى أن من الأزواج ~~والأولاد عدوا، وليس المراد أن كل زوج وولد عدو (2) . فإن هذا ليس هو مدلول ~~اللفظ، وهو باطل في نفسه، فإن سبحانه قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون: ~~(ربنا هب لنا من PageV04P076 # أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) (1) ، فسألوا الله أن يهب لهم من أزواجهم ~~وأولادهم قرة أعين، فلو كان كل زوج وولد عدوا (2) لم يكن فيهم قرة أعين، ~~فإن العدو لا يكون قرة عين بل سخنة عين، وأيضا فإنه من المعلوم أن مثل ~~إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم، ومثل يحيى بن زكريا وأمثالهم ليسوا أعداء. # وقول من قال: إنها هنا زائدة، غلط لوجوه: # أحدها: أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة أنها لا تزاد في الإثبات، ~~وإنما تزاد في النفي تحقيقا لعموم النفي (3) كقوله: (وما من إله إلا إله ~~واحد) (4) ، وقوله (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (5) ونحو ~~ذلك، فإنه لولا "من" لكان الكلام ظاهرا في العموم، فإنه يجوز أن تقول: ما ~~رأيت رجلا بل رجلين، فإذا أدخلت "من" فقلت: ما رأيت من رجل كان نصا في ~~العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيت من رجل بل رجلين، مع أن النكرة في سياق ~~النفي للعموم مطلقا، لكن قد يكون نصا وقد يكون ظاهرا ms0630، فإذا كانت ظاهرا ~~احتملت نفي الواحد من الجنس بخلاف النص، وهذا الموضع إثبات لا نفي، فلا ~~تزاد فيه. PageV04P077 # الثاني: أن من جوز زيادتها في الإثبات - كالأخفش - لا يجوزه إلا إذا كان ~~في الكلام ما يدل عليه، وإلا فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين، ~~وأراد أن جمعهم مسلمون، لم يجز ذلك بالاتفاق. # الثالث: أنه إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلا. # الرابع: الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادعاؤها بغير دليل، والله ~~أعلم. # PageV04P078 # مسألة # فيمن استدل بتحويل النبي - صلى الله عليه وسلم - رداءه في الاستسقاء، ~~وجعل أعلاه أسفله، ورفع ظاهر كفيه إلى السماء، وجعل باطنها إلى الأرض= على ~~أن الله ليس فوق السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاته لا يختص ~~بجهة العلو، هل هو مصيب في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقول ~~طائفة من الفقهاء إنه يستحب لمن هو في شدة أن يرفع ظاهر كفيه إلى السماء ~~دون باطنها وجه؟ ولو فرض أن الحديث يدل على ذلك ولو على بعد، فهل مثل ذلك ~~مع ما يزعمونه أدلة عقلية دلت على استحالة ذلك يعارض ما ثبت بالكتاب والسنة ~~من أن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه فوق كل شيء وعال على كل شيء ~~أم لا؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين. استدلال المستدل بهذا وإن سبقه إلى نحو منه من ~~المتجهمة المنتسبة إلى الحديث، فإنه يدل على غاية الجهل بما فعله رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، وغاية الجهل في الاستدلال بذلك على ~~نفي علو الله، إذ ما فعله يدل على نقيض مطلوب هذا المستدل الجاهل. ونحن ~~نبين ذلك بالكلام على ما # PageV04P079 # فعله من تحويل الرداء، ومن رفع يديه في الاستسقاء. # أما الفصل الأول - وهو تحويل الرداء - فما علمت أحدا يستدل به على نفي ~~العلو، ولا فيه شبهة تقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع ~~اليدين، فهذا هو الذي يعترض به بعض الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على ~~الفصلين. # أما ms0631 الأول فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل أعلاه أسفله كما ~~قاله هذا المستدل، وإنما جعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن، وقلبه ~~فجعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، كما جاء مفسرا في الأحاديث المعروفة في ~~الباب، فإن في الصحيحين (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - إلى المصلى، فاستسقى، واستقبل القبلة، وقلب رداءه، وصلى ~~ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحول رداءه. فلفظ الحديث جاء بلفظ القلب ~~وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوه بلفظ التحويل (2) ، وذكر عن أبي بكر ~~بن محمد بن عمرو بن حزم قال (3) : جعل اليمين على الشمال. # ورواه أبو داود (4) من حديث عبد الله بن زيد أيضا، قال: خرج رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - يستسقي، قال: فحول رداءه، وجعل عطافه الأيمن ~~PageV04P080 # على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز ~~وجل. # ورواه مالك (1) وأحمد (2) أيضا - واللفظ له - من حديث عبد الله ابن زيد ~~قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استسقى لنا أطال الدعاء ~~وأكثر المسألة، قال: ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن. # ورواه الدارقطني (3) أيضا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة، فقلب رداءه وصلى ~~ركعتين. قال سفيان: جعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين. # ورواه أحمد (4) وأبو داود (5) أيضا عنه قال: استسقى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فثقلت ~~عليه، فقلبها الأيمن على الأيسر [والأيسر] على الأيمن. # فهذا فيه أيضا ما في سائر الأحاديث أنه قلب الأيمن على الأيسر والأيسر ~~على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه هم بجعل أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه ~~أنه فعل ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فعله، والظن قد يصيب وقد ~~يخطىء. PageV04P081 # فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديث في تحويل الرداء وفي صلاة ~~الاستسقاء، وأصح الأحاديث في ذلك، فيها ms0632 تارة متصلا بالحديث وتارة من تفسير ~~الرواة أنه جعل الأيمن على الأيسر [والأيسر على الأيمن] ، وفيها تصريح بأنه ~~لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفل أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي ~~هريرة الذي رواه أحمد (1) وابن ماجه (2) ، قال: خرج رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - يوما يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا ~~ودعا الله عز وجل، وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه، فجعل ~~الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. # وكذلك رواه الدارقطني (3) من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنة ~~الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلب رداءه، ~~فجعل يمينه على يساره ويساره على يمينه، وذكر تمامه. # وفي إسناده مقال يصلح للاعتضاد (4) والاستشهاد. # وتحويل الرداء في دعاء الاستسقاء سنة عند فقهاء الحجاز وفقهاء الحديث ~~كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قول صاحبي أبي حنيفة PageV04P082 # أبي يوسف ومحمد، كما أن الصلاة في الاستسقاء سنة عند هؤلاء، وأبو حنيفة ~~لم يبلغه لا الصلاة في الاستسقاء ولا تحويل الرداء في دعائه. # وأما صفة التحويل فجعل الأيمن على الأيسر كما جاءت بذلك الأحاديث، عند ~~جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور، وهو قول الشافعي إذ ~~كان بالعراق، وقال في الجديد: في الرداء المراد كذلك، وفي المربع يجعل ~~أعلاه أسفله، لما تقدم من هم النبي - صلى الله عليه وسلم -. # وحجة الجمهور أنه حوله من اليمين إلى اليسار، وأن الخلفاء الراشدين بعده ~~فعلوا ذلك، كما فعله عثمان بحضرة الصحابة. وأما تلك الزيادة فلو كانت ثابتة ~~لكانت ظنا من الراوي لا يترك لها ما ثبت من فعله المتيقن وفعل خلفائه. # وروى أبو بكر النجاد عن عروة بن أذينة عن أبيه قال: رأيت عثمان يستسقي ~~بالمصلى، فرأيته صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة، ثم خطب الناس، ثم حول وجهه ~~إلى القبلة، ورفع يديه، وحول رداءه، جعل اليمين على اليسار واليسار على ~~اليمين. # فقد ظهر ### | فساد استدلال الجهمي من وجوه: # أحدها: أن النبي - صلى الله عليه ms0633 وسلم - لم يجعل أسفله أعلاه، بل قلبه، ~~وإن قيل (1) إنه هم بذلك. PageV04P083 # الثاني: هب أنه جعل أعلاه أسفله، أو أن ذلك هو المستحب - كما هو أحد قولي ~~الفقهاء - لكونه هم بذلك وتركه للعسر، وأي شيء في جعل أسفل الرداء أعلاه ~~مما يدل على أن الله ليس هو العلي الأعلى، وأنه ليس هو فوق العالم؟ أو أي ~~شيء في ذلك ما يبطل أدلة القائلين بذلك أو يعارضها؟ وهذا جواب عن هذا، وعن ~~توجيه اليدين إلى الأرض إن قيل (1) : إنه فعل ذلك. وسنبين حقيقة ما فعله، ~~فإن غاية ما يقدر المقدر أنه وجه وجهه ويديه إلى الأرض وجعل أعلى ردائه ~~أسفله، فليس في بني آدم من يقول: إنه قصد بذلك أن الله في الأرض دون ~~السماء، فإن هذا لا يقوله لا مؤمن ولا كافر، ولا مثبت ولا منافق، بل جميع ~~الخلق متفقون على أن الأرض ليست مختصة به دون السماء، بل الجهمية تقول: لا ~~فرق بين الأرض والسماء، ثم تارة يقولون: إنه بذاته في الأرض والسماء كما ~~يقوله الحلولية والاتحادية، منهم أكثر عبادهم وعوامهم الذين يدعون التحقيق ~~والتوحيد من صوفيتهم. وتارة يقولون: بل ليس هو داخل العالم ولا خارجه ~~البتة، ولا فوق العرش، ولا في السماء ولا في الأرض، وهذا قول نظارهم ~~ومتكلميهم. # فإذا قدر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد التوجه إلى الأرض دون ~~السماء، لم يقل أحد: إن ذلك يدل على أن الله في الأرض دون السماء، بل غاية ~~ما يقال: يبطل استدلال من يستدل برفع اليدين أنه فوق PageV04P084 # العالم. وسنتكلم على ذلك ونبين أنه لا يبطل هذه الدلالة، وبتقدير أن يبطل ~~هذا الدليل المعين لا يبطل المدلول عليه، فنفرض أن رفع اليدين لا يدل على ~~هذه المسألة، فأدلتها السمعية والعقلية أكثر من أن تسطر هنا، وفي القرآن ~~نحو ثلاثمائة موضع يدل على ذلك، والأحاديث والآثار في ذلك أشهر وأظهر من أن ~~تذكر هنا مع الأدلة العقلية، كما قد بسط في غير هذا الموضع (1) . # ثم يقال: هب أنه يبطل ms0634 الاستدلال برفع اليدين، فأي شيء أدخل تحويل الرداء ~~في ذلك؟ فإنا ما علمنا أحدا استدل بتحويل الرداء على أن الله فوق حتى تبطل ~~دلالته، فعلم أن إدخال هذا في هذه المسألة جهالة واضحة، وإنما يعرف عن ~~طائفة من المتجهمة المنتسبين إلى الحديث أنهم يذكرون رفع اليدين، وأما ~~تحويل الرداء فما علمت لذكره وجها. # الوجه الثالث: أن يقال: ما ذكره المستدل إن كان فيه حجة # فهي عليه لا له، وذلك أن عائبنا يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~جعل أعلى ردائه أسفله، أو أن ذلك هو المستحب، فيقال له: إن لم يكن في هذا ~~التحويل دليل على مسألة العلو بنفي ولا إثبات فلا حجة لك فيه، وإن كانت فيه ~~حجة فثبت بحجة على أن الله في العلو، لأنه جعل أسفله أعلاه، فيكون قد قصد ~~توجيه ردائه إلى ما فوق كما وجه قلبه، كما سنذكره إن شاء الله، وهذا مناسب، ~~وهو لا يمكنه PageV04P085 # أن يقول: توجيهه إلى أسفل لأن الله في العلو، والمثبت يمكنه أن يقول: ~~وجهه إلى فوق لكون الله تعالى في العلو، فإن كان فيه حجة فهو للمثبت لا ~~للنافي. # ولكن الصواب أنه ليس فيه حجة لا على هذا ولا على هذا، لأن المقصود بذلك ~~تحويل السنة من الجدب إلى الخصب، كما رواة الدارقطني (1) عن جعفر بن محمد ~~عن أبيه عليهم السلام قال: استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحول ~~رداءه ليتحول القحط. # فصل # وأما رفع اليدين في الاستسقاء فالأصل فيما ذكر في السؤال حديث أنس بن ~~مالك، وقد أخرجاه في الصحيحين (2) عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع حتى يرى ~~بياض إبطيه. لفظ البخاري. وله (3) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه. ولفظ مسلم (4) : "كان لا يرفع يديه في شيء ~~من دعائه إلا في الاستسقاء PageV04P086 # حتى يرى بياض إبطيه". ولمسلم (1) أيضا عن أنس بن مالك ms0635 قال: رأيت رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه. وفي ~~لفظ لمسلم (2) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه ~~إلى السماء. وفي لفظ لأبي داود (3) عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض ~~إبطيه. وفي لفظ لأبي داود (4) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ~~حذاء وجهه، أعني في الاستسقاء. # وعن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي ~~عند أحجار البيت (5) قريبا من الزوراء قائما يدعو رافعا يديه قبل وجهه لا ~~يجاوز بهما رأسه. رواه أبو داود (6) والنسائي (7) . وروى الأوزاعي عن ~~سليمان بن موسى قال: لم يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع ~~يديه الرفع كله إلا في ثلاثة مواطن: في الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة، ~~ثم كان بعدها رفعا دون رفع فيها. رواه أبو داود في "المراسيل" (8) . ~~PageV04P087 # وعن ابن عباس قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بعرفة ~~بالموقف ويداه إلى صدره كما يستطعم المسكين. وعن ابن عباس قال: المسألة أن ~~ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة، ~~والابتهال أن تمد يديك جميعها (1) . وفي لفظ (2) : والابتهال هكذا، ورفع ~~يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. [و] رواه أبو داود من طريق آخر (3) عن ابن ~~عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر نحوه. # إذا تبين هذا فنقول: الكلام على حديث أنس في موضعين: # أحدهما: قوله "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء". # والثاني: ما روي في بعض ألفاظ مسلم "فأشار بظهر كفيه إلى السماء". # فإن من الناس من غلط في كلا الموضعين، فظن بعضهم أن اليد لا ترفع في ~~الدعاء إلا في الاستسقاء، حتى تركوا رفع اليدين في سائر الأدعية، ومنهم من ~~فرق بين دعاء الرغبة ودعاء الرهبة، فقال في دعاء الرغبة: يجعل باطن كفيه ~~إلى السماء وظاهرهما إلى ms0636 الأرض، وقال في دعاء الرهبة بالعكس، يجعل ظاهرهما ~~إلى PageV04P088 # السماء وباطنهما إلى الأرض، وقالوا: إن الراغب كالمستطعم، والراهب ~~كالمستجير المستعيذ الدافع. ونحن نتكلم في بيان السنة في صفة الرفع، ثم ~~نبين أنه على كل تقدير لا حجة فيه للجهمية نفاة العلو. # أما رفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء فقد تواتر عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، كما في صحيح البخاري (1) وغيره عن أبي هريرة قال: قدم الطفيل ~~بن عمرو الدوسي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! # إن دوسا قد عصت وأبت فادع عليهم، فاستقبل القبلة ورفع، وقال: "اللهم اهد ~~دوسا وأت بهم". # وفي الصحيحين (2) أيضا عن أبي موسى قال: أصيب أبو عامر رضي الله عنه في ~~ركبته في غزوة أوطاس، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره فيها، ~~فقال لي: اقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام وقل له: استغفر لي ~~واستخلفني على الناس، وسكت يسيرا ثم مات. فلما رجعت إلى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - وأخبرته خبر أبي عامر وسؤاله أن يستغفر له، فدعا رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ، ثم رفع يديه وقال: "اللهم اغفر لعبيدك ~~أبي عامر". # وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عمر قال: بحث النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم PageV04P089 # يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ~~ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا ~~أسيره، فقلت: والله إني لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، حتى ~~قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا له، فرفع يديه فقال: ~~"اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"، مرتين. # وفي صحيح مسلم (1) عن عائشة قالت: ألا أحدثكم عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي انقلب - صلى الله عليه وسلم -، ~~فوضع نعليه عند رجليه، وذكرت الحديث الطويل في دعائه لأهل ms0637 البقيع، فرفع ~~يديه ثلاث مرات وأطال القيام، ثم انحرف وانحرفت، وذكرت الحديث. # وفي صحيح مسلم (2) أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - تلا قول الله عز وجل في إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيرا من ~~الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36)) (3) ، وقال عيسى ~~عليه السلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ~~(118)) (4) ، فرفع يديه فقال: "اللهم أمتي أمتي"، قال الله: يا جبريل اذهب ~~إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك؟ فأتاه PageV04P090 # جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الله: يا ~~جبريل! اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فيهم. # وفي صحيح مسلم (1) عن عمر بن الخطاب قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل ~~القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف برئه: "اللهم وأنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ~~ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"، ~~فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه ~~أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، والتزمه من ورائه، وقال يا نبي ~~الله! كذاك (2) منا شدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله (إذ ~~تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9)) (3) ، ~~فأمدهم الله بالملائكة. # وفي سنن أبي داود (4) وغيره عن قيس بن سعد من حديث زيارة النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال فيه: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ~~وهو يقول: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة". PageV04P091 # وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة، فلما قدمنا من عزورا نزل، ثم ~~رفع يديه فدعا ساعة، ثم خر ساجدا، قال: "إني سألت ربي وشفعت لأمتي، فأعطاني ~~ثلث أمتي، فخررت ms0638 ساجدا شكرا لربي"، وذكر تمام الحديث. # وعن أم عطية قالت: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا فيهم علي، ~~قالت: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رافع يديه يقول: "اللهم ~~لا تمتني حتى تريني عليا". أخرجه الترمذي (2) . # و [في] حديث أسامة بن زيد (3) قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه ~~وهو رافع يده الأخرى. # وقد ذكر فيمن روي عنه رواية رفع اليدين في غير الاستسقاء: أنس أيضا في ~~حديث القنوت، قال أنس: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما صلى ~~الغداة رفع يديه يدعو عليهم. رواه البيهقي (4) . PageV04P092 # فصل # إذا تبين هذا فنقول ### | : الجمع بين حديث أنس وهذه الأحاديث من وجهين: # أحدهما: ما قاله طوائف من العلماء في الجمع بين حديث أنس وغيره، وهو أن ~~أنسا ذكر الرفع الشديد الذي يرى فيه بياض إبطيه وينحي فيه يديه، وهذا هو ~~الذي سماه ابن عباس الابتهال، وجعل المراتب ثلاثة: # الإشارة بإصبع واحدة، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه ~~في التشهد [و] على المنبر يوم الجمعة بإصبعه، والحديث متعدد مشهور. وفي سنن ~~أبي داود (1) عن سعد قال: مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ~~أدعو بإصبعي، فقال: "أحد أحد"، وأشار بالسبابة. # والثانية: المسألة، وهو أن تجعل يديك حذو منكبيك، كما في أكثر الأحاديث. # والثالث: الابتهال، وهو أن تمد يديك جميعا، وفي لفظ: والابتهال هكذا، ~~ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. # فهذا الابتهال هو الذي ذكره أنس في الاستسقاء، ولهذا قال: كان يرفع حتى ~~يرى بياض إبطيه، وإنما يرى بياض الإبطين بالرفع PageV04P093 # الشديد، وهذا الرفع إذا اشتد كان بطون يديه مما يلي وجهه والأرض، ~~وظهورهما مما يلي السماء، وكذلك جاء مفسرا: "رفع يديه حذاء وجهه"، وفي لفظ: ~~"جعل بطونهما مما يلي الأرض". # ولو كان المراد به كما يظنه بعض الغالطين حيث يجعل يديه حذو منكبيه ويجعل ~~ظهورهما مما يلي الوجه والأرض، وتارة ms0639 يكون الظهور مما يلي السماء، يؤيد ذلك ~~ما رواه أبو داود (1) عن أنس بن مالك نفسه قال: رأيت رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما. # وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة كما في صحيح مسلم (2) ~~والسنن (3) عن حصين بن عبد الرحمن قال: رأى عمارة بن رؤيبة بشر بن مروان ~~وهو يدعو في يوم الجمعة، فقال عمارة: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما يزيد على هذه بإصبعه ~~المسبحة. # وفي مسند أحمد (4) عن غضيف بن الحارث الثمالي قال بعث إلي عبد الملك بن ~~مروان أنا قد جمعنا الناس على أمرين: برفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، ~~والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ولست مجيبك إلى ~~شيء PageV04P094 # منهما، قال: لم؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحدث ~~قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة () . فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة. # وعلى هذا يحمل الحديث الذي في سنن أبي داود (1) عن سهل بن سعد قال: ما ~~رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهرا يديه يدعو على منبر ولا غيره، لكن ~~رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعقد الوسطى بالإبهام، وقد قيل: في إسناد ~~هذا مقال (2) ، مع أنه ليس فيه إلا نفي الرؤية. # وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما وجهان في مذهب أحمد في رفع الخطيب ~~يديه، فقيل: يستحب لعموم الأخبار الواردة في رفع الأيدي، وهذا قول ابن ~~عقيل، وقيل: لا يستحب بل يكره، وهذا أصح، قال إسحاق بن راهويه: ذلك بدعة ~~للخاطب، إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه إذا دعا، لما ~~تقدم من الآثار. # وأما في الاستسقاء لما استسقى على المنبر رفع يديه، كما رواه البخاري في ~~صحيحه (3) عن أنس، قال: أتى أعرابي من أهل البدو إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله! هلكت الماشية وهلك العيال وهلك ~~الناس، فرفع رسول الله - صلى ms0640 الله عليه وسلم - يديه يدعو، ورفع الناس ~~أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا. PageV04P095 # فقد أخبر أنس في هذا الحديث الصحيح أنه [لما] استسقى بهم يوم الجمعة على ~~المنبر رفع يديه ورفع الناس أيديهم، وقد ثبت أنه لم يكن يرفع على المنبر في ~~غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، لا سيما وبعض بني ~~أمية كانوا قد أحدثوا رفع الأيدي يوم الجمعة، كما تقدم من حديث عبد الملك ~~وبشر بن مروان، وإنكار عمارة بن رؤيبة وغضيف بن الحارث عليهما مخالفة ~~السنة، وأنس أدرك هذا العصر فيكون هو أيضا أخبر بالسنة التي أخبر بها غيره ~~من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرفع يديه - أي على المنبر - ~~إلا في الاستسقاء. وهذا الوجه يوافق الذي قبله، ويبين أن الاستسقاء مخصوص ~~بمزيد الرفع، وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس، فالأحاديث تأتلف ولا تختلف. # وأما الموضع الثاني فنقول ### | : من ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرفع المعتدل جعل ظهر كفيه إلى السماء فقد أخطأ، # وكذلك من ظن أنه قصد توجيه ظهر يديه إلى السماء في شيء من الدعاء، فليس ~~في شيء من الحديث ما يدل على أنه قصد جعل كفيه دون بطنهما إلى السماء، ولا ~~على أنه في الرفع المعتدل أشار بظهرهما إلى السماء، بل الأحاديث المشهورة ~~عنه تبين أن سنته إنما هي قصد توجيه بطن اليد إلى السماء دون ظهرها إذا قصد ~~أحدهما. # ففي سنن أبي داود (1) من حديث مالك بن يسار السكوني ثم PageV04P096 # العوفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سألتم الله ~~فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها". وروى أيضا (1) من حديث محمد بن ~~كعب عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نظر في كتاب ~~أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار. سلوا الله ببطون أكفكم، ولا تسألوه ~~بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم". قال أبو داود: روي هذا الحديث من ~~غير وجه عن ms0641 محمد بن كعب كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضا. # وفي سنن أبي داود (2) وغيره عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: "إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن ~~يردهما صفراوين". وفي سنن أبي داود (3) عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه. وقد تقدم في ~~حديث الاستسقاء من حديث عمير مولى آبي اللحم أنه رأى رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - عند أحجار البيت (4) قائما يدعو رافعا يديه قبل وجهه. لكن هذا ~~الرفع دون الرفع الذي أخبر به أنس، وذاك كان في موطن آخر، فإن ذاك الرفع ~~جاوز بهما رأسه. PageV04P097 # وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضت به الأحاديث، وهو الذي عليه الأئمة في ~~دعاء الصلاة، وعليه عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا التاريخ. # وأما حديث أنس فقد تقدم أنه لشدة الرفع انحنت يده، فصار كفه مما يلي ~~السماء لشدة الرفع، لا قصدا لذلك، كما جاء أنه رفعها حذاء وجهه. وتقدم حديث ~~أنس نفسه أنه رأى رسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو بباطن كفيه وظاهرهما، ~~وتقدم حديث ابن عباس: الابتهال هكذا، ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. ~~فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفع الشديد رفع الابتهال، تارة يذكر فيه أن ~~بطونهما مما يلي وجهه وهذا أشد، وتارة يذكر هذا وهذا، فتبين بذلك أنه لم ~~يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظهر اليد ولا بطنها، لأن الرفع يرتفع وتبقى ~~أصابعها نحو السماء مع نوع من الانحناء الذي يكون فيه هذا تارة وهذا تارة. ~~وأما إذا قصد توجيه بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجه بطنها، وهذا في الرفع ~~المتوسط الذي هو رفع المسألة. # فبهذا تآلف الأحاديث ويظهر السنة وتبين المعاني المتناسبة. # إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه: أحدها: أن يقال: ~~لا نسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد توجيه ظهر الكف دون بطنه ms0642 إلى ~~السماء في شيء من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى # PageV04P098 # حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنت يده. # الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصد رفع ظهر ~~كفيه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر معارضة له في ذلك، ~~فإن أمكن الجمع بينهما وإلا كان الأكثر الأشهر أولى بالتقديم عند التعارض. # الوجه الثالث: أن يقال: هب أنه قصد رفع كفيه إلى السماء وتوجيه باطن يديه ~~إلى الأرض، فهذا لا يدل على نفي علو الله سبحانه وتعالى، فإن الناس كلهم ~~متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قصد توجيه ~~بطن يده إلى الله، ولم يقل هذا أحد من الخلائق. # الوجه الرابع: أن يقال: غاية ما في هذا أنه لم يقصد رفع يده إلى السماء، ~~ولا ريب أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبا، فغاية هذا أن يقال: ~~إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا ~~لا يدل على أن الله ليس في العلو. # الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطل استدلال من يستدل برفع اليد ~~على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدل على أنه ~~رفعها إلى الله، كما أن جعل الكف إلى السماء لا يدل على أن بطن اليد إلى ~~الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يبقى فيه دلالة على العلو، ~~ومعلوم أن انتفاء الدليل المعين لا ينفي الحكم. # PageV04P099 # الوجه السادس: أنه لا يتوهم عاقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد ~~بذلك تعريف أمته أن الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرا في هذا ~~المقصود، ولهذا لم يستدل أحد من الجهمية بذلك. والله قد أمر نبيه بالبلاغ ~~المبين، فكيف يترك البيان الذي جعل عليه إلى ما لا بيان فيه؟ كيف والقرآن ~~والأحاديث مملوء من البيان الدال على أن الله في العلو؟ فكيف يجوز أن يقال: ~~إنه قصد ms0643 أن يعرفهم نفي العلو بمثل هذا العلو الذي لا يدل؟ ولا يقال: إنه ~~قصد تعريفهم العلو بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا ~~مما يعلم بالاضطرار أنه من نسب الرسول إليه فهو من أكذب الخلق عليه، وهو في ~~هذا المقام من حبالة أهل السفسطة والقرمطة المبطلين للعقليات والسمعيات. # الوجه السابع: أن يقال: لا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ~~الدعاء تارة كان يشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان ~~يدعو بباطن يديه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانا بلا إشارة ~~ولا رفع، فيقال: إذا كان بعض هذه الأفعال دالا على علو الله تعالى وقد فعله ~~بعض الأوقات حصل المقصود، وليس ترك الدلالة في بعض الأوقات نافيا للمدلول ~~بوجود الرفع دليل العلو، وعدمه لا ينافيه، فلا يضر إذا كان في بعض الأدعية ~~لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد علم أنه لم يقصد هنالك توجيه بطن يديه ~~إلى غير الله. # الوجه الثامن: أنه قد جاء مصرحا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى، # PageV04P100 # كما تقدم من حديث سلمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن ربكم حيي ~~كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراوين". # وفي صحيح مسلم (1) عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ~~إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي ~~الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبتيه باسطها. وفي لفظ (2) : كان إذا ~~قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته [اليسرى] ، ووضع يده اليمنى على ~~ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة. وفي لفظ (3) : كان إذا ~~جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، فقبض أصابعه كلها، وأشار ~~بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى. # وكذلك في صحيح مسلم (4) حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده ~~اليسرى ms0644 [على فخذه اليسرى] ، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه ~~الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته. # وفي صحيح مسلم (5) وغيره من حديث جابر الطويل في صفة PageV04P101 # حجة الوداع - وهو أتم حديث جاء في صفة حجته - قال: حتى إذا زاغت الشمس ~~أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس فقال: "إن دماءكم ~~وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل ~~شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم ~~أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فصلبه هذيل، ~~وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب ~~فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، ~~واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، ~~فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ~~وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عني ~~فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه ~~السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ~~ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر. # فهو هنا يدعو ربه ويناجيه، مشيرا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم ~~يقول: اللهم اشهد أني على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعل منه وسمع هذا الكلام ~~منه على هذا الوجه علم ضرورة أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يشهد على أمته ~~بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يكابر وقال: هذا لا يدل، فلا ينازع في أنه ظاهر ~~في ذلك، ولو نازع في الظهور لم ينازع في أن دلالة هذا وأمثاله على علو الله ~~أبين # PageV04P102 # من دلالة ترك رفع اليدين أو ترك رفع بطونهما على عدم علوه، فإن ذلك لا ~~يدل بوجه من الوجوه، فمن ترك هذه الدلالات المحكمات وتمسك بالمتشابهات كان ~~من الذين في قلوبهم زيغ. # PageV04P103 # مسألة # في رجال يتركون الصلوات ms0645 الخمس تهاونا، ويدعون في كل وقت إلى فعلها فلا ~~يجيبون، فماذا يجب عليهم؟ وهل إذا سلموا على أحد أن يرد عليهم السلام؟ وهل ~~يهجروا في الله؟ وفيهم رجل قال: صليت بلا وضوء، وقال أيضا: ما كتب الله علي ~~صلاة، فماذا يجب عليه؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إذا لم يكونوا مقرين بوجوبها عليهم فهم ~~كفار مرتدون (1) بإجماع المسلمين، يجب قتلهم كلهم إذا لم يتوبوا. والذي ~~قال: ما كتب الله علي صلاة، فإن هذا كافر باتفاق المسلمين يجب قتله إذا لم ~~يتب. وإذا أقروا بالوجوب وامتنعوا من الفعل فإنه يجب عند جماهير أئمة ~~المسلمين أن يستتابوا أيضا، فإن لم يتوبوا ويقيموا الصلاة المفروضة عليهم ~~فإنه يجب قتلهم أيضا. # وهل يقتلوا (2) كفرا أو فسقا؟ على قولين مشهورين للعلماء، أحدهما: أنهم ~~يقتلون كفرا، وهو قول أكثر السلف وقول طائفة من PageV04P104 # أصحاب مالك والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أكثر أصحابه، ~~كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بين العبد وبين الكفر والشرك ~~إلا ترك الصلاة". رواه مسلم (1) ، وقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، ~~فمن تركها فقد كفر" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. وروى الترمذي (3) عن عبد ~~الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفرا إلا ~~الصلاة، من تركها فقد برئت منه ذمة الله ورسوله. # وفي صحيح البخاري (4) عن عمر أنه لما طعن قيل له: الصلاة، فقال: نعم، لا ~~حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقد قال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة ~~وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (5) ، فعلق الأخوة في الدين على التوبة من ~~الشرك وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ترك القتال على ذلك بقوله: (فإن ~~تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (6) . PageV04P105 # وفي الصحيح (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عمن لم يره كيف ~~تعرفهم؟ # فقال: "يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء". فمن لم يصل لم يكن ~~فيه علامة أمة محمد يوم القيامة. # وفي الصحيحين (2) في حديث الشفاعة أنه ذكر الجهنميين الذين ms0646 أخرجوا من ~~النار بالشفاعة، قال: "فتأكلهم النار إلا موضع السجود، فإن الله حرم على ~~النار أن تأكل أثر السجود". وأمثال ذلك كثيرة. # وأما قول القائل: صليت بلا وضوء، فإن كان مستحلا لذلك أو مستهزئا بالصلاة ~~كفر باتفاق المسلمين، ووجب قتله، وإن كان معتقدا لوجوب الوضوء للصلاة وأن ~~الصلاة بغير وضوء حرام، ففي كفره قولان للفقهاء، فإن طائفة من أصحاب أبي ~~حنيفة قالوا: يكفر هذا، واتفق المسلمون على مثل هذا يستحق العقوبة الغليظة. ~~والله سبحانه أعلم. # وهجر هؤلاء وترك رد السلام عليهم من أهون ما يعزرون به، فإنهم يستحقون ما ~~هو أغلظ من ذلك، والله أعلم. PageV04P106 # مسألة # في رجل مضى عليه زمن لم يصل فيه، ثم تاب ولازم الصلوات الخمس، ولم يتفرغ ~~لقضاء ما فاته من الصلوات، فهل - والحالة هذه - يطالبه الله بذلك أم لا؟ # الجواب # الحمد لله. أما إن كان أولا ممن لا يعتقد وجوب الصلاة ويعزم على فعلها ~~فهذا في الباطن ليس بمؤمن، وإن كان في الظاهر مسلما، كالمنافقين الذين تجري ~~عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. وإن ~~لم يكن مكذبا في الباطن للرسول، بل قد يكون مقرا في الباطن بصدقه، أو معرضا ~~عن تصديقه وتكذيبه، وهو مع ذلك معرض عما جاء به، لا يخطر بقلبه الصلاة هل ~~هي واجبة أو ليست واجبة؟ وهل يلزمه فعلها أو لا يلزمه؟ وإن خطر ذلك بقلبه ~~أعرض عنه، واشتغل بأمور دنياه وشهواته عن أن يعتقد الوجوب ويعزم على الفعل، ~~فهؤلاء وإن صلوا لم تقبل صلاتهم. قال تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله ~~وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون ~~الله إلا قليلا (142)) (1) ، PageV04P107 # وقال تعالى: (فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم ~~يراؤون (6) ويمنعون الماعون (7)) (1) . # وهذا إذا تاب فاعتقد الوجوب، وعزم على الفعل، وأقام الصلاة، كان بمنزلة ~~من قد تاب من الزكاة، وهذا على أصح قولي العلماء وأكثرهم لا يوجب عليه قضاء ~~ما تركه قبل الإسلام من صلاة وغيرها، ولهذا لم ms0647 يكن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يأمر من تاب من المنافقين بإعادة ما فعلوه أو تركوه في حال نفاقهم، ~~ولا أمر من تاب من المرتدين بقضاء ما تركوه في حال الردة. وكذلك الصديق ~~والصحابة لما قاتلوا المرتدين لم يأمروهم بقضاء ما تركوه في حال الردة، ~~وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه أنه يجب على المرتد إذا ~~أسلم أن يقضي ما تركه حال الردة، وفي قضاء ما تركه قبل الردة روايتان عن ~~أحمد، ومذهب أبي حنيفة ومالك أنه لا يجب عليه قضاء شيء من ذلك، ومذهب ~~الشافعي: يقضي الجميع، وقد بنوا ذلك على أن الردة هل تحبط مطلقا أو بشرط ~~الموت عليها؟ وفي هذا البناء وتقرير هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه، فإن ~~المسئول عنه قد عرف حكمه بالسنة المعروفة، مع ما دل عليه القرآن في قوله: ~~(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) (2) . # وقد أجمع المسلمون على أن الكافر لا يصلي، سواء كان حربيا أو ذميا، لا ~~يجب عليه قضاء شيء من هذه الفرائض، مع قول الجمهور إنه يعاقب على تركها في ~~الآخرة إذا لم يسلم. PageV04P108 # وأما إن كان هذا الذي فوت بعض الصلاة عمدا مؤمنا، يعتقد وجوبها ويعزم على ~~أدائها، ولكن تكاسل عنها بعض الأوقات، فهذا يجب عليه عند جمهور العلماء، ~~وعند بعضهم إذا تاب فلا قضاء عليه، بخلاف ما لو نام عنها أو نسيها فإن هذا ~~عليه القضاء بالسنة والإجماع. ومن قال: العامد لا يقضي، فإن ذنبه أكبر ولا ~~ينفعه القضاء، لكن إذا تاب فالتوبة تجب ما قبلها. والذين أوجبوا عليه ~~القضاء أوجبوه بحسب الإمكان. # وأكثرهم يقولون: إذا كثرت الفوائت لم يجب قضاؤها على الفور مرتبة، كأبي ~~حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وأصحاب الشافعي في أصح الوجهين، يوجبون ~~قضاء ما تعمد تركه على الفور، وأحمد في الرواية الأخرى يوجب قضاء الجميع ~~على الفور مرتبا لكن بحسب الإمكان، بحيث لا يشغله عما لا بد له منه من ~~معيشة ونحوها، ولا يضعفه عن واجب ms0648 أو ما لا بد منه. # والكثير الذي لا يجب فيه الفور والترتيب، قيل: هو صلاة يوم وليلة، كما هو ~~في مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: ما لا يمكن فعله إلا بفوت الحاضرة، كما هو ~~المنقول عن أحمد. # والذي ينبغي لهذا التائب أن يجتهد في المحافظة على الصلاة فيما بقي من ~~عمره، وإن قصر في قضاء الفوائت فليجتهد في الاستكثار من النوافل، فإنه ~~يحاسب بها يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - (1) : "أول ما ~~يحاسب به العبد PageV04P109 # صلاته، فإن كان أتمها كتبت تامة، وإن لم يكن أتمها قال الله: انظروا هل ~~تجدون لعبدي من تطوع فتكملون به. فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال ~~على حسب ذلك". # وأما إن قدر أنه عجز عن القضاء، فلم يتفرغ حتى مات بعد التوبة، فهذا ~~مغفور له، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكذلك لو قضى البعض وعجز عن البعض، ~~ومن العجز أن يكون بحيث لو اشتغل بالقضاء لتضرر في معيشته وما يحتاج إليه ~~لنفقة عياله وقضاء ديونه ونحو ذلك، فإنه ليس عليه أن يواصل القضاء مواصلة ~~تمنعه عما لا بد منه باتفاق العلماء. والله أعلم. PageV04P110 # مسألة # في رجل له عشرين (1) سنة يشرب الخمر، ولا يصلي إلا بعض الأعياد والجمع، ~~لكنه يتصدق وينظر المعسر، فهل يثاب على ذلك؟ وهل إذا تاب يجب عليه قضاء ما ~~فاته من الواجبات؟ # الجواب # الحمد لله. ### | تارك الصلاة يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب # عقوبة شديدة حتى يصلي بإجماع المسلمين. وأكثر الأئمة كمالك والشافعي ~~وأحمد يقولون: إنه إذا لم يصل فإنه يقتل، واختلف هل يقتل كافرا أو فاسقا ~~على قولين. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" (2) ، وقال: "العهد الذي بيننا ~~وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (3) . # وأما إذا فعل شيئا من الخير فإن الله لا يظلم، فإن اليهود PageV04P111 # والنصارى إذا فعلوا خيرا فإن الله يثيبهم عليه في الدنيا، لكن هذا لا ~~يدفع عنه عقوبة ms0649 ترك الصلاة. ويجب عليه المحافظة على الصلوات في مواقيتها. ~~ومن ترك الصلاة متعمدا فقد قال بعض العلماء: إن الإثم الذي عليه لا يسقط ~~ولا غيره، ولا يقبل منه القضاء، بل يتوب ويستغفر. وقال الأكثرون: بل يقضي ~~ويتوب من التأخير، والله أعلم. # PageV04P112 # مسألة # في رجل عنده زوجة لا تصلي، فهل يجب عليه أو يستحب له أن يأمرها بالصلاة؟ ~~وإذا لم تأتمر فهل يجوز له إبقاؤها زوجة أو يجب عليه أو يستحب له أن ~~يفارقها؟ وماذا يجب على تارك الصلاة؟ وهل يكفر بتركها أم لا؟ # الجواب # الحمد لله. بل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة ويجب ذلك عليه، بل يجب عليه أن ~~يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال الله ~~تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (1) ، وقال تعالى: (قوا أنفسكم ~~وأهليكم نارا) (2) ، قال علي عليه السلام: علموهم وأدبوهم. وينبغي مع الأمر ~~بذلك أن يحضها على ذلك بالرغبة والرهبة، كما يحضها على ما يحتاج إليه، ف ### | إن أصرت على ترك الصلاة فعليه أن يطلقها، # وذلك واجب في الصحيح. # وتارك الصلاة يستحق العقوبة حتى يصلي باتفاق المسلمين، على أنه إن لم يصل ~~قتل، وهل يقتل كافرا أو فاسقا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم. PageV04P113 # مسألة # في رجل عمره سبعين (1) سنة وهو مقيم في بلده مدة ثلاث سنين، ما رآه أحد ~~صلى ولا زكى. # الجواب # هذا الرجل يجب أن يستتاب ليقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، فإن لم يقم الصلاة ~~وإلا قتل عند جماهير العلماء، وهل يقتل كفرا أو فسقا على قولين. # وإن لم يؤد الزكاة وإلا أخذت منه قهرا، فإن غيب ماله وامتنع من أدائها ~~قتل أيضا في أحد قولي العلماء، وفي الآخر: لا يزال يضرب ضربا بعد ضرب حتى ~~يظهر ماله فيوخذ منه الزكاة. ومن عرف حال هذا فينبغي أن يهجره، فلا يسلم ~~عليه ولا يعاشره، ويوبخه ويغلظ له حتى يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. # قال عمر بن الخطاب: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. # وقال ابن مسعود: ما ms0650 تارك الزكاة بمسلم. وقد قال تعالى: (فإن تابوا ~~وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (2) ، وفي الآية PageV04P114 # الأخرى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (1) ~~. # وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرت أن ~~أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا ~~الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا ~~بحقها، وحسابهم على الله". # فقد بين الله في كتابه وسنة رسوله أنه إنما يكف عن قتالهم وإنما يصيرون ~~إخوة في الدين إذا كانوا مع توبتهم من الكفر يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ~~فمن لم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة لم يكن من هؤلاء، فيعاقب على ذلك باتفاق ~~المسلمين، وإن وقع نزاع في صفة العقوبة، والله أعلم. PageV04P115 ### | مسألة # في البنت إذا بلغت ولم تصل، وإن قيل لها: صلي تقول: ما أنا كبيرة. ~~والمرأة الكبيرة إذا لم تصل فماذا يجب عليها # إذا كان زوجها حلف عليها: لا يطأها ولا ينفق عليها إلا أن تواظب على ~~الصلاة؟ هل يحنث أم لا؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين. ### | من بلغ من الرجال والنساء فالصلاة فريضة عليه # باتفاق المسلمين، والمرأة يحصل بلوغها بحيضها وبإنزال الماء، وكذلك الحبل ~~يدل على الإنزال، فمتى حاضت المرأة أو حبلت ولم تقر بوجوب الصلاة عليها بعد ~~أن تعرف أن الله أوجبها عليها فهي كافرة باتفاق المسلمين، ولا تحل لزوجها، ~~ولا يصح عقد النكاح عليها، فإنها مرتدة، ونكاح المرتدة باطل عند الأئمة، ~~ويجب قتلها عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، كما يجب قتل سائر المرتدات ~~عندهم. # وإن كانت لا تقر بوجوبها لظنها أن الصلاة إنما تجب على العجوز دون ~~الشابة، فهذه لا يحكم بكفرها وردتها حتى تعرف أنها واجبة عليها، وهل على ~~هذه إعادة ما تركته في حال جهلها بوجوب الصلاة عليها؟ على قولين للعلماء في ~~مذهب أحمد وغيره. # PageV04P116 # وكذلك المرأة الكبيرة إذا لم تقر بوجوب الصلاة وامتنعت من فعلها فإنها ~~تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ms0651. وإذا هجرها ~~وامتنع من وطئها حتى تصلي كان محسنا في الهجر والامتناع، ولا نفقة لها هذه ~~المدة، فإن الذي فعله واجب عليه. ويجب عليها أن تطيعه فيه، وللزوج إلزام ~~زوجته بترك المحرمات، وإن أمكن الوطء مع فعلها، وله أيضا إلزامها بغسل ~~الجنابة وإزالة النجاسة، وإن أمكن وطؤها مع الجنابة، وهذا وإن علل بأن ~~النفس تعاف وطء المرأة الجنب، فالتي لا تصلي شر منها، وترك الصلاة شر من ~~فعل أكثر المحرمات، إذا كانت تطيعه فيما له أن يلزمها به، وإن كانت ناشزا ~~فلا نفقة لها ما دامت كذلك، والله أعلم. # PageV04P117 # مسألة # في أقوام يكونون بالمسجد، فإذا حضرت الصلاة قاموا، فيدعون للصلاة فيأبوا ~~(1) ، فيقال لهم: من لا يصلي ما هو مسلم، فيقولون: كل من نطق بالشهادتين هو ~~مسلم. # فبينوا لنا حكم هؤلاء وما يجب عليهم، ومنهم من لا يصلي إلا من العيد إلى ~~العيد، ومنهم من لا يصلي أبدا. # الجواب # الحمد لله رب العالمين، من ترك الصلاة غير مقر بوجوبها عليه - وهو من أهل ~~الوجوب - فإنه كافر باتفاق الأئمة وإن كان مقرا بالشهادتين، وهذا يستتاب، ~~فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا باتفاق الأئمة. وإن كان ممن لا يعرف الوجوب ~~لحدثان عهده بالإسلام أو إنشائه بمكان جهل فإنه يعرف الوجوب، فإن أقر به ~~وإلا قتل كافرا. # و ### | الصلاة واجبة على كل عاقل بالغ إلا الحائض والنفساء، # تجب على الحر والعبد، الذكر والأنثى، والمقيم والمسافر، والآمن ~~PageV04P118 # والخائف، والصحيح والمريض، وأهل الأحوال وأهل خوارق العادات ذوي ~~المكاشفات والتأثيرات وغير أهل خوارق العادات، وأهل حضور القلب مع الله ~~وأهل المعرفة والحقائق، وغير هؤلاء، والمتولهين الذين لهم عقل يميزون وغير ~~المتولهين، لا تسقط عن العبد مع حضور عقله بسبب من هذه الأسباب. # وأما من كان مجنونا فإنه لا صلاة عليه حال جنونه، ولا قضاء عليه بعد ~~الإفاقة، وإن قصر زمن الجنون عند جماهير العلماء، قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن ~~النائم حتى يستيقظ" (1) . والمجانين منهم من ms0652 يكون مع جنونه له نصيب من ~~الإيمان أو الكشف ونحوه، وقد يسمى هؤلاء عقلاء المجانين، وقد يسمون ~~المولهين، فهؤلاء إذا كانوا مجانين كانوا كما قال فيهم بعض أهل العلم: هم ~~قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا، سلب عقولهم وأبقى أحوالهم، فأسقط ما فرض ~~بما سلب. # وأما من كان عاقلا فلا تسقط عنه الصلاة، وإن له من الأحوال والمعارف ~~وخوارق العادات ما عسى أن يكون، بل إذا لم يقر بوجوب الصلاة عليه فإنه ~~يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وكذلك من قرره على ذلك واعتقد أن الصلاة لا تجب ~~على مثل هؤلاء لحصول PageV04P119 # مقصود الصلاة لهم ونحو ذلك، فإنه من اعتقد ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ~~ومن كان نائما فإنه يقضي الصلاة إذا استيقظ. وهذا كله لا نزاع فيه بين ~~المسلمين. # وأما من أغمي عليه لمرض أو خوف أو حال ورد عليه من خشية الله تعالى أو ~~استماع القرآن ونحو ذلك، فهذا قيل: يجب عليه القضاء مطلقا، وهو مذهب أحمد ~~ويروى عن عمار بن ياسر، وقيل: لا قضاء عليه وهو مذهب الشافعي، وقيل: يقضي ~~صلاة يوم وليلة، كمذهب أبي حنيفة ومالك. # وإن زال عقله بسبب محرم، كالسكر بالخمر والحشيشة وأكل البنج ونحو ذلك، أو ~~بحال محرم مثل أن يستمع القصائد المنهي عنها فيغيب عقله، فهذا عليه القضاء ~~بلا نزاع، وإذا كان السبب محصورا لا يكون (1) السكران معذورا. # وأما أن أقر الواحد من هؤلاء بوجوب الصلاة وامتنع من فعلها فهذا أيضا ~~يستتاب، فإن تاب وإلا قتل عند جماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد، ويقتل ~~في ظاهر مذهبهم بترك صلاة واحدة، فإذا مضى من وقت صلاة الفجر قيل له: صل، ~~فإن لم يصل حل دمه ولو طار في الهواء ومشى على الماء، فإن الدجال يأمر ~~السماء فتمطر والأرض فتنبت، ويستتبع معه الكنوز، ومع هذا فهو كافر من خلق ~~الله، يقتله المسيح بن مريم على باب الشرقي. ولكن لا يقتل PageV04P120 # حتى يستتاب. وهل هذه الاستتابة واجبة أو مستحبة هي موقتة ثلاثة أيام؟ هذا ~~فيه نزاع معروف ms0653. # وإذا قتل فهل يقتل كافرا مرتدا لا يدفن في مقابر المسلمين ولا يغسل ولا ~~يصلى عليه، أو يقتل فاسقا كقتل قاطع الطريق والزاني إذا كان مقرا بوجوبها؟ ~~على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد. # وكلام أكثر السلف يدل على تكفيره، وقد رجحه كثير من أصحاب أحمد وبعض ~~أصحاب مالك والشافعي. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة" (1) ، وقال: "العهد ~~الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (2) . # وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه ~~كفرا إلا الصلاة. وقال عمر بن الخطاب لما قيل: الصلاة، فقال لا حظ في ~~الإسلام لمن ترك الصلاة، ولم يقل ثلاثة أيام. # وسئل ابن مسعود وغيره عن قوله (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة) (3) ، ~~فقال: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نحسب ذلك إلا تركها، فقال: ~~لو تركوها لكانوا كفارا، وقد قال سبحانه وتعالى: (فويل للمصلين (4) الذين ~~هم عن صلاتهم ساهون (5)) (4) . وإذا كان هذا الوعيد لمن نسيها عن وقتها ~~فكيف بمن تركها؟ PageV04P121 # مسألة ### | هل يجوز غيبة تارك الصلاة أم لا؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، إذا قيل عنه إنه تارك الصلاة وكان تاركها فهذا جائز، # وينبغي أن يشاع ذلك عنه ويهجر حتى يصلي، وأما مع القدرة فيجب أن يستتاب، ~~فإن تاب وإلا قتل. # PageV04P122 # مسألة # فيمن ترك الصلاة عامدا أو غير عامد، ووجبت عليه الزكاة ولم يزك، وعاق ~~والديه، وقتل نفسا خطأ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حج هذا ~~البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وقد قصد الحج، فهل ~~يسقط هذا جميعه ومظالم العباد؟ # الجواب # أجمع المسلمون لا يسقط حقوق العباد كالدين ونحو ذلك، ولا يسقط ما وجب ~~عليه من صلاة وزكاة وصيام وحق المقتول عليه وإن حج. والصلاة التي يجب عليه ~~قضاؤها يجب قضاؤها وإن حج. وهذا كله باتفاق العلماء. # PageV04P123 # مسألة # في رجل مات، وكان لا يزكي ولا يصلي ms0654 إلا إن كان في رمضان، فيجب لنا أن ~~نصلي على مثل هذا؟ # الجواب # مثل هذا ### | يستحب لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه عقوبة ونكالا لأمثاله، # كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال، ~~وعلى المدين الذي لا وفاء له. وإن كان منافقا فمن علم نفاقه لم يصل عليه، ~~ومن لم يعلم نفاقه فله أن يصلي عليه. # PageV04P124 # مسألة # في أقوام لم يصلوا ولم يصوموا، والذي يصوم منهم لم يصل، ومالهم حرام، ~~ويأخذون أموال الناس، ويكرمون الجار والضيف، ولم يعرفوا لهم مذهب (1) وهم ~~مسلمون. # الجواب # الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إن كانوا تحت حكم ولاة الأمور فإنهم يجب أن ~~يأمروهم بإقامة الصلاة ويعاقبوا على تركها باتفاق المسلمين، وكذلك الصيام. ~~فإن أقروا بوجوب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن ~~لم يقر بذلك فهو كافر، وإن أقروا بوجوب الصلاة وامتنعوا من إقامتها عوقبوا ~~حتى يقيموها. # ويجب قتل كل من لم يصل إذا كان عاقلا بالغا عند جماهير العلماء كمالك ~~والشافعي وأحمد، وكذلك يقام عليهم الحدود، وإن كانوا طائفة ممتنعة ذات شوكة ~~فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا أداء الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلوات ~~والصيام والزكاة، وترك PageV04P125 # المحرمات كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك. ومن لم يقر بوجوب الصلاة ~~والزكاة فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن لم يؤمن بالله ورسوله ~~واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافر أكفر من اليهود والنصارى. وعقوق ~~الوالدين من الكبائر الموجبة للنار. # PageV04P126 # مسألة # فيمن قال: صلاة الجماعة ليست بواجبة، وإنما كانت واجبة في زمن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - ومعه فقط. # قيل له: فقد قال بعض العلماء: إن من ترك الجماعة وصلى في بيته فهو منافق، ~~فقال: من قال هذا هو المنافق، وقال: إنه لا يوجد اليوم منافق، وإنما كان ~~النفاق في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن يقال اليوم: زنديق، ~~ولا يقال: منافق. # فهل ما قاله هذا الرجل صحيح أم لا؟ # أجاب # الحمد لله، أما من قال إن صلاة ms0655 الجماعة كانت واجبة في زمن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - ومعه فقط، فهذا القول مخالف لأقوال الأئمة الأربعة وسائر ~~أئمة الدين، بل ما نعلم إماما قال هذا، وإنما قال هذا بعض العلماء في صلاة ~~الخوف خاصة، زعم أنها كانت تصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، ~~وجمهور الأئمة على خلاف ذلك. وأما الجماعة المعروفة فالأئمة متفقون فيها ~~على خلاف قول هذا القائل، فمنهم من يقول: هي واجبة على الأعيان على عصر ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأعصار على من يصلي خلفه ومن يصلي خلف ~~غيره. ومنهم من # PageV04P127 # يقول: هي واجبة على الكفاية على عصره وعصر غيره خلفه وخلف غيره، ومنهم من ~~يقول: هي سنة مؤكدة على عصره وعصر غيره خلفه وخلف غيره. وأما وجوبها في ~~عصره معه فقط، فهذا قول مخالف لأقوال أئمة الإسلام، وما سمعت عالما قال ~~هذا. # وقد كانت الجماعة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تقام خلفه وخلف ~~غيره من أئمة القبائل، وكان في كل دار من دار الأنصار مسجد، أي في كل قبيلة ~~من قبائل الأنصار مسجد، وكان لهم إمام راتب يصلون خلفه، كما كان معاذ بن ~~جبل يصلي بأهل قباء، وكان غسان بن مالك يصلي بقومه وكذلك غيرهما من الأئمة. ~~وأما الجمعة فلم تكن تقام إلا في مسجده، فمن قال: إن الصحابة كلهم كان يجب ~~عليهم أن يصلوا خلفه الجماعة كما كان يجب عليهم أن يصلوا خلفه الجمعة فقد ~~أخطأ خطأ بينا، وقال قولا معلوم الفساد بالتواتر والإجماع. # وأما إطلاق النفاق على من تخلف عن الجماعة أو الجمعة، فهذا إنما يكون إذا ~~كان بغير تأويل شرعي، فأما من تخلف لعذر شرعي، أو من اعتقد أن ذلك ليس ~~بواجب عليه، فتخلف لأجل هذا الاعتقاد فإنه قد يكون مؤمنا غير منافق، سواء ~~كان مصيبا في اعتقاده أو مخطئا. # وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله شرع ~~لنبيه سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما PageV04P128 # يصلي ms0656 هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ~~ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فقد أخبر ابن مسعود أن ~~الجماعة لم يكن يتخلف عنها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا منافق ~~معلوم النفاق، وهذا مما يستدل به من يوجبها، لأنه إذا لم يكن يتركها حينئذ ~~إلا منافق معلوم النفاق علم أنها كانت واجبة إذ لو كانت مستحبة كقيام الليل ~~وصيام يوم الاثنين والخميس وسنة الظهر والمغرب لكان قد يتركها المؤمن، ولم ~~يكن في تركها يقال: إنه منافق، فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - ذكر ما فرض الله من الصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك ~~لرجل، فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال: "أفلح ~~إن صدق". فإذا كان من أدى الفرائض يكون مفلحا وإن لم يأت المستحبات، وكانت ~~الجماعة لا يتخلف عنها عندهم إلا منافق، علم أنها كانت عندهم من الواجبات، ~~ولكن هذا كان لعلم الصحابة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاني ~~كلامه، وأنه لم يكن بينهم نزاع على عهده ولا شبهة ولا اختلاف، لظهور العلم ~~والإيمان ومعرفتهم بوجوبها وتوكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. حتى ~~قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم الحطب ~~إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (2) . ومعلوم أن ~~التحريق بالنار لا يكون إلا عن كفر أو كبيرة عظيمة. PageV04P129 # وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت من النساء والذزية"، وفي رواية لأبي ~~داود (2) : "ثم أنطلق إلى رجالي يصلون في بيوتهم، فأحرق بيوتهم بالنار". ~~فلما علم الصحابة هذا الوعيد والتهديد كان المؤمنون يطيعون الله ورسوله، ~~والمنافقون يتخلفون عن الجماعة، فأما اليوم فقد قل العلم والإيمان، وكثير ~~من العلماء يخفى عليه بعض السنة فضلا عن غيرهم، فلهذا صار يتركها من ليس ~~بمنافق معلوم النفاق، لكن هؤلاء يتشبهون بالمنافقين، إذا لم يكونوا ~~منافقين، وهم تاركون للسنة المؤكدة باتفاق المسلمين، وإذا أصروا على ذلك ms0657 ~~ردت شهادتهم، بل يقاتلون في أحد القولين، وهذا عند من لا يقول بوجوبها. # فأما من قال بوجوبها فإنه يقاتل تاركها، ويفسق المصرين على تركها إذا ~~قامت عليهم الحجة التي تبيح القتال والتفسيق، كما يقاتل أهل البغي بعد ~~إزالة الشبهة ورفع المظلمة، بل العلماء قد يعاقبون من ترك واجبا أو فعل ~~محرما وإن كان متأولا، كما قال مالك والشافعي وأحمد في شارب النبيذ المتأول ~~أنه يجلد وإن كان متأولا، والشافعي لا يرد شهادته بذلك، ومالك يردها، وعن ~~أحمد روايتان. وكذلك البغاة المتأولون إذا قاتلوا، كما قاتل علي بن أبي ~~طالب لأهل الجمل وصفين، فإنهم عند الأئمة الأربعة لا يفسقون بذلك البغي، ~~لأنهم كانوا فيه متأولين وإن قوتلوا. PageV04P130 # وهكذا كل ما ثبت تحريمه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد خفي ذلك ~~على بعض العلماء، فإنه يذكر تحريمه وما ورد فيه من التغليظ والوعيد، وإن ~~كان المتأول المعذور من العلماء لا يلحقه الوعيد، بل يغفر الله له لأنه ~~اجتهد فأخطأ، وقد قال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (1) ، ~~وفي الصحيح (2) أن الله تعالى قال: "قد فعلت". # وهكذا ما يتنازع فيه الأئمة من واجبات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، ~~إذا تركه التارك متأولا مع قيامه بالواجبات وتركه للمحرمات لم يكن بذلك ~~فاسقا بل ولا آثما، بل الله يغفر له خطأه. # ومع هذا فمن يقول بوجوبه يبين وجوبه، ويذكر ما جاء فيه من الأدلة الشرعية ~~لبيان العلم وإظهار السنة، وليتبين خطأ القول المخالف للسنة وصواب القول ~~الموافق لها، وإن كان المخالف مجتهدا معذورا، بل يكون المجتهد من أولياء ~~الله المتقين، وعباده الله الصالحين، ومن أئمة الدين، والله يغفر له خطأه ~~ويغفر له ما هو فوق الخطأ من الذنوب، إذ لا معصوم من أن يقر على خطأ أو ذنب ~~بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان صديقا أو شهيدا أو صالحا، لكن ~~يكونون كما قال تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن ~~سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي ms0658 كانوا يوعدون (16)) (3) . # ووجوب الجماعة من هذا الباب، فإن دلائل وجوبها في PageV04P131 # الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ظاهر بين، لا يستريب فيه بعد معرفته ومعرفة ~~ما قيل في ذلك عالم منصف، ولكن طائفة من العلماء ظنوا أن الوعيد كان في ~~الجمعة خاصة، والنصوص صريحة ثابتة بأنها كانت في الجماعة أيضا. ومنهم من ظن ~~أن العقوبة إنما كانت للنفاق خاصة لا لترك الجماعة، وهذا أيضا خطأ فإن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعاقب أحدا على ما أسره من النفاق، ~~وإنما يعاقبه بما أظهره من ترك واجب أو فعل محرم. وأيضا فإذا [كان] تركها ~~علامة النفاق، فالدليل يستلزم المدلول، علم أن كل من تركها كان منافقا، ~~وهذا دليل الوجوب. # وأيضا فإنه قد ثبت في الصحيح (1) أن ابن أم مكتوم سأل النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أن يرخص له في تركها، فقال: "هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم. ~~قال: "فأجب". وفي رواية في السنن (2) : فقال: "لا أجد لك رخصة". وابن أم ~~مكتوم مؤمن باتفاق المسلمين، وهو الأعمى الذي ذكره الله بقوله: (عبس وتولى ~~(1) أن جاءه الأعمى (2)) (3) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخلفه ~~على المدينة، وكان يؤذن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فلم يأذن له ~~في التخلف عن الجماعة، فعلم أنها واجبة على من علم إيمانه. # ومن ادعى أن هذا الحديث منسوخ أو مخالف للإجماع فقد PageV04P132 # غلط، فإن العمل عليه عند من يوجب الجماعة، يوجبها على الأعمى كما يوجب ~~عليه الجمعة، فإذا أمكنه الخروج إليها وجبت عليه وإن لم يكن له قائد، إذ ~~الأعمى قد يذهب إلى السوق وغيره من حوائجه بلا قائد، فكذلك يذهب إلى ~~الجماعة. # فصل # وأما من قال: لا يوجد اليوم منافق، إنما كان النفاق على عهد النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فهذا مخطىء بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان ~~بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن النفاق اليوم أكثر منه على عهد ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام، ~~وهذا ms0659 موجود في سائر الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وآياته وسماع كلامه يكون المنافقون موجودين فبعده أولى وأحرى. # وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهل منه، فإن لفظ ~~"زنديق" لفظ معرب لم ينطق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، ~~ولكن نطقت به الفرس، فأخذته العرب فعربته. ومعنى الزنديق الذي تنازع ~~الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ~~ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتج ~~الشافعي وغيره ممن يرى قبول توبة الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل ~~علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله. وكذلك تكلم # PageV04P133 # الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثه، ووجوب ~~إعادة ما فعله من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتج على ذلك بأحكام النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة ~~أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يظهر الإسلام ويبطن الكفر فإنه منافق، ~~يسمى منافقا، ويدخل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومن أنكر هذا فإنه ~~يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. # واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يعبر به عن بعض شعب الكفر والنفاق، وهذا ~~هو النفاق الأصغر وهو الذي خافته الصحابة على أنفسهم، كما في صحيح مسلم (1) ~~أن حنظلة الكاتب لقي أبا بكر الصديق فقال: نافق حنظلة، نافق حنظلة. # وذكر البخاري (2) عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم ~~يخاف النفاق على نفسه. وقد صنف جعفر بن محمد الفريابي الحافظ كتابا في صفة ~~المنافق (3) ، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يتسع له هذا الموضع، وقد ~~قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم ~~الكافرون (44)) ، (فأولئك هم الفاسقون (47)) ، (فأولئك هم الظالمون (45)) ~~(4) ، PageV04P134 # قال: كفر دون كفر، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم (1) . وفي الحديث عن ~~النبي - صلى الله عليه ms0660 وسلم - أنه قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب ~~النمل، والرياء شرك" (2) وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والاستسقاء بالأنواء" ~~(3) . وفي حديث آخر: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن ~~آبائكم" (4) . ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم. PageV04P135 # مسألة # في رجل له دكان يبيع فيها ويشتري، وهي بقرب المسجد من غير حائل بينهما، ~~فهل يجب عليه إذا أقيمت الصلاة وحضرت الجماعة أن يصلي منفردا في الدكان ~~ويترك الجماعة؟ وهل يوجب (1) أن يؤخر الصلاة مع الجماعة ويصلي في البيت ~~ويقول: أنا أؤخر الصلاة إلى نصف الليل وأصلي في بيتي؟ # الجواب # لا يجب عليه باتفاق المسلمين أن يصلي منفردا في الحانوت، بل ### | هو مأمور باتفاق المسلمين أن يصلي مع الجماعة، # وإنما يأمر بالصلاة منفردا دون الجماعة أهل البدع المضلة كالرافضة، وبعض ~~ضلال النساك ونحوهم، وأما أهل السنة والجماعة فمن أعظم شعائرهم الصلاة في ~~الجمعة والجماعة. # و ### | الصلاة في الجماعة من أوكد ما شرعه الله ورسوله، # بل هي واجبة، فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "لقد PageV04P136 # هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي رجال معهم حزم الحطب إلى قوم لا ~~يشهدون الصلاة، فأحرق بيوتهم بالنار". وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت ~~من النساء والذرية". فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما يمنعه من تحريق ~~المتخلفين عن الجماعة أن في البيوت نساء وذرية. # وفي الصحيح (2) أن أعمى جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ~~رسول الله! إني رجل شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن ~~أصلي في بيتي؟ قال: "هل تسمع النداء"؟ قال: نعم، قال: "فأجب". وفي رواية ~~(3) : "هل تسمع النداء؟ " قال: نعم، قال: "لا أجد لك رخصة". وفي الصحيح (4) ~~عن ابن مسعود أنه قال: شرع الله لنبيه سنن الهدى، وإن هذه الصلوات الخمس في ~~المساجد التي يؤذن بها من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في ms0661 بيوتكم كما صلى هذا ~~المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد ~~رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. # وإذا ظهر من الرجل [الانفراد] بما يجب عليه من الصلاة وواجباتها فإنه ~~يستحق على ذلك العقوبة البليغة، التي تحمله وأمثاله على أداء PageV04P137 # الواجبات وإقامة شرائع الدين، ومتى ادعى ما يظهر خلافه لم يقبل منه، بل ~~يؤمر أن يصلي مع المسلمين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث ~~الصحيح (1) : "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب ~~أحدهم الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام، فنقر أربعا لا يذكر الله ~~فيها إلا قليلا". # ومن قال: إنه يؤخر العشاء حتى يصليها بعد نصف الليل، فإنه لا يقر على ~~ذلك، بل يعاقب حتى يصلي الصلاة في وقتها وقت الاختيار، فإن تأخير العصر إلى ~~[ما] بعد الاصفرار وتأخير العشاء إلى ما بعد نصف الليل لا يجوز مع القدرة، ~~بل يجوز ذلك لمن لم تمكنه الصلاة وقت الاختيار، كالحائض تطهر، والمجنون ~~يفيق، والنائم يستيقظ، والكافر يسلم، ونحو ذلك، والله أعلم. PageV04P138 # مسألة # في مسلم تارك الصلاة ويصلي يوم الجمعة، فهل يجب عليه اللعنة؟ # الجواب # الحمد لله، هذا يستوجب العقوبة باتفاق المسلمين، والواجب عند جمهور ~~العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. # ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز، وأما لعنة المعين فالأولى تركها، ~~لأنه يمكن أن يتوب. # PageV04P139 ### | مسألة # في رجل يصوم ولا يصلي ويلعب بالنرد. # الجواب # الحمد لله رب العالمين، الصلاة أعظم من الصيام، وتارك الصلاة المفروضة ~~أعظم إثما من تارك الصيام. # وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من فاتته ~~صلاة العصر حبط عمله". وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه قال: "الذي تفوته الصلاة صلاة واحدة فكأنما وتر أهله وماله" أي سلب ~~أهله وماله. فإذا كان هذا فيمن تفوته صلاة واحدة فكيف بمن يفوته أكثر من ~~صلاة؟ # فكيف بمن يترك الصلاة؟ وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صلى ms0662 الله عليه ~~وسلم - أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة". وتاركها مستحق ~~للعقوبة البليغة بإجماع المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما لعب ~~النرد فهو حرام باتفاق العلماء. PageV04P140 # مسألة # فيمن عنده زوجة ما تصفي، هل تحرم عليه؟ أو ينفسخ العقد الذي عقد بينهما؟ ~~ولها عليه صداق ثقيل ولم يقدر على شي؟ منه، ويخاف إن يفارقها يطالب بشي لا ~~يقدر عليه. # الجواب # الحمد لله، أما إقرار الزوجة أو غيرها ممن هو تحت طاعة الرجل على ترك ~~الصلاة فهو حرام بإجماع المسلمين، والمقر على ذلك مع القدرة على الإنكار ~~آثم فاسق عاص بلا نزاع، بل الأمر بالصلاة لمن ليس تحت طاعة الرجل فرض على ~~الكفاية، إذا تركه الناس عصوا وأثموا، واستحقوا جميعهم عقاب الله، فكيف ترك ~~الأمر بذلك لمن هو في طاعته؟ وقد قال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر ~~عليها) (1) ، وما أمر الله به نبيه فهو أمر لأمته ما لم يقم دليل على ~~التخصيص، ولا تخصيص هنا بالاتفاق، فيجب على كل مسلم أن يأمر أهله بالصلاة. ~~وكذلك قال تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم) (2) ، قال عليه الصلاة والسلام: ~~علموهم وأدبوهم. PageV04P141 # وإذا علم الرجل أن المخطوبة لا تصلي كان تزوجه أشر مما إذا علم أنها قحبة ~~أو سارقة أو شاربة خمر، فإن ### | تارك الصلاة شر من السارق والزاني باتفاق العلماء، # إذ تارك الصلاة سواء كان رجلا أو امرأة يجب قتله عند جمهور العلماء كمالك ~~والشافعي وأحمد، والسارق لا يجب قتله، ولا يجب قتل الزانية التي لم تحصن ~~باتفاق العلماء، وإن كانت بكرا بالغا عند أبويها وهي لا تصلي كانت شرا من ~~أن تكون قد زنت عندهم أو سرقت، وإذا كان الناس كلهم ينكرون أن يتزوج الرجل ~~بسارقة أو زانية أو شاربة خمر ونحو ذلك فيجب أن يكون إنكارهم لتزوج من لا ~~تصلي أعظم وأعظم باتفاق الأئمة. فإن التي لا تصلي شر من الزانية والسارقة ~~وشاربة الخمر. # وليس لقائل أن يقول: فالمسلم يجوز له أن يتزوج اليهودية والنصرانية، فكيف ~~بهذه؟ لأن اليهودية والنصرانية ms0663 تقر على دينها، فلا تقتل ولا تضرب، وأما ~~تارك الصلاة والسارق والشارب والزاني فلا يقر على ذلك، بل يعاقب إما بالقتل ~~وإما بالقطع وإما بالجلد، وإن كان عقابه في الآخرة أخف من عقاب الكافر، لكن ~~لا يجوز لغيره أن يقره على فسقه، فمن أقر فاسقا على فسقه ولم ينكر عليه كان ~~عاصيا آثما، ومن أقر ذميا على دينه لم يكن آثما ولا عاصيا، وقد قال تعالى: ~~(الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ~~أولئك مبرءون مما يقولون) (1) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والنساء ~~الطيبات للرجال الطيبين، PageV04P142 # والخبيثة هي الفاجرة، فهي للرجل الخبيث الفاجر. # والخبث إن قيل المراد به الزنا دل على أن تزوج الزانية لا يجوز حتى تتوب، ~~وهو أصح قولي العلماء، لقوله تعالى: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) ~~(1) ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى رجلا أن يتزوج امرأة كان يزني ~~بها اسمها عناق (2) ، وأنزل الله هذه الآية في ذلك، ولهذا كان المتزوج بها ~~مذموما عند عامة العقلاء، حتى يقال: شتمه بالزين والقاف، أي قال له: يا زوج ~~القحبة. والحديث الذي يروى في الرجل الذي قال: إن امرأتي لا ترد كف لامس، ~~قد ضعفوه (3) ، ولا شك أن الزانية يخاف منها إفساد الفراش، وهو من هذا ~~الوجه شر من غيرها، بخلاف من كان فسقها بغير ذلك، ولهذا يقال: ما بغت امرأة ~~نبى قط، لكن عقوبة المرأة التي تترك الصلاة أعظم من عقوبة بعض البغايا ~~فالمتزوج بها يكون قد أقر في بيته من المنكرات أعظم من أن يقر عنده أخته ~~الزانية وبنته الزانية. # وأما انفساخ النكاح بمجرد الترك فلا يحكم بذلك، لكن إذا PageV04P143 # دعيت إلى الصلاة وامتنعت انفسخ نكاحها في أحد قولي العلماء، وفي الآخر لا ~~ينفسخ، لكن على الرجل أن يقوم بما يجب عليه. # وليس كل من وجب عليه أن يطلقها ينفسخ نكاحها بلا فعله، بل يقال له: مرها ~~بالصلاة وإلا فارقها، فإن كان عاجزا عن ذلك لثقل صداقها كان مسيئا بتزوجه ~~من لا تصلي على هذا ms0664 الوجه، فيتوب إلى الله من ذلك، وينوي أنه إذا قدر على ~~أكثر من ذلك فعله، والله أعلم. # PageV04P144 ### | مسألة # فيمن لا يصلي هل تجاب دعوته إذا دعا أحدا؟ # الجواب # أما من لا يصلي فلا ينبغي أن يسلم عليه، ولا تجاب دعوته، بل هو مستحق ~~للقتل، فإذا هجر فلم يسلم عليه ولم تجب دعوته كان ذلك أخف ما يعاقب به. ### | مسألة # في رجل ذكر له الصلاة، فقال: قال الله: (لا تقربوا الصلاة) (1) ، فقيل ~~له: اقرأ بقية الآية، فقال: كلمة تكفي العاقل، وهو يضحك، # فما يجب عليه؟ # الجواب # هذا الرجل مستهزىء بآيات الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. PageV04P145 # مسألة # في الميت وخروجه على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل المرور ~~بالميت بالمقربين، وخروج النساء صحبة الميت، وخروجهم إلى القبر اليوم ~~الثالث، ومن يصنع موضع غسل الميت خبزا وماء وسراجا إلى ثلاثة أيام، ~~والقراءة على القبر ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث نسق القبر بأيديهم، ~~والضرب بالدفوف والشبابات، هل يكره ذلك أم لا؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين، كان الميت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يخرج به الرجال، يحملونه إلى المقبرة ويسرعون به وعليهم السكينة، لا يخرج ~~معهم النساء، ولا يرفع الرجال أصواتهم لا بقراءة ولا غيرها. وهذه هي السنة ~~باتفاق علماء المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، لا يستحبون أن يكون مع ~~الميت شيء من الأصوات المرتفعة ولو كانت بالقراءة. # قال قيس بن عبادة -وهو من كبار التابعين الذين صحبوا علي بن أبي طالب-: ~~كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند التحام الحرب. وذكروا ~~أن عبد الله بن عمر سمع رجلا # PageV04P146 # في جنازة يقول: استغفروا لفلان، فقال عبد الله بن عمر: لا غفر الله ~~للأبعد، قال ذلك نهيا له عن هذه البدعة. وقال سعيد بن المسيب لما احتضر: ~~إياي وحادثكم هذا الذي ترحموا على سعيد، استغفروا لسعيد. # وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يتبع الجنازة ~~بصوت أو نار. وفي الصحيحين (2) عنه - صلى الله عليه ms0665 وسلم - أنه قال: ~~"أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة فخير تعجلونها إليه، وإن كانت غير ذلك ~~فشر تضعونه عن رقابكم". وفي السنن (3) : "أسرعوا بالجنازة ولا تدبوا بها ~~دبيب اليهود". والآثار في ذلك متعددة. # وخروج النساء في الجنائز منهي عنه، لا سيما إذا كان النساء ينحن أو يضربن ~~خدودهن ويرفعن أصواتهن، فإن هذا نزاع بلا ريب، سواء فعلته مع الجنازة أو في ~~حال غيبتها، لكنه معها بحضور الرجال أشد. وفي الصحيحين (4) عن أتم عطية ~~قالت: نهينا عن اتباع الجنائز. وفي السنن (5) أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - رأى نسوة مع جنازة، فقال لهن: "هل تحملن مع من يحملن؟ " قلن: لا، ~~قال: "هل تحفرن PageV04P147 # مع من يحفرن؟ " قلن: لا، قال: "هل تدلين مع من يدلي؟ " قلن: لا، قال: ~~"فارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت". ومعنى قوله: ~~"تؤذين الميت" أي بالنياحة، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "من نيح ~~عليه يعذب بما نيح عليه". # وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في غير هذا الموضع (1) ، وبينا أن ما ~~يحصل للألم بنياحة الحي ليس عقوبة له على ذنب غيره، بل النائحة تعاقب على ~~نياحتها، كما ثبت في صحيح مسلم (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب ~~وسربالا من قطران". # فالميت ما يحمل وزر النائحة، بل يحصل له بنياحتها من الألم الذي يتعذب به ~~ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -، وليس كل ألم يحصل للإنسان بسبب من ~~الأسباب يكون عقوبة عليه، وفي الصحيحين (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". فقد تبرأ ~~ممن لطم الخدود وشق الجيوب، والجيب هو طوق الثوب، كما يفعله بعض المصابين ~~حين يشق ثيابه. والدعاء بدعوى الجاهلية مثل أن يقول: يا ركناه! يا عضداه! ~~يا ناصراه! # ونحو ذلك، وهذا هو الندب، لأنه يندب الميت، أي يدعوه، والميت لا يجيب ~~دعاءه، ولا منفعة ms0666 في هذا الندب لا للحي وللميت، PageV04P148 # بل فيه ضرر عليهما، فإنه قد ثبت أن عبد الله بن رواحة أغمي عليه، فجعلت ~~أخته تندب عليه، فلما أفاق قال: ما قلت في شيء إلا قيل لي: أنت كذلك؟ أنت ~~كذاك؟ (1) . # وفي الصحيحين (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تبرأ من الحالقة ~~والصالقة والشاقة. فالحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة التي ~~ترفع صوتها بالمصيبة، والشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة. # والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا نعد ~~الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة، رواه أحمد (3) أي إذا ~~اجتمع الناس وصنع أهل الميت للناس وليمة، فهذا من عمل الجاهلية، وإنما ~~السنة أن يصنع لأهل الميت طعام لاشتغالهم بمصيبتهم، كما قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لما أتاه نعي جعفر: "اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم ما ~~يشغلهم" (4) . # وعمل العرس للميت من أعظم البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدفوف في ~~الجنائز على وجه النياحة منكر باتفاق العلماء، لم يرخص أحد من أهل العلم في ~~ضرب الدفوف في الجنائز والموت، PageV04P149 # فكيف بالشبابات؟ وإنما يضرب بالدف في عرس النكاح ونحوه، كما جاءت به ~~السنة، مع أن بعض السلف كره ذلك مطلقا، لكن الصحيح أنه يفرق بين الضرب به ~~في الموت أو في الفرح، وكان دفهم ليس له صلاصل، ولهذا تنازع العلماء في ~~الدف المصلصل على قولين. وأما الشبابة فلم يرخص فيها أحد من الأئمة الأربعة ~~لا في عرس ولا موت. # وكذلك ما يفعله بعض المصابين من كشف الرءوس ونشر الشعور، ولبس المسوح، ~~ونبذ الأواني والبسط، أو كسر بعض ذلك، أو هلب الخيل، أو تقليب سروجها، أو ~~تقليب الكيات التي على رءوس أتباعه، أو وضع التين في داره، وما أشبه هذه ~~الأمور، فكل ذلك من المنكرات التي هي من جنس عمل أهل الجاهلية. وكذلك وضع ~~الفواكه والمشمومات عنده، أو إلباس الميتة حليها أو جميل ثيابها كما يصنع ~~بالمرأة العروس، ونحو ذلك كله من المنكرات التي هي من جنس عمل الجاهلية ms0667، ~~وكذلك وضع طعام وشراب في مغتسله أو إيقاد ضوء في مغتسله كل ذلك من البدع ~~المنكرة التي لا أصل لها، وكذلك شق تراب قبره بعد ثلاث، بل الاختلاف إلى ~~قبره صبيحة موته أو ثالثه وسابعه ورأس شهره ورأس حوله هو أيضا من البدع ~~التي لم يكن يفعل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وإنما قال ~~عمرو بن العاص لما احتضر: اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها، ~~أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. # PageV04P150 # وأما الصدقة عن الميت فإنها تنفعه، كما ثبت ذلك بنص سنة رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - واتفاق أئمة المسلمين، ففي الصحيح (1) أنه قال سعد: يا ~~رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن ~~أتصدق عنها؟ قال: "نعم"، وأما إخراج الصدقة مع الجنازة فبدعة مكروهة، وهو ~~يشبه الذبح عند القبر، وهذا مما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ~~في السنن (2) عنه أنه نهى عن العقر عند القبر. وتفسير ذلك أن أهل الجاهلية ~~كانوا إذا مات فيهم كبير عقروا عند قبره ناقة أو بقرة أو شاة أو نحو ذلك، ~~فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، حتى نص بعض الأئمة على كراهة ~~الأكل منها، لأنه يشبه الذبح لغير الله. قال بعض العلماء: وفي معنى ذلك ما ~~يفعله بعض الناس من إخراج الصدقات مع الجنازة من غنم أو خبز أو غير ذلك، ~~وهذا فيه عدة مفاسد: # منها: أن مشيعي الجنازة تشتغل قلوبهم بذلك. # الثاني: أنه يتبع الميت من ليس له غرض إلا في أخذ ذلك. # الثالث: أنهم يختصمون عليها. # الرابع: أنه يأخذها الغالب غير مستحق ويحرم المستحق. PageV04P151 # الخامس: أنه قد يكون على الميت دين أو في ورثته صغار. # السادس: أنها تصنع رياء. # فمن أحب أن ينفع ميته بصدقة عنه فليتصدق بما يسره الله تعالى على من ~~يثيبه الله بالصدقة عليه، فإن الصدقة إذا وصلت إلى المستحق الذي ينتفع بها ~~محمولة إليه كان أعظم للأجر والثواب، وكان ms0668 في ذلك اتباع للسنة والتخلص من ~~البدعة. # PageV04P152 ### | مسألة # في قوم يقرءون قدام الموتى على طريقة الغناء، # ويقفون بالميت قليلا بعد قليل لأجل النقوط، فقالت جماعة: هذا حرام على ~~المقرىء والمعطي، وقالت جماعة: مكروه، والمراد بيان ذلك. # الجواب # الحمد لله رب العالمين، نعم ### | الوقوف بالميت ليقرأ القراء مما ينهى عنه، # ولو لم يكن لأجل تنقيطهم، فإذا كان كذلك فهو زيادة شر على شر، بل مجرد ~~الوقوف بالميت منهي عنه مطلقا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~"أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر ~~تضعونه عن رقابكم" (1) . وقال: "أسرعوا بالجنازة ولا تدبوا دبيب اليهود" ~~(2) . # و ### | القراءة على الجنازة بدعة مكروهة # باتفاق الأئمة الأربعة، فإذا وقفوا تضاعفت المكروهات، والإعطاء نقوطا ~~لمثل هؤلاء مما ينهى عنه فاعله، ولا يثاب عليه، فإنه بإعطائه أعان على ما ~~يكرهه الله ورسوله، والله أعلم. PageV04P153 # مسألة # المسئول أن يبين لنا عن هذه المشاهد، ومن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صح ~~من الأنبياء والصحابة في دفنهم على ما ذكروا عند جامع بني أمية وغيره، ~~وخالد بن الوليد ذكر أنه كان تربته [في] حمص ورجله تخط الأرض. وهل يجوز ~~التبرك بالمشهد أو زيارة رجل ميت؟ ومن يقول: "بحرمة فلان اقض حاجتي" أو ~~يندب له؟ وكيف تكون زيارة الرجل الصالح وما صح من دفن الأنبياء؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذه المسائل متضمن أصلين: # أحدهما: هذه المقابر والمشاهد وما فيها من حق وباطل، فنقول ### | : القبور ثلاثة أقسام: ### | منها: ما هو حق لا ريب فيه، # مثل قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر، فإن هذا ~~منقول بالتواتر، وإن كان بعض الرافضة تطعن في قبر أبي بكر وعمر، فهؤلاء ~~مكابرون بهاتون، بمنزلة من ينكر قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. # PageV04P154 # ومنها: ما هو كذب بلا ريب، مثل القبر المضاف إلى أبي بن كعب الذي شرقي ~~دمشق، فإن الناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية، وكذلك ~~أمهات المؤمنين كلهن توفين بالمدينة ms0669، فمن قال: إن بظاهر دمشق قبر أم حبيبة ~~أو أم سلمة أو غيرهما فقد كذب. ولكن من الصحابيات بالشام امرأة يقال لها أم ~~سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن، فهذه توفيت بالشام، فهذه قبرها محتمل. كما ~~أن قبر بلال ممكن فإنه دفن بباب الصغير بدمشق، فنعلم أنه دفن هناك، وأما ~~القطع بتعين قبره ففيه نظر، فإنه يقال: إن تلك القبور حدثت. # وكذلك القبر المضاف إلى أويس القرني غربي دمشق كذب بلا # ريب، وقد روى أبو عبد الرحمن السلمي حكاية فيها أنه توفي بدمشق، وهي ~~باطلة قطعا، فإن أويسا لم يجيء إلى الشام وإنما ذهب إلى العراق. # وكذلك القبر المضاف إلى هود بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم، فإن هودا ~~لم يجىء إلى الشام، بل بعث باليمن وهاجر إلى مكة، فقيل: إنه مات باليمن، ~~وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاء قبر معاوية بن أبي سفيان، فإن خلف ~~الحائط تابوت مكتوب فيه اسم معاوية بن أبي سفيان. # وأما الذي خارج باب الصغير الذي يقال: إنه قبر معاوية، فإنما هو معاوية ~~بن يزيد بن معاوية الذي تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات، ولم يعهد إلى أحد، ~~وكان فيه دين وصلاح، ولكن لما اشتهر أنه قبر معاوية ظن الناس أنه معاوية بن ~~أبي سفيان. # PageV04P155 # وهكذا يقال في قبر خالد أنه خالد بن يزيد بن معاوية أخو يزيد هذا، ولكن ~~لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنوا أنه خالد بن ~~الوليد، كان قد عزله عمر بن الخطاب لما تولى عن إمارة الشام. وقد اختلف في ~~هذا الذي بحمص هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد، وكذلك اختلف في قبر أبي ~~مسلم الخولاني الذي بداريا على قولين، وكذلك قبور غير هذه اختلف الناس ~~فيها، وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي اختلف فيه أهل النقل، فإن كان مع ~~أحدهما ما يرجح به نقله ترجح. # وأما المكذوب قطعا فكثير، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن ~~الحسين توفي بالمدينة ms0670 بإجماع الناس ودفن بالبقيع، ويقال إن قبة العباس بها ~~قبره وقبر الحسن وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد، وفيها ~~أيضا رأس الحسين، وأما بدنه فهو بكربلاء باتفاق الناس. والذي صح ما ذكره ~~البخاري في صحيحه (1) من أن رأسه حمل إلى عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت ~~بالقضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبو برزة ~~الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد روي بإسناد منقطع أو مجهول (2) أنه حمل ~~إلى يزيد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرا وأنكر ~~ذلك. وهذا كذب، فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد، وإنما كان بالعراق. ~~PageV04P156 # وهذا كما يرويه الكذابون أن أهل البيت سبوا وحملوا على الجمال فنبتت لها ~~سنامان، فإن كل عاقل يعلم أن هذا كذب، وقد كانت البخاتي موجودة في زمن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل ذلك، وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتل ~~أشراف بني هاشم، وهذا كذب أيضا، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمه صرفه الله عن بني ~~هاشم، فلم يقتل منهم أحدا، وبذلك أمره خليفته عبد الملك، وقال: إياك وبني ~~هاشم أن تتعرض إلى أحد، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابهم ما ~~أصابهم، أو كما قال. ولم يقتل في دولة بني مروان من الأشراف بني هاشم من هو ~~معروف، لأن زيد بن علي بن الحسين لما صلب بالكوفة، وقد تزوج الحجاج ابنة ~~عبد الله بن جعفر وأعظم صداقها، فلم يروه كفؤا لها وسعوا في مفارقته إياها، ~~ولكن ذكر الناس أن الحجاج كان يقتل الأشراف أشراف الناس وهم رؤوس قبائل ~~العرب، فظن من ظن أنهم بنو هاشم، وتخصيص لفظ الأشراف بهم عرف حادث، والشرف ~~هو الرئاسة، كالحديث الذي رواه الترمذي (1) وصححه عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على ~~المال والشرف لدينه". # وفي الصحيح (2) عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية، PageV04P157 # فقالوا: من يكلم فيها رسول ms0671 الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: ومن ~~يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد، فكلمه فيها فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، ~~وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة ~~بنت محمد سرقت لقطعت يدها". فهذه كانت من أشراف قريش، وكانت مخزومية. # وكذلك قبر نوح الذي بجبل بعلبك كذب قطعا، وإنما ظهر من مدة قريبة، وقد ~~بينت حاله لما سألني عنه أهل الناحية وتبين أنه لا أصل له. # وكذلك مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على ~~أن الرأس لم يعرف، وأهل المعرفة بالنقل يعلمون أن هذا أيضا كذب، وأصله أنه ~~نقل من مشهد بعسقلان، وذاك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة في أواخر ~~المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من ~~خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا ~~المشهد بني بعد بناء القاهرة بنحو مائتي عام. # وكذلك قبر علي عليه السلام الذي بباطنة النجف بالكوفة، فإن المعروف عند ~~أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة ~~بالشام، ودفن عمرو بقصر الإمارة بمصر، خوفا عليهم من الخوارج أن ينبشوا ~~قبورهم، فإن الخوارج كانوا قد تحالفوا على قتلهم، فقتل عبد الرحمن بن ملجم ~~عليا عليه السلام # PageV04P158 # وهو خارج إلى صلاة الفجر بمسجد الكوفة باتفاق الناس، ومعاوية ضربه الذي ~~أراد قتله على أليته فعولج من ذلك وعاش، وعمرو بن العاص استخلف على الصلاة ~~رجلا اسمه خارجة، فضربه الخارجي فظنه عمرا، وقال: أردت عمرا وأراد الله ~~خارجة. # ومثل قبر جابر الذي بظاهر حران، فإن الناس متفقون على أن جابرا توفي ~~بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها. # ومثل قبر عبد الله بن عمر الذي بالجزيرة، فإن الناس متفقون على أن عبد ~~الله بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير، وأوصى أن يدفن في ms0672 الحل لكونه من ~~المهاجرين، فشق ذلك عليهم، فدفنوه بأعلى مكة. # وكثير من هذه الأسماء يقع فيها الغلط من جهة اشتراك الأسماء، كما وقع في ~~قبر معاوية وغيره بسبب اشتراك اللفظ، فلعل رجلا اسمه جابر أو عبد الله بن ~~عمر دفن هناك، فظن الجهال أنه الصاحب لشهرته، ثم اشتهر ذلك. # وكذلك رقية وأم كلثوم مما هو مدفون بالشام أو مصر أو غيرهما، قد يظن بعض ~~الناس أنه قبر رقية بنت النبي أو أم كلثوم بنته، وقد اتفق الناس على أن ~~رقية وأم كلثوم ماتتا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة تحت ~~عثمان بن عفان وبهما يسمى ذا النورين، وكذلك زينب بنت النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - توفيت في حياته، ولم يخلف من بناته إلا فاطمة، ولم يخرج أحد من ~~بناته إلى الشام ولا مصر ولا غيرهما من الأقاليم. # PageV04P159 # والمسجد الذي بجانب عرنة الذي يقال له مسجد إبراهيم، فإن بعض الناس يظن ~~أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بني في دولة ~~العباسية علامة على الموضع الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~الظهر والعصر يوم عرفة، فإنه أقام بنمرة إلى حين الزوال، ثم ركب فأتى بطن ~~عرنة عند المكان الذي بني فيه هذا المسجد، فخطب على راحلته، ثم نزل فصلى ~~بهم هناك الظهر والعصر قصرا وجمعا، ثم أتى الموقف بعرفات. وكان بحران مسجد ~~يقال له مسجد إبراهيم، فيظن الجهال أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو إبراهيم ~~بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الذي كانت دعوة الخلافة العباسية له، ~~وحبس هناك ومات في الحبس، وأوصى إلى أخيه أبي جعفر الملقب بالمنصور. # و ### | القبور المختلف فيها كثيرة، # منها قبر خالد بن الوليد كما تقدم، فإن فيه قولين ذكرهما أبو عمر ابن عبد ~~البر في "الاستيعاب" (1) : توفي بحمص، وقيل: توفي بالمدينة، سنة إحدى ~~وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، ~~قال: وروى يحيى بن سعيد القطان [عن سفيان] (2) عن ms0673 حبيب بن أبي ثابت عن أبي ~~وائل قال: بلغ عمر بن الخطاب أن نسوة من نساء بني المغيرة اجتمعن في دار ~~يبكين على خالد بن الوليد، فقال عمر: وما عليهن أن يبكين على أبي سليمان ~~PageV04P160 # ما لم يكن نقع أو لقلقلة. # وأما قبر الخليل عليه السلام قالت العلماء على أنه حق، لكن كان مسدودا ~~بمنزلة حجرة النبي، ولم يكن عليه مسجد، ولا يصلي أحد هناك، بل المسلمون لما ~~فتحوا البلاد على عهد عمر بن الخطاب بنوا لهم مسجدا يصلون فيه في تلك ~~القرية منفصلا عن موضع الدير، ولكن بعد ذلك نقبت حائط المقبرة كما هو الآن ~~النقب ظاهر فيه، فيقال: إن النصارى لما استولوا على البلاد نقبوه وجعلوه ~~كنيسة، ثم لما فتحه المسلمون لم يكن المتولي لأمره عالما بالسنة حتى يسده ~~ويتخذ المسجد في مكان آخر، فاتخذ ذلك مسجدا وكان أهل العلم والدين العالمون ~~بالسنة لا يصلون هناك. # فصل # الأصل الثاني: أن هذه المشاهد والقبور المضافة إلى الأنبياء والصالحين ~~إنما اضطرب النقل فيها ووقع فيها الكذب والاشتباه لأن ضبطها ليس من الدين، ~~والله تعالى قد ضمن حفظ ما نزله من الذكر بقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا ~~له لحافظون (9)) (1) ، والله قد نزل الكتاب والحكمة، كما قال تعالى: ~~(واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) (2) ، ~~والحكمة: السنة، كما قال ذلك PageV04P161 # غير واحد من السلف، كقتادة ويحيى بن أبي كثير والشافعي وغيرهم، بدليل ~~قوله: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) (1) ، والذي كان ~~يتلى في بيوتهن هو القرآن والسنة، فالذكر الذي نزله الله ضمن حفظه، فلهذا ~~كانت الشريعة محفوظة مضبوطة، ومن الشريعة أن هذه المشاهد والقبور لا تتخذ ~~أربابا، بل زيارة القبور نوعان: شرعية وبدعية: # فالزيارة الشرعية أن يسلم على الميت ويدعو له، كما يصلي على جنازته، فإن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول ~~قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم ~~لاحقون، ويرحم الله المستقدمين ms0674 منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم ~~العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" (2) . # فهذا الدعاء للميت من جنس الدعاء على جنازته إذا حضرت، وقد قال الله ~~تعالى لنبيه في حق المنافقين: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على ~~قبره) (3) ، فلما نهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دل ذلك ~~بطريق مفهوم الخطاب وتعليله على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم، ~~وقد فسر ذلك القيام على قبورهم بالدعاء لهم، فالمؤمن يقام على قبره بالدعاء ~~له، فهذا PageV04P162 # هو المشروع. # وأما زيارة المشاهد والقبور لأجل الصلاة عندها والدعاء عندها وبها، ~~والتمسح بها وتقبيلها، وطلب الحوائج من الرزق والنصر والهدى عندها وبها، ~~فهذا ليس مشروعا باتفاق أئمة المسلمين، إذ هذا لم يفعله رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -، ولا أمر به، ولا رغب فيه، ولا تعلمه أحد من الصحابة ~~والتابعين وسائر أئمة المسلمين، بل ولا كانوا يبنون مشهدا على قبر ولا ~~مسجدا ولا غيره، وإنما حدثت هذه المشاهد بعد القرون المفضلة التي أثنى ~~عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم ~~ثم الذين يلونهم، وإنما انتشرت في دولة بني بويه ونحوهم من أهل البدع ~~والجهل. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، بل لعن من يفعله، ~~كما في الصحيحين (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات ~~فيه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما ~~صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (2) . # وفي صحيح مسلم (3) عن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن ~~يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، إلا فلا تتخذوا ~~القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". PageV04P163 # وفي موطأ مالك (1) : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على ~~قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي المسند (2) وغيره عن ابن مسعود عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ms0675: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم ~~أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". رواه أبو حاتم في صحيحه (3) . # ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أو غيره من الأنبياء والصالحين عند قبره فإنه لا يتمسح بالقبر ولا يقبله، ~~بل اتفقوا على أنه لا يشرع أن يستلم ويقبل إلا الحجر الأسود، والركن ~~اليماني يستلم ولا يقبل على الصحيح، وإذا سلم على النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وأراد أن يدعو استقبل القبلة، ودعا في المسجد، ولم يدع مستقبلا ~~للقبر، كما كان الصحابة يفعلون، وهذا ما أعلم فيه نزاعا بين أهل العلم، وإن ~~نقل في ذلك [ما] يخالف ذلك عن مالك مع المنصور فلا أصل لها. # وإنما تنازعوا في وقت التسليم عليه: هل يستقبل القبر أو يستقبل القبلة؟ ~~فقال أصحاب أبي حنيفة: يستقبل القبلة، وقال الأكثرون: بل يستقبل القبر. ~~وكانت حجرته خارجة عن المسجد، فلما كان زمن الوليد بن عبد الملك أمر أن ~~يزاد في المسجد، فاشتريت الحجرة التي شرقي المسجد وقبليها من أهلها وزيدت ~~في المسجد، PageV04P164 # فبقيت حجرة عائشة -التي دفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه- ~~داخلة في المسجد، ولما بنى عمر بن عبد العزيز والمسلمون عليها الحائط ~~حرفوها عن سمت القبلة، وجعلوا ظهرها مثلثا لئلا يصلي إليها أحد، لما ثبت ~~عنه في الصحيح (1) أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". كل ~~ذلك تحقيقا للتوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن الله تعالى قال ~~في كتابه عن قوم نوح: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا ~~يغوث ويعوق ونسرا (23)) (2) ، قال غير واحد من السلف كابن عباس وغيره: ~~هولاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اتخذوا تماثيلهم. وفي ~~رواية: عكفوا على قبورهم ولم يعبدوها، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها، فكان ~~ذلك أول عبادة الأصنام. # فنبينا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين الذي بعثه الله بالتوحيد حسم ~~مادة الشرك، حتى أمر بما رواه مسلم في صحيحه ms0676 (3) عن أبي هياج الأسدي قال: ~~قال لي علي بن أبي طالب: إلا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -؟ " إلا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته". فأمر ~~بتسوية القبور وطمس التماثيل، فإن هذين كانا سببا لعبادة الأصنام. # ولو كان قصد المشاهد هذه التي على القبور لأجل الدعاء أو PageV04P165 # الصلاة عندها مشروعا لم يكره الصلاة فيها، بل كانت تكون الصلاة فيها ~~أفضل، وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة والدعاء في المسجد الذي ليس عليه ~~قبر لا رجل صالح ولا غيره أفضل من الصلاة والدعاء في المسجد المبني على قبر ~~من المشاهد وغيره، بل صرح أئمة المسلمين أن بناء المساجد عليها حرام، ونهوا ~~عن الصلاة فيها. # وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله ~~زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". قال الترمذي: حديث حسن. # ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - من يتخذ على القبور مساجد وسرجا. ولهذا قال العلماء: إنه لا يجوز أن ~~ينذر للقبور لا زيت ولا شمع ولا نفقة ولا نحو ذلك، بل هذا نذر معصية. وفي ~~صحيح البخاري (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع ~~الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". # ونذر المعصية مثل هذا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق، لكن هل عليه كفارة ~~يمين؟ فيه قولان للعلماء: # أحدهما: لا شيء عليه، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي. # والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في PageV04P166 # الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفارة النذر كفارة ~~يمين". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". # وإذا نذر طاعة لله، مثل صلاة مشروعة أو صيام شرعي أو صدقة شرعية فعليه ~~الوفاء بذلك، وإن كان أصل عقد النذر مكروها لما في الصحيحين (3) عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما ms0677 ~~يستخرج به من البخيل". فنفس عقد النذر منهي عنه باتفاق الأئمة، لكنه إذا ~~نذر نذرا فإن طاعة لله وفى به، وإن كان معصية مثل نذر للكنائس والبيع، ونذر ~~الزيت والشمع والكسوة والنفقة للمشاهد التي على القبور، فهذا لا يجوز ~~الوفاء به، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين للفقهاء. # ولو سافر لزيارة القبور التي عليها المساجد فلا أعلم أحدا من السلف أذن ~~في ذلك، لكن رخص فيه طائفة من متأخري الفقهاء، ومنع منه آخرون، وقالوا: هو ~~بدعة منهي عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصر الصلاة، لأنه قد ثبت في ~~الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تشد الرحال إلا ~~إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا". وفي السنن (5) ~~أن بصرة بن أبي بصرة لما PageV04P167 # رأى بعض من زار الطور -الطور الذي كلم الله عليه موسى- نهاه عن ذلك، وقال ~~له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة ~~مساجد". # فهذا يبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا ~~المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثار الأنبياء أو غير ~~الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمة العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو ~~نذر السفر إلى بقعة بعينها غير المساجد الثلاثة لم يجب الوفاء بنذره، ولو ~~كان ذلك طاعة عندهم لوجب الوفاء به، واتفقوا على أن نذر الإتيان في المسجد ~~الحرام يجب الوفاء به، وتنازعوا في من نذر إتيان مسجد النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجب الوفاء بذلك، لأن من ~~أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجبا بالشرع، وقال مالك ~~والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاء بذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من ~~نذر أن يطيع الله فليطعه" (1) ، وهذا طاعة لله بالاتفاق، فيستحب الوفاء به. # فإذا علم أن غير المساجد الثلاثة لم يقولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر ~~إليه، علم أن ذلك ليس بطاعة، حتى مسجد قباء، قالوا ms0678: من قصده إذا أتى ~~المدينة فحسن، وأما شد الرحل له فلا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة ~~فيه كان له كأجر عمرة" (2) . فإذا رغب في إتيان من PageV04P168 # يأتيه من بيته فيمن سافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصد مسجد مدينته وقريته، ~~وليس له أن يسافر إلى مسجد مدينة أو قرية غير المساجد الثلاثة، بالاتفاق. # فهكذا يزور القبور الزيارة الشرعية، فيسلم على الميت، ويدعو له، إذا كان ~~قريبا من مدينة هو فيها، أو اجتاز به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس ~~بمشروع. وإنما عظمت هذه البدع من أهل الأهواء الذين عطلوا المساجد عن ~~الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يفعلونه عند المشاهد، حتى صنفوا ~~كتبا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرنا بالعبادة في ~~المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر ~~فيها اسمه وسعى في خرابها) (1) ، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: (وأنتم ~~عاكفون في المساجد) (2) ، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: (قل أمر ربي ~~بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) (3) ، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى: ~~(ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) إلى قوله: (إنما يعمر مساجد الله ~~من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) (4) ~~، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: (أن المساجد لله فلا تدعوا مع ~~الله أحدا (18)) ، ولم يقل: وأن المشاهد لله. PageV04P169 # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "صلاة الرجل في المسجد تفضل على ~~صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة. وذلك أن الرجل إذا تطهر في بيته ~~فأحسن الطهور، ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه، كانت خطوتاه إحداهما ~~ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة، فإذا جلس فإنه في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، ~~والملائكة تصفي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صفى فيه: "اللهم اغفر له، ~~اللهم ارحمه " ما لم يحدث أو يخرج ms0679 من المسجد". # وأما قول السائل: "بحرمة فلان الميت أن تقضي حاجتي أو تغفر لي " فهذا ليس ~~بمشروع، فإن هذا لم يفعله أحد من السلف، ولا استحبه أحد من الأئمة، ولا فيه ~~أثر عمن مضى، والعبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الهوى ~~والابتداع، قال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به ~~الله) (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسنتي وسنة ~~الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، ~~وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (3) . # ولو كان هذا مشروعا لأحد أو في حق أحد لكان أحق الناس بذلك أصحاب رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ~~أفضل الخلق PageV04P170 # وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة حيا وميتا، وقد ثبت في صحيح البخاري ~~(1) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أجدب استسقى بالعباس بن عبد المطلب، ~~وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل ~~إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. فأخذوا العباس يتوسلوا به، وجعل يدعو ~~ويدعون معه، كما كانوا يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عند ~~الاستسقاء، ولم يجيئوا إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدعوا هناك، ~~ويفعلون ما يفعله كثير من الناس عند من ليس مثل النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، من سؤاله أو السؤال منه وغير ذلك. ولهذا ذكر العلماء في الاستسقاء ما ~~فعله الصحابة، ولم يذكروا ما ابتدعه الجاهلون. # فالمقصود بالزيارة الدعاء للميت على جنازته، والله تعالى يثيب العبد على ~~دعائه له، كما يثيبه على الصلاة عليه، وقد يكون الداعي أفضل من المدعو له، ~~وقد يكون المدعو أفضل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم ~~المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله ~~عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنه درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد ~~من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله ms0680 لي الوسيلة حلت عليه ~~شفاعتي يوم القيامة". رواه مسلم (2) ، والله أعلم. PageV04P171 ### | مسألة # في امرأة توفيت وهي حامل في سبعة أشهر، فهل يشق بطنها أو تضع على بطنها ~~شيئا ثقيلا أو تسطو عليه القوابل؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، ينبغي أن يسعى في خروج الجنين من فرجها، # إما أن تسطو القوابل عليه فيخرجنه، وإما أن يفتح فرجها بالمفتاح المصنوع ~~لذلك، فإذا اتسع أخرج منه الولد، فإن تعذر ذلك ففيها قولان مشهوران: # أحدهما: لا يشق بطنها، لأنه مثلة، والعادة أن الولد يموت بموت أمه، فلا ~~يبقى حيا، فيكون تمثيل بالميت بلا استبقاء الحي، بل لو اضطر الجائع إلى أكل ~~ميت معصوم لم يجز، لأن بقاء نفسه في أحد القولين مع أن الحياة منتفية وقد ~~قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كسر عظم ميت ككسر عظم الحي" (1) . وهذا ~~مذهب مالك وأحمد وغيرهما. PageV04P172 # والثاني: بل يشق بطنها لإخراج الولد، فإن مراعاة حق الولد الحي أولى من ~~مراعاة الميت. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وفي مذهب الشافعي وجه ~~كالأول، وفي مذهب الإمام أحمد وجه كالثاني. وهذا النزاع إذا رجي خروجه حيا، ~~فأما إذا ظهر موته، فإنه لا يشق بطنها بلا خلاف. # PageV04P173 # مسألة # في رجل توفي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاة عليه غائبة في مصر ~~أو في القلعة؟ وكم قدر مدة البعد الذي يجوز على الغائب فيه؟ وكم مقدار بعد ~~صلاة النبي على النجاشي؟ وهل النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب ~~أو أحد من الصحابة في مقدار بعد القاهرة إلى مصر أو أحد من الأئمة؟ # الجواب # أصل هذه المسألة هي مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان ~~مشهوران: # أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر ~~أصحابه. # والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، ~~وذكر ابن أبي موسى (1) - وهو ثبت في نقل مذهب أحمد - رجحانها في مذهبه. ~~PageV04P174 # وسبب هذا النزاع أنه قد ثبت بالنصوص الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - صلى على النجاشي ms0681 وكان غائبا، ففي الصحيحين (1) عن أبي هريرة أن رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم ~~إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات، وقال: "استغفروا لأخيكم". ~~وفيهما عن جابر (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكبر ~~أربعا، وللبخاري عنه (3) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على ~~النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث. وله (4) : "قد توفي اليوم رجل ~~صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه". فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- ونحن صفوف. ولمسلم (5) : إن أخا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه"، فقمنا ~~فصفنا صفين. وروى مسلم (6) عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "إن أخا لكم"، وفي لفظ: "إن أخاكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه"، ~~يعني النجاشي. # فهذه السنة ثبتت، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى على ~~غائب غيره، إلا حديث ساقط (7) روي فيه أنه صلى على معاوية بن معاوية ~~PageV04P175 # الليثي في غزوة تبوك لكثرة قراءته "قل هو الله أحد"، وهو حديث لا يحتج ~~به. وقد مات على عهده خلائق من أصحابه في غيبته فلم يصل عليهم، وكذلك لم ~~يصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صلوا على أبي ~~بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة. # ولهذا تنازع العلماء، فقالت طائفة: لا يصلى على الغائب، إذ لو كانت سنة ~~لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك، ولكان المسلمون يعملون ~~بذلك في محياه ومماته، واعتذروا عن قضية النجاشي بعذرين: # أحدهما: أن ذلك [كان] مختصا به، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~كان يشاهده، أو لأنه حمل إلى بين يديه. وهذا عذر ضعيف، لأن ذلك لم ينقله ~~أحد، ولأن الصحابة الذين صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ~~يشاهدوه، ولا فرق بين الإمام والمأموم، ولأن المانع عندهم هو البعد أو ~~التكرار، وكلاهما موجود شهد أو لم يشهد، ولأن مثل هذا قد كان ممكنا في ms0682 حق ~~غير النجاشي، فبطل الاختصاص به. # ولأن الأصل مشاركة أمته في الأحكام ما لم يقم دليل اختصاص النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -. # والعذر الثاني: قالوا: إن النجاشي قد كان بين قوم نصارى، PageV04P176 # وكان يخفي قومه إسلامه حتى سعوا في محاربته، ولم تكن شريعة الإسلام ظهرت ~~هناك حتى يكون عنده من يصلي عليه، لعدم صلاة القريب عليه. وهذا العذر أقرب ~~من الأول، وبه يظهر تخصيص النجاشي بالصلاة دون غيره من الموتى. # ثم من قال هذا ولم يجوز الصلاة على الغائب بحال نقض كلامه، ومن قال هذا ~~[و] جوز الصلاة على الغائب الذي لم يصل عليه فقد أحسن فيما قال، ولعل قوله ~~أعدل الأقوال، فإن الشريعة استقرت على قوله تعالى: (فاتقوا الله ما ~~استطعتم) (1) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا ~~منه ما استطعتم" (2) . فما تعذر من العبادات سقط بالعجز، وإذا كانت الصلاة ~~على الميت مأمورا بها ولم تكن إلا مع الغيبة كانت هي المأمور به. # وقالت طائفة: بل تجوز الصلاة على كل غائب عن البلد وإن كان قد صلي عليه، ~~كما ذكرناه عن أصحاب الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هولاء: يجوز ~~على الغائب عن البلد، سواء كان فوق مسافة القصر أو دونها، وسواء كان الميت ~~خلف المصلي أو أمامه. # وأما الغائب في البلد الواحد فالأكثرون من أصحاب الإمامين منعوا الصلاة ~~عليه، [و] لم يرد بها أثر ولا نقل ذلك عن أحد من PageV04P177 # السلف، فالفاعل لها مبتدع دينا لم يشرعه الله، ولو ساغ ذلك لم يكن لذلك ~~ضابط، بل كان يجوز أن يصلي الرجل في هذه الدار أو الدرب على من مات في هذا ~~الدرب أو هذه الدار، ومعلوم أن هذا ليس من عمل المسلمين، ولو كان هذا جائزا ~~لكان قربة، ولكان السلف يبادرون إليه، لاسيما ولا يزال في المسلمين من لا ~~يمكنه شهود الجنازة من مريض ومحبوس ومشغول. فلما لم يفعل هذا أحد من السلف ~~علم أنه غير مشروع، وإن كان يشرع الدعاء للميت على كل ms0683 حال، بطهارة أو غير ~~طهارة، إلى القبلة وغيرها، قياما وقعودا وعلى جنوبهم، بتكبير وغير تكبير، ~~وأما صلاة الجنازة فيشترط لها الشروط الشرعية. # وجوز طائفة من أصحاب الإمامين الصلاة على الغائب في البلد الواحد، ثم ~~محققوهم قيدوا ذلك بما إذا مات الميت في أحد جانبي البلد الكبير، ومنهم من ~~أطلق في أحد جانبي البلد لم يقيدها بالكبيرة، كما إذا مات في أحد جانبي ~~بغداد فصلي عليه في الجانب الآخر. وكانت هذه المسألة قد وقعت في عصر أبي ~~حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغداد، فصلى عليه أبو ~~عبد الله بن حامد، وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك أكثر الفقهاء من ~~أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفص البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على ~~أنه من مات في الجانب الواحد لا يصلى عليه فيه إذا كان غائبا، كما إذا كان ~~الرجل عاجزا عن حضور الجنازة لمطر أو مرض فإنه لا يصلي على الغائب وفاقا. # PageV04P178 # لكن بعض متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغائب في ~~البلد وإن أمكن حضوره، وألحق ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس ~~الحكم إذا لم يمكن حضوره، فإن فيه وجها ضعيفا بجواز الحكم عليه، فقاس ~~الصلاة عليه على القضاء عليه. وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين ~~الصلاة والحكم، ولا يستريب من له أدنى معرفة أن تشريع مثل هذا حدث وبدعة ~~ظاهرة. وأمثال هذه الوجوه تخرج عند ضيق مناظرة المخالف طردا لقياس واحترازا ~~عن نقض، ولا يدان الله بها. # وعلى القول المشهور في المذهبين وأنه لا يصلى إلا على الغائب عن البلد لم ~~يبلغني أنهم حدوا البلد الواحد بحد شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارج ~~السور أو خارج ما يقدر سورا يصلى عليه، بخلاف من كان داخله، لكن هذا لا أصل ~~له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إما أن تكون ~~العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة والتيمم ~~والجمع بين الصلاتين على ms0684 قول، فلابد أن يكون منفصلا عن البلد بما يعد ~~الذهاب نوع سفر. وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يعلى أنه يكفى ~~خمسين خطوة. # وإما أن يكون الحد ما يجب فيه الجمعة، وهو مسافة فرسخ، حيث يسمع النداء، ~~ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يعد غائبا عنها، ~~بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه. # PageV04P179 # وإما أن يقال مسافة العدوى في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو ~~ما لا يمكن الذاهب العود إليه في يومه، وهذا يناسب قول من جعل الغائب عن ~~البلد كالغائب عن مجلس الحكم. وفيه أيضا من الفقه أنه إذا كان كذلك شق ~~الحضور، بخلاف من يمكنه العود. ولكن إلحاق الصلاة بالصلاة أولى من إلحاق ~~الصلاة بالحكم. # فهذه هي المآخذ التي ينبني عليها جواب هذه المسألة. إذا تبين ذلك فنقول: ~~القلعة والقاهرة تشبه جانبي بغداد، فمن جوز الصلاة في أحد جانبي بغداد على ~~من مات في الجانب الآخر كقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، فإنه يجوز أن يصلى ~~على من مات في القلعة أو القاهرة على من مات في الآخر، وعلى قول هؤلاء ~~فصلاة أهل القاهرة على من مات في مصر بالعكس، وصلاة أهل القلعة على من مات ~~بمصر وبالعكس أولى بالجواز، فإن القاهرة والقلعة يجمعهما سور واحد، ومصر ~~خارجة عن ذلك، لأنهما بالبلد الواحد الكبير الذي له جانبان أشبه، لكن أكثر ~~العلماء كأصحاب أبي حنيفة ومالك واكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يجوزون ~~الصلاة في أحد جانبي البلد وإن كان كبيرا على من مات في الجانب الآخر، حتى ~~صرحوا بأن بغداد - مع كونها محال كثيرة، ولها جانبان بينهما دجلة، ومع كون ~~الجمعة تقام بها في مواضع من حين بنيت بغداد من زمن أبي جعفر المنصور وإلى ~~الساعة - صرحوا مع ذلك أنه لا يصلى في أحد جانبيها على من مات في الجانب ~~الآخر. # PageV04P180 # ومما يبين ذلك أن أمصار المسلمين الكبار التي فيها قطع كثيرة كبغداد ~~كثيرة القطع، وليس من عمل المسلمين ms0685 أن يصلوا في هذه القطعة على من مات في ~~القطعة، فلم يعرف أن المسلمين كانوا يصلون في قطعة مصر أو دمشق أو غيرهما ~~على من مات بالمدينة وبالعكس، ولا عرف أنهم كانوا يصلون بمصر على من مات ~~بالقلعة وبالعكس مع اشتمال هذه الأمصار على أئمة من أصحاب الشافعي وأحمد، ~~وهم أهل الترخص في هذه المسألة، وإن لم يقل بهذا القول. # والأضعف الصلاة على الغائب جدا، فإنا قد علمنا أن المسلمين في جميع ~~الأمصار لم يصلوا بمنى وعرفات على من مات بمكة وبالعكس، ولا كانوا يصلون ~~بقباء والعوالي على من مات بالمدينة وبالعكس، وقد مات خلق كثير على عهد ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء والعوالي ونحوهما، مما هو عن ~~المدينة مثل مصر والقاهرة، وأبعد من دمشق والصالحية، ولم يكن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - والصحابة والتابعون يصلون في أحدهما على من مات في الآخر. # وأما الصلاة بمصر على من يموت بالقلعة أو بالقاهرة وبالعكس على المشهور - ~~وهو منع الصلاة في أحد جانبي البلد على من يموت في الآخر - فمبني على ما ~~ذكرناه في معنى البلد الواحد، هل المراد به ما خرج عن السور، أو ما يجب فيه ~~الجمعة، أو مسافة العدوى؟ # فعلى المأخذ الأول يجوز ذلك، وعلى المأخذين الآخرين لا # PageV04P181 # يجوز، فقد تبين مما ذكرناه على أن الصلاة بالقاهرة والقلعة على من مات ~~بمصر وبالعكس لا تجوز عند جمهور العلماء، وتجوز عند بعضهم في مذهب الشافعي ~~وأحمد. # وأما قول السائل: كم مقدار بعد النجاشي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ # فذلك كثير معروف، فإن النجاشي كان بالحبشة، وبينهما اليمن ثم تهامة، وهو ~~مسافة كبيرة. # وأما قوله: هل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من الصحابة أو ~~التابعين أو الأئمة صلى على الغائب في مقدار هذا البعد؟ فالجواب أنه لم ~~ينقل ذلك عن أحد من هؤلاء، وغاية ما بلغنا في مثل ذلك ما ذكرناه من النزاع ~~في جانبي بغداد، وكان هذا بعد الأئمة، وأما في زمن الشافعي وأحمد بن ms0686 حنبل ~~فلم يبلغنا أن أحدا صلى في أحد جانبي بغداد على من مات في الآخر، مع كثرة ~~الموتى وتوفر الهمم والدواعي على نقل ذلك. فتبين أن ذلك محدث لم يفعله ~~الأئمة. # وأما ما يفعله بعض الناس من أنه كل ليلة يصلي على جميع من مات من ~~المسلمين، فلا ريب أيضا أنه بدعة لم يفعلها أحد من السلف، والله أعلم. # PageV04P182 # مسألة # في روح ابن آدم إذا خرجت منه وإذا نزل في قبره، هل تعود إليه كما كانت في ~~دار الدنيا أم لا؟ وقوله تعالى: (ويسألونك عن الروح) (1) هل هي روح ابن آدم ~~أو روح الله؟ وهل يموت المهدي إذا أم بعيسى بن مريم قبل إتمام الصلاة؟ وقد ~~روي أن جنازة مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة: يا رسول ~~الله! ما أحسن هذه! عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: "وما يدريك أن الله خلق خلقا، فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، ~~وهؤلاء إلى النار ولا أبالي". # أجاب # نعم، إذا وضع الميت في قبره فإن الروح تعاد إليه، ويسأل عن ربه ودينه ~~ونبيه، ويسمع الميت خفق نعال المشيعين إذا ولوا عنه مدبرين، وما من رجل يمر ~~بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد ~~عليه السلام. ومع هذا فمستقر أرواح المؤمنين الجنة، لكن للروح شان آخر بعد ~~الموت PageV04P183 # ليس لها نظير في هذا العالم. # وأما المسيح فإنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويدرك الدجال ~~فيقتله بباب لد الشرقي، ويأمر الله تعالى بعد قتل الدجال أن يحصن الناس إلى ~~الطور، ويقال له: يا روح الله! تقدم، فصل بنا، فيقول: لا إن بعضكم على بعض ~~أمير، فيصلي بالمسلمين بعضهم، ويتم الصلاة ولا يموت فيها. # وأما الروح المسئول عنها فأكثر الناس على أنها روح ابن آدم، وهي وإن كانت ~~من أمر الله فهي موجودة مخلوقة باتفاق العلماء المعتبرين، والآدمي كله عبد ~~الله، جسمه وروحه. # وأما حديث عائشة فصحيح (1) ، فإنا لا ms0687 نشهد لأحد بعينه أنه [من أهل الجنة] ~~إلا ما شهد له النص، أو شهد له الناس شهادة عامة على أحد القولين، فإن الله ~~خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقها ~~لهم وهم في أصلاب آبائهم، فنقول بطريق العموم: المؤمنون في الجنة والكافرون ~~في النار، ولا نعين أحدا أنه في جنة أو في نار إلا أن نعلم عاقبته. # والمهدي الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمه محمد بن عبد ~~الله من ولد الحسن بن علي رضي الله عنه، يقوم إذا شاء الله، وهو خليفة صالح ~~يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا، ويحثو المال حثوا. وقد جاءت ~~أخباره في الترمذي وسنن أبي داود ومسند PageV04P184 # الإمام أحمد، ووقع التنبيه عليه في الصحيحين (1) . # وأما ما يدعيه الضالون أن الحسن بن علي العسكري المتوفى في سامراء، كان ~~له ابن اسمه محمد دخل سرداب سامراء بعد موت أبيه وهو صغير، وأنه المهدي، ~~فهذا كذب باطل باتفاق علماء بني آدم وعقلائهم، وليس هو المخبر به في ~~الأحاديث، فإن هذا حسيني وذاك حسني، وأيضا فإن الحسن بن علي العسكري عند ~~العارفين بالأنساب محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما لم ~~ينسل ولم يعقب، والذين أثبتوه زعموا أنه خليفة معصوم حجة الله على أهل ~~الأرض، وأنه باق إلى الآن، وهذا مخالف للعقل والكتاب والسنة، فإن هذا لو ~~كان حقا لكان يتيما يجب الحجر عليه في نفسه وماله، ولا يجوز أن يولى مثل ~~هذا ولاية أصلا، ولا معصوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد ~~يجب أبدا طاعته في كل شيء إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز ~~أن يكلف الله العباد طاعة من لا سبيل إلى العلم بأمره، ولا وجه لهذه ~~الاحتجاجات. والله أعلم. PageV04P185 # مسألة # في رجل مات، وأوصى أن يعمل له ختمة في أسبوعه وتمام شهره، جائز أم لا؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، الصدقة عن الميت أفضل من عمل ختمة # من هذه الختم ms0688 له، فإن الصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة، وقد ثبت في ~~الصحيح (1) أن سعدا قال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو ~~تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم". # وأما قراءة القرآن ففي وصوله إلى الميت نزاع إذا قرئ لله، فأما استئجار ~~من يقرأ ويهدي للميت فهذا لم يستحبه أحد من العلماء المشهورين، فإن المعطي ~~لم يتصدق لله، لكن عاوضوا على القراءة، والقارئ قرأ للعوض، و ### | الاستئجار على نفس التلاوة غير جائز، # PageV04P186 # وإنما النزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعة تصل إلى ~~الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر ~~فلا ثواب فيه وإن قيل: يصح الاستئجار عليه، ولأن ذلك يتضمن أن يأكل الطعام ~~من ليس يحتاج إليه، وأن يقرأ القرآن والناس يتحدثون لا يسمعون، وأن القراء ~~ينتهبون الطعام، وهذا كله أمور مكروهة. وإذا تصدق على من يقرأ القرآن ~~ويعلمه ويتعلمه كان له مثل أجر من أعانه على القراءة، من غير أن ينقص من ~~أجورهم شيئا، وينتفع الميت بذلك. # وإذا وصى الميت بأن يصرف مال في هذه الختمة، وقصده التقرب إلى الله، ~~فصرفت إلى محاويج يقرؤون القرآن ختمة وأكثر، كان ذلك أفضل وأحسن من جمع ~~الناس على مثل هذه الختم، والله أعلم. # PageV04P187 # مسألة # في رجل جامع زوجته ولم تغتسل، ثم ماتت، فهل يجزئها غسل الموت؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، يجزئها غسل الميت عن الأمرين. # PageV04P188 # مسألة # في رجل غسل صبيا، وأبو الصبي يسكب عليه الماء، والغاسل لا يحفظ القرآن، ~~فهل ### | يجوز تغسيله # أم لا؟ وهل يجوز للذي لا يحفظ القرآن أن يصلي عليه؟ # الجواب # الحمد لله، نعم يجوز تغسيله، والفرض في ذلك أن يعم جميع بدنه بالماء كله، ~~وهو أخف من اغتسال الحي، فإن الحي يتمضمض ويستنشق، والميت لا يفعل به ذلك، ~~لكن يستحب أن يمسح منخريه وفمه بالماء. # والسنة أن ينجى ثم يوضأ، ثم يفاض عليه الماء كالحي، لكن ينبغي أن يغسل ~~الميت ثلاثا. # و ### | يجوز أن يصلي على ms0689 الميت إذا كان يحفظ الفاتحة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء للميت. # PageV04P189 # مسألة # في سماع يسمع رجل الحادي بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصاح وخر ~~ميتا، وكان ثم فقير، فقال: هذا لا يصلى عليه، ودفن ولم يصل عليه، فماذا يجب ~~على من أفتى بذلك؟ وهل يصلى على مثل هذا؟ # الجواب # أما الميت ف ### | تجوز الصلاة عليه، ويصلى على قبره إلى شهر، # بل تجب الصلاة عليه. وأما سماع المكاء والتصدية فبدعة مكروهة، كان ~~المشركون إذا اجتمعوا عند الميت يصفقون ويصوتون، والتصفيق هو التصدية، ~~والتصويت هو المكاء، فأنزل الله تعالى بذمهم: (وما كان صلاتهم عند البيت ~~إلا مكاء وتصدية) (1) . # وأما حب الله ورسوله فهو أصل الإيمان، لكن من تمام ذلك أن يعبد الله بما ~~شرع، لا يعبد بالبدع، ولكن من اجتهد في عمل يقربه إلى الله متحريا لاتباع ~~الكتاب والسنة، وأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطأه مغفور له. والله ~~تعالى قد غفر للمؤمنين خطأهم، فالذي عمل السماع مجتهدا، والذي أنكره وترك ~~الصلاة عليه مجتهدا، حكمهم ذلك إلى الله. والله أعلم. PageV04P190 # مسألة # هل صح أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون؟ وكيف كيفية عرض أعمال الأمة ~~على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره؟ على روحه الكريمة؟ أم تعاد روحه ~~إلى جسده؟ وإذا صلى عليه أو سلم عليه العبد هل يرد عليه السلام؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، الأنبياء أحياء في قبورهم، وقد يصلون # كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مررت بموسى ليلة أسري ~~بي يصلي في قبره" (1) . وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما ~~من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام" (2) . وقال: ~~"صلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (3) . وقال: "أكثروا من الصلاة ~~علي يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي"، قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد ~~أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض PageV04P191 # أن تأكل لحوم الأنبياء" (1) . # وأما عرض الأعمال عليه فإنها تعرض عليه، وهو حق ms0690، وأما محل ذلك فمما لا ~~يتعلق به غرض، والله أعلم. PageV04P192 # مسألة # في حديث قيس يقول - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم يا قيس أنه لابد لك من ~~قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان ~~لئيما أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تسأل عنه، ألا وهو فعلك أو عملك". ~~فهل ذلك كذلك من كون عمل الإنسان يبرز له في قبره في صورة، فإن كان صالحا ~~كان شابا حسن الوجه طيب الريح فيأنس به، وإن كان طالحا فبعكسه فيستوحش منه ~~إلى يوم القيامة أم لا؟ # الجواب # الحمد لله، أما هذا المعنى فقد روي في أحاديث حسان بأن العمل الصالح يصور ~~لصاحبه صورة حسنة، والعمل السيء يصور لصاحبه صورة قبيحة، فالأولى تنعم ~~صالحا والثانية تعذبه. # وجاء أيضا مخصوصة بأعمال مثل قراءة القرآن وغيرها من الأعمال (1) ، وذلك ~~في البرزخ في القبر وفي عرصات القيامة، فأما جري الأعمال بالعمال فإن كان ~~معناه أن عبورهم على الصراط PageV04P193 # يكون بحسب أعمالهم الصالحة، فمنهم من يجري كالبرق، ومنهم من يجري كالريح، ~~ومنهم من يسعى كأجاويد الخيل، ومنهم من يسعى كركاب الإبل، ومنهم من يعدو ~~عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، وذلك على قدر أعمالهم ~~الصالحة، فهذا حق (1) . # وأما تصوير العمل لصاحبه على الصراط فهذا لم يبلغني فيه شيء، والله أعلم. ~~PageV04P194 # مسألة # فيما هو شائع بين الناس أن لله ملائكة نقالة ينقلون من قبور المسلمين إلى ~~قبور اليهود والنصارى، وكذلك من قبورهم إلى قبور المسلمين، هل ورد في ذلك ~~خبر أم لا؟ # الجواب # الحمد لله، أما الأجساد فإنها لا تنقل من القبور، ولكن يعلم أن في بعض من ~~يكون ظاهره الإسلام ممن يكون منافقا إما يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا معطلا ~~فقد يكون في الآخرة مع نظرائه، كما قال تعالى: (احشروا الذين ظلموا ~~وأزواجهم) (1) أي أشباههم ونظراءهم، وقد يكون في بعض من مات وظاهره كافر أن ~~يكون آمن بالله ورسوله قبل الغرغرة، ولم يكن عنده مؤمن، وكتم أهله ms0691 حاله إما ~~لأجل ميراث أو لغير ذلك، فيكون مع المؤمنين وإن كان مقبورا بين الكفار. # وأما أثر في نقل الملائكة فما سمعت في ذلك بأثر، والله أعلم. PageV04P195 # مسألة # فيمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئا منه هل الأفضل أن يهدي ثوابه لوالديه ~~ولموتى المسلمين؟ وكذلك إذا دعا عقيب القراءة يقول: اللهم أوصل ثوابه ~~لوالديه ولموتى المسلمين أو يجعل ثوابه لنفسه خاصة؟ # الجواب # أفضل العبادات ما وافق هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي ~~السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه كان يقول في خطبته (1) : "إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي ~~محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، وقد قال تعالى: (والسابقون ~~الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا ~~عنه) (2) ، فرضي عن السابقين مطلقا، ورضي عمن اتبعهم بإحسان. # وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح (3) من غير وجه أنه قال: ~~"خير PageV04P196 # القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وقال ~~عبد الله بن مسعود (1) : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا ~~يؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، ~~وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، ~~وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم. # وقال حذيفة بن اليمان (2) : يا معشر القراء! استقيموا وخذوا طريق من ~~قبلكم، فوالله لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ~~ضلالا بعيدا. # وهذا باب واسع، والدلائل عليه كثيرة، وقد قال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن ~~عملا) ، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: ~~إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن ~~خالصا لم يقبل، حتى يكون صوابا خالصا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن ~~يكون على السنة. وهذا الذي قاله الفضيل من الأصول المتفق عليها، فإنه قد صح ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ms0692 قال: "من أحدث في ديننا ما ~~PageV04P197 # ليس منه فهو رد" (1) ، وصح عنه أنه قال: "الأعمال بالنيات، وإنما لكل ~~امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن ~~كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (2) ~~. # وهذان الأصلان اللذان ذكرهما الفضيل، وقد أوجب الله الإخلاص له في غير ~~موضع من كتابه، كقوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) ~~(3) ، وقوله (فاعبد الله مخلصا له الدين (2)) (4) ، وقوله: (فادعوا الله ~~مخلصين) (5) وغير ذلك، وقد ذم من دان بغير شرعه في غير موضع، كقوله: (أم ~~لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (6) ، وقوله: (قل أرأيتم ~~ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على ~~الله تفترون (59)) (7) . # فإذا عرف هذا الأصل فالأمر الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون ~~الفاضلة أنهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعة فرضها ~~ونفلها، من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير PageV04P198 # ذلك، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، يدعون لأحيائهم ~~وأمواتهم في صلاتهم على الجنائز وعند زيارة قبورهم وغير ذلك. وروي عن طائفة ~~من السلف أن عند كل ختمة دعوة مجابة، فإذا دعا الرجل عقيب الختمة لنفسه ~~ولوالديه ومشايخه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من الجنس المشروع، ~~وكذلك دعاؤه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة، وقد صح عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالصدقة عن الميت، وأنه أمر بأن يصام عنه ~~الصوم الذي نذره (1) ، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة، وكذلك ما ~~جاءت به السنة في الصوم عنهم ونحو ذلك. # وبهذا وغيره احتج من قال من العلماء: إنه يجوز إهداء ثواب العبادات ~~البدنية إلى موتى المسلمين، كما هو مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب ~~مالك والشافعي، فإذا أهدي لميت ثواب صيام أو صلاة أو قراءة جاز ذلك، و ~~[قال] أكثر أصحاب مالك والشافعي: إنما يشرع ذلك في العبادات ms0693 المالية ~~كالصدقة والعتق ونحو ذلك دون العبادات البدنية، بناء على أن هذه تقبل ~~النيابة ويجوز التوكيل فيها بخلاف تلك، والأولون يقولون: هذا ثواب ليس من ~~باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته ~~لمن شاء. وأصحاب أبي حنيفة من أبعد الناس عن الاستنابة في الصيام ونحوه، ~~وجوزوا مع هذا إهداء الثواب، والنيابة إنما تجوز في مواضع مخصوصة بخلاف ~~الإهداء. PageV04P199 # ومن احتج على منع الإهداء بقوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)) (1) ~~فهو مبطل لتواتر النصوص واتفاق الأئمة على أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره، ~~والآية إنما نفت الاستحقاق لسعي الغير لم تنف الانتفاع بسعي الغير، والفرق ~~بينهما بين، ومع هذا فلم يكن من عادات السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا ~~أو حجوا تطوعا أو قرأوا القرآن أن يهدوا ثواب ذلك إلى موتى المسلمين بل ولا ~~بخصوصهم، بل كان من عاداتهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق ~~السلف فإنه أفضل وأكمل. وقد بسطنا الجواب في الإهداء للنبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في جواب كبير (2) ، وبينا أنه ليس بمشروع، وذكرنا ما يتعلق بذلك من ~~الحكم والمعاني، والله أعلم. PageV04P200 # مسألة # في رجل في مسجد وللمسجد مصيف، وإن الفقير قد حفر فيه قبرا وبنى فسقية (1) ~~بقصد أن يدفن فيه، وقد حصل من ينازعه في ذلك، وهل يجوز له أن يدفن فيه؟ وهل ~~يجوز أن يقر هذا البناء في المكان أم لا؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، لا يجوز أن يدفن أحد في المسجد، # فكيف في مسجد بني قبل موته؟ فإن دفن الميت في مثل هذا المسجد حرام بإجماع ~~المسلمين. ولا يجوز لأحد أن يبني قبرا بفسقية ولا غير فسقية في مسجد، ولا ~~فرق بين سقف المسجد ومصيفه، والمساعد على ذلك عاص لله ورسوله آثم مخطيء ~~باتفاق المسلمين، والمنكر لذلك الناهي عنه مطيع لله ورسوله، ويجب على كل ~~مسلم قادر إعانته، ويجب أن يهدم ما بني في المسجد من المصيف وغيره من فسقية ~~المقبرة باتفاق المسلمين ms0694. # والسنة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ~~والتابعون وسائر الأئمة والمشايخ أن يدفنوا في مقابر المسلمين، لم يأمر ~~منهم أحد PageV04P201 # أن يدفن في مسجد، ولا دفن أحد منهم في مسجد، بل لعن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - من يفعل ذلك، كما ثبت عنه في الصحيح (1) أنه قال قبل أن يموت ~~بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور ~~مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". # وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا ~~قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز ~~قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا، وقال (4) : "إن من شرار الناس من تدركهم ~~الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". # فهذا سيد ولد آدم يكره أن يتخذ قبره مسجدا، ودفنوه في حجرته لأن لا ~~[يجعل] قبره مسجدا، وكان المسلمون يدفنون في مقابرهم، فالذي يقصد أن يدفن ~~في دار ليصلى عنده مقصوده خلاف مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وأصحابه، ومن قصد ذلك فقد ضاد أمر الله ورسوله. # وفي السنن (5) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله زوارات ~~القبور PageV04P202 # والمتخذين عليها المساجد والسرج". فمن قصد أن يدفن بعض الشيوخ في موضع ~~لينذر له ويسرج عليه فقد لعنه الله ورسوله، وليس لهم أن يغيروا المسجد بفتح ~~شباك لأجل ذلك، والله سبحانه أعلم. # PageV04P203 ### | مسألة # في عمل طعام في الختم هل هو جائز؟ ومن يتحدث بين الناس بكلام أو حكايات ~~مفتعلة كلها كذب هل يجوز ذلك؟ # الجواب # الحمد لله، أما المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس أو لغرض آخر فإنه عاص ~~لله ورسوله، وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال (1) : "إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم منهم ويل له ثم ويل له ~~ثم ويل له"، وقال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا أن يعد ~~أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه. وأما إن كان في ذلك ms0695 ما فيه عدوان على مسلم ~~وضرر في الدين فهذا أشد تحريما من ذلك، وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة ~~الشرعية التي تردعه عن ذلك. PageV04P204 # وأما ما يصنع للميت فالذي ينفع الميت ويصل إليه باتفاق العلماء هو الصدقة ~~ونحوها، فإذا تصدق عن الميت بذلك المال لقوم مستحقين لوجه الله تعالى ولم ~~يطلب منهم عملا أصلا كان ذلك نافعا للميت وللحي الذي يتصدق عنه باتفاق ~~العلماء، كما في الصحيحين (1) أن سعدا قال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت ~~نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ # قال: نعم. # و ### | أما اكتراء قوم يقرأون القرآن ويهدون ذلك للميت فهذه بدعة، # لم يفعلها السلف ولا استحبها الأئمة، لكن لو قرأ الإنسان القرآن لله ~~وأهداه للميت وصل إليه الثواب عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما كما تصل إليه ~~الصدقة، فإن هذا تصدق لله وهذا قرأ لله، وذلك عمك صالح ينفع الله به الحي ~~والميت، بخلاف الذي يكتري من يقرأ، فإن القارىء إنما قرأ لأجل العوض، ~~والمعطي إنما أعطى عوضا عما استعمله فيه. # والفقهاء تنازعوا في الاستئجار على تعليم القرآن، فأما استئجار من يقرأ ~~ويهدي فما علمت أحدا من العلماء ذكر ذلك، ولكن إذا قرىء القرآن فاستماعه ~~حسن. PageV04P205 # وأما الأكل من الطعام فإن كان قد صنعه الوارث من ماله لم يحرم الأكل منه، ~~وإن كان قد صنع من تركة الميت - وعليه ديون لم توف، وله ورثة صغار، وفي ذلك ~~من حقوقهم - لم يؤكل منه. # PageV04P206 ### | مسألة # في رجل مات وتزوج أخوه امرأته ثم إنها ماتت، فهل يحل أن تدفن مع زوجها ~~الأول في قبر واحد؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، يكره دفن اثنين في قبر واحد إلا لحاجة، # سواء كان أجنبيا أو لم يكن، وإذا احتيج إلى ذلك جعل بينهما حاجز. ### | مسألة # في الصلاة على الجنازة قدام الإمام. # الجواب # تنازع العلماء في الصلاة قدام الإمام في الجنازة والجمعة وغير ذلك، فقيل: ~~يصح مطلقا كقول مالك، وقيل: لا يصح مطلقا كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في ~~المشهور عنه في ms0696 مذهبه، وقيل: يصح عند العذر، فإذا كان زحمة وتعذر معها ~~الصلاة خلفه صلى أمامه، وذلك خير من أن يدع الصلاة، وإن أمكنه الصلاة لم ~~يصل أمامه، وهذا أعدل الأقوال. # PageV04P207 # مسألة # فيمن يصلي على جنازة قدام الإمام وقدام الجنازة، فهل تصح أم لا؟ وهل تصح ~~صلاته لمن هو لابس مداسه؟ # الجواب # أما صلاته قدام الإمام في الجمعة والجنازة والصلوات الخمس وغير ذلك ~~فللعلماء فيه ثلاثة أقوال: # قيل: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة وهو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد. # وقيل: يجوز، وهو قول مالك والشافعي في القديم. # وقيل: إن كان للحاجة جاز، وإلا فلا، مثل أن يكون قبال وجهه ولا يمكنه ~~الصلاة إلا قدام الإمام، فالصلاة أمامه خير من ترك الصلاة، وأما إذا أمكنه ~~الصلاة خلفه فلا يصلي إلا خلفه. وهو أعدل الأقوال وأقواها، وهذا قول في ~~مذهب أحمد وغيره، والأحاديث هكذا وردت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-. # PageV04P208 # مسألة # في رجل كلما ختم القرآن أو قرأ شيئا منه يقول: اللهم اجعل ثواب ما قرأته ~~هدية مني واصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى جميع أهل ~~الأرض في مشارق الأرض ومغاربها. # فهل يجوز ذلك أو يستحب؟ وهل يجب إنكار ذلك على فاعله؟ وهل فعله أحد من ~~علماء المسلمين؟ # الجواب # الحمد لله، هذه المسألة مبنية على أصل، وهو أن إهداء ثواب العبادات إلى ~~الموتى هل يصل إليهم أم لا؟ # فأما العبادات المالية كالصدقة فلا نزاع بين المسلمين أنها تصل إلى ~~الميت، إذ قد ثبت في الصحيح (1) أن سعدا قال: يا رسول الله! # إني أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق ~~عنها؟ قال: نعم. # وأما العبادات البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ففيها قولان: أحدهما: ~~يجوز إهداء ثوابها إلى الميت، وهو مذهب أبي PageV04P209 # حنيفة وأحمد وطائفة من أصحاب مالك والشافعي. # والثاني: لا تصل، وهو المشهور عند أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبت في ~~الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة قالت: يا رسول الله! ~~إن أمي ms0697 نذرت صيام شهر، فقال: "صومي عن أمك". # فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن العبادات البدنية تفعل عن الميت ~~كالعبادات المالية، وفي الترمذي (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه ~~كان يضحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، ويذكر أنه أمره بذلك. # إذا عرف هذا فإهداء ثواب القرآن إليه - صلى الله عليه وسلم - أو إلى جميع ~~أهل الأرض هو مثل إهداء ثواب الصيام التطوع والصلاة التطوع ونحوهما، ومثل ~~إهداء ثواب الصدقة والعتق والحج على أحد القولين إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وسائر المسلمين، ولم يبلغنا أن أحدا من السلف والصحابة والتابعين ~~وتابعيهم كان يفعل ذلك، وأقدم من بلغنا أنه فعل شيئا من ذلك علي بن الموفق ~~أحد الشيوخ من طبقة أحمد الكبار وشيوخ الجنيد. # وبعض الناس ينكر هذا لأجل كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى من أن ~~أحدا يهدي إليه شيئا، وهذا الإنكار ليس بجيد، فإنا مأمورون أن نصلي ~~PageV04P210 # على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن نسلم عليه وأن نسأل له الوسيلة، ~~وقد ثبت عنه أنه قال (1) : "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا ~~الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله، ~~وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم ~~القيامة". # والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، كما قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لعمر: "لا تنسنا من دعائك" (2) ، ولما أخبره بأويس القرني ~~قال: "إن استطعت أن يستغفر لك فليستغفر لك" (3) . # وكذلك الصدقة عن الميت والصوم عنه يجوز، وإن كان الميت أفضل ممن يصوم عنه ~~ويتصدق عنه، فكون الشخص الميت أفضل من الحي أو كونه نبيا أو صديقا لا يمنع ~~أن يشرع للحي الدعاء له، كما أنه يصلي على جنازته، ولا يمنع أيضا أن يهدي ~~إليه ما يهدي إلى الميت من ثواب الأعمال الصالحة، والله تعالى بفضله يرحم ~~هذا وهذا، كما قال (4) : "من صلى علي واحدة صلى الله عليه ms0698 عشرا". و"من سأل ~~لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة" (5) . PageV04P211 # لكن إهداء ثواب الأعمال إلى جميع الناس ما سمعت أحدا فعله، ولا سمعت أن ~~أحدا كان يهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما بلغني عن علي بن ~~الموفق ونحوه. والاقتداء بالصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، فينبغي للإنسان ~~أن يفعل المشروع من الصلاة عليه والتسليم، فهذا هو الذي أمر الله به ~~ورسوله. وفي السنن (1) عنه: "أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة ~~الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ~~فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء". وقال له رجل: أجعل ~~لك ثلث صلاتي، فقال: "إذا يكفيك الله ثلث أمرك"، قال: أجعل نصف صلاتي، ~~فقال: "إذا يكفيك الله نصف أمرك"، قال: أجعل ثلثي صلاتي، قال: "إذا يكفيك ~~الله ثلثي أمرك"، فقال: أجعل صلاتي كلها عليك، قال: "إذا يكفيك الله ما ~~أهمك من أمر دنياك وآخرتك" (2) . # وفي فضل الصلاة عليه - بأبي هو وأمي - من الآثار ما يضيق هذا الموضع عن ~~ذكره، وكذلك الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والاستغفار لهم هو الذي جاء به ~~الكتاب والسنة، قال تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (3) ، وفي ~~السنن (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - PageV04P212 # مر بعلي وهو يدعو فقال: "يا علي! عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل ~~السماء على الأرض"، وفي السنن (1) : "أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب". ~~وفي الصحيح (2) : "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به ~~ملكا، كلما قال الملك الموكل به آمين قال: ولك بمثل". فالأفعال الشرعية هي ~~التي ينبغي للمؤمن أن يتحراها، والله أعلم. PageV04P213 ### | مسألة # في الميت هل غسله طاهر أم نجس؟ وهل تلحد المرأة الرجل أو الرجل المرأة؟ ~~وهل يجب أن يحج عن المرأة الرجل وعن الرجل المرأة؟ # وما يعطي الحاج عن الميت؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين، بل ### | غسله طاهر عند جماهير العلماء، # فإن ابن عباس وغير واحد من الصحابة قال: الميت لا ينجس حيا ولا ميتا، ~~وثبت في ms0699 الصحيح (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي بعض أصحابه في ~~طريق فاختفى منه، فذهب فاغتسل ثم جاء، فقال: "أين كنت"؟، قال: إني كنت ~~جنبا، قال: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس". # ولهذا قال جمهور العلماء على أن الماء المستعمل من غسل الجنابة والحيض ~~والوضوء طاهر. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ~~وصب وضوءه على جابر. # وأما دفن الرجل للمرأة فإذا كانت المرأة تدفن في المقابر PageV04P214 # فالسنة أن لا يشهد جنازتها إلا الرجال لا يحضر النساء، فحينئذ فيدفنها ~~رجل من أهل الخير، كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا طلحة ~~أن ينزل في قبر ابنته (1) . وهذا وإن كان فيه مس المرأة فوق الكفن فهو جائز ~~لأجل الحاجة، لأن خروج النساء مع الجنائز منهي عنه. # وأما إن قدر أن المرأة تدفن في موضع فيه النساء، فإلحاد المرأة لها أولى ~~من إلحاد الرجل إذا لم يكن في ذلك مفسدة. # والرجل يلحده الرجال إلا إذا احتيج إلى إلحاد النساء له، فإن ذلك جائز، ~~وإلحاد النساء الرجال أخف من تغسيلهن له، وفي جواز تغسيل ذوات محارمه له ~~وتغسيل الرجل لذوات محارمه نزاع مشهور بين العلماء، وفي إلحاد الرجل للمرأة ~~أيضا نزاع، لكن الذي ذكرناه صحت به السنة. # ويجوز أن يحج الرجل عن المرأة باتفاق العلماء، وكذلك يجوز للمرأة عن ~~الرجل عند الأئمة الأربعة، وخالفهم بعض الفقهاء لأن حجها أنقص، وليس بشيء، ~~فإنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة أن تحج عن أبيها ~~(2) ، وليس لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول. # ويحج عن المعتقة كما يحج عن الحرة الأصل، فإن كان الحج وجب عليهما في ~~حياتهما وجب أن يخرج عنهما من رأس المال في PageV04P215 # مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهما، وأما أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما ~~فيستحبون الإخراج عنهما، ولا يوجبونه إلا إذا وصت به، ويكون من الثلث، ~~وينبغي أن يخرج عنها حجة تامة من حيث أمرت بالحاج، ويخرج عنها حجة مثلها ms0700، ~~وإذا أخرج من القاهرة ما ينوي الخمس مئة إلى الألف كان مقاربا. وإن لم يجب ~~الحج عليها في حياتها فيستحب أن يحج عنها بعد موتها، والحجة تامة أفضل من ~~حجة مقامية، ويعطى الحاج ما يكفيه بالمعروف. وأما إذا دبرها - وهي التي ~~يعتقها بعد موته - إذا ماتت في حياته فلا حج عليها بإجماع المسلمين، لكن إن ~~أخرج عنها حج التطوع كان ذلك حسنا، والله أعلم. # PageV04P216 # مسألة # في حديث في مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تعدون الرقوب فيكم؟ "، قال؟ قلنا يا رسول ~~الله! الذي لا يولد له، قال: "ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم ~~من ولده شيئا"، الجواب عن الرقوب ما هو؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين، الرقوب في اللغة هو الذي لا ولد له أو الذي لا ~~يعيش له ولد، وهو مشتق من الرقبى، والرقبى أن يرقب كل واحد من الشخصين موت ~~الآخر، كما أن المفلس في اللغة هو الذي لا وفاء لدينه، والمسكين في اللغة ~~هو الطواف، فقوله عن الرقوب مثل قوله (2) : "ما تعدون المفلس فيكم؟ "، ~~قالوا: من ليس له درهم ولا دينار، قال: "لا، ولكن المفلس من يجيء يوم ~~القيامة بحسنات أمثال الجبال، قد ظلم هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا ~~من حسناته وهذا من حسناته، فإذا لم يبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فألقيت ~~عليه، ثم يلقى في النار". PageV04P217 # فهو - صلى الله عليه وسلم - بين لهم أن المفلس الحقيقي هو من أفلس في ~~الآخرة، والرقوب الحقيقي الذي ليس له ولد يؤجر عليه، ومن لم يقدم من ولده ~~شيئا لم يؤجر على الولد، والإنسان إنما يطلب بولده وماله النفع، ويعد عدم ~~ذلك مصيبة، فبين لهم أن النفع الحقيقي والمصيبة الحقيقية التي ينبغي للعاقل ~~أن يعدها منفعة ومصيبة هو حال من نظر في عواقب الأمور ونهاياتها لا في ~~أوائلها وبداياتها، والله أعلم. # PageV04P218 ### | مسألة # في رجل عزم على حفر قبره في حال حياته، # فماذا ms0701 يستحب أن يفعل مع ذلك من الأجر الموجب لثواب الله سبحانه والأفضل ~~فيه؟ # عرفونا مبسوطا. # الجواب # لا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت، فإن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، وأيضا فإن الله تعالى يقول: (وما تدري ~~نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) (1) ، والعبد لا يدري أين ~~يموت، وكم من أعد له قبرا وبني عليه بناء وقتل أو مات في بلد آخر، وإذا كان ~~مقصود الرجل الاستعداد للموت فهذا يكون بالعمل الصالح، فإن العبد إنما ~~يؤنسه في قبره عمله الصالح، فكلما أكثر من الأعمال الصالحة - كالصلاة ~~والقراءة والذكر والدعاء والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كان ~~ذلك هو الذي ينفعه في قبره، لا ينفعه بناء القبر ولا توسيعه ولا ترتيبه، بل ~~قد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يجصص ~~القبر وأن PageV04P219 # يبنى عليه، فكيف بمن يبني القبور كأنها قصور؟ فهذا من أعظم ما ينكر من ~~الأمور، وهو باتفاق المسلمين لا ينفع الميت شيئا، وإنما ينفعه العمل ~~الصالح، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الكيس من دان نفسه وعمل لما ~~بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" (1) . # ف ### | من ظن أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمه وتحسينه ينفعه فقد تمنى على الله الأماني الكاذبة، # وإنما يكون في قبره بحسب ما في قلبه، وكلما كان الإيمان في قلبه أعظم كان ~~في قبره أسر وأنعم، قال الله تعالى:) أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) ~~وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير (11)) (2) ، فجمع سبحانه ~~بين ما في القبور وما في الصدور، وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه قال للمشركين عام الخندق: "ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا ~~كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس". وهذا باب واسع لا ~~يتسع له هذا الموضع، والله أعلم. PageV04P220 # مسألة # في أطفال المؤمنين الذين يموتون دون الثلاث، هل لهم صحائف أعمال ms0702 يكتب ~~فيها ما يهدى لهم من قرآن وصدقة أم لا؟ وهل يسألون في قبورهم ويحاسبون أم ~~لا؟ وهل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها في القيامة أم يكبرون ويتزوجون ~~إذا دخلوا الجنة؟ والبنات اللاتي يدفن أبكارا هل يزوجن في الجنة؟ وهل في ~~الجنة حبل وولادة في الناس كلهم أم ناس دون ناس؟ وهل ذلك صحيح؟ # الجواب # الحمد لله رب العالمين، أما ما يهدى إلى الأطفال من صدقة ونحوها من ~~العبادات المالية فتصل إليه بلا نزاع، وفي العبادات البدنية قولان مشهوران، ~~لكن مذهب أحمد وأصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي أنها تصل ~~أيضا كما تصل المالية وهو الصحيح، والمهدى إلى الصغار والكبار سواء في باب ~~كتابته، فلا يقال إن ما يهدى إلى الكبار يكتب دون ما يهدى إلى الصغار، بل ~~حكم النوعين واحد. # وأما سؤالهم في القبر ففيه قولان مشهوران لأصحاب أحمد وغيرهم من أهل ~~السنة: # PageV04P221 # أحدهما: أنهم لا يسألون، وهذا قول القاضي وابن عقيل وغيرهما، قالوا: لأن ~~السؤال في القبر إنما يكون لمن كان مكلفا في الدنيا، والصبي والمجنون ليس ~~بمكلف فلا يسأل. # والقول الثاني: وهو قول أبي حكيم النهرواني، وهو الذي نقله أبو الحسن علي ~~بن عبدوس عن أصحاب أحمد أنهم يسألون، لما في "الموطأ" (1) أن أبا هريرة صلى ~~على صغير لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهم قه عذاب القبر وضيقة القبر. وهذا قد ~~ينبني على امتحانهم في عرصات القيامة، وقد جاءت بذلك أحاديث (2) . # وأما حالهم في الآخرة فإنهم إذا دخلوا الجنة دخلوها كما يدخلها الكبار ~~على صورة أبيهم آدم، طول أحدهم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع، ويتزوجون كما ~~يتزوج الكبار، ومن مات من النساء ولم تتزوج فإنها تتزوج في الآخرة، وكذلك ~~من مات من الرجال فإنه يتزوج في الآخرة. PageV04P222 # مسألة # في مقبرة للمسلمين، وأهل الذمة يدفنون فيها، هل يجب على ولي الأمر منعهم ~~أم لا؟ # الجواب # الحمد لله ### | ، ليس لأهل الذمة دفن موتاهم في شيء من مقابر المسلمين # لا الشهداء ولا غيرهم، بل لابد أن ms0703 تكون مقابرهم متميزة عن مقابر المسلمين ~~تميزا ظاهرا، بحيث لا يختلطون بهم ولا يشتبه قبور المسلمين بقبور الكفار، ~~وهذا أوكد من التمييز بينهم حال الحياة بلبس الغيار ونحوه، فإن مقابر ~~المسلمين فيها الرحمة، ومقابر الكفار فيها العذاب، بل ينبغي مباعدة مقابرهم ~~عن المسلمين، وكلما بعدت عنها كان أصلح، والله أعلم. # PageV04P223 # مسألة # في الخلائق إذا حشروا يوم القيامة هل يحشرون جميعهم عرايا، أو بعضهم عراة ~~وبعضهم بأكفانهم؟ وقول أبي سفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بالغوا ~~في أكفان موتاكم، فإن أمتي تحشر بأكفانها، وسائر الأمم عراة" كما ذكره ~~الغزالي. وهل يموت إدريس من الصعقة؟ # الجواب # الذي في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: "الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها". أخرجه أبو حاتم ابن حبان في ~~صحيحه (1) وغيره. وقد روي أن أبا سعيد لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد، ~~فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الميت يبعث ~~في ثيابه التي يموت فيها" (2) . # فأبو سعيد على هذا حمل الحديث على أن الثياب التي يموت PageV04P224 # فيها العبد يبعث فيها، ولم يقل: إنه يبعث في أكفانه، فإن الكفن غير ~~الثياب التي يموت فيها، فإن عامة الموتى لا يكفنون في ثيابهم التي يقبضون ~~فيها، لا سيما والكفن الذي كفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ~~فيه مما يمسى فيه، فإنها لم يكن فيها قميص ولا عمامة، فإنه إذا عرف أن ~~الحديث المأثور إنما هو أنه يبعث في ثيابه التي قبض فيها، فقيل: يبعث في ~~نفس الثوب الطاهر. # وقال طوائف من أهل العلم - كأبي حاتم وغيره -: إن المراد بذلك أنه يبعث ~~على ما مات عليه من العمل، سواء كان صالحا أو سيئا، كما قال أكثر المفسرين ~~في قوله تعالى: (وثيابك فطهر (4)) (1) أن المراد به إصلاح العمل وتطهير ~~النفس من الرذائل (2) . ومثل هذا كثير في كلامهم، كما قيل: # ثياب بني عوف طهارى نقية (3) # ويقال: "فلان طاهر الثياب". يؤيد هذا شيئان: # أحدهما: أن ms0704 الذي جاء في الحديث أنه يبعث على ما مات عليه من خير وشر، كما ~~جاء، فما ختم له به يبعث عليه، كما في حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "يبعث كل عبد على ما مات عليه". PageV04P225 # رواه أبو حاتم في صحيحه (1) . # الثاني: أن الأحاديث الصحيحة تبين أنهم يحشرون عراة، كما في الصحيح (2) ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة ~~عراة غرلا"، ثم قرأ: (كما بدأنا أول خلق نعيده) (3) . وفي لفظ في الصحيح ~~(4) : "أول من يكسى إبراهيم الخليل". وفي الصحيح (5) أيضا عن عائشة أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة ~~غرلا"، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض! قال: ~~"يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض". فهذا وأمثاله أحاديث ~~صحيحة لا يجوز أن تعارض بمثل ذلك اللفظ المجمل. # وأيضا فإن بعثه على ما مات عليه من خير وشر ظاهر، فإن الأعمال بالخواتيم، ~~وقد ثبت في الصحيح (6) "أن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه ~~وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، ~~وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق ~~عليه الكتاب، PageV04P226 # فيعمل بعمل [أهل] الجنة فيدخل الجنة". فهذا وأمثاله تبين أنه في الآخرة ~~يحشر على ما مات عليه. # وأما ثوبه الذي كان عليه وقت الموت فلا مناسبة في بعثه فيه، فقد تموت ~~الأنبياء والصالحون (1) في الثياب الرثة، وقد يموت الكفار والمنافقون في ~~ثياب حسنة، فهل يكون قيام الكفار والمنافقين من قبورهم أجمل وأبهى من قيام ~~الأنبياء والمؤمنين؟ ولو كان صحيحا لكان تكفينه في ثيابه التي مات فيها ~~ويبعث فيها أولى من تكفينه في غيرها، وليس الأمر كذلك، بل قد يختلف الحكم ~~في ذلك. # وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ~~كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه". وقد روي أن النبي - صلى ms0705 الله عليه وسلم - أمر ~~بشد الفخذ في بعض الجنائز، وقال: "إن هذا لا يغني شيئا، وإنما تطيب نفس ~~الحي" (3) ، ولو كان الميت يبعث في ثياب موته لوردت السنة بتجميلها. # وأما الأكفان فلا أصل لكونه يبعث فيها بحال. # و ### | أما إدريس فقد روي أنه مات في السماء # (4) ، فلا يحتاج إلى موت ثان، والله سبحانه قد أخبر بصعق من في السماوات ~~ومن في PageV04P227 # الأرض إلا من شاء الله (1) ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه ذكر "أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من أفيق، فأجد موسى باطش ~~بساق العرش، لا أدري هل أفاق قبلي أم كان مما استثنى الله" (2) . # فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توقف في مثل هذا فكيف يجزم ~~أحدنا بما لا علم له به؟ والله أعلم. PageV04P228 # مسألة # في معنى قوله "من قتل دون ماله فهو شهيد" (1) ، وهل يجب على الشخص أن ~~يبذل ثلث ماله قبل القتال - كما هو متعارف بين الناس - أم يجوز ذلك؟ وهل ~~الواجب عليه الدفع عن نفسه وأهله وماله دون البذل؟ # الجواب # قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قتل دون ماله فهو ~~شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد، ومن قتل دون ~~دينه فهو شهيد" (2) . # واتفق العلماء على أن قطاع الطريق إذا تعرضوا لأبناء السبيل يريدون ~~أموالهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعا عن أموالهم، إذا لم يندفعوا إلا بالقتال، ~~ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلا ولا كثيرا، لا الثلث ولا ~~غير الثلث، لكن إن أحبوا هم أن PageV04P229 # يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلا أن يكونوا ~~عاجزين عن القتال، فحينئذ يصالحونهم بما أمكن، ولا يقاتلون قتالا تذهب فيه ~~أنفسهم وأموالهم. # وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفع عن أموالهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها ~~ولهم أن يبذلوها، لأن إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد ~~يفعل أصلح الأمرين عنده. # وأما الدفع عن الحرمة ms0706 مثل أن يريد الظالم أن يفجر بامرأة الإنسان أو ذات ~~محرمه أو بنفسه أو بولده ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفع، لأن التمكين من ~~فعل الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب ~~إمكانه، وإذا لم يندفع إلا بالقتال وهو قادر عليه قاتل. # وأما دفعه عن دمه فهو جائز أيضا، لكن في وجوبه قولان للعلماء هما روايتان ~~عن أحمد: # أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قتله لم يدفع عن ~~نفسه، وقال: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني ~~أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب ~~النار وذلك جزاء الظالمين (29)) (1) . # وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارج قتله لم يدفع PageV04P230 # عن نفسه، وأمر الذين جاءوا ليقاتلوا عنه - كغلمانه وأقاربه والحسن ابن ~~علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم - أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي ~~الله عنه. # والقول الثاني: يجب الدفع عن نفسه، لأن قتله بغير حق محرم، فلا يجوز له ~~التمكين من محرم. # وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل ~~رجلان أو طائفتان على ملك أو رئاسة أو على أهواء بينهم، كأهواء القبائل ~~والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيس أعتقهم، فيقاتلون على رئاسة سيدهم، ~~وأهواء أهل المدائن الذين يتعصب كل طائفة لأهل مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب ~~والطرائق كالفقهاء الذين يتعصب كل قوم لحزبهم ويقتتلون، كما كان يجري في ~~بلاد الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة ينهى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل ~~والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ ~~قال: "إنه أراد قتل صاحبه" (1) . # وفي الصحيح (2) أنه قال: "من قتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ويدعو لعصبة ~~فليس منا - أو قال: - هو في النار". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ستكون ~~فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم ms0707 خير من PageV04P231 # الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المرجع" (1) . # والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتال ~~في الفتنة، بل عند التداعي بسعارها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا" (2) ، يعني: ~~إذا قال الداعي: يا لفلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له: # اغضض ذكر أبيك. # وفي الصحيحين (3) عنه أن المسلمين كانوا معه في سفر، فاقتتل - يعني - رجل ~~من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال ~~الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبدعوى ~~الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة". # وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (4) ، # يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ~~(102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ ~~كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من ~~النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) ولتكن ~~منكم أمة يدعون إلى الخير PageV04P232 # ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا ~~كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ~~(105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (1) . قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة ~~والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة. # وقد قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا ~~وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (2) . وقال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "إلا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على ~~أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب" (3) . ~~وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ~~كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" ~~(4) . # فالله قد جعل المؤمنين إخوة مع الاقتتال، وأمر بالعدل بينهم، فقال تعالى: ~~(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما ms0708 على ~~الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما ~~بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين ~~PageV04P233 # أخويكم واتقوا الله) (1) . فجعلنا إخوة مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل ~~بينهم. # فيجب على كل أحد أن يعظم أهل التقوى والحق ويكون معهم، سواء كانوا من ~~طائفته أو لم يكونوا، ويقصد أن يكون الدين لله لا لمخلوق، فإذا فضل هؤلاء ~~على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يسعى بينهم بالعدل والإصلاح. # فإذا طلب قتل الرجل في هذه الحال وهو لا يريد أن يقاتل أحدا، فهل له أن ~~يدفع عن نفسه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد: # إحداهما: لا يدفع عن نفسه وإن قتل، حتى لا يكون مقاتلا في الفتنة، ولأن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للسائل لما سأله عن ذلك: "دعه حتى يبوء ~~بإثمه وإثمك" (2) . # والثاني: يجوز لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تبين أنه نهى عن القتال في ~~الفتنة وإن قتل مظلوما، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن ~~ذلك يفضي إلى الفتنة. والله أعلم. PageV04P234 # مسألة # سؤال منكر ونكير، الميت إذا مات تدخل الروح في جسده ويجلس ويجاوب منكر ~~ونكير، فيحتاج موتا ثانيا؟ # الجواب # عود الروح في بدن الميت في القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة ~~الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض الوجوه، كما أن النشأة الآخرة ~~ليست مثل هذه النشأة وإن كانت أكمل منها، بل كل موطن في هذه الدار وفي ~~البرزخ والقيامة له حكم يخضه. # ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يوسع له في قبره ويسأل ~~ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير. فالروح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه، ~~وهل يسمى ذلك موتا؟ فيه قولان: # قيل: يسمى ذلك موتا، وتأولوا على ذلك قوله (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا ~~اثنتين) (1) . قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدنيا، والحياة الثانية في ~~القبر، والموتة الثانية في القبر. PageV04P235 # والصحيح أن ms0709 هذه الآية كقوله (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) ~~(1) . فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة، ~~وقوله (ثم يحييكم) بعد الموت. قال: (*منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها ~~نخرجكم تارة أخرى (55)) (2) ، وقال: (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ~~(25)) (3) . # فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتفارقه متى شاء الله، لا يتوقت ذلك ~~بمرة ولا مرتين، والنوم أخو الموت، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول إذا أوى إلى فراشه: "باسمك اللهم أموت وأحيا". وكان إذا استيقظ يقول: ~~"الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور" (4) . فقد سمى النوم ~~موتا والاستيقاظ حياة. # وقد قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ~~فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات ~~لقوم يتفكرون (42)) (5) ، فبين أنه يتوفى الأنفس على نوعين، فيتوفاها حين ~~الموت، ويتوفى الأنفس التي لم تمت بالنوم، ثم إذا ناموا فمن مات في منامه ~~أمسك نفسه، ومن لم يمت PageV04P236 # أرسل نفسه. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه ~~قال: "باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن ~~أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (1) . # والنائم يحصل له في منامه لذة وألم، وذلك يحصل للروح والبدن، حتى إنه ~~يحصل له في منامه من يضربه، فيصبح والوجع في بدنه، ويرى في منامه أنه أطعم ~~شيئا طيبا، فيصبح وطعمه في فمه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يحصل لروحه ~~وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به والذي إلى جنبه لا يحس به، حتى قد يصيح ~~النائم من شدة الألم والفزع الذي يحصل له ويسمع اليقظان صياحه، وقد يتكلم ~~إما بقران وإما بذكر وإما بجواب، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينه مغمضة، ~~ولو خوطب لم يستمع، فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول بأنه يسمع قرع ~~نعالهم، وقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" (2) . # والقلب يشبه بالقبر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لما فاتته صلاة ms0710 ~~العصر يوم الخندق: "ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا" (3) ، وفي لفظ: "قلوبهم ~~وقبورهم نارا"، وفرق بينها في قوله: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9) ~~وحصل ما في الصدور (10)) (4) . PageV04P237 # وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، ولا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من ~~النعيم والعذاب مثل ما يجده النائم في منامه، بل ذلك النعيم والعذاب أكمل ~~وأبلغ وأتم، وهو نعيم حقيقي وعذاب حقيقي، ولكن يذكر هذا المثل لبيان إمكان ~~ذلك إذا قال السائل: الميت لا يتحرك في قبره، أو التراب لا يتغير، ونحو ~~ذلك. مع أن هذه المسألة لها بسط يطول وشرح لا يحتمل هذه الورقة. والله ~~أعلم. # PageV04P238 # مسألة # الميت في أيام مرضه أدركه شهر رمضان، ولم يكن يقدر على الصيام، وتوفي ~~وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدة مرضه، ووالداه بالحياة، فهل تسقط ~~الصلاة والصيام عنه إذا صاما عنه وصليا إذا وصى أو لم يوص؟ # الجواب # إذا اتصل به المرض ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته الاطعام عنه. وأما ~~الصلاة المكتوبة فلا يصلى عن أحد، ولكن إذا صلى عن الميت واحد منهما تطوعا ~~وأهداه له، أو صام عنه تطوعا وأهداه له، نفعه ذلك. # PageV04P239 # مسألة # في الشهداء، هل يشفع الشهيد منهم في أربعين من أهل بيته أم لا؟ وهل هم ~~سبعة أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وهل إذا كان الشهيد عاصيا يكون ~~منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دين أو مظلمة يطالب بها أم لا؟ # الجواب # الحمد لله، أما الشهيد المقتول في الجهاد في سبيل الله - وهو الذي يقتل ~~في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، ويكون قتاله لتكون كلمة الله هي ~~العليا، لا حمية ولا لدنيا ولا غير ذلك - فهذا جاء فيه أنه يشفع في اثنين ~~وسبعين من أهل بيته (1) . # وأما سائر الشهداء فهم أكثر من ذلك، وقد جاء أنهم سبعة (2) : PageV04P240 # المبطون شهيد، والغريق شهيد، والذي يموت تحت الردم شهيد، وصاحب ذات الجنب ~~شهيد، والمرأة التي تموت بالطلق شهيد. # وإن كان أحدهم مذنبا يرجى أن الشهادة ms0711 يغفر له بها، لكن حقوق الآدميين دين ~~عليه لابد لصاحبها من استيفائها. والله أعلم. # PageV04P241 # مسألة # في أقوام لهم تربة، وهي في مكان منقطع، وقتل فيها قتيل، وقد بنوا لهم ~~تربة أخرى، هل يجوز نقل موتاهم إلى التربة المستجدة أم لا؟ # الجواب # لا ينبش الميت لأجل ما ذكر. والله أعلم. # PageV04P242 # مسألة # فيمن يحض الناس من أهل الإيمان على أن يصوموا ويصلوا ويتصدقوا، ويقرأوا ~~القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبل منهم، ويوصل أجور ذلك إلى ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أزواجه وأولاده، فسئل عن ذلك، فقال: ~~لأنه كان يحب الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: إن ~~الإمام علي رضي الله عنه كان يضحي عنه بعد موته، وإن أبي بن كعب قال: إني ~~أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت"، قال الربع؟ قال: ~~"ما شئت، وإن زدت فهو خير"، قال: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"، ~~قال: الثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"، قال: يا رسول الله! فاجعل ~~لك كلها، قال: "إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك". # فما هذه الصلاة المقسمة بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاة ~~عليه فكلها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد ~~إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرف المفهوم أنها صلاة ~~نوافله وتطوعاته، وأن يجعل له ربعها ونصفها وثلثيها وكلها، فهل أصاب فيما ~~أمر به وحض عليه؟ # وبنى على ما رواه الدارقطني: أن رجلا سأله فقال: يا رسول الله صلى الله ~~عليك، كان لي أبوان، وكنت أبرهما حال حياتهما، # PageV04P243 # فكيف لي بالبر بعد موتهما؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من ~~البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق ~~لهما مع صدقتك". # فقيل: إن عمل الولد من الخير ملحق بالوالدين، لوجوب حقهما. # فقال: حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب، وحق أزواجه أمهات المؤمنين ~~أوجب من أمهات الأولاد. # فقيل ms0712 له: فهلا فعل أبو بكر ذلك؟ # قال: وما يدريك؟ قد فعله علي رضي الله عنه حين ضحى عنه. # فقيل: إن النبي دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من تبعه. # فقال: إن الواحديه حق لله في الأزل والأبد لا يزيلها إنكار منكر لها، ~~ويثاب المقر بها طوعا راضيا مختارا، والكون وما فيه ملكه ثانيا لا يزيله ~~ملك مالك، ونحن نتقرب منه بشق تمرة. # فما الحكم في ذلك مع صحة القصد وما ذهب إليه من التأويلات؟ # أفتونا مأجورين. # أجاب رضي الله عنه # أما ما ذهب إليه هذا المسئول عنه من إهداء ثواب القربات إلى النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - فقد ### | ذهب إليه طائفة من المتأخرين # من الفقهاء والعباد، ولكن لم يسلكوا هذا الطريق التي ذكرت عنه، ولكن بنوا ~~ذلك على # PageV04P244 # إن إهداء ثواب القرب إلى موتى المؤمنين جائز، ورسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - أفضل المؤمنين، ولا ريب أن الصدقة عن الميت جائزة باتفاق العلماء، ~~وكذلك سائر العبادات المالية، هان تنازع الأئمة في العبادات البدنية ~~كالصلاة والصيام والقراءة، فمنهم من سوى بين النوعين كأحمد، وهو المذكور في ~~كتب الحنفية، وذهب إليه طائفة من أصحاب مالك والشافعي، ولكن أكثر أصحاب ~~مالك والشافعي فرقوا بين العبادات البدنية والمالية، لأن المالية يدخلها ~~النيابة والتوكيل، فيجوز للرجل أن يستنيب في صدقته، ولا يجوز له أن يستنيب ~~في صلاته وصيامه. # والأولون أجابوا عن هذا من وجهين: # أحدهما: أن النيابة في العبادات البدنية تجوز للحاجة، كما ثبت في ~~الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من مات وعليه صيام ~~صام عنه ولله"، ولكن فرض الصلاة لا نيابة فيه، لأن الإنسان لا يعجز عما وجب ~~من الصلاة، فلا عذر له في (2) ، والصوم له بدل وهو الإطعام، كما قال تعالى: ~~(وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له) (3) ، فلما ~~نسخ ذلك وتعين الصيام على القادر بقي العاجز كالشيخ الذي لا يرجى قدرته ~~والمريض المأيوس من بزيه، فإنه يفطر باتفاق العلماء، وأكثرهم ms0713 PageV04P245 # يوجبون عليه الفدية، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، أما مالك فلا ~~يوجب عليه فدية. وأما الصوم عن الميت فقيل: لا يصام عنه بحال، كقول أبي ~~حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، لكن الشافعي وطائفة يقولون: يطعم عنه إذ ~~الإطعام هو البدل، وقيل: بل يصام عنه الفرض والنذر، وهو قول للشافعي، وقيل: ~~يصام عنه النذر، وأما الفرض يطعم عنه، وهو مذهب أحمد وغيره اتباعا لابن ~~عباس في تفريقه بينهما، وهو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (1) ، وروته عائشة أيضا (2) ، وكلا ~~الحديثين في الصحيح، وقد جاء حديث ابن عباس مفسرا في النذر كما في الصحيحين ~~(3) عنه: "أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، ~~أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ ~~"، قالت: نعم، قال: "فصومي عن أمك". # وفرقوا بين الفرض والنذر بأن الله قد جعل لما فرضه بدلا، وهو الإطعام من ~~مال من وجب عليه، كما جعل في الكفارة من عجز من صوم الشهرين المتتابعين ~~أطعم ستين مسكينا، والبدل من ماله أولى من بدن غيره، والله لا يوجب على ~~عباده ما يعجزون PageV04P246 # عنه، ولهذا لو استمر به المرض المرجو إلى ما بعد رمضان ولم يتمكن من ~~القضاء فلا إطعام عنه ولا قضاء باتفاق الأئمة، بخلاف ما أوجبه العبد على ~~نفسه فإنه قد يوجب ما يعجز عنه، كما يستدين ما لا يطيق وفاءه، فيكون فعل ~~الغير عنه كقضاء الذين عنه، وذلك جائز. # وحقيقة هذا القول أن من عجز عن الصيام والفدية فلا شيء عليه، فلا يحتاج ~~أن يصوم عنه، ومن قدر على أحدهما فلا بد له من أحدهما. والمقصود هنا أن ~~الشارع سوغ الصوم عن الميت كما سوغ الحج عنه في الجملة، فلا يجوز أق يقال: ~~لا تدخله النيابة بحال. # والوجه الثاني: أنهم قالوا: إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابة عنه، ~~وإنما العامل عمل لنفسه لا عن الميت، والإنسان ليس ms0714 له إلا ما سعى، فهذا ~~السعي للحى لا للميت، لكن الميت استحق عليه أجرا من الله، فتبرع به للميت ~~كما يتبرع الأجير بأجرته لغيره، وإن كان عمله في الإجارة لنفسه لا للغير، ~~ولهذا يفرق في الإجارة بين من يعمل لغيره وبين من يعمل لنفسه، ويعطي الأجرة ~~لغيره، فالأول كالأجير المشترك الذي التزم العمل في ذمته، إذا أعطاه لبعض ~~الناس ليعمل عنه كان ذلك عملا بطريق النيابة عمن وجب عليه العمل، وهو نظير ~~قضاء الدين. والثاني كالأجير الخاص أو المشترك الذى عمل ما عليه، وأخذ ~~أجرته فأعطاها لغيره، ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة لا يجوزون النيابة في ~~العبادات البدنية، ويجوزون إهداء ثوابها، وكذلك أصحاب أحمد يجوزون إهداء # PageV04P247 # ثواب العبادة حيث لا يجوزون النيابة، حتى يجوزون إهداءها إلى الحي في أصح ~~الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد، وفي إهداء ثواب الفريضة لهم وجهان. # وبعض الناس يحتج على أن إهداء ثواب القرب لا يصل إلى الميت بقوله: (وأن ~~ليس للإنسان إلا ما سعى (39)) (1) . واحتجاجه بهذه الآية حجة باطلة بكتاب ~~الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فإن القرآن قد دل على الاستغفار ~~للمؤمنين، كما في استغفار الملائكة والأنبياء لهم، وذلك ليس من سعيهم، قال ~~الله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ~~ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا ~~واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7)) (2) الآية، وقال تعالى: (واستغفر ~~لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (3) ، وقال تعالى عن نوح: (رب اغفر لي ولوالدي ~~ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) (4) ، وقال عن إبراهيم: (ربنا ~~اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)) (5) . # وقد اتفق المسلمون على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصلاة ~~على الميت والدعاء له والشفاعة فيه، واتفقت الأمة على أن الصدقة تنفع ~~PageV04P248 # الميت كما ثبت في الصحيحين (1) : أن سعدا قال: يا رسول الله! إن أمي ~~افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: ~~"نعم ". فما كان جواب هذا المحتج عن الدعاء والصدقة عن الميت ms0715 كان جوابا ~~لغيره عن الصيام عنه ونحو ذلك من العبادات. # وقد ذكر الناس عن الآية أجوبة متعدد (2) ، على أنها منسوخة، وقيل: ~~مخصوصة، وقيل: مختصة بشرع من قبلنا، وقيل: سببه الإيمان الذي هو شرط وصول ~~الثواب من سعيه. # والآية لا تحتاج إلى شيء من هذا، فإن الله أخبر عما في الصحف أنه (ليس ~~للإنسان إلا ما سعى (39)) (3) ، ولم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وأن ~~الإنسان فيما ينتفع به في الدنيا قد ينتفع بما يملكه وبما لا يملكه، فلا ~~يلزم من نفي الملك نفي الانتفاع، لكن هو يستحق الثواب على سعيه لأنه حفه، ~~فلا يخاف منه ظلما ولا هضما، وأما سعي غيره فهو لذلك الغير، فإن سعى له ذلك ~~الغير أثاب الله ذلك الساعي على سعيه، ونفع هذا من سعي ذلك بما شاء، كما ~~يثيب الداعي على دعائه لغيره وينتفع المدعو له. كما ثبت في الصحيح (4) أنه ~~قال: "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب PageV04P249 # بدعوة إلا وكل الله به ملكا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به: ~~آمين، ولك بمثل ". # ومن ذلك: الصلاة على الميت، فقد ثبت عنه أنه قال: "من صلى على جنازة فله ~~قيراط" (1) ، وثبت عنه: أن الله يقبل شفاعة مائة (2) ، وروي أربعين (3) ، ~~وروى ثلاثة صفوف (4) . فهو يثيب الداعي وينفع المدعو له، وكذلك المتصدق عن ~~الميت بما يصل إليه من ثواب الصدقة. # ومن هذا الباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب الوسيلة، ~~كما ثبت عنه في الصحيح (5) أنه قال: "من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا"، ~~وقال: "ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من ~~عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حفت عليه ~~شفاعتي يوم القيامة". # فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه فعل القرب عن الأموات مطلقا، وبعض الناس ~~يعارض هذا بما ليس بدليل شرعي، بمثل أن PageV04P250 # يقول عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره من النبيين أو الصديقين: هذا ~~أجل ms0716 من أن يهدى له ثواب أو أن يفعل عنه قربة، ويرى أن هذا من باب الخفض من ~~منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه من باب حاجته إلى هذا الفاعل. # وهذا الكلام ليس بشيء، فإن الله أمرنا أن نصلي عليه ونسلم تسليما، ~~والصلاة عليه من أفضل العبادات مع الدعاء في الصلاة وغيرها، حتى قال عمر بن ~~الخطاب: "إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - "، رواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن. وثبت ~~عنه في صحيح مسلم (2) وغيره أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا بمثل ما ~~يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله ~~لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن ~~أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم ~~القيامة". وفي السنن (3) : "ثم سل تعطه ". # فهذه أربع سنن أمر بها عند استماع الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن، وقد ~~جاء مفسرا بالأمر بذلك في الحيعلة والحوقلة، لأنه دعاء للادميين لا ذكر، ~~فيقال ما يستعان به على فعل ما دعي العبد إليه. ثم أن يصلي عليه، ثم أن ~~يسأل له الوسيلة، ثم قال: "سل تعطه"، فإن هذا ليس بمظان إجابة الدعاء. ~~PageV04P251 # وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا على فإن ~~صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ". # وعن أبي ليلى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الملك جاءني ~~فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: أما ترضى إلا يصلي عليك عبد من عبادي إلا ~~صليت عليه عشرا؟ ولا يسلم عليك تسليمة إلا سلمت عليه عشرا؟ قلت: بلى أي ~~رب". رواه النسائي (2) وأبو حاتم وغيره. # وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أفضل ~~أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق ms0717 آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، فأكثروا ~~فيه من الصلاة علي، فإن صلاتكم معروضة"، قالوا: وكيف تعرض عليك وقد أرمت؟ ~~فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". رواه أبو داود ~~والنسائي وأبو حاتم في صحيحه (3) . PageV04P252 # وفي سنن أبي داود (1) عنه قال: "ما من مسلم يسلم على إلا رد الله علي ~~روحي حتى أرد عليه السلام ". # وفي النسائي وأبي حاتم (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: "إن لته ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام". # والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا مما أجمع عليه المسلمون، والصلاة والسلام ~~[عليه]- صلى الله عليه وسلم - هي من هذا الباب من باب الدعاء، و ### | الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى، # والداعي إذا دعا لغيره أثاب الله الداعي على دعائه، ونفع المدعو له ~~بالدعاء، فلم يكن لأحد عليه منة بصلاته عليه وسلامه، إذ كان الله يصقي على ~~المصلي عليه عشرا، ويسلم على المسلم عليه عشرا، فيعطيه بالحسنة عشر ~~أمثالها، فلله المنة على من استعمله في الصلاة عليه والسلام، ولله المنة ~~على رسوله وعلى جميع عباده إذ نصب أسبابا يرحمهم بها، والخلق كلهم فقراء ~~إلى الله تعالى، والله يرحم عباده بما شاء من الأسباب، فمن جعل أحدا من ~~الأنبياء أو غيرهم مستغنيا عن مزيد الرحمة والرضوان وعلو الدرجات فهو جاهل ~~بالته، ومن ظن أن دعاء الداعي للأنبياء وصلاته عليهم بل صلاته على المؤمنين ~~منه منة عليهم فهو جاهل بذلك، فإن الله يثيبه PageV04P253 # على عمله ولا يظلمه، والمنة لله على هذا وعلى هذا. # ومن هذا الباب دعاء الملائكة للمؤمنين وسائر الأسباب، بل من هذا الباب ~~جميع ما يعمله العباد من القرب والطاعات، فإن للرسول - صلى الله عليه وسلم ~~- مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، كما ثبت عنه في الصحيح (1) ~~أنه قال: "من دعا إلى هد ى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ~~ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ms0718 ضلالة كان له من الوزر مثل أوزار من ~~اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا". وقال - صلى الله عليه وسلم - (2) : ~~"من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ~~ينقص من أجورهم شيئا". وهو - صلى الله عليه وسلم - قد سن سنن الهدى جميعها ~~لأمته. # ومن هذا الباب يبين جواب المسألة، فإن القائل يقول: إذا كان إهداء القرب ~~إلى الموتى مشروعا وإن كانوا فضلاء، فما بال السلف لم يكونوا يفعلون القرب ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الخلفاء الراشدين؟ # بل ولا عن شيوخهم معلميهم ومؤدبيهم الذين علموهم العلم والإيمان؟ والسلف ~~كانوا أحرص على الخير منا، فلا يمكن أن يقال: تركوه جهلا به ولا رغبة عنه، ~~وهذا هو الذي يظهر به إشكال المسألة، فإن ما تقدم يحتبئ به من يستحب إهداء ~~ثواب القربات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ذهب إليه طائفة من ~~الفقهاء والعباد من أصحاب أحمد وغيرهم، وأقدم من بلغنا ذلك عنه علي بن ~~الموفق أحد PageV04P254 # الشيوخ المشهورين، كان أقدم من الجنيد وطبقته، وقد أدرك أحمد وعصره وعاش ~~بعده. # ومن لا يستحب بل يراه بدعة -وهو الصواب المقطوع به- يحتج بأن السلف لم ~~يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغب، وليس فعل [المذكور] وأمثاله ولا ~~قول طائفة من متأخري الفقهاء مما يعارض به أقوال السلف. # وأما احتجاج المحتج بتضحية علي رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - فيقال له: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي (1) من حديث حنش ~~الصنعاني، قال: رأيت عليا عليه السلام يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: ~~إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه". ~~وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك. ومثل هذا الإسناد قد ~~يقال: لا تقوم به سنة، فإن حنشا تكلم فيه غير واحد، قال أبو حاتم: كان كثير ~~الوهم، وشريك بن عبد الله القاضي في حديثه لين. # وإن ms0719 صح هذا الحديث فإنه إنما ضحى عنه - صلى الله عليه وسلم - بإذنه، وهذا ~~جائز ولو لم يرد هذا الحديث، فإن الميت إذا أوصى أن يضحى عنه كان كما لو ~~أوصى أن يحج عنه، فإن الأضحية عبادة بدنية مالية كالحج عنه، ولو وصى ~~بالصدقة عنه جار بإجماع المسلمين، بل PageV04P255 # هذا الحديث إن صح فقد يستدل به على أنهم لم يكونوا يفعلون عنه عبادة إلا ~~بإذنه، ولو كان مشروعا عندهم التضحية عنه بدون إذنه لما أنكر ذلك على علي، ~~ولبين علي أنه يشرع هذا وغيره من الأعمال عنه بغير إذنه. # وأما احتجاجه بحديث أبي بن كعب الذي فيه "أجعل صلاتي كلها لك، قال: إذا ~~تكفى همك ويغفر ذنبك"، فيقال له: ليس حملك هذا الحديث على صلاته المتطوعة ~~بأولى من حمل غيرك له على الدعاء، إذ قد سلمت أنه ليس المراد به الصلاة ~~الواجبة ذات الركوع والسجود، فيقال له: كما لم يدخل هذه الصلاة فلا يدخل ما ~~كان من جنسها وهو التطوع، فإنهما من جنس واحد، ولم يعرف أن في السنة أن ~~يكون جميع ما يتطوع به العبد من الصلاة لغيره، كما لم يعرف مثل ذلك في ~~الصيام والحج. # فإن قيل: يحصل له من أجر الإهداء أكثر من ثواب التطوع، قيل: فسووا ذلك في ~~الفريضة، واجعلوا من المسنون أن يهدي الرجل ثواب فرائضه لبعض الموتى، ويكون ~~ما يحصل من ثواب ذلك أعظم من أجر الفريضة مع أن ذمته بريئة. وقد تقدم أن في ~~إهداء ثواب الفريضة قولين في مذهب أحمد وغيره. # والذين جوزوا ذلك قالوا: الفرض له مقصودان: براءة الذمة باندفاع العقاب، ~~وحصول الأجر والثواب، فأما براءة الذمة وهو الذي امتاز به عن النافلة فلا ~~يمكن إهداؤه، وأما الأجر وهو المشترك بينهما فيمكن إهداؤه، ولا ريب أن ~~الحديث لا يمكن # PageV04P256 # حمله على الصلاة عليه كما ذكر السائل. بقي المفهوم الثالث وهو الدعاء، ~~فإن الصلاة من أهل اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: (وصل عليهم) (1) ، فيكون ~~هذا السائل له دعاء يدعو به لنفسه، فيمكن أن ms0720 يجعل ثلثه دعاء للنبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فالصلاة عليه صلاة، ويمكن أن له شطره، ويمكن أن يكون ~~جميع دعائه دعاء للنبي، مثل أن يصلي عليه بدل دعائه. وقد ثبت (2) أنه من ~~صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، فيكون أجر صلاته كافيا له، ولهذا قال: ~~"يكفي همك ويغفر ذنبك"، أي إنك إنما تطلب زوال سبب الضرر الذي يعقب الهم ~~ويوجب الذنب، فإذا صليت على بدل دعائك حصل مقصودك، وهذا معنى مناسب، فإنه ~~قد ثبت (3) أن من دعا لأخيه بظهر الغيب بدعوة قال الملك الموكل به: آمين، ~~ولك بمثل. وثبت عنه (4) أنه قال: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون ~~أخيه"، فإذا كان بدل دعائه لنفسه يدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - حصل له ~~أعظم مما كان يطلب لنفسه. # واحتجاجه بحديث الدارقطني يقال له: إنما في الحديث فعل العبادات عن ~~الوالدين، وهذا في العبادات المالية متفق عليه بين الأئمة، وإنما تنازعوا ~~في النذر، وقد ذكر مسلم في صحيحه (5) عن PageV04P257 # أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: الحديث الذي جاء في ~~البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، قال فقال عبد ~~الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث شهاب بن خراش، قال ثقة، قال: ~~عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: يا أبا إسحاق! إن بين الحجاج بن دينار ورسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي. وليس في الصدقة خلاف. # ولو احتج في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند أحمد (1) عن ~~عبد الله بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأن ~~هشام بن العاص نحر حصته خمسين، وأن عمرا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~عن ذلك فقال: "أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك". وقد ~~رواه أبو داود (2) ، ولفظه: "لو ms0721 كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو ~~حججتم عنه نفعه ذلك". وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية. # وقد احتج بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما بأحاديث رويت ~~فيمن مر على القبور فقرأ كذا وكذا، و ### | ليس فيها ما يعتمد عليها في إثبات الأحكام الشرعية. # وقد قدمنا أنه ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها أن الولي ~~يصوم عن الميت الصوم الذي نذره كما يحج عنه، وقد جاء ذكرهما في حديث صحيح ~~PageV04P258 # رواه مسلم (1) وغيره عن بريدة بن الحصيب أن امرأة أتت النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفيجزئ أو يقضي أن أصوم ~~عنها؟ قال: "نعم"، وفي رواية: وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها"، ~~قالت: يا رسول الله! إنها لم تحج، فقال؟ "حجي عنها". # ولا يقال: هذا مختص بالولد، ففي الصحيحين (2) عن ابن عباس: أن امرأة جاءت ~~إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين ~~متتابعين، قال: "أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟ " قالت: نعم، قال: ~~"فحق الله أحق". وفي رواية (3) : أن امرأة ركبت في البحر، فنذرت إن نجاها ~~الله أن تصوم شهرا، فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك، فقال: "صومي عنها". # وأيضا فقوله في الحديث الصحيح: "صام عنه وليه" يتناول الولد وغيره ممن ~~يكون وليا للميت، فلا يجوز أن يقال: الحكم مختص بالولد. # وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (4) : "إذا مات ابن ~~آدم PageV04P259 # انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو ~~له". فهنا خص الولد بالذكر لأنه استثناه من عمل الميت، وولده من كسبه، كما ~~قال تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب (2)) (1) وإن ولده من كسبه. وقد قال ~~- صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال له: إن أبي أراد أن يجتاح مالي، ~~فقال: "أنت ومالك لأبيك" (2) . وقد قال تعالى ms0722: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب ~~لمن يشاء الذكور (49)) (3) ، فجعل الولد موهوبا للوالد، فجعل بيت الولد بيت ~~الرجل في قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم) ~~(4) ولم يذكر بيوت الأولاد، لأن بيت ولدك بيتك، وهذا الحكم مختص بالأب فإنه ~~المولود له، كما قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (5) ~~. # فلما كان الولد من كسب الوالد استثناه من عمله المنقطع، كما استثنى ما ~~ينفق من الصدقة والعلم النافع، وهذا مما احتج به من يقول: إن مال الابن ~~للوالد بمنزلة المباح، فيهلك منه ما لا يضر بولده. وهذا الحديث لا يدل على ~~أن غير الولد لا ينفع دعاؤه PageV04P260 # للميت، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. إذ هم متفقون على أن الدعاء والصلاة ~~على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أو من غير ولده، فهذا بيان أن ~~الحكم لا يختص بالولد أن ذلك لوجوب حقهما، فلا حاجة إلى تعليل ذلك بوجوب ~~حقهما. # وأما جوابه لمن قال له: "النبي قد دعا إلى كل خير، فله أجر من اتبعه " ~~بأن الواحديه لله حق ثابت، وكل شيء له، ونحن نتقرب إليه بشق تمرة -فهذا مثل ~~ضعيف، وذلك أن الأشياء كلها لته ملك له، إذ هو خالقها وربها ومليكها، وله ~~أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وهذا الملك لا يتعلق به ثواب ~~العباد ولا عقابهم ولا وعدهم ولا وعيدهم، فإن هذا حكم ربوبيته الشاملة ~~وقدرته الكاملة، التي تتناول المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأما تقرب ~~العباد إليه فهو بالفعل الذي يحبه ويرضاه لهم، وهذا مما افترقوا فيه. فبعض ~~العباد آمن به وعبده وأطاعه وفعل ما يحبه ويرضاه، وبعضهم كفر به وفسق وعصى، ~~وكلاهما يتناوله حكم ربوبيته وقضائه وقدره، والذي يتقرب إليه بشق تمرة إذا ~~أقرضه قرضا حسنا لم يدخل في ملكه ما لم يكن فيه، بل جميع ما بذله بل هو ~~وفعله وقدرته داخل في ملك الرب وقدرته، سواء كان المبذول من رضاه أو سخطه، ~~لكن ببذله في الجهة التي يحبها ويرضاها ms0723 صار العبد مستوجبا لما وعده في تلك ~~الجهة، كما أن حركات بدنه هي مخلوقة له على كل حال، فإن كانت حركة يحبها ~~ويرضاها أثابه عليها، وإن كانت حركة يكرهها ويسخطها عاقبه عليها، وهذا ~~يتعلق بحكم إلهيته وأمره الديني الشرعي الذي هو # PageV04P261 # الفارق بين أوليائه وأعدائه. قال تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ~~(35)) (1) ، وقال تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ~~آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21)) (2) ، وقال ~~تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل ~~المتقين كالفجار (28)) (3) . والأول يتعلق بحكم ربوبيته وأمره الكوني ~~الشامل لوليه وعدوه، كما قال: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على ~~صراط مستقيم (56)) (4) . # وقد بسطنا الكلام على هذا المقام الذي ضلت فيه أمم من الأنام، وبينا ~~الفرق بين كلماته الدينية والكونية، وإرادته الكونية والدينية، وإذنه ~~الكوني والديني، وكذلك حكمه، وأمره، وتحريمه، وبعثه، وإرساله، والفرق بين ~~الحقيقة الكونية التي يقر بها المشركون وهي الحقيقة القدرية، وبين الحقيقة ~~الدينية الحي يختص بها المؤمنون، وكيف اشتبه على كثير من الخائضين في ~~الحقيقة هذا الباب بهذا الباب، حتى لم يفرقوا بين الهدى والضلال، والرشاد ~~والغي، والخطأ والصواب، بل آل الأمر بكثير منهم إلى أنهم لم يفرقوا بين ~~الخالق والمخلوق، حتى دخلوا في الحلول والاتحاد الذي هو من أعظم الكفر ~~وأكبر الالحاد، فالأشياء PageV04P262 # التي هي لله إذا جعلناها له وتقربنا بها إليه بحكم ربوبيته، فليست هذه ~~الإضافة تلك الإضافة، فإن تلك الإضافة إضافته بحكم ربوبيته، وهذه إضافة ~~إليه بحكم ألوهيته، كما أن لفظ العبد يعني به المعبد، فجميع الخلق عباد ~~الله بهذا الاعتبار حتى الكفار والفجار، قال تعالى: (إن كل من في السماوات ~~والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93)) (1) ، وقد يعني به العابد، فيختص به ~~المؤمنين الأبرار، كما قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (2) ، ~~وقال الشيطان: (ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40)) (3) ، ~~وقال: (عينا يشرب بها عباد الله) (4) ، وقال: (وعباد الرحمن الذين يمشون ~~على الأرض هونا) (5) ، وقال: (سبحان الذي أسرى ms0724 بعبده ليلا) (6) ، وقال: ~~(فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)) (7) . # وبهذا يظهر الفرق بين قوله: (وطهر بيتي) (8) وقوله: (ناقة الله وسقياها ~~(13)) (9) ، وبين سائر البيوت والنوق، فإن سائر البيوت PageV04P263 # والنوق وإن كانت ملكا لله لكن ليست محل عبادته وطاعته والصلاة عليه، ~~كالمساجد التي هي بيوت عبادته، لا سيما المسجد الحرام الذي هو بيت الطواف ~~ببيته والعكوف وتضعيف [الأجر فيه] ، فالإضافة العامة بحكم الربوبية ~~الخلقية، وهذه الإضافة الخاصة بحكم الألوهية الأمرية. وكذلك الناقة التي ~~جعلها آية له وجعلها من شعائره وحرماته التي يجب تعظيمها، فالفرق بين هذا ~~البيت وبيت الكنيسة مثلا كالفرق بين المؤمن الذي هو عبد الله والكافر الذي ~~هو خلقه، وهو معبد له وإن كان لا يعبده، وكذلك قوله عز وجل: (يسألونك عن ~~الأنفال قل الأنفال لله والرسول) (1) ، وقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء ~~فأن لله خمسه وللرسول) (2) ، فإضافة الأنفال والخمس إليه كالإضافة العامة ~~الثابتة لكل مخلوق، كقوله: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) (3) . بل ~~هذه الإضافة بحكم أمره ودينه الذي بعث به رسوله، ولهذا قرن هذا بالرسول، ~~فإن أمره الذي أمر به ما يحبه ويرضاه هو ما جاء به الرسول، وهذه الأموال ~~الشرعية التي يحكم بها بأمر الله ورسوله ليست كالأموال التي ملكها لعباده. # ولهم أن يفعلوا فيها ما أحبوا إذا لم يكن محرما، ولهذا قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: "إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع ~~حيث أمرت" (4) . PageV04P264 # وهذا باب قد نبهنا على أصله، وبينا الفرق بين النوعين، وإذا كان كذلك ظهر ~~ضعف القياس الذي قاسه، وتبين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل ~~المؤمن من أمته عملا فله مثل أجره، فإذا أهدى له ثوابه فإنما أهدى له مثل ~~ما حصل للرسول سواء بسواء، وهما من جنس واحد ومقدار واحد، وإنما ملكه الرب ~~لعباده إذا أنفقوه في طاعته، فليس كونه أنفق حيث يحبه ويرضاه مثل كونه ~~مملوكا ملكا قدره وقضاه. # يبين هذا أن الله سبحانه هو يملك الأموال المحرمة في الشريعة، فالظالم ~~والغاضب ms0725 إذا أخذ مالا فالله هو أيضا مالكه، وقد ملكه إياه قدرا لا شرعا ~~ودينا، ولو أنفق منه لم يتقبل الله منه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ~~"إن الله لا يتقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" رواه مسلم (1) وغيره، ~~فالنفقة المقبولة لابد أن تكون من مال أذن في إنفاقه شرعا، لا يكفي الإذن ~~القدري الكوني، واسم الرزق في كتاب الله يراد به ما ملك شرعا ويراد به ما ~~يتنعم به الحي، فالأول يختص بالحلال، والثاني يتناول كل ما ينتفع به ~~الحيوان وإن [كان] مما لا يملك كالبهائم، وإن كان حراما، فالأول كقوله ~~(ومما رزقناهم ينفقون (3)) (2) ، والثاني كقوله: (وما من دابة في الأرض إلا ~~على الله رزقها) (3) . والقدرية منعوا أن يكون الحرام مرزوقا PageV04P265 # بناء على أصلهم في أن الله لم يخلق أفعال العباد، فتناول العبد له ليس ~~عندهم مقدورا لله، ولا هو ملكه إياه، وهو قول باطل. # فإن قيل ما ذكره المعترض عليه -من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - له ~~مثل # أجور أمته، فلا حاجة إلى الإهداء- ضعيف من وجهين: # أحدهما: أن الابن من كسب أبيه، ودعاؤه مستثنى من عمله المنقطع، ومع هذا ~~فالابن يتصدق عن أبيه بالسنة والإجماع، وكذلك يحج عنه، بل ويصوم عنه، ~~بالسنة الصحيحة. # الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حصل له مثل أجر العالم من ~~أبيه أمكن أن يحصل له مثل ذلك أيضا بطريق الإهداء إليه، فلا منافاة بين ~~الأمرين. # قيل عن الأول من وجهين: # أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل للأب مثل عمل جميع ~~أمته، ولا يعلم دليلا على ذلك، وإنما جعل ما يدعوه الابن له من عمله الذي ~~لا ينقطع، بخلاف الداعي إلى هدى كان له، حصل له مثل أجر المدعو، وهذا الفرق ~~ظاهر، وهو أن الداعي إلى هدى أراد إرادة جازمة فعل ذلك الهدى بحسب قدرته، ~~وهو لم يقدر إلا على الأمر به والدعاء إليه، ومن أراد عملا إرادة جازمة ~~وعمل منه ما يقدر عليه كان ms0726 بمنزلة العامل له، كما قد بسطنا هذه المسألة في ~~غير هذا الموضع، وبينا فصل الخطاب فيما تنازع الناس فيه من الإرادة ونحوها ~~من أعمال القلوب إذا لم يدربه من عمل الجوارح، هل # PageV04P266 # يترتب عليه عقاب أم لا؟ فمن الناس من جزم بالأول، ومنهم من جزم بالثاني، ~~وقد يحكى ذلك إجماعا. # واحتج هؤلاء بأحاديث الهم (1) ونحوها، وهؤلاء بقوله؟ "إنه أراد قتل ~~صاحبه" (2) ، وقوله: "فهما في الأجر سواء" (3) ونحوهما. # وقد بينا أن الإرادة الجازمة لابد أن يدربها من عمل الجوارح ما يقدر عليه ~~العبد، وحينئذ فيترتب عليها العقاب، كالذي يهم بالذي يتمنى وينظر، ويفعل ~~بعض المحرمات ويترك الباقي عجزا، كالذي أراد قتل أخيه بذل مقدوره في قتله ~~حتى قتل، بخلاف من هم ولم يفعل مقدوره كالذي هم بسيئة ولم يفعلها أصلا، ~~فهذا لا تكون إرادته جازمة. وكذلك قوله: "فهما في الأجر سواء، وهما في ~~الوزر سواء"، لأن كلا منهما قال بلسانه: لو أن لي مثل ما لفلان لفعلت فيه ~~مثل ما فعل، فلما أراد إرادة جازمة وفعل مقدوره صار كالفاعل. # والله تعالى في كتابه ذكر الفعل، وذكر ما يتولد عنه، وجعله من عمل العبد، ~~كما في قوله: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا ~~يطأون موطئا يغيظ PageV04P267 # الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع ~~أجر المحسنين) (1) ، فهذه الأمور لم يفعلوها، ثم قال: (ولا ينفقون نفقة ~~صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب) (2) ، فالإنفاق وقطع الوادي نفس ~~عملهم، فكتب، وما تقدم أثر عملهم الصالح، فكتب لهم به عمل صالح، كدعاء ~~الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد ~~هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب، وأما الداعي إلى الهدى فهو قصد هدى ~~المدعوين ولم يفعلوا ما أمرهم به، وبذل مقدوره في فعلهم، فصار قاصدا للفعل ~~عاملا ما يقدر عليه في حصوله، فله أجر الفاعل، وكذلك من سن سنة حسنة ومن سن ms0727 ~~سنة سيئة، والبيان للفعل الذي هو رسمه ليحتذى، فهو يقصد أن يتبع فيه. # فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول ~~من سن القتل". وهو لم يقصد أن يقتل كل قاتل. # قيل: هو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هنا إن عليه مثل ألم كل قاتل، بل ~~قال: "عليه كفل من دمها"، لأن ذلك من أثر فعله، كما كتب ابتداء بهذا الفعل، ~~وقد قال تعالى في حق أئمة الكفر: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا ~~سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم PageV04P268 # من شيء إنهم لكاذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن ~~يوم القيامة عما كانوا يفترون (13)) (1) ، وقال: (ليحملوا أوزارهم كاملة ~~يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) (2) . فما تولد عن فعل ~~العبد يحصل له منه ثواب وعقاب وإن لم يقصده، ولكن حصول مثل أجر العامل فرع ~~أخص من ذلك. # الجواب الثاني، وهو من الوجه الثاني بأن يقال: إذا كان النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - يحصل له مثل أجر العامل، فأهدى له العامل عملا، فلابد أن يثاب ~~العامل على إهدائه، فيكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل إهداء الثواب ~~أيضا، فإهداء هذا الثواب إن جوز لزم التسلسل، وإن لم يجوز فما الفرق بين ~~عمل وعمل؟ بخلاف الولد إذا بر والده بدعاء أو صدقة عنه أو نحو ذلك، فإن ~~الله يثيب الولد على ذلك، ولا يلزم أن يحصل للوالد مثل أجر الابن وإحسانه ~~إلى أبيه، لأن الأب لم يدعه إلى هذا الإحسان. ولا يلزم من صلى منا أو سلم ~~عليه بأن الله يصلي على المصلي عشرا، ويسلم على المسلم عشرا، ويحصل للرسول ~~مثل ذلك لدعائه إلى هذا الهدى، ولا يفضي إلى هذا التسلسل، فإن هذا الأجر ~~ليس من عمل المصلي، بخلاف ما إذا أهدى الثواب، فإن إهداء الثواب عمل فيلزم ~~أن يحصل له مثله، فإن جوزنا أن يهدى ms0728 ثواب الإهداء لزم التسلسل. فنحن بين ~~أمرين: إما أن نقول: يهدى إليه عمل، فيلزم أن يهدى إليه ثواب الإهداء، ~~PageV04P269 # وهلم جرا، [وهذا] يلزم التسلسل. أو نقول: لا يهدى إليه، بل ما حصل له من ~~الأجر المساوي لأجر العامل هو غاية المقصود، وعلى هذا لا يحصل التسلسل. ~~وعلى هذا فيقال: لا يهدى إلى من له مثل ثواب العامل كالنبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وكالمعلم للخير من الشيوخ ونحو ذلك، وهذا موافق لطريقة السلف في ~~كونهم لم يكونوا يهدون لمثل هؤلاء لا ثواب العبادات البدنية ولا المالية. # وأما تضحية علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن صح ذلك فإنه كان ~~بإذنه، كما لو وصى بصدقة وغيرها فإنها تنفذ باتفاق المسلمين، فإن الوصي ~~بمنزلة الوكيل في ذلك، والموصي هو العامل لذلك في الحقيقة، كالمستنيب في ~~إيتاء الزكاة وفي ذبح الأضحية وغير ذلك، فليس هذا من هذا، وإنما كانوا ~~يدعون لهم. # ولكن يقال: هب أن هذا مستقيم فيما يعمله الإنسان لنفسه من الفرائض ~~والنوافل، فإذا أنشأ عملا آخر ليجعل ثوابه لهم فما المانع من ذلك من ~~العبادات البدنية والمالية؟ وهلا كان السلف يتصدقون ويحجون ويعتمرون ~~ويذبحون عن أئمتهم الذين علموهم الدين؟ # وسيد هؤلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الصدقة عن الموتى ~~ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين. # فيقال: الجواب عن هذا هو الجواب عن الأول، وذلك أنهم إذا أهدوا لهم ثواب ~~عمل وجب أن يكون لهؤلاء أجر على هذا الإهداء، وأن يكون لمن دعاهم إلى هذا ~~الخير وعلمهم إياه مثل أجرهم كلى ذلك، وهذا الداعي إلى الخير عنى أن يهدى ~~إليه ثواب # PageV04P270 # العمل، فلم يبق في الإهداء فائدة، بل فيه إخراج العامل الثواب عن نفسه من ~~غير فائدة تحصل لغيره، إذ العامل يثيبه الله على عمله، ويعطي من دعاه إليه ~~مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا، فإذا أهداه وبذل ثوابه لغيره فإن لم ~~يثب على هذا الإهداء بمثل ثواب العمل كان ذلك ضررا في حقه، من غير منفعة ~~حصلت ms0729 للمهدى إليه، لأن هذا العامل فاته ثواب العمل أو كمال الثواب، وذلك ~~المهدى إليه كان قد حصل له مثل هذا الثواب، فلم يحتج إليه. ولو قدرنا أنه ~~يحصل له ثوابه مرتين فلا ثواب يبقى لهذا، فالله تعالى لا يأمر بمثل هذا ولا ~~يشرعه، ولا يأمر أحدا أن ينفع غيره في الآخرة بغير منفعة تحصل له لا في ~~الدنيا ولا في الآخرة، بل الله تعالى إنما يأمر بالإحسان لأنه يجزي ~~المحسنين على إحسانهم، والجزاء من جنس العمل، كما قال - صلى الله عليه وسلم ~~- في الحديث الصحيح (1) : "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه ~~كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا ~~والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ~~ما كان العبد في عون أخيه"، وقال (2) : "من صلى علي مرة صلى الله عليه ~~عشرا"، وقال (3) : "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله ~~به ملكا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال PageV04P271 # الملك الموكل: آمين، ولك بمثل". والأحاديث في ذلك كثيرة. # وإن قيل: إنه يثاب على هذا الإهداء مثل ثواب العمل لزم أن يكون لمعلمه ~~مثل ذلك ولزم التسلسل، فصار الأمر دائرا بين ضرر العامل -والله لا يأمر به- ~~وبين التسلسل في الجزاء على العمل الواحد، وهو ممتنع، فلهذا لم يشرع مثل ~~ذلك. # فإن قيل: فهذا ينقض بدعائه لمن دعاه وعلمه ونحو ذلك. # قيل: هذا ونحوه من باب المكافأة، كما في الحديث (1) : "من أسدى إليكم ~~معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه". وقد ~~قال تعالى: (هل جزاء الأحسان إلا الأحسان (60)) (2) . وهم إذا كافأوا ~~المحسن بالدعاء انتفع بدعائهم له، وحصل لهم ثواب المكافأة، فحصل له مثل ~~ثوابهم على المكافأة التي دعاهم إليها فلم يتضرر، وإن لم يتسلسل الأمر بل ~~يكون فعلهم المكافأة له لفعله المكافأة لغيره وسائر ما يعملونه من العدل ~~والإحسان الذي دعاهم إليه. # ولهذا جاءت الشريعة في حق نبينا ms0730 - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه ~~والتسليم وسؤال الوسيلة له - صلى الله عليه وسلم - تسليما، فنحن إذا صلينا ~~عليه أثبنا على صلاتنا عليه، وله مثل ذلك الأجر لكونه هدانا إلى ذلك، وذلك ~~من PageV04P272 # المنفعة التي حصلت له بالدعاء. وبهذا تزول شبه تعرض في هذا الموضع، فإن ~~قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا" يوهم ~~أنه يحصل للمصلي أكثر ما يحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثلها، من جهة ~~كونه دعاه إلى هذا الخير لا من جهة صلاة العبد، ويحصل بصلاة العبد أيضا ما ~~جعله الله لذلك. # فقد ظهر الفرق بين هذا وبين إهدائه لوالديه ونحوهم، كما أمر النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - سعد بن عبادة بالصدقة عن أمه ولم يكن واجبا عليها، إذا ~~ثبت بالسنة أنه يفعل عن الوالد الواجب وغير الواجب، فقد ظهر الفرق من ~~وجهين: # أحدهما: أنه لم يثبت أن كل عمل يعمله الولد يكون لأمه أو لأبيه مثل أجره، ~~وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ~~ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) . وفي الحديث ~~الآخر: "إن الرجل إذا قرأ القرآن فإنه يكسى والداه من حلل الجنة" (2) ، ~~ويقال: بأخذ ولدكما القرآن"، ونحو ذلك مما فيه أن الوالد يحصل له نفع وثواب ~~بعمل ولده، لكن لا يجب أن يكون مثله، ولو كان لكل والد من عمل أولاده لكان ~~لآدم PageV04P273 # من أعمال الأنبياء من ذريته، وكذلك نوح وغيره، وليس كذلك، بخلاف الداعي ~~إلى الخير كنبينا - صلى الله عليه وسلم -، فإن له مثل أعمال أمته التي ~~دعاهم إليها، فأجر المعلم الداعي للخير مثل أجر المدعو العامل، بخلاف ~~الوالد والولد، ولهذا حق النبي وخلفائه في دعوته على المدعوين والمعلمين ~~أعظم من حقوق الآباء، كما قال تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ~~وأزواجه أمهاتهم) (1) ، وفي القراءة الأخرى: "وهو أب لهم" (2) . # وقد تكلم الناس في هذا المقام بكلام كثير، قالوا: هذا هو الأب الروحاني، ~~وهذا ms0731 هو الأب الجثماني، وهذا هو سبب للسعادة الأبدية من الدار الآخرة، وهذا ~~سبب لوجوده في الدنيا. وبالجملة فالداعي إلى الخير قصد أن يعمل المدعو ذلك ~~الخير، وسعى في ذلك بحسب وسعه، فهو قد قصد العمل الصالح الذي فعله المدعو، ~~أو قصد نفع المدعو، وأما الوالد فقد يقصد هذا وقد لا يقصده، ولو قصده ~~بالدعوة إلى حصول المدعو أقرب من نفس وجود الولد إلى حصول سعادته، فإنها هي ~~السبب القريب ووجود السبب البعيد، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه إن يطع معلمه ~~الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بما أمره الله به ورسوله، ولا يجوز له أن يطيع ~~أباه في مخالفة هذا الداعي، بل طاعة هذا الداعي طاعة لله ورسوله، وطاعة ~~الوالد لمخالفة هذا الداعي طاعة PageV04P274 # للشيطان، قال تعالى: (ووصينا الأنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ~~وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير، وإن جاهداك على أن تشرك ~~بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من ~~أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) (1) ، فوصاه سبحانه ~~بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جاهداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما ~~لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمر مع ذلك فصاحبهما في الدنيا معروفا، ~~وأمره باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيل أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين ~~المتقين، أهل طاعة الله ورسوله. فالداعي إلى هذا السبيل هو أمر بما أمره ~~الله به، فيجب عليه طاعته، فإذا أطاعه كان للداعي بمثل أجره. أما الوالد ~~فيصاحبه في الدنيا معروفا ويحسن إليه، وإن من يجب عليك طاعته إلي من تؤمر ~~بمعاشرته بالمعروف والإحسان إليه وتنهى عن طاعته إذا خالف الأول، فهذا ~~المعلم فأجره أعظم وطاعته أوجب. وأما الوالد فلا يستحق مثل أجر الولد إذا ~~لم يدعه إلى ما عمله، فيكون في الإهداء إليه تحصيل أجر لم يحصل له مثله. # وظهر الفرق الثاني، وهو أنه إذا لم يستحق مثل أجره أمكن أن يهدي إليه ~~الثواب، ويثاب الولد على ms0732 برهما بذلك، فيكون له مثل أجر بره لهما، فلا يفضي ~~ذلك إلى التسلسل في ثواب العمل الواحد، ولا إلى تضرر الولد، فلهذا كان ~~مشروعا مسنونا، ولو قدر أن المعلم كان والدا، وعلم ولده الخير كله، كان له ~~مثل أجر عمل PageV04P275 # الولد من حيث هو معلم، وله أجر بعمله الصالح، وإن لم يكن مثل أجر الوالد، ~~والولد إذا تصدق عن هذا من حيث هو والده كان هذا أيضا مشروعا لما تقدم. # وتبين بهذا الجواب عن الوجه الثاني، وهو قوله "يمكن حصول الثواب للنبي - ~~صلى الله عليه وسلم - مرتين" بوجهين أيضا، أحدهما: أن ذلك يفضي إلى ~~التسلسل، إذا كان للعامل بإهدائه مثل أجره وإن لم يكن له أجر، فقد تبين بما ~~ذكرناه ما يعلم به جواب السؤال. # وقول القائل "حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب من حق الوالد" كلام ~~صحيح، إذ حقه بوجوب طاعته، فله بمثل أجرها بخلاف الوالد كما تقدم. # وأما أزواجه أمهات المؤمنين فلهن من الاحترام ما ليس لأم الوالدة، ويحرم ~~نكاحهن كما يحرم نكاح أم الولادة، لكن أم الولادة ذات محرم يجوز الخلوة بها ~~والنظر إليها والسفر معها، كما يجوز لسائر ذوات المحارم. وأما أمهات ~~المؤمنين فلا يجوز ذلك في حقهن إذ هن أمهات في الحرمة لا في المحرمية. # وأما قول القائل: "هلا فعل ذلك أبو بكر وعمر" فكلام صحيح، وأما قول الآخر ~~"وما يدريك قد فعله علي حين ضحى عنه" فليس بجواب صحيح، فإنا نعلم أنه لم ~~يكن يفعل ذلك لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وتضحية علي إن صح ~~الحديث فيها فإنما فعله بإذنه كما تقدم، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه من باب ~~النيابة عن الوصي، وقد تقدم أن نفس حديث التضحية ما # PageV04P276 # يدل على أنه لا يفعل هذا وأمثاله بغير إذنه، فإن في الحديث أن حنش ~~الصنعاني قال: رأيت عليا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم - وصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه ms0733. فسؤال حنش لعلي ~~دليل على أنه لم يكن من المعروف عندهم أن تفعل العبادات البدنية أو المالية ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجواب علي له بقوله "إن رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - وصاني أن أضحي عنه" دليل على أنه إنما فعل ذلك لأجل ~~الوصية، وأنه لو لم يوصه لم يفعل ذلك. ولو كان هذا ونحوه مما يفعل بوصية ~~وبغير وصية لكان علي يجيب بهذا الجواب أيضا، فإنه يكون أعم فائدة وأقطع ~~لسؤال السائل، لأنه هو الذي نقل أنه وصاه، وأما كون ذلك يفعل عنه فدليل هذا ~~يشترك فيه علي غيره، ثم كان ينتفع بذلك في جميع العبادات أو في العبادات ~~المالية. # وأما قول القائل: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا الناس إلى ~~الهدى والخير كله، وله أجر كل من اتبعه" فكلام صحيح كما تقدم، لكن قد تقدم ~~فساد هذا القياس وبطلان هذا، وتبين أن كونه سبحانه وتعالى مالكا لكل شيء ~~وربه وخالقه لا يستلزم وجود الإيمان والعمل الصالح من العبد إلا بأمره بذلك ~~وبهديه إليه، فإنه سبحانه رب المؤمن والكافر والبر والفاجر، وله الدنيا ~~والآخرة، وهذه الربوبية العامة الشاملة لكل شيء يشترك فيها أولياؤه ~~وأعداؤه، وأهل جنته وناره، وإنما يفترقون في توحيد إلهيته، وهي عبادته وحده ~~لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله، فمن قام بهذا التوحيد والطاعة كان مؤمنا ~~سعيدا، ومن لم يقم بها كان كافرا شقيا، وأنه # PageV04P277 # رب هذا وهذا: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم ~~جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها ~~وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك ~~وما كان عطاء ربك محظورا (20)) (1) . # وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبينا ما وقع من ~~غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين ~~الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقر ~~بها اليهود والنصارى بل المشركون عباد الأصنام، كما ms0734 قال تعالى (ولئن سألتهم ~~من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) (2) ، وقال تعالى: (قل لمن الأرض ومن ~~فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب ~~السماوات السبع ورب العرش العظيم (85) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل ~~من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88) سيقولون ~~لله قل فأنى تسحرون (89)) (3) . # وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم ~~وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم ~~من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفساق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر ~~لمشاهدته الحقيقة الكونية، PageV04P278 # ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي ~~الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة ~~الوجود، فيكون في أول أمره يقول (1) : # الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف # إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف # وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق، ~~والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص، ~~وأمثال ذلك مما قد عرف من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم ~~يقله اليهود ولا النصارى ولا عباد الأصنام، ويدعون أن هذا تحقيق وعرفان ~~وتوحيد. # وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان ~~قد قدره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوون بين الخالق والمخلوق، ~~ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ولهذا يفرق ~~بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين ~~العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي ~~الديني، فالأول كقوله تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن ~~عبدا (93) PageV04P279 # لقد أحصاهم وعدهم عدا (94)) (1) ، والثاني كقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم ~~سلطان) (2) ، وقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) (3) ، ~~وقوله: (عينا يشرب بها عباد ms0735 الله يفجرونها تفجيرا (6)) (4) ، وقوله: (سبحان ~~الذي أسرى بعبده ليلا) (5) ، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) (6) ، (وإن ~~كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) (7) ، (فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)) (8) ~~. # وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية ~~والدينية، كقوله (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (9) ، وقوله: ~~(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا ~~حرجا) (10) ، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث ~~الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب ~~والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية PageV04P280 # القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، ~~والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية. # فإذا عرف هذا فتقرب العباد بفعل ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك مما ~~يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به ~~الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل ~~إنما يحصل من جهة أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب، ~~ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم. # والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك ~~لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر ~~العباد بما أمرهم به حاجة إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، وإنما ~~أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر ~~عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي (1) يقول الله: ~~"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". وفيه: ~~"يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا ~~فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه". # وقد قال سبحانه وتعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (2) ، ~~PageV04P281 # وقال: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (1) ، قال لقمان: (ومن ~~يشكر فإنما يشكر لنفسه) (2) ، وقال ms0736: (ولله على الناس حج البيت من استطاع ~~إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)) (3) . # فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما ~~هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم ~~بالصدقة، وأخبر أن ذلك نصر له، وإقراض منه، فقال تعالى: (إن تنصروا الله ~~ينصركم) (4) ، وقال تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) (5) ، وهم ~~إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن ~~بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى (ولو يشاء الله ~~لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) (6) . # وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه ~~إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا ~~شريك له وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك ويبشره بحكم ربوبيته، فله ~~الحمد في الأولى PageV04P282 # والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو ~~المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا ~~التوحيد أسرار علوية مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات ~~والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع. # فمن سوى بين ... (1) كان من جنس الذين قال فيهم (لقد سمع الله قول الذين ~~قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق) ~~(2) ، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق ~~لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته ~~وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن ~~تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا ~~هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد، ~~ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى ~~الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ~~حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود ms0737 الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل ~~لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في ~~الابتلاء كان الابتلاء رحمة في PageV04P283 # حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديث الذي في صحيح مسلم (1) عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله ~~للمؤمن بقضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء ~~فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له". فالمؤمن الذي من ~~الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرا له، بخلاف من لم يشكر ولم ~~يصبر. # الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على ~~طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته ~~وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده ~~فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد ~~بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه ~~معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين ~~هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم ~~مصلحتها في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن ~~إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء هم ~~أهل النعمة المطلقة المذكورين في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط ~~الذين أنعمت عليهم (7)) (2) ، كما قال تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك ~~مع الذين PageV04P284 # أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (1) . # الوجه الثالث: أن الله سبحانه من عليهم بالثواب على العمل وينعم عليهم ~~بذلك، والعبد إذا عمل لسيده لم ينتظر ثوابا غير ما يستحقه من النفقة عليه. # فهذا القائل الذي قال: "الكون كله له، ونحن نتقرب إليه منه بشق تمرة"، ~~وقاس على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون له مثل أجرنا ويهدي ~~إليه من ذلك ما يهديه، غالط غلطا ms0738 عظيما. بل حقيقة هذا القول يؤدي إلى الكفر ~~العظيم. وإن كان هذا الذي قاله لم يفطن لما يؤدي إليه، حيث جعل حصول الثواب ~~المهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الصدقة التي يتقبلها الله، ~~فجعل وصول ثواب الأعمال إلى المخلوق بمنزلة ما يتقرب به إلى الخالق من صدقة ~~وغيرها، وأين هذا من هذا ### | ؟ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه، # والحاجة والفقر للمخلوق وصف لازم، لا يفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ~~بل العبد محتاج إلى الله من جهة ألوهيته ومن جهة ربوبيته، فهو محتاج إلى أن ~~يعبد الله لا يعبد غيره، ومحتاج إلى أن يستعين بالله لا يستعين بغيره، كما ~~قال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) (2) ، فإن لم يعبده بل عبد غيره ~~أو أعرض عن العبادة خسر الدنيا والآخرة، وإذا وجبه سبحانه على عبادته لكان ~~مخذولا لا يقدر لعبده، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ~~PageV04P285 # ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجأ إلا إليه. # ولهذا قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جعل سرها في الكتب ~~الأربعة، وجعل سر الأربعة في القرآن، وسر القرآن في المغصل، وسر المفصل في ~~الفاتحة، وسر الفاتحة في (إياك نعبد وإياك نستعين) . وهذه هي التي نصفها ~~للرب ونصفها للعبد، فإن العبادة حق لله، كما قال في الصحيحين (1) : إنه - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: ~~الله ورسوله أعلم، قال: "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد ~~على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا ~~يعذبهم". # والكلام في استحقاقه العبادة لها أسرار ليس هذا موضع بسطه، وإذا كان ~~العباد كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما يشاء من الأسباب، ومن ذلك ~~دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض، وإن كان هو سبحانه يثيب الداعي ~~والمحسن، والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، وليس في هذا ~~غضاضة بالأعلى ms0739، فإن الله هو الذي أمر الأدنى بالدعاء كما أمرنا بالصلاة ~~والسلام على خير الخلق، وهو الذي يثيبنا على ذلك بالحسنة عشرا للأمة على ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل لله عليه أكمل المنة والنعم، ونعمة الله ~~عليه أعظم نعمة أنعم بها على مخلوق - صلى الله عليه وسلم -، وما من به ~~علينا من الثواب على الصلاة عليه وسائر أعمالنا فقد من عليه بمثله، لدعائه ~~PageV04P286 # لنا إلى ذلك، مضافا إلى ما من به عليه من أجر عمله. # والخالق سبحانه إذا تقربنا إليه بأن نتصدق على العباد بشق تمرة فذاك ~~إحسان منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا على ذلك، وإذا كان هو يحب ذلك ~~ويرضاه بل يفرح بتوبة التائبين كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فحبه ~~ورضاه وفرحه لمخلوق عليه منه منة، فإنه الذي خلق ذلك كله، بل له النعمة على ~~المخلوق الذي أنعم عليه بذلك. كان - صلى الله عليه وسلم - يقول عقيب الصلاة ~~(1) : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل ~~شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله ~~الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". # ف ### | على العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام، # قال تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين) (2) ، (الحمد لله رب العالمين ~~(2)) (3) فالخالق سبحانه ليس محتاجا إلى المخلوق بوجه من الوجوه، بل هو ~~الغني عنه، وما أحبه ورضيه وفرح به من أعمال العباد فهو الذي خلقه سواء كان ~~صدقة أو غير صدقة، والمخلوق سواء كان نبيا أو غير نبي هو محتاج إلى ~~الخيرات، والله هو الذي يعينه بأسباب ييسرها، وإذا ساق إليه خيرا على يدي ~~العباد أثاب العباد على ذلك، فما يسوقه على يدي العباد من النفع بصلاتهم ~~عليه وسلامهم PageV04P287 # عليه ومسألتهم له الوسيلة ونحو ذلك هو خالقه، وهو مجازي العباد، والله ~~غني عن كل ما سواه، وهو الخالق لكل ما يحبه ويرضاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ ف ### | من شبه الله ms0740 بخلقه فقد كفر. # ومثل ذلك مثل المشركين والنصارى ومن ضاهاهم من ضلال هذه الأمة الذين ~~يجعلون التقرب إلى الله بمنزلة التقرب إلى الملوك، ويقولون إذا كان المتقرب ~~إلى الملوك يحتاج إلى وسائل ووسائط وشفعاء من خواص الملك، فكذلك المتقرب ~~إلى الله، على هذا بنت الصابئة والنصارى وغيرهم دينهم الفاسد، وهذا أصل ~~عظيم، فإن العباد إنما يحتاجون إلى الوسائط في تبليغ أمر الله ونهيه وخبره، ~~وهو سبحانه قد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله ~~حجة بعد الرسل. وأما وجود الأعمال منهم والثواب على الأعمال فالله خالق ~~ذلك، لا يحتاج فيه إلى رسول، لكنه قد خلقه بأسباب وهو يخلق الأسباب، فالرسل ~~ليسوا أسبابا في خلق ذلك، وإنما هم أسباب في تبليغ الرسالة. # ولهذا قيل لأفضل الرسل: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ~~وهو أعلم بالمهتدين (56)) (1) ، وقال: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي ~~من يضل) (2) ، وقال تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ~~ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي) (3) ، PageV04P288 # (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب ~~لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) (1) ، وأنواع ذلك مما يحقق فيه أنه عبد ~~الله، مطيع لربه، مبلغ لرسالته، وأن الله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ~~ويهدي ويضل. كما كان يقول في دبر الصلوات: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا ~~معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (2) . وكان ما فعله رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - هو أكمل المقامات، وأعلى الدرجات، وهو بذلك سيد ولد ~~آدم، وخير الخلق، وأكرمهم على الله، إذ ليس بين الخالق والمخلوق إلا نسبة ~~العبودية، فمن كانت عبوديته لله أكمل كان عند الله أفضل، (لن يستنكف المسيح ~~أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ~~فسيحشرهم إليه جميعا (172)) (3) ، (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا ~~يملكون مثقال ذرة في ms0741 السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له ~~منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (4) . # فبين أن المخلوق ليس له ملك، ولا شريك في الملك ولا ظهير يعين الملك، بل ~~غايته الشفاعة عند الله، ولكن الشفاعة لا PageV04P289 # تنفع إلا لمن أذن له، (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ، (وكم من ملك في ~~السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) ، ~~(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول ~~وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ~~ارتضى (28)) (1) . # ولهذا كان سيد الشفعاء - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء الخلائق يوم ~~القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر، ثم يطلبونها من نوح، ومن إبراهيم، ~~ثم موسى، ثم من عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم ~~من ذنبه وما تأخر، قال: فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررت ساجدا، فأحمد ~~ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، قل ~~تسمع، وسل تعطه، فأشفع" (2) . فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه. إذا أتى ~~ربه لا يشفع حتى يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله، والثناء عليه، فيأذن له ربه ~~في الشفاعة. # وهذا باب واسع. فإنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق، ~~فجعلوا إهداء الهدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الهدية إلى ~~الله، وكأنهم يتقربون إلى النبي كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه ~~الرب الغني عنهم المجازي لهم على أعمالهم، PageV04P290 # وجعلوا الرب محتاجا إلى عباداتهم، مفتقرا إلى صدقاتهم، وإنهم يبغون ضره ~~ونفعه، وهذا دين المشركين والنصارى، بل المؤمن يعلم أن كل ما يعمله من ~~الخير مع أنبياء الله وأوليائه فإنما يطلب أجره من الله لا منهم، والمؤمنون ~~الذين أولهم أبو بكر الصديق إنما يطلب أجر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم ~~وصدقاتهم من الله لا من - مخلوق، ولله يعملون لا لمخلوق، وقد قال النبي - ~~صلى الله عليه ms0742 وسلم - في الحديث المتفق عليه (1) : "إن أمن الناس علي في ~~صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر ~~خليلا". # قال تعالى: (وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد ~~عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20)) (2) . # وهذه الآية نزلت في الصديق (3) ، وإن كانت متناولة لغيره، فإنه قد يراد ~~بها قطعا، وهي مما استدل به أهل السنة على أنه الأتقى، فيكون أكرم الخلق من ~~هذه الأمة، كقوله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (4) ، قالوا: ولا يجوز أن ~~تكون نزلت في على دونه، لأن عليا عليه السلام كان فقيرا في كفالة النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، كفله لما وقعت بمكة المجاعة، فبعث الله نبيه وعلي ~~عنده صغير في كفالته، فآمن به كما آمنت به خديجة، ولم يكن له مال ينفقه ~~عليه. PageV04P291 # وأما أبو بكر فكان رجلا بالغا موسرا، فأعانه بنفسه وبماله، كما قال - صلى ~~الله عليه وسلم -: "إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر" (1) ، ~~وإن كانت نفقة أبي بكر في سبيل الله، لم تكن في مؤنة النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مستغنيا في نفقة نفسه عن أبي ~~بكر وغيره، ولكن أعانه بالنفقة في سبيل الله، حيث اشترى سبعة يعذبون في ~~الله منهم بلال وغيره، وفعل غير ذلك. # والمقصود هنا أن الأعمال لا تعمل إلا لله، ولا يطلب أجرها إلا من الله، ~~وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم، فالله هو المعبود، والرسل دعوا ~~إلى عبادة الله وطاعتهم، وبينوا أن الجزاء على الله لا عليهم، قال تعالى: ~~(فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40)) (2) ، وقال تعالى: (وإما نرينك بعض ~~الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46)) (3) ~~، وقال: (فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22)) إلى قوله (إن ~~إلينا إيابهم (25) ثم إن علينا حسابهم (26)) (4) . وقال - صلى الله عليه ~~وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا ms0743 ~~رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم ~~وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" (5) . PageV04P292 # وكثير من أهل الجهل والضلال يطلبون جزاء أعمالهم من أولياء الله أو ~~أنبيائه، كأنهم يعبدونهم أو كأنهم عملوا لأجلهم، وإنما هم لهم دعاة وهداة ~~ومرشدون ومعلمون، ومعينون لهم على الخير بحسب ما يمكنهم من دعاء وغير دعاء، ~~يطلبون أجرهم من الله لا ممن دعوه وأعانوه، ولهذا كان كل من الرسل يقول: ~~(وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (109)) (1) وقال:) ~~(قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57)) (2) ، ~~وهذا الاستثناء منقطع، وكذلك الاستثناء في قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا ~~إلا المودة في القربى) (3) . # كما قد فسر ذلك ابن عباس، وحديثه في الصحيحين (4) . # وكذلك من عمل صالحا ينتفعون به من ذكر وأنثى فإنما يطلب أجره من الله، ~~فنحن كل خير نفعله هو ببركة دعوة الرسول لنا إلى الخير، وأجرنا في ذلك على ~~الله لا على غيره، وله مثل أجورنا من الله لا منا، ولهذا أمرنا عند زيارة ~~القبور أن نسلم عليهم وندعو لهم كما نصلي على جنائزهم، ويكون أجرنا في ذلك ~~على الله، لا من صلينا على جنازته ولا على من زرنا قبره، ويكون رغبتنا إلى ~~الله، كما قال تعالى: (فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)) (5) . ~~PageV04P293 # ولكن كثير من أهل الضلال صار يشبه النصارى، فينزل المخلوق بعد موته ~~بمنزلة الخالق، يطلب منه ما يطلب من الخالق، ويتقرب إليه بالهدية وغيرها، ~~يطلب الثواب منه كما يطلب من الخالق، وهذا إنما يفعل بالأنبياء والأولياء ~~بعد موتهم، لأنهم في حياتهم لا يمكنون أحدا من الإشراك بهم، كما قال ~~المسيح: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم ~~شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ~~(117)) (1) ، وقال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ~~والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون ms0744 الله ولكن كونوا ربانيين بما ~~كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة ~~والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) ، فمن اتخذ ~~الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر. # ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الملة الحنيفية كما ~~نعت ذلك في الكتب المتقدمة، وثبت ذلك في الصحيح (3) : "إنا أرسلناك شاهدا ~~ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لست بفظ ولا ~~غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تجزي بالسيئة ~~الحسنة والعفو، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عميا ~~وآذانا صفا وقلوبا غلفا، بأن يقولوا: لا إله إلا الله". PageV04P294 # وفي الصحيح (1) أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطروني كما أطرت ~~النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله". # وفي الصحيح (2) أيضا: أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود ~~والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا، قالت عائشة ولولا ~~ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا". # وفي الصحيح (3) أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون ~~القبور [مساجد] ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي ~~السنن (4) عنه أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تتخذوا قبري عيدا، ~~وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم". # وقد ثبت عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو ~~القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود ~~والنصارى؟ قال: "فمن؟ ". # وقد شرحنا هذا الحديث وتكلمنا على جمل ما وقع في ذلك من مخالفة الصراط ~~المستقيم في غير هذا الموضع (6) . والمقصود PageV04P295 # هنا أن النصارى فيهم إشراك وغلو وابتداع، قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ~~ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها ~~واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (1) ، وقال تعالى: (ورهبانية ~~ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) (2) ، وقال تعالى: (يا ~~أهل الكتاب لا ms0745 تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح ~~عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ~~ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد) (3) ، وقال: ~~(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا ~~من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)) (4) . # فصار في كثير من الضلال في هذه الأمة إشراك وغلو وابتداع، كما أخبر به ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء الذين يعملون العبادات ويهدونها إلى ~~الأنبياء والأولياء بعد موتهم طالبين الأجر من أولئك الذين يهدونها إليهم، ~~كما يطلبون الأجر من الله فيما يتقربون به إليه من الصدقة وغيرها من ~~الأعمال، فيهم إشراك وابتداع وغلو، أما إشراكهم فقد ضاهوا المخلوق بالخالق، ~~وأما ابتداعهم فإن هذا العمل لم يسنه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~ولا خلفاؤه الراشدون. PageV04P296 # وقد ثبت عنه في الصحيحين (1) أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ~~رد". وقال (2) : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، ~~تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ~~ضلالة". والغلو حيث جعلوا في البشر شوبا من الربوبية والإلهية والغنى عن ~~صاحبه إلى زيادة النفع مضاهاة للنصرانية، وهم في تقربهم إلى غير الله ~~بالعبادات والأعمال يشبهون المتوكلين على غير الله المستعينين بغير الله. # والله تعالى له حقوق لا يشركه فيها غيره، ولرسله حقوق لا يشركهم فيها ~~غيرهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق، كما قال تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ~~ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة ~~وأصيلا (9)) (3) ، فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، ~~والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، وقال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش ~~الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (52)) (4) ، فالطاعة لله والرسول، والخشية ~~والتقوى لله وحده، وقال تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا ~~حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)) (5) ، ~~فالإيتاء لله والرسول. كما قال تعالى: (وما آتاكم الرسول ms0746 فخذوه وما ~~PageV04P297 # نهاكم عنه فانتهوا) (1) ، فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما ~~نهى الله عنه، ويأذن فيما أذن الله. قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع ~~الله) (2) ، وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (3) . # وأما التوكل فعلى الله وحده، فلهذا قالوا: حسبنا الله، ولم يقولوا: حسبنا ~~الله ورسوله، كما قالوا: سيؤتينا الله من فضله ورسوله، فإن الحسيب هو ~~الكافي، والله وحده كافي عباده، كما قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده) (4) ~~، وقال تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)) (5) ، ~~أي الله كافيك وكافي المؤمنين المتقين، [هذا] الذي اتفق عليه السلف. ومن ظن ~~أنه معناه "أن الله والمؤمنين يكفونك" فقد غلط غلطا عظيما من وجوه كثيرة في ~~اللغة والتفسير والمعنى، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وهذه القواعد كلها ~~مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا أن الإشراك أن يجعل لله ند فيما ~~يختص به من العبادة أو التوكل، ومن البدعة أن يعبد الله بعبادة لم يدل ~~عليها دليل شرعي. ومن الغلو أن يرفع المخلوق إلى درجة الخالق. PageV04P298 # وأصل الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا ~~نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع. كما قال الفضيل ابن عياض في قوله: ~~(ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (1) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما ~~أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا ~~كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون ~~لله، والصواب أن يكون على السنة، فهذه العبادات التي فيها شرك وغلو ولم ~~تثبت بدليل شرعي، لا هي خالصة لله ولا هي على موافقة السنة، فهي منهي عنها ~~من هذين الوجهين. # وهؤلاء الذين ابتدعوا إهداء العبادات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يجتمع فيهم هذا وهذا، وإن تخلصوا من الإشراك والغلو لم يتخلصوا عن ~~الابتداع، فإن هذا عمل مبتدع لم يقم على استحبابه دليل شرعي. # وقد ms0747 بينا فساد ما احتج به من سوغه، وإنا لم نعلم أحدا من القرون الثلاثة ~~المفضلة فعل مثل هذا. والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد ~~فأخطأ فله أجر، لكن إذا تبين الحق وجب اتباعه. والله أعلم. PageV04P299 # مسألة # فيمن قال: إن إبليس أودع ولده لآدم عليه السلام، وأن آدم طرده مرتين، ~~وبعد الثالثة ذبحه وسلقه، وأكله، فلهذا يجري الشيطان في ابن آدم مجرى الدم. ~~وهل عرض على إبليس أن يسجد عند قبر آدم أو يعرض عليه في القيامة؟ وفي قوله ~~تعالى (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (40)) ~~(1) هل هذا القول عن الكافر خاصة -وهو إبليس- أو عن الكفار؟ # الجواب # أما الحديث المذكور عن آدم عليه السلام فمن أقبح الكذب والبهتان، لا ~~يقوله أحد من العقلاء فضلا عن أهل العلم والإيمان. # ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم والدين، وإنما يروي هذا أو يصدقه أجهل ~~العالمين. # وأكل الشيطان إذا كان من الممكنات هو من أعظم المحرمات، فإن الله تعالى ~~قد حرم الخبائث من الحيوان -كالخنزير وغيره- على آدم وذريته، كما حرم علينا ~~مع ذلك كل ذي ناب من السباع، لأن PageV04P300 # هذه البهائم فيها البغي والعدوان الذي هو وصف الشيطان، فنهى الله تعالى ~~عن أكلها لئلا يصير في أخلاق المسلمين البغي والعدوان الذي هو بعض أوصاف ~~الشيطان. فكيف يأكل الشيطان الذي هو جامع لكل خبيث؟ ولو كان الشيطان مما ~~يؤكل فهل في كل الشيطان إلا شيطان؟ وبالجملة فمثل هذا الكلام يستحق من ~~يقوله أو من يصدقه العقوبة البليغة التي تردعه وأمثاله. # وأما عرض السجود لقبر آدم عليه السلام على إبليس فهذا قد ذكره بعض الناس، ~~لكن ليس له إسناد يعتمد عليه. وأما عرض السجود له على إبليس في الآخرة فلم ~~يذكره أحد مما علمته. # وكلاهما باطل وإن قاله من قاله؛ فإن الله تعالى قد أخبر عن إبليس بما ~~أخبر به من إنظاره وإغوائه الذرية، وقوله: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم ~~أجمعين (85)) (1) ، وأخبر أنه عدو لهم ms0748 بقوله: (أفتتخذونه وذريته أولياء من ~~دوني وهم لكم عدو) (2) ، (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ~~إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)) (3) . وأخبر بما ~~يكون من الشيطان يوم القيامة حيث قال: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله ~~وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم ~~فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني ~~PageV04P301 # كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) (1) . وهذا وأمثاله ~~مما يبين أن الشيطان حقت عليه كلمة العذاب، وقد ظهر ذلك للخلق، ولا يحتاج ~~إلى إعادة ذلك الأمر كما لا يحتاج إعادة الأمر. # وأما قوله: (ويؤم يعض الظالم على يديه) (2) ، (ويقول الكافر يا ليتني كنت ~~ترابا (40)) (3) ، فالكافر اسم جنس، ليس كافرا بعييه، بل قد جاء في الحديث: ~~"إن البهائم يقتص بعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابا" (4) ، فأعيدت ~~البهائم إلى أصلها. وأما إبليس فهو مخلوق من مارج من نار، وذلك لا يناسب ~~عوده إلى التراب. PageV04P302 # مسألة # في رجل قال لزوجته: على الطلاق ما تروحي لبيت أبوك (1) لسنة، فلحت عليه، ~~قال: علي الطلاق ما تروحي لبيت أبوك (1) لسنة، فلحت عليه، قال: علي الطلاق ~~ما تروحي لبيت أبوك (1) لسنة، فجاءت أم الزوجة، فقالت لها: قومي الدار، ~~فقالت: ما أقدر أروح، فغصبتها أمها وأخذتها، وراحت إلى دار أبيها من غير ~~رضي منها ولا إذن الزوج، فهل تقع الثلاث أو واحدة؟ وهل يكون تأثيرا (2) ~~لإكراهها في الخروج بغير رضاها؟ أفتونا مأجورين. # الجواب # الحمد لله. إذا أخرجتها مكرهة ولم تقدر أن تمتنع لم يحنث الحالف، ولو ~~قدرت أن تمتنع، واعتقدت أن الإخراج الذي أخرجته ليس محلوف (3) عليه، فلا ~~تكون مخالفة له به، لم يحنث الحالف أيضا. وأما إذا فعلت المحلوف عليه عالمة ~~فإنه يحنث. PageV04P303 # ثم إن كان نوى بتكرير اليمين توكيدها لم يقع به أكثر من طلقبة، وإن كانت ~~أيمانا ففيه قولان: هل يقع به ثلاث أو واحدة، والأظهر أنه لا ms0749 يقع به إلا ~~واحد، فإنه لو كرر اليمين بالله على فعل واحد لأجزأته كفارة واحدة في أصح ~~القولين. ولكن وقوع الثلاث هو المشهور عن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، ~~وفرقوا بين اليمين (1) بالله وبين الطلاق. والله أعلم. PageV04P304 # فصل # ما ضمن بالعقد الصحيح ضمن بالعقد الفاسد، وما لم يضمن بالعقد الصحيح لم ~~يضمن بالعقد الفاسد. والضمانات ثلاثة ضمانات: # ضمان العقد، كالنكاح والإجارة وما أشبههما. # وضمان اليد، الغصب والخؤنة (1) وما أشبههما. # وضمان الإتلاف. كل من أتلف لغيره بمباشرة أو سبب محرم وما أشبهها. والله ~~أعلم. PageV04P305 ### | مسألة # في رجل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نبيا وآدم بين ~~الماء والطين"، فقال له آخر: هذا ما هو صحيح. # الجواب # الحمد لله. ليس هذا الحديث بصحيح، وليس هو في شيء من كتب المسلمين ~~المعروفة، وإنما الحديث المعروف عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله! ~~متى كنت نبيا؟ وفي لفظ: متى كتبت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (1) . ~~وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إني ~~كنت مكتوبا عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ~~ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها ~~نور أضاءت له قصور الشام" (2) . PageV04P306 # ففي هذه الأحاديث المعروفة عند علماء المسلمين أن الله كتب نبوته وأظهرها ~~بين خلق آدم وبين نفخ الروح فيه، كما ثبت في الصحيح (1) عن عبد الله بن ~~مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهو الصادف المصدوق- ~~أن خلق أحدكم يجمع في بطن أفه أربعين صباحا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون ~~مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه ~~وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. قال: فوالذي نفسي بيده إن ~~أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه ~~الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل ~~النار ms0750، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل ~~أهل الجنة، فيدخل الجنة. # فبين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح أنه بعد أن يخلق الجسد ~~وقبل نفخ الروح يكتب رزق العبد وأجله وعمله وشقي أم سعيد. # وآدم هو أبو البشر، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم، فكتب الله ~~نبوته بعد خلق آدم وقبل نفخ الروح فيه. فأما قول القائل بين الماء والطين" ~~فهذا الكلام باطل، فإن الماء هو بعض الطين، إذ الطين ماء وتراب، ولم يكن ~~آدم قط بين الماء والطين، وإنما كان بين الروح والجسد، وكان - صلى الله ~~عليه وسلم - حينئذ مكتوبا عند الله خاتم النبيين. # وأما تبين ذاته وصفاته وجعل الله له نبيا ورسولا فإنما كان حتى خلقه، ~~ونبأه الله على رأس أربعين سنة، فأول ما أنزل الله عليه PageV04P307 # (اقرأ باسم ربك) (1) ، فكان نبيا، ثم أنزل الله عليه (يا أيها المدثر ~~(1)) (2) . # فكان رسولا. ومن زعم أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل عليه به جبريل فهو ~~ضال مفتر بإجماع المسلمين. وما يروى في هذا الباب من الأحاديث -مثل: أنه ~~كان كوكبا في السماء يرى قبل الخلق، أو نحو ذلك- فهي أحاديث مكذوبة باتفاق ~~علماء المسلمين. والله أعلم. PageV04P308 # مسألة # في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) ~~(1) ، وقوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) الآية (2) ~~، فمن هو في هؤلاء أعلى درجة؟ # الجواب # الحمد لله. أما قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم ~~يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)) فهي تتناول # جميع أولياء الله الفاضل والمفضول، وكل من ذكر في غير هذه الآية من ~~النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهو صنف ممن دخل فيها، وبعض هذه ~~الأصناف أعلى من بعض. # ولا يقال: إن بعض هذه الأصناف أعلى ممن ذكر في الآية، لأن أولئك بعض هذه ~~الجملة، إلا أن يراد أن البعض الذي هو أعلى أصنافها أفضل أهلها. ولا يقال ~~أيضا: إن كل ms0751 من في هذه الآية أفضل ممن ذكر في غيرها، لكن يقال: إن مجموع ~~المذكورين فيها أفضل من بعضهم. PageV04P309 # وأما قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم ~~تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) الآية، فهؤلاء ممن ~~دخل في تلك الآية، وهم من أولياء الله المتقين، وهم أفضل من غيرهم، وقد ~~يكون من له تجارة وبيع لا تلهيه أفضل ممن ليس كذلك، وقد يكون ذلك أفضل من ~~هذا بحسب الإيمان والتقوى، فلذلك قوله: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا ~~الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23)) (1) ~~هذا مدح لهذا الصنف. والصدق في الوفاء واجب على كل مؤمن، وهؤلاء أفضل من ~~غيرهم، وقد يكون بعض من لم يعاهد أفضل من بعض من عاهد، وقد يكون بالعكس. # والله أعلم. PageV04P310 ### | مسألة # في غلام حلف بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان، فأخذه غصبا، واستخدمه ~~بالضرب، فلما ضربه حلف يمينا ثانيا بالطلاق الثلاث أنه ما يخدم، فما الحكم؟ # الجواب # إن أمكنه الامتناع عن الفعل وامتنع فلا حنث عليه، وإن أكره على فعل ~~المحلوف عليه فلا حنث عليه. والله أعلم. # PageV04P311 # مسألة # في رجل صلى صلاة الصبح إماما بسورة المدثر و"لا أقسم بيوم القيامة" في ~~الركعتين، وسبح في الركوع والسجود ما بين سبع تسبيحات إلى عشر، فقال بعض ~~الناس: هذه الصلاة ليست من الشرع ولا يصلى خلفه. فهل يجب على ولي الأمر ~~تعزير من يقول هذا القول واستتابته؟ وما على من ينكر هذه الصلاة؟ أفتونا ~~رحمكم الله أجمعين. # الجواب # الحمد لله. بل هذه الصلاة مشروعة باتفاق أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على ~~أن السنة للإمام أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل، والمفصل من قاف. وقد كان ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر ما بين الستين آية إلى المئة ~~(1) ، وكان يقرأ فيها بقاف ونحوها من السور (2) ، وهي أطول مما ذكر، وقرأ ~~فيها أيضا بالصافات (3) ، PageV04P312 # و"ألم تنزيل" و"هل أتى" (1) ، وبسورة المؤمنين، لكن أدركته سعلة ms0752 في ~~أثنائها (2) ، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (3) . # وكان عمر بن الخطاب يقرأ فيها بيونس ويوسف وهود، وكان عثمان يقرأ بطوال ~~المفصل، وقرأ أبو بكر الصديق مرة فيها بسورة البقرة، فقيل له: كادت الشمس ~~تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. ومثل هذا معروف عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وقد أمرنا باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين ~~فقال: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة ~~الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ~~ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (4) . # وفي السنن (5) أن أنس بن مالك لما صلى خلف عمر بن عبد العزيز قال: ما ~~رأيت أشبه بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاة هذا الفتى، وكان ~~يسبح في الركوع والسجود من عشر تسبيحات. # وفي الصحيحين (6) أن أنس بن مالك قال: لأصلين بكم صلاة رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -، فكان إذا قام من الركوع يقوم حتى يقول القائل: قد نسي، ~~PageV04P313 # وإذا قعد من السجود يقعد حتى يقول القائل مثل هذا. مع أن الركوع والسجود ~~لا ينقص عن ذلك باتفاق المسلمين، بل يكون مثل ذلك أو أطول. # وفي الصحيحين (1) عن البراء بن عازب قال: رمقت الصلاة خلف محمد - صلى ~~الله عليه وسلم -، فكان قيامه فركوعه فاعتداله في الركوع فسجوده فجلوسه بين ~~السجدتين فسجوده فجلوسه ما بين السلام والانصراف قريبا من السواء. وفي ~~رواية: ما خلا القيام والقعود. # وفي الصحيحين (2) عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف ~~الناس صلاة في تمام. فهذا الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من ~~التخفيف الذي أمر به، كما قال: "إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن من ورائه ~~السقيم والكبير وذا الحاجة" (3) . وقال لمعاذ: "أفتان أنت يا معاذ؟ " (4) ~~لما قرأ في العشاء الآخرة بسورة البقرة. فهذا التطويل الذي فعله معاذ ينهى ~~عنه الإمام. # ومن أنكر ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنه ليس من الشرع، ~~فإنه ms0753 يعزر على ذلك تعزيرا يناسب حاله، زجرا له ولأمثاله. والله أعلم. ~~PageV04P314 # مسألة # في رجل إمام مسجد: هل يجوز له أن يكبر أحد خلفه من المؤتمين؟ أو يواضب ~~(1) على السجدة في فجر كل جمعة؟ أو يدعي (2) هو والمؤتمين (3) عقب كل صلاة؟ ~~أفتونا يرحمكم الله ويوفقكم للصواب. # الجواب # الحمد لله. لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي يسمى التبليغ لغير ~~حاجة باتفاق الأئمة، فإن بلالا لم يكن يبلغ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- هو ولا غيره، ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لما مرض النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس مرة وصوته ضعيف، فكان أبو بكر يصلي إلى ~~جنبه يسمع الناس التكبير (4) . فاستدل العلماء بذلك على أنه يشرع التبليغ ~~عند الحاجة، مثل ضعف صوت الإمام ونحو ذلك، فأما بدون الحاجة فاتفقوا على ~~أنه مكروه غير مشروع. PageV04P315 # وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعله على قولين، والنزاع في الصحة معروف في ~~مذهب مالك وأحمد وغيرهما، مع أنه مكروه باتفاق المذاهب كلها. # وأما في دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة جميعا رافعين أصواتهم أو غير ~~رافعين، فهذا ليس من سنة الصلاة الراتبة، [و] لم يكن يفعله النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -. وقد استحسنه طائفة من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في ~~وقت صلاة الفجر وصلاة العصر، لأنه لا صلاة بعدها، وبعض الناس يستحبه في ~~أدبار الخمس. لكن الصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن ذلك ليس من سنة ~~الصلاة، ولا يستحب المداومة عليه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ~~يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر الله عقيب الصلاة ويرغب في ~~ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ثبت في ذلك الأحاديث الصحيحة: حديث ~~المغيرة بن شعبة (1) وعبد الله بن الزبير (2) وغير ذلك. # و ### | الناس في هذه المسألة طرفان ووسط: # منهم من لا يستحب ذكرا ولا دعاء، بل بمجرد انقضاء الصلاة يقوم هو ~~والمأمومون كأنهم فروا من قسورة، وهذا ليس بمستحب. # ومنهم من يدعو هو والمأمومون رافعين أيديهم وأصواتهم. # وهذا أيضا خلاف ms0754 السنة. PageV04P316 # والوسط هو اتباع ما جاءت به السنة من الذكر المشروع عقيب الصلاة، ومكث ~~الإمام يستقبل المأمومين على الوجه المشروع. # لكن إذا دعوا أحيانا لأمر عارض كاستسقاء أو استنصار أو نحو ذلك فلا بأس ~~بذلك، كما أنهم لو قاموا ولم يذكروا لأمر عارض جاز ذلك ولم يكره، وكل ذلك ~~منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . # وقد كان في أكثر الأوقات يستقبل المأمومين بوجهه بعد أن يسلم، وقبل أن ~~يستقبلهم يستغفر ثلاثا ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا ~~الجلال والإكرام" (2) . وكان يجهر بالذكر، كقوله: "لا إله إلا الله وحده لا ~~شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ~~ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (3) . وأحيانا كان يقوم ~~عقيب السلام إذا عرض له أمر، كما قام مرة يخطب خطيبا (4) للناس، وقال: ~~"ذكرت ذهيبة كانت عندنا، فكرهت أن تبيت عندي". # وأما السجدة يوم الجمعة فليست واجبة باتفاق العلماء، ويكره أن يتعمد ~~الرجل سجدة غير "الم تنزيل". وأما قراءة "هل أتى" PageV04P317 # و"الم تنزيل" في فجر الجمعة فقد جاءت الأحاديث (1) بهذه السنة كما جاءت، ~~فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة ~~والمنافقين (2) . لكن لا ينبغي المداومة على ذلك خشية أن يظن الناس أنها ~~واجبة، كما لم يواظب (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - على مثل ذلك، بل كان ~~يقرأ في الجمعة والعيدين سورا متنوعة، لا يلازم شيئا بعينه. # والله أعلم. PageV04P318 # مسألة # في رجل متمسك بأحد المذاهب الأربعة، كمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي ~~وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، وقد نزلت به نازلة في طلاق أو غيره، فاستفتى ~~بعض العلماء، فأفتاه بقول أحد الأئمة المذكورين، فعارضه آخر وقال: من ~~استفتى غير أهل مذهبه فهو زنديق أو نحو هذا الكلام، فهل هذا المنكر مصيب في ~~هذا الإنكار أم مخطئ؟ وهل يجب عليه القتل أو غير ذلك من أنواع التعزير؟ ~~أفتونا رحمكم الله. # الجواب # الحمد لله. بل هذا ms0755 المنكر مخطئ في ذلك باتفاق الأئمة، بل هو آثم في ذلك ~~مستحق للعقوبة التي تزجره وأمثاله عن مثل ذلك، فإن كان يفهم معنى الزنديق ~~وأن الزنديق الكافر، وجعل اتباع المسلم في بعض المسائل لإمام غير إمامه ~~كفرا: فإنه يستتاب من هذا الكلام، فإن تاب وإلا قتل؟ وإن كان يظن أن ~~الزنديق هو العاصي الجاهل الفاسق ونحو ذلك فإنه يعزر على هذا الكلام. # و ### | لا يجب على أحد أن يتبع واحدا بعينه في كل ما يقوله، # وإنما يجب على الناس طاعة الله ورسوله، ومن قال: إنه يجب # PageV04P319 # على الناس طاعة شخص بعينه غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ~~متناقض مخالف لإجماع المسلمين، فإنهم متفقون على أن كل أحد من الناس يؤخذ ~~من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والأئمة الأربعة رضي ~~الله عنهم نهوا الناس أن يقلدوا واحدا بعينه في جميع ما يقوله وإن وجدت ~~الحجة بخلافه. # والذي كرهه العلماء للرجل أن يكون رخيصا يستفتي في كل حادثة بما يكون له ~~فيه رخصة. فأما أخذه في بعض المسائل بقول إمام وفي بعضها بقول إمام مع تحري ~~التقوى فهو جائز عند أئمة الإسلام. والله أعلم. # PageV04P320 # مسألة # في رجل لم يؤدي (1) الصلوات الفرض وتوفي، وخلف ولد صالح، فكان الولد بعد ~~أن يصلي الصلاة المكتوبة عليه يصلي صلوات دائما، ويحتسبها لوالده عن فرضه، ~~فهل يجوز ذلك عن والده ويحتسب له؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله. # الجواب # الحمد لله. أما الفرض فلا يسقط عنه بصلاة غيره، ولكن من مات مؤمنا فإذا ~~صلى عنه ولده أو تصدق عنه أو أعتق عنه أو صام عنه نفعه الله بذلك. وأفضل ~~ذلك الصدقة ونحوها من النفع المتعدي، فإنها تصل إلى المؤمن باتفاق الأئمة. ~~والله أعلم. PageV04P321 # مسألة # في رجل أوقف زاوية قطعة أرض مخللة بنخل، بعضه طازج وبعضه غير طازج، وشرط ~~النظر لشخص من الفقراء، فجاء الحاكم بالناحية، واجر الأرض مدة عشر سنين ~~بدون أجرة المثل. فهل تجوز هذه الإجارة؟ وهل للحاكم أن يؤجر مع وجود ms0756 الناظر ~~الذي شرط له الواقف النظر أم لا؟ أفتونا مأجورين. # الجواب # الحمد لله. إذا كان لها ناظر خاص قائم بالواجب فليس للحاكم أن يؤجرها، ~~ولا يتصرف فيها بدون أمره، لكن [لو] خرج الناظر عما يجب عليه فإن الحاكم ~~يعترض عليه، فيلزمه بالواجب، أو يستبدل به، أو يضم إليه أمينا. وليس للناظر ~~ولا الحاكم أن يؤجرها بدون أجرة المثل. والله أعلم. # PageV04P322 ### | مسألة # متى فرض الصوم والصلاة والزكاة؟ # الجواب # الحمد لله. صوم رمضان فرض من السنة الثانية من الهجرة، وأدرك رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - تسع رمضانات. وأما الصلاة والزكاة فأمر بهما بمكة قبل ~~الهجرة، لكن فرائض الصلاة شرعت بالمدينة. والله أعلم. ### | مسألة # هل يجب للحائض أن تغسل باطن فرجها من الحيض والجنابة؟ # الجواب # الحمد لله. لا يجب على المرأة غسل باطن الفرج من غسل الحيض والجنابة. ~~والله أعلم. # PageV04P323 # مسائل وردت من الصلت # PageV04P325 # مسألة # في الكلب إذا ولغ في طست لبن أو طعام أو شراب، هل يحل أكله أم بيعه أم ~~لا؟ # فأجاب -رضي الله عنه- # إذا كان فيه أثر الولوغ أو كشط وجهه جاز أكله في أحد قولي العلماء. # مسألة # في الفأرة إذا وقعت في سمن أو زيت وهو مائع، هل يحل أكله أم بيعه أم لا؟ # فأجاب -رضي الله عنه- # إذا لم يتغير يلقى وما قرب منها، ويوكل المال ويباع في أظهر قولي ~~العلماء. والله أعلم. # PageV04P327 # مسألة # في رجل يدخل على امرأة أخيه وبنات عمه وبنات خاله، هل يجوز له ذلك أم لا؟ # الجواب # لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره ومن غير خلوة ولا ريبة جاز ~~له ذلك. والله أعلم. ### | مسألة # في التيمم، هل يجوز لأحد أن يصلي به السنن والرواتب والفريضة ويقتصر عليه ~~إلى حين الحدث أم لا؟ # الجواب # نعم، يجوز في أظهر قولي العلماء أن يصلي بالتيمم كما يصلي بالوضوء، فيصلي ~~به الفرض والنفل، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى ~~الروايتين عنه، ولا ينقض التيمم إلا ما ينقض ms0757 الوضوء والقدرة على استعمال ~~الماء. # PageV04P328 ### | سئل # عن رجل يأمر الناس بالصلاة ولم يصل، فماذا يجب عليه؟ # الجواب # من لم يصل فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. والله أعلم. # وسئل أيضا # فيمن يصلي الفرض خلف من يصلي نفلا. # الجواب # يجوز ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى ~~الروايتين عنه. # وسئل أيضا # عن الماء إذا غمس الرجل يده، هل يجوز استعماله أم لا؟ # الجواب # لا ينجس بذلك، بل يجوز استعماله عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي ~~وأحمد، وعنه رواية أخرى أنه يصير مستعملا. # PageV04P329 # وسئل أيضا # عن صلاة التراويح، هل يجوز قبل العشاء أم لا؟ # الجواب # السنة في التراويح أن تصلي بعد عشاء الآخرة. والله أعلم. # وسئل أيضا # عن الرجل يمس المرأة، هل ينتقض الوضوء أم لا؟ # الجواب # إن توضأ من ذلك فحسن، وإن صلى ولم يتوضأ صحت صلاته في أظهر قولي العلماء. # PageV04P330 # و ### | سئل # عن الرجل إذا اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ بعده ولا قبله وصلى بالغسل، ~~فهل يجوز ذلك أم لا؟ # الجواب # نعم، إذا اغتسل للجنابة أجزأته الصلاة بذلك الغسل وإن لم ينوه عند جمهور ~~العلماء. والله تعالى أعلم. # وسئل أيضا # عن الرجل لا يواظب على السنن الرواتب. # الجواب # من أصر على تركها دل ذلك على قلة دينه، وردت بذلك شهادته في مذهب أحمد ~~والشافعي وغيرهما. # وسئل أيضا # فيمن يحلف بالطلاق أنه لا يفعل شيئا، ثم أراد أن يفعله. # الجواب # يجوز أن يفعل ما حلف عليه ويكفر عن يمينه. والله أعلم. # PageV04P331 # وسئل أيضا # في الرعاف هل ينقض الوضوء أم لا؟ # الجواب # إن توضأ منه فهو أفضل، ولا يجب عليه في أظهر قولي العلماء. والله أعلم. # مسألة أيضا # في الفصاد في شهر رمضان، هل يفسد الصوم أم لا؟ # الجواب # إن أمكنه الفصاد بالليل أخره، وإن احتاج إليه لمرض افتصد، وعليه القضاء ~~في أحد قولي العلماء، والله أعلم. # PageV04P332 # وسئل أيضا # في سفر يوم رمضان، هل يجوز له أن يقصر فيه أو يفطر أم لا؟ # الجواب # هذا فيه نزاع ms0758، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في رمضان، كما قصر أهل ~~مكة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة، وعرفة عن المسجد ~~بريد. ولأن السفر مطلق في الكتاب والسنة. # وسئل أيضا عن رجل معه مال من حرام وحلال، فهل يجوز أن يأكل من عيشه أم ~~لا؟ # الجواب # إذا عرف الحرام بعينه لم يؤكل حتما، وإن لم يعرف بعينه لم يحرم الأكل، ~~لكن إذا كثر الحرام كان ترك الأكل ورعا. والله أعلم. # PageV04P333 # مسألة أيضا # في رجل باع متاعا لإنسان تاجر، وكسب عليه، وقسط عليه الثمن، والمديون ~~يطلب السفر ولم يقم له كافلا، فهل لصاحب الدين أن يمنعه من السفر أم لا؟ # الجواب # إن كان حالا وهو قادر على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه، ~~وكذلك إن كان مؤجلا ومحله قبل قدوم المدين، فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق ~~برهن يحفظ المال أو كفيل، وإن كان الدين لا يحل إلا بعد قدوم المدين ففيه ~~نزاع بين العلماء. والله أعلم. # PageV04P334 # وسئل أيضا # عن رجل يعمل عملا يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة ويغرس له أغراس باسمه، ~~ثم يعمل ذنوبا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في ~~الجنة وهو في النار؟ # الجواب # إن تاب من ذنوبه توبة نصوحا فإن الله يغفر له، ولا يحرمه ما كان وعده، بل ~~يعطيه ذلك. وإن لم يتب وزنت حسناته وسيئاته، فإن رجحت حسناته على سيئاته ~~كان من أهل الثواب، وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العذاب، وما أعد ~~له من الثواب يحبط حينئذ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عمل ~~سيئات استحق بها النار ثم عمل بها حسنات تذهب السيئات. والله أعلم. # PageV04P335 ### | مسألة # في رجل استلف من رجل دراهم إلى أجل على غلة، بحكم أنه إذا حل الأجل دفع ~~إليه الغلة بأنقص مما تساوي بخمسة دراهم، فهل يحل أن يتناول ذلك منه على ~~هذه الصفة # أم لا؟ # الجواب # إذا أعطاه عن البيدر كل غرارة بأنقص ms0759 مما يبيعها لغيره بخمسة دراهم ~~وتراضيا بذلك جاز، فإن هذا ليس بقرض، ولكنه سلف بناقص عن السعر بشيء، وقدر ~~هذا بمنزلة أن يبيعه بسعر ما يبيعه الناس أو بزيادة درهم في كل غرارة أو ~~نقص درهم في كل غرارة. # وقد تنازع الناس في جواز البيع بالسعر، وفيه قولان في مذهب أحمد، والأظهر ~~في الدليل أن هذا جائز، وأنه ليس فيه حظر ولا غدر، لأنه لو أبطل مثل هذا ~~العقد لرددناهم إلى قيمة المثل، فقيمة المثل التي تراضوا بها أولى من قيمة ~~بمثل لم يتراضيا بها. # والصواب في مثل هذا العقد أنه صحيح لازم، ولهذا كان الصحيح في النكاح ~~الفاسد أنه يجب فيه المسمى لا مهر المثل، فإنا إذا أوجبنا فيه مهر المثل ~~أوجبنا ما يستحقه نظيرها في النكاح الصحيح أولى مما يستحقه غيرها في النكاح ~~الصحيح، فإنه على التقديرين # PageV04P336 # قد أوجب في الفاسد ما يجب في الصحيح، ولكن على أحد التقديرين قد اعتبر ~~فاسدها بصحيحها، وعلى الآخر اعتبر فاسدها بصحيح غيرها، والأول أولى، وهي في ~~مسألة البيع بالسعر والإجارة بأجرة المثل. ومنهم من قال: إن ذلك لا يلزم، ~~فإذا تراضيا به جاز. والله أعلم. # PageV04P337 ### | مسألة # في رجل فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت، فهل ~~يصلي الفائتة قبل أم لا؟ # الجواب # بل يصلي المغرب مع الإمام ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة، ولكن [هل] يعيد ~~المغرب؟ فيه قولان: أحدهما يعيدها، وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد ~~في المشهور عنه. والثاني: لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس وقول الشافعي ~~والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصح، فإن الله لم يوجب على العبد أن ~~يصلي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع. والله تعالى أعلم. # PageV04P338 ### | مسألة # في رجل خص بعض بناته، فجهزها وملكها بنحو مئتي ألف درهم، وخص بعضهم بوقف ~~بعض ماله عليه، فهل لورثة الواقف فسخ ذلك أم لا؟ # الجواب # الحمد لله، بل يجب عليه العدل بين أولاده كما أمر الله ورسوله، كما ثبت ~~في الصحيح ms0760 (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبشير بن سعد: ~~"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، وقال: "لا تشهدني على جور" (2) ، وأمره ~~أن يرد التفضيل بين أولاده، وإذا مات ولم يعدل فإنه يرد جوره في أظهر قولي ~~العلماء، كما أمر بذلك أبو بكر وعمر في مال سعد بن عبادة. ولسائر الأولاد ~~المظلومين طلب حقهم وفسخ التخصيص الذي فيه ظلمهم، وإعانتهم على إيصال حقهم ~~إليهم من القرب التي يثاب فاعلها. والله تعالى أعلم. PageV04P339 # مسألة # في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هذه القبور التي يزورها الناس ~~اليوم -مثل قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وإلياس واليسع ~~وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق- فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا؟ # الجواب # الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ~~وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره. وأما يونس ~~وإلياس وشعيب وزكريا فلا يعرف [قبورهم] ، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول ~~العامة إنه قبر هود. والله أعلم. # PageV04P340 # مسألة # في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم، وهل يحل لبس جلود ~~الجميع وأكل لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودهم بالدباغ؟ # الجواب # أما لحم الضبع فإنه مباح عند مالك والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ في ~~مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك -في رواية- وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ~~وهو أصح قولي العلماء. وهذا إذا دبغ بعد موته، وأما إذا ذكي ودبغ كان طاهرا ~~في مذاهب الأئمة. # وأما سنور البر والثعلب ففي حلهما قولان، وهما روايتان عند أحمد، أحدهما: ~~يحل، ويكون جلده طاهرا إذا ذكي، وهذا مذهب مالك والشافعي. وعلى هذا القول ~~فإذا مات ودبغ كان طاهرا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. ~~والقول الثاني: إنهما محرمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين ~~عنه، وعلى هذا إذا ذكي كان جلده طاهرا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلده يطهر ~~بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد ms0761، وظاهر مذهبه أنه لا ~~يطهر. # PageV04P341 # وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر ~~بالدباغ. # وأما القول الذي يقوم عليه الدليل فإنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في السنن من وجوه أنه نهى عن جلود السباع (1) ، كما ثبت أنه حرم ~~لحمها (2) . فما ثبت أنه من السباع -كالنمر وابن آوى وابن عرس- فلا يحل ~~لحمه ولا لبس الفراء من جلده، ما لم يكن من السباع المحرمة كالضبع فإنه ~~يؤكل لحمه ويلبس جلده. وأما الثعلب وسنور البر ففيه نزاع. والله أعلم. ~~PageV04P342 ### | مسألة # في لحوم الخيل وألبانها، هل هي مباحة أم لا؟ # الجواب # أما لحم الخيل فهو مباح عند أكثر علماء المسلمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد ~~بن حنبل وطائفة من أصحاب أبي حنيفة -كأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة-، وهو ~~مذهب الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر، وهو قول ~~ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من العبادلة. فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن ~~جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ~~وأذن في لحوم الخيل. وثبت في الصحيحين (2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: ~~نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا فأكلنا لحمها. ولم ~~يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم لحم الخيل في حديث صحيح (3) ~~. PageV04P343 # والقرآن لا يدل على تحريمه، فإن قوله (والخيل والبغال والحمير لتركبوها) ~~(1) امتن الله بها على عباده بما يقصد منها في العادة، ولم يرد بذلك تحريم ~~أكلها، بدليل أن الصحابة بعد نزول هذه الآية أكلوا لحم الحمر يوم خيبر حتى ~~نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآية مكية، فلو كان فيها دليل على ~~التحريم كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم بذلك. وأما الذين نهوا عنها من ~~العلماء كأبي حنيفة فقيل عنه: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه. # وأما ألبانها فإن كانت لا تسكر فهي مباحة كلحمانها، وإن كانت مسكرة فهي ~~حرام. رواه البخاري ومسلم (2) . ولمسلم (3) : "كل مسكر خمر، وكل خمر ms0762 حرام". ~~وتحريم كل مسكر هو مذهب عامة المسلمين، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد ~~بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة. # ويجوز للرجل أن يأكل لحمها ويشرب لبنها إذا لم يكن مسكرا، كما يجوز أكل ~~اللحم باللبن مطلقا، ولم يحرم أكل اللحم باللبن إلا اليهود الذين حرموا ~~طيبات أحلت لهم لظلمهم وذنوبهم. والله تعالى أعلم. PageV04P344 ### | مسألة # فيمن مات وخلف بنتا وأخا لأم وابن عم. # الجواب # للبنت النصف، والباقي لابن العم، ولا شيء للأخ من الأم باتفاق أئمة ~~المسلمين، وما وصى به ينفذ من الثلث ثلث التركة، والباقي للورثة. ### | مسألة # في رجل حلف بالطلاق، ثم استثنى هنيهة بقدر ما يمكن فيه الكلام. # فأجاب # لا يقع فيه الطلاق، ولا كفارة عليه، والحال هذه لو قيل له: قل "إن شاء ~~الله" ينفعه ذلك أيضا، ولو لم يحضر له الاستثناء إلا لما قيل له. والله ~~تعالى أعلم. # PageV04P345 # مسائل متفرقة # PageV04P347 # مسألة # ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في مسجد ~~بيت المقدس وقد جعل فيه أئمة، كل منهم يصلي في موضع منه، فهل إذا صلى أحد ~~منهم في وقت صلاة الآخر هل يدخل في النهي فيكره له ذلك أم لا؟ وهل هذا بدعة ~~مكروه أم لا؟ وأي الأئمة أحق بالصلاة بلا كراهة؟ وهل تبطل صلاة الإمام الذي ~~صلى بعد إقامة الصلاة لإمام غيره أو نكره؟ وهل يصح قول من قال: إن كل بنية ~~فيه لما اختصت بإمام صارت كالمسجد المستقل؟ # فأجاب الشيخ تقي الدين وقال: # الحمد لله، صلاة إمامين في وقت واحد في المسجد الأقصى أو غيره من المساجد ~~بدعة، لم يكن السلف يفعلونها، وفيها تفريق الجماعات وتقليلها، والسنة اتحاد ~~الجماعة وكثرتها، ولو كان مثل هذا مشروعا لكان يشرع في صلاة الخوف أن يصلي ~~بالناس عدة أئمة، لكن السنة جاءت بصلاتهم خلف إمام واحد، مع ما في ذلك من ~~مخالفة الأصول، مثل مفارقة الإمام قبل السلام، والعمل الكثير في الصلاة، ~~واستدبار القبلة، وقضاء المسبوق قبل سلام إمامه، # PageV04P349 # وتخلف الصف الثاني عن ms0763 متابعة الإمام. فهذا كله جاءت به السنة ليصلوا ~~جميعا خلف إمام واحد. # والعلماء قد تنازعوا في المسجد الذي له إمام راتب هل يصلي فيه جماعة من ~~فاتته الجماعة، أو يفرق بين المساجد التي ينتابها الناس وغيرها، أو بين ~~المساجد العظام وغيرها، أو بين المساجد الثلاثة وغيرها، على النزاع المشهور ~~بين الأئمة، لأنه لم يكن يرتب في المسجد إلا إمام واحد، وفي هذه الأزمنة قد ~~ترتب في المسجد عدة أئمة، وإذا فعل ذلك فالذي ينبغي أن يصلي واحد بعد واحد، ~~ليكون من فاتته الصلاة مع الأول صلى مع الثاني، ولأن إقامة جماعة بعد ~~الجماعة الراتبة مما ذهب إليه كثير من العلماء، وجاءت به السنة في مواضع ~~الحاجة، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن فاتته الصلاة: "إلا رجل ~~يتصدق على هذا فيصلي معه" (1) . ولأن أنس بن مالك أتى المسجد وقد صلى فيه ~~الناس، فأقام الصلاة وصلى فيه جماعة أخرى (2) . # فأما إمامة اثنين في وقت واحد في مسجد واحد فهذا لا يعرف أحد من السلف ~~فعله، وكل ما كان أقرب إلى السنة وأبعد عن البدعة فهو أولى بالاتباع. والذي ~~أحدث الصلاة مع غيره هو أحق بالنهي ممن كان يصلي وحده. والله أعلم. ~~PageV04P350 # وسئل الشيخ -رحمة الله عليه- # عن رجل يشتري القمح في زمان الصيف من الجند وغيرهم، فإن ذلك الوقت يرى ~~الجند الشرى من عندهم صدقة مما عليهم من الديون وقلة الطالب للقمح، ثم ~~يخزنه المشتري إلى زمان الشتاء، فيطلب فيه ما رزقه الله من الفائدة، فيمسك ~~يده عن بيعه حتى يكثر طالبه. فهل هذا محتكر أم لا؟ ولابد أن يرى في قلبه حب ~~للغلاء، فهل يأثم بذلك أم لا؟ وهل ترك ذلك خير أم لا؟ # وعن رجل رأى في المنام أنه يجامع، ولم تدركه اللذة الكبرى والإنزال إلا ~~بعد أن استيقظ، فهل يفسد صومه أم لا؟ # أفتونا مأجورين. # فأجاب -رضي الله عنه- عن ذلك وقال: # الحمد لله. أما ما ذكر من اشتراء القمح وخزنه فتركه خير من فعله، فإنه ~~يورثه محبته ms0764 ارتفاع السعر، وأن يجمع المال من عموم المسلمين. قال أحمد: إن ~~مالا جمع من عموم المسلمين لمال سوء. ولكن هذا عند طائفة من العلماء إذا ~~كان من البلاد الكثيرة القمح الرخيصة السعر إذا لم يضر ذلك أهلها لا يحرم، ~~بخلاف ما إذا كان شراؤه وخزنه يضر أهل المكان، فإن هذا احتكار محرم، # PageV04P351 # كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ~~يحتكر إلا خاطئ". ومن قال بتحريم هذا الاحتكار أخذ بعموم هذا الحديث، وقوله ~~متوجه. # وأما إذا رأى في منامه أنه يجامع ولم ينزل حتى استيقظ، فخرج منه الماء ~~بغير اختياره، فإن هذا لا يفطر كما لا يفطر إذا أنزل في منامه، لأن الماء ~~خرج منه بغير اختياره. وإذا خرج منه المني بغير سعي منه ولا عمل لم يفطر، ~~كما لو ذرعه القيء فخرج منه القيء بغير اختياره فإنه لا يفطر، وإنما يفطر ~~من استمنى واستقاء. ولهذا لو غلبه الفكر حتى أنزل لم يفسد صومه باتفاق ~~الأئمة، بخلاف ما إذا استدعى الفكر حتى أنزل، ففي فساد صومه قولان للعلماء: ~~أحدهما يفسد، وهو مذهب مالك وأحمد في أحد القولين، اختاره أبو حفص وابن ~~عقيل. والآخر لا يفطر، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والقول الآخر من مذهب ~~أحمد، اختاره القاضي أبو يعلى وطائفة. # وأما إذا كرر النظر حتى أنزل، فإنه يفسد صومه في مذهب مالك وأحمد، بخلاف ~~مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإنهما لا يريان الفطر إلا أن ينزل بمباشرة ~~كالقبلة ونحوها. والله تعالى أعلم. PageV04P352 # مسألة # ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في سورة ~~الأنعام: هل أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة أم آيات ~~متفرقة متتابعة؟ وقد وجد في كتاب "الوسيط في تفسير القرآن العظيم" (1) لأبي ~~الحسن علي بن أحمد الواحدي: أخبرنا أبو سعيد (2) محمد بن علي الخفاف، حدثنا ~~أبو عمر (3) محمد بن جعفر ابن مطر، ثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، ثنا أحمد ~~بن يونس، أنبأنا سلام بن سليم المدائني ms0765، أنبانا هارون بن كثير عن زيد بن ~~أسلم عن أبيه أعن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: "أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وتبعها سبعون ألف ملك، ~~لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل". أفتونا مأجورين. # فأجاب الشيخ أحمد بن تيمية # -رضي الله عنه وعن سائر العلماء- # الحمد لله. قد ذكر عن طائفة من السلف أنها نزلت جملة واحدة (4) ، وذكره ~~الإمام أحمد بإسناده عن جماعة، ولكن الإسناد PageV04P353 # المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضوع. وبكل حال فلا تقرأ في ~~شهر رمضان إلا كما تقرأ في غيره، لا تقرأ جملة واحدة دون غيرها، كما يفعله ~~بعض الناس يقرؤونها وحدها في الركعة الثانية، فإن ذلك بدعة غير مستحبة ~~باتفاق العلماء. والله أعلم. # PageV04P354 # مسألة # ما تقول السادة العلماء في رجل كسب جارية من ملطية وباعها، ثم اشترى ~~بثمنها جارية، فتبين أنها مسلمة وأبواها مسلمان، فأعتقها، فهل يجب عليه ~~الخمس أم لا؟ # قال الشيخ تقي الدين -رضي الله عنه- # بل يجب عليه الخمس الذي أمر الله به ورسوله أن يصرف إلى مستحقه. والله ~~أعلم. # مسألة # ومن كان معه ختمة فله أن يحملها بين قماشه وفي خرجة، وحمله سواء كان ذلك ~~القماش لرجل أو امرأة أو صبي، وإن كان القماش فوقها وتحتها. # مسألة # وأما قراءة القرآن بقصد التلحين الذي يشبه تلحين الغناء فهي مكروهة ~~مبتدعة، كما نص على ذلك مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم من الأئمة. # PageV04P355 # وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- # عن قوم لهم عيون ما عليها زروع، فجاء رجل فحقن الماء، وأحدث عليه سدا ~~وطاحونا، فتضرر أرباب العيون، فهل لهم إزالة ما أحدثه؟ # فأجاب -رضي الله عنه- # إن كان قوم يستحقون الانتفاع بتلك العين، وقد أحدث ما يزيل بعض المنفعة ~~التي يستحقونها بغير إذن منهم، فلهم إزالة ما أحدثه من الضرر حتى يعود حقهم ~~كما كان. والله أعلم. # PageV04P356 # وسئل -رحمه الله- # عن رجل خطب ابنة رجل فركن إليه، ثم خطبها آخر، فرغب ms0766 عن الأول وركن إلى ~~الثاني، فهل للثاني تزويجها؟ وهل يكون ملعونا؟ # فأجاب -رضي الله عنه- # إذا كانت المرأة ووليها قد ردا الخاطب الأول وامتنعا من تزويجه جاز لغيره ~~أن يخطبها. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى أن يخطب الرجل على خطبة ~~أخيه (1) حتى ينكح أو يرد، فمتى رد الأول جازت الخطبة لغيره باتفاق ~~العلماء. والله أعلم. PageV04P357 # مسألة # السؤال محرم إلا عن الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه لو وجد ~~ميتة عند الضرورة ويمكنه السؤال جاز له أكل الميتة، ولو مات مات عاصيا، ولو ~~ترك السؤال فمات لم يمت عاصيا. # والأحاديث في تحريم السؤال كثيرة جدا نحو بضعة عشر حديثا في الصحاح ~~والسنن، وفي سؤال الناس مفاسد الذل والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم ~~نفسه بالذل لغير الله عز وجل، وظلم في حق ربه بالشرك به، وظلم للخلق ~~يسؤالهم أموالهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سالت ~~فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" (1) . ### | مسألة # لا يحرم على الرجل النظر إلى شيء من بدن امرأته ولا لمسه، # لكن قيل: يكره النظر إلى الفرج، وقيل: لا يكره إلا عند الوطء. # والله أعلم. PageV04P358 ### | مسألة # في المسافر إذا نزل في موضع وهو يعلم أنه يقيم فيه عشر ليال أو أكثر، فهل ~~يجوز له أن يقصر ويجمع أو يتم؟ # الجواب # السنة للمسافر أن يقصر الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب، والجمع إذا ~~احتاج إليه. وإذا كان المسافر نازلا فالسنة أن يقصر الصلاة، ولا يجمع إلا ~~احتاج إلى ذلك. وإذا كان لا يدري كم يقيم فإنه يقصر أبدا، وإن علم أنه يقيم ~~خمسا أو عشرا أو خمسة عشر ففيه قولان للعلماء، أظهرهما أن يقصر أيضا. والله ~~أعلم. # PageV04P359 # مسألة # قال المجد في الوديعة (1) : وإذا قال: أذنت في دفعها إلى فلان وقد فعلت ~~قبل قوله فيهما. # وقال في الوكالة (2) : ومن وكل في قضاء دين، ولم يؤمر بإشهاد، فقضاه ~~بحضرة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، لم يضمن. وإن قضاه في غيبته ضمن. ~~وعنه لا يضمن ms0767، كالوكيل في الإيداع. # وقال في الضمان (3) : وإذا ادعى القضاء وأنكره الآخران فلا رجوع له، فإن ~~صدقه رب الحق وحده فوجهان، وإن صدقه المديون وحده رجع عليه إن قضى بحضرته ~~أو بإشهاد، وإلا فلا. # وقيل: لا يرجع فيما قضى بحضرته. # فمتى أمر رجل بدفع ألف إلى فلان، فدفعها، فأنكر المدفوع إليه، فإن كان ~~أمره بالإشهاد ولم يشهد ضمن، وإن لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله. ~~PageV04P360 # قال أبو الخطاب وغيره: ومعلوم أنه لم يرد القول قوله على المدفوع إليه، ~~فثبت أنه أراد في حق الأمر. # قلت: هذا صريح في الرواية الأولى. # وقال الخرقي (1) في الوكالة: ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالا فادعى أنه ~~دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة. # قلت: وهذا يوافق الثانية أنه لعدم الإشهاد، فيكون لعدم التفريط، كما هي ~~الرواية. وكذلك قال القاضي وغيره. ويحتمل أن لا يقبل قوله في ذلك إلا ببينة ~~أنه فعل، فلو صدقه لم يقبل، والله أعلم. هذا القول قول الخرقي، فيكون ~~الخرقي إنما تكلم في قبول قوله على الآخر. # قلت: فهذا الذي ذكره المجد في الوديعة يوافق ما ذكره أبو محمد عموم كلام ~~الخرقي، وإن النزاع في الموضعين فإنه قد يتكرر قضاء الدين، أما إذا صدقه في ~~القضاء فيفرق بين أن يفرط أو لا يفرط، وحينئذ لا تختلف مسألة الخرقي ومسألة ~~مهنأ في قضاء الدين ونحوه من نقل الملك، وعلى هذه الرواية التي نقلها ~~الخرقي قد يفرق الأصحاب بين الوفاء وبين الإيداع كما ذكر المجد. # وقال الشيخ أبو محمد (2) : وإن وكله في إيداع ماله فأودعه ولم يشهد، فقال ~~أصحابنا: لا يضمن إذا أنكر المودع. PageV04P361 # قال: وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يقبل قوله على الآمر، وهو أحد ~~الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن الوديعة لا تثبت إلا بالبينة، فهي كالدين. ~~وقال أصحابنا: لا يصح القياس على الدين، لأن قول المودع يقبل في الرد ~~والهلاك، فلا فائدة هنا في الاستيثاق، بخلاف الدين. فإن قال الوكيل: دفعت ~~المال إلى المودع فالقول قول الوكيل، لأنهما اختلفا في ms0768 تصرفه فيما وكل فيه، ~~فكان القول قوله فيه. # قلت: هذا يخالف ظاهر قول الخرقي على الاحتمال الثاني، وهو أشبه بقوله وما ~~ذكروه من تعليل الأصحاب، ففي دعوى الرد إذا كان الدفع ببينة رواية عن أحمد ~~كقول مالك، وفي دعوى التلفيق بين ماله روايتان. # وقال أبو الخطاب في الوكالة: وإن وكله في قضاء دين، فقضاه في غيبة الموكل ~~ولم يشهد، فأنكر الغريم، ضمن الوكيل. # قال المجد: بهذا قال مالك والشافعي. # وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان، وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو ~~حنيفة وأصحابه: لا يضمن، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني. # قال: وهذا الذي اختاره أبو الخطاب هنا يناقض ما اختاره في كتاب الرهن. ~~وصرح القاضي وابن عقيل في كتاب الوكالة بأن المسألة على روايتين. # PageV04P362 # وقال أبو الخطاب في الوديعة: وكذلك إن قال: أمرتني أن أدفعها إلى فلان ~~وقد دفعتها إليه، فقال المالك: ما أمرتك، فالقول قول المودع، نمن عليه. # قال المجد: بهذا قال ابن أبي ليلى، وبهذا قال مالك والثوري وعبد الله بن ~~الحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي والأوزاعي: لا يقبل قوله في ذلك، وهو ~~ضامن. ووافقوا على أنه إذا وافقه على الإذن فإن القول قوله في الدفع، إلا ~~الأوزاعي، فإنه قال: لا يقبل قوله بدون بينة، ويضمن. # قلت: هذا الذي محل وفاق، فنقل الطحاوي ما ينافي ما ذكره هو وأبو محمد من ~~عموم كلام الخرقي، فإنه قال هنا: وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان. ~~وهذا اختيار الخرقي. فجعل الأمر بدفع الوديعة كالأمر بدفع الدين. # وهذه المسألة هي بعينها الأمر بدفع الوديعة، ومسألة أبي محمد مسألة ~~الكتاب من التوكيل في الإيداع والوكيل في الإيداع هو أمر بدفع الوديعة إلى ~~مطلق أو معين، لكن قد يقال: إنه في التوكيل في الإيداع لم يعين المودع، ~~بخلافه هنا، وهذا فرق عن سويد، كالأمر بقضاء الدين المطلق أو معين، فهذا ~~شيء، وشيء آخر وهو أنه إذا كان منصوص أحمد أنه يقبل قوله عليه في الإذن في ~~الدفع من غير إشهاد، فهذا ms0769 أبلغ من قبول قوله في مجرد الدفع. وقوله "ادفعها ~~إلى فلان" يتناول ما إذا كان بطريق القضاء والإيداع والهبة وغير ذلك، فهذا ~~موافق لرواية مهنأ، ومخالفة ظاهرة لنقل الخرقي، # PageV04P363 # لا سيما إذا حمل قوله على العموم، وعلى ما نقله الخرقي ينبغي أن لا يقبل ~~قوله هنا بالإذن كقول الجمهور بطريق الأولى، وكلام الخرقي يتناول ذلك، بل ~~ولا في الدفع أيضا. # وأما ### | مسألة الضمان # فقال أبو الخطاب: وإذا ادعى الضامن قضاء الحق ولا بينة له، فأنكر المضمون ~~له، حلف وطالب من شاء منهما، فإن طالب المضمون عنه فأخذ منه لم يكن للضامن ~~الرجوع عليه، سواء صدق في قضاء الدين أو كذبه، لأنه أذن له في قضاء جرى ولم ~~يوجد. # وقال المجد: هذه المسألة فيما إذا قضاه في غيبة المضمون عنه وإذنه له ~~مطلق. وبهذا قالت الشافعية في أحد الوجهين، والثاني أنه يرجع عليه إذا صدق، ~~اختاره أبو إسحاق. فعلى هذا إن كذبه حلف لا يعلم أنه قضى عنه. # ثم وجدت القاضي قد ذكر في "التعليق" مثل ما ذكرته، وأن قول الخرقي هو في ~~الوديعة، وأن الخلاف في قبول قوله بحيث لو صدقه لم يضمن، فقال في مسألة: ~~إذا قبض وديعة بينة ثم ادعى ردها قبل منه، نص عليه في رواية ابن منصور، ~~وذكر له قول سفيان في رجل استودع رجلا ألف درهم، فجاءه فقال: ادفع إلي ~~دراهمي، قال: قد دفعتها إليك يصدق. فإن قال: أمرتني أن أدفعها # PageV04P364 # إلى فلان فبينة، فقال أحمد: في كلا الأمرين يصدق. وبهذا قال أبو حنيفة ~~والشافعي. وقال مالك: لا يقبل منه إلا ببينة. # وقد روى أبو الخطاب عن أحمد مثل مذهب مالك، فقال: قلت لأبي عبد الله: إذا ~~كانت وديعة تريد بينة؟ قال: نعم إذا كان قد أشهد عليه لا يقبل منه حتى يقيم ~~بينة. # وهذه الرواية صريحة بمثل مذهب مالك، أما الأولى فإنها فيها عموم، ~~والمقصود فيها عموم، فرق سفيان وتسوية أحمد بين الصورتين بين الدفع إليه ~~والدفع إلى فلان. وقول أحمد "يصدق" قد يقال ms0770: إنه لا ينافي قول من يضمن ~~لتفريطه لا لكذبه. # ثم، قال القاضي: وجه الأول أن المودع أمين في أمثال هذا، ويحفظ الشيء ~~لمصلحة صاحبه ومنفعته، لا لمنفعة نفسه وحظه، فيجب أن يكون القول قوله في ~~الرد. وإن شئت قلت: أمانة مجردة، وكان القول قوله في ردها دليله إذا قبض ~~بغير بينة. # قلت: الأول كلام مرسل لا أصل له يشهد له، والثاني قياس في صورة الفرق، من ~~غير إلغاء الفارق. # قال: ولا يلزم على هذا: المرتهن إذا ادعى رد الرهن أنه لا يقبل قوله وإن ~~كان أمانة، لأن ممسك للشيء ليستوفي الحق من نفسه لنفسه. فإذا ادعى الرد لم ~~يقبل منه، نص عليه في رواية أبي طالب. وفي مسألتنا لو أقر بالوديعة وادعى ~~الرد قبل منه. # ثم قال القاضي: مسألة، فإن أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى # PageV04P365 # رجل، فدفعها إليه بغير بينة، فالقول قول المودع، نص عليه في رواية ابن ~~منصور في المسألة التي قبلها. # قلت: نص أحمد أن يصدق في الإذن في الدفع وفي الدفع أيضا. # قال: وقال أيضا في رجل أمر رجلا أن يدفع إلى رجل ألف درهم، فدفعها، وأنكر ~~المدفوع له أنه قبضها، فإن كان أمره بالإشهاد فلم يشهد ضمن، وإن كان لم ~~يأمره بالإشهاد فالقول قوله، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي: لا ~~يقبل قوله في الدفع. وعلموا الخلاف في الوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم ~~بعد بلوغه، ولا بينة، فأنكر الصبي ذلك، فالقول قول الوصي، وعندهما لا يقبل ~~قوله إلا ببينة، واختيار الخرقي ذكره في الوكيل. دليلنا إذا ادعى تسليم ~~الوديعة إلى من يجوز الدفع إليه فكان القول قوله، دليله لو ادعى تسليمها ~~إلى المالك فإن القول قوله، كذلك ههنا. # إلى أن قال: واحتج المخالف بأن المالك لم يأمره بإتلافها # على المالك، لأنه قد يجحد، فلا يمكن المالك أن يقيم عليه بينة، ولا يقبل ~~الدافع، لأنه ليس بأمين في حقه، فكان مفرطا في ذلك، يلزمه الضمان بتعديه. # قلت: هذه الحجة مضمونها أنه متعد، لا أنه ms0771 غير مقبول القول كما تقدم، وهذا ~~خلاف ما صدر به المسألة. # PageV04P366 # ثم قال: احتج بأنه ادعى التسليم إلى من لم يأتمنه بالحفظ، فهو كما لو ~~ادعى تسليمها إلى أجنبي. والواجب أن الأجنبي لو صدقه صاحب الوديعة أنه سلم ~~إليه ضمن كذلك إذا لم يصدقه. # وفي مسألتنا لو صدقه أنه سلم إليه لم يضمن إذا ادعى التسليم، وله فيه حق. ~~وأما إذا كان بحضرة المضمون عنه رجع، ولم يكن مفرطا بترك الإشهاد عندنا في ~~الصحيح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو كالغيبة، فلا يرون ~~تفريطه بالحضور، فيصير لهم في هذه المسألة ثلاثة أوجه. وكذلك ذكر ابن عقيل ~~والقاضي أنه لا يرجع، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، لأن هذا القضاء لا يترك في ~~الظاهر بخلاف المشهود به. # قلت: فهذا كما في "المحرر"، وفيه الفرق بين مسألة الضمان والثاني، ذكر ~~الوجهين في القضاء في الحضور في مسألة الضمان دون مسألة الوكالة. وكذلك ذكر ~~أبو محمد في "المغنى" مثل ما ذكر المجد في كتابيه، وعلى هذا فالفرق أن ~~يقال: إذا وكله في القضاء، ولم يأمره بالإشهاد، فقد فعل ما أمره به من غير ~~تفريط. # أما في الضمان فهو لم يأمر الضامن بالوفاء، لكن الوفاء وجب على الضامن ~~بحكم الضمان، فلو أذن له في الضمان فالموجب للوفاء الضمان دون الإذن، لا ~~سيما على ظاهر المذهب للضامن الرجوع وإن ضمن بغير إذن. وكذلك من أدى عن ~~غيره واجبا عليه، كفداء الأسير. وإذا كان الوفاء هنا حصل بإذن الشارع ~~وإيجابه فالمتصرف عن غيره بحكم الشرع مأمور بأن يتصرف بحسب المصلحة، بحكم ~~التصرف بالوكالة أنه سمع الأمر. ولهذا لو أذن له فيما فيه ضرر # PageV04P367 # عليه وفعله لم يضمن، كما لو أمره أن يبيعه بدون ثمن المثل ليثمن قدره أو ~~بيعه من غريم غير ملي ونحو ذلك، بخلاف من تصرف بحكم المصلحة كالولي. وأيضا ~~من يريد أن يرجع بما قضاه عنه فهو مطلب بالبذل كالقرض، لأن وفاء المال ~~إقراض للمدين، بخلاف الوكيل فإنه لا يرجع بشيء ms0772. وبهذا يظهر الوجه المذكور ~~فيما إذا كان الوفاء بحضرته في الضمان دون الوكالة، لأن الوكيل يفعل عن ~~الموكل، فسكوته رضى بذلك، والضامن يوفي عن نفسه ما وجب عليه، وهو مقرض ~~للمدين، ومقصود هذا القرض براءة ذمته من الدين. # فصل # الذي يكره من شرى الأرض الخراجية إنما كان لأن المشتري يشتريها فيدفع ~~الخراج عنها، وذلك إسقاط لحق المسلمين، كما كانوا أحيانا يقطعون بعضها لبعض ~~المجاهدين إقطاع تمليك لا إقطاع استغلال، كإقطاع الموات، فهذا الابتياع ~~والإقطاع يسقط حق المسلمين من الرقبة والمنفعة. # والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعة دائمة للمسلمين، فإذا قطعت منفعته ~~عن المسلمين صار ظلما لهم، بمنزلة من غصب طريق المسلمين وبنى في منى ونحوها ~~من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من ~~الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاه إياها بلا ثمن، وكما لو ورثها، فإن ~~الإرث # PageV04P368 # مجمع عليه أن الوارث أحق بها بالخراج، وذلك لأن إعطاءها لمن أعطيته ~~بالخراج قد قيل إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقول بعض الكوفيين، وقد ~~قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبدة المدة كما يقول أصحابنا والمالكية ~~والشافعية. فكلا القولين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات. # فالتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شبه من البيع دون الإجارة، ويشبه ~~في خروجها عنها المصلحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع ~~الجذوع ونحو ذلك بعرض ناجز، فإنه يملك العين مطلقا ولم يستأجرها، وأما ملك ~~هذه المنفعة مؤبدة. # وكذلك وضع الخراج، ولو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض ~~للمسلمين وأكروها لكان ينبغي إكراه المساكن أيضا، لأنها للمسلمين إذ فتحت ~~عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين، فإن كرى الأرض يساوي أضعاف الخراج، ولكان على ~~المشهور عندهم، ولا يستحق الآخذون ما في الخراج من الشجر القائم ومن النخيل ~~والأعناب وغيرها، كمن استأجر أرضا فيها غراس، ولكان دفعها مساقاة مزارعة ~~كما فعل المنصور أو المهدي في أرض السواد -أنفع للمسلمين اقتداء بالنبي - ~~صلى الله عليه وسلم - في أرض خيبر ms0773، فإنه لا فرق إلا أن ملاك خيبر معينون ~~وملاك أرض العنوة العمرى مطلقون، وإلا فيجوز للمالك أن يؤاجر، ويجوز لرب ~~الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة. # PageV04P369 # وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن أيضا، ولا بيع يكون بثمن مؤبد إلى ~~يوم القيامة، فالتخريج أصل دلت عليه السنة والإجماع، فلا يقاس بغيره، فإن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت ~~الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها" (1) . # واتفق الصحابة مع عمر على فعله بوضع ذلك، فإن أصل الخراج في قوله (ما ~~أفاء الله على رسوله من أهل القرى) (2) ، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول، ~~ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم، فعلم اختصاصهم بها. # وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمي من الذمي الأول بالخراج، وعاوضه في ذلك عوضا، ~~لم يكن في ذلك ضرر أصلا، فلا وجه لمنعه، لأنه إن قيل: إنه وقف فهذا لا يخرج ~~بهذه المعاوضات عن أن يكون وقفا، بل مستحق أهل الوقف باق كما كان. وبيع ~~الوقف إنما منع منه لإزالة حق أهل الوقف، وهذا لا يزول بل هو بمنزلة إجارة ~~أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتك هذه بما على من الخراج ~~وبالزيادة التي تعجلها لي، ولهذا انتقل إلى ورثة من هي في يده، والوقف لا ~~يباع ولا يوهب ولا يورث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان فالهبة ~~مثله، وكذلك المعاوضة، سواء سميت بيعا أو إجازة. ولهذا جوز أحمد -رحمه ~~الله- إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقا جاز أن يكون ثمنا ~~وأجرة، وما كان ثمنا كان مثمنا، فهذا ينبغي تأمله. PageV04P370 # يبقى إذا أخذه المسلم، فقد يكره لما فيه من الصغار، ولما فيه من الاشتغال ~~عن الجهاد بالحراثة، فهو مانع آخر غير كونه وقفا يختلف باختلاف المصالح ~~والأوقات، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل اليهود على خيبر لقلة ~~المسلمين، فلما كثر المسلمون أجلاهم عمر بأمر النبي- - صلى الله عليه وسلم ~~-، صار المسلمون يعمرونها. فكذلك الأرض الخراجية، إذا كثر ms0774 المسلمون كان ~~استيلاؤهم عليها بالخراج أنفع لهم من أن يبقوا فقراء محاويج، والكفار ~~يستغلون الأرض بالخراج اليسير، فإنهم كانوا زمن عمر قليلا وأهل الذمة ~~كثيرا، وقد انعكس الأمر، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملهم على ~~خيبر، ثم عمرها المسلمون لفا كثر المسلمون وتضرروا ببقاء أهل الذمة في أرض ~~العرب، فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين. ~~فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرروا ببقائها في أيدي أهل ~~الذمة، فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمي ويقوم مقامه فيها، فإن ~~كان المؤدى أجرة فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها، وإن كان ثمنا فهو ~~أحق باشترائها، وإن كان عوضا ثالثا فهو أحق به أيضا. # ومتى كثر المسلمون لم يبق صغار ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في ~~الزمن المتقدم. كما لو أسلم الذمي الذي هو مسئول عليها، فإنها تبقى في يده ~~مؤديا لخراجها، ويسقط عنه جزية رأسه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ وإذا جاز أن يبقى ~~بيده بعد إسلامه، فما المانع أن يدفعها إلى مسلم غيره بعوض أو غيره؟ # PageV04P371 # والمسلم لا صغار عليه بحال، فلو كان المانع كونها صغارا لم يجامع الإسلام ~~لجزية الرأس، ولا يقال: هي الرق يمنع الإسلام ابتداء ولا يمنع دوامه، لأن ~~الرق قهرناهم عليه بغير اختيارهم لم نعاوضهم عليه، فكذلك جزية الرأس لا ~~نمكنهم من المقام بالأرض الإسلامية إلا بهما، فهي نوع من الرق، لثبوتها ~~بغير اختيار المسترق. # وأما الخراج فإنما ثبت بمعنى الخارج واختياره، ولو لم يقبل الأرض ما لم ~~يدفعها إليه، بمنزلة المساقاة المزارعة التي عامل النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - بها أهل خيبر، سواء كان هناك العوض جزءا من الزرع وهنا العوض مسمى ~~معلوم، وهناك لا يستحق شيئا إلا إذا زرعوا، وهنا يستحق إذا أمكنهم الزرع. ~~فنظيره أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقل من الجزء الذي استخرج، وأن ~~المضارب يدفع المال مضاربة، لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق. # وبالجملة فالموانع من غير جزية كونها وقفا ينظر ms0775 فيها العاقبة، أما جهة ~~الوقف يتوجه كونها مانعا على أصول الشريعة أبدا، وأما التعليل بالاشتغال ~~بالحراثة عن الجهاد فهذا قائم في جميع الأرضين عشريها وخراجيها، وذلك شيء ~~آخر. ونظير هذا الغلط ما عللوا به أرض مكة. # PageV04P372 # فصل # ونظير ذلك مكة، فإنه لا ريب فتحت عنوة، ومن قال: إنها فتحت صلحا فاستقر ~~ملك أصحابها عليه، ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره، ~~كما يقوله الشافعي= فقوله ضعيف لوجوه كثيرة من المنقولات. # وأيضا فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمام قوما من المشركين بغير ~~جزية ولا خراج لم يجز إلا لحاجة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام ~~الحديبية. أما إذا فتحت الأرض فتح صلح وأهلها مشركون من غير أهل الجزية، ~~فإنه لا يجوز إقرارهم بغير جزية بإجماع المسلمين. # وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في العام المقبل لما حج أبو ~~بكر لمن لم يسلم منهم أجل أربعة أشهر، وإلا جعله محاربا يستبيح دمه وماله، ~~ولو كان قد فتحها صلحا لم يجز ذلك. # وأيضا فإنه قد استباح قتل جماعة سماهم، لكن فتحها عنوة وأمن من ترك ~~القتال منهم على نفسه وماله إلا نفرا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان ~~مع أبي سفيان، فمنهم من قبله فانعقد له، ومنهم من لم يقبل فحارب أو هرب، ~~والأمان لا يثبت إلا بقبول المؤتمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتال فلم ~~يؤمنه بحال، لكن خص وأم في ألفاظ الأمان، والمقصود واحد، فإن قوله: "ومن ~~دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى # PageV04P373 # السلاح فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" كلها ألفاظ معناها: من ~~استسلم فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سماهم الطلقاء، كأنهم أسرهم ثم أطلقهم ~~كلهم. # فقالت الحنفية: لما فتحها عنوة ولم يقسمها، بل أقرها في يد أهلها، صار ~~هذا أصلا في أرض العنوة أنه لا يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم ~~وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز ms0776 بيعها وإجارتها، لكونها ~~فتحت عنوة ولم تقسم كسائر أرض العنوة. وربما قالوا: صار إنزال أهل مكة ~~للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم. # وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج على مزارعها، فقد علم بالنقل المتواتر ~~فساد قوله مع إجرائه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوه: # أحدها: أن أرض العنوة يجوز إجارتها بالإجماع، وبيوت مكة أحسن ما فيها أنه ~~لا يجوز إجارتها، بل يجوز بذلها للمحتاج بغير عوض. فهذا هو الذي يدك عليه ~~الكتاب والآثار والقياس، وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون ~~فتحها عنوة لما منع إجارتها. # الثاني: أن أرض العنوة إنما تمنع من بيع مزارعها، فأما المساكن فلا يمنع ~~ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا ~~تمنع فيها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق. # PageV04P374 # الثالث: أن مزارع مكة ما علمنا أحدا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعها أو ~~إجارتها، وإنما الكلام في الرباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من ~~هذا؟ # الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، فقد طلبوا من النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - إعادتها إليهم فلم يفعل، ولو كانت كسائر العنوة لكان قد أعادها ~~إلى أصحابها، لأن الأرض إن كانت للمسلمين، واستولى عليها الكفار، ثم ~~استنقذناها، وعرف صاحبها قبل القسمة= أعيدت إليه. # الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا ~~منقولها ولا عقارها ولا شيء أخذ من ذراريهم، ولو أجرى عليها أحكام غيرها من ~~العنوة لغنم المنقول والذرية. # بل الصواب أن المانع من إجارتها كونها أرض المشاعر التي يشترك في استحقاق ~~الانتفاع بها جميع المسلمين، كما قال تعالى: (سواء العاكف فيه والباد) (1) ~~، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه، لأنهم سبقوا إلى المباح، كمن سبق ~~إلى المباح من طريق أو مسجد أو سوق. وأما الفاضل عليهم بذلوا لأنهم إنما ~~لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصة مشتركة، وصار هذا بمنزلة من يبني بيئا ~~في رباط أو مدرسة أو نحو ذلك له اختصاص ms0777 بسكناه وليس له المعاوضة عليه، أو ~~من يبني بيتا في خانات السبيل، أو في دور الرباط التي تكون في الثغور، ونحو ~~ذلك. كما تكون الأرض فيه مشتركة PageV04P375 # المنفعة للحج والجهاد وللمرور في الطرقات أو للتعليم أو التعبد ونحو ذلك. # فإذا قال: البناء لي، قيل له: والعرسة ليست لك، وأعيان الحجر ليست لك، ~~التأليف أو التأليف والابعاض مما ليس لك، لا يجوز لك أن تعاوض عنه، وما هو ~~لك فقد اعتضت عنه بتقديمك في الانتفاع بالعرصة. # أو لأن المكي لما صار الناس يهدون إليهم الهدايا ويجب عليهم قسمها فيهم ~~صار يجب على المكيين إنزال الناس في منازلهم، مقابلة الإحسان بالإحسان. ~~فصاحب الهدي له أن يأكل منه مثلا حيث يجوز، ويعطي من شاء ولا يعتاض عنه، ~~وكذلك صاحب المنزل يسكنه ويسكنه ولا يعتاض عنه. # وهذا المعنى الذي قد ذكرناه هو السبب الموجب لإبقائها بيد أربابها من غير ~~خراج مضروب عليهم أصلا، لأن للمقيمين بمكة حقا وعليهم حقا وليست لغيرها من ~~الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوة متناسبا لمنع إجارتها كما ~~ذكرناه لإلحاقها بسائر أرض العنوة. # فإن قيل: فالأرض إذا فتحت عنوة يجوز أمان أهلها على نفوسهم وأموالهم ~~كذلك؟ # قيل: نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤمن من ترك القتال على نفسه وماله، لما ~~فيه من الانتفاع بترك قتاله، وهو أمان بشرط. # PageV04P376 # بل إذا جوزنا المن على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا يجوز ذلك قبل ~~الأسر للمصلحة كيف ارباب على ماله، لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا ~~على حكم حاكم فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عصم نفسه وماله، لأنه لم يتم ~~القهر. # فأما أهل مكة كان قبل القهر ودخلها قهرا، ولهذا التجوز تظهر الشبهة التي ~~أدحضت كلا من القولين، وأما بعد القهر فيجوز أن يمن على المقهورين ويدفع ~~إليهم الأرض مخارجة. فالذين حاربوا بمكة أو هربوا، ثم أمنهم بعد قهرهم ~~والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمن، ولهذا سماهم الطلقاء. وأما في ~~أموالهم فالأرض قد ذكرت بسبب ذلك فيها. والله ms0778 أعلم. # PageV04P377 # مسألة # أيهما أولى: معالجة ما يكره الله من قلبك، مثل الحسد والحقد والغل والكبر ~~والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب وغير ذلك مما يختص بالقلب، من ~~درنه وخبثه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وأنواع ~~القربات من النوافل والمندوبات مع وجود الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين. # جواب # شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحراني -رضي الله تعالى عنه- الحمد ~~لله. من ذلك ما هو أوجب، وإن الأوجب أفضل وزيادة، كما قال تعالى فيما يروي ~~عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت ~~عليه"، ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" (1) . # والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب ~~ملك والأعضاء جنوده، فإذا خبث الملك خبث جنوده. ولهذا قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "إلا وإن في الجسد مضغة إذا PageV04P378 # صلحت صلح لها الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها الجسد كله، إلا وهي القلب" ~~(1) . # وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد، وإذا كان المتقدم هو ~~الأوجب سمي باطنا أو ظاهرا، فقد يكون ما يسمى باطنا أوجب، مثل ترك الحسد ~~والكبرياء، فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام. وقد يكون ما سمي ظاهرا أفضل، ~~مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من ~~جنس الغبطة ونحوها. وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعني الآخر، والصلاة ~~تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخضوع ونحو ذلك من الآثار العظيمة، هي ~~أفضل الأعمال، والصدقة. والله تعالى أعلم. PageV04P379 # مسألة # ما تقول السادة أئمة الدين - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في مدينة لا ~~يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وأكارعها مسكا، ثم يضع ذلك ~~ويبيعه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمنع عن شراء ذلك وأكله من أهل الذمة ~~وغيرها، وليس يباع في المدينة رءوس وأكارع وأسقاط إلا على هذا الحكم، ولا ~~يمكن غير ذلك. فهل يحرم شراء ذلك وأكله والحالة هذه أم لا ms0779؟ أفتونا مأجورين. # فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- هذه حكمها حكم ما يأخذها ~~الملوك من الكلف التي ضربوها على الناس، فإن هذه في الحقيقة تؤخذ من أموال ~~أصحاب الغنم التي يبيعونها للقصابين وغيرهم، فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من ~~السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن ~~كانت تؤخذ من المشتري فهي في الحقيقة من مال البائع. # وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة، منها ما هو ظلم محض، ولكن تعذر معرفة ~~أصحابه وردها إليهم، فوجب صرفه في مصالح # PageV04P380 # المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم. فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن ~~لم يكن بمنزلة من اشترى المغصوب المحض الذي لا تأويل فيه ولا شبهة، وليس ~~لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقال: إنه فعل محرما يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع ~~من شرائها إضرار بالناس وإفساد بالأموال من غير منفعة تعود على المظلوم، ~~والمظلوم له أن يطالب ظالمه بالثمن الذي قبضه إن شاء أو بنظير ماله. # والتورع عن هذه من التورع عن الشبهات، ولا يحكم بأنها حرام محض، ومن ~~اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يقال: إنه فعل محرما لا تأويل ~~فيه، فإن طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه ~~الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم" (1) ، ~~وكما ذكر بعض الحنفية. وما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن ~~قبضه، وإن كان يعتقد المشتري أن ذلك العقد محرم. كالذمي إذا باع خمرا وأخذ ~~ثمنها، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع ~~الخمر، كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "ولوهم بيعها وخذوا أثمانها" ~~وهذا ثابت عن عمر -رضي الله عنه- (2) ، وهو مذهب الأئمة. PageV04P381 # وهكذا من عمل معاملة يعتقد جوازها في مذهبه وقبض المال، جاز لغيره أن ~~يشتري منه ذلك المال، وإذا كان هو لا يرى جواز تلك المعاملة، فإذا قدر أن ~~الوظائف يدفعها من يعتقد جوازها لإفتاء بعض الناس له ms0780 بذلك، أو لاعتقاده أن ~~أخذ هذا المال وصرفه في الجهاد وغيره من المصالح جائز، جاز لغيره أن يشتري ~~منه ذلك المال، وإن كان لا يعتقد جواز أصل هذا القبض. # وعلى هذا فمن اعتقد أن لولاة الأمور فيما فعلوه تأويلا، جاز له أن يشتري ~~ما فعلوه، وإن كان هو لا يجوز ما فعلوه، مثل أن يقبض ولي الأمر عن الزكاة ~~قيمتها فيشتري منه، أو مثل أن يصادر بعض المال مصادرة يعتقد جوازها، أو مثل ~~أن يرى أن الجهاد وجب على الناس بأموالهم وأن يأخذه من الوظائف هذا من ~~المال الذي يجوز أخذه وصرفه في الجهاد، ونحو ذلك من التأويلات التي قد تكون ~~خطأ، ولكنها قد تنازع فيها الاجتهاد. # وإن كان قبض ولي الأمر المال على هذا الوجه جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من ~~نائبه الذي أمره بقبضه، وإن كان المشتري لا يسوع قبضه. والمشتري لا يظلم ~~صاحبه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضا يتعقد جوازه، وما كان على هذا ~~الوجه فشراؤه حلال على أصح القولين، وليس من الشبهات. # فإنه إذا جاز أن يشترى من الكفار ما قبضوه بعقود يعتقدون جوازها وإن كانت ~~محرمة في دين الإسلام، فلأن يجوز أن يشترى من المسلم ما قبضه بعقد يعتقد ~~جوازه- وإن كنا نراه محرما- بطريق الأولى والأحرى، # PageV04P382 # فإن الكافر تأويله المخالف لدين الإسلام باطل قطعا، بخلاف تأويل المسلم. ~~ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا- وقد قبضوا أموالا يعتقدون جوازها، ~~كالربى وثمن الخمر والخنزير- لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم ~~معاملتهم فيها قبل الإسلام ولم يحرم، لقوله تعالى: (اتقوا الله وذروا ما ~~بقي من الربا) (1) . فأمرهم بترك ما بقي في الذمم، ولا يحرم عليهم ما ~~قبضوه. # وهكذا من كان قد عامل معاملات دنيوية يعتقد جوازها، ثم تبين له أنها لا ~~لجوز، وكانت من المعاولات التي تنازع فيها المسلمين، فإنه لا يحرم عليه ~~قبضه من تلك المعاملات على الصحيح. والله تعالى أعلم. PageV04P383 # مسألة # في الحلاج، هل قتله الشرع مظلوما؟ وهل كان قتله بحكم الشرع ms0781 أم لا؟ وهل ~~إذا قال قائل: إنه قتل مظلوما وإن الذي قاله الحلاج حق- فهل هو مصيب أم ~~مخطئ؟ أفتونا مأجورين. # جواب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- # بل قتل ظالما غير مظلوم، وقتل على الزندقة التي تعرف حاله، وإن الذي قاله ~~كفرا باطنا وظاهرا يوجب قتله باتفاق أهل الإسلام علمائهم وفقرائهم. فإن أصر ~~على خلاف ذلك عوقب عقوبة مردعة. ولا ينتصر للحلاج إلا جاهل بحاله أو منافق ~~عدو لله ورسوله. والله أعلم. # وأخبار الحلاج مذكورة في كتب المصنفين، كأبي بكر الخطيب (1) وأبي الفرج ~~ابن الجوزي (2) وسبطه. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي (3) أن جمهور المشايخ ~~أخرجوه عن الطريق. وكان ساحرا، وله مصنف في السحر. والله سبحانه وتعالى ~~أعلم. PageV04P384 ### | مسألة # في رجل قرأ القرآن وقال: هذا هدية مني للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل ~~يجوز هذا أم لا؟ وهل هو محتاج إلينا حتى نصلي عليه أو نسلم عليه؟ # الجواب # لشيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- # الحمد لله. لم يكن من عمل السلف أنهم يصلون ويصومون ويقرأون ويهدون للنبي ~~- صلى الله عليه وسلم - ,وكذلك لم يكونوا يتصدقون عنه ويعتقون عنه وإن ~~فعلوا ذلك، لأن كل ما يفعله المسلمون فله مثل أجر فعلهم من غير أن ينقص من ~~أجورهم شيئا، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص في ~~لك من أجورهم شيئا". بخلاف الأبوين، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون ~~لوالده مثله، وإن كان الأب ينتفع بعمل ولده. PageV04P385 # وأما صلاتنا عليه وسلامنا عليه وطلبنا له الوسيلة فهذا دعاء فيه لنا، ~~يهحيبنا الله عليه، ويستحب هذا الدعاء في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~فيزيده الله به من فضله ويثيب عليه الداعي، ولا منة له عليه، بل لله المنة ~~عليه، وسائر الخلق محتاجون إلى الله تعالى، والأمة محتاجون إلى ما بعث الله ~~تعالى به نبيها - صلى الله عليه وسلم ms0782 -، فإنما هداهم الله تعالى به. والله ~~أعلم. # PageV04P386 # رسالة في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه # PageV04P387 # بسم الله الرحمن الرحيم ### | .......... # أهداب الجفن التحتاني، والتفرقة الملكية في العلويات أهداب الجفن ~~الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها، والله تعالى نورها. ~~وإنما قلنا: إن العلويات والسفليات أجفان العين، لأنهما يحافظان على ظهور ~~النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان لتفرق نور عينه وانتشر، بحيث لا يرى ~~شيئا أصلا، فكذلك العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط، بحيث لا يظهر فيه ~~شيء أصلا ورأسا. ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه. هذا هو الحق الصريح ~~المتبع، لا كما يرى المنحرف عن منهاج الإسلام ودينه، المتحير في مبدأ ~~ضلالته وجهله. # فنقول: هذا الكلام لولا أني علمت مقصود الشيخ به وأنه عنده كلام عظيم فيه ~~كشف حقيقة الأمر، وأن مقصود الشيخ إنما هو المعرفة والهداية، لكنا نقابله ~~بما يستحقه، على حد ما توجبه الشريعة على من قامت عليه الحجة، لكن الله ~~يقول: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)) (1) ، وقال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" (2) ، وقال: "إن الله ~~رفيق يحب الرفق، ويعطي PageV04P389 # على الرفق ما لا يعطي على العنف " (1) ، وقال: "ما كان الرفق في شيء إلا ~~زانه، ولا كان العنف في شىء إلا شانه" (2) . وقد قال لموسى وهارون: (فقولا ~~له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)) (3) . # فهذا الكلام وأمثاله الذي فيه من الكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه ~~وتنشق الأرض وتخز الجبال هدا، إذ هو أعظم من قول الذين قالوا: اتخذ الله ~~ولدا، إذا صدر من قوم يظنون ويظن بهم مشايخ الإسلام أهل التحقيق والعرفان، ~~احتاج المخاطب لهم إلى شيئين: قوة عظيمة، وغضب لله، وسلطان حجه، وقدرة يدفع ~~بها شتم الله وسبه والكفر به؛ ورفق ولين يوصل به إلى المخاطبين حقيقة ~~البيان. والرفق في الجهاد باليد واللسان إنما يكون بالنسبة إلى العنف في ~~الجهاد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على ~~[كل] شيء، فإذا قتلتم ms0783 فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" (4) . # فلابد من القتل الشرعي، ولكن الإحسان فيه يكون بأن يقتل أحسن القتلات، ~~وكذلك دفع الكفر والفرية على الله والإلحاد في PageV04P390 # أسمائه وآياته وجحود ذاته وصفاته، لا يكون الإحسان والرفق في دفعه إلا ~~بأحسن وجوه ذلك، كما قال الله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ~~وجادلهم بالتي هي أحسن) (1) ، وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي ~~أحسن إلا الذين ظلموا منهم) (2) . فمن ظلم وظهر عناده عوقب حينئذ عقوبة ~~مثله، بالقتل المشروع إن إستحق ذلك، وإلا فيما دونه على حسب الأفعال ~~والأحوال وما يتعلق بذلك. # ولا شك أن طريق الله عظيم، وتحقيق الإيمان هو غاية مطلوب الإنسان، وهؤلاء ~~المتكلمون في هذا الباب من حين ظهور دولة التتار قد خلطوا في هذا الباب ~~تخليطا عظيما، وخلطوا التوحيد بالإلحاد، بل منهم من جرد الإلحاد تجريدا، ~~فيغتر بإضلالهم خلق كثير معتقدين أنهم على غاية الهداية والحق الصريح، فإذا ~~وضح الحق الذي أنزل الله به كتبه وبعث به رسله، قامت الحجة على من بلغه ~~ذلك. فمن خرج عنه حينئذ استوجب ما أمر الله به في مثله. # وعلمت أن الشيخ لما وقف على الذي كتبه إلي الشيخ نصر في الاتحادية، ظن من ~~ظن أنه قد يرد عليهم من لم يفهم حقيقة قولهم، فأراد الشيخ أن يبين ذلك، ولم ~~يعلم أن مثل هذا الكلام وأمثاله قد صار مضحكة عند الصبيان ومكفرة عند ذوي ~~العلم والإيمان، وأنهم قد علموا من هذا الكلام وأمثاله ما لم يعلمه غيرهم، ~~وهم أعرف بمذهب كل واحد من هؤلاء من أصحابه، بل من نفسه. فإن الواحد من ~~PageV04P391 # هؤلاء يتناقض في كلامه ولا يدري أنه يتناقض، لأن أصلهم فاسد في العقل ~~والدين. # ولا ريب أن الشيخ إنما استمد هذا الكلام من كلام الشيخ سعد الدين ابن ~~حمويه، وقد قيل: إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فاجلس إلى غيره. وقد كان من ~~الواجب على من خاطبنا في هذا المقام أن يتأمل مع كلام سعد الدين كلام ابن ~~العربي ms0784 في "الفصوص" وفي كتاب "الهو" و"الجلالة"، وفي مواضع من "الفتوحات" ~~وفي غير ذلك؟ ويتأمل كلام القونوي في كتاب "مفتاح غيب الجمع والوجود"؛ ~~ويتأمل كلام ابن سبعين في "البد" و"الإحاطة" وغيرهما؛ ويتأمل كلام ~~التلمساني في "شرح الأسماء"؛ ويتأمل آخر قصيدة ابن الفارض التي هي "نظم ~~السلوك"، مثل قوله: (1) # لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صفت # كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة # وما كان لي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدتي # ومثل قول ابن إسرائيل (2) : PageV04P392 # وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق # وقوله: # وقلقل أن مزت على جسدي يدي لأني في التحقيق لست سواكم # إلى أنواع من هذه المنظومات والمنثورات. # ثم يتأمل بنور الإسلام: هل هذا القول يرضاه اليهود والنصارى والمشركون، ~~أم هو شر من مقالات هؤلاء؟ ويعرض ما قاله هو على كتاب الله الذي أنزله من ~~السماء وسنة رسولي خاتم الأنبياء وما اتفق عليه أهل العلم والإيمان، فإن ~~ذلك هو سلطان الله ونوره وهداه وبرهانه، ثم بعد هذا يتكلم. # ونحن فلم نكن أدخلنا سعد الدين ابن حمويه في هؤلاء، لأنه كان قد صحب ~~الشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا الشيخ نجم الدين هو من أجل شيوخ تلك البلاد ~~وأصحهم إسلاما وأبعدهم عما يخالف الكتاب والسنة. وكان الشيخ سعد الدين أخذ ~~منه طريقة صحيحة، لكنه أيضا مزجها بشيء من طريقة هؤلاء. وذلك لأن شيوخ سعد ~~الدين أربعة: # عمه صدر الدين، وإليه تنسب خرقته، فإن بني حمويه بيت قديم معروف بالمشيخة ~~والتصوف. # والشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا شيخ جليل من أعظم شيوخ تلك البلاد قدرا ~~وأصحهم طريقة، وله أصحاب كبار: كالشيخ مجد الدين البغدادي، والشيخ علي ~~لالا، والشيخ سيف الدين # PageV04P393 # الباجوري وغيرهم. # والثالث: الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو أيضا من أجلاء المشايخ، ~~وأكثرهم حرصا على متابعة السنة في أعمالهم. # وأما الرابع فهو الملقب بمحيي الدين ابن العربي، ومن هذا الشيخ دخل في ~~كلام سعد الدين الاتحاد ms0785. # وقد قدم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني ~~حاجا، وخاطبته في حال هؤلاء، وبينت له من كلام ابن العربي وغيره ما كان ~~طالبا له، حتى رجع عن تعظيم هؤلاء، وكفر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، ~~وقال: ما كنا نعرف حقيقة حال هؤلاء، ولا نعرف أن كلامهم مشتمل على هذا كله. ~~مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيما لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد ~~الدين. وجرت لنا معه فصول أظهر الله بها الحق وبين حال التوحيد وتلبيس ~~هؤلاء المنافقين. # وحدثني هذا الشيخ عن شيخه عز الدين الطاوسي أنه سمع الشيخ سعد الدين- وقد ~~سئل عن ابن العربي وعن الشيخ شهاب الدين، فقال:- أما ابن العربي فبحر لا ~~ساحل له، ولكن نور متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبين الشيخ شهاب ~~الدين شيء آخر. # وهدا كلام صحيح، فإن شهاب الدين شيخ مسلم محب لسنة رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - وشريعته، سالك طريقة أمثاله من المشايخ أهل المعرفة والدين، ~~عظيم القدر في وقته، رضي الله عنه. # PageV04P394 # وأما قوله عن ابن العربي: "بحر لا ساحل له" فلعمري إنه بحر، لكن ملح ~~أجاج، فإنه كثير الخوض في أحوال العالم وطبقات الكائنات، واسع الخيال، قادر ~~على الكلام، وهو في باطله أشد تمكنا من الشيخ شهاب الدين في حقه، فلهذا ~~جعله سعد الدين أوسع، وإن كان شهاب الدين أقوم، لكن الشيخ شهاب الدين من ~~خيار أمة محمد، وإن كان غيره من المشايخ الكبار- كالشيخ عبد القادر- ~~الواصلين إلى حقائق التوحيد النبوي الذي بعث الله به رسوله، وما اشتمل عليه ~~من أسماء الله وصفاته، التي بها يقتدرون على قمع هؤلاء الملاحدة ودفع ~~الجهمية وضروبهم؛ أرفع درجة، وأعظم علما وإيمانا، وأعظم جهادا ممن ليس ~~مثلهم، ممن يكون معرفته وتوحيده فيه نوع إجمال، لا يتميز فيه أهل المعرفة ~~والسنة المحمدية ممن خرج عن بعض ذلك من أهل النكرة والبدعة. فهم في ذلك ~~بمنزلة ملوك المسلمين الذين ضعف إيمانهم وجهادهم عن مقاومة جنكسخان ms0786 ونحوه، ~~بخلاف المؤيدين بكمال العلم والإيمان والجهاد، المتبعين لسيرة الخلفاء ~~الراشدين كالأئمة والمشايخ الكبار، فهؤلاء لا يقوم معهم لأهل الضلال والبدع ~~قائمة. # فسعد الدين- مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه ~~أحيانا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانا يجرد الاتحاد تجريدهم، بل يسلك ~~لنفسه مسلكا أبلق لا أبيض ولا أسود؛ وأحيانا يتكلم بكلام أهل الإسلام ~~الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -. # PageV04P395 # وأما صاحبه الطاوسي ففي كلامه من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - والباطل شيء كثير جدا. وتكلم في الحروف والدوائر بكلام انفرد به، لا ~~يشبه كلام أبي الحسن الحرالي ولا كلام أبي العباس البوني، وهو كلام فيه ~~أشياء حسنة مناسبة، وفيه أشياء لا فائدة فيها، وفيه أشياء ضعيفة بل باطلة ~~من جنس كلام سائر الناس، وفيه أشياء من الهذيان والباطل التي لا يقولها ~~عاقل. والله تعالى يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا يجعل في ~~قلوبنا غلا للذين آمنوا. # وإذ قد ابتدأ الشيخ بدعوى أن هذا هو الحق الصريح، فنحن نذكر ما تبين به ~~حقيقته. أول ما في هذا الكلام أنه دعوى مجردة بلا حجة ولا دليل، وإذا كان ~~من تكلم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يقبل منه إلا بالحجة ~~والدليل، فمن تكلم في خالق الخلق ورب العالمين بكلام لا يوجد في كتاب الله ~~ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا قاله أحد من السلف ولا ~~شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدق في عمومه، بل جميع أهل العلم والإيمان ~~والمشايخ المقبولون يكفرون من يقوله، ولم يأت عليه لا بحجة ولا دليل، كيف ~~يقبل منه؟ # ثم إن هذا الباب كيف يجوز لمؤمن بالته ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب ~~والسنة؟) ألم يسمع الله يقول: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا ~~على الله إلا الحق) (1) ، ألم يسمع الله PageV04P396 # يقول: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما ms0787 بطن والإثم والبغي بغير ~~الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا ~~تعلمون (33)) (1) . # ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه: # الأول # قوله في صدر الكلام: "كان الله ولا شيء معه"، فهذه الكلمة مأثورة عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) . ثم قال في آخره: "وهو الآن على ما عليه ~~كان"، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يؤثر عن ~~أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذكر في شيء من كتب ~~الحديث. وقد اعترف بذلك ابن عربي وغيره، فقال: قال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: "كان الله ولا شيء معه"، قال: وزاد العلماء "وهو الآن على ما عليه ~~كان". # وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~ويجعلون هذه الكلمة أس زندقتهم، وغرضهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس ~~معه غير ولا سوى، بل الوجود هو عينه ونفسه، فلا الأصنام والأوثان والجن ~~والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيره، وهو ~~الآن ليس معه غيره. PageV04P397 # فإذا عرف أن هذه الكلمة لا أصل لها في الشريعة انهدمت قاعدتهم. ولفظ ~~الحديث الذي في البخاري (1) عن عمران بن حصين قال: جاء وفد بني تميم إلى ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم! "، ~~فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فجاء أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن ~~إذ لم يقبلها بنو تميم"، فقالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، فقال: "كان ~~الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء". قال: وجاء ~~رجل فقال: أدرك ناقتك، فخرجت فإذا السراب ينقطع دونها، فوددت أني كنت ~~تركتها ولم أقم. # والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوز أن نجعل مع الله إلها آخر، فقال ~~تعالى: (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (22)) (2) ، وقال ~~تعالى: (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ms0788 ملوما مدحورا (39)) (3) ، ~~وقال: (الذين يجعلون مع الله إلها آخر) (4) . لم يقل: لا تجعل مع الله ~~مخلوقا ولا مصنوعا، أو لا تجعل مع الله عبدا ولا مملوكا، أو لا تجعل مع ~~الله عبادا له مخلصين، بل صرح بأنه مع عباده عموما وخصوصا، فقال: (ما يكون ~~من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا ~~أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا) (5) ، وقال PageV04P398 # لموسى وهارون: (إننى معكما أسمع وأرى (46)) (1) ، وقال: (إنا معكم ~~مستمعون (15)) (2) ، وقال: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا (40)) (3) ~~، وقال: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) (4) ، وقال: ~~(واصبروا عن الله مع الصابرين (46)) (5) . # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم أنت الصاحب في السفر ~~والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا" (6) . وقال ~~"أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت" (7) . وفي حديث: اللبيب في ~~الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء (8) . # فإذا كان ما ثم غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل ~~أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله (ولا تجعل مع الله إلها ~~آخر) (9) يقتضي أنه ثم شيء غيره، شيء لا يجوز أن نجعله إلها، ولكن يجوز أن ~~نجعله غير إله عبدا ومملوكا. PageV04P399 # وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلها فما جعلت معه إلها، إذ ما ثم غيره، فيجوز ~~عندهم أن يجعل كل شيء إلفا وما يكون قد جعل معه إلها، إذ ما ثم معه شيء ~~آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرح به صاحب "الفصوص"، وقال في فمن ~~الحكمة النوحية: (ومكروا مكرا كبارا (22)) (1) لأن الدعوة إلى الله مكر ~~بالمدعو، كأنه ما عدم في البداية، فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا ~~عين المكر، وقالوا في مكرهم: (لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا ~~يغوث ويعوق ونسرا (23)) (2) لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا ~~من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها، يعرفه من ms0789 عرفه ويجهله من جهله. كما ~~قال في المحمديين: (*وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (3) ، وما قضى الله ~~بشيء إلا وقع. فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق ~~والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة ~~الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود. # ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عباد الأصنام ما عبدوا إلا ~~الله، وإنه لا يتصور أن يعبد إلا الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود ~~هو عين الله= كيف يؤمن بقوله (ولا تجعل مع الله إلها آخر) ؟ وكيف يتصور ~~عنده أن ينهى أحد عن أن يجعل مع PageV04P400 # الله إلها آخر، وليس مع الله شيء لا إله ولا غير إله! وهذا المنهي عندهم ~~هو الله، وليس هو غيره! # الوجه ### | الثاني # قوله: "يحققوا أن الحق كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسه ~~بوحدته الذاتية عالما بنفسه وبما يصدر منه، # وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهدا لها". # هذا الكلام مضمونه أن الله كان عالما بالأشياء قبل كوبها، وهذا صحيح، لكن ~~العبارة فيها طول، وفيها ألفاظ موهمة، مثل قوله: "بما يصدر منه "، فإن هذا ~~يوهم مذهب الدهرية الذين يقولون: إن العالم صدر منه وفاض عنه. فلو قيل: ~~"عالم بنفسه وبما يخلقه وبما يريد أن يخلقه" كان ذلك من عبارات المسلمين ~~التي جاء بها الكتاب والسنة. وكذلك لو قيل: "كان رائيا لنفسه" كان ذلك ~~مطابقا لما جاء به الكتاب والسنة من وصفه بالرؤية، وكذلك يقول العلماء. # وأما لفظ التجلي فإنه لا يكاد يستعمل إلا في ظهور الشيء بعد خفائه، كما ~~قال: (والنهار إذا جلاها (3)) (1) ، وكما قال: (فلما تجلى ربه للجبل) (2) ~~ونحو ذلك. فيشعر ذلك أنه رأى نفسه بعد أن لم PageV04P401 # يكن رآها، وهذا باطل. والمتكلم لم يقصد ذلك، ولكن بتعمقه في العبارات ~~وخروجه عن ألفاظ القرآن والسنة يقع في هذه المزالق. # وأما قوله "كانت بأسرها منكشفة في حقيقة العلم شاهدا لها"، فهنا كلامان: # أحدهما: أن هذا ms0790 يقتضي أنه كان يرى المعدومات قبل وجودها. وهذه مسألة قد ~~تنازع فيها المسلمون، فأما العلم بها قبل وجودها فهو حق، لم يخالف به إلا ~~شرذمة كفرهم الأئمة كالشافعي وأحمد. وأما سمع المعدوم ورؤية المعدوم فذهب ~~أكثر العلماء والمتكلمين من أصحاب الشافعي وأحمد والأشعرية والمعتزلة إلى ~~امتناع ذلك؟ وذهب طائفة منهم من السالمية وغيرهم إلى جواز ذلك. وهذا قريب، ~~ليس هذا مما يخاطب فيه هؤلاء الاتحادية، فإن هؤلاء لو قالوا بقول المعتزلة ~~أو اليهود أو النصارى كان خيرا من قولهم، وأما قولهم فلم يظهر في الإسلام ~~إلا مع ظهور دولة التتار. لكن كان حق القائل أن يذكر حجة تدك على أن ~~المعدومات مشهورة مرتبة، فإن موارد النزاع إذا لم يكن فيها حجة كانت دعوى ~~مجردة. # الكلام الثاني: أن يعلم أن قولنا "كان يعلم الأشياء قبل كونها" ليس في ~~ذلك إثبات لكون المعدوم شيئا في نفسه، فإن مذهب جماهير المسلمين وجماهير ~~العقلاء أن الشيء قبل وجوده ليس بشيء أصلا، وأنه وإن كان معلوما لله فالعلم ~~بالشيء لا يقتضي أن يكون موجودا ولا ثابتا، إلا أن يقيد فيقال: موجود في ~~العلم وثابت # PageV04P402 # في العلم. وذلك أن الله يعلم الموجود والمعدوم والواجب والممكن والممتنع، ~~وقد اتفق العقلاء على أن الممتنع ليس بشيء، وإنما نازع بعضهم في الممكن، ~~فقال فريق من المعتزلة والرافضة: المعدوم الممكن شي ثابت في نفسه خارجا عن ~~العلم. ثم هؤلاء متفقون على أنه ليس كل ممكن وجد. # فهذا أيضا ينبغي أن نعرفه، فلا فرق عند أهل السنة وجماهير الخلق بين ~~الوجود والثبوت، بل المعدوم كما قال الله تعالى: (وقد خلقتك من قبل ولم تك ~~شيئا (9)) (1) ، وقال: (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ~~(67)) (2) . فإذا قال: "إنه معلوم لله" فهذا حق، لا فرق بين أن يقال: هو ~~ثابت في العلم أو موجود في علم الله. # الوجه الثالث # قوله: "فلما تحركت الإرادة الأزلية أن يعرض نفسه على الحقائق الكونية ~~المعدومة في نفسها المشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق، نزلت ms0791 الحلية ~~الإلهية من حقيقة كانه إلى سر شأنه، فعند ذلك قارن الألف النون، فعبر عنها ~~ب"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سميت عقدة "حقيقة النبوة"، فهو صورة علم الحق ~~بنفسه الواقعة بصورة العمل، المطابقة للصفة المعلومية، فصارت مرآة ~~PageV04P403 # لانعكاس الوجود المطلق محلا لتمييز صفاته القديمة، فظهر الحق فيه بصورة ~~وصفة واصفا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو الموصوف والثاني هو الواصف؛ ~~والأول هو المسمى باسم الله، والثاني هو المسمى باسم الرحمن. فلهذه الحقيقة ~~طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف ~~إلى ظهور العالم منه، وهو المسمى بالروح الإضافي". # ومضمون هذا الكلام أن الله لما أراد أن تتجلى الحقائق الثابتة في علمه ~~كما كانت متجلية له نزل من الذات إلى الفعل فقال: "أنا"، وظهرت حينئذ حقيقة ~~النبوة، وهي صورة علم الحق بنفسه، فظهر فيها الوجود المطلق الذي كان في علم ~~الله بطريق الانعكاس، كما ينعكس شعاع أحد المرآتين إلى الأخرى، وصارت محلا ~~لتمييز صفاته القديمة، فصار الحق واصفا موصوفا، واصفا باعتبار ظهور علمه ~~المطابق له وموصوفا، وجعل الموصوف هو الله والواصف هو الرحمن، وجعل لهذه ~~الحقيقة التي سماها عقدة "حقيقة النبوة" طرفا إلى الحق لكونها عالمة به، ~~وطرفا إلى ظهور العالم فيه وهو المسمى بالروح الإضافي. # وهذا كله عندهم في نفس الرب، وهذا كله عنده قديم أزلي كما قال في آخر ~~كلامه، فيكون المصطفى محمد نبيا في الأزل والأبد وسطا بين الله وعباده. # وأنا أعلم أن هذا الذي يصفونه ليس له حقيقة في الخارج، وإنما هو شيء ~~تخيلوه، ولهذا يصعب تصوره، لأن الخيالات # PageV04P404 # الفاسدة ليس لها حد. وما أكثر ما يوجد هذا في كلام هؤلاء الملحدة في ~~أسماء الله وآياته المشابهين للإسماعيلية والنصيرية والفرعونية، ولهذا كان ~~العلماء يقولون عنهم: لهم خيال واسع، والخيال والوهم محل الشياطين الذين ~~يتنزلون عليهم بهذا. # فيقال: قولك "تحركت الإرادة الأزلية" عبارة فيها إنكار، فلو قال: "توجهت ~~أو تعلقت الإرادة" كان أحسن. ومتى كانت هذه الحركة؟ أهي قديمة معه لم تزل ms0792 ~~أم كان ذلك بعد أن لم يكن؟ فإن كان قديما بطل قولك "فلما تحركت الإرادة ~~الأزلية نزل من كانه إلى شأنه"، فإن هذا ظرف لفعلات يقتضي تحولا من حال إلى ~~حال، والفعل الذي له ظرف زمان لا يكون إلا حادثا، ولذلك قلت: "فعند ذلك ~~قارن الألف النون فعبر عنها". والقديم ليس له ظرف زمان يتحول فيه، فإنه لم ~~يزل، وإن قلت: إن هذا محدث بطل قولك بعد هذا بنبوة محمد - صلى الله عليه ~~وسلم - من الأزل إلى الأبد. # وأيضا فقولك "يعرض نفسه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة ~~أعيانها في علمه" كلام باطل، فإن ### | الله لا يعرض نفسه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء، # وإنما يتجلى لأوليائه يوم القيامة في الجنة كما جاءت الآثار الصحيحة، ~~ويتجلى أيضا لعباده في عرصات القيامة. وقد قيل: إن محمدا رآه ليلة أسري، ~~وأما من سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يراه بعينه في الدنيا، كما ~~ثبت في صحيح # PageV04P405 # مسلم (1) عن النواس بن سمعان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر ~~الدجال قال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ~~ربه حتى يموت". وكذلك روي في حديث عبادة ومعاوية وغيرهما: "واعلموا أنكم لن ~~تروا ربكم حتى تموتوا" (2) . ومن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ~~ربه ليلة المعراج فإنه لا يقول: إنه تجلى له، فإن التجلي كمال الظهور، ولم ~~يكن الأمر كذلك، بل قد روى مسلم في صحيحه (3) عن عبد الله بن شقيق قال: قلت ~~لأبي ذر: لو رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لسألته، قال: عما كنت ~~تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال: قد سألته فقال: "نور أنى أراه"! ~~وفي رواية: "رأيت نورا". فهذا من يثبت الرؤية يقول: أراد نفي العين، لأن ~~نوره أعشى بصره، ومن ينفيها يحتج به على نفيها، فقد اختلف أهل السنة ~~-واختلفت الرواية عن الإمام أحمد- هل يقال: رآه بعيني رأسه أو بعيني قلبه، ~~أو يقال: رآه ولا يقيد ms0793؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عند أحمد. # فأما رؤية القلب -وهو شهود أهل المعرفة- فهذا موجود في الدنيا لغير النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - كلما ولي، وكذلك رؤية المنام، لكنه سبحانه يرى في ~~صور بحسب حال الرائي، فإن رؤية المنام تقتضي ذلك. وأما الأحاديث التي فيها: ~~"رأيت ربي في صورة كذا وكذا، فوضع PageV04P406 # يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري" (1) فهذه كانت في المنام، ~~فإن هذه لم تكن ليلة المعراج لأنها كانت بالمدينة، فإن فيها أنه احتبس عنهم ~~في صلاة الفجر، ورواها معاذ بن جبل وأم الطفيل وغيرهما ممن لم يصل خلفه إلا ~~في المدينة، والمعراج كان بمكة بنص القرآن وبالسنة المتواترة والإجماع، ولم ~~يقل أحد: إنه رآه بالمدينة. # فأما الأحاديث التي روي فيها أنه رآه في سكك المدينة أو في الطواف أو في ~~عرفة فكلها موضوعة مكذوبة (2) . # والغرض هنا أنه لم يقل قط مسلم: إن الله عرض نفسه على معلوماته أو ~~مخلوقاته، ولا إنه تجلى لمعلوماته أو لجميع مخلوقاته، بل موسى قد سأل ~~الرؤية فقال: (لن تراني) (3) ، وقال: (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه ~~فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) (4) . فإذا كان موسى عليه السلام ~~عجز عن PageV04P407 # رؤيته في هذه الدار، والجبل جعله دكا لما تجلى له، وقوله (فلما تجلى ربه ~~للجبل) يدل على أنه لم يكن متجليا له قبل ذلك= فكيف يقال: إنه عرض نفسه أو ~~تجلى للكلاب والخنازير والقرود والديدان والكفار والمنافقين والجن ~~والشياطين؟ كما قال: "عرض نفسه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها ~~المشهودة أعيانها في علمه"، فإن علمه محيط بكل شيء مما ذكر ومما لم يذكر، ~~فإن كان قد عرض نفسه على ذلك كله فقد لزم ما ذكر من الكفر الفاحش وما هو ~~أفحش منه. # ثم وأيضا فإن المعلوم قبل وجوده ليس هو سببا موجودا ثابتا يعرض فيه شيء ~~أو يتجلى له شيء أصلا، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان ~~كيف كان يكون ms0794، كالجمل الشرطية المعلقة بشرط معدوم مثل قوله: (ولو علم الله ~~فيهم خيرا لأسمعهم) (1) ، وقوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (2) ، ~~وقوله: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) (3) ، وقوله: (ولو شئنا لآتينا ~~كل نفس هداها) (4) ، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ~~(82)) (5) ، (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (6) ونظائره متعددة. ~~PageV04P408 # بل قد يعلم الله بعض عباده ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان ~~يكون، فإنا نعلم ما مضى من القرون والأحوال، ونعلم أن القيامة ستقوم، وأنه ~~سيدخل قوم الجنة وقوم النار، وقوم ما أخبر الله به من أن أهل النار لو ردوا ~~لعادوا لما نهوا عنه. # ثم إذا علمنا الحوادث المستقبلة لم يكن أعيانها الحقيقي الخارجية موجودة ~~في علمنا، بل وكذلك الماضية، فإن نفس السماوات والأرض ليست في نفوسها، فكيف ~~يتصور أن يعرض نفسه أو يتجلى لشيء ما وجد بعد ولا صار له حقيقة؟ ولكن علم ~~أن سيوجد. فإذا علم الله أنه سيولد ولد بعد حول، فهل يتصور قبل أن تحبل به ~~أمه أن يعرض عليه شيئا أو يتجلى له شيء من الحقائق؟ وهل يتصور أن يكون ~~المعدوم -وإن علم أن سيوجد- هل يتصور أن يكون عليما تجلت له الحقائق؟ فضلا ~~عن أن يعرض نفسه عليه. # وأيضا "نزلت الحلية الإلهية من حقيقة كانه إلى سر شأنه" فيه أولا لفظه ~~"كانه" كما استعملت أولا، وهذا خطأ، فإن الفعل لا يضاف، ولا يقال: "كانه ~~وصاره وأصبحه"، وإن كان أبو الحكم ابن برجان يستعمل هذا اللفظ في "شرح ~~الأسماء الحسنى"، وهو كتاب جليل كثير الفوائد، لكن هذا اللفظ خطأ. # ثم ما هذا "الشأن" الذي نزل إلى سره؟ أهو شيء منفصل عنه أم متصل به؟ فإن ~~كان منفصلا عنه فكيف يكون شيء منفصلا عنه قبل أن يخلق شيئا؟ لا سيما على ~~أصلهم الإلحادي أنه ما ثم شيء # PageV04P409 # منفصل عنه. وإن كان متصلا به فكيف ينزل من كانه إلى متصل به وقائم به؟ ~~وهل كان قبل هذا ms0795 النزول في غير شأنه ثم نزل إلى شأنه؟ أم لم يزل في شأنه؟ # ثم عندكم هو الآن على ما هو عليه كان ليس معه شيء، فهذا الشأن الذي نزل ~~إليه من كانه الأول هو شيء أم لا؟ إن كان شيئا فقد صار معه شيء آخر لم يكن ~~معه، وإن لم يكن شيئا فلم ينزل إلى شيء، فلم يزل في كانه ولم يتجدد شيء، ~~فما الذي بدا مما بدا؟ # هؤلاء قوم تخيلوا خيالات فاسدة، وسمعوا ألفاظا، فوضعوها على غير مواضعها ~~بحسب تلك الخيالات، فإذا حققت معانيها جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان ~~زهوقا. (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك ~~يضرب الله الأمثال (17)) (1) . # سمعوا قوله (كل يوم هو في شأن (29)) (2) مع قوله "كان ولا شيء معه"، وقول ~~الله ورسولي حق، فإن الله كان ولا شيء معه، وهو في كل يوم في شأن من شئونه، ~~وهو أفعاله كما جاء في الحديث: "يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع ~~آخرين". ليس في هذا نزول عن كانه إلى شأنه، وإنما هو خالق خلق وأبدع وفطر ~~وأنشأ، ويحدث الله من أمره ما يشاء. PageV04P410 # وأيضا "فعند ذلك قارن الألف النون، فعبر عنها ب"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة ~~سميت عقدة "حقيقة النبوة"، يقال له: أين كانت الألف والنون قبل ذلك حتى ~~تقارنا حينئذ؟ وما الذي أوجب اقترانهما بعد افتراقهما؟ وإن حدثا حينئذ فما ~~الموجب للحدوث؟ وقوله "عبر عنها بأنا" فقبل ذلك ما كان يقال له أنا لما كان ~~ولا شيء معه، لم يكن يستحق أن يقول أنا ولم يقل أنا، ولم يستحق أن يقول أنا ~~حتى نزل هذا النزول الذي ليس له حقيقة ولا معقول. # وكذلك هذه النقطة التي ظهرت، ما الموجب لظهورها؟ وأين ظهرت هذه النقطة؟ ~~ثم أغرب من هذا كله تسمية هذه النقطة عقدة حقيقة النبوة، ياليت شعري من ~~الذي سمى هذه النقطة بهذا الاسم؟ هل أنزل الله بهذا الاسم من سلطان؟ أم هي ~~أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ms0796 ما أنزل الله بها من سلطان؟ # قد علمنا وتحققنا أن هذا الاسم المفترى ليس له وجود في شيء من الكتب ~~المنزلة من السماء، ولا هو مأثور عن أحد من الأنبياء، ولا تكلم به أحد ~~السلف القدماء ولا من المشايخ والعلماء إلا هؤلاء المقاربون لدولة التتار ~~الذين بشؤم الكفر به استولى الكفار والفجار، وجاسوا خلال الديار، حيث ~~ألحدوا في أسماء الله وآياته، وغيروا ما بعث الله [به] رسوله من الهدى ودين ~~الحق الذي وعد أن يظهره على الدين كله. # ثم هذه النقطة العجيبة التي سميتموها عقدة حقيقة النبوة أهي من الأعيان ~~التي تقوم بنفسها من غير محل؟ أم هي من الصفات # PageV04P411 # التي لابد لها من محل؟ فإن كانت عينا قائمة بنفسها فإما أن تكون هي الحق ~~أو غيره، فإن كانت الحق فلم يتجدد شيء، وإن كانت غيره فقد حدث غير الرب، ~~فقد جعل الحق يظهر فيه وسماه الرحمن، فيكون الرحمن اسما لغير الله. وإن ~~كانت صفة من الصفات، وليس هنا ما يقوم به إلا الرب، فتكون هذه النقطة صفة ~~له، أفهي حادثة أم قديمة؟ فإن كانت قديمة فلم يتجدد شيء، وإن كانت حادثة ~~وهي صورة علم الحق فقد تجدد له علم لم يكن له قبل ذلك، وهذا مع أنه كفر لا ~~يقولون به، لأنه تقدم أنه كان عالما بنفسه وبسائر المعلومات. # ومقصوده بهذه الكلمات أن الحق صار معلوما متجليا لمعلوماته بعد أن كان ~~عالما بها وهي متجلية له، وقد قدمنا أنه لا يتجلى لجميعها إلا أن يعنى ~~بتجليه لها دلالتها عليه أو علمها به، كما قيل في قوله: (وإن من شيء إلا ~~يسبح بحمده) (1) . ففي الجملة كون الحق يصير معلوما لبعض الخلق أو كلهم هذا ~~معنى صحيح، لكن كيف يعلمونه قبل أن يخلقهم. # فإن قيل: لأنهم في علمه. # قلنا: وهم في علمه عالمون به، فإنه يعلم الأشياء على ما عليه، فيعلم ~~المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، والعالم عالما والجاهل جاهلا، وأي حال تجدد ~~للشيء فانه يعلمه عليه في علمه قبل أن PageV04P412 # يكون ms0797، كما يعلم نفس الشيء قبل أن يكون، فلا يتصور أن تصير المخلوقات ~~عالمة في الخارج إلا بعد وجودها في الخارج، كما لا يعلم أنها عالمة إلا إذا ~~علمت هي، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف في الخارج أو العلم محال. # فهذا التقسيم والتحقيق يكشف ما أبدوه من الزخرف والتزويق، فإن هذه ~~الحقيقة إن كانت صفة لله ليعلم بها نفسه ومعلوماته، فالله علم بذلك قبل ~~ظهور هذه الحقيقة؛ وإن كانت صفة لغيره فلا يتصور وجودها قبل وجود ذلك ~~الغير. # وقوله "ظهرت نقطة" لفظ مجمل، أيعني حدثت؟ فالمحدث لابد له من محدث، ولابد ~~للصفة من محل، أم يعني انكشفت وتجلت؟ فلمن تجلت "وما ثم إذ ذاك إلا الله؟ ~~وهو عالم بنفسه ومعلوماته، فأي شيء انكشف له وتجلى بهذه النقطة العجيبة ~~الشأن؟ ما أشبه هذه النقطة بالكلمة التي تعبدها النصارى وتزعم أنها دخلت ~~الناسوت، فيقول لهم المسلمون: هذه الصفة صفة هي كلام لله، فإن كان كذلك لم ~~يكن إلها يخلق ويرزق ويعبد، ولا يحل المسيح دون الموصوف، وإن كان جوهرا ~~خالقا فإنما يتقدم بنفسه، فهي الأب أو غيره؟ إن كانت الأب فيكون الأب هو ~~الحال، وإن كان غيره فيكون جوهران منفصلان إلهان. فالنصارى في ضلالة وحيرة ~~حيث أثبتوا ثلاثة آلهة وقالوا: هي إله واحد. # وهؤلاء أثبتوا هذه النقطة العالمة العارفة محلا ولم يجعلوا لها محلا، ~~فالشأن كل الشأن في تحقيق هذه النقطة التي هي عقدة # PageV04P413 # حقيقة النبوة، فهو "صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة ~~للصورة المعلومية التي صارت مرآة لانعكاس الوجود المطلق محلا لتميز صفاته ~~القديمة التي ظهر الحق فيه بصورة وصفة، واصفا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو ~~الموصوف، والثاني هو الواصف، والأول هو المسمى باسم الله، والثاني هو ~~المسمى باسم الرحمن". # فيقال: قد علم أن هذان اسمان من أسماء الله، ليسا اسمين لشيء من صفاته ~~كالعزة والقدرة والحكمة، ولا اسمين لشيء سواه، وأسماء الله تعالى كلها ~~متفقة في دلالتها على نفسه المقدسة، ولكل اسم خاصة ينفرد بها عن الاسم ~~الآخر ms0798، فللرحمن الرحمة، وللحكيم الحكمة، وللقدير القدرة. وهكذا أسماء ~~الرسول وأسماء القرآن، ليست هذه الأسماء مترادفة، ولا هي أيضا متباينة من ~~كل وجه، بل هي باعتبار الذات مترادفة، وباعتبار الصفات غير مترادفة بل ~~كالمتباينة، ولهذا يسمى هذا النوع المتكافئة. وكل اسم فإنه يدل على ذات ~~الله وعلى خصوص وصفه بالمطابقة، ويدل على أحدهما بالتضمن، ويدل على الصفة ~~التي للاسم الآخر بالالتزام، فإنه يدل على الذات المستلزمة للصفة الأخرى، ~~فبين كل اسمين اجتماع وامتياز إلا اسم "الله"، ففيه قولان. ولهذا هل يدخل ~~في الأسماء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنه لا يدخل في هذه ~~الأسماء، بل هو متضمن للجميع، وهذا يطابق قول من يقول: ليس بمشتق. والثاني: ~~أنه من الأسماء، وهذا يطابق قول من يقول: إنه مشتق. # PageV04P414 # والصواب أنه فيه الاشتقاق وعدم الاشتقاق، ففيه الاشتقاق الأصلي لا ~~الوضعي، فليس في الاستعمال مشتقا كاشتقاق سائر الأسماء التي هي اشتقاقها ~~اشتقاق الصفات. وأما في الأصل فإنه مشتق، وهذا يسمى الاشتقاق الوضعي، وذاك ~~يسمى الاشتقاق الوصفي. # والأسماء جميعها هي أسماء لله رب العالمين، وأما صاحب "الفصوص" وأصحابه ~~الاتحادية فعندهم أسماء الله نسب وإضافات بين الوجود ليس موجودة، فهو يقول: ~~إضافة بين الوجود الذي هو الله عنده وبين الثبوت؛ وغيره يقول: نسبة بين ~~أجزاء الوجود وجزئياته. وهؤلاء أعظم الناس إلحادا في أسماء الله. # إذا عرف هذا فالفرق بين اسم الله والاسم الرحمن أن الرحمن متضمن للرحمة ~~المتعلقة بالخلق، والاسم الله متضمن للعموم أو لخصوص الإلهية التي هي ~~استحقاق العبادة. فأما كون هذا واصفا والآخر موصوفا فهذا شيء ليس له دخول ~~في معنى اسم الله والاسم الرحمن. # ثم يقال لهم: فهل كان الله في كانه قبل نزوله إلى سر شأنه مستحق لهذه ~~الأسماء أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهذا كفر، وإن قالوا: نعم، قيل: فأنتم قد ~~جعلتم الرحمن متأخرا عن نزوله إلى سر شأنه! # PageV04P415 # فصل # اعلم أن قول هؤلاء المنتسبين إلى ابن حمويه مضطرب مخبط، فإنه ليس توحيدا ~~محضا، ولا إلحادا محضا، وإنما يظهر بظهور مذهب ms0799 أهل التوحيد من المسلمين ~~وسائر أهل الملل، وبظهور مذهب الملحدة الاتحادية مثل أصحاب ابن عربي وابن ~~سبعين والتلمساني، ثم يتبين قول هؤلاء، فنقول: # أما ### | مذهب المسلمين وسائر أهل الملل # من اليهود والنصارى بل وسائر المقرين بالصانع فهو أن الله سبحانه حق ~~موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو رب العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في ~~ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات ~~عباد لله فقراء إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقهم. # والقرآن من أوله إلى آخره يذكر هذا التوحيد ويبينه. # ومع هذا فلله أسماء وصفات وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله، ومن الجهمية من ~~ينكرها أو بعضها، ويصف الله بصفات سلبية تنافي ما جاءت به الرسل، وتكون تلك ~~الصفات مستلزمة للتعطيل، لكن النفاة لا يقرون أو لا يعتقدون أنها تستلزم ~~التعطيل. # والفلاسفة الصابئة القائلون بقدم العالم يقولون بواجب الوجود وبأنه ليس ~~هو العالم ولا جزءا منه، لكن يحكى عن فريق من الدهرية إنكار الصانع، وهذا ~~هو الذي ذكره الله في القرآن عن فرعون أنه # PageV04P416 # أنكر رب العالمين، ولكن كان هو وقومه كما قال الله: (وجحدوا بها ~~واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)) (1) ، ~~قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر0وقال له موسى: ~~(لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر) (2) . # وكان قدماء الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوق عرشه يقولون: إنه ~~بذاته في كل مكان، وإنه حال في كل مكان، وهو رأي طائفة من متصوفة الجهمية ~~مثل الديلمي ونحوه، وأما علماء الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلا بالسلب، ~~ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو فوق العرش ولا في العالم ونحو ~~ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفي ذاته، ~~ويقولون: إنما يدورون على التعطيل. # وهذا هو الذي أوقع هؤلاء الملاحدة الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود، ~~فإن العابد لا يقدر أن يعبد إلا شيئا موجودا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق ~~بمعدوم، بخلاف ms0800 الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون ~~بالنفي إذا لم يثبتوا وجودا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك ~~ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يغلب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله ~~ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم ~~يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفته رسله PageV04P417 # لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ~~ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء ~~وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم) (1) ، الذي هو فوق السماوات، فلابد أن ~~تتعلق قلوبهم بموجود ما، فتارة يتعلقون بأنه بذاته في كل مكان، وتارة تتعلق ~~بحلوله أو اتحاده ببعض الأشخاص كالمسيح وعزير وغير ذلك، وتارة يتعلقون ~~بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لابد للقلب ~~من صمد يقصد إليه بالعبادة حق موجود. # والصفات السلبية لا يتعلق بها القلب ولا يطمئن، فإن قصد العدم كعدم ~~القصد، وعبادة المعدوم كعدم العبادة. # فهذا الجهل والضلال بصفات ربهم هي التي أوقعتهم في عبادة ما سواه. ثم إنه ~~يحصل من أحدهم توجه إلى الله وعباد له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره، ~~ويرى أن حكم الله وسلطانه ساري في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله ~~الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها، ~~وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلا صنع الخالق وخلقه وملكه وسلطانه، ولهذا ~~تارة يجعلون الرب في ذلك كالروح في الجسد، وتارة كالماء في الصوفة، وهذا ~~قول بالحلول، والرب -كما قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وسائر أئمة ~~السنة والمعرفة- فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. فجاء هؤلاء الاتحادية ~~المستأخرون جعلوه نفس الموجودات لم يخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق ~~PageV04P418 # المصنوع هو الوجود الخالق. ثم قد علموا أن ثم خالقا ومخلوقا، فاضطربوا ~~هنا: # فأما صاحب "الفصوص" فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول ~~من يقول من المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء ms0801، ويقول: إن نفس وجود الحق فاض ~~عليها وظهر فيها، فوجودها هو وجود الحق، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما ~~كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، وإن الله ما أحسن إلى أحد ولا أنعم على ~~أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلته في فيض ~~وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت ~~الممكنات. # وهذا القول كفر، وهو باطل من وجهين: # من جهة أنه جعل المعدوم شيئا ثابتا، وفرق بين الثبوت والوجود، فإن هذا ~~قول باطل وفرق فاسد، وشبهته ثبوتها في علم الحق، ولا يلزم من علم الحق بها ~~ثبوتها في نفسها ولا وجودها. # الوجه الثاني: أنه لو فرض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجود الحق، بل ~~الرب أبدع وجودها وخلقها، كما قال تعالى: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)) ~~(1) ، وقال: (خالق كل شيء) (2) . # وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم، PageV04P419 # يقولون: إنه خلق وجوده، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق. # وأما سائر الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن ~~المعدوم شيء، بل منهم من يفرق بين الوجود المطلق والمعين، كالقونوي فإنه ~~يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعين لم يكن هو الحق. وعلى قول هذا ليس ~~لله وجود إلا ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودها. وهو أيضا جحد لرب ~~العالمين في الحقيقة، وإثبات للوجود الذي أقر به فرعون. # وأصحاب هذا القول والذي قبله يفرقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين ~~الظاهر المتجلي، فيقولون: ظهر وجوده في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه ~~"الفصوص"، أو ظهر الوجود المطلق في المتعينات- على رأي صاحبه الرومي. # وأما التلمساني وغيره فعندهم ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، ولا ~~يفرقون بين المطلق والمعين والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر ~~وأمواجه. وهم تارة يشبهون الله بالشمع والفضة الذي يظهر في صور مختلفة وهو ~~هو. # ثم يقول الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو. ~~وأما ابن ms0802 العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب ~~لونها، وهو واحد في نفسه. وأما التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء. # PageV04P420 # وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى سعد الدين بن حمويه فهو مركب من مذهب ~~المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسل عن الله، ومن مذهب هؤلاء ~~الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يشبه قول صاحب ~~"الفصوص" من وجه، وقول صاحبه الرومي من وجه، وليس مثلهما. وذلك أنه جعل ~~ثبوت الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها، ~~وثبوت الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلي على شيء علم قبل ~~أن يوجد. ثم جعل تجلي الحق لها بمنزلة ظهور وجوده في الأعيان الممكنة. # فهذا القول أقل كفرا، لكنه أظهر تناقضا، فإنه لم يصرح بأن وجودها عين ~~وجوده، ولا صرح بثبوت ذواتها، لكنه زعم أن تجليه لأعيانها الثابتة في علمه، ~~مثل ما ذكر صاحب "الفصوص" أنه حصول وجود الحق في أعيان الممكنات. وتكلم في ~~التعين بكلام قارب مذهب القونوي، كما سنذكره إن شاء الله. # وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرهم لا يفهمونه، ولعل ~~فاضلهم يفهم بعض مذهب نفسه فقط، لأنها أقوال هي في نفسها متناقضة، فاضطربوا ~~فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن ~~الباطل، كما قال تعالى. # (إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9)) (1) ، وكما قال تعالى. ~~PageV04P421 # (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)) (1) . # فصاحب هذا القول يقول: "هو في كانه يتجلى لنفسه بوحدته الذاتية، يشهد ~~نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن ~~يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه ~~الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق". # وهنا يضطرب أمره، فلم يصرح بأن وجوده قام بالأعيان الممكنة كما صرح ابن ~~العربي، فيكون اتحاديا محضا، ولا اكتفى بمجرد كونه يعلم أن تلك الحقائق أو ~~بعضها ستعلمه كما هو ms0803 الواقع، فإن الله إذا علم الأشياء وعلم أنها ستعلمه ~~لتكن حينئذ قد صارت موجودة عالمة حتى توجد. بل استعمل اللفظ المشترك كما ~~فعله في عين الحق، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره ~~لها علما بمنزلة ظهور وجوده في ذواتها. # فتدبر هذا، فإنه يبين حقيقة مطلوب هذا، ومعلوم أن وجوده الذاتي إن ظهر في ~~الأعيان فأول ما يظهر باسم "أنا"، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا ~~يتعين، ولا يكون له اسم إلا إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا ~~وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة، ~~وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة، ~~PageV04P422 # وذلك لأن الحق كان متجليا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى ~~شأنه تجلى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء ~~والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه. # فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم ~~الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلى لهذه ~~النقطة كما تجلى لنفسه، فصار شهودها له مطابقا لشهوده لنفسه، ولهذا قال: ~~فصارت مرآة لانعكاس الوجود المطلق محلا لتميز صفاته القديمة. # لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات ~~متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه، ~~ليس له اسم ولا صفة أصلا. وهذا وإن كان مطابقا لقوله غالية الصابئة ~~الفلاسفة والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسم ولا صفة، ولا ~~يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير ~~ذلك، فأولئك إذا حكى عنهم أنه يجعلونه عين مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه ~~ساريا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفت ~~على مقالة غلاة الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يضنون بها إلا على ~~خواص أكابرهم، فرأيتهم يصرحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية، ~~كالمذهب الذي ذكره ms0804 الله عن فرعون وحزبه، وعن الذي حاج إبراهيم في ربه. ~~وهكذا حكى عنهم من وقف على سر دعوتهم، كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني ~~والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم # PageV04P423 # والرد عليهم أبو عبد الله البصري وأبو الوفاء ابن عقيل وأبو حامد الغزالي ~~وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم. # وأما غالب الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو نفي ~~الأسماء والصفات عن ذاته، كما يظهره هؤلاء الاتحادية، ليظن الجهال أن هذا ~~تحقيق عظيم وتوحيد تائم، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون: ~~[ليس] له إلا صفة سلبية أو إضافية. # وقريب منه مذهب الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا ~~الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق، ~~وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قررت فساد مذاهب هؤلاء في ~~مواضع، وبينت في مخالفتها للكتاب والسنة والإجماع ولفطرة الله التي فطر ~~الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة. # وقد رأيت هؤلاء الغالية من الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر ~~والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود ~~الصانع بالكلية وجحود النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب ~~الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلاف إلا ~~في واجب الوجود، يعنون الذي صدرت عنه الممكنات، فإنهم يثبتونه ونحن لا ~~نثبته. # وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنت لما بينت له حقائق ~~أمرهم يتعجب من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صم بكم ~~عمي فهم لا يعقلون، حدثني أن # PageV04P424 # سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف. ~~وهذا حقيقة هذا القول المحكي عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية، ~~وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم ~~الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في ~~جحود رب العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهر فيه ms0805 صانعه، وهذا يقول: هو ~~صانعه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي ~~له اسم ولا صفة، وله أسماء وصفات، وهي نسبة ذلك الوجود إلى مظاهره ومجاليه ~~أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كل منهم يتخيل ~~نوعا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة ~~النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان، ~~فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبين أنواع كفرهم، ولئلا يحسب الجهال بهم أن ~~تحتها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملا أو مفصلا، لأنهم ~~منتسبون إلى الإسلام ومدعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد ~~يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج موسى إلى جهاد فرعون، وإبراهيم الخليل إلى ~~مناظرة الذي حاجه في ربه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد القرامطة الباطنية، ~~فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان (1) . PageV04P425 # مقدمة # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. # وبعد، فهذه مجموعة خامسة من "جامع المسائل" تحوي 18 رسالة وفتوى لم تنشر ~~ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، اعتمدت في إخراجها على أصول خطية، ~~ووجدت اثنتين منها (برقمي 3 و9) ضمن كتب مطبوعة، فاعتمدت عليها لعدم العثور ~~على مخطوطاتهما في المكتبات التي زرتها أو راجعت فهارسها. # والرسائل الآتية بأرقام (1، 4، 6، 7، 10، 12، 13، 14) تطبع هنا لأول مرة، ~~والبقية طبعت من قبل طبعات متفاوتة في الصحة وعلى مناهج مختلفة في التعليق ~~والتحقيق. ومجمل ما لاحظته في أكثر هذه الطبعات -مع اعترافي بفضل السبق ~~للقائمين عليها- أنهم لم يهتموا بضبط النص وتحريره وإخراجه سالما من ~~التصحيف والتحريف والسقط، بل انصرفوا إلى التعليق عليها، ونقل كلام المؤلف ~~من كتبه الأخرى في صفحات، والتعريف بالأعلام والبلدان والفرق، وإحصاء ~~الفروق بين النسخ (وجلها من تحريف النساخ) . وألحق بعضهم بالكتاب فصولا ~~ليست منه، كما في "الأموال السلطانية" (الطبعة الثانية بمكة المكرمة 1409) ~~ص 93-99، وفي "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (ط. دار ابن ~~حزم) ص 46-55. # PageV05P005 # ومن أمثلة الاضطراب ما وقع في الكتاب الثاني المشار إليه (ص 39) : "وما ~~نقله ms0806 بعض المفسرين في أنه تزوجها، وإنما هو منقول عن أهل الكتاب إن لم يكن ~~قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان ~~لا يصل إليها". وأن يوسف تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من ~~الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يصدق به، فإن هذا لم يخبر بنقله أحد عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -. [وقد] قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا ~~تصدقوهم ولا تكذبوهم". # انظر السياق الصحيح في طبعتنا (ص 253، 254) لتعرف مدى الخلط والاضطراب ~~الحاصل في هذه العبارة. # ومنهم من اجتهد في إخراج النص بالاعتماد على نسخ متأخرة وناقصة، ولم يطلع ~~على الأصل القديم الموجود في بعض المكتبات، وبعضهم اعتمد على أصول قديمة ~~ولم يحسن قراءتها. والأمثلة على ذلك كثيرة، لا أحب الخوض فيها وبيان ما حصل ~~من الناشرين من أوهام وتصرفات، وأقول: جزى الله من أحسن منهم وتجاوز عمن ~~أساء، ووفقنا جميعا لما فيه الخير والصواب، إنه سميع مجيب. ### | وصف الأصول المعتمدة # الأصول التي اعتمدت عليها في النشر تتفاوت في الجودة والقدم، وفيها ما ~~يصعب الاستفادة منها بسبب رداءة الخط وكثرة التصحيف والتحريف، وقد بذلت ~~الجهد في قراءتها قراءة صحيحة دون الإشارة إلى الأخطاء والتحريفات الواقعة ~~فيها، وتوقفت عند # PageV05P006 # بعض العبارات والألفاظ أياما حتى توصلت إلى حلها وفك الرموز عنها، وأشرت ~~إلى المواضع التي لم أهتد فيها إلى الصواب، وهي قليلة. وفيما يلي وصف هذه ~~الأصول: # (1) "ضابط التأويل": توجد نسخته الخطية في مكتبة الملك عبد العزيز ~~بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [2775] ، وهو أول كتاب ~~من "مجموعة رسائل" لشيخ الإسلام بخطوط مختلفة في تواريخ متباعدة. عدد ~~أوراقه 22 ورقة، وليس كاملا، فقد كتب في آخره: "آخر ما وجد، والله أعلم، ~~وليست كاملة". ويبدو أنه مأخوذ من "الكواكب الدراري"، فقد ذكر في آخر ~~الكتاب: "وهو آخر المجلد الخامس بعد المئة من الكواكب الدراري، ولله الحمد ~~والمنة، وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. غفر الله ~~لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولمن نظر فيه ms0807 ولجميع المسلمين. يتلوه في السادس بعد ~~المئة تفسير سورة سبح، وهي مكية" وفي النسخة بياض في مواضع، أشرت إليها في ~~التعليقات، وفيها اضطراب وغموض وشطب وإلحاق كثير، وكأن الناسخ نقل من الأصل ~~فرسم الكلمات كما وجدها دون أن يفهمها. # والكتاب في الأصل رد على من انتقد "الرسالة المدنية في الصفات" التي ~~أرسلها المؤلف إلى الشيخ شمس الدين. الدباهي، فقد اقتبس منها ومن كلام ~~المنتقد لها الذي لم يسمه، وأطال في الرد عليه، ولم يصل إلينا بتمامه. ~~وخطبة الكتاب مسجوعة، ولا غرابة فيها، فقد وجدنا المؤلف يميل إلى السجع في ~~مقدمات بعض كتبه، مثل # PageV05P007 # "شرح حديث إنما الأعمال بالنيات" (الذي وصل إلينا بخطه) وكتاب "تنبيه ~~الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل" (الذي نقل خطبته بتمامها ابن عبد ~~الهادي في "العقود الدرية" ص 29- 35) وغيرهما. # (2) "قاعدة في الوسيلة": توجد نسختها في مكتبة الدولة ببرلين برقم [2088 ~~(We. 1708) ] (الورقة 83-99) ، وذكر المفهرس أنها من القرن التاسع (1) . ~~والنسخة بخط نسخي، وفيها بعض الأخطاء من الناسخ الذي لم يذكر اسمه. # (3) "الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) ": ذكرها ابن رشيق (2) وقال: ~~إنها بضع وعشرون ورقة، وذكرها أيضا ابن عبد الهادي (3) ولم أعثر على نسخة ~~خطية منها، والمنشور هنا يمثل قطعة منها توجد في "شرح الكوكب المنير" ~~(2/34-45 من طبعة جامعة أم القرى سنة 1400) . # (4) "فتوى في الخضر": ذكر ابن رشيق (4) رسالة في الخضر هل مات أو هو حي؟، ~~وذكرها ابن عبد الهادي (5) وقال: "واختار أنه مات". # وقد نشر في "مجموع الفتاوى" (4/338-340) ما يخالف PageV05P008 # هذا الاختيار، واستشهد به أحد علماء اليمن، فرد عليه قطب الدين الخيضري ~~(ت 894) في كتابه "افتراض دفع الاعتراض"، وقال (ق 13أ) : "هذا الذي نقله عن ~~ابن تيمية ليس هو اعتقاده في مسألة الخضر، وإنما نقله عن الطائفة القائلين ~~بحياته. والمنقول عن ابن تيمية ترجيح القول بوفاته، وقد تتبعت جواب ابن ~~تيمية في هذه المسألة الذي نقل عنه الطحاوي هذا الكلام، فلم أزل حتى ظفرت ~~به، فوجدته قد قال بعد حكاية هذا القول واحتجاج القائلين به ما نصه ... ". # ثم نقل ms0808 الفتوى، وقال بعدها (ق 14ب) : "فهذا هو المحفوظ عن ابن تيمية في ~~حال الخضر. وقد تكلم على ذلك في عدة مواضع من تصانيفه وفتاويه، وقد وقفت له ~~على فتاوى كثيرة سئل عنها في هذا المعنى". # ونظرا لأهمية هذه الفتوى ننشرها في هذه المجموعة بالاعتماد على ما ورد في ~~كتاب "افتراض دفع الاعتراض" نسخة مكتبة الدولة في برلين برقم [2530 (Lbg. ~~604) ] ، (الورقة 13أ-14ب) (1) . # والقول بوفاة الخضر هو المعروف عن الشيخ، كما في كتابه "الرد على ~~المنطقيين" (ص 184-185) و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 198) و"مجموع الفتاوى" ~~(4/337، 27/100) ، وهو الذي نقله ابن القيم عن شيخه في "المنار المنيف" (ص ~~68) . PageV05P009 # (5) "سؤال في يزيد بن معاوية": توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون ~~برقم [520] (الورقة 63 ب-71 ب) ، وهي نسخة مصححة ومقابلة على الأصل، فقد ~~كتب في آخرها: "بلغ مقابلة على الأصل، ولله الحمد". ولعلها من مخطوطات ~~القرن الثامن. وكانت في ملك الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطي الحنبلي ~~سنة 1280، كما يدل عليه التملك الموجود بخطه على صفحة العنوان. # وللشيخ كلام آخر في هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (4/481-488) يختلف ~~عما هنا. وذكر ابن رشيق (1) وابن عبد الهادي (2) له رسالة في أمر يزيد هل ~~يسب أم لا؟ ولا ندري هل هي إحداهما أو غيرهما. # (6) "فصل في اسمه تعالى القيوم": أصله في دار الكتب المصرية برقم [330 ~~تفسير تيمور] (ق 102-115) ضمن مجموع، وهو بخط حديث لم يكتب عليه تاريخ ~~النسخ واسم الناسخ، وفي هوامشه بعض التصحيح. # (7) "فصل في معنى الحنيف": هو ضمن المجموع السابق (ق 88-97) . # (8) "فصل إذا كان في العبد محبة": توجد مخطوطته ضمن PageV05P010 # مجموعة في مكتبة المكتب الهندي بلندن برقم [عربي 1857 من مجموعة دلهي] ~~(الورقة 117-121) ، وهي بخط نسخي حديث، وليس عليها اسم الناسخ. وفي أول هذه ~~المجموعة ما يفيد أنها كانت في "ملك الفقير أحمد الباسطي بن عبد الصمد، ثم ~~ملكه عبد الرحمن أحمد خادم الإمامين الأعظمين". # وقد نشره الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ضمن "دراسات عربية وإسلامية ~~مهداة إلى محمود محمد شاكر" (ص 437-452) ط. القاهرة 1403، وهي نشرة ms0809 جيدة. # (9) "فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره": هذا الفصل مقتبس من كلام الشيخ ~~في "حاشية الجمل على تفسير الجلالين" (4/236- 237) ، وقد أرشدني إليه الشيخ ~~بكر بن عبد الله أبو زيد، فجزاه الله خيرا. ووجدته باختصار في مصادر أخرى، ~~مثل: "حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي" (4/416) و"حاشية ~~الصاوي على تفسير الجلالين" (4/142) و"روح البيان" لإسماعيل حقي ~~(9/248-249) . # ولشيخ الإسلام فتوى في هذا الموضوع ضمن "مجموع الفتاوى" (24/306-313) قرر ~~فيها أن أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له وبما يعمل ~~عنه من البر، وأن هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه ~~الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. ثم سرد بعض هذه ~~الأدلة. # PageV05P011 # وقال في "شرح حديث أبي ذر" ضمن "مجموع الفتاوى" (18/143) : "وقد بينا في ~~غير هذا الموضع نحوا من ثلاثين دليلا شرعيا يبين انتفاع الإنسان بسعي ~~غيره". # وهذا كله يؤكد صحة نسبة الفصل المذكور إلى الشيخ. # (10) "رسالة في الاتباع": هي ضمن مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب ~~الظاهرية بدمشق [مجموع رقم 18 (عام 3755) ] . # (الورقة 6-20) ، مخرومة من أولها، وقد ذهب ذلك بعنوانها. # وفيها خرم آخر بين الورقتين 14 و15، فالكلام ليس بمتصل فيهما. # والنسخة جيدة كتبت بخط نسخي واضح من خطوط القرن الثامن تقديرا. وقد ~~عنونها مفهرس المجاميع ب "رسالة في التوحيد" (1) ، والكلام فيها يدور حول ~~اتباع السنة ونبذ البدع، فيحسن أن تسمى "رسالة في الاتباع". # ولشيخ الإسلام "قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وأن كل خير في العالم ~~فأصله متابعة الرسل" (2) ، و"قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - " (3) ، و"اتباع الرسول بصريح المعقول" (4) . # (11) "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن": ذكر PageV05P012 # ابن عبد الهادي (1) أن الشيخ شرح هذا الحديث مرات عديدة. وقد # وصل إلينا أحد شروحه للحديث في النسخة الخطية الموجودة # بدار الكتب المصرية تحت رقم [20545 ب] (ق 1-9) ، وقد كتبت بخط نسخي جيد، ~~وليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع تقديرا. ~~وهذه النسخة ms0810 كثيرة الأخطاء والتحريفات، وفيها اضطراب شديد في موضع أشرت ~~إليه فيما مضى. # (12) "فصل في قوله: أصدق كلمة قالها شاعر ... ": هو ضمن المجموع الموصوف ~~سابقا برقم (7) ، الورقة 97-102. # (13) "المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية": وصلت إلينا ثلاث نسخ ~~منها: # إحداها: ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع ~~40] (الورقة 320-325) بخط العلامة المحدث ابن الملقن (ت 804) ، فقد جاء في ~~آخرها: "تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري ~~الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين". وهو ابن الملقن ~~كما ذكرنا، ولم يثبت تاريخ النسخ، ولعله كتبها في أواخر القرن الثامن. # والنسخة الثانية: في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية [204 مجاميع] ~~الرسالة الخامسة ضمن المجموع، بعنوان "جواب عن حكم PageV05P013 # الصلاة خلف المالكية وغلط المانع". وهي بخط قديم (1) . # والنسخة الثالثة: ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة، في دار الكتب ~~الظاهرية بدمشق برقم [578] (الورقة 6-8) ، وفيها بعض الأخطاء. # وتوجد هذه المسألة ضمن "مجموع المنقور" (1/111-115) ، ولكنها مختصرة ~~هناك، واعتمدت على النسخة الأولى في إثبات النص لكونها أصح من غيرها. # (14) "رسالة إلى الملك المؤيد": توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة التي ~~سبق وصفها برقم (9) ، الورقة 121 ب-126 أ. وقد ذكرها ابن رشيق (2) وابن عبد ~~الهادي (3) بعنوان "رسالة إلى ملك حماة". # (15) "رسالة إلى الملك الناصر في شأن التتار": توجد النسخة الفريدة منها ~~في مكتبة كوبريللي برقم [1142] (الورقة 174- 179) ، وقد كتبت سنة 758 بخط ~~نسخي ممتاز. وللشيخ رسالة أخرى إلى الملك الناصر بعد فتح جبل كسروان، نشرت ~~ضمن "العقود الدرية" (ص 182-194) . ولعلها تلك التي أشار إليها ابن رشيق ~~(4) وابن عبد الهادي (5) بعنوان "رسالة إلى ملك مصر". PageV05P014 # (16) "قاعدة في الانغماس في العدو": ذكرها ابن عبد الهادي (1) ، وتوجد ~~نسخة خطية منه بعنوان "رسالة في الجهاد" ضمن مجموع رسائل لشيخ الإسلام في ~~دار الكتب المصرية برقم [444 فقه تيمور] ، وهي في 48 صفحة بخط حديث، كتبت ~~في 25 من محرم سنة 1319. وناسخها عبد الحميد ... ، كما في خاتمة الرسالة ~~الثانية من هذا المجموع. والنسخة كثيرة الأخطاء والسقط، وقد أشرت إلى بعضها ~~في التعليق. # (17) "مسألة في المرابطة بالثغور ms0811 أفضل أم المجاورة بمكة": هي الرسالة ~~الثالثة ضمن المجموع السابق، في 75 صفحة، بخط الناسخ المذكور. # (18) "قاعدة في الأموال السلطانية": توجد منها نسخة في مكتبة جامعة ~~برنستون برقم [1377] (الورقة 23 ب-29 ب) ، كتبت في 15 من شعبان سنة 814 بخط ~~نسخي جيد، وهي مقابلة على الأصل كما يظهر من الدوائر المنقوطة. وقام بنسخها ~~محمد بن أبي شامة في مدرسة أبي عمر بدمشق، وقد قال في أول الرسالة: "نقلتها ~~من النسخة التي نقلت من خط شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن قوبلت". # ومنها نسخة أخرى بعنوان "قاعدة شريفة في الأموال المشتركة" في مكتبة ~~الأوقاف العامة ببغداد برقم [13754] (في 7 ورقات) ، وهي مكتوبة بخط فارسي ~~حديث، وليس عليها اسم الناسخ وتاريخ PageV05P015 # النسخ، ولعلها كتبت في أوائل القرن الرابع عشر. وهذه النسخة كثيرة ~~الأخطاء، ولذا لم أرجع إليها إلا في مواضع قليلة لاستدراك السقط أو تصحيح ~~الخطأ في النسخة الأولى. # وبعد، فهذا وصف إجمالي للأصول المعتمدة في تحقيق هذه الرسائل، وأرجو أنني ~~قد وفقت في قراءتها وإخراجها ضمن هذه المجموعة. ولا يفوتني أن أشكر هنا ~~أولئك المحققين الأفاضل الذين قرأوا هذه المجموعة قبل دفعها إلى المطبعة، ~~وأبدوا لي ملاحظات وتصويبات مهمة. # والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وهو حسبي ونعم الوكيل. # محمد عزير شمس # PageV05P016 ### | نماذج من النسخ الخطية # PageV05P017 ### | ضابط التأويل # PageV05P033 # بسم الله الرحمن الرحيم # رب يسر و [أعن] (1) # قال الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ~~بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: # الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي بعث إلينا رسولا ~~يتلو علينا آياته و [يزكينا] ، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي ~~ضلال مبين. إنه أكمل لنا [ديننا] ، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ~~دينا، وأخبر أن الدين عنده الإسلام هذا الدين، فمن يبتغ غير الإسلام دينا ~~فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وجعل الكتاب الذي أنزله بيانا ~~للناس وهدى وموعظة [للمتقين] ، وأخبر أنه أنزله بلسان عربي مبين، كما أخبر ~~أنه ليس على الرسول [إلا ms0812 البلاغ المبين] ، وذكر أن آياته أحكمت ثم فصلت، إذ ~~الإحكام والتفصيل يجمع خبرا وطلبا، وكمال القصد واللفظ الذي تتم به وتتبين ~~الأشياء، (من لدن حكيم) يحصل بحكمته الإحكام، (خبير (1)) (2) يفصل الخطاب ~~للمخاطبين. [فليس] كل من هدي للحق يسدد الخطاب، كما أنه ليس كل من سدد ~~الخطاب يبلغ PageV05P035 # إلى أفهام المستمعين بالإفصاح البليغ يكون قد هدي للحق. ولهذا قال النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب (1) : "يا علي! سل الهدى والسداد، ~~[واذكر بالهدى] هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك [السهم] " إلى # كمال العلم والقصد والقول والعمل. فهذا الدعاء المبين وما وصف سبحانه ~~كتابه ورسوله من البيان والتفصيل والهدى والتبليغ والإفتاء والموعظة ~~والشفاء والقصص والشهادة والرحمة، كقوله سبحانه وتعالى: (وأنزلنا إليك ~~الذكر ### | … # ) (2) . # ثم إنه سبحانه دعا إلى التفكر والتذكر والتأ [مل] والفقه لهذا البيان ~~عباده المبلغين، وجعل رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو [المبين] لما حصل ~~مجملا أو مشكلا على المكلفين، وثبت بالأدلة المتعددة ضبط علماء أصحابه ~~لمعانيه كضبطهم لحروفه المنقطعة القرين، وكانوا يلقون ما تلقوه عن رسولهم - ~~صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابهم من التابعين من الكتاب ظهرا وبطنا ومن ~~الحكمة صورة ومعنى مشتركين دون مختصين، فيشتركون كلهم أو أكثرهم في كثير من ~~ذلك أو أكثر، ويختص بعضهم ببعض ذلك وكل على ما يأثره أمين، شائع بينهم ~~معرفة أصول دينهم وعمل ملتهم جملة وتفصيلا ليسوا فيها مختلفين، وإن كان قد ~~يمتاز بعضهم من زيادة العلم ببعض ذلك بما ليس عند الباقين، واستفاضت النقول ~~عنهم أنهم تعلموا من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - جميع ما يحتاجون إليه ~~فيصيرون من الكاملين وما يصيرون به من الأكملين. PageV05P036 # ولهذا كانت البدع محرمة في وقت جماعتهم، لعدم مقتضيها أو لوجود منافيها ~~عن هذا الدين، ثم نبغت البدع وتعدت من الصغير إلى الكبير على قضاء سبق من ~~الكتاب المبين، فلما قتل الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على ~~خلافة الخلفاء الراشدين نبغ في آخر خلافة النبوة بدعتان متقابلتان تقابل ~~المغضوب عليهم والضالين: الخوارج يكفرون الخليفتين ومن تولاهما ms0813، يحلون دماء ~~أهل القبلة، ويفعلون بأهل الإيمان فعل اليهود بالنبيين؛ والروافض يغلون ~~فيمن يستحق الولاية والمحبة، فيطرونه إطراء النصارى، حتى وصفوا البشر ~~بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين. فتولى أمير المؤمنين عقوبة الطائفتين: ~~بقتال الطائفة الممتنعة من المارقين، وقتل المقدور عليه من الغالين، ~~والتعزير بجلد المفترين. # ثم لما صارت الجماعة على الأقذاء، وانصرف عن ضبط دقيق الدين وعناية الأمر ~~في أواخر عصر الصاحبين حدثت أيضا بدعتان متقابلتان ### | : بدعة القدرية والمرجئة # على منهاج الأولين، هؤلاء عظموا أمر المعاصي، حتى أوجبوا نفوذ الوعيد ~~بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين، ومنعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم ~~الراحمين، وأعظموا أن يكون الله قدرها أو شاءها أو يسرها، وسلبوا الإيمان ~~بالكلية لمن اتصف بها من المسلمين. وهؤلاء استخفوا بأمر الواجبات ~~والمحرمات، حتى استبعد بعضهم نفوذ الوعيد على الكبائر الموبقات، وزعموا أن ~~ذلك نوع من التخشين. وربما احتجوا لنفوسهم بالقدر السابق، وتشبثوا بكونهم ~~مجبورين، وسوى عامتهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفجار والصالحين ~~والفاسقين. # PageV05P037 # ثم من تمسك ببعض شعب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يوافقهم على ~~أصل بدعتهم ولا دعا إلى مذهبهم كثير من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه ~~أصحاب الصحيح ممن ينسب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يرد هذه البدعة بقايا ~~الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغر ~~الميامين. # ثم لما فرغ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعا وخفضا، ومن الدين ببدعتين ~~إبراما ونقضا، شرع في رب العالمين، فحدثت بدعتا الجهمية في أواخر عصر ~~التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسل من الصفات، كأنه عندهم من ~~الأمور المعدومات، مضاهاة لضلال الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطر ~~إلى إثباته جعله لآخر شاملا لمخلوقاته شمول الكل لأجزائه شائعا، حتى قد ~~خصهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده (1) ، وجعلوه ~~الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في معينين، وبعضهم يجعله ساريا في ~~المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى ~~الله عن افتراء الظالمين. # فشاركوا النصارى في ms0814 الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد ~~في الموجودين. ثم ضربوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصناف ~~المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى ~~إليها من المسموعات، تارة بدعوى النظر الثاقب للنظار، وتارة بدعوى الوجد ~~الصادق للعابدين. PageV05P038 # ثم آل الأمر بكثير منهم إلى أن عمم هذا فيما جاءت به الرسل من الوعد ~~والوعيد، وما وصفته من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين، فسلبوا ~~داري القرار ما عرف لهما من الصفات ونفوهما، إذ أثبتوهما كإثباتهم إله ~~المؤمنين، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات، تارة ينفون عن الأفعال ~~أحكامها الشرعية، وتارة يثبتون ذلك في حق العموم دون المتميزين، وعصامهم في ~~جميع ذلك نوع تعطيل يسمونه بالمعقول، ونوع تحريف يسمونه بالتأويل ويزخرفونه ~~بالتزيين. # وهؤلاء الممثلة يمثلون صفاته بصفات المخلوقات، ويجعلونه من جنس المصنوعات ~~وصنف الآدميين، حتى وصفه بعضهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك- ~~مضاهاة لكثير من اليهود في تمثيلهم لربهم بالمخلوق، حتى عبدوا العجل وكانوا ~~أتباع الدجال اللعين، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرهم معطلة جهمية ذات ~~تحريف يسمونه التأويل، يفرون به -زعموا- من تحيز ذي القوة المتين، فإنه قال ~~- صلى الله عليه وسلم - (1) : "لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى ~~لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: ~~"فمن". وجب بمقتضى هذا الخبر البين أن يكون في أمتنا ما كان في أهل ~~الكتابين قبلنا. هذا، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضل بعدم اتباع نبينا - ~~صلى الله عليه وسلم -، فلذلك افترقت أمتنا زيادة عليهم ثلاثة وسبعين. ~~PageV05P039 # واليهود والنصارى فيهم معطلة وممثلة، وإن كان الغالب على خاصتهم التعطيل، ~~فلذلك كانت المعطلة فينا أكثر من الممثلين، حتى إن المعطلة يكثر وجودهم، ~~والممثلة لا يكاد يوجد منهم إلا الواحد بعد الواحد في الأحايين. # فلما حدثت بدعة التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين، وكذلك من ~~بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكان ذلك عندهم أعظم من ~~جميع بدع المبتدعين، حتى أعظم السلف أمر ms0815 الجهمية ونحوهم وكفروهم، وإن كانوا ~~عن غيرهم متوقفين، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة ~~للمبتدعين، وكان أسعد الناس بهذه الوراثة أصحاب الكتاب والآثار المأخوذة عن ~~سيد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين (1) في كل باب في العلم عن ~~آثار الصحابة والتابعين، العالمين بصحيحه وعليله، الفاهمين بمنطوقه ودليله، ~~السالكين سبيل السابقين، الذين أخبر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث ~~يقول: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال ~~المبطلين وتأويل الجاهلين" (2) . # وكانوا هم أئمة الإسلام الذين هم قدوة المؤمنين، بحيث كان PageV05P040 # أرباب هذه البدع في أيامهم أصاغر مقموعين، [و] كانت دلائل الحق وآياته ~~ظاهرة مشهورة لمن كان لها يستبين. فقتل برأيهم غيلان القدري والجعد بن درهم ~~والجهم بن صفوان المعطلان ونحوهم من الظالمين. # إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قل أولئك الهداة وكثر هؤلاء الغواة، ~~واستعوزوا إلى باطلهم بعض الولاة، حتى ظهرت محنة الصفات في علماء المسلمين، ~~ودعوهم إلى القول بخلق القرآن، إذ هو مفتاح جحود الصفات، وأقرب من غيره إلى ~~المبتدئين. وظهر في الإسلام ما لم يعهد مثله من الفتنة في الدين، حتى عد ~~الناس من قام به ما كان أسى وصبرا من العلماء، ومن أطفأ شررها من الخلفاء ~~دفعا بجراءة، مفضلا على غيره من الأولين، وانكسرت بذلك سورة أهل البدع ~~ظاهرا، ولكن في النفوس من طواياها كمين مكين. # وصار من أسباب الفتنة أن نقلة الآثار قل فيهم الفقه والعقل، كما أن ذوي ~~النظر والاعتبار ضعف علمهم بآثار النبيين، ولن يتم الدين إلا بمعرفة الآثار ~~النبوية والسلفية وفقه لما قصدوه من المعاني الدينية، كما كان علماء ~~السالفين، وصار ذلك سببا لإعراض كثير من طلبة العلم من أعيانهم عن النظر في ~~قواعد الدين. # وظهر في الدولة المعتصمية مقاربا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرمية من ~~يقول بتواتر النبيين جريا على منهاج الفلاسفة وسلوكا لسبيل الصابئين، حتى ~~جرت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهور عند المؤرخين. # PageV05P041 # وظهر بأثر ذلك من أبطن ذلك من القرامطة ms0816 الباطنية والطائفة الإسماعيلية ~~الذين كثر فسادهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين. # وانتدب للرد على صنوف الكفار والمبتدعة طوائف من المتكلمين بحجج بعضها ~~صحيح قوي وبعضها مهين، لصعوبة الزام (1) علما وقصدا، وعسر الاستبداد في هذا ~~الباب بدرك اليقين، والهوس بفرح ما يقوم لها من الحجة على المنازع قبل تعقب ~~ما يلزم الحجة في سائر المواضع (2) . وهذا من أعظم الآفة على الناظرين ~~والمناظرين، فيحتاج أن تطرد تلك الدلالة، ويلتزم من اللوازم ما لا يظن أن ~~فيه إحالة، وإن كان مخالفا لنص مبين. # وهذا هو السبب كثيرا أو غالبا في البدع المخالفة للنصوص أو الدافعة لما ~~عليه كل ذي عقل رصين، حتى صار من نصر السنة في غالب الأمر يعد من متكلميها، ~~وإن اضطره تحقق حده وطرد دليله أحيانا إلى ما ينافيها، إذ ذلك غامض إلا على ~~الأقلين. وخرج كثير ممن ينصر السنة بالآثار إلى الاحتجاج بما لا يسوغ لأولي ~~الأبصار، إما لضعف الإسناد، وإما لعدم المتن المتين، وكثر في العلماء ~~المحسنين في أكثر قولهم من المتأخرين من يقع في كلامه من المخالفة للسنة ما ~~يروج عليه وعلى كثير من الناظرين، فيرد هذا عليه سائر حقه لأجل باطله، ~~ويلحقه بالمعطلين، ويقبل هذا جميع كلامه لاعتقاده فيه أنه كالسلف الماضين، ~~ثم إذا صارت الشبهات أهواء أخرجت من النفوس الداء الدفين. PageV05P042 # وصار كثير من طلبة العلم وأذكياء المباحثين يقفون على أقسام محصورة ~~وأمثال مسبورة في كلام كثير من الآخرين، فتوجب حسن الظن بعقول تدرك تلك ~~المطالب، وافتقار رجال ذهبوا تلك المذاهب، وإن كانوا للسلف مخالفين، إذ ليس ~~عندهم من السلف إلا أسماء مستطيرة وكلمات ليست بالكثيرة المعتبرة. ولولا ~~أبهة الإسلام في قلوبهم لعدوهم من العمين، وإن كان في الناس من يعتقد هذا ~~أو يتوقف فيه، وإنما سببه ضعف آثار المرسلين. # وإذا قيل "أهل الحديث" ذهبت أوهامهم إلى قوم من الرواة وضرب من النساخ ~~والمستمعين، وإن رفعوا البابة إلى قوم من الحفاظ لبعض الأسماء واللغات إذا ~~حدثوا، وظهر من الجهل والظلم اللذين وصف الله بهما الإنسان ms0817 ما أوجب نقص ~~العلم والدين. فهذا وأمثاله أسباب لما قضى به قدر الله في العالمين. # ثم مع ذلك فلله في كل زمان فترة من الرسل -كما قال الإمام أحمد (1) - ~~بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون ~~بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، وإن كانوا هم الأقلين. ~~بهم تقوم حجة الله في دق الدين وجله، ويحفظ بهم عمود الدين فرعه وأصله إلى ~~يوم الدين. هم الوسط في هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هم الوسط في الناس، ~~فهم شهداء عليهم بما أخذوه عن خاتم النبيين، وهم ورثة الأنبياء فيما جاءوا ~~به من العلم، وخلفاء الرسل فيما قاموا به من البلاع المبين، PageV05P043 # وقد يتفرق فيهم علم النبوة إذا لم يقم به واحد، ويغفر للمخطىء منهم في ~~مجتهداته إذا لم يكن عن سنن الاجتهاد بحائد، كما يعذر بعدم البلاع كثير من ~~المؤمنين. # فالحمد لله على ما بين وأمر، وعلى ما قضى وقدر من هذه الأقانين (1) ، ~~وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك [له] ، شهادة تحصن قائلها من النار ~~وتوجب له نور المتقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بأفضل كتاب وأقوم ~~دين، وأيده بأكمل الآيات وأشرف البراهين، وبعثه في خير أمة وأتم مكان وحين، ~~وبين به الحق بأفصح لغة وأبلغ تبيين، وأخرج به الخلق من الظلمات إلى النور ~~المستبين، وجعله سراجا منيرا، كما جعل الروح الذي أوحاه إليه نورا يهدي به ~~المهتدين، وعصمه من مخالفة سره لعلانيته لا سيما في إيمائه وخطابه ~~المستمعين، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين (2) ، ولا يومض ~~إيماضا يخفى على الحاضرين، كل ذلك تحقيقا لكمال البلاغ وتنزها عن ظنون ~~الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله كما صلى على إبراهيم إمام المسلمين، ~~وبارك عليه وعلى آله كما بارك على آل إبراهيم في العالمين، إنه سبحانه حميد ~~مجيب سميع لدعاء الطالبين، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وعلينا وعلى ~~عباد الله الصالحين. # أما بعد، فقد كان جرى بيني ms0818 وبين بعض الناس من نحو عشر PageV05P044 # سنين أو قريب منها أو أكثر منها مناظرة في الصفات والكلام على مذهب أهل ~~التأويل فيها، التمس مني بعد ذلك بعض الأصحاب حكايتها، فكتبتها إليه، مع أن ~~الكتابة لابد فيها من نوع زيادة غير متعمدة ونقصان، لكن المنقوص كثير، إذ ~~الخطاب يحتمل من البسط ما لا يحتمله الكتاب، ومن الورع أن تنقص من الحكاية ~~ولا تزيد فيها. # وتلك المناظرة -مع ما اشتملت عليه من القواعد المقررة والأصول المحررة- ~~لم تخرج مخرج تصنيف، وإن كان لا غرو في جعلها تصنيفا. # وصورة ما كاتبت به الطالب: فإن الله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة، ~~وكمل فطرتهم بالنبوة، واصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، ليعلموا الأمم ما ~~لم يكونوا يعلمونه، كما قال سبحانه وتعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ~~يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا ~~تعلمون (151)) (1) . # ولم يبعث رسله بغير فطرته التي فطر عباده عليها، ولا بإفساد عقولهم التي ~~بها ينالون علم ما أنزله عليهم، بل بعث الرسل بتعليم ما تقصر عقولهم عن ~~دركه، لا ما تقضي عقولهم بإحالته، وأمرهم بتقرير الفطر لا بتغييرها. ولهذا ~~قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن ~~الجاهلين (199)) (2) ، وقال في صفة المستحقين الرحمة: (الذين يتبعون الرسول ~~النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة PageV05P045 # والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) (1) . وجعل حجته التي يستحق ~~العذاب تاركها رسله المنذرين، دون مجرد الفطرة والعقل، كما قال سبحانه ~~وتعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) إلى قوله ~~تعالى: (وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس ~~على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)) (2) . # فأخبر أنه أرسل الرسل لئلا يبقى لأحد حجة، فعلم أن ### | الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل، # وأنه لم يبق لأحد بعدهم. # و"الحجة" اسم لما يحتج به، سواء كانت بينة أو شبهة، وإن كان قد اصطلح ~~كثير من المتأخرين قصر هذا اللفظ على البينات ms0819 دون الشبهات. فإن الأول هو ~~لغة القرآن ولغة العرب، كما قال سبحانه: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا ~~الذين ظلموا منهم) (3) ، وقال تعالى: (لا حجة بيننا وبينكم) (4) . وهي اسم ~~لما يقصده المحاج ويؤمه في حجاجه، ومثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين" (5) ~~. # وقال سبحانه وتعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم ~~القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ~~(14) PageV05P046 # من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر ~~أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا ~~مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)) (1) . فأخبر ~~سبحانه أن كل عامل يلزمه عمله، وأن منفعة هداه وضلالته عائدة عليه، وأنه لا ~~يحمل من سيئات غيره شيئا، وأنه لا يعذب أحد حتى يبعث إليه رسول، وأن القرى ~~إنما تهلك بعد فسق مترفيها. # وقال سبحانه وتعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ~~ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47)) # إلى قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو ~~عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)) (2) . # فهذه الآيات تشبه تلك الآيات. # وأخبر سبحانه عن عذاب الآخرة مثل ما أخبر به عن عذاب الدنيا، فقال سبحانه ~~وتعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال ~~أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال ~~النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) إلى قوله: (يا معشر الجن والإنس ~~ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا ~~شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا ~~كافرين (130) ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى PageV05P047 # بظلم وأهلها غافلون (131)) (1) . فأخبر سبحانه عن المعذبين من الجن ~~والإنس أن الرسل قد جاءتهم، وأخبر أنه لا يهلك ms0820 القرى إلا بعد الرسل ~~المذكرين. # وقال سبحانه: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت ~~أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم ~~وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ~~(71)) (2) . فأخبر سبحانه أن الزمر المسوقة إلى جهنم من الذين كفروا قد ~~جاءتهم رسل الله يتلون عليهم آياته وينذرونهم # يوم القيامة. # وقال سبحانه: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير (6) إذا ألقوا ~~فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (7) تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج ~~سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما ~~نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ~~ما كنا في أصحاب السعير (10)) (3) . # فأخبر سبحانه وتعالى أن كل فوج يلقى في النار يعترف بمجيء النذير ويقر ~~بتكذيبه، وأنه لو كان لهم عقل أو سمع لكان ذلك سببا لنجاتهم. # وهذا نظير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ~~أو آذان يسمعون بها) (4) ، وقولي تعالى: (إن في ذلك لذكرى PageV05P048 # لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (1) . ودل ذلك علي أنه ليس ~~مراده بالعقل أو بالقلب العاقل ما يستغني به عن الرسول بعد مجيئه، لأنه قد ~~أخبر عن هؤلاء الذين قالوا: "لو كنا نسمع أو نعقل" أن النذير جاء كل فوج ~~منهم، فكذبوه وأنكروا رسالته فعلم أن مع هذا التكذيب لا يبقى عقل منجي، وإن ~~كان العقل باقيا. # وكذلك في الآية الأخرى قال سبحانه وتعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم ~~أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) إن في ذلك لذكرى لمن كان ~~له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (2) ، وقال تعالى: (أفلم يسيروا في ~~الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) (3) ، فإنما ذكر ذلك ~~لبيان الاعتبار بآثار المهلكين من الأمم الذين كذبوا الرسل وعصوهم، وهذا ~~إنما هو عقل ينتفع به في الإيمان بالرسل ms0821 وطاعتهم، وإن لم يحصل ذلك بلسانه ~~أو بأمر لأخبارهم المفصلة، إذ من الناس من يتدبر بنفسه، ومنهم من يحتاج إلى ~~موقظ. وقد أخبر سبحانه وتعالى في غير موضع العقل المتعلق بآياته، كقوله ~~سبحانه وتعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43)) ~~(4) . # وقال سبحانه وتعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ~~إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) PageV05P049 # ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62)) (1) . فبين سبحانه أن ~~من ترك عهد الله إليه وضل عنه لم يكن يعقل. # وقال سبحانه وتعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن ~~تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا ~~أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39)) (2) . وقال أيضا: (قال اهبطا منها ~~جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ~~(123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) ~~قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ~~وكذلك اليوم تنسى (126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب ~~الآخرة أشد وأبقى (127)) (3) . قال ابن عباس (4) : تكفل الله لمن قرأ ~~القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وقرأ هذه ~~الآية. # فأخبر سبحانه أن من اتبع ما جاءه من الهدى على ألسن الرسل لا يضل ولا ~~يشقى، فلا يحزن ولا يعذب، وأن من أعرض عنه فإنه يعذب بالمعيشة الضنك، وأنه ~~يكون أعمى يوم القيامة، ضد المتبع لهداه. ثم بين سبحانه أنه يعمى في الآخرة ~~وإن كان بصيرا في الدنيا، لأن آيات الله أتته فتركها وأعرض عنها. ~~PageV05P050 # وفي هذا بيان واضح لأن المعرض عن آيات الله بترك الاستهداء بها يعمى ~~ويعذب، ولا ينفعه بصره وعقله. وبين أن هذا الحق يلحقه وإن لم يكن مكذبا ~~للرسل، لأنه علقه بمجرد الإعراض عن ذكره، وبين أن ذلك نسيان آياته التي هي ~~تركها. # ثم قال: (وكذلك نجزي من ms0822 أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) ، فمجرد عدم الإيمان هو ~~المؤثر وإن لم يكن ثم تكذيب، فإن ### | للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إما التصديق، وإما التكذيب، وإما عدمهما. # وكل واحد من التكذيب وعدم التصديق كفر. # ولما كان الغالب على المعرضين عن هدى المرسلين الإعجاب بآرائهم وبصائرهم ~~وعقولهم، والاستخفاف بأتباعهم، قال سبحانه عن قوم هود: (ولقد مكناهم فيما ~~إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا ~~أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا ~~به يستهزئون (26)) (1) . فأخبر سبحانه أن السمع والبصر والفؤاد لا يغني مع ~~الجحود بآيات الله. # ومثل ذلك قوله سبحانه: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من ~~العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (83) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا ~~بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا ~~بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده) (2) . فأخبر أن المنذرين PageV05P051 # أعجبوا بما عندهم من العلم، وهذه حال من استغنى بعقله وعلمه عما جاءت به ~~الرسل. وأخبر سبحانه أنه أحاط بهم ما كانوا يستهزئون به مما أنذرت به ~~الرسل. وهذه حال عامة المتكايسين من هؤلاء الذين ينكرون العقوبات التي ~~أخبرت بها الرسل. # وأخبر سبحانه أن ### | الرسالة عمت الأمم كلهم # بقوله سبحانه وتعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله ~~واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في ~~الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36)) (1) ، وقال سبحانه: (إنا ~~أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)) (2) . وكما ~~أخبر سبحانه أنه لم يكن معذبا أحدا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث ~~رسولا، أخبر سبحانه أنه بعث في كل أمة رسولا، لكن قد كان يحصل في بعض ~~الأوقات فترات من الرسل، كالفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ~~وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على ~~فترة من الرسل أن تقولوا ما ms0823 جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ~~والله على كل شيء قدير (19)) (3) . # وزمان الفترة زمان درست فيه شريعة الرسول وأكثر الدعاة إليها PageV05P052 # إلا القليل، ولم يدرس فيها علم أصول دين المرسلين، بل ### | يبقى في الفترة من الدعاة من تقوم به الحجة، # كما قال الإمام أحمد (1) رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة ~~من الرسل بقايا من أهل العلم، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بها أهل ~~العمى". # وكما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في حديث كميل بن زياد: "لن تخلو ~~الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عددا ~~والأعظمون عند الله قدرا" (2) . فمن قامت عليه الحجة في الإيمان والشريعة ~~التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب عليه اتباع ذلك، ومن درست ~~عنه شرائع الرسل أو لم يكن رسوله جاء بشريعة سوى القدر المشترك بين ~~المرسلين ففرضه ما تواطأت عليه دعوة المرسلين، من الإيمان بالله وباليوم ~~الآخر والعمل الصالح، دون ما تميزت به شريعة عن شريعة. وهؤلاء -والله أعلم- ~~هم الصابئون المحمودون في قوله سبحانه وتعالى: (إن الذين آمنوا والذين ~~هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم ~~عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (3) . PageV05P053 # فحمد سبحانه من هذه الأصناف الأربعة من آمن بالله واليوم الآخر وعمل ~~صالحا، وجعلهم من السعداء في المعاد، وهذا يبين أن في الصابئين من يكون ~~سعيدا في الآخرة حميدا عند الله. # وكذلك قال في سورة المائدة (1) : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ~~والنصارى من آمن بالله) ، والنصارى مقدمون على الصابئين كما في سورة ~~البقرة، ويشبه -والله أعلم- أنهم قدموا هنا لفظا لتقدم زمنهم، وجيىء بهم ~~بصيغة الرفع ليبين أن مرتبتهم التأخير، لأن المعطوف على "إن" واسمها بصيغة ~~المرفوع إنما يعطف بعد تمام الكلام. والصابىء هو الخارج، ولهذا كانوا يسمون ~~من خرج من دينهم الصابىء. والعلماء وإن كانوا قد اختلفوا في الصابئين ~~فالأشبه بظاهر القرآن والعربية وما دلت ms0824 عليه السير وما تقتضيه أصول ~~الشريعة: أن الصابئين هم المهتدون المستمسكون بأصول دين الأنبياء، وهو ~~المتفق عليه من الإيمان والعمل الصالح دون شريعة معينة، لأنهم يكونون بذلك ~~يصدق عليهم أنهم خارجون من خصوص كل شريعة، ويصدق عليهم أنهم آمنوا بالله ~~واليوم الآخر وعملوا صالحا. # فأما من كان صابئا لا يؤمن بالله واليوم الآخر و [لا] يعمل صالحا فهؤلاء ~~الكفار منهم، كعباد الكواكب ونحوهم، والقوم الذين بعث إليهم إبراهيم كانوا ~~صابئة، وكذلك فرعون وقومه، وكذلك أكثر PageV05P054 # أهل الأرض، وكان غالبهم مشركين، وعلماء الصابئين هم الفلاسفة، فمن كان من ~~أولئك الفلاسفة مؤمنا بالله واليوم الأخر عاملا صالحا فهو من الصابئين ~~الذين أثنى الله عليهم، ومن لا فلا (1) . # وهذا بخلاف المجوس والذين أشركوا فإن الله لم يحمد أحدا منهم، وإنما ~~ذكرهم لبيان حكم الله بينهم وبين غيرهم يوم القيامة في قوله تعالى: (إن ~~الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن ~~الله يفصل بينهم يوم القيامة) (2) . # ولما كان معلوما أن اليوم الآخر هو يوم القيامة، ولا يؤمن بيوم القيامة ~~إلا أتباع الأنبياء، إذ من لم يتبع الأنبياء من الصابئين وغيرهم إنما يؤمن ~~من المعاد بمعاد الأرواح فقط، كما يؤمن به المجوس وبعض المشركين، وذلك ليس ~~هو اليوم الآخر علم أن من اهتدى من الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء. # فتبين أن ### | كل هدى حصل به سعادة الآخرة فهو باتباع الأنبياء، # وأن كل عذاب استحق في الدار الآخرة فهو بالإعراض عما جاءوا به، ومن لم ~~تبلغه دعوتهم فقد ورد أنه يكلف في الدار الآخرة، وليس غرضنا ذكر ذلك. # ويبين ما قدمناه أن من استقرأ أخبار الأمم -علمائها وعوامها- PageV05P055 # لم يجد أحدا متمسكا بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له إلا من كان ~~متبعا للأنبياء جملة وتفصيلا، ومن أعرض عن الأنبياء فلابد أن يشرك، حتى ~~المنافقين من هذه الأمة لا يجد من أعرض عن اتباع حقيقة الدين في الباطن إلا ~~ولابد أن يشرك، إلا ما شاء الله. وأن اتباع الوحي لابد فيه من فطرة ms0825 بها ~~يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرة والشرعة، فلذلك عمد الشيطان ~~من بني آدم، فاجتالهم تارة عن الفطرة، وزين لهم تارة تحريف الشرعة، وغرهم ~~عن الفطرة الصحيحة السليمة بالقياس الفاسد الذي قد يسمونه معقولا وإن لم ~~يكن، وعن الوحي المنزل بالتحريف الذي يسمونه تأويلا وإن كان فاسدا. # وذلك أن العلوم لبني آدم نوعان: # نوع يختص الله به من يشاء من عباده، كما يوحيه إلى الأنبياء. ونوع مشترك، ~~ينال بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحساب ونحوه. # وكل واحد من المختص والمشترك منه ما يحصل في القلب بواسطة دليل، ومنه ما ~~يحصل لا بواسطة دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية ~~والحسية، والتي تفتقر إلى دليل هي النظرية. والمختصة التي تقف على دليل قد ~~يكون دليلها أيضا مختصا، وقد لا يكون مختصا، وإنما درك العلم به هو المختص. # وأما المختصة التي لا تقف على دليل فهو ما يوحيه الله إلى قلب من يشاء من ~~عباده بلا دليل أصلا، بل تكون للخاصة بمنزلة البديهية للعامة. # PageV05P056 # وزعم فريق من المتفلسفة أن علوم الأنبياء المختصة لابد لها من وسط، وإنما ~~خاصتهم درك وسط لا يدركه غيرهم، وأن الحدس هو درك الوسط، ثم الانتقال منه ~~إلى المطلوب، بخلاف التفكر فإنه تصور المطلوب أولا ثم طلب الوسط. # وهؤلاء بنوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوة كمال علمي وعملي من جنس ~~كمال النوع المكتسب، لكنه أرفع درجاته، وأن النبوة ليست خارجة على القوى ~~المعتادة، ولاهي تنزيلا خاصا من عند الله إلى من يختصه بمشيئته. ولم يعلموا ~~أن لا مانع من أن يكون للنبي علم بديهي مختص لا يقف على دليل أصلا، بل هذا ~~يكون لغير النبي ككثير من الأولياء، فكيف بما يكلم الله به النبي أو ينزل ~~به إليه الملك؟ # ثم هؤلاء يزعمون انحصار العلم في القياس، ولعمري إن القياس لطريق صحيح ~~إذا استعمل على وجهه، لكن لم تنحصر طرق العلم فيه، فوقع عليهم من استعماله ~~حيث لا يمشي ومن نفي ما سواه وهو الحق ms0826 (1) . # ثم إن كثيرا من متكلمي أمتنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقروا بطريق ~~القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياس طريقا لهم في كثير من ~~العلم الإلهي، وضعف علمهم وإيمانهم بآثار المرسلين، فقابلوها إما بالرد ~~والتكذيب، وإما بالتحريف والتأويل، PageV05P057 # معتمدين -زعموا- على ما أوجبه ذلك القياس العقلي. وبإحكام دلالات الوحي ~~والقياس يبين الحق من الباطل. # ولست أعني بالقياس هنا مجرد قياس التمثيل الذي هو تشبيه أمر معين بأمر ~~معين إما بجامع وإما بغير جامع، وإن كان كثير من فقهائنا يزعم أن هذا هو ~~القياس، وأن ما سواه قياس مجازا؛ ولا مجرد قياس التأصيل الذي هو إدراج ~~الخاص [تحت] العام، كقولنا: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وإن كان طائفة من ~~متكلمينا وفقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه باطل. بل أعني به ما ~~هو أعم من ذلك على ما تقتضيه اللغة، فإن جميع هذا قياس. وتسمية الأول قياسا ~~ظاهر، إذ القياس تقدير الشيء بنظيره، كما يقال: قست الجراحة بالميل، وقست ~~الأرض أو الثوب بالذراع. وأما الثاني فلأن الخاص إذا أدرجته تحت المعنى ~~العام فلا بد أن يقوم في ذهنك عام مطابق لتلك الأعيان الموجودة وأنت تطلب ~~مماثلة تلك الأعيان الموجودة بذلك المثال المعلوم القائم في قلبك الذي هو ~~مقياس تلك الأعيان، وهو عام باعتبار شموله لكل منها. # وهذا العلم هو من لوازم الإنسان وبه [تدرك] العلوم العامة الكلية، فإذا ~~لا يمكنك هذا القياس إلا بهذا العلم العام الكلي، والشأن كل الشأن في حصول ~~هذا العلم الكلي العام، فإن المعلوم إذا لم يكن له نظائر يرتسم بمعرفة ~~الواحد منها مثال في الذهن يوزن به سائرها، ولا كانت حقيقته مما يمكن أن ~~تتعدد، حتى يأخذها العقل كلية، وإن لم تكن في الوجود متعددة، بل كانت ~~حقيقته لا متعددة ولا قابلة للتعدد، بل هو الأحد الذي لا أحد غيره، كيف ~~يمكن أن يعلم # PageV05P058 # هذا الذات بالقياس العقلي أبدا؟ ولهذا قال ابن عباس ### | … ### | … # (1) # فتبين أن خواص الرب سبحانه لا تعلم بالقياس الكلي ms0827 الذي يسميه المتكلمون ~~الدليل العقلي. بل قد تعلم بالقياس الأمور المشتركة بينه وبين غيره، ~~لدخولها تحت القياس. ولهذا كان عامة ما يدركه أهل القياس من معرفة الأمور ~~السلبية أو الإضافية أو المشتركة منهما، لأن نفي الأمر عنه هو حكم على ذلك ~~الأمر بالعدم، وذلك الأمر المعدوم يدخل تحت القياس الكلي، وكذلك إضافة أمر ~~إليه هي حكم على ذلك المضاف باستلزام الإضافة إلى أمر ما، وذلك المضاف يدخل ~~تحت القياس والأمر بالمعدومات، وأما علم [الصفات] التي هي خواصه فتعلم تارة ~~بالفطرة العامة المشتركة بين الخلق، وتارة بالهداية الخاصة التي يمتاز بها ~~المؤمنون، وتارة بالتعريف الخاص الذي يختص به علماء المؤمنين، وتارة بالوحي ~~الذي يمتاز به الأنبياء، وكل من هذه الأقسام فأهله فيه على درجات غير ~~محصورة لنا. # فهذا أصل ينبغي ضبطه. # وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله، ثم سيرة خير قرون هذه الأمة تشهد ~~بأن الله ورسوله بين وهدى وشفى، وأنه بلغ البلاغ المبين، وبين باللسان ~~العربي المبين، وأنه لم يحل الخلق على غيره في هذا الباب، ولا وكلهم إلى ~~القياس الذي لا يجدي كما تقدم، بل تولى بيان ما تحتاج إليه الأمة. وهذه ~~جملة سيأتي -إن شاء الله- تفصيلها. PageV05P059 # ثم لما كان للقياس على العقول سلطان عظيم إذا لم يهتد إلى مواقفه ~~ومجاريه، وللوحي في القلوب برهان عظيم لعلمها بما اشتمل عليه، ورأى أكثر ~~الخلق أن بين مقتضى القياس والوحي تعارضا بينا وتنافيا واضحا، تحزب الناس ~~هنا فرقا: # فريق غلب عليهم معرفة القياس دون الأثارة (1) ، فاتبعوا موجبه، ثم ردوا ~~ما بلغهم من الأثارة أو تأولوها. # وفريق غلب عليهم معرفة الأثارة، ورأوا للقياس وأهله سلطانا عظيما، ~~فأحجموا عن النظر فيه ومفاوضة أهله، صونا لأبصارهم من العمى ولقلوبهم من ~~الحيرة. وهؤلاء أحسن حالا، بل هم على نهج سلامة. # وفريق أعرضوا عن تدبر هذا والنظر في هذا، وشغلوا نفوسهم بغير هذا. # وفريق قوي إيمانهم بالأثارة، وأحسوا بسوء حال أهل القياس، فذموهم وعابوهم ~~على طريق الإجمال، وإن لم يستطيعوا فك أقيادهم ولاتذليل قيادهم ms0828، وهذه حال ~~كثير من علماء الأثارة، وهي حال حسنة، وإن كان قد ترتب عليها الجور أحيانا، ~~لكن من كان [من] هؤلاء سببا لدلالة الأثارة نافيا عنها تحريف المخالفين كان ~~من علماء الدين، وإن كان دفعه للمعارض إجماليا. PageV05P060 # وفريق فوق هؤلاء، آمنوا بالأثارة، ثم أوتوا من الهداية الخاصة ما علموا ~~به فساد القياس تفصيلا، فزالت عنهم المعارضات بالكلية، ومنهم من يرفع إلى ~~هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار، فيكون ذلك مثبتا لفؤاده. # ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل، فكثير من أرباب القياس قد خلص إليه من ~~الأثارة ما لا يمكن دفعه، فكان حكمه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره، ~~فربما أخذ يؤيد بالقياس ما جاءت به الأثارة، وإن كان لولا مجيء الأثارة لم ~~يطمئن إلى موجب القياس. # وقوم منهم ضعف علمهم أو إيمانهم بالأثارة حتى نأوا عن الهدى، ثم عظم قدر ~~الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع ~~الإشارات. ولا يشك لبيب أن الموغلين في القياس إذا طرق سمعهم جمهور ما جاءت ~~به الأثارة بقوا متحيرين كما يخبرون به عن نفوسهم، فإن القياس أيضا يقضي ~~باستحالة اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس، فصار القياس يقضي بفساد القياس. # وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم (1) بالقياس وأهله يرد عليهم، ثم كثير ~~ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد، وما ~~يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدد، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة ~~التي لا تشهد إلا بحق، وما يخبر به أهل PageV05P061 # البر والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سوء حال هذا وحسن حال ~~هؤلاء، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة ~~الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور، وغير ذلك من الأسباب ~~الكثيرة التي توجب رجحان موازينهم وخفة موازين مخالفيهم، صارت تثبت أفئدتهم ~~وتزيد إيمانهم وتدفع عنهم شؤم المعارضات. # والأمر كما أصف وفوق ما أصف، وكان حصل عندي من هذا ما حصل، فاجتمع لي من ~~مدة ms0829 عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي، فلما كان في هذه الأوقات حدث ~~من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين ~~والنبلاء المتبحرين، عين أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومن تتبين ~~الفوائد بمذاكرته وتستفاد المقاصد بمناظرته، فعلق عليها من الأسولة ما ~~التمس حلها، ومن المباحث ما اقتضى فرعها وأصلها ### | … ### | … # (1) # قلت في حكاية المناظرة (2) : "قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلك سبيل ~~السلامة والسكوت، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة، قلنا كما قال الشافعي ~~رضي الله عنه: آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله ~~وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا ~~سلكنا طريق البحث والتحقيق فإن الحق مذهب من يتأول آيات الصفات وأحاديث ~~الصفات من المتكلمين. PageV05P062 # فقلت له: أما ما قاله الشافعي فإنه حق يجب على كل مسلم أن يقوله ويعتقده، ~~ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة. ~~وأما إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون ~~به أهل الحديث كله باطلا، وتيقن أن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا. ~~فاستعظم ذلك وقال ### | … # (1) . # قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بحث الإنسان وفحص وجد # ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلا": ~~الكلام على [هذا] من ثلاثة أوجه: # أحدها: القول الموجب، فإن المخالفة القول بما يخالف قولهم ويناقضه، لا ~~القول بما لم يصرحوا بنفيه ولا بإثباته، ولا أسلم أن المعتبرين من المحدثين ~~منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، فإن نقل ما ظاهره ذلك حملناه على ~~التأويل بغير دليل أو على غير القواعد العلمية، توفيقا بين العلماء وصيانة ~~لهم عن تخطئة بعضهم. وبالجملة فلا أسلم أن معتبرا حزم تأويلا يشهد العقل ~~بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد، ولا يرى أن ~~يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجل نعم الله على العباد. # فإن قيل: فقد ms0830 اشتهر النهي عن الكلام في التأويل. PageV05P063 # قلت: لعل ذلك للعوام، أو على طريق الورع لا التحريم، لم قلتم إن الأمر ~~ليس كذلك؟ # والوجه الثاني: لو سلمنا أن بعضهم حرم ذلك، فهل نقل التحريم عن نص الله ~~أو عن نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجة ~~ليست في قول البعض، لاسيما إذا خالفوا البعض الآخر. # الوجه الثالث: أنا ننقل عنهم الإجماع على التأويل في بعض المواضع على ما ~~سيأتي، ونطالب بالفرق. # والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين: # المقام الأول: في بيان أن هذه الأسولة هل هي متوجهة واردة يجب الجواب ~~عنها أم لا؟ # والثاني: في التبرع بالجواب بتقدير عدم وجوبه. # أما المقام الأول # فيمكن أن يقال: نحن نطالبكم بتوجيه هذه الأسولة، فإنه ليس منها شيء ~~واردا، فضلا عن أن يستوجب جوابا. # أما القول بالموجب فعليه أولا مناقشة معروفة، وهو أن القول بالموجب إنما ~~يرد على الأدلة دون الدعاوي، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه، ولهذا ~~قيل: إن القول بالموجب سؤال يرد على كل دليل. لكن المعترض يدعي أنه يقول ~~بموجب دليل المستدل من غير التزام لدعواه، ببيان عدم دلالته على محل ~~النزاع، # PageV05P064 # وحاصله أنه يمنع دلالة الدليل على محل النزاع، ويضيف إلى ذلك أنه قائل ~~بموجبه، وموجبه غير محل النزاع، فالقول بالموجب إبداء لسند المنع. # أما الدعوى قبل ذكر دليلها، فإذا قيل بموجبها، بأن كان قولا بموجب قصد ~~المدعي، فهو موافقة في المسألة وليس باعتراض، فإن من قال: لا يقتل مؤمن ~~بكافر، فقيل له: تقول بموجب هذا؟ # أي تقول بما قصدته بهذه العبارة، كان هذا وفاقا لا سؤالا، وإن كان قولا ~~بموجب لفظه لا يوجب معناه، بأن يكون اللفظ مشتركا أو مجملا ونحو ذلك، فيقال ~~بموجبه الذي لم يقصده المدعي، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يقتل مؤمن ~~بكافر: تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلاما قليل الفائدة، ولم ~~يعد من الأسولة الواردة، بل يعد من المناقشات اللفظية إن لم ms0831 يكن ظاهر اللفظ ~~ينفي القول بالموجب. فإنه يقال له: لم تحرر الدعوى، بل ادعيت الذي ادعيت ~~بلفظ مجمل أو مبهم بخلاف مقصودك. فأما إن كان ظاهره ينفي القول بالموجب فلا ~~مناقشة فيه أصلا. ثم إذا توجهت المناقشة اللفظية من الناس من يترك مثل هذا ~~السؤال ويقول: هو خروج عن مقصود المسألة، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة ~~المتكلم على لفظ قد لحن فيه. ومنهم من يورده ويعده من ضبط آداب المناظرة، ~~والأمر في ذلك قريب. # أما مسألتنا فالدعوى محررة تمنع القول بالموجب إلا على سبيل الموافقة، ~~وعلى سبيل الموافقة لا يبقى نزاع، فإنا قلنا: "إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما ~~يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون # PageV05P065 # به أهل الحديث كله باطلا، وتيقن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا". ~~والمخالفة لا تكون إلا بما يخالف قولهم ويناقضه، فنصير مدعين أن قول ~~المتكلمين الذي يناقض قول أهل الحديث قول باطل، كما لو قلنا: إن قول ~~المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقول قول باطل. ~~وهذا ليس بدليل حتى يكون القول بموجبه سؤالا جاء في دلالته، وإنما هي دعوى، ~~فإما أن نوافق عليها أو نخالف، فإن خولفنا فالسؤال على الدليل الآتي، وإن ~~ووفقنا فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. # يبقى أن يقال: فهل للمتكلمين قول يخالف قول أهل الحديث، بحيث يكون الكلام ~~في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظر على وجودها وعدمها؟ ولا ~~شك أن مرادنا هو القسم الأول، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنا، بأن ~~نقول: إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديث فهو باطل، وإلا فلا نص. # ومثل هذا السؤال إذا قيل: كل قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل، فإن ~~المتفلسف المتأول يزعم أن الفلاسفة موافقون الأنبياء لا مخالفون، وإنما ~~يعتقد مخالفتهم لهم عوام أهل الملل ومتكلمو أهل الجدل، فإذا قال: أنا قائل ~~بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالا، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة ~~فله أن يطالب بتعيينها. # ومع هذه المناقشة فتسمية ms0832 مثل هذا الكلام قولا بالموجب لا تأباه اللغة ~~العربية، بل تساعد عليه، وقد يستعمله الناس في مناظراتهم، فإن السائل يقول: ~~ما أوجبته بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين # PageV05P066 # أنا أقول به، لكن لم توجد المناقضة بين القولين، فكأنك تدعي بطلان ما لا ~~وجود له، وأنا قائل بموجب عبارتك لا بموجب إرادتك. وأنت تحكم على أهل ~~الكلام بمخالفة أهل الحديث، وهذا لم يوجد. لكن إذا قال السائل هذا قال له ~~المدعي: أنت كما قد وافقتني على مدعاي، فإن لفظي إما أن يعني نوعا أو عينا، ~~إن عني به النوع فليس من ضرورة الحكم على النوع وجوده في الخارج، بل قد ~~يقول: [من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر، إن لم يعلم وجود ~~ذلك. # وإن عني به العين كان التقدير: هذا التأويل المعين الذي يخالف أهل الكلام ~~[فيه] أهل الحديث تأويل باطل، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان ~~التأويل المعين، ثم تبقى المنازعة في تسميته خلافا لأهل الحديث. ومعلوم أن ~~هذا ثلم للمسألة ونزاع في نفيها. # فحاصله أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عني بها النوع وتنازع في ~~وجودها، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتها، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم ~~يدل عليه اللفظ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة، ولا يضر بعد ذلك النزاع ~~في اسمها. # وتحرير السؤال أن يقال: لا نسلم أن أهل الكلام خالفوا أهل الحديث، فإنهم ~~لو خالفوهم لقلنا: الصواب مع أهل الحديث، وهو أن القول بالموجب على تقدير ~~ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقدير وجودها، وقد منع ذلك في السؤال بقوله: ~~لو سلمنا أن بعضهم حرم ذلك فهل نقل التحريم عن الله أو رسوله أو أهل ~~الإجماع، ومن سلم الحكم لم يكن له أن يطالب بالدليل، لأنه منع بعد تسليم، ~~وهو غير مقبول. # PageV05P067 # وأما السؤال الثالث -وهو نقل الإجماع على بعض التأويلات- فلا يرد أيضا، ~~لأن ذلك إن صح لم يدخل في الدعوى، لأنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف لأهل ~~الحديث باطل ms0833، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب. نعم، يبقى هذا من باب ~~المعارضة لأهل الحديث، وهي أن يقال: كيف تبطلون بعض التأويلات وتصححون ~~البعض؟ # والمعارضة لا تورد عند الدعوى، وإنما تورد بعد الأدلة. # وأيضا مما يبين عدم ورود هذه الأسولة: السؤال الأول، وهو منع الاختلاف ~~بين أهل الحديث وأهل الكلام في التأويل، فإن المناظرة كانت مع من يدعي أن ~~الحق مع أهل التأويل دون من خالفهم، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردا على من ~~نصر أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث، لا على من نصر أهل الحديث. # وأيضا فإنه عقب هذا الكلام قد قلنا (1) : "إن أمهات المسائل التي خالف ~~فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث: مسألة وصف الله بالعلو، ومسألة ~~القرآن، ومسألة تأويل الصفات". وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلف ~~فيها، والخلاف في هذه المسائل أشهر من أن يحتاج إلى نقل. # فإن قيل. لا نسلم أن أحدا خالف أحدا في هذه المسائل، بل كل تأويل فيها ~~للمتكلمين فإن أهل الحديث لم ينفوه، بل سكتوا عنه. PageV05P068 # قيل: النقل المتواتر والعلم الاضطراري وما مهدته الكتب المصنفة دليل على ~~وقوع الخلاف في أعيان هذه المسائل وأدلتها السمعية. # وأيضا فإن الفاضل المباحث -أيده الله- قد حكى في مباحثه هذه عن القاضي ~~عياض (1) : "أما من قال منهم بإثبات جهة "فوق" له تعالى من غير تحديد ولا ~~تكييف من دهماء المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين منهم فيتأول "في السماء" ~~بمعنى على، وأما دهماء النظار والمتكلمين وأصحاب الإثبات [والتنزيه] ~~المحيلين أن يختص به جهة أو يحيط به حد، فلهم فيه تأويلات بحسب مقتضاها". # ومعلوم بأن هذا تصريح بأن لهؤلاء النفاة تأويلات يخالف فيها المثبتون ~~لكونه فوق العرش، وهذه التأويلات مما قضينا بإبطالها، فكيف يتوجه مع هذا أن ~~يقال: ليس للمتكلمين تأويل يخالفون به أهل الحديث؟ # و ### | نحن لم نقل: إن كل تأويل باطل، حتى ينقض علينا بصورة، # بل قلنا: كل تأويل للمتكلمين يخالفهم فيه أهل الحديث فهو باطل. # ومعلوم أن هذا تكفي فيه صورة واحدة، وهذه صورة قد ms0834 سلمتموها وحكيتموها. # وهب أنهم أجمعوا على تأويلها -وإن كنا سنتكلم على هذا إن شاء الله- لكن ~~مضمون هذه العبارة أن التأويل الذي أثبته المتكلمون ونفاه أهل الحديث باطل. ~~PageV05P069 # وأيضا فقد قلنا في عقب هذا (1) : "إن ### | مذهب السلف وأهل الحديث أنها تصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، # وتكييف يفضي إلى تمثيل". وقلتم: هذا حق صريح وحكم صحيح، فهذا التأويل ~~الذي يفضي إلى التعطيل معلوم أنه قد وجد، فإن كثيرا من المتأولين ينفي ~~الصفات كلها وأحكامها، وبعضهم يثبت أحكامها، وبعضهم يثبت أحوالها، وبعضهم ~~يثبت بعضها دون بعض، فهؤلاء معطلة الصفات أو بعضها، وأهل الحديث يخالفونهم ~~في هذا. # ولم نرد بالتعطيل تعطيل اللفظ عن معنى، فإن التأويل لا يتصور أن يفضي إلى ~~هذا التعطيل، لأن المتأول لابد أن يحمله على معنى ما، فلا يكون قد عطله عن ~~جميع المعاني، وإنما عطل الصفة التي دل عليها النص، وعطله عن معناه المفضول ~~المفهوم. ومعلوم أن التأويل المفضي إلى هذا التعطيل قد وقع فيه كثير من ~~المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها، ومعلوم أن هذا التأويل ينكره أهل الحديث، ~~وكل من وافقهم من المتكلمين على إثبات صفة فإنه ينكر التأويل الذي يفضي إلى ~~تعطيلها. فكيف يصح بعد هذا أن يقال بالموجب إلا بالموافقة؟ # نعم، لو قيل: بعض هذه التأويلات التي ينفونها نقول بصحتها، لكان هذا ~~سؤالا متوجها، وهو غير السؤال المذكور، ومع هذا فليس هذا موضعه، وإنما ~~موضعه الأدلة. PageV05P070 # ثم إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة، وإنما أقمنا الدليل على بطلان التأويل ~~في صفة اليد، وهي بعض صورة الخلاف، لأن هذا حكاية مناظرة جرت، وكان الكلام ~~في صفة اليد نموذجا يحتذى عليه غيره من الكلام في غيرها. # وأيضا فإنا قلنا: "إذا بحث الإنسان وجد ما يقول المتكلمون من التأويل ~~الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلا". فكان موجبه القول بالموجب: إنا لا ~~نسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، وليس ~~هذا المنع مطابقا للدعوى، فإنا لم نقل: إن تأويل المعتبرين من المتكلمين ~~الذين يخالفون ms0835 به المعتبرين من المحدثين باطل، وإنما قلنا: "تأويل ~~المتكلمين المخالف"، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام، فتأويلهم المخالف لأهل ~~الحديث يدخل فيه تأويل كل متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة، بل ومن ~~الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية، فما الذي أوجب أن يحمل هذا ~~اللفظ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟ # من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، بل تمام الكلام يصرح بالعموم حيث ~~قلنا: "أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين -ممن ينتحل مذهب ~~الأشعري- لأهل الحديث ثلاثة". # فهذا يدل على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهل الحديث في أكثر من ~~ذلك، وهذا هو الواقع، فكيف يكون المنع المتوجه "لا نسلم أن معتبري ~~المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث"؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: ما خالف ~~به الفلاسفة الأنبياء فهو باطل، فيقال: لا نسلم أن فضلاء الفلاسفة خالفوا ~~الأنبياء؛ أو يقال: ما خالف به # PageV05P071 # المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل، فيقال: لا نسلم أن معتبريهم خالفوا ~~الكتاب والسنة؛ أو يقال: ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال، فيقال: لا ~~نسلم أن معتبري الآدميين خالفوا الأنبياء؛ أو يقال: كفار مكة من قريش ~~والعرب في النار، فيقال: لا نسلم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب ~~كفروا. # وأيضا فقولكم -أحسن الله إليكم-: "لا أسلم أن المعتبرين من المحدثين ~~منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين"، أما الذين تعنون بالمعتبرين من ~~المتكلمين لا يخلو: إما أن تريدوا بالمعتبرين ناسا معينين أو موصوفين، فإن ~~أردتم ناسا معينين فاذكروا من شئتم من جميع أعيان المتكلمين، حتى أذكر لكم ~~أن أقواما من أعيان المتكلمين ردوا عليه تلك التأويلات وأبطلوها، فضلا عن ~~أهل الحديث. بل سموا من شئتم، حتى أبين أنه نفسه يرد بنفسه على نفسه، وأنه ~~يتأول التأويل في كتاب، ثم يمنعه أو يبطله في كتاب آخر، وربما فعل ذلك في ~~المصنف الواحد. # وإن أردتم بالمعتبرين موصوفين، مثل أن يقال: المعتبر من له بصر ثاقب وعلم ~~بما يجوز ويجب ويمتنع على الله وما يسوغ في لسان العرب ms0836، حتى يتأول بعقله ~~وعلمه ومعرفته بالمعقولات والمسموعات تأويلا سائغا= فهذا أوسع عليكم من ~~الأول، فإن المتكلمين أنواع مختلفة، وكل منهم يرد على الآخر تأويلاته ~~ويبطلها ويحرمها عليه، بل كثير منهم يكفر الآخر ببعض تلك التأويلات، حتى إن ~~التلميذ منهم يكفر أستاذه. # PageV05P072 # وأهل الحديث موافقون لهم جميعهم في إنكار تلك التأويلات لا في إثبات شيء ~~منها: # فنفاة الرؤية من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة يتأولون النصوص فيها تارة ~~برؤية أفعال الله، وتارة برؤية القلب الذي هو زيادة العلم، ومثبتو الرؤية ~~من أهل الحديث والكلام يردون ذلك وينكرونه. # ومنكرو الكلام الحقيقي يتأولون "قال الله ويقول" بمعنى أنه أحدث في غيره ~~كلاما خاطب به عباده، ومثبتو الكلام الحقيقي من أهل الحديث والكلام يبطلون ~~هذا التأويل ويحرمونه. # ونفاة الصفات يتأولون (أنزله بعلمه) (1) و (ذو القوة) (2) والسمع والبصر ~~ونحو ذلك، ومثبتو الصفات من أهل الحديث والكلام ينكر [ون] هذه التأويلات. ~~بل الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني -كالأشعري في "الإبانة"، والقاضي أبي ~~بكر ابن الباقلاني، وابن شاذان، وابن فورك وغيرهم- ينكرون على من يتأؤل صفة ~~اليد والوجه وغير ذلك، كما صرحوا به في كتبهم (3) . # والمسلمون جميعا ينكرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأولون ما ورد في صفة ~~الملائكة والجن والجنة والنار والقيامة وحشر الأجساد. # وأهل الإثبات جميعا -أهل الحديث وأهل الكلام- ينكرون PageV05P073 # على القدرية الذين يتأولون آيات الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك ~~من نصوص القدر. # وأهل الحديث قاطبة مع من وافقهم من أهل الكلام ينكرون على من يتأول ~~النصوص المدخلة للأعمال في الإيمان. # وجميع أهل القبلة إلا الوعيدية ينكرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم ~~نصوص الشفاعة. # والمسلمون جميعا ينكرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقة ~~الفلاسفة وغلاة الصوفية تأويل نصوص الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات ~~والجنايات ونحو ذلك. # وأهل الحديث قاطبة والفقهاء والصوفية مع من اتبعهم من المتكلمين وجماهير ~~أهل القبلة ينكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوص الفوقية ~~والعلو. وكذلك ينكرون على الذين يتأولون نصوص الصفات بما سنذكره إن شاء ~~الله. # وأهل القبلة جميعا محدثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ms0837 ~~ينكرون تأويل هاتين الفرقتين النصوص المدخلة للعصاة في اسم الإيمان في ~~الجملة. # دع التأويلات المتعلقة بأصول الدين، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضهم يرد ~~تأويلات بعض ويبين فسادها قديما وحديثا، ويوافقهم على ذلك الرد أهل الحديث، ~~مع أن الفقهاء معتبرون، فكيف يقال: لا نسلم أن معتبرا رد تأويل معتبر، بل ~~مفسرو القرآن وشراح الحديث # PageV05P074 # لا يزال أهل الحديث وغيرهم يردون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون، ~~وذلك أشهر وأكثر من أن يسطر. # ثم كل من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويله معتبر، بمعنى أنه ~~ذو ذهن ذكي وعلم واسع وفضيلة جيدة، بل كثير من هؤلاء المردود عليهم يعتقد ~~أتباعه فيه أنه أفضل من كثير من المعظمين عند غيره، فإن فسرت "المعتبر" ~~بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته، فالجواب من وجوه: # أحدها: أنا لا نسلم أن تأويل مثل هذا لا يرد، بل تأويله الباطل يرد، كما ~~ترد فتواه الضعيفة وحديثه الذي غلط فيه. # الثاني: أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا، كما يشهد به ~~استعمال لفظ المتكلمين. # الثالث: أن هذا منع لغير ما ذكر، فإنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف ~~لتأويل المحدثين باطل، فقيل: لا نسلم أن تأويل من [علم] هداه أو من استفاض ~~عند الأمة هداه باطل، ونحن ما ادعينا هذا قط، وما ذكرناه من هذا الكلام ~~إنما هو نزول مع المخاطب، فإنه فهم من قولنا "أهل الحديث" المحدثين الذين ~~يروون الحديث أو يحفظونه، وهذا لا يدل عليه لفظنا ولم نعنه، فإن أهل الحديث ~~هم المنتسبون إليه اعتقادا وفقها وعملا، كما أن أهل القرآن كذلك، سواء رووا ~~الحديث أو لم يرووه، بحيث يدخل في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم، ~~كالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وذويه، وعلقمة والأسود وطبقتهما، وعطاء ~~وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي # PageV05P075 # والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد ~~ومالك والحمادين والسفيانين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن ~~الحارث. # فإن قلتم: مرادنا لا نسلم أن المعتبرين ms0838 من المحدثين حرموا على المتكلم ~~المعتبر أن يتأول، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل، لا أنهم لم يمنعوه ~~من التأويل المعين، لكن سوغوا له أن يتأول، كما يسوغ للمفتي أن يفتي ~~وللقاضي أن يقضي، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه، كذلك المتأول قد ~~يخالف في بعض تأويلاته، وإن لم يكن ممنوعا من جنسها. # قلنا أولا: كلامكم يخالف هذا، لأنكم قلتم: إن نقل ما ظاهره المنع من ~~التأويل حملناه على التأويل بغير دليل أو على غير القواعد الكلية، ومعلوم ~~أن كل من تأول تأويلا من المشاهير وقد رده عليه غيره فإنما تأؤله بدليل من ~~عنده، وعلى القواعد العلمية عنده، بل يقيم الأدلة التي يزعم أنها قاطعة في ~~وجوب ذلك التأويل وامتناع الإقرار على الظاهر، مع مخالفة جماهير علماء ~~القبلة وقطعهم بأنه ضال أو مخطىء في تأويله، ولعل كثيرا منهم أو أكثرهم أو ~~كلهم قد يكفرونه بذلك التأويل، كما يكفرون نفاة حشر الأجساد، وإن تأولوا ما ~~جاءت به الرسل لأدلة ادعوها وعلى قواعد وضعوها. # وأعجب من هذا -ولا عجب- قولكم: "توفيقا بين العلماء وصيانة لهم من تخطئه ~~بعضهم"، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد علم بالاضطرار اختلاف أهل القبلة في كثير ~~من تأويل الآيات والأحاديث: هل تصرف عن ظاهرها أم تقر على ظاهرها؟ وإذا ~~صرفت فهل تصرف # PageV05P076 # إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتب والنقول مشحونة بتكفير بعض المتأولين فضلا ~~عن تخطئته. وأما تخطئة بعض المتأولين فهذا أمر معلوم بالاضطرار في الأصول ~~والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك، بل عامة الاختلاف بين ~~أهل القبلة إنما هو من تخطئة بعضهم في فهمه للكتاب والسنة وتأويلهما على ~~وجه يخالفه فيه الباقون. # فإن قلتم: كل من تأول بدليل على القواعد سوغناه له، وإن كان قد يخطىء. # قلنا: فيكون تأويل الجهمية والقدرية والخوارج والروافض والوعيدية ~~والباطنية والفلاسفة كلها سائغة وإن كانت خطأ، وهذا مما علم بالإجماع ~~القديم بل بالاضطرار من دين الإسلام أن جميع هذه التأويلات ليست سائغة، بل ~~تسويغ جميع هذه التأويلات ms0839 على خلاف إجماع هذه الفرق كلها، فإن جميع فرق ~~الأمة لا يسوغ جميع التأويلات. # وقلنا ثانيا: فنحن إنما قلنا: "تأويل المتكلمين الذي يخالفون # به أهل الحديث باطل"، وهذا تأويل موصوف، ولا يلزم من بطلان النوع المقيد ~~بطلان الجنس المطلق، فإذا أبطلنا التأويل المخالف لأهل الحديث [لا] يلزمنا ~~أن نمنع كل تأويل في الدنيا، وأن نحرم على كل معتبر أن يتأول تأويلا لا ~~يخالف أهل الحديث ### | … ### | … # (1) . PageV05P077 # وقلنا ثالثا: نحن قلنا: "هذه التأويلات باطلة"، أما كونها سائغة أو محرمة ~~فهذا لم نتعرض له في هذا الكلام، فقولكم "إن المعتبرين لم يمنعوا المعتبرين ~~أن يتأولوا، وإن معتبرا لم يحرم التأويل الموصوف" كلام لا يمس كلامنا ولا ~~يقابله، بل هو أجنبي عنه غير متوجه، فلا يستوجب الجواب. نعم، إن ادعيتم أن ~~كل تأويل المتكلمين أو بعضه حق أو صواب فهذا نقيض قولنا، ففرق بين صحة ~~التأويل وفساده وبين حرمته وحليته، ألا ترى أن الفقهاء في تأويلهم نصوص ~~الأحكام يجوز لهم التأويل في الجملة، وإن كان كثير من تأويل بعضهم قد يظهر ~~أنه خطأ، كما يجوز للفقيه الاجتهاد في الفتيا والقضاء، وإن كان قد يحكم ~~ببطلان بعض الفتاوى والأقضية. # على أن من قال: كل مجتهد مصيب، لا يمكنه أن يقول: كل متأؤل مصيب، فإن ~~المتأول يقول: الله أراد بهذه الآية كذا، والآخر يقول: لم يرد هذا، والنفي ~~والإثبات لا يجتمعان، اللهم إلا أن يقول قائل: إن الله أراد من زيد أن يفهم ~~هذا، وأراد من عمرو أن يفهم هذا، وهذا في الأمور الاعتقادية ما يكاد يقوله ~~إلا من يخالفه جمهور الناس، وإن كان قد قاله في العمليات طائفة من ~~المتكلمين. # فإن قلتم: أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صنفا من الطوائف كالمتكلمين من ~~أصحاب الأشعري مثلا، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك. # فالجواب عنه من وجوه: # أحدها: أنه ما من واحد من هؤلاء إلا له تأويلات ينكرها عليه # PageV05P078 # بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم، بل من هؤلاء [من] هو نفسه يحرم التأويل ~~أو يبطله ms0840 تارة، ويسيغه ويصححه أخرى لأصحاب الحديث. # أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل، وأهل الحديث وغيرهم من علماء ~~المسلمين ينكرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريما وإبطالا. # وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف: # صنف يحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين، ~~ويبطل ذلك. وهذا هو الذي ذكره الأشعري في "الإبانة"، حكاه عن أهل السنة ~~جميعهم، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضل أصحابه (1) ، وأبو علي ~~ابن شاذان، وذكره أبو بكر ابن فورك في اليد وغيرها، وعليه الأشعرية ~~المتمسكون بالقول الثاني. # وصنف يحرم التأويل، ولا يتكلم في صحته ولا فساده. وهذا الذي ذكره أبو ~~المعالي الجويني في رسالته "النظامية" (2) ، وهو قول أكثر المفوضة من ~~المتكلمين. # وصنف يبيحه للعلماء عند الحاجة، ومنهم من يبيحه مطلقا. # وهذا قول الجويني في "إرشاده" (3) وغيره، وجميع هؤلاء مختلفون في صحة بعض ~~التأويلات وفسادها. PageV05P079 # فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريما وجوازا، وصحة وفسادا. # وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلا فإنهم مختلفون في عامة ~~التأويلات صحة وفسادا، ومختلفون أيضا في جنس كثير من التأويل، مثل اختلافهم ~~في نصوص عذاب القبر ونعيمه: هل تتأؤل أو تجرى على ظاهرها؛ وفي نصوص الصراط ~~والميزان والحوض: # هل تتأول أو لا تتأول، إلى غير ذلك. منهم من يبيح تأويل ذلك ويصححه، ~~ومنهم [من] يحرمه ويبطله. # وسأذكر إن شاء الله مذاهب الأمة في أجناس التأويلات، وإنما الغرض هنا أن ~~من تعصب لفرقة من أهل الكلام وجعلهم هم المعتبرين دون غيرهم، بحيث يبيح لهم ~~التأويل ويدعي أن أحدا من المعتبرين لم يحظره عليهم= لم يصح له ذلك؛ إذ ما ~~من طائفة إلا وقد حرم وأنكر عليها أنواع من التأويل. # الوجه الثاني: أن تعيين القائل طائفة دون غيرها وتسميتها بالمعتبرين لا ~~يخفى أنه نوع من التحكم والتعصب، فإن مجرد [قول] القائل: أنا معتزلي أو ~~أشعري، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي ~~أو حنبلي، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله، بحيث ms0841 يباح له في ~~الشرع بذلك ما كان محظورا، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورا عليه. # الوجه الثالث: أنا قلنا: "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل"، ~~وذلك لا يوجب أن يكون تأويل طائفة معينة باطلا، # PageV05P080 # ولا يوجب أن يكون تأويل معتبر باطلا، فلا يرد هذا علينا. # الوجه الرابع: أنا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يبين ما عليه ~~أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن ~~شاء الله. # فهذا كله في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سنده "لا نسلم أن ~~المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين". # قولكم: "فإن نقل ما ظاهره المنع حملناه على التأويل بغير دليل، أو على ~~غير القواعد العلمية، توفيقا بين العلماء وصيانة لهم عن تخطئة بعضهم" غير ~~وارد لوجوه: # أحدها: أن التأويل بغير دليل وبغير قواعد لا يبيحه ولا يسلكه أحد من ~~عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواء كانوا كفارا أو مؤمنين، مستنة أو ~~مبتدعة، فإن أشد الناس تأويلا من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زعموا- ~~لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم، ويزعمون أنهم يجرونها ~~على القواعد العقلية والسمعية. # وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر، فإنهم يزعمون أنهم فرسان الكلام ودعاة ~~الإسلام، الحافظين (1) له بالقواعد العقلية والموارد السمعية، وأن من ~~خالفهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكلابية والكرامية ~~وغيرهم هم حشو الناس. وهم أهل فتنة واضطراب، PageV05P081 # ثم بين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به ~~عليم، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم، وكل منهم إنما ~~يتأول بدليل عنده وعلى القواعد العلمية. # بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في ~~التأويل صحة وفسادا وحلا وحظرا، والمتأول منهم إنما يتأول للدليل وعلى ~~القواعد. # فإذا كان كل متأول إنما تأول بدليل وعلى القواعد، فقد خالفه غيره من أهل ~~الحديث وغيرهم في التأويل، فكيف يمكن أن يحمل إنكارهم على التأويل الخالي ~~من الدليل والقواعد؟ # فإن قلتم: إنما أنكروا التأويل الذي ms0842 لا يعضده دليل صحيح، ولم يكن جاريا ~~على القواعد الصحيحة، وإن كان متأوله يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد ~~صحيحة. # قلنا: فهكذا نقول في جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث: إنها ~~خالية عن دليل صحيح وعن القواعد الصحيحة. # وإذا كان هذا مدعيا لم يسغ أن يقال بموجبه إلا على سبيل الموافقة لنا، ~~وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة، أو أن يبين ~~المتأول اقتران تأويله بدليل وقواعد ليبين فساد قوله. # الوجه الثاني: أن المنكرين للتأويل إبطالا وتحريما صرحوا بذلك في أعيان ~~التأويلات التي ادعى المتأولون اقترانها بالدليل، وسنذكر إن شاء الله من ~~ذلك بعض ما حضر. وصرحوا أيضا بتحريم التأويل وإن زعم صاحبه اقترانه بدليل. # PageV05P082 # الوجه الثالث: أنا لم نحكم إلا ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل ~~الحديث، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم ~~يكن هذا نفيا لوجود ما أبطلناه، لأنه يمكن أن يقال: هذا التأويل الذي ~~رفعناه خلي عن الدليل والقواعد، فإنا أبطلنا نوعا من التأويل، ووافقتم على ~~إبطال نوع منه. فإن قلتم: هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد، ~~نازعناكم فيها. # فحاصله أن ما ذكرتموه لا يصلح مستندا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا ~~المتكلمين في أعيان التأويلات. # الوجه الرابع: قولكم "إن التأويل المقرون بدليل الجاري على القواعد ~~العلمية صحيح"، لا ننازعكم فيه، وإنما الشأن في تقرير الدليل المصحح ~~للتأويل وتثبيت القواعد المحققة له، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من ~~القبلة لهم قواعد يضعون تأويلاتهم عليها. # ثم هذا القدر لا يصلح أن يكون سندا لقولكم "لا نسلم أن أهل الحديث منعوا ~~تأويل المعتبرين من المتكلمين" كما تقدم، والغرض هنا أن القول بالموجب لا ~~يتوجه. وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعه، لأنا بعد في تحرير ~~الدعوى وما يرد عليها. # قولكم: "لا أسلم أن معتبرا حرم تأويلا يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه، ~~لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد، ولا يرى أن يستعمل في كشف الحقائق نور ~~البصيرة الذي هو ms0843 من أجل نعم الله على العبيد". # فنقول أولا: من الذي حكى عن أحد من الناس تحريم مثل # PageV05P083 # هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نقصده، فمنعه منع شيء أجنبي خارج عن كلامنا، ~~وهذا منع لا توجيه له. # ونقول ثانيا: نحن قررنا بطلان التأويل وفساده، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا ~~إثبات، والكلام في صحة التأويل وفساده غير الكلام في حله وحظره، ولا يلزم ~~من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاء ~~صحيحا، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون ~~صحيحة، بل جاز أن تكون باطلة، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم، سواء ~~كان آثما أو معفوا عنه أو مأجورا. # ونقول ثالثا: التأويل الذي نتكلم فيه هو صرف الكلام [من] الاحتمال الراجح ~~إلى المرجوح لدليل يعتضد، كما تقدم بيانه. # وكل تأويل فإنما هو بيان مقصود المتكلم أو مراده بكلامه، ومعلوم أن العقل ~~وحده لا يشهد بمعرفة مقصود المتكلم ومراده، فإن دلالة الخطاب سمعية لا ~~يستقل بها العقل، نعم العقل أخذ باستفادته هذه الدلالة، فإذا انضم [إلى] ~~المعقول العلم بلغة المتكلم وعادته في خطابه فقد يحصل بمجموع هذين العلمين ~~العلم بتأويل كلامه، نعم قد يعلم بالعقل وبأدلة أخرى أن المتكلم لم يرد ~~معنى من المعاني، سواء قيل: إنه ظاهر اللفظ، أو قيل: إنه ليس بظاهره، كما ~~يعلم أن الله لم يرد بقوله: (وأوتيت من كل شيء) (1) أنها أوتيت ملك ~~PageV05P084 # السماوات وملك سليمان وفرج الرجل ولحيته؛ ولم يرد بقوله: (تدمر كل شيء) ~~(1) أنها تدمر السماوات والجنة والنار؛ ولم يرد بقوله: (خلق كل شيء) (2) ~~شمول ذلك للخالق بصفاته. ونعلم أن الله لم يرد بقوله: (خلقت بيدي) (3) يدين ~~مثل يدي الإنسان، ولم يرد بقوله: (ليس كمثله شيء) (4) نفي الصفات المذكورة ~~في الكتاب والسنة. # فإذا كان العقل وحده يشهد بصحة تأويل، وإنما قد يشهد بعدمه، فالتأويل ~~الذي يدعي صاحبه أنه علم بمجرد العقل صحته تأويل مردود محرم. نعم إن فسرتم ~~كلامكم أن العقل بما استفاده من العلوم السمعية وغيرها يعلم ms0844 صحة التأويل، ~~فهذا حق وإن لم يكن ظاهر اللفظ دالا عليه، ونحن ما حكينا تحريم مثل هذا ~~التأويل عن أحد، ولا يمنع تحريمه كلام آخر. # وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين، فإن الغرض تقرير الحقائق وتحصيل ~~الفوائد، لا ما يقصده المبطلون من التجاهل والتعاند. # ونقول رابعا: قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من ~~[أن] التأويل اضطر إليه العلماء، وبيان ذلك أنا إذا علمنا بالأدلة العقلية ~~والسمعية مثلا انتفاء أمر من الأمور، ورأينا بعض PageV05P085 # النصوص تقتضي إثباته ظاهرا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى ~~الدليلين لزم الجمع بين النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزم انتفاء النقيضين، ~~ثم فيه تعطيل الدليلين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ ~~غايته تعطيل دلالة أحدهما، فلابد من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز ~~أن يقدم الدليل المثبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلف ~~مدلوله عنه، بخلاف الظني. فتعين إثبات مدلول الدليل القطعي دون الظاهر. # ولأن القطعي إذا كان عقليا، فلو رجحنا عليه الظاهر السمعي لزم القدح في ~~ذلك الدليل العقلي، والعقل أصل السمع، فالقدح في العقلي القطعي قدح في أصل ~~السمعي، والقدح في الأصل قدح في فرعه، فيصير تقديم السمعي قدحا في السمعي، ~~وإثبات الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعين إثبات مدلول القطعي العقلي ~~دون الظاهر السمعي، فنحن بين أمرين: إما أن نفوض معنى الظاهر إلى الله ~~سبحانه وتعالى، مع علمنا بانتفاء دلالته الظاهرة، أو أن نؤوله على وجه يسوغ ~~في الكلام. # والقائلون بهذا التقرير يسمون طريق المفوضة النفاة طريق السلف، وهو عندهم ~~طريق أهل الحديث وأحد قولي الأشعري وغيره من أهل الكلام. ثم هم في هذا على ~~أقوال: # فغلاة المتكلمين يحرمون هذا ويوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابن عقيل في ~~أحد أقواله، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء من يفيد ~~كلامه بأنه يجب على العلماء دون العامة. # PageV05P086 # ومنهم من يحرم التأويل، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه (1) . # ومنهم من يحرمه على أكثر ms0845 الخلق إلا على القليل، كأبي حامد الغزالي (2) ~~وغيره. # ومنهم من يسوغ كل واحد من التفويض والتأويل، ويعد هذا من العلوم التطوعية ~~التي لا تجب ولا تحرم، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم ~~والأحاديث الإسرائيليات، والأحاديث المتضمنة لأوصاف الملائكة والجن ونحو ~~ذلك، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضا على الكفاية. # منعكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم، فلا يحرم على العالم ~~المتبحر لوجوه: # أحدها: أن لا موجب لتحريمه، والأصل الإباحة، فمن ادعى التحريم فعليه ~~الدليل. # الثاني: أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مراد الله ورسوله، وجنس العلم ~~خير من جنس الجهل، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا ~~محرما؟ # الثالث: أن المخالف للحق من الكفار والمبتدعة إن لم نتأول لهم هذه النصوص ~~لزم سوء الظن بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووقوع شبهة PageV05P087 # الاختلاف في كلام الله وكلام رسوله، ونفور الناس عن القرآن والإسلام، ~~ونفور أهل الباطل عن الحق. والتأويل هو أسرع إلى القبول وأدعى إلى ~~الانقياد، فأقل أحواله أن يكون بمنزلة تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة، فإن ~~التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم ~~والإيمان ما لا يحصل بدونها، مع أن الحاجة لا تدعو إليها، فكيف بتأويل ~~الخطاب الذي عارض ظاهره القواطع العقلية والسمعية. # الرابع: أن الطالب الذكي يضيق صدره بأسر التقليد، ويحب أن يخرج إلى ~~بحبوحة العلم، فلا تقنع نفسه ويرضى عقله إلا بالوقوف على التأويل، وهو ~~بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرف التأويل اطمأن قلبه ~~وانشرح صدره ورضي عقله، والبدن لو احتاج إلى طعام وشراب لغذاء أو دواء يحصل ~~له الضرر بفقده لأباحه الله له، بل قد أباح الأكل في الصوم الواجب للمريض ~~والمسافر إذا وجد مشقة بالصوم، وأباح ترك القيام في الصلاة إذا خاف زيادة ~~المرض أو لطول البرء. فكيف لا يبيح ما يضر عدمه القلوب لعقولها والنفوس ~~لوجودها، ويزيد بعدمه مرض القلب والدين، أو يتأخر بفقده الشفاء من مرض ~~الكفر والنفاق. وكما ms0846 أن الأطعمة والأشربة تختلف شهوة الناس وحاجتهم إليها ~~باختلاف قواهم وأمزاجهم، فرب مزاج يقرم إلى اللحم ما لا يقرمه غيره، ومن ~~كان مقيما بطيبة إبان الجداد كانت شهوته إلى الرطب بخلاف شهوة سكان الشام، ~~ومن كانت رياضته البدنية أقوى وأكثر -كالحمالين والحراثين- كانت حاجتهم إلى ~~الطعام أشد. # PageV05P088 # كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيا كان شوقه إلى درك الأمور الدقيقة أشد، ~~ومن راض عقله بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافها كانت حاجته ~~إلى الازدياد منها والوقوف عليها أشد. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في ~~الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما ~~لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يستلزم ~~الحاجة والشوق إلى أشياء، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من ~~لم ير المطاعم الشهية والمناظر البهية لا يشتهيها كشهوة المبتلى بها. فمن ~~لم تنفتح عين بصيرته لصنوف المعارف، ولا توسعت في قلبه أنواع المعالم، لا ~~يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقادة والمعارف المستفادة، ولا ~~يشتاق كاشتياقهم. وهذا تقرير قول السائل -أيده الله-: "لعالم متبحر لا يرضى ~~بأسر التقليد". # الخامس: أن نعمة الله على عباده بنفوذ البصيرة من أفضل النعم، وإدراك ~~حقيقة مراد الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه ~~النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلا أقبح من تحريم ~~استعمال قوى الأبدان في دفع أعداء الدين وعبادة رب العالمين، وتحريم إنفاق ~~الأموال في سبيل الله. بل تحريم هذا تحريم لطلب الدرجات العلى والنعيم ~~المقيم، والله لا يحرم مثل هذا، بل يستحبه إن لم يوجبه. # السادس: أن إبقاء النصوص المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين ~~بنفيها ذريعة إلى اعتقاد موجبها وتقلد مقتضاها. وتأويلها # PageV05P089 # يحسم هذه المادة، فيصير الأول مثل بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركها ~~بلا سور. بل الأول بمنزلة كشف النساء الحسان لوجوههن، والثاني كسترها، أو ~~الأول بمنزلة ترك المردان الصباح يعاشرون الأجانب، والثاني كصونهم من هذه ~~العشرة. فإن لم ms0847 يكن الثاني واجبا أو مستحبا فلا أقل من أن يكون مباحا. # وهذا معنى قول بعض الناس طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحزم وأحكم؛ لأن ~~طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مراد الله بالظن، الذي يجوز أن ~~يكون صوابا ويجوز أن يكون خطأ، وذلك قول عليه بما لا يعلم، والأصل تحريم ~~القول عليه بالظن، وكان تركها أسلم. وفي طريقة أهل التأويل حسم مواد ~~الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحزم وأحكم. # وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغهم أن العدو قاصدهم، وبيت ~~المال خال، فهل يسوغ أن يجمع من أموالهم ما يبني به سورهم لحفظهم من العدو ~~إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد (1) المخاطرة بأخذ الأموال بغير ~~طيب نفوس أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والحزم بضبط ~~الدين عن الانحلال. # وهب هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قوم الحظر، وقوم الوجوب، وقوم يخيرون ~~بين الأمرين، وقوم يوجبون فعل الأصلح. ويختلف الأصلح باختلاف الأعصار ~~والأمصار والأشخاص. PageV05P090 # السابع: أن السلف تكلموا في تفسير القرآن كله، وما رأيناهم حرموا تفسير ~~شيء منه، إلا أن ينقل عن أحدهم أنه ترك القول فيه، أو حرم القول على غيره ~~بغير علم، أو تركه خوف الخطأ على سبيل الورع ونحوه. وكتب التفسير مشحونة ~~بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرها، فكيف يدعي هذا أن ~~المعتبرين حرموا ذلك؟ # فهذا (1) تقرير لما ذكرتموه من قولكم: "لا نسلم أن معتبرا حرم تأويلا ~~يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد، ولا ~~يرى أن يستعمل في كشف الحقائق نور البصيرة الذي هو من أجل نعم الله على ~~العبيد". # وجوابه من وجوه: # أحدها: ما تكلمنا في تحريم جنس التأويل وجوازه شيئا، وإنما تكلمنا في ~~صحته وفساده، فقلنا: "إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من ~~التأويل الذي يخالفون به أهل [الحديث] باطلا، وتيقن [أن] الحق مع أهل ~~الحديث ظاهرا وباطنا". # وسنبين إن شاء الله بالنقول المستفيضة أن الخلاف وقع في أعيان هل هي ~~صحيحة أو ms0848 فاسد، بل قد بينا في نفس تلك المناظرة PageV05P091 # فساد تأويل اليد بما ذكروه فيها من التأويل (1) ، ولم نتعرض للتحريم ولا ~~للتحليل. وإذا كان أول الكلام وأوسطه وآخره إنما هو في صحة التأويل المعين ~~والمطلق وفساده، فالكلام في التحريم نفيا وإثباتا كلام آخر ليس بوارد ~~علينا. ولولا أنا في هذا المقام غرضنا بيان عدم ورود الأسولة علينا بالكلية ~~لذكرنا نصوص المختلفين، وإنما نؤخر ذلك إلى المقام الثاني إن شاء الله. # إن الأسولة تارة تكون موجهة واردة، وتارة لا تكون كذلك، والسؤال الوارد ~~منه [ما] يوجب انقطاع المستدل، ومنه ما لا يوجب انقطاعه، إن أجاب عن ضبط ~~حدود النظر والمناظرة هدي إن شاء [الله] إلى الهدى والسداد، اللذين أمر ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا بمسألتهما من الله، والغرض الضبط العلمي ~~الديني، لا الضبط العنادي الذي مضمونه الكلام بلا علم أو عدم قصد الحق. ~~وأما الاصطلاح المحض فأنت فيه بالخيار، ويجب أن تعرف حقيقة هذا النقل وتدين ~~في قولهم: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" (2) . فإن ~~كان النقل مشهورا -مثل أن يقال: مذهب أهل الحديث أن الله يرى في الآخرة، ~~والإيمان بالشفاعة، أو جمهورهم ونحو ذلك- لم يطلب في مثل هذا الإسناد. فإن ~~نقل: مذهب أهل الحديث بأن الله يرى هو الصحيح، فقد تضمن هذا نقلا وحكما، ~~فيجوز أن يقال: لا نسلم أنه هو الصحيح، وقد يقال أيضا: من أين علمتم؟ ~~PageV05P092 # فالمستدل في الأدلة في خطاب أو كتاب إذا قال: مذهب فلان كذا، لم يرد علمه ~~لا منع ولا معارضتها، وقد يعترض النقل بنقل آخر. وفي الحكم ورد عليه منع ~~النقل ومعارضته بأن: من ذكر هذا؟ أو من حكاه؟ أو قد نقل فلان عنه بخلافه. ~~لكن فرق بين منع النقل وبين منع الحكم وبين منع الدلالة، فإن النقل لا يمنع ~~منعا محضا إلا أن يكون المانع يعلم انتفاء ذلك المنقول، مثل أن يعلم أن ~~مذهب الشخص أو روايته بخلاف ذلك، كمن قال: سمع مالك ابن عمر يقول كذا ms0849، ~~فحقول المعترض: ما سمع مالك منه شيئا. وأما إن كان صدقه ممكنا، فإن غلب على ~~الظن خيرته وعدالته اكتفي بذلك. # (آخر ما وجد، والله أعلم. وليست كاملة) . # PageV05P093 ### | قاعدة في الوسيلة # PageV05P095 # بسم الله الرحمن الرحيم # ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين -رضي الله عنهم ~~أجمعين- فيمن عاب أقوالا نقلها جماعة من أكابر الأئمة وأعيان سادات هذه ~~الأمة: # أولها: ما أورده الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي في كتابه الكبير في ~~الفقه المسمى بشرح الكرخي (1) في باب الكراهية، وصورة اللفظ: "قال بشر بن ~~الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا ينبغي لأحد ~~أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وهو ~~قول أبي يوسف. # قال أبو يوسف: "بمعقد العز من عرشك" هو الله، فلا أكره هذا. وأكره أن ~~يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام. # قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا ~~يجوز. PageV05P097 # وثانيها: ما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيري في كتابه المسمى "التحبير في ~~علم التذكير" المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عز وجل، وصورة اللفظ أنه ~~قال (1) : علم الحق سبحانه أنه ليس لك أسام مرضية، فقال تعالى: (ولله ~~الأسماء الحسنى فادعوه بها) ، (2) ولأن تكون بأسماء ربك داعيا خير لك من أن ~~تكون بأسماء نفسك مدعيا، فإنك إن كنت بك كنت بمن لم يكن، وإذا كنت به كنت ~~بمن لم يزل، فشتان بين وصف وبين وصف. # وقال (3) : من عرف اسم ربه نسي اسم نفسه، بل من صحب اسم ربه تحقق بروح ~~أنسه قبل وصوله إلى دار قدسه، بل من عرف اسم ربه سمت رتبته، وعلت في ~~الدارين منزلته. # وثالثها: ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه (4) المشهورة، ~~وصورة اللفظ أنه قال: لا يجوز التوسل في الدعاء بأحد من الأنبياء والصالحين ~~إلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن صح حديث الأعمى. # وزعم العائب لهذه الأقوال ms0850 والطاعن على معانيها أن فيها تنقصا بعباد الله ~~الصالحين، واستخفافا بحرمة البيت والمشعر الحرام. # فهل في هذه الأقوال المذكورة تنقص واستخفاف والحالة هذه أو لا؟ ~~PageV05P098 # وهل يجوز ردها بمجرد رأي الإنسان وما جرت به عوائد بعض أهل الزمان أم لا؟ # وهل اشتهر عن الأئمة الأكابر المتبوعين خلاف لهذه الأقوال؟ # وهل صح حديث الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعه (1) ؟ # وهل في صريح لفظه ما يبطل الأقوال المذكورة ويوجب اعتقاد خلافها؟ # وهل يجوز الحلف بغير الله تعالى؟ وإذا لم يجز هل يجوز التحليف والإقسام ~~بغير الله؟ # والراد لهذه الأقوال المتقدم ذكرها والطاعات فيها، إذا لم يكن عنده دليل ~~شرعي قاطع يدفعها به، هل يردع عن ذلك ويزجر؟ # فأجاب -رضي الله عنه- # الحمد لله، ليس في شيء من هذه الأقوال تنقص ولا استخفاف، لا بصالحي عباد ~~الله ولا بشعائر الله، وإنما يكون متنقصا من نقصهم عن منزلتهم التي جعلهم ~~الله بها، كمن لا يرى حج البيت قربة وطاعة لله، ولا يرى الوقوف بعرفة ~~ومزدلفة ومنى، كما كان بعض أهل الجاهلية لا يرون الصفا والمروة من شعائر ~~الله، وكان بعضهم يخاف -إذ كانوا يعظمونها في الجاهلية- أن لاتكون من شعائر ~~الله PageV05P099 # في الإسلام، فأنزل الله قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) ~~(1) جوابا للطائفتين، كما ثبت ذلك في الصحاح (2) . # وكمن لا يرى تعظيم الهدي والضحايا التي قال الله فيها: # (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (32) لكم فيها منافع إلى أجل ~~مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33)) (3) . # وكمن لا يرى تعظيم حرمات الله، فلا يحرم صيد الحرم ونباته وسائر ما حرم ~~الله تعالى من المحرمات، فإن الواجب على الخلق فعل ما أمر الله به من ~~العبادات، واجتناب ما حرمه من المحرمات، فإن هذا وهذا من دين الله الذي بعث ~~به رسله، ولهذا قال الله تعالى: (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) ~~(4) . # ومن تمام تعظيم البيت أن يعبد الله فيه كما شرعه رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -، فيطاف به ms0851، ويستلم الركنان اليمانيان، ويقبل الحجر الأسود. # فلو قال قائل: من تعظيمه استلام الركنين الشاميين، وتقبيل مقام إبراهيم ~~والمسح به، أو تقبيل غير الحجر الأسود من جدران الكعبة، ونحو ذلك مما قد ~~يظنه بعض الناس تعظيما= كان هذا غلطا. # وإذا نهاه ناه عن ذلك فقال: نهيك لي عن هذا تنقص واستخفاف بحرمة البيت، ~~كان قد غلط غلطا ثانيا. PageV05P100 # ولهذا لما طاف ابن عباس ومعاوية بالبيت فكان ابن عباس لا يستلم إلا ~~الركنين اليمانيين، واستلم معاوية الأركان الأربعة، فقال ابن عباس: إن رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ~~ليس من البيت شيء مهجور، فقال له ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة ~~حسنة) (1) ، فسكت معاوية ووافق ابن عباس (2) . # فمعاوية احتج بأن البيت كله معظم لا يهجر منه شيء، فأجابه ابن عباس بأن ~~العبادات يجب فيها اتباع ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، ليس ~~لأحد أن يشرع برأيه عبادة لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر. # فوافقه معاوية، وعلم أن الصواب مع ابن عباس. # وكذلك ما ثبت في الصحيحين (3) أن عمر بن الخطاب لما قبل الحجر الأسود ~~قال: والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - يقبلك لما قبلتك. # بين عمر -رضي [الله] عنه- أن العبادات مبناها على متابعة الرسول - صلى ~~الله عليه وسلم -، إذ كان دين الإسلام مبنيا على أصلين: # أحدهما: أن لا يعبد إلا الله، لا يشرك به شيئا. PageV05P101 # والثاني: أن يعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشرع من شرع من الدين ما ~~لم يأذن به الله، كالذين قال فيهم: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم ~~يأذن به الله) (1) . # فأخبر عمر أنا لم نقبلك نرجو منفعتك ونخاف مضرتك، كما كان المشركون ~~يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أن الرسول قبلك ~~-وقد أمرنا الله باتباعه، فصار ذلك عبادة مشروعة- لما قبلتك، لسنا ms0852 كالنصارى ~~والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غير الله بغير إذن الله، بل لا نعبد إلا ~~الله بإذن الله، كما قال لنبيه: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) ~~وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)) (2) ، فبين أن رسوله يدعو إليه ~~بما أذن فيه من الشرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم ~~يأذن به الله. # وكذلك قال عمر (3) : فيم الرمل الآن والإبداء عن المناكب؟ # وقد أطأ الله الإسلام ونفى الشرك وأهله، ثم قال: لا ندع شيئا كنا نفعله ~~على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فعلناه. # وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه في عمرة القضية ~~بالاضطباع وبالرمل ليري المشركين قوتهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين ~~الركنين PageV05P102 # اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقعيقعان جبل المروة ينظرون إليهم (1) . # ثم إنه لما حج اضطبع ورمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، فجعل ذلك ~~شرعا لأمته. فبين عمر أنه لو لم يشرع ذلك لما فعلناه، لزوال السبب الذي ~~أوجبه إذ ذاك. # ومعلوم أن مكة -شرفها الله- فيها شعائر الله، وفيها بيته الذي أوجب الحج ~~إليه، وأمر الناس باستقباله في صلاتهم، وحرم صيده ونباته، وأثبت له من ~~الفضائل والخصائص ما لم يثبته لشيء من البقاع. # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب ~~أرض الله إلى الله -وفي رواية: وأحب أرض الله إلي-، ولولا أن قومي أخرجوني ~~منك لما خرجت" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. # فإذا كان الله لم يشرع أن يتمسح إلا بالركنين اليمانيين لكونهما على ~~قواعد إبراهيم، ويقبل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض (3) ، ~~فلا يقبل سائر جدران الكعبة، ولا يقبل مقام إبراهيم الذي هناك ولا يتمسح ~~به، ولا يقبل مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يصلي فيه ولا ~~يتمسح به، ولا يقبل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتمسح به= فمعلوم ~~أن PageV05P103 # قبور سائر الأنبياء والصالحين التي ببقية البلاد (مثل ما بالشام وغيرها ~~من الأمكنة التي يقال: إنها ms0853 مقام إبراهيم أو المسيح أو غيرهما، كمقام ~~إبراهيم ببرزة، وكمغارة الدم، والربوة التي يقال: إنه كان بها المسيح وأمه، ~~وكطور موسى وغار حراء وغيرهما من الجبال والمغارات، وكسائر قبور الصالحين ~~من الصحابة والقرابة وغيرهما، وكصخرة بيت المقدس وغيرها) أولى [بأن] لا ~~يقبل شيء من ذلك ولا يستلم ولا يطاف به، فلا يكون شيء من ذلك بمنزلة ~~الركنين اليمانيين ولا بمنزلة الحجر الأسود. ولهذا قال عمر: والله إني ~~لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - يقبلك لما قبلتك. # يدل على أنه ليس من الأحجار ما يقبل، إذ كان رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - لم يشرع تقبيل شيء من ذلك. # والحديث الذي يرويه بعض الكذابين: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله ~~به" (1) كذب مفترى باتفاق أهل العلم، وإنما ### | هذا من قول عباد الأصنام # الذين يحسنون ظنهم بالحجارة، وقال تعالى لهم: (إنكم وما تعبدون من دون ~~الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98)) (2) ، وقال تعالى: (فاتقوا النار التي ~~وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)) (3) ، وقال الخليل: (يا أبت لم ~~تعبد ما لا يسمع ولا يبصر PageV05P104 # ولا يغني عنك شيئا (42)) (1) ، وقال تعالى عن عباد العجل: (ألم يروا أنه ~~لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) (2) . وذكر تعالى عن الخليل أنه قال لقومه: ~~(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ~~(53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54) قالوا أجئتنا بالحق أم ~~أنت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ~~ذلكم من الشاهدين (56) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) ~~فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58) قالوا من فعل هذا ~~بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ~~(60) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (61) قالوا أأنت فعلت هذا ~~بآلهتنا يا إبراهيم (62) قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ~~(63) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64) ثم نكسوا على ~~رءوسهم ms0854 لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) قال أفتعبدون من دون الله ما لا ~~ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ~~(67)) (3) . وفي الموضع الآخر: (أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما ~~تعملون (96)) (4) . # فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنهم بالحجارة، فكان عاقبتهم أنهم في ~~النار خالدون. وإنما يحسن العبد ظنه بربه، كما PageV05P105 # ثبت في الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يقول ~~الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في ~~نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه". وفي صحيح مسلم (2) عن جابر ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن ~~الظن بالله". # وبالجملة فهذا أصل متفق عليه بين أئمة الدين أن ### | العبادات مبناها على توقيف الرسول # وطاعة أمره والاقتداء به، فلا يكون شيء عبادة إلا أن يشرعه الرسول، فيكون ~~واجبا أو مستحبا، وما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة باتفاق المسلمين. ~~ومن اعتقد مثل ذلك عبادة كان جاهلا، وإن ظن أن ذلك تعظيم لمن يجب تعظيمه، ~~فإن التعظيم المشروع لا يكون إلا واجبا أو مستحبا. # ومن نهي عن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، ~~وعن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، وعن الغلو في الأنبياء والصالحين، ~~فزعم أن هذا تنقص واستخفاف بالأنبياء والصالحين والملائكة، فهو من جنس ~~النصارى وأشباههم من المشركين وأهل البدع، قال تعالى: (يا أهل الكتاب لا ~~تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم ~~رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ~~ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في ~~السماوات وما في الأرض PageV05P106 # وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة ~~المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما ~~الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ms0855 وأما الذين ~~استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ~~ولا نصيرا (173)) (1) . # وقد قال: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول ~~للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون ~~الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين ~~أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) . # وقال تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ~~ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون ~~(30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما ~~أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (3) . # فهذه الأمور التي ذم الله بها النصارى، إذ نهوا عنها قالوا: هذا تنقص ~~بالمسيح والأحبار والرهبان، وكانوا كفارا بجعلهم هذا النهي تنقصا مذموما، ~~إذ كانوا عظموا الأنبياء والصالحين تعظيما لم يشرع لهم. PageV05P107 # وكذلك من اتخذ قبورهم مساجد تعظيما لهم، أو سجد لهم تعظيما لهم، أو دعاهم ~~وسألهم -كما يدعو الله ويسأله- بعد مماتهم وفي تغيبهم، أو رجاهم وخافهم كما ~~يرجو الله ويخافه= فإنه مشرك مبتدع. وإذا نهي عن ذلك فقال: هذا تنقص، زاد ~~ضلالة، قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم ~~الفائزون (52)) (1) وقال تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ~~وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)) ~~(2) . # فجعل الله الخشية والتقوى والتوكل والرغبة لله وحده، وجعل للرسول أن ~~يطاع، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، وأن يرضوا بما آتاه، وهو ما حلله، فلا ~~يطلب ما حرمه الله، بل الحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه. ~~ويجب أن يكون أحب إلى المؤمنين من أنفسهم وأهليهم، إلى غير ذلك من حقوقه ~~(3) . # ولا يعبد إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يرغب إلا إلى الله، ولا ~~يخشى ولا يتقى إلا الله. # وقد اتفقت أئمة المسلمين على أن من قصد الصلاة في المساجد المبنية ms0856 على ~~قبور الأنبياء والصالحين، وقصد الدعاء عندها، معتقدا أن الصلاة فيها ~~والدعاء عندها أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد PageV05P108 # المبنية لله لا على قبر أحد= فإنه مخطىء ضال، وإن كان كثير من الجهال يرى ~~ذلك من تعظيمهم. # وكذلك اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه ### | لا يشرع لأحد أن يستلم ويقبل غير الركنين اليمانيين، # لا قبور الأنبياء ولا حجرة بيت المقدس ولا غير ذلك، ولا مقامات الأنبياء ~~كمقام إبراهيم الذي بمكة، والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين ~~وغير ذلك مما يستلمه ويقبله كثير من الجهال، ويرون ذلك من تعظيمها، وذلك ~~ليس بواجب ولا مستحب باتفاق المسلمين. ومن فعل ذلك معتقدا أنه بر وقربة فهو ~~ضال مبتدع مشابه للنصارى. # واتفق أيضا أئمة المسلمين على أنه لا يشرع لأحد أن يدعو ميتا ولا غائبا، ~~فلا يدعوه ولا يسأله حاجة، ولا يقول: اغفر ذنبي، أو انصر ديني، أو انصرني ~~على عدوي، أو غير ذلك من المسائل، ولا يشتكي إليه، ولا يستجير به، كما ~~يفعله النصارى بمن يصورون التماثيل على صورته، ويقولون: مقصودنا دعاء أصحاب ~~هذه التماثيل والاستشفاع بهم، فمثل هذا ليس مشروعا -لا واجبا ولا مستحبا- ~~في دين المسلمين باتفاق المسلمين. ومن فعل ذلك معتقدا أنه يستحب فهو ضال ~~مبتدع. # بخلاف طلب الدعاء والشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين، ~~كما كان أصحابه يطلبون منه الدعاء ويستشفعون به ويتوسلون بدعائه في حياته، ~~كما ثبت في صحيح البخاري (1) عن عمر بن الخطاب أنه PageV05P109 # قال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك [بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل ~~إليك] بعم نبينا فاسقنا"، فيسقون. # وقد ثبت في الصحيحين (1) حديث أنس لما توسلوا بالنبي - صلى الله عليه ~~وسلم - واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يدعو لهم، حين قال له الأعرابي: جهدت ~~الأنفس وجاع العيال وهلك المال، فادع الله لنا، فدعا الله لهم، فأمطروا ~~سبتا. ثم شكوا إليه بهدم الأبنية وانقطاع الطرق، وسألوه أن يدعو الله ~~بكشفها عنهم، فدعاه، فكشفها عنهم. # وكذلك يوم القيامة يتوسل به أهل الموقف ويستشفعون به، فيشفع ms0857 لهم إلى ربه ~~أن يقضي بينهم. ثم يشفع شفاعة أخرى لأهل الكبائر من أمته، ويشفع في أن يخرج ~~الله من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما استفاضت بذلك الأحاديث ~~الصحيحة (2) . # ولما مات - صلى الله عليه وسلم - توسلوا بدعاء العباس عمه، ولم يتوسلوا ~~به بعد موته، فإنهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته، وذلك ينقطع بموته، ~~فتوسلوا بدعاء العباس. # وكذلك معاوية بن أبي سفيان استشفع في الشام وتوسل بيزيد ابن الأسود ~~الجرشي، وقال: "اللهم إنا نتوسل إليك بخيارنا، يا يزيد! ارفع يديك"، فرفع ~~يديه فدعا ودعا الناس، حتى نزل المطر (3) . PageV05P110 # ولهذا قال الفقهاء: يستحب الاستسقاء بأهل الصلاح والدين، والأولى أن ~~يكونوا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اقتداء بعمر لما ~~استسقى بالعباس. ولو كان توسلهم في حياته هو إقساما به على الله وتوسلا ~~بذاته من غير أن يدعو لهم، لأمكن ذلك بعد مماته، ولكان توسلهم به أولى من ~~توسلهم بالعباس. ولكن إنما كانوا يتوسلون بدعائه، كما ثبت ذلك في الصحاح ~~أنهم توسلوا في الاستسقاء بدعائه. وفي صحيح البخاري (1) عن ابن عمر قال: ~~ربما ذكرت قول الشاعر: # وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ### | … # ثمال اليتامى عصمة للأرامل # ولم يقل أحد من المسلمين إنهم كانوا في حياته يقسمون به ويتوسلون بذاته، ~~بل حديث الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم (2) ، ~~ألفاظه صريحة في أن الأعمى إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~كما قد بسطت ألفاظه في موضع PageV05P111 # آخر (1) . وفي أول الحديث أن الأعمى سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ~~يدعو الله أن يرد إليه بصره، فهو طلب من النبي الدعاء، فأمره النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه ~~إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في ~~حاجتي لتقضيها، اللهم فشفعه في". وفي رواية ثانية رواها أحمد والبيهقى ~~وغيرهما (2) : "اللهم شفعه في وشفعني فيه". # فلما سأل النبي - صلى الله عليه ms0858 وسلم - أن يدعو أمره أن يدعو هو أيضا. ~~كما قال له ربيعة بن كعب الأسلمي: أسأل مرافقتك في الجنة، فقال: "أعني على ~~نفسك بكثرة السجود" (3) . فإن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤاله ~~الإنسان قد يكون مشروطا بشروط، وقد يكون هناك مانع، كاستغفاره للمنافقين. # فدعاؤه من أعظم الأسباب في حصول المطلوب، ولكن السبب قد يكون له شروط ~~وموانع، فإذا كان إبراهيم قد استغفر لأبيه فلم يغفر له، وقيل للنبي - صلى ~~الله عليه وسلم - في المنافقين: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ~~لن يغفر الله لهم) (4) ، وقيل له: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم ~~على قبره) (5) ، لم يمنع ذلك أن يكون دعاء PageV05P112 # إبراهيم ومحمد عند الله أعظم الدعاء إجابة، وجاههما عند الله أعظم جاه ~~للمخلوقين، وهما الخليلان، وهما أفضل البرية. لكن الدعاء وإن كان سببا قويا ~~فالكفر مانع معارض، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وقد حرم الجنة على ~~الكافرين والمنافقين وإن استغفر لهم محمد وإبراهيم، لوجود المانع لا لنقص ~~جاه الشفيع العظيم القدير. # وكذلك ثبت عنه في الصحيح (1) أنه قال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي ~~فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". # وقد قال تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو ~~كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (2) ، ثم ~~اعتذر عن إبراهيم بقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة ~~وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ~~(114)) (3) . # فهو - صلى الله عليه وسلم - قال لربيعة: "سل"، قال: أسأل مرافقتك في ~~الجنة، فقال: "أو غير ذلك"؟ فقال: بل هو ذاك، قال: "أعني على نفسك بكثرة ~~السجود". فإن المطلوب عال لا ينال بمجرد الدعاء، بل لابد من عمل صالح يكون ~~من صاحبه، يكون عونا للداعي، فقال: "أعني على نفسك بكثرة السجود". ~~PageV05P113 # كذلك أمر الأعمى -لما طلب منه الدعاء له- أن يعينه هو أيضا بصلاته ~~ودعائه، وقال: "صل ركعتين ms0859 ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد ~~نبي الرحمة" أي بدعاء نبيك وشفاعته. كما قال عمر: "كنا نتوسل إليك بنبينا، ~~وإنا نتوسل إليك بعم نبينا". # ومعلوم أنهم إنما توسلوا بدعاء العباس، كما كانوا يتوسلون بدعاء النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -. وهذا فعله عمر بين المهاجرين والأنصار عام الرمادة، ~~ولم ينكره أحد ولم يقل له: بل التوسل بذات النبي أو الإقسام به مشروع، فلم ~~يعدل عن التوسل بالرسول إلى العباس؟ # فلما أقروا عمر على ذلك ولم ينكره أحد علم أن ما فعله عمر وأصحابه معه هو ~~المشروع دون ما يخالفه. # وكذلك أمر الأعمى أن يتوسل بدعائه وشفاعته، ويدل على ذلك قوله في آخر ~~الحديث: "اللهم فشفعه في"، علم أنه كان يدعو ويشفع له، وأن الأعمى إنما ~~توسل بدعائه وشفاعته، وإلا فكان يقول: "اللهم وهذا شفاعة النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - ". # و ### | التوسل بدعائه وشفاعته هو التوسل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه، # وهو معنى التوسل به عندهم، كما قد بين ذلك حديث عمر وحديث الأعمى. ولكن ~~من الناس من ظن أن المراد بلفظ التوسل به هو التوسل بذاته أو الإقسام ~~بذاته، وهذا غلط على الصحابة. # وأما كلام العلماء في أن ذلك مشروع أو لا؟ فقد ذكر السائل النقل عن أبي ~~حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أن ذلك منهي عنه، # PageV05P114 # وما ذكره عن أبي محمد بن عبد السلام يوافق ذلك. وأما استثناؤه الرسول إن ~~صح حديث الأعمى، فهو -رحمه الله- لم يستحضر الحديث بسياقه حتى يتبين له أنه ~~لا يناقض ما أفتى به، بل ظن أنه يدل على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته. ~~والحديث صحيح، لكن لا يدل على هذه المسألة كما تقدم. # وأما ما نقله (1) السائل عن القشيري فأجنبي عن هذه المسألة، لا يدل عليها ~~بنفي ولا إثبات. # وقد ذكر المروذي في منسكه عن الإمام أحمد بن حنبل أن الداعي المسلم على ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوسل به في دعائه. فهذا النقل يجعل معارضا ~~لما نقل عن أبي حنيفة ms0860 وغيره. # ونقل أيضا عن عثمان بن حنيف أنه أمر رجلا بعد موت النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أن يدعو بهذا الدعاء، لكن لم يقل فيه: "اللهم فشفعه في". # وقد تكلمت على إسناد ذلك، وهل هو ثابت أم لا؟ وبسطت الكلام على ذلك في ~~غير هذا الموضع (2) ، وبينت أنه [على] تقدير ثبوته يكون معارضا لما فعله ~~عمر بمحضر من المهاجرين والأنصار، وإذا كانت مسألة نزاع ردت إلى الله ~~والرسول. # وما نقل عن أحمد رضي الله عنه فإنه يشبه ما نقل عنه من جواز الإقسام ~~برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يجب بذلك الكفارة، فإن الإقسام به ~~PageV05P115 # في اليمين كالإقسام به على الله، وكالتوسل بذاته. # وهذه الرواية عن أحمد لم يوافقها [أحد] من الأئمة، بل جمهور الأئمة على ~~الرواية الأخرى عنه، وهو أنه لا يشرع الحلف بمخلوق لا النبي ولا غيره، ولا ~~يجب بذلك كفارة. وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونصروها في الخلاف، ~~كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهم. ثم أكثر هؤلاء يقولون: هذا ~~الحكم مختص به، لكون الإيمان به بخصوصه ركنا في الإيمان، لا يتم الإيمان ~~إلا بالشهادتين. وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك في انعقاد اليمين ~~بالحلف بهم. # وأما جماهير علماء المسلمين من السلف والخلف فعلى أنه لا ينعقد اليمين ~~بمخلوق، لا الأنبياء ولا غيرهم، كالرواية الثانية عن أحمد. وهذا مذهب مالك ~~والشافعي وأبي حنيفة واختيار طائفة من أصحاب أحمد، وهذا القول هو الصواب، ~~فإنه قد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ~~تحلفوا إلا بالله"، وقال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". وفي السنن ~~(2) عنه أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". # وقال ابن مسعود وابن عباس: "لأن أحلف كاذبا أحب إلي PageV05P116 # [من] أن أحلف بغيره صادقا" (1) . وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك ~~أعظم إثما من الكذب. وهذا يوافق أظهر قولي العلماء أن النهي عن الحلف ~~بالمخلوقات نهي تحريم لا نهي تنزيه، وهذا قول أكثر العلماء ms0861، وهو أحد ~~القولين في مذهب الشافعي وأحمد. # وإذا كان ### | الحلف بغير الله من باب الشرك، # فمعلوم أنه لا يجوز أن يشرك به ولا يعدل به ولا يسوى به الأنبياء وغيرهم، ~~قال تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر ~~بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) ، وقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ~~فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ~~ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ~~(57)) (3) . قال طائفة من السلف (4) : كان قوم يدعون الملائكة والأنبياء، ~~فأنزل الله هذه الآية بين فيها أن الملائكة والأنبياء قد يتقربون إلى الله ~~ويرجونه ويخافونه، كما أن سائر العباد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه، ~~فلا يجوز دعاء الملائكة والأنبياء. وقد قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" (5) . ~~وقال: "لا تقولوا ما شاء الله PageV05P117 # وشاء محمد، بل قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" (1) . فنهاهم [أن] يشركوا ~~به حتى في مثل هذه الأقوال. # وقد أمر الله أن يقول: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ~~ألا نعبد إلا الله) (2) الآية. ولما قال الأعرابي: ومن يعصهما فقد غوى، ~~قال: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" (3) . # مع أنه قد روي عنه أنه قال: "ومن يعصهما" (4) ، وذلك لأن هذا إذا قاله من ~~جعل طاعة الرسول تابعة لطاعة الله ويجعله عبدا لله ورسولا، لم ينكر عليه ~~الجمع بينهما في الضمير، بخلاف من قد لا يفهم ذلك، بل يجعل الرسول ندا، ~~كقول القائل: ما شاء الله وشاء محمد. # وأيضا فقد نهى معاذا وغيره عن السجود له، وقال: "أرأيت لو مررت بقبري ~~أكنت ساجدا لقبري"؟ قال: لا، قال: "فإنه لا يصلح السجود إلا لله" (5) . ~~PageV05P118 # وأيضا فقد ثبت في الصحيح (1) أنهم لما صلوا خلفه قياما وهو قاعد لمرضه ~~قال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا". # فنهاهم أن يقوموا -مع أن قيامهم كان لله ms0862- لئلا يشبهوا من يقوم له. # وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" (2) . # وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال [في] مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى ~~اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة (4) : ولولا ذلك ~~لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. # وفي السنن (5) عنه أنه قال: "لا تتخذوا بيتي عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، ~~فإن صلاتكم تبلغني". # وفي الصحيح (6) عنه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، ~~فإنما أنا [عبد] فقولوا: عبد الله ورسوله". # فهذه النصوص وغيرها تبين أنه نهاهم عن الشرك به والغلو فيه، وسد هذه ~~الذريعة بنهيهم أن يتخذوا قبره مسجدا، وأن يقولوا PageV05P119 # ما شاء الله وشاء محمد، وأنه دفن في بيته ولم يظهر قبره خوف الإشراك. # وإذا كان كذلك، والقسم بالمخلوق شرك بالمخلوق، والشرك لا يجوز به ولا ~~بغيره، فلا يجوز القسم به، كما قال الجمهور، ولا تنعقد اليمين به، ولا يجب ~~بذلك كفارة. # وقد تنازع العلماء في الصلاة عليه عند الذبيحة، فكره ذلك مالك وأحمد ~~وغيرهما، لئلا يذكر على الذبيحة غير الله، خوفا من الإهلال بها لغير الله ~~من أن ذلك صلاة عليه. ورخص في ذلك الشافعي وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحاب ~~أحمد، قالوا: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان، وهذا بخلاف الإقسام به، فإن ~~الإقسام بسائر المخلوقات شرك به، والشرك به لا يجوز بحال. # وكل ما كان من خصائص الرب: كالعبادة لله، والنذر لله، والصدقة لله، ~~والتوكل على الله، والخوف من الله، والخشية لله، والرغبة إلى الله، ~~والاستعانة به، وغير ذلك مما هو من خصائص الرب= فإنه لا يجوز أن يفعل ~~بمخلوق، لا الأنبياء ولا غيرهم، ولا يستثنى من ذلك أحد. # وإذا كان الإقسام به منهيا عنه لا ينعقد به اليمين ولا يجب به الكفارة، ~~فالاقسام به على الله أولى أن يكون منهيا عنه، وكذلك الإقسام بسائر ~~المخلوقات على الله. # وكذلك التوسل بذواب الملائكة والأنبياء والصالحين أيضا كذلك، فإن أعظم ~~الوسائل للخلق إلى الله هو محمد - صلى الله عليه وسلم ms0863 -، وأعظم وسائل الخلق ~~إلى الله التوسل بإيمان به: بتصديقه فيما أخبر، # PageV05P120 # وطاعته فيما أوجب وأمر، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وتحليل ما حلل، ~~وتحريم ما حرم، وإرضائه ومحبته، وتقديمه في ذلك على الأهل والمال. فهذه ~~الوسيلة التي أمرنا الله بها في قوله: (اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) ~~(1) . فالوسيلة ما يتوسل به، [و] هو ما يتوصل [به] ، والتوسل والتوصل إلى ~~الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقه وطاعته، لا وسيلة للخلق إلى الله ~~إلا هذه الوسيلة. ثم من آمن بالرسول إذا دعا له الرسول وشفع فيه، كان دعاء ~~الرسول وشفاعته مما يتوسل به. فهذا هو التوسل بالرسول. # فأما إذا قدر أن الرجل لم يطعه، وهو لم يدع للإنسان، فنفس ذات الرسول لا ~~ينفع الإنسان شيئا، بل هو أعظم الخلق عند الله قدرا وجاها، وذلك فضل الله ~~عليه وإحسانه إليه، وإنما ينتفع العباد من ذلك بما يقوم بهم من الإيمان به، ~~أو ما يقوم به من الدعاء لهم. فأما إذا قام بهم دعاؤه والإقسام به فهذا لا ~~ينفعهم. # والدعاء من أفضل العبادات، ولم ينقل أحد عنه أنه شرع لأمته الإقسام بأحد ~~من الأنبياء والصالحين على الله، فمن جعل ذلك مشروعا -واجبا أو مستحبا- فقد ~~قفا ما لا علم له به، وقال قولا بلا حجة، وشرع دينا لم يأذن به الله. # وإذا لم يكن ذلك واجبا ولا مستحبا كان من فعله معتقدا أنه واجب أو مستحب ~~مخطئا في ذلك، وإذا كان مجتهدا [أو] مقلدا PageV05P121 # فله حكم أمثاله من المجتهدين والمقلدين يعفى عن خطئه. فأما إذا أنكر على ~~غيره بلا علم، ورد الأقوال بلا حجة، وذم غيره ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو ~~مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئا، فإن المجتهد المخطىء غفر ~~الله له خطأه، فكيف إذا كان المنازع له المصيب وهو المخطىء؟! # ولكن شأن أهل البدع أنهم يبتدعون بدعة، ويوالون عليها ويعادون، ويذمون بل ~~يفسقون بل يكفرون من خالفهم، كما يفعل الخوارج والرافضة والجهمية وأمثالهم. ~~وأما أهل العلم والسنة فيتبعون الحق الذي ms0864 جاء به الكتاب والسنة، ويعذرون من ~~خالفهم إذا كان مجتهدا مخطئا أو مقلدا له، فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز ~~لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال في دعاء المؤمنين: (ربنا لا تؤاخذنا ~~إن نسينا أو أخطأنا) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله استجاب هذا ~~الدعاء، وقال: قد فعلت. # والكلام على هذه المسائل قد بسط في مواضع غير هذا، وصنفت فيه مصنفات، ~~وللعلماء في ذلك وما يتعلق به من الكلام ما لا يتسع له هذا الموضع. والله ~~أعلم. # (آخره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم ~~تسليما) . PageV05P122 ### | الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) # PageV05P123 # (قال في فتيا له تسمى "بالأزهرية":) # ومن قال: إن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى، وقع في محذورات: # أحدها: قولهم "إن هذا ليس هو كلام الله"، فإن نفي هذا الإطلاق خلاف ما ~~علم بالاضطرار من دين الإسلام، وخلاف ما دل عليه الشرع والعقل. # والثاني: قولهم "عبارة" إن أرادوا أن هذا الثاني هو الذي عبر عن كلام ~~الله تعالى القائم بنفسه، لزم أن يكون كل تال معبرا عما في نفس الله تعالى. ~~والمعبر عن غيره هو المنشىء للعبارة، فيكون كل قارىء هو المنشىء لعبارة ~~القرآن. وهذا معلوم الفساد بالضرورة. # وإن أرادوا أن القرآن العربي عبارة عن معانيه، فهذا حق، إذ كل كلام فلفظه ~~عبارة عن معناه، لكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام متناولا للفظ والمعنى. # الثالث: أن الكلام قد قيل: إنه حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى، وقيل: ~~حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وقيل: بل حقيقة في كل منهما. والصواب الذي ~~عليه السلف والأئمة أنه حقيقة في مجموعهما. # كما أن الإنسان قيل: هو حقيقة في البدن فقط، وقيل: بل في الروح فقط. ~~والصواب أنه حقيقة في المجموع. فالنزاع في الناطق كالنزاع في منطقه. # PageV05P125 # وإذا كان كذلك فالمتكلم إذا تكلم بكلام له لفظ ومعنى، وبلغ عنه بلفظه ~~ومعناه، فإذا قيل: ما بلغه المبلغ من اللفظ إن هذا عبارة عن القرآن، وأراد ~~به المعنى الذي ms0865 للمبلغ عنه= نفى عنه اللفظ الذي للمبلغ عنه، والمعنى الذي ~~قام بالمبلغ. فمن لم يثبت إلا القرآن المسموع الذي هو عبارة عن المعنى ~~القائم بالذات، قيل له: فهذا الكلام المنظوم الذي كان موجودا قبل قراءة ~~القراء هو موجود قطعا وثابت، فهل هو داخل في العبارة والمعبر عنه أو ~~غيرهما؟ # فإن جعلته غيرهما بطل اقتصارك على العبارة والمعبر عنه، وإن جعلته أحدهما ~~لزمك إن لم تثبت إلا هذه العبارة والمعنى القائم بالذات أن تجعله نفس ما ~~سمع من القراء، فتجعل عين ما بلغه المبلغون هو عين ما سمعوه، وهذا الذي ~~فررت منه. # وأيضا فيقال له: القارىء المبلغ إذا قرأ فلابد له فيما يقوم به من لفظ ~~ومعنى، وإلا كان اللفظ الذي قام به عبارة عن القرآن، فيجب أن يكون عبارة عن ~~المعنى الذي قام به، لا عن معنى قام بغيره. # فقولهم "هذا هو العبارة عن المعنى القائم بالذات" أخطأوا من وجهين: # أخطأوا في بيان مذهبهم، فإن حقيقة قولهم: أن اللفظ المسموع من القارىء ~~حكاية اللفظ الذي عبر به عن معنى القرآن مطلقا، وذلك أن اللفظ عبارة عن ~~المعنى القائم بالذات، ولفظه ومعناه حكاية عن ذلك اللفظ والمعنى. # PageV05P126 # ثم إذا عرف مذهبهم بقي خطؤهم في أصول: # منها: زعمهم أن معاني القرآن معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، وأن معنى ~~التوراة والإنجيل والقرآن معنى واحد، ومعنى آية الكرسي معنى آية الدين. ~~وفساد هذا معلوم بالضرورة. # ومنها: زعمهم أن القرآن العربي لم يتكلم الله به. # (وأطال في ذلك وبرهن عليه بما يطول هنا ذكره، وقال بعد ذلك:) # وأول من قال هذا في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب، وجعل القرآن ~~المنزل حكاية عن ذلك المعنى. فلما جاء الأشعري واتبع ابن كلاب في أكثر ~~مقالته ناقشه على قوله: "إن هذا حكاية عن ذلك"، وقال: الحكاية تماثل ~~المحكي. فهذا اللفظ يصح من المعتزلة، لأن ذلك المخلوق حروف وأصوات عندهم ~~وحكاية مثله، وأما على أصل ابن كلاب فلا يصح أن يكون حكاية. بل نقول: "إنه ~~عبارة ms0866 عن المعنى". # ف ### | أول من قال بالعبارة الأشعري. # وكان البلاقلاني -فيما ذكر عنه- إذا درس مسألة القرآن يقول: هذا قول ~~الأشعري ولم يتبين صحته، أو كلاما هذا معناه. # وكان الشيخ أبو حامد الإسفراييني يقول ### | : مذهب الشافعي وسائر الأئمة في القرآن خلاف قول الأشعري، # وقولهم هو قول الإمام أحمد (1) . PageV05P127 # وكذلك أبو محمد الجويني ذكر أن الأشعري خالف في مسألة الكلام قول الشافعي ~~وغيره، وأنه أخطأ في ذلك. # وكذلك سائر أئمة أصحاب مالك والشافعي وغيرهما يذكرون قولهم في حد الكلام ~~وأنواعه من الأمر والنهي والخبر العام والخاص وغير ذلك، ويجعلون الخلاف في ~~ذلك مع الأشعري، كما هو مبين في أصول الفقه التي صنفها أئمة أصحاب أبي ~~حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم. # (ثم قال بعد ذلك:) ومن قال من المعتزلة والكلابية: إن القرآن المنزل ~~حكاية ذلك، وظنوا أن المبلغ حاك لذلك الكلام، ولفظ الحكاية قد يراد به ~~محاكاة الناس فيما يقولونه ويفعلونه اقتداء بهم وموافقة لهم؛= فمن قال: إن ~~القرآن حكاية كلام الله تعالى بهذا المعنى، فقد غلط وضل ضلالا مبينا، فإن ~~القرآن لا يقدر الناس على أن يأتوا بمثله، ولا يقدر أحد أن يأتي بما يحكيه. # وقد يراد بلفظ "الحكاية" النقل والتبليغ، كما يقال: "فلان حكى عن فلان ~~أنه قال كذا"، كما يقال عنه: "نقل عنه". فهذا بمعنى التبليغ للمعنى. وقد ~~يقال: "حكي عن فلان أنه قال كذا وكذا"، لما قاله بلفظه ومعناه، فالحكاية ~~هنا بمعنى التبليغ للفظ والمعنى، لكن يفرق بين أن يقول: حكيت كلامه على وجه ~~المماثلة له، وبين أن يقول: حكيت عنه كلامه، وبلغت عنه أنه قال مثل قوله من ~~غير تبليغ عنه، وقد يراد به المعنى الآخر، وهو أنه بلغ عنه ما قاله. # فإن أريد المعنى الأول جاز أن يقال: هذا حكاية كلام فلان، # PageV05P128 # وهذا مثل كلام فلان، وليس هو مبلغا عنه كلامه. وإن أريد به المعنى الثاني ~~-وهو ما إذا حكى الإنسان عن غيره ما يقوله وبلغه عنه- فهنا يقال: هذا كلام ~~فلان، ولا يقال: هذا حكاية كلام ms0867 فلان. # كما لا يقال: هذا مثل كلام فلان. بل قد يقال: هذا كلام فلان بعينه، بمعنى ~~أنه لم يغيره ولم يحرف، ولم يزد ولم ينقص. # PageV05P129 ### | فتوى في الخضر # PageV05P131 # بسم الله الرحمن الرحيم # (قال بعد حكاية القول بحياة الخضر واحتجاج القائلين به ما نصه:) # وقالت طائفة: هو ميت، فإن حياته ليس فيها دليل يصلح مثله للخروج عن ~~العادة المعروفة في بني آدم، وذلك بأن حياته ليس فيها خبر صحيح عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه. والحديث المذكور في مسند الشافعي (1) ~~مرسل ضعيف. والحديث الذي يروى في اجتماع الخضر وإلياس كل عام بالموسم ~~وافتراقهما على تلك الكلمات (2) هو أضعف من ذلك الحديث، والكلمات كلمات ~~حسنة، لكن الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باجتماعهما كل عام ~~وافتراقهما على هؤلاء الكلمات خبر ضعيف. وإذا لم يكن فيه خبر صحيح عمن علم ~~أمته كل شيء، PageV05P133 # وقال أبو ذر (1) : لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر ~~يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما، ونحو ذلك، مع أنه أخبرهم ~~بقصته مع موسى وتفصيل ما جرى له معه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-: "وددت أن موسى صبر حتى يقص علينا من خبرهما" (2) . فلو كان حيا كانت ~~حياته أعجب من ذلك كله، فكيف لا يخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ~~أم كيف يخبر به فلا يبلغه أصحابه ولا كان هذا معروفا عندهم؟ # وأيضا فلو كان حيا لكان يجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد ~~اجتمع به ليلة المعراج من مات قبله، فكيف لا يجتمع به من هو حي في وقته؟ # وأيضا كان يجب عليه الإيمان به والمجاهدة معه، كما قال تعالى: (وإذ أخذ ~~الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) ~~(3) الآية. قال ابن عباس (4) : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن ~~بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن ~~بعث محمد ms0868 وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. # والخضر إما نبي أو من أتباع الأنبياء، وعلى التقديرين فعليه أن يؤمن ~~بمحمد وينصره، ومعلوم أن ذلك لو وقع لكان مما تتوفر الدواعي والهمم على ~~نقله، فقد نقل الناس من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الأحبار ~~PageV05P134 # والرهبان، فكيف لا ينقل إيمان الخضر وجهاده معه لو كان قد وقع؟ # وقول من قال: "الخضر كان حيا في حياته" بمنزلة قول من يقول: "يوشع بن نون ~~كان حيا أو بعض أنبياء بني إسرائيل كإلياس"، وهذا باطل لمقدمتين: # إحداهما: لو كان حيا لوجب عليه أن يؤمن به ويهاجر إليه ويجاهد معه. # والثانية: أن ذلك لو وقع لتوفرت الدواعي والهمم على نقله. # وإذا كان هارون ونحوه تبعا لموسى، وكان أنبياء بني إسرائيل تبعا لموسى، ~~فكيف لا يكون الخضر ونحوه إن قدر نبوته تبعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ~~الذي ما خلق الله خلقا أكرم عليه منه، وما تلقوه عن الله بواسطة محمد - صلى ~~الله عليه وسلم - أفضل مما تلقوه بغير واسطة موسى. # وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بنزول المسيح ابن مريم ~~آخر الزمان، وذكر أنه يحكم فينا بكتاب الله وسنة رسوله (1) ، والمسيح أفضل ~~من الخضر، فلو كان الخضر حيا لكان يكون مع محمد ومع المسيح ابن مريم. وقول ~~بعض الناس (2) : "إن الرجل الذي يقتله الدجال هو الخضر" لا أصل له. ~~PageV05P135 # (ثم قال:) وعدم إيمانه بموسى إنما كان لأن موسى لم يبعث إليه، كما في ~~الحديث الصحيح (1) : إن موسى لما سلم عليه قال له: وأنى بأرضك السلام؟ ~~فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. وقال في أثنائه: يا موسى ~~إني على علم علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا ~~أعلمه. # وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فدعوته عامة لجميع الخلق أسودهم ~~وأحمرهم، فلا يمكن الخضر وغيره أن يعامل محمدا - صلى الله عليه وسلم - ~~ويخاطبه كما عامل موسى وخاطبه، بل على كل من أدرك مبعثه أن يؤمن به ms0869 ويجاهد ~~معه، ولا يستغني بما عنده عما عنده. وكل من جوز لأحد ممن أدركته دعوة ~~الرسول أن يكون مع محمد كما كان الخضر مع موسى= فهو ضال ضلالا مبينا، بل هو ~~كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. # ولهذا لم يكن في العلم بحياة الخضر بتقدير صحتها ولا في وجوده حيا منفعة ~~للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك، فإنه في المسند والنسائي عن جابر (2) أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة، ~~فقال: "أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيا ~~لما وسعه إلا اتباعي". # فإذا كان هذا حال الأمة مع موسى فكيف مع الخضر وأمثاله؟ PageV05P136 # والمسيح إذا نزل إنما يحكم في الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها. فليست هذه ~~الأمة محتاجة في شيء من دينها إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى شيء ~~آخر، ولا إلى غير نبي لا خضر ولا غيره، فإن الذي يجيئهم إن جاءهم بما علم ~~في الكتاب والسنة لم يحتج إليه فيه، وإن جاءهم بخلاف ذلك كان مردودا عليه. # ولهذا كان أكثر من يتكلم في هذه الأشياء أهل الضلال والحيرة والتهوك ~~الذين لم يستبينوا طريق الهدى من كتاب الله وسنة رسوله، بل يتعلقون ~~بالمجهولات ويرجعون إلى الضلالات. ونجد كثيرا منهم يعنون بالخضر الغوث. # (ثم أطال الكلام في تقرير ذلك) . # PageV05P137 ### | سؤال في يزيد بن معاوية # PageV05P139 # بسم الله الرحمن الرحيم # الحمد لله رب العالمين # سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي ~~الله عنه: # ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في يزيد بن ~~معاوية هل كان صحابيا؟ وما حكم من يعتقد أنه [كان] صحابيا أو أنه كان نبيا؟ ~~وهل في الصحابة من اسمه يزيد؟ # فأجاب رضي الله عنه فقال: # الحمد لله رب العالمين. يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي تولى على ~~المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان لم يكن من الصحابة، ولكن عمه يزيد ~~بن أبي ms0870 سفيان من الصحابة. فإن أبا سفيان بن حرب كان له عدة أولاد: منهم ~~يزيد بن أبي سفيان، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، ومنهم أم حبيبة أم ~~المؤمنين، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت قد آمنت قبل ~~أبيها وأخويها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم حلت من زوجها، فخطبها النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -. وزوجها ابن عمها خالد بن سعيد (1) . وأصدق النجاشي ~~صداقها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) . PageV05P141 # وزوجة أبي سفيان هند بنت عتبة بن ربيعة. # فلما كان عام فتح مكة أسلم أبو سفيان وامرأته وأولاده، وأسلم سائر رؤساء ~~قريش مثل سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام أخي أبي جهل بن هشام، وأبي سفيان ~~بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغير ~~هؤلاء، وأسلم أيضا عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهما. # وهؤلاء كانوا سادات قريش وأكابرهم بعد الذين قتلوا منهم ببدر، وكانوا قبل ~~ذلك كفارا محاربين لله ورسوله، قد قاتلوه يوم أحد ويوم الأحزاب، ثم لما فتح ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة من عليهم وأطلقهم فسموا الطلقاء. # وكان قد أخذ بعضادتي البيت فقال (1) : ماذا أنتم قائلون؟ # قالوا: نقول: أخ كريم وابن عم كريم، قال: إني قائل لكم ما قال يوسف ~~لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)) (2) ~~. # وكان إسلام أبي سفيان قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة بمر ~~الظهران. # وهرب منه عكرمة ثم رجع فأسلم. وصفوان وغيره شهدوا حنينا وهم كفار، ثم ~~أسلموا بعد ذلك. PageV05P142 # وعامة هؤلاء الذين أسلموا عام الفتح حسن إسلامهم، مثل سهيل بن عمرو، ومثل ~~عكرمة بن أبي جهل، ومثل يزيد بن أبي سفيان، ومثل الحارث بن هشام، ومثل أبي ~~سفيان بن الحارث. # فإن هؤلاء صاروا من خيار المسلمين. # فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر وقام بجهاد ~~المرتدين والكافرين أمر الأمراء لقتال النصارى بالشام وفتح الشام. فكان ممن ~~أمره يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية ms0871 وعم يزيد الذي تولى الملك. وأمر خالد بن ~~الوليد، وأمر عمرو بن العاص، وأمر شرحبيل بن حسنة، وهؤلاء كلهم من الصحابة. # ومشى أبو بكر الصديق في ركاب يزيد بن أبي سفيان ووصاه بوصية معروفة عند ~~العلماء ذكرها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيرهم، واعتمد ~~عليها العلماء في الجهاد. # ففي "الموطأ" (1) عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى ~~الشام، فخرج معه يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع. فزعموا ~~أن يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت ~~بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله. # ثم قال: إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا ~~أنفسهم له. وستجد قوما فحصوا عن أوساط PageV05P143 # رؤوسهم، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ~~ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا ~~تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا ولا تفرقنه، ولا تجبن ولا ~~تغلل. وذكر وصية أخرى. # ويزيد هذا الذي أمره الصديق وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار ~~المسلمين، وهو رجل صالح، وهو عند المسلمين خير من أبيه أبي سفيان ومن أخيه ~~معاوية. # فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتوفي أبو بكر ~~واستخلف عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ~~وشرحبيل بن حسنة نوابا لعمر بن الخطاب على الشام. # وكان الشام أربعة أرباع: # الربع الواحد: ربع فلسطين، وهو بيت المقدس إلى نهر الأردن الذي يقال له ~~الشريعة. # والربع الثاني: ربع الأردن وهو من الشريعة إلى نواحي عجلون إلى أعمال ~~دمشق. # والربع الثالث: دمشق. # والربع الرابع: حمص. # وكانت سيس وأرض الشمال من أعمال حمص. # PageV05P144 # ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جعل الشام خمسة أجناد، وجعلت قنسرين ~~والعواصم أحد الأخماس. # وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيس وغيرها ms0872، وفتحوا قبرص. كان ~~معاوية قد فتحها في خلافة عثمان بن عفان. # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أم حرام ~~بنت ملحان أنها تكون فيهم (1) ، فكان كما أخبر به النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -. # فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عبيدة بن ~~الجراح، ومات أيضا يزيد بن أبي سفيان. # ولما كان المسلمون يقاتلون الكفار، ويزيد بن أبي سفيان أحد الأمراء، كان ~~أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يقاتلان معه تحت رايته، وأصيب يومئذ أبو ~~سفيان، أصيبت عينه في القتال. # فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع ~~الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان. # وبقي معاوية أميرا على ذلك، وكان حليما كريما، إلى أن قتل عمر. ثم أقره ~~عثمان على إمارته، وضم إليه سائر الشام، فصار نائبا على الشام كله. # وفي خلافة عثمان ولد لمعاوية ولد سماه يزيد باسم أخيه يزيد. PageV05P145 # وهذا يزيد الذي ولد في خلافة عثمان هو الذي تولى الملك بعد أبيه معاوية، ~~وهو الذي قتل الحسين في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرة ما جرى. ~~و ### | ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين # المهديين، بل هو خليفة من الخلفاء الذين تولوا بعد الخلفاء الراشدين، ~~كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس. # وهؤلاء الخلفاء لم يكن فيهم من هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم ~~حسنات وسيئات، كما لأكثر المسلمين، وفيهم من هو خير وأحسن سيرة من غيره، ~~كما كان سليمان بن عبد الملك الذي ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بني ~~أمية، والمهدي والمهتدي، وغيرهما من خلفاء بني العباس، وفيهم من كان أعظم ~~تأييدا وسلطانا، وأقهر لأعدائه من غيره، كما كان عبد الملك والمنصور. # وأما عمر بن عبد العزيز فهو أفضل من هؤلاء كلهم عند المسلمين، حتى كان ~~غير واحد من العلماء كسفيان الثوري وغيره يقولون: الخلفاء خمسة: أبو بكر، ~~وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر ابن عبد العزيز ms0873. وإذا قيل: "سيرة العمرين" فقد ~~قال أحمد بن حنبل وغيره: العمران عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز. وأنكر ~~أحمد على من قال: العمران أبو بكر وعمر. # وكان عمر بن عبد العزيز قد أحيا السنة، وأمات البدعة، ونشر العدل، وقمع ~~الظلمة من أهل بيته وغيرهم، ورد المظالم التي كان الحجاج بن يوسف وغيره ~~ظلموها للمسلمين، وقمع أهل البدع - كالذين كانوا يسبون عليا، وكالخوارج ~~الذي كانوا يكفرون عليا # PageV05P146 # وعثمان ومن والاهما، وكالقدرية مثل غيلان القدري وغيره، وكالشيعة الذين ~~كانوا يثيرون الفتن- بعلمه ودينه وعدله. # وأما غيره من الخلفاء فلم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه، ولكن ~~كانوا مسلمين باطنا وظاهرا، لم يكونوا معروفين بكفر ولا نفاق، وكان لهم ~~حسنات كما لهم سيئات. وكثير منهم أو أكثرهم له حسنات يرحمه الله بها، ~~وتترجح على سيئاته، ومقادير ذلك على التحقيق لا يعلمه إلا الله. # ويزيد هذا الذي ولي الملك هو أول من غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة ~~أبيه معاوية. وقد روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عمر قال: قال رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له". # ومن قال إن يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مفتر، يعرف أنه لم يكن من ~~الصحابة، فإن أصر على ذلك عوقب عقوبة تردعه. # وأما من قال إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا ~~قتل. # ومن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضا ضال مبتدع كاذب. # ومن قال أيضا إنه كان كافرا، أو إن أباه معاوية كان كافرا، PageV05P147 # وإنه قتل الحسين تشفيا وأخذا بثأر أقاربه من الكفار فهو أيضا كاذب مفتر، ~~ومن قال إنه تمثل لما أتي برأس الحسين: # لما بدت تلك الحمول وأشرفت ... تلك الرؤوس على ربى جيرون # نعق الغراب فقلت نح أو لا تنح ... فلقد قضيت من النبي ديوني (1) # أو "من الحسين ديوني". # والديوان الشعري الذي يعزى إليه عامته كذب، وأعداء الإسلام كاليهود ~~وغيرهم يكتبونه للقدح في الإسلام، ويذكرون فيه ما هو كذب ظاهر، كقولهم إنه ms0874 ~~أنشد (2) : # ليت أشياخي ببدر شهدوا ### | … # جزع الخزرج من وقع الأسل # قد قتلنا الكبش من أقرانهم ### | … # وعدلناه ببدر فاعتدل # وأنه تمثل بهذا ليالي الحرة فهذا كذب. # وهذا الشعر لعبد الله بن الزبعرى أنشده عام أحد لما قتل المشركون حمزة، ~~وكان كافرا ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وقال أبياتا يذكر فيها إسلامه ~~وتوبته. PageV05P148 # فلا يجوز أن يغلى لا في يزيد ولا غيره، بل لا يجوز أن يتكلم في أحد إلا ~~بعلم وعدل. # ومن قال: إنه إمام ابن إمام، فإن أراد بذلك أنه تولى الخلافة كما تولاها ~~سائر خلفاء بني أمية والعباس فهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يوجب مدحه ~~وتعظيمه، والثناء عليه وتقديمه، فليس كل من تولى أنه كان من الخلفاء ~~الراشدين والأئمة المهديين، فمجرد الولاية على الناس لا يمدح بها الإنسان ~~ولا يستحق على ذلك الثواب، وإنما يمدح ويثاب على ما يفعله من العدل والصدق، ~~والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحدود، كما يذم ويعاقب ~~على ما يفعله من الظلم والكذب والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وتعطيل ~~الحدود، وتضييع الحقوق، وتعطيل الجهاد. # وقد سئل أحمد بن حنبل، عن يزيد أيكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة، ~~أليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟ # وقال له ابنه: إن قوما يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحب يزيد أحد فيه ~~خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدا؟ # ومع هذا فيزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولا حمل رأسه إلى بين يديه، ولا نكت ~~بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيد الله بن زياد، كما ثبت ~~ذلك في "صحيح البخاري" (1) ، ولا طيف برأسه PageV05P149 # في الدنيا، ولا سبي أحد من أهل الحسين، بل الشيعة كتبوا إليه وغروه، ~~فأشار عليه أهل العلم والنصح بأن لا يقبل منهم، فأرسل ابن عمه مسلم بن ~~عقيل، فرجع أكثرهم عن كتبهم، حتى قتل ابن عمه، ثم خرج منهم عسكر مع عمر بن ~~سعد حتى قتلوا الحسين مظلوما شهيدا، أكرمه ms0875 الله بالشهادة كما أكرم بها أباه ~~وغيره من سلفه سادات المسلمين. # وكان بالعراق طائفتان: طائفة من النواصب تبغض عليا وتشتمه، وكان منهم ~~الحجاج بن يوسف، وطائفة من الشيعة تظهر موالاة أهل البيت منهم المختار بن ~~أبي عبيد الثقفي. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (1) عن أسماء، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير" فكان الكذاب هو ~~المختار بن أبي عبيد الثقفي، والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي. # وكان المختار أظهر أولا التشيع والانتصار للحسين، حتى قتل الأمير الذي ~~أمر بقتل الحسين وأحضر رأسه إليه، ونكت بالقضيب على ثناياه: عبيد الله بن ~~زياد. # ثم أظهر أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه، حتى بعث ابن الزبير إليه أخاه ~~مصعبا فقتله، وقتل خلقا من أصحابه. ثم جاء عبد الملك ابن مروان فقتل مصعب ~~بن الزبير. فصار النواصب والروافض في يوم عاشوراء حزبين، هؤلاء يتخذونه يوم ~~مأتم وندب ونياحة، PageV05P150 # وهؤلاء يتخذونه يوم عيد وفرح وسرور. وكل ذلك بدعة وضلالة. # وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس ~~منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". # وروى الإمام أحمد (2) عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن ~~قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها". # فدل هذا الحديث الذي رواه الحسين على أن المصيبة إذا ذكرت وإن قدم عهدها ~~فالسنة أن يسترجع فيها، وإذا كانت السنة الاسترجاع عند حدوث العهد بها فمع ~~تقدم العهد أولى وأحرى. # وقد قتل غير واحد من الأنبياء والصحابة والصالحين مظلوما شهيدا، وليس في ~~دين المسلمين أن يجعلوا يوم قتل أحدهم مأتما، وكذلك اتخاذه عيدا بدعة. وكل ~~ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب ~~(3) ، مثل ما يروى في الاغتسال يوم عاشوراء، والاكتحال، وصلاة يوم عاشوراء، ~~ومثل ما يروى: "من وسع على أهله ms0876 يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته" (4) ~~. قال أحمد PageV05P151 # ابن حنبل: لا أصل لهذا الحديث. وكذلك طبخ طعام جديد فيه الحبوب أو غيرها، ~~أو ادخار لحم الأضحية حتى يطبخ به يوم عاشوراء. # كل هذا من بدع النواصب، كما أن الأول من بدع الروافض. # وأهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولون أصحاب رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته ويعرفون حقوق الصحابة وحقوق القرابة كما ~~أمر الله بذلك ورسوله، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحاح ~~(1) من غير وجه أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين ~~يلونهم، ثم الذين يلونهم". # وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده ~~لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". # وثبت عنه في "صحيح" مسلم (3) عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - خطب الناس بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة، وذلك منصرفه ~~PageV05P152 # من حجة الوداع. فقال: "يا أيها الناس! إني تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب ~~الله". فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل ~~بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال: ~~الذين حرموا الصدقة: آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل. قيل له: كل ~~هؤلاء من أهل بيته؟ قال: نعم. # وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع. # والمقصود هنا أن يزيد بن معاوية الذي تولى على المسلمين بعد أبيه لم يكن ~~من الصحابة، بل ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه. # ولكن عمه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة، وهو من خيار طبقته من الصحابة، ~~لا يعرف له في الإسلام ما يذم عليه، بل هو عند المسلمين خير من أبيه أبي ~~سفيان، ومن أخيه معاوية. ولما مات يزيد بن أبي سفيان ولى عمر أخاه معاوية ~~مكانه، ثم بقي متوليا خلافة عمر وعثمان، ثم لما قتل عثمان وقعت الفتنة ~~المشهورة ms0877. # وكان علي ومن معه أولى بالحق من معاوية ومن معه. كما ثبت في الصحيح (1) ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من ~~المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين". فمرقت الخوارج لما حصلت الفرقة، فقتلهم ~~علي وأصحابه. فدل على أنهم كانوا أولى بالحق PageV05P153 # من معاوية وأصحابه. # ثم لما قتل علي وصالح الحسن معاوية، وسلم إليه الخلافة كان هذا من فضائل ~~الحسن التي ظهر بها ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال في ~~الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري (1) عن أبي بكرة قال: سمعت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول للحسن: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين ~~عظيمتين من المسلمين". # ومات الحسن في أثناء ملك معاوية. # ثم لما مات معاوية تولى ابنه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن ~~والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- حيث قال: "سيكون نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ~~ورحمة، ثم يكون ملك عضوض" (2) . # فكانت نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - نبوة ورحمة، وكانت خلافة ~~الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية ملكا ورحمة، وبعده ~~وقع ملك عضوض. # وكان علي بن أبي طالب لما رجع من صفين يقول: لا تسبوا معاوية، فلو قد مات ~~معاوية لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها. # وكان كما ذكره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. PageV05P154 # وقد روى مسلم في "صحيحه" (1) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه قال: "النجوم أمنة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما ~~توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة ~~لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون". # وكان كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه لما توفي ارتد كثير من ~~الناس، بل أكثر أهل البوادي ارتدوا، وثبت على الإسلام أهل المدينة ومكة ~~والطائف، وهي أمصار الحجاز التي كان لكل مصر طاغوت يعبدونه ms0878 من الطواغيت ~~الثلاثة المذكورة في قوله: (أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة ~~الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22)) (2) . # فكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل المدينة، حتى أذهب ~~الله ذلك وغيره من الشرك برسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلما ارتد من ارتد ~~عن الإسلام وقع في أكثر المسلمين خوف وضعف، فأتاهم ما يوعدون، فأقام الله ~~أبا بكر الصديق رضي الله عنه وجعل فيه من الإيمان واليقين، والقوة ~~والتأييد، والعلم والشجاعة، ما ثبت الله به الإسلام، وقمع به المرتدين، حتى ~~عادوا كلهم إلى الإسلام، وقتل الله مسيلمة الكذاب المتنبي المدعي للنبوة، ~~وأقر جاحدو الزكاة بها. # ثم شرع في قتال فارس والروم: المجوس والنصارى، ففتح PageV05P155 # الله بعض الفتوح في خلافته. # ثم انتشرت الفتوح والمغازي في خلافة عمر بن الخطاب، ففي خلافته فتحت ~~الشام كلها، ومصر، والعراق، وبعض خراسان. # ثم فتحت بعض المغرب وتمام خراسان وقبرص وغيرها في خلافة عثمان. # ثم لما قتل كان المسلمون مشتغلين بالفتنة، فلم يتفرغوا لقتال الكفار وفتح ~~بلادهم، بل استطال بعض الكفار عليهم حتى احتاجوا إلى مداراتهم، وبذلوا ~~لبعضهم مالا. ولما اجتمعوا فتحوا في خلافة معاوية ما كان قد بقي من أرض ~~الشام وغيرها. وكان معاوية أول الملوك. وكانت [ولايته] ولاية ملك ورحمة. # فلما ذهبت إمارة معاوية كثرت الفتن بين الأمة، ومات سنة ستين، وكان قد ~~مات قبله عائشة والحسن وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وزيد بن ثابت وغيرهم من ~~أعيان الصحابة، ثم بعده مات ابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وغيرهم من علماء ~~الصحابة. # فحدث بعد الصحابة من البدع والفتن ما ظهر به مصداق ما أخبر به النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -. # وكان المسلمون لما كانوا مجتمعين في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن ~~لأهل البدع والفجور ظهور، فلما قتل عثمان وتفرق الناس ظهر أهل البدع ~~والفجور، وحينئذ ظهرت الخوارج، فكفروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن ~~والاهما حتى قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب طاعة لله ورسوله ms0879 وجهادا ~~في سبيله. # PageV05P156 # واتفق الصحابة على قتالهم، لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في الجمل ~~وصفين. وقد صح الحديث فيهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام ~~أحمد بن حنبل من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري حديثهم ~~من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . # وحدثت أيضا الشيعة، منهم من يفضل عليا على أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتقد ~~أنه كان إماما معصوما نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافته، وأن ~~الخلفاء والمسلمين ظلموه، وغاليتهم يعتقدون أنه إله أو نبي، والغالية كفار ~~باتفاق المسلمين، فمن اعتقد في نبي من الأنبياء كالمسيح أنه إله، أو في أحد ~~من الصحابة كعلي بن أبي طالب، أو في أحد من المشايخ كالشيخ عدي أنه إله، أو ~~جعل فيه شيئا من خصائص الإلهية فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. # وقد عاقب علي بن أبي طالب طوائف الشيعة الثلاثة فإنه حرق الغالية الذين ~~اعتقدوا إلهيته بالنار، وطلب قتل ابن سبإ لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر ~~فهرب منه. وروي عنه أنه قال: لا أؤتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ~~جلدته حد المفتري (2) . وقد تواتر عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها ~~أبو بكر ثم عمر (3) . ولهذا كان PageV05P157 # أصحابه الشيعة متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر عليه. # ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت المرجئة والقدرية، ثم في أواخر عصر ~~التابعين حدثت الجهمية، فإنما ظهرت البدع والفتن لما خفيت آثار الصحابة. ~~فإنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها، رضي الله عنهم وأرضاهم. # والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. # (بلغ مقابلة على الأصل، ولله الحمد) . # PageV05P158 ### | فصل في اسمه تعالى "القيوم" # PageV05P159 # فصل # في اسمه تعالى "القيوم" # وقد قرأ طائفة "القيام" و"القيم"، وكلها مبالغات في القائم وزيادة. قال ~~الله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما ~~بالقسط) (2) ، (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) (3) . فهو قائم بالقسط ms0880 ~~وهو العدل، وقائم على كل نفس بما كسبت، وقيامه بالقسط على كل نفس يستلزم ~~قدرته، فدل هذا الاسم على أنه قادر وأنه عادل. # وسنبين أن عدله يستلزم الإحسان، وأن كل ما يفعله فهو إحسان للعباد ونعمة ~~عليهم. ولهذا يقول (4) عقيب ما يعدده من النعم على العباد: (فبأي آلاء ~~ربكما تكذبان (13)) ، وآلاؤه هي نعمه، وهي متضمنة لقدرته ومشيئته، كما هي ~~مستلزمة لرحمته وحكمته. # وأيضا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين: القوة والثبات والاستقرار، ويقتضي ~~العدل والاستقامة، فالقائم ضد الواقع، كما أنه ضد الزائل، PageV05P161 # والمستقيم ضد المعوج المنحرف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ~~: "ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء ~~أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه". (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ ~~هديتنا) (2) ، وقال: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (3) . # ومنه تقويم السهم والصف، وهو تعديله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: "أقيموا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" (4) . # وكان يقوم الصف كما يقوم القدح (5) . # ومنه الصراط المستقيم والاستقامة، وهذا من هذا، كما قال تعالى: (إن هذا ~~القرآن يهدي للتي هي أقوم) (6) من طريقة أهل التوراة. # وما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبله] ، وإن كان ~~ذلك يهدي إلى الصراط المستقيم، لكن القرآن يهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر ~~هذا بعد قوله: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل) (7) ، ثم ~~قال: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) . PageV05P162 # ولما كان القيام بالأمور بطريقة القرآن يقتضي شيئين: القوة والثبات، مع ~~العدل والاستقامة، جاء الأمر بذلك في مثل قوله: (كونوا قوامين بالقسط شهداء ~~لله) (1) ، و (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) (2) . # وقوله: (وأقيموا الشهادة لله) (3) يقتضي أنه يأتي بها تامة مستقيمة، فإن ~~الشاهد قد يضعف عن أدائها وقد يحرفها، فإذا أقامها كان ذلك لقوته ~~واستقامته. # وكذلك إقام الصلاة يقتضي إدامتها والمحافظة عليها باطنا وظاهرا، وأن يأتي ~~بها مستقيمة معتدلة. ولما كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجل الجهاد قال: (فإذا ~~اطمأننتم فأقيموا ms0881 الصلاة) (4) ، فإن الرجل قد يصلي ولا يقيم الصلاة لنقص ~~طمأنينتها والسكينة فيها، فلا تكون صلاته ثابتة مستقرة، أو لنقص خضوعه لله ~~وإخلاصه له، فلا تكون معتدلة، فإن رأس العدل عبادة الله وحده لا شريك له، ~~كما أن رأس الظلم هو الشرك، إذ كان الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولا أظلم ~~ممن وضع العبادة في غير موضعها فعبد غير الله، فعبادة الله أصل العدل ~~والاستقامة. قال تعالى: (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ~~وادعوه مخلصين له الدين) (5) ، فأمر بإقامة الوجه له عند كل مسجد، ~~PageV05P163 # وهو التوحيد وتوجيه الوجه إليه سبحانه، فإن توجيهه إلى غيره زيغ. ~~وبالإخلاص يكون العبد قائما، وبالشرك زائغا، كما قال: (فأقم وجهك للدين ~~حنيفا) (1) ، وقال: (فأقم وجهك للدين القيم) (2) . # وإقامته: توجيهه إلى الله وحده، وهو أيضا إسلامه، فإن إسلام الوجه لله ~~يقتضي إخضاعه له وإخلاصه له. # وفي القرآن إقامة الوجه، وفيه توجيهه لله وإسلامه لله، وتوجيهه وإسلامه ~~هو إقامته، وهو ضد إزاغته. فلما كانت الصلاة تضمنت هذا وهذا، وهو عبادته ~~وحده وإخلاص الدين له وتوجيه الوجه إليه، كما فيها هذا العدل، فلابد من هذا ~~ولابد من الطمأنينة فيها، وهي إنما تكون مقامة بهذا، وهذا هو الخضوع، فإن ~~الخشوع يجمع معنيين: أحدهما الذل والخضوع والتواضع، والثاني السكون ~~والثبات. ومنه قوله تعالى: (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة) (3) ، ودوله: ~~(خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) (4) ، وهو الانخفاض والسكون. ومنه خشوع ~~الأرض، وهو سكونها وانخفاضها، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت بدل السكون، ~~وربت بدل الانخفاض. # وقال: (كونوا قوامين بالقسط) (5) ، (قوامين لله) (6) . و"القوام" ~~PageV05P164 # هو القيام، فإن "قيام" و"قيوم" أصله قيوام وقيووم، ولكن اجتمعت الياء ~~والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما بالأخرى، لأن ~~الياء أخف من الواو. قال الفراء (1) : وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى ~~الفيعال، ويقولون للصواغ: صياغ. # قلت: هذا إذا أرادوا الصفة، وهي ثبات المعنى للموصوف، عدلوا عن "فعال" ~~إلى "فيعال" كما في سائر الصفات المعدولة، فإن من هذا قلب المضعف حرف عينه، ~~والحروف ms0882 المختلفة أبلغ من حرف واحد مشدد. وأما إذا أرادوا الفعل فهو كما ~~قال تعالى: (كونوا قوامين بالقسط) ، ولم يقل "قيامين". # وقد قرأ طائفة من السلف: "الحي القيام"، ولم يقرأ أحد قط: "كونوا قيامين ~~بالقسط"، لأن المقصود أمرهم أن يقوموا بالقسط، والأمر طلب فعل يحدثه ~~المأمور. بخلاف الخبر عن الموصوف بأنه صياغ، فإنه خبر عن صفة ثابتة له. ~~ولهذا جاء في أسماء الله "القيام"، ولم يجىء "القوام"، قرأ عمر بن الخطاب ~~وغير واحد "القيام"، وقرأ طائفة "القيم". قال ابن الأنباري (2) : هي كذلك ~~في مصحف ابن مسعود. ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين (3) ~~: "ولك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن". PageV05P165 # ولما كان لفظ "القيام" يتضمن القوة والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء ~~بنفسه إقامته لغيره، خص لفظ "القوم" بالرجال دون النساء، فلا تسمى النساء ~~بانفرادهن "قوما"، ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعا. قال تعالى: (لا يسخر قوم ~~من قوم ... ولا نساء من نساء) (1) ، فإنه قال: (الرجال قوامون على النساء) ~~(2) . ومنه قول الناظم: # وما أدري وظني كل ظن ### | … # أقوم آل حصن أم نساء (3) # ولما كان "القيام" يقتضي الثبات -وهو ضد الزوال- قال: (ومن آياته أن تقوم ~~السماء والأرض بأمره) (4) ، وقال: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) ~~(5) . وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات، وهو خلقهما معتدلتين كما قال: (فسواهن ~~سبع سموات) (6) ، وقال: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (7) . والعدل لازم ~~في كل مخلوق، ومأمور به كل أحد، كما قد بسط في قوله: (الذي خلق فسوى (2)) ~~(8) . # ولما في لفظ "القيام" من العدل سمي ما يساوي المبيع: قيمة PageV05P166 # عدل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "من أعتق شركا له في عبد، ~~وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط، ~~فأعطي شركاؤه وعتق عليه العبد". # وكذلك يسمى تعديل الحساب تقويما، فإذا جمعت حركة الشمس والقمر وغيرهما ~~السريعة والبطيئة، وأحد يعدل ذلك، سمي ذلك تعديلا وتقويما، ويسمى ما يكتب ~~فيه ذلك تقويما، كما يصنع بالمكان ms0883 إذا أخذ مغله في إقباله وإدباره، فإنه ~~يوجد معدل ذلك، ويقوم باعتبار ذلك. # ويقال: قامت السوق، إذا حصل فيها التبايع بالتراضي الذي هو أصل العدل، ~~ولابد أن يبقى ذلك زمنا، ففي قيام السوق معنى العدل والثبات، قال الشاعر: # أقامت سوقها عشرين عاما # ومنه قوله تعالى: (إلا ما دمت عليه قائما) (2) ، أي يقوم عليه كما يقوم ~~القيم على ما يقوم عليه وإن كان جالسا معه. والإقامة أبلغ من القيام، فإن ~~فيها زيادة الهمزة والزيادة لزيادة المعنى، وهي تقتضي من الثبات والدوام ~~أبلغ مما يدل عليه لفظ القيام. والمقام بالمكان هي السكنى فيه واستيطانه، ~~والمقيم خلاف المسافر. PageV05P167 # ولما كان اسمه "القيوم" يتناول هذا وهذا، وهو قيوم السماوات والأرض ومقيم ~~كل مخلوق من الأعيان والصفات، دل ذلك على أن كل مخلوق له نصيب من القيام، ~~فهو قائم بالقيم الذي أقامه، كما أن له قدرا بالخلق، فإن اسمه "الخالق" ~~يقتضي الإبداع والتقدير، فقال: (إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)) (1) ، وقال: ~~(قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)) (2) . # وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر، دل ذلك على ### | فساد قول من أثبت الجوهر الفرد، # ومن قال: العرض لا يبقى زمانين. # فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبتون شيئا لا تتميز يمينه عن يساره، ~~ولا يعرف بالحس، وهو ممتنع وجوده، فإن وجود ما لا يتميز منه جانب عن جانب ~~ممتنع، وإنما يفرضونه في الذهن. # وعلى قولهم لا قدر له، والله تعالى قد جعل لكل شيء قدرا، فما لا قدر له ~~لم يخلق، بل هو ممتنع. # وما يفرضه أهل الهندسة من نقطة مجردة وخط مجرد وسطح مجرد، هي أمور مقدرة ~~في الأذهان واللسان، لا توجد مجردة في الخارج، بل لا توجد إلا نقطة معينة ~~مثل نقطة الماء والحبر ونحو ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب، لقوله تعالى: ~~(قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)) ، وقوله: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2)) ~~(3) . PageV05P168 # والله سبحانه خالق الموجودات العينية ومعلم الصور الذهنية، وأول ما نزل: ~~(اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق ms0884 (2) اقرأ وربك الأكرم (3) ~~الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)) (1) . # ومن الناس من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج، وليس بمخلوق، بل ثبوته ~~قديم. وآخرون يقولون: الماهيات غير مجعولة. # وهؤلاء وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، فأخرجوا بعض ~~مخلوقاته عن أن تكون مخلوقة له. # وتحقيق الأمر أن كل ما يقدر فإما أن يكون ثابتا في الأعيان والموجود ~~الخارج، أو في العلم والوجود الذهني، وهو سبحانه خالق هذا ومعلم هذا، فلا ~~يخرج شيء أصلا عن تخليقه وتعليمه، بل هو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وقال: ~~(ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)) (2) . فهو خالق كل شيء ~~وقيومه، وكل ما أقامه القيوم فله قيام، والحركة وإن وجدت شيئا فشيئا فلابد ~~لها من لبث، لا يتصور أن تعدم قبل أن تلبث زمنا من الأزمان، وقيوم السماوات ~~هو الخالق الذي يبدعه ويجعل له ذلك القدر، فجعل للأعيان قدرا، وللحركات ~~قدرا، ولزمانها قدرا، وبعض ذلك يطابق بعضا، فإن الزمان مساوق للحركة، ~~والحركة هي مبدأ الأحداث. قال تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ~~ويولج النهار في الليل) (3) ، PageV05P169 # والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية، كما أن اختلاف الليل والنهار وتكوير ~~الليل على النهار وتكوير النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية. # وهو سبحانه (فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) ~~(1) ، وهو (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا) (2) . # فذكر أنه فالق الإصباح بعد ذكره فلق الحب والنوى، فإنه بسبب فلقه الإصباح ~~وجعل الليل والنهار يتم ما يخلقه وينمو ويحصل مصلحته، ثم ذلك يحصل بتسخير ~~الشمس والقمر وجعلهما بحساب على وفق العدل في الحكمة، لا يتقدم شيء على ~~وقته ولا يتأخر شيء عن أجله، وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت. # واستحالة الأجسام بعضها إلى بعض معلوم بالمشاهدة، وهو مما تطابق عليه أهل ~~الطبائع والشرائع وأهل العادات، والأطباء يعرفون استحالة الأجسام بعضها إلى ~~بعض، وغيرهم. وكذلك الفقهاء تكلموا في استحالة الطاهر إلى النجس، واستحالة ~~النجس إلى الطاهر، وفي الماء والمائع ms0885 إذا خالطته النجاسة هل يستحيل أم لا؟ # والذين أنكروا ذلك وقالوا بالجوهر الفرد زعموا أن كل ما شهد العباد أن ~~الله يخلقه من سحاب ونبات ومطر وإنسان وحيوان، فإن الله -فيما زعموا-[لم] ~~يبدع تلك الأعيان والجواهر القائمة بأنفسها، PageV05P170 # وإنما يحدث أعراضا، وهو تركيب الجواهر بعضها مع بعض، ثم زعموا أن الجواهر ~~إنما يعلم أنه خلقها بالاستدلال، وهو أنها لا تخلو من الأعراض الحادثة، وما ~~لا يخلو إذن فهو حادث. وعلى هذا اعتمدوا في خلق الله للعالم وفي إثبات ~~الصانع، وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين، ثم التزموا لوازم من إنكار الصفات أو ~~بعضها، ومن إنكار الرؤية، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك. # فتسلط عليهم السلف والأئمة وعلماء السنة بالتبديع والتكفير مع التجهيل ~~والتضليل، وتسلط عليهم طوائف العقلاء الذين فهموا كلامهم بالتجهيل ~~والتضليل، وخالفوا الحس والعقل والشرع الذي هو خبر الصادق، وهذه الثلاثة هي ~~مدارك العلم عندهم وعند غيرهم، كما ذكروا ذلك في أول كتبهم. # أما مخالفة الحس فقولهم: إن الله لم يبدع عين الإنسان والحيوان، ولا عين ~~الثمار والمطر والسحاب، وإنما أحدث تأليفا. وعلى قولهم تلك الجواهر التي ~~كانت في بني آدم باقية بأعيانها في كل واحد من ولده، ومعلوم أن هذا غير ~~ممكن، فإن مني الرجل الواحد لا يحتمل أن ينقسم أقساما بعدد كل من ولد من ~~الآدميين. وكذلك عندهم أن كل بني الآدميين فيه جزء من بني نوح، لأنه عندهم ~~لم يبدع الله عينا، بل نفس مني الأب فيه الجواهر، ركبها تركيبا آخر، وضم ~~إليها جواهر أخر. # وأما مخالفة العقل فإثبات الجوهر الفرد إثبات شيء موجود لا يتميز منه شيء ~~عن شيء، فإذا وضع جوهر بين جوهرين، فإن كان # PageV05P171 # الذي يماس هذا الجانب فقد التقى الجوهران، وإن كان غيره فقد ثبت ~~الانقسام. # وأيضا فنحن نشاهد الهواء يستحيل ماء إذا وضع في الزجاج، ونحوه ثلج صار ~~عليه ماء يقطر، ومعلوم أن الثلج لم يثقب الزجاج، بل الهواء الذي أحاط به ~~برد فاستحال ماء، كما يحيل الله سحابا وماء. هذا مشهود ms0886، يكون الإنسان على ~~حيد، فيرى البخار قد صعد من البحار فانعقد سحابا، وينظر تحته وهو أعلى منه ~~في الشمس على رأس الجبل. وكذلك الهواء يستحيل نارا، فإذا قرب ذبالة المصباح ~~إلى النار أوقد، مع أنه لم يخرج من تلك النار شيء، ولكن الهواء المحيط ~~بالذبالة استحال نارا لما سخن سخونة شديدة. فالهواء يبرد فيستحيل ماء، ~~ويسخن فيستحيل نارا. # وكذلك ما يقدح النار، قال تعالى: (فالموريات قدحا (2)) (1) ، وقال: ~~(أفرأيتم النار التي تورون (71)) (2) الآيات، وقال تعالى: (الذي جعل لكم من ~~الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)) (3) . والعرب يقولون: "في كل ~~شجر نار، واستمجد المرخ والعفار" (4) ، يأخذون عودين أخضرين يحكون أحدهما ~~بالآخر حتى يسخن، فإن الحركة PageV05P172 # توجب السخونة، والسخونة تحصل بالحركة وبالنار وبالشعاع، فإذا سخن انقدح ~~منه نار باستحالة بعض تلك الأجزاء نارا، وما كان هناك قبل هذا نار، بل ~~سبحانه يحدث النار عند باقية بعينها، وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله ~~من يقول ذلك من المتفلسفة، فقوله خطأ، بل المادة استحالت فخلق منها شيء ~~آخر، والأولى هلكت وأعدمها الله على هذا الوجه، كما أوجد ما خلق منها على ~~هذا الوجه. وقد بسط الكلام على هذا في موضع آخر. # والمقصود الكلام على اسمه "القيوم"، والتنبيه على بعض ما دل عليه من ~~المعارف والعلوم، فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض، لو أخذته سنة أو نوم ~~لهلكت السماوات والأرض. والمخلوق ليس له من نفسه شيء، بل الرب أبدع ذاته، ~~فلا قوام لذاته بدون الرب، والمخلوق بذاته فقير إلى خالقه، كما أن الخالق ~~بذاته غني عن المخلوق، فهو الأجل الصمد، والمخلوق لا يكون إلا فقيرا إليه، ~~والخالق لا يكون إلا غنيا عن المخلوق، وغناه من لوازم ذاته، كما أن فقر ~~المخلوق إلى خالقه من لوازم ذاته. وهذا المعنى مما يتعلق بقول الله: (الله ~~لا إله إلا هو الحي القيوم (2)) تعلقا قويا. # والناس يشهدون إحداثه لمخلوقات كثيرة وإفناءه لمخلوقات كثيرة، وهو سبحانه ~~يحدث ما يحدثه من إرادة يحيلها ويعدمها إلى شيء آخر، ويفني ما يفنيه ~~بإحالته ms0887 إلى شيء آخر، كما يفني الميت بأن يصير ترابا. # وعلى هذا تترتب مسائل المعاد، فإن الكلام على النشأة الثانية فرع عن ~~النشأة الأولى، فمن لم يتصور الأولى فكيف يعلم الثانية؟ # PageV05P173 # قال تعالى: (أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) ~~نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم ~~في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62)) (1) . ~~فهؤلاء غلطوا في معرفة النشأة الأولى، فكانوا في معرفة النشأة الثانية ~~أغلط، كما قد ذكر هذا في غير هذا الموضع. # وكان غلطهم لأنهم ظنوا أن الله يفني العالم كله ولا يبقى موجود إلا الله، ~~كما قالوا: إنه لم يكن موجود إلا هو، فقطعوا بعدم كل ما سوى الله. ثم ~~اختلفوا، فقال الجهم: إنه يفني العالم كله، وإنه وإن أعاده فإنه يفني الجنة ~~والنار، فلا يبقى جنة ولا نار، لأن ذلك يستلزم دوام الحوادث، وذلك عند ~~الجهم ممتنع بنهاية وبداية في الماضي والمستقبل. وقال الأكثرون منهم: بل هو ~~إذا أعدم العالم بالكلية فإنه يعيده ولا يفنيه ثانيا، بل الجنة باقية أبدا، ~~وفي النار قولان (2) . # وهؤلاء قطعوا بإفناء العالم، وللنظار فيه ثلاثة أقوال: # أحدها: القطع بإفنائه. # والثاني: التوقف في ذلك، وأنه جائز، لكن لا يقطع بوجوده ولا عدمه. # والثالث: القطع بأنه لا يفنيه. وهذا هو الصحيح، والقرآن يدل على أن ~~العالم يستحيل من حال إلى حال، فتنشق السماء فتصير PageV05P174 # وردة كالدهان (1) ، وتسير الجبال (2) وتبس بسا (3) ، وتدك الأرض (4) ، ~~وتسجر البحار (5) ، وتنكدر النجوم (6) وتتناثر (7) ، وغير ذلك مما أخبر ~~الله به في القرآن، لم يخبر بأنه يعدم كل شيء، بل أخباره المستفيضة بأنه لا ~~يعدم الموجودات. # فقوله: (كل من عليها فان (26)) (8) أخبر فيه بفناء من على الأرض فقط، ~~والفناء يراد به الموت ولا يراد به عدم ذواتهم، فإن الناس إذا ماتوا صارت ~~أرواحهم إلى حيث شاء الله من نعيم وعذاب، وأبدانهم في القبور وغيرها، منها ~~البالي وهو الأكثر، ومنها ما لا يبلى كأبدان الأنبياء (9) ، والذي يبلى ~~يبقى منه عجب الذنب، منه بدأ الخلق ms0888 ومنه يركب (10) . فهؤلاء لما قالوا: إنه ~~يفني جميع العالم وإن ذلك واقع وممكن، احتاجوا إلى تلك الأقوال الفاسدة، ~~وإلا فالفناء الذي أخبر به القرآن هو الفناء المشهود بالاستحالة إلى مادة، ~~كما كان الإحداث PageV05P175 # بالحق من مادة. # فاسمه سبحانه "القيوم" يقتضي الدوام والثبات والقوة، ويقتضي الاعتدال ~~والاستقامة، وقد وصف نفسه بأنه قائم بالقسط (1) ، وأنه على صراط مستقيم (2) ~~. ومنه قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4)) (3) ، ومنه قامة ~~الإنسان وهو اعتداله، ومنه قيام الإنسان، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال ~~وطمأنينة، ومنه قول الشاعر (4) : # أقيمي أم زنباع أقيمي ### | … # صدور العيس شطر بني تميم # فإنه أراد: وجهي صدور العيس نحو بني تميم. والعيس هي الإبل التي تركب ~~ويحمل عليها، ويقال: الإبل العيس، جمع عيساء. PageV05P176 ### | فصل في معنى "الحنيف" # PageV05P177 # فصل # في معنى"الحنيف" # فإن هذا الاسم قد تكرر في القرآن، وقد فرض الله على الناس أن يكونوا ~~حنفاء، فرضه الله على أهل الكتاب ثم على أمة محمد، وأوجب عليه وعليهم أن ~~يتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، فقال تعالى في أهل الكتاب: (وما أمروا إلا ~~ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين ~~القيمة (5)) (1) ، وهذا أمر لجميع الخلق من # المشركين وأهل الكتاب وغيرهم. # وقال تعالى: (قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)) (2) ~~وقال عن إبراهيم: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ~~وما كان من المشركين (67)) (3) ، وقال تعالى: (قل صدق الله فاتبعوا ملة ~~إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)) (4) ، وقال تعالى: (ومن أحسن دينا ~~ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) (5) ، وقال تعالى: ~~(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ~~PageV05P179 # وما كان من المشركين (161) (1) ، وقال: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله ~~حنيفا ولم يك من المشركين (120)) (2) ، وقال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من ~~الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به) (3) ، وقال # تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل ~~لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن ms0889 أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه ~~واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31)) (4) . # والقرآن كله يدل على أن الحنيفية هي ملة إبراهيم، وأنها عبادة الله وحده ~~والبراءة من الشرك. وعبادته سبحانه إنما تكون بما أمر به وشرعه، وذلك يدخل ~~في الحنيفية. ولا يدخل فيها ما ابتدع من العبادات، كما ابتدع اليهود ~~والنصارى عبادات لم يأمر بها الأنبياء، فإن موسى وعيسى وغيرهما من أنبياء ~~بني إسرائيل ومن اتبعهم كانوا حنفاء بخلاف من بدل دينهم فإنه خارج عن ~~الحنيفية. وقد أمر الله أهل الكتاب وغيرهم أن يعبدوه مخلصين له الدين ~~حنفاء، فبدلوا وتصرفوا من بعد ما جاءتهم البينة. # وكلام السلف وأهل اللغة يدل على هذا وإن تنوعت عباراتهم. # روى ابن أبي حاتم (5) بإسناده المعروف عن عثمان بن عطاء PageV05P180 # الخراساني عن أبيه في قوله: (حنيفا مسلما) قال: مخلصا مسلما. # قال: وروي عن مقاتل بن حيان مثل ذلك. وقال خصيف: # الحنيف المخلص. # وذكر ذلك الثعلبي وغيره عن مقاتل بن سليمان بإسناده عن أبي قتيبة البصري ~~نعيم بن ثابت عن أبي قلابة قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم. # وقال محمد بن كعب: الحنيف المستقيم. # وبإسناده المعروف عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: (حنيفا) ~~قال: متبعا، وقال: الحنيفية اتباع إبراهيم. # وذكره طائفة من المفسرين عن مجاهد، وروي نحو ذلك عن الربيع ابن أنس. # قال مجاهد: هو اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما ~~للناس. # وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (حنيفا) قال: حاجا. # وقال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي نحو ذلك. # ونقل طائفة عن الضحاك أنه قال: إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا ~~لم يكن معه فهو المسلم. PageV05P181 # وذكر الثعلبي ومن اتبعه كالبغوي (1) وغيره عن ابن عباس قال: الحنيف ~~المائل عن الأديان إلى دين الإسلام. قالوا: وأصله من حنف الرجل، وهو ميل ~~وعوج في القدم، ومنه قيل للأحنف بن قيس ذلك، لأنه كان أحنف القدم. # قلت: والحج داخل في الحنيفية من حين ms0890 أوجبه الله على لسان محمد، فلا تتم ~~الحنيفية إلا به، وهو من ملة إبراهيم، وما زال مشروعا من عهد إبراهيم، فحجه ~~الأنبياء موسى ويونس وغيرهما، وما زال مشروعا من أول الإسلام، وإنما فرض ~~بالمدينة في آخر الأمر بالاتفاق. والصواب أنه فرض سنة عشر أو تسع، وقيل: ~~سنة ست، والأول أصح. # والله أمر محمدا وأمته أن يكونوا حنفاء، فقال في النحل (2) -وهي مكية-: ~~(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) ، فكان الحج إذ ذاك داخلا في ~~الحنيفية على سبيل الاستحباب والتمام، لا على سبيل الوجوب. وأمر الله أهل ~~الكتاب أن يكونوا حنفاء، ولم يكن الحج مفروضا عليهم، بل كان مستحبا. # ومثل هذا ما رواه ابن أبي حاتم (3) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: ~~الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى حجه عليه واجبا إن استطاع إليه ~~سبيلا. PageV05P182 # فهذا تفسيره للحنيف بعد أن حولت القبلة إلى الكعبة وأمر الناس باستقبالها ~~وبعد أن فرض الحج، وإلا فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه ~~وهم بمكة حنفاء وهم يصلون إلى بيت المقدس لما كانوا مأمورين بذلك، وإنما ~~أمروا باستقبالها بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وكذلك موسى ومن ~~اتبعه والمسيح ومن اتبعه كانوا حنفاء أيضا، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس. # وروى ابن أبي حاتم (1) وغيره من التفسير الثابت عن قتادة تفسير ابن أبي ~~عروبة عنه قال: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم ~~الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وما حرم الله والختان، وكانت ~~حنيفية في الشرك، وكانوا يحرمون في شركهم الأمهات وما تقدم من القرابات، ~~وكانوا يحجون البيت وينسكون المناسك. # فذكر قتادة أنها التوحيد واتباع ملة إبراهيم بتحريم ما حرم الله والختان، ~~وأنهم في شركهم كانوا ينتحلون الحنيفية، فيحرمون ذوات المحارم ويحجون ~~ويختتنون، وهذا مما تمسكوا به من دين إبراهيم مع شركهم الذي فارقوا به أصل ~~الحنيفية، لكن كانوا ينتحلونها. # وكان هذا فارقا بينهم وبين المجوس ومن لا يحرم ذوات المحارم، وبين ~~النصارى ومن لا يرى الختان ms0891، وبين سائر أهل الملل ممن لا يرى حج البيت. فإن ~~الحج كان من الحنيفية، لكن كان من مستحباتها PageV05P183 # لا من واجباتها. # وكذلك قال أبو الحسن الأخفش (1) : الحنيف المسلم، وقال غيره: إذا ذكر مع ~~الحنيف المسلم فهو الحاج. قال أبو الحسن الأخفش: وكانوا في الجاهلية يقولون ~~لمن اختتن وحج حنيفا، لأن العرب لم تتمسك بشيء من دين إبراهيم غير الختان ~~والحج، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية. وقال الأصمعي: من عدل عن دين ~~اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب. # قلت: ولهذا يوجد في كتب بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرهم وفي كلامهم ~~معاداة الحنيف، وهم هؤلاء العرب الذين كانوا يحجون ويختتنون وهم مشركون، ~~فإن النصارى لا يحجون ولا يختتنون ولا يتعبدون بالختان، بل أكثرهم ينهى ~~عنه، وفيهم من يختتن. # وفي كلام طائفة ممن ينقل المقالات والأديان المقابلة بين الصابئين ~~والحنفاء، وهذا يتناول الحنيفية المحضة ملة إبراهيم ومن اتبعه من الأنبياء ~~وأممهم، فإنهم كانوا يعبدون الله وحده، بخلاف الصابئين المشركين. # والصابئون نوعان: صابئون حنفاء، وهم الذين أثنى عليهم القرآن، وصابئون ~~مشركون. وأما المجوس وسائر أنواع المشركين فليسوا حنفاء. PageV05P184 # وقد ذكر طائفة في الكلام والمقالات -مثل أبي بكر ابن فورك وغيره- أن ~~الذين ادعوا النبوة من الفرس مثل زردشت ومزدك وبهافريد (1) كانوا ينتحلون ~~ملة إبراهيم ويزعمون أنهم يدعون إلى دينه. # قال ابن فورك في مصنف له لما تكلم على إثبات النبوات والرد على من أنكرها ~~من البراهمة حكماء الهند، وذكر ما ذكره غيره من أهل الكلام والمقالات، قال: ~~إن البراهمة صنفان: صنف أنكروا الرسل أجمعين، وصنف أقروا بنبوات بعضهم، ~~فمنهم من أقر بنبوة إبراهيم وجحد من كان بعده. # قال: فإن قال قائل: قد دللت على جواز بعثة الرسل، فما الدليل على أن ~~الأنبياء الذين بعثهم الله إلى خلقه من ذكرتم دون غيرهم؟ # قيل له: الدليل على ذلك أنه قد نقل إلينا من الجهات المختلفات التي لا ~~يجوز على ناقليها الكذب أنهم أتوا بمعجزات تخرج عن عادة الخلق، مثل: فلق ~~البحر، وقلب العصا حية، وإحياء ms0892 الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وانشقاق ~~القمر، ولم ينقل لغيرهم من المعجزات ممن ادعى النبوة كما نقل لهم، فدل ذلك ~~على أنهم هم الأنبياء دون غيرهم ممن ادعى النبوة ولم يكن لهم معجزة تدل على ~~صدقهم. # قال: ومما يدل على صدقهم أنا وجدنا كل واحد منهم في زمانه قد منع الناس ~~عن الشهوات واتباع الهوى، وقبض على أيديهم، وحال بينهم وبين مرادهم، وما ~~سرت إليه أنفسهم، ثم مع ذلك كلفوهم PageV05P185 # البراءة من الآباء والأبناء والأقارب، ونبذ أهاليهم وراء ظهورهم، وبذل ~~أموالهم، وخفض الجناح لهم، والائتمار لأمورهم، والجري تحت أحكامهم. وكل هذه ~~الأحوال مما ينفر عنها البشر وتفر وتمل من تكلفهم، فلولا أنهم صادقون فيما ~~ادعوه، وصححوا دعواهم بمعجزات ظاهرة وبراهين بينة تخرج ذلك عن حيل ~~المحتالين ومخرقة الممخرقين، لما كان يوجب ظاهر فعلهم قبوله. # ولو كان الخلق مكرهين في حياة واحد منهم لنفاذ أمره وقوته وغلبته لكانوا ~~من بعد موته ومفارقته هذا العالم يرجعون إلى ما شاءوا عليه، كما يرجع ~~الملوك في الدنيا. فلما وجدنا الخلق جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يزدادون في ~~كل يوم لهم محبة وطاعة وولوعا بهم وجزعا على ما فاتهم منهم من الرؤية ~~والصحبة= دل ذلك على أنهم كانوا أنبياء من قبل الله، صححوا دعواهم بمعجزات ~~ظاهرة، وبراهين باهرة نيرة، وأخذوا قلوب الخلق -العالم والجاهل- بذلك. # قال: فإن قال قائل: قد وجدنا من المفترين المدعين قد ظهروا في العالم، ~~وصار لهم أتباع مثل أتباع الأنبياء، قلنا لهم: من هم؟ # فلا يتهيأ أن يسموا أحدا له تبع ورسم قائم غير زردشت ومزدك وماني ~~وبهافريد. # قلنا له: زردشت ومزدك وبهافريد فإن ثلاثتهم ادعوا في زمانهم أن كل واحد ~~في زمانه هو المستقيم على دين إبراهيم، ولم يدع واحد منهم خلافا عليه أي ~~على إبراهيم. فبريحه والانتساب إليه اجتمع له الأتباع والأصحاب، لا ~~بسياستهم وسلطانهم، وإنهم لم يشرعوا دينا، بل ادعى كل واحد منهم في زمانه ~~أن شريعة إبراهيم # PageV05P186 # هي ما كل واحد منهم عليه، يزاد فيه وينقص منه ms0893 لطول الزمان الذي أتى عليه، ~~وكل واحد منهم ترجم في كتابه في زمانه لقومه وأتباعه على لسانهم. # قال: وأما ماني فإنه ادعى أنه من تلاميذ المسيح المستقيم الجاري على ~~منهاج إبراهيم، وأن غيره من النصارى قد زاغوا عن طريقه، وأن الإنجيل المنزل ~~على عيسى هو الذي عنده، وادعى أنه حين ارتقى إلى السماء أرقي إلى عيسى، ~~وأنه بأمره عمل ما عمل وأسس ما أسس، فبريح المسيح تروح له ما تروح، وتبعه ~~من تبعه، لا برأيه. # قلت: و ### | المشركون أعداء إبراهيم # الذين يبغضونه ويحبون عدوه النمرود موجودون إلى اليوم من مشركي الترك ~~والصين ونحوهم، يصورون الأصنام على صورة النمرود كبارا وصغارا، وفيها ما هو ~~كبير جدا، ويعبدون تلك الأصنام ويسبحون باسم النمرود، ومعهم مسابح يسبحون ~~بها: سبحان النمرود! سبحان النمرود! # وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هو الذي جعله إماما لمن بعده من الناس، ~~فلا يوجد قط مؤمن ولا منافق يظهر الإيمان إلا وهو معظم لإبراهيم. وإن كان ~~فيهم من يكذب بكثير مما كان عليه إبراهيم. وقد جعل الله في ذريته النبوة ~~والكتاب، فالأنبياء بعده من ذريته، فلا يوجد من يؤمن بالأنبياء إلا وهو ~~مؤمن بإبراهيم، ولا من يدعو إلى عبادة الله في الجملة وينهى عن الشرك إلا ~~وهو معظم لإبراهيم. # وإن كان فيهم من هو مكذب بكثير مما كان عليه إبراهيم، ومكذب ببعض ~~الأنبياء والرسل= فإبراهيم بريء منه، ومن ذريته محسن وظالم لنفسه مبين، كما ~~كان مشركو العرب، وكما يوجد عليه أهل الكتاب، # PageV05P187 # فإنه حين بعث إبراهيم كان الشرك قد طبق الأرض، وامتلأت بعبادة الكواكب ~~العلوية والأصنام السفلية، فأظهر التوحيد ودعا إليه، وعادى الشرك وأهله، ~~ونصره الله على قومه. # والقرآن في غير موضع بين أنه كان حنيفا، وجعل الحنيفية صفته، حتى إن لفظ ~~"حنيف" ينصب على الحال من المضاف إليه، كقوله: (قل بل ملة إبراهيم حنيفا) ~~(1) و (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) (2) ، وهذا منصوب على الحال، والكوفيون ~~يسمونه نصبا على القطع، لكونه لم يكن صفة في اللفظ فقطع، وهو معنى قول ms0894 ~~البصريين إنه منصوب على الحال. # وقد قال بعض النحويين: انتصاب الحال على المضاف إليه لا يجوز حتى يكون ~~المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد، كقوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ~~ميتا) (3) هو حال من الأخ، لأنه واللحم شيء واحد. وقوله: (قل بل ملة ~~إبراهيم حنيفا) كذلك، لأن الملة بمنزلة البعض منه، كقول عدي بن حاتم (4) ~~-لما أتاه يعرض عليه الإسلام-: "إني على ديني"، كأنه قال هجنة منه. ولهذا ~~يجوز لك أن تقول: "أعمى زيد علمه ودينه" فتجعلهما بدلا من زيد. # (آخر ما وجد. والله أعلم) . PageV05P188 ### | مسألة # فيما إذا كان في العبد محبة # لما هو خير وحق ومحمود في نفسه # PageV05P189 # بسم الله الرحمن الرحيم # فصل # فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه، فهو يفعله ~~لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان ~~إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك ~~الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا ~~كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية، ~~فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن ~~حنبل: طلبت هذا العلم -أو قال-: جمعته لله؟ فقال: لله عزيز، ولكن حبب إلي ~~أمر ففعلته. # وهذا حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك ~~الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة ~~للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من ~~الخلق، ولا يطلب مدح أحد ولا خوفا من ذمه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات ~~يتنعم بها الحي ويلتذ بها، ويجد بها فرحا وسرورا، كما يلتذ بمجرد سماع ~~الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البهجة، وبمجرد الرائحة الطيبة. # PageV05P191 # وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعم بمعرفة نفسه للأشياء التي تعرف بالباطن، ويلتذ ~~أيضا بشهود باطنه وإحساسه، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه، وكذلك يلتذ بما ~~تعقله نفسه من الأمور الكلية ms0895 التي تعقلها، وكذلك في أفعاله وحركاته، كما ~~يلتذ بأكله وشربه ونكاحه، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من ~~أقاربه وغير أقاربه، ويلتذ بالجود والإعطاء، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه ~~وترك معاقبة المسيء، كما يذكر عن المأمون أنه قال: لقد حبب إلي العفو حتى ~~إني أخاف ألا أثاب عليه. # فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم، كما كانت تكون في أهل البادية، ~~فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعم به الحي ويتنفع به ويلتذ في الحال. # ولا يقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب ~~منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع، ~~ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات، ~~ويستجلب لها بها لذات. # ولهذا يقال: اشتفت نفسه، وشفيت صدري، فيجد شفاء في صدره، كما يجد شفاء في ~~جسمه بزوال المرض وحصول العافية. # وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر، وهي التي أدرك حسنها من قال: إن العقل ~~يقبح ويحسن، ومن قال: إن العلم بحسنها لصفة قائمة بها معقولة: إما بالبديهة ~~وإما بالنظر، أو معلومة بالشرع. # PageV05P192 # ولقد صدق في قوله: إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها، وصدق أن ذلك قد يدرك ~~بالعقل، وقد يدرك بالشرع. # وقد غلط الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع ~~مضرة راجعة إلى نفسه، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضا، فإن ذلك أمر ~~محسوس. # والثاني غلط حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل، وأن الحسن والقبح ليس ~~إلا مجرد إضافة الفعل إلى الأمر والنهي، فأصاب بعض الإصابة في كونه جعل ذلك ~~من الملاءمة للطبع والمنافرة عنه، ومن باب كمال المتصف بذلك ونقصه، ولكن ~~غلط في ظنه أن الحسن والقبح العقليين صادرين (1) عن ذلك، ولم يغلط كل ~~الغلط، فإن الحسن والقبح الذي يدرك بالحس وبالعقل وبالشرع، وبالبصر والنظر ~~والخبر، بالمشهور الظاهر وبالباطن، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي= هو ~~في الأصل من جنس ms0896 واحد، فإن كلا يعلم بذلك ويثبت به ما لا يعلم بالآخر ويثبت ~~به. # وهذه الطرق الثلاثة: السمع، والبصر، والعقل، هي طرق العلم: فالبصر -وهو ~~المشهود الباطن والظاهر- يدرك ما في هذه الحركات والإرادات من الملاءمة ~~والمنافرة، والمنفعة والمضرة العاجلة. # والسمع -وهو وحي الله وتنزيله- يخبر بما يقصر الشهود عن إدراكه من منفعة ~~ذلك ومضرته في الدار الآخرة. PageV05P193 # ف ### | تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها، # فإن كل مولود يولد على الفطرة، والله خلق عباده حنفاء فاجتالتهم الشياطين ~~وحرمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا. ~~هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1) ~~. # فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيبات، ~~والمحبة تتبع الشهود والإحساس، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى ~~عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق، هو وجه الحسن الثابت ~~بالأفعال الحسنة: مأمورها ومباحها، فإن ذلك كله حسن، لما فيه من هذه ~~الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها، فما كان من ذلك مشهودا في ~~عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس، وما كان غيبا أدرك بالسمع الذي جاء به ~~المرسلون. # والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع، فلابد من أن يعقل ما أمر الله به ~~وأخبر، كما لابد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا، فيعقل الشهادة والغيب، بمعنى ضبط ~~العلم بجريان ذلك على وجه كلي ثابت في النفس. # لكن زعم أولئك أن العقل يدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءمة باطل، كما ~~أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا PageV05P194 # ملاءمة فيه باطل، فأولئك إنما نفوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من ~~جنس ما عقلوه في البشر، وأنكروا الملاءمة في حقه والمنافرة. # وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعا محضا مبنيا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ~~ولا منافرة، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة، ~~وبغضه للمسيئين بها، وهذا هو المعنى الذي يعبرون عنه في حقنا: الملاءمة ~~والمنافرة ms0897، وإنما أتوا من جهة ما فيهم من نوع تجهم (1) . # ولهذا أنكر أولئك -مع إنكارهم لهذه الصفات- أنكروا القدر، وهو عموم قدرته ~~ومشيئته وخلقه، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي ~~انطوى عليها الأمر والنهي، وأنكروا أيضا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة ~~والرحمة. # فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق، ولكن قصروا في إثبات الرحمة ~~والحكمة والعدل، وأولئك أثبتوا شيئا من الحكمة والعدل، ولكن قصروا في ذلك ~~أيضا، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق، وإن كان كل من الفريقين لا ~~ينكر أمر الشرع ونهيه. # لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي، ~~وقالوا: هذا يخالف الحكمة المعقولة، كما فعل إبليس وذووه. وغلاة هؤلاء ~~دفعوا أيضا الأمر والنهي وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، كما قال ~~المشركون. وإبليس أغلظ كفرا، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة ~~والجماعة. PageV05P195 # وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف، والتي تبغضها ~~هي المنكر، فإن المعروف هو إحساس مع محبة، والإنكار إحساس مع بغضة. فأما ما ~~لم يحس بحال فلا يعرف ولا ينكر، وما لا يحب ولا يبغض بحال فلا يعرف ولا ~~ينكر. وإذا حدث الرجل بحديث فأنكره لجهله فإنه أنكر ما لا أحبه سمعه، وكذلك ~~الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه، فإذا ~~سمعوا بذلك أنكروه بعد إحساسه. # والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذموما بل محمودا، ومن فعل ~~هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذموما ولا معاقبا، ولا يقال إن هذا ~~عمله لغير الله، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك، فذاك هو الشرك المذموم. ~~وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضا متقربا بها إلى ~~الله، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده، بل قد يثيبه عليها بأنواع من ~~الثواب: إما بزيادة فيها في أمثالها، فيتنعم بذلك في الدنيا، ولهذا كان ~~الكافر يجزى على حسناته في الدنيا وإن لم يتقرب بها إلى الله، ولو كان فعل ~~كل ms0898 حسن إذا لم يفعل لله مذموما يستحق به صاحبه العقاب لما أطعم الكافر ~~بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئات لا حسنات، وإذا كان قد يتنعم بها في ~~الدنيا ويطعم بها في الدنيا، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها ~~وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، فيكون له عليها ~~أعظم الثواب في الآخرة. # PageV05P196 # وهذا معنى قول بعض السلف (1) : طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا ~~لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نية، فقال: طلبهم له ~~نية، يعنى نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو ~~الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصله عرفه الإخلاص لله والعمل له. # ولهذا قال من قال: هو من النظر الأول الذي هو مقدمة العرفان، فإن القصد ~~والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به، فإذا لم يعرفه بعد كيف يتقرب إليه؟ ~~فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده. ~~وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا ~~يكون إلا بالإخلاص لزم الدور، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص ~~وغيره، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم. # وعلى هذا فما ذكره الإمام أحمد عن نفسه هو حسن، وهو حال النفوس المحمودة ~~المستقيم حالها. ومن هذا قول خديجة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم ~~وتعين على نوائب الحق. # فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها، خلق على ذلك وفطر عليه، فعلمت أن ~~النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد ~~ذلك من الأمور المذمومة، لما قال لها: "قد خشيت PageV05P197 # على نفسي". قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا ### | .... # الحديث، وهو في الصحيحين (1) . # وقد تنازع الناس في النبوة: هل هي مجرد إنباء الله لعبده، أو هي راجعة ~~إلى صفات كمال فيه؟ كما تنازعوا في النبوة: هل هي مجرد ms0899 تعلق خطاب الشارع، ~~أو هي راجعة إلى صفات يتميز بها، ولابد من خطاب إلهي أو إنباء؟ ولهذا كانت ~~النبوة أجزاء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الهدي الصالح والسمت ~~الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة". رواه أهل السنن (2) ~~، فهذا في العمل. وقال في العلم: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء ~~من النبوة" (3) . وقال: "ثلاث من أخلاق المرسلين" (4) . # و ### | هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حسن وقبح، # وكل حمد وذم، فإنه لولا الإحساس الذي يعتد به في حب حبيب وبغض بغيض لما ~~وجدت حركة إرادية أصلا تحرك شيئا من الحيوان باختياره، ولما كان أمر ونهي ~~وثواب وعقاب، PageV05P198 # فإن الثواب إنما هو بما تحبه النفوس وتتنعم به، والعقاب إنما هو بما تكره ~~النفوس وتتعذب به، وذلك إنما يكون بعد الإحساس، فالإحساس والحب والبغض هو ~~أصل ما يوجد في الدنيا والآخرة من أمور الحي، وبه حسن الأمر والنهي والوعد ~~والوعيد. وذاك الأمر والنهي والوعد والوعيد هو تكميل للفطرة، وكل منهما عون ~~على الآخر، فالشريعة تكميل للفطرة الطبيعية، والفطرة الطبيعية مبدأ وعون ~~على الإيمان بالشرع والعمل به، والعبد من دان بالدين الذي يصلحه فيكون من ~~أهل [العمل] الصالح في الآخرة، والشقي من لم يتبع الدين ويعمل العمل الذي ~~جاءت به الشريعة، فهذا هذا، والله أعلم. # PageV05P199 ### | فصل # في انتفاع الإنسان بعمل غيره # PageV05P201 # قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية: ### | من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع، # وذلك باطل من وجوه كثيرة: # أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير. # ثانيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم ~~لأهل الجنة في دخولها. # ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير. # رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل ~~الغير. # خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط بمحض رحمته، ~~وهذا انتفاع بغير ms0900 عملهم. # سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض ~~عمل الغير. # سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين: (وكان أبوهما صالحا) (1) ~~فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما. PageV05P203 # ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من ~~عمل الغير. # تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع ~~بعمل الغير. # عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص ~~السنة، وهو انتفاع بعمل الغير. # حادي عشرها: المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى ~~قضى دينه أبو قتادة (1) ، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من عمل الغير. # ثاني عشرها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده: "ألا رجل ~~يتصدق على هذا فيصلي معه" (2) ، فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير. # ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك ~~انتفاع بعمل الغير. # رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع ~~بعمل الغير. PageV05P204 # خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر، ~~وهذا انتفاع بعمل الغير. # سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك ~~بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره. # سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة ~~الحي عليه، وهو عمل غيره. # ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد، ~~وهو انتفاع للبعض بالبعض. # تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وما كان ~~الله ليعذبهم وأنت فيهم) (1) ، وقال تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء ~~مؤمنات) (2) ، وقال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) (3) . # فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل ~~الغير. # عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن ms0901 يمونه الرجل، فإنه ينتفع ~~بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها. PageV05P205 # حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، ويثاب على ذلك ولا ~~سعي له. # ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى، ~~فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع ~~الأمة؟ # PageV05P206 ### | رسالة في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - # PageV05P207 ### | .... # إلى ما خلقوا له من عبادته، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ~~ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57)) (1) ، وقال ~~تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله ~~وما أنا من المشركين) (2) ، وقال تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ~~(45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)) (3) ، وقال تعالى: (وكذلك ~~أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه ~~نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله ~~الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)) (4) . # وفرض على أهل الأرض: عربهم وعجمهم، وإنسهم وجنهم، ودانيهم وقاصيهم اتباعه ~~وطاعته، كما قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي ~~له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله ~~النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)) (5) ، ~~وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) (6) . PageV05P209 # وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فضلنا على الأنبياء بخمس: جعلت صفوفنا ~~كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا طهورا، وأحلت لنا الغنائم ولم تحل ~~لأحد قبلنا، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". أخرجاه ~~في الصحيحين (1) . # وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي في هذه الأمة ~~يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار". رواه مسلم (2) . # وتصديقه قوله تعالى: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) (3) . # ولم يجعل لأحد بلغته رسالته وصولا إلى الله وإلى رحمته ms0902 إلا بمتابعته، كما ~~قال تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل ~~وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين ~~أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو ~~في الآخرة من الخاسرين (85)) (4) ، وقال في الآية الأخرى: (فإن آمنوا بمثل ~~ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو ~~السميع العليم (137)) (5) ، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ~~يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)) (6) . PageV05P210 # وقال الحسن البصري وغيره (1) : ادعت طائفة أنهم يحبون الله على عهد النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم ~~الله ويغفر لكم ذنوبكم) ، فجعل اتباع الرسول موجب محبة العبد ربه جل وعلا، ~~موجبا لمحبه الرب تعالى عبده ومغفرته ذنوبه. # وفي الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل الناس يدخل ~~الجنة إلا من أبى"، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل ~~الجنة، ومن عصاني فقد أبي". كقوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات ~~تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله ~~ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)) (3) ، وقوله ~~تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في ~~أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)) (5) . # وهذا باب واسع، وهو متفق عليه بين المسلمين. فافترق الناس فيما جاء به ~~الرسول ثلاث فرق: # فرقة امتنعوا من اتباعه، كاليهود والنصارى والمشركين ونحوهم، فهؤلاء كفار ~~تجب معاملتهم بما أمر الله به ورسوله. PageV05P211 # وقسم آمنوا بالله ورسوله باطنا وظاهرا، واتبعوا ما جاء به الرسول - صلى ~~الله عليه وسلم -. # وقسم أظهروا الإيمان بألسنتهم، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم. فهؤلاء ~~المنافقون الذين قال الله فيهم: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول ~~الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1)) (1) إلى ~~آخر السورة. وقال تعالى: (ومن الناس من ms0903 يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما ~~هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما ~~يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا ~~يكذبون (10)) (2) إلى تمام ثلاث عشرة آية. # وأنزل الله في صفاتهم سورة براءة، وذكرهم في غير موضع من القرآن، وأمر ~~رسوله بجهادهم كما أمره بجهاد الكفار. وقال تعالى: (يا أيها النبي جاهد ~~الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (9)) (3) . # وأما الكفار فيجاهدون حتى يؤمنوا أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها، كما ~~قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما ~~حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا ~~الجزية عن يد وهم صاغرون (29)) (4) . PageV05P212 # وأما المنافقون فجهادهم بإقامة الحدود عليهم، هكذا ذكره السلف، لأنهم ~~يظهرون الإسلام بألسنتهم، فإذا خرجوا عن موجب الدين أقيم الحد عليهم، وهم ~~قسمان: # قوم نافقوا في أصل الدين، وأظهروا الإيمان بالله ورسوله، وليس ذلك في ~~قلوبهم، بل هم غافلون عما جاء به الرسول ومعرضون عنه، إلى الاشتغال بدين ~~غيره، والاشتغال بالدنيا عن نفس إيمان القلوب، وأضمروا تكذيب الرسول أو ~~بغضه أو معاداته أو معاداة ما جاء به. فمتى لم يكن الإيمان بالله ورسوله في ~~قلوبهم كانوا منافقين في أصل الدين، سواء كانوا معتقدين لضد ما جاء به ~~الرسول أو خالين عن تصديقه وتكذيبه، كما أن كل من لم يظهر الإسلام فهو ظاهر ~~الكفر، سواء تكلم بضده أو لم يتكلم. ولا ينجي العباد من عذاب الله تعالى ~~إلا إيمان يكون في قلوبهم، حتى إذا سئل أحدهم في القبر فقيل له: من ربك؟ ~~وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، فيفتح له ~~باب إلى الجنة، وينام نومة العروس الذي قد دخل بامرأته، لا يوقظه إلا أحب ~~أهله إليه. # وأما المنافق فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلت ~~مثلهم، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو ~~سمعها الإنسان لصعق ms0904 (1) . قال الله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل ~~من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) PageV05P213 # إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع ~~المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146)) (1) . # والقسم الثاني: المنافقون في بعض أمور الدين، مثل الذي يكثر الكذب أو نقض ~~العهد أو خلاف الوعد، أو يفجر في الخصومة. # قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ~~ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، ~~وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". # أخرجاه في الصحيحين (2) . # وقد أوجب الله تعالى على أهل دينه جهاد من خرج عن شيء حتى يكون الدين كله ~~لله، كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) . ~~(3) فمن خرج عن بعض الدين إن كان مقدورا عليه أمر بالكلام، فإن قبل وإلا ~~ضرب وحبس حتى يؤدي الواجب ويترك المحرم، فإن امتنع عن الإقرار بما جاء به ~~الرسول أو شيء منه ضربت عنقه. # وإن كان في طائفة ممتنعة قوتلوا، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه وسائر ~~الصحابة مانعي الزكاة، مع أنهم كانوا مقرين بالإسلام باذلين للصلوات الخمس، ~~حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها ~~إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على PageV05P214 # منعها (1) . وكما قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من الصحابة ~~الخوارج، الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحقر أحدكم صلاته ~~مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز ~~حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم ~~فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" (2) . # وهؤلاء الخوارج الحرورية هم أول من ابتدع في الدين وخرج عن السنة ~~والجماعة، حتى إن أولهم خرج عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ~~حياته، وأنكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمة المال ms0905، وأنزل الله ~~فيهم. وفي أمثالهم: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (3) . قال ابن عباس وغيره: ~~تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة (4) . # فكل من خرج عن كتاب الله وسنة رسوله من سوائر الطوائف فقد وجب على ~~المسلمين أن يدعوه إلى كتاب الله وسنة رسوله بالكلام، فإن أجاب وإلا عاقبوه ~~بالجلد تارة، وبالقتل أخرى على قدر ذنبه، وسواء كان منتسبا إلى الدين من ~~العلماء والمشايخ أو من رؤساء الدنيا من الأمراء والوزراء، فإن من هؤلاء ~~فيهم الأبرار والفجار. PageV05P215 # فأبرارهم هم أئمة الدين وهداة المسلمين وصالحو المجاهدين أهل الإيمان ~~والقرآن؛ والحامل الناصر للإيمان والقرآن، هم صفوة الله من عباده وخيرته من ~~خلقه، وموضع نظر الله إلى الأرض، وورثة الأنبياء وخلف الرسل، قال الله ~~تعالى فيهم: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين ~~آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل ~~لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) . # والبشرى قد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرؤيا الصالحة يراها ~~المؤمن أو ترى له (2) ، وبالثناء الحسن من المؤمنين (3) . # ومر على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال: ~~"وجبت وجبت"، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا، فقال: "وجبت وجبت"، قالوا: ~~يا رسول الله! ما قولك وجبت؟ قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت ~~وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار، أنتم ~~شهداء الله في الأرض" (4) . # فمن شهد له عموم المؤمنين بالخير كان من أهل الخير، ومن شهد له بالشر كان ~~من أهل الشر. PageV05P216 # وهؤلاء الفجار المنتسبون إلى علم أو دين أو إمرة أو رئاسة كالذين قال ~~الله تعالى فيهم: (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس ~~بالباطل ويصدون عن سبيل الله) إلى أن قال تعالى: (والذين يكنزون الذهب ~~والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)) (1) وقد قالي ~~تعالي كتابه: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير ~~المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (2) ، قال النبي - صلى الله عليه ms0906 وسلم -: ~~"المغضوب عليهم: اليهود، والضالين هم: النصارى" (3) . قال الترمذي: هذا ~~حديث حسن صحيح. # قال العلماء: فمن أوتي علما فلم يعمل به كان فيه شبه من اليهود الذين ~~عرفوا الحق ولم يتبعوه، ومن عبد الله بلا علم كان فيه شبه من النصارى الذين ~~ابتدعوا الرهبانية وعبدوه بغير شريعة. # وأما المؤمنون حقا فهم المتمسكون بالشريعة والمنهاج المحمدي كما قال ~~تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل ~~جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (4) وقال تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر ~~فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)) (5) . PageV05P217 # ومن أعظم هؤلاء ضلالا: من انتسب إلى إمام أو شيخ من شيوخ المسلمين، ~~وابتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، أو ضم إلى ذلك أنواعا من التكذيب ~~والتلبيس، كهؤلاء المتولهين الذين يفتلون شعورهم، ومن وافقهم من المظهرين ~~كمحرقة النار واللاذن وماء الورد والسكر والعسل والدم من صدورهم، وإمساك ~~الحيات زاعمين أن ذلك كرامة لهم؛ واحتيالا عن الصد عن سبيل الله، وأكل ~~أموال الناس بالباطل. # أما فتل الشعور ولفيفها فبدعة ما أمر بها نبى ولا رجل صالح ولا فعلها من ~~يقتدى به، بل قد شرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الترجل من تسريح ~~الشعر ودهنه. # ودخل عليه رجل ثائر الشعر فقال: "أما وجد هذا ما يسكن به شعره؟ " (1) . # ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والموصولة (2) ، ولعن ~~المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (3) . # وأمر بإحفاء الشارب وإعفاء اللحية (4) ، وقال: "من كان له شعر ~~PageV05P218 # فليكرمه" (1) ؛ لا سيما والشعر إذا كان لا يدخل فيه الماء إلى باطنه، لا ~~يصح الاغتسال من الجنابة، ويبقى صاحبه لا طهارة له ولا صلاة، ومن لا صلاة ~~له لا دين له. # وكذلك معاشرة الرجل الأجنبي للنسوة ومخالطتهن من أعظم المنكرات التي ~~تأباها بعض البهائم فضلا عن بني آدم، قال الله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا ~~من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) (2) ، (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن ~~فروجهن) (3) . # وفي "الصحيح" (4) عن ابن عباس رضي الله ms0907 عنهما أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "إياكم والدخول على النساء" قالوا: يا رسول الله، أفرأيت ~~الحمو؟ قال: الحمو الموت". # فإذا كان قد نهى أن يدخل على المرأة حموها أخو زوجها، فكيف بالأجنبي؟ # وقال (5) : "لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان". # وقال (6) : "لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع زوج أو ذي محرم". ~~PageV05P219 # وكان إذا صلى في مسجده يصلي الرجال خلفه وخلفهم النساء، فإذا قضى الصلاة ~~مكث هو والرجال حتى يخرج النساء لئلا تختلط النساء بالرجال. # وقال (1) : "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء ~~آخرها، وشرها أولها". # وقال أيضا (2) : "يا معشر النساء! لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال ~~رؤوسهم من ضيق الأزر"، لئلا تبدو عورة الرجال فتراها المرأة. # وأمر النساء إذا مشين في الطريق أن يمشين على حافة الطريق ولا يحققن ~~الطريق (3) -أي: لا يكن في وسطه- بل يكون وسطه الرجال لئلا يمس منكب الرجل ~~منكب المرأة، حتى يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن عمر بن ~~الخطاب رضي الله عنه أنه ترك بابا من أبواب المسجد للنساء، ونهى الرجال عن ~~دخوله، فكان عبد الله بن عمر لا يدخله (4) . # وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~يد امرأة لم يملكها قط" (5) . PageV05P220 # ولما جاء النساء يبايعنه، قال: "إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لمئة ~~امرأة كقولي لامرأة واحدة" (1) . # ويروى (2) أنه وضع يده في إناء فيه ماء، ووضعن أيديهن فيه، ليكون ذلك ~~عوضا عن مصافحة النساء. كل ذلك لئلا يمس الأجانب، وهو رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - وتزوج بتسع؛ وسيد الخلق وأكرمهم عند الله تعالى، فكيف بهؤلاء ~~الضلال المبتدعين الخارجين عن الإسلام الذين يجمعون بين النساء والرجال في ~~ظلمة أو غير ظلمة؟ # ويوهم بعضهم للنساء أن مباشرة الشيخ والفقراء قربة وطاعة، وأنه مسقط ~~للصلاة، ويتخذون الزنا والقيادة عبادة، ويتركون ما أمر الله تعالى به من ~~الصلوات واجتناب الفواحش، فما أحقهم بقوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف ~~أضاعوا الصلاة واتبعوا ms0908 الشهوات فسوف يلقون غيا (59)) (3) . # ثم يعدون التوله والتجانن وقلة العقل والخروج عن العقل والدين قربة ~~وطاعة، ويوهمون الجهال والأغمار من الأعراب والأتراك والفلاحين والنسوان أن ~~هؤلاء صفوة الله تعالى، وإن هؤلاء قد ورد عليهم من الأحوال ما جعلهم هكذا، ~~فيتصرفون في النفوس والأموال تصرف اللص الخادع والمنافق المخادع، موهمين ~~حصول البركة PageV05P221 # لمن أفسدوا عليه دينه ودنياه، كما يفعل الرهبان والقسيسون بعوام النصارى، ~~وهذا شيء لم يبعث الله به نبيا ولا قاله رجل صالح قط، ومن كان من الناس قد ~~ذهب عقله حتى صار مجنونا فقد رفع القلم عنه، كما قال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون ~~حتى يفيق" (1) . # وينبغي أن يعالج هذا بما يعالج به المجانين، فإن الجنون مرض من الأمراض ~~أو عارض من الجن، ومن هؤلاء قوم لهم قلوب فيها تأله وإنابة إلى الله تعالى ~~ومحبة له وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يسمون "عقلاء المجانين"، وقد يسمون ~~"المولهين" فهم كما قال فيهم بعض العلماء: "قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا ~~فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، فأسقط ما فرض بما سلب". # فالمجانين كالعقلاء فيهم من فيه صلاح، وفيهم من لا صلاح له. # وسبب جنون أحدهم: إما وارد ورد عليه من المحبة أو المخافة أو الحزن أو ~~الفرح حتى انحرف مزاجه. أو خلط غلب عليه من السوداء. أو قرين قرن به من ~~الجن. # فهؤلاء إذا صح أنهم مجانين ومولهون كانوا في قسم المعذورين الممنوع (2) ~~على الفساد، ولا يحل الاقتداء بمن فيه منهم صلاح؛ PageV05P222 # ولا اتباع ما يقول من الأقوال والأفعال إلا أن يوافق الشريعة. # ولا ينبغي تعظيمهم، فإنهم منقوصون مجروحون، وصالحو العقلاء أفضل منهم ~~بكثير كثير، وليس فيهم ولي ولا صالح مشهور، وإنما يغتر بهم بعض الجهال، لأن ~~جنونهم يوجب أن يظهر بعض ما في بواطنهم من كشف أو زهد أو تأثير فيستعظم ~~الجاهل ذلك. # وصالح العقلاء قد يكون معه أضعاف ذلك، ولا يظهره إلا حيث يراه مصلحة، وقد ~~يكون كتمانه أصلح ms0909 لهم؛ فأما هؤلاء المفتلون الشعر ونحوهم، فعامتهم متولهون ~~لا مولهون، يظهرون ذلك كذبا ومكرا ومخادعة للجهال، كي يتميزوا بذلك مما ~~يريدونه من النفوس والأموال، وحتى لا ينكر عليهم ما يقولونه ويفعلونه من ~~القبيح، فيقول الجاهل: هذا موله. # وأحدهم يميز بين الدرهم والدينار، والغني والفقير، ويعرف الخير والشر، ~~وله فكر طويل في الحيلة التي يحتال على الجهال بها، ويتواجدون عند السماع ~~المحدث أو غيره، فيصيحون ويزعقون ويزبدون ويتغاشى أحدهم، فبعض ذلك كذب ومكر ~~وحيلة، وبعضه عادة فاسدة وطريقة سيئه. # وقد يقرن بأحدهم قرين من الجن فيعينه على ذلك، كما أن المصروع يزبد ويصيح ~~كما يجري لهؤلاء؛ وشيوخهم يقرونهم على ذلك [للاحتيال] على الجهال وأكل ~~أموال الناس بهم؛ وإلا فقد أجمع المسلمون بل واليهود والنصارى أن هؤلاء ~~ضلال وفسقة، وأن الواجب توبتهم واتباعهم لما أمر الله به وترك ما نهى عنه، ~~بل الواجب إذا رأينا # PageV05P223 # مولها أو مجنونا أن نعالجه حتى يصير عاقلا، فهؤلاء يعمدون إلى الصبيان ~~يربونهم على التوله تربية، ويعودونهم الخروج عن العقل والدين عادة كما يعود ~~الأنبياء والصالحون أتباعهم ملازمة العقل والدين. # قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم ~~عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع". # قال العلماء: يجب على كافل الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة، ويمنعه ~~اعتياد المحرمات. # وهؤلاء بخلاف ذلك، وعامة ما يبدونه من النار ونحوها مكر وحيلة من جنس حيل ~~الرهبان، فإنهم يتوسلون بالطلق ودهن الضفادع وماء النارنج إلى أن يصفو ذلك، ~~ثم يطلون به لحومهم وثيابهم، فتصبر على النار مدة طويلة من الزمان، وكذلك ~~يصنعون من دم الأخوين ونبت يقال له: أم عربيل ما يظهرون به أن الدم يخرج من ~~أحدهم وقت الوجد، وكذلك اللاذن ونحوه، وأضعاف ذلك، كفعل الرهبان على عوام ~~النصارى حيلا أعظم من هذه. # وللصالحين كرامات معروفة من تسخير السباع والنار لهم وتكثير الطعام ~~والشراب ودفع البلاء، ومن المكاشفات وأنواع الخوارق للعادات، في أبواب ~~العلم وأبواب القدرة، لكن طريقة الصالحين PageV05P224 # طاعة الله ورسوله وملازمة الكتاب والسنة، وأقل أحوالهم الصدق والبر ms0910، كما ~~[أن] ### | علامة الفاجر الكذب والفجور. # قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي ~~إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى ~~يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور ~~يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله ~~كذابا". # وهكذا قال الله تعالى في القرآن: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) ~~تنزل على كل أفاك أثيم (222)) (2) . # فأخبر أن الشياطين تنزل على الكذاب في قوله، الفاجر في فعله، كما كانت ~~تنزل على المتنبئين الكذابين مثل الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب والمختار بن ~~أبي عبيد؛ حتى قالوا لابن عمر أو لابن عباس (3) رضى الله عنهما: إن المختار ~~يزعم أنه ينزل عليه فقال: صدق: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل ~~على كل أفاك أثيم (222)) . # وقالوا لآخر (4) : إنه يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق: (وإن PageV05P225 # الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) (1) . # فمن كان من أتباع الكذابين المتنبئين، فإن أولئك كان يظهر عليهم # أشياء، والساحر والمشعبذ يفعل أشياء، فإذا جاءت عصا الشريعة # المحمدية ابتلعت ما صنعه الخارجون عنها من السحر المفترى، # (ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)) (2) . # وقد يفضل شيخه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلوا فيه، كما غلت ~~النصارى في المسيح بن مريم عليه السلام، وغلت الرافضة في علي رضي الله عنه، ~~بل الغالية من النصارى والرافضة أعذر من هؤلاء الغالية في بعض المشايخ ~~المسلمين، كبعض المنتسبين إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي والشيخ عدي أو الشيخ ~~يونس (3) . # ... له في الصيام وبعضهم في الصدقة وبعضهم في العلم وبعضهم في الأمر ~~بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنواع أخر، مع اتفاق قلوبهم واجتماع كلمتهم ~~واعتصامهم بحبل الله تعالى، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا ~~الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ~~ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم ~~بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار ms0911 فأنقذكم منها كذلك يبين الله ~~لكم آياته لعلكم تهتدون (103)) (4) . PageV05P226 # وقد يتنازعون في بعض أمور الدين، فإذا تنازعوا في شيء من ذلك ردوه إلى ~~الله تعالى ورسوله، والكتاب والسنة، كما أمر الله ورسوله، وليس أحد بعد ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبع كل ما يقوله ويفعله، بل كل أحد يؤخذ ~~من قوله وفعله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه الإمام ~~الذي فرض الله طاعته وأوجب متابعته. # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته (1) : "إن أصدق الكلام ~~كلام الله، وإن خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة". # فمن اتبع رجلا غير الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في كل أقواله وأفعاله ~~معرضا عن الكتاب والسنة، أو غلا في محبة بعضهم وتعظيمه حتى جاوز به حده، ~~وفضله على نظرائه تفضيلا كثيرا بلا بينة، فهو مضاه للنصارى الذين قال الله ~~في حقهم: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (2) الآية، وقال ~~تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس ~~كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا) (3) الآية، وقال تعالى: (قل ادعوا ~~الذين زعمتم من دون الله) (4) الآية، وقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا ~~تغلوا في دينكم) (5) الآية. PageV05P227 # فإن الله تعالى ذم النصارى بكونهم غلوا في الأنبياء والعلماء والعباد حتى ~~جاوزوهم حدهم، فعبدوهم حيث أطاعوهم فيما ابتدع (1) الأحبار والرهبان من ~~الدين، وحللوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، هكذا فسره النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -؛ واعتقدوا في المسيح نوعا من الإلهية، وضاهاهم على ذلك من ~~اعتقد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من الأئمة أو بعض الأنبياء ~~نوعا من الإلهية، ومن اعتقد في بعض الشيوخ نوعا من الإلهية، حتى إنهم سجدوا ~~لهم أحياء وأمواتا، ويرغبون إليهم في قبورهم في جلب المنافع ودفع المضار، ~~كما كان المشركون يرغبون إلى آلهتهم، ولهذا قال سبحانه وتعالى: (قل ادعوا ~~الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين ms0912 ~~يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن ~~عذاب ربك كان محذورا (57)) (2) . # قال ابن مسعود وغيره (3) : كان أقوام يدعون عزيرا والمسيح والملائكة، ~~فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلى الله كما تتقربون إليه ~~ويرجون الله ويخافونه. # كما قال بعض الفقهاء: إن بعض الفقراء أوصاه عند موته: إذا كان لك حاجة أو ~~أمر مهم أو ضيق استوحني أو استوح بي. # نعوذ بالله من الشرك والضلال، وهم لا يملكون كشف الضر PageV05P228 # عنكم ولا تحويلا، وكما قال سبحانه: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا ~~يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له ~~منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (1) # وقال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) وقال تعالى: (ولا ~~يشفعون إلا لمن ارتضى) (3) . # فهؤلاء الضلال عمدوا إلى ما لم يشرعه الله تعالى من البدع والضلالات ~~والغلو في الصالحين، وتمسكوا به وعمدوا إلى دين الله تعالى الذي بعث به ~~رسوله فأعرضوا عن بعضه؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) : "بني ~~الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام ~~الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت". # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبريل عليه السلام عن ~~الإسلام والإيمان والإحسان قال (5) : "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ~~وإن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت، ~~والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته [وكتبه] ورسله والبعث بعد الموت ~~PageV05P229 # وتؤمن بالقدر خيره وشره، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن ~~تراه فإنه يراك" وقال: "هذا جبريل أتاكم ليعلمكم". # فالمؤمن يدعو إلى الدين وينتسب إليه، وعليه أن يدعو إلى الإسلام والإيمان ~~والإحسان، ومن ذلك ### | : عمارة المساجد بالصلوات الخمس وقراءة القرآن # وذكر الله تعالى ودعاؤه وأنواع العبادات وتعلم العلم وتعليمه، كما كان ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه عليه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ~~قد ms0913 أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ~~قالوا: [من هي يا رسول الله؟ قال:] "هي الجماعة" (1) ، وفي رواية (2) : "من ~~كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". # قال الله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) (3) الآية، ~~وقال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) (4) الآية، وقال تعالى: (وأمر ~~أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (5) . # فأمر الله بالصلاة والمحافظة عليها؛ والذم لمن أضاعها أكثر من ~~PageV05P230 # أن يذكر هنا، حتى إنه أوجب الصلاة في الأمن والخوف، رجالا وركبانا في ~~الإقامة والسفر، وفي الصحة والمرض، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~لعمران بن حصين (1) : "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى ~~جنب". # وحتى إنه إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله أمر بأن يتيمم بالصعيد ~~الطيب والتمسح له، ولا يجور تأخيرها عن وقتها بحال من الأحوال، إلا أنه في ~~حال العذر يكون الوقت مشتركا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيجوز ~~الجمع بين العشاءين. # وشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس والجماعات، حتى ~~أمرهم الله أن يقيموها في الجماعة حال الخوف، قال الله تعالى: (وإذا كنت ~~فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) (2) الآية. # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) : "لقد هممت أن آمر بالصلاة ~~فتقام، ثم أنطلق مع رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق ~~عليهم بيوتهم بالنار". # وقال (4) : "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة". ~~PageV05P231 # وقد شرع الله للمسلمين سماع كتابه في الصلاة وخارج الصلاة، لا سيما في ~~صلاة الفجر، كما قال تعالى: (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)) ~~(1) . # وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدا ~~منهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (2) : ~~"يا أبا موسى ذكرنا ربنا" فيقرأ وهم يستمعون. # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج على أهل الصفة فوجد ~~فيهم رجلا يقرأ وهم يستمعون ms0914، فجلس معهم يستمع (3) . # وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند السماع كما ذكر الله ~~تعالى في كتابه توجل قلوبهم وتقشعر جلودهم وتدمع عيونهم. قال الله تعالى: ~~(الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ~~ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (4) ، وقال تعالى: (وإذا سمعوا ~~ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (5) ، ~~وقال تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من ~~الحق) (6) ، وقال تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا PageV05P232 # له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)) (1) . # فلما كان التابعون فيهم من يموت أو يصعق عند سماع القرآن فمن السلف من ~~أنكر ذلك ورآه بدعة، وأن صاحبه متكلف، وأما أكثر السلف والعلماء فقالوا: إن ~~[كان] صاحبه مغلوبا، والسماع مشروعا، فهذا لا بأس به، فقد صعق الكليم لما ~~تجلى ربه للجبل، بل هو حال حسن محمود فاضل بالنسبة إلى من يقسو قلبه. # وحال الصحابة ومن سلك سبيلهم أفضل وأكمل، فإن الغشي والصراخ والاختلاج ~~إنما يكون لقوة الوارد على القلب، وضعف القلب عن حمله، فلو قوي القلب -كحال ~~نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- لكان أفضل وأكمل. # ولو لم يرد على القلب ما يحركه لكان قاسيا مذموما، كما ذم الله تعالى ~~اليهود على قسوة القلوب. # وما زال السلف كذلك إلى حد المئة الثالثة، صار قوم من العباد يجتمعون ~~لسماع القصائد المرققة، وربما ضربوا بالقضيب لذلك، ويسمون ذلك التغبير، ~~فأنكر الأئمة ذلك، ورأوا أنه بدعة محدثة؛ إذ لم يفعله السلف حتى قال فيهم ~~الشافعي رضي الله عنه: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير، ~~يصدون به الناس عن القرآن. PageV05P233 # وكره أحمد الجلوس معهم فيه، وقال: هو محدث أكرهه، ورأى أنهم لا يهجرون؛ ~~لأنهم متأولون. # وحضر هذا السماع المحدث قوم من الصالحين وكرهوه. # وتركه أفضل من حضوره. والذين حضروه اشترطوا له شروطا كثيرة مثل المكان ~~والخلان والخلوة من المفاسد. # ومع هذا فالحجة من الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة مع من كرهه ms0915، ونهى ~~عن التعبد به، وإن كان يرخص في الأفراح للنساء والصبيان في أنواع من الغناء ~~وضرب الدف كما جاءت به السنة، فهذا نوع من اللهو واللعب، ليس هو من نوع ~~العبادات والقرب والطاعات، كما يفعله المبتدعون للسماع المحدث، وبكل حال ~~فالإكثار منه حتى يفعل في المساجد، وحتى يشتغل به عن الصلوات، وحتى يقدم ~~على القراءة والصلاة، وحتى يجعل شعار الشيخ وأتباعه، وحتى يضرب بالمعازف، ~~لا ريب أنه من أعظم المنكرات، وهو مضاهاة لعبادة المشركين الذين قال الله ~~تعالى فيهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) (1) . قال السلف: ~~المكاء: الصفير نحو الغناء، والتصدية: التصفيق باليد. # فمن اتخذ الغناء والتصفيق قربة ففيه شبه من هؤلاء، وإذا شغله عما أمر به ~~وفعله في المسجد، فقد اندرج في قوله: (وما كان صلاتهم) الآية، وفي قوله ~~تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا PageV05P234 # الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59)) (1) ؛ وفي قوله: (وذر الذين ~~اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) (2) ، لا سيما وقد قيل: إنها نزلت في أعياد ~~الجاهلية المشابهة لهذا السماع المشتمل على اللهو واللعب. # قال الله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور) (3) ، وقيل: إن هذا من الزور. ~~وقد قال الله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ~~بغير علم) (4) . وقال الله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) (5) . ~~وقال تعالى: (وأنتم سامدون (61)) (6) . # وقد روى الطبراني (7) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "إن الشيطان قال: يا رب اجعل لي قرآنا، قال: قرآنك الشعر، ~~قال: اجعل لي مؤذنا، قال: مؤذنك المزمار، قال: اجعل لي بيتا، قال: بيتك ~~الحمام". # والأحاديث في هذا كثيرة. # فإذا كان الشيخ يزعم أنه يدعو إلى الله وإلى طاعته، ليس شعاره إلا جمع ~~الناس على مزمور الشيطان ومؤذنه وقراءته، وقل أن يجمعهم PageV05P235 # على أذان الله وقراءته وصلاته، كان إماما من أئمة الضلال الذين (يدعون ~~إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (41)) (1) ، وكان من اتبعه له نصيب من ~~قوله تعالى: (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا ms0916 أطعنا الله وأطعنا ~~الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ~~ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)) (2) . # وقال تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول ~~سبيلا (27) يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر ~~بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)) (3) . # والناس وإن كانوا قد تكلموا في الغناء، هل هو حرام أو مكروه أو مباح؟ فما ~~قال أحد من المهتدين: إنه قربة أو طاعة، ومن قال ذلك فقد اتبع غير سبيل ~~المؤمنين، ودخل في مشابهة النصارى والصابئين، ولهذا ذكر العلماء أنه من ~~إحداث الزنادقة. # وكيف يتصور أن يكون قربة، وقد مضت القرون الثلاثة: قرن الصحابة والتابعين ~~وتابعيهم، وذلك لا يفعل في شيء من أمصار المسلمين، لا في الحجاز ولا في ~~اليمن ولا في الشام ولا في العراق ولا في مصر ولا في خراسان ولا في المغرب. # فالواجب على أهل الإسلام التعاون على البر والتقوى، والتواصي PageV05P236 # بالحق، والتواصي بالصبر والبر، واتباع شرائع الإسلام، وكبت هذه الطرق ~~الجاهلية والضلالات الخارجية، ورد ما تنازع الناس فيه إلى كتاب الله تعالى ~~و [سنة] رسوله، وهو الطريق المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين ~~والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم اليهود ومن شابههم ~~في بعض أمورهم من غواة المنتسبين إلى الفقه والحكمة، ومن طريق الغالين ~~المنتسبين إلى التعبد والتصوف والفقر. # وعلى أهل الإسلام أن ينصح بعضهم لبعض كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- (1) : "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة"، قالوا: [لمن؟، ~~قال:] "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". # وقد قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون ~~عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)) (2) ، وقال تعالى: (والمؤمنون ~~والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (3) . # فهؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أطباء الأديان، الذين تشفى ~~بهم القلوب المريضة، وتهتدي بهم القلوب الضالة، وترشد بهم القلوب الغاوية، ~~وتستقيم بهم القلوب الزائغة، وهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى. PageV05P237 # والهدى والمعروف اسم لكل ما أمر ms0917 به من الإيمان ودعائمه وشعبه، كالتوبة ~~والصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص والرضا والإنابة وذكر الله ~~تعالى ودعائه والصدق والوفاء وصلة الأرحام وحسن الجوار وأداء الأمانة ~~والعدل والإحسان والشجاعة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك. # والمنكر اسم لكل ما نهى الله عنه من الكفر والكذب والخيانة والفواحش ~~والظلم والجور والبخل والجبن والكبر والرياء والقطيعة وسوء المسألة واتباع ~~الهوى وغير ذلك. # فإن كان الشيخ المتبوع آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، داعيا إلى الخير، ~~مصلحا لفساد القلوب، شافيا لمرضاها، كان من دعاة الخير وقادة الهدى وخيار ~~هذه الأمة. # نسأل الله أن يكثر من هؤلاء ويقويهم، ويدمغ بالحق الباطل، ويصلح هذه ~~الأمة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ~~تسليما. # (تمت الرسالة بعون الله ومنه من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس ~~أحمد بن تيمية، قدس الله روحه وسقى ضريحه) . # PageV05P238 ### | شرح حديث # "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" # PageV05P239 # بسم الله الرحمن الرحيم # قال الشيخ الحافظ الإمام، شيخ الإسلام، وأستاذ العلماء الأعلام، تقي ~~الدين أحمد بن [عبد الحليم بن] عبد السلام، الشهير بابن تيمية رحمه الله ~~تعالى وجزاه عن المسلمين خيرا: # فصل # في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) : "لا يزني الزاني ~~حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولايسرق السارق ~~حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم ~~وهو حين ينتهبها مؤمن". # وللناس في هذا وأمثاله كلام كثير مضطرب، فإن هذه من مسائل الأسماء ~~والأحكام. # فالخوارج والمعتزلة يحتجون بهذا على أن صاحب الكبيرة لم يبق معه من ~~الإيمان بل ولا من الإسلام شيء أصلا، بل يستحق التخليد في النار، ولا يخرج ~~منها بشفاعة ولا غيرها. # ومعلوم أن هذا القول مخالف لنصوص الكتاب والسنة الثابتة في غير موضع. ~~PageV05P241 # والمرجئة والجهمية يقولون: إيمان الفاسق تام كامل لم ينقص منه شيء، ومثل ~~هذا إيمان الصديقين والشهداء والصالحين. ويتأولون مثل هذا الحديث على أن ~~المنفي موجب الإيمان، أو ms0918 ثمرته، أو العمل به، ونحو ذلك من تأويلاتهم. # والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأهل الحديث، وأئمة السنة يقولون: لا ~~يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، بل يخرج منها من في قلبه مثقال ذرة من ~~إيمان كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، بخلاف قول الخوارج والمعتزلة. # ويقولون: إن الإيمان يتفاضل، وليس إيمان من نفى الشارع عنه الإيمان ~~كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. # ومنهم من ينفي عنه إطلاق الاسم، ويقول: خرج من الإيمان إلى الإسلام، كما ~~يروى ذلك عن أبي جعفر الباقر وغيره. وهو قول كثير من أهل السنة من أصحاب ~~أحمد وغيرهم، وقال بمعنى هذا القول حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، ~~وأحمد بن حنبل في غير موضع، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم من أئمة ~~السنة. # فإن أصحاب المنزلة بين المنزلتين ينفون اسم الإسلام، وأولئك يقولون ~~بالتخليد في النار، وأولئك يقولون: ليس معه من الإيمان شيء. وهم لا يقولون ~~معه من الإيمان شيء ما يخرج به من النار ويدخل به الجنة، وبين القولين هذه ~~الفروق الثلاثة. # وعلى هذا قول من يقول إن الأعراب الذين قالوا: (ءامنا) ، # PageV05P242 # وقال الله: (لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) (1) لم يكونوا منافقين، بل ~~كانوا دخلوا في الإسلام، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم فيثيبهم الله على ~~الطاعة، ويعاقبهم على المعصية، كما قال تعالى: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا ~~يلتكم من أعمالكم شيئا) (2) . وهذا قول أكثر أهل الحديث. # وقيل: بل هؤلاء كان إسلامهم إسلام نفاق، فلا يكون مسلما مثابا على العمل ~~إلا من هو مؤمن. # والتحقيق أن ### | نفي الإيمان وإثباته باعتبارين: # فمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان لم يدخل جميع الإيمان في قلبه، وإنما دخل ~~في قلبه شيء منه، فهذا يثاب على أعماله وهو مسلم ومعه إيمان، ولما يدخل ~~كمال الإيمان في قلبه بل إيمانه ناقص، ولهذ كان الصحابة وجمهور السلف على ~~أن الإيمان يزيد وينقص. # فالفاسق معه إيمان ناقص نقصا هو نقص جزء واجب، وما كان كذلك فإنه ينفى، ~~وإن كان قد أثيب ms0919 على فعل ما فعل لكن ما تبرأ ذمته، ولا يعاقب عقوبة من لم ~~يفعل شيئا. كمن ترك بعض واجبات العبادة فيقال: صل فإنك لم تصل، ولا يكون من ~~ترك الطمأنينة كمن ترك جميع الصلاة، ولهذا تكمل الفرائض يوم القيامة من ~~النوافل، والعبد ينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، PageV05P243 # إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا ~~تسعها، إلا عشرها (1) . ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش (2) ؛ وليس ~~بمنزلة المفطر، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه ~~الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع. # والمقصود هنا ### | بيان كيف ينفى الإيمان بفعل الكبائر. # وذلك أن الإيمان الواجب لابد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما ~~سواهما، ولابد أن يخشى الله ويخافه، فمن لا يحب الله ورسوله - صلى الله ~~عليه وسلم - ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن، بل قال تعالى: (لا تجد ~~قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ~~آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ~~وأيدهم بروح منه) (3) . وقال تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما ~~أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)) (4) . # فبين سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد المحاد لله ورسوله - صلى الله عليه ~~وسلم -، وأن المؤمن لا يمكن أن يتولى الكافر، والمودة والموالاة تتضمن ~~المحبة، فدل ذلك على أنه لابد في الإيمان من محبة الله ورسوله - صلى الله ~~عليه وسلم - مما ينافي PageV05P244 # محبة من حاد الله ورسوله، ولهذا لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة ~~من عادى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. كقول إبراهيم والذين معه: ~~(قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا ~~وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) (1) . # وفي الصحيحين (2) أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب ~~إليه من والده وولده والناس أجمعين". # وفي صحيح البخاري (3) أن عمر ms0920 بن الخطاب قال: "والله يا رسول الله لأنت ~~أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! ". قال: "لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من ~~نفسك". قال: "فلأنت أحب إلي من نفسي". قال: "الآن يا عمر". # بل أبلغ من ذلك قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم ~~وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها ~~أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ~~والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)) (4) . فهذا وعيد لمن كان أهله الذين ~~يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله. فكيف ~~إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة، فكيف إذا كان هذا وهذا؟ ~~وهو أحب إليه من الله PageV05P245 # ورسوله بدون الجهاد. # فعلم أن الزاني والشارب أبعد عن كون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما من ~~هؤلاء التاركين للجهاد، وإن كانوا يحبون الله ورسوله، لكن لم يقل له: إنها ~~أحب إليه مما سواهما، ولا إنه متصف بذلك وقت الشرب، فقد يتصف العبد ~~بالأحبية في حال دون حال، ولابد في الإيمان من أن يكون الله ورسوله أحب ~~إليه مما سواهما. # ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة؛ فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إما ~~قول القلب الذي هو علمه (1) ، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك. وهذا قول ~~الجهمية ومن تبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب ~~واللسان كالقول المشهور عن المرجئة؛ ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله ~~ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل. # وغلطوا غلطا آخر غلطت الجهمية فيه أعظم، وهو أنهم ظنوا القلب يقوم به ~~الإيمان قياما لا يظهر على الجوارح. فظنوا أن [الإنسان] (2) يقوم بقلبه ~~تصديق تام للرسول، ومحبة تامة للرسول، وهو مع هذا يشتمه ويلعنه ويضربه من ~~غير إكراه، فصاروا لا يجعلون شيئا من الأعمال الظاهرة مستلزما للكفر ~~الباطن، بل يقولون: نحن نحكم بكفره ظاهرا، وقد يكون في الباطن من أولياء ~~الله. PageV05P246 # وغلطوا غلطة ثالثة فقالوا: كل من ms0921 حكم الشارع بكفره في الظاهر (1) فذلك ~~دليل على أنه لم يكن مصدقا في الباطن. # وهذا مكابرة ظاهرة، فصاروا يقولون: إن إبليس وفرعون وعلماء اليهود وأمثال ~~هؤلاء هم في الباطن جاحدون لوجود الخالق لأنه ثبت أنهم ليسوا مؤمنين في ~~الباطن. والإيمان عندهم مجرد علم القلب، فاحتاجوا إلى نفي هذا. # والتحقيق أن الإيمان الباطن المنجي من عذاب الله لابد فيه من قول القلب، ~~وعمل القلب، فلابد فيه من حب الله ورسوله، ولهذا أطلق أكثر السلف القول بأن ~~الإيمان قول وعمل. # وإذا كان القلب فيه تصديق للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبة تامة له ~~فلابد أن يظهر ذلك على الجسد، فإن الإرادة الجازمة مع وجود القدرة تستلزم ~~وجود المقدور، والمحبة الجازمة تتضمن الإرادة الجازمة لتعظيم الرسول ~~وتوقيره. فإذا كان قادرا على ذلك امتنع أن يصدر منه موالاة من عادى الرسول ~~- صلى الله عليه وسلم -، فكيف يصدر منه شتمه وضربه وقتله طائعا غير مكره؟ # وإذا كان كذلك فمعلوم أن الذنوب كالزنا والسرقة وشرب الخمر تتضمن شهوة ~~ذلك ومحبته، فحب الشهوات من الصور والمطاعم والأموال يوقعه في الزنا والشرب ~~والسرقة. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) : PageV05P247 # "أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: الفم والفرج، وأكثر ما يدخل الناس ~~الجنة: تقوى الله وحسن الخلق". # والمحبوب المشتهى يصرف عنه طلب ما هو أحب إلى المرء منه، ويصرف عنه خوف ~~ما يكون دفعه أحب إلى النفس من ذلك المشتهى. # فمن أحب امرأة فأتاه من هو أحب إليه منها، وقيل لا يعطى هذه إلا بترك تلك ~~اشتغل بها عنها، فإن أعطي من المال ما هو أحب إليه منها، أو من الأولاد ما ~~هو أحب إليه منها، على طريق المعاوضة، اشتغل عنها بالضدين اللذين لا ~~يجتمعان، إذا كان أحدهما أحب إليه ترك الآخر لأجله. # وكذلك إذا خاف من مقامه معها ضربا، أو حبسا، أو أخذ مال، أو عزلا، كان ~~دفع هذا المكروه أحب إليه منها المغرم (1) ، وأما المحب الذي لا يؤثر عليها ~~شيئا من هذه المحبوبات، ولا دفع هذه ms0922 المكروهات فهذا لا يتركها لذلك. وإذا ~~كان كذلك فالمؤمن المحب لله ورسوله الذي يحب الله ورسوله أعظم من كل شيء، ~~والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والذي يخشى الله ويخافه إذا عصاه هو في ~~حال حصول حبه التام وخوفه في قلبه لا يفعل شيئا PageV05P248 # من ذلك، بل حب الله ورسوله الذي وجد حلاوته وهو أحب إليه من هذه المنهيات ~~التي يبغضها الله ورسوله، ومتى وقع فيها نقص ذلك الحب وتلك اللذة ~~الإيمانية. # فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة (1) لما قدم عليها لذة تنقصها ~~وتزيلها، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصا لله واجدا لحلاوة العبادة ~~والذكر والمعرفة الصارف قلبه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها، كالمشغول ~~بالجوهر إذا لاحت له قشور البصل، بخلاف ما إذا عدم هذه الحلاوة الإيمانية، ~~فإنه حينئذ يميل إلى شيء من المحرمات، وكذلك إذا كان في قلبه خوف الله ~~التام وهو مؤمن، فإن هذا المحرم سبب يفضي به إلى عذاب الله وعقابه، بل إلى ~~سخطه وغضبه والبعد عنه، فمتى خاف زوال محبوب أحب إليه من ذلك، أو حصول ~~مكروه أكره إليه من ذلك لم [يعد إلى] (2) هذه المحرمات. # فالذنب تارة يعدم لعدم المقتضي، وتارة لوجود المانع، والثاني هو الغالب، ~~فإنه الداعي في النفس، والأول موجود إذا حصل في القلب من حلاوة الإيمان ~~وطيبه ما يغنيه عن الذنب لم يبق له داع، كالجائع الذي أكل من الطعام الطيب ~~ما يغنيه عن الرديء، فإذا شبع لم يبق له داع، بل إذا كان قادرا على هذه كان ~~مكتفيا عن ذلك. # وكذلك العطشان، والنفس مطلوبها ما يسرها ويلذها، فإذا وجدت اللذة والسرور ~~التام في أمر لم تشتغل عنه بما هو دونه في اللذة. PageV05P249 # والإنسان إنما يفعل السيئات القبيحة إما لجهله بقبحها، وإما لحبه الداعي ~~له إلى ذلك، وهو يتضمن حاجته إلى ذلك، فإن المشتهي للشيء من مطعوم أو منكوح ~~أو منظور أو غير ذلك يجد في قلبه فاقة إليه وحاجة إليه، فإذا لم يحصل له ~~بقي في ألم يؤذيه ms0923 بحسب شهوته، فإذا استغنى بما يزيل عنه الشهوة والحاجة لم ~~يبق عنده داع يدعوه إلى ذلك. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : ~~"إذا أعجبت أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن معها مثل ما معها". وفي الدعاء ~~المأثور (2) : "اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك". # والناس إذا وقعوا في البدع والمعاصي نقص عليهم إيمانهم، وإلا فمن كان ~~عالما بالحق قاصدا له أغناه ذلك عن أن يعتقد الباطل ويتبعه. ولهذا كانت ~~الصحابة رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن الذنوب والبدع، لاستغنائهم ~~بالعلم والإيمان بالله [وما] تلقوه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا ~~تجد أحدا وقع في بدعة إلا لنقص اتباعه للسنة علما وعملا. وإلا فمن كان بها ~~عالما، ولها متبعا لم يكن عنده داع إلى البدعة، فإن البدعة يقع فيها الجهال ~~بالسنة، وكذلك الزنا والسرقة وشرب الخمر، إنما يزني من عنده شهوة يطلب ~~قضاءها. # فأما من قضى شهوته بما هو أحب إليه وفترت، فلا يبقى عنده داع، ومن أحب ~~طلب شيء آخر فشهوته لم تقض بل قضي بعضها، PageV05P250 # وقضاء الشهوة إنما هو حصول المطلوب كله، فممتنع معه أن يطلب ما يحصل ما ~~قد حصل. # وكذلك السارق إنما يسرق لما عنده من إرادة المال، ولكن من الناس من لا ~~يقف عند حد، بل لو حصل عنده أي شيء كان أحب الزيادة، ولهذا يسرق وإن لم يكن ~~ثم منافع أخر. # وكذلك شارب الخمر يشربها لما يطلب بها من حصول اللذة وزوال الغم، فإذا ~~كانت اللذة الحاصلة بالصلاة وذكر الله أكمل وهي تصده عن ذلك لم يكن عنده ~~داع إليها. # ومما يبين هذا قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (1) ، مع قول ~~الشيطان: (لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)) (2) ، وقال ~~تعالى في حق يوسف الصديق: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا ~~المخلصين (24)) (3) ، فإن عباده تعالى هم الذين عبدوه وليس المراد كل من ~~خلقه، فإن الشياطين عباد بهذا الاعتبار، بل هذا كقوله تعالى: (وعباد الرحمن ~~الذين يمشون على الأرض هونا ms0924) (4) ، وقوله: (عينا يشرب بها عباد الله) (5) ، ~~وقوله: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) (6) . PageV05P251 # وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدرهم، تعس ~~عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن منع سخط، ~~تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش". # فعبد الله الذي هو عبده لابد أن يكون الله أحب إليه مما سواه، فإن الذين ~~جعلوا لله أندادا يحبونهم كحب الله مشركون لا مؤمنون، والذين آمنوا أشد حبا ~~لله، ولابد أن يكون الله أخوف عندهم مما سواه، ومن كان كذلك صرف عنه السوء ~~والفحشاء كما صرف عن يوسف. # بخلاف المشركين الذين جعلوا لله أندادا يحبونهم كحب الله، فهؤلاء ليسوا ~~عباده، و (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (2) ، فالمشرك به لا يحصل له ~~ما يقر عينه، ويغني قلبه عن الأنداد، بل هذا لا يحصل إلا بعبادة الله وحده. ~~فإن الله سبحانه خلق عباده حنفاء؛ وللسلف في "الحنيف" عبارات، قيل: ~~المستقيم، كقول محمد بن كعب القرظي. والمتبع، كقول مجاهد. والمخلص، كقول ~~عطاء. وأما تفسيره بالمائل فهذا من قول بعض متأخري أهل اللغة، وهو مبسوط في ~~موضع آخر (3) . # وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) ### | : "كل مولود يولد على الفطرة". # وفي رواية (5) : PageV05P252 # "على فطرة الإسلام". فالقلب مخلوق حنيفا مفطورا على فطرة الإسلام، وهو ~~الإستسلام لله دون ما سواه. فهو بفطرته لا يريد أن يعبد إلا الله، فلا ~~يطمئن قلبه ويحصل لذته وفرحه وسروره إلا بأن يكون الله هو معبوده دون ما ~~سواه، وكل معبود دون الله يوجب الفساد، لا يحصل به صلاح القلب وكماله ~~وسعادته المقتضية لسروره ولذته وفرحه، وإذا لم يحصل هذا لا يبقى طالبا لما ~~يلتذ به فيقع في المحرمات من الصور والشرب وأخذ المال وغير ذلك. # ولهذا لما كانت امرأة العزيز مشركة طالبة للفاحشة، ويوسف شاب غريب، ~~فالداعي المطيع معه أقوى، لكن معه من الإيمان ما يصده عن ذلك، وتلك هي ~~وقومها كانوا مشركين، ولهذا قال لهم: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ms0925) ~~إلى قوله: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من ~~دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم ~~إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) (1) . # وما نقله بعض المفسرين من أن زوجها (2) كان لا يصل إليها، وأن يوسف ~~تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز ~~لمسلم أن يصدق به، فإن هذا لم يخبر PageV05P253 # بنقله أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو منقول عن أهل ~~الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا ~~تكذبوهم". لا سيما وقد نقلوا في قصة يوسف أشياء تخالف القرآن، وتلك يجب ~~القطع بأنها كذب، وأما ما لم يعلم صدقه ولا كذبه يتوقف فيه. # وهذه الحكاية كذب؛ فإن هذا خلاف العادة الغالبة على بني آدم، وإنما يقع ~~مثل هذا نادرا ولو وقع لأخبر به. # والمراد لو كان الداعي لها مجرد الشهوة لعدم الزوج لكان في الرجال كثرة، ~~وإذا لم يحصل لها يوسف حصل لها غيره، ومعلوم أن الجائع والشبق إذا طلب ~~غلاما يشتهيه فيتعذر عليه لم يصبر عن الجوع والشبق بل يتناول ما تيسر له، ~~ولهذا يوجد صاحب الشبق يقضي شهوته بأخس ما يمكن، فمن الرجال من يأتي بهيمة ~~وكلبا وحمارا وطيرا، ومن النساء من تمكن منها قردا وحمارا أو غير ذلك لغلبة ~~الشهوة، ومن النساء من تتخذ آلة الرجل على صورة عضو الرجل عند تعذر الرجال ~~إلى أمثال ذلك، فكيف إذا حصل للمرأة رجل، وللرجل امرأة؟ # فعلم أن المرأة هويت يوسف لجماله، لا لكون زوجها لا يأتيها. PageV05P254 # وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف أنه حل سراويله، وأنه رأى صورة يعقوب وغير ~~ذلك، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كذب اليهود. فإن الله ~~تعالى قال: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) (1) . فقد أخبر أنه صرف عنه ~~السوء والفحشاء فلم ms0926 يفعل سوءا ولا فحشاء، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه. ~~ولو كان يوسف قد أذنب لتاب، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة، ولم ~~يذكر عن يوسف توبة، فعلم أنه لم يذنب في هذه القضية أصلا، والله أعلم. إنما ~~أخبر عنه بالهم وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه. # وفي الصحيحين (2) عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ~~يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، ~~فمن هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها ~~كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة ~~فلم يعملها كتبها الله [له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها ~~الله له] سيئة واحدة" (3) . # فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أن من هم بسيئة فلم ~~يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وفي الحديث الآخر (4) قال: "يقول الله: ~~PageV05P255 # اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جرائي". أي: من أجلي. فالعبد إذا هم ~~بالسيئة وتركها لله كان تركها لله حسنة كاملة، ولم يكن عليه إثم بذلك الهم. # فيوسف الصديق لم يفعل قط سيئة، بل هم وترك ما هم به لما رأى برهان ربه، ~~فكتب الله له حسنة كاملة. # وبرهان ربه ما تبين له به ما يوجب الترك، قال الله تعالى: (إن الذين ~~اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم ~~يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (202)) (1) . # فالشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا ~~سماه طائفا، أي: يطيف بالقلب مثل ما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب ~~حينئذ من أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيا ~~لله أمده الله تعالى بنور الإيمان، فذكر ما في الذنب من عذاب الله وسخطه، ~~وما يفوته به من كرامة الله وثوابه. # والبرهان ببصيرة القلب، فيوسف الصديق أبصر برهان ربه بقلبه ms0927، فترك ما هم ~~به كل ذلك. # وأما ما يذكر أنه تمثل له يعقوب في صورة جبريل وأنه عض يده، أو أن جبريل ~~أو يعقوب مسح على ظهره، أو رأى أنه مكتوب (2) = PageV05P256 # فكل هذا لا يجوز لأحد أن يصدق بشيء منه، بل هذا مما يعلم كذبه من وجوه ~~متعددة، فإن من لم يتنبه إلا بهذا يكون من أفجر الناس، فكيف يقال لمن وصفه ~~الله بالعفة والتقوى ما لا يوصف به إلا من هو أفجر الناس؟ # قال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)) ~~(1) . وما ذكر يقتضي أنه لم يصرف عنه إلا الجماع، وإلا فقد فعل مقدماته ~~وحرص عليه، وهذا كالفاعل، ولو حصل لمشرك دون هذا لامتنع من الفاحشة بدون ~~ذلك، بخلاف امتناع يوسف، مع كمال الدواعي فإن هذا لا يعرف لغيره، فإن التي ~~راودته سيدته التي تملكه، وقد استعانت عليه بعد ذلك بالنساء وحبسوه على ذلك ~~بضع سنين، وهو شاب غريب، وزوجها لم ينهها ولم يعاقبها، ولم ينصر يوسف ~~عليها، وهو في بلد غربة ليس هناك أهله الذين يستحي منهم، بل لو أتاها لم ~~يعلم أحد من الناس. # وما يذكر من ### | حكاية مسلم بن يسار # (2) أنه رأى يوسف، قال: "أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم! ". ~~فمسلم رآه بحسب حاله، وفيه دليل على صلاح مسلم، وإلا فأين حال هذا من حال ~~يوسف؟، تلك امرأة بدوية ظلمته في برية ولا حكم لها عليه، وهو شيخ كثير ~~العبادة، فدواعي الزنا منصرفة عنه، وموانعه موجودة، بخلاف يوسف؛ فإن دواعي ~~البشرية كانت تامة في حقه موجودة، PageV05P257 # وصوارف السوء كانت منتفية، وإنما صرف عنه السوء والفحشاء بإخلاصه، وترك ~~ما هم به لما رأى برهان ربه. وهمه الذي تركه كتب له به حسنات كاملة، ولو ~~تساوت القضيتان لكان هو أفضل، فكيف وبينهما من الفرقان ما لا يخفى إلا على ~~العميان؟ # وكثير من المؤمنين يطلب منه الفاحشة، ويراوده من يراوده ويمتنع، لكن لا ~~تجتمع معه هذه الأمور ولا يكون معهودا هذا الضمير (1) ، ولا ms0928 يصبر على حبس ~~بضع سنين= يختار ذلك على فعل ما طلب منه في خلوة عن الوطء لم يمتنع عن ~~مقدماته، ويوسف صرف الله عنه السوء والفحشاء فلم يفعل كبيرة ولا صغيرة، ولا ~~أمرته نفسه بسوء، بل كان ممن رحم الله، فلم تكن نفسه أمارة بسوء، بل امرأة ~~العزيز هي التي كانت نفسها أمارة بالسوء؛ فإنها راودته، وقدت القميص، وكذبت ~~عليه، واستعانت بالنساء ثم حبسته، ولهذا قالت: (أنا راودته عن نفسه وإنه ~~لمن الصادقين (51) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) (2) أي: في مغيبته عني. # وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن قوله: (وما أبرئ نفسي) ~~هو من تمام كلام امرأة العزيز، وكما دل على ذلك القرآن في غير موضع (3) . ~~PageV05P258 # ومن قال إنه من كلام يوسف فقد قال باطلا، والنقولات في ذلك عن ابن عباس ~~ضعيفة بل موضوعة. ولو قدر أنه قال ذلك فبعض ما يخبره هذا وعبد الله بن عمرو ~~من الإسرائيليات كله مما سمعوه من أهل الكتاب، فلا يجوز الاحتجاج به. # والصاحب والتابع فقد ينقل عنهم ما لم يتبين [له أنه كذب، فإن تبين] (1) ~~لغيره أنه كذب لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب، كما قال كثير منهم: إن ~~الذبيح إسحاق، ودلائل الكتاب والسنة وغير ذلك أنه إسماعيل (2) ، وأمثال ~~ذلك. # وكثير من السلف يروي أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إما مسندة ~~وإما مرسلة، فإن كان لم يعلم أنها كذب فيجوز له روايتها، وإن كان غيره ممن ~~علم أنها كذب لا يجوز له روايتها. وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات ~~إذا لم يكن عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو دون المراسيل عن نبينا - ~~صلى الله عليه وسلم - بكثير؛ فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب، والمدة ~~طويلة، وقد علم الكذب فيهم والله أعلم. PageV05P259 ### | فصل # في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر # كلمة لبيد: # ألا كل شيء ماخلا الله باطل # PageV05P261 # فصل # في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ms0929: # ألا كل شيء ماخلا الله باطل # فقد جعل هذه الكلمة أصدق كلمة قالها شاعر، وهذا كقوله: (ذلك بأن الله هو ~~الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (1) ، وقال: (فذلكم الله ربكم الحق ~~فماذا بعد الحق إلا الضلال) (2) ، ونحو ذلك يتناول كل معبود من دون الله من ~~الملائكة والبشر وغيرهم من كل شيء، فهو باطل، وعبادته باطلة، وعابده على ~~باطل، وإن كان موجودا كالأصنام. # و"الباطل" يراد به: الذي لا ينفع عابده، ولا ينتفع المعبود بعبادته. فكل ~~شيء سوى الله باطل بهذا الاعتبار، حتى الدرهم والدينار، كما في الدعاء ~~المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك ~~الكريم" (3) ، فإن كل نفس لابد لها أن تأله إلها هو غاية مقصودها، فكل ما ~~سوى الله باطل، وهو ضال عن عابده، كما أخبر بذلك في كتابه. PageV05P263 # و"الضلال" يراد به الهلاك، كما قال تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض ~~أئنا لفي خلق جديد) (1) قالوا: معناه هلكنا وصرنا ترابا. وأصله من قوله: ضل ~~الماء في اللبن، إذا هلك فيه وتلاشى. فإذا كان الضال في الشيء هالكا فيه، ~~فالضال عنه هالك عنه. ولهذا قال: (ضل سعيهم في الحياة الدنيا) (2) أي: هلك ~~وذهب، وهو بمعنى بطل. # فكل معبود سوى الله فهو باطل وضال، يضل عابده ويضل عنه، ويذهب عنه، وهالك ~~عنه، إلا وجه الله. فعبادة ما سواه فاسدة وباطل وضلال، والمعبود سواه فاسد. # قال مجاهد في قوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) (3) قال: إلا ما أريد به ~~وجهه. وقال سفيان الثوري: إلا ما ابتغي به وجهه. كما يقال: ما يبقى إلا ~~الله والعمل الصالح. وفي الحديث: "الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر ~~الله وما والاه، وعالم ومتعلم" (4) . فأي شيء قصده العبد وتوجه إليه بقلبه ~~أو رجاه أو خافه أو أحبه أو توكل عليه أو والاه، فإن ذلك هالك مهللك، ولا ~~ينفعه إلا ما كان لله. PageV05P264 # وهذا بخلاف قوله: (كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال ~~والإكرام (27)) (1) ، فإنه ms0930 حصر كل من عليها ولم يستثن، مع أن هذا المعنى ~~يدل عليه، فإن جميع الأعمال تفنى، ولا يبقى منها شيء ينفع صاحبه إلا ما كان ~~لوجه ذي الجلال والإكرام، كما قال مالك: ما كان لله فهو يبقى، وما كان لغير ~~الله لا يدوم ولا يبقى. # وقال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) (2) ، ولهذا قيل: الناس ~~يقولون: قيمة كل امرىء ما يحسن، وأهل المعرفة يقولون: قيمة كل امرىء ما ~~يطلب. ومما روي عن بني إسرائيل: "يقول الله: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، ~~ولكني إنما أنظر إلى همته". # وقد روي أن الله سبحانه يقول (3) : "إن أدنى ما أنا صانع بالعالم إذا أحب ~~الدنيا أن أمنع قلبه حلاوة ذكري". وتصديق ذلك في القرآن: (فأعرض عن من تولى ~~عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم) (4) ، وقال: ~~(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (5) . وفي الصحيح ~~(6) حديث الثلاثة الذين أول ما سعرت بهم النار، ذكر منهم العالم الذي يقول: ~~تعلمت العلم فيك وعلمته فيك، فيقال له: PageV05P265 # كذبت، بل أردت أن يقال فلان عالم، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار. ~~ومعاوية لما سمع هذا الحديث بكى وقال: صدق الله وبلغ رسوله، ثم قرأ قوله: ~~(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا ~~يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها ~~وباطل ما كانوا يعملون (16)) (1) . # وكذلك في الحديث في السنن (2) : "من طلب علما مما يبتغى به وجه الله، لا ~~يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يرح رائحة الجنة". وفي الحديث الآخر ~~(3) : "من طلب علما -أو قال: من تعلم علما- ليجاري به العلماء ويماري به ~~السفهاء، ويتأكل به الدنيا، ويصرف به وجوه الناس إليه، لقي الله وهو عليه ~~غضبان". # وفي رواية: "لم يجد عرف الجنة". # وهذا باب واسع قد بسط في غير هذا الموضع، وتكلمنا فيه على آية هود وآية ~~سبحان وآية الشورى وغير ms0931 ذلك من الآيات والأحاديث والآثار في ذم العالم ~~وغيره المريد للدنيا والقالة، وبينا فيه أمارات ذلك، وبينا أن الدين كله ~~لله، وأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، وأن الصحابة والسلف كانوا أخوف الخلق ~~في هذا المقام الخطر. # والمقصود أن هذا العالم لما لم يكن مقصوده إلا الدنيا بما علمه ~~PageV05P266 # من العلم وبما يعلمه، وذلك مما يبتغى به وجه الله، لم يكن له عند الله ~~قيمة، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة، ولم يرتع في رياض الجنة في الدنيا، وهي ~~مجالس الذكر، فلم يرح رائحة الجنة. فالأول طلب العلم لكسب الأموال والجاه، ~~فكان عقوبته أن لا يجد رائحة الجنة. # والثاني طلبه لمقاصد مذمومة من المباهاة والمماراة وصرف وجوه الناس، فكان ~~جنس مطلوبه محرما، فلقي الله وهو عليه غضبان. # والأول جنس مطلوبه مباح، فلم يجد رائحة الجنة في الدنيا، فلم يرتع في ~~رياضها، فقلبه محجوب عنها بما فيه من طلب الدنيا. # وفي حديث مكحول المرسل (1) : "من أخلص لله العبادة أربعين صباحا تفجرت ~~ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وحكي عن أبي حامد قال: أخلصت لله أربعين ~~صباحا فلم يفجر لي شيء، فذكرت ذلك لبعض أهل المعرفة، فقال: إنك لم تخلص ~~لله، وإنما أخلصت للحكمة. # وكذلك الحكاية المشهورة عن الحسن (2) في ذلك الرجل الذي كان يتعبد ليراه ~~الناس وليقال، فكان الناس يذمونه، ثم أخلص لله ولم يغير عمله الظاهر، فألقى ~~الله له المحبة في قلوب الناس، كما قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا ~~الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96)) (3) . PageV05P267 # وإذا كانت العبادة تبقى ببقاء معبودها ف ### | كل معبود سوى الله باطل، # فلا تبقى النفس، بل تضل وتشقى بعبادة غير الله شقاء أبديا، كما قال ~~تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح ~~في مكان سحيق) (1) . إنما كان بقاؤها ببقاء معبودها لأنها مريدة بالذات، ~~فلابد لها من مراد محبوب هو إلهها الذي تبقى ببقائه، فإذا بطل بطلت وتلاشى ~~أمرها، وما ثم باق إلا الله. والأفلاك وما فيها كله يستحيل ms0932، والملائكة ~~مخلوقون يستحيلون، بل ويموتون عند جمهور العلماء. # والعبد ينتفع بما خلق بشيء من حيث هي من آيات الله له فيها، فهي وسيلة له ~~إلى معرفة الله وعبادته، ولو كان العلم هو الموجب لما يطلبه هؤلاء لكان هو ~~العلم بالله، فإنه هو الحق، وما سواه باطل، ومن له من مخلوقاته فالعلم به ~~تابع للعلم بالله، والعلم الأعلى هو العلم بالأعلى. كما قال: (سبح اسم ربك ~~الأعلى (1)) (2) ، فهو رب كل ما سواه، فهو الأصل، فكذلك العلم به سيد جميع ~~العلوم وهو أصل لها. PageV05P268 ### | المسألة الخلافية # في الصلاة خلف المالكية # PageV05P269 # بسم الله الرحمن الرحيم # ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين وعلماء المسلمين -وفقهم الله لطاعته- ~~في رجل يزعم أنه فقيه على مذهب الشافعي، قال للعامة: لا تجوز الصلاة خلف ~~أئمة المالكية، ومن صلى خلف إمام مالكي المذهب لم تصح صلاته، ويلزمه إعادة ~~ما صلى خلف الإمام المالكي. فلما سمع العامة كلامه امتنعوا من الصلاة خلفهم ~~لأجل ما سمعوه منه، وطلبوا فتاوى الأئمة، إما بصحة ما قاله المذكور أو ~~ببطلانه. وإذا لم يصح قوله ماذا يجب عليه؟ وهل على ولي الأمر زجره وردعه ~~ومنعه من ذلك حتى يتعظ به غيره أم لا؟ وإذا ردع وزجر اتعظ به غيره. أفتونا ~~مأجورين. # فأجاب # شيخ الإسلام فريد عصره ونحرير زمانه، المميز على شيوخه وأقرانه، تقي ~~الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين أبي الفضل عبد الحليم ~~بن شيخ الإسلام مجدالدين عبد السلام بن تيمية الحراني، فسح الله في عمره: ~~الحمد لله وحده. إطلاق هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق ~~مطلقه التعزير البليغ، فإن فيه من إظهار الاستخفاف بحرمة هؤلاء الأئمة ~~السادة ما يوجب غليظ العقوبة، ويدخل صاحبه # PageV05P271 # في أهل البدع المضلة. فإن مذهب الإمام الأعظم مالك بن أنس -إمام دار ~~الهجرة ودار السنة، المدينة النبوية التي سنت فيها السنن، وشرعت فيها ~~الشريعة، وخرج منها العلم والإيمان- هو من أعظم المذاهب قدرا، وأجلها ~~مرتبة. حتى تنازعت الأمة في إجماع أهل المدينة هل هو ms0933 حجة أم لا؟ ولم ~~يختلفوا في أن إجماع أهل مدينة غيرها ليس بحجة. والصحيح أن إجماعهم في زمن ~~الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أمير المؤمنين عليا -رضي الله ~~عنهم- انتقل عنها إلى الكوفة. وفيما نقلوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~كالصاع وترك صدقة الخضرات ونحو ذلك حجة يجب اتباعها. # وكذلك الصحيح أن اجتهاد أهل المدينة في ذلك الزمن مرجح على اجتهاد غيرهم، ~~فيرجح أحد الدليلين بموافقة عمل أهل المدينة. # وهذا مذهب الشافعي، وهو المنصوص عن الإمام أحمد وقول محققي أصحابه. # وكان لمالك بن أنس -رحمه الله- من جلالة القدر عند جميع الأمة، أمرائها ~~وعلمائها ومشايخها وملوكها وعامتها، من القدر ما لم يكن لغيره من نظرائه، ~~ولم يكن في وقته أجل عند الأمة منه. وقد روي حديث نبوي (1) ، وفسر به. ومن ~~جاء بعده من الأئمة -رحمهم الله- PageV05P272 # مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فهم أشد الناس تعظيما لأصوله ~~وقواعده، ومتابعة له فيها. وهم متفقون على أن مذاهب أهل المدينة رأيا ~~ورواية أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية في ذلك الوقت. # وكيف يستجيز مسلم يطلق مثل هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلف الأمة من ~~الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في بعض فروع الفقه، ~~وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها. ومن نهى بعض الأمة عن الصلاة خلف بعض ~~لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد؛ فهو من جنس أهل البدع والضلال ~~الذين قال الله فيهم: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) ~~(1) ، وقال الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (2) ، وقال ~~تعالى: (لا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (3) ، ~~إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن ~~الفرقة والاختلاف. # ودلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر -إمام الصلاة، ~~والحاكم، وأمير الحرب والفيء، وعامل الصدقة- يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس ~~عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم ms0934 ~~لرأيه، فإن مصلحة PageV05P273 # الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية. ~~ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض. # وشبهة هذا المتفقه وأمثاله، ممن قد سمع بعض غلطات بعض الفقهاء، فيما إذا ~~ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، أو فعل ما يعتقد المأموم فسادها به، ~~فإن من الناس من قد يطلق القول ببطلان صلاة المأموم مطلقا، ومنهم من لا ~~يصحح الصلاة خلف من لا يأتي بالواجبات حتى يعتقد وجوبها. # وهذه الاطلاقات خطأ مخالف للإجماع القديم، ولنصوص الأئمة المتبوعين. مثال ~~ذلك: أن يصلي المأموم خلف من ترك الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين ~~كالدم، أو خلف من ترك الوضوء من مس الذكر، أو ترك الوضوء من القهقهة، ويكون ~~المأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك، أو يكون الإمام قد ترك قراءة البسملة، أو ~~ترك الاستعاذة، أو ترك الاستفتاح، أو ترك تكبيرات الانتقال، أو تسبيحات ~~الركوع والسجود، ويكون المأموم يرى وجوب ذلك. # فالصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض، وهذا مذهب الأئمة، وإن ~~كان قد يحكى عن بعضهم خلاف في بعض ذلك. # فهذا الشافعي -رضي الله عنه- كان دائما يصلي خلف أئمة المدينة وأئمة مصر، ~~وكانوا إذ ذاك مالكية لا يقرأون البسملة سرا ولا جهرا، ولو سمع الشافعي من ~~يطعن في صلاته خلف مشايخه مالك وأقرانه، وهو دائما يفعل ذلك؛ لحكم عليه ~~بالضلال، وعده هو وسائر الأمة بعد ذلك خلافا للإجماع. # PageV05P274 # والإمام أحمد يرى الوضوء من الدم الكثير، فقيل [له] : فإن كان الإمام لا ~~يتوضأ من ذلك، أأصلي خلفه؟ قال: سبحان الله! # أتقول: إنه لا يصلى خلف سعيد بن المسيب، وخلف مالك بن أنس، أو كما قال. ~~يعني أن هؤلاء الأئمة الذين اجتمعت الأمة على الصلاة خلفهم؛ كانوا لا ~~يتوضؤون من الدم من غير السبيلين. # وكذلك أبو يوسف -فيما أظن- لما حج مع هارون الرشيد، فاحتجم الخليفة، ~~فأفتاه مالك أنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف: أصليت خلفه؟ فقال: ~~سبحان الله! أمير المؤمنين!؟ # يريد بذلك أن ms0935 ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل [أهل] البدع، كالرافضة ~~والمعتزلة والخوارج. # فهذه النصوص وأمثالها عن هؤلاء الأئمة تخالف من يطلق من الحنفية ~~والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح ~~اقتداؤه به. # يوضح ذلك أن مذهب عامة أئمة الإسلام -مثل مالك والشافعي وأحمد- أن الإمام ~~إذا ترك الطهارة ناسيا، مثل أن يصلي وهو جنب أو محدث ناس لحدثه، ثم تذكر ~~بعد صلاته؛ فإن صلاة المأموم صحيحة، ولا قضاء عليه. وهذا هو المأثور عن ~~الخلفاء الراشدين مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما من الصحابة. ف ### | الإمام إذا كان مخطئا في نفس الأمر كان بمنزلة الناسي، # وقد دل الكتاب والسنة (1) أن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. ~~فإذا كانت PageV05P275 # صلاة المأموم تصح خلف إمام تجب عليه الإعادة؛ فخلف إمام لا تجب عليه ~~الإعادة أولى. # وذلك أن صلاة المأموم إن لم تكن مرتبطة بصلاة الإمام، بل كل منهم يصلي ~~لنفسه؛ فلا محذور. وإن كانت مرتبطة؛ فالإمام معفو عنه في موارد الاجتهاد، ~~فصلاته أيضا باجتهاد صحيحة عند المأموم. # وإنما ### | غلط الغالط في هذا الأصل # بحيث يتوهم أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وليس كذلك، فإنه إذا صلى ~~باجتهاده السائغ؛ لم يكن في هذه الحال محكوما ببطلان عبادته، بل بصحتها، ~~كما يحكم بصحة حكمه في موارد الاجتهاد حتى يمنع نقضه. # فأما فعل المحظورات ناسيا فأسهل، فإن أكثر الأئمة -مثل مالك والشافعي ~~وأحمد في إحدى روايتيه- لا يرون الكلام في الصلاة ناسيا يبطل الصلاة، ولا ~~يوجب الإعادة، فالإمام إذا فعل محظورا متأولا؛ فالمخطىء كالناسي. وإذا لم ~~تجب الإعادة عليه فكيف لا يصح الائتمام به؟ PageV05P276 # وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم ~~وعليهم". وهذا نص صريح في أن الإمام إذا أخطأ كان خطؤه عليه لا على ~~المأموم، والمجتهد غايته أن يكون أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجبا، أو ms0936 ~~فعل محظور اعتقد أنه ليس محظورا. ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ~~يخالف هذا الحديث الصحيح الصريح بعد أن يبلغه. # وقد روى الإمام أحمد (2) وأبو داود (3) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه ~~قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أم الناس فأصاب ~~الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم". # وروى ابن ماجه (4) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول: "الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء - يعني: ~~فعليه ولا عليهم". # وهذه السنة الصحيحة الصريحة قد اتصل بها الإجماع القديم، وعمل بها زمن ~~القرون الثلاثة الفاضلة في جميع الأمصار، فإنه قد كان في عهد الصحابة من ~~يقرأ البسملة سرا، ومن يقرأ بها جهرا، PageV05P277 # ومن لا يقرأ بها سرا ولا جهرا، وكل منهم يصلي خلف الآخر وإن كان يرجح ~~قوله. # ومن أجود ما احتج به من يرى الجهر بالبسملة حديث معاوية (1) ، لما قدم ~~المدينة فترك قراءة البسملة في الركعة الأولى في أول الفاتحة وأول السورة، ~~حتى هتف به الصحابة فقرأها في الركعة الثانية. وقد اعتمد الشافعي على هذا ~~الأثر في "الأم"، وفيه إجماع أولئك الصحابة على الصلاة خلفه وإن كان قد ترك ~~ذلك، وإن كانوا قد أنكروا تركه. # ومن قال من المتفقهة أتباع المذاهب: إنه لا يصح اقتداؤه بمن يخالفه إذا ~~فعل أو ترك شيئا يقدح في الصلاة عند المأموم؛ فقود مقالته يوقعه في مذاهب ~~أهل الفرقة والبدعة، من الروافض والمعتزلة والخوارج، الذين فارقوا السنة، ~~ودخلوا في الفرقة والبدعة. # ولهذا آل الأمر ببعض الضالين إلى أنه لا يصلي خلف من يرفع يديه في ~~المواطن الثلاثة، والآخر لا يرى الصلاة خلف من ترك الرفع أول مرة، وآخر لا ~~يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من ~~يسير النجاسة المعفو عنها عنده، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضا أن ~~لا يصلي أهل PageV05P278 # المذهب الواحد ms0937 بعضهم خلف بعض، ولا يصلي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو ~~بكر خلف عمر، ولا علي خلف عثمان، ولا يصلي المهاجرون والأنصار بعضهم خلف ~~بعض. # ولا يخفى على مسلم أن هذه من مذاهب أهل الضلال، وإن غلط فيها بعض الناس. ~~فهذه الفتوى لا تحتمل بسط هذا الأصل العظيم الذي هو جماع الدين. # والواجب على ولاة الأمور المنع من هذه البدع المضلة، وتأديب من يظهر شيئا ~~من هذه المقالات المنكرة، وإن غلط فيها غالطون، فموارد النزاع إذا كان في ~~إظهارها فساد عام؛ عوقب من يظهرها، كما يعاقب من يشرب النبيذ متأولا، وكما ~~يعاقب البغاة المتأولون، لكف الجماعة، وان الناس (1) بعضهم عن البعض. # وهذه الأصول الثلاثة التي يشتمل عليها هذا الواجب: (أن موارد الاجتهاد ~~معفو فيها عن الأئمة، وأن الاجتماع والائتلاف مما تجب رعايته، وأن عقوبات ~~المعتدين متعينة) هي من أجل أصول الإسلام. # وقد أخرجا في الصحيحين (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه عام الخندق: "لا يصلين أحد PageV05P279 # العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي ~~إلا في بني قريظة، فصلوا بعد الغروب، وقال آخرون: لم يرد منا توقيت الصلاة، ~~فصلوا في الطريق. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعب على ~~واحدة من الطائفتين. فقد أقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على اجتهادهم ~~في حياته، فبعد وفاته أولى وأحرى. والحمد لله وحده. # (تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري ~~الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين) . # PageV05P280 ### | رسالة إلى السلطان الملك المؤيد # PageV05P281 # بسم الله الرحمن الرحيم # من أحمد بن تيمية إلى المولى السيد السلطان الملك المؤيد، أيده الله ~~بتكميل القوتين النظرية والعلمية، حتى يبلغه أعلى مراتب السعادة الدنيوية ~~والأخروية، ويجعله ممن أتم عليه نعمه الباطنة والظاهرة، وأعطاه غاية ~~المطالب الحميدة في الدنيا والآخرة، وجعله مع الذين أنعم عليهم من النبيين ~~والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. # ففي الهدى كمال ms0938 القوة العلمية، وفي الرشاد كمال القوة العملية، وبهما ~~أخبر أنه أرسل رسوله حيث قال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره ~~على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28)) (1) . # فالهدى يتضمن كمال القوة العلمية، ودين الحق يتضمن كمال القوة العملية. # وقد نزهه عن ضد ذلك في مثل قوله: (والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما ~~غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)) (2) . # فنزهه عن "الضلال" المناقض للهدى، وهو النقص في القوة العلمية، وعن ~~"الغي" المناقض للرشاد، وهو النقص في القوة العملية. PageV05P283 # ثم أخبر بكماله فيهما بقوله (وما ينطق عن الهوى (3)) وهو هوى النفس ~~المفسد للقوة العملية، (إن هو إلا وحي يوحى (4)) وهو أعلى مراتب إعلام الله ~~لعباده، وإن كان أهله متفاضلين فيه. # فكمال التنزه عن الخطأ للأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهم فيه ~~متفاضلون، كما قال تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) (1) ، وقال ~~تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ~~وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) (2) . # وقد استوعب سبحانه أنواع جنس تكليمه لعباده في قوله تعالى: (وما كان لبشر ~~أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما ~~يشاء) (3) ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع: # الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يقظة ومناما، فإن رؤيا الأنبياء ~~وحي. # والتكليم من وراء حجاب، كما كلم موسى بن عمران حيث نادا وقربه نجيا. # والتكليم بإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء هو تكليمه بواسطة إرسال الملك، ~~كما قال تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18)) ~~(4) ، أي علينا أن نجمعه في قلبك، ثم علينا أن نقرأه PageV05P284 # بلسانك. وهذا على أظهر القولين، وهو أن "قرأ" بالهمزة من الظهور والبيان، ~~وقولهم: ما قرأت الناقة بسلا جزور قط، أي ما أظهرته، بخلاف "قرى يقري" فإنه ~~من الجمع، ومنه سميت القرية قرية، والمقراة مجتمع الماء. # فقوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه) أي قرأناه بواسطة ~~جبريل (فاتبع قرآنه (18)) . وهذا ms0939 كقوله تعالى: (نتلوا عليك من نبإ موسى ~~وفرعون) (1) ، وإنما ذلك بتوسط قراءة جبريل وتلاوته، كقوله: (أو يرسل رسولا ~~فيوحي بإذنه ما يشاء) (2) . فإن هذا قد جعله سبحانه أحد أنواع الجنس العام ~~المقسوم، وهو تكليم الله لعباده، ولهذا قال عبادة بن الصامت: رؤيا المؤمن ~~كلام يكلم به الرب عبده في منامه. # وأدنى مراتب ذلك الوحي المشترك: الذي يكون لغير الأنبياء، كقوله: (وإذ ~~أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) (3) ، وقوله: (وأوحينا إلى أم ~~موسى أن أرضعيه) (4) . # وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجه في النبوة من الفلاسفة من أدرجه، كابن ~~سينا وأمثاله، فإن أرسطو وأتباعه القدماء ليس لهم في النبوة كلام، إذ كان ~~أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني PageV05P285 # الذي يؤرخ له التاريخ الرومي، وبه يؤرخ كثير من اليهود والنصارى، وكان ~~قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة. وبعد المسيح بنحو ثلاثمائة سنة ~~كان قسطنطين الذي أقام دين النصارى بالسيف، وفي عهده أحدثوا الأمانة وتعظيم ~~الصليب واستحلال الخنزير والقول بالتثليث والأقانيم بمجمعهم الأول المسمى ~~بمجمع نيقية. # وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهب إلى أرض الفرس وغير ممالكهم، وليس هو ~~ذا القرنين المذكور في القرآن، الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، فإن هذا كان ~~متقدما على ذلك، وكان موحدا مسلما. # والمقدوني لم يصل إلى تلك الأرض، وكان هو وقومه مشركين يعبدون الهياكل ~~العلوية والأصنام الأرضية، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلت إليهم دعوة المسيح ~~عليه الصلاة والسلام، فأسلم منهم من أسلم، وكانوا متبعين لدين المسيح الحق، ~~إلى أن بدل منه ما بدل. # وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائر البحر، لم يصل إليهم من أخبار إبراهيم ~~وآل إبراهيم -كموسى بن عمران وغيره- ما عرفوا به حقيقة النبوة، ولهذا كان ~~أرسطو أول من قال بقدم الأفلاك من هؤلاء، بخلاف من قبله كأفلاطون وشيخه ~~سقراط، وشيخ سقراط فيثاغورس، وشيخ فيثاغورس انبدقلس، فإن هؤلاء كانوا ~~يقولون بحدوث صورة الفلك، ولهم في المبادىء كلام طويل قد بسطناه في الكتاب ~~الكبير (1) الذي ذكرنا فيه مقالات العالم في مسألة PageV05P286 # حدوث العالم ms0940 وقدمه، فإنها منشأ نزاع الأولين والآخرين في أقوال الرب ~~وأفعاله، وعنها تنازع أهل الملل من المسلمين وأهل الكتاب في كلام الرب: هل ~~هو قديم النوع أو العين؟ وهل هو قائم به أو مباين له؟ وهل يتكلم بقدرته ~~ومشيئته أو هو لازم له لزوم الحياة؟ # وكذلك تنازعوا في دوام الحدوث ووجود ما لا يتناهى منها في الماضي ~~والمستقبل: هل هو ممتنع في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهم وأبو الهذيل، ~~أو هو جائز في المستقبل ممتنع في الماضي؟ كما يقوله كثير من المتكلمين، أم ~~هو جائز فيهما، كما يقوله أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة، لكن أئمة أهل ~~الملل لا يجوزون ذلك إلا في قديم واحد، لا يجوزون أن يكون شيئان كل منهما ~~قديم أزلي يقوم به حوادث لا بداية لها ولا نهاية، فيكون ما لا يتناهى لا في ~~الماضي ولا في المستقبل قابلا لأن يزاد عليه. # وهذا المحال إنما يلزم من قال بقدم الأفلاك، وأما أئمة أهل السنة ~~-كالصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم من أئمة المسلمين- فهؤلاء ~~أتوا بخلاصة المعقول والمنقول، إذ كانوا عالمين بأن كلا من الأدلة السمعية ~~والعقلية حق، وأنها متلازمة، فمن أعطى الأدلة العقلية اليقينية حقها من ~~النظر التام علم أنها موافقة لما أخبرت به الرسل، ودلته على وجوب تصديق ~~الرسل فيما أخبروا به. ومن أعطى الأدلة السمعية حقها من الفهم علم أن الله ~~أرشد عباده في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية، التي بها يعلم وجود ~~الخالق وثبوت صفات الكمال له، وتنزهه عن النقائص وعن أن يكون له مثل في شيء ~~من صفات الكمال، و [التي تدل] على # PageV05P287 # وحدانيته ووحدانية ربوبيته ووحدانية إلهيته، وعلى قدرته وعلمه وحكمته ~~ورحمته، وصدق رسله ووجوب طاعتهم فيما أوجبوا وأمروا، وتصديقهم فيما أعلموا ~~به وأخبروا، وأنهم كملوا بما أوتوا من الهدى ودين الحق للعباد ما كانت تعجز ~~مجرد عقولهم عن بلوغه. # إذ كانت ### | طرق العلم ثلاثة: الحس، والنظر، والخبر. # فأتباعهم جمع الله لهم غاية الفضائل العلمية والعملية، ولهذا كانت أمة ~~محمد - صلى ms0941 الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس، فإن الله جمع لهم من ~~الفضائل ما فرقه في غيرهم من الأمم، فجمعوا إلى ما خصهم الله به ما كان عند ~~غيرهم من أهل الكتاب ومن فلاسفة اليونان والفرس والهند وغيرهم. # ولما كان سلف هذه الأمة عالمين بغايات العلوم العقلية والسمعية وعلموا ~~تلازمهما، لم يكن بينهم تنازع ولا تعارض. وقد أخبر الله في كتابه بما دل به ~~على أن كلا من العقل والسمع يوجب النجاة، فقال تعالى عن أهل النار: (وقالوا ~~لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10)) (1) ، وقال تعالى: (أفلم ~~يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا ~~تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)) (2) ، وقال تعالى: (إن ~~في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (3) . ~~PageV05P288 # فدل على أن مجرد العقل يوجب النجاة وكذلك مجرد السمع، [و] معلوم أن السمع ~~لا يفيد دون العقل، فإن مجرد إخبار المخبر لا يدل إن لم يعلم صدقه، وإنما ~~يعلم صدق الأنبياء بالعقل، لكن طائفة من أهل الكلام ظنوا أن دلالة السمع ~~إنما هي من جهة المخبر فقط، وقد علموا أن الخبر لا يفيد إن لم يعلم بالعقل ~~صدق المخبر، فجعلوا دلالة العقل خارجة عما جاءت به الأنبياء. # وأما حذاق المتكلمين فعلموا أن ### | الرسول بين للناس الأدلة العقلية # التي بها يعرف إثبات الصانع وتوحيده وصفاته وصدق رسوله، وعلموا أنه لا ~~يكون عالما بالكتاب والسنة إلا من علم ما فيهما من الأدلة العقلية التي تدل ~~على المطلوب، مثل العلم بصدق المخبر، وأن الله إنما بعث رسولا إلى الخلق ~~ليهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، ~~ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن. إذ بعثه بالهدى ~~ودين الحق، وقد أكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة. # وقد تضمنت رسالته ما به يعلم ذلك من الأدلة العقلية، وإلا فمجرد إخبار ~~المخبر قبل العلم بصدقه لا يفيد علما. وكذلك الأدلة العقلية لا ms0942 يكون الناظر ~~فيها قد أعطاها حقها حتى تدله على صدق الرسول، فإن الأدلة العقلية اليقينية ~~مستلزمة لذلك، وثبوت الملزوم بدون ثبوت اللازم محال. ولهذا قال أهل النار ~~لما قيل لهم (ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى) (1) الآية إلى (السعير (11)) . ~~فدل ذلك على PageV05P289 # أنهم كذبوا الرسل فاستحقوا العذاب، ودل على أنهم لم يكونوا يعقلون، وأنهم ~~لو عقلوا لصدقوا الرسل. # فلما كان السلف عالمين بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنها متلازمة، ~~علموا أنه يمتنع أن تكون متعارضة، فإن الأدلة القطعية اليقينية يمتنع ~~تعارضها، لوجوب ثبوت مدلولها، فلو تعارضت لزم إما الجمع بين النفي ~~والإثبات، وإما رفعهما. والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. لكن جاء بعدهم ### | من أهل الكلام من قصر في معرفة ما جاء به الرسول وما يوجبه النظر المعقول، # فظنوا في أقوال الرب وأفعاله في مسألة حدوث العالم وغيرها ظنونا مخطئة، ~~ليست مطابقة لخبر الرسل ولا لموجب العقل، وصار يظن من لا يعرف دين الرسل أن ~~هذا هو دينهم، ورأوا في ذلك ما يناقض صريح العقل. # فكان هذا من أسباب اضطراب الناس في أمر الرسل: # فطائفة تقول: إنما جاءوا في العلوم الإلهية بطريق التخييل وخطاب الجمهور. # وطائفة تقول: بل جاءوا بطريق لا يدل على المقصود، بل يشعر بنقيضه، ليعرف ~~الناس الحق بأنفسهم لا من جهة الأنبياء. ثم يتأولون ما قالته الأنبياء على ~~ما عندهم. # وطائفة تقول: فيما جاءت به الأنبياء متشابه لا يعلم معناه لا الأنبياء ~~ولا غيرهم، ظنوا أن الوقف على قوله (وما يعلم تأويله إلا الله) (1) ، وأنه ~~إذا كان الوقف على هذا فالمراد بالتأويل صرف اللفظ PageV05P290 # عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. وصار من هؤلاء من يقول: هذه ~~الألفاظ تجرى على ظاهرها، ولا يعلم تأويله إلا الله، فيجمع بين النقيضين. # ولم يعلموا أن لفظ "التأويل" بحسب تعدد الاصطلاحات صار مشتركا في ثلاثة ~~معان: # معناه في القرآن هو ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره، كقوله تعالى: ~~(هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ~~ربنا ms0943 بالحق) (1) . وهذا التأويل لا يعلمه إلا الله، كوقت الساعة. # ويراد بالتأويل نفس الكلام وما قصد إفهام الناس إياه، وهذا التأويل يعلمه ~~الراسخون في العلم. ولا يجوز أن ينزل الله كتابا يأمر بتدبره وعقله، وقد ~~فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كله للمسلمين، ويكون فيه ما لا ~~يعلم تفسيره لا النبي ولا أحد من أمته. # ويراد بالتأويل تحريف الكلم عن مواضعه، وتفسير الكلام بغير مراد المتكلم، ~~كتحريف أهل الكتاب لما حرفوه من الكتاب، وتحريف الملاحدة وأهل الأهواء لما ~~حرفوه من معاني هذا الكتاب. وهذا تأويل باطل يعلم الله أنه باطل، لا أنه ~~يعلم أنه حق، كما قال تعالى: (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا ~~في الأرض) (2) . فإنه سبحانه PageV05P291 # يعلم الأشياء على ما هي عليه، يعلم الموجود موجودا والمعدوم معدوما، فما ~~كان معدوما لا يعلمه موجودا. وهذا باب واسع. # والسلطان -أيده الله وسدده- هو من أحق من تجب معاونته على مصالح الدنيا ~~والآخرة، لما جمع الله فيه من الفضائل والمناقب. # وكان من أسباب هذه التحية أن فلانا قدم، ولكثرة شكره للسلطان وثنائه عليه ~~ودعائه له حتى في الأسحار وغيرها يكثر المفاوضة في محاسن السلطان، ويجدد ~~بحضوره للسلطان من الثناء والدعاء ما هو من بشرى المؤمن، كما قالوا: يا ~~رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل ~~بشرى المؤمن" (1) . # فالسلطان جعل الله فيه من الاشتمال على أهل الاستحقاق ما يأجره الله ~~عليه. وفلان هذا من خيار الناس وأصدقهم وأنفعهم، ومن بيت معروف، وقد جعل ~~الله فيه من المحبه والثناء على السلطان ما هو من نعم الله عليه، وهو من ~~أهل الخير والدين معروف، فجمع الله بسببه للسلطان قلوبا تحب السلطان وتدعو ~~له. والله تعالى يجمع له خير الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله ~~وبركاته، وعلى سائر من يحيط به العناية الكريمة. والحمد لله رب العالمين. ~~PageV05P292 ### | رسالة إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار # PageV05P293 # بسم الله الرحمن الرحيم # (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره ms0944 على الدين كله ولو كره ~~المشركون (33)) (1) . # (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (10) ~~تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم ~~إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ~~ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (12) وأخرى تحبونها نصر من الله ~~وفتح قريب وبشر المؤمنين (13) يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما ~~قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار ~~الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم ~~فأصبحوا ظاهرين (14)) (2) . # (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم ~~إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في ~~الآخرة إلا قليل (38) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ~~ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير (39) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ ~~أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن ~~الله معنا فأنزل الله سكينته عليه PageV05P295 # وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ~~والله عزيز حكيم (40) انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في ~~سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41)) (1) . # إلى سلطان المسلمين، نصر الله به الدين، وقمع به الكفار والمنافقين، وأعز ~~به الجند المؤمنين، وأدالهم به على القوم المفسدين. # سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا ~~هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلي على محمد عبده ~~ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. # أما بعد، فإن الله قد تكفل بنصر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهوره على ~~الدين كله، وشهد بذلك، وكفى بالله شهيدا. وأخبر الصادق المصدوق - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ~~إلى يوم القيامة (2) ، وأخبر أنهم ms0945 بالناحية الغربية عن مكة والمدينة (3) ، ~~وهي أرض الشام وما يليها. # كما أخبرنا أنه لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا (4) الترك، قوما صغار ~~PageV05P296 # الأعين دلف الآنف، ينتعلون الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة (1) . # وأخبر (2) أن أمته لا يزالون يقاتلون الأمم حتى يقاتلوا الأعور الدجال، ~~حين ينزل عيسى بن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل ~~المسلمون جنده القادم معه من يهود أصبهان وغيرهم. # وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة ~~سنة من يجدد دينها (3) . ولا يكون التجديد إلا بعد استهدام. # وقال: "سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها، ~~وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة، فأعطانيها" (4) . # وما زالت دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - تظهر شيئا بعد شيء. وقد ~~أظهر الله في هذه الفتنة (5) من رحمته بهذه الأمة وجندها ما فيه عبرة، حيث ~~ابتلاهم بما يكفر به من خطاياهم، ويقبل بقلوبهم على ربهم، ويجمع كلمتهم على ~~ولي أمرهم، وينزع الفرقة والاختلاف من بينهم، PageV05P297 # ويحرك عزماتهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله. # فان هذه الفتنة التي جرت، وإن كانت مؤلمة للقلوب، فما هي -إن شاء الله- ~~إلا كالدواء الذي يسقاه المريض ليحصل له الشفاء والقوة. وقد كان في النفوس ~~من الكبر والجهل والظلم ما لو حصل معه ما تشتهيه من العز لأعقبها ذلك بلاء ~~عظيما. فرحم الله عباده برحمته التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف ~~لعامة المسلمين شرقا وغربا حقيقة حال هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة ~~الإسلام وإن تكلموا بالشهادتين، وعلم من لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل ~~والظلم والنفاق والتلبيس والبعد عن شرائع الإسلام ومناهجه، وحنت إلى ~~العساكر الإسلامية نفوس كانت معرضة عنهم، ولانت لهم قلوب كانت قاسية عليهم، ~~وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته مالم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابت ~~نفوس أهل الإيمان ببذل النفوس والأموال للجهاد في سبيل الله، وأعدوا العدة ~~لجهاد عدو الله وعدوهم، وانتبهوا من سنتهم، واستيقظوا من ms0946 رقدتهم، وحمدوا ~~الله على ما أنعم به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من ~~الأموال للإنفاق في سبيل الله. # فإن الله فرض على المسلمين الجهاد بالأموال والأنفس، والجهاد واجب على كل ~~مسلم قادر، ومن لم يقدر أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بماله إن كان له مال ~~يتسع لذلك، فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس. ومن كنز الأموال عند ~~الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء ~~أو التجار أو الصناع أو الجند أو غيرهم، فهو داخل في قوله سبحانه (والذين ~~يكنزون الذهب # PageV05P298 # والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها ~~في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ~~ما كنتم تكنزون (35)) (1) ، خصوصا إن كانت الأموال من أموال بيت المال، أو ~~أموال أخذت بالربا ونحوه، أو لم تؤد زكاتها ولم تخرج حقوق الله منها. # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحض المسلمين على الإنفاق في سبيل ~~الله، حتى إنه في غزاة تبوك حضهم، وكان المسلمون في حاجة شديدة، فجاء عثمان ~~بن عفان بألف راحلة من ماله في سبيل الله بأحلاسها وأقتابها، وأعوزت خمسين ~~راحلة فكملها بخمسين فرسا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ضر ~~عثمان ما فعل بعد اليوم" (2) . # وذم الله المخلفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذم حين قال: (قل إن ~~كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة ~~تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ~~فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)) (3) . ~~وقال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما PageV05P299 # ويستبدل قوما غيركم) (1) . # ف ### | من ترك الجهاد عذبه الله عذابا أليما بالذل وغيره، # ونزع الأمر منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذب عنه. # وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالجهاد، فإنه باب ~~من أبواب الجنة (2) ، يذهب الله به عن النفوس الهم والغم" (3) . وقال - صلى ~~الله عليه وسلم - (4) : "لن يغلب اثنا ms0947 عشر ألفا من قلة وقتال، واعلم أن ~~النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا". # ومتى جاهدت الأمة عدوها ألف الله بين قلوبها، وإن تركت الجهاد شغل بعضها ~~ببعض. # ومن نعم الله على الأمة أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إن ~~المؤمنين من أهل المشرق قد تحركت قلوبهم انتظارا لجنود الله، وفيهم من نوى ~~أنه يخرج مع العدو إذا جمعوا، ثم إما أن يقفز عنهم وإما أن يوقع بهم. ~~والقلوب الساعة محترقة مهتزة لنصر الله ورسوله على القوم المفسدين، حتى إن ~~بالموصل PageV05P300 # والجزيرة وجبال الأكراد خلقا عظيما مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء ~~تحرك العدو أو لم يتحرك. # وكذلك قدمت (1) بنت بيدرا (2) وكانت مأسورة في بيت قازان (3) ، فأخبرت ~~بما جرى بينه وبين أخيه وأمه مما يؤيد ذلك، وهي الساعة في نيتها تذهب إلى ~~مصر، وقد أقامت في بيتهم مدة إلى نصف شوال على ما ذكرت. # وسواء ألقى الله بينهم الفرقة والاختلاف وأهلك رؤساءهم أو لم يكن، فإن ~~الأمر إذا كان كذلك فهذا عون عظيم من الله للمسلمين. # وقد اتصل بالداعي أخبار صادقة من جهات يوثق بها بما قد مال مع المسلمين ~~من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولابد أن السلطان يطالع بذلك من تلك ~~البلاد، فإن هناك قوم صالحون (4) ساعون في مصالح المسلمين، كشيخ الجزيرة ~~الشيخ أحمد. # وجاءتنا أخبار مع غير واحد بأن الخربندا أخا قازان (5) قد قدم الروم وهو ~~يجمع العساكر للقدوم. وقدمت بنت لبيدرا كانت مأسورة في بيت قازان (5) ، ~~وذكرت أحوالا من الكلام بين قازان (5) وأخيه الخربندا وأمه، تدل على ذلك، ~~وأن الخربندا هو في نية فاسدة PageV05P301 # للمسلمين، وأمه تنهاه عن ذلك، وهو لا يقبل، ويوقع بينهم فتنة. # فليس من الواجب أن يترك نصر الله ورسوله والجهاد في سبيل الله إذا كان ~~عدو الله وعدو المسلمين قد وقع البأس بينهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة، ~~ولا يحل للمسلمين أن ينتظروهم حتى يطأوا بلاد المسلمين كما فعلوا عام أول، ~~فإن النبي - صلى الله ms0948 عليه وسلم - قال: "ما غزي (1) قوم في عقر دارهم إلا ~~ذلوا" (2) . # والله قد فرض على المسلمين الجهاد لمن خرج عن دينه وإن لم يكونوا ~~يقاتلونا، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يجهزون الجيوش إلى ~~العدو وإن كان العدو لا يقصدهم، حتى إنه لما توفي رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا، ~~نفذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيش أسامة بن زيد الذي كان قد أمره رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك ~~في غاية الضعف. # فلما رآهم العدو فزعوا وقالوا: لو كان هؤلاء ### | .... # (3) ما بعثوا جيشا. # وكذلك أبو بكر الصديق لما حضرته الوفاة قال لعمر بن الخطاب: لا يشغلكم ~~مصيبتكم بي عن جهاد عدوكم (4) . وكانوا هم قاصدين PageV05P302 # للعدو لا مقصودين. # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته، وهو يقول: "نفذوا جيش ~~أسامة، نفذوا جيش أسامة" (1) ، لا يشغله ما هو فيه من البلاء الشديد عن ~~مجاهدة العدو. وكذلك أبو بكر. # والساعة لما ذهب أمير بحلب بعسكر إلى الجزيرة وتصيد هناك، طار الصيت في ~~تلك البلاد بمجيء العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي (2) رعبا، حتى صاروا يريدون ~~أن يظهروا زي المسلمين لئلا يؤخذوا، وفي قلوب العدو رعب لا يعلمه إلا الله، ~~وقد هيىء لهم في البلاد إقامات كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك ~~يدعون الله أن يكون رزق المسلمين. # و ### | أقل ما يجب على المسلمين أن يجاهدوا عدوهم في كل عام مرة، # وإن تركوه أكثر من ذلك فقد عصوا الله ورسوله، واستحقوا العقوبة، وكذلك ~~إذا تقاعدوا حتى يطأ العدو أرض الإسلام. والتجربة تدل على ذلك، فإنه (3) ~~لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نوبتي حمص ~~الأولى والثانية لما مكنوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبة أن ~~ينكسروا لولا أن ثبت الله، وجرى في هذه المدة ما جرى. وما قصدهم المسلمون ~~قط PageV05P303 # إلا نصروا، كنوبة عين جالوت والفرات والروم ms0949، ونحن نرجو أن يستأصلهم الله ~~تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن البشارات متوفرة على ذلك. # وقد حدثنا أبي رحمه الله أنه كان عندهم كتاب عتيق وقف عليه من أكثر من ~~خمسين سنة قبل مجيىء التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره: ~~والتتار يقلعهم المصريون. وقد رأى المسلمون أنواعا من المبشرات بنصر الله ~~ورسوله، وهذا لاشك منه إن شاء الله. # وليست هذه النوبة كتلك، فإن تلك المرة كان فيها أمور لا يليق ذكرها عفا ~~الله عنها، وما فعله الله بالمسلمين كان أحمد في حقهم. # ثم لاشك أن الله ينصر دينه وينتقم من أعدائه، وقد قال تعالى: (ولو يشاء ~~الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل ~~أعمالهم (4) سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6) يا أيها ~~الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7)) (1) . # ثم ### | في الحركة في سبيل الله أنواع من الفوائد: # إحداها (2) : طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا (3) ، وإلا ~~فما دامت القلوب خائفة لا يستقيم الحال. PageV05P304 # الثانية: أن البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خير كثير ورزق عظيم ينتفع ~~به العسكر. # الفائدة الثالثة: أنه يقوي قلوب المسلمين في تلك البلاد من الأعوان ~~والنصحاء، ويزداد العدو رعبا. وإن لم تحصل حركة فترت القلوب، وربما انقلب ~~قوم فصاروا مع العدو، فإن الناس مع القائم. # ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى ~~الثغر كان في غاية الجودة. # الفائدة الرابعة: أنهم إن ساروا أو بعضهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة ~~من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم ~~الفوائد، وإن ساروا قاطنين متمكنين نزلت إليهم أمراء تلك البلاد من أهل ~~الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة، فإن غالب أهل البلاد قلوبهم مع ~~المسلمين، إلا الكفار من النصارى ونحوهم، وإلا الروافض، فإن أكثر الروافض ~~ونحوهم من أهل البدع هواهم مع العدو، فإنهم أظهروا السرور بانكسار عسكر ~~المسلمين، وأظهروا الشماتة بجمهور المسلمين. وهذا معروف لهم ms0950 من نوبة بغداد ~~وحلب، وهذه النوبة أيضا، كما فعل أهل الجبل الجرد والكسروان، ولهذا خرجنا ~~في غزوهم لما خرج إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرة عظيمة للمسلمين. # فإذا كانت عامه القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه الله ~~سبحانه وأيده وأمده بنعمته على محمد وأمته، وقلوب العدو في غاية الرعب منه، ~~والله لقد رأى الداعي من رعبهم مالا # PageV05P305 # يوصف، حتى إن وزيرهم يحيى قال قدام الداعي ومولاي يسمع: واحد منكم يغلب ~~ستة من هؤلاء، وهكذا يخبر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدا، فمن نعمة ~~الله على المسلمين أن ييسر غزاة ينصر الله بها دينه هنا وهناك. وما ذلك على ~~الله بعزيز. # وليس من شريعة الإسلام أن المسلمين ينتظرون عدوهم حتى يقدم عليهم، هذا لم ~~يأمر الله به ولا رسوله ولا المسلمون، ولكن يجب على المسلمين أن يقصدوهم ~~للجهاد في سبيل الله، وإن بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينهم حتى يعبروا ~~ديار المسلمين، بل الواجب تقدم العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله ~~تعالى يخ ### | [تار للمسلمي] # ن في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. # والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. # والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد عبده ورسوله. # PageV05P306 ### | قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح؟ # PageV05P307 # بسم الله الرحمن الرحيم # الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات ~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له (1) . # ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ~~ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، صلى الله عليه وعلى آله ~~وسلم تسليما كثيرا. # أما بعد، فهذه مسألة يحتاج إليها المؤمنون عموما، والمجاهدون منهم خصوصا، ~~وإن كان (2) ### | الإيمان لا يتم إلا بالجهاد، # كما قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) ~~(3) الآية. # ولكن الجهاد يكون للكفار والمنافقين أيضا، كما قال تعالى: (يا أيها النبي ~~جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) في موضعين من كتاب الله (4) . # ويكون الجهاد بالنفس ms0951 والمال، كما قال تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ~~في سبيل الله) (5) . ويكون بغير ذلك وينفعه، لما ثبت في الصحيحين (6) عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في ~~أهله PageV05P309 # بخير فقد غزا". ويكون الجهاد باليد والقلب واللسان، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم - (1) : "جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم"، وكما قال ~~- صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (2) : "إن بالمدينة لرجالا ما ~~سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر". فهؤلاء كان ~~جهادهم بقلوبهم ودعائهم. # وقد قال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ~~والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم ~~وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على ~~القاعدين أجرا عظيما (95)) (3) . # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) : "الساعي (5) على الصدقة بالحق ~~كالمجاهد # في سبيل الله". # وقال أيضا (6) : "المجاهد من جاهد نفسه في الله"، كما قال (7) : ~~PageV05P310 # "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله ~~عنه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". # و ### $ الجهاد في سبيل الله أنواع متعددة ... (1) سبيل الله، ويفرق بينهما النية واتباع الشريعة. كما في "السنن" (2) عن معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة واجتنب الفساد؛ فإن نومه (3) [ونبهه] كله أجر. وأما من غزا فخرا ورياءا وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم يرجع بالكفاف". # وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول ~~الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من ~~قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وقد قال تعالى: ~~(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (5) . # وهذه المسألة هي في الرجل أو الطائفة يقاتل منهم أكثر من ضعفيهم (6) ، ~~إذا كان في قتالهم منفعة للدين، وقد غلب على ظنهم PageV05P311 # أنهم يقتلون، كالرجل يحمل وحده على صف الكفار ms0952 ويدخل فيهم، ويسمي العلماء ~~ذلك الانغماس في العدو؛ فإنه يغيب فيهم كالشيء ينغمس فيه فيما يغمره. # وكذلك الرجل يقتل بعض رؤساء الكفار بين أصحابه، مثل أن يثب عليه جهرة إذا ~~اختلسه، ويرى أنه يقتله ويقتل (1) بعد ذلك. # والرجل ينهزم أصحابه فيقاتل وحده أو هو وطائفة معه العدو، وفي ذلك نكاية ~~في العدو، ولكن يظنون أنهم يقتلون. # فهذا كله جائز عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ~~وليس في ذلك إلا خلاف شاذ. وأما الأئمة المتبعون كالشافعي وأحمد وغيرهما ~~فقد نصوا على جواز ذلك. وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما. # ودليل ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة. # أما الكتاب فقد قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة ~~الله والله رءوف بالعباد (207)) (2) . وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن ~~صهيبا خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~فلحقه المشركون وهو وحده، فنثل كنانته، وقال: والله لا يأتي رجل منكم إلا ~~رميته. فأراد قتالهم وحده، وقال: إن أحببتم أن تأخذوا مالي بمكة فخذوه، ~~وأنا أدلكم عليه. ثم قدم PageV05P312 # على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"ربح البيع أبا يحيى" (1) . # وروى أحمد (2) بإسناده أن رجلا حمل وحده على العدو، فقال الناس: ألقى ~~بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كلا بل هذا ممن قال الله فيه: (ومن الناس من ~~يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (207)) . # وقوله تعالى: (يشري نفسه) أي يبيع نفسه، يقال: شراه وباعه سواء، واشتراه ~~وابتاعه سواء، ومنه قوله: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) (3) أي باعوه. ~~فقوله: (يشري نفسه) أي يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته، وذلك يكون بأن ~~يبذل نفسه فيما يحبه الله ويرضاه، وإن قتل أو غلب على ظنه أنه يقتل. كما ~~قال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ~~يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل ~~والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ms0953 ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو ~~الفوز العظيم (111) التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون ~~الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ~~(112)) (4) . # وهذه الآية وهي قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم PageV05P313 # وأموالهم) تدل على ذلك أيضا، فإن المشتري يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل ~~النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غلب على ظنه أن النفس تقتل والجواد ~~يعقر، فهذا من أفضل الشهادة، لما روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عباس ~~قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أيام العمل الصالح فيها ~~[أحب] إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا ~~الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه ~~وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء". وفي رواية (2) : "يعقر جواده وأهريق دمه". # وفي "السنن" (3) عن عبد الله بن حبشي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~سئل أي العمل أفضل؟ قال: "طول القيام". قيل: أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد ~~المقل". قيل: فأي الهجرة [أفضل؟ قال: "من هجر ما حرم الله عليه". # قيل: فأي الجهاد أفضل؟] قال: "من جاهد المشركين بنفسه وماله". # قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: "من أهريق دمه وعقر جواده". # وأيضا فإن الله سبحانه قد أخبر أنه أمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يقتل ~~ولده في محبة الله وطاعته؟ وقتل الإنسان ولده قد يكون أشق عليه من تعريضه ~~نفسه للقتل، والقتال في سبيل الله أحب إلى PageV05P314 # الله مما ليس كذلك. # والله سبحانه أمر إبراهيم بذبح ابنه قربانا ليمتحنه بذلك، ولذلك نسخ ذلك ~~عنه لما علم صدق عزمه في قتله؛ فإن المقصود لم يكن ذبحه لكن ابتلاء ~~إبراهيم. # والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذل أنفسهم؛ ليقتلوا في سبيل الله ومحبة ~~رسوله؛ فإن قتلوا كانوا شهداء، وإن عاشوا كانوا سعداء. # كما قال: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) (1) . # وقد قال لبني إسرائيل: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم ~~عند بارئكم) (2) . أي ليقتل بعضكم ms0954 بعضا. فألقى عليهم ظلمة، حتى جعل الذين ~~لم يعبدوا العجل يقتلون الذين عبدوه. # فهذا الذي كان في شرع من قبلنا من أمره بقتل بعضهم بعضا قد عوضنا الله ~~بخير منه وأنفع؛ وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوهم، وتعريضهم أنفسهم لأن ~~يقتلوا في سبيله بأيدي عدوهم لا بأيدي بعضهم بعضا، وذلك أعظم درجة وأكثر ~~أجرا. وقد قال تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من ~~دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم ~~وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا ~~مستقيما (68)) (3) . PageV05P315 # وأيضا فإن الله أمر بالجهاد في سبيله بالنفس والمال مع أن الجهاد مظنة ~~القتل، بل لابد منه في العادة من القتل. وذم الذين ينكلون عنه خوف القتل، ~~وجعلهم منافقين، فقال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ~~وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون ~~الناس) إلى قوله: (في بروج مشيدة) (1) . وقال تعالى: # (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا ~~(15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا ~~قليلا (16) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم ~~رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17)) (2) . # فأخبر سبحانه أن الفرار من الموت أو القتل لا ينفع، بل لابد أن يموت ~~العبد، وما أكثر من يفر فيموت أو يقتل، وما أكثر من ثبت فلا يقتل (3) . # ثم قال: ولو عشتم لم تمتعوا إلا قليلا ثم تموتوا. ثم أخبر أنه لا أحد ~~يعصمهم من الله إن أراد أن يرحمهم أو يعذبهم، فالفرار من طاعته لا ينجيهم. ~~وأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير. # وقد بين في كتابه أن ما يوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر الموجبة ~~للنار، فقال: (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15) ~~PageV05P316 # ومن يولهم يومئذ دبره إلا ms0955 متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب ~~من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16)) (1) . # وأخبر أن الذين يخافون العدو خوفا منعهم من الجهاد منافقون، فقال: ~~(ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ~~ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57)) (2) . # وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عد الكبائر؛ فذكر ~~الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والسحر، واليمين الغموس، وقذف المحصنات ~~الغافلات المؤمنات. وذكر منها الفرار من الزحف في الصفين. # [و] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"شر ما في المرء: شح هالع، أو جبن خالع" (4) . # وأما دلالة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فمن وجوه ~~كثيرة: # منها: أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم بقدرهم ~~ثلاث مرات أو أكثر، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها. # فعلم أن القوم يشرع لهم أن يقاتلوا من يزيدون على ضعفهم، ولا فرق في ذلك ~~بين الواحد والعدد، فمقاتلة الواحد للثلاثة كمقاتلة الثلاثة للعشرة. ~~PageV05P317 # وأيضا فالمسلمون يوم أحد كانوا نحوا من ربع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة ~~آلاف أو نحوها، وكان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبا منها. # وأيضا فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات، فإن العدو كان أكثر ~~من عشرة آلاف، وهم الأحزاب الذين تحزبوا عليهم من قريش وحلفائها وأحزابها ~~الذين كانوا حول مكة وغطفان وأهل نجد، واليهود الذين نقضوا العهد وهم بنو ~~قريظة جيران أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفين. # وأيضا فقد كان الرجل وحده على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل على ~~العدو بمرأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وينغمس فيهم، فيقاتل حتى ~~يقتل. وهذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وخلفائه. # وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم ~~بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا ms0956 حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة ذكروا ~~لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنهدوا إليهم بقريب من مائة رجل رام -وفي ~~رواية: مائتي رجل- فاقتفوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه ~~فقالوا [هذا] تمر يثرب. # فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فدفد، أي إلى ~~مكان مرتفع- فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: PageV05P318 # انزلوا فأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق، لا يقتل منكم أحد. فقال عاصم ~~بن ثابت: أيها القوم! أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك ~~- صلى الله عليه وسلم -. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة. # ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة، ~~ورجل آخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. # قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، لي بهؤلاء أسوة؛ يريد ~~القتلى. فجرروه وعالجوه؛ فأبي أن يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن ~~الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر. # فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيبا، وكان خبيب هو قتل ~~الحارث بن عمرو يوم بدر. ولبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله. ~~فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها، فأعارته فدرج بني لها وهي ~~غافلة حتى أتاه [قالت: فوجدته] مجلسه على فخذه والموسى بيده؛ قالت: ففزعت ~~فزعة عرفها خبيب. فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما ~~رأيت أسيرا خيرا من خبيب، فوالله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده، ~~وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر. # وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه ~~في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين. فتركوه فركع ركعتين. فقال. ~~والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ~~ولا تبق منهم أحدا. قال: # فلست أبالي حين أقتل مسلما # على أي جنب كان لله مصرعي # PageV05P319 # وذلك في ذات الإله وإن ms0957 يشأ # يبارك على أوصال شلو ممزع # ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سن لكل مسلم ~~قتل صبرا الصلاة. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة يوم أصيبوا ~~خبرهم. وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قد قتل أن يؤتى ~~بشيء منه يعرف، وكان قتل رجلا من عظمائهم. فبعث الله لعاصم مثل الظلة [من ~~الدبر] ، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئا. # فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئة أو المئتين، ولم يستأسروا لهم حتى ~~قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتباعهم حتى ~~قتلوه. وهؤلاء من فضلاء المؤمنين وخيارهم. # وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر، وعاصم بن عمر جد عمر بن عبد العزيز (1) ؛ ~~فإن عمر بن الخطاب كان قد نهى الناس أن يشوب أحد اللبن بالماء للبيع (2) ، ~~فبينما عمر ذات ليلة يعس إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قومي فشوبي اللبن. ~~فقالت: إن أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك. فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟ ~~فقالت: لا والله PageV05P320 # لا نطيعه في العلانية ونعصيه في السر. فعلم عمر على [الباب] (1) ، فلما ~~أصبح سأل عن أهل ذلك البيت، فإذا به أهل بيت عاصم هذا الأمير (2) المستشهد، ~~والمرأة المطيعة ابنته، فخطبها وتزوجها (3) . # وقد روي أنه زوجها ابنه عاصم هذا، وإن كان عمر قبل ذلك تزوج ابنة عاصم ~~هذا فولدت له عاصما ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم. # وأيضا ففي السنن (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عجب ربنا من ~~رجلين: رجل ثار عن وطائه من بين حيه وأهله إلى صلاته، فيقول الله عز وجل ~~لملائكته: انظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من أهله وحيه إلى صلاته، ~~رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله، فانهزم مع أصحابه، ~~فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع، فرجع حتى يهريق دمه. فيقول ~~الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا ms0958 مما عندي حتى ~~يهريق دمه" فهذا رجل انهزم هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قتل. # وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يعجب منه؛ [و] عجب الله ~~من الشيء يدل PageV05P321 # على عظم قدره، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته. # وهذا يدل على أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي، لا يكتفى فيه بمجرد ~~الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أنه ~~يقتل فترك ذلك أفضل. # بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا ~~الفعل يقتل فيه الرجل كثيرا أو غالبا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار ~~المحرم، فإنه مع هذه التوبة جاهد هذه المجاهدة الحسنة. # قال الله تعالى: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا ~~وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110)) (1) . # وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" ~~(2) . # فمن فتنه الشيطان عن طاعة الله لم هجر ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان ~~داخلا في هذه الآية. وقد يكون هذا في شريعتنا عوضا عما أمر به بنو إسرائيل ~~في شريعتهم لما فتنوا بعبادة العجل بقوله: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا ~~أنفسكم) (3) . # وقال تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم ~~الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)) إلى قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم أن ~~اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم..) (4) . PageV05P322 # وذلك يدل على أن التائب قد يؤمر بجهاد تعرض به نفسه للشهادة. # فإن قيل: قد قال الله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ~~وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا) إلى قوله: (الآن خفف الله ~~عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ~~ألف يغلبوا ألفين) (1) . وقد قالوا: إن ما أمر به من مصابرة الضعف (2) في ~~هذه الآية ناسخ لما أمر به قبل ذلك # من مصابرة عشرة الأمثال. # قيل: هذا أكثر ms0959 ما فيه أنه لا تجب المصابرة لما زاد على الضعف، ليس في ~~الآية أن ذلك لا يستحب ولا يجوز. # وأيضا فلفظ الآية إنما هو خبر عن النصر مع الصبر، وذلك يتضمن وجوب ~~المصابرة للضعف، ولا يتضمن سقوط ذلك عما زاد عن الضعف مطلقا، بل يقتضي أن ~~الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه، فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون ~~ظالمين لم يجب عليهم أن يصابروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم ~~المظلومين وقتالهم قتال وقع عن أنفسهم فقد تجب المصابرة كما وجبت عليهم ~~المصابرة يوم أحد ويوم الخندق، مع أن العدو كانوا أضعافهم. وذم الله ~~المنهزمين يوم أحد والمعرضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران ~~والأحزاب، بما هو ظاهر معروف. PageV05P323 # وإذا كانت الآية لا تنفي وجوب المصابرة لما زاد على الضعفين في كل حال، ~~فأن لا تنفي الاستحباب [و] الجواز مطلقا أولى وأحرى. # فإن قيل: قد قال الله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (1) . # وإذا قاتل الرجل في موضع فغلب على ظنه أنه يقتل فقد ألقى بيده إلى ~~التهلكة. # [قيل] : تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة ينكرون ~~على من يتأول الآية على ذلك، كما ذكرنا أن رجلا حمل وحده على العدو، فقال ~~الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر ابن الخطاب: كلا ولكنه ممن قال ~~الله فيه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) (2) . # وأيضا فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي (3) من حديث يزيد ابن أبي حبيب ~~-عالم أهل مصر من التابعين- عن أسلم أبي عمران قال: غزونا بالمدينة نريد ~~القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ~~ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو؛ فقال الناس: لا إله إلا الله! ~~يلقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر ~~الأنصار، لما نصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإسلام قلنا: ~~هلم نقم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: PageV05P324 # (وأنفقوا في سبيل الله ولا ms0960 تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (1) . فالإلقاء ~~بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. قال أبو ~~عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية. قال ~~الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. # وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قدرا، وهو الذي نزل النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - في بيته لما قدم مهاجرا من مكة إلى المدينة. # ورهطه بنو النجار هم خير دور الأنصار، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - (2) ، وقبره بالقسطنطينية. قال مالك: بلغني أن أهل القسطنطينية ~~إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيستقون. # وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقيا بيده إلى التهلكة ~~دون المجاهدين في سبيل الله، ضد ما يتوهمه هؤلاء الذين يحرفون كلام الله عن ~~مواضعه؛ فإنهم يتأولون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. والآية ~~إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يصد عنه. # والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛ ~~وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ~~ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم ~~من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل) إلى قوله: (وقاتلوهم PageV05P325 # حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ~~(193)) إلى قوله: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى ~~عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع ~~المتقين (194) وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا ~~إن الله يحب المحسنين (195)) (1) . # فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل ~~الله، فلا تناسب ما يضاد ذلك من النهي عما يكمل به الجهاد وإن كان فيه ~~تعريض النفس للشهادة، إذ الموت لابد منه، وأفضل الموت موت الشهداء. فإن ~~الأمر بالشيء لا يناسب النهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يضل ~~عنه؛ والمناسب لذلك ما ذكر ms0961 في الآية من النهي عن العدوان، فإن الجهاد فيه ~~البلاء للأعداء؛ والنفوس قد لا تقف عند حدود الله بل تتبع أهواءها في ذلك، ~~فقال: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)) . فنهى عن العدوان؛ لأن ~~ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ~~بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)) . وإذا ~~كان الله معهم نصرهم وأيدهم على عدوهم فالأمر بذلك أيسر، كما يحصل مقصود ~~الجهاد به. # وأيضا فإنه في أول الآية قال: (وأنفقوا في سبيل الله) ، وفي آخرها قال: ~~(وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)) فدل ذلك على ما رواه أبو أيوب من ~~[أن] إمساك المال والبخل عن إنفاقه في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة. ~~PageV05P326 # وأيضا فإن أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلم فيها برأيه، وهذا ~~من ثابت روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حجة يجب اتباعها. # وأيضا فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما ~~نهى الله عنه. فإذا ترك العباد الذي أمروا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه ~~من عمارة الدنيا، هلكوا في دنياهم بالذل وقهر العدو لهم، واستيلائه على ~~نفوسهم وذراريهم وأموالهم، ورده لهم عن دينهم، وعجزهم حينئذ عن العمل ~~بالدين. بل وعن عمارة الدنيا وفتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه. ~~قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن ~~يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ~~وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217)) (1) . إلى غير ذلك من المفاسد ~~الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة. # فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكا عظيما باستيلاء العدو عليها وتسلطه ~~على النفوس والأموال. وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يشاهده الناس، ~~وأما في الآخرة فلهم عذاب النار. # وأما المؤمن المجاهد فهو كما قال الله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى ~~الحسنيين ms0962 ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا ~~إنا معكم متربصون (52)) (2) . فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين: ~~إما النصر والظفر وإما PageV05P327 # الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن حيي [حيي] حياة طيبة، وإن قتل فما ~~عند الله خير للأبرار. # وأيضا فإن الله قال في كتابه: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات) ~~(1) . وقال في كتابه: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء ~~عند ربهم يرزقون (169)) (2) . فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد إنه # ميت. قال العلماء: وخص الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت ~~فيفر عن الجهاد خوفا من الموت. وأخبر الله أنه حي مرزوق؛ وهذا الوصف يوجد ~~أيضا لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم، لكن خص الشهيد بالنهي لئلا ~~ينكل عن الجهاد لفرار النفوس من الموت. # فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتا واعتقاده ميتا؛ لئلا يكون ذلك ~~منفرا عن الجهاد فكيف يسمى الشهادة تهلكة؟ واسم الهلاك أعظم تنفيرا من اسم ~~الموت. فمن قال: قوله (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) يراد به الشهادة في ~~سبيل الله، فقد افترى على الله بهتانا عظيما. # وهذا ### | الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان: # أحدهما: أن يكون هو الطالب للعدو. فهذا الذي ذكرناه. # والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار. فهذا أولى وأوكد. ~~ويكون قتال هذا إما دفعا عن نفسه وماله وأهله ودينه، PageV05P328 # كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "من قتل دون ماله فهو شهيد، ~~ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد". قال الترمذي: ~~[حديث حسن صحيح. و] (2) يكون قتاله دفعا للأمر عن نفسه أو عن حرمته، وإن ~~غلب على ظنه أنه يقتل، إذا كان القتال يحصل المقصود، وإما فعلا لما يقدر ~~عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه. # ومن هذا الباب ### | : الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل ولا يتكلم بالكفر؛ # فإن هذا بمنزلة الذي يقاتله العدو حتى يقتل ولا ms0963 يستأسر لهم، والذي يتكلم ~~بالكفر بلسانه [وهو] موقن من قلبه بالإيمان بمنزلة المستأسر للعدو. فإن كان ~~هو الآمر الناهي ابتداء كان بمنزلة المجاهد ابتداء. فإذا كان الأول أعز ~~الإيمان وأذل الكفر كان هو الأفضل. # وقد يكون واجبا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر ~~عليها وهي الفتنة، فإن الفتنة أشد من القتل. فإذا كان بترك القتل يحصل من ~~الكفر ما لا يحصل بالقتل، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه= ترجح ~~القتل واجبا تارة ومستحبا أخرى. وكثيرا ما يكون ذلك تخويفا به فيجب الصبر ~~على ذلك. # قال تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ~~PageV05P329 # وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ~~والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن ~~استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في ~~الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217)) (1) . # فأخبر أن الكافرين لا يزالون يقاتلون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم. ~~وأخبر أنه من ارتد فمات كافرا خالدا في النار. # ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه، كما قال تعالى: (وقال ~~فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في ~~الأرض الفساد (26) وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم ~~الحساب (27)) إلى قوله: (وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (2) . # وقال تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض) ~~إلى قوله: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (128)) ~~(3) . # وقال تعالى: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا ~~كذبتم وفريقا تقتلون (87)) (4) . PageV05P330 # وقال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ~~ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) (1) . # وقال تعالى: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة ~~وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات ms0964 الله ويقتلون النبيين ~~بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)) (2) . # وقال تعالى: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم ~~الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ~~ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا) إلى قوله: (ذلك بما عصوا ~~وكانوا يعتدون (78)) (3) . # وقال تعالى: (قتل أصحاب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5)) إلى قوله: (ما ~~يفعلون بالمؤمنين شهود (7)) (4) . # وقد روى مسلم في "صحيحه" (5) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، ~~فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه ~~غلاما يعلمه. وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه. فكان إذا ~~أتى الساحر مر بالراهب وقعد PageV05P331 # إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خفت الساحر ~~فقل: حبسني أهلي، فإذا خفت أهلك فقل حبسني الساحر. فبينما هو كذلك، إذ أتى ~~على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب ~~أفضل؟ فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر ~~فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها وقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب ~~فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما ~~أرى، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرىء الأكمه ~~والأبرص ويداوي الناس [من] سائر الأدواء. وأصبح جليس الملك كان قد عمي ~~فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك إن أنت شفيتني. قال: إني لا أشفي ~~أحدا إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله ~~فشفاه الله عز وجل. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس. # فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي ~~وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له ~~الملك: أي بني قد ms0965 بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. قال: ~~فقال إني لا أشفي أحدا، وإنما يشفي الله عز وجل. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى ~~دل على الراهب. فجيء بالراهب؛ فقال له: ارجع عن دينك؛ فأبى. # فدعا بالمنشار؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه. ثم جيء ~~بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي. # فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء # PageV05P332 # بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي. فدفعه إلى نفر من أصحابه. # فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به إلى الجبل فإذا بلغتم ~~ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال: ~~اللهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك. فقال ~~له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفير آخر من أصحابه ~~فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قرقور، ثم توسطوا البحر فإذا رجع عن دينه وإلا ~~فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة، ~~فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم ~~الله. فقال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. فقال: ما هو؟ قال: إنك ~~تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع ~~السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارم، فإنك إذا فعلت ~~ذلك قتلتني. # فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع ~~السهم في كبد القوس. ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في ~~صدغه، فوضع يده في صدغه، فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. فأتي الملك، ~~فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك؛ قد آمن الناس. # فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت، وأضرمت فيها النيران، وقال: من لم يرجع ~~عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له: اقتحم. ففعلوا، حتى جاءت امرأة ms0966 ومعها صبي ~~لها فتقاعست. فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق". # PageV05P333 # ففي هذا الحديث أنه قتل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعا عن ~~الإيمان. وكذلك أهل الأخدود صبروا على التحريق بالنار ولم يرجعوا عن ~~الإيمان. وأما الغلام فإنه أمر بقتل نفسه لما علم أن ذلك يوجب ظهور الإيمان ~~في الناس، والذي يصبر [حتى] يقتل أو يحمل حتى يقتل لأن في ذلك ظهور ~~الإيمان= من هذا الباب. # وفي صحيح البخاري (1) عن قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت قال: شكونا ~~إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة. ~~فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، ~~فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل ~~نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، [وما] يصده ذلك عن دينه. ~~والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف ~~إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون". # وفي رواية (2) : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة ~~له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله. فقعد وهو ~~محمر وجهه فقال: "لقد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد". # والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لهم ذلك آمرا لهم بالصبر على أذى ~~الكفار، وإن بلغوا بهم إلى حد القتل صبرا، كما قتلوا المؤمنين صبرا؛ ~~PageV05P334 # ومدحا لمن يصبر على الإيمان حتى يقتل. # (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما ~~كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت بعونه تعالى في 25 محرم 1319) . # PageV05P335 ### | مسألة # في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة؟ # PageV05P337 # بسم الله الرحمن الرحيم # وهو حسبي ونعم الوكيل # مسألة # في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى؟ # الجواب # الحمد لله. المرابطة في ثغور المسلمين -وهو المقام فيها بنية الجهاد- ~~أفضل من المجاورة في الحرمين باتفاق أئمة المسلمين أهل المذاهب ms0967 الأربعة ~~وغيرهم. وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن ~~لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد النيات في الأعمال الشرعيات صار يخفى ~~مثل هذه المسألة على كثير من الناس، حتى صاروا يعظمون الأماكن التي كان ~~المسلمون يعظمونها لكونها ثغورا ظانين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين ~~الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعا ما أنزل الله بها من سلطان. فإنه ~~يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذكر غزة وعسقلان والإسكندرية وجبل لبنان ~~وعكة وقزوين، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يوجب شرف هذه ~~البقاع. # وإنما كان ذلك لكونها كانت ثغور المسلمين، فكان صالحو المسلمين ~~يتناوبونها لأجل المرابطة بها، لا لأجل الاعتزال عن الناس # PageV05P339 # وسكنى الغيران والكهوف، أو نحو ذلك مما يظنه الجهال أهل البدع والضلال. # ثم إن من هذه البقاع ما غلب عليه العدو، أو سكنه أهل البدع والفساق؛ ففسد ~~حال أهله، مثل ما جرى على لبنان ونحوه. وكون المكان ثغرا هو مثل كونه دار ~~الإسلام ودار الكفر مثل كون الرجل مؤمنا وكافرا، هو من الصفات التي تعرض ~~وتزول، فقد كانت مكة -شرفها الله- أم القرى قبل فتحها دار كفر وحرب تجب ~~الهجرة منها، ثم تغير هذا الحكم لما فتحت. حتى قال - صلى الله عليه وسلم - ~~(1) . "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". وقد كان البيت المقدس بأيدي ~~العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى. # فالثغور هي البلاد المتاخمة للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يخيف ~~العدو أهلها ويخيف (2) أهلها العدو، والمرابطة بها أفضل من المجاورة ~~بالحرمين باتفاق المسلمين. كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إما على ~~الأعيان وإما على الكفاية. # وأما المجاورة فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي ~~مستحبة أم مكروهة؟ فاستحبها طائفة من العلماء من أصحاب مالك والشافعي، ~~وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره، قالوا: لأن المقام بها يفضي إلى الملك لها، ~~وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيتضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل ~~البلد. PageV05P340 # قالوا: وكان عمر يقول عقب المواسم: يا أهل الشام ms0968 شامكم، يا أهل اليمن ~~يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم] . # ولأن المقيم بها يفوته الحج التام والعمرة التامة؛ فإن العلماء متفقون ~~على أنه إن أنشأ سفر العمرة من دويرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج ~~والعمرة. وهم متفقون على أنه أفضل من التمتع والقران ومن الإفراد الذي ~~يعتمر عقب الحج. # وأما ما يظنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو غيره إلى الحل ~~للاعتمار؛ وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : "عمرة في رمضان ~~تعدل حجة معي"، حتى صار المجاورون وغيرهم يحافظون على الاعتمار من أدنى ~~الحل أو أقصاه، كاعتمارهم من التنعيم التي بها المساجد التي يقال لها مساجد ~~عائشة، أو من الحديبية والجعرانة= فكل ذلك غلط عظيم، مخالف للسنة النبوية ~~ولإجماع الصحابة. فإنه لم يعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر ~~ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قط، لا قبل الهجرة ولا ~~بعدها، بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~من مكة إلا عائشة فقط، فإنها قدمت متمتعة، فحاضت، فمنعها الحيض من الطواف ~~قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمرها بعد الحج ~~(2) ، ثم بعد ذلك بنيت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: مساجد عائشة. ~~PageV05P341 # وأما عمرة الحديبية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل هو وأصحابه من ~~ذي الحليفة، ثم حلوا بالحديبية لما صدهم المشركون عن البيت، فكانت الحديبية ~~حلهم لا ميقات إحرامهم. وهذا متواتر يعلمه عامة العلماء وخاصتهم، وفي ذلك ~~أنزل الله: (وأتموا الحج والعمرة) (1) الآيات باتفاق العلماء. # وأما عمرة الجعرانة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قاتل هوازن ~~بوادي حنين الذي قال الله فيها: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم ~~شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته ~~على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء ~~الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ms0969 والله غفور رحيم (27)) ~~(2) . وحاصر الطائف ونصب عليها بمنجنيق، ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين ~~بالجعرانة، فلما قسمها دخل إلى مكة معتمرا ثم خرج منها؛ لم يكن بمكة فخرج ~~منها إلى الحل ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل مكة. # بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك، ~~بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خروجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك، كما ~~قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع (3) . PageV05P342 # والمقصود هنا أن من العلماء من كره المجاورة بمكة لما ذكر من الأسباب ~~وغيرها، ولكن الجمهور يستحبونها في الجملة إذا وقعت على الوجه المشروع ~~الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الراجحة عليها. # قال الإمام أحمد، وقد سئل عن الجوار بمكة، فقال: وكيف لنا [به] ، وقد قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب إلي" ~~(1) . وجابر جاور مكة، وابن عمر كان يقيم بمكة. # وقال أيضا: ما أسهل العبادة بمكة، النظر إلى البيت عبادة. # واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - يقول، وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "والله إنك لخير ~~أرض الله، وأحب أرض الله [إلى الله] ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه ~~الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي (2) ، وقال: حديث حسن ~~صحيح. # ورواه أحمد (3) من حديث أبي هريرة أيضا. وعن ابن عباس قال قال رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي ~~أخرجوني منك ما سكنت غيرك". رواه الترمذي (4) ، وقال: حديث حسن صحيح غريب. ~~PageV05P343 # قالوا: فإذا كانت أحب البلاد إلى الله ورسوله، ولولا ما وجب عليه من ~~الهجرة لما كان يسكن إلا إياها، علم أن المقام بها أفضل إذا لم يعارض ذلك ~~مصلحة راجحة، كما كان في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين؛ فإن ~~مقامهم بالمدينة كان أفضل من مقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد، بل ذلك كان ~~الواجب ms0970 عليهم، وكان مقامهم بمكة حراما حتى بعد الفتح، وإنما رخص للمهاجر أن ~~يقيم فيها ثلاثا. كما في الصحيحين (1) عن العلاء بن الحضرمي أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. # وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا بها، لكونهم هاجروا عنها وتركوها لله، ~~حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه (2) ؛ لما عاد ~~سعد بن أبي وقاص، وكان قد مرض بمكة في حجة الوداع فقال: يا رسول [الله] ! ~~أخلف عن هجرتي، فقال: "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، ~~لكن البائس سعد بن خولة" يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات ~~بمكة. # ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصى أن لا يدفن في الحرم، بل يخرج ~~إلى الحل لأجل ذلك، لكنه كان يوما شديد الحر، فخالفوا وصيته، وكان قد توفي ~~عام قدم الحجاج، فحاصر ابن الزبير وقتله لما كان (3) من الفتنة بينه وبين ~~عبد الملك بن مروان. PageV05P344 # قالوا: ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في ~~بلد آخر، فإن الطواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال، ولأن ~~الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال. وقد قال تعالى: (وطهر بيتي ~~للطائفين والقائمين والركع السجود (26)) (1) . روي أنه ينزل على البيت في ~~كل يوم مئة وعشرون رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، [وعشرون ~~للناظرين] (2) . # ولهذا قال العلماء: إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثغر، مع قولهم: إن ~~المرابطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه، وإذا كان المكان دواعي الخير فيه ~~أقوى، ودواعي الشر فيه أضعف، كان المقام فيه أفضل مما ليس كذلك. # ولا نزاع بين المسلمين في أنه يشرع قصدها لأجل العبادات المشروعة فيها، ~~وأن ذلك واجب أو مستحب. وأما النزاع في المجاورة فلما فيه من تعارض للمصلحة ~~والمفسدة كما تقدم. وحينئذ فمن كان مجاورته فيما يكثر حسناته ويقل سيئاته ~~فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك. ف ### | أفضل ms0971 البلاد في حق كل شخص حيث كان أبر وأتقى، # وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم. # ولهذا لما كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي، وكان النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قد آخى بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق، ~~PageV05P345 # فكتب إليه أبو الدرداء أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن ~~الأرض لا تقدس أحدا؛ وإنما يقدس الرجل عمله الصالح (1) . ومقصوده بذلك أنه ~~قد يكون بالأرض المفضولة من يكون عمله صالحا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله. # وهذا مما يبين أن ### | جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين # كما اتفق عليه الأئمة. فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا ~~خالصة، ولم يكن ثم عمل مفضل يفضل به أحدهما، فالمرابطة أفضل؛ فإنها من جنس ~~الجهاد، وتلك من جنس الحج، و ### | جنس الجهاد أفضل من جنس الحج. # ولهذا قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ~~ليلة القدر عند الحجر الأسود. وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2) عن ~~عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: "رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن ~~أقوم ليلة القدر في أحد المسجدين -مسجد الحرام ومسجد رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - - ومن رابط أربعين يوما في سبيل الله فقد استكمل الرباط". # وقد قال تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله ~~واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم ~~الظالمين (19) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ~~أعظم درجة PageV05P346 # عند الله وأولئك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات ~~لهم فيها نعيم مقيم (21)) (1) . # وفي صحيح مسلم (2) عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -، فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي ~~الحاج. وقال الآخر: إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل ~~الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب، وقال ms0972: لا ترفعوا أصواتكم عند ~~منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت ~~الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج ~~وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) هو ~~الآية. # وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ~~[رباط] يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه". رواه الإمام أحمد، ~~والنسائي وهذا لفظه، والترمذي (3) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأبو ~~حاتم بن حبان البستي في "صحيحه" (4) . ولفظ الإمام أحمد (5) : عن أبي صالح ~~مولى عثمان بن عفان قال: سمعت PageV05P347 # عثمان يقول على المنبر: أيها الناس! إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -، كراهية تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكم، ليختار ~~امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباط ~~يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". # فقد بين لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة ~~النبوية؛ مصلين في المسجد الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في ~~مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" (1) . # ودل ذلك على أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعم جميع ~~الأعمال، فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المداومة عليه من صيام وقيام. كما في ~~الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! ما يعدل الجهاد في سبيل ~~الله؟ قال: "لا تستطيعون". # قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا تستطيعون". # قال في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت ~~بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله". هذا ~~لفظ مسلم. # ولفظ البخاري (3) : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني ~~على PageV05P348 # عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده. قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن ms0973 تدخل ~~مسجدك فتقوم لا تفتر، وتصوم لا تفطر؟ " قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو ~~هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات. # وفي الصحيحين (1) عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فقال: أي الناس أفضل؟ فقال: "رجل مجاهد في سبيل الله بماله ونفسه". ~~قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من ~~شره". لفظ مسلم. # وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحج، كما في الصحيحين ~~(2) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال ~~أفضل؟ قال: "الإيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل ~~الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور". # وفي الصحيحين (3) أيضا عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله! # أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله". # فهذا موافق ما دل عليه القرآن من تفضيل الجهاد على الحج. # وقد روي: "غزوة لا قتال فيها أفضل من سبعين حجة". وهذا لا يناقض ما في ~~الصحيحين (4) عن ابن مسعود قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~PageV05P349 # أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". ~~قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". حدثني بهن رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -، ولو استزدته لزادني. # فإن هذا الحديث أيضا يدل على فضل الجهاد على الحج وغيره. # وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مسمى الإيمان. كما في قوله: (وما كان الله ~~ليضيع إيمانكم) (1) قال البراء بن عازب وغيره (2) : صلاتكم إلى بيت المقدس، ~~إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوب فيها أحد عن أحد، ~~ويدخل بها في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها. # ثم في صحيح مسلم (3) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~"ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة". # وفي السنن عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله - صلى ms0974 الله عليه وسلم ~~-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه الإمام أحمد ~~وابن ماجه والترمذي والنسائي (4) ، وقال: حديث حسن صحيح غريب. أطلق الكفر ~~على جاحد الصلاة (5) . PageV05P350 # وفي الترمذي (1) عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب محمد لا يعدون شيئا ~~من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. # وفي البخاري (2) أن عمر بن الخطاب لما طعن وأغمي عليه، قيل: الصلاة! ~~فقال: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة". # وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر. # فهذه الخاصية التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: "إيمان بالله، وجهاد في ~~سبيله، ثم حج مبرور". # وكذلك بر الوالدين قد قرن حقهما بحق الله، في مثل قوله: (أن اشكر لي ~~ولوالديك) (3) ، وفي قوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين ~~إحسانا) (4) . وكما في الصحيحين الحديث: "كفر بالته: تبرؤ من نسب وإن دق، ~~ومن ادعى إلى غير أبيه فقد كفر، ولا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ~~ترغبوا عن آبائكم" (5) . PageV05P351 # وإن كان كذلك فيمكن أن يقال: إن هذا دخل في مسمى الإيمان أيضا، أو يقال: ~~بر الوالدين إنما يجب على من له والدان، فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن ~~ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حكم من حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما ~~فذكر ما يعم من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان. # ثم الجهاد إذا صار فرض عين كان أوكد من مطلق بر الوالدين، فيجاهد في هذه ~~الحال بدون إذنهما، وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المتعين ~~عليه، وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعين عليه إلا بإذنهما. # وأما الصلاة فإذا تعارضت هي والجهاد المتعين فإنه يفعل كلاهما بحسب ~~الإمكان، كما في حالة الخوف الخفيف والخوف الشديد. # قال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) ~~فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) (1) . قال تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا ~~من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا..) إلى ms0975 قوله: (وإذا كنت فيهم ~~فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا ~~فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم ~~وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة ~~واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من PageV05P352 # مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين ~~عذابا مهينا (102) فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى ~~جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا ~~موقوتا (103)) (1) . # فقد أمر الله بالجمع بين الواجبين -الصلاة والجهاد- لكنه خفف الصلاة في ~~الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أمور تجب في الأمن، وإباحة أفعال لا تفعل في ~~الأمن. # وصلاة الخوف قد استفاضت بها السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها على ~~وجوه متعددة. # وأما حال المسايفة فللفقهاء ثلاثة أقوال: # أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يصلون بحسب حالهم مع المقابلة؛ وهذا مذهب ~~الشافعي وغيره وظاهر مذهب أحمد. # والثاني: أنهم يؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة. # والثالث: أنهم يخيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد. # وقوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ~~(238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) هو مع ما قد ثبت في الصحيح (2) عن رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عام الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى ~~PageV05P353 # صلاة العصر حتى غربت الشمس، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا"؛ قد احتج به ~~وبغيره على أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية. # وأجابوا بذلك عما احتج به من جوز الأمرين من قوله - صلى الله عليه وسلم - ~~في الحديث المتفق عليه (1) عن ابن عمر أنه قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في ~~بني قريظة"، فصلى قوم في الطريق وقالوا: لم يرد منا تفويت الصلاة، وأخر قوم ~~الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلم يعنف النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - واحدة ms0976 من الطائفتين. فهذا الحديث حجة في جواز الأمرين، ~~لكن قال أولئك: [إنه] منسوخ بالآية. # فقد تبين أن الصلاة لما كانت أوكد من الجهاد؛ فإنها عند مزاحمة الجهاد ~~لها أخف، حتى لا تفوت مصلحة الجهاد، وقد يحصل من الفساد بترك الجهاد وقت ~~الضرورة ما لا يمكن تلافيه. # وهذا أيضا كالحج وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. فإذا تضيق وقته ~~وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبا إلى عرفة؛ ~~فإن صلى صلاة مستقر فاته الوقوف، وإن سار ليدرك عرفة قبل طوع الفجر فاتته ~~الصلاة. فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: يقدم الوقوف؛ لأن عليه من تفويت الحج ~~ضررا عظيما. # وقيل: بل يقدم الصلاة لأنها أوكد. PageV05P354 # وقيل: بل يأتي بهما جميعا، فيصلي بحسب الإمكان صلاة لا تفوته الوقوف. ~~وهذا أعدل الأقوال، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما. # والعلماء متفقون على أن الخائف المطلوب يصلي صلاة خائف. # فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما أنه يصلي أيضا ~~صلاة الخوف. كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن كأبي داود (1) عن عبد ~~الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن ~~سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: اذهب فاقتله. قال: فرأيته وحضرت ~~الصلاة صلاة العصر فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة. ~~فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء إيماء نحوه. فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ # قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك، قال: إني ~~لفي ذاك. فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد. # ومن قال هذا القول راعى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضا، فلا يمكن تفويت ~~إحداهما، وإن لم يكن من تفويت الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس ~~في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة. # ولو كان تكميل الصلاة مقدما على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا ~~علم أنه لابد فيه من تحقيق الصلاة. PageV05P355 # فلما ثبت ms0977 بالسنة المتواترة أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة ~~بقصر العمل الذي هو قصر العدد فإن قصر العدد سنة السفر، وأما قصر العمل ~~فسنة الخوف. ولهذا إذا اجتمع الأمران شرع القصر المطلق، كما في قوله: (وإذا ~~ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم ~~الذين كفروا) (1) . والآية على ظاهرها؛ فإن القصر المطلق المتضمن لقصر ~~العدد وقصر العمل إنما يكون مع الأمرين. وقد بينت السنة أن مجرد الخوف يفيد ~~قصر العمل، ومجرد السفر يفيد قصر العدد. # فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع ~~الجهاد لم يترك واحد منهما، بل يصفى بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد ~~بحسب الإمكان. وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ~~واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45)) (2) . فأمر بالثبات والذكر معا. # وكانت السنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه ~~وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس أن أمير الحرب هو أمير الصلاة ~~في المقام والسفر جميعا. # وما ذكرناه يبين بعض حكمة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين ~~كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين ~~PageV05P356 # مجاهدين مرابطين بخلاف مكة. # وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إن مالكا ~~رضي الله عنه -مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال ~~منها- لما سئل عمن بدار وهو مقيم بالمدينة يأتي الثغور كالإسكندرية وغيره، ~~أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مقامه ~~بالمدينة. وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم ~~من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط، وكان هذا على عهد أبي ~~بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن (1) وغيره مرابطين. # وكان عمر من يسأله عن أفضل الأعمال إنما يدله على الرباط والجهاد، كما ~~سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن ms0978 أمية ~~وسهيل بن عمرو وأمثالهم، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس. ~~ولهذا يذكر من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أمور كثيرة. # وكانوا على طريقتين: # إحداهما: أن يرابط كل قوم بأقرب الثغور إليهم، ويقاتلون من يليهم. كقوله: ~~(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (2) . # وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب ~~PageV05P357 # مالك كابن القاسم ونحوه يرابط (1) بالثغور المصرية. # والطريقة الثانية: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيه قتال ~~النصارى. فكان عبد الله بن المبارك يقدم من خراسان فيرابط بثغور الشام، ~~وكذلك إبراهيم بن أدهم ونحوهما، كما كان يرابط بها مشايخ الشام كالأوزاعي ~~وحذيفة المرعشي ويوسف بن أسباط وأبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين ~~وأمثالهم. وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان، وبقيت تحت حكمهم ~~أكثر من ثلاثمائة سنة. وكانت "سيس" ثغر المسلمين، و"طرسوس" كانت من أسماء ~~الثغور، ولهذا تذكر في كتب الفقه المصئفة في ذلك الوقت، وتولى قضاءها أبو ~~عبيد الإمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما. # وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناس في شيء ~~فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: (والذين ~~جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (2) . # وبالجملة إن السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور ~~معمورة بخيار المسلمين علما وعملا، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام ~~وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل ~~للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلونه على ~~الثغور. PageV05P358 # وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى للحديث الذي في سنن أبي داود ~~(1) عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال ~~لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة! # فقالت: [إن] أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي، فقال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: "ابنك له أجر شهيدين ms0979". قالت: ولم ذاك؟ قال: "لأنه قتله أهل ~~الكتاب". # وهذا بعض [الأخبار التي] تبين فضيلة سكنى الشام؛ فإن أهل الشام ما زالوا ~~مرابطين من أول الإسلام لمجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين ~~مجاهدين لأهل الكتاب. ولهذا فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - جندهم على ~~جند اليمن والعراق؛ مع ما قاله في أهل اليمن (2) . # ففي سنن أبي داود وغيره (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"إنكم ستجندون أجنادا؛ جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق"، قال: فقلت ~~يا رسول الله! خر لي، فقال: "عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي ~~إليها خيرته من عباده، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غدره فإن الله قد ~~تكفل لي بالشام وأهله". قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعة عليه. ~~PageV05P359 # وفي سنن أبي داود (1) أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال: "إنه ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر ~~إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الرحمن، ~~تحشرهم النار مع القردة والخنازير". # وفي صحيح مسلم (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال أهل ~~الغرب ظاهرين". # قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام. يعني: ومن يغرب عنهم؛ فإن ~~التغريب والتشريق من الأمور النسبية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم ~~بذلك وهو بالمدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غرب المدينة، كما أن حران ~~والرقة ونحوهما خلف مكة. # والكلام في هذا ونحوه يطول ويتعذر، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى، لكن هذه ~~الأمور المتيسرة تعود إلى أفضل الأحوال: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في ~~سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. وقد قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا ~~بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك ~~هم الصادقون (15)) (3) . # فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنا؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه (4) عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث PageV05P360 # نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق". # وذلك أن ms0980 الجهاد فرض على الكفاية، فيخاطب به جميع المؤمنين عموما، ثم إذا ~~قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولابد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمور به، ~~وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه ~~بفعله. فمن مات ولم يغز أو لم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه ~~بقدر ذلك؛ فمات على شعبة نفاق. # فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحج بالكتاب والسنة فما معنى الحديث ~~الذي روته عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله! # أرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد: حج مبرور" ~~رواه البخاري (1) ، ورواه النسائي (2) ، وفيه: ألا نخرج نجاهد معك فإني لا ~~أرى عملا أفضل من الجهاد. قال: "لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج ~~مبرور". # قيل: أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. وكذلك جاء مبينا، رواه النسائي (3) عن أبي ~~هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جهاد الكبير والصغير والضعيف ~~والمرأة: الحج والعمرة". وفي حديث آخر (4) : "الحج جهاد كل PageV05P361 # ضعيف". وفي حديث آخر (1) : هل على النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتال فيه: ~~الحج والعمرة". # سياق الحديث المتقدم بين ذلك، فإنها قالت: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا ~~نجاهد معك؟ قال: "لكن أفضل الجهاد: حج مبرور". فقد أقرها على قولها: "نرى ~~الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن "أفضل الجهاد الحج المبرور". # وفي اللفظ الآخر (2) : ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن ~~أفضل من الجهاد؟ قال: "لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور". فأقرها على قولها ~~بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الجهاد (3) المعروف قال: "لا، ولكن أحسن ~~الجهاد وأجمله حج البيت"، وجعل فضله بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد ~~لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين؛ فعلم أنه أراد جهاد النساء، واللام ~~للتعريف، ينصرف إلى ما يعرفه المخاطب. # ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله؛ فبين النبي - ~~صلى الله عليه ms0981 وسلم - أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحج؛ فإن ~~السائل ضعيف؛ والحج جهاد كل ضعيف. وفي صحيح مسلم (4) عن أبي هريرة عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى PageV05P362 # الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا ~~تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله ~~وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان". # وقد جاء في فضائل الرباط أحاديث في الصحاح والسنن تبين ما ذكرناه: # فروى البخاري في صحيحه (1) عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها". # وفي صحيح مسلم (2) عن سلمان الفارسي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه قال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه ~~[عمله] الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان". # وفي السنن (3) عن فضالة بن عبيد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"ما من ميت يموت إلا ختم عليه عمله إلا من مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ~~ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر" رواه أحمد وأبو داود ~~وهذا لفظه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: "المجاهد [من جاهد] نفسه في طاعة الله" قال الترمذي: حسن صحيح. ~~PageV05P363 # وقد تقدم حديث عثمان: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه ~~من المنازل". # وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثغور مثل غزة وعسقلان والإسكندرية ~~وقزوين ونحو ذلك. # وأما الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعيين قزوين ~~والإسكندرية ونحو ذلك فهي موضوعة كذب بلا ريب عند علماء الحديث (1) ، وإن ~~كان ابن ماجه قد روى في سننه (2) الحديث الذي في فضل قزوين؛ وقد أنكر عليه ~~العلماء ذلك، كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثا من ~~الموضوعات؛ ولهذا نقصت مرتبة ms0982 كتابه عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي. # وقد قدمنا كون البلد ثغرا صفة عارضة لا لازمة؛ فلا يمكن فيه مدح مؤبد ولا ~~ذم مؤبد، إلا إذا علم أنه لا يزال على تلك الصفة. # وإذا تبين ما في الرباط من الفضل؛ فمن الضلال ما تجد عليه أقواما ممن ~~غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما ~~يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يشرع بل يكره، ويترك ما هو مأمور به واجب أو ~~مستحب. # مثال ذلك أن قوما يقصدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت ~~الحج ليعرفوا به، ويدعو [ن] المقام بالثغور التي تقاربه. PageV05P364 # وهذا في غاية الضلال والجهل والحرمان من وجوه: # أحدها: أن التعريف بالبيت المقدس ليس مشروعا لا واجبا ولا مستحبا بإجماع ~~المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قربة فهو ضال باتفاق المسلمين، بل ~~يستتاب فإن تاب وإلا قتل، إذ ليس السفر مشروعا للتعريف إلا للتعريف بعرفات. # وأقبح من ذلك تعريف أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من ~~المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. بل تنازع ~~السلف في تعريف الإنسان في مصره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى ~~مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكره ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك ~~وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس ~~بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا ~~يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: إنه يستحب. # وأما السفر للتعريف بغير عرفة فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا ~~سيما إذا كان بمشهد مثل قبر نبي (1) أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن ~~السفر إلى ذلك لغير التعريف منهي عنه عند جمهور العلماء من الأئمة ~~وأتباعهم. كما قال - صلى الله عليه وسلم - (2) : "لا تشد الرحال إلا إلى ~~ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". وقد رأى بصرة بن ~~أبي بصرة الغفاري أبا هريرة ms0983 PageV05P365 # راجعا من زيارة الطور فقال: لو رأيتك قبل أن تزوره لم تزره، فإن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد ~~الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" (1) . # [وقد] قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء ابن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد ~~الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه عاص بسفره، وإنما رخص في هذا ~~السفر طائفة من المتأخرين، ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبور ~~أو خرج إلى ما يجاوره من القبور كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج ~~إلى البقيع، وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. وقد ثبت عنه في ~~الصحيح (2) أنه قال: "استأذنت ربي أن أزور قبر أمي؛ فأذن لي، واستأذنته في ~~أن أستغفر لها؛ فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة". # وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول ~~أحدهم: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ~~ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم ~~لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم" (3) . # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (4) : "ما من رجل يمر ~~بقبر الرجل PageV05P366 # كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه ~~السلام". # والزيارة المشروعة للمسلم: أن يسلم عليه ويدعى له، كما أن الصلاة مقصودها ~~الدعاء له. ولهذا نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الأمرين في حق ~~المنافقين. كما قال تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على ~~قبره) (1) ، نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين ~~والقيام على قبورهم؛ فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام ~~على قبورهم. وقد قال طوائف من السلف والخلف: وهو القيام على قبورهم بالدعاء ~~والاستغفار. # فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له، فأما اتخاذ ~~القبور مساجد أو الاشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. كما في ms0984 ~~الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات ~~فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يحذر ما ~~صنعوا. قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا. ~~PageV05P367 # وفي صحيح مسلم (1) أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إني أبرأ إلى الله أن يكون ~~لي منكم خليل، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان ~~قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني ~~أنهاكم عن ذلك". # وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها ~~المساجد والسرج". # وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تشرع الصلاة عند القبور، وقصدها لأجل ~~الدعاء عندها، ولا التمسح بها وتقبيلها؛ سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم. ~~بل ليس تحت أديم السماء ما يشرع التمسح به وتقبيله إلا الحجر الأسود، ~~والركن اليماني يستحب التمسح به. # وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين (3) ، فلم ~~يمسحوا إلا الركنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام ~~إبراهيم الذي هناك؛ فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقام غيره من ~~الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا ~~تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23)) (4) . قال طوائف من الصحابة ~~PageV05P368 # والتابعين: "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على ~~قبورهم، ثم لما طال عليهم الأمد صوروا صورهم، فكان ذلك مبدأ عبادة ~~الأوثان". # ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه مالك في الموطأ (1) : ~~"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا تتخذوا ~~قبري عيدا". # فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام، فيكون بمنزلة لحم الخنزير، وأما السفر ~~للتعريف ببيت المقدس مثلا، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد ~~الثلاثة فهو أيضا منهي عنه، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي ~~فيها من الشرك ما فيها، وتعبد بها وأقام بها، وقصد ما يقصده من البقاع ms0985 ~~لأجلها، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل ~~الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أليس هو ممن ~~استبدل السيئات بالحسنات؟ # الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قصد بعض هذه البقاع قصدا مشروعا مثل السفر ~~إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل ~~صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة، مثل البدع التي تفعل ~~هنا من السماع PageV05P369 # للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك، ومثل استلام بعض ما ~~هناك من الأحجار، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين ~~للبيت العتيق، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات. فالزيارة ~~إذا سلمت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل ~~منها، والعدول عن الفاضل إلى المفضول مع استوائهما غير محمود. # الوجه الثالث: أن من الناس من يقصد المجاورة ببيت المقدس ويدع المجاورة ~~بالثغر الذي هو قريب منه. وهذا الباب من أفضل الأفضل وأجلها، وهو فرض على ~~الكفاية، ومعلوم أن هذا أعظم خسرانا، وأشد حرمانا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛ ~~فإن المجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المرابطة لاختلاف المكانين. ~~أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من ~~ضعف إيمان، اللهم [إلا] إذا نذر هذا فيكون هذا معذورا. وإنما الكلام فيمن ~~يقدر على الأمرين. # ولهذا [لما] كان أهل البدع مهملين أمر الجهاد معظمين للزيارات، استولى ~~الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين ~~من شاء الله، وكان قد جرت فيه بدع كثيرة. # ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع، إما جبل لبنان وإما غيره، إما لزيارته ~~لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل ~~الله، فإن هذا أيضا من الضلال العظيم، وأصل السفر # PageV05P370 # إلى الزيارة ms0986 غير مشروع ولا مأمور به، بل هو من البدع والضلال. وكذلك ~~السياحة لغير قصد معين ليس ذلك مشروعا لنا. قال الإمام أحمد: ليست السياحة ~~من أمر الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين. والسياحة ~~المذكورة في القرآن ليست هذه السياحة؛ فإن الله قد قال: (عسى ربه إن طلقكن ~~أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ~~ثيبات وأبكارا (5)) (1) . # ومعلوم أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء المؤمنين لا يشرع لهن ~~هذه السياحة. ولكن قد فسرت السياحة بالصيام، وفسرت بالجهاد (2) ، وكلاهما ~~مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. # أما الأول: فرواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - مرسلا. # وأما الثاني فقال أبو داود في سننه (3) : "باب النهي عن السياحة"؛ وروى ~~فيه حديث العلاء بن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلا ~~قال: يا رسول الله! ائذن لي بالسياحة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~"إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله". # وكذلك أيضا روي (4) : "إن ### | رهبانية هذه الأمة: الجهاد في سبيل الله". # إذ لا رهبانية في الإسلام، وأما ما ذكره في كتابه أن النصارى PageV05P371 # ابتدعوا الرهبانية فقد نهانا الله ورسوله عن البدع. # وثبت عنه في صحيح مسلم (1) وغيره عن جابر أنه كان يقول في خطبته: "إن ~~أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل ~~بدعة ضلالة". # وثبت عنه في السنن (2) الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية ~~قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة فقال رجل: يا ~~رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع ~~والطاعة فإن من يعش منكم سيرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة ~~الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ~~ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة". # فكيف بما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المبتدعة؟ كما أخرجا في ~~الصحيحين (3) -واللفظ لمسلم- عن أنس بن مالك أن ms0987 نفرا من أصحاب النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي عن عمله في السر؟ # فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم. # وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه فقال: "ما بال أقوام ~~قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن ~~سنتي فليس مني". PageV05P372 # ولفظ البخاري (1) : جاء ثلاثة رهط بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما أخبروا كأنهم ~~تقالوها! فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما ~~تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال ~~الآخر: أنا أصوم الدهر أبدا. # وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله [فقال] : "أنتم ~~الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم ~~وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". # وفي الصحيحين (2) عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا. # وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن ~~يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل وأن يصوم، فقال: "مروه فليجلس، وليستظل ~~وليتكلم وليتم صومه". # فلما كان هذا الناذر نذر ما هو سنة وما هو بدعة أمره بالوفاء بالسنة دون ~~البدعة، كما في صحيح البخاري (4) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر ~~PageV05P373 # أن يعصي الله فلا يعصه". # وهذا متفق عليه بين أئمة الدين، لكن تنازعوا هل عليه كفارة يمين أو نذر ~~ما ليس مشروعا؛ بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟ # فقيل: لا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه ليس في هذا ~~الحديث وغيره أنه ms0988 أمر له بالتكفير. # وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما ثبت في صحيح مسلم (1) ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفارة النذر كفارة يمين". وفي ~~السنن (2) عنه أنه قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين". # وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أفضل ~~الصيام صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأفضل القيام قيام داود كان ~~ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه". وقد استفاض عنه في الصحيح (4) أنه ~~نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في أقل من ثلاث. وأمثال ذلك من ~~النصوص التي تبين ما بعث الله به رسوله من الحنيفية السمحة. كما جاء في ~~الحديث: "أحب الدين إلي الحنيفية السمحة" (5) . PageV05P374 # وفي الصحيح (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن هذا الدين متين ~~وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من ~~الدلجة، والقصد القصد تبلغوا". # وفي الصحيحين (2) عنه أنه قال: "اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا ~~يمل حتى تملوا". # وفي السنن (3) عنه أنه قال: "لكل عامل شرة وفتر، فمن كانت فترته إلى سنة ~~فقد اهتدى، ومن أخطأها فقد ضل". وفي لفظ: "ولكل شرة فتر؛ فإن [كان] صاحبها ~~سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه". # فقيل للحسن البصري لما روى هذا الحديث: "إنك إذا مررت بالسوق فإن الناس ~~يشيرون إليك؟ فقال: "لم يرد ذلك، وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في ~~دنياه". وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإن من الناس من يكون له شدة ~~ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابد من فتور في ذلك. وهم في ~~الفترة نوعان: # منهم: من يلزم السنة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهي عنه بل يلزم ~~عبادة الله إلى الممات؛ كما قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)) ~~(4) ، يعني الموت، قال الحسن البصري: لم يجعل PageV05P375 # الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت. # ومنهم: من يخرج إلى البدعة في ms0989 دينه أو فجور في دنياه حتى يشير إليه ~~الناس، فيقال: هذا كان مجتهدا في الدين ثم صار كذا وكذا. فهذا مما يخاف على ~~من عدل (1) عن العبادات الشرعية إلى الزيارات البدعية. ولهذا قال أبي بن ~~كعب وعبد الله بن مسعود: "اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة". # ومع هذا فجنس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل ~~من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعب فيه عيينة من ماء عذبة ~~فأعجبته. فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - فقال: "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته ~~سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؛ اغزوا في سبيل ~~الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة" (2) . قال الترمذي: ~~حديث حسن صحيح. وفواق الناقة: ما بين الحلبتين. # وجماع الأمر ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ~~(3) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي! ما أخلصه PageV05P376 # وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان ~~صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، ~~والصواب أن يكون على السنة. # وهذا كما قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك ~~بعبادة ربه أحدا (110)) (1) . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم ~~اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا. # والعمل الصالح هو المشروع، وهو طاعة الله ورسوله، وهو فعل الحسنات التي ~~يكون الرجل به محسنا. قال تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو ~~محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)) (2) . وقال: ~~(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم ~~يحزنون (112)) (3) . # ولابد ms0990 في الرباط والهجرة والجهاد وسائر الأعمال الشرعية من السنة التي هي ~~روح العمل، كما في الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ~~ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ~~يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". PageV05P377 # وفي الصحيحين (1) عنه أنه قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ~~ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة ~~الله هي العليا فهو في سبيل الله". # قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا ~~فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم ~~المولى ونعم النصير (40)) (2) . # فالله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه لنا من ~~الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة، ويجنبنا ما يكرهه لنا من ذلك كله. # وأعظم من ذلك أن يتشاغل المسلمون بقتال بعضهم بعضا، كما يجري بين أهل ~~الأهواء من القبائل وغيرها، كقيس ويمن وجرم وتغلب ولخم وجذام وغير هؤلاء، ~~مع مجاورتهم للثغور، فيدعون الرباط والجهاد الذي هو سعادة الدنيا والآخرة ~~-كما قال تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) (3) يعني: إما النصر ~~والظفر، وإما الشهادة والجنة- ويشتغلون بقتال الفتن والأهواء الذي هو خسارة ~~الدنيا والآخرة. # وفي الصحيحين (4) عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [قال] ~~: "إذا PageV05P378 # التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". فقيل: يا رسول ~~الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه". # وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا ~~وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله ~~عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا ~~حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) ~~ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك ms0991 ~~هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم ~~البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين ~~اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما ~~الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107)) (1) . # وهذه الفتيا لا تحتمل البسط في هذه الورقة، وإنما نبهنا على النكت ~~الجامعة. # (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا ~~الله ونعم الوكيل) . تمت PageV05P379 ### | قاعدة في الأموال السلطانية # PageV05P381 # بسم الله الرحمن الرحيم # فصل # الأموال السلطانية والأموال العقدية من وقف ونذور ووصية ونحو ذلك، الأصل ~~في ذلك مبني على شيئين: # أحدهما: أن يعلم المسلم بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع ~~المؤمنين نصا واستنباطا. # ويعلم الواقع من ذلك في الولاة والرعيه، ليعلم الحق من الباطل، ويعلم ~~مراتب الحق ومراتب الباطل، ليستعمل الحق بحسب الإمكان، ويدع الباطل بحسب ~~الإمكان، ويرجح عند (1) التعارض أحق الحقين، ويدفع أبطل الباطلين. # فنقول: إن الأموال المشتركة السلطانية الشرعية ثلاثة: الفيء، والمغانم، ~~والصدقة. وإذا صنف العلماء كتب الأموال -ككتاب "الأموال" لأبي عبيد ولحميد ~~بن زنجويه، و"الأموال" للخلال من جوابات أحمد، وغير ذلك- فهذه هي الأموال ~~التي يتكلمون فيها. # وكذلك من العلماء من يجمع الكلام فيها في الكتب المصنفة في ربع الأموال، ~~كما في "المختصر" للمزني و"مختصر" الخرقي وغيرهما PageV05P383 # كتاب قسم الفيء والغنائم والصدقة، يذكرونه قبل قسم الوصايا والفرائض بعد ~~قسم الوقوف. ومنهم من يذكر قسم الصدقة في كتاب الزكاة، وقسم المغانم والفيء ~~في الجهاد، كما هي طريقة كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. ومنهم من ~~يذكر الخراج والفيء في كتاب الإمارة، كما فعل أبو داود في "السنن" في كتاب ~~الخراج والإمارة. # وهذه الأموال الثلاثة ثابتة مستخرجها ومصروفها بكتاب الله وسنة رسوله، ~~وأكثرها مجتمع عليه، وفيها مواضع متنازع فيها بين العلماء. فإن الله فرض ~~الزكاة في الأموال وذكر أهلها في كتابه بقوله: (إنما الصدقات للفقراء ~~والمساكين) الآية (1) . والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين من ذلك ما ms0992 ~~أجمله الكتاب بما سنه من نصب الزكاة وفرائضها، وفسر من مواضعها، وعمل به ~~خلفاؤه من بعده. # وكذلك المغانم، قد أحلها الله بكتابه وسنة رسوله، وقسمها رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، وهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال، ~~وما أخذ من المرتدين والخارجين عن شريعة الإسلام، فتفصيله ليس هذا موضع ~~ذكره. ويسمى أيضا فيئا وأنفالا. # وكذلك الفيء الخاص، وهو ما أخذ من الكفار بغير قتال، ذكره الله في سورة ~~الحشر (2) ، وجرى قسمه في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~PageV05P384 # وسنة خلفائه الراشدين على الوجه الذي جرى عليه. ويلتحق به الأموال ~~المشتركة التي لم تؤخذ من الكفار، كالمواريث التي لا وارث لها، والأموال ~~الضائعة التي لا يعلم لها مستحق معين، ونحو ذلك من الأموال المشتركة. # ثم خلفاء الرسول أهل العدل من العلماء والأمراء الجامعين بين العلم ~~والإمارة مع العدل -كالخلفاء الراشدين- قد يجتهدون في كثير من هذه الأموال ~~قبضا وصرفا، كما يجتهدون في الأحكام والولايات والأعمال والعقوبات ونحو ~~ذلك، واجتهادهم سائغ، والأموال المأخوذة بمثل هذا الاجتهاد سائغة، و ### | إن اعتقد الرجل تحريم بعض ذلك، فليس له أن ينكر على الإمام المجتهد في ذلك، # ولا على من أخذ باجتهاده، كما لا ينكر على ما أعطاه الحاكم بحكمه في ~~الفرائض والوقوف ونحو ذلك. ولكن هل يباح له بالحكم ما اعتقد تحريمه قبل ~~الحكم؟ على روايتين. # وكذلك يخرج في القسم، فإن قسم الإمام المال الذي يجب عليه قسمه هو كحكمه، ~~وأما قسمته لغير ذلك فهي بمنزلة فعل الحاكم، كتزويج الأيامى وبيع أموال ~~اليتامى. وهل فعل الحاكم حكم فلا يسوغ نقضه، أم هو كفعل غيره فيجوز نقضه ~~حتى ينفذه أو غيره من الحكام؟ فيها وجهاد. # ثم إذا قلنا: هو حرام عليه، فليس حراما على غيره، ويحل له -إذا أخذه غيره ~~بتأويل- أن يأخذه منه بابتياع واتهاب ونحو ذلك من العقود. هذا هو الصواب، ~~فإن ما قبضه المسلم بالتأويل أولى # PageV05P385 # بالإباحة مما يقبضه الكفار من أهل الحرب والذمة بالتأويل. وإذا كان ~~الكفار فيما يعتقدون ms0993 حله إذا أسلموا لو تحاكموا إلينا بعد القبض حكمنا ~~بالاستحقاق لمن هو في يده، وحللناه لمن قبضه من المسلمين منه بمعاوضة، ~~وحللناه له بعد إسلامه، فالمسلم فيما هو متأول في حكمه باجتهاد وتقليد إذا ~~قبضه أولى أن تحل معاملته فيه، وأن يكون مباحا له إذا رجع بعد ذلك عن القول ~~الذي اعتقده أولا، وأن يحكم له به بعد القبض، كما لو حكم به حاكم. # وقد ذكرت هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرت فيها روايتين أصحهما ذلك، ~~بناء على أن حكم الإيجاب والتحريم لا يثبت في حكم المكلف إلا بعد بلوغ ~~الخطاب، وأنه [لا] يجب عليه قضاء ما تركه من الواجبات بتأويل، ولا رد ما ~~قبضه من المحرمات بتأويل كالكفار بعد الإسلام وأولى، فإن المسلم في ذلك ~~أعذر. # وتنفير الكفار عن الإسلام كتنفير أهل التأويل عن الرجوع إلى الحق والتوبة ~~من ذلك الخطأ. وهذا في الأنكحة والمعاوضات والمقاسمات. # وكذلك ### | ما أتلفه أهل البغي على أهل العدل من النفوس والأموال، لا يجب عليهم ضمانه # في ظاهر المذهب الموافق لقول جمهور العلماء، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ~~في أحد قوليه، كما أجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين. قال الزهري: وقعت ~~الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فأجمعوا أن كل ~~دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر. وذلك لأنهم متأولون، وإن ~~كان ما فعلوه حراما في نفس الأمر. # PageV05P386 # وفي أهل الردة أيضا روايتان، أصحهما أنهم لا يضمنون كأهل الحرب، كما أشار ~~به عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه، لما قال لأهل ~~الردة: تدوا قتلانا ولا ندي (1) قتلاكم، فقال عمر: لا، لأنهم قوم قتلوا في ~~سبيل الله واستشهدوا. دل على ذلك كتاب الله في عفوه عن الخطأ، وسنة رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة أسامة بن زيد (2) وقصة عمار بن ياسر ~~(3) وعدي بن حاتم (4) وأبي ذر (5) وغير ذلك. # ف ### | ما قبضه المسلم بعقد متأولا فيه ملكه، # ولو تحاكم اثنان في ms0994 عقد اعتقدا صحته بعد القبض فينبغي للحاكم أن يقرهما ~~على ذلك التقابض. # ويجوز معاملة المسلم فيما قبضه بهذا الوجه، ولهذا أمر أحمد لمن يعامل ~~السلطان في وقته أن يكون بينه وبينه آخر، وكلما بعد كان أجود، لأن المباشر ~~لهم قد يستحل من المعاملة باجتهاد أو تقليد ما لا يستحله المستفتي، فإذا ~~قبضه المباشر بتأويله حل للمستفتي حينئذ. # ونظير هذا قول عمر في الخمر والخنزير: ولوهم بيعها وخذوا أثمانها، ولا ~~تبيعوها أنتم (6) . فإن المسلم لا يحل له بيع الخمر PageV05P387 # والخنزير، ويحل له قبض ثمن ذلك ممن باعه بتأويله في دينه. # فالمسلم الذي قبض بتأويل أولى. فهذا مأخذ لقول أحمد. # وله مأخذ ثان: أن الظالم إذا باع المغصوب فالمشتري قبض عوض ماله، ~~والأموال التي بأيديهم مجهولة الملك، فالعوض فيها كالمعوض. فالمستفتي قبض ~~ممن قبض عوض [ماله] ، ولم يقبض ممن قبض نفس مال الغير. ولهذه القاعدة فروع ~~في جواباتي في الفتاوى. # وما قبضه الإمام من الحقوق -الزكوات والخراج وغير ذلك- بتأويل من اجتهاد ~~أو تقليل وجبت طاعته فيه، كما يجب طاعة الحاكم في الحكم المتنازع فيه، فإذا ~~طلب أخذ القيمة أو أخذ ما فضل عن الفرائض ونحو ذلك أطيع في ذلك، وتبرأ ذمة ~~المسلم بما يدفعه من ذلك. # وهل يجزئه ذلك إذا كان يعتقد أنه لا يجزئه لو فعله؟ الصواب أنه يجزئه، ~~كما ذكر أصحابنا في الخلطة أنه لو أخذ القيمة أو الكبير عن الصغير فإنه ~~يرجع أحد الخليطين على الآخر بذلك، وإطلاقهم يقتضي أنه يجزىء. # ونظير هذا من مسائل العبادات البدنية الصلاة، فإن المأموم يجب عليه ~~متابعة الإمام فيما يسوغ فيه الاجتهاد وإن كان المأموم لا يراه، كما لو قنت ~~الإمام في الفجر، أو زاد في تكبير الجنازة إلى سبع. لكن لو أخل في الصلاة ~~بركن أو شرط في مذهب المأموم دون مذهبه فهذه فيها الخلاف. وهو يشبه إجزاء ~~إخراج الزكاة من بعض الوجوه، لكن إن كان الإمام لا يطلب منه الزكاة وإنما ~~هو بذلها له، # PageV05P388 # فقبضها الإمام (1) باجتهاده، فهذا نظير صلاته ms0995 خلفه؛ وإن كان الإمام يطلب ~~منه الزكاة بحيث يجب طاعته، فهذا نظير أن يصلي خلفه ما لا يمكنه فعله خلف ~~غيره، كالجمعة والعيدين ونحوهما. ولهذا إذا قلنا: لا تصح الصلاة خلف ~~الفاسق، فإنه يجب فعل هذه الصلوات خلفه، وفي الإعادة روايتان. فالأمر بفعل ~~الصلاة خلفه وبالإعادة يشبه الأمر بإيتاء الزكاة وبالإعادة. # ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه ### | يجزىء دفع الزكاة إلى الإمام الذي يجور في قسمها، # فإجزاؤها مع أخذها بالاجتهاد أولى، وإن كان رب المال لا يجزئه صرفها في ~~غير المصارف، لكن المأثور عن الصحابة الأمر بدفع الزكاة إليهم وبالصلاة ~~خلفهم. # والمفسدة في الزكاة أشد، فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغ. # والسلف لم يأمروا من صلى خلفهم بإعادة، ولا من دفع الزكاة إليهم بإعادة، ~~ولهذا قال أحمد في رسالته في "السنة" (2) : إن من أعاد الجمعة فهو مبتدع. ~~لكن المسألتان واحدة، فالمتفق عليه حجة على المختلف فيه، وتخرج في صورة ~~الوفاق ما في صورة النزاع، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم ~~الزكاة، كعبيد بن عمير وغيره، وكان عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين رضي ~~الله عنه، الذي انتشرت الرعية في زمنه، وكثرت الأموال، وعدل فيها صادقا ~~بارا راشدا تابعا للحق، فوضع الخراج على ما فتحه عنوة، PageV05P389 # كأرض السواد ونحوها، ووضع ديوان العطاء للمقاتلة وللذزية، وكان عثمان بن ~~حنيف على الخراج، وزيد بن ثابت -فيما أظن- على ديوان العطاء. وما زالت هذه ~~التسمية معروفة: "ديوان الخراج" وهو المستخرج من الأموال السلطانية؛ ~~و"ديوان العطاء" كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك. # ولولاة الأمور من الملوك ودولهم في ذلك عادات واصطلاحات، بعضها مشروع، ~~وبعضها مجتهد فيه، وبعضها محرم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ، منهم من هو ~~من أهل العلم والعدل كأهل السنة، فيتبعون النص تارة والاجتهاد أخرى؛ ومنهم ~~أهل جهل وظلم كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل ~~والجور من القضاة والولاة. # وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في غاية الاستقامة والسداد، بحيث ~~لم يمكن ms0996 الخوارج أن يطعنوا فيهما فضلا عن أهل السنة. وأما عثمان وعلي رضي ~~الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وسيرتهما سيرة ~~العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر، لكن فيهما نوع مجتهد فيه، ~~والمجتهد فيما اجتهد فيه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور ~~له، فاجتهاد الخلفاء أعظم وأعظم. # وأما عثمان فحصل منه اجتهاد في بعض قسم المال والتخصيص به، وفي بعض ~~العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد، والعلماء منهم من يرى رأيه، ومنهم من ~~لا يراه. وعلي رضي الله عنه حصل # PageV05P390 # منه اجتهاد في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيه، ومنهم من ~~لا يراه. وبكل حال فإمامتهما ثابتة، ومنزلتهما من الأمة منزلتهما، لكن أهل ~~البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءهم حاكمة ~~على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين، فاستحلوا بذلك الفتنة ~~وسفك الدماء وغير ذلك من المنكرات. # وأما من بعد الخلفاء الراشدين ف ### | لهم في تفاصيل قبض الأموال وصرفها طرق (1) متنوعة: # منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين. # ومنها ما هو اجتهاد يسوغ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذار، ويباح ~~المحظور بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك. # ومنها ما هو اجتهاد، لكن صدوره لعدوان من المجتهد وتقصير منه، شاب الرأي ~~فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة. وهذا النوع كثير جدا. # ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بترك واجب أو فعل محرم. # وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقسم والعقوبات ~~وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق، والذي لا يوافق إما أن ~~يكون معذورا فيه كعذر العلماء المجتهدين PageV05P391 # أو لا يكون كذلك، والذي لا يكون معذورا فيه عذرا شرعيا إما أن يكون فيه ~~شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهة ولا تأويل. # ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس ~~وظائف تؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل ms0997، وإن كان التغيير قد ~~وقع في أنواعها وصفاتها ومصارفها، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج ~~العمري، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة، وجعل ~~المقاسمة تعدل المخارجة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر. وهذا ~~من الاجتهادات السائغة. # وأما استئثار ولاة الأمور بالأموال والمحاباة بها فهذا قديم، بل قال - ~~صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني ~~على الحوض" (1) . وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال الأمراء بعده ~~في غير حديث، وكان الخلفاء هم المطاعين في أمر الحرب والقتال وأمر الخراج ~~والأموال، ولهم عمال ونواب على الحروب، وعمال ونواب على الأموال، ويسمون ~~هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج. # ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد ~~المئة الثالثة، فإنه ضعف أمر خلافة بني العباس وأمر وزرائهم بأسباب جرت، ~~وضيعت بعض الأموال، وعصى عليهم قوم من النواب PageV05P392 # بتفريط جرى في الرجال والأموال. فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة فيما ~~علمته من "التاريخ" (1) أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوض الراضي ~~الخليفة الإمارة ورئاسة الجيش وأعمال الخراج وتدبير سائر المملكة إلى مقدم ~~اسمه محمد بن رائق، وجعله أمير الأمراء، وأمر بأن يخطب له على سائر منابر ~~المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك. # قال: وبطل قبل ذلك أمر الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي ~~ولا الدواوين، ولا كان له اسم غير اسم الوزارة فقط، وأن يحضر في أيام ~~المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقة، ويقف ساكنا. وصار ابن رائق وكاتبه ~~ينظران فيما كان الوزراء ينظرون فيه، وكذلك كل من تقلد الإمارة بعد ابن ~~رائق، وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء، فيأمرون فيها وينفقون ~~منها، ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون، وبطلت بيوت الأموال. # ثم إنه بعد ذلك حدثت دولة بني بويه الأعاجم، وغلبوا على الخلافة، وازداد ~~الأمر عما كان عليه، وبقوا قريبا من مئة عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من ~~ثلاثين سنة ms0998 أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضا. # وكان أحيانا تقوى دولة بني العباس بحسن تدبير وزرائهم -كما جرى في وزارة ~~ابن هبيرة- بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة، PageV05P393 # وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السكة والخطبة وطاعة ~~يسيرة تشبه قبول الشفاعة. فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال ~~وإنفاقها فكانوا خارجين فيه عن أمر الخلفاء. # وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة، ~~المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛ ~~ومنهم الملك المسلم المعظم لأمر الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك ~~أقسام يطول شرحها. # وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يسرف فيها وضعا وجباية؛ ~~ومنهم من يستن بما فعل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبله على ~~القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادا ملكيا يشبه القسم الثالث؛ ~~ومنهم من يقصد اتباع الشريعة وإسقاط ما يخالفها، كما فعل نور الدين لما ~~أسقط الكلف السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر ~~والجزيرة، وكانت أموالا عظيمة جدا، وزاد الله البركات، وفتح البلاد وقمع ~~العدو بسبب عدله وإحسانه. # ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنة رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنفون للشريعة ~~في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى [ذكر ابن حزم] ~~(1) إجماع المسلمين على ذلك، فقال (2) . ومع هذا PageV05P394 # فبعض من وضع بعضها وضعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى ~~والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووزرائه، فإنه [لما] قامت دولة السلاجقة ~~ونصروا الخلافة العباسية، وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد، بعد أن كان ~~أمراء مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد، وأظهروا ~~شعار البدع في بلاد الإسلام، وهي التي تسمى فتنة البساسيري في نصف المئة ~~الخامسة= حدثت أمور: # منها: بناء المدارس والخوانق ووقف الوقوف عليها، وهي المدارس النظاميات ~~بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ ms0999 وغير ذلك. # ومنها: ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف. # وصنف أبو المعالي الجويني كتابا للنظام سماه "غياث الأمم في التياث ~~الظلم"، وذكر فيه (1) قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن ~~الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصول ~~الجهاد إلا بأموال تقام بها الجيوش، إذ أكثر الناس لو تركوا باختيارهم لما ~~جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن ترك جمع الأموال وتحصيلها حتى يحدث ~~فتق عظيم من عدو أو خارجي كان تفريطا وتضييعا. فالرأي أن تجمع الأموال ~~ويرصد للحاجة. # وطريق ذلك أن توظف وظائف راتبة لا يحصل بها ضرر، ويحصل PageV05P395 # بها المصلحة المطلوبة من إقامة الجهاد. والوظائف الراتبة لابد أن تكون ~~على الأمور العادية، فتارة وظفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا ~~على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب ~~مقدارا، إما على مقدار المبيع وإما على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات ~~والإجارات، ويضعوا على العقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارة ~~يشبه الزكاة المشروعة من كونه يوجد في العام على مقدار؛ وتارة يشبه الخراج ~~الشرعي؛ وتارة يشبه ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحرب. # ومنهم من يعتدي، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصله ~~محرم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضع على أجور المغاني من الرجال والنساء، ~~فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالا في نفسها، وإنما المحرم الظلم فيها، ~~كغالب الأثمان والأجور، وتارة تكون في نفسها حراما، كأثمان الخمور ومهور ~~البغايا. وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر ~~(1) والفواحش، فبقي غير ممنوع من جهة السلطان، لما له عليه من الوظيفة، ~~وكان ذلك سنة خمس عشرة [وست مئة] . # وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق، واستولى على أرض ~~الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء ~~والعباد، كبحوث ابن الخطيب (2) PageV05P396 # وجست العميدي (1) وتصوف ابن العربي وخرقة اليونسية وبعض الأحمدية ~~والعدوية وغير ذلك. # وحقيقة ms1000 الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع، فإن هذا إذا صدر ~~باجتهاد فهو في الأصل مشوب بهوى ومقرون بتقصير أو عدوان، وإن التقصير أو ~~العدوان صادر أيضا من أكثر الرعية، فإن كثيرا منهم أو أكثرهم لو تركوا لما ~~أدوا الواجبات التي عليهم، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد ~~الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادر من كثير من الولاة أو أكثرهم بما ~~يقبضونه من الأموال بغير حق، ويصرفونه في غير مصرفه، ويتركون أيضا ما يجب ~~من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. # فجمع هذه الأموال وصرفها هي من مسائل الفتن، مثل الحروب الواقعة بين ~~الأمراء بآراء وأهواء، وهي مشتملة على طاعات ومعاصي وحسنات وسيئات، وأمور ~~مجتهد فيها تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا أو عمليا، نظير ~~الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام، وأنواع الزهادات ~~والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في ~~الأصول والفروع والعبادات والأحوال، فإنها أيضا مشتملة على حسنات وسيئات، ~~طاعات ومعاصي، وأمور مجتهد فيها تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا ~~أو عمليا. PageV05P397 # فالواجب أن ### | ما شهد الدليل الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحته عمل به، # ثم يعامل الرجال والأموال بما توجبه الشريعة، فيعفى عما عفت عنه، وإن ~~تضمن ترك واجب أو فعل محرم، ويثنى على ما أثنت عليه، وإن كان فيه سيئات ~~ومفاسد مرجوحة. وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمال والأموال داخلة في ~~الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام، حديث النعمان بن بشير المشهور في الصحاح ~~(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحلال بين والحرام بين، ~~وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ ~~لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى ~~يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في ~~الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ~~ألا وهي القلب". # فإنه ضمن هذا ms1001 الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح، كما أمر به ~~في قوله: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (2) ، إذ أمر به المرسلين ~~والمؤمنين، كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم (3) . وذكر فعل ~~المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام، كما قال: ~~(يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) ~~(4) . PageV05P398 # وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فدل ذلك على أن من الناس من ~~يعلمها، فمن تبينت له الشبهات لم يبق في حقه شبهة، ومن لم تتبين له فهي في ~~حقه شبهة، إذ التبين والاشتباه من الأمور النسبية، فقد يكون الشيء متبينا ~~لشخص مشتبها على الآخر. # وبين أن الحزم ترك الشبهات، والشبهات قد تكون في المأمور به، وقد تكون في ~~المنهي، فالحزم في ذلك الفعل وفي هذا الترك، فإذا شك في الأمر هل هو واجب ~~أو محرم فهنا هو المشكل جدا، كما في الاعتقادات، فلا يحكم بوجوبه إلا بدليل ~~ولا بتحريمه إلا بدليل، فقد لا يكون لا واجبا ولا محرما وإن كان اعتقادا، ~~إذ ليس كل اعتقاد مطلق أوجبه الله على الخلق، بل الاعتقاد إما صواب وإما ~~خطأ، وليس كل خطأ حرمه الله، بل قد عفا الله عن أشياء لم يوجبها ولم ~~يحرمها. والله أعلم. # (تم بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، ~~في خامس عشر من شعبان المكرم سنة أربع عشرة وثمان مئة، بمدرسة أبي عمر قدس ~~الله تعالى روحه ونور ضريحه) . # PageV05P399 # بسم الله الرحمن الرحيم # مقدمة # الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه ~~أجمعين. # وبعد، فهذه مجموعة جديدة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية التي لم تنشر ~~ضمن "مجموع الفتاوى"، وقد اعتمدت في تحقيقها وإخراجها على أصول خطية موجودة ~~في مكتبات مختلفة كما سيأتي وصفها، وهذه الأصول تتفاوت في الصحة والجودة، ~~وبعضها كثيرة التصحيف والتحريف تطلب استخراج النص الصحيح منها جهدا كبيرا. ~~وقد كنت أقف أحيانا ساعات لإصلاح الأخطاء والتحريفات في ms1002 بعض الرسائل، وأقرأ ~~الفقرة مرات، وأراجع كلام المؤلف في الموضوع نفسه في كتاباته الأخرى، حتى ~~أهتدي إلى الصواب أو ما يقاربه ويستقيم السياق. # ومنهجي فيها هو الذي التزمت به في المجلدات السابقة، من ضبط النص وتقسيمه ~~إلى فقرات واستخدام علامات الترقيم، والتخريج المختصر للأحاديث، وتوثيق ~~النقول، وعدم استعمال الأقواس إلا عند إضافة ما لا بد منه على الأصل، وعدم ~~الإشارة إلى التحريفات والأخطاء الواضحة. # أما التعريف بالأعلام والأماكن والقبائل، وشرح المسائل الفقهية والكلامية ~~واللغوية، وجمع طرق الأحاديث واستقصاء الكلام حولها، فليس مكانه التعليق ~~على النص المحقق، بل ينبغي أن يفرد لكل غرض منها كتاب مستقل كما فعل ذلك ~~سلفنا رحمهم الله. # PageV00P000 # تحتوي هذه المجموعة على رسائل مهمة لشيخ الإسلام في موضوعات مختلفة، وهي ~~ثابتة النسبة له، وقد نسب كثير منها له في النسخ الخطية، والبقية التي ليس ~~عليها اسمه مكتوبة بأسلوبه المتميز # في العرض والنقد والإحالة إلى مواضع أخرى من كتاباته، وتتناول الموضوعات ~~التي عرف بالكتابة فيها والاحتجاج لها. ويتفق رأيه فيها هنا مع رأيه في ~~كتبه الأخرى. # وقد بحثت في فهرس مؤلفاته عن عناوين رسائل هذه المجموعة، فلم أجد إلا ~~ثلاثة منها، وهي: "قاعدة في مواقيت الصلاة" و"قاعدة في الجمع بين الصلاتين" ~~(العقود الدرية ص 46) و"قاعدة في ضمان البساتين هل يجوز أم لا؟ " (العقود ~~الدرية ص 48) . ولعل الرسالة الثانية عشرة (فصل في المواقيت والجمع بين ~~الصلاتين) هي المذكورة في "العقود" بعنوانين منفصلين، ويمكن أن تكون غيرها، ~~لكثرة المؤلفات والقواعد التي كتبها الشيخ في هذه الموضوعات الفقهية، حتى ~~عجز المترجمون له عن إحصائها. # والرسالة الثامنة عشرة (مسألة في ضمان البساتين والأرض) هي المذكورة ~~بعنوان "قاعدة في ضمان البساتين" في "العقود"، وقد نشر منها جزء في "مجموع ~~الفتاوى" (30/220 وما بعدها) ، وينقصه الثلث الأخير، وفيه زيادات في أوله ~~عما هنا، لأن الناسخ هنا اختصر. # أما بقية الرسائل والمسائل فلم أجد لها عناوين محددة في كتب التراجم، ~~فاعتمدت في إثباتها على النسخ الخطية، واستنبطت بعضها من أوائل هذه ~~الرسائل. # PageV00P000 ### | وصف الأصول ms1003 المعتمدة # اعتمدت في إخراج هذه الرسائل على عدة مجاميع ورسائل مفردة من مكتبات ~~مختلفة، وفيما يلي وصفها مرتبة حسب ورودها في المجموعة: # (1) "قاعدة في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده لا شريك له هي حقيقة ~~الدين ... ": توجد نسخته الخطية ضمن مجموعة في مكتبة جار الله بإستانبول ~~برقم [1729] (ق 1-18 أ) ، وعنوان هذه المجموعة مطموس في الصفحة الأولى ~~منها، وقد كتب في أعلاها "فهرست ما في # هذه المجموعة ... " ثم ذكرت عناوين بعض الرسائل. وعليها تملك بخط مالكه ~~ظهر منه: "تزايدت نعم الله على أبي عبد الله ولي الدين جار الله سنة 1143". # والمجموعة في 122 ورقة، كتبت بخط نسخي جيد، وآخرها ناقص، فلم يظهر لنا ~~تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع، وفي الصفحات الأولى ~~منها طمس ذهب بكثير من الكلمات. ومع كونها مجودة في الخط فهي كثيرة التصحيف ~~والتحريف، وغالبا ما يرسم الناسخ الكلمة ويعجمها فيبعد النجعة، وفيها غير ~~قليل من الأخطاء اللغوية والنحوية. # وتحوي المجموعة تسع رسائل للشيخ، نشرت ثلاث منها ضمن "مجموع الفتاوى"، ~~والبقية تنشر ههنا. # (2) "فصل في حق الله على عباده، وقسمه من أم القرآن، وما # PageV00P000 # يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك": هي الرسالة الثانية ضمن ~~المجموعة السابقة (ق 18 أ-28 أ) . وفي آخرها: "تمت هذه القاعدة بحمد الله ~~وعونه، والحمد لله وحده". # (3) "فصل في صفات المنافقين": هي الرسالة الثالثة ضمن المجموعة السابقة ~~(ق 28 ب-35 أ) . وينتهي الكلام في النسخة دون الإشعار بنهايتها، فلعل آخرها ~~ناقص. # (4) "فصل في التوحيد": هي الرسالة الرابعة ضمن المجموعة السابقة (ق 35 ~~ب-56 ب) . # (5) "فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع ~~وعمل صالح": ضمن المجموعة السابقة (ق 56 ب-100 ب) . # (6) "قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به ~~ونحو ذلك": أصلها ضمن المجموعة السابقة (ق 101 أ-106 ب) . # (7) "فصل في الإسلام وضده": يوجد أصله ضمن مجموعة خطية في مكتبة جامعة أم ~~القرى بمكة المكرمة برقم [1491] (ق 13 ب-22 ب) ، وهي بخط نسخي جيد، كتبها ~~أحمد بن أبي ms1004 بكر الطبراني الكاملي، وجمع فيها مختارات من كتب مختلفة، ومنها ~~بعض رسائل شيخ الإسلام. ولعل الناسخ من القرن التاسع، وقد بحثت عن ترجمته ~~في المصادر، فوجدت في "شذرات الذهب" (7/212) : شهاب # PageV00P000 # الدين أحمد بن أبي بكر بن علي المعروف ببواب الكاملية الحنبلي (ت 835) ، ~~قال العليمي في طبقاته: عني بالحديث كثيرا وسمع، وكان يتغالى في حب الشيخ ~~تقي الدين، ويأخذ بأقواله وأفعاله، وكتب بخطه تاريخ ابن كثير، وزاد فيه ~~أشياء حسنة. فلينظر هل الناسخ هو المترجم له هناك؟ # ونسخة هذه الرسالة ناقصة الآخر، والورقة التي تليها في المجموعة ليست ~~متصلة بما قبلها. والنسخة صحيحة، يندر فيها وجود الخطأ، فإنها بخط عالم. # (8) مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد: توجد نسخته ضمن مجموعة خطية بعنوان ~~"المسائل والأجوبة" في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم [4 فقه حنبلي] (ق 14 ~~ب-25 أ) . وقد كتبت بخط نسخي جميل، وفي آخرها ذكر الناسخ وتاريخ النسخ ~~بقوله: "وكتب في سادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، على يد ~~الفقير محمد بن عيسى بن أبي الفضلى الشافعي غفر الله له ولوالديه ولجميع ~~المسلمين". # وعدد أوراق هذه المجموعة 85 ورقة، وأولها ناقص، ولا ندري مقدار النقص، ~~فقد بدأت بالأسطر الأخيرة من فتوى لشيخ الإسلام ضمن "مجموع الفتاوى" ~~(24/10-13) . والمجموعة تحتوي على مسائل مهمة للشيخ لم ينشر بعضها ضمن ~~"مجموع الفتاوى". # (9) "مسألة في الاستغفار": وصلت إلينا قطعة منها ضمن المجموعة الموصوفة ~~سابقا برقم (7) ، (الورقة 12 أ- 13 ب) . ولا # PageV00P000 # ندري مقدار ما ضاع من أولها. # (10) "مسائل في الصلاة": هي ضمن المجموعة السابقة برقم (7) ، (ق 23 أ-26 ~~ب) ، وهي مجموعة فصول في مسائل من الصلاة، لم يصل إلينا أولها، ولا نعرف ~~مقداره، ولم نجد منها نسخة # أخرى تكمل النقص. # (11) "فصل في الصلاة الوسطى": ضمن المجموعة السابقة برقم (7) ، (ق 26 ~~ب-30 ب) ، وآخرها ناقص، ولم نجد في المجموعة ما يكمل النقص. # (12) "فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين": وصلت إلينا نسختان منه، ~~إحداهما: ضمن "الكواكب الدراري" (المجلد 83) نسخة دار الكتب الظاهرية برقم ~~[578] (ق 9 ب-21 ب) ، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنها كتبت ms1005 حوالي سنة 830 ~~كما يظهر من تاريخ نسخ الأجزاء الأخرى الموجودة من الكتاب، وهي نسخة جيدة ~~قليلة الأخطاء. # والثانية: مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم [7921 ~~فلم] عن مصدر مجهول، ولعلها كانت في مصر، فقد كتب أحد القراء في أسفل ~~الصفحة الأولى منها: "طالعه ورقم أوراقه الفقير إلى عفو ربه أبو نهلة أحمد ~~بن عبد المجيد بن هريدي بالقاهرة المحمية في الخامس من ربيع الأول سنة 1400 ~~من الهجرة النبوية". ويبدو من دراستها أنها حديثة الخط، وقد جاء في آخرها: ~~"بلغ # PageV00P000 # مقابلة على الأم المنقول منها، وهي نسخة مضطربة". ولعل الأم المنقول منها ~~هي النسخة الموجودة ضمن "الكواكب"، فلا فرق بين النسختين إلا نادرا، وكان ~~الثانية طبق الأولى. # (13) "مسألة في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟ ": ~~أصلها ضمن "أجوبة عن مسائل فقهية" في مكتبة شهيد علي بإستانبول برقم [2751] ~~(ق 143 أ-145 أ) ، والنسخة بخط نسخي جيد، كتبها محمد بن كامل الشافعي كما ~~في الورقة (173 ب) . ولعلها # من خطوط القرن التاسع. # (14) "مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد": هي ضمن المجموعة ~~السابقة (ق 161 أ-170 أ) ، ويبدو أن الناسخ لم ينسخها بتمامها، فقد اختصر ~~كلام الشيخ وحذف منه، كما أشار إلى ذلك في آخرها بقوله: "واستشهد بغير ذلك، ~~حذفته اختصارا لضيق الوقت"، ودل عليه بقوله: "ثم قال" في أثناء المسألة ~~مرارا. وليته نسخها على وجهها! # (15) "مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودها": ~~نسختها في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب ضمن دار الكتب الوطنية بتونس برقم ~~[18567] ، وهي مكتوبة بخط نسخي قديم، والمسألة في صفحة واحدة، وقبلها "فتوى ~~فيمن يؤخر الصلاة عن وقتها" (= ضمن "مجموع الفتاوى" 22/27-38 ثم 24/27-28) ~~، وفي أولها ذكر الشيخ والدعاء له بقوله: "أطال الله بقاءه" مما يدل على ~~أنها كتبت في حياته. # PageV00P000 # (16) "مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟ ": توجد ~~نسختها الخطية ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13) ، (ق 160 ب-161 ب) . # (17) "مسألة في إجارة الإقطاع": هي ضمن المجموعة التي وصفت برقم (8) ، (ق ~~1 أ-3 ب ms1006) . # (18) "مسألة في ضمان البساتين والأرض": أصلها ضمن المجموعة الموصوفة برقم ~~(13) ، (ق 145 أ-157 أ) ، وجاء في آخرها: "قال الناقل لنفسه -عفا الله ~~عنه-: اختصرت جواب الشيخ تقي الدين، وحذفت منه المكرر وغيره، والله أعلم". ~~وليته نقلها بتمامها، ولم يحذف منها شيئا! # وبعد فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة، وأرجو أنني وفقت في قراءتها ~~وإخراجها في هذه المجموعة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي ~~لولا أن هدانا الله، وله الحمد في الأولى والآخرة، عليه توكلت وإليه أنيب. # محمد عزير شمس # PageV00P000 # بسم الله الرحمن الرحيم # رب يسر ولا تعسر # قال [الشيخ الإمام] (1) العالم الزاهد العابد الورع أبو العباس أحمد ابن ~~الشيخ [الإمام العالم] عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم أبي البركات ابن ~~تيمية رضي الله [عنه] وأرضاه: # الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ~~وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى كل أحد، صلى الله عليه وعلى آله ~~وسلم تسليما بلا عدد. # أما بعد، فهذه ### | قاعدة في الإخلاص لله تعالى، # وعبادته وحده لا شريك له، هي حقيقة الدين، ومقصود الرسالة، وزبدة الكتاب، ~~ولها خلق الخلق، وهي الغاية التي إليها ينتهون، وبذكرها تحصل السعادة ~~لأوليائه، وبتركها تكون الشقاوة [لأعدائه] ، وهي حقيقة لا إله إلا الله، ~~وعليها اتفقت الرسل، ولها قامت السموات والأرض. # وقد تكلمت على هذا الأصل بأنواع من القواعد المتقدمة، مثل: قاعدة ~~الشهادتين، وقاعدة المحبة والإرادة، وقاعدة الأعمال بالنيات. والمقصود هنا ~~أن كل عمل يعمله عامل فلا بد فيه من شيئين: من مراد بذلك العمل هو المطلوب ~~المقصود، ومن [حركة إلى] المراد وهي الوسيلة، فلا بد من الوسائل والمقاصد ~~... (2) المطلوبة بالوسائل، PageV06P005 # والإرادة في الباطن ... الظاهر، فتقوم بالجسم. فنسبة النية إلى العمل ~~الظاهر نسبة الروح إلى الجسد، ... أرواح أجسامها أجسام أرواحها النيات، ولا ~~بد لكل جسم حي من روح، ولا بد لكل جسم حي من إرادة ونية. # ثم إن الروح إن كانت (1) طيبة كان الجسم طيبا، وإن كانت خبيثة كان الجسم ~~خبيثا، فكذلك العمل والنية، ولهذا ms1007 قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ~~الحديث المشهور: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت ~~هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا ~~يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2) . # فهذا اللفظ عام (3) في كل عمل كائنا ما كان، هو بنيته، سواء كانت صورته ~~صورة العبادات، كالطهارة والصلاة والحج، أو صورة العادات، كالسفر والاكل ~~والشرب وغير ذلك. # و ### | سبب الحديث # كان مما صورته صورة العادات من وجه، [وصورة العبادات من وجه، فالعادة] من ~~جهة كونه سفرا، وهو السفر من مكة إلى المدينة، والدين (4) من جهة كون السفر ~~كان إلى دار الإسلام ومقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من ~~المؤمنين المجاهدين، وبهذا الاعتبار سمي هجرة، ثم إن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - جعله نوعين: أحدهما: ما كان PageV06P006 # إلى الله ورسوله، والثاني: ما كان لغير ذلك، مثل السفر (1) للنكاح. # وقوله: "وإنما لكل امرىء ما نوى" يوجب أنه ليس للعامل من العمل إلا ما ~~نواه، وهو المقصود المراد بالعمل. وهذا ### | الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية # كما جعله بعض الفقهاء، وهو كلام تام لا يحتاج إلى إضمار قبول الأعمال أو ~~غير ذلك، كما يضمره بعض الفقهاء، وإنما حملهم على ذلك توهمهم أن النية ~~المراد بها النية المقبولة، أو الصحيحة المأمور بها، فزادوا في لفظ الحديث ~~ما لم يذكر، ونقصوا من معناه ما أريد. والحديث من جوامع الكلم، ومن أمهات ~~الدين، والأصل في الكلام عدم الإضمار وعدم التخصيص. # ثم إن هذا (2) ممتنع، لأنه قال في تمام الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله ~~ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ~~يتزوجها"، فقد جمع في العمل الذي هو الهجرة بين الثنتين: المقبولة ~~والمردودة، والمحمودة والمذمومة، والصحيحة والفاسدة، وقوله: "وإنما لكل ~~امرئ ما نوى" يعم من نوى المقصود المحمود، وهو من أراد الله ورسوله، ومن ~~نوى غير ذلك، وهو المرأة والمال، فكيف يجوز أن يقال مع ms1008 ذلك: إنه أراد قبول ~~الأعمال وصحتها بالنيات، أو صحة الأعمال الدينية؟ # ثم ما أضمروه يرد عليه نوع من الفساد ليس هذا موضعه. PageV06P007 # ثم ### | الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود. # أما الأول: فكل حي يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك ~~العمل مطلوب ما، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أصدق الأسماء ~~الحارث وهمام" (1) ، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: صاحب الهم الذي يكون ~~له إرادة وقصد. وقد بينت فيما تقدم أن طلب المخلوق لا بد أن يتعلق بغيره، ~~فكما أنه لا يكون فاعل نفسه، لا يكون مطلوب نفسه، وبينت أن المخلوق كما لا ~~يكون فاعلا، لا يكون مطلوبا، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله، ولو كان فيهما ~~آلهة إلا الله لفسدتا. # والغرض هنا أن المخلوق لا بد له في كل عمل من مطلوب ومراد، وحظ ونصيب، لا ~~يمكن غير ذلك، ف ### | اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محال، # سواء كان من الملائكة أو النبيين أو الصديقين أو الشهداء أو الصالحين أو ~~الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين، فما نسمعه من الكلمات المأثورة عن ~~بعض المشايخ مما ينافي هذا فأحد الأمرين PageV06P008 # فيه لازم: إما أنه لفظ مجمل لم يفهم مراد صاحبه، أو صاحبه غالط فيما أمر ~~به أو أخبر به. # مثال ذلك ### | قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل. # فهذا الكلام إذا أريد به في جانب الله أن يكون مفوضا إليه أموره فيما ~~يقدر عليه مما ليس فيه ترك واجب ولا مستحب، فهذا معنى صحيح، لكن دلالة ~~اللفظ عليه بعيدة، وظاهره يعطي أنه لا يكون له من نفسه حركة قط حتى تحرك ~~تحريكا جبريا، فهذا باطل ممتنع. ثم إن الممكن منه محرم في الدين على ~~الإطلاق، وذلك أن الميت لا تقوم به حركة ببدنه ولا إرادة تحرك بدنه، والحي ~~ليس كذلك، فإن جسده يتحرك حركة اختيارية (1) ، وهذا أمر لا بد منه، فلا بد ~~من الحركة الاختيارية، ويمتنع أن يحرك حركة ينتفي حكم ms1009 إرادته فيها، فالأمر ~~فيه عكس الميت من وجهين: الوجود والعدم، فإن الميت لا يتحرك بدنه في العادة ~~باختياره، وهو يحرك دائما بغير اختياره، وقول المطلق احتراز على المقيد ~~ونحوه ممن غسل، فذاك لا فعل له بحال، فهذا بطلانه وامتناعه. # وأما مخالفته للدين والشريعة، فإن الله لم يأمرنا بعدم الإرادة والحركة، ~~ولا مراده في دينه منا أن نكون مسلوبي (2) الاختيار والحركة PageV06P009 # والعمل، وإنما المراد منا أن نكون مطيعين له ولرسوله، وأن تكون حركتنا ~~واختيارنا تبعا لأمره الذي بعث به رسوله، فعلينا أن نختار ونعمل ما أوجب ~~علينا عمله واختياره، وهو يحب لنا ويرضى أن نختار ونعمل ما يستحب لنا في ~~دينه، ويعاقبنا على عدم الإرادة والعمل المستحب. # وهنا قد تغلط طائفة من المتصوفة فيقولون: ما المراد؟ (1) قد يستعملون ذلك ~~فيما فيه ترك مستحبات، وقد يتعدون إلى ما فيه ترك واجبات، فيقال: ليس ~~المراد منا الانقياد لكل حكم قاهر، ولا الاستسلام لكل ذي سلطان قادر، وإنما ### | المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له، # وطاعة أمره ونهيه: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله ~~عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (2) ، (ومن يطع الله ~~ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ~~(13)) (3) . فإن الدين: الإيمان والبر والتقوى وطاعة الله ورسوله والإحسان ~~والعمل الصالح ونحو ذلك هو المطلوب منا والمراد بنا في دين الله تعالى ~~وكتابه، فأما الحوادث التي تكون بغير أفعالنا فالأقسام فيها ثلاثة: # تارة نؤمر بدفعها بالباطن أو الظاهر، كما يؤمر بجهاد الأعداء عن الدين. ~~PageV06P010 # وتارة نؤمر بالصبر عليها، وهو ما قضي من المصائب ولا فائدة في الجزع ~~عليه، كالمصائب في الأنفس والأموال والأعراض، والرضى بهذه أعظم من الصبر. ~~وهل هو واجب أو مستحب، على قولين أصحهما أنه مستحب. # وتارة نخير بين الأمرين بين دفعها وقبولها، وإن كان قد يترجح أحدهما، ~~كدفع الصائل عن المال، وكالتداوي أحيانا ونحو ذلك، وقد فصلنا مسائل هذا ~~الباب في غير هذا الموضع. # وكذلك الأمور التي ليست حاصلة عندنا، منها ما نؤمر ms1010 بطلبه واستعانة الله ~~عليه، كأداء الواجبات، ومنها ما ننهى عن طلبه كالظلم، ومنها ما نخير بين ~~الأمرين، فكيف يقال مع هذا: إن العبد ينبغي له أن يكون كالميت بين يدي ~~الغاسل؟ هذا مع الله. # وأما كونه كذلك مع الشيخ ففيه تنزيل الشيخ منزلة الرسول، وهذا على إطلاقه ~~باطل، لكن فيه تفصيل ليس هذا موضعه. # ومما يغلط فيه ما يذكر عن الشيخ أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال في بعض ~~مناجاته لما قيل له: ماذا تريد؟ فقال: أريد ألا أريد، لأني أنا المراد وأنت ~~المريد. ويتحذلق بعضهم على أبي يزيد (1) ، فيقول: فقد أراد بقوله "أريد". ~~وهذا الاعترض خطأ لوجهين: # أحدهما: أنه من قيل له: ماذا تريد لم يطلب منه عدم الإرادة، وإنما ~~PageV06P011 # طلب منه تعيين المراد. # الثاني: أن انتفاء الإرادة ممتنع، وهو محزم، بل عليه أن يريد ما أراده ~~منه، ولا بد له من ذلك. # وأما قوله: "أريد أن لا أريد، لأني أنا المراد وأنت المريد"، فلا ينبغي ~~أن يفهم من قوله: "أن لا أريد" أن لا تكون لي إرادة، فإن هذا باطل محرم، ~~وإنما أراد أن لا يكون ابتداء الإرادة مني، بل إرادتي تابعة لك لأنك أنت ~~مرادي، فأريد أن لا أريد إلا إياك. وهذا حقيقة الحنيفية والإخلاص، فإذا كنت ~~لا أريد إلا إياك لم أحب (1) ولا أفعل إلا ما أمرتني به، فكان حقيقة قوله: ~~أريد أن لا أعبد إلا إياك، ولا أريد شيئا قط إلا وجهك الكريم، وهذا عين ما ~~أوجبه الله لكل عبد، وهي الإرادة الدينية الشرعية. # وأيضا فقد يقول: أريد ألا تكون لي إرادة إلا ما أمرتني أن أريده، وأردته ~~لي إرادة محبة ورضى، لجهلي وعجزي. وأريد أن أكون عبدا محضا، فلا أريد إلا ~~ما تريده أنت، بحيث يكون المراد (2) المختار أمرا دينيا وقضاء كونيا لا ~~يخالف الأمر الديني. فهذا الكلام يكون إخلاصا وتفويضا، وكلاهما إسلام وجهه ~~لله. # وأيضا فإنه قد يقول هذا في مقام الفناء والاصطلام، إذا غلب على قلبه، حتى ~~غاب به عن شهود ms1011 نفسه وإرادته، فهو يحب هذا الفناء، لأنه PageV06P012 # متى رجع إلى نفسه أرادت بهواها، فهو يريد أن يفنى عن نفسه حتى يكون الحق ~~هو الذي يريد له وبه. # ثم إنه مع الفناء في نوع من الإرادة لله التي هي أعظم الإرادات، لكنه ~~غائب كغيبته عن نفسه مع وجودها. وهذا كله حسن، وإن كان البقاء أفضل ما لم ~~يفض (1) الأمر إلى ترك مأمور به جريا مع الكوني. # ومما (2) يغلط فيه بعضهم قول طوائف منهم: إن من طلب شيئا بعبادته لله كان ~~له حظ، وكان يسعى لحظه، وإنما الإخلاص أن لا تطلب بعملك شيئا، ولا يكون لك ~~حظ ولا مراد. ثم يقولون: لا يريد إلا الله، ولا يطلب إلا وجهه، هذا في ~~الدنيا، وفي الآخرة لا يطلب إلا رؤيته. # وبعضهم قد يقول: إذا طلبت رؤيته كنت في حظك، بل لا يكون لك مطلوب. وينشد ~~قول بعضهم (3) : # أحبك حبين: حب الهوى وحب لأنك أهل (4) لذاكا # فأما الذي هو حب الهوى فكشفك للحجب حتى أراكا # وأما الذي أنت أهل (5) له فحبي خصصت به عن سواكا PageV06P013 # فما الفضل في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الفضل في ذا وذاكا # وهذا الكلام فيه حق، ويقع فيه غلط، فأما [الحق] (1) فهو ما اشتمل عليه من ~~الإخلاص لله وإرادة وجهه دون ما سواه، وطلب النظر إلى وجهه، والشوق إلى ~~لقائه، كما في الحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين، ~~أحدهما من حديث عمار بن ياسر، و [الثاني] من حديث زيد بن ثابت، فيه: "أسالك ~~النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة" (2) . # وأما الغلط فتوهم المتوهم أن إرادة وجه الله والنظر إليه ليس فيها حظ ~~للعبد ولا غرض، وأن طالبها قد ترك مقاصده ومطالبه، وأنه عامل لغيره لا ~~لنفسه، حتى قد يخيل أن عمله لله بمنزلة كسب العبد لسيده وخدمة الجند ~~لملكهم. وهذا غلط، بل إرادة وجه الله أعلى حظوظ العبد، وأكبر مطالبه وأعظم ~~مقاصده، والنظر إلى وجهه أعظم لذاته، ففي ms1012 الحديث الصحيح عن أهل الجنة قال: ~~"فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ~~وهي الزيادة"، رواه مسلم (3) عن صهيب. PageV06P014 # وإنما ### | العبد له حظان: حظ من المخلوق (1) ، وحظ من الخالق، # وله لذتان: لذة تتعلق بالمخلوق، ولذة تتعلق بالخالق. فترك أدنى الحظين ~~واللذتين لينال أعلاهما، وما عمل إلا لنفسه ولا حطب إلا في حبله، قال ~~تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) (2) . ~~وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسألك لذة النظر" كما تقدم. # وقال الله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (3) ، وقال: (إن ~~أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (4) ، وقال: (لها ما كسبت وعليها ما ~~اكتسبت) (5) وقال: (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم ~~(40)) (6) . والله سبحانه أمره بما يحتاج إليه في سعادته، وأحب له أعلى ~~السعادات وأعظم اللذات، وإن كان لمحبة الرب عبده ولعمله الصالح تعلق بالله ~~ليس هذا موضعه، فالعبد إذا لم يتصرف إلا بأمر الله ورسوله فهو بمنزلة من لا ~~يتصرف إلا بأمر مالكه العالم بحاله، والناصح له، لا بأمر المالك الذي ينتفع ~~به في حياته، قال الله تعالى (7) : "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ~~ولن PageV06P015 # تبلغوا نفعي فتنفعوني" (1) ، وقد كتبت فيما تقدم العمل لله والعمل ~~للمالك، وبهذا تزول جهالات كثيرة من بعض العابدين المحبين. # قال تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن ~~عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (17)) (2) ، فأخبر أنه هو الذي من ~~بهدايتهم للإيمان، إلا أنهم يمنون على رسوله إسلامهم، فتدبر هذا، فإن فيه ~~معاني (3) لطيفة، منها: أنه إنما من بهدايتهم للإيمان التي هي دعوتهم إليه ~~بالرسالة، وإنعامه عليهم بالاهتداء، لم يكن مجرد الدعوة إليه ولا مجرد ~~الإسلام الظاهر، ولأنه يشركهم في الأول الكافر، وفي الثاني المنافق، ولهذا ~~قال: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا. # ومنها: أن (4) منهم على رسوله الإسلام الظاهر الذي قد ينتفع به الرسول في ~~نصره وموافقته وغير ذلك، فكان ذلك ms1013 تنبيها على إنكاره منهم على الله الغني ~~الحميد، الذي لا يبلغون ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، فالله هو الذي أنعم ~~على عبده المؤمن بأمره وتعبيده له، وهو الذي من عليه بهدايته وإرشاده، فله ~~الحمد في كونه هو المعبود، وفي كونه هو المستعان، وهو الأول والاخر، وهو ~~بكل شيء عليم، والعبد إنما عمل في مطلوبه مراده الذي هو معبوده وإلهه، وإذا ~~أحبه (5) ربه، PageV06P016 # وأحب عبادته ودينه (1) ورضي ذلك، فما للعبد من ذلك فهو نعمة من الله ~~عليه، وما للرب في ذلك فهو منه وإليه، وهو الغني عن خلقه. # والعباد أعجز من أن يبلغوا ضره فيضروه، أو يبلغوا نفعه فينفعوه من وجهين: # من جهة الأسماء والصفات، وهو أنه سبحانه أحد صمد قيوم لا تأخذه سنة ولا ~~نوم، ويمتنع عليه أضداد أسمائه الحسنى التي وجبت له بنفسه. # ومن جهة القضاء والقدر، وهو أنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاؤه ويريده، ~~ولا حول ولا قوة إلا به، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا ~~قوة إلا به. # وأما قول العابدة المحبة القائلة: # أحبك حبين: حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا # فأما الذي هو حب الهوى فكشفك للحجب حتى أراكا # وأما الذي أنت أهل له فشيء (2) خصصت به عن سواكا # فلكلامها وجهان: # أحدهما: أن تريد بالحب الأول من جهة إنعامه على عباده، وهو الحب المأمور ~~به. وبالثاني محبته لذاته. والأولى متفق عليها، والثانية PageV06P017 # حق عند أهل السنة والجماعة، وفيهم أهل العلم والمعرفة واليقين، فإنهم ~~متفقون على محبته لذاته، وقد قررت هذه المسألة في غير هذا الموضع. # الوجه الثاني: أن تريد بالحب الأول: الحب الذوقي الذي لا يتقيد بالأمر ~~المحض، فإن من عرف الله ولو بعقله ونظره أحبه وعظمه، حتى المشركون فيهم ~~محبة الله، كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم ~~كحب الله) (1) أي كحبهم الله، لا كحب المؤمنين لله، فإن الذين آمنوا أشد ~~حبا لله، ثم إن المحبين (2) من الأنبياء عليهم السلام، وأهل العلم ms1014 والايمان ~~كثيرا ما يستعملهم الحب في أشياء ويدعوهم إلى أشياء من طلب، وسؤال عبادة، ~~واجلال، ونعوت، لابتغاء الوسيلة، وطلب نيل الفضيلة، وإن لم تكن تلك الأشياء ~~قد أمروا بها، لكن إذا لم يكونوا نهوا عنها، بل وغير الحب من الأحوال ~~المحمودة قد يفعل مثل ذلك، من الرحمة للخلق، والرجاء لرحمة الله، والخوف من ~~عذابه، فإن الأفعال ثلاثة: مأمور به، ومنهي عنه، وما ليس مأمورا به ولا ~~منهيا عنه. # فكثير من المحبين يفعل ما يراه محصلا لمقصوده من محبوبه إذا لم يكن منهيا ~~عنه، حتى إن منهم من ينهى أويمنع كما منع موسى عليه السلام عن النظر لما ~~ساله، وانما دعاه إليه قلق الشوق والمحبة، كما أن نوحا لما سال في ابنه قيل ~~له: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) (3) ، PageV06P018 # (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن ~~إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا) (1) . وأما نبينا - ~~صلى الله عليه وسلم - فلا يفعل إلا ما أمر به (2) من دعاء وعبادة، فإن ~~نبينا - صلى الله عليه وسلم - العبد المحض الذي لا يفعل إلا ما أمره به ~~ربه، فلهذا أمره بالدعاء فقيل له: (وقل رب زدني علما (114)) (3) ، وقيل له: ~~(واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (4) ، وإذا كان يوم القيامة ورد ~~الأنبياء إليه الشفاعة العظمى، وجاءته الأمم، يجيء إلى (5) ربه، ويخر ~~ساجدا، ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، فيقول له: "أي محمد! ارفع رأسك، وقل ~~يسمع، واشفع تشفع" (6) ، فلا يشفع إلا بعد أن يؤمر بالشفاعة، فلا يقال له: ~~أعرض عن هذا، ولا يقال له: لاتسألني ما ليس لك به علم. # وقد أوجب الله على أهل المحبة متابعته بقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون ~~الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (7) ، فهؤلاء المتبعون لأمره، ~~المستمسكون بسنته في الباطن والظاهر، هم خالص أمته، وأما من كان من أهل ~~المحبة أو الخوف أو الرجاء أو الإخلاص، استعمله PageV06P019 # حاله في أعمال لم يؤمر بها، ولم تسمح له، مثل كلام المكاء والتصدية التي ~~تحرك حبه ms1015 أو حزنه أو خوفه أو رحمته أو رجاءه، ومثل الشدة في عقوبة (1) ~~الفساق حتى يدعو عليهم، أو يعاقبهم بقوة عظيمة لله، من غير أمر منه بذلك، ~~ومثل فرط الرحمة لهم حتى يشفع فيمن يحب الله، ويرضى عقوبته والانتقام له، ~~أو تركه، بترك عقوبته، ولهذا يقول الله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ~~ألا تعدلوا اعدلوا) (2) ، (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام ~~أن تعتدوا) (3) ، وقال تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم ~~تؤمنون بالله واليوم الآخر) (4) ، ومنهم من يحمله حب أقاربه حتى يدعو لهم ~~بدعوة لم يؤمر بها، وغير ذلك. # وهذا كثير في أرباب الأحوال المتأخرين من هذه الأمة، وهم في هذه الأمور ~~خارجون عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، ~~بمنزلة خروج من خرج من ولاة الأمور في السياسات الظاهرة عن طريقة الخلفاء ~~إلى نوع من الملك في العقوبات وفي الولايات وفي الأعطية، فإن تصرف هذا وهذا ~~ببغضه للحرمات من جنس واحد، لكن هذا بباطنه وهذا بظاهره، وكذلك عطاء هذا ~~وهذا برحمته للعباد من جنس واحد، ثم كل منهما قد يكون مقصوده الرئاسة إما ~~الباطنة وإما PageV06P020 # الظاهرة، وقد يكون مقصوده الديانة، وإنما تصرف بحاله لا بالأمر. # وهذا باب عظيم ننبه عليه في مواضع، وإنما أشرنا إليه هنا لما ذكرنا محبة ~~الهوى التي لم تتقيد بالعلم والأمر، وإن كانت محبة الله إذا لم تكن منهيا ~~عنها، ولهذا قالت: # فكشفك للحجب حتى أراكا # أي هذا الحب يستدعي طلب الرؤية كما طلبها من طلبها في الدنيا. # وأما المحبة الثانية فهي العبودية المحضة للذي يحبه لذاته، فلا يفعل إلا ~~ما أمر به، ولا يطلب إلا ما أمر به، ولا يستحق شيء أن يحب لذاته إلا الله، ~~فإنه لا إله إلا الله، والإله هو الذي يعبد لذاته، فلذلك قالت: لأنك أهل ~~لذاكا، وقالت: فشيء خصصت به عن سواكا. ### | الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل. # أما المقصود المطلوب لذاته، وهو المعبود، فلا يجوز أن يعبد ms1016 إلا الله لا ~~إله إلا هو، وهذا أصل الدين وأساسه ودعامته، وأوله وآخره، وباطنه وظاهره. ~~والوسيلة هي الأعمال الصالحة الحسنة، إذ ليس كل عمل يصلح لأن يعبد به الله، ~~ويراد به وجهه، وليس كل ما كان في نفسه حسنا وصلاحا يراد به وجه الله وليس ~~بصالح، مثل ### | عبادات المبتدعة # المخلصين، كرهبانية النصارى التي قال الله فيها: (ورهبانية ابتدعوها ما ~~كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) (1) ، ومثل ما في هذه الأمة من أنواع ~~المقالات والعبادات التي فعلها صاحبها لله، لكن بغير PageV06P021 # إذن من الله، مثل بدع الخوارج، واستحلالهم (1) ما استحلوه من مفارقة ~~السنة والجماعة، حتى قال شاعرهم (2) في قاتل علي بن أبي طالب- وهو أشقى ~~الآخرين عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي-: # ياضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا # إني لأذكره حينا فأحسبه أو فى البرية عند الله ميزانا # وكذلك ما عليه كثير من القدرية والمرجئة والجهمية والرافضة، وغيرهم من ~~أهل البدع الاعتقادية إذا كانوا فيها مخلصين مريدين التقرب بها إلى الله. # وكذلك ما عليه كثير من المبتدعة في العبادات والأحوال، من الصوفية ~~والعباد والفقهاء والأمراء والأجناد والولاة والعمال، فكثير من هؤلاء قد ~~يزين له سوء عمله فيراه حسنا، ويتقرب إلى الله بشيء يظنه حسنا، وهو شيء ~~مكروه، وهذا باب واسع. # ومن هذا الباب ### | عبادات اليهود والنصارى # التي يتقربون بها إلى الله ويخلصون فيها، قال الله تعالى: (قل هل ننبئكم ~~بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم ~~يحسنون صنعا) (3) ، وسئل عنهم سعد بن أبي وقاص فقال: "هم أهل الصوامع ~~والديارات" (4) . وسئل عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ~~فقالى: "هم أهل PageV06P022 # حروراء" (1) # ولا منافاة بين القولين، فإن مثل هذا الكلام قد لا يكون للتحديد، وإنما ~~يكون للتمثيل، كمن سئل عن الخبز فأخذ رغيفا وقال: هو هذا. ففسروا الضالين ~~من عباد الكفار وعباد أهل البدع، وقد أخبر الله أنهم يحسبون أنهم يحسنون ~~صنعا، وأخبر أنهم يرون أعمالهم السيئة حسنة، فهم ms1017 مع رأي وحسبان غير مطابق ~~للحقيقة. # القسم الثالث ### | : ما يكون صالحا، ولا يريد به فاعله وجه الله، # وهذا أيضا كثير، مثل ما يعمله العاملون من الأعمال الظاهرة المشروعة من ~~إقراء العلم والقرآن، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وعدل ~~بين الناس، وإحسان إليهم من صدقة ومعروف وإصلاح بين الناس، ولهذا قال ~~تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين ~~الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114)) (2) ، ~~وقال عن المتصدقين: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ~~(9)) (3) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من قاتل لتكون كلمة الله هي ~~العليا فهو في سبيل الله" (4) . # وقد ثبت في صحيح مسلم (5) حديث أبي هريرة في متعلم العلم PageV06P023 # والمقتول في الجهاد وفي المتصدق إذا لم يكونوا مخلصين، وأنهم أول ثلاثة ~~تسجر بهم النار. # - القسم الرابع: الذي لا يكون عمله خالصا لله، وهو شر الأقسام، مثل جهاد ~~المشركين للمسلمين ينصرون بذلك آلهتهم، فلم يعبدوا به ولا أحسنوا، حيث ~~أهلكوا أهل الإيمان. # وكذلك كل ما كان من هذا الجنس من الأعمال التي يفعلها الكفار لغير الله ~~وليست خيرا في نفسها، من نصر (1) أهل الكفر، وكذب على الله، وتكذيب برسله، ~~واعتقاد للباطل. # وكذلك اتباع قوم مسيلمة لمسيلمة، وقتالهم معه، وكذلك أهل البدع والضلال ~~التي يقصدون بها نصر أهوائهم. وكذلك الفجور والمعاصي التي تفعلها النفوس ~~لأجل العلو في الأرض والفساد، وهذا الضرب كثير جدا. # وإذا كانت الأقسام الأربعة، فالقسم الأول هو المحمود، وأهله هم السعداء ~~من جميع بني ادم من الأولين والاخرين، وبذلك جاء الكتاب والسنة والإجماع، ~~قال الله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك ~~أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو ~~محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)) (2) ، فإن أهل ~~الكتاب تمنوا هذه الأمنية PageV06P024 # التي قالوا بألسنتهم، وقدروها بقولهم، وجمعوا فيها بين النفي ms1018- وهو دخول ~~الجنة- عن غير اليهود والنصارى، وبين الإثبات لمن كان هودا أو نصارى، وهذا ~~من باب اللف والنشر. أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا. ~~وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، (قل هاتوا برهانكم إن ~~كنتم صادقين (111)) فطالبهم بالبرهان على هذه القضية والدعوى الجامعة بين ~~النفي والإثبات. # وكان في ذلك ما دل على أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه ~~الدليل، كما طالب المثبت في قوله: (أئله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم ~~صادقين) (1) ، ومعلوم أن ليس مع اليهود والنصارى لا برهان شرعي ولا عقلي ~~يدل على ذلك، فإن الرسل لم تخبرهم بهذا النفي، ولا هو مدرك بالعقل، ولهذا ~~قال الله تعالى: (تلك أمانيهم) ، ثم قال تعالى: (بلى من اسلم وجهه لله وهو ~~محسن فلة اجرة عند ربه) . وهذا حصول الخير والثواب والنعيم واللذة، ثم قال: ~~(ولا خوف عليهم) والخوف إنما يتعلق بالمستقبل، (ولا هم يحزنون) والحزن ~~يتعلق بالحاضر والماضي، فلا هم يخافون ما أمامهم، ولا هم يحزنون على ما هم ~~فيه وما وراءهم، ثم إنه قال في الخوف: (ولا خوف عليهم) ولم يقل: يخافون، ~~فإنهم في الدنيا يخافون مع أنه لا خوف عليهم، وقال: (ولاهم يحزنون) فلا ~~يحزنون بحال، لأن الحزن إنما يتعلق بالماضي، وهم (2) فأنواع الألم منتفية ~~بانتفاء الخوف PageV06P025 # والحزن، فإن المتألم لا يخلو من حزن، فإذا انتفى الحزن انتفى كل ألم. # وقال في عملهم: (بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن) ، فإسلام وجهه كما قاله ~~أئمة التفسير: هو إخلاص دينه وعمله لله، وقيل: تفويض أمره إلى الله (1) . ~~وهو (2) يعم القسمين، كما سنبينه إن شاء الله، فإن إسلام وجهه يقتضي أنه ~~أسلم نيته وعمله ودينه لله، أي جعله لله خالصا سالما، والإحسان هو فعل ~~الحسنات، فاجتمع له أن عمله خالص، وأنه صالح، كما قال عمر بن الخطاب رضي ~~الله عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد ~~فيه شيئا" (3) . # وقال الفضيل بن عياض في قوله ms1019 تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (4) ، قال: ~~أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان ~~خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى ~~يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. # وبهذا البيان يعرف بالعقل أن هذا الدين الحق هو أفضل الأديان، لأن الدين ~~هو الخضوع والانقياد والعمل، فلا بد له من شيئين، من PageV06P026 # مقصود هو المعبود، ووسيلة هي الحركة، فأي معبود يسامي الله؟ وأي قصد ~~للمعبود خير من أن يكون القاصد ذليلا له مخلصا له، لا متكبرا ولا مشركا به؟ ~~وأي حركة خير من فعل الحسنات؟ فبهذا تبين أن من أسلم وجهه لله وهو محسن، ~~فإنه مستحق للثواب، كما تبين أنه لا أحسن منه. # وبيان ذلك أن الوجه إما أن يكون هو القصد والنية كما قال: # أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل (1) # والوجه مثل الجهة، مثل الوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، وقد ~~قررت هذا في غير هذا الموضع، وهذا مقتضى كلام أئمة التفسير، وهو مقتضى ظاهر ~~الخطاب لمن كان يفقه بالعربية المحضة من غير حاجة إلى إضمار ولا تكلف، ومثل ~~هذه الاية قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا ~~يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات ~~من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن ~~أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله ~~إبراهيم خليلا (125)) (2) . # روى الإمام أحمد في مسنده (3) عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: PageV06P027 # "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما بعثت بالحنيفية السمحة". # فبين الله أنه لا دين أحسن من دين من أسلم وجهه لله، وهو محسن غير مسيء، ~~واتبع ملة إبراهيم حنيفا. # وقال: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (1) ، فدل بذلك على متابعة إبراهيم في ~~محبته لله، ومحبة الله له ms1020، ولفظ "أسلم" يتضمن شيئين: أحدهما الإخلاص، ~~والثاني الاتباع (2) والإذلال. كما أن "أسلم" إذا استعمل لازما مثل: (ربنا ~~واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (3) ، وقوله: (أسلمت لرب ~~العالمين (131)) (4) ، يتضمن الخضوع لله والإخلاص له. # وضد ذلك إما الكبر وإما الشرك، وهما أعظم الذنوب، ولهذا كان الدين عند ~~الله الإسلام، فإن دين الله أن نعبده وحده لا شريك له، وهذا حقيقة قول لا ~~إله إلا الله، وبه بعثت الرسل جميعها، ومن عبادته وحده أن لا نشرك به، ولا ~~نتكبر عن أمره، فلا بد من الإيمان بجميع كتبه، PageV06P028 # وجميع رسله، وإلا لم يكن العبد مسلما له، ولا مسلما وجهه لى، إذا امتنع ~~عن الإيمان بشيء من كتبه ورسله، وهذا هو الإسلام العام الذي دخل فيه جميع ~~الأنبياء والمرسلين، وأممهم المتبعين غير المبدلين. # ثم إن الإسلام في كل ملة قد يكون بنوع من الشرع والمناهج والوجه ~~والمناسك، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وختم به الرسل كان ~~الإسلام لله لا يتم إلا بالدخول فيما جاء به من الشرع والمناهج والمناسك، ~~وهو الإسلام الخالص، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على ~~خمس " الحديث (1) . # فإن ### | الإسلام الذي في القلب لا يتم إلا بعمل الجوارح، # فكن مباني له ينبني عليها، فالمباني الظاهرة تحمل الإسلام الذي في القلب ~~كما يحمل الجسد الروح، وكما تحمل العمد السقف، والقبة الأركان، فالإسلام ~~الذي هو دين الله بني بمبعث محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه ~~الأركان، وإن كان بني بمبعث غيره على أركان أخرى، إذ الإسلام الخاص ~~المستلزم للإسلام العام الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - بني على ~~هذه الخمسة. وقد تنازع أصحابنا هل يسمى ما سوى ديننا هذا إسلاما، والنزاع ~~لفظي. # كما أخبر عن حقيقة الإسلام بقوله: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل ~~بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135) قولوا آمنا بالله وما أنزل ~~إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي ~~PageV06P029 # موسى وعيسى وما ms1021 أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له ~~مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في ~~شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله ~~صبغة ونحن له عابدون) (1) ، فأمرهم بعد أمره لهم باتباع ملة إبراهيم أن ~~يقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا، إلى آخر الآية، ففي ذلك الإيمان بما ~~أنزله الله، وما اوتيه النبيون من ربهم، والإيمان بجماعتهم من غير تفريق ~~بينهم، وهو الإيمان ببعض والكفر ببعض، كما قال عن الكفار حيث قالوا: (نؤمن ~~ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) (2) ، وكان نصيب خالصة ~~الأمة من ذلك أن تؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة، لا تفرق بين النصوص فتتبع ~~بعضها وتترك بعضها، فبذلك يصيرون من أهل السنة، دون الذين تركوا السنن ~~والآثار أو بعضها، أو تمسكوا ببعض آي القرآن دون بعض، من أصناف المبتدعة. # وكذلك لا يفرقون بين أولي الأمر من الأمة من علمائها وأمرائها، بل يعطون ~~كل ذي حق حقه، ويقبلون منه ما أمر الله بقبوله منه، ويتركونه حيث تركه ~~الله، فيكونون أهل جماعة لا أهل فرقة، وهذا فيه جمع عظيم يحتاج إلى تفصيل، ~~وذلك أن الله أمرنا بطاعة أولي الأمر منا، وأمرنا أن نعتصم بحبل الله جميعا ~~ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم ~~البينات، وبرأ نبيه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. PageV06P030 # فصل # وقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) (1) هذه القراءة العامة ~~التي في المصحف الإمام، وقد كان ابن عباس يقرأ: "بما آمنتم به "، ويقول: إن ~~الله لا مثل له (2) . # وتلك قراءة صحيحة المعنى، لكن قراءة العامة أحسن وأجمع، فإنه لو قيل: بما ~~آمنتم به، وقيل: إنه أريد به الله، لقالوا: قد آمنا بالله، فإنهم لا يكفرون ~~بأصل وجود الخالق، وإنما يكفرون ببعض كتبه ورسله وأسمائه وصفاته ودينه، ~~ولذلك استحقوا اسم الكفر. # وأيضا فلو آمنوا بما آمنا به من غير أن يؤمنوا بمثل ما آمنا ms1022 به، لم ~~يكونوا مهتدين وإن آمنوا بجميع الأشياء، وذلك أنه سبحانه قال في المائدة ~~لما أباح نساء أهل الكتاب وطعامهم، قال: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) ~~(3) ، والإيمان هو: الإيمان الذي هو الدين، الذي هو الإقرار بالله وملائكته ~~وكتبه ورسله، فإن الإيمان الذي يجب على العباد اتباعه يجب الإيمان به، فمن ~~كفر بما يفعله المؤمنون من الإيمان، فقد كفر بالله. وهذا الإيمان الذي في ~~القلوب هو مثل مطابق للحقيقة الخارجة، وما في القلوب [من] ، (4) الإيمان ~~متماثل أيضا، فنحن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وما ~~أوتي النبيون من ربهم، PageV06P031 # فإذا آمنوا هم بمثل ما آمنا به- وهو ما في القلوب- فقد اهتدوا، كما أنهم ~~لو كفروا بالإيمان الذي في القلوب لحبط عملهم. # وهنا وجهان، أحدهما: إذا صار في قلوبهم مثل ما في قلوبنا، وآمنوا به، فقد ~~آمنوا بمثل ما آمنا به، فإنا آمنا بما في القلوب من الإيمان، فإذا صار مثله ~~في قلوبهم وآمنوا به فقد اهتدوا. ويكون فائدة الإيمان بالإيمان مثل ما ~~يقال: أعلم وأعلم أني أعلم، وأعتقد أن زيدا في الدار، وأعتقد أن اعتقادي ~~حق، فهم مؤمنون بالإيمان غير مرتابين (1) فيه، جازمون أن جزمهم حق، وأيضا ~~فإن هذا مستلزم، وهو كمال وتمام، لأنه إذا حصل هذا الإيمان بالإيمان، وجب ~~حصول الأول ووجوبه، مع أنهما متلازمان من وجه آخر، فإن الوجود العملي ~~الإرادي مع الوجود ... (2) ، لكن على هذا الوجه (3) الضمير فيه يعود إلى ~~إيماننا بما أنزل، لا إلى نفس ما أنزل. # الوجه الثاني (4) : أن الإيمان الذي في القلب مثل مطابق للمؤمن به، كما ~~تقدم، وقد قررت هذا في مواضع، فإذا آمنوا بهذا المثل فقد اهتدوا، والضمير ~~هنا عائد على "ما" كما هو الظاهر، ويكون المثل كما قد قيل في قوله: (ليس ~~كمثله شيء وهو السميع البصير (11)) (5) . PageV06P032 # وقد يقال: المعنى، فإن آمنوا مثل ما آمنتم. والتقدير: فإن جاؤوا بإيمان ~~مثل الإيمان الذي جئتم به، ويكون "الذي" هنا صفة للمصدر الذي هو الإيمان، ~~لا للمفعول به الذي هو ms1023 المؤمن به، لكن هذا يفتقر إلى أن يقال: آمنت بمثل ~~إيمانك، أي مثل إيمانك، وهذا يكون إذا ... ) (1) . # وقد يقال: "المثل" مقحم ليتبين الكلام والتوحيد، كما قد قيل مثل ذلك في ~~نظائره لأسباب قد تكون هناك. # وقوله: (وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ~~(137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) (2) ، صبغ القلوب ~~والأشياء بهذا الإيمان حتى أنارت به القلوب، وأشرقت به الوجوه، وظهر ~~الفرقان بين وجوه أهل السنة وأهل البدعة، كما قال في المؤمنين: (تعرفهم ~~بسيماهم) (3) ، وفي الكفار: (سنسمه على الخرطوم (16)) (4) ، وفي المنافقين: ~~(ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) (5) PageV06P033 # فصل # وإذا كان الله قد شرط في من له أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ~~أن يكون محسنا مع إسلام وجهه لله، دل بذلك على أن الإحسان شرط في استحقاق ~~هذا الجزاء، وهذا الجزاء لا يقف إلا على فعل الواجب، فإن كل من أدى الواجب ~~فقد استحق الثواب، ودرأ العقاب، وذلك يدل على أن الإحسان واجب، وقد قال ~~تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (1) والأمر يقتضي الوجوب. # وقال تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) (2) ، ومن فعل الواجب فما عليه من ~~سبيل، إنما السبيل على من أساء بترك ما أمر به، أوفعل ما نهي عنه. # وقال تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) (3) ونظائره كثيرة. # وفي الصحيح (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله كتب ~~الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فاحسنوا ~~الذبحة"، ففي هذا الحديث أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في حال إزهاق ~~النفوس، ناطقها وبهيمتها، فعلمه أن يحسن القتلة للادميين والذبحة للبهائم. ~~والإحسان الواجب هو فعل الحسنات، PageV06P034 # وهو أن يكون عمله حسنا، ليس المراد بذلك فعل الإحسان التطوع، وهذا ~~الإحسان في حق الله، وفي حقوق عباده، فأما في حق الله ففعل ما أمره به من ~~غير أن يتعلق المأمور [به] ، وأما في حق عباده ففعل ما أوجب لهم من ~~الإحسان، وترك ما ms1024 لا يجوز من الإساءة. وأصل ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ~~ولهذا ثنى الله ذكر هذين الأصلين في القرآن في مواضع كثيرة جدا، وقال: ~~(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى) الاية ~~(1) . وإذا كان الإحسان إلى الخلق واجبا، وإن كان قد يكون مستحبا أيضا، ~~فالإحسان إليهم جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم. # والظلم ضد الإحسان الذي يدخل فيه العدل وغيره، فإن العادل محسن من جهة ~~عدله، وأما حيث يكون العدل هو الواجب، فالعادل أي بكمال الإحسان كالعدل بين ~~الناس في القسم والحكم، بخلاف عدل الإحسان في حق نفسه في استيفاء حقوقه من ~~غير زيادة، فإن هذا محسن من جهة أنه لم يعتد ولم يظلم. # وقد قررنا في مواضع كثيرة أن الظلم حرام كله، لم يبح منه شيء، وأصله قصد ~~الإضرار، فإن الظلم إضرار غير مستحق، لكن الإضرار المستحق جائز تارة، وواجب ~~أخرى، وإنما أبيح إضرار الحيوان للحاجة، والحكم المقيد بالحاجة مقدر ~~بقدرها، فليس للعبد أن يكون مقصوده بالقصد الأول إضرار بني ادم، بل الضرار ~~محرم بالكتاب والسنة، قال الله PageV06P035 # تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار) (1) ، وقال في المطلقات: ~~(ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) (2) ، وقال: (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) (3) ~~. # وأما السنة فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" من شق شق الله عليه، ومن ~~ضار أضر الله به" (4) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" ~~(5) . # ومعلوم أن المشاقة والمضارة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر ~~لا يحتاج إليه في قصد الإضرار، ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير ~~استحقاق، فهو مضار. # وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به، لا لقصد الإضرار، ~~فليس بمضار، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النخلة التي ~~PageV06P036 # كانت تضر صاحب الحديقة، لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق، فلم ~~يفعل، فقال: "إنما أنت مضار" (1) ثم أمر بقلعها. # فدل ذلك على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه، ف ### | على الإنسان أن يكون ms1025 مقصوده نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا، # وهذا هو الرحمة التي بعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (وما ~~أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)) (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-:"إنما أنا رحمة مهداة" (3) . # والرحمة يحصل بها نفع العباد، فعلى العبد أن يقصد الرحمة والإحسان ~~والنفع، لكن للاحتياج إلى دفع الظلم شرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن ~~يقصد بها النفع والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ولده، والطبيب بدواء ~~المريض. # والمقصود بهذه النكتة أن الدين والشرع لم يأمر إلا بما هو نفع وإحسان ~~ورحمة للعباد، وأن المؤمن عليه أن يقصد ذلك ويريده، فيكون مقصوده الإحسان ~~إلى الخلق ونفعهم. واذا لم يحصل ذلك إلا بالإضرار ببعضهم فعله على نية أن ~~يدفع به ما هو شر منه، أو يحصل به PageV06P037 # ما هو أنفع من عدمه، فهاهنا أصلان: # أحدهما: أن هذا هو الذي أمر الله به ورسوله. # والثاني: أن هذا واجب على العبد، عليه أن يفعله، وفاعله هو البار والبر، ~~وهو المحسن المذكور في الاية. # وقد أمر الله في كتابه بالعدل والإحسان، والأمر يقتضي الوجوب، وقد يكون ~~بعض المأمور به مندوبا، والإحسان المأمور به ما يمكن اجتماعه مع العدل، ~~فأما ما يرفع العدل فذاك ظلم، وإن كان فيه نفع لشخص، مثل نفع أحد الشريكين ~~إعطاء أكثر من حقه، ونفع أحد الخصمين بالمحاباة له، فإن هذا ظلم، وإن كان ~~فيه نفع قد يسمى إحسانا. # والعدل نوعان: # أحدهما: هو الغاية، والمأمور بها، فليس فوقه شيء هو أفضل منه يؤمر به، ~~وهو العدل بين الناس. # والثاني: ما يكون الإحسان أفضل منه، وهو عدل الإنسان بينه وبين خصمه في ~~الدم والمال والعرض، فإن الاستيفاء (1) عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا ~~أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، كما قدمناه، وهو أن ~~لا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلما من العافي، إما لنفسه، ~~وإما لغيره، فلا يشرع. PageV06P038 # فالعدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبا، وقد يكون مستحبا، ~~ففي الحكم بين الناس والقسم ms1026 بينهم ما ثم إلا العدل، والعدل بينهم إحسان ~~إليهم، وفيما بين الناس وبينهم مستحب له الإحسان إليهم، بفعل المستحبات من ~~الابتداء بالإحسان الذي ليس بواجب، والعفو عن حقوقه عليهم، ويدخل في قوله ~~تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)) (1) . # ونكتة هذا الكلام أن يفرق الإنسان بين العدل الذي هو الغاية، وليس بعده ~~إحسان، وهو العدل بين الناس، وبين العدل الذي فوقه الإحسان، وهو العدل مع ~~الناس. الأول: حق الخلق عليه، والثاني: حق له عليهم. فلكل منهما على صاحبه ~~العدل، فعليه أن يوفيهم العدل الذي عليه، وليس عليه أن يستوفي العدل (2) ~~منهم، بل قد يستحب له الإحسان بتركه. # ومن العدل الواجب- كما قررته في غير هذا الموضع- أن الظالم لا يجوز أن ~~يظلم، بل لا يعتدى عليه إلا بقدر ظلمه، كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا ~~تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193) ~~(3) ، وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (4) ، ~~وقال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا PageV06P039 # تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)) (1) وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم ~~على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (2) ، وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم ~~أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) (3) . # وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب الإحسان على كل ~~شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة". # فتبين أن الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة، ~~ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة- سواء كان في حق الله أو حقوق ~~عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول ~~كالكفر والبدع، والثاني كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض. # والغالب أن ### | الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا، # وقد لا ينعكس، ولهذا كان المبتدع في دينه أشد من الفاجر في دنياه، ~~وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور، كما قررت هذا في قاعدة "بيان ~~أن البدع أعظم من المعاصي بالكتاب والسنة وإجماع ms1027 الأمة، وبما يعقل به ذلك ~~من الأسباب". ثم مع هذا لا يجوز أن يعاقب هذا الظالم ولا هذا الظالم إلا ~~بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه. PageV06P040 # فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرا من أهل العلم والدين ~~والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير ~~نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركب منهما، ~~فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في (1) أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في ~~دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا (2) لهم حقا واجبا، أو ~~يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم ~~هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون (3) بباب قتال أهل العدل ~~والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعا باغيتين ~~بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة ~~بين الأمة، كما قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا ~~بينهم) (4) ، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم. # وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب ~~والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا ~~بغيا بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والباغي قد يكون متأولا وقد ~~لا يكون متأولا، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم ~~لا اتباعهم. PageV06P041 # فتدبر العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغ ~~يعلم أنه باغ لهانت القضية، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بغاة، ~~بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يعرضون عن تصور بغيهم، ولولا هذا لم تكن ~~البغاة متاولين، بل كانوا ظلمة ظلما صريحا، وهم البغاة الذين لا تاويل ~~معهم. # وهذا القدر من البغي بتاويل (1) ، وأحيانا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر ~~من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما ~~وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين ~~بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى ms1028، وقوم قعدوا اتباعا لما جاء من النصوص في ~~الإمساك في الفتنة. # والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي ~~فتن، وإن لم تبلغ السيف، وكل ذلك تفرق بغيا، فعليك بالعدل والاعتدال ~~والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، ورد ما تنازعت فيه الأمة ~~إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون (2) أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة، ~~والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. # تمت القاعدة PageV06P042 ### | فصل # في حق الله على عباده وقسمه من أم القرآن، # وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك # PageV06P043 # فصل # في حق الله على عباده، وقسمه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته ~~وفرحه ورضاه، ونحو ذلك. # قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من ~~رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)) ~~وقوله: (ما أريد منهم من رزق) هو نكرة في سياق النفي، تعم كل رزق، فيعم ~~اللفظ: من رزق لي، ومن رزقي لهم، ومن رزق من بعضهم لبعض، لكن قوله بعد ذلك: ~~(وما أريد ان يطعمون (57)) والإطعام هو رزق له، فقد يقال: هو تخصيص بعد ~~تعميم، وقد يقال: الأول رزق المخلوق والثاني [يتعلق] بالخالق، فيكون ~~المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدون، لا ليطعمون، ولا ليرزقوا (2) أحدا، فإن ~~الله هو الرزاق الذي يرزق الخلق، وهو ذو القوة المتين. # فبين الله بهذه الاية أنه خلقهم لعبادته التي أرادها منهم، فهي مراده ~~ومطلوبه، لا يريد منهم أن يرزقوه، ولا أن يطعموه، لأنه لما نفى الإرادة عن ~~الرزق وإطعامه، دل على إثباتها للعبادة، وفي إثباتها للعبادة ونفي إرادة ~~الرزق والإطعام دليل (3) على أن له حقا عليهم PageV06P045 # يريده منهم، وهو محب له، راض به. # وقال تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) ~~(1) وقال: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (2) ، وقال: (إن ~~الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)) (3) ، وقال: إن الله يحب الذين ~~يقاتلون في سبيله صفا) (4) ، وقال: (إن الله يحب ms1029 المقسطين (42)) (5) ، ~~وقال: (يحبهم ويحبونه) (6) ، وقال: (فاتبعوني يحببكم الله) (7) ، وقال: ~~(رضي الله عنهم ورضوا عنه) في مواضع (8) . # وقد جاءت السنة بذكر حقه عليهم، في الصحيح (9) عن معاذ بن جبل قال: كنت ~~رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله ~~على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ~~أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم". # وروى الطبراني في كتاب الدعاء (10) مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: (يقول PageV06P046 # الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، ~~وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي ~~هي لك، فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك، فمنك ~~الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأت إلى الناس ما تحب أن ~~يأتوه إليك ". # وفي صحيح مسلم (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ~~الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ~~ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين (2)) ، يقول الله: ~~حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم (3)) ، يقول الله: أثنى علي عبدي، ~~وإذا قال: (مالك يوم الدين (4)) ، يقول الله: مجدني عبدي- وفي رواية: فوض ~~إلي عبدي- وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) قال: فهذه الاية بيني ~~وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط ~~الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال الله: فهؤلاء لعبدي، ~~ولعبدي ما سأل". # ففي هذا الحديث أن النصف الأول- وهو الحمد والثناء والتمجيد والعبادة- ~~لله تعالى، والنصف الثاني- وهو الاستعانة والمسألة- للعبد، هذا مع العلم ~~بان العبد يثاب على حمده وثنائه وعبادته، وقد يحصل له بذلك من الثواب أكثر ~~مما يحصل بالاستعانة والسؤال، [و] PageV06P047 # لا بد أن تكون للنصف الذي هو للرب خاصية تعود إلى الرب، تميزها عن نصف ~~العبد، وإلا فإذا كان للعبد في كلاهما ms1030 أجر وثواب، فتخصيص أحدهما بأنه للرب، ~~لا بد فيه من خاصية للرب. # وأيضا فإن الله أخبر (إن الشرك لظلم عظيم) (1) ، وقال تعالى: (الذين ~~آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الآية (2) ، وقد ورد في الصحيحين (3) عن ~~ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" ~~إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم " أو كما ~~قال. # وفي الحديث عن طائفة من السلف، وروي مرفوعا (4) : "الدواوين ثلاثة: ديوان ~~لا يغفر الله منه شيئا، وهو الشرك، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا ~~يترك الله منه شيئا. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئا، فهو الشرك، ~~وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فهو ظلم العبد نفسه، وأما الديوان ~~الذي لا يترك الله منه شيئا، فهو الظلم للعباد بعضهم بعضا". # وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن ~~PageV06P048 # يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون (254)) (1) ~~، فجعل الظلم في حق الله تعالى قسما خارجا عن ظلم العبد نفسه، وعن ظلم ~~العباد، وهذا يقتضي أن لله فيه حقا قد ضيعه العبد، لا أنه مجرد ظلم العبد ~~نفسه كالمعاصي، وإن كانت المعاصي مخالفة لأمر الله وتركا لما أوجبه، وجناية ~~على دين الله. # وأيضا فإن الله قد أخبر أنه يحب الحسنات المأمور بها، من الإيمان والعمل ~~الصالح، وأنه يرضاها، ويحب أهلها، ويرضى عنهم، والحب مستلزم للإرادة، وهو ~~مع ذلك فقد شاء جميع الكائنات، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قررت ~~هذه القاعدة في غير هذا الموضع، وبينت الفرق بين كلماته الكونيات، وما يتصل ~~بها من أمر وإرادة وإذن وحكم وبعث وإرسال وغير ذلك، وبين كلماته الدينيات، ~~وما يتصل بها من أمر وإرادة وحكم وبعث وإرسال، قررت هذا الأصل الفارق في ~~غير موضع، وأن منه تزول الشبهات الحاصلة في مسائل ms1031 الدين والقدر وتعارضهما. # وحقيقة ذلك تعود إلى أن الدين الذي أمر الله به شرعا من بين سائر ~~الكائنات، له من الله مزية واختصاص بذلك صار محبوبا مأمورا به، وذلك من ~~وجهين: # أحدهما: من جهة عوده إلى الخلق، لما في الدين من مصلحتهم ومنفعتهم في ~~الدنيا والآخرة بالثواب والنعيم المقيم المتعلق بالمخلوق، والمتعلق ~~بالخالق، كالنظر إلى وجهه الكريم. PageV06P049 # والثاني: من جهة عوده إلى الخالق، حتى يصح أن يكون محبوبا لله مرضيا ~~محمودا مفروحا به، وإلا فنفس تنعم هذا العبد وتعذب هذا العبد، وصلاح هذا ~~وفساد هذا، سواء بالنسبة إلى الله من جهة الخلق والمشيئة والتكوين، فلابد ~~أن يكون لأحدهما إلى الله إضافة وتعلق ونسبة بها يكون محبوبا له، مرضيا ~~مفروحا به، محمودا مثنيا على أصحابه، ويكون الآخر مسخوطا عليه، ممقوتا ~~مبغضا، ونحو ذلك، وراء ما يلحقه من العذاب. # وهذا الفرق هو حقيقة الدين، وسر الأمر والنهي، وغاية التكليف الشرير، ~~ومقصود الرسالة والكتاب، ولهذا تكلم الناس في علة خلقه للخلق، ثم أمره ~~بالدين. # فقال فريق: إنه فعل ذلك لنفع الخلق ومصلحتهم، وزعموا أن هذا وجه حسن ~~الفعل والأمر، وإن لم يكن هذا واقعا بالجميع ولا عائدا منه حكم إلى الفاعل، ~~وهذا قول المعتزلة وغيرهم من القدرية، ثم التزموا على هذا مسائل التعديل ~~والتجوير، والتحسين والتقبيح بالقياس الفاسد على الخلق، واضطربوا فيه ~~اضطرابا لا ينضبط. # وقد يوافق بعض أهل السنة- من أصحابنا وغيرهم- هؤلاء في بعض المسائل التي ~~لا تخالف الأصول المشهورة في السنة، وعارضهم كثير من متكلمة الإثبات للقدر، ~~الذابين عن السنة في مواضع كثيرة، فقالوا: لا يجوز تعليل شيء من ذلك، بل ~~خلق وأمر لمحض المشيئة، وصرف الأرادة، ولا يجوز تعليل ذلك بمصلحة العباد ~~ونفعهم، ولا غير ذلك. # PageV06P050 # ثم إن كثيرا من العلماء يعتقدون أن ليس في هذا الأصل العظيم الجامع- ~~المتعلق بأصول الدين والتوحيد، وبأصول الفقه وبالشريعة- إلا هذان القولان ~~(1) ، إما التعليل بنفع العباد وصلاحهم، وإما رد ذلك إلى محض المشيئة ~~والإرادة الصرفة، وهذا القول الثاني يلزمه من اللوازم الفاسدة ms1032- التي تتضمن ~~التسوية بين محبوب الله ومكروهه، ومأموره ومنهيه، وأوليائه وأعدائه- أشياء ~~فيها من البطلان والشناعة ما يعلم به تفريط هؤلاء وغلطهم، كما فرط الأولون. # ويقارب هؤلاء من يقول من الفلاسفة وغيرهم: إن هذه المخلوقات لازمة لذاته، ~~وإن قالوا: إنها صادرة عن عنايته، وإن تضمنت ما تضمنت من منافع الخلق ~~ومصالحهم بطريق اللزوم. ويجعلون ذلك علة غائية. # ثم إنهم يتناقضون فلا يجعلون ذلك مقصودا للفاعل ولا مرادا له بالقصد ~~الأول، وإلا لزمهم ما لزم الأولين من التعليل، فيثبتون في أفعاله من الحكم ~~والعلل الغائية والمنافع ما لا يصدر إلا عن قصد وإرادة، ثم يتكلمون عن ~~الإرادة بما يناقض ما قالوه. # ومما يبين ذلك أن يقال لمنكري التعليل- الذين لا يثبتون وراء العلم ~~والإرادة لا حكمة، ولا رحمة، ولا لطفا، ولا محبة، ولا رضى، ولا فرحا، ولا ~~غضبا، ولا مقتا، ولا غير ذلك، بل يجعلون لذلك إرادة أو فعلا-: معلوم أن ~~الإرادة المحضة خاصتها التخصيص PageV06P051 # والتمييز، كتخصيص بعض الأعيان بنوع من المقادير والصفات والحركات وغير ~~ذلك، مما يمكن ضده وخلافه. أما التخصيص بالخير دون الشر، والنفع دون الضر، ~~والنعيم دون العذاب، وجعل هذا محبوبا، وهذا مودودا مرضئا، وهذا ممقوتا ~~مبغضا مسخوطا، فلا يجوز أن يكون معنى هذا الإرادة المحضة، لأن الإرادة ~~متعلقة (1) بكل حادث، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وحكمها في سائر ~~أنو اع الحوادث حكم واحد، فلم سميت هنا محبة وهنا بغضا؟ وهنا رضى وهنا ~~غضبا؟ وهنا مودة وهنا مقتا؟ ألا ترى أن الإرادة المتعلقة بغير المأمور به ~~والمنهي عنه لا تتنوع إلى ذلك، فلا يقال في حق الجائع والشبعان والصحيح ~~والمريض والامن والخائف والناكح والمحتلم والغني والفقير والرئيس والمرؤوس: ~~هذا محبوب مرضي مودود، وهذا مبغض مسخوط ممقوت، وإن كان أحدهما متنعما بما ~~هو فيه، والاخر معذبا بما هو فيه. # فإذا كان قد أثاب قوما بعملهم الصالح في الدنيا والآخرة، وعاقب قوما ~~بعملهم السيء في الدنيا والآخرة، والجميع بمشيئته، كما أن التفريق بين ~~الجائع والشبعان، وبأنه ms1033 بمشيئته، فلم يجعل في هؤلاء محبوبا ومكروها، ولم ~~يجعل في باب الشبعان والجائع محبوبا ومكروها، حيث لا يتعلق به أمر شرعي، ~~فتعلق الحب والرضى والبغض والسخط بالأمر الديني الشرعى، دون مالم يتعلق به ~~ذلك- مع PageV06P052 # أن الإرادة عامة التعلق بجميع الكائنات- دليل على أن باب أحدهما ليس هو ~~باب الآخر. # وهذا بين معقول ببرهان لمن تأمله، وهو دليل عقلي على ثبوت هذه الصفات، ~~كما كان أصل التخصيص دليلا على ثبوت الإرادة. # ويقال لمثبتي التعليل من القدرية: عندكم أن جميع هذه الصفات تعود إلى ~~معنى النفع والإضرار، فإن مصلحة العباد والإحسان إليهم وغير ذلك هو عندكم ~~نفعهم، وضد ذلك إضرارهم، فعطلتم صفات الله من هذا الوجه، ولكم في الإرادة ~~من الاضطراب ما هو مذكور في غير هذا الموضع. # ثم تزعمون أنه إنما خلق وأمر لنفع الخلق، فيقال لكم: وأي فرق بالنسبة ~~إليه، نفعهم أو لم ينفعهم؟ فإن جعلتم ذلك قياسا على الخلق، فالخلق إنما ~~يحسن منهم نفع بعضهم لبعض، لأن النافع يعود إليه من نفعه مصلحة له، وإلا ~~فحيث لا مصلحة له في ذلك، لا يكون نفعه حسنا. # ويقال لكم أيضا: النافع من الخلق يختلف حاله، بين ما قبل أن ينفع وبعد ما ~~ينفع، فيكسب نفسه بذلك صفة كمال له، يدرك ذلك من نفسه، ويدرك ذلك الخلق ~~منه، فنفس السخي الجواد أكمل وأشرف وأعظم من نفس البخيل الجبان، كما قال ~~الله تعالى: (قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10)) (1) ، وقال: ~~(فأما من أعطى واتقى (5) وصدق PageV06P053 # بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى ~~(9) فسنيسره للعسرى (10)) (1) ، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة. # ويقال لكم: إذا كان المقصود مجرد النفع، والفاعل قادر، فهلا حصل؟ ففي ~~انتفائه في صور كثيرة وحصول الضرر دليل على أن هناك مقصودا آخر. # ويورد عليهم ما في المخلوقات من أنواع المضار، وما في المأمورات من ذلك، ~~وقد عرف اعتذارهم عن ذلك، وما فيه من التناقض والفساد. # ويقال لهم: ما الموجب لما وقع من أنواع المضرات بالكفار والفساق؟ إذا ms1034 كان ~~المقصود نفعهم بالتكليف، وهم لم يقبلوا هذا النفع، فما الموجب لمقابلتهم ~~بأنواع من العقاب والسخط والمقت إذا لم يصدر منهم إلا مجرد عدم قبول نفعهم؟ ~~لولا أن هناك أسبابا أخرى وحكمة أخرى لم يعلموها، ولم يتكلموا بها، فهذا ~~هذا. # وأيضا فالكتاب والسنة إنما أطلق الحب والبغض والود والمقت والرضا والغضب ~~والفرح والأذى، دون لفظ اللذة والألم، لأن هذين الاسمين كثيرا ما يطلقان في ~~خصائص المخلوق التي تنفعه وتضره، مثل الاكل والشرب والنكاح، ومثل المرض ~~الذي هو الوصب والنصب والجوع والعطش والعذاب بالنار ونحو ذلك، قال الله ~~تعالى: (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من ~~عسل PageV06P054 # مصفى) (1) ، وقال: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) (2) ، وقال ~~تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم (24)) (3) ، فالالتذاذ والانتفاع متقاربان، ~~والتألم والتضرر متقاربان، وإن كان المنفعة والمضرة أعم في الاستعمال، ~~ولهذا قيل: إن المنفعة قرينة الحاجة، فإنما ينتفع الحي بما هو محتاج إليه، ~~ويتضرر بما يؤلمه، وقد قال الله تعالى- فيما يروى في الحديث الصحيح (4) -: ~~"يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني "، وهذا ~~الحديث ينفي بلوغ الخلق لذلك، وعجزهم عن ذلك، وما فعله الخلق فإنما فعلوه ~~بقوة الله ومشيئته وإذنه، ولا حول ولا قوة إلا به. # وقد قال الله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله) (5) ، وقال: (فلما ~~آسفونا انتقمنا منهم) (6) ، وقال في الحديث الصحيح (7) : "يؤذيني ابن آدم". ~~وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله " ~~(8) ، كما قال: "ما أحد أحب إليه المدح من الله " (9) ، وقال: "ما ~~PageV06P055 # أحد أغير من الله، وما أحد أحب إليه العذر من الله" (1) ، فأخبر - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه ليس أحد يحب أن يمدح ويعذر مثل ما يحب الله ذلك، ولا ~~أحد أصبر على أذاه وأغير على محارمه من الله، فالممدوح بإزاء المعذور يمدح ~~على إحسانه، ويعذر على عدله وعقوبته، والصبر بإزاء الغيرة، يصبر على أذى ~~خلقه له، ويغار أن ترتكب محارمه. # وعن هذا خلق النبي - صلى الله ms1035 عليه وسلم - كما قالت عائشة: "ما انتقم ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا ~~انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله" (2) . فهذا صبر الرسول ~~على ما يؤذي، وهذا غيرته وانتقامه لمحارم الله. # وفريق رابع يقولون: إنه فعل ذلك ليحمد ويشكر ويمجد، أعني خلقه سبحانه ~~للخلق، كما دلت عليه النصوص في مثل قوله تعالى: (إلا ليعبدون) (3) ، وقوله: ~~(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) (4) ، ~~وقوله: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) (5) ، وقوله: (فاذكروني ~~أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) (6) ، وقوله: (أن اشكر لي ولوالديك) (7) ، ~~وقوله: (ولكن يريد ليطهركم PageV06P056 # وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)) (1) ، وقوله: (فاجعل أفئدة من الناس ~~تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)) (2) . # وفي الأحاديث كثير، مثل قوله ... (3) . # لكن هؤلاء [يرد] عليهم سؤالان عظيمان، سؤال متعلق بالأفعال والقدر، وسؤال ~~متعلق بالأسماء والصفات. # أحدهما: أنه فعل ذلك، فلم لا حصل مراده مع قدرته عليه؟ فإذا كان مراده ~~العبادة، فلم لا حصلت من جميعهم؟ # وهذا السؤال لما استشعر الناس وروده، أجابوا عنه على أصولهم، فقال كثير ~~ممن ينصر السنة: (إلا ليعبدون (56)) (4) : إلا ليعرفون، يعني المعرفة ~~العامة الفطرية الموجودة في المؤمن والكافر. وهذا القول ضعيف جدا، لأنه ~~ذمهم على ترك ذلك، ولأن ذلك لم يوجد من المجانين ولا من الجاحدين، ولأنه أي ~~مقصود له في ذلك حتى ينفي إطعامهم ويثبت ذلك، إذا كان الكل سواء؟ # ومنهم من جعل الجن والإنس هنا خاصا لمن عبده، وهو ضعيف لوجوه. # ومنهم من قال: إلا لآمرهم بالعبادة. وهو قريب إذا تمم. PageV06P057 # وقالت القدرية: ما أراد منهم كلهم إلا العبادة، لم يرد غير ذلك، لكن منهم ~~من خالف مراده كما عصى أمره، ومنهم من لم يخالف. # فقيل لهم: ولم خلقهم للعبادة؟ # فقالوا: لنفعهم. # قيل لهم: فقد أراد ما علم أنه لا يحصل. # وقيل لهم: لأي شيء أراد نفعهم؟ فاضطربوا. # ثم قيل لهم: فلم لا أعانهم على مراده؟ # فقالوا: استفرغ وسعه، ولم يمكنه ms1036 أن يجعل لهم إرادة، وإنما أمكنه أن ~~يجبرهم ويضطرهم إلى الإيمان والعبادة، وتلك لا تنفعهم. وأما العبادة ~~الاختيارية فلا يقدر عليها إلا هم، ولا يفعلها إلا هم. والتزموا من اللوازم ~~الفاسدة ما يطول وصفه، ورد الناس عليهم ردودا يطول وصفها. # وقيل لهم: وقد قال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم ~~قلوب لا يفقهون بها) (1) ، وقال: (ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ~~ولذلك خلقهم) (2) ، قال جمهور السلف: ما دل عليه الخطاب: خلق فريقا للرحمة، ~~وفريقا للاختلاف. # فقالوا: هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض والقصد PageV06P058 # والإرادة، فإن الفاعل الذي يقصد غاية تكون اللام في فعله للتعليل ~~والإرادة، إذ هي العلة الغائية، والذي لا يقصدها تكون اللام في فعله لام ~~العاقبة. # فيقال لهم: لام العاقبة إما أن تكون من جاهل بالعاقبة، كقوله: (فالتقطه ~~آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) ، أو من عاجز عن دفع العاقبة السيئة، ~~كقولهم (2) : # لدوا للموت وابنوا للخراب # وقولهم (3) : # وللموت ما تلد الوالده # فأما العالم القادر فعلمه بالعاقبة وقدرته على وجودها ودفعها، يبتغي أن ~~لا يكون مريدا لها. # فافترق القدرية فرقتين: # منهم من اختار أنه لم يكن عالما بما يؤول إليه الأمر من الطاعة والمعصية. ~~PageV06P059 # ومنهم من اختار أنه لا يقدر على أن يفعل بهم غير ما فعل من الإعانة، ~~وهؤلاء أكثر القدرية. # ولا بد من بيان الكلام في ذلك على أصول العربية التي نزل بها القرآن، فإن ~~هذه اللام التي ينصب بها الفعل تسميها النحاة لام [كي] ، وهي في الحقيقة ~~لام الجر، أضمر بعدها "أن" فانتصب الفعل، ولهذا تليها الأسماء المجردة، كما ~~في قوله: (لجهنم) . # والمجرور بها تارة يكون سببا فاعليا، كما تقول: فعلت هذا لأني اشتهيته ~~وأحببته. وقد يكون سببا غاليا، كما تقول: فعلت هذا ليرضي زيدا وليحسن إلي. # وأما المنصوب على المفعول له فلا يكون إلا لسبب الفاعل، كقوله: (ابتغاء ~~مرضات الله) (1) ونحو ذلك، والفرق بينهما مذكور في غير هذا الموضع. # وأما الذين أجروا الآية على مقتضاها مع الإيمان بالسنة، وقالوا: المراد ms1037 ~~أن يعبد ويحمد ويشكر، فمنهم من يقول: قد وجد ذلك من بعضهم. ومنهم من يقول: ~~مقصوده أمرهم بذلك، لا نفس وجود المأمور به. # والتحقيق أن اللام هنا لام إرادة المحبة والرضا والأمر، لا لام الإرادة ~~العامة الشاملة للكائنات. واللام في قوله: (ولذلك خلقهم) (2) (ولقد ذرأنا ~~لجهنم) (3) لام الإرادة العامة الشاملة، فتلك الإرادة PageV06P060 # الدينية، وهذه الإرادة الكونية، ويجب الفرق بين اللامين والعلتين ~~والغايتين، كما فرق بين الأمرين والإرادتين والحكمين والبعثين والإرسالين. ~~وليس كل ما يحبه ويرضاه ويفرح به لخلقه يكون، وإنما كل ماشاء يكون. # وقد روينا في كتاب القدر (1) عن ابن عباس: أن الأنبياء موسى وعزيرا ~~والمسيح سألوا عن هذه المسألة، فقالوا: أي رب! أنت رب عظيم، لو تشاء أن ~~تطاع لأطعت، ولو تشاء أن لاتعصى لما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت مع ذلك ~~تعصى؟ فاوحى الله إليهم: "إن هذا سري، فلا تسألوني عن سري". # وذلك أنه وإن أحث عبادتهم، فلا يجب في كل ما أحبه الحي أن يفعله، بل قد ~~يكون في حقنا من يترك محبوبه لمعارض راجح، أو يتركه فلا يفعله لا لمعارض ~~راجح، ولا نقص في ذلك، كالأفعال الحسنة التي تستحب لنا، كما قال الله ~~تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) (2) .وقال: (يثبت ~~الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله ~~الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (3) . PageV06P061 # وأيضا فإن الله يحب هذه الأعيان والأفعال والصفات بتقدير وجودها، كما ~~يسمع المسموعات ويبصر المدركات بتقدير وجودها، وأما ما لم يوجد منها وقد ~~علم أنه لا يوجد، فلا يقال: إنه يحب العدم المحض والنفي الصرف، كما لم ~~يتعلق به حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الجن والإنس، والغاية ~~المحبوبة منهم التي بها يكملون ويصلحون وينالون الكرامة ويحبهم الحق أن ~~يعبدوه، فإذا لم يبلغوا هذه الغاية لم يبلغوا سعادتهم، ولا محبوب الحق ~~منهم. ثم إن منهم من شاء كون العبادة أمنه، فأعانه، ومنهم من لم يشأكون ذلك ~~منه فلم يعنه ms1038، ولكنه من ذرئه لجهنم. # السؤال الثاني: أي مقصود له في أن يعبدوه ويحمدوه إذا كان غنيا عن ~~العالمين؟ وهو أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد. ثم إما أن ~~يكون يحصل بالعبادة ما لم يكن حاصلا، فيكون قبله ناقصا، أو يكون قبل ~~العبادة وبعدها سواء، فسيان عبدوه أو لم يعبدوه. ويتصل ذلك الكلام في حلول ~~الحوادث به، إذا حصل له بالعبادة ما لم يكن حاصلا. # وهذا السؤال هو الذي منع جمهور متكلمي أهل الإثبات عن التعليل ورد الأصول ~~إلى محض المشيئة، فيقولون في الجواب: غناه عن العالمين لا يمنع أن يحب ~~ويرضى ويفرح، والإيمان به، وعبادته، وشكره، والعمل الصالح، وأن يفرح بتوبة ~~التائب (1) ، لأن هذه الأشياء PageV06P062 # إذا وجدت فهو الذي خلقها وأوجدها، فلم يكن في ذلك فقر إلى غيره بوجه من ~~الوجوه. # وأما تجدد هذه العبادات فهو بمنزلة تجدد المسموعات والمرئيات في كونه ~~يسمعها ويراها، فما كان الجواب عن تلك فهو الجواب عن هذه. # كما يقال: إما أن يكون بالسمع والبصر يحصل له إدراك لم يكن، أو لم يحصل؟ ~~فإذا لم يحصل فلا فرق بين وجودها وعدمها، وإن حصل لزم أن يكون قبل ذلك ~~ناقصا، ولزم حلول الحوادث به. # فإذا أجيب عن ذلك بأن ذلك ليس بكمال بالنسبة إليه، أو أن المتجدد هو أمر ~~عدمي لا أمر ثبوتي، وقنع العقل بذلك الجواب، فهو الجواب هنا. # وإن قيل: الكمال أن يكون بحيث يسمع ويبصر كل ما يحدث من مسموع ومرئي. # قيل: والكمال أن يكون يحب ويفرح بكل ما يحدث من محبوب ومرضي ومفروح به. # وإذا قيل: ليس ثبوت هذا الإدراك بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق التي ~~تستلزم حدوثه وإمكانه. # قيل: وليس (1) ثبوت هذه الأحوال المتعلقة بالإدراك- من المحبة ~~PageV06P063 # والرضا والفرح والغضب- بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق، التي تستلزم حدوثه ~~وإمكانه. # وإن قيل: إن علمه وسمعه وبصره وإرادته تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما ~~يتجدد من الأشخاص التي تندرج فيها. # قيل: وكذلك محبته ورضاه وفرحه تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدد ms1039 ~~من الأشخاص التي تندرج فيها. # فما كان جوابا عن أحد البابين، وهو ما أثبت من الصفات كالسمع والبصر ~~والإرادة، فهو الجواب عن الباب الآخر، وهو المحبة والرضى والفرح ونحو ذلك. ~~وإنما يتخيل الفرق لكثرة النظر والاعتبار في أفعال الربوبية، وتعلقها ~~بالصفات التي بها صدرت الأفعال ودلت الأفعال عليها، فإن أكثر نظر الكلاميين ~~والبحاثين في هذا. # وأما النظر في الغايات المطلوبة في العباد، وهو مقتضى الإلهية وما يتعلق ~~بذلك من صفات الحب والبغض والرضا والغضب، فإن الرسل الذين دعوا إلى عبادة ~~الله جاؤوا به، وإنما يحققه أهل العلم والإيمان من أهل ولاية الله تعالى ~~وخاصته. # فإن قيل: هذا يقتضي وصفه باللذة، ومن وصفه بها وصفه بالألم، وذلك يقتضي ~~حدوثه أو إمكانه. # قيل: العبارات المجملة لا نطلقها إذا لم يجيء بها الشرع إلا مفسرة، ~~فالشرع جاء بالحب والرضا والفرح والضحك والبشبشة ونحو ذلك، وجاء أنه يؤذى ~~ويصبر على الأذى، فقال: (إن الذين يؤذون الله # PageV06P064 # ورسوله) (1) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحد أصبر على أذى ~~يسمعه من الله" (2) . وقال الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا ~~الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" (3) ، وقال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - للباصق في القبلة: "إنك قد آذيت الله ورسوله" (4) ، وقال: "من لكعب ~~بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله" (5) . # فهذه الصفات حق نطق بها الكتاب والسنة، واتفق عليها سلف الأمة وعامة أهل ~~العلم والإيمان من أهل المعرفة واليقين، ودل العقل القياسي والعقل الإيماني ~~على صحتها، فلا خروج عن هذه الأدلة والسنة والجماعة وزمرة الأولياء ~~والأنبياء. # وأما إطلاق لفظ "اللذة" فقد أطلقه قوم من أتباع الأوائل ومن هذه الأمة ~~المتفلسفة وغيرهم، كما أطلقوا لفظ "العشق"، وهو بالمعنى الذي فسروه به ليس ~~بباطل، لكن اتباع الألفاظ الشرعية في هذا الباب من الأدب المشروع لنا، إما ~~إيجابا وإما استحبابا، فإذا تركنا إطلاق هذا اللفظ مع صحة المعنى، فلعدم ~~جواز الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب، أو لاستحباب ترك الخروج عن ~~الألفاظ الشرعية في هذا الباب ms1040. PageV06P065 # وأما إذا كان اللفظ فيه إجمال، فإطلاقه بلا تفسير ممنوع منه، لما فيه من ~~إضلال المستمع، وتنفير القلوب الصحيحة، ولعدم دلالته على المعنى المقصود ~~إلا بعد مقدمات غير مذكورة، لكن هؤلاء يجعلون ذلك متعلقا بنفسه فقط، ~~فيقولون: هو عاشق ومحب لنفسه، ويلتذ ويبتهج بها، أو، الذي جاءت به الكتب ~~والرسل أن حكم ذلك يتصل بعباده الصالحين، فيحبهم ويرضى عنهم ويفرح بتوبتهم، ~~وإلى هذا دعت الرسل، وفيه نزلت الكتب. # والقران والإيمان يفرقان بين من يحبه ويبغضه، ويرضاه ويسخطه، ويوده ~~ويمقته، وبذلك حصل الفرق بين أولياء الله وأعدائه. وأولئك المتفلسفة لا ~~يصعدون إلى هذا، فإنهم صابئة، وغالبهم عباد لغير ذلك من العلويات والسفليات ~~إلا من هداه الله، فآمن بالله واليوم الآخر، قال الله تعالى: (إن الذين ~~آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل ~~صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (1) . # وأما كون ذلك مستلزما للحدث أو الإمكان فلا دليل عليه البتة، بل عامة ~~الصفات الثابتة قد يقال فيها مثل ذلك. ومن أثبت شيئا من الصفات مثل إرادة ~~قائمة، يورد عليه مثل ذلك، بل نفس إثبات كونه خالقا وآمرا بالدين، يورد ~~عليه مثل ذلك، وهو إيراد فاسد، لأن مبناه على قياس الله على ابن ادم، الذي ~~كان معدوما ثم وجد، ولا وجود له PageV06P066 # من نفسه، وإنما وجوده بخالقه، والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ~~فلا يجوز ضرب المثل له من مخلوقاته. # وإذا تبين أن الإرادة نوعان: منها ما هو بمقتضى الربوبية، وهي الإرادة ~~الكونية، ومنها ما هو بمقتضى الإلهية، وهي الإرادة الدينية، فالأولى إرادة ~~فاعلية، والثانية إرادة غائية، الأولى من اسمه الأول، والثانية من اسمه ~~الآخر، الأولى يكون الرب بها مريدا والعبد مرادا إرادة تكوين وربوبية، ~~ولذلك قد يكون مريدا، والثانية يكون الرب بها مريدا إرادة حب ورضى وإلهية، ~~والعبد أيضا مريدا إرادة عبادة وديانة وإنابة وإرادة وقصد، وقد يكون بها ~~مرادا إرادة ربوبية إذا حصل ذلك. # تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد ms1041 لله وحده. # PageV06P067 ### | فصل # في صفات المنافقين # PageV06P069 # (وهذا فصل من كلام الشيخ تقي الدين رضي الله عنه من غير الكلام الأول) . # فصل # ذكر الله المنافقين في القرآن فوصفهم بصفات كقول الله تعالى: (أولئك ~~الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) مثلهم ~~كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات ~~لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ~~ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط ~~بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم ~~عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ~~(20)) (1) . # وهذا كما قال من قال من السلف المفسرين، كقتادة وغيره: عرفوا ثم أنكروا، ~~وأبصروا ثم عموا، واهتدوا ثم ضلوا، ونحو ذلك. فإنه أخبر أنهم اشتروا ~~الضلالة بالهدى، وهذه حال من أخذ الضلالة التي لم تكن عنده، وأخرج الهدى ~~الذي كان عنده، وإن كان قد يقال: إن مثل هذا قد يقال للقادر على الأمرين، ~~إذا ترك هذا وأخذ هذا، لكن سياق الكلام يدل على الأول، فإنه قال: (مثلهم ~~كمثل الذي استوقد نارا) أي طلب إيقادها وأوقدها، (فلما أضاءت ما حوله ذهب ~~الله بنورهم) إلى آخر الاية، فمثلهم بالذي جعل لنفسه نارا ينتفع بضوئها، ~~فلما أضاءت PageV06P071 # ذهب النور، وبقي في ظلمة لا يبصر، وأخبر أنهم (صم بكم عمي فهم لا يرجعون ~~(18)) إلى الحال التي كانوا عليها من الهدى والنور. # وأما المثل الثاني وهو حال المطر الذي فيه ظلمات ورعد يسمع، وبرق يرى، ~~وأنهم يخافون من صوت الصواعق ومن لمعان البرق، فيمتنعون، فتحصل الافة في ~~سمعهم وبصرهم، وأنهم مع ذلك إذا (أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) ~~فهذه حال من يكون إدراكه الذي هو سمعه وبصره، وعمله الذي هو حركته، فيه خلل ~~واضطراب وآفة ونقص وفساد، ولكن لم يعدم ذلك بالكلية. # وهذه تشبه حال من فيه إيمان ونفاق، وفي قلبه مرض، والأولى ms1042 حال من ارتد عن ~~الهدى بالكلية. # وقد قال أيضا في سورة المنافقين (1) : (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد ~~إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) ~~اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2) ذلك ~~بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3)) فأخبر أنهم آمنوا ~~ثم كفروا كما ذكر نحو ذلك في سورة البقرة، وهذا يقتضي شيئين، أحدهما: أنه ~~قد كان منهم ما هو إيمان، وأنهم رجعوا عنه، ومعلوم أنهم ليسوا كالمرتدين ~~الظاهري الردة، فإن ذلك قسم آخر ذكره الله في القرآن في غير موضع، وله حكم ~~آخر في الكتاب والسنة، بل هذه حال المنافقين المتناقضين، الذين يقولون قول ~~المؤمنين، PageV06P072 # ويقولون ما ينقض قول المؤمنين، ولو كانوا صادقين محققين القول الأول لم ~~يأتوا بما يناقضه. # وليسوا أيضا تاركين لكل ما يتركه المؤمنون ويفعلونه، بل يوافقونهم على ~~شيء، ويوافقون شياطينهم على شيء، وهم وإن كانوا في الظاهر مع المؤمنين، ففي ~~الباطن مع شياطينهم، وهذا هو النفاق، وقد فسر بذلك إيمانهم وكفرهم، أي ~~امنوا ظاهرا ثم كفروا باطنا. # فالقران يدل على أنهم أولا حصل لهم هدى، ثم رجعوا عنه، مع كونهم أظهروا ~~خلاف ما يبطنون، وهذه حال طوائف من العباد، يقرون بالحق من بعض الوجوه، ولم ~~يقروا به إقرارا تاما، فهم كاذبون في دعواهم الإيمان به، ثم إنهم يتناقضون ~~فيأتون بما ينافي الإيمان، وقد قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ~~ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا ~~يلتكم من أعمالكم شيئا) (1) ، فهذا يبين أنهم دخلوا في الإسلام الذي إذا ~~عملوا فيه عملا صالحا لم ينقصوه، ومع ذلك لم يدخل حقيقة الإيمان إلى ~~قلوبهم، فكثير من الناس يقر بالحق ابتداء، وإن لم يكن في قلبه إذ ذاك تكذيب ~~به أو بغض له، بل لا يكون في قلبه حقيقة التصديق والمحبة، وإن كان فيه بعض ~~ذلك، مع إقراره بلسانه وظاهره. # وفرق بين ان يقوم بقلبه نقيض ms1043 ما أظهره، وبين أن لا يحقق بقلبه ما أظهره، ~~فإن الأول قام بقلبه كفر وجودي، وهذا لم يقم بقلبه كفر PageV06P073 # وجودي، لكن لم يقم بقلبه حقيقة الإيمان، وإن كان قد دخل فيهم منادي ~~الإيمان، إذ تكلموا به، وكان له أثر في قلوبهم، فهذا- والله أعلم- حال ~~الموصوفين في سورة البقرة والمنافقين، فإنه قال: (ومن الناس من يقول آمنا ~~بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8)) (1) فأخبر أنهم في الحقيقة لم ~~يؤمنوا، وأن في قلوبهم مرضا، والمرض يكون ريبا وشكا. وأخبر أنه إذا قيل ~~لهم: (آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) (2) ، وأخبر أنهم ~~يوافقون في الظاهر المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما ~~نحن مستهزؤون، ثم أخبر عنهم (3) بما يقتضي ردتهم عن هدى حصل لهم، فهذا- ~~والله أعلم- يقتضي أنهم في أول الأمر حصل لهم أمر ناقص، لا يستوجبون به ~~حقيقة الإيمان، كما ذكر عن الأعراب، ولكن لو استمروا على اتباع الحق قوي ~~إيمانهم، فرجعوا عن ذلك الهدى ونافقوا المؤمنين. # والنفاق ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومن تدبر حال كثير من أئمة الضلال- من ~~المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ومن فيه شعب من ذلك من الجهمية والرافضة ~~ونحوهم- وجدهم على ذاك الحال، فإنهم يتناقضون، فيقرون بالحق وينكرونه، ~~ويعرفونه ثم ينكرونه، ولهذا يجمعون في كلامهم بين ما هو من قول المؤمنين، ~~وبين ما هو من قول الكفار الجاحدين، كالذي يكون مسلما، ثم يتفلسف وينافق ~~شيئا بعد شيء، كالقرامطة الذين كان أولا فيهم إسلام، وإن كانوا مبتدعة من ~~PageV06P074 # الشيعة مثلا، ثم إن النفاق قوي فيهم، حتى جحدوا ما كانوا أقروا به أولا، ~~وصاروا يقولون: لا نقول حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع ولا أصم، ~~ولا بصير ولا أعمى، ولا يتكلم ولا ساكت، ونحو ذلك، فيمتنعون أن يصفوا الله ~~تعالى بالصفات الثبوتية أو السلبية. فهذا في الحقيقة ترك الإيمان الواجب، ~~وإن كانوا قد تركوا أيضا الكفر الوجودي، فإن عدم الإيمان كفر، وبذلك يزول ~~الهدى والنور الذي حصل لهم، وكذلك إذا ms1044 قالوا: هو موجود، لكن ليس بعالم ولا ~~قادر ولا حي، وكذلك إذا قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه. # ولا ريب أن في هؤلاء طوائف فيهم إقرار وإنكار، وعلم وجهل، فهؤلاء لهم ~~المثل الثاني. [والله] سبحانه وتعالى أعلم. # فصل # ثم إنه سبحانه ذكر هذين المثلين للمنافقين، أحدهما: المستوقد للنار. ~~والثاني: الصيب، هذا بالنار، وهذا بالماء، وهذا التمثيل نظير التمثيل بهما ~~في سورة الرعد، بقوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ~~فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ~~زبد مثله) (1) ، فإنه ذكر أيضا ما يعمله الماء والنار، وأن النار فيها ~~إضاءة ونور وإشراق مع الحرارة، والماء هو مادة الحياة مع الرطوبة والحياة، ~~والنور جماع الهدى، كما قال تعالى: (أو من كان ميتا PageV06P075 # فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج ~~منها) (1) ، وقال: (وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور ~~(20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الأحياء ولا الأموات) (2) . # والماء وإن كان مادة الحياة، فالنار أيضا كذلك، ولهذا فيها من الحركة ~~والشوق والإرادة ما يستلزم الحياة، لكن الماء فيه برودة ورطوبة يحصل به ~~الإحساس الذي لا بد فيه من لين، والنار فيها الحرارة التي توجب العمل، ~~والإرادة التي لا بد فيها من حركة، فهذا مادة الإحساس، وهذا مادة الحركة ~~الإرادية، والحياة مستلزمة لهذا ولهذا، فإن الحي المطلق لا يكون ... (3) ، ~~ولهذا يجمع الله بين حقيقة هاتين النعمتين والايتين اللتين بهما يكمل ~~الموجود فيما ينزله على رسله، وما خاطبت به الرسل لقومها، بل أول ما يعرف ~~به آياته أسباب الحياة والهداية، فأول ما أنزل الله على نبيه محمد - صلى ~~الله عليه وسلم -: (اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) ~~اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)) (4) ~~، فذكر الخلق والهداية عموما وخصوصا، وذكر خلق الإنسان من علق، إذ هو في ~~هذا الطور يصير حيا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يجمع خلق ~~أحدكم في ms1045 بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ~~ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع PageV06P076 # كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح ~~" (1) . # فهو بعد المضغة ينفخ فيه الروح، فلو قيل: خلقه من مضغة، لكان يظن أن ~~الروح خلقت من مضغة، بخلاف ما إذا قيل: خلق من علق، فإنه يعلم أن المخلوق ~~منها هو المضغة، التي ينفخ فيها الروح. # وأيضا فالعلق واسطة بين النطفة وبين المضغة، وأيضا فمن يصير علقة يخلق ~~فيميز رأسه ويداه ورجلاه، كما قال الله تعالى في الاية الأخرى: (ثم من مضغة ~~مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم) (2) ، قال من فسر ذلك من السلف: المخلقة ما تم ~~خلقها، وغير المخلقة ما أسقطها الرحم. ليبين الله لعباده مبدا خلقهم، وأنهم ~~خلقوا من هذه المضغة. ولهذا تكلم الفقهاء فيما تلقيه المرأة، مما يثبت به ~~حكم النفاس، وتنقضي به العدة والاستبراء، وتصير به المرأة أم ولد، فإنه إذا ~~كان مضغة مخلقة فلا ريب فيه، وأما إذا كان مضغة غير مخلقة أو علقة ففيه ~~نزاع، فلما قال: خلق من علق، دل بذلك على أن تخليق البدن بتصوير الأعضاء ~~كان من نفس العلقة، وهذا أخص من خلقه من نطفة، فإن ذلك تقدير جملته ~~وتصويرها قبل التفصيل. # وأيضا فالعلق أول الاستحالات التي يخلق منها، فإنه قبل ذلك كان نطفة، ~~والنطفة لا تتعين أن تكون مبدأ الإنسان بلا ريب. ولهذا يتنازع الفقهاء أنها ~~لو ألقت نطفة، لم يثبت به شيء من أحكام الولد، لا PageV06P077 # نفاس، ولا عدة، ولا استبراء، ولا استيلاد، ولا غير ذلك، بخلاف العلقة، ~~والعلقة تنازعوا فيها، لأنه يجوز أن تكون مبدأ آدمي، ويجوز أن لا تكون، ~~ولهذا قال من قال منهم: يرجع في ذلك إلى شهادة القوابل وغيرهن. # وأيضا فالعلق دم، والدم فيه الحرارة والرطوبة، وهما سبب الحياة، ولهذا ~~كان الدم مادة حياة الإنسان، وفيه الأرواح البدنية التي تكون فيها القوى. ~~وقد دل هذا الكلام على أن الإنسان الذي هو جوهر جسم ms1046 قائم بنفسه وأنه صورة- ~~مصورة، مخلوق من هذه المادة التي هي جسم أيضا، وهي العلق. فبان بهذا أن ~~الحادث بعد أن لم يكن جوهر قائم بنفسه، ليس كما يطلقه بعض المتكلمين ~~والمتفلسفة أن الحادث إنما هو صفات في الجواهر، فإن الفرق بين الصور ~~والأجسام، وبين الصفات والأعراض، فرق ظاهر كما قد بيناه في غير هذا الموضع. # والفلاسفة يفرقون أيضا بين الأمرين، ويقولون: الحال في المحل إن كان ~~المحل مستغنيا عنه فهو الموضوع، وهو الجوهر، والحال فيه هو العرض، وإن كان ~~المحل محتاجا إليه، فهو الهيولى، والحال فيه هو الصورة، ومجموعهما هو ~~الجسم، ويقولون: إن الهيولى جوهر، والصورة جوهر، والجسم جوهر، والموضوع ~~جوهر، بخلاف الحال في الموضوع فإنه عرض. # والجواهر عندهم خمسة (1) : المادة، والصورة، والجسم، PageV06P078 # والعقل، والنفس، وإن كان الذي لا ريب فيه هو الجسم والصورة، فأما ما ~~يقوله من المادة للجسم، ومن وجود موجود قائم بنفسه ليس بجسم، فهذا لاحقيقة ~~له، كما قد بين في موضعه. # والمقصود هنا أن الله سبحانه ذكر خلق الإنسان من علق، وهو الإنسان حي، ~~فذكر خلق الحياة، ثم ذكر التعليم مطلقا، والتعليم بالقلم، وهو الهداية التي ~~هي النور، فذكر خلق الحي وهدايته، مبينا بذلك أنه خالقه أول ما أنزل على ~~نبيه، وكذلك قال: (سبح اسم ربك الأعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي قدر ~~فهدى (3)) (1) ، فذكر أيضا هذين النوعين. وكذلك قال موسى لفرعون: (الذي ~~أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)) (2) . # وفي إثبات الربوبية بهذه الطريقة فوائد عظيمة يطول ذكرها هنا. # منها: أن ذلك تعريف للإنسان بحال نفسه ونوعه وجنسه، وذلك أقرب الأمور ~~إليه، فهي دلالة له لازمة له ذاتية. # ومنها: أن ذلك يبين فقره وحاجته، وأنه مربوب مقهور مدبر. # ومنها: أن ذلك يثبت القدر، وأنه خالق الحيوان وأفعالهم، وذلك يدل بطريق ~~التنبيه على خلق غير الحيوان، فإن كثيرا من الناس عرضت لهم شبهة في خلق ~~أفعال الحيوان، لما له من العلم والقدرة والإرادة. PageV06P079 # وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ما يستدل به على أن الله خالق ms1047 غير العبد، ~~يستدل به على ذلك في العبد، وإن أشبهه ذلك، حتى إن مناظري القدرية لم يتفطن ~~جمهور متكلميهم على ذلك. وذكرنا أن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم، ~~فبين سبحانه أنه خلق وعلم، وخلق فسوى، وقدر فهدى، فإنه إذا كان هو المعلم ~~الهادي إلى خلقه، فمعلوم أن مبدأ الحركات الإرادية هو جنس العلم، والتعليم ~~ينطبق على تعليم الناطق والبهيم، كما قال تعالى: (وما علمتم من الجوارح ~~مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) (1) ، وذكر الكلب المعلم، والفرق بينه ~~وبين غير المعلم ثابت بالسنة الثابتة واتفاق العلماء. # ولهذا قال سبحانه: (قدر فهدى (3)) (2) فجعل التقدير قبل الهداية، كما جعل ~~الخلق قبل التسوية، والتقدير يتضمن علمه بما قدره، وقد يتضمن تكلمه به ~~وكتابته له، فدل ذلك على ثبوت القدر، وعلى أن أصل القدر هو علمه أيضا، فدل ~~ذلك على أنه بكل شيء عليم، ولهذا قال في السورة الأخرى: (الذي علم بالقلم ~~(4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)) (3) ، والكتابة بالقلم تتضمن القول، ~~والقول يتضمن العلم، وهذه الثلاثة هي مراتب التقدير العلمي، وذلك مذكور بعد ~~خلق العين، فذكر إحداثه لذاته وصفاته وأفعاله، فانظر كيف كانت الرسالة ~~تتضمن الدلالة بهذين الأصلين: الخلق المستلزم للحياة، والهدى PageV06P080 # والنور الذي هو كمال الحياة. # وكذلك قال الخليل عليه السلام لما قال: (ربى الذى يحي ويميت) (1) ، ذكر ~~الأصل الأول، ثم ذكر أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وفي الشمس الضياء ~~والنور الذي يعيش الناس، فذكر الحياة والنور. # فهذه المعاني في ### | التمثيل بالماء والنار، # وأيضا فالماء رطب، والنار حارة، والحياة إنما تحصل بالحرارة والرطوبة، ~~ولما ذكر الله في سورة الواقعة خلقه للنسل والحرث للخلق والرزق بقوله: ~~(أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59)) (2) ، وقوله: ~~(أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64)) (3) ، فذكر ~~النسل والحرث، وذلك يتضمن خلق الإنسان وخلق طعامه، كما قال: (فلينظر ~~الإنسان إلى طعامه (24)) (4) الآية، ثم ذكر بعد ذلك ما يتم به الحرث والنسل ~~من الماء والنار، فقال: (أفرأيتم الماء الذي تشربون (68)) (5) ، (أفرأيتم ~~النار التي تورون (71)) (6) . # وأيضا فالتمثيل ms1048 بالنار يقتضى الحركة، وحرارة الطلب والإرادة، PageV06P081 # والشوق والمحبة، والنور والهدى مع ذلك، فتبين أن العلم لا يحصل إلا بعمل، ~~والعمل مقارن للعلم، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا تلازم العلم ~~والعمل، وذلك أنها مثل الحياة. # وأيضا ففي النار إنارة وحرارة وأشواق، ففي التمثيل بذلك إشارة إلى أن ~~النور والهدى في القلب، لا يحصل إلا بنوع من الحرارة التي تكون عن الحركة ~~والشوق والمحبة، فإن الحب والشوق والطلب يوجب للقلب أعظم من حرارة النار ~~البسيطة، هكذا يقوله الطبيعيون، وكذلك يجربه العاشقون، كما قال بعضهم: إن ~~لم تكن نار المحبين أعظم من نار جهنم، وإلا كان كذا وكذا. # فإذا كان النور مع الحرارة المقارنة للحركة والمحبة والإرادة، دل ذلك على ~~أن الهدى ينال بذلك، كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ~~(1) ، قال معاذ بن جبل: والبحث في العلم جهاد. # وقال تعالى: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) (2) فعلق ~~الهداية بالإنابة، وقال: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (3) ، ~~وقال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) ~~وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)) (4) ~~. PageV06P082 # وأما الماء ففيه رطوبة وبرودة، وفيه إرواء وإغراق، وهذا يدفع ضرره ~~الحرارة التي في النار، كما أن العطشان يجد حرارة العطش، فإذا شرب الماء ~~روي، فكذلك طالب الهدى يكون عنده شوق وطلب وحرارة حين يكون طالبا، فإذا ~~أتاه الهدى، وأحيا قلبه بحياة العلم والإيمان، روي بذلك، ووجد له اللذة، ~~وأما إذا كان عنده الحرارة النارية التي توجب له الحياة المشوقة له ولم ~~يشرب، فإنه يكون عذابا له، كالذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا ~~يحيى، فإن حياته لم تحصل مقصودها من الهدى واللذة، وما لم يحصل مقصوده يصح ~~نفيه، فإن الشيء إنما هو مطلوب لأجل مقصوده، كما يقال عما لا ينفع: ليس ~~بشيء. وهذا باب مبسوط في موضعه، كقوله: "لا نكاح إلا بولي" (1) ، "ولا بيع ~~فيما لا يملك" (2) ، ونحو ذلك. # وهو لم ms1049 يمت أيضا، لأنه فيه حياة، وهذا باب واسع، قال الإمام أحمد في أول ~~خطبته (3) : "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل ~~العلم، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل ~~لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال PageV06P083 # تائه قد هدوه ". # وقد قال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما ~~الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (1) ، ~~فسماه روحا ونورا، ليبين أن به الحياة والهدى، والهدى يتضمن اهتداء الحي ~~إلى ما ينفعه هو، الذي يوجب لذته وفرحه وسروره، وذلك كما قال الله تعالى: ~~(أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله) (2) ~~،ولهذا قالت الملائكة: حياك الله وبياك (3) ، أي أضحكك، والضحك إنما يكون ~~عند السرور. PageV06P084 ### | فصل # في التوحيد # PageV06P085 # الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا ~~شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله ~~وأصحابه أجمعين.. # قال الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة المحقق أبو العباس أحمد ابن الشيخ ~~الإمام العالم الورع عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم الورع الفاضل أبي ~~البركات ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه: # فصل في التوحيد # قال الله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب ~~العرش عما يصفون (22)) (1) ، قد كتبنا فيما تقدم قواعد تتعلق بذلك في توحيد ~~الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي أنه كما يمتنع أن يكون للخلق ربان، يمتنع ~~أن يكون له إلهان، وتكلمنا على العلل والأسباب الفاعلية والغائية، وما ~~يتعلق بقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) وفي أن جميع الحركات ناشئة عن ~~المحبة التي هي حقيقة العبادة، وبسطنا الكلام في هذه المواضع بسطا شريفا ~~نافعا كاشفا، ولله الحمد. # فنقول: إنه ### | يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له، # لما فيه من الدور القبلي، ولا يمتنع شيئان كل منهما مع الآخر بشرط فيه، ~~وهو الدور المعي. # وقد بينا ms1050 هذا في جواب مسائل الدور، وذلك أن العلة والسبب PageV06P087 # والفاعل يجب أن تتقدم المعلول والمسبب والمفعول، فإذا كان هذا علة ذاك، ~~وجب أن يكون هذا قبله. وإذا كان ذاك علة هذا وجب أن يكون ذاك قبله، فيجب أن ~~يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وهو ممتنع، إذ هذا إذا كان قبل ذاك، وذاك ~~قبله، كان ذاك قبل قبل نفسه، وهو لو كان قبل نفسه كان ممتنعا، لالتزامه ~~اجتماع النقيضين، إذ هو قبل نفسه معدوم، فإذا كان قبلها كان معدوما موجودا، ~~فيلزم هنا اجتماعهما مرتين. # وكذلك إذا قيل: يلزم أن يكون ذاك قبل هذا، وهذا قبله، يلزم مثل ذلك، ~~فيلزم أن يكون ذاك قبل قبل نفسه، وهذان الاجتماعان هما ذانك باعيانهما، ~~وإنما فيه التقديم والتأخير، ومضمونه أن يكون الشيء موجودا قبل أن يكون ~~موجودا بدرجتين، فإن كون الشيء فاعلا لنفسه ممتنع، فكيف يكون فاعلا لفاعل ~~نفسه، وكذا كونه علة نفسه يعني أن نفسه وجدت فأوجدت نفسه، وهذا الممتنع ~~لازم في العلتين جميعا، فيلزم اجتماع النقيضين أربع مرات. # وكذلك يمتنع في العلة الغائية، التي يقال لها الحكمة والعاقبة، سواء كانت ~~العلة جوهرا أو عرضا. وذلك أن الغائية يجب تأخرها عن المعلول في الوجود، ~~كما يجب تقدم العلة الفاعلة التي هي السبب، فإذا كان هذا علة ذاك لزم تاخر ~~هذا عن ذاك، وبالعكس، يلزم تاخر ذاك عن هذا، فيكون هذا متاخرا عن نفسه ~~بدرجتين، فيلزم هنا مثل ما لزم هناك، وهو اجتماع النقيضين أربع مرات، فإن ~~امتناع تأخر هذا عن نفسه بدرجة أو درجتين، وهكذا ذاك. # PageV06P088 # وكذا إذا قدر أن الغاية عرض من الأعراض، كاللذة مثلا والتنغم والانتفاع ~~وغير ذلك، فإنه يجب تأخر هذا عن ذاك، وذاك عن هذا، فيلزم ما تقدم من ~~التناقض أربع مرات. # وأيضا فالعلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية، لأنها متقدمة في العلم ~~والقصد، فيجب أن يكون هذا متقدما على ذاك علما وقصدا، فيكون هو المقصود ~~بالقصد الأول، وأن يكون ذاك متقدما على هذا، فيكون هو المقصود بالقصد ms1051 ~~الأول، فيلزم تقدم هذا على ذاك، أو تقدم ذاك على هذا، وبالعكس، فيلزم تقدم ~~كل منهما على نفسه بمرتبتين، فكما لا يفعل هذا لذاك، وبالعكس، لا يكون هذا ~~هو المقصود من فعل ذاك وبالعكس. # وهذا يبين في الفاعل الواحد الذي هو القاصد، قدر كل منهما فاعلا مفعولا، ~~والغاية غيرهما، وهنا قدر كل منهما مفعولا وغاية، والفاعل غيرهما، ويجوز أن ~~يكون اثنان مفعولان لفاعل واحد معا، ويكون وجود أحدهما مشروطا بالاخر، بحيث ~~لا يوجد كل منهما إلا مع الآخر، كالمتضايفات، مثل: الأبوة والبنوة وغيرهما، ~~فهما مقترنان متلازمان لفاعل ثالث، فكذلك يجوز أن تكون غاية واحدة مقصودة ~~من مفعولين، ويكون وجود أحدهما مشروطا بوجود الآخر، لا يوجد إلا معه، ~~والغاية أمر ثالث غيرهما، كالأجزاء المركبة، والأمور المتلازمة، والأعضاء ~~ونحو ذلك. # والفاعلان إذا تعاونا على فعل واحد كتعاون المتناظرين والمتحاملين والجيش ~~والسابين ونحو ذلك، لم يكن أحدهما فاعلا # PageV06P089 # للمفعول، ولا للفاعل الآخر، بل كل منهما فاعل بعض ذلك المفعول، ومفعول ~~أحدهما مع مفعول الآخر وشرط فيه، فالفعلان معا كالأخوين كالوالد والولد. # وكذلك الفعلان، إذا كان لكل منهما غاية، والغايتان متعاونتان مشتركتان، ~~بحيث يكون قصد إحداهما مع قصد الآخر، كالزوجين المتناكحين، وكالمتبايعين ~~ونحوهما ممن يقصد كل منهما بفعله الآخر نظير ما يقصد الآخر بفعله، فهنا ~~ليست واحدة من الغايتين علة للأخرى، بل كل منهما علة فعل الآخر قاصدها، ~~ولكن كل من العلتين المقصودتين الغائيتين معاونة للأخرى ومقارنة لها ودائرة ~~معها دورا معيا، والفاعلان المتعاونان كل منهما لفعله سبب غير المعاون، ~~كذلك المقصودان الغايتان لكل منهما حكمة مقصودة غير الغاية المعاونة، وقد ~~يكون سبب الفاعلين واحد، كالفاعلين بعضوين، كالذي يأمر رجلين بالتعاون، ~~وكالذي يغسل إحدى اليدين بالأخرى. وقد يكون مقصود المقصودين وغايتهما ~~واحدة، كالغاية من المتناكحين، وهو انعقاد الولد. # فصل ### | الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين، # وكذلك المعلول الواحد في الحقيقة لا يكون عن علتين تامتين. # وقول من قال من الفقهاء: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين، يعنون به تعليل ~~الحكم الواحد بالنوع ms1052، كالملك وحل الدم، والحكم الواحد بالنوع له علة واحدة ~~بالنوع، والواحد بالعين له علة واحدة # PageV06P090 # بالعين. # وإذا تعددت أشخاص النوع من العلل تعددت أشخاص الأنواع من الأحكام، وإذا ~~كانت هناك جنس من العلل له علل مختلفة كان لها أحكام مختلفة، وإن كان جنس ~~من الأحكام له أنواع مختلفة كان له أسباب مختلفة، ومثل هذا يجوز، فلا نزاع، ~~لكن هذا يعلم بالنص والإجماع. # وأما إذا وجدنا حكما واحدا وهناك وصفان مناسبان له، فهل يجوز جعلهما ~~علتين كل منهما مستقل بالحكم بدون الآخر، بدون أن نعلم ذلك بدليل غير ~~الاستنباط؟ أو الواجب تعليق الحكم بهما جميعا وجعلهما جزءا العلة؟ الصواب ~~هو الثاني، وهو معنى قول من قال: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين ~~لا مستنبطتين، وهو في الحقيقة واحد النوع، أي كل منهما مستقلة بالحكم في ~~محل آخر. # وبهذا يظهر الفرق وعدم التأثير، فإن الفرق معارضه في الأصل وفي الفرع بأن ~~يبدي الفارق في الأصل وصفا آخر غير وصف المستدل له مدخل في التعليل، أو ~~يبدي في الفرع وصفا مختصا به يمنع من إلحاقه بالأصل، فإذا عارض في الأصل ~~بوصف آخر، فلو كان كل وصف مناسب يمكن جعله علة مستقلة لما أمكن الفرق قط، ~~لإمكان أن يقول المستدل: وصفي علة، وهذا الوصف علة أخرى، فلا يقدح هذا في ~~تعليل الحكم بوصفي. # وهذا باطل لا ريب فيه عند الفقهاء، إلا أن يبيق المستدل استقلال ذلك ~~الوصف بالحكم، وذلك إنما يكون باعتبار الشارع له وحده بدليل # PageV06P091 # اخر، غير المناسبة ومجرد التأثير الذي لا يقتضي استقلاله بالحكم. # وأما عدم التأثير فأن يبين المعترض ثبوت الحكم بدون الوصف، كما أن النقض ~~إبداء الحكم بدون الوصف فإن ذلك يبين أن الحكم غني عن الوصف، فلا يكون ~~مؤثرا فيه، بل المؤثر في الحكم غيره. # وهذا إنما يكون إذا لم يخلف ذلك الوصف وصف آخر، فإن كان قد ثبت الحكم عند ~~انتفاء هذا الوصف لعلة أخرى لم يقدح فيه، لكون الحكم له علتان، مع عدم ~~إحداهما كان لوجود الأخرى ms1053. # فالفارق يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، بل المؤثر هو والوصف الآخر، أو ~~الوصف الآخر، فلا يكون هو العلة. # ونافي التأثير يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، لأن الحكم ثابت بدونه، ففي ~~كل من الوضعين قد بين استغناء الحكم عن كون الوصف علة، تارة بوجوده دونه، ~~وتارة بأن معه غيره. # فذاك وجود الحكم بدون وجوده، وهذا وجود الحكم بدون تأثيره واقتضائه، ~~وكلاهما معارضة في علية الوصف. # كما أن النقض أيضا معارضة، وإذا كان في الفرق مع قولنا: يصح تعليل الحكم ~~بعلتين، ليس له دعوى ذلك، إذا لم يثبت العلية إلا بالاستنباط، بل الأصل أن ~~تكون العلة جميع الأوصاف، لا أن كل وصف علة. # كذلك في عدم التأثير، ليس له أن يقول: ثبوت الحكم بدون هذا الوصف كان ~~لعلة أخرى إن لم يبين تلك العلة، لأن الأصل عدم علة # PageV06P092 # أخرى، والأصل زوال الحكم لزوال علته. # وأما إمكان أن تخلفها علة أخرى فتحتاج إلى ثبوت علة أخرى غيرها، وإلى ~~بيان وجودها، وهذا لا يكون مجرد الاستنباط، فليس له أن يقول: إنما وجد ~~الحكم هناك لوجود الوصف الآخر المناسب، وذاك علة أخرى، بل يقال له: ذاك جزء ~~العلة، كما يقول الفارق سواء، فإن وجود الحكم بدون الوصف المعلل به كوجود ~~الحكم بدون كونه علة، وكلاهما معارضة في كون الوصف المعلل به علة، لكن هذا ~~بين ذلك بوجود الحكم مع غيره، فلم يكن هذا المقتضي له. # وبهذا يتبين صحة سؤال عدم التأثير مع قولنا بجواز تعليل الحكم بعلتين ~~وكذلك سؤال الفرق، فإنهما سؤالان مشهوران مستعملان عند أئمة الفقهاء ~~القائلين بجواز تعليل الحكم بعلتين، وذلك أنهم قالوا: "يجوز في الجملة". لم ~~يقولوا: إنا نحكم به حيث رأينا وصفين، ولا أنه يسوغ أن يدعى تعليل الحكم ~~بعلتين لمجرد ذلك، بل هم إنما أثبتوا ذلك في تعليل الحكم الواحد بالنوع ~~بعلل منصوصة، فهذا شرطان موجودان فيما ذكروه من الصور. # وقد ظهر الكلام في أحد الشرطين، وهو النص، وأما الكلام في الشرط الثاني، ~~وهو المناسب لهذا المقام، فإن ms1054 ### | الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب، # فلا يخلو إما أن يكون كل منها مستقلا به لو انفرد. # أما الأول: فظاهر أنها علة واحدة، والأوصاف أبعاضها، لا أنها علل. # PageV06P093 # وأما الثاني: مثل الردة والزنا والقصاص في حل الدم، ومثل الحيض والجنابة ~~في إيجاب الغسل، ومثل المس والبول في نقض الوضوء. # فهذا وان حصل نزاع في كون الحكم وإن حصل واحدا أو متعددا، فالصواب أنها ~~أحكام متعددة، وعلى ذلك نص الأئمة، كما قال الإمام أحمد في بعض ما ذكره: ~~هذا مثل لحم خنزير ميت، حرام من وجهين، فلو كان الحكم واحدا لم يفرق بين ~~الخنزير الميت وبين الميتة من غير الخنزير، بل أثبت فيه تحريمين. # وكذلك حل الدم بالأسباب المجتمعة هو حل متعدد، ولكن ضاق المحل، ولهذا إذا ~~زال الواحد بقي الآخر، ولو كان الحل واحدا لوجب إذا زال أحدها أن يكون قد ~~زال بعضه، فيكون الباقي بعض حل، فلا يباح، لكن قد تتداخل هذه الأحكام، ~~فتداخلها لا يمنع تعددها. # وعلى هذا، فإذا وجبت عليه حدود، فالواجب عقوبات متداخلة من جنس، وقول ~~الفقهاء: تتداخل، كمن سرق ثم سرق، أو شرب ثم شرب، دليل على أن الثابت ~~أحكام، لكن لاتحاد الجنس في مثل هذا تداخلت، وإلا فالشيء الواحد لا يعقل ~~فيه تداخل، وإنما التداخل مع التعدد. # وهذا كله مما يبين أن ### | الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان، # وكذلك الفعل الواحد والمفعول الواحد، لا يتصور أن يصدر عن فاعلين تامين، ~~فالشخصان المتعاونان على حمل شيء يقوم بذات كل # PageV06P094 # منهما من الفعل ما لا يقوم بذات الآخر، فليس فعلهما واحدا بل متعدد. # وأما المفعول، وهو أثر فعلهما، وهو ما قام بالمحمول من الحمل، فأثر فعل ~~أحدهما الموجود في المحمول ليس هو أثر فعل الآخر، بل هو غيره، والمحمول لم ~~يكن محمولا بفعل هذا وحده وأثره، ولا بفعل هذا وحده وأثره، بل بالمجموع، ~~فليس كل منهما فاعلا بل جزء فاعل، والفاعل مجموعهما، وليس كل منهما مستقلأ ~~بالحمل في مثل هذا، بل المعلوم بالاضطرار أن ms1055 المفعول بين فاعلين لا يكون كل ~~منهما مستقلا به، فإن المستقل هو الذي يفعل الفعل وحده، فإذا قدر أن له فيه ~~شريكا وقيل مع ذلك: إنه مستقل، كان جمعا بين النقيضين، وكان التقدير أنه ما ~~فعله إلا وحده، وأنه ما فعله إلا هو وغيره، فيكون فيه إثبات فعل الغير، ~~وهذا جمع بين النقيضين. # وإذا لم يكن أحدهما مستقلأ بالفعل في صورة التعاون، فهل يقال: لو انفرد ~~أحدهما لاستقل به؟ # هذا قد لا يمكن في صور كثيرة، وفي صور يمكن، كأن يكون حينئذ الفعل ~~الموجود من المستقل أكمل منه إذا كان له معين وشريك. # وأما أن يقال: فعله إذا كان له شريك معاون، مثل فعله إذا كان مستقلا، ~~فهذا باطل، وفيه جمع بين النقيضين أيضا، لأنه إذا كان له شريك معاون، وقدر ~~أن المفعول الموجود معه هو مثل الموجود في صورة الاستقلال سواء، فإن لم يكن ~~لهذا الشريك تأثير فيه لم يكن شريكا، وإن كان له تأثير فقد فعل بعض ~~المفعول، فلا يكون إلا فاعلا # PageV06P095 # لبعضه، وفي الاستقلال فعله كله. # ومن الممتنع أن يكون بأنه يفعل الجميع وحده، مساويا لما به يفعل البعض من ~~القدرة والعمل إذا كان له شريك، بل هو أكمل معه، كما نجده في الواقع أن ~~الإنسان إذا فعل عملا وحده ما كان يفعله هو وشريكه بغير عمله، ولم يكن حالى ~~الانفراد مثله حال الاشتراك، كما يظهر ذلك في الاشتراك المعوق، كازدحام ~~الرؤساء، فإنه إذا زال الشريك حصل بانفراد الرئيس راحة له وتمكن. كما يتمكن ~~الشريك من التصرف في الملك المشترك إذا صار له وحده ما لم يكن يتمكن حين ~~كان معه شريكه، وقد يعجز عن أن يفعل وحده ما كان يفعل هو وشريكه، وقد يقدر ~~لكن بنوع من زيادة العمل، وهذا كله موجود. # والمقصود هنا أنه من البين في بدائه العقول عند وجود التصرف أن الفعل ~~الواحد لا يكون من فاعلين، ولا المقدور من الواحد قادر بينهما، لما اشتركا ~~فيه وجد من كل منهما بعضه لا كله ms1056، إذ صدوره من كل منهما جمع بين النقيضين، ~~وبذلك يتبين أن الاشتراك في الفعل في كل من الشريكين، فإنه إذا لم يكن ~~قادرا على الفعل وحده كان عاجزا، وإن كان قادرا على العمل وحده فوجود الآخر ~~معه منعه عن نفاذ قدرته، إذ هو لا يمكن مع معاونة الآخر أن يفعل الفعل كله، ~~بل بعضه، فإن كان الكل مقدورا كان ممنوعا، وإن لم يكن الكل مقدورا كان ~~عاجزا، والممنوع كالعاجز، فالمشاركة في العمل تقتضي عجز كل منهما، وعدم ~~كمال قدرته على ذلك العمل حين الاشتراك. وهذا تمانع بأن المنع من فعل البعض ~~كالمنع من فعل الجميع، فظهر أن الاشتراك # PageV06P096 # نفسه مع التعاون والتناصر هو تمانع يقتضي عجز كل منهما. # وأما التمانع الذي قدروه- أعني المتكلمين- فذاك تمانع الإرادتين، فهذا لا ~~يكون إلا مفروضا، لا يمكن أن يكون موجودا، فلا يتصور صدور العالم عن ربين ~~متمانعين، بل المتمانعان لا يفعلان شيئا. # وظنهم أن هذه الآية هي دليل التمانع غلط عظيم، فإن التمانع لا يقدر في ~~فعل موجود أصلا، وقولهم: لو قدرنا ربين لكان إذا أراد أحدهما تحريك جسم، ~~وأراد الآخر تسكينه، إما أن ينفذ مرادهما، فيجتمع الضدان، أو لا ينفذ ~~مرادهما، فيكونا عاجزين، أو ينفذ مراد أحدهما، فهو الرب القادر والاخر ~~مربوب عاجز= لا يدل (1) على امتناع الاشتراك فيما وجد، وإنما يدل على أن ~~المتمانعين لا يفعلان شيئا ما داما متمانعين، إذ حينئذ يلزم اجتماع الضدين ~~أو عجز الربين، والعاجز لا يفعل، لكن ليس فيه ما يدل على أنهما إذا لم ~~يتمانعا بل تعاونا أنهما لا يفعلان، فمن أين بدل هذا على أن الفعل الموجود ~~لا يكون عن اثنين؟ # لكن دلوا به من وجه اخر، وهو أنهما لو وجدا لتمانعا في الفعل، فكان لا ~~يوجد، وقد وجد، فلم يتمانعا، فلم يوجدا، فاستدلوا بوجود الفعل على انتفاء ~~التمانع. والتمانع إما أن يكون لازما لوجودهما أو ممكنا، فإذا قدر لم يلزم ~~محال، أو لا يكون ممكنا، فيكون كل منهما غير قادر على منع الآخر ms1057 من مراده، ~~والعاجز لا يكون ربا، فثبت عجز PageV06P097 # كل منهما إذا لم يقدر على منع الآخر. # وهذا بعينه هو العجز حال التعاون إذ كان كل منهما عاجزا عن الفعل وحده، ~~فظهر بما ذكرناه أن دليل التمانع إنما يصح إذا كان التمانع لازما لهما أو ~~جائزا عليهما، وأما إذا قدر وجوب اتحاد الإرادتين، كان هو الدليل الأول ~~المذكور في امتناع الفعل الواحد من فاعلين، ولزوم العجز للمتعاونين، لكن ~~ذاك عجز عن الاستقلال بالفعل، وهذا عجز عن منع الآخر منه. # وأيضا فإن المتعاونين لأنه لا يتميز مفعول أحدهما عن مفعول الآخر، فلا ~~يكون الشيء الواحد الموجود في العالم واحدا فعل أحدهما. # ومعلوم أن العالم يتميز فيه هذا عن هذا، يدل عليه قوله: (إذا لذهب كل إله ~~بما خلق) (1) ، ولهذا قال الثنوية: بأن مفعول النور ليس هو مفعول الظلمة، ~~بل زعموا باختلاط المفعولين وامتزاجهما مع التباين، كما زعم من زعم من ~~الثنوية بأن نفس الأصلين امتزجا واختلطا ثم تميزا، فلم يقل أحد من العقلاء: ~~إن المفعول الواحد صدر عن اثنين، وهذا توحيد الربوبية، وهو متفق عليه بين ~~العقلاء، ولم يكن هو المقصود بالذكر ولا الاية أنزلت لتقريره، كما يظنه من ~~يظنه من المتكلمين، وإنما هي لتوحيد الإلهية المستلزم لتوحيد الربوبية، وهو ~~الذي قصدناه في هذا الموضع. PageV06P098 # فصل # فنقول: كما استحال أن يكون ربان كل منهما فاعل الشيء، فكذلك يستحيل أن ~~يكون إلهان كل منهما معبود لشيء، كما قدمنا أنه إذا استحال كون كل من ~~الشئين فاعلا للآخر وعلة له، فيستحيل أن يكون كل منهما هو المقصود للآخر، ~~والعلة الغائية له، لمفعول لهما، سواء اشتركا في مفعول أو انفرد كل منهما ~~بمفعول مباين. # وكذلك يستحيل أن يكون الشيء فاعلا لنفسه محدثا لها، ويستحيل أن يكون هو ~~الغاية المقصودة من فعل نفسه لفاعلها، فكما لا يكون شيء من الموجودات ربا ~~لنفسه فاعلا، فلا يكون شيء منها مقصودا لنفسه، هي الغاية المطلوبة من ~~وجوده، بل كما وجب أن يكون لجميع المصنوعات رب غيرها فعلها وأحدثها، وجب ms1058 أن ~~يكون ثبوته بعد أن خلقهم، إذ الحاجة إلى المقصود قبل الافتقار إلى ألوهيته، ~~وهو أعظم الوجهين، فقد يكون لفعلهما جميعا مقصودا مرادا غيرها. # والخارج عن الممكنات المحدثات هو الله الذي لا رب غيره، ولا إله إلا هو، ~~فهو ربها كلها وخالقها ومليكها، وهو إلهها جميعا، الذي يجب أن يكون هو ~~المعبود المقصود المراد بها جميعها، فهو نفسه هو الفاعل لأجل نفسه، إذ لا ~~يجوز أن تكون الغاية المقصودة له غيره، كما لا يجوز أن يكون الرب الفاعل ~~غيره. # ومعلوم أن كل واحد من العلتين- الفاعل والغاية- خارج (1) عن PageV06P099 # الشيء المفعول، وإنما جزاه المادة والصورة، إذ المادة والصورة هما ماهيته ~~وحقيقته، فلا يجوز أن يكون في المخلوقات ما هو فاعل لها. # كذلك لا يجوز أن يكون فيها ما هو المقصود المراد لفاعلها، ومن هنا تندفع ~~مسائل الإرادة الموجبة بالذات والتعليل والتجوير، وتعليل أفعاله، فإن ~~المعللين أوجب ذلك عليهم رعاية الحكمة، والمانعين أوجب المنع عليهم رعاية ~~الغنى، فإن الفاعل لأجل غيره مفتقر إلى ذلك الغير، فأما إذا فعل لأجل نفسه ~~كان غاية ما يقال: إنه فعل لنفسه، كما يقال: واجب بنفسه. # وهذا خيال باطل، إنما يتوهم صدقه لأنه يظن أن نفسه منفصلة عن نفسه، وأن ~~الشيء الفاعل نفسه هو شيء متقدم عليها، والشيء المطلوب المقصود هو شيء ~~منفصل عن نفسه التي لها القصد والإرادة. وكل ذلك باطل، بل هو سبحانه القائم ~~بنفسه الذي هو موجود بها، ومريد لها، ومحب لها، ومسبح لنفسه، ومثني على ~~نفسه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما ~~أثنيت على نفسك" (1) . # ومن هنا يظهر الفرق بين ما يحبه ويرضاه، وبين ما يريده من غير محبته، فإن ~~ذلك محبوب لنفسه مرضي لها، وهذا مراد من جهة الربوبية. # لكن يقال: هو فعل الأفعال بإرادته، فالوجود كله بمشيئته، لكنه ~~PageV06P100 # يحب ويرضى شيئا دون شيء، وذلك في مفعولاته وأفعال عباده، فهو فعل لوجود ~~ما يحبه ويرضاه، ومراده وجود المحبوب المرضي، وهو ألوهيته وكونه هو المقصود ms1059 ~~المراد، وإن كان في ضمن ذلك قد فعل ما أراده، وهو لا يحبه ويرضاه، لأن فعله ~~له وسيلة إلى ما يحبه ويرضاه، فهو مراد بالقصد الثاني. وقد بسطنا في غير ~~هذا الموضع من كلامنا في القدر، وتكلمنا على أنواع تتعلق بذلك. # ومن هنا يعرف قوله عليه الصلاة والسلام: "والشر ليس إليك" (1) ، فإن الله ~~إليه المنتهى من جهة إلهيته، والشر لا ينتهي إليه، ولا يصعد إليه، ولا يصل ~~إليه، ولا يحبه، ولا يرضاه، فهو قطع له من جهة الألوهية، وهذا نحو قول من ~~قال: لا يتقرب به إليك، ألا ترى كيف قال في الأضحية: "اللهم منك ولك" (2) . # لكن قد يقال: المعروف إن قال: هذا العمل لله، فكان مناسبه أن يقال: والشر ~~ليس إليك. وأما "إلى" فيعدى بها الفعل، كما قال الخليل عليه السلام: (إني ~~ذاهب إلى ربي سيهدين (99)) (3) ، وقال: (إنك كادح إلى ربك كدحا) (4) . # فيقال: وقد قال (5) : PageV06P101 # رب العباد إليك الوجه والعمل # وأما من جهة الربوبية فهي مخلوقة، لكن بالقصد الثاني لأجل غيره، وليس هو ~~أيضا مرادا بالإرادة الأولى، ولا مخلوقا بالقصد الأول، فليس هو مضافا إليه ~~من جهة كونه شرا، إذ لم يقصده ويرده من هذه الجهة، ولكن من جهة ما هو وسيلة ~~إلى الخير الذي هو يبدئه، كما قال تعالى: (أحسن كل شيء خلقه) (1) ، وقال: ~~(صنع الله الذي أتقن كل شيء) (2) ، وهو لم يقل: الشر ليس بك ولا منك ولا من ~~عندك، بل قد يقال: كل من عند الله في الحسنات والسيئات، التي هي المسار ~~والمصائب، كما قد بينته في غير هذا الموضع. # وقد يعترض على هذا فيقال: قد فرق بينهما في قوله: (فمن الله) و (فمن ~~نفسك) (3) في هذه الاية، وفي قوله: (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله ~~علي إذ لم أكن معهم) (4) الاية، و (ولئن أصابكم فضل من الله) (5) ، وقد قال ~~تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) (6) ، وقال: (ولئن أذقنا الإنسان منا ~~رحمة) (7) ولم يقل في الشر مثل ذلك. PageV06P102 # فالمقصود هنا أنه سبحانه كما أنه ms1060 واجب بنفسه، فهو محبوب لنفسه، مثني على ~~نفسه، ومن هذا صلواته بثنائه على نفسه وطلبه من نفسه، وهذا غير صلاته على ~~عباده. 0. (1) يحب ما أمر به، ويحب عباده المؤمنين. # وقد خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ~~ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57)) (2) ، وفي ~~الصحيحين (3) عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أتدري ما ~~حق الله على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا ~~به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله ~~أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم ". # وفي الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء (4) عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -:"يقول الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، ~~وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك ~~بي شيئا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما الذي بيني ~~وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأت إلى الناس ~~ما تحب أن يؤتى إليك". # فهو سبحانه قد جعل عبادته حقا له على عباده، كما بين أنه خلقهم ~~PageV06P103 # لعبادته، ومعلوم أن ### | عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذل له، # فهي متضمنة كونه هو المراد المقصود المحبوب المعبود. # فإذا كان قد خلقهم لعبادته، وذلك يتضمن أنه أمرهم بها وأحبها ورضيها ~~وأرادها إرادة شرع، فمعلوم أن محبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود، فمن أحب ~~محبة محبوب ومحبي محبوب، كانت محبته لذلك المحبوب هي الأصل، وكانت ثابتة ~~بطريق الأولى، وكان إنما أحب أن يحب، وأحب محبته لكونه محبوبا له، وكان ذلك ~~فرعا لهذا الأصل. # ولهذا كانت محبة المؤمنين لما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، والحب لله، ~~والبغض دئه، والحب في الله، والبغض في الله، كل ذلك تبع وفرع على محبتهم ~~لله، فإذا أحبوه أحبوا ما أحبه هو من الأعمال والأشخاص، إذ محبوب المحبوب ~~محبوب، وبغيض المحبوب بغيض. وكذلك محب المحبوب ms1061 محبوب، ومبغض المحبوب مبغض، ~~فالمؤمنون يحبون ربهم، وكانت محبتهم لما يحبه الله ولما يحب الله فرعا ~~وتبعا لمحبتهم له، والله تعالى يحبهم ويحب ما يحبونه وما يحبهم، حتى قال ~~أبو يزيد: إن الله لينظر إلى رجال في قلوب رجال، وينظر إلى رجال من قلوب ~~رجال. # فالأول: حال من أحبه المؤمنون، فينظر الله إلى قلوبهم، فيجد فيها أولئك ~~المحبوبين. # والثاني: حال من أحب المؤمنين (1) ، فينظر إليهم من قلوب PageV06P104 # المؤمنين، فهو يرحم من يحبه أولئك، ومن يحبه أولياؤه، وإذا كان كذلك كانت ~~محبته لما أحبه من الأعيان والأعمال ومحبته لمن يحبه تبعا وفرعا لمحبته ~~لنفسه بطريق الأولى والأحرى، وذلك يتبين من وجوه: # أحدها: أن كل محب فإما أن يحب الشيء لذات المحبوب أو لذات نفسه، فيحبه ~~لمحبته لنفسه، والفرق بين الموضعين أن الأول يتنعم بنفس المحبوب، والثاني ~~يتمتع بما يصل إلى نفسه من نفع المحبوب. فهذا أحط النفع الواصل، فكانت ذات ~~ذلك وسيلة إليه لا غرض له فيها، بحيث لو حصل النفع بدونه لم يكن له بذاته ~~محبة، وذاك أحب نفس المحبوب، لا لأجل نفع يصل إليه سوى نفعه وانتفاعه ~~بذاته، كما تنعم ذلك وانتفع بما وصل إليه من المحبوب، وهذا شبيه بمن يحب ~~إحدى زوجتيه لتمتعه بجمالها، ويحب الأخرى لكونها تنفق عليه مالها، ويحب ~~شخصا لما فيه من العلم والدين، ويحب آخر لكونه محسنا إليه. وقد جبلت القلوب ~~على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. # وإذا تبين ذلك فالله سبحانه إذا أحب شيئا، فإن أحبه لأجل نفسه تعالى وجب ~~أن تكون نفسه هي المحبوبة، حتى يصح أن يحب الغير لأجلها، ولا يمتنع أن يحب ~~شيئا لأجل شيء إن لم تكن الغاية هي المحبوبة ابتداء. # وهكذا كل من فعل شيئا لكذا، فإنه يحب أن يكون المفعول له هو المراد ~~ابتداء، وهذه هي العلة الغائية، وهي متقدمة في الإرادة # PageV06P105 # والقصد، ولكونها مرادة ابتداء صار الفعل المؤدي إليها مرادا، وإن قدر أنه ~~تعالى يحب شيئا لذات ذلك الشيء، فمن المعلوم أنه هو ms1062 الذي خلق تلك الذات، ~~وجعلها على الوجه الذي يحبه هو، فإذا كان محب المحبوب محبوب (1) ، فكيف ~~بفاعل المحبوب ومبدعه وخالقه؟ فقد وجب أن تكون محبته لنفسه هي الأصل في ~~القسمين، في الأول من جهة الغاية، وفي الثاني من جهة السبب، من جهة ~~الألوهية، ومن جهة الربوبية. # الوجه الثاني: أنه يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بما يحبه، كما ثبت ذلك ~~بنصوص الكتاب والسنة، ومحبة محب الشيء ومحبة المتقرب إلى الشيء والساير في ~~مراضي الشيء، تبع وفرع على محبة ذلك الشيء محبوبا، امتنع أن يحب محبه (2) ، ~~ويحب من يتقرب إليه بمحابه، ويسعى في مراضيه، وإذا كان الله يحب من يحبه، ~~ومن يتقرب إليه بمحابه ويسعى في مراضيه، كان هو أحق بأن يكون هو المحبوب ~~لنفسه المرضي، إذ هو المحبوب المقصود بالقصد الأول. # الوجه الثالث: أنه يبغض ويمقت أعيانا وأفعالا، والموجود لا يبغض إلا ~~لكونه مانعا من المحبوب. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع في "قاعدة ~~المحبة" (3) ، وبينا أن البغض تبع للحب، وأن الحب هو الأصل، فإذا كان بغضه ~~لأمور مستلزما محبته لأضدادها، فمحبة تلك الأمور مستلزمة محبته لنفسه، كما ~~تقدم. PageV06P106 # الوجه الرابع: أنه يحب من يبغض تلك الأمور، ويجاهد أهلها، قال الله ~~تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (4)) ~~(1) ، وإنما أحبهم لإعانتهم على حصول محبوبه، فتكون محبته لنفسه التي أحب ~~من أعان على محبوبها أولى وأحرى. # فإن قيل: فتلك الأمور التي يبغضها هو خلقها بإرادته، فكيف يريد مايبغضه؟ # فيقال: الشيء الواحد [قد] يكون (2) مرادا من وجه، مكروها من وجه، كما ~~يوجد في حقنا شرب الأدوية الكريهة، فإنها مكروهة من جهة إيلامها لنا، مرادة ~~من جهة تحصيلها للدنيا في المستقبل، وهو سبحانه إنما خلق الحوادث وأرادها ~~لحكمة فيها، فتلك الغاية التي هي الحكمة هي محبوبة له مرضية، وإن كان بعض ~~ما هو وسيلة إليها قد يكون مكروها مبغضا مع كونه مرادا، وقد بسطنا هذا في ~~غير هذا الموضع. # وأما المأمورات فهي كلها محبوبة بتقدير وجودها، إذ ms1063 هي الغايات، لكن قد ~~يريد أن تكون إذا كانت الغاية المترتبة عليها مما يحبه ويرضاه، وقد لا يريد ~~أن تكون في بعض الصور، وإن كانت لو وقعت لأحبها، لأن وجودها قد يكون ~~مستلزما لوقوع ما يبغضه ويكرهه، فكما أن المكروه قد يراد وقوعه لأنه وسيلة ~~إلى المحبوب، فالمحبوب PageV06P107 # لا يراد وقوعه [لأنه] وسيلة إلى مكروه، وإن كان لو تجرد عن تلك السيئة ~~كان محبوبا، كما قد يقال في قوله: (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) (1) ، ~~وإن كان ذلك الانبعاث هو المأمور به، وإلا فيكون مكروها لنفسه إذا لم يكن ~~على الوجه المأمور به. # لكن قوله: (فثبطهم) هو دليل على أنه كره وقوعه كونا، لما فيه من الشر ~~بالمؤمنين، وذلك يقتضي أنه لو تجرد عن هذه العاقبة لم يكن وقوعه مكروها له ~~كونا، ولم يكن يثبط عنه، بل غايته أن يكون بمنزلة ما يقع من المعاصي ~~المكروهة، فإنه قد لا يثبط عنها إذا كانت مفضية إلى ما يحبه. وأما هذا فثبط ~~عنه لإفضائه إلى ما يكرهه بالمؤمنين. # وهذا باب فيه بسط وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع، وهو من المقامات ~~الشريفة الهائلة، التي اضطرب فيها الأولون والاخرون، مسألة اجتماع الشرع ~~والقدر، وإنما المقصود هنا بيان أنه سبحانه هو المقصود المراد المحبوب ~~لنفسه مما فعله خلقا وأمرا، وبهذا يتبين أن حقه على العباد أن يعبدوه لا ~~يشركوا به شيئا، ويظهر الفرق بين ما أمر به لأنه حق له، وبين ما أمر به ~~لينتفع به العامل، وإن كانا متلازمين، كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن ~~يظهر الفرق بحسب القصد الأول، فإذا كان حقه على عباده أن يعبدوه، وهو يستحق ~~ذلك عليهم، علم أنه يحب ذلك ويطلبه ويريده منهم إرادة دينية. ومن أحب حقه ~~على غيره، وأنه يعطيه حقه، فمن المعلوم أنه لولا أنه يحب نفسه التي ~~PageV06P108 # لها الحق وإلا لما تصور أن يكون له حق، ولهذا الإنسان إنما يطلب حقوقه ~~التي يحبها ويرضاها، ولولا تعلق المحبة والرضى بتلك الأمور لما عقل كونها ~~حقوقا ms1064. # ومن هذا الباب أنه يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته ~~التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا وجدها بعد اليأس، فهذا ~~المثال فيه أنه فقد ما يحتاج إليه وتقوم به نفسه من المنفعة التي لا بد له ~~منها، وهي الطعام والشراب، وما يدفع به المضرة، وهو الركوب للخلاص من تلك ~~المفازة. ومعلوم أنه لولا محبته لنفسه لما أحب ما يجلب إليها من المنفعة، ~~ويدفع عنها من المضرة. فإذا كان فرح الرب بتوبة التائب أعظم من ذلك، وهو ~~سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فمعلوم أن الفرح العظيم بحصول الشيء ~~المحبوب فرع على المحبة العظيمة له، ومحبة المحبوب فرع على محبة النفس التي ~~كان لها ذلك محبوبا. # فصل # فإذا كان هو رب كل شيء ومليكه، ولا وجود لشيء إلا بقدرته ومشيئته، فهو ~~إله الخلق كلهم، لا إله غيره، ولا صلاح للخلق إلا بأن يكون هو المعبود ~~المقصود بالقصد الأول من جميع حركاتهم. # فكما أن ما لا يريده ويشاؤه لا يكون، فما لا يراد لأجله ويقصد له فإنه ~~فاسد لا صلاح فيه، فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه. # ومن المعلوم أن المخلوق لم يخلق نفسه، ولا وجد من غير # PageV06P109 # خالق، فلا بد له من خالق غيره خلقه. كما قال تعالى: (أم خلقوا من غير شيء ~~أم هم الخالقون (35)) (1) ، فكذلك المخلوق ليس هو المقصود بوجوده وفعله، ~~ولا وجد من غير مقصود، فوجب أن يكون المقصود بوجوده وفعله شيئا غيره، كما ~~تقدم بيانه. # ثم إنه في نفسه، كما أنه لا يكون شيء من أفعاله إلا بإعانة الله، فلا ~~يصلح شيء من حركاته وأفعاله إلا أن يكون لله، ولهذا [كان سر] (2) القرآن في ~~قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) كما قال بعض السلف: إن الله أنزل مائة ~~كتاب وأربعة كتب، جمع سرها في الكتب الأربع، وجمع سر الأربعة في القرآن، ~~وجمع سر القرآن في المفصل، وجمع سر المفصل في الفاتحة. # ففرق بالنسبة إلى خالقه بين ربوبيته له وخلقه- وهو السبب- وبين ms1065 مقصوده ~~ومراده- وهو الغاية-. وفرق بالنسبة إليه بين فعله أنه لا يكون إلا بحبه، ~~وبين فعله أنه لا يصلح إلا لإلهه، فلا يجوز إلا بمعونة الله، ولا يصلح إلا ~~لوجه الله. # ويتبين ذلك فيه بالنسبة إلى نفسه، كما يتبين بالنسبة إلى خالقه، وذلك أن ~~فعله وقصده يمتنع أن يكون وجد من غير سبب، ويمتنع أن يكون وجد بقصد منه ~~وفعل آخر، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فلا بد أن يكون وجوده بسبب من ~~غيره، وهو داخل في جملته التي تناولها PageV06P110 # قوله: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35)) (1) . # وكل ما دل على أن الحوادث الممكنات مخلوقة لله، فهو يدل على أفعال ~~العباد، إذ هي جزء من الحوادث الممكنات، فاستدلال بعضهم على ذلك لكونها ~~ممكنة فتفتقر إلى مرجح- كما سلكه أبو عبد الله الرازي- ليس هو أبلغ من ~~الاستدلال على ذلك بكون ذلك محدثا بعد أن لم يكن، فيفتقر إلى محدث، بل هو ~~أبلغ وأكمل، فإن ### | افتقار المحدث إلى المحدث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجح، # ولكن هو وطائفة من أهل الكلام قبله عكسوا الأمر في إثبات الصانع، فجعلوا ~~طريقة الاستدلال بالمحدث على المحدث مبنية على طريقة افتقار الممكن إلى ~~المرجح، وهذا غلط جدا، فإنه إذا قيل: إن تلك معلومة بالضرورة فالضرورة هنا ~~أرجح بكثير، والمحدث شيء موجود، كان بعد أن لم يكن، حدوثه أمر خارجي موجود ~~في الخارج. # وأما الممكن فإنما يقدر مستوي الطرفين في النفس، إذ هو في الخارج إما ~~واجب بنفسه وإما ممتنع بنفسه، ولهذا منع طائفة من الفلاسفة أن يقال في ~~الموجودات: إنها ممكنة بنفسها. وخالفوا ابن سينا في ذلك كما ذكره ابن رشد ~~الحفيد. فالعلم بثبوت الممكن فيه من الصعوبة ما ليس في العلم بحدوث المحدث، ~~فإن حدوث المحدثات مشهود بالحس، وهو صفة خارجية ثابتة ليست مقدرة في العقل. # ثم افتقار المحدث إلى محدث أظهر وأبين وأبده للعقل من كون PageV06P111 # الممكن المستوي الطرفين مفتقرا إلى المرجح، وهذا مبسوط في غير هذا ~~الموضع. # وإنما المقصود هنا ms1066 أن كل ما دل في بعض الموجودات أنه مخلوق لله، فهو يدل ~~على ذلك في أفعال العباد، فيعلم بذلك كثرة الأدلة وقوتها على هذا المطلوب. ~~ولهذا قال من قال من أئمة السلف، كحماد بن زيد وغيره: من قال: أفعال العباد ~~لم يخلقها [الله] ، بمنزلة من قال: السماء والأرض لم يخلقها الله. # والمقصود هنا أنه إذا كان قصده وفعله مخلوقا لله مربوبا له، لا يوجد إلا ~~بمشيئته وقدرته وربوبيته وإعانته، إذ يمتنع أن يكون حادثا بنفسه، أو حادثا ~~من غير محدث، فكذلك أيضا يجب أن يكون لله، مبتغى به وجه الله، لا يفعل إلا ~~لمحبته ورضاه وإلهيته وعبادته، فإنه لا يجوز أن يكون ليس فيه مقصود مراد، ~~إذ القصد والعمل لغير مقصود مراد ممتنع، كما أن الحادث من غير محدث ممتنع. # ولا يجوز أن يكون هو المقصود المراد المحبوب بعمله، كما لا يجوز أن يكون ~~هو الخالق له، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فكما قلنا: لو كان قصده حادثا ~~بقصد آخر، فإن كان ذلك القصد الثاني حادثا بالأول لزم الدور، وإن كان حادثا ~~بغيره لزم التسلسل. # فيقال: لو كان هو المقصود بذلك، فإما أن يكون مقصودا لنفسه أو لأمر آخر، ~~ويمتنع أن يكون مقصودا لنفسه، كما يمتنع أن يكون محدثا لنفسه، لأن المقصود ~~يجب أن يتأخر عن القاصد، كما يجب أن يتقدم الفاعل على المفعول، فإذا لم يجز ~~أن تفعل نفسه نفسه لم يجز أن # PageV06P112 # تقصد نفسه نفسه، لوجوب تأخر نفسه عن نفسه، ولوجوب تقدم نفسه على نفسه في ~~العلم والقصد، وهذا بين، إذ لا بد أن يتأخر هذا المقصود عن وجود ذاته، ~~فتكون ذاته قبل وجود هذا المقصود، فإذا كانت ذاته هي المقصود وهي القاصد، ~~لزم أن لا تكون إلا متقدمة، وأن لا تكون إلا متأخرة، فتكون موجودة معدومة ~~أربع مرات، كما تقدم بيانه. # وقد يقال: إن هذا ظاهر فيما إذا كان نفس ذاته هي العلة الغائية من ~~وجودها، وهذا تقدم، وإنما الكلام هنا في قصده لفعل نفسه الذي يفعله ms1067 هو. # فيقال: مقصوده بفعله كإحداثه لفعله، كما أن مقصود فاعله به كإحداث فاعله ~~له، وقد تبين أن حدوث قصده لا يجوز أن يكون ابتداء منه بل من الله، وأن ~~كونه منه يفضي إلى التسلسل والدور. # فكذلك لا يجوز أن يكون هو منتهى قصده وإرادته بعمله، بل ذلك يفضي إلى ~~الفساد وكون العمل غير نافع بل ضارا، لأن المراد المقصود بعمله إما أن يكون ~~مصلحة لنفسه، أو لا يكون، فإن لم يكن فيه مصلحة لنفسه كان عمله فاسدا ~~باطلا، وإن كان فيه مصلحة لنفسه، فإن كانت تلك المصلحة حاصلة في نفسه قبل ~~قصده وعمله كان هذا القصد والعمل باطلا لا فائدة فيه أيضا، وإن لم يكن ~~حاصلا في نفسه لم يكن في مجرد كون النفس هي منتهى القصد ما يوجب مصلحة، فإن ~~النفس موجودة قبل ذلك، بل لا بد أن يطلب المصلحة بالقصد من غير النفس، ~~فيكون ذلك هو المقصود لمصلحة النفس، فإن المطلوب لها # PageV06P113 # إذا لم يكن فيها لا يطلب إلا من غيرها، وهذا مبين نظير ما قلناه في ~~الأسباب، فإن المطلوب للنفس من المصلحة بهذا القصد والعمل إن كان حاصلا ~~فيها لم يكن في القصد والعمل فائدة، وإن لم يكن حاصلا فيها لم يطلب حصوله ~~بالقصد والعمل إلا من غيرها. # فكما استدللنا على أن حدوث أفعال النفس لا توجد بمجردها، بل لا بد من سبب ~~منفصل، فكذلك نستدل على أن أفعال النفس لا تنفعها وتفيدها وتصلحها بمجرد ~~النفس، بل لا بد من غاية منفصلة يكون في قصدها صلاح النفس ومنفعتها وخيرها. # ولهذا كل من عمل عملا لنفسه كان طالبا لمصلحتها من الأمور الخارجة عنها، ~~مثل من يصنع الطعام للأكل، والثياب للباس، والكرسي للجلوس، فإن الغاية ~~المقصودة للطعام هي الأكل، وغاية الأكل هي وجود اللذة والمنفعة بالاكل ~~والشبع ودفع ألم الجوع، فهذه المنفعة واللذة المطلوبة للنفس لا تطلب من ~~النفس، بل يطلب حصولها لها بسبب آخر غيرها، كما أن الإنسان لا تتحرك إرادته ~~إلا بسبب منفصل، مثل أن يحس ما ms1068 يوجب حركته أو يسمع بذلك، فإن الإرادة لا ~~تتحرك إلا بشعور وإحساس، وذلك لا يكون ابتداء إلا بأسباب منفصلة، إذ هي ~~وحدها لا تقتضي الحركة والإرادة، كما أنها وحدها لا تحصل اللذة والمصلحة. # يبين ذلك أنها إذا قصدت بفعلها أمرا فالمقصود إن كان حاصلا فيها كان ذلك ~~تحصيلا للحاصل، وهو محال، وإذا لم يكن المقصود فيها امتنع أن تكون هي منتهى ~~القصد وغاية المراد، إذ المقصود المراد # PageV06P114 # يطلب حينئذ لها من غيرها، فإذا جعل الإنسان غاية مقصوده هو نفسه وهوى ~~نفسه، لم يقصد ما يصلح نفسه وينفعها، بل ما يضره أو لا ينفعها، كما قال ~~تعالى: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) (1) . # وبيان ذلك بالبرهان المشابه لبرهان الإحداث أن يقال: هو إذا فعل فعلا ~~فإما أن يصلح أن يكون ذلك الفعل بمجرده مقصودا لنفسه، أو لا بد أن يقصد به ~~شيئا آخر، فإن صلح أن يكون مقصودا لنفسه وغاية الفاعل، جاز في كل فعل مقصود ~~أن يكون مقصودا لنفسه، وحينئذ فيلزم أن يصلح للنفوس كل ما يحبه ويهواه، ~~ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد، وإن لم يجز أن يكون مقصودا لنفسه، بل وجب أن ~~يقصد به شيئا آخر، فإما أن يكون هوي نفسه ومراده أو أمرا آخر، فأما الأول ~~فيفضي إلى الدور، وذلك أنه إذا قصد بفعل أمر لكون نفسه تهواه وتقصده وتحبه، ~~فكونها تحب ذلك وتهواه وتقصده إما أن يجوز أن يكون غاية مقصودة بالفعل أو ~~لا يجوز، فإن لم يجز ذلك بطل هذا، وإن جاز أن يكون غاية مقصودة بالفعل صلح ~~في فعلها الأول الذي قصدت به هذا أن يكون لمجرد كونها تحبه وتقصده وتهواه. # ومتى صلح ذلك لم يجب أن تكون لهذه الغاية ولا غيرها، فصار كون هذا مقصودا ~~لنفسه يمتنع أن يكون مقصودا لنفسه، وذلك هو الدور. وصار كون الفعل يصلح أن ~~يكون مقصودا، وذلك يوجب أن لا يمنع متحرك من حركته التي يهواها، ومعلوم أن ~~هذا مستلزم للفساد، PageV06P115 # فوجب أن يكون مقصوده بذلك الفعل أمرا آخر ms1069، لا مجرد ما تهواه نفسه وتحبه ~~وتريده. # وهذا يبين بالدليل العقلي أن اتباع الأهواء مطلقا موجب للفساد، وأنه لا ~~يصلح أن يعبد الإنسان مجرد ما يهواه، كما قال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) ~~(1) ، وأنه لا بد أن يكون المعبود المقصود يعبد لمعنى فيه، لا لمجرد إرادة ~~النفس وهواها، وحينئذ فذلك المعنى الذي اختص به وصار لأجله محبوبا معبودا ~~إما أن يكون لنفع منه إلى المحب القاصد العابد، وإما أن يكون لذاته، بمعنى ~~أن في قصده ومحبته صلاح القاصد العابد. # أما الأول فقد تبين في المقام الأول أن الله هو رب، كل شيء وخالقه، فليس ~~غيره مستقلا بالنفع، وإن كان غيره سببا فيه، فذلك النفع الذي يفعله إما أن ~~ييسره الله أو لا ييسره، فإن يسره وصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، ~~وإن لم ييسره لم يصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، فلم يكن في عبادته ~~ما يوجب وصول تلك المنفعة إليك. # وأيضا فذاك المعبود إما أن يعلم بعبادتك أو لا يعلم، فإن لم يعلم لم يجز ~~أن يقصد إيصال النفع إليك، وإن علم فالعالم الشاعر لا يعمل إلا لجلب منفعة ~~أو دفع مضرة. وكونك تعبده وتقصده وتجعله هو الغاية المطلوبة بعملك ليس له ~~في هذا منفعة ولا مصلحة، لأنه لو جاز PageV06P116 # أن تكون نفسه غاية له مقصودة بعمل غيره، لكان أن تكون غاية له بعمل نفسه ~~أولى وأحرى. # وقد تبين أنه لا يجوز أن تكون نفسه غاية نفسه بعمل نفسه، فأن لا تكون ~~غاية له بعمل غيره أولى وأحرى. # وهذا كما نقول في جانب الربوبية: إذا [كان] كل من المخلوقات فقيرا عن أن ~~يقيم نفسه، ويكون وجودها به، فهو عن أن يكون مقيما لغيره وجوده به أولى ~~وأحرى، إذ ذاته أقرب إلى ذاته من غيره، فإذا لم يجز أن يكون فاعلا لنفسه، ~~ولا يصلح أن يكون غاية مقصوده لها بعمله، لم يجز أن يكون فاعلا لغيره ~~ومقصودا لغيره. # وقد تبين أن المخلوق إذا لم يكن له ms1070 في مجرد كونه معبودا مصلحة، فإن حصل ~~له بعبادة غيره له غرض آخر من غيره، مثل إقامة رئاسته وتعظيمه عند الخلق، ~~ونحو ذلك مما يلتذ به، كان ذلك إحسانا إليه، وكان ما يعطيه إياه من باب ~~المعاوضة، فالمعبود من الخلق مفتقر إلى شيء غيره منفصل عنه يحصل به مقصوده ~~من عبادة غيره الذي يحسن إليه بقوة نفسه، وهذا فقير إلى غيره في هذا كفقره ~~إلى غيره في هذا. # وأما ما يكون محبوبا معبودا لذاته، بأن يكون في مجرد ذلك مصلحة ومنفعة ~~لقاصده، مع تقدير أنه لا يقصد نفع قاصده، فهذا كما يتمتع الإنسان بالنظر ~~إلى المناظر الجميلة، ويتمتع بسمع الأصوات المطربة، وهذا قد يكون من ~~الجانبين، كما أن كلا من الزوجين يتمتع بالاخر، فهذا يقصد انتفاعه بهذا، ~~وهذا يقصد انتفاعه بهذا، إذ في # PageV06P117 # مباشرة كل منهما للاخر لذة وسرور. وكذلك المتعاونان على علم أو عبادة أو ~~تجارة أو غير ذلك. # وبالجملة فعامة أمور بني آدم إما معاوضة وإما مشاركة، وكل منهما يقصد ما ~~ينتفع به من الآخر، لا يقصد نفع الآخر، لكن تارة يكون الانتفاع بذاته كما ~~في الزوجين، وتارة بما منه كما في شريكي العنان. # وكل من هذين النوعين لا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لذاته، فإنه إنما يحب ~~لأمر عارض لذاته ليس بلازم لها، ثم ذلك المحبوب تنقضي محبته بحصول الغرض ~~منه، كما ينقضي غرض أحد الزوجين من الآخر إذا انقضت المنفعة. # وكذلك المتمتع بالنظر إلى منظر بهيج، وكل ما يذكر عن عشاق الصور والمال ~~والرئاسة، فإنه لأمر عارض في المحبوب، وعارض في المحب، ليس لذات واحد ~~منهما، ولهذا تكون المحبة في وقت دون وقت، وقد تتبدل بالبغضاء، وما كان ~~الشيء فإنه باق ببقاء ذاته، وإنما هذه المحبوبات تتناول لقضاء الحاجة، وإذا ~~زادت على الحاجة ضرت على الإنسان وأفسدته. # ولهذا يقال: إنها في الحقيقة دفع آلام، ولا ريب أن لذات الدنيا متضمنة ~~دفع ألم، بخلاف لذات الآخرة، فإنه يتمتع بها من غير دفع ألم، لكن مع هذا لا ms1071 ~~يجوز أن تكون هي المقصود لذاته في الأفعال الاختيارية، وذلك أن العلة أكمل ~~من المعلول، سواء كانت فاعلية أم غائية. # PageV06P118 # فكما أن الفاعل المبدع أكمل من المفعول، فالمفعول لأجله- الذي هو المحبوب ~~المقصود المعبود- أكمل من الفاعل، بل العلة الغائية أكمل من العلة ~~الفاعلية، فإنها هي التي جعلت الفاعل فاعلا، ولولا ذلك لم يكن فاعلا، وإن ~~كان الفاعل مستغنيا عنها من جهة نفسه، لا من جهة كونه فاعلا، والغائية غير ~~مفتقرة إلى، الفاعل من حيث كونها غاية ومطلوبة، بل هي في نفسها غاية ~~ومطلوب، سواء قدر وجود الفاعل أو عدمه، لكن لا ينال المقصود بها إلا ~~بالفاعل، فحصول المقصود بها كحصول الفعل من الفاعل. # فالفعل سبب ووسيلة إلى المقصود بها، ومعلوم أن المقاصد أشرف من الوسائل، ~~ولهذا قدم سبحانه قوله: (إياك نعبد) على قوله: (وإياك نستعين (5)) لأن ~~العبادة هي المقصود المطلوب، والاستعانة سبب ووسيلة إليها. # وكونه سبحانه إلها معبودا للخلق أكمل من جهة كونه ربا معينا لهم من جهتهم ~~ومن جهته. # أما من جهتهم فإن من لم يعبده منهم، فلم يؤمن به، ولم يطع رسله، يكون ~~شقيا معذبا، وإن كان مربوبا مخلوقا، وإنما سعادتهم إذا عبدوه فامنوا به ~~وأطاعوا رسله. # وأما من جهته فإنه يكون إلها يفتقرون إلى ذاته، ويكون ربا يفتقرون إلى ما ~~منه، وكون الشيء مقصودا لنفسه أشرف من كونه مقصودا لغيره. # PageV06P119 # وبالجملة فمن المستقر في فطر الناس أن ما يطلب لغيره فذلك الغير أشرف ~~منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل. # ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يقدر ~~أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون ~~مقصودا معبودا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من ~~مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره ~~فذلك الغير إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول ~~لزم الدور القبلي، وان كان غيرا آخر ms1072 لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع. ~~وكل ما دل على أن كل محدث فله محدث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات ~~المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعا للدور القبلي والتسلسل في ~~العلل، فإنه يدل على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا ~~بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد ~~لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من ~~المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه ~~أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون ~~أكمل منه، فلو كان شيء محبوبا مرادا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن ~~محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب ~~الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحب لا تتم مصلحته إلا ~~بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه ~~إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا # PageV06P120 # قدر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو ~~أكمل منه، كان الاكمل محبوبا مرادا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان ~~الأنقص محبوبا مرادا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي ~~الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء، ~~لزم حال الحب الفاسد. # وأيضا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة ~~وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذه بالماكل الرديئة دون تلذذه بالمآكل التي هي ~~أطيب منها، دل على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من ~~تلذذه بالماكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة. # وكذلك القلوب فطرت على الصحة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل ~~مولود يولد على الفطرة" (1) ، فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا ~~تسكن إلا إليه، ولا تتأله إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته ms1073 لا ~~يشبهه شيء من الأشياء. فماذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان ~~إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلا ناقصا. # وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد ~~النفوس إذا لم تعرف الله وتحبه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في ~~السموات والأرض من الملائكة والجن PageV06P121 # والإنس، لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون ~~حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمال محبته وكمال الذل له، فإن العبادة تجمع ~~كمال الحب وكمال الذل، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكل ما سواه ~~فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادا محبوبا ~~لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو ~~معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبا، والتابع لغيره محبوب ~~لذاته، والمتبوع محبوب لغيره. # وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع والملك، فإن الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن ~~يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو ~~أيضا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن العبد يحس من قلبه فقرا ذاتيا إلى ~~ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه سؤله، وجلب المنافع له، ودفع ~~المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر في الابتداء، ولكن ~~الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد الطمأنينة ولا ~~السكينة حتى يذكر الله ويوجه قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة والسكينة فلا ~~يبقى عنده منازعة إلى شيءآخر. # فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء حاجته إذا توجه إلى الله بصدق ~~اطمأن طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب والحاجات، فكذلك المريد المحب ~~[السائل] (1) لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله PageV06P122 # بصدق، اطمأن طمأنينة من حصل بغيته ووجد محبوبه ومألوهه وطلبته، وهذا ~~الأصل إنما يستقر لأهل الملل أتباع ملة إبراهيم، أهل الحنيفية، فأما غيرهم ~~فلا، حتى المتفلسفة الإلهيون ومن سلك سبيلهم من أهل الملل مع دعواهم ms1074 أنهم ~~حققوا المعارف اليقينية والحكمة الحقيقية، وقالوا: سعادة النفوس كمالها ~~علما وعملا، هم من أبعد الناس عن هذا، وذلك أن عندهم غاية سعادة النفوس نيل ~~العلم فقط، وحقيقة العلم بالكليات التي لا وجود لها في الخارج كليات، ~~والوجود الذي يثبتونه لواجب الوجود هو من هذا النمط. # ويقولون: غاية الإنسان أن يصير عاقلا معقولا موازيا للعالم الموجود. # ويقولون: كمال الإنسان أن يتشبه بالخالق بحسب الإمكان. # وقد سلك نحوا من سبيلهم أبو حامد في "المقصد الأسنى (1) في شرح الأسماء ~~الحسنى"، وهم يزعمون أن الأفلاك إنما تتحرك للتشبيه في قوتها، وهم في هذا ~~ضالون من وجوه: # أحدها: جعلهم غاية العبادة مجرد العلم، والنفس لها قوة العلم وقوة الحب ~~والإرادة، فإذا حصل مجرد العلم من غير معلوم محبوب مراب لذاته فسدت النفس، ~~فكيف يكمل مجرد ذلك؟ PageV06P123 # ومن هنا تجدهم معرضين عن العبادات، بل مستخفين بأهلها، وقد يظنون أن ~~الرسل إنما أمروا بحفظ قانون يستعان به على نيل الحكمة النظرية (1) فقط، ~~كما ذكر ذلك من ذكره من متفلسفة المسلمين واليهود وغيرهم. وأما الرسل فأول ~~دعوتهم الأمر بعبادة الله، ولهذا كان نهاية المتفلسف أول قدم يدخل به ~~الإنسان في الإسلام. # الوجه الثاني: أنهم جعلوا المعلوم الذي تكمل به النفوس هو العلم ~~بالمجردات التي عند التحقيق لا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، كما ~~قد بسطناه في غير هذا الموضع. فاما الموجودات الخارجية فهم لا يعلمونها ~~بأنفسها، ولا يعترفون بالله ولا ملائكته، وإنما يقرون بوجود مطلق بشرط ~~الإطلاق لا حقيقة له في الخارج. # الثالث: جعلهم غاية كمال الإنسان التشبه بالإله، وأن المتحركات العلوية ~~إنما تتحرك للتشبه بمن فوقها، مع أنهم أشد الناس إنكار، للتشبيه، وأدخلهم ~~في التعطيل، [فينكرون] (2) من التشبيه ما يخلقه الله، ويدعون من التشبيه ما ~~يفعلونه بكسبهم. # وقد استدل أبو حامد (3) بحديث ذكره مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "تخلقوا بأخلاق الله " (4) . PageV06P124 # وأنكر أبو عبد الله المازري وغيره ذلك، وقالوا: ليس للرب خلق يتخلق به ~~العبد. وتحقيق هذا في موضع آخر ms1075. # وذكر هذا أبو طالب المكي، وأنكره عليه الشيخ أبو البيان الدمشقي، فيما ~~أنكر عليه. # الرابع: أن هذا القدر في ثبوته نزاع مذكور في غير هذا الموضع، كما قرره ~~أبو حامد وغيره، فليس الكمال والسعادة في أن يقصد العبد التشبه بالرب فقط، ~~بل أن يقصد عبادته، فإنه بدون أن يكون معبودا له مقصودا، يفسد حاله، فلا ~~تكون له سعادة بحال، وإذا عبده مع نقيض اتصافه بصفات الكمال حصل له من ~~السعادة بقدر ما عبده، فإذا اتصف مع ذلك بما يحبه الرب كانت سعادته أكمل، ~~وجميع ما في العباد من صفات المدح والكمال التي يوصف الرب بالكمال المطلق ~~فيها كالعلم والرحمة والقدرة ونحو ذلك، إنما يصير صاحبها سعيدا كاملا نائلا ~~سعادته إذا قصد المقصود المعبود لذاته، فأما بدون ذلك فلا سعادة له أصلا. ~~فمثل هذه الصفات من توابع الكمال والسعادة ومكملات ذلك، وأما عبادة المعبود ~~المقصود لذاته فإنه من لوازم السعادة والفلاح، لايتصور وجود السعادة ~~والفلاح بدون ذلك. # فالمتحركات العلوية جميعها حركاتها عبادة لله، كما وصف الله بذلك ~~الملائكة وغيرهم، وقال: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في ~~الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) ثم ~~قال (وكثير حق عليه العذاب) (1) ، فبين بذلك أنه ليس PageV06P125 # المراد بالسجود مجرد دلالتها على الخالق وشهادتها، بل إن الحال له فإن ~~هذا يشترك فيه جميع الناس (فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا ~~يسأمون (38)) (1) ، وقال تعالى: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي ~~والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19)) (2) . # ولهذا عدل أبو الحكم بن برجان في شرحه للأسماء الحسنى من لفظ التخلق ~~والتشبه إلى لفظ التعبد، فصار يذكر معنى الاسم واشتقاقه، ثم الاعتبار إثبات ~~مقتضاه في المخلوقات، ثم تعبد العبد بما شرع له من مقتضاه. # فقد تبين بذلك أنه لا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات مقصودا لنفسه، لا ~~مقصودا له ولا مقصودا لغيره، وأن ذلك مستلزم لكون شيء من المخلوقات لا يكون ~~ربا بنفسه، لا ربا لنفسه ms1076 ولا ربا لغيره. # لكن هذا ممتنع الوقوع كما اعترف به المشركون. # وأما الأول فهو محرم الوقوع، بمعنى أنه إذا وقع كان فيه فساد، لكون ~~الحركات إلى غير غاية نافعة، بل إلى غاية ضارة، كما قال تعالى: (لو كان ~~فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (3) ، ولم يقل: عدمتا، إذ لو جاز أن يشرع أن ~~تكون المخلوقات آلهة مقصودة معبودة لذواتها لزم من PageV06P126 # ذلك تجويز عبادة كل شيء، وتجويز كل فعل وكل قصد، وذلك مستلزم فساد ~~السموات والأرض، قال الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين ~~لله) (1) ، فإذا لم يكن الدين لله فتكون حركات العباد لغير الله، كانت ~~الفتنة والفساد، فالصلاح أن تكون الحركات لله، والفساد أن تكون لغير الله، ~~وهذا- والله أعلم- من أحسن الأمور، لكنه يحتاج إلى بسط وإكمال. # ولهذا يستدل بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه هو الإله المعبود، ~~فإن الحركة تستلزم وجود مبدأ هو السبب الفاعل، وغاية هي المنتهى المقصود، ~~والمقصود بتلك الحركات لو كانت المتحركات يقصد بها غير الله لزم الفساد في ~~المتحركات. # كما بيناه في أنه متى قدر أن يكون المخلوق مقصودا لذاته لزم الفساد، ~~ومعلوم أن الحركات السماوية جارية على انتظام لا فساد فيها، فعلم أنها ~~عائدة بهذه الحركات لله قاصدة له، كما دل على [ذلك] الكتاب والسنة، لا كما ~~يقوله المشاؤون من الفلاسفة أن ذلك لاستخراج الأيون والأوضاع، فإن ذلك من ~~أفسد الكلام. # وأما المبدأ فقد علم أن الحركة ليست طبيعية، لأن تلك إنما تكون إذا خرج ~~المتحرك عن مستقره، وذلك إنما يكون في الحركات المستقيمة، فأما إذا كان ~~المطلوب من جنس المتروك امتنع أن يكون تاركا لأحدهما طالبا للاخر، فعلم أن ~~الحركة إرادية. PageV06P127 # والحركة الصادرة عن إرادة إما أن تكون الإرادة أحدثها ذلك المتحرك أو ~~غيره من المخلوقات، لا يجوز أن يكون هو المحدث لها، ولا غيره من المخلوقات، ~~لأن إحداثه لها يجب أن يكون بإرادة، فيلزم الدور والتسلسل، فوجب أن تكون ~~تلك الإرادة المقتضية للحركة حدثت بإرادة من الله، وهذا ms1077 هو المقصود. # وأيضا فمن المعلوم أن كل واحد من ذوي الحركات المختلفة السماوية له حركة ~~تخصه، فلا يجوز أن تكون حركة أحدهما بحركة الآخر، كحركة الشمس والقمر ~~الخاصتين بهما، فتبين أنه ليس بعضها خالقا لبعض ومحدثا لحركته، فيكون ~~المحدث لذلك غيرها، وهو المقصود. # ولا يجوز أيضا أن يكون المحدث لذلك هو الفلك الأعلى وحركته، لأنها حركة ~~واحدة بسيطة متشابهة الأجزاء، ولو كانت هي المحدثة لما سواها لوجب أن تكون ~~جميع الحركات من جنس واحد بسيطة، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، وهذا يبين أن ~~حركات الأفلاك والكواكب الحركات المختلفة ليست صادرة عن الفلك، فعلم أن ~~المحرك لها غير الفلك، وإذا ثبت أن المحرك لها غير الفلك التاسع، ثبت وجود ~~موجود غير الفلك التاسع يكون مبدأ الحركات. # ومعلوم أن حركة الفلك التاسع من جنس هذه الحركات، بل الفلك من جنس هذه ~~الأفلاك، فإذا كانت هذه محدثة مخلوقة امتنع أن لا يكون الفلك التاسع وحركته ~~محدثة مخلوقة، لأن القديم الواجب الوجود لا يكون مثل المخلوق المحدث، ولأن ~~الفلك التاسع لو كان # PageV06P128 # وحده قديما واجبا- وهو أيضا محرك للأفلاك، ولهذا أيضا حركته من غيره- ~~لكان في الأفلاك محركان كل منهما قديم واجب الوجود، فإن اختلفا في الإرادة ~~لزم تضاد الحركات والتمانع، وهو خلاف الواقع. وإن اتفقا في الإرادة لزم ~~اتفاقهما في الفعل، والاتفاق في الفعل يوجب أن لا يكون أحدهما فاعلا له ~~مستقلا به، لا هذا ولا هذا، وإذا كان ذلك يوجب عجز كل منهما عن أن يكون ~~فاعلا- والعاجز يمتنع أن يكون قديما واجب الوجود خالقا- امتنع أن يكون ~~الفلك كذلك. # PageV06P129 ### | فصل # في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير # من علم نافع وعمل صالح # PageV06P131 # فصل # في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل ~~صالح. # وهذا المعنى قد تكلمنا عليه مرارا في القواعد المتقدمة وغيرها، وفي ~~مراسيل مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أخلص لله ~~أربعين صباحا تفجرت ينابيع ms1078 الحكمة من قلبه على لسانه " (1) ، هكذا رواه ~~الإمام أحمد فيما رواه عنه المروذي في الإخلاص ونحوه من أعمال القلوب. وقد ~~روي هذا- فيما أظن- من حديث يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف ساقط. # ولهذا ذكر أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات" (2) ، وطعن ~~على الصوفية الذين جعلوه عمدتهم فيما يفعلونه من الخلوة أربعين يوما، وأبو ~~الفرج فيما ينكره على الصوفية في مثل "تلبيس إبليس" ونحوه، قد شاركه طوائف ~~في إنكار ما أنكره، وكل من المنكرين والمنكر عليهم مجتهدون، لهم علم ودين، ~~والصواب تارة يكون مع هذا الطرف، وتارة يكون كل منهما مصيبا من وجه مخطئا ~~من وجه، فيقتسمان الصواب والخطأ، ويكون الصواب PageV06P133 # تارة في غير ما عليه الطائفتان المتقابلتان، وهذا في مواضع كثيرة، ولعل ~~هذا منها. # فأما الطعن في الإخلاص لله أربعين صباحا فهذا ليس بسديد، فإن نفس الإخلاص ~~وكونه أصل كل خير قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الأمة، وسنذكر من ~~ذلك ما شاء الله. # وأما توقيته بأربعين ففيه هذا الحديث المرسل، ولكن لم يذكره أبو الفرج، ~~فما أظنه بلغه، ورآهم اعتمدوا حديثا ضعيفا، فكثيرا ما يعتمدون على أحاديث ~~واهية. # ثم مراسيل مكحول فيها نظر، وفي الاستدلال بالمرسل نزاع، لكن يقال: المرسل ~~إذا عضدته أدلة أخرى استدل به. # والأربعين فيها يتحول الإنسان من حال إلى حال، كما ثبت في الصحيحين (1) ~~من حديث [ابن مسعود] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يجمع خلق ~~أحدكم في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ~~ذلك، ثم ينفخ فيه الروح ". # ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن (2) : "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة ~~أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم PageV06P134 # تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم ~~تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا ~~على الله أن يسقيه من طينة ms1079 الخبال ". # وفي صحيح مسلم (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرافا فسأله ~~عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما". # ومثل هذا كثير، وقد جمع الحافظ عبد القادر الرهاوي في أول كتابه في ~~الأربعين حديثا أربعين بابا، في كل باب حديث فيه ذكر الأربعين. # فإخلاص أربعين يوما له شواهد في أصول الشريعة، لكن الخلوة المعينة قد ~~يشترطون فيها شروطا مبتدعة خارجة عن المشروع، بل منهيا عنها، مثل اشتراط ~~الصمت الدائم، والجوع الدائم، أو السهر الدائم، أو طعاما معين القدر ~~والوصف، واشتراط شيخ يدخله الخلوة، وتسمية ذلك خلوة، ومثل ترك الصلاة في ~~جماعة، وبعضهم قد يترك الجمعة. # وبالجملة فالمشروع من هذا الباب هو الاعتكاف الشرعي الذي كان يفعله رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وأما ما كان يفعله بحراء قبل ~~المبعث، فلسنا مأمورين باتباع ذلك، فإنه من حين بعث إلى الخلق وجب على ~~الخلق كلهم طاعته واتباعه، والعبادة بما شرعه بعد المبعث دون العبادة التي ~~لم يشرعها هو، ولو أراد أحد أن يفعل بغار حراء ما PageV06P135 # كانوا يفعلونه فى الجاهلية من المجاورة فيه، وترإو الجمعة والجماعة، لنهي ~~عن ذلك. # وقد كانوا في الجاهلية، كما قال أبو طالب في قصيدته الطويلة (1) : # وراق ليرقى في حراء ونازل # والمقصود هنا بيان ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن ### | إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى. # وفي الحديث حكاية بلغتنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى ~~المقصود منها صحيح، وهو أن أبا حامد الغزالي قال: لما بلغني هذا الخبر ~~أخلصت أربعين صباحا، فلم أجد شيئا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال ~~لي: يابني، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصت للحكمة. # فإن هذا المعنى حق، وهو أن ### | الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول، # ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول، ~~ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك. # وإن كان الناس قد يؤمرون بما يؤمرون به من الطاعة ms1080 والعبادة لأمور أخرى ~~تكون هي، مطلوبهم ومقصودهم، بل قد ينازع الناس في PageV06P136 # أنه هل يمكن أن يكون الله سبحانه هو المقصود المراد بالقصد الأول، بحيث ~~يراد لذاته فيحب لذاته؟ فذهب طوائف كثيرون من أصناف المتفقهة والمتكلمة ~~وغيرهم إلى امتناع ذلك، وأنكروا أن يكون الله محبوبا لذاته، وهذا هو ~~المشهور من قول المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمة والجهمية والفقهاء وغيرهم، ~~ولم يجعلوا المقصود بالقصد الأول- وهو الغاية التي يطلبها العباد- إلا ما ~~يحصل من تنعمهم بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، مما وعدوا به في الجنة، ~~وجعلوا جميع ما أمروا به من العبادات والطاعات تكاليف إنما تفعل لتحصيل هذه ~~الغاية المطلوبة. # وهؤلاء ينكرون أن يتنعم في الدنيا بعبادته وفي الاخرة بالنظر إليه، بل قد ~~ينكرون أن يتنعم بذكره ورحمته، اللهم إلا من جهة لذة جنس العلم الذي لا ~~يمكن أن ينكرها من وجدها. # وقد وافقهم على إنكار حقيقة المحبة لله وتوابعها طوائف من أصحاب الأئمة ~~الأربعة. وأول من أنكر حقيقة المحبة لله الجعد بن درهم، الذي ضحى به خالد ~~بن عبد الله القسري بواسط في خطبة يوم الأضحى، وقال: "أيها الناس ضحوا تقبل ~~الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم ~~خليلا، ولم يكلم موسى تكليما". ثم نزل من المنبر فذبحه (1) . # فإنكار حقيقة الخلة هو إنكار حقيقة المحبة. وهؤلاء ينكرون أن PageV06P137 # يحب وأن يحب، ويتأولون ما ورد في ذلك على أنه يحب طاعته وعبادته، وهو ~~يريد الإحسان إلى عبده. # وأما من وافقهم وأثبت الرؤية، فقد ينكر- إن صحت الرؤية- التمتع (1) بها، ~~كما ذكر ذلك أبو المعالي في "الرسالة النظامية"، وذكر أنه من أسرار ~~التوحيد، وزعم أن المحدث لا يتمتع بالقديم، ولكن يخلق الله مع الرؤية لذة ~~بشيءآخر. # وكذلك قال ابن عقيل لرجل سمعه يقول: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، ~~فقال: ويحك! هب أن له وجها، أتتلذذ بالنظر إليه؟ # ومعلوم أن الدعاء النبوي قد ورد بهذا اللفظ في حديث عمار بن ياسر، وكذلك ~~غيره- فيما ms1081 أظن- والحديث في المسند والنسائي وغيرهما (2) ، وفيه: "اللهم ~~بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينى ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما ~~كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك ~~كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لاينفد، ~~وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، ~~وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة ~~مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ". PageV06P138 # وأما المتفلسفة فالذي يعترفون به هو لذة العلم أيضا فقط، إذ رؤيته عندهم ~~بالعين ممتنعة، وكل من تكلم في لذة النظر والمشاهدة والتجلي ونحو ذلك من ~~متصوفة المتفلسفة، فكلامه يعود إلى ذلك، وهو دونه، فإنه لا يثبت قدرا زائدا ~~على ما أثبته المعتزلة، بل لا يكاد يصل إليهم، ولكن يموهون بالتعبير على ~~المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية، وإلا فهم في الرؤية والمشاهدة لا ~~يجاوزون قول المعتزلة حيث يفسرونها بنوع من العلم. وفي كلام أبي حامد ~~وأمثاله من ذلك أصناف، والفارابي. # ومن تدبر كلام الفلاسفة كابن سينا ونحوه، وجد ما يثبتونه من اللذات ~~العقلية إنما هو لذة العلم بالموجود من حيث هو موجود، لا اختصاص للرب بذلك، ~~اللهم إلا من حيث يولد وجوده، وغايته تلذذ بامور كلية حاصلة في ذهن العالم ~~لا وجود لها في الخارج، لا سيما إذا قالوا: إن النفس الناطقة لا تدرك ~~المغيبات التي يسمونها الجزئيات، وإنما تدرك الكليات، لا سيما بعد ~~المفارقة. والكليات لا تكون كليات إلا في الذهن، فلا تكون لذة النفس عندهم ~~إلا بأمور مقيدة فيها متصلة بها، لا بعلم شيء موجود في الخارج عنها. # وهذا في غاية البعد عن الحق، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وإنما هو ~~إثبات النعيم بأمور مقدرة في الذهن، ولهذا كان الاتحادية وهم من خلاصة جهم، ~~لا ينكرون اللذة بالمشاهدة، كما ذكر ذلك ابن العربي الطائي في بعض كلامه ~~(1) أن المشاهدة ما التذ بها PageV06P139 # عارف قط. # وأما أهل السنة ms1082 والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ومشايخ أهل التصوف ~~والحديث، فلا ينكرون حقيقة محبة الله أصلا، وهؤلاء هم الباقون على ملة ~~إبراهيم خليل الرحمن الذي قال الله تعالى فيه: (ومن أحسن دينا ممن أسلم ~~وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ~~(125)) (1) ، وعلى أصل هؤلاء فيظهر أن يكون الله هو المقصود بالقصد الأول، ~~المحبوب المطلوب لذاته. # يبقى أن يقال: فالحب والإرادة فرع (2) الشعور، فكيف يكون هذا هو الأصل، ~~وهو مسبوق بطلب وإرادة، وذلك مستلزم لحب؟ فلا بد أن يكون قد أحب شيئا ما ~~حتى أداه ذلك إلى هذه المعرفة المستلزمة محبة الله وقصده لذاته؟ فيجاب عن ~~ذلك بوجهين: # أحدهما: أن كون الإقرار بالله لا يكون إلا نظريا، إنما قاله طوائف من أهل ~~الكلام كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وليس هذا قول سلف الأمة وأئمتها، ولا قول ~~مشايخ التصوف ومشايخ أهل الحديث، ولا قول جميع أهل الكلام، بل طوائف كثيرة ~~من أهل الكلام والنظر قد يقولون: إنها لا تكون نظرية بحال، بل لا تكون إلا ~~ضرورية. # والتحقيق أنها فطرية ضرورية، ولكن قد يحصل لبعض الفطر ما يفسدها، فيحيلنا ~~إلى نظر، كما يقرن النظر بالضرورة، كما قال النبي PageV06P140 # - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة- وفي لفظ: على هذه ~~الملة، وفي لفظ: على فطرة الإسلام- فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما ~~تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة: ~~اقرؤوا إن شئتم: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك ~~الدين القيم) (1) . # وذلك قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ~~لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين ~~إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا ~~دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32)) (2) . # الوجه الثاني: أن ### | الحب يتبع الشعور، # فإذا شعر بالحق مجملا أحبه مجملا، وإذا شعر به مفصلا أحبه مفصلا، لا بد ~~من الشعور به ومحبته ولو ms1083 مجملا، وإن لم يكن ذلك أصل مقصوده كان معلولا، فإن ~~من كان مطلوبه الحق من حيث هو حق، غير متبع لهواه المخالف للحق، فإنما ~~مقصوده في الحقيقة هو الله، فإنه الحق المحض، إذ كل مخلوق فإنما قوامه به، ~~وبه صار موجودا، ثم إنه قد يشعر أولا بموجود قديم، أو موجود واجب، إذ ~~الوجود شاهد بأنه لا بد فيه من قديم واجب، إذ يمتنع أن يكون الوجود كله ~~محدثا ممكنا، فإن ذلك لا يكون بنفسه، وهذا من أوضح المعارف الضرورية، ~~فالإقرار بموجود PageV06P141 # قديم واجب أمر ضروري فطري في النفوس كلها. # ولهذا تجد جميع الأمم معرفة بالله فطرية، فإن أخطأ بعضهم عينه فاعتقده ~~غير ما هو، فالمقصود الأول هو الله، والقلب مفطور على الحنيفية التي هي ~~الإقرار بالله وعبادته المتضمنة معرفته ومحبته. ولكن قد يعرض للفطرة ما ~~يغيرها، وإذا كان كذلك، فقد دل الكتاب والسنة- في غير موضع- على أن من كان ~~هذا مقصوده، وكان مجتهدا في ذلك، فإنه يحصل له الهدى، وأن من اتبع هواه فلم ~~يكن الحق مقصوده، ضل عن سبيله، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم ~~سبلنا) (1) ، فإن المجاهد في الله لا بد له من شيئين: # أحدهما: محبة الله وإرادته المستلزمة بغض عدوه. # والثاني: الاجتهاد في دفع ما يبغضه الحق ويكرهه، بقهر عدوه، ليحصل ما ~~يحبه الحق ويرضاه بعلو كلمته، وأن يكون الدين كله لله. # فالمجتهد في تحصيل محبوبه ودفع مكروهه، هو المجاهد في سبيله، وهو الذي ~~استفرغ وسعه في ذلك حتى جاهد أعداءه الظاهرين والباطنيين، فيجتمع في ~~المجاهد في سبيله شيئان: كمال القصد، وكمال العمل. # فالأول: أن مقصوده هو الله، فهو معبوده ومحبوبه. # والثاني؟ أنه يستفرغ مقدوره في تحصيل هذا المقصود. PageV06P142 # فهذا يهدى سبل الله. # وهذا مجرب في سائر المحبوبات، فكل من أحب شيئا محبة شديدة ولد له شدة ~~المحبة طرق تحصيل المحبوب، وطرق المعرفة به. وكذلك من أبغض شيئا بغضا ~~شديدا، ولد له شدة البغض طرق دفعه وإزالته، ولهذا يقال: الحب يفتق الحيلة، ~~كما يقال: الحاجة تفتق ms1084 الحيلة. فإن المحتاج محب لما احتاج إليه محبة شديدة. # وإنما يوقع النفوس في القبائح الجهل والحاجة، فأما العالم بقبح القبيح ~~الغني عنه فلا يفعله، قال الله تعالى: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه ~~من ينيب (13)) (1) ، وقد قال في ضد هؤلاء: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل ~~الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26)) ~~(2) ، فبين أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فمن اتبع ما تهواه نفسه أضل ~~عن سبيل الله، فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل ~~إلى الله، فلا قصد الحق، ولا ما يوصل إلى الحق، بل قصد ما يهواه من حيث هو ~~يهواه، فتكون نفسه في الحقيقة هي مقصوده، فيكون كأنه يعبد نفسه، ومن يعبد ~~نفسه فقد ضل عن سبيل الله قطعا، فإن الله ليس هو نفسه. # ولهذا لما كان حقيقة قول الاتحادية: إن الرب تعالى هو العالم نفسه، لا ~~يميزون بين الرب الخالق وبين المخلوق المربوب، بل كل PageV06P143 # موجود فهو عندهم الرب العبد، كان حقيقة قولهم إنكار محبة الله ومعرفته ~~وعبادته. فجعلوا المعبود بذاته إنما هو الهوى، كما قال صاحب الفصوص "فصوص ~~الحكم" ابن عربي: "وكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل ~~بالتسليط على العجل، كما سلط موسى عليه، حكمة من الله ظاهرة في الوجود، ~~ليعبد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد أما، ~~تلبست عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا عبد، إما ~~عبادة تأله، وإما عبادة تسخير- إلى أن قال- وأعظم محل فيه عبد وأعلاه ~~الهوى، كما قال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) (1) فهو أعظم معبود، فإنه لا ~~يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته " (2) . # وهذا جهل منه حيث قال: "لا يعبد إلا بذاته"، فإن الهوى نفسه إن عني به ~~المهوي، فكل ما هوي فهو هوى، فإذن كل ما هوي فقد هوي لذاته، فيبطل التخصيص. # وإن عني به ms1085 نفس المصدر الذي هو نفس إرادة النفس مثلا، فذاك هو القصد ~~والإرادة التي تكون عبادة، فكيف تكون العبادة هي المعبود؟ # وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق ~~هواه، ويخالفه إذا خالف هواه. # فإذن هو لايثاب على ما اتبعه من الحق، ويعاقب على ما اتبعه من ~~PageV06P144 # الباطل، وذلك لأنه يكون إنما اتبع هواه في الموضعين، لم يتبع الحق لأنه ~~حق. # فلما كان اتباع الهوى يضل عن سبيل الله أخبر بأن الضلال مع اتباع الهوى ~~في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من ~~الله) (1) ، وقوله: (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم) (2) وقوله: (ولا ~~تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)) ~~(3) وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه ~~وقلبه وجعل على بصره غشاوة) (4) . # كما أخبر أن الهدى مع السنة التي هي اتباع سبيله، كقوله: (ولو أنهم فعلوا ~~ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا ~~عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)) (5) ، وقال تعالى: (وإن تطيعوه ~~تهتدوا) (6) ، وقوله: (ويهدي إليه من ينيب (13)) (7) ، وقوله: (والذين ~~جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (8) . PageV06P145 # ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء، فإنهم على ضلال، والضلال ~~مستلزم لاتباع الهوى، كما أن الهدى لازم لاتباع سبيله، وهذا الهدى الثاني ~~كما في قوله: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82)) (1) ، ~~قال طائفة من التابعين: لزم السنة والجماعة. # ومنهم [من قال:] من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. ومن أخلص لله ~~أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. # وذلك أن مخلص الدين لله محفوظ من الشيطان الذي يأمر باتباع الهوى، كما ~~قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42)) ~~(2) ، والغي: اتباع الهوى. # وقال عنه: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين ~~(83)) (3) ، فالمخلص لا يغويه، فلا يتبع هواه، كما قال ms1086: (لنصرف عنه السوء ~~والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)) (4) ، فصرف عنه الغي لأجل إخلاصه. # ولما كان الإخلاص أن يكون الدين كله لله، وعلى هذا أمر بالجهاد، وهذا ~~يوجب الاجتماع والألفة، إذ ذلك هو دين الأنبياء الذي PageV06P146 # أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:"إنا ~~معاشر الأنبياء ديننا واحد" (1) . # قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما ~~وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (2) ، وقال ~~في الاية الأخرى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها ~~لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (3) . # فصل # وإيضاح هذا الكلام أن يقال ### | : الإنسان له فعل باختياره وإرادته، # وهذا ضروري له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أصدق الأسماء ~~الحارث وهمام " (4) ، بل وكل حي فهو كذلك. # والفعل الاختياري له مبدأ، وهو الإحسالس والشعور المحرك للمحبة والإرادة ~~والقدرة عليه، وله منتهى، وهو المقصود المراد المحبوب بذلك الفعل. # وقد بينا- فيما تقدم- أن مبادىء الفعل لا يجوز أن تكون من العبد، لأن ~~فعله لها حادث من الحوادث، فلا يجوز أن يحدث بنفسه، ولا يجوز أن يحدث فعله ~~بمبادىء فعله، لأنه يلزم أن تكون تلك PageV06P147 # المبادىء علة فعله ومعلولة فعله، وذلك ممتنع إن كانت هي إياها، وإن كانت ~~غيرها لزم أن يكون فاعلا لفعله بفعل. وكذلك الفعل بفعل آخر، وكذلك الفعل ~~بفعل آخر، فتحدث تلك الإرادة بإرادة، وتلك الإرادة بإرادة، وهلم جرا. وهذا ~~يفضي إلى وجود حوادث لا تتناهى في الإنسان، والإنسان متناهي، ويمتنع وجود ~~ما لا يتناهى فيما يتناهى، فلا بد أن تنتهي تلك الأفعال إلى أسباب خارجة من ~~العبد، وهذا خارج من قولنا، لأنه يفضي إلى التسلسل، فإن التسلسل إن أريد به ~~تسلسل العلل التامة التي يجب وجودها في زمن واحد، لم يجب ذلك. وإن توقف ~~الفعل الثاني على الأول جاز أن يكون من باب الشروط التي يجوز تقدمها، فتكون ~~كوجود حوادث لا تتناهى. وهذا فيه نزاع، فمن جوزه ms1087 في القديم أو المحدث لم ~~يصح أن يبطل التسلسل فيه. ومن لم يجوزه يرد عليه سؤالات مذكورة في غير هذا ~~الموضع. # وإن شئت أن تقول: لأن الفعل القريب إما أن يكون مفعولا عن الفعل الذي ~~قبله بحيث يكون كل فعل علة لما بعده أو شرطا، فإن كان علة لزم وجود إرادات ~~وأفعال لا تتناهى في زمان واحد، والإنسان يعلم بحسه وعقله أن الأمر بخلاف ~~ذلك علما ضروريا. وإن كان شرطا لزم ما لا يتناهى على التعاقب، وهو إما أن ~~يكون ممتنعا فيما يتناهى، وإن شئت أن تقول: التسلسل في الإنسان ممتنع، لأنه ~~مستلزلم وجود ما لا يتناهى في زمن واحد، أو في أزمنة لا تتناهى في حق ~~الإنسان، وذلك ممتنع في الوجهين. # وهذا السؤال يرد على أبي عبد الله الرازي، فإنه يقرر خلق فعل # PageV06P148 # العبد بشبيه هذا، لكن لا يبين امتناع التسلسل اكتفاء منه بما قرر في حدوث ~~العالم، وذلك متنازع فيه بين المسلمين وغيرهم، أو لظهور ذلك في حق العبد، ~~وهو يقرره بالإمكان، وتقريره بالحدوث أظهر. # وقد ذكرنا غير مرة أن ما دل على حدوث الحوادث المشهودة وأنها خلق لله، ~~يدل على ذلك في أفعال العبد، لا فرق بين أفعاله وسائر صفاته. # والمقصود هنا الطرف الثاني، وهو أن ذلك الفعل لا بد له من منتهى هو ~~المحبوب المقصود المطلوب به. فنقول: كما أن العبد يوجد فعله تارة ويعدم ~~أخرى، ففعله الموجود بإرادته قد يريد به ما يصلحه وينفعه تارة، وقد يريد به ~~ما يفسده ويضره أخرى، وذلك لأنه إما أن يصلح له أن يفعل كل ما يهواه ويحبه ~~ويريده من الأفعال، فيقصد ويعبد ويطلب كل ما يهواه، أو لا يصلح ذلك إلا في ~~بعض الأمور دون بعض. # والأول باطل، لأنه إذا فعل كل شيء يهواه ويحبه لزم وقوع الفساد المستلزم ~~لنقيض ما يحبه ويهواه، بل لو وقع في الوجود كل ما يهواه كل إنسان لزم فساد ~~العالم، كما قال تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن ~~فيهن ms1088) (1) ، وذلك أن أهواء النفوس ليس لها حد تقف عنده إذا أعطيت القدرة، ~~بل هذا يهوى أن يغلب هذا فيقتله أو يأخذ ماله أو رئاسته، وهذا كذلك، وهذا ~~يهوى أن ينال ما PageV06P149 # اشتهاه من الفروج والصور، وهذا يهوى ذلك، فيلزم فساد الحرث والنسل، والله ~~لا يحب الفساد. وهذا يهوى أن يعظم ويعبد من دون الله حتى لا يفعل أحد ~~مصلحته، بل لا يفعل إلا ما يهواه، وهذا كذلك. وأمثال هذا مما يطول عده. وما ~~من عاقل إلا ويعرف ذلك. # ولهذا اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعا إلا بشرع يستلزمونه ~~ولو بوضع بعض رؤسائهم، يفعلون ما يأمر به، ويتركون ما ينهى عنه، فإن تركهم ~~بدون " ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه، وذلك يمنع بقاءهم، ويوجب ~~فسادهم وهلاكهم، لأن أهواءهم وإراداتهم إذا لم تتعاون وتتناصر فإنها تتهاون ~~تارة، وتتمانع تارة، وتتخاذل تارة، فإذا تهاونت فلم يعن هذا هذا، ولا هذا ~~هذا، عجزوا عن مصالحهم التي لا بد لهم منها، فوقع الفساد، وإن تخاذلت فلم ~~ينصر هذا هذا، ولا هذا هذا، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم، ~~بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم. وإذا تمانعت فلم يمكن هذا هذا ~~من فعل ما يصلحه، ولم يمكن هذا هذا من فعل ما يصلحه، لزم عجزهم عن جلب ~~المنافع ودفع المضار. وإذا تغالبت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة، وهؤلاء هؤلاء ~~تارة، لزم فساد كل فريق إذا غلبوا، بل وإذا غلبوا أيضا، إذا لم يكن لهم شرع ~~يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم، وأمثال ذلك. # وبهذا وأمثاله يتبين أن ### | الدين والشرع ضروري لبني آدم، # لا يعيشون بدونه، وقد بسطناه في غير موضع، لكن ينقسم إلى شرع غايته نوع ~~من الحياة الدنيا وشرع فيه صلاح الدنيا فقط، وشرع فيه صلاح # PageV06P150 # الدنيا والاخرة، ولا يتصور شرع فيه صلاح الاخرة دون الدنيا، فإن الاخرة ~~لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، وصلاحها غير التناول ~~لفضولها. # وإذا تبين أن الإنسان لو فعل ms1089 ما يريده ويهواه لزم الفساد والضرر المنافي ~~لما يحبه ويرضاه، فإن المحبوب بالقصد الأول هو ما يصلحه وينفعه، فإذا كان ~~فعله ما يهواه يستلزم وقوع ما يضره وخلاف ما يهواه، كان وجود هذا مستلزما ~~لضده ونقيضه في العاقبة، فلا يصلح أن يكون ذلك مقصودا، لما فيه من الضرر ~~والفساد المخالف للمقصود بالقصد الأول، ولأن كونه مقصودا ينافي كونه ~~مقصودا، فإنه إذا فعل ما يحبه لمقصوده حصل المحبوب، فإذا كان حصول هذا ~~المحبوب يستلزم نفي المحبوب ووقوع المكروه صار وجود هذه الغاية المقصودة ~~مستلزما نقيض هذه الغاية وضدها، وما استلزم وجوده عدمه ووجود ضده امتنع أن ~~يكون علة غائية أو علة فاعلية أو غير ذلك. # كما أن في العلة الفاعلية لو كانت إرادته حادثة بلا فاعل للزم جواز حدوث ~~حادث بلا فاعل، ولو جاز ذلك لجاز أن لا يكون لفعله وغيره من الحوادث فاعل، ~~فيلزم حينئذ جواز حدوث فعله بلا فاعل، فلا يجب أن يكون هو الفاعل له. # ومن قال: إرادته حادثة بلا فاعل، قصد بذلك أن يكون هو المحدث لفعله، فإنه ~~إذا جعل لها فاعلا، صار ذلك هو الخالق لفعله، فصار ما جعله هو المحدث ~~يستلزم أن لا يكون هو المحدث، فلا يكون صحيحا. # PageV06P151 # وهنا يصير ما جعل هو الغاية مستلزما أن لا يكون هو الغاية، بل تكون ~~الغاية تقتضيه وضده، فلا يجوز أن يكون هو الغاية. # وقولنا: لا يجوز أن يكون هو الغاية، يتضمن شيئين: # أحدهما: لا يصلح للعبد أن يعتقد ذلك ويقصده. # والثاني: أنه في نفسه لا يقع غاية، أي ما تهواه النفوس وتحبه إذا جعلته ~~النفوس هو غايتها، لم تحصل محبوباتها وما تهواه. # فهذا بيان أن هذه الغاية لا تحصل ولا تقع، وهي حصول المحبوب المطلوب. وإن ~~كانت النفوس تفعل لأجلها، فالفعل إذا لم يحصل غايته كان باطلا، وهي أعمال ~~الكفار. وإن حصل ضدها كان فاسدا. # ولهذا قال الفقهاء: العقد والعبادة الباطلة ما لم يحصل به مقصوده، ولم ~~يترتب عليه أثره شرعا (1) . ولهم في الفرق بين الباطل ms1090 والفاسد كلام ليس هذا ~~موضعه. # ف ### | وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابق معتقداتها، # فهذا في الأفعال بالنسبة إلى الغاية، فاعتقاد من اعتقد أنه خالق فعله ~~بالنسبة إلى الفاعل، ووجود هذا الاعتقاد لا يمنع أن يكون الخالق غيره، وأنه ~~ليس هو الخالق، وإن أخطأ في اعتقاده. كذلك عمله لهذه الغاية الفاسدة ~~المتناقضة، لا يمنع أن تكون الغاية PageV06P152 # الصحيحة غير هذه، وإن ضل هو في قصد هذه والعمل لها. # وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون ما تهواه النفوس هو الذي ينبغي أن يكون ~~مقصودها ومرادها، بل ذلك يستلزم نقيض ما تهواه وتحبه، علم بهذا أنه لا يصلح ~~أن تكون الغاية من قصد الفعل وإرادته ومحبته هو كون النفس تحبه وتهواه ~~وتقصده. # كما تبين أنه لا يجوز أن يكون ذلك القصد حادثا عن مجرد النفس، فكما أن ~~مبدأ الفعل والفاعل ليس من الإنسان، فغايته ومقصوده لا يصلح أن يكون في ~~الإنسان، فكما أنه ليس هو المباع لفعله، ليس هو الغاية لفعله، بل لا بد من ~~غاية تكون معبوده، كما أنه لا بد من مبدأ يكون مستعانه، كما قال: (إياك ~~نعبد وإياك نستعين (5)) فلا يصلح أن يفعل الإنسان لأجل نفسه بمعنى أنها هي ~~المعبود المقصود لذاته بذلك الفعل، فيفعل ما تحبه وترضاه مطلقا، لكن يفعل ~~لأجلها بمعنى أن يفعل ما يصلحها وينفعها، ويجلب لها الخير، ويدفع عنها ~~الشر، وذلك أن يكون مقصوده بالفعل ما يحصل مصلحتها بقصده. # وكما أن الإنسان ليس محدثا لفعله بمعنى أنه هو الخالق المباع له ولمبادئه ~~المستقل به، ولكن هو المحدث لفعله بمعنى أنه فعله بقدرته ومشيئته واعتقاده، ~~وذلك أنه كله مخلوق لله، فربه هو الرب الخالق لفعله وإن كان هو فاعله، ~~وإلهه هو المقصود المعبود بفعله، وإن كان العبد يقصد نفع نفسه. # وكون الرب خالقا وربا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلا كاسبا # PageV06P153 # له، وكذلك كون الرب هو الإله المقصود الذي يستحق ذلك العمل ويحبه ويرضاه ~~ويفرح به، وهو غايته ومنتهاه ms1091، لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة ~~والصلاح والخير واللذة. # فتدبر هذا كله، فإنه جامع نافع، يتبين لك من هذا كون العبد إنما يعمل ~~لنفسه مع كون الرب يستحق ذلك عليه ويطلبه منه طلب المستحق المحب المريد لما ~~يستحقه ويحبه، كما تبين لك كون العبد فاعلا حقيقة بقدرته ومشيئته، مع كون ~~الرب هو الخالق لذلك، وهو ربه ومليكه. # ويتبين لك أن قوله: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (1) ، وقوله: (ومن ~~شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم (40)) (2) ، وقوله: (إن ~~أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (3) ونحو ذلك لا ينافي قوله: (وما ~~خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (4) ، وقوله: (أفتتخذونه وذريته أولياء من ~~دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)) (5) ، وقول النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد؟ " قلت: الله ورسوله ~~أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا" (6) . PageV06P154 # وتبين لك من غضب الله وعقابه على من أشرك به وكفر، ومحبته ورضاه وفرحه ~~لمن أطاعه وأناب إليه وتاب إليه ونحو ذلك. # كما تبين لك أن آيات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات المخبرة بأن ~~العباد فاعلون، لا تنافي آيات القدر المتضمنة أن الله خلق أفعال العباد، ~~فإن كثيرا من الناس تاهوا في الغايات المقصودة، كما تاه كثير من الناس في ~~الأسباب الفاعلة، ولا بد من توحيد الربوبية بأن يكون الله خالق كل شيء وبأن ~~يكون الله هو المعبود المقصود بذاته بالأفعال لا سواه. ولا يدفع ذلك من ~~إثبات فعل العبد وقدرته ومشيئته واعتقاده، كما أنه لا بد من إثبات انتفاع ~~العبد بالفعل، وأنه يعمل مصلحته ومنفعته، وأنه وإن قصد غيره فمقصده هذا، ~~لأن في كون ذلك مقصودا معبودا صلاحه وانتفاعه. # فإن الناس يغلطون في هذا، فكثير من الصوفية لا يلحظون هنا إلا (1) غاية ~~الألوهية، ولا يستشعرون أن ذلك منفعة للنفس وصلاحها. # وكثير من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم لا يستشعرون أن لله في ذلك محبة ~~ورضى وفرحا، بل لا غاية له إلا ms1092 ما يعود على العبد. # كما أنهم كذلك يتنازعون (2) في السبب الفاعل ما بين قدرية مجوس وجبرية ~~نفاة، ومنحرفو الصوفية يغلب عليهم في الموضعين نفي ما في العبد من سبب ~~وغاية، كما أن منحرفي المتكلمين من PageV06P155 # المعتزلة والرافضة يغلب عليهم نفي ما للرب من مبدأ ومنتهى من ربوبيته ~~وإلهيته. # وأما المثبتة من الأشعرية ونحوهم، ففي جانب القدر يوافقون الصوفية، وأما ~~في جانب الغاية فقد يوافقون المعتزلة، فتدبر هذا فإنه أصل عظيم. # وهذا المعنى يستقر في فطر الناس، كما أنه مستقر في فطرهم افتقار العبد في ~~فعله إلى الله، ولهذا يحتملون المكاره طلبا للمنافع، ويتقون الشهوات طلبا ~~لما هو أحب منها، ودفعا لما هو أضر من تركها، ويقولون: فعل ما تهوى يمنعك ~~ما تهوى، وأمثال هذا الكلام. # وإنكار من أنكر من المرجئة لمعرفة حسن الفعل وقبحه بالفعل يتضمن إنكار ~~هذه الغاية، كما أن إنكار القدرية لكون الله خالق أفعال العباد يتضمن إنكار ~~السبب الفاعل. والفطرة والشريعة ترد على الطائفتين، أولئك منعوا غايات ~~الأفعال وعواقبها ومصالحها، وأنه يجب عقلا الفرق بين فعل وفعل، ويجب عقلا ~~كون هذا الفعل مقتضيا للمنفعة والصلاح، وهو حسنه، وكون هذا الفعل مقتضيا ~~للمضرة والفساد، وهو قبحه، لكن ظن الأولون أن الحسن والقبح في حق الخالق ~~والمخلوق قد يكون لذات الفعل، أو لصفة فيه، لا لغاية محبوبة أو مسخوطة، ~~وهذا الظن الفاسد أوقع هؤلاء في نفي التفريق بين الحسن والقبيح، وسلموا ~~الغاية الملائمة والمنافرة، لكن ظنوا أن الحسن والقبح في الشرع بغير ~~المعنى، أو أن له حقيقة وراء هذه، وليس الأمر كذلك، بل الحسن مطلقا هو ~~الملائم النافع المحبوب # PageV06P156 # المرضي، والقبيح ضد ذلك، وصفات الكمال تعود إلى ذلك. فالحسن والقبح ~~متعلقان بالعلة الغائية مطلقا، وقد بسطنا هذا في غير موضع، كقاعدة مفردة في ~~غير ذلك. # والقدرية لم ينبتوا الغاية كما ينبغي، بل تخبطوا فيها، وإن كانوا من ~~الحسن والقبح بأصله دون تفصيله الصحيح، ثم عدلوا الله بخلقه تشبيها باطلا ~~مع غلوهم في إنكار التشبيه في الصفات، وإن كانوا أثبتوه ms1093 هنا أصلا، كما له ~~أصل في الصفات، ولكن جهلوا التفصيل هنا، كما جهلوا هناك الأصل، وأنكروا أن ~~يكون الله نفسه هو الغاية المقصودة، وأنكروا السبب، فأنكروا كونه خالقا ~~لأفعال العباد (1) . # وإذا لم يصلح أن يكون هوى العبد هو الغاية المقصودة لذاتها مطلقا، تبين ### | فساد حال من اتخذ إلهه هواه، # ومن عبد ما استحسن من دون الله، وهؤلاء المشركون المتبعون لأهوائهم ~~المتخذون آلهتهم أهواءهم. ويحكى ذلك عن البراهمة منكري النبوات، كما حكاه ~~أبو الحسن الربعي في كتاب "اتباع المرسلين في الاحتياط للدين "، قال: وقال ~~قوم يقال لهم البرهمية بقول عبدة الأصنام: ما استحسنه العبد فهو معبوده. # وهذا أيضا حقيقة قول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، إذ عندهم كل ما ~~كان موجودا يصلح أن يكون لكل عابد معبودا، وإن كان عندهم كل عابد فهو أيضا ~~معبود، كما قال شيخهم صاحب الفصوص: PageV06P157 # "فليعبدني وأعبده" (1) . وقال: "أعظم معبود عبد فيه الهوى" (2) . # وإذا تبين أنه لا يصلح أن يكون كل ما يهواه العبد ويريده مقصودا ... (3) ~~تبين من ذلك أنه لا يصلح أن يكون ما يوجد من اللذة هي الغاية المقصودة ~~بفعله، لأن اللذة تتبع الشهوة، فإذا حصل ما يشتهيه وجد اللذة، فإذا امتنع ~~أن يكون المنتهى مطلقا مقصودا، امتنع أن تكون اللذة مطلقا غاية مقصودة، لما ~~بيناه من أن وجود ذلك يمنع وجوده، لما فيه من الفساد، ولكن لا بد في فعله ~~من حب، ولا بد له من لذة، فالشهوة واللذة سببان في فعله، ذلك سبب فاعلي، ~~وهذا سبب غالي، بهما كان الإنسان من وجه فاعلا لفعله، ومن وجه غاية لفعله، ~~كما تقدم بيانه. # لكن كما بينا أن هذا السبب فيه لم يحصل به مستقلا، بل بالرب الذي خلقه ~~وأعانه، فكذلك هذه اللذة لم يحصل الفعل لأجلها فقط، بل للغاية التي هي الرب ~~الذي هو إلهه. # وكما أنه بدون الرب يمتنع الفعل، فبدون الإله لا يصلح الفعل، بل لا يكون ~~إلا فساد، فإن ما في العبد من القوة والإرادة محدث من جهة الله، كذلك كون ~~لذته ms1094 العاجلة غاية إنما كان لغاية أخرى من جهة الله، وذلك أنه كما كان ~~المحدث عن عدم فلا بد له من محدث، فهذه الغاية منقطعة يتعقبها العدم ~~والزوال، فلا بد له من غاية أخرى باقية PageV06P158 # دائمة، إذ كل ما يمنع أن تكون الحوادث مستغنية عن الفاعل يمنع أن تكون ~~المنقطعة مقصودة بالذات، فجعله نفسه الغاية مثل جعله نفسه السبب، فكما أنه ~~لا يجوز أن يكون معينه وممده لحصول قوته وقصده وعمله هو نفسه، بل من توكل ~~على [نفسه] خذل، كذلك لا يجوز أن يكون ما يطلبه ويقصده ويحبه ويعمله هو ~~نفسه، بل من عبد نفسه واتبع هواه ضل وخسر، وما أكثر ما يتخذ العبد إلهه ~~هواه، فيكون ما يهواه إلهه، وهو يهوى نفسه كثيرا، فيعبد نفسه. كما يستعين ~~بنفسه إذا أعجب بها. # وكذلك لو أدخل واسطة، مثل الذي يستعين بغيره، وهو الذي يعين ذلك الغير، ~~وذلك الغير يستعين به، فهو في الحقيقة إنما يستعين بنفسه. وكذلك إذا عمل ~~لذلك الغير، وهو يقصد أن يكون عمل ذلك له، فهو إنما عمل لنفسه. # ونبين ذلك، فإن هذا لم يتقدم بعد الكلام فيه، بل قد تكلمنا في بيان ~~الغاية الإلهية بكلام ثم كلام، ولم يتحقق ذلك على الوجه إلى الآن، فنقول في ~~هذا الكلام الثالث: # كما أن الشيء لا يوجد من معدوم، فلا يوجد لمعدوم، إذ إيجاد الشيء للعدم ~~كوجوده من العدم، فمن قصد الشيء لنفيه كان بمنزلة من لم يقصده، ولذا لا ~~يفعل هذا عاقل بل سفيه، لأنه إذا قصد وجوده ليعدمه كان عدمه هو المقصود ~~بالقصد الأول، والعدم (1) لا يصلح أن يكون مقصودا، كما لا يصلح أن يكون ~~فاعلا، لأنه لا شيء، وما ليس PageV06P159 # بشيء لا يكون سببا فاعليا ولا غاليا للموجود، فإن الموجود لا تكون أسبابه ~~عدمية، كيف والأسباب الفاعلية والغائية أكمل من المسبب المفعول لغيره. وهذا ~~ظاهر. # وأيضا ف ### | من كان قصده العدم لم يفعل شيئا، # بل يترك الأمر على ما هو عليه من العدم المستمر، فاما أن يقصد أن ms1095 يفعل ~~لأن يعدم فهذا إما سفيه جاهل قد تناقض في فعله، وإما مكار مخادع يظهر قصد ~~شيء وغرضه غيره. # وبالجملة فهذا القصد إما أن لا يكون، وإن ادعى كونه كان كاذبا، ~~كالمخادعين في الحيل المحرمة، وإن كان من الفقهاء من يظن أن القصود غير ~~معتبرة في ذلك، فهذا مخالف لما اقتضته الشريعة والفطرة من كون الأعمال لا ~~تكون إلا بالنيات، مع قول الشارع: "إنما الأعمال بالنيات" (1) ، وهي من ~~أجمع الكلمات وأجلها وأعظمها قدرا. # وإما أن يكون هذا القصد من جاهل سفيه يقصد النقيضين ولا يشعر تناقضهما، ~~فتناقض الادميين في المقاصد والنيات كتناقضهم في الاراء والاعتقادات، كثيرا ~~ما يريدون النقيضين في وقت أو وقتين. # وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، تبين بذلك دلالة القرآن على هذا ~~المجنى في مثل قوله: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن ~~الذين كفروا) (2) ، وفي قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36)) (3) ، ~~PageV06P160 # وقوله: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما ~~إلا بالحق) (1) ، وقوله: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ~~وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل (85)) (2) . # وإن كان قوله: (بالحق) أي بقوله الحق، فهذا إشارة إلى شيء من السبب ~~الفاعل، والآية أعم من هذا، فإن الباء باء السبب، والسبب يتناول الفاعل ~~والغاية، فإن الغاية سبب فاعل للسبب الفاعل، ولهذا يقال: جئت بسبب زيد، ~~وبسبب تخليص هذا المال، وبسبب دفع العدو، ونحو ذلك. # والحق يعم الحق المقصود والحق الموجود، فالحق المقصود هو الغاية، وهو ~~نقيض الباطل الذي في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"كل لهو يلهو به الرجل ~~فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وملاعبته امرأته، وتأديبه فرسه، فإنهن من الحق" ~~(3) . وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. # ويتبين أن النظر والاعتبار قد يعلم به المعاد، كما يعلم به مبدأ العباد، ~~كما علم بالنظر والاعتبار ابتداء خلق العباد، بل الفطرة تقضي بذلك كما تقضي ~~بالابتداء، وأن الذين أنكروا هذا من متكلمة أهل الإثبات، وقالوا لا نعلم ~~ذلك إلا بالسمع، فذلك كقولهم: لا نعلم ms1096 PageV06P161 # الأحكام إلا بالسمع، وهم في ذلك قصدوا مناقضة القدرية الذين أوجبوا ~~المعاد والجزاء بالعقل، كما أثبتوا الأحكام بالعقل. # والفلاسفة أيضا يثبتون شريعة عقلية بآرائهم، كما يثبتون معاذا عقليا ~~بارائهم، إذ الجزاء في المعاد مبنى على حسن الأفعال وقبحها، والأمر بها ~~والنهي عنها، زيادة على ما في ذلك من صلاح الدنيا. # ولهذا أوجب الفلاسفة النبوة لصلاح العباد في الدنيا بقانون العدل المشروع ~~لهم، ثم إنهم مع ذلك عموا- أو من عمي منهم- عما في الشريعة من مصالح ~~العباد، وإن كانوا يقولون: الشريعة قصدت ذلك أيضا للعامة. # لكن آفتهم من دعوى الاختصاص بما يتسلون به في الباطن من أخبار الرسل ~~وأوامرها، فهم في الحقيقة يوجبون اتباع الشرائع على الجمهور، ويدعون أنهم ~~أجل من ذلك، وهذا لما بهرهم من منفعة الشرائع وحاجة العباد إليها، ثم عموا ~~مع ذلك عن حاجتهم هم بخصوصهم إليها، ووجود منفعتهم بكمالها فيها، فظنوا ~~أنها لا تقوم بجميع مطالبهم وحاجاتهم ومصالحهم من العلم والعمل، فابتدعوا ~~وبدلوا وحرفوا واعتدوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. # وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، كما لا يصدر الوجود عن العدم، علم ~~أن ما يوجد في النفوس من لذات منصرفة لا يجوز أن تكون هي الغاية، كما أن ما ~~فيها من قصد محدث لا يجوز أن يكون هو الخالق، وذلك أن ما وجد ثم عدم من غير ~~أن يترتب على وجوده # PageV06P162 # مقصود آخر كان وجوده ثم عدمه بمنزلة عدم وجوده، إذ قد بينا أن العدم لا ~~يكون مقصودا، وعلم القاصد بأن هذا يعدم بعد وجوده يمنعه أن يكون هو المقصود ~~بالقصد الأول له، لأنه إذا علم أنه سيعدم، علم أنه حال عدمه لا يكون فيه ما ~~يقصده، بل يكون تلك الحال كحاله قبل وجوده، فلا يقصد أن يفعل ما يكون حاله ~~بعد وجوده وعدمه كحاله قبل وجوده، إذ هذا أيضا عبث وسفه، فكما أنه لا يقصد ~~بالوجود العدم، فإذا علم أن الوجود يتعقبه العدم لم يقصده، إذ كان حاله بعد ~~عدمه كحاله بعد ms1097 وجوده، فإنه يكون قد قصد ما لا يفيد قصده فائدة، وإنما يقصد ~~ذلك لأنه يحصل بوجوده مقصود يبقى بعد عدمه، فإذا كان المقصود يحصل بعد عدمه ~~أمكن أن يقصد وجوده وإن عدم، ويكون هذا الوجود مقصودا بالقصد الثاني، ~~والمقصود بالقصد الأول هو ما يبقى بعد العدم. # وهذا أمر بين يجده الإنسان ويعلمه بعقله وفطرته، ولهذا اتفق عقلاء الناس ~~على أن الأمور المنقضية المنصرفة لا تكون هي غاية مقصود العامل ومنتهى ~~مراده، لأنها إذا كانت منتهى قصده وإرادته كان حاله بعد عدمها كحاله قبل ~~وجودها، وإنما يقصدونها ليستعينوا بها على أمور غيرها. # ثم إن الزهاد منهم يذمون المحبوبات والملذوذات المنصرفة وإن لم تكن نهاية ~~المقصود، لما فيها من شغل النفوس بها عما تحتاج إليه، ومن ألم الترك وغير ~~ذلك، لكن الحال حال الكافرين بالمعاد، فإنه إذا لم يكن الموت ما يقصدونه ~~ويرجونه كحال الذين لا يرجون لقاء الله، ويظن أحدهم أن لن يحور، فهم يجعلون ~~المنصرفات نهاية مقصودهم، # PageV06P163 # وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف ~~إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة ~~إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16)) (1) ، وقال ~~تعالى: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك ~~مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30)) ~~(2) ، فهذا حال من لم يحقق الإيمان بالله واليوم الآخر، فأعرض عن ذكر ربه ~~والعمل لمعاده، كما قال تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع ~~هواه وكان أمره فرطا (28)) (3) ، فاتباع هواه هو اتباع متاع الحياة الدنيا. # وقد يقال هذا معنى الأول والاخر، فالأول ليس قبله شيء، إذ هو خالق كل ~~شيء، والاخر ليس بعده شى، أي إليه يصير العباد وتنتهي الحركات، كما قال: ~~(وأن إلى ربك المنتهى (42)) (4) ، أي الغاية، لا يراد بذلك أن الأشياء ~~تعدم، ويكون هو بعد وجودها، وإنما هو آخرها كما كان أولها، فمنه ابتدأت ~~واليه ms1098 تعود، كما يقال: ما بعد هذا غاية. # فالاخر قد يعنى به في الوجود، وقد يعنى به في الغايات المقصودة، فإذا عني ~~به أنت الآخر بعد كل موجود، لم يدل على الغاية، وإذا قيل: أنت الآخر أي ~~الغاية والمنتهى لكل موجود، فليس بعدك ما يوجد ويطلب، كان هذا المعنى أبلغ، ~~مع أن قوله "الآخر" يعم PageV06P164 # القسمين، كما أن قوله "الأول " ظاهر في كونه موجودا أولا، وقد تضمن أنت ~~الأول في المقصود، كما قال: (إياك نعبد) وغيرك إنما يقصد بالقصد الثاني لا ~~بالقصد الأول، لكن هذا المعنى ليس وحده ظاهر الحديث (1) ، لكن يقال: الحديث ~~أشار إليه مع المعنى الظاهر. # وأما قوله: "وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، فظهور الاخرية في كونه الغاية ~~المقصودة أظهر من ظهور الأولية في كونه أولا في القصد والإرادة. # ومما يبين هذا أن الأفعال إنما تتفاضل وتحمد وتذم ويؤمر بها وينهى عنها ~~باعتبار غاياتها وعواقبها المقصودة منها، فما كانت عاقبته وغايته أكمل كان ~~أعلى وأفضل عند الشارع. # ولهذا ذكرنا فيما تقدم من القواعد أنه أي العملين كان لله أطوع ولصاحبه ~~أنفع فهو أفضل، فإن منفعته لصاحبه تكون مصلحة وخيرا، وبامر الشارع به يكون ~~طاعة ودينا وقربة، وهما متلازمان، فالله تعالى إنما أمر العبد بما إذا فعله ~~العبد كان مصلحة له، ونهاه عما إذا فعله كان مضرة له، كما قال قتادة: إن ~~الله لم يأمر العباد بما أمرهم حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم بخلا به ~~عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. # ولهذا إذا وقع التنازع في كون العمل هو طاعة وقربة أم لا؟ إذ كان ~~PageV06P165 # المجتهدون قد تنازعوا فيه، فإنه يستدل على ذلك تارة بالأدلة السمعية ~~الدالة على كونه طاعة أو ليس كذلك، وتارة بالأدلة النظرية، وهو ما ترتب على ~~ذلك العمل من المصلحة والمفسدة، كما قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق ~~وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ~~(53)) (1) ، فأخبر أنه سيري الآيات الأفقية والنفسية التي بين ms1099 فيها أن ~~القرآن حق، وهو ما فيه من الخبر والأمر والوعد والوعيد. وذلك لما يحدثه ~~الله من نصر المؤمنين وجعل العاقبة لهم وعقوبة الكافرين، فجعل سبحانه ما ~~يشهد ويرى من عواقب الأعمال والكمال مما يتبين به الحق من الباطل. # ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) ،وهو شهادته بذلك في ~~كلامه المسموع. فهذه الأدلة السمعية الشرعية، ولهذا قال تعالى: (وكم أهلكنا ~~قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) إن في ذلك ~~لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (2) ، وقال: (أفلم ~~يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا ~~تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)) (3) ، وكما أنه يستدل ~~بالأدلة السمعية والبصرية على الفرق بين المؤمن والكافر، فيستدل بها أيضا ~~على البر والفاجر من المسلمين، وعلى المطيع والعاصي، وعلى المصيب في ~~اجتهاده PageV06P166 # والمخطىء، والفاضل والمفضول. # كما يستدل مع الأدلة السمعية الشرعية على فضيلة أبي بكر وعمر بما أراه ~~الله في الافاق وفي الأنفس، من صلاح أعمالهما وجميل سيرتهما، وفضل علمهما ~~وقصدهما وعملهما وقدرتهما، فإن ظهور رجحان ذلك على سيرة عثمان وعلي رضي ~~الله عنهم أجمعين بين واضح. # وكما يستدل على [أن] القتال في الفتنة الكبرى وغيرها لم يكن في نفس الأمر ~~مصلحة ولا مامورا به، وإن اجتهد فيه من اجتهد من المغفور لهم، فيستدل على ~~ذلك مع الأدلة الشرعية، وهو ما ورد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن القتال ~~في الفتنة، وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي ~~خير من الساعي، والساعي خير من الموضع (1) ، وأنه ليس في الشريعة أمر بذلك، ~~كما فيها أمر بقتال الخوارج ... (2) وأن من ظن أن قتال البغاة المأمور به ~~في القرآن يتناولها، فقد وضع النص في غير موضعه، فإن القرآن لم يأمر ~~بالقتال ابتداء، لكن إذا اقتتلت الطائفتان فإنه أمر بالإصلاح، ثم أمر عند ~~ذلك بقتال الباغية، فكان البغي في الاقتتال. وعلى ذلك ms1100 ما ورد من أن عمارا ~~تقتله الفئة الباغية (3) ، فأما أن يكون قبل القتال من بغى يقاتل ابتداء ~~فهذا لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا على إطلاقه خلاف PageV06P167 # الإجماع. # والفرق بين البغي بلا قتال والبغي في القتال واضح، وعلى هذا فإذا قيل: ~~كان مأمورا بالقتال بعد البغي فيه أمكن ذلك، ولكن تلك الحال عصت الطائفة ~~العراقية فنكلت عن القتال، فحال القتال لم يكن أمر، وحال الأمر لم تكن طاعة ~~الأمر، وذلك يستدل به على حكم الشارع في نحو ذلك، نعوذ بالله من الفتن ما ~~ظهر منها وما بطن. # والمقصود هنا أن عواقب الأفعال وغايتها تبين ما كان منها محمودا وأحمد، ~~فمن وفق لذلك في الابتداء فليحمد الله، وإلا فعليه بالتوبة والاستغفار، فإن ~~الله يقول: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ~~إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)) (1) ، وهذا يستقيم ~~لمن لم يتبع هواه، فقد تقدم بالبرهان العقلي المعلوم من الآيات المرئية في ~~الأنفس والافاق ما يوافق ما شهد الله به في كتابه، أن اتباع الهوى بغير هدى ~~من الله ضلال عما ينفع العبد، وسمي ضلالا لأن متبع هواه إنما يقصد لذته ~~بنيل ما يهواه، لكن ينبغي أن يعرف أن لذته ومنفعته ليست في نيل ما يهواه، ~~إلا أن يكون بهدى من الله، وهو ما أمر به أو أباحه، دون ما نهى عنه وحظره، ~~فإذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى. # والأهواء في الدين والآراء والاعتقادات والأذواق والعبادات أعظم من ~~الأهواء في الدنيا. وأكثر ما ذكر في القرآن من ذم اتباع PageV06P168 # الأهواء يتعلق بالقسم الأول، وإن كان أيضا يتناول القسم الثاني، كما قال ~~الله تعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ~~ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله ### | … # ) (1) . # وإذا تبين ذلك علم أن الإرادة لا بد أن يكون لها مقصود لذاته، خارج عن ~~اللذة المنقضية، إذ ms1101 اللذة المنقضية لا يجوز أن تكون مقصودة لذاتها، كما لا ~~يجوز أن يكون القصد الحادث حادثا بذاته، كما تقدم من أن ما يعقبه عدم لا ~~يجوز أن يحدث بذاته، ومن المعلوم أن كل مقصود فإما أن يقصد لنفسه أو لغيره، ~~وعلى التقديرين يلزم وجود الموجود بنفسه، وذلك أنه إذا قصد المقصود لغيره، ~~فذلك الغير إما أن يكون مقصودا لنفسه، فثبت المقصود لنفسه، وإما أن يكون ~~مقصودا لغيره، فإن كان الغير هو الأول لزم الدور، وهو أن يكون هذا مقصوذا ~~لأجل هذا، وهذا مقصودا لأجل هذا، وقد تقدم بيان استحالة أن يكون كل شيء من ~~الشيئين علة للآخر علة فاعلية أو غائية. وإن كان غير الأول لزم أن يكون ~~لذلك المقصود مقصود، ولذلك المقصود مقصود، ويلزم تسلسل العلل الغائية. ومن ~~المعلوم أن المقصود يتقدم في العلم والقصد، فيلزم أن يجتمع في علم الإنسان ~~وقصده مقصود لا يتناهى في آن واحد. # وأيضا فالمقصود يتعقب الفعل الذي هو السبب التام، ثم المقصود يتعقب ~~الآخر، كما أن السبب التام يتعقبه المسبب، فيلزم PageV06P169 # اجتماع معلولات لا تتناهى في ان واحد، وهذا محال كاستحالة اجتماع علل لا ~~تتناهى. # ثم إن ثبوت هذا فطري، كثبوت الواجب الوجود بنفسه. وإذا كان وجود المقصود ~~لنفسه- وهو المعبود- ضروريا (1) في وجود الحركات كلها، إذ جميع الحركات ~~إنما تصدر عن إرادة، فإنها ثلاثة: قسري، وطبعي، وإرادي. أما القسري فتابع ~~للقاسر، وأما الطبعي فإنما يتحرك إذا خرج عن مركزه، فهو فرع على غيره. وإذا ~~كان كل من الحركتين الطبعية والقسرية تابعا للغير وفرعا عليه ومستلزمة له، ~~فلا بد من الحركة الإرادية، فتكون هي الأصل. # وإذا ثبت أن جميع الحركات صادرة عن الإرادة، وثبت أنه لا بد في الإرادة ~~من مقصود معبود، وتبين أن ما يتعقبه عدم من اللذات الموجودات لا يجوز أن ~~يكون مقصودا لذاته، ثبت أن المقصود المعبود لذاته يجب أن يكون باقيا أبديا، ~~كما ثبت أن الموجود بنفسه يجب أن يكون قديما أزليا. كما قال الخليل عليه ~~السلام: (لا أحب ms1102 الأفلين) (2) . # ثم إنه كما امتنع أن يكون المخلوق ربا خالقا، يمتنع أن يكون إلها معبودا ~~من جهة كونه لا يستقل بجلب المنافع ودفع المضار، ومن جهة أنه في نفسه يمتنع ~~أن يكون هو الغاية المقصودة لغيره بالأفعال، وذلك لأنه هو في نفسه ليس ~~الغاية المقصودة لفاعله، ولا هو أيضا الغاية المقصودة لفعله، فإنه يمتنع أن ~~تكون ذاته هي الغاية المقصودة له. PageV06P170 # أما أولا فلأن ذاته ليست فعله ولا نتيجة فعله، فيمتنع أن تكون هي الغاية ~~المقصودة بفعله. # وأما ثانيا فلأنه يمتنع أن يكون الشيء الواحد علة معلولا، فاعلا مفعولا، ~~وقاصدا ومقصودا كما تقدم بيان ذلك. # وإذا امتنع أن تكون ذاته هي العلة الغائية لذاته ولفاعله، امتنع أن تكون ~~هي العلة الغائية لغيره بطريق الأولى، وهو وإن كان قد يفعل للذة التي تحصل ~~فتكون لذاته غاية له، كما يكون قصده سببا لفعله، فيمتنع أن تكون نفس لذته ~~غاية مقصودة لغيره. كما يمتنع أن يكون مجرد قصده قصدا لغيره، إذ الشهوة ~~واللذة القائمة بالشيء، وهي القصد والغاية، لا تكون بعينها شهوة لغيره ولذة ~~له وقصدا له وغاية، ولكن يكون له نظيرها، وذلك لا يوجب أن يكون هو المقصود. # ويمكن أيضا أن يكون في ذاته ما يكون مقصودا بقصد لأمر آخر، كما هو ~~الموجود في كل المحبوبات من المخلوقات، فإنها تحب لأمر آخر لا يصلح أن تكون ~~هي منتهى المراد المقصود، ومن أحب مخلوقا جعله غاية المطلوب المراد، فهذا ~~هو الفساد الذي بينته. # كما أن من جعله هو الرب المحدث، فهذا فساد أيضا، ولكن كما أنه يكون محدثا ~~بفاعل غيره خلقه، كذلك يكون مقصودا لمقصود آخر هو المعبود، كما يحب ~~الأنبياء أو المؤمنون لله، وكما يطاعون لطاعة الله. # وما تحبه النفوس من المطاعم والمشارب والمناكح فانه مقصود لغيره، وهو ~~صلاح الأجساد، ومثل الذات التي يستعان بها على # PageV06P171 # المقصود لذاته. # ولهذا كان الإنسان إذا أحسن إلى غيره، فإما أن يقصد به معاوضته، فيكون ~~العوض هو المقصود الأول، وإما أن يقصد به غير ذلك، إما ms1103 طلب عوض من غير ذلك ~~الشخص، وإما لما في قلبه من الرحمة والرقة، فيقصد بذلك تسكين قلبه ولذة ~~نفسه بالإحسان إليه، وزوال الألم عن نفسه، كما يقصد ما هو نحو ذلك، وإما أن ~~يقصد به التقرب إلى الله. # والإنسان في لذته مثل ما هو في إرادته وشهوته، فإن هذا سبب، وهذا غاية، ~~لكن تقدم أن اللذات المنصرمة لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته، فكل ما ~~يقصده الإنسان بالإحسان إلى غيره هو أمر منصرم إلا إرادة وجه الله، فإن لم ~~يقصد ذلك أو يقصد ما يستعين به على ذلك حتى يكون مقصودا لذلك، كان من ~~الأعمال الباطلة الفاسدة، كما تقدم. # ومما يبين أن المخلوق لا يكون مقصودا بالقصد الأول لذاته لا لنفسه ولا ~~لغيره ولا لفاعله، كما لا يكون فاعلا مستقلا لا لنفسه ولا لغيره ولا ~~لمعبوده الذي هو مقصوده= أن نفسه أقرب إلى نفسه من غيره إلى نفسه، فلو كان ~~يستحق أن يكون محبوبا لذاته مرادا لذاته لكانت ذاته أحق بأن تكون هي المحبة ~~المريدة له، لأنها أقرب وأعلم، فلما تبرهن امتناع ذلك فيه كان في غيره أعظم ~~امتناعا. # وقد تبين لنا أيضا أنه كما أن الحادث المنصرم لا يجوز أن يكون # PageV06P172 # مطلوبا لذاته، فالحادث مطلقا لا يجوز أن يكون هو العلة الغائية، وإن كان ~~يحدث ما يتعلق بها مما هو مقصود الفاعل، بل العلة الغائية يجب أن تكون ~~متقدمة، وإن كان ما يقصد بالفعل لها يكون بعد الفعل، لكن لا بد من مقصود ~~مراد متقدم بالذات على الفعل، وذلك لأن العلة الغائية هي علة ماهيتها ~~وحقيقتها لفاعلية العلة الفاعلية، فإنما صار الفعل فاعلا لأجلها، والعلة ~~يجب تقديمها على المفعول. # فإن قيل: الفاعل فعلها ويتصورها، فهي متقدمة في ذلك على الفعل، وإن كانت ~~في الوجود تتأخر عن الفعل. # قيل: هذا يكون في المقصود من الغاية لا في ذاتها، وهذا كما أن الإنسان ~~يحب المحبوب مثلا، فيقصد الاتصال به، كما يحب المرأة فيريد مباشرتها، ~~فالذات المحبوبة هي الغاية متقدمة على ms1104 الفعل، وأما المقصود منها كلذة ~~المباشرة فهي تتأخر عن الفعل، وليس إذا كانت اللذة الحادثة للفاعل حادثة ~~بعد فعله يجب أن تكون نفس الغاية حادثة، كما أن فعل العلة الفاعلية إذا كان ~~حادثا لم يجب أن تكون هي حادثة. # يبين هذا أن العلة الغائية إذا كانت سابقة في العلم والتصوير والقصد ~~والإرادة، فلا بد أن يكون لها حقيقة يجب أن تراد لأجلها، إذ العدم المحض لا ~~يتصور هذا فيه، ولا يجوز أن يكون إنما صارت مطلوبة لإرادة الفاعل، لأن هذا ~~يستلزم الدور، فإنه إنما أرادها لأنها تستحق أن تراد، فعلم أنه لا بد من ~~ثبوت حقيقة موجودة قبل الفعل تكون هي التي يفعل الفعل لأجلها، وتكون مرادة ~~لذاتها، واللذة تحصل عقيب الفعل. # PageV06P173 # فقد تبين أن من عبد المخلوقات عبادة العبد لربه الذي يسأله ويرغب إليه في ~~تحصيل ماربه، أو عبادته لإلهه الذي هو مع ذلك يعبده لذاته ويحبه لذاته، كان ~~ذلك موجبا لفساده. والمعبود إذا رضي أيضا بذلك لزم أيضا فساده، بمنزلة من ~~جعل المعدوم مقصودا لذاته، فإن الحركة الإرادية تطلب مرادا يكون به صلاح ~~المريد ونفعه، فإذا لم يكن فيه لزم الفساد، وإن وجد في ذلك لذة فإنه ~~يستعقبه ألما وضررا، بمنزلة من أكل ما يظنه عسلا وكان فيه حلاوة، وكان سما، ~~فإنه يهلكه ويقتله. # فقد تبين بالقياس العقلي امتناع أن يكون معبود إلا الله، كما امتنع أن ~~يكون رب إلا الله، وهذا قصد بقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ~~(1) قصد نفي إله سواه. ولهذا قيل: (لفسدتا) وهذا يتضمن نفي رب غيره. # والمتكلمون قصروا في معنى الاية من وجهين: # أحدهما: من جهة ظنهم أنه إنما معناها نفي تعدد الأرباب فقط، كما أقاموا ~~هم الدليل على ذلك. # والثاني: ظنهم أن دليل ذلك هو ما ذكروه من التمانع، وليس كذلك، فإن ~~التمانع يوجب عدم الفعل، والتقدير أن الفعل قد وجد، ثم الاشتراك في الفعل ~~يوجب العجز فيهما، والقرآن إنما أخبر بفسادهما، لم يخبر بعدمهما، والفساد ~~يكون عن الإرادات الفاسدة ms1105، PageV06P174 # وهو ضد الصلاح الذي يكون عن الإرادات الصالحة، والله قد أمر بالصلاح ونهى ~~عن الفساد في غير آية. # قال الله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ~~والله لا يحب الفساد (205)) (1) ، وقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد ~~فيها ويسفك الدماء) (2) ، وقال تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ~~أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) (3) ، ~~وقال: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ~~أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4)) (4) ، وقال: (وقضينا إلى ~~بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) (5) ،وقال: (وإذا قيل لهم لا ~~تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا ~~يشعرون) (6) ، وقال (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ~~أولئك هم الخاسرون (27)) (7) ، وقال: (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا ~~يحب المفسدين (77)) (8) . PageV06P175 # فسبب الفساد هو معصية الله، كما أن سبب الصلاح هو طاعة الله، ورأس الفساد ~~والمعصية هو أن تعبد غير الله، وذلك هو الفساد الناشىء من أن يكون فيهما ~~آلهة إلا الله، فإنه كما تكون حركات المتحركين صادرة عن الارادة والمحبة ~~صارت بالقصد الأول لعبادة تلك الأمور التي لا تصلح لأن تكون هي المقصودة، ~~بمنزلة من لا يتقوت إلا بالزجاج، ولا يشرب إلا الماء الزعاق، أو لا يدفع ~~البرد في الأرض الباردة إلا بالثياب الرقاق، أو لا يدفع عدوه عنة من القتال ~~إلا بالأيدي، ونحو ذلك من الأفعال التي يقصد بها جلب منفعة يحتاج إليها، ~~ودفع مضرة لا تكون محصلة لذلك، فهذا يوجب الفساد. وقصد غير الله بالعبادة ~~يتضمن هذا كله وأضعافه، ولهذا قيل: (إن الشرك لظلم عظيم (13)) (1) . # فصل # وإذا كان قد تبين أن الفعل الواحد ألا، يكون من فاعلين مستقلين، ولا يكون ~~مقدور واحد من قادرين على ذلك المقدور حال الاشتراك، فكذلك الفعل الواحد ~~والقصد الواحد لا يكون لمقصودين مستقلين، بل كما تبين أن الحكم الواحد ~~بالعين لا ms1106 يكون لعلتين مستقلتين، فسواء في ذلك العلة الفاعلية والعلة ~~الغائية، فمتى قصد بالفعل اثنين لم يكن الفعل لا لهذا ولا لهذا. # وهذا هو الإشراك الذي تبرأ الله منه، كما في الحديث PageV06P176 # الصحيح (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول ~~الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا ~~منه بريء، وهو كله للذي أشرك " أي أشركه، فإنه سبحانه لا شريك له، فكما لا ~~يجوز أن يكون معه شريك في فعله لا يصلح أن يجعل له شريك في قصده وعبادته، ~~قال الله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في ~~السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22)) (2) ~~، وقال تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل ~~يستويان مثلا) (3) ، وهذا كثير في القرآن، بل هو المقصود الأعظم بتنزيل ~~القرآن. # والمقصود هنا أن الفعل الواحد كما لا يتصور أن يكون من اثنين لا يتصور أن ~~يكون لاثنين، فمن عمل لله ولغيره فما عبد الله ولا عمل له عملا، كما أن ما ~~تعاون عليه اثنان فما فعله أحدهما، ولا هو ربه، فكما أنه لو قدر أن معه ~~شريكا في الفعل لم يكن هو رب ذلك المفعول ومليكه، فكذلك إذا جعل له شريك في ~~القصد والعمل، لم يكن هو إله ذلك العابد ولا معبوده، فلا يتقبل ذلك العمل، ~~وإنما يتقبل ما كان خالصا لوجهه. # يوضح هذا أنه هو الرب المليك الخالق، فلو قدر في الذهن أن معه شريكا في ~~الفعل امتنع أن يكون هو ربه ومليكه وخالقه، واذا امتنع PageV06P177 # ذلك بطل وجود الفعل، لأنه قد علم أن غيره لم يفعل شيئا، فإذا كان على هذا ~~التقدير هو أيضا ليس برب فاعل لم يكن للفعل وجود، كذلك إذا كان هو الإله ~~المعبود المقصود، فإذا جعل معه من يشرك به، وعبادة ذلك فاسدة باطلة، لم يصر ~~هو معبودا بذلك العمل، وما عمل ms1107 لذلك الغير باطل فاسد، فلا يكون الفعل عبادة ~~ولا عملا صالحا، فلا يتقبل. ولا يمكن أن يقال: لم لا أخذ نصيبه منه؟ لأنه ~~مع تقدير الاشراك يمتنع أن يكون له منه شيء، كما أنه بتقدير الإشراك في ~~الربوبية يمتنع أن يصدر عنه شيء، فإن الغير لا وجود له، وهو لم يستقل ~~بالفعل، كذلك هنا هو لم يستقل بالقصد، والغير لا ينفع قصده. ولهذا نظائر ~~كثيرة في الشرعيات والحسيات إذا خلط بالنافع الضار أفسده، كما يخلط الماء ~~بالخمر، بخلاف الشركة الصحيحة، كاشتراك الناس فيما يصلح اشتراكهم فيه، فإن ~~هذا لا يضر. # يبين هذا أنه لو سأل الله شيئا فقال: اللهم افعل كذا أنت وغيرك، أو دعا ~~الله وغيره فقال: افعلا كذا= لكان هذا طلبا ممتنعا (1) ، فإن غيره لا ~~يشركه، وهو على هذا التقدير لا يكون فاعلا له، لأن تقدير وجود الشريك يمنع ~~أن يكون هو أيضا فاعلا، فإذا كان يمتنع هذا في الدعاء والسؤال، فكذلك يمتنع ~~في العبادة والعمل أن يكون له ولغيره. وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~بسعد وهو يدعو ويشير بإصبعين، فقال: "أحد أحد" (2) . PageV06P178 # ولهذا سن الإشارة بالسباحة في الدعاء. # وكذلك إذا كان قد تبين أن الشيئين لا يكون كل منهما للاخر علة فاعلية، ~~فكذلك ألا يكون، كل منهما للاخر علة غائية، كما تقدم بيانه. وكذلك الشيء ~~الواحد لا يكون علة لنفسه، ولا معلولا لنفسه، فلا يكون لنفسه علة فاعلية ~~ولا علة غائية، فإن الأول يقتضي تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه، فيلزم أن ~~يكون موجودا معدوما إذا قدر فاعلا، وإذا قدر مفعولا، فيلزم اجتماع النقيضين ~~مرتين. والعلة الغائية يجب تأخرها عن المعلول، فإذا كانت نفسه هي معلول ~~نفسه لزم تاخرها وتقدمها، فيلزم أن يكون متاخرا عن وجود نفسه ومتقدما على ~~وجود نفسه، فيلزم أيضا اجتماع النقيضين مرتين. # وأيضا فالعلة الغائية متقدمة في التصور والقصد، فيلزم أن يكون تصور ~~الفاعل وقصده له قبل ما يكون متصورا مقصودا له، ويكون تصوره وقصده له بعد ~~تصوره وقصده، لأنه يتصور ms1108 أولا ويقصد الغاية، ثم يتصور المفعول ويقصده، فإذا ~~كان هو المفعول وهو الغاية، فيلزم اجتماع النقيضين أيضا في التصور والقصد ~~مرتين، وقد تقدم هذا. # وإنما المقصود هنا شيء آخر، وهو أنه كما يمتنع أن يكون الشيء علة لنفسه ~~معلولا له، أو أن يكون الشيئان كذلك، فيمتنع أيضا أن يكون جزء علة أو شرط ~~علة، فإن جزء العلة وشرطها يجب أيضا أن يتقدم المعلول، كما يجب تقدم ذات ~~العلة، فيلزم ما تقدم من الدور PageV06P179 # الممتنع، لكن لا يمتنع أن يكون كل منهما شرطا للاخر، وتكون العلة أمرا ~~غيرهما، فيجوز أن يكون وجود أحد الشيئين مشروطا بالاخر، وهو الدور المعي. ~~ولا يجوز أن يكون شرطا في علته لا الفاعلة ولا الغائية، وهو الدور القبلي. # فالفاعلان المتعاونان يجوز أن يكون فعل أكل، واحد لما يفعله مشروطا ~~بالاخر، بحيث يكون لا يحصل إلا باجتماع الفعلين، كالأمور التي يعجز عنها ~~الواحد في الادميين، وإنما يقدر عليها عدد، ولكن لا يجوز أن يكون أحد ~~المتعاونين مستفيدا لا يحتاج فيه إليه من الآخر المحتاج إلى مشاركته، فإذا ~~كان كل منهما محتاجا إلى معاونة الآخر لم يجز أن يكون الآخر هو الفاعل لما ~~يحتاج إليه، لاستلزامه أن يكون كل منهما معلولا لذلك، فإنه إذا قدر أن ~~أحدهما محتاج إلى شيء من المعونة، وأنه يستعين بالاخر على حصولها، فلو كان ~~ذلك الآخر يستفيدها من الأول لم يكن هو قادرا عليها، فلا يعين، ولكان الأول ~~قادرا عليها فلا يحتاج إليها، ولا يدخل في هذا ما يعين به أحدهما الآخر من ~~الأسباب، مثل الالات ونحوها، فذاك ليس من هذا. # وكذلك ما يحصل لأحدهما معاونة الآخر من القوة، فتلك القوة تأثير الاجتماع ~~والتعاون، ليس أحدهما مستقلا بها، ولكن هو من الفعل المشترك، لكل منهما، أو ~~في بعضه. # وكذلك كما لا يصلح أن يكون كل منهما الغاية المقصودة، فلا يكون بعض ~~الغاية المقصودة، لما تقدم في ذلك من الدور الممتنع أربع مرات. # PageV06P180 # وإذا قدر فاعلان متعاوضان أو متعاونان كل منهما يفعل ما يحبه ms1109 الآخر ~~ويرضاه، فلا بد أن يكون مقصود كل منهما غاية غير محبة الآخر ورضاه، فإنه ~~إذا كان نهاية مقصود كل منهما غاية محبة الآخر ورضاه ولذته ونحو ذلك، لزم ~~أن تكون هذه علة مقصودة لهذه ومعلولة لها، وهذه مقصودة لهذه ومعلولة لها، ~~ويمتنع كون كل من الشيئين معلولا للاخر، ولو كان كذلك لزم أن لا تحصل واحدة ~~من المحبتين واللذتين، وإنما يكون كل منهما مع قصده ومحبته الآخر ولذته له ~~هو مقصود آخر، هو منتهى قصده، يكون هو محبوبه وفيه لذته، كالزوجين ~~المتناكحين. # وإن فرض أن كلا منهما يقصد إنالته الآخر لذته، فهو لا يقصد ذلك إلا لعوض، ~~إما أن يقصد بذلك الأجر، أو أن يقصد نيل لذته بهذا الطريق، فيجعل ما ينيله ~~لذاك من اللذة وسيلة إلى ما يناله هو، كما هو الواقع في جميع المعاوضات ~~والمشاركات التي بني عليها صلاح العالم، فإن أحد المتعاوضين والمتشاركين ~~مقصوده بالقصد الأول ما يحصل له هو من المحبوب المطلوب الذي يلتذ هو ~~بوجوده، ولكن يقصد ما هو للاخر كذلك من باب الوسيلة والطريق، وبهذا ~~يتعاوضان ويتشاركان، وكل منهما محتاج إلى الآخر لا حاجة العلل إلى المعلول، ~~لكن حاجة الشروط إلى المشروطات، والعلة الفاعلة والغائية لكل منهما غير ~~الآخر. فهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وهذا له قوة وشعور وقصد وله ~~مقصود، وليس ما لهذا من هذين مستفادا من هذا، ولا بالعكس، ولكن لا يحصل ~~مقصود كل منهما إلا باجتماع هذين القصدين والعملين. # PageV06P181 # واعلم أنه كما يعقل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب، ~~والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يعقل امتناع الدور فيهما ~~من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله ~~سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما ~~يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة ... (1) فيمتنع أن يكون كل من ~~الشيئين سببا للاخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمة وغاية للاخر. ولا ~~يمتنع أن يكونا جميعا عن سبب ms1110 واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعا لحكمة واحدة ~~غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطا للاخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك ~~السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها. # فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء، ~~وأن جميع المخلوقات غايته له، مسبحة بحمده، قانتة له، وأن الحركات الموجودة ~~في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دل القرآن على ذلك في ~~غير موضع، وهذا شيء اخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من ~~معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى ~~يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها ~~بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقا، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما ~~أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت PageV06P182 # عليه البراهين العقلية، كالأمثال المضروبة التي بينها الله تعالى في ~~كتابه، وعرف ذلك أهل العلم والإيمان الذين قال الله فيهم: (ويرى الذين ~~أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) (1) ، وقال: (أفمن يعلم أنما ~~أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) (2) ، وقال: (وتلك الأمثال نضربها ~~للناس وما يعقلها إلا العالمون (43)) (3) . # فإن قيل: فقد ذكرتم أن الموجودين كما لا يكون أحدهما فاعلا للاخر ولا ~~سببا له، فلا يكون كل منهما معلولا للآخر ومقصودا له هو منتهى إرادته، ولا ~~يكون كل منهما هو المقصود بالاخر من فاعل واحد، وأنتم تعلمون أن التحاب من ~~الجانبين موجود في نفوس الحيوان، كما أن الزوجين الذكر والأنثى من الناس ~~والبهائم يحب كل واحد منهما الاخر، كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم ~~من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) (4) ، بل كل من ~~الزوجين قد يكون الآخر محبوبا له معشوقا لذاته، وهو غاية مقصودة، لا يحبه ~~ويقصده لشيء آخر غير نفسه والاتصال به، ويوجد مثل ذلك في أنواع التحاب ~~والتعاشق الذي هو محرم ms1111 ومكروه في العقل والدين، إذ المقصود هنا ذكر الواقع. # قيل: المحب والعاشق لزوجه لا يجوز أن يحبه ويعشقه لذاته PageV06P183 # ونفسه، فإن الله إنما جعل المودة بين الزوجين لتتم مصلحتهما من المعاشرة ~~والمناكحة، فيحصل لكل واحد منهما من اللذة ما هو موجود في نفسه، وما يمكن ~~تحصيله من غير هذا المحل، كما يحصل للاكل مطلوبه في الطعام المعين والشراب ~~المعين، فإرادته إنما هو لما يحصل في نفسه من اللذة، سواء حصل بهذا المعين ~~أو بغيره. # ثم هذه اللذة لا ريب أن الحيوان يقصدها لوجود اللذة، لأن كل ما يتنعم به ~~الحي يقصد وجود اللذة به، إذ اللذة غاية مطلوب الحي، ومن حكمة هذا ... (1) ~~أراها الله سبحانه بخلق هذا وجود التناسل الذي به يدوم نسل الحيوان، كما أن ~~من حكمة الأكل أن يستخلف بدن الحيوان بدل ما تحلل منه، إذ كانت الحرارة ~~تحلل الرطوبة دائما، فإن لم يحدث بدل المتحلل وإلا فسد بدن الحيوان، فهذه ~~الحكمة موجودة في الدنيا. # ومن هنا جهل من جهل من الكفار والمنافقين من المتفلسفة الصابئة، ومن ~~اليهود والنصارى، الذين أنكروا وجود الأكل والشرب والنكاح في الجنة، مع أن ~~اليهود والنصارى يثبتون معاد الأبدان، وأما أولئك المتفلسفة فإنهم منافقون ~~لأهل الملل مع دعواهم التحقيق، يقولون: إن الذي أخبرت به الرسل من أنواع ~~هذا النعيم إنما هو أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني، وهذه من شبههم، ~~وهو أن الأكل والشرب والنكاح علتها الغائية وجود النسل وثبات الأبدان، وهذا ~~PageV06P184 # مفقود في الأخرة، وهذا جهل منهم، وهم يقولون: إن هذه اللذات البدنية ليست ~~لذات حقيقية، وإنما هي مجرد دفع آلام، فإن الاكل يدفع ألم الجوع، والنكاح ~~يدفع ألم الشبق، ولا ريب أن هذه مكابرة لما هو من أظهر الحسيات الذوقيات ~~الموجودات، فإن إحساس الحيوان باللذة من أعظم الإحساس، وإحساسه لذة الأكل ~~والنكاح أمر هو أظهر عند الحيوان من أكثر الأشياء، فقول المتحذلق: إن هذه ~~ليست لذة وإنما هي دفع الام، كلام فاسد، فإنه لا ريب أن هنا لذة، وهنا فقد ~~ألم، فالأمران ms1112 موجودان. # وإن قال: لولا ذاك الألم لم تحصل هذه اللذة. # فإن أراد أن الموجود في الدنيا كذلك، فهذا صحيح، لكن كون هذه اللذة في ~~الدنيا إنما توجد بعد ألم، لا يمنع وجودها في دار الحيوان التي لا ألم فيها ~~بلا ألم، فإن الألم سبب هذه اللذة في الدنيا، وكمال البدن والنسل هو العلة ~~الغائية لهذه اللذة، ولكن كونها في الدنيا لا توجد إلا بسبب قبلها هو ~~الألم، وحكمة بعدها هي النسل وثبات الجسد، لا يمنع أن يوجد في الآخرة بدون ~~هذا السبب ودون هذه الحكمة، كما أن كل موجودات الدار الاخرة ومن يوجد فيها ~~بدون ما اقترن بها في الدنيا من أسبابها وغاياتها، وعدم وجود الشيء شيء، ~~والعلم بامتناعه شيء اخر، ولا ريب أن الموعود به في الجنة ليست حقائقه ~~وغاياته وأسبابه مماثلا لما هو في الدنيا، كما قال ابن عباس: "ليس في ~~الدنيا شيء مما في الاخرة إلا الأسماء" (1) . وإنما أخبرنا منها ~~PageV06P185 # بما له في الدنيا ما يشبهه من بعض الوجوه، ثم قيل: (فلا تعلم نفس ما أخفي ~~لهم من قرة أعين) (1) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"يقول الله: ~~أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". ~~(2) # ولهذا أخبر الله بوجود هذا النعيم واللذات في الجنة مع نفيه لما يقترن به ~~في الدنيا من سبب وغاية، كما نفى عن الأشربة واللباس وغير ذلك آفاته، إذ هي ~~دار نعيم لا آفة فيها بحال، فالتحاب بين الزوجين ونحوهما في الدنيا وإن ~~أعقب لذة مطلوبة لنفسها، فليس أحدهما محبا للآخر لذاته، بل لقضاء الوطر ~~منه، كما تقدم، وهو نوع من المعاوضة كالتعاوض بالأموال، ولهذا كان عقد ~~النكاح يوجب المعاوضة من الطرفين، كما قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن ~~بالمعروف وللرجال عليهن درجة) (3) # فإن قيل: فالعشق الموجود، وهو محبة المعشوق لنفسه، وكما قد يتحاب الشخصان ~~لذواتهما لا لأجل نكاح وتناسل، فيحب كل منهما الآخر لنفسه. # قيل: هذا قصد فاسد، وحب فاسد، وإرادة فاسدة، فإن كل ms1113 من أحب مخلوقا لنفسه ~~لا لأمر آخر وراء ذلك، فحبه فاسد، وقصده PageV06P186 # فاسد، ونحن إنما ذكرنا امتناع الدور الغائي لبيان فساد هذا ونحوه، ~~وامتناع أن يكون لله ند يحب كحب الله الذي تجب محبته لذاته، ونحن إذا قلنا: ~~إن الدور في العلل الغائية ممتنع، كان المراد به أنه يمتنع أن يكون كل ~~منهما مرادا مطلوبا للاخر محبوبا للاخر بإرادة صحيحة، وقصد صحيح، ومحبة ~~صحيحة، فأما الفاسد من الإرادة فهو نظير من يعتقد جواز كون كل من الشيئين ~~علة للاخر، وقد منعنا أن يكون علة في نفس الأمر أو فاعلا له في نفس الأمر، ~~وإن كان من الناس من يعتقد أنه فاعل له ورب له، لكن هذا اعتقاد فاسد، فكذلك ~~من ظن في شيء غير الله أنه مقصود لنفسه، معبود لنفسه، محبوب لنفسه، حتى ~~أحبه وعبده وعشقه، فهذا أيضا جاهل في ذلك ضال فيه، كما أن الأول جاهل في ~~ظنه أن غير الله رب. ولهذا لما تكلم الناس في العشق [هل] هو لفساد الإدراك، ~~وهو تخيل المعشوق على خلاف ما هو به، أو لفساد في الإرادة، وهو المحبة ~~المفرطة الزائدة على الحق= كان الصواب أن العشق يتناول النوعين، وهو فساد ~~في الإدراك والتصور، وفساد في الإرادة والقصد، ولهذا كان سكرا وجنونا ونحو ~~ذلك مما يتضمن فساد الإدراك والإرادة، حتى قيل (1) : # قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين # ولهذا سماه الله مرضا في قوله: (فيطمع الذي في قلبه مرض) (2) ، ولهذا ~~إنما يوجد كثيرا في أهل الشرك الذين ليس في قلوبهم ما تسكن PageV06P187 # إليه من إخلاص العبادة لله والطمأنينة بذكره، كما ذكر الله ذلك في كتابه ~~عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي كن مشركات، وأخبر عن نوع هؤلاء بالسكر ~~والجهل كما في قوله تعالى: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) (1) . # وبهذا الفرقان يتبين أن القول الحق أنه لا إله إلا الله، مع كون ~~المخلوقات فيها ما اتخذ آلهة من دون الله، فإن الإله يجب أن يكون معبودا، ~~وهو المعبود لذاته الذي يحب ms1114 غاية الحب بغاية الذل، وهذا لا يصلح إلا لله، ~~ومن عبد غيره واتخذه إلها فهو لفساد عمله وقصده، حيثما اتخذ إلها فأحبه ~~لذاته، وبذل له غاية الحب بغاية الذل لجهله وضلاله، ولهذا سموا جاهلية إذ ~~كان أصل قصدهم جهلا لا علما. # وكون الشيء مقصودا ومحبوبا ومعبودا ولذيذا ونحو ذلك لا يثبت له في ~~الحقيقة بحال من فسد إدراكه كالمطعومات، فإنه إذا قيل في الحلاوة واللحم ~~ونحو ذلك: إنه طيب ولذيذ ومحبوب ونافع ونحو ذلك، كان ذلك حقا، لأن الأبدان ~~الصحيحة تجده كذلك، ولا يندفع ذلك ببغض المريض ووجده إياه مرا لما خالطه من ~~المرة الصفراء. # وكذلك من تلذذ بأكل الطين وغيره من الخبائث لفساد مزاجه، لم يمنع ذلك أن ~~يقال: هذا غير طيب ولا لذيذ ولا مطلوب ولا مراد ولا محبوب، ولأجل هذا إنما ~~حمد من ذلك ما كان لله. # وجاء في الأحاديث من مدح المتحابين لله والتحاب في الله ما هو ~~PageV06P188 # كثير مشهور، كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه ~~تعالى: "حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي ~~للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتباذلين في " (1) . # وكقوله: "إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء ~~والشهداء بقربهم من الله "، فقيل: من هم يا رسول الله؟ صفهم لنا، جلهم لنا، ~~لعلنا نحبهم! قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا ~~أرحام تواصلوها، هم نور، ووجوههم نور، على كراسي من نور، لا يحزنون إذا حزن ~~الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس "، ثم قرأ قوله: (ألا إن أولياء الله لا ~~خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (2) . # وكقوله في صحيح مسلم (3) فيما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: "إن عبدا زار أخا له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكا، قال: ~~أين تريد؟ قال: أزور أخا لي في الله، قال: هل لك عنده من نعمة تربها؟ قال: ~~لا، قال: فهل بينك وبينه رحم؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، فقال: إني رسول ms1115 ~~الله إليك أن الله قد أحبك ". # وفي الترمذي (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب لله، ~~وأبغض لله، PageV06P189 # وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ". # وفي الحديث في الترمذي (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوثق عرى ~~الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله ". # وفي الصحيحين (2) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث ~~من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ~~وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه ~~الله منه، كما يكره أن يلقى في النار". # فإن هذه المحبة أصلها محبة الله، والمحبوب لغيره ليس محبوبا لذاته، وإنما ~~هو محبوب لذلك الغير، فمن أحب شيئا لله فإنما أحب الله، وحبه لذلك الشيء ~~تبع لحبه لله، لا أنه محبوب لذاته. # لكن قد يظن كثير من الناس في أشياء مما يهواها أنه يحبها لله، وإنما يكون ~~محبا لما يهواه، ولهذا كان أعظم ما تجب محبته من المخلوقات هو الرسول - صلى ~~الله عليه وسلم -، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه ~~(3) عن أنس: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ~~PageV06P190 # ولده ووالده والناس أجمعين ". # وفي صحيح البخاري (1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول ~~الله! فلأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا يا عمر، حتى أكون ~~أحب إليك من نفسك "، فقال: فلأنت أحب إلي من نفسي، قال: "الان يا عمر". # ومحبته رضي الله عنه إنما هي تابعة لمحبة الله، كما قال تعالى: (قل إن ~~كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة ~~تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله ~~فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) (2) . # وأما محبة الله فهي الأصل، فإنه يجب أن يحب لذاته، وليس هذا لغيره، وهي ~~أصل التوحيد العملي، كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله ms1116 أندادا ~~يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) (3) ، وقال: (فسوف يأتي الله ~~بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ~~الله ولا يخافون لومة لائم) (4) . # ونحن بينا بما ذكرناه من البرهان امتناع الدور، وأنه لا يجوز أن يكون كل ~~من الشيئين سببا للاخر وعلة له ولا حكمة له ومعلولا له، PageV06P191 # سواء كان هذا من فاعلين أو من فاعل واحد. # فأما كون بعض بني آدم قد يجعلون ما ليس سببا سببا، وما ليس مقصودا ~~مقصودا، فهذا هو الشرك الذي ضل به بنو آدم من الأولين والاخرين، حيث جعلوا ~~بعض المخلوقات علة تامة لبعض، إما فاعلا ربا، وإما إلها معبودا. وهذا هو ~~الباطل، أعني هذا باطل في نفسه، والجاعلون لذلك مفسدون في اعتقادهم ~~وإرادتهم، فإن من قصد وأراد بالقصد التام ما لا يصلح أن يقصد ويراد فإن ~~عمله فاسد، كمن أحب الأشياء التي تضره وتفسده دون الأشياء التي تصلحه ~~وتنفعه، فإنه وإن أحبها وقصدها وعمل لها فهذا هو الفساد. وإذا ضرب مثل ذلك ~~بمحب العسل المسموم وآكله، كان في هذا المثل بعض الشبه، وإلا فالأمر فوق ~~ذلك. ولو قيل: هو مثل محبة الفراش للنار التي تحرقه، كان الأمر فوق ذلك. # ونحن في هذا الموضع إنما أصل كلامنا في الدور، وهو أنه يمتنع أن يكون كل ~~من الشيئين سببا للاخر أو مقصودا له، ولا يمتنع أن يكون الشيئان متعاونين ~~على مقصودهما، فيكونان مشتركين فيما هو سبب لهما وفيما هو مقصود لهما، ثم ~~أحدهما يقصد الآخر لذلك، كمحبة الشيء لغيره، كما أن أحدهما يعين الآخر، ~~فهذا تعاون وتشارك في المحبوب وفي سببه. # وبهذا البرهان يتبين أنه لا بد في الوجود من إله يجب أن يكون هو منتهى ~~قصد القاصدين، وعبادة العابدين، وإرادة المريدين، ومحبة المحبين، كما أنه ~~منتهى سؤال السائلين، وطلب الطالبين، لأنه الخالق # PageV06P192 # القديم الواجب بنفسه، الذي هو فاعل للممكنات والمحدثات وربها وخالقها. إذ ~~الوجود فيه أشياء محدثة، ولا بد لها من محدث، وفيه حركات موجودة، ولا بد ms1117 ~~لها من غاية، فإن الحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قسرية، لأنها إن كان ~~المتحرك شاعرا فهي الإرادية، وإن لم يكن شاعرا، فإن كانت بلا شعور على خلاف ~~طبعها فهي القسرية، كحركة الحجر إلى فوق، وإلا فهي الطبعية، كحركته إلى ~~أسفل، لكن القسرية تابعة للقاسر. وأما الطبعية فلا تكون إلا إذا خرج ~~المطبوع عن مركزه ومستقره، كخروج التراب والحجارة عن مركزها إلى فوق، وكذلك ~~الماء. فبطلت بطبعها أن تعود إلى مركزها ومستقرها، فلو لم تحرك أولا عنه ~~لما خرجت، فتبين أن الطبعية والقسرية تابعتان، فعلم أن كل حركة في العالم ~~عن إرادة، وتلك حركات الملائكة الذين أخبر الله عنهم في كتابه عما يدبرونه ~~بإذنه وأمره من أمر السموات والأرض، كما قال تعالى: (والذاريات ذروا (1) ~~فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4)) (1) ، فأقسم ~~بالمخلوقات طبقا بعد طبق، بالرياح ثم بالسحاب ثم بالنجوم وأفلاكها، ثم ~~بالملائكة المقسمات أمرا. وكذلك قوله: (والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا ~~(2) والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5)) (2) . # ونصوص الكتاب والسنة في ذلك أكثر من أن يمكن ذكرها هنا، فإذا كانت جميع ~~الحركات هي عن إرادات، ولا بد للمريد من غاية هي PageV06P193 # مراده ومقصوده الذي هو معبوده، فلا بد للموجودات من إله هو إلهها ~~ومعبودها سبحانه وتعالى. # ومن المعلوم بالبديهة أن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه، ولا يكون حادثا من ~~غير محدث، وكذلك من المعلوم بالبديهة أن المتحرك لا يكون متحركا إلى نفسه، ~~ولا يكون متحركا بإرادته إلى غير شيء، فكما أن الكائن بعد أن لم يكن لا ~~يكون موجودا بنفسه ولا من غير شيء، كما قال تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم ~~هم الخالقون (35)) (1) ، فالمتحرك بإرادته بعد أن لم يكن متحركا لا يجوز أن ~~يكون متحركا مريدا لنفسه، ولا يجوز أن تكون حركته وإرادته لغير شيء، لأن ~~ونفسه كانت موجودة قبل حركته، وكونها هي المراد بما أحدثه يقتضي حدوثها بعد ~~حركته، فيقتضي أن تكون موجودة معدومة معا. # كما أنه إذا قدر أنه فاعل نفسه لزم أن يكون متقدما على ms1118 نفسه، لكونه ~~فاعلا، ومتأخرا عن نفسه، لكونه مفعولا، فهذا الذي ذكر من (2) كون الإنسان ~~يمتنع أن يكون فاعلا مفعولا يقتضي امتناع كونه عابدا معبودا. وكذلك يقال في ~~كل ممكن ومحدث، وهذا أيضا يدخل في الدور الممتنع، وما ذكر أولا هو دور بين ~~اثنين من فاعلين أو من فاعل واحد. وكل ذلك يستدل به على إثبات الإله ~~المعبود الخالق للممكنات والمحدثات. PageV06P194 # فصل # وكذلك كما يمتنع أن يكون في الشخص الواحد أن يكون علة لنفسه ومعلولا لها ~~في الفاعل والغاية، يمتنع أن يكون جزء علته أو شرط علته، فلا يكون فعل ~~فاعله محتاجا إلى وجود شيء منه، ولا يكون في المقصود شيء منه، وكذلك ~~أفعاله، كما لا يجوز أن يكون حدوث اعتقاده وقصده وقدرته منه، فلا يجوز أن ~~يكون علة كل فعله حادثا بفعله الذي حدث بفعله، ولا يجوز أن يكون حادثا بعلة ~~فعله جزؤها أو شرطها المتقدم على المعلول، لكن يجوز أن يكون هو فعلا في ~~حدوث المعلول بحيث لا يحدث هذا الفعل إلا مع هذا الفعل أو نحو ذلك، فإن ~~الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدم عليه. وأما العلة فيجب ~~تقدمها عليه، فلو كان الفعل علة أو جزء علة لزم تقدم كل منهما على الآخر. # وأما كون أحد الفعلين مشروطا بالآخر فهذا لا محذور فيه، وكذلك لا محذور ~~في كون الفعل يحدث بأسباب بعضها من الإنسان، ويكون ذاك السبب متقدما على ~~الفعل، فكذلك لا يجوز أن تكون لذته المنقضية هي العلة الغائية مطلقا، لوجود ~~قصده وعمله، ولا جزءا من العلة، وإن كانت شرطا في وجود المعلول الذي هو ~~المقصود لذاته. # ولهذا يوجد بعد حصول اللذة نفسه تطلب أمورا أخرى وتقصدها، ولا تطمئن ~~القلوب وتسكن إلا إلى الله، كما قال: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28)) ~~(1) ، وذلك لأن ما يتعقبه العدم لا يصلح أن يكون PageV06P195 # مقصودا لذاته، فإنه لو كان هو المقصود بالذات، لكان حال القاصد له بعد ~~عدمه كحاله قبل وجوده، فيمتنع أن يكون مقصودا، لأن ذلك ms1119 عبث وسفه، كما تقدم ~~بيانه، وإنما يقصد لأنه بعد عدمه يبقى أمر موجود يصلح أن يكون مقصودا، كما ~~أن الأكل والشرب ولذة ذلك وإن كانت منقضية، ولذة الوقاع وإن أكانت، منقضية، ~~فليست هي المقصودة من هذا الفعل بالذات، بل وإن قصدها الحيوان لما فيها من ~~اللذة، فالمقصود مع ذلك ثبات جسمه وبقاؤه ووجود النسل، وهذه الغاية فإن لم ~~يقصدها الحيوان الفاعل، فهي مقصودة لخالق الفعل وغيره، وذلك أن الحيوان لما ~~لم يكن مستقلا بالفعل، لم يجب أن يكون مستقلا بالقصد الذي هو مبدأ الفعل، ~~بل كما أن فعله لغيره فيه تأثير، فلغيره مقصود، فالسبب الفاعل كالسبب ~~الغائي، ثم الإنسان إذا لم يقصدها، لا يمتنع وجود الفعل، بل يقتضي ذلك فساد ~~حاله، فإنه من لم يقصد بأفعاله إلا نيل اللذة العاجلة فهذا أفعاله فاسدة ~~باطلة، وهي حال من اتبع هواه، ومن كان لا يريد إلا العاجلة. # ونحن إنما قصدنا تبيين فساد مثل هذا القصد والعمل، وأنه لا يصلح حال ~~صاحبه، لا تبيين امتناع الفعل بدونه، فإن امتناع الفعل ووجوده يتعلق بخلق ~~الله وما ييسره من الأسباب، فهناك يتبين أنه لو كان هو الغاية أو جزؤها ~~لامتنع أن يكون موجودا مخلوقا. # وأما في قصد الإنسان فتبين أنه يكون فسادا وضررا وشرا كما تقدم، فإن ~~الموجودات لا توجد بدون أسبابها الفاعلة، ولا تكون موجودة من الله بدون ~~غاياتها المقصودة، وهو الحكيم في تلك # PageV06P196 # الغايات. # وأما الحيوان فلا بد له من مقصود بفعله، لكن لا يجب أن يكون ذلك الذي ~~قصده مصلحة له ونافعا له، كما أنه لا بد له من قصد وقوة، لكن لا يجب أن ~~يكون مقرا بأن ذلك بإعانة الله وقدرته. # وإذا تبين أنها ليست مقصودة بالذات، فالمقصود بالذات لا بد أن يكون باقيا ~~أبديا، كما بينا أن ما يتعقبه العدم لا يكون مقصودا بالذات، وكذلك أيضا لا ~~بد أن تكون ذات العلة الغائية متقدمة على الفعل، وإن كان ما يطلب بالحركة ~~إليها يكون لذة حادثة، وإن كانت متواصلة، وهذا مما ms1120 نبينه هنا، وإن لم يكن ~~مبينا فيما مضى، وذلك أن العلة الغائية هي علة بماهيتها وحقيقتها المقصودة ~~لفاعلية العلة الفاعلية، إذ لولا كون تلك الحقيقة تستحق أن تطلب وتقصد ~~لامتنع أن يقصدها الفاعل، فامتنع فعلها، ولا يجوز أن يكون الفاعل بإرادته ~~وفعله جعلها مقصودة مرادة، لأن إرادته متوقفة على كون المراد يجب أن يكون ~~مرادا، فلو كان كون المراد مرادا حاصلا بإرادته لزم الدور، وإذا كانت ~~إرادته هي [التي] جعلت المراد مرادا، والمراد هو الذي جعل الإرادة مريدة، ~~بل لابد من حقيقة تكون هي بنفسها تستحق أن تكون مرادة مقصودة، وحينئذ يراد ~~ويقع الفعل، كما أنه لا بد من حقيقة ... (1) فاعلة، وحينئذ فيفعل أفعالا، ~~فلا يجوز أن يكون مفعولها أحدثها وفعلها. # و ### | الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل، # فإن المراد PageV06P197 # هو الذي يوجب الإرادة، يوضح ذلك أن العلة الغائية إذا كانت لا بد من ~~تقدمها في العلم والقصد، فالعلم والقصد لا يتعلق بالعدم المحض ابتداء، بل ~~المقصود إنما يعلم بطريق التمثيل بالموجود، ولذلك إنما يقصد بالغرض، فيكون ~~الغرض من عدم أحد الضد وثبوت الضد الآخر، كما يقصد عدم المانع. أما أن يكون ~~العدم مقصودا بالقصد الأول أو معلوما بالعلم الأول، فهذا محال. # وإذا كان كذلك، فالغاية التي لا توجد إلا بعد الفعل تكون حال العلم ~~والقصد معدومة، فإنما يعلم بالقياس إلى غيرها، وإنما يقصد لقصد أمر وجودي، ~~وإلا فالعدم المحض إذا قصد إيجاده لا لقصد أمر موجود، لزم أن يكون في العدم ~~المحض ما يتميز فيه مقصود عن مقصود، وهذا ممتنع. # ومن هنا غلط الغالطون القائلون بأن المعدوم شيء، وأهل الإثبات وإن قالوا: ~~هو ثابت في العلم، فالقصد يتوجه إلى المعلوم، لكن يقال: العلم يتعلق ~~بالمعلوم على ما هو عليه، فكذلك المعلوم لم كان مقصودا دون غيره، وليس في ~~العدم المحض تميز، بل لا بد أن يكون المقصود أمرا وجوديا، ثم أريد حصول فعل ~~وغاية قريبة لحصول ما يطلب من العمل للغاية المقصودة لذاتها. # ولهذا مكة موجودة قبل ms1121 سعي الحاج إليها، فهي الغاية، وإن كان وصوله إليها، ~~وأعمال المناسك هي غاية عمله لها، وهذه هي الغاية التي تتأخر عن العمل، لكن ~~نفس الغاية المقصودة لذاتها لا بد أن تتقدم الفعل. # PageV06P198 # وهذا أصل عظيم، يسر الله بيانه بعد كثرة تحويم القلوب عليه، وهو نافع في ~~أصلين عظيمين: # أحدهما: أن الله هو الإله المعبود لذاته. # والثاني: أنه هو المحبوب لذاته، فإليه تصير الأمور، وإليه المنتهى في ~~أفعاله وأفعال عباده، كما أنه رب ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. # PageV06P199 # قاعدة # في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله # PageV06P201 # الحمد لله رب العالمين. قال الشيخ الإمام العالم المحقق أبو العباس أحمد ~~بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله: # فصل # قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله # وطلبه والتعليل به ونحو ذلك # قد ذكرت بعض ما يتعلق بذلك عند الكلام في العلم بالمعدوم، ومسألة النهي ~~هل هو طلب العدم أو الوجود، وعند الكلام في إحسان الله لخلق كل شيء، وأنه ~~إنما لا يصرف إليه المعدوم ونحو ذلك. ونحن نذكر هنا قاعدة، فنقول: # الصفات المتعلقة بالوجود مثل: العلم والإرادة والأمر والقدرة والفعل ~~والسبب الفاعل كيف يتعلق بالعدم؟ أما العلم فقد قررنا في غير هذا الموضع ~~أنه إنما يعلم المعدوم بطريق التبع للعلم بالوجود، وكذلك قررنا أنه إنما ~~يراد المعدوم بطريق التبع للموجود، فإن الشاعر منا لا يدرك بنفسه ابتداء ~~عدم شيء، وإنما يدرك الوجود، ثم يقدر في نفسه ما يركبه أو يفرعه من أجزاء ~~الوجود، مثل تقدير إله آخر، أو نبى بعد محمد، أو جبل ياقوت، أو بحر زئبق، ~~فحينئذ يعلم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نبي بعد محمد، وأنه ليس هنا جبل ~~ياقوت وبحر زئبق، وإنما يعلم ذلك بعد أن يكون علم إلها موجودا ونبيا موجودا ~~وبحرا وجبلا وياقوتا وزئبقا، وأما ما لم يتصور مفرداته من الموجود فإدراك ~~عدمه مثل عدم إدراكه، كما قال تعالى: (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في # PageV06P203 # السماوات ولا في الأرض) (1) ، فعدم علمه بوجود ذلك مثل ms1122 علمه بعدمه. وهذا ~~في حق الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ~~ولا في الأرض، فما لم يعلمه من الأشياء يعلم أنه ليس في الأشياء. # وكذلك الإرادة، فإن الحي إنما يريد بالقصد الأول ويحب ما يناسبه أو ### | .... # (2) ، فلا يحب ويريد بذاته إلا ما يطلب وجوده، ثم قد تعارضه أشياء ~~فيكرهها ويبغضها ويريد أن لا تكون. ثم إذا كره هذه الأشياء قبل كونها أو ~~بعد كونها فإنه يسعى في إبطالها، وقد يكون قادرا على ذلك وينهى عنها غيره. ~~فاختلف النالس في هذا المقام: # منهم من قال: القدرة لا تكون قدرة على العدم، ولا الفعل يكون فعلا للعدم، ~~ولا الإرادة تكون إرادة للعدم، لأن العدم لا شيء، والقدرة على ما هو لا شيء ~~لا شيء، فتكون القدرة على العدم كعدم القدرة، وكذلك فعل ما هو لا شيء ~~وإرادة ما هو لا شيء بمنزلة وجوده، فإن هذا مما لا يستريب الناس فيه أنه لا ~~يحتاج إلى فاعل وقادر، بل يكفي في عدمه عدم مقتضيه وموجبه، ولهذا نقول: ما ~~شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فنضيف عدم الكون إلى عدم المشيئة. لا ~~يحتاج أن يقال: وما شاء أن لا يكون لم يكن. # وهذا قول كثير من المتكلمة والمتفقهة من المعتزلة والأشعرية PageV06P204 # والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء فيما إذا ~~أراد الله أن يفني شيئا ويعدمه: # فقال البصريون من المعتزلة: يحدث فناء لا في محل، فيفنى به. # كما يقولون في الإيجاد: إنه أحدث لا في محل، فحدث به. # وهذا عند العقلاء معلوم الفساد بالضرورة والنظر من وجوه كثيرة، كما ذلك ~~معلوم الفساد في الإرادة، فإن قيام الصفات بغير محل وحدوث شيء بلا إرادة ~~ومنافاة شيء سموه الفناء لجميع الكائنات= كل هذا مما يعلم فساده عند ~~تصورحقيقته. # وقال كثير من متكلمة الإثبات من الأشعرية والحنبلية: عدمه وفناؤه بأن لا ~~يحدث سبب بقائه، إما أن لا يحدث البقاء عند من يقول منهم: إن الباقي باق ~~ببقاء، وإما ms1123 أن لا يحدث الأعراض عند من يقول منهم: إن العرض لا يبقى ~~زمانين. فإن هؤلاء يقولون: إنما بقاء الأعيان التي هي الجواهر بما يحدثه له ~~من الأعراض، أو بما يحدثه من البقاء، فإذا انتفى شرط بقائها انتفت وعدمت، ~~وانتفاء شرط البقاء يكفي فيه أنه لا يفعله ولا يريده. # وحقيقة قولهم أن العدم الطارىء المتجدد بمنزلة العدم الدائم المستمر، ~~يكفي فيه عدم الإرادة للإيجاد والإبقاء وعدم إيجاده وإبقائه. فالمعتزلة ~~قالوا: يفني الأشياء ويعدمها بإحداث ضد ينافيها هو الفناء، وهؤلاء يقولون ~~بفوات شرطها ومقتضاها، فالنزاع بينهم هل الإعدام والإفناء لإيجاد مانع أو ~~لعدم شرط، وكلهم فروا من كون نفس المعدوم مفعولا بنفسه أو مرادا بنفسه. # PageV06P205 # فهذا أحد القولين، وهؤلاء يقولون: المطلوب بالنهي أو المراد بالنهي ليس ~~عدم المنهي عنه، وإنما هو فعل ضد من أضداد المنهي عنه: إما الامتناع من ~~الفعل، وإما البغض له والكراهة ونحو ذلك، حتى يصح أن يكون مطلوبا مرادا ~~للناهي، ويصح أن يكون مقدورا مفعولا مرادا للمنهي. فعلى قول هؤلاء كما أن ~~العلة الفاعلية للأمر الموجود لا تكون عدما بالاتفاق، وإلا لصح [نسبة] ~~الحوادث إلى معدوم، فيبطل الاستدلال بها على الخالق البارىء المصور. كذلك ~~يقولون: العلة الغائية لا يصح أن تكون عدما أيضا، إذ هي مطلوب الفاعل ~~ومراده، والمعدوم لا يكون مطلوبا ولا مرادا. # والقول الثاني في أصل المسألة: إن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان، فكما ~~أن الوجود بنفسه هو غني عن الفاعل، وهو الله سبحانه، والممكن بنفسه مفتقر ~~إلى الفاعل محتاج إليه. فكذلك العدم نوعان: # أحدهما: ما انعقد سبب وجوده التام أو المقتضي، وجد أو لم يوجد. # والثاني: ما لم ينعقد سبب وجوده. # فما لم ينعقد سبب وجوده يكفي في عدمه عدم سببه، لا يحتاج إلى فاعل ولا ~~مريد لعدمه. # وأما ما انعقد سببه التام فوجد، أو انعقد سببه المقتضي فهو معترض للوجود، ~~فهذا إن لم يوجد ما يعارضه وينافيه لم يعدم. # فالعدم الحادث الطارىء كالوجود الحادث الطارىء، كل منهما لا # PageV06P206 # بد له من سبب، لكن ms1124 الوجود يتوقف على وجود السبب وانتفاء المانع، والعدم ~~يكفي فيه كل واحد من عدم المقتضي ووجود المانع، فالوجود مفتقر إلى الأمرين ~~كليهما، والعدم يكفي فيه أحدهما إذا عني بالسبب العلة المقتضية دون التامة، ~~وأما إذا عني به العلة التامة فهذه العلة يلزم من وجودها وجود المعلول، ومن ~~عدمها عدم المعلول، فالوجود لا يقف إلا على وجودها، والعدم لا يقف إلا على ~~عدمها. # وبهذا التفسير تزول الشبهة الواقعة بين كثير من الناس في مثل هذه ~~المحارات والمضطربات التي يكثر فيها النزاع والجدال، وينتشر فيها القيل ~~والقال، ويحصل فيها التفرق والاختلاف، ويزول بها الاجتماع والائتلاف، فإذا ~~فسرت الأسماء المشتركة وفصل الحق من الباطل وحكم بالعدل بين الفرق ~~والمقالات ظهر الكتاب والسنة والجماعة، وزال الضلال والبدعة والفرقة. # فنقول: العلة والموجب والمقتضي والباعث والسبب والمناط والمحرك والداعي ~~ونحو ذلك من الأسماء هي أسماء متقاربة، تكون مترادفة من وجه ومتباينة من ~~وجه، وفيها تقسيمان: # أحدهما: أن العلة تنقسم إلى تامة موجبة يوجد بها المعلول لا محالة، وإلى ~~مقتضية قاصرة تقف على شروط وانتفاء موانع. ولفظ العلة يعبر به عن كل من ~~المعنيين في أصول الدين وأصول الفقه وفي الكلام والفلسفة وغير ذلك. # فأما الأولى فلا توجد إلا مجموع أمور، وما ثم سبب واحد يوجب مسببه لا ~~محالة وينتفي مسببه عند انتفائه إلا مشيئة الله، فإنه ما شاء كان # PageV06P207 # وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه فعال لما يشاء، (وإن يمسسك الله بضر فلا ~~كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) (1) ، (قل أفرأيتم ما تدعون ~~من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ~~ممسكات رحمته) (2) ، وقال تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا ~~قوة إلا بالله) (3) . وهذا كثير في الكتاب والسنة وعلى اتفاق الملل وأهل ~~الفطرة السليمة، لم يخالف فيه إلا القدرية من جميع الطوائف الذين يزعمون: ~~قد يريد ما لا يكون، ولا يفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية. ~~فإرادته سبحانه ومشيئته ms1125 هي السبب والعلة الكاملة التامة وجودها، ومحبوبه ~~ومرضيه هي الحكمة والغاية التامة الكاملة. # هذا في العلة السببية، وأما الغائية فهو كذلك أيضا، غالب التام منها ~~مركب، وما ثم ما هو العلة الغائية على الإطلاق إلا محبوب الله ومرضيه، وإن ~~كان الحب والرضا يستلزم ... (4) ، فإن عبادته وطاعته وطاعة رسله هي غاية ~~الأعمال في الدنيا، والتلذذ بالنظر إليه هو غاية المطلوب في الاخرة. وأما ~~ما فى حق الرب وأمره فإن محبوبه ومرضيه هو الغاية المرادة من ذلك كله، وإن ~~كان من الأسباب والوسائل ما هو مراد غير محبوب ولا مرضى، فإن الشيء المحبوب ~~المشتهى قد PageV06P208 # يتوقف حبه على وجود شرط وانتفاء موانع غير محبة الله تعالى، مثل اقتضاء ~~النار الإحراق والماء الإغراق، والطعام والشراب للشبع والري، والشعاع ~~للتسخين، والأعمال الصالحة للثواب، والأعمال السيئة للعقاب، ونحو ذلك. فكل ~~هذه الأمور قد يتخلف مقتضاها لفوات شرط أو وجود مانع. وكذلك في الغائيات، ~~فإن جعلت العلة مجموع الأمور التي يجب عندها الحكم فهي العلة التامة، وإن ~~جعلتها الأمر المقتضي للحكم لولا المعارض المقاوم فهي العلة المقتضية ~~الناقصة. # وبهذا التقسيم يعرف اختلاف العلماء من أصحابنا وغيرهم في العلة هل يجوز ~~تخصيصها، فإن عني بالعلة التامة فتلك لا تقبل التخصيص، وإن عني بها ~~المقتضية فإنها تقبل التخصيص. وهذا عام في العلل الكونية والدينية، الطبعية ~~والشرعية، العقلية والسمعية. # فإن قلت: فإن كثيرا من أصحابنا وغيرهم يقولون: العلة العقلية توجب ~~معلولها، لا يتخلف عنها، ولا يقف على شرط، ولا لها مانع، بخلاف العلة ~~الشرعية. # قلت لك: هؤلاء مرادهم بالعلة الصفات التي توجب الأحوال، مثل أن العلم علة ~~كون العالم عالما، والحركة علة كون المتحرك متحركا، مبنية على ثبوت الأحوال ~~في الخارج معاني غير الصفات. فمن أثبت الأحوال من متكلمة المعتزلة ومتكلمة ~~الصفاتية من أصحابنا وغيرهم فإنه يفرق بين العلم والعالمية والقدرة ~~والقادرية، ويجعل الصفات توجب الأحوال. ومن نفى الأحوال فإن عنده العلم نفس ~~كون # PageV06P209 # العالم عالما، والحركة نفس كون المتحرك متحركا، ليس عندهم هنا شيئان ~~أحدهما علة والآخر معلول ms1126. # وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علة للشبع ~~والري، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات ~~من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهل الطبع وأهل القدر في أن الله خالق كل شيء ~~أنكروا أن يكون في العلم علة أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند ~~هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم، ~~وهذه طريقة كثير من الفقهاء الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل ~~الإثبات من الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدت في كلام القاضي أبي بكر ابن ~~الباقلاني أوالقاضي أبي يعلى أو القاضي أبي الطيب أو أبي إسحاق ~~الفيروزابادي أو أبي الخطاب أو ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرق بين العلل ~~العقلية والشرعية فهذا مرادهم. # وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردون على أهل ~~الطبيعة الذين يضيفون الحوادث إلى ما دون الله من جسم أو طبع أو فلك أو نجم ~~أو عقل أو نفس، وعلى القدرية الذين يزعمون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله ~~ولا يقدر على خلقها، ويعلمون (1) أن الله خالق كل شيء = فلا ينكرون ثبوت ~~الأسباب وأن الله يخلق الأشياء بها، كما نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق ~~عليه PageV06P210 # سلف الأمة والسالمو الفطرة من أهل الملة. قال الله تعالى: (وهو الذي يرسل ~~الرياح) إلى قوله: (فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) (1) ، وقال ~~تعالى: (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) (2) ، ~~وقال: (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) (3) ، وقال تعالى: (فأنبتنا به جنات وحب ~~الحصيد (9)) (4) ، وقال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) ~~(5) ، وقال تعالى: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) (6) . وهذا كثير في ~~الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يفعل بها، وإنما يفعل عندها لا ~~بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفطر العقلاء. # فإن قلت: قد ذكرت أنه ليس في الوجود علة تامة وحدها إلا مشيئة الله، فكيف ~~تصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ms1127 ونحو هذه الأفعال التي ~~لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزم للانكسار، والإحراق مستلزم للاحتراق، ~~والإزهاق مستلزم للزهوق، ونحو ذلك. # قلت: الإحراق ونحوه إما أن يعنى به فعل المحرق فقط، أويعنى PageV06P211 # به فعله وقبول المحترق، فإن عني به فعل الفاعل فقط فهو من العلل المقتضية ~~لا الموجبة، يقال: أحرقته فلم يحترق، وعلمته فلم يتعلم، وكسرته فلم ينكسر، ~~وإن عني به فعل الفاعل وقبول القابل فهما أمران مركبان. # وهذا طرد قولنا ### | : ليس في الوجود علة تامة إلا مركبة سوى مشيئة الله تعالى، # وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد ~~القسمين. # التقسيم الثاني: أن الشيء ليس له خارج عن نفسه علتان: علة فاعلة وعلة ~~غائية، ويسمي الفقهاء الفاعلة السبب والموجب، ويسمون الغائية الحكمة ~~والمراد والمقصود. أما المادة والصورة فذلك علتان للمركب في نفسه، فالمركب ~~كالخاتم مثلا مركب من الفضة التي هي المادة، والصورة التي هي القالب (1) ، ~~وتسمية هذا عللا ليس من اللغة المعروفة ولا من المعروف في الفعل، وإنما هو ~~اصطلاح لطائفة من النظار من المتفلسفة وغيرهم، وإنما العلة المعروفة ما كان ~~مغايرا للمعلول، فالإنسان بعقل يفعل فعلا لمقصود، فهو الفاعل له، والمقصود ~~هو الغاية المقصودة به، والعلة الغائية علة العلم وفاعلية العلة الفاعلية، ~~فإنه لولا المقصود والفاعل لما فعل الفاعل، وهي [أول] في القصد آخر في ~~الوجود والفعل. ولهذا قال تعالى: في أم الكتاب: (إياك نعبد وإياك نستعين ~~(5)) ، فإن الله سبحانه هو PageV06P212 # الإله المعبود بجميع الأعمال الصالحة، وهو الخالق الرب المعين عليها، فله ~~الدعاء وحده لا شريك له دعاء العبادة والتأله لألوهيته، ودعاء السؤال ~~والطلب لربوبيته الداخلة في ألوهيته. وهو رب العالمين وخالق كل شيء، ولهذا ~~قال: (فاعبده وتوكل عليه) (1) ، وقال: (عليه توكلت وإليه أنيب (10)) (2) ، ~~وقال: (عليه توكلت وإليه متاب (30)) (3) . # إذا عرف ذلك فالعلل في اصطلاح الفقهاء في الدين والشريعة قد يراد بها ~~الأسباب التي هي بمنزلة الفاعل، كما يقال: ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة، ~~والزنا سبب لوجوب الحد، والقتل العمد سبب لوجوب القود. وقد ms1128 يراد بها الحكمة ~~المقصودة التي هي الغاية، كما يقال: شرعت العقوبات للكف عن المحظورات، ~~وشرعت الضمانات لإقامة العدل في النفوس والأموال، وشرعت العبادات لأن يعبد ~~الله وحده لا شريك له، وشرع الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين ~~كله لله. # وهذه الحكم والمصالح التي هي الغايات تكون مقصودة مرادة للشارع الامر ~~وللفاعل المطيع، ولكن تحصل بدون قصده، كما يحصل ثواب كثير من الأعمال ~~الصالحة في الدنيا والآخرة لمن أطاع الله ورسوله في أفعال كثيرة، وإن كان ~~لم يعلم ذلك فضلا عن أن PageV06P213 # يقصده. # وقد تنازع الفقهاء هل يجوز تعليل الوجود بالعدم، فذهب طوائف من أصحابنا ~~وغيرهم إلى جواز ذلك، وذهب طوائف إلى أنه لا يجوز. ثم منهم من يقول: يجوز ~~أن يكون العدم جزءا من العلة أو شرطا، ومنهم من يمنع ذلك، ومنهم من يمنع ~~الجزء دون الشروط. وفصل أبو الخطاب أن ذلك يجوز في قياس الدلالة بلا ريب، ~~فإن قياس الدلالة المشترك بين الأصل والفرع دليل على العلة وإن لم يذكر نفس ~~العلة، والدليل يجوز أن يكون وجودا وعدما، سواء كان المدلول وجودا أو عدما. ~~ومن جعل علل الشرع كلها أمارات ومعرفات من أصحابنا وغيرهم فجميع الأقيسة ~~عندهم قياس دلالة، وجميع العلل عندهم مجرد أدلة. لكن هذا قول ضعيف. # وأما في قياس العلة فيمتنع أن يكون العدم فاعلا للوجود، وهذا معلوم ~~ببديهة العقل، ولو جاز ذلك لجاز إسناد الحوادث إلى معدوم، فامتنع بهذا أن ~~تكون العلة العدمية بمعنى الفاعل علة لوجود. # لكن هل يكون العدم شرطا أو جزءا؟ فهذا ينبني على ما تقدم أن العلة إذا ~~عني بها الموجبة التامة لم يمتنع أن يكون العدم جزءا منها، وإن عني بها ~~المقتضي لم يمتنع أن يكون العدم شرطا في تأثيرها، فإن تأثير السبب المقتضي ~~لأثره قد يقف على انتفاء الضد المعارض. ثم إنه كثيرا ما يكون قد انعقد سبب ~~الشيء، وإنما تخلف الحكم لمانع [أو] لمعارض، فإذا انتفى ذلك المانع أضيف ~~الحكم إلى انتفاء المانع، وهو في الحقيقة جزء ms1129 العلة أو شرطها، ويجعل علة في ~~اللفظ عند النزاع، # PageV06P214 # لأن الجزء الآخر قد علم وجوده واتفق عليه، مثل أن يقال: يباح دمه لأنه ~~ليس بمسلم ولا معاهد، أو تجب عليه الزكاة لأنه ليس بمدين، أو يعزر لأنه ليس ~~بمحصن، ونحو ذلك. # وأما العلة التي هي الحكمة الغائية فهل يجوز أن تكون علة الوجود، بمعنى ~~أن يكون مقصود الفاعل ومراده العدم، فهذا يتعلق بالقاعدة التي تكلمنا فيها، ~~وبينا أن العدم لا يكون مقصودا لنا ومرادا ابتداء، لأنه ليس فيه لنا فائدة ~~ولا مناسبة، وإنما نقصده ونريده إذا كان في الوجود ضرر، فنريد زوال الضرر ~~وعدمه، فيكون أعدم، الضرر علة غائية مقصودة بهذا الاعتبار. # PageV06P215 ### | فصل # في الإسلام وضده # PageV06P217 # فصل # في الإسلام وضده # قد كتبنا في غير هذا الموضع في مواضع أن الإسلام هو الاستسلام لله وحده، ~~فهو يجمع معنيين: الانقياد والاستسلام، والثاني إخلاص ذلك لله، كما قال ~~تعالى: (ورجلا سلما لرجل) (1) أي خالصا له، ليس لأحد فيه شيء. وإنه يستعمل ~~لازما ومتعديا، فالأول كقوله: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ~~(131)) (2) ، وقوله: (وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66)) (3) ، وقوله: ~~(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) إلى ~~قوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (4) . وهو هذا الإسلام ~~الذي هو الاستسلام لرب العالمين. # وقد يستعمل متعديا في مثل قوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو ~~محسن) (5) ، وفي قوله: (بلى من أسلم وجهه لله) (6) . فهنا لما كان مقيدا ~~بإسلام الوجه قرن به الإحسان، لأن إسلام الوجه له هو يتضمن إخلاص القصد له، ~~فلا بد مع ذلك من الإحسان، ليكون PageV06P219 # عمله صالحا خالصا لله. # وهذا الإسلام الذي هو الإسلام لله- إذ إسلام الوجه لله وهو محسن يستلزم ~~أصل الإيمان- لا يمكن أن يكون صاحبه منافقا محضا، فإن المنافق المحض لا ~~يكون مسلما لرب العالمين ولا مسلما وجهه لله، لكن قد شارك أصحابه في ~~الإيمان، لأن الإسلام قد يتضمن القصد والعمل، والإيمان يتضمن العلم والحب، ~~ولهذا ms1130 قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد في المسند (1) : ~~"الإسلام علانية، والإيمان في القلب ". وكذلك حديث جبريل (2) . فصاحبه قد ~~يكون معه أصله لا كماله. وأما مطلق لفظ المسلم فقد يكون أسلم رغبة أو رهبة ~~من الخلق ولم يسلم لله، وهذا قد يكون منافقا محضا. # وأما لفظ الإسلام المطلق فقد يكون لله، وقد يكون لغير الله، وقد يظهر ~~صاحبه أنه أسلم لله، قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن ~~قولوا أسلمنا) الاية (3) ، وكذلك قال في قصة لوط: (فأخرجنا من كان فيها من ~~المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (4) . وكذلك حديث سعد ~~بن أبي وقاص الصحيح (5) : لما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالا ولم ~~يعط رجالا كان أعجب إلى سعد مما أعطى، فقلت: ما لك PageV06P220 # عن فلان عن فلان، إني لأراه مؤمنا، فقال: "أو مسلما" مرتين أو ثلاثا، ثم ~~قال: "إني لأعطي الرجل وأدع من هو أحب إلي منه، أعطيه لما في قلبه من الهلع ~~والجزع " أو كما قال. # فامرأة لوط كانت منافقة كافرة في الباطن، وكانت مسلمة في الظاهر مع ~~زوجها، ولهذا عذبت بعذاب قومها. فهذه حال المنافقين الذين كانوا مع النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - مستسلمين له في الظاهر، وهم في الباطن غير مؤمنين. ~~والأعراب قد نفى الله عنهم الإيمان بقوله (لم تؤمنوا) ، وأمرهم أن يقولوا: ~~أسلمنا، ثم قال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) . و"لما" ينفى بها ما يفوت ~~وجوده وينتظر وجوده، فيكون دخول الإيمان في قلوبهم منتظرا مرجوا، وقد قال ~~لهم: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) وظاهره أنهم إذا ~~أطاعوه في هذه الحال أثيبوا على الأعمال. ثم قال: (إنما المؤمنون الذين ~~آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ~~أولئك هم الصادقون (15)) (1) . # وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم ~~يصل إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يخرج من ~~النار من قال لا ms1131 إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة، أو من كان في ~~قلبه مثقال ذرة من إيمان " (2) . فسلب الإيمان عنهم لا يقتضي سلب هذا ~~المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد ~~ولا يصل بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع PageV06P221 # آجزاء الإيمان كان كافرا. # وقد روي عن حذيفة قال (1) : "القلوب أربعة: قلب أغلف، فذاك قلب الكافر؟ ~~وقلب مصفح، فذاك قلب المنافق؟ وقلب أجرد فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن؟ ~~وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل ~~النفاق فيه كمثل القرحة يمدها قيح ودم ". وفي رواية: "فأي المادين غلب كان ~~الحكم له ". وفي رواية: "وقلب فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأولئك ~~قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا". # وهذا- والله أعلم- معنى كلام قاله بعض السلف والأئمة في الزاني والسارق ~~والشارب: أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وأن الإيمان يصير على رأسه مثل ~~الظلة. فإنهم لم يريدوا بذلك الإسلام الظاهر المحض الذي يكون للمنافق ~~المحض، لأن الكلام فيمن هو مقر في باطنه بما جاء من عند الله، لكن ارتكب ~~هذه الكبائر، فعلم أنه يخرج إلى الإسلام الذي يكون معه أصل الإيمان وبعضه، ~~ولكن لا تكون معه حقيقته الواجبة. ويشبه أن يكون إسلام الأعراب من هذا ~~الباب، فإن الإنسان قد يسلم لله حقيقة فينقاد ويستسلم، ومع هذا لا يكون في ~~قلبه من الهدى والعلم ما يمنع ورود الذنب عليه، ولا يكون في قلبه من المحبة ~~ما يوجب صبره على الجهاد، إذ الإسلام هو الدين، والدين هو العمل والخلق، ~~ومثل هذا قد يكون عن علم ويقين وحب، وقد يكون PageV06P222 # عن نوع اعتقاد ونوع إرادة. وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذا، وإنما ~~الغرض ما يأتي بعد. # فصل # المقصود هنا أنا قد نبهنا عليه غير مرة أن ### | الإسلام له ضدان: الإشراك والاستكبار، # لأنه الاستسلام لله وحده كما يترجم فيه شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة ~~أن محمدا ms1132 عبده ورسوله، فمن استسلم لله ولغير الله فقد أشرك بالله وجعل له ~~عدلا وندا وشريكا، ومن لم يستسلم بحال فقد استكبر كحال فرعون وغيره. ولهذا ~~قال: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17)) إلى قوله: (إني ~~آتيكم بسلطان مبين (19)) (1) . وقال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي ~~سيدخلون جهنم داخرين (60)) (2) . # وكل من الشرك والكبر كفر يضاد الإيمان والإسلام، كما ثبت في الحديث ~~الصحيح (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يدخل النار من في ~~قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"، ~~فقال رجل: يا رسول الله! إني أحب أن يكون قولي حسنا وفعلي حسنا، أذلك من ~~الكبر؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ". ~~ولهذا قرن هذا في شعار الإسلام الذي هو PageV06P223 # الأذان بين التكبير والتهليل، فإن التكبير- وهو قول "الله أكبر"- يمنع ~~كبر غير الله، وقول لا إله إلا الله يوجب التوحيد، وهاتان الكلمتان ~~قرينتان، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبتنا اقتران التهليل ~~والتكبير كاقتران التسبيح والتحميد. # و ### | قد يقال: الشرك أعم، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد، # فإن المشرك قد يكون متكبرا وقد لا يكون، وأما المستكبر فلا بد أن يكون ~~فيه شرك، فذم المشرك يدخل فيه ذم المستكبر من أهل الكتاب، وذم المستكبر لا ~~يدخل فيه ذم المشرك الذي ليس مستكبرا، ولهذا يكتفى بكلمة التوحيد التي هي ~~لا إله إلا الله عن كلمة التكبير، من غير عكس، كما قال تعالى عن النصارى: ~~(ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)) (1) ، وقال في ~~وصفهم: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة) (2) ، وقال فيهم: (اتخذوا ~~أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ~~ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (3) ، فوصفهم ~~بالشرك وترك الكبر، وهذا ظاهر من حال كثير منهم أن فيهم شركا وتواضعا، لكن ~~الشرك من أعظم الفساد لصاحبه، إن لم يرد علوا في ms1133 الأرض فقد أراد فسادا. # لكن هذا في مشركي أهل الكتاب، إذ الشرك مبتدع في دينهم لا PageV06P224 # أصل له، فأما المشركون من غيرهم فقد قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم ~~لا إله إلا الله يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) ~~(1) . # وأما اليهود فقد وصفهم بالاستكبار والعلو في الأرض في مثل قوله: (وقضينا ~~إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4)) ~~(2) ، كما وصف فرعون بذلك في قوله: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها) إلى ~~قوله: (إنه كان من المفسدين (4)) (3) ، فوصفه بالعلو والفساد كما وصفهم. ~~وقال في اخر السورة: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في ~~الأرض ولا فسادا) الاية (4) ، وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: (وإذ ~~أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) إلى قوله تعالى: (أفكلما ~~جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)) ~~(5) ، فهم استكبروا عما جاءت به الرسل، فقتلوا فريقا من الرسل وكذبوا ~~فريقا. والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن ~~مريم. # وقد قال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن ~~يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا ~~سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا PageV06P225 # عنها غافلين (146)) (1) ، فوصف الله المستكبرين بالتكذيب بآياته والغفلة ~~عنها، لأن الكبر- كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - - بطر الحق وغمط ~~الناس (2) ، وبطر الحق جحده ودفعه، وهذا هو التكذيب، وأعظم من ذلك التكذيب ~~بآيات الله، قال تعالى عن قوم فرعون: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما ~~وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)) (3) ، وقال عن المشركين: (ولا ~~تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) ~~الاية (4) ، وقال: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ~~(33)) (5) # وإنما يقال: إن المستكبر لا بد أن يكون مشركا، لأن الإنسان حارث همام، ~~فلا بد له من حرث هو عمله وحركته، ولا بد لذلك من هم هو ms1134 قصده ونيته وحبه، ~~فإذا استكبر عن أن يكون الله هو مقصوده الذي ينتهي إليه قصده وإرادته، ~~فيسلم وجهه لله، فلابد أن يكون له مقصود آخر ينتهي إليه قصده، وذاك هو إلهه ~~الذي أشرك. ولهذا كان قوم فرعون الذين وصفهم بالاستكبار والعلو في الأرض ~~وهم الذين استعبدوا بني إسرائيل، كانوا مع ذلك مشركين بفرعون اتخذوه إلها ~~وربا، كما قال لهم: (ما علمت لكم من إله غيري) (6) ، وقال لهم: PageV06P226 # (أنا ربكم الأعلى (24)) (1) ، وقال: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا ~~قوما فاسقين (54)) (2) . وفرعون نفسه الذي كان هو المستكبر الأعظم على قومه ~~وغيرهم، كان مع هذا مشركا، كما ذكر ذلك تعالى عنه في قوله: (وقال الملأ من ~~قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) (3) ، قيل: كان ~~له آلهة يعبدها سرا. وقد وصفهم جميعا بالإشراك في قول الرجل المؤمن: (ويا ~~قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41) تدعونني لأكفر بالله ~~وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار (42) لا جرم أنما ~~تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن ~~المسرفين هم أصحاب النار (43)) (4) . وقال قبل هذا: (ولقد جاءكم يوسف من ~~قبل بالبينات) الاية (5) ، وقد ذكر الله قول يوسف: (السجن أأرباب متفرقون ~~خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم ~~وآباؤكم) الاية (6) . وهذا إخبار عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهة يدعونها من ~~دون الله. وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله ~~واجتنبوا الطاغوت) الاية (7) ، وهذا يبين PageV06P227 # أن جميع الرسل بعثوا بالتوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده، كما قال ~~تعالى في سورة هود بعد أن ذكر الأنبياء وأممهم ثم قال: (ذلك من أنباء القرى ~~نقصه عليك منها قائم وحصيد (100)) الايات (1) ، يخبر تعالى فيها عن جميعهم ~~بالشرك واتخاذ آلهة. # ولو لم يكن المستكبر يعبد غير الله فإنه يعبد نفسه ولا بد، فيكون مختالا ~~فخورا متكبرا، فيكون قد أشرك بنفسه إن لم يشرك بغيره. وإبليس هو ms1135 أول ~~المستكبرين، قال تعالى: (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)) (2) ~~. # ومن بطر الحق فجحده فإنه يضطر إلى أن يقر بالباطل، ومن غمط الناس ~~فاحتقرهم وازدراهم بغير حق فإنه يضطر إلى أن يعظم آخرين بالباطل، وهذا من ~~الشرك. فمن غمط الناس جحد حقهم ليعظم نفسه بذلك، وهذا هو الاستكثار ~~والاختيال، فلا بد له ممن يعينه على استكباره واختياله للشرك به، وهو يفرح ~~بمن يحمده ويثني عليه ويعظمه، ويشنأ من يذمه ويبغضه ويعيبه، فيكون من أعظم ~~رياء وسمعة، والرياء والسمعة من الشرك، فالمستكبر من أعظم الناس شركا ورياء ~~وسمعة. وإبليس هو الذي يزين كل شرك وكل كبر لبني آدم، وينفخ في أحدهم حتى ~~يتعاظم، ويدعوهم إلى الإشراك بالله ويأمرهم بذلك، كما قال تعالى: (ولا ~~تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم PageV06P228 # بطرا ورئاء الناس) (1) . وهذا من أعظم الشرك بغير الله، وإن كان قد يشرك ~~به أيضا، فهو يجمع الإشراك بالله وبغيره ممن أطاع الخلق وعظمهم، فمن أطاعهم ~~اقتدى بهم، ومن أطاع الرسل اقتدى بهم في توحيدهم وطاعتهم لربهم، ومن عصاهم ~~ضل، فجميع من عصى الرسل ولم يقتد بهم فهو مشرك. # وقد استقرت الشريعة على أن كل من ليس من أهل الكتاب فهو مشرك يعبد ما ~~يستحسن، كما يذكر الفقهاء ذلك في باب أخذ الجزية، فليس لأحد أن يخرج أحدا ~~من هؤلاء عن الإشراك، وذلك لأن العبد هو حارث وهمام حساس متحرك بالإرادة، ~~وليس كل مراد مرادا لغيره، بل لا بد أن تنتهي الإرادة إلى مراد لذاته هو ~~المطاع المحبوب المعظم، وذلك هو إله العبد الذي يعبده. فكل من لم يكن الله ~~إلهه الذي يعبده الذي هو منتهى قصده وإرادته، فلا بد أن يكون مشركا ينتهى ~~قصده وإرادته إلى غيره، سواء كان ملكا له أو وثنا أو غيره. # ومن هذا الباب قول فرعون: (ما علمت لكم من إله غيري) (2) ، وقوله: (أنا ~~ربكم الأعلى (24)) (3) . ويشبهه في ذلك من بعض الوجوه النمروذ وجنكزخان ملك ~~المغل من الترك وأمثاله، فهؤلاء قومهم مشركون بهم، وقد قال تعالى في ms1136 ~~النصارى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم) ~~PageV06P229 # الآية (1) ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادتهم إياهم: ~~"إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك ~~عبادتهم إياهم " (2) . فكيف بمن يكون هو المطاع المطلق في أمره ونهيه ~~وتحليله وتحريمه؟ ويكون قومه يقاتلون الناس على أن يكون الدين والطاعة لله ~~وحده بحيث يستبيحون دم كل من خرج عن طاعته! # فصل # ومن المعلوم أن الشرك ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، كما قد ذكر الله ذلك ~~في كتابه، وتكلمنا على ذلك في مواضع متعددة. والإسلام هو التوحيد لله، وهو ~~أصل العدل والقسط، والاستكبار أيضا من أعظم الظلم، ولو لم يكن فيه إلا ~~الاستكبار على بعض الناس، فإن أدنى ما فيه تفضيل نفسه على نظيره بغير حق، ~~ولقصده العلو على غيره يجحد الحق ويغمط الخلق، فلهذا يوجد في الناس احادهم ~~وأممهم أن كل من كان أعظم تحقيقا للإسلام كان أبعد عن الشرك والكبر، وكل من ~~كان أبعد عن الإسلام كان أقرب إلى الشرك والكبر، فإن الإسلام هو أن يستسلم ~~العبد لله رب العالمين، فلا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستكبر عن ~~عبادته وطاعته وطاعة رسله التي جماعها العدل، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا ~~رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب PageV06P230 # والميزان ليقوم الناس بالقسط) (1) ، وقال: (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا ~~وجوهكم عند كل مسجد) (2) . ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لأهل الكتاب: ~~(تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله) الاية (3) . # ف ### | الإسلام يتضمن العدل، # وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتفاضلين من المخلوقات، إذ ~~ذلك من الإسلام لله رب العالمين وحده، فإنه إذا كان الدين كله لله وكانت ~~كلمة الله هي العليا كان الله يأمر بالعدل وينهى عن الظلم. وأصل العدل هو ~~القسط، والقسط هو الإقساط في حق الله تعالى بان لا يعدل به غيره ولا يجعل ~~له شريك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "حق الله على عباده ~~أن ms1137 يعبدوه لا يشركون به شيئا" (4) . فإذا لم يسلموا له بل عدلوا به غيره ~~كان ذلك ظلما عظيما، وإذا فعلوا هذا الظلم في حق الله فهم في حقوق العباد ~~أظلم، والتسوية بين المتفاضلين ظلم، كما أن التفضيل بين المتماثلين ظلم، ~~والشرك من نوع الأول كما قال تعالى: (إذ نسويكم برب العالمين (98)) (5) ، ~~والاستكبار قد يكون من نوع الثاني، والإسلام يتضمن العدل كله، كما أنه ~~ينافي الشرك والكبر. PageV06P231 # فصل # والمقصود هنا أن يعرف المؤمن حال الناس الذين يحتاج إلى معرفة حالهم، ~~ويعمل معهم ما أمر الله به، ويكون فيمن مضى عبرة له، فآل فرعون لما كانوا ~~أبعد الخلق عن الإسلام الذي هو دين الله جعلهم الله في أشد العذاب، كما قال ~~تعالى: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46)) (1) ، لأنهم كانوا من أعظم الخلق ~~استكبارا وإشراكا، حيث جعلوا واحدا من جنسهم إلههم وربهم، فأطاعوه واتبعوا ~~أمره الذي ليس برشيد، واستكبروا قبل مجيىء الرسول إليهم على من هو من ~~جنسهم، فاستعبدوهم بغير حق وكانوا خولهم، وبعد مجيىء الرسول علوا على ربهم ~~وعلى رسوله. # وكذلك بنو إسرائيل لما بعث إليهم المسيح كان من استكبارهم على رسولهم ~~سؤالهم المائدة وعبادتهم الطاغوت كما ذكره الله عنهم في كتابه، ولما كانوا ~~أبعد الناس عن الإسلام إذ ذاك قال الله لهم: (قال الله إني منزلها عليكم ~~فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)) (2) ~~. # وكذلك الذين بعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كان فيهم من الشرك ~~والكبر ما هو معروف، وقد دل كتاب الله من ذلك على ما فيه عبرة. والمنافق ~~أسوأ حالا في الآخرة من الكافر، كما قال: (إن المنافقين في الدرك ~~PageV06P232 # الأسفل من النار) الاية (1) . وقد روي في الحديث عن عبد الله بن عمرو: ~~"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة آل فرعون ومن كفر من أهل المائدة ~~والمنافقون من هذه الأمة" (2) . فإن هؤلاء عاندوا الرسل الثلاثة الكبار أهل ~~الشرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام في وجوههم، وباشروهم بذلك. # والمشركون الذين خرجوا على ديار ms1138 الإسلام عبيد جنكسخان، وهو الذي استخف ~~قومه فأطاعوه من الترك وأشركوا به، حتى اعتقدوا فيه أن أمه أحبلتها الشمس، ~~إذ لا يعرف له أب بينهم، وإنما كانت أمه بغيا فجرت ببعض الترك، ثم كتمت ذلك ~~وأظهرت غيره، وكانت ذات مكر وكيد. وقد ذكر الله في كتابه قول العزيز: (إنه ~~من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)) (3) . ولهذا لما علا ابنها وقهر الأمم ~~المجاورة له كان من سنتهم تعظيم النساء وطاعتهن. ولما كانوا من أبعد الخلق ~~عن الإسلام كانوا من أعظم الأمم كبرا وشركا، فهم مطيعون لمن قهرهم وأذلهم ~~واستعبدهم كطاغوتهم الأعظم جنكسخان طاعة وعبادة وتألها، فهم بذلك من أعظم ~~المشركين، وهم مع ذلك مستكبرون على من قهروه من جنسهم وغير جنسهم استكبارا ~~وعلوا. PageV06P233 # فصل # كل مشرك فإنه مكذب بالاخرة، إذ لو كان مؤمنا بها لما أشرك بالله شيئا، ~~وهذا الشرك يدخل في العلم والعمل. ومن فضائل توحيد الإلهية أنه ليس لغير ~~الله مطلقا ولا مقيدا، وأما توحيد الربوبية فهو لغيره مقيدا، كقول الذين ~~جعلوا لله أندادا، وقد أخبر عن الكفار أنهم لم يشركوا به في توحيد ~~الربوبية. # فصل # ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا من الناس لا يعلمون كون الشرك من الظلم، ~~وأنه لا ظلم إلا ظلم الحكام أو ظلم العبد نفسه، وإن علموا ذلك من جهة ~~الاتباع والتقليد للكتاب والسنة والإجماع لم يفهموا وجه ذلك، ولذلك لم يسبق ~~ذلك إلى فهم جماعة من الصحابة لما سمعوا قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا ~~إيمانهم بظلم) (1) ، كما ثبت ذلك في الصحيحين (2) من حديث ابن مسعود أنهم ~~قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله: "ألم تسمعوا إلى قول العبد ~~الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم) (3) ؟ ". وذلك أنهم ظنوا أن الظلم- كما حده ~~طائفة من المتكلمين- هو إضرار غير مستحق، ولا يرون الظلم إلا ما فيه إضرار ~~بالمظلوم، إن كان المراد أنهم لن يضروا دين الله وعباده المؤمنين، فإن ~~PageV06P234 # ضرر دين الله وضرر المؤمنين بالشرك والمعاصي أبلغ وأبلغ. ومعلوم أن الله ~~سبحانه لا يضره عباده ولا ms1139 ينفعونه، وإنما يضرون أنفسهم، ولهذا قال: (ولا ~~يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل ~~لهم حظا في الآخرة) (1) ، فأخبر أن الكافر الذي كفر بربه وترك حقه وأشرك به ~~وعبد غيره وتعدى حدوده وانتهك محارمه لا يضره شيئا، كما يضر المخلوق من ~~السادة ونحوهم من يجحد حقوقهم ويكفر نعمهم ويعتدي عليهم، فالله سبحانه ~~وتعالى ليس كمثله شيء ولا تضرب له الأمثال. # ولهذا قال تعالى في الحديث الصحيح (2) عن أبي ذر- وهو أشرف حديث رواه أهل ~~الشام-: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا ~~تظالموا" الحديث إلى قوله: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن ~~تبلغوا نفعي فتنفعوني " إلى قوله: "فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ~~ذلك فلا يلومن إلا نفسه ". وكذلك أخبر في القرآن أنه غنى عن خلقه، لن ~~يبلغوا نفعه فينفعوه، كما يبلغ بعضهم نفع بعض، كما قال: (ومن كفر فإن الله ~~غني عن العالمين (97)) (3) ، وقال (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى ~~لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (4) ، وقال موسى: (إن تكفروا أنتم ~~PageV06P235 # ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد (8)) (1) بعد أن أخبرهم أن ربهم ~~تأذن (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7)) (2) وقال سليمان: ~~(هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر ~~فإن ربي غني كريم (40)) (3) . وقال: (من عمل صالحا فلنفسه) الاية (4) . ~~وقال: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) الآية (5) . وقال: (لها ما كسبت وعليها ~~ما اكتسبت) (6) . وقال عن بني إسرائيل: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم ~~يظلمون (57)) (7) ، فهذا نص في أنهم لم يظلموا الله وإنما ظلموا أنفسهم. ~~وقال تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون ~~الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23)) (8) . # ولكن عبادته وحده حق استحقه عليهم لذاته، كما قال: (وما خلقت الجن والإنس ~~إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو ~~الرزاق ذو القوة المتين (58)) (9) ، فأخبر أنه ms1140 إنما خلق الخلق لعبادته، ~~وأخبر أن الذي خلقه لهم وأمره بهم ورضيه وأحبه وأراده بأمره PageV06P236 # منهم هو عبادته، لم يرد منهم رزقا ولا أن يطعموه، والرزق يعم كل ما ينتفع ~~به الحي ظاهرا وباطنا، فلم يرد منهم ما يريده السادة والمخلوقون من عبادهم، ~~من جلب المنفعة إليهم التي هي الرزق. # وقال تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74) ~~ونزعنا من كل أمة شهيدا) الاية (1) فأخبر تعالى أنهم علموا يومئذ أن الحق ~~لله، وأن أولئك الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله لم يكن لهم في ذلك الحق ~~شي، بل كان دعواهم أن لهم حقا افتراء افتروه، فضل عنهم وقت الحقيقة ما ~~افتروه. # وفي الصحيحين (2) عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ~~له: "هل تدري ما حق الله على العباد؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقه ~~عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" وذكر الحديث. # ولهذا يكثر من ذكر الشرك والكفر وأنواعه في القرآن، ويخبر بأنه ظلم، وأنه ~~من أعظم الظلم، كقوله: (والكافرون هم الظالمون (254)) " (3) ، وقوله: (ويوم ~~يعض الظالم على يديه) إلى قوله: (وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)) (4) . ~~وقد أخبر المسيح أن العبادة ليست بحق للمخلوق، وإنما هي حق للخالق تعالى، ~~في قوله: (قال سبحانك ما PageV06P237 # يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) (1) . وفي الحديث الصحيح (2) : "ومن أظلم ~~ممن ذهب يخلق كخلقي ". وقال تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو ~~قال أوحي إلي) الاية (3) . وقوله: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض ~~عنها إنا من المجرمين منتقمون (22)) (4) . وقال: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ~~ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت) الآيات (5) . وقال: (ومن أظلم ممن افترى على ~~الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين (6)) . # وقوله في الذي آتاه الله الملك: (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم ~~الظالمين) (7) . وقوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب ~~الله والذين آمنوا أشد حبا لله) الآية (8) . وقوله: (ولن ينفعكم اليوم ms1141 إذ ~~ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)) (9) . وقوله: (وقوم نوح من قبل إنهم ~~كانوا هم أظلم وأطغى (52)) (10) . وقال: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ~~ظلما وعلوا) (11) . وقوله: (ونذر الظالمين فيها PageV06P238 # جثيا (72)) (1) ، (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) (2) . وقال: (إنا ~~أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) (3) ، (وقد خاب من حمل ظلما (111)) ~~(4) . وقال: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ~~(38)) (5) ، (وأسروا النجوى الذين ظلموا) (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة) ~~(ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46)) (6) . ~~وقوله: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من ~~القوم الظالمين (28)) (7) . وقوله: (قل رب إما تريني ما يوعدون (93) رب فلا ~~تجعلني في القوم الظالمين (94)) (8) . وقول أهل الأعراف: (ربنا لا تجعلنا ~~مع القوم الظالمين (47)) (9) . وقوله: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ~~ينقلبون (227)) (10) . وقوله: (وأعتدنا للظالمين عذابا أليما (37)) (11) ~~(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) (12) (ووقع القول PageV06P239 # عليهم بما ظلموا) (1) . وقوله: (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40) (2) . ~~والآيات في هذا كثيرة. # وهؤلاء الذين قالوا: إن الظلم إضرار غير مستحق، قصدوا بذلك الظلم المعروف ~~بينهم، وهو ظلم العباد الذين يتضررون بالظلم في حقوقهم. وأما الظلم في حق ~~الله تعالى فلم يستشعروه ولم يقصدوه، ولعلهم لا يعدونه ظلما، كما هو في ~~أكثر النفوس العامية، بناء على أن الله غني لا يلحقه ضرر، لكن أكثر هؤلاء ~~مع هذا يوجبون شكره على إحسانه إليهم بالعقل المجرد قبل ورود شرع إذا فرض ~~خلو العباد عن شرع يجعلون العقل معرفا لوجوب ذلك مع الشرع، كما تعرف بالعقل ~~أمور كثيرة تعرف بالشرع أيضا، مع علمهم بأنه سبحانه لا ينتفع بشكر ~~الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين. ومعلوم أن ترك الحق الواجب ظلم، فيناسب ~~أصولهم أن لا يكون الظلم مجردا لإضرار غير المستحق، بل يدخل فيه ترك ما يحب ~~لذاته وفعل ما يقبح لذاته عندهم. ولهذا يقولون: إنه عرف بالعقل أن الظلم من ~~الله قبيح وإن كان لا يتضرر بفعله. وهذا فيه حق، لكنهم يعنون بذلك أن الظلم ~~منه نظير ms1142 الظلم من العباد بعضهم بعضا، فيجعلون لله أندادا، ويمثلونه بخلقه، ~~ويضربون له الأمثال، ومن هنا وقعوا في الضلال، وصاروا من القدرية المجوسية ~~المنكرين لمشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه للأفعال. ومنهم من ينكر ~~علمه القديم وكتابه المحيط بجميع الأحوال. PageV06P240 # وقد عارضهم آخرون من المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وهم فيما ~~أثبتوه "من علم الله ومشيئته وقدرته وخلقه على الصواب الموافق للكتاب ~~والسنة وإجماع الأمة، لكن نازعوهم فيما تنزه الله عنه من الظلم، وفيما يجب ~~له على خلقه من الحق، نزاعا فيه نوع من الباطل في الجدال، وقالوا: إذا كان ~~الله لا يتضرر بما يفعله ولا ينتفع به ولا يأمر به، فلا معنى لتنزيهه عن ~~فعل قبيح أوتسمية شيء مما يقدر عليه قبيحا أو ظلما أو سفها، لأنه لا يتضرر ~~بهذه الأشياء ولو نسبت إليه، إذ هذه الأسماء لا تكون إلا لمن ينتفع بفعله ~~ويتضرر به، أو لمن فوقه آمر مطاع أمره يخافه، وإذا كان لا ينتفع بشيء من ~~معرفة عباده وعبادتهم وشكرهم فلا معنى لإيجاب شيء عليهم له. وإذا كان لم ~~يأمرهم ولم ينههم فلا معنى لقبح شيء منهم، ولا معنى لقبح فعل العبد إلا ~~كونه منهيا عنه، ولا معنى لحبه إلا كونه مأمورا به. # وهؤلاء وإن كان في كلامهم نوع من المردود المخالف للكتاب والسنة وإجماع ~~السلف، فالحق الذي معهم أضعاف الحق الذي مع الأولين، وهم الذين يجعلون ~~العقل معرفا، وهم الذين قالوا: إضرار غير مستحق. فإن مخالفة أولئك للكتاب ~~والسنة وإجماع سلف الأئمة أوقعهم في أمور عظيمة، وعظم الذم لهم بسبب ذلك. ~~وأما هؤلاء فقصروا نوع تقصير لدقة الأمر وغموضه، وحصل منهم نوع تعد باجتهاد ~~قل أن يسلم منه في هذه المضايق إلا من شاء الله، ولهذا كانوا مضافين إلى ~~السنة والجماعة، وكان الأولون داخلين في الفرقة والخروج. # PageV06P241 # وقد تكلمت على مسألة التحسين والتقبيح العقلي وعلى مسألة تنزيه الرب عن ~~الظلم في غير هذا الموضع بما يوقف مريد الحق على حقيقة الأمر إن شاء الله، ~~ولا حول ولا ms1143 قوة إلا بالله. ولم يكن الغرض هنا ذكر هذا، وإنما بينا ذلك ~~لاتصال الكلام به، لأنه بسبب كون الظلم في النفوس عامة مستلزما لاحتراز ~~المظلوم من الظلم، وكون الحق مستلزما لنفع المستحق، ولم يهتد أكثرهم إلى ~~كون عبادة الله وحده حقا له، وكون الشرك ظلما في حقه. # ثم اضطربوا في وجه التكليف وجنسه، فزعمت المعتزلة ونحوهم ممن يتكلم في ~~التعديل والتجويز (1) أن ذلك لما فيه من تعريض المكلف للنفع الذي لا يحصل ~~بدونه، وكان هذا الكلام من اللغو بين الناس بطلانه من وجوه كثيرة. هذا مع ~~أنهم يوجبون شكره بدون التكليف الشرعي، وهذا تناقض بين. # وقال آخرون من المنتسبين إلى السنة: إن ذلك محض المشيئة وصدق الإرادة، ~~وهذا الإطلاق غالب على أهل السنة الظاهرين من فقهاء أهل السنة ومتكلميهم، ~~ومعلوم أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكن لا ينكر العاقل ما في خلقه ~~وأمره من أنواع الحكمة والمصالح لخلقه، بل إخلاء الوجود من الوجوه التي ~~فيها المناسبة لأحكامها من الظلم، فقد سلمت الشريعة لبابها وحرر الفقه في ~~الدين صاحبه، ولم يفهم المعارض كون السنة التي سنها الرسول هي PageV06P242 # الحكمة، وأن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة. # ثم من تدبر قوله: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) (1) وقوله: (إن الشرك لظلم ~~عظيم (13)) (2) وقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)) (3) وقوله: ~~"أتدري ما حق الله على عباده " (4) = علم أنه يستحق أن يعبد، وأن في الشرك ~~والفواحش ما يوجب قبحها وقبحه وتحريمه، وظهر له الفرق بين ما اتفقت عليه ~~الرسل من الأمر الذي لا يقبل النسخ، مثل الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل ~~الصالح الذي أصله عبادة الله وحده لا شريك له، وما فيه من تحريم قتل النفس ~~بغير حق والزنا والكذب والظلم وغير ذلك مما أنزل الله فيه السور المكية ~~المشتملة على أصول الدين، وما شرعت فيه شرائع الرسل مثل صفة العبادات ~~وأقدارها ومقادير العقوبات وأنواعها وغير ذلك مما أنزله الله في السور ~~المدنية، وأنزل فيها ما جعله لأهل القرآن من الوجهة والشرعة ms1144 والمنهاج ~~والمنسك، وفضلهم بذلك على سائر الأمم. والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم ~~علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا. PageV06P243 # فصل # ولهذا قال اخرون من المتسننة: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كما يقول ~~العرب (1) : "من أشبه أباه فما ظلم " أي ما وضع الشبه في غير موضعه. وهذا ~~الحد أسلم من الأول الذي تكلمنا عليه في الفصل قبله، لكن فيه إجمال، فإنه ~~يحتاج إلى بيان موضع الشيء، وهو يرجع إلى معرفة الحق، فكأنه قال: الظلم ترك ~~الحق. ولكن هذا الإجمال لا يمنع أن يكون كلاما سديدا، وأن هذا الأمر العام ~~لا يعبر عنه إلا بمثل هذه العبارة الجامعة، وأما التفصيل ففي كل موضع ~~بحسبه. # ولهذا كان الحد الأول فيه هذا، وهو قوله في الفصل قبله: "إضرار غير مستحق ~~"، فإن قول القائل: "إضرار غير مستحق " فيه من الإجمال نحو هذا، فلا بد من ~~معرفة المستحق، فيحتاج إلى بيان الحق والعدل المضاد للظلم. فإذا كان كل من ~~الحدين موقوفا على معرفة الحق، وكان الأول هو الجامع للمعنيين، كان أحكم، ~~ولذلك قال بعضهم: الظلم نقص الحق أو النقص عن الواجب أو نحو ذلك، مستشهدين ~~بقوله: (ولم تظلم منه شيئا) (2) أي لم تنقص منه شيئا. وهذا وإن كان صحيحا ~~فظاهره إنما يتناول أحد نوعي الظلم، وهو ترك PageV06P244 # الواجب، وقد يستلزم الآخر، وهو تعدي الحد، فإن من تعدى الحد لا بد أن ~~ينقص حق المتعدى عليه، فنقص الحق ملازم لمسمى الظلم، وهو فساد الحد الثاني ~~في العموم، فإن وضع الشيء في غير موضعه نقص وخلو لموضعه منه. وربما يقال: ~~هو أعم منه (1) لأن نقص الحق قد يكون تركا له بالكلية، وقد يكون نقلا له ~~إلى موضع آخر، وقد يقال: لا يكون إلا أمرا موجودا ثابتا، وإن استلزم عدم ~~أمور أخرى، فلا بد له من محل، فإذا لم يوضع في موضعه وضع في غيره، وهو ~~الظلم. أما العدم المحض الذي لا يستلزم حقا مرتبا وأمرا وجوديا فليس بشيء ~~أصلا، فلا يقال فيه: إنه ظلم ولا ms1145 إنه غير ظلم. # وهذه معان فيها دقة، قد تكلمت على أصلها في "قاعدة العلم والإرادة ~~وتعلقهما بالموجود والمعدوم "، فقد عاد معرفة الظلم مفتقرا إلى معرفة الحق. ~~وقد تكلمت على ### | معنى الحق # في غير هذا الموضع، وأنه يعنى به الموجود تارة وما يستحق الوجود، أي أن ~~يوجد منا فعل الطاعة، وهو المانع أخرى. ففي الكلام الخبري الحق هو الثابت ~~والعلم به والخبر عنه. وفي الكلام الطلبي الحق هو ما يبتغى وجوده أو ما ~~يستحق الوجود كالنافع للعبد، وهو الخير وهو الحق وإرادته والأمر به، الباطل ~~يضاده، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل لهو يلهو به الرجل فهو ~~باطل إلأ رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق" (2) ، ~~أي أن اللهو لا منفعة فيه ولا فائدة له إلا في هذه الأمور. وكذلك قوله: ~~PageV06P245 # "الوتر حق " (1) ونحو ذلك مما يصف فيه الأفعال بأنها حق أو باطل، كما وصف ~~الله أعمال الكفار بانها باطل، ولهذا يقول الفقهاء: عمل وعقد صالح وصحيح، ~~وبإزائه الباطل، فما حصل به مقصوده وترتب عليه أثره فهو الصحيح وهو الصالح، ~~وما لم يحصل به مقصوده ولا ترتب عليه أثر فهو باطل. # إذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن ### | العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق، # ويكون بدون ذلك في الجمادات والحيوانات في كل يابس ورطب، فليس كل من وقع ~~الظلم في حقه يكون متضررا به، وإنما حصل الضرر لغيره لعدم العدل فيه. وتدبر ~~هذا في الانية والأطعمة والملابس والأشجار والثمار والزروع ونحو ذلك، فإن ~~البيت المبني إذا نقص أحد الحائطين المتناظرين عن الآخر أو جعل السقف أو ~~بعض جذوعه أقصر مما بين الحائطين كان هذا تركا للعدل والحق الذي يقوم به ~~ذلك البناء، وكان هذا ظلما لأحد الحائطين ولأحد الجذعين، ويقال فيه: هذا لا ~~يصلح، ويقال: هذا الجذع يستحق أن يوضع هنا، وهذا الحائط يستحق أن يجعل بقدر ~~هذا، ونحو ذلك من المعاني التي يذكر فيها الاستحقاق والمراد، ويجعل ذلك من ~~العدل بينها، ويجعل بعضها يطلق ms1146 إذا ما نقص عما يستحقه أو وضع في غير موضعه. ~~وذلك كله مستلزم ضرر الساكن في PageV06P246 # ذلك المسكن أو فوات الانتفاع المقصود، لأنه لم يفعل الشيء الذي ينتفع به، ~~فنقص منفعته ظلم. # وكذلك في اللباس، لو نقص أحد جانبي الثوب عن الآخر، أو نقص ما يتم به من ~~خياطة وقدر، أو نقص الثوب عما يستحقه من النسج أو الغزل أو نحوه= قيل فيه: ~~لم يعط حقه، وكان حقه أن يفعل به كذا وكذا، وكان الواجب أن يسوى بين هذا ~~وهذا، وهذا عدل وهذا ظلم، وقد ظلم هذا الجانب هذا الموضع ونحوه. # وكذلك في الأطعمة، في أجزاء الطعام ومقدار طبخه ونحو ذلك، لها حقوق ~~مبناها على العدل. وكذلك في الزروع إذا أثيرت الأرض وبذرت وسقي الزرع ونظف ~~على الوجه الذي يستحقه، وإلا قيل: هذا كان يستحق كذا وكذا، وهذا الزرع لم ~~يعط حقه، ونحو ذلك. فإذا عمل كما يستحقه وأخرج الثمر قيل: أخرج ثمره ولم ~~يظلم منه شيئا، كما قال تعالى: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين ~~من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين آتت أكلها ~~ولم تظلم منه شيئا) (1) ، فهنا جعل الظلم من نفس الجماد، لأنه لما أعطي حقه ~~من عمل العبد فيه لم يظلم عامله شيئا، كما قد يجعل لها فتكون ظالمة تارة ~~ومظلومة أخرى، كما قال النابغة (2) : # وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد PageV06P247 # إلا الأواري لأيا ما أبينها والنوي كالحوض بالمظلومة الجلد # وما كان أشرف في ذاته مثل الخبز إذا أنتن ألقي في النتن وأكرمت العذرة ~~ونحوها وفضلت عليه في المكان وغيره= كان هذا ظلما له وتركا لحقه، وإن لم ~~يكن هو متضررا في ذلك، وإنما المتضرر الظالم. ولهذا قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - لعائشة لما رأى لقمة ملقاة: "يا عائشة، أحسني جوار نعم الله ~~عندك، فإنها قل نعمة فارقت قوما (1) فعادت إليهم " (2) . # وقد ذم الله قوما بدلوا نعمه كفرا، وإن لم تكن بعض النعم متضررة، ولهذا ~~ينهى عن الاستنجاء ms1147 بما له حرمة، حتى الروث والعظام التي هي طعام الجن وطعام ~~دوابهم، فكيف طعام الإنس وطعام دوابهم؟ وذلك وإن كان لما فيه من تفويت ~~منفعتها على الجن فلها شرف بذلك، حتى لو فوتها الإنسان بغير الاستنجاء- مثل ~~الكسر والتفتيت- لم يكن في ذلك بمنزلة المستنجي بها. # ف ### | كل ما كانت المنفعة به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك، # واستحق ما لم يستحقه ما هو دونه، وإن كان هو في نفسه لا يتضرر بتفويت ~~حقه، سواء كانت ذاته ينتفع بها أو كانت المنفعة منه، وإن كان هو لا يتضرر ~~بتفويت حقه، وقد قالت عائشة: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ~~ننزل الناس منازلهم، رواه أبو داود وغيره (3) . وكان قد وقف على بابها ~~PageV06P248 # سائلان أحدهما أشرف من الآخر، ففضلته في العطاء. # وقد قال تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل ~~هو خير لكم) (1) ، فأخبر أن الإفك عليهم- وهو من أعظم الظلم- هو خير لهم لا ~~شر. لكن هذا قد يقال فيه: إنه وإن تضرر الإنسان بالكذب عليه، لكن لما كانت ~~عاقبته منفعة زائدة كان خيرا لا شرا. وقد قال تعالى: (ولو آمن أهل الكتاب ~~لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى) ~~الاية (2) ، فأخبر أنهم لن يضروا المؤمنين إلا أذى، وإن كانوا مع هذا ~~ظالمين للمؤمنين بالكذب والفجور. # وقالي تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا ~~اهتديتم) (3) ، فأخبر سبحانه أن الضالين لا يضرون المهتدين، وإن كانوا قد ~~يؤذونهم، فالأذى ليس هو الضرر، وإن كانوا مع هذا ظالمين لهم بأنواع من ~~الظلم، كما يظلم الكفار المحاربون والمنافقون المؤمنين، وقد قال تعالى: (يا ~~أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) إلى قوله ~~تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) (4) . فأخبر عن هؤلاء ~~المنافقين الظالمين للمؤمنين بما PageV06P249 # ذكر، وأن المؤمنين إذا صبروا واتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا. # فعلم أنه ليس كل ظالم يضر المظلوم ms1148 البتة، بل قد لا يضره ظلمه شيئا وإن ~~قصد الظالم إضراره، ومنه قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت ~~طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء) الاية (1) . ~~ومعلوم أن ذلك من ظلمهم، ومع هذا فلا يضرونه. # وفي صحيح مسلم (2) عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل ~~سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي ". والسم قد يكون ~~من شقي ظالم. # وفي الصحيح (3) : "من قال إذا نزل منزلا: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ~~ما خلق، لم يضره شيء في ذلك المنزل حتى يرتحل منه ". وقد يعرض له ظالم من ~~الإنس أو الجن بظلم أو أذى ولا ... (4) وقد أمر الله بالاستعاذة من شر ما ~~خلق، وشر النفاثات في العقد، وشر حاسد إذا حسد، ومن أعاذه الله لم يضره ~~ذلك، وهو كله ظلم. # وكذلك قوله في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة: "لا يضرهم من خذلهم ولا ~~من خالفهم " (5) ، فهم يضرون ويخالفون، وذلك ظلم، PageV06P250 # ولكن لا يضرهم ذلك. # فإذا كان ### | الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم، # ولا أن يكون مما يضر المظلوم، أو يكون المظلوم ممن يتضرر به، فالظلم في ~~حق الله تعالى أولى أن يكون كذلك، فإن الله لا يضر العباد أو يظلمهم، وإنما ~~العباد يتضررون بترك الحق الذي استحقه لذاته، ويتضرر العبد بتركه، فإن ترك ~~حق من يحتاج إليه العبد يضر العبد، والعبد لا صلاح له ولا قيام إلا بعبادة ~~الله الجامعة لمعرفته ومحبته والذل له، فتفويته هذا ظلم عظيم فيه عليه ~~الضرر العظيم الذي لا ينجبر. # ويشبهه من بعض الوجوه من كان عنده ما يحتاج إليه من الطعام والشراب ~~فأتلفه، واعتاض عنه بما ظن أنه يقوم مقامه من العذرة والبول، فهذا ظلم في ~~حق القوت ضر صاحبه، والمستحق إذا ظلم حقه فقد فوت ما هو بالنسبة إليه كمال ~~مطلوب له ومحبوب من جهته، فإن الجامدات إذا ms1149 ترك ما تستحمه بقيت ناقصة عن ~~كمالها الذي لها، والإنسان إذا ظلم حقه وإن لم يضره فلابد أن يكون قد فوت ~~ما هو محبوب له وصلاح له. # والله سبحانه يحب ما أمر به من الحسنات ويرضاه، وهو سبحانه يفرح بتوبة ~~عبده إذا تاب إليه أعظم مما يفرح من أضل راحلته التي عليها طعامه وشرابه في ~~مفازة مهلكة ثم وجدها، وهذا أمر عظيم حيث كانت محبته ورضاه بإيمان العبد ~~وطاعته أعظم من محبة العبد الفاقد الواجد لما لا بد له منه ولا قوام له إلا ~~به من القوت والشراب والمركب # PageV06P251 # والسلامة. ولهذا يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل ~~الجنة، ونظائره كثيرة متعددة. وكذلك (1) PageV06P252 ### | مسألة # في مقتل الحسين وحكم يزيد # PageV06P253 # سئل- رحمه الله ورضي عنه- # عن مقتل الحسين- رضي الله عنه- وما حكمه وحكم قاتله؟ وما حكم يزيد؟ وما ~~صح من صفة مقتل الحسين وسبي أهله وحملهم إلى دمشق والرأس معهم؟ وما حكم ~~معاوية في أمر الحسن والحسين وعلي وقتل عثمان ونحو ذلك؟ # فأجاب- رضي الله عنه- # الحمد لله. أما عثمان وعلي والحسين- رضي الله عنهم- فقتلوا مظلومين شهداء ~~باتفاق أهل السنة والجماعة، وقد ورد في عثمان وعلي أحاديث صحيحة في أنهم ~~شهداء وأنهم من أهل الجنة، بل وفي طلحة والزبير أيضا، كما في الحديث الصحيح ~~(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للجبل لما اهتز ومعه أبو بكر وعمر ~~وعثمان وعلي: "اثبت حراء- أو أحد- فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ". بل قد ~~شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة للعشرة (2) ، وهم: الخلفاء ~~الأربعة وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف ~~وأبو عبيدة بن الجراح. # أما ### | فضائل الصديق # فكثيرة مستفيضة، وقد ثبت من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال (3) : "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت PageV06P255 # أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله " يعني نفسه. وقال: "إن أمن الناس ~~علينا في صحبته وذات يده أبو بكر". وقال: "لا ms1150 يبقين في المسجد خوخة إلأ سدت ~~إلأ خوخة أبي بكر". وقال لعائشة (1) : "ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي ~~بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ". ثم قال: "يأبي الله والمؤمنون ~~إلا أبا بكر". وجاءته امرأة فسألته شيئا، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: ~~أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ - كأنها تعني الموت- قال: "إن لم تجديني فائتي أبا ~~بكر" (2) . وقال: "أيها الناس، إني جئت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم، ~~فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي ~~صاحبي؟ " (3) . # وهذه الأحاديث كلها في الصحاح ثابتة عند أهل العلم بالنقل. وقد تواتر أنه ~~أمره أن يصلي بالناس في مرض موته، فصلى بالناس أياما متعددة بأمره، وأصحابه ~~كلهم حاضرون- عمر وعثمان وعلي وغيرهم- فقدمه عليهم كلهم. وثبت في الصحيح ~~(4) أن عمر قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار: "أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا ~~إلى PageV06P256 # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وثبت في الصحيح (1) : أن عمرو بن ~~العاصي سأله عن أحب الرجال إليه، فقال: "أبو بكر". # وفضائل عمر وعثمان وعلي كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها، وإنما المقصود أن ~~من هو دون هؤلاء- مثل طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف- قد توفي ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) ~~عن عمر أنه جعل الأمر شورى في سته: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد ~~الرحمن، وقال: هؤلاء الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم ~~راض. بل قد ثبت في الصحيح (3) من حديث علي بن أبي طالب أن حاطب بن أبي ~~بلتعة قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه شهد بدرا، وما يدريك ~~أن الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". وكانوا ~~ثلاث مئة وثلاثة عشر. # وثبت في صحيح مسلم (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ~~يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة". وكان أهل الشجرة ألفا وأربعمئة كلهم رضي ~~الله ms1151 عنهم ورضوا عنه، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم ~~الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، فهم أعظم درجة ممن أنفق من بعد الفتح ~~وقاتل. وثبت في الصحيح (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~PageV06P257 # قال: "لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا ~~نصيفه ". وثبت في الصحيح (1) أن غلام حاطب قال: والله يا رسول الله، ليدخلن ~~حاطب النار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "كذبت، إنه قد شهد بدرا ~~والحديبية". وهذا وقد كان حاطب سيئ الملكة، وقد كاتب المشركين باخبار رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، ومع هذه الذنوب أخبر النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه ممن يدخل الجنة ولا يدخل النار، فكيف بمن هو أفضل ~~منه بكثير؟ كعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف. # وأما الحسين فهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة (2) ، وهما ريحانة رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم - من الدنيا، كما ثبت ذلك في الصحيح (3) . وثبت في ~~الصحيح (4) أنه أدار كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين، وقال: "اللهم ~~هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". وإن كان الحسن الاكبر هو ~~الأفضل، لكونه كان أعظم حلما وأرغب في الإصلاح بين المسلمين وحقن دماء ~~المسلمين، كما ثبت في صحيح البخاري (5) عن أبي بكرة قال: رأيت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - على المنبر PageV06P258 # والحسن بن علي إلى جانبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: "إن ~~ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ". وفي ~~صحيح البخاري (1) عن أسامة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذني ~~فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ويقول: "اللهم إني أحبهما، ~~فأحبهما، وأحب من يحبهما". وكانا من أكره الناس للدخول في اقتتال الأمة. # والحسين- رضي الله عنه- قتل مظلوما شهيدا، وقتلته ظالمون متعدون، وإن كان ~~بعض الناس يقول: إنه قتل بحق، ويحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ~~من جاءكم وأمركم على ms1152 رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه ~~بالسيف، كائنا من كان ". رواه مسلم (2) . فزعم هؤلاء أن الحسين أتى الأمة ~~وهم مجتمعون، فأراد أن يفرق الأمة، فوجب قتله. وهذا بخلاف من يتخلف عن بيعة ~~الإمام ولم يخرج عليه، فإنه لا يجب قتله، كما لم يقتل الصحابة سعد بن عبادة ~~مع تخلفه عن بيعة أبي بكر وعمر. # وهذا كذب وجهل، فإن الحسين رضي الله عنه لم يقتل حتى أقام الحجة على من ~~قتله، وطلب أن يذهب إلى يزيد أو يرجع إلى المدينة أو يذهب إلى الثغر. وهذا ~~لو طلبه آحاد الناس لوجب إجابته، فكيف لا يجب إجابة الحسين رضي الله عنه ~~إلى ذلك وهو يطلب الكف والإمساك؟ PageV06P259 # وأما أصل مجيئه فإنما كان لأن قوما من أهل العراق من الشيعة كتبوا إليه ~~كتبا كثيرة يشتكون فيها من تغير الشريعة وظهور الظلم، وطلبوا منه أن يقدم ~~ليبايعوه ويعاونوه على إقامة الشرع والعدل، وأشار عليه أهل الدين والعلم- ~~كابن عباس وابن عمر وابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- بأن لا يذهب ~~إليهم، وذكروا له أن هؤلاء يغزونه، وأنهم لا يوفون بقولهم، ولا يقدر على ~~مطلوبه، وأن أباه كان أعظم حرمة منه وأتباعا ولم يتمكن من مراده. فظن ~~الحسين أنه يبلغ مراده، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل، فاووه أولا ثم قتلوه ~~ثانيا، فلما بلغ الحسين ذلك طلب الرجوع، فأدركته السرية الظالمة، فلم تمكنه ~~من طاعة الله ورسوله، لا من ذهابه إلى يزيد، ولا من رجوعه إلى بلده ولا إلى ~~الثغر. وكان يزيد لو يجتمع بالحسين من أحرص الناس على إكرامه وتعظيمه ~~ورعاية حقه، ولم يكن في المسلمين عنده أجل من الحسين، فلما قتله أولئك ~~الظلمة حملوا رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد، فنكت بالقضيب على ثناياه، ~~وكان في المجلس أنس بن مالك فقال: إنك تنكت بالقضيب حيث كان رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - يقبل. هكذا ثبت في الصحيح (1) ، وفي المسند (2) أن ~~أبا برزة الأسلمي كان أيضا شاهدا. فهذا ms1153 كان بالعراق عند ابن زياد. # وأما حمل الرأس إلى الشام أو غيرها والطواف به فهو كذب، والروايات التي ~~تروى أنه حمل إلى قدام يزيد ونكت بالقضيب= PageV06P260 # روايات ضعيفة لا يثبت شيء منها، بل الثابت أنه لما حمل علي بن الحسين ~~وأهل بيته إلى يزيد وقع البكاء في بيت يزيد، لأجل القرابة التي كانت بينهم، ~~لأجل المصيبة. وروي أن يزيد قال: لعن الله ابن مرجانة- يعني ابن زياد-، لو ~~كان بينه وبين الحسين قرابة لما قتله. وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل ~~العراق بدون قتل الحسين. وأنه خير علي بن الحسين بين مقامه عنده وبين ~~الرجوع إلى المدينة، فاختار الرجوع، فجهزه أحسن جهاز. # ويزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمر بدفعه عن منازعته في الملك، ولكن لم ~~يقتل قتلة الحسين ولم ينتقم منهم، فهذا مما أنكر على يزيد، كما أنكر عليه ~~ما فعل بأهل الحرة لما نكثوا بيعته، فإنه أمر بعد القدرة عليهم بماباحة ~~المدينة ثلاثا. ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيؤخذ الحديث عن يزيد؟ فقال: لا، ~~ولا كرامة، أو ليس هو الذي فعل باهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إن قوما ~~يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ ~~فقيل له: أو لا تلعنه؟ فقال: متى رأيت أباك يلعن أحدا؟ # ومع هذا ف ### | يزيد أحد ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات # كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر ~~أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له ~~". وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية، ومعه أبو ~~PageV06P261 # أيوب الأنصاري ومات ودفن هناك. # ويزيد هذا ليس هو من الصحابة، بل ولد في خلافة عثمان، وأما عفه يزيد بن ~~أبي سفيان فهو من الصحابة، وهو رجل صالح، أمره أبو بكر في فتوح الشام ومشى ~~في ركابه، ووصاه بوصايا معروفة عند الفقهاء يعملون بها، ولما مات في خلافة ~~عمر ولى عمر أخاه معاوية مكانه ms1154، ثم ولي عثمان فأقره وولاه إلى أن قتل ~~عثمان، وولد له يزيد ابنه في خلافة عثمان. # و ### | لم يسب قط في الإسلام أحد من بني هاشم، # لا علوي ولا غير علوي، لا في خلافة يزيد ولا غيرها، وإنما سبى بعض ~~الهاشميات الكفار من المشركين وأهل الكتاب، كما سبى الترك المشركون من سبوه ~~لما قدموا بغداد، وكان من أعظم [أسباب] سبي الهاشميات معاونة الرافضة لهم ~~كابن العلقمي وغيره. بل ولا قتل أحد من بني مروان أحدا من بني هاشم- لا ~~علوي ولا عباسي ولا غيرهما- إلا زيد ابن علي، قتل في خلافة هشام. وكان عبد ~~الملك قد أرسل إلى الحجاج: إياي ودماء بني هاشم، فلم يقتل الحجاج أحدا من ~~بني هاشم لا علوي ولا عباسي. بل لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر فأمره عبد ~~الملك أن يفارقها، لأنه ليس بكفؤ لها، فلم يروه كفوا أن يتزوج بهاشمية.. # وأما معاوية لما قتل عثمان مظلوما شهيدا، وكان عثمان قد أمر الناس بأن لا ~~يقاتلوا معه، وكره أن يقتل أحد من المسلمين بسببه، # PageV06P262 # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بشره بالجنة على بلوى تصيبه (1) ، ~~فأحب أن يلقى الله سالما من دماء المسلمين، وأن يكون مظلوما لا ظالما، كخير ~~ابني ادم الذي قال: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك ~~لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28)) (2) . وعلي بن أبي طالب بريء من ~~دمه لم يقتله ولم يعن عليه ولم يرض، بل كان يحلف وهو الصادق المصدوق أني ما ~~قتلت عثمان ولا أعنت على قتله ولا رضيت بقتله. ولكن لما قتل عثمان وكان ~~عامة المسلمين يحبون عثمان لحلمه وكرمه وحسن سيرته، وكان أهل الشام أعظم ~~محبة له، فصارت شيعة عثمان إلى أهل الشام، وكثر القيل والقال كما جرت ~~العادة بمثل ذلك من الفتن، فشهد قوم بالزور على علي أنه أعان على دم عثمان، ~~فكان هذا مما أوغر قلوب شيعة عثمان على علي، فلم يبايعوه، وآخرون يقولون: ~~إنه خذله وترك ما يجب ms1155 من نصره، وقوى هذا عندهم أن القتلة تحيزت إلى عسكر ~~علي، وكان علي وطلحة والزبير قد اتفقوا في الباطن على إمساك قتلة عثمان، ~~فسعوا بذلك، فأقاموا الفتنة عام الجمل، حتى اقتتلوا من غير أن يكون علي ~~أراد القتال ولا طلحة ولا الزبير، بل كان المحرك للقتال الذين أقاموا ~~الفتنة على عثمان. # فلما طلب علي من معاوية ورعيته أن يبايعوه امتنعوا عن بيعته، ولم يبايعوا ~~معاوية، ولا قال أحد قط: إن معاوية مثل علي، أو إنه أحق من علي بالبيعة، بل ~~الناس كانوا متفقين على أن عليا أفضل وأحق، PageV06P263 # ولكن طلبوا من علي أن يقيم الحد على قتلة عثمان، وكان علي غير متمكن من ~~ذلك لتفرق الكلمة وانتشار الرعية وقوة المعركة لأولئك، فامتنع هؤلاء عن ~~بيعته، إما لاعتقادهم أنه عاجز عن أخذ حقهم، وإما لتوهمهم محاباة أولئك، ~~فقاتلهم علي لامتناعهم من بيعته، لا لأجل تأمير معاوية. # و ### | علي وعسكره أولى من معاوية وعسكره، # كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق ~~مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ". فهذا نص ~~صريح أن علي ابن أبي طالب وأتباعه أولى بالحق من معاوية وأصحابه. وفي صحيح ~~مسلم (2) وغيره أنه قال: "يقتل عمارا الفئة الباغية". # لكن الفئة الباغية هل يجب قتالها ابتداء قبل أن تبدأ الإمام بالقتال، أم ~~لا تقاتل حتى تبدأ بالقتال؟ هذا مما تنازع فيه العلماء، وأكثرهم على القول ~~الثاني، فلهذا كان مذهب أكابر الصحابة والتابعين والعلماء أن ترك على ~~القتال كان أكمل وأفضل وأتم في سياسة الدين والدنيا. ولكن علي إمام هدى من ~~الخلفاء الراشدين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تكون خلافة ~~النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا". رواه أهل السنن (3) ، واحتج به أحمد ~~وغيره على خلافة علي والرد على من طعن فيها، وقال أحمد: من لم يربع بعلي في ~~خلافته فهو أضل من حمار أهله. PageV06P264 # والقران لم يأمر بقتال البغاة ابتداء، بل قال تعالى: (وإن طائفتان من ~~المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا ms1156 بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي ~~تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن ~~الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله ~~لعلكم ترحمون (10)) (1) . # وما حرمه الله تعالى من البغي والقتل وغير ذلك إذا فعله الرجل متأولا ~~مجتهدا معتقدا أنه ليس بحرام لم يكن بذلك كافرا ولا فاسقا، بل ولا قود في ~~ذلك ولا دية ولا كفارة، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب ~~بتأويل القرآن فهو هدر. وقد ثبت في الصحيح (2) أن أسامة بن زيد قتل رجلا من ~~الكفار بعد ما قال "لا إله إلا الله "، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟! " قال؟ فقلت: يا رسول ~~الله، إنما قالها تعوذا، فقال: "هلا شققت عن قلبه". وكرر عليه قوله: ~~"أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ ". ومع هذا فلم يحكم عليه بقود ولا ~~دية ولا كفارة، لأنه كان متأولا اعتقد جواز قتله بهذا. مع ما روي عنه أن ~~رجلا قال له: أرأيت إن قطع رجل من الكفار يدي ثم أسلم، فلما أردت أن أقتله ~~لاذ مني بشجرة، أأقتله؟ فقال: "إن قتلته كنت بمنزلته قبل أن يقول ما قال، ~~وكان بمنزلتك قبل أن تقتله " (3) . فبين أنك تكون PageV06P265 # مباح الدم كما كان مباح الدم، ومع هذا فلما كان أسامة متأولا لم يبح دمه. # وأيضا فقد ثبت (1) أنه أرسل خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فلم يحسنوا أن ~~يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلم يجعل خالد ذلك إسلاما، بل أمر ~~بقتلهم، فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك رفع يديه إلى السماء ~~وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"، وأرسل عليا فوداهم بنصف دياتهم. ~~ومع هذا فلم يعاقب خالدا ولم يعزله عن الإمارة، لأنه كان متأولا. وكذلك فعل ~~به أبو بكر لما قتل مالك ms1157 بن نويرة، كان متأولا في قتله فلم يعاقبه ولم ~~يعزله، لأن خالدا كان سيفا قد سله الله تعالى على المشركين، فكان نفعه ~~للإسلام عظيما، وإن كان قد يخطىء أحيانا. ومعلوم أن عليا وطلحة والزبير ~~أفضل من خالد وأسامة وغيرهما. # ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن: "إن ابني هذا سيد، ~~وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "، فمدح الحسن على الإصلاح، ~~ولم يمدح على القتال في الفتنة= علمنا أن الله ورسوله كان يحب الإصلاح بين ~~الطائفتين دون الاقتتال. ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث ~~الصحيح (2) في الخوارج: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم، ~~يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام PageV06P266 # كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا ~~عند الله لمن قتلهم يوم القيامة"، وقال (1) : "يقتلهم أدنى الطائفتين إلى ~~الحق " وروي (2) : "أولى الطائفتين بالحق " من معاوية وأصحابه- أعلم أن ~~قتال الخوارج المارقة أهل النهروان الذين قاتلهم علي بن أبي طالب، كان ~~قتالهم مما أمر الله به ورسوله، وكان علي محمودا مأجورا مثابا على قتاله ~~إياهم. وقد اتفق الصحابة والأئمة على قتالهم، بخلاف قتال الفتنة، فإن النص ~~قد دل على أن ترك القتال فيها كان أفضل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" ~~ستكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي " (3) ومثل ~~قوله لمحمد بن مسلمة: "هذا لا تضره الفتنة" (4) ، فاعتزل محمد بن مسلمة ~~الفتنة، وهو من خيار الأنصار، فلم يقاتل لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. وكذلك ~~أكثر السابقين لم يقاتلوا، بل مثل سعد بن أبي وقاص ومثل أسامة وزيد وعبد ~~الله بن عمر وعمران بن الحصين، ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن ~~أبي وقاص ولم يقاتل، وزيد بن ثابت، ولا أبو هريرة ولا أبو بكرة ولا غيرهما ~~من أعيان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد قال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - لأهبان بن صيفي: "خذ هذا السيف فقاتل به المشركين، فإذا ms1158 اقتتل ~~المسلمون فاكسره"، ففعل ذلك ولم يقاتل في الفتنة (5) . PageV06P267 # وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشك أن ~~يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من ~~الفتن ". وفي الصحيح (2) عن أسامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~"إني لأرى الفتنة تقع خلال بيوتكم كمواقع القطر". والأحاديث عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - كثيرة في إخباره بما سيكون في الفتنة بين أمته، وأمره ~~بترك القتال في الفتنة، وأن الإمساك عن الدخول فيها خير من القتال. # وقد ثبت عنه في الصحيح (3) أنه قال: "سألت ربي لأمتي ثلاثا، فأعطاني ~~اثنين ومنعني واحدا، سالته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم، فأعطانيها، ~~وسالته أن لا يهلكهم بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، ~~فمنعنيها". # وكان هذا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - وفضائل هذه الأمة، إذ ~~كانت النشأة الإنسانية لا بد فيها من تفرق واختلاف وسفك دماء، كما قالت ~~الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) (4) . ولما كانت هذه ~~الأمة أفضل الأمم وآخر الأمم عصمها الله أن تجتمع على ضلالة، وأن يسلط عدو ~~عليها كلها كما سلط على بني إسرائيل، بل إن غلب PageV06P268 # طائفة منها كان فيها طائفة قائمة ظاهرة بأمر الله إلى يوم القيامة، وأخبر ~~أنه "لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله " (1) ، وجعل ما ~~يستلزم من نشأة الإنسانية من التفرق والقتال هو لبعضها مع بعض، ليس بتسليط ~~غيرهم على جميعهم، كما سلط على بني إسرائيل عدوا قهرهم كلهم. فهذه الأمة- ~~ولله الحمد- لا تقهر كلها، بل لا بد فيها من طائفة ظاهرة على الحق منصورة ~~إلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى. والله أعلم. PageV06P269 ### | مسألة في الاستغفار # PageV06P271 # قال (1) الوليد: قلت للأوزاعي: ما الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله ~~أستغفر الله. # فهذا حديث صحيح في ### | تكرير الاستغفار # ثلاثا دبر الصلاة، فتكرير الاستغفار في الصلاة أوكد، كما أنه [لما] سن ~~تكرير التسبيح في الصلوات كان تكرير التسبيح ms1159 في الركوع والسجود أوكد. وفي ~~صحيح مسلم (2) من حديث الأغر المزني- وكانت له صحبة- أن رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم ~~مئة مرة". وفيه (3) من حديث عمرو بن مرة عن أبي بردة قال: سمعت الأغر- وكان ~~من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - يحدث ابن عمر أن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: "أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم ~~مئة". قال الحميدي (4) : وقد أخرجه البخاري في تاريخه من هذين الوجهين، ولم ~~يخرجه في الجامع، وهو لاحق بشرطه فيه. وفي الصحيح (5) أيضا: "إني لأستغفر ~~الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة". # وقد أمر أن يختم عمله الخاص والعام بالاستغفار، فكان الاستغفار نهاية ~~أمره. وتارة يجمع بين التوحيد والاستغفار، فقال تعالى: (فاعلم أنه لا إله ~~إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (6) ، وقال: (أنما ~~PageV06P273 # إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) (1) . # فهذان الأمران جماع الدين، كما يروى أن الشيطان قال: أهلكت بني آدم ~~بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم ~~الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد قال ~~تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (2) . # فالتوحيد هو جماع الدين الذي هو أصله وفرعه ولبه، وهو الخير كله، ~~والاستغفار يزيل الشر كله، فيحصل من هذين جميع الخير وزوال جميع الشر. وكل ~~ما يصيب المؤمن من الشر فإنما هو بذنوبه. # و ### | الاستغفار يمحو الذنوب فيزيل العذاب، # كما قال تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)) (3) . وقد كان ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب من الله المغفرة في أول الصلاة في ~~الاستفتاح، كما في حديث أبي هريرة الصحيح (4) وحديث علي الصحيح (5) في أول ~~ما يكبر، ثم يطلب الاستغفار بعد التحميد إذا رفع رأسه، ويطلب الاستغفار في ~~دعاء التشهد كما في حديث علي (6) وغيره، ويطلب الاستغفار في الركوع ~~PageV06P274 # والسجود كما في حديث عائشة الصحيح (1) ، ورواه أبو داود والنسائي ms1160 وابن ~~ماجه. وروى مسلم وأبو داود (2) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله وأوله وآخره ~~وعلانيته وسره". # فلم يبق حال من أحوال الصلاة ولا ركن من أركانها إلا استغفر الله فيه، ~~فعلم أنه كان اهتمامه به أكثر من اهتمامه بسائر الأدعية. ويميز ذلك أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استغفر لرجل كان ذلك سببا لوجوب ~~الجنة له، مثل أن يستشهد، كما في حديث سلمة بن الأكوع (3) . وكان استغفاره ~~للرجل أعظم عندهم من جميع الأدعية له، كما في صحيح مسلم (4) عن عبد الله بن ~~سرجس قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكلت معه خبزا ولحما -أو ~~قال: ثريدا- فقلت: يا رسول الله! غفر الله لك، قال: ولك. قال: فقلت له: ~~أستغفر لك رسول الله؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: (واستغفر لذنبك ~~وللمؤمنين والمؤمنات) (5) . # وهذا أيضا توكيد له، حيث أمره الله بالاستغفار للمؤمنين، وخص ذلك بسائر ~~الأدعية. وكذلك أخبر عن ملائكته أنهم يستغفرون للمؤمنين، وذلك أن المغفرة ~~مشروطة بالإيمان، فلا تكون إلا لأهل PageV06P275 # الإيمان، بخلاف العافية والرزق والهداية العامة، فإنها تحصل بدون ~~الإيمان، فإن الكافر قد يهديه الله فيصير مؤمنا، وقد يعافيه ويرزقه مع ~~كفره، وقد يجاب دعاؤه. والمغفرة إنما هي للمؤمنين، فهي النهاية. ولهذا قال ~~في المنافقين (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن ~~يغفر الله لهم) (1) ، وقال فيهم: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر ~~لهم) (2) ، وقال: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو ~~كانوا أولي قربى) (3) ، وقال: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين ~~معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله) الآية (4) . ~~فأمرهم الله بالاقتداء بهم إلا في الاستغفار للمشركين. # وفي الصحيح (5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استأذنت ربي في ~~الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". وفي ~~الصحيح (6) أنه قال ms1161 لأبي طالب: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله: ~~(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من ~~بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) (7) . وفي PageV06P276 # الصحيح (1) أنه صلى على ابن أبي وألبسه قميصه وتفل في فيه واستغفر له، ثم ~~قال: "وماذا يغني عنه ذلك من الله؟ ". # وكذلك استغفر للذين اعتذروا إليه لما رجع من غزوة تبوك، ثم أنزل الله ~~فيهم بعد ذلك ما أنزل، فلم ينفعهم ذلك (2) . # فإذا كان استغفار الإنسان لغيره لا ينفعه إلا مع الإيمان، بخلاف الأدعية ~~المروية في هذا الحديث من العافية والرزق والهداية والرحمة، إذا أريد بها ~~رحمة الدنيا أو الرحمة من الدين تصيب الكافر، وأما إذا أريد بها أنه لا ~~يعذب أو يدخل الجنة فهذا لا يصلح. بل ### | استغفار الإنسان أهم من جميع الأدعية لوجهين: # أحدهما: أن استغفاره لنفسه يغفر له به جميع الذنوب إذا كان على وجه ~~التوبة، حتى إن الكفار إذا استغفروا لأنفسهم نفعهم ذلك، وكان سبب نجاتهم من ~~عذاب الدنيا. وعذاب الآخرة إنما ينجي منه الاستغفار مع الإيمان. وهذا أيضا ~~من خصائص التوحيد، فإن المكلف لا ينفعه توحيد غيره عنه، ولا ينجيه ذلك من ~~عذاب الله عز وجل، بل لا ينجيه إلا توحيد نفسه، ولا ينفعه مع عدم التوحيد ~~الاستغفار عنه، بل لا ينفعه إلا استغفاره الذي تضمن توحيده وتوبته من ~~الشرك. فصار الاستغفار مقرونا بالتوحيد من بداية، لا تقبل النيابة فيه ولا ~~يهدى إلى الغير إلا إذا أتى هو به، فإذا كان هو من أهل ذلك نفعه حينئذ ما ~~يريده PageV06P277 # غيره من ذلك، بخلاف الأعمال والأدعية التي تفعل عن الغير وتهدى له وإن لم ~~يأت بأصلها. # وإنما كان الاستغفار هو النهاية من العبد لأن الذنب لازم لجميع بني آدم، ~~وإنما كمال المؤمنين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في التوبة من ~~الذنب والاستغفار، كما قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض ~~والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الأنسان إنه كان ظلوما جهولا) ~~إلى آخر ms1162 السورة (1) . وقد أخبر تعالى أنه يبدل سيئات التائب حسنات، وأنه ~~يفرح بتوبة العبد أشد فرح يقدر. # فالذنوب إذا كانت مغمورة بالحسنات لم يعاقب صاحبها بالنار، لكن يكون ~~تأثيرها في تفاوت الدرجات، فأعلى الخلق منزلة العبد الذي غفر له ما تقدم من ~~ذنبه وما تأخر، وبذلك وصفه الرسول الذي قبله (2) الذي دل عليه والطالبون ~~للشفاعة منه، وجعل ذلك هو السبب في كونه يكون شفيع الخلائق، لأنه لما غفر ~~له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لم يبق يحتاج إلى أن يشفع لنفسه ويستغفر، ~~فأمكنه أن يشفع لغيره، بخلاف من يقول: نفسي نفسي، فإنه يكون محتاجا إلى ~~الشفاعة حينئذ لنفسه ويستغفر لنفسه، فلا يشفع لغيره في هذا المقام، وإن كان ~~يشفع بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا بد أن يغفر جميع هذه الذنوب وما هو أعظم ~~منها، لكن يتأخر ذلك عن مقام الشفاعة، بخلاف الذي غفر له ما PageV06P278 # تقدم من ذنبه وما تأخر قبل هذا المقام، فإنه سائر في مقام المغفرة. ولهذا ~~قال الخليل -وهو أحد الرسل الكبار المطلوب منهم الشفاعة يومئذ-: (والذي ~~أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) (1) ، فالمغفرة التي رجاها تكون يوم ~~الدين، وهي واقعة بعد شفاعة سيد ولد آدم، فإنه قبل ذلك يقول (2) : إن ربي ~~قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر خطيئته: ~~نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى. # وهذا كله مما يؤكد أمر الاستغفار ويبين أنه نهاية الأمر، وأن السائر فيه ~~هو من سائر السابقين، فتكريره يوجب من ذلك ما لا يوجبه غيره. والله أعلم. ~~PageV06P279 ### | مسائل في الصلاة # PageV06P281 # ذكر (1) إلا في فعل من أفعالها، وليس فيها فعل خال من ذكر إلا جلسة ~~الاستراحة حيث تفعل، فإنها فعل لا ذكر فيه لقصره، ومثل تكبيرات الانتقال، ~~فإنها ليست في فعل مستقر. # وقد تنازعوا في الجهر والمخافتة في الصلوات هل هما واجبان تبطل الصلاة ~~بتعمد مخالفتهما أم هما سنة؟ وفي ذلك خلاف مشهور في مذهب مالك وأحمد ~~وغيرهما، والمشهور أنهما سنة، وكذلك دعاء الاستفتاح ms1163 سنة. ومن السنن الراتبة ~~المتفق عليها: المخافتة بالذكر والدعاء في الركوع والسجود، والاعتدال فيهما ~~وفي التشهدين، ومخافتة المأموم بقراءته ودعائه، وأما المنفرد فقد تنازعوا ~~هل الأفضل له المخافتة بالقراءة أو الجهر بها؟ والاستعاذة السنة المخافتة ~~بها عند الجمهور، وقيل: يتعوذ بين المخافتة والجهر. والبسملة عند الذين ~~يقرؤونها -وهم الجمهور- سنتها الراتبة المخافتة، وقيل: الجهر، وقيل: يخير ~~بين الأمرين. وكذلك التأمين سنته الجهر به عند أحمد والشافعي، وأصح قوليه ~~للإمام والمأموم، وقيل: المخافتة به لهما، وقيل: يخافت به المأموم دون ~~الإمام تبعا لقراءته. # والدليل على أن سنة الاستفتاح المخافتة ما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة ~~قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ~~"أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ### | … # " إلى آخره، وظاهره أنه لم يكن PageV06P283 # يجهر بالاستعاذة أيضا، لقوله "بين القراءة والتكبير". وكذلك سائر ~~الأحاديث الصحاح التي فيها المخافتة بالبسملة، مثل حديث عائشة (1) وأنس (2) ~~وأبي هريرة (3) وغيرها، تدك على ذلك. وكذلك حديث سمرة بن جندب وأبي بن كعب، ~~قال سحمرة: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين، وهو في السنن ~~(4) . # وأما لعارض فقد ثبت في الصحيح (5) أن عمر كان يجهر بدعاء الاستفتاح مرات ~~كثيرة، فكان يقول: الله أكبر، "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى ~~جدك، ولا إله غيرك". وكان طائفة من الصحابة يجهرون بالبسملة، كابن الزبير ~~وغيره. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجهر بها بمكة، ~~وروي في جهره بها بالمدينة أحاديث ضعيفة ضعفها أهل الحديث (6) . وثبت في ~~الصحيح (7) عن أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمعهم الآية ~~أحيانا من صلاة الظهر والعصر، وثبت في صحيح البخاري (8) أن ابن عباس جهر ~~بالقراءة على الجنازة بفاتحة PageV06P284 # الكتاب وقال: لتعلموا أنها السنة. # فمثل هذا الجهر إذا كان لتعليم المأمومين يحسن، ولو كان لمصلحة أخرى فهو ~~حسن أيضا، فإنه قد يكون الجهر أعون على القراءة، كما قال عمر: أوقظ الوسنان ~~وأرضي الرحمن وأطرد الشيطان (1) . فقد ms1164 يكون الجهر أبلغ في تعليمه، وقد يكون ~~عليه في المخافتة مشقة، ومهما استجلب به الخشوع والبكاء من خشية الله وكان ~~أنفع للمأمومين جاز، ولا يداوم على ذلك في أكل، وقت، كما يداوم على قراءة ~~الفاتحة وعلى الركوع. # ومما يدل على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانا ما في الصحيح (2) عن ~~أنس أن رجلا جاء إلى الصلاة وقد حفزه النفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله ~~حمدا كثيرا طبيا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما قضى رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "أيكم المتكلم بالكلمات؟ لقد رأيت ~~اثني عشر ملكا يبتدرونها أيهم يرفعها". فهذا مأموم جهر بهذا الذكر بعد ~~التكبير، وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بذلك، وهذا دليل على ~~جواز الجهر أحيانا في المواضع التي يخافت فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في ~~الصلاة بما هو من جنسها كان حسنا وإن لم يؤمر به. وهذا موافق لجهر عمر ~~بالاستفتاح. PageV06P285 # وكذلك ما رواه البخاري (1) من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي وراء ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله ~~لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما ~~قضى صلاته قال: "من المتكلم؟ رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم ~~يكتبها". فهذا أيضا جهر من المأموم بالتحميد الذي هو ليس المأمور به، ولكنه ~~من جنس المأمور به، فإن النبي لم ينقل عنه مثله. # وأيضا فالذين ذكروا أنهم صلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلموا ما ~~كان يفتتح به، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده واعتداله، مثل حديث جبير بن ~~مطعم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فقال: "الله أكبر ~~كبيرا، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ ~~بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه". رواه أهل السنن (2) ، وهو ~~حديث حسن. فلولا أنه جهر بذلك لما سمعه يقول ذلك، إلا أن يخبره به بعد ~~الصلاة، ولو ms1165 أخبره كما أخبر أبا هريرة لبين ذلك، ولأنه لم يكن ليخبره من ~~غير استخبار عن الاستفتاح وحده دون بقية أذكار الصلاة، إذ لا موجب للتخصيص. # وكذلك حديث حذيفة (3) أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان ~~يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى"، ~~PageV06P286 # وما أتى على آية رحمة إلا سأل، ولا على آية عذاب إلا تعوذ، وهذا كان في ~~قيام الليل. وهو حديث صحيح. وكان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي، رب اغفر ~~لي" (1) ، وهذا بين أنه كان يسمع منه ما قاله في ركوعه وسجوده وبين ~~السجدتين، وكذلك دعاؤه عند آية الرحمة والعذاب. فهذا يقتضي جواز الجهر ~~بذلك. # وكذلك حديث ابن أبي أوفى (2) أنه كان إذا رفع ظهره من الركوع قال: "سمع ~~الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت ~~من شيء بعد"، وفي حديث أبي سعيد (3) : "أهل الثناء والمجد، أحق ما قال ~~العبد" إلى آخره. وهذا يدل ظاهره على أنهم سمعوا ذلك منه يقوله في الصلاة ~~من غير إخبار منه لهم. # وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح (4) أنه كان يكثر أن يقول في ركوعه ~~وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. وقولها في ~~الصحيح (5) : كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح". ~~وأصرح من ذلك ما رواه PageV06P287 # مسلم (1) عنها قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة على ~~الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود وهما منصوبتان، ~~وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" إلى آخره. فهذا صريح في أنه جهر ~~بهذا الدعاء في سجوده، حتى سمعت ذلك عائشة. # فإن كان الإمام ضعيفا أو صوته لا يبلغ المأمومين جاز أن يبلغ بعضهم بعضا ~~بالتكبير، كما كان أبو بكر يبلغ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التكبير ~~في مرضه لما خرج وأبو بكر يصلي بالناس، وبنى على صلاة أبي بكر. # وأما الإمام فالسنة في حقه الجهر بالتكبير باتفاق العلماء، وفي ms1166 حديث أبي ~~هريرة الصحيح (2) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام [إلى] ~~الصلاة يكبر حين يقوم وحين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع ~~صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد"، ثم يكبر حين يهوي ~~وحين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه. وكذلك ذكره أبو ~~حميد الساعدي (3) . وكذلك حديث أبي موسى في صحيح مسلم (4) يبين هذا: "إذا ~~صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: (ولا ~~الضالين) فقولوا "آمين" يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإذا ~~قال PageV06P288 # "سمع الله لمن حمده" فقولوا "ربنا ولك الحمد" يسمع الله لكم". ففي هذه ~~الأحاديث بيان جهر الإمام بالتكبير حتى يسمعوه. # فصل # وأما مقدار الكلم والعمل فإن السنة التي اتفق عليها العلماء في صلاة ~~المغرب أن قراءتها أقصر من قراءة غيرها، كما اتفقوا على أن سنتها التعجيل ~~من أول الوقت، وإن كان تأخيرها إلى وقت العشاء جائزا، كما دلت على ذلك ~~الأحاديث الصحيحة في إمامة جبريل النبي صلى الله عليهما وسلم، ويكره ~~تأخيرها عن أول وقتها من غير عذر، بخلاف غيرها من الصلوات. وقد روى الإمام ~~أحمد (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المغرب وتر النهار، ~~فأوتروا صلاة الليل". فإذا كانت وتر صلاة النهار كان تعجيلها مع عمل النهار ~~هو السنة، ومع هذا فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه كان يقرأ فيها بطولى الطوليين، وفي الصحيح عنه أنه كان يقرأ فيها ~~بالمرسلات (3) وبالطور (4) . # وأما صلاة الفجر فالسنة فيها التي استفاضت بها الأحاديث واتفق عليها ~~العلماء إطالة القراءة فيها زيادة على غيرها، حتى قيل: إنها إنما جعلت ~~ركعتين لأجل طول القراءة فيها. وفي PageV06P289 # الصحيح (1) من حديث أبي برزة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ~~يقرأ فيها ما بين الستين إلى المئة، وتارة بقاف، وهو في الصحيح أيضا عن ~~جابر بن سمرة (2) . وتارة بالمؤمنين (3) ، وتارة بغيرها. وفي مسند أحمد (4) ~~أنه قرأ ms1167 فيها بالروم، وكان يأمرهم بالتخفيف، ويؤمهم بالصافات. فالتخفيف ~~الذي أراده منهم هو أن يقرأ بقدر الصافات. وقرأ فيها في السفر ب (قل أعوذ ~~برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ، كما رواه أهل السنن (5) عن عقبة بن ~~عامر قال: كنت أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته في السفر، ~~فقال لي: "يا عقبة، إلا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ "، فعلمني "قل أعوذ برب ~~الفلق" و"قل أعوذ برب الناس"، فلما نزل إلى صلاة الصبح صلى بهما. والسفر قد ~~وضع فيه عن المسافر شطر الصلاة، فكذلك يوضع عنه إطالة القراءة فيه في ~~الفجر. # وكان يخفف الصلاة لأمر عارض كبكاء الصبي (6) ، فإن تخفيف الصلاة لئلا يشق ~~على المأمومين من السنة. وفي حديث عائشة (7) أنه كان يصلي من الليل إحدى ~~عشرة ركعة، وفي حديث ابن PageV06P290 # عباس (1) : ثلاث عشرة ركعة، وكان يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين (2) ، ~~فلعل هذه هي محل الاختلاف، وكان يصلي بعد وتره سجدتين وهو جالس. # قال: وقد أطلق بعض العلماء أن التطوعات قبل الصلوات وبعدها أفضل التطوع. # قال الشيخ: وليس كذلك، بل قيام الليل أفضل التطوعات، كما ثبت في الصحيح ~~(3) عنه أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ فقال: "صلاة الليل". وأفضل ~~الرواتب الوتر وركعتا الفجر، وهذا هو الذي لم يكن يتركه سفرا ولا حضرا، بل ~~كان في السفر يوتر على راحلته، وكان يصلي ركعتي الفجر، حتى قضاهما لما نام ~~عنهما، حين نام هو [و] أصحابه عن صلاة الفجر لما قفل عن خيبر، وقال عنهما: ~~"لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل " (4) . وقد كان مالك لا يسمي سنة إلا هما ~~خاصة، فهما أول العمل، والوتر آخره. و [لم] يحفظ أحد عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه صلى مع الظهر والعصر والمغرب والعشاء شيئا من الرواتب في ~~السفر، وكان يصلي صلاة الليل على راحلته، بل ثبت عنه في غير حديث صحيح أنه ~~كان يصلي المغرب والعشاء ولا يصلي معهما شيئا، وأنه لم يكن في السفر يزيد ~~على ركعتين. وأقصى ما في PageV06P291 # الأحاديث الصحيحة ms1168 أن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ركعات الفرض ~~أربع وأربعون ركعة، وعائشة كانت أعلم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~بالليل من غيرها. # فصل # وصف الله سبحانه أنبياءه ورسله والعلماء من عباده بأنهم إذا سمعوا آيات ~~الله خروا سجدا وبكيا، كما قال تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة مريم: ~~(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ~~ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن ~~خروا سجدا وبكيا (58)) (1) . وصف جميع هؤلاء الذين هم صفوة خلقه وخيرهم ~~بأنهم إذا سمعوا آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، وهذا نظير ما وصف به علماء ~~أهل الكتاب بقوله: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون ~~للأذقان سجدا (107)) إلى قوله: (ويزيدهم خشوعا (109)) (2) ، أي إذا سمعوا ~~القرآن سجدوا وبكوا. # وهذا مما أمر الله به الناس عموما، وذم من لم يفعل ذلك في قوله: (فما لهم ~~لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21)) (3) . # فذم من إذا قرىء عليه القرآن لا يسجد، كما مدح النبيين وغيرهم من ~~المؤمنين بالسجود إذا سمعوه. والسجود وإن كان مشروعا عند استماع هذه الآيات ~~السجدات وواجب عند بعض العلماء، فلا يجوز أن يكون PageV06P292 # المراد بهذه الآيات ونحوها مجرد سجود التلاوة، لأنه تعالى وصفهم بأنهم ~~إذا تليت عليهم خروا سجدا، وأخبر أنه لا يؤمن بآياته إلا الذين إذا ذكروا ~~بها خروا سجدا، وهذا يعم الآيات التي شرع فيها سجود التلاوة وغيرها، ولا ~~يجوز حمله على تلك الآيات فقط، لأنها قليلة يسيرة من حيث آيات الله عز وجل. # وكذلك ما وصف به أهل العلم وكذلك ما حض عليه الناس بقوله: (فما لهم لا ~~يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) (1) ، فيه من العموم ~~والتحضيض ما لا يجوز حمله على مجرد سجود التلاوة، يوضح ذلك أنه لما أثنى ~~على النبيين وأهل العلم وصفهم بالسجود والبكاء، ولما أخبر عما لا بد منه من ~~الإيمان وما يذم من تركه ذكر السجود فقط، فقال ms1169: (إنما يؤمن بآياتنا الذين ~~إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15)) (2) ، ~~وقال: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21)) (3) . بل هذا- والله أعلم- ~~كما شرعه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (اقرأ باسم ربك الذي خلق ~~(1)) إلى أن قال: (كلا لا تطعه واسجد واقترب (19)) (4) ، فأمره بالقراءة ~~والسجود، وعلى ذلك بنيت الصلوات، فاعظم أركانها القولية القراءة، وأعظم ~~أركانها الفعلية السجود، وهما أفضل أعمال الصلاة. وقد تنازع [العلماء] أيما ~~PageV06P293 # أفضل: طول القراءة أو كثرة الركوع والسجود أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال، ~~أصحها التسوية، كما كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما بسطنا ~~القول في ذلك في غير هذا الموضع. # فصل # والصلوات المشروعة مشتملة على ذلك، على استماع لقراءة آيات الله وعلى ~~السجود، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ~~واتبعوا الشهوات) (1) ، فعلم أن ما وصف به الذين أنعم عليهم قبل ذلك ضد ~~الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فنعت النبيين وأتباعهم بإقام الصلاة ~~والمحافظة عليها. # ولهذا لما احتج بهذه الآيات ونحوها من أوجب سجود التلاوة أجاب عن ذلك من ~~لم يوجبه بأن المراد بها سجود الصلب المفروض في الصلوات والقعود للثناء ما ~~يتضمن الجمع بين القراءة والسجود، كما تضمن ذلك أول سورة أنزلت. ومما يشبه ~~هذه الآيات الثلاث قوله في آخر النجم: (أفمن هذا الحديث تعجبون (59) ~~وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62)) (2) . ~~يذم تعالى من يعجب من القرآن، ويضحك ولا يبكي بل يلهو، وأمر بالسجود لله ~~والعبادة له. # وهذا متضمن (3) للسجود عند سماع هذا الحديث، كما وضعت الصلاة على ذلك. ~~PageV06P294 # وقد أخبر تعالى في قوله أنه لا يكون مؤمنا بآياته إلا من يسجد عند ما ~~يذكر بها، فقال: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا ~~بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15)) (1) . وهذه الآية يستدل بها على أن من لم ~~يسجد لله فليس بمؤمن، وهذا يقتضي كفر تارك الصلاة، وقوله: (وسبحوا بحمد ~~ربهم) يقتضي أن التسبيح واجب، وذلك يقتضي ms1170 وجوب التسبيح مع السجود، والركوع ~~يدخل في مسمى السجود عند الانفراد، فيقتضي وجوب التسبيح في الركوع والسجود. # وأما قوله: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) (2) فإنه داخل في حيز "الذين" ~~أيضا، وذلك يجعل للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لصلاة الصبح وصلاة العشاء، ~~وكلما أخرت هذه وقدمت هذه كان أشد للتجافي عن المضاجع. # فصل # وقد وضعت الصلاة على السجود بعد القراءة، فإن الركوع والسجود- كما قدمنا- ~~كلاهما يدخل في اسم الآخر [عند] الانفراد، وإن ميز بينهما عند الجمع، كما ~~في لفظ الفقير والمسكين، كما قال تعالى: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) ~~(3) ، قيل: المراد به الركوع، لأن الساجد على الأرض لا يمكنه الدخول لذلك، ~~ومنه قول PageV06P295 # العرب: سجدت النخلة، إذا مالت، فهذا إدخال الركوع في مسمى السجود، فإنه ~~مبدؤه وأوله. وأما الآخر فكقوله في قصة داود: (وخر راكعا وأناب) (1) ، ~~وإنما هو سجود بالأرض، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح ~~(2) أنه قال: "سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا"، فإن الركوع يحصل ~~بالانحناء، والزيادة على ذلك إلى حد الأرض زيادة فيه. # ويعبر عن الصلاة تارة بلفظ الركوع، كما في قوله: (واركعوا مع الراكعين) ~~(3) ، وقوله: (اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) (4) . # ولهذا إذا كانت السجدة في آخر السورة أجزأ ما في الصلاة من السجود ~~والركوع عن سجود التلاوة، كما يروى ذلك عن ابن مسعود، وهذا هو المنصوص عن ~~أحمد، وهو قول من قال من فقهاء العراق وغيرهم، لكن هل المجزئ عن سجود ~~التلاوة هو الركوع أو سجود الصلب أو كلاهما؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه. # ومما يبين أصل الكلام أن ما في القرآن من الأمر بالسجود- كقوله: (اركعوا ~~واسجدوا) (5) - هو أمر بركوع الصلاة وسجودها، والله سبحانه وتعالى كما يقرن ~~بعض أركان الصلاة ببعض- كما قرن بين PageV06P296 # القراءة والسجود، وبين الركوع والسجود- فإنه يقرن بين الصلاة وبين غيرها ~~من الشرائع، كما قرن بينها وبين الزكاة، وبينها وبين الصبر الداخل في ~~الجهاد والصوم وغيرهما، وأكثر الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ~~الصلاة والجهاد ms1171، وقد قرن بينهما فى قوله: (اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ~~وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده) هو الآية (1) ، ~~وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا ~~في سبيله) الآية (2) ، وقال تعالى: (على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا ~~سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا) (3) ، وقال في القرآن: (وجاهدهم به ~~جهادا كبيرا) (4) . # فصل # الذي تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفقت عليه الأحاديث ~~الصحيحة أنه لم يكن يقنت دائما في صلاة الفجر ولا غيرها، لكن كان يطيل ~~الفجر بالقراءة أكثر من غيرها، وقد ثبت في الصحيح (5) عن أنس أنه لم يقنت ~~بعد الركوع إلا شهرا، والعلم بعدم قنوت راتب كالعلم بعدم قنوته في العشاء ~~والمغرب دائما، إذ لم ينقل عنه مسلم كلمة تقال في القنوت الراتب، وقد نقلوا ~~عنه قنوت الوتر. PageV06P297 # وقد تنازع الناس هل كان قنوته راتبا أو منسوخا أو كان لسبب عارض ثم تركه ~~لزواله؟ على ثلاثة أقوال، والثالث قول أهل الحديث، وهو الصواب، وهو قنوت ~~النوازل، كقنوته على الذين قتلوا القراء يوم بئر معونة، فقنت شهرا بعد ~~الركوع يدعو عليهم، وكقنوته يدعو للمستضعفين بمكة، فكان يدعو في قنوته ~~لقوم، ويدعو على قوم من الكفار لينصر عليهم. وكذلك عمر بن الخطاب كان يقنت ~~إذا أرسل جيشا إلى الشام بالقنوت الذي فيه الدعاء على أهل الكتاب، وهو من ~~قنوته موقوف عليه ليس مرفوعا. وكذلك علي قنت في حروبه. وقد سأل أبو ثور ~~الإمام أحمد عن القنوت فقال: في النوازل، فقال: وأي نازلة أعظم من نازلتنا؟ ~~قال: فاقنتوا إذا، أو كما قال، يريد بذلك امتحان الجهمية للمسلمين. # فإذا نزل بالمسلمين أمر عام قنتوا فيه، كما إذا ظهر قوم من المبتدعة ~~والمنافقين قنت المؤمنون، وكذلك في الفتن التي تقع بين المسلمين من ~~الافتراق والاختلاف. لكن لما وقعت الفرقة في زمن علي هل قنت الناس للجماعة ~~والائتلاف كما قنت الطائفتان المقتتلتان؟ أو قنتت كل طائفة تطلب النصر على ~~الأخرى؟ وفي حروب النبي - صلى الله عليه وسلم - عام ms1172 الأحزاب ونحوه لم لم ~~يقنت أو لم لم ينقل قنوته؟ فإن المأثور عنه القنوت حيث لم يمكنه النصرة ~~بالقتال، كقنوته على الذين قتلوا القراء، وللمستضعفين الذين بمكة من ~~المؤمنين بخلاصهم. # وكذلك عمر كان يقنت لجنوده، ويدعو لهم بالنصر، ويدعو علي الكفار بالخذلان ~~والنكال، وهذا عوض عن مباشرته القتال بنفسه. # PageV06P298 ### | فصل # في الصلاة الوسطى # PageV06P299 # فصل # في الصلاة الوسطى # قد ثبت في النصوص الصحيحة المستفيضة أن ### | الصلاة الوسطى هي العصر، # كما صرح به في حديث علي المتفق على صحته (1) ، وحديث ابن مسعود: "الصلاة ~~الوسطى هي العصر" (2) . والعصر ثبت لها خصائص، كقوله في الحديث الصحيح (3) ~~: "من ترك صلاة العصر حبط عمله"، وكذلك في الصحيح (4) : "الذي تفوته صلاة ~~العصر كأنما وتر أهله وماله"، وقوله (5) : "إن هذه الصلاة عرضت على من كان ~~قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له الأجر مرتين، ولا صلاة بعدها حتى ~~يطلع الشاهد". والشاهد: النجم. ولهذا قال علي: هي الصلاة التي شغل عنها ~~سليمان حتى توارت بالحجاب (6) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تلك صلاة ~~المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا اصفرت ~~وكانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" (7) . ~~وهي الصلاة التي قال الله فيها في القرآن: PageV06P301 # (تحبسونهما من بعد الصلاة) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم ~~القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا ~~لقد أعطي بها أكثر مما أعطي. ورجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل، فيقول ~~الله له: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك. ورجل بايع إماما ~~لا يبايعه إلا للدنيا، إن أعطاه رضي، وإن منعه سخط". فذكر اليمين الفاجرة ~~بعد العصر. # ويقال: إن وقتها وقمت تعظمه الأمم كلها، ولذلك أمر الله بالاستحلاف فيه ~~لغير المسلمين. والمحافظة على الصلاة توجب تعظيمه وحفظ وقتها حتى لا يضيع ~~حتى يخرج الوقت، وليس في مواقيت الصلوات ما ms1173 لا يتميز أوله بفصل يحس إلا وقت ~~العصر، فإن الفجر يتميز أول وقتها وآخره بطلوع الفجر وطلوع الشمس، والظهر ~~يتميز أول وقتها بالزوال، وآخر وقتها وإن لم يكن متميزا فيجوز تأخيرها إلى ~~وقت العصر للعذر، فلا يفوت إلا بفوات وقت العصر. والمغرب يتميز أول وقتها ~~وآخره بغروب الشمس وغروب الشفق. وعشاء الآخرة يتميز أول وقتها بمغيب الشفق، ~~وآخر وقتها وإن لم يتميز تميزا في الحس لكنه يمد للعذر إلى طلوع الفجر ~~كالظهر. والصلاة التي يمكن تأخيرها إلى ما بعد الوقت الخاص للعذر، لا يخاف ~~من فوتها ما يخاف من فوت الصلاة التي لا يمكن تأخيرها، PageV06P302 # فالظهر والعشاء يجوز تأخيرهما عن وقت الاختيار، وإن جاز تقديم العشاء، ~~بخلاف العصر فإنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها بحال من الأحوال، وأول وقتها ~~ليس يميز، مع أنه أقصر من وقت العشاء والظهر، ووقتها يكون الناس فيه ~~مشتغلين بالأعمال في العادة، لا يكونون في وقت صلاة أشغل منهم في وقتها، ~~وإن كان ذلك يختلف باختلاف الأحوال والآحاد في بعض الصلوات، لكن هذا هو ~~الغالب. فالمحافظة عليها بسبب الوقت وقصره ووجود الشغل فيه. # ولهذا لم يشتغل نبينا عليه السلام عن صلاة من الصلوات حتى نسيها إلا صلاة ~~العصر يوم الخندق، كما أنه لم ينم عن صلاة إلا عن صلاة الفجر، وقال (1) : ~~"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك"، وهو - ~~صلى الله عليه وسلم - نام عن الصلاة مرة ونسيها أخرى. ولهذا قال لأصحابه: ~~"لا يصلين أحد العصر [إلا] في بني قريظة"، فأدركتهم العصر في الطريق، فمنهم ~~من صلى في الوقت، ومنهم من أخرها حتى صلاها بعد المغرب هناك، فلم يعنف ~~واحدة من الطائفتين (2) . # ولهذا تنازع العلماء هل يجوز في حال شدة الخوف تأخير الصلاة عن وقتها أو ~~يجب فعلها في وقتها بحسب الحال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد. ~~PageV06P303 # إحداهما: أنه يخير بين تعجيلها بحسب الحال وبين تأخيرها، كما أن الصحابة ~~منهم من صلى في الوقت ومنهم من صلى بعد ms1174 الوقت، لكن أولئك صلوا صلاة كاملة، ~~لكونهم لم يمنعوا عن ذلك. # والثاني: أنه يجب فعلها في الوقت بحسب الحال، وأن ذلك التأخير كان منسوخا ~~بقوله بعد ذلك: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (1) ، فأمرهم ~~بالمحافظة التي هي فعلها في الوقت. ولأنه بذلك يجمع بين الواجبين: الصلاة ~~والجهاد بحسب حاله، وإتيانه بالواجبين أولى من تفويت أحدهما، ووقت الصلاة ~~أعظم فروضها، ولا تسقط بحال، ولهذا تفعل على أي حال أمكن في الوقت، ولا ~~تؤخر صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار، لا لاشتغال مفرط ~~ولا غير ذلك. # وأما الجمع بين الصلاتين فهو فعل لها في وقتهما، إذ الوقت ينقسم إلى وقت ~~اختيار ووقت اضطرار، ولهذا قلنا في المحرم إذا خاف إن صلى العشاء أن يفوته ~~الوقوف بعرفة، وإن بادر إلى إدراك الوقوف قبل صلاة الفجر فاتته العشاء= إنه ~~يجمع بين الواجبين الصلاة والحج، فيصلي بحسب حاله ويدرك الوقوف. وهذا القول ~~خير من قول من قدم الصلاة وفوت الحج، أو قدم الحج وفوت الصلاة، إذ كل من ~~الوقوف والصلاة له وقت لا يجوز تأخيره عنه. وبعد هذا القول قول من سوغ ~~تأخير الصلاة لإدراك الحج، فهو شبيه بقول من سوغ تأخير PageV06P304 # الصلاة لأجل الجهاد. وأما من أمر بفعل الصلاة وتفويت الحج فهو يقول: لا ~~يخرج عن الإحرام بذلك، بل ينتقل عن الحج إلى العمرة. # وهذا ضعيف، فإن ذلك لا يجوز مع القدرة بحال. # ومن العلماء من جعل فعل الصلاة يوم بني قريظة من الصحابة فعل اجتهاد، وأن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسوغ الفعلين جميعا حتى جعلهم مخيرين، ~~ولكن لما اجتهدوا أقر كلا منهما على اجتهاده. وجعلوا هذا الحديث أصلا في ~~تقرير المجتهدين على اجتهادهم. وهذا وإن كنت قد ذكرته في بعض كلامي قبل هذا ~~ففيه نظر، لأن المجتهدين إنما يقرون إذا عدمت النصوص، فلو كان هذا من باب ~~الاجتهاد لكان أحدهما هو المصيب دون الآخر، فكان النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يصوب فعل إحدى الطائفتين ويعذر الأخرى، لا يسوي بين ms1175 الطائفتين التي ~~اختصت إحداهما بالإصابة في موارد الاجتهاد. # والمقصود الكلام على "الوسطى"، وأنها مما قد يشتغل عنها الأنبياء ~~والصالحون، كما نسيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن نسيها من أصحابه ~~يوم الخندق، وكما نسيها سليمان يوم عرضت عليه الخيل. فتخصيصها بالأمر ~~بالمحافظة عليها مناسب، كما هو قول أهل الحديث والسلف. # ويليه قول من قال: إنها الفجر، فإنه أيضا قول طائفة من الصحابة والعلماء ~~المتبوعين. والفجر أحق الصلوات بذلك بعد العصر، فإن هاتين الصلاتين بينهما ~~من الاشتراك الذي اختصا به ما ليس لغيرهما من الصلوات، كما قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) : "لن يلج النار PageV06P305 # أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني الفجر والعصر. وقال في الحديث ~~الصحيح (1) : "من صلى البردين دخل الجنة". وقال (2) : "إنكم سترون ربكم كما ~~ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ~~وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) ~~(3) . وقال في الحديث الصحيح (4) : "من أدرك [ركعة] من الفجر قبل أن تطلع ~~الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك". # وذلك أن الله أمر بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، وهذا يتناول هاتين ~~الصلاتين قطعا، وإن كانت صلاة الظهر قد تدخل في ذلك. وكذلك قوله: (وسبح ~~بحمد ربك بالعشي والإبكار) (5) ، (وأقم الصلاة طرفي النهار) (6) و (بالغدو ~~والآصال) (7) ، ونحو ذلك يتناول الفجر والعصر قطعا، والظهر وإن دخلت في ذلك ~~فوقتها وقت العصر حين العذر، كما أن وقت العصر هو وقتها حال العذر فوقت ~~هاتين الصلاتين واحد من وجه. # ومن خصائص هاتين الصلاتين أن كلا منهما لا يجوز تأخيرها عن PageV06P306 # وقتها بحال ولا لسبب من الأسباب، كما تؤخر الظهر [إلى العصر] ، والمغرب ~~إلى العشاء للعذر، ولهذا خصهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من ~~أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة من العصر ~~قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك"، إذ سائر الصلوات ms1176 لا تحتاج إلى مثل هذا. فهذه ~~صلاة النهار لا تؤخر إلى الليل، وتلك صلاة ليل من بعض الوجوه لأجل الجهر ~~فيها، وصلاة نهار من بعض الوجوه لكونها بعد طلوع الفجر، وإن كانت معدودة من ~~صلوات النهار كما قد نص عليه أحمد وغيره، لكن فيها شبه من صلاة الليل. وذلك ~~أن لفظ "الليل" "والنهار" فيهما اشتراك، فقد يراد في الشريعة بالنهار ما ~~أوله طلوع الفجر، كقوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) (1) الطرف الأول فيه ~~صلاة الفجر، وهذا هو المعروف في باب الصيام، إذ [إنا] نصوم النهار ونقوم ~~الليل، فصيام النهار أوله طلوع الفجر، وقيام الليل ينتهى بطلوع الفجر. وقد ~~يراد بالنهار ما أوله طلوع الشمس، كما يجيىء في الحديث: فعل كذا نصف ~~النهار، ولما انتصف النهار، وقبل نصف النهار، فأراد نصف النهار الذي أوله ~~طلوع الشمس، إذ زوال الشمس منتصف هذا النهار، لا منتصف النهار الذي أوله ~~طلوع الفجر. # فلهذا كان وقت الفجر فيه اشتراك بين الليل والنهار، وإن كانت الفجر ~~معدودة من صلوات النهار، وهذا مما قيل في معنى توسطها، قالوا: لأنها بين ~~صلاتي الليل وصلاتي نهار، وهو معنى مناسب، لكن العصر أحق بالتوسط كما دل ~~عليه الأحاديث، وكما قال من قال من PageV06P307 # السلف لمن سأله عن ذلك وقيل له، فأومأ بأصابعه، فأشار بالخنصر وقال: هذه ~~الفجر، وأشار إلى البنصر وقال: هذه الظهر، وأشار بالوسطى إلى العصر وقال: ~~هذه العصر، وأشار إلى المغرب وقال: هذه السباحة، ولأنها وتر، والسباحة تشير ~~بالتوحيد، وأشار إلى الإبهام وقال: هذه العشاء. وهذا صحيح، فإن أول الصلوات ~~هي الفجر، وهي ركعتان، لتنتقل النفس منها على التدريج إلى ما هو أكثر منها، ~~ولهذا قدمها في الترتيب بعض المصنفين، وذلك أحسن ممن قدم الظهر، فإن الذين ~~قدموا الظهر اتبعوا ما فعله جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمه ~~وأقام له مواقيت الصلوات. والذين قدموا الفجر تبعوا فيها الأحاديث الثابتة ~~الصحيحة، مثل حديث بريدة (1) وأبي موسى (2) وحديث ابن عمرو (3) وأبي هريرة ~~(4) -إن ثبت-، فإن النبي - صلى الله عليه ms1177 وسلم - بدأ فيها بالفجر في قوله ~~وفعله. # وأما تسمية الظهر الأولى فليس هو تسمية سنة عنه عليه السلام، وإنما هو ~~قول بعض السلف، كما في الصحيح (5) عن أبي برزة أنه قال: PageV06P308 # "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الهجير التي تدعونها الأولى". ~~فجعل دعاءها بهذا الاسم من قول المخاطبين، لا من قول الشارع، كما قال: ~~"وكان يصلي العشاء التي تدعونها العتمة"، مع أن تسمية هذه الصلاة بالعتمة ~~وإن ورد النهي عن ذلك (1) لئلا يغلب عليه، فقد ورد فيه أحاديث صحيحة لم يرد ~~مثلها في تسمية الظهر بالأولى. # وأما فعل جبريل فعنه جوابان: # أحدهما: أن ذلك كان ليلة المعراج حين فرضت الصلوات الخمس، ولم يكن ~~المسلمون قد علموا بهذا الفرض حتى طلع النهار، فلما طلع أقام لهم الصلوات، ~~فكان ابتدأ حينئذ بالظهر. # والثاني: أن ذلك كان متقدما قبل تكميل عدد الصلوات وأوصافها، وكانت ~~الصلاة ركعتين ركعتين، ثم إن الله بعد ذلك أكمل عدد الصلوات، وإنما أخذ ~~بالآخر من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال: "المغرب وتر النهار، ~~فأوتروا صلاة الليل"، رواه أحمد (2) . ولو كانت الظهر أول الصلوات لم تكن ~~الفجر داخلة لا في وتر الليل ولا في وتر النهار. # وأيضا فمعلوم أن أول النهار طلوع الفجر، فصلاة ذلك الوقت تكون أول ~~الصلوات، والإنسان حينئذ يكون كالميت. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - إذا استيقظ يقول (3) : "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه ~~PageV06P309 # النشور". فكان أول الصلوات هي الفجر، وإذا كانت الفجر أولها كانت العصر ~~أوسطها، فالمحافظة عليهما في أول وقتهما أولى من غيرهما، لأن وقتهما ليس ~~بالطويل الممتد كالظهر والمغرب والعشاء، فلا يجوز. تأخيرهما عنه، فلهذا كان ~~توكيد المحافظة عليهما متعينا، فإن المحافظة تتعلق بالوقت. # والفجر لها خصائص تتميز بها عن العصر، مثل كون القراءة فيها طويلة، كما ~~قال تعالى: (إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)) (1) . وفي السنن (2) عن أبي ~~هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تشهده ملائكة الليل وملائكة ~~النهار"، وفي رواية: "يشهده الله وملائكته ms1178". ومن خصائصها أنها لا تجمع إلى ~~غيرها. # ومن خصائصهما أنه يجتمع فيهما ملائكة الليل وملائكة النهار، كما في ~~الصحيح (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يتعاقبون فيكم ~~ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيعرج ~~الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم منهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: ~~أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون". ومن خصائصهما ترك الصلاة بعدهما، ~~كما في حديث ابن عباس (4) وأبي سعيد (5) وغيرهما من النهي عن ذلك. والله ~~سبحانه أعلم. PageV06P310 # فصل # يتعلق بما قبله من اجتماع الصلاة والجهاد # وذلك أن الله أمر بالمحافظة على الصلاة، والمحافظة عليها فعلها في أول ~~وقتها. والوقت وقتان: وقت يتقدر بالزمان، فلا يجوز تأخرها عنه بحال، والوقت ~~الثاني يتقدر بالفعل، وذلك نوعان: أحدهما أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة ~~إلا التي أقيمت، لأن الإقامة مختصة بها بعينها، فصار ذلك الوقت وقتها ~~المقدر لا يسع لغيرها، فلا يفعل فيه غيرها لا تطوع ولا غيره. ولهذا تنازع ~~العلماء فيما إذا ذكر العبد فائتة بعد أن أقيمت الحاضرة، لأن كلاهما واجب، ~~وقد ضاق الوقت عنهما، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن ~~صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكر، فإن ذلك وقتها، لا وقت لها إلا ذلك" (1) . ~~فأوجب فعلها وقضاءها على الفور، وهذا مما يحتج به على الترتيب في قضاء ~~الفوائت، كما هو مذهب أكثر الفقهاء في الفوائت القليلة، ومذهب بعضهم في ~~الفوائت القليلة والكثيرة. كما إذا ذكرها بعد ضيق الوقت المقدر بالزمن، هل ~~يقدم الفائتة لتقدم وجوبها، أو يقدم الحاضرة خوف فواتها وخروجها عن وقتها ~~فتصير فائتتين، أو يصلي الحاضرة مرتين، فيفعلها مرة لأنه وقتها، ثم يصليها ~~بعد أن يصلي الفائتة لأجل مراعاة الترتيب؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد ~~وغيره. وقد رأى أبو هريرة رجلا خرج من المسجد بعد النداء فقال: "أما هذا ~~فقد عصى أبا PageV06P311 # القاسم" (1) . لأن النداء إليها عين وقتها، ولهذا نهوا يوم الجمعة عن ~~البيع بعد النداء، لأن ذلك وقت الصلاة المعين المقدر. # فصل ms1179 # وإذا كانت الصلاة على ما ذكر من توسيع الوقت تارة وتقديره أخرى، فلا تؤخر ~~عن الوقت الموسع، بل المحافظة عليها في الوقت أمر واجب على كل حال، كما أمر ~~به القرآن فقال: (حافظوا على الصلوات) (2) ، وقال: (فويل للمصلين (4) الذين ~~هم عن صلاتهم ساهون (5)) (3) ، وقال: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ~~واتبعوا الشهوات) (4) ، وقال: (الذين هم على صلاتهم دائمون (23)) (5) ، ~~(والذين هم على صلواتهم يحافظون (9)) (6) ، مستثنيا هؤلاء ممن خلف هؤلاء، ~~وعاد ذاكرا لهم في "الوارثين الذين يرثون الفردوس". وكما قال: (أقم الصلاة ~~لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (7) ، وقال: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من ~~الليل) (8) ، وقال: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل PageV06P312 # غروبها) الآية (1) . ومثلها في (ق) (2) ، وقال: (وسبح بحمد ربك حين تقوم ~~(48) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49)) (3) ، وقال: (وسبح بحمد ربك ~~بالعشي والإبكار (55)) (4) ، وقال: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا ~~موقوتا (103)) (5) . فأمر بفعل الصلوات في مواقيتها مطلقا وعموما، وأمر به ~~مفصلا وخصوصا في الآيات التي عينتها. # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه سيكون عليكم أمراء يؤخرون ~~الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة" (6) . # وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها" الحديث (7) . وقال: "ليس في النوم ~~تفريط، إنما التفريط في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت التي تليها" (8) ~~. وقال: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله" (9) ، و"من فاتته صلاة العصر ~~فكأنما وتر أهله وماله" (10) ، وقال: "الوقت ما بين PageV06P313 # هذين" (1) ، إلى أمثال ذلك. # فالجهاد واجب على الفور تارة وعلى التراخي أخرى، وعلى الأعيان تارة وعلى ~~الكفاية أخرى، وهو سنام الدين، كما أن الصلاة عمود الدين، والإسلام رأسه. ~~ولهذا كانت غاية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثرها وآكدها في ~~الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضا قال: "اللهم اشف عبدك هذا يشهد صلاة ~~وينكأ لك عدوا" (2) . # وكانت السنة أن الإمام هو الذي يقيم للناس الصلاة ويجاهد بهم العدو، ~~فأمير الحرب والصلاة واحد، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ~~وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ms1180 وأنزلنا الحديد فيه بأس ~~شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ~~(25)) (3) ، فاخبر أنه أنزل الكتاب والميزان والحديد، ولهذا كان قوام الدين ~~كتاب يهدي وعدل يعمل به وحديد ينصر، (وكفى بربك هاديا ونصيرا (31)) (4) . # والجهاد يلزم بالشروع، كما أن الكتاب يلزم بالشروع، كما قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: "من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم" (5) ، فقد ~~قال: "من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا"، وفي رواية: "فقد عصى"، وهو ~~PageV06P314 # في الصحيح (1) . وإذا كانت الصلاة التي يتلى فيها الكتاب يتعين وقتها ~~بالفعل، فتلزم بالشروع، فكذلك الجهاد، فإذا صار المسلمون حذوهم أو حاصروا ~~حصنهم لم يكن لهم الانصراف حتى يقضى الجهاد، كما قال تعالى: (إذا لقيتم ~~الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15)) الآية (2) . وقد أمر سبحانه ~~بالأمرين في حال القتال، فقال: (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) ~~(3) ، فأمر بالثبات الذي هو مقصود الجهاد، وبذكره الذي هو مقصود الصلاة، ~~كما قال ابن مسعود: ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة ولو كنت في السوق. # ولهذا يقرن سبحانه كثيرا بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر الذي هو حقيقة ~~الجهاد، كقوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) ~~(4) ، (استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153)) (5) ، وقال: ~~(وأقم الصلاة طرفي النهار) إلى قوله: (واصبر فإن الله لا يضيع أجر ~~المحسنين) (6) ، وقال: (فأصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس ~~وقبل غروبها) (7) ، وكذلك في (ق) (8) والطور (9) PageV06P315 # وغافر (1) ، وقوله: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8)) إلى قوله: ~~(واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10)) (2) ، وقال تعالى: (إنا نحن ~~نزلنا عليك القرآن تنزيلا (23) فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ~~(24) واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا (25) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) ~~(3) . # فأمر سبحانه بهذا وبهذا، وكلاهما وإن كان ينقسم بحسب فعله ووقته إلى موسع ~~ومقدر، وبحسب فعله إلى معين ومخير، وبحسب فاعله إلى واجب على الأعيان وواجب ~~على الكفاية، فهما مشتركان في أن ما كان كذلك ms1181 يلزم بالشروع فيه إتمامه، فما ~~كان وقته موسعا يتعين بالدخول فيه، وما كان واجبا على الكفاية يتعين على من ~~باشره. # والمقصود ههنا أنه قد يجتمع الواجبان في وقت واحد، وله صورتان: # إحداهما: أن لا يكون مباشرا للجهاد، بل مصابرا للعدو، فهذا يصلي صلاة ~~الخوف إذ كان ... (4) له، كما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ~~على وجوه خلاف الوجوه المعتادة في الأمن، فيسوغ فيها استدبار القبلة، ~~والعمل الكثير في نفس الصلاة، ومفارقة الإمام قبل السلام، واقتداء المفترض ~~فيها بالمتنفل، والتخلف عن متابعة الإمام حتى يصلي ركعة. وهذه الأمور فيها ~~ما لا يفعل إلا لعذر بالاتفاق، وفيها ما PageV06P316 # لا يسوغ فعله أكثر العلماء. # والثاني: أن يكون محتاجا إلى مباشرة القتال في حال الصلاة، وهو الذي ~~قصدناه بهذا الفصل، فهذه تسمى صلاة المسايفة، لأن المسايفة هي أحوال ~~المقاتلين، وإلا فالمطاعنة والمداناة والمضاربة بالمثقلات من الحجارة ~~والدبابيس ونحو ذلك، سواء كان القتال بمحدد أو مثقل أو ما يجمعهما، فيه ~~ثلاثة أقوال: # أحدها -وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب الشافعي- أنه يأتي بالواجبين ~~جميعا، وأن تأخير الصلاة منسوخ بآية المحافظة. # والثاني -وهو الرواية الأخرى عن أحمد- أنه يخير بين تقديم الصلاة ~~وتأخيرها، لحديث بني قريظة. # والثالث -وهو قول طائفة- أنه يؤخر الصلاة على ظاهر الأمر، وهذا قول جماعة ~~من أهل الرأي وأهل الظاهر. # فصل # والمؤمن له ثلاثة أعداء: شياطين الإنس والجن والدواب، وقد وردت السنة ~~بجهاد الثلاثة في الصلاة، فيجمع بين مناجاة ربه وبين دفع عدوه من جميع ~~الحيوان. أما قتال الإنس فقوله تعالى: # (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم # PageV06P317 # فرجالا أو ركبانا) (1) . وفي حديث ابن عمر: فإن كان خوفا شديدا صلوا (2) ~~. PageV06P318 ### | فصل # في المواقيت والجمع بين الصلاتين # PageV06P319 # فصل # في المواقيت والجمع بين الصلاتين # أصل ذلك أن الله أمر بالصلاة في مواقيتها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة، ~~وجعل الصلوات خمس صلوات كما فرضها سبحانه على المؤمنين ليلة المعراج، ~~وجعلها خمسا في العمل وخمسين في الأجر. # وقد ثبت في ms1182 الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فرضت أول ما ~~فرضت ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر. # وروي فيه في الصحيح (2) أن صلاة الحضر جعلت أربعا لما هاجر النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. وفي السنن (3) عن عمر بن الخطاب رضي ~~الله عنه أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر ~~ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. # ولهذا كان أصح قولي العلماء أن ### | الفرض على المسافر ركعتان، # وأن صلاته ركعتين لا يحتاج إلى النية، بل لو نوى أربعا كان السنة في حقه ~~أن يصلي ركعتين. وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد على مقتضى ~~نصوصه، وهو قول أكثر قدماء أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وغيره. وقال طائفة ~~منهم كالخرقي والقاضي أبي يعلى وغيرهما: إنه يفتقر إلى النية، موافقة ~~للشافعي، إذ كان أصله أن PageV06P321 # فرض السفر أربع، وإنما تصير ثنتين بالنية، وهؤلاء [لا] يكرهون الأربع، بل ~~للشافعي قول: إن الأربع أفضل، وحكي عنه قول إنه لا يجوز القصر إلا مع الخوف ~~كقول بعض الخوارج. لكن الأظهر أن هذا كذب على الشافعي، فإن الشافعي أجل ~~قدرا من أن يقول مثل هذا. # وظاهر مذهبه أن القصر أفضل، وهو مذهب أحمد بلا خلاف عنه، بل قد نص أحمد ~~على أن الأربع مكروهة، كما نقل ذلك عنه الأثرم، وتوقف أيضا في بعض أجوبته ~~هل تجزئه الأربع. وما توقف فيه من المسائل يخرجه أصحابه على وجهين أيضا. ~~ومذهبه في هذا كمذهب مالك، قيل: إن الإتمام لا يجوز، وقيل: يكره، وقيل: هو ~~ترك الأولى. # وبالجملة فعامة العلماء على أنه ### | ليس القصر كالجمع، # كما تواترت بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد تواترت ~~السنة على أنه إنما كان يصلي في السفر ركعتين في جميع أسفاره، وما روى عنه ~~أحد من علماء الحديث أنه صلى في السفر أربعا قط. والحديث الذي يروى عن ~~عائشة (1) أنه كان يصوم ويفطر ويقصر ويتم ضعيف، ولفظه أنها ms1183 قالت: قلت له: ~~أفطرت وصمت وقصرت وأتممت، فقال: "أحسنت يا عائشة". فأخبرته أنها هي التي ~~أتمت وصامت، مع أن هذا ضعيف بل كذب على عائشة، كما ذكر في موضعه. # بل من تتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم أنه من روى عنه أنه ~~صلى أربعا في السفر فقد كذب عليه. ولما حج كان يصلي بمكة وبمنى ركعتين، ~~PageV06P322 # ولما فتح مكة كان يصلي ركعتين، وأقام بها تسعة عشر يوما يصلي بها ركعتين، ~~وقال لأهل مكة: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر (1) . # وأما في حجة الوداع فكان يصلي بعرفة ومزدلفة ومنى ركعتين، ويصلي وراءه ~~الحجاج من أهل مكة وغيرهم، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولا ~~روى ذلك أحد من أهل الحديث، ولكن ذكر ذلك بعض المصنفين في الرأي، واشتبه ~~عليه قوله لهم بمكة في غزوة الفتح، فظن أنه قال في سفره بهم إلى عرفة ~~ومزدلفة ومنى. # وكذلك ذكر بعضهم أن عمر بن الخطاب قال ذلك بمنى في حجه، وهذا خطأ رواه ~~بعض العراقيين، والصواب الثابت الذي رواه مالك وغيره أن عمر إنما قال ذلك ~~بمكة (2) . # ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن ### | أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ومزدلفة، # كما هو مذهب أكثر فقهاء مكة والمدينة، وهو مذهب مالك وغيره وقول طائفة من ~~أصحاب أحمد كأبي الخطاب في "العبادات الخمس". # وقيل: يجمعون ولا يقصرون، كقول أبي حنيفة، وهو المنقول عن أحمد، وقد أجاب ~~بأنهم لا يقصرون، ولم ينههم عن الجمع. ولهذا جزم أبو محمد وغيره من أصحاب ~~أحمد أنهم يجمعون، وخطأ PageV06P323 # من قال: لا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي. # والقول الثالث: إنهم لا يقصرون ولا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب ~~الشافعي وبعض أصحاب أحمد. وهو أضعف الأقوال المخالفة للسنة المعلومة من ~~وجهين. # والذين قالوا: يقصرون، منهم من قال ذلك لأجل النسك، كما قال مالك وبعض ~~أصحاب أحمد. ومنهم من قال ذلك لأجل السفر، كما قال ذلك كثير من السلف ~~والخلف، وهو قول بعض أصحاب ms1184 أحمد، وهو أصح الأقوال. # وكذلك جمعهم، فإن من العلماء من قال: جمعهم لأجل النسك، # كما يقوله أبو حنيفة وغيره فلم يجوز الجمع إلا بعرفة ومزدلفة خاصة. # والجمهور قالوا: بل الجمع كان لغير النسك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. ~~وهؤلاء منهم من قال: الجمع كان لأجل السفر، ومن قال: الجمع يجوز لأهل مكة، ~~[ومن] قال: يجوز الجمع في السفر الطويل والقصير، ومن قال: لا يجوز الجمع ~~إلا في الطويل. # وهما وجهان في مذهب الشافعي وأحمد. # والصواب أن كل واحد من القصر والجمع لم يكن لأجل النسك، بل كان القصر ~~لأجل السفر فقط، وأما الجمع فلأجل الحاجة أو المصلحة الشرعية، وذلك أن ~~القصر يدور مع السفر وجودا وعدما، والقصر معلق به بالنص لقول النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة". وهو حديث ~~حسن ثابت من رواية أنس بن # PageV06P324 # مالك الكعبي (1) ، وكذلك أخبر عنه أصحابه، كقول عمر بن الخطاب: "صلاة ~~السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على ~~لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - " (2) . وكذلك قال ابن عمر: "صلاة السفر ~~ركعتان، من خالف السنة كفر" رواه مسلم وغيره (3) . ومعناه: من اعتقد أن ~~الركعتين لا تجزىء فقد كفر، لأنه خالف السنة المعلومة، كما لو قال: إن ~~الفجر لا تجزىء فيه ركعتان، وإن الجمعة والعيد لا تجزىء فيه ركعتان. وهذا ~~يحكى عن بعض الخوارج الذين زعموا أنهم يتبعون ظاهر القرآن وإن خالفته السنة ~~المتواترة. وهؤلاء ضالون في فهمهم للقرآن وضالون في مخالفة السنة. # وقوله: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين ~~كفروا) (4) لم يذكر فيها أنه قصر للعدد، والصحابة عمر وغيره جعلوا صلاة ~~المسافر ركعتين تماما غير قصر. وهذا قاله عمر بعد سؤال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، كما ثبت في الصحيح (5) عن يعلى بن أمية سأل عمر عن هذه الآية ~~(فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) ، ~~فقال عمر: عجبت مما عجبت منه ms1185، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ~~"صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته". فكأن المتعجب ظن أن القصر ~~PageV06P325 # قصر العدد [و] أنه معلق بالسفر مع الخوف، كما ظن بعضهم أن الجنب لا ~~يتيمم، وظن عمار أنه يتيمم عن الجنابة بالتمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة، ~~وظن عمار وغيره من الصحابة أن التيمم يمسح فيه اليدين إلى الآباط، فلما ~~سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لهم أنه يجزىء المسح إلى الكوعين ~~وأن الجنب يتيمم كذلك (1) ، وكان ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~موافقا لما دل عليه القرآن، لا يخالفه لا لباطنه ولا لظاهره، ولكن كل أحد ~~منهم يفهم ما دل عليه القرآن، فقد يظهر له معنى يظن أن ظاهر القرآن دل ~~عليه، ويكون من نقص فهمه لا من نقص دلالة القرآن. # كمن ظن أن قوله: (وأتموا الحج والعمرة لله) (2) يمنع الفسخ الذي أمر [به] ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أطوع ~~الخلق لربه وأتبعهم لهذه الآية، فكيف يأمرهم بأن لا يتموا الحج والعمرة ~~لله؟ والذي لا يتم هو الذي يحل بعمرة لا يتمتع بها أو بلا عمرة، وهذا لا ~~يجوز بالإجماع. # وأما من أحل بعمرة وتمتع بها فعمرته جزء من الحج، وهو ### | ...... # (3) بصوم الأيام الثلاثة التي قيل فيها: (فصيام ثلاثة أيام في الحج) (4) ~~، وعمرته قد دخلت في حجته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت ~~العمرة في الحج إلى يوم القيامة" (5) ، كما دخل الوضوء في الغسل غسل ~~الجنابة وغسل PageV06P326 # الميت، وتحلله في أثناء الإحرام تحلل من يقصد أنه يحل ثم يحرم بالحج بعد ~~ذلك، لا يجوز له التحلل بدون ذلك، فدخل الحل رحمة من الله. والحاج يتحلل ~~التحلل الأول وقد بقي عليه الطواف والرمي، وإن فعل ذلك بلا إحرام فهو من ~~الحج، لكن من تحلل [بعمرة] لم يبق عليه بعض الحج، بل المتمتع يتحلل أولا ~~حلا تاما، ثم عليه أن يحرم بعد ذلك التحلل الثاني بعد رمي جمرة العقبة، ثم ~~عليه الطواف ms1186 والرمي وهما من الحج. # وكذلك من ظن أن ظاهر القرآن يخالفه قوله للمبتوتة: "لا نفقة لك ولا سكنى" ~~(1) ، والقرآن لا يدل على إيجاب نفقة وسكنى للمبتوتة أصلا، وإنما المطلقة ~~المذكورة في قوله: (إذا طلقتم) (2) هي الرجعية كما يدل عليه سياق الكلام، ~~والإنفاق على ذوات الحمل إنما كان لأجل الحمل. ولهذا كان أصح قولي العلماء ~~أن النفقة للحمل نفقة والد على ولده، لا نفقة زوج على زوجته، كما هو مذهب ~~مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه التي اختارها أصحابه، وهو أحد قولي ~~الشافعي. ومن أوجبه للزوجات فإنه لم يخص به الحامل، كما قال من يوجب النفقة ~~للمبتوتة، لم يكن للحمل عنده تأثير. ومن قال: نفقة زوج لأجل الحمل فقوله ~~متناقض غير معقول، والقرآن علق النفقة بالحمل والإرضاع، والمعلق بالإرضاع ~~نفقة والد على ولده باتفاق المسلمين، فكذلك نفقة الحمل، ومن علقها بالزوجية ~~فهو مخالف PageV06P327 # للكتاب والسنة. # ونظائر هذا كثيرة مما يظنه بعض الناس أن السنة خالفت فيه ظاهر الكتاب، ~~ولا يكون الأمر كما قاله، بل تكون السنة موافقة لظاهر القرآن. والمقصود هنا ~~ذكر الجمع وذكر القصر تبعا. # فقوله تعالى: (أن تقصروا) (1) مطلق مجمل قد يراد به قصر العمل والأركان، ~~وذلك لا يجوز إلا في الخوف، فإن المسافر ليس له لأجل سفره أن يقصر عمل ~~الصلاة كما يقصره الخائف، وأما الخائف فيجوز له القصر كما قال تعالى: (وإذا ~~كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) إلى قوله تعالى: (فإذا ~~اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (2) . # فالصلاة مع الأمن صلاة مقامة إقامة مطلقة وهي التامة، ومع الخوف مقصور، ~~وإذا ضربوا في الأرض وكانوا خائفين قصروا لأجل الخوف مع صلاة ركعتين، فإن ~~كانت الركعتان لا تسمى في السفر قصرا، فإنه بين حال الخوف في السفر، كما ~~بين التيمم عند عدم الماء في السفر، لأن ذلك هو الذي يحتاج إلى بيانه في ~~العادة العامة، فأما عدم الماء في الحضر فنادر، واحتياج المقاتل لصلاة ~~الخوف نادر. # ودل القرآن على أن مجرد الضرب في الأرض ليس نسخا للقصر المذكور ms1187 في ~~القرآن، وليس في القرآن أنه لا قصر إلا قصر المسافر، بل قصر الخائف قصر، ~~وصلاته ناقصة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما PageV06P328 # المسافر ففي تسمية صلاته قصرا نزاع وتفصيل، ومن لم يفرض عليه إلا ركعتان ~~مع قدريه على الأربع وتيسر ذلك عليه لم يكن قد نقص مما أمر به شيئا، كمن ~~صلى الفجر والعيد ركعتين والجمعة ركعتين، بخلاف الخائف والمريض ونحوهما، ~~فإنه إنما أبيح لهما نقص الصلاة لأجل العجز عن إكمالها، والمسافر يباح له ~~ذلك مع القدرة، كما أبيح له الفطر، واستحب له أو وجب عليه ذلك عند طائفة. ~~وإن كان المسافر إنما وضع عنه الصوم وشطر الصلاة لكون السفر مظنة الحاجة ~~إلى التخفيف فهذا حكم عام لكل مسافر معلق بجنس السفر، إما لكون السفر قطعة ~~من العذاب فتكون الحكمة عامة، أو لكونه مظنة كما يظنه بعض الناس، وإن تخلفت ~~الحكمة في آحاد الصور. وهذا بمنزلة المسافر ليس عليه جمعة، وأن عرفة ومنى ~~لا جمعة فيهما، وأن المسافر يمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن والمقيم ~~يمسح يوما وليلة، ونحو ذلك من الأحكام التي فرق الله فيها بين حكم المقيم ~~والمسافر. # وإذا كان قصر العدد أمرا معلقا بالسفر يثبت به ولا يثبت بدونه كان السفر ~~هو المؤثر في قصر العدد، فأما النسك فلا تأثير له في قصر العدد، بل كان ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصر قبل أن يحرم بالحج هو وأصحابه، ولم يزل ~~يقصر إلى أن رجع إلى المدينة، فقصر قبل إحرامه وبعد تحلله، وقصر معه أهل ~~مكة، كما قصر معه سائر من حج معه. فعلم أن ذلك كان لأجل سفرهم من مكة إلى ~~عرفة، لا لكونهم حجاجا. ولهذا لو أحرموا بالحج وهم مقيمون بمكة لم يجز لهم ~~القصر عند أحد من العلماء، فعلم أن ذلك لم يكن لأجل النسك. فمن جعل قصر ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة ومنى إنما كان لأجل النسك لا ~~السفر فقد علق الحكم # PageV06P329 # بوصف عديم التأثير فيه، ولم يعلقه بالوصف المؤثر فيه بالنص والإجماع ms1188. # ولهذا نظائر يغلط فيها من يعلق الحكم بالوصف الذي لم يؤثر فيه، دون الوصف ~~المؤثر فيه، كمن علق على استئذان الصغيرة في النكاح بالبكارة دون الصغر، ~~وهذا خلاف النصوص والأصول، فإنها إنما علقت ذلك بالصغر، فأما البكارة فإنما ~~علقت بها صفة الاستئذان فقط، وهو كون سكوتها إقرارها. وكذلك من علق بعض ~~الأحكام في الطلاق والخلع والكناية أو غير ذلك بكونه تعليقا بشرط، وفرق بين ~~أن يكون العقد بصيغة تعليق أو بغير صيغة تعليق. وهذا ربط الحكم بوصف عديم ~~التأثير في الكتاب والسنة، وإنما ربط الله الأحكام بمعاني الأسماء المذكورة ~~في النص، مثل كونها طلاقا وخلعا وكناية ويمينا وغير ذلك، فما كان من هذا ~~النوع علق حكم ذلك به، سواء كان بصيغة الشرط، وإن لم يكن من هذا النوع لم ~~يدخل فيه بأي صيغة كان. # فصل # وأما الجمع بين الصلاتين فلم يعلق بمجرد السفر في شيء من النصوص، بل ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وكان ~~بمنى يقصر ولا يجمع، وكذلك في سائر سفر حجته، ولا يجمع لمجرد النسك، فإن ~~الناسك هو في النسك، وإنما جمع بعرفة لما كان مشتغلا بالوقوف، وجمع بجمع ~~لما كان جادا في السير من عرفة إلى مزدلفة. وهكذا ثبت عنه في الصحاح (1) من ~~حديث ابن عمر أنه كان إذا PageV06P330 # جد به السير أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل يجمع بينهما، وكذلك إذا جد ~~به السير جمع بين المغرب والعشاء، وكذلك يجمع في سفره إذا جد به السير، كما ~~فعل بمزدلفة. وكذلك ثبت في الصحيح (1) من حديث أنس عنه أنه كان إذا ارتحل ~~قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فصلاهما جميعا. وثبت في ~~الصحيح (2) عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى بالمدينة سبعا جميعا وثمانيا ~~جميعا، أراد بذلك أن لا يحرج أمته. وثبت في الصحيح (3) من حديث معاذ أنه ~~جمع في غزوة تبوك جمع التأخير. وروى أبو داود (4) وغيره بإسناد حسن جمع ~~التقديم من ms1189 غير طريق، فنبه الذي أنكر عليه، وكان هذا موافقا لجمعه بعرفة، ~~وجمع التأخير أشهر، وقد روي عنه أنه كان يجمع بالمدينة بالمطر، كما استدل ~~بذلك من حديث ابن عباس (5) . # وكان سلف أهل المدينة يجمعون في المطر بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم ~~ابن عمر وغيره من الصحابة مقرين لهم على ذلك، مع أن الأمراء كانوا إذا ~~خالفوا السنة أنكروا ذلك عليهم، [كما أنكروا عليهم] لما أذنوا للعيد، ~~وأنكروا عليهم لما قدموا الخطبة في العيد ولما أخرجوا المنبر لصلاة العيد، ~~بل وأنكر ابن عمر قنوتهم في الفجر وغير PageV06P331 # ذلك، ولم ينكروا جمعهم للمطر، فدل ذلك على أنه كان من السنن الموروثة ~~عندهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. # وفي السنن (1) أنه قال للمستحاضة: "سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من ~~الآخر"، فخيرها بين أن تصلي كل صلاة في وقتها بوضوء، وبين أن تؤخر الظهر ~~وتعجل العصر وتجمع بينهما بغسل، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتجمع بينهما ~~بغسل، قال: "وهذا أحب الأمرين إلي". فاختار الجمع بين الصلاتين بغسل على ~~التفريق بالوضوء، وكان هذا مما يستدل به على أن الجمع مع إكمال الصلاة أولى ~~من التفريق مع نقصها، فإنه لا سبب هنا للجمع إلا الاغتسال الذي هو أكمل ~~للمستحاضة من الوضوء، مع أن الاغتسال ليس بواجب عليها، والغسل مع تيقن ~~الحيض واجب، وأما في هذه الصورة فيستحب احتياطا، لإمكان أن يكون دم الحيض ~~قد انقطع حينئذ، ولهذا يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة. # وهذا بمنزلة الشاك هل أحدث أم لا؟ بعد تيقن الطهارة، فإن الوضوء أفضل له، ~~وإن استصحب الحال أجزأه عند الجمهور، وهو الصواب، كما أجزأ المستحاضة أن ~~تصلي إذا اغتسلت، وإن جاز أن يكون الدم الخارج بعد ذلك دم حيض. # ومعلوم أن كل ما أمر الله به في الصلاة وإنما رخص في تركه للعذر ~~PageV06P332 # فالصلاة معه أكمل، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه قال: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على ~~النصف من صلاة القاعد ms1190". وهذا قيل: إنه المتطوع غير المعذور، وجوز من قال: ~~إن الصحيح يتطوع مضطجعا، وهو قول لبعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو غلط مخالف ~~لما عليه سلف الأمة وأئمتها وما عليه عمل المسلمين دائما أن أحدا لا يتطوع ~~مضطجعا مع قدرته على القيام والقعود. وهذا الحديث إنما كان في المعذور، ~~وكذلك جاء مصرحا به أنه خرج عليهم وهم يصلون قعودا بسبب مرض عرض لهم، فذكر ~~هذا القول. # وأما قوله: "إذا مرض العبد أو سافر فإنه يكتب له من العمل ما كان يعمل ~~وهو صحيح مقيم" فهو حديث صحيح متفق عليه (2) ، لكن فيه أن العبد إذا كان ~~عادته أن يعمل عملا وتركه لأجل السفر أو المرض كتب له عمله لأجل نيته ~~وعادته، ليس فيه أن كل مسافر أو مريض يكتب له كعمل الصحيح. ولهذا إذا مرض ~~أو سافر ولم يكن عادته أن يقوم الليل لم يكتب له قيام، وإذا لم يكن عادته ~~أن يصلي في الجماعة لم يكتب له صلاة الجماعة. فإن كان عادته [أن] يصلي ~~قائما وصلى قاعدا لأجل المرض كتب له مثل أجر صلاة القائم، كما أنه لو عجز ~~عن PageV06P333 # الصلاة بالكلية كتب له مثل ما كان يصلي وإن لم يوجد منه صلاة. # وكما يكتب لمن خرج ليصلي في جماعة وإذا أدركهم سلموا مثل أجر من شهد ~~الجماعة وإن كان لم يصل في جماعة. وهكذا من لم يدرك ركعة من الجماعة فإنه ~~لا يكون مدركا لها إلا بركعة، لا في الجمعة ولا في الجماعة، في أصح أقوال ~~العلماء الذي دل عليه النص وأقوال الصحابة، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين ~~عن أحمد، والرواية الأخرى عنه الفرق بين الجمعة وغيرها، كظاهر مذهب ~~الشافعي، وفي مذهبه قول ثالث: إنه يكون مدركا للجمعة بتكبيرة، كقول أبي ~~حنيفة. # والذي دل عليه النص وآثار الصحابة والقياس هو القول الأول. ومع هذا فيكتب ~~له أجر من شهد إذا جاء بعد الفوات لأجل نيته، فإن القاصد للخير الذي لو قدر ~~عليه لفعله وإنما يتركه عجزا يكتب له مثل أجر ms1191 فاعله، كما قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا ~~كانوا معكم"، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر" (1) . # وفي حديث كبشة الأنماري الذي صححه الترمذي (2) عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: "إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يتقي في ~~ذلك المال ربه ويصل فيه رحمه، فهذا بأشرف المنازل؛ ورجل آتاه الله علما ولم ~~يؤته مالا، فيقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: فهما في الأجر سواء؛ ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، ~~PageV06P334 # فهو لا يتقي في ذلك المال ربه ولا يصل فيه رحمه، فهذا بأخبث المنازل؛ ~~ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما، فيقول: لو أن لي مالا لعملت مثل عمل ~~فلان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فوزرهما سواء". # فالثواب الذي يكتب بالنية غير الثواب المستحق بنفس العمل، فقول النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة ~~المضطجع على النصف من صلاة القاعد" كلام مطلق، وقد علم بأدلة أخرى أن هذا ~~لا يجوز في الفرض إلا مع العذر، كما قال لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم ~~تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (1) . وعلم أن تطوع الجالس يجوز مع ~~القدرة بدليل آخر، كما علم أن صلاة النافلة في السفر تجوز على الراحلة، ~~لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي التطوع على راحلته قبل أي وجه توجهت، ~~غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وكان يوتر عليها. # ونظير هذا قوله: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين ~~درجة" (2) ، فإن هذا مطلق، لم يدل على صلاة الرجل وحده، [كما] يعلم بدليل ~~آخر، فإذا دل دليل آخر على أن المنفرد لا يجزئه صلاته إلا مع العذر، كقوله ~~- صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء ثم لم يجب بغير عذر فلا صلاة له" ~~(3) ، ولأن الجماعة إذا كانت واجبة، فمن ترك PageV06P335 # الواجب لم تبرأ ms1192 ذمته إلا بأدائه، كما يقول كثير من السلف والخلف من أصحاب ~~أحمد وغيرهم= لم يكن في ذلك تناقض بين أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~بل ذلك لمن فهمه يدله على أن ذلك كله جاء من عند الله، ولو كان من عند غير ~~الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. # وكذلك الصلاة بالوضوء والغسل أكمل من الصلاة بالتيمم، والصلاة في الأماكن ~~التي لم ينه عنها أكمل من الصلاة في مواضع النهي، كالحمام والمقبرة وأعطان ~~الإبل. والصلاة في الجماعة أكمل من صلاة الرجل وحده، وفضل الفاضل هنا على ~~المفضول أبلغ من فضل صلاة المستحاضة بغسل على صلاتها بغير غسل، لأن الكمال ~~هنا لاحتمال وجوب الغسل لا للعجز عنه، ولما شك في وجوبه جاز تركه مع ~~القدرة، وما لا يجوز تركه مع القدرة أولى مما يجوز تركه مع القدرة، ~~والمستحب المحض دون ذلك. # والنبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين بعرفة في وقت الأولى، ~~وهذا الجمع ثابت بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين عليه، ومعلوم أنه قد ~~كان يمكنه أن يترك العصر فيصليها في وقتها المختص، لكن عدل عن ذلك إلى أن ~~قدمها مع الظهر لمصلحة تكميل الوقوف، لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأن ~~اتصال الوقوف إلى المغرب بغير قطع له بصلاة العصر في أثنائه أحب إلى الله ~~من أن يصلي العصر في وقتها الخاص، ولو أخر مؤخر العصر وصلاها في الوقت ~~الخاص وقطع الوقوف لأجزأه ذلك فيما ذكره العلماء من غير نزاع أعلمه، ولكن ~~ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله، فإنه لو قطع الدعاء والذكر لبعض أعماله ~~المباحة ووقف إلى المغرب # PageV06P336 # لم يبطل بذلك حجه، فأن لا يبطل بترك ذلك لصلاة العصر أولى وأحرى. ودلت ~~هذه السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الجمع يكون ~~للحاجة والمصلحة الشرعية، فلما لم يكن لمجرد السفر فلم يكن لمجرد النسك. # وقد أخذ جمهور العلماء بالسنن الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~في الجمع، وأحمد أعظمهم أخذا بما ورد كله، فإنه يجوز الجمع ms1193 للمسافر في وقت ~~الثانية، كما ثبت في الصحيح. وأما الجمع للنازل في وقت الأولى كما روي في ~~السنن ففيه عنه روايتان: إحداهما الجواز كقول الشافعي، والثانية المنع كقول ~~مالك. وهل المباح للسفر مختص للطويل؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد، ~~ومذهب مالك أنه لا يختص بالطويل، وهو الصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية. ~~"وثلاثتهم يجوزون الجمع بين المغرب والعشاء، وأما صلاتا الظهر والعصر ~~ففيهما نزاع بينهم، وعن أحمد فيها روايتان. ومالك وأحمد يجوزان الجمع ~~للمريض، وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي. # وجوز أحمد الجمع للمستحاضة، كما في الحديث الذي في السنن سنن أبي داود ~~وابن ماجه والترمذي وصححه ورواه أحمد من حديث حمنة بنت جحش (1) ، قالت: كنت ~~أستحاض حيضة شديدة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه، فقلت: إني ~~أستحاض حيضة كثيرة فما تأمرني فيها؟ فقد منعتني الصيام والصلاة، قال: أنعت ~~لك الكرسف، قالت: PageV06P337 # هو أكثر، قال: فاتخذي ثوبا، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجا، قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك، فإن ~~قويت عليهما فأنت أعلم"، فقال: "إنما هي ركضة من الشيطان، فتحيضي ستة أيام ~~أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ~~أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي وصلي، فإن ذلك ~~يجزئك، وكذلك فاغتسلي كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، فإن ~~قويت على أن تؤخرين الظهر وتعجلين العصر ثم تغتسلي حتى تطهرين، فتصلين ~~الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين ~~بين الصلاتين بغسل، وتغتسلين مع الصبح وتصلين، فكذلك فافعلي وصومي إن قدرت ~~على ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهو أعجب الأمرين إلي". # وعن عائشة رضي الله عنها أن سهلة بنت سهيل استحيضت، فأتت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن ~~تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وأن تغتسل للصبح. رواه ~~أحمد ms1194 والنسائي وأبو داود (1) ، وهذا لفظه. # وأصل هذا الباب أن تعلم أن ### | وقت الصلاة وقتان: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحاجة والعذر. # فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات، كما ثبت في صحيح مسلم (2) عن عبد ~~الله بن عمرو عن النبي PageV06P338 # - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله، ~~ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق، ووقت ~~العشاء إلى نصف الليل، ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس". # وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن (1) ، ولم يرو عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - حديث في المواقيت من قوله إلا هذا، وسائر ما روي فعل ~~منه، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث. # ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين ~~بالحديث، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أصحهما. # والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر وآخره، وآخر وقت ~~المغرب، وآخر وقت العشاء، وآخر وقت الفجر. # فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم ~~من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس. ~~وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: إلى أن ~~يصير ظل كل شيء مثليه. ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما ~~يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه. ونقل عنه أن ما بين المثل إلى المثلين ليس ~~وقتا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور هل هذا آخر هذا أو بينهما قدر ~~أربع ركعات مشترك؟ فيه نزاع، فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. ~~وإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو ~~منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في PageV06P339 # مذهبهما، والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، وهو الرواية ~~الثانية عن أحمد، كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو (1) بما عمل ms1195 به النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد عمله بمكة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن ~~الحسن. فلم يكن للعصر وقت متفق عليه، ولكن الصواب المقطوع به الذي تواترت ~~به السنن واتفق عليه الجماهير أن وقتها يدخل إذا صار [ظل] كل شيء مثله، ~~وليس مع القول الآخر نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا صحيح ولا ~~ضعيف، ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة لما اعتادوا تأخير الصلاة ~~[و] اشتهر ذلك صار يظن من ظن أنه السنة، وقد احتج له بالمثل المضروب ~~للمسلمين وأهل الكتاب (2) ، ولا حجة فيه باتفاق أهل الحساب على أن وقت ~~الظهر أطول من وقت العصر الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثله. # وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب، ومن المغرب ~~إلى الفجر، ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر -عند العذر- ~~واسع فيهما من وجهين: # أحدهما: تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدمها النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يوم عرفة، وكما كان يقدمها في سفرة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ ~~الشمس، أو تقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمع تقديم. # والثاني: جمع تأخير العصر فيها إلى المغرب، لقوله - صلى الله عليه وسلم - ~~في PageV06P340 # الحديث الصحيح (1) : "من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك ~~الفجر، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". هذا مع ~~قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (2) : "وقت العصر ما لم تصفر ~~الشمس". وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار، ويوم الخندق كان التأخير إلى ~~بعد الغروب، وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى: (حافظوا على ~~الصلوات والصلاة الوسطى) (3) . # وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقيل: يخير حال ~~القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان، وهو الرواية الأخرى عنه. ~~وقيل: بل يؤخرها، وهو قول أبي حنيفة أيضا، ففي الحديث الصحيح (4) عنه - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه قال: "تلك صلاة المنافق ms1196، تلك صلاة المنافق، يرقب ~~الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام، فنقر أربعا لا يذكر الله فيها ~~إلا قليلا". فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر، فدل على ~~المنع من هذا وهذا، فلما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا وهذا علم أن ~~الوقت وقتان، فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقا، ~~وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله، بخلاف من لا يمكنه ~~الصلاة قبل ذلك، كالحائض إذا طهرت، والمجنون يفيق، والنائم يستيقظ، والناسي ~~يذكر. فدل تقديمه للعصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب ~~PageV06P341 # الزوال، ودل هذا الحديث على أنها يدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل ~~الغروب، مع أنه جائز (1) بقوله وفعله أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله ما ~~لم تصفر الشمس، فدل على أن هذا الوقت المختص بها وقت مع التمكن والرفاهية، ~~ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه. # وقد عرف عن الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس رضي الله ~~عنهم أنهم قالوا في الحائض: إذا طهرت قبل غروب الشمس تصلي الظهر والعصر، ~~وإذا طهرت قبل طلوع الشمس (2) صلت المغرب والعشاء. ولم يعرف عن صحابي خلاف ~~ذلك، وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. وهذا مما يدل على أنه كان ~~الصحابة [يرون] أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء وإلى الفجر، ~~والنصف الثاني من النهار مشترك عند العذر بين الظهر والعصر من الزوال إلى ~~الغروب، كما دل على ذلك السنة، والقرآن يدل على ذلك، قال الله تعالى: (وأقم ~~الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) (3) ، فالطرف الأول صلاة الفجر، فإن ~~صلاة الفجر من النهار، كما قد نص على ذلك أحمد، فإن الصائم يصوم النهار، ~~وهو يصوم من طلوع الفجر، والوتر يصلى بالليل. وقد قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة" (4) . ~~فليس لأحد أن يتعمد تأخير PageV06P342 # الوقت إلى ما بعد طلوع الفجر ms1197 عند جماهير العلماء، كأبي حنيفة والشافعي ~~وأحمد في ظاهر مذهبه. # وإذا قيل: "نصف النهار" فالمراد به النهار المبتدىء من طلوع الشمس، فهذا ~~في هذا الموضع، ولفظ "النهار" يراد به من طلوع الفجر، ويراد به من طلوع ~~الشمس، لكن قوله (وأقم الصلاة طرفي النهار) أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، ~~لأن ما بعد طلوع [الشمس] ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة بل ولا مستحبة، ~~بل الصلاة في أول الطلوع منهي عنها حتى ترتفع الشمس. وهل تستحب الصلاة لوقت ~~الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه. # فعلم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر، وأما الطرف الثاني فمن الزوال ~~إلى الغروب، فجعل الصلاة وأشرك بينهما فيه، ثم قال: (وزلفا من الليل) وهي ~~ساعات من الليل. فالوقت هنا ثلاثة، وكذلك في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك ~~الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)) (1) . ~~فالدلوك: الزوال عند أكثر السلف، وهو الصواب، يقال: دلكت وهي الشمس إذا ~~زالت. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته. فالأول يتناول الظهر والعصر تناولا ~~واحدا، والثاني [يتناول المغرب والعشاء] تناولا واحد، ثم قال: (وقرآن ~~الفجر) وهي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر. PageV06P343 # وقال تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ~~ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة ~~العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح) (1) . فذكر الفجر وذكر ~~الظهر وذكر صلاة العشاء، فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. ~~وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت. # وقد دل على المواقيت في آيات أخرى، كقوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين ~~تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (18)) (2) ، ~~فبين أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض حين الصباح وحين المساء وعشيا ~~وحين الإظهار، فالمساء يتناول المغرب والعشاء، والصباح يتناول الفجر، ~~والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر. # وقال تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل ms1198 غروبها ومن آناء الليل ~~فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) (3) ، وفي الآية الأخرى: (قبل طلوع الشمس ~~وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40)) (4) . # فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، وقبل غروبها هي العصر، وكذلك فسرها النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته (5) من حديث PageV06P344 # جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة ~~البدر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ~~فافعلوا"، ثم قرأ قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (1) . ~~و"من آناء الليل" مطلق في آناء الليل يتناول المغرب والعشاء. # والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ويقولون: ليس لكل منهما إلا وقت ~~يخصها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن، والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله: ~~(قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15)) (2) ، فلا موجب لخصوص ~~التكبير عندهم، بل مطلق الذكر. # فمان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل قط إلا بتكبير، ولا أحد من ~~خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا ~~بتكبير، ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر لأن القرآن مطلق في الذكر= فيقال ~~لهم: القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل، ومطلق في الأول وفي الطرف ~~الثاني، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدر أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - داوم على التفريق، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت الأول ~~غير مرة، وفي الوقت الثاني غير مرة؟ وكذلك يقولون: قوله تعالى: (اركعوا ~~واسجدوا) (3) مطلق، PageV06P345 # فهو الفرض، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد، فيفيد الوجوب دون الفريضة. ~~وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه، مع ~~أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من بعده لم يصلوا إلا بالفاتحة، ~~ومع قوله: "لا صلاة إلا بأم القرآن" (1) وأن "كل صلاة لا يقرأ فيها ms1199 بأم ~~القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج" (2) ، ويقولون: هذا يفيد الوجوب دون ~~الفريضة، وهذا خبر واحد لا يقيد به مطلق القرآن. # ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا ~~فعله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد، مع ما فيه من الإجمال، ~~كقوله لما بين المواقيت الخمسة: "الوقت ما بين هذين" (3) ، وقوله: "ما بين ~~هذين وقت" (4) ، دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله: "لا ~~صلاة إلا بأم القرآن" وقوله: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي ~~خداج". # وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (5) : "سيكون بعدي ~~أمراء PageV06P346 # يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم ~~نافلة"، وهو الوقت الذي بينه لهم. والأمراء إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى ~~وقت العصر، أو العصر إلى آخر النهار. ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل، ~~لأنهم سألوه عن الأمراء نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا"، وهذه كانت صلاتهم. ~~ودل على أن هذه الصلاة صحيحة، وإن كان فاعلها آثما. بخلاف صلاة النهار بعد ~~الغروب، فإن من قال: لا يصليها إلا بعد الغروب قد قوتل بلا ريب. وكذلك من ~~قال: لا يصلي المغرب والعشاء إلا بعد طلوع الفجر فإنه يقاتل بلا ريب. وقد ~~قال ابن مسعود وغيره في قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ~~واتبعوا الشهوات) (1) ، قالوا: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها ~~لكانوا كفارا، وأرادوا بذلك تأخيرها إلى الوقت المشترك أو وقت الاضطرار، ~~ولم يريدوا بذلك تأخير صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى صلاة ~~النهار، فإن الخلف الذين كان ابن مسعود يسميهم الخلف -كالوليد بن عقبة بن ~~أبي معيط وغيره- لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل ~~إلى النهار، بل كان التأخير كما تقدم، مع أن ابن مسعود كان يسميهم "خلف"، ~~ويقول: "ما فعل خلفكم ms1200؟ "، فالخلف لم يكونوا يصلون بغير الفاتحة، ولا بغير ~~التكبير، ولا يقرأون القرآن بغير العربية، بل كانوا يصلون في الوقت المطلق ~~في كتاب الله في الطرف الثاني وقبل الغروب. ثم لما دل الشرع على وجوب ~~الصلاة في الوقت المختص ذموا لأجل ترك هذا الواجب، مع PageV06P347 # أن في القرآن مع النصوص المطلقة في آناء الليل والطرف الثاني أكثر مما ~~فيه من إطلاق قوله: (واذكر اسم ربك) (1) ، وقوله: (فاقرءوا ما تيسر منه) ~~(2) . والسنة والآثار دلت على الوقت المشترك، ولم تدل سنة على الصلاة بغير ~~فاتحة، فعلم أن الكتاب والسنة وآثار الصحابة تدل على أن الأوقات في حق ~~المعذور ثلاثة، وأن ذلك لم يعارضه دليل شرعي أصلا، وما قدر معارضا له ~~فالإيجاب به أضعف من الإيجاب بما دل على الفاتحة والتكبير. # وقوله تعالى: (ومن آناء الليل) (3) وقوله: (وزلفا من الليل) (4) كان ~~مطلقا، دل على أن جميع الليل وقت في الجملة للصلاة، كما كان الطرف الثاني ~~وقتا للصلاة، وأن النصف الثاني من الليل كما بعد الاصفرار، ليس لأحد أن ~~يؤخر إليه العشاء مع الاختيار. وأما الحائض إذا طهرت والمجنون إذا أفاق ~~والكافر إذا أسلم والنائم إذا استيقظ والناسي إذا ذكر فيصلون المغرب ~~والعشاء، كما كانوا يصلون الظهر والعصر قبل الغروب، كما قال أصحاب رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي ~~الله عنهم، وهو قول الجمهور. PageV06P348 # فصل # وهذا الذي ذكرناه من أن الوقت مشترك عند العذر إلى آخر وقت العصر فقد صلى ~~في وقتها، فهو كما لو أخرها إلى آخر الوقت المختص، فلو قدر أن الحائض طهرت ~~والنائم استيقظ والكافر أسلم بعد دخول وقت العصر المختص فإنهم يصلون الظهر ~~والعصر في وقتها، ولا يقال: إن الظهر صلوها بعد خروج الوقت. وكذلك من قدم ~~العصر إلى وقت الظهر، وصلى العشاء وقت المغرب جمعا للمطر لم يحتج أن ينوي ~~الجمع، سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا. وهذا قول جمهور العلماء كمالك ~~وأبي حنيفة حيث يجوز الجمع، وهو المعروف عن ms1201 أحمد بن حنبل في أجوبته، لم ~~يوجب النية في ذلك ولا جمهور قدماء أصحابه كأبي بكر وغيره، لكن الخرقي ~~ومتبعوه كالقاضي أبي يعلى وغيره أوجبوا في الجمع النية، وهذا قول الشافعي. ~~وأما أحمد فلا أصل لهذا في كلامه ولا في كلام جمهور الفقهاء من أصحابه، كما ~~هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما، وهذا هو الصواب، فإن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - لما جمع بأصحابه بعرفة لم يكونوا يعرفون أنه يصلي العصر بعد ~~الظهر، ولا قال حين صلو الظهر: إنكم تجمعون إليها العصر. وكذلك لما جمع بهم ~~بالمدينة فصلى سبعا جمعا وثمانيا جمعا لم يقل لهم: انووا الجمع. وكذلك لما ~~كان يقصر بهم لا يأمرهم بنية القصر، بل قد لا يعرفون ذلك حتى يقصر. # ولهذا قد ثبت في حديث ذي اليدين (1) أنه لما صلى بهم الظهر أو ~~PageV06P349 # العصر ركعتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ ~~وقال: "لم أنس ولم تقصر الصلاة"، قال: بل نسيت يا رسول الله، قال: "أكما ~~يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، الحديث. فلما أقره على قوله: أقصرت الصلاة ~~أم نسيت، وقال: لم أنس ولم تقصر، ولم يقل: كيف تقصر ولم آمركم بنية القصر= ~~دل على أنه كان ممكنا أن يقصر من غير أن ينوي القصر. # وأيضا فيقال: الجامع إن كان مصليا للصلاة في وقتها الذي يجوز فعلها فيه ~~فقد جاز، سواء نوى الجمع أو لم ينوه، وإن لم يكن وقتها فمجرد النية لا يبيح ~~الصلاة في غير وقتها، ولهذا لو نوى الجمع حيث لا يجوز لم تفده النية شيئا، ~~فإذا قدر أن المصلي بعرفة صلى الظهر، ولم يخطر بقلبه إذ ذاك أنه يصلي معها ~~العصر، فمعلوم أن ما بعد صلاة الظهر هو وقت العصر في حقه، فلا فرق بين أن ~~يصليها في ذلك الوقت مع نيته ذلك عند صلاة الظهر أو لا، وأي تأثير للجواز ~~إذا نوى ذلك عند صلاة الظهر؟ وكذلك من يجوز له أن يصلي العشاء مع المغرب ~~للمطر فأي تأثير ms1202 لنيته في ذلك عند صلاة المغرب؟ # ثم هذا الشرط يكدر مقصود الرخصة، فإن الناس متلاحقون بعد شروع الإمام، ~~ولا يعرفون أنه نوى الجمع، فلو لم يجز الجمع إلا لمن نواه فات كثيرا منهم ~~رخصة الجمع، أو لزم أن يوكل الإمام من يقول لكل من يدخل: انو الجمع. وهذا ~~مع ما فيه من البدعة والحرج المتيقن بالشرع ففيه إبطال الصلاة في الجماعة ~~على ذلك المعلم. # وكذلك الموالاة بين الصلاتين، وقد أوجبها الشافعي ومن وافقه # PageV06P350 # من أصحاب أحمد، وقد نص أحمد على أن المسافر إذا صلى العشاء قبل غروب ~~الشفق في السفر جاز، وجعله بذلك جامعا. وليس مراده الأبيض، فإن الوقت يدخل ~~في حق المسافر بغروب الشفق الأحمر عنده بلا ريب، وكذلك الحاضر، وإنما اختار ~~للحاضر أن يؤخرها إلى مغيب الأبيض ليتيقن مغيب الشفق الأحمر عنده بلا ريب، ~~لأن الجدران تواري الحمرة في الحضر دون السفر، وإن جوز أن يصلي قبل مغيب ~~الأحمر في السفر، لأن المسافر يجوز له الجمع، فلو أراد أن يصليها عقيب ~~المغرب جاز، فإذا أخرها كان أولى بالجواز، لأنه أقرب إلى الوقت المختص، ~~فكيف يسوغ أن يقال: يصلي في الوقت البعيد عن وقتها المختص دون المشترك. # وإذا قال قائل: إن ذلك لا يسمى جمعا إلا مع الاقتران. # قيل: هذا لا يجوز الاحتجاج به لوجهين: # أحدهما: أن الشارع لم يعلق الحكم بهذا اللفظ ولا معناه، ولكن دل الشرع ~~على جوازه. # الثاني: أن الجمع سمي بذلك، لأنه جمع بينهما في وقت إحداهما المختص، لا ~~لاقتران الفصل، بدليل أنه لو جمع في وقت الثانية لم يجز (1) الاقتران بلا ~~ريب، بل له أن يصلي الأولى في أول الوقت والثانية في آخره. وقد صلى النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - ليلة جمع المغرب قبل إناخة الرحال، ثم أناخوها، ثم ~~صلى العشاء بعد ذلك بفصل بينهما. PageV06P351 # فصل # وإذا عرف أن الأوقات في حال العذر ثلاثة أوقات، فنقول ### | : العذر نوعان: # أحدهما: ما فيه حرج المسلم، كجمع المريض والمسافر إذا جد به السير. # والثاني: أن يشتغل بعبادة ms1203 أفضل من الصلاة في الوقت المختص، مثل اتصال ~~الوقوف بعرفة، فإن هذه العبادة أولى بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين من ~~أن يصلي العصر في وقتها المختص. كما أن الفطر لأجل الدعاء والذكر في هذا ~~اليوم أفضل من صوم يوم عرفة الذي يكفر سنتين، مع أن هذا فيه نزاع بين ~~العلماء، فإنهم تنازعوا (1) . # وإذا كان هذا في الوقت فمعلوم أن ### | جنس الجهاد أفضل من جنس الحج، # ومن الجهاد ما يكون أفضل من وقوف عرفة إذا كان المسلمون بإزائهم عدو يتصل ~~قتاله لهم إلى الغروب مصافة أو محاصرة أو غير ذلك= كان أن يجمعوا بين ~~الصلاتين ثم يدخلوا في الجهاد المتصل خيرا من أن يؤخروا الصلاة إلى بعد ~~الغروب، كما يقوله من لا يجوز الجمع ولا الصلاة مع القتال ويجوز تأخير ~~الصلاة، وكان خيرا من أن يصلوا في حال القتال. فإنه لا يستريب مسلم أن فعل ~~الصلاتين في وقت الظهر خير من فعلهما أو فعل إحداهما بعد الغروب، فإن هذا ~~فعل صلاة النهار في النهار وجمع في الوقت الذي يجوز جنسه بالنص والإجماع. ~~PageV06P352 # وأما تفويت الصلاة إلى الغروب مع إمكان فعلها في الوقت فهذا لم يرد به ~~سنة قط، فإن غاية ما يحتج به تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ~~يوم الخندق، وقد روي أنه أخر الظهر والعصر جميعا وأخر المغرب أيضا، فلم ~~يصلهن إلا بعد مضي طائفة من الليل. وهذا إن كان نسيانا فليس هو مما نحن ~~فيه، فإنه من نام عن صلاة أو نسيها كان مأمورا بأن يصليها إذا ذكرها. وإن ~~لم يكن نسيانا بل اشتغالا بالقتال كما يقوله الجمهور فعنه جوابان: # أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا بقتالهم في النهار، ~~ولم يعلم أنه يفرغ للصلاة بعد الزوال دون ما بعد العصر فإذا كان كذلك لم ~~يكن هذا مما نحن فيه، فإن الكلام إنما هو فيمن تفرغ للجمع في أول وقت ~~الظهر، كما تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك يوم عرفة. # الثاني: أن هذا التأخير منسوخ ms1204 بقوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ~~وقوموا لله قانتين (238)) (1) ، فإنها نزلت في ذلك، والوسطى هي العصر، ~~ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق: "ملأ الله أجوافهم ~~وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" (2) . وأيضا فقد ثبت ~~عنه في الصحيح أنه قال: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" (3) . ~~وعلق إدراكها بإدراك ركعة منها فقال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب ~~الشمس فقد أدرك" (4) . PageV06P353 # وأما صلاتها مع الظهر فقد سنه في الجملة، ومعلوم أن جنس ما توعد عليه ~~محرم، وجنس ما فعله مشروع، فعلم أن الجمع بينهما في وقت الظهر خير من ~~التأخير إلى أن تفوت. وهذا مذهب جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد في ~~المشهور عنه، بل لا يجوزون التأخير ولا غيره، ويجوزون الجمع لما هو دون ~~القتال. وأحمد وإن قال في رواية عنه: إن المقاتل يخير بين الصلاة في الوقت ~~والتأخير، فلا يختلف قوله: إن الجمع أولى من التفويت، وإنما يقول -على تلك ~~الرواية-: إذا لم يمكنه أن يصلي بالنهار لأجل القتال خير بين الصلاة حال ~~القتال في الوقت وبين الصلاة بعد المغرب. وأما على ظاهر مذهبه فلا يجوز ~~تفويتها إلى الغروب بحال. # والمقصود هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قد صلاهما ~~بالمسلمين في وقت الظهر لاشتغاله عن فعلهما في الوقت المختص باتصال الدعاء ~~والذكر، ف ### | الجمع للاشتغال بالجهاد # أولى وأحرى. هذا إذا أمكنه أن يصلي مع الجهاد صلاة تامة، لكن يتعطل عن ~~بعض مصلحة الجهاد. # وأما إذا قدر أنه لا يمكنه أن يصلي إلا على دابته إلى غير القبلة لأجل ~~القتال، فلا ريب أن صلاته بالأرض صلاة تامة جمعا بين الصلاتين خير من أن ~~يصلي العصر في وقتها المختص صلاة ناقصة، لما فعله النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في حجته، ولحديث المستحاضة، ولأن تكميل العبادة بفعل واجباتها أمر ~~مقصود في نفسه، والجامع مصل لها في وقتها لا في غير وقتها، لكن صلاها في ~~وقت المعذور، وهو الوقت المشترك، وما ms1205 حصله بالتكميل المأمور به في الصلاة ~~أكمل مما فاته من الوقت المختص. فإذا كان تكميل الدعاء والذكر بعرفة أفضل ~~من الصلاة في # PageV06P354 # الوقت المختص، فتكميل نفس الصلاة أفضل من الوقت المختص. # ولهذا لا يجوز التكميل (1) المأمور به في الصلاة لأجل تكميل اتصال ~~الدعاء، لأن ذلك واجب وهذا مستحب. ولو كان عادما للماء والسترة ولم يمكنه ~~تحصيل ذلك إلا بتفويت بعض الدعاء والذكر كان مأمورا أن يصلي بالماء ~~والسترة، وإن كان ذلك في أثناء الدعاء. # ولهذا كان الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة أولى من الصلاة في الوقت ~~المختص بطهارة ناقصة، فالمستحاضة التي تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، هو ~~أفضل من الصلاة في الوقت المختص بوضوء. # ومثل ذلك من جمع بين الصلاتين بوضوء، فإنه أكمل ممن صلى في الوقت المختص ~~بتيمم، ومن جمع بين الصلاتين قائما فهو أكمل ممن صلى في الوقت المختص ~~قاعدا، ومن جمع بين الصلاتين في جماعة فهو أكمل ممن صلى في الوقت المختص ~~منفردا. # ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يجمعون بين المغرب ~~والعشاء للمطر ونحوه، مع إمكان أن يصليها وحده في بيته، لكن لما كان الجمع ~~لمصلحة الجماعة وكان صلاته معهم أكمل من الانفراد= كان صلاته معهم جمعا ~~أكمل من صلاته منفردا في الوقت المختص. وهكذا في صلاة الخوف الصلاة في ~~جماعة مع استدبار القبلة في أثناء الصلاة -مع العمل الكثير ومع مفارقة ~~الإمام قبل السلام وغير ذلك- أكمل من أن يصلي كل واحد منفردا مع عدم هذه ~~المحاذير. PageV06P355 # وإذا صلى بالتيمم في الوقت المشترك هل هو أكمل من الصلاة في الموضع ~~المنهي عنه في الوقت المختص؟ فإن هذا حصل فيه نقصان: نقص التيمم والوقت ~~المشترك، وهناك حصل نقص المكان المنهي عنه فقط. وسيأتي الكلام على هذه ~~المسألة، ونبين أن الصلاة بالتيمم في الوقت المشترك خير من الصلاة المنهي ~~عنها في الوقت المختص، لأن الصلاة في الوقت المشترك بالتيمم أصلا يؤم فيها ~~المتيمم للمتوضىء بخلاف الصلاة في المكان المنهي عنه، فإنها لا تفعل إلا ~~لضرورة ms1206. # ونظير ذلك من كان في مكان قد نهي عن الصلاة فيه -كالحمام والمكان النجس ~~وغير ذلك- فإنه إذا لم يمكنه أن يصلي في الوقت إلا فيه صلى فيه، فإن فعل ~~الصلاة في وقتها واجب، أعني الوقت المطلق، فلا يجوز له أن يؤخر صلاة النهار ~~إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار أصلا، بل يصلي في الوقت المطلق: إما ~~المختص وإما المشترك بحسب الإمكان. فإذا كان قد دخل إلى الحمام، وإن لم يصل ~~فيه خرج الوقت، صلى فيه. وكذلك من حبس في موضع نجس لا يخرج منه إلا بعد فوت ~~الوقت صلى فيه، ولا إعادة عليه، كما نص على ذلك أحمد وغيره. وهذا بين، لكن ~~إن أمكنه أن يجمع بين الصلاتين خارجا عن الموضع المنهي عنه، فالجمع خارجا ~~عن الموضع المنهي عنه خير من الصلاة فيه، والصلاة فيه خير من التفويت. # وذلك مثل المرأة إذا كان عليها غسل جنابة أو حيض، ولا يمكنها الاغتسال في ~~الوقت، فعليها أن تصلي بالتيمم، فإذا صلت الفجر بالتيمم ثم لم يمكن الحمام ~~إلا بعد الظهر، وإذا دخلت الحمام لم # PageV06P356 # يمكنها الخروج منه إلا بعد الغروب، فالصلاة في الحمام بعد التطهر مع ستر ~~رأسها وبدنها خير من التفويت بلا ريب، إذ التفويت إلى الغروب لا يجوز بحال، ~~بل المصلي للعصر بعد الغروب كالصائم لرمضان في شوال باتفاق العلماء، فإنهم ~~متفقون على أنه لا يجوز تفويت رمضان إلى شوال لمن يجب عليه، والصلاة في ~~وقتها أوكد من الصوم في وقته كما بيناه. وهذه المرأة إذا صلت الظهر والعصر ~~جمعا بينهما بالتيمم كان خيرا من صلاتها في الحمام مغتسلة، والصلاة في ~~الحمام مغتسلة خير من التفويت، لأن الصلاة في الحمام منهي عنها كالصلاة في ~~المقبرة وأعطان الإبل والمكان النجس والثوب النجس وصلاة العريان، ففي ~~صلاتها جمعا تكميل الصلاة من هذا الوجه، كما تقدم. # والصلاة بالتيمم إذا لم يمكن الصلاة في الوقت بالماء جائزة أيضا، بل هي ~~الواجبة، فقد ثبت بالنص والإجماع أن المتيمم العادم للماء في سفره يجب ms1207 عليه ~~أن يصلي في الوقت بالتيمم، ولا يجوز له أن يؤخرها ليصلي بعد الوقت بوضوء. ~~وكذلك العريان عليه أن يصلي في الوقت عريانا مع إمكان الصلاة بعد الوقت ~~بالثياب. # وكذلك المريض يجب عليه أن يصلي في الوقت قاعدا أو مضطجعا، وإن أمكنه أن ~~يصلي بعد الوقت قائما. وكذلك الخائف يصلي في الوقت صلاة الخائف، وإن أمكنه ~~أن يصلي بعد الوقت صلاة أمن. كما دل على أمثال هذه المسائل الكتاب والسنة ~~والإجماع، إذ ليس في واجبات الصلاة أوكد من وجوب الوقت، وهذا مجمع عليه # PageV06P357 # في عامة المسائل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وهذا مذهب مالك وأصحابه ~~وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكذلك مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في أكثر ~~الصور، لكن اختلف مذهب أبي حنيفة والشافعي في أكثر الصور، وتابعهم بعض ~~أصحاب أحمد. # كما اختلفوا فيما إذا وجد المسافر بئرا، ولم يمكنه أن يصنع الحبل حتى ~~يخرج الوقت. أو وجد العراة ثوبا، ولم يمكنهم أن يصلوا فيه واحدا بعد واحد ~~حتى يخرج الوقت. أو كانوا جماعة في سفينة، وليس هناك موضع يقومون فيه إلا ~~موضعا واحدا، ولا يمكنه الصلاة في الوقت إلا مع القعود، أو أمكنه تعلم ~~دلائل القبلة، ولكنه لا يتعلم ذلك حتى يخرج الوقت، أو أمكنه أن يخيط ثوبه ~~ولا يتم ذلك حتى يخرج الوقت. ففي هذه المسائل نزاع في مذهب الشافعي، ونصوصه ~~اختلفت في ذلك، فمن أصحابه من خرج، ومنهم من أقر، ووافقه بعض أصحاب أحمد. ~~وأما أحمد وسائر أصحابه وكذلك مالك وغيره ما علمتهم اختلفوا في تقديم الوقت ~~في هذه المواضع، كما اتفق المسلمون كلهم على تقديم الوقت في المتيمم إذا ~~عدم الماء في السفر، وفي العريان، وفي المريض والخائف، فإنهم متفقون على أن ~~هؤلاء يصلون في الوقت بحسب حالهم، ولا يفوتون الصلاة. ولم يتنازعوا إلا في ~~حال القتال كما تقدم، وكذلك الآمن الذي لا يمكنه التعلم حتى يخرج الوقت. # والمقصود هنا ذكر الجمع، وأن الجمع بين الصلاتين بالتيمم خير من الصلاة ~~في المكان المنهي عنه، كما أنها ms1208 خير من الصلاة عريانا، # PageV06P358 # ومن الصلاة إلى غير القبلة ونحو ذلك، فإن الصلاة في الوقت المشترك صلاة ~~في الوقت يفعل فيه للمصلحة الشرعية، بخلاف الصلاة بدون شروطها، فإنه يحرم، ~~[و] لا يجوز إلا لضرورة. # ولهذا كانت الصلاة بالغسل وبالوضوء في الوقت المشترك خيرا من الصلاة ~~بطهارة ناقصة في الوقت المختص. ومن ذلك الأجير والمملوك إذا أدخله سيده ~~الحمام والمكان النجس، ولم يخرجه منه إلى المغرب، فصلاته فيه خير من ~~التفويت، وذلك واجب عليه، والجمع بين الصلاتين خير له من الصلاة في ذلك ~~المكان المنهي عنه، وهذا الجمع بطهارة الماء، وتلك بطهارة التيمم. # فإن قيل: هذه المرأة تفوت الوقت المختص وطهارة الماء، فهذان نقصان، ~~والصلاة في الحمام ليس فيها إلا نقص واحد، فلم كان هذا أولى؟ # قيل: الصلاة في الحمام منهي عن جنسها، ليس لأحد أن يفعلها لغير ضرورة، ~~لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" ~~(1) . وأما الجمع فيجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما تقدم، وأما التيمم فإن ~~الصلاة بتيمم خير من الصلاة في الحمام، لأن التيمم طهارة مأمور بها، وهي ~~تقوم مقام الماء عند عدم الماء وخوف PageV06P359 # الضرر باستعماله، ومن لم يمكنه أن يصلي بالماء إلا في المكان المنهي عنه ~~لم يمكنه الصلاة بالماء، كما لو لم يمكنه أن يصلي بالماء إلا عريانا أو إلى ~~غير القبلة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور ~~المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك ~~خير" (1) . فكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم، من صلاة الفرض والنفل ومس ~~المصحف وقراءة القرآن. # والتيمم يجوز عند الحدث الأكبر في مذهب أحمد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة، ~~[و] الذي يقوم عليه الدليل الشرعي أنه كل ما يجوز قبل الوقت ويبقى بعده، ~~سواء نوى به فرضا أو نفلا أو غير ذلك مما يستباح بالتيمم، فيجوز لقول النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر ~~سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه ms1209 بشرتك، فإن ذلك خير". # ويجوز أن يؤم المتيمم المتطهرين بالماء، كما أم عمرو بن العاص أصحابه في ~~غزوة ذات السلاسل، وكما أم ابن عباس أصحابه بالتيمم وكان قد أجنب من وطء ~~أمته. وهذا جائز عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي ~~يوسف وغيرهم، وإن كان أكثر هؤلاء يجوز اقتداء القارىء بالأمي خلف العريان ~~ونحوه. # فعلم أن طهارة التيمم حيث أمر بها خير من الصلاة في المكان PageV06P360 # النجس، وصلاة العريان والصلاة إلى غير القبلة وكذلك بسترة جمعا خير من ~~صلاة العريان مع التفريق، والصلاة قائما مع الجمع خير من الصلاة وحده مع ~~التفريق. # ولهذا يجوز للمسلمين في المطر مع إمكان صلاة الرجل وحده في بيته، وما ذاك ~~إلا لأجل الجماعة، فعلم أن الجماعة في وقت إحداهما خير من كل صلاة في الوقت ~~المختص مع الانفراد، وكذلك الجمع مع الخوف في الجماعة خير من الصلاة فرادى ~~في الوقت. بل صلاة الخوف في جماعة كما مضت به السنة، مع مفارقة بحضهم ~~الإمام قبل السلام، ومع العمل الكثير إذا صلى بطائفة ركعة ثم ذهب إلى ~~العدو، مع استدبارهم القبلة، ومع اقتداء المفترض بالمتنفل، ومع الصلاة ~~أربعا في السفر، وأمثال ذلك كما جاءت به السنة= خير من صلاة كل منهم وحده. ~~فالشارع يأمر بالجماعة ويحض عليها، ويحتمل لأجلها ترك واجبات وفعل محظورات. # والوقت أوكد من الجماعة باتفاق المسلمين، فإذا لم يمكنه أن يصلي جماعة ~~إلا بعد الوقت صلى منفردا في الوقت باتفاق العلماء. # و ### | الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجة أو مصلحة راجحة. # والصلاة بالماء جمعا خير من الصلاة بالتيمم مفرقا. # فمن علم أنه لا يجد الماء إلا في وقت العصر كان صلاته الظهر والعصر ~~بالماء جمعا وقت العصر خيرا من أن يصلي الظهر بالتيمم، وكذلك من وجده وقت ~~الظهر وعلم أنه لا يجده إلا وقت المغرب كان جمعه بالماء أفضل، كما تكون ~~صلاته في آخر الوقت المختص بالماء أفضل من # PageV06P361 # صلاته في أوله بالتيمم. # فإن قيل: إنما ms1210 جمع لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك ~~المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاته في أحد الوقتين ~~جمعا بالوضوء خير من صلاته مفرقة بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن ~~صلاتها بالاغتسال جمعا خير من صلاتها بالوضوء في الوقت المختص، والواقف ~~بعرفة صلاته العصر جمعا مع الظهر لإتمام الوقوف خير من فعلها في وقتها مع ~~نقصه. وهذا الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أصل عظيم في هذا ~~الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجة ولا تحصيل واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل ~~لتحصيل مستحب، وهو كمال الوقوف، فدل على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة ~~الشرعية معه أكمل من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع ~~الجمع أكمل في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقف يريد أن يفيض ~~بعد الغروب إلى مزدلفة كان كما روي عنه أنه كان إذا ارتحل بعد أن تزيغ ~~الشمس قدم العصر إلى الظهر، فصلاهما جمعا. # قيل: إن كان جمعه كذلك دل على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه ~~لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمع لمواصلة ~~السير فالجمع لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعه لمجرد السفر، ~~فإنه لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وقد كان يصلي قصرا بلا جمع، ولم ~~يقل أحد قط أنه جمع بمنى ولا صلى أربعا، بل كلهم متفقون على أنه قصر ولم # PageV06P362 # يجمع، فعلم أن ذلك لم يكن لمجرد السفر بل للسير، كما قال ابن عمر وغيره: ~~كان إذا جد به السير فعل ذلك، مع أن النزول ممكن ليس فيه إلا تفويت الإسراع ~~الذي لا يفوت به الحج إلا أمر مستحب لا يفوت به واجب، فإنه لو نزل وصلى ~~العصر ثم ركب وأتم الوقوف كان ممكنا، لكن يفوت بذلك كمال مقصود الوقوف ~~والإفاضة. فعلم أن الجمع كان لتحصيل مصلحة شرعية راجحة، لا لمجرد مشقة ~~دنيوية. # وإذا كان قد جمع لتحصيل عبادة ms1211 هي أفضل من التفريق من غير أن يكون ذلك ~~واجبا ولا ضرر فيه= علم أن الجمع يجوز للحاجة والمصلحة الشرعية الراجحة. ~~وقد نص أحمد على جواز الجمع للشغل، وفسره القاضي بما يبيح ترك الجمعة ~~والجماعة. ونص على جمع المستحاضة بالغسل، وليس فيه إلا مصلحة شرعية راجحة. # ومما يبين ذلك أن الجمع لو كان معلقا بسبب محدود يدور معه وجودا وعدما ~~كالقصر والفطر، لكان الشارع يعلقه به، كما علق الفطر بالمرض والسفر بقوله: ~~(فمن كان منكم مريضا أو على سفر) (1) ، وكما علق القصر بالسفر دون المرض ~~بقوله: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" (2) . # وأما الجمع فإنما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بافعال فعلها في ~~أول الوقت، وتارة يؤخرها، وكان التأخير أحب إليه إلا إذا شق عليه، فإذا ~~اجتمعوا PageV06P363 # قدمها لمشقة التأخير عليهم، فتقديم الصلاة في أول الوقت وإن كان هو ~~الأفضل في الأصل، فإذا كان في التأخير مصلحة راجحة كان أفضل، كالإبراد ~~بالظهر وتأخير العشاء. وكما إذا رجا المتيمم الماء في آخر الوقت، أو رجا أن ~~يصلي مستور العورة في آخر الوقت أو إلى القبلة أو في جماعة ونحو ذلك، وهكذا ~~الجمع. فالأصل وجوب كل صلاة في وقتها الخاص، ثم يجوز أو يستحب فعلها في ~~الوقت المشترك لدفع الحرج. # وأما الجمع لمصلحة راجحة مع إمكان الفعل في الوقت فهذا قد جاء فيه حديث ~~المستحاضة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب لها أن تجمع بين صلاتي ~~النهار بغسل وبين صلاتي الليل بغسل، وكان هذا أحب إليه من أن تصلي في الوقت ~~المختص بوضوء، لأن طهارة الغسل متيقنة وطهارة الوضوء محتملة، لإمكان انقطاع ~~وجوب الغسل، مع أن الغسل ليس بواجب عليها، وعلى هذا فالجمع بوضوء أو غسل ~~أفضل من التفريق عريانا، والجمع إلى القبلة المتيقنة أفضل من التفريق ~~بالاجتهاد، والجمع في جماعة أفضل من التفريق وحده. # ولهذا كان الصحابة والتابعون يجمعون للمطر، مع إمكان صلاة كل واحد وحده ~~في بيته، لكن ذلك لمصلحة الجماعة، فصلاته مع الجماعة جمعا ms1212 أفضل من صلاته في ~~الوقتين. ولهذا لو كان مقيما في المسجد لكان جمعه معهم على الصحيح أفضل من ~~صلاته وحده في الوقتين. # وهكذا القول فيما يجب في الصلاة إذا أمكن فعله في الجمع فهو # PageV06P364 # أفضل من تركه مع التفريق، وإن كان ذلك جائزا، فإن الجامع للمصلحة الراجحة ~~قد صلى الصلاة في وقتها، وإنما يجب عليه في الوقت المختص إذا أمكن فعلها ~~فيه كاملة، فلا يجوز له تفويت الوقت المختص بلا موجب. فأما إذا كان فعلها ~~في الوقتين فيه نقص عفي عنه للحاجة وأمكن فعلها في المشترك بلا نقص كان ~~أفضل. # والقرآن والسنة دلا على أن الوقت يكون، خمسة في حال الاختيار، ويكون ~~ثلاثة في حق المعذور، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من الكبائر ~~الجمع بين الصلاتين إلا من عذر. وقد أباح أحمد الجمع إذا كان له شغل. قال ~~القاضي أبو يعلى: المراد العذر الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة، فالعذر الذي ~~يبيح ترك ذاك يبيح الجمع. وهذا بين، فإنه إذا سقطت الجمعة مع توكيدها ~~والجماعة مع وجوبها، فاختصاص الوقت أولى، لأن فعلها في الوقت المشترك جماعة ~~أفضل من فعلها في الوقت المختص فرادى. # فإذا سقطت الجماعة بالعذر فاختصاص الوقت أولى، ينبغي أن يكون الجمع أوسع. ~~من ذلك (1) أن الجمعة والجماعة آكد من اختصاص الوقت، وقد ترك النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - في صلاة الخوف لأجل الجماعة ما كان يمكن أن يفعل مع ~~الانفراد مما لا يجوز إلا لعذر، إنما احتمل لأجل الجماعة مع الخوف. # وهذا الذي ذكرنا من أن الوقت يكون ثلاثة في حق المعذور مما PageV06P365 # ثبت بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين في الجمع بعرفة ومزدلفة، وهو مذهب ~~مالك والشافعي وأحمد في أمور أخرى، وأحمد أوسع قولا به من غيره، وأما تفويت ~~الصلاة فلا يجوز بحال في ظاهر مذهب أحمد، ولكن في مذهبه قول بجواز التفويت ~~في بعض الصور، ولكن في مذهبه في مثل عدم الماء والتراب يجوز التفويت. وأما ~~أبو حنيفة فيوجب التفويت في مواضع، ولا يجوز الجمع ms1213 إلا بعرفة ومزدلفة. وقول ~~الأكثرين الذين يسوغون الجمع بين الصلاتين ويمنعون التفويت مطلقا هو ~~الصحيح، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال: (حافظوا على ~~الصلوات والصلاة الوسطى) (1) ، وثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" (2) ، وقال: "من فاتته ~~صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" (3) . فالتفويت لا يجوز بحال، وتفويت ~~الخندق منسوخ. # وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت بالسنة في مواضع متعددة، ~~وبعضها مما أجمع عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تبين أن الوقت ~~المشترك وقت في حال العذر، كقول عمر بن الخطاب: الجمع بين الصلاتين من غير ~~عذر من الكبائر. فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن ~~عوف وابن عباس وأبو هريرة فيمن طهرت في آخر النهار: إنها تصلي الظهر ~~والعصر، PageV06P366 # وفيمن طهرت في آخر الليل: إنها تصلي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة ~~مالك والشافعي وأحمد. # وأما التفويت فلا يجوز بحال، فمن جوز التفويت في بعض الصور فقوله ضعيف ~~وإن جوز الجمع. وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع فقد جمع في قوله بين أصلين ~~ضعيفين: بين إباحة ما حرم الله ورسوله وتحريم ما شرعه الله ورسوله، فإنه قد ~~ثبت أن الجمع خير من التفويت. # فبهذا الأصل ينتظم كثير من مسائل المواقيت. وتفويت العصر إلى حين ~~الاصفرار وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضا لا يجوز إلا لضرورة، والجمع ~~بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت ~~الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة. وقد نص على ذلك الفقهاء من ~~أصحاب أحمد وغيره، وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار، بل إذا لم يجد ~~الماء إلا فيه فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يصليها حين الاصفرار ~~بالوضوء. والله أعلم. # PageV06P367 ### | مسألة # في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟ # PageV06P369 # مسألة # في رجل فقير وعليه دين، وله أخ لأبويه وهو غني، هل للغني دفع الزكاة ~~لأخيه ms1214 الفقير دون الأجانب؟ وهل يجوز له تعجيل الزكاة له سنة أو سنتين؟ # جواب الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية # نعم، يجوز أن يدفع إليه من زكاته ما يستحقه مثله من الزكاة، وهو أولى من ~~أجنبي ليس مثله في الحاجة، ويجوز تعجيل الزكاة. وذلك لأن نصوص الكتاب ~~والسنة تتناول القريب والبعيد في الإعطاء من الزكاة، وامتاز إعطاء القريب ~~بما فيه من الصلة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدقتك على ~~المسكين صدقة، وصدقتك على ذي الرحم صدقة وصلة" (1) . والصدقة في الصلة أفضل ~~من الصدقة المجردة. # والذين منعوا من إعطاء الزكاة له قالوا: نفقته واجبة على الأخ، فيكون ~~مستغنيا بها، فلا يعطيه ما يقوم مقام النفقة الواجبة. وهذا القول ضعيف ~~لوجوه: # أحدها: أنه قد لا تكون النفقة واجبة عليه، بأن لا يكون للمزكي فضل ينفقه ~~على أخيه، وهذا حال كثير من الناس. فإذا حرم الصدقة مع النفقة كان هذا ضد ~~مقصود الشارع. PageV06P371 # الثاني: أن يقال: هب أن نفقته واجبة عليه، فإنما ذلك بشرط أن لا يكون ~~قادرا على الكسب وأن يطالب بها، فإذا كان متمكنا من أخذ الزكاة واختار ذلك ~~لم تجب النفقة في هذا الحال. كما لو اختار أخذ الزكاة من أجنبي، فإن النفقة ~~لا تجب في هذا الحال إجماعا. وليس أن يمنع من الزكاة لأجل وجوب النفقة ~~بأولى من أن يمنع من النفقة لأجل وجوب الزكاة، بل هذا أولى، لأن الصدقة مال ~~أباحه الله له ولأمثاله، فإذا كان قادرا عليه لم يكن به حاجة إلى النفقة، ~~والنفقة إنما وجبت عند العجز عن الاكتساب، وأخذ الزكاة من جملة وجوه ~~الاكتساب. # وكما أن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي، فهو أيضا لا يستحق النفقة. # الوجه الثالث: لو وجبت نفقته على غيره، وامتنع ذلك الغير من إعطائها، كان ~~له أخذ الزكاة بالاتفاق. فهذا القريب لو قدر امتناعه من الإنفاق لم يحرم ~~على هذا أخذ زكاته. ولا يقال: الزكاة لم تسقط عن ذلك، بل غاية ما يقال: إنه ~~عاص بترك النفقة ms1215. # الرابع: أن يقال: لا ريب أنه يجب إغناء هذا الفقير، فإما أن يغنيه قريبه ~~من ماله وإما من الزكاة، فالواجب إما الإنفاق عينا وإما الزكاة عينا وإما ~~أحدهما، وإيجاب الإنفاق عينا مع تمكن المحتاج من أخذ الزكاة ومع اختياره ~~لذلك لا يقول به أحد، وأما إيجاب إعطاء الزكاة عينا مع اختيار رب المال أن ~~يصل رحمه من ماله فلا يقول به أحد، فمتى اختار الفقير أخذ الزكاة فله ذلك، ~~ومتى اختار الغني صلته من ماله فله ذلك إذا اختار الفقير، ولو أراد الفقير ~~أن لا يقبل الصلة وقال: لا آخذ إلا من # PageV06P372 # الزكاة فله ذلك. وإن أراد المطالبة بالنفقة وقال: لا أريد إلا النفقة دون ~~الزكاة، فهذا فيه نظر ونزاع، وأما إذا اتفقا على الصلة جاز بالاتفاق، فكذلك ~~إذا اتفقا على الإعطاء من الزكاة هو جائز أيضا. كما لو كان الغني يعطيه من ~~صدقة موقوفة، أو من صدقة هو وكيل فيها أو ولي عليها. # فإن قيل: إذا أعطاه وقى بها ماله، وقد ذكر الإمام أحمد عن سفيان ابن ~~عيينة قال: كان العلماء يقولون: لا يقي بها ماله، ولا يحابي بها قريبا، ولا ~~يدفع بها مذمة. # قيل: هذا إنما يكون إذا كان القريب من عياله، فيعطيه ما يستغني به عن ~~النفقة المعتادة، ففي مثل هذه الصورة لا يجزئه على الصحيح، وهو المنقول عن ~~ابن عباس وغيره، أفتوا بأنه إذا كان من عياله لم يعطه ما يدفع به الإنفاق ~~عليه. حتى لو كان متبرعا بالإنفاق على رجل لم يكن له أن يعطيه ما يقي به ~~ماله، لأنه هنا دفع عن نفسه بالزكاة، فأخرجها لغرضه لا لله، والزكاة عليه ~~أن يخرجها لله، وإن لم يكن هذا واجبا بالشرع، لكن العادات لازمة لأصحابها. ~~والمحاباة أن يعطي القريب وهناك من هو أحق منه، وأما إذا استويا في الحاجة ~~وأعطاه لم يكن هذا محاباة. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن عادته الإنفاق على ~~الأخ، فإن وجوب الإنفاق عليه مشروط بعدم قدرته على الأخذ من الزكاة واختيار ms1216 ~~ذلك، فمتى كان قادرا على الأخذ مريدا له لم يستحق في هذه الحال نفقة. كما ~~لو حصل ذلك مع غنى أجنبي، فإنه إذا اختار الأخذ من زكاته لم يجب على أخيه ~~في هذه الحال الإنفاق عليه. # PageV06P373 # الوجه الخامس: أن يقال: لو أعطى الزكاة للإمام، فأعطى الإمام أخاه من ~~ذلك، جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يقسمها بين المستحقين، فأعطاه أخاه، فكذلك ~~إذا قسمها هو. وسبب ذلك أن الزكاة يجب صرفها إلى الله تعالى، الذي يثيب ~~صاحبها، والفقراء يأخذونها من الله، لا يستحق أرباب الأموال عليهم معاوضة. ~~فهو كما أعطى الإمام من بيت المال، وناظر الوقف من الوقف، وإذا كان كذلك ~~فأخذه من زكاة قريبه وغيره سواء، كأخذه من مال ينظر عليه قريبه، سواء كان ~~سلطانيا أو وقفا أو نذرا. # يدل على ذلك أن أبا طلحة لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أحب ~~أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا ~~رسول الله حيث شئت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أرى أن تجعلها ~~في الأقربين" (1) . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بجعلها في الأقربين ~~بعد أن جعلها لله وخرج عنها. والله سبحانه أعلم. PageV06P374 ### | مسألة # في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد # PageV06P375 # مسألة # في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد، والنزاع فيها مشهور بين السلف ~~والخلف، وقد ذكروا عن أحمد رحمه الله فيها خمس روايات، ذكرها أبو الخطاب في ~~"رؤوس مسائله ". قال أبو الخطاب: متروك التسمية لا يحل أكله، سواء ترك ~~التسمية عامدا أو ناسيا. وعنه إن تركها عامدا لم يحل، وإن تركها ناسيا حلت. ~~وهو قول أبي حنيفة والثوري ومالك. وعنه إن سها على الذبيحة حل، فأما على ~~الصيد فلا. # (قال تقي الدين:) قلت: وأكثر الروايات عن أحمد على هذا، وهي اختيار أكثر ~~أصحابه، كالخرقي والقاضي وأكثر أصحابه والشيخ الموفق. # قال: وعنه إن سها على السهم حل، وأما على الكلب والفهد فلا. # وقال الشافعي: يحل أكله سواء تركها عامدا أو ساهيا، وعن أحمد ms1217 بنحوه. # ونصر أبو الخطاب التحريم مطلقا. (قال الشيخ تقي الدين:) وهذا هو الصواب، ~~فإني تدبرت نصوص الكتاب والسنة فوجدتها متظاهرة على إيجاب التسمية ~~واشتراطها في الحل، وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وكل نص منها يوافق ~~الآخر، مع كثرة النصوص وصراحتها في الدلالة، ولم أجد شيئا يصلح أن يقارب ~~معارضة هذه النصوص، فضلا عن أن يكافئها أو يرجح عليها. ولو لم يكن إلا نص ~~سالم عن المعارض المقاوم لوجب العمل به، فكيف مع كثرتها وقوة دلالتها وعدم ~~معارضها. # PageV06P377 # قال الله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ~~(118) اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم ~~بالمعتدين (119) وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما ~~كانوا يقترفون (120) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن ~~الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121)) ~~(1) . فقد أمر سبحانه بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وعلق ذلك بالإيمان، ~~وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، ونهى عن أكل ما لم يذكر اسم ~~الله عليه، وقال: (وإنه لفسق) كما قال فيما أهل به لغير الله في قوله ~~تعالى: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة ~~أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) (2) . فقد ~~ذكر تحريم ما أهل لغير الله به في أربعة مواضع كما ذكر تحريم الميتة والدم ~~ولحم الخنزير. # وقال تعالى فيما ذم به المشركين: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها ~~إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ~~افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) (3) . وقال تعالى في المائدة (4) : ~~(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) إلى قوله: ~~(وما ذبح على النصب) إلى قوله: (يسألونك ماذا PageV06P378 # أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما ~~علمكم الله ms1218 فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) . # فهذه خمس آيات في التسمية. وفي الصحاح والمساند حديث عدي بن حاتم الذي ~~اتفق العلماء على صحته، وتلقته بالقبول تصديقا وعملا به، ففي الصحيحين (1) ~~عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث عن عدي قال: قلت: يا رسول الله، إني ~~أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله، فقال: "إذا أرسلت كلبك ~~المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك "، قلت: وإن قتلن؟، قال: "وإن ~~قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها". قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، ~~فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله ". # وفي الصحيحين (2) عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي سمعت عدي ~~بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعراض، فقال: ~~"إذا أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل "، قال: قلت: ~~إني أرسل كلبي، قال: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل "، قال: قلت: فإن ~~أكل منه؟ قال: "فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه ولم يمسك عليك ". قال: قلت: ~~أرسل كلبي وأجد معه كلبا آخر، قال: "لا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم ~~على الآخر". PageV06P379 # وفي الصحيحين (1) أيضا عن عدي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركته حيا ~~فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكل، فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره ~~وقد قتل فلا تأكله، فإنك لا تدري أيهما قتله. وإن رميت بسهمك فاذكر اسم ~~الله، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته ~~غريقا في الماء فلا تأكله ". # وفي لفظ البخاري (2) : قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي وأسمي، فأجد معه على ~~الصيد كلبا آخر لم أسم عليه، ولا أدري أيهما أخذ، قال: "لا تأكل، إنما سميت ~~على كلبك، ولم تسم على الآخر". # قوله: "فأدركته حيا فاذبحه" من أفراد مسلم، وزاد ms1219 غيره بإسناده الصحيح: ~~"فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله". # فهذا فيه الدلالة من وجوه عديدة: # أحدها: قول عدي أولا: "إني أرسل كلابي المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم ~~الله"، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت ~~اسم الله عليه"، وقوله: "إنما سميت على كلبك" دليل على أن عديا فهم من قوله ~~تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما ~~أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) (3) أنه أمر من الله بذكر اسمه ~~PageV06P380 # على الصيد، لم يرد به مجرد ذكر اسمه عند الأكل، كما ظن ذلك بعض الناس. # (ثم قال:) فيقال: حديث عدي بن حاتم سؤاله وجواب النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يدل على التسمية عليه على الصيد حين الاصطياد، وإن كانت التسمية عند ~~الأكل مأمورا بها أيضا وجوبا أو استحبابا، على قولين معروفين لأصحابنا ~~وغيرهم. لكن التسمية حين الاصطياد مأمور بها في الآية قطعا، كما دلى عليه ~~حديث عدي، مع أن ظاهر القرآن يدل على ذلك أيضا، وهذه من أدلة القرآن، فإن ~~الضمير في قوله: (واذكروا اسم الله عليه) ضمير عائد على "ما" في قوله: (مما ~~أمسكن عليكم) ، أي: واذكروا اسم الله على ما أمسكن. وذكر اسم الله على ما ~~أمسكن هو ذكره على الصيد حين الاصطياد، كما يقال: ذكر اسم الله على الذبيحة ~~أي حين الذبح، وهو ذكر اسمه على الكلب حين الإرسال، كما في الحديث: "فإنك ~~إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ". وأما إذا سمى على الكلب وأرسله، ~~فعند إرسال الكلب له يكون صاحبه بعيدا عنه، وقد لا يراه، فلا يؤمر حينئذ ~~بالتسمية. ولم يقل أحد من أهل العلم أن ذكر اسم الله على ما أمسكن هو مخصوص ~~بهذه الحال. # وأيضا فإنه لم يتقدم اسم يصلح أن يعود الضمير إليه إلا "ما أمسكن "، وأما ~~الأكل فلم يتقدم اسمه، وإنما تقدم قوله: (فكلوا مما أمسكن) . وقد يعود ~~الضمير إلى الاسم الذي دل عليه الفعل، كما في قوله: (ولا يحسبن ms1220 الذين ~~يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم) (1) ، PageV06P381 # لكن ذاك يكون إذا لم يكن هناك ما يعود الضمير إليه إلا ما دل عليه الفعل ~~من الاسم لعدم اللبس، وأما إذا كان الاسم هو القريب إلى الضمير فهذا يترجح ~~عوده إليه دون الاسم الأبعد، فكيف إذا كان الأبعد فعلا؟ # وأيضا فالقرآن حيث أمر فيه بذكر اسم الله على ما ذكي فإنما هو حين ~~التذكية، كسائر الآيات، وإنما ذم من ترك ذكر اسمه عليها حينئذ، كما قال: ~~(وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) (1) ، فالذي ذم به المشركين على تركه ~~أمر المؤمنين بفعله. وهذه الدلالة من حديث عدي هي دلالة القرآن، لكن حديث ~~عدي قررها وطابقها. # الثاني: أنه قال في بعض طرقه: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه "، ~~فأمر بذلك، وأمره للوجوب. # الثالث: أنه قال أيضا: "إذا رميت بقوسك فاذكر اسم الله ". # الرابع: أنه قال: "إن أدركته ولم يقتل فاذبحه واذكر اسم الله ". # الخامس: أنه قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك ~~عليك ". فشرط في الأكل أن يذكر اسم الله، كما اشترط أن يكون الكلب معلما، ~~وأن يمسك عليه. وهذه الشروط الثلاثة المذكورة في القرآن. # السادس: أنه قال: قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي وأسمي، PageV06P382 # فأجد معه على الصيد كلبا اخر لم أسم عليه، ولا أدري أيهما أخذ. # قال: "لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر". # فنهاه عن أكل ما شك في تذكيته، وعلل ذلك بأنك إنما سميت على كلبك ولم تسم ~~على الآخر، فجعل المانع من حل صيد الكلب الآخر ترك التسمية، كما جعل فعل ~~التسمية علة لحل صيد كلبه. وهذا من أصرح الدلالات وأبينها في جعله وجود ~~التسمية شرطا في الحل، وعدم التسمية مانعا من الحل، ولم يفرق بين أن يتركها ~~ناسيا أو غير ناس، مع أن حال الاصطياد حال قد يدهش الإنسان ويذهل عن ~~التسمية فيها، وإذا لم يعذره في هذه الحال بترك التسمية فأن لا يعذره بذلك ~~في ms1221 حال الذبح وهو أحضر عقلا= أولى وأحرى. # السابع: أنه كرر علية ذكر التسمية حين إرساله الكلب، وحين إرساله السهم، ~~وعند منعه من أكل ما خالط كلبه كلب لم يسم عليه، وعند ذبحه. وهذا كله يدل ~~على اعتناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسمية على الذكاة بالذبح ~~والسهم والجارح، وأنه لا بد منها في الحل، وأن انتفاءها يوجب انتفاء الحل. ~~وهذا في غاية البيان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس عليه إلا ~~البلاغ المبين، وبدون هذا يحصل البيان الذي تقوم به الحجة على الناس. # وأيضا حديث أبي ثعلبة الخشني (1) - وهو في الصحاح والسنن PageV06P383 # والمساند أيضا، وعلى حديثه وحديث عدي يدور باب الصيد، وعليهما اعتمد ~~الفقهاء كلهم- قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا بأرض ~~قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي، أصيد بكلبي ~~المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك؟ فقال: "أما ~~ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير ~~آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها. وأما ما ذكرت ~~أنكم بأرض صيد، فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك ~~المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته ~~فكل ". وفي لفظ البخاري: "ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك ~~المعلم وذكرت اسم الله فكل ". # فهذا أبو ثعلبة يسأله، يقول له: أخبرني ما الذي يحل من ذلك؟ فلم يحل له ~~إلا ما ذكر اسم الله عليه في الاصطياد بقوسه وفي الاصطياد بكلبه، ولم يستثن ~~حالة نسيان ولا غيرها، وهذا من أبين الدلالة على أنه لا يحل له إلا ذلك، إذ ~~لو كان يحل ما ترك التسمية عليه خطأ أو عمدا لم يكن ما ذكره جوابه، بل كان ~~الجواب إذن إحلال ذلك كله أو إحلال ما سمي عليه وما نسي التسمية عليه، كما ~~أن المستفتي لمن يحل ms1222 هذا من الفقهاء يجيبه بجواب يخالف جواب النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة، وهذا دليل على خطأ ذلك الجواب. # وبهذين الحديثين ونحوهما احتج من أوجب التسمية على الصيد دون الذبيحة في ~~حال الخطأ من أصحابنا، قال: لأن هذه النصوص # PageV06P384 # صريحة في اشتراط ذلك، ولم يرد مثل ذلك في الذبيحة. وقالوا: لأن تذكية ~~الذبيحة تذكية اختيار، فلم تحتج إلى اقترانها بالتسمية كتذكية الصيد، فإنها ~~تذكية ضرورية وقعت رخصة، فلا بد أن تكمل بالتسمية، ولهذا لا يجوز تذكية ~~المقدور عليه من الصيد والأهلي إلا في الحلق واللبة. وبهذا فرق من اشترطها ~~في الكلب دون السهم، لأن التذكية بالسهم يحصل بفعل الادمي، بخلاف التذكية ~~بالجارح، فإنها تحصل بفعل الجارح، فكانت أضعف. # لكن ما ذكروه يعارضه أنكم توجبونها على الذبيحة، ولكن عذرتم الناسي بعذر ~~النسيان، والصائد أولى بالعذر من الذابح، لما يحصل له من العذر والدهش الذي ~~يوجب له النسيان. # (ثم قال:) وذكاة السهم والكلب ذكاة تامة يحصل بها الحل التام، كما أن ~~صلاة الخائف والمريض تبرأ بها ذمته، فإن الله إنما أوجب على الناس ما ~~يستطيعون، ولما كان المعجوز عنه من الحيوان لا يمكن تذكيته إلا على هذا ~~الوجه لم يوجب الله ما يعجزون عنه. # ولهذا كانت ذكاة الجنين عندنا ذكاة أمه كما مضت به السنة، وإن لم يكن في ~~ذلك سفح دمه، إذ لا يمكن تذكيته إلا على هذا الوجه، ولا يكفف الله نفسا إلا ~~وسعها. ولهذا قلنا: إذا أدرك الصيد مجروحا ولم يتسع الزمان لتذكيته أبيح، ~~ونظائر ذلك. # وأيضا ففي الصحاح والسنن والمساند عن رافع بن خديج (1) قال: PageV06P385 # كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة، فأصاب القوم ~~جوع، فأصابوا إبلا وغنما، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات ~~القوم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فند منها بعير، فطلبوه ~~فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجل منهم بسهم، فحبسه الله، فقال ms1223 ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما ~~غلبكم فاصنعوا به هكذا". قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدا وليست ~~معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه، ~~ليس السن والظفر. وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى ~~الحبشة". # وهذا الحديث أيضا تلقا [ه] ، العلماء بالقبول، وقد علق الحل فيه بشرطين: ~~بإنهار الدم وذكر اسم الله على المذكى. فكما أن إنهار الدم شرط فكذلك ذكر ~~اسم الله عليه، وكما أن الذكاة بما لا ينهر الدم لا يباح بحال، بل قد يعفى ~~عما لا يمكن إنهار دمه، كالجنين في بطن أمه، فيكون ذكاته ذكاة أمه التي ~~أنهر دمها، وأما ما لم يذكر اسم الله عليه فلم يعف عنه. # وأيضا فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه أنه قال للجن: "لكم كل عظم ~~ذكر اسم الله عليه، تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم" (1) ، ~~PageV06P386 # [و] ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تستنتجوا بهما، فإنهما زاد ~~إخوانكم من الجن " (1) . فماذا كان لم يبح للجن المؤمنين من الطعام الذي ~~يصلح للجن- وهو ما يكون على العظام- إلا الطعام الذي ذكر اسم الله عليه، ~~فكيف بالإنس الذين هم أكمل وأعقل، وهم الذين يتولون تذكية الحيوان، كيف ~~يباح لهم ما لم يذكر اسم الله عليه؟ وهذا كما أنه لما نهى عن الاستنجاء ~~بطعام الجن وعلف دوابهم، كان النهي عن الاستنجاء بطعام الإنس وعلف دوابهم ~~أولى وأحرى. # وأيضا ففي صحيح البخاري (2) وغيره عن عائشة أن ناسا قالوا: يا رسول الله، ~~إن قوما يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: "سموا ~~عليه اسم الله وكلوا". قال: وكانوا حديثي عهد بكفر. # وهذا يدل على أنه كان قد استقر عند المسلمين أنه لا بد من ذكر اسم الله ~~على الذبح، كما بين الله ذلك لهم هو ورسوله في غير موضع، فلما كان هؤلاء ~~حديثي عهد بالكفر خافوا أن لا ms1224 يكونوا سموا، فاستفتوا عن ذلك رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يسموا هم ويأكلوا. وذلك لأن من أباح الله ~~ذبيحته من مسلم وكتابي لا يشترط في حل ذبيحته أن أعلم أنه بعينه قد سمى، إذ ~~العلم بهذ الشرط متعذر في غالب الأمر، ولو كان هذا العلم شرطا لما أكل ~~اللحم غالب الناس، فأجريت أعمال الناس على الصحة، كما أن من اشتريت منه ~~الطعام حملت أمره على الصحة، وأنه إنما باع ما له بيعه بملك أو ولاية أو ~~وكاله، مع أن كثيرا من الناس PageV06P387 # يبيعون ما لا يجوز لهم بيعه. # (ثم قال:) ولو لم تكن التسمية شرطا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول لهم: سواء سموا أو لم يسموا فإنهم مسلمون، أو يقال: لعل أحدهم نسي ~~التسمية. فلما أعرض عن هذا كله علم أن أحدا لا يعذر بترك التسمية، وإنما ~~يعذر من لم يعلم حال المذكي، والفرق بينهما ظاهر جدا، كما أن المذكي عليه ~~أن لا يذكي إلا في الحلق واللبة، ومن لم يعلم حاله له أن يأكل ما ذكي حملا ~~لفعله على الصحة والسلامة. # ثم إن وجوب تذكية المقدور عليه في الحلق واللبة مما يقول به عامة ~~العلماء، وليس في إيجاب ذلك نص مشهور صريح، بل فيه آثار عن بعض الصحابة، ~~وفيه من الحديث ما ليس بمشهور. ثم إن ذلك جعل شرطا على كل قادر، لا يسقط ~~إلا بالعجز، فالتسمية التي دل على وجوبها النصوص الصحيحة الصريحة أولى ~~بالإيجاب والاشتراط، فإن التذكية في غير الحلق واللبة يحصل بها إنهار الدم، ~~لكن هو عدول عن أحسن القتلتين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن ~~الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم ~~فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " (1) . فإذا كان بترك ~~أولى الذبحتين تحرم الذبيحة، فترك ذكر اسم الله أولى بذلك، لأن هذا هو ~~الفرق بين ذكاة أهل الإيمان وأهل الكفر، أن هؤلاء يذكرون اسم الله على ~~الذكاة، وأولئك لا يذكرون اسم ms1225 الله. PageV06P388 # و ### | أدلة إيجاب التسمية على الذكاة أظهر بكثير من أدلة وجوب قراءة التسمية في الصلاة، # بل من إيجاب قراءة فاتحة الكتاب. # (ثم أشار إلى حجة من لم يوجب التسمية على الذكاة، وضعفها الشيخ تقي ~~الدين، وأجاب عنها بأجوبة، ثم قال:) # التاسع: أن ما لم يذكر اسم الله عليه كان للشيطان فيه نصيب، وذكر اسم ~~الله يدفع الشيطان، كما في الصحيحين (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن أحدهم إذا أتى إلى أهله قال: ~~"بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا"، فرزق ولدا، لم ~~يضره الشيطان ولم يسلط عليه ". # (واستشهد بغير ذلك حذفته اختصارا، لضيق الوقت) ، والله سبحانه أعلم. ~~PageV06P389 ### | مسألة # في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم # PageV06P391 # مسألة # في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم، هل يحل لبس جلود ~~الجميع وأكل لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودهم بالدباغ؟ # الجواب # أما لحم الضبع فإنه مباح عند مالك والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ في ~~مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك في رواية وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو ~~أصح قولي العلماء. هذا إذا دبغ بعد موته، وأما إن ذكي ودبغ كان طاهرا في ~~مذهب الأئمة. # وأما سنور البر والثعلب ففي حلهما قولان هما روايتان عن أحمد، أحدهما: ~~يحل، فيكون جلده طاهرا إذا ذكي، وهذا مذهب مالك والشافعي، وعلى هذا القول ~~فإذا مات ودبغ كان طاهرا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك. # والقول الثاني: إنهما محرمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى ~~الروايتين عنه. وعلى هذا فإذا ذكي كان جلده طاهرا عند أبي حنيفة دون أحمد، ~~وجلده يطهر بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه ~~أنه لا يطهر. # وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر ~~بالدباغ عند أبي حنيفة والشافعي ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه أنه لا ~~يطهر بالدباغ. # PageV06P393 # وأما القول الذي يقوم ms1226 عليه الدليل فإنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في السنن (1) من وجوه أنه نهى عن جلود السباع كما ثبت أنه حرم ~~لحمها، فما ثبت أنه من السباع- كالنمر وابن آوى وابن عرس - فلا يحل لحمه ~~ولا تلبس الفراء من جلده، وما لم يكن من السباع المحرمة- كالضبع- فإنه يؤكل ~~لحمه ويلبس جلده. وأما الثعلب وسنور البر ففيه نزاع. والله أعلم. ~~PageV06P394 ### | مسألة # في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟ # PageV06P395 # مسألة # في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد أو الجلد وحده؟ # جواب # الشيخ تقي الدين ابن تيمية ورأيه فيه ### | نعم، يجوز بيعها # جميعا، كما يجوز بيع ذلك قبل الذبح. وإلى هذا ذهب جماعة علماء المسلمين ~~من المتقدمين والمتأخرين، وما زال المسلمون يبيعون المذبوح من الطيور ~~والبهائم في كل عصر ومصر. # وإنما حرم ذلك بعض متأخري الفقهاء، ظانا أن هذا من باب بيع الغائب بدون ~~صفة ولا رؤية، وليس كذلك، بل المشتري يعلم ما يشتريه برؤية ما يراه كما ~~يعلم نظائره، وكما يعلم إذا رأى الجلد منفردا وإذا رأى اللحم منفردا، كما ~~يعلمه إذا رآه حيا. # (ثم قال:) ومن فرق بين الحيوان الحي والمذبوح بأن الحي في صوانه بخلاف ~~الميت، كما يفرق في الباقلا ونحوه بين بيعه في القشر الأعلى والصوان. لكن ~~هذا الفرق ضعيف مخالف للسنة ولإجماع السلف والاعتبار. # (ثم قال:) ولما فتح المسلمون الأمصار كان أصحاب رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - يشرون الباقلا الأخضر ونحو ذلك، ولم ينكر ذلك منكر. وكذلك يجوز ~~بيع اللحم وحده والجلد وحده. وأبلغ من ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~لما سافر هو وأبو بكر في سفر الهجرة اشتريا من رجل شاة، واشترطا له # PageV06P397 # رأسها وجلدها وسواقطها (1) . وكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- كانوا يتبايعون الشاة أو البقرة أو البعير ويستثنون للبائع سواقطها، حكاه ~~الشعبي عن الصحابة مطلقا، وأفتى به زيد بن ثابت وغيره من الصحابة، وجوزه ~~مالك وأحمد وغيرهما. فإذا كان الصحابة جوزوا هذا ms1227 فهذا أجوز. والله أعلم. ~~PageV06P398 ### | مسألة # في إجارة الإقطاع # PageV06P399 # سئل- رحمه الله تعالى ورضي عنه- # عن إجارة الإقطاع هل هي صحيحة أم باطلة؟ وقد ذكر في مذهب الشافعي قولان، ~~وفيهم من حكم به. # فأجاب # الحمد لله. ### | إيجار الإقطاع صحيح، # كما نص على ذلك غير واحد من العلماء، وما علمت أحدا من علماء المسلمين ~~قال: إنه لا يصح، لا من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ومن أفتى بأنه لا ~~يصح من أهل زماننا فليس معهم بذلك نقل، لا عن أحد من الأئمة الأربعة ولا ~~غيرهم من المسلمين، وإنما عمدتهم في ذلك أن بعض شيوخهم كان يفتي بأنه لا ~~يصح. وحجتهم أن المقطع لم يملك المنفعة، فبقي المستأجر لم يملك المنفعة، ~~فتكون الإجارة مزلزلة، فلا تجوز، كما لو آجر المستعير العين المعارة. # والكلام في مقامين: أحدهما أنه ### | ليس لأحد أن يحدث مقالة في الإسلام في مثل هذا الأمر # العام الذي ما زال المسلمون عليه خلفا عن سلف، بل إذا عرضت له شبهة في ~~ذلك كانت من جنس شبهة أهل الضلال القادحين في الشرع، وكثير منها أقوى من ~~هذه الشبهة. # والجواب عنها من وجهين: # أحدهما: أن العين المعارة في إجارتها نزاع، وإذا أذن المالك في إجارتها ~~جاز، والسلطان المقطع قد أذن لهم أن ينتفعوا بالقطع بالاستغلال والإجارة ~~والمزارعة. # PageV06P401 # الثاني: أن هذه المنافع ليست كالعارية، فإن السلطان لا يملك هذه المنافع، ~~بل هي حق للمسلمين وملك لهم، وإنما السلطان قاسم يقسم بينهم تلك المنافع، ~~فيستحقونها بحكم الملك لها والاستحقاق لا بحكم الإباحة، كما يستوفي أهل ~~الوقف منفعة وقفهم. والموقوف عليه إذا آجر الموقف جاز، وإن كانت الإجارة ~~تنفسخ بموت الموقوف عليه عند جمهور العلماء، فإن البطن الثاني يتلقى الوقف ~~عن الواقف لا عن البطن الأول، بخلاف الميراث. فلهذا كان جمهور العلماء على ~~أن الإجارة لا تنفسخ بموت الميت الذي تنتقل العين إلى وارثه، وهو مذهب مالك ~~والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول بانفساخها، لأن من أصله أن المستأجر ~~لم يملك المنفعة، وإنما ملك أن يملكها ms1228 بالاستيفاء، فيقول: إن المنفعة لم ~~تخرج عن ملك الميت، بل تحدث على ملك الوارث، ومع هذا فهو يقول: لو باع ~~العين المؤجرة لم يجز، لأن المنفعة للمستأجر، لأن المؤجر لا يملك فسخ ~~الإجارة. وأما جمهور العلماء فعندهم لا تنفسخ بالموت، سواء قيل: إن ~~المستأجر ملك المنفعة أو ملك أن يملكها، وأن الوارث لم ينتقل إليه منفعة ~~العين المؤجرة. # وأما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه فهنا تنفسخ في أظهر قولي العلماء، ~~وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، لأن البطن الأول ليس له ~~ولاية التصرف في حق البطن الثاني إلا أن يكون المؤجر ناظرا له الولاية على ~~البطنين. فكذلك الإقطاع، إذا قدر أن المقطع مات أو أخذ منه الإقطاع كان ~~كالموقوف عليه تنفسخ الإجارة عند الجمهور، ويبقى زرع المستأجر محترما، ~~يبقيه بأجرة المثل إلى # PageV06P402 # كمال بلوغه، كما يقال مثل ذلك في الوقف، وليست إجارة المقطع الأول لازمة ~~للثاني كالبطن الأول مع الثاني. # وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب أن الإجارة لا تصح إلا في منفعة تمنع ~~انفساخ الإجارة فيها، بل يجوز إجارة الظئر للرضاع بالكتاب والسنة والإجماع، ~~مع جواز أن تموت المرأة فتنفسخ الإجارة بالإجماع، وكذلك إذا مات الطفل ~~انفسخت عند الأكثرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، وقد قيل: لا تنفسخ، بل ~~يؤتى بطفل اخر مكانه. والأول أصح، لأن الإجارة على عينه، ولو تلفت العين ~~المؤجرة كالعبد والبعير انفسخت الإجارة بالإجماع. وأمثال ذلك كثيرة. # ف ### | الإجارة جائزة بالنص والإجماع في مواضع متعددة، # مع إمكان انفساخ الإجارة في أثناء المدة، فمن اشترط فيها امتناع الانفساخ ~~فقد خالف النص والإجماع. وليس مع من يقول: لا تصح إجارة الإقطاع نقل عن أحد ~~من العلماء الذين يفتي الناس بأقوالهم، لا من أتباع الأئمة الأربعة ولا ~~غيرهم، فكيف يسوغ لأحد أن يقول قولا لم يستق إليه؟ سواء كان مجتهدا أو ~~مقلدا. وغاية حجته قياس ذلك بالعارية لكونها بعرض الانفساخ، والحكم في ~~العارية بتقدير تسليمه ليست علته كونه بعرض الانفساخ، ولكن العلة فيه أن ~~المستعير ms1229 لا يملك المنفعة إلا بالقبض والاستيفاء، ليس له أن يعاوض عليها، ~~كما لا يعاوض على ما لم يملكه، لأن التبرعات لا تملك إلا بالقبض عند من قال ~~ذلك. ولهذا يجوز إجارة المستأجر وإن جاز أن تنفسخ الإجارة، والمقطع # PageV06P403 # بالمستأجر والموقوف عليه أشبه منه بالمستعير، لأنه يأخذ حقه وعوض عمله. # فإن قلت: كيف يدعى الإجماع وفي أصل الإجارة نزاع؟ # قلت: النزاع المحكي فيها عن بعض السلف في إجارة الأرض، وأما إجارة الظئر ~~والحيوان للركوب ونحو ذلك فلم يخالف في ذلك أحد من سلف المسلمين، فإن خالف ~~في ذلك أحد من الملاحدة فهو مسبوق بالإجماع المستند إلى النص. والله أعلم. # PageV06P404 ### | مسألة # في ضمان البساتين والأرض # PageV06P405 # مسألة # في ضمان البساتين والأرض التي فيها الشجر أو النخيل قبل أن يبدو صلاحه، ~~هل يجوز ضمانه السنة والسنتين أم لا؟ # جواب الشيخ تقي الدين ابن تيمية # هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال: # أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، بناء على أن هذا داخل فيما نهى عنه النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - من بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه (1) ، فاعتقد من قال ~~ذلك أن هذا بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، فلا يجوز، كما لا يجوز في غير ~~الضمان، مثل أن يشتري ثمرة مجردة بعد ظهورها وقبل بدو صلاحها، بحيث يكون ~~على البائع مؤونة سقيها وخدمتها إلى كمال الصلاح. وهذا هو القول المعروف في ~~مذهب الشافعي وأحمد، وهو منقول عن نصه. ومذهب أبي حنيفة في ذلك أشد منعا. # وتنازع أصحاب هذا القول: هل يجوز الاحتيال على ذلك بأن يؤجر الأرض ويساقي ~~على الشجر بجزء يسير؟ على قولين، فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجوز، وذكر ~~القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال الحيل" أنه يجوز، وهو المعروف عند أصحاب ~~الشافعي. # (وتكلم الشيخ تقي الدين على فسادها من وجوه، ثم قال:) فمن PageV06P407 # فعل ذلك وجب على ولاة الأمر الحجر عليه، فضلا عن إمضاء فعله والحكم ~~بصحته. # (ثم قال:) والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة. # (ثم قال بعد استدلال وتنفير ms1230 عن هذا الفعل وتقبيحه:) # القول الثاني في أصل المسألة: إنه إن كان منفعة الأرض هي المقصود، والشجر ~~تبع، جاز أن يؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجر تبعا. وهذا مذهب مالك، وهو ~~يقدر التابع بقدر الثلث. # وصاحب هذا القول يجوز من بيع الثمر قبل بدو الصلاح ما يدخل ضمنا وتبعا، ~~كما جاز إذا ابتاع نخلة بعد أن تؤبر أن يشترط المبتاع ثمرتها، كما ثبت ذلك ~~في الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمبتاع هنا قد اشترى ~~الثمر قبل بدو صلاحه لكن تبعا للأصل، وهذا جائز باتفاق العلماء، فيقيس ما ~~كان تبعا في الإجارة على ما كان تبعا في البيع. # والقول الثالث: إنه ### | يجوز ضمان الأرض والشجر جميعا، وإن كان الشجر أكثر. # وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله ~~عنه، فإنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وأخذ القبالة فوفى بها دينه. ~~روى ذلك حرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في "مسائله " المشهورة عن أحمد، ~~ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة ~~يغلب عليها الشجر. PageV06P408 # قال حرب الكرماني: ثنا سعيد بن منصور، ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن ~~عروة، عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين، فدعا عمر بن ~~الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه سنين، وفيها الشجر والنخل. # وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه ~~خلاف الأجماع. وليس بشيء، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإن عمر فعل ~~ذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظنة ~~الاشتهار، ولم ينقل عن أحد أنه أنكرها، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن ~~فعله عمر، كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره ما فعله في متعة الحج. وإنما ~~هذه القضية بمنزلة توريث عثمان بن عفان لامرأة عبد الرحمن بن عوف التي بتها ~~في مرض موته، وأمثال هذه القضية. # والذي فعله عمر بن الخطاب هو الصواب، أو ms1231، إذا تدبر الفقيه أصول الشريعة، ~~تبين له أن مثل هذا الضمان ليس داخلا فيما نهى عنه النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، وهذا يظهر بأمور: # أحدها أن يقال: معلوم أن الأرض يمكن فيها الإجارة، ويمكن فيها بيع حبها ~~قبل أن يشتد، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بيع الحب حتى ~~يشتد (1) لم يكن ذلك نهيا عن إجارة الأرض، فإن كان مقصود PageV06P409 # المستأجر هو الحب فإن المستأجر هو الذي يعمل في الأرض حتى يحصل له الحب، ~~بخلاف المشتري، فإنه يشتري حبا مجردا، وعلى البائع تمام خدمته حتى يستحصد. # وكذلك نهيه عن بيع العنب حتى يسود (1) ، ليس نهيا عن أن يأخذ الشجر، ~~فيقوم عليها ويسقيها حتى تثمر، وإنما النهي لمن اشترى عنبا مجردا، وعلى ~~البائع خدمته حتى يكتمل صلاحه، كما يفعله المشترون للأعناب التي تسمى ~~الكروم. ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونها حتى يبدو صلاحها، بخلاف التضمين. # الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائز ~~عند فقهاء الحديث، كأحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر، وهي أيضا عند ~~ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعد وغيرهم من الأئمة جائز، ~~كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع ~~الصحابة من بعده. # والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارة بعوض مجهول، ~~وذلك لا يجوز. وأبو حنيفة طرد قياسه، فلم يجوزها بحال. # وأما الشافعي فاستثنى ما تدعو إليه الحاجة، كالبياض إذا دخل تبعا للشجر ~~في المساقاة. وكذلك مالك، لكن راعى القلة والكثرة على أصله. # وهؤلاء جعلوا المضاربة أيضا خارجة عن القياس، ظنا أنها من PageV06P410 # باب الإجارة بعوض مجهول، وأنها جوزت للحاجة لأن صاحب النقد لا يمكن ~~إجارته. # والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات لا من باب المؤاجرات، ~~فالمضاربة والمساقاة والمزارعة مشاركة، هذا يشارك بنفع بدنه، وهذا بنفع ~~ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان. ولهذا ليس العمل فيها ~~مقصودا ولا معلوما كما يقصد ويعلم ms1232 في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجب أن يكون ~~العمل فيها معلوما. # لكن إذا قيل: هي جعالة كان أشبه، فإن الجعالة لا يكون العمل فيها معلوما، ~~وكذلك في كل عقد جائز غير لازم، لكن هي جعالة شرط فيها للعامل جزءا مما ~~يحصل بعمله. كما إذا قال الأمير في الغزو: من دل على مال للعدو فله الربع ~~بعد الخمس، أو الثلث بعد الخمس، فإن هذا جائز. # (ومثل بغير هذا في جوابه، ثم قال:) والذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - من بيع الثمرة ليس للمشتري في حصوله عمل أصلا، بل العمل كفه على ~~البائع، فإذا استأجر الأرض والشجر حتى حصل له ثمر وزرع كان كما إذا استأجر ~~الأرض حتى يحصل له الزرع. # الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية ~~ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجر لينتفع أهل الوقف بممرها، كما يقف الأرض ~~لينتفع أهل الوقف بغلتها. # (ثم تكلم كلاما طويلا في المعنى وضرب أمثلة، ثم قال:) # PageV06P411 # فإن قيل: ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعا لأجل الحاجة، وسلك مسلك ~~مالك، لكن مالك اعتبر القلة في الشجر، وابن عقيل عمم، فإن الحاجة داعية إلى ~~إجارة الأرض التي فيها شجر، وإفراده عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه ~~من الضرر، فجوز دخولها في الإجارة، كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر ~~تبعا في باب المساقاة. ومن حجة ابن عقيل أن غاية ما في ذلك جواز بيع ثمر ~~قبل بدو صلاحه تبعا لغيره لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنص والإجماع فيما إذا ~~باع شجرا وعليها ثمر باد، كالنخل المؤبر إذا اشترط المبتاع، فإنه اشترى ~~شجرا وثمرا قبل بدو صلاحه. وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس، وأنه ~~جائز بدون الحاجة حتى مع الانفراد. # قيل: هذا زيادة توكيد، فإن هذه المسألة لها مأخذان: # أحدهما: أن يسلم أن الأصل يقتضي المنع، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في ~~نظائره. # والثاني: أن يمنع هذا، ويقال: لا نسلم أن الأصل يقتضي المنع، بل نهى ~~النبي ms1233 في عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، فإنه إنما نهى عن بيع لا عن إجارة، ~~فنهيه لا يتناول مثل هذه الصورة وأمثالها من أنواع إلاجارة، لا لفظا ولا ~~معنى. # أما اللفظ فإن هذا لم يبع ثمرة قبل بدو صلاحها، ولو كان قد باع ثمرة لكان ~~عليه مؤونة التوفية، كما لو باعها بعد بدو صلاحها، فإن مؤونة التوفية عليه، ~~وهنا المستأجر للبستان كالمستأجر للأرض سواء # PageV06P412 # بسواء إنما يتسلم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتى يشتد الزرع ويبدو صلاح ~~الثمر، كما يقوم على ذلك العامل في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال: ~~إن هذا مشتر للثمر فلنقل: إن المستأجر مشتر للزرع، وإن العامل في المساقاة ~~والمزارعة والمضاربة مشتر لما يحصل من النماء. فإذا كان هذا لا يدخل في ~~مسمى البيع امتنع شمول العموم له لفظا. # ويمتنع إلحاقه بذلك من جهة القياس وشمول العموم المعنوي له، لأن الفرق ~~بينهما في غاية الظهور، فإن إلحاق هذه الإجارة بإجارة الأرض لاشتراكهما في ~~المساقاة والمزارعة وفي العارية والوقف وغير ذلك مما يجعل حكم أحدهما حكم ~~الآخر= أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم. فكل من نظر في هذا نظرا صحيحا ~~سليما تبين له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تسمى الضمانات، كما ~~تسميه العامة ضمانا، وكما سماه السلف قبالة، وليس هو من باب المبايعات، ~~وأحكام البيع منتفية في مثل هذا، مثل كون مؤونة التوفية على البائع، ومثل ~~أنه لو باع الحب بعد اشتداده وفرط في سقي الحنطة حتى لم يكمل صلاحها، كان ~~ذلك من ضمانه ولم يستحق الثمن. ولو قصر المستأجر للأرض في السقي وغيره حتى ~~لم ينبت الزرع كان ذلك من ضمانه، لا من ضمان المؤجر. وكذلك بائع الثمرة إذا ~~لم يقم بما يجب عليه من خدمتها حتى لم يكمل صلاحها كان النقص من ضمانه. # ومستأجر الشجر إذا قصر في خدمتها حتى لم تثمر، أو أثمرت ثمرا ناقصا، كان ~~ذلك من ضمانه. # PageV06P413 # وكل ### | ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع المعدومات- # مثل ms1234 نهيه عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة (1) ، وهو بيع ما في ~~أصلاب الفحول أو أرحام الإناث ونتاج النتاج، ونهيه عن بيع المعاومة وهو بيع ~~السنين (2) ، وأمثال ذلك- إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم ~~تخلق بعد، وأصولها يقوم عليها البائع، فهو الذي يستنتجها ويستثمرها، ويسلم ~~إلى المشتري ما يحصل من النتاج والثمرة. وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية ~~يفعلونه. وهذا على تفسير الجمهور في حبل الحبلة أنه بيع نتاج النتاج، ومن ~~فسره بتفسير الشافعي أنه البيع إلى نتاج النتاج فإنه يكون إبطاله لجهالة ~~الأجل. # وهذه البيوع التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي من باب ~~القمار الذي هو ميسر، وذلك أكل مال بالباطل، وأصحاب هذه الأصول يمكنهم ~~تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار والأولاد، وإنما ~~يفعلون هذا مخاطرة مباختة كفعل المقامرين من أهل الميسر. # وأما مسألة النزاع فهي من باب الإجارات، فضمان البساتين لمن يقوم عليها ~~كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيزدرعها، واحتكار الأرض لمن يبني فيها ويغرس ~~فيها ونحو ذلك. # وأيضا فإن المسلمين اتفقوا على ما فعله أمير المؤمنين عمر بن PageV06P414 # الخطاب رضي الله عنه، من ضرب الخراج على السواد وغيره من الأرض التي فتحت ~~عنوة، سواء قيل. إنه يجب في الأرض التي فتحت عنوة أن تجعل فيئا- كما قاله ~~مالك وهو رواية عن أحمد-؛ أو قيل: إنه يجب قسمتها بين الغانمين- كما قال ~~الشافعي، وهو رواية عن أحمد-؛ أو قيل: يخير الإمام فيها بين هذا وهذا- كما ~~هو مذهب أبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وغيرهم، وهو ظاهر مذهب أحمد-. فإن ~~الشافعي يقول: إن عمر استطاب أنفس الغانمين، حتى جعلها فيئا وضرب الخراج ~~عليها. # فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضع الخراج على أرض العنوة جائز إذا لم ~~يكن فيه ظلم للغانمين. ثم الخراج عند أكثرهم أجرة الأرض، وإنه لم يقدر مدة ~~الإجارة لعموم مصلحتها، والخراج ضربه على الأرض التي فيها شجر والأرض ~~البيضاء، وضرب على جريب النخل مقدارا وعلى ms1235 جريب الكرم مقدارا، وهذا بعينه ~~إجارة للأرض مع الشجر، فإن كان جواز ذلك على وفى القياس فهو المطلوب، وإن ~~كان جواز ذلك للحاجة فالحاجة داعية إلى ذلك، فإن الناس لهم بساتين فيها ~~مساكن، ولها أجور وافرة، فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاة ومزارعة تعطلت ~~منفعة المساكن عليهم، كما في أرض دمشق ونحوها. # ثم قد يكون وقفا أو ليتيم ونحو ذلك، فكيف يجوز تعطيل منفعة المساكن ~~المبنية في الحدائق، وقد تكون منفعة المسكن هي أكثر المنفعة، ومنفعة الزرع ~~والشجر تابعة، فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن، ولا يمكن أن تؤجر دون منفعة ~~الأرض والشجر، فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرر هذا وهذا تضررا، الساكن ~~يبقى ممنوعا من # PageV06P415 # الانتفاع بالثمر والزرع هو وعياله مع كونها عندهم، ويتضررون بدخول العامل ~~عليهم في دارهم. والعامل أيضا لا يبقى مطمئنا إلى سلامة ثمره وزرعه، بل ~~يخاف عليها في مغيبه، وما كل ساكن أمينا، ولو كان أمينا لم يؤمن الضيفان ~~والصبيان والنسوان، وهذا كله معلوم. # فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة (1) - وهي بيع ~~الرطب بالتمر- لما في ذلك من بيع الربا بجنسه مجازفة، وباب الربا أشر من ~~باب الميسر، ثم إنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة، وأمر رجلا ~~أن يبيع شجرة له في ملك الغير- لتضرره بدخوله عليه- أو يهبها له، فلما لم ~~يفعل أمر بقلعها (2) ، فأوجب عليه المعاوضة لرفع الضرر عن مالك العقار، كما ~~أوجب للشريك أن يأخذ الشقص بثمنه رفعا لضرر المشاركة والمقاسمة- فكيف إذا ~~كان الضرر ما ذكر؟ # ومعلوم أن ### | الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، # وأنها تقدر خير الخيرين بتفويت أدناهما، وتدفع شر الشرين باحتمال ~~أدناهما، والفساد في ذلك أعظم مما يظن من حصول ضرر ما لأحد المتعاوضين، فإن ~~هذا ضرر كبير محقق. وذاك إن حصل فيه ضرر فهو يسير قليل مشكوك فيه. # وأيضا فالمساقاة والمزارعة يعتمد فيها أمانة العامل، وقد يتعذر ذلك كثيرا ~~فيحتاج الناس إلى المؤاجرة التي فيها مال مضمون في ms1236 PageV06P416 # الذمة. # (ثم قال:) فهذا وجه من وجوه جواز المؤاجرة. # (ثم قال:) وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل ~~التمكن من استيفائها، فإنه لا يجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجر حيوانا فيموت ~~قبل التمكن من الانتفاع به. وكذلك المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه، مثل ~~أن يشتري قفيزا من صبرة، فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز، فإن ذلك من ضمان ~~البائع بلا نزاع. # ولكن تنازعوا في تلفه بعد التمكن من القبض وقبل القبض، كمن اشترى معيبا ~~وتمكن من قبضه، وفيه قولان مشهوران: أحدهما أنه لا يضمنه، كقول مالك وأحمد ~~في المشهور عنه، لقول ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا ~~فهو من مال المشتري. # والثاني: يضمنه، كقول أبي حنيفة والشافعي، لكن أبو حنيفة يستثني العقار، ~~ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبض، كقول أحمد في إحدى الروايتين، فيتقارب ~~مذهبه ومذهب مالك وأحمد في المعين ونحوه. # وكذلك تنازعوا في الثمر إذا اشتري بعد بدو صلاحه، فتلف قبل كمال صلاحه، ~~فمذهب مالك وأحمد أنه يتلف من ضمان البائع، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا ~~يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا، لم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ ". ~~ومذهب الشافعي المشهور عنه: يكون PageV06P417 # في ضمان المشتري، لأنه تلف بعد القبض. وأما أبو حنيفة فمذهبه أن التبقية ~~ليست من مقتضى العقد، ولا يجوز اشتراطها. والأولون يقولون: قبض هذا بمنزلة ~~قبض المنفعة في الإجارة، وذلك ليس بقبض تام ينقل الضمان، لأن القابض لم ~~يتمكن من استيفاء المعقود عليه. وهذا طرد أصلهم في أن المعتبر هو القدرة ~~على الاستيفاء المقصود بالعقد، ولهذا يقولون: لو أن المشتري فرط في قبض ~~الثمرة بعد كمال صلاحها حتى تلفت كانت من ضمانه، كما لو فرط في قبض المعين ~~حتى تلف، وهذا ظاهر في المناسبة والتأثير، فإن البائع إذا لم يكن منه تفريط ~~فما يجب عليه. # (ثم قال:) ولهذا اتفقوا ms1237 على مثل ذلك في الإجارة، فإن المستأجر لو فرط في ~~استيفاء المنافع حتى تلفت كانت من ضمانه، ولو تلفت من غير تفريط كانت من ~~ضمان المؤجر، وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لافة حصلت ~~لم يكن عليه الأجرة، وإن نبت الزرع ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن ~~من حصاده ففيه نزاع. # (ثم قال:) و ### | أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة، # فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، ~~ونهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد، ولم ينه عن الإجارة ~~ولا عن المساقاة والمزارعة. فالمساقاة والمزارعة نوع من المشاركة، وهي ~~جائزة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وباتفاق أصحابه وبالقياس، ~~ويجوز ذلك على جميع الشجر، ويجوز على الأرض البيضاء والأرض # PageV06P418 # التي فيها شجر، ويجوز سواء كان البذر من رب الأرض أو من العامل أو منهما، ~~بل إذا كان البذر من العامل فهو أولى بالجواز، وهذا الذي عامل عليه النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر، عاملهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على ~~أن يعملوها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه (1) . # وكذلك الصحابة جوزوها على هذا الوجه. # ومن قال من الفقهاء أن يكون البذر فيها من رب الأرض قاسها على المضاربة، ~~إذ كان المال فيها من واحد والعمل من آخر. وهو قياس فاسد من وجهين: # أحدهما: أن المال في المضاربة يعود إلى المالك، ويقتسمان الربح، والبذر ~~هنا لا يعود إلى العامل، فلو كان يجري مجرى المال لوجب أن يعود نظيره إلى ~~صاحبه، فعلم أنهم جعلوه من باب الأعيان التي تجري مجرى المنافع، كالماء ~~الذي تسقى به الأرض والعلف الذي تعلف به البقر. # الوجه الثاني: أنه في المضاربة لو كان من هذا مال والعمل، ومن هذا مال ~~والعمل من أحدهما لجاز ذلك في أصح قولي العلماء. فيجوز ببدنين ومال، ومال ~~وبدنين، فكذلك يجوز نظيره في المساقاة والمزارعة. وكذلك المؤاجرة، لم ينه ~~عنها النبي ms1238 - صلى الله عليه وسلم -، بل ما نهى عنه من كراء الأرض ومن ~~المخابرة فهو ما كانوا يفعلونه، وهو أن يشترط رب الأرض زرع بقعة بعينها، ~~فهذا لا يجوز. وإذا كانت الإجارة PageV06P419 # صحيحة فإنها تصح، سواء كانت الأرض تبعا ليس فيها شجر ولا بناء، أو كان ~~فيها بناء أو بناء وشجر، أو كان فيها بياض أو شجر، أو فيها بناء وبياض، فكل ~~هذا من باب الإجارة لا من باب بيع الثمر قبل بدو صلاحها. كما أن الإجارة في ~~الأرض البيضاء لمن يزدرعها ليس من باب بيع الحب قبل أن يشتد، وذلك أن ~~المبيع هو عين يجب على البائع تسليمها، فإذا باع الثمرة أو الحب كان على ~~البائع السقي والخدمة وشق الأرض وغير ذلك، حتى تكمل الثمرة والزرع. وإذا ~~آجر أرضا بيضاء أو أرضا فيها شجر وبياض أو شجر محض كان المستأجر هو الذي ~~يسقي ويخدم ويشق الأرض، حتى يحصل الثمر والزرع بعمله، كما يحصل في المساقاة ~~والمزارعة، لكن في المساقاة والمزارعة يستحق جزءا شائعا من الثمر والزرع، ~~وفي الإجارة يستحق جميع الثمر والزرع، وعليه الأجرة المسماة في ذمته. # وإذا استأجر العبد أو الأمة سواء كانت ظئرا أو غير ظئر، فهذا على وجهين: ~~تارة يستأجرها بأجرة مسماة، وتارة يستأجرها بطعامها وكسوتها بالمعروف، وذلك ~~جائز في أظهر قولي العلماء. # وعلى هذا فإذا استأجر بقرا أو نوقا أو غنما أيام اللبن بأجرة مسماة ~~وعلفها على المالك، أو بأجرة مسماة مع علفها على أن يأخذ اللبن- جاز ذلك في ~~أظهر قولي العلماء، كما في الظئر. وهذا يشبه البيع ويشبه الإجارة، ولهذا ~~يذكره بعض الفقهاء في البيع وبعضهم في الإجارة. لكن إذا كان اللبن يحصل ~~بعلف المستأجر وقيامه على الغنم فإنه يشبه استئجار الشجر، وإن كان المالك ~~هو الذي يعلفها، وإنما # PageV06P420 # يأخذ المشتري لبنا مقدرا، فهذا بيع محض، وإن كان يأخذ اللبن مطلقا فهو ~~بيع أيضا، فإن صاحب الغنم يوفيه اللبن، بخلاف الظئر فإنها هي تسقي الطفل. ~~وليس هذا داخلا فيما نهى عنه النبي - صلى الله ms1239 عليه وسلم - من بيع الغرر ~~(1) ، لأن الغرر ما يتردد بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه لأنه من جنس ~~القمار الذي هو الميسر، والله حرم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل، وذلك ~~من الظلم الذي حرمه الله تعالى. # (ثم قال:) فأما إذا كان شيئا معروفا بالعادة، كمنافع الأعيان في الإجارة، ~~مثل منفعة الأرض والدابة، ومثل لبن الظئر المعتاد، ولبن البهائم المعتاد، ~~ومثل الثمر والزرع المعتاد- فهذا كله من باب واحد، وهو جائز. ثم إن حصل على ~~الوجه المعتاد، وإلا حط عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة المقصودة. وهو ~~مثل وضع الجائحة في البيع، ومثل ما إذا تلف بعض المبيع قبل التمكن من القبض ~~في سائر البيوع. # وهذا الذي ذكرناه من ضمان البساتين هو فيما إذا ضمنه على أن يعمل الضامن ~~حتى يحصل الثمر والزرع، فأما إذا كان الخدمة والعمل على البائع فهذا بيع، ~~كما يباع العنب بعد بدو صلاحه، وكما يضمن البستان زمن الصيف لمن يسكنه ~~ويأكل فاكهته، وإذا كان بيعا محضا لم يجز إلا بعد بدو صلاحه، لكن إذا بدا ~~صلاح بعض الشجر جاز بيع جميعها بلا نزاع، وكذلك يجوز بيع سائر ذلك النوع في ~~ذلك البستان في سائر البساتين في أشهر قولي العلماء. PageV06P421 # وإذا كان البستان أجناسا، كالعنب والرطب والتفاح والمشمش والتوت، فبدا ~~الصلاح في جنس من ذلك، جاز بيع جميع ما في البستان من ذلك في أحد قوليهم ~~أيضا، لأن الشرط في المبيع أن يبدو صلاح بعضه لا صلاح كل جزء منه، إذا كان ~~مما يباع جملة في العادة. # ومعلوم أنه إذا كان فيه نخيل وأعناب كان بيع بعض النخيل دون بعض فيه ~~مشقة، فجوز بيع الجميع. وهكذا إذا كان عنبا ورمانا وجوزا ونحو ذلك فبيع بعض ~~هذه الأجناس دون بعض فيه مشقة، كما في بيع بعض النخيل دون بعض فإن المشتري ~~إن لم يشتر الجميع لم يرض بشراء البعض، إذ لا يمكن أن يدخل عليه غيره في ~~البستان من المشتري، ففي بيع بعض البستان دون ms1240 بعض ضرر على البائع والمشتري، ~~ولا فساد في بيع الجميع. # بل إن قيل: قد تصيبه جائحة فلا يثمر الباقي، قيل: هذا بمنزلة الجائحة ~~فيما بدا صلاحه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجائحة (1) . # والشارع بعث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فنهى عن ~~بيع الثمار قبل بدو صلاحها لما فيه من المخاطرة من غير حاجة، وأما بعد بدو ~~صلاحها فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال وإن كان فيه نوع مخاطرة، لأن ~~المنع من ذلك أشد ضررا على الناس من المخاطرة، كما في الإجارة، لأن المنع ~~منها أشد ضررا من إباحتها مع المخاطرة، ثم إنه جبر هذا الضرر بوضع الجوائح، ~~فما تلف PageV06P422 # قبل التكمن من قبضه كان من مال البائع كالمؤجر، وأما إذا تمكن من الجداد ~~والحصاد ففرط حتى تلفت العين، أو أخر ذلك لطلب ارتفاع السعر فإن الضمان هنا ~~يكون من ماله. والله سبحانه أعلم (1) . PageV06P423 ms1241