######OpenITI#
#META# 000.SortField :: Shamela_0022797
#META# 000.BookURI :: NOCODE
#META# 010.AuthorAKA :: NODATA
#META# 010.AuthorNAME :: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
#META# 011.AuthorBORN :: NOTGIVEN
#META# 011.AuthorDIED :: 728
#META# 019.AuthorDIED :: NODATA
#META# 020.BookTITLE :: جامع المسائل لابن تيمية - عزير شمس
#META# 020.BookTITLESUB :: NODATA
#META# 021.BookSUBJ :: كتب ابن تيمية
#META# 022.BookVOLS :: NODATA
#META# 025.BookLANG :: NODATA
#META# 029.BookTITLEalt :: NODATA
#META# 030.LibURI :: Shamela_0022797
#META# 030.LibURIextra :: NODATA
#META# 031.LibREADONLINE :: http://shamela.ws/browse.php/book-22797
#META# 031.LibURL :: http://shamela.ws/index.php/book/22797
#META# 031.LibURLFILE :: NODATA
#META# 031.LibURLextra :: NODATA
#META# 040.EdALL :: NODATA
#META# 040.EdEDITOR :: محمد عزير شمس
#META# 041.EdNUMBER :: الأولى، 1422 هـ
#META# 041.EdNumber :: NODATA
#META# 043.EdPUBLISHER :: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
#META# 044.EdPLACE :: NODATA
#META# 045.EdYEAR :: NODATA
#META# 049.EdISBN :: NODATA
#META# 049.EdPAGES :: NODATA
#META# 049.EdPHYSICAL :: NODATA
#META# 049.EdVOLUME :: NODATA
#META# 090.RecMISC :: NODATA
#META# 999.MiscINFO :: NODATA
#META#Header#End#
### | فصل في معنى "الحي القيوم"
# PageV01P035
# بسم الله الرحمن الرحيم
# ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
# الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
~~سيئات أعمالنا، من هداه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن
~~لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله
~~عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى آله وصحبه وسلم.
# فصل
# في معنى اسمه "الحي القيوم"
# قال الله سبحانه وتعالى: (الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (1) .
# وقال تعالى: (الم (1) الله لا إله إلا هو الحى القيوم) (2) . وقال تعالى:
~~(*وعنت الوجوه للحى القيوم) (3) . وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه
~~وغيره "الحي القيام" (4) . والقيام فيعال، والقيوم فيعول، وفيعال من جنس
~~فعال، وفيعول من جنس فعول، لأن الحرف المضعف يعاقب الحرف المعتل، كقولهم
~~تقضى البازي وتقضض. PageV01P037
# والقيوم والقيام من قام يقوم، فهو معتل، فإن عينه واو، فلهذا قيل فيه:
~~فيعال وفيعول، ولو لم يكن في ألفاظه حرف معتل لا ياء ولا واو لقيل: فعال،
~~كما قيل "حماد" و"ستار"، وفعول كما قيل "سبوح" و"قدوس"، والغالب فعول
~~بالفتح، وهو القياس في شرح "قدوس"، ولكن جاءت دلالة اللفظ على غير القياس
~~بالضم سبوح وقدوس وذو الروح.
# وقد تبين أن قراءة الجمهور "القيوم" أتم معنى من قراءة "القيام"، فإن
~~فعول وفيعول أبلغ من فعال وفيعال، لأن الواو أقوى من الألف، والضم أقوى من
~~الفتح، وهذا عينه مضمومة، والمعتل منه واو، فهو أبلغ مما عينه مفتوحة
~~والمعتل منه ألف. ودائما في لغة العرب الضم والواو أقوى من الياء والكسرة،
~~والياء والكسرة أقوى من الألف والفتحة، وهكذا هو في النطق، وكذلك في سائر
~~الحركات، فإن المتحرك إلى أسفل كحركة الماء أثقل من المتحرك إلى فوق كالريح
~~والهواء، والمتحرك على الوسط هو الفلك أقوى منهما.
# ولهذا كان الرفع لما هو عمدة في الكلام، وهو: الفاعل، والمفعول القائم
~~مقامه، والمبتدأ، والخبر. وكان النصب لما هو فضلة في الكلام، كالمفاعيل
~~وغيرها ms0001: المفعول المطلق والمفعول به وله ومعه، والحال والتمييز. وكان الجر
~~لما هو متوسط بين العمدة والفضلة، وهو المضاف إليه، فإنه تضاف إليه العمدة
~~تارة والفضلة تارة، فتقول: قام غلام زيد، وأكرمت غلام زيد.
# ولما كانت "كان" وأخواتها أفعالا تستعمل تارة تامة مكتفية بالفاعل، وتارة
~~ناقصة فتحتاج إلى منصوب، كان الرفع فيها مقدما، فإنه العمدة، ولابد منه في
~~النوعين التامة والناقصة.
# PageV01P038
# وأما "إن" وأخواتها فإنها تختص بالجمل الاسمية، لكن أشبهت الأفعال، فصار
~~لها منصوب ومرفوع كالأفعال، ونقصت درجتها عن درجة الأفعال، فقدم منصوبها
~~لذلك، ولأنه أخف، ولأن الخبر يكون غير اسم، مثل الجار والمجرور به، فلا
~~يظهر فيه النصب، بل قد يقدم على الاسم.
# وأما باب "ظننت" وأخواتها فإنها أفعال، تستعمل تارة مع الاقتصار على
~~الفاعل، وتارة يذكر معها المفعولات، ولكن تعلق على العمل إذا تصدر ماله صدر
~~الكلام، فلا يعمل ما قبله فيما بعده، مثل لام الابتداء وحروف الاستفهام،
~~وما الناقصة، كقوله تعالى: (لنعلم أى الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12))
~~(1) ، وقوله تعالى: (ولقد علموا لمن أشتراه ما له في الآخرة من خلاق) (2) .
~~وتارة تلغى عن العمل إذا قدم المفعولات أو وسط الفعل بينهما، كقولك: "زيد
~~منطلق ظننت"، والإلغاء هاهنا أحسن، وقولك "زيد ظننت منطلق".
# وكان الفرق بين باب "ظننت" وباب "كسوت" أن المفعولين هاهنا المبتدأ
~~والخبر، بخلاف باب كسا، فإن الثاني غير الأول، ولهذا يجوز في باب كسا
~~الاقتصار على أحد المفعولين، بخلاف باب ظننت، فإنه لا يجوز ذلك فيه، كما لا
~~يجوز الاقتصار على المبتدأ دون الخبر.
# وقد تبين أن المبتدأ وخبره مع نواسخه قد استوعبت الأقسام الممكنة، فإنهما
~~إما مرفوعان، كما إذا تجردا عن العوامل اللفظية؛ وإما منصوبان، وهو باب
~~ظننت، إذ الأول مرفوع، وهو باب "كان"؛ PageV01P039
# أو الأول منصوب وهو باب "إن". وتبين أن الرفع لما هو عمدة، والنصب لما هو
~~فضلة.
# وكذلك الضم والفتح والكسر التي هي حركات لنفس الكلمة، وتسمى مناسبة إذا
~~كانت في الآخر لم
### | ....
# (1) عامل للإعراب، كقولك: خرج وخرج، وكره وكره، والغسل والغسل ms0002 ونحو ذلك،
~~فالخرج والكره والغسل مصدر الفعل الثلاثي المتعدي، وهو قياس، تقول: ضربه
~~ضربا، وأكله أكلا ونحو ذلك، وأما الخرج والكره فهو نفس الشيء المكروه
~~والمخروج، والعين أقوى من الفعل، والغسل بالضم اسم الاغتسال، واغتسال
~~الإنسان لنفسه أكمل من غسله لغيره، تقول في هذا: غسل الجمعة وغسل الجنابة،
~~لأن المراد الاغتسال؛ وتقول في ذلك: غسل الميت وغسل الثوب، لأن المصدر غسل
~~الإنسان لغيره. هذا هو اللغة المشهورة سماعا وقياسا، وما نقل غير ذلك فإما
~~خطأ وإما شاذ.
# فتبين أن "القيوم" أبلغ من "القيام"، ذلك يفيد قيامه بنفسه باتفاق
~~المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه
~~عليه؟ فيه قولان. وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه، لما فيه من المبالغة
~~لقيوم وقيام. ولهذا قال غير واحد من السلف: القيوم الذي لا يزول، كما قال
~~ابن أبي حاتم (2) : حدثنا علي بن الحسين نا عيسى الصائغ ببغداد نا سعد بن
~~عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الحسن رضي الله عنه: القيوم الذي لا زوال
~~له. PageV01P040
# وقد ظن طائفة من النفاة - كبشر المريسي وغيره - أن مرادهم بذلك أن لا
~~تقوم به الأفعال الاختيارية ولا يتحرك ونحو ذلك، ورد عليهم عثمان بن سعيد
~~الدارمي وغيره، وبينوا خطأه فيما فهمه من ذلك عمن نقل ذلك عنه من السلف،
~~وهو إنما نقله عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهذا
~~الإسناد وحده مما لا يعتمد عليه أهل الحديث، فذكروا ضعفه (1) ، ثم ذكروا
~~عدم دلالته على ما طلبه. ولكن قد روي هذا بغير هذا الإسناد، فبينوا خطأ من
~~فهم ذلك المعنى، وأن المراد بقولهم "لا يزول": أنه دائم باق لا ينقص عن
~~كماله فضلا عن أن يفنى أو يعدم، كقوله تعالى: (أولم تكونوا أقسمتم من قبل
~~ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف
~~فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن
~~كان مكرهم لتزول منه الجبال (46)) (2) . وفيه قراءتان (3) : أكثر القراء ms0003
~~يقرءون "لتزول"، فيدل على النفي، أي: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
# وقرأ بعضهم "لتزول" بالرفع على الإثبات، أي: إن كان مكرهم تزول، هذا
~~تقدير البصريين. والكوفيون يقدرون: ما كان مكرهم ألا تزول. وكلا القراءتين
~~لهما معنى صحيح، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع (4) .
# وقوله تعالى "تزول منه الجبال" مثل قوله تعالى: (إن الله يمسك
~~PageV01P041
# السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) (1) ومنه
~~قول لبيد (2) :
# ألا كل شيء ما خلا الله باطل
# وقد قال له عثمان (3) بن مظعون رضي الله عنه وهو ينشد:
# "صدقت". ثم قال:
# وكل نعيم لا محالة زائل
# فقال له: "كذبت، إن نعيم الجنة لا يزول" (4) .
# وليس المراد بقوله (ما لكم من زوال (44)) وبقبم له تعالى (لتزول منه
~~الجبال (46) و (يمسك السموات والأرض أن تزولا) هو الحركة، فإنهم كانوا
~~يتحركون، والكواكب متحركة، بل الأفلاك التي فيها الكواكب متحركة. و"زال"
~~يستعمل لازما ويستعمل ناقصة من أخوات "كان"، فيقال في اللازم: زال يزول
~~زوالا، كما في قوله تعالى (أن تزولا) و (مالكم من زوال (44)) و (وإن كان
~~مكرهم لتزول منه الجبال (46)) . ومنه: زالت الشمس تزول زوالا. وليس المراد
~~بزوالها حركتها، فإنها لا تزال متحركة في رأي العين منذ تطلع إلى أن تغرب.
# ولا يقال إنها زالت إلا إذا انحطت عن غاية الارتفاع، فإذا ارتفعت على
~~رءوس الناس كان غاية ارتفاعها، وهو قبل الزوال، ثم إذا PageV01P042
# انحطت بعد هذا وانحطت ومالت قيل: زالت، ويقال لها قبل الزوال: قد قام
~~قائم الظهيرة، فيعبر عن هذا بلفظ القيام، وعن آخرها يلفظ في الانحطاط بلفظ
~~الزوال، كما يعبر عنه بلفظ الاستواء، فيقال: استوت الشمس، وعند الزوال
~~بالميل فيقال مالت الشمس؛ فكأن لفظ الزوال يدك على النقص بعد الكمال،
~~والانخفاض بعد الارتفاع.
# والذين أقسموا من قبل "ما لهم من زوال" لم يريدوا أنهم لا يموتون، فإن
~~هذا لا يقوله أحد من العقلاء، ولكن ظنوا دوام ماهم فيه من الملك والمال،
~~وأن ذلك لا يزول عنهم. وهذا باطل ms0004. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~لما سبقت ناقته العضباء وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها،
~~فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن حقا على الله أن لا يرفع شيء
~~من الدنيا إلا وضعه" (1) . فكلما ارتفع شيء من الدنيا فإن الله تعالى يضعه،
~~وذلك من زواله.
# والزائل الذي لم يكتسب به ما يدوم نفعه يسمى باطلا، فالموت حق والحياة
~~باطل، فإن الباطل ضد الحق، والحق يقال على الموجود، فيكون الباطل هو
~~المعدوم. ويقال أيضا على ما ينفع وينفى نفعه، فيكون الباطل اسما لما لا
~~ينفع، أو لما لا يدوم نفعه.
# ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل لهو يلهو به الرجل باطل منه
~~إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته، فإنهن الحق". رواه أبو
~~داود وغيره (2) . PageV01P043
# ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الرجل لا يحب الباطل" (1) ،
~~وهو مالا ينفع النفع الباقي، وهو النافع في الآخرة، فكل مالا ينفع في
~~الآخرة فهو باطل، وإن كان لذة حاضرة، فإنها تزول وتعد بلا نفع يبقى، فهي
~~باطل بهذا الاعتبار.
# وقال الله تعالى: (ذلك بأن الله هو وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (2)
~~، فهذا باطل من الجهتين: من جهة أن استحقاق الإلهية معدوم، فهو لا ينفع ولا
~~يضر؛ ومن جهة أن عبادته لا تنفع وإن كانت موجودة (3) في الحياة الدنيا،
~~فيوم القيامة يكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا. ومن هذا قوله - صلى الله
~~عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر لبيد:
# ألا كل شيء ماخلا الله باطل (4)
# قال الله تعالى: (وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورا) (5) ،
~~وقال تعالى: (مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24))
~~إلى قوله تعالى (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
~~الأخرة) (6) . والثابت ضد الزائل، فالباطل الزائل الذي لا ينفع في الآخرة
~~هو الذي شرع فيه الزهد، فالزهد مشروع في كل مالا ينفع في الآخرة، والورع
~~مشروع في كل ما قد ms0005 يضر في PageV01P044
# الآخرة. فالورع عن المحرمات واجب، لأنها سبب الضرر، والورع عن الشبهات
~~حسن، لأنه قد يكون في ذلك محرم، وقد يدعو الوقوع فيها إلى الوقوع في
~~الحرام، كما في الصحيحين (1) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور
~~مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن
~~وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن
~~لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا
~~صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب".
# فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من ترك الشبهات التي لا يعلم
~~كثير من الناس أحلال هي أم حرام، استبرأ لعرضه ودينه، وإن وقع فيها وقع في
~~الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع، ويقرب أن يواقعه.
# وبين أن حمى الله تعالى محارمه التي حرمها، وفي هذا ما دل على أن الشبهات
~~لا تخفى على جميع الناس، بل كسبهم من غير الحلال منها من الحرام. ومن تبين
~~له ذلك فأخذ الحلال وترك الحرام لم يكن ممن وقع في الشبهات، وإنما الذي يقع
~~فيها من لم يتبين له أحلال هي أم حرام. وفيه ما دل على أن شريعته في ترك
~~الشبهات يتضمن سد الذريعة، فإنها داعية إلى الحرام، وما كان ذريعة يترك،
~~إلا إذا كان مصلحة فعله راجح.
# مثال ذلك أن يشتبه عليه الحلال بالحرام، فلا يقطع بواحد PageV01P045
# منهما، فهذا يرغب في الترك، لأنه شبهة، إلا أن يكون إذا ترك ذلك تضمن ترك
~~واجب محقق أو فعل محرم محقق، فلا يكون حينئذ مرغبا في ترك الشبهة، بل يكون
~~مأمورا بفعلها، لأنه إذا فعلها لم يعلم أنه يأثم، وإذا تركها وتضمن ذلك ترك
~~واجب أو فعل محرم كان إثما.
# والورع المشروع هو ما قاله - صلى الله عليه وسلم - للحسن رضي الله ms0006 عنه:
~~"دع ما يريبك إلى مالا يريبك" (1) ، وهنا إذا تركه لم يدعه إلى مالا يريبه،
~~بل إلى ماهو يريبه قطعا، وذلك يظن أنه قد يريبه.
# ومثل هذه المسألة المشهورة عن الإمام أحمد رضي الله عنه، وقد ذكرها أبو
~~طالب وأبو حامد وغيرهما في كتاب الورع للمروذي (2) وغيره، أنه سئل عمن مات
~~أبوه وعليه دين، وله مال فيه شبهة، وهو يتورع عن قبض ذلك المال، أيدع ذمة
~~أبيه مرتهنة فبين ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه أن قضاء دين الميت من المال
~~الذي خلفه واجب، وأن الوارث عليه أن يفعل ذلك، أو يمكن الغرماء من قبضه،
~~وإن لم يمكن قضاؤه إلا بفعل الوارث تعين عليه ذلك، فإنه واجب على الكفاية،
~~وهو متعين عليه إذ لم يقم من غيره. وأما قبضه الشبهة فليس محرما، بل ورع
~~مستحب، فكيف يفعل مستحبا بترك واجب؟.
# وهكذا من عليه ديون وله مال يقضي به الديون، وفيه شبهة، فقضاء الديون
~~واجب، والورع بقضاء الديون واجب، وليس ترك الشبهة واجبا. ولو قدر أن في ملك
~~الشبهة ظلم قليل، فهو أخف من PageV01P046
# ظلم أرباب الديون بمنع حقوقهم. مثل أن يكون له ألف درهم فيها مئة لغيره
~~مثلا، وعليه ألف درهم، فإذا لم يوف الغرماء حقوقهم ظلمهم بألف درهم، وذاك
~~أعظم إثما من ظلم مئة، هذا إذا قدر أنه لا يعرف قدر ما في ماله من الظلم،
~~وإلا فإذا عرف قدر ذلك فإنه يخرج مقدار الحرام، فيعطيه لمستحقه إن عرفه،
~~وإلا تعرف به وصرفه في مصالح المسلمين عنه إذا لم يعرفه، كما نقل عن السلف
~~من الصحابة والتابعين، وهو مذهب أكثر الفقهاء، كمالك وأبي حنيفة والإمام
~~أحمد بن حنبل وغيرهم، أعني صرفه إذا جهل صاحبه إلى مصرف مال الله تعالى
~~ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو صرفه في كل ما أمر الله تعالى به
~~ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
# وليس هذا كاللقطة التي له أن يتملكها، فإن اللقطة عرفها حولا وأخذها
~~بفعله، فإذا لم يجد صاحبها صارت بمنزلة ما يملكه ms0007 من المباحات بفعله ما دام
~~صاحبها مجهولا، وله أن يتصدق بها عنه، فإن عرف صاحب المال في الموضعين
~~فالأمر إليه، إن شاء أجاز ما فعله من تصرفه لنفسه أو صدقة بها عنه، وإن شاء
~~رد ذلك وطلب بدل ماله، كما قال الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في المال،
~~وفي امرأة المفقود أيضا، قالوا: يخير الزوج القادم بين المرأة وبين مهرها،
~~وهو مبني على هذا، فإنه لما انقطع خبره جاز التصرف في بضع امرأته، كما جاز
~~التصرف في المال الملتقط الذي جهل صاحبه، وفي غيره، ثم ظهر خبره، صار حينئذ
~~مخيرا، وكان ذلك التصرف الأول الذي كان مع عدم العلم به جائزا باطنا
~~وظاهرا، كمال اللقطة، فإنه بعد حلول التعريف يملك الملتقط باطنا وظاهرا،
~~وكذلك يملكه من تصدق عليه، فإذا جاء المالك وطلبه عاد إليه ملكا جديدا.
# PageV01P047
# وأما الشبهة إذا اجتنبها أوقعته فيما يتردد بين الكراهة والتحريم قطعا،
~~فهذا مما يتنازع الفقهاء فيه، مثل إذا شك من الطلاق الثلاث فمن الفقهاء من
~~يستحب له اجتنابها، بل يستحبون له إيقاع الطلاق يقينا لتباح لغيره بلا شك،
~~مثل أن يقول: إن لم يكن وقع بك فقد أوقعته بك. ومنهم من يستحب له إمساكها،
~~ويرى ذلك خيرا (1) من مفارقتها ومن إيقاع الطلاق عليها، فإنه إذا ملكها لم
~~يأثم، فإن الأصل عدم الطلاق، وإمساكها جائز لا إثم فيه، وأما الطلاق فهو
~~مكروه أو محرم، فمن قطع بتحريمه فإنه يقطع بأنه ليس له أن يطلقها لأجل
~~الشك، ومن قال مكروه فقد يتردد اجتهاده لكون كراهة الطلاق أشد أم كراهة
~~إمساكها مع الشك. وأما من تردد هل الطلاق محرم أو مكروه فإمساكها أولى
~~عنده، لأنه هناك متردد بين حلال وحرام، وهنا متردد بين حرام ومكروه. وأما
~~من قال: الطلاق مباح لا كراهة فيه، فإيقاعه عنده أولى من إمساكها مع الشك.
~~وقد بسطنا هذه المسائل في غير هذا الموضع. والصواب أن الطلاق في الأصل
~~محظور، وإنما أبيح للحاجة.
# والمقصود هنا أن مالا يستعان به على النفع الدائم ms0008 فهو نفع يتعقبه، ومنه
~~يسمى العبث واللعب باطلا، وإن كان العابث اللاعب فيه منفعته زائلة، لما فيه
~~من اللذة الحاضرة، لكن هو باطل إذا لم يستعن به على الحق الذي يدوم نفعه.
~~ولهذا قال تعالى: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين
~~كفروا) (2) ، وقال تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين
~~(38)) (3) ، وقال تعالى: أفحسبتم أنما خلقناكم PageV01P048
# عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) (1) . فإن الدنيا وإن كان فيها نوع لذة
~~ومنفعة حاضرة فتلك زائلة منقطعة، فهي باطلة، والفعل لمثل ذلك من باب العبث
~~واللعب، والله تبارك وتعالى منزه عن ذلك، إنما خلق هذا الذي ينقص ويزول لما
~~يبقى ويدوم، والذي يبقى ويدوم هو الحق، والذي يزول وينقص قد فسد وهلك.
~~ولهذا قيل في قوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) (2) : كل عمل باطل إلا ما
~~أريد به وجهه. وفي الدعاء المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار
~~أرضك باطل إلا وجهك الكريم". وقد قال تعالى: (كل من عليها فان (26) ويبقى
~~وجه ربك ذو الجلال والإكرام (27)) (3) . فهو سبحانه وتعالى الباقي الدائم،
~~وما كان به وله فهو الباقي الدائم، وما لم يكن له فهو باطل فاسد هالك، لا
~~يبقى ولا يدوم.
# قالوا لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: إن فلانا عمل موطأ مثل موطأك، فقال:
~~وطأوا ووطأنا، وما كان لله عز وجل فهو يبقى (4) .
# ولما استقر في الفطر أن
### | كل عمل لا يبقى نفعه فهو عبث ولعب وباطل،
# صار كل من الناس يسمي مالا يبقى نفعه بالنسبة إلى ما يبقى عبثا وباطلا
~~ولعبا وباطلا، فالصبيان إذا لعبوا سمى الرجال العقلاء فعلهم لعبا وباطلا
~~وعبثا، وإن كان للصبيان فيه لذة ومنفعة حاضرة، لكنها لا تدوم وتبقى، بل إذا
~~فرغوا من اللعب احتاجوا إلى أمور لا PageV01P049
# تحصل باللعب. فكان من اشتغل بما يحصل له قوتا وكسبا ونحو ذلك من المقاصد
~~عندهم صاحب جد وحق، ليس بصاحب لعب وباطل، فإن هذا يبقى ويدوم وينفع أعظم من
~~ذاك؛ ومن كان عنده ms0009 أن الجاه والرئاسة والسلطان والملك أنفع وأبقى من المال،
~~كان عنده من اشتغل بتحصيل المال وأعرض عن ذلك صاحب لعب وباطل بالنسبة إلى
~~مطلوبه ومقصوده، فإن المال لا ينتفع به صاحبه إلا إذا أخرجه وأنفقه،
~~فمنفعته في إذهابه، بخلاف الجاه، فإنه كلما قوي وحصل كان الانتفاع به أكثر،
~~وصاحبه يمكنه أن يحصل به من المال مالا يمكن صاحب المال أن يحصل به من
~~الجاه، فلهذا كان هذا أعقل وأكيس وأبعد عن اللعب والباطل من ذاك.
# ثم إن صاحب الحق الذي قد علم أن الدنيا لا تدوم، فلا يدوم للإنسان فيها
~~لا جاه ولا مال، بل هذا وهذا يقول يوم القيامة: (ما أغنى عنى ماليه (28)
~~هلك عنى سلطانيه (29)) (1) . وقد روى الترمذي وغيره (2) عن كعب رضي الله
~~عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد
~~لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه". [قال] الترمذي: حديث حسن صحيح.
~~بين - صلى الله عليه وسلم - أن حرص المرء على المال والشرف والرئاسة يفسد
~~الدين مثل أو أبلغ من إفساد الذئبين الجائعين إذا أرسلا في زريبة غنم. وهذا
~~الحرص صفة تقوم بالنفس، والدين هو الذي يبقى ويدوم نفعه بعد الموت، فلو قدر
~~أن الإنسان طلب من PageV01P050
# المال والشرف مالا ينفعه بعد الموت، لكان صاحب باطل ولعب وعبث، فكيف إذا
~~طلب ماهو صار له بعد الموت يفسد ما ينفعه، كإفساد الذئبين الجائعين لزريبة
~~الغنم. ولهذا إنما جعل ذلك الحرص على المال والشرف، والحرص يوجب الشح، فإن
~~الشح أصله شدة الحرص.
# وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إياكم الشح،
~~فإن الشح أهلك من قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا،
~~وأمرهم بالقطيعة فقطعوا".
# ورئي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف وهو يقول: "رب قني شح نفسي، رب
~~قني شح نفسي"، فقيل له: ما أكثر ما تدعو بذلك! فقال: إذا وقيت الشح وقيت
~~البخل والظلم والقطيعة (2) .
# وذكر رجل لابن مسعود رضي الله عنه أنه يكره إخراج ms0010 المال، أفشحيح هو؟ فقال
~~ابن مسعود رضي الله عنه: ذلك البخيل، وبئس الشيء البخل، ولكن الشح أن تحب
~~أخذ مال أخيك (3) .
# ولهذا الشح كان أعظم من البخل، فإن البخيل يبخل بما عنده، والشح هو شدة
~~الحرص، فهو عمل على الحسد حتى يكره أن يعطي الله تعالى غيره من فضله، وعمل
~~على الظلم والقطيعة حتى يأخذ مال غيره بغير حق. ولهذا قال الله تعالى: (ولا
~~يجدون في صدورهم حاجة PageV01P051
# مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك
~~هم المفلحون (9)) (1) . فمدح الأنصار بأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما
~~أوتي المهاجرون، أي لا يجدون في أنفسهم طلبا لما أنعمه الله عليهم، بل
~~نفوسهم غنية، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى عن كثرة
~~العرض، وإنما الغنى غنى النفس" (2) . والحاسد والحريص أنفسهم فقيرة محتاجة
~~لا غنى فيها، فالحاسد شر من البخيل، والمحسن إلى الناس أفضل من المستغني
~~الذي لا يحسن. ولهذا جاء في الحديث (3) : "الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء
~~الماء النار، والحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".
# والحسد يكون على المال والجاه جميعا، كما قد يكون على الدين والعلم، قال
~~الله تعالى: "أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله فقد ءاتينا ءال
~~إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما (54)) (4) ، وقال تعالى: (ود
~~كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من
~~بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتى الله بأمره) (5) . وإذا أحب
~~أن يحصل له من الخير الذي حباه الله تعالى مثلما حصل لغيره من غير زوال تلك
~~النعمة عنه، فهذا غبطة، ويسمى حسدا لكنه حسن. كما في الصحيحين (6) عن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - أنه PageV01P052
# قال: "لا حسد إلا في اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها،
~~ورجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق". فإن هذا وهذا مما يحبها
~~الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسيجازى صاحبهما في الآخرة، فإذا ms0011 أحب
~~الرجل أن يكون له مثل ما لغيره من ذلك فهذا حسن، وهو من المنافسة التي رغب
~~فيها بقوله تعالى وتبارك: (وفى ذلك فليتنافس المتنافسون (26)) (1) . وأما
~~إذا تمنى زوال النعمة عنه فهذا مذموم معيب، وإن أحب أن يكون له مثلها من
~~المال والرئاسة من غير زوال لذلك عنه فهذا من جنس حب المال والرئاسة
~~ابتداء، فهو باطل وعبث ولعب، إلا ما ينتفع به في الآخرة، والحرص عليه يفسد
~~الدين كما تقدم. وقال شداد بن أوس رضي الله عنه (2) : يا بقايا العرب! إن
~~أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية. قيل لأبي داود السجستاني: ما
~~الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة. وقال سفيان الثوري رحمه الله: رأيناهم
~~يزهدون في الطعام والشراب واللباس، فإذا نوزع أحدهم الرئاسة ناطح نطاح
~~الكباش.
# فطلاب الرئاسة عند الذين يريدون ما أحبه الله ورسوله - صلى الله عليه
~~وسلم - أولى بالذم والنقص والعيب، من طلاب المال عند طلاب الرئاسة، حيث
~~أرادوا مالا يدوم نفسه ولا يبقى، بل يزول ويفنى، فطلبوا الباطل الذي يفنى،
~~وتركوا الحق الذي يبقى. وقد قال بعضهم: لو كانت الدنيا ذهبا يفنى، فكيف
~~والدنيا خزف يفنى، والآخرة ذهب يبقى!
# ولهذا قال السحرة لما آمنوا وتبين لهم الحق، وقال لهم فرعون PageV01P053
# (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا
~~أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا
~~فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا (72) إنا ءامنا بربنا ليغفر
~~لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73)) (1) .
# والمقصود هنا ذكر معنى الزوال، وقد تقدم أن لفظ "زال" يستعمل لازما تاما،
~~ويستعمل ناقصا من أخوات كان، وهو كثير، كقوله تعالى: (لا يزال بنيانهم الذي
~~بنوا ريبة في قلوبهم) (2) ، وقوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين (118) إلا من
~~رحم) (3) ، وقوله تعالى: (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم)
~~(4) . ويقال: "لم يزل كذلك"، كقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
~~(وكان الله عزيزا حكيما (158)) ، (سميعا بصيرا (58)) فكأنه ms0012 كان ثم مضى،
~~فقال ابن عباس رضي الله عنهما: (وكان الله غفورا رحيما (96)) تسمى بذلك،
~~وذلك قوله، أي: لم يزل كذلك. رواه البخاري في صحيحه (5) عنه. وكذلك قال
~~الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لم يزل الله عز وجل عالما متكلما غفورا.
# وقال رضي الله عنه أيضا: لم يزل متكلما إذا شاء. ذكره في رواية عبد الله
~~فيما كتبه في "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكت فيه من متشابه القرآن
~~وتأؤلته على غير تأويله" (6) . PageV01P054
# وهذا يقال فيه: ما زال، ولم يزل؛ والأول يقال فيه: زال يزول، ذاك بالواو،
~~وهذا بالألف، لأن معنى الواو أكمل، وذاك فعل تام يراد به لم يزل المذكور،
~~وهنا يراد به: لم يزل أو لا يزال على هذه الصفة وهذه الحال. فالمراد هناك
~~دوام نفسه وبقاؤها، والمراد هنا دوام صفته المذكورة وبقاؤها. ودوام نفسه
~~وبقاؤها من غير زوال ونقص يستلزم دوام صفات الكمال وبقاءها. وأما إذا قيل:
~~لم يزل كذلك، فقد يكون المذكور صفة نقص، كقوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين
~~(118)) (1) ، وقد يكون صفة كمال، وإذا كان صفة كمال فهو داخل في الأول.
# فلهذا كان اسمه "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كماله، ويتضمن
~~أنه لم يزل ولا يزال دائما باقيا أزليا أبديا موصوفا بصفات الكمال، من غير
~~حدوث نقص أو تغير بفساد واستحالة ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات،
~~فإنه سبحانه وتعالى "القيوم". ولهذا كان من تمام كونه قيوما لا يزول أنه لا
~~تأخذه سنة ولا نوم، فإن السنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما
~~من النقص بزوال كمال الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص
~~العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى
~~الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
~~أهل الجنة: أينامون؟ فقال: "لا، النوم أخو الموت" (2) . PageV01P055
# والنوم جعل للناس في الدنيا سباتا، كما قال تعالى (1) . جعل الليل لباسا
~~والنوم سباتا، ليسكن الإنسان فيه ويستريح بدنه ms0013 من الحركات التي لو دامت
~~عليه لأهلكته (2) ، ولهذا يغتذي الإنسان بالنوم لاحتياجه إليه، ويقوم من
~~نومه كأنه خلق جديدا. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ من
~~نومه يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور" (3) .
# والرب تبارك وتعالى منزه عن كل نقص، قال تعالى: (ولقد خلقنا السماوات
~~والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)) (4) ، وقال تعالى:
~~(وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم (255)) (5)
~~قالوا: لا يكرثه ولا يثقل عليه.
# وإذا كان القيوم الذي لا يزول فقد دخل في ذلك أنه لا يأفل، كما قال
~~الخليل - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحب الأفلين (76)) (6) ، فإنه من
~~المعلوم أن أفول الشمس والقمر والكواكب أبلغ في النقص من زواله إذا كان
~~الآفل غاب واحتجب، ولم يبق له في عابده فعل ولا نفع، ولا يمكن عابده أن
~~يوجه وجهه إليه، بخلاف زوال الشمس، فإنه فيه نقص لها وانخفاض وانحطاط عن
~~حال كمال ارتفاعها. والزوال بدء حصول الأفياء المزيلة لشعاعها، فإن الظل
~~يكون ممدودا قبل طلوعها، كما PageV01P056
# قال تعالى: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا
~~الشمس عليه دليلا (45) ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا (46)) (1) . فإذا طلعت
~~انبسط شعاعها على وجه الأرض، ونسخ الظل الذي يقع عليه، فنسخ الظلال الشرقية
~~كلها، ولا يزال ينسخ الغربية شيئا بعد شيء حتى تستوي الشمس، فيكون قد نسخ
~~الظلال الشرقية والغربية جميعا، وهذا غاية نسخ الشمس الظلال. فإذا زالت
~~انحطت وانخفضت، ففاءت الأفياء. والفيء اسم للظل الذي بعد الزوال، والظل يعم
~~ما قبله وما بعده، لأنه يفيء الفيء ويعود، فيعود الفيء إلى ناحية المشرق،
~~بعد أن كان قد نسخ عنها، ولا يزال الفيء يمتد ويطول كلما انخفضت الشمس إلى
~~أن تغرب، فيعود الظل ممدودا بأفولها، كما يكون ممدودا قبل طلوعها، فكان
~~أفولها غاية بطلان أثرها في ذلك الزوال، مبدأ ذلك بالأفول، كما نقصها الذي
~~ابتدأ من الزوال، وكأنه كمال زوالها. ولهذا فسر دلوكها بهذا وبهذا في ms0014 قوله
~~عز وجل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل) (2) ، فطائفة من السلف
~~قالوا: دلوكها غروبها، والتحقيق أن الزوال أول دلوكها، والغروب كمال
~~دلوكها، فمن حين الزوال إلى الغروب دالكة، كما هي زائلة بارحة، ولهذا سميت
~~"براح"، ويقال: دلكت براح. ولهذا قال تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى
~~غسق اليل) ، فالدلوك يتناول الظهر والعصر، وغسق الليل يتناول المغرب
~~والعشاء، وصلاة العشي (3) فيها مشترك عند الحاجة. وكذلك صلاة العشاء، فإن
~~ذلك كله دلوك، وهذا كله PageV01P057
# غسق، ولا يجوز تفويت صلاة غسق الليل إلى الفجر لدلوك الغسق
# الليل، كما لا يجوز تفويت صلاة الفجر إلى غسق الليل (1) . قال - صلى الله
~~عليه وسلم -
# في الحديث الصحيح: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" (2) .
# وقال أيضا - صلى الله عليه وسلم -: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله"
~~(3) . وهي
# الصلاة الوسطى، كما دل على ذلك الأحاديث الصحيحة (4) ، وهي
# بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.
# فالحي القيوم سبحانه وتعالى الذي لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل
# قد زال قطعا، واسم "القيوم" تضمن أنه لا يزول، ولا ينقص شيء
# من صفات كماله، ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم
# يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال. وهذا يتضمن كونه قديما،
# فالقيوم يتضمن معنى القديم، وزيادات صفات الكمال دوامها الذي
# لا يدل عليه لفظ القديم. ويتضمن أيضا كونه موجودا بنفسه، وهو
# معنى كونه واجب الوجود، فإن الموجود بغيره كان معدوما ثم وجد،
# وكل مفعول فهو محدث، وتقدير قديم أزلي مفعول كما يقوله بعض
# المتفلسفة باطل في صريح العقل، وهو خلاف ما عليه جماهير العقلاء
# المتقدمين والمتأخرين.
# فالقيوم الذي لم يزل ولا يزال لا يكون إلا موجودا بنفسه، PageV01P058
# والموجود بنفسه لا يكون إلا قديما واجب الوجود، فإن وجوده [لو] .
# لم يكن واجبا لكان ممكنا، يمكن وجوده ويمكن عدمه، وما أمكن وجوده وعدمه
~~لم يكن إلا محدثا كائنا بعد أن لم يكن. فليس هو القيوم الذي لا يزول، بل لم
~~يزل ولا يزال.
# ومن الناس من يطلق هنا ms0015 أنه لم يزل ولا يزال ولا يكون بغيره (1) ، وهذا إن
~~كان لغة فكونه موجودا بنفسه من معاني كونه قيوما، أو، إذا ما وجد بغيره ليس
~~هو قيوما، لحاجته إلى من يوجده ويقيمه، بل ليس له من القيومية بنفسه، إذ هو
~~دائما محتاج فقير إلى القيوم، وما كان موجودا بنفسه يمتنع أن يكون معدوما
~~تارة وموجودا أخرى، [وما] كان ممكنا محدثا لم يكن وجوده بنفسه، فإن ما
~~وجوده بنفسه وجوده ملازم له لا يكون معدوما قط، بل من تصورت نفسه تصور أنه
~~موجود، والمعدوم يتصور نفسه معدومة وموجودة أخرى، فليس الوجود ملازما لها.
# فقد تبين أن الوجود الواجب القديم وما يستلزم ذلك من صفات الكمال ودوام
~~ذلك وبقائه، كل ذلك يدخل في اسمه "القيوم"، واقترانه بالحي يستلزم سائر
~~صفات الكمال، ف
### | جميع صفات الكمال يدل عليها اسم "الحي القيوم"،
# ويدل أيضا على بقائها ودوامها وانتفاء النقص والعدم عنها أزلا. ولهذا كان
~~قوله سبحانه وتعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) أعظم آية في كتاب
~~الله عز وجل، كما ثبت ذلك في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
~~والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا
~~محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. PageV01P059
### | قاعدة جليلة
# في إثبات علو الله تعالى على جميع خلقه
# PageV01P061
# بسم الله الرحمن الرحيم
# قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية
~~رضي الله عنه:
# قاعدة جليلة بمقتضى النقل الصريح في إثبات علو الله تعالى الواجب له على
~~جميع خلقه فوق عرشه، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة والإجماع والعقل الصريح
~~الصحيح والفطرة الإنسانية الصحيحة الباقية على أصلها.
# وهي أن يقال: كان الله ولا شيء معه، ثم خلق العالم، فلا يخلو: إما أن
~~يكون خلقه في نفسه واتصل به، وهذا محال، لتعالي الله عز وجل عن مماسة
~~الأقذار والنجاسات والشياطين والاتصال بها.
# وإما أن يكون خلقه خارجا عنه ثم دخل فيه، وهذا محال أيضا، لتعالي الله عز
~~وجل عن الحلول ms0016 في المخلوقات. وهاتان الصورتان مما لا نزاع فيها بين
~~المسلمين.
# وإما أن يكون خلقه خارجا عن نفسه ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز
~~غيره، ولا يقبل الله منا ما يخالفه، بل حرم علينا ما يناقضه.
# وهذه الحجة هي من بعض حجج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، التي احتج
~~بها على الجهمية في زمن المحنة. ولهذا قال عبد الله بن المبارك فيما صح عنه
~~أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال:
# PageV01P063
# بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه (1) .
# وعلى ذلك انقضى إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وجميع الأئمة الذين لهم
~~في الأمة لسان صدق، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله.
# ومن ادعى أن العقل يعارض السمع ويخالفه فدعواه باطلة، لأن العقل الصريح
~~لا يتصور أن يخالف النقل الصحيح. وإنما المخالفون للكتاب والسنة والإجماع،
~~والمدعون حصول القواطع العقلية إنما معهم شبه المعقولات لا حقائقها، ومن
~~أراد تجربة ذلك وتحقيقه فعليه بالبراهين القاهرة والدلائل القاطعة التي هي
~~مقررة مسطورة في غير هذا الموضع (2) . والله أعلم.
# *** PageV01P064
### | فتوى فيمن يدعي أن ثم غوثا وأقطابا وأبدالا
# PageV01P065
# سئل شيخ الإسلام مفتي الأنام حبر الأمة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد
~~الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه، فيمن يدعي أن ثم غوثا
~~وأقطابا وأبدالا وأولياء، وأن بهم يستسقى الغيث وتنزل الرحمة ويكشف العذاب،
~~وإذا غضب الله على أحد من أهل الأرض وأراد أن ينزل غضبه، نظر إلى قلوب
~~هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلا رفعه، وكذلك الرحمة والنصر
~~والرزق، وأن الغوث بمكة مقيم. ومن يدعي أن هؤلاء المولهين والبهاليل الذين
~~لا يصلون، ولا يتوقون نجاسة ولا غيرها.
# فأجاب رضي الله عنه قائلا:
# الحمد لله رب العالمين. الذي دل عليه الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة
~~وخلفها الصالحون المتبعون للسلف -: أن لله تعالى أولياء، كما له أعداء،
~~وأولياء الله هم المنعوتون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف
~~عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا ms0017 يتقون (63) لهم البشرى في
~~الحياة الدنيا وفى الأخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64))
~~(1) .
# وفي صحيح البخاري (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب
~~إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى
~~أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره PageV01P067
# الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي
~~يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. لئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما
~~ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره
~~مساءته، ولابد له منه".
# فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أولياء الله أنه ما يقرب
~~العباد إليه بمثل أداء الفرائض، ثم ذكر أنه لا يزال العبد يتقرب إليه
~~بالنوافل بعد الفرائض، حتى يحبه، فيصير العبد يسمع بالله، ويبصر بالله،
~~ويبطش بالله، ويمشي بالله، فيصير سمعه وبصره ومشيه وبطشه بيده لرضا الله
~~ومحبته، فإنه لما في قلبه من محبة الله وموالاته وعبادته وطاعته، يصير قلبه
~~منيبا إلى الله، ويصير ممن هداه الله واجتباه، فيجتبي قلبه إليه، ويقذف من
~~نوره في قلبه، كما قال تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى
~~به في الناس) (1) ، وقال تعالى: (يآ أيها الذين آمنوا اتقوا الله وءامنوا
~~برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) (2) ، وقال تعالى:
~~(* الله نور السماوات والأرض مثل نوره) (3) قال محمد بن كعب: مثل نوره في
~~قلب المؤمن.
# وقال تعالى: (ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى
~~به من نشاء من عبادنا) (4) . فإذا جعل الله في قلبه من نوره صار بذلك النور
~~يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.
# و
### | أولياء الله نوعان:
# مقربون سابقون، ومقتصدون أبرار أصحاب PageV01P068
# يمين، كما ذكر الله هذين الصنفين في سورة الواقعة في أولها وفي آخرها،
~~فذكر تعالى أن الناس ثلاثة أصناف وقت القيامة الكبرى ms0018 ووقت الموت، فقال
~~تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8)
~~وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10)) (1) .
# وكذلك قال في آخر السورة: (فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان
~~وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين
~~(91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم
~~(94)) (2) .
# وكذلك ذكر الأصناف الثلاثة في سورة هل أتى على الإنسان، وفي سورة
~~المطففين. وقد ذكر في سورة فاطر تقسيم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى
~~ثلاثة أصناف في قوله: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم
~~ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) (3) ، فالظالم لنفسه: هو
~~المفرط بترك المأمور أو فعل المحظور، والمقتصد (4) : المؤدي للفرائض،
~~المجتنب للمحارم، والسابق بالخيرات: المؤدي للواجب والمستحب، والتارك
~~للمحرم والمكروه.
# وأولياء الله المتقون
### | لهم كرامات يكرمهم الله بها،
# فخواص أولياء الله المتبعون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يكون كراماتهم
~~إما لحجة في الدين، أو لحاجة للمسلمين، كما كانت معجزات الرسول - صلى الله
~~عليه وسلم - كذلك، فهم يتقربون إلى الله بما يكرمهم به من الخوارق، ويعبدون
~~الله بها، ويزدادون بها قربا إلى الله، لا يطلبون بها علوا في الأرض ولا
~~فسادا. PageV01P069
# وقد كان كثير من السلف يسمي من يسمي من هؤلاء الأبدال، وقد قيل في معنى
~~الأبدال (1) : إنهم الذين بدلوا السيئات بالحسنات، كما قال تعالى: (إلا من
~~تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) (2) . ولا ريب
~~أن الصالحين من عباد الله لهم سبب في الرزق والنصر، كما قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص: "يا سعد، وهل تنصرون وترزقون إلا
~~بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . فهذا ونحوه حق جاء به الكتاب
~~والسنة، ولا وصول للخلق إلى رضوان الله وكرامته إلا بالإيمان برسله
~~وطاعتهم، فهم الوسائط والسفراء بين الله وبين خلقه، والأنبياء صلوات الله
~~عليهم وسلامه أفضل الخلق، فمن ظن أنه يصل إلى رضوان الله وكرامته بدون
~~اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو لأحد ms0019 من الخلق طريق إلى رضوان الله
~~وكرامته غير اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو كافر ملحد. ومن ادعى
~~أن أحدا من أولياء الله الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -
~~يصل إلى رضوان الله وكرامته بغير كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله
~~عليه وسلم - فهو ملحد ضال مفتر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا. بل محمد -
~~صلى الله عليه وسلم - رسول الله إلى جميع الخلق الثقلين إنسهم وجنهم، وهو
~~رسول الله إلى جميع الإنس: أسودهم وأحمرهم، وعربهم وعجمهم.
# فأولياء الله المتقون هم العالمون العاملون بما بعث الله به محمدا - صلى
~~الله عليه وسلم -، ولا يكون لله ولي إلا من يتبع محمدا، ومن لم يتبع محمدا
~~فهو PageV01P070
# عدو الله، لا ولي له، وإن كان مع ذلك له أحوال شيطانية، يحصل له بها
~~مكاشفة وتصرف يعين بذلك أعداء محمد ويخفرهم، فهم من أعداء الله الملاعين،
~~لا من أوليائه المتقين. وهو من جنس السحرة والكهان الذين كانت الشياطين
~~تخبرهم ببعض المغيبات، وتساعدهم على بعض مطالبهم، وهؤلاء من أعداء الله
~~المجرمين، لا من أوليائه المتقين، بل هم كفار يجب قتلهم، بل يقتلون بلا
~~استتابة عند كثير من علماء المسلمين.
# وأما أن يكون في العالم أحد من البشر لا ينزل الله رزقا أو نصرا أو هدى
~~إلا بواسطته، فهذا من أقوال المفترين الملحدين، وهو من جنس قول النصارى،
~~إما في المسيح، وإما في الباب. بل الناس يدعون الله، فيجيب دعاءهم، ويسمع
~~كلامهم. والمشركون كانوا يدعون الله إذا اضطروا، فيجيب دعاءهم، فكيف
~~بالمؤمنين!
# وليس أحد من الخلق يكون هو الذي يرفع دعاء العباد كلهم إلى الله سبحانه
~~وتعالى، ولا لعباد الله الصالحين وأوليائه المتقين عدد معين، لا أربعة ولا
~~سبعة ولا اثنا عشر ولا أربعون ولا ثلاث مئة وثلاثة عشر، بل يكثرون تارة
~~ويقلون أخرى. وقد كان حين بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أول
~~الأمر كانوا من أقل الناس، ثم إنه بعد هذا انتشر الإيمان.
# وقد أغرق الله أهل الأرض ms0020 في زمن نوح عليه السلام إلا من آمن معه، وما آمن
~~معه إلا قليل.
# وفي الحديث الصحيح (1) أن الخليل عليه السلام قال لسارة لما طلبها
~~الكافر، وكان يأخذ امرأة الرجل إذا أعجبته، فقال الخليل لها: إذا سألك
~~PageV01P071
# فقولي إنك أختي، فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك.
# وقول القائل: إن الله إذا غضب على أحد من أهل الأرض وأراد أن ينزل به
~~العذاب، نظر إلى قلوب هؤلاء المذكورين، فإن وجدهم راضين بإنزال العذاب على
~~الذي قد استحقه أنزله، وإن لم يجدهم راضين بذلك رفعه- كذب مفترى، بل قد
~~أنزل الله العذاب على قوم لوط مع مجادلة إبراهيم الخليل عنهم. قال تعالى:
~~(فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن
~~إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك
~~وإنهم ءاتيهم عذاب غير مردود (76)) (1) .
# وقال تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - لما استغفر للمنافقين: (سوآء
~~عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (2) .
# ومحمد وإبراهيم أفضلا الخلق، هذا خليل الله، وهذا خليل الله.
# والخليل إبراهيم استغفر لأبيه. ثم لما مات أبو طالب قال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "لأستغفرن لك مالم أنه عنك" (3) ، فانزل الله تعالى: (ما كان
~~للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما
~~تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (4) . فقال بعض المسلمين: إن إبراهيم قد
~~استغفر لأبيه، فأنزل الله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن
~~موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) (5) . PageV01P072
# وقد ثبت (1) أنه يوم القيامة يراجع الناس الشفاعة، فيأتون إلى آدم ليشفع
~~لهم، فيردهم إلى نوح، ويردهم نوح إلى إبراهيم، ويردهم إبراهيم إلى موسى،
~~ويردهم موسى إلى عيسى، ويردهم عيسى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى
~~سائر النبيين وال كل وسائر الصالحين، فإذا أتوا محمدا أفضل الشفعاء وأعظم
~~الخلق جاها عند الله قال: "فآتي ربي، فإذا رأيته خررت له ساجدا، وأحمد ربي ms0021
~~بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع،
~~وسل تعطه، واشفع تشفع". فلا يشفع حتى يأذن الله له في الشفاعة، كما قال
~~تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) ، وقال تعالى: (ولا تنفع
~~الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (3) .
# فإذا كان أفضل الخلق لا يشفع في أحد إلا بإذن الله عز وجل، فكيف يقال: إن
~~الله لا يعذب أحدا إلا إذا رضي هؤلاء أن يعذبهم؟
# ومعلوم أن العبد عليه أن يتبع رضا الله عز وجل، فيفعل ما أمر، ويرضى بما
~~قدر. وأما الرب عز وجل إذا أراد أن يهلك أعداءه هل يشاور أحدا، أو يتوقف
~~فعله على رضا أحد من عباده؟ بل هؤلاء العباد إن كانوا راضين بما أمرهم أن
~~يرضوا به، وإلا وجبت التوبة عليهم. إلا ترى أن الله تعالى لما أغرق أهل
~~الأرض، وأغرق فيهم ابن نوح الذي قال له نوح: (يا بنى اركب معنا ولا تكن مع
~~الكافرين (42) قال سآوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر
~~الله إلا من PageV01P073
# رحم) (1) . وبعد هذا دعا نوح ربه فقال: (رب إن ابنى من أهلى
# وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)) (2) ، قال الله: (يا نوح إنه ليس من
# أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم) (3) . فإذا كان الله
~~لما
# استحق ابن نوح الهلاك أهلكه، وسأل نوح فيه فعاتب الله نوحا على
# سؤاله، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فكيف يقال: إنه
# لا يعذب أحدا إلا برضا طائفة من عباده؟ فهل يكون أحد أفضل من أولي العزم:
~~نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم ومحمد؟
# وقد (اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو
~~شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هى إلا فتنتك) أي
~~محنتك واختبارك (تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فأغفر لنا
~~وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة ms0022 ... ) (4)
~~الآية.
# وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن
~~يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض
~~جميعا) (5) .
# فهذا حال الرسل مع الله يرد على من يغلو فيهم، فكيف يقال: إن له عبادا لا
~~يعذب أحدا إلا برضاهم؟ بل يقال: هؤلاء العباد لو أراد أن يهلكهم فمن يملك
~~دفع بأس الله عنهم؟ وهؤلاء العباد عليهم PageV01P074
# أن يتوبوا إلى الله ويستغفروه، ففي صحيح البخاري (1) عن أبي هريرة عن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في
~~اليوم أكثر من سبعين مرة".
# وفي صحيح مسلم (2) عن الأغر المزني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم مئة مرة".
# وقال - صلى الله عليه وسلم - (3) : "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر
~~الله في اليوم سبعين مرة".
# وثبت عنه في الصحيحين (4) أنه كان يقول: "اللهم اغفر لي هزلي وجدي، وخطئي
~~وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما
~~أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت".
# وهذا وأمثاله في دعاء الأنبياء وتضرعهم واستغفارهم وتوبتهم كثير في
~~الكتاب والسنة، وهم يسألون الله رحمته لهم ولغيرهم، ويستعيذون بالله من
~~عذابه أن ينزل بهم أو بمن يطلبون دفعه عنهم، فكيف يكون تعذيب رب العالمين
~~لمن شاء تعذيبه لا يكون إلا برضا بعض الناس؟.
# لكن قد ثبت في الصحيحين (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر عليه
~~بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال: "وجبت"، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها
~~PageV01P075
# شرا، فقال: "وجبت"، قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت:
# وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت: وجبت لها
# النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
# وفي المسند (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشك أن
~~تعلموا أهل
# الجنة من أهل النار"، قيل: بم يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن
# والثناء السيىء".
# ف
### | أولياء الله ms0023 المتقون هم شهداء الله في الأرض،
# بما جعله الله من
# النور في قلوبهم، فمن أثنوا عليه خيرا كان من أهل الخير، ومن أثنوا
# عليه شرا كان من أهل الشر. وأيضا فقد يدعون الله لمن يحبونه، فينفعه الله
~~بدعائهم، ويدعون على غيره، فيتضرر بدعائهم.
# والملائكة يؤيد الله بهم عباده المؤمنين، كما قال تعالى: (ثم أنزل الله
~~سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) (2) ، وقال: (إذ
~~يوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا) (3) . وقال: (فأرسلنا
~~عليهم ريحا وجنودا لم تروها) (4) . وقال
### | ....
# (5) .
# وأما حزب الشيطان فيعاونهم الشياطين شياطين الإنس والجن، كما قال تعالى:
~~(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم PageV01P076
# من الناس وإنى جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إنى برئ
~~منكم) (1) .
### | ....
# (2) .
# فصل
# ولفظ الغوث والقطب في حق البشر لم ينطق به كتاب ولا سنة، ولا تكلم به أحد
~~من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذا المعنى، بل غياث المستغيثين على
~~الإطلاق هو الله تعالى، كما قال: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم) (3) .
# ولم يجعل الله أحدا من الخلق غوثا يغيث الخلق في كل ما يستغيثونه فيه، لا
~~ملك ولا نبي ولا غيرهما. بل في الصحيحين (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- قال: "لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، فيقول:
~~يا رسول الله أغثني أغثني، فأقول: لا أملك لك من الله شيئا. يا عباس عم قد
~~أبلغتك".
# وهذا كقوله (5) : "يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا؛ يا عباس
~~عم رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا؛ يا صفيه عمة رسول الله، لا أغني
~~عنك من الله شيئا، سلوني ما شئتم". وهذا من تأويل قوله: (وأنذر عشيرتك
~~الأقربين (214)) (6) . PageV01P077
# وقد يكون بعض الناس سببا لشر يندفع في بعض الأمور، فيقال: فلان يستغيث
~~بفلان، كما قال تعالى: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) (1) .
~~هذا كلفظ النصر والرزق والهدى، فالله هو الهادي النصير الرازق، وليس هذا
~~النعت ms0024 على الإطلاق لأحد إلا لله وحده، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل. لكن من
~~الخلق من يكون سببا في رزق أو هدى أو نصر يحصل لغيره، وهو في ذلك سبب، لا
~~يستقل بالحكم، بل لابد معه من أسباب أخر، ولابد من موانع يدفعها الله، وإلا
~~لم يحصل المطلوب. وأما أن يكون بشر أو ملك يغيث الخلق في كل ما يستغيثون
~~فيه بالله، فمن ادعى هذا فهو أكفر من النصارى من بعض الوجوه، فإن أولئك
~~قالوا: إن الله هو الذي يغيث، لكن زعموا أنه اتحد أو حل في المسيح، وهذا
~~جعل بعض المخلوقات يفعل ما يفعله الخالق. ومن زعم أن ثم غوثا يكون على يديه
~~ما ينزله الله من هدى ونصر ورزق، فقد افترى على الله، ليس ما ينزله الله في
~~ذلك على عباده لشخص واحد.
# ومن ضلال بعض هؤلاء أنهم يجعلون الغوث مقيما بمكة دائما.
# فيقال لهم: من هذا الغوث الذي كان غياث الخلق على عهد رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، ولم يكن أحد منهم مقيما بمكة؟ ومن كان
~~بمكة من هو أفضل من الرسول وخلفائه؟ وهؤلاء من جنس قول الإفرنج في "الباب"،
~~فإنهم يدعون فيه نحوا من ذلك.
# وأما لفظ "القطب"، فما دار عليه أمر من الأمور قيل: إنه قطبه، كقطب الرحا
~~وقطب الفلك. فمن كانت له مرتبة من إمارة أو علم أو PageV01P078
# دين فهو قطب تلك الأمور التي دارت عليه، فالملك قطب الملك، والوالي قطب
~~الولاية، ونحو ذلك. وقطب الدين الذي يؤخذ عنه ولا يزاحمه أحد هو محمد - صلى
~~الله عليه وسلم -، ومن الصالحين من يجري الله على يديه من الخير ما يكون
~~قطب أمته.
# وأما أن يكون للوجود قطب يدور عليه أمره، به ينزل المطر مطلقا، وبه يحصل
~~الهدى مطلقا، وبه يحصل النصر مطلقا، فهذا لا يكون لمخلوق البتة، ولكن قد
~~يكون من المخلوقين من يحصل به ما يحصل من نصر ورزق وهدى، كما قال النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -: "وهل تنصرون وترزقون إلا ms0025 بضعفائكم، بدعائهم وإخلاصهم
~~وصلاتهم؟ " (1) .
# ومن كان تاركا للصلاة مع قدرته على الصلاة فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا
~~قتل، وليس في هؤلاء من هو ولي لله، بل فيهم من معه شياطين توحي إليه
~~بأشياء، وتعاونه بأشياء، فيخبرون ببعض الأمور الغائبة كما كانت الكهان
~~تخبر، ويتصرفون في بعض الأمور بشياطينهم من جنس تصرف السحرة، فتارة يقتلون
~~الرجل، وتارة يمرضونه، إلى أمور أخرى من جنس الحوادث، فيظن من لا يعرف
~~حقيقة أمرهم أنهم أولياء الله وأن هذه كرامات، وقد يكون في هؤلاء من هو
~~كافر بالله. ومن هؤلاء من يصلي، ويكون له ذنوب كبائر يكون بها فاسقا، وله
~~شياطين تعينه. وطائفة ثالثة خير من هؤلاء، وهؤلاء فيهم خير ودين، وفيهم قلة
~~معرفة بأمر الله ونهيه، يقترن بهم جن من جنسهم، فتارة يطيرون بهم في
~~الهواء، فيذهبون بهم إلى مكة، ويقفون بعرفات من غير أن يحجوا الحج الذي أمر
~~الله به ورسوله، فلا يحرمون، ولا PageV01P079
# يلبون، ولا يجتنبون محظورات الإحرام، ولا يقيمون بمزدلفة، ولا يطوفون
~~بالبيت، بل يحملون في الهواء فيقفون بعرفات، ثم يحملون فيصبحون في بلدهم.
~~وهذا من تلاعب الشياطين بهم.
# ومن ظن هذا من كرامات أولياء الله فهو جاهل، فإن هذا عمل محرم، ليس مما
~~أمر الله به ورسوله، فلا يحل لأحد أن يذهب إلى عرفات، فيقف مع الناس
~~بثيابه، من غير أن يحج الحج الذي أمر الله به ورسوله. بل قد روي أن عمر بن
~~الخطاب رأى بعرفات ناسا عليهم الثياب، فأراد أن يعاقبهم عقوبة بليغة.
# والقلم لم يرفع إلا عن المجنون، وليس كل من رفع عنه القلم يكون وليا لله،
~~بل من المجانين من يكون يهوديا ونصرانيا ومشركا، فلا يكون وليا لله وإن رفع
~~عنه القلم، بخلاف من كان مؤمنا بالله وبرسوله وله صلاح ودين، فأصابه خلط
~~أفسد مزاجه، فهذا إذا غاب عقله رفع عنه القلم، وإذا صحا (1) تكلم بكلام أهل
~~الإيمان، و [له] قلب يحب الله ورسوله ويحب ما أحبه الله ورسوله.
# وأما من اقترنت به الشياطين، وغيبت عقله ms0026 في بعض الأحوال، فهذا قد يتكلم
~~الشياطين على لسانه بالإثم والعدوان، ويبغض إليه ما يحبه الله من الطهارة
~~والصلاة والقرآن، ويحبب إليه ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان. ومن
~~علامات هؤلاء أنه لا يحصل لهم الخوارق عند أفعال الخير التي يحبها الله
~~ورسوله، كالصلاة والقراءة والذكر والدعاء وقيام الليل، بل إنما يحصل إذا
~~أشركوا بالله، فاستغاثوا ببعض المخلوقين، أو عاشروا النسوان والمردان
~~معاشرة قبيحة، أو PageV01P080
# حضروا سماع المكاء والتصدية، وإذا اجتمعت المحرمات كانت أحوالهم أقوى.
~~فهذا مما يبين أنهم من حزب الشياطين وأوليائه، لا من حزب الرحمن وأوليائه،
~~قال تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم
~~ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بينى
~~وبينك بعد المشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في
~~العذاب مشتركون (39)) (1) .
# وأما الذين يسمونهم (2) الناس رجال الغيب، كالذين يظهرون بالأماكن التي
~~ليس فيها جمعة ولا جماعة ولا آثار الرسالة، بل يظهرون في الأماكن التي
~~ينفرد بها بعض الناس عن الجمعة والجماعة، إما جبل من الجبال، كجبل لبنان
~~وجبل الفتح وجبل الأحبس وغير ذلك من الجبال، وإما مغارة من المغارات،
~~كمغارة الدم، وإما غيرها، وإما غير ذلك من المواضع التي لم يأمر الله
~~ورسوله بقصدها للعبادة، وإنما يقصدها الجهال. فهؤلاء هم من الجن والشياطين،
~~وقد سماهم الله رجالا، كما قال: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من
~~الجن فزادوهم رهقا (6)) (3) . والكلام على هؤلاء وتفصيل أحوالهم وما عرفناه
~~من هذه الأمور يطول (4) ، وهذا مقدار ما وسعته هذه الورقة.
# تمت هذه الورقات [من] الجواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
~~سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. PageV01P081
### | فصل في أولياء الله وأولياء الشيطان
# PageV01P083
# بسم الله الرحمن الرحيم
# وبه الإعانة
# الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز
~~عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)) (1) .
# وقال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم
~~يتلوا عليهم ms0027 ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (2) .
# وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك
~~السماوات والأرض لا إله إلا هو يحى ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي
~~الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)) (3) .
# وقال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين
~~آمنوا وكانوا يتقون (63)) (4) .
# فمن كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، من أي صنف كان.
# وفي الصحيحين (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أوليائي
~~المتقون PageV01P085
# حيث كانوا ومن كانوا".
# وفي صحيح البخاري (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يقول
~~الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل
~~أداء ما افترضت عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا
~~أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،
~~ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي. ولئن سألني
~~لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض
~~نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه".
# فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
### | أولياء الله نوعان:
# المقربون السابقون، والأبرار أصحاب اليمين، هم الذين تقربوا إليه
~~بالنوافل بعد الفرائض.
# والآخرون هم المؤدون للفرائض المجتنبون للمحارم، كما قال تعالى: (ثم
~~أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم
~~سابق بالخيرات) (2) . فالظالم لنفسه: هو صاحب الذنوب والخطايا؛ والمقتصد:
~~هو الذي يفعل ما فرضه الله عليه ويترك ما حرمه الله عليه؛ والسابق
~~بالخيرات: هو الذي لا يزال يتقرب إلى الله بما يقدر عليه من النوافل بعد
~~الفرائض. وهؤلاء هم المتبعون لخاتم المرسلين وإمام المتقين وأفضل خلق الله
~~أجمعين محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما، الذي بعثه الله إلى الناس
~~بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فهدى به من الضلالة،
~~وأرشد به من الغواية، وفتح به PageV01P086
# أعينا عميا وآذانا صما ms0028 وقلوبا غلفا، حين فرق الله به [بين] الحق والباطل،
~~وبين المعروف والمنكر، وبين الخير والشر، وبين طريق الجنة وطريق النار،
~~وبين أولياء الله وأعداء الله.
# فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والطريق إلى الله هو
~~طاعة أمره، فلا طريق إلى الله إلا متابعة رسول الله.
# قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم
~~ذنوبكم) (1) .
# وقال تعالى: (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذي له ما في
~~السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)) (2) .
# وقد بعث الله محمدا بشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، فقال - صلى الله عليه
~~وسلم -: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول
~~الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت" (3) .
# وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه
~~ورسله والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره". وقال: "الإحسان أن تعبد
~~الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4) .
# فقد بين شرائع الإسلام وحقائق الإيمان، فكل من دعا إلى شريعة أو حقيقة
~~تخالف ما بعثه الله به فهو ضال من إخوان الشياطين، خارج PageV01P087
# عن طريق الله ودين المرسلين، ليس من أولياء الله المتقين ولا حزب الله
~~المفلحين ولا عباده الصالحين.
# وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في
~~خطبته: "إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور
~~محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
# وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة
~~بليغة ذرفت منها الأعين، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله!
# كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع والطاعة،
~~فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كبيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
~~الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم
~~ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح.
# ف
### | من سلك مسلك المبتدعين الضالين لم يكن من ms0029 أولياء الله
# المتقين وحزبه المفلحين وعباده الصالحين، مثل الذين يظهرون الإشارات
~~الشيطانية، كإشارة الدم والسكر والنيل واللادن وماء الورد والزعفران،
~~وملابسة النيران، فحين يلبسهم الشيطان قد يزيد أحدهم، ويتكلم الشيطان على
~~لسانه كما يتكلم الجن على لسان المصروع، وإذا أفاق من سكره لم يعرف ما تكلم
~~به الشيطان على لسانه، كما لا يعرف المصروع إذا أفاق ما تكلم به الشيطان
~~على لسانه، ومثل أكل الحيات والعقارب والزنابير، وأكل آذان الكلاب والحمير،
~~وغير ذلك PageV01P088
# من الخبائث التي يأكلونها، والمنكرات التي يفعلونها، مثل الرقص على
~~الغناء والمزامير، ورفع الأصوات بالخوار كما يخور الثور، وقد قال تعالى:
~~(واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (19)) (1) .
~~وهؤلاء الضلال الغواة حزب الشيطان لا يقصدون في مشيهم، ولا يغضون من
~~أصواتهم، بل يرفعون الأصوات المنكرات، ويرقصون كرقص الدباب ونحوها من
~~الحيوانات، ويعرضون عن كتاب الله وسنة رسوله، فلا يرغبون في سماع كلام الله
~~وكلام رسوله وكلام الصحابة كما يرغبون في سماع مزامير الشيطان، بل سماع
~~مزامير الشيطان أحب إليهم من سماع كلام الملك الرحمن.
# وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدا
~~منهم أن يقرأ، والباقي (2) يستمعون، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى
~~الأشعري: يا أبا موسى! ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون.
# ومر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فقال:
~~"مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع لقراءتك"، فقال: يا رسول الله!
# لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا (3) .
# وسماع القرآن هو سماع النبيين والمؤمنين والعالمين والعارفين، كما بين
~~الله ذلك في كتابه، قال تعالى: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من
~~ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا
~~PageV01P089
# إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)) (1) .
# وقال تعالى: (* وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع
~~مما عرفوا من الحق) (2) .
# وقال تعالى: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم ms0030 يخرون للأذقان
~~سجدا (107) ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون
~~للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109)) (3) .
# وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود
~~الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (4) .
# وقال: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) (5) .
# وأما اتخاذ التصفيق والغناء والمزامير قربة وطاعة وطريقا إلى الله، فهذا
~~من جنس دين المشركين الذين قال الله فيهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا
~~مكاء وتصدية) (6) . والمكاء: هو التصويت بالفم، كالصفير والغناء، والتصدية:
~~التصفيق باليد. فذم الله هؤلاء المشركين الذين يجعلون هذا قائما مقام
~~الصلاة.
# وأهل البدع والضلالة أتباع الشيطان يحبون السماع بالدف والكف أكثر مما
~~يحبون سماع القرآن، ويرون ذلك طريقا لهم يقدمونه على PageV01P090
# استماع القرآن، [و] يختارون سماع أبيات الشيطان على سماع آيات الرحمن.
~~وقد قال عبد الله بن مسعود (1) : الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت
~~الماء البقل، والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل.
# ولهذا كان هؤلاء المبتدعون الضالون أتباع الشيطان لا تأتيهم الإشارات
~~الشيطانية إلا عند الباع التي لم يشرعها الله ولم يأذن بها، مثل اجتماعهم
~~على سماع أبيات الشيطان ومزاميره، لاسيما إذا كان هناك جيران من الصبيان
~~وأخواتهم من النسوان، فهنالك يكون أظهر لحال الشيطان.
# سمعوا القران فاطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاه
# أما الغناء فكالحمير تناهقوا والله مارقصوا من أجل الله
# دف ومزمار ونغمة شاهد فمتى رأيت عبادة بملاهي
# يا أمة ما ضر دين محمد وجنى عليه ومن له إلا هي
# وأيضا فهم يشركون بالرحمن، فيستغيثون بالمخلوق الميت والغائب، يرجونه
~~ويخافونه ويدعونه، وهو لا يسمع كلامهم ولا يرى مكانهم، ولكن الشياطين قد
~~تخاطبهم وقد تتمثل في صورته، فيظنونه أن ذلك هو المسيح المستغاث به، وإنما
~~هو شيطان تمثل لهؤلاء المشركين، كما تتمثل الشياطين للنصارى في صورة من
~~يستغيثون به مثل جرجس وغيره، مثل ما تدخل الشياطين في الأصنام، وتكلم
~~عابديها أحيانا، مثل ما كان يجري للمشركين من العرب، ومثل ما يجري للمشركين ms0031
~~من الترك والهند وغيرهم. فإذا حضر أولياء الله المتقون وحزبه PageV01P091
# المفلحون وجنده الغالبون، فذكروا الرحمن وقرأوا آية الكرسي ونحوها من
~~آيات القرآن نزلت الملائكة، فطردت الشياطين، وبطلت أحوالهم. كما قال النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب
~~الله ويتدارسونه إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وحفتهم
~~الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" (1) . و"من قرأ آية الكرسي إذا أوى إلى
~~فراشه لم يزل عليه من الله حافظ، لا يقربه شيطان حتى يصبح" (2) . كما صدق
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخبر بذلك.
# وهؤلاء المبتدعون الضالون يجب على كل قادر أن ينهاهم عن هذه البدع
~~المضلة، ويذم من يفعلها، فإن لم ينته وإلا عاقبه بما يستحقه شرعا، وأقل ذلك
~~أن يهجرهم، فلا يقربهم ولا يعاشرهم حتى يتوبوا، ويتبعوا الكتاب والسنة
~~والطريق التي بعث الله بها رسوله، ولا يعطون من الزكاة حتى يتوبوا، فإن
~~الزكاة جعلها الله رزقا لمن يعبده ويطيعه ويطيع رسوله من عباده المؤمنين،
~~فلا يعان بها أهل البدع الضالين الذين يضلون الناس عن سبيل الله، ويدعونهم
~~إلى خلاف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
# والحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه على سيد المرسلين محمد وآله
~~وصحبه أجمعين، كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون، وسلم تسليما
~~كثيرا. والله الموفق للصواب.
# (تمت الرسالة بحمد الله وعونه لشيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبي
~~العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه،
~~وجعل الجنة منقلبه ومثواه) . PageV01P092
### | مسألة عن الأحوال وأرباب الأحوال
# PageV01P093
# مسألة
# عن الأحوال وأرباب الأحوال، هل هم قسمان: أولياء لله تعالى أحوالهم
~~ربانية؛ وأولياء للشيطان أحوالهم شيطانية؟ وإذا كان كذلك فما الفرق بين
~~هؤلاء وهؤلاء؟ فإن جماعة من الناس انحرفوا، حتى أنكروا كرامات الأولياء،
~~وآخرين اعتقدوا كل خارق دليل (1) على الولاية الرحمانية.
# أجاب الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد
~~السلام ابن تيمية - أيده الله ووفقه لما يرتضيه بمنه وكرمه ms0032 -:
# الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة من أعظم المسائل التي يحتاج إليها
~~جميع الناس، فإنه من لم يفرق بين الخوارق التي تكون آيات وبراهين ومعجزات
~~للأنبياء، وتكون مما يكرم الله به الأولياء؛ وبين الخوارق التي تكون للسحرة
~~والكهان وغيرهم من حزب الشيطان، وإلا (2) اشتبه عليه الأنبياء وأتباعهم
~~أولياء الله المتقون بالمنتسبين الكذابين وشبههم الكذابين الضالين.
# ولهذا اضطرب في هذا الأصل كثير من أهل النظر والكلام في أصول الدين
~~والعلوم الإلهية، ومن أهل العبادة والزهد والفقراء والصوفية. وأما اشتباه
~~ذلك على عموم الناس ومن شدا طرفا من العلم أو كان له حظ من العبادة، فأعظم
~~من أن يوصف. PageV01P095
# والله سبحانه بعث رسوله وأنزل كتابه لبيان الفرق بين هذا وهذا، وختمهم
~~بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل رسول بعثه بأفضل كتاب إلى أفضل أمة
~~بأفضل شريعة، فرق الله به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والغي
~~والرشاد، وأولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وجند الله المفلحين وحزب إبليس
~~اللعين. وقد بسط الكلام عليه [في] غير هذا الموضع، مثل "بيان الفرقان بين
~~أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لأجل سؤال من سأل عن ذلك من أهل الملك
~~والعلم والدين.
# فمن أنكر كرامات أولياء الله المتقين فهو من أهل البدع الضالين، كمن أنكر
~~ذلك من المعتزلة وغيرهم، ولهذا كان أفضل متأخريهم أبو الحسين البصري مقرا
~~بكرامات أولياء الله المتقين، وإن كان بعض أهل الإثبات -كأبي إسحاق
~~الإسفرايني- وافق المعتزلة على إنكار الكرامات. فإنكار كرامات أولياء الله
~~المتقين قول مبتدع في الإسلام، مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف الماضين
~~وأئمة الدين، بل من أنكر خوارق أهل السحر وأتباع الشياطين فهو من أهل البدع
~~الضالين، كما أنكر طائفة من الفلاسفة والأطباء وجود الجن، وأنكر كثير من
~~المعتزلة أن يدخلوا في الإنسان ويصرعوه ويتكلموا على لسانه. فكلا القولين
~~من الأقوال الباطلة المخالفة للكتاب والسنة وأقوال الأئمة، بل من المخالف
~~لصحيح المنقول وصريح المعقول، وإن كان إنكار الجن كفر ظاهر (1) ، فكثير ما
~~في الكتاب والسنة من ذكرهم، بخلاف دخولهم في الإنسان فإنه أخفى، ولهذا ms0033 كان
~~إنكار الثاني بدعة وإنكار الأول إلحادا ظاهرا. PageV01P096
# والمقصود [أن] من أنكر خوارق العادات مطلقا للأنبياء وغيرهم فهذا كافر
~~باتفاق أهل الملل، وكذلك إن جعل ذلك من قوى النفس، كما يقوله ابن سينا
~~وأمثاله من المتفلسفة، فهؤلاء ملحدون باتفاق أهل الملل، وقد بسط الكلام على
~~هؤلاء في مجلد كبير يسمى "الصفدية" وغيرها.
# ومن قال إن العادات لا تخرق إلا للأنبياء، وأنكر الكرامات والسحر الخارق
~~للعادة، فهو من أهل البدع الخارجين عن الجماعة كأكثر المعتزلة. وكذلك من
~~قال: إنها لا تخرق إلا للأنبياء والأولياء، وجعل يستدل بمجرد خرق العادة
~~على أن من خرقت له العادة كان وليا لله، وإن كان مخالفا للكتاب والسنة.
~~فهؤلاء ضالون، وهم شر من المعتزلة، وهم من جنس أتباع الدجال وأتباع مسيلمة
~~الكذاب والأسود العنسي وغيرهم من الكذابين.
# ولهذا اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء
~~لم يعتبر حتى ينظر متابعته لأمر الله ونهيه. فإن هؤلاء يستلزم أقوالهم أن
~~يجعلوا كثيرا من المشركين وأهل الكتاب - اليهود والنصارى - من أولياء الله
~~المتقين، فإن لهؤلاء خوارق كثيرة، فمن أنكر وجودها كان كمن أنكر خوارق
~~الأولياء وأنكر السحر والكهانة، ومن أقر بوجودها وجعلها دليلا على أن
~~صاحبها ولي لله فهو جعل خوارق السحرة والكهان دليلا على أنهم أنبياء
~~وأولياء الرحمن، وكلا القولين يوجب الخروج عن دين الإسلام، والخروج من
~~النور إلى الظلام. بل يجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء بما بينه الله من
~~الآيات والبراهين، وبما بعث به سيد المرسلين، فيعلم أن أولياء الله هم
~~المذكورون في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
# PageV01P097
# يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا
~~وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) .
# فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وهم نوعان: الأبرار وأصحاب اليمين؛
~~والسابقون المقربون. فالأولون هم المقربون إلى الله بفعل ما فرضه وترك ما
~~حذره؛ والآخرون هم الذين يتقربون إليه بعد الواجبات بالنوافل المستحبات،
~~كما روى البخاري ms0034 في صحيحه (2) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- أنه قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما
~~تقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل
~~حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده
~~التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي
~~يمشي. ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا
~~فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له
~~منه".
# فقد بين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث نوع أولياء الله المتقربين
~~بالفرائض،
# ونوع أهل النوافل بالمحبة. ومالم يكن من الواجبات ولا من المستحبات، ولم
~~يأمر الله به ورسوله لا أمر إيجاب ولا استحباب، ولا فضله الله ورسوله
~~بالترغيب فيه، فليس من الأعمال الصالحة، وليس من العبادات التي يتقرب بها
~~إلى الله، وإن كان كثير من عباد المشركين وأهل الكتاب والمبتدعين يتقربون
~~بما يظنونه عبادات، PageV01P098
# وليس مما أوجب الله ورسوله ولا أحبه الله ورسوله، فهؤلاء ضالون مخطئون
~~طريق الله.
# وهم في الضلال درجات: فمنهم كافر، ومنهم فاسق، ومنهم مذنب، ومنهم مؤمن
~~مخطىء أخطأ في اجتهاده. والخوارق التي تحصل بمثل هذه الأعمال التي ليست
~~واجبة ولا مستحبة، بل هي من الأحوال الشيطانية، لا مما يكرم الله به
~~أولياءه. كالخوارق التي تحصل بالشرك والكواكب وعباداتها، وعبادة المسيح
~~والعزير وغيرهما من الأنبياء، وعبادة الشيوخ الأحياء والأموات، وعبادة
~~الأصنام، فإن هؤلاء قد تجعل لهم أرواح تخاطب ببعض الأمور الغائبة، ولكن
~~لابد أن يكذبوا مع ذلك، كما قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين
~~(221) تنزل على كل أفاك أثيم (222)) (1) . وقد تقتل بعض الأشخاص أو تمرضه،
~~وقد تأتيه بما تسترقه من الناس، إما دراهم وإما طعام وإما شراب أو لباس أو
~~غير ذلك. وهذا كثير جدا.
# فمن كذب بمثل هذه الخوارق فهو جاهل بالموجودات، ومن ظن أن هذه كرامات
~~أولياء الله ms0035 المتقين فهو كافر بدين رب الأرض والسماوات، بل هذه من جنس
~~أحوال الكهنة والسحرة، مثل مكاشفة عبد الله بن صياد للنبي - صلى الله عليه
~~وسلم -، وكان قد ظنه بعض الصحابة الدجال، ولم يكن هو الدجال، وتوقف فيه
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تبين له أنه ليس هو الدجال، لكن كان له
~~حال شيطاني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد خبأت لك خبيئة" (2)
~~، فقال: الدخ الدخ، وكان قد خبأ له سورة الدخان، PageV01P099
# فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اخسأ، فلن تعدو قدرك، فإنما أنت
~~من إخوان الكهان". وقال له (1) : "ما ترى؟ " قال: أرى عرشا على الماء،
~~وقال: يأتيني صادق وكاذب. وذلك العرش هو عرش إبليس. وقد ثبت في صحيح مسلم
~~(2) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان ينصب عرشه على
~~البحر، ويبعث سراياه".
# وأما كرامات أولياء الله تعالى فيها الإيمان والتقوى، سببها ما أمر الله
~~به من الأعمال الواجبات والمستحبات، وأكابر أولياء الله يقتدون بنبيهم -
~~صلى الله عليه وسلم -، فلا يستعملون الخوارق إلا لحاجة المسلمين، أو لحجة
~~في الدين، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تجري الخوارق على
~~يديه لحجة للدين أو لحاجة المسلمين، كتكثير الطعام والشراب عند الحاجة.
# و
### | الأحوال التي تحصل عند سماع المكاء والتصدية والشرك كلها شيطانية،
# ولهذا تبطل أحوالهم إذا قرئت عليهم آية الكرسي، فإنها تطرد الشيطان، وإذا
~~أرادوا (3) دعوا شيوخهم وتوجهوا إلى ناحيتهم جاءتهم الشياطين، وقد تتكلم
~~على ألسنتهم حال الوجد الشيطاني بكلام لا يفهمه صاحبه إذا أفاق، كما يتكلم
~~الجني على لسان المصروع، وقد يطير أحدهم في الهواء. فهذا ونحوه من الأحوال
~~الشيطانية.
# وأما كرامات أولياء الله كمثل ما جرى للعلاء بن الحضرمي لما غزا البحرين،
~~فمشى هو والعسكر الذي معه بخيولهم على البحر، فما PageV01P100
# ابتلت لبود سروجهم. وكذلك أبو مسلم الخولاني ومن معه، ومثل صلاة أبي مسلم
~~ركعتين لما ألقاه الأسود العنسي في النار، فصارت عليه بردا وسلاما.
# وقد بسطنا هذا في "بيان الفرقان بين ms0036 أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (1)
~~، وهذا قدر ما احتملته الورقة. والله أعلم.
# *** PageV01P101
### | مسألة في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه
# PageV01P103
# مسألة
# سئل الشيخ الإمام العالم الأوحد شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد
~~بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه، في رؤية
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل، هل كانت بعين رأسه أم بقلبه؟
# الجواب
# الحمد لله. أما رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه بعين رأسه في
~~الدنيا فهذا لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من
~~الصحابة، ولا عن أحد من الأئمة المشهورين، لا أحمد بن حنبل ولا غيره. ولكن
~~الذي ثبت عن الصحابة - كأبي ذر وابن عباس وغيرهما - والأئمة كأحمد بن حنبل
~~وغيره أنه يقال: رآه بفؤاده، كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن ابن عباس أنه
~~قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين.
# وقد ثبت عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله
~~الفرية (2) .
# ولم ترو عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئا، ولا روى أبو
~~بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيئا. وأما الحديث الذي يذكره
~~بعض الجهال أنه قال لعائشة: "لم أره"، وقال لأبي بكر: "بل رأيته"، وأنه
~~أجاب كل واحد على قدر عقله - فهذا كذب، ولم يرو هذا الحديث أحد من علماء
~~المسلمين، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعروفة. PageV01P105
# ثم من العلماء من جمع بين قول عائشة وقول ابن عباس، وقال: إن عائشة أنكرت
~~رؤية العين، وابن عباس ذكر رؤية الفؤاد، ولا منافاة بينهما. ومنهم من
~~جعلهما قولين مختلفين. وأكثر أهل السنة يرجحون قول ابن عباس، لما فيه من
~~الإثبات، ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رأيت ربي"
~~(1) . وليس في شيء من الحديث الثابت أنه قال: رأيت ربي بعيني، بل قد روى
~~بعضهم هذه الأحاديث التي فيها رؤية العين، كأبي بكر الخلال، ونصر هذا القول
~~طائفة ms0037، منم القاضي أبو يعلى.
# وذكر عن أحمد في الرؤية ثلاث روايات (2) : رواية أنه رآه بعين رأسه،
~~ورواية بعين قلبه، ورواية أنه يقول: رآه، ولا يقول: بعين رأسه، ولا بعين
~~قلبه. ونصر هذا طائفة من أهل الكلام من أتباع ابن كلاب، لكن رؤية العين عند
~~هؤلاء إنما هي زوال مانع في العين، [و] ليست الرؤية المعروفة عند سلف الأمة
~~وأئمتها، وهؤلاء إنما وافقوا ابن كلاب في مسألة الكلام فقط، وأما مسألة
~~الرؤية المناسبة فخالفوه فيها، وخالفوه أيضا فيما يثبته من الصفات الخبرية:
~~الرؤية والعلو وغيرهما، وإن كانوا ينتسبون إلى مذهبه لموافقتهم له في أكثر
~~أقواله، وأكثر هؤلاء يجعلون تكليم الله لموسى إفهامه الكلام القائم بالذات،
~~ويجعلون رؤيته إنما هي خلق الإرادة في العين فقط. فسلك طريق هؤلاء الجهمية
~~الاتحادية وغيرهم، وصار منهم من يزعم أن الله يكلمه كما كلم موسى بن عمران،
~~ومن يزعم أنه يرى الله في الدنيا بعينه من الحلولية والاتحادية، حتى
~~يقولون: إنهم يرون الله في كل PageV01P106
# صورة في الدنيا والآخرة.
# واتفق هؤلاء غلاة المعطلة وغلاة المجسمة على أنه يرى في الدنيا بالعينين،
~~وحتى يزعموا (1) أنهم يؤاكلونه ويشاربونه ويجالسونه في الدنيا، وأمثال هذه
~~الترهات.
# وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجميع علماء المسلمين على أن غير النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - لا يرى الله في الدنيا (2) ، وثبت في الصحيح (3) عن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى
~~يموت".
# ولذلك اتفق الصحابة وسلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة
~~بالأبصار عيانا كما يرى الشمس والقمر، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -. فمن قال: إنه لا يرى في الآخرة فهو جهمي ضال، ومن
~~قال: إن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - يراه في الدنيا بالفؤاد فهو أيضا
~~مبتدع ضال كاذب، والحلولية والاتحادية يجمعون بين النفي
# والإثبات. ومن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه بعينه في الدنيا
~~فهو أيضا غالط، قائل قولا لم يقله أحد من ms0038 الصحابة ولا الأئمة.
# والمنقول في رؤية العين في الدنيا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كله
~~كذب موضوع باتفاق أهل العلم. وكذلك عن أحمد، فإنه لم يقل قط: إنه رآه
~~بعينه، وإنما قال مرة: رآه، ومرة قال: بفؤاده، وأنكر على من أنكر مطلق
~~الرؤية، وذكر أنه يتبع ما نقل في ذلك من الآثار، وروى بإسناده عن أبي ذر
~~أنه رآه بفؤاده. PageV01P107
# وقد ثبت في صحيح مسلم (1) أن أبا ذر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~وقال: هل رأيت ربك؟ فقال: "نور، أنى أراه! ". وفي لفظ: "رأيت نورا". فأبو
~~ذر هو السائل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجابه النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - بهذا الجواب. وقد روى بإسناده عن أبي ذر أنه رآه بفؤاده، واتبع
~~أحمد ذلك.
# وقد روي أحاديث فيها ذكر الرؤية، وأنه رآه في صورة كذا، وأنه وضع يده بين
~~كتفيه حتى وجد برد أنامله، وقال له: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: في
~~الكفارات والدرجات، وقال في آخره: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك
~~المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني
~~إليك غير مفتون". رواه الترمذي وغيره (2) ، وذكر تصحيحه.
# وهذا الحديث ونحوه كلها رؤيا منام، وكانت بالمدينة بعد المعراج، وأما
~~أحاديث المعراج المعروفة فليس في شيء منها ذكر رؤيته البتة أصلا.
# فالواجب اتباع الآثار الثابتة في ذلك وما كان عليه السلف والأئمة، وهو
~~إثبات مطلق الرؤية، أو رؤية مقيدة بالفؤاد. أما رؤيته بالعين ليلة المعراج
~~أو غيرها، فقد تدبرنا عامة ما صنفه المسلمون في هذه المسألة وما نقلوا فيها
~~قريبا من مئة مصنف، فلم نجد أحدا روى بإسناد ثابت - لا عن صاحب ولا إمام -
~~أنه رآه بعين رأسه. والله أعلم.
# *** PageV01P108
### | قاعدة شريفة في تفسير قوله
# (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم)
# (كتبها بقلعة دمشق في آخر عمره)
# PageV01P109
# بسم الله الرحمن الرحيم
# (من كلام شيخنا الجديد الذي كتبه بقلعة دمشق في آخر عمره)
# الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله ms0039 من شرور أنفسنا ومن سيئات
~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
# وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
~~صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
# فصل
# في قوله تعالى (أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا
~~يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين (14)) (1) .
# القراءة المتواترة التي بها يقرأ جماهير المسلمين قديما وحديثا - وهي
~~قراءة العشرة وغيرهم -: "وهو يطعم ولا يطعم". وروي عن طائفة أنهم قرأوا:
~~"وهو يطعم ولا يطعم" بفتح الياء. قال أبو الفرج (2) : وقرأ عكرمة والأعمش:
~~"ولا يطعم" بفتح الياء. قال الزجاج (3) : وهذا الاختيار عند البصراء
~~بالعربية، ومعناه: وهو يرزق ويطعم ولا يأكل. PageV01P111
# قلت: الصواب المقطوع به أن القراءة المشهورة المتواترة أرجح من هذه، فإن
~~تلك القراءة لو كانت أرجح من هذه لكانت الأمة قد نقلت بالتواتر القراءة
~~المرجوحة. والقراءة التي هي أحب القراءتين إلى الله ليست معلومة للأمة، ولا
~~مشهودا بها على الله، ولا منقولة نقلا متواترا، فتكون الأمة قد حفظت
~~المرجوح، ولم تحفظ الأحب إلى الله الأفضل عند الله، وهذا عيب في الأمة ونقص
~~فيها.
# ثم هو خلاف قوله (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)) (1) ، فإنه
~~على قول هؤلاء يكون الذكر الأفضل الذي نزله ما حفظه حفظا يعلم به أنه منزل،
~~كما يعلم الذكر المفضول عندهم.
# وأيضا فللناس في هذه القراءة وأمثالها مما لم يتواتر قولان (2) : منهم من
~~يقول: هذه تشهد بأنها كذب، قالوا: وكل مالم يقطع بأنه قرآن فإنه يقطع بأنه
~~ليس بقرآن. قالوا: ولا يجوز أن يكون قرآن منقولا بالظن وأخبار الآحاد، فإنا
~~إن جوزنا ذلك جاز أن يكون ثم قرآن كثير غير هذا لم يتواتر. قالوا: وهذا مما
~~تحيله العادة، فإن الهمم والدواعي متوفرة على نقل القرآن، فكما لا يجوز
~~اتفاقهم على نقل كذب، لا يجوز اتفاقهم على كتمان صدق.
# فعلى قول هؤلاء يقطع بأن هذه وأمثالها كذب فيمتنع أن ms0040 يكون أفضل من القرآن
~~الصدق. PageV01P112
# والقول الثاني: قول من يجوز أن تكون هذه قرانا وإن لم ينقل بالتواتر.
~~وكذلك يقول هؤلاء في كثير من الحروف التي يقرأ بها في السبعة والعشرة، لا
~~يشترط فيها التواتر. وقد يقولون: إن التواتر منتف فيها أو ممتنع فيها.
~~ويقولون: المتواتر الذي لا ريب فيها ما تضمنه مصحف عثمان من الحروف، وأما
~~كيفيات الأداء مثل تليين الهمزة، ومثل الإمالة والإدغام، فهذه مما يسوغ
~~للصحابة أن يقرأوا فيها بلغاتهم، لا يجب أن يكون النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - تلفظ بهذه الوجوه المتنوعة كلها، بل القطع بانتفاء هذا أولى من
~~القطع بثبوته. وما كان تلفظه به على وجهين كلاهما صحيح المعنى، مثل قوله:
~~(وما الله بغافل عما تعملون (85)) (1) ويعملون (2) ، وقوله: (إلا أن يخافا
~~ألا يقيما حدود الله) (3) إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله (4) ، فهذه
~~يكتفى فيها بالنقل الثابت وإن لم يكن متواترا، كما يكتفى بمثل ذلك في إثبات
~~الأحكام والحلال والحرام، وهو أهم من ضبط الياء والتاء، فإن الله سبحانه
~~وتعالى ليس بغافل عما يعمل المخاطبون بالقرآن، ولا عما يعمل غيرهم، وكلا
~~المعنيين حق قد دل عليه القرآن في مواضع، فلا يضر أن لا يتواتر دلالة هذا
~~اللفظ عليه. بخلاف الحلال والحرام الذي لا يعلم إلا بالخبر الذي ليس
~~بمتواتر.
# والعادة والشرع أوجب أن ينقل القرآن نقلا متواترا، كما نقلت جمل الشريعة
~~نقلا متواترا، مثل إيجاب الصلوات الخمس، وأن صلاة PageV01P113
# الحضر أربع إلا المغرب والفجر، وأنه يخافت في صلاة النهار ويجهر في صلاة
~~الليل، ويجهر في صلاة الفجر وإن قيل: إنها من صلاة النهار، وأنها ركعتان
~~حضرا وسفرا، والمغرب ثلاث حضرا وسفرا، ونحو ذلك.
# ثم كثير من الأحكام التي يعملها الخاصة دون العامة، تعلم بالأخبار التي
~~يعلمها الخاصة، كذلك بعض الحروف التي يضبطها الخاصة من القراء قد تكون من
~~هذا الباب.
# وعلى هذا الوجه فيمتنع أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ
~~بتلك القراءة أكثر، ويعلمها لأمته أكثر، وجماهير الأمة لم تنقلها ولم ms0041
~~تعرفها، فنقل جمهور الأمة لها خلفا عن سلف توجب أنها كانت أكثر وأشهر من
~~قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان قرأ بالأخرى، وإن كان لم يقرأ
~~بالأخرى لم تعدل بهذه. فنحن نشهد شهادة قاطعة أنه قرأ بهذه، وأن تلك إما
~~أنه لم يقرأ بها أو قرأ بها قليلا، والغالب عليه قراءته بهذه، لأنه يمتنع
~~عادة وشرعا أن تكون قراءته بتلك أكثر، وجمهور الأمة لم تنقل عنه ما هو أغلب
~~عليه، ونقل عنه ما كان قليلا منه.
# فهذا من جهة نقل إعراب القرآن ولفظه.
# فصل
# وأما من جهة معناه ومفهومه فيقال: نفس القراءة المتواترة أرجح وأظهر
~~وأتم، وذلك من وجوه: أحدها: أن معنى هذه موافق لمعنى قوله في الآية الأخرى
~~(وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن
~~يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58)) (1) . فقوله: (وما
~~أريد أن يطعمون (57)) PageV01P114
# نفي لإرادته منهم أن يطعموه، فهو نفي لإطعامهم، وهذا موافق لقوله (وهو
~~يطعم ولا يطعم) على البناء للمفعول. ولو أريد نظير تلك القراءة لقال: "فإني
~~لا أطعم" ونحو ذلك. ولا ريب أنه سبحانه منزه عن الأكل والشرب، بل الملائكة
~~لا تأكل ولا تشرب، فكيف بالسبوح القدوس رب الملائكة والروح؟
# وهذا المعنى قد دل عليه في مواضع:
# منها: اسمه "الصمد"، فإن من معناه الذي لا يأكل ولا يشرب، كما قد بين هذا
~~في تفسير هذه السورة (1) .
# ومنها: قوله (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه
~~صديقه كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون
~~(75)) (2) . وهو سبحانه ذكر هذا بعد قوله: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو
~~المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من
~~يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار
~~(72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن
~~لم ينتهوا عما يقولون ليمسن ms0042 الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون
~~إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد
~~خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات
~~ثم انظر أنى يؤفكون (75)) (3) . PageV01P115
# فهذا كلام في سياق نفي الإلهية عن المسيح وغيره، وتكفير من قال: إنه
~~الله، أو إن الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذه وأمة إلهين من دون الله، فبين
~~غايته وغاية أمه، فقال (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
~~وأمه صديقه) ، وهو رد على اليهود والنصارى.
# ثم قال: (كانا يأكلان الطعام) ، وهو يقتضي أن أكل الطعام مناف للإلهية،
~~فمن يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلها. ولولا منافاته للإلهية لم يذكر
~~دليلا على نفيها، فإن الدليل يستلزم المدلول عليه، فعلم أن أكل الطعام
~~يستلزم نفي الإلهية.
# وقد ذكروا في ذلك وجهين (1) ، أشهرهما أن من يأكل ويشرب يعيش بالغذاء،
~~ومن يقيمة اكل والشرب كان مفتقرا إلى غيره، فلا يصلح أن يكون إلها. وهذا هو
~~الذي ذكره أكثر المفسرين.
# وقال طائفة منهم ابن قتيبة (2) : إنه نبه على عاقبته، وهو الحدث، إذ لابد
~~لأكل الطعام من الحدث. قال: وقوله (انظر كيف نبين لهم الآيات) من ألطف ما
~~يكون من الكناية.
# وهذا الوجه صحيح في حق المسيح وأمثاله من البشر في الدنيا، فإن أكلهم
~~الطعام يستلزم الحدث، وخروج الحدث من أبين الأشياء دلالة على انتفائه إلهية
~~من يبول ويغوط، وذلك أعظم من كونه يلد. والدليل يجب طرده ولا يجب عكسه، فلا
~~يلزم أن يكون كل من PageV01P116
# يتغوط أو من لا يأكل ويشرب إلها. كما أنه [لو] استدل على انتفاء الإلهية
~~بأنه لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر، كان دليلا صحيحا، ولم يلزم أن يكون كل من
~~يتكلم ويسمع ويبصر إلها، بل انتفاء صفات الكمال يناقض الإلهية، وإن كان
~~ثبوت جنسها لا يستلزم إلهية. كما أنه إذا قيل: إن الإله يجب أن يكون موجودا
~~قائما بنفسه حيا عليما قديرا، فانتفاء هذه الأمور يستلزم انتفاء ms0043 الإلهية،
~~ولا يستلزم أن يكون كل موجود حي عليم قدير إلها.
# وأما إن أريد بهذا الوجه الذي ذكره ابن قتيبة وغيره من لزوم الحدث طرد
~~الدليل، فيحتاجون أن يفسروا الحدث بجنس الخارج من الآكل الشارب، فإن أهل
~~الجنة يأكلون ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوطون، كما ثبت ذلك في الأحاديث
~~الصحيحة (1) ، لهم رشح كرشح المسك، وهذا من جنس العرق الذي يخرج من المشام.
~~وهو أيضا ينافي الصمدية، فإن الصمد هو الذي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه
~~شيء، فخروج الخارج ولو كان كرشح المسك ينافي الصمدية التي هي من لوازم
~~البارىء، فيكون لزوم الحدث للأكل دالا على نفي إلهيته من هذه الجهة أيضا.
~~والصمدية هي المنافية للأكل والشرب وسائر ما يدخل ويخرج، كما قد بسط في
~~تفسير السورة (2) .
# الوجه الثاني: أن هذه الآية لم تسق لبيان تنزهه عن الأكل، فإن
~~PageV01P117
# ذلك مبين فيما يناسب ذلك من السور التي فيها تنزيهه عن النقائص، ومن
~~الآيات الدالة على أن هذه النقائص مستلزمة لكون صاحبها مخلوقا لا إلها ونحو
~~ذلك. وإنما سيقت لبيان حاجة الخلق إليه وإحسانه إليهم، وبيان غناه عنهم
~~وامتناع إحسانهم إليه، فإنه يطعمهم وهم لا يطعمونه، وهذا الوصف دال على هذا
~~المقصود. كما إذا قيل: يعلمهم ولا يعلمونه، ويعطيهم ولا يعطونه. وهو من
~~معاني الصمد، أن كل ما سواه محتاج إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه، ثم كونه
~~في نفسه لا يأكل ولا يشرب مدح له وتنزيه من جهة أخرى، فإن نفس كونه يطعم
~~ولا يطعم وصف اختص به. فالحيوان إنسهم وجنهم وبهائمهم يأكلون، فإذا قدر
~~أنهم أطعموا فهم يطعمون، والملائكة وإن كانوا لا يأكلون ولا يشربون فهم لا
~~يطعمون الخلق، فليس من يطعم ولا يطعم إلا الله. وإذا قدر قادر يطعم غيره
~~ويحسن إليه ويرزقه، وأولئك لا يطعمونه ولا يرزقونه ولا يحسنون إليه، كان هو
~~المنعم عليهم، واستحق أن يشكروه، وإن كان هو يأكل ويشرب من ملكه، لكن ليس
~~هو محتاجا إليهم، ولا هم يحسنون إليه.
# فتبين أن ms0044 هذا الوصف وصف مدع يختص به، ويبين ربوبيته وافتقار الخلق إليه
~~وإحسانه إليهم، وإذا قيل: وهو يطعم ولا يطعم، كان دلالته على هذا المعنى
~~بطريق اللزوم، فإنه إذا كان لا يطعم في نفسه امتنع أن يطعمه أحد.
# الوجه الثالث: أن مجرد كون الشيء يطعم غيره ولا يطعمه يوجب المدح، فهذه
~~صفة كمال حيث كانت، وأما كون الشيء في نفسه لا يطعم ولا يأكل ولا يشرب،
~~فهذا إنما يكون مدحا في حق الكامل المستغني عن الطعام والشراب لكماله، وأما
~~من لا يطعم ولا
# PageV01P118
# يشرب لنقصه، كالجامدات وكالحيوان المريض، فهذا ليس ممدوحا بذلك، فلو قدر
~~مريض موسر يطعم الناس، وهو في نفسه لا يطعم لمرضه، لم يمدح بأنه يطعم ولا
~~يطعم، والناس إذا لم يطعموه لكونه لا يطعم لمرضه ونقصه لم يكن ممدوحا بأنهم
~~لا يطعمونه، بخلاف ما إذا لم يطعم لغناه، فإنه يمدح بأنه يطعم ولا يطعم،
~~وإن كان هو في نفسه يأكل ويشرب من ماله، مع أن المريض لابد أن يطعم، وأما
~~ما لا يطعم بمال لنقصه كالجامدات، فالأرض يخرج منها صنوف الثمرات، وهي لا
~~تأكل لنقصها، فقد يقال: إنها تطعم ولا تطعم أي لا تأكل لنقصها، لكن هي
~~محتاجة إلى السقي والشرب، وهذا حاجة منها إلى ما يقيها ويغذيها.
# ولهذا قال تعالى: (وهو يطعم ولا يطعم) ، فوصفه بالإثبات المطلق والنفي
~~العام، وصفه بأنه يطعم، وهذا مطلق يصلح أن يدخل فيه كل إطعام، كما إذا قيل:
~~يخلق ويرزق ويعطي ويمنع، كما في الحديث الصحيح الإلهي (1) : "يا عبادي!
~~كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من
~~أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني
~~أكسكم". وقال: (وما بكم من نعمة فمن الله) (2) ، وقال: (هل من خالق غير
~~الله يرزقكم من السماء والأرض) (3) ، وقال الخليل: (الذي خلقني فهو يهدين
~~(78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80)) (4) .
~~PageV01P119
# وفي الحديث المأثور أنه يقال على الطعام (1) : "الحمد لله الذي أطعمني
~~هذا ورزقنيه من غير حول مني ms0045 ولا قوة"، وأنه من قال ذلك غفر له. وفي الحديث
~~الآخر (2) : "الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، من علينا فهدانا، وأطعمنا
~~وسقانا، ومن كل خبر آوانا" (3) . وقد قال تعالى: (فليعبدوا رب هذا البيت
~~(3) الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف (4)) (4) .
# وبالجملة فضرورة الخلق إلى الرزق دائما أمر باهر علما وذوقا ووجدا، فكونه
~~"يطعم" من أطعم بيان نعمه وكرمه وإحسانه، وقوله "ولا يطعم" نفي عام، فإن
~~الفعل نكرة في سياق النفي، فلا يطعمه أحد بوجه من الوجوه، فلا يكون أحد
~~محسنا إليه، ولا مكافئا له على هذه النعمة. كما رواه البخاري (5) عن أبي
~~أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا رفعت مائدته: "الحمد
~~لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا".
# وأما إذا قيل: يطعم وهو لا يأكل، لم يكن المنفي عنه من جنس المثبت له، بل
~~ذكر تنزيهه عن الأكل، فلا يبين المقصود من أنه PageV01P120
# يحسن إليهم الإحسان الذي يضطرون إليه، مع أن أحدا من الخلق لا يحسن إليه،
~~فإن دلالة القراءة المشهورة على نفي إحسان الخلق إليه مع إحسانه إليهم أبين
~~من دلالة كونه لا يأكل، فإن تلك تدل على المدح مطلقا مع قطع النظر عن كونه
~~هو يأكل أو لا يأكل، حتى لو قدر على سبيل الفرض أنه يأكل لم يكن محتاجا
~~إليهم، ولا كانوا هم الذين يطعمونه، كما قال: (وما خلقت الجن والأنس إلا
~~ليبجون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو
~~الرزاق ذو القوة المتين (58)) (1) .
# وقد نبهنا على هذا وأنه إذا كان مخلوق يحسن إلى غيره ويطعمه، وهو لا
~~يحتاج إليه في أمر لا إطعام ولا غيره، كان محسنا إليه إحسانا محضا، وإن كان
~~محتاجا إلى غير هذا الشخص، فكيف بمن هو سبحانه لا يحتاج إلى أحد بوجه من
~~الوجوه؟ ثم إنه من كمال إحسانه إلى عباده بين أن من لم يطعم أولياءه ولم
~~يعدهم، فهو كمن لم يطعمه ولم يعده، كما ms0046 في الحديث الصحيح (2) : "يقول الله
~~تعالى: عبدي! مرضت فلم تعدني، فيقول: رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟
~~فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض، فلو عدته لوجدتني عنده. عبدي! جعت فلم
~~تطعمني، فيقول: رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي
~~فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي". فقال: "لوجدت ذلك عندي"، ولم يقل:
~~"لوجدتني قد أكلته". وقال: "لوجدتني عنده"، ولم يقل: "لوجدتني إياه".
~~PageV01P121
# الوجه الرابع: أن يقال: قوله (وهو يطعم) يتناول إطعام الأجساد ما تأكل
~~وتشرب، وإطعام القلوب والأرواح ما تغتذي به وتتقوت به من العلم والإيمان
~~والمعرفة والذكر، وأنواع ذلك مما هو قوت للقلوب، فإنه هو الذي يقيت القلوب
~~بهذه الأغذية، وهو في نفسه عالم لم يعلمه أحد، هاد لم يهده أحد، متصف بجميع
~~صفات الكمال، قيوم لا يزول، ولا يعطيه غيره شيئا من ذلك. فإذا قال: "وهو
~~يطعم ولا يطعم" تناول القسمين، وإذا قيل: "لا يطعم" لم يكن المراد إلا
~~الأكل والشرب، لم يكن المراد ذكره وعلمه وهدايته.
# وحينئذ فيكون قوله "وهو يطعم" لا يتناول إلا مأكول الجسد ومشروبه، ومعلوم
~~أن ذاك أشرف القسمين، فالقراءة التي تتناول القسمين أكمل من القراءة التي
~~لا تتناول إلا أحدهما.
# بيان ذلك ما في الصحاح (1) من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما
~~نهاهم عن الوصال قالوا: إنك تواصل، قال: "إني لست كأحدكم، إني أبيت - وروي:
~~أظل - عند ربي يطعمني ويسقيني". وأظهر القولين عند العلماء (2) أن مراده ما
~~يطعمه ويسقيه في باطنه، من غير أن يكون أكلا وشربا في الفم لوجهين.
# أحدهما: أنه لو كان يطعمه ويسقيه من فمه لم يكن مواصلا، فإن المواصل هو
~~من لا يأكل ولا يشرب، ولو قدر أنه أتي بطعام من الجنة فأكله، لكان آكلا لا
~~مواصلا. PageV01P122
# الثاني: أنه روي "إني أظل عند ربي"، وهذا يتناول النهار، والأكل في
~~النهار حرام مفطر ولو كان من طعام الجنة. فتبين أنه سمى ما يرزقه ويقيت
~~قلبه ويغذيه إطعاما وإسقاء.
# وقد وصف النبي - صلى الله عليه ms0047 وسلم - بالطعم والذوق والوجد والحلاوة ما
~~في القلوب من الإيمان، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1) عن العباس
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا،
~~وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا". فهذا ذائق طعم الإيمان، وهو ذوق بباطن قلبه،
~~يظهر أثره إلى سائر بدنه، ليس هو ذوقا لشيء يدخل من الفم، وإن كان ذوقا
~~لشيء يدخل من الأذن. ولهذا يقال: البهائم تسمن من أقواتها، والآدمي يسمن من
~~أذنه.
# وفي الصحيحين (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث من كن فيه
~~وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب
~~المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله
~~منه، كما يكره أن يلقى في النار". فأخبر أن من كانت فيه هذه الثلاث وجد
~~حلاوة الإيمان، والحلاوة ضد المرارة، وكلاهما من أنواع الطعوم. فبين أن
~~الإنسان يجد بقلبه حلاوة الإيمان ويذوق طعم الإيمان، والله سبحانه هو الذي
~~يذيقه طعم الإيمان، وهو الذي يجعله واجدا لهذه الحلاوة. فالمؤمنون يذوقون
~~هذا الطعم، ويجدون هذا الوجد، وفي ذلك من اللذة والسرور والبهجة ما هو أعظم
~~من لذة أكل البدن وشربه. PageV01P123
# والرب تعالى له الكمال الذي لا يقدر العباد قدره في أنواع علمه وحكمته
~~ومحبته وفرحه وبهجته، وغير ذلك مما أخبرت به النصوص النبوية، ودلت عليه
~~الدلائل الإلهية، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وهو في كل ذلك غني عن كل
~~ما سواه، فهو الذي يجعل في قلوب العباد من أنواع الأغذية والأقوات والمسار
~~والفرح والبهجة مالا يجعله غيره، وهو إذا فرح بتوبة التائب فهو الذي جعله
~~تائبا حتى فرح بتوبته، لم يحتج في ذلك إلى أحد سواه.
# والتعبير بلفظ القوت والطعام والشراب ونحو ذلك عما يقيت القلوب ويغذيها
~~كثير جدا، كما قال بعضهم: أطعمهم طعام المعرفة، وسقاهم شراب المحبة. وقال
~~آخر:
# لها أحاديث من ذكراك يشغلها عن الشراب ويغنيها عن الزاد
# وكثيرا ما توصف ms0048 القلوب بالعطش والجوع، وتوصف بالري والشبع. وفي الصحيحين
~~(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت كأني أتيت بقدح، فشربت حتى
~~إني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم ناولت فضلي عمر"، قالوا: فما أولته يا
~~رسول الله؟ قال: "العلم". فجعل العلم بمنزلة الشراب الذي يشرب.
# وفي الصحيحين (2) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن
~~مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت منها
~~طائفة قبلت الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت
~~الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا، وكانت منها PageV01P124
# طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين
~~الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا
~~ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". فقد بين أن مثل ما بعثه الله به من
~~الهدى والعلم مثل الغيث الذي تشربه الأرض، فتخرج فنون الثمرات، وتمسكه أرض
~~لتنتفع به الناس، وأرض ثالثة لا تنتفع بشربه ولا تمسكه لغيرها. فتبين أن
~~القلوب تشرب ما ينزله الله من الإيمان والقرآن، وذلك شراب لها، كما أن
~~المطر شراب للأرض، والأرض تعطش وتروى، كذلك القلب يعطش إلى ما ينزله الله
~~ويروى به. وهو سبحانه الذي يطعمه هذا الشراب، وهو سبحانه لا يطعمه أحد
~~شيئا، بل هو الذي يعلم ولا يتعلم من غيره شيئا.
# وفي مناجاة داود: إني ظمئت إلى ذكرك كما تظمأ الإبل إلى الماء، أو نحو
~~هذا، لبعد الإبل عن الماء وشدة عطشها إليه.
# وفي مراسلة يحيى بن معاذ لأبي يزيد (1) لما ذكر أن من الناس من شرب براري
~~قال أبو يزيد: لكن آخر قد سقوه بحور السماوات والأرض، وقد أدلع لسانه من
~~العطش، يقول: هل من مزيد، أو ما يشبه هذا. وقد قال القائل:
# شربت الحب كأسا بعد كأس فما فني الشراب وما رويت
# ويقال: فلان ريان من العلم، ويقال: هذا الكلام يشفي العليل ويروي الغليل،
~~وهذا الكلام لا يشفي ms0049 العليل ولا يروي الغليل. وفي حديث مكحول المرسل (2) :
~~"من أخلص لله أربعين يوما تفجرت PageV01P125
# ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وقال ابن مسعود لأصحابه (1) : "كونوا
~~ينابيع العلم مصابيح الحكمة أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب أخلاق
~~الثياب، تعرفون في السماء وتخفون على أهل الأرض".
# وقد شبه حياة القلوب بعد موتها بحياة الأرض بعد موتها، وذلك بما ينزله
~~عليها، فيسقيها وتحيا به، وشبه ما أنزله على القلوب بالماء الذي ينزله على
~~الأرض، وجعل القلوب كالأودية: واديا كبيرا يسع ماء كثيرا، وواديا صغيرا يسع
~~ماء قليلا، كما قال: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) (2) . وبين
~~أنه يحتمل السيل زبدا رابيا، وأن هذا مثل ضربه الله للحق والباطل، (فأما
~~الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله
~~الأمثال (17)) (3) . فالأرض تشرب ما ينفع وتحفظه، كذلك القلوب تشرب ما ينفع
~~وتحفظه، كما ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ومثل ما بعثه الله به
~~من الهدى والعلم كغيث أصاب أرضا، فبعض الأرض قبلت الماء فشربته، فأنبتت
~~الكلأ والعشب الكثير، وبعض الأرض حفظته لمن يسقي ويزرع، وبعض الأرض قيعان
~~لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. ثم قال: "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما
~~بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك PageV01P126
# رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" (1) . فجعل قبول القلوب بشربها
~~وإمساكها، والأول أعلى، وهو حال من علم وعمل، والثاني حال من حفظ العلم لمن
~~انتفع به. ولهذا قال: "فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب
~~الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء، فشرب الناس وسقوا وزرعوا". فالماء
~~أثر في الأولى واختلط بها، حتى أخرجت الكلأ والعشب الكثير، وكالثانية لم
~~تشربه لكن أمسكته لغيرها حتى شربه ذلك الغير. وهذه حال من يحفظ العلم
~~ويؤديه إلى من ينتفع به، كما في حديث الحسن - وبعضهم يجعله من مراسيله (2)
~~- قال: "العلم علمان: علم في القلب، وعلم على اللسان، فعلم القلب هو العلم
~~النافع، وعلم اللسان ms0050 حجة الله على عباده".
# وبعض الناس قال: إن. الأول مثل الفقهاء، والثاني مثل المحدثين.
# والتحقيق أن الذين سماهم فقهاء إذا كان مقصودهم إنما هو فهم الحديث وحفظ
~~معناه وبيان ما يدل عليه، بخلاف المحدث الذي يحفظ حروفه فقط، فالنوعان مثل
~~الممسك الحافظ المؤدي لغيره حتى ينتفع به، لكن الأول فهم من مقصود الرسول
~~مالم يفهمه الثاني. PageV01P127
# وكذلك القرآن إذا كان هذا يحفظ حروفه، وهذا يفهم تفسيره، وكلاهما قد وعاه
~~وحفظه وأداه إلى غيره، فهما من القسم الثاني، وإنما القسم الأول من شرب
~~قلبه معناه فأثر في قلبه كما أثر الماء في الأرض الذي شربته، فحصل له به من
~~ذوق طعم الإيمان، ووجد حلاوته ومحبة الله وخشيته والتوكل عليه والإخلاص له،
~~وغير ذلك من حقائق الإيمان الذي يقتضيها الكلام، فهؤلاء كالطائفة التي قبلت
~~الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، ولابد أن يظهر ذلك على جوارحهم كما يظهر
~~الكلأ والعشب. قال الحسن البصري (1) : ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي،
~~ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
# وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا إن في
~~الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،
~~ألا وهي القلب". وهذا مبسوط في مواضع، مثل "كتاب الإيمان وشرح أحاديثه
~~وآياته" (3) وغير ذلك (4) .
# والسلف كانوا يجعلون الفقيه اسما لهذا، والمتكلم بالعلم بدون هذا يسمونه
~~خطيبا، كما قال ابن مسعود (5) : إنكم في زمن كثير فقهاؤه قليل خطباؤه، كثير
~~معطوه قليل سائلوه؛ وسيأتي عليكم زمان كثير خطباؤه قليل فقهاؤه، كثير
~~سائلوه، قليل معطوه". PageV01P128
# وفي حديث زياد بن لبيد الأنصاري (1) لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-: "هذا أوان يرفع العلم"، فقال له زياد: كيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن،
~~فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-: "إن كنت لأحسبك من أفقه أهل المدينة، أو ليست التوراة والانجيل عند
~~اليهود والنصارى؟ فماذا يغني عنهم؟ ".
# وقد قال الله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة
~~وإن ms0051 تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك
~~قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)) (2) .
# وقال تعالى: (ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون (7))
~~(3) .
# وقال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون
~~بها) الآية (4) .
# وفي الحديث (5) : "خصلتان لا تكونان في منافق: حسن سمت PageV01P129
# ولا فقه في الدين". فإن حسن السمت صلاح الظاهر الذي يكون عن صلاح القلب،
~~والفقه في الدين يتضمن معرفة الدين ومحبته، وذلك ينافي النفاق.
# وقال الكفار لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) (1) مع أن شعيبا
~~خطيب الأنبياء.
# وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الناس
~~معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". وهذا إنما يكون
~~بفهم القلب للحق، وأتباعه له.
# وفي الصحيحين (3) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل
~~المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل
~~المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق
~~الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها". فهذا قارىء
~~القرآن يسمعه الناس وينتفعون به وهو منافق، وقد يكون مع ذلك عالما بتفسيره
~~وإعرابه وأسباب نزوله، إذ لا فرق بين حفظه لحروفه وحفظه لمعانيه، لكن فهم
~~المعنى أقرب إلى أن ينتفع الرجل به، فيؤمن به ويحبه ويعمل به، ولكن قد يكون
~~في القلب موانع من اتباع الأهواء والحسد والحرص والاستكبار، التي تصد القلب
~~عن اتباع الحق، قال تعالى: (إن شر الدواب عند PageV01P130
# الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم
~~ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)) (1) . فهؤلاء لا خير فيهم يقبلون الحق
~~به إذا فهموا القرآن، فهو سبحانه لا يفهمهم إياه، ولو علم فيهم خيرا
~~لأفهمهم إياه، ولما لم يكن فيهم خير فلو أفهمهم إياه لتولوا وهم ms0052 معرضون،
~~فيحصل لهم نوع من الفهم الذي يعرفون به الحق، لكن ليس في قلوبهم قصد للخير
~~والحق وطلب له، فلا يعملون بعلمهم ولا يتبعون الحق.
# وقد بسط الكلام على هذا في مواضع، وبين أن مثل هذا العلم والفهم الذي لا
~~يقترن به العمل بموجبه لا يكون تاما، ولو كان تاما لاستلزم العمل، فإن
~~التصور التام للمحبوب يستلزم حبه قطعا، والتصور التام للمخوف يوجب خوفه
~~قطعا، فحيث حصل نوع من التصور ولم تحصل المحبة والخوف لم يكن التصور تاما.
# قال بعض السلف (2) : من عرف الله أحبه. ولهذا قال السلف:
# كل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علما،
~~وكفى بالاغترار بالله جهلا (3) . وقيل للشعبي: أيها العالم!
# فقال: إنما العالم من يخشى الله (4) . وهذا مبسوط في مواضع. PageV01P131
# ولهذا قال تعالى: (هدى للمتقين (2)) (1) ، وقال: (لينذر من كان حيا) (2)
~~، وقال: (سيذكر من يخشى (10)) (3) ، إلى أمثال ذلك.
# ولهذا يجعل الرسول نفس الفقه موجبا للسعادة، كما يجعل عدمه موجبا للشقاء،
~~ففي الصحيحين (4) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الناس معادن كمعادن
~~الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". فجعل مسمى
~~الفقه موجبا لكونهم خيارا، وذلك يقتضي أن العمل داخل في مسمى الفقه لازم
~~له.
# وفي الصحيحين (5) أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، فمن لم
~~يفقهه في الدين لم يرد به خيرا، فلا يكون من أهل السعادة إلا من فقهه في
~~الدين. والدين يتناول كل ما جاء به الرسول، كما في الصحيحين (6) لما جاء
~~جبريل في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: "هذا
~~جبريل جاءكم يعلمكم دينكم". فجعل هذا كله دينا.
# والمقصود هنا كان الكلام في أن الله يطعم القلوب ويسقيها، وقد قال الله
~~تعالى في حق عباد العجل: (وأشربوا في قلوبهم العجل) (7) ، أي أشربوا حبه.
~~فإذا كان المخلوق الذي لا تجوز به محبته قد يحبه PageV01P132
# القلب حبا يجعل ذلك شرابا للقلب، فحب الرب تعالى أن يكون شرابا يشربه
~~قلوب المؤمنين أولى وأحرى ms0053.
# قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله
~~والذين آمنوا أشد حبا لله) (1) . ووصف الشعراء وغيرهم أن القلوب تشرب
~~المحبة، وضربهم المثل في ذلك بالشراب الطاهر، وأن شرب المحبة أعلى الشرابين
~~كثير جدا. وهو سبحانه الذي يطعم عباده المؤمنين، ويسقيهم شراب معرفته
~~ومحبته والإيمان به، وهو غني عن جميع خلقه في معرفته ومحبته وإيمانه - إذ
~~كان من أسمائه "المؤمن" -، وفي توحيده وشهادته وسائر شئونه، سبحانه وتعالى
~~عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
# وأهل الشرك الذين يعبدون غير الله ومن ضاهاهم من أهل البدع، الذين اتخذوا
~~من دون الله أوثانا يحبونهم كحب الله، لهم شراب من محبتهم وذوق ووجد، لكن
~~ذلك من عبادة الشيطان لا من عبادة الرحمن، فلهذا وقعت باطلا. فإن البدن كما
~~يتغذى بالطيب والخبيث، كذلك القلوب تتغذى بالكلم الطيب والعمل الصالح،
~~وتتغذى بالكلم الخبيث والعمل الفاسد، ولها صحة ومرض، وإذا مرضت اشتهت ما
~~يضرها وكرهت ما ينفعها.
# وقد ضرب الله مثل الإيمان الذي هو كلمة طيبة بشجرة طيبة، ومثل الشرك الذي
~~هو كلمة خبيثة بشجرة خبيثة، فهذا أصله كلمة طيبة في قلبه وهي كلمة التوحيد،
~~وهذا أصله كلمة خبيثة في قلبه وهي كلمة الشرك؛ فهذا يتغذى بهذه الكلمة
~~الطيبة، وهذا يتغذى بهذه PageV01P133
# الكلمة الخبيثة، كما تتغذى الأبدان بالطيب والخبيث. قال تعالى: (يا أيها
~~الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (1) ، وقد أمر الله المؤمنين بما أمر
~~به المرسلين، فقال: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) (2) .
# فالتوحيد والإيمان كلمة طيبة، مثلها مثل الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت
~~وفرعها في السماء؛ والشرك والكفر كلمة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من
~~قرار (3) ، ليس لها أصل راسخ ولا فرع باسق. ولهذا كان أهل الشرك والضلال
~~لهم مواجيد وأذواق وأعمال بحسب ذلك، لكنها باطلة لا تنفع، إذ هم في جهل
~~بسيط يعملون بهواهم بلا اعتقاد ونظر، أو في جهل مركب يحسبون أنهم على هدى
~~وهم على ضلال، والمؤمنون يعملون بعلم وهدى من الله. ولهذا قال تعالى ms0054: (الله
~~نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) الآية إلى قوله (نور على نور يهدى
~~الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم (35)) (4)
~~. ثم قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه) إلى آخر الآية (5) .
~~ثم ضرب للكفار مثلين للجهل المركب والبسيط فقال: (والذين كفروا أعمالهم
~~كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) الآية (6) .
~~فهذا مثل الجهل المركب، وهو الاعتقادات PageV01P134
# الفاسدة. ثم قال: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه
~~سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها) (1) . وهذا مثل الجهل
~~البسيط.
# وأهل الضلال يذكرون المحبة وشراب الحب ونحو ذلك، وكثيرا ما يمثلون ذلك
~~بشراب الخمر دون غيرها من الأشربة، ويذكرون أوعية الخمر كالدن والكأس ونحو
~~ذلك، ومواضعها كالحان أو دير الرهبان. والخمر توجب الغي، ولما عرض على
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج اللبن والخمر أخذ اللبن، فقيل
~~له: "أصبت الفطرة، لو أخذت الخمر لغوت أمتك" (2) .
# وكلما كان القوم أعظم عنتا وضلالا مثلوا بما هو أقبح من شرب الخمر، فإن
~~شربها وإن كان قبيحا فهو في الحانات مواضع الفحش أقبح، وفي مواضع الكفر
~~كديور الرهبان أقبح وأقبح. ويذكرون السكر من شراب المحبة، كالسكر الذي
~~يعتري من شرب الخمر، كقول بعضهم (3) :
# شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
# وهذا الحب والشرب من عبادة الشيطان، لا من عبادة الرحمن.
# والتشبيه بالخمر يبين أن ذلك من عبادة الشيطان الذي قال الله فيه: (إنما
~~يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن
~~PageV01P135
# ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91)) (1) . وذلك من وجهين: أحدهما:
~~أن شرب الخمر محرم، فحب الله ورسوله وشرب القلوب لهذا الحب لا يكون كشرب
~~الخمر، وإنما يكون كشرب الخمر شرب الحب الذي لا يحبه الله ورسوله، كحب
~~المشركين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله.
# الثاني: أن شرب الخمر يوجب السكر وزوال ms0055 العقل، فهو والسكر بالحب واتباع
~~الأهواء حال الكفر، كقوم لوط الذين قال الله فيهم: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم
~~يعمهون (72)) (2) . وقد قيل (3) : سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من
~~به سكران ومحبة المؤمنين لله ورسوله لا تستلزم زوال العقل، بل هم أكمل
~~الناس عقلا، وإنما يوجب متابعة الرسول، كما قال: (قل إن كنتم تحبون الله
~~فاتبعوني يحببكم الله) (4) . فالمحبون لله إذا اتبعوا الرسول أحبهم الله.
~~واتباع الرسول فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وهو لم يأمر بما يزيل العقل
~~قط، لا باطنا ولا ظاهرا، فلم يأمر بأكل شيء مما يغير العقل سواء كان معه
~~سكر كالخمر، أو لم يكن كالبنج، بل نهى عن ذلك. وكذلك ما في القلوب من حب
~~الله ورسوله وحقائق الإيمان التي يحبها الله ورسوله، ليس فيما أمر الله به
~~ورسوله منها ما يوجب زوال العقل ولا الموت ولا الغشي والصعق. ولهذا لم يكن
~~الصحابة PageV01P136
# أفضل القرون يعتريهم شيء من هذا، ولكن بعض من بعدهم ضعفت قلوبهم عن بعض
~~ما يرد عليها من خوف أو غيره. فصار فيهم من يموت إذا سمع الآية، وفيهم من
~~يغشى عليه. وهؤلاء معذورون مع الصدق والاجتهاد في اتباع الرسول، ويشكر الله
~~لهم ما معهم من الإيمان والخوف الذي
### | .....
# (1) ، وهو ما يحض على فعل الواجب وترك المحرم، وأما الزيادة التي أوجب
~~لهم الموت فحسبهم أن يكونوا فيها معذورين لا مأجورين، كالحاكم إذا اجتهد
~~فأصاب فله أجران، فإذا اجتهد فأخطأ فله أجر.
# ومن ظن أن الميت من هؤلاء بسماع آية أفضل من شهداء بدر وأحد ونحوهما،
~~وجعل هؤلاء قتلى القرآن وشهداء الرحمن، وأولئك ماتوا بسيوف الكفار، فقد غلط
~~غلطا عظيما، فإن أولئك فعلوا ما أمروا به وقتلوا شهداء، فهم من أفضل ما خلق
~~الله، وهؤلاء فعلوا مالم يؤمروا به، إما تعديا للحد، وإما تفريطا في الحق،
~~فماتوا بهذا السبب موتا ليس في سبيل الله ولا جهاد أعدائه، ولكن لضعف
~~قلوبهم عما ورد عليها.
# والله تعالى ما أنزل القرآن ليقتل به أولياءه ms0056، ولا ليشقيهم به، بل
~~ليهديهم وليشفيهم وينورهم، فهؤلاء ضلوا الطريق، ولهذا أنكر حالهم من أدركهم
~~من الصحابة، مثل ابن عمر وابن الزبير وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم، كما هو
~~مبسوط في موضع آخر.
# إذ المقصود هنا أن الرب تعالى هو الذي يقيت عباده، ويغذيهم لأرواحهم
~~وأجسادهم، وهو مستغن عن عباده من كل وجه، فهو PageV01P137
# بنفسه عالم قادر، وكل ما يعلمه العباد فهو من تعليمه وهدايته، وما يقدرون
~~عليه فهو من إقداره. وهو سبحانه وتعالى كما قال: (ولا يحيطون بشيء من علمه
~~إلا بما شاء) (1) ، وهو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى. وإذا كان ما للعباد من
~~علم وقدرة فمنه امتنع أن يحصل له منهم علم أو قدرة، فإن ذلك يستلزم الدور
~~القبلي، إذا كان المعلم المقدر لغيره يمتنع أن يكون علمه وقدرته منه.
# وأيضا فمن جعل غيره عالما قادرا كان أولى أن يكون عالما قادرا، قال
~~تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج
~~الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون
~~(31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون (32))
~~إلى قوله: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى
~~إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35))
~~(2) . فقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى إلا أن يهدى)
~~فيه قراءتان مشهورتان (3) : الإدغام "يهدي"، وأصله يهتدي، فسكنت الياء،
~~وأدغمت في الدال بعد أن قلبت دالا، وألقيت حركتها على الهاء. فأكثر القراء
~~يفتحون الهاء، ومنهم من يسكنها، ومنهم من يختلس. والقراءة الأخرى بالتخفيف
~~"يهدي"، ثم قيل: إنه فعل متعدي، أي يهدي غيره، وقيل: بل فعل لازم، أي
~~يهتدي، وحكوا "هدى" بمعنى اهتدى، وأنه يستعمل لازما ومتعديا. وهذا أصح،
~~والمعنى: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي PageV01P138
# بنفسه إلا أن يهديه غيره، وهذا يتناول كل مخلوق، فكل مخلوق لا ms0057 يهتدي إلا
~~أن يهديه الله. ففي الآية النهي عن اتباع كل مخلوق، وأنه لا يتبع إلا الله
~~وحده، الذي يهدي إلى الحق.
# فكل هدى في العالم وعلم فهو من هذا وتعليمه، ويمتنع أن يكون غيره هاديا
~~له ومعلما.
# وقوله: (أمن لا يهدى إلا أن يهدى) يتضمن نفي اهتدائه بنفسه مطلقا، وأنه
~~لا يهتدي بحال إلا أن يهديه غيره. وهذا حال جميع المخلوقات.
# وقد بين أن هذا أحق بالاتباع من هذا، لأنه يهدي الحق وهذا لا يهدي، وذلك
~~نهي عن عبادة ما سواه، وعن استهدائه وعن طاعته، لأن كل معبود فهو متبوع،
~~يتبعه عابده، فإذا لم يتبعه لم يكن عابدا له.
# ولهذا يجزون يوم القيامة بنظير أعمالهم، فإن
### | الجزاء من جنس العمل،
# كما في الأحاديث الصحيحة: "ينادي مناد ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون،
~~فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر"، وذكر
~~إتيان الحق في صورة غير الصورة التي يعرفون، يمتحنهم هل يتبعون غير ربهم،
~~وإنهم يستعيذون بالله منه، ويقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا
~~ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيتجلى
~~لهم، ويخرون له سجدا إلا المنافقين، فإن ظهورهم تصير مثل قرون البقر، ثم
~~ينطلق ويتبعونه. والحديث في ذلك طويل، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة
~~وأبي سعيد (1) . وفي مسلم [من] حديث جابر (2) ، PageV01P139
# وهو أيضا معروف من حديث أبي موسى (1) ، ومن حديث ابن مسعود وهو أطولها.
# آخره، والله أعلم، الحمد لله وحده.
# *** PageV01P140
### | فصل في سورة حم السجدة [فصلت]
# PageV01P141
# فصل
# سورة حم السجدة مشتملة على تقرير أمر القرآن بما تضمنه أصول الإيمان،
~~التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بذلك فتحت وبذلك
~~ختمت. كما أن سورة الشورى أيضا بدأت بالوحي، وختمت بالوحي المتضمن للقرآن
~~والإيمان.
# قال تعالى: (حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرءانا
~~عربيا لقوم يعلمون (3)) (1) في ذكر القرآن ومستمعيه، إلى قوله: (قل إنما
~~أنا بشر مثلكم يوحي إلى أنما إلهكم إله واحد ms0058 فاستقيموا إليه واستغفروه) (2)
~~يتضمن الإخلاص والتوحيد والنبوة. وجماع الأمر الاستقامة إليه والاستغفار،
~~كما في قوله: (فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) (3) ، وكما قال:
~~(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) (4) .
# وذم المشركين الذين لا يؤتون الزكاة، فإن الشرك ضد الاستقامة إليه، التي
~~هي الإخلاص، كما فسر أبو بكر الصديق قوله: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم
~~استقاموا) (5) قال: استقاموا إليه، فلم يلتفتوا يمينا ولا شمالا. فإن
~~المستقيم ضد الزائغ، فالمستقيم إليه ضد الزائغ عنه، والزائغ عنه المشرك به.
~~وعدم إيتاء الزكاة - وهو ما تزكو به PageV01P143
# النفوس من الذنوب فتصير زكية - ضد الاستغفار الذي يمحو الذنوب، فتزكو
~~النفوس. ففي ذلك جمع بين الإخلاص والعمل الصالح، وهو الإيمان والعمل الصالح
~~وإسلام الوجه لله مع الإحسان.
# وكل واحد من التوبة والصدقة يمحو الذنوب، كما قال النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: "الصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار" (1) . ولهذا قال
~~سبحانه: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (2) ،
~~وقال في التوبة: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (3) ، وفي الصدقة:
~~(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم تزكيهم بها) (4) .
# ثم ذكر تقرير الربوبية بخلق السماوات والأرض وما فيهما، وبدء العالم. ثم
~~ذكر أخبار الأشقياء والسعداء في الدنيا والآخرة، فذكر الوعيد في الدنيا بقص
~~الأمم المتقدمة، وفي الآخرة بذكر ما يكون في القيامة، فقال: (فإن أعرضوا
~~فقل أنذرتكم صاعقة) إلى قوله: (ويوم يحشر) (6) ، فيشبه والله أعلم أي
~~"وأنذرتكم يوم يحشر"، وقد يقال: "واذكر يوم يحشر"، إلى قوله: (إن الذين
~~قالوا ربنا الله ثم استقاموا) (7) ، فإنه ذكر حشر حالهم في الدنيا والآخرة،
~~كما ذكر سوء منقلب أولئك في الدنيا والآخرة. PageV01P144
# ثم ذكر الدين المأمور به، وهو الخلق العظيم، وهو دين الإسلام، ليجمع بين
~~إسلام الوجه لله وبين العمل الصالح بين القصد والعمل، ملة إبراهيم ودين
~~محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما. ثم قرر البعث بالدليل.
# ثم عاد إلى مخاطبة الكافرين بالذكر وتقرير أمره، فقال: (إن الذين يلحدون
~~في آياتنا لا يخفون علينا) (1) إلى قوله ms0059: (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم
~~وإنه لكتاب عزيز (41)) (2) إلى قوله- وهو كان المقصود بالكلام هنا -: (قل
~~أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52))
~~(3) ، فإن الضمير عائد إلى الكتاب، وهو القرآن.
# ثم قال: (سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
~~أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) (4) ، فالضمير في قوله (أنه الحق)
~~هو الضمير في قوله (إن كان من عند الله ثم كفرتم به) ، وذلك هو القرآن، أي
~~حتى يتبين لهم أن الكتاب هو الحق لا ما خالفه.
# ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) (5) أي أولم يكف
~~بشهادته عليه أنه منزل من عند الله، من الآيات المرتبة في الآفاق وفي
~~الأنفس، كما قال: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة
~~يشهدون وكفى بالله شهيدا (166)) (6) . وشهادة الله تعالى PageV01P145
# يعلم بما به يعلم أن هذا كلامه، وأن المبلغ صادق، مثل كونهم لا يقدرون
~~على الإتيان بمثله ولا بمثل عشر سور منه ولا سورة واحدة، وما امتاز به من
~~الوصف الذي باين به كلام المخلوقين مما هو معلوم بالعقل والفطرة. كما أصاب
~~عتبة بن ربيعة ونحوه من أكابر عقلاء قريش لما سمعوا منه (حم (1) تنزيل من
~~الرحمن الرحيم (2)) (1) ، وكما قال فيه عاقلهم وفيلسوفهم ورئيسهم الوليد بن
~~مغيرة (2) ، وغير ذلك.
# فالكفاية هنا تشبه الكفاية في قوله: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه
~~قل إنما الآيات عند الله) إلى قوله: (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب
~~يتلى عليهم) (3) . فنزول الكتاب يتلى عليهم آية كافية، وهو شهادة الله بما
~~أخبر فيه، وبأن الرسول رسوله، ((أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) .
~~فهذا ونحوه طرق يعلم بها شهادة الله.
# وثم طرق أخرى، وهي إخبار رسل الله المتقدمين، وإخبار أممهم عنهم بمثل ما
~~أخبر به هذا الرسول، فلذلك قال: (قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده
~~علم الكتب) (4) ، وقال: PageV01P146
# (قل أرأيتم إن كان من عند ms0060 الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على
~~مثله) (1) ، وقال: (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) (2) ،
~~وقال: (أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط) إلى قوله:
~~(ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (3) .
# فالقرآن قد أخبر الله فيه بأمور، وإخباره بها شهادته بها، وكفى بالله
~~شهيدا، فنفس إخباره وشهادته بما شهد به من أمر الربوبية والرسالة والثواب
~~والعقاب وأحوال أوليائه وأعدائه كاف، وهو الطريق السمعية. وقد قال: (سنريهم
~~آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) (4) . فهذه الطريق
~~البصرية التي قد تسمى العقل، وهو أن يرد في أنفسهم وفي الآفاق ما يدلهم على
~~مثل ما دل عليه القرآن، فيروا حال المؤمنين بمحمد وحال الكافرين به كما
~~أخبروا به عن المتقدمين، ويروا أيضا حالهم إذا آمنوا أو كفروا، ويروا أيضا
~~الدلائل الدالة على وحدانية الخالق وصفاته التي شهد بها الرب.
# فالكلام في شيئين: في أن القرآن منزل من عند الله، وهذا قد شهد به الله
~~بما أتى به، وسيريهم آيات يعاينونها تبين أنه منزل من عند الله. والثاني:
~~الكلام فيما أخبر به القرآن أيضا كما تقدم، وأن الحق يتناول نسبته إلى
~~الله، ويتناول أنه صدق في نفسه، والله شهيد بالأمرين، وقد أرى آياته على
~~الأمرين. PageV01P147
### | مسألة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ:
# "أتدري ما حق الله على العباد؟ "
# PageV01P149
# مسألة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه:
~~"أتدري ما حق الله على العباد؟ " (1) ، وفي قوله: وما حق العباد على الله"،
~~فهل حقهم واجب عليه كما حقه واجب عليهم على ظاهر اللفظ أم مجاز؟.
# أجاب شيخ الإسلام بقية السلف الكرام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد
~~الحليم بن عبد السلام ابن تيمية أيده الله:
# الحمد لله رب العالمين. هذه المسألة ونحوها للناس فيها ثلاثة أقوال،
~~طرفان ووسط (2) :
# طائفة تقول: إن الله يجب عليه أشياء، ويحرم عليه أشياء، بالقياس على
~~المخلوقين، وإن العباد بقياس عقولهم يوجبون عليه ms0061 ويحرمون عليه، كما يجب على
~~العباد ويحرم عليهم، فيقولون: يجب عليه أن يفعل في حق كل عبد ما هو الأصلح
~~له في دينه، ولهم في الصلاح الدنيوي نزاع. ويقولون: إنه لا يقدر على أن
~~يفعل غير ما فعل، وإن العباد يقدرون على مالا يقدر عليه الله، وإنه لا يقدر
~~أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا. وهذا قول القدرية من المعتزلة والشيعة
~~وغيرهم.
# والقول الثاني: قول من يقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يوجب هو على نفسه
~~شيئا، ولا يحرم على نفسه شيئا، ولا ينزه عن فعل من الأفعال، ويجوز أن يقع
~~منه كل ما هو مقدور، فلا يقدر أن يظلم أحدا، بل الظلم ممتنع لذاته، وإنه
~~ليس في أسمائه الحسنى وصفاته PageV01P151
# العلا ما يدل على تنزهه عن أفعال مذمومة، ولا عن اتخاذه ولدا، ولا عن
~~أمره بأن يشرك به. وخالفوا قوله: (قالوا أتخذ الله ولدا سبحانه) (1) ،
~~وقالوا: إنه يجوز أن يأمر بالفحشاء والمنكر، وقالوا: لا ينزه قط عن فعل من
~~الأفعال، ولا أمر من الأمور، وإن كان أمرا بالشرك والكذب والظلم، وإن كان
~~نهيا عن الصدق والعدل والتوحيد، ولا يميز بين ما يفعله وما لا يفعله إلا
~~بما جرت به العادة، مع أن العادات يمكن خرقها، أو أخبار الأنبياء، مع أن
~~خبرهم عند طائفة منهم لا يفيد اليقين، وخبرهم بالوعد والوعيد عند أكثرهم لا
~~يعلم منه شيء. ويقولون: إنه يخلق ما يخلق لا لسبب ولا لحكمة. وهذا قول
~~الجهمية الجبرية ومن اتبعهم من المتأخرين.
# والطائفتان تقولان: إن القادر يرجح أحد المتماثلين لا لمرجح، لكن هؤلاء
~~يجعلون فعله كله كذلك، وأولئك يجعلونه كذلك في الابتداء. وقد ذهب إلى كل من
~~القولين طوائف من أعيان الناس، وإن كان القولان ضعيفين (2) .
# والقول الثالث ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة وأئمتها،
~~كالأئمة الأربعة وغيرهم: إنه سبحانه عليم حكيم رحيم، وإنه كتب على نفسه
~~الرحمة كما أخبر في كتابه (3) ، وحرم على نفسه الظلم، كما ثبت في الحديث
~~الصحيح الإلهي عن أبي ذر ms0062 الغفاري (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما
~~يخبر به عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي، إني PageV01P152
# حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا". وإنه أوجب على
~~نفسه نصر المؤمنين، كما قال تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين (47)) (1)
~~. فليس للمخلوق بنفسه على الله حق، ولا يقاس الخالق بالمخلوق فيما يفعله،
~~كما لا يقاس بالمخلوق في صفاته وذاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في
~~صفاته ولا في أفعاله، ولكن هو كتب على نفسه الرحمة، [وحرم على نفسه] الظلم
~~كما تقدم. وقد اتفق المسلمون على أنه أخبر بما أخبر به من ثواب المؤمنين
~~وعقوبة الكافرين، وأنه صادق لا يخلف الميعاد، فاتفقوا على ثبوت الخبر،
~~وإنما النزاع في كتابته على نفسه وتحريمه على نفسه، لكن النصوص دلت على
~~ذلك.
# وكذلك حلفه "ليفعلن" كقوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم
~~أجمعين (85)) (2) ، وقوله: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس
~~أجمعين (13)) (3) . ومثل هذا القسم ليس خبرا محضا، بل فيه معنى الإرادة
~~والعهد، كما في الوعد.
# ومن قال بالقول الثاني يتأول كتابته على نفسه الرحمة وتحريمه على نفسه
~~الظلم، بأن المراد إخباره بوقوع ذلك وعدم وقوع هذا. والظلم عندهم هو ما
~~يمتنع أن يكون مقدورا، وما يمتنع أن يكون مقدورا لا يحرم، وقد علم الناس
~~أنه لا يكون، فلا فائدة بالإخبار أنه لا يكون. PageV01P153
# وأيضا فإنه ذكر ذلك مقدمة لنهيه عباده عن الظلم بقوله: "يا عبادي، إني
~~حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا".
# فلو أراد به مالا يكون مقدورا كان المناسب لهذا أن يحرم على عباده مالا
~~يقدرون عليه.
# وهذا يناسب قول من قال: الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فيكون قد حرم
~~عليهم ما يفعلونه من ظلم بعضهم بعضا، ولا حرم عليهم الشرك الذي هو ظلم
~~عظيم، ولا حرم عليهم ظلم أنفسهم.
# وإذا قيل: أراد بالظلم الذي حرمه على نفسه مالا يكون مقدورا، وبالظلم
~~الذي حرمه على عباده ما يقدرون عليه، لم ms0063 يكن ذكر هذا مناسبا لذكر هذا، وهو
~~قد قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا
~~تظالموا". الضمير إلى الظلم، فلو كان الأول مالا يقدر عليه، لقيل: لا معنى
~~لتحريمه هذا على نفسه.
# والمناسب إذا لم يحرم إلا ما يكون مقدورا لهم، وإلا فالمعنى على قول
~~هؤلاء: حرمت على نفسي إذ أجعل الشيء موجودا معدوما، وأجعل الجسم متحركا
~~ساكنا، وأجعل المحدث قديما والقديم محدثا، ونحو ذلك من الأمور التي ليست
~~شيئا باتفاق العقلاء، ولا يتصور العقل وجودها في الخارج، وحرم عليهم ما
~~يقدرون هم عليه، وهو إنما ذكر هذا ليقيم الحجة على خلقه بقوله: يا عبادي
~~إني حرمت الظلم على نفسي، فأنتم أولى أن يكون الظلم محرما عليكم، لأنه
~~سبحانه على كل شيء قدير، ورب كل شيء وخالقه، ولا يتصرف إلا في ملكه، لا في
~~ذلك غيره، وليس فوقه آمر يأمره، فإذا كان مع كمال قدرته وعزته ووحدانيته قد
~~حرم الظلم على نفسه، فكيف بالمخلوق الذي فوقه آمر يأمره، ومجاز يجازيه، وقد
~~يتعدى
# PageV01P154
# فيتصرف فيما لا يملكه.
# وأما كونه يقول: حرمت على نفسي ماليس مقدورا لي، كالجمع بين الضدين ونحو
~~هذا، ولا يقدر أحد على جزايته وعقوبته، بل يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا
~~معقب لحكمه، ولا راد لأمره - فهذا مما يعلم يقينا أن الرسول لم يقصد هذا،
~~بل تحريم ماهو مقدور، كما قصد تحريم الظلم الذي يقدرون عليه.
# وهو سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، (ولا يظلم ربك أحدا (49)) (1) ، ويقول
~~لعبده إذا حاسبه يوم القيامة: لا ظلم عليك، فلا ينقص أحدا من حسناته شيئا،
~~ولا يحمل عليه سيئات غيره، كما قال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن
~~فلا يخاف ظلما ولا هضما (112)) (2) . قال غير واحد من السلف: الظلم أن يحمل
~~عليه سيئات غيره، والهضم أن يهضم من حسناته (3) . فهذا مما حرمه على نفسه
~~وهو قادر عليه، لكنه منزه قدوس سلام، لا يجوز أن يظلم أحدا، ولا يجوز أن
~~يتخذ صاحبة ولا ولدا، بل هو ms0064 حكيم عليم رحيم، لا يفعل إلا بموجب رحمته
~~وحكمته وعدله. وهو سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه، ما شاء كان، ومالم يشأ
~~لم يكن.
# فكل واحد من قول القدرية المعتزلة [و] الجهمية الجبرية باطل، والصواب
~~فيما جاء به الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها. PageV01P155
# وهذه المسألة فرع على هذا الأصل، والكلام على هذا مبسوط في مواضع غير
~~هذا، وهذا مقدار ما احتملته الورقة من الجواب.
# فعلى هذا فقوله: "أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم.
~~قال: "حقه عليهم أن يعبدوه، لا يشركوا به شيئا"، هو حق استحقه بنفسه على
~~عباده. وقوله: "أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم"،
~~هو حق أحقه على نفسه لعباده، كما قال تعالى: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين)
~~(1) ، فهو أحقه بنفسه على نفسه، لا لأن العباد بأنفسهم يستحقون عليه شيئا،
~~ولا يقاس على خلقه فيما يستحقه المخلوق على المخلوق، فإنه خلق عباده، ولم
~~يكونوا قبل وجودهم شيئا، بل عدما محضا لا يستحقون شيئا، ثم لما خلقهم فكل
~~ما فيهم من الأمور الوجودية هي مخلوقة له، فيمتنع أن يكون موجبا على الرب
~~عز وجل محرما عليه، وهذا هذا. والله أعلم.
# (هذا مختصر جواب الشيخ تقي الدين أثابه الله تعالى) .
# *** PageV01P156
### | فصل في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
# سيد الاستغفار أن يقول العبد
### $ "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت ... "
# PageV01P157
# فصل
# في قوله عليه السلام: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا
~~إله إلا أنت" (1) .
# قد اشتمل هذا الحديث من المعارف الجليلة ما استحق لأجلها أن يكون سيد
~~الاستغفار، فإنه صدره باعتراف العبد بربوبية الله، ثم ثناها بتوحيد الإلهية
~~بقوله: "لا إله إلا أنت". ثم ذكر اعترافه بأن الله هو الذي خلقه وأوجده ولم
~~يكن شيئا، فهو حقيق بان يتولى تمام الإحسان إليه بمغفرة ذنوبه، كما ابتدأ
~~الإحسان إليه بخلقه.
# ثم قال: "وأنا عبدك"، اعترف له بالعبودية، فإن الله تعالى خلق ابن آدم
~~لنفسه ولعبادته، كما جاء ms0065 في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: ابن آدم! خلقت
~~لنفسي، وخلقت كل شيء لأجلك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك
~~له".
# وفي أثر آخر: "ابن آدم! خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا
~~تتعب. ابن آدم! اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل
~~شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء".
# فالعبد إذا خرج عما خلقه الله له من طاعته ومعرفته ومحبته والإنابة إليه
~~والتوكل عليه، فقد أبق من سيده، فإذا تاب إليه ورجع إليه فقد راجع ما يحبه
~~الله منه، فيفرح الله بهذه المراجعة. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -
~~يخبر عن الله (2) : "لله أشد فرحا بتوبة عبده من واجد راحلته PageV01P159
# عليها طعامه وشرابه بعد يأسه منها في الأرض المهلكة، وهو سبحانه هو الذي
~~وفقه لها، وهو الذي ردها إليه". وهذا غاية ما يكون من الفضل والإحسان،
~~وحقيق بمن هذا شانه أن لا يكون شي لا أحب إلى العبد منه.
# ثم قال: "وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت"، فالله سبحانه وتعالى عهد إلى
~~عباده عهدا أمرهم فيه ونهاهم، ووعدهم على وفائهم بعهده أن يثيبهم بأعلى
~~المثوبات، فالعبد يسير بين قيامه بعهد الله إليه وتصديقه بوعده. أني أنا
~~مقيم على عهدك مصدق بوعدك.
# وهذا المعنى قد ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، كقوله: "من صام رمضان
~~إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" (1) . والفعل إيمانا هو العهد
~~الذي عهده إلى عباده، والاحتساب هو رجاؤه ثواب الله له على ذلك، وهذا لا
~~يليق إلا مع التصديق بوعده. وقوله "إيمانا واحتسابا" منصوب على المفعول له،
~~إنما يحمله على ذلك إيمانه بأن الله شرع ذلك وأوجبه ورضيه وأمر به،
~~واحتسابه ثوابه عند الله، أي يفعله خالصا يرجو ثوابه.
# وقوله: "ما استطعت" أي إنما أقوم بذلك بحسب استطاعتي، لا بحسب ما ينبغي
~~لك وتستحقه علي. وفيه دليل على إثبات قوة العبد واستطاعته، وأنه غير مجبور
~~على ذلك، بل له استطاعة هي مناط الأمر والنهي والثواب والعقاب ms0066. ففيه رد على
~~القدرية المجبرة الذين يقولون: إن العبد لا قدرة له ولا استطاعة، ولا فعل
~~له البته، وإنما يعاقبه الله على فعله هو، لا على فعل العبد. وفيه رد على
~~طوائف المجوسية وغيرهم. PageV01P160
# ثم قال: "أعوذ بك من شر ما صنعت"، فاستعاذته بالله الالتجاء إليه والتحصن
~~به والهروب إليه من المستعاذ منه، كما يتحصن الهارب من العدو بالحصن الذي
~~ينجيه منه. وفيه إثبات فعل العبد وكسبه، وأن الشر مضاف إلى فعله هو، لا إلى
~~ربه، فقال: "أعوذ بك من شر ما صنعت". فالشر إنما هو من العبد، وأما الرب
~~فله الأسماء الحسنى، وكل أوصافه صفات كمال، وكل أفعاله حكمة ومصلحة. ويؤيد
~~هذا قوله عليه السلام: "والشر ليس إليك" في الحديث الذي رواه مسلم (1) في
~~دعاء الاستفتاح.
# ثم قال: "أبوء بنعمتك علي" أي أعترف بأمر كذا، أي أقر به، أي فأنا معترف
~~لك بإنعامك علي، وإني أنا المذنب، فمنك الإحسان ومني الإساءة. فأنا أحمدك
~~على نعمك، وأنت أهل لأن تحمد، وأستغفرك لذنوبي.
# ولهذا قال بعض العارفين: ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه كلها نفسين: نفسا
~~يحمد فيه ربه، ونفسا يستغفره من ذنبه. ومن هذا حكاية الحسن مع الشاب الذي
~~كان يجلس في المسجد وحده ولا يجلس إليه، فمر به يوما فقال: ما بالك لا
~~تجالسنا؟ فقال: إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي حمدا؛ وبين ذنب مني
~~يستوجب استغفارا، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستك. فقال: أنت أفقه
~~عندي من الحسن.
# ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية، وترقى في درجات
~~المعرفة والإيمان، وتصاغرت إليه نفسه، وتواضع لربه. وهذا PageV01P161
# هو كمال العبودية، وبه يبرأ من العجب والكبر وزينة العمل. والله الموفق
~~الهادي، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،
~~ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
# (من كتابة العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن إسحاق التميمي الداري
~~نسبا الحنفي مذهبا، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين. آمين آمين آمين ms0067)
~~.
# ***
# PageV01P162
### | قاعدة في الصبر
# PageV01P163
# بسم الله الرحمن الرحيم
# وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
# قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام مفتي الأنام تقي الدين أبو
~~العباس أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه.
# فصل
# جعل الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بكل منزلة خيرا منه، فهم دائما في
~~نعمة من ربهم، أصابهم ما يحبون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي
~~يقضيها لهم ويقدرها عليهم متاجر يربحون بها عليه، وطرقا يصلون منها إليه،
~~كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم - الذي إذا دعي يوم القيامة كل أناس
~~بإمامهم دعوا به صلوات الله وسلامه عليه - أنه قال (1) : "عجبا لأمر
~~المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلا كان خيرا له، إن
~~أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".
# فهذا الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على
~~مكروهها وشكر لمحبوبها، بل هذا داخل في مسمى الإيمان، فإنه كما قال السلف:
~~الإيمان نصفان، نصف صبر، ونصف شكر.
# كقوله تعالى: (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (5)) (2) . وإذا اعتبر
~~العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر، وذلك PageV01P165
# لأن
### | الصبر ثلاثة أقسام
# (1) :
# صبر على الطاعة حتى يفعلها، فإن العبد لا يكاد يفعل المأمور به إلا بعد
~~صبر ومصابرة، ومجاهدة لعدوه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤه
~~للمأمورات وفعله للمستحبات.
# النوع الثاني: صبر عن المنهي حتى لا يفعله، فإن النفس ودواعيها وتزيين
~~الشيطان وقرناء السوء تأمره بالمعصية، وتجزئه عليها، فبحسب قوة الصبر يكون
~~تركه لها. قال بعض السلف (2) : أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقدر
~~على ترك المعاصي إلا صديق.
# النوع الثالث: الصبر على ما يصيبه بغير اختياره من المصائب، وهي نوعان:
# نوع لا اختيار للخلق [فيه] ، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه
~~يسهل الصبر فيها، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وأنه لا مدخل للناس
~~فيها، فيصبر إما اضطرارا وإما اختيارا، فإن فتح الله ms0068 على قلبه باب الفكرة
~~في فوائدها، وما في حشوها من النعم والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى
~~الشكر لها والرضا بها، فانقلبت حينئذ في حقه نعمة، فلا يزال هجيرا قلبه
~~ولسانه فيها: "رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (3) . وهذا يقوى ويضعف
~~بحسب قوة محبة العبد لله وضعفها، بل هذا يجد أحدنا في الشاهد، PageV01P166
# كما قال بعض الشعراء (1) يخاطب محبوبا له ناله ببعض ما يكره:
# لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالكا
# النوع الرابع (2) : ما يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه، فهذا
~~النوع يصعب الصبر عليه جدا، لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة،
~~فتطلب الانتقام، فلا يصبر على هذا النوع إلا الأنبياء والصديقون.
# وكان نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذا أوذي يقول: "يرحم الله موسى، لقد
~~أوذي بأكثر من هذا فصبر" (3) . وأخبر عن نبي من الأنبياء أنه ضربه قومه،
~~فجعل يقول: "اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون" (4) . وقد روي عنه - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه جرى له مثل هذا مع قومه، فجعل يقول مثل ذلك (5) .
# فجمع في هذا ثلاثة أمور: العفو عنهم، والاستغفار لهم، والاعتذار عنهم
~~بأنهم لا يعلمون.
# وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والهدى والسرور والأمن، والقوة في ذات
~~الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له، وزيادة العلم. PageV01P167
# ولهذا قال الله تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا
~~بآياتنا يوقنون (24)) (1) . فالصبر واليقين ينال [بهما] الإمامة في الدين
~~(2) ، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في درجات
~~السعادة بفضل الله تعالى، و (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
~~العظيم (21)) (3) . ولهذا قال الله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي
~~بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما
~~يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)) (4) .
# ويعين العبد على هذا الصبر عدة أشياء:
# أحدها: أن يشهد أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، حركاتهم
~~وسكناتهم وإراداتهم، فما شاء الله كان، ومالم يشأ ms0069 لم يكن، فلا يتحرك في
~~العالم العلوي والسفلي ذرة إلا بإذنه ومشيئته، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي
~~سلطهم عليك، ولا تنظر إلى فعلهم بك، تسترح من الهم والغم.
# الثاني: أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلطهم عليه بذنبه، كما قال تعالى:
~~(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (30) (5) . فإذا شهد
~~العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتغل بالتوبة والاستغفار
~~من الذنوب التي سلطهم عليه [بسببها] ، عن ذمهم ولومهم والوقيعة فيهم. وإذا
~~رأيت العبد يقع في الناس إذا PageV01P168
# آذوه، ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار، فاعلم أن مصيبته مصيبة
~~حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقه نعمة. قال علي بن
~~أبي طالب -كرم الله وجهه- كلمة من جواهر الكلام: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا
~~يخافن عبد إلا ذنبه (1) . وروي عنه وعن غيره: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا
~~رفع إلا بتوبة.
# الثالث: أن يشهد العبد حسن الثواب الذي وعده الله لمن عفا وصبر، كما قال
~~تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب
~~الظالمين (40)) (2) . ولما كان الناس عند مقابلة الأذى ثلاثة أقسام: ظالم
~~يأخذ فوق حقه، ومقتصد يأخذ بقدر حقه، ومحسن يعفو ويترك حقه، ذكر الأقسام
~~الثلاثة في هذه الآية، فأولها للمقتصدين، ووسطها للسابقين، وآخرها
~~للظالمين.
# ويشهد نداء المنادي يوم القيامة: "إلا ليقم من وجب أجره على الله" (3) ،
~~فلا يقم (4) إلا من عفا وأصلح. وإذا شهد مع ذلك فوت الأجر بالانتقام
~~والاستيفاء، سهل علمه الصبر والعفو.
# الرابع: أن يشهد أنه إذا عفا وأحسن أورثه ذلك من سلامة القلب لإخوانه،
~~ونقائه من الغش والغل وطلب الانتقام وإرادة الشر، وحصل له من حلاوة العفو
~~ما يزيد لذته ومنفعته عاجلا وآجلا، على المنفعة الحاصلة له بالانتقام
~~أضعافا مضاعفة، ويدخل في قوله تعالى: PageV01P169
# والله يحب المحسنين (134)) (1) ، فيصير محبوبا لله، ويصير حاله حال من
~~أخذ منه درهم فعوض عليه ألوفا من الدنانير، فحينئذ يفرح بما من الله عليه
~~أعظم فرحا ms0070 (2) يكون.
# الخامس: أن يعلم أنه ما انتقم أحد قط لنفسه إلا أورثه ذلك ذلا يجده في
~~نفسه، فإذا عفا أعزه الله تعالى، وهذا مما أخبر به الصادق المصدوق حيث
~~يقول: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا" (3) . فالعز الحاصل له بالعفو أحب
~~إليه وأنفع له من العز الحاصل له بالانتقام، فإن هذا عز في الظاهر، وهو
~~يورث في الباطن ذلا، والعفو ذل في الباطن، وهو يورث العز باطنا وظاهرا.
# السادس - وهي من أعظم الفوائد -: أن يشهد أن الجزاء من جنس العمل، وأنه
~~نفسه ظالم مذنب، وأن من عفا عن الناس عفا الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله
~~له. فإذا شهد أن عفوه عنهم وصفحه وإحسانه مع إساءتهم إليه سبب لأن يجزيه
~~الله كذلك من جنس عمله، فيعفو عنه ويصفح، ويحسن إليه على ذنوبه، ويسهل عليه
~~عفوه وصبره، ويكفي العاقل هذه الفائدة.
# السابع: أن يعلم أنه إذا اشتغلت نفسه بالانتقام وطلب المقابلة ضاع عليه
~~زمانه، وتفرق عليه قلبه، وفاته من مصالحه مالا يمكن استدراكه، ولعل هذا
~~أعظم عليه من المصيبة التي نالته من جهتهم، فإذا عفا وصفح فرغ قلبه وجسمه
~~لمصالحه التي هي أهم عنده من الانتقام. PageV01P170
# الثامن: أن انتقامه واستيفاءه وانتصاره لنفسه، وانتصاره لها، فإن رسول
~~الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط، فإذا كان هذا خير خلق الله وأكرمهم على
~~الله لم ينتقم لنفسه، مع أن أذاه أذى الله، ويتعلق به حقوق الدين، ونفسه
~~أشرف الأنفس وأزكاها وأبرها، وأبعدها من كل خلق مذموم، وأحقها بكل خلق
~~جميل، ومع هذا فلم يكن ينتقم لها، فكيف ينتقم أحدنا لنفسه التي هو أعلم بها
~~وبما فيها من الشرور والعيوب، بل الرجل العارف لا تساوي نفسه عنده أن ينتقم
~~لها، ولا قدر لها عنده يوجب عليه انتصاره لها.
# التاسع: إن أوذي على ما فعله لله، أو على ما أمر به من طاعته ونهي عنه من
~~معصيته، وجب عليه الصبر، ولم يكن له الانتقام، فإنه قد أوذي في الله فأجره
~~على الله. ولهذا ms0071 لما كان المجاهدون في سبيل الله ذهبت دماؤهم وأموالهم في
~~الله لم تكن مضمونة، فإن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، فالثمن على الله
~~لا على الخلق، فمن طلب الثمن منهم لم يكن له على الله ثمن، فإنه من كان في
~~الله تلفه كان على الله خلفه، وإن كان قد أوذي على مصيبة فليرجع باللوم على
~~نفسه، ويكون في لومه لها شغل عن لومه لمن آذاه، وإن كان قد أوذي على حظ (1)
~~فليوطن نفسه على الصبر، فإن نيل الحظوظ دونه أمر أمر من الصبر، فمن لم يصبر
~~على حر الهواجر والأمطار والثلوج ومشقة الأسفار ولصوص الطريق، وإلا فلا
~~حاجة له في المتاجر.
# وهذا أمر معلوم عند الناس أن من صدق في طلب شيء من الأشياء بدل من الصبر
~~في تحصيله بقدر صدقه في طلبه. PageV01P171
# العاشر: أن يشهد معيه الله معه إذا صبر، ومحبه الله له إذا صبر، ورضاه.
~~ومن كان الله معه دفع عنه أنواع الأذى والمضرات مالا يدفعه عنه أحد من
~~خلقه، قال تعالى: (واصبروا إن الله مع الصابرين (46)) (1) ، وقال تعالى:
~~(والله يحب الصابرين (146)) (2) .
# الحادي عشر: أن يشهد أن الصبر نصف الإيمان، فلا يبدل من إيمانه جزاء في
~~نصرة نفسه، فإذا صبر فقد أحرز إيمانه، وصانه من النقص، والله يدفع عن الذين
~~آمنوا.
# الثاني عشر: أن يشهد أن صبره حكم منه على نفسه، وقهر لها وغلبة لها، فمتى
~~كانت النفس مقهورة معه مغلوبة، لم تطمع في استرقاقه وأسره وإلقائه في
~~المهالك، ومتى كان مطيعا لها سامعا منها مقهورا معها، لم تزل به حتى تهلكه،
~~أو تتداركه رحمة من ربه. فلو لم يكن في الصبر إلا قهره لنفسه ولشيطانه،
~~فحينئذ يظهر سلطان القلب، وتثبت جنوده، ويفرح ويقوى، ويطرد العدو عنه.
# الثالث عشر: أن يعلم أنه إن صبر فالله ناصره ولابد، فالله وكيل من صبر،
~~وأحال ظالمه على الله، ومن انتصر لنفسه وكله الله إلى نفسه، فكان هو الناصر
~~لها. فأين من ناصره الله خير الناصرين إلى من ناصره نفسه أعجز الناصرين ms0072
~~وأضعفه؟
# الرابع عشر: أن صبره على من آذاه واحتماله له يوجب رجوع خصمه عن ظلمه،
~~وندامته واعتذاره، ولوم الناس له، فيعود بعد إيذائه (3) له PageV01P172
# مستحييا منه نادما على ما فعله، بل يصير مواليا له. وهذا معنى قوله
~~تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34)
~~وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35)) (1) .
# الخامس عشر: ربما كان انتقامه ومقابلته سببا لزيادة شر خصمه، وقوة نفسه،
~~وفكرته في أنواع الأذى التي يوصلها إليه، كما هو المشاهد. فإذا صبر وعفا
~~أمن من هذا الضرر، والعاقل لا يختار أعظم الضررين بدفع أدناهما. وكم قد جلب
~~الانتقام والمقابلة من شر عجز صاحبه عن دفعه، وكم قد ذهبت نفوس ورئاسات
~~وأموال لو عفا المظلوم لبقيت عليه.
# السادس عشر: أن من اعتاد الانتقام ولم يصبر لابد أن يقع في الظلم، فإن
~~النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها، لا علما ولا إرادة، وربما عجزت
~~عن الاقتصار على قدر الحق، فإن الغضب يخرج بصاحبه إلى حد لا يعقل ما يقول
~~ويفعل، فبينما هو مظلوم ينتظر النصر والعز، إذ انقلب ظالما ينتظر المقت
~~والعقوبة.
# السابع عشر: أن هذه المظلمة التي ظلمها هي سبب إما لتكفير سيئته، أو رفع
~~درجته، فإذا انتقم ولم يصبر لم تكن مكفرة لسيئته ولا رافعة لدرجته.
# الثامن عشر: أن عفوه وصبره من أكبر الجند له على خصمه، فإن من صبر وعفا
~~كان صبره وعفوه موجبا لذل عدوه وخوفه وخشيته منه ومن الناس، فإن الناس لا
~~يسكتون عن خصمه، وإن سكت هو، فإذا انتقم زال ذلك كله. ولهذا تجد كثيرا من
~~الناس إذا شتم غيره أو PageV01P173
# آذاه يحب أن يستوفي منه، فإذا قابله استراح وألقى عنه ثقلا كان يجده.
# التاسع عشر: أنه إذا عفا عن خصمه استشعرت نفس خصمه أنه فوقه، وأنه قد ربح
~~عليه، فلا يزال يرى نفسه دونه، وكفى بهذا فضلا وشرفا للعفو.
# العشرون: أنه إذا عفا وصفح كانت هذه حسنة، فتولد له حسنة ms0073 أخرى، وتلك
~~الأخرى تولد له أخرى، وهلم جرا، فلا تزال حسناته في مزيد، فإن من ثواب
~~الحسنة الحسنة، كما أن من عقاب السيئة السيئة بعدها. وربما كان هذا سببا
~~لنجاته وسعادته الأبدية، فإذا انتقم وانتصر زال ذلك.
# والأصل الثاني الشكر، وهو العمل بطاعة الله (1) .
# *** PageV01P174
### | فتوى في العشق
# (*) PageV01P175
# بسم الله الرحمن الرحيم
# سؤال رفع لشيخ الإسلام أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد
~~السلام بن تيمية الحراني، وصورته:
# ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في رجل عاشق
~~في صورة، وتلك الصورة مصرة على هجره منذ زمان طويل لا يزيده إلا بعدا، ولا
~~يزداد لها إلا حبا، وعشقه لهذه الصورة من غير فسق ولا خنا، وليس هو ممن
~~يدنس عشقه بزنا، وقد أفضى الحال إلى هلاكه لا محالة إن بقي مع محبوبه على
~~هذه الحالة. فهل يحل لمن هذه حاله أن يهجر؟ وهل يجب وصاله على المحبوب
~~المذكور؟ وهل يأثم ببقائه على ما يكره من المحب؟ وماذا يجب من تفاصيل
~~أمرهما وما لكل واحد منهما على الآخر من الحقوق مما يوافق الشرع والعقل؟
~~أفتونا مأجورين رحمكم الله.
# الجواب
# الكلام على هذه المسألة ينبني على أصلين: أحدهما يتعلق بالعاشق، والآخر
~~يتعلق بالمعشوق، ولكل واحد منهما تفاصيل تذكر عند ذكره. ولابد من تقديم
~~مقدمة ينبني عليها الجواب، وهي:
# لاشك أنه من المعلوم أن الشرع والعقل قد دلا [على] وجوب تحصيل المصالح
~~وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها، فكلما يرى العاقل أنه إذا دخل في أمر
~~ما يوجب له مصلحة من وجه ومفسدة من
# PageV01P177
# وجه وجب عليه عند ذلك الترجيح، فيأخذ لنفسه بالأسد والأكمل والأرشد
~~والأصلح.
# ومن المعلوم أنه
### | ليس في عشق الصور مصلحة شرعية
# دينية، لما يؤدي إلى الاشتغال بذكر المخلوق عن ذكر الخالق، والعبث بالصور
~~لا المعاني، والالتحاق بالعالم الحيواني غير الناطق في الائتلاف الصوري.
~~كما سئل بعضهم عن العشق، فقال: هي قلوب غفلت عن ذكر الحق، فشغلت بذكر
~~الخلق. فهذا مما يدل على بعد عشاق الصور عن ms0074 الرب العظيم باشتغالهم بالخسيس
~~الذميم.
# لكن قد ذكر المتقدمون من عقلاء العرب وظرفائهم وطائفة من الحكماء أن فيه
~~فوائد، مع اتفاقهم على نقصه من جهة ما ذكرنا من أن صاحبه كلما قرب منه بعد
~~عن الله عز وجل. إن فيه فوائد (1) ، من جملتها رقة الطبع وإزالة خبثه
~~وترويح النفس وخفتها ورياضة الجسد، كما روي عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قيل
~~له: إن ابنك عشق فلانة، فقال: الحمد لله الذي صيره إلى طبع الآدمي.
# وقال بعضهم: العشق داء أفئدة الكرام.
# وقال بعضهم: العشق لا يصلح إلا لذي مروءة ظاهرة، أو لذي لسان فاضل وإحسان
~~كامل، أو لذي أدب بارع وحسب خاشع (2) ، ويقبح لسواهم.
# وقال بعضهم: العشق يشجع جنان الجبان، ويصفي ذهن الغبي، ويسخي كف البخيل،
~~ويخضع عزة الملوك، ويسكن نوافر الأخلاق. PageV01P178
# وهو أنيس المؤنس وجليس المجالس (1) ، وملك قاهر وسلطان.
# وقال بعض العرب (2) :
# إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فأنت وعير في الفلاة سواء
# وحكي أن جالينوس قال: من لم تبتهج نفسه للصوت الشجي والوجه البهي فهو
~~فاسد المزاج، يحتاج إلى العلاج.
# وقال بعض الحكماء: العشق يروض النفس ويهذب الأخلاق، وإظهاره طبعي،
~~وإضماره تكليفي، حاجبه الصبر وخادمه الجوارح.
# فهذه آثار - كما ترى - دالة على أنه ليس في العشق مصلحة شرعية دينية،
~~وإنما مال إليه هؤلاء لما ذكروا فيه من المصالح العقلية والرياضية، من
~~تهذيب النفس ورياضتها، ولو تعلق هؤلاء بمحبة الإله المعبود لألهاهم ذلك عن
~~محبة الأشخاص الفانية، وحصل لهم مقصودهم من رياضة النفس وفرط المحبة وتهذيب
~~الأخلاق المذكورة، وصار كل موجود يحدث لهم الفكر فيه وجدا لموجده، وكل
~~مخلوق يتبين لهم منه محبة لخالقه، فتخاطبهم الموجودات والمخلوقات بألسنة
~~الأحوال، وتوضح لهم أنه لا يستحق المحبة على الكمال غير ذي الإكرام
~~والجلال.
# هذا ما يتعلق بالمقدمة وكيفية بناء الأصلين عليها. أما ما يتعلق بالعاشق
~~فقد ذكرنا أنه لابد من تحصيل المصالح وتكميلها، وإعدام المفاسد وتقليلها،
~~فمن دخل على أمر ما فواجب عليه أن ينظر في ذلك الأمر، فإن كانت ms0075 مصلحته
~~راجحة على مفسدته أخذ بالأرجح. PageV01P179
# وقد دل الدليل كما ذكرنا على أنه ليس في العشق الصوري مصلحة دينية كما
~~ذكرنا، وإنما فيه مصلحة رياضية نفسية، والمصالح الدينية مقدمة، مع ما يقرن
~~بذلك مع أدائه إلى فساد الذهن وتشويش الحواس، وهو ملحق بشرب الخمر المحرم،
~~وليس لصاحبه عذر يعتذر به ولا حجة يقيمها.
# مثال ذلك أن من شرب الخمر فسكر، فحصل منه جناية في حق أحد أو عربدة على
~~غيره، فأتلف شيئا، أخذ به، لأن الذي أزال عقله سبب محرم أدخله على نفسه
~~راضيا غير مكره، مع علمه قبل أن يشربه أنه يؤدي به الحال إلى هذا، فإذا
~~اعتذر وقال: لم أع ما قلت، ولا كان عقل أميز به، قلنا له: أنت فرطت حين
~~شربت.
# ولهذا جنح بعض العلماء إلى مؤاخذة السكران بما يصدر منه من طلاق وعتاق
~~وجناية، بخلاف من يزول عقله بخلط سوداوي أو روحاني، فإن ذلك ليس هو من
~~فعله، ولا تسبب فيه برضاه، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال (1) : "رفع القلم عن ثلاث"، فذكر المجنون حتى يفيق.
# فعلى هذا لا ينبغي لأحد أن يحكم على نفسه عشق الصور، ليؤدي به الحال إلى
~~الهلاك، فمن فعل ذلك فهو المفرط بنفسه والمقرر لها، فإذا هلكت فهو الذي
~~أهلكها، وإذا قتلت فهو الذي قتلها، فإنه لولا تكرار نظره إلى وجه معشوقه لم
~~يثبت محبته في قلبه، حتى أداه إلى ما أداه. PageV01P180
# وذلك لأن أول مرتبة المحبة (1) تسمى الاستحسان، وهي المتولدة عن النظر
~~والسماع، ثم تقوى هذه المرتبة بطول الفكرة في محاسن المحبوب وصفاته
~~الجميلة، فتصير مودة، وهي الميل إليه والألفة بشخصه. ثم تتأكد المودة فتصير
~~محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني. فإذا قويت صارت خلة، وهذا أصح
~~الأقوال. والخلة بين الآدميين هي تمكن محبة أحدهما من قلب صاحبه حتى يسقط
~~بينهما السرائر، ثم تقوى الخلة فتصير هوى، والهوى أن المحب لا يخالطه في
~~محبوبه تغير، ولا يداخله تلون. ثم يزيد الهوى فيصير عشقا.
# والعشق الإفراط في ms0076 المحبة حتى لا يخلو العاشق من تخيل المعشوق وفكره
~~وذكره، ولا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك يشغل النفس عن استخدام القوة
~~الشهوانية والنفسانية، فيمنع من النوم لاستضرار الدماغ. فإذا قوي العشق صار
~~تتيما، وفي هذا الحال لا يوجد في قلبه فضلة لغير تصور معشوقه، ولا يرضى
~~نفسه بسواها. فإذا تزايد الحال صار ولها، والوله هو الخروج عن الحدود
~~والضوابط حتى تختل أفعاله وتتغير صفاته، ويصير موسوسا لا يدري ما يقول ولا
~~أين يذهب، فحينئذ يعجز الأطباء عن مداواته، وتقصر آراؤهم عن معالجته،
~~لخروجه عن الحدود والضوابط.
# قال بعضهم (2) :
# الحب أول ما يكون لجاجة يأتي به ويسوقه الأقدار PageV01P181
# حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى جاءت أمور لا تطاق كبار
# فلو لم ينتقل العاشق بنفسه في هذه المراتب من مرتبة إلى مرتبة، حتى وصل
~~إلى الحد الذي يؤذيه، لم يصبه أذى، فهو الجاني على نفسه، وأشبه به قول
~~القائل: "يداك أوكتا وفوك نفخ" (1) . فتصور بهذا أنه مخطىء بما صدر منه أو
~~لا، وإن كان ينبغي أن يحتاط لنفسه ولا يورطها فيما فيه هلاكها.
# فعلى هذا فالعاشق له ثلاث مقامات (2) : مبتدأ، ومتوسط، ونهاية.
# أما مبتدؤه ففي أول الأمر واجب عليه كتمان ذلك وعدم إفشائه للمخلوقين،
~~تقليلا للوشاة عليه، وإمالة لقلب محبوبه إليه، مراعيا في ذلك شرائط الفتوة
~~من العفة مع القدرة، وإلا التحق بالشيطان الرجيم وحزبه، فازداد به الأمر
~~إلى المقام الأوسط، فيغلب عليه الحال، فلا بأس بإعلام محبوبه بمحبته إياه،
~~فيخف بإعلامه له وشكواه إليه ما يجده منه، ويحذر من إطلاع الناس على ذلك،
~~فهو يكون سبب هلاكه. فإن زاد به الأمر حتى يخرج عن الحدود والضوابط
~~المذكورة، فقد التحق من هذا حاله بالمجانين والمولهين.
# على أن من رخص في العشق من العقلاء، لما ذكرنا من ترويضه للنفس وتهذيبه
~~للأخلاق، فجعله مشروطا بالعفة المذكورة، كما قال قائلهم: "عفوا تشرفوا،
~~واعفوا تطرفوا". وقال الأحنف بن قيس (3) : PageV01P182
# أتأذنون لصب في زيارتكم فعندكم شهوات السمع والبصر
# لا يضمر الشوق إن طال الجلوس به عف ms0077 الضمير ولكن فاسق النظر
# وقيل لبعض العشاق: ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ قال:
# كنت أمنع طرفي من وجهه، وأروح قلبي بذكره وحديثه، أستر منه مالا يحب
~~كشفه، ولا أصير بفتح القفل إلى ما ينقض عهده. وأنشد (1) :
# أخلو به فأعف عنه كأنني خوف الديانة لست من عشاقه
# كالماء في يد صائم يلتذه ظمأ فيصبر عن لذيذ مذاقه
# وانقسموا قسمين:
# قسم قنعوا بالنظرة البعيدة ولو في مدة مديدة، كما قال شاعرهم:
# ليس في العاشقين أقنع مني أنا أرضى بنظرة من بعيد
# وقال الآخر:
# لو مر في خاطري تقبيل وجنته لسيلت فكري عن عارضيه دما
# وقال آخر:
# وأحفظه عن ناظري ومقلتي مخافة أن العين تجرح خده
# واستمروا على هذه الحالة، فمنهم من يموت وهو كذلك، لا يظهر سره لأحد، حتى
~~محبوبه لا يدري به. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عشق
~~فعف فكتمه فمات منه فهو شهيد" (2) . وهذا مقام PageV01P183
# عظيم يرفع، إن تركه وحسم مادته [فهو] أفضل وأقرب إلى الحق كما ذكرنا.
# والقسم الثاني أباحوا لمن وصل إلى حد يخاف على نفسه منه- القبلة في الحين
~~قد غلبه نفسه وقهره قوته. قالوا: لأن في تركها ما يؤدي إلى هلاك النفس،
~~والقبلة صغيرة، وهلاك النفس كبيرة، وإذا وقع الإنسان في مرضين خطرين داوى
~~أخطرهما، ولا خطر أعظم من قتل النفس، حتى أوجبوا على المحبوب مطاوعته على
~~ذلك إذا علم أن تركه ذلك يؤدي إلى هلاكه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:
~~(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) (1) ،
~~قالوا: إن سبب نزولها أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
~~يا رسول الله! إني أصبت من امرأة أجنبية كل شيء إلا النكاح، فقال له النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -: أصليت معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر الله لك. فنزلت
~~هذه الآية (2) .
# وبقول الله تعالى: (والذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش وإذا ما غضبوا
~~PageV01P184
# هم يغفرون (37)) (1) . إلا أنهم كما قال بعض السلف: ما رأيت شيئا ms0078 أشبه
~~باللمم من قول أبي هريرة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب
~~على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر،
~~واللسان يزني وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطا، واليد تزني وزناها
~~البطش، والقلب يهوى ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" (2) .
# وهذه النصوص واردة في حق النساء، وهذا السؤال عن الرجال، لأن أولئك القوم
~~في الزمن الأول لم يكن للغلمان عندهم قدر يهوون من أجله، أما الآن فقد
~~زادوا على الحد، وازدادوا على أولئك في الحد، وهم الفتنة موجودة، وقد نهى
~~الله عز وجل عن إرسال النظر، فقال تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)
~~(3) حسما لهذه المادة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "النظرة
~~الأولى لك، والثانية عليك" (4) . حتى قيل: "رب حرب حميت من لفظه، ورب عشق
~~غرس من لحظه".
# وقد نقل الشيخ محيي الدين النووي (5) تحريم النظر إلى الأمرد الحسن بشهوة
~~وبغير شهوة، وأفتى به وصححه - رحمه الله - ذهابا إلى سد هذه الثغرة وحسم
~~مادة هذه البلية العظيمة.
# فإن كان هذا السائل كما زعم ممن لا يدنس عشقه بزنا، ولا PageV01P185
# يصحبه بخنا، فينظر في حاله، إن كان من الطبقة الأولى فقد ذكر شروطهم فيما
~~يتعلق بالكتمان حتى عن المحبوب، وإن كان كافيا لهم ان صدقت دعواهم. وإن كان
~~من الطبقة الثانية فلا بأس بشكواه إلى محبوبه كي يرق عليه ويرحمه. وإن غلبه
~~الحال فالتحق بالثالثة أبيح له ما ذكرنا، بشرط أن لا يكون أنموذجا لفعل
~~القبيح المحرم، فيلتحق بالكبائر، فيستحق القتل عند ذلك، ويزول عنه العذر،
~~ويحق عليه كلمة العذاب، (حقت كلمة العذاب على الكافرين (71)) (1) .
# وأما ما يتعلق بالمعشوق فيجب عليه إدامة حمد الله وشكره على ما أعطاه من
~~الجمال والحسن، ويحرص أن لا يجتمع مع حسنه قبيح الفعال، ولا يدنس جماله
~~بخسيس الخصال. فإن ظهر له من محبة هذا صدق دعواه، وفهم سلوك طريق المحبة من
~~نجواه، فعامله المعاملة الجميلة، وأباح له النظر والمحادثة المذكورة،
~~والقبلة في الأحيان بالشروط ms0079 المتقدمة، مع أن هذا يكون تفضلا منه فلا يجب
~~عليه، فإن خست نفس العاشق وجنحت إلى الفسق الصراح هجره، وما عليه في ذلك من
~~جناح، وإن قتله بعشقه فليقتله، فهذا بعض حقه. والله أعلم بالصواب، وعنده
~~علم الكتاب. آخره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
# *** PageV01P186
### | مسألة في الفتوة وآدابها وشرائطها
# PageV01P187
# مسألة
# في الفتوة وآدابها وشرائطها، وهل لها أصل في كتاب الله وسنة رسول الله؟
~~وهل الفتوة متصلة بإبراهيم الخليل عليه السلام أو بعلي بن أبي طالب رضي
~~الله عنه؟ وهل إذا كانت متصلة بأحد من الأنبياء أو من الأولياء، فهل للباس
~~والماء والملح الذي يشربونه أصل في ذلك؟ حتى أنه إذا شرب أحدهم الشربة يعد
~~نسبها إلى آدم عليه السلام، وكيف سميت فتوة؟ وأيش السبب في ذلك؟ وهل لأحد
~~من أئمة المسلمين قول في ذلك أم لا؟.
# الجواب
# الحمد لله. الفتى في كلام العرب هو الحدث بالنسبة إلى غيره، كما قال
~~تعالى: (إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13)) (1) ، وقال تعالى: (قالوا
~~سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60)) (2) ، (وإذ قال موسى لفتاه) (3) ،
~~(وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) (4) .
# ثم إنها غلبت في عرف كثير من الناس على مكارم الأخلاق، لكون الشباب ألين
~~أخلاقا من الشيوخ، وصاروا يطلقون الفتوة على ذلك، حتى قال بعض المشايخ:
~~طريقتنا تتفتى وليس تتعرى. وكما قال آخر منهم: التصوف خلق، من زاد عليك في
~~الخلق زاد عليك في التصوف. PageV01P189
# وأعظم مكارم الأخلاق تقوى الله، ولهذا روي عن الإمام أحمد أنه سئل عن
~~الفتوة، فقال: ترك لما تخشى. وهذا من قوله: (وأما من خاف مقام ربه ونهى
~~النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41)) (1) . ولهذا يقولون: إن هذه
~~الآية تجمع علم الطريق، وصار يتكلم في الفتوة وما يدخل فيها من طوائف من
~~المشايخ وغيرهم، وجماع الأمر المحمود يرجع إلى الأصلين، كما روى حديثا صححه
~~عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ما أكثر ما يدخل
~~الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق، وسئل ما أكثر ما ms0080 يدخل الناس
~~النار؟ فقال: الأجوفان: الفم والفرج (2) .
# فتقوى الله وحسن الخلق يجمع كل خير، وقد قال الله تعالى: (إن الله مع
~~الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) (3) . وسواء سمي ذلك فتوة أم لم يسم،
~~فالاعتبار في الدين بالإخاء التي جاءت (4) في القرآن وما علق بها من مدح
~~وذم، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، فالممدوح مثل اسم الإيمان والإسلام والتقوى
~~والإحسان والبر والصدق والعدل ونحو ذلك، والمذموم مثل الكفر والنفاق
~~والفجور والإساءة والكذب والظلم والفواحش ونحو ذلك. فمن فعل ما يحمد عليه
~~في القرآن حمد، ومن فعل ما يذم عليه في القرآن ذم، ومن فعل ما يحمد وما يذم
~~استحق الحمد والذم جميعا، (وما ربك بظلام للعبيد (46)) (5) . PageV01P190
# وأما سقي الماء والملح وإلباس السراويل ونحو ذلك فبدعة باطلة لا أصل لها،
~~ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء والصالحين، لا إبراهيم ولا علي ولا غيرهما.
# ولا يشرع اجتماع طائفة وتحزبهم على التناصر المطلق، بحيث ينصر بعضهم بعضا
~~في الحق والباطل، بل الواجب على كل أحد اتباع كتاب الله وسنة رسوله،
~~والمؤمنون إخوة يجب موالاة بعضهم بعضا وتناصرهم وتعاونهم على البر والتقوى.
~~قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (1) ، وقال تعالى: (إنما وليكم الله
~~ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55)
~~ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)) (2) ،
~~وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون
~~عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم
~~الله إن الله عزيز حكيم (71)) (3) .
# وفي الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مثل
~~المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه
~~عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". وقال (5) : "المؤمن للمؤمن
~~كالبنيان يشذ بعضه بعضا"، وشبك بين أصابعه. وقال (6) : "والذي نفسي بيده لا
~~يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحبه لنفسه". PageV01P191
# وأمثال هذه الآيات والأحاديث التي إذا آمن الناس بها، وسموا بما سماهم
~~الله ورسوله، جمع الله لهم خير الدنيا والآخرة.
# ولم يكن من ms0081 الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين لا من أهل البيت ولا غيرهم
~~[من] يدعو الناس إلى هذا الاسم، ولا يحزب له أحزابا عليه. ومن نقل عن أمير
~~المؤمنين علي أو غيره شيئا من ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحاله.
# وأما الأمور المكروهة في الدين من الظلم والكذب (1) ونحو ذلك، فلا يشك
~~مؤمن بالله ورسوله أنه يجب النهي عن ذلك، بل يجب النهي عن دواعي ذلك
~~وأسبابه وما يقصد به ذلك.
# وكثير مما تسميه الناس فتوة في هذا الزمان يقصدون به التعاون على ظلم أو
~~فاحشة، ويجعلون ذلك وسيلة لصيد المردان وإفسادهم، فلو كان الفعل الذي
~~يفعلونه مباحا وكان المقصود به ذلك لكان محرما باتفاق المسلمين، فإن في
~~الصحيحين (2) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- قال: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى
~~الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو
~~امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
# فإذا كانت الهجرة التي أمر الله بها عباده، إذا كان مقصود المهاجر [بها]
~~التزوج بامرأة أو طلب دنيا لم يكن له إلا ذلك، ولم يكن له في الآخرة من
~~خلاق، فكيف ممن يفعل البدع لقصد الفواحش والظلم، PageV01P192
# حتى يجرئوا الشباب على القتل المحرم وأخذ الأموال والعشرة في طاعة
~~الشيطان، من جن[س] ما يفعله أهل الدساكر وأهل المياسر.
# والواجب النهي عن هذه الشباهة، وعقوبة من يفعل ذلك عقوبة بليغة تردع
~~المتعاونين على الإثم والعدوان المتشبثين بخطوات الشيطان.
# والله أعلم.
# ***
# PageV01P193
### | مسألة فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة
# PageV01P195
# مسألة
# فيما يفعله بعض الخطباء يوم الجمعة، كدق المنبر بالسيف في أول درجه
~~وثانيه وثالثه، وقول المؤذنين عند ذلك: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
~~وعلى أبي بكر وعمر ضجيعيه، وفي الثانية: وعلى عثمان وعلي صهريه؛ وفي
~~الثالثة: وعلى آل محمد وعلى الحمزة والعباس عميه. فإذا رقي أعلى المنبر
~~أقبل على الناس وسلم عليهم ورفع يده، فإذا شرع ms0082 في الخطبة وأتى إلى ذكر
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع المؤذنون أصواتهم بالصلاة عليه، فإذا فرغ
~~الخطيب قام بعض المؤذنين ومجد الخطيب وأثنى عليه.
# الجواب
# البدع التي يفعلها الخطباء في الجمعة متعددة، قد ذكروا منها نحو عشرين
~~بدعة (1) ، منها ما ذكر من الدق بالسيف، ورفع المؤذن صوته بالدعاء للخطيب،
~~أو بالصلاة والترضي.
# وأما تسليم الإمام عليهم إذا استقبلهم بعد الاستدبار، فهو مستحب عند
~~الشافعي وأحمد وغيرهما (2) ، وقد جاء ذلك مأثورا عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - (3) ، PageV01P197
# ولكن يسلم السلام الشرعي.
# واتفق الأئمة على أن المشروع لمن سمع الخطيب أن ينصت ولا يجهر بشيء، فقد
~~قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قلت لصاحبك - والإمام يخطب يوم الجمعة-:
~~أنصت، فقد لغوت" (1) . فإذا كان الأمر بالإنصات لاغيا فكيف غيره؟ وسواء في
~~ذلك المؤذن وغيره، لا يجهر أحدهم عند تكلم الخطيب بشيء، لا بصلاة على النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - ولا غير ذلك. لكن هل يسكت عند ذكر النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أو يصلي عليه سرا في نفسه؟ هذا فيه نزاع بين العلماء، فأما رفع
~~الصوت بذلك أو غيره فمنهي عنه باتفاق العلماء، وجمهورهم على أن ذلك محرم،
~~كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه وأحمد في أشهر
~~الروايتين عنه.
# وقد تبين أن هذه الأفعال مذمومة إلا سلام الخطيب على المأمومين.
# والله أعلم. الحمد لله، وصلى على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
# *** PageV01P198
### | قاعدة في أفعال الحج
# PageV01P199
# بسم الله الرحمن الرحيم
# قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله:
# الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
# وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
~~صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
# فصل
# في أعمال الحج والعمرة، وما يشرع منها في غير حج ولا عمرة، وما يختص
~~بالحج، وهل لمن ليس بحاج ولا معتمر أن يدخل معهم ms0083 في بعض ذلك ولا يلتزم
~~شرائطه، وكذلك الصلاة فنقول
### | : أعمال الحج ثلاثة أقسام،
# منها ما يختص بالحج، ومنها ما يشترك فيه الحج والعمرة، ومنها ما يشرع
~~منفردا عن الحج والعمرة.
# فهذا الثالث هو الطواف بالبيت، فإن الحج لابد فيه من طواف بالبيت، وكذلك
~~العمرة. والطواف عبادة مستقلة، فيطوف بالبيت المحل الذي ليس في حج ولا
~~عمرة، ولا يشترط له إحرام. وهذا متفق عليه بين المسلمين، مشروع للخلق من
~~حين بنى إبراهيم البيت. قال تعالى: (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع
~~السجود (26)) (1) . فهذه PageV01P201
# العبادات الطواف والاعتكاف والصلاة هي مشروعة لجميع الناس، لا يختص شيء
~~من ذلك بالحج والعمرة، بل الاعتكاف مشروع بغير إحرام، وكذلك الصلاة، وكذلك
~~الطواف. لكن الطواف هو ركن في الحج والعمرة، بخلاف الاعتكاف، لقوله تعالى:
~~(ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)) (1) .
# وأما الطواف بالصفا والمروة فيختص بالحج والعمرة، لا يشرع منفردا، بل ولا
~~يشرع إلا بعد الطواف بالبيت، ولهذا يجيء في الحديث: "طاف بالبيت وبين الصفا
~~والمروة" (2) . قال تعالى: (*إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت
~~أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (3) ، لم يشرع ذلك مطلقا كما شرع
~~الطواف والاعتكاف والصلاة، وقد ثبت في الصحيح (4) : أن ناسا كانوا يظنون أن
~~الصفا والمروة ليس من شعائر الله، بل ظنوا ذلك من أعمال الجاهلية، وآخرون
~~كانوا لا يطوفون بهما في الجاهلية. فلما جاء الإسلام سألوا عن ذلك، فأنزل
~~الله هذه الآية، يبين أن الصفا والمروة من شعائره، وقد شرع لعباده الطواف
~~بهما، فلا جناح في ذلك على من حج أو اعتمر، وأزال بذلك ما كان قد حصل من
~~الشك والظن. وهذا كما يسأل الرجل عن عبادة مأمور بها، فيظن أنها منهي عنها،
~~فيقال له: لا بأس بذلك، وإن كان ذلك مشروعا مستحبا.
# ولم يكن حين نزول هذه الآية قد أوجب الله الحج، بل بين أن PageV01P202
# ذلك مشروع بقوله: إنهما (من شعائر الله) ، وبقوله: (ومن تطوع خيرا فإن
~~الله شاكر عليم (158)) (1) . فهذا وهذا يبين أن ذلك ms0084 عمل صالح، وأن قوله
~~"فلا جناح" لنفي الشبهة التي وقعت لهم في ذلك، وأن قوله "لا جناح عليه" أي
~~لا جناح في التقرب بالطواف واتخاذه عبادة، فإن أحدا لا يطوف بهما إلا على
~~وجه التعبد، ليس ذلك كالسفر الذي يفعل على وجه العبادة وغير وجه العبادة.
~~فلما قال تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) وهو لا يفعل إلا عبادة، كان
~~المعنى: لا جناح [على] من عبد الله بهما، فيدل ذلك على أن الطواف بهما
~~عبادة لله.
# وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن تنازعوا: هل ذلك ركن؟
# كما يقوله مالك والشافعي، أو واجب يجبره دم؟ أم لا شيء في تركهما؟ كما
~~يقوله طائفة من السلف، وهي ثلاث روايات عن أحمد (2) . وأقوى الأقوال أنه
~~واجب يجبره دم.
# وهذا كما يقول: تقام الجمعة في القرى، وبدون إذن الإمام، وإن كان ذلك
~~واجبا، لما في ذلك من الشبهة. وكما يجوز الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة،
~~وإن كان ذلك هو السنة. وكما يجوز إشعار الهدي، وإن كان ذلك هو السنة. وكما
~~يقول: يجوز قضاء الفوائت في أوقات النهي، وإن كان ذلك واجبا، لأن قضاءها
~~على الفور. وكما يجوز قصر الصلاة في السفر وإن كان آمنا، وهذا هو السنة، بل
~~هو واجب في أحد قولي العلماء. ونظائر ذلك كثيرة.
# والمقصود هنا أن الطواف بالصفا والمروة مما لا يكون إلا في PageV01P203
# حج أو عمرة بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يفعل مفردا كالطواف، ولا يختص
~~بالحج كالوقوف. وكذلك الإحرام والتلبية والحلق أو التقصير هو مما يشترك فيه
~~الحج والعمرة.
# وأما القسم الثالث وهو ما يختص [به] الحج، كالوقوف بعرفة وتوابعه مزدلفة
~~ومنى، ورمي الجمار، فهذه الأعمال يختص بها الحج، وما اختص به الحج فإنه
~~يختص بمكان وزمان. فالوقوف لا يكون إلا يوم عرفة وليلة النحر، وهو مختص
~~بعرفات، لا يسافر إلى غيرها للوقوف، وكذلك توابعه: كالوقوف بمزدلفة،
~~والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فهذا له مكان مخصوص، وهو مشروع في أوقات
~~مخصوصة.
# بخلاف العمرة، فإنها مشروعة في جميع السنة، قال ms0085 الله تعالى: (الحج أشهر
~~معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (1) ، وقال:
~~(*يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) (2) .
# ولهذا اتفق العلماء على أن من طلع عليه فجر يوم النحر ولم يقف بعرفة، أنه
~~فاته الحج، لأن له وقتا محدودا، وإذا فاته الحج سقطت توابعه - كالوقوف ورمي
~~الجمار - عند عامة العلماء للسلف والخلف، وهو قول الأئمة الأربعة وغيرهم،
~~لكنه هل ينقلب إحرامه عمرة؟ لكونها لا وقت لها، أو يتحلل بطواف الحج وسعيه؟
~~فيه قولان مشهوران للعلماء، والنزاع في مذهب أحمد وغيره (3) . PageV01P204
# وفيها قول شاذ أنه يتم أعمال الحج من الوقوف بمزدلفة ورمي الجمار، يروى
~~عن الأوزاعي والمزني، وهو رواية ضعيفة عن أحمد.
# والصواب ما عليه الجمهور، كما نقل عن الصحابة، ولأن الله إنما أمر بهذه
~~الأعمال من وقف بعرفة، فقال: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر
~~الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من
~~حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم
~~فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) (1) الآية. وإذا كان إنما أمر
~~بذلك من أفاض من عرفات، فمن فاته الحج لم يفض من عرفات، فلا يؤمر بذلك.
~~وهذا كما أن الطواف بين الصفا والمروة إنما يكون تابعا للطواف بالبيت، فلا
~~يفعل إلا بعده، فمن لم يطف بالبيت لم يطف بالصفا والمروة.
# وأعظم أعمال الحج الوقوف والطواف، وهما ركنان في الحج باتفاق العلماء،
~~وهذا من جنس السكون، وهذا من جنس الحركة.
# فصل
# فمن اجتاز بالمواقيت لقصد الحج والعمرة، فعليه الإحرام بالسنة المستفيضة
~~واتفاق العلماء، كما قال ابن عباس في الحديث المتفق عليه (2) ، وقال: وقت
~~لأهل المدينة ذا الحليفة، وأهل الشام الجحفة، وأهل نجد قرنا، وأهل اليمن
~~يلملم، وقال: "هن لهن ولكل آت آتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج أو العمرة،
~~ومن كان دون ذلك PageV01P205
# فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون منها".
# وإذا اجتاز بالمواقيت لا يريد الحرم، فليس عليه الإحرام ms0086 بالاتفاق.
# وإن اجتاز بها يريد مكة لتجارة أو زيارة أو غير ذلك مما لا يتكرر، فإنه
~~ينبغي له أن يدخل محرما بحج أو عمرة. وهل ذلك واجب؟ فيه قولان للعلماء،
~~والجمهور على الوجوب، وهو مأثور عن ابن عباس، حكاه عنه أحمد وغيره، وهذا
~~مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد. وعنهما أن ذلك
~~مستحب.
# ومن قال بالوجوب تنازعوا فيما إذا ترك ذلك، هل يلزمه القضاء؟
# فأوجبه أبو حنيفة، ولم يوجبه الباقون. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~"ممن يريد الحج والعمرة" (1) لا ينافي هذا القول، فإن هؤلاء يوجبون عليه أن
~~يريد الحج أو العمرة، لكن الحديث فيه نفي ذلك عمن (2) لا يريده، مثل
~~المجتاز بالمواقيت إلى غير مكة.
# ولو كان منزله بالمواقيت أو دونها لم يوجب أبو حنيفة عليه الإحرام،
~~وأوجبه مالك والشافعي وأحمد - على قولهما بالوجوب -، وقد حكى الطحاوي الأول
~~عن مالك.
# والنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وخلفاؤه لم يدخل أحد منهم مكة إلا
~~محرما، إلا عام الفتح، فانه دخل وعلى رأسه المغفر (3) ، ولم يكن محرما، لأن
~~الله أحل له القتال فيها يومئذ، وقال: "إنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل
~~لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار" (4) . وقال: "فإن PageV01P206
# أحد ترخص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها فقولوا: إنما
~~أحلها الله لرسوله، ولم يحلها لك، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها أمس" (1)
~~.
# فصل
# وأما من عمل أعمال الحج والعمرة فهذا عليه أن يفعلها على الوجه المشروع،
~~وليس له أن يجتاز بالمواقيت بلا إحرام، بالسنة واتفاق العلماء. وهو كمن
~~أراد الصلاة، عليه أن يصليها على الوجه المشروع، فيصليها بطهارة وقصد إلى
~~القبلة، وإن كانت الصلاة تطوعا غير فرض، لكن ليس له أن يصلي إلا على الوجه
~~المشروع.
# كذلك الحج والعمرة وإن كان متطوعا، فليس له أن يحج ويعتمر إلا على الوجه
~~المشروع. فلو قال: أنا أدخل بلا إحرام، وأطوف بالبيت وبين الصفا والمروة،
~~لم يكن له ذلك. وكذلك لو قال: أنا أدخل بلا ms0087 إحرام، وأقف بعرفة ومزدلفة
~~وأرمي الجمار، لم يكن له ذلك بالسنة واتفاق العلماء.
# ولو قال: أنا أريد الوقوف فقط، فأذهب في شأني غير محرم إلى عرفة، فأقف مع
~~الناس وأرجع، فهذا أولى بالمنع، لأن ذاك ترك الإحرام وحده، وهذا ترك
~~الإحرام وتوابع الوقوف. والوقوف بعرفة إنما شرعه الله بعمل قبله - وهو
~~الإحرام -، وعمل بعده - وهو الوقوف بالمشعر الحرام وسائر المناسك-، قال
~~تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما
~~هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس
~~واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199) فإذا قضيتم مناسككم PageV01P207
# فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) إلى قوله (*واذكروا الله في
~~أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن
~~اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون (203)) (1) .
# فأمر سبحانه الناس إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروه عند المشعر الحرام، وهو
~~مزدلفة كلها بالسنة واتفاق العلماء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~في عرفة: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة". وقال في
~~مزدلفة: "هذا الموقف، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر". وقال: "منى
~~كلها منحر، وفجاج مكة كلها منحر" (2) . وأمر الناس بقضاء مناسكهم أي
~~إتمامها وإكمالها. وأمرهم أن يذكروه في أيام معدودات، وهن أيام التشريق،
~~وفيها يرمى الجمار الثلاث، ويذكر الله عند رمي الجمار بدعاء بين كل جمرتين.
~~ومزدلفة المبيت بها والوقوف بها ورمي الجمار بمنى واجب عند العلماء قاطبة،
~~ومنهم من جعل الوقوف بمزدلفة ركنا.
# فهذا الذي وقف بعرفة إن لم يفعل ما أمره الله من هذه الأعمال فقد عصى
~~الله ورسوله، وترك ما أوجبه الله. وإن فعل ذلك بغير إحرام، وقال: كنت حاجا،
~~فهو أيضا عاص لله ورسوله، فإن هذه هي أفعال الحج، وليس للإنسان أن يأتي
~~بالعبادة بلا قصد التعبد، فإن هذا استهزاء بآيات الله. وهو بمنزلة من يقوم
~~ويركع ويقرأ ويسجد، ويقول: لست مصليا، فلا أحتاج إلى وضوء. PageV01P208
# وليس لأحد ms0088 أن يشهد مجامع الناس في صلاتهم وحجهم إلا إذا شاركهم في ذلك.
~~وفي السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة العصر بمسجد الخيف،
~~فرأى رجلين لم يصليا، فقال علي بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما، فقال:
~~"مالكما لم تصليا؟ ألستما مسلمين؟ "، فقالا: يا رسول الله! صلينا في
~~رحالنا، قال: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم،
~~فإنهما لكما نافلة" (1) . وكذلك قال عن الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن
~~وقتها، قال: "صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة" (2) . وفي
~~رواية: "ولا يقل أحدكم قد صليت" (3) .
# وكذلك الوقوف بعرفة ومزدلفة، لا يقف هناك مع الحجاج إلا حاج محرم. وقد
~~روي عن عمر بن الخطاب أنه رأى بعرفة قوما عليهم العمائم، فأراد عقوبتهم.
# والله سبحانه يباهي الملائكة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، آتوني
~~شعثا غبرا (4) . وهذا شعار الإحرام، فمن لم يحرم لم يأت ربه لا أشعث ولا
~~أغبر. فمن ذهب إلى عرفات بغير إحرام، ووقف مع الناس ثم انصرف منها، كما
~~يحصل لطائفة من الناس ممن PageV01P209
# يحمله الجن والشياطين، يحملونهم إلى عرفات ثم يردونهم، فهؤلاء ضالون
~~مبتدعون خارجون عن شريعة الإسلام، وإن كانوا وقفوا بعرفات بغير إحرام وفي
~~غير حج، ولم يفعلوا ما أمر به المفيضون من عرفات بعد ذلك.
# والوقوف بعرفات لا يكون قط مشروعا إلا في الحج باتفاق المسلمين، في وقت
~~معين على وجه معين، فمن قال: أقف ولست بحاج فقد خرج عن شريعة المسلمين، بل
~~إن اعتقد ذلك دينا لله مستحبا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وإن قال: ليس
~~بدين لله ولا هو مستحب، قيل له: إنما فعلت على وجه التدين والتعبد به، وهذا
~~لا يجوز. وإن كنت فعلته على سبيل التنزه والتفرج فهذا شر وشر.
# والحج والعمرة لهما شأن يميزهما، فيلزمان بالشروع، كما قال: (وأتموا الحج
~~والعمرة لله) (1) ، فمن دخل فيهما لم يكن له الخروج، فالواقف بعرفة عليه
~~إتمام الحج وإن كان متطوعا، وليس له أن يقف وينصرف باتفاق المسلمين.
# فهذا الذي حملته الجن ms0089 إلى عرفة ثم منها إلى بلده، قد ترك ما أمر الله به
~~قبل الوقوف وبعد الوقوف وحال الوقوف، حيث وقف بثيابه من غير إحرام. ولو قدر
~~أنه وقف بعرفة ومزدلفة ومنى كان قد ترك ما يجب عليه من الإحرام، وفعل ذلك
~~في ثيابه بغير عذر. وهذا لا يجوز بالنص والإجماع.
# ولهذا يذكر عن بعض المحمولين إلى عرفة من بلد بعيد - إما الإسكندرية أو
~~غيره - أنه رأى في منامه وهو هناك ملائكة تنزل تكتب PageV01P210
# الحجاج، فقال: ألا تكتبوني؟ فقالوا: لست منهم، الحجاج هؤلاء الذين جاءوا
~~ركبانا ومشاة، وأحرموا ووقفوا وهم يتمون الحج. أو كما قيل له.
# وأيضا فالله تعالى إنما دعا الناس إلى بيته على لسان الخليل، قال: (وأذن
~~في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) (1) .
~~فجعل الآتين إلى بيته نوعين: رجالا وركبانا، وليس فيهم طائر ولا محمول في
~~الهواء، فدل على أن هذا القسم الثالث ليسوا ممن أجاب دعوة ربهم، ولهذا لا
~~يلبون.
# ومنهم من يحمله الشيطان، ويمنعه أن يرى شيئا، فلا يحس بنفسه إلا بعرفة أو
~~بغيرها من الأماكن التي يحمله إليها. وقد حدثني غير واحد من الثقات عن
~~الشيخ إبراهيم الجعبري أنه قال: خرجت مرة، فرأيت بالكسوة - أو قال بغيرها -
~~رجالا ممن يطير في الهواء، فيذهب إلى مكة، فقالوا: لا تذهب معنا؟ فقلت لهم:
~~لا، فإن هذا الذي تفعلونه لا يسقط الفرض عنكم، ولا يتقبله الله حتى تحجوا
~~كما أمر الله ورسوله، فيحصل لكم في طاعة الله من التعب وغيره ما يأجركم
~~الله عليه، وأما هذا الحج فلا فائدة فيه. فقالوا: نحن نقبل منك ونحج معك
~~على السنة. فلما حجوا قالوا: جزاك الله خيرا، فإنا في هذه الحجة ذقنا طعم
~~العبادة لله وحلاوة الحج.
# ومن هؤلاء المحمولين الذي تحملهم الجن إلى مكة من يذهب به قبل الحج،
~~فيحرم من الميقات، ويحج حج المسلمين. ولكن هذا محروم، فوت نفسه فضل السير
~~إلى المواقيت راكبا أو ماشيا، فلم PageV01P211
# يكن له أجر الحجاج. ومن هذا ms0090 الباب ما يحكى عن بعض المشايخ - معروف أو
~~غيره - أنه سار في الهواء إلى مكة، فطاف بالبيت، ثم ذهب ليشرب من زمزم،
~~فوقع فشج. فإن هذا وإن كان أهون من الذي حمل يوم عرفة إلى عرفة، كما حمل
~~جماعة كثيرة من أعصار وأمصار متفرقة. وأقدم من حكي هذا عنه حبيب العجمي.
~~فأما الصحابة فكانوا أجل قدرا من أن يطمع الشيطان في أن يضلهم ويصرفهم عن
~~سنة الرسول وشريعته، كما صرف من كان قليل العلم والمعرفة بالسنة والشريعة
~~من العباد والزهاد وغيرهم.
# والذين يحملون إلى عرفات أو غيرها، منهم من لا يعرف أن ذلك من الجن،
~~ومنهم من يعرف ذلك، ويظن هؤلاء وهؤلاء أن ذلك كرامة من كرامات الأولياء،
~~وأن هذا العمل مما يحبه الله ويرضاه ويثيب صاحبه عليه. ولو علموا أن ذلك
~~ليس بواجب ولا مستحب في الشريعة، وأنه من إضلال الشياطين لهم، لم يفعلوه
~~لما عندهم من الدين والخير وحسن القصد، رحمة الله عليهم. والمجتهد المخطئ
~~يغفر له خطؤه، ويثاب على حسن قصده وما عمله من عمل مأمور به، والله أعلم.
~~لكن مثل هذا هو مما يعذر فاعله عليه، ليس هو مما يستنكر عليه، بخلاف ما
~~فعله من لم يعرف، فإنه يظن أن هذا من أعظم القربات. ولو علم أن مثل هذا
~~الحمل إلى الأمكنة البعيدة يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين
~~أعظم مما يحصل للمؤمنين، لعلم أنه من عمل الشيطان، لا مما أمر به الرحمن.
# وذلك أن الطواف بالبيت مشروع بغير إحرام، لكن نفس الدخول إلى مكة للطواف
~~بغير إحرام لا يجوز عند جماهير العلماء، بل لو جاز لتجارة لم يجز، فكيف
~~للطواف بلا إحرام. ومن لم يوجبه فإنه
# PageV01P212
# يستحبه، فهذا فوت نفسه هذه الفضيلة. وذهابه محمولا مع الجن أو غيرهم في
~~الهواء ليطوف ليس من الأعمال الصالحة المشروعة، لا واجبا ولا مستحبا، ولو
~~كان ذلك مشروعا لكان الأنبياء أقدر على ذلك، وكانوا يذهبون في الهواء
~~يحجون، وهذا لم يعرف عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة، والأنبياء ms0091 أفضل
~~الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، ولو كان عملا صالحا لكان هؤلاء
~~أحق به من غيرهم.
# ونبينا - صلى الله عليه وسلم - إنما أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد
~~الأقصى ليريه الله من آياته بالمعراج، كما قال: (سبحان الذي أسرى بعبده
~~ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا
~~إنه هو السميع البصير (1)) (1) . فالمقصود كان أن يريه الله من آياته، كما
~~أراه ليلة المعراج ما أراه من الآيات. قال تعالى: (أفتمارونه على ما يرى
~~(12) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15)
~~إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات
~~ربه الكبرى (18)) (2) . وقال تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا
~~فتنة للناس) (3) .
# وفي الصحيح (4) عن ابن عباس قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - ليلة أسري به. ولهذا كان قوله (لنريه من آياتنا) دليلا في
~~المعراج الذي كان بعد المسرى إلى المسجد الأقصى، لم يكن المقصود مجرد رؤية
~~الأقصى، فإنه قد رآه المسلم والكافر والبر والفاجر، ولكن هو سبحانه أخبر
~~بذلك ليكون هذا آية للرسول، فإنهم قد رأوا PageV01P213
# المسجد الأقصى، فإذا أخبرهم أنه رآه ووصفه لهم - كما جاء في الحديث
~~الصحيح (1) - كان ذلك حجة له على أنه رآه، ولم يمكنهم تكذيبه في ذلك، بخلاف
~~ما لو أخبر بالعروج إلى السماء ابتداء، فإنهم كانوا إذا كذبوا بذلك لم يكن
~~هناك ما رأوه حتى يصفه لهم.
# وهو سبحانه قد أخبر بعروجه إلى السماء في قوله: (ولقد رآه نزلة أخرى (13)
~~عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16)
~~ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18)) (2) .
# وهو سبحانه ذكر هذا بعد أن ذكر رؤية جبريل النزلة الأخرى في الأرض، فإنه
~~رآه على صورته مرتين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقال في سورة
~~التكوير وقد ذكر سبحانه بقوله: (إنه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي
~~العرش مكين (20) مطاع ثم ms0092 أمين (21)) (3) ، فهذا جبريل، ثم قال: (وما صاحبكم
~~بمجنون (22) ولقد رآه بالأفق المبين (23) وما هو على الغيب بضنين (24) وما
~~هو بقول شيطان رجيم (25) فأين تذهبون (26) إن هو إلا ذكر للعالمين (27) لمن
~~شاء منكم أن يستقيم (28) وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين (29))
~~(4) .
# وهؤلاء الذين يحملون إلى مكة في الهواء: منهم من مثل له فرس أو بعير،
~~يركبه وهو يسير في الهواء، ومنهم من لا يرى شيئا، ومنهم من يعرف أنه محمول.
~~وقد حدثني منهم من حمل، وحدثني جماعات عن جماعات منهم وعمن كان قبلنا.
~~وأحوالهم مع الشياطين بحسب بعدهم عن معرفة ما جاء به الرسول والعمل به، فإن
~~هذا هو PageV01P214
# دين الله، وأهله هم عباد الله الذين لا سلطان للشيطان عليهم، كما قال
~~تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك وكيلا (65)) (1) .
# ولما قال الشيطان: (بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين
~~(39) إلا عبادك منهم المخلصين (40)) (2) قال الله: (هذا صراط علي مستقيم
~~(41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ، ثم قال: (إلا من اتبعك من الغاوين)
~~(3) .
# وهذا استثناء منقطع في أصح القولين، لقوله في الآية الأخرى. (إن عبادي
~~ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا (65)) (4) ، ولم يستثن منهم أحدا. وقال
~~في الآية الأخرى: (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه ليس له سلطان
~~على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99) إنما سلطانه على الذين يتولونه
~~والذين هم به مشركون (100)) (5) .
# و
### | عباد الله هم الذين عبدوه وحده مخلصين له الدين،
# وعبادته إنما هي بطاعته وطاعة رسله، وذلك هو الواجب والمستحب، كما في
~~صحيح البخاري (6) وغيره [في] حديث الأولياء من حديث أبي هريرة عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني
~~بالمحاربة" - وروي: فقد آذنته بالحرب - "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما
~~افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت
~~سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي
~~يمشي بها، ولئن سألني لاعطينه، PageV01P215
# ولئن ms0093 استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس
~~عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه". وهذا مبسوط في
~~مواضع (1) .
# والمقصود هنا أنه كلما كان الإنسان أقرب إلى الصراط المستقيم الذي بعث
~~الله به رسوله كان أقرب إلى أن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم
~~سلطان، وكلما كان أبعد عن ذلك كان أقرب إلى الشياطين. فهؤلاء الذين يحملهم
~~في الهواء: منهم من يحمله إلى بلاد الكفر، ويدخلون مع الكفار في دينهم، وهم
~~منافقون وإن كانوا في ديار الإسلام يظهرون الإسلام. ومنهم من يحمل من بعض
~~بلاد الكفار إلى بعض، ومن ذلك ما يكون بسحر، ومنه مالا يعرف صاحبه السحر،
~~لكن يكون مشركا أو منافقا يتعبد تعبد المشركين والمنافقين.
# والذين يحملون إلى مكة: منهم من لا يدخل المسجد الحرام ولا يصلي فيه، ولا
~~يصلي في الطريق ولا في بلده، والمدة في وصولهم إلى مكة تختلف، منهم من يصل
~~في بعض نهار من مثل مصر والشام والجزيرة والعراق، ومنهم من يصل في يوم أو
~~يومين أو أكثر من ذلك.
# وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين أنه كان له رفقة سماهم، وأنهم لم يدخلوا
~~المسجد الحرام، ولا طافوا ولا صلوا، لا فيه ولا في الطريق. ومن هؤلاء من
~~يتمثل له شخص ويقول: أنا الخضر، أو يسمي غير الخضر من الأنبياء والصالحين،
~~ويقول: أنا أذهب بك إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، وقد يكاشفه ببعض
~~الأشياء، وقد PageV01P216
# يحضر له طعاما أو شرابا في الهواء، ويكون ذلك مما قد أخذه من بعض
~~الأماكن، وكثير منه يكون مسروقا قد سرقه وأخذه الشيطان من مال من خان
~~شريكه، أو من مال من لم يذكر اسم الله عليه.
# وهؤلاء من جنس الكهان، قد يوحون إلى أوليائهم من الإنس بعض ما يكاشفون
~~به، ولابد أن يكذبوا في بعض ما يخبرون به، لكن ما كان مستورا عنهم قد ذكر
~~صاحبه عليه اسم الله لا يرونه ولا يخبرون به. وهذا من الفروق ms0094 بين إخبار
~~هؤلاء وبين إخبار المسيح بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، فإن المسيح يخبر
~~بالبواطن التي تكون محجوبة عن الجن، كما يحجب عنهم الأشياء بذكر اسم الله
~~تعالى. فالآكل متى ذكر اسم الله لم يشركه الشيطان في طعامه، وإن سمى الله
~~عند دخول المنزل لم يشركه في دخول البيت، وإن لم يسم الله لا في هذا ولا
~~هذا أدرك المبيت والطعام، كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في
~~الحديث المعروف (1) .
# والمسيح يخبر بذلك، وأيضا فخبر المسيح صدق كله، ليس في شيء منه كذب،
~~وهؤلاء الذين يخبرون عن إعلام الشياطين لهم لابد أن يكذبوا. قال تعالى: (هل
~~أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون
~~السمع وأكثرهم كاذبون (223)) (2) . والكلام على جنس هذا وأقسامه مذكور في
~~مواضع.
# والمقصود أن
### | مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعا
# بالإجماع، لا واجبا ولا مستحبا، بل هو منهي عنه لا PageV01P217
# يجوز التعبد به، بل من أراد أن يقف مع المسلمين بعرفة فإنه يحج كما يحج
~~المسلمون، فيحرم إذا حاذى الميقات، وإذا أفاض من عرفات فعل عند المشعر
~~الحرام ومنى ما أمر الله به ورسوله، وطاف بالبيت العتيق. لا يشرع الوقوف
~~إلا على هذا الوجه. ومن حمل إلى عرفات ولم يقف الوقوف المشروع، فهو كمن حمل
~~يوم الجمعة إلى المسجد وهو جنب أو بلا وضوء، فسمع الخطبة ولم يصل مع
~~المسلمين، أو صلى بلا وضوء أو إلى غير القبلة.
# والعبد والصبي لا يلزمهما الحج، وإذا حجا صح حجهما ولم يسقط عنهما فرض
~~الإسلام، بل إذا بلغ هذا وعتق هذا فعليه الحج إن استطاعه.
# ولو أراد العبد والصبي أن يقف بلا إحرام وحج منع من ذلك.
# وليس لأحد أن يقف بعرفة إلا مكشوف الرأس محرما، إلا من كان معذورا. ولو
~~أراد الماشي إلى عرفة والراكب أن يقف مع الناس بلا حج ولا إحرام منع من
~~ذلك، كما لو أراد الماشي والراكب والمحمول في الهواء أن يشهد عند المسلمين،
~~فيكون بين ms0095 صفوفهم ولا يصلي صلاتهم، فهذا يعاقب على ذلك.
# والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر النساء أن يخرجن إلى العيد، وأمر
~~الحيض والعواتق وذوات الخدور، وقال: "أما الحيض فيعتزلن المصلى ويشهدن
~~الخير ودعوة المسلمين" (1) ، فالحيض مع كونهن معذورات في ترك الصلاة أمرهن
~~أن لا يختلطن بالمصليات، ولا يكن بين صفوف المصليات، بل يعتزلن المصلى،
~~ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. فكيف من لا عذر له إذا أراد أن يختلط
~~بالمصلين في PageV01P218
# صفوفهم ولا يصلي معهم؟ وكذلك من يطوف بالهواء من الإنس، فقد رئي بعض
~~هؤلاء في الهواء عند الكعبة، وتوضأ وسقط من وضوئه على الأرض، فأنكر عليه
~~الرائي وأحسن في إنكاره، فإن الصلاة والطواف في الهواء غير مشروع، بل يطوف
~~بالأرض ماشيا أو راكبا لعذر، وكذلك الصلاة يصلي على الأرض أو راكبا لعذر.
~~فهذا هو الذي يكون عبادة لله واتباعا لما أنزله ولرسله، وقد قال - صلى الله
~~عليه وسلم -: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (1) .
# وحمل هؤلاء في الهواء ليس من كرامات أولياء الله، بل من تلعب الشياطين
~~بهم وإضلالهم لهم، كما يفعل الشياطين بالمشركين والنصارى ونحوهم، يفعل بهم
~~أعظم مما هو من هذا، وكذلك ما يفعل مع السحرة والكفان، كما قد بسط في
~~مواضع. وقد قال العفريت لسليمان لما قال: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني
~~بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن
~~تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين (39)) (2) . فهذا يبين أن العفاريت
~~يقدرون على مثل ذلك، لكن هذا كان لسليمان تسخيرا من الله لسليمان، كما سخر
~~له الريح غدوها شهر ورواحها شهر، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين
~~في الأصفاد.
# والشياطين أضلت كثيرا من بني آدم، فذكروا لكثير من الإنس أن سليمان كان
~~سحر الجن بأسماء وكلمات يقوم بها وهي شرك، وكتبوا ذلك في كتب، وقد قيل:
~~إنهم دفنوها، حتى ظهرت تلك الكتب، وقالوا: إن سليمان كان يسحر الجن بهذا،
~~فصار أهل الضلال فريقين: PageV01P219
# فريقا قدحوا في سليمان وبينوا أنه ساحر ms0096، كما يقول ذلك من يقوله من أهل
~~الكتاب، وفريقا قالوا: إنه نبي، وإن هذه الأسماء والكلمات علمه الله إياها،
~~فعملوا بها فكفروا. فنزه الله سليمان عن قول الطائفتين، وبين كفر من اتبع
~~الشياطين، وذم أهل الكتاب الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما
~~تتلو الشياطين على ملك سليمان، قال تعالى: (ولما جاءهم رسول من عند الله
~~مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم
~~لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان
~~ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت
~~وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما
~~ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله
~~ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من
~~خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو أنهم آمنوا واتقوا
~~لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103)) (1) . وبسط هذا له مواضع
~~أخر، والله سبحانه أعلم.
# *** PageV01P220
### | فتوى في البيع بفائدة إلى أجل
# PageV01P221
# بسم الله الرحمن الرحيم
# سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية - رضي الله عنه - عن رجل
~~احتاج إلى مئة درهم، فجاء إلى رجل فطلب منه دراهم، فقال الرجل: ما عندي إلا
~~قماش، فهل يجوز له أن يبيعه قماش مئة درهم بمئة وخمسين إلى أجل؟ أو يشتري
~~له قماشا من غيره، ثم يبيعه إياه بفائدة إلى أجل؟ وهل يجوز اشتراط الفائدة
~~قبل أن يشتري له البضاعة؟ وما مقدار ما يجوز له أن يكسب في البضاعة إذا
~~كانت تساوي مئة درهم إلى سنة؟ وهل تجوز المماكسة عند وزن الدراهم في البيع
~~الحاضر أم لا؟ فإن أعطى البائع بطيبة قلبه، فهل يجوز له أن يبيع ما قيمته
~~خمسون درهما بمئة إلى أجل معلوم؟ وكيف يصنع بتجارته إذا جلبها؟ وكيف يدينها
~~إلى أجل؟.
# فأجاب، فقال رحمه الله، ومن خطه ms0097 نقلت:
# الحمد لله رب العالمين. متى قال له الطالب: أريد دراهم، فأي طريق سلكوه
~~إلى أن تحصل له الدراهم ويبقى في ذمته دراهم إلى أجل - فهي معاملة فاسدة،
~~وذلك حقيقة الربا، فإن حقيقة الربا أن يبيعه ذهبا بذهب إلى أجل، أو فضة
~~بفضة إلى أجل، حرم الله الربا لما فيه من ضرر المحاويج، وأكل أموال الناس
~~بالباطل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما
~~لكل امرئ ما نوى" (1) . PageV01P223
# فمتى كان المقصود ما حرمه الله ورسوله، فالتوسل إليه بكل طريق محرم،
~~وإنما يباح للإنسان أن يتوسل إلى ما أباحه الله ورسوله من البيع المقصود
~~والتجارة المقصودة، فإن الله أحل البيع وحرم الربا، وقال: (لا تأكلوا
~~أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (1) . فالتاجر الذي
~~يشتري السلعة ليبيعها، ويربح فيها إما بنقلها من موضع إلى موضع، أو حبسها
~~من وقت إلى وقت، فهذا يقصد السلعة التي يربح فيها، لا يقصد أن يبيعها بأقل
~~من ثمنها ولا بمثل ثمنها. والبيع مثل أن يكون قصده السلعة لينتفع بها، إما
~~بأكل أو شرب أو لبس أو ركوب، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع التي أباحها الله
~~بالأموال.
# فإذا لم يكن قصده أن ينتفع بالمال، ولا أن يبيعه ليربح فيه، وإنما مقصوده
~~أن يبيعه ويأخذ ثمنه، فهذا مقصوده مقصود الربا، ومتى واطأه الآخر على ذلك
~~كان مربيا، سواء اتفقا على أن يبيعه السلعة إلى أجل، ثم يبتاعها بأقل مما
~~باعها، كما قالت أم ولد زيد بن أرقم لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين!
~~إني بعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمان مئة درهم، ثم ابتعته منه
~~بست مئة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أخبري زيدا
~~أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب (2) .
# وسئل ابن عباس عمن باع حريرة ثم ابتاعها بأقل، فقال: دراهم بدراهم دخلت
~~بينهما حريرة. PageV01P224
# وسئل عن ذلك أنس بن مالك، فقال: هذا ms0098 مما حرم الله ورسوله.
# وقال ابن عباس: إذا استقمت بنقد ثم بعت بنقد فلا بأس به، وإذا استقمت
~~بنقد ثم بعت بنسيئة فتلك دراهم بدراهم.
# و"استقمت" بلغة أهل مكة بمعنى قومت.
# وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من باع بيعتين
~~في بيعة فله أوكسهما أو الربا". فمتى اتفقا على أن يبيعه السلعة ثم
~~يبتاعها، فقد باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما، وهو الثمن الأقل، مثل أن
~~يتفقا على أن يبيعه إلى أجل بمئة، ويبتاعها بثمانين، فتعود السلعة إلى ربها
~~بالبيع الثاني، ويعطي الطالب ثمانين، فليس له أن يطالبه إلا بالأوكس، وهو
~~الثمانون.
# وكذلك لو كان رب السلعة هو المحتاج، مثل أن يحتاج الجندي أو الفلاح أو
~~نحو ذلك إلى القرض، فيقول: اشتر فرسي أو ثوري بثمانين حالة ثم بعنيه بمئة
~~مؤجلة، فليس له إلا الثمانون. والشرط المتقدم على العقد كالمقارن له مالم
~~يفسخاه، والشرط العرفي الذي جرت به العادة بمنزلة اللفظي، والمقاصد في
~~العقود معتبرة، فإنما الأعمال بالنيات.
# وكذلك إذا اتفقا على أنه يشتري سلعة من غيره بثمن حال، ثم يبيعه إياها
~~إلى أجل بأكثر من ذلك الثمن، ثم إن المشتري يعيدها إلى صاحب الحانوت، فهذه
~~الحيلة الثلاثية، ومتى درى صاحب الحانوت بقصدهما كان شريكهما في الربا.
~~PageV01P225
# وأما اشتراط الربح قبل أن يشتري البضاعة في مثل هذا، فلأن مقصودهما دراهم
~~بدراهم إلى أجل. وأما إذا كان المشتري يشتري السلعة لينتفع بها أو يتجر
~~فيها، لا ليبيعها في الحال ويأخذ ثمنها، فهذا جائز، والربح عليه إن كان
~~مضطرا إليها يكون بالمعروف. فإذا اضطر الإنسان إلى طعام الغير أو شراب عنده
~~أو لباس، كان عليه أن يبيعهم إياه بقيمة المثل، فيربح الربح المعروف، وكذلك
~~يربح على المسترسل الذي لا يماكسه، كما يربح على سائر الناس، فإن غبن
~~المسترسل ربا.
# وإذا تفرق المتبايعان عن تراض لزم، وكان على المشتري أن يوفيه جميع
~~الثمن، ولا يحل له أن يمكسه شيئا منه، بل لا يحل له أن يسأله أن يضع ms0099 عنه
~~شيئا منه إذا كان غنيا، فإن سؤال الغني لغيره حرام، وهذا يسأل غيره أن يسقط
~~عنه حقه. ولا يحل له أن يمكن غلامه أن يطلب منه شيئا من الثمن، فإذا أعطاه
~~البائع بطيب نفسه كان صدقة عليه، والصدقة أوساخ الناس، فإن اختار أن يقبل
~~أوساخ الناس من غير حاجة فقد رضي لنفسه بما لا يرضى به العاقل.
# وأما إذا باعها إلى أجل معلوم لمن ينتفع بها أو يتجر فيها، فجائز؛ فإن
~~باعها مزايدة لم ينضبط ذلك، وإن باعها مرابحة كان الربح ما يتفقان عليه
~~ويرضيان إذا لم يكن المشتري مضطرا، وإن كان مضطرا ربح عليه ما يربحه على
~~غير المضطر. والله أعلم.
# آخرها، لله الحمد والمنة، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم
~~تسليما.
# (علقها أحمد بن المحب من خط المجيب - رحمه الله - في ليلة حادي عشري رجب
~~سنة 747) .
# PageV01P226
### | مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح،
# والفرق بين الجائحة في الثمر والزرع وغير ذلك
# أجاب عنها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني رحمة الله عليه
# PageV01P227
# بسم الله الرحمن الرحيم
# سأل أبو عبد الله سؤالا صورته:
# ما تقول السادة العلماء - رضي الله عنهم أجمعين - في الرجل يستأجر أرضا
~~ليزرعها، أو يضمن بستانا، فينقطع الماء عن الأرض والبستان، أما ماء المطر
~~أو النهر فيفسد بعض الزرع والثمر، فهل يحط عن المستأجر أو الضامن من الأجرة
~~شيء أم لا؟ وكذلك إذا استأجر طاحونا يديرها الماء فينقطع، وكذلك إذا استأجر
~~ظئرا للإرضاع، فينقص لبنها، وأمثال ذلك. وكذلك إذا أصاب الأرض الجراد أو
~~الفار أو النار، فتلف الزرع أو الثمر، هل يوضع الجائحة فيضمن المؤجر ما تلف
~~بالآفة السماوية. وما الفرق بين وضع الجوائح في الثمرة المشتركة والزرع في
~~الأرض؟ بينوا لنا ذلك.
# وفي الرجل يضمن بستانا بألف مثلا، وفيه عشرة أصناف من الفاكهة، فيتعطل
~~بعض المنافع، ويرتفع سعر الباقي فيزيد على الألف. وكذلك الطاحونة إذا كانت
~~عدة أحجار، فيعطل البعض، وزاد السعر. وكذلك في الحانوت وغيره.
# أفتونا وابسطوا القول مثابين ms0100، رضي الله عنكم.
# أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية:
# الحمد لله رب العالمين. نعم
### | يحط عن المستأجر بقدر ما نقص من المنفعة،
# وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء. قال أحمد
# PageV01P229
# ابن القاسم: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن رجل اكترى أرضا
~~فزرعها، وانقطع الماء عنها قبل تمام الوقت، قال: يحط عنه من الأجرة بقدر
~~مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها.
# وهذه المسألة لها صورتان (1) :
# أحدهما أن ينقطع الماء بالكلية، بحيث لا يمكن الانتفاع بها لشيء من
~~الزرع، فهذا لا أعلم نزاعا أن للمستأجر الفسخ هنا، وفيما إذا انهدمت الدار
~~المستأجرة. لكن هل ينفسخ الإجارة بنفس الانقطاع؟
# أو يخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد:
# إحداهما أنه ينفسخ بمجرد انقطاع الماء. وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وهو
~~المنصوص عن أحمد، لأنه أمر أن يحط عن المستأجر بقدر انقطاع الماء، ولم يعلق
~~ذلك باختياره، فأسقط الأجرة من حين انقطاع الماء. وهذا معنى الانفساخ.
# والثاني: يثبت له الفسخ، وهو المنصوص عن الشافعي في صورة انقطاع الماء،
~~ونص في صورة الهدم على الانفساخ.
# فخرجت المسألتان على قولين. ومأخذ من قال: له الفسخ، أنه قال: المنفعة لم
~~تتعطل، بل يمكن الانتفاع بالأرض في غير الازدراع، فأما إذا قدر أن المنفعة
~~تعطلت بالكلية فلا نزاع بين الأئمة في انفساخ الإجارة. وهذا هو الصواب في
~~المسألتين، لأن المنفعة المقصودة بالعقد إذا كانت هي الازدراع، لم يكن
~~الانتفاع بها في غير ذلك PageV01P230
# مستحقا بالعقد، فوجوده كعدمه.
# والأئمة الأربعة وجمهور العلماء متفقون على أنه متى تعطلت المنفعة
~~المقصودة بالعقد انفسخت الإجارة. مثل أن يستأجر ظئرا، فيموت في أثناء
~~المدة؛ أو يستأجر جمالا أو حميرا للركوب أو الحمل، فيموت قبل التمكن من
~~استيفاء المنفعة؛ ونحو ذلك مما يتلف فيه العين المستأجرة، فإنه ينفسخ
~~الإجارة عند الأئمة الأربعة. وقال أبو ثور: لا ينفسخ الإجارة إذا كان
~~المستأجر قد تسلم العين المستأجرة، وإن تلفت عقب التسلم، لأن ذلك تلف بعد
~~القبض، فأشبه ms0101 ما لو تلف المبيع بعد القبض، فإنه يكون من ضمان المشتري،
~~فكذلك إذا تلف الموجود بعد القبض كان من ضمان المستأجر، لاسيما من يقول:
~~إنه لا يوضع الجوائح في الثمر المبيع بعد بدو صلاحه إذا تلف بعد قبض
~~المشتري، فإن هذا قياس قوله، لأنه يقول هناك قد تلف بعد القبض، وإن كان
~~المشتري لم يتمكن من الجداد والحصاد، كذلك المنافع هنا تلفت بعد القبض، وإن
~~كان المستأجر لم يتمكن من استيفاء المنفعة بالبيع عند الأكثرين، كمالك
~~والشافعي وأحمد في أقوى الروايات.
# ولولا قبضه لها لما جاز ذلك، وله أن يربح فيها عندهم، مع النهي عن الربح
~~فيما لم يضمن، فدل ذلك على أنها من ضمانه.
# ومذهب الجمهور هو الصواب، لما روى مسلم في صحيحه (1) عن جابر بن عبد الله
~~قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو بعت من أخيك تمرا، فأصابته
~~جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ".
~~PageV01P231
# وفي رواية لمسلم (1) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع
~~الجوائح.
# فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الثمرة التالفة من ضمان
~~البائع، ونهى البائع أن يأخذ من المشتري شيئا من الثمن، وبين أنه أكل مالا
~~بالباطل، مع أن الثمرة بعد بدو صلاحها عين موجودة، فإنه قد يمكن الانتفاع
~~بها ببعض الوجوه، فالمنافع التي لم توجد بعد ولا يمكن المستأجر من استيفاء
~~شيء منها أولى وأحرى أن لا يكون من ضمانه، بل من ضمان المؤجر. ولهذا كان
~~أبو حنيفة والشافعي في الجديد يقولان: المنفعة تتلف من ضمان المؤجر،
~~والثمرة من ضمان المشتري. فإذا كان النص قد ورد في الثمار بأنها من ضمان
~~البائع، فلأن تكون المنافع من ضمان المؤجر أولى.
# وأيضا فإن تلف المنافع قبل التمكن من استيفائها كتلف الأعيان المبيعة قبل
~~التمكن من استيفائها، وإذا كان المبيع التالف قبل التمكن من قبضه من ضمان
~~البائع، فكذلك المنافع التالفة قبل التمكن من استيفائها، ومعلوم أنه لم
~~يتمكن من استيفائها، وطرد ms0102 ذلك الثمرة بعد ظهور صلاحه وقبل كماله، فإن
~~المشتري لما لم يتمكن من جدادها على الوجه المعروف كانت من ضمان البائع،
~~فإن التمكن إنما يحصل عند إمكان الجداد على الوجه المعروف.
# فإن قيل: بل المستأجر قد قبض المنفعة قبضا حكميا، فقبض العين بدليل جواز
~~التصرف فيها بالإجارة، وبدليل أنه يجب عليه تسليم الأجرة.
# قيل: هذا فيه نزاع، فأما إجارة المستأجر لما استأجره فعن أحمد
~~PageV01P232
# فيها أربع روايات (1) :
# إحداها: لا يجوز بحال، بناء على هذا، إذ المنافع لو تلفت لتلفت من ضمان
~~المؤجر. وكذلك عنه في بيع المشتري للثمرة المشتراة قبل الجداد روايتان،
~~والنزاع في ذلك معروف عن الصحابة ومن بعدهم.
# والثانية: يجوز بمثل الأجرة، ولا يجوز بزيادة إلا إذا جدد فيها عمارة،
~~فإن فعل تصدق بالزيادة. وهذا قول أبي حنيفة وطائفة.
# والثالثة: لا يجوز إلا بإذن المؤجر.
# والرابعة: يجوز مطلقا، كقول الشافعي وكثير من العلماء.
# وكذلك يجوز على المشهور عنه للمشتري أن يبيع الثمرة قبل كمال صلاحها،
~~وعلى هذا فنقول: وجد القبض للمبيع، ولم يوجد كمال القبض الذي يوجب أن يتلف
~~من ضمان المشتري والمستأجر.
# والدليل على أنه لم يوجد القبض التام أن البائع عليه سقي الثمرة إلى كمال
~~صلاحها، فلو تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع بلا نزاع. وإذا كان على
~~البائع تمام التوفية علم أنه لم يوجد كمال القبض.
# وكذلك المؤجر عليه عمارة ما شعث من العين المؤجرة، وما يحتاج إليه الآدمي
~~والبهيمة من النفقة هو على المؤجر، والإنفاق على العين المؤجرة من تمام
~~التسليم المستحق بالعقد. فعلم أنه لم يوجد كمال القبض، وإنما وجد التخلية
~~التي لا يتمكن معها من كمال الاستيفاء. PageV01P233
# وإنما جاز فيها التصرف بالبيع وغيره، لأن البائع قد فعل ما يمكنه من
~~الإقباض، وكذلك في الإجارة قد فعل المؤجر غاية ما يمكنه، وانتقلت بهذا إلى
~~ضمان المستأجر من بعض الوجوه، وهو أنه إذا تلفت المنفعة تحت يده تلفت من
~~ضمانه، فلا يكون إذا ربح فيها قد ربح فيما لم يضمن، فالاعتبار في الضمان
~~بتمكنه ms0103، إذا تمكن من استيفائها فلم يستوفها كانت من ضمانه، والمستأجر بعد
~~تسليم العين قد تمكن من استيفائها شيئا فشيئا، كما كان يتمكن المؤجر، فلو
~~تركها تلفت من ضمانه، فإذا باعها باعها بعد قبض مثلها. وإن كان القبض التام
~~الذي يوجب إذا تلفت بغير اختياره أن يكون من ضمان المؤجر لم يوجد.
# وهكذا الثمرة بعد بدو صلاحها إذا خلي بينه وبينها كان متمكنا من قبضها
~~والانتفاع بها إن شاء، ولو قطعها لضمنها بالمسمى، لم يضمنها ضمان الغصب.
# ثم يقال: أما كونها مضمونة على البائع فهو ثابت بالنص، وأما جواز التصرف
~~فيها ففيه نزاع، وحينئذ فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا منع الحكم، فإن ما ثبت
~~بالنص لا يجوز دفعه بغير نص يعارضه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- من غير وجه أنه قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" (1) . وثبت
~~عنه أنه قال: "إن بعت من أخيك ثمرة، فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ
~~منه شيئا، بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (2) . فيجب العمل بالحديثين،
~~فإن كان القبض PageV01P234
# المبيح للتصرف هو كمال القبض الذي يرفع ضمان البائع لم يجز للمشتري بيع
~~الثمرة؛ وإن أريد به أصل القبض فهو موجود هنا، والسنة دلت على أن ضمان
~~المشتري وجواز تصرفه لا يتلازمان، بل قد يكون مضمونا عليه من بعض الوجوه
~~مالا يجوز له بيعه، وقد يجوز أن يبيع ما يكون مضمونا على البائع من بعض
~~الوجوه. وهذا ظاهر مذهب أحمد، وهو الذي ذكره الخرقي وغيره، وإن كان من
~~أصحابه من يقول بتلازمهما، كمذهب أبي حنيفة والشافعي. وذلك أنه قد ثبت في
~~الصحيحين (1) عن ابن عمر أنه قال: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا
~~مجموعا فهو من مال المبتاع". فإذا باعه حيوانا، وتمكن المشتري من قبضه ولم
~~يقبضه، كان من ضمان المشتري. وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه.
# وكذلك إذا اشترى صبرة طعام جزافا، وتمكن من نقله، كان من ضمان المشتري في
~~ظاهر مذهب أحمد، مع أنه لا ms0104 يجوز له بيعه حتى ينقله، كما في الصحيح (2) عن
~~ابن عمر أنه قال: "لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~يبتاعون جزافا - يعني الطعام - فيضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى
~~رحالهم". وفي لفظ (3) : "كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~نبتاع الطعام، فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه
~~إلى مكان سواه قبل أن نبيعه". فابن عمر نقل هذا وهذا، وكلاهما مذهب مالك
~~وأحمد في المشهور عنه، فالموجب PageV01P235
# للضمان تمكن المشتري من القبض المقصود بالعقد، سواء قبض أو لم يقبض، فإذا
~~لم يكمل الصلاح لم يتمكن من القبض المقصود بالعقد.
# وكذلك إذا تلفت العين المؤجرة، وإذا اشترى عبدا وقدر على أخذه، فقد تمكن
~~من القبض المقصود بالعقد، وأما بيعه فيعتمد القبض الممكن، فإذا قبض الشجرة
~~والعين المؤجرة فقد قبضها القبض الممكن، وإذا لم ينقل الصبرة لم يقبضها
~~القبض الممكن. وهذا لأن ما أمكن فيه كمال القبض كالصبرة يمكن أن يوقف البيع
~~على كمال القبض فيها، ومالم يمكن فيه ذلك كالثمر والمنفعة، فإنه قد جاز
~~بيعها قبل وجودها للحاجة، فكذلك يجوز بيعها بعد القبض الممكن فيها للحاجة
~~أيضا، لأن الشارع يعتبر الشروط بحسب الإمكان. إلا ترى أنه فهى عن بيع
~~الثمار قبل بدو صلاحها، إذ لا حاجة إلى بيعها في هذه الحال، وهو بيع غرر قد
~~يفضي إلى أكل المال بالباطل، وأما بعد بدو الصلاح فهم محتاجون إلى بيعها في
~~هذه الحال، إذ تأخير البيع إلى كمال الصلاح متعذر، فإنه حينئذ قد تتلف
~~وتفسد هي أو بعضها قبل أن تشترى. وما فيه من الخطر جبره الشارع بوضع
~~الجائحة.
# و
### | ليس في الأدلة الشرعية أن ما قبض كان من ضمان المشتري، ومالم يقبض كان من ضمان البائع،
# بل هذا قول طائفة من الفقهاء، وخالفهم آخرون، فهو مورد نزاع لم يدل عليه
~~نص ولا قياس صحيح، بل الشارع منع من البيع حيث يكون فيه مفسدة ولا حاجة
~~إليه، وأباحه حيث يحتاج إليه ms0105، وأزال ما فيه من المفسدة بما شرعه من الضمان.
# والطعام المنقول يمكن تأخير بيعه إلى حين نقله، بخلاف الثمر على الشجر
~~والمنفعة في الإجارة، كما أن الثمرة يمكن تأخير بيعها إلى بدو صلاحها،
~~بخلاف تأخيره بعد بدو الصلاح. ولهذا كان الصحيح
# PageV01P236
# جواز بيع المقاثي، وأنه إذا بدا الصلاح في بعض ثمر البستان بيع ذلك
~~النوع، بل بيع ذلك الجنس، بل بيع جميع الأجناس التي في البستان، إذا كان
~~بيع بعض الأجناس دون بعض من البستان الواحد فيه ضرر، كما في تأخير بيع
~~الثمر بعد بدو الصلاح. والبيع الذي يحتاج الناس إليه لم تحرمه الشارع، بل
~~أوجب فيه وضع الجوائح، وإنما نهى عما لا يحتاج إليه.
# فصل
# ولو اكترى أرضا للزرع فزرعها، ثم أصابها غرق أو آفة من غير الشرب، فلم
~~تنبت، فالمنقول عن أحمد أنه يلزمه الكرى، بخلاف ما لو غرقت في وقت زرعها،
~~فلم يمكنه الزراعة، فإنه لا يلزمه الأجرة، لتعذر التسليم، وهكذا نقل عن
~~مالك.
# وقد فرق الأصحاب بين هذه الصورة وبين صورة انقطاع الماء بأنه هناك تعطلت
~~المنفعة المستحقه بالعقد، وهنا تلف مال المستأجر، فأشبه مالو تلف ماله في
~~الدار المؤجرة، فإن المؤجر لا يضمن ما تلف للمستأجر في العين المؤجرة، كما
~~لو سرق ماله الذي على الدابة المكتراة.
# ولم أقف بعد على لفظ أحمد في هذه المسألة، وقياس نصوصه وأصوله بل وأصول
~~غيره: أنه إذا أصابت العين آفة عطلت منفعتها انفسخت الإجارة فيما بقي، كما
~~إذا تعطلت بالانهدام وانقطاع الماء والموت، فإنه إذا أصاب الأرض غرق تعذر
~~معه نبات الأرض فقد تعطل نفعها، وكذلك لو أصابها حريق أو ركبها جراد يمتنع
~~معه نبات الزرع فقد تعطل نفعها، كما تعطل بغير ذلك، ولكن لا يضمن المؤجر
# PageV01P237
# الزرع التالف، ولا توضع الجائحة عن المستأجر فيما تلف من زرعه، كما توضع
~~عن المشتري، لأن المؤجر لم يبعه الزرع، وإنما باعه منفعته.
# و
### | نظير هذا لو انهدمت الدار، وتلف ما فيها من متاع المستأجر،
# فإن المؤجر وإن لم يضمن متاعه ms0106 فإنه لا أجرة له من حين تعطلت المنفعة،
~~وكذلك لو تلفت الحمولة وما عليها بأمر سماوي، فإنه لا يضمن المؤجر ما
~~عليها، ولكن تبطل الإجارة من حينئذ، فكذلك الأرض إذا أصابتها آفة سماوية
~~أفسدت الزرع وعطلت المنفعة لم يكن على المؤجر ضمان الزرع، ولم تبطل الإجارة
~~إذا تعطلت المنفعة، والمنفعة المقصودة ليست مجرد وضع البذر فيها، بل
~~المقصود أن ينبت الزرع فيها ويكمل نباته إلى حين الحصاد، وإذا نبت وغرقت
~~الأرض فهو كما إذا نبت وانقطع الماء، وهو في انقطاع الماء لا يضمن زرع
~~المستأجر، كذلك في الغرق. وهذا بخلاف ما إذا باعه ثمرة على البائع سقيها،
~~فإنه هنا إذا تلفت بالعطش كانت من ضمان البائع، بل وكذلك إذا تلفت بغير
~~العطش، لأن البائع باعه ثمرة، فتلف الثمرة كتلف المنفعة. وأما تلف الزرع
~~الثابت للمستأجر فهو كتلف متاع المستأجر الذي في الدار، فأين هذا من هذا؟
# فمن قال: إن المؤجر لا يضمن الزرع فقد أصاب، ومن قال: إنه لا يجب على
~~المستأجر أجرة المنفعة المتعطلة فقد أخطأ.
# ونظير هذا ضامن البستان إن كان اشترى ثمرة، فإذا تلفت بالعطش فهي في
~~ضمانه في مذهب الشافعي، كما هو في مذهب مالك وأحمد، وإن تلفت بآفة سماوية
~~فهي مسألة وضع الجوائح. وأما إذا كان الضامن مستأجرا ضمنها على أنه يخدمها
~~ويسقيها، فهذا مستأجر متى تلفت
# PageV01P238
# الثمرة بالعطش أو غيره فهو كتلف الزرع لا يضمنه المؤجر، لكن إن تعطلت
~~المنفعة سقط من الأجرة بقدر ما تعطل منها. وذلك أن الثمرة قد تكون تساوي
~~جملة، والزرع حصل بعمل المستأجر، وقد يساوي ذلك أكثر من الأجرة، فلا يجب
~~على المؤجر إلا ضمان الأجرة فقط، فإذا تعطلت المنفعة بآفة سماوية سقطت
~~الأجرة، وما تلف مع ذلك للمستأجر من ثمر وزرع فهو من ضمانه، لا من ضمان
~~المؤجر.
# هذا هو الواجب في هذا ونظائره، ومن تدبره وتدبر نظائره وأصول الشرع علم
~~أن هذا مما لا ينازع فيه من فهمه، وإنما وقعت الشبهة حيث قد يظن الظان، أنه
~~توضع ms0107 الجوائح في الإجارة، كما توضع في البيع، بمعنى أن المؤجر يضمن ما تلف
~~من زرع المستأجر، كما يضمن ما تلف من الثمرة المبيعة، وهذا خطأ. نعم لو
~~باعه زرعا، فتلف بآفة سماوية، فإنه توضع الجائحة فيه في أحد الوجهين في
~~مذهب أحمد ومالك، كما يوضع في الثمرة، وفي الآخر لا يوضع، قالوا: لأن الزرع
~~إنما يباع بعد كمال صلاحه، فلا يحتاج إلى وضع الجائحة فيه.
# فصل.
# وأما إذا نقصت المنفعة، مثل نقص الماء المعتاد عن السماء وعن الأرض، بحيث
~~ينتفع به نصف المنفعة المستحقة أو أقل أو أكثر، فكلام أحمد وأصوله تقتضي
~~أنه يحط عنه من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة، فإنه قال: يحط عنه من
~~الأجرة بقدر مالم ينتفع بها، أو بقدر انقطاع الماء عنها. ولو تغيبت المنفعة
~~أو كانت معيبة، فقياس مذهبه أن للمستأجر المطالبة بالأرش مع الإمساك، كما
~~يقول ذلك في البيع وأولى، لاسيما وعنه في ممسك المصراة هل له المطالبة
~~بالأرش
# PageV01P239
# روايتان. ومن أصحابه من قال: ليس له الإمساك إلا بكل الأجرة، وضعف هذا
~~على أصل أحمد ظاهر بين. وإنما الكلام إذا قلنا: إنه ليس للبائع إلا
~~المطالبة بالأرش مع إمكان الرد.
# ف
### | نظير هذه المسألة في الإجارة
# أن تظهر العين المؤجرة معيبة في استيفاء شيء من المنفعة، فهذه الصورة
~~كالبيع، وأما إذا كان قد ازدرع الأرض، ثم عابت في أثناء المدة، ونقصت
~~منفعتها، فهنا لا عليه رد جميع المنفعة، بل غايته الفسخ في المستقبل. وإذا
~~فسخ في المستقبل كان له إبقاء زرعه بأجرة المثل، ومعلوم أن إبقاءه بقسطه من
~~الأجرة أولى. كما نقول: إذا تعطلت المنفعة في أثناء المدة أنه ينفسخ
~~الإجارة فيما بقي من المدة، ويجب للماضي قسطه من الأجرة. هذا مذهب مالك
~~وأحمد والشافعي، وجعل بعض أصحابه له قولا بالانفساخ في الجميع، ووجوب أجرة
~~المثل للماضي، كالهلاك الطارئ في بعض المبيع، ومعلوم أن المستأجر إذا كان
~~له زرع في الأرض لم يمكنه إذا فسخ رد المنفعة، بل له إبقاؤه بأجرة المثل،
~~فإبقاؤه ms0108 بقسطه من المسمى مع أنه يحط عنه قسط ما نقص من المنفعة أولى. فعيب
~~المنفعة في الإجارة إن كانت قبل تسلم شيء من المنفعة فهذا كالبيع، وإن كانت
~~بعد استيفاء شيء من المنفعة فلها صورتان:
# إحداهما: أن يتعذر رد العين المؤجرة لما له فيها من الزرع ونحو ذلك.
# والثانية: أنه يمكن رد العين، كالدار المعيبة والطاحون والحانوت.
# فهنا يتوجه قول من يقول: ليس له إلا الفسخ، أو الإمساك بالأجرة كلها، إذا
~~قلنا بمثل ذلك في البيع. ويتوجه أن يقال: بل هنا يحط عنه من الأجرة، وإن
~~قلنا: ليس له في البيع أن يمسك بالأرش مع
# PageV01P240
# إمكان الرد، لأنه قد استوفى بعض المنفعة، وتلف بعضها، فهو كما لو اشترى
~~أعيانا، فتلف بعضها قبل التمكن من القبض، فإنه يحط عنه من الثمن بقدر قسط
~~التالف قبل التمكن من القبض، كما لو تلف بعض الثمرة في الجوائح، وكان أكثر
~~من الثلث، فإنه يحط عنه من الثمن بقدر التالف بلا نزاع عند من يقول بوضع
~~الجوائح، فتلف بعض المنفعة كتلف بعض الثمرة، ومعلوم أن انقطاع بعض الماء أو
~~تعطل بعض الأرض ذهاب بعض المنفعة.
# (آخر ما كتب فيها، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد
~~وآله وصحبه وسلم.
# علقها لنفسه أحوج الخلق إلى رحمة الله محمد بن أبي شامة الحنبلي، عفا
~~الله عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين) .
# ***
# PageV01P241
### | فصل في الطلاق، وتقسيمه إلى سني وبدعي، وبيان أن الطلاق البدعي لا يقع
# من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية مما كتبه في
~~القلعة بدمشق في آخر عمره رحمة الله عليه
# PageV01P243
# بسم الله الرحمن الرحيم
# الحمد لله رب العالمين.
# وقال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن
~~تيمية رحمه الله، ونقلته من خطه.
# فصل
# الطلاق منقسم إلى طلاق سنة مأذون فيه، وطلاق بدعة منهي عنه بالكتاب
~~والسنة والإجماع، ولكن تنازع الناس في الطلاق المحرم المنهي عنه هل يقع أم
~~لا.
# واتفقوا على أن
### | الطلاق السني المباح ms0109
# أن يطلق واحدة في طهر لم يصبها فيه، وكذلك إذا طلقها حاملا قد تبين
~~حملها، فهذا وهذا جائز بالنص والإجماع، ولكن هل يسمى طلاق الحامل طلاق سنة،
~~أو لا يسمى سنة إلا طلاق من تحيض؟ فيه قولان، وهو نزاع لفظي. والصغيرة التي
~~لم تحض والآيسة ليس في حقهما طلاق بدعة من حيث الوقت.
# وأما العدد ففيه نزاع مشهور، وأكثر السلف على أنه لا يحل له أن يطلق إلا
~~طلقة واحدة، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو ظاهر مذهب أحمد الذي رجع إليه -
~~وهو اختيار أكثر أصحابه - بعد أن كان يجوز الثلاث، كما هو قول الشافعي، وهو
~~اختيار الخرقي، وقد بسط الكلام على هذه المسائل في مواضع (1) . PageV01P245
# والذي تبين دلالة الكتاب والسنة عليه وأصول الشرع أن
### | الطلاق المحرم لا يلزم
# كما لا يلزم سائر العقود التي تنقسم إلى حلال وحرام، كالنكاح الحرام
~~والبيع الحرام، إذا كان التحريم لحق الله، كالنكاح في العدة وبيع الخمر
~~ونحوها من المحرمات، وأما إذا كان النهي لحق آدمي فلو رضي جاز، مثل بيع
~~المعيب المدلس، وبيع المصراة، وتلقي الجلب والاشتراء منهم، ونحو ذلك. فهنا
~~أيضا العقد غير لازم، لكن المظلوم يخير بين الفسخ والإمضاء، فهو موقوف على
~~رضاه، وقد أعطى النهي حقه، فإن المقصود إزالة المفسدة، وذلك يحصل بتمكينه
~~من الفسخ، وإذا علم أنه مظلوم ورضي بذلك جاز، كما لو رضي في ابتداء العقد
~~مع علمه بالعيب والتدليس، فإن هذا جائز بالنص والإجماع.
# وهذا هو الجواب في هذا الباب، فإن من الناس من جعل النهي الذي لحق آدمي
~~يقتضي فساد العقد أيضا، وقال أبو بكر عبد العزيز بذلك في المعيب المدلس،
~~فلما أورد عليه المصراة سكت ولم يجب.
# ولو أنهم قالوا: النهي يقتضي هنا موجبه من فساد لزوم العقد، فإن العقد لا
~~يقع لازما كلزوم العقود الصحيحة، بل للمظلوم الفسخ، لكان هذا عملا بالنصوص
~~كلها وبالإجماع، مع طرد القاعدة.
# وأما من زعم أن النهي هنا يقتضي بطلان العقد بالكلية، فهو قول فاسد مخالف
~~للنص والأجماع، وهو ms0110 قول من لم يعرف مقصود النهي، وهو إزالة الفساد بحسب
~~الإمكان. وهو في مقابلة قول من يقول: إن النهي لا يقتضي الفساد أصلا (1) ،
~~ويحتج بصور متنازع فيها، كطلاق PageV01P246
# الحائض، والصلاة في الدار المغصوبة، إذ ليس معهم صورة منهي عنها مع أنها
~~صحيحة لازمة، لا بنص ولا بإجماع، بل كل ما يذكر في ذلك فهو من صور النزاع،
~~ولا نص في شيء من ذلك على أنه صحيح لازم. ولهذا لم يكن هذا القول معروفا عن
~~أحد من السلف والأئمة، كما لم يعرف ذلك عن أحد من السلف والأئمة، وإنما
~~قاله طائفة من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن تبعهم، وقال هؤلاء: إن
~~فساد العبادات والعقود لا يتلقى من خطاب الشارع بالأمر والنهي والتحليل
~~والتحريم، وإنما يتلقى من خطاب الإخبار بقوله: إن هذا صحيح أو فاسد، أو
~~جعله الشيء شرطا ومانعا وركنا، فيفسد العبادة أو العقد، لفوات شرطه أو ركنه
~~أو لوجود مانعه.
# وهذا كلام قوم ليسوا من أهل الاجتهاد والعلم بالأدلة الشرعية، وإنما
~~يتكلمون في مقدرات مفروضة في الأذهان، لا وجود لها في الأعيان، فإن هذا
~~الذي زعموا أنه هو الذي يستدل به على صحة العقود والعبادات وفسادها، لا
~~يوجد في كلام الشارع، لا يوجد في كلامه أنه قال: هذا العقد أو العبادة تصح
~~أو لا تصح، أو هذا ركن أو شرط أو مانع ونحو ذلك. وإنما هذه عبارات الفقهاء
~~الذين فهموا ما فهموه من كلام الشارع، وعبروا عن ذلك بعباراتهم، ثم قد يكون
~~ما عبروا به عن كلام الشارع حقا بالإجماع، وقد يكون فيه نزاع.
# وأما الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أهل الاجتهاد
~~فإنهم يحتجون به على فساد العبادات والعقود بالنهي عنها، كما يفسدون نكاح
~~الأمهات والأخوات وغيرهما من المحرمات.
# ولهذا لما أفتى ابن مسعود رجلا في تزوج بنت امرأته التي لم يدخل بها،
~~واعتقد أنها كالربيبة، ثم قدم المدينة، فسأل عمر وغيره من
# PageV01P247
# الصحابة، فقالوا له: الشرط في الربائب دون الأمهات. فرجع ابن مسعود، فأمر
~~الذي كان ms0111 أفتاه أن يفارق امرأته، لما علم أن هذا مما تناولته آية التحريم،
~~وهو قوله: (وأمهات نسائكم) (1) ، علم أن هذا العقد فاسد.
# وكذلك سائر الصحابة والعلماء متفقون على الاستدلال على فساد هذه العقود
~~بالنهي، وهذا في العبادات أظهر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
# والمقصود هنا أن الذين قالوا: إن الطلاق المحرم يقع، قد احتج بعضهم بقوله
~~تعالى: (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله
~~واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) (2) . قالوا:
~~والمراد لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الولد، فدل ذلك على
~~أنه طلقها بعد أن أصابها، وإلا فلو طلقها في طهر لم يصبها فيه لم يكن
~~حاملا، ولو طلقها وقد استبان حملها لم يمكنها كتمان الحمل.
# وهذه الحجة مما يعتمد عليها من يراها حجة قوية، وسنبين إن شاء الله أن
~~هذه الآية حجة عليهم لا لهم، وممن ذكر ذلك أبو علي الجبائي في تفسيره، فقال
~~بعد أن نصر أن الأقراء هي الحيض: وقد دلت هذه الآية على أن الطلاق قد يلزم
~~لغير السنة، وذلك أن المطلق للسنة هو من طلق امرأته وهي طاهر من غير جماع،
~~أو طلقها بعد أن تبين الحمل بها، والمطلقة إذا كانت طاهرا من غير جماع لا
~~يجوز أن PageV01P248
# يظهر بها الحبل، فيحرم كتمانه، والتي قد ظهر بها الحبل لا يجوز أن تكتمه
~~وتبينه من نفسها بعد الطلاق، وإن يكتم ذلك زوجها الذي طلقها علمنا أن هذه
~~المطلقة الكاتمة لحبلها كانت طلقت بعدما جومعت في الطهر من غير أن يتبين
~~بها حبل. وإذا كانت كذلك لم تكن في وقت سنة، وقد لزمها الطلاق مع ذلك بنص
~~القرآن.
# قال: وهذا يدل على بطلان مذهب الرافضة في قولهم: إن الطلاق لا يلزم إلا
~~للسنة.
# فإن قيل: قوله: (ما خلق الله في أرحامهن) قد يكون هو الحيض.
# قيل: إن الحيض لا يكون حيضا وهو في الرحم، ولا يكون حيضا حتى يخرج عن ms0112
~~الرحم، وإذا خرج عن الرحم فليس هو في الأرحام. وإنما أمرهن الله أن لا
~~يكتمن ما خلق الله في أرحامهن، فليس يجوز أن يكون عنى بذلك إلا الحبل.
# قلت: فقد فسر الآية بأن المراد الحبل دون الحيض، وادعى أنه لا يجوز إرادة
~~الحيض، لأنه إنما يكون حيضا إذا كان ظاهرا، دون ما إذا كان في الرحم. وهذه
~~حجة ضعيفة، والسلف قد أطلق بعضهم القول بأنه الولد، وأطلق بعضهم القول بأنه
~~الحيض، وبعضهم ذكر النوعين جميعا (1) ، وهو الصواب، فإن لفظ الآية يعم هذا
~~وهذا، ومن أطلق القول بأحدهما فقد يكون مراده التمثيل لا الحصر، فإن مثل
~~هذا كثير فاش في كلام السلف. يذكرون في تفسير الآية ما يمثلون به المراد من
~~ذكر بعض الأنواع، لا يقصدون تخصيصها بذلك. كما يقول المترجم إذا ترجم بعض
~~الألفاظ وعين مسماها، فإذا قال له PageV01P249
# الأعجمي: ما الخبز؟ أخذ الرغيف وقال: هذا. وهذا باب واسع لبسطه موضع آخر
~~(1) .
# وأما الاحتجاج بقوله: (في أرحامهن) فيقال: هو سبحانه قال:
# (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) ، فالظرف متعلق بقوله
~~(خلق) ، فما خلق الله في رحمها لم يحل لها كتمانه، وكتمانه إخفاؤه عن
~~غيرها، وذلك يتناول كتمانه بعدما يخرج من الرحم، مثل كتمان الولد إذا
~~ولدته، وكتمان الدم إذا حاضت، فإنها إذا كتمت ذلك عن الزوج وغيره، ولم تخبر
~~بذلك، فقد كتمت ما خلق الله في رحمها، فإن هذا خلق في رحمها، وإن كان قد
~~خرج من الرحم بعد ذلك، وهي منهية عن كتمانه مطلقا، لم يخص النهي بوقت وجوده
~~في الرحم، لاسيما وهو إذا فسره بالولد، فولدته وكتمته، لم يقل إنها ولدت،
~~لئلا يظن أن عدتها انقضت، أو لتضيع نسبه، على أنه كان ذلك محرما، وكانت
~~منهية عن ذلك. ولو قيل: الرجل يكتم ما تحت ثيابه أو ما في منديله، كان
~~كإمساكه، وإن خلع ثيابه حيث لا يرى، وإن أخرج ما في المنديل حيث لا يرى،
~~فالظرف هنا متعلق بالفعل العامل فيه، كالاستقراء وكالخلق في ms0113 الآية ليس
~~معلقا بالكتمان، والمنهي عنه الكتمان مطلقا، وحيث نهي الإنسان عن الكتمان
~~فإنه متناول لمثل هذا، كقوله: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم
~~قلبه) (2) ، وقوله: (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) (3) ، وقوله:
~~(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس
~~PageV01P250
# في الكتاب) (1) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من سئل عن علم
~~يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار" (2) .
# فلو تكلم بالشهادة حيث لا ينتفع صاحبها، ولم يظهرها حيث ينتفع بأدائها،
~~كان كاتما لها، وإن كان قد أخرجها من فمه. وكذلك كاتم العلم. والمرأة على
~~كتمان الحيض أقدر منها على كتمان الولد، فإنها إذا كانت حاملا انتفخ بطنها،
~~وعرف حملها كثير من الناس، ثم إذا ولدته فإنه يظهر أعظم مما يظهر دمها، فإن
~~دمها قد يسيل ويخرج ولا يعلم بذلك أحد، فتكون دلالة الآية على النهي عن
~~كتمان الحيض أقوى، وإن كانت قد تدل على الآخر.
# فصل
# وأما كون
### | الآية حجة على نقيض ما ذكروه
# فهو قول من قال: إن الطلاق إنما هو الطلاق الشرعي الذي أذن الله فيه
~~وملكه للإنسان، وأما مالم يأذن فيه فإنه لم يملكه للإنسان، كما لم يملكه
~~الطلاق بعد انقضاء العدة، ولا طلاق غير المدخول بها إذا أبانها بواحدة، ثم
~~أراد أن يطلقها تمام الثلاث، وكذلك البائن بالخلع عند أكثر السلف والخلف لم
~~يملكه طلاقها، ولم يملكه طلاق الأجنبية. وإذا كان الإنسان ليس له طلاق إلا
~~فيما يملك، ولا عتاق إلا فيما يملك، كما جاء في الحديث (3) ، PageV01P251
# فطلاقه لواحدة من هؤلاء طلاق باطل، إذ كان الله لم يملكه إياه.
# وكذلك طلاق الحائض والموطوءة التي تبين حملها لم يملكه الله طلاقها، فإنه
~~لم يأذن في ذلك ولم يبحه، بل نهى عنه، وما نهى عنه العبد من نكاح وطلاق
~~وعتق وبيع فإنه لم يملكه ذلك، فتصرفه فيه تصرف في غير ملك، ولو سمي ملكا
~~فهو محجور عليه فيه منهي عنه، وتصرف المحجور عليه فيما حجر عليه ms0114 فيه لا
~~يجوز، فتصرف من حجر الله ورسوله عليه أولى أن لا يصح، لاسيما وهو سفيه حيث
~~خالف أمر الله ورسوله، وفعل ما نهى عنه، وهم يسلمون أن الوكيل في الطلاق لا
~~يملك إلا ما أذن له فيه، ولو طلق غير ذلك لم يقع، بل هو محجور عليه فيه،
~~فما لم يأذن الله فيه وحجر على صاحبه فيه أولى أن لا يقع. والله تعالى قد
~~نهاه عن الطلاق إلا في العدة، كما نهاه عن النكاح في العدة، ولو تزوج في
~~العدة لم يصح بالاتفاق، فكذلك إذا طلق لغير العدة، فإن الذي حرم هذا حرم
~~هذا، والحكم إنما استفيد من تحريمه، ليس في كلامه يصح أو لا يصح، أو يشترط
~~أو لا يشترط، بل الدلالة في كلامه على هذا من جنس الدلالة في كلامه على
~~هذا. وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
# والمقصود هنا بيان دلالة الآية على نقيض ما استدلوا عليه، فنقول: قوله
~~(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (1) إنما يتناول من كانت عدتها
~~الأقراء، لا يتناول الحامل، فان الحامل لا تتربص ثلاثة قروء، بل عدتها كما
~~قال تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) (2) .
# وإذا كانت المرأة حاملا لم تتربص ثلاثة قروء، ولكن ربما ظنت أن
~~PageV01P252
# عدتها القروء، ثم يتبين أنها حامل، كما أنه ربما ظنت أن أجلها وضع الحمل،
~~ثئم يتبين أنها حامل. وحينئذ فالنساء ثلاثة أقسام.
# أما المطلقة طلاق السنة التي طلقت في طهر لم يصبها فيه فالظاهر من هذه
~~أنها ليست حاملا، والتي استبان حملها ظاهر أمرها أنها حامل، والتي وطئها
~~ولم يعلم أحملت أم لا فهذه مشكوك فيها، لا تدري أعدتها القروء أو وضع
~~الحمل. والأولى طلاقها جائز بالاتفاق، والثانية أيضا طلاقها جائز بالاتفاق،
~~وهذه الثالثة لا يجوز طلاقها، لأنه يحتمل أن تكون عدتها القروء، ويحتمل أن
~~تكون عدتها الحمل.
# والله إنما أباح الطلاق للعدة، وذلك إنما هو لمن علمت عدتها، وهي القروء
~~أو الحمل، وهي المطلقة في الطهر قبل الجماع، أو المطلقة وقد استبان حملها ms0115.
~~وإذا كان كذلك فالآية تضمنت أمر المطلقة بأن تتربص ثلاثة قروء، وهذا الأمر
~~لا يكون إلا لمن طلقت بعد الطهر وقبل الجماع، فأما من استبان حملها فلا
~~تؤمر بذلك. ومن شك هل هي حامل أم لا، لو كان طلاقها جائزا لم تؤمر بذلك، بل
~~يقال لها: انظري، فإن كنت حاملا فعدتك الحمل، وإن كنت حائلا فعدتك القروء.
~~فلما كان الله تعالى أمر المطلقات بتربص ثلاثة قروء، وأمره لم يتناول هذه
~~المشكوك فيها، لم تدخل في الآية. فتبين بذلك بطلان قولهم إن الآية
~~تناولتها.
# ثم نقول: إذا كان في هذه الآية أمر كل مطلقة بعد الدخول بتربص ثلاثة
~~قروء، وإن كانت من أولات الأحمال فأجلها وضع الحمل، وهذه لا تؤمر عقب
~~الطلاق لا بهذا ولا بهذا، علم أنها ليست مطلقة، فدل على أنه لا طلاق لها.
# ومما يوضح هذا أن الآية أمرت المطلقات بتربص ثلاثة قروء،
# PageV01P253
# وذلك من حين الطلاق، فهي من حين الطلاق تتربص، وهذه لو كانت مطلقة لم
~~تؤمر بتربص ثلاثة قروء من حين الطلاق، ولا هي من أولات الأحمال، فعلم أنها
~~ليست مطلقة.
# ومما يوضح ذلك أن قوله (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) إما أن
~~يقال: إنها عامة في كل مطلقة، ثم استثنيت ذات الحمل، كما قال ذلك طائفة؛
~~وإما أن يقال: بل هي مختصة بغير ذات الحمل لم تتناول لغيرهن، فإن القرآن قد
~~بين أن غير المدخول بها لا عدة عليها بقوله: (إذا نكحتم المؤمنات ثم
~~طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) (1) . ولهذا قال
~~من قال: إن هذه الصورة مستثناة مخصوصة من هذا العموم.
# وقد يقال: الآية لم تشمل غير المدخول بها، فإنه قد قال في سياقها: ()
~~ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) (2) ، وقبل الدخول ليس لها حق في المعاشرة.
~~وقال أيضا: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) (3) ، وهذا مختص
~~بالمدخول بها، فغير المدخول بها يرجع إليه نصف مهرها الذي أعطاها، بقوله:
~~(وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم فنصف ms0116 ما فرضتم) (4) . ولأن قوله:
~~(ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) (5) يتناول الحيض والولد.
~~ومن لم يدخل بها ليس له منها ولد. PageV01P254
# فإن قيل: قد يكون الضمير في آخرها أخص منه في أولها، كما قالوا: إن قوله
~~(والمطلقات) يعم البائنات والرجعيات، وقوله (وبعولتهن) يختص بالرجعيات.
~~وتنازعوا هل يقال: التخصيص في الضمير فقط أو التخصيص في أولها فقط؟ ليتطابق
~~المضمر والمظهر، أو بالوقف؟ على ثلاثة أقوال، وهي أقوال معروفة (1) .
# قيل: هذا على قول من يقول: إن المطلقات فيهن بانت بعد الدخول، وهو أحد
~~القولين في مذهب أحمد وغيره، ثم رجع أحمد عن هذا، وقال: تدبرت القرآن فإذا
~~كل طلاق فيه فهو الرجعي. فظاهر مذهبه أن الطلاق بعد الدخول لا يكون رجعيا.
~~وأما الثلاث فذاك هو الطلاق المحرم، وقد بينه بعد هذا بقوله: (الطلاق
~~مرتان) (2) ، أي الطلاق المذكور في الآية، وهو الرجعي.
# وهذه الآية وأمثالها مما يستدل به على أن الطلاق بعد الدخول لا يكون إلا
~~رجعيا، ولهذا يذكر الله فيه الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان، وهو مما
~~يدل على أن
### | الخلع ليس بطلاق
# (3) ، لأنه لا رجعة فيه، فإن الله سماه افتداء، ولهذا كان لا رجعة فيه
~~عند عامة العلماء، وهو في أحد القولين - وهو الثابت عن عثمان وابن عباس
~~وغيرهما - أنها تستبرأ منه بحيضة، فلا تتربص ثلاثة قروء، وهو إحدى
~~الروايتين عن أحمد، وقول إسحاق وغيره وقول طائفة من السلف، وإذا كان فسخا
~~لم يكن له عدد. فهذه خصائص الطلاق المذكورة في الآية، PageV01P255
# وهي ثلاثة: تربص ثلاثة قروء، واستحقاق البعل الرجعة، وأنه مرتان، ثلاثتها
~~منفية في الخلع، لأنه افتداء افتدت به المرأة نفسها من زوجها كما يفتدي
~~الأسير، فقد اشترت ذلك وعاوضت عليه. وقد يشبه بالإقالة أيضا، ولهذا قال من
~~قال: ينبغي أن لا يكون بزيادة على المسمى كالإقالة.
# وإذا قيل: هو فسخ، فهل يصح مع الأجنبي؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
# أحدهما: لا يصح، فإنه حينئذ يكون كالإقالة، والإقالة لا تكون مع الأجنبي.
~~وهذا قول أبي ms0117 المعالي والرافعي، وقد ذكره أبو الخطاب وغيره من أصحاب أحمد.
# والثاني: يصح مع الأجنبي، وهو الصحيح المشهور عند أصحاب أحمد، وكذلك ذكره
~~العراقيون من أصحاب الشافعي، كأبي إسحاق الشيرازي في "نكته"، وذلك لأنه
~~كافتداء الأسير، ويجوز بذل الأجنبي العوض في افتداء الأسير. وبسط هذا له
~~موضع آخر (1) .
# والمقصود هنا أن القرآن من تدبره تدبرا تاما تبين له اشتماله على بيان
~~الأحكام، وأن فيه من العلم مالا يدركه أكثر الناس، وأنه يبين المشكلات
~~ويفصل النزاع بكمال دلالته وبيانه إذا أعطي حقه، ولم تحرف كلمه عن مواضعه.
# فقوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) نص في أن المراد ذات
~~الأقراء. وقد تنازع الناس هل يعم لفظها لذوات الحمل والمتوفى عنها، ثم قد
~~خص منها ذلك؟ أو لا يعم لفظها لهؤلاء؟ PageV01P256
# على قولين (1) . والأول قاله بعض أهل التفسير، كما ذكره مقاتل بن سليمان،
~~وكما روي عن الضحاك أيضا، وهو شيخ مقاتل. قالوا: إن الله استثنى من هذه
~~الآية من لم يدخل بها، واستثنى منها ذوات الحمل، واستثنى الصغيرة والكبيرة.
# فأما استثناء من لم يدخل [بها] (2) فقد قاله غير هؤلاء، ورواه أبو داود
~~في سننه (3) عن ابن عباس، وتقدم القول فيه.
# وأما استثناء هؤلاء وإخراجهن من الآية فقول ضعيف. والصواب أن الآية لم
~~تشمل هؤلاء:
# أما الصغيرة والكبيرة فإنهن لا يحضن، وقوله (ثلاثة قروء) هي الحيض التي
~~يكون فيها طهر، فلابد أن يكون ذلك فيمن تحيض وتطهر، ويمتنع أن يقال لمن لا
~~قروء لها: تتربص ثلاثة قروء. فالآية لم تشمل أولئك.
# ولم يقل أحد: إنه استثني منها المتوفى عنها، فإن لفظ المطلقات لا يتناول
~~من مات عنها زوجها.
# وأما أولات الأحمال فنقول: لو شملها اللفظ لكانت تحتاج أن تتربص ثلاثة
~~قروء بعد وضع الحمل وانقضاء النفاس، فإن العادة الغالبة أن الحامل لا ترى
~~دما، وقد تراه نادرا، والفقهاء مختلفون هل هو حيض أم لا؟ ولو قيل: هو حيض
~~نزاع أنه لا تقضي به العدة، ثم إنها ترى النفاس، ثم تتربص ثلاثة قروء،
~~فتبقى في العدة ms0118 أكثر من PageV01P257
# سنة في الغالب، ومعلوم أن الله كما لم يرد ذلك بهذه الآية، فلم يدل لفظها
~~على ذلك، لأنه قال: (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ، والتربص الانتظار، فجعل
~~مدة التربص ثلاثة قروء، كما قال: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر)
~~(1) . والتربص في الموضعين من حين السبب، وهو الإيلاء أو الطلاق، فإنه لما
~~قال: (والمطلقات يتربصن) كان أمرا لهن بالتربص من حين طلقهن، وإذا وجب
~~عليها من حين الطلاق تربص ثلاثة قروء حينئذ امتنع أن يكون بين الطلاق وهذه
~~القروء عدة أخرى كالحمل، والله تعالى أمر بطلاقها للعدة، فالعدة التي هي
~~القروء، فستعقب الطلاق لا تتراخى عنه، ولأن قوله (ثلاثة قروء) عدد، فعلم
~~أنها لا تتربص زيادة على ذلك.
# فهذا وغيره مما يبين أن لفظ الآية لم يشمل إلا المطلقة التي لها قروء عقب
~~الطلاق، لم يتناول الصغيرة ولا الكبيرة ولا الحامل، كما لم يتناول المتوفى
~~عنها، وإذا كان كذلك تبين أنها أيضا لم يتناول من لا تدري أتعتد بالقروء أو
~~بوضع الحمل، فإن هذه ليست مأمورة من حين الطلاق أن تتربص ثلاثة قروء،
~~والآية قد دلت على أن المطلقات المذكورات في الآية مأمورات أن تتربص كل
~~واحدة منهن ثلاثة قروء عقب الطلاق، فلم تدخل في الآية الحامل، ولا من لا
~~يعرف هل هي حامل أو حائل، ولو كانت هذه مطلقة لوجب أن تشملها الآية على
~~تقدير، فيجب عليها إن لم تكن حاملا أن تتربص من حين الطلاق ثلاثة قروء،
~~فلما لم تشملها الآية علم أنها ليست مطلقة. والمطلقات المذكورات هنا هن
~~المطلقات المذكورات في قوله: (إذا طلقتم النساء PageV01P258
# فطلقوهن لعدتهن) (1) ، والطلاق للعدة لا تدخل فيه هذه، فإنها ليست مطلقة
~~للعدة، فعلم أنها لا تكون مطلقة.
# وأما الجواب عما احتجوا به فيقال: الآية سواء شملت الولد والحيض، أو قدر
~~أنها مختصة بالولد، فلا يمتنع أن يطلق للسنة وتكتم الحمل والولد، تارة تكره
~~الزوج فتكتمه، لئلا يعلم به فيراجعها، وتارة تكتمه لتطول العدة فتأخذ
~~النفقة، وقد تكتمه لتنفيه عن أبيه، وذلك ms0119 أنه إذا طلقها وقد رأت الطهر، فقد
~~تكون مع ذلك حاملا، فإن الحامل قد ترى الدم باتفاق الناس، وهل يكون حيضا؟
~~على قولين، والطهر دليل ظاهر على براءة الرحم وليس قاطعا، فقد تكون حاملا
~~لاسيما في أوائل الحمل، وترى الدم [في] الطهر، فيطلقها يظنها حائلا، وتكون
~~حاملا تكتم ذلك. وقد يكون في ابتداء الخبر، فتخبر أنها حاضت وطهرت،
~~ليطلقها، رغبة منها في الطلاق وكراهة التزوج.
# وقوله (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) (2) يقتضي تحريمه
~~في هذه الحال أيضا، فإنه إذا حرم عليها الكتمان بعد الطلاق، فقبل الطلاق
~~أولى أن يحرم عليها الكتمان، لأنه حينئذ يحتاج أن يعرف هل هي طاهر فيباح له
~~الطلاق، أم لا؟ وهل هي حامل لئلا يطلقها، أم لا؟ فإذا كتمت الحمل وزعمت
~~أنها طاهر ليطلقها، كانت أولى بالإثم من أن تكتم ذلك في آخر العدة، فإن هذه
~~قصدت أن توقعه في طلاق محرم، وأن تخرج نفسها من ملكه بالحيلة، وقد قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المنتزعات والمختلعات هن المنافقات" (3)
~~، وقال: "أيما امرأة سألت PageV01P259
# زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" (1) . فإذا كان هذا
~~بسؤالها واختياره فكيف باحتيالها ومكرها. وهذا مما يدل على بطلان الطلاق،
~~فإن الشارع حكيم ينبغي أن يعاقبها بنقيض قصدها، فلا يحصل لها ما طلبته من
~~المكر والخداع المحرم. فإذا كتمت الحمل وقالت: إني طاهر، حتى طلقها، ولم
~~تكن طاهرا بل كانت موطوءة، ولم يتبين حملها فهذه لا يقع بها الطلاق، على
~~هذا القول الذي نصرناه، وقد وقع مثل هذه القضية، وإذا تبين أنها قد تكتم
~~الحبل بعد الطلاق وقبل الطلاق، مع أن المطلقة مأمورة بثلاثة قروء، تبين أن
~~هذا القول هو المتضمن للعمل بالآية دون ذاك.
# وقد ذكر بعض أهل التفسير (2) أنهن في الجاهلية كن يفعلن ذلك، فقال ابن
~~السائب عن أبي صالح عن ابن عباس كانت المرأة إذا كانت راغبة في زوجها قالت:
~~أنا حبلى، وليست حبلى، لكي يراجعها.
# وإن كانت حبلى وهي ms0120 كارهة قالت: لست بحبلى، لكي لا يقدر على مراجعتها، أو
~~لكيلا يراجعها. فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قوله، فقال: (يا أيها
~~النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) (3) .
# ثم نزلت: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (4) .
# قلت: وهذا يقتضي أنهم كانوا يطلقون الموطوءة قبل نزول آية PageV01P260
# الطلاق، وحينئذ فقد تقول: أنا حبلى، فيراجعها، وقد تقول: لست حبلى، فلا
~~يراجعها. فلما أنزل الله آية الطلاق أمر بالطلاق للعدة أن تكون طاهرا أو
~~حاملا قد تبين حملها، وأنزل آية البقرة، فصار الطلاق وهي طاهر، والغالب
~~أنها لا تكون حبلى، فما بقيت تتمكن مما كانت تتمكن منه في الجاهلية.
# وقد ذكر بعض أهل التفسير أنهم كانوا يراجعون الحامل بعد الطلاق الثلاث،
~~وأن الآية نزلت في ذلك، ففي "تفسير الخمس مئة" لمقاتل قال: (ولا يحل لهن أن
~~يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) يعني من الولد، (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك)
~~يعني أزواجهن أحق بردهن يعني برجعتهن في ذلك، يعني في الحمل. كان هذا في
~~أول الإسلام، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما
~~دامت في العدة، ثم نزلت: (وبعولتهن أحق بردهن) في الحبل بعدما طلقها ثلاثا
~~معلومة في كتاب الله ممكنة. وفسر الآيات إلى قوله: (وتلك حدود الله) يعني
~~ما بين من الزوج والمرأة في الطلاق والرجعة (يبينها لقوم يعلمون (230)) .
~~فمن طلق امرأته ثلاثا وهي حبلى أو غير ذلك، فقد بانت منه، ولا تحل له حتى
~~تنكح زوجا غيره.
# وفي تفسير عاصم بن سليمان الكوزي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: وقوله
~~(وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) يعني في الحامل، في أول الإسلام كان الرجل إذا
~~طلق امرأته ثلاثا وهي حامل أو غير حامل، فهو أحق برجعتها ما دامت حاملا. ثم
~~نزلت في امرأة رجل لم يعلم بحملها، فطلقها زوجها، ولم تخبره المرأة بحملها.
~~فذلك قوله: (إن أرادوا إصلاحا) إذا تراجعا ما بينهما، ثم نسخت هذه الآية
~~التي بعدها، فقال: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف) يقول ms0121: بحسن
# PageV01P261
# الصحبة، إلى أن قال: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) التطليقة الثالثة
~~(حتى تنكح زوجا غيره) حاملا كانت أو غير حامل.
# قلت: أما كون الطلاق في الجاهلية وفي أول الإسلام كان بغير عدد، يطلق
~~الرجل المرأة ما شاء ثم يراجعها، فهذا مشهور معروف، قد ذكره عامة العلماء،
~~ولا فرق في ذلك كان بين الحامل وغيرها.
# ولم يكن في الجاهلية عدة ولا عدد للطلاق، وأنزل الله العدة أولا، فكان
~~الرجل المضار يطلقها، حتى إذا لم يبق من العدة إلا قليل راجعها، ثم يطلقها،
~~فتستأنف العدة، فيمهلها، حتى إذا بقي منها قليل طلقها، ثم كذلك يفعل، حتى
~~يبقى دائما يطلقها ثم يراجعها، فأنزل الله الثلاث. وكان له أن يرتجعها بعد
~~الطلاق الثلاث إذا كانت في العدة، سواء كانت العدة حملا أو قروءا، كما ذكر
~~هؤلاء. ولم يكونوا إذ ذاك أمروا بالطلاق للعدة، فإنه إذا كان يملك أكثر من
~~ثلاث أمكنه تطويل العدة وإضرارها وإن طلقها للعدة، ولكن لما قصروا على
~~الثلاث أمروا أن لا يطلقوا إلا للعدة، لتكون العدة عقب الطلاق، فلا يقع ضرر
~~أصلا.
# وما ذكر من أن المرأة كانت تكتم الحمل تارة لبغضها للرجل، وتارة لئلا
~~يراجعها، وتقول: إني حبلى، وتكتم الحيض تارة لحبها له، ليمسكها، وأن رجلا
~~طلق امرأته ولم تعلمه أنها حامل، فهو يوافق ما ذكرناه من أنها قد تكتم
~~الحمل حين الطلاق.
# وقولهم: "إن هذا في الحمل، وكان هذا في أول الإسلام"، فمعناه أنه في أول
~~الإسلام لما كان الطلاق بغير عدد، ولم تكن هناك سنة وبدعة، كانت المرأة
~~تتمكن من كتمان الحمل تارة وكتمان الحيض، ودعوى الحمل تارة، لهواها في
~~الحالين. فلما صار الطلاق
# PageV01P262
# ثلاثا ما بقي يتمكن من المراجعة إلا في الطلقتين، وأمر أن لا يطلقها حتى
~~يعلم أنها حامل أو غير حامل، فإن كانت حاملا كانت عدتها الحمل، وأقدم على
~~علم فلا يندم، ولا تغره وتكتمه وتكذب عليه. وإن ظهر أنها ليست حاملا،
~~لكونها في طهر لم يصبها فيه، كان كذلك، وما ms0122 بقي الكذب الذي يضره يمكنها إلا
~~في صور نادرة، إذا طهرت ثم تبين أنها حامل، أو فيما إذا كتمت الحمل أولا
~~وقالت: إني طاهر، وهو مع ذلك وفي كلا الموضعين إنما يمكنها الخداع على قول
~~من يوقع الطلاق. ومن لا يوقع إلا طلاق السنة يقول: إذا تبين أنها كانت
~~حاملا ولم يعلم، لم يقع الطلاق، فإنها لم تكن طاهرا، ولا كان ذلك دم حيض.
# وأيضا فقد يكون مرادهم أن هذه الآية - آية القروء - نزلت قبل الأمر
~~بالطلاق للعدة، فكانوا في تلك الحال لهم أن يطلقوا المرأة حائضا وموطوءة،
~~وحينئذ فقد تكون حاملا وتكتم الزوج ذلك، أو حائلا وتكتم ذلك، فكان النهي عن
~~الكتمان في تلك الحال عاما. ثم إنه بعد ذلك أمر بالطلاق للعدة، ونهي الرجل
~~أن يطلق امرأة بمرة إلا إذا تبين حملها، فزال هذا الفساد، كما قيل لهم:
~~(ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) (1) ، لما كان الطلاق بلا عدد فأمر بالعدة
~~أولا، ثم قصروا على الثلاث ثانيا، ثم أمروا بطلاق السنة ثالثا.
# وهذا يبين حقائق الأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولهذا قال في سورة
~~الطلاق (2) : (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) ، فدل على PageV01P263
# أن العدة كانت مشروعة قبل ذلك، وأن آية العدة نزلت قبل الأمر بطلاق
~~السنة، وهذا يحقق ما ذكر، والحمد لله رب العالمين.
# وكذلك إذا كتمت الحمل وقالت: إني طاهر، فإنه لا يقع الطلاق.
# فهذا كله ما يبين أن
### | القول بأن طلاق البدعة لا يقع هو أرجح القولين،
# وعليه يدل الكتاب والسنة، وهو الموافق لمقاصد الشرع، وهو الذي يسد باب
~~الضرار والمخادعة والمكر، الذي أراده الله بأمره بطلاق السنة، وبقصره
~~الطلاق على ثلاث، وإلا فإذا قيل بوقوع طلاق البدعة كان الضرر الذي كان في
~~الجاهلية من هذا الوجه باقيا. فإذا قيل: إن الطلاق بعد الطهر لازم أمكنها
~~حينئذ أن تكتم الحمل إذا كانت زاهدة في الرجل لئلا يرتجعها، وأن تكتم الحيض
~~وتدعي الحمل إذا كانت راغبة في الرجل ليرتجعها.
# وما ذكره بعض أهل التفسير من أن نهيها ms0123 عن كتمان ما خلق الله في رحمها كان
~~في أول الإسلام، إن قيل: أرادوا بذلك أن النهي كان في أول الإسلام قبل
~~قصرهم على الثلاث وأمرهم بطلاق السنة، لأن الحامل حينئذ كانت تطلق من غير
~~أن يعلم أنها حامل، فاحتاجوا إلى ذلك. وأما بعد أن بين الله أنها لا تطلق
~~حتى يعلم أنها حائل أو حامل، فلا حاجة إلى ذلك. فهذه حجة قوية على من احتج
~~بالآية على وقوع طلاق البدعة كما تقدم. لكن الآية تبين أنهن نهين عن
~~الكتمان في الحال التي أمرت بها المطلقة أن تتربص ثلاثة قروء، وقيل فيها:
~~(الطلاق مرتان) (1) ، وهذا هو آخر الأمر، فيكون النهي يشمل هذه الحال
~~وغيرها بطريق الأولى كما تقدم، وإذا نهين عن PageV01P264
# الكتمان لم يدل ذلك على أن كتمانها ينفعها إذا علم بها، بل قد لا يعلم
~~كتمانها، فتكتمه الحمل، فيطلق يظنها طاهرا، ويستمر الأمر إلى أن تضع الحمل،
~~فربما غيبت الولد وكتمت الولادة. كما روي أن امرأة لعمر فعلت ذلك، وأن عمر
~~عاقبها بمنعها من الأزواج. وربما مات الولد أو قتلته، وربما كره الزوج
~~مراجعتها بعد ذلك. هذا مع العلم بأن طلاقها لا يقع، فكيف وأكثر الناس يظنون
~~أن طلاقها يقع، فيكون كتمانها مضرة في هذه الحال. والزوج قد يعتقد أن
~~طلاقها يقع كما يعتقده غالب الناس، فيتضرر حينئذ بمكرها وكيدها، فنهي الله
~~لها عن الكتمان فيه كمال المصالح للعالم والجاهل في مسائل الإجماع والنزاع.
~~ثم من كان أبصر وأخبر بحكمة الرب ورحمته ومحاسن الإسلام تبين له أن الرب لم
~~يجعل لها طريفا إلى أن تضار الرجل، حتى توقعه في طلاق أو تمنعه من رجعة،
~~إلا إذا كان حكم الله ورسوله خفيا عليه، فيؤتى من عدم علمه، لا من نقص في
~~حكم الله ورسوله.
# والله أعلم وأحكم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
# آخره، والحمد لله رب العالمين.
# (بلغ مقابلة بالأصل خط المؤلف، ومنه نقل. والحمد لله رب العالمين) .
# ***
# PageV01P265
### | فتوى في طلاق السنة وطلاق البدعة
# PageV01P267
# بسم الله الرحمن الرحيم
# الحمد ms0124 لله رب العالمين.
# سئل شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رضي الله عنه، ومن خطه نقلت:
# ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين - رضي الله عنهم أجمعين - في طلاق
~~السنة وطلاق البدعة ما هو؟ وهل طلاق البدعة حلال أو حرام؟
# وهل طلاق الثلاث بكلمة واحدة من السنة أو البدعة؟ وهل هو حلال أو حرام؟
~~بينوا لنا هذه المسألة، رحمكم الله وهداكم.
# فأجاب رحمه الله:
# الحمد لله. طلاق السنة الذي أباحه الله ورسوله أن يطلق الرجل امرأته طلقة
~~واحدة في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تقضي العدة، فإن كان له فيها غرض
~~راجعها في العدة، أو يراجعها بعقد جديد بعد انقضاء العدة، وإن لم يكن له
~~فيها غرض تركها. فإذا فعل ذلك فقد طلق للسنة، وهذا الطلاق الذي أباحه الله
~~بالكتاب والسنة والإجماع.
# فأما إذا طلقها في الحيض فإنه يكون عاصيا لله مبتدعا باتفاق الأئمة،
~~وكذلك إذا طلقها بعد أن وطئها قبل أن يستبين حملها، فإنه طلاق بدعة. وكذلك
~~إذا طلقها ثلاثا بكلمة واحدة أو بكلمات في طهر واحد فإنه يكون عاصيا لله
~~مبتدعا عند جماهير السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أشهر
~~الروايتين عنه، بل لو
# PageV01P269
# طلقها واحدة ثم أتبعها بطلقتين قبل أن تنقضي العدة فانه يكون أيضا مبتدعا
~~في مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
# والقرآن والسنة يدل على أن الله إنما أباح للرجل أن يطلق طلقة واحدة،
~~فإذا راجعها ثم أراد أن يطلق الثانية فله ذلك، وكذلك الثالثة، فإذا طلقها
~~ثلاثا كذلك لم يكن مبتدعا. وإذا وقع به الطلاق الثلاث حرمت عليه حتى تنكح
~~زوجا غيره. فإذا طلقها على الوجه المشروع لم يندم. وهو قول الله تعالى: (يا
~~أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم
~~لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله
~~ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1)
~~فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ms0125 بمعروف أو فارقوهن بمعروف) إلى قوله (ومن يتق
~~الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب) (1) .
# فهذا إنما يكون لمن طلق أقل من ثلاث، فيمسك بمعروف، أو يفارق بمعروف، وفي
~~مثل هذا يقال: "لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا"، وهو أن يبدو له فيراجعها.
~~فأما إذا وقع الثلاث فأي أمر يحدث بعد الثلاث؟ وأي رجاء يكون بعدها؟ فلهذا
~~قال جمهور السلف والخلف: إن جمع الثلاث بدعة منهي عنها، والمطلق ثلاثا
~~بكلمة واحدة مبتدع عاص.
# ولم يثبت أن أحدا أوقع الطلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- بكلمة واحدة، بل زوج فاطمة ابنة قيس طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات.
~~والملاعن كان باللعان قد ثبت حكم الفرقة بينه وبين PageV01P270
# امرأته، فطلق ثلاثا، ولو لم يطلقها لكانت محرمة عليه. فالطلاق لم يفد
~~شيئا.
# فأما أن يكون المسلمون يطلقون ثلاثا بكلمة واحدة على عهد النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - - كما يفعل الناس في زماننا - فهذا لم يثبت فيه حديث
~~صحيح، ولهذا كان الصحابة يذمون من يطلق ثلاثا بكلمة واحدة، ويقولون: إنه
~~عاص لله، والطلاق إذا وقع لم يرتفع بالكفارة بإجماع المسلمين، وإنما
~~الكفارة في الأيمان، لا في إيقاع الطلاق. والله
# أعلم.
# (صورة خطه) كتبه أحمد بن تيمية.
# (بلغ مقابلة بأصله، ومنه نقل) .
# ***
# PageV01P271
### | فصل في جمع الطلاق الثلاث
# PageV01P273
# بسم الله الرحمن الرحيم
# (قال شيخ الإسلام وبحر العلوم تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم
~~بن عبد السلام بن تيمية الحراني - رحمه الله ورضي عنه -، ومن خطه نقلت:) .
# فصل
### | جمع الطلاق الثلاث محرم عند جمهور السلف والخلف،
# وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في آخر الروايتين عنه، واختيار أكثر
~~أصحابه. ثم هل يقع عند هؤلاء أو لا يقع، أو تقع واحدة، أو يفرق بين المدخول
~~بها وغير المدخول بها، فيه نزاع (1) . والنزاع بين السلف إنما هو هل تقع
~~واحدة أو ثلث. وأما القول بأنه لا يقع شيء فإنما هو منقول عن بعض أهل البدع
~~من أهل الكلام والرافضة.
# وقالت طائفة: بل هو ms0126 مباح.
# والكلام في مقامين:
# أحدهما: أنه محرم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الصحابة،
~~والاعتبار بالأصول المعلومة بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فمن وجوه:
# أحدها: أنه سبحانه قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
~~PageV01P275
# لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن
~~إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه
~~لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف
~~أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به
~~من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من
~~حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله
~~لكل شيء قدرا (3)) إلى قوله: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن
~~لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن
~~لكم فآتوهن أجورهن) (1) .
# ومعلوم أن هذه السورة هي سورة الطلاق، وقد ذكر الله فيها من أحكام الطلاق
~~والرجعة والعدد ونفقة الحامل والمرضع وغير ذلك مالم يذكره في موضع آخر، وهي
~~تدل على تحريم جمع الثلاث من وجوه:
# أحدها: أنه قال (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا
~~الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) إلى
~~قوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن
~~بمعروف أو فارقوهن بمعروف) . ومعلوم أن هذا لا يكون في الطلاق الثلاث، فإن
~~الثلاث لا إمساك بعدهن، وبعد الثلاث لا يحدث الله للزوج رجعة بدون رضاها.
~~ولهذا قال غير واحد من الصحابة والتابعين والعلماء - كابن عباس وجابر
~~وفاطمة بنت قيس - وفقهاء الحديث ومن وافقهم من العلماء: إن هذا في الرجعية.
~~PageV01P276
# الثاني: أن قوله (فطلقوهن) إذن في مطلق الطلاق، ليس إذنا في كل طلاق. ومن
~~ظن أن هذا عام فقد غلط ولم يفرق بين العام والمطلق، فإن قول القائل "كل"
~~و"بع ms0127" ونحو ذلك إذن في مطلق الأكل والبيع، لا يتعرض للعموم لا بنفي ولا
~~إثبات. ولهذا لم يكن تقييد هذا المطلق رفعا لمدلول اللفظ ولا نسخا له، وإذا
~~لم يكن فيه عموم فهو لم يأذن إلا في الطلاق الذي وصفه، وهو أن يطلق للعدة
~~وأن يحصي العدة ويتقي الله، وأنه إذا بلغن أجلهن أمسك بمعروف أو فارق
~~بمعروف. وهذه الصفة إنما هي في الطلاق دون الثلاث، كما أنها إنما هي في
~~الطلاق لاستقبال العدة، فمن طلقها حائضا فلم يطلق كما أمره الله تعالى.
~~كذلك من لم يطلق الطلاق الموصوف بأن صاحبه لا يدري لعل الله يحدث بعده
~~أمرا، وبأنه إذا بلغت المرأة أجلها فإما أن يمسك بمعروف أو يسرح بمعروف،
~~فلم يطلق الطلاق الذي أمر الله به.
# الثالث: أنه أمر بإحصاء العدة وأن يتقي الله، وأمر إذا بلغن أجلهن أن
~~يمسك بمعروف أو يسرح بمعروف، وهذا لا يحتاج إليه في الثلاث، فإن الثلاث
~~إنما يحتاج إلى إحصاء العدة لتحل لغيره، لا لأجل إمساكه وتسريحه.
# الرابع: أنه قال (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة
~~مبينة) ، وهذا حكم المطلقة الرجعية، فإن زوجها أحق بها ما دامت في العدة،
~~فليست كالزوجة من كل وجه، ولا كالبائن من كل وجه، بخلاف الزوجة فإن لها أن
~~تخرج بإذن زوجها، والبائن لزوجها أن يخرجها بلا إذنها، فإنها لا تستحق عليه
~~السكنى ولا النفقة، إلا أن يختار هو أن يحصنها، فله إلزامها بالسكنى لحقه
~~في
# PageV01P277
# العدة. وقد دل على ذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة في
~~فاطمة بنت قيس حيث قال لها: "ليس لك سكنى ولا نفقة" (1) . ولم يعارض ذلك
~~أحد بمعارضة صحيحة، فإن القرآن لا يخالف ذلك بل يوافقه، فإن الله قال:
~~(أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات
~~حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) (2) ، والضمير عائد على ما تقدم، وهي
~~الرجعية. وما ذكره في الحامل والمرضع فبين فيه أن النفقة حينئذ لأجل الحمل ms0128،
~~لا لأجل النكاح، ولهذا قال: (حتى يضعن حملهن) ، فهذا ذكره لغاية نفقة
~~الحمل، وإلا فقد بين عدة الحامل بقوله (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن
~~حملهن) (3) ، وقوله بعد ذلك: (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) (4) . وقد ثبت
~~بالإجماع أن أجرة الرضاع نفقة الولد، وهي تجب للنسب لا للنكاح، فدل ذلك على
~~أن نفقة الحامل لذلك.
# ولهذا كان أصح القولين أن نفقة الحامل تجب للحمل (5) ، وحكمها حكم نفقة
~~الولد التي تجب على والده، وهذا مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه،
~~والشافعي في أحد قوليه، ومن قال: إنها تجب للزوجة من أجل الحمل، فكلامه
~~متناقض لا يعقل.
# الخامس: أنه قال (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1)) ، وهو كما قال
~~غير واحد من الصحابة، فأي أمر يحدث بعد الثلاث، فإن PageV01P278
# الله ذكر هذا ليبين أنه قد يحدث بعد رغبة في الزوجة وندم على الطلاق،
~~فيكون له سبيل إلى رجعتها.
# السادس: أنه قال في سياق الآية: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2)) ، وقد
~~قال الصحابة لمن طلق ثلاثا (1) : لو اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا، فعلم
~~أن جامع الثلاث لم يتق الله.
# السابع: أنه قال (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف
~~وأشهدوا ذوي عدل منكم) ، والإشهاد إنما يؤمر به في حكم الطلاق الرجعي، وهو
~~واجب على الرجعة في أحد القولين، ويستحب في الآخر.
# الثامن: أنه قال (فإذا بلغن أجلهن) أي وصلن إلى آخر المدة، فإن الأجل هو
~~آخر المدة، والعدة مجموعها، ولهذا قال تعالى في الآيسات: (فعدتهن ثلاثة
~~أشهر) ، وقال: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ، فجعل الأجل وضع
~~الحمل، ولم يجعل ذلك عدة، لأن العدة ما يعد، وهي المدة التي تعد. وأما
~~الأجل فهو آخر المدة.
# ولهذا دلت هذه الآية على أن الحامل لا أجل لها إلا وضع الحمل، سواء كانت
~~متوفى عنها أو مدخولا بها، ولهذا قال ابن مسعود (2) : أشهد أن سورة النساء
~~القصرى نزلت بعد الطولى، (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) وقال
~~سبحانه: (فإذا بلغن أجلهن) ، لأنه ms0129 إنما يخير بين الإمساك والتسريح عند آخر
~~المدة، بخلاف أثنائها، فإنه لا PageV01P279
# يسرحها حينئذ، وهذا إنما يكون في الرجعية.
# التاسع: أنه خيره بين الإمساك والتسريح، وليس المراد بالتسريح هنا تطليقا
~~بائنا باتفاق المسلمين، فإن ذلك لا يختص ببلوغ الأجل، بل المراد به تخلية
~~سبيلها، كما قال: (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما
~~لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49)) (1) ، فأمر
~~بتسريح المطلقة قبل المسيس، وتلك ليست رجعية، ولا يلحقها الطلاق الثاني،
~~وإنما المراد تخلية سبيلها وإزالة يده عنها، فإن له يدا على الرجعية، فإذا
~~بانت لم يكن له عليها بد.
# الموضع الثاني من كتاب الله قوله تعالى: (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع
~~عليم (227) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما
~~خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في
~~ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة
~~والله عزيز حكيم (228) الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل
~~لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن
~~خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا
~~تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له
~~من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن
~~يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230) وإذا طلقتم
~~النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا
~~لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة
~~الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا
~~أن الله بكل شيء عليم (231) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن
~~ينكحن PageV01P280
# أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله
~~واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله ms0130 يعلم وأنتم لا تعلمون (232)) (1) .
# وهذه الآيات تدل على أن المشروع هو الطلاق الرجعي دون الثلاث، من وجوه:
# الأول: أنه قال (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227) والمطلقات
~~يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن
~~كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) ،
~~وهذا يدل على أن كل مطلقة فإنها تتربص ثلاثة قروء، وأن بعلها أحق بردها في
~~ذلك، فلو كان المطلق مخيرا بين إيقاع واحدة وثلاث لم تكن كل مطلقة كذلك، بل
~~كان هذا وصف بعض المطلقات.
# فإن قيل: فهذا يرد عليكم فيمن طلقت الطلقة الثالثة.
# قيل: قد بين ذلك بقوله فيما بعد (الطلاق مرتان) ، تبين أن هذا الطلاق هو
~~مرتان فقط، والثالثة قوله (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا
~~غيره) . وقبله قوله (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) ، فكان تمام الكلام
~~يبين المراد، ولم يك في ذلك خروج عن مدلول القرآن ومفهومه وظاهره، بخلاف ما
~~إذا قيل: إن المطلق مخير بين الواحدة والثلاث.
# وأيضا فالآية عامة في كل مطلقة، والمطلقة طلقة ثالثة قد خصها في تمام
~~الكلام بقوله (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) ، فيبقى ما
~~سواها على ظاهر القرآن وعمومه. PageV01P281
# الوجه الثاني: أن الله ذكر حكم الطلاق الذي أذن فيه وشرعه، فإنه لما قال:
~~(فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم
~~(227)) ، وقال: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) ، وقال: (إذا نكحتم
~~المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) ونحو ذلك، دل على أنه أذن في
~~الطلاق وأباحه في الجملة، وهو سبحانه لم يأذن في كل طلاق ولا أباحه، بل
~~الطلاق ينقسم إلى مباح ومحظور بالكتاب والسنة والإجماع. وإنما الكلام هنا
~~في جمع الثلاث هل هو من المباح أو المحظور، فإذا قيل: إن الله بين حكم
~~الطلاق الذي أباحه، ولم تكن الثلاث مباحة، كان القرآن على ظاهره وعمومه؛
~~وإذا قيل: هو من ms0131 المباح، والقرآن يعم الطلاق المأذون فيه والمحظور، كان ذلك
~~مخالفا لظاهر القرآن.
# الوجه الثالث: أنه قال (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) ، وهذا صفة الطلاق
~~الرجعي، فدل ذلك على أن هذا هو الطلاق الموصوف في كتاب الله بقوله
~~(والمطلقات) ، فالمطلق ثلاثا ابتداء لا رجعة له، ومن لم يوقع إلا طلاقا لا
~~رجعة فيه فقد خالف كتاب الله.
# الوجه الرابع: أنه قال بعد ذلك (الطلاق مرتان) ، ثم قال: (فإمساك بمعروف
~~أو تسريح بإحسان) . وفي الحديث المرسل عن أبي رزين الأسدي الذي رواه الإمام
~~أحمد وغيره (1) أنه قيل: يا رسول الله! فأين الطلقة الثالثة؟ قال: في قوله
~~(فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) . وهذا معناه أنه جوز إمساكها بعد
~~الثانية، فعلم أنها تكون زوجة بعد الثانية، لا PageV01P282
# تحرم بالثانية. ثم ذكر حكمه إذا أوقع الثالثة بقوله: (فإن طلقها فلا تحل
~~له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) . وقد فسر بعضهم (1) معناه بان قوله (أو
~~تسريح بإحسان) هو الطلقة الثالثة، وهذا غلط من وجوه كما قد ذكر في موضع
~~آخر. ومعلوم أن هذا لا يتناول الثلاث المجموعة، فإنه ليس بعد وقوع الثلاث
~~إمساك بمعروف.
# الوجه الخامس: أن قوله (الطلاق مرتان) لفظ معرف باللام، فيعود إلى الطلاق
~~المعهود، وهو الطلاق الذي تقدم ذكره في كتاب الله بقوله (والمطلقات يتربصن)
~~، وهو الطلاق الرجعي، فدل ذلك على أن الطلاق المشروع في كتاب الله هو
~~الطلاق الرجعي الذي يقع مرة بعد مرة، وبعدهما إمساك بمعروف أو تسريح
~~بإحسان، والثالثة قوله (فإن طلقها) .
# الوجه السادس: أن قوله (مرتان) إما أن يريد به مرة بعد مرة، كما في قوله
~~(ثم ارجع البصر كرتين) (2) ، وكما في قوله تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت
~~أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات) (3) الآية. ومعلوم أن
~~الثلاث في الاستئذان لا تكون بكلمة واحدة، فلو قال: "سلام عليكم، أأدخل
~~ثلاثا" لم يكن قد استأذن ثلاثا. وكما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"من قال في يوم مئة مرة سبحان الله وبحمده حطت عنه خطاياه، ولو كانت ms0132 مثل
~~زبد البحر" (4) ؛ وفي مثل قوله: "سبح ثلاثا وثلاثين، وحمد ثلاثا وثلاثين،
~~وكبر ثلاثا وثلاثين" (5) ؛ وقوله: "كان إذا سلم PageV01P283
# سلم ثلاثا" (1) ، وأمثال ذلك مما يقتضي لفظ العدد فيه تكرير القول.
# لاسيما وهو لم يقل: "الطلاق طلقتان"، وإنما قال (الطلاق مرتان) .
# وإذا قال: "هي طالق ثلاثا" قد يقال: إنه طلقها ثلاثا، لكن لا يقال: طلقها
~~ثلاث مرات، بل إنما طلقها مرة واحدة. وكذلك لو قال: "هي طالق طلقتين" إنما
~~يقال: طلقها مرة واحدة، لا يقال: طلقها مرتين.
# وإما (2) أن يريد به "طلقتان" سواء كان بكلمة أو كلمتين، ولو أريد هذا
~~لقيل: "الطلاق ثلاث"، لم يقل: "الطلاق مرتان"، بخلاف ما إذا أريد الأول،
~~فإن المراد الطلاق المذكور، وهو الطلاق الرجعي مرتان: مرة بعد مرة؛
~~والثالثة الطلاق بعد الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وهو قوله (فإن
~~طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) ، ولو أريد هذا لقيل: "الطلاق
~~طلقتان"، ولم يقل "الطلاق مرتان". وقوله تعالى (نؤتها أجرها مرتين) (3) هو
~~على مقتضاه، أي مرة ومرة، وليس المراد إيتاء واحدا، بل إيتاء مرتين.
# الوجه السابع: أن الطلاق اسم مصدر طلق تطليقا، ومعلوم أن التطليق فعل
~~يفعله المطلق بكلامه الذي يتكلم به، وهذا لا يعقل أن يكون مرتين، إلا إذا
~~قيل مرة بعد مرة، فأما إذا طلقها بكلمة واحدة فهذا لم يصدر منه الطلاق إلا
~~مرة واحدة لا مرتين. وإن جاز أن يقال: إنه طلقها طلقتين، فلا يجوز أن يقال:
~~إنه طلقها مرتين، ولا يفهم لفظ "طلقها مرتين" بدون تكرير التطليق.
# يدل على ذلك أن قوله "الطلاق مرتان" يدل على ما يدل عليه PageV01P284
# قول القائل "طلقها مرتين"، ولو قال ذلك لم يفهم منه إلا أنه طلقها مرة
~~بعد مرة، فكذلك قوله "الطلاق مرتان". وإذا قال القائل: "سبح مرتين أو
~~ثلاثا" و"هلل مرتين أو ثلاثا" ونحو ذلك، فهم منه أنه قال ذلك مرة بعد مرة،
~~وكذلك إذا قيل "كلمه مرتين أو ثلاث مرات".
# ومنه قوله تعالى: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر ms0133 الله لهم) (1) ،
~~وقوله تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) إلى قوله (ثلاث مرات) (2) ،
~~وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (3) : "من قال في يوم مئة
~~مرة سبحان الله وبحمده، حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر، ومن قال في
~~يوم مئة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على
~~كل شيء قدير، كتب الله له مئة حسنة، وحط عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من
~~الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال
~~مثلما قال أو زاد عليه".
# وقوله في الحديث الصحيح (4) : "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في
~~اليوم مئة مرة"، وقوله في الحديث الصحيح (5) : "أيها الناس! توبوا إلى
~~ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من
~~سبعين مرة".
# الوجه الثامن: أنه قال بعد قوله "الطلاق مرتان": (فإمساك بمعروف أو تسريح
~~بإحسان) ، فأمره بعد الطلاق مرتين أن يمسك بمعروف PageV01P285
# أو يسرح بإحسان، وهذا لا يكون إلا فيما إذا أخر الطلقة الثالثة عن
~~الطلقتين، لا إذا جمع الجميع.
# الوجه التاسع: أنه قال بعد ذلك (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح
~~زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) ، ومعنى ذلك باتفاق
~~المسلمين: فإن طلقها الذي طلقها مرتين فلا تحل له من بعد هذا الطلاق الثالث
~~حتى تنكح زوجا غيره، فإن طلقها هذا الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج
~~الأول أن يتراجعا، أي ينكحها نكاحا ثانيا إن ظنا أن يقيما حدود الله،
~~وحينئذ فالله تعالى إنما حرمها في القرآن بطلقة وقعت بعد الطلاق مرتين.
# الوجه العاشر: أنه قال (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف
~~أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه) ،
~~فقوله "وإذا طلقتم" عام في كل تطليق، فإنه نكرة في سياق الشرط، فأمر عند
~~بلوغ الأجل بالإمساك أو التسريح، وهذا لا يكون مع جمع الثلاث، فعلم أن ms0134 جمع
~~الثلاث لم يدخل في ذلك. فلا يكون داخلا في مسمى التطليق، فلا يكون مشروعا،
~~فإنه لو دخل في مسماه لزم مخالفة ظاهر القرآن وتخصيص عمومه.
# فإن قيل: فهذا يرد عليكم في الثالثة إذا أوقعها بعد ثنتين.
# قيل: قد بين ذلك بقوله (الطلاق مرتان) إلى قوله (فإن طلقها) ، فقد بين أن
~~الطلاق الذي ذكر فيه الإمساك إنما هو مرتان فقط.
# الوجه الحادي عشر: أنه قال (الطلاق مرتان) ، ولم يقل "ثلاثا"، مع العلم
~~بأنه يملك أن يطلقها ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، فعلم أنه أراد أن يبين أن
~~الطلاق الذي هو أحق برجعتها فيه مرتان، ولو
# PageV01P286
# قيل: أراد: الطلاق الرجعي طلقتان، لم يستقم ذلك إذا جمعها، فإن الرجعي
~~حينئذ يكون طلقة واحدة، وطلقة بعد طلقة، وطلقتان مجموعتان، بخلاف ما إذا
~~قيل "مرتان"، فنه لا يكون إلا مرة بعد مرة.
# فن قيل: فإذا كان المراد أن الطلاق الرجعي مرتان علم أن لنا طلاقا رجعيا
~~وطلاقا غير رجعي، وذلك يتناول البائن والمحرم، وهو الثلاث.
# قيل: لفظ الطلاق إما أن يعم كل طلاق أو يعود إلى الطلاق المتقدم، وهو
~~المعهود، وعلى التقديرين فنه يقتضي أن كل طلاق إنما يكون مرة بعد مرة، ولا
~~يكون إلا رجعيا، فمن أثبت طلاقا بكلمة توجب البينونة فقد خالف دلالة
~~القرآن، فضلا عن طلاق واحد يوجب التحريم.
# الوجه الثاني عشر: أنه قال (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) ، وهذا لا يتأتى
~~في جمع الثلاث.
# الوجه الثالث عشر: أنه قال (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) ، وقد روي أن جمع
~~الثلاث من اتخاذ آيات الله هزوا، كما رواه النسائي (1) من حديث ابن وهب
~~أخبرني مخرمة عن أبيه سمعت محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال:
~~أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله! أفلا
~~أقتله؟
# الوجه الرابع عشر: أنه قال (واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من
~~الكتاب والحكمة يعظكم به) ، وهذه ms0135 النعمة تظهر فيما إذا وقع للعبد أن
~~PageV01P287
# يطلقها مرة بعد مرة، وأن يراجعها بعد التطليق، فأما إذا حرمها عليه في
~~أول تطليق يطلقه فهذه حرمت عليه في أول مرة، وتحريم الطيبات ليس من باب
~~النعم، بل قد جعله عذابا بقوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات
~~أحلت لهم) (1) ، وقوله: (ذلك جزيناهم ببغيهم) (2) .
# الوجه الخامس عشر: قوله (وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به) ،
~~والوعظ هو الأمر والنهي بترغيب وترهيب، كقوله: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون)
~~(3) أي يؤمرون به، وقوله: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله) (4) أي ينهاكم
~~الله. فدل عل أنه سبحانه أمرهم ونهاهم في الطلاق الذي ذكره، ولو كان قد
~~أباح لهم الثلاث جميعا لم يكن فيما ذكره من الطلاق أمر ولا نهي، فإنه بعد
~~الثلاث لا إمساك ولا تسريح ولا وعظ، وفاعلها إذا كان لم يذنب فلا يوعظ قبل
~~التطليق ولا بعده، والقرآن يدل على أنه وعظهم فيما ذكره من الطلاق.
# الوجه السادس عشر: قوله (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن
~~ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف) ، فإن هذا عام في الطلاق الذي
~~ذكره الله في كتابه، وجعله مرتين، فلو كان قد أذن في جمع الثلاث لم تكن
~~الآية على عمومها، بل كان هذا في بعض التطليق المذكور دون بعض، وهو خلاف
~~ظاهر القرآن وعمومه.
# الوجه السابع عشر: أن القرآن خطاب للصحابة ابتداء، ثم للأمة بعد الصحابة،
~~ومعلوم أن الخطاب بالطلاق الذي ذكر الله أحكامه، PageV01P288
# كقوله: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) ، وقوله: (الطلاق
~~مرتان) ، وقوله: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن
~~بمعروف) ، وقوله: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) لا يتناول
~~جمع الثلاث، وإنما يتناول من طلق مرة بعد مرة، فدل ذلك على أن هذا هو
~~الطلاق المعروف عند المخاطبين بالقرآن ابتداء.
# ودل ذلك على أن جمع الثلاث لم يكن من الطلاق الذي يعرفونه، إذ لو كان
~~كذلك لكان يستثنيه ويبينه، وإلا كان القرآن قد أريد به خلاف ms0136 ظاهره وعمومه
~~بلا بيان من الله ورسوله.
# الوجه الثامن عشر: أن يقال: معلوم أن ظاهر القرآن وعمومه يدل على أن
~~الطلاق المشروع طلقة بعد طلقة، فإذا أريد خلاف ظاهره فلابد من بيان من الله
~~أو رسوله لذلك. ومعلوم أنه ليس في القرآن آية تدل على إباحة جمع الثلاث،
~~ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على ذلك، فإن حديث فاطمة بنت
~~قيس إنما فيه أن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات، وحديث الملاعنة لما طلقها
~~ثلاثا إنما فيه طلاق من لا سبيل له إلى المقام معها، وهذا كما لو طلق من
~~حرمت عليه بغير الطلاق ثلاثا، وطلاق هذه زيادة توكيد في مفارقتها، بل هو
~~لغو لم يوجب الفرقة التي يوجبها الطلاق، بل وجوده كعدمه. والطلاق الثلاث
~~حرمت عليه ليكون له سبيل إلى رجعتها، وهذا المعنى منتف في حق هذه. ولو قدر
~~أنه فعل منكرا، فالمنكر إذا بين الله ورسوله أنه منكر لم يجب بيان ذلك في
~~كل مجلس. وهذا جواب ثان عن حديث فاطمة بنت قيس، فليس معهم إلا مجرد سكوت
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إذا بين تحريم الشيء لم يكن سكوته عن
~~إنكاره كل وقت دليلا على الجواز.
# الوجه التاسع عشر: أن الله حرمها عليه بعد الطلقة الثالثة حتى
# PageV01P289
# تنكح زوجا غيره، ولم يبح له أن يطلقها رابعة، وهذا عقوبة له، كما قال
~~تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) (1) ، وقوله:
~~(ذلك جزيناهم ببغيهم) (2) . فنها إذا حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره لم يكن
~~قادرا على تزوجها ولو رضيت به، بل من الممكن أنها لا تتزوج بغيره، أو تتزوج
~~بمن لا يطلقها، ومن طبع الإنسان أنه يكره أن تتزوج امرأته بغيره. ولهذا حرم
~~على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح أزواجه من بعده، إكراما
~~للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فدل على أن تحريمها حتى تنكح زوجا غيره
~~إهانة له، فإنه إذا كان منع غيره من التزوج بامرأته إكرام، فاشتراط تزويج
~~غيره ms0137 في الحل وجعل ذلك واجبا في عودها إليه إهانة له، والإهانة لا تكون إلا
~~لمذنب.
# فإن قيل: فالله أباح الطلاق.
# قيل: لم يبحه مطلقا، لكن أباحه بعدد محصور، وأن تحرم عليه امرأته بعد
~~الثالثة، والأمر الذي لم يبح فيه إلا مقدار معين وحرمت عليه بعد ذلك
~~المقدار - لا يكون مباحا مطلقا، بل هو بمنزلة ما أبيح من الحرير، فإنه أبيح
~~للنساء، وأبيح منه عرض كف للرجال؛ وبمنزلة الهجرة والإحداد ومقام المهاجر
~~بمكة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه
~~فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (3) .
~~وقال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث"
~~(4) . وأذن للمهاجر أن PageV01P290
# يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا. فكان الأصل في هجرة المسلم والإحداد على
~~غير الزوج ومقام المهاجر بما هاجر عنه أن يكون منهيا، لكن رخص في الثلاث
~~منه للحاجة إلى ذلك.
# كذلك الطلاق، لما لم يبح منه إلا الثلاث دل على أن الأصل فيه الحظر،
~~والمعنى أن الرجل خير بين أن يطلقها فتحرم عليه، وبين أن لا يطلقها، ومعلوم
~~أنه إذا أبيح مجموع التطليق وتحريمها عليه لم يكن. الطلاق وحده مباحا، فمن
~~ظن أن الطلاق مباح مطلقا كما يباح الأكل والشرب فقد غلط، بل إذا اقتصر على
~~ثلاث تطليقات وحرمت بعد الثالثة دل على أنه أبيح منه قدر الحاجة، ومعلوم أن
~~جمع الثلاث لا حاجة إليه، فلا يباح (1) .
# *** PageV01P291
### | فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث
# PageV01P293
# والأحاديث في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم
### | - ليس فيها حديث ثابت يدل على وقوع الثلاث بكلمة واحدة،
# بل فيها في الصحيح والسنن ما يدل على أن الثلاث بكلمة واحدة لا تكون
~~لازمة لكل من أوقعها.
# مثل الحديث الذي في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود والنسائي وغيرهما
~~(1) عن طاوس عن ابن عباس: أن الطلاق كان على عهد النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ms0138 طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس
~~قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أنفذناه عليهم، فأنفذه
~~عليهم.
# وهذا الحديث بطرقه وألفاظه مذكور في غير هذا الموضع، والذي رواه طاوس كان
~~يفتي بموجبه كما قد ذكر في غير هذا الموضع (2) .
# والمقصود هنا حديث ركانة (3) ، فإنه قد احتج به غير واحد من أهل العلم
~~على وقوع الثلاث بكلمة واحدة، حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما
~~أردت إلا واحدة؟ قال: ما أردت إلا واحدة. وعليه اعتمد الشافعي رضي الله عنه
~~في هذه المسألة (4) .
# وحديث ركانة هذا قد ضعفه طائفة (5) كأحمد وأبي عبيد وابن حزم،
~~PageV01P295
# مع أنه رواه ابن حبان في صحيحه (1) . وقال الشافعي (2) : عمي ثقة، وعبد
~~الله بن علي بن السائب ثقة. وأما نافع بن عجير فروى عن علي بن أبي طالب وعن
~~ركانة، وروى له أبو داود والنسائي. وهذا الإسناد مع الإسناد الآخر (3) الذي
~~رواه أيضا أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم في صحيحه يوجب حسن الحديث، فإنهما
~~إسنادان ليس فيهما متهم، لكن رواته ليسوا معروفين بالعلم، ولا يعرف لقاء
~~بعضهم بعضا، كما سيأتي بيانه.
# وفي الجملة لو لم يعارضه غيره لأمكن أن يقال هو حسن أو صحيح على طريقة
~~بعضهم، وأما إذا عارضه ما هو أرجح منه فإنه يقدم الراجح. وقد يقال: إنه لم
~~يعارضه غيره. وطائفة أخرى عارضوه بأنه قد روي فيه أنه طلقها ثلاثا. فأما
~~إذا تدبرنا الروايات في هذا الباب وتتبعناها لم نجد بين الحديثين خلافا، بل
~~في حديث الثلاث دلالة صريحة على أن الثلاث لا تقع بكلمة واحدة، ونحن نذكر
~~ذلك.
# قال أبو داود في السنن (4) : باب في نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث.
~~حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن
~~أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن
~~ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن PageV01P296
# ما خلق الله في أرحامهن) (1) الآية، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته
~~فهو ms0139 أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك، فقال: (الطلاق مرتان) (2)
~~الآية.
# قلت: هذا مروي عن عائشة وغير واحد من السلف (3) . ثم ذكر أبو داود (4)
~~حديث طاوس، فقال: حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا ابن جريج،
~~أخبرني ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت
~~الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر
~~وثلاث من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم.
# وكأنه - والله أعلم - ذكره أبو داود هنا لقول من قال: إن هذا الحديث
~~منسوخ، وإنه كان هذا حكمه لما كان الطلاق بغير طلاق.
# وهذا من جملة ما حمل عليه هذا الحديث، وفي كلام الشافعي إشارة إلى هذا.
~~لكن من المعلوم أن ذلك المنسوخ لم يكن محصورا بثلاث، بل كان إذا طلقها أكثر
~~من ثلاث راجعها بغير اختيارها، وكان إذا طلقها ثلاثا مفترقات، كل واحدة بعد
~~رجعة أو عقد جديد، له أن يراجعها. وهذا هو المنسوخ بلا ريب، وأما كون
~~الثلاث تجعل واحدة فهذا حكم غير الحكم المنسوخ، إذ المنسوخ لم تجعل الثلاث
~~فيه واحدة، ولا كان الطلاق مقصورا على ثلاث، بل الثلاث والخمس والعشر
~~والواحدة كانت فيه سواء.
# ثم إن ذلك المنسوخ لم يعمل به لعد نسخه على عهد النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - PageV01P297
# ولا أبي بكر ولا خلافة عمر، بل قد نزل القرآن بأنها بعد الثالثة تحرم
~~عليه حتى تنكح زوجا غيره، وتواترت بذلك السنة، وشاع ذلك في المسلمين. ولم
~~يكن هذا من جنس تحريم نكاح المتعة الذي خفي على بعضهم، فإن هذا لم ينزل
~~نسخه صريحا في القرآن، ولا ظهر أمره كظهور الطلاق الثلاث، فإن طلاق الرجل
~~المرأة الطلقة الثالثة بعد ثنتين مما تكرر وقوعه على عهد النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - وخليفتيه، مثل فاطمة بنت قيس لما أرسل إليها زوجها أبو حفص بن
~~المغيرة بآخر ثلاث تطليقات، وكان قد ذهب مع علي إلى اليمن (1) ، وكان هذا
~~في آخر الأمر قريبا من حجة الوداع. وكذلك امرأة ms0140 رفاعة القرظي تميمة بنت
~~وهب، لما طلقها رفاعة، فأبت طلاقها بالثلاث، ونكحت بعده عبد الرحمن بن
~~الزبير، وجاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله العود إلى رفاعة،
~~فقال: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (2) .
# وكلا القصتين مشهورة ثابتة في الصحيح والمساند والسنن من غير وجه، وهذا
~~بخلاف سر المتعة. فلو كان أحد يمسك امرأته بعد الطلقة الثالثة لكان ذلك مما
~~يظهر للمسلمين. وأما المتعة فلما حرمت تركها من علم التحريم، ومن لم يعلمه
~~فعلها قليل منهم وهي تفعل سرا. ولم ينقل أحد أن أحدا بعد النسخ أمسك امرأته
~~بعد ثلاث تطليقات، كل طلقة بعد رجعة أو عقد، ولا أنه طلق بغير عدد، مع
~~PageV01P298
# أن الآثار التي فيها أن الطلاق كان بغير عدد آثار قليلة خفية لا يعلمها
~~جمهور الناس، ولم يرو أهل الصحيح منها شيئا، وإنما رواها طائفة من أهل
~~السنن والتفسير والفقه.
# وأما الآثار بتحليل المتعة في أول الإسلام فهي مشهورة صحيحة معروفة عند
~~المسلمين، فكانت شبهة من اعتقد بقاء حل المتعة من هذه الجهة، ولهذا ذهب إلى
~~ذلك طائفة من السلف من أصحاب ابن عباس وغيرهم، إذ كان ابن عباس أفتى بها.
~~وقد قيل: إنه رجع عنها، وقيل: إنه إنما أفتى بها عند الضرورة، حتى روى له
~~علي بن أبي طالب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، كما أخرج ذلك أهل
~~الصحيح وغيره (1) .
# وأما جواز التطليق بغير عدد فلم يذهب إليه مسلم، بل هو مما يعلم فساده
~~بالضرورة من دين الإسلام، فكيف يقال: إن هذا كان بعد النسخ موجودا على عهد
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر؟.
# وأيضا ففي الحديث أن عمر رضي الله عنه قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر
~~كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم. فدل ذلك على أنه
~~أنفذ عليهم ما كانت لهم فيه أناة، فلو كان ما فعلوه هو المنسوخ المحرم لم
~~تكن لهم أناة في شيء قد ظهر تحريمه بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع، ولم ms0141
~~يكن إنفاذه عليهم مما يتعلق باجتهاد الأئمة.
# ثم ذكر أبو داود في سننه حديثا ثابتا مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - في أن جمع الثلاث بكلمة يكون واحدة، كما في حديث أبي الصهباء.
~~PageV01P299
# وذكر ما يعارضه، فقال (1) : حدثنا أحمد بن صالح، ثنا عبد الرزاق، أبنا
~~ابن جريج، قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد - أبو ركانة
~~وإخوته - أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني عني هذه الشعرة - لشعرة أخذتها من رأسها
~~-، ففرق بيني وبينه، فأخذت النبي - صلى الله عليه وسلم - حمية، فدعا بركانة
~~وإخوته، ثم قال لجلسائه: "أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد،
~~وفلان منه كذا وكذا؟ ". قالوا: نعم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد
~~يزيد: "طلقها"، ففعل. [ثم] قال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته"، فقال: إني
~~طلقتها ثلاثا يا رسول الله، قال: "قد علمت، راجعها". وتلا (يا أيها النبي
~~إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) (2) .
# قال أبو داود: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد ابن ركانة عن
~~أبيه عن جده: أن ركانة طلق امرأته، فردها إليه النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- - أصح، لأنهم ولد الرجل، وأهله أعلم به (3) ، إن ركانة إنما طلق امرأته
~~البتة، فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة.
# ثم روى هذا الحديث أبو داود (4) من طريق الشافعي: حدثني عمي محمد بن علي
~~بن شافع، عن عبد الله (5) بن علي بن السائب، PageV01P300
# عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة طلق امرأته. وفي لفظ: عن
~~ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته سهيمة البته، فأخبر النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - بذلك، وقال: والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم -: "والله ما أردت إلا واحدة؟ " فقال ركانة: والله ما أردت
~~إلا واحدة، فردها ms0142 إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فطلقها الثانية
~~في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان.
# ورواه أبو داود (1) أيضا وابن ماجه (2) وأبو حاتم بن حبان في صحيحه (3)
~~من حديث جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبد الله بن علي بن يزيد بن
~~ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البته، فأتى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - فقال: "ما أردت"؟ قال: واحدة، قال: "آلله"؟ قال: آلله!
# قال: "هو على ما أردت".
# ورواه الترمذي (4) : فقلت: يا رسول الله! إني طلقت امرأتي البته، فقال:
~~ما أردت بها؟ قلت: واحدة، قال: والله؟ قلت: والله!
# قال: فهو ما أردت. وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
# وقال ابن ماجه (5) : سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: ما أشرف هذا الحديث!
~~قال ابن ماجه: أبو عبيد تركه ناحية، وأحمد جبن عنه. PageV01P301
# قال أبو داود (1) : وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته
~~ثلاثا، لأنهم أهل بيته، وهم أعلم به. وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي
~~رافع عن عكرمة عن ابن عباس.
# قلت: فجعل أبو داود - رضي الله عنه - القصتين واحدة، وهو كما قال: ويرد
~~عليه أنه في حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا، وليس هذا في حديث
~~ابن جريج الذي رواه هو، وإنما فيه أن عبد يزيد - أبا ركانة وإخوته - طلق أم
~~ركانة، ونكح امرأة من مزينة، وأنها اشتكت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~وذكرت أنه عنين، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين كذبها بأن أولادها
~~يشبهونه، فدل على أنهم منه، وأنه ليس بعنين. ثم إنه أمر عبد يزيد أبا ركانة
~~أن يطلق هذه المزنية المشتكية، وإنه أمره أن يراجع أم ركانة التي طلقها
~~ثلاثا.
# هذا هو الذي في حديث ابن جريج، ليس في حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته
~~ثلاثا. لكن قد يقال: إن القصة واحدة، وإن هذا الراوي غلط في بعض ألفاظ
~~القصة في المطلق والمطلقة، كما يقول من يقول: إنه غلط في ms0143 عدد الطلاق. وقد
~~يقال: من قال هذا لم يكن له أن يقول في حديث ابن جريج أن ركانة طلق ثلاثا،
~~بل هذا يبين أن قائل ذلك لم يتأمل الحديث حق التأمل، فإذا تأملهما علأن
~~المنقول في هذا الحديث قصة غير المنقول في الآخر، فلا المطلق المطلق، ولا
~~المطلقة المطلقة، فإن المطلقة في هذا سهيمة امرأة ركانة، وهناك أمه؛ ولا
~~لفظ التطليق لفظ التطليق. وفي هذا من تزويج عبد يزيد لامرأة مزنية، ودعواها
~~عنته، وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشبه أولاده له، مالا
~~PageV01P302
# يمكن أن يكون في حديث ركانة، فإن ركانة لم يكن له أولاد أدركوا النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - يعدون من الصحابة، وإنما المعدود من الصحابة هو
~~وإخوته وأبوه، كما في حديث ابن جريج.
# لكن يجاب عن هذا بأن عبد يزيد أبا ركانة لم يذكره في الصحابة الزبير بن
~~بكار ولا ابن عبد البر ولا غيرهما من المصنفين في الصحابة فيما علمنا (1) ،
~~بل قال الزبير بن بكار في كتاب "نسب قريش وأخبارها" (2) : وولد هاشم بن
~~المطلب بن عبد مناف: عبد يزيد، وأمه الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف. فولد عبد
~~يزيد بن هاشم: ركانة وعجير وعبيد وعمير بني عبد يزيد، وأمهم العجلة بنت
~~العجلان ونسبها إلى كنانة.
# قال: وركانة بن عبد يزيد الذي صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل
~~الإسلام، وكان أشد الناس، فقال: يا محمد! إن صرعتني آمنت بك، فصرعه رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أشهد أنك ساحر. ثم أسلم بعد، وأطعمه
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين وسقا بخيبر. ونزل ركانة المدينة،
~~ومات بها في أول خلافة معاوية (3) .
# قال: وعجير بن عبد يزيد أطعمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين
~~وسقا (4) . PageV01P303
# قال: وولد عبيد بن عبد يزيد: السائب، أسر يوم بدر، وكان يشبه بالنبي -
~~صلى الله عليه وسلم - (1) .
# فقد بين أن ركانة وابنه كانا من الصحابة، بخلاف أبيه عبد يزيد.
# وأيضا فلا يجوز أن يكون في الصحابة من يسمى بهذا الاسم ms0144، فتبين أن المطلق
~~ركانة لا أبوه.
# وإذا قال القائل: ما في حديث ابن جريج من قصة عبد يزيد أبي ركانة لا
~~يعارضه حديث ركانة بوجه من الوجوه، [و] لم يجز دفع أحدهما بالآخر، بل يبقى
~~النظر في رواة هذا الحديث، وهم ثقات معروفون إلا بعض بني أبي رافع، فإنه
~~يحتاج إلى معرفتهم، فإنهم ليسوا من ولده لصلبه، إذ ولده لصلبه عبد الله
~~وعبيد الله كاتب علي رضي الله عنه، وهذان قديمان لا يرويان عن عكرمة، ولا
~~يروي عنهما ابن جريج.
# قيل: هذا الحديث قد روي بإسناد آخر معروف الرجال، وهو يبين أن القصة
~~واحدة، رواه أحمد والبيهقي وغيرهما (2) من حديث إبراهيم بن سعد عن ابن
~~إسحاق، فجعل المطلق ركانة. ورواه القاضي الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم من
~~حديث يونس بن بكير، فقال في "كتاب الطلاق": ثنا محمد بن الحسين، ثنا ابن
~~(3) ، ثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن
~~ابن عباس أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثا، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- PageV01P304
# فقال: يا رسول الله! طلقت امرأتي ثلاثا بكلمة واحدة، وإني قد وجدت عليها
~~وجدا شديدا، فقال: "أتريد أن ترتجعها"؟ قال: قلت نعم يا رسول الله، قال:
~~"فإنما هي واحدة".
# وقد رواه البيهقي فقال في "السنن الكبير" (1) : وقد روى محمد ابن إسحاق
~~عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في
~~مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~كيف طلقها، قال: طلقتها ثلاثا، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: إنما
~~تلك واحدة، فارجعها إن شئت، فراجعها. وكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل
~~طهر، فتلك السنة التي كان عليها الناس، والتي أمر الله بها (فطلقوهن
~~لعدتهن) (2) .
# قال البيهقي: أخبرناه أبو بكر بن الحارث، ثنا أبو محمد بن حيان، ثنا سلم
~~(3) بن عصام، ثنا عبيد الله (4) بن سعد، ثنا عمي، ثنا أبي، عن ابن إسحاق،
~~حدثني داود ms0145 بن الحصين، فذكره.
# قال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به حجة مع ثمانية رووا عن ابن عباس
~~فتياه بخلاف ذلك، ومع رواية أولاد ركانة أن طلاق ركانة كانت واحدة.
# قلت: أما المعارضة بفتيا ابن عباس ففيها كلام مذكور في موضع آخر (5) .
~~وأما حديث أولاد ركانة فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله، PageV01P305
# لكن البيهقي ذكر في حديث أن المطلق ركانة، وهو الصواب. وقد رواه أحمد في
~~المسند (1) من هذا الوجه فقال: ثنا سعد بن إبراهيم، ثنا أبي عن محمد بن
~~إسحاق، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق
~~ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا
~~شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها؟ قال:
~~طلقتها ثلاثا، قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، فقال: إنما تلك واحدة، فارجعها
~~إن شئت، قال: فرجعها. فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر.
# وهذا الحديث خرجه أبو عبد الله المقدسي في صحيحه (2) الذي هو خير من صحيح
~~الحاكم. فقد اتفق يونس بن بكير وإبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق على هذا
~~الحديث، لكن قال أحدهما: إن المطلق ثلاثا أبو ركانة، كما في حديث ابن جريج،
~~وقال الآخر: إنه ركانة. فإن كان المطلق أبا ركانة فلا منافاة بينه وبين
~~حديث ركانة في البتة، وإن كان المطلق ركانة فهذه الرواية من هذين الوجهين
~~تعارض من روى أنه قال: لم أطلق إلا واحدة. ورواة هذا الحديث مشهورون بحمل
~~العلم، بخلاف ذاك، لكن ذاك من رواية أهل بيته.
# ويعضد رواية من روى أن الطلاق كان ثلاثا حديث ابن عباس الذي في صحيح مسلم
~~(3) أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي
~~بكر. فهذا يوافق رواية ابن عباس، ورواية ابن عباس من وجهين عن عكرمة يصدق
~~أحدهما صاحبه، فإن عكرمة عن PageV01P306
# ابن عباس أثبت من عبد الله بن علي بن [يزيد بن] (1) ركانة عن أبيه عن
~~جده ms0146. وقد قال أحمد: حديث ركانة ليس بشيء (2) . وابن إسحاق يدخله أبو حاتم
~~وابن خزيمة وابن حزم في الصحيح.
# والبيهقي اعتقد أن القضية واحدة، كما اعتقدها أبو داود، ولكن ما رووه
~~يخالف ذلك، فإما أن يكون الغلط فيما رووه، أو الغلط منهم في فهم ما رووه،
~~ولا ريب أنهم صادقون فيما رووه رضي الله عنهم.
# وهذا الحديث عمل به رواته، فكان ابن إسحاق يعمل به، ويقول: إن الثلاث
~~بكلمة واحدة واحدة (3) . وكذلك عكرمة راويه عن ابن عباس. وروي ذلك عن ابن
~~عباس أيضا، كما قال أبو داود في سننه (4) : وروى حماد بن زيد عن أيوب عن
~~عكرمة عن ابن عباس إذا قال: أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة. قال: وروى
~~إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله
~~قول عكرمة.
# وذكر أبو داود (5) عن ابن عباس من ستة أوجه أنه أوقع الثلاث بمن أوقعها
~~بكلمة واحدة، من رواية مجاهد وسعيد بن جبير ومالك ابن الحويرث وعطاء وعمرو
~~بن دينار ومحمد بن إياس بن البكير. PageV01P307
# وكان عطاء ونحوه يدخلون على ابن عباس مع العامة، وكان طاوس يدخل عليه مع
~~الخاصة، وكذلك عكرمة مولاه كان من خاصته. فلهذا حمل من حمل قول ابن عباس
~~على مثل فعل عمر، من أن هذا من العقوبات التي يجتهد فيها الأئمة، ليس شرعا
~~لازما، وهو عقوبة لمن لم يتق الله. ولهذا كان ابن عباس يقول لمن يفتيه: لو
~~اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا (1) .
# وأبو داود (2) روى حديث حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس أن رجلا
~~يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان
~~إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة، على عهد رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر، قال ابن عباس: بلى! كان
~~الرجل إذا طفق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول
~~الله وأبي ms0147 بكر وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى - يعني عمر - الناس قد تتايعوا
~~فيها قال: أجيزهن عليهم.
# ثم روى (3) من حديث ابن علية عن أيوب عن عبد الله بن كثير عن مجاهد قال:
~~كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا، قال: فسكت حتى
~~ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول: يا ابن
~~عباس يا ابن عباس! وإن الله تعالى قال: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2))
~~(4) ، وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن
~~الله قال: PageV01P308
# (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن) (1) في قبل عدتهن.
# قلت: لا يقال مثل هذا الكلام إلا لمن علم أن جمع الثلاث محرم، ثم فعله
~~عامدا لفعل المحرم، فإن هذا لم يتق الله بل تعدى حدوده. أما من لم يعلم أن
~~ذلك محرم، ولا قامت [عليه] حجة بتحريم ذلك، ولو علم أنه محرم لم يفعله، فن
~~هذا لا يخرج عن التقوى بذلك، ولا يقال له: إنك لم تتق الله فلا أجد لك
~~مخرجا، ولا يقال له: عصيت ربك.
# ففي فتيا ابن عباس هذه ونحوها إيقاع الثلاث بمثل هذا لما تتايع الناس
~~فيما نهوا عنه، فأجازه عليهم عمر ومن روي أنه وافقه، كعثمان (2) وعلي (3)
~~وابن مسعود (4) وزيد بن ثابت (5) وابن عباس (6) وابن عمر (7) وأبي هريرة
~~(8) وعبد الله بن عمرو (9) وغيرهم الذين أجازوا الثلاث على PageV01P309
# الناس المتتايعين فيما نهوا عنه من ذلك، كما وافقوا عمر على أن حد في
~~الخمر بثمانين لما كثر شرب الناس لها واستقلوا العقوبة بأربعين (1) .
# وكان عمر رضي الله عنه أحيانا ينفي في الخمر ويحلق الرأس فيغلظ عقوبتها
~~بحسب الحاجة، إذ لم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها حد مقدر موقت
~~القدر والصفة لا يزاد عليه ولا ينقص منه، كما في حد القذف، بل كان قدر
~~العقوبة فيها وصفتها موكولة إلى اجتهاد الأئمة بحسب الحاجة، فمن أدناها
~~أربعون بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وهذا من أخف العقوبات ms0148 قدرا وصفة، ثم
~~أربعون بالسياط، وهذا أعلى في الصفة دون القدر، ثم ثمانون بالسياط، وهذا
~~أعلى منهما. وهل يعاقب فيها بالقتل بعد الثالثة أو الرابعة إذا لم ينتهوا
~~إلا بذلك؟ فيه أحاديث ونزاع ليس هذا موضعه (2) .
# فحديث عبد يزيد أو ركانة مروي من هذين الوجهين، وأقل أحواله حينئذ أن
~~يكون حسنا، فإن الحسن عند الترمذي هو ما روي من وجهين ولم يعلم في رواته
~~متهم بالكذب، ولم يعارضه ما يدل على غلطه، وهو من أحسن ما يحتج به الفقهاء.
~~وقد يقال: هو صحيح، وابن. حبان وإن كان قد صحح حديث البتة فإنه يصحح حديث
~~ابن إسحاق هو وغيره كابن خزيمة وابن حزم وغيرهما، PageV01P310
# وابن حزم وغيره يضعفون حديث البتة كما ضعفه أحمد رحمه الله.
# وابن إسحاق إمام حافظ، لكن يخاف أن يدلس ويخلط الأحاديث بعضها ببعض، فإذا
~~قال "حدثني" زالت الشبهة. وقد ذكر أن داود بن الحصين حدثه وعمل بما حدثه
~~به.
# ولا يستريب أهل العلم بالحديث أن هذا الإسناد أرجح من إسناد البتة، هذا
~~لو انفرد، وأما مع موافقته لحديث أبي الصهباء الذي في صحيح مسلم فإن ذلك
~~مما يؤكد الاحتجاج بذلك الحديث، ويرد على من علله بما لا يقدح في صحته،
~~كقول من قال: إن ابن عباس روي عنه بخلافه، فصار حديث عكرمة يروى عن ابن
~~عباس من وجهين، وجهالة الراوي في أحدهما كجهالة أولاد ركانة، فإنهم لا
~~يعرفون بعلم ولا حفظ. والإسناد الآخر رجاله من مشاهير أهل العلم والفقه
~~والصدق. وحديث طاوس عن ابن عباس الذي لا ريب في صحته موافق، فصارت الأحاديث
~~بأن الثلاث كانت واحدة يصدق بعضها بعضا، ولم يرو أحد من أهل العلم حديثا
~~ثابتا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم بثلاث مفرقة.
# وقد جاء حديث ثالث في. الثلاث مجتمعة، رواه النسائي (1) فقال: أخبرنا
~~سليمان بن داود، أبنا ابن وهب، أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعت محمود بن
~~لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث
~~تطليقات ms0149 جميعا، فقام غضبان، ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم"؟!
~~حتى قام رجل فقال: يا رسول الله!
# أفلا أقتله؟. PageV01P311
# ففي هذا الحديث أنه غضب على من طلق ثلاثا بكلمة واحدة، وجعل هذا لعبا
~~بكتاب الله، وأنكر أن يفعل هذا وهو بينهم، حتى استأذنه رجل في قتله، ومع
~~هذا فلم يذكر أنه فرق بينه وبين امرأته، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا
~~يجوز، ولا يقال: كان هذا معلوما بينهم. فإن هذا يشتبه، وقد ثبت أنهم كانوا
~~يجعلون الثلاث واحدة، ونفس التحريم يشتبه على العلماء فضلا عن العامة، حتى
~~أن كثيرا منهم يقولون: ليس هو بحرام.
# فإن قيل: المطلق كان يعتقد وقوع الطلاق بالثلاث.
# قيل: كما كان يعتقد إباحته. ولم ينقل أحد بإسناد ثابت أن أحدا طلق امرأته
~~ثلاثا بكلمة واحدة، وهي ممن يباح له إمساكها، فأوقع به النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -. وقد روى طائفة من المصنفين في الحديث والفقه والخلاف أحاديث
~~ضعيفة بل موضوعة عند أهل العلم بالحديث، فلا حاجة إلى ذكرها، ولكن الذي يظن
~~أن فيه حجة ثلاثة أحاديث:
### | حديث فاطمة بنت قيس،
# ففي رواية غير واحد أنها قالت: طلقني ثلاثا (1) ، وفي لفظ بعضهم: طلقني
~~البتة (2) . ولكن هذا مجمل فسره ما ثبت في الصحيح (3) من رواية الزهري عن
~~أبي سلمة وعبيد الله عنها أن زوجها أبا حفص بن المغيرة خرج مع علي إلى
~~اليمن، وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت من طلاقها. PageV01P312
# والثاني
### | : حديث العجلاني
# (1) ، قال أبو بكر بن أبي عاصم لما ذكر اختلافهم في طلاق العجلاني: قال
~~مالك بن أنس في حديثه: فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -. وقال إبراهيم بن سعد: ففارقها، وقال ابن إسحاق: هي طلاق
~~البتة، وقال ابن أبي ذئب: ففارقها، وقال الأوزاعي: ففارقها، وقال عقيل: ثم
~~فارقها. ولم ينقل عنه لفظ طلاق، بل قال: كذبت عليها إن أمسكتها، ولكن
~~الراوي عبر عن مفارقته إياها بهذه الألفاظ التي تدل على أنه فارقها فراقا
~~باتا قبل أن يؤمر بذلك، فإن كان ms0150 الراوي عبر عن مفارقته بقوله "طلقها ثلاثا"
~~- لأن مقصوده أنه حرمها عليه - فليس فيه حجة؛ وإن كان هو تكلم بلفظ الطلاق
~~بقوله "طلقها ثلاثا" قد يراد به مفرقة، كقوله: هي طالق، هي طالق، هي طالق،
~~كما في حديث فاطمة وغيرها أن زوجها طلقها ثلاثا، وكان المراد ثلاثا مفرقات،
~~فلا حجة فيه أيضا؛ وإن قال: "هي طالق ثلاثا" فلا حجة فيه أيضا، كما سنذكره.
# والثالث
### | : حديث امرأة رفاعة
# (2) ، وهو أيضا لفظ مجمل، فقد يكون الطلاق الثلاث وقع مفرقا، كما وقع في
~~حديث فاطمة بنت قيس.
# بل (3) وأما حديث البتة (4) إن صح ففيه أنه أتى إلى النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - PageV01P313
# وقال: ما أردت إلا واحدة، وأنه استحلفه ما أردت إلا واحدة.
# ومنطوق هذا لا حجة فيه، لأنه إذا لم يرد إلا واحدة لم يقع به إلا واحدة.
~~وفيه حجة على مسألة النزاع المشهورة بين الفقهاء. وأما مفهومه فمجمل، لو
~~قال: أردت ثلاثا حتى كان يغضب عليه ويؤدبه لفعله المحرم الذي نهى عنه، كما
~~غضب على غيره، ويؤخر إذنه له في الرجعة تأديبا له، أو كان يوقعها به. وليس
~~في الحديث بيان لأحدهما، والطريق الآخر الذي هو أصح فإنه أوقع ثلاثا، ولا
~~يجوز أن يثبت تحريم عام يلزم الأمة بمسكوت مجمل أو بحديث مضعف، قد عارضه ما
~~هو أصح منه لا بيان فيه للوقوع، وإنما فيه الفرق بين أن يريد الواحدة أو
~~أكثر، والفرق ثابت بدون إيقاع الثلاث.
# وقد روى مسلم في صحيحه (1) عن عائشة قالت: طلق رجل امرأته ثلاثا قبل أن
~~يدخل بها، فأراد زوجها الأول أن يتزوجها، فسئل رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - عن ذلك، فقال: "لا، حتى يذوق الآخر من عسيلتها ما ذاق الأول". وهذه
~~هي قصة تميمة التي تزوجها رفاعة، وكان يدعي أنه وطئها.
# وتطليقها ثلاثا قد يكون مفرقة، وقد يكون طلقها ثلاثا بكلمة واحدة، ولكن
~~بانت بواحدة إذا لم يكن دخل بها. فليس فيه دلالة على أن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - جعل ذلك ثلاثا.
# *** PageV01P314
### | فصل ms0151 في الطلاق الثلاث
# PageV01P315
# أمكنني (1) ، وبقيت على ذلك مدة ... فلم أجد دليلا شرعيا يوجب إيقاع
~~الثلاث بكلمة واحدة، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من
~~القياس.
# أما القرآن ... إلا على طلاق يستلزم الرجعة إذا كان بعد الدخول ...
~~الثالثة، كما قال أحمد بن حنبل في آخر الروايتين: تدبرت القرآن فلم أجد فيه
~~إلا طلاقا رجعيا، ولا يدل قط إلا على طلقة واحدة
### | .....
# وقد ادعى طائفة من العلماء أنه يدل على وقوع الثلاث، واحتجوا بأنه أمر
~~بالطلقة الواحدة، كما في قوله: (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا
~~العدة واتقوا الله ربكم) إلى قوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)
~~(2) . قالوا: فأمره الله بالطلاق
### | .....
# وليكون له سبيل إلى الرجعة بقوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
~~(1)) ، فلو كان لا يقع بالثلاث إلا واحدة أو
### | .....
# بحال لم يحتج إلى ذلك، بل كان سواء طلق واحدة أو ثلاثا، فإن له أن
~~يراجعهما.
# وهذا الدليل ذكره طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم،
~~ولا حجة فيه، لأن التعليل قد يكون للشرع الذي يتناول الأمر والنهي والصحة
~~والفساد، وقد يكون لمجرد الأمر والنهي، أو لنفس المأمور به والمنهي عنه
~~فقط، فعلى قولهم يكون تعليلا PageV01P317
# للمأمور به، أي طلقوا بواحدة ليكون لكم سبيل إلى الرجعة، ولا تطلقوا
~~بثلاث فلا يكون لكم سبيل إلى الرجعة. وهذا إنما يصح أن لو كانت الثلاث تقع
~~بكلمة واحدة، فإن كانت الثلاث تقع هكذا صح أنه تعليل للمأمور به، لكن لا
~~يثبت أنه تعليل للمأمور به حتى يثبت أنه تقع الثلاث المجموعة؛ فإذا استدلوا
~~به عليه لم يلزم أنه تقع الثلاث المجموعة حتى يثبت أنه هذا تعليل للمأمور
~~به، وهذا دور يمنع صحة الدلالة.
# وذلك أنه يجوز أن يكون هذا تعليلا لنفس الأمر والشرع، والمعنى أن الله
~~شرع لكم أن توقعوا واحدة وأمركم بذلك، ولم يشرع لكم أن توقعوا الثلاث
~~مجموعة، فإنه لو شرع لكم ذلك أفضى (1) إلى الندم.
# ومعلوم أنه إذا لم يشرع ms0152 إيقاع الثلاث بكلمة واحدة، بل نهى عن ذلك، ولم
~~يجعل الثلاث
### | .....
# في هذا أبلغ في عدم الندم، فإنه لو نهى عنه وأوقعوه إذا تكلموا به فقد
~~يكون فيهم من يعصي النهي، وقد يكون فيهم من لا يبلغه، فيقع في الندم، فإذا
~~لم يجعله مشروعا بحال كان هذا أبلغ في انتفاء المفسدة.
# وأيضا فإن القرآن إنما يعلل شرع الله الذي شرعه لعباده، والشرع المذكور
~~إذا كان تحريما للزيادة وإبطالا لها كان ذلك أبلغ في تحصيل مقصود الشارع في
~~الحكم وفي حكمته، بخلاف ما إذا كان تعليلا لمجرد النهي. وهذا كما أنه لو
~~نهى أن تنكح المرأة على عمتها وعلى خالتها، وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك
~~قطعتم أرحامكم" (2) ، كان هذا PageV01P318
# تعليلا للنهي والفساد المنهي عنه بحيث لا يحل له الجمع، ولو جمع لكان
~~العقد فاسدا، لأنه لو وقع المنهي عنه لزم الفساد، بل الفساد ينشأ من صحة
~~المنهي عنه أكثر من فعله، فإنه إذا جمع ولم يصح العقد كان الفساد أقل منه
~~إذا انعقد المنهي عنه وصححه الشارع، فكذلك هاهنا الفساد إذا صح المنهي عنه
~~أكثر منه إذا فعله ولم يصح.
# وهذا يقرر أن النهي يوجب فساد المنهي عنه، فإن الشارع إنما نهى عن الشيء
~~لرجحان المفسدة فيه على المصلحة، فإذا جعله صحيحا بحيث يترتب عليه حكمه
~~ويحصل به مقصوده لزم وقوع المفسدة، فأما إذا أبطله فلم يترتب عليه مقصود
~~المنهي الذي ارتكبه انتفت المفسدة بالكلية.
# ولهذا إنما يحكم بالفساد فيما إذا أمكن أن لا يحصل به مقصوده، فأما
~~الأفعال التي حصل المنهي عنها مقصوده بها فلا يقال إنها باطلة أو غير
~~منعقدة، كالمنهي عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإنه إذا فعل ذلك فقد فعل
~~مقصوده من المنهي عنه، فلا يمكن إبطاله. وأما المنهي عن الصلاة بلا طهارة
~~والطواف عريانا فمقصوده براءة ذمته وحصول الأجر، فيمكن إبطال ذلك بأن لا
~~تبرأ ذمته ولا يحصل الأجر؛ وكذلك المنهي عن البيع المحرم والنكاح المحرم
~~مقصوده حصول الملك وحل الانتفاع، فيمكن أن لا يحصل مقصوده ms0153 من الملك وحل
~~الانتفاع، فيكون البيع باطلا، كما اتفق عليه المسلمون من بطلان نكاح ذوات
~~المحارم وبطلان بيع الدم والميتة ولحم الخنزير ونحو ذلك.
# وأما الظهار فنهي عنه لأنه منكر من القول وزور، لا لمجرد كونه مزيلا
~~للملك أو موقعا للتحريم الذي تزيله الكفارة، فإن الزوج له أن
# PageV01P319
# يزيل الملك بالطلاق، والتحريم الذي تزيله الكفارة لا ينافي الشرع، فإن
~~المرأة قد تحرم على زوجها إلى غاية، كتحريم المحرمة والصائمة والمعتكفة،
~~وتحريم الحلال يوجب كفارة على ظاهر القرآن، وهو أحد قولي العلماء. وإنما
~~نهي عن الظهار لاشتماله في نفسه على القول المنكر والزور، وهذا المعنى لا
~~يمكن إبطاله بعد وقوعه، كما أن من نهي عن الكذب وشهادة الزور فكذب وشهد
~~بالزور لا يمكن أن يقال: ما كذب ولا شهد بالزور، وكذلك من نهي عن الكفر
~~والقذف فكفر وقذف لا يمكن أن يقال: إنه ما وقع منه كفر ولا سب، فكذلك
~~الظهار، لكن كانوا في الجاهلية وأول الإسلام يجعلونه طلاقا مزيلا للملك،
~~فرفع الله ذلك، ولم يجعله مزيلا للملك، بل للرجل أن يمسك المرأة إن شاء
~~ويطأها إذا كفر.
# ثم قال الشافعي: موجبه إما إزالة الملك بالطلاق، وإما التكفير.
# وقال الجمهور مالك وأبو حنيفة وأحمد: بل موجبه الامتناع من الوطء أو
~~التكفير، فجعلوه يشبه اليمين التي يكون موجبها إما الامتناع من فعل المحلوف
~~عليه وإما التكفير، لكن الكفارة في الظهار تجب قبل العود، لأن الظهار محرم،
~~لاشتماله على منكر من القول والزور، فلم يكن له أن يطأها حتى يأتي بالتحلة
~~التي فرضها الله له، وكان ما رفعه الله من إيقاع الطلاق بالظهار كما كانوا
~~عليه في أول الأمر دليلا على أنه ليس كل لفظ قصد به الطلاق يقع به الطلاق،
~~فإن هذا اللفظ كانوا يقصدون به الطلاق، ثم لم يوقع الله به الطلاق، بل نسخ
~~ما كانوا عليه. ولابد لهذا من سبب يوجب الفرق بينه وبين لفظ الطلاق. فلما
~~كان من أوقع الطلاق بلفظه يقع ومن أوقع بلفظ الظهار لا يقع-: لم ms0154 يكن بد من
~~الفرق بينهما في نفس الأمر.
# PageV01P320
# ولا يسوغ أن يعلل الشرع بما يقوله من يقول من الفقهاء: لفظ الظهار صريح
~~في حكمه، وقد وجد نفاذا فيه، فلا يكون كناية في غيره.
# فإنه يقال له: السؤال هو عن علة هذا الحكم: لم جعل هذا القول صريحا في
~~غير الطلاق بحيث لا يقع به الطلاق وإن نواه، فإن هذا يقتضي أن الأقوال عند
~~الشارع نوعان: نوع إذا نوى به الطلاق وقع؛ ونوع إذا نوى به الطلاق لم يقع،
~~فلابد لأحد القولين من أن يختص بمعنى يوجب اختصاصه بذلك الحكم، فما هو
~~الفارق عند الشارع بين هذا القول وهذا القول حتى جعل الطلاق يقع بهذا ولم
~~يجعله يقع بهذا، بل عدل به عن الطلاق الذي كانوا يوقعونه، إلى أن أوجب فيه
~~الكفارة. وهذا أمر ثابت في نفس الأمر لابد منه.
# فلقائل أن يقول: العلة في ذلك أن هذا القول منكر من القول وزور، فلا يقع
~~الطلاق بمنكر من القول وزور، فيكون هذا حجة لمن قال: إن الطلاق المنهي عنه
~~لا يقع، لأنه أيضا محرم كما أن هذا محرم؛ فإن كون الكلام منكرا من القول
~~وزورا يوجب النهي عنه وتحريمه. ويشاركه في ذلك كل كلام محرم، فإن جميعها
~~أقوال محرمة ينهى الله عنها ورسوله. فإن كان المتكلم بالكلام الحرام إذا
~~نوى به الطلاق وقع، فما الفرق بين هذا الكلام المحرم وغيره؟.
# وقد شد بعض متأخري الفقهاء فزعم أن الظهار ليس بمحرم.
# لكن هذا خلاف النص والإجماع القديم، فإنه قد حكى الإجماع على تحريم ذلك
~~غير واحد من العلماء، ولم يعلم نزاع قديم يقدم في ذلك كما علم في غيره.
~~والذي نقطع به أنا لا نعلم فيه خلافا قديما.
# وقد يقال: بل هذا القول لا يتضمن إزالة الملك، بل هو كذب
# PageV01P321
# في نفسه، وهو منكر لكونه جعل امرأته بمنزلة أمه. والأقوال التي بها يقع
~~الطلاق لابد أن يتضمن إزالة الملك، ولهذا جعل أحمد التحريم صريحا في
~~الظهار، لأنه أيضا بمنزلته في كونه منكرا ms0155 وزورا. لكن يرد على هذا أنه إذا
~~قصد التشبيه ونوى أنك إذا وقع بك الطلاق صرت مثل أمي، فإن هذا الوصف لازم
~~لو زال الملك. وليس من شرط التشبيه التساوي من كل وجه، فقوله "أنت مثل أمي"
~~أي طلقتك فصرت مثل أمي، كقوله "أنت خلية وبريه وبائن"، فإن المعنى: طلقتك
~~فصرت كذلك. وقوله "أنت طالق" معناه طلقتك فصرت طالقا، فإذا قال "مثل أمي"
~~أي جعلتك مثل أمي في كونك لا تبقي (1) زوجة.
# وهذا هو الذي كانوا يقصدونه، وإلا فهم يعلمون أن المرأة لا تصير مثل أمه
~~محرمة على التأبيد، فإذا كان ما قصدوه مما يمكن أن يقصد بهذا اللفظ وأمثاله
~~ولم يعتبره الشارع علم أنه أبطل ذلك لكون القول في نفسه منكرا وزورا،
~~فيشاركه في ذلك ما كان كذلك، فقول القائل "أنت طالق ثلاثا" منكر من القول،
~~لأن الله حرمه، وكل واحد من كون القول منكرا يوجب إبطاله. وقوله تعالى
~~(وزورا (4)) ، الزور: هو نوع من المنكر، فإن كل زور منكر، فيمكن أن يكون
~~هذا وجه كونه منكرا.
# وإن قيل: هو جزء علة.
# قيل: كل ما كان منكرا فإن الله ينهى عنه، سواء كان زورا أو لم يكن.
# وكذلك إن قيل: هو علة ثانية، وحينئذ فالقول المحرم لا يكون PageV01P322
# سببا لنقل الملك، فلا يزول ملكه ويباح لغيره بقول محرم. فهذا قد يحتج به
~~من يقول: إن الطلاق المحرم لا يصح، كما أن النكاح المحرم لا يصح، وهذا موجب
~~الأصول على قول الجمهور الذين يقولون: النهي يقتضي الفساد، لاسيما والطلاق
~~في الأصل مكروه بل محرم يبغضه الله، وإنما أباح منه قدر الحاجة، فيكون ما
~~أبيح من قدر الحاجة إنما أبيح لمن تكلم به بكلام مباح، وأوقعه على الوجه
~~المأذون فيه، أما من تكلم به بكلام محرم وفعله على الوجه الذي نهي عنه،
~~فالشارع لم يبح له ذلك الطلاق، فيكون باقيا على الحظر، فلا يكون من الطلاق
~~المشروع، كطلاق الأجنبية والطلاق قبل النكاح.
# يوضح ذلك أن ما كان محظورا وأبيح للحاجة كان رخصة ms0156، والرخص لا تستباح على
~~الوجه المحرم، فيكون من طلق طلاقا لم يؤذن له به - كمن طلق بلفظ الظهار -
~~فلا يقع الطلاق بذلك.
# يوضح ذلك أن إيقاع الطلاق ممن أوقعه على الوجه المحرم إما أن يكون عقوبة
~~له، وإما أن يكون رخصة له. والثاني ممتنع، لأن فعل المحرم لا يناسب النعمة
~~بالرخصة. وإن قيل: هو عقوبة، فيقال: فكان ينبغي أن يعاقب المتظاهر بوقوع
~~الطلاق به، فلما لم يعاقبه الشارع بذلك علم أن الشارع لم يجعل نفس وقوع
~~الطلاق عقوبة للخلق، بل إنما عاقبهم بالكفارات، لأن الكفارات من جنس
~~العبادات، والله يحب أن يعبد، فإذا فعلوها فعلوا ما يحبه الله ورسوله، كما
~~إذا أقاموا الحدود لله، التي جعلت عقوبات، فإن الله أمر بها وجعلها واجبة،
~~وما تقرب العباد إلى الله بأفضل من أداء ما افترض عليهم.
# فالعقوبات التي يشرعها الشارع هي مما يجب وقوعه ويرضاه ويأمر به، وهو لا
~~يحب وقوع الطلاق ولا يأمر به ولا يرضاه لغير حاجة،
# PageV01P323
# فكيف يشرع وقوعه ويجعله عقوبة؟!
# يوضح ذلك أنه تعالى يبغض وقوع الطلاق، فكيف يشرع العقوبة بوجود ما يبغضه؟
~~وهو إنما يشرع العقوبة لئلا يوجد ما يبغضه، فيمتنع أن يحكم بوجود ما يبغضه
~~لئلا يوجد ما يبغضه، فإن هذا جمع بين النقيضين، لاسيما إذا كان الذي عاقب
~~به هو نفس ما يبغضه.
# فهو مثل أن يقال: اسقوه الخمر لئلا يشرب الخمر! وهذا ممتنع.
# فإن قيل: فقد حرمها عليه بعد الطلقة الثالثة عقوبة له.
# قيل: هناك لما استوفوا الطلاق الذي أباحه لهم للحاجة حرمها عليهم بعد
~~الثالثة، فكانت العقوبة بالتحريم عليه لا بوقوع الطلاق عليه، فلم يعاقبهم
~~بوقوع طلاق قط. والعقوبة بالتحريم إلى غاية مما جاءت به الشريعة، كما حرم
~~الله على المظاهر المرأة حتى يكفر، والعقوبة بالتحريم المؤبد كان من شرع من
~~قبلنا، كما قال تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم)
~~(1) ، وكما قال: (ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)) (2) . فإن قيل:
~~فهلا منع وقوع الطلاق الثلاث إذا كان يبغضه؟ وقال: لا ms0157 يقع الطلاق الثلاث
~~وإن فرقها.
# قيل: هذا كان يقتضي المنع من الطلاق بالكلية كدين النصارى، وفي ذلك حرج
~~عظيم، لحاجة الناس إلى الطلاق بعض الأوقات إذا كان يبغضها أو كانت تبغضه.
~~ولهذا أباح الله الافتداء إذا خافا أن لا PageV01P324
# يقيما حدود الله، فلم يبح الله الخلع إلا عند الحاجة. وكذلك الطلاق، لكن
~~لما أبيح الطلاق للحاجة لم يبح منه إلا الثلاث، فإنها قدر الحاجة، وحرمها
~~عليه بعد الثالثة، لئلا يكون ذلك مانعا من استيفاء العدد الذي أبيح رخصة مع
~~قيام السبب الحاظر. كما أنه لم يرخص في اقتناء الكلاب إلا للحاجة.
# فإن قيل: فهلا أبيح له بعد الثالثة أن يتزوجها بعقد جديد قبل أن تنكح
~~زوجا غيره؟.
# قيل: كانت النفوس تطمع في عودها بعد الثالثة باختيار الزوجين، فلم يكن
~~هذا وحده زاجرا للنفوس عن استيفاء الثلاث، كما بسطناه في موضع آخر. وعلى
~~هذا فيظهر حكمة الشارع في أحكامه، ويتبين تناسب الأصول الشرعية، وما في ذلك
~~من الرحمة والعدل والحكمة، وإلا فلماذا جعلت هذه الكلمة يقع بها الطلاق
~~وهذه لا يقع مع قصد الإنسان للوقوع في الحالين؟ ولماذا حرمت عليه بعد
~~الثالثة؟ ولماذا جعل في الظهار الكفارة؟ وقولنا "لماذا" تنبيه على حكمة
~~الشارع وعدله ورحمته، وإن الأقوال التي توافق ذلك هي التي توافق شرعه، دون
~~ما يخالف ذلك من الأقوال المتناقضة.
# والمقصود في هذا المقام أن القرآن ليس فيه ما يدل على وقوع الثلاث جملة.
~~وأما السنة فليس فيها أيضا شيء من ذلك، بل لا يعرف أن أحدا أوقع الثلاث
~~جملة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها وقعت به. وما روي في ذلك
~~من الأحاديث فهي ضعيفة بل موضوعة كذب عند أهل العلم بالحديث، بل قد نقل
~~نقيض ذلك.
# وحديث فاطمة بنت قيس لما طلقها زوجها ثلاثا إنما كانت الثالثة
# PageV01P325
# آخر ثلاث تطليقات، كما جاء ذلك مفسرا في الصحيح (1) . وحديث المتلاعنين
~~طلقها ثلاثا بعد اللعان، واللعان حرمها عليه أشد من تحريم الطلاق، فكان
~~وجود الطلاق كعدمه.
# وإذا قيل: فلماذا ms0158 لم ينهه عن التكلم بالثلاث إن كانت لا توجب طلاقا في
~~هذه الحال؟
# قيل: كما أنه لم ينهه عن أصل التطليق في هذه الحال مع أنه عندهم لا يفيد
~~ولا يقع بها طلاق، وذلك لأن النهي إنما كان لمفسدة الوقوع، فلما لم يكن هنا
~~محل يقع به الطلاق لم تكن هنا مفسدة، كما لو طلق أخته التي تزوجها، فإذا
~~تزوج من تحرم عليه على التأبيد وطلقها كان هذا توكيدا للتحريم، فكذلك طلاق
~~الملاعنة توكيد لمقصود الشارع، فإنه بين أن مقصوده تحريمها عليه، والشارع
~~قصد ذلك أيضا. بخلاف من قصد الشارع أن لا يحرمها عليه بالثلاث، بل نهاه عن
~~إيقاع الثلاث جملة بها، ولهذا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - على من
~~أوقع الثلاث في غير الملاعنة، دون من أوقعه في الملاعنة.
# وأما حديث ركانة بن عبد يزيد (2) فقد روي أنه طلقها ثلاثا فردها عليه بعد
~~الثلاث، وروي أنه طلقها البتة وأنه حلفه ما أراد إلا واحدة، فقال: ما أردت
~~إلا واحدة، فردها. وقد روى أهل السنن أبو داود وغيره هذه وهذه، ورجحوا
~~الثانية لأنها من رواية أهل بيته، لكن أحمد وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم من
~~العلماء ضعفوا حديث ركانة، وذلك أن رواته قوم لم يعرفوا بحمل العلم، ولا
~~يعرف من عدلهم PageV01P326
# وضبطهم ما يوجب أن تثبت بمثل نقلهم سنة للمسلمين توجب حكما عاما للأمة.
# وأيضا فالرواية الثانية لا تدل بمنطوقها، بل غاية ما تدل بمفهومها، وهو
~~لو قال "أردت ثلاثا" كان يحتمل أن يؤدبه على ذلك ويعاقبه لكون ذلك محرما،
~~ويحتمل أنه كان يوقعها به، فاستفهامه له يدل على اختلاف الحكم بين إرادة
~~الواحدة وإرادة الثلاث. لكن هل كان الإحلاف لأجل التحريم والمعصية أم لأجل
~~الوقوع؟ هذا ليس في الحديث ما يبينه.
# وفي سنن النسائي (1) أن رجلا طلق امرأته ثلاثا على عهد النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - فغضب عليه وقال: أتتلاعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ فقال
~~الرجل: أفأقتله يا نبي الله؟
# فهذا فيه غضبه عليه حتى استأذنه بعض ms0159 المسلمين في قتله، وليس فيه أنه أوقع
~~به الثلاث، فدل ذلك على أن هذا كان منكرا عند النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-، وفاعله مستحق للذم والعقاب، وليس فيه أنه أوقعه به، فقد يكون استفهام
~~ركانة لهذا. فهذا الحديث لا يدل على وقوع الثلاث بل على تحريمها، ودلالته
~~على أنها لا تقع أقوى.
# ثم قد ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره عن ابن عباس أن الثلاث كانت واحدة على
~~عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر، ثم قال
~~عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم [فيه] أناة، فلو أنا أمضيناه
~~عليهم، فأمضاه عليهم. PageV01P327
# وأما قول القائل: إن ابن عباس أفتى بخلافه، فقد اختلفت فتيا ابن عباس في
~~ذلك، فنقل عنه إيقاع الثلاث بكلمة واحدة، وروي عنه أنه لا تقع، كما ذكر ذلك
~~أبو داود في سننه وغيره (1) .
# والمقصود هنا أنه ليس في السنة قط أن أحدا طلق ثلاثا جملة على عهد النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - فأوقعها به، وهذا لا ريب فيه.
# وأما الإجماع فلا إجماع في المسألة (2) ، بل قد نقل عن أكابر الصحابة -
~~مثل الزبير وعبد الرحمن بن عوف وعلي وابن مسعود وابن عباس - أنه لا تقع
~~الثلاث بكلمة واحدة، وهو قول غير واحد من التابعين ومن بعدهم، كطاوس وعكرمة
~~وابن إسحاق والحجاج بن أرطاة، وقول طائفة من أصحاب مالك من أهل قرطبة
~~وغيرهم، وقول طائفة من فقهاء الحديث من أصحاب أحمد وغيرهم، وكان جدنا أبو
~~البركات يفتي بذلك أحيانا، وقول [طائفة] من الناس من أهل الحديث والكلام
~~والفقه، وهو أحد قولي الظاهرية بل أكثرهم، وقول الشيعة.
# وأما القياس ف
### | لا قياس في وقوعه، بل القياس أنه لا يقع،
# لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، بمعنى أنه لا يحصل للمنهي
~~قصده، والمنهي عن الطلاق المحرم قصده وقوعه، ففساده يوجب أن لا يحصل
~~مقصوده. كما أن المكره الظالم لما كان قصده وقوع الطلاق بالمكره لم يقع
~~الطلاق من المكره. PageV01P328
# فإن قيل: المنهي ms0160 عنه إذا كان سببا للإباحة فينبغي أن لا يباح له، لأن
~~المعصية لا تكون سببا للنعمة، وأما إذا كان سببا لإيجاب أو تحريم فإنه يصح،
~~كالنذر والظهار، فإنه نهي عن النذر وانعقد، ونهي عن الظهار وانعقد.
# قيل: أما الظهار فقد تقدم القول فيه، وبينا أنه نفسه قول منكر وزور،
~~وأنهم كانوا يجعلونه طلاقا، فأبطل الشارع ذلك، وذكرنا أن هذا مما يحتج به
~~من يقول "النهي يقتضي الفساد"، حيث لم يوقع الطلاق. وأما إيجاب الكفارة فيه
~~فلكونه أتى بالمنكر من القول والزور، والكفارة قربة وطاعة، كما أوجب
~~الكفارة في نظائر ذلك من الأمور المنهي عنها، كالجماع في رمضان وغيره.
# وأما النذر فإنه يمين، وهو حجة لنا، فإنه إذا نذر ماليس بقربة لم يلزمه،
~~بل يجزئه كفارة يمين. وأما إذا نذر القرب فالقرب يحبها الله ورسوله، وإنما
~~نهي عن النذر لاعتقاد أنه يقضي حاجته، لا لكون المنذور مكروها. وقال - صلى
~~الله عليه وسلم -: "إنه يستخرج به من البخيل" (1) ، والاستخراج من البخيل
~~مما يحبه الله ورسوله، فلم يحصل بانعقاد النذر إلا ما يحبه الله ورسوله،
~~لكن يخاف عليه أن لا يوفي. كما أن المحرم قبل الميقات يخاف عليه أن يرتكب
~~المحظورات، وكذلك الشارع في التطوعات يخاف عليه أن لا يأتي بها، وما كان
~~مفضيا إلى الطاعة لم يبطل خوفا من عدم الإتمام، بل قد يأمر بإتمامه، كما
~~قال تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) (2) . PageV01P329
# والمفسدة التي نهي عنها إنما هي إذا لم يفعل المنذور، أما مع فعله
~~فالمصلحة راجحة، وإذا لم يفعل كان كاذبا، لكونه التزم مالم يف به، وهو
~~مذموم على الكذب، كما قال تعالى: (*ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله
~~لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم
~~معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما
~~وعدوه وبما كانوا يكذبون (77)) (1) . وقد ذكرنا أن نفس المنهي عنه إذا كانت
~~المفسدة فيه فلا يمكن رفعها، وإنما يمكن رفع ما يترتب على ذلك. وأما
~~الأفعال ms0161 كالقتل والوطء والشرب إذا رفع محرما فهنا لا يمكن أن يقال: لا حكم
~~له، بل وجوده كعدمه، بخلاف بيع الميتة ونكاح الأم، فإن هذا العقد باطل،
~~وجوده كعدمه.
# والأقوال قسمان: قسم هو بمنزلة الفعل، كالكفر وشهادة الزور ونحو ذلك، فإن
~~هذا إذا كذب لم يمكن أن يقال: وجود الكذب كعدمه. وكذلك إذا اعتقد الكفر
~~بقلبه أو قاله بلسانه غير مكره استهزاء بآيات الله لم يمكن إن يقال: وجود
~~ذلك كعدمه. فالطلاق والعتاق عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد في
~~القسم الأول من جنس البيع والنكاح وغيرهما، لا من جنس الكذب.
# والقول الموجب للصدق إذا كذب صاحبه كان الذنب له، ولم يكن رفع المفسدة
~~إلا بأن يقال: الصيغة ليست التزاما وعهدا، وهذا ممتنع، إلا ترى أنه لما
~~التزم فعل المحرمات أبطل الشارع ذلك، ولما التزم فعل المباحات لم يأمره
~~بذلك، بل شرع الكفارة في الموضعين PageV01P330
# عند من يقول بذلك كأحمد وغيره، أو لا شيء عليه كما يقوله الشافعي وغيره.
# وأيضا فإنه إذا نذر الطاعات إن جعل وجود العقد كعدمه ففيه صد عن الترغيب
~~في الطاعات، والشارع يرغب في ذلك من لم ينذر، فكيف إذا نذر؟ وكذلك إن قيل:
~~فيه كفارة يمين مطلقا ففيه صد عن الطاعات التي هي أحب إلى الله من الكفارة،
~~وهذا بخلاف المحرمات، فإن الكفارة أحب إلى الله منها.
# ثم الظهار ونذر المعصية أوجب كفارة يتقرب بها إلى الله، أما إيقاع الطلاق
~~الذي نهى الله عنه وهو يوجب ما يبغضه الله من غير مصلحة في ذلك، لا للزوج
~~ولا للمرأة ولا لأحد من المسلمين، ولا فيه ما يحبه الله ورسوله، فكيف يشرع
~~الله وقوع فساد راجح وشر راجح، ولا يجعل للعباد طريقا إلى رفع ذلك الشر
~~والفساد؟! وهذا ليس من شريعة الإسلام ولله الحمد والمنة.
# وإذا قيل: العبد هو الذي أوقع ذلك.
# قيل: نعم، والعبد هو الذي يعقد سائر العقود المنهي عنها، ويلتزم ما فيها
~~من اللوازم، ومع هذا لما كان فسادها راجحا أبطل الشارع تلك العقود، ولم ms0162
~~يشرع وقوع ذلك الفساد الراجح، كمن نكح أنكحة منهيا عنها، وباع بيوعا منهيا
~~عنها، ونحو ذلك، فالطلاق المحرم عقد من العقود المنهي عنها.
# فإن قيل: فعمر بن الخطاب ألزم الناس بوقوع الثلاث جملة كما ذكرتم، وعمر
~~لم يكن ليخالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلم أنه اطلع على
~~دليل شرعي يوجب ذلك. وقد وافقه علي وابن مسعود وابن
# PageV01P331
# عباس وابن عمر وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو (1) ، فهؤلاء أفتوا فيمن
~~أوقع الثلاث جملة أن تقع. واشتهر ذلك عند عامة العلماء حتى ظنه من ظنه
~~إجماعا، وصار نقيض ذلك يحكى عن أهل البدع كالرافضة، ولهذا لما ذكر هذا
~~القول عن الرافضة لأحمد قال: قول سوء، أو نحو ذلك.
# قيل: أما المنقول عن عمر رضي الله عنه فظاهره أنه عاقب الناس بإيقاعها
~~جملة لما أكثروا من فعل ما نهوا عنه، ولهذا قال: إن الناس قد أسرعوا في أمر
~~كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم.
# والذين أفتوا بذلك من الصحابة رأوا رأي عمر في ذلك، وألفاظهم تدل على
~~أنهم فعلوا ذلك عقوبة لمن فعل ما نهي عنه، كقول ابن مسعود لما سئل عمن طلق
~~ثلاثا: أيها الناس! من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، وإلا فوالله ما لنا
~~طاقة بكل ما تحدثون. وفي لفظ: من أتى بدعة ألزمناه بدعته. فعلم أن هذا كان
~~عنده مما نهوا عنه، فألزمهم به. وكذلك ابن عباس قال لمن طلق ثلاثا: إنك لو
~~اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا، ولكنك لم تتق الله فلم يجعل لك فرجا
~~ومخرجا. وكذلك عبد الله بن عمر يقول: إذا فعلت ذلك فقد عصيت الله وبانت منك
~~امرأتك. ومثل ذلك كثير في كلامهم، يذمون فاعل ذلك مع إيقاعهم به الثلاث.
~~وهذا يقتضي أن فاعل ذلك كان مذموما عندهم مع إيقاع الثلاث به.
# وقد كان للصحابة رضي الله عنهم اجتهاد في أنواع من العقوبات PageV01P332
# وفي المنع من بعض المباحات، لما يرونه من مصلحة الأمة، كاجتهاد عمر وغيره ms0163
~~في حد الشارب حتى حدوه ثمانين، وحتى كان عمر ينفيه ويحلق رأسه. وكما كان
~~عمر ينهى عن متعة الحج ليعتمر الناس في غير أشهر الحج، فمنعهم من المباح
~~لما رآهم يتركون به ماهو مشروع للأمة، ولما رأى في ذلك من حض الناس على
~~الطاعة به، ويمنعهم من المباح ليفعلوا خيرا أو لئلا يفعلوا شرا. فلما كثر
~~منهم إيقاع الثلاث جملة، ورأى أنهم لا ينتهون عن ذلك إلا بإلزامهم بها
~~ومنعه من المرأة إذا قال ذلك، فمنعهم من نكاحها بعد الثلاث جملة ومفرقا،
~~لئلا يفعلوا الشر الذي كانوا يفعلونه، كما منعهم من متعة الحج، ليفعلوا
~~الخير - وهو العمرة - في سائر السنة، وكما حرم على الناكح في العدة أن
~~يتزوج المنكوحة أبدا، ليمنعهم بذلك من الشر الذي فعلوه، وهو التزوج في
~~العدة. وكما منع شارب الخمر أن يقيم ببلده، ليمنعه بذلك من شرب الخمر.
# وهذه العقوبات لها أصل في الشرع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى
~~المخنث والزاني، ومنع الحميري من السلب الذي أمر خالدا أن يعطيه إياه،
~~فحرمه عليه بعد أن أوجبه له، ليزجر بذلك عن التعدي على ولاة الأمور لما
~~اعتدى عوف بن مالك على خالد (1) . وكذلك ما روي من منع الغال سهمه. وأيضا
~~فإنه لما أمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا أمر أزواجهم بهجرهم، ومنعهن أن
~~يمكنوهم من مضاجعتهم (2) ، مع أن هذا حلال للزوج مع امرأته. وهذا أبلغ من
~~موجب الظهار، فإن هذا تحريم لنسائهم عليهم إلى أن يتوب الله عليهم أو يحكم
~~الله بحكم PageV01P333
# آخر. والمظاهر تحرم عليه إلى أن يكفر، فاثبت موجب الظهار تعزيرا لمن
~~استحق التعزير بالهجرة. وعاقب المتلاعنين بتحريم كل منهما على الآخر، وهذا
~~أبلغ من موجب الطلاق. فإذا كان قد عاقب بتحريم أخف من موجب الطلاق وبتحريم
~~أبلغ من موجب الطلاق، وجعل الثاني شرعا مطلقا، وجعل الأول تعزيزا يسوغ أن
~~يفعله الأئمة بمن أذنب مثل ذلك الذنب -: لم يمتنع أن يكون أمير المؤمنين
~~عمر بن الخطاب - مع كمال علمه ونصحه للأمة - رأى أن يعاقب ms0164 المستكثرين مما
~~نهى الله عنه، الذين لم يرتدعوا بمجرد نهي الشارع، بما هو من جنس العقوبات
~~المشروعة. وقد كان أحيانا يهم بنهيهم عن أشياء وعقوبتهم بالمنع، ثم يتبين
~~له الصواب في ذلك، كما هم أن يمنعهم من الزيادة في قدر الصداق على ما فعله
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - بأزواجه وبناته، ويجعل فعله شرعا لازما لهم
~~لا يزدادون عليه، وأن يعاقب من جاوز فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بجعل
~~الزيادة في بيت المال، حتى تبين له أن ذلك مما أباحه الله لهم، فلا يمنعون
~~منه ولا يعاقبون عليه.
# وإلا فهل يظن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعرف حال السابقين الأولين أن
~~عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين كان يعمد إلى نسخ شرع النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -؟ وأن المسلمين يقرونه على ذلك مع علمه وعلمهم بأن هذا
~~نسخ لشرعه! نعم، الأمور الاجتهادية التي يفعلها أحد الخلفاء تارة يوافقه
~~عليها جماعتهم، وتارة يوافقه عليها بعضهم وينكرها بعضهم إنكار مجتهد على
~~مجتهد، كما أنكر عمران بن حصين وغيره على عمر ما قاله في متعة الحج (1) ،
~~مع أنه قد ثبت عن عمر أنه لم يحرمها، وأنه كان له فيها اجتهاد متنوع.
~~PageV01P334
# وإذا كان هذا مخرج ما فعله عمر فيقال: من كانوا عالمين بالتحريم وأقدموا
~~عليه بعد علمهم بالتحريم، واستكثروا منه بعد علمهم بالتحريم، فمن ألزمهم به
~~فقد اقتدى بعمر في ذلك وبمن وافقه من الصحابة.
# وأما من لم يعلم أن ذلك محرم أو اعتقد أنه مباح وفعله، فهذا لا يستحق أن
~~يعاقب، ولا يمكن إلزامه به على وجه العقوبة، إلا أن يكون الشارع ألزمه
~~بالثلاث. وظهر مقصود عمر، فإنهم إذا كانوا يعتقدون تحريمه، والشارع نهاهم
~~عنه، وإذا أوقعوه جعله واحدة، فإذا صاروا يوقعونه قاصدين للثلاث صاروا
~~يقصدون ما نهوا عنه، وقد يعتقد عامتهم وقوع الثلاث به، فعاقبهم عمر على ذلك
~~بإلزامهم ما قصدوه وما اعتقدوه.
# فإن قيل: فقد تقدم أن الشارع لم يعاقب بوقوع الطلاق.
# قلنا: نعم، ليس في الكتاب ms0165 والسنة عقوبة بوقوع الطلاق، ولكن جعل هذا عقوبة
~~هو مما يقوله كثير من السلف والخلف بالاجتهاد، كما يقول كثير من الفقهاء:
~~إنما يوقع الطلاق بالسكران عقوبة له، ونحن ذكرنا مقاصد اجتهاد عمر رضي الله
~~عنه.
# وأيضا فعمر رضي الله عنه رأى أن في إلزامهم به منعا لهم من إيقاعه، فرأى
~~أن ما ينتفي من وقوع الطلاق البغيض إلى الله أكثر مما يقع منه، فدفع أعظم
~~الفسادين بالتزام أدناهما، فإنهم إذا كانوا يوقعون الثلاث المحرمة ولا
~~يرونها إلا واحدة، وكانوا يقصدون الثلاث أولا بالقول المحرم مع علمهم أنه
~~لا يلزمهم ذلك، يكثر منهم تكلمهم بالثلاث وقصدهم إيقاعها، وذلك بغيض إلى
~~الله، ووقوعه أيضا بغيض، لكن ما فعله أوجب دفع أكبر البغيضين وقوعا
~~بأدناهما وقوعا، فإنهم إذا علموا أنه يلزمهم بالثلاث الثلاث امتنعوا عن
~~التكلم بالثلاث،
# PageV01P335
# فكان في ذلك دفع أمور كثيرة بغيضة إلى الله بإلزام أمور أقل منها، ولما
~~رأى أنهم لا ينتهون إلا بذلك فعل ذلك.
# وكان عمر ينهى عن التحليل ويقول: لا أوتى بمحلل ومحلل له إلا رجمتهما،
~~فلو رأى عمر أن إيقاع الثلاث يفضي إلى التحليل الذي حرمه الله ورسوله وإلى
~~كثرته العظيمة لم ينه عنه، لعلمه بأن القول بأن الثلاث لا تقع إلا واحدة
~~خير من التحليل، وأن المفسدة في التحليل أضعاف المفسدة في أن يتكلموا
~~بالثلاث فلا يقع بهم إلا واحدة. فمتى دار الأمر بين أن تقع الثلاث ويحلل،
~~وبين أن لا تقع الثلاث، كان أن لا يقع أولى. ولا يرتاب في هذا من نور الله
~~قلبه بالإيمان، فإن التحليل فيه شر كبير ليس في عدم إيقاع الثلاث جملة منها
~~شيء.
# وكان نكاح التحليل قليلا جدا في زمن الصحابة، ولهذا سئلوا عنه في وقائع
~~مخصوصة، وقال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقد
~~لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له (1) .
# ولم يكن على عهده من يظاهر بذلك، لكن قد يكون من يفعل ذلك باطنا ومن
~~يقصده، فلعنه كما لعن ms0166 آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، لتنزجر النفوس بذلك
~~عن قصد التحليل، فلا يقع منه شيء لوجهين: أحدهما: لتتم عقوبة الله للمطلق
~~الذي طلق الثالثة بعد طلقتين، فلا يقصد أحد إعادة امرأته إليه، فينزجر بذلك
~~عن إيقاع الثلاث مفرقة. PageV01P336
# والثاني: لأن التحليل من جنس السفاح لا من جنس النكاح، فإنه غير مقصود.
~~ولهذا كان الزوج مشبها فيه بالتيس المستعار، الذي يقصد استعارته لا
~~مصاحبته.
# فلما كان مفسدة وقوع الثلاث قليلة لقلة التحليل، وكان الناس قد أكثروا
~~مما نهوا عنه من إيقاع الثلاث جملة، رأى عمر أن يعاقبهم بإنفاذ ذلك عليهم،
~~لئلا يفعلوا ذلك، فالشارع حرم عليهم المرأة بعد الثالثة عقوبة لهم، فرأى
~~عمر وغيره أنهم إذا أكثروا من إيقاعها مجتمعة استحقوا هذه العقوبة. بخلاف
~~ما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وأول خلافته،
~~فإنها كانت قليلة في الناس، وكانوا ينتهون بنهي الشارع، فلم يكن في وقوعها
~~قليلا حاجة إلى عقوبة. ولا ريب أنه إذا كثر المحظور احتاج الناس فيه إلى
~~زجر أكثر مما إذا كان قليلا.
# ولهذا لما رأى الصحابة رضي الله عنهم كثرة شرب الناس الخمر واستخفافهم
~~بالعقوبة التي هي أربعون جلدوا ثمانين، وكان عمر مع ذلك ينفي ويحلق الرأس،
~~لأن عقوبة الشارب لم يقدر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها قدرا مؤبدا
~~كما قدر في القذف، لا عددا ولا صفة، بل أقل ما ضرب أربعين، وكان يضرب
~~بالجريد والنعال وأطراف الثياب، وقد أمر بقتل الشارب في الرابعة (1) ، فكان
~~صفة عقوبته وقدرها مفوضا إلى اجتهاد الأئمة، ولو كان النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أوجب فيها حدا حرم ما زاد عليه لامتنع عليهم أن يبدلوا شريعته،
~~فإنهم لا يتفقون على ضلالة.
# وإذا كان هذا فعله عمر على وجه العقوبة والتعزير بذلك لكثرة إقدام الناس
~~على المحظور، لا لأنه شرع لازم لكل من تكلم بذلك، PageV01P337
# سواء كان عالما بالتحريم أو جاهلا، وسواء كان الناس يحتاجون إلى العقوبة
~~بذلك أو لا يحتاجون، لم يكن على أن إيقاع الثلاث ms0167 بكلمة واحدة لكل من تكلم
~~بها دليل شرعي أصلا. وإذا كان كثير من الفقهاء يوقعون الطلاق بالسكران،
~~ويقولون: نوقعه عقوبة ونجعل ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، مع أن هذا لا يوجب
~~انتهاء الناس عن الشكر، فكيف لا يكون ما فعله عمر رضي الله عنه من العقوبة
~~مما يسوغ فيه الاجتهاد؟ مع أن ذلك أقرب إلى الأدلة الشرعية ومقصود المعاقب
~~من هذا.
# ولو قدر أن بعض الصحابة رأى وقوع الثلاث جملة بكل من تكلم بها، ورأى هذا
~~شرعا عاما لازما، فقد نازعه في ذلك غيره، مع أن هذا بعيد، فإن الذين روي
~~عنهم إيقاع الثلاث جملة روي عنهم نفي ذلك، كعمر وعلي وابن مسعود وابن عباس
~~(1) ، فحمل كلامهم على اختلاف حالين أولى من حمل كلامهم على التناقض،
~~واعتقادهم فساد أحد القولين (2) . وقد قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء
~~فردوه إلى الله والرسول) .
# فإن قيل: فإذا لم يكن الطلاق المحرم لازم الوقوع، فيلزم أن المطلقة في
~~الحيض أيضا لا يجب أن يلزم فيها الوقوع. وحديث ابن عمر قد ثبت في الصحيحين
~~(3) أنه لما طلق امرأته في الحيض غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال:
~~"مره فيراجعها، حتى تحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم PageV01P338
# تطهر، ثم إن شاء بعد أمسكها، وإن شاء طلقها، فتلك العدة التي أمر الله أن
~~يطلق لها النساء". وقد روي عن ابن عمر (1) أنه قيل له: أتعتد بها؟ قال:
~~أفرأيت إن عجز واستحمق. وقال: إن طلقتها ثلاثا عصيت ربك وبانت منك امرأتك.
# قيل: أولا حديث ابن عمر قد روي فيه أنه حسبها من الثلاث، وروي أنه لم
~~يحسبها، وكلا الإسنادين جيد. وقوله "راجعها" مثل قوله "ردها" ونحو ذلك،
~~وهذه الألفاظ تستعمل في العقد المبتدأ، وتستعمل في إمساك المطلقة، وتستعمل
~~في إمساك من لم يقع بها طلاق، قال تعالى: (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن
~~يتراجعا) (2) ، فهذا عقد جديد. وقال تعالى: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك)
~~(3) ، فهذا رجعة المطلقة. وقال: فردها علي.
# وابن عمر رضي الله عنه إما أن يكون ms0168 كان يعلم أن الطلاق في الحيض لا يجوز،
~~بل يجب إذا طلق المرأة أن يطلقها لعدتها كما أمر الله بذلك؛ وإما أنه لم
~~يكن يعلم هذا، فإن كان يعلمه وألزم بما أوقع فقد يكون من جنس إلزام عمر لهم
~~بالثلاث، وإن لم يكن علم بالتحريم وألزم بها فهو دليل على أنها تلزم،
~~فيحتاج الاستدلال بحديثه إلى مقدمتين:
# إحداهما: أنه أمر بمراجعة هي مراجعة من وقع بها الطلاق.
# والثانية: أن وقوع الطلقة لم يكن عقوبة عارضة على ذنب، بل PageV01P339
# هي شرع لازم لكل من طلق في الحيض.
# وكلا المقدمتين تحتاج إلى دليل.
# ثم قد يستدل على نقيض ذلك بأن علة تحريم الطلاق في الحيض هي إطالة العدة
~~عليها عند كثير من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وعلله آخرون من
~~أصحاب أبي حنيفة وأحمد بأن الحيض زمن النفرة عن المرأة والزهد فيها، والطهر
~~زمن الميل إليها والرغبة فيها. وبالجملة فلا بد لهذا الحكم من علة، وقد
~~بحثوا عن الأوصاف الثابتة في محل الحكم، فلم يجدوا وصفا مناسبا إلا هذا أو
~~هذا، والسبر مع المناسبة والاقتران من أقوى الطرق التي تثبت بها العلة.
# وإذا كانت العلة ما ذكره الأولون، فإذا وقع الطلاق فإنما يؤمر به لإزالة
~~تلك المفسدة، والأيمان كانت لا تزول، فلا فائدة في الأمر بالمراجعة.
# والفقهاء لهم في وجوب المراجعة قولان هما روايتان عن أحمد، ولهم في
~~ارتجاعها في الحيضة التي تلي ذلك الطهر قولان هما روايتان عن أحمد (1) .
~~ومن قال: إن الرجعة لا تجب، وإنها تشرع في الطهر الذي يلي الحيضة، لم يكن
~~في الأمر بالرجعة عنده فائدة، ولا زال بها مفسدة طلاق الحيض، بل ذلك أشد في
~~الضرر عليها، فإنه يرتجعها وهو في الحيض لا يطأها، ثم يطلقها في الطهر
~~الأول، فيحتاج إلى استئناف العدة عليها، فيزداد الطول والضرر. وهذا أشهر
~~القولين. ومن قال: إنها تبني لم يكن في الارتجاع عنده فائدة؛ ومن قال: لا
~~يطلقها إلا في الطهر الثاني فإنه لا يوجب وطئها في الطهر PageV01P340
# الأول، فإذا ms0169 أمسكها ولم يطأها وطلقها في الطهر الثاني استأنفت العدة أيضا
~~عند الجمهور، فكان ارتجاعها زيادة شر. وإن بنت على العدة فلا فائدة في
~~الرجعة.
# وهذا بخلاف ما إذا لم يقع الطلاق، فإنه لا عدة عليها فيردها، لأنها
~~امرأته، ولا يطلقها في الطهر الأول لأنه لم يتمكن بعد من وطئها، فالنفور
~~بينهما قد لا يزول، فإذا تركها إلى الطهر الثاني تمكن من وطئها، فربما بسبب
~~ذلك تفتر رغبته عن الطلاق.
# والشارع نهى الرجال أن يطلقوا إلا لاستقبال العدة، لئلا تطول بذلك العدة.
~~فهذا حكمة نهي الشارع، لكن إذا فعلوا ما نهوا عنه، فإن أوقع الطلاق لغير
~~العدة فقد حصل الشر الذي كرهه الله ورسوله، وحصل طول العدة لا محالة، لأن
~~هذا الطلاق إذا وقع أوجب عدة، فتكون طويلة، ومراجعتها بعد ذلك - إذا قيل:
~~إن الطلاق قد وقع - لا ترفع هذه العدة الطويلة، ولا تزيل هذا الضرر، بل إما
~~أن تزيده ضررا وطولا آخر، كما هو قول الجمهور الذين يوجبون على المرتجعة
~~إذا طلقت قبل الدخول عدة أخرى، وقد ذكر الثوري أن هذا إجماع الفقهاء. وإما
~~أن تبقى العدة طويلة مضرة كما كانت، كما هو قول للشافعي ورواية عن أحمد.
# فإن قيل: بل في الرجعة في الحيض تمكنه من الاستمتاع بغير الوطء، وفي
~~تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني تمكنه من وطئها في ذلك الطهر.
# قبل: هذا الذي لا يزول الضرر إلا به لا يأمرون به، ولم يأمر الشارع به،
~~وإنما أمر على قولكم بمجرد رجعة للمطلقة، وهذا المأمور
# PageV01P341
# به على قولكم يزيد الضرر، فإنه يكون قد طلقها واحدة، فيطلقها ثنتين. وهذا
~~أيضا دليل آخر، وذلك أن مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايات أن تفريق الثلاث
~~في ثلاثة أطهار بدعة، وهو الصحيح، وأن السنة أن يطلقها واحدة، ثم يدعها حتى
~~تنقضي عدتها، فإذا كانت الأولى قد وقعت ثم أبيح له الثانية في الطهر الأول
~~أو الثاني، كان في هذا. خلاف للسنة بأن طلقها ثانية بعد أولى.
# فإن قيل: لكن طلقها الثانية بعد أن ms0170 راجعها، وهذا سنة بالاتفاق.
# قيل: بل في هذا وجهان ذكرهما أبو الخطاب، أحدهما: أنه بدعة، وعلى هذا
~~التقدير فالحديث حجة عليهم صريحة. والثاني - وهو الأظهر -: هو سنة لمن
~~طلقها ثم راجعها ثم اختار طلاقها أن يطلقها، أما من كان غرضه طلاقها، وقد
~~طلق واحدة، فيؤمر بما يلزم أن يوقع ثانية.
# وأيضا فإن تطويل العدة وضررها يزول بذلك.
# وأيضا فالاعتداد بتلك الطلقة من الثلاث أعظم ضررا على الزوجين من تطويل
~~العدة عليها، ولو خيرت المرأة بين هذا وهذا لاختارت طول العدة على أن تحسب
~~من الثلاث. فكيف تقصد مصلحتها بما هو عليها أشد ضررا.
# وأما ما ذكره الآخرون فإنهم قالوا: أراد بذلك تقليل الطلاق، فإنه منع منه
~~زمن الزهد فيها، وأذن فيه زمن الرغبة فيها. وإذا كان هذا مقصود الشارع فهذا
~~المقصود لا يحصل إذا أمر المواقع له بالرجعة، وقيل له: طلق بعد ذلك، لأنه
~~حينئذ لا يكون في الرجعة إلا تكثير الطلاق، لأن الأول لا يرتفع، والثاني قد
~~يحصل، بل هو
# PageV01P342
# الأظهر ممن غرضه الطلاق، فيكون ما أمر به لا يرفع المفسدة بل يزيدها،
~~بخلاف ما إذا لم يقع، فإن المفسدة تعدم حينئذ.
# فصل
### | أصل مقصود الشارع أن لا يقع الطلاق إلا للحاجة،
# والحاجة تندفع بثلاث متفرقة، كل واحدة بعد رجعة أو عقد، فما زاد على هذا
~~فلا حاجة إليه فلا يشرع، فإنه إذا فرق الثلاثة عليها في ثلاثة أطهار لم تكن
~~به حاجة إلى الثانية والثالثة، فإن مقصوده من الطلاق يحصل بالأولى، كما أنه
~~لا حاجة به إلى الثلاث.
# فإن قيل: قد يكون مقصوده رفع نفقتها، فيطلقها ثلاثا لئلا تجب لها نفقة،
~~ولا يجب أيضا سكنى عند فقهاء الحديث.
# قيل: هذا يمكنه عند من يوجب للمبتوتة النفقة والسكنى بأن يطلقها طلقة
~~بائنة، كما هو مذهب أبي حنيفة، وهذا رواية عن أحمد، وإن لم يقل بوجوب
~~النفقة للمبتوتة، لكن عنده له أن يبتها بواحدة، فتسقط النفقة بإسقاط رجعته.
~~وأما على قول الباقين فيقولون: نفقتها في الرجعة حق لها، فليس له ms0171 أن يسقطه
~~إلا برضاها، فإذا رضيت أن يختلعها سقطت النفقة، وإذا كانت هي تريد أن ينفق
~~عليها ويتمكن من ارتجاعها لم يكن له إسقاط ذلك. ونفقة العدة أمر هين، ليس
~~له لأجلها أن يوقع نفسه في الثلاث التي يحصل بها ضرر عظيم، كما أنه ليس
~~لأجلها أن يعجل طلاقها في الحيض بالكتاب والسنة والإجماع، فعلم أن تسويغ
~~تغيير الطلاق الشرعي لأجل إسقاط النفقة من المناسبات التي يشهد لها الشرع
~~بالإبطال والإهدار.
# وأيضا فإن الله أمر المطلق أن يمتع المطلقة، فيعطيها متاعا لما
# PageV01P343
# حصل لها من الذلة بالطلاق، فكيف يسوغ الطلاق الذي يكرهه ويحرمه.
# وأيضا فإن هذا الكلام يقتضي جواز إيقاع الثلاث جملة، ونحن في هذا المقام
~~إنما نتكلم على القول بتحريمه، فأما مع القول بجوازه فلا ريب في وقوعه.
# وإذا عرف أن هذا مقصود الشارع فالطلاق المسمى الشرعي لا يترتب عليه مفسدة
~~راجحة، بخلاف غيره من أنواع الطلاق البدعي المنهي عنه، فإن فيه من المفسدة
~~الراجحة ما أوجب أن الله ينهى عنه. والفساد الحاصل في الطلاق والتحليل وخلع
~~اليمين وغير ذلك إنما هو لخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما شرع لهم من
~~الطلاق، فلما فعلوا ما نهوا عنه أوجب ذلك لهم ضررا في دينهم أو دنياهم،
~~فإنهم إن لم يخالفوا أمرا آخر حصل لهم ضرر في دنياهم بمفارقة الأهل وخراب
~~البيت وتشتيت الشمل وتفرق الأولاد، وبالمطالبة بالصدقات المتأخرة وفرض
~~النفقات، وغير ذلك من أنواع الشرور الحاصلة بالطلاق في الدنيا، وإن دخلوا
~~فيما نهوا عنه من تحليل وغيره حصل لهم ضرر في دينهم مع الضرر في الدنيا
~~أيضا، بالعار بدخولهم فيما نهوا عنه من الطلاق البدعي، يوجب لهم الضرر
~~والشر لا محالة، فإذا أوقعوه فقيل إنه يقع حصل هذا الضرر، فإن الضرر لم
~~ينشا من إيقاع لا وقوع معه، وإنما نشأ من إيقاع معه وقوع. فإذا قيل: إنه
~~يقع، فالضرر حاصل لم يزل، والفساد واقع لم يرتفع، ولم يكن في النهي ما يرفع
~~الفساد ويصلح العباد، بل كان أن لا ينهوا ms0172 عنه ويحرم عليهم أقل لضررهم، فإن
~~الضرر حاصل بوقوعه إذا أوقعوه، لكن إذا كان محرما زاد الضرر بالإثم، فيبقون
~~آثمين مضرورين، وفساد النهي عنه حاصل مع أن المنهي عنه من باب العقود،
~~والكلام
# PageV01P344
# الذي يقبل الصحة والفساد ليس من باب الأفعال والتأثيرات التي لا يمكن رفع
~~موجبها، فإن الطلاق كالنكاح والعتاق والظهار ونحو ذلك مما إذا تكلم به يقع
~~تارة ولا يقع أخرى، ليس وقوعه من لوازم إيقاعه.
# والطلاق عند أصحابنا وغيرهم ينقسم إلى صحيح وفاسد، كما قالوا - واللفظ
~~لأبي الخطاب في "الانتصار" - في مسألة المكره: إنه قول حمل عليه بغير حق
~~فلم يلزمه حكمه كالإقرار بالطلاق. قال: وهذا لأن لفظ
### | الطلاق ينقسم إلى صحيح وفاسد،
# وليس نفوذه أمرا محسوسا لا مرد له، فإذا كان محمولا عليه بالباطل كان
~~مردودا، لأن الشرع يحكم في الرد والقبول، وقرر ذلك.
# وأما من قال: إن
### | طلاق المكره
# يقع، كما يقول أبو حنيفة، فإنه يقول مالا يقبل الرفع، كالنكاح والعتاق
~~والخلع، فإنه كالفعل ينفذ مع الإكراه، بخلاف ما يقبل الرفع كالبيع والإجارة
~~والهبة. وعندنا الجميع يقبل الرفع، وإذا كان كذلك فمحرمه يقع فاسدا.
# فإن قيل: لو أوقعه سنيا لغير حاجة؟.
# قيل: فإن الإنسان أخبر بمصلحة نفسه، فإذا أوقعه على الوجه المشروع لم
~~يمكن أن نقول: ذلك محرم عليه.
# فإن قيل: فأنتم تقولون: الطلاق لغير حاجة محرم أو مكروه وإن كان سنيا.
# قيل: هذا كلام مجمل، ولابد من تفصيله. قيل: هذا السؤال يرد على الجمهور
~~الذين قالوا بان الثلاث يحرم جمعها، فإن هؤلاء قالوا: إن الطلاق لغير حاجة
~~محرم، والحاجة لا تدعو إلا إلى واحدة. ثم لما أورد عليهم هذا السؤال قالوا:
~~العاقل لا يتكلف النكاح والتزام
# PageV01P345
# المهر وحقوق النكاح ثم يقدم على الفراق إلا لحاجته إليه، إما لعدم إرادته
~~للمرأة وعدم محبته لها؛ أو لعدم حصول مقصوده بنكاحه بها: لكونها ممتنعة
~~منه، أو لكونها تكلفه ما يضره، أو لكون أهلها يكلفونه ذلك؛ أو لبغضه لها:
~~إما بغضا لصورتها أو لخلقها أو لدينها أو لظلمها ms0173 له؛ أو لغير ذلك. فأما مع
~~كونه مريدا لها إرادة راجحة على كراهتها فلا يقصد إيقاع الطلاق أصلا.
# ولهذا لم يقع الطلاق إلا ممن له قصد صحيح يقصد به مصلحته، فلم يقع
~~بالمجنون بالاتفاق، وإن كان يتكلم باختياره ويفعل باختياره، فإن البهائم
~~تفعل باختيارها، فكيف المجنون، لكن لما تغير عقله الذي يوجب أن لا يميز بين
~~قصد ما ينفعه وما يضره لم يقع به الطلاق باتفاق المسلمين. وكذلك لا يقع
~~بالنائم والمبرسم ولا بمن زال عقله بغير فعل محرم منه كالمغمى عليه،
~~بالاتفاق.
# ولكن تنازع المسلمون في السكران، والذي نصرناه في غير هذا الموضع (1) أنه
~~لا يقع به أيضا، كما هو قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عثمان
~~بن عفان وعبد الله بن عباس وعقبة بن عامر، ولم نعلم أنه ثبت عن صحابي خلاف
~~ذلك صريحا، وهو قول طوائف من أئمة التابعين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد
~~اختارها أئمة من أصحابه، كأبي بكر الخلال وأبي الخطاب وغيرهما، وهو طرد ما
~~ذكرناه من الطلاق إذا كان إنما أبيح للحاجة، وهي جلب منفعة أو دفع مضرة،
~~فلم يقع إلا ممن له قصد صحيح يجلب به المنفعة ويدفع به المضرة، وحينئذ
~~فإقدامه عليه دليل الحاجة. PageV01P346
# وأما الهازل فذاك لزمه عند من يقول به، لأنه اتخذ آيات الله هزوا، كما
~~يلزم الكفر لمن تكلم به مستهزئا، لأنه اتخذ آيات الله هزوا، لئلا يستهزئ
~~أحد بآيات الله. وهذا إذا قيل عوقب به كانت العقوبة تدفع أن يستهزئ أحد
~~بآيات الله، كما أن تكفير المسلم بآيات الله هزوا يمنع أن يستهزئ أحد بآيات
~~الله، فكان في إيقاع الطلاق به زوال هذه المفسدة، وكان ما حصل له من الضرر
~~ضررا بمن يستحق هذا الضرر، بخلاف المكره وبخلاف السكران، فإن ذنبه هو
~~الشرب، ليس ذنبه إيقاع الطلاق، والشارع لا يعاقبه على الشرب بالتزام ما
~~يمكن أن يتكلم به، ولو كان ذلك لعاقبه بالقتل، لأن السكران قد يتكلم
~~بالكفر، كما قد يتكلم بالطلاق.
# وعلى هذا فإذا قالوا ms0174: الطلاق لغير حاجة محرم أو مكروه، قالوا: إن الطلاق
~~الشرعي مباح مأذون فيه. وهذا معنى قوله: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" (1)
~~، أي أبغض ما أبيح للحاجة وهو محرم بغيض إلى الله بدونها: الطلاق، كما
~~تقول: أبيحت المحرمات للمضطر، أي أبيح له عند الضرورة ما كان محرما بدونها،
~~ليس المراد به أن الشيء في حال واحدة يكون حلالا حراما، كذلك الشيء في حال
~~واحدة لا يكون بغيضا إلى الله مأذونا فيه من جهته، فإن هذا تناقض.
# فصل
# ومما يبين هذا أن الله إذا كان يحب شيئا فإنه يأمر به أمر إيجاب
~~PageV01P347
# أو استحباب، أمرا ييسر أسبابه، فإنه ما لا يتم المأمور به إلا به فهو
~~مأمور به، وإذا كان يكرهه فهو ينهى عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه، والنكاح في
~~الأصل حسن مأمور به، وأدنى أحواله الإباحة، لا ينهى عنه إلا لمعارض راجح:
~~كالعجز عن واجباته أو الاشتغال به عما هو أوجب منه، كما إذا تعارض الحج
~~المتعين والنكاح فإنه يقدم الحج ونحو ذلك. والطلاق منهي عنه إلا لحاجة كما
~~قد عرف، فالذي يناسب ذلك تيسير حصول النكاح وتشديد حصول الطلاق، كما قال
~~تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) (1) ،
~~فأمر بالتعاون على ما يحب، ونهى عن التعاون على ما يكره. وطائفة من الناس
~~يعكسون الأمر، فتجدهم يشددون النكاح ويصعبون صحته، فلا يوقعون ما يحبه الله
~~إلا بشرائط كثيرة، وكثير منها لا أصل له في الكتاب والسنة، كاشتراط بعضهم
~~لفظين معينين، وهو الإنكاح والتزويج؛ واشتراط بعضهم أن يكون ولي المرأة
~~عدلا؛ واشتراط بعضهم حضور شاهدين عدلين مبرزين؛ واشتراط بعضهم في صحته
~~الكفاءة في النسب والدين واليسار والصناعة والحرية؛ واشتراط بعضهم أن يكون
~~القبول عقب التلقظ بالإيجاب. وهذه الشروط ونحوها لا أصل لها، بل الأصول
~~والنصوص تدل على بطلان اشتراطها.
# ثم إن طائفة من الناس يشددون في انعقاده، ويعيدون اللفظ على العامي مرتين
~~أو ثلاثا، ويزيدون على ما ذكره الفقهاء أمورا من جنس الوسواس الذي يزيدونه
~~في نيات العبادات ms0175. ثم الطلاق الذي يبغضه الله لغير حاجة تجدهم سراعا إلى
~~وقوعه، فيوقعونه على المكره والسكران والحالف الحانث الناسي والمكره
~~والجاهل وغير هؤلاء. PageV01P348
# هذا مع أن الشارع يضيق إيقاعه، فنهى عن إيقاعه في الحيض وفي طهر أصابها
~~فيه، وعن إيقاع الثلاث جملة، بل أمر أن لا يطلق إلا واحدة في طهر لم يصبها
~~فيه، ولا يردفها بطلاق حتى تقضي العدة إن لم يكن له غرض في رجعتها. وهذا من
~~الشارع تضييق لوقوعه.
# والنكاح يشرع وقت حيض المرأة ونفاسها وصومها واعتكافها وصوم الرجل
~~واعتكافه، وإن كان الوطء متعذرا، ويشرع في الأوقات الفاضلة. فالواجب منع
~~وقوع ما يبغضه الله إلا حيث يكون في وقوعه مصلحة راجحة، وتيسير وقوع ما
~~يحبه الله إلا إذا كان في وقوعه مفسدة راجحة، وحيث لا تكون مصلحة وقوعه
~~راجحة فالأصول تقتضي أنه لا يقع، لأن الشارع لا يوقع إلا ما تكون مصلحته
~~محضة أو راجحة، وما كان مفسدته محضة أو راجحة فإنه يرفعه ولا يوقعه.
# والله أعلم.
# (نقلته من خط مصنفه شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية
~~رحمه الله.
# قوبل بالأصل بعد نقله منه) .
# ***
# PageV01P349
### | فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة
# PageV01P351
# سئل شيخ الإسلام علامة الزمان تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
~~الحراني - قدس الله روحه ونور ضريحه - عن رجل طلق امرأته ثلاثا بكلمة
~~واحدة، فهل يقع به واحدة أم ثلاث؟.
# فأجاب:
# أما جمع الطلقات الثلاث فمحرم عند أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن
~~بعدهم، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه واختيار
~~أكثر أصحابه، وقال: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو الطلاق الرجعي -
~~يعني طلاق المدخول بها - غير قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى
~~تنكح زوجا غيره) (1) .
# وعلى هذا القول فهل له أن يطلقها الثانية والثالثة قبل الرجعة، بأن يفرق
~~الطلاق على ثلاثة أطهار، فيطلقها في كل طهر طلقة؟ فيه قولان، هما روايتان
~~عن أحمد:
# إحداهما: له ذلك، وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة ms0176.
# والثانية: ليس له ذلك، وهو قول أكثر السلف، وهو مذهب مالك، وأصح
~~الروايتين عن أحمد التي اختارها أكثر أصحابه، كأبي بكر عبد العزيز والقاضي
~~أبي يعلى وأصحابه.
# والقول الثاني: إن جمع الثلاث ليس بمحرم، بل هو ترك الأفضل، وهو مذهب
~~الشافعي، والرواية الأخرى عن أحمد، واختارها الخرقي.
# واحتجوا بأن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو حفص بن المغيرة PageV01P353
# ثلاثا، وبأن امرأة رفاعة طلقها زوجها ثلاثا، وبان الملاعن طلق امرأته
~~ثلاثا ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك (1) .
# وأجاب الأكثرون بأن حديث فاطمة فيه أنه طلقها ثلاثا متفرقات، هكذا ثبت في
~~الصحيح أن الثالثة كانت آخر ثلاث تطليقات، لم يطلق ثلاثا لا هذا ولا هذا.
~~وقول الصحابي "طلق ثلاثا" يتناول ما إذا طلقها ثلاثا متفرقات، بأن يطلقها
~~ثم يراجعها ثم يطلقها. وهذا طلاق سني واقع باتفاق الأئمة، وهو المشهور على
~~عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معنى الطلاق ثلاثا. وأما جمع
~~الثلاث بكلمة فهذا كان منكرا عندهم، إنما يقع قليلا، فلا يجوز حمل اللفظ
~~المطلق على القليل المنكر دون الكثير المحق، ولا يجوز أن يقال طلق ثلاثا
~~مجتمعات لا هذا ولا هذا، بل هذا قول بلا دليل، بل بخلاف الدليل.
# وأما الملاعن فإن طلاقه وقع بعد البينونة أو بعد وجوب الإبانة، التي تحرم
~~بها المرأة أعظم ما تحرم بالطلقة الثالثة، فكذا مؤكدا لموجب اللعان.
~~والنزاع إنما هو في طلاق من يمكنه إمساكها، ولاسيما النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قد فرق بينهما، فإن كان قبل الثلاث لم يقع بها ثلاث ولا غيرها، وإن
~~كان بعدها فدل على بقاء النكاح.
# واستدل الأكثرون بأن القرآن يدل على أن الله لم يبح إلا الطلاق الرجعي
~~وإلا الطلاق للعدة، كما في قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء
~~فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) إلى قوله (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك
~~أمرا (1) فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) (2) ،
~~PageV01P354
# وهذا إنما يكون في الرجعي. وقوله (فطلقوهن لعدتهن) يدل على أنه لا ms0177 يجوز
~~إرداف الطلاق الطلاق حتى تنقضي العدة أو يراجعها، وإنما أباح الطلاق للعدة،
~~أي لاستقبال العدة، فمتى طلقها الثانية أو الثالثة قبل الرجعة بنت على
~~العدة، فلنم تستأنفها باتفاق المسلمين، وإن كان فيه خلاف شاذ عن خلاس وابن
~~حزم قد بينا فساده في موضع آخر. فلم يكن ذلك طلاقا للعدة.
# ولأنه قال: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) ، فخيره
~~بين الرجعة وبين أن يدعها حتى تنقضي العدة، فيسرحها بإحسان، فإذا طلقها
~~ثانية قبل انقضاء العدة لم يمسك بمعروف ولم يسرح بإحسان، وقد قال:
~~(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في
~~أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك) (1) ،
~~فهذا يقتضي أن هذا حال كل مطلقة، فلم يشرع إلا هذا الطلاق. ثم قال: (الطلاق
~~مرتان) أي هذا الطلاق المذكور مرتان، وإذا قيل: سبح مرتين أو ثلاث مرات، لم
~~يجز أن يقول: "سبحان الله مرتين"، بل لابد أن ينطق بالتسبيح مرة بعد مرة،
~~وكذلك لا يقال: طلق مرتين إلا إذا طلق مرة بعد مرة. فإذا قال: أنت طالقة
~~ثلاثا أو طلقتين لم يجز أن يقال: طلق ثلاث مرات ولا مرتين، وإن جاز أن يقال
~~طلق ثلاث تطليقات أو طلقتين، لكن يقال: طلق مرة واحدة.
# وقال بعد ذلك: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) (2) ،
~~فهذه الطلقة الثالثة، فلم يشرعها الله إلا بعد الطلاق الرجعي مرتين، وقد
~~PageV01P355
# قال الله: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)
~~(1) وهذا إنما يكون فيما دون الثلاث، وهو يعم كل طلاق. فعلم أن جمع الثلاث
~~ليس بمشروع.
# ودلائل تحريم الثلاث كثيرة قوية من الكتاب والسنة والآثار والاعتبار.
~~وسبب ذلك أن
### | الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة،
# كما ثبت في الصحيح (2) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم
~~فتنة، فيأتيه الشيطان ms0178 فيقول: ما زلت به حتى فعل كذا، حتى يأتيه الشيطان
~~فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويلتزمه ويقول:
~~أنت أنت!! ".
# وقال الله تعالى في ذم السحرة: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء
~~وزوجه) (3) .
# وفي السنن (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المختلعات
~~والمنتزعات هن المنافقات".
# وفي السنن (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما امرأة
~~سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة".
# وفي السنن (6) أيضا: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". PageV01P356
# ولهذا لم تبح إلا ثلاث مرات، وحرمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح
~~زوجا غيره. وإذا كان إنما أبيح للحاجة فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد باق
~~على الحظر.
# والناس في الطلاق المحرم هل يقع أم لا؟ على قولين، وأقوال الصحابة رضي
~~الله عنهم في جمع الطلقات الثلاث كثير مشهور، روي الوقوع فيها عن عمر
~~وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وعمران بن الحصين
~~وغيرهم؛ وروي عدم الوقوع فيها عن أبي بكر وعن عمر سنتين من خلافته وعن علي
~~بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس و. عن الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن
~~عوف (1) .
# قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن مغيث في كتاب "الوثائق" له (2) : فطلاق
~~البدعة أن يطلقها ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق.
# ثم اختلف أهل العلم بعد إجماعهم على أنه مطلق كم يلزمه من الطلاق؟ فقال
~~علي بن أبي طالب وابن مسعود: يلزمه طلقة واحدة، وقاله ابن عباس.
# وقال: وذلك لأن قوله "ثلاث" لا معنى له، لأنه لم يطلق ثلاث مرات، وإنما
~~يجوز قوله "ثلاث" إذا كان مخبرا عما مضى، فيقول: طلقت ثلاث مرات، يخبر عن
~~ثلاثة أفعال كانت منه في ثلاثة أوقات، كرجل يقول: قرأت سورة كذا ثلاث مرات،
~~فذلك يصح، ولو قرأها مرة واحدة فقال: قرأتها ثلاث مرات كان كاذبا. وكذلك لو
~~حلف بالله ثلاثا يردد الحلف كانت ثلاثة أيمان، وأما لو حلف بالله ms0179 فقال:
~~PageV01P357
# أحلف بالله ثلاثا لم يكن حلفه إلا يمينا واحدة. والطلاق مثله.
# قال: ومثل ذلك قال الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، روينا ذلك كله
~~عن ابن وضاح. يعني الإمام محمد بن وضاح الذي يأخذ عن طبقة أحمد بن حنبل
~~وابن أبي شيبة ويحيى بن معين وسحنون ابن سعيد وطبقتهم.
# قال: وبه قال شيوخ قرطبة: ابن زنباع شيخ هدى (1) ، ومحمد بن عبد السلام
~~الخشني فقيه عصره، وابن بقي بن مخلد، وأصبغ بن الحباب، وجماعة سواهم من
~~فقهاء قرطبة.
# قلت: وقد ذكر التلمساني هذا رواية عن مالك، وهو قول محمد بن مقاتل الرازي
~~من أئمة الحنفية، حكاه عنه المازري وغيره، ويفتي بذلك أحيانا الشيخ أبو
~~البركات ابن تيمية. وهو وغيره يحتجون بالحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه"
~~وأبو داود وغيرهما (2) عن طاووس عن ابن عباس أنه قال: كان الطلاق على عهد
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق
~~الثلاث واحد، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد أستعجلوا في أمر كانت فيه
~~أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وفي رواية: إن أبا الصهباء قال
~~لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر
~~تتابع الناس في الطلاق، فأمضاه عليهم.
# والذين ردوا هذا الحديث تأولوه بتأويلات ضعيفة، وكل حديث PageV01P358
# فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم الثلاث بمن أوقعها جملة - مثل
~~حديثا روي عن علي، وآخر عن عبادة، وآخر عن الحسن عن ابن عمر، وغير ذلك -
~~فكلها أحاديث ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل موضوعة.
# وأقوى ما ردوه به أنهم قالوا: ثبت من غير وجه عن ابن عباس أنه أفتى بلزوم
~~الثلاث (1) .
# وجواب المستدلين أن ابن عباس روي عنه من طريق عكرمة أيضا أنه كان يجعلها
~~واحدة، وثبت عن عكرمة عن ابن عباس ما يوافق حديث طاووس مرفوعا إلى النبي -
~~صلى الله عليه وسلم ms0180 - وموقوفا على ابن عباس، ولم يثبت خلاف ذلك عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -. فالمرفوع أن ركانة طلق امرأته ثلاثا (2) ، فردها
~~عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا المروي عن ابن عباس في
### | حديث ركانة
# من وجهين عن عكرمة، وهو أثبت من رواية عبد الله بن علي بن زيد بن ركانة
~~ونافع بن عجير أنه طلقها البتة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحلفه
~~ما أردت إلا واحدة. فإن هؤلاء مجاهيل الصفات، لا تعرف أحوالهم ليوافقها،
~~وقد ضعف أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأبو عبيد وابن حزم وغيرهم حديثهم.
# قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء.
# وقال أيضا: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، لأن ابن إسحاق
~~يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا.
~~PageV01P359
# فقد استدل أحمد على بطلان حديث البتة بهذا الحديث الذي فيه أنه طلقها
~~ثلاثا، وقال: أهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا البتة، وهذا يدل على ثبوت
~~الحديث عنده. وكذلك ثبته غيره من الحفاظ.
# وقد روى أبو داود هذا الحديث في سننه عن ابن عباس من وجه آخر، كلاهما
~~موافق لحديث طاووس عنه. وأحمد كان يعارض حديث طاووس ب
### | حديث فاطمة بنت قيس
# أن زوجها طلقها ثلاثا ونحوه. وكان أحمد يروي (1) جمع الثلاث جائزا، ثم
~~رجع عن ذلك، وقال: تدبرت القرآن فإذا كل طلاق فيه فهو رجعي. واستقر مذهبه
~~على ذلك، وعليه جمهور أصحابه. وتبين أن حديث فاطمة إنما كانت ثلاثا متفرقات
~~لا مجموعة. فإذا كان قد ثبت حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من
~~جمع ثلاثا لم يلزمه إلا واحدة، وليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما
~~يخالف ذلك، بل القرآن يوافق ذلك، والنهي عنده يقتضي الفساد، فهذه النصوص
~~والأصول الثابتة عنه تقتضي من مذهبه أنه لا يلزمه إلا واحدة، وعدوله عن
~~القول بحديث ركانة وغيره كان أولى، لما تعارض ذلك عنده من جواز جمع الثلاث ms0181،
~~وكان ذلك يدل على النسخ، ثم إنه رجع عن المعارضة، وتبين له فساد هذا
~~المعارض وأن جمع الثلاث لا يجوز، فوجب على أصله العمل بالنصوص السالمة عن
~~المعارض، ولكن علل حديث طاووس بفتيا ابن عباس بخلافه، وهذه علة في إحدى
~~الروايتين عنه.
# وأما ظاهر مذهبه الذي عليه أصحابه فذلك لا يقدح في العمل بالحديث، لاسيما
~~وقد بين ابن عباس عذر عمر بن الخطاب في PageV01P360
# الإلزام، وهو عذر ابن عباس أيضا، وهو أن الناس لما تتايعوا فيما حرم الله
~~عليهم استحقوا العقوبة على ذلك، فعوقبوا بلزومه، بخلاف ما كانوا عليه قبل
~~ذلك، فإنهم لم يكونوا مكثرين من فعل المحرم.
# وهذا كما أنهم أكثروا شرب الخمر واستخفوا بحدها كان عمر يضرب الشارب
~~ثمانين وينفي فيها ويحلق الرأس، ولم يكن ذلك على عهد النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -. وكما قاتل علي رضي الله عنه بعض أهل القبلة، ولم يكن ذلك على عهد
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
# [و] التفريق بين الزوجين هو مما كانوا يعاقبون به، إما مع بقاء النكاح،
~~وإما بدونه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين الثلاثة الذين تخلفوا
~~وبين نسائهم - حتى تاب الله عليهم - من غير طلاق. والمطلق ثلاثا حرمت عليه
~~امرأته حتى تنكح زوجا غيره، عقوبة له ليمتنع عن الطلاق.
# وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن وافقه كمالك وأحمد - في إحدى الروايتين
~~- حرموا المنكوحة في العدة على الناكح أبدا، لأنه استعجل ما أحله الله،
~~فعوقب بنقيض قصده. والحكمان لهما عند أكثر السلف أن يفرقا بين الزوجين بلا
~~عوض إذا رأيا الزوج متعديا، لما في ذلك من منعه من الظلم، ورفع الضرر عن
~~الزوجة، وعلى ذلك دل الكتاب والسنة والآثار، وهو مذهب مالك، وأحد القولين
~~في مذهب الشافعي وأحمد.
# والمقصود هنا التنبيه على مآخذ الناس، فالذين لا يرون الطلاق المحرم
~~لازما يقولون: هذا الأصل الذي عليه الفقهاء كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم،
~~وهو أن العقود المحرمة لا تقع لازمة، كالبيع المحرم والنكاح المحرم
~~والكتابة المحرمة. ولهذا أبطلوا نكاح ms0182 الشغار ونكاح المحلل، وأبطل مالك
~~وأحمد البيع عند النداء يوم الجمعة. ولكن
# PageV01P361
# الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوها لما بلغهم من الآثار، فلما
~~ثبت عندهم عن أئمة الصحابة أنهم ألزموا بالثلاث المجموعة قالوا: لا يلزمون
~~بذلك إلا وذلك مقتضى الشرع. واعتقد طائفة أن لزوم هذا إجماع، لكونهم لم
~~يعلموا فيه خلافا، لاسيما وصار القول بذلك معروفا عن الشيعة الذين لم
~~ينفردوا عن أهل السنة بحق.
# قال المستدلون لهم: أما الشيعة وطائفة من أهل الكلام فيقولون: جامع
~~الثلاث لا يقع به شيء. وهذا القول لم يعرف عن أحد من السلف، بل قد تقدم
~~الإجماع على نقضه، وإنما الكلام هل يلزمه واحدة أو ثلاث، والنزاع بين السلف
~~في ذلك ثابت لا يمكن دفعه.
# وليس مع من ألزم بالثلاث وجعل ذلك شرعا لازما للأمة حجة يجب اتباعها، لا
~~من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع، وإن كان قد احتج بعضهم بالكتاب، وبعضهم
~~بالسنة، وبعضهم بالإجماع، وبعضهم بالقياس، وقد يحتج بعضهم بحجتين أو أكثر.
~~لكن المنازع تبين له أن هذه كلها حجج ضعيفة، وإن كان الكتاب والسنة
~~والاعتبار إنما يدل على عدم اللزوم. وتبين أنه لا إجماع في المسألة، بل
~~الآثار الثابتة عمن ألزم بالثلاث مجموعة من الصحابة تدل على أنهم لم يكونوا
~~يجعلون ذلك مما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرعا لازما، كما
~~شرع تحريم المرأة بعد الطلقة الثالثة، بل كانوا مجتهدين في العقوبة بإلزام
~~ذلك إذا كثر ولم تنته الناس عنه، وقد ذكرت الألفاظ المنقولة عن الصحابة في
~~غير هذا الموضع. والعقوبة إنما تكون لمن علم التحريم وأقدم عليه، وأما من
~~لم يعلم التحريم فلا تجوز عقوبته.
# وعامة الآثار المنقولة عن الصحابة تدل على أنهم ألزموا بالثلاث لمن عصى
~~الله بإيقاعها جملة، فأما من كان متقيا لله فإن الله يقول:
# PageV01P362
# (ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب) (1) ، فمن لم
~~يعلم التحريم حتى أوقعها، ثم لما علم التحريم تاب والتزم أن لا يعود إلى
~~المحرم ms0183، فهذا لا يستحق أن يعاقب. وليس في الأدلة الشرعية - الكتاب والسنة
~~والإجماع والقياس - ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته
~~محرمة على الغير بيقين. وفي إلزامه بالثلاث إباحتها للغير مع علمه، وذريعة
~~إلى نكاح التحليل الذي ذمه الله ورسوله.
# ونكاح التحليل لم يكن ظاهرا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~وخلفائه، ولم ينقل قط أن امرأة بعد الطلقة الثالثة أعيدت إلى زوجها بنكاح
~~تحليل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد خلفائه، بل لعن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له، ولعن آكل الربا وموكله وكاتبه
~~وشاهده (2) . ولم يذكر في التحليل الشهود ولا الزوجة ولا الولي، لأن
~~التحليل الذي كان يفعل كان مكتوما، يقصده المحلل ويتواطأ عليه هو والمطلق
~~والمرأة ووليها، لا يعلم قصدهم، ولو علم لم يرض أن يزوجه، فإنه من أعظم
~~المستقبحات والمستنكرات عند الناس.
# فلما لم يكن على عهد عمر تحليل، ورأى أن في إنفاذ الثلاث زجرا لهم عن
~~المحرم، فعل ذلك باجتهاده رضي الله عنه. أما إذا كان الفاعل لا يستحق
~~العقوبة، وإنفاذ الثلاث يفضي إلى وقوع التحليل المحرم بالنص والإجماع -
~~إجماع الصحابة - والاعتبار، وغير ذلك من المفاسد، لم يجز أن تزال مفسدة
~~بمفاسد أغلظ منها، بل جعل الثلاث واحدة في مثل هذه الحال - كما كان على عهد
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - أولى. PageV01P363
# ولهذا كان طائفة من العلماء مثل أبي البركات يفتون بلزوم الثلاث في حال
~~دون حال، كما نقل عن الصحابة، وهذا إما لكونهم رأوه من باب التعزير الذي
~~يجوز فعله بحسب الحاجة، كالزيادة على أربعين في الخمر، والنفي فيها وحلق
~~الرأس؛ وإما لاختلاف اجتهادهم، فرأوه تارة لازما، وتارة غير لازم.
# وبالجملة ف
### | ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا لازما دائما لا يمكن تغييره،
# فإنه لا نسخ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولا يجوز أن يظن بأحد
~~من علماء المسلمين أنه يقصد هذا، لاسيما الصحابة، لاسيما الخلفاء الراشدين.
# وإنما يظن مثل ذلك ms0184 في الصحابة أهل الجهل والضلالة من الرافضة والخوارج،
~~الذين يكفرون بعض الخلفاء أو يفسقونه. ولو قدر أن أحدا فعل ذلك لم يقره
~~المسلمون على ذلك، فإن هذا إقرار على أعظم المنكرات، والأمة معصومة أن
~~تجتمع على مثل ذلك. لكن يجوز أن يجتهد الحاكم والمفتي، فيصيب فيكون له
~~أجران، ويخطىء فيكون له أجر واحد.
# وما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرعا معلقا بسبب، إنما يكون
~~مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة.
# وبعض الناس ظن أن هذا نسخ (1) ، لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أعز
~~الإسلام وأهله، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وهذا الظن غلط، ولكن عمر
~~استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك لعدم الحاجة إليه، لا
~~لنسخه. كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل أو الغارم.
~~PageV01P364
# ونحو ذلك متعة الحج، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى عنها، وكان
~~ابنه عبد الله وغيره يقولون: لم يحرمها، وإنما قصد أن يأمر الناس بالأفضل،
~~وهو أن يعتمر أحدهم من دويرة أهله في غير أشهر الحج، فإن هذه العمرة أفضل
~~من عمرة المتمتع والقارن باتفاق الأئمة. حتى أن مذهب أبي حنيفة وأحمد
~~المنصوص عنه: أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، وأفرد الحج في أشهره فهذا
~~أفضل من مجرد التمتع والقران، مع قولهما بأنه أفضل من الإفراد المجرد.
# ومن الناس من قال: إن عمر أراد فسخ الحج إلى العمرة، وقالوا: إن هذا يحرم
~~ولا يجوز، وإن ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من الفسخ
~~[كان] خاصا لهم. وهذا قول كثير من الفقهاء، كأبي حنيفة ومالك والشافعي.
~~وآخرون من السلف والخلف قالوا: بل الفسخ واجب، ولا يجوز أن يحج أحد إلا
~~متمتعا مبتدئا أو فاسخا، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في
~~حجة الوداع. وهذا قول كثير من السلف والخلف، كأحمد بن حنبل وغيره من فقهاء
~~الحديث.
# وعمر لما نهى عن المتعة خالفه ms0185 غيره من الصحابة، كعمران بن الحصين وعلي بن
~~أبي طالب وعبد الله بن عباس وغيرهم، بخلاف نهيه عن متعة النساء، فإن عليا
~~وسائر الصحابة وافقوه على ذلك، وأنكر علي بن أبي طالب على ابن عباس إباحة
~~متعة النساء، فقال له: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~حرم المتعة وحرم لحوم الحمر الأهلية عام خيبر. فأنكر علي على ابن عباس
~~إباحة لحوم الحمر وإباحة متعة النساء.
# فقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم
~~فيه أناة، فلو أنفذناه عليهم، فأنفذه عليهم، وهو بيان
# PageV01P365
# أن الناس قد أحدثوا ما استحقوا به عنده أن ينفذ عليهم الثلاث، فهذا إما
~~أن يكون كالنهي عن منع الفسخ، لكون ذلك كان مخصوصا بالصحابة، وهو باطل، فإن
~~هذا كان على عهد أبي بكر، ولأنه لم يذكر ما يوجب اختصاص الصحابة بذلك.
~~وبهذا أيضا تبطل دعوى من ظن أن ذلك منسوخ كنسخ متعة النساء. وإن قدر أن عمر
~~رأى ذلك لازما فهو اجتهاد منه، كاجتهاد من اجتهد في المنع من فسخ الحج،
~~لظنه أن ذلك كان خاصا. وهذا قول مرجوح، قد أنكره غير واحد من الصحابة،
~~والحجة الثابتة مع من أنكره.
# وهكذا الإلزام بالثلاث، من جعل قول عمر فيه شرعا لازما، قيل له: فهذا
~~اجتهاد قد نازعه فيه غيره من الصحابة، وإذا تنازعوا في شيء وجب رد ما
~~تنازعوا فيه إلى الله والرسول، والحجة مع من أنكر هذا القول المرجوح. فإما
~~أن يكون عمر جعل هذا عقوبة تفعل عند الحاجة، وهذا الأمرين بعمر (1) .
# ثم العقوبة بذلك يدخلها الاجتهاد من وجهين:
# من جهة أن العقوبة بذلك هل تشرع أم لا؟ فقد يرى الإمام أن يعاقب بنوع لا
~~يرى غيره العقوبة به، كتحريق علي - رضي الله عنه - الزنادقة، وقد أنكره
~~عليه ابن عباس، وجمهور الفقهاء مع ابن عباس في ذلك.
# ومن جهة أن العقوبة إنما تكون لمن يستحقها، فمن كان من المتقين استحق أن
~~يجعل الله له فرجا ومخرجا ms0186، ولم يستحق العقوبة.
# ومن لم يعلم أن جمع الثلاث محرم، ولما علم أن ذلك محرم تاب PageV01P366
# من ذلك، والتزم أن لا يطلق إلا طلاقا سنيا، فنه من المتقين في باب
~~الطلاق. فمثل هذا لا يتوجه إلزامه بالثلاث مجموعة، بل يلزم بواحدة منها.
# وهذه المسألة من المسائل الكبار، وقد بسطت الكلام عليها في مواضع في نحو
~~مجلدين وأكثر (1) ، وإنما نبهنا عليها تنبيها لطيفا.
# وعلى هذا الراجح لهذا الموقع أن يلتزم طلقة واحدة، ويراجع امرأته.
# والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد
~~وعلى آله وصحبه وسلم. وهو حسبنا ونعم الوكيل.
# (تمت المسألة لله الحمد والمنة يوم الجمعة خامس عشر جمادى الآخرة سنة
~~1187.
# بلغ مقابلة وتصحيحا) .
# *** PageV01P367
### | فصل في الإيلاء
# من كلام الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمة الله عليه
# كتبه أخيرا بقلعة دمشق
# PageV01P369
# بسم الله الرحمن الرحيم
# الحمد لله رب العالمين.
# قال شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:
# فصل
# في طلاق الإيلاء
# قال تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله
~~غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (227)) (1) . والذي
~~عليه جمهور الصحابة والعلماء أنه لا يقع به الطلاق، حتى تمضي الأربعة، فإما
~~أن يفئ وإما أن يطلق، وإن طلق قبل ذلك جاز. وقد قالت طائفة: إن عزيمة
~~الطلاق انقضاء الأربعة أشهر، فإذا مضت وقع به طلقة، وهذا مذهب أبي حنيفة،
~~والأول مذهب الثلاثة، وقولهم هو الصواب كما قد بين في غير هذا الموضع (2) .
~~لكن المقصود أنه متى طلق فقد قيل: إنه لا يقع إلا بائنا لئلا يملك الرجعة،
~~وقيل: يقع رجعيا، وله الرجعة، ثم تضرب له مدة الإيلاء. وقيل: للإمام أن
~~يطلق عنه إذا امتنع ثلاثا.
# وهذه أقوال ضعيفة، والصواب القول الآخر الذي دل عليه القرآن، وهو أنه إذا
~~طلق أو طلق عنه الإمام لم يقع إلا طلقة رجعية، لأن الله PageV01P371
# ذكر قوله (والمطلقات) عقب قوله (وإن عزموا الطلاق) ، فيجب أن تكون هذه
~~المطلقة داخلة ms0187 في قوله (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) (1) . ولهذا
~~يجب عليها العدة ثلاثة قروء باتفاق العلماء، وإن كان له عنها أربعة أشهر،
~~وهذا يؤيد ما قررناه من أنها جعلت ثلاثة قروء لحق الزوج في الرجعة، وإذا
~~كانت هذه المطلقة داخلة في قوله (والمطلقات) وجب أن يكون بعلها أحق بردها
~~في العدة كما بينه القرآن.
# لكن يقال: إن الله خيره بين شيئين: بين أن يفيء أو يطلق، وهو تخيير بين
~~إمساك بمعروف أو تسريح بحسان، فإذا طلق ثم أراد الرجعة فقد قدم على الطلاق،
~~فيكون قد فاء بعد الطلاق، وحينئذ فعليه أن يطأها عقب هذه الرجعة إذا طلبت
~~ذلك، ولا يمكن من الرجعة إلا بهذا الشرط، لأن الله خيره بين أن يفيء
~~فيمسكها بمعروف، وبين أن يسرحها بإحسان، فإذا أراد أن يرتجعها فيمسكها بغير
~~معروف لم يكن له ذلك. ولأن الله إنما جعل الرجعة لمن أراد إصلاحا بقوله
~~(وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا) (2) . وإذا لم يكن مقصوده
~~حسن عشرتها بالوطء لم يكن مريدا للإصلاح، فلا يمكن من الرجعة. ولأن الله
~~لما خيره بين أن يفيء وبين أن يطلق، فإن طلق واستمر على ذلك فقد اختار
~~الطلاق، ولكن الله جعله أحق من غيره في العدة، فإذا ارتجعها كان قد اختار
~~إمساكها، لم يرد استمرار الطلاق، وحينئذ فيكون كمن لم يطلق، ولو لم يطلق
~~كان عليه أن يطأها إذا لم يختر الطلاق، كذلك هذا. ولأنه لو سوغ أن يرتجع
~~ولا يطأها أربعة أشهر، ثم يطلق ثم PageV01P372
# يرتجعها ولا يطأها أربعة لكان قد جعل له تربص سنة، وذلك خلاف القرآن،
~~وفيه إضرار عظيم بها، والله أعلم.
# فصل
# وهو سبحانه قال: (يؤلون من نسائهم) (1) . والإيلاء هو اليمين، وهو القسم،
~~وهو الحلف، يقال آلى وائتلى، كقوله (ولا يأتل أولو الفضل منكم) (2) ،
~~ويقال: تألى يتألى. وهو سبحانه عداه بحرف "من" فقال: (من نسائهم) ، وكذلك
~~الاستعمال، كقول عائشة رضي الله عنها: "آلى من نسائه شهرا" (3) ، وهذا
~~استعمال الناس كافة يقولون "آلى من نسائه".
# فحكى ابن الأنباري ms0188 (4) عن بعض اللغويين أنه قال: "من" بمعنى في أو على،
~~والتقدير: يحلفون على وطء نسائهم، فحذف الوطء وأقام النساء مقامه، وقيل:
~~تقديره يولون أي يعتزلون من نسائهم.
# وكلاهما ضعيف، لأن حروف المعاني لا يقوم بعضها مقام بعض عند البصريين،
~~لأنه لو صرح فقال: يحلفون على وطء نسائهم، لم يدل على أنه حلف لا يطأ، بل
~~هذا يفهم منه أنه حلف على الفعل، والحذف إن لم يكن في الكلام ما يدل عليه
~~كان غير جائز.
# وأيضا فإنه يقال: اعتزل امرأته، لا يقال: اعتزل منها. لكن قوله (يؤلون من
~~نسائهم) كقوله (الذين يظاهرون منكم من نسائهم) (5) و (والذين PageV01P373
# يظاهرون من نسائهم) (1) ، وكلاهما مضمن معنى الامتناع، فإن المولي يمتنع
~~باليمين من امرأته، وكذا المظاهر يمتنع بالظهار من امرأته، وكلاهما مقصوده
~~الامتناع والبعد والنفور منها والهرب منها والتخلص منها والفرار منها، فمن
~~هي لابتداء الغاية، ولكن الفعل هنا قد ترك.
# وإذا قلت: سرت من مكة إلى المدينة فالمجرور بمن مبدأ الفعل، كذلك إذا
~~قلت: غضبت من هذا، أو خفت من هذا، أو حذرت من هذا، أو فزعت من هذا ونحو
~~ذلك، كان المجرور هو مبدأ الغاية للفعل المذكور، والمولي والمظاهر هو تارك
~~للمرأة، والمولي ممتنع من وطئها، وإنما يكون بسبب منها، وإن كانت قد تكون
~~مظلومة لكونه يبغضها ويغضب منها وينفر عنها، وإن كانت مظلومة، فبكل حال هو
~~ممتنع منها أي من وطئها، وهو نافر منها. لكنه في الإيلاء هو ممتنع باليمين،
~~وفي الظهار ممتنع بتحريمها لما شبهها بأمه التي تحرم عليه. ولهذا كانوا
~~يعدون هذا وهذا في الجاهلية طلاقا، إذ لم يكن في شرعهم كفارة يمين ولا
~~كفارة ظهار، فمتى حرمها فلا تحرم إلا بالطلاق، ومتى ألزمته اليمين ترك
~~وطأها، فالزوجة لا تكون ممنوعا من وطئها، فإذا زال لازم النكاح زال.
# والله سبحانه في البقرة ذكر الأيمان ثم الطلاق، كما أنه في سورتي التحريم
~~والطلاق ذكر الأيمان ثم الطلاق، وفرق بين الأيمان والطلاق هاهنا وهاهنا،
~~وهو مما يبين الفرق بين الأيمان والطلاق، كما ms0189 قد بسط في غير هذا الموضع (2)
~~، ويبين أن الحلف بالطلاق من باب الأيمان لا من باب الطلاق، كما أن الحلف
~~بالنذر من باب الأيمان لا PageV01P374
# من باب النذر، وكذلك الحلف بالكفر من باب الأيمان لا من باب الكفر، وطرده
~~الحلف بالعتاق والظهار والحرام.
# وهو سبحانه في سورة المائدة ذكر كفارة الأيمان، وفي سورة التحريم أحال
~~عليها فقال: (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) (1) . وأما البقرة فنزلت قبل
~~المائدة، فذكر فيها النهي أن يجعلوا الله عرضة لأيمانهم (أن تبروا وتتقوا
~~وتصلحوا بين الناس) (2) ، فتضمنت النهي عن أن يجعل الحلف بالله مانعا من
~~فعل الخير، لكن هذا يقتضي في أول الأمر النهي عن الحلف على ذلك حين لم تشرع
~~الكفارة، فلما شرعت الكفارة صار النهي عن جعل هذه اليمين مانعة من فعل ما
~~يحبه الله، فإنه إما أن لا يحلف بها فيجعلها مانعة، وإما أنه إذا حلف لا
~~يجعل الحلف بها مانعا، فإن الكفارة مشروعة عن اليمين.
# ولهذا تنوعت عبارات المفسرين للآية، قال أبو الفرج (3) : وفي معنى الآية
~~ثلاثة أقوال:
# أحدها: أن معناها لا تحلفوا بالله أن لا تبرو ولا تتقوا ولا تصلحوا بين
~~الناس. هذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن جبير وإبراهيم والضحاك وقتادة
~~والسدي ومقاتل والفراء وابن قتيبة والزجاج في آخرين.
# والثاني: أن معناها لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبروهم
~~وتصلحوا بينهم بالكذب. روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس. PageV01P375
# والثالث: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين مصلحين، فإن كثرة الحلف
~~ضرب من الجرأة عليه. هذا قول ابن زيد.
# قلت: الحلف بالله كاذبا لا يجوز مطلقا، ولكن هذه الآية لم يقصد بها النهي
~~عن الحلف الكاذب، وأما الإكثار من الحلف به مع الصدق فإنه ليس بمحرم،
~~والآية تضمنت نهيا يوجب التحريم، والحلف بالله تعظيم له. وقد حلف النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - مرات متعددة، وأمر الله تعالى بالحلف في ثلاث مواضع،
~~قال تعالى: (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق) (1) ، وقال تعالى:
~~(وقال الذين كفروا لا ms0190 تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) (2) ، وقال
~~تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) (3) .
# وما يروى عن الله تعالى أنه قال: "لا تحلفوا بي صادقين ولا كاذبين" كلام
~~لا إسناد له عن الله تعالى، ليس مما أنزله الله على محمد، ولا نقل عن نبي
~~قبله بإسناد يعرف. وطائفة من النساك يستحبون أن لا يحلف أحد قط، وينهون عن
~~ذلك، ولكن ليس هذا شرع الإسلام. كما أن طائفة يستحبون الصمت مطلقا حتى عن
~~الكلام الواجب والمستحب، وليس هذا من شرع الإسلام، بل قال - صلى الله عليه
~~وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" (4) . فما
~~كان واجبا أو مستحبا فقوله خير من السكوت عنه، والسكوت عن الواجب
~~PageV01P376
# محرم. وما لم يكن خيرا فهو مأمور بالصمت عنه، فإنه عليه لا له، كما قد
~~بسط هذا في مواضع (1) .
# وفي الحديث المرفوع: "لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون"
~~(2) . وهذا مبسوط في موضعه.
# وعامة السلف والخلف على أن المراد بالآية المعنى الأول، وهو أن لا يجعل
~~الحلف بالله مانعا من فعل ما أمر الله به، فإن هذا حرام لا يجوز، لم يبح
~~الله أن يجعل الحلف به مانعا من فعل ما أمر به، بل ما أمر به هو يحبه
~~ويرضاه، وهو واجب أو مستحب، والحلف به على ترك ذلك يمين ليست بواجبة ولا
~~مستحبة، فلا يجوز أن يجعل ماليس بطاعة لله مانعا من طاعة الله. والله تعالى
~~لما أنزل الكفارة جعل الكفارة تحلة اليمين، كما ثبت عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو
~~خير، وليكفر عن يمينه" (3) .
# وأما قبل إنزاله الكفارة فآيات البقرة ليس فيها كفارة، فقيل: كان يجوز
~~الحنث بلا كفارة، لكن هذا لم يثبت. وقيل: بل كان منهيا عن الحلف، ثم إذا
~~حلف كان عاصيا قد ورط نفسه بين ذنبين، والحنث منهي عنه، وجعل اليمين مانعة
~~من الخير منهي عنه. ثم ms0191 إن الله تعالى شرع الكفارة، فصار الحالف قادرا على
~~التكفير.
# وهذه العبارة التي ذكرها أبو الفرج من أن معناها النهي، عن الحلف
~~PageV01P377
# بالله على ترك طاعته، يناسب ما كان الأمر عليه قبل الكفارة، وعبارة كثير
~~من المفسرين أن معناها إذا حلفت فلا تجعل حلفك بالله مانعا من فعل الطاعة،
~~وهذا يناسب الحال بعد الكفارة، والآية تتناول هذا وهذا. قال كثير من
~~المفسرين - واللفظ للبغوي (1) -: معنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله سببا
~~مانعا لكم من البر والتقوى، يدعى أحدكم إلى صلة رحم أو بر فيقول حلفت بالله
~~أن لا أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البر. وذكر الحديث الذي في الصحيح (2) عن
~~مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - قال: "من حلف بيمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه، وليأت
~~الذي هو خير".
# وروى ابن أبي حاتم وغيره (3) ما في تفسير ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (ولا
~~تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) قال: لا تجعلن الله عرضة ليمينك أن لا تصنع
~~الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.
# قال ابن أبي حاتم (4) : وروي عن مسروق وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي
~~والشعبي ومجاهد وعطاء والزهري والحسن وعكرمة وطاوس ومكحول ومقاتل بن حيان
~~وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي نحو ذلك. وقال (5) :
~~حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل نا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه
~~عن عطاء قال: PageV01P378
# جاء رجل إلى عائشة، فقال: يا أم المؤمنين! إني نذرت إن كلمت فلانا فكل
~~مملوك لي عتيق لوجه الله، وكل مال لي ستر للبيت، فقالت: لا تجعل مملوكيك
~~عتقاء لوجه الله، ولا تجعل مالك سترا للبيت، فإن الله يقول: (ولا تجعلوا
~~الله عرضة لأيمانكم) الآية، قالت: فكفر عن يمينك.
# وروى (1) عن السدي قال: وأما "تبروا" فالرجل يحلف أن لا يبر ذا رحمه،
~~فيقول: قد حلفت، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبره
~~ولا يبال بيمينه.
# وعن ms0192 عبد الكريم الجزري (2) قال في قوله (أن تبروا وتتقوا) قال: التقوى
~~يحلف ويقول: قد حلفت أن لا أعتق ولا أصدق.
# وعن سعيد بن جبير (3) في قول الله (وتتقوا وتصلحوا بين الناس) قال: كان
~~الرجل يريد الصلح بين اثنين، فيغضبه أحدهما أو يتهمه، فيحلف أن لا يتكلم
~~بينهما في الصلح، قال: أن تصلوا القرابة وتتقوا وتصلحوا بين الناس فهو خير
~~من وفاء اليمين في المعصية.
# قال ابن أبي حاتم (4) : وروي عن السدي نحو ذلك، وقال: هذا قبل أن تنزل
~~الكفارات.
# وأما تفسير اللفظ من جهة العربية، فقال الفراء (5) : والمعنى ولا
~~PageV01P379
# تجعلوا الله معترضا لأيمانكم. وقال أبو عبيد (1) : نصبا لأيمانكم. وقال
~~طائفة- واللفظ للبغوي (2) -: العرضة أصلها المد (3) والقوة، ومنه قيل
~~للدابة التي تصلح للسفر عرضة لقوتها عليه، ثم قيل لكل ما يصلح لشيء: هو
~~عرضة له، حتى قالوا للمرأة: هي عرضة للنكاح إذا صلحت له. والعرضة كل ما
~~يعترض له فيمتنع عن الشيء. ثم قال: ومعنى الآية لا تجعلوا الحلف بالله
~~سببا، إلى آخر كلامه المتقدم.
# قلت: فعلى هذا يكون التقدير لا تجعلوا الله معروضا لأيمانكم تقصدون الحلف
~~به لئلا تفعلوا الخير، ويكون قوله (أن تبروا وتتقوا) من تمام ما نهوا عنه،
~~أي لا تجعلوا الله محلوفا به لئلا تفعلوا الخير، فتجعلوا ما يجب من تعظيم
~~حقه والحلف به مانعا لكم من فعل ما يحبه ويرضاه من البر والتقوى والإصلاح
~~بين الناس. فإذا قيل: هو عرضة لكذا، أي هو أهل أن يتعرض إليه بكذا، فلا
~~تجعلوه عرضة لليمين أن تبروا وتتقوا، أي كراهة أن تبروا وتتقوا. هذا تقدير
~~البصريين.
# وتقدير الكوفيين لئلا تبروا وتتقوا وتصلحوا (4) ، أي السبب الداعي لكم
~~إلى أن يكون عرضة لأيمانكم كراهة فعل الخير، فلما كرهتم فعل ما يحبه
~~جعلتموه عرضة ليمينكم، لتكون اليمين به مانعة لكم من فعل ما كرهتموه من
~~الخير، فهذا لا يجوز.
# وعلى ما قال السدي المعنى: لا تجعلوا الله معترضا بينكم وبين PageV01P380
# ما أمر به. لكن لفظ الآية (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن ms0193 تبروا) ،
~~ولم يقل "بينكم"، فتضمن العرضة معنى المنع، لأن المعترض بين الشيئين مانع
~~بينهما، ويكون المعنى لا تجعلوا الله مانعا لكم من البر والتقوى، ويكون (أن
~~تبروا وتتقوا) منصوبا (1) بالعرضة. لكن هذا ضعيف في العربية، فإنه قال:
~~(عرضة لأيمانكم) ، فدل على أنه معروض لليمين، وهو فعلة بمعنى المفعول، لا
~~بمعنى الفاعل، وهو المعارض المانع.
# (آخر ما كتب فيها، والحمد لله وحده. بلغ مقابلة بالأصل خط المؤلف، ومنه
~~نقل. والحمد لله رب العالمين) .
# *** PageV01P381
# فصل في الظهار
# من كلام شيخ الإسلام، إمام الأئمة الأعلام، تقي الدين، أوحد العلماء
~~العاملين أبي العباس ابن تيمية رحمة الله عليه
# مما صنفه بقلعة دمشق في محبسه الأخير
# PageV01P383
# بسم الله الرحمن الرحيم
# رب يسر وأعن
# الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
# وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
~~صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
### | فصل في الظهار
# قال تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله
~~يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1) الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن
~~أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا
~~وإن الله لعفو غفور (2) والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا
~~فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3)
~~فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام
~~ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم
~~(4)) (1) .
# وقد عرف أنها نزلت في خولة بنت ثعلبة لما تظاهر منها أوس بن الصامت (2) ،
~~وكان الظهار والإيلاء طلاقا عندهم، فلما أتت النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~وجادلته واشتكت إلى الله أنزل هذه السورة. وكانت قد قيل لها: إنه
~~PageV01P385
# وقع بك الطلاق، على ما كانت عادتهم، وذلك أن موجب هذا اللفظ.
# أنها تحرم عليه أبدا ms0194، لأنه شبهها بأمه يقصد تحريمها، فمقصوده تحريمها،
~~والتحريم لا يكون إلا بزوال الملك بالطلاق، فلهذا كان طلاقا.
# والإيلاء هو حلف على أنه لا يطأها، ولم يكن عندهم لليمين كفارة، فكانت
~~اليمين تمنعه من وطئها، والمرأة لا تكون محرمة الوطء أبدا، فتقع به الطلاق.
# فالظهار أوجب تحريم وطئها، والإيلاء أوجب تحريم وطئها، وكلاهما ينافي
~~موجب النكاح، فإن النكاح لا يكون إلا مع حل الوطء.
# فلهذا كانوا يرون هذا وهذا طلاقا، حتى أنزل الله تعالى في الظهار الكفارة
~~الكبرى، والمولي خيره بين أن يفيء وبين أن يطلق، فإنه إذا فاء ورجع كان له
~~مخرج بالكفارة، كما قال: (فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم) (1) ، وقال: (لم
~~تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم) (2) .
# قال سبحانه: (ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) (3) ، كما قال
~~في الآية الأخرى: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم) (4) .
# وهم كانوا يعرفون أنهم ما هن أمهاتهم، لكن شبهوهن بهن، فأقاموا الزوجة
~~مقام الأم، وجعلوها مثل الأم، فبين الله تعالى بطلان هذا التشبيه، وأن الأم
~~هي التي ولدتك، والزوجة لم تلد، فامتنع أن تكون أما أو مثل الأم.
~~PageV01P386
# ثم قال: (وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا) (1) . فالمنكر ضد المعروف،
~~والزور الكذب، والكذب يكون في الأخبار، والمنكر هو المكروه المذموم المعيب،
~~وذلك يكون في الأفعال والإنشاءات، كالأمر والنهي وصيغ العقود، كقوله: أنت
~~علي كظهر أمي، تضمنت إنشاءا وإخبارا، فكانت منكرا من القول باعتبار ما فيها
~~من الإنشاء، وكانت زورا باعتبار ما فيها من الإخبار، فإن كونه يجعل زوجته
~~الحلال التي ما ولدته مثل أمه الحرام التي ولدته أمر منكر مكروه بغيض، تنفر
~~عنه القلوب لما فيه من القبح، وهو زور أيضا لما فيه من الكذب. فدل القرآن
~~على أن المنكر من القول والزور لا يقع به طلاق، وإن قصد به الإنسان الطلاق،
~~كما كانوا يقصدون الطلاق بهذا القول. ودل القرآن على أنه ليس كل لفظ يقصد
~~به الإنسان الطلاق يقع به الطلاق، بل لابد أن ms0195 يكون ذلك القول ليس منكرا من
~~القول ولا زورا.
# فكان في هذا دلالة على مذهب الجمهور من السلف والخلف أن صيغة الحرام لا
~~يقع بها طلاق إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، فإن هذا هو مثل قوله: أنت علي
~~كظهر أمي، لكنه هنا صرح بالحكم الذي هو مقصود التشبيه، وهو منكر من القول،
~~حيث جعل الحلال حراما، وهو زور أيضا، فإن الحلال لا يكون حراما. وقول من
~~قال: إنه طلاق هو شبيه بقولهم في الجاهلية: إن الظهار طلاق.
# بل دل هذا على أن الحرام لا يكون طلاقا ولو قصد به الطلاق، كما أن الظهار
~~لا يكون طلاقا وإن قصد به الطلاق. وقد نص على ذلك أحمد وغيره. PageV01P387
# وللناس هنا ثلاثة أقوال (1) :
# فذهب بعض المالكية إلى أن الظهار إذا قصد به الطلاق كان طلاقا كالحرام،
~~وهذا قياس قولهم، لكنه هو قولهم في الجاهلية، وهذا رجوع إلى قول أهل
~~الجاهلية.
# وذهب طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد إلى أنه إذا قصد بالحرام
~~الطلاق كان طلاقا، خلاف الظهار. وهؤلاء أرادوا أن يجمعوا بين نص الظهار
~~وبين ما اعتقدوه قياسا في الكنايات، وأنه أي لفظ قصد به الطلاق وقع،
~~فتناقضوا؛ فإن لفظ الظهار إذا قصد به الطلاق لم يقع، ولا فرق بينه وبين لفظ
~~الحرام.
# فإن قالوا: اللفظ إذا كان صريحا في حكم، ووجد نفاذا فيه، لم يجز جعله
~~كناية في غيره.
# قيل لهم: فهذا يدل على أنه ليس كل ما احتمله اللفظ كان كناية فيه، بل
~~لابد أن يكون صريحا في حكم آخر، وحينئذ فلم قلتم: إن الحرام ليس بصريح في
~~الظهار كلفظ الظهار؟ وما الفرق بينه وبين لفظ الظهار؟.
# وأما أحمد فإن نصوصه المتواترة عنه أنه يجعله صريحا في الظهار،
# لا يقع به الطلاق ولو نواه به.
# وأيضا فإما أن يجعل الظهار كناية في الطلاق، وإما أن لا يجعل، فمن جعله
~~كناية فيه فقد أتى بقول أهل الجاهلية الذي أبطله القرآن، PageV01P388
# ومن لم يجعله كناية فإما أن يقيس عليه ما كان ms0196 في معناه فلا يقع به طلاق،
~~وإما أن لا يقيس، فإن لم يقس فإنه يقول: اللفظ إذا كان صريحا في حكم ووجد
~~نفاذا لم يكن كناية في غيره، وجعلوا هذا هو عمدتهم في الفرق بين الطلاق
~~بالظهار والطلاق بغيره، فيقولون: الظهار صريح في حكم، وقد وجد نفاذا فيه،
~~فلا يكون كناية في الطلاق، بخلاف غيره من الألفاظ، مثل لفظ الحرام والخلية
~~والبرية، فإن تلك ليست صريحة في حكم، فلهذا كانت كناية في الطلاق.
# فيقال: هذا الفرق باطل من وجوه:
# أحدها: أن قول القائل "اللفظ إذا كان صريحا في حكم ووجد نفاذا لم يكن
~~كناية في غيره" دعوى مجردة لم يقم عليها دليلا، ولم يثبتها بنص ولا إجماع
~~ولا قياس صحيح.
# الوجه الثاني: أن يقال: هذه الدعوى باطلة، فإن اللفظ الصريح في حكم ليس
~~من شرطه أن لا يكون مستعملا في غيره، لا مطلقا ولا مقيدا، بل ولا يجب أن
~~يكون نصا فيه، بل إذا كان ظاهرا فيه بحيث يكون هو المفهوم عند الإطلاق فهو
~~صريح فيه، وإن كان محتملا لغيره، وإن كان قد يراد به غيره مع التقييد
~~والقرينة، وحينئذ فإذا كان صريحا في حكم فمعناه أن المفهوم منه عند الإطلاق
~~هو المعنى المقتضي لذلك الحكم. كلفظ التطليق، هو عند الإطلاق يفهم منه
~~إيقاع الطلاق، وإن قيل: إنه صريح في المعنى الموجب للحكم فهو صريح في
~~الإيقاع المقتضي للوقوع، وكذلك إن قيل: هو صريح فيهما. وإذا كان هذا معنى
~~الصريح أمكن أن يكون مستعملا في معنى آخر يريده به المتكلم مع القرينة،
~~وحينئذ فلا يكون صريحا في معنى مانعا عن استعماله في معنى آخر، كسائر
~~الألفاظ التي هي ظاهرة في
# PageV01P389
# معنى وتستعمل في غيره مع القرينة.
# الوجه الثالث أن يقال: عامة الألفاظ الصريحة في معنى وحكم تكون كناية في
~~غيره مع وجود النفاذ، كلفظ التطليق، فإنه صريح في الإيقاع إيقاع الطلاق، ثم
~~إذا قال: أنت طالق من وثاق، أو من زوج كان قبلي، أو من نكاح قبل هذا، ووصله
~~بهذا ms0197 لم يقع بها طلاق، وهذا مما لا أعلم فيه نزاعا، ولو قصد ذلك بقلبه
~~فقال: أنت طالق، ومراده من وثاق، أو من الجبل الذي كنت مقيدة به، أو من زوج
~~قبلي، أو مني قبل هذا النكاح، فإنه لا يقع به الطلاق في الباطن، بل يدين
~~فيما بينه وبين الله. وهل يقبل في الحكم؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد،
~~فاللفظ صريح، ووجد نفاذا، ومع هذا كان كناية في الطلاق من الوثاق.
# وفي حديث فيروز الديلمي (1) لما خيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين
~~زوجتيه، وكان قد جمع بين الأختين، قال: فعمدت إلى إحداهما، فطلقتها.
# أراد بتطليقها إرسالها وتسريحها، وإلا فإحداهما قد حرمت عليه، لا تحتاج
~~إلى طلاق. وهذه الفرقة عند الشافعي وأحمد وغيرهما فسخ لا طلاق، وقد سماها
~~طلاقا.
# وكذلك لو قال في الخلع: هي طالق تالق، كان خلعا موجبا للبينونة، لأنه
~~قيده بالعوض، فتكون فرقة بائنة، كما لو كان بغير لفظ الطلاق في أحد قولي
~~العلماء، كما قد بسط في موضعه. PageV01P390
# وكذلك لفظ الحرية الذي يقولون: إنه صريح في العتق، من نوى به أنه عفيف
~~غير فاجر، لم يقع به العتق، بل يقبل منه، لاسيما عند القرينة، كما لو قيل
~~له: ما حال مملوكك هذا؟ وكيف دينه وخلقه؟
# فقال: هو حر. فهذه القرينة تبين أنه أراد أنه عفيف، لم يرد إعتاقه، فلا
~~يعتق، وإن قيل: هو صريح وقد وجد نفاذا.
# وكذلك لفظ النكاح والتزويج، هما صريح في العقد، ثم إذا قال: أنكحت أو
~~زوجتك فلانة، ومع هذا فهو محتمل للخبر عن عقد ماض. وكذلك سائر صيغ العقود،
~~إذا نوى ذلك كان محتملا، وإن كانت القرينة تدل على ذلك قبل منه.
# وأيضا فلو قيل: زوجتك بهذه، فهو محتمل قرنتك بها، كما في قوله: (أو
~~يزوجهم ذكرانا وإناثا) (1) . وهذا يراد باللفظ مع ما يدل على ذلك، كما لو
~~جمع بين الصغار بين كل صغير وصغيرة في موضع قيل: زوج هذه بهذا وهذه بهذا،
~~أي اقرنها به.
# وقد يقال: أنكحتك فلانة، بمعنى ms0198 مكنتك من سبيها وأخذها، كما قال الشاعر:
# ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال (2)
# وكذلك لفظ الوقف، يراد به تحبيس الأصل، وقد يقال: وقفت هذا، أي وقفته في
~~السوق لأبيعه. وكذلك ألفاظ الإيلاء، إذا قال: والله لا وطئت، فقد يراد: لا
~~وطئتك برجلي، ولو أراد ذلك لم يكن موليا في الباطن، وفي قبوله في الحكم
~~نزاع. PageV01P391
# فعامة الألفاظ الصريحة تكون كناية في معنى آخر، مع كون المحل قابلا لمعنى
~~الصريح. فعلم أن هذه الدعوى باطلة، وإنما ذكرت في الظهار ليفرق بها، وليس
~~هو فرقا صحيحا.
# الوجه الرابع: أنه لو سلم أن الأمر كذلك، فلا ريب أن لفظ الظهار كان في
~~عرفهم يراد به الطلاق، أو يحتمل أن يراد به الطلاق، فكان صريحا في الطلاق
~~أو كناية فيه، والأرجح أنه كان صريحا فيه، فإنه إذا كان ظاهرا أوقعوا به
~~الطلاق، ولم يسألوه عن نيته، فإن مقتضاه تحريم الوطء على التأبيد، والزوجة
~~لا تكون كذلك، وسواء كان صريحا أو كناية فالشارع أبطل إيقاع الطلاق به. وإن
~~قصدوه دون غيره من ألفاظ الصرائح والكنايات، فلابد من فرق بينه وبين غيره
~~لأجله فرق الشارع بينهما، وإلا فلم أبطل وقوع الطلاق بهذا اللفظ دون غيره
~~من الألفاظ المحتملة؟ ولم جعل له حكما آخر غير وقوع الطلاق؟ فذلك المعنى إن
~~كان مختصا بهذا اللفظ، وإلا قيس به ما كان في معناه، ومعلوم أن قوله "أنت
~~علي حرام" في معنى "أنت علي كظهر أمي"، فيجب أن يقاس به.
# فإن قال هؤلاء: نحن نقيس به لفظ التحريم، لأنه في معناه.
# قيل: وإن كان هذا في معناه، فالشارع إنما علل بكونه منكرا من القول
~~وزورا، فيجب أن لا يقع الطلاق بقول منكر ولا بقول زور، وإن كان صاحبه قصد
~~الطلاق. وهذا يقتضي أن لا يقع الطلاق بلفظ محرم. والمطلق في الحيض مطلق
~~بلفظ محرم، وهو منكر من القول، فيجب أن لا يقع به الطلاق، وكذلك المطلق
~~ثلاثا بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقد قد أتى بمنكر ms0199 من القول، فيجب أن لا
~~يقع به، وكلاهما أتى بزور، فإن الزور الكذب، وكلاهما اعتقد أنه يملك
# PageV01P392
# ما أوقعه، وذلك زور وكذب، فلم يملكه الله إلا الطلاق المباح، وأما الحرام
~~فلم يملكه إياه.
# وفي الآية سؤال، وهو أن الله قال: (الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن
~~أمهاتهم) (1) ، كما قال في الآية الأخرى: (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون
~~منهن أمهاتكم) (2) . والمتظاهر ما قال: إن زوجته أمه، لكنه شبهها بها، وهو
~~لم يقل: "ما هن مثل أمهاتهم"، بل قال: "ما هن أمهاتهم".
# فيقال: المتظاهر مقصوده تحريم الوطء، وقوله "أنت علي كظهر أمي" معناه:
~~وطؤك مثل وطء أمي، فمقصوده تشبيه الوطء بالوطء، وأن يكون وطؤها مثل وطء
~~أمه، وذلك يقتضي أن تكون حراما، ووطؤها لا يكون مثل وطء أمه إلا إذا كانت
~~من جنس أمه، وإلا فإذا تباينت الحقائق تباينت أحكامها، فكان موجب قولهم أن
~~تكون الأزواج من جنس الأمهات، كما تكون أم الأب والأم من جنس الأم في
~~التحريم والمحرمية، فبين الله تعالى أن هذا الجنس ما هو هذا الجنس، بل جنس
~~آخر، فقال: (ما هن أمهاتهم) ، وقال (وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن
~~أمهاتكم) ، كما قال (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) (3) . وهم لم يكونوا
~~يقولون: هو مولود منه، بل جعلوه من جنس المولود، فجعلوا حكمه حكم المولود
~~منه الذي هو الابن، فقال تعالى: هذا ما هو من جنس الابن، فلا يكون حاله
~~حاله. PageV01P393
# والمعقول من الكتاب والسنة أنه إذا كان إنما لم يقع به الطلاق لأنه منكر
~~من القول وزور، فكل قول هو منكر أو زور لا يقع به طلاق، والطلاق المحرم
~~منكر من القول، لأنه محرم، وكل محرم منكر، وكونه منكرا يوجب أن لا يترتب
~~أثره عليه.
# وقد يقال: هو زور، لكونه اعتقد أنه يملك إيقاعه، وهو كاذب في هذا
~~الاعتقاد، فإن الله لم يملك أحدا ما هو محرم، فكل قول أو فعل محرم فإن الله
~~نهى عنه، ولم يأذن فيه، ولم يجعل العبد مالكا له.
# والظهار لما كان محرما ms0200 لم يملك أحد أن يظاهر، ولم يبحه، وإذا ظاهر لم
~~يترتب على الظهار موجبه، وهو التحريم الموجب لزوال الملك ووقوع الطلاق، كما
~~كانوا عليه في الجاهلية، بل جعل عليه كفارة إذا اختار بقاء امرأته ووطئها،
~~لكونه حرمها، وهو قد فرض التحلة، وإن اختار أن يفارقها ويطلقها فقد أنشأ
~~طلاقا شرعيا مباحا، وذلك له، ولا كفارة عليه، بل عليه أن يستغفر الله من
~~الظهار، فإنه ذنب.
# والكفارة لا تجب بكل ذنب، كما لو حرم الحلال بيمين أو غير يمين فإنه منهي
~~عن ذلك بقوله: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) (1) ، وقوله: (لم تحرم ما
~~أحل الله لك) (2) ، ومع هذا فلا كفارة عليه إلا إذا عاد فاستحل ما حرمه،
~~دون ما إذا اجتنبه، وذلك أنه إذا اجتنبه وطلق المرأة، ففي هذا من الحرج
~~والضرر عليه ما يشبه جزاء ذلك الذنب، فلابد من التكفير أو اجتناب ما حرمه،
~~وهو في المرأة بطلاقها، PageV01P394
# وكانوا قبل أن يشرع الله الكفارة يتعين اجتناب ما حرموه، لا يباح بكفارة.
# وهذا الذي ذكرناه من أن الكفارة لا تجب إلا إذا عاد، هو قول جمهور
~~المسلمين من السلف والخلف (1) ، وحكي عن طائفة أن الكفارة تجب بمجرد
~~الظهار، حكي ذلك عن مجاهد والثوري. قال الحاكي عنهما: والمراد من العود هو
~~العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار.
# وهذا القول في تفسير العود هو معروف عن ابن قتيبة، فإنه لما أنكر على من
~~قال: إنه لا يقع بلفظ واحد، قال (2) : وإنما تأويل الآية أن أهل الجاهلية
~~كانوا يطلقون بالظهار، فجعل الله حكم الظهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في
~~الجاهلية، وأنزل قوله: (والذين يظاهرون من نسائهم) يريد في الجاهلية (ثم
~~يعودون لما قالوا) في الإسلام، أي يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام.
~~وهذا كما قد قيل في قوله في الصيد: (عفا الله عما سلف) أي في الجاهلية،
~~(ومن عاد) أي في الإسلام (فينتقم الله منه) (3) .
# قلت: وهذا قول ضعيف، فإنه قال: (ثم يعودون لما قالوا) ، فلابد ms0201 من عود بعد
~~الظهار، والعود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية هو نفس الظهار. PageV01P395
# وأيضا فأول ظهار كان في الإسلام أنزل الله فيه هذه الآية، ولم يكونوا بعد
~~قد نهوا عن الظهار حتى يقال: إنه كان عائدا إلى ما نهوا عنه.
# وأيضا فليس من شرط ثبوت الظهار أن يكون قد تظاهر من امرأته في الجاهلية،
~~ولو كان ما ذكروه صحيحا لم يثبت إلا فيمن تظاهر منها في الجاهلية، ثم عاد
~~إلى ذلك في الإسلام. وهذا معلوم البطلان باتفاق المسلمين.
# وأيضا فأوس بن الصامت لم يكن قد تظاهر من امرأته قبل ذلك، ولو كان قد
~~تظاهر منها لكان ذلك طلاقا عندهم.
# وأيضا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسأله هل تظاهرت منها قبل هذا.
# وأيضا هو لم يقل: "والذين تظاهروا منكم" بصيغة الماضي، بل قال:
~~"يظاهرون"، وهذا يتناول الحالف بالاتفاق.
# وقريب من هذا القول قول الشافعي: إنه إذا أمسكها عقب الظهار زمانا يتسع
~~للطلاق ولم يطلقها فيه لزمته الكفارة. والعود عنده هو مجرد إمساكها هذا
~~الزمن اليسير بلا طلاق، فن طلقها عقب الظهار، أو مات أحدهما عقب الظهار،
~~فلا كفارة.
# وهذا القول لم ينقل عن أحد من السلف، وهو ضعيف أيضا، فإنه قال: (ثم
~~يعودون لما قالوا) ، و"ثم" توجب الترتيب، وتقتضي المهلة، فلابد أن يحصل بعد
~~الظهار عود مرتب عليه في زمان متمهل فيه، ولو كان العود لا يكون إلا عقب
~~الظهار لقال: "فيعودون إلى ما قالوا".
# وأيضا فإن العود يقتضي إنشاء فعل أو كلام، ومجرد الإمساك
# PageV01P396
# ترك محض، واستصحاب لحال، وهذا لا يسمى عودا.
# وأيضا فإن الطلاق عقب الظهار قد يكون محرما، لكونه ليس زمن طهر لم
~~يجامعها فيه، بل قد تكون المرأة حائضا، أو موطوءة في الطهر، فلا يحل له
~~طلاقها، ولا له غرض في إمساكها، بل هو يختار طلاقها، لكن الشرع أمره أن
~~يؤخر الطلاق إلى طهر لم يجامعها فيه، فكيف يكون هذا مختارا لها عائدا إلى
~~ما قال؟ مع كمال بغضه وكراهته لها.
# وأيضا فن طلقها ms0202 طلاقا رجعيا فهي زوجه، ترثه ويرثها، وذلك لا ينافي بقاء
~~النكاح، وإن طلقها غير رجعي فذلك منهي عنه، كما دل عليه الكتاب والسنة.
# وأيضا فقد يقف مترددا هل يمسكها أو يفارقها؟ فكيف يجعل عائدا بمجرد ترك
~~الطلاق؟.
# وصاحب هذا القول إنما قاله لما رأى قول من قال هو الوطء أو العزم عليه،
~~فيه إشكال، ورأى أن الظهار اقتضى خروجها من ملكه، فإن طلقها فقد أنفذ
~~موجبه، وإن لم يطلقها فقد ناقض موجب الظهار، فقد عاد إلى ما قال.
# وليس كذلك، فقد يكون في زمن التردد والتطويل يعود أو يطلق، وإنما يكون
~~عائدا إذا أتى بخصيصة النكاح، وهي الوطء.
# والذي عليه عامة السلف والفقهاء أن العود هو الوطء أو العزم عليه، وجمهور
~~السلف قالوا: هو الوطء، كذلك قال طاوس والحسن والزهري وقتادة، وهو قول أحمد
~~وغيره. وقالت طائفة: هو العزم على الوطء، كما يحكى عن أبي حنيفة ومالك
~~وطائفة من أصحاب أحمد.
# PageV01P397
# وسبب النزاع في ذلك أن عليه إخراج الكفارة قبل الوطء بنص القرآن، قال
~~تعالى: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) .
# وأما قول من قال: هو تكرير لفظ الظهار، فهو من أضعف الأقوال أيضا، فإن
~~ذلك مخالف لأصول الشرع، إذ كان القول المحرم تحرم منه المرة الواحدة
~~والمرتان والثلاث، وكلما كرره كان أعظم إثما. والأحكام المعلقة به إنما هي
~~معلقة بجنسه، كالقذف واليمين الغموس وشهادة الزور، وتحريم الحلال بغير
~~الظهار، إما بصيغة قسم وإما بغير ذلك، وكذلك الكفر والردة، وأمثال ذلك
~~الحكم المعلق بهذه معلق بجنسها، وإذا غلظ القول وكرره تغلظ الإثم وتكرر.
~~لكن ليس فيها ما يقال: إنه لا يلزمه بالمرة الواحدة حكم، لكن إن كرره لزمه
~~الحكم، وإنما يقال هذا فيمن لزمه الحكم أولا، أو تاب ورجع، ثم عاد إلى ما
~~نهي عنه، فهذا قد يختلف حكمه، فكذلك ما فعله أولا قبل العلم بالتحريم، أو
~~فعله ناسيا أو مخطئا، فعفي عنه. فهذا قد يقال فيه: إنه إذا عاد لزمه الحكم،
~~لكون العود ليس من جنس الأول، بل الثاني ms0203 فعله عالما عامدا.
# وهذا كما قد اختلف العلماء فيمن تاب من الردة ثم عاد، وهو الذي تكررت
~~ردته، فهذا فيه نزاع (1) ، كما قيل في الصيد: (عفا الله عما سلف ومن عاد
~~فينتقم الله منه) (2) ، فهذا عود بعد العفو، قيل (3) : إنه عفي عما كان في
~~الجاهلية وقبل التحريم، ومن عاد بعد النهي فينتقم الله منه. وقيل: عفا الله
~~عن أول مرة بالجزاء، ومن عاد ثانيا لم يحكم PageV01P398
# عليه وقيل له: ينتقم الله منك.
# وهذا قول ضعيف، والجمهور على أنه يحكم عليه ثانيا وثالثا، ومن قال: لا
~~يحكم عليه ثانيا، قال: لأنه قد تاب من الأول، وعفي عنه بالجزاء. ولم يقل
~~أحد: إن أول مرة لا حكم فيه، كما قيل مثل ذلك في الظهار.
# وأما إذا تكلم المرتد بالكفر مرة أو مرتين أو ثلاثا، فإنه يوجب تغليظ
~~الردة، وهو كالكافر الأصلي، إذا تكلم بالكفر مرة بعد مرة لا يقال: إن الأول
~~لا حكم له، وإنما الحكم إذا كرره.
# وكذلك القاذف إذا قذف مرة بعد مرة، فالقذف الأول موجب للحد، ولكن قد
~~يتنازعون في الثاني هل يدخل في الأول؟ وباب التداخل إذا كان الجميع حقا
~~لله، وهي من جنس واحد دخل بعضها في بعض، كما لو زنى ثم زنى، أو سرق ثم سرق،
~~ولم يعاقب على الأول، فإنه إنما يقام عليه حد واحد، لأن الحد مشروع في جنس
~~هذا الفعل، فقليله وكثيره في الحد سواء جعل الشارع القطع حدا لمن سرق
~~النصاب أو أضعاف النصاب. وكذلك حد الزنا لمن أولج مرة أو مرات.
# وأما الشرب فقد قيل: إنه من هذا الباب، وليس كذلك؛ فإن حده غير مقدر، بل
~~من شرب كثيرا ومرات فإنه يزاد في عقوبته بحسب الاجتهاد. وهذا بناء على أن
~~الأربعين الزائدة على الأربعين يفعلها الإمام تعزيرا بحسب الاجتهاد، كما
~~يقوله الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين (1) . PageV01P399
# فهذه أصول الشرع كلها تبين أن الجنس المحرم لا يسقط حكم المرة، ويغير
~~الحكم في المرتين، فمدعي مثل ذلك في الظهار ادعى على الشارع ما ms0204 هو مخالف
~~لأصوله وقواعده ومقاصده المعروفة.
# وهؤلاء إنما أتوا من لفظ (ثم يعودون لما قالوا) ، ظنوا أن المراد بذلك أن
~~يكرر قوله الأول، وهذا اللفظ لا يستعمل في مثل هذا المعنى، فلا يقال لمن
~~كرر قوله: إنه عاد إلى قوله، إلا إذا اختص الثاني بمعنى يقتضي أنه لا يعود،
~~مثل أن يستتاب من قول ثم يعود إليه، فيقال: عاد إلى قوله؛ لأن التوبة تقتضي
~~رجوعه عنه، فإذا نقضها فقد عاد إلى الذنب. وكذلك إذا نهي عن فعل أو قول ثم
~~فعله وقاله. قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما
~~نهوا عنه) (1) ، وقال تعالى في حق بني إسرائيل: (عسى ربكم أن يرحمكم وإن
~~عدتم عدنا) (2) أي إن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وإن عدتم إلى
~~التوبة عدنا إلى الرحمة. فأما من كرر القول أو الفعل، مثل من يسبح في
~~الصلاة ثلاثا أو أكثر من ذلك، أو يستغفر مرات، فإنه لا يقال في المرة
~~الثانية والثالثة: إنه عاد.
# فهؤلاء غلطوا في فهم القرآن واللغة التي بها نزل القرآن، ولهذا قال
~~الزجاج (3) : هذا قول من لا يدري اللغة. ومثل هذا يقع كثيرا ممن يدعي
~~التمسك بظاهر القرآن والحديث، وقد غلط في ذلك، ليس ما ادعاه هو الظاهر الذي
~~دل عليه اللفظ.
# ولفظ الإعادة والعود حيث استعمل لابد أن يكون بينه وبين الابتداء
~~PageV01P400
# نوع فرق، حتى يتميز المعاد من المبتدأ، فأما إذا كان هو إياه من كل وجه
~~فهذا لا يقال فيه: إنه أعاده، ولا عاد إليه.
# وقد يقال لمن فعل فعلا وقطعه لتعب أو شغل ونحو ذلك: عد إلى ما كنت، وعد
~~إلى حالك، لأن الأول حصل عقبه فتور تميز به عن الثاني، فلو وصل الثاني
~~بالأول لم يقل: إنه عاد. فإذا قال: أنت على كظهر أمي، أنت على كظهر أمي، أو
~~قال: والله لا أطأك، والله لا أطأك، لم يقل: إن قول الثاني عود إلى الأول،
~~بل هو تكرير محض.
# وأيضا فالذي قالوه لو كان صحيحا ms0205 محتملا إنما يجب الجزم به إذا كانت ما
~~مصدرية، أي ثم يعودون إلى قولهم، وليس في الآية ما يوجب ذلك، بل يجوز أن
~~تكون ما موصولة، أي إلى الذي قالوه.
# وهذا أظهر، فإن كونها موصولة أكثر في الكلام، ولفظ العود يستعمل في مثل
~~هذا، كقوله: (ثم يعودون لما نهوا عنه) (1) .
# وهذا منشأ غلط طائفة من الناس في الآية، فإنهم ظنوا أن ما مصدرية، وأن
~~المعنى: ثم يعودون لقولهم، ولم يفهموا معنى كونها موصولة.
# ثم هؤلاء الذين ظنوا أنها مصدرية قالوا أقوالا كلها باطلة، فقال داود ومن
~~وافقه (2) : إن العود تكرير القول. وهذا القول لا يعرف عن أحد قبلهم، وقيل:
~~إنه مروي عن بكير بن الأشج.
# وقال طائفة من أهل العربية ما قاله ابن قتيبة من أن قوله: يتظاهرون في
~~الجاهلية، ثم يعودون إليه في الإسلام. وهو قول فاسد أيضا. PageV01P401
# وقال أبو علي الفارسي قولا ثالثا، قال: ليس الأمر كما ادعاه من قال
~~بتكرير اللفظ، لأن العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه، وقيل: سميت
~~الآخرة معادا، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها.
# وقال الهذلي (1) :
# وعاد الفتى كالطفل ليس بقائل سوى الحق شيئا واستراح العواذل
# وهذا أيضا ضعيف من وجوه:
# أحدها: أن لفظ العود لابد أن يتضمن رجوعا عن شيء أو إلى شيء، فقوله "وعاد
~~الفتى كالطفل"، وقوله:
### | ....
# فعادا بعد أبوالا (2)
# وفي الحديث (3) : "تعاد روحها" هو رجوع عن حال كانوا عليها إلى حال أخرى.
~~فأما الأمر المبتدأ إذا فعله الإنسان فلا يقال: إنه عاد إليه.
# وأيضا فما ذكروه إنما هو في لفظ العود مجردا، فماذا قيل: عاد إلى كذا،
~~ورجع إليه، وعاد فيه، كما قال: (ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون
~~لما نهوا عنه) (4) ، وقال أصحاب الكهف: (إنهم إن يظهروا عليكم PageV01P402
# يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20)) (1) . وقال النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" (2) . فهذا
~~ونحوه إنما يعرف إذا عاد إلى مثل ما كان عليه أولا. والمعاد ms0206 سمي معادا لأن
~~الله يعيد الخلق فيه بالنشأة الثانية، كما قال: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم
~~يعيده) (3) ، وقال:
# (كما بدأنا أول خلق نعيده) (4) ، وقال: (كما بدأكم تعودون (29)) (5) .
# وأيضا فإنهم يعودون إلى ربهم، كما يقال: إنهم يرجعون إليه ويردون إليه،
~~كما قد بسط هذا في غير هذا الموضع.
# وأيضا فهب أن لفظ العود لا يقتضي ذلك، فلابد من تفسير قوله (ثم يعودون
~~لما قالوا) . وأبو علي لم يذكر معنى الكلام.
# وقد قيل فيها قول رابع وخامس على أصل من يقول: إنها مصدرية، قال الزجاج
~~(6) : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا.
# فجعل اللام لام كي، لم يجعلها معدية ليعودون.
# وأضعف منه قول من يقول (7) : هو محمول على التقديم والتأخير، والمعنى:
~~والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون، أي يعودون إلى ما كانوا عليه من
~~الجماع، فتحرير رقبة من أجل ما قالوا. PageV01P403
# وهذا فاسد من وجوه:
# أحدها: أنه لم يقل "فلما قالوا تحرير رقبة" أو "تحرير رقبة لما قالوا"،
~~بل قال: (ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) . ولا يجوز أن يقال: "لما قالوا
~~فتحرير رقبة"، فإن الفاء هي جواب الشرط، والشرط هو ما في الاسم الموصول من
~~معنى الشرط، والاسم الموصول أو النكرة الموصوفة - إذا كان في الصلة أو
~~الصفة معنى الشرط - دخلت الفاء في خبر المبتدأ، كقوله: (الذين ينفقون
~~أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم) (1) ، ومثله قوله:
~~(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (2) ، وقوله: (والذان يأتيانها منكم
~~فآذوهما) (3) . ولو دخلت "إن" على المبتدأ ففيه نزاع، والقرآن قد جاء
~~بالفاء في قوله: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) (4) . فقوله
~~(والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة) (5) بمنزلة
~~قوله: "من تظاهر ثم عاد فعليه تحرير رقبة". ولا يجوز أن يقال: "لما عاد
~~فعليه تحرير رقبة".
# وأيضا فتحرير الرقبة لم يجب لمجرد العود، بل الموجب له الظهار، والعود
~~شرط، أو الموجب مجموعهما، فقولهم: إن الرقية إنما وجبت لأجل العود فقط غلط.
# وقول الزجاج: ثم يعودون إلى إرادة الجماع ms0207 من أجل ما قالوا، PageV01P404
# فاسد أيضا، فإنهم إذا عادوا مع الظهار وجبت الكفارة، وإن لم يعودوا لأجل
~~ما قالوا.
# وأيضا فهم لا يعودون لأجل ما قالوا، بل يعودون لرغبتهم في المرأة لا
~~للقول، بل القوع مانع من العود، فكيف يجعل علة له وداعيا إليه.
# وهذه كلها أقوال من لم يفهم الآية ولا حكم الشرع، بل ظنوا أن "ما"
~~مصدرية، ولم يفهموا المعنى إذا كانت موصولة.
# وفيها قول سادس، وهو أنها مصدرية، لكن المصدر بمعنى المفعول، ذكره
~~المهدوي وغيره.
# والصواب أنها موصولة، كما اتفق على ذلك سلف الأمة وأئمتها، وكما في
~~نظائرها من القرآن، ولبطلان معنى المصدرية، قال تعالى: (ألم تر إلى الذين
~~نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه) (1) ، وقال تعالى: (بل بدا لهم ما
~~كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28)) (2)
~~.
# وقد أطلق العود في قوله (وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين) (3) ، وفي
~~قوله: (وإن تعودوا نعد) (4) ، وفي قوله: (وإن عدتم عدنا) (5) .
# والذي قالوه هو المقول، كما في قوله: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك
~~بيت طائفة منهم غير الذي تقول) (6) ، فإنهم بيتوا غير الذي PageV01P405
# أمرهم به وقالوا فيه طاعة، وهو غير المقول، ليس المراد أنهم بيتوا لفظا
~~غير اللفظ الذي لفظت به، فإن هذا لا يضر إذا كان المعنى موافقا لما قاله.
# وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا
~~عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3)) (1) . فقوله "مالا تفعلون" هو مفعول
~~القول، وهو المقول، وهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناه، فكان
~~إخبارهم عن أنفسهم أنهم إذا علموا الأحب فعلوه، ووعدهم بذلك، والمقول هو
~~فعلهم للأحب، وهو الموعود به المخبر عنه، فلامهم على أن قالوا مقولا هو
~~موعود مخبر به ولم يفعلوه، وكان الفعل نفسه هو المقول، فالمقول هو المخبر
~~عنه إن كان القول خبرا، والمأمور به والمنهي عنه إن كان القول أمرا أو
~~نهيا. فإذا قال: لا أفعل، ثم فعل، فقد عاد لما ms0208 قال، وإذا قال لأفعلن، ولم
~~يفعل، فلم يفعل ما قال. وهذا هو المعنى المفهوم في مثل هذا اللفظ عند عامة
~~الناس الخاصة والعامة، بل وفي سائر اللغات، فإذا قيل: فلان قد حلف أن لا
~~يكلم فلانا، أو قال: لا أكلمه، ثم عاد إلى ما قال، فهموا منه أنه عاد إلى
~~أن يكلمه، لم يفهموا أن ما مصدرية.
# فصل
# ومعنى قوله (ثم يعودون لما قالوا) (2) أي إلى الذي امتنعوا عنه بقولهم،
~~فإن القول إذا كان خبرا فالمقول هو المخبر عنه، وإن كان أمرا فالمقول هو
~~المأمور به، وإن كان نهيا فالمقول هو المنهي عنه. PageV01P406
# والظهار في معنى المنهي، فن مقصود المظاهر أن يحرم عليه امرأته، وينهى
~~نفسه عن اتخاذها زوجة، فلا يطأها، فمقوله هو ما نهى عنه نفسه من اتخاذها
~~زوجة والاستمتاع بها، فإذا عاد إلى ذلك فقد عاد إلى ما نهى عنه نفسه، وهو
~~مقوله، وهذا العود يتضمن رجوعه وندمه، ولفظ العود يدل على ذلك، ولهذا فسر
~~ابن عباس العود بالندم، فقال: يندمون، يرجعون إلى الألفة (1) . قال الفراء
~~(2) : يقال: عاد فلان لما قال، أي فيما قال، وفي بعض ما قال، يعني رجع عما
~~قال. ولهذا قال الشافعي: إذا أمسكها لحظة فقد عاد.
# لكن يقال: مجرد الكف لا يكون عودا، فإنه قد يكون اعتقد أن الظهار حرمها
~~عليه ووقع به الطلاق، فلا يحتاج إلى طلاق ثان، وقد تكون نيته أن يطلقها
~~فيما بعد، أو يطلقها إذا جاء وقت الطلاق المشروع، وقد يكون مترددا هل
~~يطلقها أو يمسكها، فمجرد مرور لحظة لا يوجب أن يقال: إنه عاد.
# وإذا عزم على الوطء فليس له أن يطأ حتى يكفر بنص القرآن واتفاق الناس،
~~لكن لو رجع عن هذا العزم، وبدا له أن يطلقها، أو مات أحدهما قبل الوطء، فقد
~~قيل: إنه تستقر عليه الكفارة، لأنه عاد، والصحيح الذي عليه جمهور السلف أن
~~الكفارة لا تستقر إلا بالوطء، فأما مجرد العزم فلا يوجب شيئا، فإن في
~~الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ms0209: "إن الله تجاوز
~~لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل به". وهذا عازم على العود،
~~ولم يعد بعد، وإنما PageV01P407
# يكون عائدا إذا وطئها. فقوله (ثم يعودون) كقوله (فإذا قرأت القرآن فاستعذ
~~بالله) (1) ، وقوله (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) (2) .
# ومعلوم أن المراد إذا عزمت.
# فصل
# وقال تعالى: (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) (3) ، ولم يقل: "من قبل
~~أن يتماسا" كما ذكر في الإعتاق والصيام، فلهذا تنازع العلماء هل يجب
~~الإطعام قبل التماس كما يجب الإعتاق والصيام، أم يجوز تأخيره؟ على قولين
~~مشهورين (4) ، هما روايتان عن أحمد، والقول بوجوب تقديمه قول الشافعي وأبي
~~حنيفة والأكثرين، والآخر يحكى عن مالك.
# ومن قال ذلك قال: إن الله أطلق الإطعام، ولم يقيده كما قيد الصيام، وهما
~~حكمان مختلفان، فيحمل المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، بخلاف العتق،
~~فإنه حكم واحد.
# وفي العتق أيضا قولان (5) هما روايتان عن أحمد، فالشافعي يشترط الإيمان
~~في رقبة الظهار، وكذلك مالك، وأبو حنيفة لا يشترطه، فصار من الناس من يحمل
~~المطلق على المقيد في الموضعين، ومنهم من يحمله في العتق فقط، لأن الحكم
~~واحد، ومنهم من يحمله في تقديم الكفارة فقط، لأن السبب واحد. PageV01P408
# والمقصود هنا هو التقديم في الكفارات الثلاث، وهو سبحانه لم يقل في
~~الثلاث: "من قبل أن يتماسا"، لأن فيما تقدم بيان له، كما أنه لم يقل في
~~الصيام: "ذلكم توعظون به"، لأن فيما تقدم بيان له، ولكن ذكر التماس في
~~الصيام، ولم يكتف بذكره في العتق، لأن في الصيام يصوم شهرين متتابعين قبل
~~التماس، فيتأخر التماس هذه المدة الطويلة، فلو لم يذكره لظن الظان أنه في
~~العتق وجب التقديم لأن الزمان يسير، يمكنه أن يعتق ثم يطأ تلك الليلة، وأما
~~الصيام فيتأخر الوطء شهرين متتابعين، وفي هذا مشقة عظيمة، فلا يفهم هذا من
~~مجرد تقييده في العتق، فلهذا أعيد ذلك في الصيام. وأما الإطعام فمعلوم أنه
~~دون الإعتاق ودون الصيام، وقد جعل بدلا عنه، فإذا كانت الكفارة المتقدمة
~~الفاضلة يجب عليه أن يقدمها ms0210 على الوطء، والمرأة محرمة قبل التكفير، فلأن
~~تكون الكفارة المؤخرة المفضولة كذلك بطريق الأولى؛ فإن الظهار أوجب تحريمها
~~إلى التكفير بالكفارة المقدمة، فكيف يبيحها قبل التكفير إذا كفر بالكفارة
~~المفضولة المؤخرة؟.
# هذا مما يعلم من تنبيه الخطاب وفحواه أن الشارع لا يشرع مثله، فكان إعادة
~~ذكره مما لا يليق ببلاغة القرآن وفصاحته وحسن بيانه، بل نفس تحريمها قبل
~~صيام الشهرين - وهو الأصل المبدل منه - يوجب تحريمها قبل البدل، وهو
~~الإطعام، بطريق الأولى.
# وتقديم الإطعام على التماس أسهل من تقديم الصيام.
# وهو في الإعتاق قال: (ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير) (1) ، ولم
~~يقل مثل ذلك في الصيام والإطعام، وقد علم أنهما كذلك، PageV01P409
# وأنهم يوعظون بالصيام والإطعام، كما يوعظون بالإعتاق. والوعظ أمر ونهي
~~بترغيب وترهيب، فهم يوعظون بالتحريم قبل التكفير، أي ينهون به ويزجرون به
~~عن الظهار، فإن الظهار محرم بالنص والإجماع، فإذا علم المتظاهر أن المرأة
~~تحرم عليه إلى أن يكفر، كان ذلك مما يعظه، فينهاه ويزجره أن يتظاهر منها.
# وأيضا فإنه قال بعد ذلك: (وتلك حدود الله) (1) ، والحدود هي الفاصلة بين
~~الحلال والحرام، والحد إما آخر الحلال وإما أول الحرام، فلهذا قيل في
~~الأول: (تلك حدود الله فلا تعتدوها) (2) ، وقيل في الثاني: (فلا تقربوها)
~~(3) . وقد قال بعد ذلك: (وتلك حدود الله) ، فعلم أن هنا محرم له حد، وقوله
~~"وتلك" إشارة إلى ما تقدم كله، فلو كانت لا تحرم إلا إذا كانت الكفارة
~~طعاما لم يكن هنا حد، بل كانت حلالا كما كانت، فلم يكن هناك حد ينهى عن
~~تعديه أو قربانه.
# وأيضا فقوله (فإطعام ستين مسكينا) إن كان تقديره: "من قبل أن يتماسا" فقد
~~اتفقت الكفارات، وثبت أنها محرمة قبل التكفير بالأنواع الثلاثة، وإن لم يكن
~~هذا تقديره، بل قوله "فإطعام ستين مسكينا" إيجاب للإطعام، لم يعلم متى يجب
~~الكفارة بالإطعام، فإنه لم يقل: "فإطعام ستين مسكينا بعد التماس".
# فإن قيل: يجب إذا وطئها.
# قيل: ليس في الآية ما يدل على ذلك، ليس فيها ما يدل على أن PageV01P410
# الإطعام ms0211 يجب بعد الوطء لا قبله، بل اللفظ إن كان مطلقا كما زعموه فلا
~~دلالة له، لا على هذا ولا على هذا. وهذا غلط ينزه القرآن عنه وأيضا فقوله
~~(فإطعام ستين مسكينا) اقتضى إيجاب الإطعام، وليس في الآية ما يقتضي تأخير
~~الوجوب إلى بعد التماس، فيبقى الإيجاب يتناول الحالين، ما قبل التماس وما
~~بعده، فهو واجب قبل التماس، فإن لم يفرق الواجب حتى تماسا فعليه إخراجه بعد
~~ذلك.
# وأيضا فقوله (ثم يعودون لما قالوا) مع قوله (فتحرير رقبة من قبل أن
~~يتماسا) دل على أن العود له مبدأ وله منتهى كسائر الأفعال، فمبدؤه إذا عزم
~~عليه، ومنتهاه إذا وطىء. وقوله "ثم يعودون" لم يرد به توقيف الكفارة على
~~تمام العود، فإنه لو أراد ذلك لم تجب الكفارة إلا بعد تمام العود، وهو خلاف
~~قوله "من قبل أن يتماسا". بل أراد به أنه يجب إخراجها بعد الشروع في العود
~~بالعزم عليه، قبل إتمامه بالوطء. وإذا كان هذا هو مقتضى قوله "ثم يعودون"
~~مع قوله "من قبل أن يتماسا"، فهو إنما أوجب التكفير بالإطعام بعد هذا
~~العود، فعلم أنه واجب إذا شرع في العود، وإن لم يحصل تمام العود، وإلا لزم
~~اختلاف معنى العود في الآية.
# وأيضا فالكفارات هي من جنس العبادات، وفيها معنى العقوبات، كما أن الحدود
~~هي عقوبات، وهي أيضا عبادات، ولهذا قال: (ذلكم توعظون به) ، أي تزجرون به،
~~وتنهون به، وتعاقبون به، وقد جعل من تمام العقوبة أن تحرم عليه إلى أن
~~يكفر، فذا قيل: إنها لا تحرم على المكفر بالإطعام زالت العقوبة الواجبة
~~بالتحريم، لاسيما والتكفير.. (1) . PageV01P411
### | بين يدي الكتاب
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين.
# أما بعد، فهذه مجموعة ثانية من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية تحتوي على
~~ثلاثة من أهم آثاره، وهي:
### $ 1- فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد.
### | 2-
# قاعدة في الاستحسان.
### | 3-
# قاعدة في شمول النصوص للأحكام.
# وقد وصلت إلينا الرسالتان الأولى والثانية بخط الشيخ، أما الثالثة فتوجد
~~منها عدة نسخ كاملة ms0212 وناقصة، وسيأتي وصفها جميعا في مواضعها من مقدمات هذه
~~الرسائل.
# ونظرا إلى أهمية الموضوعات التي تناولتها هذه الرسائل عنيت بها عناية
~~خاصة، فقمت بضبطها ومقابلتها على الأصول عدة مرات، والتعليق عليها بما يفيد
~~في التوثيق والتخريج، والربط بين كلام المؤلف هنا وبين ما هو مبثوث في
~~مواضع أخرى من كتبه وفتاواه، والتنبيه على بعض الأخطاء والتحريفات التي
~~وقعت في نسخ الرسالة الثالثة والتي شوهت معالمها، والإشارة إلى ما في أصلي
~~المؤلف للرسالتين من العبارات التي قد تشكل أو تستغرب،
# ومحاولة توجيهها.
# PageV02P005
# وقد قدمت لكل رسالة بمقدمة مستقلة، قصت فيها بتوثيق نسبتها إلى المؤلف،
~~ووصف النسخ الخطية، ودراسة الموضوعات التي تناولتها، وبيان منهج المؤلف
~~فيها. وتوسعت في الحديث عن بعض القضايا وبيان موقف شيخ الإسلام منها، والرد
~~على بعض الشبه التي أثيرت قديما وحديثا.
# وقد طبعت "قاعدة في الاستحسان" من قبل بصورة مفردة، ثم رأيت أن تنشر ضمن
~~هذه المجموعة. وأرجو أنني قد وفقت في تقديم هذه الرسائل التي تضيف الجديد
~~المفيد إلى عالم المطبوعات، والطريف المثير إلى عالم الفكر. وأدعو الله أن
~~يجعلها نافعة للعلماء والطلاب وعامة الناس، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى
~~الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
# محمد عزير شمس
# PageV02P006
### | فتوى
# في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد
# PageV02P007
# مقدمة
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد
# وعلى آله وصحبه أجمعين.
# وبعد، فهذا أثر من آثار شيخ الإسلام ابن تيمية بخطه، ينشر لأول مرة بعد
~~سبعة قرون من كتابته، يتناول فكرة القطب والأبدال والأوتاد، التي شاعت لدى
~~الصوفية وعامة الناس منذ القرن الرابع تحت تأثير بعض الثقافات الوافدة إلى
~~المجتمع الإسلامي، واستنادا إلى بعض الأحاديث الباطلة الموضوعة على النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -، حتى جاء كبير الصوفية وفيلسوفهم في عصره ابن عربي
~~المتوفى سنة 638، فوضع نظاما للأولياء ورجال الغيب، وجعلهم في مراتب
~~ودرجات، وحدد لكل مرتبة عددا معينا منهم، وخصهم ببعض العلوم والصفات
~~والوظائف. وتبعه من جاء بعده من الصوفية، بل زادوا عليه أشياء من خيالاتهم ms0213
~~وأوهامهم، فتحدثوا عن مملكة وهمية يجتمع فيها رجال الغيب ويصدرون قراراتهم،
~~ويقررون كل ما يجري في العالم!!
# لقد كان لهذه الفكرة آثار سيئة في المجتمع الإسلامي، حيث تعلق كثير من
~~الناس بالغوث والقطب والأبدال والأوتاد، وظنوا أن الشدة إذا نزلت بأهل
~~الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره
~~حتى تنفرج تلك النازلة، وادعى
# PageV02P009
# بعضهم أن مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان يكون من جهته،
~~وبواسطته يفيض الخير إلى سائر الخلق، وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء
~~ويصرفهما عمن يشاء، إلى غير ذلك من الدعاوي الباطلة التي تجعل للقطب والغوث
~~نوعا من الألوهية والربوبية، وهي من أعظم الكذب والمحال والشرك والضلال
~~والإلحاد.
# ومن الغريب أن كثيرا من العلماء المتأخرين تأثروا بمقولات الصوفية في هذا
~~الباب، ووافقوهم في الغالب، ونقلوا هذه الخرافات إلى مؤلفاتهم في التفسير
~~والحديث والعقيدة والسيرة والأخلاق والفتاوى والأدب واللغة والتاريخ
~~والتراجم بدون النكير عليها، بل ألف بعضهم رسائل مستقلة لتأييدها.
# ونظرا لخطورة هذه الفكرة وما في شيوعها وانتشارها من ضرر على العامة
~~والخاصة في عقيدتهم، قام بعض العلماء لمناقشتها والرد عليها، وبيان ما فيها
~~من مخالفة للعقل والشرع، ونقد الأحاديث التي يحتج بها الصوفية. وقد كان شيخ
~~الإسلام ابن تيمية أقواهم كلاما في الباب، وأوسعهم ردا على هذه الفكرة، وقد
~~كتب كتابات عديدة في هذا الموضوع يأتي بيانها (ص 39- 49) ، أطولها هذه
~~الفتوى التي أنشرها اليوم.
# وأقدم لهذه الفتوى ببعض الفصول التي تعتبر شرحا لهذه الفكرة عند الصوفية،
~~وبيانا لمصدرها، وأثرها في المجتمع الإسلامي، ودرجة الأحاديث التي يستندون
~~إليها، واستعراضا لمن نقد هذه الفكرة، وإبرازا لموقف شيخ الإسلام منها في
~~ضوء كتاباته،
# PageV02P010
# وتحليلا لمحتويات هذه الفتوى، ووصفا لنسختها الخطية. وما توفيقي إلا
~~بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
# • فكرة القطب والأبدال عند الصوفية
# لم تكن فكرة القطب والأبدال (كما ذكرها الصوفية) موجودة في القرون
~~الثلاثة الأولى، فلا أساس لها في الكتاب والسنة، ولم يذكرها السلف من
~~الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولم يعتقدوها كما ms0214 تعتقد الصوفية. وبعد استعراض
~~مجموعة من المصادر توصلت إلى أن أقدم من ينقل عنه عدد الأولياء ورجال الغيب
~~وذكر مساكنهم هو أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتاني (ت 322) أحد مشايخ
~~الصوفية، فقد قال -كما نقل عنه-: "النقباء ثلاث مائة، والنجباء سبعون،
~~والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء
~~المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في
~~الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر
~~العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد، ثم
~~أجيبوا، وإلا ابتهل الغوث، فلا يتم مسألته حتى تجاب دعوته" (1) .
~~PageV02P011
# أما أبو طالب المكي (ت 386) فيعبر عنها بقوله: "القطب اليوم الذي هو إمام
~~الأثافي الثلاثة والأوتاد السبعة والأبدال الأربعين والسبعين إلى ثلاث مائة
~~كلهم في ميزانه وإيمان جميعهم كإيمانه، إنما هو بدل من أبي بكر رضي الله
~~تعالى عنه، والأثافي الثلاثة بعده إنما هم أبدال الثلاثة الخلفاء بعده،
~~والسبعة هم أبدال السبعة إلى العشرة، ثم الأبدال الثلاث مائة وثلاثة عشر
~~إنما هم أبدال البدريين من الأنصار والمهاجرين" (1) .
# نلاحظ هنا أن أبا طالب ذكر "الأثافي الثلاثة" مكان "العمد الأربعة"،
~~و"الأوتاد" مكان "الأخيار"، والأربعين والسبعين وثلاث مائة جعلهم كلهم
~~"أبدالا"، ولم يقسمهم إلى "بدلاء" و"نجباء" و"نقباء".
# ويأتي الهجويرى (ت465) بعدهما، فيقول: "أهل الحل والعقد وقادة حضرة الحق
~~جل جلاله، فثلاث مائة يدعون الأخيار، وأربعون آخرون يسمون الأبدال، وسبعة
~~آخرون يقال لهم الأبرار، وأربعة يسمون الأوتاد، وثلاثة آخرون يقال لهم
~~النقباء، وواحد يسمى القطب والغوث. وهؤلاء جميعا يعرفون أحدهم الآخر،
~~ويحتاجون في الأمور لإذن بعضهم البعض" (2) .
# وذكر ابن عربي أن المجمع عليه من أهل الطريق أنهم على PageV02P012
# ست طبقات أمهات: أقطاب وأئمة وأوتاد وأبدال ونقباء ونجباء (1) .
# وجعلهم لسان الدين ابن الخطيب سبع طبقات (2) . وأوصلهم داود القيصري (3)
~~وحسن العدوى الحمزاوي (4) إلى عشر. وهكذا نجد أن الصوفية في مختلف العصور
~~زادوا ونقصوا في هذه الألقاب والمراتب، وأسهم كل واحد منهم في وضع هذا ms0215
~~النظام وإقامة أسسه بما لديه من تصورات وخيالات، وبينهم خلاف كبير في تعداد
~~الملقبين بلقب معين.
# • معاني هذه الألقاب
# نأتي الآن إلى معاني هذه الألقاب ووظائف أصحابها وصفاتهم عند الصوفية،
~~وأول من تحدث عنها بتفصيل هو ابن عربي، وتبعه من جاء بعده من المؤلفين في
~~التصوف والمصطلحات الصوفية، وقد جمع عبد الوهاب الشعراني في "اليواقيت
~~والجواهر" (2/79- 83) أقوال ابن عربي من "الفتوحات المكية"، وأقوال غيره من
~~مصادر مختلفة في هذا الموضوع. وسنعرض هنا باختصار بعض ما قالوه بالاعتماد
~~على المصادر القديمة المعتمدة لديهم.
# (1) أما القطب فهو -عند الصوفية- عبارة عن الواحد الذي هو PageV02P013
# موضع نظر الله من العالم في كل زمان، ويقال له "الغوث " (1) باعتبار
~~التجاء الملهوف إليه. أعطاه الله الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون
~~وأعيانه الباطنة سريان الروح في الجسد، بيده قسطاس الفيض الأعم، فهو يفيض
~~روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل، وهو على قلب إسرافيل من حيث حصته
~~الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس، لا من حيث إنسانيته (2) .
# واسم القطب في كل زمان عبد الله وعبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق
~~بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة، وهو مرآة الحق تعالى ومجلى
~~النعوت المقدسة ومحل المظاهر الإلهية وصاحب الوقت وعين الزمان وصاحب علم سر
~~القدر، وله علم دهر الدهور، ومن شأنه أن يكون الغالب عليه الخفاء (3) . ولم
~~يخل زمان من الأقطاب، وقد عد ابن عربي خمسة وعشرين قطبا من عهد آدم عليه
~~السلام إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وسماهم (4) .
# والقطب عند الصوفية نوعان، أحدهما: هو المتمكن في PageV02P014
# القطبية الصغرى أو الحسية، والآخر: هو المتمكن في القطبية الكبرى أو
~~المعنوية، وهو المعبر عنه بباطن نبوة محمد أو الحقيقة المحمدية (1) .
# يقول ابن عربي: القطب الواحد الممد لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب من
~~حيث النشء الإنساني إلى يوم القيامة هو روح محمد - صلى الله عليه وسلم -
~~(2) . وهذه القطبية الثانية هي التي عرفها الجرجاني فقال: "القطبية الكبرى
~~هي مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد، فلا يكون خاتم الولاية وقطب
~~الأقطاب إلا ms0216 على باطن خاتم النبوة" (3) .
# ولمزيد من الشرح ننقل هنا كلام التيجاني حيث قال: "أعلم أن حقيقة
~~القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقا في جميع الوجود جملة وتفصيلا،
~~حيثما كان الرب إلها كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من عليه
~~ألوهية الله تعالى، ثم قيامه بالبرزخية العظمى بين الحق والخلق، فلا يصل
~~إلى الخلق شىء كائنا ما كان من الحق إلا بحكم القطب وتوليه ونيابته عن الحق
~~في ذلك وتوصيله كل قسمة إلى محلها، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة
~~من ذرات الوجود جملة وتفصيلا، فترى الكون كله أشباحا لا حركة لها، وإنما هو
~~الروح القائم فيها جملة PageV02P015
# وتفصيلا" (1) .
# كل من يقرأ هذه التصريحات يقتنع بأن الصوفية يخرجون بالقطب عن نطاق
~~البشرية، ويحلقون به في عالم الربوبية، وقد ذكروا له خمس عشرة علامة (2) ،
~~منها أنه يكشف له عن حقيقة الذات الإلهية، ويحيط علما بصفات الله تعالى،
~~وأن علم القطب لا حدود له، فلا يخفى عليه شيء من الدنيا والآخرة. ويحيط
~~بمعرفة أحكام الشريعة ولو كان أميا (3) ، وهو أكمل الخلق وأفضل جماعة
~~المسلمين في كل عصر (4) ، ولا حدود لمرتبته فهو محيط بجميع المراتب (5) ،
~~ويبصر بجميع أجزاء بدنه ما عدا العين (6) ، ولا يطيق رؤيته إلا الخواص (7)
~~. واشترط بعضهم أن يكون قطب الأقطاب من أهل البيت (8) ، وذكروا أنه يستقر
~~بمكة، وقال آخرون: إنه يدور في الآفاق الأربعة من أركان الدنيا كدوران
~~الفلك في أفق السماء، وهو بجسده حيث شاء من الأرض (9) . ومن وظائفه: التصرف
~~في الكون PageV02P016
# والتأثير في حوادثه والحكم الشامل التام في جميع المملكة الإلهية (1) ،
~~ووقاية المريدين من السؤال والحساب في الآخرة (2) ، ولا يجري في عالم
~~المخلوقات شىء إلا بإذنه حتى ولو كان جريانه في القلوب (3) .
# نكتفي بهذا القدر في بيان القطب وصفاته ووظائفه عند الصوفية، وننتقل إلى
~~المراتب والألقاب الأخرى.
# (2) الإمامان: هما اللذان أحدهما عن يمين القطب، ونظره في عالم الملكوت،
~~وهو مرآة ما يتوجه من المركز القطبي إلى العالم الروحاني من الإمدادات التي
~~هي مادة ms0217 الوجود والبقاء؛ والآخر عن يساره، ونظره في الملك، وهو مرآة ما
~~يتوجه منه إلى المحسوسات من المادة الحيوانية، وهو أعلى من صاحبه، وهو الذي
~~يخلف القطب إذا مات (4) .
# (3) الأوتاد: هم أربعة في كل وقت لا يزيدون ولا ينقصون، منازلهم على
~~منازل الأربعة الأركان من العالم: شرق وغرب PageV02P017
# وشمال وجنوب، مع كل واحد منهم مقام تلك الجهة، يحفظ الله بهم العالم، لهم
~~روحانية إلهية وروحانية إلية، يحوون على علوم جمة كثيرة. ومنهم من هو على
~~قلب آدم، والآخر على قلب إبراهيم، والآخر على قلب عيسى، والآخر على قلب
~~محمد (1) .
# (4) الأبدال أو البدلاء: هم سبعة يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة، لكل بدل
~~إقليم، وإليهم تنظر روحانيات السماوات والأرض (2) .
# وجعل بعض الصوفية السبعة الأبدال خارجين عن الأوتاد، ومنهم من قال: إن
~~الأوتاد الأربعة من الأبدال، وقالوا: سموا أبدالا لكونهم إذا مات واحد منهم
~~كان الآخر بدله، وقيل: سموا أبدالا لأنهم أعطوا من القوة أن يتركوا بدلهم
~~حيث يريدون، لأمر يقوم في نفوسهم على علم منهم، فيرتحلون إلى بلد، ويقيمون
~~في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا منه، بحيث إن كل من رآه
~~لا يشك أنه هو (3) .
# (5) النجباء: هم أربعون، مشغولون بحمل أثقال الخلق (وهي من حيث الجملة كل
~~حادث لا تفيء القوة البشرية بحمله) ، وذلك لاختصاصهم بوفور الشفقة والرحمة
~~الفطرية، فلا يتصرفون إلا في PageV02P018
# حق الغير، إذ لا مزيد لهم في ترقياتهم إلا من هذا الباب (1) . وذكر بعضهم
~~أنهم ثمانية في كل زمن لا يزيدون ولا ينقصون، عليهم أعلام القبول في
~~أحوالهم، ويغلب عليهم الحال بغير اختيارهم، أهل علم الصفات الثمانية،
~~ومقامهم الكرسي، لا يتعدونه ما داموا نجباء، ولهم القدم في علم تسيير
~~الكواكب كشفا واطلاعا، لا من جهة طريقة علماء هذا الشأن (2) .
# (6) النقباء: هم ثلاث مائة، وهم الذين تحققوا بالاسم الباطن، فأشرفوا على
~~بواطن الناس، فاستخرجوا خفايا الضمائر، لانكشاف الستائر لهم عن وجوه
~~السرائر. وهم ثلاثة أقسام: نفوس علوية، وهي الحقائق الأمرية، ونفوس سفلية،
~~وهي الخلقية، ونفوس وسطية، وهي الحقائق ms0218 الإنسانية، وللحق تعالى في كل نفس
~~منها أمانة منطوية على أسرار إلهية وكونية (3) .
# عرضنا فيما سبق- باختصار- بعض ما عثرنا عليه من النصوص التي تبين تعداد
~~رجال الغيب ومراتبهم وألقابهم وصفاتهم ووظائفهم.
# وكل من يطلع عليها يستغرب وجودها في المصادر، ولكن هذا هو الأمر الواقع
~~عند الصوفية، وهذه معتقداتهم التي أعلنوا عنها في PageV02P019
# مؤلفاتهم بشان الأولياء ورجال الغي
### | ب.
# • أحاديث الأبدال
# احتج الصوفية ومن تابعهم لهذه الفكرة بالأحاديث التي ورد فيها ذكر
~~الأبدال، ويلاحظ أنه لم يرد ذكر هذا اللفظ في شيء من الأحاديث في الكتب
~~الستة إلا في حديث واحد عند أبي داود (4286) ، وهو حديث ضعيف لا تقوم به
~~حجة (1) .
# أما الأحاديث الأخرى التي اشتملت على لفظ "الأبدال" خارج الكتب الستة فقد
~~أخرجها بعض المحدثين، مثل: عبد الرزاق في "المصنف" (11/249- 250) ، وأحمد
~~في "المسند" (1/112، 5/322) ، وابن أبي الدنيا في كتاب "الأولياء" (بأرقام
~~8، 57- 59) ، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول " (ص 69- 71) ، والطبراني
~~في "المعجم الكبير" و"الأوسط" (كما في "مجمع الزوائد" 10/63) ، وابن عدي في
~~"الكامل" (في مواضع متفرقة) ، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/8- 9)
~~و"أخبار أصبهان" (1/ 180) ، وأبو محمد الخلال في "كرامات الأولياء"،
~~والبيهقي في "شعب الإيمان" (7/439) ، والديلمي في "الفردوس" (1/154) ، وابن
~~عساكر في "تاريخ دمشق " (1/289-304، 334- 341) وغيرهم. PageV02P020
# وقد أفردها السخاوى وبين عللها في جزء سماه "نظم اللآل في الكلام على
~~الأبدال" (1) ، وجمعها السيوطي في "الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد
~~والنجباء والأبدال" (2) ، ولكنه سردها دون نقدها وبيان ما فيها من العلل.
~~وكان الدافع له على تأليفه إنكار بعضهم ما اشتهر عن الصوفية من أن منهم
~~أبدالا ونقباء ونجباء وأوتادا وأقطابا، فحاول إثبات ذلك بجمع الأحاديث
~~والآثار الواردة في هذا الباب. ولم يفلح السيوطي في إثبات المدعى، فلم يصح
~~من هذه الأحاديث شيء عند المحدثين النقاد، وعلى فرض ثبوت بعضها عند
~~المتساهلين في التصحيح فليس فيها ما يفيد وجود رجال الغيب ومراتبهم وصفاتهم
~~ووظائفهم واجتماعاتهم وقراراتهم حسب ما يتصورها الصوفية.
# وقد أورد السيوطي هذه الأحاديث أو بعضها في مؤلفاته الأخرى، مثل:
~~"اللآلىء المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (2/ 330-332) و ms0219"التعقبات على
~~الموضوعات" (ص 471) و"الدر المنثور" (1/765- 767) و"الجامع الصغير" (3/167-
~~170 بشرح المناوي) ، وادعى صحتها وتواترها. وقلده في إيرادها وتصحيحها من
~~جاء بعده من المؤلفين (3) ، والواقع أنه لا يبقى منها PageV02P021
# شىء يصلح للاحتجاج بعد نقدها على منهج المحدثين، فبعضها أوهى من بعض،
~~ومنها ما هو موضوع، ومنها ما هو شديد الضعف ومنكر، ولذا ضعفها القاضي أبو
~~بكر ابن العربي في "سراج المريدين" (1) ، وحكم عليها ابن الجوزي بالوضع
~~وذكرها في "الموضوعات" (3/150- 152) ، وقال ابن الصلاح في "فتاواه" (ص 53)
~~: "لا يثبت". وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه (2) أن هذه
~~الأسماء الدائرة على ألسنة الصوفية ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي
~~مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا
~~لفظ "الأبدال" فقد روى فيه حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب
~~مرفوعا. PageV02P022
# وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص 136) : "أحاديث الأبدال والأقطاب
~~والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد كلها باطلة على رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -. وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام، فإن فيهم البدلاء، كلما
~~مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر". ذكره أحمد، ولا يصح أيضا، فإنه
~~منقطع".
# وذكر الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص 408- 410) الأحاديث التي أوردها ابن
~~الجوزي، وحكم عليها بالوضع. وذكر في "ميزان الاعتدال" (3/105) حديث أنس
~~منها، وقال: "هذا باطل".
# وأورد ابن كثير بعض هذه الأحاديث في "تفسيره" (1/669- 670) و"تاريخه"
~~(9/213، 214) و"جامع المسانيد والسنن" (19/240- 241، 7/134- 137) ، وقال في
~~الموضع الأخير بشأن حديث عبادة بن الصامت: "فيه نكارة شديدة جدا".
# وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 8) : "حديث الأبدال له طرق عن أنس
~~رضي الله عنه مرفوعا بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة". ثم ذكر بعض الأحاديث وقال
~~(ص9) : "بعضها أشد في الضعف من بعض".
# وبعد أن أورد الأمير الصنعاني بعض هذه الأحاديث في "الإنصاف في حقيقة
~~الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف " (ص 58- 59) قال: "في صحتها عند
~~أئمة الحديث مقال".
# وليس هنا مجال لنقد هذه الأحاديث واحدا واحدا، حتى نعرف صحة هذه الأحكام
~~التي ms0220 أصدرها النقاد، ويمكن مراجعة تعليقات العلامة عبد الرحمن بن يحيى
~~المعلمي على "الفوائد المجموعة"
# PageV02P023
# للشوكاني (ص 245- 249) ، وكلام الشيخ الألباني في "سلسلة الأحاديث
~~الضعيفة" (بأرقام 935- 936، 1474- 1479، 2498) ففيهما غنية لمن أراد الوصول
~~إلى الحق والصواب. وفي مجلة "المنار" المجلد 11 (1908) ص 50- 56 نقد لحديث
~~ابن مسعود الذي يستند إليه الصوفية، بقلم السيد محمد رشيد رضا.
# وأود أن أقف هنا مع كلام للمناوي في "فيض القدير" (3/ 170) يشتمل على
~~القدح في شيخ الإسلام ابن تيمية ورميه بالتهور والمجازفة في الحكم على هذه
~~الأحاديث، وبالعناد والتعصب لكونه لم يقوها بكثرة الطرق وتعدد المخرجين.
~~قال المناوي: "زعم ابن تيمية أنه لم يرد لفظ الأبدال في خبر صحيح ولا ضعيف
~~إلا في خبر منقطع، فقد أبانت هذه الدعوى عن تهوره ومجازفته، وليته نفى
~~الرواية، بل نفى الوجود، وكذب من ادعى الورود".
# لم ينقل المناوي كلام شيخ الإسلام بنصه، بل تصرف فيه، ونصه كما في
~~"مجموعة الرسائل والمسائل" (1/48) (1) : "فهذه الأسماء [أي الغوث والأوتاد
~~والأقطاب والأبدال والنجباء] ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي أيضا مأثورة
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل، إلا لفظ
~~الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب
~~مرفوعا". PageV02P024
# فانظر كيف حرف المناوي هذا الكلام، اختار لفظ "الأبدال" بدلا من "هذه
~~الأسماء" التي تشير إلى الألفاظ الخمسة، وحذف لفظ "محتمل" بعد "ضعيف"،
~~ليوهم أن شيخ الإسلام ينفي ورود هذه الألفاظ بإسناد ضعيف مهما كان ضعفه.
~~والذي يتأمل كلام الشيخ يفهم منه بوضوح أنه ينكر ورود الألفاظ المذكورة
~~بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل، ولا ينكر أن يرد شىء منها في حديث موضوع أو
~~ضعيف غير محتمل. وكل ما ذكره السيوطي وغيره من هذا القبيل، فورود مثل هذا
~~لا ينقض قول شيخ الإسلام، بل هو أدرى بمثل هذه الأحاديث الواهية من غيره.
# واستدراكه فيما بعد بقوله "إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي
~~منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعا"- لأنه أحسن ما ورد في الباب، وقد ms0221
~~رواه الإمام أحمد في "مسنده" (1/ 112) ، فاستحق التنويه. ومع ذلك فهو منقطع
~~الإسناد. قال ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/289) : "هذا منقطع بين شريح [بن
~~عبيد] وعلي، فإنه لم يلقه". وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على
~~"المسند" (2/171) : "إسناده ضعيف لانقطاعه، شريح بن عبيد الحمصي لم يدرك
~~عليا، بل لم يدرك إلا بعض متأخري الوفاة من الصحابة".
# أما قول الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/62) : "رواه أحمد، ورجاله رجال
~~الصحيح غير شريح بن عبيد، وهو ثقة، وقد سمع من المقداد، وهو أقدم من علي"-
~~فقد وهم فيه اغترارا بما
# PageV02P025
# ذكره المزي في ترجمة شريح، وقد تعقبه الحافظ ابن حجر. فالصواب أنه لم يلق
~~عليا، والحديث منقطع الإسناد كما قال شيخ الإسلام.
# وقد اكتفى بذكر هذا الحديث كنموذج، لأنه أحسن ما ورد في الباب، ومع ذلك
~~فهو منقطع، أما الأحاديث الأخرى فنكارتها واضحة وبطلانها ظاهر، ولذا لم يشر
~~إليها، مع أن حديث عبادة بن الصامت منها أخرجه أيضا أحمد في "مسنده"
~~(5/322) وقال عقب روايته: "هو منكر"، فلم يستحق التنويه مثل غيره من
~~الأحاديث الواهية في المصادر الأخرى.
# بهذا التفصيل يظهر لنا جليا مقصود شيخ الإسلام من نفي ورود هذه الألفاظ
~~"بإسناد صحيح أو ضعيف محتمل"، والغرض من استدراك لفظ "الأبدال" والإشارة
~~إلى وروده في حديث شامي منقطع. فنسبة المناوي إلى الشيخ أنه ينكر ورود لفظ
~~"الأبدال" في خبر صحيح أو ضعيف إلا في خبر منقطع- غلط، ورميه بالتهور
~~والمجازفة يدل على عدم فهمه للمقصود، فلم ينف الشيخ ورود لفظ "الأبدال"
~~بإسناد ضعيف غير محتمل، ولم يكذب من ادعى ذلك، وكل ما ورد في هذا الباب لا
~~يبطل ما قاله.
# أما قول المناوي: "وهذه الأخبار وإن فرض ضعفها جميعها، لكن لا ينكر تقوي
~~الحديث الضعيف بكثرة طرقه وتعدد مخرجيه إلا جاهل بالصناعة الحديثية أو
~~معاند متعصب"- فهو خطأ وقع فيه كثير من العلماء المتأخرين حيث أطلقوا أن
~~الحديث الضعيف إذا
# PageV02P026
# جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان
~~ضعف ms0222 الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب، ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع
~~ازداد ضعفا إلى ضعف، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم
~~بحيث لا يرويه غيرهم يرفع الثقة بحديثهم، ويؤيد ضعف روايتهم (1) . وعلى هذا
~~فمن قوى أحاديث الأبدال التي انفرد بروايتها المتهمون بالكذب والمتروكون
~~ونحوهم يكون على الجادة أم من ينكر تقويتها؟
# • مصدر هذه الفكرة
# رأينا فيما سبق أن الأحاديث التي يستند إليها الصوفية كلها موضوعة
~~وواهية، ثم إنها لا تساعدهم على صياغة فكرة "القطب" الذي يرأس رجال الغيب
~~في نظرهم، فلا ذكر لهذا اللفظ في شيء من الأحاديث والآثار. ولذا يرى أكثر
~~الباحثين أنها فكرة دخيلة استمدها الصوفية من غيرهم، واختلفوا في تحديد
~~المصدر، فذكر بعضهم أن مفهوم "القطب" بوصفه المبدأ الفعال (أو الباطن) (2)
~~لكل إلهام شبيه بالعقل "النوس" في الأفلاطونية الحديثة، ويشبه عقيدة
~~الإسماعيلية القائلة بتجسيد العقل الأول (الإمام) في الناطق (3) .
~~PageV02P027
# وهناك باحثون آخرون التفتوا إلى التشابه القائم بين مفهوم الشيعة عن
~~"الإمام" بوصفه تجليا للكلمة الإلهية ومفهوم "القطب" الأكبر عند الصوفية،
~~والتقاء أحدهما بالآخر (1) . كما لاحظ باحثون عديدون ذلك التوازي بين
~~التدرج الرئاسي للقائمين على الدعوة الإسماعيلية والتدرج الرئاسي في التصوف
~~برئاسة القطب، وقرروا أنه مستمد من الإسماعيلية (2) . وقد صرح بعض علماء
~~الشيعة أن القطب والإمام مصطلحان معناهما واحد، وينطبقان على شخص واحد (3)
~~. وأكد المستشرق هنري كوربان في عدد من بحوثه ودراساته أن فكرة القطب هذه
~~انتقلت إلى التصوف من الشيعة، وأنها فارسية الأصل (4) .
# ويرى أحمد أمين (5) أن الصوفية اتصلت بالتشيع اتصالا وثيقا، وأخذت فيما
~~أخذت عنه فكرة المهدي، وصاغتها صياغة جديدة وسمته "قطبا"، وكونت مملكة من
~~الأرواح على نمط مملكة PageV02P028
# الأشباح، وعلى رأس هذه المملكة الروحية القطب، وهو نظير الإمام أو المهدي
~~في التشيع.
# وقد سبق هؤلاء الباحثين بعض العلماء القدامى، فأدركوا التشابه بين القطب
~~عند الصوفية وبين الإمام المنتظر عند الشيعة وبين الباب عند النصيرية، منهم
~~شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وغيرهما. وسيأتي ذكر موقفهما فيما بعد إن
~~شاء الله ms0223. ومما يؤكد أن هذه الفكرة مأخوذة من الشيعة أن أحد علماء الشيعة
~~حيدر ابن علي الآملي (ت بعد 782) قرر في كتابه " نص النصوص" (1) جميع ما
~~عند الصوفية بشأن رجال الغيب وأولياء الله، وذكر أن "القطبية الكبرى هي
~~مرتبة قطب الأقطاب، وهو باطن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون
~~إلا لورثته، لاختصاصه عليه السلام بالأكملية، فلا يكون خاتم الولاية وقطب
~~الأقطاب إلا على باطن ختم النبوة".
# بعد هذا العرض الموجز لآراء بعض الباحثين المحدثين والعلماء القدامى نصل
~~إلى أن فكرة "القطب" فكرة دخيلة عند الصوفية، انتقلت إليهم من الشيعة
~~القائلين بالإمام المنتظر، ومن الإسماعيلية الذين جعلوا رجالهم في مراتب
~~ودرجات. وقد كان الصوفية القدامى إلى منتصف القرن الرابع بعيدين عنها، ثم
~~تسربت إليهم وتحكمت فيهم بعد اتصالهم بالشيعة ومخالطتهم لهم في بلاد العجم.
~~وتطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى نظرية "الديوان الباطني" PageV02P029
# الذي يجتمع فيه رجال الغيب برئاسة القطب، ويديرون شئون العالم المرئي
~~وغير المرئي (1) . ولا تزال هذه النظرية عند الصوفية مسلمة إلى يومنا هذا
~~(2) .
# • أثرها في المجتمع الإسلامي
# لقد كان لنظرية القطب والأبدال هذه آثار خطيرة في المجتمع الإسلامي من
~~نواع عديدة، أهمها في مجال العقيدة، فقد قرر الصوفية أن للأولياء القدرة
~~النافذة على التصرف المقيد والمطلق في شئون العالم العلوي والسفلي، فأربعة
~~منهم يمسكون العالم من جوانبه الأربعة (هم الأوتاد) ، وسبعة آخرون كل واحد
~~منهم مشرف على قارة من قارات الأرض السبع (هم الأبدال) ، وفوقهم جميعا ولي
~~واحد هو موضع نظر الله (يسمى القطب أو الغوث) ، وهو الذي يدبر شأن الملك،
~~ومن جهته يكون مدد أهل الأرض بل الملائكة والطير والحيتان، وبواسطته يفيض
~~الخير إلى سائر الخلق. وإذا نزلت الشدة بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى
~~حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة.
~~PageV02P030
# هذه الأمور وغيرها مما ذكرها الصوفية (والتي تحدثنا عنها فيما مضى مع ذكر
~~النصوص من المصادر المعتمدة لديهم) لا يخفى ما في الاعتقاد بها من خطورة
~~على عقيدة التوحيد ms0224، فهي محاولة خبيثة لتجريد الإله الحق سبحانه وتعالى من
~~اختصاصاته التي لا يشاركه فيها مخلوق، وجعلها مشاعا بين الخالق والمخلوق
~~على حد سواء، وهذا هو الشرك في الربوبية -والعياذ بالله-، وهو أقبح أنواع
~~الشرك، فقد كان المشركون القدامى على علم بربوبية الله وخصوصيته في الخلق
~~والرزق والملك والتدبير والإحياء والإماتة وغيرها من أمور الربوبية كما حكى
~~عنهم القرآن. فالذي يعتقد ذلك في الأولياء هو أجهل من أولئك المشركين وأضل.
# وبهذا نعرف ما نتج عن فكرة القطب هذه من مخاطر جسيمة في باب العقيدة لدى
~~عامة الناس، الذين تعلقوا بها واعتقدوها ونشأوا عليها في البيئات الصوفية،
~~ولقنوها منذ الصغر. ولا زلنا نرى في البلاد الإسلامية من ينادي "الغوث"
~~للمدد، ويعتقد في الأولياء بما لا يجوز اعتقاده إلا في الله، فإنا لله وإنا
~~إليه راجعون.
# وكان من آثارها السيئة على العلماء أن كثيرا منهم نقلوا مقالات الصوفية
~~في هذا الباب، وأدرجوها في مؤلفاتهم دون نقد أو تعقيب، وقد تسربت هذه
~~الفكرة إلى كتب التفسير وشروح الحديث، والفقه والفتاوى، والسيرة والأخلاق،
~~والتاريخ والتراجم، والأدب واللغة وغيرها، ويطول بنا القول لو ذكرنا جميع
~~النصوص في المصادر التي رجعنا إليها، ولذا نقتصر على
# PageV02P031
# الإشارة إلى بعضها تاركين التفصيل لموضع آخر.
# لقد كانت كتب التفسير إلى القرن السادس خالية من الإشارة إلى فكرة
~~الأبدال، فلا نجد لها ذكرا عند الطبري والبغوي وابن عطية وابن الجوزي
~~وغيرهم في تفاسيرهم، حتى جاء القرطبي في القرن السابع فنقل في تفسيره (1)
~~عن بعض العلماء في تفسير قول الله تعالى (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
~~لفسدت الأرض) أن المدفوع بهم الفساد هم الأبدال! ثم ذكر بعض ما ورد من
~~الأحاديث والآثار الضعيفة والموضوعة، وسكت عنها.
# وجاء بعده السيوطي، فسرد هذه الروايات في تفسيره (2) دون نقد وتمحيص،
~~ففتح المجال لغيره من المفسرين أن يوردوها، ويفسروا بعض الآيات القرآنية
~~بها، ويتكلموا على القطب والأبدال وغيرهما بأدنى مناسبة (3) .
# ولم يكن قد اشتهر عند شراح الحديث والمشتغلين به إلى زمن الحافظ ابن حجر
~~الكلام ms0225 على القطب والأبدال ومراتب رجال الغيب كما هي عند الصوفية -وإن وجد
~~عند أبي جمرة في "بهجة النفوس" شي من ذلك-؛ بل كانوا يقتصرون على رواية
~~الأحاديث الواردة في هذا الباب بأسانيدها ليبرءوا من عهدتها، أو نقدها
~~وتضعيفها وبيان عللها. وجاء المتأخرون فسردوا هذه الروايات دون نقدها
~~PageV02P032
# وتمحيصها، وادعوا صحتها وتواترها، وتلقوها بالقبول، ثم تكلموا على شرحها
~~وبيان معانيها بالاستناد إلى أقوال الصوفية، ويكفي أن نذكر هنا كمثال:
~~المناوي (1) وملا علي القاري (2) ، اللذين قررا ما قاله الصوفية، ونقلا
~~عنهم نصوصا غريبة في أثناء شرح الحديث دون استنكار أو تعليق.
# أما كتب الفقه والفتاوى فنذكر منها نص فتوى الشيخ زكريا الأنصاري (الملقب
~~بشيخ الإسلام لدى الشافعية) ، لما سئل عن شخص ادعى أن القطب ليس له وجود في
~~زمن من الأزمنة، ولا ثم شيء في الوجود يقال له القطب، هل هذه الدعوى صحيحة
~~أو لا؟ فأجاب بأن القطب موجود في كل زمان، كلما مات قطب أقام الله مقامه
~~آخر، نفعنا الله ببركتهم. وهذا أمر مشهور، والمنكر لذلك محروم من بركة
~~الأقطاب، معترف بأن منة الله بلقائهم لم تواجهه. وليته إذا فاته الوصول
~~إليها لا يفوته الإيمان بها (3) .
# هذا نص كلامه الذي يقرر فيه وجود القطب في كل زمان، وأن منكره محروم من
~~بركته، وعليه أن لا يفوت الإيمان به إن لم يقدر له الوصول إليه!!
# وذكر ابن حجر الهيتمي (4) أنه كان في مجلس الشيخ محمد PageV02P033
# الجويني يوما، فانجر الكلام إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال
~~وغيرهم، فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة، وقال: هذا كله لا حقيقة له، وليس
~~فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له الهيتمي: "معاذ الله! بل
~~هذا صدق وحق لا مرية فيه، لأن أولياء الله أخبروا به، وحاشاهم من الكذب،
~~وممن نقل ذلك الإمام اليافعي، وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة"،
~~فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه عليه. ثم ذهبا إلى الشيخ زكريا الأنصاري الذي
~~عاتب الجويني عليه، فآمن الجويني بذلك وصدق به وأقر بثبوته!! هذا ms0226 نموذج مما
~~كان يجري بين الفقهاء في هذا الموضوع، فلا يسع المنكر إنكار ذلك، ويضطر إلى
~~الإيمان به والتصديق به والإقرار بثبوته إذا أراد أن يعيش بينهم. وعلى هذا
~~فلا نستغرب أن يدخل بعض المؤلفين هذا الموضوع في كتب العقيدة، كما فعل
~~إبراهيم اللقاني في "عمدة المريد لجوهرة التوحيد"، ويتكلم عنه المؤلفون في
~~السيرة النبوية ويعتبروا وجود الأقطاب والأبدال من خصائص الأمة المحمدية،
~~كما فعل القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/430- 431) ، والحلبي في "السيرة
~~الحلبية"، وابن التلمساني في "حواشي الشفا"، والزرقاني في "شرح المواهب
~~اللدنية" (5/396- 401) وغيرهم.
# بهذا العرض الموجز نستطيع أن نقدر كم تكدرت ينابيع الثقافة الإسلامية
~~بهذه الفكرة الخرافية التي لا أساس لها من الكتاب والسنة، ولم يقل بها أحد
~~من سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأتباعهم.
# PageV02P034
# • الذين نقدوا هذه الفكرة
# نظرا لخطورتها على العقيدة وما في شيوعها من آثار سيئة على المجتمع،
~~انتقدها بعض العلماء وذكروا أنها من مخترعات الصوفية وأباطيلهم. ومن أوائل
~~من رد عليها وبين ضلال القائلين بها القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي،
~~فقد تكلم عليها في كتابه "سراج المريدين " الذي ألفه في التصوف (1) . ومنهم
~~من اقتصر على نقد الأحاديث الواردة في الأبدال، والحكم عليها بالوضع
~~والبطلان، وقصد بذلك هدم الفكرة من أساسها، وبيان أنه لا مستند لها في
~~الكتاب والسنة، وهذا ما فعله ابن الجوزي وغيره من العلماء الذين سبق ذكرهم
~~فيما مضى عند الكلام على أحاديث الأبدال، فلا نعيده هنا.
# وسئل ابن الصلاح: هل ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "على كل
~~قدم نبي من الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- ولى من أولياء الله تعالى"؟
~~وأن القطب على قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وأن في الأرض سبعة
~~أوتاد وأبدال ونجباء ونقباء؟ كلما مات رجل أقام الله عز وجل PageV02P035
# عوضه رجلا، ولا تزال الوراثة دائمة في علم الباطن وفي علم الظاهر إلى
~~قيام الساعة. الأمر على مما ذكر أم لا؟
# فأجاب: لا يثبت هذا الحديث، وأما الأبدال فأقوى ما رويناه فيهم قول علي ms0227
~~رضي الله عنه إنه بالشام الأبدال، وأيضا فإثباتهم كالمجمع عليه بين علماء
~~المسلمين وصلحائهم. وأما الأوتاد والنجباء والنقباء فقد ذكرهم بعض مشايخ
~~الطريقة، ولا يثبت ذلك. ولا تزال طائفة من الأمة ظاهرة على الحق إلى أن
~~تقوم الساعة، وهم العلماء (1) .
# وللعز بن عبد السلام رسالة في إبطال قول الناس أن قطب الأقطاب والأبدال
~~لهم تصرف، بين فيها بطلان قول الناس فيهم، ورد على من يقول بوجودهم، وأقام
~~النكير على قولهم "بهم يحفظ الله الأرض" (2) . وقد وصلت إلينا نسختان من
~~هذه الرسالة: إحداهما في مكتبة الأوقاف ببغداد برقم [2/9683 مجاميع] في
~~ثماني ورقات؛ والأخرى في معهد الاستشراق في ليننغراد في ست ورقات (3) .
~~PageV02P036
# جاء بعدهم شيخ الإسلام ابن تيمية فكتب كتابات عديدة في هذا الموضوع،
~~وناقش الصوفية في القطب والأبدال والأوتاد وغيرها من الألفاظ، وبين ما ورد
~~منها على لسان السلف ومعانيها عندهم، وأبطل الأحاديث الواردة في هذا الباب،
~~وفصل الكلام على مخالفة هذه النظرية للدين والعقل. وسنعرض آراءه في هذا
~~الموضوع في الفصل القادم إن شاء الله.
# وممن تأثر بشيخ الإسلام تلميذه ابن القيم الذي حكم على أحاديث الأبدال
~~والأوتاد بأنها باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . واختصر
~~مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه (2) فتوى لشيخ الإسلام، وظن أن السيوطي لم
~~يطلع على كلام الشيخ، لأنه لم يتعرض لذكره، ولا لرد ما احتج به مما لا يمكن
~~رده. وأرى أن السيوطي وقف على كلام الشيخ، ولكن تجاهله لأنه لم يقدر على
~~مناقشته، فأحب السكوت عنه. وقد صرح المناوي في شرح كتابه "الجامع الصغير"
~~(3) أن المؤلف (السيوطي) خالف عادته هنا باستيعاب طرق حديث الأبدال إشارة
~~إلى بطلان قول ابن تيمية.
# وانتهج الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي (4) نهج شيخ الإسلام في PageV02P037
# الرد على من يدعي أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل
~~الكرامة، وأن منهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين
~~وأربعة، والقطب هو الغوث للناس. فقال: "هذا الكلام فيه تفريط وإفراط، بل
~~فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما ms0228 فيه من روائح الشرك المحقق،
~~ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه
~~الأمة".
# ثم أطال في مناقشته هذه الدعاوي، وقال في آخر البحث: إنها من موضوعات
~~إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في "سراج المريدين" وابن الجوزي
~~وابن تيمية.
# أما ابن خلدون (1) فيكشف عن صلة هذه النظرية بما عند الإسماعيلية
~~والشيعة، فيقول: "كان سلفهم (أي الصوفية) مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من
~~الرافضة، الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبا لم يعرف لأولهم، فأشرب
~~كل واحد من الفريقين مذهب الآخر، واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم، وظهر في
~~كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن
~~يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل
~~العرفان. وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب "الإشارات" في فصول التصوف
~~منها، فقال: "جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا واحد
~~بعد PageV02P038
# الواحد"، وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من
~~أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به. ثم قالوا بترتيب
~~وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء".
# هذه آراء بعض العلماء القدامى ونتف من انتقاداتهم، تؤكد أن هذه النظرية
~~أجنبية عن الفكر الإسلامي الأصيل، تسربت إلى الصوفية من غيرهم وتحكمت فيهم
~~عبر القرون.
# • موقف شيخ الإسلام منها
# لم يناقش فكرة القطب والأبدال أحد مثلما ناقشها شيخ الإسلام ابن تيمية،
~~فله كتابات عديدة في هذا الباب، كتبها ردا على بعض الأسئلة التي وجهت إليه،
~~أو تناولها عرضا في بعض كتبه. وأكثرها تفصيلا واستيعابا هذه الفتوى التي
~~بين أيدينا والتي وصلت إلينا بخطه، وفتوى أخرى (مخطوطة) لم تنشر بعد (1) ،
~~وفتوى ضمن السؤال عن أهل الصفة (2) ، وفتوى ضمن السؤال عن زيارة القبور (3)
~~، وتكلم عليها عرضا في بعض PageV02P039
# مؤلفاته (1) وفتاواه (2) . وفيما يلي استعراض لأهم الجوانب التي تناولها
~~شيخ الإسلام بالبحث، ودراسة لموقفه منها، في ضوء هذه الفتوى والكتابات
~~الأخرى التي سبق ذكرها ms0229.
# ذكر شيخ الإسلام دعوى الصوفية أن في الأرض ثلاث مائة وبضعة عشر هم
~~"النجباء"، وسبعين هم "النقباء"، وأربعين هم "الأبدال "، وسبعة هم
~~"الأقطاب" على عدد الأقاليم السبعة، وأربعة هم "الأوتاد" كالأوتاد التي
~~يذكرها المنجمون، وواحدا هو "الغوث"، وأنه مقيم بمكة، وأن أهل الأرض إذا
~~نابتهم نائبة فزعوا إلى الثلاث مائة وبضعة عشر، وأولئك إلى السبعين،
~~والسبعون إلى الأربعين، وهكذا يرفعها الأدنى إلى الأعلى حتى ينتهي الأمر
~~إلى "الغوث"، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. وأن "الغوث" يطلع على
~~أسرار قلوب العباد، علمه ينطبق على علم الله.
# ويزعمون أنه على قدم كل نبي من الأنبياء وليان: ولي ظاهر وولي
~~PageV02P040
# باطن. ويقولون: إن هؤلاء الأولياء يستسقى بهم الغيث وتنزل الرحمة ويكشف
~~العذاب، وإذا غضب الله على أحد من أهل الأرض وأراد أن ينزل غضبه نظر إلى
~~قلوب هؤلاء، فإن وجدهم راضين بذلك أنزل عذابه، وإلا رفعه. ويدعون أن مدد
~~الخلائق في نصرهم ورزقهم يكون بواسطة الغوث، بل إن مدد الملائكة في السماء
~~والطير في الهواء والحيتان في البحر أيضا بواسطته، وهو يعطي الملك والولاية
~~لمن يشاء، ويصرف عمن يشاء.
# ثم بدأ يناقشهم، فذكر أن هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها في
~~الكتاب والسنة، ولا قول أحد من الصحابة والتابعين ولا أئمة المسلمين
~~وشيوخهم. وهذه الأعداد والمراتب والصفات والأسماء ذكرها بعض المتأخرين من
~~الصوفية، وقد زادوا فيها ونقصوا، ولهم أقوال مختلفة في هذا الباب، وقد ادعى
~~بعضهم أنه ينزل كل عام على الكعبة ورقة مكتوب فيها اسم غوث ذلك العام
~~وخضره، وان لكل زمان خضرا، وأنه نقيب الأولياء، وأنه مرتبة محفوظة لا شخص
~~معين، ونحو هذه الدعاوي التي يعلم كل عاقل بطلانها وضلال معتقدها.
# وهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله، ولا هي مأثورة
# عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل. وقد روي في
~~"الأبدال" حديث عن علي بن أبي طالب مرفوعا، ولكنه بإسناد منقطع، فهو من
~~رواية بعض الشيوخ الشاميين عن علي، ولم يسمعه منه ms0230.
# PageV02P041
# وقد بحث شيخ الإسلام عن معاني هذه الألفاظ والأسماء في اللغة والشرع،
~~وذكر أن ما ورد منها على لسان بعض السلف ليس على الوجه الذي يتصوره
~~الصوفية، بل بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين.
# أما "الغوث" فلا أصل له في كلام أحد من السلف، ولم يعرف عن أحد منهم أنه
~~قال: فلان غوث هذه الأمة، أو أن للأمة غوثا بمكة ونحوه، فهذا من محدثات
~~الصوفية ومخترعاتهم. ولا يستحق هذا الوصف إلا الله سبحانه وتعالى.
# ولفظ "النقباء" ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله تعالى في
~~قوله: (* ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) .
~~وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار اثني عشر نقيبا على عدد نقباء
~~موسى. وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يعرفون العرفاء وينقبون النقباء،
~~ليعرفوهم بأخبار الناس وينقبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في
~~الكتاب والسنة، وإطلاق هذا اللفظ على أولياء الله ليس له أصل في كلام
~~السلف.
# أما لفظ "الأبدال" فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف، فروي عن الشافعي
~~في بعضهم: كنا نعده من الأبدال، وقال البخاري في رجل: كانوا لا يشكون أنه
~~من الأبدال، وقال يزيد بن هارون: الأبدال 0هم أهل العلم، وقال أحمد: إن لم
~~يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. وكذا وصف غير هؤلاء من النقاد والحفاظ
~~والأئمة غير واحد بانه من الأبدال. وكان المقصود
# PageV02P042
# منه أنهم أبدال عن الأنبياء وخلفاء لهم وورثتهم، يخلفونهم في سننهم،
~~ويحملون الأمة على طريقهم. وقد جاء في حديث وصف الذين يحبون السنة
~~ويعلمونها الناس بأنهم خلفاء النبي، وفي حديث آخر أن "العلماء ورثة
~~الأنبياء". والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن نال بعض
~~ما بعثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في بعض الأمر
~~كان بدلا منهم في ذلك. ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءهم للخلق، وما
~~يحصل بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامهم في بعض ذلك كان
~~بدلا ms0231 منهم في ذلك البعض.
# ومن زعم من الصوفية أن البدل إذا غاب عن مكانه أبدل بصورة على مثاله،
~~ولذا سموا أبدالا، فهذا باطل، ولم يكن السلف يعنون به هذا المعنى.
# أما اسم "القطب" فهو مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه الرحى، فالشخص
~~الذي يدور عليه أمر من الأمور فهو قطب ذلك الأمر، وأفضل الخلق هم الرسل،
~~وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وإمام الصلاة يدور عليه أمر الإمامة، فهو
~~قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب الحكم، وأمير الحرب
~~قطب هذه الإمارة، وكان الخلفاء الراشدون أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح
~~الأمة في دينها ودنياها ما لم يدر على أحد مثله.
# وقد يكون في عصر رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد
# PageV02P043
# يكون رجلان أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر، ويحصل بدعائهم وعبادتهم من الخير
~~ويندفع من الشر ما لا يحصل بدون ذلك، كما في قول النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (1) .
~~وقد قال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم
~~يستغفرون (33)) ، وقال: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن
~~تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا
~~لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25)) . فهذا ونحوه مما يوافق أصول
~~الدين.
# وأما ما يدعيه الصوفية في القطب والمرتبة التي يسمونها القطبية فمن الغلو
~~الذي يشبه غلو النصارى والرافضة، حيث قالوا: إن مدد أهل الأرض يكون من
~~جهته، وإن الله إذا أنزل إلى الأرض خيرا من هدى ورزق ونصر فإنه ينزله عليه،
~~ثم منه يفيض إلى سائر الخلق. لم يكن السلف يفهمون من القطب هذا المعنى، ولا
~~خطر ببالهم إلا معناه اللغوي الذي سبق ذكره. ولا يعرف أنهم تكلموا بهذا
~~الاسم في الرجال، ولا جعلوا اسم "القطب" مما يعبر ول عن أحوال أولياء الله
~~المتقين، بخلاف اسم "الأبدال" في نقل عنهم التكلم بذلك في مواضع.
# أما "الأوتاد" فقد ورد ms0232 على لسان بعض المتأخرين، والوتد هو المثبت لغيره،
~~كما أن الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبت الله به PageV02P044
# الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده، أو ثبت بدعائه وعبادته نصرهم ورزقهم،
~~كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك.
# أما "النجباء" فلم يرد إطلاقه عند السلف على أولياء الله، ولم يثبت شيء
~~من الآثار التي رويت في ذلك.
# بهذا التفصيل نعرف أن السلف عند استخدامهم لبعض هذه الألفاظ لم يفهموا
~~منها تلك المعاني والخصائص التي استقرت في أذهان الصوفية، ولذا فاستناد
~~هؤلاء إلى الآثار التي وردت فيها تلك الألفاظ على لسان بعض السلف لا يجديهم
~~شيئا، فهي -على فرض ثبوتها عنهم- ليست على الوجه الذي يتصوره الصوفية، بل
~~بالمعنى المناسب الذي لا يعارض أصول الدين.
# وعندنا أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع، الأول: أن أولياء الله هم
~~المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: (إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا
~~يعلمون (34)) وقال: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62))
~~(الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)) .
# والثاني: أن الله يجلب للناس المنافع ويدفع عنهم المضار بدعاء عباده
~~المؤمنين وصلاتهم وعبادتهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "وهل
~~تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم وإخلاصهم".
# إذا عرفنا هذين الأصلين تبين لنا أنه ليس لأولياء الله عدد محصور تتساوى
~~فيه الأزمنة، ولا لهم مكان معين من الأمكنة، بل هم يزدادون وينقصون بحسب
~~زيادة أهل الإيمان والتقوى
# PageV02P045
# ونقصانهم. وقد بعث الله رسوله بالحق، وآمن معه بمكة نفر قليل كانوا أقل
~~من سبعة، ثم أقل من أربعين، ثم أقل من سبعين، ثم أقل من ثلاث مائة، فأين
~~كان أولئك الأبدال وغيرهم ممن يذكرهم الصوفية بالعدد والترتيب والطبقات؟ هل
~~كانوا في الكفار؟
# ثم هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وبها انعقدت
~~بيعة الخلفاء الراشدين، ومن الممتنع أنه قد كان بمكة في زمنهم من يكون أفضل
~~منهم، فمن كان هو الغوث الذي يدعي الصوفية وجوده بمكة بعد الهجرة؟
# ثم إن الإسلام انتشر في مشارق الأرض ومغاربها، وكان ms0233 في المؤمنين في كل
~~وقت من أولياء الله المتقين عدد لا يحصى، ولا يحصرون بثلاث مائة ولا بثلاثة
~~آلاف، فكل من جعل لهم عددا محصورا فهو من المبطلين عمدا أو خطأ.
# ونسألهم من كان القطب والأبدال وغيرهم من زمن آدم ونوح وإبراهيم وقبل
~~محمد عليهم الصلاة والسلام في الفترة حين كان عامة الناس كفرة؟ وإن زعموا
~~أنهم كانوا بعد رسولنا ففي أي زمان كانوا؟ ومن أول هؤلاء؟ وبأي آية وبأي
~~حديث مشهور وبأي إجماع متواتر من القرون الثلاثة ثبت وجود هؤلاء بهذه
~~الأعداد حتى نعتقده؟ لأن العقائد لا تعتقد إلا من هذه الأدلة الثلاثة ومن
~~البرهان العقلي، (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111)) ، فإن لم يأتوا
~~به فهم الكاذبون بلا ريب، فلا نعتقد أكاذيبهم.
# وقولهم "إن النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق"
# PageV02P046
# ونحو هذا على الإطلاق باطل قطعا، فإن هذه البلاد كانت في أول الإسلام
~~ديار كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله، ولما صارت دار إسلام صار فيها من
~~أولياء الله بحسب ما في أهلها من الإيمان والتقوى. ولا يختص إقليم من هذه
~~الأقاليم بالأبدال، ومن قال إن الأبدال لا يكونون إلا بالشام فقد أخطأ، فإن
~~خيار هذه الأمة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة،
~~ولما فتحت الأمصار كان في كل مصر من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله.
# وإذا كان الأبدال أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام،
~~فإن طائفته كانت أولى بالحق من طائفة معاوية بشهادة النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -، فكيف يكون الأبدال خارجين عن جماعة علي ويكونون بالشام؟
# ومما يبين أنهم ليسوا مخصوصين بالشام أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من
~~السلف كانوا يجعلون منهم من ليس بالشام، وهذا كثير في كلامهم، فما يدعيه
~~الصوفية غلط.
# وقولهم "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى الأعلى، حتى
~~ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة" من أعظم
~~الكذب والبهتان، فإن هذا "الغوث" المدعى ليس بأعظم ms0234 من الرسل، وهم قد يمنعون
~~ما يسألون، وقد كان الأنبياء يجتهدون في الدعاء، فكيف يكون غيرهم لا يرفع
~~بصره حتى تدفع النوازل؟ وقد نزل بهذه الأمة من الشدائد ما لا يحصيه
# PageV02P047
# إلا الله، واتصل بعضها مدة، فأين كان هذا الغوث؟ وكان المسلمون لا يرفعون
~~أمر هذه الشدائد إلى غير الله ولا يتركونها لشخص معين، فمن هذا الأدنى الذي
~~يرفعها إلى الأعلى؟ وإذا كان الله يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين، فكيف يحوج
~~عباده المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه؟ وأين الحاجة إلى الوسائط
~~والله يسمع ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه؟
# ومن أباطيل الصوفية ادعاؤهم أنه "على قدم كل نبي وليان: ولى ظاهر وولي
~~باطن"، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الأنبياء، النبي
~~يجيء وحده، والنبي يجيء معه رجل، والنبي يجيء معه رجلان، فإذا كان النبي قد
~~لا يتبعه أحد، أو لا يتبعه إلا رجل واحد، فكيف يجب أن يكون له في كل عصر
~~اثنان على قدمه من أمة غيره؟
# وأيضا فقول القائل إن الولي على قدم النبي لا يجوز أن يريد به اتباع
~~شريعته، فإنه بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله من أحد
~~إلا شريعته. ثم إن غالب الأنبياء لم يقصوا على نبينا - صلى الله عليه وسلم
~~-، ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبي لا يعرفه ولا
~~يعرف قدمه؟
# وخلاصة القول أن هذا الكلام لا دليل عليه، ولو كان حقا لكان معروفا عند
~~أهل العلم والإيمان، فإذا لم يكن له أصل عندهم علم بطلانه.
# ومن أشنع ما يزعمه الصوفية قولهم في "الغوث القطب": إنه
# PageV02P048
# يطلع على أسرار قلوب العباد، وينطبق علمه على علم الله، ويعرف جميع
~~الأولياء، وتنتهي إليه حوائج الخلق، وبواسطته يكون مدد الخلائق في نصرهم
~~ورزقهم. وقد ناقشهم شيخ الإسلام وبين أن هذه الدعاوي كلها باطلة، وهي نظير
~~ما يدعيه النصارى في "المسيح" والرافضة في "المنتظر" والنصيرية في "الباب"
~~والفلاسفة في "العقل الفعال"، وأظهر في ms0235 الشرك والضلال والكفر والفساد من أن
~~نعرض لها. وقد أطال شيخ الإسلام في الرد عليها، وذكر نصوصا من الكتاب
~~والسنة تدل على أنها من الشرك في الربوبية، ولا يجوز نسبة الأمور المذكورة
~~إلى الأنبياء والرسل، فكيف تصح لهذا "الغوث" المزعوم الذي لا وجود له إلا
~~في أذهان الصوفية؟ ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع إلى المواضع التي أشرنا
~~إليها في أول هذا الفصل، وليقرأ هذه الفتوى التي فصل الكلام فيها حول هذا
~~الموضوع.
# هذا عرض موجز لآراء شيخ الإسلام في هذا الباب، وبه يظهر أنه بحث دعاوي
~~الصوفية في القطب والأبدال من نواح متعددة، وناقشهم مناقشة طويلة بالعقل
~~والنقل، وهدم أساس نظريتهم، وأبطل كل شبهة تعلقوا بها. وهذه الفتوى التي
~~تنشر الآن لأول مرة هي أطول فتوى له فيها.
# • وصف النسخة الخطية
# توجد نسخة فريدة من هذه الفتوى بخط المؤلف ضمن مجاميع المدرسة العمرية
~~بدار الكتب الظاهرية بدمشق برقم 3845 عام [مجاميع 109] (الورقة 235- 257)
~~باستثناء الورقة 256 أ- ب،
# PageV02P049
# فهي من "سنن أبي داود"، وفيها الأحاديث ذات الأرقام (1302- 1308) .
~~ويلاحظ أن الورقة مقلوبة، فصفحة ب سابقة في الترتيب على أ. ويبدو أنها ورقة
~~ضائعة من نسخة قديمة من "السنن" عليها آثار التصحيح والمقابلة.
# تبتدىء هذه النسخة بنص السؤال الذي قدم إلى شيخ الإسلام، وبعده بدأ الشيخ
~~كتابة الجواب في أسفل الصفحة بقوله "الحمد لله "، وانتهى منها في الورقة
~~(255 أ) ، حيث قال في آخرها: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية". ثم
~~رأى الزيادة على ما سبق، فشطب على العبارة المذكورة، وكتب صفحتين، وقال في
~~الأخير: "والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية".
# وقد كانت هذه الفتوى بلا عنوان، فكتب في أولها أحد المفهرسين "فتوى
~~الأقطاب والأبدال" بخط حديث. وبجانبه في أعلى الصفحة بخط قديم: "نقله محمد
~~بن المحب"، مما يفيد أن هذه الفتوى نسخت منها نسخة بخط محمد بن المحب، ناسخ
~~بعض مؤلفات شيخ الإسلام التي وصلت إلينا. وهو الحافظ شمس الدين أبو بكر
~~محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب عبد الله ms0236 المقدسي ثم الصالحي الحنبلي،
~~المشهور بالصامت لكثرة سكوته (713- 789) ، ترجم له الحافظ في "الدرر
~~الكامنة" (3/465) ، وقال: "تفقه إلى أن فاق الأقران، وأفتى ودرس، وكان كثير
~~المروءة حسن الهيئة، من رؤساء أهل دمشق".
# وله أخ اسمه أبو الفتح أحمد (719- 749) ، ترجمته في
# PageV02P050
# "الدرر الكامنة" (1/179) ، وهو أيضا ناسخ كثير من مؤلفات شيخ الإسلام
~~التي وصلت إلينا. وخط هذين الأخوين متقن، ومتشابه إلى حد كبير، وأكثر
~~منسوخاتهما بالاعتماد على الأصول والمسودات التي بخط الشيخ. وقد شرقت هذه
~~النسخ وغربت، وتفرقت في بلدان عديدة، وضاع كثير منها وبقي بعضها في
~~المكتبات. وتعتبر هذه النسخ أهم ما وصل إلينا من مؤلفات شيخ الإسلام بعد
~~الأصول التي بخطه. وإذا عثرت على شيء منها بخط أحدهما فلا تلتفت إلى نسخ
~~أخرى متأخرة، ولا تتعب في جمعها وتحصيلها، فهي لا تفيدك إلا زيادة التصحيف
~~والتحريف والسقط، كما هو مجرب لدي بعد فحص مثل هذه النسخ.
# ونظرا لأهمية النسخة التي نقلها ابن المحب بحثت عنها في فهارس المكتبات،
~~فلم أعثر عليها مع الأسف، ولذا عكفت على أصل المؤلف، وبذلت جهدي في قراءته،
~~واستطعت أن أقدمه بالشكل الذي يراه الناظرون.
# وقد سبق لي وصف خط المؤلف في مقدمتي على "قاعدة في الاستحسان" (ص 14، 42)
~~، وكل ما ذكرته هناك ينطبق على هذا الكتاب، فأحيل القراء إليها.
# وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج أثر مهم من آثار شيخ
~~الإسلام بخطه، وأشكر الإخوة الذين جلبوا لي المصورات الفلمية والمكبرة عن
~~الأصل، حتى تمكنت من قراءة الكلمات والأسطر التي كانت ساقطة أو مطموسة في
~~مصورتي،
# PageV02P051
# وأخص بالذكر منهم الأخوين الكريمين والمحققين الفاضلين علي ابن محمد
~~العمران وأحمد حاج محمد، فقد سعيا في ذلك كثيرا، جزاهما الله أحسن الجزاء
~~عن العلم وأهله، ووفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه، إنه سميع مجيب.
# محمد عزير شمس
# PageV02P052
# نماذج من الأصل
# PageV02P053
# نص الفتوى
# PageV02P055
# بسم الله الرحمن الرحيم
# ما تقول السادة العلماء أئمة الهدى ومصابيح الدجى فيمن يزعم أنه على قدم
~~كل نبي من الأنبياء وليان: ولي ظاهر وولى باطن، وهما ms0237 أقطاب الغوث (1) الذي
~~ينتهي إليه حوائج الخلق، وأن له أربعة أوتاد وسبعة نجباء واثنا عشر (2)
~~نقيبا وأربعين بدلا، وأن كلما مات من الاثنا عشر واحدا (3) أخذ من
~~الأربعين، ومن السبعة أخذ من الاثنا عشر (4) ، وكل ينزل من أكثر العدد إلى
~~أقل العدد بحسب مراتب الأوضاع، وأن الغوث بمكة، والقطبين أحدهما بالمشرق
~~والآخر بالمغرب، والأربعة بأركان الأرض، والنجباء بمصر، والأبدال بالشام،
~~والنقباء بالعراق، وأن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض رفعها الأدنى إلى الأعلى،
~~حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة. ويدعون
~~أن لكل قطب علم (5) لا يعرفه الآخر، ويسمون أنواعا من العلوم الظاهرة
~~والباطنة. PageV02P057
# والمسئول معرفة الحق المشروع، هل هذه الأشياء المسماة لها دليل من كتاب
~~أو سنة؟ أو لها وجود أو لها تأثير؟ أو لها حقيقة ترجع إلى تمثلها في
~~الأكوان أو الأذهان؟ وهل الحديث المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"لا تسبوا أهل الشام، فإن فيهم الأبدال"، هل هو صحيح أم ضعيف؟ وإن كان
~~صحيحا ما حكمه؟
# أفتونا مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى.
# PageV02P058
# الحمد لله. هذه الدعوى على الوجه المذكور لا أصل لها من كتاب ولا سنة،
~~ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين وشيوخهم، الذين
~~لهم في الأمة لسان صدق، وإنما يذكر بعض هذا الكلام عن بعض الشيوخ
~~المتأخرين، مع أنه لا أصل له، وزاد في ذلك من بعدهم ونقصوا، وغيروا في
~~الأعداد والمراتب والصفات،/ وقالوا أشياء نعلم مخالفتها لدين المسلمين، بل
~~ولعقل عقلاء العالمين. وقد يروون في ذلك أحاديث موضوعة، مثل روايتهم أنه
~~كان للمغيرة بن شعبة غلام اسمه هلال، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~قال: "إنه من السبعة" (1) .
# وقد روى هذا الحديث بعض المصنفين في الرقائق، كما روى غيره من الموضوعات،
~~وأما الشهادة لمعين بالجنة فهذا صحيح، فقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- بالجنة لغير واحد من الصحابة، كالعشرة وثابت بن قيس وغيرهم. PageV02P059
# وهؤلاء الذين تكلموا في هذا من المتأخرين يجعلون الأقطاب سبعة على ms0238 عدد
~~الأقاليم، ويجعلون الأوتاد أربعة كالأوتاد التي يذكرها المنجمون، ويجعلون
~~الغوث واحدا مقيما بمكة، ويجعلون مدد أهل الأرض منه، ويقولون: إنه منه يفيض
~~على أهل الأرض ما ينزل عليهم من الهدى والرزق ونحو ذلك، ويقولون: إنه لابد
~~لكل زمان من ذلك، كما يقول الرافضة: إنه لابد لكل زمان من إمام معصوم، وكما
~~يقول النصارى: إنه لابد من الباب الذي به يحفظ أهل الأرض (1) .
# فقيل لبعض هؤلاء: فإذا كان لابد كذلك فمن الغوث الذي كان بمكة بعد الهجرة
~~على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، الذي كان هو
~~الممد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وهو أفضل منهم؟
~~فبهت مدعي ذلك.
# وقد يقولون مع ذلك بأن لكل زمان خضرا، ويجعلون الخضر مرتبة محفوظة لا
~~شخصا معينا، ويدعون أنه ينزل كل عام على البيت ورقة مكتوب فيها اسم غوث ذلك
~~العام وخضره. ونحو هذه الدعاوي التي يعلم كل عاقل بطلانها، وضلال معتقدها،
~~وكذب المخبر بها عمدا أو خطأ.
# ومن هؤلاء من يعين لكل قرية من القرى واحدا من هذا العدد PageV02P060
# أو أقل أو أكثر، ويتكلمون في ذلك نظما ونثرا بكلام يناقض العقل ويخالف
~~دين الإسلام.
# وحقيقة الأمر في ذلك أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون (1) ، كما قال
~~تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا
~~وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) (2)
# /وفي صحيح البخاري (3) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي
~~عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى
~~أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي
~~يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي،
~~(وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) (4) ، وما ترددت عن شىء أنا
~~فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت ms0239 وأكره مساءته، ولابد له
~~منه".
# وأيضا فإن الله بعبادات عباده المؤمنين ودعائهم يجلب للناس PageV02P061
# المنافع ويدفع عنهم المضار، كما في السنن (1) أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم".
~~وانتفاع الخلق بدعاء المؤمنين وصلاتهم كانتفاع الحي والميت بدعاء المؤمنين
~~واستغفارهم، ونزول الغيث بدعاء المؤمنين واستغفارهم، والنصر على الأعداء
~~بدعاء المؤمنين واستغفارهم، وأمثال ذلك مما اتفق عليه المؤمنون.
# فهذان الأصلان هما أصلان ثابتان بالكتاب والسنة والإجماع. وليس لأولياء
~~الله عدد محصور تتساوى فيه الأزمنة، ولا لهم مكان معين من الأمكنة، بل هم
~~يزدادون وينقصون بحسب زيادة أهل الإيمان والتقوى ونقصانهم. فبعث الله محمدا
~~- صلى الله عليه وسلم - إلى الناس، وكان الأمر كما أخبر في الحديث الصحيح
~~(2) : "إن الله نظر إلى أهل 236 ب الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم،/ إلا بقايا
~~من أهل الكتاب".
# وقد ثبت في الصحيح (3) أن إبراهيم الخليل قال لسارة: "إنه ليس على وجه
~~الأرض مؤمن غيري وغيرك". وقد أخبر الله عن نوح PageV02P062
# أنه (ما ءامن معه إلا قليل (40)) (1) ، وأن الله أغرق أهل الأرض إلا من
~~كان معه في السفينة.
# وقد كانت الشام قبل أن يخرج إليها موسى وبنو إسرائيل يغلب على أهلها
~~الكفر، فأورثها الله لبني إسرائيل، فصار فيها من الأنبياء والصالحين ما لم
~~يكن فيها نظيره قبل ذلك.
# ولما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - آمن به طائفة قليلة، فكان
~~أول من آمن به أبو بكر وعلي وزيد وخديجة، وآمن على يدي أبي بكر عثمان وطلحة
~~والزبير وسعد وعبد الرحمن، ثم تزايد أهل الإيمان حتى بلغوا أربعين، فلم يكن
~~بمكة قبل ذلك أربعون مؤمنا، بل ولا عشرة مؤمنون، بل ولا أربعة. ثم إن
~~الإيمان زاد، وهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وكثر
~~السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي
~~الله عنهم ورضوا عنه، وكل هؤلاء من سادات أولياء الله المتقين، فبايعه تحت
~~الشجرة أكثر من ألف وأربع مائة قد رضي الله عنهم، وكلهم من أهل الجنة ms0240، قال
~~الله فيهم: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من
~~الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) (2) .
# وفي الصحيح (3) أنه قال لخالد بن الوليد لما (4) ساب PageV02P063
# عبد الرحمن بن عوف: "يا خالد، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق
~~أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مذ أحدهم ولا نصيفه ". وخالد هو ممن أنفق من بعد
~~الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد/ الحديبية (1) ، فجعل النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - هؤلاء التابعين من الصحابة بالنسبة إلى السابقين منهم بهذه المنزلة.
# وانتشر الإسلام بعد هذا في أرض اليمن والشام والعراق وخراسان ومصر ومغرب
~~(2) ، حتى بقي في العصر الواحد من هذه البلاد من أولياء الله ألوف مؤلفة.
~~فمن قصرهم حينئذ على الأربعين أو ثلاث مائة كان جاهلا، كما أن من بلغ بهم
~~في أول الإسلام هذا العدد كان جاهلا.
# وأما الأسماء المذكورة فتسمية "الغوث" لا أصل لها في كلام أحد من السلف
~~بالمعنى الذي يدعيه هؤلاء (3) ، ولا يعرف عن أحد من السلف أنه قال: فلان هو
~~غوث هذه الأمة، أو إن للأمة غوثا بمكة أو يجيء مكة.
# وأما لفظ "النقباء" فإنما ذكر في الكتاب والسنة بالمعنى الذي ذكره الله
~~في قوله: (* ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا PageV02P064
# منهم اثني عشر نقيبا) (1) . وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل
~~للأنصار اثني عشر نقيبا على عدد نقباء موسى (2) . وكذلك قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - لأصحابه عام حنين لما أطلق لهوازن السبي فقال: "ليرفع لنا
~~عرفاؤكم من طيب ممن لم يطيب" (3) . وكان العسكر اثني عشر ألفا.
# وكذلك الخلفاء الراشدون كانوا يعرفون العرفاء وينقبون الئقباء، ليعزفوهم
~~بأخبار الناس، وينقبوا عن أحوالهم. فهؤلاء هم النقباء المعروفون في الكتاب
~~والسنة وكلام السلف.
# وأما من جعل لأولياء الله نقباء هم، اثنا عشر، أو جعل الخضر نقيب
~~الأولياء، فهذا باطل، فإن أولياء الله لا يعرف أعيانهم على التفصيل أحد من
~~البشر، لا نبي ولا غير نبي. وقد كان على عهد النبي - صلى ms0241 الله عليه وسلم -
~~بمدينته مؤمنون (4) ومنافقون، وقد قال الله له: (وممن حولكم من الأعراب
~~منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) (5) .
# وإذا لم يقع التمييز بين هؤلاء وهؤلاء لخير الخلق، فغيره PageV02P065
# أولى، ومن لم يعرف أعيان المنافقين جوز على من ظاهره الإسلام أن يكون
~~مؤمنا، وإذا لم يعلم فجوره جاز أن يكون تقيا، وكل مؤمن تقي ولي لله.
# وقالوا لعمر بن الخطاب: من يعطى المغازي؟ قيل: فلان وفلان وآخرون لا
~~يعرفهم أمير المؤمنين، فقال: إن لا يكن عمر يعرفهم فإن الله يعرفهم، وقد
~~قال تعالى: (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (1) .
# وقد ثبت في الصحيح (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف أمته يوم
~~القيامة بسيماهم، فإنهم يكونون غرا محجلين من آثار الوضوء.
# وأيضا فأولياء الله إذا كان لهم نقباء كان النقباء أخبر بهم ممن يرفعون
~~أخبارهم إليه، ومعلوم أن الذين يرفعون أخبارهم إليه سواء كان نبيا أو غير
~~نبي، هو أعلى مرتبة من النقباء، فيكون المفضول أعلم بأولياء الله من
~~الفاضل، وهذا ممتنع. بخلاف النقباء الذين جاء بهم الكتاب والسنة، فإنهم
~~يرفعون أخبارهم الظاهرة التي يشهد بها الشهود ويحكم بها الحكام، وإن كان قد
~~يكون في ذلك ما يستدل به على الإيمان والتقوى، لكن الدليل لا ينعكس، فلا
~~يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول عليه، فلا يشهد على شخص معين أنه
~~ليس من أولياء الله إلا بعليم يقتضي ذلك. والنقباء لا PageV02P066
# يشهدون بذلك، ومن لم يشهد بذلك لم يكن عالما بمن هو ولي ممن ليس بولي.
# وأما لفظ "الأبدال" (1) فقد جاء ذكره في كلام كثير من السلف: فلان كان
~~يعد من الأبدال. ولفظ "الأوتاد" (2) جاء في كلام بعضهم.
# فأما لفظ "الأبدال " فقد فسر بثلاث معاني:
# قيل: سموا أبدالا لأنهم أبدال عن الأنبياء، وهذا المعنى صحيح.
# فإن الأنبياء،/لهم خلفاء، كما كان الخلفاء الراشدون خلفاء للنبي - صلى
~~الله عليه وسلم - وقد كان له في حياته ولغيره من الأنبياء خلفاء في أمر دون
~~أمر، فإنه كان ms0242 إذا خرج في غزو أو حج أو عمرة استخلف على المدينة بعض
~~أصحابه، كما كان يستخلف ابن أم مكتوم وغيره، واستخلف علي بن أبي طالب [في]
~~غزوة تبوك، وكان قد خرج معه عامة أصحابه، ولم يبق بالمدينة من المؤمنين إلا
~~معذور، غير الثلاثة الذين خلفوا، فخرج إليه على، فقال: يا رسول الله،
~~أتدعني مع النساء والصبيان؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من
~~موسى؟ " (3) وقد قال تعالى: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح
~~ولا تتبع سبيل المفسدين (142)) (4) . PageV02P067
# فاستخلف موسى هارون مدة ذهابه للميقات إلى أن عاد.
# وكذلك كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ولاة على الأمصار كعتاب
~~بن أسيد وخالد بن سعيد وغيرهما، وسعاة على الصدقات ونواب في التعليم، كمعاذ
~~وأبي موسى، وكل من هؤلاء خليفة له وبدل عنه في بعض الأمور دون بعض.
# وجاء في حديث وصف الذين يحيون السنة ويعلمونها الناس بأنهم خلفاء النبي
~~(1) ، وللأنبياء أيضا ورثة كما في الحديث المشهور في السنن: "العلماء ورثة
~~الأنبياء" (2) . والخلافة والوراثة قد تكون في بعض الأشياء دون بعض، فمن
~~نال بعض ما بعثوا به من العلم فهو وارث لذلك المقدار، ومن قام مقامهم في
~~بعض الأمر فقد خلفهم في ذلك على البدلية، ومن قام مقامهم في بعض الأمر كان
~~بدلا منهم في ذلك. وقد استسقى عمر بالعباس وقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا
~~نتوسل إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" (3) .
# ومعلوم أن من جملة أحوال الأنبياء دعاءهم للخلق، وما يحصل PageV02P068
# بدعائهم وعبادتهم من الرزق والنصر، فمن قام مقامهم في بعض ذلك كان بدلا
~~منهم في ذلك البعض.
# وقيل: سموا أبدالا لأنه كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا.
# وهذا لا يصح، ولا مدح فيه/فإن كون الشخص إذا مات قام مقامه غيره قد يكون
~~مع إيمانه، وقد يكون مع كفره، والله جعل بعض بني آدم خلفاء بعض مع اختلاف
~~أعمالهم. قال تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) (1) ، وقال: (ولقد
~~أهلكنا القرون من قبلكم ms0243 لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا
~~ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين (13) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم
~~لننظر كيف تعملون (14)) (2) . فقد جعل أمة محمد خلائف عمن أهلك من القرون
~~المكذبين الظالمين.
# وقد قال نوح له (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا
~~(27)) (3) ، فهذا الولد الفاجر الكفار بدل عن أبيه. فليس في إبدال شخص مكان
~~شخص مدح إلا أن يكون الأول ممدوحا، فإن لم يعتبر في معنى البدل أن يكون
~~بدلا عن نبي أو من يقوم مقام نبي لم يكن في كونه بدلا عمن كان قبله صفة
~~مدح.
# وأيضا فلو كان كل من مات قام مقامه غيره للزم أن يقوم مقام PageV02P069
# أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أمثالهم، ولم يكن كذلك. وهؤلاء أفضل خلفاء
~~الرسل وأبدالهم ووراثهم.
# وأيضا فمن يكون بدلا عن الأنبياء كثيرون إذا كثر الإيمان والتقوى، قليلون
~~إذا قل ذلك، ومعلوم أن المؤمنين المتقين ليسوا إذا مات منهم واحد قام مقامه
~~غيره.
# وقد قيل في معنى الأبدال: إنهم بدلوا سيئاتهم حسنات. وهذا معنى التائبين،
~~فكل مؤمن تاب من سيئاته له هذا المعنى.
# وزعم بعضهم أن البدل إذا غاب عن مكانه أبدل بصورة على مثاله. وهذا باطل،
~~ولم يكن السلف يعنون بالبدل هذا المعنى، ولا يجعلون ذلك لازما لمن يسمونه
~~بهذا الاسم.
# وأما اسم "القطب" (1) فالقطب مأخوذ من قطب الرحى، وهو ما يدور عليه
~~الرحى، وكذلك قطب الفلك وغير ذلك من الأجسام الدائرة. ف
### | الشخص الذي يدور عليه أمر من الأمور هو قطب ذلك الأمر،
# وأفضل الخلق هم الرسل، وعليهم تدور رسالة الله إلى خلقه، وتبليغهم أمره
~~ونهيه ووعده ووعيده،/وكل من دار عليه أمر من الأمور فهو قطبه، فإمام الصلاة
~~قطب الإمامة، ومؤذن المسجد قطب الأذان، وحاكم البلد قطب القضاء، وأمير
~~الحرب قطب هذه الإمارة، وأئمة الهدى -كالشيوخ الذين يقتدى بهم في دين الله-
~~هم أقطاب ما دار عليهم من ذلك. ومن ينصر المسلمون ويرزقون PageV02P070
# بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم هم أقطاب ما دار عليهم.
# وفي الصحيحين ms0244 (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كلكم راع
~~وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته،
~~والرجل راع على أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على مال زوجها، وهي
~~مسئولة عن رعيتها، والمملوك راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته، فكلكم
~~راع، وكلكم مسئول عن رعيته".
# وكان الخلفاء الراشدين (2) أقطاب الأمة، دار عليهم من مصالح الأمة في
~~دينها ودنياها ما لم يدر على أحد مثله، ثم بعدهم تفرق الأمر، فصار الملوك
~~والأمراء يقومون ببعض الأمر، وأهل العلم والدين يقومون ببعض الأمر، وهؤلاء
~~من أولي الأمر، وهؤلاء من أولى [الأمر] (3) . وقوله تعالى: (أطيعوا الله
~~وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (4) يتناول الطائفتين العلماء والأمراء
~~إذا أمروا بطاعة الله، فمن أمر بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية
~~الخالق، وقد جاء في الأثر: "صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء
~~PageV02P071
# والأمراء" (1) .
# وقد يكون في الزمان رجل هو أفضل أهل الأرض، كما قد يكون رجلان وثلاثة
~~وأربعة، ولكن ليس في الوجود/رجل هو أفضل أهل الأرض، وفيه ما يقتضي أنه
~~بوجوده يحصل للناس الرزق، وينتصرون على الأعداء، وتهتدي قلوبهم مع كونهم
~~معرضين عن طاعة الله ورسوله. بل كان نوح أفضل أهل الأرض، وقد مكث في قومه
~~ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله، وقد قال نوح: (رب إني دعوت قومي
~~ليلا ونهارا (5) فلم يزدهم دعائي إلا فرارا (6) وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم
~~جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا (7))
~~(2) . لم إن الله أغرق أهل الأرض إلا من آمن به. وكذلك غيره من الرسل، كهود
~~وصالح وشعيب ولوط وغيرهم.
# نعم قد يحصل بدعائه وعبادته من الخير ويندفع من الشر ما لا يحصل بدون
~~ذلك، كما في قوله: "بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم" (3) . وقد قال تعالى لنبيه:
~~(وما كان الله ليعذبهم PageV02P072
# وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)) (1) وقال تعالى:
~~(ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة
~~بغير علم ليدخل الله ms0245 في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم
~~عذابا أليما (25)) (2) . يقول: لولا أن تطأوا أولئك المؤمنين والمؤمنات
~~الذين لم تعلموهم إذا دخلتم مكة بالسيف، لسلطكم على أهل مكة، ولو تميز
~~المؤمنون من الكفار لعذبنا الكفار عذابا أليما. فهذا ونحوه مما يوافق دين
~~المسلمين.
# /وأما ما يدعيه قوم في القطب والمرتبة التي يسمونها "القطبية"
~~و"القطبانية" فمن الغلو الذي يشبه غلو النصارى والرافضة، كقول أحدهم: القطب
~~الغوث الفرد الجامع، وتفسيرهم ذلك بأن مدد أهل الأرض يكون من جهته، وأن
~~الله إذا أنزل إلى أهل الأرض خيرا من هدى ورزق ونصر فإنه ينزله عليه، ثم
~~منه يفيض إلى سائر الخلق.
# وقد يدعي أحدهم أنه منه مدد ملائكة السماوات وطير الهواء وحيتان الماء،
~~وأنه يعطي الملك وولاية الله لمن يشاء ويصرف ذلك عمن يشاء. ونحو هذه
~~المقالات التي تجعل للقطب نوعا من الإلهية والربوبية التي لم تحصل
~~للأنبياء.
# وآخرون يجعلون ذلك للغوث، ويجعلون مسمى الغوث أعلى PageV02P073
# من مسمى القطب. وآخرون يجمعون بين الاسمين فيقولون: "القطب الغوث"، كما
~~تقدم.
# فهذا وأمثاله من أعظم الكذب والمحال، ومن أعظم الشرك والضلال، وهو شبيه
~~بالإفك والشرك الذي ذم الله به المشركين وأهل الكتاب. وهو سبحانه كثيرا ما
~~يجمع بين الكذب والشرك، كقوله تعالى: (واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله
~~غير مشركين به) (1) ، وقول الخليل: (أئفكا آلهة دون الله تريدون) (86) (2)
~~، وفي له تعالى:) (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74)
~~ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم
~~ما كانوا يفترون (75)) (3) .
# /وما ينزل الله على قلوب عباده من الهدى والإيمان هو بمنزلة ما يعطيهم
~~إياه من الرزق، ومعلوم أن ما ينزله من المطر وينبته من النبات لم ينزله قبل
~~ذلك على شخص من البشر، وكذلك ما يغذي به عباده من الطعام والشراب والهواء
~~لم يتغذ به قبله واحد من الناس، ثم انتقل عنه إلى الناس، وأنه ... (4) من
~~الهدى هم الرسل صلوات الله عليهم، فالرسول يدعو إلى الله ويتلو عليهم آياته ms0246
~~ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وهو يهديهم بمعنى أنه PageV02P074
# يدعوهم ويبين لهم، وليس في قدرته أن يجعل الهدى ولا الضلالة في قلب أحد،
~~بل ذلك لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى: (إنك لا تهدى من أحببت) (1) ،
~~وقال تعالى: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل (37)) (2) أي من
~~يضله الله لا يهدى، كما قال: (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له
~~وليا مرشدا (17)) (3) ، وقال: (*ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء))
~~(4) . ولهذا أمر الله عباده أن يقولوا (اهدنا الصراط المستقيم (6)) (5) ،
~~وهذه الهداية المطلوبة من الله، لا يقدر عليها إلا الله.
# وفي الصحيح (6) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل
~~يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض،
~~عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني
~~لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
# وقد ثبت في الصحيحين (7) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مثل
~~ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكانت PageV02P075
# منها طائفة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة
~~أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان/ لا تمسك
~~ماء، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به
~~من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت
~~به".
# فقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن مثل ما أرسله الله به كالماء، والماء
~~مختلف باختلاف المحل الذي يصل إليه، فهكذا ما بعث الله به رسوله يختلف أثره
~~باختلاف القلوب التي يصل إليها، فكما أن الزرع يحصل من الماء ومن التربة
~~الطيبة، فهكذا الهدى، يحصل من هداية الأنبياء ومن القلوب القابلة لذلك.
# فإذا كان هذا حال الرسل مع من يخاطبه الرسول ويكلمه ويحرص على هداه، لا
~~يقدر على جعل الضال مهتديا، فكيف يجعل شخص دون ms0247 الرسل بكثير يهدي الخلق
~~كلهم، لا سمعوا كلامه ولا رأوه، ولا عرفوه ولا عرفوا ما قال؟ وهل هذا إلا
~~من جنس قول الرافضة في المنتظر الذي لم يسمع له أحد بحس ولا بخبر، ولا وقع
~~له على عين ولا أثر.
# وفي الجملة فما يقوم بقلب الإنسان من معرفة الهدى والعلم والإيمان، لا
~~ينتقل عنه ويقوم بغيره، ولكن قد يقوم بغيره (1) إذا علمه وخاطبه، مع بقاء
~~الهدى والعلم في قلب الأول. ولهذا يشبه PageV02P076
# العلم بالمصباح الذي يقتبس منه الناس وهو لا ينقص، فإن المقتبس من
~~المصباح يحدث الله له نارا في ذبالة مصباحه من غير أن ينتقل إليه من ذلك
~~المصباح شيء، فهكذا العلم. وقد يعطي الله رجلا من العلم والهدى نظير ما
~~أعطى غيره بدون تعليم الأول وخطابه.
# فهذا الغوث القطب/ إذا لم يعلم الناس ويخاطبهم كان ما جعله الله في قلوب
~~الناس من الهدى والعلم نظير ما في قلبه إذا قدر من0.. (1) ، ولكن لم يكن
~~سببا في ذلك، فضلا عن أن يكون من قلبه فاض إلى قلوبهم، لاسيما إذا لم يره
~~الناس ولا عرفوا ما قال ولا فعل، فإن الإنسان قد يرى كيان الرجل وآثاره، أو
~~يرى وجهه وعمله، فيحصل له بذلك من الهدى والعلم ما يسره الله له، أما بدون
~~سمع هذا وبصره لذلك، وبدون خطاب دال له أو لمن يوصل إليه، فكيف يصل إليه
~~منه هدى؟ فضلا عن أن يكون منه يحصل هدى جميع الخلق.
# فليتدبر اللبيب هذا يتبين له أن ما وصفوا به قطبهم وغوثهم أمر لا يقدر
~~عليه الأنبياء في العلو، ومع هذا فمعلمو الكتاتيب ومقرئو القرآن ومعلموهم
~~آداب الإسلام أهدى للخلق من هذا القطب الغوث الذي قدروه في الأذهان، ولا
~~حقيقة له في الأعيان، كما قدر الرافضة وعبدة الصلبان. وإذا كان هذا في
~~الهدى الذي يحصل PageV02P077
# بالتعليم والخطاب، فما الظن بالرزق الذي هو أعيان تنتقل من محل إلى محل،
~~أو اغتذاء يقوم بالإنسان لا يتصور أن يقوم بغيره. نعم يمكن أن يحصل بالدعاء
~~المستجاب ms0248 للإنسان من الهدى والرزق والنصر ما لا يحصل بدون ذلك، كما ذكرناه
~~أولا في قوله: "وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وصلاتهم
~~وإخلاصهم".
# وكذلك توجه القلوب والهمم له من الأمر بحسب ما يقدره الله، وهذا عام
~~الوجود لا يختص/ بشخص معين، ولا يكون الأمر في ذاك عاما للخلق. أما وهذا
~~أمر لم يحصل للأنبياء والمرسلين، فكيف من دونهم؟
# ولا ريب أن هؤلاء الضالين الغلاة من الذين جعلوا بين الله وبين خلقه
~~وسائط جعلوهم له أندادا وشركاء وشفعاء، كما فعلته النصارى بالمسيح وأمه
~~والأحبار والرهبان. قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون
~~الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو
~~سبحانه عما يشركون (31)) (1) . ولهذا أمر نبيه أن يقول: (يا أهل الكتاب
~~تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا
~~يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
~~(64)) (2) .
# ودين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه أثبت وساطة الرسل PageV02P078
# بين الله وبين خلقه، فيبلغونهم أمره ونهيه وخبره ووعده ووعيده، ويقطعون
~~وساطة المخلوقات في العبادة والاستعانة والدعاء والتوكل، فلا يعبد إلا
~~الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يدعى إلا هو، فإنه لا رب غيره، ولا خالق
~~غيره، ولا إله سواه. وكل ما خلقه من الأسباب فإنه موقوف على سبب آخر يشركه
~~ويعينه، وله مانع يحجبه ويعوقه، فما من الموجودات شيء يستقل بالتأثير غير
~~الله، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكل ما جعل سببا كإحراق النار
~~فلابد له من معين، وهو قبول المحل، وقد يحصل مانع كما حصل في نار
~~إبراهيم،/وبهدى الرسل ودعائهم يهتدي الخلق، ولكن هدى الخلق موقوف على
~~قبولهم.
# وقد يكون القلب مائلا للهدى، لكن يحصل له مانع يعارضه، كما قال: (وكذلك
~~جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول
~~غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112)) (1) . وقال تعالى ms0249: (يا
~~أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما
~~الله بغافل عما تعملون (99)) (2) .
# وقال تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37)) . وقال
~~تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا
~~(27) يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر
~~PageV02P079
# بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)) (1) . ونظائر هذا كثير.
# فمن عدل عن سبيل المرسلين، فلم يتابعهم ويطع أمرهم ونهيهم قطع ما بينه
~~وبين الله، فصار مشركا بالله يدعو غير الله، إما الملائكة وإما الكواكب
~~وإما الجن، وإما البشر كالأنبياء والصالحين، وإما صور هؤلاء وتماثيلهم،
~~وإما ما يظنه موجودا من هؤلاء. ويتخيل في هؤلاء من صفات الإلهية ما لا
~~حقيقة له، ويثبت الوسائط في خلق الله وربوبيته، ويجعل له شركاء وشفعاء بغير
~~إذنه، وهو سبحانه كما قال: (ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) ،/وقال
~~تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات
~~ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع
~~الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (3) .
# والناس في الشفاعة على طرفين ووسط (4) :
# فالمشركون والنصارى ونحوهم أثبتوا شفعاء لهم بدون إذنه، وهذه الشفاعة
~~التي نفاها الله في كتابه، فقال تعالى: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل
~~أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله PageV02P080
# الشفاعة جميعا (44) (1) . وقال تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم
~~أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم
~~أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94)) (2) .
# وقال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء
~~شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض
~~سبحانه وتعالى عما يشركون (18)) (3) . وقال تعالى: (ما لكم من دونه من ولي
~~ولا شفيع) (4) . وقال تعالى: (قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا
~~شفاعة) (5) . وقال تعالى ms0250: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل
~~منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) (6) .
# /وأما الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- لأهل الكبائر من أمته، فنفوا الشفاعة بإذن الله وبغير إذنه، وهؤلاء ضلال،
~~وإن كان ضلال الأولين أعظم، إذ ذلك الضلال شرك بالله، وهذا من البدع
~~المحدثة في الإسلام. ومع هذا فقد صار كثير من المتأخرين المنتسبين إلى
~~العمل والعبادة، يثبت نوعا من هذه الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى،
~~فصاروا أسوأ حالا من الخوارج والمعتزلة من هذه الجهة، كما أن هؤلاء ونحوهم
~~PageV02P081
# يثبتون القدر الذي نفته المعتزلة ونحوهم من القدرية، فتكون بذلك خيرا
~~منهم، لكنهم قد يحتجون به على الشرع، بل قد يلاحظونه، ويعرضون عن الأمر
~~والنهي، ويجعلونه الحقيقة التي تدفع مقتضى الشريعة، وهي الحقيقة الكونية،
~~فيصيرون بذلك مضاهين للمشركين الذين قالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا
~~آباؤنا ولا حرمنا من شيء) (1) .
# ومعلوم أن هؤلاء المشركين شر ممن جحد القدر من المعتزلة ونحوهم، فهؤلاء
~~الذين يدفعون الأمر والنهي الشرعيين ناظرين إلى الحقيقة الكونية، ويثبتون
~~الشفاعة التي أثبتها المشركون والنصارى، شر من الخوارج والمعتزلة من هذا
~~الوجه ومن هذا الوجه،/ فإنهم جمعوا بين الإشراك والبدع في العبادات وبين
~~الاحتجاج بالقدر.
# وهذا حال المشركين الذين ذمهم الله في كتابه، فإنهم كانوا تارة يعبدون
~~غير الله، وتارة يزعمون عبادة لم يشرعها، ويحرمون ما أحله، وتارة يحتجون
~~بالقدر. وقد ذكر الله عنهم في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما ما فيه عبرة
~~للمعتبرين، فإنه سبحانه قرر في سورة الأنعام توحيده وعبادته وحده لا شريك
~~له، وأنه هو الذي يدعى عند الشدائد، وهو الذي يكشف الضر وينزل الرحمة،
~~كقوله تعالى: (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله
~~تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء
~~وتنسون ما تشركون (41) (2) . وقوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم
~~وأبصاركم PageV02P082
# (وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم ms0251 هم
~~يصدفون (46)) (1) . وقوله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى
~~ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51) ولا تطرد الذين يدعون
~~ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك
~~عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين (52)) (2) .
# وهذه الآية عامة في كل من أراد الله بعمله. ودعاؤهم بالغداة والعشي
~~يتناول من صلى صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، وليست هذه الآية مختصة بأهل
~~الصفة ولا نزلت فيهم، فإن هذه الآية نزلت بمكة (3) .
# /وكذلك الآية الأخرى التي في سورة الكهف: (واصبر نفسك مع الذين يدعون
~~ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة
~~الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28))
~~(4) . فإن سورة الكهف مكية أيضا باتفاق العلماء، والصفة إنما كانت
~~بالمدينة، لم تكن بمكة، ولكن طلب PageV02P083
# قوم من رؤساء المشركين من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطرد المؤمنين
~~الضعفاء والفقراء عنه، فأنزل الله هذه الآية (1) ، يأمره فيها بأن لا يطرد
~~أحدا لأجل ضعفه أو فقره إذا كان مؤمنا يريد وجه الله، فإن الناس إنما
~~يقربهم إلى الله الإيمان والتقوى، لا عبرة بالغنى ولا بالفقر.
# وقد ذكر سبحانه ما يناسب هذه الآيات في سورة الأنعام إلى قوله: (قل من
~~ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن
~~من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)) (2)
~~.
# ثم إنه سبحانه قرر في السورة بعد التوحيد الرسالة والكتاب المنزل، وذكر
~~ما ذكره من رسله صلوات الله عليهم، وذكر المعاد والثواب والعقاب، ثم إنه
~~ختم السورة بذم حال المشركين وما حرموه وما شرعوه من الدين الذي لم يأذن به
~~الله، فقال: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (3) إلى
~~قوله تعالى: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا
~~حرمنا من شيء PageV02P084
# كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا ms0252 قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا
~~إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148)) (1) .
# فأخبر عن المشركين أنهم احتجوا فيما شرعوه من الدين
# وحرموه من الأشياء بالقدر، فقالوا: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا
~~ولا حرمنا من شيء) . قال تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم) أي كذبوا بأمر
~~الله ونهيه وخبره الذي بعث به رسله، فإن هذا تكذيب منهم للشرع محتجين عليه
~~بالقدر.
# ثم قال: (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم
~~إلا تخرصون (148)) ، فبين أن الاحتجاج بالقدر ليس بدليل على صحة قول
~~المحتج، فإن القدر متناول لكل كائن، فالمحتج به لا علم عنده، إن يظن إلا
~~ظنا، وهو في ذلك من الخارصين الحازرين الكاذبين (2) .
# وفي صحيح مسلم (3) عن عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما
~~أخبر به عن الله أنه قال: "خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، وحرمت
~~عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن ربي
~~قال لي: قم في قريش فأنذرهم، فقلت: أي رب إذا يثلغوا رأسي حتى يجعلوه خبزة.
~~فقال: إني PageV02P085
# مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان.
~~فابعث جندا أبعث مثلهم، وأنفق أنفق عليك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك".
# وهذا الأصل مبين في الكتاب والسنة، فمن شرع دينا لم يأذن به الله، أو
~~احتج بالقدر، وجعل الحقيقة الكونية معارضة للأمر والنهي الشرعيين فقد ضاهى/
~~هؤلاء المشركين.
# ولهذا كان المتكلمون في علوم الحقائق على ثلاثة (1) درجات: إحداها: أهل
~~الحقيقة الدينية الشرعية، الذين يتكلمون في حقائق الإيمان، كالحب لله،
~~والتوكل عليه، وإخلاص الدين له، والخوف منه، والرجاء له، والصبر لحكمه،
~~والشكر لنعمه، ونحو ذلك من حقائق الدين بما يوافق الكتاب والسنة. فهذا أهل
~~طريق أولياء الله المتقين وحزبه المصلحين وعباده الصالحين.
# والثانية: من خاض في حقائق الدين بمجرد ذوقه ووجده ورأيه، سواء وافقت
~~الكتاب والسنة أو خالفت. فهذا (2) يصيبون تارة ويخطئون تارة، ويكونون من
~~أهل السنة ms0253 تارة ومن أهل البدعة أخرى.
# الثالثة: من وقف عند الحقيقة الكونية القدرية، ولم يميز بين أولياء الله
~~وأعدائه، ولا بين طاعته ومعصيته، ولا بين ما يحبه PageV02P086
# ويرضاه وبين سائر ما قدره وقضاه. فهؤلاء أهل ضلال وتعطيل، قد حققوا
~~التوحيد الذي أقر به المشركون، ولم يدخلوا في توحيد الله ودينه الذي كان
~~عليه الأنبياء والمرسلون. فإن انتقلوا من ذلك إلى الحلول ووحدة الوجود
~~والإلحاد فقد صاروا من أعظم أهل الكفر والإلحاد. وهؤلاء فيهم من الإشراك
~~بالله والمخالفة لدينه ما لا يعلمه إلا الله، كما قد بسطنا الكلام على هذه
~~الأمور في غير هذا الموضع (1) .
# والمقصود هنا الكلام على اسم "القطب" ومسماه،/ وما علمت أن السلف تكلموا
~~بهذا الاسم في الرجال. (2) ، ولا جعلوا اسم القطب مما يعثر به عن أحوال
~~أولياء الله المتقين. بخلاف اسم "الأبدال"، فإنه نقل عنهم التكلم بذلك في
~~مواضع.
# وقد تكلم بعض المتأخرين بلفظ "الوتد"، والوتد: المثبت لغيره، كما أن
~~الجبال أوتاد الأرض، فمن ثبت الله به الإيمان والتقوى في قلوب بعض عباده،
~~أو ثبت بدعائه وعبادته نصرهم ورزقهم، كان له من هذا المعنى نصيب بحسب ذلك.
# وأما قول القائل: "إن على قدم كل نبي من الأنبياء وليان (3) : ولي ظاهر
~~وولي باطن"، فهذا كذب بلا ريب، فإن الأنبياء مائة ألف PageV02P087
# وأربعة وعشرون ألف نبي (1) ، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~الذين صحبوه أفضل الخلق، وما بلغوا هذا العدد، بل مكث النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - إلى حين الفتح أكثر من عشرين سنة، وما آمن معه إلا بضعة عشر
~~ألفا.
# ومعلوم أن هؤلاء الأولياء لا يكونون بعد مبعثه في غير أمته، فإذا كانت
~~أمته في سنين كثيرة لا تبلغ هذا العدد علم قطعا بطلان ذلك.
# وأيضا فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الأنبياء، النبي
~~يجيء وحده، والنبي يجيء معه الرجل، والنبي يجيء معه الرجلان (2) .
# فإذا كان النبي قد لا يتبعه أحد، أو لا يتبعه إلا رجل واحد، فكيف يجب أن
~~يكون له في كل ms0254 عصر اثنان على قدمه من أمة غيره؟ PageV02P088
# وأيضا فقوله: "وفي باطن وولي ظاهر" إن أريد به ولي يعرفه الناس ويظهر لهم
~~ولايته، وولي لا يظهر لهم، فمن المعلوم أن الناس لا يظهر لهم ولاية مائة
~~ألف ولا عشرة ألف (1) ، ولا يشهد بالولاية إلا لمن ثبت أنه ولي، إما بنص أو
~~بما يقوم مقامه. وإن كان لا يشهد بنفيها، لكن نحن نعلم قطعا أنه لا يظهر
~~ولاية هذا العدد للناس.
# وإن أريد بظهوره وجوده بين الناس وعلمهم به، فعامة الأولياء ظاهرون بهذا
~~الاعتبار، بل ليس من الأولياء من لم يره الناس، وإذا قدر أن فيهم من يختفي
~~عن الناس كثيرا من أوقاته أو أكثرها، فلا بد أن يظهر لبعضهم في بعض
~~الأوقات، ولو أنه ظهر/لأبويه ومن رباه إذا كان صغيرا. ثم هؤلاء في غاية
~~القلة، وهم من أضعف الأولياء ولاية، بل القرون الفاضلة كان وجود هؤلاء فيها
~~نادرا أو معدوما، فإن سكنى البوادي والجبال والغيران واعتزال المسلمين من
~~جمعهم وجماعتهم إما أن يكون منهما عنه، وإما أن يكون صاحبه إذا عذر عاجزا
~~منقوصا.
# وأيضا فقول القائل "إن الولي على قدم النبي" لا يجوز أن يريد به اتباع
~~شريعته، فإن بعد مبعث محمد لا يتقبل الله من أحد إلا شريعته، ولو كان موسى
~~حيا ثم اتبعه متبع وترك شريعة محمد كان ضالا (2) ، فلم يبق إلا موافقته في
~~بعض أخلاقه وأحواله، كما شبه PageV02P089
# النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبه عمر بنوح
~~وموسى (1) ، وحينئذ فيحتاج أن تكون أخلاق الأنبياء متفاوتة هذا التفاوت،
~~وهذا غير معلوم.
# وأيضا فإن غالب الأنبياء لم يقصوا على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -
~~ولم تعرفهم أمته، فكيف يكون من أمته من هو على قدم نبي لا يعرفه ولا يعرف
~~قدمه؟
# وأيضا فهذا كلام لا دليل عليه، ولم يقله من له قول في الأمة، ولو كان مثل
~~هذا حقا لكان معروفا عند أهل [العلم] (2) والإيمان.
# فإن مثل هذا لو كان حفا مما لا يخفى على ms0255 أهل العلم والإيمان من هذه
~~الأمة، فإذا لم يكن له أصل عندهم علم بطلانه. PageV02P090
# فصل
# وأما
### | قول القائل: "الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق"
# ، فحوائج الحلق لا تنتهي إلا إلى الله، كما قال سبحانه: (وما بكم فن نعمه
~~فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53)) (1) ، وقال تعالى: (ما يفتح
~~الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) (2) ، وقال
~~تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا
~~(56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته
~~ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)) (3) . قال طائفة من السلف: كان
~~أقوام يدعون الملائكة والمسيح والعزير، فأنزل الله هذه الآية (4) .
# وقال تعالى: (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا
~~أعتدنا جهنم للكافرين نزلا) (102) (5) . وأفضل الخلق: الرسل، والله سبحانه
~~PageV02P091
# بعثهم مبشرين ومنذرين (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (1) ،
~~وجعلهم سفراء بينه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وسائر
~~كلامه سبحانه وتعالى.
# ولم يضمن الرسل للخلق لا رزقا ولا نصرا ولا هدى، بل قال أولهم نوح: (قل
~~لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) (2) ،
~~وأمر خاتمهم وأفضلهم- صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم تسليما -أن يقول
~~ذلك، فقال: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم
~~الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) (3) ، وقال له: (إنك لا تهدى من
~~أحببت) (4) ، وقال له: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) (5)
~~، وقال له: (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40)) (6) ، وقال: (إنما أنت
~~منذر) (7) ، (لست عليهم بمصيطر) (8) . PageV02P092
# /فقول القائل: "إن حوائج الخلق تنتهي إليه"، إن أراد به ما يحتاج إليه
~~الخلق من الرزق والهدى والرزق (1) يحدثه الله بواسطته، فقد جعل بين الله
~~[و] (2) بين خلقه ربا متوسطا، كما يزعمه المتفلسفة في العقل الفعال، وهو
~~كفر صريح بإجماع أهل الملل.
# ثم إنه من ms0256 أظهر الكذب، فإن أفضل الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم -،
~~وبعده أولو العزم كإبراهيم وموسى وعيسى، ونحن نعلم قطعا أن عامة ما كان
~~الله يحدثه في زمانهم لم يكونوا متسببين فيه، ولا كانوا يعلمون به، وقد قال
~~الخضر لموسى لما نقر العصفور في البحر: "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا
~~كما نقص هذا العصفور من هذا البحر" (3) فإذا كان هذا في العلم الذي لا
~~تأثير معه، فكيف بالتأثير في الملك.
# ومن قال: إن طير الهواء وحيتان البحر ووحوش الفلا والكفار الذين بأرض
~~الهند والأجنة في بطون الأرحام تجري منافعهم ومصالحهم على يد رجل من البشر،
~~فقد قال نظير ما يقوله النصارى في المسيح، وكان قوله من أعظم الكذب القبيح
~~(4) . PageV02P093
# /وإن قال: إن أهل الأرض إذا احتاجوا إلى شئ دعا الله فيعطيه بدعائه، كان
~~هذا من نمط الذي قبله، فإنه قد علم أن الله يجيب دعوة المضطر إذا دعاه وإن
~~كان كافرا، فإذا كان المشركون يدعون الله بلا واسطة فيجيب دعاءهم،
~~فالمسلمون الذين هم عباده أولى. وقد يدعو الله بدعاء لم يعلم به أحد من
~~البشر.
# فإن قيل: ذلك الغوث يطلع على أسرار قلوب العباد. كان هذا القول أظهر في
~~الكفر والفساد، فسيد ولد آدم يظهره على شئ ويجيب عليه أشياء. وقد قال له:
~~(وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا
~~تعلمهم نحن نعلمهم) (1) .
# وقال: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) (2) . وقد رميت
~~أم المؤمنين بالإفك وأخفي عنه أمرها مدة، لما كان في ذلك له من المحنة،
~~تعظيما لأجره ورفعا لدرجته.
# وكذلك لما جاء قوم زكوا بني أبيرق الذين كانوا قد سرقوا طعام جارهم
~~ودرعه، ظن صدق المزكين ودفع عن المتهمين، حتى أنزل الله تعالى: (إنا أنزلنا
~~إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) (3) الآيات. PageV02P094
# وفي الصحيح (1) عنه أنه قال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن
~~بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ". وفي لفظ ms0257: "فأحسبه صادقا. فمن
~~قضيت له من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".
# ولما رآهم يلقحون النخل [قال] : "ما أظنه يغني شيئا"، فتركوه، فصار شيصا،
~~فقال: "إنما أخبرتكم عن ظني، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله
~~فلق أكذب على الله" (2) . وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم، فما كان من أمر
~~دينكم فإلي " (3) . ومثل هذا كثير، فإذا كان هذا أفضل الخلق وأعلمهم فكيف
~~يجوز أن يقال في غيره إنه يعلم جميع أسرار من يحتاج إلى الله؟
# /ثم قد علم بالقرآن والتواتر والتجارب أن الخلق مازالوا يحتاجون إلى
~~الله، ويضطرون إلى دعائه، إما في إعطائهم ما ينفعهم، كإنزال المطر، وإثبات
~~النبات، وغفران الذنوب، والإعانة على الطاعات؛ وإما في دفع ما يكرهون، مثل
~~دفع الأعداء وتفريج PageV02P095
# الكربات، وهو يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم تحقيقا لقوله: (وإذا سألك عبادي
~~عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم
~~يرشدون (186)) (1) من غير أن يرفعوا أمرهم إلى واسطة بينهم وبين الله.
# وأيضا ف
### | مازال الناس يجدبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوث لا ينفع ولا يدفع،
# فيا ليت شعري ماذا هي الحوائج التي يقضيها؟ أهي التي سألوا الله فيها؟
~~فالله مجيب المضطر إذا دعاه، وهو قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، أم التي
~~لم تقض بعد لأحد فيها؟ أم النعم التي ابتدأهم الله بها من غير سؤالهم؟ فهو
~~سبحانه يرزق الكفار ويمنعهم، بل وينصرهم إذا شاء، كما نصرهم يوم احد،
~~(ليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140)
~~وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141)) (2) .
# فإن كان هذا الغوث ساعيا في ذلك كان عاصيا لله ورسوله، محاربا لله
~~ورسوله، فإن من حارب الله ورسوله وعباده المؤمنين كان من أعداء الله لا من
~~أولياء الله. وما يرويه أهل الكذب والضلال من أن أهل الصفة قاتلوا النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما انهزم أصحابه يوم حنين أو غير يوم حنين،
~~وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان مع الله ms0258 كنا معه، من أعظم الكذب الموضوع
~~(3) /وأعظم الكفر بالله PageV02P096
# ورسوله، وهذا يقوله من ينظر إلى مجرد ما يقدره الله ويقضيه، ويشهد
~~الحقيقة الكونية، معرضا عما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه، وبعث
~~به رسله وأنزل به كتبه. ومن طرد هذا القول كان أكفر من اليهود والنصارى،
~~فإن أولئك آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وصاحب هذا المشهد لا يؤمن بشيء
~~من الكتاب، وغايته في شهوده تحقيق توحيد المشركين كأبي لهب وأبي جهل
~~وأمثالهما من الكفار، فإن أولئك كانوا يقرون بأن الله رب كل شيء وخالقه،
~~كما أخبر الله عنهم بقوله: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن
~~الله) (1) . فمن جعل غاية تحقيقه في توحيده أن يشهد ذاك، كان منتهاه هذا
~~الإشراك.
# والله سبحانه بعث الرسل بتوحيد الإلهية، وهو أن لا يعبد إلا الله، ولا
~~يخاف إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ويخلص له الدين، ويطيع رسله ويتبعهم،
~~ويحب ما أحب ويبغض ما أبغض، ويوالي من والى ويعادي من عادى، ويأمر بما أمر
~~وينهى عما نهى، حتى يكون الدين كله له، كما قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك
~~من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)) (2) ، وقال تعالى:
~~(واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة PageV02P097
# يعبدون (45)) (1) ، وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا
~~الله واجتنبوا الطاغوت) (2) ،/وقال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله
~~الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن
~~كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن
~~تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) (3) .
# فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر، فكيف بغيرهم؟ وقد
~~قال عن النصارى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن
~~مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
~~(31) (4) . ومعلوم أن النصارى لم تجعل الأحبار والرهبان شركاء لله في خلق ms0259
~~السماوات والأرض، ولا جعلت النبيين كذلك، بل جعلتهم وسائط بينهم وبين الله
~~في الإعطاء والمنع والضر والنفع، وأعطوهم من الدعاء والطاعة ما لا يستحقه
~~إلا الله، وظنوا أنهم يشفعون لهم عند الله كما يشفع المخلوق عند ملوك
~~الدنيا، يشفع عنده من يعز عليه ومن يحتاج إليه، والله تعالى ليس كمثله شيء،
~~لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله ولا أحكامه، ولا شيء من دونه سبحانه
~~وتعالى، فهو الذي يأذن للشفيع فيشفع، وهو الذي يقبل شفاعته، فالأمر منه
~~وإليه، لا PageV02P098
# خالق غيره ولا رب سواه، فلا يرجى غيره، والشفاعة من جملة الأسباب التي
~~قدرها وقضاها، يفعل بها كما يفعل بسائر ما يقدره من الأسباب.
# وأما لفظ "النجباء" فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف من أقسام عباد
~~الله الصالحين وأولياء الله المتقين، وإنما تكلم به بعض الشيوخ المتأخرين.
# PageV02P099
### | فصل
# وأما قول القائل: "إن النجباء بمصر والأبدال بالشام والنقباء بالعراق"
~~ونحو هذا الكلام، فهذا الكلام على الإطلاق باطل قطعا، فإن
### | هذه الأمصار كانت في أول الإسلام ديار كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله،
# ولما صارت دار إسلام صار فيها من أولياء الله المتقين بحسب ما في أهلها
~~من الإيمان والتقوى، ولا يختص إقليم من هذه الأقاليم بالأبدال. ومن قال إن
~~الأبدال لا يكونون إلا بالشام فقد أخطأ، فإن خيار هذه الأمة من السابقين
~~الأولين من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة النبوية، ولما فتحت الأمصار
~~كان في كل مصر من خيار المسلمين من لا يحصيه إلا الله.
# وقد جاء في فضائل الشام وأهله أحاديث معروفة (1) لم يجىء مثلها في العراق
~~وغيره من الأمصار، مثل قوله في الحديث الصحيح: "إن ملائكة (2) الرحمن باسطة
~~أجنحتها على الشام" (3) . PageV02P100
# وقوله: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا" (1) . وفي
~~القرآن أربع آيات تدل على حصول البركة في الشام (2) . ومثل قوله لعبد الله
~~بن حوالة لما قال: "إنكم ستجندون أجنادا مجندة جندا بالشام وجندا باليمن
~~وجندا بالعراق"، فقال عبد الله بن حوالة: يا رسول ms0260 الله! اختر لي، فقال:
~~"عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فمن
~~أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غدره، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله". رواه
~~أبو داود وغيره (3) .
# وفي "صحيح مسلم" وغيره عنه أنه قال:"لا يزال أهل الغرب ظاهرين لا يضرهم
~~من خالفهم حتى تقوم الساعة" (4) . قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل
~~الشام./وهذا الذي قاله = فضائل الشام" (ص 11)
~~.
# (1) أخرجه البخاري (1037، 7094) من حديث ابن عمر. وأخرجه أيضا أحمد
~~(2/90، 118) والترمذي (3953) .
# (2) هي خمس آيات في سورة الأعراف: 137؛ وسورة الإسراء: 1؛ وسورة
~~الأنبياء: 71، 81؛ وسورة سبأ: 18. وانظر "مجموع الفتاوى" (27/506) .
# (3) أخرجه أبو داود (2483) وأحمد (4/110) من طريق أبي قتيلة عن ابن
~~حوالة، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (5/33) والحاكم في "المستدرك" (4/510) من
~~طريق مكحول عن ابن حوالة بنحوه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وللحديث طرق
~~أخرى في "تاريخ دمشق" (1/56- 81) . وذكرها الألباني في "تخريج أحاديث فضائل
~~الشام ودمشق" (ص 12-13) وتكلم عليها.
# (4) أخرجه مسلم (1925) وأبو يعلى في "مسنده" (783) وأبو نعيم في "الحلية"
~~(3/95- 96) من حديث سعد بن أبي وقاص.
# PageV02P101
# أحمد هو معروف عند السلف، كانوا يسمون أهل الشام وما يغرب عنها أهل الغرب
~~(1) ، ويسمون أهل نجد والعراق وما يشرق عن ذلك أهل الشرق. فإن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - كان بالمدينة النبوية، فما يغرب عنها فهو غرب، وما يشرق
~~عنها فهو شرق.
# وقد جاء في بعض الآثار أن أكثر الأبدال بالشام (2) .
# فأما الحديث المأثور "لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم الأبدال، أربعين رجلا،
~~كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلا"، فهذا يروى عن علي بن أبي طالب بإسناد
~~منقطع، وهو في "المسند" (3) وغيره، وهو من رواية بعض الشيوخ الشاميين عن
~~علي، وهو لم يسمعه منهم، وإنما بلغه عن علي بلاغا، فلم يضبط له لفظه.
# و
### | إذا كان الأبدال الأربعون أفضل الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام،
# فإن الأمة في زمن علي كانوا ثلاثة أصناف:
# صنف قاتلوا معه، كعمار وسهل بن حنيف وأمثالهم، فهؤلاء مع PageV02P102
# علي بن أبي طالب لم يكن بالشام مثلهم ms0261، بل علي ومن معه أولى بالحق من
~~معاوية ومن معه من الشاميين، كما في الصحيحين (1) عن أبي سعيد عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين
~~يقتلهم أولى الطائفتين بالحق"، وفي لفظ: "أدناهما إلى الحق".
# فهذا حديث صحيح صريح بأن عليا وطائفته أولى بالحق من الطائفة الأخرى
~~معاوية وطائفته.
# /والصنف الثاني من المؤمنين من لم يقاتل، لا مع علي ولا معاوية، كسعد بن
~~أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وأمثالهم، فهؤلاء
~~أيضا أفضل من أهل الشام، وقد كان في لفيف أهل الشام من هو أفضل من كثير من
~~أهل العراق والحجاز.
# أما من لم يشهد القتال مع معاوية فإن في الشاميين من لم يقاتل معه كأبي
~~أمامة الباهلي وغيره. وأما من كان في عسكره فقد كان في عسكره أيضا قوم
~~صالحون لهم اجتهاد وحسن مقصد، وبكل حال فلا يعتقد مسلم أن علي بن أبي طالب
~~وسعد بن أبي وقاص وسهل بن حنيف ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين
~~الأولين الذين يشهد الكتاب والسنة بفضلهم على من بعدهم، كان PageV02P103
# الأبدال الأربعون الذين هم أفضل الأمة خارجين عنهم في حياتهم.
# فهذا الأصل المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع لا يعارضه خبر واحد رواه
~~الثقات، بل ينسبون في ذلك إلى الغلط، فكيف بحديث منقطع فيه من الريبة ما لا
~~يخفى.
# /ومما يبين ذلك أن الذين نطقوا بلفظ "الأبدال" من السلف كانوا يجعلون من
~~الأبدال من ليس بالشام، كما في حكاية أن مالك ابن دينار ومحمد بن واسع
~~وغيرهما من الأبدال (1) ، وفي حديث معدان الذي سأل الثوري عن قوله: (ما
~~يكون من نجوى ثلاثة) (2) فقال: بعلمه (3) ، قالوا: وكان معدان من الأبدال.
~~ومثل هذا كثير في كلامهم.
# وأما لفظ "النقباء" و"النجباء" في أولياء الله، فقد تقدم أنه ليس لذلك
~~أصل في كلام السلف. PageV02P104
### | فصل
# وأما قول القائل: "إن الشدة إذا نزلت بأهل الأرض يرفعها الأدنى إلى
~~الأعلى، حتى ينتهي الأمر إلى الغوث، فلا ms0262 يرفع بصره حتى تنفرج تلك النازلة"،
~~فهذا من أعظم البهتان من وجوه:
# أحدها: أن هذا الغوث المدعى ليس بأعظم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
~~ومحمد وغيرهم. وهؤلاء سادة الخلائق، يجيب الله من دعائهم ما لا يجيب من
~~دعاء غيرهم، وهم الذين تطلب منهم الشفاعة يوم القيامة، حتى ينتهى إلى خاتم
~~الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر
~~الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال: "فيأتوني، فأذهب إلى ربي، فإذا
~~رأيته خررت ساجدا، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي
~~محمد, ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع". قال: "فأرفع رأسي فأقول
~~أمتي أمتي، فيحذ لي حدا يدخلهم الجنة ... " الحديث بطوله (1) . وأحاديث
~~الشفاعة من أصح الأحاديث وأشهرها.
# فهذا سيد الخلائق وصاحب المقام المحمود لا يبتدىء PageV02P105
# بالشفاعة بل بالسجود والثناء،/حتى يؤذن له بالشفاعة فيشفع ثم يشفع.
# أما في الدنيا ففي الصحيح (1) عنه قال: "سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين
~~ومنعني واحدة، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم،
~~فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل
~~بأسهم بينهم، فمنعنيها".
# وفي الصحيح (2) أنه قال لعمه: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله
~~تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي
~~قربى) (3) . وقد صلى على عبد الله بن أبى ودعا له (4) ، حتى أنزل الله:
~~(ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) (5) . وقال له: (سواء
~~عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) (6) . PageV02P106
# وثانيه في الفضيلة الخليل، فإنه قد ثبت في الصحيح (1) أنه خير البرية،
~~وهو أفضل الرسل بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وقد استغفر لأبيه بقوله:
~~(ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)) (2) ، ومع هذا فآزر
~~في جهنم. وقد اعتذر الله عن إبراهيم من استغفاره له (3) .
# وأيضا فقد قال تعالى: (ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في
~~قوم لوط ms0263 (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه
~~قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود (76)) (4) .
# وأيضا فالأنبياء صلوات الله عليهم كانوا يجتهدون في الدعاء، كما كان
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو في مقامات معروفة، ففي يوم بدر كان
~~يناشد ربه ويجتهد في الدعاء حتى أتته البشرى بنزول الملائكة (5) ؛ وفي
~~الاستسقاء اجتهد في الدعاء (6) ، تارة في المسجد وتارة في (1) مسلم (2369) عن أنس. وأخرجه أيضا أحمد (3/178، 184)
~~وأبو داود (4782) وا لتر مذي (3352) .
# (2) سورة إبراهيم: 41
# (3) في سورة التوبة: 114 (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة
~~وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم
~~(114))
# (4) سورة هود: 74- 76.
# (5) أخرجه البخاري (2915، 3953، 4875، 4877) عن ابن عباس. وأخرجه مسلم
~~(1763) عن عمر بن الخطاب.
# (6) وردت أحاديث عديدة في الاستسقاء، منها حديث عبد الله بن زيد الذي
~~أخرجه البخاري (1023- 1025) ومسلم (894) ، وفيه ذكر الدعاء قبل الصلاة.
~~وحديث أنس بن مالك الذي أخرجه البخاري (933، 1013، 1019، 1021) ومسلم (897)
~~، وفيه ذكر الدعاء في خطبة الجمعة.
# PageV02P107
# الصحراء، حتى نزل الغيث. فإذا كانت الشدة لم تزل إلا بعد اجتهادهم/في
~~الدعاء في هذه المواطن، فكيف يكون غيرهم لا يرفع بصره حتى تدفع النوازل؟
# ثم إن الأمة قد نزل بها من الشدائد ما لا يحصيه إلا الله، واتصل بعضها
~~مدة، فأين كان هذا الغوث؟ وحدثوني عن الشيخ عبد الواحد بن القصار- وكان من
~~الشيوخ العارفين- أنه في اليوم الذي أخذت فيه بغداد، كشف له عن ذلك والسيف
~~يعمل في أهلها، فجعل يقول: أين القطب، أين الغوث؟ هذا السيف يعمل في أمة
~~محمد - صلى الله عليه وسلم -.
# وأيضا فكل مسلم يعلم من نفسه أن هذه الشدائد العامة لم يتركها هو وأصحابه
~~لشخص معين، بل دعوا الله سبحانه كما يدعونه عند الاستسقاء، وكما يدعونه عند
~~الاستنصار على الأعداء، لا أحد يرفع أمره إلى غير الله، الفهم إلا ما يقوله
~~بعض الناس لبعض كما جرت به العادة، فمن الأدنى الذي يرفع هذه الأمور إلى
~~الأعلى؟
# وأيضا فقد أخبر الله عن المشركين أنهم ms0264 يدعونه إذا مسهم الضر مخلصين له
~~الدين, فيجيبهم، قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه
~~فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)) (1) . وقال تعانى:
~~(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره
~~مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين PageV02P108
# ما كانوا يعملون (12)) (1) . وقال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله
~~مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بما
~~آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66)) (2) . ونظائره في القرآن كثيرة.
# وقد قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
~~فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (186) (3) ، فهو سبحانه قريب مجيب.
# وفي الصحيحين (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: "إنكم لا
~~تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى
~~أحدكم من عنق راحلته".
# وقد قال الخليل: (إن ربى لسميع الدعاء (39)) (5) ، وقال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - والمؤمنون في الصلاة: "سمع الله لمن حمده". فإذا كان هو سبحانه
~~سميع الدعاء، مجيبا لدعوة عباده، قريبا منهم، يجيب الكفار إذا دعوه مضطرين،
~~فكيف يحوج عباده المؤمنين إلى وسائط في رفع حوائجهم إليه كما يفعله الملوك؟
# وهو سبحانه يكلم عباده يوم القيامة ليس بينه وبينهم حاجب PageV02P109
# ولا ترجمان، كما في الصحيح (1) عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه قال: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حاجب ولا
~~ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا
~~شيئا قدمه، وينظر أمامه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو
~~بشق تمرة فليفعل، فإن لم يستطع فبكلمة طيبة".
# والمصلي يقول في الصلاة: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) (2) . وفي الصحيح
~~(3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن المصلي يناجي ربه"، وقال
~~(4) : "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن الله قبل وجهه، فلا يبصقن قبل وجهه".
~~ف
### | إذا ms0265 كان العبد يناجي ربه ويخاطبه، والله يسمع كلامه ويجيب دعاءه، فأين حاجته إلى الوسائط
# التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ /التي يعلم كل عاقل من أهل الإيمان أنها
~~من تأويل أهل الشرك والبهتان. وشواهد هذه الأصول كثيرة، قد بسطت في غير هذا
~~الموضع.
# والكتاب والسنة مملوء (5) بما يناقض دعوى هؤلاء المفترين. PageV02P110
# وهذا كله- الذي عليه هم- شعبة قوية من شعب دين النصارى، الذين (اتخذوا
~~أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا
~~ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31) (1) .
# وقد أمرنا الله أن نقول في صلواتنا: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط
~~الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (2) قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" (3) . فاليهود
~~شبهوا الخالق بخلقه، فوصفوه بصفات النقص والعيب، كالفقر والبخل واللغوب.
~~والنصارى شبهوا المخلوق بالخالق، فوصفوه بصفات الإلهية التي لا يستحقها إلا
~~الله، حتى أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. ولهذا قال تعالى: (لقد كفر
~~الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد
~~أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا (17)) (4) .
# وقال تعالى: (المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله PageV02P111
# الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام (75)) (1) .
# /وفي الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تطروني
~~كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
~~وقد حسم - صلى الله عليه وسلم - مواد الشرك قولا وعملا، حتى قال: "لا يقولن
~~أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن ما شاء الله ثم شاء محمد" (3) . وقال:
~~"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور
~~أنبيائهم مساجد" (4) . وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور
~~أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا (5) .
# وقال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون PageV02P112
# القبور مساجد، إلا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (1) .
~~ونهى عن ms0266 الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها (2) .
# والله سبحانه لم يأمر مخلوقا أن يسأل مخلوقا وإن كان بدأ باسمه بالسؤال
~~أحدا، فلم يأمره به، بل قال تعالى: (فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب
~~(8)) (3) . وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن
~~بالله" (4) .
# وفي الصحيح (5) عنه أنه قال في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "هم
~~الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". فجعل من
~~فضائلهم أنهم لا يطلبون من غيرهم رقية وإن كانت الرقية دعاء. فهذا وصف خواص
~~عباد الله. وهذا باب واسع، قد بسط في غير هذا الموضع (6) . PageV02P113
# /وغاية ما يراد بالمشايخ الصالحين ما يراد من الأنبياء والمرسلين،
~~والمراد منهم تبليغ رسالات الله وهداية عباد الله، والدعوة إلى الله، هذا
~~هو المقصود الأعظم. ولهم أيضا من الدعاء لعباد الله والشفاعة لهم ما هو من
~~الأمور المطلوبة، لكن الأمر كله لله، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
# ودعاء الله من الأنبياء والمؤمنين للعبد هو من نعم الله عليه، وأسعد
~~الناس بذلك أعظم إخلاصا لله وتوكلا عليه، كما في الصحيح (1) أن أبا هريرة
~~قال: يا رسول الله، أي الناس أسعد بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت يا أبا هريرة أن
~~لا يسألني عن هذا الحديث أحد قبلك، أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا
~~الله يبتغي بها وجه الله".
# فالعبد مأمور أن لا يتوكل إلا على الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يخاف إلا
~~إياه، ولا يعمل إلا له. والله ييسر له من الأسباب ما لم يكن له في حساب،
~~فإنه سبحانه يتولى الصالحين، وهو كاف عبده، وقد قال تعالى: (يا أيها النبي
~~حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)) (2) أي حسبك وحسب من اتبعك من
~~المؤمنين الله، فهو وحده كاف عباده لا يحتاج إلى ظهير ولا شريك. قال تعالى:
~~(وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي
~~من PageV02P114
# الذل) (1) . فإن المخلوق ذليل يتولى من يتولاه لذله، فإنه إن لم ms0267 يكن له
~~من يعينه وينصره/عجز وذل، وقهره عدوه. والله تعالى لا يوالي عباده من الذل،
~~بل برحمته وفضله وجوده وإحسانه، وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير
~~إليه، (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن (29) (2) . قال
~~تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات
~~ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع
~~الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (3) .
# وقال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا
~~يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا
~~يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28)) (4) . وقال تعالى: (إن كل
~~من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93) لقد أحصاهم وعدهم عدا (94)
~~وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95) (5) .
# وهذا كثير في كتاب الله، والله سبحانه أعلم. كتبه أحمد بن تيمية
~~PageV02P115
### | قاعدة في الاستحسان
# PageV02P117
# مقدمة
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين.
# وبعد، فبين أيدينا كتاب مهتم من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث من
~~مباحث أصول الفقه، وهو الاستحسان، حرر القول فيه وأجاد، وبين وجه الخلاف
~~بين القائلين به والمانعين منه، ودرس تلك المسائل التي يذكر العلماء أنها
~~استحسان على خلاف القياس، بطريقة لم يسبق إليها.
# وقد كنت عثرت على نسخة من هذا الكتاب ضمن مجموعة سيأتي وصفها، وتأملت
~~فيها فرأيت أنها بخط شيخ الإسلام ومسودته، بدلالة الشطب على كثير من
~~الكلمات والعبارات والإلحاق في مواضع عديدة، وهي خالية من النقط تقريبا.
~~وبدأت في قراءتها ونسخها، وكنت أقف على بعض الكلمات، وأقلبها على وجوهها،
~~حتى أصل إلى وجه الصواب فيها.
# أخذ مني النسخ والقراءة وقتا طويلا، لأني قمت بنسخها في فترات مختلفة،
~~كنت أنسخ جزءا منها وأنصرف عنها لمدة طويلة أو قصيرة، لصعوبة الاستمرار
~~فيها، وكثرة تلك الكلمات التي لا أهتدي لصوابها، حتى عثرت على بعض النصوص
~~المقتبسة من هذا الكتاب ms0268
# PageV02P119
# عند ابن القيم في "بدائع الفوائد"، والتي حلت لي بعض الإشكالات، ورجعت
~~إلى كتاب "العدة" لأبي يعلى الذي نقل منه المؤلف نصوصا عديدة، وقرأت مبحث
~~الاستحسان في معظم كتب الأصول عند الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية،
~~وأخيرا فتشت عن الموضوعات التي تناولها شيخ الإسلام هنا بالبحث والدراسة في
~~كتبه ورسائله وفتاواه، فوجدت ما يشبهها أحيانا بالنص والعبارة في مواضع
~~عديدة، وقد ساعدني هذا كثيرا في فك الرموز والاهتداء إلى الصواب في كثير من
~~الكلمات والعبارات التي كانت غامضة ومبهمة.
# واستقام لي النص تقريبا بعدما كلفني عرق القربة، وأحببت نشره كما هو بدون
~~تعليق أو تخريج أو توثيق، كما نشرت رسائله وفتاواه في "مجموع الفتاوى". ثم
~~عدلت عن هذا الرأي، لأن نشر الكتاب بهذا الشكل يحول دون فهم كثير من
~~المسائل الواردة فيه، والوصول إلى حقيقتها.
# وقد كان الغرض من كتابة التعليقات على الكتب في تراثنا الإسلامي الإشارة
~~إلى ما في الأصل من خطأ أو صواب، وضبط المشكل من الأسماء والألفاظ، وشرح
~~الغريب والحوشي منها، وإيضاح الغامض والمبهم من العبارات ليساعد ذلك على
~~فهم النص. يقول ابن جماعة فى تذكرة السامع والمتكلم (ص 186، 191) : "ولا
~~يكتب إلا الفوائد المهمة المتعلقة بذلك الكتاب، مثل تنبيه على إشكال أو
~~احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك، ولا يسوده بنقل المسائل والفروع الغريبة،
~~ولا يكثر الحواشي كثرة تظلم الكتاب أو تضيع مواضعها على طالبها".
# PageV02P120
# فاتبعت هذا المنهج الوسط في تعليقي، ووضعت نصب عيني أمورا: منها توثيق ما
~~نقله المؤلف من الأحاديث والآثار والمذاهب والنصوص، والإشارة إلى آرائه في
~~كتبه ورسائله وفتاواه في الموضوعات التي بحث فيها هنا، وشرح الغريب وتوضيح
~~الغامض من الكلمات، والإشارة إلى ما في الأصل من العبارات التي قد تشكل أو
~~تستغرب، ومحاولة توجيهها.
# وهذه فصول تتعلق بالكتاب جعلتها مدخلا إلى قراءة النص ودراسته، ليكون
~~القارئ على بصيرة منه قبل الشروع فيه.
# • عنوان الكتاب
# لم يرد ذكر عنوان الكتاب بخط المؤلف في النسخة الفريدة التي وصلتنا، وقد
~~كتب أحد المفهرسين أو القراء في ms0269 أعلى الصفحة الأولى منها: "في الاستحسان
~~والقياس" استنباطا مما كتبه المؤلف في أوله بعد الخطبة: "فصل في الاستحسان
~~القياس وموضع الاستحسان هل يق وتخصيص العلة ... ". ولكنه لم يلاحظ أن
~~المؤلف شطب على العبارة التي تحتها خط، فكان ينبغي للشخص المذكور أن لا
~~يذكر "والقياس" في العنوان الذي اجتهد في استنباطه. والكتاب لا يبحث إلا في
~~موضوع الاستحسان، ولم يذكر من مباحث القياس إلا ما يتعلق بتخصيص العلة،
~~ومسألة القياس على المخصوص من جملة القياس، وللمؤلف كتاب مستقل في معنى
~~القياس. والذي بين أيدينا أفرده لبيان معنى الاستحسان وحقيقة
# PageV02P121
# الخلاف فيه.
# ولم يكن من عادة المؤلف أن يسمي كتبه ورسائله ويختار لها عناوين مناسبة
~~في مقدماتها كما يفعله عامة المؤلفين المتأخرين، بل كان يبدأ في الكتابة في
~~موضوع معين بعد البسملة أو الحمدلة بقوله: "فصل في ... " أو "قاعدة في ...
~~"، وأحيانا يدخل في الموضوع مباشرة، أو يذكر سبب التأليف، دون أن يختار
~~عنوانا محددا له. وعندما يحيل في مصنفاته إلى كتبه ورسائله الأخرى يشير إلى
~~موضوعها، أو يكتفي بقوله: "كما بسط ذلك في موضع آخر" ونحوه. وأكثر مؤلفاته
~~ورسائله التي وصلت إلينا اختير لها عناوين في حياته أو بعد وفاته من قبل
~~تلاميذه وأصحابه الذين قاموا بنسخها وتبييضها ونشرها، وعلى رأسهم أبو عبد
~~الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رشيق (ت 749) كاتب مصنفات شيخ
~~الإسلام، الذي كان أبصر بخط الشيخ منه، وإذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه
~~(1) . PageV02P122
# وهذا أحد أسباب اختلاف العناوين لمؤلفات شيخ الإسلام، فكتاب واحد يذكره
~~المترجمون له بعناوين مختلفة، وتصلنا نسخه الخطية بأسماء غريبة يستنبطها
~~الناسخ أو القارئ أو المفهرس، ويغتر بها الباحثون فيعدونها كتبا مستقلة.
~~وجل من صنع من المحدثين فهرسا لمؤلفات الشيخ في دراسات مفردة أو مقدمات
~~التحقيق لكتب الشيخ وقع في هذا الوهم. وعذرهم في ذلك أنهم في أغلب، الأحيان
~~لم يطلعوا على هذه النسخ، ولم يقوموا بالمقارنة بينها، حتى يصلوا إلى
~~حقيقتها، وإنما نظروا في فهارس المخطوطات التي تذكر هذه العناوين ms0270 المختلفة،
~~فظنوها كتبا مختلفة.
# والواجب على من يريد معرفة العنوان الصحيح أو الأقرب إلى الصواب لكتاب من
~~كتب شيخ الإسلام أن يرجع إلى القوائم الأساسية لمؤلفاته التي أعدها تلاميذ
~~الشيخ وأصحابه. وأكثرها جمعا واستيعابا ثلاث قوائم عملها ابن رشيق المذكور،
~~وابن عبد الهادي (ت 744) ، والصفدي (ت764) .
# أما ابن رشيق فله "رسالة في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" نشرت
~~منسوبة لابن القيم (ت751) (1) بالاعتماد على نسخة خطية منها توجد في دار
~~الكتب الظاهرية بدمشق. وقد عثرت على نسخة أخرى منها، وهي وإن كانت ناقصة
~~إلا أن فيها زيادات على المطبوعة، وتحتوي على نصوص اقتبسها ابن عبد الهادي
~~في العقود PageV02P123
# الدرية (ص 27- 28) وصرح بنسبتها إلى ابن رشيق، وأشار إلى القائمة التي
~~صنعها.
# وكشفت المقابلة بين المخطوطة الثانية وبين المطبوعة عن أمر مهم آخر، وهو
~~أن ناسخ النسخة التي كان عليها الاعتماد في النشر (وهو الشيخ جميل العظم)
~~تصرف في إثبات العناوين تصرفا عجيبا، حيث اختصرها وهذبها وجعلها على نمط
~~واحد، وقدم وأخر، وحذف ما لم ير فيه فائدة، وهذا نموذج من المخطوطة الثانية
~~والمطبوعة يظهر به الفرق بينهما:
# المخطوطة المطبوعة
# سورة اقرأ باسم ربك 84- تفسير سورة اقرأ باسم ربك.
# * فسرها وبين أنها أول سورة أنزلت وبين
# أنها تضمنت أصول الدين، في مجلد
# لطيف.
# قل هو الله أحد 89 - تفسير سورة الإخلاص في مجلد.
# * فسرها في مجلد
# * وتكلم في مجلد لطيف على كونها
# PageV02P124
# تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن
# بعضه على بعض.
# * وله قواعد في التفسير مجملة، تكلم
# فيها على المصنفات وعلى المفسرين،
# وما هو متصل وغير متصل، ومن يعتمد
# عليه ومن لا يعتمد عليه، رأيت منها نحو
# مجلد كبير.
# * وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى
# * وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي
# والزمخشري أيها أفضل؟
# * وله قاعدة في فضائل القرآن. 90- قاعدة في فضائل
# القرآن.
# ولعل الشيخ جميل العظم أراد تهذيب العناوين والأسماء من أجل كتابه الذي
~~ألفه بعنوان "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون تصنيفا فمائة فأكثر"، ولو
~~أنه حافظ على الأصل كما ms0271 هو ولم يتصرف فيه لكان أجدى وأنفع وأوثق وأدق في
~~وصف الكتب والدلالة على ما أراد المؤلف بيانه.
# PageV02P125
# هذا ما يتعلق بالقائمة التي أعذها ابن رشيق، والتي نسبت إلى ابن القيم
~~خطأ، فأوقعت جمهرة من الباحثين والدارسين والمحققين في الوهم خلال خمسة
~~وأربعين عاما.
# أما ابن عبد الهادي فذكر قائمة من مؤلفات الشيخ في العقود الدرية (ص 26-
~~64) وقال في آخرها: "وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط
~~مؤلفاته في موضع آخر غير هذا. وأبين ما صنفه منها بمصر، وما ألفه منها
~~بدمشق، وما جمعه وهو في السجن. وأرتبه ترتيبا حسنا غير هذا الترتيب، بعون
~~الله تعالى وقوته ومشيئته". ولا ندري هل وجد ابن عبد الهادي فرصة لصنع هذا
~~الفهرس أم لا؟
# ورتب الصفدي قائمة مؤلفات الشيخ على الموضوعات في ترجمته في "الوافي
~~بالوفيات" و"أعيان العصر"، واعتمد عليه ابن شاكر الكتبي (ت 764) في ترجمة
~~الشيخ في "فوات الوفيات".
# هذه القوائم الأساسية إذا اتفقت على عنوان الكتاب فلا يعدل عنه إلى غيره
~~مما هو مثبت على مخطوطاته المختلفة إلا إذا كان ذلك العنوان بخط المؤلف
~~نفسه، فيرجح على غيره. أما إذا اختلفت في ذكر العنوان فيكون الترجيح للاسم
~~الذي يكون مطابقا لإحدى النسخ الخطية القديمة التي وصلتنا.
# لننتقل الآن إلى الكتاب الذي بين أيدينا، ولنبحث عن عنوانه الصحيح بعدما
~~رأينا أن المفهرس أو أحد القراء وقع في الخطأ
# PageV02P126
# عندما أثبت عنوانه "في الاستحسان والقياس"، وبينا سبب وقوعه في الخطأ.
~~وإذا رجعنا إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها وجدنا أن ابن رشيق لم
~~يشر إلى هذا الكتاب، أو بعبارة أدق: لم نجد ذكره في النسخة المهذبة
~~المختصرة المنشورة من الكتاب، ولعله ذكره في الأصل الذي لم يصل إلينا إلا
~~نصفه تقريبا بصورته الأصلية.
# أما الصفدي فذكر هذا الكتاب بعنوان "قاعدة في الاستحسان" في الوافي
~~بالوفيات (7/27) وأعيان العصر (1/35 أ [عاطف أفندي 1809] ) وتبعه ابن شاكر
~~الكتبي في فوات الوفيات (1/78) ، وعن ابن شاكر نقل محمود شكري الآلوسي في
~~غاية الأماني في ms0272 الرد على النبهاني (1/384) ، وكلهم ذكروا الكتاب ضمن
~~المؤلفات في أصول الفقه.
# ووجدت عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 45) كتابا بعنوان "قاعدة
~~في الإحسان"، وربما يكون "الإحسان" تصحيفا عن "الاستحسان"، فقد جاء ذكره في
~~سياق كتب الفقه والأصول، وسبق أن ذكر (ص 48) "قاعدة في الإيمان المقرون
~~بالإحسان، وفي الإحسان المقرون بالإسلام" فلا وجه لتكراره إلا أنني رجعت
~~إلى طبعات أخرى لكتاب العقود الدرية، فوجدت جميعها تتفق على إثبات العنوان
~~المذكور، فترددت في القول بوقوع التصحيف فيه.
# ولم أجد الآن نسخا خطية من الكتاب لأحقق هذا الأمر.
# ولم أجد من ذكر هذا العنوان غير المؤلفين الثلاثة (إذا استثنينا ابن عبد
~~الهادي) ، وهو العنوان الموافق لمضمون الكتاب الذي بين
# PageV02P127
# أيدينا، فلم أعدل عنه إلى غيره. وأثبته على الغلاف، وإن كانت نسخة المؤلف
~~خالية منه، لما ذكرت من أن هذا العنوان وضع من قبل أحد تلاميذ الشيخ
~~وأصحابه، فيرجح على ما يستنبطه أحد المفهرسين أو القراء.
# • توثيق نسبته إلى المؤلف
# قررنا فيما سبق أن لشيخ الإسلام ابن تيمية كتابا بعنوان "قاعدة في
~~الاستحسان"، إلا أن هذا لا يكفي لصحة نسبة الكتاب الذي بين أيدينا إليه ما
~~لم تكن هناك أذلة أخرى مقنعة تؤكد ذلك، وبعد الدراسة المتأنية له والرجوع
~~إلى بعض المصادر يظهر لنا جليا أنه من تأليف شيخ الإسلام، وأنه الكتاب الذي
~~أشار إليه المترجمون له.
# أما أنه من تأليفه فأكبر دليل على ذلك أنه مسودة كتبها بخطه، كما هو واضح
~~لكل من اطلع على شيء من مؤلفاته بخطه المعروف والموصوف بالسرعة وكونه في
~~غاية التعليق والإغلاق (1) ، حتى أن كثيرا من أصحابه عجزوا عن نقله، وكان
~~هذا أحد أسباب ضياع كثير من مؤلفاته. يقول ابن عبد الهادي: "كان كثيرا ما
~~يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا، ويسأل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا فلا
~~يدرى أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردوا خطي وأظهروه لينقل، فمن حرصهم
~~عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب، PageV02P128
# ولا يعرف اسمه" (1) .
# والكتاب ms0273 الذي بين أيدينا نموذج من هذا الخط الدقيق، ولعله بقي عند بعض
~~أصحابه، ولم تنسخ منه نسخ، ولا انتشر ذكره مثل بقية مؤلفاته المشهورة، فلم
~~نجد له ذكرا في فهارس المخطوطات، بل المكتبة التي تحتفظ بهذا المخطوط
~~الفريد لا يوجد في فهارسها ذكره، ولذا بقي مجهولا لدى الباحثين إلى يومنا
~~هذا.
# ومما يدك على أنه لشيخ الإسلام أن في الكتاب إشارة إلى
# كتاباته الأخرى في موضعين:
### | 1-
# بعدما قرر أن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال، قال: "وهذا هو
~~الصواب، كما قد بسطناه في مصنف مفرد، بمناسبة أنه ليس في الشرع شيء بخلاف
~~القياس الصحيح أصلا" (ص 197- 198) . يشير هنا إلى رسالته في معنى القياس،
~~وهي من مؤلفاته المطبوعة والثابتة النسبة له (2) .
### | 2-
# قال: "وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأحكام كلها بلفظ الشارع ومعناه،
~~فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني المؤثرة،
~~فمعانيه أيضا متناولة لجميع الأحكام " (ص 206-207) . يشير هنا إلى " قاعدة
~~في شمول النصوص للأحكام"، حيث أطال الكلام في هذا الموضوع، وقرر أن النصوص
~~وافية PageV02P129
# بجمهور الأحكام، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال
~~الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. وهذه القاعدة مذكورة ضمن مؤلفات
~~الشيخ في "العقود الدرية" (ص 45) .
# وفي الكتاب موضوعات عديدة بحث فيها شيخ الإسلام في
# كتبه ورسائله الأخرى، وتكلم عليها بنحو الكلام الذي نجده هنا،
# ورجح ما رجحه هنا، وهذا التوافق لا يدع مجالا للشك في أن الكتاب
# للمؤلف نفسه. والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أشرت في تعليقي إلى
# هذه المواضع. وهذه نماذج منها:
# الموضوع - الكتاب - مجموع الفتاوى
# قياس المشركين 53 ,20/539 ,540و19/287
# إذا صلى الإمام قاعدا كيف
# يفعل المأمومون 54-55 ,23/249و405 ,406
# الكلام على من يجعل إجارة
# الظئر على خلاف القياس 61 ,20/531 ,532و30/197-200
# الكلام على من يجعل الإجارة
# والقراض على خلاف القياس 61, 20/514, 515
# الكلام على خبر المصراة 67, 20/556-558
# الكلام على من جعل حمل
# العاقلة على خلاف القياس 67, 20/552-554
# العلة نوعان: تامة ومقتضية
# PageV02P130
# أولا 69-70, 20/167, 168و21/356, 357
# هل العقوبة المالية منسوخة؟ 73, 28/111 وما بعدها
# تضعيف الغرم على من
# درىء عنه القطع ms0274 73, 28/113, 118-119, 333
# نهي الإمام أحمد عن التأويل
# والقياس 74, 7/392
# معنى "المجمل" في كلام
# الأئمة 74, 7/391
# محل سجود السهو عند الإمام
# أحمد 75-76, 23/17 وما بعدها
# نفي كون علة الربا هي الوزن 78, 29/471
# القياس الصحيح والقياس
# الفاسد 79, 19/285-288
# هل يقاس على المعدول به
# عن سنن القياس؟ 82-83, 20/555, 556
# القصر في السفر الطويل
# والقصير 87, 24/34-35, 12-13, 15
# منع قصر المكيين مخالف
# للسنة 87, 20/361-362, 24/10-11, 26/130
# PageV02P131
# مناقشة أدلة القائلين بالتيمم
# لكل صلاة 94-96, 21/354-361, 435-438
# معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصليت
# بأصحابك وأنت جنب؟ " 96-97, 21/404-405
# المضارب إذا خالف: ماذا
# يستحق؟ 97-99, 30/85-86, 91, 28/
### | 84-85
# تصرف الفضولي 99, 20/577
# القول بوقف المعقود 101, 20/579-580, 29/249
# السنة في اللقطة 101, 20/577, 29/250
# أثر عمر بن الخطاب في
# المضارب واختلاف العلماء
# في المسألة 102, 30/87, 323, 329
# تصرف الغاصب 102, 20/562-563
# من غصب أرضا فزرعها فالزرع
# لرب الأرض وعليه النفقة،
# مناقشة من قال: إنه على
# خلاف القياس 104-105, 29/124
# شراء المصحف واستبداله 106, 31/212-213
# بيع الأرض الخراجية، الرد
# على من منع منه لأنها وقف 107-109, 29/206-209, 28/
### | 588-589
# , 31/230-
# PageV02P132
# 231، 17/488- 489
# قبول شهادة أهل الذمة في
# الوصية في السفر 109-110, 15/299
# قبول شهادة النساء فيما لا يطلع
# عليه الرجال 111, 15/299
# من نذر ذبح نفسه أو ولده
# ماذا عليه؟ 112-113, 35/343-345
# وأخيرا فإن ما نقله ابن القيم في "بدائع الفوائد" (4/124- 126) من هذا
~~الكتاب يعتبر دليلا قاطعا على صحة نسبته إلى شيخ الإسلام، وهو وإن لم يصرح
~~بعنوان الكتاب فانه ينقل النصوص منه بقوله: "ونازعهم شيخنا ... " و"قال
~~شيخنا". وهي متطابقة تماما مع النصوص الموجودة في الكتاب (ص 166-183) وقد
~~علق ابن القيم على هذه المقتبسات أحيانا، وميز تعليقاته بقوله "قلت".
~~واختصر بعض النصوص، وحذف بعض الكلام، فلم ينقل منه إلا ما يدل على المقصود.
~~ولاحظت في مطبوعته تصحيفات في مواضع ينبغي أن تصحح بعد المقابلة مع هذا
~~الأصل المنقول منه.
# • تاريخ تأليفه
# لا نستطيع أن نحدد في ضوء المعلومات التي لدينا متى ألف شيخ الإسلام هذا
~~الكتاب، فلم تسعفنا المصادر بشيء يفيدنا في هذا الباب، ولا تحمل النسخة أي
~~إشارة إلى التاريخ الذي فرغ فيه المؤلف من تأليفه. أما الموضوعات المشتركة
~~التي بحث عنها هنا وفي رسائله
# PageV02P133
# وكتبه الأخرى فلا يمكن استنباط التقدم والتأخر في ضوئها، لأن المؤلف
~~كثيرا ما يكرر فكرة معينة في مؤلفاته وفتاواه، فلو استطعنا معرفة تواريخ ms0275
~~بعضها فهذه لا ترشدنا إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهل كان ذلك قبلها أو
~~بعدها.
# ولكني أكاد أجزم بأنه ألفه في أواخر حياته، وبالتحديد بعد سنة 712.
~~والدليل على ذلك أن المؤلف أحال فيه (ص 197) إلى رسالته في معنى القياس،
~~وهي عبارة عن جواب سؤال سئل فيه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم:
~~هذا خلاف القياس. وكان السائل مجهولا (1) حتى وجدت في إعلام الموقعين
~~(1/383) أن ابن القيم هو الذي كان وجه هذا السؤال إلى شيخه، كما ذكر ذلك
~~بنفسه. ولشدة إعجابه بهذا الجواب أورد معظمه في كتابه المذكور (1/384- 401
~~ثم 2/3-38) مع التعليق عليه في مواضع.
# وتفيدنا بعض المصادر (2) أن ابن القيم لازم شيخه ستة عشر عاما (أي 712-
~~728) حتى رافقه في سجنه في آخر حياته. وعلى هذا فيكون كتابه في معنى القياس
~~من مؤلفات هذه الفترة قطعا، ويكون الكتاب الذي بين أيدينا قد ألف بعده.
~~وهذا يناسب ما ذكره بعضهم (3) من أن شيخ الإسلام بعد رجوعه من مصر إلى
~~الشام سنة 712 تفرغ للتأليف وكتابة الرسائل والأعمال العلمية الأخرى،
~~PageV02P134
# وكانت من أخصب فترات عمره التي ألف فيها كثيرا. من كتبه.
# • سبب تأليفه
# أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى سبب تأليفه، فذكر أن المؤلفين في الأصول
~~خاضوا في مباحث الاستحسان وتخصيص العلة، والقياس على موضع الاستحسان وادعوا
~~في بعض الأحكام التي ثبتت بالنص والإجماع أنها مخالفة للقياس، واضطربوا
~~فيها غاية الاضطراب. وكانت الحاجة ماسة إلى تحقيق القول فيها، لأن كثيرا من
~~مسائل الشريعة أصولها وفروعها لها علاقة بهذه الموضوعات.
# وهذا ما دعا المؤلف إلى الكتابة في هذا الباب وتحرير الكلام فيه، وبيان
~~وجه الخلاف بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وأن الخلاف بين
~~الفريقين حقيقي، وليس لفظيا كما ذكره عامة الأصوليين.
# ويبدو لي أنه عندما وجد أبا يعلى وأبا الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهم
~~من الأصوليين الحنابلة سايروا الحنفية في القول بالاستحسان وتعريفه بأنه
~~مخالفة القياس لدليل، ونصوا على أنه مذهب الإمام أحمد، ونقلوا عنه مسائل
~~قال فيها بالاستحسان-: أراد أن يبين وجه ms0276 الحق والصواب في هذه القضية، وأن
~~الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث لم يقولوا بالاستحسان الذي قال به
~~الحنفية، وأن هناك خلافا منهجيا كبيرا بين الفريقين في هذا الباب، وأن
~~المسائل الاستحسانية التي نقلت عن الإمام أحمد ليست مخالفة للقياس، وأن
~~القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال.
# PageV02P135
# هذه الأمور وغيرها كانت تحتاج إلى البسط والتفصيل والحجاج والمناقشة،
~~فنشط لها المؤلف، وألف هذا الكتاب الذي أتى فيه بنظرات جديدة حول الموضوع،
~~وتناوله بطريقة لم يسبق إليها.
# • منهج المؤلف فيه
# للمؤلف منهج متميز لا يحيد عنه في جميع مؤلفاته، فهو يعتمد على الكتاب
~~والسنة وأقوال السلف في الكلام على أي مسألة، سواء كانت في العقيدة أو
~~الأصول أو المصطلح أو التفسير أو الفقه أو غيرها، وينقل المذاهب والآراء من
~~المصادر المعتمدة لدى أصحابها، ولا ينسب إليهم إلا ما يقولون به ملتزما
~~الأمانة العلمية في ذلك. ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم بالحجج والبراهين،
~~ويبين وجه خطئهم، ومدى قربهم أو بعدهم من منهج السلف. ويحرر القول في
~~المسألة تحريرا بالغا، ويرد على جميع الشبه والاعتراضات التي قد ينخدع بها
~~العامة والخاصة، ويستطرد أحيانا إلى موضوعات أخرى يأتي فيها بفوائد علمية
~~جليلة. كل ذلك بأسلوب سهل ميسر يجري كالماء سلاسة وعذوبة، يكاد يفهمه
~~الجميع: المتعلم منهم وغير المتعلم. وقد انتقد المؤلف الأسجاع والزخارف
~~اللفظية التي يلجأ إليها عامة الكتاب والأدباء، فقال: "وأما تكلف الأسجاع
~~والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء
~~والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء
~~منهم، ولا كان ذلك مما يهتم به العرب، وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير
~~فائدة مطلوبة من المعاني،
# PageV02P136
# كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان" (1) .
# فهو ينزه أسلوبه عن الزخارف والأسجاع والتعقيدات اللفظية والمعنوية،
~~ويكتب بأسلوب سلس فصيح يعبر بوضوح عن المعاني والأفكار التي يرمي إليها،
~~ولا يبقي أي غموض أو إبهام فيها.
# هذه ملامح عامة من منهجه وأسلوبه في الكتابة، نجدها بارزة في هذا الكتاب
~~أيضا ms0277 مثل بقية مؤلفاته، فهو ينقل أولا عن الأصوليين ما قالوه في هذا الباب،
~~ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم، ويبين وجه الخطأ والصواب عندهم، ويحرر
~~المسألة تحريرا بالغا بأسلوبه الذي عرفناه، مستندا في كل ذلك إلى الكتاب
~~والسنة وأقوال السلف الصالح، كما سنرى ذلك فيما بعد إن شاء الله.
# • مصادره
# إن أهم مصدر رجع إليه المؤلف عند كتابته في هذا الموضوع: كتاب "العدة"
~~لأبي يعلى، فقد نقل عنه نصوصا عديدة في مواضع مختلفة، وصرح فيها باسم أبي
~~يعلى أو لقبه بالقاضي، وكان اعتماده عليه دون غيره من كتب الأصول لأنه من
~~أجمعها عند الحنابلة، وكل من جاء بعده مثل الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما
~~اعتمدوا عليه في مؤلفاتهم، ولذا أحال إليه المؤلف ونقل عنه نصوصا في مبحث
~~الاستحسان (ص 167، 175- 176) ، ومبحث تخصيص العلة (ص180- 182) ومبحث القياس
~~على المخصوص من القياس (ص 198- 200، (1)
~~منهاج السنة النبوية 4/158، 159 (ط. بولاق) .
# PageV02P137
### | 200- 201
# ، 202-203، 204) . وهي عند أبي يعلى في العدة (5/1605 و
~~1607-4/1386-1388, 1394, 1397- 1401, 1402, 1403, 1408) . وكذلك ما يتعلق
~~باستحسانات الإمام أحمد بن حنبل برواية صالح والميموني والمزوذي وبكر بن
~~محمد (ص 172-174) يبدو أنه منقول عن العدة (5/1604- 1605) أيضا. وكذا ما
~~ذكره عن الإمام أحمد برواية [أحمد بن] الحسين بن حسان، وما ذكره عن ابن
~~شاقلا في "شرح الخرقي "، وما ذكره عن أبي الحسن الخرزي في "جزء فيه مسائل
~~من الأصول" (ص181 - 182) -: كله بواسطة كتاب "العدة" (4/1386- 1387) .
# وهناك مؤلفون آخرون في الأصول أشار إلى آرائهم وإن لم يقتبس نصوص كلامهم،
~~وهم:
# - أبو الخطاب الكلوذاني (ص 174، 180، 182) ، وآراؤه المشار إليها في
~~كتابه "التمهيد" (4/92، 69) .
# - ابن عقيل) ص 174، 180، 184) ، وآراؤه المذكورة في كتابه "الواضح "
~~(1/144أ، 144ب، 145أ) .
# - أبو الحسين البصري (ص 178) ، كلامه في كتابه "المعتمد" (2/839) .
# - الجصاص الرازي (ص 178) ، قوله في كتابه "الفصول في الأصول" (ق 297 أ-
~~ب) .
# - أبو حامد المروزي وأبو الطيب الطبري (ص 184) كلاهما
# PageV02P138
# من أئمة الشافعية، لا أدري هل ذكر المؤلف رأيهما بالاعتماد على كتبهما أو
~~بواسطة مصدر آخر؟
# أما المسائل الفقهية فلا يذكر المؤلف مصادره فيها غالبا؟ لأنه كان حافظا
~~لها. وقد صرح بالنقل عن مختصر الخرقي (ص 215، 216) في موضعين ms0278 فقط. وكذلك
~~الأمر بشأن الأحاديث والآثار، فإنها كانت على طرف لسانه، حتى قيل: "كل حديث
~~لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث " (1) . وفي موضع واحد فقط قال بعد إيراد
~~حديث: "رواه البخاري " (ص 225) .
# وأشار في موضع إلى كتب الإمام مالك وأصحابه، بشأن ورود لفظ الاستحسان
~~فيها (ص 165) ، كما أشار إلى كلام الشافعي في إبطال الاستحسان (ص 166) .
# هذه بعض المصادر التي نقل عنها أو أشار إليها، وسنرى فيما بعد أنه لم
~~يقتصر على النقل والاقتباس، بل علق على كل نص بما يؤيده أو يفنده مع ذكر
~~الدليل على ذلك.
# • تحليل مباحث الكتاب ورأي المؤلف في الاستحسان
# خصص المؤلف هذا الكتاب لدراسة مبحث الاستحسان، فبين معناه، وذكر اختلاف
~~العلماء فيه، وفضل القول في تحرير محل النزاع بينهم، وذكر أنواع الاستحسان
~~عند القائلين به، وهل الاستحسان تخصيص العلة أم لا؟ ودرس تلك المسائل التي
~~يقال إنها استحسان PageV02P139
# على خلاف القياس، وبين وجه ذم بعض الأئمة له تارة والقول به أخرى، وجاء
~~فيه بتحقيقات من عنده، ونظرات في هذا الموضوع لم يسبق إليها.
# وقبل أن نقوم بتحليل هذه المباحث ودراسة آراء المؤلف فيها، ينبغي الإشارة
~~إلى أن بعض الباحثين لم يتعرضوا لموضوع الاستحسان عند شيخ الإسلام (1) ،
~~بسبب عدم عثورهم على هذا الكتاب، وحاول آخرون أن يجمعوا نتفا من كلامه من
~~كتبه ورسائله، ومنهم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي توصل بعد
~~دراستها إلى أن شيخ الإسلام جعل الاستحسان قسمين (2) :
### | 1-
# الاستحسان بمجرد الرأي، وهذا يرده، ويعتبر القول به شرعا في الدين بما لم
~~يأذن به الله، ويعتبر كل استحسان خالف النص بالرأي استحسانا باطلا لا يجوز
~~القول به ولا اعتباره.
### | 2-
# الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وهذا القسم يقول
~~به ابن تيمية.
# واستند في ذلك إلى قوله: "فنجد القائلين بالاستحسان الذين تركوا القياس
~~لنمن خيرا من الذين طردو القياس وتركوا النص" (3) . PageV02P140
# وأنه روي عن أحمد مسائل قال فيها بالاستحسان، ونقل جملة من تفسيرات
~~الاستحسان، وذكر أن مرد القول به إلى ms0279 ترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولم
~~يعترض على شيء من ذلك حيث قال بعد نقل كلام الحلواني: "وهذا الكلام منه
~~يقتضي أن الاستحسان ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وهذا معنى قول القاضي.
~~ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن، وإنما يكون في شيئين حسنين،
~~وإنما يوصف القول بالحسن إذا جاز العمل به لو لم يعارض" (1) .
# أما الأستاذ حمزة زهير حافظ فأشار أولا إلى ذكر شيخ الإسلام لأمثلة
~~الاستحسان التي وردت عن الإمام أحمد، ونسبة القول به إلى أصحاب أبي حنيفة،
~~وإنكار الشافعي له، وعقب عليه بقوله: "ولم يبين مقصد الشافعي من إنكاره"
~~(2) .
# ثم نقل عن المسودة كلام الحلواني السابق وتعليق شيخ الإسلام عليه، وقال:
~~"كلام ابن تيمية هنا ينبهنا على نقطة مهمة، وهي: أن تركنا للقياس في مواضع
~~معينة لا يعني القدح في هذا الأصل الشرعي، بل إن القياس في المسألة التي
~~تركناه فيها دليل قوي في نفسه، لولا أن جاء دليل أقوى منه، فقدمناه عليه.
~~وهذا لا يقدح مطلقا فيه. بل إن ابن تيمية أشار إلى أن اتباع القياس حسن،
~~ولذلك وصف الدليل PageV02P141
# المعارض الذي يكون أقوى منه وصفه بأنه حسن" (1) .
# ثم تعرض لموضوع: هل الاستحسان من باب تخصيص العلة أم لا؟ ونقل عن المسودة
~~نصا في ذلك. وجاء باحث آخر، وهو الدكتور عمر بن عبد العزيز، فتوصل بعد
~~دراسته لرسالة شيخ الإسلام في معنى القياس إلى أنه منع من إطلاق "المخالف
~~للقياس" على ما ثبت شرعا على الوجه المخصوص، وأن المسائل الفقهية التي قيل
~~بمخالفتها للقياس بين شيخ الإسلام موافقتها له، ولكنه بعد ذلك جعله من
~~القائلين بالاستحسان، الذي يلتقي في بعض أنواعه مع المعدول به عن القياس،
~~أو ما يسمى بالمخالف للقياس، واعتبر هذا موقفا آخر، وحاول التوفيق بين
~~الموقفين وقال: "إن اعترافه بالاستحسان وإنكاره للمخالف للقياس ينسجمان
~~انسجاما لا يشوبه شبهة التعارض ... ذلك أنه إنما أنكر اسم "خلاف القياس"
~~لما ثبت شرعا، لإفضائه إلى اللوازم الستة التي سبق ذكرها، إذ كان فيه إشعار
~~بثبات ذلك القياس ms0280 بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم آخر بدليل شرعي آخر ... أما
~~الاستحسان فإنه يشعر بأن دور القياس المعدول عنه قد انتهى بالنسبة لهذا
~~الذي أفرد بحكم، وأنه ما ينبغي أن يدخل هذا الفرد في نطاقه، ويأخذ حكمه،
~~فلا يستلزم أيا من تلك اللوازم الستة الباطلة. أضف إلى، ذلك أن اسم
~~الاستحسان يشعر بالمدح والثناء"!! (2) . PageV02P142
# هذه آراء بعض الباحثين الممتازين في بيان موقف شيخ الإسلام من الاستحسان،
~~حيث ذكروا أنه من القائلين به إذا كان الاستحسان لدليل، وهو العدول عن
~~القياس لما هو أقوى منه، وأن الاستحسان هو اختيار الأحسن، وأن ترك القياس
~~في مواضع معينة لا يعني القدح فيه، فإنه يحرك لدليل أقوى منه. ولو أنهم
~~اطلعوا على هذا الكتاب لعرفوا أن جميع ما توصلوا إليه خلاف ما قرره شيخ
~~الإسلام هنا، وأن ما استنبط من كلامه ليس رأيه الصريح في هذه القضية، بل هو
~~نقل عن الآخرين وتوجيه لأقوالهم وبيان لما يقصدون إليه.
# وسنعرض فيما يلي مباحث الكتاب لنعرف موقف شيخ الإسلام من الاستحسان ومن
~~القائلين به والمانعين منه، ومدى موافقته لأحد الفريقين، وكيف ينظر إلى تلك
~~المسائل التي قيل فيها: إنها استحسان على خلاف القياس.
# بدأ المؤلف كتابه بخطبة الحاجة، وبيان سبب التأليف الذي سبق الحديث عنه،
~~ثم ذكر التعريف المشهور للاستحسان وهو أنه مخالفة القياس لدليل، وبين
~~اختلاف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب: فالظاهرية والمعتزلة والشيعة ينكرون
~~هذا اللفظ مطلقا، وأبو حنيفة وأصحابه يقرون به بهذا المعنى، ويجوزون مخالفة
~~القياس للاستحسان، ويعملون بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. والشافعي
~~وأحمد ومالك وغيرهم يذمون الاستحسان تارة ويقولون به تارة. وكان الشافعي من
~~أعظم الأئمة إنكارا له، وقد تكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك،
~~ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان في بعض
# PageV02P143
# المواضع. ونقل عن أحمد أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف
~~القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس. فيدعون الذي يزعمون أنه الحق
~~بالاستحسان. وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه".
# بين المؤلف مراد ms0281 أحمد من هذا القول، وهو أنه يستعمل النصوص كلها، ولا
~~يقيس على أحد النصين قياسا يعارض النص الآخر، كما يفعل الحنفية، حيث يقيسون
~~على أحد النصين، ثم يستثنون موضع الاستحسان إما لنص أو غيره، فينقضون العلة
~~التي يدعون صحتها مع تساويها في محالها. أما أحمد فيوجب طرد العلة الصحيحة،
~~ويقول: إن انتقاضها مع تساويها في محالها يوجب فسادها، وبالتالي فساد
~~القياس المبني على تلك العلة المزعومة. ثم شرح المؤلف الفرق بين المنهجين
~~بذكر بعض الأمثلة على ذلك، وتوصل إلى أن منهج فقهاء الحديث كيحيى بن سعيد
~~والشافعي وأحمد وغيرهم العمل بالنصين الواردين في المسألة، وعدم قياس
~~أحدهما على الآخر قياسا يناقض الآخر، أو جعل أحدهما منسوخا بالثاني.
# بعد بيان هذا الفرق بين المنهجين ذكر المسائل التي قال فيها أحمد
~~بالاستحسان، وأشار إلى أن أبا يعلى فهم منها ومن النص السابق عن أحمد أن
~~المسألة على روايتين عنه: إبطال الاستحسان والقول به، وأن أبا يعلى وأتباعه
~~كأبي الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما نصروا القول بالاستحسان كقول
~~الحنفية، وفسروه
# PageV02P144
# كتفسيرهم، ووافقوهم في ذكر أنواعه، وهي: الاستحسان للكتاب، والاستحسان
~~للستة، والاستحسان للإجماع، مع ذكر الأمثلة على ذلك.
# انتقل المؤلف بعد ذلك إلى نقطة أخرى، وهي: هل الاستحسان تخصيص العلة؟
~~فنقل أولا اختلاف العلماء في جواز تخصيص العلة ومنعه، ثم ذكر أن القاضي أبا
~~يعلى وابن عقيل وغيرهما يمنعون تخصيص العلة مع قولهم بالاستحسان، وأن أبا
~~الخطاب الكلوذاني يختار تخصيص العلة موافقة للحنفية. ونقل نصوصا من كتاب
~~أبي يعلى وحجج الفريقين ومناقشاتها مع ذكر الأمثلة على ذلك. ثم ذكر قولا
~~ثالثا في هذا الموضوع، وهو تقديم النص وخبر الواحد على قياس الأصول عند من
~~يقول بذلك في حالة التعارض بينهما. وقولا رابعا، وهو أنه يجوز تخصيص العلة
~~المنصوصة دون المستنبطة.
# وفي آخر هذا البحث ذكر أن النزاع بين الفريقين القائلين بجواز تخصيص
~~العلة ومنعه إنما هو في علة قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما
~~إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يعلم خلوه عن ms0282 التأثير والسلامة عن
~~المفسدات فكلهم متفقون على أن التخصيص يبطل تلك العلة، وأنه لا عبرة بها
~~عند أحد من العلماء.
# رأينا أن المؤلف نقل إلى هنا آراء الآخرين ونصوصهم في هذا الباب، ولم
~~يعلق عليها إلا في موضع واحد عندما بين مراد الإمام أحمد من قوله السابق
~~ذكره. ولما انتهى من سرد المذاهب والأقوال بدأ في المناقشة والنقد وإبداء
~~رأيه في الخلاف الذي دار حول هذا
# PageV02P145
# الموضوع، فذكر أن التحقيق في هذا الباب أن العلة قد تطلق على العلة
~~التامة المستلزمة لمعلولها بحيث يمتنع تخلف الحكم عنها، فهذه لا يتصور
~~تخصيصها ونقضها، ومتى انتقضت بطلت. وقد يراد بالعلة ما كان مقتضيا للحكم،
~~أي أن فيها معنى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجبا، وتسمى المؤثرة أو
~~المقتضية أولا، فهذه إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق به بين صورة النقض وغيرها
~~من الصور لم تفسد. فمن قال: إن العلة لا يجوز تخصيصها مطلقا لا لفوات شرط
~~ولا لوجود مانع فهو مخطئ قطعا، وقوله مخالف لإجماع السلف، فكلهم يقولون
~~بتخصيص العلة لمعنى يوجب الفرق.
# ومورد النزاع في الاستحسان هو تخصيص العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين
~~صورة التخصيص وغيرها، وهذه العلة إما أن تكون مستنبطة أو منصوصة:
# أ- فإن كانت مستنبطة وخصت بنص، ولم يبين الفرق المعنوي بين صورة التخصيص
~~وغيرها، فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان ينكره كثيرا الشافعي وأحمد
~~وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة. لأن العلة المذكورة لم تعلم
~~صحتها إلا بالرأي، فإذا عارضها النص كان مبطلا لها، والنص إذا عارض العلة
~~دل على فسادها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده.
# ب- وإن كانت منصوصة، وقد جاء نصن بتخصيص بعض صور العلة، فهذا مما لا
~~ينكره أحمد والشافعي وأصحابهما. كما إذا جاء نص في صورة، ونص يخالفه في
~~صورة أخرى، لكن بينهما
# PageV02P146
# شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم، فهؤلاء يقرون النصوص، ولا يقيسون
~~منصوصا على منصوص يخالف حكمه. ولكن ms0283 الذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون:
~~الصورتان سواء لا فرق بينهما، فيكون أحد النصين ناسخا للآخر. ومثل هذا
~~كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومخالفوهم ممن يقيس منصوصا على منصوص،
~~ويجعل أحد النصين منسوخا لمخالفته قياس النص الآخر.
# وله أمثلة ذكر المؤلف كثيرا منها وقال: فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة
~~الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما كان ينكره أحمد وغيره.
# بقيت صورة، وهي أن يجيء نصان بحكمين مختلفين في صورتين، وهناك صور مسكوت
~~عنها، فهل يقال: القياس هو مقتضى أحد النصين، فما سكت عنه نلحقه به وإن لم
~~نعرف المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان المتنازع فيه الذي
~~يقول به أصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد. أما الآخرون فيقولون: لابد
~~أن يعلم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت عنه بأحد النصين أولى من
~~إلحاقه بالآخر. وإذا علم المعنى في أحد النصين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن
~~يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يلحق بواحد منهما إلا بدليل.
# والتحقيق أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع،
~~وإما أن يعلم افتراقهما، وإما أن لا يعلم واحد منهما.
# ففي الحالة الأولى متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم
# PageV02P147
# أن العلة باطلة، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون
~~الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما. فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك
~~دليلا على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يعرف الفرق. وإن علم أنه سوى
~~بينهما كان ذلك دليلا على استوائهما.
# وإن لم يعلم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك.
# وأحمد إنما قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا
~~من باب تخصيص العلة للفارق المؤثر، وأنكر الاستحسان إذا خصت العلة من غير
~~فارق مؤثر، فإن مثل هذا الاستحسان المعدول به عن القياس المخالف له يقتضي
~~فرقا وجمعا بين الصورتين بلا دليل شرعي.
# توضيح ذلك: أن القياس إذا ms0284 لم ينص الشارع على عقته، ولكن رأى الرائي ذلك
~~لمناسبة أو مشابهة ظنها مناط الحكم، ثم خص من ذلك المعنى صورا بنص يعارضه
~~كان معذورا في عمله بالنص، لكن مجيء النص بخلاف تلك العلة في بعض الصور
~~دليل على أنها ليست علة تامة قطعا، فإن العلة التامة لا تقبل الانتقاض.
# وإن كان مورد الاستحسان أيضا معنى ظنه مناسبا أو مشابها، فانه يحتاج
~~حينئذ إلى إثبات ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف. فلا يكون قد ترك
~~القياس إلا لقياس أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها
~~وبين غيرها، فلا يكون حينئذ لنا استحسان يخرج عن نص أو قياس. وعلى هذا فلا
~~يكون
# PageV02P148
# الاستحسان الصحيح عدولا عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه
~~بحال. هذا هو الصواب كما قرره المؤلف في رسالته في معنى القياس أيضا.
# وتنبني عليها مسألة أخرى ذكرها الأصوليون وفضل المؤلف الكلام حولها، وهي
~~مسألة القياس على صور الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس، وهي من جنس
~~تخصيص العلة والاستحسان، فمن جوز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي
~~قال: المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارق معنوي، فلا يقاس عليه،
~~وهم أصحاب أبي حنيفة. أما أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: إذا عرف
~~المعنى الفارق الذي لأجله ثبت الحكم فيها يجوز القياس عليها.
# وما ذكر فيه أنه خالف القياس في صور الاستحسان، فلابد أن يكون قياسه
~~فاسدا، أو يكون تخصيصه بالاستحسان فاسدا إذا لم يكن هناك فارق مؤثر. هذا هو
~~الصواب في هذا الباب، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين
~~بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرق مؤثر بينهما.
# وحقيقة هذا كله أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس في نفس الأمر، فمن
~~يقول بالاستحسان من غير فارق مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر، وبمنع
~~القياس على المخصوص من جملة القياس-: يثبت أحكاما على خلاف القياس الصحيح
~~في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما ms0285،
# PageV02P149
# فهم تارة ينكرون صحة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارة ينكرون
~~مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان الذي ليس بدليل شرعي،
~~وتارة ينكرون صحة الاثنين، فلا يكون القياس صحيحا، ولا يكون ما خالفوه
~~لأجله صحيحا، بل كلاهما ضعيف.
# وبعدما انتهى المؤلف من بيان حقيقة الخلاف في هذه القضية عقد فصلا لدراسة
~~تلك المسائل التي يدعون فيها أنها تثبت على خلاف القياس الصحيح، أو أن
~~العلة الشرعية الصحيحة خصت بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن
~~الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي.
# فذكر أن الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة: الشافعي وأحمد وغيرهما،
~~وإن كان الواحد من هؤلاء قد يناقض نفسه أيضا فيخص ما يجعله علة بلا فارق
~~مؤثر، كما أنه يقيس بلا علة مؤثرة.
# وكان قصده من ذلك ضبط الأصول الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة
~~يى فيها تناقض أصلا، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلا تناقضا. وبعد دراسة
~~كل مسألة من هذه المسائل الاستحسانية ذكر أنها ليست مخالفة للقياس أصلا، أو
~~أن هناك فرقا مؤثرا، أو أن الاستحسان فيها ليس صحيحا بسبب عدم وجود فارق
~~مؤثر.
# هذا تحليل موجز لمباحث الكتاب، وخلاصة رأي المؤلف في الاستحسان، وبهذا
~~نعرف أنه تناول هذه المسألة بطريقة جديدة، ولم يوافق على ما قاله عامة
~~الأصوليين إن الخلاف فيها لفظي، فقد حرر
# PageV02P150
# وجه النزاع بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وبين سبب ذم بعض
~~الأئمة له ثم القول به في بعض المسائل، وقرر أن الاستحسان الصحيح لا يمكن
~~أن يكون على خلاف القياس الصحيح، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه
~~بحال.
# • قيمته العلمية
# تظهر قيمة الكتاب العلمية عندما يوضع في قائمة الكتب والدراسات التي
~~تتعلق بموضوع معين، والتي ترتب تاريخيا حسب تأليفها وظهورها، ثم يقارن بينه
~~وبين غيرها من حيث الجدة والأصالة والابتكار. فكل كتاب يحتوي على آراء
~~جديدة مع الاحتجاج لها، ومناقشات تدل على شخصية المؤلف، بمنهج علمي متميز،
~~وأسلوب طريف ms0286 مثير-: ينسب إليه فضل السبق، ويعترف لمؤلفه بالإمامة، ويكون
~~موضع العناية والاهتمام من قبل المؤلفين والباحثين. والكتب التي تكون على
~~العكس من ذلك مهما بلغت شهرتها وكثرت نسخها الخطية والمطبوعة، لا يخفى ضعف
~~قيمتها على النقاد، وزيفها وانتحالها- أحيانا- على المدققين الذين يقومون
~~بالموازنة بينها وبين غيرها.
# ونحن إذا نظرنا إلى هذا الكتاب نجد أن المؤلف جاء فيه برأي جديد في
~~الموضوع لم يسبق إليه، ورد على من يقول: إن في الشريعة أحكاما على خلاف
~~القياس مبنية على الاستحسان، كما سبق تفصيله وبيان وجهة نظره فيما مضى.
~~وعلى هذا فتكون للكتاب قيمة علمية كبيرة تجعله من أهم الكتب التي ألفت في
~~هذا الباب، لتميزه
# PageV02P151
# وأصالته ونقده للرأي السائد في الموضوع.
# • أثره
# مضى على تأليف هذا الكتاب سبعة قرون، وبقي بصورة المسودة التي وصلتنا.
~~ولعلها لم تبيض، فلا نجد من الكتاب نسخة أخرى في فهارس المخطوطات التي بين
~~أيدينا. ولا نعرف مؤلفا رجع إليه أو اقتبس منه إلا العلامة ابن القيم في
~~كتابه "بدائع الفوائد" (4/124- 126) ، ولكنه لم ينقل الفكرة الأساسية، التي
~~بنى عليها المؤلف كتابه، ولم يذكر منه إلا تعريف الاستحسان وأنواعه عند
~~القائلين به، والمسائل التي قال فيها الإمام أحمد بالاستحسان، وقوله في
~~رواية أبي طالب: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا:
~~نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان" هل يدل
~~على إبطال الاستحسان أم لا؟ وتعليق المؤلف على كلام أبي يعلى وأتباعه في
~~المراد من هذا القول.
# وهذه المباحث كلها في بداية الكتاب، وتعتبر تمهيدا للدخول في الغرض
~~الأساسي من تأليفه، وهو بيان حقيقة الاستحسان الذي يقول به الحنفية ويمنعه
~~الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث، ودراسة المسائل التي نسب
~~إليهم فيها القول بالاستحسان مع ذمهم له، وهل هي مخالفة للقياس كما قيل؟
# ولو أن ابن القيم نقل هذا الكتاب بكامله كما فعل مع رسالة
# PageV02P152
# أخرى لشيخه في معنى القياس في "إعلام الموقعين" (1/383- 401، 2/3- 38) ،
~~واطلع عليه المؤلفون في الأصول، لكان له أثر كبير ms0287 في كتاباتهم حول هذا
~~الموضوع. ولكنهم لم يعرفوا الكتاب والنصوص المقتبسة منه، فلم يفيدوا منه
~~شيئا.
# أما الباحثون المحدثون فلم يعرفوه كذلك لكونه مجهول العنوان والمؤلف.
~~ولعل نشره يثير هممهم، فيدرسون في ضوئه موقف شيخ الإسلام من الاستحسان،
~~ومنهجه في تناول هذا الموضوع، ويصلون به إلى حقيقة الخلاف بين أهل الرأي
~~وأهل الحديث في هذا الباب. وأتوقع أن يكون لهذا الكتاب أثر طيب في المستقبل
~~إن شاء الله.
# • وصف النسخة الخطية
# توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق مجموعة برقم [91 مجاميع] تحتوي على
~~أكثر من ثلاثين رسالة وكتابا معظمها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضها لغيره،
~~منها:
# - أول كتاب "إثبات صفة العلو" لابن قدامة (ق 21- 22)
# - الجزء الأول من حديث أبي عبد الله محمد بن مخلد الدوري (ق 36- 44)
# - الجزء التاسع من الفوائد المنتقاة من حديث أبي الحسن علي ابن أحمد بن
~~عمر بن حفص المقرئ الحمامي عن شيوخه (ق 203-210)
# PageV02P153
# - قطعة من كتاب "السنن" للأثرم (ق 213- 220)
# - ثبت لأحد تلاميذ البرزالي والمزي (ق 293- 307)
# - رسالة في الاستعاذة (نقلا من أول تفسير الرازي) (ق 309- 324) وماعداها
~~من تأليف شيخ الإسلام، وبعضها بخطه، ولا توجد على أكثرها عناوين، ولذا فنحن
~~نشير إلى الأوراق التي هي بخطه دون ذكر عناوينها، لأنها تحتاج إلى دراسة
~~متأنية، ومقابلتها على مؤلفاته ورسائله المطبوعة، والرجوع إلى القوائم
~~الأساسية التي أشرنا إليها لمعرفة عناوينها الصحيحة. وهذه الأوراق هي: (1-
~~8، 53- 78، 119- 137, 150، 157- 164. 165- 181، 182- 183، 184- 188، 189-
~~191، 263- 266، 325- 333) . أما الرسائل الأخرى فقد كتبت بخطوط مختلفة،
~~وبعضها ناقصة الأول والأخير، وترتيب الأوراق في بعض المواضع منها مضطرب.
# ونسخة هذا الكتاب الذي بين أيدينا تقع في آخر هذه المجموعة النفيسة التي
~~لا تقدر بثمن (ق 325- 333) . وهي مسودة المؤلف نفسه، ولعلها لم تبيض فبقيت
~~مسودة كما كتبت لأول مرة. وقد ذكر البرزالي (1) أن لشيخ الإسلام تصانيف
~~كثيرة وتعاليق مفيدة PageV02P154
# في الأصول والفروع، ثم قسمها ثلاثة أقسام، وقال:
### | 1-
# كفل منها جملة، وبيضت وكتبت عنه، وقرئت عليه أو بعضها.
### | 2-
# وجملة كبيرة لم يكملها.
### | 3-
# وجملة كملها، ولم تبيض إلى الآن.
# وبعد دراسة هذه النسخة نستطيع أن نقول: إنها من القسم الثالث ms0288، فإننا لم
~~نعثر على نسخة أخرى من الكتاب في أي مكتبة، ومما يؤيد ذلك أن المؤلف شطب
~~فيها على كثير من الكلمات والعبارات وأبدلها بغيرها، وأضاف إليها تعليقات
~~واستدراكات طويلة في هوامش بعض الصفحات من جميع الجهات. ومن أغرب هذه
~~الإضافات ذلك الاستدراك الطويل في الورقة (331 أ) الذي يستمر في هوامش
~~الصفحة، ثم ينتقل الكلام إلى هوامش الصفحة الماضية (330 ب) ثم هوامش الصفحة
~~التي قبلها (330 أ) ، وينتهي بالسطر الذي كتبه المؤلف معكوسا، للدلالة على
~~أن ما فيه نهاية لهذا التعليق الطويل، وليس مرتبطا بالكلام الموجود بداخل
~~الحوض في تلك الصفحة، ولعل هذا التعليق كتب بعد الانتهاء من تأليف الكتاب.
# لا توجد لهذه النسخة صفحة عنوان، ولا كتب المؤلف عنوان الكتاب بخطه (كما
~~ذكرنا ذلك في تحقيق عنوان الكتاب) ، ولا توجد لها خاتمة يذكر فيها عادة اسم
~~الناسخ أو المؤلف وتاريخ النسخ أو التأليف.
# PageV02P155
# هذه المسودة وغيرها من الكتب التي وصلت إلينا بخط شيخ الإسلام يقع القارئ
~~أو المحقق بإزائها في حيرة، فهو يكتب غالبا بدون نقط وإعجام، ولايميز
~~الحروف بداخل الكلمة ويمزج بعضها ببعض، ويكتب بسرعة وفي غاية التعليق
~~والإغلاق، حتى عجز كثير من أصحابه عن نقله (كما سبق ذكره فيما مضى) .
~~فقراءة كل كلمة فيه تحتاج إلى تقليبها على الوجوه الممكنة، ولا مساعد في
~~ترجيح أحد الوجوه على غيرها إلا السياق والموضوع. فالباء والتاء والثاء
~~والفاء والقاف والنون والياء في بداية الكلمات تكتب عنده بطريقة واحدة
~~تقريبا، و"من" و"في" تتشابهان في مواضع كثيرة، ويكتب "الذي" و"الذين"
~~و"الدين" برسم واحد تقريبا، ويسقط بعض الحروف من الكلمة، فمثلا كلمة
~~"القهقهة" كتبها مرتين "القهقه".
# ويتبع الرسم القديم في كتابة كثير من الكلمات بحذف الألف أو الهمزة أو
~~غيرهما، مثل: صلح (صالح) ، السلم (السلام) ، يحتج (يحتاج) ، مسله (مسألة) ،
~~ادعا (ادعى) ، صلوته (صلاته) ، اسحق (إسحاق) ، وحا (وجاءا) ، العا معنا
~~(ألغى معنى) ، ثلثه (ثلاثة) ، ملك (مالك) ، فيعطا (فيعطى) ، واحراه
~~(وإجراؤه) . ولا تظهر الميم عنده إذا وقعت تلو حرف الباء أو التاء ms0289 أو الياء
~~ونحوها، فيكتب "اتها" (= أتمها) ، "انا" (= إنما) ، " ائه " (- أئمة) ،
~~"الا" (= الماء) ، (الحظور" (= المحظور) ، الانع (= المانع) وغيرها.
# هذه بعض الأمثلة لطريقة كتابته للكلمات، ويكفي القارئ أن يلقي نظرة على
~~نماذج من الأصل، ويتأمل فيها بنفسه، ويبذل مجهوده
# PageV02P156
# في قراءتها، ويقارن بينها وبين قراءتي لها.
# ولا يخفى أن نسخة الكتاب بخط المؤلف توفر على المحقق الوقت والجهد في جمع
~~النسخ ودراستها والمقابلة بينها ومعرفة علاقة بعضها ببعض. ولكن المخطوطة
~~التي نحن بصددها زادت مشاكلها فوق ما كنت أتصور، وكان تقديم نص سليم لها من
~~أصعب الأمور، وقد بذلت كل ما في وسعي لقراءتها قراءة صحيحة، ونسخها ملتزما
~~الرسم الإملائي الحديث، ولم أزد إلا النقط والإعجام والفواصل والهمزات
~~وتغيير الفقرات، وأبقيت الكلمات التي يبدو أن فيها خطأ إعرابيا أو صرفيا
~~كما هي، وأشرت إليها في التعليق. أما الكلمات والعبارات التي شطب عليها
~~المؤلف وأبدلها بغيرها فلم أنبه إليها، لأنها كثيرة في هذه المسودة، ولا
~~فائدة من ذكرها.
# وفي الختام أرجو أنني قد وفقت في قراءة هذه المسودة قراءة سليمة، وأدعو
~~الله أن ينفع بها الباحثين في علم الأصول خاصة، والقراء والمثقفين عامة،
~~إنه سميع مجيب.
# محمد عزير شمس
# PageV02P157
# نماذج من الأصل
# PageV02P159
# نص الكتاب
# PageV02P161
# الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله
~~إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى
~~آله وسلم تسليما.
# فصل في الاستحسان وتخصيص العلة، وموضع الاستحسان هل يقاس عليه أم لا، وما
~~يرد من الأحكام الثابتة بالنص والإجماع ويقال: إنها مخالفة للقياس. فإن هذه
~~قواعد كثر اضطراب الناس فيها، والحاجة ماسة إلى تحقيقها في كثير من مسائل
~~الشريعة أصولها وفروعها.
# أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفة القياس لدليل (1) ، وقد
~~يراد به غير ذلك (2) . والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على PageV02P163
# ثلاثة أقوال:
# منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقا، وهم نفاة القياس، كداود وأصحابه ms0290 (1) ،
~~وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلة الشرع
~~لا قياس ولا استحسان.
# ومنهم من يقر به بهذا المعنى، ويجوز مخالفة القياس للاستحسان، ويعمل
~~بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. وهذا هو المعروف عن أبي حنيفة وأصحابه
~~(2) . PageV02P164
# ومنهم من ذم الاستحسان تارة، وقال به تارة، كالشافعي وأحمد بن حنبل ومالك
~~وغيرهم، ففي كتب مالك وأصحابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع (1) . والشافعي
~~قال: من استحسن فقد PageV02P165
# شرع (1) ، وتكلم في إبطال الاستحسان، وبسط القول في ذلك (2) . وكان من
~~أعظم الأئمة إنكارا له، وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه. ومع هذا فقد
~~قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهما" (3) .
~~ولهذا حكي للشافعي في الاستحسان قولان: قديم وجديد.
# وكذلك أحمد بن حنبل، نقل عنه أبو طالب (4) أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا
~~قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا PageV02P166
# وندع القياس. فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. قال: وأنا أذهب
~~إلى كل حديث جاء، ولا أقيس عليه (1) .
# قال القاضي أبو يعلى (2) : وظاهر هذا يقتضي إبطال القول بالاستحسان، وأنه
~~لا يقاس المنصوص عليه على المنصوص عليه.
# قلت: مراد أحمد أني أستعمل النصوص كفها، ولا أقيس على أحد النصين قياسا
~~يعارض النص الآخر، كما يفعل من ذكره، حيث يقيسون على أحد النصين، ثم
~~يستثنون موضع الاستحسان إما لنص أو غيره، والقياس عندهم يوجب العلة
~~الصحيحة، فينقضون العلة التي يدعون صحتها مع تساويها في محالها./
# وهذا من أحمد يبين أنه يوجب طرد العلة الصحيحة، وأن انتقاضها مع تساويها
~~في محالها يوجب فسادها. ولهذا قال: لا أقيس على أحد النصين قياسا ينقضه
~~النص الآخر، فإن ذلك يدك على فساد القياس.
# وهو يستعمل مثل هذا في مواضع، مثل حديث أم سلمة وفيه PageV02P167
# قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد أحدكم أن يضحي ودخل العشر فلا
~~يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئا" (1) ، مع حديث عائشة: كنت أفتل قلائد هدي
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يبعث به وهو مقيم، فلا ms0291 يحرم عليه شيء
~~مما يحرم على المحرم (2) .
# والناس في هذا على ثلاثة أقوال:
# منهم من يسوي بين الهدي والأضحية في المنع، ويقول: إذا أرسل المحرم هديا
~~لم يحل حتى ينحر، كما يروى عن ابن عباس (3) وغيره.
# ومنهم من يسوي بينهما في الإذن، ويقول: بل المضحي لا يمنع عن شيء كما لا
~~يمنع المهدي، فيقيسون على أحد النصين ما يعارض الآخر.
# وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا
~~بالنصين، ولم يقيسوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لما أحل البيع وحرم
~~الربا (4) لم يقس المسلمون أحدهما على PageV02P168
# الآخر، وإنما هذا قياس المشركين. وكذلك لما أحل المذكى وحزم الميتة (1)
~~لم تقيسوا أحدهما على الآخر، بل هذا قياس المشركين (2) .
# وكذلك لما جاء (3) الكتاب والسنة بالقرعة (4) ، وجاءا بتحريم القمار (5)
~~لم يقيسوا هذا على هذا، بل أجازوا القرعة، وحزموا PageV02P169
# الميسر والاستقسام بالأزلام، بخلاف من جعل القرعة من القمار أو من
~~الاستقسام بالأزلام، ولم يعلق بها حكما. وأحمد أكثر الفقهاء عملا بالقرعة
~~(1) ، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار.
# وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - الناس إذا صلى الإمام قاعدا أن يصلوا قعودا أجمعين (2) . ثم لما
~~افتتحوا الصلاة قياما أتمها بهم قياما" (3) . عمل بالحديثين، ولم يقس على
~~أحدهما قياسا يناقض الآخر ويجعله منسوخا" (4) ، كما فعل PageV02P170
# طائفة من الفقهاء، كالشافعي (1) والحميدي (2) وغيرهما (3) . واستدل هو
~~وغيره بأن الصحابة بعده لفا صلوا جلوسا أمروا من خلفهم بالجلوس، وقد شهدوا
~~صلاته في آخر عمره، مثل أسيد بن الحضير (4) ، وهو من أفضل السابقين الأولين
~~من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر، فإنه قتل في قتال المرتدين من
~~حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب (5) ./ PageV02P171
# وقد قال أحمد بالاستحسان المخالف للقياس في مواضع، كقوله في رواية صالح
~~(1) في المضارب: إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال، فالربح لصاحب
~~المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط باجرة مثله فيذهب. وكنت
~~أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت ms0292 (2) . PageV02P172
# وقال في رواية الميموني (1) : أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، ولكن القياس أنه
~~بمنزلة الماء حتى يحدث أو يجد الماء (2) .
# وقال في رواية المروذي (3) : يجوز شرى (4) أرض السواد (5) ، PageV02P173
# ولا يجوز بيعها، فقيل له: كيف تشترى ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول،
~~ولكن هو استحسان. واحتج بأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رخصوا في
~~شرى المصاحف وكرهوا بيعها، وهذا يشبه ذاك (1) .
# وقال في رواية بكر بن محمد (2) فيمن غصب أرضا وزرعها: الزرع لرب الأرض،
~~وعليه النفقة، وليس هذا شيئا يوافق القياس.
# أستحسن أن يدفع إليه نفقته (3) .
# وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألة على روايتين، ونصر هو وأتباعه كأبي
~~الخطاب (4) وابن عقيل وابن PageV02P174
# [الزاغوني] (1) القول بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة وفسر هؤلاء وهؤلاء
~~الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. وقيل: هو
~~أولى القياسين (2) . قالوا- وهذا لفظ القاضي (3) -: والحجة التي يرجع إليها
~~في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة. والاستدلال
~~بترجح (4) شبه بعض الأصول على بعض.
# كما (5) قلنا ب
### | الاستحسان لأجل الكتاب
# في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم نجد مسلما"
~~(6) . PageV02P175
# قال: ومما قلنا فيه ب
### | الاستحسان للسنة
# فيمن غصب أرضا وزرعها، فالزرع لرب الأرض، وعلى صاحب الأرض النفقة لصاحب
~~الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من زرع في
~~أرض قوم فالزرع لرب الأرض وله نفقته" (1) . وقد كان القياس أن يكون الزرع
~~لزارعه (2) .
# قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع جواز سلم الدراهم والدنانير في
~~الموزونات، وكان القياس أن لا يجوز ذلك لوجود الصفة المضمومة إلى الجنس،
~~وهي الوزن، إلا أنهم استحسنوا فيه للإجماع (3) .
# قلت: ومن ذلك أن
### | نفقة الصغير وأجرة مرضعه على أبيه دون أمه
# بالنص (4) والإجماع. والقياس- عند من يجعل النفقة على كل PageV02P176
# وارث بفرض أو تعصيب، أو على كل ذي رحم (1) محرم، أو على عمودي النسب
~~مطلقا- أن يكون على الأبوين.
# وكذلك يقولون
### | : جواز إجارة الظئر
# ثابت بالنص (2) والإجماع على خلاف القياس ms0293، بل وقد يقولون ب
### | جواز الإجارة،
# بل و
### | جواز القرض والقراض
# وغير ذلك على خلاف القياس (3) للإجماع. PageV02P177
# لكن إذا أبدوا معنى يقتضي التخصيص مثل الحاجة، قيل: هذا يقول به جميع
~~الأمة، بل جميع علماء السنة، مثل إباحة الميتة للمضطر للضرورة، وصلاة
~~المريض قاعدا للحاجة، ونحو ذلك. وإنما يتنازعون إذا لم يظهر في إحدى
~~الصورتين معنى يوجب الفرق./
# ولهذا فسر غير واحد الاستحسان بتخصيص العلة، كما ذكر ذلك أبو الحسين
~~البصري (1) والرازي (2) وغيرهما، وكذلك هو، فإن غاية الاستحسان- الذي يقال
~~فيه: إنه يخالف القياس حقيقة- تخصيص العلة. والمشهور عن أصحاب الشافعي منع
~~تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القول بتخصيصها (3) ، كالمشهور
~~PageV02P178
# عنهما في منع الاستحسان وإجازته. ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز
~~تخصيص العلة (1) ، كما في مذهب مالك (2) وأحمد (3) . PageV02P179
# ومن الناس من حكى قول الأئمة الأربعة جواز تخصيص العلة. وقد ذكر أبو
~~إسحاق بن شاقلا (1) عن أصحاب أحمد في تخصيص العلة وجهين. ومن الناس من يحكي
~~ذلك روايتين عن أحمد. والقاضي أبو يعلى وأكثر أتباعه كابن عقيل يمنعون
~~تخصيص العلة (2) مع قولهم بالاستحسان. وكذلك أصحاب مالك (3) .
# وأما أبو الخطاب فيختار تخصيص العلة (4) موافقة لأصحاب أبي حنيفة، فإن
~~هذا هو الاستحسان كما تقدم. وهؤلاء يجوزون تخصيصها بمجرد دليل يدك على
~~التخصيص، وإن لم يبيق اختصاص صورة النقض فقدان شرط أو وجود مانع. وهذا
~~حقيقة ما ذكره القاضي وهؤلاء في الاستحسان، كما ذكره في الأمثلة.
# ولكن القاضي وغيره ممن يقول بالاستحسان ومنع تخصيص العلة فرقوا بينهما
~~فقالوا- واللفظ للقاضي (5) -: لا يجوز تخصيص PageV02P180
# العلة الشرعية، وتخصيصها نقضها.
# قال: وقد قال أحمد في رواية الحسين بن حسان (1) : القياس أن يقاس الشيء
~~على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال
~~فهذا خطأ (2) .
# قال: وهذا الكلام يمنع من تخصيصها.
# قال: وقد ذكر أبو إسحاق- يعني ابن شاقلا- في "شرح الخرقي" فقال: أصحابنا
~~على وجهين: منهم من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذاك.
# وقال: وقد ذكرها أبو ms0294 الحسن الخرزي (3) في "جزء فيه مسائل من الأصول ": لا
~~يجوز تخصيصها. PageV02P181
# قال: وقول أحمد "القياس كان يقتضي أن لا يجوز شرى أرض السواد، لأنه لا
~~يجوز بيعها" ليس بموجب لتخصيص العلة، فإنها في حكم خاص (1) ، وما ذكر أحمد
~~إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول
~~للخبر (2) .
# ولذلك أجاب من احتج على جواز تخصيصها بالاستحسان فقال (3) : فإن قيل:
~~أليس قد قال أحمد في رواية المروذي وقد قيل: كيف تشترى ممن لا يملك؟ فقال:
~~القياس كما تقول، وإنما هو استحسان. واحتج بقول الصحابة في المصاحف.
# ثم قال في الجواب: قيل: تخصيص العلة ما يمنع من جريها في حكم خاص. وما
~~ذكره أحمد إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول. ولأنهم قد يعدلون في
~~الاستحسان عن قياس وعن غير قياس (4) ، فامتنع أن يكون معناه تخصيص (5)
~~بدليل. وقد ناقضه أبو الخطاب (6) ./
# وهذا الذي ذكره القاضي قد ذكره كثير من العلماء فيما إذا عارض النص قياس
~~الأصول، فقالوا: يقدم النص. واختلفوا فيما إذا PageV02P182
# عارض خبر الواحد قياس الأصول، كخبر المصراة (1) ونحوه (2) . وأما الأول
~~فمثل حمل العاقلة (3) ، فإنهم يقولون: هو خلاف قياس PageV02P183
# الأصول، وهو ثابت بالنص والإجماع. وهذا يذكره بعض الناس قولا ثالثا في
~~تخصيص العلة.
# ويذكرون قولا رابعا، وهو أنه يجوز تخصيص (1) المنصوصة دون المستنبطة (2)
~~. وأكثر الناس في التخصيص من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حامد (3) وأبي الطيب
~~(4) والقاضي أبي يعلى وابن عقيل PageV02P184
# وغيرهم يقولون: إذا خصت المنصوصة تبينا أنها نقض العلة (1) ، وإلا فلا
~~يجوز تخصيصها بحال.
# وهذا النزاع إنما هو في عل! قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما
~~إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يعلم خلوه عن التأثير والسلامة عن
~~المفسدات، فهذه تبطل بالتخصيص باتفاقهم. وأما الطرد المحض الذي يعلم خلوه
~~عن المعاني المعتبرة فذاك لا يحتج به عند أحد من العلماء المعتبرين. وإنما
~~النزاع في الطرد الشبهي، كالمجوزات - الشبهية التي يحتج بها كثير من
~~الطوائف الأربعة، لاسيما قدماء أصحاب الشافعي، فإنها كثيرة في حججهم أكثر
~~من ms0295 غيرهم./
# والتحقيق في هذا الباب (2) أن العلة تقال على العلة التامة، PageV02P185
# وهي المستلزمة لمعلولها، فهذه متى انتقضت بطلت بالاتفاق. وتقال على العلة
~~المقتضية أولا، وتسمى المؤثرة ويسمى السبب دالا ودليل العلة ونحو ذلك. فهذه
~~إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق فيه بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تفسد. ثم
~~إذا كانت صورة الفرع التي هي صورة النزاع في معنى صورة النقض ألحقت بها،
~~وإن كانت في معنى صورة الأصل ألحقت بها.
# فمن قال: إن العلة لا يجوز تخصيصها مطلقا لا لفوات شرط ولا لوجود مانع
~~فهذا مخطئ قطعا، وقوله مخالف لإجماع السلف كلهم الأئمة الأربعة وغيرهم،
~~فإنهم كلهم يقولون بتخصيص العلة لمعنى يوجب الفرق، وكلامهم في ذلك أكثر من
~~أن يحصر. وهذا معنى قول من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة.
# و
### | القول بالاستحسان المخالف للقياس لا يمكن إلا مع القول
# بتخصيص العلة.
# وما ذكروه من اعتراض النص على قياس الأصول فهو أحد أنواع تخصيص العلة،
~~وهذا تسليم منهم لكون العلة تقبل التخصيص في الجملة. وأما من جوز تخصيص
~~العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين صورة التخصيص وغيرها فهذا مورد النزاع
~~في PageV02P186
# الاستحسان المخالف للقياس وغيره.
# ثم هذه العلة إن كانت مستنبطة وخصت بنص، ولم يبين الفرق المعنوي بين صورة
~~التخصيص وغيرها فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان ينكره كثيرا الشافعي
~~وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم. وكلام أحمد فيما
~~تقدم أراد به هذا، فإن العلة المبينة لم تعلم صحتها إلا بالرأي، فإذا
~~عارضها النص كان مبطلا لها. والنص إذا عارض العلة دل على فسادها، كما أنه
~~إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده بالإجماع.
# وأما إذا كانت العلة منصوصة، وقد جاء نص بتخصيص بعض صور العلة، فهذا مما
~~لا ينكره أحمد، بل ولا الشافعي وغيرهما، كما إذا جاء نص في صورة ونص يخالفه
~~في صورة أخرى، لكن بينهما شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم فهؤلاء يقرون
~~النصوص، ولا يقيسون منصوصا ms0296 على منصوص يخالف حكمه، بل هذا من جنس الذين
~~قالوا: (إنما البيع مثل الربا) (1) . وهذا هو الذي قال أحمد فيه: "أنا أذهب
~~إلى كل حديث كما جاء، ولا أقيس عليه "، أي لا أقيس عليه صورة الحديث الآخر،
~~فأجعل الأحاديث متناقضة، وأدفع بعضها ببعض، بل أستعملها كلها./
# والذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواء لا فرق بينهما،
~~فيكون أحد النصين ناسخا للآخر. ومثل هذا PageV02P187
# كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومن ينازعهم ممن يقيس منصوصا على
~~منصوص، ويجعل أحد النصين منسوخا لمخالفته قياس النص الآخر في طي هذا
~~القياس.
# ويبقى الأمر دائرا هل دل الشرع على التسوية بين الصورتين حتى يجعل حكمهما
~~سواء، ويجعل الحكم الوارد في إحداهما منسوخا بالحكم المضاد له الوارد في
~~الأخرى، كما يقوله من يجعل
### | القرعة منسوخة بآية الميسر
# (1) ، وأمر المأمومين بأن يتبعوا الإمام، فإذا كبر كبروا، وإذا ركع
~~ركعوا، وإذا صلى جالسا صلوا جلوسا أجمعين-: منسوخا بدوام قيامهم في الصلاة
~~التي صلوا بعضها خلف إمام قائم، وباقيها خلف إمام قاعد. ويجعل حديث الأضحية
~~والهدي أحدهما منسوخا بالآخر (2) . ويجعلون قطع جاحد العارية (3) منسوخا
~~إذا سلموا أنه قطعها لذلك، منسوخا" (4) بقوله: "ليس على PageV02P188
# المختلس ولا المنتهب ولا الخائن قطع " (1) . ويجعلون
### | العقوبة المالية منسوخة بالنهي عن إضاعة المال
# (2) ، ويجعلون تضعيف الغرم على من درىء عنه القطع منسوخا بقوله: (وجزاء
~~سيئة سيئة مثلها) (3) .
# ويجعل (4) تقضية ما شرطه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين
~~المشركين في الهدنة (5) منسوخا بقوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو
~~باطل" (6) . PageV02P189
# وكثير مما يدعونه في الناسخ لا يعلمون أنه قيل بعد المنسوخ.
# فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما كان
~~ينكره أحمد وغيره.
# وكان أحمد يقول: " أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس" (1) .
~~وقال: "ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل والقياس" (2)
~~. ومراده أنه لا يعارض بهما ما ثبت بنص خاص، ولا يعمل بمجردهما قبل النظر
~~في النصوص والأدلة الخاصة المقيدة. والمطلق يدخل ms0297 في كلامه وكلام غيره من
~~الأئمة كالشافعي وغيره في المجمل، لا يريدون بالمجمل مالا يفهم معناه كما
~~يظنه بعض الناس (3) ، ولا مالا يستقل بالدلالة، فإن هذا لا يجوز الاحتجاج
~~به بحال. PageV02P190
# وأما إذا جاء نصان بحكمين مختلفين في صورتين وثم صور مسكوت عنها فهل
~~يقال: القياس هو مقتضى أحد النصين؟ فما سكت عنه نلحقه به وإن لم نعرف
~~المعنى الفارق بينه وبين الآخر.
# فهذا هو الاستحسان الذي تنوزع فيه، فكثير من الفقهاء يقول به، كأصحاب أبي
~~حنيفة وكثير من أصحاب أحمد وغيرهم. وهذا هو الذي ذكره القاضي بقوله (1) :
~~"اعتراض النص على قياس الأصول ". وهو في الحقيقة قول بتخصيص العلة كما
~~تقدم.
# ومن لم يجوز تخصيصها إلا بفارقي بين صورة التخصيص وغيرها يقول: لابد أن
~~يعلم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت بأحد النصين بأولى من إلحاقه
~~بالآخر. وإذا علم المعنى في أحد النصين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن يكون
~~المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يلحق بواحد منهما إلا بدليل. وإذا
~~علم المعنى في أحد النصين ووجوده في المسكوت عنه، ولم يعلم المعنى في الآخر
~~فهذا أقوى من الذي قبله، فإنه هنا قد علم مقتضى القياس الصحيح وشموله لصورة
~~المسكوت. وأما وجود الفارق فيه فمشكوك فيه.
# وهذا نظير أخذ أحمد بالنصوص الواردة في سجود سهو (2) ، PageV02P191
# فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجئ
~~فيه نص ألحقه بما قبل السلام، لأنه القياس عنده (1) ./
# و
### | تحقيق هذا الباب أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يعلم افتراقهما، وإما أن لا يعلم واحد منهما،
# ونعني بالعلم ما يسميه الفقهاء علما، وهو أن يقوم الدليل على التماثل
~~والاستواء، أو الاختلاف والافتراق، أو لا يقوم على واحد منهما. PageV02P192
# فالأول
### | متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم أن العلة باطلة،
# وهذا مثل دعوى من يدعي أن الموجب للنفقة نفسر الإيلاد، أو نفس الرحم
~~المحرم، أو مطلق الإرث ms0298 بفرض أو تعصيب، ويقول: إذا اجتمع الجد والجدة كانت
~~النفقة عليهما. فإنه لما ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمع الأبوان كانت
~~النفقة على الأب (1) ، علم أن العصبة في ذلك يقدم على غيره، وإن كان وارثا
~~بفرض، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وعلم أن قوله (وعلى الوارث مثل ذلك)
~~(2) هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجودا، لأن عمر جبر بني عم منفوس
~~على نفقته (3) .
# وهذه الآية صريحة في إيجاب نفقة الصغير على الوارث العاصب، وقال بها
~~جمهور السلف (4) . وليس لمن خالفها حجة أصلا. ولكن ادعى (5) بعضهم أنها
~~منسوخة، وقيل ذلك عن مالك (6) . وبعضهم PageV02P193
# قال: عليه أن لا يضار" (1) ، فتركها بدعوى نسني أو تأويل هو من نوع تحريف
~~الكلم عن مواضعه لغير معارض لها أصلا مما يحلم بطلانه كل من تدبر ذلك.
# وإذا كانت الأم أقرب الناس إليه لا نفقة عليها مع الأب، وهي تحوز الثلث
~~معه، فأن لا يجب على الجدة مع الجد وهي تحوز السدس أولى وأقوى.
# والقائلون بذلك يقولون: القياس يقتضي وجوب ثلثها على الأم، لكن ترك ذلك
~~للنص.
# فيقال: أي قياس معكم؟ إنما يكون قياسا لو كان معهم نص يتناول هذه الصورة
~~بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النص بهذا يوجب
~~إلحاق نظائره به، فيقاس كل عاصب معه فرضن أوجبه من وراث الفرض على الأب مع
~~الأم.
# وكذلك إسلام النقدين في الموزونات يقدح في كون العلة الوزن، ولم يثبت ذلك
~~بين، بل بعلة مستنبطة قد عارضها ما هو PageV02P194
# أقوى منها (1) ، فإن لم يبين الفرق بين النقدين وغيرهما وإلا كان
~~انتقاضها مبطلا لها.
# فانتقاض العلة يوجب بطلانها قطعا إذا لم تختص صورة النقض بفرق معنوي
~~قطعا، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان
~~متماثلتين، ثم يخالف بين حكميهما، بل اختلاف الحكمين دليل على اختلاف
~~الصورتين في نفس الأمر. فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك دليلا على
~~افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يعلم بمجيء الفرق. وإن علم ms0299 أنه سوى بينهما
~~كان ذلك دليلا على استوائهما. وإن لم يعلم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع
~~ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك (2) .
# وهذا معنى قول إياس بن معاوية: "قس للقضاء ما استقام PageV02P195
# القياس، فإذا فسد فاستحسن" (1) . فأمر بمخالفة القياس إذا تغير الأمر
~~بحصول مفاسد تمنع القياس./
# وأحمد قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من
~~باب تخصيص العلة للفارق المؤثر، وهذا حق. وأنكر الاستحسان إذا خصت العلة من
~~غير فارق مؤثر، ولذا قال: "يدعون القياس الذي هو حن عندهم للاستحسان "،
~~وهذا أيضا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو منكر كما أنكروه.
~~فإن هذا الاستحسان وما عدل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقا وجمعا بين
~~الصورتين بلا دليل شرعي، بل بالرأي الذي لا يستند إلى بيان الله ورسوله
~~وأمر الله ورسوله، فهو ليس له وضع الشرع أبدا، وقد قال تعالى: (أم لهم
~~شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (2) .
# وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارع على علته، ولا دل PageV02P196
# لفظ الشرع على عموم المعنى فيه، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبة أو لمشابهة
~~ظنها مناط الحكم، ثم خص من ذلك المعنى صورا بنص يعارضه كان معذورا في عمله
~~بالنص. لكن مجيء النص بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليست علة
~~تامة قطعا، فإن العلة التامة لا تقبل الانتقاض. فإن لم يعلم أن مورد النص
~~مختص بمعنى يوجب الفرق لم يطمئن قلبه إلى أن ذلك المعنى هو العلة، بل يجوز
~~أن تكون العلة معنى آخر، أو أن يكون ذلك المعنى بعض العلة، وحينئذ (1) فلا
~~يفترق الحكم من جميع موارد ما ظنه علة.
# وإن كان مورد الاستحسان هو أيضا معنى ظنه مناسبا أو مشابها فإنه يحتاج
~~حينئذ إلى أن يثبت ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف، فلا يكون قد
~~ترك القياس إلا لقياس أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق
~~بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذ لنا استحسان يخرج ms0300 عن نص أو قياس.
# وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما في الاستحسان، وما قال به
~~فإنما هو عدول عن أنه قياس، لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرق. وحينئذ ف
### | لا يكون الاستحسان الصحيح عدولا عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحال.
# وهذا هو الصواب، كما قد بسطناه في مصنف مفرد، بمناسبة PageV02P197
# أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلا (1) . وعلى هذا فصور
~~الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس يقاس عليها عند أصحاب مالك والشافعي
~~وأحمد وغيرهم إذا عرف المعنى الذي لأجله ثبت الحكم فيها.
# وذكروا عن أصحاب أبي حنيفة أنه لا يقاس عليها (2) ، وهو من جنس تخصيص
~~العلة والاستحسان، فإن من جوز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي قال:
~~المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارق معنوي، فلا يقاس عليه، لأن
~~من شرط القياس وجود العلة وتفريقها. ومن قاس قال: بل لا يكون إلا
~~لفارق،/فإذا عرفناه قسنا.
# قال القاضي (3) وغيره: مسألة: المخصوص من جملة القياس PageV02P198
# يقاس عليه ويقاس على غيره، أما القياس عليه فإن أحمد قال في رواية ابن
~~منصور (1) : "إذا نذر أن يذبح نفسه يفدي نفسه بذبح كبش"، فقاس من نذر ذبح
~~نفسه على من نذر ذبح ولده، وإن كان ذلك مخصوصا من جملة القياس. وإنما ثبت
~~بقول ابن عباس (2) .
# وأما قياسه على غيره فإن أحمد قال في رواية المزوذي: يجوز شرى أرض
~~السواد، ولا يجوز بيعها، فقيل: كيف تشترى ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما
~~تقول، ولكن هذا استحسان. واحتج بأن الصحابة رخصوا في شرى المصاحف دون
~~بيعها. وهذا يشبه ذاك.
# قال: فقد قاس مخصوصا من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس. وبهذا قال
~~الشافعي.
# وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يقاس (3) على غيره ولا يقاس [غيره] (4) عليه،
~~إلا أن تكون علته منصوصة أو مجمعا على جواز القياس عليه (5) . PageV02P199
# فالمنصوص كقوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات " (1) . والمجمع عليه
~~كالتحالف في الإجارة قياسا على التحالف في البيع، لاتفاق من أوجب التحالف ms0301
~~في البيع أن حكمهما سواء (2) . والممنوع مثل قياس الجنازة على الصلاة في
~~الإسقاط بالقهقهة (3) ، وإسقاط الكفارة في الاستقاءة لا يقاس عليه الأكل
~~(4) ، والوضوء بنبيذ التمر لا يقاس عليه غيره من الأنبذة، وجواز البناء على
~~صلاته إذا أحدث لا يقاس عليه من أمنى بالاحتلام ونحوه (5) .
# واحتج أصحاب الشافعي وأحمد بحجج، وهذا لفظ القاضي أبي يعلى، قال (6) :
~~وأيضا فإنا إذا قسنا على المخصوص، أو (7) قسنا PageV02P200
# المخصوص على غيره، وحملنا النبيذ على غيره من المائعات، والقهقهة على
~~الكلام، فإن مخالفنا يعترف بصحة القياس، وأنه يجب حمل النبيذ على غيره من
~~المائعات والقهقهة على الكلام، ويدعي أنه استحسن تركه لما هو أولى منه (1)
~~.
# قالوا: وهذا غير صحيح لوجهين:
# أحدهما: أنه يلزمه أن يبين الأولى، وإلا حكم القياس متوجه عليه. وهذا كما
~~لو قال: القرآن يدك على كذا، ولكن تركته للسنة، فتكون حجة القرآن لازمة له
~~ما لم يبين السنة التي هي أقوى من القرآن، ولا يكفي في ذلك مجرد الدعوى.
# والثاني: أنه يدعي أن الاستحسان أقوى من القياس، فلهذا تركه. والقياس إذا
~~عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلا، ولم يكن له حكم. كما لو عارضه نمن
~~كتاب أو سنة أو إجماع. ولما حكم بصحة القياس هاهنا امتنع أن يكون ما عارضه
~~أقوى منه ومانعا من استعماله (2) .
# قلت: مضمون هذا إبطال أن يكون هذا مخصوصا من جملة القياس، وقياسه على
~~سائر الصور، وهذا إبطال للاستحسان، وهذا يقتضي أن الاستحسان إذا خالف
~~القياس لزم بطلان الاستحسان إن كان القياس صحيحا، أو بطلان القياس إن كان
~~الاستحسان المعارض PageV02P201
# له صحيحا. وهذا لا يتوجه فيمن يقول بالاستحسان، وجعل معارضة الاستحسان
~~للعفة كمعارضته لحكمها، وهذا قول نفاة الاستحسان مطلقا.
# والتحقيق في ذلك أنه إذا تعارض القياس والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرق،
~~وإلا لزم بطلان أحدهما، وهو مسألة تخصيص العلة بعشها. فإن لم يكن بين
~~الصورة المخصوصة وغيرها فرق لزم التسوية، وحينئذ فإما أن تكون العلة باطلة،
~~وإما أن يكون تخصيص تلك الصورة باطلا.
# وهذا هو الصواب في ms0302 هذا كفه، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على
~~القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرق مؤثر
~~بينهما، كما لم يأتوا بفرق مؤثر بين نبيذ التمر وغيره من المائعات، ولا بين
~~القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرهما مما
~~يشترطون فيه الطهارة./
# وذكروا أدلة أخرى جيدة، كقولهم- واللفظ للقاضي (1) -:
# وأيضا فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلا بنفسه، فوجب القياس عليه كسائر
~~الأصول (2) . وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول له بأولى من رذ تلك
~~الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل PageV02P202
# واحد منهما في مقتضاه، وإجراؤه على عمومه. وأيضا فإن القياس يجري مجرى
~~خبر الواحد، بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن. ثم ثبت أنه يصح أن
~~يرد مخالفا لقياس الأصول، كذلك القياس مثله (1) .
# قلت: ومن هذا الباب جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بعرفة
~~ومزدلفة (2) ، لو لم يرد به نص في أسفار أخر. وأما قصره الصلاة بعرفة بأهل
~~مكة وغيرهم فليس مخالفا لعادته، فإنه مازال يقصر في السفر، بل هو بيان
~~استواء السفر الطويل والقصير في ذلك (3) . فأما منع قصر المكيين فهو مخالف
~~للسنة الثابتة بلا ريب (4) . وإنما خالف ذلك من PageV02P203
# غفل عن هذه السنة. وأما قصر غير المكيين فلأن القصر ليس من خصائص الحج
~~ولا متعلقا به. وإنما هو متعلق بالسفر طردا وعكسا.
# وكلامهم في هذه المسألة تقتضي أن ما قيل فيه إنه خالف القياس في صور
~~الاستحسان فلا بد أن يكون قياسه فاسدا، أو أن يكون تخصيصه بالاستحسان
~~فاسدا، إذا لم يكن هناك فرق مؤثر. وهذا هو الصواب في هذا الباب.
# قالوا (1) : واحتج المخالف بأن إثبات الشيء لا يصح مع وجود ما ينافيه،
~~فلما كان القياس مانعا مما ورد به الأثر لم يجز لنا استعمال القياس فيه،
~~لأنه لو جاز ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصول التي يمنع قياسها منه.
~~فكان يخرج حينئذ من كوبه مخصوصا من جملة القياس.
# قالوا: والجواب عنه من وجهين:
# أحدهما ms0303: أنا لا نسلم أن هاهنا ما ينافيه، لأن المنافاة تكون بدليل خاص،
~~وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكره من التأويل.
# والثاني: أن المنافاة إنما تحصل بقياسه على غيره في إسقاط حكم النص، فأما
~~قياس غيره عليه فلا ينافيه، لأنه لا يسقط حكم النص عندهم، فيصح القياس عليه
~~(2) . PageV02P204
# قلت: هذا الثاني جواب عن قياس غيره عليه، والأول جواب عن قياسه على غيره،
~~ومنع لكونه مخصوصا من جملة القياس.
# والتحقيق أنه وإن كان مخصوصا من جملة القياس فهو مخصوص من قياس معين، لا
~~من كل قياس، وإنما يخص لمعنى فيه يوجب الفرق بينه وبين غيره. فإذا قيس عليه
~~غيره بذلك المعنى لم يناف ذلك كونه مخصوصا من ذلك القياس الأول.
# وحقيقة هذا كفه أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر،
~~فمن يقول بالاستحسان من غير فارق مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر،
~~وبمنع القياس على المخصوص، يثبت أحكاما على خلاف القياس الصحيح في نفس
~~الأمر.
# وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الأكثرون، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وهم
~~تارة ينكرون صحة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارة ينكرون مخالفة
~~القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان (1) الذي ليس بدليل شرعي، و
### | تارة ينكرون صحة الاثنين،
# فلا يكون القياس صحيحا، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحا، بل كلا الحجتين
~~(2) ضعيفة، وإنكار هذا كثير في كلام هؤلاء./ PageV02P205
# فصل
# وقد تدبرت عامة هذه المواضع التي يدعي من يدعي فيها من الناس أنها تثبت
~~على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلة الشرعية الصحيحة خضت بلا فرق شرعي من
~~فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس
~~الصحيح من غير فرق شرعي، فوجدت الأمر بخلاف ذلك، كما قاله أكثر الأئمة
~~كالشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض أيضا، فيخص ما
~~يجعله علة بلا فارق مؤثر، كما أنه قد يقيس بلا علة مؤثرة.
# فالمقصود ضبط أصول الفقه الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة ليس ms0304
~~فيها تناقض أصلا، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلا تناقضا، فإن القياس
~~الصحيح هو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، والجمع بين
~~الأشياء فيما جمع الله ورسوله بينها فيه، والفرق بينهما فيما فرق الله
~~ورسوله بينها فيه.
# والقياس هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطا
~~للحكم، وذلك المعنى قد يكون لفظ شرعي عام (1) أيضا، فيكون الحكم ثابتا
~~بعموم لفظ الشارع ومعناه. وقد بينا PageV02P206
# في غير هذا الموضع (1) أن الأحكام كلها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه
~~تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضا
~~متناولة لجميع الأحكام. لكن قد يفهم المعنى من لم يعرف اللفظ العام، وقد
~~يعرف اللفظ العائم ودلالته من لم يفهم العلة العامة. وكثيرا ما يغلط من
~~يظنه قال لفظا ولم يقله، أو يجعله عاما أو خاصا ويكون مراد الشارع خلاف
~~ذلك، كما يغلط من ينفي لفظا قاله، وكما يغلط من يظنه اعتبر معنى لم يعتبره،
~~أو ألغى معنى وقد اعتبره، ونحو ذلك.
# ولنأتين بما يذكر العلماء أنه استحسان على خلاف القياس:
# فمن ذلك ما يقوله أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان، فإنه
~~قد ذكر عنه روايتين (2) كما تقدم، والقول الثالث وهو الذي يدك عليه أكثر
~~نصوصه أن الاستحسان المخالف للقياس PageV02P207
# صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جمع بغير
~~دليل شرعي وفرق بغير دليل شرفي، وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح.
# أما قوله "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة، لكن القياس أنه بمنزلة الماء حتى
~~يجد الماء أو يحدث" (1) فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي
~~حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم (2) ، وهو الصواب، كما دل عليه الكتاب والسنة.
# وقوله "القياس" هو قياس الشرع لفظا ومعنى. فإن قول النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: " الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين " (3) ،
~~وقوله: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" (4) ونحو ذلك، ألفاظ PageV02P208
# دالة على أن التراب طهور كالماء./والقران يدل على أنه طهور بقوله لما ذكر
~~التيمم ms0305: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته
~~عليكم) (1) . والذين أمروه بالتيمم لكل صلاة تمسكوا بآثار رويت عن بعض
~~الصحابة، هي ضعيفة (2) ، وعنهم ما يخالفها. وقالوا: إنه لا يرفع الحدث،
~~وإنما هو مبيح، فيبيح بقدر الضرورة. قالوا: ولو رفع الحدث لما كان إذا قدر
~~على استعمال الماء يستعمله بحكم الحدث السابق من غير تجدد حدث. واحتجوا
~~بقوله لعمرو بن العاص: "أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " (3) . PageV02P209
# وجواب هذا (1) أن قولهم "لا يرفع بل يبيح " كلائم لا حقيقة له، ولو صح لم
~~يكن لهم فيه حجة، فإن الحدث ليس هو أمرا محسوسا كطهارة الجنب، بل هو أمر
~~معنوي يمنع الصلاة، فمتى كانت الصلاة جائزة، بل واجبة معه امتنع أن يكون
~~هنا مانع من الصلاة، بل قد ارتفع المانع قطعا.
# وإن قالوا: هو مانع، لكنه لا يمنع مع التيمم.
# فالمانع (2) الذي لا يمنع ليس بمانع.
# فإن قيل: هو يمنع إذا قدر على استعمال الماء.
# قيل: هو حينئذ! يوجد المانع.
# فإن قالوا كيف يعود المانع من غير تجدد حدث؟
# قيل: كما عاد الحاظر من غير تجدد حدب، فالحاظر للصلاة هو المانع، والمبيح
~~لها هو الرافع لهذا المانع.
# فإن قيل: أباحها إلى حين القدرة على استعمال الماء.
# قيل: وأزال المانع إلى حين القدرة، فكما يقال: أباح إباحة موقتة، يقال:
~~إنه رفع رفعا موقتا.
# وإن قالوا: نحن لا نقبل إلا ما يرفع مطلقا كالماء. PageV02P210
# قيل: ولا نقبل إلا ما يبيح مطلقا كالماء. وأيضا فالله ورسوله قد سماه (1)
~~طهورا، وجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - طهور المسلم ما لم يجد الماء،
~~وجعل تربة الأرض طهورا. والطهور ما يتطهر به، وقد قال تعالى: (وإن كنتم
~~جنبا فاطهروا" (2) . والتيمم قد يطهر، ومع الطهارة لا يبقى حدث، فإن
~~الطهارة مناقضة للحدث، إذ غايته أن تكون نجاسة معنوية، والطهارة تناقض
~~النجاسة.
# فإن (3) قيل: الصلاة بالتيمم رخصة كأكل الميتة في المخمصة، والرخصة
~~استباحة المحظور مع قيام الحاظر ومنع المانع، فلو بقي مانعا لم تجز الصلاة.
~~فعلم زوال المانع.
# ولا ms0306 يجوز أن يقال هنا: إنه استباح الصلاة مع قيام الحاظر لها، فإن كون
~~الحاظر حاظرا زائل من الميتة لمعارض راجح، وذلك أن المعنى المقتضي للحظر
~~القائم بالميتة موجود حال المخمصة، كما هو موجود في حال القدرة، فإن الميتة
~~في نفسها لم تتغير، وإنما تغير حال الإنسان، كان غنيا عنها، ثم صار محتاجا
~~إليها (4) . فهذا PageV02P211
# يمكن دعواه في الميتة، ولا يمكن دعواه هنا، لأنه لا تحصل له إلا الميتة،
~~وقد تغير حاله إليها، وحاجته تدفع الفساد الحاصل بأكلها، فكذلك التيمم.
# قيل: هذا قياس فاسد، وذلك أنه صاد ميتة وأكل، والميتة لم تتغير، لكن تغير
~~حال الآكل، وهنا ليس إلا المحدث الذي كانت الصلاة محرمة عليه، ثم صارت
~~واجبة عليه أو جائزة بالتيمم، فلو لم يتغير حاله بالتيمم لما جازت صلاته،
~~وليس هنا إلا الحدث في الشرع، فأبيحت (1) له الصلاة في حال، وحرمت عليه في
~~حالي، مع تسميته في حال الإباحة متطهرا، وجعل التراب طهورا كما جعل الماء
~~طهورا.
# وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: "أصليت بأصحابك وأنت
~~جنب؟ " استفهام (2) ، فسأله: أكان ذلك أم لم يكن؟ وليس هو خبرا أنه صفى وهو
~~جنب، فلما أخبره أنه تيمم لخشية البرد تبين أنه لم يكن جنبا، فأقره النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -. وإلا فلو كان المراد الخبر وهو قد صفى مع الجنابة
~~صلاة جائزة لم يسأله. وإن كانت الجنابة مانعة من الصلاة مطلقا لم يقبل
~~عذره. وهو لم يقل: "أصليت وأنت (3) جنب بلا تيمم " ليكون قد استفهمه عن حال
~~التحريم، بل أطلق الصلاة مع الجنابة. وهم يقولون: يجوز مع الجنابة تارة،
~~ولا يجوز أخرى، PageV02P212
# وكلام الرسول يقتضي منعها مع الجنابة مطلقا، وأن هذا استفهام إنكار، وأنه
~~لما بئن أنه تيمم تبين أنه لم يكن جنبا، فلا إنكار عليه بهذا أبدا، والله
~~أعلم (1) .
# فقد تبين هنا أن القياس هو الصحيح، دون الاستحسان الذي يناقضه، وتخصيص
~~العلة، وهو كون هذا بدلا طهورا مبيحا يقوم مقام الماء عند تعذره في جميع
~~أحكامه، ثم يخص ms0307 بعض الأحكام من حكم البدلية والطهوريه والإباحة، والبدل
~~يقوم مقام المبدل في حكمه لا في صورته، والحكم جواز الصلاة به ما لم يجد
~~الماء أو يحدث. فذلك القول مخالف للقياس وتخصيص للعلة بلا ريب، والعفة
~~صحيحة بلا ريب.
# ونحن إذا قلنا: لا يجوز تخصيص بدون فارق مؤثر أفاد شيئين: أحدهما: أنه
~~إذا ثبت أنها علة صحيحة لم يجز تخصيصها مثل هذا الموضع.
# والثاني: أنه إذا ثبت تخصيصها علم بطلانها، وهذا معنى قولنا: لا يجتمع
~~قياس صحيح واستحسان صحيح إلا مع الفارق المؤثر في الشرع.
# وأما قوله في المضارب (2) : إذا خالف فاشترى غير ما أمر به PageV02P213
# صاحب المال، فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح
~~يحيط بأجرة مثله فيذهب، قال: وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال فاستحسنت.
~~ف
### | هذا استحسان بفرق رآه مؤثرا،
# والقياس مستنبط، والاستحسان مستنبط، وهو تخصيص لعلة مستنبطة بفرق مستنبط.
~~وأحمد لا يرد مثل هذا الاستحسان، لكن قد تكون العفتان أو إحداهما فاسدة،
~~كما لا يرد تخصيص العلة المنصوصة بفرق منصوص./
# والفرق أن المضارب مأمور بالعمل بجعل، بل هو شريك في الربح، وعمله له
~~ولصاحب المال جميعا، ولهذا كان للعلماء فيما يستحقه في المضاربة الفاسدة
~~ونحو ذلك قولان: هل يستحق قسط مثله في الربح، أو أجرة مقدرة تكون أجرة مثله
~~(1) ؟ والقول الأول هو الصواب قطعا، وهذا قياس مذهب أحمد، فإن من أصله أن
~~هذه المعاملات مشاركة، لا مؤاجرة بأجرة معلومة، والقياس عنده صحتها.
# وإنما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة. ويقول: القياس يقتضي
~~فسادها، والمأجور فيها مأجور للحاجة. وبكل حال PageV02P214
# فهو يعمل لنفسه لاستحقاق القسط أو الأجر، ويعمل لرب المال، فليس هو
~~بمنزلة الغاصب الذي جعل عمله لصاحب المال كالمتبرع، فإن هذا إنما قبض المال
~~ليعمل فيه بالعوض، وهو بالمخالفة لا يخرج عن كون المال بيده قبضه ليعمل فيه
~~بالعوض، ولكن عمل غير ما أمر به، فيكون ضامنا لتعديه، ولكن ليس إذا كان
~~ضامنا يكون وجود عمله كعدمه، مع أنه مأذون له ms0308 في التجارة به في الجملة، ليس
~~هو كمن لم يؤذن له في ذلك.
# وهو أيضا من أصل آخر، وهو أنه إذا تصرف بغير أمره كان فضوليا (1) ، فيكون
~~المعقود موقوفا. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقول أكثر العلماء، وهي التي
~~ذكرها الخرقي في مختصره: أن بيع الفضولي وشراه ليس باطلا بل موقوفا (2) ،
~~فإن باع أو اشترى PageV02P215
# بعين المال فهو موقوف، وإن اشترى فى الذمة فهو موقوف. فإن أجازه المشترى
~~له وإلا لزم المشتري (1) .
# وأما القاضي وأتباعه فاختاروا أن تصرفه مردد (2) إلا إذا اشترى في الذمة.
~~والذي ذكره الخرقي أصح، لكنه قرن هذه المسألة في مواضع من مختصره بالعامل
~~إذا خالف كان متصرفا له بغير إذنه، فإذا أجازه وطلب نصيبه من الربح صار
~~مجيزا له، وصار العامل مأذونا له. والعامل إنما عمل لأجل نصيبه من الربح،
~~فيستحق نصيبه من الربح.
# وقول أحمد: "كنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت" رجوع منه
~~إلى هذا، وجعله الربح في جميع الصور للمالك يقتضي أنه يصحح تصرف الفضولي
~~إذا أجيز، وإلا كان البيع باطلا.
# وكذلك الشرى بعين المال، كما يقوله الشافعي ومن نصر الرواية الأخرى"،
~~ويكون عليه ضمان ما فوته من ماله فقط، ليس للمالك غير هذا، ولا يكون للعامل
~~أيضا ربح، لأنه لم يعمل شيئا. والآثار المأثورة عن الصحابة والتابعين في
~~باب البيع والنكاح والطلاق وغير ذلك تدل على أنهم كانوا يقولون بوقف
~~المعقود، PageV02P216
# لاسيما حيث تعذر استئذان المالك (1) .
# ولهذا أحمد يقول بوقفها هنا كما في مسألة المعقود، اتباعا للصحابة في
~~ذلك. وإنما ادعى أنها خلاف القياس من لم يتفطن لما فيها من وقف المعقود،
~~كما في اللقطة (2) . وتكلم السلف فيمن يتجر بمال غيره في الربح دليل على
~~صحة التصرف عندهم إذا أجازه المالك.
# وبهذا ظهر ما استحسنه أحمد ورجع إليه أخيرا، لأنه إذا صار بالإجازة
~~كالمأذون له، وهو لم يعمل إلا بجعل برضا المالك، فلا يجوز منعه حقه. وهذا
~~بناء على أنه إذا تصرف ابتداء فالربح كله للمالك، وهو أحد الأقوال في ms0309
~~المسألة، وقيل: يتصدقان به، وهو رواية عن أحمد. وقيل: هو للعامل، كقول
~~الشافعي. وقيل: هما شريكان فيه، وهو أصح الأقوال، وهو المأثور عن عمر (3)
~~في PageV02P217
# المضاربة (1) ،/لأن المالك لما أذن فيه صار كالمضارب، وهو لم يعمل ليكون
~~الربح للمالك كالمبضع (2) ، فإنه لو فعل ذلك لكان الربح للمالك، وإنما اتجر
~~ليكون الربح له أو بينهما، والمالك قد أجاز بيعه، ولم يجزه ليكون الربح كله
~~له، فيكون النماء حاصلا بمال هذا وبيع هذا، والتصرف صحيحا مأذونا فيه،
~~فيكون الربح بينهما. ومن قال: "يتصدقان به" جعله كغير المأذون فيه، فيكون
~~خبيثا، وهو متعد، لأن الحق لهما لا يعدوهما، فإذا أجاز التصرف جاز.
# وكذلك في جميع تصرف الغاصب، لاسيما من لم يعلم أنه غاصب، إذا تصرف في
~~المغصوب بما أزال اسمه، كطحن الحب ونسج الثوب ونحو ذلك، ففيه ثلاثة أقوال
~~في مذهب أحمد وغيره:
# قيل: كل ذلك للمالك دون الغاصب، وعليه ضمان النقص، كقول الشافعي.
# وقيل: يملكه الغاصب، وعليه بدله، كقول أبي حنيفة.
# وقيل: يخير المالك بينهما، كقول مالك. وهذا أصح (3) ، بناء PageV02P218
# على وقف التصرفات، فإن شاء المالك أجاز تصرفه، وطالبه بالنقص، كما في
~~العامل المخالف، وإن شاء طالبه بالبدل لإفساده عليه، وبأخذه ذلك لأدائه
~~عوضه، فيخير على المعاوضة لحق المالك.
# وإذا رضي المالك به فهل يكون الغاصب شريكا لما في عمله؟ فيه وجهان،
~~والأظهر في الجميع أن أثر عمله له، وكونه ظالما يظهر في تضمينه له، لا في
~~أن يؤخذ أثر عمله، فيعطى لغيره بلا عوض، فإن هذا ظلم له، والواجب إزالة
~~الظلم بالعدل، لا بظلم آخر، "وجزاؤا سيئة سيئة مثلها" (1) لا زيادة عليها.
# وأما قوله فيمن غصب أرضا فزرعها: "الزرع لرب الأرض، وعليه النفقة، وليس
~~هذا شيئا يوافق القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته" (2) ، فهذا قاله بالنص
~~كما تقدم، لحديث رافع بن خديج. فيجب أن يكون القياس المخالف لهذا النص
~~فاسدا إن لم يدل نص على صحته، ويظهر الفارق المؤثر، وإلا فالقياس إذا خالف
~~النص كان فاسدا. أما فساد الحكم المخالف للنص ms0310 فبالاتفاق، وفساد العلة على
~~قول الجمهور الذين لا يرون (3) تخصيص العلة إلا بفارق مؤثر، PageV02P219
# وهذا نص قد خالف القياس.
# وقولهم: "القياس أن الزرع لزارعه" ليس معهم بذلك نص ولا نظير، بل القياس
~~(1) أن الزرع إما أن يكون بينهما كالمزارعة، أو يكون لرب الأرض، لأن الزرع
~~في الأرض كالحمل في البطن، وإلقاء البذر كإلقاء المني، ولو وطيء ذكر أنثى
~~كان الحمل لمالك الأنثى دون مالك الذكر، وهذا اختيار ابن عقيل وغيره. لكن
~~المني لا يقوم، بخلاف الزرع، فلهذا جعل له نفقته، فإن الزرع عامته في
~~الأرض، في ترابها ومائها وهوائها وشمسها، كما أن الحمل في البطن عامته في
~~الأم، وماء الأب قليل، كما أن الحب قليل./
# وكذلك الشجر إذا لقح أنثاه بذكر فإن الثمر لصاحب الأنثى، لا لصاحب
~~اللقاح، والحب كاللقاح.
# وقول أحمد: "عليه نفقته" يقتضي مثل البذر، ويقتضي أجرة عمله وعمل فدانه
~~(2) . فقوله: "ليس هذا شيئا يوافق القياس" كقوله في العامل المخالف: "ثم
~~استحسنت أن يعطيه الأجرة"، فكان قياسه على ما يراه في الغاصب أن لا يكون له
~~أجرة عمله وعمل فدانه، فهو PageV02P220
# مخالف للقياس في هذه الحجة (1) ، لأنه إنما عمل ليأخذ العوض، لم يعمل
~~مجانا كالعامل في المضاربة، ولأن البذر له، فليس غاصبا محضا.
# وقد اختلفت الرواية عن أحمد: هل يعطى ما أنفق أو أجرة مثله؟ والنص ورد
~~بالأول بقوله: "فليس له في الزرع شيء، وله نفقته"، والقياس يقتضي الثاني.
~~فقد يكون قوله على خلاف القياس من هذا الوجه، وما ورد به النص قد يكون ما
~~أنفق وأجرة مثله فيه سواء.
# وأما شرى المصاحف والسواد (2) فإنما فرق فيهما بين الشرى والبيع، لأن
~~العلة موجودة في البيع دون الشرى، فإن المشتري راغب في المصحف، معظم له،
~~باذل فيه ماله، والبائع معتاض عنه بالمال، والشرع يفرق بين هذا وهذا (3) ،
~~كما فرق في إعطاء المؤلفة PageV02P221
# قلوبهم بين المعطي والآخذ، وكذلك في افتداء الأسير وغير ذلك. ومعلوم أنه
~~لو أعطاه المصحف والأرض الخراجية بلا عوض جاز، وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا
~~يجوز ms0311 تملكه كالخمر وغيرها، فإذا بذل له هذا فيه العوض لم تكن مضرته إلا على
~~البائع.
# فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب معلم إلا بثمن فينبغي أن يجوز بذله،
~~وإن لم يجز أخذه.
# قيل: إن لم يكن بينهما فرق مؤثر في الشرع فهكذا (1) هو، وإن قيل هناك:
~~يجب عليه إعطاء الكلب بلا عوض , بخلاف الأرض والمصحف، فهذا فرق. مع أن
~~الثابت عن الصحابة كراهة بيع المصحف، وابن عباس كان يكرهه (2) ، وكان أيضا
~~يجوزه ويقول: إنما هو مصور, وله أجرة تصويره (3) . فدل على أنها كراهة
~~تنزيه. وروي عن غيره: وددت أن الأيدي تقطع في بيع المصاحف (4) ، وهذا تغليظ
~~تحريم. ولهذا اختلفت الرواية عن أحمد: هل هو نهي تنزيه أو تحريم.
# وأما شراه ومبادلته فهل هو مباح أو مكروه على روايتين، وعن ابن عباس يجوز
~~أن يبيعه ويشتري بثمنه مصحفا آخر، وليس PageV02P222
# في المبادلة والشرى استبدال به عرضا من الدنيا، فالأظهر جواز ذلك بلا
~~كراهة (1) ، وأن البيع أيضا لا يحرم، بل يكره تعظيما لكتاب الله، إذ ليس
~~على التحريم دليل شرعي.
# وكذلك الأرض الخراجية ليس في منع بيعها دليل شرعي أصلا (2) ، فإن الذين
~~منعوها من الفقهاء قالوا: إنها وقف، وبيع الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في
~~الوقف الذي يبطل حق أهل الوقف ببيعه، وهو الذي لا يورث ولا يوهب، والأرض
~~الخراجية تورث وتوهب، والوقف الذي لا يباع لا يورث ولا يوهب، وذلك أن
~~المشتري لها يقوم مقام البائع، لا يبطل حق أهل الوقف./ PageV02P223
# وأحمد في ظاهر مذهبه يجوز بيع المكاتب لهذا المعنى (1) ، لان ذلك لا يبطل
~~حقه من الكتابة، بل يكون عند المشتري كما كان عند البائع، وهو يورث
~~بالاتفاق. ولكن لما انعقد فيه سبب الحرية تخيل من منع بيعه أنه يباع حر،
~~كما تخيل أولئك أنه يباع وقف، وليس الأمر كما تخيلوه، بل بيع الحز هو أن
~~يستعبد فيصير بخلاف ما كان حرا، وبيع الوقف هو أن يجعل طلقا ويصرف فعله إلى
~~غير مستحقيه.
# والأرض الخراجية فعلها هو فعلها لم ms0312 يتغير، وهو الخراج المضروب عليها،
~~سواء كان ضريبة كخراج عمر، أو صار مقاسمة كما فعله متأخرو الخلفاء بأرض
~~السواد وغيرها، كما فعله المنصور. فعلى التقديرين حق المسلمين باق، كما
~~يبقى مع الموت والهبة.
# والصحابة الذين كرهوا شراها إنما كرهوه لدخول المسلم في خراج أهل الذمة،
~~أو إبطال حق المسلمين به، فإن المشتري إن أدى الخراج - وهو جزية- فقد التزم
~~الصغار، وإن لم يؤده أبطل حق المسلمين، فلذا كره ذلك عمر وغيره من الصحابة،
~~وهم نهوا عن الشرى.
# وأما البيع فإنما كان يبيعها أهل الذمة، لأن الأرض الخراجية PageV02P224
# إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضا لئلا يشتغل المسلمون بالفلاحة
~~والصغار عن الجهاد. فلما كثر المسلمون، وصار أكثرهم غير مجاهدين، وصار
~~أداؤهم الخراج أنفع لعموم المسلمين من كونها بأيدي الذمة، لم يصر في ذلك من
~~الصغار ما كان يكون في أول الإسلام إلا لمن يشتغل بعمارة الأرض عن الجهاد.
~~وهذا لا يختص بالخراجية، بل قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سكة فقال:
~~"ما دخلت هذه دار قويم إلا دخلها الذل ". رواه البخاري (1) . مع أن الأنصار
~~كانوا هم الفلأحين لأرضهم، فهذا على الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد،
~~وهذا لا يختص بالخراجية.
# وأما ما ذكره القاضي من
### | قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر
# (2) ، فلا ريب أن الفرق هنا ظاهر، وهذا من الاستحسان PageV02P225
# وتخصيص العلة التي ظهر فيها الفرق، والمنع من شهادتهم على المسلمين ثبت
~~بالنص، والإذن فيها هنا ثبت بالنص أيضا للحاجة. وهل يعدى هذا إلى جميع
~~مواضع الحاجة؟ فيه عن أحمد روايتان (1) ، بناء على أن العلة معلومة، وهي
~~موجودة/في غير هذا الموضع. هذا وجه القول بالجواز.
# وأما وجه المنع فإما أن نقول: لم نعلم العلة وإنها مشتركة، أو علمنا
~~اختصاصها بهذه الصورة للضرورة العامة فيها. هذا إذا ثبت عموم المنع في غير
~~هذه الصورة، إما لفظا وإما معنى. وألفاظ القرآن لا عموم فيها بالمنع، وكذلك
~~السنة ليس فيها لفظ عام بالمنع. لم يبق إلا القياس، وتلك المواضع أمر ms0313 فيها
~~بإشهاد المسلمين، ومعلوم أن ذلك إنما هو عند القدرة على إشهادهما، وهذا
~~واجب في الوصية في السفر. وأما إذا تعذر إشهادهما على الذين في السفر أو
~~على الرجعة فليس في القرآن ما يدل على المنع من ذلك. وإذا لم يكن في الكتاب
~~والسنة منع من إشهاد أهل الذمة عند تعذر إشهاد المسلمين، لم يكن هنا قياس
~~يخالف هذه الآية، وقد عمل بها PageV02P226
# الصحابة وجمهور التابعين. والذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافها لا نص
~~ولا إجماع ولا قياس، وقد تأولوها ناجزين (1) من غير أصل يسلم، وقال بعضهم:
~~هي منسوخة، وقال بعضهم: الشهادة اليمين. والأقوال الثلاثة باطلة من وجوه
~~كثيرة.
# وقول من قال: "لا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحال " ليس معهم
~~بذلك لا نص ولا قياس، ولكن كثير من الناس يغلطون لأنهم يجعلون الخاص من
~~الشارع عاما، والله أمر بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن، فظن من ظن
~~أن هذا يقتضي أنه لا يشهد غيرهم ولو لم يوجد مسلم.
# وباب الشهادات مبناها على الفرق بين خال القدرة وحال العجز، ولهذا قبلت
~~شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال. وقد نصن أحمد على شهادتهن في
~~الجراح وغيرها إذا اجتمعن ولم يكن عندهن رجال، مثل اجتماعهن في الحمامات
~~والأعراس ونحو ذلك. وهذا هو الصواب (2) ، فإنه لا نص ولا إجماع ولا قياس
~~يمنع شهادة النساء في مثل ذلك. وليس في الكتاب والسنة ما يمنع شهادة النساء
~~في العقوبات مطلقا (3) . PageV02P227
# وأما إذا نذر ذبح ولده أو نفسه فأحمد اتبع ما ثبت عن ابن عباس (1) ، وهو
~~مقتضى القياس والنص، فإن. كان قادرا كان عليه كبش، وإن سلف فيه بمال فعليه
~~كفارة يمين. وهذا أصح الروايات عن أحمد (2) ، وهو الذي يصرح به في مواضع.
~~وقيل: عليه كفارة يمين في الجميع. وقيل: كبش في الجميع (3) . وقيل: لاشيء
~~عليه (4) . وذلك لأن من نذر نذرا فعليه المنذور أو بدله في الشرع، وهنا لما
~~تعذر المنذور انتقل إلى البدل الشرعي، وهو الكبش، كما في نظائره، فليس هنا ms0314
~~ما يخالف القياس الصحيح (5) . PageV02P228
# وهذا الباب- باب تدبر العموم والخصوص من ألفاظ الشرع ومعانيه التي هي علل
~~الأحكام- هو الأصل الذي تعرف منه شرائع الإسلام. والله أعلم، والحمد لله،
~~وصلى الله على محمد وآله.
# PageV02P229
### | قاعدة في شمول النصوص للأحكام
# PageV02P231
# مقدمة
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين. وبعد، فإن مباحث القياس لم تحرر على طريقة فقهاء أهل الحديث في كتب
~~الأصول التي وصلتنا، وأكثرها على منهج المتكلمين وأهل الرأي الذين لم
~~ينصفوا أهل الحديث في الغالب، ونسبوا إليهم ما لا يقولون به، وعدوهم مثل
~~الظاهرية مخالفين للقياس. ونحن نعرف أن الظاهرية أنكروا القياس وحجيته
~~والحاجة إليه، وسدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم
~~والمصالح، فاحتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، وحملوهما فوق الحاجة،
~~ووسعوهما أكثر مما يسعانه، فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه، وحيث لم يفهموه
~~منه نفوه وحملوه على الاستصحاب. فهم وإن أحسنوا في اعتنائهم بالنصوص وعدم
~~تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة
~~وبيانهم تناقض أهلها واضطرابهم في القياس تأصيلا وتفصيلا، وذكر أمثلة من
~~تفريقهم بين المتماثلين وجمعهم بين المختلفين- إلا أنهم أخطأوا من وجوه
~~عديدة:
# منها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته
# PageV02P233
# التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ.
# ومنها: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكيم دل عليه النص ولم يفهموا
~~دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه
~~وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين.
# ومنها: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه، لعدم علمهم
~~بالناقل. وليس عدم العلم علما بالعدم.
# أما أصحاب الرأي والقياس فلم يعتنوا بالنصوص كما ينبغي، ولم يعتقدوها
~~وافية بالأحكام ولا شاملة لها، حتى قال بعضهم: إن النصوص لا تفي بعشر معشار
~~أحكام العباد، فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، وقالوا: إن
~~النصوص متناهية وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي
~~ممتنع. فوسعوا طرق الرأي والقياس، وعلقوا الأحكام بأوصاف ms0315 لا يعلم أن الشارع
~~علقها بها، واستنبطوا عللا لا يعلم أن الشارم شرع الأحكام لأجلها. ثم
~~اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس؟ ثم اضطربوا فتارة
~~يقدمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير
~~المشهور، واضطرهم ذلك أيضا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت
~~على خلاف القياس. فكان خطؤهم من وجوه:
# أحدها: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.
# PageV02P234
# الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.
# الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف القياس، وادعوا
~~فيها الاستحسان، فظنوا أن الاستحسان خلاف القياس.
# الرابع: اعتبارهم عللا وأوصافا لم يعلم اعتبار الشارع لها، وإلغاؤهم عللا
~~وأوصافا اعتبرها الشارع.
# الخامس: تناقضهم في نفس القياس، ففرقوا- كثيرا- بين المتماثلين وجمعوا
~~بين المختلفين.
# والصواب الذي عليه أئمة السنة والحديث أن الله تعالى قد أنزل الكتاب
~~والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، فلا تتناقض
~~دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح
~~والقياس الصحيح، بل كلها متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضا، ويشهد بعضها
~~لبعض.
# والنصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يحلنا الله ورسوله على
# الرأي، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح
~~حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان. وقد تخفى دلالة النص أو لا
~~تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقا للنص فيكون قياسا صحيحا،
~~وقد يظهر مخالفا له فيكون فاسدا.
# هذا المذهب الثالث- الذي هو مذهب فقهاء أهل الحديث-
# PageV02P235
# وسط بين الظاهرية وأهل الرأي كما نرى، ولكنا لا نجد من الأصوليين من نصره
~~عند كلامه على القياس، حتى جاء شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عليه وقرره في
~~مواضع من رسائله وكتاباته، وأهمها هذه القاعدة التي ننشرها الآن. وتبعه
~~تلميذه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/350- 383) ، فنقل معظم
~~مباحث هذه القاعدة بلفظها أو بمعناها، مع زيادة التوضيح والشرح بأسلوبه
~~المعروف.
# وهو وإن لم يذكر شيخه في هذا الموضع، فقد أشار إليه عند ms0316 الكلام على أنه
~~ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (1/383) .
# وهذه القاعدة أحد الفصول الثلاثة التي يقول ابن القيم فيها إنها "من أهم
~~فصول الكتاب" (1/355) ، فلا نستغرب أن يقتبسها من شيخه، على طريقته في
~~الاستفادة من كتبه، كما يظهر ذلك لكل من يقرأ كلام الشيخين في موضوع واحد.
# والكتاب مقسم إلى قسمين: في القسم الأول منهما تأصيل لقاعدة شمول النصوص
~~للأحكام وموافقتها للقياس الصحيح. وفي الثاني تطبيق لها على أحكام الفرائض،
~~فإنها من أشكل الأشياء، والنصوص الواردة فيها قليلة محصورة، ومع ذلك شملت
~~جميع الأحكام التي نحتاج إليها، فهذا من أظهر الأدلة على صحة القاعدة
~~المذكورة.
# وقد أفرد القسم الثاني- لأهميته- في بعض النسخ، كما سيأتي ذكرها فيما
~~بعد، وذكره ابن رشيق (1) بعنوان "شمول النصوص في PageV02P236
# الفرائض". ونشر مختصر من هذا القسم بحذف كثير من كلام المؤلف (1) ، وتدل
~~بدايته على أنه تكملة لكلام سابق، فقد بدأ بقوله: "والمقصود هنا أن النصوص
~~شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو من أشكل الأشياء، ليستدل به
~~على ما سواه ... ".
# وقد ظهرت نسختان كاملتان للكتاب تحتويان على القسمين، فاعتمدنا عليهما في
~~نشرتنا له كما كتبه المؤلف دون اختصار، عسى الله أن ينفع به القراء
~~والباحثين.
### | عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف
# ذكر ابن رشيق (2) وابن عبد الهادي (3) والصفدي (4) وابن شاكر الكتبي (5)
~~هذا الكتاب ضمن مؤلفات شيخ الإسلام بعنوان "قاعدة في شمول النصوص للأحكام"،
~~ووصفه بعضهم بأنه "مجلد PageV02P237
# لطيف". وقد تحرف هذا العنوان في بعض المصادر (1) إلى "شمول النفوس لأحكام
~~الفقه المنصوص"! ولا يستفاد منه معنى صحيح ولا سجع مقبول، فلا يلتفت إليه.
~~ويكون المعتمد ما ذكره تلاميذ شيخ الإسلام وأصحابه، لكونه موافقا لبداية
~~النسختين الكاملتين للكتاب.
# وقد أشار شيخ الإسلام إلى هذا الكتاب في "قاعدته في الاستحسان" (ص
~~206-207) فقال: "وقد بينا في غير هذا الموضع أن الأحكام كلها بلفظ الشارع
~~ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني
~~المؤثرة، فمعانيه أيضا متناولة لجميع الأحكام". والكتاب الذي بين أيدينا
~~فصل فيه الكلام على ms0317 الموضوع الذي أشار إليه، وقرر أن الله تعالى بين جميع
~~ما أمر به ونهى عنه، وجميع ما أحله وحرمه، وبهذا أكمل الدين، ولكن قد يقصر
~~كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، فيقولون: إن النصوص لا تحيط
~~بأحكام الحوادث. وبمقابل هؤلاء قوم من نفاة القياس نفوا القياس الجلي
~~الظاهر حتى فرقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة
~~أصلا، ونفوا تعليل خلقه وأمره، واقتصروا في معرفة الأحكام على مجرد
~~الظواهر، فحيثما فهموا من النص حكما أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه وأثبتوا
~~الأمر على موجب الاستصحاب. ثم بين خطأ الفريقين، وناقشهما مناقشة طويلة،
~~وقرر أن السنة وسط بين هؤلاء وهؤلاء، وأن النصوص PageV02P238
# شاملة لجميع الأحكام، ولو أعطي حقها من المعرفة والفهم لدلت على جميع
~~الأحكام. ويعتبر القياس دليلا صحيحا آخر يوافق دلالة الظاهر والتعليل
~~الصحيح.
# وقد تكلم شيخ الإسلام في هذا الموضوع في مواضع أخرى من كتاباته وفتاواه،
~~فذكر في فتوى له (1) أن الناس تنازعوا في ذلك: فقوم زعموا أن أكثر أحكام
~~أفعال العباد لا يتناولها خطاب الشارع، بل تحتاج إلى القياس، وقوم زعموا أن
~~جميع أحكامها ثابتة بالنص، وأسرفوا في تعلقهم بالظاهر حتى أنكروا فحوى
~~الخطاب وتنبيهه. وقوم يقدمون القياس تارة، لكون دلالة النص غير تامة أو
~~لكونه خبر الواحد، وقوم يعارضون بين النص والقياس، ويقدمون النص ويتناقضون.
~~ونحن قد بينا في غير هذا الموضع أن الأدلة الصحيحة لا تتناقض، فلا تتناقض
~~الأدلة الصحيحة العقلية والشرعية، ولا تتناقض دلالة القياس إذا كانت صحيحة،
~~ودلالة الخطاب إذا كانت صحيحة. فان القياس الصحيح حقيقته التسوية بين
~~المتماثلين، وهذا هو العدل الذي أنزل الله به الكتب وأرسل به الرسل.
# وفي الكتاب الذي بين أيدينا قرر المؤلف أن قياس الجمع والفرق يكون
~~بالأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا كله من الميزان الذي أنزله الله مع رسله
~~كما أنزل الكتاب، وإذا ثبت أن الكتاب PageV02P239
# والميزان منزلان فلا يجوز أن يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة
~~النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا ms0318 دلالة النص الصحيح والقياس
~~الصحيح. وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح والباطل الذي ليس بصحيح، فأما
~~الصحيح الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا (1) .
# وقال في موضع آخر (2) : إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضا، وإن
~~دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية. فإذا علمنا بأن
~~الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس
~~المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد.
# وذكر في فتوى أخرى (3) في هذا الموضوع أن الصواب الذي عليه جمهور أئمة
~~المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد، ومن أنكر ذلك لم يفهم
~~معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال
~~العباد. ثم مثل بلفظ "الخمر" و"الميسر" و"الربا" و"الأيمان" وغيرها، فقال
~~عن الخمر إنها تناولت كل مسكر، فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة
~~الجامعة لا بالقياس وحده، وإن كان القياس دليلا آخر PageV02P240
# يوافق النص. ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية أمكنه أن يستدل على غالب
~~الأحكام بالنصوص وبالأقيسة.
# ورد في موضع آخر (1) على من يقول إن "الحشيشة" لم يرد فيها آية ولا حديث،
~~وقال: هذا من جهله، فان القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة
~~وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، وكل ما دخل فيها فهو مذكور في القرآن
~~والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيء باسمه الخاص. ثم ذكر أمثلة
~~لهذه الألفاظ وشرح معانيها، منها: "الناس" و"الميسر" و"الأيمان" و"الماء"
~~و"المشركين" و"الذين أوتوا الكتاب"، وقال: هذا وأمثاله نظير عموم القرآن
~~لكل ما دخل في لفظه ومعناه، وإن لم يكن باسمه الخاص. ولو قدر بأن اللفظ لم
~~يتناوله، وكان في معنى ما في القرآن والسنة ألحق به بطريق الاعتبار
~~والقياس. وقد بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالكتاب والميزان
~~ليقوم الناس بالقسط، والكتاب: القرآن، والميزان: العدل، والقياس الصحيح هو
~~من العدل، لأنه لا يفرق بين المتماثلين.
# وقد أشار المؤلف إلى هذا ms0319 المعنى في الكتاب الذي بين أيدينا فقال: "وإذا
~~كان أهل المذاهب جعلوا لهم قواعد يضبطون بها ما يحل ويحرم، فالله ورسوله
~~أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بجوامع الكلم"،
~~فهو يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة PageV02P241
# عامة وقضية كلية تجمع أنواعا وأشخاصا". ثم مثل لها ببعض الأمثلة (1) .
# هذه النصوص المتشابهة التي عرضناها تؤكد أن الكتاب الذي بين أيدينا من
~~تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد فصل هنا ما أجمله في مواضع أخرى، ورأيه
~~فيه هو رأيه المعروف في سائر كتاباته، وكلامه هنا في موضوعات عديدة يشبه
~~كلامه في كتبه الأخرى، كما أشرت إلى ذلك في تعليقاتي على الكتاب، فلا حاجة
~~إلى الإعادة. وأذكر على سبيل المثال كلامه في "الاستصحاب" هنا (ص 283-287،
~~290-295) ، فهو موافق لما ذكره في مواضع أخرى (2) ، كما يظهر ذلك
~~بالمقارنة، وهو هنا أكثر تفصيلا وتوضيحا.
### | وصف النسخ الخطية
# وصلت إلينا نسختان كاملتان من الكتاب، وثلاث نسخ ناقصة تحتوي على بيان
~~شمول النصوص في الفرائض وهو القسم التطبيقي للنظرية التي شرحها المؤلف
~~قبله.
# أما النسختان الكاملتان فإحداهما في مكتبة الإسكوريال بإسبانيا برقم
~~[1336] (ق160 ب- 171 أ) ، ليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، وهي مكتوبة
~~بخط مغربي متأخر، لعله من خطوط القرن PageV02P242
# الحادي عشر. والنسخة بحجم كبير، وعدد الأسطر في كل صفحة 33 سطرا، ومتوسط
~~عدد الكلمات في كل سطر 16 كلمة. ولعل هذه النسخة أصابها البلل، فانطمست بعض
~~الكلمات في الركن الأعلى من كل ورقة. ويلاحظ في هذه النسخة أن الناسخ كثيرا
~~ما يكتب جزءا من الكلمة في آخر السطر وتكملتها في السطر التالي.
# انظر مثلا السطر الثاني في أول الكتاب، تجد أنه كتب "موا" في آخر السطر،
~~و"فقة" في السطر التالي، لتصبح "موافقة"!
# والنسخة الثانية ضمن مجموع في الخزانة العامة بالرباط برقم [ق 209] (ص
~~156-178) ، كتبت في رمضان سنة 1001، بخط مغربي أيضا. وعدد الأسطر في كل
~~صفحة منها 27 سطرا، ومتوسط عدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة. وهي مرقمة
~~الصفحات.
# وبعد دراسة النسختين والمقابلة بينهما ظهر لي أنهما ms0320 من أصل واحد، فهما
~~تتفقان كثيرا في التصحيف والتحريف والسقط، وكلتاهما تبدأ ب "الحمد لله وحده
~~حق حمده. وله رحمه الله تعالى فصل
### | …
# ". وتنتهي ب "والله سبحانه أعلم". وفي النسختين اضطراب في الترتيب وتداخل
~~في الكلام أديا إلى اختلال المعنى، وسبب ذلك أن أصلهما كان مضطرب الأوراق،
~~فنسخت عنه النسختان، وانتقل إليهما هذا الاضطراب الذي يبدأ في النسخة
~~الأولى من السطر التاسع من الورقة (168 ب) بعد قوله "فلما بطل سقوطها
~~وفرضها"، وينتهي بالسطر السابع عشر من الورقة (169 أ)
# PageV02P243
# بقوله: "رجل ذكر ... ". وكذا فيما يوافق هذا الموضع من النسخة الثانية.
~~وهذا مما يؤكد أن أصل النسختين واحد.
# وقد اهتديت إلى الترتيب الصحيح لكلام المؤلف بمراجعة النسخ الثلاث
~~الناقصة التي كانت تحتوي على تلك النصوص بسياقها الطبيعي، وهي:
### | 1-
# نسخة فيسبادن بألمانيا برقم [3968] (ق 141-155) .
### | 2-
# نسخة دار الكتب المصرية برقم [695] (ق98-109) .
### | 3-
# نسخة المكتبة السعودية التابعة للإفتاء برقم [572/86] (ق6-14) .
# هذه النسخ الثلاث تتفاوت في الصحة، وبعضها أسوأ من بعض، فلا يمكن
~~الاعتماد على واحدة منها، لشيوع التصحيف والتحريف والسقط فيها جميعا، كما
~~يظهر ذلك بمقابلتها على النسختين المغربيتين. إلا أنها أفادت في معرفة
~~الترتيب الصحيح لكلام المؤلف كما ذكرت، وترجيح بعض الكلمات الموجودة فيها
~~إذا كان ما في النسختين لا وجه له أو مبنيا على التحريف الواضح.
# وكان منهجي في إثبات النص أن أختار من النسختين الكاملتين ما هو أصح
~~وأنسب في السياق وأقرب إلى أسلوب المؤلف، وأشير إلى ما يخالفه في التعليق،
~~ولم أذكر جميع الفروق والتحريفات، فلا فائدة منها في فهم الكلام، ولا يجوز
~~نسبتها إلى المؤلف، لأن النص لم يصل إلينا بخطه.
# PageV02P244
# وإذا اطمأننت إلى صحة النص في ضوء النسختين لم ألتفت إلى النسخ الثلاث
~~الباقية، لكثرة التحريف الواقع فيها، ولكن إذا كان النص محرفا وغير مفهوم
~~فيهما رجعت إلى بقية النسخ في القسم الذي تحتوي عليه، وأثبت ما هو الصواب
~~أو الراجح في نظري، مع الإشارة إلى ما في النسختين، وقد جعلت نسخة
~~الإسكوريال هي الأصل، ورمزت لها ب "س"، ولنسخة ms0321 الخزانة العامة ب "ع". وأشرت
~~إلى النسخ الثلاث الناقصة بقولي "سائر النسخ" أو "بقية النسخ"، ولم أعتمد
~~على واحدة منها بعينها.
# وراجعت كذلك كتاب "إعلام الموقعين" لترجيح بعض الكلمات على غيرها، وقد
~~ذكرت فيما مضى أنه يحتوي على أكثر مباحث الكتاب بالنص أو بالمعنى، مع زيادة
~~التوضيح والتمثيل والتعليق. ولكني لم أثقل الهوامش بالنقل عنه، وعلى القراء
~~والباحثين أن يراجعوه عند قراءة هذا الكتاب للمزيد من الشرح والتفصيل
~~والبيان.
# وفي الختام أحمد الله تعالى على أن وفقني لإخراج هذا الأثر النفيس من
~~آثار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأدعوه أن يجعله نافعا للعلماء والطلاب، إنه
~~سميع مجيب.
# محمد عزير شمس
# PageV02P245
### | نماذج من النسخ الخطية
# PageV02P247
# النص المحقق
# PageV02P251
# بسم الله الرحمن الرحيم
# (صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. الحمد لله وحده حق
~~حمده.
# وله رحمه الله تعالى:) (1)
### | فصل
# في شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح
# قال الله تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) (2) ، وقال:
~~(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس
~~بالقسط) (3) . فأخبر أنه أنزل مع رسوله الكتاب والميزان ليقوم الناس
~~بالقسط. وقوله: (وأنزلنا معهم) دليل على أن الميزان مما جاءت به الرسل، كما
~~ذكر أنه أنزل الكتاب والحكمة، وأنه أوحى القرآن والإيمان في قوله: (وكذلك
~~أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الأيمان ولكن جعلناه
~~نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (4) . PageV02P253
# وفي الصحيحين (1) عن حذيفة قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
# حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة تنزل في جذر
~~قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة. ثم حدثنا
~~عن رفع الأمانة، قال: "ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل
~~أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل
~~المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء" ... الحديث
~~(2) .
# والجذر: الأصل، والأمانة: الإيمان. فأخبر أن الله سبحانه أنزل الإيمان في
~~أصل قلوب ms0322 الرجال، وقد قال تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها)
~~(الأمثال (17)) إلى قوله (الأمثال (17)) (3) .
# وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب) أرضا، PageV02P254
# فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير؛ وكانت منها
~~طائفة أمسكت الماء، فشربت الناس وسقوا وزرعوا؛ وكانت منها طائفة إنما هي
~~قيعان، لا تمسك ماء (1) ، ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله،
~~ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم
~~يقبل هدى الله الذي أرسلت به ".
# فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مثل ما جاء به
~~بالماء الذي ينزل على الأرض، وشبه القلوب بالأرض، والهدى والعلم الذي أنزله
~~الله تعالى بالماء الذي نزل على الأرض، وجعل الناس ثلاثة أقسام: قسما سمعوا
~~وفقهوا وعلموا، وقسما حفظوه وبلغوا غيرهم فانتفعوا به، وقسما لا هذا ولا
~~هذا.
# هذا المثل يطابق المثل الذي في القرآن (2) ، حيث شبه الله القلوب
~~بالأودية التي منها كبار تسع ماء كثيرا، وصغار لا تسع إلا ماء قليلا، كما
~~أن القلوب منها ما (3) تسع علما عظيما، ومنها ما لا تسع إلا دون ذلك، وأن
~~الماء بمخالطة الأرض يحتمل زبدا رابيا لا PageV02P255
# ينفع، كذلك العلم الذي نزل على القلوب يحتمل من الشهوات والشبهات بسبب
~~مخالطته الأنفس ما يكون كالزبد الذي لا ينفع. وبين أن الزبد الذي يذهب جفاء
~~فيخفى، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، كذلك العلم في القلوب ما ينفع الناس.
# وقال تعالى: (كذلك يضرب الله الأمثال (17)) ، فأخبر أن هذا مثل مضروب.
~~وقال تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا) (1)
~~. وقال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) (2) .
# فبين أنه يلهم المؤمنين (3) الإيمان وما ينفعهم، وذلك إيحاء إليهم وإن لم
~~يكونوا أنبياء.
# . وفي الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد كان في
~~الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن ms0323 في أمتي أحد فعمر".
# وفي المسند والترمذي (5) حديث النواس بن سمعان عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط PageV02P256
# سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة/ [161/أ] ، وعلى رأس
~~الصراط داع يدعو، يقول: يا أيها الناس! ادخلوا الصراط جميعا ولا تخرجوا،
~~وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أحد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال:
~~ويحك لا تفتحه، [فإنك إن تفتحه] (1) تلجه ". وفي رواية (2) : "فلا يقع أحد
~~في حدود الله حتى يكشف الستر". قال: والصراط: الإسلام، والسوران: حدود الله
~~تعالى، والأبواب المفتحة: محارم الله، والداعي على رأس الصراط: كتاب الله،
~~والداعي في جوف الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم".
# فبين أن في قلب كل مؤمن واعظا يعظه، والوعظ هو الأمر والنهي، ترغيب
~~وترهيب (3) ، قال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به) [أي يؤمرون به] (4)
~~(لكان خيرا لهم) (5) . وقال تعالى: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن
~~كنتم مؤمنين (17)) (6) أي ينهاهم، وذلك يسمى إلهاما ووحيا.
# وأخبر أنه أنزل الكتاب والميزان، وقد قال كثير من السلف: PageV02P257
# الميزان: العدل (1) ، وقال بعضهم: الميزان اسم لما يوزن به، والمقصود به
~~العدل، كما قال تعالى: (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)
~~(2) . فأخبر أن المقصود بإنزال ذلك أن يقوم الناس بالقسط. فدل ذلك على أنه
~~أنزل في القلوب من الميزان ما يعلم [به] (3) القسط. ومن ذلك: الاعتبار، وهو
~~اعتبار الشيء بنظيره، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في دية الأصابع: هلا
~~اعتبرتموها بدية الأسنان؟ (4) يعني إذا كانت ديتها واحدة مع اختلاف
~~منافعها، فكذلك الأصابع ديتها واحدة مع اختلاف منافعها، كما أن النفوس
~~مختلفة الفضائل مع (5) أن ديتها واحدة، إذ (6) كان جعل (7) الديات المقررة
~~بالشرع مختلفة باختلاف التلف أمرا (8) لا يقدر البشر على معرفته وضبطه، وما
~~عجزوا عن العلم به سقط عنهم الأمر به، كما يسقط فيما يعجزون عن العمل به.
~~PageV02P258
# ولهذا قال تعالى: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها)
~~(1) . فبين أنه لا ms0324 يكلف النفوس (2) إلا وسعها، لا يكلفها من القسط الذي
~~أمروا به ما يعجزون عن معرفته، ولهذا يقال: هذا أمثل من هذا وأشبه، أي أقرب
~~إلى العدل الثابت في نفس الأمر، الذي لا يمكن العباد معرفته، وإنما كلفوا
~~من ذلك ما يطيقونه، وهو الأقرب إليه. ولهذا يقال لمثل هذه الطريقة: المثلى،
~~ثم كل قوم يسمون ما يرونه أقرب إلى العدل: الطريقة المثلى، ويقولون: هذا
~~أمثل، كما قاله فرعون: (ويذهبا بطريقتكم المثلى (63)) (3) .
# ولهذا كان
### | ضمان النفوس والأموال مبناه (4) على العدل،
# كما قال: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (5) ، وقال (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل
~~ما عوقبتم به) (6) ، وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
~~عليكم) (7) .
# والتماثل المأمور به معتبر (8) بحسب الإمكان، والاجتهاد في PageV02P259
# معرفة التماثل هو من باب الاجتهاد الذي اتفق عليه العلماء: مثبتو القياس
~~ونفاته، وقد يكون في نوع من الأنواع، وقد يكون في عيني معينه، ويسمى تحقيق
~~المناط. كاختلافهم في
### | المظلوم بالضرب واللطم ونحو ذلك
# (1) ، مما لا (2) يمكن فيه أن يفعل بخصمه مثل ما فعل به من كل وجه. فأيما
~~أقرب إلى العدل: أن يقتص منه، ويعتبر التماثل بحسب الإمكان، كما كان (3)
~~الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة يفعلون ذلك، وهو المنقول عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - (4) ؛ أو أن يعزر الظالم تعزيرا يرد إلى اجتهاد
~~الوالي؟ على قولين. والأول هو المنصوص عن أحمد، وهو قول جمهور السلف،
~~والثاني قول طائفة من متأخري أصحابه، وهو المنقول عن أبي حنيفة ومالك
~~والشافعي، قالوا: لأنه لا يمكن فيه المماثلة، والقصاص لا يكون إلا مع
~~المماثلة.
# ونظر (5) الأول أكمل (6) ، وهم أتبع للكتاب والميزان للنص PageV02P260
# والقياس، لأن المماثلة [من كل] (1) وجه متعذرة، فلو لم يبق إلا أحد
~~أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عن المماثلة، فالأول أولى؛
~~لأن التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها، بل قد يعزره بالسوط أو
~~العصا، وتكون إما لطمة بيده، وقد يزيد وينقص، وكانت العقوبة بجنس ما فعله،/
~~[161/ب] وتحري المماثلة (2) في ذلك بحسب الإمكان في ذلك أقرب ms0325 إلى العدل
~~الذي أمر الله به، وأنزل له الكتاب والميزان.
# وكذلك تنازع العلماء في
### | المتلف من المال
# (3) ، إذا لم يوجد مثله من كل وجه، كالحيوان والآدميين والعقار والثياب
~~والأبنية، وأكثر المعدودات والمذروعات، فمنهم من قال: لا يجب في ذلك إلا
~~القيمة بنقد البلد، فيعطى المظلوم الذي فوت عليه حفه من الدراهم ما يقاوم
~~به ذلك في الشوق (4) . وقالوا: لأن المثل في الجنس متعذر.
# ثم من هؤلاء من طرد قياسه، فقال: وكذلك إذا تلف صيده في الحرم والإحرام،
~~إنما تجب قيمته كما لو كان مملوكا، وقالوا: لا يجوز قرض ذلك، لأن موجب
~~القراض رد المثل، وهذا لا مثل PageV02P261
# له، فلا يجوز قرضه، وهذا قول أبي حنيفة.
# ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد، لدلالة الكتاب والسنة وآثار
~~الصحابة على أن الصيد يضمن بمثله من النعم (1) ، وهو مثل مقيد بحسب
~~الإمكان، ليس مثلا من كل وجه، وهو في النعامة بدنة، وفي بقرة الوحش بقرة،
~~وفي الظبي (2) شاة.
# وهذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء يجوزون (3) قرض الحيوان
~~أيضا (4) ، لأن السنة دلت عليه، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - استسلف بكرا، وقضى جملا خيارا رباعيا، وقال: "إن خياركم
~~أحسنكم قضاء".
# ثم (6) من هؤلاء من قال: إن [كان] (7) القرض حيوانا رد قيمته، طردا
~~للقياس أصله في الإتلاف، فإنه قال: كما يضمن في PageV02P262
### | الغصب والإتلاف
# بالقيمة، فكذلك (1) في القرض، إذ لا مثل له. وهذا قول في مذهب أحمد
~~وغيره، وقال الأكثرون: بل يجب المثل من الحيوان بحسب الإمكان، كما دلت عليه
~~السنة، وهذا هو المنصوص عن الأئمة.
# واختلفت (2) أقوالهم في الغصب والإتلاف، فتارة يقولون:
# يضمن بالقيمة، وتارة يقولون: يضمن ما سوى الحيوان بالقيمة، وتارة يقولون:
~~بل الجميع يضمن بالمثل بحسب الإمكان. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد.
~~وقد اختلف في ذلك قول (3) مالك والشافعي أيضا، فقال الشافعي في الجدار
~~المهدوم ظلما: يعاد مثله، وقال في مواضع: يضمن بالقيمة.
# ولم يكن مع من يوجب القيمة في الإتلاف من النصوص ms0326 إلا قول النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - (4) : "من أعتق شركا له في عبد، وكان له من المال ما بلغ
~~ثمن العبد، فقوم عليه قيمة عدل، لا وكس ولا شطط، وأعطي شركاؤه حصصهم، وعتق
~~عليه العبد".
# قالوا: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب في نصيب الشريك القيمة، ولم
~~يوجب نصف عبد، ولو كان العبد يضمن بالمثل لأوجب نصف عبد. PageV02P263
# وهذا غلط على الشارع، فإن هذا ليس من باب ضمان المتلف، بل هو من باب تملك
~~ملك (1) الغير بالقيمة، فإن نصيب الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه بعد
~~ذلك، لا يتلفه قبل أن يملكه (2) ، بخلاف ما لو قتله، فإن ذلك إتلاف.
~~والعلماء القائلون بالسراية متفقون على أنه يعتق على ملك الغير والولاء (3)
~~دون الشريك. وتنازعوا هل يسري عقب الإعتاق، أو لا يعتق حتى يؤدي الثمن؟ على
~~قولين مشهورين لهم: الأول هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول
~~مالك، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل (4) ، كما قد
~~بسط في موضعه (5) .
# وعلى هذا فإذا أدى هل يعتق من حين الأداء، أو يتبين أنه عتق من حين
~~الإعتاق؟ على قولين.
# وعلى هذا ينبني لو أعتق الشريك نصيبه بعد عتق الأول، فعلى القول الذي
~~ذكرنا أنه الصحيح يجوز عتقه، وعلى الآخر لا يجوز.
# وعلى هذا ينبني إذا قال أحدهما: إذا أعتقت نصيبك (6) فنصيبي حر، فعلى
~~القول الذي بينا رجحانه يصح هذا التعليق، ويعتق PageV02P264
# نصيب الشريك المعلق من ماله، وعلى القول الآخر لا يصح التعليق، ويعتق كفه
~~من نصيب المعتق إن كان موسرا، وإن كان المعتق معسرا صح وعتق عليهما على
~~القولين.
# وأيضا فإنه يفرق بين أن يكون المتلف (1) عينا كاملة أو بعض عين، فإذا
~~كان/ [162أ] ، المتلف (2) بعض عين فإنه إن وجب نظر ذلك الجزء، لكن بحسب
~~القيمة إذا طلبها الشريك، فإن كان المشترك (3) مما ينقسم عنه، وإلا بيع إذا
~~طلب أحدهما ذلك، وقسم الثمن، فلو أتلف أحد الشريكين عينا مشتركة تمكن
~~قسمتها، فالواجب جز مقسوم لا مشاع إذا طلب أحدهما ms0327 ذلك، وإن تراضيا بالشركة
~~وجب جزء مشترك، وإن كان مما لا تمكن قسمته فإنما يجب نصف عين إذا تراضيا
~~بذلك، وإلا وجب نصف القيمة لأجل وجوب القيمة.
# والمقصود هنا أن الذين يوجبون في ضمان المتلف القيمة ليس معهم أصل يقيمون
~~(4) عليه قولهم، لا كتاب ولا سنة، وإنما هو رأي محض، ظنوا أن المثل إنما
~~يكون في القيمة. ثم من طرد منهم قياسه ظهر تناقضه (5) للكتاب والسنة، ومن
~~لم يطرده ظهر مناقضته PageV02P265
# ومخالفته لبعض النصوص أيضا.
# وهذا الأصل هو الحكومة المذكورة في كتاب الله (1) ، التي حكم فيها داود
~~وسليمان إذ حكما في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، والحرث هو البستان، وقد
~~روي أنه كان بستان عنب الذي يسمى الكرم، ونفش الغنم إنما يكون بالليل، فقضى
~~سليمان بالضمان على أصحاب الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يعمروا
~~البستان حتى يعود كما كان. وأما مغله من حين الإتلاف إلى حين الكمال فأعطى
~~أصحاب البستان ماشية أولئك، ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان، وقد
~~اعتبر النماءين فوجدهما سواء. كما أن داود لما حكم لأصحاب البستان بالغنم
~~نفسها قد اعتبر قيمتها، فوجدها بقدر ما أتلف (2) من البسمتان، ولم يكن لهم
~~مال غيرها، وقد رضوا بأخذها ما لم يطالبوا بدراهم، أو تعذر بيعها بدراهم.
# وقد تنازع علماء المسلمين في مثل هذه القضية على أربعة PageV02P266
# أقوال (1) :
# فمنهم من حكم بمثل حكم (2) سليمان عليه السلام في النفش وفي المثل، وهذا
~~هو الصواب، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد ذكر (3) ذلك وجها في
~~مذهب الشافعي ومالك.
# والثاني: موافقته في النفش دون المثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك
~~والشافعي وأحمد.
# والثالث: بالعكس، وهو موافقته في المثل دون النفش، وهو قول من قاله من
~~أهل الظاهر كداود وغيره.
# والرابع: أن النفش لا يوجب الضمان، ولو كان لم يكن بالمثل بل بالقيمة،
~~وهو مذهب أبي حنيفة.
# وهذا من اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل الذي اتفقوا على صحة أصله،
~~فإنهم متفقون على ما دل عليه القرآن من أن جزاء ms0328 سيئة سيئة مثلها، وأن
~~المعاقبة تكون بالمثل، وأن من اعتدى يعتدى عليه بمثل ما اعتدى (4) . فما
~~كانت المماثلة فيه ظاهرة لم يتنازعوا فيه، PageV02P267
# كما لو أتلف مكيلا أو موزونا متماثل الأجزاء، كالدرهم والحنطة ونحو ذلك،
~~فإن الواجب هنا المثل إذا أمكن. وكذلك يجب في القرض مثل ذلك.
# وكذلك لم يتنازعوا فيما ظهرت فيه المماثلة في القصاص، كما لو قطع عنقه
~~بالسيف، فاتفقوا على أنه يقطع عنقه بالسيف.
# ولكن تنازعوا فيما إذا قتله بالجرح في غير العنق، أو بغير القتل كالتحريق
~~والتغريق (1) : هل يفعل به كما فعل- كما يقوله مالك والشافعي وأحمد في (2)
~~إحدى الروايات-؛ أو لا قود إلا بالحديد في العنق- كقول أبي حنيفة واحمد في
~~إحدى الروايات-؛ أو يفرق بين الجرح المزهق وغير المزهق- كالرواية الثالثة
~~عن أحمد-؛ أو بين المزهق وما كان موجبا للقود بنفسه كقطع اليد، وبين ما ليس
~~من هذين النوعين- كالرواية الرابعة عن أحمد-؟
# فهذا من اجتهاد العلماء في (3) تحقيق القياس والعدل والتماثل الذي اتفقوا
~~على اعتباره، متى (4) تعذرت المماثلة المطلقة من كل وجه. والذي يدك عليه
~~النص والاعتبار الصحيح هو القول الأول، وهو أن يفعل به كما فعل، فإن مات
~~بذلك، وإلا قتل، فإن النبي PageV02P268
# - صلى الله عليه وسلم - أمر برضخ رأس اليهودي الذي رضخ رأس الجارية، لما
~~اعترف بأنه قتلها (1) ، وكان/ [162ب] هذا قتلا بالقصاص لا بنقض العهد، إذ
~~لو قتله بمجرد نقض العهد- كما يقتل الحربي الأسير- لقتله في العنق. وأيضا
~~فالعدل في أن يفعل به كما فعل أقرب من أن تضرب عنقه بالسيف، مع كونه حرق
~~الأول، أو قطع أربعته، أو مثل به.
# وقد أباح الله أن نمثل بمن مثل بنا، وإن كانت المثلة بدون ذلك منهيا عنها
~~بقوله تعالى: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) (2) ، فدل على أن
~~التمثيل بجدع الأنف والأذن هو من العقوبة بالمثل.
# وإذا قل: هذا يفضي إلى أن يؤخذ أكثر.
# قيل: وما ذكرتم يفضي غالبا إلى (3) أن يؤخذ أنقص من الواجب. وهذا أقرب
~~إلى المماثلة ms0329، فإنه يكون تارة أكثر، وتارة يكون أنقص، ولكن هذا أقرب إلى
~~العدل من الذي يكون دائما أنقص.
# وإذا قيل: في غير الجرح المزهق ربما نقص منه، فيفضي إلى جرحه مرتين.
~~PageV02P269
# قيل: لو ضربه في العنق فلم يمت (1) ، كان له أن يضربه ثانية بالاتفاق،
~~وإن كان في ذلك ضرب مرتين، لأن هذا أقرب إلى العدل.
# والمقصود بهذا أن ننبه على أن الناس يتنازعون في التماثل الواجب، حيث
~~اتفقوا على وجوب المثل، وأن الاجتهاد في مثل هذا متفق عليه، فكذلك التماثل
~~في غير هذا يتنازعون فيه، وذلك مما يدل على أن تنازع الناس في كثير من
~~القياس لا يمنع أن يكون أصل القياس- الذي يقاس فيه الشيء بمثله وضده- قياسا
~~صحيحا، فاعتباره بمثله يوجب قياس الطرد الذي يوجب التسوية بينهما، واعتباره
~~بضده يوجب قياس العكس الذي يوجب تضاد حكمهما.
# كما إذا اعتبرنا دم السمك الذي (2) تباح ميتته بدم ما لا تباح ميتته،
~~فقلنا: يجب أن نفرق بين الدمين، لأن ذلك لا يباح إلا بسفح دمه، وهذا يباح
~~بدون سفح دمه، فدل على افتراق حكم الدمين.
# وكذلك الوتر لما ثبت بالسنة الصحيحة أنه يصفى على الراحلة (3) ، ثبت بذاك
~~الفرق بينه وبين الواجبات التي لا يجوز فعلها على الراحلة، فعلم أنه مفارق
~~لها لا مماثل لها.
# والطرد هو قياس الجمع، والعكس هو الفرق، والجمع والفرق PageV02P270
# يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيجمع بين ما جمع الله بينه، ويكون
~~الجمع والفرق بالأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله. فهذا كفه من الميزان
~~الذي أنزله (1) الله مع رسوله (2) ، كما أنزل الله الكتاب. PageV02P271
# فصل
# وإذا تبين أن الكتاب والميزان منزلان، فلا يجوز أن يناقض الكتاب بتناقض
~~الميزان (1) ، ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص
~~الصحيحة لا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح،
~~وإنما يكون التناقض بين الحق الصحيح واالباطل الذي ليس بصحيح، فأما الصحيح
~~الذي كله حق فلا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا. وقد بسطنا هذا المعنى في مواضع
~~(2) .
# والمقصود هنا أن نقول
### | : النصوص محيطة ms0330 بجميع أحكام العباد،
# فقد بين الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميع ما أمر الله به وجميع ما نهى
~~عنه، وجميع ما أحله وجميع ما حرمه، وبهذا أكمل الدين، حيث قال: (اليوم
~~أكملت لكم دينكم) (3) . ولكن
### | قد يقصر فهم كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص،
# والناس PageV02P272
# متفاوتون في الأفهام، ولذلك قال تعالى: (ففهمناها سليمان) (1) ، ولو كان
~~الفهم متماثلا لما خص به. وكذلك في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في
~~القضاء إلى أبي موسى الأشعري: "الفهم الفهم فيما أدلي إليك" (2) .
# وفي الحديث الصحيح (3) عن علي رضي الله عنه: "إلا فهما يؤتيه الله عبدا
~~في كتابه". وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (4) وكان أبو بكر رضي الله عنه
~~أعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي الصحيح (5) PageV02P273
# أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لابن عباس رضي الله عنه فقال:
~~"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
# لكن الناس صاروا هنا ثلاثة أقسام (1) :
# (1) قوم من مثبتة القياس قالوا: إن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا
~~منهم من قال: ولا بعشر معشار الحوادث (2) ، وقال بعضهم: إن النصوص متناهية،
~~وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة/ [163أ] المتناهي (3) بغير المتناهي
~~ممتنع (4) .
# وهذا خطأ (5) ، لأن ما يتناهى لا يمتنع أن يجعل أنواعا، PageV02P274
# فيحكم (1) لكل نوع منه بحكيم، والأفراد التي لا تتناهى تدخل تحت (2) تلك
~~الأنواع. هذا إن قذر وجود ذلك، مع أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها
~~متناهية، ولو قذر أنها لا تتناهى فأفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة
~~متناهية. وهذا كما يجعل الأقارب نوعين: نوعا مباحا، وهن بنات العم والعمة
~~وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام. وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصورا
~~(3) ، وما سوى ذلك لا ينقض الوضوء. وكذلك ما يفسد الصوم محصورا (4) ، وما
~~سوى ذلك لا يفسده، وأمثال ذلك.
# وإذا كان (5) أهل المذاهب جعلوا لهم قواعد (6) يضبطون بها ما يحل ويحرم،
~~فالله ورسوله أقدر على ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت
~~بجوامع الكلم" (7) ، فهو يأتي بالكلمة الجامعة ms0331، وهي قاعدة عامة وقضية كلية
~~تجمع أنواعا وأشخاصا (8) ، كقوله لما سئل عن أنواع الأشربة كالبتع والمزر،
~~وكان قد أوتي جوامع PageV02P275
# الكلم، فقال: "كل مسكر حرام " (1) .
# والكتاب والسنة ملان (2) من هذا (3) ، كقوله تعالى: (إنما الخمر والميسر
~~والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) (4) ، وقوله تعالى: (قد
~~فرض الله لكم تحلة أيمانكم) (5) ، وقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها)
~~(6) ، إلى غير ذلك من النصوص.
# (2) وقوم من نفاة القياس نفوا القياس الجلي الظاهر، حتى فرقوا بين
~~المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئا لحكمة أصلا، ونفوا تعليل خلقه
~~وأمره، فقالوا: إنه لا يخلق ولا يأمر لحكمة ولا لنفع عباده.
# وهذا الأصل وإن كان قد قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في
~~إثبات القدر، وخالفوا القدرية في إثبات القدر، فهم وإن أصابوا في إثبات
~~القدر، وبينوا تناقض المعتزلة النفاة للقدر، فقد ردوا أيضا من الحق المعلوم
~~بالشرع والعقل ما (7) صاروا به PageV02P276
# ممن رد بدعة ببدعة، وقابلوا الفاسد بالفاسد، فإنهم أنكروا حكمة الله
~~تعالى في خلقه وأمره، وأنكروا رحمته في خلقه وأمره.
# وأصل قولهم هو قول جهم بن صفوان ومن وافقه على قوله في القدر، كما قد بسط
~~الكلام عليهم في غير هذا الموضع (1) ، فإن القدرية من المعتزلة ونحوهم
~~والجهمية الجبرية تناقضوا في هذا الباب تناقضا بينا، والسنة وسط، ليست مع
~~هؤلاء ولا مع هؤلاء.
# وهؤلاء صاروا في القياس نوعين:
# قوم (2) اقروا به، كالأشعري وأتباعه ومن وافقهم من الفقهاء، وقالوا: إن
~~علل الشرع إنما هي مجرد (3) أمارات محضة وعلامات، كما قالوا ذلك في سائر
~~الأسباب، فقالوا: إن الدعاء إنما هو علامة محضة، والأعمال الصالحة إنما هي
~~علامات، وكذلك سائر ما وجدوه من (4) الخلق والأمر مقترنا بعضه ببعض، قالوا:
~~أحدهما دليل على الآخر لمجرد الاقتران والعادة الموجودة في خلقه وأمره، لا
~~(5) لأن أحدهما سبب للآخر، ولا علة له ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجه من
~~الوجوه (6) . PageV02P277
# وأما الفقهاء المعتبرون وسلف الأمة وأئمتها وجمهورها وجمهور متكلميها
~~فعلى خلاف [هذا] (1) القول، وإثبات الحكمة والرحمة في خلقه ms0332 وأمره، وإثبات
~~لام كي في خلقه وأمره، كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع المعقول الصريح،
~~فاتفق على ذلك الكتاب والميزان والسلف والفقهاء. وجمهور الأئمة وأكثر طوائف
~~الكلام ينكرون (2) قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول هؤلاء الجهمية
~~المكذبين بالحكمة والرحمة، فلا يقولون بقول القدرية ولا قول الجهمية.
# وعامة البدع الحادثة بالمعقول الفاسد (3) في أصول الدين هي من قول هاتين
~~الطائفتين: الجهمية والقدرية، فالجهمية هم رءوس الجبرية الذين أنكروا حكمته
~~ورحمته، والقدرية أنكروا قدرته ومشيئته، فأولئك أثبتوا له نوعا من الملك
~~بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا له [نوعا] (4) من الحمد بلا ملك. والصواب ما عليه
~~سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والجماعة: أنه سبحانه/ [163ب] له الملك وله
~~الحمد، بل له كمال الملك وله كمال الحمد.
# وكلتا (5) الطائفتين ناظرت الفلاسفة الدهرية في خلق الرب PageV02P278
# وأفعاله وأقواله وحدوث العالم مناظرة فاسدة، تنبني (1) على مقدمات مخالفة
~~للشرع والعقل، وهم يظنون أنهم يوافقون الشرع والعقل، ف
### | لا للإسلام نصروا ولا للأعداء كسروا
# (2) ، وصار ما ابتدعوه في أصول الدين سببا لضلال طوائف ممن وافقهم وممن
~~خالفهم، فإن المخالف لهم من الفلاسفة استطال بما ابتدعوه عليهم وعلى
~~المسلمين، وظن أن ما قالوه هو الذي يقوله المسلمون، وصارت الكتب المصنفة في
~~الكلام إنما يذكر فيها قولهم وقول الفلاسفة، ويجعل قولهم هو قول المسلمين،
~~لم يأت فيه كتاب ولا سنة، ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة
~~المسلمين.
# ولهذا عظمت الفتنة بالكتب (3) المصنفة في الكلام والفلسفة، حتى آل الأمر
~~بالأفاضل من أهلها (4) إلى الحيرة والشك (5) ، إذ (6) كان فيها من الأمور
~~الإلهية مما يخالف المعقول الصريح والمنقول الصحيح ما يوجب الحيرة والشك
~~لمن لم يعرف الهدى إلا منها، كما أصاب ذلك كثيرا من رؤساء النظار في الكلام
~~المحدث PageV02P279
# والفلسفة، حتى دخل من ذلك في كلام الفقهاء وأهل أصول الفقه ما دخل، فتجد
~~الواحد منهم إذا بحث في الفقه بحث فيه (1) بفطرته وإسلامه، معللا للأحكام
~~بالعلل المناسبة، ذاكرا أن الله أمر بكذا لكذا، وخلق كذا لكذا، وفي موضع
~~آخر ينكر هذا ms0333 ويقول: لا يخلق ولا يأمر لعلة، واللام في ذلك لام العاقبة لا
~~لام كي.
# فهذا قول من أثبت القياس من نفاة الحكمة والتعليل في خلقه وأمره.
# وأما من نفى القياس فقوله أشبه بهذا الأصل، فإنه إذا لم يأمر لحكمة (2)
~~فلا معنى لتعليل أمره ونهيه، لكن مثبتة القياس من هؤلاء قالوا: إن الحكمة
~~اقترنت (3) بالأمر وإن لم يأمر لها، وقالوا في الأمر كما قالوا في الخلق،
~~فقالوا: كما جرت عادة الله تعالى في خلقه، فخلق الشبع عقب الأكل، والري عقب
~~الشرب، والاحتراق عقب الإحراق، ونحو ذلك، وإن لم يكن خلق هذا لهذا ولا
~~لهذا، ولا جعل سبحانه أحد هذين علة للآخر عندهم.
# قالوا: فهكذا أمره، أمر بقطع السارق، لا لأجل حفظ الأموال، بل إذا قطع
~~السارق حفظت الأموال، فاقترن هذا بهذا عادة، وإن لم يأمر بهذا لأجل هذا.
~~فالمصلحة عندهم توجد عند PageV02P280
# هذه الأسباب، لأنها والأفعال تقترن بها المصلحة عادة، وإن لم تكن أسبابا
~~وعللا لها عندهم.
# . فهذا قولهم، وهو (1) موجود في أقوال كثير (2) من المنتسبين إلى السنة
~~من أصحاب أحمد بن حنبل ومالك بن أنس والشافعي وغيرهم، وهي أقوال مبتدعة
~~مخالفة لنصوص الأئمة وأصولهم، ولنصوص الكتاب والسنة، وإجماع السلف، والعقل
~~الصريح، كما قد بسط (3) في غير هذا الموضع.
# والمقصود هنا أن نفاة القياس لما سدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل
~~-وهو من الميزان والقسط الذي أنزل الله سبحانه- احتاجوا في معرفة الأحكام
~~إلى مجرد الظواهر، [و] (4) صاروا معتصمين (5) بالظاهر والاستصحاب، فحيث
~~فهموا (6) من النص حكما أثبتوه، وحيث لم يفهموه نفوه، وأثبتوا الأمر على
~~موجب الاستصحاب. وهم وإن أحسنوا في كونهم قالوا: إن النصوص تفي بجميع
~~الحوادث، وإن الله ورسوله بين الأحكام، وأكمل الدين، وأغنى الناس عما سوى
~~الكتاب والسنة، وأحسنوا في ردهم ما PageV02P281
# ردوه (1) من الأقيسة الفاسدة- فأخطأوا من ثلاثة أوجه (2) :
# أحده
### | ا: رد القياس الصحيح.
# والثاني: تقصيرهم في فهم النصوص، فكم من حكم دل عليه النص، فلم يفهموا
~~دلالته عليه، فكانوا مقصرين في فهم الكتاب لما قصروا في معرفة ms0334 الميزان.
# والثالث: جزمهم بموجب الاستصحاب، لعدم علمهم بالناقل، وعدم العلم ليس
~~علما بالعدم.
# وكذا تنازع الناس في استصحاب حال البراءة الأصلية (3) ، فقالت طائفة من
~~أصحاب أبي حنيفة: يصلح للدفع لا للإبقاء، أي يصح أن يدفع به من/ [164 أ] ،
~~ادعى تغيير الحال، لإبقاء الأمر على ما كان، فإذا لم نجد دليلا ناقلا
~~أمسكنا، لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل (4) ندفع من يثبته (5) . فيكون حال
~~المتمسك بالاستصحاب حال المعترض مع المستدل PageV02P282
# يمنعه (1) الدلالة حتى يثبتها، لا [أنه] (2) يقيم (3) دليلا مناقضا له.
# وذهب الأكثرون من أصحاب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء
~~الأمر على ما كان عليه، فإنه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن
~~بقاء الأمر على ما كان عليه. وهنا لنفي الحكم ثلاث (4) مسالك:
# أحدها: التمسك بالاستصحاب المحض، مثل أن يقال في مسألة وجوب الوتر أو
~~الأضحية أو غير ذلك: الأصل عدم الوجوب، والذمة كانت بريئة من الإيجاب، وليس
~~في الشرع ما يزيل ذلك، فالأصل بقاء الذمة بريئة من الوجوب.
# وهذا مستقيم فيما لا يجب ولا يحرم إلا بالشرع، كوجوب الوتر والأضحية
~~وسجود التلاوة، وكذلك تحريم ما لا يحرم إلا بالشرع، كالضب واليربوع وسنور
~~البر، ونحو ذلك مما اختلف في تحريمه، وكالعقود المتنازع في تحريمها،
~~كالمساقاة والمزارعة وغير ذلك.
# المسلك الثاني: أن نبين من أدلة الشرع العامة ما ينفي الوجوب والحرمة
~~فيما لم يوجبه الشارع ولم يحر مه، كقوله تعالى: PageV02P283
# (قد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) (1) ، وقول النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -:
# "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على
~~أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
~~استطعتم" (2) . وقوله لما قال: "إن الله كتب عليكم الحج"، قالوا: أفي كل
~~عام؟ قال: "لا، ولو قلت نعم لوجبت" (3) .
# والمسلك الثالث أن يقال: الحكم الشرعي لا يثبت إلا بدليله، والدليل منتف،
~~فلا يثبت. وهذا يسمى حصر المدارك ونفيها، وهذا مضمونه أن ثبوت الحكم في
~~حقنا بدون دليل ms0335 منتف، والدليل منتف، فينتفي الحكم، وإذا انتفى أحد النقيضين
~~ثبت الآخر. والدليل وإن كان لا ينعكس، بل قد يثبت الشيء بدون دليله، فهذا
~~مما (4) ليس علينا معرفته. وأما الأحكام التي هي الأمر والنهي، التي علينا
~~أن نعرفها، فلا تثبت بدون دليلها.
# وأيضا فإن قول الله ورسوله هو المثبت لهذه الأحكام، فإذا انتفى الموجب
~~انتفى موجبه، فانتفت لانتفاء (5) موجبها، وهو دليله، فإن خطاب الشارع ليس
~~دليلا مختصا، بل هو الدليل، وهو PageV02P284
# المثبت لها في نفس الأمر، ولا واجب إلا ما أوجبه الله تعالى ورسوله، ولا
~~حرام إلا ما حرمه الله ورسوله.
# هذا إذا (1) أثبتنا بموجب الخطاب، مثل أن نقول: أوجب الله ذلك فوجب،
~~وحرمه فحرم، فهنا شيئان: إيجاب ووجوب، وتحريم وحرمة، فالايجاب والتحريم
~~يعود إلى خطاب الشارع وكلامه، والوجوب والحرمة فهو صفة الفعل. والفقهاء
~~يثبتون هذين النوعين من الأحكام (2) ، وأما المعتزلة فلا تثبت إلا الثاني،
~~والجهمية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم لا يثبتون إلا الأول، إذ ليس عندهم
~~للأحكام سبب (3) ولا حكمة.
# والمقصود أن كل واحد من النوعين لا يثبت إلا بالدليل الشرعي، فإذا انتفى
~~الدليل الشرعي، لزم انتفاء هذا الحكم، لكون ثبوته مستلزما للدليل الشرعي،
~~وثبوت الملزوم بدون اللازم محال، بخلاف المدلول الذي لا يستلزم الدليل.
~~وهذا لأن الدليل لابد أن يستلزم مدلوله، فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت
~~المدلول، ولولا ذلك لم يكن دليلا عليه، إذ لو اقترن به المدلول تارة، وتخلف
~~(4) عنه أخرى (5) ، لم يكن- إذا تحقق الدليل- وجود المدلول معه بأولى
~~PageV02P285
# من عدمه، فلهذا كان الدليل مستلزما للمدلول، إما قطعا (1) إن كان يقينيا
~~(2) ، وإما ظنا (3) إن كان ظنيا، ولا ينعكس، فلا يلزم من عدم الدليل عدم
~~المدلول، كما لا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم، لأن الدليل هو الملزوم،
~~إلا أن تكون الملازمة من الجانبين، بحيث يكون كل من الأمرين لازما للآخر
~~ملزوما له، كالحكم الشرعي والدليل الشرعي، فإنه إذا ثبت الدليل الشرعي [ثبت
~~الحكم الشرعي] (4) ، وإذا ثبت الحكم/ [164ب] الشرعي فلابد له من دليل شرعي.
~~فلما كان ms0336 التلازم (5) من الجانبين جاز الاستدلال بثبوت كل (6) منها على
~~ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه، كالأبوة والبنوة لما تلازما جاز أن
~~يستدل بثبوت كل منهما على ثبوت الآخر، وبانتفائه على انتفائه.
# وكذلك إرادة الرب ومراده، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإرادته
~~تستلزم (7) المراد وتدل عليه، فوقوع الكائنات تستلزم إرادته وتدل عليها،
~~ولهذا كان الاستثناء في الأيمان مانعا من الحنث، كما إذا قال: والله لا
~~أفعل كذا إن شاء الله، فإن PageV02P286
# فعله (1) علم وجود المشيئة، وإن [لم] (2) يفعله علم انتفاؤها.
# وكذلك كل حكم له سبب واحد، كالقتل العمد العدوان المحض (3) ، فإنه مستلزم
~~لثبوت القود، وثبوت القود مستلزم له.
# وكذلك القصر والسفر، فإن القصر ليس له سبب إلا السفر، فحيث كان سفر كان
~~قصر، وحيث كان قصر (4) كان سفر، إما سفر مقدر عند من يقول به، وإما مطلق
~~السفر عند من لا يخص القصر بسفر مقدر.
# فنفي الحكم الشرعي تارة يكون بالاستصحاب، وتارة بدليل شرعي يدك على نفسه،
~~وتارة بانتفاء دليله وسببه اللازم له، فإنه إذا انتفى اللازم انتفى ملزومه.
# والمقصود هنا أن نفاة القياس لفا سدوا باب التعليل ونفوا (5) التمثيل،
~~وقصروا في معرفة النصوص وفهمها، ظهر من خطئهم في الأحكام ما شنع به عليهم
~~الناس، وإلا فلو أعطوا النصوص حقها من المعرفة والفهم لدلت على جميع
~~الأحكام، واستغنوا بذلك عن القياس، وإن كان القياس أيضا دليلا صحيحا يوافق
~~دلالة الظاهر. PageV02P287
# والتعليل صحيح (1) ، وهم مخطئون في نفي التمثيل والتعليل.
# كما أن مثبتة القياس لو لم يقيسوا إلا قياسا صحيحا لما خالفوا نصا قط،
~~لكن حيث خالفوا النصوص بالقياس فلابد أن يكون القياس فاسدا، ولكن قد يخفى
~~فساده، كما قد تخفى صحته إذا دق. فكما تخفى دلالة النص تارة وتظهر أخرى،
~~وخفاء الدلالة وظهورها أمر نسبى، فقد يخفى على هذا ما يظهر لهذا. وإلا (2)
~~فالذين خالفوا أحاديث القرعة (3) والقيافة (4) ، وحديث ذي اليدين (5) ،
~~وحديث أكل الناسي في رمضان (6) ، وحديث الصيد الذي يوجد ميتا بعد المغيب
~~ولا أثر فيه إلا للسهم (7) ، حديث ms0337 إيجاب التسمية على الذبيحة والصيد (8) ،
~~وحديث الشاهد PageV02P288
# واليمين (1) ، وأحاديث الجمع بين الصلاتين (2) ، وحديث قطع الصلاة بالكلب
~~الأسود والمرأة والحمار (3) ، وحديث جعل الطلاق الثلاث واحد (4) ، وحديث
~~يعذب الميت ببكاء أهله عليه (5) ، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة، التي
~~ليس مع مخالفيها إلا ما يظن أنه ظاهر، أو ظاهر نمن آخر، أو مقتضى قياس (6)
~~، متى تدبرت المعارض لذلك لم تجده -ولله الحمد (7) - معارضا صحيحا، بل تجد
~~(8) ما عارض به الظاهر إما حديث ضعيف، وإما PageV02P289
# حديث ظاهر لا دلالة فيه، وإما قياس فاسد، وإما دعوى إجماع قد علم انتفاؤه
~~ووجود النزاع في تلك المسألة.
# وكذلك نفاة القياس مع قصورهم في فهم النصوص تجدهم قد اضطروا إلى مقالات
~~في غاية الفساد، كأقوال في الفرائض، فإن المسائل التي تنازع فيها الصحابة-
~~كالعمريتين (1) والحمارية التي تسمى المشتركة (2) ، وأمثال ذلك- لما لم
~~يدخلوا في المعاني، ولا فهموا دلالة النصوص على ذلك، صاروا يعملون بما
~~يظنونه استصحابا للإجماع، فيقولون في مسألة الحمارية -وهي زوج وأم وابنان
~~من ولد الأم وبعض ولد الأبوين- يقولون: قد اتفقوا على توريث ولد الأم،
~~وتنازعوا في توريث ولد الأبوين، ولم يقم دليل على توريثهم، فينتفي توريثهم
~~لانتفاء دليله.
# وهذا خطأ، فإن الإجماع إنما انعقد على أنهم يرثون بعض PageV02P290
# الثلث الباقي، وتنازعوا في بعضه الآخر، هل هو لهؤلاء أو (1) هؤلاء، فإذا
~~جعلناه لأحدهما لم يكن ذلك مجمعا عليه، فإن كان معنا دليل غير الإجماع،
~~وإلا فهذا قول بلا دليل أصلا.
# وهذا بخلاف تنازعهم في دية الذمي، إذا قال قائل: هي دون الثلث، لأن
~~الإجماع انعقد/ [165أ] على وجوب ذلك، والذمة بريئة مما زاد عليه، ولا بينة
~~إلا بدليل، فإن هذا نفى الزيادة (2) باستصحاب براءة الذمة. والتمسك
~~بالاستصحاب في مثل هذا وإن كان أضعف من غيره -لأنه قد وجد جناية توجب شغل
~~الذمة قطعا، فعلمنا أن الذمة مشتغلة قطعا (3) ، وقد وجب لهذا على هذا حق،
~~لكن لم يعلم مقداره- فليس هذا كالميراث المتنازع فيه، لأنه لأحد المتنازعين
~~قطعا، ولم يجمعوا على وجوبه لأحدهما، ولا يورث أحدهما ms0338 دون الآخر (4)
~~الجميع.
# وأما استصحاب حال الإجماع بعد زوال المحل المجمع عليه، كقولهم في المصلي
~~إذا رأى الماء: كانت صلاته صحيحة بالإجماع قبل وجود الماء، والأصل بقاء ما
~~كان على ما كان، ولم يقم دليل على الفساد.
# وكذلك قولهم: أم الولد كان بيعها صحيحا قبل الاستيلاد، PageV02P291
# فمن ادعى التحريم فعليه الدليل.
# فهذا فيه نزاع مشهور (1) ، يحتج به طائفة من الفقهاء من أصحاب الشافعي
~~وأحمد وغيرهما، كالمزني والصيرفي وأبي إسحاق بن شاقلا وأبي عبد الله بن
~~حامد وأبي عبد الله بن الخطيب الرازي وغيرهم. وينكره آخرون، كابي حامد
~~والطبري والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأبي الخطاب والحلواني وابن الزاغوني
~~وغيرهم.
# والذين أنكروه قالوا: إن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل
~~النزاع، كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد
~~الرؤية فلا إجماع، فيمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع.
# وهذا الذي قالوه نقيض الإجماع في محل النزاع، وهذا صحيح، والذين استدلوا
~~به لم يدعوا الإجماع في محل النزاع، بل استصحبوا حال المجمع عليه.
# قال المنكرون: فالحكم إذا كان إنما يثبت بالإجماع، يزول الحكم لزوال
~~دليله، ويبقى إثبات الحكم بعد ذلك إثباتا بغير دليل.
# وأما المستدلون فيقولون: الحكم لما كان ثابتا، وعلمنا بالإجماع ثبوته،
~~فالإجماع ليس هو علة ثبوته ولا سبب ثبوته في PageV02P292
# نفس الأمر، حتى يلزم من زوال العلة زوال المعلول، ومن زوال السبب زوال
~~حكمه، وإنما الإجماع دليل عليه، وهو في نفس الأمر يستند إلى نص أو معنى نص.
~~فنحن نعلم أن الحكم المجمع عليه ثابت في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا
~~يلزم (1) من انتفاء الإجماع انتفاء الحكم، بل يجوز أن يكون نافيا، ويجوز أن
~~يكون منتفيا (2) ، لكن الأصل بقاؤه، فإن البقاء لا يفتقر إلى حادث، ولكن
~~يفتقر (3) إلى بقاء سبب ثبوته. وأما الحكم المخالف فيفتقر إلى ما يزيل
~~الأول، وإلى ما يحدث الثاني، وإلى ما يبقي (4) الثاني، فكان ما يفتقر إليه
~~الحادث أكثر مما يفتقر الباقي، فيكون البقاء أولى من التغيير.
# وهذا مثل ms0339 استصحاب حال براءة الذمة، فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يظن أنه
~~شاغل (5) ، ومع هذا فالأصل البراءة.
# والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، لكن لا يجوز الاستدلال به
~~إلا بعد الاجتهاد في معرفة المزيل، ولا يجوز الاستدلال به لمن لا (6) يعرف
~~الأدلة الناقلة، كما لا يجوز PageV02P293
# الاستدلال بالاستصحاب لمن لا يعرف الأدلة الناقلة.
# وبالجملة الاستصحاب لا يجوز الاستدلال به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل،
~~فإن قطع المستدل بانتفاء الناقل قطع ببقاء الحكم، كما يقطع ببقاء شرع محمد
~~- صلى الله عليه وسلم -، وأنه غير منسوخ، وإن ظن انتفاء الناقل ظن بقاء
~~الحكم، فإن كان الناقل دليلا تبين (1) له انتفاء دلالته ظن انتفاء النقل
~~(2) ، وإن كان معنى مؤثرا وتبين له عدم اقتضائه، تبين له بقاء النقل، مثل
~~رؤية الماء في الصلاة، فلا يطمئن قلبه إلى بقاء الصلاة إن لم يتبين له أن
~~رؤية الماء في الصلاة لا تبطل الطهارة، وإلا فمع تجويزه لكون هذا ناقضا
~~للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء.
# وهكذا في كل من يتورع في انتقاض وضوئه ووجوب الغسل عليه، فإن الأصل بقاء
~~طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين، وبالخارج
~~النادر منهما، وبمس النساء لشهوة ولغير شهوة غير الجماع، ومسن الذكر، وأكل
~~ما مسته النار، وغسل الميت، وغير ذلك، لا يمكن اعتقاد/ [165ب] استصحاب
~~الحال حتى يتبين له بطلان ما يوجب الانتقال، وإلا بقي شاكا، وإن لم يتبين
~~له صحة الناقل، كما لو أخبره فاسق بخبير، فإنه مأمور بالتبين والتثبت، لم
~~يؤثر (3) تصديقه ولا تكذيبه، فإن كلاهما ممكن PageV02P294
# منه، وهو مع خبره لا يستدل باستصحاب الحال، كما كان يستدل به بدون خبره.
~~ولهذا جعل ذلك لوثا وشبهة في أظهر قولي العلماء. وإذا شهد مجهول الحال فإنه
~~هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في حال المشهود به، فإذا تبين عدله
~~تم الدليل، وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما تضعف عند شهادة
~~الفاسق، فإن الشهادة قد يكون دليلا، ولكن لم تعرف دلالته، وأما هناك ms0340 فقد
~~علمنا أنه ليس بذلك، لكن يمكن وجود المدلول في هذه الصورة، فإن صدقه ممكن.
# PageV02P295
# [فصل] (1)
# والمقصود هنا أن النصوص شاملة لجميع الأحكام، ونحن نبين ذلك فيما هو أشكل
~~الأشياء ليستدل به على ما سواه، والفرائض من أشكلها، إذ نفاة القياس عدلوا
~~في كثير منها عن دلالة النص إلى أن أثبتوا ما ظنوه مجمعا عليه، ونفوا ما
~~ظنوه غير مجمع عليه، وكلاهما غلط:
# أما الأول: فقد بيناه.
# وأما الثاني: فتقديره عدم الإجماع إذا انتفى دليل بمعين (2) ، فلابد من
~~نفي سائر الأدلة الشرعية، كما ذكروه في
### | مسألة المشركة
# (3) ، فإنه لو قدر ثبوت ميراث أحدهما بالإجماع، فعدم الإجماع عن الآخر لا
~~ينفي ميراثه، إذ لم تنتفي (4) سائر الأدلة. PageV02P296
# فنقول: النص والقياس- وهما الكتاب والميزان- دلا على أن الثلث يختص به
~~ولد الأم، كما هو قول علي (1) رضي الله عنه ومن وافقه (2) ، وهو مذهب أبي
~~حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وروى عنه حرب التشريك، وهو قول زيد (3) ومن
~~وافقه (4) ، وقول مالك والشافعي.
# واختلف في ذلك عن عمر وعثمان (5) وغيرهما [من الصحابة] (6) ، حتى قيل:
~~إنه اختلف فيها عن جميع الصحابة إلا علي وزيد رضي الله عنهما؟ فإن عليا رضي
~~الله عنه لم يختلف عنه أنه لم يشرك، وزيد رضي الله عنه لم يختلف [عنه] (7)
~~أنه شرك (8) . PageV02P297
# قال العنبري (1) : القياس ما قال علي رضي الله عنه، [والاستحسان ما قال
~~زيد. قال الخبري (2) : هذه وساطة مليحة، وعبارة صحيحة (3) .
# فيقال: النص والقياس دلا على ما قال علي] (4) . أما النص فقول الله
~~تعالى: (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) . (5) والمراد به: ولد
~~الأم، فإذا أدخلنا فيهم ولد الأبوين لم يشتركوا في الثلث؛ بل زاحمهم غيرهم.
# وإن قيل: ولد الأبوين منهم لكونه من ولد الأم، فهذا غلط، لأن الله تعالى
~~قال: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما
~~السدس) الآية (6) . PageV02P298
# وفي قراءة ابن مسعود (1) وسعد (2) : "من أم". والمراد ولد الأم بالإجماع،
~~ودل على ذلك قوله: () فلكل واحد منهما السدس ms0341) (3) ، وولد الأبوين لم يفرض
~~لواحد منهما السدس. وأيضا فإنه قد ذكر حكم ولد الأبوين والأب في آية الصيف
~~(4) في قوله: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد
~~وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها) (5) . فجعل لها النصف،
~~وله جميع المال، وهذا حكم ولد الأبوين. ثم قال: (وإن كانوا أخوة رجالا
~~ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) (6) . وهذا حكم ولد الأبوين لا الأم، باتفاق
~~المسلمين.
# ودل ذكره تعالى لهذا الحكم في هذه الآية، ولذلك الحكم في تلك الآية، على
~~أن أحد الصنفين غير الآخر. فلا يجوز أن يكون PageV02P299
# ذلك الصنف هو هذا الصنف، وهذا الثاني هو ولد الأبوين والأب بالإجماع.
~~فالأول ولد الأم كما في القراءة الأخرى التي تصلح أن تكون مفسرة لقراءتنا
~~(1) ، ولهذا ذكر ولد الأم في آية الزوجين، والزوجان (2) أصحاب فرض مقدر لا
~~يخرجون عنه، وكذلك ولد الأم أصحاب فرض مقدر لا يخرجون عنه. وكلاهما لا حظ
~~له في التعصيب بحال (3) . بخلاف من ذكر في آية العمود (4) وفي آية الصيف ()
~~، فإن لجنسهم حطا في التعصيب. ولهذا قال سبحانه في آية الشتاء: (6) (غير
~~مضار) ، ولم يذكر في آية العمود، لأن الإنسان كثيرا ما يقصد ضرر الزوج وولد
~~الأم، لأنهم ليسوا من عصبتهم، بخلاف أولاده وآبائه، فإنه (7) لا يضارهم في
~~العادة.
# وإذا كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث، فمن نقصهم منه فقد ظلمهم. وولد
~~الأبوين جنس آخر، هم عصبة،/ [166أ] ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى PageV02P300
# رجل (1) ذكر" (2) . وهذا يقتضي أنه إذا لم تبق الفرائض لم يكن للعصبة
~~شيء، وهنا لم تبق الفرائض شيئا.
# وأما قول القائل (3) : "هب أن أباهم (4) كان حمارا، فقد اشتركوا (5) في
~~الأم "، فقول فاسد (6) حسا وشرعا. أما الحس فلأن الأب لو كان حمارا لكانت
~~(7) الأم أتانا، ولم يكونوا من بني آدم.
# وإذا قيل: قدر وجوده كعدمه.
# فيقال: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون معدوما.
# وأما الشرع فلأن الله حكم في ms0342 ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم.
# وإذا قيل: فالأب إن لم ينفعهم لم يضرهم. PageV02P301
# قيل: بل قد يضرهم ولا ينفعهم، بدليل ما لو كان ولد الأم واحدا وولد
~~الأبوين كثيرين (1) ، فإن ولد الأم وحده يأخذ السدس، والباقي (2) يكون لهم
~~كلهم، ولولا الأب لشاركوا هم وذلك الواحد في الثلث، وإذا جاز أن يكون وجود
~~الأب ينفعهم جاز أن يحرمهم، فعلم أنه قد يضرهم.
# وأيضا فأصول الفرائض مبنية على أن القرابة المتصلة ذكر وأنثى لا تفرق
~~أحكامها، فالأخ من الأبوين لا يكون كالأخ من أب، ولا (3) كالأخ من الأم،
~~ولا يعطى بقرابة الأم وحدها، كما لا يعطى بقرابة الأب وحده؛ بل بالقرابة
~~المشتركة من الأبوين. وإنما يفرد بحكم إذا كان قرابة الأم منفردة، مثل ابني
~~عم أحدهما أخ لأم (4) ، فهنا ذهب الجمهور إلى أن للأخ من الأم السدس،
~~ويشتركان في الباقي. وهو مأثور عن علي (5) رضي الله عنه. وروي عن شريح (6)
~~أنه جعل الجميع للأخ من الأم، كما لو كان ابن عم لأبوين. PageV02P302
# والجمهور يقولون: كلاهما في بنوة العم (1) سواء، هما ابنا عم من أبوين أو
~~من أب. والأخوة من الأم مستقلة ليست مقترنة بأبوة حتى يجعل كابن عم لأبوين.
# ومما يبين الحكم في مسألة المشتركة: أنه لو كان فيها أخوات لأب لفرض لهن
~~الثلثان، وعالت الفريضة، فلو كان معهن أخوهن سقطن، ويسمى "الأخ المشؤم"،
~~فلما كن يصرن (2) بوجوده عصبة صار تارة ينفعهن، وتارة يضرهن، ولم يجعل
~~وجوده كعدمه في حال الضرار.
# كذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عصبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى.
~~وعلى هذا مجرى العصوبة، فإن العصبة تارة تحوز المال، وتارة أكثره، وتارة
~~تحوز أقله، وتارة لا يبقى لها (3) شيء، وهو إذا استغرقت الفرائض المال. فمن
~~جعل العصبة تأخذ مع استغراق الفرائض المال فقد خرج عن الأصول المنصوصة في
~~الفرائض.
# وقول القائل "هذا استحسان" مخالف للكتاب والميزان؛ فإنه ظلم للإخوة من
~~الأم؛ حيث يؤخذ حفهم، فيعطاه غيرهم. وإذا كانوا يعقلون عن الميت وينفقون
~~عليه، فعاقلة المرأة يعقلون ms0343 عنها، PageV02P303
# وميراثها لزوجها وولدها، كما قضى بذلك (1) رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم -.
# والمنازعون في هذه المسألة ليس معهم حجة إلا أنها (2) قول زيد، وقد روي
~~عن عمر رضي الله عنه أنه حكم بها، فعمل بذلك من عمل من أهل المدينة وغيرهم،
~~كما عملوا بمثل ذلك في ميراث الجد والإخوة، وعملوا بقول زيد رضي الله عنه
~~في غير ذلك من الفرائض، لاتصال العمل عندهم به تقليدا له، وإن كان قد خالفه
~~من هو أفضل منه من الصحابة، وإن كان النص والقياس مع من خالفه.
# وبعضهم يحتج لذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"أفرضكم زيد" (3) . وهو حديث ضعيف (4) لا أصل له. ولم يكن PageV02P304
# زيد رضي الله عنه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - معروفا بالفرائض.
~~والحديث الذي روي فيه ذلك قد رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو ضعيف،
~~لم يصح فيه إلا قوله: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن
~~الجراح" (1) . وروي بإسناد أضعف من هذا، وفيه: "وأقضاكم علي، وحبر (2) هذه
~~الأمة ابن عباس" (3) من حديث كوثر بن حكيم، وكوثر هذا يأتي عن نافع بما
~~يعلم أنه باطل، ولا يحتج به باتفاق أهل العلم (4) .
# وكذلك اتباعهم في "الجد" لقول زيد رضي الله عنه، مع أن جمهور الصحابة رضي
~~الله عنهم على خلافه (5) . فجمهور الصحابة موافقون للصديق في أن الجد
~~كالأب، يحجب الإخوة (6) وهذا مروي عن بضعة عشر/ [166ب] من الصحابة رضي الله
~~PageV02P305
# عنهم (1) ، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد،
~~واختاره أبو حفص البرمكي من الصحابة، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد.
# وأما المورثون الجد مع الإخوة فهم علي وابن مسعود وزيد (2) رضي الله
~~عنهم، ولكل [واحد] (3) قول انفرد به. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان
~~متوقفا في أمره (4) . والصواب بلا ريب قول الصديق، لأدلة متعددة ذكرناها في
~~غير هذا الموضع (5) .
# منها: أن الذين ورثوا الإخوة عمدتهم أنهم يدلون ببنوة الأب، والجد يدلي
~~بأبوته، والبنوة أقوى.
# وهذه الحجة ms0344 فاسدة، مناقضة للكتاب والسنة والإجماع، فإن الجد مقدم على بني
~~الإخوة عند عامة المخالفين في هذا، وابن الابن يقوم مقام الابن ويقدم على
~~الجد، فلو كان بنوة الأب مقدمة لقدمت بنوة الأب. PageV02P306
# ومنها: أن الجد الأعلى مقدم على العم، والعم ابن الجد الأدنى، والجد
~~الأعلى أبوه، فالعم يدلي ببنوته، والجد الأعلى بأبوته، والجد الأعلى مقدم
~~بالإجماع، ونسبة الجد الأعلى إلى العم كنسبة الأدنى إلى الأخ.
# ومنها: أن ما ذكروه لو كان صحيحا لوجب تقدم (1) الإخوة، وهذا خلاف إجماع
~~الصحابة. وقد طرد هذا القياس الفاسد من قال في الولاء: إن إخوة المعتق أولى
~~من جده. وهذا من أضعف الأقوال، بل الصواب أن الولاء لجد المعتق فقط دون
~~إخوته، كالميراث.
# وأيضا فالبنوة وبنوة البنوة مقدمة على الأبوة وأبوة الأبوة، لأن هذا
~~الجنس مقدم على هذا الجنس.
# وأما بنوة الأبوة فليست من هذا البنوة، بل الأبوة وأبوة الأبوة مقدم على
~~بنوة الأبوة في جميع أحكام الشرع، ولم يقدم الأخ على الجد في شيء من
~~الأحكام الشرعية، بل ولا عدل به. فمن جعل مقتضى القياس تقديمه أو مساواته
~~(2) فقد خالف الأصول الشرعية كلها.
# وأما
### | العمريتان
# (3) فليس في القرآن ما يدل على أن للأم الثلث PageV02P307
# مع الأب والزوج، بل إنما أعطاها (1) الله الثلث إذا ورثت المال هي والأب،
~~فكان القرآن قد دل على أن ما ورثته هي والأب تأخذ ثلثه، والأب ثلثيه.
~~واستدل بهذا أكابر الصحابة: كعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد (2) رضي الله
~~عنهم وجمهور العلماء، على أن ما يبقى بعد فرض الزوجين، يكونان فيه أثلاثا،
~~قياسا على جميع المال إذا اشتركا فيه، وكما يشتركان فيما يبقى بعد الدين
~~والوصية.
# ومفهوم القرآن ينفي أن تأخذ الأم الثلث مطلقا، [فمن أعطاها الثلث مطلقا]
~~(3) حتى مع الزوجين (4) ، فقد خالف مفهوم القرآن. وأما الجمهور فقد عملوا
~~بالمفهوم، فلم يجعلوا ميراثها إذا ورثه أبوه كميراثها إذا لم يرثه، بل إن
~~ورثه أبواه فلأمه الثلث مطلقا، وأما إذا لم يرثه أبواه، بل ورثه مع من دون
~~الأب: كالجد والعم ms0345 والأخ، فهي بالثلث أولى، فإنها إذا أخذت الثلث مع الأب
~~PageV02P308
# فمع غيره من العصبة أولى.
# فدل القرآن على أنه إذا لم يرثه إلا الأم والأب، أو عصبة غير الأب سوى
~~الابن، فللأم الثلث؛ وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. وأما الابن
~~فإنه أقوى من الأب، فلها معه السدس.
# بقي إذا كان مع العصبة ذو فرض، فالبنات والأخوات قد أعطي للأم معهن
~~السدس. والأخت الواحدة إذا كانت هي والأم، فالأم تأخذ الثلث مع الذكر من
~~الإخوة، فمع الأنثى أولى.
# وإنما تحجب عن الثلث إلى السدس بالإخوة؛ والواحد ليس إخوة. وإذا كانت
~~تأخذ مع الأخ الواحد الثلث، فمع العم وغيره بطريق الأولى.
# وإذا كان مع أحد الزوجين عصبة غير الأب والابن، كالجد والعم وابن العم،
~~فهؤلاء لا ينقصها دون الأب، وإنما جعل الباقي بعد نصيب الزوجة أثلاثا،
~~لأنها والأب في طبقة واحدة، فجعل ذلك بينهما كأصل المال، وهؤلاء ليسوا في
~~طبقتها، فلا يجعلون معها، كالأب، فإنه لا واسطة بينه (1) وبين الميت، بخلاف
~~هؤلاء، فإن بينهم وسائط، وهي لا تسقط بحال، بخلاف هؤلاء، فلم يمكن أن يعطى
~~ثلث الباقي هنا، لما فيه من تسوية هؤلاء بالأب.
# ولا نزاع في ذلك إلا في الجد، نزاع يروى عن ابن مسعود PageV02P309
# رضي الله عنه، كأنه ألحقه بالأب، فأعطاها معه ثلث الباقي. والجمهور/
~~[167أ] ، على أنها معه تأخذ ثلث المال، وهو الصواب؛ لأن الجد أبعد منها؛
~~وهو محجوب بالأب، فلا يحجبها عن شيء من حقها.
# وإذا لم يمكن أن تعطى ثلث الباقي، وامتنع أن تعطى السدس لأنه دون ذلك،
~~تعين أن تعطى الثلث. وكان إعطاؤها الثلث مع عدم الأب، سواء كان هناك أحد
~~الزوجين أو لم يكن، وإعطاؤها ثلث الباقي مع أحد الزوجين، مما فهمه جماهير
~~الصحابة والعلماء والأئمة، تارة بالاعتبار الذي هو في معنى الأصل، وتارة
~~بالاعتبار الذي هو أولى وأحرى، وتارة بالاعتبار الذي فيه إلحاق الفرع بأشبه
~~الأصلين به.
# فإن قلت: فهذه دلالة نص أو قياس؟
# قلت لك: القياس المحض أن الأب مع الأم ms0346، كالبنت مع الابن، والأخت مع الأخ؛
~~لأنهما ذكر وأنثى، من جنس واحد، وهما عصبة. وقد أعطيت (1) الزوجة نصف ما
~~يعطاه الزوج؛ لأنهما (2) ذكر وأنثى من جنس واحد.
# وإنما عدل عن هذا في ولد الأم لأنهم يدلون بالأم، فلا عصوبة لهم بحال،
~~بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم PageV02P310
# يدلون بأنفسهم، وسائر العصبة يدلون بذكر، كولد البنين والإخوة للأبوين أو
~~الأب. فإعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين هو معتبر فيمن يدلي بنفسه أو بعصبة،
~~فإنه أهل للتعصيب. فأما من يدلي بغير عصبة فإنه ليس من أهل التعصيب،
~~فالذكورة فيه ليست (1) كالأنوثة، وليس الذكر كالأنثى، لا في باب الزوجية،
~~ولا في الأبوين، ولا في الأولاد والإخوة (2) للأب. فهذا اعتبار.
# وأما (3) دلالة الكتاب على (4) ميراث الأم؛ فإن الله تعالى يقول: (لكل
~~واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه
~~فلأمه الثلث) (5) . فالله تعالى فرض لها الثلث بشرطين: أن لا يكون له ولد،
~~وأن يرثه أبواه؛ فكان في هذا دلالة على أنها لا تعطى (6) الثلث مطلقا، مع
~~عدم الولد، إذ لو كانت تعطى الثلث مع عدم الولد مطلقا لكان قوله: (وورثه
~~أبواه) زيادة في اللفظ ونقص (7) في المعنى، وكان عديم الفائدة، وجوده
~~كعدمه، فإنه حينئذ سواء ورثه أبواه أو لم يرثه أبواه، لأمه الثلث. وهذا
~~خلاف دلالة القرآن، وهذا مما يدل على صحة أكابر الصحابة والجمهور
~~PageV02P311
# الذين يقولون: لا تعطى (1) في العمريتين -زوج وأبوين؛ وزوجة وأبوين- ثلث
~~جميع المال، كما قال ابن عباس رضي الله عنه وموافقوه، فإنها لو أعطيت الثلث
~~لكانت تعطاه مع عدم الولد مطلقا. وهو خلاف ما دل عليه القرآن.
# وقد روى عنه أنه قال لزيد رضي الله عنه: أين في كتاب الله ثلث ما بقي (2)
~~؛ أي ليس فيه إلا ثلث وسدس.
# فيقال: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث مطلقا، فكيف تعطيها مع أحد
~~الزوجين الثلث؟! بل في كتاب الله ما يمنع إعطاءها الثلث مع الأب وأحد
~~الزوجين، فإنه لو كان كذلك لكان يقول: "فإن لم ms0347 يكن له ولد فلأمه الثلث ".
~~فإنها على هذا التقدير تستحق الثلث مطلقا؛ فلما خص الثلث ببعض الحال (3)
~~علم أنه لا يستحق مطلقا.
# فهذا مفهوم المخالفة (4) الذي يسمى دليل الخطاب، يدل على بطلان قول من
~~أعطاها الثلث في العمريتين، ولا وجه لإعطائها السدس مع مخالفته للإجماع (5)
~~، لأن الله تعالى إنما أعطاها ذلك PageV02P312
# مع الولد والإخوة، وقيده بذلك، ودل ذلك على أنها لا تعطاه (1) مع الأخ
~~الواحد، فعلم أن الثلث قد تستحقه مع الأخ الواحد، ويدل على ذلك أنها إذا
~~أعطيته (2) مع الأب، فمع غيره من العصبات أولى وأحرى.
# وهذه دلائل بتنبيه الخطاب ومفهومه، إما مفهوم الموافقة أو مفهوم
~~المخالفة، فلما دل القرآن على أنها لا تعطى الثلث ولا تعطى السدس، وكان
~~قسمة ما يبقى بعد فرض الزوجة أثلاثا، مثل قسمة أصل المال من الأبوين أثلاثا
~~(3) ليس بينهما فرق (4) أصلا- علم بدلالة التقسيم أن الله أراد أن تعطى في
~~هذه الحال هذا، وكانت هذه الدلالة خطابية من جهة دلالة القرآن على إبطال ما
~~سواه، فتعينت بالضرورة، ومن جهة أنها قياس في معنى الأصل، وإذا جعل ما في
~~معنى الأصل (5) دلالة لفظية كانت خطابية أيضا، كما في قوله: "من أعتق شركا
~~له في عبد" (6) ، وقوله: "أيما رجل وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو
~~أحق به" (7) ، فإن لفظ PageV02P313
# "عبد" و"رجل" يتناول في هذا الذكر/ [167ب] والأنثى في عرف الخطاب، من باب
~~التعبير باللفظ الخاص عن المعنى (1) العام.
# وهذا باب غير باب القياس، وذلك تارة لكون اللفظ الخاص صار في العرف العام
~~عاما، كقوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (2) ، وقوله: (ما يملكون
~~من قطمير (13)) (3) ، وقوله: (ولا يظلمون نقيرا (124)) (4) ، وقول القائل:
~~"والله ما أخذت له حبه، ولا شربت له قطرة، ولا أكلت له لقمة"، ونحو ذلك مما
~~صار في عرف الخطاب يدل على العام، لا يقصد به النفي (5) الخاص.
# وتارة يعبر باللفظ الخاص عن المعنى العام، لكونه صار [في] (6) العرف
~~الخاص عاما، ومن هذا الباب خطاب [المطاع] (7) الواحد في أهل طاعته ms0348 الذين قد
~~استقر عندهم تماثلهم في الحكم، فإن هذا خطاب لجمعهم، كخطاب السيد الواحد من
~~عبيده بأمور يشترك فيها العبيد، وكذلك الملك الواحد من رعيته. ومن هذا
~~PageV02P314
# خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للواحد من أمته، فإن عرف بعادته من
~~خطابه أن هذا حكم لمن هو مثل ذلك الشخص إلى يوم القيامة، وكذلك خطابه لمن
~~حضره، قد علم بعادته أن من غاب عنه إذا كان بمنزلتهم فإنهم يخاطبون بمثل
~~ذلك، لمعرفة المستمع أن حكم الشيء حكم مثله، وأن التعيين (1) هنا لا يراد
~~به التخصيص، بل التمثيل.
# وأما إذا كان أحد الزوجين مع سائر العصبة، فهنا (2) لو أعطيت ثلث الباقي
~~لكان جعلا (3) لذلك العاصب معها بمنزلة الأب، وليس الأمر كذلك، فإن الأب
~~(4) في طبقتها، وكان حكمها معه كحكم الذكر مع طبقته من الإناث، وأما غير
~~الأب فبعيد عنها.
# والقران لما أعطاها الثلث مع الأب دل على أنه مع غيره من العصبة أولى،
~~وليس إذا أعطيت ثلث الباقي مع الأب يكون غيره من العصبة مثله، ولا أولى (5)
~~من نقصانها، والسدس لا سبيل له لما تقدم.
# وقد دل القرآن أنها مع الواحد من الإخوة لا تعطى السدس، فلما بطل إعطاؤها
~~السدس مع العصبة غير الأب وأحد الزوجين، PageV02P315
# وثلث الباقي، تعين الثلث، وكان أعطيت الثلث مع سائر العصبة وأحد الزوجين
~~بمنزلة أن تعطاه مع الأب وحده، فإن الأب وحده يحجب سائر العصبة ويأخذ
~~الثلثين.
# ومع أحد الزوجين أعطيناها ثلث الباقي ليأخذ الأب الثلثين الآخرين، إذ ليس
~~هناك عصبة غيره، إذ هو يحجبهم، ومع غيره لو أعطيناها ثلث الباقي لكان ذلك
~~ليأخذ ذلك العصبة الثلثين، وليس ذلك له، بل قد يكون مع الأم محجوبا لا يأخذ
~~شيئا بحال، إذا كان معها أب أو ابن، إذا كان قد يكون محجوبا حجب حرمان،
~~فحجب النقصان أولى (1) . بخلاف الأب، فإنه لا يحجب معها لا حجب حرمان ولا
~~حجب نقصان، فكان إعطاؤها مع الأب الثلث إعطاء (2) مع غير الأب في سائر
~~الأحوال بطريق الأولى، إذ لا حال (3) هناك يستحق ms0349 أحد معها أن يأخذ مثلي ما
~~تأخذ (4) ، كما يستحق الأب ذلك. فإن قوله: (وورثه أبواه فلأمه الثلث) (5)
~~(دل على أن لها الثلث، والباقي للأب بقوله (وورثه أبواه) ،فإنه لما جعل
~~الميراث ميراثا بينهما، ثم أخرج (6) نصيبها، دل على أن الباقي نصيبه. وإذا
~~أعطي PageV02P316
# [الأب] (1) الباقي معها لم يلزم أن يعطى غيره مثل ما أعطي.
# وإنما أعطينا سائر العصبة بقوله: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب
~~الله) (2) ، وبقوله: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) (3) ،
~~وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما
# أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر". (4) . PageV02P317
# فصل
# وأما ميراث
### | الأخوات مع البنات
# (1) ، وأنهن عصبة كما قال جمهور الصحابة (2) والعلماء- فقد دل عليه
~~القرآن والسنة أيضا، فإن قوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة
~~إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها
~~ولد) (3) يدل على أن الأخت ترث النصف مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال (4)
~~كله مع عدم ولدها. وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النصف مما
~~ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان لها النصف، سواء كان له ولد أو لم يكن، فكان ذكر
~~الولد تدليسا وعبثا مضرا، وكلام الله منزه عن ذلك.
# وليس هذا من المفهوم الذي هو تخصيص أحد النوعين PageV02P318
# بالذكر، بل هو من باب تخصيص اللفظ العام وتقييده مع أن الحكم يتناول جميع
~~الصور،/ [168أ] ، والتخصيص بعد التعميم ليس بمنزلة التخصيص المبتدأ، فإن
~~ذلك قد يقصد به ذكر ذلك النوع دون الآخر. وأما ذكر الجنس الذي يعمهما
~~والحاجة داعية إلى بيان الحكم العام، وليس في هذا التقييد مقصود، فهنا
~~يمتنع أن يذكر التخصيص إلا لاختصاصه بالحكم.
# ومن ذلك قوله تعالى: (ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) (1) وقوله:
~~(فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) (2) ، وإذا علم أنها مع الولد
~~لا ترث النصف، فالولد إما ذكر وإما أنثى. أما الذكر فإنه يسقطها كما يسقط
~~الأخ ms0350 بطريق الأولى، بدليل قوله: (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) ، (3) [فلم
~~يثبت له الإرث المطلق إلا إذا لم يكن لها ولد] . والإرث المطلق هو حوز جميع
~~المال، فدل ذلك على أنه إذا كان لها ولد لم يحز المال؛ بل إما أن يسقط وإما
~~أن يأخذ (4) بعضه. فيبقى (5) إذا كان لها ولد: فإما ابن، وإما بنت. فالقران
~~قد بين أن البنت إنما تأخذ النصف، فدل على أن البنت لا تمنعه النصف الآخر
~~(6) ، إذا PageV02P319
# لم يكن إلا بنت وأخ.
# ولما كان فتيا الله إنما هي في الكلالة، والكلالة من لا والد له ولا ولد
~~(1) ، علم أن من له ولد ووالد، ليس هذا حكمه.
# ولما (2) كان قد بين تعالى أن الأخ يحوز مال الأخت فيكون لها عصبة، كان
~~الأب أن يكون عصبة بطرق الأولى، وإذا كان الأب والأخ عصبة، فالابن بطريق
~~الأولى.
# وقد قال تعالى: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) (3) ،
~~فإذا كان قد جعل مواليهم واحدهم مولى، وهو الذي يتولى المرء، فيكون مولى
~~ويرث ماله، ويكون من أولى الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، إذ
~~كان لكل أحد قد جعل الله عصبته ترث ماله مما ترك، وهم: الوالدان والأقربون.
# قال طائفة من المفسرين (4) : أي: من المال الذي ترك.
# والموالي: هم الوالدان والأقربون. والموالي يتضمن معنى ورثة، والمعنى:
~~لكل جعلنا ورثة يرثن (5) مما ترك، هم: الوالدان PageV02P320
# والأقربون.
# وإذا كان قد جعل الوالدين والأقربين موالي، فالبنون أولى أن يكونوا
~~موالي. ولهذا لما كانوا في أول الأمر إنما يرث الرجل ولده، فرض الله الوصية
~~للوالدين والأقربين بقوله: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا
~~الوصية للوالدين والأقربين) (1) . فلما فرض الوصية لهما دل ذلك على أن
~~الميراث للولد دونهما، وكان ذلك هو الحكم قبل نزول آية الفرائض، فعلم أن
~~الولد أولى من الأبوين والأقربين، وأن (2) الابن أولى أن يكون عصبة من
~~الأب.
# وأيضا فإن الله سبحانه قال: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا
~~الوصية للوالدين والأقربين) ، فأوجب ms0351 الوصية للوالدين والأقربين لما كان لا
~~يرث أحدهم إلا ولده، وكان ميراث الولد وأخذ الأب مال ابنه كله معروفا عندهم
~~في الجاهلية، ففرض الله الفرائض لمن سماه. وأما إرث الابن مال أبيه إذا لم
~~يكن غيره، فكان من الأحكام الظاهرة (3) الواضحة التي كانوا عليها في
~~الجاهلية، وأقرهم عليها في الإسلام، ووكد ميراث الابن، حتى ورث الابن سواء
~~كان صغيرا أو كبيرا.
# وكذلك سائر الورثة سوى بين (4) الصغير والكبير، وكانوا في PageV02P321
# الجاهلية- أو من كان منهم- لا يورثون إلا الكبير (1) .
# ودل أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها،
~~فما بقي فلأولى رجل ذكر" أن ما بقي بعد الفرائض فلا يرثه إلا العصبة، وقد
~~علم أن الابن أقرب، ثم الأب، ثم الجد، ثم الإخوة.
# وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ولد ابن الأم يتوارثون دون بني
~~العلات (2) . فالأخ للأبوين أولى من الأخ للأب، وابن الابن يقوم مقام الابن
~~(3) ، وكذلك كل بني أب هم أقرب من بني الأب الذي هو أعلى منه، وأقربهم إلى
~~الأب الأعلى، فهو أقرب إلى الميت. وإذا استووا في الدرجة فمن كان لأبوين
~~أولى ممن كان لأب.
# فلما دل القرآن على أن للأخت النصف مع عدم الولد، وأنه مع ذكور الولد
~~يكون الابن عاصبا، يحجب الأخت ما يحجب أخاها، بقي حال الأخت مع إناث الولد،
~~ليمس في القرآن ما ينفي PageV02P322
# ميراث الأخت في هذه الحال. وإنما ينفي أن يكون لها النصف مع الولد، كما
~~يكون مع [عدم] (1) الولد.
# بقي كذا مع البنت: إما أن تسقط، وإما/ [168ب] أن يكون لها النصف، وإما أن
~~تكون عصبة:
# ولا وجه لسقوطها؛ فإنها لا تزاحم البنت، وأخوها لا يسقط، فلا تسقط هي،
~~ولو سقطت هي لسقطت بمن هو أبعد منها من الأقارب، والبعيد لا يسقط القريب.
# ولا يكون لها النصف فرضا كما يكون لها مع الزوج، لأن الله عز وجل إنما
~~جعل لها النصف معه إذا لم يكن له ولد، ولأنها كانت تساوي البنت مع
~~اجتماعها، والبنت (2) أولى ms0352 منها، فلا تساويها. وأيضا فإنه لو فرض لها النصف
~~لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفرائض، مثل: زوجة وبنت وأخت، فكان يكون
~~للزوجة الثمن، ولكل منهما النصف، فتعول فتنقص البنت عن النصف.
# وكذلك لو كان الزوج لكان له الربع، فلو فرض للأخت النصف مع البنت لعالت،
~~فنقصت البنت عن النصف، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرض ولا تعصيب؛ فإن
~~الأولاد أولى منهم.
# والله تعالى إنما أعطاها النصف، إذا كان الميت كلالة لا ولد له
~~PageV02P323
# ولا والد، فمن له ولد لا يفرض لها معه النصف.
# فلما بطل سقوطها وفرضها (1) لم يبق إلا أن تكون (2) عصبة أولى من عصبة
~~البعيد (3) ، كالعم وابن العم. [وهذا قول الجمهور] (4) ، وقد دل عليه حديث
~~البخاري (5) عن ابن مسعود [لما ذكر له] (6) أن أبا موسى وسلمان بن ربيعة
~~قالا في بنت وبنت ابن وأخت: للبنت النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود
~~فسيتابعني (7) 0 [فقال] (8) : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، لأقضين
~~فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للبنت النصف، ولبنت الابن
~~السدس تكملة الثلثين، وما بقي للأخت. PageV02P324
# فأخبر ابن مسعود رضي الله عنه أن هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم -، فدل ذلك على أن الأخوات مع البنات عصبة، والأخت تكون عصبة بغيرها،
~~وهو أخوها. فلا يمتنع أن تكون عصبة مع البنت. فإن البنت/ [169أ] أقوى من أخ
~~الميت (1) ، ولهذا لم يعصبها، بخلاف البنت مع الابن، فإنها ليست أقوى من
~~أخيها، فلهذا عصبها. وفي السنن (2) : أن معاذا أفتى في بنت وأخت، فأعطى
~~الأخت النصف، والبنت النصف.
# وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما
~~بقي فلأولى رجلى ذكر"، فهذا عام خص منه المعتقة والملاعنة والملتقطة؛ لقول
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها، ولقيطها،
~~وولدها الذي لاعنت عليه" (3) . وإذا كان عاما مخصوصا خصت منه هذه الصورة
~~بما ذكر من الدلالة. PageV02P325
# وإن قيل: قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب.
~~قيل: فالمنازع يقدم المعتق على الأخت ms0353 مع البنت، وليس من الأقارب، وهو - صلى
~~الله عليه وسلم - قال: "فلأولى رجل ذكر"، ووكد بالذكر ليبين أن العاصب
~~المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظة الرجل ما يتناول (1)
~~الأنثى، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل وجد متاعه" ونحو
~~ذلك مما (2) يذكر فيه لفظ الرجل، والحكم يعم النوعين: الذكور والإناث. وهذا
~~كقوله - صلى الله عليه وسلم - في فرائض صدقة الإبل: "فإن لم يكن فيها بنت
~~مخاض فابن لبون ذكر" (3) ، فذكر لفظ "الذكر" ليبين أن (4) مراده بابن
~~اللبون: الذكر دون الأنثى، وأن الذكر يجزئ (5) في هذه الحال دون ما إذا كان
~~فيها بنت مخاض، فإن الفرض بنت مخاض.
# ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله: (ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما
~~ترك) إنما يدل منطوقه على أنها ترث النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما
~~يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلا PageV02P326
# للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيل حصل بذلك مقصود المخالفة. فلا يجب
~~أن تكون كل صورة من صور المسكوت عنه مخالفة لكل صورة من صور المنطوق، ومن
~~توهم ذلك في دلالة المفهوم فإنه في غاية الجهل.
# فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص.
# والحكم إذا ثبت بعلة وانتفت؛ جاز أن يخلفها- في بعض الصور أو كلها- علة
~~أخرى. وقصد (1) التخصيص يحصل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نفي إرثها مع (2) ذكور
~~الولد حصل المقصود بدليل الخطاب، ولم يكن في الآية نفي ميراثها مع الأنثى،
~~فيجب أن تكون من أهل الفرائض، أو من العصبة، وهي مع كونها من أهل الفرائض،
~~فقد تكون عصبة، وحينئذ فلا تخرج (3) من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"ألحقوا الفرائض بأهلها"، بل هي من أهل الفرائض، لكن لها التعصيب في بعض
~~الأحوال، كما تكون عصبة مع إخوتها.
# وعلى هذا التقدير فلا يكون الحديث مخصوصا، بل عمومه محفوظ، وصار هذا كما
~~لو كان معها إخوتها أو كان مع البنين والبنات أو الإخوة والأخوات أحد
~~الزوجين أو الأم، فإما أن تلحق ms0354 (4) الفرائض بأهلها، وما بقي لا يختص به
~~ذكور الولد PageV02P327
# والإخوة بالنص والإجماع أفإن الله تعالى يقول، (1) (وإن كانوا إخوة رجالا
~~ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) (2) [بعد قوله: (فإن كانتا اثنتين فلهما
~~الثلثان مما ترك) . وقال تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ
~~الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها
~~النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له
~~ولد] (3) وورثه أبواه فلأمه الثلث) (4) .
# فقد جعل لكل من الأبوين السدس مع الولد، والباقي للولد.
# وإن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين، وهذا متفق عليه بين
~~المسلمين، فدل ذلك على أن قوله: "فلأولى رجل ذكر" إنما يراد به إذا لم يكن
~~هناك من يكون عصبة بغيره، وهو من أهل الفرائض في بعض الأحوال.
# ولو أخذ بما يظن أنه ظاهر الحديث (5) , لكان الباقي بعد الفرض لذكور
~~الإخوة دون الأخوات، والبنين دون البنات، وهذا باطل بالنص وإجماع المسلمين.
~~فعلم أنها إذا كانت عصبة بغيرها لم يكن الباقي لأولى رجل ذكر، وهي في هذه
~~الحال عصبة PageV02P328
# بغيرها (1) ، فليس الباقي لأولى رجل ذكر. ومعلوم أن أخاها أقرب من العم
~~وابن العم، فإذا كان لا يسقطها، بل تكون عصبة معه، فلأن لا يسقطها العم
~~وابنه بطريق الأولى والأحرى، وإذا لم يسقطها ورثت دونه، لأنه أبعد منها
~~بخلاف أختها.
# وحينئذ قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألحقوا الفرائض بأهلها" إن أريد به
~~من له فرض في تلك المسألة، فقوله: "فما بقي فلأولى رجل ذكر" خص منه من
~~الأقارب من يكون عصبة بغيرها، والبنت في هذه الصورة عصبة بغيرها، فتخص منه.
# ولو أريد بالفرائض من هو من أهل الفرائض في الجملة، سواء كان لا يرث إلا
~~بفرض، كالزوجين والأم وولد الأم؛ أو كان يرث بفرض تارة وبتعصيب أخرى، كالأب
~~والبنات والأخوات، فيراد بتقديم هذا الضرب، وما بقي بعد فلأولى رجل ذكر،
~~فقد تناولها الحديث.
# فإن الورثة أقسام:
# ذوو فرض محض: كالزوجين، وولد الأم، والأم ms0355.
# وذوو تعصيب محض: كالبنين، والإخوة.
# ومن يكون ذا فرض بنفسه، وتعصيب بنفسه: كالأب والجد.
# ومن يكون ذا فرض وعصبة بغيره: كالبنات والأخوات. PageV02P329
# [ومعلوم أن قوله: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" لم
~~يرد به سقوط البنات والأخوات] (1) إذا كن عصبة بغيرهن، بل يرثن في هذه
~~الحال بالإجماع.
# والأخوات مع البنات كالأخوات مع إخوتهن (2) ، فإذا لم ينفرد الرجل الذكر،
~~وهو أخوهن ويسقطهن؛ فأن لا ينفرد من هو أبعد منه ويسقطهن بطريق الأولى.
# ولهذا لم توجد قط أختا تسقط مع عم، وابن عم، ومن هو أبعد منها. بل لابد
~~أن ترث إما بفرض، وإما بتعصيب حصل بغيرها.
# وحينئذ فإذا كن مع البنات وجب أن يرثن بأحد هذين، وقد تعذر به الفرض
~~فتعين التعصيب، كما لو كان معها أخوها. يبين ذلك أن جنس أهل الفرائض يقدمون
~~على العصبات، سواء كانوا (3) أهل فرض محض، أو كانوا مع ذلك لهم تعصيب
~~بأنفسهم أو بغيرهم.
# والأخوات من جنس أهل الفرائض، ممن يرثن في حال بفرض، وفي حالي يكن (4)
~~عصبة، وهم مقدمون على من لا PageV02P330
# يرث (1) إلا بالتعصيب المحض كالعم وابن العم، فدل ذلك على أن الأخوات
~~أولى من هؤلاء.
# ولا يجوز أن يستدل بهذا الحديث على حرمانهن مع البنات، كما لا يجوز أن
~~يستدل به على حرمانهن مع إخوتهن، [بل] (2) ولا على حرمان بنات الابن مع
~~أخيهن ومع ابن أخيهن إذا استكمل البنات الثلثين، بل أتعصب من، (3) في درجته
~~ومن هو أعلى منه عند الجمهور (4) ، ولكن ابن مسعود (5) ومن وافقه [كأبي
~~ثور] (6) يقولون: إنه لا يعصب إلا من يرث دونه، لا يعصب (7) من يسقط بدونه،
~~ودلالة الحديث في هذه المواضع من جنس واحد.
# فإما أن يقال: هؤلاء كلهم من جنس أهل الفرائض فإنهن (8) ممن يفرض لهن،
~~ليست بمنزلة العمة والخالة ونحوهما ممن ليس له فرض مقدر.
# / [169أ] ، وإما أن يقال: هو مخصوص. وهذا الحديث قد PageV02P331
# روي بألفاظ، فمن جمل ألفاظه (1) : "اقسموا المال بين أهل الفرائض على
~~كتاب الله، فما بقي فلأولى رجل ذكر". وهذا ms0356 لفظ يتناول كل من كان من أهل
~~الفرائض في الجملة، وإن عرض له حال يكون فيها عصبة بغيره، إذا لم يكن
~~محجوبات بغيرهن، كما يحجب بنات الابن بالابن، وما بقي من بعده فلأولى رجل
~~ذكر، ليس المراد به أنه ما بقي بعد الفرائض المقدرة لا يعطاه إلا رجل، ولو
~~قدر أن اللفظ يتناول هذا فقد خص منه صور كثيرة بالنص والإجماع، فهذه الصورة
~~أولى. PageV02P332
# وأما
### | ميراث البنتين
# (1) ، فقد قال تعالى: () يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين
~~فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف) (2) .
# فدل القرآن على أن البنت لها مع أخيها الذكر الثلث، ولها وحدها النصف،
~~ولما فوق اثنتين (3) الثلثان. بقيت البنتان، فكان إذا كان لها مع الذكر
~~الثلث لا الربع، فأن يكون لها مع الأنثى الثلث لا الربع أولى وأحرى؛ ولأنه
~~قال: (وإن كانت واحدة فلها النصف) ، فقيد النصف بكونها واحدة، فدل بمفهومه
~~على أنه لا يكون لها إلا مع هذا الوصف؛ بخلاف قوله: (فإن كن نساء فوق
~~اثنتين) ، فإنه لما ذكر ضمير "كن" و"نساء" وذلك جمع، لم يمكن أن يقال:
~~اثنتين؛ لأن ضمير الجمع لا يختص باثنتين؛ ولأن الحكم PageV02P333
# لا يختص باثنتين، فلزم أن يقال: (فوق اثنتين) ، لأنه قد عرف حكم اثنتين،
~~وعرف حكم الواحدة. وإذا كانت واحدة فلها النصف، ولما فوق اثنتين الثلثان،
~~امتنع أن يكون للاثنتين أكثر من الثلثين، فلا يكون لهما جميع المال لكل
~~واحدة النصف، فإن الثلاث ليس لهن إلا الثلثان، فكيف بما دون الثلاثة؟ ولا
~~يكفيهما النصف، لأنه لها بشرط أن تكون واحدة، [فلا يكون لها إذا لم تكن
~~واحدة] (11) .
# وهذه الدلالة تظهر بقراءة النصب (2) : "وإن كانت واحدة"، فإن هذا خبر
~~كانت، تقديره: فإن كانت بنتا واحدة، أي مفردة ليس معها غيرها فلها النصف،
~~فلا يكون لها ذلك إذا كان معها غيرها، فانتفى النصف، وانتفى الجميع، فلم
~~يبق إلا الثلثان. وهذه دلالة من الآية.
# وأيضا فإن الله تعالى لما قال: في الأخوات (فإن ms0357 كانتا اثنتين فلهما
~~الثلثان مما ترك) (3) ، كان دليلا على أن البنتين أولى بالثلثين من
~~الأختين.
# وأيضا فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما أعطى ابنتي سعد بن
~~الربيع الثلثين، وأمهما الثمن، والعم ما بقي (4) . وهذا إجماع لا يصح فيه
~~PageV02P334
# خلاف عن ابن عباس (1) .
# وقال في الأخوات: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) ، لأنه لم
~~يذكر قبل ذلك ما يدل على أن للواحدة مع أخيها (2) الثلث، وإنما ذكره بعد
~~ذلك بقوله: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) ، بخلاف
~~تلك الآية، فإنه ذكر أولا أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فتضمن حكمها مع أخيها،
~~ثم ذكر حكم العدد من النساء بعد ذلك.
# ودلت آية "الولد" (3) على أن حكم ما فوق الاثنتين حكم الاثنتين؟ فلذلك
~~قال في الأخوات: (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) (4) ، ولم يذكر
~~ما فوقهما؛ فإنه إذا كانت الثنتان (5) تستحقان الثلثين، فما فوقهما بطريق
~~الأولى والأحرى. بخلاف آية PageV02P335
# "البنات " (1) فإنه لم يدل قوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) إلا على أن لها
~~الثلث مع أخيها، وإذا كن فوق اثنتين لم تستحق الثلث، فصار بيانه في كل من
~~الآيتين من أحسن البيان.
# هناك لما دل الكلام الأول على ميراث البنتين دون ما زاد على ذلك، بين بعد
~~ذلك ميراث ما زاد على الثنتين.
# وفي آية الصيف (2) لما دل الكلام الأول على ميراث الأختين (3) ، وكان ذلك
~~دالا بطريق الأولى على ميراث الثلاثة والأربعة وما زاد، لم يحتج أن يذكر ما
~~زاد على الأختين.
# فهناك (4) ذكر ما فوق البنتين دون البنتين، وفي الأخرى (5) ذكر الثنتين
~~دون ما فوقهما، لما يقتضيه حسن البيان في كل موضع، حيث كان هناك قد بين
~~ميراث البنتين دون ما فوقهما، وكان هنا بيان حكمهما بيانا لما فوقهما بطريق
~~الأولى، ولم يكن فيما تقدم بيان حكمهما، فلا يجوز (6) أن يكون للأخوات أكثر
~~من الثلثين، لأن البنات إذا لم يكن لهن أكثر من الثلثين، فالأخوات بطريق
~~الأولى. PageV02P336
# ثم قال تعالى: (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر ms0358 مثل حظ الأنثيين) .
~~وأراد بذلك وإن كانوا عددا من الإخوة من جنس / [170أ] الرجال وجنس النساء،
~~لم يرد أن يكون جمع رجال وجمع نساء، فإنه لو كان رجل وامرأتان، أو امرأة
~~ورجل، أو رجلان وامرأتان، لكان ذلك كما لو كانوا ثلاثة رجال وثلاث نساء (1)
~~، وهذا باتفاق الناس.
# ولو قيل: الإخوة ثلاثة فصاعدا.
# لقيل: وكذلك الرجال والنساء، فلزم أن يكون المعنى إن كانوا ستة إخوة
~~فصاعدا. ولأنه لما بين حكم الأخت الواحدة والأخ الواحد وحكم الأختين
~~فصاعدا، بقي بيان الاثنتين فصاعدا من الصنفين، ليكون البيان مستوعبا
~~للأقسام.
# ولفظ "الإخوة" وسائر ألفاظ الجمع قد يعنى به الجنس من غير قصد العدد،
~~لقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) (2) ،
~~وقد يعنى به العدد من غير قصد لقدر منه، فيتناول الاثنين فصاعدا، وقد يعنى
~~به الثلاثة فصاعدا. وفي هذه الآية إنما عني به العدد مطلقا؛ لأنه بين
~~الواحدة قبل ذلك؛ ولأن ما ذكره من الأحكام في الفرائض فرق فيه بين الواحد
~~والعدد، وسوى فيه بين PageV02P337
# مراتب العدد: الاثنين والثلاثة والأربعة، وهذا مما يبين [أن قوله: (فإن
~~كان له إخوة فلأمه السدس) يتناول الاثنين والثلاثة.
# وقد صرح بذلك في] (1) قوله تعالى: () وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة
~~وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في
~~الثلث) . فقوله "كانوا" ضمير جمع، وقوله "أكثر من ذلك" أي أكثر من أخ وأخت،
~~ثم قال: "فهم شركاء في الثلث"، فذكرهم بصيغة الجمع المضمر، وهو قوله "فهم"،
~~والمظهر (2) ، وهو قوله "شركاء". ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله: "وله أخ أو
~~أخت "، فذكر حال انفراد الواحد لا حال اجتماعهما.
# فدل على أن قوله "أكثر من ذلك" أي: أكثر من أخ وأخت، وأعاد الضمير إليهم
~~بصيغة الجمع، فدل ذلك على أن صيغة الجمع في آيات الفرائض تناولت العدد
~~مطلقا: الاثنين فصاعدا؛ لقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) ، وقوله:
~~(فإن كان له إخوة فلأمه السدس) ، وقوله تعالى: (وإن كانوا ms0359 إخوة رجالا
~~ونساء) . ثم هذه الصيغة تصلح لذلك، وإن كان إنما يراد بها الثلاثة فصاعدا
~~في موضع آخر.
# وإن قيل: إن ذلك هو الأصل، فصيغة الجمع قد تختص PageV02P338
# بالتثنية، فيما (1) كان مضافا إلى مثنى وليس فيه إلا واحد منه، كقوله
~~تعالى (فقد صغت قلوبكما) (2) ، ولا يحتمل إلا قلبين (3) ، فهذا يختص
~~بالاثنين، وعدل فيه عن لفظ الاثنين إلى لفظ الجمع للخفة وعدم اللبس، فإنه
~~قد علم أن لكل واحد قلبا، فصار استعمال لفظ الجمع في الاثنين مع البيان هو
~~لغة القوم. ومنه قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) (4) ، ولم
~~يقل: "يديهما".
# فإذا كانت الصيغة تختص بالاثنين في الموضع المبين، ولم يقل أحد إنها عند
~~الإطلاق تختص بالاثنين، فكذلك تستعمل في الاثنين فصاعدا في الموضع المبين،
~~وإن كانت عند الإطلاق إنما تتناول الثلاثة فصاعدا، وليس شيء من ذلك مجازا؛
~~بل كله من الموضوع في لغتهم.
# وإنما غلط من ظن لفظ الجمع إنما وضع للثلاثة فصاعدا (5) ، أو لاثنين
~~فصاعدا. بل وضع لاثنين فصاعدا في موضع، ولثلاثة فصاعدا في موضع، ولاثنين
~~فقط في موضع، كله من موضوع العرب. والقرينة هنا من وضع العرب. PageV02P339
# وإذا كانت القرينة موضوعة كانت بمنزلة ما يقترن بالفعل من المفعول به،
~~ومعه، وله، والظرفين، والحال، والتمييز، وما يقترن باللفظ من الصفة، وعطف
~~البيان، وعطف النسق، والاستثناء، والشرط، والغاية، وغير ذلك مما يقيد
~~مطلقه، ويكون مانعا له من العموم، موجبا لاختصاصه ببعض ما يدخل فيه عند عدم
~~تلك القيود، فإن هذا كله مما وضعت العرب أجناسه، كما وضعت رفع الفاعل، ونصب
~~المفعول به، وخفض المضاف إليه.
# PageV02P340
# وأما الجدة (1) فكما قال الصديق: ليس لها في كتاب الله شيء (2) ، فإن
~~الأم المذكورة في كتاب الله مقيدة بقيود توجب اختصاص الحكم بالأم الدنيا،
~~فالجدة وإن سميت أما لم تدخل في لفظ الأم المذكورة في الفرائض، كما دخلت في
~~لفظ "الأمهات" في قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) (3) . ولكن رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس (4) ، فثبت ميراثها بسنته، ولم ينقل عن
~~النبي PageV02P341
# - صلى الله ms0360 عليه وسلم - لفظ عام في الجدات، بل ورث الجدة التي أتته، فلما
~~جاءت الثانية إلى أبي بكر رضي الله عنه جعلها شريكة الأولى في السدس (1) .
# وقد تنازع الناس في الجدات (2) :
# فقيل: لا يرث إلا اثنتان: أم الأم وأم الأب، كقول مالك وأبي ثور.
# وقيل: لا يرث إلا ثلاث، هاتان وأم الجد؟ لما روى إبراهيم النخعي أن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - ورث ثلاث جدات: جدتيك من قبل أبيك، وجدة من قبل أمك
~~(3) . وهذا مرسل حسن، فإن مراسيل إبراهيم من أحسن المراسيل. فأخذ به أحمد.
~~ولم يرد في النص إلا توريث هؤلاء.
# وقيل: بل يرث جنس الجدات المدليات بوارث؛ وهو قول PageV02P342
# الأكثرين، كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وهو وجه في مذهب أحمد. وهذا
~~القول أرجح؟ لأن لفظ النص وإن لم يرد في كل جدة فالصديق لما جاءته الثانية
~~قال لها: لم يكن السدس الذي أعطي إلا لغيرك؟ ولكن هو لكن، فأيتكن خلت به
~~فهو لها. فورث الثانية،/ [170ب] ، والنص إنما كان في غيرها.
# ولأنه لا نزاع أن من علت بالأمومة ورثت، فترث أم أم الأب، وأم أم الأم
~~بالاتفاق، فيبقى أم أبي الجد، أي فرق بينها وبين أم الجد؟ وأي فرق بين أم
~~الأب وأم الجد؟
# ومعلوم أن أبا الجد يقوم مقام الجد؟ بل هو جلى أعلى.
# وكذلك الجد كالأب؟ فأي وصف يفرق بين أم أم الجد وأم أبي الجد؟
# فبين ذلك أن أم أم الميت وأم أبيه بالنسبة إليه سواء؛ فكذلك أم أم أبيه
~~وأم أبي أبيه بالنسبة إلى أبيه سواء (1) ، وأم أبي جده وأم جد جذه بالنسبة
~~إلى جده سواء، وإذا كانت هاتان تشتركان في الميراث، ونسبة تينك إليه كنسبة
~~هاتين وجب اشتراكهما في الميراث.
# وأيضا فهؤلاء جعلوا أم أم الأم وإن زادت أمومتها ترث، وأم أبي الأب لا
~~ترث، ورجحوا الجدة من جهة الأم على الجدة من جهة الأب. وهذا ضعيف فإن جدته
~~أم أبيه إذا لم تكن مثل أم أمه، PageV02P343
# لم تكن أدنى منها، فإنها تدلي بعصبة، وبنت ms0361 الابن أولى من بنت البنت، فلم
~~تكن أم الأم أولى من أم الأب.
# ونظير هذا في الحضانة، فإنهم متنازعون: هل أم الأم أولى من أم الأب؟ على
~~قولين (1) ، هما روايتان عن أحمد.
# وأصل الحضانة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الأم على الأب (2) ،
~~لكن قدمها لكونها أنثى، فهي أحق بالتربية من الذكر، أو لكون جهة الأمومة
~~أحق من جهة الأبوة؟ فإن كان الأول لم تقدم أم الأم بل أم الأب، لأنهما
~~تشتركان في الأمومة، وامتازت تلك بأنها من نساء العصبة، والحضانة لرجال
~~العصبة دون رجال الأم، فان كانت لجهة الأم قدمت أم الأم، وهذا مخالف لأصول
~~الشرع (3) ، فإن أقارب الأم لم يقذفوا في شيء من الأحكام؛ بل أقارب الأب
~~أولى من أقارب الأم في جميع الأحكام، فكذلك في الحضانة.
# وكذلك في ميراث الجدة، أم الأب إن لم تكن أولى من أم الأم لم تكن دونها.
~~والصحيح أنها لا تسقط بابنها (4) - أي الأب- كما هو أظهر PageV02P344
# الروايتين عن أحمد؛ لحديث ابن مسعود رضي الله عنه (1) ، ولأنها وإن أدلت
~~به فهي لا ترث ميراثه؛ بل هي معه كولد الأم مع الأم، لما أدلوا بها ولم
~~يرثوا ميراثها، لم يسقطوا بها.
# وقول من قال: من أدلى بشخص سقط به، باطل طردا وعكسا، باطل طردا بولد الأم
~~مع الأم؛ وعكسا بولد الابن مع عمهم، وولد الأخ مع عمهم، وأمثال ذلك مما فيه
~~سقوط شخص بمن (2) لم يدل به. وإنما العلة أنه يرث ميراثه، فكل من ورث ميراث
~~شخص سقط به إذا كان أقرب منه، والجدات يقمن مقام الأم، فيسقطن بها وإن لم
~~يدلين بها. PageV02P345
# فصل
# وأما كون "بنات الابن مع البنت " لهن السدس تكملة الثلثين (1) ، وكذلك
~~الأخت من الأب مع أخت لأبوين (2) ؛ فلأن الله تعالى قال: (يوصيكم الله في
~~أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك)
~~(3) .
# وقد علم أن الخطاب يتناول ولد البنين دون ولد البنات،. وأن قوله
~~"أولادكم" يتناول من ينسب إلى الميت؛ وهم ولده ms0362 وولد بنيه، فإنه يتناولهم
~~على الترتيب: يدخل فيه ولد البنين عند عدم ولد الصلب؛ لما قد عرف من أن ما
~~أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر، والابن أقرب من ابن الابن، فإذا لم يكن إلا
~~بنت فلها النصف.
# وبقي من نصيب البنات السدس؛ فإذا كان هنا بنات ابن فهن استحققن الجميع
~~لولا البنت؛ فإذا أخذت النصف فالباقي لهن.
# وكذلك في الأخت من الأبوين وفي أخت من الأب، أخبر ابن مسعود رضي الله عنه
~~أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى للبنت النصف، ولبنت PageV02P346
# الابن السدس تكملة الثلثين (1) .
# وأما إذا استكمل البنات الثلثين لم يبق فرض؛ فان كان هناك عصبة من ولد
~~البنين فالباقي له؛ لأنه أولى رجل ذكر؛ وإن كان معه أو فوقه بنت عصبها عند
~~جمهور الصحابة والعلماء كالأئمة الأربعة وغيرهم (2) . وأما ابن مسعود رضي
~~الله عنه فإنه يسقطها (3) ؛ لأنها لا ترث مفردة، فلا ترث مع أخيها
~~كالمحجوبة برق أو كفر.
# والجمهور يقولون: هي وارثة في الجملة، وهي ممن تكون عصبة بأخيها، وهنا
~~إنما سقط (4) ميراثها بالفرض لاستكمال الثلثين، وإذا سقط الفرض لم يلزم
~~سقوط التعصيب مع قيام موجبه، وهو وجود أخيها، وإذا كان وجود الأخ يجعلها
~~عصبة فيحرمها وإن ورثت بالفرض، كما في الأخ المشئوم،/ [171أ] ، فكذلك يجب
~~أن يجعلها عصبة فيورثها (5) إذا لم ترث بالفرض. والنزاع في الأخت للأب مع
~~أخيها (6) إذا استكملت الأخوات PageV02P347
# للأبوين الثلثين، كالنزاع في بنت الابن مع أخيها (1) إذا استكمل البنات
~~الثلثين. فالجمهور يجعلون البنات عصبة مع إخوتهن، يقتسمون النصف الباقي
~~للذكر مثل حظ الأنثيين، سواء زاد ميراثهن بالتعصيب أو نقص، وتوريثهن هنا
~~أقوى، وقول ابن مسعود معروف في نقصانهن (2) . PageV02P348
# فصل
# فيمن عمي موتهم فلم يعرف أيهم مات أولا، فالنزاع مشهور فيهم (1) .
~~والأشبه بأصول الشريعة أن لا يرث بعضهم من بعض، بل يرث كل واحد ورثته
~~الأحياء، وهو قول الجمهور، وقول في مذهب أحمد؛ لكنه خلاف المشهور في مذهبه.
# وذلك لأن المجهول كالمعدوم في الأصول، بدليل الملتقط، لما جهل حال المالك
~~كان المجهول كالمعدوم ms0363، فصار مالكا لما التقطه؛ لعدم العلم بالمالك.
# وكذلك "المفقود" (2) ، قد أخذ أحمد فيه بأقوال الصحابة الذين جعلوا
~~المجهول كالمعدوم، فجعلوها (3) زوجة الثاني مادام الأول مجهولا باطنا
~~وظاهرا، كما في اللقطة، فإذا علم صار (4) النكاح PageV02P349
# موقوفا، لأنه فرق بينه وبين امرأته بغير إذنه، لكن تفريقا جائزا، فصار
~~(1) ذلك موقوفا على إجازته ورده، فيخير بين امرأته والمهر. فإن اختار
~~امرأته كانت زوجته، وبطل نكاح الثاني بنفس ظهور هذا واختياره امرأته، ولم
~~يحتج إلى طلاقه. وإن لم يخترها بقيت زوجة الثاني، وكان للأول المطالبة
~~بالمهر الذي هو عوض خروج بضعها من ملكه بغير أمره، ولم يحتج ذلك إلى إنشاء
~~نكاح الثاني.
# فلها ثلاثة أحوال:
# حال الجهل بالأول، فهي زوجة الثاني باطنا وظاهرا.
# وحال انقضاء نكاحه واختياره المهر، فصارت أيضا زوجة الثاني باطنا وظاهرا.
# وحال اختيار الأول لها، فتعود زوجته باطنا وظاهرا.
# وحال ظهوره قبل اختياره، فالأمر موقوف كالنكاح الموقوف.
# والمقصود هنا أن أحمد اتبع الصحابة الذين جعلوا المجهول كالمعدوم، وهنا
~~(2) إذا كان أحدهما قد مات قبل الآخر فذاك مجهول، والمجهول كالمعدوم، فيكون
~~(3) تقدم أحدهما على الآخر معدوما، فلا يرث أحدهما من صاحبه. PageV02P350
# وأيضا فالميراث جعل للحي ليكون خليفة للميت ينتفع بماله، فإذا ماتا على
~~هذه الحال لم يكن انتفاع أحدهما بمال الآخر أولى من العكس، وجعل كل منهما
~~وارثا موروثا مناقض لمقصود الإرث، فإن كونه وارثا يوجب أن يكون حيا يخلف
~~غيره، وكونه موروثا يوجب أن يكون ميتا مخلوفا، فكيف يحكم بحكمين متناقضين
~~في حال واحد؟
# وكما أنهم لم يورثوه إلا من التلاد دون ما ورثه لئلا يلزم الدور؛ فيجب أن
~~لا يورثوه مطلقا لئلا يلزم الدور في نفس المورث (1) لا في عين الموروث.
# وأما إذا عاش أحدهما بعد الآخر، ولو لحظة، فإنه بمنزلة الطفل إذا استهل
~~ثم مات، فثبت له حكم الحياة المعلومة، فاستحق الإرث، بخلاف من لا تعلم
~~حياته بعد الآخر، فإن شرط الإرث- وهو العلم بحياته بعده- منتف، فلا يجوز
~~توريثه منه.
# وهذا يستفاد من جعل الله هذا وارثا، والوارث ms0364 لا يكون إلا من عاش بعد
~~الموروث، وهذا غير معلوم، فلا يثبت الإرث، فإن الجهل بالشرط بمنزلة عدمه،
~~كما قلنا [في] (2) الربويات: الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، فالجهل
~~بالتقدم كالعلم بعدم التقدم.
# والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
# *** PageV02P351
# الفهارس
### $ 1- فهرس المصادر والمراجع
### | 2-
# فهرس موضوعات "فتوى في الغوث والقطب والأبدال والأوتاد"
### | 3-
# فهرس موضوعات "قاعدة في الاستحسان"
### | 4-
# فهرس موضوعات "قاعدة في شمول النصوص للإحكام"
# PageV02P353
### | فهرس المصادر والمراجع
# - الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز، لأحمد بن مبارك السجلماسي، المطبعة
~~الأزهرية، القاهرة، 1306.
# - إبطال الاستحسان، للشافعي (ضمن كتاب الأم 7/267- 277) .
# - ابن الفارض والحب الإلهي، لمحمد مصطفى حلمي، ط. القاهرة، 1945 م.
# - إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، لمحمد مرتضى
~~الزبيدي البلكرامي، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1311.
# - إجابة الغوث ببيان حال النقباء والنجباء والأبدال والأوتاد والغوث،
~~لابن عابدين، (ضمن مجموعة رسائله) ط. الآستانة، 1325.
# - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم، تحقيق:
~~فواز أحمد زمرلي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1408.
# - الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1356.
# - الأحكام في أصول الأحكام، للامدي، ط. الرياض 1387.
# - الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، بيروت
~~1400.
# - إحكام الفصول في أحكام الأصول، للباجي، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت
~~1407.
# - أحكام القرآن، لأبي بكر ابن العربي، تحقيق علي محمد البجاوي، القاهرة
~~1392.
# - أحكام القرآن للشافعي، جمع ورواية: البيهقي، تحقيق عبد الغني عبد
~~الخالق،
# القاهرة 1371.
# - أخبار القضاة، لوكيع، بيروت: عالم الكتب، د. ت.
# - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، بيروت 1399.
# - الاستحسان بين المثبتين والنافين، للأستاذ حمزة زهير حافظ، رسالة
~~ماجستير قدمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، دون
~~تاريخ.
# - الاستذكار، لابن عبد البر، ط. عبد المعطي قلعجي، القاهرة.
# PageV02P355
# - الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي،
~~"القاهرة" 1380.
# - أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، دار الشعب، القاهرة، 1964
~~م.
# - الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لملأ علي القاري، تحقيق: محمد
~~الصباغ، دار الأمانة، بيروت، 1391.
# - أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لابن رشيق (ضمن ms0365 "الجامع لسيرة شيخ
~~الإسلام ابن تيمية") جمع: محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران، دار عالم
~~الفوائد، مكة المكرمة 1420.
# - الإسماعيلية: تاريخ وعقائد، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة،
~~لاهور 1406.
# - الأشراف على مذاهب أهل العلم، لابن المنذر، تحقيق: محمد غريب سراج
~~الدين، قطر 1414.
# - الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر، ط. القاهرة، 1358.
# - اصطلاحات الشيخ محيي الدين ابن عربي، (طبع ملحقا بكتاب "التعريفات"
~~للجرجاني) تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م.
# - اصطلاحات الصوفية، لعبد الرزاق القاشاني، تحقيق: سبرنجر، كلكتا (الهند)
~~1854 م.
# - الأنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف، للأمير
~~الصنعاني، تحقيق: عبد الرزاق البدر، ط. المدينة المنورة، 1421.
# - الأصل، لمحمد بن الحسن، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، حيدر آباد 1386.
# - أصول الجصاص، [الجزء المتعلق بأبواب الاجتهاد والقياس] ، تحقيق: سعيد
~~الله القاضي، لاهور 1981 م.
# - أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، القاهرة 1372.
# - أصول الفقه وابن تيمية، للدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور، القاهرة
~~1405.
# - أصول مذهب الأمام أحمد، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، الرياض
~~1397.
# - الاعتصام، للشاطبي، القاهرة: المكتبة التجارية.
# - الأعلام، للزركلي، الطبعة الخامسة، بيروت 1980 م.
# - إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد
~~الحميد، القاهرة 1374.
# PageV02P356
# - أعيان العصر وأعوان النضر، للصفدي، الجزء1، نسخة عاطف أفندي برقم 1809.
# - الأم، للشافعي، القاهرة: دار الشعب 1388.
# - الأموال، لأبي عبيد، تحقيق: محمد خليل هراس، القاهرة 1396.
# - أنساب الأشر اف، للبلاذري، بيروت: دار الفكر 1417.
# - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، تحقيق: محمد حامد الفقي،
~~القاهرة 1375.
# - الأولياء، لابن أبي الدنيا، ط. مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1413.
# - إيضاح المكنون في الذيل على كلشف الظنون، لإسماعيل باشا البغدادي، ط.
~~إستانبول.
# - الإيمان، لشيخ الاسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) .
# - الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد محمد شاكر، ط. مكتبة
~~المعارف، الرياض، 1417.
# - البحر المحيط، لأبي حيان الأندلسي، ط. مطبعة السعادة، القاهرة 1328-
~~1329.
# - البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشى، ط. الكويت 1413.
# - بدائع الصنائع، للكاساني، ط. القاهرة: مطبعة الإمام.
# - بدائع الفوائد، لابن القيم، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية.
# - بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، ط. دار الفكر، بيروت.
# - البداية ms0366 والنهاية، لابن كثير، ط. القاهرة 1358، وتحقيق: عبد الله بن
~~عبد المحسن التركي، مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر،
~~1417.
# - البرهان في أصول الفقه، للجويني، تحقيق: عبد العظيم الديب، الدوحة
~~1399.
# - البناية في شرح الهداية، للعيني، ط. بيروت: دار الفكر 1400.
# - تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد مرتضى الزبيدي البلكرامى، ط.
~~المطبعة الخيرية، القاهرة، 1306- 1307.
# - تاريخ ابن قاضي شهبة، تحقيق: عدنان درويش، دمشق 1994 م.
# - تاريخ الأمم والملوك، للطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة:
~~دار المعارف.
# PageV02P357
# - تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ط. القاهرة، 1349.
# - تاريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، ط. دار الفكر، بيروت, 1415.
# - التبصرة في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: محمد حسن هيتو،
~~دمشق 1400.
# - تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، للحافظ ابن حجر، تحقيق: محمد علي النجار
~~وعلي محمد البجاوي، القاهرة: وزارة الثقافة.
# - تتمة المختصر في تاريخ البشر، لابن الوردي، بيروت: دار المعرفة 1389.
# - التحرير مع شرحه التيسير، لابن الهمام، القاهرة 1350.
# - تخريج أحاديث فضائل الشام ودمثق، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب
~~الأسلامي، بيروت، 1403.
# - تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، لابن جماعة، ط. حيدر
~~آباد.
# - تذكرة الموضوعات، لمحمد بن طاهر الفتني، إدارة الطباعة المنيرية،
~~القاهرة، 1343.
# - الترغيب والترهيب، للمنذري، ط. المطبعة المنيرية، القاهرة.
# - التصوف: المنشأ والمصادر، لإحسان إلهي ظهير، إدارة ترجمان السنة،
~~لاهور، 1406.
# - التعريفات، للشريف الجرجاني، تحقيق: فلوجل، ط. ليبزيج، 1845 م.
# - التعقبات على الموضوعات، للسيوطي، ط. المطبع العلوي، لكنو، 1303.
# - تفسير آيات أشكلت على كثير من العلماء، لابن تيمية، تحقيق: عبد العزيز
~~بن محمد الخليفة، الرياض 1417.
# - تفسير ابن أبي حاتم، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة- الرياض 1417
# - تفسير الطبري (= جامع البيان في تفسير القرآن) ، ط. مصطفى البابي
~~الحلبي، القاهرة، 1373. وتحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة،
~~1961- 1970 م.
# - تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط. دار طيبة، الرياض، 1418.
# - تقويم الأدلة، لأبي زيد الدبوسي، نسخة مكتبة لاله لي برقم 690.
# - التلخيص في أصوات الفقه، للجويني، تحقيق: عبد الله جولم وشبير أحمد
~~العمري، بيروت 1417.
# PageV02P358
# - تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، للحافظ ابن حجر، القاهرة
~~1964.
# - تلخيص الموضوعات، للذهبي، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، دار الفرقان،
~~الرياض، 1419.
# - التمهيد ms0367 في أصول الفقه، للكلوذاني، ج 4، تحقيق: محمد بن علي بن
~~إبراهيم، مكة المكرمة 1406.
# - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عراق، مكتبة
~~القاهرة، القاهرة، 1378.
# - تهذيب الأسماء واللغات، للنووي، ط. القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية.
# - التوقيف على مهمات التعاريف، لعبد الرءوف المناوي، ط. عالم الكتب،
~~الماهرة، 1410.
# - تيسير العزيز الحميد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب،
~~ط. المكتب الإسلامي، بيروت، 1397.
# - جامع الأصول في الأولياء، لأحمد ضياء الدين الكمشخانلي، ط. القاهرة،
~~1328.
# - جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر، ط. إدارة الطباعة المنيرية،
~~القاهرة، 1346.
# - جامع الترمذي، تحقيق: أحمد محمد شاكر وآخرين، ط. البابي الحلبي،
~~القاهرة، 1356- 1382.
# - الجامع الصحيح، للبخاري (بشرحه"فتح الباري") ، المكتبة السلفية،
~~القاهرة، 1380.
# - الجامع الصغير في حديث البشير النذير، للسيوطي، (بشرحه "فيض القدير") .
# - الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب، القاهرة، 1360.
# - الجامع لشعب الإيمان، للبيهقي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
# - جامع المسانيد والسنن، لابن كثير، ط. دار الفكر، بيروت، 1415.
# - جواهر المعاني في فيض أبي العباس التجاني، لعلي حرازم برادة، مطبعة
~~الحلبي، القاهرة، 1963م.
# - حاشية ابن عابدين على الدر المختار= رد المحتار على الدر المختار،
~~القاهرة: بولاق 1272.
# - الحاوي الكبير، للماوردي، بيروت: دار الكتب العلمية 1414.
# - حلية الأبدال، لابن عربي، ط. مطبعة الفيحاء، دمشق، 1929 م.
# PageV02P359
# - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط. مكتبة الخانجي
~~ومطبعة السعادة، القاهرة، 1932- 1938 م.
# - حلية العلماء، للشاشي، تحقيق: ياسين أحمد إبراهيم، بيروت 1400.
# - الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال (ضمن "الحاوي
~~للفتاوي" 2/241- 255) ، للسيوطي، ط. إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة،
~~1353.
# - ختم الأولياء، للحكيم الترمذي، تحقيق: عثمان إسماعيل يحيى، ط. المطبعة
~~الكاثوليكية، بيروت، 1965 م.
# - الخراج، لأبي يوسف، تصحيح: محب الدين الخطيب، القاهرة 1352.
# - دائرة المعارف الإسلامية (بالإنجليزية) الطبعة الجديدة، بريل، ليدن.
# - درء تعارض العقل والنقل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد رشاد
~~سالم، ط. جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1399.
# - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لابن حجر، دائرة المعارف
~~العثمانية، حيدر اباد (الهند) ، 1348- 1350.
# - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي، ط. دار الفكر، بيروت،
~~1403.
# - ذكر أخبار أصبهان، لأبي نعيم الأصبهاني ms0368، ط. ليدن، 1931- 1934 م.
# - ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1372.
# - ذيل القول المسدد في الذب عن المسند للأمام أحمد، لمحمد صبغة الله
~~المدراسي، ط. حيدر آباد، 1400.
# - ذيل مشتبه النسبة، لمحمد بن رافع السلامي، تحقيق: صلاح الدين المنجد،
~~بيروت 1976.
# - الرسالة للشافعي، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1358.
# - رسالة في معنى القياس، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ضمن مجموع الفتاوى) .
# - رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، للسبكي، نسخة دار الكتب المصرية
~~بالقاهرة.
# - رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم، لعمر بن سعيد الفوتي، مطبعة
~~الحلبي، القاهرة، 1963 م.
# - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للالوسي، إدارة
~~الطباعة
# PageV02P360
# المنيرية، القاهرة، 1345.
# - روض الرياحين في حكايات الصالحين، لليافعي، ط. القاهرة، 1286.
# - روضة التعريف بالحب الشريف، للسان الدين ابن الخطيب، تحقيق: عبد القادر
~~أحمد عطا، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968 م.
# - روضة الطالبين، للنووي، بيروت 1388.
# - روضة الناظر بشرحه نزهة الخاطر العاطر، لابن قدامة، القاهرة 1342.
# - سراج المريدين، لأبي بكر ابن العربي (مخطوط) نسخة دار الكتب المصرية
~~برقم [20348 ت] .
# - سلسلة الأحاديث الصحيحة (1- 6) ، لمحمد ناصر الدين الألباني، ط. مكتبة
~~المعارف، الرياض.
# - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (1- 5) ، لمحمد ناصر الدين الألباني،
~~ط. المكتب الاسلامي، بيروت؛ ومكتبة المعارف، الرياض.
# - سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1372.
# - سنن أبي داود، تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة، 1371.
# - سنن الدارقطني مع التعليق المغني للعظيم آبادي، القاهرة 1386.
# - سنن الدارمي، ط. شركة الطباعة الفنية، القاهرة.
# - السنن الكبرى، للبيهقي، ط. حيدر آباد (الهند) ، 1344- 1355.
# - السنن الكبرى، للنسائي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
# - سنن النسائي (= المجتبى) ، المطبعة المصرية، القاهرة، 1348.
# - السنن والآثار، لسعيد بن منصور، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الدار
~~السلفية، بومبي.
# - السنة، لعبد الله بن أحمد، ط. المطبعة السلفية، مكة المكرمة، 1349.
# - سير أعلام النبلاء، للذهبي، تحقيق: مجموعة من المحققين، بيروت: مؤسسة
~~الرسالة.
# - السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مكتبة النهضة
~~المصرية، القاهرة، 1355. وط. همام عبد الرحيم سعيد، عمان 1409.
# PageV02P361
# - السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني، لمحمد المكي بن
~~مصطفى بن عزوز، ط. تونس ms0369، 1310.
# - سيف الله على من كذب على أولياء الله، لصنع الله الحلبي الحنفي، ط. دار
~~الوطن، الرياض، 1420.
# - شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال، للعز بن عبد السلام،
~~تحقيق: إياد خالد الطباع، دار الطباع، دمشق، 1410.
# - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، تحقيق: أحمد سعد حمدان،
~~ط. دار طيبة، الرياض، 1409.
# - شرح تنقيح الفصول، للقرافي، القاهرة 1393.
# - شرح الخرشي على مختصر خليل، بيروت: دار صادر، د. ت.
# - شرح صحيح مسلم، للنووي، ط. القاهرة 1349.
# - الشرح الكبير على المقنع، لشمس الدين ابن قدامة، بيروت 1392.
# - شرح الكوكب المنير، للفتوحي، تحقيق: محمد الزحيلي ونزيه حماد، مكة
~~المكرمة 1408.
# - شرح اللمع في أصول الفقه، لأبي إسحاق الشيرازي، تحقيق: عبد المجيد
~~تركي، بيروت 1408.
# - شرح مختصر الروضة، للطوفي، تحقيق: الدكتور عبد الله بن عبد المحسن
~~التركي، بيروت 1407.
# - شرح مسلم الثبوت= فواتح الرحموت، لبحر العلوم اللكنوي، القاهرة: بو لاق
~~1324.
# - شرح معاني الآثار، للطحاوي، القاهرة 1968- 1969 م.
# - شرح مقدمة التائية الكبرى، لداود القيصري، (مخطوط) نسخة أياصوفيا برقم
~~[1898] .
# - شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، بيروت: عالم الكتب.
# - شرح المواهب اللدنية، للزرقاني، ط. بولاق، 1291.
# - شرح أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، تحقيق: محمد سعيد خطيب أوغلي، ط.
~~أنقرة، 1971 م.
# - الشريعة، للاجري، تحقيق: محمد حامد الفقي، ط. مطبعة السنة المحمدية،
# PageV02P362
# القاهرة، 1369.
# - شفاء السائل لتهذيب المسائل، لابن خلدون، تحقيق: محمد بن تاويت الطنجي،
~~إستانبول، 1958 م.
# - شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور، لمرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق:
~~جمال بن حبيب صلاح، ط. الرياض، 1418.
# - صحيح ابن حبان (بترتيبه "الإحسان" لابن بلبان الفارسي) ، تحقيق: شعيب
~~الأرناووط، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت.
# - صحيح ابن خزيمة، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، بيروت 1400.
# - صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، 1375.
# - الصلة بين التصوف والتشيع، لكامل مصطفى الشيبي، ط. القاهرة، 1969 م.
# - ضحى الإسلام، لأحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1936
~~م.
# - طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، القاهرة 1371.
# - الطبقات الكبرى، لابن سعد، بيروت: دار صادر 1385.
# - الطبقات الكبرى (= لواقح الأنوار في طبقات الأخيار) ، لعبد الوهاب
~~الشعراني، ط. المطبعة الشرفية، القاهرة، 1315.
# - طرح التثريب بشرح التقريب، للعراقي وابنه، ط. القاهرة 1353.
# - العدة ms0370 في أصول الفقه، لأبي يعلى، تحقيق: أحمد بن علي سير المباركي،
~~الرياض 1410.
# - العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، لابن عبد الهادي،
~~القاهرة 1356.
# - غاية الأماني في الرد على النبهاني، لمحمود شكري الالوسي، ط. لاهور،
~~1403.
# - فتاوى ابن الصلاح، تحقيق: عبد المعطي قلعجي، دار الوعي، حلب، 1403.
# - الفتاوى الحديثية، لابن حجر الهيتمي، ط. مصطفى البابي الحلبي، القاهرة،
~~1970 م.
# - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للحافظ ابن حجر، القاهرة 1380.
# - فتح الرحيم الرحمن في شرح نصيحة الأخوان، للحلبي، ط. القاهرة، 1312.
# - فتح القدير للعاجز الفقير، لابن الهمام، القاهرة 1315.
# PageV02P363
# - الفتوح، لابن أعثم، بيروت: دار الكتب العلمية.
# - الفتوحات المكية، لابن عربي، تحقيق: عثمان يحيى، ط. الهيئة المصرية
~~العامة للكتاب، القاهرة، 1972 م.
# - فتوى فيمن يدعى أن ثم غوثا وأقطابا، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (مخطوطة)
~~نسخة جامعة برنستون، برقم [5542] .
# - فردوس الأخبار، للديلمي، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، 1407.
# - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية،
~~(ضمن "مجموع الفتاوى") .
# - الفصول في الأصول، للجصاص الرازي، نسخة دار الكتب بالقاهرة.
# - فضائل الشام ودمشق، للربعي، تحقيق: صلاح الدين المنجد، المجمع العلمي
~~العربي، دمشق، 1950 م.
# - الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 1400.
# - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، للشوكاني، تحقيق: عبد الرحمن
~~بن يحى المعلمي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1380.
# - فوات الوفيات، لابن شاكر الكتبي، الجزء الأول، تحقيق إحسان عباس، بيروت
~~1973 م.
# - فيض القدير شرح الجامع الصغير، لعبد الرءوف المناوي، مطبعة مصطفى محمد،
~~القاهرة، 1356- 1357.
# - فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن قل عن الصواب، لعبد ربه بن سليمان
~~القليوبي، ط. القاهرة، 1964 م.
# - قاعدة في الاستحسان، لشيخ الإسلام ابن تيمية، قرأها وعلق عليها: محمد
~~عزير شمس، دار عالم الفوائد، مكة المكرمة، 1419.
# - قوت القلوب في معاملة المحبوب، لأبي طالب المكي، ط. المطبعة الميمنية،
~~القاهرة، 1310.
# - القول الدال على حياة الخضر ووجود الأبدال، لنوح أفندي بن مصطفى
~~الرومي، (مخطوط) ، نسخة دار الكتب المصرية برقم [تصوف249] .
# PageV02P364
# - القياس في الشرع الإسلامي، لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، القاهرة
~~1346.
# - الكامل في التاريخ، لابن الأثير، القاهرة: إدارة الطباعة المنيرية ms0371.
# - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي، ط. دار الفكر، بيروت.
# - كرامات الأولياء، لأبي محمد الخلال، (مخطوط) نسخة دار الكتب الظاهرية،
~~[حديث 248] .
# - كشاف اصطلاحات الفنون، لمحمد أعلى التهانوي، ط. كللكتا (الهند) ، 1862
~~م.
# - كشاف القناع عن متن الاقناع، للبهوتي، القاهرة 1366.
# - كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعبد العزيز البخاري، استانبول 1308.
# - كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس،
# لإسماعيل العجلوني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1401.
# - كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة، ط. إستانبول 1941م.
# - كشف المحجوب، لعلي بن عثمان الهجويري، دار النهضة، بيروت، 1980 م.
# - كشف الوجوه النز لمعاني نظم الدر، للقاشاني، ط. القاهرة، 1319- 1320.
# - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، لعلي المتقي البرهانفوري، ط. حلب،
~~1390.
# - اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي، المطبعة التجارية
~~الكبرى، القاهرة، 1963 م.
# - لسان الميزان، لابن جحر، ط. دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد، 1329-
~~1331.
# - المبسوط، للسرخسي، ط. دار المعرفة، بيروت.
# - مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/371/1953- 395.
# - مجلة "المسلم" (القاهرة) .
# - مجلة "المنار" (القاهرة) .
# - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيثمي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1932-
~~1934 م.
# - المجموع شرح المهذب، للنووي، القاهرة: إدارة الطباعة المنبرية، د. ت.
# - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع: الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن
# PageV02P365
# قاسم وابنه محمد، ط. الرياض، 1381- 1386.
# - مجموعة الرسائل [الصغرى] ، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. القاهرة، 1323.
# - مجموعة الرسائل الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، القاهرة 1323.
# - مجموعة الرسائل والمسائل، لشيخ الإسلام ابن تيمية، تصحيح: السيد محمد
~~رشيد رضا، ط. مطبعة المنار، القاهرة، 1349.
# - مجموعة الفتاوى الكبرى، لابن تيمية، القاهرة 1329.
# - المحصول في أصول الفقه، للرازي، تحقيق: طه جابر العلواني، الرياض 1399.
# - المحلى، لابن حزم، تحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة 1347- 1352.
# - مختصر ابن الحاجب بشرح العضد، القاهرة: بولاق 1316.
# - مختصر اختلاف العلماء، للجصاص، تحقيق: عبد الله نذير أحمد، بيروت 1416.
# - مختصر الخرقي، ط. دمشق 1402.
# - مختصر العلو للذهبي، اختصار محمد ناصر الدين الألباني، المكتب
~~الإسلامي، بيروت، 1401.
# - مختصر الفتاوى المصرية، للبعلي، ط. مطبعة السنة المحمدية، القاهرة،
~~1949 م.
# - مختصر القدوري، ط. القاهرة 1377.
# - مختصر المزني بهامش كتاب الأم، القاهرة: دار الشعب 1388.
# - المختصر في أصول الفقه، لابن اللحام، تحقيق: محمد ms0372 مظهر بقا، مكة
~~المكرمة، 1400.
# - المدونة، رواية سحنون، القاهرة: مطبعة السعادة.
# - مرآة الأصول، لمنلا خسرو، استانبول 1272.
# - مرقاة المفاتح لمشكاة المصابح، لملا علي القاري، المطبعة الميمنية،
~~القاهرة، 1309.
# - مسائل الأمام أحمد، رواية أبي داود، ط. بيروت: محمد أمين دمج، د. ت.
# - مسائل الأمام أحمد، رواية صالح، تحقيق: فضل الرحمن دين محمد، دلهي
~~1408.
# - المستدرك على الصحيحين، للحاكم، ط. حيدر اباد (الهند) ، 1334.
# PageV02P366
# - المستصفى، للغزالي، ط. القاهرة: بولاق 1322.
# - المسند، للأمام أحمد بن حنبل، ط. المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313.
# وتحقيق: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، 1367.
# - مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، -
~~مسند الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط. الهند، 1381.
# - المسودة في أصول الفقه، لآل تيمية، تحقيق: محمد محصي الدين عبد الحميد
~~القاهرة 1384.
# - مشتبه النسبة، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، القاهرة 1962 م.
# - مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني، لمحمد خضر الشنقيطي،
~~دار البشائر، عمان، 1405.
# - مشكاة المصابح، للتبريزي، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب
~~الإسلامي، بيروت.
# - المصباح المنير، للفيومي، القاهرة: بو لاق 1323.
# - مصنف ابن أبي شيبة، ط. الدار السلفية، بومبي 1399.
# - المصنف، لعبد الرزاق الصنعاني، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب
~~الإسلامي، بيروت، 1392.
# - المعتمد في أصول الفقه، لأبي الحسين البصري، تحقيق: محمد حميد الله،
~~دمشق 1385.
# - معجم البلدان، لياقوت الحموي، بيروت: دار صادر.
# - المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، ط. وزارة
~~الأوقات، بغداد، 1398.
# - المعدن العدني في فضل أويس القرني، تحقبق: إبراهيم الحازمي، ط. الرياض،
~~1411.
# - المعدول به عن القياس: حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية
~~منه، للدكتور عمر بن عبد العزيز، المدينة المنورة 1408.
# - المغني، لابن قدامة، ط. القاهرة 1367. وتحقيق التركي والحلو، القاهرة
~~1413.
# PageV02P367
# - المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة،
~~للسخاوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1375.
# - مقدمة ابن خلدون، ط. المطبعة الأدبية، بيروت، 1900 م.
# - المقدمة في الأصول، لابن القصار، تحقيق: محمد السليماني، بيروت 1996 م.
# - ملخص إبطال الرأي والقياس والاستحسان، لابن حزم، تحقيق: سعيد الأفغاني،
~~دمشق 1389.
# - الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، ط. البابي الحلبي،
~~القاهرة 1381.
# - المنار المنيف في الصحيح والضعيف، لابن ms0373 القيم، تحقيق: عبد الفتاح أبي
~~غدة، ط. مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1414.
# - منازل القطب، لابن عربي (ضمن "رسائل ابن عربي") ، ط. حيدر اباد، 1361-
~~1367.
# - منتخب كنز العمال، لعلي المتقي البرهانفوري، بهامش "مسند أحمد"، ط.
~~المطبعة الميمنية، القاهرة، 1313.
# - المنتظم، لابن الجوزي، بيروت: دار الكتب العلمية.
# - المنتقى للباجي، القاهرة: مطبعة السعادة 1332.
# - منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، لشيخ الإسلام ابن
~~تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،
~~الرياض، 1406. وط. بولاق 1320- 1322.
# - موارد الظمآن بزوائد ابن حبان، للهيثمي، ط. المطبعة السلفية، القاهرة،
~~د. ت.
# - الموافقات، للشاطبي، القاهرة 1341.
# - المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، للقسطلاني، ط. القاهرة، 1326.
# - الموسوعة في أحاديث المهدي الضعيفة والموضوعة، لعبد العليم البستوي، ط.
~~المكتبة المكية، مكة المكرمة، 1420.
# - الموضوعات، لابن الجوزي، ط. المكتبة السلفية، المدينة المنورة، 1965-
~~1968 م.
# - موطأ مالك، رواية يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي،
# PageV02P368
# القاهرة 1370.
# - ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، تحقيق: علي محمد البجاوي، ط.
~~عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1963- 1964 م.
# - الناسخ والمنسوخ، لأبي عبيد، تحقيق: محمد بن صالح المديفر، الرياض
~~1418.
# - الناسخ والمنسوخ، للنحاس، القاهرة 1938 م.
# - نشر المحاسن الغالية (أو: كفاية المعتقد) ، لليافعي، تحقيق: إبراهيم
~~عطوة عوض، ط. الحلبي، القاهرة، 1410.
# - نص النصوص، لحيدر بن علي العلوي الآملي،) مخطوط! نسخة مكتبة مجلس الأمة
~~بطهران، [ملحق رقم 19] .
# - النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية، لحسن العدوي الحمزاوي، ط.
~~بولاق، القاهرة، 1297.
# - نوادر الأصول، للحكيم الترمذي، ط. إستانبول، 1293.
# - هدية العارفين بأسماء المؤلفين وآثار المصنفين، لإسماعيل باشا
~~البغدادي، ط. إستانبول 1951 م.
# - الواضح في أصول الفقه، لابن عقيل، ج 1، نسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق،
~~برقم 2872 عام. وتحقيق عبد الله التركي، ط. مؤسسة الرسالة، بيروت 1420.
# - الوافي بالوفيات، للصفدي، الجزء7، تحقيق: إحسان عباس، بيروت 1982.
# - الوصول إلى الأصول، لابن برهان، تحقيق: عبد الحميد علي أبو زنيد،
~~الرياض 1404.
# - اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشعراني،
~~المطبعة الحجازية، القاهرة، 1352.
# ***
# PageV02P369
# مقدمة
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين.
# أما بعد، فهذه مجموعة ثالثة من "جامع المسائل" تحوي 28 رسالة وفتوى ms0374 لشيخ
~~الإسلام ابن تيمية، مما لم ينشر ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) . وقد
~~قمت باستخلاصها من مجاميع خطية مختلفة سيأتي وصفها، ووجدت بعضها ضمن مجاميع
~~مطبوعة ولم أعرف أصولها الخطية. فأحببت أن أضمها إلى المجموعة لتكون في
~~متناول القراء والباحثين، وتستدرك على "مجموع الفتاوى".
# وهذه المجموعة مثل المجموعتين السابقتين تحتوي على رسائل وفتاوى في
~~موضوعات مختلفة، وفي أثنائها مباحث وفوائد لا توجد في مؤلفات أخرى للشيخ،
~~فهو يستطرد أحيانا إلى تفسير الآيات وتحرير الأقوال الواردة فيها وترجيح
~~بعضها على بعض، ويتوسع في الكلام على مفردات اللغة وقواعدها، وتضعيف آراء
~~بعض اللغويين والنحاة، كما فعل -مثلا- في حديثه عن حرف "لو" (في الرسالة
~~التاسعة عشرة) والكلام على كلمة "الأسباط" (في الرسالة السادسة عشرة) . وفي
~~بعضها مناقشة للمتكلمين والفلاسفة ورد على شبههم واعتراضاتهم (انظر رقمي 6،
~~7) ، ودعوة للشيعة وزوار القبور إلى مذهب أهل السنة والجماعة وبيان ما كان
~~عليه السلف الصالح (رقم3) ، وغير ذلك من الفوائد والتحقيقات التي تميزت بها
~~مؤلفات
# PageV03P005
# الشيخ وكتاباته، ولا تظهر إلا لمن قرأها وتأمل فيها واستخرج ما فيها من
~~كنوز.
# وأكثر رسائل هذه المجموعة لم يرد ذكرها بهذه العناوين في المصادر
~~القديمة، لكثرة ما كتب الشيخ وأفتى، فلم يقدر أحد من تلاميذه والمترجمين له
~~على إحصاء مؤلفاته، وقد ذكرت في مقدمة المجموعة الأولى (ص10-11) بعض النصوص
~~التي تدل على صعوبة حصر كتبه ورسائله وفتاواه. ومن الكتب التي ورد ذكرها
~~عند القدماء: "مؤاخذة على ابن حزم في الإجماع" (رقم20) ، فقد ذكره كل من
~~الصفدي وابن شاكر (1) . وذكر ابن عبد الهادي (2) أن الشيخ شرح ما روي عن
~~عمر رضي الله عنه أنه قال: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" وتكلم
~~على "لو". وهي الرسالة رقم (19) من هذه المجموعة. وهناك رسائل أخرى نجد لها
~~عناوين مشابهة في المصادر، ولكنا لا نستطيع أن نجزم بأنها هي أو غيرها، ومن
~~أمثلتها: "قاعدة في التسبيح والتحميد والتهليل" التي ذكرها ابن رشيق (3) ،
~~هل هي "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل ms0375 بالتكبير
~~والتسبيح بالتحميد" (برقم15) ؟ وذكر ابن رشيق أيضا (4) أنه رأى كلام الشيخ
~~على قوله (الم (1) أيحسب الناس) هو من سورة العنكبوت، فهل هو الموجود هنا
~~بعنوان "تفسير أول العنكبوت"؟ لا نستطيع أن نجزم بذلك، فإن الشيخ كان يكتب
~~في موضوع واحد رسائل عديدة، PageV03P006
# ويفسر الآية في مناسبات مختلفة.
# ومهما يكن من أمر فإن الرسائل والمسائل الموجودة في هذه المجموعة ثابتة
~~النسبة إلى الشيخ بالمعايير التي تحدثت عنها في مقدمة المجموعة الأولى
~~(ص11- 12) ، والتي يجب أن تفحص في ضوئها الكتب والرسائل التي تنسب إلى
~~الشيخ، ولا يثبت شيء منها له إلا بعد التأكد من صحة نسبته إليه.
# وقد أخطأ كثير من الباحثين والمفهرسين في نسبة بعض المخطوطات والمطبوعات
~~إلى الشيخ، وعندي أمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لذكرها في هذه المقدمة،
~~وإنما أقتصر على ذكر مثال طريف منها، وأبين كيف وقع المفهرس في الوهم. وجدت
~~في فهرس مخطوطات مكتبة جامعة علي كره بالهند (2/129) ذكر كتاب "عمل اليوم
~~والليلة" ونسبته إلى الشيخ، وهو برقم [H.G. 2/33] ، ولما طلبت هذا المخطوط
~~واطلعت عليه وجدته يبدأ بقوله: "الحمد لله، وسلام
# على عباده الذين اصطفى، هذا جزء لطيف في عمل اليوم والليلة منتخب من
~~الأحاديث والآثار، محرر معتبر، لخصته من كتابي "منهاج السنة" ومن "الكلم
~~الطيب"، والله الموفق".
# ومن هنا ضل المفهرس وانخدع، فنسب المخطوط إلى شيخ الإسلام، لأن "منهاج
~~السنة" و"الكلم الطيب" من أشهر مؤلفاته، فيكون هذا المخطوط أيضا له!! ولم
~~يتأمل في باقي الكتاب ومنهج المؤلف فيه، ولم يقرأ تلك الأدعية التي فيها
~~صريح التوسل بالنبي، ولم يساوره الشك في أسلوب الكتاب الذي هو أبعد ما يكون
~~من أسلوب شيخ الإسلام. وقد نفيت نسبته إلى الشيخ، وبدأت أبحث عن مؤلفه
~~الحقيقي، وبمراجعة "كشف الظنون" (2/1173) ظهر لي
# PageV03P007
# أن من بين المؤلفين في "عمل اليوم والليلة": السيوطي العالم المشهور، وله
~~"الكلم الطيب والقول المختار في المأثور من الدعوات والأذكار" (1) ،
~~و"منهاج السنة ومفتاح الجنة" (2) . فيكون المخطوط الذي بين أيدينا للسيوطي،
~~وأسلوب الكتاب ملائم لأسلوبه المعروف في ms0376 سائر كتبه. ثم وجدت الكتاب مطبوعا
~~بمطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر سنة 1365 عن نسخة مكتبة عارف حكمت
~~بالمدينة المنورة، وفي آخره: "قال مؤلفه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن أبي
~~بكر السيوطي: فرغت من تأليفه في رجب سنة 892 هجرية، والحمد لله رب
~~العالمين". وبهذا تأكدت نسبته إلى السيوطي، وانتفت عن شيخ الإسلام.
# يجب علينا إذا تحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف قبل التفكير في خدمته ونشره
~~وتقديمه إلى القراء. وتشتد الحاجة إلى ذلك إذا أردنا نشر شيء من كتب شيخ
~~الإسلام وغيره من أئمة السنة والحديث، لئلا ينسب إليهم من الآراء
~~والاعتقادات ما هم بريئون منه، ولا يجعل ذلك ذريعة إلى القدح فيهم والنيل
~~منهم.
### | وصف الأصول المعتمدة
# اعتمدت في نشر هذه المجموعة على أصول خطية من مكتبات مختلفة، وعلى بعض
~~المجاميع المطبوعة التي تحوي رسائل للشيخ لم أهتد إلى مخطوطاتها في
~~المكتبات. وفيما يلي وصف هذه الأصول: PageV03P008
# (1) "فصل في الفرق بين ما أمر الله به ورسوله من إخلاص الدين الله و ...
~~": هذه الرسالة والرسائل الآتية بأرقام (2، 9، 10، 12، 15، 18، 21) ضمن
~~مجموعة خطية في مكتبة عاشر أفندي بإستانبول برقم [1154) (1) ، وهي التي نشر
~~منها الدكتور محمد رشاد سالم عدة رسائل ضمن المجموعة الأولى من "جامع
~~الرسائل"، ووصفها في مقدمتها (صفحة ج-ه) . هذه المجموعة تحتوي على عدد كبير
~~من رسائل الشيخ طبع أكثرها ضمن "مجموع الفتاوى" و"جامع الرسائل"، والبقية
~~تتضمنها المجموعة التي بين أيدينا.
# وقد تصحفت مصورة هذه المجموعة الخطية، فوجدت أن عدد الرسائل التي كانت
~~فيها (حسب الفهرس الموجود في أولها) 53 رسالة، منها 51 رسالة من مؤلفات شيخ
~~الإسلام، ولكن الموجود منها الآن 36 رسالة فقط، ونزعت منها الأوراق (112-
~~131، 151- 172، 210- 222، 268-679) ، ففقدت 15 رسالة للشيخ و"رسالة في
~~الكلام على الاستواء على العرش" لابن عبد الهادي.
# ويظهر من عناوين الرسائل الضائعة أنها كانت في موضوعات التوحيد والشرك
~~وزيارة القبور والاستغاثة والتوسل والتمذهب والتقليد واللعب بالشطرنج وحكم
~~الحشيشة وغيرها، وكأن أحد القراء المتعصبين لم يعجبه كلام الشيخ في هذه
~~الموضوعات، فنزع تلك الأوراق ومزقها لئلا يطلع الناس عليها. وظن ms0377 أنه بفعله
~~هذا يضيع ما كتبه الشيخ، ولكن الله سبحانه وتعالى حفظه في نسخ أخرى، وطبع
~~أكثر من طبعة، واستفاد منه الناس في العالم. وقد ظهر لي PageV03P009
# بالتتبع أن معظم هذه الأوراق الضائعة والرسائل الناقصة توجد بتمامها في
~~"مجموع الفتاوى" (ط. الرياض) ، وفيما يلي إشارة إلى بعضها: -
# "فصل في قوله تعالى (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) [ق112- 113،] (= مجموع
~~الفتاوى 15/196-197) .
# - "فصل في قوله تعالى (يرفع الله الذينءامنوا منكم والذين أوتوا العلم
~~درجات) [ق113-114] (= مجموع الفتاوى 16/48- 51) .
# - "فصل في المعاني المستنبطة من سورة الكوثر" [ق 114- 115] (= مجموع
~~الفتاوى 16/526- 533) .
# - "فصل في قوله تعالى (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) [ق117-
~~129] (= مجموع الفتاوى 15/62-94) .
# - "فصل في قوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة
### | …
# [ق129- 136] (= مجموع الفتاوى 14/168- 200) .
# - "فتوى فيمن ينزل به حاجة من أمور الدنيا والآخرة ثم يقصد بعض قبور
~~الأنبياء والصلحاء، ثم يدعو عنده في كشف كربته، هل هو سنة أم بدعة؟ "
~~[ق155-162] (= مجموع الفتاوى 27/151- 179) .
# - "رسالة جامعة في توحيد الله تعالى وإخلاص الوجه والعمل له" [ق162- 167]
~~(= مجموع الفتاوى 1/20- 36) .
# - "مسألة في الاستشفاع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- " [ق210-215،) =
~~مجموع الفتاوى 1/313- 368) .
# - "مسألة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة واشتغل
# PageV03P010
# بعده بالحديث ... " [ق215-217، (= مجموع الفتاوى 20/210- 217) .
# - "فتوى في اللعب بالشطرنج" [ق217-218] (= مجموع الفتاوى 32/216-239) .
# هذه بحض تلك الرسائل والفتاوى التي فقدت من المجموعة، ولكنها بقيت محفوظة
~~بحمد الله في نسخ أخرى، ولم تنجح محاولة إخفائها وتضييعها من قبل بعض
~~القراء.
# كتبت رسائل هذه المجموعة بخطوط مختلفة، بعضها في سنة 735، وبعضها في سنة
~~819. وأغلبها بدون تاريخ، كتبه ناسخ غير معروف بخط نسخي واضح جميل يغلب
~~عليه الصحة، ولعله من خطوط القرن التاسع. وجميع رسائل الشيخ فيها (ما عدا
~~"الواسطية") بهذا الخط، ومنها الرسالة الأولى من مجموعتنا هذه، وتقع بين
~~(الورقة 148- 155) ، والموجود منها الآن إلى الورقة 151ب، ثم يبدأ الخرم
~~الذي ذهب ببقية هذه الرسالة ورسائل أخرى تليها، كما أشرت إلى ذلك قريبا،
~~ولم أجد نسخة أخرى تكمل النقص.
# (2) "فصل في حق الله وحق عبادته وتوحيده ms0378": هذه الرسالة أيضا ضمن المجموعة
~~السابقة (ق243ب-247ب) .
# (3) "رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر":
~~توجد نسخة فريدة منها في دار الكتب المصرية برقم [2577 تصوف] (1) ، ومعها
~~"الرسالة القبرصية" للشيخ. وهما بخط PageV03P011
# نسخي جميل، كتبه محمد بن سليمان بن داود ابن الجوهري الشافعي، كما هو
~~مثبت على صفحة العنوان.
# (4) "مسألة في قصد المشاهد المبنية على القبور للصلاة والنذر وقراءة
~~القرآن وغير ذلك": توجد النسخة الخطية منها في مكتبة تشستربيتي برقم [4733]
~~ضمن مجموعة في 163 ورقة تحتوي على رسائل مختلفة (1) ، وفي أولها فتاوى
~~للشيخ (ق1-47) بعنوان "فصل من فتاوى شيخنا الشيخ الفاضل الكامل فريد دهره
~~وحيد عصره الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية أمتعنا الله بحياته".
~~وفيها 15 فتوى للشيخ في موضوعات متنوعة، نشر معظمها ضمن "مجموع الفتاوى"
~~وغيره، ومما لم ينشر هذه المسألة التي تقع في (الورقة 8ب-27ب) . والمجموعة
~~بخط نسخي واضح، وليس عليها تاريخ النسخ، ولعلها من القرن الثامن، وكتبت في
~~حياة الشيخ كما تدل على ذلك عبارات الدعاء في أول المجموعة وفي مواضع
~~مختلفة من الفتاوى. وقد كانت هذه المجموعة في ملك السيد محمد شريف رزاز سنة
~~1243، وفي ملك السيد محمد زكي سنة 1298 كما يظهر من كتابتهما على صفحة
~~العنوان. وعليها ختم "محمد بيري" مما يدل على أنها كانت في حوزته أيضا.
# (5) "فصل فيمن يعظم المشايخ ويستغيث بهم ويزور قبورهم": توجد نسختها
~~الخطية أيضا في مكتبة تشستربيتي برقم [3296] ضمن مجموعة تحوي 15 رسالة (2)
~~، منها الفتوى المذكورة التي عنونت PageV03P012
# ب "في السماع" في المجموعة وفي الفهرس، وهي وإن شملت الجواب عن حضور مجلس
~~السماع أيضا في أسطر قليلة، إلا أن معظمها في تعظيم المشايخ والاستغاثة بهم
~~وزيارة قبورهم والنذر لها وما إليها. وتشغل هذه الفتوى الأوراق (7ب-11أ) ،
~~وهي مكتوبة بخط نسخي جيد، ومقابلة على الأصل المنسوخ عنه. وليس عليها تاريخ
~~النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر.
# (6) "مسألة في تأويل الآيات في المعية وإمرار أحاديث الصفات كما جاءت":
~~أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] ، تحتوي على ms0379 عدة رسائل
~~وفتاوى للشيخ (1) ، وهي بخط علي بن حسن بن محمد الحراني كما في آخر
~~المجموع، وقد فرغ من نسخ هذه المسألة في خامس ربيع الأول سنة ست وخمسين
~~وسبع مئة. والمسألة المذكورة تبدأ بالورقة (60ب) ، ثم تضطرب اضطرابا شديدا،
~~وتتداخل مع المسألة التالية في نسبة البارئ تعالى إلى العلو (الآتية برقم7)
~~والتي تبدأ بالورقة (66أ) ، وقد تأملت في المسألتين، ونظرت في الأوراق التي
~~قبلهما وبعدهما، وقرأت المجموعة بعناية، حتى اهتديت إلى ترتيب الكلام فيها،
~~وتمكنت من استخراج المسألتين منها، وهما في المجموعة حسب ما يلي:
# - "مسألة في تأويل الآيات في المعية ... " (الورقة 60ب- 63أ/ سطر12، ثم
~~الورقة 53ب/ سطر 8-60ب/ سطر 15، ثم الورقة 72أ/ سطر 9- 74أ/ سطر 14، ثم
~~الورقة 63أ/ سطر 12- 65ب نهاية المسألة) . PageV03P013
# - "مسألة في نسبة البارئ تعالى إلى العلو" (الورقة 66أ-72أ/ سطر8) . وما
~~بعدها من المسألة السابقة، ولم أجد تتمتها ضمن هذه المجموعة.
# (7) "مسألة فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلو من جميع الجهات
~~المخلوقة": هي ضمن المجموعة السابقة كما ذكرنا، وناقصة من آخرها، ولم أجد
~~لها نسخة ثانية تكمل النقص.
# (8) "مسألة في العلو": توجد منها عدة نسخ في مكتبات مختلفة:
# أ- نسخة في مكتبة برلين برقم [We. 1538] . (الورقة 51ب- 55أ) (1) ضمن
~~مجموعة أولها "التدمرية"، مكتوبة سنة 1180.
### | 2-
# نسخة في مكتبة ميونخ برقم [885/5] (الورقة 41-51) ، ضمن مجموعة تحتوي على
~~رسائل مختلفة للشيخ وغيره (2) ، وهي بخط نسخي جيد. وبعض رسائل هذه المجموعة
~~مؤرخة بسنة 731 و735 و739، والمسألة المذكورة غير مؤرخة، إلا أنها مكتوبة
~~في القرن الثامن.
### | 3-
# نسخة في مكتبة غوطا بألمانيا برقم [84/3] ذكرها بروكلمان في كتابه "تاريخ
~~الأدب العربي" (الملحق 2/122) مع النسختين السابقتين.
### | 4- 6
# : ثلاث نسخ بعنوان "الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل" في مكتبة جامعة
~~الملك سعود بالرياض بالأرقام الآتية: PageV03P014
# [1737/8م] (ص134- 136) ، وهي نسخة ناقصة الآخر، بخط نسخ معتاد، كتبت في
~~القرن الثالث عشر تقديرا.
# [2263/3م] (ص126-135) ، نسخة جيدة بخط نسخ معتاد، كتبت في القرن الثالث
~~عشر تقديرا.
# [1639/20م] (ص447-456) ، ضمن مجموع بخط نسخ معتاد، كتبه عبد الله بن ms0380
~~إبراهيم بن محمد المعروف بالربيعي سنة 1350 (1) .
### | 7-
# نسخة ناقصة في المكتبة المحمودية بالمدينة برقم [2593] (ق59ب-60ب) كتبت
~~سنة 1184. وتوجد هذه المسألة مع اختلاف كثير ضمن "جلاء العينين في محاكمة
~~الأحمدين" للألوسي (ص437-449 من طبعة المدني سنة 1401) ، ومقتطفات منها في
~~"مجموع الفتاوى" (5/256- 261) .
# وقد اعتمدت في تحقيقها هنا على النسخ القديمة، واستعنت بما في "جلاء
~~العينين" دون إثبات جميع الفروق، فإنها كثيرة وقليلة الجدوى.
# (9) "قاعدة شريفة في الرضا الشرعي ... ": أصلها من مجموعة عاشر أفندي
~~الموصوفة برقم (1) ، وهي فيها (الورقة 258أ- 259ب) .
# (10) "فصل: الأقوال نوعان": هذا أيضا من مجموعة عاشر أفندي (الورقة 207أ-
~~208أ) .
# (11) "قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة والإجماع أمر الثقلين الجن
~~والإنس": توجد نسختها الخطية في المكتبة الأزهرية برقم [182مجاميع] 4485،
~~وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي PageV03P015
# بتاريخ سادس عشر من صفر سنة 766.
# (12) "مسألة فيمن قال: إن عليا أشجع من أبي بكر": أصلها ضمن مجموعة عاشر
~~أفندي بتركيا (الورقة 179 ب- 180 ب) .
# (13) "تفسير أول العنكبوت": لم أعثر على نسخته الخطية، وهو ملحق بكتاب
~~"الفوائد" لابن القيم (ص 257- 212 من الطبعة المنيرية سنة 1344) .
# (14) "مسألة في قوله تعالى (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله
### | …
# ) : أصلها ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733]
# (الورقة 14أ-15أ) . وقد سبق وصف هذه المجموعة برقم (4) .
# (15) "قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات ... ": هي من مجموعة عاشر أفندي
~~(الورقة 182أ-187ب) .
# (16) "مسألة في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟ ": لم أعثر على نسختها
~~الخطية، وقد نقلها السيوطي ضمن "الحاوي للفتاوي" (1/311-312 من الطبعة
~~المنيرية 1352) .
# (17) "فتوى في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته": هي ضمن مجموعة في
~~مكتبة جامعة برنستون برقم [4098] (الورقة 61ب- 62أ) ، كتبت في القرن التاسع
~~تقديرا (1) ، وهي بخط نسخي جيد.
# (18) "رسالة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دخل أحدكم على أخيه ...
~~": هي من مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 258ب-209أ) .
# (19) "جواب سؤال سائل عن حرف لو": توجد منه نسخة خطية PageV03P016
# في دار المخطوطات الوطنية بقبرص برقم [2/1138 A] (الورقة 79ب وما بعدها)
~~، كتبت في القرن العاشر (1) . وقد أورده السيوطي في "الأشباه والنظائر في ms0381
~~النحو" (3/288-292 من طبعة حيدرآباد 1361) نقلا من خط البرزالي.
# (20) "فصل في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع": توجد منه نسخة خطية ضمن مجموعة
~~في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد برقم [مجاميع 6454] (2) ، تحتوي على ثماني
~~رسائل للشيخ أولها "التدمرية". وهي مكتوبة في نهاية القرن الثالث عشر. وقد
~~طبعت مفرقة بهامش كتاب "مراتب الإجماع" لابن حزم (طبعة القدسي سنة 1357) .
~~وفي المطبوعة أخطاء في مواضع.
# (21) "رسالة في بيان الصلاة وما تألفت هي منه": توجد منها نسختان خطيتان،
~~إحداهما في مجموعة عاشر أفندي السابقة (الورقة 16أ-17ب) ، والثانية في
~~مكتبة الإسكوريال برقم [1593] (الورقة 62أ-65أ) ، وهي بخط نسخي جيد، وليس
~~عليها اسم الناسخ ولا تاريخ النسخ، ولعلها من مخطوطات القرن العاشر.
~~والنسخة الأولى أصح من الثانية، كما ظهر لي بالمقابلة بينهما.
# (22) "فتوى في أمر الكنائس": لم أعثر على نسختها الخطية، وقد أوردها ابن
~~القيم في "أحكام أهل الذمة" (2/677-686 طبعة دار العلم للملايين سنة 1961م)
~~.
# (23) "مسألة فيمن يسمي خميس النصارى عيدا": توجد منها PageV03P017
# نسختان خطيتان، إحداهما في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [2961عام]
~~(الورقة 76ب- 78أ) ، كتبت سنة 753 (1) . والثانية في مكتبة تشستربيتي برقم
~~[3296] . (الورقة 14ب-15أ) ، وهي نسخة مقابلة مصححة بخط نسخي جيد، كتبت في
~~القرن العاشر تقديرا (2) .
# (24) "فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر": توجد النسخة الخطية منه
~~في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 42أ- 43أ) . وقد سبق وصفها برقم
~~(6) .
# (25) "مسألة في تلاوة القرآن والذكر أيهما أفضل": أصلها ضمن المجموعة
~~السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [3537] (الورقة 40ب-41أ) . وقد أشار الشيخ
~~في هذه المسألة إلى فتاوى أخرى له في هذا الموضوع، يوجد بعضها في "مجموع
~~الفتاوى" (23/56- 60، 62-63) .
# (26) "فتوى في السماع": توجد نسختها الخطية ضمن مجموعة في مكتبة
~~تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 30أ-ب) ، وقد سبق وصفه برقم (4) .
# (27) "مسألة في رجل شتم شريفا": توجد منها نسختان خطيتان، إحداهما في
~~المجموعة السابقة في مكتبة تشستربيتي برقم [4733] (الورقة 10ب-11ب) .
~~والثانية في مكتبة المدرسة القادرية ببغداد، ضمن مجموعة من فتاوى الشيخ بخط
~~حديث من القرن الرابع عشر بقلم محمد بن علي بن الملا ms0382 أحمد. PageV03P018
# (28) "قاعدة في حضانة الولد": توجد منها نسخة خطية في المكتبة الأزهرية
~~برقم [182 مجاميع] 4485) (الورقة 163-176) (1) ، وهي بخط عبد المنعم
~~البغدادي الحنبلي، كتبها في شهر ربيع الأول سنة 764. والنسخة مقابلة على
~~أصلها، فقد كتب في آخرها: "بلغ مقابلة بحوله ومنه، فصحح حسب الطاقة في ليلة
~~صباحها خامس عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة الأربع والستين وسبعمائة، أحسن
~~الله عاقبتها بمنه وكرمه".
# ومنها نسخة ثانية بعنوان "حضانة الصغير" في مكتبة غوطا بألمانيا برقم
~~[71/6] (الورقة 82- 100) ، وثالثة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم [3835]
~~(الورقة 122-132) وهي ناقصة من آخرها.
# وبعد، فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة في إخراج هذه المجموعة الثالثة من
~~"جامع المسائل"، وقد سبق أن ذكرت منهج التحقيق في مقدمة المجموعة الأولى
~~منه (ص21) ، فأكتفي بالإحالة إليها.
# وفي الختام أحمد الله تعالى على توفيقه، وأشكره على تيسيره، وأسأله
~~المزيد من فضله والإعانة على إصدار بقية الكتب والرسائل، إنه نعم المولى
~~ونعم النصير.
# محمد عزير شمس PageV03P019
### | - نماذج من النسخ الخطية
# PageV03P021
# فصل
# في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسوله
# من إخلاص الدين لله وشريعته، وبين ما نهى عنه
# من الإشراك والبدع في زيارة القبور ونحو ذلك
# PageV03P031
# الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله أجمعين، وسلم تسليما
~~كثيرا.
# أما بعد، فهذا فصل في الفرق بين ما أمر الله تعالى به ورسوله من إخلاص
~~الدين لله وشريعته، وبين ما نهى عنه من الإشراك والبدع في زيارة القبور
~~ونحو ذلك، فنقول:
# زيارة القبور جائزة، سواء كان الميت مسلما أو كافرا، لكن يفرق بينهما في
~~الزيارة، فأما الكافر فيزار قبره ليذكر الموت، ولا يجوز الاستغفار له ولا
~~الدعاء له بالرحمة ونحو ذلك، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر
~~الآخرة". وثبت عنه في الصحيح (2) أنه قال: "استأذنت ربي في أن أزور قبر أمي
~~فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي. فزوروا القبور فإنها
~~تذكر الآخرة".
# وقد زار أمه في ms0383 ألف مقنع عام فتح مكة، فبكى وأبكى من حوله، وقد كانت أمه
~~ماتت كافرة في الجاهلية قبل أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
# وكذلك في الصحيح (3) أنه حضر عمه أبا طالب حين موته، وعنده أبو جهل وعبد
~~الله بن أبي أمية، فقال: "يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها
~~عند الله"، فقالا: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: "لأستغفرن
~~لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله تعالى: PageV03P033
# (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من
~~بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113) وما كان استغفار إبراهيم لأبيه
~~إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم
~~لأواه حليم (114)) (1) . وذلك أن بعض المسلمين احتج بأن إبراهيم وعد أباه
~~بالاستغفار، واستغفر له بقوله (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم
~~الحساب (41)) (2) ، فأجاب الله عن ذلك، وأمرنا أن نتأسى بإبراهيم في موعده
~~بالاستغفار لأبيه، فقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين
~~معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا
~~بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم
~~لأبيه لأستغفرن لك) الآيات (3) . فذكر سبحانه أن المؤمنين لهم أسوة حسنة في
~~إبراهيم والمؤمنين معه إذ تبرءوا من المشركين وما يعبدون من دون الله، إلا
~~في هذا القول الذي قاله إبراهيم لأبيه، فإنهم ليس لهم في ذلك أسوة.
# وأما
### | زيارة قبور المؤمنين
# من الأنبياء والصالحين وغيرهم فإنها من جنس الصلاة على جنائزهم، قال الله
~~تعالى في المنافقين: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم
~~كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84)) (4) ، فنهى نبيه عن الصلاة على
~~المنافقين وعن القيام على قبورهم لأجل أنهم كفار، وكان ذلك دليلا على أن
~~المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم. وهذه كانت سنة رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - في PageV03P034
# المؤمنين، فإن الصلاة على ms0384 المسلمين مشروعة بسنة رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - المتواترة بإجماع المؤمنين، وهي فرض على الكفاية. وقد قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى على جنازة فله قيراط، ومن اتبعها
~~حتى يدفن فله قيراطان أدناهما مثل أحد" (1) .
# وكذلك بعد الدفن يستحب أن يزار فيسلم عليه ويدعى له بالمغفرة والرحمة
~~ونحو ذلك. ويستحب حين الدفن أن يدعى له أيضا، كما ثبت في سنن أبي داود (2)
~~عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا دفن الميت
~~أصحابه: "استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل". أي اسألوا
~~له أن يثبته الله بالقول الثابت، كما قال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا
~~بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله
~~ما يشاء (27)) (3) ، وقد ثبت في الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر حين يسأل الميت: من ربك وما دينك
~~ومن نبيك؟
# وأما بعد الدفن، فكما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- أنه كان يأمر أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "سلام عليكم أهل دار
~~قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم
~~والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا
~~بعدهم، واغفر لنا ولهم" (5) . PageV03P035
# وثبت أيضا في الصحيح أنه كان يخرج إلى أهل البقيع، فيدعو لهم ويستغفر لهم
~~(1) . وثبت أيضا في الصحيح أنه خرج إلى شهداء أحد قبل موته، فصلى عليهم
~~ودعا لهم (2) .
# فهذان أمران مشروعان: السلام على الميت والدعاء له. وقد قال ابن عبد البر
~~(3) : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر
~~الرجل كان يعرفه في الدنيا، فيسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد
~~عليه السلام" (4) .
# وفي سنن أبي داود (5) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
~~"ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام".
# وفيه ms0385 أيضا أنه قال: "أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن
~~صلاتكم معروضة علي "، فقالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن
~~الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء" (6) .
# وأما الدعاء حين الزيارة فمن جنس الدعاء في صلاة الجنازة، كل ذلك حق
~~للميت وعمل صالح من الحي، مثل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~PageV03P036
# والسلام عليه، وسؤال الله له الوسيلة، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات
~~بالمغفرة وغيرها. قال الله تعالى: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا
~~أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)) (1) . وقد ثبت في الصحيح
~~(2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صلى علي مرة صلى الله
~~عليه عشرا". وثبت في الصحيح (3) أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما
~~يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من
~~عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه
~~شفاعتي يوم القيامة".
# وثبت في الصحيح (4) عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا وكل الله به ملكا كلما دعا
~~لأخيه بدعوة قال الملك به: آمين، ولك مثل ذلك ".
# فأما [ما] يسميه كثير من الناس زيارة هي من جنس الإشراك بالله وعبادة
~~غيره، مثل السجود لبعض المقابر التي يقال إنها من قبور الأنبياء والصالحين
~~وأهل البيت أو غيرهم ويسمونها المشاهد، أو الاستعانة بالمقبور ودعائه
~~ومسألته قريبا من قبره أو بعيدا منه، مثل ما يفعل كثير من الناس-: فهذا كله
~~من أعظم المحرمات بإجماع المسلمين، وهو من جنس الإشراك بالله تعالى، فإن
~~المسلمين (5) متفقون على أنه لا يجوز لأحد أن يدعو أحدا ويتوكل عليه ويرغب
~~PageV03P037
# إليه في المغفرة والرحمة وتفريج الكربات وإعطاء الطلبات إلا الله وحده لا
~~شريك له، ولا يسجد لغير الله لا لحي ولا لميت، حتى إن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - نهى أمته عن اتخاذ القبور مساجد لئلا يفضي ذلك ms0386 إلى الشرك. ففي
~~صحيح مسلم (1) عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
~~قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، إلا فلا
~~تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي الصحيحين (2) عن عائشة رضي
~~الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه: "لعن
~~الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت
~~عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
# وفي الصحيحين (4) أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - كنيسة رأينها بأرض الحبشة، وذكرتا حسنها وتصاوير فيها، فقال النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -: "إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره
~~مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة".
# وفي مسند الإمام أحمد (5) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، الذين
~~يتخذون القبور مساجد".
# وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله زوارات
~~القبور PageV03P038
# والمتخذين عليها المساجد والسرج". رواه أهل السنن (1) ، وصححه الترمذي أو
~~حسنه.
# فلعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتخذ القبور مساجد ويسرج عليها
~~سرجا كالشمع والقناديل ونحو ذلك، مثل ما يفعله كثير من الناس، وهذا ما اتفق
~~عليه أهل العلم، فلم يتنازعوا في أن ذلك غير مشروع، بل ينهى عنه، حتى قال
~~العلماء: من نذر لنبي أو غير نبي شمعا أو زيتا أو نحو ذلك فإنه نذر معصية
~~لا يجوز الوفاء به، لكن منهم من يجعل عليه كفارة يمين، ومنهم من يقول: لا
~~شيء. وإذا صرف ذلك إلى مسجد يعبد الله فيه وحده لا شريك له، أو صرفه إلى
~~فقراء المسلمين المؤمنين الذين يستعينون به على عبادة الله كان حسنا. وقد
~~ثبت في صحيح البخاري (2) عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "من نذر ms0387 أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
# وأما اعتقاد بعض الجهال أن حاجته قضيت بسبب هذه النذور فهذا جهل وضلال،
~~فإن نذر الطاعة الذي يجب الوفاء به لا يفيد في قضاء الحوائج، ولا يستحب بل
~~يكره، فكيف نذر المعصية؟ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - من غير وجه أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج
~~به من البخيل" (3) . وقال: "إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر، فيعطي على
~~النذر ما لم يعطه على غيره" (4) . PageV03P039
# لكن إذا كان المنذور طاعة لله تعالى -مثل الصلاة المشروعة والصوم المشروع
~~والحج المشروع والصدقة المشروعة ونحو ذلك- فهذا يجب أن يوفى، وإن كان عقده
~~مكروها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله فليطعه،
~~ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (1) .
# وأما إذا كان المنذور ليس طاعة لله فلا يجب الوفاء به، بل عليه كفارة
~~يمين لتركه عند طائفة من أهل العلم، لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه قال: "كفارة النذر كفارة يمين" (2) . وفي السنن عنه أنه
~~قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين" (3) .
# وأما إذا كان المنذور معصية، مثل أن ينذر لوثن من الأوثان: كالنذر
~~للأصنام التي كانت تعبدها العرب، والبدود التي تعبدها الهند والزط (4) ،
~~والنذر لكنيسة أو بيعة، أو النذر لغير نبي أو رجل صالح أو غير ذلك، فهذا
~~كله لا يجوز الوفاء به بإجماع المسلمين.
# وإن كان في المنذور طاعة ومعصية أمر بفعل الطاعة ونهي عن فعل المعصية،
~~وإن كان الناذر يعتقد أنها طاعة، كما في صحيح البخاري (5) عن ابن عباس قال:
~~كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذا هو برجل قائم، فسأل عنه،
~~فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، فلا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم،
~~ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مروه فليتكلم PageV03P040
# وليستظل وليقعد وليتم صومه".
# وهكذا حكم جميع العقود والعهود التي يأخذها المشايخ وغيرهم ms0388 على الناس،
~~يوفى منها ما كان طاعة الله عزوجل، ولا يوفى منها بدين لم يشرعه الله.
# وكذلك لا يشرع بإجماع المسلمين أن يبني مسجدا على قبر من القبور، بل هذا
~~ينهى عنه باتفاق المسلمين، وهو محرم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
~~ذلك، ولعن من يفعل ذلك.
# والمساجد المبنية على القبور يشرع باتفاق المسلمين إزالتها ويجب
# ذلك، فإن كان المسجد قبل القبر فإنه ينبغي أن يساوى القبر ويزال
# أثره، أو يعاد المسجد إلى ما كان. وإن كان المسجد يبني على القبر
# فيهدم المسجد ويزال، كما هدم مسجد الضرار الذي قال الله تعالى
# فيه: (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن
~~حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم
~~لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن
~~تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108) أفمن أسس
~~بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار
~~فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (109) لا يزال بنيانهم
~~الذي بنوا ريبة في قلوبهم_ إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم (110)) (1)
~~.
# ولهذا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرون بهدم مثل ذلك، كما
~~روى حرب الكرماني عن زيد بن ثابت أن ابنا له مات، فاشترى غلام له جضا وآجرا
~~ليبني على القبر، فقال له زيد: حفرت وكفرت، أتريد أن PageV03P041
# تبني على قبر ابني مسجدا؟ ونهاه عن ذلك.
# ولهذا لما فتح المسلمون تستر- التي يسمونها العجم "ششتر"- وجدوا عندها
~~قبرا عظيما قالوا: إنه قبر دانيال، ووجدوا عنده مصحفا. قال أبو العالية:
~~أنا قرأت ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم وسيركم ولحون كلامكم، وشموا من
~~القبر رائحة طيبة، ووجدوا الميت بحاله لم يبل، فكتب في ذلك أبو موسى
~~الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفر بالنهار بضعة عشر قبرا، فإذا كان
~~الليل دفنه في قبر من تلك القبور ليخفى ms0389 أثره، لئلا يفتتن به الناس، فينزلون
~~به ويصلون عنده ويتخذونه مسجدا (1) .
# وقد اتفق المسلمون على أن
### | الصلاة عند القبور
# غير مشروعة، فلا تجب ولا تستحب، ولم يقل قط أحد من علماء المسلمين أن
~~الصلاة عند قبر أو مسجد أو مشهد على قبر سواء كان قبر نبي أو غير نبي، أن
~~ذلك مستحب، أو أن الصلاة هناك أفضل من الصلاة في غيره، فمن اعتقد ذلك أو
~~قاله أو عمل به فقد فارق إجماع المسلمين وخرج عن سبيل المؤمنين.
# وقد تنازع العلماء في الصلاة في المقبرة، قيل: هي محرمة أو مكروهة أو
~~مباحة، ولم يقل أحد منهم: إنها مستحبة ولا واجبة.
# والذي عليه جماهير العلماء أنها منهي عنها نهي، تحريم أو نهي تنزيه،
~~وكثير منهم يقول: إنها باطلة.
# والمقبرة وإن كان قد قال بعضهم: إنها ثلاثة أقبر فصاعدا، فلم PageV03P042
# يتنازعوا في أن المسجد المبني على قبر لا فرق بين أن يبنى على قبر أو
~~أكثر، كالذين لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم إنما كانوا يبنون
~~المسجد على قبر واحد، قبر نبي أو رجل صالح. وإن كان بعض من نهى عن الصلاة
~~في المقبرة علله بالنجاسة، فإنه لا يعلل الصلاة في المسجد المبني على قبر
~~بالنجاسة، بل قد نص هؤلاء -كالشافعي وغيره- على أن العلة هنا خشية الافتتان
~~بالقبر التي هي الشرك.
# وأما الصلاة في المقبرة فالعلة الصحيحة عند محققيهم أيضا إنما هي مشابهته
~~للمشركين وأن ذلك قد يفضي إلى الشرك، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، وقال: إنه حينئذ يسجد لها الكفار
~~(1) . ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور، كما
~~ثبت ذلك في صحيح مسلم (2) وغيره عن أبي مرثد الغنوي أن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". فنهى أن يكون في
~~القبلة قبر.
# وفي صحيح البخاري (3) عن أنس قال: كنت أصلي وهناك قبر، فقال عمر بن
~~الخطاب: القبر القبر! فظننته يقول: القمر ms0390، وإذا هو يقول: القبر. أو كما
~~قال.
# وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن الصلاة إلى القبر وإن
~~لم يقصد العبد السجود له، فكيف بمن يسجد للقبر؟ فإن هذا شرك. وقد روى
~~PageV03P043
# الإمام أحمد (1) عن معاذ بن جبل أنه لما قدم الشام وجدهم يسجدون
~~لأساقفتهم، فلما رجع سجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما هذا يا
~~معاذ؟ "، فقال: يا رسول الله! رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعظمائهم، ويذكرون
~~ذلك عن أنبيائهم، فقال: "إنه لا يصلح السجود إلا الله، ولو كنت آمر أحدا أن
~~يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها". ثم قال: "يا
~~معاذ! أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدا إليه؟ "، قال: لا، قال: "فلا تسجد
~~لي". فمعاذ كان يعلم أن السجود للقبور لا يجوز.
# قال تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا
~~يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا
~~يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) ومن يقل منهم إني إله من
~~دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29)) (2) . وهذا في كتاب الله
~~كثير جدا.
# وقال تعالى: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله
~~فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام
~~(37) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون
~~من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن
~~ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38)) (3) .
# وقال تعالى: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل
~~له من بعده وهو العزيز الحكيم (2) يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل
~~من خالق غير الله PageV03P044
# يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون (3)) (1)
# وقال تعالى عن إبراهيم الخليل: (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا
~~أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما ms0391 تشركون (78) إني وجهت وجهي للذي
~~فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)) الآيات إلى (وهم
~~مهتدون (82)) (2) .
# وفي الصحيحين (3) عن عبد الله بن مسعود قال: لما (4) [نزلت
# (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب رسول الله
# - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - "ليس هو كما
# تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: (يا بني لا تشرك بالله إن الشرك
~~لظلم عظيم (13)) ] .
# كان يظن أن السجود للحي مشروع، كما ذكر في قصة يوسف، وكما ذكر في قصة أهل
~~الكهف أن أولئك اتخذوا عليهم مسجدا، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~في شريعتنا لا يصلح السجود إلا لله، كما بين في الأحاديث المتقدمة أن الذين
~~اتخذوا على أهل الكهف مسجدا من الذين نهانا رسولنا أن نتشبه بهم.
# وكذلك التمسح بالقبور - كاستلامها باليد وتقبيلها بالفم- منهي عنه باتفاق
~~المسلمين، حتى إنهم قالوا فيمن زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه
~~لا يستلمه بيده ولا يقبله بفمه، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق الذي هو
~~الكعبة البيت الحرام، فإن الله شرع أن يستلم الحجر الأسود PageV03P045
# الذي بمنزلة يمينه في الأرض، وأن يقبله أيضا، حتى إنه يستحب إذا لم يمكن
~~تقبيله أن يقبل اليد التي استلمته، حتى إنه يستحب استلامه بالمحجن والعصا
~~ونحو ذلك إذا لم يمكن استلامه باليد. وكذلك الركن اليماني يستحب استلامه.
~~ولم يستلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أركان البيت الأربعة إلا
~~الركنين اليمانيين، لأنهما بنيا على قواعد إبراهيم، وأما الركنان اللذان
~~يليان الحجر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستلمهما، ولهذا لا يستحب
~~استلامهما عند الأئمة الأربعة وعامة العلماء، كما لا يستحب أن يستلم الرجل
~~جوانب بيت الله، ولا يستحب تقبيل ذلك أيضا.
# وكذلك مقام إبراهيم الذي قال الله تعالى فيه: (واتخذوا من مقام إبراهيم
~~مصلى) (1) لم يستلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبله، ولا يشرع ذلك
~~فيه بل ينهى عنه باتفاق العلماء. فإذا ms0392 كان مقام إبراهيم الذي ذكره الله
~~تعالى في القرآن لا يشرع أن يتمسح العبد به فكيف سائر المقامات والمشاهد
~~التي يقال: إنها أثر بعض الأنبياء والصالحين؟.
# وإذا كان قبر نبينا لا يشرع باتفاق المسلمين بأن يقبل أو يمسح به، فكيف
~~بقبر غيره؟ وفي سنن أبي داود (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
~~تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر". وقال أيضا (3) : "صلوا علي
~~حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني".
# ولهذا رأى عبد الله بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب رجلا يكثر
~~الاختلاف إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا هذا! إن رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، فصلوا علي حيثما
~~كنتم، فإن PageV03P046
# صلاتكم تبلغني"، فما أنت ورجل بالأندلس فيه إلا سواء. ذكره سعيد بن منصور
~~في سننه (1) ، وروى بنحو هذا المعنى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه
~~الحسين عن علي بن أبي طالب. ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي
~~الحافظ في صحيحه (2) .
# وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا
~~يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". رواه مالك في
~~"الموطأ" (3) ، وعن مالك مرسلا ومسندا.
# وقد كانت حجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هو الآن مدفون فيها
~~هي حجرة عائشة، وكانت شرقي المسجد لم تكن داخلة فيه، وكان حجر أزواج النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - قبلي المسجد وشرقيه، وكانت منفصلة عن المسجد على
~~عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الوليد بن عبد الملك، فإنه عمر المسجد وغيره،
~~وكان عمر بن عبد العزيز نائبه على المدينة، فتولى هو عمارة المسجد، فأدخل
~~فيه حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأدخل فيه حجرة عائشة، وأمر
~~عمر أن يحرف الحجرة عن يمين القبلة، وأن يسنم مؤخرها، لئلا يصلي أحد إلى
~~قبر.. (4) . PageV03P047
### | فصل
# في حق الله وحق عبادته وتوحيده
# PageV03P049
# الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات ms0393
~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
# وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
~~- صلى الله عليه وسلم -
# فصل
# في حق الله وحق عبادته وتوحيده
# قد ثبت في الصحيحين (1) عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~قال له: "يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت: الله ورسوله
~~أعلم، قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا. يا معاذ! أتدري ما حق
~~العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه
~~أن لا يعذبهم".
# وروى الطبراني في كتاب الدعاء (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
~~الله يقول: "يا عبادي! إنما هي أربع: واحد لي، وواحدة [لك] ، وواحدة بيني
~~وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فالتي هي لي: تعبدني لا تشرك بي شيئا، والتي
~~هي لك: [عملك] أجزيك به أحوج ما تكون إليه، والتي بيني وبينك: منك الدعاء
~~وعلي الإجابة، والتي بينك وبين خلقي: فأت إلى الناس ما تحب أن يأتوه إليك".
# وضد هذا الظلم، وهو ثلاثة أنواع، كما جاء في الحديث PageV03P051
# مرفوعا (1) وموقوفا على بعض السلف: "الظلم ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر
~~الله منه شيئا، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه
~~شيئا. فالديوان الذي لا يغفره الله هو الشرك، والديوان الذي لا يعبأ الله
~~به شيئا ظلم العبد فيما بينه وبين ربه، والذي لا يترك منه شيئا ظلم العباد
~~بعضهم بعضا.
# فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام بالتوحيد الذي هو حق الله، فعبده لم يشرك به
~~شيئا، ومن عبادته التوكل عليه والرجاء له والخوف منه، فهذا يخلص به العبد
~~من الشرك. وإعطاء الناس حقوقهم وامتناعه من العدوان عليهم يخلص به العبد من
~~ظلمهم، وبطاعة الله يخلص من ظلم نفسه.
# وتقسيمه في الحديث إلى قوله "واحدة لي وواحدة لك" هو مثل تقسيمه في حديث
~~الفاتحة (2) حيث يقول الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين ms0394 عبدي نصفين:
~~نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل". والعبد يعود عليه نفع الصنفين،
~~والله تعالى يحب الصنفين، لكن هو سبحانه يحب أن يعبد، وما يعطيه العبد من
~~الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك، فإنما يحبه لكونه طريقا إلى عبادته.
~~والعبد يطلب ما يحتاج إليه أولا، وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة
~~والهداية إلى الصراط المستقيم، وبذلك يصل إلى العبادة. فهو يطلب ما يحتاج
~~إليه أولا مما يتوسل به إلى محبوب الرب الذي فيه سعادته. PageV03P052
# وكذلك قوله "عملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه"، فإنه يحب الثواب الذي هو
~~جزاء العمل، فإنما يعمل لنفسه، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ثم إذا طلب
~~العبادة فإنما يطلبها من حيث هي نافعة له محصلة لسعادته، فلا يطلب العبد قط
~~إلا ما فيه حظ له، وإن كان الرب يحب ذلك فهو يطلبه من حيث هو ملائم له،
~~والرب تعالى يحب أن يعبد لا يشرك به شيئا، ومن فعل ذلك من العباد أحبه
~~وأثابه، فيحصل للعبد ما يحبه من النعيم تبعا لمحبوب الرب، وهذا كالبائع
~~والمشتري، البائع يريد أولا الثمن، ومن لوازم ذلك إرادة تسليم المبيع،
~~والمشتري يريد السلعة، ومن لوازم ذلك إرادة إعطاء الثمن.
# فالرب تعالى يحب أن يعبد، ومن لوازم ذلك أن يحب مالا تحصل العبادة إلا
~~به، والعبد يحب ما يحتاج إليه وينتفع به، ومن لوازم ذلك محبته لعبادة الله
~~تعالى. فمن عبد الله وأحسن إلى الناس لله فهذا قائم بحق الله وحق عباده
~~لأجله، ومن طلب منهم العوض ثناء أو دعاء أو غير ذلك لم يحسن إليهم لله. ومن
~~خاف الله فيهم ولم يخفهم فقد قام بحق الله في إخلاص الدين له، وقام بحقهم،
~~فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم مالهم ويكف عن ظلمهم؛ ومن [لم] يخف الله
~~بل خاف الناس، ولم يرج الله بل رجا الناس فهذا ظالم في حق الله، حيث خاف
~~غيره ورجا غيره، وظالم للناس لأنه إذا خافهم دون الله فإنه يحتاج أن يدفع
~~شرهم ms0395 عنه، وهو إذا لم يخف الله بنفسه وهواه يختار العدوان عليهم والبغي،
~~فإن طبع النفس ظلم من لا يظلمها، فكيف من يظلمها؟ فتجد هذا الضرب كثير
~~الخوف من الخلق كثير الظلم لمن يخافه بحسبه. وهذا مما يوقع الفتن بين
~~الناس.
# PageV03P053
# وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابد أن يبغضهم فيظلمهم
~~إذا لم يكن خائفا من الله. وهذا موجود كثيرا، تجد الناس يخاف بعضهم بعضا
~~ويرجو بعضهم بعضا، وكل من هؤلاء وهؤلاء يتظلم من الآخر ويطلب ظلمه، فهم
~~ظالمون بعضهم بعضا، ظالمون في حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون
~~لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التي تعذب النفس عليها، وهو أيضا يجر إلى فعل
~~المعاصي المختصة كالشرب والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه،
~~لاسيما إذا كان طالبا ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به
~~وتدفع به الغم والحزن، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح به،
~~فتستريح بالمحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وغير ذلك.
# و
### | لا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى،
# فإن الإنسان خلق محتاجا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ونفسه مريدة
~~دائما، ولابد لها من مراد يكون غاية مطلوبها، فتسكن إليه وتطمئن به، وليس
~~ذلك إلا الله وحده لا شريك له. فإذا لم تكن مخلصة له الدين عبدت غيره،
~~فأشركت به عبادة واستعانة، فتعبد غيره وتستعين غيره. وسعادتها في أن لا
~~تعبد إلا الله، ولا تستعين إلا الله، فبالعبادة له تستغني عن معبود آخر،
~~وبإعانته تستغني عن معين غيره، وإلا يبقى مذنبا محتاجا.
# وهذا حال الإنسان، فإنه محتاج فقير، وهو مع ذلك مذنب خطاء، فلابد له من
~~ربه الذي يسد مفاقره، ولابد له من الاستغفار من ذنوبه. قال تعالى: (فاعلم
~~أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) (1) . PageV03P054
# فبالتوحيد يقوى ويستغني، ومن سره أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله؛
~~وبالاستغفار له يغفر له. فلا يزول فقره وفاقته إلا بالتوحيد، لابد له منه،
~~وإلا ms0396 فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرا محتاجا لا يحصل مطلوبه معذبا، والله
~~تعالى لا يغفر أن يشرك به. وإذا حصل مع التوحيد الاستغفار حصل غناه
~~وسعادته، وزال عنه ما يعذب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
# وهو مفتقر دائما إلى التوكل عليه والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى
~~عبادته، فلابد أن يشهد دائما فقره إليه وحاجته في أن يكون معبودا له وأن
~~يكون معينا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه. قال
~~تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) أي يخوفكم أولياءه (فلا تخافوهم
~~وخافون إن كنتم مؤمنين (175)) (1) . هذا هو الصواب الذي علمه جمهور
~~المفسرين (2) ، كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي، وأهل اللغة
~~كالفراء (3) وابن قتيبة (4) والزجاج (5) وابن الأنباري. وعبارة الفراء:
~~يخوفكم بأوليائه، كما قال: (لينذر بأسا شديدا من لدنه) أي ببأس، وقوله:
~~(لينذر يوم التلاق (15)) أي بيوم التلاق. وعبارة الزجاج: يخوفكم من
~~أوليائه. قال أبو بكر الأنباري (6) : والذي نختاره في الآية أن المعنى
~~يخوفكم أولياءه، يقول العرب: أعطيت الأموال، أي أعطيت القوم الأموال،
~~فيحذفون المفعول الأول، ويقتصرون على ذكر الثاني. PageV03P055
# قال فهذا أشبه من ادعاء "باء"، وما عليها دليل ولا تدعو إليها ضرورة.
# قلت: وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا، ليس له في تخويف
~~ناس [ضرورة] ، فحذف الأول لأنه ليس مقصودا.
# وهذا يسمى حذف اقتصار، كما يقال: فلان يعطي الأموال والدراهم.
# وقد قال بعض المفسرين (1) : إن المراد يخوف أولياءه المنافقين، ونقل هذا
~~عن الحسن والسدي. وهذا له وجه سنذكره، لكن الأول أظهر، لأن الآية إنما نزلت
~~بسبب تخويفهم من الكفار. قال الله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد
~~جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (173)) إلى
~~أن قال: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) ، ثم قال: (فلا تخافوهم وخافون
~~إن كنتم مؤمنين (175)) (2) . فإنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد
~~قال تعالى: (يخوف أولياءه) ثم قال: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) .
~~والضمير عائد إلى أوليائه ms0397 الذين قيل فيهم (فاخشوهم) .
# وأما ذلك القول فالذي قاله فسرها من جهة المعنى أن الشيطان إنما يخوف
~~أولياءه، وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله لا يخوفهم. أو أنهم أرادوا
~~المفعول المتروك، أي يخوف المنافقين أولياءه، وإلا فهو يخوف الكفار كما
~~يخوف المنافقين. ولو أريد أنه يخوف أولياءه أي يجعلهم خائفين لم يكن للضمير
~~ما يعود إليه، وهو قوله (فلا تخافوهم) . PageV03P056
# وأيضا فهذا فيه نظر، فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم، كما قال تعالى:
~~(وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس) الآية (1)
~~، وقال: (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120)) (2) . ولكن
~~الكفار يوقع الله في قلوبهم الرعب من المؤمنين، والشيطان لا يختار ذلك، قال
~~تعالى: (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله) (3) ، وقال تعالى: (إذ يوحي ربك
~~إلى الملائكة أني معكم) الآية (4) ، وقال: (سنلقي في قلوب الذين كفروا
~~الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) (5) . وفي حديث قريظة (6) أن
~~جبريل قال: إني ذاهب إليهم فأزلزل بهم الحصن.
# فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصر للمؤمنين، ولكن الذين
~~قالوا ذلك من السلف أرادوا أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام وهم
~~يوالونه من العدو، فإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما
~~قال تعالى: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56))
~~(7) ، وقال تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم) إلى قوله (وإن يأت الأحزاب
~~يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم) الآية (8) .
~~PageV03P057
# فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه في الآية هو الذي
~~يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين، كما دل عليه سياق الآية ولفظها، وإذا
~~جعلهم الشيطان مخوفين فإنما يخافهم من خوفه الشيطان فجعله خائفا. فالآية
~~دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناسا خائفين أولياءه.
# ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز أن يخاف أولياء الشيطان، وعليه أن يخاف
~~الله، فخوف الله أمر به وخوف أولياء الشيطان نهي عنه. وهذا كقوله في الآية
~~الأخرى: (لئلا يكون للناس ms0398 عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) الآية (1) ،
~~فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته تعالى. وقال: (الذين يبلغون رسالات الله
~~ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) (2) ، وقال: (فإياي فارهبون (51)) (3) .
# وبعض الناس يقول: يا رب! أخافك وأخاف من لا يخافك. وهذا لا يجوز، بل عليه
~~أن يخاف الله، ولا يخاف من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله ظالم من
~~أولياء الشيطان، وهذا قد نهى الله عن أن يخاف.
# وإذا قيل: قد يؤذيني، قيل: إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد سبحانه
~~دفع شره عنك دفعه، فالأمر لله. أنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك
~~شره، ولم يسلطه عليك، فانه تعالى قال: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (4) .
~~PageV03P058
# وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك
~~واستغفرته [لم يسلطه عليك] ، وقد قال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت
~~فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)) (1) . وفي الآثار: "أنا الله
~~مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن
~~عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم
~~عليكم".
# وقد قال لما سلط العدو عليهم يوم أحد: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم
~~مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165))
~~(2) ، وقال تعالى: (وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم
~~في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان
~~قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا
~~وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب
~~الآخرة والله يحب المحسنين (148)) (3) . والأكثرون يقرأون "قاتل معه ربيون
~~كثير"، والربيون الكثير عند جماهير السلف والخلف هم الجماعات الكثيرة (4) .
~~قال ابن مسعود وابن عباس- في رواية عنه- والفراء (5) : ألوف كثيرة" وقال
~~ابن عباس -في رواية أخرى- ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي والربيع
~~وابن قتيبة (6) : جماعات كثيرة. وقرئ PageV03P059
# بالحركات الثلاث في الراء، فعلى هذه القراءة الربيون الذين قاتلوا ms0399 معه هم
~~الذين ما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا.
# وأما على قراءة أبي عمرو وابن كثير ونافع "قتل" ففيها وجهان:
# أحدهما يوافق معنى هذه الآية، أي قتل معه ربيون كثير، فالربيون مقتولون،
~~فما وهنوا أي ما وهن من بقي منهم لقتل كثير منهم.
# والثاني أن النبي قتل ومعه ربيون كثير، فما وهنوا لقتل نبيهم.
# وهذا يناسب كون يوم أحد صرخ الشيطان بأن محمدا قد قتل. لكن هذا المعنى لا
~~يناسب لفظ الآية، فإنه سبحانه قال: "ربيون كثير"، فالمناسب أنهم مع كثرة
~~المصيبة الشاملة لهم ما وهنوا. ولو أريد أن النبي قتل ومعه ناس لم يخافوا
~~لم يحتج إلى تكثيرهم، بل كان تقليلهم هو المناسب، يقول: هم مع قلتهم وقتل
~~نبيهم لم يخافوا.
# وأما إذا كانوا كثيرين لم يكن مدحهم بعدم الخوف فيه عبرة.
# وأيضا فإذا وصف من قتل نبيه بكونهم كثيرين لم يكن في هذا حجة على الصحابة
~~ولا عبرة لهم، فإنهم يوم أحد كانوا قليلين، وكان العدو أضعافهم، فكانوا
~~يقولون: أولئك كانوا ألوفا مؤلفة فلهذا لم يهنوا، ونحن قليلون.
# وأيضا فقوله (وكأين من نبي) يقتضي كثرة ذلك، وهذا لا يعرف أن أنبياء
~~كثيرين قتلوا في الجهاد.
# وأيضا فيقتضي أن المقتولين كان مع كل واحد ربيون كثيرون، فيكون قد قتل
~~أنبياء كثيرون، ومع كل واحد خلق عظيم، وهذا لم يوجد. فإن من قبل موسى من
~~الأنبياء لم يكونوا يقاتلون، وموسى
# PageV03P060
# وأنبياء بني إسرائيل لم يقتلوا في الغزاة، والذين قبلهم بنو إسرائيل من
~~الأنبياء لم يقتلوا في جهاد، بل لا يعرف نبي قتل في جهاد، فكيف يكون هذا
~~كثيرا؟ ويكون جنسه كثيرا ولا يعرف هذا في شيء من الأخبار؟!.
# وهو سبحانه أنكر على من ينقلب على عقبيه، سواء كان النبي مقتولا أو ميتا،
~~لم يخص حال القتل، فلم يذمهم إذا مات أو قتل على الخوف والرعب، بل على
~~الردة والانقلاب على العقبين. ولهذا تلاها الصديق يوم مات النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -، فكأن الناس لم يسمعوها حتى تلاها (1) .
# ثم ذكر بعدها ms0400 معنى آخر، وهو أن من قبلكم كانوا يقاتلون، فيقتل معهم خلق
~~كثير وهم لا يهنون. ويكون ذكر الكثرة مناسبا؛ لأنه إن قتل منهم كثير فهذا
~~يقتضي الوهن وما وهنوا، وإن كان الذين قاتلوا كثيرين وما وهنوا دل على
~~إيمانهم كلهم مع الكثرة. ولم يقل هنا: وما انقلبوا على أعقابهم، فلو كان
~~المراد أن نبيهم قتل لقال: "فما انقلبوا على أعقابهم"، لأنه هو الذي أنكره
~~إذا مات الرسول أو قتل، فأنكر سبحانه شيئين: الارتداد إذا مات الرسول أو
~~قتل، والوهن والضعف والاستكانة لما أصابهم في سبيل الله من استيلاء العدو،
~~ولهذا قال: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) ،
~~ولم يقل: "فما وهنوا لقتل النبي". ولو كان النبي هو المقتول وهم كلهم أحياء
~~لذكر ما يناسب ذلك ولم يقل (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) . ومعلوم
~~أن ما يصيب في سبيل الله في عامة الغزوات لا يكون قتل نبي. PageV03P061
# وأيضا فكون النبي قاتل معه أو قتل معه ربيون كثير لا يستلزم أن يكون معهم
~~في الغزاة، بل كل من اتبع النبي وقاتل على دينه فقد قاتل معه، وكذلك كل من
~~قتل على دينه فقد قتل معه، وحينئذ تظهر كثرة هؤلاء، فإن الذين قاتلوا
~~وأصيبوا وهم على دين الأنبياء كثيرون. ويكون في هذه الآية عبرة لكل
~~المؤمنين إلى يوم القيامة، فإنهم كلهم يقاتلون مع النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - وإن كان النبي قد مات. والصحابة الذين كانوا يغزون في السرايا
~~والرسول غائب عنهم كانوا معه وكانوا يقاتلون معه، وهم داخلون في قوله (محمد
~~رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (1) ، وفي قوله:
~~(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) (2) . فليس من شرط
~~من يكون مع المطاع أن يكون رائيا للمطاع.
# وقد قيل في "ربيين" هنا: إنهم العلماء (3) ، واختاره الرماني والزجاج،
~~وروي عن الحسن وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وذلك قال ابن فارس (4) : هم
~~المتألهون العارفون بالله. وهؤلاء جعلوا لفظ "الربي" كلفظ ms0401 "الرباني". وعن
~~ابن زيد قال: هم الأتباع. كأنه جعلهم المربوبين.
# والمعنى الأول أصح من وجوه:
# أحدها: أن الربانيين غير الأحبار، وهم الذين يربون الناس، وهم
~~PageV03P062
# أئمتهم الذين يقتدون بهم في دينهم. ومعلوم أن هؤلاء لا يكونون إلا قليلا،
~~فكيف يقال: هم كثير؟.
# والثاني: أن الأمر بالجهاد والصبر لا يختص بهؤلاء، والصحابة لم يكونوا
~~كلهم ربانيين، فيقولون: أولئك أعطوا علما منعهم [من] الخوف.
# الثالث: أن استعمال لفظ "الربي" في هذا ليس معروفا في اللغة، بل المعروف
~~الأول. والذين قالوا ذلك قالوا: هو نسبة إلى الرب بلا نون، والقراءة
~~المشهورة: "ربي" بالكسر، وما قالوه إنما يتوجه على قراءة من قرأ "ربيون"
~~بالفتح، وقد قرئ "ربيون" بالضم. فعلم أنها لغات.
# الرابع: أن الله تعالى يأمر بالصبر والثبات كل من يأمره بالجهاد، سواء
~~كان من الربانيين أو لم يكن.
# الخامس: أنه لا مناسبة في تخصيص هؤلاء بالذكر، وإنما المناسب ذكرهم في
~~مثل قوله: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الأثم وأكلهم السحت)
~~(1) ، وفي مثل قوله: (ولكن كونوا ربانيين) (2) ، وهناك ذكرهم بلفظ
~~الربانيين.
# السادس: أن "الرباني" قيل: منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون،
~~كالرقباني واللحياني، وقيل: إنه منسوب إلى ربان السفينة.
# وهذا أصح، فإن الأصل عدم الزيادة في النسبة، لأنهم منسوبون إلى
~~PageV03P063
# تربية الناس وكونهم يربونهم، وهذه النسبة تختص بهم. وأما نسبتهم إلى الرب
~~فلا اختصاص لهم بذلك، بل كل عبد فهو منسوب إليه. ولم يسم الله تعالى
~~أولياءه المتقين ربانيين، ولا سمى أنبياءه والرسل ربانيين، فإن الرباني من
~~يرب الناس كما يرب الربان السفينة. ولهذا كان الربانيون يذمون تارة ويمدحون
~~أخرى، ولو كانوا منسوبين إلى الرب بأنهم عرفوه وعبدوه لم يكونوا مذمومين
~~قط، وهذا هو الوجه السابع:
# أن نسبتهم إلى الرب إن جعلت مدحا فقد ذم الله الربانيين في موضع آخر، وإن
~~لم تجعل مدحا لم يكن لهؤلاء خاصة يمتازون بها من جهة المدح. وإذا كان
~~الرباني منسوبا إلى ربان السفينة لا إلى الرب بطل قول من يجعل الرباني
~~منسوبا إلى الرب، فنسبة "الربيون ms0402" إلى الرب أولى بالبطلان.
# الثامن: أنه إذا قدر أنهم منسوبون إلى الرب فهذه النسبة لا تدل على أنهم
~~علماء، نعم تدل على إيمان وعبادة وتأله، قاله ابن فارس. وهذا يعم جميع
~~المؤمنين، فكل من عبد الله وحده لا يشرك به شيئا فهو متأله عارف بالله.
# والصحابة كلهم كانوا يعبدون الله وحده لا يشركون به شيئا، وكانوا متألهين
~~عارفين بالله، ولم يسموا "ربيون" ولا "ربانيون"، وإنما جاء عن منذر الثوري
~~قال: قال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة (1)
~~، لكونه كان يؤدبهم بما أعطاه الله من PageV03P064
# العلم، فيأمرهم وينهاهم. والخلفاء الراشدون كانوا ربانيين. وقال إبراهيم:
~~كان علقمة من الربانيين. ولهذا قال مجاهد: هم الذين يربون الناس بصغار
~~العلم قبل كباره. فهم أهل الأمر والنهي والأخبار، يدخل فيه من أخبر بالعلم
~~ورواه عن غيره وحدث به، وإن لم يأمر وينه، وذلك هو المنقول عن السلف في
~~"الرباني" (1) . نقل عن علي رضي الله عنه قال: هم الذين يغذون الناس
~~بالحكمة ويربونهم عليها، وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلمون.
# قلت: أهل الأمر والنهي [هم الفقهاء المعلمون] .
# وعن قتادة وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قال ابن قتيبة (2) :
~~واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. وقال أبو عبيد (3) : أحسب الكلمة ليست
~~بعربية، إنما هي عبرانية أو سريانية. وذلك أن أبا عبيدة زعم أن العرب لا
~~تعرف الربانيين. قال أبو عبيد: وإنما عرفها الفقهاء وأهل العلم. قال: وسمعت
~~رجلا عالما بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام والأمر والنهي.
# قلت: هذا صحيح، واللفظة عربية منسوبة إلى ربان السفينة، ولكن العرب في
~~جاهليتهم لم يكن لهم ربانيون، لأنهم لم يكونوا على شريعة منزلة من الله عز
~~وجل، فلهذا لم يشتهر هذا الاسم عنهم. PageV03P065
# وحكى ابن الأنباري (1) عن بعض اللغويين أن الرباني منسوب إلى الرب، لأن
~~العلم مما يطاع الله به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما
~~قالوا: رجل لحياني إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية.
# وهذا قول ضعيف كما تقدم التنبيه عليه.
# والله سبحانه ms0403 أعلم. والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
~~وسلم. PageV03P066
### | رسالة إلى المنسوبين إلى التشيع
# وغيرهم في العراق ومشهد المنتظر
# PageV03P067
# بسم الله الرحمن الرحيم
# قال الشيخ الإمام العالم فريد عصره، مفتي الفرق، شيخ الإسلام تقي الدين
~~أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام العالم شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ
~~الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية -رضي الله عنه وأرضاه وأعلى
~~درجته-:
# هذا الكتاب إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين، الذين يتولون الله
~~ورسوله والذين آمنوا (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
~~الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا
~~فإن حزب الله هم الغالبون (56)) (1) ، الذين يحبون الله ورسوله ومن أحبه
~~الله ورسوله، ويعرفون من حق المتصلين برسول الله ما شرعه الله ورسوله، فإن
~~من محبة الله وطاعته محبة رسوله وطاعته، ومن محبة رسوله وطاعته محبة من
~~أحبه الرسول وطاعة من أمر الرسول بطاعته، كما قال تعالى: (يا أيها الذين
~~آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء
~~فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن
~~تأويلا (59)) (2) .
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع
~~أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" (3) .
~~PageV03P069
# وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه أمير المؤمنين علي بن أبي
~~طالب رضي الله عنه: "إنما الطاعة في المعروف" (1) .
# وقال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (2) .
# سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا
~~هو، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، ونصلي على إمام المتقين وخاتم
~~النبيين محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
# أما بعد، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا بالكتاب والحكمة، ليخرج الناس
~~من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (3) ، وقال الله
~~تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من ms0404 أنفسهم يتلو عليهم
~~آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين
~~(164)) (4) ، وقال تعالى: (واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من
~~الكتاب والحكمة يعظكم به) (5) ، وقال لأزواج نبيه: (واذكرن ما يتلى في
~~بيوتكن من آيات الله والحكمة) (6) . PageV03P070
# والذي كان يتلوه هو ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في بيوت أزواجه: كتاب
~~الله والحكمة، فكتاب الله هو القرآن، والحكمة هي ما كان يذكره من كلامه،
~~وهي سنته. فعلى المسلمين أن يتعلموا هذا وهذا.
# وفي الحديث المشهور الذي رواه الترمذي وغيره (1) عن أمير المؤمنين علي بن
~~أبي طالب -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ستكون
~~فتنة"، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما
~~قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من
~~جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين،
~~وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا
~~تلتبس به الألسن، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. من قال به
~~صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فدي إلى صراط مستقيم".
# وقال الله تعالى في كتابه: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (2) ،
~~وقال في كتابه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) (3) .
# فذم الذين تفرقوا فصاروا أحزابا وشيعا، وحمد الذين اتفقوا وصاروا
~~PageV03P071
# جميعا معتصمين بحبل الله الذي هو كتابه شيعة واحدة للأنبياء، كما قال
~~تعالى: (وإن من شيعته لإبراهيم (83)) (1) . وإبراهيم هو إمام الأنبياء، كما
~~قال تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس
~~إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)) (2) ، وقال تعالى:
~~(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120)) إلى أن
~~قال: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) .
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أمته أن ms0405 يقولوا إذا أصبحوا:
~~"أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد - صلى الله عليه
~~وسلم -، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين" (4) .
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه،
~~فلا ألفين رجلا شبعان على أريكته يقول: بيننا وبينكم هذا القرآن، فما وجدنا
~~فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. إلا إني أوتيت الكتاب
~~ومثله معه" (5) .
# فهذا الحديث موافق لكتاب الله، فإن الله ذكر في كتابه أنه - صلى الله
~~عليه وسلم - PageV03P072
# يتلو الكتاب والحكمة، وهي التي أوتيها مع الكتاب، وقد أمر في كتابه
~~بالاعتصام بحبله جميعا، ونهى عن التفرق والاختلاف، و [أمر] أن نكون شيعة
~~واحدة لا شيعا متفرقين. وقال الله تعالى في كتابه: (وإن طائفتان من
~~المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي
~~تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن
~~الله يحب المقسطين (9)) (1) . فجعل المؤمنين إخوة، وأمر بالإصلاح بينهم
~~بالعدل مع وجود الاقتتال والبغي.
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
~~وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى
~~والسهر" (2) . وقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وشبك بين
~~أصابعه (3) .
# فهذه أصول الإسلام التي هي الكتاب والحكمة والاعتصام بحبل الله جميعا،
~~على أهل الإيمان الاستمساك بها. ولا ريب أن الله قد أوجب فيها من حرمة
~~خلفائه وأهل بيته والسابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ما أوجب، قال
~~الله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها
~~فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار
~~الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)) (4) . PageV03P073
# وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما (1) عن أم سلمة أن هذه الآية لما
~~نزلت أدار النبي - صلى الله عليه وسلم - كساءه على علي وفاطمة والحسن
~~والحسين رضي الله عنهم، فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الزجس
~~وطهرهم تطهيرا".
# وسنته تفسر كتاب ms0406 الله وتبينه، وتدل عليه وتعبر عنه، فلما قال: "هؤلاء أهل
~~بيتي" -مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه-علمنا أن أزواجه وإن
~~كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن، فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته، لأن
~~صلة النسب أقوى من صلة الصهر. والعرب تطلق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا
~~للاختصاص بأصل الحكم، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس المسكين
~~بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، وإنما المسكين
~~الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يتفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافا"
~~(2) .
# بين بذلك أن هذا مختص بكمال المسكنة، بخلاف الطواف فإنه لا تكمل فيه
~~المسكنة، لوجود من يعطيه أحيانا، مع أنه مسكين أيضا. ويقال: هذا هو العالم،
~~وهذا هو العدو، وهذا هو المسلم، لمن كمل فيه ذلك، وإن شاركه غيره في ذلك
~~وكان دونه.
# ونظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه (3) عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - PageV03P074
# أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: "مسجدي هذا" يعني مسجد
~~المدينة. مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار (لا تقم فيه أبدا لمسجد
~~أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا
~~والله يحب المطهرين (108)) (1) يقتضي أنه مسجد قباء، فإنه قد تواتر أنه قال
~~لأهل قباء: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟ "، فقالوا: لأننا
~~نستنجي بالماء (2) . لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسسا على التقوى من مسجد
~~قباء، وإن كان كل منهما مؤسسا على التقوى، وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد
~~الضرار، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي قباء كل سبت
~~راكبا وماشيا (3) . فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة، ثم يقوم
~~بقباء يوم السبت، وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى.
# ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل ببته ويطهرهم تطهيرا، دعا
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لأقرب أهل بيته وأعظمهم ms0407 اختصاصا به، وهم: علي
~~وفاطمة -رضي الله عنهما- وسيدا شباب أهل الجنة، جمع الله لهم بين أن قضى
~~لهم بالتطهير، وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله
~~ليسبغها عليهم، ورحمة من الله وفضل لم PageV03P075
# يبلغوهما لمجرد حولهم وقوتهم، إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته
~~وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه.
# وقد ثبت أيضا بالنقل الصحيح (1) أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - على أزواجه، وخيرهن كما أمره الله، فاخترن الله
~~ورسوله والدار الآخرة، ولذلك أقرهن ولم يطلقهن حتى مات عنهن. ولو أردن
~~الحياة الدنيا وزينتها لكان يمتعهن ويسرحهن كما أمره الله سبحانه وتعالى،
~~فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخشى الأمة لربه وأعلمهم بحدوده.
# ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور ورفع الوزر بلغنا عن
~~الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام أنه قال: إني لأرجو أن
~~يعطي الله للمحسن منا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين.
# وثبت في صحيح مسلم (2) عن زيد بن أرقم أنه قال: خطبنا رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - بغدير يدعى "خم" بين مكة والمدينة، فقال: "وأهل بيتي،
~~أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: ومن
~~أهل بيته؟ قال: الذين حرموا الصدقة: آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل عباس.
~~قيل لزيد: أكل هؤلاء أهل بيته؟ قال: نعم.
# وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحاح (3) أن الله لما
~~أنزل عليه PageV03P076
# (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
~~تسليما (56)) (1) سأل الصحابة كيف يصلون عليه، فقال: "قولوا: اللهم صل على
~~محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد،
~~وبارك ms0408 على محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
# وفي حديث صحيح (2) : "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته". وثبت عنه (3)
~~أن ابنه الحسن لما تناول تمرة من تمر الصدقة قال له: "كخذ كخ، أما علمت أنا
~~-آل بيت- لا تحل لنا الصدقة؟ " وقال (4) : "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل
~~محمد".
# وهذا -والله أعلم- من التطهير الذي شرعه الله لهم، فإن الصدقة أوساخ
~~الناس، فطهرهم الله من الأوساخ، وعوضهم بما يقيتهم من خمس الغنائم، ومن
~~الفيء الذي جعل منه رزق محمد، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد
~~وغيره (5) : "بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى PageV03P077
# يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار
~~على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم".
# ولهذا ينبغي أن يكون اهتمامهم بكفاية أهل البيت الذين حرمت عليهم الصدقة
~~أكثر من اهتمامهم بكفاية الآخرين من الصدقة، لاسيما إذا تعذر أخذهم من
~~الخمس والفيء، إما لقلة ذلك، وإما لظلم من يستولي على حقوقهم فيمنعهم إياها
~~من ولاة الظلم، فيعطون من الصدقة المفروضة ما يكفيهم إذا لم تحصل كفايتهم
~~من الخمس والفيء.
# وعلى الآخذين من الفيء من ذوي القربى وغيرهم أن يتصفوا بما وصف الله به
~~أهل الفيء في كتابه، حيث قال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله
~~وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) الآيات (1) . فجعل
~~أهل الفيء ثلاثة أصناف: المهاجرين، والأنصار، (والذين جاءوا من بعدهم
~~يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالأيمان ولا تجعل في قلوبنا
~~غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم (10)) (2) .
# وذلك أن الفيء إنما حصل بجهاد المهاجرين والأنصار وإيمانهم وهجرتهم
~~ونصرتهم، فالمتأخرون إنما يتناولونه مخلفا عن أولئك، مشبها بتناول الوارث
~~ميراث أبيه، فان لم يكن مواليا له لم يستحق الميراث، فلا يرث المسلم
~~الكافر، فمن لم يستغفر لأولئك بل كان مبغضا لهم خرج عن الوصف الذي وصف الله
~~به أهل الفيء، حتى يكون قلبه مسلما لهم، ولسانه داعيا ms0409 لهم. ولو فرض أنه صدر
~~من PageV03P078
# واحد منهم ذنب محقق فإن الله يغفره له بحسناته العظيمة، أو بتوبة تصدر
~~منه، أو يبتليه ببلاء يكفر به سيئاته، أو يقبل فيه شفاعة نبيه وإخوانه
~~المؤمنين، أو يدعو الله بدعاء يستجيبه له.
# وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح (1) من رواية أمير
~~المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حاطب بن أبي بلتعة كاتب كفار مكة
~~لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزوهم غزوة الفتح، فبعث إليهم
~~امرأة معها كتاب يخبرهم فيه بذلك، فجاء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - بذلك، فبعث عليا والزبير، فأحضرا الكتاب، فقال: "ما هذا يا حاطب؟ "،
~~فقال: والله يا رسول الله! ما فعلت ذلك أذى ولا كفرا، ولكن كنت امرأ ملصقا
~~من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم قرابات يحمون بها
~~أهليهم، فأردت أن أتخذ عندهم يدا أحمي بها قرابتي. فقال عمر بن الخطاب رضي
~~الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: "إنه شهد بدرا،
~~وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت
~~لكم". وأنزل الله تعالى في ذلك (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم
~~أولياء تلقون إليهم بالمودة) الآيات (2) .
# وثبت في صحيح مسلم (3) أن غلام حاطب هذا جاء إلى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - فقال: يا رسول الله! والله ليدخلن حاطب النار، وكان حاطب يسيء إلى
~~مماليكه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كذبت، إنه قد شهد بدرا
~~والحديبية". PageV03P079
# وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل النار واحد بايع تحت الشجرة" (1)
~~.
# فهذا حاطب قد تجسس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة فتح مكة
~~التي كان - صلى الله عليه وسلم - يكتمها عن عدوه، وكتمها عن أصحابه، وهذا
~~من الذنوب الشديدة جدا. وكان يسيء إلى مماليكه، وفي الحديث المرفوع: "لن
~~يدخل الجنة سيئ الملكة" (2) . ثم مع هذا لما شهد بدرا ms0410 والحديبية غفر الله
~~له ورضي عنه، فإن الحسنات يذهبن السيئات. فكيف بالذين هم أفضل من حاطب،
~~وأعظم إيمانا وعلما وهجرة وجهادا، فلم يدنب أحد قريبا من ذنوبه؟!
# ثم إن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه روى هذا الحديث في خلافته، ورواه
~~عنه كاتبه عبيد الله بن أبي رافع (3) ، وأخبر فيه أنه هو والزبير ذهبا لطلب
~~الكتاب من المرأة الظعينة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد لأهل بدر
~~بما شهد، مع علم أمير المؤمنين بما جرى، ليكف القلوب والألسنة عن أن تتكلم
~~فيهم إلا بالحسنى، فلم يأت أحد منهم بأشد ما جاء به حاطب، بل كانوا في غالب
~~ما يأتون به مجتهدين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتهد
~~الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، وهذا حديث صحيح مشهور
~~(4) . PageV03P080
# وثبت عنه (1) أيضا أنه لما كان في غزوة الأحزاب فرد الله الأحزاب بغيظهم
~~لم ينالوا خيرا، وأمر نبيه بقصد بني قريظة، قال لأصحابه: "لا يصلين أحد
~~منكم العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فمنهم قوم
~~قالوا: لا نصليها إلا في بني قريظة، ومنهم قوم قالوا: لم يرد منا تفويت
~~الصلاة، إنما أراد المسارعة، فصلوا في الطريق. فلم يعنف النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - واحدة من الطائفتين.
# وكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه موافقة لما ذكره الله
~~سبحانه وتعالى في كتابه، حيث قال: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ
~~نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا
~~حكما وعلما) (2) . فأخبر سبحانه وتعالى أنه خص أحد النبيين بفهم الحكم في
~~تلك القضية، وأثنى على كل منهما بما آتاه الله من العلم والحكم.
# فهكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
~~-رضي الله عنهم ورضوا عنه-[كانوا] فيما تنازعوا فيه مجتهدين طالبين للحق.
# وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من يعش منكم بعدي
~~فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من
~~بعدي ms0411، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل PageV03P081
# بدعة ضلالة" (1) .
# وروى عنه مولاه سفينة أنه قال: "الخلافة ثلاثون سنة، ثم تصير ملكا" (2) ،
~~فكان آخر الثلاثين حين سلم سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن بن
~~علي -رضي الله عنهما- الأمر إلى معاوية، وكان معاوية أول الملوك، وفيه ملك
~~ورحمة، كما روي في الحديث: "ستكون خلافة نبوة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون
~~ملك وجبرية، ثم يكون ملك عضوض" (3) .
# وقد ثبت عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه من وجوه أنه لما قاتل أهل
~~الجمل لم يسب لهم ذرية، ولم يغنم لهم مالا، ولا أجهز على جريح، ولا اتبع
~~مدبرا، ولا قتل أسيرا، وأنه صلى على قتلى الطائفتين بالجمل وصفين، وقال:
~~"إخواننا بغوا علينا" (4) ، وأخبر أنهم ليسوا بكفار ولا منافقين، واتبع
~~فيما قاله كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله سماهم
~~إخوة، وجعلهم مؤمنين في الاقتتال والبغي، كما ذكر في قوله: (وإن طائفتان من
~~المؤمنين اقتتلوا) (5) .
# وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحاح (6) أنه قال: "تمرق
~~مارقة على PageV03P082
# حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق". وهذه المارقة هم
~~أهل حروراء، الذين قتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
~~وأصحابه لما مرقوا من الإسلام، وخرجوا عليه، فكفروه وكفروا سائر المسلمين،
~~واستحلوا دماءهم وأموالهم.
# وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق متواترة (1) أنه وصفهم
~~وأمر بقتالهم، فقال: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم،
~~وقرأنه مع قرآنهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما
~~يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقتلونهم مالهم على لسان محمد - صلى
~~الله عليه وسلم - لنكلوا عن العمل". فقتلهم علي رضي الله عنه وأصحابه، وسر
~~أمير المؤمنين بقتلهم سرورا شديدا، وسجد الله شكرا، لما ظهر فيهم علامتهم،
~~وهو المخدج اليد الذي على يده مثل البضعة من اللحم عليها شعرات، فاتفق جميع
~~الصحابة على استحلال قتالهم، وندم كثير منهم -كابن عمر وغيره- أن ms0412 لا يكونوا
~~شهدوا قتالهم مع أمير المؤمنين. بخلاف ما جرى في وقعة الجمل وصفين، فإن
~~أمير المؤمنين كان متوجعا لذلك القتال، متشكيا مما جرى، يتراجع هو وابنه
~~الحسن القول فيه، ويذكر له الحسن أن رأيه أن لا يفعله.
# فلا يستوي ما سر قلب أمير المؤمنين وأصحابه وغبطه به من لم يشهده، مع ما
~~تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه وساءه وساء قلب أفضل أهل بيته
~~حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي قال فيه: "اللهم إني أحبه، فأحب من
~~PageV03P083
# يحبه" (1) . وإن كان أمير المؤمنين هو أولى بالحق ممن قاتله في جميع
~~حروبه.
# ولا يستوي القتلى الذين صلى عليهم وسماهم "إخواننا"، والقتلى الذين لم
~~يصل عليهم، بل قيل له: من (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون
~~أنهم يحسنون صنعا (104)) (2) ؟ فقال: هم أهل حروراء.
# فهذا الفرق بين أهل حروراء وبين غيرهم الذي سماه أمير المؤمنين في خلافته
~~بقوله وفعله موافقا فيه لكتاب الله وسنة نبيه-: هو الصواب الذي لا معدل عنه
~~لمن هدي رشده، وإن كان كثير من علماء السلف والخلف لا يهتدون لهذا الفرقان،
~~بل يجعلون السيرة في الجميع واحدة، فإما أن يقصروا بالخوارج عما يستحقونه
~~من البغض واللعنة والعقوبة والقتل، وإما أن يزيدوا على غيرهم ما يستحقونه
~~من ذلك.
# وسبب ذلك قلة العلم والفهم لكتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وسيرة
~~خلفائه الراشدين المهديين، وإلا فمن استهدى الله واستعانه بحث عن ذلك، وطلب
~~الصحيح من المنقول، وتدبر كتاب الله وسنة نبيه وسنة خلفائه، لاسيما سيرة
~~أمير المؤمنين الهادي المهدي، التي جرى فيها ما اشتبه على خلق كثير فضلو
~~بسبب ذلك، إما غلوا فيه وإما جفاء عنه، كما روي عنه أنه قال: "يهلك في
~~رجلان: محب غال يقرظني بما ليس في، ومبغض قال يرميني بما نزهني الله منه"
~~(3) . PageV03P084
# وحد ذلك وملاك ذلك شيئان: طلب الهدى ومجانبة الهوى، حتى لا يكون الإنسان
~~ضالا وغاويا، بل مهتديا راشدا. قال الله تعالى في حق نبيه - صلى الله عليه
~~وسلم -: (والنجم ms0413 إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى
~~(3) إن هو إلا وحي يوحى (4)) (1) ، فوصفه بأنه ليس بضال وهو الجاهل، ولا
~~غاو وهو الظالم، فإن صلاح العبد في أن يعلم الحق ويعمل به، فمن لم يعلم
~~الحق فهو ضال عنه، ومن علمه فخالفه واتبع هواه فهو غاو، ومن علمه وعمل به
~~كان من أولي الأيدي عملا ومن أولي الأبصار علما. وهو الصراط المستقيم الذي
~~أمرنا الله سبحانه في كل صلاة أن نقول: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط
~~الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (2) ، فالمغضوب
~~عليهم: الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه كاليهود، والضالون: الذين يعملون
~~أعمال القلوب والجوارح بلا علم كالنصارى.
# ولهذا وصف الله اليهود بالغواية في قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين
~~يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل
~~الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا
~~بآياتنا وكانوا عنها غافلين) (3) ، ووصف العالم الذي لم يعمل بعلمه بذلك في
~~قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه
~~الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض
~~واتبع هواه (176)) (4) .
# ووصف النصارى بالضلال في قوله تعالى: (ولا تتبعوا أهواء قوم PageV03P085
# قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)) (1) ، ووصف بذلك
~~من يتبع هواه بغير علم حيث قال: (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن
~~ربك هو أعلم بالمعتدين (119)) (2) ، وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى
~~من الله) (3) .
# وأخبر أن من اتبع هداه المنزل فإنه لا يضل كما ضل الضالون، ولا يشقى كما
~~شقي المغضوب عليهم، فقال: (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا
~~يشقى) (4) . قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه إلا يضل
~~في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (5) .
# ومن تمام الهداية أن ينظر المستهدي في كتاب الله، وفيما تواتر من سنة
~~نبيه وسنة الخلفاء، وما نقله الثقات الأثبات، ويميز ms0414 بين ذلك وبين ما نقله
~~من لا يحفظ الحديث، أو يتهم فيه بكذب لغرض من الأغراض، فإن المحدث بالباطل
~~إما أن يتعمد الكذب، أو يكذب خطأ لسوء حفظه أو نسيانه أو لقلة فهمه وضبطه.
# ثم إذا حصلت، المعرفة بذلك تدبر ذلك، وجمع بين المتفق منه، وتدبر المختلف
~~منه حتى يتبين له أنه متفق في الحقيقة وإن كان الظاهر مختلفا، أو أن بعضه
~~راجح يجب اتباعه، والآخر مرجوح ليس بدليل في الحقيقة وإن كان في الظاهر
~~دليلا. PageV03P086
# أما غلط الناس فلعدم التمييز بين ما يعقل من النصوص والآثار،
# أو يعقل بمجرد القياس والاعتبار، ثم إذا خالط الظن والغلط في العلم
# هوى النفوس ومناها في العمل صار لصاحبها نصيب من قوله تعالى
# (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23)) (1)
~~.
# وهذا سبب ما خلق الإنسان عليه من الجهل في نوع العلم، والظلم في نوع
~~العمل، فبجهله يتبع الظن، وبظلمه يتبع ما تهوى الأنفس. ولما بعث الله رسله
~~وأنزل كتبه لهدى الناس وإرشادهم، صار أشدهم اتباعا للرسل أبعدهم عن ذلك،
~~كما قال تعالى: (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين
~~وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه
~~إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين
~~آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
~~(213)) (2) .
# ولهذا صار ما وصف الله به الإنسان لا يخص غير المسلمين دونهم، ولا يخص
~~طائفة من الأمة، لكن غير المسلمين أصابهم ذلك في أصول الإيمان التي صار
~~جهلهم وظلمهم فيها كفرانا وخسرانا مبينا، ولذلك من ابتدع في أصول الدين
~~بدعة جليلة أصابه من ذلك أشد مما يصيب من أخطأ في أمر دقيق أو أذنب فيه،
~~والنفوس لهجة بمعرفة محاسنها ومساوئ غيرها.
# وأما العالم العادل فلا يقول إلا الحق، ولا يتبع إلا إياه، ولهذا من يتبع
~~المنقول الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه وأئمة أهل ms0415
~~PageV03P087
# بيته -مثل الإمام علي بن الحسين زين العابدين، وابنه الإمام أبي جعفر
~~محمد بن علي الباقر، وابنه الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق شيخ
~~علماء الأمة- ومثل مالك بن أنس والثوري وطبقتهما، وجد ذلك جميعه متفقا
~~مجتمعا في أصول دينهم وجماع شريعتهم، ووجد في ذلك ما يشغله وما يغنيه عما
~~أحدثه كثير من المتأخرين من أنواع المقالات التي تخالف ما كان عليه أولئك
~~السلف، ممن ينتصب (1) لعداوة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
~~ويبخسهم حقوقهم ويؤذيهم، أو ممن يغلو فيهم غير الحق، ويفتري عليهم الكذب،
~~ويبخس السابقين والطائعين حقوقهم.
# ورأى (2) أن في المأثور عن أولئك السلف في باب التوحيد والصفات، وباب
~~العدل والقدر، وباب الإيمان والأسماء والأحكام، وباب الوعيد والثواب
~~والعذاب، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتصل به من حكم
~~الأمراء أبرارهم وفجارهم، وحكم الرعية معهم، والكلام في الصحابة والقرابة-:
~~ما يبين لكل عاقل عادل أن السلف المذكورين لم يكن بينهم من النزاع في هذه
~~الأبواب إلا من جنس النزاع الذي أقرهم عليه الكتاب والسنة كما تقدم ذكره،
~~وأن البدع الغليظة المخالفة للكتاب والسنة واتفاق أولي الأمر الهداة
~~المهتدين إنما حدثت من الأخلاف، وقد يعزون بعض ذلك إلى بعض الأسلاف، تارة
~~بنقل غير ثابت، وتارة بتأويل لشيء من كلامهم متشابه. PageV03P088
# ثم إن من رحمة الله أنه قل أن ينقل عنهم شيء من ذلك إلا وفي النقول
~~الصحيحة الثابتة عنهم للقول المحكم الصريح ما يبين غلط الغالطين عليهم في
~~النقل أو التأويل، وهذا لأن الصراط المستقيم في كل الأمة بمنزلة الصراط في
~~الملل، فكمال الإسلام هو الوسط في الأديان والملل، كما قال تعالى: (وكذلك
~~جعلناكم أمة وسطا) (1) لم ينحرفوا انحراف اليهود والنصارى والصابئين. فكذلك
~~أهل الاستقامة، ولزوم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما عليه
~~السلف، تمسكوا بالوسط، ولم ينحرفوا إلى الأطراف.
# فاليهود مثلا جفوا في الأنبياء والصديقين حتى قتلوهم وكذبوهم، كما قال
~~الله تعالى: (ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)) (2) ، والنصارى. غلوا فيهم
~~حتى عبدوهم ms0416، كما قال تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا
~~على الله إلا الحق) الآية (3) .
# واليهود انحرفوا في النسخ، حتى زعموا أنه لا يقع من الله ولا يجوز عليه،
~~كما ذكر الله عنهم إنكاره في القرآن حيث قال: (سيقول السفهاء من الناس ما
~~ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) (4) ، والنصارى قابلوهم، فجوزوا
~~للقسيسين والرهبان أن يوجبوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا.
# وكذلك تقابلهم في سائر الأمور.
# فهدى الله المؤمنين إلى الوسط، فاعتقدوا في الأنبياء ما يستحقونه،
~~ووقروهم وعزروهم وأحبوهم، وأطاعوهم واتبعوهم، ولم يردوهم PageV03P089
# كما فعلت اليهود" ولا أطروهم ولا غلوا فيهم فنزلوهم منزلة الربوبية كما
~~فعلت النصارى. وكذلك في النسخ، جوزوا أن ينسخ الله، ولم يجوزوا لغيره أن
~~ينسخ، فإن الله له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره.
# وهكذا أهل الاستقامة في الإسلام المعتصمون بالحكمة النبوية والعصمة
~~الجماعية، متوسطون في باب التوحيد والصفات بين النفاة المعطلة وبين المشبهة
~~الممثلة، وفي باب القدر والعدل والأفعال بين القدرية الجبرية والقدرية
~~المجوسية، وفي باب الأسماء والأحكام بين من أخرج أهل المعاصي من الإيمان
~~بالكلية كالخوارج وأهل المنزلة، وبين من جعل إيمان الفساق كإيمان الأنبياء
~~والصديقين كالمرجئة والجهمية، وفي باب الوعيد والثواب والعقاب بين
~~الوعيديين الذين لا يقولون بشفاعة نبينا لأهل الكبائر، وبين المرجئة الذين
~~لا يقولون بنفود الوعيد، وفي باب الإمامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
~~بين الذين يوافقون الولاة على الإثم والعدوان ويركنون إلى الذين ظلموا،
~~وبين الذين لا يرون أن يعاونوا أحدا على البر والتقوى لا على جهاد ولا جمعة
~~ولا أعياد إلا أن يكون معصوما، ولا يدخلوا فيما أمر الله به ورسوله إلا في
~~طاعة من لا وجود له.
# فالأولون يدخلون في المحرمات، وهؤلاء يتركون واجبات الدين وشرائع
~~الإسلام، وغلاتهم يتركونها لأجل موافقة من يظنونه ظالما، وقد يكون كاملا في
~~علمه وعدله.
# وأهل الاستقامة والاعتدال يطيعون الله ورسوله بحسب الإمكان، فيتقون الله
~~ما استطاعوا، وإذا أمرهم الرسول بأمر أتوا منه ما استطاعوا، ولا يتركون ما ms0417
~~أمروا به لفعل غيرهم ما نهي عنه، بل كما قال تعالى:
# PageV03P090
# (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (1) .
~~ولا يعاونون أحدا على معصية، ولا يزيلون المنكر بما هو أنكر منه، ولا
~~يأمرون بالمعروف إلا بالمعروف. فهم وسط في عامة الأمور، ولهذا وصفهم النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - بأنهم الطائفة الناجية لما ذكر اختلاف أمته
~~وافتراقهم (2) .
# ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه وأحد
~~سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة الأشقياء، وكان
~~ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام. وقد روى الإمام أحمد
~~وغيره (3) عن فاطمة بنت الحسين -وقد كانت قد شهدت مصرع أبيها- عن أبيها
~~الحسين بن علي رضي الله عنهم، عن جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "ما من رجل يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت، فيحدث لها استرجاعا،
~~إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها".
# فقد علم الله أن مثل هذه المصيبة العظيمة سيتجدد ذكرها مع تقادم العهد،
~~فكان من محاسن الإسلام أن روى هذا الحديث صاحب المصيبة والمصاب به أولا،
~~ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه، ورفعا لدرجته
~~ومنزلته عند الله، وتبليغا له منازل الشهداء، وإلحاقا له بأهل بيته الذين
~~ابتلوا بأصناف البلاء. ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل
~~لجدهما PageV03P091
# ولأمهما وعمهما، لأنهما ولدا في عز الإسلام، وتربيا في حجور المؤمنين،
~~فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة، أحدهما مسموما والآخر مقتولا، لأن الله
~~عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالها إلا أهل البلاء، كما
~~قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال:
~~"الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن
~~كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال
~~البلاء بالمؤمن حتى يمشي على ms0418 الأرض وليس عليه خطيئة" (1) .
# وشقي بقتله من أعان عليه أو رضي به. فالذي شرعه الله للمؤمنين عند
~~الإصابة بالمصائب وإن عظمت أن يقولوا: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقد روى
~~الشافعي في مسنده (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات وأصاب أهل
~~بيته من المصيبة ما أصابهم، سمعوا قائلا يقول: يا آل بيت رسول الله! إن في
~~الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا
~~وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. فكانوا يرونه الخضر جاء يعزيهم
~~بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. PageV03P092
# فأما اتخاذ المآتم في المصائب واتخاذ أوقاتها مآتم فليس من دين الإسلام،
~~وهو أمر لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من السابقين
~~الأولين ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من عادة أهل البيت ولا غيرهم. وقد
~~شهد مقتل علي أهل بيته، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته، وقد مرت على
~~ذلك سنون كثيرة وهم متمسكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا
~~يحدثون مأتما ولا نياحة، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله، أو
~~يفعلون مالا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة. قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -: "ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد
~~واللسان فمن الشيطان" (1) ، وقال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا
~~بدعوى الجاهلية" (2) ، يعني مثل قول المصاب: يا سنداه! يا ناصراه! يا
~~عضداه! وقال: "إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة
~~درعا من جرب وسربالا من قطران" (3) . وقال: "لعن الله النائحة والمستمعة
~~إليها" (4) .
# وقد قال في تنزيله: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا
~~يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان
~~يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله
~~إن الله PageV03P093
# غفور رحيم (12)) (1) . وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله (ولا
~~يعصينك في ms0419 معروف) بأنها النياحة (2) ، وتبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~من الحالقة والصالقة (3) . والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة،
~~والصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة. وقال جرير بن عبد الله (4) : كنا
~~نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعتهم الطعام للناس من النياحة. وإنما السنة
~~أن يصنع لأهل الميت طعام، لأن مصيبتهم تشغلهم، كما قال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - لما نعي جعفر بن أبي طالب لما استشهد بمؤتة فقال: "اصنعوا لآل
~~جعفر طعاما، فقد جاءهم ما يشغلهم" (5) .
# وهكذا ما يفعل قوم آخرون يوم عاشوراء من الاكتحال والاختضاب أو المصافحة
~~والاغتسال، فهو بدعة أيضا لا أصل لها، ولم يذكرها أحد من الأئمة المشهورين،
~~وإنما روي فيها حديث "من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض تلك السنة، ومن اكتحل
~~يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام" (6) ونحو ذلك، ولكن الذي ثبت عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه صام PageV03P094
# يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، وقال: "صومه يكفر سنة،، وقرر النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أن الله أنجى فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه (1) ، وروي
~~أنه كان فيه حوادث الأمم، فمن كرامة الحسين أن الله جعل استشهاده فيه.
# وقد يجمع الله في الوقت شخصا أو نوعا من النعمة التي توجب شكرا، أو
~~المحنة التي توجب صبرا، كما أن سابع عشر شهر رمضان فيه كانت وقعة بدر، وفيه
~~كان مقتل علي. وأبلغ من ذلك أن يوم الاثنين في ربيع الأول مولد النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -، وفيه هجرته، وفيه وفاته.
# والعبد المؤمن يبتلى بالحسنات التي تسره والسيئات التي تسوءه في الوقت
~~الواحد، ليكون صبارا شكورا، فكيف إذا وقع مثل ذلك في وقتين متعددين من نوع
~~واحد؟
# ويستحب صوم التاسع والعاشر، ولا يستحب الكحل، والذين يصنعون من الكحل من
~~أهل الدين لا يقصدون به مناصبة أهل البيت، وإن كانوا مخطئين في فعلهم، ومن
~~قصد منهم أهل البيت بذلك أو غيره، أو فرح أو استشفى بمصائبهم، فعليه لعنة
~~الله والملائكة والناس أجمعين، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"والذي نفسي ms0420 بيده لا يدخلون PageV03P095
# الجنة حتى يحبوكم من أجلي" (1) لما شكا إليه العباس أن بعض قريش يجفون
~~بني هاشم. وقال: "إن الله اصطفى قريشا من بني كنانة، واصطفى بني هاشم من
~~قريش، واصطفاني من بني هاشم" (2) . وروي عنه أنه قال: "أحبوا الله لما
~~يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي" (3) . وهذا
~~باب واسع يطول القول فيه.
# وكان سبب هذه المواصلة أن بعض الإخوان قدم بورقة فيها ذكر النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -، وذكر سادة أهل البيت، وقد أجري فيها ذكر النذور لمشهد
~~المنتظر. فخوطب من فضائل أهل البيت وحقوقهم بما سر قلبه وشرح صدره، وكان ما
~~ذكر بعض الواجب، فإن الكلام في هذا طويل، ولم يحتمل هذا الحامل أكثر من
~~ذلك. وخوطب فيما يتعلق بالأنساب والنذور بما يجب في دين الله، فسأل
~~المكاتبة بذلك إلى من يذهب إليه من الإخوان، فإن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه
~~ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (4) . PageV03P096
# أما ورقة الأنساب والتواريخ ففيها غلط في مواضع متعددة، مثل ذكره أن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي في صفر، وأنه محمد بن عبد الله بن عبد
~~المطلب ابن عمرو بن العلاء بن هاشم، وأن جعفر الصادق توفي في خلافة الرشيد،
~~وغير ذلك.
# فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي في شهر
~~ربيع الأول شهر مولده وشهر هجرته، وأنه توفي يوم الاثنين، وفيه ولد وفيه
~~أنزل عليه. وجده هاشم بن عبد مناف، وإنما كان هاشم يسمى عمرا، ويقال له
~~عمرو العلا، كما قال الشاعر (1) :
# عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
# وأن جعفرا أبا عبد الله توفي في سنة ثمان وأربعين في إمارة أبي جعفر
~~المنصور.
# وأما المنتظر فقد ذكر طائفة من أهل العلم بأنساب أهل البيت أن الحسن بن
~~علي العسكري لما توفي بعسكر سامراء لم يعقب ولم ينسل، وقال من أثبته: إن
~~أباه لما توفي سنة ms0421 ستين ومئتين كان عمره سنتين أو أكثر من ذلك بقليل، وأنه
~~غاب من ذلك الوقت، وأنه من ذلك الوقت حجة الله على أهل الأرض، لا يتم
~~الإيمان إلا به، وأنه هو المهدي الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-، وأنه يعلم كل ما يفتقر إليه في الدين.
# وهذا موضع ينبغي للمسلم أن يتثبت فيه ويستهدي الله ويستعينه، فإن الله قد
~~حرم القول بغير علم، وذكر أن ذلك من خطوات الشيطان، PageV03P097
# وحرم القول المخالف للحق، ونصوص التنزيل شاهدة بذلك، ونهى عن اتباع
~~الهوى.
# فأما المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد رواه أهل
~~العلم العالمون بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، الحافظون لها،
~~الباحثون عنها وعن رواتها، مثل أبي داود والترمذي وغيرهما. ورواه الإمام
~~أحمد في "مسنده" (1) .
# فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو
~~لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم، حتى يبعث الله فيه رجلا من
~~أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما
~~ملئت ظلما وجورا" (2) .
# وروي هذا المعنى من حديث أم سلمة وغيرها (3) .
# وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "المهدي من ولد ابني هذا"،
~~وأشار إلى الحسن (4) . PageV03P098
# وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال
~~حثوا" (1) ، وهو حديث صحيح.
# فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اسمه "محمد بن عبد الله" ليس
~~"محمد بن الحسن". ومن قال: إن أبا جده "الحسين"، وإن كنية الحسين "أبو عبد
~~الله"، فقد جعل الكنية اسمه، فما يخفى على من يخشى الله أن هذا تحريف الكلم
~~عن مواضعه، وأنه من جنس تأويلات القرامطة.
# وقول أمير المؤمنين صريح في أنه حسني لا حسيني، لأن الحسن والحسين مشبهان
~~من بعض الوجوه بإسماعيل وإسحاق، وإن لم يكونا نبيين، ولهذا كان النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - يقول لهما: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان
~~وهامة، ومن كل ms0422 عين لامة" (2) ، ويقول: "إن إبراهيم كان يعوذ بهما إسماعيل
~~وإسحاق" (3) . وكان إسماعيل هو الأكبر والأحلم، ولهذا قال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - وهو يخطب على المنبر والحسن معه على المنبر: "إن ابني هذا سيد،
~~وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (4) .
# فكما أن غالب الأنبياء كانوا من ذرية إسحاق، فهكذا كان غالب السادة
~~الأئمة من ذرية الحسين، وكما أن خاتم الأنبياء الذي طبق أمره مشارق الأرض
~~ومغاربها كان من ذرية إسماعيل، فكذلك الخليفة الراشد المهدي الذي هو آخر
~~الخلفاء يكون من ذرية الحسن. PageV03P099
# وأيضا فإن من كان ابن سنتين كان في حكم الكتاب والسنة مستحقا أن يحجر
~~عليه في بدنه، ويحجر عليه في ماله، حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، فإنه يتيم،
~~وقد قال الله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم
~~رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) (1) . فمن لم تفوض الشريعة إليه أمر نفسه كيف
~~تفوض إليه أمر الأمة؟ وكيف يجوز أن يكون إماما على الأمة من لا يرى ولا
~~يسمع له خبر؟ مع أن الله لا يكلف العباد بطاعة من لا يقدرون على الوصول
~~إليه، وله أربعمئه وأربعون سنة ينتظره من ينتظره وهو لم يخرج، إذ لا وجود
~~له.
# وكيف لم يظهر لخواصه وأصحابه المأمونين عليه كما ظهر آباؤه؟ وما الموجب
~~لهذا الاختفاء الشديد دون غيره من الآباء؟ وما زال العقلاء قديما وحديثا
~~يضحكون ممن يثبت هذا ويعلق دينه به، حتى جعل الزنادقة هذا وأمثاله طريقا
~~إلى القدح في الملة وتسفيه عقول أهل الدين إذا كانوا يعتقدون مثل هذا.
# لهذا قد اطلع أهل المعرفة على خلق كثير منافقين زنادقة يتسترون بإظهار
~~هذا وأمثاله، ليستميلوا قلوب وعقول الضعفاء وأهل الأهواء، ودخل بسبب ذلك من
~~الفساد ما الله به عليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله
~~يصلح أمر هذه الأمة ويهديهم ويرشدهم.
# وكذلك ما يتعلق بالنذور والمساجد والمشاهد، فإن الله في كتابه وسنة نبيه
~~التي نقلها السابقون والتابعون من أهل بيته وغيرهم قد أمر بعمارة المساجد ms0423،
~~وإقامة الصلوات فيها بحسب الإمكان، ونهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن
~~من يفعل ذلك. قال الله تعالى: PageV03P100
# (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى
~~الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (18)) (1) .
# وقال تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في
~~خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) (2) .
# وقال تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها
~~بالغدو والآصال (36)) (3) وقال: (وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا
~~(18)) (4) .
# وقال: (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) (5) .
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا
~~في الجنة" (6) .
# وقال: "بشر المشائين في ظلم الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"
~~(7) . PageV03P101
# وقال: "من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح" (1)
~~.
# وقال: "صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين
~~درجة" (2) .
# وقال: "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، وخرج إلى المسجد لا ينهزه إلا
~~الصلاة، كانت خطوتاه إحداهما ترفع درجة، والأخرى تضع خطيئة" (3) .
# وقال: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى
~~من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر كان أحب إلى الله" (4) .
# وقال: "سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها،
~~ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة" (5) . PageV03P102
# وقال: "يصلون لكم، فإن أحسنوا فلكم، وإن أساءوا فلكم وعليهم" (1) .
# وهذا باب واسع جدا.
# وقال أيضا: "لعن الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا
~~(2) . قالوا: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (3) ، وهذا
~~قاله في مرضه.
# وقال قبل موته بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا
~~فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (4) .
# ولما ذكر كنيسة الحبشة قال: "أولئك إذا مات الرجل فيهم بنوا على قبره
~~مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم ms0424 القيامة"
~~(5) .
# وكل هذه الأحاديث في الصحاح المشاهير.
# وقال أيضا: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
~~رواه الترمذي وغيره (6) ، وقال: حديث حسن. PageV03P103
# فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لعن الذين يتخذون على القبور
~~المساجد، ويسرجون عليها الضوء، فكيف يستحل مسلم أن يجعل هذا طاعة وقربة؟
# وفي صحيح مسلم (1) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
~~بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا
~~سويته، ولا تمثالا إلا طمسته".
# وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا
~~يعبد" (2) .
# وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"
~~(3) .
# فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاجتماع عند قبره، وأمر بالصلاة
~~عليه في جميع المواضع، فإن الصلاة عليه تصل إليه من جميع المواضع.
# وهذه الأحاديث رواها أهل بيته، مثل على بن الحسين عن أبيه عن جده علي،
~~ومثل عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فكانوا هم وجيرانهم من علماء
~~أهل المدينة ينهون عن البدع التي عند PageV03P104
# قبره أو قبر غيره، امتثالا لأمره متابعة لشريعته، فإن من
### | مبدأ عبادة الأوثان: العكوف على قبور الأنبياء والصالحين
# والعكوف على تماثيلهم، وإن كانت وقعت بغير ذلك.
# وقد ذكر الله في كتابه عن المشركين أنهم قالوا (لا تذرن آلهتكم ولا تذرن
~~ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23 وقد أضلوا كثيرا)) (1) . وقد روى
~~طائفة من علماء السلف أن هؤلاء كانوا قوما صالحين، فلما ماتوا عكفوا على
~~قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم (2) . وكذلك قال ابن عباس في قوله (أفرأيتم
~~اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الأخرى (20)) (3) ، قال ابن عباس: كان
~~اللات رجلا يلت السويق للحجاج، فلما مات عكفوا على قبره (4) .
# ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"
~~(5) ، ونهى أن يصلى عند قبره. ولهذا لما بنى المسلمون حجرته حرفوا مؤخرها
~~وسئموه، لئلا يصلى إليه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجلسوا ms0425 على
~~القبور ولا تصلوا إليها"، رواه مسلم (6) .
# وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى أهل البقيع يسلم عليهم ويدعو
~~لهم (7) ، PageV03P105
# وعلم أصحابه أن يقولوا إذا زاروا القبور (1) : "سلام عليكم أهل دار قوم
~~مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منكم
~~والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم اجرهم ولا تفتنا بعدهم،
~~واغفر لنا ولهم".
# هذا مع أن في البقيع إبراهيم وبناته أم كلثوم ورقية وسيدة نساء العالمين
~~فاطمة، وكانت إحداهن دفنت فيه قديما قريبا من غزوة بدر، ومع ذلك فلم يحدث
~~على أولئك السادة شيئا من هذه المنكرات، بل المشروع التحية لهم والدعاء
~~بالاستغفار وغيره.
# وكذلك في حقه أمر بالصلاة والسلام عليه من القرب والبعد، وقال: "أكثروا
~~علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي". قالوا:
~~كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يعني بليت، قال: "إن الله حرم على الأرض أن
~~تأكل أجساد الأنبياء" (2) .
# وقال: "ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد
~~الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" (3) .
# وكل هذه الأحاديث ثابتة عند أهل المعرفة بحديث النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -، PageV03P106
# فالدعاء والاستغفار يصل إلى الميت عند قبره وغير قبره، وهو الذي ينبغي
~~للمسلم أن يعامل به موتى المسلمين، من الدعاء لهم بأنواع الدعاء، كما أن في
~~حياته يدعو لهم.
# وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أن نصلي عليه ونسلم
~~تسليما في حياته ومماته، وعلى آل بيته، وأمرنا أن ندعو للمؤمنين والمؤمنات
~~في محياهم ومماتهم، عند قبورهم وغير قبورهم، ونهانا الله أن نجعل له
~~أندادا، أو نشبه بيت المخلوق الذي هو قبره ببيت الله الذي هو الكعبة البيت
~~الحرام، فإن الله أمرنا أن نحج ونصلي إليه ونطوف به، وشرع لنا أن نستلم
~~أركانه، ونقبل الحجر الأسود الذي جعله الله بمنزلة يمينه. قال ابن عباس:
~~"الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه وصافحه فكأنما صافح الله
~~وقبل يمينه" (1) .
# وشرع كسوة الكعبة وتعليق ms0426 الأستار عليها، وكان يتعلق من يتعلق بأستار
~~الكعبة كالمتعلق بأذيال المستجار به، فلا يجوز أن تضاهى بيوت المخلوقين
~~ببيت الخالق.
# ولهذا كان السلف ينهون من زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
~~يقبله، بل يسلم عليه -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - ويصلي عليه، كما
~~كان السلف يفعلون.
# فإذا كان السلف أعرف بدين الله وسنة نبيه وحقوقه، وحقوق السابقين
~~والتابعين من أهل البيت وغيرهم، ولم يفعلوا شيئا من هذه البدع التي تشبه
~~الشرك وعبادة الأوثان، لأن الله ورسوله نهاهم عن PageV03P107
# ذلك، بل يعبدون الله وحده لا شريك له، مخلصين له الدين كما أمر الله به
~~ورسوله، ويعمرون بيوت الله بقلوبهم وجوارحهم من الصلاة والقراءة والذكر
~~والدعاء وغير ذلك؛ فكيف يحل للمسلم أن يعدل عن كتاب الله وشريعة رسوله
~~وسبيل السابقين من المؤمنين، إلى ما أحدثه ناس آخرون، إما عمدا وإما خطا؟
# فخوطب حامل هذا الكتاب بأن جميع هذه البدع التي على قبور الأنبياء
~~والسادة من آل البيت والمشايخ، المخالفة للكتاب والسنة، ليس للمسلم أن يعين
~~عليها، هذا إذا كانت القبور صحيحة، فكيف وأكثر هذه القبور مطعون فيها؟
# وإذا كانت هذه النذور للقبور معصية قد نهى الله عنها ورسوله والمؤمنون
~~السابقون، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله
~~فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" (1) . وقال - صلى الله عليه وسلم
~~-: "كفارة النذر كفارة يمين" (2) ، وهذا الحديث في الصحاح.
# فإذا كان النذر طاعة لله ورسوله، مثل أن ينذر صلاة أو صوما أو حجا أو
~~صدقة أو نحو ذلك، فهذا عليه أن يفي به؟ وإذا كان النذر معصية -كفرا أو غير
~~كفر- مثل أن ينذر للأصنام كالنذور التي بالهند، ومثلما كان المشركون ينذرون
~~لآلهتهم، مثل اللات التي كانت بالطائف، والعزى التي كانت بعرفة قريبا من
~~مكة، ومناة الثالثة الأخرى التي كانت لأهل المدينة. وهذه المدائن الثلاث هي
~~مدائن أرض الحجاز، كانوا ينذرون لها النذور، ويتعبدون لها، ويتوسلون
~~PageV03P108
# بها إلى الله في حوائجهم، كما أخبر الله ms0427 عنهم بقوله: (ما نعبدهم إلا
~~ليقربونا إلى الله زلفى) (1) . ومثلما ينذر الجهال من المسلمين لعين ماء أو
~~بئر من الآبار أو قناة ماء أو مغارة أو حجر أو شجرة من الأشجار أو قبر من
~~القبور -وإن كان قبر نبي أو رجل صالح-، أو ينذرون زيتا أو شمعا أو كسوة أو
~~ذهبا أو فضة لبعض هذه الأشياء-: فإن (2) هذا كله نذر معصية لا يوفى به. لكن
~~من العلماء من يقول: على صاحبه كفارة يمين، لما روى أهل السنن (3) عن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". وفي
~~الصحيح عنه أنه قال: "كفارة النذر كفارة يمين" (4) .
# وإذا صرف من ذلك المنذور شيء في قربة من القربات المشروعة كان حسنا، مثل
~~أن يصرف الدهن إلى تنوير بيوت الله، ويصرف المال والكسوة إلى من يستحقه من
~~المسلمين من آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسائر المؤمنين، وفي
~~سائر المصالح التي أمر الله بها ورسوله.
# وإذا اعتقد بعض الجهال أن بعض هذه النذور المحرمة قد قضت حاجته بجلب
~~المنفعة من المال والعافية ونحو ذلك، أو بدفع المضرة من العدو ونحوه، فقد
~~غلط في ذلك، فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر
~~وقال: "إنه لا يأتي بخير، ولكنه يستخرج به من البخيل" (5) . فعد
~~PageV03P109
# النذر مكروها، وإن كان الوفاء به واجبا إن كان المنذور طاعة لله ورسوله -
~~صلى الله عليه وسلم -.
# وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النذر لا يأتي بخير، وإنما
~~يستخرج به من البخيل، وهذا المعنى قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~من غير وجه فيما كان قربة محضة لله، فكيف بنذر فيه شرك؟ فإنه لا يجوز نذره
~~ولا الوفاء به.
# وهذا وإن كان قد غمر الإسلام، وكثر العكوف على القبور التي هي للصالحين
~~من أهل البيت وغيرهم، فعلى الناس أن يطيعوا الله ورسوله، ويتبعوا دين الله
~~الذي بعث به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يشرعوا من الدين ms0428 ما لم يأذن
~~به الله، فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله،
~~وليعبدوا الله وحده لا شريك له.
# كما قال تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن
~~آلهة يعبدون (45)) (1) .
# وقال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما
~~وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على
~~المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب (13))
~~(2) .
# وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا
~~الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) (3) . PageV03P110
# وقال تعالى في حق الذين كانوا يدعون الملائكة والنبيين) قل ادعوا الذين
~~زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون
~~يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك
~~كان محذورا (57)) (1) .
# وقال: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر
~~بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) .
# ورد على من اتخذ شفعاء من دونه فقال: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل
~~أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك
~~السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين
~~لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45) قل اللهم
~~فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا
~~فيه يختلفون (46)) (3) .
# وقال: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما
~~أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركونى (31)) (4)
~~.
# وقال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (5) .
# وقال تعالى: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد
~~PageV03P111
# أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26)) (1) .
# وقال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (2) .
# وقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (3) .
# وكتب الله من أولها إلى آخرها تأمر بإخلاص الدين ms0429 لله، لاسيما الكتاب الذي
~~بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو الشريعة التي جاء بها، فإنها كملت
~~الدين، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) (4) ، وقال: (ثم جعلناك على
~~شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)) (5) .
# وقد جعل قوام الأمر بالإخلاص لله والعدل في الأمور كلها، كما قال تعالى:
~~(قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما
~~بدأكم تعودون (29) فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة) (6) .
# ولقد خلص للنبي - صلى الله عليه وسلم - التوحيد من دقيق الشرك وجليله،
~~حتى قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك". رواه الترمذي وصححه (7) .
# وقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا PageV03P112
# فليحلف بالله أو ليصمت". وهذا مشهور في الصحاح (1) .
# وقال: "لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم
~~شاء محمد" (2) .
# وقال له رجل: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله
~~وحده" (3) .
# وروي عنه أنه قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل" (4) .
# وروي عنه أن الرياء شرك (5) .
# وقال تعالى: (فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة
~~ربه أحدا (110)) (6) .
# وعلم بعض أصحابه أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك وأنا أعلم،
~~وأستغفرك لما لا أعلم" (7) .
# ومن هذا الباب الذين يسألون الصدقة أو يعطونها لغير الله، مثل
~~PageV03P113
# من يقول: لأجل فلان، إما بعض الصحابة أو بعض أهل البيت، حتى يتخذ السؤال
~~بذلك ذريعة إلى أكل أموال الناس بالباطل، ويصير قوم ممن ينتسب إلى محبة آل
~~البيت يعطي الناس، وآخرون ممن ينتسب إلى السنة يعطي الآخرين، والشيطان قد
~~استحوذ على الجميع، فإن الصدقة وسائر العبادات لا يشرع أن تفعل إلا لله،
~~كما قال تعالى: (وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد
~~عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20) ولسوف يرضى (21))
~~(1) .
# وقال تعالى: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون
~~(39)) (2) .
# وقال: (ومثل الذين ms0430 ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم
~~كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) (3) .
# وقال: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه
~~الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا (9)) (4) .
# وقال تعالى كلمة جامعة: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما
~~جاءتهم البينة (4) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء
~~ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة (5)) (5) . PageV03P114
# وعبادته تجمع الصلاة وما يدخل فيها من الدعاء والذكر، وتجمع الصدقة
~~والزكاة بجميع الأنواع من الطعام واللباس والنقد وغير ذلك.
# والله يجعلنا وسائر إخواننا المؤمنين مخلصين له الدين، نعبده ولا نشرك به
~~شيئا، معتصمين بحبله، متمسكين بكتابه، متعلمين لما أنزل من الكتاب والحكمة،
~~ويصرف عنا شياطين الجن والإنس، ويعيذنا أن تفرق بنا عن سبيله، ويهدينا
~~الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
~~والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
# والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
# PageV03P115
# مسألة في قصد المشاهد المبنية
# على القبور للصلاة عندها والنذر لها
# وقراءة القرآن وغير ذلك
# PageV03P117
# مسألة
# ما يقول سيدنا الإمام العلامة تقي الدين -أيده الله تعالى- في مشهد فيه
~~شريف مدفون من أولاد زين العابدين، والناس يقصدونه ليصلوا عنده الصلوات
~~الخمس، وينذرون له، ومنهم من يقصد البركة، ومنهم من يعتقد أن الصلاة عنده
~~أفضل مما سواه من المساجد. فهل هم مصيبون أم مخطئون؟ وهل لهم أجر أم لا؟
~~وهل يثاب من يتصدق أو يبر قيم المشهد المذكور أو الفقراء الذين يقعدون عند
~~المشهد المذكور؟ وأيضا يقعد في المشهد قراء يقرأون القرآن العظيم بلا أجرة
~~من العشاء إلى بكرة، فهل يؤجرون على ذلك أم لا؟ وهل للميت أجر باستماعه
~~القرآن أم لا؟ والذين يقرأون القرآن في الترب بالأجرة وفي الختم التي
~~يعملونها، مثل الذي يسمونه الثالث والسابع وتمام الشهر وتمام الحول،
~~وينشدون الأشعار الفراقيات ليبكي أهل الميت، وينقطوه بالفضة، والوعاظ أيضا
~~والذين يقرأون القرآن في الطرقات والأسواق حتى يتصدق عليهم ms0431، فما حكمهم؟
~~والحديث الذي يذكر فيه أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وقول عائشة: إنما
~~كانت يهودية، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يعذب بدمع العين
~~ولا بحزن القلب، ولكن بهذا" وأشار إلى لسانه. وإذا كان أحد يتحدث في عليم
~~أو صلاة أو ذكر أو حديث مباح، أو ينام، فهل يجوز لأحد أن يجهر بالقرآن
~~ليشوش عليهم؟
# أفتونا مأجورين، رضي الله عنكم.
# أجاب -رضي الله عنه-
# الحمد لله. اتفق أئمة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- على
# PageV03P119
# أن المشاهد المبنية على القبور، سواء كان قبر بعض الصالحين أو بعض
~~الصحابة أو بعض أهل البيت، أو قبر نبي من الأنبياء أو غير ذلك، سواء كان
~~علم أنه قبر الميت المسمى أو علم أنه ليس قبره أو جهل الحال-: اتفقوا كلهم
~~على أن الصلاة فيها ليست أفضل من الصلاة في المساجد، بل ولا في سائر البقاع
~~التي تجوز الصلاة فيها، وأنه لا يشرع لأحد أن يقصدها لأجل الصلاة عندها، لا
~~الصلوات الخمس ولا غيرها. بل قصدها للصلاة عندها والتبرك بالصلاة هناك
~~خصوصا لم يأمر الله به ولا رسوله، وولا أحد من الصحابة ولا من أئمة
~~المسلمين، لا أهل البيت ولا غيرهم، ولا ذكروا أن في ذلك ثوابا أو أجرا أو
~~قربة.
# بل قد استفاضت السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين
~~بالنهي في ذلك، وصرح غير واحد من أئمة المسلمين أن النهي عن اتخاذ المساجد
~~على القبور نهي تحريم، كما في الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها وابن
~~عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق
~~يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك:
~~"لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما
~~صنعوا.
# وفي الصحيحين (2) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
~~"قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي صحيح مسلم (3) عن جندب
~~بن عبد الله البجلي قال: سمعت ms0432 النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت
~~بخمس PageV03P120
# وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني
~~خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا
~~بكير خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا
~~فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".
# وعن أبي مرثد الغنوي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا
~~تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". رواه مسلم (1) .
# وعن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور
~~والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة أبو
~~داود وابن ماجه والنسائي والترمذي (2) ، وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ:
~~صحيح.
# وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
~~مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
~~مساجد"، لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (3) .
# والأحاديث والآثار في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسلف
~~الأمة وأئمتها وسائر علماء الدين كثيرة. فمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها
~~فضيلة على غيرها، أو أنه ينبغي أن يقصد الصلاة عندها [و] أن في ذلك أجرا
~~ومثوبة، فهو مخطئ ضال باتفاق أئمة المسلمين. PageV03P121
# وكذلك العكوف عندها والمجاورة عندها ليس مشروعا باتفاق المسلمين ولا
~~واجبا ولا مستحبا، بل ذلك من البدع المذمومة المنهي عنها. وإنما تكون
~~البقعة التي يشرع العكوف فيها والمجاورة فيها: المساجد، كما قال الله
~~تعالى: (تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) (1) . وكان النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - يعتكف في مسجده في العشر الأواخر من رمضان (2) ، واعتكف مرة
~~عشرين يوما (3) ، وترك مرةا لاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فقضاه في
~~شوال (4) . وهذا هو المشروع للمسلمين.
# وزيارة القبور جائز على الوجه المأذون فيه، فإن كان الميت كافرا فيزار
~~للاعتبار بالموت ولا يدعى له، كما في صحيح مسلم (5) عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه قال: "استأذنت ms0433 ربي في أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته
~~في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة". وإنما
~~زار قبر أمه دون أبيه لأنها كانت على طريقه عام فتح مكة، فاجتاز بقبرها عند
~~مكة فزارها، وروي أنه زارها في ألف مقنع، فبكى وأبكى من حوله (6) . وأما
~~أبوه فلم يمر بقبره. PageV03P122
# ولم يأذن ربه له في الاستغفار له لأن الاستغفار إنما يكون للمؤمنين، قال
~~الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا
~~أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (1) ، ثم قال: (وما
~~كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو
~~لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم (114)) (2) . فإن إبراهيم استغفر لأبيه
~~بقوله فيما ذكر الله عنه (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب
~~(41)) (3) ، ووعده بذلك في قوله: (سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي
~~حفيا (47)) (4) . فشرع له القدوة بإبراهيم إلا في ذلك بقوله: (قد كانت لكم
~~أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما
~~تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى
~~تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله
~~من شيء) (5) .
# ولما نهى المؤمنين عن الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى فاحتج بعض
~~الناس بإبراهيم، فبين سبحانه الجواب بقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه
~~إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) ، فإن أباه
~~مات كافرا. ومن قال "إنه مات مؤمنا" من الرافضة الجهال أو غيرهم فقد خالف
~~الكتاب والسنة والإجماع.
# وكذلك أبو النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمه أبو طالب، وفي صحيح مسلم
~~(6) أن PageV03P123
# رجلا قال: يا رسول الله! أين أبي؟ فقال: "إن أباك في النار". فلما أدبر
~~دعاه فقال: "إن أبي وأباك في النار". وفي الصحيحين (1) أنه لما حضرت أبا
~~طالب الوفاة دخل النبي - صلى الله عليه وسلم ms0434 - إليه وعنده أبو جهل وعبد
~~الله بن أمية، فقال: "يا عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند
~~الله". فقالا: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر شيء قاله:
~~على ملة عبد المطلب. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لك ما
~~لم أنه عنك"، فأنزل الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا
~~للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113))
~~(2) .
# وفي الصحيح (3) أن العباس قال: يا رسول الله! عمك الشيخ الضال كان يحوطك
~~ويصنع لك، فهل نفعته بشيء؟ فقال: "وجدته في غمرة من النار، فشفعت فيه، فجعل
~~في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، أو كما قال -
~~صلى الله عليه وسلم -.
# وهذه الأحاديث الصحيحة توافق ما اتفق عليه أئمة المسلمين في أنه مات
~~كافرا، وتبين كذب من ادعى من الجهال الرافضة وغيرهم أنه مات مؤمنا. ويحتج
~~بما ذكر ابن إسحاق في "السيرة" (4) من أنه جعل يهمهم عند الموت، وأن العباس
~~قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد قال الكلمة التي تطلبها أو نحو
~~ذلك. فإن الذي في الصحيح بين أن العباس لم PageV03P124
# يكن حاضرا، وأن العباس علم أنه مات ضالا، وأنه سأل النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - هل نفعه نصره لك مع كفره، فأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
~~ذلك نفعه، بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف العذاب لا في
~~رفعه، ولو كان قد مات على الإيمان لم يكن في العذاب، ولم ينه النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - عن الاستغفار له، ولقرن ذكره بذكر حمزة والعباس، ولكان قد
~~صلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وابنه علي. بل الاستغفار للمنافقين
~~الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر غير نافع لهم ولا جائز إذا علم حالهم،
~~كما قال تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله
~~لهم) (1) ، وقال تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ms0435 ولا تقم على قبره
~~إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84)) (2) .
# وأما زيارة قبور المؤمنين فجائزة بل مستحبة، كما سنها رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم -، فإن الزيارة نوعان: شرعية وبدعية، والشرعية السلام على
~~الميت والدعاء له، بمثل أن يقال (3) : "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين،
~~وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم
~~والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العفو والعافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم
~~ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فالزيارة المشروعة من جنس الصلاة على
~~الجنازة، وكلاهما المقصود به الدعاء للميت، والله تعالى يرحم الميت بدعاء
~~المسلمين، ويرحم الداعين له أيضا، فيثيب هذا وهذا كما يثيب المصلين على
~~الجنازة، فمن صلى على جنازة إيمانا واحتسابا كان له قيراط من الأجر، ومن
~~شيعها حتى تدفن PageV03P125
# كان له قيراطان (1) .
# والله تعالى يقبل شفاعة المؤمنين ودعاءهم للميت، كما جاء في الحديث
~~الصحيح (2) أنه إذا شفع فيه مئة من المؤمنين شفعهم الله فيه، وفي حديث آخر
~~في الصحيح (3) : إذا شفع فيه أربعون، وفي حديث آخر (4) : إذا كانوا ثلاثة
~~صفوف. ولهذا كانوا يستحبون أن لا تنقص صفوف الجنازة عن ثلاثة.
# والمؤمنون مأمورون بدعاء بعضهم لبعض، حتى يدعو الفاضل للمفضول وبالعكس،
~~قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (5) : "إذا سمعتم المؤذن
~~فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا،
~~ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد
~~الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي يوم
~~القيامة". وقال: "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به
~~ملكا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك: ولك بمثل" (6) .
# وأما الزيارة البدعية فمثل التمسح بالقبر أو تقبيله أو قصده للصلاة عنده
~~والدعاء وطلب الحوائج من الميت، وأمثال ذلك مما هو من PageV03P126
# جنس فعل المشركين والنصارى، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما
~~رواه مالك في الموطأ (1) : "اللهم لا ms0436 تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله
~~على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
# وقد ذكر غير واحد من السلف (2) أن أصل عبادة الأصنام كان ذلك، فقالوا في
~~قوله (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا
~~(23)) (3) : إن هذه أسماء قوم كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا
~~عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، وهذه الأصنام صارت إلى العرب، حتى
~~بعث الله رسوله بأن يعبد الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك من عبادة
~~الأوثان وغير ذلك، وبين أن أصل الدين أن يعبد الله لا يشرك به شيئا.
# وفي الصحيح (4) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ بن جبل: "يا
~~معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ " قال: الله ورسوله أعلم، قال: "أن
~~يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ "
~~قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن لا يعذبهم".
# وفي الصحيحين (5) عنه أنه قال: "الإيمان بضع وستون أو وسبعون شعبة،
~~أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة
~~من الإيمان". PageV03P127
# وفي الترمذي (1) عنه أنه قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء
~~الحمد لله".
# وفي الموطأ (2) : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله
~~وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
# وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال: "من قال في يوم مئة مرة: "لا إله إلا الله
~~وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، كانت له عدل
~~عشر رقاب، وكتب له مئة حسنة، وحط عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان
~~يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال
~~أو زاد عليه. ومن قال في يوم: "سبحان الله وبحمده" مئة مرة حطت عنه خطاياه
~~ولو كانت مثل زبد البحر".
# وأما النذر لها فينبغي أن يعلم أن
### | أصل ms0437 النذر مكروه منهي عنه
# بلا نزاع أعلمه بين الأئمة، لما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به [من]
~~البخيل" (4) .
# وفي الصحيحين أيضا عنه أنه قال: "إن النذر يرد ابن آدم إلى القدر، فيعطي
~~على النذر مالا يعطي على غيره" (5) .
# فبين - صلى الله عليه وسلم - أن النذر لا يجلب خيرا ولا يدفع شرا، ولكن
~~يقع مع PageV03P128
# النذر ما كان واقعا بدون النذر، فيبقى النذر عديم الفائدة، لكنه يستخرج
~~من البخيل، فإنه يخرج بالنذر مالا يخرجه بدونه، ونهى عن النذر لأن فيه
~~التزام شيء لم يكن لازما، وقد لا يفعله فيبقى متلوما، كما قال تعالى:)
~~ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75)
~~فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في
~~قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) (1) .
# ولهذا يجب الوفاء بالنذر إذا كان المنذور طاعة، وإن كان نفس النذر منهيا
~~عنه، كما أن العبد منهي عن الظهار، وإذا ظاهر لزمته الكفارة، فالمنهي عنه
~~إن كان فيه إيجاب أو تحريم لزم المنهي عقوبة له، وإن كان فيه إباحة لم تبح،
~~لأن المنهي عنه معصية، والمعصية لا تكون سببا للمنعة الشرعية. وفي صحيح
~~البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه". وعلى هذا
~~اتفق أهل العلم، اتفقوا على أن المنذور إذا كان طاعة -كالصلاة الشرعية
~~والحج الشرعي والصيام الشرعي والصدقة الشرعية والعتق الشرعي ونحو ذلك- فإنه
~~يوفى به، وإذا كان المنذور معصية لم يجز الوفاء به، لكن هل عليه كفارة
~~يمين؟ على قولين للعلماء، أحدهما: لا شيء عليه، وهو قول أبي حنيفة ومالك
~~والشافعي؟ والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في الصحيح
~~(3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفارة PageV03P129
# النذر كفارة يمين". وفي السنن ms0438 (1) عنه: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة
~~يمين".
# وإذا كان كذلك فمن نذر زيتا لقبر ليسرج عليه أو للعاكفين عند القبر وسدنة
~~القبر ونحوهم فهذا نذر معصية، فإن الإيقاد على القبور منهي عنه، والعكوف
~~عند القبور والمجاورة عندها منهي عنه، والإعانة على ذلك إعانة على الإثم
~~والعدوان. ولا يشك أحد من العلماء أنه ليس بطاعة ولا بر، وإذا لم يكن كذلك
~~فلا يجب الوفاء بهذا النذر باتفاق المسلمين، فإن الوفاء إنما يجب بنذر
~~الطاعة، لا بنذر المباح ولا المكروه ولا المحرم، بل تنازع العلماء: هل يجب
~~بنذر كل طاعة أو نذر ما كان جنسه واجبا بالشرع؟ فقال الأكثرون كمالك
~~والشافعي وأحمد بالأول؟ وقال أبو حنيفة بالثاني، ولهذا لا يجب عنده الوفاء
~~إذا نذر إتيان مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس، لأن جنس ذلك ليس واجبا
~~بالشرع بخلاف إتيان مكة للحج والعمرة، فإن الوفاء بذلك لا نزاع فيه، لأن
~~جنس الحج والعمرة واجب بالشرع؛ وعلى قول الجمهور يوفى بالنذر في إتيان مسجد
~~المدينة والمسجد الأقصى لمن يقصد الصلاة هناك أو الاعتكاف، لكن إذا أتى
~~الفاضل أغنى عن المفضول، فمن أتى في نذره ذلك المسجد الحرام أغناه عن
~~الآخرين، ومن أتى مسجد المدينة أغناه عن الأقصى، وأما المسجد الحرام فهو
~~أفضل المساجد، لا يقوم غيره مقامه، به الطواف، وإليه الصلاة والحج.
~~PageV03P130
# و
### | لا ثواب على إعانة العاكفين على القبور والمجاورين عندها بصدقة ولا غيرها،
# لا من العوام والفقراء ولا غيرهم. ولا يصلح قصد المقابر للاجتماع على
~~صلاة ولا قراءة ولا غيرها، فإن هذا أعظم من صلاة الآحاد عندها، وقد قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود في سننه (1) : "لا تتخذوا
~~قبري عيدا". وهذا اتخاذ القبر عيدا يعاد إليه فيجتمع عنده. ولم يقل أحد من
~~علماء المسلمين أن الاجتماع هناك لقراءة القرآن أفضل من الاجتماع للقراءة
~~في المساجد والبيوت، بل اتفق المسلمون على أن الاجتماع لقراءة القرآن في
~~المساجد والبيوت أفضل من الاجتماع لقراءته في مشاهد القبور. وفي الصحيح (2)
~~عن ms0439 النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت
~~الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم
~~السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده".
# ولم يقل أحد من أئمة الدين أن الميت يؤجر على استماعه للقرآن، وإن قال
~~ذلك بعض المتأخرين الذين ليسوا أئمة، فإنه ثبت في الصحيح (3) عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث:
~~صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
# فقد أخبر أن عمله ينقطع من سوى المسمى، والاستماع الذي يؤجر عليه من
~~الأعمال، والميت يسمع بلا ريب، كما ثبت ذلك بالنصوص واتفاق أهل السنة، كما
~~في الصحيح (4) أ نه "يسمع خفق نعالهم حتى PageV03P131
# يولون عنه مدبرين"، وأنه لما خاطب أهل قليب بدر قال (1) : "ما أنتم بأسمع
~~لما أقول منهم". ولهذا أمر الزائر أن يسلم على الميت، ولولا أنه يسمع
~~السلام لم يؤمر بالسلام عليه. وقد قال ابن عبد البر (2) : ثبت عنه - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من رجل يمر بقبر رجل يعرفه في الدنيا فيسلم
~~عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام". لكن الإدراك لا يستلزم
~~أن يكون مما يؤجر عليه ويثاب عليه، وإن كان الميت يتنعم ببعض ما يسمعه، كما
~~يعذب بالنياحة عليه. وليس تعذيبه عقابا على النياحة، لأنها ليست من عمله،
~~وإنما هي من جنس الآلام التي تلحق العبد من غير عمله، كشم الروائح الخبيثة
~~وسمع الأصوات المنكرة ورؤية الأشياء المروعة. ولو كان هذا الاستماع مما
~~يؤجر عليه لكان الصحابة والتابعون وأئمة المسلمين أحق بعمل ذلك.
# ولم يكونوا يجتمعون عند القبر لختم القرآن عنده، كما يفعل ذلك بعض
~~المتأخرين، بل تنازع العلماء في القراءة عند القبر: فكرهها أبو حنيفة ومالك
~~وأحمد في أكثر الروايات عنه، ورخص فيها في الرواية الأخرى لما بلغه عن ابن
~~عمر أنه وصى أن يقرأ عند دفنه بفواتح البقرة وخواتمها. والرخصة إما مطلقا
~~وإما ms0440 حال الدفن خاصة، ولكن اتخاذ ذلك سنة راتبة لم يذهب إليه أحد من أئمة
~~المسلمين.
# فإذا كان هذا حال من يقرأ القرآن محتسبا فكيف من يقرؤه بالكراء، فإن
~~العلماء قد تنازعوا في جواز الاستئجار على تعليم القرآن والفقه والحديث
~~والإمامة في الصلاة والأذان والحج عن الغير، فقيل: يجوز ذلك، كما هو في
~~مذهب الشافعي ومالك قريب منه، وقيل: لا يجوز، PageV03P132
# كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وفيها قول
~~ثالث في مذهب أحمد وغيره: إنه يجوز مع الحاجة دون الغني، كما في ولي اليتيم
~~(ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف) (1) .
# ومنشأ النزاع أن الأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز
~~إيقاعها على غير وجه التقرب؟ فمن قال: لا يجوز ذلك، لم يجوز الإجارة، لأنها
~~بالعوض تقع غير قربة، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والله
~~لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه. ومن جوز الإجارة جوز إيقاعها على
~~غير وجه التقرب، ولا تصح الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر، فأما
~~الاستئجار للتلاوة فليس من هذا الباب.
# والعلماء متفقون على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العتق ونحوه من
~~العبادات المالية. وأما العبادات البدنية كالقراءة والصيام والصلاة فلهم
~~فيها قولان مشهوران، ومن جوز إلا هذا فلابد أن يكون ثواب عمل صالح، وهو ما
~~أريد به وجه الله، فإذا وقعت العبادة لمجرد العوض -مثل أن يعطيه عوضا على
~~صلاته أو صيامه أو قراءته- لم تقع قربة، فلا ثواب ولا إهداء، ولكن نفس حفظ
~~القرآن ودراسته وتعلمه وتعليمه من الأعمال المقصودة، وإنفاق المال فيها من
~~القربات والطاعات، كإعانة المسلمين على الجهاد والصيام وغيرهما.
# وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من فطر صائما فله مثل أجره" (2) ، وقال
~~- صلى الله عليه وسلم -: "من PageV03P133
# جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا" (1) . فإعانة
~~المسلمين على تلاوة القرآن وتبليغه بالمال ونحوه حسن مشروع.
# ولهذا لما تغير الناس وصاروا ms0441 يفعلون بدعة ويتركون شرعة، وفي البدعة مصلحة
~~ما إن تركوها ذهبت المصلحة ولم يأتوا بالمشروع، صار الواجب أمرهم بالمشروع
~~المصلح لتلك المصلحة مع النهي عن البدعة، وإن لم يمكن ذلك فعل ما يمكن وقدم
~~الراجح. فإذا كانت مصلحة الفعل أهم لم ينه عنه لما فيه من المفسدة إلا مع
~~تحصيل المصلحة، وإن كانت مفسدته أهم نهي عنه.
# وهذه الوقوف التي على الترب فيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته،
~~وكون هذه الأموال معونة على ذلك وخاصة عليه، إذ قد يدرس حفظ القرآن في بعض
~~البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر: من حصول القراءة
~~لغير الله، والتآكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال
~~النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون بذلك
~~فالواجب النهي عن ذلك والمنع منه وإبطاله، وإن ظن حصول مفسدة أكثر من ذلك
~~لم يدفع أدنى الفسادين باحتمال أعلاهما. لهذا جاء الوعيد في حق الشيخ
~~الزاني والملك الكذاب والفقير المستكبر، كما في الصحيح (2) : "ثلاثة لا
~~يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذا
~~وعائل مستكبر". وذلك لضعف الموجب لهذه المعاصي في حقهم. PageV03P134
# فينبغي للمؤمن الذي يقصد وجه الله إذا أراد الله يثيبه ويرحم ميته أن
~~يتصدق عنه، ويقصد بذلك من ينتفع بالمال على مصلحة عامة من أهل القرآن
~~ونحوهم، ولا يشترط عليهم إهداء القرآن إلى الميت ولا قراءته عند القبر ونحو
~~ذلك مما يخرج العمل عن أن يكون خالصا لله أو أن يكون غير مشروع، فإن في
~~الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت
~~عنها؟ قال: نعم. وفي البخاري (2) عن ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيت أمه
~~وهو غائب عنها، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن
~~أمي توفيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدقت عنها؟ قال: نعم ms0442. قال:
~~فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها.
# وأما الاجتماع يوم الثالث والسابع وتمام الشهر والحول ونحو ذلك على ما
~~ذكره فهو بدعة مكروهة من وجوه، أحدها: أن
### | إنشاد الشعر الفراقي في المأتم من النياحة،
# وكذلك كل ما فيه تهييج المصيبة، وكذلك الذين يتسمون الوعاظ، وإنما هم
~~نواحون. وإذا كان النساء قد نهين عن ذلك مع ضعف قلوبهن فكيف بالرجال؟ مع أن
~~النساء يباح لهن من الغناء وضرب الدف مالا يباح للرجال، إلا ترى أنه رخص
~~فيما لا يمكن دفعه من دمع العين وحزن القلب، والنساء نهين عن الأسباب
~~المهيجة للنياحة من اتباع الجنائز وزيارة القبور سدا للذريعة، بخلاف
~~الرجال، فإنهم لقوة قلوبهم لم ينهوا عن ذلك. PageV03P135
# فتبين أن الرجال أحق بالنهي عن النياحة، لأنهم أقل عذرا في ذلك من
~~النساء، فهو بمنزلة من ينوح في المصيبة الصغيرة، فهو أحق ممن ناح في مصيبة
~~كبيرة. وفي صحيح مسلم (1) عن أبي مالك الأشعري أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب،
~~والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال (2) : "النائحة
~~إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من
~~جرب".
# والبكاء المرخص فيه هو ما كان من دمع العين وحزن القلب، ومع ذلك فلا يصلح
~~استدعاؤه حزنا، بخلاف البكاء للرحمة، وما كان من اللسان واليد فمنهي عنه،
~~فكيف بالإعانة عليه؟! ففي الصحيحين (3) عن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة
~~شكوى له، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف
~~وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وحده في غاشية -وفي
~~لفظ مسلم: في غشية- فقال: "قد قضى؟ " قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: "إلا تسمعون؟ إن
~~الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه-
~~أو يرحم".
# وعن ابن عباس قال: لما ماتت ms0443 زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه (4) ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - بيده PageV03P136
# فقال: "مهلا يا عمر"، ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان"، ثم قال؟ "مهما كان
~~من العين والقلب فمن الله ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن
~~الشيطان" (1) .
# وعن جابر بن عبد الله قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد عبد
~~الرحمن بن عوف، فانطلق به إلى ابنه إبراهيم، فوجده يجود بنفسه، فأخذه - صلى
~~الله عليه وسلم - فوضعه في حجره، فبكى، فقال له عبد الرحمن: أتبكي؟ أو لم
~~تكن نهيت عن البكاء؟ قال: "لا، ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند
~~مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة". رواه الترمذي (2) وقال: حديث حسن، وذكر
~~غيره (3) تمام الحديث: "وصوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان".
# وفي الصحيحين (4) عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~قال: "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
# وأما قراءة القرآن في الأسواق والجباية على ذلك فهذا منهي عنه من وجهين:
# أحدهما: من جهة قراءته لمسألة الناس، ففي الحديث: "اقرأوا القرآن واسألوا
~~به الله قبل أن يجيء أقوام يقرأونه يسألون به الناس" (5) . PageV03P137
# والثاني: من جهة ما في ذلك من ابتذال القرآن بقراءته لمن لا يستمع إليه
~~ولا يصغي إليه.
# وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الميت يعذب ببكاء أهله، ومن نيح
~~عليه يعذب بما يناح عليه" فهذا حديث صحيح ثابت عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - من رواية عمر بن الخطاب وابنه والمغيرة بن شعبة وغيرهم (1) ، ولكن
~~أشكل معناه على طوائف حتى تفرقوا فيه:
# فمنهم من طعن فيه؛ وظن أن راويه لم يحفظه، كما قالت عائشة ومن معها،
~~كالشافعي في كتاب "مختلف الحديث" (2) . ثم روت عائشة لفظين: أحدهما مناسب
~~معناه، وهو قوله: "إن الله يزيد الكافر ببكاء أهله عليه"، وجعلوا الموجب
~~لضعفه قوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (3) .
# وأما جماهير السلف والخلف فعلموا أن مثل هذا ms0444 التأويل لا يصلح أن يرد به
~~أحاديث ثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كانوا من صغار
~~الصحابة كجابر وأبي سعيد، فكيف بما يرويه عمر ونحوه؟ وذلك أن قوله (ولا تزر
~~وازرة وزر أخرى) إنما فيه أن المذنب لا يحمل ذنبه غيره، وهذا حق لا يخالف
~~معنى الحديث، فإن الحديث ليس فيه أن الميت يحمل ذنب الحي، بل الحي النائح
~~يعاقب على نياحته عقوبة لا يحملها عنه الميت، كما دل على ذلك القرآن. وأما
~~كون الميت يتألم PageV03P138
# بعمل غيره فهذا شيء آخر، كما أنه ينعم بعمل غيره لشيء آخر لا ينافي قوله
~~(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) (1) .
# ومن الناس من تأول على ما إذا لم ينه عنه مع اعتيادهم له، فيكون ذلك
~~إقرارا للمنكر يعذب عليه. وهؤلاء ظنوا أن عذاب الميت عقوبة، والعقوبة لا
~~تكون إلا على ذنب، فاحتاجوا أن يجعلوا للميت ذنبا يعاقب عليه، وليس كذلك،
~~بل العذاب قد يكون عقابا على ذنب، وقد لا يكون. قال النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: "السفر قطعة من العذاب" (2) .
# والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إنه يعاقب، بل يعذب.
# وقد جاء ذلك مفسرا، كما رواه البخاري في صحيحه (3) عن النعمان بن بشير
~~قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته تبكي واجبلاه! واكذا واكذا!
~~تعد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا وقد قيل لي: أنت كذلك؟ فلما مات
~~لم تبك عليه.
# وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت يعذب ببكاء
~~الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! واكاسياه! جبذ الميت وقيل له:
~~أنت عضدها؟ أنت ناصرها؟ أنت كاسيها؟ ". رواه الإمام أحمد في المسند (4) .
# وروى الترمذي (5) عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
~~"ما من PageV03P139
# ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه! واسنداه! أو نحو ذلك إلا وكل به
~~ملكان يلهزانه أهكذا أنت؟ ". قال الترمذي: حديث حسن غريب.
# وفي سنن أبي داود (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ms0445 لنسوة في
~~جنازة: "ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت".
# فهذا ونحوه هو تعذيب الميت بالنياحة. والحي في الدنيا قد يعذب بما يراه
~~ويسمعه ويشمه من أمور منفصلة عنه، وهو التعذيب الذي يلحق من جنس سائر ما
~~يلحقه من هول الفتنة والضغطة وهول القيامة وغير ذلك من أنواع الآلام.
~~والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع (2) .
# وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا
~~على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم" (3) وأشار إلى لسانه، فهذا
~~أيضا حق، وهذا كقوله: "ما كان من اليد واللسان فمن الشيطان، وما كان من
~~العين والقلب فمن الله" (4) . والميت إنما يعذب بما نهي عنه لا بما أبيح
~~له، ولهذا جاء مفسرا أنه النياحة، وهو البكاء بالمد، فإن من الناس من يقول:
~~البكاء بالمد هو الصوت، وأما بالقصر فهو الدمع، زيادة اللفظ كزيادة المعنى،
~~وينشدون: PageV03P140
# بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل (1)
# وأما من يكون في المسجد من مصل وقارئ ومحدث ومفت ونحوهم من يفعل في
~~المسجد ما بني له المسجد، فليس لبعضهم أن يؤذي بعضا، ففي السنن (2) أن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقرآن،
~~فقال: "أيها الناس! كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة".
~~فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلين أن يجهر بعضهم على بعض
~~بالقراءة. ومن هذا أن يكون القوم قد صلوا وهم يذكرون الله بعد صلاة الفجر
~~وغيره، فيقوم بعض من يصلي منفردا أو مسبوقا، فيرفع صوته عليهم بالقراءة حتى
~~يشغلهم.
# والمنفرد لا يستحب له الجهر عند كثير من العلماء، كأحمد في المشهور عنه
~~وغيره، فإن الجهر إنما يشرع للإمام الذي يسمع المأمونين، ولهذا قال النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -: "وإذا قرأ فأنصتوا" (3) . ومن استحب الجهر للمنفرد
~~فإنه ينهاه عن جهر يرفع به صوته على غيره كما نهى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -، بل يجهر جهرا خفيا أو يدعه، لما ms0446 فيه من إيذاء الغير الذي ينهى عن
~~إيذائهم. ألا ترى أن استلام الحجر وتقبيله مستحب، فإذا كان هناك زحمة وفي
~~ذلك إيذاء للناس فإنه ينهى عنه، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~PageV03P141
# عمر عن ذلك، ففي المسند (1) عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
~~له: "يا عمر! إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة
~~فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر". وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغنا من الطواف بالبيت: "كيف صنعت
~~يا أبا محمد في استلام الركن؟ "، قلت: استلمت وتركت، قال: "أصبت" رواه أبو
~~حاتم ابن حبان في صحيحه (2) والطبراني في معجمه (3) .
# وهذا كما أن رفع الصوت بالتلبية والأذان ونحو ذلك سنة، ثم لما كان رفع
~~المرأة صوتها مفسدة نهي عما فيه المفسدة، وجعل جهرها بالتلبية بقدر ما تسمع
~~رفيقتها. وأمثال ذلك في الشريعة كثير، والله أعلم.
# قاله أحمد بن تيمية أيده الله تعالى. PageV03P142
### | فتوى فيمن يعظم المشايخ
# ويستغيث بهم ويزور قبورهم
# PageV03P143
# ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- في قوم يعظمون
~~المشايخ، بكون أنهم يستغيثون بهم في الشدائد، ويتضرعون إليهم، ويزورون
~~قبورهم ويقبلونها ويتبركون بترابها، ويوقدون المصابيح طول الليل، ويتخذون
~~لها مواسم يقدمون عليها من البعد يسمونها ليلة المحيا، فيجعلونها كالعيد
~~عندهم، وينذرون لها النذور، ويصلون عندها.
# فهل يحل لهؤلاء القوم هذا الفعل أم يحرم عليهم أم يكره؟ وهل يجوز للمشايخ
~~تقريرهم على ذلك أم يجب عليهم منعهم من ذلك وزجرهم عنه؟ وما يجب على
~~المشايخ من تعليم المريدين وما يوصونهم به؟ وهل يجوز لهم أن يكتبوا لهم
~~إجازات بالمشيخة على بلاد أخرى؟ وهل يجوز تقريرهم على أخذ الحيات والنار
~~وغير ذلك أم لا؟ وماذا يجب على أئمة مساجد يحضرون سماعهم ويوافقونهم على
~~هذه الأشياء؟ وما يجب على ولي الأمر في أمرهم هذا؟ أفتونا مأجورين.
# أجاب الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام بقية السلف طراز الخلف بحر
~~العلوم ناصر ms0447 الشريعة قامع البدعة تاج العارفين إمام المحققين العارف
~~الرباني الناسك النوراني علامة الوقت مفتي الفرق تقي الدين أحمد بن عبد
~~الحليم بن تيمية الحراني الحنبلي -رضي الله عنه وأرضاه، ورزقه ما رزق
~~أولياءه-، قال:
# الحمد لله رب العالمين. من استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في
~~الشدائد والكربات، ويطلب منه قضاء الحوائج،
# PageV03P145
# فيقول: يا سيدي الشيخ فلان! أنا في حسبك وجوارك؟ أو يقول عند هجوم العدو
~~عليه: يا سيدي فلان! يستوحيه ويستغيث به؟ أو يقول ذلك عند مرضه وفقره وغير
~~ذلك من حاجاته-: فإن هذا ضال جاهل مشرك عاص لله باتفاق المسلمين، فإنهم
~~متفقون على أن الميت لا يدعى ولا يطلب منه شيء، سواء كان نبيا أو شيخا أو
~~غير ذلك.
# ولكن إذا كان حيا حاضرا، وطلب منه ما يقدر عليه من الدعاء ونحو ذلك، جاز،
~~كما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه في حياته، وكما
~~يطلب منه الخير يوم القيامة. وهذا هو التوسل به والاستغاثة التي جاءت به
~~الشريعة، كما ثبت في صحيح البخاري (1) وغيره عن أنس بن مالك: أن الناس لما
~~أجدبوا استسقى عمر بالعباس، فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك
~~بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"، قال: فيسقون. فكان
~~توسلهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته هو توسلهم بدعائه وشفاعته،
~~فلما مات توسلوا بدعاء عمه العباس وشفاعته، لقربه منه، ولم يتوسلوا حينئذ
~~برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا استغاثوا به، ولا ذهبوا إلى قبره
~~يدعون عنده. فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد سد الذريعة في هذا الباب،
~~حتى قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"
~~(2) . وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" (3) . وقال: "لعن الله اليهود
~~والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا (4) . وقال: "إن من
~~كان قبلكم كانوا PageV03P146
# يتخذون القبور مساجد، إلا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"
~~(1) .
# فلهذا قال العلماء -رضي الله عنهم-: إنه ms0448 يحرم بناء المساجد على القبور.
~~فإذا كان قبور الأنبياء والصالحين لم تتخذ مساجد، والصلاة عندها لله تعالى
~~قد نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا تكون ذريعة إلى الشرك،
~~فكيف إذا كان صاحب القبر يدعى ويسأل ويقسم على الله به ويسجد لقبره أو
~~يتمسح به؟ فإن هذا شرك صريح.
# وقد قال الله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال
~~ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير
~~(22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له (2) . وقال تعالى: (قل ادعوا
~~الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، أولئك الذين
~~يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن
~~عذاب ربك كان محذورا (57)) (3) .
# وقال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة والنبيين كالمسيح وعزير،
~~فقال الله تعالى: إن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون
~~رحمتي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي، ويخافوني كما تخافوني.
# وقد قال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم
~~يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون
~~PageV03P147
# الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين
~~أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (1) . فبين سبحانه أن
~~اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، وهذا إنما كان بدعائهم من دون الله،
~~لا بأنهم اعتقدوا أنهم شاركوه في خلق السماوات والأرض، فإن هذا لم يقله
~~أحد.
# ولهذا قال عن النصارى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله
~~والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه
~~عما يشركون (31)) (2) . فبين أن النصارى مشركون من حيث اتخذوا أحبارهم
~~ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم، ولم يقل أحد من النصارى أن
~~الأحبار والرهبان شاركت الله في خلق السماوات والأرض. فإذا كان الداعي
~~المستغيث بمن مات من الأنبياء مشركا فكيف من دعا ميتا غير الأنبياء ms0449 واستغاث
~~به؟!
# ولهذا كانت
### | زيارة القبور على وجهين:
# زيارة بدعية، وزيارة شرعية. ف
### | الزيارة الشرعية
# مقصودها الدعاء للميت كما يصلى على جنازته، فيقال فيها (3) : "السلام
~~عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين
~~منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية في الدنيا والآخرة، اللهم لا
~~تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم". فهذا من جنس الصلاة على
~~الميت. PageV03P148
# وأما
### | الزيارة البدعية
# فهي من جنس الشرك به من جنس النصارى، مثل: دعاء الميت والاستغاثة به،
~~والإقسام به على الله تعالى، وتقبيل قبره والتسمح به، والسجود له، وتعفير
~~الخد عنده، ونحو ذلك مما يتضمن طلب الحاجات منه أو بسببه. فليس شيء من هذا
~~من جنس دين المسلمين، ولم يشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من
~~هذا، ولا فعله أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، بل قد نهوا
~~عنه. حتى قد اتفق أئمة المسلمين على أن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم
~~- لا يقبل ولا يتمسح به ولا يسجد عنده. فإذا كان هذا قبره فكيف يكون قبر
~~غيره؟ وهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، وأقربهم إليه وسيلة، وأعظمهم عنده
~~جاها.
# والحديث الذي يرويه بعض الناس عنه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سألتم
~~الله فاسألوه بجاهي" حديث موضوع (1) ، لم يروه أحد من أهل العلم، ولا ذكر
~~في شيء من كتب المسلمين المعروفة.
# وكذلك إيقاد المصابيح وتعليق الستور على قبور الأنبياء والصالحين من أهل
~~البيت وغيرهم ليس شيء من ذلك مشروعا باتفاق المسلمين جميعا، ولم يفعل ذلك
~~أحد من الأمة ولا أئمتها، ولا استحبه أحد من أئمة الدين. بل في السنن (2)
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله زوارات القبور
~~والمتخذين عليها السرج والمساجد". قال الترمذي: حديث حسن. PageV03P149
# ومن نذر لقبر زيتا أو شمعا أو قناديل أو سترا أو نحو ذلك لم يكن هذا نذر
~~طاعة، ولم يكن على أحد أن يوفي به، وما أعلم في هذا نزاعا بين العلماء.
~~ولكن ms0450 هل عليه كفارة يمين أم لا؟ فيه قولان.
# وكذلك الاجتماع عند قبر من القبور لقراءة ختمة أو دعاء أو ذكر أو عمل
~~سماع أو غير ذلك هو من البدع المنهي عنها؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- قال: "لا تتخذوا قبري عيدا"، رواه أهل السنن كأبي داود وغيره (1) .
# فإذا كان قد نهي عن اتخاذ قبره عيدا، فقبر غيره أولى بالنهي عن ذلك.
~~والمكان الذي يتخذ عيدا هو أن يعتاد الناس للاجتماع فيه في وقت معين، كما
~~يعتادون الاجتماع فيه بعرفة ومزدلفة ومنى، وكذلك الزمان الذي يتخذ عيدا هو
~~الزمان الذي يعتادون الاجتماع فيه، كيومي الفطر والنحر.
# والمشركون الذين كفرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقاتلهم واستباح
~~دماءهم وأموالهم من العرب لم يكونوا يقولون: إن آلهتهم شاركت الله في خلق
~~السماوات والأرض والعالم، بل كانوا يقرون بأن الله وحده خالق السماوات
~~والأرض والعالم، كما قال الله تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض
~~ليقولن) (2) ، وقال تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84)
~~سيقولون لله) (3) الآيات إلى قوله (تسحرون (89)) وقد قال تعالى: (وما يؤمن
~~أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106)) (4) . PageV03P150
# قال طائفة من السلف: يسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله، وهم
~~يعبدون غيره. وإنما كانت عبادتهم إياهم أنهم يدعونهم ويتخذونهم وسائط
~~ووسائل وشفعاء لهم، فمن سلك هذا السبيل فهو مشرك بحسب ما فيه من الشرك.
# وهذا الشرك إذا قامت على الإنسان الحجة فيه ولم ينته، وجب قتله كقتل
~~أمثاله من المشركين، ولم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه. وإما إذا
~~كان جاهلا لم يبلغه العلم، ولم يعرف حقيقة الشرك الذي قاتل عليه النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - المشركين، فإنه لا يحكم بكفره، ولاسيما وقد كثر هذا
~~الشرك في المنتسبين إلى الإسلام، ومن اعتقد مثل هذا قربة وطاعة فإنه ضال
~~باتفاق المسلمين، وهو بعد قيام الحجة كافر.
# والواجب على المسلمين عموما وعلى ولاة الأمور خصوصا النهي عن هذه الأمور،
~~والزجر عنها بكل طريق، وعقوبة من لم ينته عن ذلك ms0451 العقوبة الشرعية، والله
~~أعلم.
# فصل
# والواجب على المشايخ أن يأمروا أتباعهم بطاعة الله ورسوله، فيفعلوا ما
~~أمر الله ورسوله به، ويتركوا ما نهى الله ورسوله عنه، ويتبعوا كتاب الله
~~وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المقصود بذلك دعوتهم إلى
~~عبادة الله وحده لا شريك له وطاعة رسوله. والشيوخ يبلغون عن الرسول - صلى
~~الله عليه وسلم - لما أمر به أمته من الدين الذي أمر الله به، ويتبعون
~~لخلفائه الراشدين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه من يعش منكم فسيرى
~~اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها
# PageV03P151
# وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) .
# والوصية الجامعة من وصية الله التي وصى بها عباده حيث قال. (ولقد وصينا
~~الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) (2) . ولما بعث النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن وصاه ثلاث وصايا، فقال: "اتق الله
~~حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" (3) .
# وأما كتابة الإجازات فهي بمنزلة الشهادة للرجل أنه أهل المشيخة، وبمنزلة
~~أمر الناس بمتابعته وطاعته، وليس لأحد أن يفعل هذا إلا أن يكون عالما بمن
~~يصلح للقدوة والاتباع، ومن لا يصلح أن يكون عدلا فيما يقوله ويأمر به. فمن
~~كان جاهلا بطريق الله الذي بعث به رسوله، أو كان صاحب غرض يكتب الإجازة لمن
~~يعطيه مالا ويخدمه، إن لم يكن مستحقا لذلك لم يكن لمثل هذا أن يكتب إجازة،
~~ولا حرمة لمن كتب له مثل هذا إجازة، لاسيما إذا كان مضمون الإجازة أن يعطوه
~~أموالهم. فهذه إجازة الشحاذين والسوال، PageV03P152
# وليس هذا من حكم طريق الله.
# ومن قبض أموال الناس على أن يعطيها مستحقها فلابد أن يكون هذا عالما
~~بالمستحقين عدلا يعطي المال لمستحقيه. وأما إذا أخذ أموال الناس يطعم بها
~~من يعاونه على أغراضه، ويأمر بغير ما أمر الله به، وينهى عن شرع الله
~~ودينه، فهذا من الآكلين أموال الناس بالباطل والصادين عن سبيل الله. قال
~~الله تعالى: (يا أيها الذين ms0452 آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون
~~أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) (1) .
# وإنما
### | الشيوخ الذين يستحقون أن يكونوا قدوة
# متبعين هم الذين يدعون الناس إلى طريق الله، وهو شرع الله ودينه الذي بعث
~~به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما دل على ذلك الكتاب والسنة
~~وإجماع الأمة، ويصرفون الأموال في مصارفها الشرعية التي يحبها الله ورسوله،
~~فيكونون داعين إلى الله منفقين الأموال في سبيل الله.
# وكل من أظهر هذه الإشارات البدعية التي هي فشارات، مثل إشارة الدم
~~واللاذن والسكر وماء الورد والحية والنار، فهم أهل باطل وضلال وكذب ومحال،
~~مستحقون التعزير البليغ والنكال، وهم إما صاحب حال شيطاني، وإما صاحب حال
~~بهتاني، فهؤلاء جمهورهم، وأولئك خواصهم. وهؤلاء يجب عليهم أن يتوبوا من هذه
~~البدع والمنكرات، ويلزموا طريق الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه
~~وسلم -، ليس لهم أن يكونوا قدوة للمسلمين، وليس لأحد أن يقتدي بهم.
# ومن كثر جمعهم الباطل، وحضر سماعاتهم التي يفعلونها في PageV03P153
# المساجد وغيرها، أو حسن حالهم، أو قرر محالهم من أئمة المساجد ونحوهم،
~~فإنه مستحق التعزير البليغ الذي يستحقه أمثاله. وأقل تعزيره أن يعزل مثل
~~هذا عن إمامة المسلمين، فإن هذا معين لأئمة الضلالة، أو هو منهم، فلا يصلح
~~أن يكون إماما لأهل الهدى والفلاح. قال الله تعالى: (وتعاونوا على البر
~~والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (1) ، وقال تعالى: (والعصر (1) إن
~~الإنسان لفي خسر (2)) إلى آخرها (2) . وقال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون
~~إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104))
~~(3) . والله تعالى أعلم. PageV03P154
### | مسألة في تأويل الآيات وإمرار
# أحاديث الصفات كما جاءت
# PageV03P155
# مسألة
# سئل عنها الشيخ الإمام العالم العامل الزاهد الورع أوحد أهل زمانه شيخ
~~الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن
~~تيمية الحراني -رضي الله عنه وأرضاه- وهو بالديار المصرية، في قوله تعالى
~~(ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية (2) ، وقوله (وهو معكم أين ما
~~كنتم) (3) ، وقول النبي - صلى الله عليه ms0453 وسلم -: "ينزل ربنا كل ليلة إلى
~~سماء الدنيا (4) ... " الحديث (5) . وقد تأول طائفة هذه الآيات وأمثالها من
~~آيات الصفات التي أنزلها الله تعالى، ولم يتأولوا هذا الحديث ولا أمثاله من
~~أحاديث الصفات. وقد قال طائفة: إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث
~~أيضا التأويل. فما الحجة في تأويل الآيات وإمرار الأحاديث كما جاءت؟ بينوا
~~لنا الصواب في ذلك.
# أجاب رضي الله عنه
# الحمد لله. الجواب عن هذا من وجوه:
# أحدها
# أن يقال: يجب اتباع طريقة السلف من السابقين الأولين من PageV03P157
# المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإن إجماعهم حجة قاطعة، وليس
~~لأحد أن يخالفهم فيما أجمعوا عليه، لا في الأصول ولا في الفروع. وحكى غير
~~واحد من أهل العلم بآثارهم وأقوالهم قالوا في قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة
~~إلا هو رابعهم) (1) ونحوه: إنه بعلمه (2) ، وحكوا إجماعهم على إمرار [آيات]
~~الصفات وأحاديثها وإنكارهم على المحرفين لها.
# ولهذا لا يقدر أحد أن يحكي عن أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من سلف
~~الأمة بنقل صحيح أنه تأول الاستواء بالاستيلاء أو نحوه من معاني أهل
~~التحريف، بل ينقل عنهم أنهم فسروا الآية بما يقتضي أنه سبحانه فوق عرشه،
~~ويمكنه أن ينقل بالإسناد الصحيح أنهم قالوا في قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة
~~إلا هو رابعهم) أنهم قالوا: بعلمه.
# قال أبو عمر ابن عبد البر في كتاب "التمهيد في شرح الموطأ" (3) لما شرح
~~حديث النزول، قال: هذا حديث لم يختلف أهل العلم في صحته، وفيه دليل [على]
~~أن الله في السماء على العرش كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة.
~~وهذا أشهر عند العامة والخاصة، وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته، لأنه
~~اضطرار، لم يؤنبهم (4) عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم. PageV03P158
# وقال أبو عمر أيضا (1) : أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم
~~التأويل قالوا في تأويل قوله (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا
~~خمسة إلا هو سادسهم) : هو على العرش، وعلمه في كل مكان. وما خالفهم في ذلك
~~أحد يحتج ms0454 بقوله.
# وقال أيضا (2) : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب
~~والسنة، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من
~~ذلك. وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئا منها
~~على الحقيقة، ويزعم أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود.
# وقال الشيخ أبو بكر الآجري في كتاب "الشريعة" (3) في باب التحذير من مذهب
~~الحلولية: الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله على عرشه فوق سماواته، وعلمه
~~محيط بكل شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلي، وبجميع ما في سبع
~~أرضين، يرفع إليه أعمال العباد.
# فإن قال قائل: فما معنى (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) الآية
~~التي يحتجون بها؟ قيل له: علمه، والله على عرشه، وعلمه يحيط بهم. هكذا فسره
~~أهل العلم، والآية يدك أولها وآخرها على أنه العلم وهو على عرشه.
# هذا قول المسلمين. PageV03P159
# وقال الشيخ أبو عبد الله بن بطة في كتاب "الإبانة" (1) : باب الإيمان بأن
~~الله على عرشه بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه: أجمع المسلمون من الصحابة
~~والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه. فأما قوله (وهو
~~معكم) فهو كما قالت العلماء: علمه. وأما قوله (وهو الله في السماوات وفي
~~الأرض) (2) معناه أنه هو الله في السماوات وهو الله في الأرض، وتصديقه في
~~كتاب الله: (وهو الذي في السماء إله وفى الأرض إله) (3) . واحتج الجهمي
~~[بقول الله تعالى] (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) ، فقال: إن الله
~~معنا وفينا. وقد فسر العلماء أن ذلك علمه. ثم قال في آخرها (إن الله بكل
~~شيء عليم (7)) (4) .
# فهؤلاء وأمثالهم الذين هم من أعلم الناس بأقوال السلف من الصحابة
~~والتابعين، وكل منهم له من المصنفات المشهورة ما فيه العلم بأقوال السلف
~~وآثارهم، ما يعلم أنهم أعلم بذلك من غيرهم، وقد حكوا إجماع السلف كما ترى.
# الوجه الثاني
# أن يقال: الكلام في الآيات والأحاديث كلها على طريقة واحدة، والتأويل
~~الذي ذمه ms0455 السلف والأئمة هو تحريف الكلام عن مواضعه، وإخراج كلام الله
~~ورسوله عما دل عليه وبينه الله به. وقد حده طائفة PageV03P160
# بأنه صرف الكلام عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بغير دليل.
~~فقوله تعالى (وهو معكم أين ما كنتم) ونحوها من الآيات ليس ظاهرها ولا
~~مدلولها ولا مقتضاها ولا معناها أن يكون الله مختلطا بالمخلوقين ممتزجا
~~بهم، ولا إلى جانبهم متيامنا أو متياسرا، ونحو ذلك، لوجوه:
# أحدها: أنه لم يقل أحد من أهل اللغة إن المعية تقتضي الممازجة والمخالطة،
~~ولا توجب التيامن ولا التياسر (1) ونحو ذلك من المعاني المنفية عن الله مع
~~خلقه، وإنما تقتضي المصاحبة والمقارنة المطلقة. الثاني: أنه حيث ذكر في
~~القرآن لفظ المعية فإنه لم يدل على الممازجة والمخالطة، كما في قوله: (محمد
~~رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم) (2) ، فليس معنى ذلك
~~أن ذات المؤمنين ممتزجة بذاته.
# وكذلك قال تعالى: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك
~~منكم) (3) ، والمجاهد معهم ليست ذاته ممتزجة بذواتهم ولا مماسة لذواتهم.
~~وقال تعالى: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119)) (4) ، وليس المراد أن
~~ذاته تمتزج بذواتهم ولا مماسة لها. وقال تعالى: (وما آمن معه إلا قليل
~~(40)) (5) ، وقال تعالى: (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119)) (6) .
~~PageV03P161
# وهذا كثير في كتاب الله، وليس في شيء من ذلك أن معنى المعية أن يكون
~~أحدهما حالا في الآخر ولا ممتزجا به ولا مختلطا به، فمن قال: إن ظاهر قوله
~~(وهو معكم) ونحو ذلك أن يكون الله مختلطا بالمخلوقين وممتزجا بهم وحالا
~~فيهم أو مماسا لهم ونحو ذلك، فقد افترى على القرآن وعلى لغة العرب، وادعى
~~أن هذا الكفر هو ظاهر القرآن، وهو كذب على الله ورسوله بلا حجة ولا برهان.
# وغاية ما يقال: أن لفظ "مع" ظرف أو ظرف مكان، فيقتضي أن يكون المتعلق
~~بهذا الظرف مكانا (1) من المضاف إليه، كما في قول القائل: هذا فوق هذا، فإن
~~"فوق" من ظروف المكان، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون المكان عن يمين المضاف
~~إليه أو عن ms0456 شماله، ولا يقتضي أن يكون عن يمينه وشماله جميعا، بل أكثر ما
~~يقتضي مطلق المكان، فإذا قذر أنه (2) فوق المضاف إليه لم يكن هذا مخالفا
~~لظاهر المعية.
# ومن قال: إنه لابد في المعية من أن يكون ما مع الشيء متيامنا أو متياسرا
~~أو إلى جانبه ونحو ذلك، فقد غلط غلطا بينا. وهذا كما أن قوله (وهو الذي في
~~السماء إله وفي الأرض إله) ليس ظاهره أن ذاته في السماوات والأرض، بل ظاهره
~~أنه إله أهل السماء وإله أهل الأرض، فأهل السماء يألهونه، وأهل الأرض
~~يألهونه.
# وكذلك قوله (وهو الله في السماوات وفي الأرض) ليس ظاهره أن نفس الله في
~~السماوات والأرض، فإنه لم يقل: "هو في السماوات والأرض"، بل PageV03P162
# قال: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) ، فالظرف مذكور بعد جملة لا بعد
~~مفرد، فهو متعلق بما في اسم "الله" من معنى الفعل، هو الله في السماوات: أي
~~المعبود الإله في السماوات، والإله المعبود في الأرض، كقوله: (وهو الذي في
~~السماء إله وفي الأرض إله) ، بخلاف قوله: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم
~~الأرض) (1) وقوله: (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) (2) ، فإنه
~~لم يذكر ما يتعلق به قوله "في السماء" غير نفسه.
# وكذلك الأثر الذي يروى عن ابن عباس أنه قال: "الحجر الأسود يمين الله في
~~الأرض، فمن صافحه واستلمه فكأنما صافح الله وقبل يمينه" (3) ، فمن قال: إن
~~هذا يحتاج إلى تأويل فقد أخطأ، فإنه ليس ظاهر هذا أن الحجر هو صفة الله،
~~فإنه قال: "يمين الله في الأرض"، فقيده بكونه "في الأرض"، وهذا بين أنه ليس
~~هو صفة الله. ثم قال: "فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه"،
~~والمشبه غير المشبه به، فقد صرح بأن المستلم له لم يصافح الله، وإنما هو
~~مشبه بذلك.
# الوجه الثالث أن يقال
### | : إخبار الله في القرآن أنه مع عباده جاء عاما وخاصا،
# فالعام كقوله: (ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون
~~من نجوى ms0457 ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا
~~أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله
~~بكل شيء عليم (7)) (4) ، وقال: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام
~~ثم استوى PageV03P163
# على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما
~~يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4)) (1) . ففتح
~~الكلام بالعلم وختمه بالعلم.
# وأما الخاص فكقوله: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (2) ،
~~فهذا بين أنه ليس مع الفجار والظالمين، ولو كان بذاته في كل مكان لكان
~~مخالفا لهذه الآية.
# وكذلك قوله لموسى وهارون: (إنني معكما أسمع وأرى (46)) (3) ، فهو مع موسى
~~وهارون دون فرعون وقومه.
# وكقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن
~~الله معنا) (4) ، فهو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، لا مع
~~الكفار كأبي جهل وأمثاله.
# فلو كانت المعية معناها الاختلاط والامتزاج، وكان في كل مكان بذاته، لم
~~يجز أن يكون في المعية تخصيص. فمن زعم أن معناها الامتزاج والاختلاط وأن
~~ظاهرها أن يكون في كل مكان فقد أخطأ، ولكن المعية وإن دلت على المصاحبة
~~والمقارنة فهي في كل مكان بحسب ما دل عليه السياق. فلما كان في تلك (5)
~~الآيتين قد افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، دل ذلك على أن من حكم المعية
~~أنه PageV03P164
# عليم بكل شيء. وهنا لما كان السياق يدل على أن المقصود الإعانة والنصر دل
~~على أن من حكم المعية النصر والمعونة، فقول القائل "أنا معك" معناه: أني
~~مصاحبك ومقارنك، وإذا كان كذلك اقتضى أني أعلم حالك، وقد يقتضي إذا أني
~~أعينك وأنصرك على أعدائك.
# وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "اللهم أنت
~~الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في
~~أهلنا" (1) . وهذا وأمثاله بين أن لفظ المعية في القرآن ليس فيه هذا
~~التأويل المتنازع فيه، وهو ms0458 صرف اللفظ عن الاحتمال (2) الراجح إلى الاحتمال
~~المرجوح لدليل يقترن بذلك، فإن هذا إنما يكون إذا كان ظاهر قوله (وهو معكم)
~~يقتضي أن يكون الله ممتزجا بنا حالا في أجوافنا، أو أن يكون إلى جوانبنا،
~~وليس هذا مدلول لفظ المعية أصلا، فبطل ما قال. بل يقال:
# الجواب الثاني
# وهو أن قوله (وهو معكم) يدل على نقيض قول الجهمية، فإنه ذكر نفسه وذكر
~~أنه معهم، ولفظ الخطاب -إذا قيل: هم وأنتم ومعكم ونحو ذلك- يتناول ما
~~يتناوله الاسم الظاهر، واسمهم يتناول جميع ذاتهم وصفاتهم فأبعاضهم، وذلك
~~يمتنع (3) أن يكون في أحدهم شيء من غيره. فإذا كان هو معهم دل ذلك على أنه
~~منفصل عنهم بائن منهم خارج عنهم، كما في نظائره. بل قوله "رب الناس" "ملك
~~PageV03P165
# الناس" و"رب العالمين" ونحو ذلك يقتضي أنه مغاير للناس مباين لهم، لأن
~~الرب مغاير للمربوب، فإذا قيل: "هو معهم أنه اقتضى أنه مغاير لهم، ولمسمى
~~"مع" الذي هو معنى الظرف اللفظي، فإنه إذا قيل: "هذا فوق هذا" اقتضى أنه
~~مغاير مباين لما هو فوقه ولنفس المسمى بلفظ فوقه، ولفظ "مع" هو من هذا
~~الجنس ظرف من الظروف، فيقتضي ذلك أن يكون المتعلق بهذا الظرف مغايرا مباينا
~~له ولما أضيف إليه الظرف، ولا نزاع أن الشيء إذا كان فوق الشيء جاز أن
~~يقال: هو معه، وقد يجعل الأعلى مع الأسفل، كما يقال: "هذا الحمل معي"، وقد
~~يجعل الأسفل مع الأعلى، كما يقال: "هذا المركوب معي"، وقد يقال لما هو
~~مباين منفصل عنه، كما يقال: "هذه الغاشية (1) معي"، وقد يقال: "سرنا
~~البارحة والقمر معنا"، وأمثال ذلك مما يقتضي المباينة والانفصال.
# فعلم بذلك أن كونه (وهو معكم) لا ينفي أن يكون الرب مباينا لهم، ولا
~~يقتضي أن يكون على جوانبهم، بل غايته أن يكون بحيث هو مضاف إليه مما يسميه
~~النحاة ظرفا كالفوق ونحوه، فلا يكون بين قوله "فوقهم" وقوله "معهم" منافاة،
~~بل يكون لفظ "المعية" دل على مطلق أنه حيث يضاف إليهم، ولفظ "الفوقية" دل
~~على ms0459 خصوص ذلك ولو معية هي فوقية، ليست تيامنا ولا تياسرا.
# وحقيقة الأمر أن لفظ "مع" في الأصل معناه واحد، وهو المصاحبة والمقارنة
~~والمشاركة في مسمى "مع" الذي هو معنى الظرف، وهو ظرف إضافي. فقوله "هذا
~~معه" بمنزلة قوله "هذا مصاحب له مفارق له"، وهو يقتضي مطلق المصاحبة
~~والمقارنة لا نوعا منهم إلا بتفصيل وتخصيص. PageV03P166
# وكذلك إذا قيل: هو يقتضي مطلق الموافقة أو المشاركة فيما قد يسمى مكانا
~~ونحو ذلك من الأسماء، فإنه لا يدل إلا على مطلق هذه الموافقة، لكن قد يكون
~~من لوازم ذلك موالاة أحدهما للآخر محبة ونصرة، كما يقال: فلان معي وفلان
~~على، إذ كان من شأن المتحابين قرب كل منهما إلى الآخر حتى يتفقا في محل
~~واحد، وقد يكون من لوازم ذلك معرفة كل منهما بالآخر أو معاونته، إذ من شأن
~~المجتمعين من الآدميين في محل [أن] يعرف أحدهما الآخر ومعاونته له.
# وهذا كما أن لفظ "العلم" في الأصل إنما يقتضي معرفة المعلوم، ثم قد يكون
~~من لوازم ذلك ما يقتضيه العلم من محاسبة الشخص ومجازاته ونحو ذلك، كما في
~~قوله (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى
~~من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108)) (1) ، وكما في قوله (نحن أعلم
~~بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى) (2) ، وقوله تعالى (قد يعلم
~~الله الذين يتسللون منكم لواذا) إلى قوله (ألا إن لله ما في السماوات
~~والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل
~~شيء عليم (14)) (3) .
# وكذلك "السمع" و"البصر"، مثل قوله: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن
~~الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق) (4) ،
~~وقوله: (الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219)) (5) ، وقوله:
~~PageV03P167
# (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) (1) . فهذا ونحوه وإن
~~ذكر فيه لفظ "السمع" و"الرؤية" فالمقصود لوازم ذلك، من إحصاء ذلك والجزاء
~~عليه بالثواب والعقاب، وقد يكون المقصود بذلك قبول الدعاء، كقول الخليل ms0460:
~~(إن ربى لسميع الدعاء (39)) (2) ، وقول المصلي "سمع الله لمن حمده"، كما
~~يعنى بالنظر نظر الرحمة والمحبة، كقوله (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم)
~~(3) . فهذه الأمور لما كانت من لوازم العلم والسمع والبصر، [و] من شأنه
~~إحصاء الأعمال والجزاء عليها ونحو ذلك، صارت متضمنة لهذا المعنى. وكذلك
~~المصاحبة لما كان لها لوازم -مثل معرفة الصاحب بحال صاحبه، وموالاته له،
~~وموافقته له- دخلت هذه المعاني فيها حيث دل عليه السياق.
# ولفظ "مع" في الأصل يدل على المصاحبة، ويدل على لوازم هذا المعنى: من
~~العلم الذي يتضمن الإحصاء والجزاء على الأعمال عموما، ومن الموالاة
~~والمعونة والنصر الذي يختص المؤمنين ونحو ذلك، فقوله تعالى (هو الذي خلق
~~السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما
~~يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله
~~بما تعملون بصير (4)) (4) ذكر بعد أن أخبر بخلق السماوات والأرض واستوائه
~~على العرش أنه يعلم ما يدخل في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء
~~وما يصعد فيها، وأنه مع الخلق أينما كانوا، وأنه بكل شيء عليم. فدل هذا
~~السياق على PageV03P168
# أنه مع كونه استوى على العرش يعلم باطن الخلق وظاهرهم، وهو معهم لا يغيب
~~عنه شيء من أمرهم.
# وكذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث العباس بن عبد المطلب
~~لما ذكر السماوات والعرش قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (1)
~~.
# وكذلك قال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء إلى السماء كذا وكذا" إلى
~~أن قال: "والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه" (2) .
# وكذلك ما ذكره في سورة المجادلة (3) من قوله: (ألم تر أن الله يعلم ما في
~~السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا
~~هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم
~~بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم (7)) ، فافتتح الآية ms0461 بالعلم
~~وختمها بالعلم.
# ومثل هذا قوله: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ
~~يبيتون ما لا يرضى من القول) (4) .
# وأما قوله: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) (5) ، وقوله
~~لموسى وهارون: (إنني معكما أسمع وأرى (46)) (6) ، وقوله PageV03P169
# عن الرسول: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (1) ، فقد علم أن حكم
~~المعية هنا ومقصودها ليس عاما لجميع المخلوقات كالعلم والقدرة، بل مختصا
~~بالمتقين المحسنين (2) دون الفجار الظالمين، وبموسى وهارون دون فرعون
~~وقومه، وبالنبي وصديقه دون مشركي قومه. فهذه الأمور التي فيها خصوص وعموم
~~تضمنها لفظ المعية ودل عليها، كما دل لفظ العلم والسمع والبصر على ما تقدم،
~~وهي في نفسها تقتضي من المصاحبة والمقارنة ما هو معناها في الأصل، ولا
~~تقتضي ممازجة ولا مخالطة ولا تيامنا ولا تياسرا.
# بل إذا قيل: إنها تتضمن قربه من خلقه، فقربه ثابت بنصوص صريحة أصرح من
~~لفظ المعية، كقوله تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع
~~إذا دعان) (3) ، وقو له تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت
~~فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب (50)) (4) . وفي الصحيح (5) عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأصحابه لما كانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير:
~~"أيها الناس! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون
~~سميعا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". وهو سبحانه
~~قريب في علوه علي في دنوه.
# وقد تكلمنا على قربه من خلقه وقرب عباده منه بكلام مبسوط، PageV03P170
# وذكرنا أقوال الناس كلهم في ذلك في غير هذا الموضع (1) ، وبينا أن قربه
~~لا ينافي علوه.
# الجواب الثالث
# أن لفظ "التأويل" فيه اصطلاحات متعددة، فالتأويل الذي يتنازع فيه مثبتة
~~الصفات ونفاتها المراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال
~~المرجوح، وذلك لا يجوز إلا بدليل يوجب ذلك.
# وقد يراد بلفظ التأويل تفسير اللفظ، وإن كان التفسير يوافق ظاهره. وهذا
~~اصطلاح ابن جرير الطبري في تفسيره وابن عبد البر ونحوهما.
# وقد يراد ms0462 بلفظ التأويل ما يؤول إليه اللفظ، وهو الحقيقة الموجودة في
~~الخارج التي دل الكلام عليها، وبهذه اللغة جاء القرآن، كقوله تعالى: (هل
~~ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل
~~ربنا بالحق) (2) ، وقوله تعالي: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
~~العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) (3) ، وأمثال ذلك.
# إذا عرف ذلك فنقول (4) : أما التأويل بالمعنى الثالث والثاني فلا نزاع
~~فيه بين الناس. وأما التأويل بالمعنى الأول فيقال: هو صرف اللفظ عن ظاهره
~~إلى ما يخالف ظاهره، أو عن حقيقته أو عن PageV03P171
# الاحتمال الراجح، وحينئذ فالظهور والبطون من الأمور الإضافية، فإن كان
~~الإنسان يظهر له من نصوص الصفات أن صفات الخالق مماثلة لصفات المخلوقات
~~-مثل أن يظن أن استواءه على العرش كاستواء الإنسان على بعيره أو على الفلك،
~~أو أن معيته مع الخلق تقتضي دخوله فيهم، أو أن قوله "الحجر الأسود يمين
~~الله في الأرض" ظاهره أن صفة الله حلت في الأرض، وأن ذلك الحجر صفة للرب،
~~وأن قوله (أأمنتم من في السماء) (1) يقتضي أن يكون الله في جوف الأفلاك،
~~ونحو ذلك- فمن ظن أن هذه المعاني الفاسدة هي ظاهر القرآن، وأن مسماها ظاهره
~~وحقيقته، فيجب على مثل هذا أن يعتقد التأويل في ذلك كله، ويعلم أن هذه
~~النصوص مصروفة عن هذا المعنى الذي ظنه هو الاحتمال الراجح إلى ما يخالف ذلك
~~المعنى. لكن عليه أن يعتقد ويعلم أن السلف والأئمة الأربعة الذين منعوا من
~~التأويل لم يعتقدوا أن هذا المعنى الفاسد ظاهر هذه النصوص، ولا أنها تدل
~~على ذلك.
# بل من فهم منها هذا المعنى الفاسد بينوا له أنها لا تدل على هذا المعنى
~~الفاسد، وفي كلام الله ورسوله ما ينفي عن الله هذا المعنى الفاسد.
# فمن ادعى أن هذه المعاني الفاسدة قد دل عليها القرآن كان ما في القرآن من
~~التصريح بنفي ذلك مثبتا لنفي هذه المعاني الفاسدة، فإنه قد أخبر في القرآن
~~أنه استوى على العرش، وأن كرسيه وسع ms0463 السماوات والأرض، وأن الأرض جميعا
~~قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، وأخبر بعلوه في غير موضع من
~~الكتاب. وهذه كلها نصوص تنفي أن تكون صفاته تشبه صفات خلقه (2) ، أو يكون
~~حالا PageV03P172
# في المخلوقات. وأخبر بقوله ليس (ليس كمثله شيء) (1) وبقوله (ولم يكن له
~~كفوا أحد (4)) (2) ونحو ذلك أن يماثله العباد في صفاتهم، فتكون صفاته كصفات
~~خلقه.
# فهذه النصوص المفسرة تبين أن تلك المعاني الفاسدة ليست مرادة، سواء سمى
~~المسمي ذلك تأويلا أو لم يسمه.
# فقول القائل "إذا تأولنا هذه الآيات احتملت هذه الأحاديث أيضا التأويل"
~~حقيقته أنا إذا نفينا عن النصوص أن يراد بها معنى فاسد بين الله تنزهه عنه
~~في موضع آخر، وجب [أن] ننفي عن نصوص أخرى معاني ونفسرها بأمور من غير أن
~~يدل القرآن والسنة لا على نفي هذا ولا على إرادة هذا، ومعلوم أن هذا باطل
~~سواء سماه تأويلا أو لم يسمه، لوجوه:
# أحدها: أن ما نفي من المعاني الفاسدة هناك نفاه القرآن، فإن بينوا في
~~بقية (3) النصوص معنى فاسدا نفاه القرآن وجب نفيه أيضا.
# الثاني: أن ما فسروا به تلك النصوص هو تفسير يوافق سائر النصوص، لتفسيرهم
~~لها بان الله إله من في السماء وإله من في الأرض، وأنه بكل شيء عليم، ونحو
~~ذلك. وأما تأويلات الجهمية فهي متناقضة، منها قولهم (4) : "استوى" بمعنى
~~استولى، فإن هذا فاسد من قريب عشرين وجها مذكورة في غير هذا الموضع (5) .
~~PageV03P173
# وقولهم "ينزل أمره أو ملك"، فان هذا فاسد من وجوه كثيرة، فكيف يقاس تأويل
~~فاسد على تأويل صحيح. وهذا كله إذا تنزلنا وسمينا ذلك تأويلا بحسب فهم هذا
~~الفاهم، وإلا فالصواب هو:
# الوجه الثالث؟ وهو أن يقال: إذا فهم بعض الناس من كلام الله معنى فاسدا
~~-مثل فهمهم كون المعية تقتضي المخالطة، وأن الحجر صفة الله، وزعم أنه
~~ظاهره- رد عليه هذا الفهم، وقيل له: هذا خطأ في فهمك، وإلا فالنص لم يدل
~~على ذلك، ولا هذا ظاهر النص. وظاهر الخطاب الذي هو مدلوله ومعناه يعلم تارة
~~بمفردات ألفاظه ms0464 وموضوعها، وتارة بالتركيب وبما اقترن بالمفردات من التركيب
~~الذي يبين المراد ويظهر معنى الخطاب، وتارة بالسياق الذي سيق له الكلام.
# وإذا كان كذلك لم نسلم أن هذا تأويل، فإن أصر على تسمية هذا تأويلا كان
~~نزاعا لفظيا، وقيل له: ذلك تأويل يوافق مدلول النص ومقتضاه، وهذا تأويل
~~يخالف مدلوله ومقتضاه، وكل تأويل كان من القسم الأول نقول به، وإنما نرد
~~التأويل الذي يخالف مدلول كلام الله ومقتضاه.
### | الجواب الرابع
# أن الناس متفقون على أنه لا يسوغ كل تأويل،
# من التأويلات ما هو مردود، مثال ذلك أن الأشعري يرد تأويل المعتزلي لعلم
~~الله وقدرته وسمعه وبصره وتكليمه ومشيئته، ويثبت هذه الصفات حقيقة؟
~~والمعتزلي يرد تأويل المتفلسف في معاد الأبدان والأكل والشرب في الجنة؟
~~والفيلسوف يرد تأويل القرمطي في الصلاة والزكاة والصوم والحج؟ والقرمطي يرد
~~تأويلات الجمهور الذين (1) ينازعونه فيها. PageV03P174
# وإذا كان كذلك قيل لكل من هؤلاء: بأي شيء رددت بعض التأويلات وقبلت
~~بعضها؟ فلا يذكر شيئا إلا عورض حتى يبين له تناقضه وفساد أصله.
# فمن كان من المتأولين (1) يتأول المحبة والرضا والغضب ونحو ذلك، ويقرر
~~الإرادة ونحوها، قيل له: ما الفرق بين ما قررته وبين ما تأولته؟
# فإن قال: لأن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وذلك لا يليق
~~بالله.
# قيل له: هذا غضبنا، وغضب الله ليس مثل غضبنا، بل يقال له:
# هذا هو مقتضى الغضب فينا أو موجبه، ليس هو نفس الغضب، والله تعالى لا
~~يوصف بما نحتاج إليه نحن في ثبوت الصفات، فإنه عليم، ولا يحتاج في علمه إلى
~~النظر والاستدلال الذي يحصل لنا العلم، وهو قدير ولا يحتاج إلى مزاج وعلاج
~~يحصل له القوة، وهو بصير ولا يحتاج إلى شحمة، وهو متكلم ولا يحتاج إلى لسان
~~وشفتين.
# فكذلك غضبه لا يفتقر إلى ما يفتقر إليه غضبنا.
# فإن قال: أنا لا أعرف الغضب إلا هكذا.
# قيل له: فتأول الإرادة، فإن الإرادة فينا هي ميل القلب إلى جلب ما ينفعه
~~أو دفع ما يضره، والله تعالى لا يوصف بذلك ms0465.
# فإن قال: إرادته ليست كإرادتنا.
# قيل له: فقل في الغضب كذلك، وهكذا في سائر الصفات. PageV03P175
# فإن قال المعتزلي: أنا أتأول الإرادة والكلام، وأجعل كلامه ما خلقه في
~~غيره، وإرادته ما خلقه في المفعولات والأصوات، أو عرضا خلقه قائما بنفسه.
# قيل له: فتأول أسماءه الحسنى، وهو الحي العليم القدير، ولا تثبت له حقائق
~~هذه الأسماء كما يفعل القرمطي، قال: لأن ثبوت هذه الأسماء يقتضي هذه
~~المشابهة بينه وبين خلقه، ويقتضي أنه جسم، إذ لا يسمى بهذه الأسماء إلا
~~جسم.
# فإذا قال: أنا أثبت هذه الأسماء له مع الفرق بين المسمى والمسمى.
# قيل له: فكذلك أثبت الصفات، وفرق بين الموصوف والموصوف.
# فإن قال: الصفات تقتضي التجسيم.
# قيل له: والأسماء تقتضي التجسيم.
# فإن قال: التجسيم (1) إنما يلزم إذا قلت: هو حي بحياة عليم بعلم قدير
~~بقدرة، وأنا أقول: حي بلا حياة عليم بلا عليم.
# قيل له: هذا باطل من ثلاثة أوجه:
# أحدها: أن التجسيم الذي تزعمه يلزم في هذا كما يلزم في هذا.
# الثاني: أن إثباتك حيا بلا حياة عليما بلا عليم قديرا بلا قدرة مخالف
~~لصريح العقل أكثر من مخالفة ما فررت منه.
# الثالث: أن خصومك من النفاة [و] المثبتة يخالفونك في هذا الفرق، فالمثبتة
~~للصفات يقولون: ليس في الجميع تجسيم، أو PageV03P176
# التجسيم الذي نفيته ليس بمنتف، والنفاة القرامطة يقولون: التجسيم في
~~إثبات الأسماء كالتجسيم في إثبات الصفات.
# فإن قال المتفلسف: أنا أتأول هذا كفه، وأتأول ما ورد في معاد الأبدان.
# قيل له: فتأول ما ورد في معاد الروح ونعيمها، وما ورد في إثبات واجب
~~الوجود وعنايته وإبداعه وعلمه الكلي ونحو ذلك، فالخطاب الوارد فيما نفيته
~~أصرح من الخطاب الوارد فيما أثبته.
# فإن قال: ما نفيته يستلزم تركيب واجب الوجود.
# قيل له: وكذلك ما أثبته، ولا فرق، فإن الوجود والوجوب والعناية والعقل
~~وأمثال ذلك معان متميزة في العقل كتميز ما أثبتته الصفاتية.
# وقيل له: فتأول العبادات كما تأولها القرمطي.
# فإن قال: العبادات قد علم بالاضطرار أن الرسول أوجبها، أو ليس فيها ما ms0466
~~ينافي العقل.
# قيل له: منازعون من النفاة والمثبتة يقولون لك ذلك، فالمعتزلة وغيرهم
~~يقولون: إن معاد الأبدان قد علم بالاضطرار أن الرسول قد أخبر به، والصفاتية
~~يقولون: إن إثبات الصفات مما علم بالاضطرار أن الرسول أخبر به، ويقولون لك:
~~ليس في العقل منافاة لما أثبته من هذه الجزئيات، كما ليس في العقل منافاة
~~لما أثبته من العلميات (1) .
# والقرامطة ينازعونك فيما أثبته حتى في النفس، فيقولون: لا يقال هو
~~PageV03P177
# لا موجود ولا معدوم، لأن في هذا تشبيها له بالموجودات والمعدومات.
# فان قال (1) : هذا خروج عن النقيضين، وهذا خروج عن العقل، وهو مخالف لما
~~علم بالاضطرار من السمع.
# قيل له: وهكذا حال جميع النفاة، فإنهم لابد أن يجمعوا بين النقيضين أو
~~يسلبوا النقيضين كالقرمطي، فمن قال: لا هو مباين ولا محايث ولا داخل ولا
~~خارج، كان بمنزلة من يقول: لا قائم بنفسه ولا بغيره، ولا قديم ولا محدث،
~~ولا موجود ولا معدوم، ومن قال: إنه وجود مطلق ليس له حقيقة وراء الوجود
~~المطلق. وقد تقرر في المنطق أن المطلق بشرط إطلاقه لا يوجد في الخارج بل في
~~الذهن، كالجسم المطلق والحيوان المطلق، فإن جعل المطلق بشرط الإطلاق يثبت
~~في الخارج جمع بين النقيضين.
# وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هؤلاء أهل التأويلات
~~المبتدعة الذين ينفون الصفات ليس لأحد منهم قانون مستقيم في التأويل، بل
~~يتناقضون.
# فيقال لهم: إذا تأولتم هذا فتأولوا هذا، أو لا تتأولوا شيئا.
# فإن قالوا: ما دل العقل على إثباته لم نتأوله كالإرادة، بخلاف ما لم يدل
~~على إثباته كالغضب.
# كان الجواب من وجوه:
# أحدها أن يقال: عدم الدليل ليس دليلا على العدم، فهب أنكم لم تعلموا
~~بالعقل ثبوت صفة أخرى، فمن أين لكم نفيها بلا دليل PageV03P178
# والسمع قد دل عليها؟!
# الثاني أن يقال: فهذا عزل للرسول عن الإخبار بصفات مرسله، فإنكم لم
~~تثبتوا إلا ما علمتم بعقولكم، وما لم تثبته عقولكم نفيتموه، فبقي كلام
~~الرسول عديم الفائدة في باب أسماء الله وصفاته.
# الثالث: أن يبين ms0467 لهم أن العقل يدل على ما نفيتموه نظير دلالته على ما
~~أثبتموه، وأن ما في الوجود من الإحسان يدل على الرحمة، كما أن ما فيه من
~~التخصيصات يدل على الإرادة، وما فيه من العقوبات للمكذبين يدل على الغضب،
~~كما قد بسط في غير هذا الموضع.
# فإن قال: إنما نتأول (1) ما علم نفيه بدليل قطعي من العقل أو النقل.
# قيل له: ونحن نسلم لك أن ما علم نفيه بصريح المعقول أو صحيح المنقول فإنه
~~يجب نفيه عن الله، لكن دعواكم أن هذا المنصوص يدل على ما يخالف صريح
~~المعقول وصحيح المنقول قول غير مقبول.
# الجواب الخامس
# أن يقال: التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال
~~المرجوح، للمثبتة فيه ثلاثة مسالك:
# أحدها: أن ينفوه مطلقا، ويقولوا: لا حاجة إليه، وتمام ذلك بان يثبتوا
~~تنزه القرآن والحديث عن الدلالة على المعاني الفاسدة.
# المسلك
### | الثاني: أن يقولوا بالتأويل الذي قام عليه دليل شرعي،
# مثل أن يكون نفي ذلك المعنى قد بينه الشارع في موضع آخر، فيكون هو
~~PageV03P179
# قد بين كلامه بكلامه، فلا يكون كلام الله ورسوله محتاجا في البيان إلى ما
~~يحدثه المحدثون.
# المسلك
### | الثالث: أن يسلموا أن كل تأويل قام عليه دليل سمعي أو عقلي فإنه يجب قبوله،
# لكن يطالبون منازعيهم بالدلائل القطعية فيما إذا [كانت] حاجة إلى
~~التأويل، ويثبتون أن ذلك لم يخالف دليلا قطعيا، لا عقليا ولا سمعيا، بل
~~يبين أن العقل الصريح يقرر ما أثبته السمع، وأن العقل الصريح لا يخالف
~~النقل الصحيح أصلا، كما يبين أن ما دل عليه القرآن من أن الله مباين
~~لمخلوقاته (1) قد دل عليه العقل، وأن العقل يثبت مباينته للمخلوقات، والسمع
~~زاد على ذلك وأثبت الاستواء على العرش، وذلك لا يعلم بالعقل، فالسمع أثبت
~~ما علم العقل وزاد عليه وفضله، لأن الرسل بعثت بتكميل الفطرة وتقريرها، لا
~~بتحويل الفطرة وتغييرها. والله أعلم.
# (تمت بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلواته على سيدنا محمد خير خلقه محمد
~~(2) وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا، بتاريخ ms0468 خامس شهر ربيع الأول سنة
~~ست وخمسين وسبعمئة) . PageV03P180
### | مسألة
# فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى
# إلى العلو من جميع الجهات المخلوقة
# PageV03P181
# مسألة
# سئل عنها سيدنا وشيخنا وإمامنا الشيخ الإمام العالم العامل الناسك البارع
~~المجتهد السالك المحقق المدقق مفتي الفرق ناصر السنن قامع البدع فريد عصره
~~وواسطة عقد دهره، شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس (1) أحمد بن عبد الحليم
~~بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني -متعنا
~~الله بعلومه الفاخرة، وأسبغ عليه نعمه باطنة وظاهرة، وأثابه في الدنيا
~~والآخرة- بالديار المصرية، فيمن قال: إن نسبة البارئ تعالى إلى العلو من
~~جميع الجهات المخلوقة، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وأنه بائن من خلقه،
~~لا يتصور ذلك في الذهن إلا إذا فرضنا أن ذات الحق فلكية محيطة بالفلك؟ إذ
~~الفلك مستدير محيط بالخلق. فهذا التصور حق أم لا؟ وإذا لم يكن حق (2) فما
~~الدليل الخاصم بحجته بما يقبله العقل الصحيح؟ أفتونا مأجورين رضي الله عنكم
~~أجمعين.
# أجاب -رضي الله عنه-
# الحمد لله. بل
### | هذا التصور باطل،
# وأما بيان بطلانه فله طرق كثيرة، وذلك أن هذا القائل يقول: لو كان البارئ
~~سبحانه فوق المخلوقات وهو بائن من مخلوقاته، لوجب أن يكون فلكا محيطا
~~بالأفلاك، لأن الفلك التاسع مستدير، وهو محيط بسائر الأفلاك وما في جوفها،
~~والمحدد للجهات هو سطح الفلك التاسع، فلو قدرنا PageV03P183
# شيئا فوقه للزم أن يكون فلكا تاسعا، وهو مبني على أن الأفلاك مستديرة،
~~وهذا ثابت بالسمع والعقل. وربما قال بعضهم: إن الأفلاك هي تحت الأرض، فلو
~~كان فوق العالم للزم أن يكون تحت هذه الأرض
### | …
# (1) تحت بعض الناس.
# فهذا حقيقة كلامه، وأما بيان بطلانه فمن وجوه:
# أحدها أن يقال: لا يخلو إما أن يكون الخالق تعالى مباينا للمخلوقات، وإما
~~أن يكون محايثا لها، وإما أن لا يكون لا مباينا ولا محايثا لها" وإن شئت
~~قلت: إما أن يكون داخل العالم، وإما أن يكون خارجه، وإما أن لا يكون لا
~~داخل العالم ولا ms0469 خارجه؛ وإن شئت قلت: هو سبحانه لما خلق العالم إما أن يكون
~~دخل فيه أو أدخله في نفسه (2) ، أو لا دخل (3) فيه ولا أدخله في نفسه.
# فإن قال: إنه داخل العالم محايث له أي هو يحيث العالم، والعالم أجسام قام
~~بها أعراض هي الصفات، فالذي هو داخل فيه محايث له: إما عرض قائم بأجسامه
~~وإما بعض أجسامه، وعلى القول بكون سطح الفلك محيطا به فالقول بكون الفلك
~~محيطا به أبعد عن العقل والدين من كونه محيطا بالفلك.
# فإن قال: يمكن في العقل أن يكون داخل العالم ولا يكون جسما من أجسام
~~العالم ولا عرضا قائما به.
# قيل له: فإن كان هذا جائزا في العقل فكونه خارجا عن العالم PageV03P184
# مباينا له وكونه عين الفلك أقرب في العقل من كونه فيه والعالم لا يحيط
~~به. وهذا بين واضح.
# فإن أثبت أنه في العالم ولا يحيط به العالم كان القول بأنه خارج العالم
~~وليس بفلك أولى في العقل.
# وإن قال: إنه فيه، والعالم يحيط به، وذلك ممكن، كان القول بأنه هو المحيط
~~بالعالم أولى في العقل أن يكون ممكنا (1) .
# فتبين أنه على التقديرين أي محذور لزمه في كونه خارج العالم مباينا له
~~كان المحذور في كونه داخله محايثا له أعظم وأقوى، فلا يجوز إثبات الأبعد عن
~~العقل والدين بنفي الأقرب إلى العقل والدين. وأما إن قال: إنه لا داخل
~~العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محايث له.
# قيل له: فهل يعقل موجودان قائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما داخل الآخر ولا
~~خارجه؟ وهل يعقل إثبات خالق للعالم ليس في العالم ولا مباينا للعالم؟ وهل
~~يعقل أن يكون خلق العالم لا في نفسه ولا خارجا (2) عن نفسه؟
# فإن قال: هذا معقول ممكن متصور.
# قيل: فتصور موجود قائم في هذا الباب يستعمل لثلاث معان: أحدها: أن يراد
~~بالمباينة المخالفة التي هي ضد المماثلة، وهي بهذا الاعتبار متفق عليها بين
~~الناس، إذ لا نزاع بينهم أن الخالق سبحانه PageV03P185
# مباين لمخلوقاته بهذا المعنى، لكن هذه المباينة تثبت ms0470 لصفات الموصوف
~~القائمة بمحل واحد، وهي الأعراض القائمة بالجسم، كالطعم واللون والريح
~~والحركة والسكون القائمة بالساحة مثلا، فإن هذه الصفات تباين بعضها بعضا
~~بهذا المعنى، فإن كل واحدة من هذه الصفات التي تسمى أعراضا ليست مثل الآخر.
# والمعنى الثاني في المباينة: حد المحايثة، وهو أن يكون أحد الشيئين ليس
~~هو محايثا له، سواء كان ملاصقا له مباينا أو لم يكن كذلك، فكل شيء قائم
~~بنفسه مباين لكل شيء قائم بنفسه بهذا الاعتبار، سواء ماسه أو لم يماسه.
~~وهذه المباينة المذكورة في السؤال، وهي التي أرادها السلف والأئمة كعبد
~~الله بن المبارك وغيره، حيث قالوا: نعرف ربنا بأنه فوق سماواته على عرشه
~~بائن من خلقه.
# وكان المتكلمة الصفاتية الذين سلك مسلكهم الأشعري -كعبد الله بن سعيد بن
~~كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وغيرهم- يثبتون هذه المباينة،
~~لاعتقادهم أن الله فوق خلقه وأنه مستو على عرشه، وإنكارهم على الجهمية
~~الذين لا يفرقون بين العرش وغيره. وكذلك ذكر الأشعري ذلك عن أهل السنة
~~والحديث، وذكر أنه هو قوله (1) ، ورد على الجهمية في (2) كتبه المعروفة
~~"كالموجز" و"الإبانة" و"المقالات" وغير ذلك من كتبه.
# والمعنى الثالث من معاني المباينة: ما يضاد المماسة والملاصقة، وهذه
~~المباينة المعروفة عند الناس، وهي أخص معانيها. وليس PageV03P186
# المقصود هنا ذكر هذه لا نفيا ولا إثباتا، فإن القائم بنفسه لا يجب أن
~~يكون مباينا لكل قائم بنفسه بهذا الاعتبار، وكل مباينة يجب للمخلوق مع
~~المخلوق فالخالق أحق بها سبحانه وتعالى.
# فلما وجب أن يكون المخلوق مباينا للمخلوق بالمعنى الأول والثاني كان
~~الخالق أحق بذلك وزيادة، لامتناع مماثلته للمخلوق ومحايثته له، فإن
~~المماثلة والمحايثة ممتنعان عليه لامتناع مساواته لخلقه أو احتياجه إليهم،
~~والمماثلة والمحايثة توجب ذلك.
# والله سبحانه له المثل الأعلى، كما قال تعالى: (للذين لا يؤمنون بالآخرة
~~مثل السوء ولله المثل الأعلى) (1) ، فكل ما يفهم للمخلوق من صفات كمال
~~فالخالق أحق بها وأكمل في اقتضائه، كالعلم والقدرة والحياة والكلام ونحو
~~ذلك. وكل ما نزه عنه شيء من المخلوقات من ms0471 صفات النقص فالخالق أحق بأن ينزه
~~عن ذلك. فإذا كان أهل الجنة لا ينامون ولا يموتون، فالحي القيوم أحق بأن لا
~~تأخذه سنة ولا نوم. وهو الغنى المطلق عما سواه، فكل ما سواه يفتقر إليه،
~~وهو غني عن كل ما سواه.
# وهو سبحانه مع أنه مستو على عرشه عال على خلقه فهو الذي يمسك السماوات
~~والأرض أن تزولا، وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤوده حفظهما. فالعرش
~~وحملته هو الذي يمسكهم بقوته ومشيئته، بل قد جاء في الأثر (2) أن الله لما
~~خلق العرش وأمر الملائكة بحمله PageV03P187
# قالوا: ربنا! من يطيق حمل عرشك وعليك عظمتك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة
~~إلا بالله، فبذلك أطاقوا حمل العرش.
# والله سبحانه قد جعل الأعلى من المخلوقات مستغنيا عن الأسفل، فالسماوات
~~فوق الأرض وليست محتاجة إلى الأرض ولا مفتقرة إلى أن تحملها، فالخالق العلي
~~الأعلى كيف يفتقر إلى العرش أو حملته فوق العرش أو إلى غيره من المخلوقات؟
~~فلو كان محايثا لخلقه لكان وجوده مشروطا بوجود ذلك المحايث، بل كانت ذاته
~~مفتقرة إلى محايث، سواء كان محايثته من جنس محايثة العرض للعرض أو جنس
~~محايثة العرض للجسم، أو من جنس ما يدعيه من يقول بمحايثة الصورة الجوهرية
~~للمادة الجوهرية. وهذا هو المعقول من المحايثات، ولهذا كان القائلون بحلوله
~~في المخلوقات أو اتحاده بها من الجهمية تعود مقالتهم إلى مثل هذا، فآخر
~~أمرهم يجعلونه مع المخلوقات كالمادة مع الصورة، أو كالعرض مع الجسم، حتى
~~قالوا: وجوده وجود المخلوقات، إذ قالوا: إن الماهيات ثابتة بدونه، كما
~~يقوله ابن عربي صاحب "الفصوص" الموافق للمعتزلة في قولهم: إن المعدوم شيء،
~~فإما أن يجعلوا الوجود صفة للإنسان أو قائما بنفسه مع الأعيان. وكلام ابن
~~سبعين يرجع إلى هذا، فإنه كان متفلسفا، فيجعله مع المخلوق بمنزلة المادة
~~والصورة.
# ومن جعله الوجود المطلق، والأعيان لها التعين، فإن جعل للأعيان ماهيات
~~ثابتة في الخارج -كما يقوله من يقوله من المتفلسفة- فقد جعلوه مشروطا بتلك
~~الماهيات، وهو معها إما كالجوهر مع الجوهر أو كالجوهر ms0472 مع العرض.
# وإن لم يجعل للأعيان ماهيات ثابتة، فالمطلق لا يكون في
# PageV03P188
# الخارج إلا عين المشخص، فافتقاره إلى الأعيان المخلوقة أعظم وأعظم، بل
~~على هذا التقدير ليس مغايرا لها البتة. وقول التلمساني -وهو أحذقهم في
~~مقالتهم التي هي وحدة الوجود- يرجع إلى هذا.
# وعلى كل وجه يفرض من وجوه المحايثات فإنه يكون مشروطا بوجود المخلوقات،
~~لا يتحقق ذاته بدون المخلوقات، وما كان كذلك لم يكن خالقا للمخلوقات، بل
~~ولا يجوز أن يكون علة لها، فضلا عن أن يكون خالقا لها؛ لأن العلة متقدمة
~~بالذات على المعلول، والمشروط بالشيء لا يكون متقدما عليه، إذ وجود المشروط
~~المستلزم لشرطه قبل شرطه الملازم للإيجاب، فيمتنع أن يكون علة. بل ولا يكون
~~واجب الوجود بنفسه، لأن نفسه لا تستغني في وجودها، بل لابد لتحققها من ذلك
~~الشرط اللازم لها المقرون بها، فيكون وجودها مفتقرا إلى وجود ذلك الشرط.
~~ولأن محايثة القائم بنفسه محال، وما يذكره المتفلسفة من محايثة الصورة
~~للمادة هو بناء منهم على أن تصور الأجسام مواد هي جواهر قائمة بنفسها. وهذا
~~باطل لا حقيقة له.
# وكذلك من قال: إن الجواهر الموجودة ماهيات قائمة بأنفسها غير الموجود
~~المعروف، فقوله باطل بما يذكرونه من الماهيات الثابتة المغايرة للوجود
~~المحسوس، ومن المواد القائمة بنفسها المغايرة للجسم المحسوس، فهو حادث في
~~الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان، سواء قالوا باستغناء المواد عن الصور
~~واستغناء الماهيات عن وجودها -كما يذكر عن أفلاطن وشيعته-، أو قالوا
~~بافتقار المادة إلى الصورة، والماهيات إلى الوجود -كما يقوله أرسطو
~~وشيعته-. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
# فلم يبق إذا محايثة العرض للجسم ومحايثة الصفة للموصوف،
# PageV03P189
# وهذا ممتنع لوجهين:
# أحدهما: أن الموجودات القائمة بأنفسها لا تحايثها الأعراض، والعرض مفتقر
~~إليها محتاج إليها، والعرض يمتنع أن يكون هذا الفاعل المبدع العلة لمحاله
~~أو غير محاله، وهذا معلوم ببديهة العقل وضرورته، وأدلته كثيرة، فإن الأعراض
~~ذواتها مفتقر [ة] إلى ذوات محالها، فلا تكون واجبة الوجود ودون محالها،
~~والواجب مستغن عمن دونه، فلو لم ms0473 تكن واجبة الوجود امتنع أن تكون مبدعة لها
~~فاعلة لها أو محالها.
# الوجه الثاني: أن كلا من المتحايثين يمتنع وجوده دون محايث، فإن العرض لا
~~يوجد دون الجسم، والجسم أيضا يمتنع خلوه عن جميع الأعراض، فانه لابد له من
~~شكل، والأبدان تكون متحركا أو ساكنا. ومن ظن جواز خلو الأجسام عن الأعراض
~~(1) ، وإذا كان كذلك فكل محايث لمخلوق يمتنع وجوده بدون وجود المخلوق،
~~ويكون مشروطا بوجود المخلوق، ومفتقرا في وجوده إلى وجود المخلوق، فيمتنع
~~حينئذ أن يكون هذا المبدع الفاعل له، لوجوب تقدم المبدع مع امتناع تقدم
~~المحايث، فيجب أن يكونا (2) مفعولين لفاعل ثالث، فيكون الخالق مخلوقا
~~والواجب ممكنا، أو يكون كل منهما واجب الوجود بنفسه، فيمتنع جعل أحدهما
~~خالقا والآخر مخلوقا، فلا يكون من العالم شيء مخلوق ولا محدث ولا ممكن،
~~وهذا خلاف الحس، فإنا نشهد الحدوث والعدم يعتقبان على ما شاء الله من
~~PageV03P190
# العالم، وما وجد بعد عدمه وعدم بعد وجوده يمتنع أن يكون واجئا بغيره
~~مطلقا، فضلا عن أن يكون واجبا بنفسه.
# ومن تدبر هذه المعاني وما يشبهها تبين له أن كل من جعله محايثا للمخلوقات
~~امتنع أن يكون عنده خالفا لها أو مبدعا أو علة أو يكون غنيا عنها، بل يجب
~~على قوله أن يكون مفتقرا إليها كافتقارها إليها، كما يصرح بذلك صاحب
~~"الفصوص" وأمثاله من القائلين بوحدة الوجود. ومن المعلوم أن ذلك ينافي
~~وجوبه بنفسه وإمكان غيره، وقد علم بالضرورة أن الوجود فيه من موجود واجب
~~مستغن بنفسه، ومن موجود مفتقر إلى غيره، بل فيه موجود حادث بعد أن لم يكن،
~~والحادث لا يحدث نفسه ولا يحدث بلا محدث، بل لابد للحادث من محدث، فهذا
~~هذا.
# الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور أن يقال: المخلوق [يجوز] أن
~~يكون فوق المخلوق ولا يكون فلكا محيطا به، والأفلاك يجوز أن يكون فوقها شيء
~~آخر غير الأفلاك ولا يكون فلكا محيطا بها، مع كونه أكبر منها تارة وأصغر
~~منها أخرى، فكيف يجب في الخالق إذا كان فوقها ms0474 أن يكون فلكا مستديرا؟
# وذلك أن الشمس والقمر والكواكب التي هي في الفلك الرابع أو الثامن أو نحو
~~ذلك هي فوق ما تحتها من الأفلاك، فالشمس التي هي في الفلك الرابع تحقيقا أو
~~تقديرا لا ريب أنها فوق بقية الأفلاك، وهي فوق الأرض، ولا تزال فوق الأرض،
~~وهي قدر الأرض أكثر من مئة وستين مرة، ومع هذا فليست فلكا محيطا بالأرض.
~~والقمر فوق الأرض، ويقال: إن الأرض بقدره أربعين مرة، ومع هذا فليس هو فلكا
~~مستديرا. والكواكب الثابتة منها ما يقال: إنه أكثر من مئة مرة،
# PageV03P191
# ومنها ما هو دون ذلك. والكواكب الموجودة ستة أقدار، يقال: إن أصغرها بقدر
~~الأرض ثماني عشر [ة] مرة.
# وهذا الكلام على نمط من تكلم باستدارة الأفلاك، فإن ذلك لما كان من علم
~~الحساب كان هذا من توابعه، فلهذا ذكرناه، وإن كان استدارة الأفلاك قد يعلم
~~بالسمع وهذا لا يعلم بالسمع فلا ريب أنه ممكن، وليس في السمع ما يدفعه،
~~ولنا عنه غنية، فنقول: كل كوكب مرئي في السماء هو فوق الأرض مطلقا، مع
~~العلم أنه ليس فلكا محيطا بها، سواء لا قدرنا أنه أكبر من الأرض أو أصغر
~~منها، وهذا لأن العالي على الشيء الذي هو فوقه لا يجب أن يكون مسامتا لجميع
~~أجزائه، بحيث لا يزيد عليه ولا ينقص عنه، بل هو فوقه. وعليه سواء كان أكبر
~~منه كالسماء على الأرض
### | …
# (1) . PageV03P192
### | مسألة في العلو
# PageV03P193
# سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني -رضي الله
~~عنه وأرضاه-: ما تقول في رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لا
~~يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، وقال الآخر: إن الله سبحانه لا ينحصر في
~~مكان، وهما شافعيان. فبينوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي رضي الله عنه،
~~وما الصواب فيه؟
# فأجاب
# الحمد لله. اعتقاد الشافعي رضي الله عنه هو اعتقاد سلف أئمة الإسلام،
~~كمالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو
~~اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض ms0475 وأبي سليمان الداراني وسهل بن
~~عبد الله التستري وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول
~~الدين. وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد
~~والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه
~~الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة.
# قال الشافعي في أول خطبة "الرسالة" (1) : "الحمد لله الذي هو كما وصف به
~~نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه". فبين رحمه الله أن الله موصوف بما وصف به
~~نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
# وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به
~~رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث. PageV03P195
# وهكذا مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله -
~~صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل
~~يثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلي، ويعلمون أنه
~~ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإنه كما أن ذاته
~~ليست كالذوات المخلوقة فصفاته ليست كالصفات المخلوقة. بل هو سبحانه موصوف
~~بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب.
# وهو سبحانه في صفات الكمال لا يماثله شيء، فهو حي قيوم سميع بصير عليم
~~قدير رؤوف رحيم، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم
~~استوى على العرش، وهو الذي كلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا. ولا
~~يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته
~~قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره
~~سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتجليه تجلي أحد.
# والله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وحريرا
~~وذهبا، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء (1) .
~~فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه ms0476 المخلوقات المشاهدة مع اتفاقهما
~~في الأسماء، فالخالق أعظم علوا ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق
~~وإن اتفقت الأسماء.
# وقد سمى نفسه حيا عليما سميعا بصيرا ملكا رءوفا رحيما، PageV03P196
# وسمى أيضا بعض مخلوقاته حيا، وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها
~~رءوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع،
~~ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم. قال الله
~~تعالى (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (1) ، وقال الله تعالى: (وهو
~~العليم الحكيم (2)) (2) ، وقال: (وبشروه بغلام عليم (28)) (3) ، وقال: (إن
~~الله كان سميعا بصيرا (58)) (4) ، وقال: (إنا خلقنا الأنسان من نطفة أمشاج
~~نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2)) (5) ، وقال: (إن الله بالناس لرؤوف رحيم
~~(143)) (6) ، وقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
~~عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (128)) (7) .
# وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم
~~الأرض فإذا هي تمور (16) أم أمنتم من في لسماء أن يرسل عليكم حاصبا
~~فستعلمون كيف نذير (17)) (8) . وثبت في الصحيح (9) عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه قال للجارية: "أين الله؟ "، قالت: في السماء، قال: "من
~~أنا؟ "، قالت: أنت رسول الله. قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". وهذا الحديث
~~PageV03P197
# رواه مالك (1) والشافعي (2) وأحمد بن حنبل (3) ومسلم في صحيحه وغيرهم.
# لكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه، فإن
~~هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق
~~سماواته على عرشه بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته
~~شيء من مخلوقاته.
# وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان (4) . وقالوا
~~لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه،
~~بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا (5) .
# وقال الشافعي: خلافة أبي بكر حق قضاها الله في سمائه، فأجمع عليها قلوب
~~أوليائه. وقال الأوزاعي (6) : كنا والتابعون متوافرون نقر بأن الله فوق
~~عرشه، ونؤمن بما وردت به ms0477 السنة من صفاته.
# فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش
~~أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على
~~كرسيه= فهو ضال مبتدع جاهل. PageV03P198
# ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له
~~ويسجد، وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده= فهو معطل
~~فرعوني ضال مبتاع؛ فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال: (يا
~~هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب (36) أسباب السماوات فأطلع إلى إله
~~موسى وإني لأظنه كاذبا) (1) .
# ومحمد - صلى الله عليه وسلم - صدق موسى في أن ربه في السماوات، فلما كان
~~ليلة المعراج وعرج به إلى الله تعالى وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه
~~لما رجع إلى موسى قال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا
~~تطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال:
~~ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح (2) .
# فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا فهو ضال، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال.
~~قال نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه
~~فقد كفر. وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها.
# وقد قال الله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (3) ،
~~وقال: (يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي) (4) ، وقال: (بل رفعه الله إليه)
~~(5) ، PageV03P199
# وقال: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) (1) ، وقال:
~~(تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1)) (2) ، وقال تعالى: (وله من في
~~السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19)) (3) .
# فدل ذلك على أن الذين عنده هم قريبون إليه، وإن كانت المخلوقات كلها تحت
~~قدرته.
# والقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك
~~من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تحصره ms0478 وتحيط به، فقد أخطأ. وإن
~~أراد بذلك من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة
~~وأئمتها من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب. فإنه من
~~لم يعتقد ذلك يكون مكذبا للرسول - صلى الله عليه وسلم - متبعا لغير سبيل
~~المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه نافيا له، فلا يكون له في الحقيقة
~~إله يعبده، ولا رب يسأله ويقصده. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون
~~المعطل.
# والله قد فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم
~~إلى العلو، لا يقصدونه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط
~~"يا الله" إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه معنى يطلب العلو، ولا يلتفت
~~يمنة ولا يسرة.
# والقائل الذي قال: إن الله لا ينحصر في مكان، إن أراد به أن الله لا
~~ينحصر في جوف المخلوقات أو أنه لا يحتاج إلى شيء منها= فقد PageV03P200
# أصاب. وإن أراد أن الله ليس فوق السماوات، ولا هو على العرش، وليس هناك
~~إله يعبد، ومحمد لم يعرج به إلى الله= فهذا جهمي فرعوني معطل.
# و
### | منشأ الضلال أن يظن أن صفات الرب كصفات خلقه،
# فيظن أن الله سبحانه على عرشه كالملك المخلوق على سريره، فهذا تمثيل
~~وضلال. وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره، ولو زال سريره لسقط، والله غني عن
~~العرش وعن كل شيء، والعرش وكل ما سواه فقير إلى الله، وهو حامل العرش وحملة
~~العرش، وعلوه عليه لا يوجب افتقاره إليه، فإن الله قد جعل المخلوقات عاليا
~~وسافلا، وجعل العالي غنيا عن السافل، كما جعل الهواء فوق الأرض، وليس هو
~~مفتقرا إليها، وجعل السماء فوق الهواء، وليست محتاجة إليه. فالعلي الأعلى
~~رب السماوات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنيا عن العرش وسائر المخلوقات
~~وإن كان عاليا عليها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
# والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله أو سنة رسوله وجب ms0479 التصديق
~~به، مثل علو الرب واستوائه على عرشه ونحو ذلك. وأما الألفاظ المبتدعة في
~~النفي والإثبات مثل قول القائل: هو في جهة أو ليس هو في جهة، وهو متحيز أو
~~ليس بمتحيز، ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحدهم نص،
~~لا عن الرسول ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين، فإن
~~هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله في جهة، ولا قال: ليس هو في جهة؟ ولا قال:
~~هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز؟ ولا قال: هو جسم أو جوهر، ولا قال: ليس
~~بجسم ولا جوهر. فهذه
# PageV03P201
# الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا في السنة ولا الإجماع. والناطقون بها
~~قد يريدون معنى صحيحا، وقد يريدون معنى فاسدا، فمن أراد معنى صحيحا يوافق
~~الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مقبولا منه، وإن أراد معنى فاسدا يخالف
~~الكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليه.
# فإذا قال القائل: إن الله في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أنه
~~في جهة موجودة تحصره وتحيط به، مثل أن يكون في جوف السماء؟ أم تريد الجهة
~~أمرا عدميا؟ وهو ما فوق العالم، فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات. فإن
~~أردت الجهة الوجودية وجعلت الله محصورا في المخلوقات فهذا باطل، وإن أردت
~~الجهة العدمية وأردت أن الله وحده فوق المخلوقات بائن منها فهذا حق، وليس
~~في ذلك شيء من المخلوقات حصره ولا أحاط به ولا علا عليه، بل هو العالي
~~عليها المحيط بها، وقد قال تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا
~~قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67))
~~(1) .
# وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يقبض
~~الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يهزهز، ثم يقول: أنا الملك،
~~أين ملوك الأرض؟ ". وقال ابن عباس (3) : ما السماوات السبع والأرضون السبع
~~وما فيهن وما بيتهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم.
# وفي حديث آخر: أنه يرميها كما يرمي الصبيان ms0480 الكرة. فمن يكون PageV03P202
# جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقارة كيف تحيط
~~به وتحصره؟
# ومن قال: إن الله ليس في جهة، قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه
~~ليس فوق السماوات رب يعبد، ولا على العرش إله، ومحمد لم يعرج به إلى الله
~~تعالى، والأيدي لا ترفع إلى الله تعالى في الدعاء، ولا تتوجه القلوب إليه=
~~فهذا فرعوني معطل جاحد لرب العالمين.
# وإن كان معتقدا أنه مقر به، فهو جاهل متناقض في كلامه. ومن هنا دخل أهل
~~الحلول والاتحاد كابن عربي، وقالوا: إن الله بذاته في كل مكان، وأن وجود
~~المخلوقات هو وجود الخالق.
# وإن قال: مرادي بقولي "ليس في جهة" أنه لا تحيط به المخلوقات، بل هو بائن
~~عن المخلوقات= فقد أصاب في هذا المعنى.
# وكذلك من قال: إن الله متحيز، أو قال: ليس بمتحيز، إن أراد بقوله "متحيز"
~~أن المخلوقات تحوزه وتحيط به فقد أخطأ. وإن أراد أنه منحاز عن المخلوقات لا
~~تحويه فقد أصاب. وإن أراد: ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل فيها ولا خارج
~~عنها فقد أخطأ.
# و
### | الناس في ذلك ثلاثة أصناف:
# أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
# فأهل الحلول يقولون: إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة،
~~فيقولون: وجود المخلوقات وجود الخالق، كما هو مذهب ابن عربي صاحب "الفصوص"
~~وابن سبعين ونحوهما.
# PageV03P203
# وأما أهل النفي والجحود فيقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج عنه، ولا
~~مباين له ولا حال فيه، ولا فوق العالم ولا فيه، ولا ينزل منه شيء ولا يصعد
~~إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا يتجلى لشيء ولا يراه
~~أحد، ونحو ذلك.
# وهذا قول متكلمة الجهمية، كما أن الأول قول عباد الجهمية. فمتكلمة
~~الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء، وكلاهما مرجعهم
~~إلى التعطيل والجحود الذي هو قول فرعون.
# وقد علم أن الله كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلقها، فإما أن ms0481
~~يكون دخل فيهما، وهذا حلول باطل وإما أن يكونا دخلا فيه، وهو أبطل وأبطل؛
~~وإما أن يكون بائنا عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق
~~والتوحيد والسنة.
# ولأهل الحلول والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله وسنة
~~رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وما فطر
~~الله عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة. فإن هذه الأدلة
~~كلها متفقة على أن الله فوق مخلوقاته عال عليها، قد فطر الله على ذلك
~~العجائز والأعراب والصبيان في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق. وقد
~~قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) : "كل مولود يولد
~~على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينضرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة
~~جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ "يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (فطرت
~~الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) . PageV03P204
# وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب،
~~عليك بما فطره الله عليه. فإن الله فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا
~~بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها.
# وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية فيريدون أن يغيروا فطرة الله،
~~ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات لا يفهم كثير من الناس مقصودهم
~~بها، ولا يحسن أن يجيبهم. وقد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع.
# وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله،
~~ولا قالها أحد من أئمة المسلمين، كلفظ التحيز والجسم والجهة ونحو ذلك، فمن
~~كان عارفا بحل شبهاتهم بينها، ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا
~~يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون
~~في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) (1) . ومن تكلم في الله
~~وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله
~~بالباطل.
# وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى ms0482
~~الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وأبي حنيفة من الاعتقادات ما لم يقولوه،
~~ويقولون لمن اتبعهم: هذا اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح
~~عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك، كما يتبين كذبهم فيما ينقلونه عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - في كثير من البدع والأقوال الباطلة.
# ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام
~~الفلاني لا يخالف العقلاء. ويكون أولئك العقلاء طائفة من PageV03P205
# أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة.
# فقد قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف
~~بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على
~~الكلام! فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما
~~بغيرهما؟.
# وكذلك قال أبو يوسف القاضي: من طلب الدين بالكلام تزندق. وكذلك قال أحمد
~~بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وقال: علماء الكلام زنادقة.
# وكثير من هؤلاء قرأوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا
~~لجوابهم، فإنهم يجدون في تلك الكتب أنه لو كان الله فوق الخلق للزم التجسيم
~~والتحيز والجهة، وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابها.
# فإن
### | ذكر لفظ "الجسم" في أسماء الله وصفاته بدعة،
# لم ينطق بها كتاب ولا سنة، ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها، لم يقل
~~أحد منهم: إن الله جسم، ولا إن الله ليس بجسم، ولا إن الله جوهر، ولا إن
~~الله ليس بجوهر.
# ولفظ "الجسم" لفظ مجمل، فمعناه في اللغة هو البدن، ومن قال: إن الله مثل
~~بدن الإنسان فهو مفتر على الله، ومن قال: إن الله يماثله شيء من المخلوقات
~~فهو مفتر على الله. ومن قال: إن الله ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يماثله
~~شيء من المخلوقات، فالمعنى صحيح وإن كان اللفظ بدعة. وأما من قال: إن الله
~~ليس بجسم، وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة، وأنه لم يتكلم بالقرآن العربي،
~~بل
# PageV03P206
# القرآن العربي مخلوق أو تصنيف جبريل ونحو ذلك= فهذا مفتر على الله ms0483 فيما
~~نفاه عنه.
# وهذا أصل ضلال الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم على مذهبهم، فإنهم يظهرون
~~للناس التنزيه، وحقيقة كلامهم التعطيل، فيقولون: نحن لا نجسم، بل نقول: إن
~~الله ليس بجسم، ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسمائه وصفاته، فيقولون: ليس لله
~~علم ولا حياة ولا قدرة ولا كلام ولا سمع ولا بصر، ولا يرى في الآخرة، ولا
~~عرج بالنبي إليه، ولا ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتجلى لشيء،
~~ولا يقرب إلى شيء، ولا يقرب منه شيء. ويقولون: إنه لم يتكلم بالقران، بل
~~القرآن مخلوق، أو هو كلام جبريل، وأمثال ذلك من مقالات المعطلة الفرعونية
~~الجهمية.
# والله تعالى يقول في كتابه (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (1) أي
~~لا تحيط به، فكما أنه يعلم ولا يحاط به علما، فكذلك سبحانه يرى ولا يحاط به
~~رؤية. فهو سبحانه نفى الإدراك، ولم ينف الرؤية، ونفي الإدراك يدل على
~~عظمته، وأنه من عظمته لا يحاط به. وأما نفي الرؤية فلا مدح فيه، فإن
~~المعدومات لا ترى، ولا مدح لشيء من المعدومات، بل المدح إنما يكون بالأمور
~~الثبوتيه لا بالأمور العدمية، وإنما يحصل المدح بالعدم إذا تضمن ثبوتا،
~~كقوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) (2) ،
~~فنزه نفسه عن السنة والنوم، لأن ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته،
~~PageV03P207
# كما قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) (1) ، فهو سبحانه حي لا
~~يموت، قيوم لا ينام. وكذلك قوله تعالي: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما
~~بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)) (2) ، فنزه نفسه المقدسة عن مس
~~اللغوب -وهو الإعياء والتعب- ليتبين كمال قدرته.
# فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن كل نقص وعيب، موصوف بالحياة
~~والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، منزه عن الموت والجهل والعجز والصمم
~~والعمى والبكم، وهو سبحانه لا مثل له في شيء من صفات الكمال، وهو منزه عن
~~كل نقص وعيب، فإنه قدوس سلام يمتنع عليه النقائص والعيوب بوجه من الوجوه،
~~وهو سبحانه لا مثل له ms0484 في شيء من صفات كماله، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد
~~ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
# ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما
~~وصف به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فيثبتون
~~له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينزهونه عما نزه عنه نفسه من
~~مماثلة المخلوقات، إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. قال تعالى (ليس
~~كمثله شيء وهو السميع البصير (11)) (3) ، فقوله (ليس كمثله شيء) رد على
~~الممثلة، وقوله: (وهو السميع البصير (11)) رد على المعطلة.
# قال بعض العلماء: المعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما، PageV03P208
# المعطل أعمى، والممثل أعشى، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد
~~قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (1) . والسنة في الإسلام كالإسلام في
~~الملل، فأهل السنة وسط في الصفات بين أهل التمثيل وأهل التعطيل، وهذا هو
~~الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
~~والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
# فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته، إنه على
~~ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على
~~سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. PageV03P209
### | قاعدة شريفة
# في الرضا الشرعي
# وما يحبه الله من الرضا، وبيان
# أن الله لا يرضى بالكفر ولا يحبه ولا يشرعه،
# ولا يرضى بالمعاصي ولا يحبها ولا يثيب فاعلها
# PageV03P211
# الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
~~أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
# وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
~~- صلى الله عليه وسلم -.
# فصل
# فيما يحبه الله ويرضاه من رضا العبد، وما لا يحبه من ذلك ويرضاه، فإن هذا
~~الباب مما كثر فيه اضطراب كثير من المتأخرين، فإنهم سمعوا لفظ الرضا
~~بالقضاء وأن ذلك محمود من العبد يثاب عليه بل يؤمن به، وأنه من أعلى مقامات
~~اليقين وأحوال الصديقين، وظنوا أن المراد بذلك ms0485 أن كل ما كان مخلوقا للرب
~~فينبغي أن يرضى ذلك المخلوق. ثم صاروا حزبين:
# حزبا قالوا إذا كان القضاء والرضا متلازمين، فمعلوم إلا مأمورون ببغض ما
~~نهى الله ورسوله عنه وسخطه، فلا يكون بقضاء وقدر.
# وحزبا قالوا: إذا كانا متلازمين، وقد دعينا إلى الرضا، فنحن نرضى بكل ما
~~يقع من الكفر والفسوق والعصيان.
# وكل من هذين الحزبين مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها،
~~فالحزب الأول علموا أن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان، قالوا: فلم
~~يخلق ذلك ولم يقدره ولم يقتضه، بل ذلك واقع في الوجود بغير مشيئته ولا
~~قدرته ولا خلقه، ومنهم من قال: ولا علمه قبل أن يقع. وهؤلاء القدرية
~~المكذبون بقدر الله من المعتزلة وغيرهم. ومن أعظم حججهم على ذلك أن قالوا:
~~الرضا
# PageV03P213
# بالقضاء من أعظم المقامات، وربما ادعوا إجماع المسلمين على أن الرضا
~~بالقضاء من أفضل المقامات، فلو كانت المعاصي بقضائه لكان ينبغي أن يرضى
~~بها. والرضا بالكفر والفسوق والعصيان لا يجوز باتفاق المسلمين، فعلم أن هذه
~~ليست بقضائه.
# ولما أوردوا هذه الحجة أجابهم أهل الإثبات للقدر، كل طائفة بجواب بحسب
~~أصولهم، فإن من يقول: إن رضاه هو إرادته، وإن كل ما قدره فقد رضيه وأحبه
~~وأراده، كما يقول ذلك الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام والتصوف وغيرهم،
~~فله جواب على أصله.
# وهؤلاء يقولون: أراد الكفر قبيحا معاقبا عليه، وكذلك رضيه وأحبه قبيحا
~~معاقبا عليه. ومعنى "قبيحا" عندهم أي منهيا عنه، فهم يقولون: أراده ورضيه
~~وأحبه ومع ذلك نهى عنه ونهانا أن نرضى به، فحقيقة قولهم أن الله يحب أمورا
~~ويرضاها مع نهيه لنا عنها أن نحبها ونرضاها. ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري
~~وأبو بكر الباقلاني وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.
# فمن هؤلاء من قال: إنما نرضى بقضائه الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا
~~نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به. وهذا جواب طائفة كالقاضي أبي بكر والقاضي
~~أبي يعلى وغيرهما.
# وقد يقولون: نرضى بالقضاء على الجملة، ولا نطلقه على التفصيل.
# هذا حكاية ms0486 لفظهم.
# ومنهم من قال ما ذكره أبو حامد والرازي وغيرهما، قالوا: نرضى بالقضاء ولا
~~نرضى بالمقضي.
# قالت الطائفة الأولى كالقاضيين -وهذا لفظ أبي بكر، فإنه الأسبق
# PageV03P214
# إلى هذا الجواب، قال (1) -:
# فإن قال: أفترضون بقضاء الله وقدره؟
# قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، الذي أمرنا أن نريده ونرضاه، ولا
~~نرضى من ذلك ما نهانا أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله ولا نعترض على
~~حكمه.
# وجواب آخر، وهو أنا نقول: نرضى بقضاء الله في الجملة على كل حال.
# فإن قال: أفترضون الكفر والمعاصي التي هي من قضاء الله؟
# قيل له: نحن نطلق الرضا بالقضاء في الجملة، ولا نطلقه على التفصيل لموضع
~~الإبهام، كما يقول المسلمون كافة: الأشياء لله، ولا يقولون في التفصيل:
~~الولد والصاحبة والشريك لله، وكما يقولون: الخلق يفنون ويبيدون، ولا
~~يقولون: حجج الله تفنى وتبيد، في نظائر لهذا من القول الذي يطلق من وجه
~~ويمنع من وجه.
# ثم يقال لهم: أو ليس قد قضى بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعجز
~~المسلمين عن دفع الكفار، والاستيلاء على ثغورهم وسبي نسائهم، وقضى إعانة
~~الفراعنة والشياطين وسائر الكفار، وبقاءهم واستظهارهم على المؤمنين؟
# فإذا قالوا: أجل.
# قيل لهم: أفترضون بذلك أجمع؟ PageV03P215
# فإن قالوا: نعم.
# قيل لهم مثله فيما سألونا عنه، وخرقوا الإجماع في ركوب هذا الإطلاق. وإن
~~قالوا: لا.
# قيل لهم مثله فيما طالبونا به (1) .
# قلت: وقد بسطوا هذا القول أكثر، فقالوا -واللفظ للقاضي أبي يعلى-: قلت:
~~أما تفصيل القول في الرضا بأن بعض المخلوق نرضى به وبعضه لا نرضى به فصواب،
~~لكن لم يثبتوا ما هو الذي نرضى به، فإن قولهم "الذي أمرنا أن نريده ونرضاه"
~~إن كان مرادهم نرضى بما أمرنا أن نفعله وهو الذي أمرنا بإرادته، فالرضا أعم
~~من ذلك، فإنه ينبغي الرضا بأمور غير أفعالنا التي أمرنا بها؟ وإن كان
~~مقصودهم بكل ما أمرنا أن نريده ونرضاه وإن لم يكن من فعلنا.
# قلت: فهذا جواب حسن، لكن لا يستقيم على أصل أتباع أبي الحسن في ms0487 قوله الذي
~~خالف به المتقدمين واتبع فيه الجهمية والقدرية، حيث قال معهم: إن المحبة
~~والرضا هي الإرادة، وفرعوا على ذلك أن الله لا يجوز أن يحب ذاته، كما لا
~~يجوز أن تراد ذاته، فإن الإرادة إنما تتعلق بالمتجدد، وهو ما كان معدوما
~~فأريد حدوثه.
# قال أبو المعالي: ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ومنع إطلاقه: المحبة
~~والرضا، فصار المتقدمون إلى أنه سبحانه لا يحب الكفر ولا يرضاه، وكذلك كل
~~معصية. وقال شيخنا أبو الحسن: المحبة هي PageV03P216
# الإرادة نفسها، وكذلك الرضا والاصطفاء، فيقول: إنه سبحانه يريد الكفر
~~ويرضاه كفرا قبيحا معاقبا عليه، ويحب أن يكون على ما هو عليه. وليس معنى
~~قوله "إنه يحبه ويرضاه" أنه يراه حسنا أو يثني على صاحبه بفعله، بل يذمه
~~بفعله ويلعنه ويعاقبه عليه.
# قال أبو المعالي: ومن أصحابنا من قال: نأخذ هذه الإطلاقات بالشرع، فما لم
~~يرد الشرع بإطلاقه لا نطلقه، وهذا هو الأولى، وربما يقول هذا القائل:
~~المحبة من الله صفة خبرية، يتبع في ذلك الخبر.
# قال أبو المعالي: وإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة فيترتب على ذلك أن يعلم
~~أنه سبحانه لا تتعلق به المحبة على الحقيقة، فإنها هي الإرادة، والإرادة لا
~~تتعلق إلا بمتجدد.
# قلت: وهذا القول الذي قاله أبو الحسن هو اختيار القاضي أبي بكر والقاضي
~~أبي يعلى في أحد قوليه الذي يقول فيه: إن الإرادة والرضا والمحبة واحد، كما
~~قاله في "المعتمد" (1) . وهذا خلاف المعروف عن المتقدمين من أصحاب الأئمة
~~الأربعة وغيرهم، كأبي بكر بن عبد العزيز وغيره، فإنهم يفرقون بين المحبة
~~والرضا (2) . PageV03P217
### | فصل
# الأقوال نوعان
# PageV03P219
# الأقوال نوعان:
### | أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقا،
# عرفه من عرفه وجهله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادته
~~الأنبياء بأقوالهم. ومن طلب تفسير كلامهم وتأويله، ومقصوده معرفة مرادهم من
~~الوجه الذي به يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى؟ ومن كان مقصوده أن يجعل ما
~~قالوه تبعا له، فإن وافقه قبله وإلا رده، وتكلف له ms0488 من التحريف ما يسميه
~~تأويلا، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء=
~~فهذا محرف للكلم عن مواضعه، لا طالب لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في
~~العلم.
# والنوع الثاني: ما ليس منقولا عن الأنبياء، فقد علم أن من سواهم ليس
~~بمعصوم، وحينئذ فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده ومعرفة صلاحه من
~~فساده، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل
~~يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفات وطبائع
~~وخواص يميز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها
~~الموجودة في العالم، ولا خص الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنة
~~مأمورا بها، ولا المنهي عنها بما لأجله كانت سيئات منهيا عنها، وإنه ليس
~~لشيء من القوى والقدر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن
~~والعناصر الأربعة تأثير في شيء، بل لا فرق بين الماء والنار، تخلق الحرارة
~~عند ملاقاتها لا بقوة فيها،
# PageV03P221
# والماء يخلق الري عنده لا بسبب عذوبة وقوة فيه، وأمثال ذلك= فهذا مخالف
~~لنصوص القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة.
# ولم يقل هذا القول أحد من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في
~~الإسلام الجهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر
~~الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام
~~الله وإنكار رؤيته وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا
~~الأصل كثيرة جدا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1)
~~لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخلقين
~~جبلت عليهما أم تخلقت بهما؟ فقال: "بل جبلت عليهما"، فقال: الحمد لله الذي
~~جبلني على ما يحب. وقال تعالى: (إن الأنسان خلق هلوعا (19) إذا مسه الشر
~~جزوعا (20) وإذا مسه الخير منوعا (21)) (2) .
# ومما يدل على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم: (قلنا يا نار كوني بردا
~~وسلاما على إبراهيم (69)) (3) ، فسلب النار ms0489 طبيعة الحرارة التي بها تسخن،
~~وجعلها بردا وسلاما، ولو كان ما يحصل عند ملاقاتها لا أثر لها فيه لم يحتج
~~إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله "بردا
~~وسلاما" يقضي أنه جعل فيها ما توجب برودته PageV03P222
# وسلامته. والأدلة في ذلك كثيرة تخبر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز
~~وجل: (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا (14) لنخرج به حبا ونباتا (15) وجنات
~~ألفافا (16)) (1) ، وقال تعالى: (ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به
~~جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد) الآية
~~(2) . وقال تعالى: (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) الآية (3) .
~~وقال تعالى: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا
~~ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا ... ) (4) ، فذكر أن الرياح تقل السحاب أي
~~تحمله، فجعل هذا الجماد فاعلا بطبعه.
# وقال تعالى: (والذاريات ذروا (1)) الآيات (5) . وقال: (وأخرجت الأرض
~~أثقالها (2)) (6) ، وقال: (وترى الأرض هامدة) الآية (7) . وقال تعالى:
~~(انظروا إلى ثمره إذا أثمر) (8) . وقال تعالى (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم
~~تظلم منه شيئا) (9) . وقال تعالى: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل
~~تقيكم بأسكم) (10) ، فوصف السرابيل بأنها تقي الحر والبأس. وقال تعالى:
~~(أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69)) (11) ، PageV03P223
# أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من
~~المعصرات، وهو المراد بقوله (وأنزلنا من السماء) في مواضع أخر (1) ، وبين
~~أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب
~~فرات وهذا ملح أجاج) (2) ، وقال تعالى: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات
~~سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) (3) ، فبين أن كلا من البحرين جعل فيه صفة قائمة
~~به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتن على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب
~~أجاجا، فدل على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلها بها تشرب، وأنه لو
~~جعله أجاجا لما شرب، وبين أن أحد الجسمين يختصه بصفة يحصل بها الانتفاع
~~ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل.
# وقال تعالى: (وجعلنا سراجا وهاجا (13) وأنزلنا ms0490 من المعصرات ماء ثجاجا
~~(14) لنخرج به حبا ونباتا (15) وجنات ألفافا (16)) (4) ، وقال تعالى
~~(وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48)) (5) (أنزلنا الحديد فيه بأس شديد
~~ومنافع للناس) (6) ، وقال تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين
~~(138)) (7) ، وقال تعالى: (فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10)) (8) أي صنف
~~كريم، وهو الكثير المنفعة. PageV03P224
# فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد
~~خالف نص الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم:
~~يحدث الشبع عند الأكل إلا، به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع
~~القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى:
~~(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (1) ، وقال تعالى: (يضل به كثيرا
~~ويهدي به كثيرا) (2) ، وقال تعالى: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) (3) ،
~~وقال: (أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) (4) .
# وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادها، في مثل قوله: (وجعلنا من الماء كل
~~شيء حي) (5) ، وقوله تعالى: (خلق الأنسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجان
~~من مارج من نار (15)) (6) ، وقال: (والله أنبتكم من الأرض نباتا (17) ثم
~~يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا (18)) (7) .
# وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في
~~غير موضع، ولا يسوي بين مختلفين ولا يفرق بين متماثلين، فقال تعالى: (أم
~~حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) (8)
~~الآية. وقال تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا PageV03P225
# وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28)) (1) ،
~~وقال تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35)) (2) الآية. وقال تعالى: (وما
~~يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20)) (3) الآية. وقال
~~تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في
~~التوراة والأنجيل) (4) الآية. فدل في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به
~~هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مصلح لفسادها، ليس معنى كونه
~~معروفا أنه مأمور به، إذ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمر حتى الشيطان، فإنه
~~يأمر بما يأمر به، فعلم أن ms0491 ما يأمر به الرسول مختص بأنه معروف، وما ينهى
~~عنه مختص بأنه منكر، وما يحله مختص بأنه طيب، وما يحزمه مختص بأنه خبيث.
~~ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور.
~~والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
~~وصحبه أجمعين وسلم تسليما. PageV03P226
### | قاعدة في شمول آي الكتاب والسنة
# والإجماع أمر الثقلين الجن والإنس،
# وما يتعلق بهم من الخطاب وغيره
# PageV03P227
# قال سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
~~الحراني رحمه الله:
# قاعدة شريفة
# ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أمر الثقلين: الجن والإنس، كما أخبر به
~~في سورة الأنعام في قوله تعالى: (يا معشر الجن والأنس ألم يأتكم رسل منكم)
~~(1) ، وبقوله: (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (2) .
# وثبت أن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى الثقلين جميعا،
~~كما أخبر به في سورة الرحمن (3) ، وقل أوحي (4) ، والأحقاف (5) ، وكما في
~~الأحاديث المشهورة، مثل حديث ابن مسعود (6) وغيره.
# وثبت بالسنة والإجماع مع ما دل عليه القرآن أن القلم مرفوع عن الصبي حتى
~~يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، كما في حديث علي بن
~~أبي طالب وعائشة وغيرهما: "رفع القلم عن ثلاث" (7) ، مع قوله: (يا أيها
~~الذين آمنوا ليستأذنكم PageV03P229
# الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم) إلى قوله (وإذا بلغ
~~الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) (1) ، وقوله:
~~(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
~~أموالهم) (2) ، وقوله: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ
~~أشده) في غير موضع (3) ، مع ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من
~~نهيه عن قتل النساء والصبيان، وأنه استعرض قريظة فمن أنبت قتله، ومن لم
~~ينبت لم يقتله. وما روي من الأحاديث التي فيها: "ثلاثة كلهم يدلي على الله
~~بحجته" (4) .
# فأما قوله (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)) (5) ونحو ذلك، فإنما
~~يتناول من لا يعقل من الأطفال والمجانين، فأما ms0492 الصبي المميز فتكليفه ممكن
~~في الجملة، ولهذا يصحح أكثر الفقهاء تصرفاته تارة مستقلا كإيمانه، وتارة
~~بالإذن كمعاوضاته الكبيرة.
# واختلفوا في وجوب الصلاة على ابن عشر، وفي وجوب الصوم على من أطاقه.
~~والخلاف فيه معروف في مذهب أحمد، حتى اختلف في صحة شهادته وأمانه وإمامته
~~وولايته في النكاح وعتقه.
# وهنا مسائل: PageV03P230
# المسألة الأولى
# أن من نتائج التكليف: العقاب والثواب، عقاب العاصي وثواب المطيع.
# فأما العقاب: فما علمت أحدا من أهل القبلة خالف في أن الكافر معذب في
~~الجملة، وإن اختلفوا في تفاصيل عذابه. ونصوص القرآن متظاهرة بعذاب
~~الكافرين، وكذلك الذي عليه عامة المسلمين من جميع الطوائف عقوبة فجار أهل
~~القبلة في الجملة: إما في الدنيا بالمصائب والحدود؟ وإما في الآخرة. وأما
~~غلاة المرجئة فروي عنها أنها نفت ذلك، كما أن الخوارج والمعتزلة جزمت بوقوع
~~ذلك على جميع الفاسقين وخلودهم في النار.
# وأما الثواب: فاتفقت الأمة على ثواب الإنس على طاعتهم.
# واختلفوا في الجن هل يثابون أو لا ثواب لهم إلا النجاة من العذاب؟ على
~~قولين: الأول قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وأبي يوسف ومحمد
~~وغيرهم. والثاني مأثور عن طائفة، منهم أبو حنيفة.
# وقد اختلف في أصول الفقه: هل من شرط الوجوب العقاب على الترك؟ على قولين.
~~وأما الثواب على الفعل فهو واجب، إما بالسمع، وإما بمجرد الإيجاب.
# المسألة الثانية
# أن من لا تكليف عليه هل يبعث يوم القيامة؟
# فأما الإنس والجن فيبعثون جميعا باتفاق الأمة، ولم يختلفوا
# PageV03P231
# -فيما علمت- إلا فيمن لم ينفخ فيه الروح: هل يبعث؟ على قولين. وبعثه
~~اختيار القاضي وكثير من الفقهاء، وذكر أنه ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه.
# وأما البهائم فهي مبعوثة بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: (وما من دابة
~~في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء
~~ثم إلى ربهم يحشرون (38)) (1) ، وقال تعالى: (وإذا الوحوش حشرت) (2) ،
~~والحديث في قول الكافر (يا ليتني كنت ترابا (40)) (3) معروف (4) . وما أعلم
~~فيه خلافا.
# لكن اختلف بنو آدم في معاد الآدميين على ms0493 أربعة أقوال:
# أحدها -وهو قول جماهير من المسلمين أهل السنة والجماعة، وجماهير
~~متكلميهم، وجماهير اليهود والنصارى والمجوس وجمهور غيرهم- أن المعاد للروح
~~والبدن، وأنهما ينعمان ويعذبان.
# والثاني -وهو قول طائفة من متكلمي المسلمين من الأشعرية وغيرهم- أن
~~المعاد للبدن، وأن الروح لا معنى لها إلا حياة البدن، فيحيا البدن وينعم
~~ويعذب. وأما معاد روع قائمة بنفسها ونعيمها وعذابها فينكرونه.
# والثالث: ضد هذا، وهو قول الإلهيين من الفلاسفة وطائفة ممن يبطن مذهبهم
~~من بعض متكلمي أهل القبلة ومتصوفتهم، أن المعاد للروح دون البدن.
~~PageV03P232
# الرابع: أنه لا معاد أصلا، لا لروع ولا لبدن، وهو قول أكثر مشركي العرب،
~~وكثير من الطبائعيين والمنجمين وبعض الإلهيين من الفلاسفة.
# فعلى هذين القولين ينكر حشر البهائم، وعلى القول الأول يقبل الخلاف.
# المسألة الثالثة
# أن من لا تكليف عليه -بل قد رفع عنه القلم- هل يعذب في الآخرة؟
# وهنا
### | مسألة أطفال المشركين،
# فمن قال من أصحابنا وغيرهم: إنهم يعذبون تبعا لآبائهم، قال بعذاب غير
~~المكلف تبعا؟ ومن قال: يدخلون الجنة من أصحابنا وغيرهم، قال بتنعيمهم.
# والصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يعذبون جميعهم ولا ينعمون
~~جميعهم، بل فريق منهم في الجنة وفريق في السعير كالبلغ. وهذا مقتضى نصوص
~~أحمد، فإن أكثر نصوصه على الوقف فيهم، بمعنى أنه لا يحكم لأحد منهم لا بجنة
~~ولا بنار، فدل على جواز الأمرين عنده في حق المعين منهم. وأما تجويز
~~الأمرين في حق مجموعهم فلا يلزمه، وهذا قول الأشعري وغيره.
# وبهذا أجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عنهم فقال: "الله
~~أعلم بما كانوا عاملين" (1) ، فبين أن الأمر مردود إلى علم الله بما كانوا
~~يعملون لو بلغوا. PageV03P233
# وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في البخاري (1) أنه رأى حول إبراهيم
~~عند الجنة أطفال المسلمين والمشركين. وثبت عنه في صحيح مسلم (2) أن الغلام
~~الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا، مع أنه قتل قبل الاحتلام. قال ابن عباس
~~لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان، فقال: إن كنت ms0494 تعلم منهم ما علمه
~~الخضر من الغلام الذي قتله فاقتلهم، وإلا فلا تقتلهم. هذا مع أن أبويه كانا
~~مؤمنين. وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن أهل
~~الدار من المشركين يبيتون ليصاب من صبيانهم، فقال: "هم منهم".
# ويجوز قتل الصبي إذا قاتل، وإذا صال ولم تندفع صولته إلا بالقتل، وكذلك
~~المجنون والبهيمة. فقد يجوز قتل الصبي في بعض المواضع. وحديث عائشة في
~~قولها: عصفور من عصافير الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أو غير
~~ذلك يا عائشة؟! فإن الله خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم،
~~وخلق للنار أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم" (4) .
# ولهذا قال أصحابنا: لا يشهد لأحد بعينه من أطفال المؤمنين أنه في الجنة،
~~ولكن يطلق القول: إن أطفال المؤمنين في الجنة.
# وقد روي بأحاديث حسان (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من لم يكلف
~~في PageV03P234
# الدنيا من الصبيان والمجانين، ومن مات في الفترة- يمتحنون يوم القيامة،
~~فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار. وهذا التفصيل هو الصواب، فإن الله
~~قال في القرآن (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85)) (1) ، فأقسم
~~سبحانه أنه لابد أن يملأ جهنم من إبليس وأتباعه، وأتباعه هم العصاة، ولا
~~معصية إلا بعد التكليف، فلو دخلها الصبي والمجنون لدخلها من هو من غير
~~أتباعه، فلم تمتلئ منهم.
# وأيضا فقد قال سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (65)) (2) ، وقال
~~سبحانه: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (3) ، وقال سبحانه:
~~(كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا
~~نذير) الآية (4) ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا
~~من جاءه نذير وأتاه رسول، والطفل والمجنون ليسا كذلك كالبهائم.
# وقال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) إلى قوله (إنما
~~أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) (5) .
# فأخبر سبحانه أنه استخرج ذرياتهم، وأشهدهم على أنفسهم، لئلا يقولوا:
~~أتهلكنا ms0495 بما فعل المبطلون، فعلم أنه لا يعاقبهم بذنب غيرهم.
# وأما البهائم فعامة المسلمين على أنه لا عقاب عليها، إلا ما يحكى عن
~~التناسخية بأنهم مكلفون، فيستحقون العقاب، وهذا نظير قول من يقول: لا تحشر.
~~لكن هنا: PageV03P235
# المسألة الرابعة
# وهو ما يشرع في الدنيا من عقوبة الصبيان والمجانين والبهائم على الذنوب،
~~مثل ضرب الصبي على ترك الصلاة لعشر، وما يفعله من قبيح؛ وكذلك ضرب المجنون
~~لكف عدوانه؛ وضرب البهائم حضا على الانتفاع بها كالسوق، ودفعا لمضرتها كقتل
~~صائلها، وما جاء في الحديث (1) أنه يقتص في الآخرة للجماء من القرناء. فهذه
~~الأمور عقوبات لغير المكلفين، وهي نوعان: أحدهما ما كان عقوبة في الدنيا
~~لمصلحة، والثاني ما كان لأجل حق غيره.
# فأما النوع الأول فمشروع في حق الصبي والمجنون، فإنه يضرب الصبي على ترك
~~الصلاة ليفعلها ويعتادها، ويضرب المجنون إذا أخذ يؤذي نفسه، ليكف عن إيذاء
~~نفسه. ويجوز أيضا مثل هذا في حق البهائم: أن تضرب لمصلحتها، وهذا غير الضرب
~~لحق الغير، وذلك أن العقوبة لمنفعة المعاقب هي بمنزلة سقي الدواء للمريض،
~~فإن المطلوب دفع ما هو أعظم مضرة من الدواء.
# النوع الثاني: العقوبة لأجل حق الغير، وهذا قسمان:
# قسم لاستيفاء المنفعة المباحة منه، كذبح البهائم للأكل وضربها للمشي، فإن
~~مالا يتم المباح إلا به فهو مباح.
# والقسم الثاني: العقوبة لأجل العدوان على الغير، مثل قتل الصائل من
~~المحاربين والبهائم، وضرب المجانين والصبيان والبهائم إذا اعتدى بعضهم على
~~بعض، أو اعتدوا على العقلاء في أنفسهم وأموالهم. PageV03P236
# فهذا النوع إن كان لدفع ضررهم جاز بلا خلاف، مثل قتل الصائل لدفع صوله،
~~وقتل الكلب العقور الذي يخاف من ضرره في المستقبل، وقتل الفواسق الخمس في
~~الحل والحرم.
# وأما إن كان على وجه الاقتصاص، مثل أن يظلم صبي صبيا، أو مجنون مجنونا،
~~أو بهيمة بهيمة، فيقتص للمظلوم من الظالم. وإن لم يكن في ذلك زجر عن
~~المستقبل، لكن لاستيفاء المظلوم وأخذ حقه، فهذا الذي جاء فيه حديث الاقتصاص
~~للجماء من القرناء، كما قال النبي - صلى الله ms0496 عليه وسلم -: "لتؤدى الحقوق
~~إلى أهلها حتى يستوفى للجماء من القرناء" (1) .
# وهذا موافق لأصول الشريعة، فإن القصاص بين غير المكلفين ثابت في الأموال
~~باتفاق المسلمين، فمن أتلف منهم مالا أو غصب مالا أخذ من ماله مثله، سواء
~~في ذلك الصبي والمجنون، والناسي والمخطئ. وكذلك في النفوس، فإن الله تعالى
~~أوجب دية الخطأ، وهي من أنواع القصاص بحسب الإمكان، فإن القود لم يمكن
~~إيجابه، لأنه لا يكون إلا ممن فعل المحرم، وهؤلاء ليسوا مكلفين، ولا
~~يخاطبون بالتحريم، بخلاف ما كان من باب دفع الظلم وأخذ الحق، فإنه لا يشترط
~~فيه الإثم. ولهذا تقاتل البغاة وإن كانوا متأولين مغفورا لهم، ويجلد شارب
~~النبيذ وإن كان متأولا مغفورا له.
# فتبين بذلك أن الظلم والعدوان يؤدى فيه حق المظلوم، مع الإثم والتكليف
~~ومع عدم ذلك، فإنه من باب العدل الذي كتبه الله تعالى على نفسه، وحرم الظلم
~~على نفسه وجعله محرما بين عباده. PageV03P237
# المسألة
### | الخامسة
# دار التكليف
# فالدنيا دار تكليف بلا خلاف، وكذلك البرزخ وعرصة القيامة، وإنما ينقطع
~~التكليف بدخول دار الجزاء، وهي الجنة أو النار، كما صرح بذلك من صرح من
~~أصحابنا وغيرهم، مستدلين بامتحان منكر ونكر للناس في قبورهم وفتنتهم إياهم؟
~~وبأن الناس يوم القيامة يدعون إلى السجود، فمنهم من يستطيع، ومنهم من لا
~~يستطيع؟ وبأن من لم يكلف في الدنيا يكلف في عرصات القيامة.
# وهذا ظاهر المناسبة، فإن دار الجزاء لا امتحان فيها، وأما الامتحان قبل
~~دار الجزاء فممكن لا محذور فيه، والامتحان في البرزخ لمن كان مكلفا في
~~الدنيا، إلا النبيين، ففيهم قولان لأصحابنا وغيرهم.
# وأما امتحان غير المكلفين في الدنيا -كالصبيان والمجانين- ففيهم قولان
~~لأصحابنا وغيرهم:
# أحدهما: لا يمتحنون، وعلى هذا فلا يلقنون. وهذا قول القاضي وابن عقيل.
# والثاني: يمتحنون في قبورهم ويلقنون. وهو قول أكثرهم، حكاه ابن عبدوس" عن
~~الأصحاب، وذكره أبو حكيم وغيره، وهو أصح، كما ثبت عن أبي هريرة، وروي
~~مرفوعا أنه صفى على طفل لم يعمل خطيئة قط، فقال: "اللهم قه عذاب القبر
~~وفتنة القبر ms0497" (1) . PageV03P238
# وهذا الاختلاف في امتحانهم في البرزخ يشبه الاختلاف في امتحانهم في
~~العرصة، وقول من يقول بامتحانهم أقرب إلى النصوص والقياس من قول من يقول:
~~يعاقبون بلا امتحان.
# المسألة
### | السادسة
# أن غير المكلف قد يرحم،
# فإن أطفال المؤمنين مع آبائهم في الجنة، كما دل عليه قوله: (والذين آمنوا
~~واتبعتهم ذريتهم) الآية (1) ، وكما في الصحيحين (2) من حديث أبي هريرة وأنس
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "احتجت الجنة والنار، فقالت
~~الجنة: لا يدخلني إلا الضعفاء والمساكين؛ وقالت النار: يدخلني الجبارون
~~المتكبرون. فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من شئت، وقال للنار:
~~إنما أنت عذابي أعذب بك من شئت، ولكل واحدة منكما ملؤها". فأما النار فلا
~~يزال يلقى فيها وتقول: "هل من مزيد"، حتى يضع رب العزة فيها -وفي رواية:
~~عليها- قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط! قط. وأما الجنة فيفضل فيها
~~فضل، فينشئ الله لها خلفا آخر". فهذا الحديث المستفيض المتلقى بالقبول نص
~~في أن الجنة ينشأ لها في الدار الآخرة خلق يدخلونها بلا عمل، وأن النار لا
~~يدخلها أحد بلا عمل.
# وقد غلط في هذا الحديث المعطلة الذين أولوا قوله "قدمه" بنوع من الخلق،
~~كما قالوا: الذين تقدم في علمه أنهم أهل النار. حتى قالوا PageV03P239
# في قوله "رجله": كما يقال: رجل من جراد. وغلطهم من وجوه:
# فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حتى يضع"، ولم يقل: حتى يلقي،
~~كما قال في قوله: "لا يزال يلقى فيها".
# الثاني: أن قوله "قدمه" لا يفهم منه هذا، لا حقيقة ولا مجازا، كما تدل
~~عليه الإضافة.
# الثالث: أن أولئك المؤخرين إن كانوا من أصاغر المعذبين فلا وجه لانزوائها
~~واكتفائها بهم، فإن ذلك إنما يكون بأمر عظيم، وإن كانوا من أكابر المجرمين
~~فهم في الدرك الأسفل، وفي أول المعذبين لا في أواخرهم.
# الرابع: أن قوله "فينزوي بعضها إلى بعض" دليل على أنها تنضم على من فيها،
~~فتضيق بهم من غير أن يلقى فيها شيء.
# الخامس: أن قوله "لا يزال يلقى ms0498 فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها
~~قدمه" جعل الوضع الغاية التي إليها ينتهي الإلقاء، ويكون عندها الانزواء،
~~فيقتضي ذلك أن تكون الغاية أعظم مما قبلها.
# وليس في قول المعطلة معنى للفظ "قدمه" إلا وقد اشترك فيه الأول والآخر،
~~والأول أحق به من الآخر.
# وقد يغلط في الحديث قوم آخرون ممثلة أو غيرهم، فيتوهمون أن "قدم الرب"
~~تدخل جهنم. وقد توهم ذلك على أهل الإثبات قوم من المعطلة، حتى قالوا: كيف
~~يدخل بعض الرب النار والله تعالى يقول: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) (1)
~~؟. PageV03P240
# وهذا جهل ممن توهمه أو نقله عن أهل السنة والحديث، فإن الحديث: "حتى يضع
~~رب العزة عليها -وفي رواية: فيها-، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط
~~وعزتك"، فدل ذلك على أنها تضايقت على من كان فيها فامتلأت بهم، كما أقسم
~~على نفسه إنه ليملأنها من الجثة والناس أجمعين، فكيف تمتلئ بشيء غير ذلك من
~~خالق أو مخلوق؟. وإنما المعنى أنه توضع القدم المضاف إلى الرب تعالى،
~~فتنزوي وتضيق بمن فيها. والواحد من الخلق قد يركض متحركا من الأجسام فيسكن،
~~أو ساكنا فيتحرك، ويركض جبلا فيتفجر منه ماء، كما قال تعالى: (اركض برجلك
~~هذا مغتسل بارد وشراب (42)) (1) ،
# وقد يضع يده على المريض فيبرأ، وعلى الغضبان فيرضى.
# المسألة السابعة
# أن التكليف بالأمر والنهي ثابت بالشرع باتفاق المسلمين، وفي ثبوته بالعقل
~~اختلاف بين العلماء من أصحابنا وغيرهم، والمسألة مشهورة، مسألة التحسين
~~والتقبيح ووجوب الواجبات وتحريم المحرمات، هل ثبتت بالعقل؟ ومسألة وجوب
~~معرفة الله وشكره، ومسألة الأعيان قبل السمع. وفي المسألة تفصيل كتبته في
~~غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا النكت المستغربة.
# وأما الثواب والعقاب فمعلوم بالسمع بلا خلافي بين المسلمين، وهل يعلم
~~بالعقل؟ مبني على المعاد، فإن المعاد معلوم بالسمع بلا ريب، وهل يعلم
~~بالعقل؟ قد اختلف فيه:
# فذهب كثير من أهل الكلام وذهب أكثر الناس إلى أن المعاد من PageV03P241
# الأمور السمعية التي لا تعلم إلا بالسمع، وهو قول كثير من أصحابنا
~~والأشعرية وغيرهم.
# وذهب طوائف إلى ms0499 أنه يعلم بالعقل، ثم تنوعت مسالكهم:
# منهم من بناه على وجوب العدل، وأن ذلك يقتضي معادا غير هذه الدار، يجزى
~~فيها الظالمون بظلمهم، أو يعوض المعذبون على عذابهم. وهذا مسلك كثير من
~~المعتزلة وغيرهم.
# ومنهم من بناه على أن الروح غير البدن، وأنها باقية بعده، وأن لها من
~~النعيم والعذاب الروحانيين ما لا يفارقها. وهذا مسلك كثير من المتفلسفة ومن
~~نحا نحوهم، ومن هؤلاء من يثبت معاد الأرواح العالمة دون الجاهلة، وفيهم من
~~ينكر المعادين.
# والصواب أن معرفته بالسمع واجبة، وأما بالعقل فقد تعرف وقد لا تعرف،
~~فليست معرفته بالعقل ممتنعة، ولا هي أيضا واجبة. وأما المتفلسفة فتثبت
~~المعاد بالعقل، وتثبت التكليف العقلي، وأما ما جاء به السمع من المعاد
~~والشرائع فلها فيه تأويلات محرفة.
# فصارت الأقسام في الإيمان باليوم الآخر وفي العمل الصالح: هل هو معلوم
~~بالشرع وحده أو بالعقل وحده أو يعلم بكل منهما؟ فيه هذا الخلاف بين أهل
~~الأرض. وإن كان الصواب أن ذلك معلوم جميعه بالشرع قطعا، وقد يعلم بعضه
~~[بالعقل] .
# بل مثل هذا الخلاف ثابت في معرفة الله تعالى، لكن التجاء المتكلمين هناك
~~إلى العقل أكثر. وكثير من المتكلمين -كأكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية- لا
~~يعلم عندهم وجود الرب وصفاته إلا بالعقل، كما يزعمه الفلاسفة، مع اضطراب
~~هؤلاء وآخرين في مقابلتهم.
# PageV03P242
# وقد كتبت تفاصيل أقوال الناس وبينت مذهب أئمة السنة والحديث في هذا الأصل
~~في "قاعدة نفي التشبيه ومسألة الجسم"، وإنما الغرض هنا التكليف وتوابعه.
# وإنما قرنت بين الأصول الثلاثة التي قال الله تعالى فيها: (إن الذين
~~آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
~~صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (1) ،
# فأشرت إلى طرق الناس في معرفتها.
# والحمد لله وحده أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، حمدا كثيرا مباركا دائما
~~بدوامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
# (فرغت يوم الثلاثاء سادس عشر من شهر صفر سنة ست وستين وسبع مئة. علقها
~~العبد الفقير إلى رحمة ربه الغفور ms0500، وعفوه وصفحه وجوده وكرمه وستره وبزه
~~ومنه: عبد المنعم البغدادي الحنبلي، عفا الله عنه بمنه وكرمه وعن جميع
~~المسلمين) . PageV03P243
### | مسألة فيمن قال:
# إن عليا أشجع من أبي بكر
# PageV03P245
# مسألة
# في رجلين تكلما فقال أحدهما: إن عليا أشجع من أبي بكر، وقال آخر: [إن]
~~أبا بكر أشجع الصحابة.
# الجواب
# الحمد لله. الذي عليه سلف الأمة وأئمتها أن أبا بكر الصديق أعلم الصحابة
~~وأدين الصحابة وأشجع الصحابة وأكرم الصحابة، وقد بسط هذا في الكتب الكبار
~~وبين ذلك بالدلائل الواضحة. وذلك أن الشجاعة ليست [عند] أهل العلم بها كثرة
~~القتل باليد ولا قوة البدن، فإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أشجع الخلق،
~~كما قال علي بن أبي طالب (1) : كنا إذا احمر البأس ولقي القوم القوم كنا
~~نتقي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يكون أقرب إلى القوم منا.
~~وقد انهزم أصحابه يوم حنين وهو على بغله يسوقها نحو العدو، ويتسمى بحيث لا
~~يخفي نفسه، ويقول:
# أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب (2)
# ومع هذا فلم يقتل بيده إلا واحدا، وهو أبي بن خلف، قتله يوم أحد.
# وكان في الصحابة من هو أكثر قتلا من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وإن كان
~~لا يفضل عليهم في الشجاعة، مثل البراء بن مالك أخي أنس بن مالك، فإنه قتل
~~مئة رجل مبارزة غير من شرك في دمه. PageV03P247
# ولم يقتل أحد من الخلفاء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا
~~العدد، بل ولا حمزة سيد الشهداء -الذي يقال: إنه أسد الله ورسوله- لم يقتل
~~هذا العدد، وهو في الشجاعة إلى الغاية. وكذلك الزبير بن العوام هو في
~~الشجاعة إلى الغاية، حتى قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
~~الصحيح: "إن لكل نبي حواريا، وحواري الزبير" (1) ، ولم يقتل في عهد النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - هذا العدد.
# وغزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - وسراياه مضبوطة عند أهل العلم
~~بالسيرة والحديث، والله تعالى كان يبارك لنبيه وأصحابه في مغازيهم، فمع
~~العمل القليل يظهر الإسلام ms0501 وتفشو الدعوة ويدخلون في دين الله أفواجا.
~~ومجموع من قتل الصحابة كلهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغون ألف
~~نفس، بل أقل من ذلك، ومع هذا ببركة الإيمان فتحت أرض العرب كلها في حياته.
# وكان القتل يوم بدر، وهي أول مغازي القتال، وأسروا منها سبعين أو نحوها.
~~وأما يوم أحد فقتل الكفار قليلا جدا، وكذلك يوم الخندق ويوم فتح مكة،
~~والقتلى في خيبر وحنين ليسوا بالكثير. وأعظم عددا قتلوا جميعا قتلى قريظة،
~~فإنهم بلغوا ثلاث مئة أو أربع مئة قتلهم جميعا.
# وجملة مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - بضغ وعشرون غزاة، وكان القتال
~~فيها في تسع: مغازي بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وقريظة (2) وخيبر والفتح
~~وحنين والطائف، وأعظم ما كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم تبوك
~~بلغوا عشرات ألوف، ولكن لم يكن في تبوك قتال، بل أقام النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة، وكان قد جاء لقتال النصارى من
~~الروم والعرب وغيرهم، فلم يقدموا على قتاله. PageV03P248
# وأما هذه المحاربات التي يذكرها الكذابون، وكثرة القتلى التي يذكرها أهل
~~الفرية، فكذبها معروف عند كل عالم. وإذا كان القتلى نحوا ممن ذكروا [و]
~~المقاتلة في الصحابة كثيرون من المهاجرين والأنصار، مثل عمر وعلي وحمزة
~~والزبير والمقداد وأمثالهم، ومثل أبي أيوب وأبي طلحة وأبي قتادة وأبي
~~دجانة، ثم مثل خالد بن الوليد وأمثاله، وقتل الواحد من هؤلاء يقارب قتل عمر
~~وعلي وغيرهما، ينقص عنه أو يزيد عنه، ولهذا لما جاء علي رضي الله عنه أخذ
~~بسيفه إلى فاطمة وقال: اغسليه عن دمهم، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-: "إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان" (1) وسمى طائفة من المسلمين-: علم
~~(2) أنه لم يمتنع أن يكون أحد من الخلفاء قتل مئة من الكفار مع النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -.
# وأما خالد بن الوليد والبراء بن مالك وأمثالهما فهؤلاء قتل الواحد منهم
~~مئة وأكثر، لمغازيهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم لما غزوا
~~أهل الردة ms0502 وفارس والروم كان القتلى من الكفار كثيرا جدا لكثرة الجموع.
~~والخلفاء الراشدون لم يغز أحد منهم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~ولا باشر بنفسه قتال الكفار بعده، وإنما كانوا هم أولي الأمر، فكان أبو بكر
~~يشاور عمر وعثمان وعليا وغيرهم، وكذلك عمر كان يشاور هؤلاء وغيرهم، وهم
~~عنده. ولكن الزبير بن العوام شهد فتح مصر، وسعد ابن أبي وقاص فتح العراق،
~~وأبو عبيدة بن الجراح فتح الشام.
# وإذا تبين هذا فالشجاعة هي ثبات القلب وقوته، وقوة الإقدام PageV03P249
# على العدو، والبعد عن الجزع والخوف، فهي صفة تتعلق بالقلب، وإلا فالرجل
~~قد يكون بدنه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي،
~~وهو ضعيف القلب جبان، وهذا عاجز. وقد يكون الرجل يقتل بيده خلقا كثيرا،
~~وإذا دهمته الأمور الكبار مالت عليه الأعداء، فيضعف عنهم أو يخاف.
# وأبو بكر الصديق كان أقوى الصحابة قلبا وأربطهم جأشا وأعظمهم ثباتا
~~وأشدهم إقداما وأبعدهم عن الجزع والضعف والجبن، ولهذا كان النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - يصحبه وحده في المواضع التي يكون أخوف ما يكون فيها، كما صحبه
~~في الهجرة، وكان معه في الغار، والأعداء يطلبهما ويبذل ديتهما لمن يأتي
~~بهما، وكان معه في العريش يوم بدر وحده والكفار قاصدون الرسول خصوصا. ولهذا
~~لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر من شجاعته وبسالته وصبره وثباته
~~وسياسته وتدبيره وإمامته للدين وقمعه للمرتدين ومعونته للمؤمنين وسد ظهورهم
~~ما لا تتسح هذه الورقة. وكل من له بالشجاعة أدنى خبرة يعلم أنه لم يكن منهم
~~من يقاربه في الشجاعة فضلا أن يشاريه. وكذلك كان عمر، كان أشجعهم بعده، كما
~~أن أبا بكر كان أعلمهم، كما ذكر الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني إجماع
~~العلماء على أن أبا بكر أعلم الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
~~وهو مبسوط في غير هذا الموضع (1) . والله أعلم. PageV03P250
# تفسير أول سورة العنكبوت
# PageV03P251
# قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه
~~الله:
# فصل
# قال الله ms0503 تعالى: (الم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
~~يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن
~~الكاذبين (3) أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون (4) من
~~كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم (5) ومن جاهد فإنما
~~يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين (6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات
~~لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون (7) ووصينا الإنسان
~~بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم
~~فأنبئكم بما كنتم تعملون (8) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في
~~الصالحين (9) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة
~~الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله
~~بأعلم بما في صدور العالمين (10) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن
~~المنافقين (11)) (1) .
# وقال الله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا
~~من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه
~~متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)) (2) . وقال الله تعالى لما ذكر
~~المرتد والمكره بقوله: (من كفر بالله من بعد إيمانه) (3) قال بعد ذلك:
~~PageV03P253
# (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من
~~بعدها لغفور رحيم (110)) (1) .
# فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما
~~أن لا يقول: آمنا، بل يستمر على عمل السيئات. فمن قال "آمنا" امتحنه الرب
~~عز وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم
~~يقل "آمنا" فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإن أحدا لن يعجز الله تعالى.
# هذه سنته تعالى، يرسل الرسل إلى الخلق، فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال
~~تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الأنس والجن) (2) ، وقال تعالى:
~~(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون) (3) ، وقال
~~تعالى: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ms0504) (4) .
# ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم
~~عوقب، فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم. ف
### | لابد من حصول الألم لكل نفس
# سواء آمنت أم كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون
~~له العاقبة في الدنيا والآخرة. والكافر تحصل له النعمة ابتداء، ثم يصير في
~~الألم.
# سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله! أيما أفضل للرجل أن يمكن أو
~~يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فان الله ابتلى PageV03P254
# نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما
~~صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البته.
# وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان
~~مدني الطبع، لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون
~~منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له
~~الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم.
# ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئا كثيرا، كقوم يريدون
~~الفواحش والظلم، ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما
~~ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر
~~منها وما بطن والأثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به
~~سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33)) (1) . وهم في مكان مشترك،
~~كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة
~~فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك، أو بسكوتهم عن
~~الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا
~~سلموا من شرهم في الابتلاء، ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم
~~ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداء، كمن يطلب منه شهادة الزور
~~أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر، وإما في الأمر أو المعاونة على
~~الفاحشة والظلم، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه، وإن أجابهم فهم ms0505 أنفسهم يتسلطون
~~عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلا عذب بغيرهم. PageV03P255
# فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية، ويروى موقوفا ومرفوعا
~~(1) : "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس -وفي لفظ: رضي الله
~~عنه وأرضى عنه الناس-، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا
~~-وفي لفظ: عاد حامده من الناس ذاما-".
# وهذا يجرى فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين
~~أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده
~~امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم، ثم تكون له العاقبة في
~~الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل
~~المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها.
# وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة، كالمكره على
~~الكفر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، إذ المقصود هنا أنه لابد من
~~الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه البتة. ولهذا ذكر الله
~~تعالى في غير موضع أنه لابد أن يبتلي الناس، والابتلاء يكون بالسراء
~~والضراء، ولابد أن يبتلي الإنسان بما يسره ويسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون
~~صابرا شكورا، قال تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم
~~أحسن عملا (7)) (2) ، وقال تعالى: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم
~~يرجعون (168)) (3) ، وقال تعالى: PageV03P256
# (فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن
~~ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)) (1) ، وقال تعالى:
~~(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم
~~الصابرين (142)) . هذا في آل عمران (2) ، وقد قال قبل ذلك في البقرة، فإن
~~البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل
~~الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين
~~آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)) (3) .
# وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب ms0506 الذي لا يخلص جيده
~~من رديئه حتى يفتن في كير الامتحان، إذ كانت النفس جاهلة ظالمة، وهي منشأ
~~كل شر يحصل للعبد، فلا يحصل له شر إلا منها، قال تعالى: (ما أصابك من حسنة
~~فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (4) ، وقال تعالى: (أولما أصابتكم
~~مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم) (5) ، وقال: (وما
~~أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير (30)) (6) ، وقال تعالى:
~~(ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (7)
~~، (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال (11)) (8)
~~. PageV03P257
# وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت، وفي كل ذلك يقول: إنهم ظلموا
~~أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم، قالا: (ربنا
~~ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23)) (1) ، وقال
~~لإبليس: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85)) (2) ، وإبليس إنما
~~تبعه الغواة منهم، كما قال: (بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم
~~أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين) (3) ، وقال تعالى: (إن عبادي ليس لك
~~عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) (4) . والغي: اتباع هوى النفس.
# وما زال السلف معترفين بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود (5) : أقول
~~فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله
~~ورسوله بريئان منه.
# وفي الحديث الإلهي حديث أبي ذر (6) الذي يرويه الرسول عن ربه عز وجل: "يا
~~عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد
~~الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
# وفي الحديث الصحيح (7) حديث سيد الاستغفار أن يقول العبد: PageV03P258
# "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك
~~ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر
~~لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من
~~يومه ms0507 دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة".
# وفي حديث أبي بكر الصديق (1) من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو أن
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا
~~أخذ مضجعه: "اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء
~~ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه،
~~وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم". قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا
~~أخذت مضجعك.
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته (2) : "الحمد لله،
~~نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا". وقد قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون
~~تهافت الفراش" (3) .
# شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته، وهي صغيرة النفس، فإنها جاهلة سريعة
~~الحركة. PageV03P259
# وفي الحديث: "مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة" (1) . وفي حديث آخر:
~~"للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا" (2) . ومعلوم سرعة حركة
~~الريشة والقدر مع الجهل. ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه: إنه استخفه. قال عن
~~فرعون: (فاستخف قومه فأطاعوه) (3) . وقال تعالى (فاصبر إن وعد الله حق ولا
~~يستخفنك الذين لا يوقنون (60)) (4) ، فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش، صاحب
~~اليقين ثابت. يقال: أيقن، إذا كان مستقرا، واليقين: استقرار الإيمان في
~~القلب علما وعملا، فقد يكون علم العبد جيدا، لكن نفسه لا تصبر عند المصائب
~~بل تطيش. قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا
~~شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك. قال
~~تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
~~(24)) (5) .
# ولهذا تشبه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها، وغضبها وشهوتها من
~~النار، والشيطان من النار. وفي السنن (6) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~أنه قال: "الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء،
~~فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وفي الحديث ms0508 الآخر (7) : PageV03P260
# "الغضب جمر توقد في جوف ابن آدم، إلا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ
~~أوداجه"، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام. وفي الحديث المتفق على صحته
~~(1) : "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم".
# وفي الصحيحين (2) أن رجلين استبا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد
~~اشتد غضب أحدهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأعلم كلمة لو
~~قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". وقد قال
~~تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك
~~وبينه عداوة كأنه ولي حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا
~~ذو حظ عظيم (35) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع
~~العليم (39)) (3) ، وقال تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
~~(199) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200)) (4) ،
~~وقال تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96) وقل رب
~~أعوذ بك من همزات الشياطين (97) وأعوذ بك رب أن يحضرون (98)) (5) .
~~PageV03P261
### $ مسألة في قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله …)
# PageV03P263
# مسألة
# في قوله عز وجل (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة
~~يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون
~~حديثا (78)) الآية (1) .
# الجواب
# الحمد لله.
### | المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب،
# كما في قوله تعالى (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) (2) ، وقال
~~تعالى: (إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها) (3) ، (إن تصبك
~~حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) (4) ، وقال تعالى
~~عن قوم فرعون: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا
~~بموسى ومن معه) (5) .
# وهذه الآية نزلت في سياق الأمر بالجهاد وذم المنافقين، فقال تعالى:
~~(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا
~~هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند ms0509 الله فمال
~~هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)) (6) . كانوا إذا أصابهم نصر ورزق
~~ونحو ذلك قالوا: هذا، من الله، وإذا أصابهم خوف وقحط ونحو ذلك قالوا: هذا
~~من PageV03P265
# محمد بسبب الدين الذي جاء به، كما قال قوم فرعون في حق موسى، فقال الله
~~تعالى: (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78)) ، فإن محمدا إنما
~~جاءهم بالهدى والحق، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر.
# ثم قال (1) : (ما أصابك من حسنة) من نصر ورزق ونحو (فمن الله وما أصابك
~~من سيئة) من خوف وجدب وغير ذلك (فمن نفسك) أي بذنوبك، وكان ذلك بقضاء الله
~~وقدره، ولكن القدر نؤمن به ولا نحتج به، فليس للعبد على الله حجة، بل لله
~~الحجة البالغة.
# ونظير هذا قوله: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
~~(30)) (2) ، وقوله: (وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون (36))
~~(3) وقوله: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من
~~عند أنفسكم) (4) .
# وفي الصحيح (5) : "إن الله يقول: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم
~~أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا
~~نفسه". وفي سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت،
~~خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت،
~~أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
~~من قال ذلك إذا أصبح موقنا به فمات من يومه دخل الجنة، ومن قاله إذا
~~PageV03P266
# أمسى موقنا به فمات من ليلته دخل الجنة. رواه البخاري (1) .
# وقوله "أبوء لك بنعمتك علي" أي أعترف وأقر بنعمتك، وأعترف وأدر بذنوبي.
~~فمن قال: إنه لا يؤاخذ، أو إنه لم يذنب ولم يخطئ، أو إن من شهد الحقيقة سقط
~~الأمر والنهي والعقاب والثواب-: فهو مشرك أكفر من اليهود والنصارى، ومن
~~قال: إن الله لم يقدر ذلك ولم يقضه، فهو من مجوس هذه الأمة القدرية. ومن
~~آمن بأن كل شيء ms0510 بقضاء الله وقدره، وعلم أن القدر يؤمن به ولا يحتج به على
~~الله، وأنه ليس للعبد على ربه حجة، بل لله الحجة البالغة، فإذا عمل حسنة
~~شكر الله عليها، وإذا عمل سيئة استغفر الله منها-: فهو موحد.
# ومن قال: إن الحسنات والسيئات في هذه الآية المراد بها الطاعات والمعاصي،
~~كما في قوله (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا
~~مثلها) (2) فهو مخطئ غالط، فإن هذا يلزم منه تناقض القرآن، فإنه قد أخبر أن
~~كلا من عند الله، وأخبر أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك. وأيضا فإنه قال
~~"ما أصابك"، ولم يقل "ما أصبت"، فلو أراد أفعال العباد لقال: "ما أصبت" أو
~~"ما كسبت" أو "ما فعلت" ونحو ذلك. ولكن أراد النعم والمصائب، وهي جميعها من
~~عند الله، لكن النعم من إنعامه وإحسانه، والمصائب بسبب ذنوب العباد، ولهذا
~~قال: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون
~~(33)) (3) . والله أعلم. أجاب به أحمد بن تيمية أيده الله تعالى.
~~PageV03P267
### | قاعدة حسنة
# في الباقيات الصالحات وبيان اقتران التهليل
# بالتكبير والتسبيح بالتحميد
# PageV03P269
# الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين،
~~وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
# فصل
# في الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
# فقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أفضل
~~الكلام بعد القرآن أربع وهن من القرآن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا
~~الله والله أكبر". وقد ذكرنا ما يتعلق بمعانيها في مواضع (2) ، والمقصود
~~هنا أن نقول
### | : التسبيح مقرون بالتحميد،
# والتهليل مقرون بالتكبير، فإن الله تعالى يذكر في غير موضع التسبيح
~~بحمده، كقول الملائكة: (ونحن نسبح بحمدك) (3) ، وقوله: (الذين يحملون العرش
~~ومن حوله يسبحون بحمد ربهم) (4) ، وقوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك)
~~(5) ، وقوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (6) ، وقو له:
~~(وسبح بحمد ربك حين تقوم (48)) (7) .
# ولا ريب أن الصلاة الشرعية تتضمن ما ms0511 أمر به من التسبيح بحمده، كما قد بين
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في مثل حديث جرير المتفق عليه (8) أنه
~~PageV03P271
# نظر إلى القمر فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في
~~رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها
~~فافعلوا" ثم قرأ (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39)) (1) .
# وأيضا ففي صحيح مسلم (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي
~~الكلام أفضل؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته: سبحان الله وبحمده". وفي
~~الصحيحين (3) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان
~~الله وبحمده، سبحان الله العظيم".
# وأما التكبير فهو مقرون بالتهليل في الأذان، فإن المؤذن يكبر ويهلل، وفي
~~تكبير الإشراف: كان إذا علا نشزا كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله، وحده
~~لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آئبون تائبون عابدون
~~لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".
~~وهو في الصحيحين (4) . وكذلك على الصفا والمروة، وكذلك إذا ركب دابة، وكذلك
~~في تكبير الأعياد.
# والتكبير مشروع في الأماكن العالية، والتسبيح عند الانخفاض، كما في السنن
~~عن جابر (5) قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا علونا
~~PageV03P272
# كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا". فوضعت الصلاة على ذلك، والمصلي في ركوعه
~~وسجوده يسبح، ويكبر في الخفض والرفع، كما جاءت الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
# ومن اقتران التهليل بالتكبير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن
~~حاتم: "يا عدي! ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله
~~إلا الله؟ ما يفرك؟ أيفرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ".
# رواه أحمد والترمذي (1) وغيرهما.
# فنقول
### | : التسبيح والتحميد يجمع النفي والإثبات،
# نفي المعائب وإثبات المحامد، وذلك يتضمن التعظيم، ولهذا قال: (سبح اسم
~~ربك الأعلى (1)) (2) ، وقال: (فسبح ms0512 باسم ربك العظيم (74)) (3) . وقد قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا هذه في ركوعكم، وهذه في سجودكم" (4)
~~.
# وقال: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" (5) . فالتسبيح يتضمن التنزيه
~~المستلزم للتعظيم، والحمد يتضمن إثبات المحامد المتضمن لنفي نقائصها.
# وأما التهليل والتكبير فالتهليل يتضمن اختصاصه بالإلهية، وما يستلزم
~~الإلهية فهذا لا يكون لغيره، بل هو مختص به، والتكبير PageV03P273
# يتضمن أنه أكبر من كل شيء، فما يحصل لغيره من نوع صفات الكمال -فإن
~~المخلوق متصف بأنه موجود وأنه حي وأنه عليم قدير سميع بصير إلى غير ذلك-
~~فهو سبحانه أكبر من كل شيء، فلا يساويه شيء في شيء من صفات الكمال، بل هي
~~نوعان: نوع يختص به ويمتنع ثبوته لغيره، مثل كونه رب العالمين، وإله الخلق
~~أجمعين، الأول الآخر الظاهر الباطن القديم الأزلي الرحمن الرحيم مالك الملك
~~عالم الغيب والشهادة، فهذا كله هو مختص به، وهو مستلزم لاختصاصه بالإلهية،
~~فلا إله إلا هو، ولا يجوز أن يعبد إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يرغب
~~إلا إليه، ولا يخشى إلا هو. فهذا كله من تحقيق "لا إله إلا الله".
# وأما "الله أكبر" فكل اسم يتضمن تفضيله على غيره، مثل قوله:
# (اقرأ وربك الأكرم (3)) (1) ، وقوله: (فتبارك الله أحسن الخالقين (14))
~~(2) ، وقوله: (وأنت أرحم الراحمين (151)) (3) و (وأنت خير الغافرين (155))
~~(4) ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم: "أيفرك أن يقال:
~~الله أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ".
# وأما قول بعض النحاة إن "أكبر" بمعنى كبير، فهذا غلط مخالف لنص الرسول -
~~صلى الله عليه وسلم - ولمعنى الاسم المنقول بالتواتر. وكذلك قول بعض الناس
~~إنه أكبر مما يعلم ويوصف ويقال، جعلوا معنى "أكبر" أنه أكبر مما في القلوب
~~والألسنة من معرفته ونعته، أي هو فوق معرفة PageV03P274
# العارفين، وهذا المعنى صحيح، لكن ليس بطائل، فإن الأنبياء والرسل
~~والملائكة والجنة والنار وما شاء الله من مخلوقاته هي أكبر مما يعرفه
~~الناس، قال الله تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) ، وقال
~~تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما ms0513 لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
~~بشر" (2) .
# فبعض مخلوقاته هي أكبر في معرفة الخلق من البعض، بخلاف ما إذا قيل إنه
~~أكبر من كل شيء، فهذا لا يشركه فيه غيره. وبذلك فسر النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - هذه الكلمة في مخاطبته لعدي بن حاتم حيث قال: "أيفرك أن يقال الله
~~أكبر؟ فهل من شيء أكبر من الله؟ ".
# وعلى هذا فعلمه أكبر من كل علم، وقدرته أكبر من كل قدرة، وهكذا سائر
~~صفاته، كما قال تعالى: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم)
~~(3) . فشهادته أكبر الشهادات.
# فهذه الكلمة تقتضي تفضيله على كل شيء مما توصف به الأشياء من أمور
~~الكمالات التي جعلها هو سبحانه لها. وأما التهليل فيتضمن تخصيصه بالإلهية،
~~ليس هناك أحد يتصف بها حتى يقال إنه أكبر منه فيها، بل لا إله إلا الله.
~~وهذه تضمنت معنى نفي الإلهية عما سواه وإثباتها له، وتلك تضمنت أنه أكبر
~~مطلقا، فهذه تخصيص وهذه تفضيل لما تضمنه التسبيح والتحميد من النفي
~~والإثبات، فإن كل ذلك إما أن يكون مختصا به، أو ليس كمثله أحد فيه.
~~PageV03P275
# ولهذا كان التكبير مشروعا على مشاهدة ماله نوع من العظمة في المخلوقات،
~~كالأماكن العالية، والشياطين تهرب عند سماع الأذان، والحريق يطفأ بالتكبير،
~~فإن مردة الإنس والجن يستكبرون عن عبادته ويعلون عليه ويحادونه، كما قال عن
~~موسى وجاءهم رسول كريم: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين
~~(19)) (1) . فالنفوس المتكبرة تذل عند تكبيره سبحانه.
# و
### | التهليل يمنع أن يعبد غيره،
# أو يرجى أو يخاف أو يدعى، وذلك يتضمن أنه أكبر من كل شيء، وأنه مستحق
~~لصفات الكمال التي لا يستحقها غيره، فهي أفضل الكلمات، كما في الصحيحين عن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أو ستون،
~~أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" (2) .
# وفي حديث "الموطأ" (3) : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا
~~الله، وحده لا شريك له ms0514، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". وفي سنن
~~ابن ماجه (4) وكتاب ابن أبي الدنيا (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله".
# وهذه الكلمة هي أساس الدين، وهي الفارقة بين أهل الجنة PageV03P276
# وأهل النار، كما في صحيح مسلم (1) عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- أنه قال: "الموجبتان: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك
~~بالله شيئا دخل النار". وفي الصحيح (2) عنه: "من مات وهو يعلم أن لا إله
~~إلا الله دخل الجنة". وفي الصحيح (3) أيضا: "لقنوا موتاكم لا إله إلا
~~الله". وهي الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلا كشجرة طيبة، وهي بعث بها
~~جميع الرسل: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا
~~فاعبدون (25)) (4) ، (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون
~~الرحمن آلهة يعبدون (45)) (5) .
# وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم في عقبه: (وجعلها كلمة باقية في عقبه
~~لعلهم يرجعون (28)) (6) . وهي دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره، لا
~~من الأولين ولا من الآخرين (إن الدين عند الله الأسلام) (7) ، (ومن يبتغ
~~غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)) (8) .
# وكل خطبة لا تكون فيها شهادة فهي جذماء، كما في سنن الترمذي (9) عن أبي
~~هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كل خطبة ليس فيها تشهد
~~فهي PageV03P277
# كاليد الجذماء". و
### | الحمد مفتاح الكلام،
# كما في سنن أبي داود (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمر ذي
~~بال لا يبدأ فيه بالحمد فهو أجذم". ولهذا كانت السنة في الخطب أن تفتتح
~~بالحمد، ويختم ذكر الله بالتشهد، ثم يتكلم الإنسان بحاجته، وبها جاء التشهد
~~في الصلاة أوله: "التحيات لله"، وآخره: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
~~محمدا عبده ورسوله".
# وفاتحة الكتاب نصفان: نصف لله، ونصف للعبد، ونصف الرب أوله حمد وآخره
~~توحيد (إياك نعبد) ، ونصف العبد هو دعاء، وأوله توحيد ms0515 (وإياك نستعين (5)) .
# والتكبير والتهليل والتسبيح مقدمة التحميد، فالمؤذن يقول: "الله أكبر
~~الله أكبر"، ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله"، ويختم الأذان بقوله:
~~"الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله". وكذلك تكبيرات الإشراف والأعياد
~~تفتتح والتكبير وتختم بالتوحيد، فالتكبير بساط. وكذلك التسبيح مع التحميد
~~"سبحان الله وبحمده"، (فسبح بحمد ربك) ، لأن التسبيح يتضمن نفي النقائص
~~والعيوب، والتحميد يتضمن إثبات صفات الكمال التي يحمد عليها.
# فصل
# وهو في نفس الأمر لا إله غيره، وهو أكبر من كل شيء، وهو المستحق للتحميد
~~والتنزيه، هو متصف بذلك كله في نفس الأمر. فالعباد لا يثبتون له بكلامهم
~~شيئا لم يكن ثابتا له، بل المقصود بكلامهم تحقيق ذلك في أنفسهم، فإنهم
~~يسعدون السعادة التامة، إذا PageV03P278
# صار أحدهم ليس في نفسه إله إلا الله خلص من شرك المشركين، فإن أكثر بني
~~آدم كما قال تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106)) (1) ، فهم
~~يقرون أنه رب العالمين لا رب غيره، ومع هذا يشركون به في الحب أو التوكل أو
~~الخوف أو غير ذلك من أنواع الشرك.
# وأما التوحيد أن يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، فلا يحب شيئا مثل ما
~~يحب الله، ولا يخافه كما يخاف الله، ولا يرجوه كما يرجوه، ولا يجله ويكرمه
~~مثل ما يجل الله ويكرمه، ومن سوى بينه وبين غيره في أمر من الأمور فهو
~~مشرك، إذ كان المشركون لا يسوون بينه وبين غيره في كل [شيء] ، فان هذا لم
~~يقله أحد من بني آدم، وهو ممتنع لذاته امتناعا معلوما لبني آدم، لكن منهم
~~من جحده وفضل عليه غيره في العبادة والطاعة، لكن مع هذا لم يثبته ويسو بينه
~~وبين غيره في كل شيء، بل في كثير من الأشياء. فمن سوى بينه وبين غيره في
~~أمر من الأمور فهو مشرك، قال الله تعالى (الحمد لله الذي خلق السماوات
~~والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1)) (2) أي
~~يعدلون به غيره، يقال: عدل به أي جعله عديلا لكذا ms0516 ومثلا له. وقال تعالى:
~~(وبرزت الجحيم للغاوين (91)) إلى قوله: (إذ نسويكم برب العالمين (98)) (3)
~~وقال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) (4)
~~. PageV03P279
# فلا إله إلا هو سبحانه، وما سواه ليس بإله، لكن المشركون عبدوا معه آلهة،
~~وهي أسماء سموها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، كما يسمي الإنسان
~~الجاهل عالما، والكاذب صادقا، ويكون ذلك عنده لا في نفس الأمر. وهؤلاء آلهة
~~في نفوس المشركين بهم ليسوا آلهة في نفس الأمر. ولهذا كان ما في قلوبهم من
~~الشرك هو إفكا، قال الله تعالى عن إبراهيم: (إذ قال لأبيه وقومه ماذا
~~تعبدون (85) أإفكا آلهة دون الله تريدون (86)) (1) ، وقال أيضا: (إنما
~~تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا) (2) ، وقال: (هؤلاء قومنا اتخذوا
~~من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله
~~كذبا) (3) ، وقال هود لقومه: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا
~~مفترون (50)) (4) .
# والموحد صادق في قوله "لا إله إلا الله"، وكلما كرر ذلك تحقق قلبه
~~بالتوحيد والإخلاص، وكذلك قوله "الله أكبر"، فإنه تعالى كل ما يخطر بنفس
~~العباد من التعظيم فهو أكبر منه، الملائكة والجن والإنس، فإنه أي شيء قدر
~~في الأنفس من التعظيم كان دون الذي هو متصف به، كما أنه سبحانه فوق ما يثني
~~عليه العباد، كما قال أعلم الناس به: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت
~~على نفسك" (5) .
# فكلما قال العبد "الله أكبر" تحقق قلبه بأن يكون الله في قلبه أكبر
~~PageV03P280
# من كل شيء، فلا يبقى لمخلوق على القلب ربانية تساوي ربانية الرب، فضلا عن
~~أن يكون مثلها، وهذا داخل في التوحيد لا إله إلا الله، فلا يكون في قلبه
~~لمخلوق شيء من التأله لا قليل ولا كثير، بل التأله كله لله، ولكن المخلوق
~~عنده نوع من القدر والمنزلة والمحبة، وليست كقدر الخالق، والمحبة المأمور
~~بها هي الحب لله، كحب الأنبياء والصالحين، فهو يحبهم لأن الله أمر بحبهم،
~~فهذا هو الحب الله. فأما من ms0517 أحبهم مع الله فهذا مشرك، كما قال تعالى: (ومن
~~الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) (1) . فالحب في الله
~~إيمان، والحب مع الله شرك.
# وكذلك إذا قال "سبحان الله والحمد لله" فقد نزه الرب، فنزه قلبه أن يصف
~~الرب بما لا ينبغي له، فكلما سبح الرب تنزهت نفسه عن أن يصف الرب بشيء من
~~السوء، كما قال سبحانه: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180)) (2) ، وقال:
~~(سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا (43)) (3) .
# فهو سبحانه سبح نفسه عما يصفه المفترون والمشركون، فإذا سبح الرب كان قد
~~زكى نفسه. وقد سمى الله الأعمال الصالحة زكاة وتزكية في مثل قوله: (وويل
~~للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة) (4) . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس:
~~(ويزكيهم) قال: يعني بالزكاة PageV03P281
# طاعة الله والإخلاص (1) ، فجمع بين التزكية من الكفر والذنوب. وقال مقاتل
~~بن حيان: "يزكيكم": يطهركم من الذنوب. هكذا قال في آية البقرة (2) ، وقال
~~في آية الصيف (3) : يطهرهم من الذنوب والكفر.
# وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه. وقال السدي: يأخذ زكاة
~~أموالهم (4) . ففسروا الآية بما يعم زكاة الأموال وغيرها من الأعمال
~~والأفعال، فالإخلاص والطاعة وتزكيتهم من الذنوب والكفر أعظم مقصود الآية.
~~والمشركون نجس، والصدقة من تمام التطهر والزكاة، كما قال تعالى: (خذ من
~~أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) (5) .
# وكذلك قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وويل للمشركين، الذين لا
~~يؤتون الزكاة) (6) قال: هم الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله (7) . وروي
~~عن عكرمة نحو ذلك. وقال قتادة: لا يقرون بها ولا يؤمنون بها. وكذلك قال
~~السدي: لا يدينون بها، ولو زكوا وهم مشركون لم ينفعهم. وقال معاوية بن قرة:
~~ليسوا من أهلها. وقد قال موسى لفرعون: (هل لك إلى أن تزكى (18) وأهديك إلى
~~ربك فتخشى (19)) (8) ، وقال عن الأعمى: (وما يدريك لعله يزكى (3)) (9) ،
~~PageV03P282
# وقال: (قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها) (1) ، وقال: (إنه من يأت
~~ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى) إلى قوله: (وذلك جزاء من ms0518
~~تزكى) (2) .
# وكذلك الحمد، كلما حمد العبد ربه تحقق حمده في قلبه معرفة بمحامده ومحبة
~~له وشكرا له. والألف واللام في قوله (الحمد لله) فيها قولان (3) ، قيل: هي
~~للجنس، كما ذكره بعض المفسرين من المعتزلة، وتبعه عليه بعض المنتسبين إلى
~~السنة. والثاني -وهو الصحيح-: أنها للاستغراق، فالحمد كله لله، كما جاء في
~~الأثر: "لك الحمد كله، ولك الملك كله". فله الحمد حمد مستقل، وله الملك ملك
~~مستقل، ولكن هو سبحانه يؤتي الملك من يشاء، والذي يؤتيه هو من ملكه، وكل ما
~~تصرف فيه العبد فهو من ملك الرب، وهو مستقل بالملك، ليس هذا لغيره، كذلك
~~الحمد هو مستقل بالحمد كله، فله الحمد كله وله الملك كله، وكل ما جاء به
~~الإذن من موجود فله الحمد عليه، وكل ما يجعله للعباد مما يحمدون عليه فله
~~الحمد عليه، وإذا ألهمهم الحمد فهو الذي جعلهم حامدين.
# والمعتزلة لا يقرون بأنه جعل الحامد حامدا والمصلي مصليا والمسلم مسلما،
~~بل يثبتون وجود الأعمال الصالحة من العبد لا من الله، فلا يستحق الحمد على
~~تلك الأعمال على أصلهم، إذ كان ما أعطاهم من القدرة والتمكين وإزاحة العلل
~~قد أعطى الكفار مثله، لكن المؤمنون استقلوا بفعل الحسنات، كالأب الذي يعطي
~~ابنيه PageV03P283
# مالا، فهذا ينفقه في الطاعة، وهذا ينفقه في المعصية. فهو عندهم لا يمدح
~~على إنفاق هذا الابن، كما لا يذم على إنفاق الآخر.
# وأما أهل السنة فيقولون كما أخبر الله تعالى: (ولكن الله حبب إليكم
~~الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) (1) ، وقال
~~أهل الجنة: (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)
~~(2) الآية. وقال الخليل: (رب اجعلني مقيم الصلاة) (3) ، وقال هو وابنه
~~إسماعيل: (واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (4) . ويحمدون الله
~~حمد النعمة وحمد العبادة، كما قد بسط هذا في الكلام في الشكر.
# وهو سبحانه جعل من شاء من عباده محمودا، ومحمدا سيد المحمودين، ومحمد
~~تكون صفاته المحمودة أكثر، وأحمد يكون أحمد من غيره، فهذا أفضل، وذاك أكثر ms0519.
~~وهو سبحانه جعله محمدا وأحمد. فهو المحمود على ذلك، وحمد أهل السماوات
~~والأرض جزء من حمده، فإن حمد المصنوع حمد صانعه، كما أن كل ملك هو جزء من
~~ملكه، فله الملك وله الحمد.
# والحمد إنما يتم بالتوحيد، وهو مناط التوحيد ومقدمة له، ولهذا يفتح به
~~الكلام، ويثنى بالتشهد. وكل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل
~~خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء. وإذا كان الحمد كله له
### | ....
# (5) بخلاف ما إذا أثبت جنس الحمد من غير PageV03P284
# استغراق، فان هذا لا يثبت خصائص الرب التي بها يمتاز عن غيره، فإن الحمد
~~إذا كان للجنس أوجب أن يكون لغيره أفراد من أفراد هذا الجنس، كما تقوله
~~القدرية. وأما أهل السنة فيقولون: الحمد لله كله، وإنما للعبد حمد مقيد،
~~لكون الله تعالى أنعم عليه، كما للعبد ملك مقيد. وأما الملك المستقل والحمد
~~المستقل والملك العام والحمد العام فهو لله رب العالمين، لا إله إلا هو، له
~~الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
# وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال إذا أصبح: اللهم
~~ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد -فقد
~~أدى شكر ذلك اليوم، ومن قال مثل ذلك إذا أمسى فقد أدى شكر تلك الليلة".
~~وقال تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53)
~~ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) (2) . وقال تعالى:
~~(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82)) (3) أي تجعلون شكركم على نعمة الله أنكم
~~تضيفونها إلى غيره بقولكم "مطرنا بنوء كذا وكذا". وقال تعالى: (وإذا مس
~~الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) (4) الآية. وقال: (هو الحي لا إله إلا هو
~~فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (65)) (5) .
# وفي حديث آخر (6) : "من قال إذا أصبح الحمد لله ربي لا أشرك PageV03P285
# به شيئا، أشهد أن لا إله إلا الله، ظل تغفر له ذنوبه حتى يمسي، وإن قالها
~~حين يمسي ظل ms0520 تغفر له ذنوبه حتى يصبح". رواه أبان المحاربي عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -.
# وقال سعيد بن جبير: إذا قرأت (فادعوه مخلصين له الدين الدين الحمد لله رب
~~العالمين (65)) فقل "لا إله إلا الله"، وقل على أثرها: "الحمد لله رب
~~العالمين". ثم قرأ هذه الآية (فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب
~~العالمين) . وقد روي نحو ذلك عن ابن عباس. وقد ثبت في الصحيحين (1) أن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر الصلاة: "لا إله إلا الله،
~~ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله
~~مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". وهذا قد ذكره في أوائل هذه السورة،
~~فقال تعالى: (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) إلى
~~قوله (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (14)) (2) .
# وفي السنن نوعان من الدعاء يقال في كل منهما لمن دعا به أنه دعا الله
~~باسمه الأعظم، أحدهما (3) : "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله
~~المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام". والآخر (4) : "اللهم
~~إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم PageV03P286
# يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". والأول سؤال بأنه المحمود، والثاني
~~سؤال بأنه الأحد، فذاك سؤال بكونه محمودا، وهذا سؤال بوحدانيته المقتضية
~~توحيدا، وهو في نفسه محمود يستحق الحمد، معبود يستحق العبادة.
# والنصف الأول من الفاتحة الذي هو نصف الرب، أوله تحميد وآخره تعبيد، وقد
~~بسط مثل هذا في مواضع، وبين أن التحميد والتوحيد مقرونان، ولابد منهما في
~~كل خطبة، فكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم، وكل خطبة ليس
~~فيها تشهد فهي كاليد الجذماء. والحمد مقرون بالتسبيح، ولا إله إلا الله
~~مقرون بالتكبير، كذاك تحميده وهذا توحيده. قال تعالى: (فادعوه مخلصين له
~~الدين الحمد لله رب العالمين (65)) (1) ، ففي أحدهما إثبات المحامد له،
~~وذلك يتضمن جميع صفات الكمال ومنع النقائص، وفي الآخر إثبات وحدانيته في
~~ذلك، وأنه ليس له كفو ms0521 في ذلك.
# وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذين الأصلين يجمعان جميع أنواع التنزيه،
~~فإثبات المحامد المتضمنة لصفات الكمال تستلزم نفي النقص، وإثبات وحدانيته
~~وأنه ليس له كفو في ذلك يقتضي أنه لا مثل له في شيء من صفات الكمال، فهو
~~منزه عن النقائص ومنزه أن يماثله شي بلا في صفات الكمال، كما دل على هذين
~~الأصلين قوله تعالى: (قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد
~~(3) ولم يكن له كفوا أحد (4)) (2) . PageV03P287
# واسمه "الله" تضمن جميع المحامد، فإنه يتضمن الإلهية المستلزمة لذلك،
~~فإذا قيل "لا إله إلا الله" تضمنت هذه الكلمة إثبات جميع المحامد، وأنه ليس
~~له فيها نظير، إذ هو إله لا إله إلا هو. والشرك كله إثبات نظير لله عز وجل،
~~ولهذا يسبح نفسه ويعاليها عن الشرك في مثل قوله (ما اتخذ الله من ولد وما
~~كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله
~~عما يصفون (91) عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون (92)) (1) . وقال
~~تعالى: (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21) لو كان فيهما آلهة إلا
~~الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22)) (2) . فان الشرك قول هو
~~وصف، وعمل هو قصد، فنزه نفسه عما يصفون بالقول والاعتقاد وعن أن يعبد معه
~~غيره.
# وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، أولها: (الله لا إله إلا هو الحي
~~القيوم) (3) . فقوله "الله" هو اسمه المتضمن لجميع المحامد وصفات الكمال،
~~وقوله "لا إله إلا هو" نفي للنظراء والأمثال. وكذلك أول الكلمات العشر التي
~~في التوراة: "يا إسرائيل! أنا الله لا إله إلا أنا"، جمع بين الإثبات ونفي
~~الشريك، فالإثبات لرد التعطيل، والتوحيد لنفي الشرك.
# وهكذا التحميد والتوحيد، فالتحميد متضمن إثبات ما يستحقه من المحامد
~~المتضمنة لصفات الكمال، وهو رد للتعطيل، والتوحيد رد للشرك، والتحميد يتضمن
~~إثبات أسمائه الحسنى، وكلها محامد له، وهو يتضمن ذكر آياته وآلائه، فإنه
~~محمود على آلائه كلها، وآياته PageV03P288
# كلها من آلائه، كما قد بسط في مواضع. فهو ms0522 محمود على كل ما خلق، له الحمد
~~ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد ذلك، فله
~~الحمد حمدا يملأ جميع ما خلقه، ويملأ ما شاء خاصة بعد ذلك، إذ كان كل مخلوق
~~هو محمود عليه، بل هو مسبح بحمده، كما قال تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح
~~بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا (44)) (1) .
# والتوحيد يقتضي نفي كل ند ومثل ونظير، وهو كمال التحميد وتحقيقه ذاك
~~إثباته بغاية الكمال ونفي النقص، وهذا نفي أن يكون له مثل أو ند.
# وقوله (وسبح بحمد ربك) قد فسرها كثير من المفسرين أي فصل بحمد ربك
~~والثناء عليه، لم يذكر ابن الجوزي غير هذا القول، قال (2) : وسبح بحمد ربك
~~أي صل له بالحمد والثناء عليه. وتفسير التسبيح بالصلاة فيها أحاديث صحيحة
~~وآثار كثيرة، مثل حديث جرير المتقدم.
# وأما قوله (بحمد ربك) فقد فسروه كما تقدم، أي بحمد ربك وشكر ربك وطاعة
~~ربك وعبادة ربك، أي بذكرك ربك وشكرك ربك وطاعتك ربك وعبادتك ربك، ولا ريب
~~أن حمد الرب والثناء عليه ركن في الصلاة، فإنها لا تتم إلا بالفاتحة التي
~~نصفها الأول حمد لله وثناء عليه وتحميد له، وقد شرع قبل ذلك الاستفتاح،
~~وشرع الحمد عند الرفع من الركوع، وهو متضمن لحمد الله تعالى. PageV03P289
# وذكر طائفة من المفسرين كالثعلبي وغيره قولين، قالوا -واللفظ للبغوي (1)
~~-: "وسبح بحمد ربك" أي صل بأمر ربك، وقيل: صل له بالحمد له والثناء عليه.
~~فهذا القول الأول الذي ذكره البغوي هو مأثور عن أبي مالك أحد التابعين
~~الذين أخذ عنهم السدي التفسير من أصحاب ابن عباس. وروى ابن أبي حاتم (2) عن
~~أسباط عن السدي عن أبي مالك: قوله (بحمد) أي بأمر. وتوجيه هذا أن قوله
~~"بحمده" أي بكونه محمودا، كما قد قيل في قول القائل "سبحان الله وبحمده"،
~~قيل: سبحان الله ومع حمده أسبحه، أو أسبحه بحمدي له، وقيل: سبحان الله
~~وبحمده سبحناه، أي هو المحمود على ذلك، كما تقول: فعلت هذا بحمد ms0523 الله،
~~وصلينا بحمد الله، أي بفضله وإحسانه الذي يستحق الحمد عليه. وهو يرجع إلى
~~الأول، كأنه قال: بحمدنا الله فإنه المستحق لأن نحمده على ذلك.
# وإذا كان ذلك بكونه المحمود على ذلك فهو المحمود على ذلك، حيث كان هو
~~الذي أمر بذلك وشرعه، فإذا سبحنا سبحنا بحمده، كما قال تعالى: (لقد من الله
~~على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) (3) الآية. وقد يكون القائل
~~الذي قال: "فسبح بحمد ربك" أي بأمره أراد المأمور به، أي سبحه بما أمرك أن
~~تسبحه به، فيكون المعنى: سبح التسبيح الذي أمرك ربك به، كالصلاة التي أمرك
~~بها. وقولنا "صليت بأمر الله" و"سبحت بأمر الله" يتناول هذا وهذا، يتناول
~~أنه أمر بذلك ففعلته بأمره لم أبتدعه، وأني فعلت بما أمرني به لم أبتدع.
~~PageV03P290
# فأما هذه الآية (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (1) في يذكر
~~البغوي وابن الجوزي إلا أنه الصلاة كما ذكرنا، وكذلك آية "ق"، قال ابن
~~الجوزي (2) : "وسبح بحمد ربك" أي صل بالثناء على ربك والتنزيه عما يقول
~~المبطلون. فذكر الثناء والتنزيه عما يقول المبطلون تفسيرا للحمد. فأما
~~البغوي (3) فإنه قال: فصل حمدا لله.
# وهو ينقل ما يذكره الثعلبي في تفسيره في مثل هذه المواضع، والثعلبي يذكر
~~ما قاله غيره، سواء قاله ذاكرا أو آثرا، ما يكاد هو ينشئ من عنده عبارة،
~~وهذه عبارة طائفة قالوا: "سبح بحمد ربك" صل حمدا لله، جعل نفس الصلاة حمدا،
~~كما يقال: افعل هذا حمدا لله أي شكرا.
# وهذا بنى على قول من قال: "بحمد ربك" أي بكونه محمودا، ثم جعل المصدر
~~يضاف إلى المفعول.
# و
### | ليس المراد أن الحمد غير التسبيح، بل نفس تسبيح الله هو حمد الله.
# ولفظ التسبيح يراد به جنس الصلاة، وقد يراد به جنس الصلاة، وقد يراد به
~~النافلة خصوصا، فإن الفرض لما كان له اسم يخصه جعل هذا اللفظ للنافلة، كما
~~في الحديث (4) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على راحلته حيث
~~توجهت به راحلته. وكان ms0524 يصلى سبحة الضحى، ومنه ما رواه مسلم في صحيحه (5) عن
~~حفصة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في سبحته قاعدا،
~~حتى كان قبل وفاته PageV03P291
# بعام -وفي رواية: أو اثنين- فكان يصلي في سبحته قاعدا، وكان يقرأ فيها
~~بالسورة فيرتلها، حتى يكون أطول من أطول منها. ومنه أيضا ما أخرجاه في
~~الصحيحين (1) عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~يصلي سبحة الضحى قط، وإني لأسبحها، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم.
# لكن هذا يوجد في كلام الفصحاء، تسمية التطوع سبحة، خصوه بذلك. وأما في
~~كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحتاج إلى نقل عنه.
# ويراد بالتسبيح جنس ذكر الله تعالى، يقال: فلان يسبح، إذا كان يذكر الله.
~~ويدخل في ذلك التهليل والتحميد، ومنه سميت "السباحة" للإصبع التي يشير بها،
~~وإن كان يشير بها في التوحيد. ويراد بالتسبيح قول العبد "سبحان الله"، وهذا
~~أخص به.
# وفي السنن (2) : لما أنزل الله تعالى (فسبح باسم ربك العظيم (74)) قال:
~~"اجعلوها في ركوعكم"، ولما نزل (سبح اسم ربك الأعلى (1)) قال: "اجعلوها في
~~سجودكم". وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلمتان
~~حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله
~~وبحمده، سبحان الله العظيم". وفي الصحيحين (4) عن أبي هريرة عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - قال: "من قال في يوم مئة مرة: سبحان الله وبحمده، حطت عنه
~~خطاياه ولو كأنت مثل زبد البحر". PageV03P292
# وقد قيل: إن الصلاة إنما سميت تسبيحا لاشتمالها على القيام والقراءة،
~~وتسمى ركعة وسجدة لاشتمالها على الركعة والسجدة. لكن فرق بين قوله "سبح اسم
~~ربك الأعلى" و"العظيم" -فهذه قد فسرت بالتسبيح المجرد قول العبد في ركوعه
~~وسجوده: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى- وبين قوله "فسبح بحمد ربك"،
~~فان هذا إذا قيل: إن المراد بحمدك ربك أمر بالتسبيح وبالحمد، كقوله "سبحان
~~الله وبحمده".
# والمصلي إذا ms0525 حمد ربه في القيام، أو في القيام والقعود، وسبح في الركوع
~~والسجود، فقد جمع التسبيح والحمد، فسبح بحمد الله. فالصلاة تسبيح بحمد ربه،
~~كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
# وقد فسر طائفة من السلف قوله (وسبح بحمد ربك حين تقوم (48)) (1) بالتسبيح
~~بالكلام (2) ، وذكروا أنواعا: التسبيح عند افتتاح الصلاة، والتسبيح عند
~~القيام من المجلس، فروى ابن أبي حاتم (3) عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي
~~الأحوص: (وسبح بحمد ربك حين تقوم (48)) قال: إذا أراد أن يقوم الرجل من
~~مجلسه قال: سبحانك اللهم وبحمدك. هكذا رواه وكيع، ورواه أبو نعيم وقبيصة
~~فقالا: يقول سبحان الله وبحمده.
# وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد: "حين تقوم" قال: من كل مجلس.
# وعن طلحة عن عطاء: حين تقوم من كل مجلس، إن كنت أحسنت ازددت خيرا، وإن
~~كان غير ذلك كان هذا كفارة له.
# وقال طائفة: حين تقوم إلى الصلاة، وكذلك قال الضحاك: حين تقوم إلى الصلاة
~~المفروضة، وكذلك قال ابن زيد: إذا قام إلى الصلاة من PageV03P293
# ليلى أو نهار، وفي رواية جويبر عن الضحاك قال: هو قول الرجل إذا استفتح
~~الصلاة "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك".
~~وقال أبو الجوزاء: حين تقوم من منامك من فراشك. وعلى هذا فهو أمر بالصلاة
~~إذا قام من فراشه من قائلة النهار، فهو أمر بصلاة الظهر والعصر.
# و"إدبار النجوم" فسرها طائفة بركعتي الفجر (1) ، وروى ابن عيينة عن ابن
~~أبي نجيح عن مجاهد: "وإدبار النجوم" قال ابن عباس: هو التسبيح أدبار
~~الصلاة.
# قلت: لعل هذا تفسير لقوله (وأدبار السجود (40)) (2) ، فإنه أنسب.
# وقد روي عن طائفة من السلف (3) أن "أدبار السجود" الركعتان بعد المغرب،
~~و"إدبار النجوم" ركعتا الفجر، فإحداهما تشتبه بالأخرى. فقوله (ومن الليل
~~فسبحه وأدبار السجود (40)) ، إذا فسر هذا بالتسبيح دبر الصلاة كان اللفظ
~~دالا على هذا. والسلف الذين فسروها بهذا كأنهم -والله أعلم- أرادوا أن أول
~~ما يكتب في صحيفة النهار ركعتا الفجر، وآخر ما يرفع ركعتا المغرب، فقد روي
~~أنهما ms0526 ترفعان مع عمل النهار.
# قلت: ولفظ التسبيح يتناول هذا كله، منه واجب ومنه مستحب.
# (آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
~~تسليما كثيرا) . PageV03P294
### | مسألة
# في إخوة يوسف هل كانوا أنبياء؟
# PageV03P295
# الذي يدل عليه القران واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء، وليس
~~في القرآن ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا عن أصحابه خبر بأن
~~الله تعالى نبأهم. وإنما احتج من قال إنهم نبئوا بقوله في آيتي البقرة
~~والنساء (والأسباط) (1) ، وفسر الأسباط بأنهم أولاد يعقوب، والصواب أنه ليس
~~المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته، كما يقال فيهم أيضا "بنو إسرائيل"، وكان
~~في ذريته الأنبياء، فالأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل.
# قال أبو سعيد الضرير: أصل السبط شجرة ملتفة كثيرة الأغصان (2) .
# فسموا الأسباط لكثرتهم، فكما أن الأغصان من شجرة واحدة، كذلك الأسباط
~~كانوا من يعقوب. ومثل السبط الحافد، وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم -، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. وقال
~~تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159) وقطعناهم اثنتي
~~عشرة أسباطا أمما) (3) ، فهذا صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل،
~~كل سبط أمة، لا أنهم بنوه الاثنا عشر. بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر
~~عنهم الأولاد أسباطا، فالحال أن السبط هم الجماعة من الناس.
# ومن قال: الأسباط أولاد يعقوب، لم يرد أنهم أولاده لصلبه، بل أراد ذريته،
~~كما يقال: بنو إسرائيل وبنو آدم. فتخصيص الآية ببنيه PageV03P297
# لصلبه غلط، لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى، ومن ادعاه فقط أخطأ خطأ بينا
~~(1) .
# والصواب أيضا أن كونهم أسباطا إنما سموا به من عهد موسى للآية المتقدمة،
~~ومن حينئذ كانت فيهم النبوة، فإنه لا يعرف أنه كان فيهم نبي قبل موسى إلا
~~يوسف. ومما يؤيد هذا أن الله تعالى لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال:
~~(ومن ذريته داود وسليمان) الآيات (2) ، فذكر يوسف ومن معه، ولم يذكر
~~الأسباط، فلو كان إخوة يوسف نبئوا كما نبئ ms0527 يوسف لذكروا معه.
# وأيضا فإن الله يذكر عن الأنبياء من المحامد والثناء ما يناسب النبوة،
~~وإن كان قبل النبوة، كما قال عن موسى: (ولما بلغ أشده) (3) الآية، وقال في
~~يوسف كذلك، وفي الحديث: "أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم،
~~نبي من نبي من نبي" (4) . فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا
~~الكرم، وهو تعالى لما قص قصة يوسف وما فعلوا معه ذكر اعترافهم بالخطيئة
~~وطلبهم الاستغفار من أبيهم، ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة، ولا شيئا
~~من خصائص الأنبياء، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عن ذنبه دون ذنبهم،
~~بل إنما حكى عنهم الاعتراف وطلب الاستغفار. ولا ذكر سبحانه عن أحد من
~~الأنبياء -لا قبل النبوة ولا بعدها- أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة، من
~~عقوق الوالد وقطيعة الرحم وإرقاق المسلم PageV03P298
# وبيعه إلى بلاد الكفر والكذب البين وغير ذلك مما حكاه عنهم، ولم يحك شيئا
~~يناسب الاصطفاء والاختصاص الموجب لنبوتهم، بل الذي حكاه يخالف ذلك، بخلاف
~~ما حكاه عن يوسف.
# ثم إن القرآن يدل على أنه لم يأت أهل مصر نبي قبل موسى سوى يوسف، لآية
~~غافر (1) ، ولو كان من إخوة يوسف نبي لكان قد دعا أهل مصر، وظهرت أخبار
~~نبوته، فلما لم يكن ذلك علم أنه لم يكن منهم نبي. فهذه وجوه متعددة يقوي
~~بعضها بعضا.
# وقد ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر، وهو أيضا، وأوصى بنقله
~~إلى الشام، فنقله موسى.
# والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم حصل من ظن أنهم هم الأسباط، وليس كذلك،
~~إنما الأسباط ذريتهم الذين قطعوا أسباطا من عهد موسى، كل سبط أمة عظيمة.
~~ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال: "ويعقوب وبنيه"، فإنه أوجز
~~وأبين. واختير لفظ "الأسباط" على لفظ "بني إسرائيل" للإشارة إلى أن النبوة
~~إنما حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى. والله أعلم.
~~PageV03P299
### | فتوى
# في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته
# PageV03P301
# الحمد الله رب العالمين.
# ما تقول أئمة ms0528 الدين -رضي الله عنهم أجمعين، وجعلهم عاملين بما علموا،
~~مخلصين مصيبين- في قراءة القرآن بما يخرجه عن استقامته التي أجمع أئمة
~~القراءة عليها، من تمطيط أو ترجيع بالألحان المطربة، أو ملك مجمع على قصره،
~~أو قصر مجمع على مده، أو إظهار ما أجمع على إدغامه، أو إدغام ما أجمع على
~~إظهاره، أو تشديد ما أجمع على تخفيفه، أو تخفيف ما أجمع على تشديده، أو بما
~~يزيل الحرف عن مخرجه أو صفته، وما أشبه ذلك مما يعانيه بعض القراء، هل تجوز
~~تلك القراءة؟ وهل يجوز سماعها أو استماعها؟ فإن لم تجز فهل يلزم سامعها أن
~~ينكر على قارئها؟ فإن لزمه وترك فهل يأثم؟ وإن أنكر على قارئها، ولم يقبل
~~القارئ، فهل يجب عليه شيء أم لا؟ أفتونا مأجورين، رحمكم الله، والحمد لله
~~وحده.
# أجاب شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية:
# الحمد لله.
### | الناس مأمورون أن يقرأوا القرآن على الوجه المشروع،
# كما كان يقرأه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإن القراءة سنة
~~يأخذها الآخر عن الأول.
# وقد تنازع الناس في قراءة الألحان، منهم من كرهها مطلقا بل حرمها، ومنهم
~~من رخص فيها (1) ، وأعدل الأقوال فيها أنها إن كانت موافقة لقراءة السلف
~~كانت مشروعة، وإن كانت من البدع المذمومة PageV03P303
# نهي عنها. والسلف كانوا يحسنون القرآن بأصواتهم من غير أن يتكلفوا أوزان
~~الغناء، مثل ما كان أبو موسى الأشعري يفعل، فقد ثبت في الصحيح عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لقد أوتي هذا مزمازا من مزامير آل داود"
~~(1) . وقال لأبي موسى الأشعري: "مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فجعلت أستمع
~~لقراءتك"، فقال: لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا (2) . أي لحسنته لك
~~تحسينا. وكان عمر يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى، ذكرنا ربنا، فيقرأ
~~أبو موسى وهم يستمعون لقراءته.
# وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زينوا القرآن بأصواتكم" (3) .
~~وقال: "لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى
~~قينته" (4) . وقال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن ms0529" (5) .
# وتفسيره عند الأكثرين كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما هو تحسين الصوت به.
~~وقد فسره ابن عيينة ووكيع وأبو عبيد على الاستغناء به. فإذا حسن الرجل صوته
~~بالقرآن كما كان السلف يفعلونه -مثل أبي موسى الأشعري وغيره- فهذا حسن.
# وأما ما أحدث بعدهم من تكفف القراءة على ألحان. الغناء فهذا PageV03P304
# ينهى عنه عند جمهور العلماء، لأنه بدعة، ولأن ذلك فيه تشبيه القرآن
~~بالغناء، ولأن ذلك يورث أن يبقى قلب القارئ مصروفا إلى وزن اللفظ بميزان
~~الغناء، لا يتدبره ولا يعقله، وأن يبقى المستمعون يصغون إليه لأجل الصوت
~~الملحن كما يصغى إلى الغناء، لا لأجل استماع القرآن وفهمه وتدبره والانتفاع
~~به. والله سبحانه أعلم.
# PageV03P305
### | رسالة في قوله - صلى الله عليه وسلم -:
# "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما
# فليأكل من طعامه ولا يسأل عنه"
# PageV03P307
# الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين، وسلم
~~تسليما.
# روى الإمام أحمد في "مسنده" (1) : حدثنا حسين بن محمد، ثنا مسلم -يعني
~~ابن خالد- عن زيد بن أسلم عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال - صلى
~~الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما، فليأكل من
~~طعامه ولا يسأله عنه، وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله
~~عنه".
# هذا حديث رواه مشهورون، ومسلم بن خالد الزنجي وثقه بعض الأئمة وضعفه
~~بعضهم. وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن أبي هريرة، رواه ابن عجلان عن
~~المقبري عن أبي هريرة (2) ، وقد روي موقوفا. وقد رأيت للشيخ أبي عمر بن عبد
~~البر رسالة (3) أملاها حين بلغه -وهو بشاطبة- أن قوما عابوه بأكل طعام
~~السلاطين وقبول جوائزهم:
# قل لمن ينكر أكلي لطعام الأمراء
# أنت من جهلك هذا في محل السفهاء
# لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين وأئمة الدين من المسلمين
~~والسلف الماضين هو ملاك الدين، فقد كان زيد بن ثابت PageV03P309
# -وكان من الراسخين في العلم- يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد، وكان ابن عمر
~~مع ورعه وفضله يقبل هدايا ms0530 صهره المختار بن أبي عبيد، ويأكل طعامه ويأخذ
~~جوائزه، وكان المختار غير مختار.
# وقال عبد الله بن مسعود -وكان قد ملئ علما من قرنه إلى مشاعبه- لرجل سأله
~~فقال: إن لي جارا يعمل الربا، ولا يجتنب في مكسبه الحرام، يدعوني إلى طعامه
~~إذا جئت، فقال: لك المهنأ وعليه المأثم ما لم تعلم الشيء بعينه حراما.
# وسئل عثمان بن عفان عن جوائز السلطان فقال: لحم ظبي ذكي.
# وكان الشعبي -وهو من كبار التابعين وعلمائهم- يؤدب بني عبد الملك بن
~~مروان، ويقبل جوائزه، ويأكل طعامه.
# وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة والحسن البصري -مع زهده وورعه-
~~وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان ابن عثمان والفقهاء
~~السبعة -حاشا سعيد بن المسيب- يقبلون جوائز السلاطين والأمراء. وقبل الحسن
~~والشعبي جائزة ابن هبيرة لما سألهما عن حاله مع عبد الملك. وكان سفيان
~~الثوري مع فضله وورعه يقول: جوائز السلطان أحب إلي من صلات الإخوان، لأن
~~الإخوان يمنون والسلطان لا يمن.
# ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير، وقد جمع الناس فيه أبوابا، ولأحمد بن
~~خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على جمعه ووضعه طعن أهل بلاده
~~عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر إذ نقله إلى المدينة بقرطبة، وأسكنه
~~دارا من دور الجامع قربه، وأجرى عليه الرزق من الطعام والشراب والإدام
~~والناض. وله ولمثله في بيت
# PageV03P310
# المال حظ، والمسئول عن التخليط فيه هو السلطان، كما قال عبد الله ابن
~~مسعود: لك المهنا وعليه المأثم لما لم تعلم الشيء بعينه حراما.
# ومعنى قول ابن مسعود هذا قد اجتمع عليه العلماء ما لم تعلم الشيء بعينه
~~حراما مأخوذا من غير حبه، كالخبزة وشبهها من الطعام والثوب والدائة، وما
~~كان مثل ذلك كله من الأشياء المبيعة غصبا أو سرقة، أو مأخوذة بظلم بين لا
~~شبهة فيه، فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه وسقوط عدالة مستحل الحلة وأخذه
~~وتملكه، وما أعلم أحدا من علماء التابعين تورع عن جوائز السلطان إلا سعيد
~~بن المسيب بالمدينة ms0531 ومحمد بن سيرين بالبصرة، وهما قد ذهبا مثلا بالورع،
~~وسلك سبيلهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشف رحمة الله
~~عليهم أجمعين.
# والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل، ولا يحل لمن وفقه الله تعالى وزهد
~~فيها أن يحرم ما أباح الله منها. والعجب من أهل زماننا يعيبون الشهوات وهم
~~يستحلون المحرمات والمنكرات، ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر عن
~~المحرم يقتل القراد والقملة، فقال للسائلين: من أين أنتم؟ فقالوا: من أهل
~~الكوفة، فقال: تسألوني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي؟!
# وروى عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أتاك
~~من غير مسألة فخذه، وتموله" (1) .
# وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~معناه (2) ، PageV03P311
# وفي حديث أحدهما: "إنما هو رزق رزقه الله"، وفي لفظ بعض الرواة: "فلا ترد
~~على الله رزقه".
# وهذا كله عند أهل العلم مركب مبني على ما أجمعوا عليه، وهو الحق فيمن عرف
~~الشيء المحرم بعينه أنه لا يحل له (1) . والله سبحانه وتعالى أعلم.
# والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليما.
~~PageV03P312
### | جواب سؤال سائل سأل عن
# حرف "لو"
# PageV03P313
# الحمد لله الذي علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأشهد أن لا إله
~~إلا الله وحده لا شريك له الباهر البرهان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
~~المبعوث إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما يرضى به الرحمن.
# سألت -وفقك الله- عن معنى حرف "لو"، وكيف يتخرج قول عمر رضي الله عنه:
~~"نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" (1) على معناها المعروف؟ وذكرت
~~أن الناس يضطربون في ذلك، واقتضبت الجواب اقتضابا أوجب أن أكتب في ذلك ما
~~حضرني الساعة، مع بعد عهدي بما بلغني مما قاله الناس في ذلك، وإني ليس
~~يحضرني الساعة ما أراجعه في ذلك. فأقول، والله الهادي النصير:
# الجواب مرتب على مقدمات:
# إحداها: أن حرف "لو" المسئول عنها من أدوات الشرط، وأن ms0532 الشرط يقتضي
~~جملتين إحداهما شرط والأخرى جزاء وجواب، وربما سمي المجموع شرطا، وسمي أيضا
~~جزاء. ويقال لهذه الأدوات أدوات الشرط وأدوات الجزاء، والعلم بهذا كله
~~ضروري لمن كان له عقل وعلم بلغة العرب، والاستعمال على ذلك أكثر من أن
~~يحصر، PageV03P315
# كقوله تعالى: (ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم
~~وأقوم) (1) ، (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
~~الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)) (2) ، (ولو علم الله فيهم خيرا
~~لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا) (3) ، (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (4) ،
~~(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) (5) ، (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي
~~وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) (6) .
# الثانية: أن هذا الذي تسميه النحاة شرطا هو في المعنى سبب لوجود الجزاء،
~~وهو الذي تسميه الفقهاء علة ومقتضيا وموجبا ونحو ذلك، فالشرط اللفظي سبب
~~معنوي. فتفطن لهذا، فإنه موضع غلط فيه كثير ممن يتكلم في الأصول والفقه،
~~وذلك أن الشرط في عرف الفقهاء ومن يجري مجراهم من أهل الكلام والأصول
~~وغيرهم هو ما يتوقف تأثير السبب عليه بعد وجود المسبب، وعلامته أنه يلزم من
~~عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط.
# ثم هو منقسم إلى ما عرف كونه شرطا بالشرع، كقولهم: الطهارة والاستقبال
~~واللباس شرط لصحة الصلاة، والعقل والبلوغ شرط لوجوب الصلاة، فإن وجوب
~~الصلاة على العبد يتوقف على العقل والبلوغ، كما تتوقف صحة الصلاة على
~~الطهارة والستارة واستقبال PageV03P316
# القبلة، وإن كانت الطهارة والستارة أمورا خارجة عن حقيقة الصلاة. ولهذا
~~يفرقون بين الشرط والركن بأن الركن جزء من حقيقة العبادة أو العقد، كالركوع
~~والسجود، وكالإيجاب والقبول؛ وبأن الشرط خارج عنه، فإن الطهارة يلزم من
~~عدمها عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجود الصلاة.
# وتختلف الشروط في الأحكام باختلافها، كما يقولون في باب الجمعة، منها ما
~~هو شرط للوجوب بنفسه، ومنها ما هو شرط للوجوب بغيره، ومنها ما هو شرط
~~للإجزاء دون الصحة، ومنها ما هو شرط للصحة. وكلام الفقهاء في الشروط كثير
~~جدا، لكن الفرق ms0533 بين السبب والشرط وعدم المانع إنما يتم على قول من يجوز
~~تخصيص العلة منهم، وأما من لا يسمي علة إلا ما استلزم من الحكم ولزم من
~~وجودها وجوده على كل حال، فهؤلاء يجعلون الشرط وعدم المانع من جملة أجزاء
~~العلة.
# وإلى (1) ما يعرف كونه شرطا بالعقل وإن دل عليه دلائل أخرى، كقولهم:
~~الحياة شرط في العلم والإرادة والسمع والبصر والكلام، والعلم شرط في
~~الإرادة، ونحو ذلك، وكذلك جميع صفات الأجسام وطباعها لها شروط تعرف بالعقل
~~أو بالتجارب أو بغير ذلك. وقد تسمى هذه شروطا عقلية، والأول شروطا شرعية.
# وقد يكون من هذه الشروط ما يعرف اشتراطه بالعرف، ومنه ما يعرف باللغة،
~~كما يعرف أن شرط المفعول وجود فاعل، وإن لم PageV03P317
# يكن شرط الفاعل وجود مفعول، فيلزم من وجود المفعول المنصوب وجود فاعل،
~~ولا ينعكس. بل يلزم من وجود اسم منصوب أو مخفوض وجود مرفوع، ولا يلزم من
~~وجود المرفوع لا منصوب ولا مخفوض، إذ الاسم المرفوع -مظهرا أو مضمرا- لابد
~~منه في كل كلام عربي، سواء كانت الجملة اسمية أو فعلية.
# فقد تبين أن لفظ الشرط في هذا الاصطلاح يدل عدمه. على عدم المشروط ما لم
~~يخلفه شرط آخر، ولا يدل ثبوته من حيث هو شرط على ثبوت المشروط.
# وأما الشرط في الاصطلاح الذي يتكلم به في باب أدوات الشرط اللفظية -سواء
~~كان المتكلم [نحويا] أو فقيها وما يتبعه من متكلم وأصولي ونحو ذلك- فان
~~وجود الشرط يقتضي وجود المشروط الذي هو الجزاء والجواب، و
### | عدم الشرط هل يدل على عدم المشروط؟
# مبني على أن عدم العلة هل يقتضي عدم المعلول؟ فيه خلاف وتفصيل قد أومئ
~~إليه.
# الخوف (1) لو فرض عدمه لكان مع هذا العدم لا يعصي الله، لأن ترك المعصية
~~له قد يكون لخوف الله، وقد يكون لأمر آخر: إما لنزاهة الطبع أو إجلال الله
~~أو الحياء منه أو لعدم المقتضي إليها، كما كان يقال عن سليمان التيمي: إنه
~~كان لا يحسن أن يعصي الله. فقد أخبرنا عنه أن ms0534 عدم خوفه لو فرض موجودا لكان
~~مستلزما لعدم معصية الله، لأن هذا العدم يضاف إلى أمور أخرى: إما عدم مقتض
~~أو وجود مانع، مع أن هذا الخوف حاصل. PageV03P318
# وهذا المعنى يفهمه من الكلام كل أحد صحيح الفطرة، لكن لما وقع في بعض
~~القواعد اللفظية والعقلية نوع توسع -إما في التعبير وإما في الفهم- اقتضى
~~ذلك خللا إذا بنى على تلك القواعد المحتاجة إلى تتميم، فإذا كان للإنسان
~~فهم صحيح رد الأشياء إلى أصولها، وقرر النظر على معقولها، وبين حكم تلك
~~القواعد وما وقع فيها من تجوز أو توسع، فإن الإحاطة في الحدود والضوابط غير
~~تحرير (1) .
# ومنشأ الإشكال أخذ كلام بعض النحاة مسلما أن المنفي بعد "لو" مثبت،
~~والمثبت بعدها منفي، أو أن جواب "لو" منتف أبدا، وجواب "لولا" ثابت أبدا،
~~وأن "لو" حرف يمتنع به الشيء لامتناع غيره، و"لولا" حرف يدل على امتناع
~~الشيء لوجود غيره مطلقا. فإن هذه العبارات إذا قرن بها "غالبا" كان الأمر
~~قريبا، وأما أن يدعى أن هذا مقتضى الحرف دائما فليس كذلك، بل الأمر كما
~~ذكرناه من أن "لو" حرف شرط تدل على انتفاء الشرط، فإن كان الشرط ثبوتيا فهي
~~"لو" محضة، وإن كان الشرط عدميا مثل "لولا" و"لو لم" دلت على انتفاء هذا
~~العدم بثبوت نقيضه، فيقتضي أن هذا الشرط العدمي مستلزم لجزائه، إن وجودا
~~وإن عدما، وأن العدم منتف. وإذا كان عدم شيء سببا في أمر فقد يكون وجوده
~~سببا في عدمه، وقد يكون وجوده أيضا سببا في وجوده، بأن يكون الشيء لازما
~~لوجود الملزوم ولعدمه، والحكم ثابت مع العلة المعينة، ومع انتفائها لوجود
~~علة أخرى.
# وإذا عرفت أن مفهومها اللازم لها إنما هو انتفاء الشرط، وأن PageV03P319
# فهم نفي الجزاء منها ليس أمرا لازما، وإنما يفهم باللزوم العقلي أو
~~العادة الغالبة، وعطفت على ما ذكرته من المقدمات زال الإشكال بالكلية.
# وكان يمكننا أن نقول: إن حرف "لو" دالة على انتفاء الجزاء، وقد تدل
~~أحيانا على ثبوته: إما بالمجاز المقرون بقرينة أو ms0535 بالاشتراك، لكن جعل اللفظ
~~حقيقة في القدر المشترك أقرب إلى القياس. مع أن هذا إن قاله قائل كان سائغا
~~في الجملة، فإن الناس ما زالوا يختلفون في كثير من معاني الحروف: هل هي
~~مقولة بالاشتراك أو بالتواطؤ أو بالحقيقة والمجاز، وإنما الذي يجب أن نعتقد
~~بطلانه ظن ظان ظن أن لا معنى ل "لو" إلا عدم الجزاء والشرط، فإن هذا ليس
~~بمستقيم البتة. والله سبحانه أعلم.
# PageV03P320
### | فصل
# في مؤاخذة ابن حزم في الإجماع
# PageV03P321
# هذا فصل فيما ذكره الحافظ تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية في الكلام
~~على الإجماعات، ومن جملتها الكلام على ما ذكره الشيخ الإمام أبو محمد ابن
~~حزم.
# قال أبو محمد ابن حزم في كتابه المصنف في مسائل الإجماع: أما بعد، فإن
~~الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية، يرجع إليه ويفزع نحوه ويكفر من
~~خالفه إذا قامت عليه الحجة بأنه إجماع. وإنا أملنا بعون الله أن نجمع
~~المسائل التي صح فيها الإجماع، ونفردها من سائر المسائل التي وقع فيها
~~الخلاف بين العلماء.
# إلى أن قال: وقد أدخل قوم في الإجماع ما ليس فيه، فقوم عدوا قول الأكثر
~~إجماعا، وقوم عدوا مالا يعرفون فيه خلافا، وإن لم يقطعوا على أنه لا خلاف
~~فيه، فحكموا على أنه إجماع، وقوم عدوا قول الصاحب المشهور المنتشر إذا لم
~~يعلموا له من الصحابة مخالفا إجماعا، وقوم عدوا اتفاق العصر الثاني على أحد
~~القولين أو أكثر كانت للعصر الأول قبله إجماعا.
# قال: وكل هذه الآراء فاسدة. ويكفي من فسادها أنهم يتركون في كثير من
~~مسائلهم ما ذكروا أنه إجماع. وإنما نحوا في تسمية ما وصفنا إجماعا عنادا
~~منهم وشغبا عند اضطرار الحجة والبراهين لهم إلى ترك اختياراتهم الفاسدة.
# قال: وأيضا فإنهم لا يكفرون من خالفهم في هذه المعاني، ومن شرط الإجماع
~~الصحيح أن يكفر من خالفه بلا اختلاف من أحد من المسلمين في ذلك، فلو كان ما
~~ذكروه إجماعا لكفر مخالفوهم، بل
# PageV03P323
# لكفروهم لأنهم يخالفونها كثيرا.
# قلت: أهل العلم والدين لا يعاندون، ولكن ms0536 قد يعتقد أحدهم إجماعا ما ليس
~~بإجماع، لكون الخلاف لم يبلغه، وقد يكون هناك إجماع لم يعلمه. فهم في
~~الاستدلال بذلك كما هم في الاستدلال بالنصوص، تارة يكون هناك نص لم يبلغ
~~أحدهم، وتارة يعتقد أحدهم وجود نص ويكون ضعيفا أو منسوخا.
# وأيضا فما وصفهم هو به قد اتصف هو به، فإنه يترك في بعض مسائله ما قد ذكر
~~في هذا الكتاب أنه إجماع.
# وكذلك ما ألزمهم إياه من تكفير المخالف غير لازم، فإن كثيرا من العلماء
~~لا يكفرون مخالف الإجماع، وقوله "إن مخالف الإجماع يكفر بلا اختلاف من أحد
~~من المسلمين" هو من هذا الباب. فلعله لم يبلغه الخلاف في ذلك، مع أن الخلاف
~~في ذلك مشهور مذكور في كتب متعددة. والنظام نفسه المخالف في كون الإجماع
~~حجة لا يكفره ابن حزم والناس أيضا. فمن كفر مخالف الإجماع إنما يكفره إذا
~~بلغه الإجماع المعلوم، وكثير من الإجماعات لم تبلغ كثيرا من الناس. وكثير
~~من موارد النزاع بين المتأخرين يدعي أحدهما الإجماع في ذلك، إما أنه ظني
~~ليس بقطعي، وإما أنه لم يبلغ الآخر، وإما لاعتقاده انتفاء شروط الإجماع.
# وأيضا فقد تنازع الناس في كثير من الأنواع هل هي إجماع يحتج به؟ كالإجماع
~~الإقراري، وإجماع الخلفاء الأربعة، وإجماع العصر الثاني على أحد القولين
~~للعصر الأول، والإجماع الذي خالف فيه بعض أهله قبل انقراض عصرهم، فإنه مبني
~~على انقراض العصر، بل
# PageV03P324
# هو شرط في الإجماع، وغير ذلك. فتنازعهم في بعض الأنواع هل هو من الإجماع
~~الذي يجب اتباعهم فيه، كتنازعهم في بعض أنواع الخطاب هل هو مما يحتج به،
~~كالعموم المخصوص ودليل الخطاب والقياس وغير ذلك. فهذا ونحوه مما يتبين به
~~بعض أعذار العلماء.
# قال أبو محمد ابن حزم: وقوم قالوا: الإجماع هو إجماع الصحابة فقط، وقال
~~قوم: إجماع كل عصر إجماع صحيح إذا لم يتقدم قبله في تلك المسألة خلاف. وهذا
~~هو الصحيح لإجماع العلماء عند التفصيل عليه، واحتجاجهم به، وترك ما أصلوه
~~له.
# إلى أن قال: وصفة الإجماع ما ms0537 تيقن أنه لا خلاف فيه بين أحد من علماء
~~الإسلام، ونعلم ذلك من حيث علمنا الأخبار التي لا يتخالج فيها شك، مثل أن
~~المسلمين خرجوا من الحجاز إلى اليمن، ففتحوا العراق وخراسان ومصر والشام،
~~وأن بني أمية ملكوا دهرا، ثم ملك بنو العباس، وأنه كانت وقعة صفين والحرة،
~~وسائر ذلك مما يعلم بيقين وضرورة.
# وقال: إنما ندخل في هذا الكتاب الإجماع التام الذي لا مخالف فيه البتة،
~~الذي يعلم كما يعلم أن صلاة الصبح في الأمن والخوف ركعتان، وأن شهر رمضان
~~هو الذي بين شوال وشعبان، وأن هذا الذي في المصاحف هو الذي أتى به محمد صلى
~~الله تعالى عليه وسلم وأخبر أنه وحي من الله إليه، وأن في خمس من الإبل
~~شاة، ونحو ذلك. وهي ضرورة تقع في نفس الباحث عن الخبر المشرف على وجوه
~~نقله، إذا تتبعها المرء في نفسه في كل ما جربه من أحوال دنياه وجده ثابتا
~~مستقرا في نفسه.
# PageV03P325
# وقال أيضا في آخر كتابه -كتاب الإجماع هذا-: كل ما كتبنا فهو يقين لاشك
~~فيه، متيقن لا يحل لأحد خلافه البتة.
# قلت: فقد اشترط في الإجماع ما يشترطه كثير من أهل الكلام والفقه كما
~~تقدم، وهو العلم بنفي الخلاف، وأن يكون العلم بالإجماع متواترا. وجعل العلم
~~بالإجماع من العلوم الضرورية كالعلم بعلوم الأخبار المتواترة عند الأكثرين.
~~ومعلوم أن كثيرا من الإجماعات التي حكاها ليست قريبا من هذا الوصف، فضلا عن
~~أن تكون منه، فكيف وفيها ما فيه خلاف معروف، وفيها ما هو نفسه ينكر الإجماع
~~فيه ويختار خلافه من غير ظهور مخالف!
# وقد قال: إنما نعني بقولنا "العلماء" من حفظ عنه الفتيا.
# وقال: وأجمعوا أنه لا يجوز التوضؤ بشيء من المائعات وغيرها حاشا الماء
~~والنبيذ.
# قلت: وقد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى -وهو من أجل من يحكي ابن حزم قوله-
~~أنه يجزئ الوضوء بالمعتصر كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصم، لكن
~~الأصم ليس ممن يعده ابن حزم في الإجماع.
# وقال: وأما الماء الجاري ms0538 فاتفقوا على جواز استعماله ما لم تظهر فيه
~~نجاسة.
# قلت: الشافعي في الجديد من قوليه وأحد القولين في مذهب أحمد أن الجاري
~~كالراكد في اعتبار القلتين، فينجس ما دون القلتين بوقوع النجاسة فيه وإن لم
~~تظهر فيه.
# PageV03P326
# وقال: واتفقوا على أن غسل الذراعين إلى منتهى المرفقين فرض في الوضوء.
# قلت: وزفر يخالف في وجوب غسل المرفقين. وحكي ذلك عن داود وبعض المالكية،
~~اللهم إلا أن يعني بمنتهى المرفقين منتهاهما من جهة الكف.
# قال: واتفقوا على أن الاستنجاء بالحجارة وبكل طاهر ما لم يكن طعاما أو
~~رجيعا أو نجسا أو جلدا أو عظما أو فحما أو حممة جائز. قلت: في جواز
~~الاستجمار بغير الأحجار قولان معروفان هما روايتان عن أحمد، إحداهما لا
~~يجزئ إلا بالحجر، وهي اختيار أبي بكر ابن المنذر وأبي بكر عبد العزيز.
# قال: واتفقوا على أن كل إناء لم يكن فضة ولا ذهبا ولا صفرا ولا رصاصا ولا
~~نحاسا ولا مغصوبا ولا إناء كتابي ولا جلد ميتة ولا جلد مالا يؤكل لحمه وإن
~~ذكي، فإن الوضوء منه والأكل والشرب جائز كل ذلك.
# قلت: الآنية الثمينة التي تكون أغلى من الذهب والفضة كالياقوت ونحوه،
~~فيها قولان للشافعي، وفي مذهب مالك قولان.
# قال: وأجمعوا أن الحائض وإن رأت الطهر ما لم تغسل فرجها أو تتوضأ فوطؤها
~~حرام.
# قلت: أبو حنيفة يقول: إذا انقطع دمها لأكثر الحيض أو مر عليها وقت صلاة
~~جاز وطؤها، وإن لم تغتسل ولم تتوضأ ولم تغسل فرجها.
# قال: واتفقوا أن الصلاة لا تسقط ولا يحل تأخيرها عمدا عن
# PageV03P327
# وقتها عن العاقل البالغ بعذر أصلا، وأنها تؤدى على قدر طاقة المرء من
~~جلوس واضطجاع، بإيماء وكيف أمكنه.
# قلت: النزاع معروف في صور، منها حال المسايفة، فأبو حنيفة يوجب التأخير،
~~وأحمد في إحدى الروايتين يجوزه. ومنها المحبوس في مصر. ومنها عادم الماء
~~والتراب، فمذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك أنه لا يصلي، رواه معن
~~عن مالك، وهو قول أصبغ، وحكي ذلك قولا للشافعي ورواية عن أحمد ms0539. وهؤلاء في
~~الإعادة لهم قولان هما روايتان في مذهب مالك وأحمد، والقضاء قول أبي حنيفة.
# قال: واتفقوا على أن المرأة لا تؤم الرجال وهم يعلمون أنها امرأة، فإن
~~فعلوا فصلاتهم فاسدة لا بالإجماع. قال: وروي عن أشهب أن من ائتم بامرأة وهو
~~لا يدري حتى خرج الوقت ثم علم، فصلاته تامة، وكذا من ائتم بكافر وهو لا
~~يعلم أنه كافر.
# قلت: ائتمام الرجال الأميين بالمرأة القارئة في قيام رمضان يجوز في
~~المشهور عن أحمد، وفي سائر التطوع روايتان.
# قال: واتفقوا على أن وضع الرأس في الأرض والرجلين في السجود فرض.
# قلت: المنقول عن أبي حنيفة أنه لا يجب السجود إلا على الوجه، وهو قول
~~الشافعي ورواية عن أحمد. ويقتضي هذا أنه لو سجد على يديه ووجهه وركبتيه
~~أجزأه.
# قال: واتفقوا على أن الفكرة في أمور الدنيا لا تفسد الصلاة.
# PageV03P328
# قلت: إذا كانت هي الأغلب ففيها نزاع معروف، والبطلان اختيار أبي عبد الله
~~بن حامد وأبي حامد الغزالي.
# قال: واتفقوا على جواز الصلاة في كل مكان، ما لم يكن جوف الكعبة أو الحجر
~~أو ظهر الكعبة أو معاطن الإبل، أو مكانا فيه نجاسة، أو حماما أو مقبرة أو
~~إلى قبر أو عليه، أو مكانا مغصوبا يقدر على مفارقته، أو مكانا يستهزأ فيه
~~بالإسلام، أو مسجد الضرار، أو بلاد ثمود لمن لم يدخلها باكيا.
# قلت: الصلاة في المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق لا تصح في المشهور عند
~~كثير من أصحاب أحمد بل أكثرهم. والصلاة في الحش كذلك عند جمهورهم، وإن صلى
~~في مكان طاهر منه.
# قال: واتفقوا أن صلاة العيدين وكسوف الشمس وقيام ليالي رمضان ليست فرضا،
~~وكذلك التهجد على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -.
# قلت: العيدان فرض على الكفاية في ظاهر مذهب أحمد، وحكي عن أبي حنيفة
~~أنهما واجبان على الأعيان. وعن عبيدة السلماني أن قيام الليل واجب كحلب
~~شاة، وهو قول في مذهب أحمد.
# قال: واتفقوا أن كل صلاة ما عدا الصلوات الخمس وعلى الجنائز والوتر وما
~~نذره المرء ليست ms0540 فرضا.
# قلت: في وجوب ركعتي الطواف نزاع معروف، وقد ذكر في وجوب المعادة مع إمام
~~الحي وركعتي الفجر والكسوف.
# قال: واتفقوا أن من أسقط الجلسة الوسطى من صلاة الظهر والعصر والمغرب
~~والعتمة ساهيا، أن عليه سجدتي السهو.
# PageV03P329
# قلت: الشافعي لا يوجب سجود السهو.
# قال: واتفقوا أن في كل مائتي درهم خمسة دراهم، ما لم يكن حلي امرأة أو
~~حلية سيف أو منطقة أو مصحفا أو خاتما.
# قلت: النزاع في كل حلي مباح أو حلي الخوذة والران، وحمائل السيف كالمنطقة
~~في مذهب أحمد وغيره. والذهب اليسير المتصل بالثوب كالطراز الذي لا يتجاوز
~~أربعة أصابع مباح في إحدى الروايتين عنه، وحلية السلاح كله كحلية السيف في
~~إحدى الروايتين عنه.
# وللعلماء نزاع في غير ذلك من الحلية.
# قال: واتفقوا على أن وقت الوقوف ليس قبل الظهر في التاسع من ذي الحجة.
# قلت: أحد القولين -بل أشهرهما- في مذهب أحمد أنه يجزئ الوقوف قبل الزوال
~~وإن أفاض قبل الزوال، لكن عليه دم، كما لو أفاض قبل الغروب.
# وقال بعد أن ذكر من محظورات الإحرام اللباس والطيب والتغطية: واتفقوا أنه
~~من فعل من كل ما ذكرنا أنه يجتنبه في إحرامه شيئا عامدا أو ناسيا أنه لا
~~يبطل حجه ولا إحرامه. واتفقوا أن من جادل في الحج فإن حجه لا يبطل ولا
~~إحرامه. واختلفوا فيمن قتل صيدا متعمدا، فقال مجاهد: بطل حجه وعليه الهدي.
# قلت: وقد اختار في كتابه (1) ضد هذا، وأنكر على من ادعى هذا الإجماع الذي
~~حكاه هنا، فقال: الجدال بالباطل وفي الباطل عمدا PageV03P330
# ذاكرا لإحرامه مبطل لإحرامه والحج، بقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا
~~جدال في الحج) (1) . وقال: كل نسوق تعمده المحرم ذاكرا فقد أبطل إحرامه
~~وحجه وعمرته، لقوله تعالى:: (فلا رفث ولا فسوق) .
# قال: ومن عجائب الدنيا أن الآية وردت كما تلونا، فأبطلوا الحج بالرفث ولم
~~يبطلوه بالفسوق. وقال: كل من تعمد معصية أي معصية كانت، وهو ذاكر لحجه منذ
~~يحرم إلى أن يتم طوافه بالبيت للإفاضة ورمي جمرة العقبة، فقد ms0541 بطل حجه. قال:
~~وأعجب شيء دعواهم الإجماع على هذا.
# قلت: الإجماع فيه أظهر منه في كثير مما ذكره في كتابه.
# قال: واتفقوا أن كل صدقة واجبة في الحج أو إطعام، أنه إن أداه بمكة
~~أجزأه، واختلفوا فيمن أدى ذلك في غير مكة، حاشا جزاء الصيد، فإنهم اتفقوا
~~أنه لا يجزئ إلا بمكة.
# قلت: مذهب أبي حنيفة ومالك أنه يجزئ الإطعام في جزاء الصيد في غير مكة.
~~وكذلك عندهما تفرقة اللحم تجزئ في غير الحرم، وإنما الواجب في الحرم عندهما
~~إراقة الدم، بخلاف الشافعي وأحمد ومن وافقهما، فإنهم أوجبوا ذبحه في الحرم،
~~وأوجبوا تفرقته في الحرم. وكذلك الصدقة تقوم مقام ذلك.
# قال: واتفقوا أن من يوم النحر -وهو العاشر من ذي الحجة- إلى انسلاخ ذي
~~الحجة وقت لطواف الإفاضة ولما بقي من سنن الحج. قلت: إن أخره عن أيام منى
~~جاز في مذهب الشافعي وأحمد PageV03P331
# والليث والأوزاعي وأبي يوسف وغيرهم، وهكذا نقل عن مالك.
# وقال أبو حنيفة وزفر والثوري في رواية: إن أخره إلى ثالث أيام التشريق
~~لزمه دم -وهو قول مخرج في مذهب أحمد- وإن أخره إلى المحرم فلا شيء عليه إلا
~~عند مالك، فإنه عليه دم. ولفظ المدونة: إذا جاوز أيام منى وتطاول ذلك لزمه،
~~ولم يوقت فيه. وأما رمي الجمار فلا يجوز بعد أيام التشريق، لا نزاع نعلمه،
~~بل على من تركها دم، ولا يجزئ رميها بعد ذلك.
# قال: واتفقوا على أن إيجاب الهدي فرض على المحصر.
# قلت: قد نقل غير واحد عن مالك أنه لا يجب الهدي على المحصر، وهو المشهور
~~من مذهب مالك.
# قال: واتفقوا على أن من حلف لخصمه دون أن يحلفه حاكم أو من حكماه على
~~أنفسهما، أنه لا يبرأ بتلك اليمين من الطلب.
# قلت: قد نص أحمد على أنه إذا رضي بيمين خصمه فحلف له، لم يكن له مطالبته
~~باليمين بعد ذلك.
# قال: وأجمعوا على أن كل من لزمه حق في ماله أو ذمته لأحد، فرض عليه أداء
~~الحق إلى من هو له ms0542 عليه، إذا أمكنه ذلك وبقي له بعد ذلك ما يعيش به أياما
~~هو ومن تلزمه نفقته.
# قلت: مذهب أحمد أنه يترك له من ماله ما تدعو إليه الحاجة من مسكن وخادم
~~وثياب، وكذلك قال إسحاق. وظاهر مذهب أحمد أيضا أنه إذا لم تكن له صنعة يترك
~~له ما يتجر به لقوته وقوت عياله، وإن كان ذا حرفة ترك له آلة حرفته. وقد
~~نقل عنه عبد الله ابنه أنه قال: يباع عليه كل شيء إلا المسكن وما يواريه من
~~ثيابه والخادم، إن كان
# PageV03P332
# شيخا كبيرا أو زمنا وبه حاجة إليه. فلم يستثن ما يكتسب به لقول الأكثرين.
# قال: وأجمعوا أن المملوكة لا يجبر سيدها على إنكاحها، ولا على أن يطأها
~~وإن طلبت هي ذلك، ولا على بيعها من أجل منعه لها الوطء والإنكاح.
# قلت: مذهب أحمد المنصوص المعروف من مذهبه أن الأمة إذا طلبت الإنكاح فإن
~~سيدها يستمتع بها، وإلا لزمه إجابتها، وكذلك إذا كانت ممن لا تحل له، وكذلك
~~مذهبه في العبد. ومذهب الشافعي -إذا كانت ممن لا تحل له فهل يلزمه إجابتها-
~~على وجهين.
# قال: واتفقوا أن التعريض للمرأة وهي في العدة حلال، إذا كانت العدة في
~~غير رجعية أو كانت من وفاة.
# قلت: في المعتدة البائنة بالثلاث أو بما دون الثلاث كالمختلعة ثلاثة أوجه
~~في مذهب أحمد، وقولان للشافعي، أحدها: يجوز التعريض بخطبتها، وهو قول مالك
~~وأحد قولي الشافعي. والثاني: لا يجوز، والثالث: يجوز في المعتدة بالثلاث،
~~لأنها محرمة على زوجها، وكذلك كل محرمة، ولا يجوز في المعتدة بما دون ذلك،
~~لإمكان عودها إليه، وهو أحد قولي الشافعي.
# قال: واتفقوا أن الطلاق إلى أجل أو بصفة واقع إن وافق وقت طلاق، ثم
~~اختلفوا في وقت وقوعه، فمن قائل الآن، ومن قائل هو إلى أجله. واتفقوا أنه
~~إذا كان ذلك الأجل في وقت طلاق أن الطلاق قد وقع.
# قال: واختلفوا في الطلاق إذا خرج مخرج اليمين أيلزم أم لا؟
# PageV03P333
# قال: واتفقوا على أن ألفاظ الطلاق: "طلاق" وما تصرف من ms0543 هجائه مما يفهم
~~معناه، والبائن والبتة والخلية والبرية، وأنه إن نوى بشيء من هذه الألفاظ
~~طلقة واحدة سنية لزمته كما قدمنا.
# قال: ولا نعلم خلافا في أن من طلق ولم يشهد أن الطلاق لازم، ولكنا لسنا
~~نقطع على أنه إجماع.
# قلت: فقد ذكر فيما إذا كان قصده الحلف بالطلاق أيلزم أم لا؟ قولين (1) ،
~~وذكر أن المؤجل والمعلق بصفة -يعني إذا لم يكن في معنى اليمين- أنه يقع
~~بالاتفاق.
# وقد اختار في كتابه الكبير في الفقه "شرح المجلى" (2) خلاف هذا، وأنكر
~~على من ادعى الإجماع في ذلك. وكذلك اختار (3) أن الطلاق بالكناية لا يقع،
~~ولا يقع إلا بلفظ الطلاق. وهذان قول الرافضة، وكذلك قولهم: إن الطلاق لا
~~يقع إلا بالإشهاد. وقد أنكر في كتابه من ادعى إجماعا في هذا وهذا وهذا، كما
~~هو عادته في أمثال ذلك، مع أنه قد ذكر هنا فيه الإجماع الذي اشترط فيه
~~الشروط المتقدمة. ومعلوم أن الإجماع على هذا من أظهر ما يدعى فيه الإجماع،
~~لكن هو في غير موضع يخالف ما هو إجماع عند عامة العلماء، وينكر أنه إجماع،
~~كدعواه وجوب الضجعة بعد ركعتي الفجر، وبطلان صلاة من لم يركعهما (4) ،
~~ودعواه وجوب الدعاء في التشهد PageV03P334
# الأول (1) بقوله "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن
~~فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال" (2) .
# ونحو ذلك مما يعلم فيه الإجماع أظهر مما يعلم في أكثر ما حكاه. بل إذا
~~قال القائل: إن الأمة أجمعت أن الدعاء لا يشرع في التشهد الأول، كان هذا من
~~الإجماعات المقبولة، فضلا عن أن يقول أحد: إن هذا الدعاء واجب فيه، وإن
~~صلاة من لم يدع فيه باطلة. وإنما النزاع في وجوبه في التشهد الذي يسلم فيه،
~~وكان طاووس يأمر من لم يدع بالإعادة، وذكر ذلك وجه في مذهب أحمد.
# قال: واتفقوا أن عدة الحرة المسلمة المطلقة التي ليست حاملا ولا مستريبة،
~~وهي لم تحض أو لا تحيض، إلا أن البلوغ متوهم منها= ثلاثة أشهر متصلة.
# قلت: من بلغت ms0544 من سن المحيض ولم تحض، ففيها عن أحمد روايتان، أشهرهما عند
~~أصحابه أنها تعتد عدة المستريبة تسعة أشهر، ثم ثلاثة أشهر، كالتي ارتفع
~~حيضها لا تدري ما رفعه.
# قال: واتفقوا على أن استقراض ما عدا الحيوان جائز، واختلفوا في جواز
~~استقراض الرقيق والجواري والحيوان.
# قلت: الاتفاق إنما هو في قرض المثليات المكيل والموزون، وأما ما سوى ذلك
~~فأبو حنيفة لا يجوز قرضه، لأن موجب القرض المثل، ولا مثل له عنده، فالنزاع
~~فيه كالنزاع في الحيوان. PageV03P335
# قال: واتفقوا أن الوصية بالمعاصي لا تجوز، وأن الوصية بالبر وبما ليس ببر
~~ولا معصية ولا تضييعا للمال جائزة.
# قلت: الوصية بما ليس ببر ولا معصية، والوقف على ذلك، فيه قولان في مذهب
~~أحمد وغيره، والصحيح أن ذلك لا يصح، فإن الإنسان لا ينتفع ببذل المال بعد
~~الموت إلا أن يصرفه إلى طاعة الله، وإلا فبذله بما ليس بطاعة ولا معصية لا
~~ينفعه بعد الموت، بخلاف صرفه في الحياة في المباحات كالأكل والشرب واللباس،
~~فإنه ينتفع بذلك.
# وقال في الجزية: واتفقوا على أنه إن أعطى -يعني من يقبل منه الجزية عن
~~نفسه وحدها- أربعة مثاقيل ذهب في كل عام، على أن يلتزموا ما ذكره من شروط
~~الذمة، فقد حرم دم من وفى بذلك وماله وأهله وظلمه.
# قلت: للعلماء في الجزية هل هي مقدرة بالشرع أو باجتهاد الإمام أن يزيد
~~على أربعة دنانير؟ [قولان] ، وهذه إحدى الروايتين عن أحمد، وهي مذهب عطاء
~~والثوري ومحمد بن الحسن وأبي عبيد وغيرهم.
# قال: واتفقوا أنه لا ينفل من ساق مغنما أكثر من ربعه في الدخول، ولا أكثر
~~من ثلثه في الخروج.
# قلت: في جواز تنفيل ما زاد على ذلك إذا اشترطه الإمام، مثل أن يقول: من
~~فعل كذا فله نصف ما يغنم، قولان هما روايتان عن أحمد. وأما تنفيل الزيادة
~~بلا شرط فلا أعلم فيه نزاعا، ويمكن أن يحمل كلام أبي محمد ابن حزم على هذا،
~~فلا يكون فيما ذكره نزاع.
# قال: واتفقوا أن الحر البالغ العاقل الذي ليس ms0545 بسكران، إذا أمن
# PageV03P336
# أهل الكتاب الحربيين على أداء الجزية على الشروط التي قدمنا أو على
~~الجلاء، أو أمن سائر الكفار على الجلاء بأنفسهم وعيالهم وذراريهم، وترك
~~بلادهم، واللحاق بأرض حرب أخرى، لا بأرض ذمة ولا بأرض إسلام، أن ذلك لازم
~~لأمير المؤمنين ولجميع المسلمين حيث كانوا.
# قلت: ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه.
~~وهذا هو المشهور عند أصحاب أحمد، وفيه وجه في المذهبين أنها تصح من كل مسلم
~~كما ذكره ابن حزم.
# قال: واتفقوا أن أولاد أهل الجزية ومن تناسل منهم، فإن الحكم الذي عقده
~~أجدادهم -وإن بعدوا- جار على هؤلاء لا يحتاج إلى تجديده مع من حدث منهم.
# قلت: هذا هو قول الجمهور، ولأصحاب الشافعي وجهان: أحدهما يستأنف له
~~العقد، وهذا منصوص الشافعي، والثاني لا يحتاج إلى استئناف عقد، كقول
~~الجمهور.
# قال: واتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع
~~الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، لا في مكانين ولا في مكان واحد.
# قلت: النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة، كأهل الكلام
~~والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم جواز ذلك، وأن عليا كان إماما ومعاوية كان
~~إماما. وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلا منهما ينفذ حكمه في أهل ولايته
~~كما ينفذ حكم الإمام الواحد. وأما جواز العقد لهما ابتداء فهذا لا يفعل مع
~~اتفاق الأمة، وأما مع تفرقتها فلم يعقد كل من الطائفتين لإمامين، ولكن كل
~~طائفة إما أن تسالم
# PageV03P337
# الأخرى، وإما أن تحاربها، والمسالمة خير من محاربة يزيد ضررها على ضرر
~~المسألة. وهذا مما تختلف فيه الآراء والأهواء.
# قال: واتفقوا أنه إذا كان الإمام من ولد علي، وكان عدلا، ولم يتقدم بيعته
~~بيعة أخرى لإنسان حي، وقام عليه من دونه، أن قتال الآخر واجب.
# قلت: ليس للأئمة في هذه بعينها كلام ينقل عنهم، ولا وقع هذا في الإسلام،
~~إلا أن يكون في قصة علي ومعاوية. ومعلوم أن أكثر علماء الصحابة لم يروا
~~القتال مع ms0546 واحد منهما، وهو قول جمهور أهل السنة والحديث، وجمهور أهل
~~المدينة والبصرة، وكثير من أهل الشام ومصر والكوفة وغيرهم من السلف والخلف.
# وقد قال: إنما أدخلنا هذا الاتفاق على جوازه لخلاف الزيدية، هل تجوز
~~إمامة غير علوي أم لا؟ وإن كنا مخطئين لهم في ذلك ومعتقدين صحة بطلان هذا
~~القول، وأن الإمامة لا تتعدى فهر بن مالك، وأنها جائزة في جميع أفخاذهم،
~~ولكن لم يكن بذ في صفة الإجماع الجاري عند الكل مما ذكرنا.
# قلت: قد ذكر هو أنه لا يذكر إلا خلاف أهل الفقه والحديث دون المعتزلة
~~والخوارج والرافضة ونحوهم. فلا معنى لإدخال الزيدية في الخلاف وفتح هذا
~~الباب، فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) نزاعا في ذلك، وأن طائفة ادعت
~~النص على العباس، وطائفة ادعت النص على عمر.
# قال: واتفقوا أن من خالف الإجماع المتيقن بعد علمه بأنه إجماع فإنه كافر.
~~PageV03P338
# قلت: في ذلك نزاع مشهور بين الفقهاء.
# قال: واتفقوا أن السمن إذا وقع فيه فأر أو فأرة، فمات أو ماتت وهو مائع،
~~أنه لا يؤكل.
# قلت: هذا فيه نزاع معروف، فمذهب طائفة أنه يلقى ما قرب منها ويؤكل، سواء
~~كان جامدا أو مائعا. قال البخاري في صحيحه (1) : باب إذا وقعت الفأرة في
~~السمن الجامد أو الذائب. حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري أخبرني
~~عبيد الله بن [عبد الله بن] عتبة أنه سمع ابن عباس يحدث عن ميمونة أن فأرة
~~وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: "ألقوها
~~وما حولها، وكلوه". قيل لسفيان: فإن معمرا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن
~~المسيب عن أبي هريرة، قال: سمعت الزهري يقوله عن عبيد الله عن ابن عباس عن
~~ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعته منه مرارا.
# حدثنا عبدان (2) حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك- عن يونس عن الزهري:
~~عن الدابة تموت في الزيت والسمن وهو جامد أو غير جامد، الفأرة أو غيرها.
~~قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر ms0547 بفأرة ماتت في سمن،
~~فأمر بما قرب فطرح، ثم أكل. عن حديث عبيد الله بن عبد الله. ثم رواه من
~~طريق مالك كما رواه من طريق ابن عيينة.
# وهذا الحديث رواه عن الزهري كما رواه ابن عيينة بسنده ولفظه.
# وأما معمر فاضطرب فيه في سنده ولفظه، فرواه تارة عن ابن المسيب عن أبي
~~هريرة، وقال فيه: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن PageV03P339
# كان مائعا فلا تقربوه". وقيل عنه: "وإن كان مائعا فاستصحبوا به". واضطرب
~~عن معمر فيه.
# وظن طائفة من العلماء أن حديث معمر محفوظ، فعملوا به، وممن ثبته محمد بن
~~يحيى الذهلي فيما جمعه من حديث الزهري.
# وأما البخاري والترمذي وغيرهما فعللوا حديث معمر وبينوا غلطه، والصواب
~~معهم (1) . فذكر البخاري هنا عن ابن عيينة أنه قال: سمعته من الزهري مرارا
~~لا يرويه إلا عن عبيد الله بن عبد الله، وليس في لفظه إلا قوله "ألقوها وما
~~حولها وكلوا"، وكذلك رواه مالك وغيره. وذكر من حديث يونس أن الزهري سئل عن
~~الدابة تموت في السمن الجامد وغير الجامد، فأفتى بأن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح. فهذه فتيا الزهري في
~~الجامد وغير الجامد، فكيف يكون قد روى في هذا الحديث استواء حكم النوعين
~~بالحديث، ورواه بالمعنى فقال: "وأمر أن يطرح وما قرب منها"؟.
# وروى صالح بن أحمد في "مسائله" (2) عن أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل
~~حدثنا عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن فارة ماتت في سمن،
~~قال: تؤخذ الفأرة وما حولها.
# قلت: يا مولاي! فإن أثرها كان في السمن كله، قال: عضضت بهن أبيك! إنما
~~كان أثرها في السمن وهي حية، وإنما ماتت حيث وجدت.
# ثم قال: حدثنا أبي حدثنا وكيع حدثنا عن النضر بن عربي عن عكرمة قال: جاء
~~رجل إلى ابن عباس، فسأله عن جر فيه زيت وقع PageV03P340
# فيه جرو، فقال: خذه وما حوله، فالقه وكله.
# وروي نحو ذلك عن ابن مسعود ms0548 -وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإحدى الروايتين
~~عن مالك- أن الكثير من الطعام والشراب المائع لا ينجسه يسير النجاسة، بل هو
~~كالماء.
# قال أبو محمد: واختلفوا في بيعه والانتفاع به، واختلفوا في المائعات وفي
~~السمن الجامد وفي كل شيء جامد.
# قال: واتفقوا أن من نذر معصية فإنه لا يجوز له الوفاء بها.
# واختلفوا أيلزمه لذلك كفارة أم لا؟ واختلفوا في النذر المطلق الذي ليس
~~معلقا بصفة، وفي النذر الخارج مخرج اليمين، أيلزم أم لا؟ وأفيه كفارة أم
~~لا؟
# قال: واتفقوا أن من نذر مالا طاعة فيه ولا معصية أنه لا شيء عليه.
# قلت: بل النزاع في نذر المباح هل يلزم فيه كفارة إذا تركه كالنزاع في نذر
~~المعصية وأوكد، وظاهر مذهب أحمد لزوم الكفارة في الجميع، وكذلك مذهب أكثر
~~السلف، وهو قول أبي حنيفة وغيره، لكن قيل عنه إذا قصد بالنذر اليمين.
# قال: واتفقوا أن إزالة المرء عن نفسه ظلما -بأن يظلم من لم يظلمه قاصدا
~~إلى ذلك- لا يحل، وذلك مثل أن يحل عدو المسلمين بساحة قوم فيقول؟ أعطوني
~~مال فلان، أو أعطوني فلانا، وهو لا حق له عنده بحكم دين الإسلام. أو قال:
~~أعطوني امرأة أو أمة فلان، أو افعلوا كذا لبعض ما لا يحل في دين الإسلام،
~~فإنه لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لا يجاب إلى ذلك، وإن كان في منعه
~~اصطلام الجميع.
# PageV03P341
# قلت: دعوى الإجماع في مثل هذا الأمر العام الذي يتناول أنواعا كثيرة ليس
~~مستنده نقلا في هذا عن أهل الإجماع، ولكن هو بحسب ما يعتقده الناقل في أن
~~مثل هذا ظلم محرم لا يبيحه عالم. وفي بعض ما يدخل في هذا نزاع وتفصيل. كما
~~لو تترس الكفار بأسرى المسلمين وخيف على جيش المسلمين إن لم يرموا، فإنه
~~يجوز أن يرموا بقصد الكفار، وإن أفضى إلى قتل هؤلاء المعصومين، لأن فساد
~~ذلك دون فساد استيلاء الكفار على جيش المسلمين. وهذا مذهب الفقهاء
~~المشهورين، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم. ولو لو يخش على ms0549 جيش المسلمين
~~ففي جواز الرمي قولان لهم: أحدهما يجوز، كقول أبي حنيفة وبعض أصحاب
~~الشافعي؟ والثاني لا يجوز، كالمعروف من مذهب أحمد والشافعي. وكذلك لو أكره
~~رجل رجلا على إتلاف مال غيره، وإن لم يتلفه قتله، جاز له إتلافه بشرط
~~الضمان. والعدو المحاصر إذا طلب مال شخص، وإن لم يدفعوه اصطلمهم العدو،
~~فإنهم يدفعون ذلك المال، ويضمنونه لصاحبه. وأمثال ذلك كثيرة.
# وقد ذكر -رحمه الله تعالى- إجماعات من هذا الجنس في هذا الكتاب، ولم يكن
~~قصدنا تتبع ما ذكره من الإجماعات التي عرف انتقاضها، فإن هذا يزيد على ما
~~ذكرناه. مع أن أكثر ما ذكره من الإجماع هو كما حكاه لا نعلم فيه نزاعا،
~~وإنما المقصود أنه مع كثرة اطلاعه على أقوال العلماء وتبززه في ذلك على
~~غيره، واشتراطه ما اشترطه في الإجماع الذي يحكيه، يظهر فيما ذكره في
~~الإجماع نزاعات مشهورة، وقد يكون الراجح في بعضها خلاف ما يذكره في
~~الإجماع. وسبب ذلك دعوى الإحاطة بما لا يمكن الإحاطة به، ودعوى أن الإجماع
~~الإحاطي هو الحجة لا غيره. فهاتان قضيتان لابد
# PageV03P342
# لمن ادعاهما من التناقض إذا احتج بالإجماع، فمن ادعى الإجماع في الأمور
~~الخفية بمعنى أنه يعلم عدم المنازع فقد قفا ما ليس له به علم. وهؤلاء الذين
~~أنكر عليهم الإمام أحمد. وأما من احتج بالإجماع بمعنى عدم العلم بالمنازع
~~فقد اتبع سبيل الأئمة، وهذا هو الإجماع الذي كانوا يحتجون به في مثل هذه
~~المسائل.
# وقد ختم الكتاب بباب من الإجماع في الاعتقادات، فكفر من خالفه، فقال:
~~اتفقوا أن الله وحده لا شريك له، خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل
~~وحده، ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلها كما شاء، وأن النفس مخلوقة،
~~والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق.
# قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء
~~فهذا حق، ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فان القدرية -الذين
~~يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله- أكثر من أن يمكن ms0550 ذكرهم من حين
~~ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ، والمعتزلة كلهم قدرية،
~~وكثير من الشيعة بل عامة الشيعة المتأخرين وكثير من المرجئة والخوارج
~~وطوائف من أهل الحديث والفقه نسبوا إلى ذلك، منهم طائفة من رجال الصحيحين،
~~ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء. بل هو نفسه قد ذكر في أول كتابه أنه لا يكفر
~~هؤلاء. والمنصوص عن مالك والشافعي وأحمد في القدرية أنهم إذا جحدوا العلم
~~كفروا، وإذا لم يجحدوه لم يكفروا.
# وأيضا فقد ذكر في كتابه "الملل والنحل" (1) أن الصحابة وأئمة الفتيا لا
~~يكفرون من أخطأ في مسألة في الاعتقاد ولا فتيا. وإن كان PageV03P343
# أراد بقوله أتى المسلمون على هذا فهذا أبلغ. ومعلوم أن مثل هذا النقل
~~للإجماع لم ينقله عن معرفته بأقوال الأئمة، لكن لما علم أن القرآن أخبر بأن
~~الله خالق كل شيء، وأن هذا من أظهر الأمور عند الأمة، حكى الإجماع على هذا،
~~ثم اعتقد أن من خالف الإجماع كفر بإجماع. فصارت حكايته لهذا الإجماع مبنية
~~على هاتين المقدمتين اللتين ثبت النزاع في كل منهما.
# وأعجب من ذلك حكايته الإجماع على كفر من نازع أنه سبحانه لم يزل وحده ولا
~~شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كما شاء. ومعلوم أن هذه العبارة ليست في كتاب
~~الله ولا تنسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل الذي في الصحيح
~~(1) عنه حديث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان الله
~~ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات
~~والأرض"، وفي لفظ: "ثم خلق السماوات والأرض". وروي هذا الحديث في البخاري
~~بثلاثة ألفاظ (2) : روي "كان الله ولا شيء قبله"، وروي "ولا شيء غيره"،
~~وروي "ولا شيء معه" (3) ، والقصة واحدة، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - إنما قال واحدا من هذه الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى. وحينئذ
~~فالذي يناسب لفظ ما ثبت عنه في الحديث الآخر الصحيح (4) أنه كان يقول في
~~دعائه: "أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر ms0551 فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر
~~فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء". فقوله PageV03P344
# في هذا "أنت الأول فليس قبلك شيء" يناسب قوله "كان الله ولا شيء قبله".
~~وقد بسط الكلام على هذا الحديث وغيره في غير هذا الموضع (1) .
# والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات.
# فهذا اللفظ ليس في كتاب الله، وهذا الحديث لو كان نصا فيما ذكر فليس هو
~~متواترا، فكم من حديث صحيح ومعناه فيه نزاع كثير، فكيف ومقصود الحديث غير
~~ما ذكر. ولا نعرف هذه العبارة عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، فكيف
~~يدعى فيها الإجماع ويدعى الإجماع على كفر من خالف ذلك؟ ولكن الإجماع
~~المعلوم هو ما علمت الأمة أن الله بينه في القرآن، وهو أن خلق السماوات
~~والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما أخبر الله بذلك في القرآن في غير موضع
~~(2) . فإذا ادعى المدعي الإجماع على هذا وتكفير من خالف هذا كان قوله
~~متوجها. وليس في خبر الله أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام
~~ما ينفي وجود مخلوق قبلهما، ولا ينفي أنه خلقهما من مادة كانت قبلهما، كما
~~أنه أخبر أنه خلق الإنسان وخلق الجن، وإنما خلق الإنسان من مادة وهي
~~الصلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، فكيف وقد ثبت بالكتاب والسنة
~~وإجماع السلف الذي لا يعلم فيه نزاع أن الله لما خلق السماوات والأرض وما
~~بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء قبل ذلك، فكان العرش موجودا قبل
~~ذلك، وكان الماء موجودا قبل ذلك. PageV03P345
# وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه قال: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض
~~بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء".
# وقد أخبر سبحانه أنه استوى إلى السماء الدنيا وهي دخان، فقال لها وللأرض:
~~(ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11)) (2) .
# وثبت عن غير واحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين أنه خلق
~~السماء من ms0552 بخار الماء. ونحو ذلك من النقول التي يصدقها ما يخبر به أهل
~~الكتاب عن التوراة وما عندهم من العلم الموروث عن الأنبياء. وشهادة أهل
~~الكتاب الموافقة لما في القرآن أو السنة مقبولة، كما في قوله تعالى: (قل
~~كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43)) (3) . ونظائر ذلك
~~في القرآن.
# وهذا الموضع أخطأ فيه طائفتان:
# طائفة من أهل الكلام من اليهود والمسلمين وغيرهم ظنوا أن إخبار الله
~~بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما يقتضي أنهما لم يخلقا من شيء، بل لم يكن
~~قبلهما موجود إلا الله. ومعلوم أن خبر الله مخالف لذلك، والله قد أخبر أنه
~~خلق الإنسان والجان من مادة ذكرها. والذين يثبتون الجوهر الفرد من هؤلاء
~~وغيرهم يعتقدون أن خلق الإنسان وغيره مما يخلقه في هذا العالم ليس هو خلقا
~~لجوهر قائم بنفسه، بل هو إحداث أعراض يحول بها الجواهر المنفردة من
~~PageV03P346
# حال إلى حال. وهذا مخالف للشرع والعقل، كما قد بسط في موضعه، فإن هؤلاء
~~يقولون: إنا لم نشهد خلق عين من الأعيان، بل الرب أبدع الجواهر المنفردة،
~~ثم الخلق بعد ذلك إنما هو إحداث أعراض قائمة بها.
# وطائفة أخرى أبعد عن الشرع والعقل من هؤلاء، يتأولون خلق السماوات والأرض
~~بمعنى التولد والتعليل والإيجاب بالذات، ويقولون: إن الفلك قديم أزلي معلول
~~للرب، وأنه يوجب بذاته لم يزل ولا يزال. وقولهم بالإيجاب هو معنى القول
~~بالتولد، فإن ما حصل عن غيره بغير اختيار منه فقد تولد عنه، لاسيما إن كان
~~حيا. وهؤلاء يقولون بقدم عين الفلك وأنه لم يزل ولا يزال.
# فهؤلاء إذا قيل: إن المسلمين أجمعوا على نقيض قولهم أو على كفر من قال
~~بقولهم، كان قولا متوجها، فإنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول أنه أخبر
~~بخلق السماوات والأرض بعد أن لم تكن مخلوقة، بخلاف من ادعى أن الصانع لم
~~يزل معطلا، والفعل والكلام عليه ممتنعا بغير سبب حدث أوجب انتقاله من
~~الامتناع إلى الإمكان، وأوجب أن يصير الرب قادرا على الفعل أو الفعل
~~والكلام بعد أن ms0553 لم يكن قادرا على ذلك. فهذه الدعوى وأمثالها عند جمهور
~~العقلاء معلومة الفساد بالعقل مع فسادها في الشرع، ومعلوم عند من له معرفة
~~بالكتاب والسنة والإجماع أن الشرع لم يرد بها ولا بما يدل عليها قط. ولكن
~~ظن من ظن من أهل الكلام أن هذا دين أهل الملل، واستدلوا على ذلك بالكلام
~~الذي أنكره السلف والأئمة عليهم من أن مالا يخلو من الحوادث فهو حادث، وكان
~~الذي أنكره السلف والأئمة عليهم الكلام الباطل الذي خالفوا فيه الشرع
~~والعقل.
# PageV03P347
# وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع (1) ، وذكر منشأ غلط الطائفتين
~~حيث لم يفرقوا بين النوع والعين، وذكر قول السلف والأئمة: إن الله لم يزل
~~متكلما إذا شاء، وإنه لا نهاية لكلمات الله، وإن وجود مالا نهاية له من
~~كلمات الله في الماضي، كما ثبت في المستقبل وجود مالا نهاية له أيضا، وإن
~~كل ما سوى الله مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وليس معه شيء قديم بقدمه، بل ذلك
~~ممتنع عقلا باطل شرعا؛ فإن الله أخبر أنه خالق كل شيء. والقول بأن الخالق
~~علة تامة أزلية مستلزمة لمعلولها باطل عقلا وشرعا، وموجبة أنه يمتنع ضرورة
~~وجود علة تامة يقارنها حدوث شيء من العالم، فإن الحوادث بعد أن لم تكن
~~يمتنع مقارنة معلولها بها، بل قد بين أن القول بأن الفاعل يكون علة تامة
~~مستلزمة للمفعول باطل، وأن الفعل لا يكون إلا بإحداث شيء. لكن فرق بين حدوث
~~الشيء المعين وبين حدوث الحوادث شيئا بعد شيء.
# وقد ثبت بالدلائل اليقينية أن الرب فاعل باختياره وقدرته، وأنه إذا قيل:
~~هو موجب بالذات، فإن أريد بذلك أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما شاءه= فهذا لا
~~ينافي فعله بمشيئته وقدرته؛ وإن أريد بذلك ما يقوله دهرية الفلاسفة كابن
~~سينا ونحوه من أن ذاتا مجردة عن الصفات أوجبت العالم بما فيه من الأمور
~~المختلفة الحادثة= فهذا من أفسد الأقوال عقلا وسمعا، فإن إثبات ذات مجردة
~~عن الصفات أو إثبات وجود مجرد عن جميع القيود أو ms0554 مقيد بالسلوب لا يختص بأمر
~~وجودي مما لا يمكن تحققه في الخارج، وإنما يقدره الذهن كما يقدر سائر
~~PageV03P348
# الممتنعات. ودعوى أن الصفة هي الموصوف، وأن إحدى الصفتين هي الأخرى كما
~~يقوله هؤلاء المتفلسفة: إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد، واللذة
~~واللذيذ والملتذ شيء واحد، وأن العلم والقدرة والإرادة شيء واحد، والقدرة
~~هي القادر، والعلم هو العالم، ونحو ذلك من أقوالهم التي قد بسط الكلام على
~~فسادها وتناقضها في غير هذا الموضع= هي دعاو باطلة.
# والمقصود هنا الإشارة إلى ما قد يتوهمه بعض الناس من الإجماع لنوع من
~~الاشتباه، فيظن أمورا داخلة في الإجماع ولا تكون كذلك، كما يظن أمورا خارجة
~~عنه ولا تكون كذلك، كما يصيب بعض الناس فيما يدخلونه في نصوص الكتاب والسنة
~~وفيما يخرجونه، ولهذا يذكر هؤلاء أمورا مختلفة فيها، وإذا نظر إلى مستندهم
~~في الخلاف وجد فيه من الخطأ أمور أخرى كذلك، إما نقل ضعيف، وإما لفظ مجمل،
~~وإما غير ذلك مما قد يقع الغلط في صحته تارة وفي فهمه تارة، كما يقع مثل
~~ذلك فيما ينقلونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغلط، ويكون قد نشأ
~~من الإسناد تارة ومن فهم المتن تارة. والله سبحانه أعلم.
# PageV03P349
### | رسالة في بيان الصلاة وما تألفت منه
# PageV03P351
# فصل
# قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله:
# اعلم أن
### | الصلاة مؤلفة من أقوال وأفعال،
# ف
### | أعظم أقوالها القرآن،
# وأعظم أفعالها الركوع والسجود.
# وأول ما أنزله الله من القرآن (اقرأ باسم ربك الذي خلق (19)) (1) ،
~~وختمها بقوله (واسجد واقترب (1)) (2) ،
# فافتتحها بالأمر بالقراءة، وختمها بالأمر بالسجود، وكل منهما يكون عبادة
~~مستقلة، فالقراءة في نفسها عبادة مطلقا إلا في مواضع، والسجود عبادة بسبب
~~السهو والتلاوة وسجود الشكر وعند الآيات على قول.
# فالتلاوة الخاصة سبب السجود.
# وقد ذكر الله الركوع والسجود في مواضع، فقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا
~~اركعوا واسجدوا) (3) ، فهذا أمر بهما. وقال تعالى:
# (تراهم ركعا سجدا) (4) ، فهذا ثناء عليهم بهما، وإن كان ذكرهما منتظما
~~لبقية أفعال الصلاة، كما في القراءة والقيام ms0555 والتسبيح والسجود المجرد، وهو
~~من باب التعبير بالبعض عن الجميع، وهو دليل على وجوبه فيه. وقال تعالى لبني
~~إسرائيل: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43)) (5) ،
~~فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويشبه -والله أعلم- أن
~~يكون فيه معنيان: PageV03P353
# أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم، فأمرهم بالركوع، إذ كانوا لا يفهمون
~~ذلك من نفس الصلاة.
# الثاني: أن قوله (مع الراكعين (43)) أمر بصلاة الجماعة، ودل بذلك على
~~وجوبها، وأمر بالركوع معهم لأنه بالركوع يكون مدركا للركعة، فإذا ركع معهم
~~فقد فعل بقية الأفعال معهم، وما قبل الركوع من القيام لا يجب فعله معهم،
~~فما بعده لازم. بخلاف مالو قال "قوموا" أو "اسجدوا" لم يدل على ذلك.
# وقال لمريم: (اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43)) (1) قد يكون
~~أمرا لها بصلاة الجماعة -وإن كانت امرأة- لأنها كانت محررة منذورة لله
~~عاكفة في المسجد. وقال تعالى: (وخر راكعا وأناب) (2) ، قد قيل: إنه السجود.
~~وقال تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون (48)) (3) .
# وذكر السجود والقيام في قوله: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) (4) ،
~~وفي قوله: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما (64)) (5) .
# وذكر السجود في قوله: (واسجد واقترب (19)) (6) ، وفي قوله: (يوم يكشف عن
~~ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون (42) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد
~~كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون (43)) (7) ، وقوله: (وقلنا لهم ادخلوا
~~الباب PageV03P354
# سجدا) (1) ، وقوله: (فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98)) (2) ، وقوله:
~~(فسبحه وأدبار السجود (40)) (3) ، وقوله: (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم)
~~(4) ..
# وآيات سجود التلاوة كقوله تعالى: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن
~~عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)) (5) ، وقوله: (ولله يسجد من في السماوات
~~والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال (15)) (6) ، وقوله: (ولله يسجد
~~ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49)
~~يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون (50)) (7) ، وقوله: (إن الذين
~~أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107)) (8) الآية،
~~وقوله: (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا (58)) (9) ، وقوله
~~تعالى: (ألم تر أن الله يسجد له من ms0556 في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر
~~والنجوم والجبال والشجر والدواب) (10) الآية، وقوله: (اركعوا واسجدوا) (11)
~~، وقوله: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا
~~وزادهم PageV03P355
# نفورا (60)) (1) ، وقوله: (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات
~~والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25)) (2) ، وقوله: (إنما يؤمن بآياتنا
~~الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون) (3) ،
~~وقوله: (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن) (4) الآية.
~~وقوله: (فاسجدوا لله واعبدوا (62)) (5) ، وقوله: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا
~~يسجدون (21)) (6) ، وقوله: (واسجد واقترب (19)) (7) .
# فآية الأعراف والرعد والنحل والحج فيها الخبر عن سجود المخلوقات، لكن في
~~الأعراف سجود الملائكة، وفي الرعد سجود المخلوقات طوعا وكرها، وفي النحل
~~المخلوقات والملائكة، وفي الحج سجود المخلوقات الطوعية، ولهذا لم يعم بني
~~آدم. وسجود الكائنات مطلقا ليس بمقيد بركوع، فشرع السجود عند ذكره، لأن
~~المؤمن داخل في ذلك أو متشبه بصاحبه. وقوله (إن الذين أوتوا العلم من قبله)
~~(8) الآية وقوله (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن) (9) خبر عن سجود بسبب
~~التلاوة، فأمر بالسجود عند التلاوة. ونظيره (وإذا قرئ عليهم القرآن لا
~~يسجدون (21)) (10) ، وقوله PageV03P356
# (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) (1) ، وقوله (ومن آياته الليل
~~والنهار والشمس والقمر) (2) نهي عن السجود لغير الله مطلقا وأمر بالسجود
~~له، فشرع السجود المقابل للمنهي عنه. وقوله (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن
~~قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا (60)) (3) ، فأخبر عن
~~امتناع الكافر عن السجود مطلقا، فيشرع السجود المقابل له، وهو مطلق السجود
~~هناك في مقابلة المعبود الباطل، وهنا في مقابلة الكافر الممتنع عن الحق.
# وأما قوله (اركعوا واسجدوا) (4) فلا ريب أن هذا أمر بسجود الصلاة، فلذلك
~~جرى فيه النزاع، فقيل: هو أمر به، كما في قوله (اقنتي لربك واسجدي واركعي)
~~(5) ، وقيل: هذا لا يمنع أن يكون أمرا به وبالسجود عنه بسماعه. وقوله
~~(فاسجدوا لله واعبدوا (62)) (6) وقوله (واسجد واقترب (19)) (7) ، وذلك سجود
~~الصلاة، فقيل: هو مختص به، وقيل: ذلك لا يمنع أن يكون سببا، كما أن آيات
~~التلاوة والسجود ms0557 تتضمن السجود في الصلاة عقب سماع القرآن.
# فصل
# ولما كثر ذكر السجود في القرآن، تارة أمرا به، وتارة ذما لمن PageV03P357
# يتركه، وتارة ثناء على فاعله، وتارة إخبارا عن سجود عظماء الخليقة
~~وعمومهم، كان ذلك دليلا على فضيلة السجود. وهذا ظاهر، فإن السجود فيه غاية
~~الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها، حتى إن مواضع
~~الصلاة سميت به، فقيل "مسجد"، ولم يقل "مقام" ولا "مركع"، لوجهين:
# أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر.
# والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد
~~يسجد على سبعة أعضاء، وإنما يقوم على رجلين. وأما الركوع فسيان نسبة الأرض
~~إليه وإلى القيام، فلهذا قيل "مسجد"، وهو موضع السجود دون موضع الركوع.
~~والركوع نصف سجود، والسجود شرع مثنى مثنى، في كل ركعة سجدتان، ولم يشرع من
~~الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جعل أيضا مثنى، وهو سجدتا السهو.
~~وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسميهما "المرغمتين"، وقال في الشك: "إن
~~كانت صلاته وترا شفعتا له صلاته، وإن كانت تامة كانتا ترغيما للشيطان" (1)
~~. فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة، لأن الركن الأعظم من كل ركعة
~~هما السجدتان.
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله
~~بها درجة، وحط عنك بها خطيئة" (2) . وقال: "أعني على نفسك بكثرة السجود"
~~(3) . وقال: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (4) . PageV03P358
# ولما كانت الصلاة مثنى مثنى جعل في كل ركعة السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين
~~معقودتان بركعة، فتصير وترا، سجدتان وركوع، والركوع مقدمة أمامهما كتقدمة
~~الوقوف على طواف الزيارة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:إ إذا
~~أدركتمونا ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك"
~~(1) ، كما قال: "الحج عرفة" (2) ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج، ومن فاته
~~التعريف فإنه يفعل الطواف والسعي ولكن لا يكون مدركا للحج، لكن يكون متحللا
~~بعمرة أو عمل عمرة.
# ولهذا قيل: (واركعوا مع الراكعين (43)) (3) ، ف
### | الركوع مع السجود تقدمة وتوطئة وباب إليه ms0558،
# وهو مشترك بين القيام والسجود وبرزخ بينهما، فالقيام قيام القراءة قبله،
~~وأما القيام بعده فهو -والله أعلم- لأجل السجود بعده، ليكون السجود عن
~~قيام، وهو السجود الكامل، فالرفع منه تكميل للركوع، والخفض من القيام تكميل
~~للسجود. ولهذا هو ركن تام كما جاءت به السنة، وليس معادلته لبقية الأركان
~~-كما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "لا يقبل الله صلاة من
~~لا يقيم صلبه في الركوع والسجود" (4) - لعدم تكميلها، فإنه أيضا إذا لم يقم
~~صلبه بين السجدتين لا يكون قد أكمل الأولى برفعها ولا الثانية بخفضها.
# فالسجود إذا شرع في الانحناء وهو قاعد، أما إذا كان وجهه قريبا من
~~PageV03P359
# الأرض وألصقه فليس هذا بسجود.
# ومن هنا غلط من غلط وقال: إن الاعتدالين ليسا بركنين طويلين، لما ظنوا أن
~~المقصود مجرد الفضل، والصواب ما جاءت به السنة إيجابا للاعتدال واستحبابا
~~لإتمامه وتسويته بسائر الأركان، لأن هذا القيام والقعود وإن كانا تابعا (1)
~~من بعض الوجوه فالقعود في آخر الصلاة أيضا تابع من بعض الوجوه للسجود،
~~وإنما المقصود المحض: القيام المشتمل على القراءة المقصودة، والسجود الذي
~~هو غاية الخضوع، كما قال: (ساجدا وقائما) (2) . فإذا كان بعض أركان الصلاة
~~الفعلية أفضل من بعض وأبلغ في كونه مقصودا لم يمنع إيجاب التابع المفضول،
~~كالركعتين الأخريين مع الأوليين، وكإيجاب الطمأنينة.
# وحرف المسألة أن إتمام الأركان فرض، ولا يتم إلا بذلك، وإتمام الصلاة من
~~إقامتها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، فإن قوله في الخوف والسفر (أن
~~تقصروا من الصلاة) (3) -فالخوف يبيح قصر الأفعال والسفر قصر الأعداد- دليل
~~على وجوب الإتمام في الأمن والطمأنينة في الطمأنينة، لقوله تعالى (فإذا
~~اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (4) ، وإتمامها من إقامتها كما جاءت به السنة،
~~حيث قال للمسيىء في صلاته: "ارجع فصل، فإنك لم تصل"، وقال: "فإذا فعلت هذا
~~فقد تمت صلاتك" (5) ، فجعل من لم يتمها لم يصل. والله سبحانه أعلم.
~~PageV03P360
### | فتوى في أمر الكنائس
# PageV03P361
# ورد على شيخنا استفتاء في أمر الكنائس صورته:
# ما يقول السادة العلماء -وفقهم الله- في إقليم توافق ms0559 أهل الفتوى في هذا
~~الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوة من غير صلح ولا أمان، فهل ملك المسلمون
~~ذلك الإقليم المذكور بذلك؟
# وهل يكون الملك شاملا لما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع
~~والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيع والكنائس والقلايات والديورة ونحو
~~ذلك، أو يختص الملك بما عدا متعبدات أهل الشرك؟
# فإن ملك جميع ما فيه فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك من النصارى
~~واليهود -بذلك الإقليم أو غيره- الذمة على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من
~~البيع والكنائس والديورة ونحوها متعبدا لهم، وتكون الجزية المأخوذة منهم في
~~كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده أو مع غيره أم لا؟
# فإن لم يجز -لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه- فهل يكون حكم
~~الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يتصرف فيه الإمام تصرفه في الغنائم أم لا؟
# وإن جاز للإمام أن يعقد الذمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها فهل يملك من عقدت
~~له الذمة بهذا العقد رقاب البيع والكنائس والديورة ونحوها، ويزول ملك
~~المسلمين عن ذلك بهذا العقد أم لا؟ لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع.
# وإذا لم يملكوا ذلك وبقوا على الانتفاع بذلك، وانتقض عهدهم
# PageV03P363
# بسبب يقتضي انتقاضه، إما بموت من وقع عقد الذمة معه ولم يعقبوا، أو
~~أعقبوا، فإن قلنا: إن أولادهم يستأنف معهم عقد الذمة -كما نص عليه الشافعي
~~فيما حكاه ابن الصباغ، وصححه العراقيون، واختاره ابن أبي عصرون في
~~"المرشد"- فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقد لكم الذمة إلا بشرط أن لا
~~تدخلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جهل
~~مستحقوها وأيس من معرفتها، أم لا يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد
~~الذمة، بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس
~~والديورة التي تحقق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك
~~عند التردد في أن ذلك كان موجودا عند الفتح، أو حدث بعد الفتح، أو يجب عليه
~~مطلقا فيما تحقق أنه كان موجودا قبل ms0560 الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة
~~الشك فهل يكون ما وقع الشك في أنه كان قبل الفتح، وجهل الحال فيمن أحدثه
~~لمن هو؟ لبيت المال أم لا؟
# وإذا قلنا: إن من بلغ من أولاد من عقدت معهم الذمة -وإن سلفوا- ومن غيرهم
~~لا يحتاجون أن تعقد لهم الذمة، بل يجري عليهم حكم من سلف إذا تحقق أنه من
~~أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقد
~~وذمة؟
# وإذا قلنا: إنهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ، فهل تحتاج [كنائسهم]
~~وبيعهم إليه أم لا؟
# فأجاب:
# الحمد لله، ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -، وكعامة أرض الشام وبعض مدنها، وكسواد العراق إلا
# PageV03P364
# مواضع قليلة فتحت صلحا، وكأرض مصر، فإن هذه الأقاليم فتحت عنوة على خلافة
~~أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد روي في أرض مصر أنها فتحت
~~صلحا، وروي أنها فتحت عنوة، وكلا الأمرين صحيح على ما ذكره العلماء
~~المتأملون للروايات الصحيحة في هذا الباب (1) ، فإنها فتحت أولا صلحا، ثم
~~نقض أهلها العهد، فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
~~يستمده، فأمده بجيش كثير فيهم الزبير بن العوام، ففتحها المسلمون الفتح
~~الثاني عنوة.
# ولهذا روي من وجوه كثيرة (2) أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
~~أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلال قسم الشام (3) ، فشاور الصحابة في ذلك،
~~فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئا للمسلمين
~~ينتفع بفائدتها أول المسلمين وآخرهم. ثم وافق عمر على ذلك بعض من كان
~~خالفه، ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك.
# فما فتحه المسلمون عنوة فقد ملكهم الله إياه كما ملكهم ما استولوا عليه
~~من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخل في العقار معابد الكفار
~~ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر
~~أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها
~~عن ms0561 ملك المسلمين، فإن ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما
~~أن يكون مبدلا أو محدثا لم PageV03P365
# يشرعه الله قط، أو يكون الله قد نهى عنه بعدما شرعه.
# [و] قد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله لله،
~~وتكون كلمة الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق
~~الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويعطوا الجزية عن
~~يد وهم صاغرون.
# ولهذا لما استولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أرض من حاربه من
~~أهل الكتاب وغيرهم -كبني قينقاع والنضير وقريظة- كانت معابدهم مما استولى
~~عليه المسلمون، ودخلت في قوله (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) (1) ، وفي
~~قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم) (2) و (ما أفاء الله على رسوله
~~من أهل القرى) (3) .
# لكن وإن ملك المسلمون ذلك فحكم الملك متنوع، كما يختلف حكم الملك في
~~المكاتب والمدبر وأم الولد والعبد، وكما يختلف حكمه في المقاتلين الذين
~~يؤسرون، وفي النساء والصبيان الذين يسبون، كذلك يختلف حكمه في المملوك نفسه
~~والعقار والأرض والمنقول. وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام
~~مختصة بها لا تقاس بسائر الأموال المشتركة.
# ولهذا لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر أقر أهلها ذمة للمسلمين
~~في مساكنهم، وكانت المزارع ملكا للمسلمين عاملهم عليها رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر رضي الله
~~عنه في PageV03P366
# خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقروهم فيه من المساكن والمعابد.
# فصل
# وأما أنه هل يجوز للإمام عقد الذمة مع إبقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه
~~خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة، منهم من يقول: لا يجوز تركها لهم،
~~لأنه إخراج ملك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهد قديم. ومنهم من يقول
~~بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن
~~والمعابد التي كانت بأيديهم ms0562.
# فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار، منهم من يوجب
~~إبقاءه، كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية؛ ومنهم من يخبر الإمام فيه
~~بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في
~~المشهور عنه، وعليه دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قسم نصف
~~خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين.
# ومن قال: "يجوز إقرارها بأيديهم" فقوله أوجه وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا
~~الإقرار رقاب المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنهم لا يملكون ما ترك
~~لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرهم فيه
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المساكن والمعابد.
# ومجرد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت
~~المال ينتفع بغلته، أو سلم إليه مسجد أو رباط ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا
~~له، بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منهم إذا
~~اقتضت المصلحة ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
# PageV03P367
# من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها. وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد
~~بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق،
~~فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد، وأقر ذلك عمر بن عبد العزيز
~~أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم، فإن المسلمين لما
~~أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه، وكانت من كنائس
~~الصلح، لم يكن لهم أخذها قهرا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة
~~التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضا عن كنيسة الصلح التي لم يكن
~~لهم أخذها عنوة.
# فصل
# و
### | متى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلا عن كنائس العنوة،
# كما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان لقريظة والنضير لما نقضوا
~~العهد، فإن ناقض العهد أسوأ حالا من المحارب الأصلي، كما أن ناقض الإيمان
~~بالردة أسوأ حالا من الكافر الأصلي. ولذلك لو انقرض أهل مصر من ms0563 الأمصار،
~~ولم يبق من دخل في عهدهم، فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من
~~المعابد وغيرها فيئا.
# فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ، وكان لم يعقد لهم الذمة أن
~~يقرهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد
~~الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز هدمه،
~~وإنما اختلفوا في جواز بقائه. وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئا للمسلمين.
# أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قسم العقار فظاهر.
# وأما على قول من يوجب قسمه سمه فلأن عين المستحق غير معروف،
# PageV03P368
# كسائر الأموال التي لا يعرف لها مالك معين.
# وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقدير لا حقيقة له، فإن إيجاب إعطائهم
~~معابد العنوة لا وجه له، ولا أعلم به قائلا، فلا يفرع عليه، وإنما الخلاف
~~في الجواز.
# نعم، قد يقال في الأبناء إذا لم نقل بدخولهم في عهد آبائهم، لأن لهم شبهة
~~الأمان والعهد، بخلاف الناقضين، فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له،
~~فإن صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عرف أنه حقه، وما وقع الشك فيه على
~~هذا التقدير فهو لبيت المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقض عهد
~~فهم على الذمة، فإن الصبي يتبع أباه في الذمة، وأهل داره من أهل الذمة، كما
~~يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين، لأن الصبي لما لم يكن مستقلا
~~بنفسه جعل تابعا لغيره في الإيمان والأمان.
# وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه والمسلمين في
~~إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر. وهذا الجواب
~~حكمه فيما كان من معابدهم قديما قبل فتح المسلمين، أما ما أحدث بعد ذلك
~~فانه يجب إزالته، ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس، كما شرط عليهم عمر
~~بن الخطاب رضي الله عنه في الشروط المشهورة عنه (1) : "إلا يجددوا في مدائن
~~الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا ms0564 قلاية"، امتثالا لقول
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكون قبلتان ببلد واحد". رواه أحمد
~~وأبو داود بإسناد جيد (2) ، ولما PageV03P369
# روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لا كنيسة في الإسلام" (1) .
# وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى. وما زال
~~من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينقذ ذلك ويعمل به، مثل عمر بن عبد
~~العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى، فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب
~~إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين، فهدمها بصنعاء
~~وغيرها.
# وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: "من السنة أن تهدم الكنائس
~~التي في الأمصار، القديمة والحديثة" (2) . وكذلك هارون الرشيد في خلافته
~~أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب بشروط
~~عمر استفتى علماء وقته في هدم الكنائس والبيع، فأجابوه، فبعث بأجوبتهم إلى
~~الإمام أحمد، فأجابه بهدم كنائس سواد العراق، وذكر الآثار عن الصحابة
~~والتابعين، فمما ذكره ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (3) :
~~أيما مصر مصرته العرب -يعني المسلمين-، فليس للعجم -يعني أهل الذمة- أن
~~يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسا، ولا يشربوا فيه خمرا.
# وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب، فإن للعجم ما في عهدهم،
~~وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلفوهم فوق طاقتهم. PageV03P370
### | مسألة فيمن يسمي الخميس عيدا
# PageV03P371
# مسألة
# ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- فيمن يسمي
~~الخميس المعروف بعيد النصارى عيدا؟ وفيمن يعتقد أن مريم ابنة عمران -عليها
~~السلام- تجر ذيلها ذلك اليوم على الزرع، فينمو ويلحق اللقيس بالبكير،
~~ويخرجون في ذلك اليوم ثيابهم وحلي النساء يرجون البركة من ذلك اليوم وكثرة
~~الخير، ويكحلون الصبيان، ويمغرون الدواب والشجر لأجل البركة، ويصبغون البيض
~~ويقامرون به ويعتقدون حله، ويدفون البخور ويتبخرون به قصد البركة.
# أفتونا مأجورين.
# الجواب
# قال الشيخ الإمام العالم العامل مفتي الفرق، أبو العباس أحمد بن عبد
~~الحليم بن عبد السلام ms0565 ابن تيمية الحراني الحنبلي -رحمه الله ورضي عنه-:
# الحمد لله وحده. كل ما يفعل في أعياد الكفار من الخصائص التي يعظم بها
~~فليس للمسلم أن يفعل شيئا منها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من
~~تشبه بقوم فهو منهم" (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من تشبه
~~بغيرنا" (2) .
# وقد شارط عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الكتاب أن لا يظهروا
~~PageV03P373
# شيئا من شعائرهم بين المسلمين، ولا شيئا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا
~~غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شرطه عليهم أمير المؤمنين.
# وسواء قصد المسلم التشبه بهم أو لم يقصد ذلك بحكم العادة التي تعودها
~~فليس له أن يفعل ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيص عيدهم (1) بلباس وطعام
~~ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلمين.
# ومن قال: إن مريم تجر ذيلها على الزرع فينمو، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا
~~قتل، فإذا هذا اعتقاد الكفار النصارى، وهو من أفسد الاعتقادات، فإن من هو
~~أفضل من مريم من الأنبياء والمرسلين -عليهم السلام- لا سعي لهم في إنبات
~~النبات وإنزال القطر من السماوات، فكيف يكون ذلك من مريم عليها السلام؟
~~وإنما هذا اعتقاد النصارى فيها وفي شيوخهم القسيسين أنهم ينفعونهم أو
~~يضرونهم، وهذا من شركهم الذي ذمهم الله تعالى به، كما قال تعالى: (اتخذوا
~~أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا
~~ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (2) ، وقال
~~تعالى (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس
~~كونوا عبادا لي من دون الله) (3) . فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين
~~أربابا هو كافر، فكيف من اتخذ مريم أو غيرها من الشيوخ؟ PageV03P374
# وقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا
~~تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون
~~رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)) (1) . قال طائفة من
~~السلف: كان قوم ms0566 يدعون العزير والمسيح والملائكة، فقال الله تعالى: هؤلاء
~~الأنبياء والملائكة الذين تدعونهم يرجون رحمتي ويخافون عذابي، كما ترجون
~~رحمتي وتخافون عذابي، ويتقربون إلي كما تتقربون إلي، وأخبر أنهم لا يملكون
~~كشف الضر عنهم ولا تحويلا.
# فإذا كان هذا في الملائكة والنبيين فكيف بمن دونهم؟ كمريم وغيرها من
~~الصالحين الرجال والنساء. فمن دعا غير الله تعالى أو عبده فهو مشرك بالله
~~العظيم، وإن كان ذلك رجلا صالحا (2) أو امرأة صالحة.
# وكذلك التزين يوم عيد النصارى من المنكرات، وصنعة الطعام الزائد عن
~~العادة، وتكحيل الصبيان، وتحمير الدواب. والشجر بالمغرة وغيرها، وعمل
~~الولائم وجمع الناس على الطعام في عيدهم. ومن فعل هذه الأمور يتقرب بها إلى
~~الله تعالى راجيا بركتها فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن هذا من إخوان
~~النصارى. كما لو عظم الرجل الصليب، وصلى إلى المشرق، وتعمد بالمعمودية، فإن
~~من فعل هذا فهو كافر مرتد يجب قتله شرعا وإن أظهر مع ذلك الإسلام.
# وكذلك صبغ البيض فيه. وأما القمار فيه فإنه حرام في كل وقت، فيه وفي
~~غيره. وكذلك البخور فيه ونحو ذلك.
# وبالجملة ف
### | ليس ليوم عيدهم مزية على غيره،
# ولا يفعل فيه شيء PageV03P375
# مما يميزونه هم به. ولكن لو صامه الرجل قصدا لمخالفتهم فقد كرهه كثير من
~~العلماء، كما روي عن أنس بن مالك والحسن البصري وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي
~~الله عنهم، لأن في (1) تخصيص أعياد الكفار بالصوم نوع تعظيم لها، وإن كانوا
~~هم لا يصومونه، فكيف إذا كان التعظيم من جنس ما يفعلونه؟
# إلا ترى أن اليهود كانوا يتخذون يوم عاشوراء عيدا، فيصومونه ويظهرون
~~السرور فيه، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيامه مرة واحدة قبل أن
~~يفرض رمضان، فلما فرض رمضان سقط وجوبه (2) وبقي صومه مستحبا. ثم إن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: إن اليهود والنصارى يتخذونه عيدا قال:
~~"لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع" (3) . فقال أكثر أهل العلم: مراده صوم
~~التاسع والعاشر، لئلا يخص يوم عاشوراء بالصوم، كما نهى عن إفراد ms0567 يوم الجمعة
~~بالصوم (4) ، وكان يقول: "صوموا يوما قبله أو يوما بعده" (5) . وهو - صلى
~~الله عليه وسلم - فعل هذا في عاشوراء بعد أن كان أمر بصيامه ليخالف اليهود،
~~ولا يشاركهم في إفراد تعظيمه.
# هذا مع أن عاشوراء لم يشرع فيه غير الصوم باتفاق علماء المسلمين، فكل ما
~~يفعل فيه غير ذلك من الاختضاب والكحل والتزين والاغتسال والتوسع على العيال
~~غير العادة فيه من حبوب أو غيرها هو من البدع المحدثة في الدين، لم يستحبها
~~أحد من العلماء PageV03P376
# ولا السلف، بل كل ما روي فيها من الأحاديث المرفوعة فهي أحاديث موضوعة.
# فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره نوعا من التشبه بهم في
~~عاشوراء، فكيف بالمياليد والشعانين والخميس وغير ذلك من أعياد الكافرين؟
~~وقد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل خصائص عيدهم، وقال بعضهم: من ذبح
~~فيه بطيخة فكأنما ذبح خنزيرا.
# فالواجب على ولاة الأمور نهي الناس عن هذه المنكرات المحرمة، وأمرهم
~~بملازمة شعائر الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، ف (إن الدين عند الله
~~الأسلام) (1) ، (ومن يبتغ غير الأسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
~~الخاسرين (85)) (2) . آخرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
# (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم) .
~~PageV03P377
### | فصل.
# في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
# PageV03P379
# فصل
# قال الله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
~~المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون
~~وأكثرهم الفاسقون (110)) (1) . قال بعض السلف: هم خير أمة إذا قاموا بهذا
~~الشرط، فمن لم يقم بهذا الشرط فليس من خير أمة.
# قال: واتفق أئمة الدين على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر واجب
~~على الناس، لكنه فرض على الكفاية كالجهاد وتعلم العلم ونحو ذلك، فإذا قام
~~به من يستكفى به سقط عن الناس، وكان الأجر والدرجة لمن قام به. ومن كان
~~عاجزا عما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأراد أن يقوم
~~به وجب على غيره أن ms0568 يعاونه، حتى يحصل المقصود الذي أمر الله به ورسوله، كما
~~قال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان)
~~(2) .
# فكل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن
~~المنكر. والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، والمنكر اسم جامع لكل
~~ما يكرهه ويسخطه. وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب لعقوبة الدنيا
~~قبل الآخرة، فلا يظن الظان أنها تصيب الظالم الفاعل للمعصية دونه مع سكوته
~~عن الأمر والنهي، بل تعم الجميع. PageV03P381
# وينبغي أن يكون الآمر فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا
~~فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حكيما فيما ينهى عنه، رفيقا عالما قبل
~~الأمر والنهي، رفيقا حين الأمر والنهي، حليما صبورا بعد الأمر والنهي، كما
~~قال تعالى في قصة لقمان: (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك
~~إن ذلك من عزم الأمور (17)) (1) ، فإن الآمر إنما هو مجاهد في سبيل الله،
~~إذ (2)
### | …
### | …
### | …
### | …
### | …
### | …
# أن يفعل ذلك عبادة لله، وطاعة لله ورسوله، وطلبا للنجاة من عقاب الله،
~~ونصحا لعباد الله، لا يفعله لطلب العلو والرئاسة على الناس، ولا لعداوة أو
~~حقد في نفسه على المأمور والمنهي، ولا لغرض يناله بذلك، يكون أمره بالمعروف
~~معروفا غير منكر، ونهيه أيضا معروف غير منكر. وإلا فمتى أراد أن يزيل منكرا
~~بمنكر كان كمن يريد غسل الخمر بالبول، ومن فعل ذلك فقد يكون خسرانه أكثر من
~~ربحه، وقد يكون أقل أو أكثر. والله أعلم. PageV03P382
### | مسألة
# في تلاوة القرآن والذكر، أيهما أفضل
# PageV03P383
# الحمد لله. سئلت أي الأمرين أفضل: تلاوة القرآن أو الذكر؟
# فأجبت قائلا: الظاهر أن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان
~~الشخص ممن أوتي فهما في كتاب الله تعالى، إذا تلا متدبرا لآياته ازداد في
~~الحكم والأحكام، وتجلت له معان وحقائق في أصول الدين وفروع الحلال والحرام،
~~كانت التلاوة في حقه أفضل، كيف وتلاوة القرآن من أفضل الأذكار، والنظر في
~~أحكام الله تعالى من أفضل أعمال الأبرار. وكان عطاء لا رحمه ms0569 الله تعالى
~~يقول: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تبيع وتشتري وتصلي وتصوم
~~وتحج وتطلق ونحو ذلك.
# وإن لم يكن الرجل ممن له أهلية الفهم عن كلام الله تعالى، وكان الذكر
~~أجمع لهمته وأصفى لخاطره، كان اشتغاله بالذكر أفضل والحالة هذه.
# وينبغي للسالك وطالب الزيادة من الخير أن لا يترك حطه منهما، فيذكر الله
~~تعالى إلى أن يجد عنده سأمة ما، فينتقل إلى الذكر بتلاوة القرآن متدبرا
~~بترتيل وتفكر، وتعظيم عند آيات التوحيد والتنزيه، وسؤال عند آيات الوعد
~~والرجاء، وتضرع واستعاذة عند آيات الخوف والوعيد، واعتبار عند آيات القصص.
~~فإن القرآن الكريم لا يسأم قارئه، لاختلاف المعاني الواردة فيه.
# وعند اشتغاله بالذكر ينبغي أن لا يفوته دقيقة نبه عليها بعض المحققين،
~~وهي أن يقصد مثلا عند ذكر "لا إله إلا الله" تلاوة قوله تعالى في سورة محمد
~~- صلى الله عليه وسلم -: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) (1) لتثمر له هذه
~~PageV03P385
# الكلمة المباركة ثمرة الذكر والتلاوة، فيكون جامعا بين الفضيلتين.
# ولكل من التلاوة والذكر آداب وشروط ذكرها العلماء، فينبغي له أن يتحرى في
~~المحافظة عليها، وإن كان له شيخ يربيه ألقى زمام أمره إليه، ليشير بما هو
~~الأولى له عليه. والله أعلم.
# PageV03P386
### | فتوى في السماع
# PageV03P387
# ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله عنهم أجمعين- هل السماع
~~بالقضيب على المخاد (1) مباح وحلال أو حرام؟ لأنه عدل به عن الدف والشبابة،
~~وما هو ذلك؟ أفتونا مأجورين أثابكم الله تعالى.
# أجاب سيدنا وشيخنا الشيخ تقي الدين ابن، تيمية- أطال الله في عمره-:
# الضرب بالقضيب على المخاد هو التغبير الذي قال فيه الشافعي: خلفت ببغداد
~~شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن. ويذكر فيه
~~الإمام أحمد وغيره من الأئمة، ونهوا الناس عن الحضور معهم. وكان الذين
~~يحضرونه أهل زهد وعبادة ودين، يحضرونه لما فيه من التزهيد والترقيق وتحريك
~~القلوب بالحب والحزن والخوف ونحو ذلك، فعده الأئمة من البدع المحدثة في
~~الإسلام، لأن الله إنما شرع للمسلمين سماع القرآن، فهو سماع ms0570 النبيين
~~والعالمين والعارفين والمؤمنين، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه.
# ولم يحضر هذا التغبير أعيان الشيوخ المعروفين، كالفضيل بن عياض وإبراهيم
~~بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطى، بل ولا الشيخ
~~العارف عبد القادر الكيلاني ولا الشيخ عدي والشيخ أبي مدين والشيخ أبي
~~البيان والشيخ حيا، وأمثال هؤلاء من شيوخ المسلمين، والله سبحانه أعلم.
~~وكتبه أحمد ابن تيمية عفا الله عنه. PageV03P389
### | مسألة في رجل شتم شريفا
# PageV03P391
# مسألة
# في رجل من أهل العلم شتمه شريف وقال له: يا جاهل! فقال هو للشريف: الجاهل
~~جدك، ولم يعلم أنه شريف، فقال له الشريف: كفرت لأنك شتمت جدي رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم -.
# الجواب
# لا يحل تكفير المسلم بمثل ذلك، ومن عرف إيمانه لا يقصد بمثل هذا اللفظ
~~لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ادعى على معروف بالخير والدين أنه
~~قصد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يعزر هذا المفتري على أهل
~~الخير والدين، كما لو ادعى على أحد أنه سرق ماله أو قطع الطريق عليه ونحو
~~ذلك من دعاوي التهم التي يعلم براءة المتهم فيها، فإنه يعزر في قولي
~~العلماء من يفتري على أهل الخير بمثل ذلك.
# وسواء كان المتكلم بهذا يعلم أن المخاطب شريف أو لم يكن يعلم لا يحمل ذلك
~~على مراده النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن تكون هناك قرينة تدل على
~~ذلك، مثل أن يكون القائل معروفا بالنفاق والاستهزاء بالرسالة والقرآن ودين
~~الإسلام ونحو ذلك، فمتى ظهرت هذه الكلمة ممن هو معروف بالنفاق كان ذلك
~~قرينة تقوي إرادته النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحبس حينئذ المتهم،
~~ويكشف عن بقية أحواله، ويعاقب إما بالقتل وإما بدونه، لئلا يجترئ أهل
~~النفاق والزندقة على انتهاك حرمة الرسالة.
# والجد المطلق يتناول أبا الأب، وقد يتناول من هو أعلى منه بقرينة، ومن
~~الأشراف العالم والجاهل والبر والفاجر والصادق
# PageV03P393
# والكاذب، ويجب عليهم طاعة الله ورسوله كما يجب على سائر الأمة، ويجب أن
~~تقام عليهم الحدود كما تقام ms0571 على غيرهم، فإن في الصحيحين (1) أن امرأة كانت
~~ذات شرف سرقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - بقطع يدهما، فشق ذلك على أهلها، وقالوا: من يكلم فيها
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن
~~زيد، فكلمه فيها أسامة، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "يا
~~أسامة! أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا
~~إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.
# والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
# و
### | ليس لأحد أن يعتدي على أحد سواء كان شريفا أو لم يكن،
# ومتى اعتدى الشريف أو غيره على الناس كان لهم أن يعتدوا عليه بمثل ما
~~اعتدى عليهم، فإن قال لمسلم: يا كلب يا خنزير! كان له أن يقول له: يا كلب
~~يا خنزير!، ولو قال له: لعنك الله، كان له أن يقول له: لعنك الله، وإن ضربه
~~بغير حق ضرب كما ضربه، وإن أخذ ماله بغير حق أخذ من ماله بقدر ما أخذ من
~~ماله. فإن المسلمين متفقون على أن القصاص ثابت بين الشريف وغير الشريف في
~~الدماء ونحوها. ولو قذف الشريف رجلا محصنا أقيم عليه حد القذف كما يقام على
~~غيره. وليس لأحد أن يسب من لا يسب، سواء كان شريفا أو لم يكن، بل له أن
~~يعاقب من ظلمه ولا يتعدى إلى غيره. وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه قال: "من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه"، PageV03P394
# قالوا: وكيف يسب والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب
~~أمه". ومن يسب من لم يسبه من الأشراف أو غيرهم عزر. ولا يقتل أحد إلا بسب
~~نبي من الأنبياء، فمن يسب نبيا من الأنبياء وجب قتله. وفي الرافضة الذين
~~يسبون الصحابة تفصيل ونزاع. والله أعلم. (هذا جواب الشيخ تقي الدين أحمد
~~ابن تيمية، أثابه ms0572 الله ورضي عنه، وجزاه عن هذه الأمة كل خير في الدنيا
~~والآخرة) .
# PageV03P395
### | قاعدة في حضانة الولد
# PageV03P397
# قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رضي
~~الله عنه:
# الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن
~~سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن
~~لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. صلى الله
~~عليه وعلى آله وسلم تسليما.
# فصل
# في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هو
~~للأب أو للأم؟ أو يخير بينهما؟.
# فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبع سنين خير بين
~~أبويه، أما الجارية فالأب أحق بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعا.
# وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة، ولم يبلغهم
~~سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدا، وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير
~~من المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من كان يأخذ عنه العلم. فأبو بكر
~~الخلال قد طاف بالبلاد، وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا (1)
~~، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه. وأما ما جمعه من نصوصه في أصول
~~PageV03P399
# الدين مثل: "كتاب السنة" نحو ثلاث مجلدات، ومن أصول الفقه والحديث مثل:
~~"كتاب العلم" الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث مثل "كتاب العلل"
~~الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في
~~الرجال والتاريخ= فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه.
# والمقصود هنا أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما: في مسألة البنت،
~~وفي مسألة الابن. وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال: هل تكون مع الأم أو
~~مع الأب أو تخير؟ لكن في الابن ثلاث روايات. وأما البنت فالمنقول عنه
~~روايتان: هل هي للأم أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجه مخرج في مذهبه (1) .
# فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في ms0573 "محرره"
~~(2) . وعنه في الجارية روايتان، وممن ذكرهما أبو عبد الله ابن تيمية في
~~كتابه "التلخيص" و"ترغيب القاصد" (3) . والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها
~~وأسانيدها في عدة كتب.
# وممن
### | ذكر هذه الروايات
# القاضي أبو يعلى في "تعليقه"، نقل عن أحمد في الغلام: أمه أحق به حتى
~~يستغني عنها، ثم الأب أحق به. قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام
~~واستغنى عن الأم PageV03P400
# فالأب أحق به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام إذا عقل
~~واستغنى عن الأم.
# وهذا يشبه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قال:
~~إذا أكل وحده ولبس وحده وتوضأ وحده فالأب أحق به. ونقل ابن المنذر أنه يخير
~~حينئذ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور.
# والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجود في كتب أصحابه. وهو إحدى الروايتين عن
~~مالك، فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى يثغر. ولكن المشهور عنه: أن
~~الأم أحق به ما لم يبلغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد.
# والرواية الثالثة عن أحمد أن الأم أحق بالغلام مطلقا، كمذهب مالك. قال في
~~رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار، فالأم أعطف عليهم
~~مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأب أحق بهم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب
~~أحق بولده غلافا كان أو جارية.
# قال الشيخ أبو البركات (1) : فهذه الرواية تدل على أنه إذا كبر وصار يعقل
~~الأدب فإنه يكون مقره أيضا عند الأم، لكن في وقت الأدب -وهو النهار- يكون
~~عند الأب.
# وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب
~~مالك في "المدونة" (2) أن الأم أحق به ما لم يبلغ، PageV03P401
# وللأب تعاهده عندها وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.
# قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل
~~المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره،
~~وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل ms0574 بن
~~سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي
~~حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك
~~المسائل أحمد وغيره، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق. وأما
~~الذين كانوا يسألونه مطلقا -مثل الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم- فكثيرون.
# وأما حضانة البنت إذا صارت مميزة فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد
~~نقلهما غير واحد من أصحابه، كأبي عبد الله ابن تيمية وغيره:
# إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه.
# والثانية: أن الأم أحق بها.
# قال في رواية إسحاق بن منصور: يقضى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا
~~احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها.
# وقال في رواية مهنا بن يحيى: الأم والجدة أحق بالجارية حتى يتزوج الأب.
# قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد": وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير
~~تخيير، وعنه: الأم أحق بها حتى تحيض.
# PageV03P402
# وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك. ففي "المدونة"
~~(1) : مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرا أو أنثى.
~~فإذا بلغ وهو أنثى نظرت، فإن كانت الأم في حرز ومنعة وتحصين فهي أحق بها
~~أبدا ما لم تنكح وإن بلغت أربعين سنة؟ وإن لم تكن في موضع حرز وتحصين أو
~~كانت غير مرضية في نفسها، فللأب أخذها منها.
# وكذلك الأولياء والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين.
# ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ، فإن كانت
~~الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت، إلا أن تكون
~~صغيرة لا يخاف عليها.
# وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض، ومن سوى الأم
~~والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهي. هذا هو المشهور، ولفظ الطحاوي (2) :
~~"حتى تستغني" كما في الغلام مطلقا.
# ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام: حتى تأكل وحدها وتلبس وحدها وتتوضأ
~~وحدها، ثم تكون مع ms0575 الأب.
# وأبو حنيفة أيضا يجعل الأب أحق بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في
~~الابن، لكن يستثني الأم والجدة خاصة.
# وأما المشهور عن أحمد -وهو تخيير الغلام بين أبويه- فهو مذهب الشافعي
~~وإسحاق بن راهويه. وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما،
~~وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما. وكان يثني عليهما ويعظمهما ويرجح
~~أصول مذاهبهما على من ليست أصول PageV03P403
# مذاهبه كأصول مذاهبهما. وعندهم أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم،
~~والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث.
# وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة (1) .
~~وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في
~~موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت
~~الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها.
# وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا لا عن أحمد
~~ولا عن إسحاق، كما ونقل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نقل عن الحسن بن حي
~~أنها تخير إذا كانت كاعبا.
# والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد -في المشهور عنه- وإسحاق،
~~للحديث الوارد في ذلك، حيث خير النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاما بين
~~أبويه (2) ، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا.
# والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف (3) مخالف لإجماعهم. PageV03P404
# والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة، لا تخيير
~~رأي ومصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره، كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في
~~الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح
~~للمسلمين، ثم قد يصيب ذلك الأصلح للمسلمين، فيكون مصيبا في اجتهاده حاكما
~~بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه، فيثاب على استفراغ وسعه، ولا
~~يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة. كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنو
~~قريظة على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما سأله فيهم بنو عبد
~~الأشهل قال: "ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى ms0576 سيدكم سعد بن معاذ؟! فرضوا بذلك،
~~وطمع من كان يحب استبقاءهم أن سعدا يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في
~~الجاهلية من الموالاة. فلما أتى سعا حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى
~~ذراريهم، وتغنم أموالهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد حكمت
~~فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" (1) . وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك
~~لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر، وإن كان لابد من إنفاذه.
# ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم (2) وغيره من حديث بريدة المشهور، قال فيه:
~~"وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم
~~الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك".
~~PageV03P405
# ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا، فنزلوا على حكم حاكم، جاز
~~إذا كان رجلا مسلما حرا عدلا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا
~~بما فيه حظ للإسلام من قتل أو رق أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن،
~~فأباه الإمام، هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على
~~ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه
~~للمسلمين.
# والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي
~~مصلحة، بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في
~~أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه.
# ولكن معنى قولنا "يخير" أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت،
~~بل قد يتعين فعل هذا تارة وفعل هذا تارة. وقول الله في القرآن (فإما منا
~~بعد وإما فداء) (1) يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تعين هذا في حال
~~وهذا في حال، كما في قوله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن
~~نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) (2) . فتربص أحد
~~الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عين علينا بعض الأوقات، فحينئذ
~~يصيبهم الله ms0577 بعذاب بأيدينا، كما في قوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
~~ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم) (3) .
# ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين: (إنما PageV03P406
# جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو
~~يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في
~~الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (1) لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير
~~مشيئة، فيفعل أي هذه الأربعة شاء، بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال
~~وهذا في حال.
# ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن
~~أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي
~~حنيفة والشافعي وأحمد (2) ، وروي في ذلك حديث مرفوع (3) .
# ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام، كقول مالك، فإن رأى أن القتل
~~هو المصلحة قتل، وإن لم يكن قد قتل.
# ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيئا
~~وجعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في
~~المشهور عنه، فإنهم قالوا: إن رأى المصلحة في جعلها غنيمة قسمها بين
~~الغانمين، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر؛ وإن رأى أن لا
~~يقسمها جاز، كما لم يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة مع أنه فتحها
~~عنوة، كما شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور
~~العلماء. ولأن خلفاءه بعده أبا بكر وعمر وعثمان PageV03P407
# فتحوا ما فتحوه من أرض المغرب والروم وفارس، كالعراق والشام ومصر
~~وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا
~~السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئا للمسلمين داخلا في قوله (ما
~~أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) الآية (1) . ولم يستأذنوا
~~في ذلك الغانمين، بل طلب أكابر الغانمين قسمة العقار، فلم يجيبوهم إلى ذلك،
~~كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير أن يقسم ms0578 أرض مصر،
~~فلم يجيبوهم إلى ذلك. ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك،
~~فضلا عن أن يستطيب أنفس جميع الغانمين.
# وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيئا بنفس الفتح، ومن نصر مذهبه كإسماعيل
~~بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلة في الغنيمة؛ فإن الله حرم على
~~بني إسرائيل المغانم وملكهم العقار، فعلم أنه ليس من المغانم. وهذا القول
~~يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي: أنه يجب قسمة
~~العقار والمنقول، لأن الجميع مغنوم.
# وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة بل صلحا، فلا يكون فيها حجة. ومن حكى
~~عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة -كصاحب "الوسيط" (2) وفروعه- فقد غلط عليه.
~~وقال في السواد: لا أدري ما أقول فيه، إلا أني أظن فيه ظنا مقرونا بعلم وظن
~~أن عمر استطاب أنفس الغانمين، لما روي من قصة المثنى بن حارثة. وبسط هذا له
~~موضع آخر. PageV03P408
# وقول الجمهور أعدل الأقاويل، وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين
~~قالوا: يخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة، لا تخيير شهوة ومشيئة،
~~وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية، كناظر الوقف
~~ووصي اليتيم والوكيل المطلق، لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد
~~ونظر وطلب، ويجزى للأصلح.
# كالرجل المبتلى بعدوين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما، فيبتدئ بماله
~~نفع. وكالإمام في تولية من ولاه الحرب والحكم والمال يختار الأصلح فالأصلح.
~~فمن ولى رجلا على عصابة، وهو يجد فيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله
~~وخان رسوله وخان المؤمنين.
# وهذا بخلاف من خير بين شيئين وله أن يفعل أيهما شاء، كالمكفر إذا خير بين
~~الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل
~~المفضول. وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل، وإن كان أحدهما
~~أفضل. وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما
~~أفضل.
# وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان ms0579
~~نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة، حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن
~~كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة
~~الأربعة وغيرهم من أهل العلم.
# وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون
~~الثلاثة. وتخيير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور.
# وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلا متمتعا، وأنه يتعين الفطر في السفر،
~~كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة، فلا يجيء هذا على
~~أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور
# PageV03P409
# الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ليس له أن يصلي أربعا،
~~فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد
~~من أصحابه في حياته. وحديث عائشة التي تذكر فيه أنه أو أنها صلت في حياته
~~في السفر أربعا كذب عند حداق أهل العلم بالحديث، كما قد بسط في موضعه (1) .
# إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خير فيما يفعله لغيره
~~بولايته عليه، أو بوكالة مطلقة، لم يبح له فيها فعل ما شاء، فعليه أن يختار
~~الأصلح. وأما من تصرف لنفسه، فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب
~~اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء بل وأصلح الأحكام في نفس
~~الأمر. وتارة يبيح له ما شاء من الأنواع التي خير بينهما، كما تقدم. هذا
~~إذا كان مكلفا.
# وأما الصبي المميز فيخير تخيير شهوة، حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر،
~~ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح
~~للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب. بل قد يكون بعض الآباء
~~أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال.
~~فلم يمكن أن يعتبر أحدهما في هذا. بخلاف الصغير، فإن الأم أصلح له من الأب،
~~لأن النساء أوثق بالصغير وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على
~~ذلك وأرحم به ms0580، فهي أقدر وأخبر وأرحم وأصبر في هذا الموضع. فتعينت الأم في
~~حق الطفل غير المميز بالشرع.
# ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم PageV03P410
# مقدمة على قرابة الأب في الحضانة أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من
~~الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء، يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على
~~أقارب الأم، مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب،
~~ومثل: العمة والخالة، ونحو ذلك.
# هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد.
# وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، فتقدم الأخت من الأب على
~~الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم. وهو الذي ذكره الخرقي في
~~"مختصره" (1) وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب.
# وعلل ذلك من علله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة
~~الأم، فإن قرابتها فيها رحم وتعصيب، بخلاف قرابة الأم، فإن فيها رحما بلا
~~تعصيب. فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من الأب مقدمة على الأخت من
~~الأم، والعمة مقدمة على الخالة. كما يقدم أقارب الأب من الرجال على أقارب
~~الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال. بل قد قيل: إنه
~~لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وإن الحضانة لا تثبت إلا لرجل من
~~العصبة أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم.
# وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في
~~مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها،
~~فلما لم يترجح رجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها. PageV03P411
# وأيضا فمجموع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب في الميراث والعقل والنفقة
~~وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من
~~الأحكام، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة.
# ولكن قدموا الأم لكونها امرأة، وجنس النساء مقدمات في الحضانة على
~~الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد، كما قدمت الأم على الأب،
~~وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته ms0581 على أخواله. هذا هو
~~القياس والاعتبار الصحيح.
# وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول،
~~ولهذا كان من قال هذا في موضع يتناقض، ولا يطرد أصله.
# ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى
~~يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا
~~الجنس. فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين في مذهب أحمد، وهو
~~قول مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على
~~الأخت من الأم، ثم يقدم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد وطائفة
~~من أصحاب أحمد. وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمات على العمات لكونهن من
~~جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولى، ثم
~~من كانت لأب، ثم من كانت لأم.
# وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم
~~قرائب الأم ظهر التناقض. وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على
~~الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل،
~~ولهذا قالوا في القول
# PageV03P412
# الآخر: إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي القديم.
~~وهذا أطرد لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع.
# وطائفة أخرى طردت أصلها، فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب،
~~كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه، حتى قدم
~~الخالة على الأخت من الأب، كقول زفر ورواية عن أبي حنيفة، ووافقهم ابن
~~سريج. ولكن أبو يوسف استشنع ذلك، فقدم الأخت للأب، ورواه عن أبي حنيفة.
# وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه، حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم
~~الأب. وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا
~~أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام. وكان يقول في القياس: قياس
~~زفر أقبح من البول في المسجد.
# وزفر كان معروفا بالإمعان في ms0582 طرد قياسه، لكن الشأن في الأصل الذي قاس
~~عليه وفي علة الحكم في الأصل، وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل
~~استقام قياسه.
# وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل فيه التوقيت، ويصح النكاح
~~لازما. وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد.
# فكان مضمون هذا القول أن نكاح المتعة يصخ لازما غير موقت، وهو خلاف
~~النصوص وخلاف إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين، لم يكن
~~لمن بعدهم إحداث قولي يناقض القولين، ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول
~~عن الصواب. وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطل، أو يصخ مؤجلا،
~~فالقول بلزومه مطلقا خلاف الإجماع.
# وسبب هذا القول اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل،
# PageV03P413
# وينعقد النكاح لازما بدون حصول غرض المشترط. فألزموه ما لم يلتزمه ولا
~~ألزمه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاح الشغار ونحوه مما شرط فيه نفي
~~المهر، وصححوا نكاح التحليل لازما مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك.
# وقد ثبت في الصحيحين (1) عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". فدك النص
~~على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا
~~كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد،
~~وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط، فكيف بالشروط
~~في النكاح؟.
# وأصل عمدتهم كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة
~~والإجماع. فقاسوا النكاح الذي شرط فيه نفي المهر على النكاح الذي ترك تقدير
~~الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد. ثم
~~طرد أبو حنيفة قياسه، فصحح نكاح الشغار بناء على أن لا موجب لفساده إلا
~~إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدا.
# وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بين الشغار وغيره،
~~بأن فيه تشريكا في البضع أو ms0583 تعليقا للعقد أو غير ذلك، مما قد بسط في غير
~~هذا الموضع (2) ، وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة، وأن الصواب مذهب أهل
~~المدينة مالك وغيره، PageV03P414
# وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة
~~في إفساده هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه
~~نفي المهر أو مهر فاسد. فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول
~~النكاح بلا مهر. فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن
~~الله فيه، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنا غير مسافح، كما
~~قال تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين)
~~(1) . فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله. وهذا بخلاف من اعتقد
~~أنه لابد من مهر لكن لم يقدره، كما قال تعالى: (لا جناح عليكم إن طلقتم
~~النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) إلى قوله (وإن طلقتموهن من قبل
~~أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة) الآية (2) . فهذا نكاح المهر المعروف، وهو
~~مهر المثل.
# قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل -وهو
~~السعر- أو الإجارة بثمن المثل لا يصح، بخلاف النكاح.
# وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في
~~البيع. وأما في الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه
~~يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها
~~الناس بالكراء، أو سكن في خان أو حجرة جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو
~~خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة، أو
~~PageV03P415
# ركب دابة مكارئ يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب الناس بالأجرة. فإن
~~هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط
~~ذلك. فهذه إجارة بأجرة المثل. وكذلك لو ابتاع طعاما بمثل ما ينقطع به
~~السعر، أو ms0584 بسعر ما يبيع الناس، أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا
~~يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.
# وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري
~~أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا القول الآخر بفساد هذه العقود، كقول الشافعي
~~وغيره. وبسط هذه المسائل في مواضع أخر.
# والمقصود هنا كان مسائل الحضانة، وأن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم
~~قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت فروعهم اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة،
~~وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم. بل الصواب بلا ريب أنها قدمت لكونها
~~أنثى، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل، فتقدم الأم على الأب،
~~والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم.
~~وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب، فهذا لبسطه موضع آخر، إذ المقصود
~~هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبية والصبي.
# فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا
~~كان تعيين الأب كما قال مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة. ولهذا
~~قالوا: إذا اختار الأب مدة ثم اختار الأم فله ذلك. حتى قالوا: متى اختار
~~أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إن اختار ابتداء. وهذا قول القائلين
~~بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل. وقالوا: إذا اختار الأم
~~كان عندها ليلا،
# PageV03P416
# وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه. هذا مذهب الشافعي وأحمد،
~~وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهده عندها وأدبه
~~وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم.
# قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارا، ولم يمنع
~~من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل.
# فأما البنت إذا خيرت -فكانت عند الأم تارة وعند الأب تارة- أفضى ذلك إلى
~~كثرة مرورها وتبرجها وانتقالها من مكان إلى مكان، ولا يبقى الأب موكلا
~~بحفظها ولا الأم موكلة بحفظها، وقد عرف بالعادة أن ما تناوب الناس على ms0585 حفظه
~~ضاع. ومن الأمثال السائرة: لا تصلح القدر بين طباختين.
# وأيضا فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة، فلا يبقى
~~الأب تام الرغبة في حفظها، ولا الأم تامة الرغبة في حفظها. وليس الذكر
~~كالأنثى، كما قالت امرأة عمران (1) (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) إلى
~~قوله (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر
~~كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36)
~~فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا) إلى قوله (وما
~~كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) . فهذه مريم احتاجت إلى من
~~يكفلها ويحضنها، حتى اقترعوا على كفالتها، فكيف بمن سواها من النساء؟
# وهذا أمر يعرف بالتجربة: أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا
~~يحتاج إليه الصبي، وكل ما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها. PageV03P417
# ولهذا كان لباسها المشروع لباسا لما يسترها، ولعن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - من يلبس منهن لباس الرجال (1) ، وقال لأم سلمة في عصابتها: "لية لا
~~ليتين"، رواه أبو داود وغيره (2) . وقال في الحديث الصحيح (3) : "صنفان من
~~أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على
~~رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها؛ ورجال معهم سياط
~~مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله".
# وأيضا فأمرت المرأة في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها، وفي
~~الإحرام أن لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقى فوق الصفا
~~والمروة، كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها. ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي
~~محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرة
~~مميزة، وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ وفي الحديث:
~~"النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه" (4) .
# فهذا مما يبين أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها
~~وصونها، وترددها بين الأبوين مما يخل بذلك، من جهة أنها ms0586 هي لا يجتمع قلبها
~~على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين PageV03P418
# على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال
~~حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها ومرورها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد
~~الأبوين مطلقا، ولا تمكن من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين
~~مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم.
# وليس في تخييرها نص صريح ولا قياس صحيح.
# والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لاسيما والذكر محبوب مرغوب فيه،
~~فلو اختار أحدهما كانت محبة الآخر له تدعوه إلى مراعاته. والبنت مزهود
~~فيها، فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه، فكيف مع زهدها فيه؟
~~فالأصلح لها لزوم أحدهما لا التردد بينهما.
# ثم هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما. فمن عين الأم -كمالك وأبي حنيفة
~~وأحمد في إحدى الروايتين- لابد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها، ولهذا
~~قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو
~~كانت غير مرضية فللأب أخذها منها. وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي
~~اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعا، وقد عللوا ذلك
~~بحاجتها إلى الحفظ والتزويج، والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لابد
~~من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة
~~لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج
~~في بدنها إلى أحد. والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم.
# وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر، فلو قدر أن
~~الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو يهمل حفظها لاشتغاله عنها أو لقلة دينه،
~~والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تقدم الأم في هذه الحال.
# PageV03P419
# فكل ما قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها واندفعت به
~~مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب. حتى
~~الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما ms0587 نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال
~~مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن لا يصونه والأم تصونه لم يلتفت إلى
~~اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد،
~~ويكون الصبي قصده الفجور ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين
~~والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر يذوده
~~ويصلحه. ومتى كان كذلك فلا ريب أنه لا يمكن ممن يفسد معه حاله.
# ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه
### | لا حضانة لفاسق،
# وكذلك قال الحسن بن حي. وقال مالك: كل من له الحضانة من أب أو ذات رحم أو
~~عصبة ليس له كفاية، ولا موضعه بحرز، ولا يؤمن في نفسه= فلا حضانة له.
~~والحضانة لمن فيه ذلك وإن بعد، وينظر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز،
~~فرب والد يضيع ولده.
# وكذلك قالوا -وهذا لفظ القاضي أبي يعلى في "خلافه"-: إنما يكون التخيير
~~بين أبوين مأمونين عليه، يعلم أنه لا ضرر عليه من كونه عند واحد منهما.
~~فأما من لا يقوم بأمره ويخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه.
# والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها
~~لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (1) . فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك،
~~PageV03P420
# والآخر لا يأمره، كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر، لأن ذلك الآمر له
~~هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص الله ورسوله.
# فلا يقدم من يعصي الله فيه على من يطيع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد
~~الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله، والآخر
~~لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام= قدم من يفعل الواجب ولو اختار
~~الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال.
# بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إما أن يرفع يده عن
~~الولاية ويقام من يفعل الواجب؛ وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب. فإذا
~~كان مع حصوله عند ms0588 أحد الأبوين يحصل طاعة الله ورسوله لاحقه، ومع حصوله عند
~~الآخر لا يحصل له= قدم الأول قطعا. وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل
~~بالرحم والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرا وعاجزا، بل هو من جنس
~~الولاية ولاية النكاح والمال التي لابد فيها من القدرة على الواجب وفعله
~~بحسب الإمكان.
# وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة، وهو يتركها عند ضرة أفها، لا تعمل مصلحتها
~~بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها، فالحضانة
~~هنا للأم قطعا، ولو قدر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأم، فكيف إذا لم
~~يكن كذلك؟
# ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام على تقديم أحد الأبوين
~~مطلقا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقا. والعلماء متفقون على أنه لا يتعين
~~أحدهما مطلقا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر لا يقدم من يكون كذلك
~~على البر العادل المحسن القائم بالواجب.
# PageV03P421
# وقد عللوا أيضا تقديم الأب بعلة ثانية: بأنها إذا صارت مميزة صارت ممن
~~تخطب وتزوج، واحتاجت إلى تجهيزها. فإذا كانت عند الأب كان أنظر لها وأحرص
~~على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم.
# وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة
~~وسائر النساء، بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحق به مطلقا. لكن
~~قال: الأم والجدة أحق من الأب. فكلاهما قدم الأب وغيره من العصبة على
~~النساء، لكن أحمد طرد القياس، فقدمه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرق بين
~~عمود النسب وغيره. والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: "الخالة أم" (1)
~~. فإذا قدم الأب على النساء اللائي يقدمن عليه في حال صغرها دل ذلك على أن
~~الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء. وتبين أن أصل هذا القول ليس في مفردات
~~أحمد، بل هو طرد فيه قياسه. وبكل حال فهو قول قوي متوجه، ليس بأضعف من غيره
~~من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رجح الأم مطلقا بأقوى منه.
# ومما يقوي هذا القول أن ms0589 الولد مطلقا إذا تعين أن يكون في مدينة أحد
~~الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنا في مصير والأم ساكنة في مصر آخر، فالأب
~~أحق به مطلقا، سواء كان ذاكرا أو أنثى عند عامة العلماء، كشريح القاضي
~~وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إن الأب إذا أراد سفر نقلة لغير
~~الضرار إلى مكان بعيد فهو أحق به، لأن كونه مع الأب أصلح له، لحفظ نسبه
~~وكمال تربيته PageV03P422
# وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تضيع مصلحته. ولا يختر الغلام هنا عند
~~أحدهما لا يخرج إلى الأحق، فالأب أيضا أحق، لأن كونه عند الأب أصلح له.
~~وهذا المعنى منتف في الابن، لأنه يختر، ولأن تردد الابن بينهما لا مضرة
~~عليه فيه، بخلاف البنت.
# واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادت أن تسافر بالذكر أو الأنثى من المصر
~~الذي فيه عقد النكاح فالأب أحق به، فلم يرجح أحد منهم الأم مطلقا. فدل ذلك
~~على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقا -ذكرا كان أو أنثى- مخالف لهذا الأصل
~~الذي اتفقوا عليه. وعلم أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذر الجمع
~~بينهما، وهذا ثابت في الولد وإن كان طفلا يكون في بلد أبيه، بخلاف ما إذا
~~كان الأبوان في مصر واحد، فهاهنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعا بين
~~المصلحتين.
# ومما يقويه أيضا أن الغلام إذا بلغ معتوها كانت حضانته للأم كالصغير، وإن
~~كان عاقلا كان أمره إلى نفسه، ليسكن حيث شاء إذا كان مأمونا على نفسه، عند
~~الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن كان غير مأمون على نفسه فلم يجعل أحد الولاية
~~عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمه إليه وتأديبه، والأب يمنعه من السلفة.
# وأما الجارية إذا بلغت فنقل عن مالك: الوالد أحق بضمها إليه حتى تزوج
~~ويدخل بها الزوج، ثم هي أحق بنفسها، وتسكن حيث شاءت، إلا أن يخاف منها هوى
~~أو ضيعة أو سوء موضع، فيمنعها الأب بضمها إليه.
# وقد تقدم في "المدونة" (1) : أن الأم أحق بها ما لم تنكح، وإن
~~PageV03P423
# بلغت أربعين ms0590 سنة. وكذلك قال أبو حنيفة في البكر، قال: الأب أحق بها
~~مأمونة كانت أو غير مأمونة، والثيب هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة. وقال
~~الشافعي: هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة، بكرا كانت أو ثيبا.
# وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في "المحرر" (1) روايتين ووجها:
# أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوج ويدخل بها الزوج.
# وهذا هو الذي نصره القاضي وغيره في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت
~~وكانت بكرا فعليها أن تكون مع أبيها، حتى تتزوج ويدخل بها الزوج. ولم
~~يذكروا فيه نزاعا.
# والرواية الثانية عن أحمد: تكون عند الأم. وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ
~~أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه
~~على هذه الرواية نقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية:
~~الأم والجدة أحق بالجارية ما لم تتزوج.
# فجعلها أحق بها ما لم تتزوج في رواية مهنا. وقال في رواية ابن منصور:
~~يقضى بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها.
~~فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعد، وهذا يكون
~~بالبلوغ.
# وأما القول الثالث في مذهبه وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام،
~~فهذا يجيء على قول من يخيرها كما يخير الغلام. فمن خير الغلام قبل بلوغه
~~كان أمره بعد البلوغ إلى نفسه، كما قاله PageV03P424
# الشافعي وأحمد وغيرهما. لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في
~~"محرره" (1) في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير
~~البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند
~~الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة
~~وأحمد في رواية ومالكا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند
~~الأب. وهذا يدل على أن الأب أحفظ لها وأصون وأنظر في مصلحتها، فإذا كان
~~كذلك فلا فرق بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك.
# فتبين أن هذا القول -وهو
### | جعل البنت ms0591 المميزة عند الأب- أرجح
# من غيره. والله أعلم.
# فصل
# والتخيير قد جاء فيه حديثان. وأما تقديم الأم على الأب في حق الصغير
~~فمتفق عليه، وقد جاء فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت:
~~يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له
~~سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني، فقال: "أنت أحق به ما لم تنكحي". رواه أحمد
~~(2) وأبو داود (3) ، لكن في لفظه: "وأن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني".
# وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا
~~افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى
~~الأنصاري والزهري ومالك والثوري PageV03P425
# والشافعي وأحمد وإسحاق، وبه نقول. وقد روينا عن أبي بكر الصديق أنه حكم
~~على عمر به، وبصبي لعاصم لأمه أم عاصم، وقال: حجرها وريحها ومسها خير له
~~منك حتى يشب فيختار.
# وأما التخيير: فعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير غلاما
~~بين أبيه وأمه.
# رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه (1) ، ورواه أبو داود (2) وقال فيه:
~~"إن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد
~~سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
~~"استهما عليه". قال زوجها: من يحاققني في ولدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: "هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت". فأخذ بيد أمه، فانطلقت
~~به. ورواه النسائي (3) كذلك، ولم يذكر "استهما عليه". ورواه أحمد (4) كذلك
~~أيضا، لكنه قال فيه: "جاءت امرأة قد طلقها زوجها"، ولم يذكر فيه قولها "قد
~~سقاني ونفعني".
# وقد روي تخيير الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي
~~هريرة، فروى سعيد بن منصور وغيره (5) أن عمر بن الخطاب خير غلاما بين أبيه
~~وأمه. وعن عمارة الجرمي أنه قال: خيرني علي بين عمي وأمي وكنت ابن سبع أو
~~ثمان (6) . وروي ms0592 نحو ذلك عن PageV03P426
# أبي هريرة (1) ، ولم يعرف لهم مخالف، مع أنها في مظنة الاشتهار وأما
~~الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده أن جده أسلم وأبت
~~امرأته أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يبلغ، قال: فأجلس النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - الأب هاهنا والأم هاهنا، ثم خيره وقال: "اللهم اهده"، فذهب إلى
~~أبيه. هكذا رواه أحمد والنسائي (2) .
# ورواه أبو داود (3) عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدي رافع
~~بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~فقالت: ابنتي وهي فطيم أو شبيهه، وقال رافع: ابنتي. فقال له رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم -: "اقعد ناحية"، وقال لها: "اقعدي ناحية"، وأقعد
~~الصبية بينهما، ثم قال: "ادعواها"، فمالت إلى أمها، فقال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "اللهم اهدها"، فمالت إلى أبيها فأخذها.
# وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان
~~الأنصاري. وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم، فقال ابن المنذر: في إسناده مقال،
~~وقال غيره: هذا الحديث لا يثبته أهل النقل، وقد روي على غير هذا الوجه، وقد
~~اضطرب فيه هل كان المخير ذكرا أم أنثى؟ ومن روى أنه كان أنثى قال فيه:
~~"إنها فطيم" أي مفطومة.
# وفعيل بمعنى مفعول إذا كان صفة يستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال: عين
~~كحيل، وكف خضيب، فيقال للصغير "فطيم" وللصغيرة "فطيم". ولفظ "الفطيم" إنما
~~يطلق على قريب العهد بالفطم، فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يخير
~~باتفاق العلماء. PageV03P427
# وأيضا فإنه خير بين مسلم وكافر، وهذا لا يجوز عند الأئمة الأربعة وغيرهم،
~~فإن القائلين بالتخيير لا يخيرون بين مسلم وكافر، كالشافعي وأحمد. وأما
~~القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يخيرون. لكن
~~أبو ثور يقول بالتخيير، فيما حكاه عنه ابن المنذر. والجمهور على أنه لا
~~حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوار وعبد الله بن الحسن.
# وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن ms0593 القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة،
~~وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الإصطخري من أصحاب الشافعي. وقد
~~قيد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحق بولدها ما لم يعقل الأديان، ويخاف أن يألف
~~الكفر.
# والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلما باتفاقهم. وكذلك إن كانت الأم مسلمة
~~عند الجمهور، كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة، فإنه يتبع عند الجمهور في الدنيا
~~خيرهما دينا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو
~~الرق يتبع الأم بالاتفاق.
# وقد حمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنها
~~تختار الأب بدعائه، فكان ذلك خاصا في حقه.
# وأيضا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن
~~الأب كان من الأنصار فأسلم، والأم لم تسلم.
# وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار، فلم يكن فيهم إلا مسلمة، حتى قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء
~~الأنصار" (1) . PageV03P428
# ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة لم يكره أحدا على
~~الإسلام، ولا ضرب الجزية على أحد، ولكن هادن اليهود مهادنة. وأما الأنصار
~~ففشا فيهم الإسلام، وكان فيهم من لم يسلم، بل كان مظهرا لكفره، فلم يكونوا
~~ملتزمين لحكم الإسلام. وكذلك كان عبد الله بن أبي ابن سلول وغيره قبل أن
~~يظهروا الإسلام.
# وقد ثبت في الصحيحين (1) من حديث أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~ذهب يعود سعد بن عبادة، فمر بمجلس من الأنصار ... الحديث. ففي، هذا الحديث
~~وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير
~~إسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~إذ التزام حكمه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم
~~يكن المشركون كذلك. فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن
~~يهدي الصغير، فاستجاب الله. ودعاؤه له أن يهديه دليل على أنه كان طالبا
~~مريدا لهداه، وهداه أن يكون عند ms0594 المسلم لا عند الكافر. لكن لم يمكنه ذلك
~~بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه المقبول. وهذا
~~يدل على أنه متى أمكن أن يجعل مع المسلم لا يجعل مع الكافر.
# وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمين جريان حكم الله ورسوله
~~عليهم، يحكم بينهم بذلك. نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل
~~الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريان حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن
~~الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذ في تغليب الإسلام بالدعاء
~~كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان الاجتهاد في ظهور الإسلام
~~ودعاؤه واجبا بحسب الإمكان.
# وعلى هذا فالحديث إن كان ثابتا دليل على التخيير في الجملة.
# لكن قد اختلف في المخير: هل كان صبيا أو صبية؟ فلم يتبين أحدهما، فلا
~~يبقى فيه حجة على تخيير الأنثى، لا سيما والمخيرة كانت فطيما، وهذه لا تخير
~~باتفاقهم، وإنما كان تخيير هذه إن صح الحديث من جنس آخر.
# (آخر ما وجد، والحمد لله وحده، وصلي الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
~~وسلم. وكتب في شهر ربيع الأول من شهود سنة أربع وستين وسبعمئة، أحسن الله
~~عاقبتها بمنه وكرمه، آمين يا رب العالمين. وكتبها أضعف العباد عبد المنعم
~~البغدادي الحنبلي عفا الله عنه بمنه وكرمه) . PageV03P429
# مقدمة
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين.
# وبعد، يسرني أن أقدم إلى القراء
### | المجموعة الرابعة
# من "جامع المسائل"، التي تحتوي على مسائل وفتاوى كثيرة لم تنشر من قبل،
~~ومعظمها مما كتبه شيخ الإسلام مدة إقامته في مصر في السنوات (705-712) .
~~وقد كانت الفتاوى المصرية جمعت بواسطة بعض تلاميذ الشيخ فبلغت ستة مجلدات
~~أو سبعة. يقول ابن القيم في نونيته (1) :
# وكذاك أجوبة له مصرية في ست أسفار كتبن سمان
# ويذكر ابن رجب أن الفتاوى المصرية سبع مجلدات (2) . أما ابن عبد الهادي
~~(3) فلم يحدد عدد المجلدات، بل قال: "وقد جمع بعض أصحابه قطعة كبيرة من
~~فتاويه الفروعية ms0595، وبوبها على أبواب الفقه في مجلدات كثيرة، تعرف بالفتاوى
~~المصرية، سماها بعضهم الدرر المضية من فتاوى ابن تيمية". وذكر بعض
~~المترجمين له PageV04P005
# - مثل الصفدي (1) وابن شاكر (2) - أن بعض الناس جمع فتاويه بالديار
~~المصرية مدة سبع سنين في علوم شتى، فجاءت ثلاثين مجلدة.
# ولعل هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف النسخ، فبعضها كانت في ستة مجلدات،
~~وأخرى في سبعة، وأخرى في ثلاثين جزءا من الأجزاء الصغار. أو أن الثلاثين
~~كانت تحتوي على الفتاوى التي أفتى بها في مصر وفي غيرها، فالمجلدات الستة
~~أو السبعة كانت قسما من عامة مجلدات فتاواه التي جمعت. ومما يؤيد هذا الرأي
~~أن ابن القيم ذكر أن الأجوبة المصرية في ست أسفار، ثم ذكر بعد أبيات (3) :
# وكذا فتاواه، فأخبرني الذي أضحى عليها دائم الطوفان
# بلغ الذي ألفاه منها عدة ال أيام من شهر بلا نقصان
# سفر يقابل كل يوم، والذي قد فاتني منها بلا حسبان
# يقصد أن ما وجد من عامة فتاواه كان ثلاثين مجلدا، أما ما لم يوجد منها أو
~~لم يجمع بل تفرق في البلدان فهذا لا يعد ولا يحصى.
# ومهما يكن من شيء فإن مجموعة الفتاوى المصرية للشيخ كانت مرتبة على
~~الأبواب، وكانت تسمى "الدرر المضية". ومما يؤسف له أنها أصبحت شذر مذر، ولم
~~توجد كاملة حتى الآن، PageV04P006
# وبعد البحث الشديد والتتبع الطويل في مكتبات المخطوطات وفهارسها وقفت على
~~أربعة مجلدات منها، وبقي مجلدان أو ثلاثة لازلت في البحث عنها، ولعل الله
~~ييسر الحصول عليها في المستقبل.
# وقد تم نشر كثير من الفتاوى المصرية المتفرقة ضمن بعض المجلدات من
~~"مجموعة الفتاوى الكبرى" (طبعة مصر) و"مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، ولكن
~~دون تمييز بين الفتاوى المصرية وغير المصرية، ولا يمكن معرفتها إلا بالرجوع
~~إلى الأصول أو مقابلتها مع "مختصر الفتاوى المصرية" للبعلي (ت 777) ، وهو
~~مطبوع، مرتب على الأبواب كالأصل (1) ، وفيه اختصار شديد للفتاوى، اقتصر فيه
~~المختصر على النكت والفوائد والمسائل المستغربة من كلام الشيخ، واقتبس
~~أحيانا سطرا أو سطرين أو أسطرا قليلة من الفتاوى الطويلة. ومن ms0596 أمثلة ذلك:
~~الفتوى رقم (9) ضمن "مجموعة الفتاوى الكبرى" (1/8-23) ، نجد منها في
~~"المختصر" (ص 14- 15) ستة أسطر فقط، والفتوى رقم (17) من "مجموعة الفتاوى
~~الكبرى" (1/39-42) ، اقتبس منها في "المختصر" (ص 27) نصف سطر. وهكذا في
~~كثير من الفتاوى والمسائل. ولذا أرى أن هذا المختصر وإن كان "فيه من
~~الفوائد ما لم يوجد في غيره من المطولات" - كما قال الحافظ ابن حجر (2) -
~~ونافعا لمعرفة آراء PageV04P007
# شيخ الإسلام في المسائل التي سئل عنها، فإنه لا يغني عن الرجوع إلى أصل
~~كلامه الذي أورد فيه الحجج، وناقش أصحاب الأقوال المرجوحة، وفصل القول في
~~بعض المسائل، واستطرد إلى مباحث وفوائد أخرى مهمة، كما يظهر ذلك بالمقارنة
~~بين الأصل والمختصر.
# عثرت على مجلد من الأصل في مكتبة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة ضمن
~~مجموعة المكتبة المحمودية برقم [1402] ، وهو الجزء الثاني منه، عدد أوراقه
~~207 ورقة. وقد كتب الناسخ في آخره: "وكان الفراغ من هذا الجزء الثاني من
~~كتاب الدرر فتاوى الشيخ رحمه الله ورضي عنه على يد أبي بكر بن أحمد بن عبد
~~الله ابن عبد الغني بن أبي بكر بن أبي القاسم البعلي - عفا الله عنه - في
~~خامس شهر جمادى الآخر (كذا) سنة اثنتين وأربعين وسبعمئة ببعلبك".
# والنسخة بخط نسخي جيد، والأخطاء فيها قليلة، وهي مقابلة على الأصل
~~المنسوخ منه كما يظهر من الدوائر المنقوطة ومن الإلحاقات والتصحيحات على
~~هوامشها.
# وهذا الجزء يحتوي على قسم من باب الأدعية والأذكار، وباب الكسوف، وباب
~~الاستسقاء، وباب الحكم في ترك الصلاة، وكتاب الجنائز. وعدد المسائل
~~والفتاوى الموجودة فيه مئة مسألة. وقد أفردت منها تلك المسائل التي لم تنشر
~~ضمن "مجموع الفتاوى"، فكان عددها 54 مسألة، بعضها طويلة جدا، مثل المسألة
~~الأولى في شرح حديث أبي بكر "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ... "،
~~والمسألة الثانية والتسعين في إهداء الثواب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-. وقد ورد
# PageV04P008
# ذكر المسألتين في بعض المصادر القديمة، فقد ذكر الأولى ابن رشيق (1)
~~بعنوان "شرح دعاء أبي بكر"، وابن عبد الهادي (2) بعنوان " [شرح] حديث
~~الدعاء الذي علمه النبي - صلى ms0597 الله عليه وسلم - لأبي بكر الصديق "اللهم إني
~~ظلمت نفسي ظلما كثيرا"". والمسألة الأخرى ورد ذكرها بعنوان "رسالة في إهداء
~~الثواب للنبي - صلى الله عليه وسلم - " عند ابن رشيق (3) . وهناك مسائل
~~أخرى كثيرة في حكم تارك الصلاة وغير ذلك تنشر في هذه المجموعة لأول مرة.
# ووجدت 13 مسألة من الفتاوى المصرية ضمن مجموعة في مكتبة تشستربيتي برقم
~~[3537] (الورقة 89 أ-97ب) مكتوبة في سنة 756 بخط علي بن حسن بن محمد
~~الحرانى كما هو مثبت في آخرها. فضممتها إلى ما استخلصتها من المجموعة
~~السابقة.
# أما المسائل الأخرى التي تلي الفتاوى المصرية في هذه المجموعة فهي مأخوذة
~~من نسخة حديثة الخط من فتاوى الشيخ، محفوظة في المكتبة القادرية ببغداد
~~برقم [491] ، عدد أوراقها 193 ورقة، وهي بخط نسخي معتاد، كتبها محمد بن علي
~~بن الملا أحمد سبته، وفرغ منها في 21 من شعبان سنة 1306. وهذه النسخة تحتوي
~~على "مسائل وردت من الصلت" ومسائل أخرى لم تنشر ضمن "مجموع الفتاوى". وقد
~~ذكر ابن عبد الهادي (4) "أجوبة PageV04P009
# كثيرة عن مسائل وردت من الصلت"، وذكرها ابن رشيق (1) بعنوان "أجوبة مسائل
~~الصلط"، وذكرها الصفدي وابن شاكر (2) بعنوان "جواب مسائل وردت من الصلت".
~~وكانت هذه المسائل في حكم المفقود، حتى وفقني الله للعثور عليها في هذه
~~النسخة، فالحمد لله على ذلك.
# وأجوبة هذه المسائل مختصرة موجزة في أسطر قليلة، اقتصر فيها الشيخ على
~~ذكر الحكم في المسألة دون الخوض في التفاصيل والحجج والمناقشات. أما
~~المسائل الأخرى في المجموع فهي على أسلوبه المعروف في الاستطراد والتفصيل،
~~وبعد مقابلتها على "مجموع الفتاوى" حصلت على قدر لا بأس به من المسائل التي
~~لم تنشر ضمنه، فأدخلتها في هذه المجموعة الرابعة.
# والرسالة الأخيرة هنا كانت مجهولة العنوان والمؤلف ضمن مجموع من مجاميع
~~المدرسة العمرية الموجودة في دار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع 91] ،
~~(الورقة 137-146) ، وهذا المجموع يحتوي على كثير من رسائل شيخ الإسلام،
~~وبعضها بخطه. وقد تأملت في هذه الرسالة فوجدتها مضطربة في الترتيب، وينبغي
~~أن يكون ترتيب أوراقها كما يلي: (146، 138-145، 137) . والرسالة بخط نسخي
~~جيد، وقد كتب في ms0598 أعلى الورقة (137/أ) بيد بعض المفهرسين "الكلام في
~~الصفات"، ولما قرأت PageV04P010
# فيها بعد ترتيب أوراقها وجدتها في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن
~~حمويه (ت 652) ، ناقش فيها بعض آرائه في التصوف ووحدة الوجود، وبين
~~مصادرها، وانتقدها في ضوء الكتاب والسنة.
# وقد ذكر شيخ الإسلام ابن حمويه في بعض مؤلفاته (1) ورد عليه، ولم أجد من
~~أشار إلى مؤلف له في هذا الموضوع، وعلى هذا فتكون لهذه الرسالة قيمة كبيرة،
~~وتضاف إلى جملة مؤلفاته في الرد على القائلين بوحدة الوجود (ابن عربي
~~وأمثاله) .
# وقد بعث المؤلف هذه الرسالة إلى أحد أتباع سعد الدين بن حمويه، ولم أتمكن
~~من تحديد اسمه لكونها ناقصة الأول والآخر في هذه النسخة التي وصلت إلينا،
~~والتي تبدأ بأثناء نص مقتبس من كلام الشخص المذكور وتعليق المؤلف عليه،
~~وكتب في آخرها: "بياض كبير". وهذا يدل على أن الأصل المنسوخ عنه كان ناقصا
~~من آخره. ولم أجد نسخة أخرى من هذه الرسالة تكمل النقص، فأبقيتها كما هي
~~حفاظا على الموجود منها ليستفاد.
# وفي الختام أحمد الله على توفيقه لإخراج هذه المجموعة، وأدعوه أن يجعلها
~~نافعة للباحثين وطلاب العلم، وأرجو منهم أن لا ينسوني في دعواتهم الصالحة.
~~والحمد لله أولا وآخرا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين.
# محمد عزير شمس PageV04P011
### | - نماذج من الأصول الخطية
# PageV04P013
# مسائل من الفتاوى المصرية
# PageV04P021
# بسم الله الرحمن الرحيم
# مسألة
# في شرح الحديث الذي ذكره الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" عن أبي بكر
~~الصديق رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله! علمني دعاء أدعو به في
~~صلاتي، فقال: قل: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا
~~أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم" (1) .
# شرحه الحكيم فقال (2) : هذا عبد اعترف بالظلم، ثم التجأ إليه مضطرا، لا
~~يجد لذنبه ساترا غيره، ثم سأله مغفرة من عنده.
# والأشياء كلها من عنده، ولكن أراد شيئا مخصوصا ليس مما بذله للعامة، فلله
~~تعالى رحمة قد عمت الخلق برهم وفاجرهم، سعيدهم ms0599 وشقيهم، في أرزاقهم ومعايشهم
~~وأحوالهم؛ ثم له رحمة خص بها المؤمنين، وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمة خص
~~بها المتقين، وهي رحمة الطاعة لله تعالى؛ ولله رحمة خص بها الأولياء نالوا
~~بها الولاية، وله رحمة خص بها الأنبياء نالوا بها النبوة. ولما ذكر في
~~PageV04P023
# تنزيله الأنبياء قال: (ووهبنا لهم من رحمتنا) (1) . وقال الراسخون في
~~العلم: (وهب لنا من لدنك رحمة) (2) . فإنما سألوه رحمة من عنده.
# فهذا صورة ما شرحه الحكيم الترمذي، ولم يذكر صفة الظلم وأنواعه كما ذكر
~~صفات الرحمة.
# والمسئول شرح ما مفهوم قول الصديق "ظلمت نفسي ظلما كثيرا"؟ والذنب بين
~~يدي الله تعالى لا يحتمل المجاز، والصديق من أئمة السابقين، والرسول - صلى
~~الله عليه وسلم - أمره بذلك، فسيدي بسط القول في ذلك مما يفهمه السائل، وما
~~هو الظلم الذي نسبه الصديق إلى نفسه كما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-؟
# أجاب
# الحمد دلله. الدعاء الذي فيه
### | اعتراف العبد بظلم نفسه ليس من خصائص الصديقين
# ومن دونهم، بل هو من الأدعية التي يدعو بها الأنبياء وهم أفضل الخلق، قال
~~الله تعالى عن آدم وحواء: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا
~~لنكونن من الخاسرين (23)) (3) ، وقال موسى عليه السلام: (رب إنى ظلمت نفسى
~~فاغفر لى فغفر له إنه هو PageV04P024
# الغفور الرحيم (16)) (1) ، وقد دعا غيرهم بنحو هذا الدعاء، كقول الخليل
~~عليه السلام: (ربنا اغفرلى ولولدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)) (2) ،
# وقال: (والذى أطمع أن يغفر لى خطيئتى يوم الدين (82)) (3) ، وقال هو
~~وإسماعيل: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين
~~لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
~~(128)) (4) ، وقال موسى عليه السلام: (أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت
~~خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا
~~إليك) (5) ، وقال نوح عليه السلام: (رب أنى أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لى به
~~علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين (47)) (6) ، وقال يونس: (لا إله
~~إلا أنت سبحانك إنى كنت ms0600 من الظالمين (87)) (7) .
# وقد ثبت في الصحيح (8) من حديث علي عليه السلام عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت،
~~أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، فإنه
~~لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن PageV04P025
# الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف
~~عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك
~~وإليك، أستغفرك وأتوب إليك". وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله،
~~وعلانيته وسره، وأوله وآخره".
# وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول بين التكبير والقراءة: "اللهم
~~باعد (3) بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من
~~الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء
~~والثلج والبرد".
# وثبت أيضا في صحيح مسلم (4) أنه كان يقول نحو هذا الدعاء إذا رفع رأسه من
~~الركوع بعد التسميع والتحميد، وبعد أن يقول: "أهل الثناء والمجد أحق ما قال
~~العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا
~~الجد منك الجد" (5) . PageV04P026
# وثبت عنه في الصحيحين (1) عن أبي موسى أنه كان يقول في دعائه: "اللهم
~~اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر
~~لي هزلي وجدي وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت،
~~وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت
~~على كل شيء قدير".
# وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه كان يقول في دعائه بالليل: "اللهم لك الحمد
~~أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن
~~فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق،
~~ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد ms0601 - صلى
~~الله عليه وسلم - حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت،
~~وبك خاصمت، وإليك حاكمت. اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما
~~أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت".
# وثبت عنه في الصحيح (3) عن عائشة أنه كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك
~~اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن، أي يمتثل ما أمر به في
~~قوله: (فسبح بحمد ربك واستغفره PageV04P027
# إنه كان توابا (3)) (1) . كما امتثل بتلك الأدعية ما أمره في قوله:
~~(فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار (55))
~~(2) ، (فأعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (3)
~~.
# وهذا الدعاء الذي ذكرته عائشة بعد نزول قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من
~~ذنبك وما تأخر) (4) ، فإنه قد ثبت في الصحيح (5) أن سورة "إذا جاء نصر الله
~~والفتح" آخر سورة أنزلت. وأيضا فأبو موسى الأشعري وأبو هريرة إنما صحباه
~~بعد نزول قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) ، فإن هذه الآية
~~قد ثبت في الصحيح (6) أنها نزلت عام الحديبية لما بايعه الصحابة بيعة
~~الرضوان تحت الشجرة وانصرف، وقد خالط أصحابه كآبة وحزن لرجوعهم، ولم يتموا
~~العمرة التي خرجوا لها، وقد صالحوا المشركين، لما أن في ظاهره غضاضة عليهم،
~~حتى كرهه كثير منهم، وجرت فيه فصول، فأنزل الله سورة الفتح بنصرته من
~~الحديبية، وهو في الطريق قبل وصوله إلى المدينة، ثم إنه تجهز من المدينة
~~لفتح خيبر، وفي أواخر غزاة PageV04P028
# خيبر قدم عليه أبو موسى والأشعريون، وفي تلك المدة أسلم أبو هريرة. ولما
~~أنزل الله عليه هذه الآية (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) قال له
~~الناس: يا رسول الله! هذا لك، فما لنا؟ فأنزل الله تعالى (هو الذي أنزل
~~السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم) (1) .
# وفي هذا رد على طائفة من الناس - كبعض المصنفين في السير وفي مسألة
~~العصمة - يقولون في قوله (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) : وهو ذنب ms0602 آدم،
~~(وما تأخر) ذنب أمته، فإن هذا القول وإن كان لم يقله أحد من الصحابة
~~والتابعين ولا أئمة المسلمين، ولا يقوله من يعقل ما يقول، فقد قاله طائفة
~~من المتأخرين (2) ، ويظن بعض الجهال أن هذا معنى شريف، وهو كذب على الله
~~وتحريف الكلم عن مواضعه، فإنه قد ثبت في الصحاح (3) في أحاديث الشفاعة أن
~~الناس يوم القيامة يأتون آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر إليهم ويقول: إني
~~نهيت عن الشجرة فأكلت منها، نفسي نفسي، ويأتون نبيا بعد نبي إلى أن يأتوا
~~المسيح، فيقول: ائتوا محمدا فإنه عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما
~~تأخر. فلو كانت "ما تقدم" هو ذنب آدم لم يعتذر آدم. PageV04P029
# وأيضا فلما نزلت الآية قالت الصحابة: هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله: (هو
~~الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين) ، فلو كان "ما تأخر" مغفرة ذنوبهم
~~لقال: هذه لكم.
# وأيضا فقد قال تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (1) ، ففرق
~~بين ما أضاف إليه وما يضاف إلى المؤمنين والمؤمنات.
# وأيضا فإضافة ذنب غيره إليه أمر لا يصلح في حق آحاد الناس، فكيف في حقه -
~~صلى الله عليه وسلم -؟ حتى تضاف ذنوب الفساق من أمته إليه، ويجعل ما جعلوه
~~(2) من الكبائر - كالزنا والسرقة وشرب الخمر - ذنبا له - صلى الله عليه
~~وسلم -، والله يقول في كتابه: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (3) ، ويقول في
~~كتابه: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112)) (4)
~~، قالوا (5) : الظلم أن تحمل عليه سيئات غيره، والهضم أن ينقص هو من
~~حسناته، وهو أفضل من عمل من الصالحات وهو مؤمن، فكيف تحمل عليه سيئات غيره
~~وتضاف إليه؟ وأي فرق بين ذنب آدم وذنب نوح والخليل وكلهم آباؤه؟ وأي فرق
~~بين ذنب الإنسان وذنب غيره (6) حتى يضاف إليه هذا دون هذا؟ والله يقول: (أم
~~لم ينبأ بما في PageV04P030
# صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38)) (1)
~~والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لرجل معه ابنه: "لا يجني عليك ولا تجني
~~عليه" (2) .
# وأيضا ms0603 فقد قال الله في غير موضع في القرآن (3) إنه ليس عليه إلا البلاغ
~~المبين، وقال: (فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) (4) . فإذا
~~كان على أمته ما حملوا وهو ليس عليه إلا البلاغ المبين كيف تكون ذنوب أمته
~~ذنوبه؟ ومثل هذا القول لا يخفى فساده على من له أدنى تدبر، وإن كان قاله
~~طوائف من المصنفين في العصمة، حتى يرى ذلك بعض من له في السنة والفقه
~~والحديث قدم، لكن الغلو أوجب اتباع الجهال الضلال، فإن مثل هذه التفاسير
~~إنما يصدر في الابتداء عن أهل التحريف لكتاب الله: إما من الزنادقة
~~المنافقين، وإما من المبتدعة الضالين.
# وأول من دخل في الغلو من أهل الأهواء هم الرافضة، فإنهم لما ادعوا في علي
~~وغيره أنهم معصومون حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبتوا ذلك للأنبياء بطريق
~~الأولى والأحرى، ولما نزهوا عليا ومن هو دون علي من أن يكون له ذنب يستغفر
~~منه كان تنزيههم PageV04P031
# للرسل أولى وأحرى.
# ثم جاءت القرامطة الزنادقة المنتسبون إلى الشيعة لما ادعوا عصمة أئمتهم
~~الإسماعيلية العبيدية القرامطة الباطنية الفلاسفة الدهرية صاروا يقولون:
~~إنهم معصومون يعلمون الغيوب، وصار من صار منهم يعبدهم ويعتقد فيهم الإلهية،
~~كما كانت الغالية تعتقد في علي وغيره الإلهية أو النبوة.
# وأما الإمامية الاثنا عشرية الذين لا يقولون بإمامة إسماعيل بن جعفر بل
~~بإمامة موسى بن جعفر، فهم [و] إن كانوا لا يقولون بإلهية علي ولا نبوته،
~~فهم يقولون بالعصمة حتى في المنتظر الذي دخل في سرداب سامراء سنة ستين
~~ومائتين وهو طفل غير مميز، قيل: كان له سنتان، وقيل: ثلاث سنين، وقيل: خمس.
~~ويقولون: إنه إمام معصوم لا يجوز عليه الخطأ، ويقولون: إن الإيمان لا يتم
~~إلا به، ومن لم يؤمن به فهو كافر. وقد علم أهل العلم بالأنساب أن (1) الحسن
~~بن علي العسكري أباه لم يكن له نسل ولا عقب، ولو كان له ولد صغير لكان تحت
~~الحجر على ماله، وأن يحضنه من يستحق الحضانة، فلا يكون له ولاية لا على
~~نفسه ms0604 ولا على ماله حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، فحينئذ يسلم إليه ماله، فكيف
~~يكون لمثل هذا ولاية على المسلمين؟ فضلا عن أن يكون معصوما، فضلا عن أن
~~يكون اتباعه ركنا في الإيمان. PageV04P032
# ثم لما صار مثل هذا يدعى ادعى ابن التومرت صاحب "المرشدة" أنه المهدي
~~الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقال في الخطبة له:
~~"المهدي المعلوم" و"الإمام المعصوم" حتى رفع ذلك.
# وصار من الغلاة في مشايخهم يعتقد أحدهم في شيخه نحو ذلك، فإما أن يقول:
~~هو معصوم، أو يقول: هو محفوظ، والمعنى عنده واحد، وإما أن ينكر ذلك بلسانه
~~ولكن يعامله معاملة المعصوم.
# فهؤلاء إذا كان أحدهم يعتقد في بعض الرجال المؤمنين أنهم معصومون من
~~الذنوب بل ومن الخطأ، كيف لا يعتقدون ذلك في الأنبياء؟ فغلوهم فيمن غلوا
~~فيه من أئمتهم أهل المشيخة أو النسب يوجب عليهم أن يغلوا في الأنبياء بطريق
~~الأولى، فإن كان من المسلمين اعتقدوا أن الأنبياء أفضل منهم، وإن كانوا ممن
~~يعتقد في الشيخ والإمام أنه أفضل من النبي - كما يقول ذلك المتفلسفة
~~والشيعة وغلاة المتصوفة الاتحادية وغير الاتحادية - فهم لابد أن يقروا
~~الغلو في الأنبياء حتى توافقهم الناس على الغلو في أئمتهم.
# وهذا كله من شعب النصرانية الذين وصفهم الله بالغلو في القرآن، وذمهم
~~عليه ونهاهم فقال: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله
~~إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح
~~منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله
~~واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله
~~وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن
~~يستنكف عن عبادته ويستكبر
# PageV04P033
# فسيحشرهم إليه جميعا (172)) (1) الآية، وقال تعالى: (يأهل الكتاب لا
~~تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا
~~كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)) (2) .
# وقد ثبت عن النبي - صلى ms0605 الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تطروني كما أطرت
~~النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" (3) . وقال:
~~"إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" (4) .
~~وهذا قال لهم بسبب رمي الجمار لئلا يغلوا فيها، فكيف فيما هو أعظم من ذلك؟
~~وهؤلاء أهل الغلو النصارى ومن شابههم من هذه الأمة في الغلو - كما ثبت عنه
~~في الصحيحين (5) أنه قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى
~~لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" - هم قصدوا تعظيم الأنبياء والصالحين بالغلو
~~فيهم، فوقعوا في تكذيبهم وبغضهم ما جاءوا به، فإن المسيح قال للنصارى كما
~~أخبر الله عنه أنه قال: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى
~~وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم
~~وأنت على كل شئ شهيد (117)) (6) وقال المسيح: (إني عبد PageV04P034
# الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)) (1) . والغلاة فيه كذبوه وعصوه،
~~فقالوا: ما هو عبد الله بل هو الله، وأشركوا به الشرك الذي نهاهم عنه.
# وكذلك الغالية في علي وفي غيرهم (2) من أهل العلم والإيمان، وعلي عليه
~~السلام يقول: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري"
~~(3) . وحرق الغالية فيه بالنار، ويقول ما نقل عنه من نحو ثمانين وجها: "خير
~~هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" (4) ، ويذكر ذلك لابنه محمد بن
~~الحنفية كما رواه البخاري في الصحيح (5) عنه، والشيعة تكذبه وتخالفه.
# فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى. وكذلك (6) أتباع الشيوخ
~~الصالحين المهتدين يضلون فيهم، ويتركون اتباعهم على الطريقة التي يحبها
~~الله ورسوله.
# و
### | هذا باب دخل فيه الشيطان على خلق كثير
# فأضلهم، حتى يجعل أحدهم قول الحق تنقصا له، فإذا قيل للنصارى في المسيح:
~~PageV04P035
# (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة) (1)
~~قالوا: هذا تنقيص بالمسيح وسوء أدب معه، وهم مع هذا يشتمون الله ويسبونه
~~مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ms0606، كما كان معاذ بن جبل يقول في النصارى: "لا
~~ترحموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".
# وفي الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يقول الله
~~تعالى: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك،
~~فأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد،
~~ولم يكن له كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، أوليس
~~أول الخلق بأهون علي من إعادته؟ ".
# وهؤلاء الغالية يجمعون بين شتم الرب وتكذيبه، وهكذا الغالية المنتسبون
~~إلى هذه الأمة تجد أحدهم يغلو في قدوته، حتى يكره أن يوصف بما هو فيه،
~~ويقال عليه الحق، وهو مع هذا يقول في الله العظائم التي ما قالتها فيه لا
~~اليهود ولا النصارى، حتى يقول: إن الله موصوف بكل ذم وكل عيب كما هو موصوف
~~بكل حمد وكل مدح، وإنه هو إبليس وفرعون والأصنام، كما قالته النصارى في
~~المسيح، والله سبحانه عاب على المشركين ما هو دون هذا، حيث قال: (وجعلوا
~~لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا
~~فما كان لشركائهم فلا PageV04P036
# يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)) (1)
~~،وقال: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) (2)
~~.
# وهؤلاء يريدون أن يقال في أئمتهم الحق، ويقولون على الله الباطل، ويرضون
~~بأن يسب الله ويشتم، ولا يرضون بأن يسب متبوع أحدهم على ما افتراه على الله
~~ورسوله، بل لا يرضون أن يقال فيه الحق أو أن يضاف إليه خطأ جائز عليه وواقع
~~منه. وقال تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: (وكيف أخاف ما أشركتم ولا
~~تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق
~~بالأمن إن كنتم تعلمون (81)) (3) . قال تعالى: (الذين أمنوا ولم يلبسوا
~~إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82)) (4) .
# كان المشركون يخوفون المؤمنين بآلهتهم، ويقولون: إنكم إذا ms0607 لم تتخذوها
~~شركاء وشفعاء فإنها تضركم، فأنكر الخليل عليه السلام وقال: (وكيف أخاف ما
~~أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا) ، أي كيف
~~أخاف ما تدعونه من دون الله؟ وهو لا يضر ولا ينفع إلا بإذن الله، وأنتم لا
~~تخافون الله حيث أشركتم به فجعلتم له أندادا، فأعدلتموهم به، تدعون من دونه
~~PageV04P037
# وتخافونهم وترجونهم، وهو لم ينزل بذلك عليكم سلطانا، وهو الكتاب المنزل
~~من السماء، (فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81)) .
# وفي الصحيحين (1) عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الذين أمنوا ولم
~~يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هو
~~الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (إن الشرك لظلم عظيم (13)) (2) ".
# وهذا باب يطول وصفه، وإنما المقصود التنبيه عليه.
# إذا عرف هذا فقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجميع الطوائف الذين لهم قول
~~يعتبر أن من سوى الأنبياء ليس بمعصوم، لا من الخطأ ولا من الذنوب، سواء كان
~~صديقا أو لم يكن، ولا فرق بين أن يقول: هو معصوم من ذلك، أو محفوظ من ذلك،
~~أو ممنوع من ذلك.
# قال الأئمة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم -، فإنه هو الذي أوجب الله على أهل الأرض الإيمان به وطاعته، بحيث يجب
~~عليهم أن يصدقوه بكل ما أخبر ويطيعوه في كل ما أمر.
# وقد ذكر الله طاعته واتباعه في قريب من أربعين موضعا في PageV04P038
# القرآن، كما قال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) (1) ، وقال: (وما أرسلنا
~~من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (2) وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى
~~يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
~~(65)) (3) ، وقال تعالى: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) ،
~~إلى قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أؤ يصيبهم عذاب
~~أليم (63)) (4) ، وقال تعالى: (والله ورسوله ms0608 أحق أن يرضوه) (5) ، وقال
~~تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (6) ،وقال تعالى:
~~(فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (7) ، وقال تعالى: (ومن يطع
~~الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين
~~والشهداء والصالحين) (8) .
# وطاعة الله والرسول هي عبادة الله التي خلق لها الجن والإنس، فهي غايتهم
~~التي يحبها الله ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاء من بعضهم ما
~~هو بخلاف ذلك وخلقهم له، فتلك غاية PageV04P039
# شاءها وقدرها، وهذه غاية يحبها ويأمر بها ويرضاها. والكلام على هذا مبسوط
~~في غير هذا الموضع (1) .
# والعبادة لله أن يجمع غاية الحب له بغاية الذل له، فكل خير وكل كمال
~~ومقام وحال قرب إليه ونحو ذلك مما يحمد من العباد ويطلب منهم ويرضى لهم فهو
~~داخل في طاعة الله ورسوله أو مستلزم لذلك. ولهذا اتفقت الأمة على أنه معصوم
~~فيما يبلغه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصود الرسالة لا يتم إلا بذلك، وكل
~~ما دل على أنه رسول الله من معجزة وغير معجزة فهو يدل على ما قال - صلى
~~الله عليه وسلم -:" فإني لن أكذب على الله" (2) .
# وقد اتفقوا أنه لا يقر على خطأ في ذلك، وكذلك لا يقر على الذنوب لا
~~صغائرها ولا كبائرها، ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعض الصغائر مع التوبة
~~منها أو لا يقع بحال؟
# فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا
~~يقع منهم الصغيرة بحال، وزادت الشيعة حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا
~~غير خطأ.
# وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث
~~من أصحاب الأشعري وغيرهم فلم يمنعوا الوقوع إذا كان مع التوبة، كما دلت
~~عليه نصوص الكتاب والسنة، PageV04P040
# فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإذا ابتلى بعض الأكابر بما يتوب
~~منه فذاك لكمال النهاية، لا لنقص البداية، كما قال بعضهم: لو لم يكن التوبة
~~أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه. وفي الأثر (1) : "إن
~~العبد ليعمل السيئة ms0609 فيدخل بها الجنة، وإن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها
~~النار"، يعني أن السيئة يذكرها ويتوب منها فيدخله ذلك الجنة، والحسنة يعجب
~~بها ويستكبر فيدخله ذلك النار.
# وأيضا فالحسنات والسيئات تتنوع بحسب المقامات، كما يقال: "حسنات الأبرار
~~سيئات المقربين"، فمن فهم ما تمحوه التوبة وترفع صاحبها إليه من الدرجات
~~وما يتفاوت الناس فيه من الحسنات والسيئات زالت عنه الشبهة في هذا الباب،
~~وأقر الكتاب والسنة على ما فيهما (2) من الهدى والصواب.
# فإن الغلاة يتوهمون أن الذنب إذا صدر من العبد كان نقصا في حقه لا ينجبر،
~~حتى يجعلوا من فضل بعض الناس أنه لم يسجد لصنم قط. وهذا جهل منهم، فإن
~~المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضل من أولادهم وغير
~~أولادهم ممن ولد على الإسلام، وإن كانوا في أول الأمر كانوا كفارا يعبدون
~~الأصنام، بل المنتقل من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى PageV04P041
# الحسنات يضاعف له الثواب، كما قال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا
~~صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (70)) (1) .
# وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله يوم القيامة يظهر لعبده فيقول: "إني قد
~~أبدلتك مكان كل سيئة حسنة"، فحينئذ يطلب كبائر ذنوبه.
# وقد ثبت في الصحاح (3) من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~أخبر أن الله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل (4) راحلته بأرض دوية مهلكة
~~عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما
~~استفاق إذا بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا
~~براحلته.
# وهذا أمر عظيم إلى الغاية. فإذا كانت التوبة بهذه المنزلة كيف لا يكون
~~صاحبها معظما عند الله؟ وقد قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات
~~والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما
~~جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب
~~الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله PageV04P042
# غفورا رحيما (73)) (1) ، فوصف الإنسان بالجهل والظلم، وجعل الفرق بين
~~المؤمن والكافر والمنافق أن يتوب الله ms0610 عليه، إذ لم يكن له بد من الجهل
~~والظلم. ولهذا جاء في الحديث (2) : "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين
~~التوابون".
# واعلم أن كثيرا من الناس يسبق إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقة ونحو
~~ذلك، فيستعظم أن كريما يفعل ذلك، ولا يعلم أن أكثر عقلاء بني آدم لا يسرقون
~~بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا
~~قبل الإسلام لا يرضون (3) أن يفعلوا مثل هذه الأعمال، ولما بايع النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - هندا بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية بيعة النساء على أن
~~لا يسرقن ولا يزنين، قالت: أو تزني الحرة؟ (4) فما كانوا في الجاهلية
~~يعرفون الزنا إلا للإماء. ولهذا قولهم "حرة" تراد به العفيفة، لأن الحرائر
~~كن عفائف.
# وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يعرفه، ولم يكن هذا يعرف في العرب قط.
~~PageV04P043
# ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه
~~ورسله واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العلو في
~~الأرض والفخر والخيلاء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين
~~هم متعففون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإن الإخلاص
~~لله والتوكل على الله والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر
~~على حكم الله والتسليم لأمر الله= كل هذا من الواجبات، وكذلك الجهاد في
~~سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات،
~~وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول تفصيله في هذا السؤال، حتى يفطن
~~هذا ثم يفتح له الباب.
# وقد ذكر الله الذين وعدهم بالحسنى فلم ينف عنهم الذنوب، ولكن ذكر المغفرة
~~والتكفير فقال: (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون (33) لهم ما
~~يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا
~~ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (35)) (1) ، وقال تعالى: (أولئك
~~الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد
~~الصدق الذي كانوا ms0611 يوعدون (16)) (2) .
# وقد ثبت في الصحيح (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن يدخل أحد
~~منكم الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن
~~يتغمدني الله برحمته". PageV04P044
# فصل
# إذا ثبت هذا فظلم العبد نفسه يكون بترك ما ينفعها وهي محتاجة إليه، أو
~~بفعل ما يضرها، كما أن ظلم الغير كذلك يكون إما بمنع حقه أو التعدي. والنفس
~~إنما تحتاج من العبد إلى فعل ما أمر الله به، وإنما يضرها فعل ما نهى الله
~~عنه، فظلمها لا يخرج عن ترك حسنة مأمور بها أو فعل سيئة منهي عنها، وما
~~يضطر العبد إليه من أكل وشرب ولباس وغير ذلك هو داخل في هذا، فإن جميع ذلك
~~هو من الواجبات المأمور بها، حتى أكل الميتة عند الضرورة يجب في المشهور من
~~مذهب الأئمة الأربعة، قال مسروق: من اضطر إلى الميتة ولم يأكل حتى مات دخل
~~النار.
# وكذلك ما يضرها من جنس العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها أو
~~يقتلها، أو الاغتسال بالماء البارد الذي يقتلها ونحو ذلك، هو من ظلمها
~~المحظور، فالله تعالى أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، كما قال
~~قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما
~~نهاهم عنه بخلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم،
~~ولهذا جاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد في غير موضع.
# والصلاح كله في طاعة الله، والفساد كله في معصية الله، فالصلاح والطلاعة
~~متلازمان، والمعصية والفساد متلازمان، كتلازم الطيب والحل، وكل طيب حلال
~~وكل حلال طيب، وكل خبيث
# PageV04P045
# حرام وكل حرام خبيث. والمعروف ملازم مع الطاعة والصلاح، والمنكر ملازم مع
~~المعصية والفساد، ولكن بعض الناس قد تبين له اتصاف الفعل ببعض هذه الصفات
~~قبل بعض، كما يعلم كثيرا من العبادات ولا يعلم ما فيها من الصلاح، وكثيرا
~~من المحرمات ولا يعلم ما فيها من الفساد، وكذلك قد يرى مصالح كثيرة ولا
~~يعلم أمر الشارع بها.
# والمؤمن يعلم أن ms0612 الله يأمر بكل مصلحة وينهى عن كل مفسدة، فإذا كان في بعض
~~الأفعال رأى أنه مصلحة ولم يأمر به كان مخطئا من أحد الوجهين: إما أن يكون
~~في نفس الأمر مصلحة لما ترجح فيه من مفسدة لا يعلمها هو؛ وإما أن يكون
~~داخلا فيما أمر الله به ولم يعلم.
# ولهذا تنازع العلماء في المصالح المرسلة التي لم يعلم أن الشارع اعتبرها
~~ولا أهدرها، فقيل: يستدل بكونها مصلحة على أن الله اعتبرها، لأنه لا يهمل
~~المصالح، وقيل: بل يستدل بعدم اعتبار الشارع لها على أنها ليست مصلحة، بل
~~مضرتها راجحة إذ لو كانت مصلحتها راجحة لاعتبرها الشارع. وتتفاوت فطن الناس
~~في ذلك بحيث تعرفها بجهة الاعتبار والإهدار.
# ومما يجب أن يعرف أن العبد قد يجب عليه أسباب أمور لا تجب عليه بدونها،
~~فإن قام بها كان مصلحا محسنا إلى نفسه، وإلا كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن
~~تركها ظلما في حق من لم يقبل تلك الأسباب، مثل من ولي ولاية، ففي "المسند"
~~(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - PageV04P046
# أنه قال: "أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام
~~جائر".
# وكذلك (1) من لغيره عليه حقوق، كالزوجة والأولاد والجيران، فقد ذكر الله
~~الحقوق العشرة في قوله: (*واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين
~~إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب
~~والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم) (2) . فبدأ سبحانه بحقه، كما
~~في الصحيحين (3) أن النبي
# - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على
~~عباده"؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، يا
~~معاذ!
# أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك"؟ قلت: الله ورسوله أعلم،
~~قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم".
# فكلما ازدادت معرفة الإنسان بالنفوس ولوازمها وتقلب القلوب، وبما عليها
~~من الحقوق لله ولعباده، وبما حد لهم من الحدود= علم أنه
### | لا يخلو أحد عن ترك بعض الحقوق أو تعدي بعض الحدود.
# ولهذا أمر الله عباده ms0613 المؤمنين أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم في
~~اليوم والليلة في المكتوبة وحدها سبع عشرة مرة، وهو صراط الذين أنعم الله
~~عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع الله ورسوله فهم
~~هؤلاء. PageV04P047
# فالصراط المستقيم طاعة الله ورسوله، وهو دين الإسلام التام، وهو اتباع
~~القرآن، وهو لزوم السنة والجماعة، وهو طريق العبودية، وهو طريق الخوف
~~والرجاء. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته (1) :
~~"الحمد لله نستعينه ونستغفره" لعلمه أنه لا يفعل خيرا ولا يجتنب شرا إلا
~~بإعانة الله له، وأنه لابد أن يفعل ما يوجب الاستغفار.
# وفي الحديث الصحيح (2) : "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا
~~إله إلا أنت خلقتني، وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من
~~شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر
~~الذنوب إلا أنت".
# فقوله "أبوء لك بنعمتك علي" يتناول نعمته عليه في إعانته على الطاعات،
~~وقوله "أبوء لك بذنبي" يبين إقراره بالذنوب التي تحتاج إلى الاستغفار.
~~والله تعالى غفور شكور، يغفر الكثير من الزلل، ويشكر اليسير من العمل. وجاء
~~عن غير واحد من السلف أنه كان يقول: إني أصبح بين نعمة وذنب، فأريد أن أحدث
~~للنعمة شكرا وللذنب استغفارا.
# فقوله "الحمد لله نستعينه ونستغفره" يتناول الشكر والاستعانة والاستغفار،
~~الحمد لله وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما PageV04P048
# كان بعض المشايخ يقرن بين هذه الثلاثة، فالشكر يتناول ما مضى من إحسانه،
~~والاستغفار لما تقدم من إساءة العبد، والاستعانة لما يستقبله العبد من
~~أموره. وهذه الثلاث لابد لكل عبد منها دائما، فمن قصر في واحد منها فقد ظلم
~~لنفسه بحسب تقصير العبد.
# وأصل الإحسان هو التصديق بالحق ومحبته، وأصل الشر هو التكذيب به أو بغضه،
~~ويتبعه التصديق بالباطل ومحبته. والتصديق بالحق وحبه هو أصل العلم النافع
~~والعمل الصالح، والتكذيب به وبغضه هو من الجهل والظلم. فالإنسان إذا لم
~~يعلم من الحق ما يحتاج إليه أو لم يقر به أو لم ms0614 يحبه كان ظالما لنفسه، وإن
~~أقر بباطل أو أحبه واتبع هواه كان ظالما لنفسه، فظلم النفس يعود إلى اتباع
~~الظن وما تهوى الأنفس، وهذا يكون في اتباع الآراء والأهواء، فأصل الشر
~~البدع، وهو تقديم الرأي على النص واختيار الهوى على امتثال الأمر، وأصل
~~الخير اتباع الهدى، كما قال تعالى: (فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي
~~فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم
~~القيامة أعمى (124)) (1) . قال ابن عباس (2) : تكفل الله لمن قرأ القرآن
~~وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ هذه الآية.
# والضلال والشقاء هو خلاف الهدى والفلاح الذي أخبر به عن المتقين الذين
~~يهتدون بالكتاب، حيث قال: (ذلك الكتاب لا ريب PageV04P049
# فيه هدى) إلى قوله (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)) (1) .
~~والضلال والشقاء هو أمر (2) الضالين والمغضوب عليهم المذكورين في قوله (غير
~~المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (3) ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-: "اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" (4) ، فإن اليهود عرفوا الحق ولم
~~يعملوا به، والنصارى عبدوا الله بغير علم.
# ومن عرف الحق ولم يعمل به كان متبعا لهواه، واتباع الهوى هو الغي، ومن
~~عمل بغير علم كان ضالا.
# ولهذا نزه الله نبيه عن الضلال والغي بقوله: (والنجم إذا هوى (6) ما ضل
~~صاحبكم وما غوى (2)) (5) . قال تعالى في صفة أهل الغي: (سأصرف عن آياتي
~~الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل أية لا يؤمنوا بها وإن يروا
~~سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا) (6) ، وقال: (واتل عليهم نبأ الذي أتيناه
~~آيتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175)) (7) ، وقال في
~~الضلال: (وإن كثيرا ليضلون بأهوآئهم PageV04P050
# (بغير علم) (1) ، وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) (2) .
# والعبد إذا عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال سبحانه: (ولو
~~أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من
~~لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)) (3) ، وقال: (والذين ms0615
~~اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)) (4) ، وقال: (اتقوا الله وآمنوا
~~برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) (5) ، وقال: (يهدي
~~به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (6) .
# فإذا ترك العمل بعلمه عاقبه الله بأن أضله عن الهدى الذي يعرفه، كما قال:
~~(فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (7) ، وقال: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم
~~يؤمنوا به أول مرة) (8) ، وقال: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) (9) .
# وفي الحديث الذي رواه الترمذي (10) وصححه عن أبي هريرة PageV04P051
# عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه
~~نكتة سوداء، فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد يزيد فيها حتى يعلو
~~قلبه، فذلك الران الذي قال الله: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)
~~(14) (1) ".
# فهذه الأمور تتبين بها أجناس ظلم العبد نفسه، لكن كل إنسان بحسبه وبحسب
~~درجته، فما من صباح يصبح إلا ولله على عبده حقوق لنفسه ولخلقه عليه أن
~~يفعلها، وحدود عليه أن يحفظها، ومحارم عليه أن يجتنبها، كما قال - صلى الله
~~عليه وسلم -: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم
~~محارم فلا تنتهكوها" (2) .
# فإن
### | أجناس الأعمال ثلاثة:
# مأمور به، فالواجب منه هو الفرائض؛ ومنهي عنه وهو المحارم؛ ومباح له حد
~~ينتهي إليه، فتعديه تعد لحدود الله، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات
~~والمستحبات تعد (3) لحدود الله، وذلك هو الإسراف، كما قال المؤمنون قبلنا:
~~(ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) (4) . والذنوب PageV04P052
# تتناول جنس الذنوب، وأما الإسراف فهو تعدي الحدود، كما قال تعالى:
~~(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) (1) .
# فالإثم جنس المنهي عنه، والعدوان تعدي الحد في المأذون فيه، والبر جنس
~~المأمور به، والتقوى حفظ الحدود، بل يفعل المأمور به ويترك المنهي عنه،
~~ويفعل المباح من غير تعدي الحدود في ذلك.
# إذا تبين هذا الأصل فقول السائل: "ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلما
~~كثيرا"، والدعاء بين يدي الله لا يحتمل المجاز، والصديق من أئمة السابقين،
~~والرسول أمره بذلك ms0616" يتضمن شبهة في هذا الدعاء، ومثار الشبهة أن يقال:
~~الصديق أجل قدرا من أن تكون له ذنوب تكون ظلما كثيرا، فإن ذلك ينافي مرتبة
~~الصديقية.
# وهذه الشبهة تزول بوجهين:
# أحدهما: أن الصديق بل والنبي والرسول إنما كملت مرتبته وانتهت درجته، وتم
~~علو منزلته في نهايته لا في بدايته، وإنما قال ذلك بفعل ما أمر الله به من
~~الأعمال الصالحة، وأفضل أعماله بل PageV04P053
# أفضلها التوبة، فإن التوبة تكون من الكفر والفسوق والعصيان، وما من صديق
~~إلا ويمكن أن يتوب من الكفر والفسوق والعصيان كالصديقين من السابقين
~~الأولين، وما وجد قبل التوبة فإنه لم ينقص صاحبه إذا تعقبته التوبة ولم يغض
~~من منزلته، ولا يتصور أن بشرا يستغني عن التوبة، كما في الحديث المرفوع:
~~"كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (1) .
# وفي صحيح البخاري (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيها الناس!
~~توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم
~~أكثر من سبعين مرة".
# وفي صحيح مسلم (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنه ليغان على
~~قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". فقد أمر النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أمته بالتوبة عموما، وأخبر أنه يستغفر الله ويتوب إليه في
~~اليوم أكثر من سبعين مرة، بل قوله الذي في الحديث المتفق عليه (4) : "اللهم
~~اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر
~~لي هزلي وجدي، وخطأي وعمدي، وكل ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت،
~~وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي PageV04P054
# لا إله إلا أنت". فهذا الدعاء فيه من الاعتراف أعظم مما في الدعاء الذي
~~أمر به الصديق.
# و
### | الصديقون يجوز عليهم جميع الذنوب
# بإتفاق الأئمة، فقد يكون الرجل كافرا ثم يتوب من الكفر ويصير صديقا، وقد
~~يكون فاسقا أو عاصيا ثم يتوب من الفسق والمعصية ويصير صديقا. وإنما تنازع
~~الناس في الأنبياء، وإن كان القول بعصمة الأئمة قد يقوله بعض من يقوله من
~~الرافضة، حتى الإسماعيلية ms0617 يقولون: إن بني عبيد الله بن ميمون القداح كانوا
~~معصومين لا يجوز عليهم الخطأ ولا الذنوب، فهؤلاء زنادقة مرتدون ليسوا من
~~أهل القبلة الذين ينصب معهم الخلاف. والرافضة الذين يعتقدون العصمة في
~~الاثني عشر أجهل الخلق وأضلهم، ليس لهم عقل ولا نقل، ويشبههم من يعتقد في
~~شيخه أو متبوعه العصمة، لكرامة رآها منه أو لحسن ظن به، فهؤلاء كلهم من
~~الجهال الذين ليس لقولهم أصل يبنى عليه.
# ومع هذا فتقدير أن يكون أحد هؤلاء معصوما أو محفوظا إنما ذاك عندهم بعد
~~أن يبلغ منزلة الولاية أو الصديقية، وأما قبل ذلك فليس بمعصوم باتفاق
~~الناس، وإن كان الصواب الذي عليه أئمة الدين ومشايخ الدين أن الولي والصديق
~~لا يجب أن يكون معصوما، لا من الخطأ ولا من نحوه، بل قد قال الصديق الأكبر
~~خير هذه الأمة بعده نبيها أبو بكر رضي الله عنه لما ولي الناس: "أيها
~~الناس! القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي
~~حتى آخذ له الحق، أطيعوني فيما أطعت الله،
# PageV04P055
# فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم" (1) .
# وثبت في الصحيح (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قص رؤيا رآها، فقال
~~أبو بكر: دعني يا رسول الله أعبرها، فلما عبرها قال: أصبت يا رسول الله أم
~~أخطأت؟ فقال: "أصبت بعضا وأخطأت بعضا".
# وقال الصديق في الكلالة (3) : "أقول فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن الله،
~~وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان".
# وأفضل هذه الأمة بعد أبي بكر عمر، وكان محدثا ملهما، كما في الصحيحين (4)
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون،
~~فإن يكن في أمتي أحد فعمر". وفي حديث آخر: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر
~~وقلبه" (5) .
# فعمر رضي الله عنه أفضل المخاطبين المحدثين من هذه الأمة، والصديق أفضل
~~منه، فإن الصديق يتلقى عن الرسول لا عن قلبه، PageV04P056
# ولهذا سمي صديقا، وما جاء به الرسول فهو معصوم أن يستقر فيه خطأ، فما
~~يأخذه الصديق فهو صدق كله ms0618 وحق كله، وأما المحدث الذي يأخذ عن قلبه فقلبه قد
~~يصيب وقد يخطيء، فيجب على كل محدث ومكاشف أن يعرض ما وقع عليه على الكتاب
~~والسنة، فإن وافق ذلك وإلا رده، كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني: إنه
~~ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم، فلا أقبلها إلا بشاهدين اثنين: الكتاب
~~والسنة. وقال: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمله حتى يسمع فيه بأثر،
~~فإذا سمع بالأثر كان نورا على نور.
# وقال الجنيد بن محمد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن
~~ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا.
# وقال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو
~~باطل.
# وقال أبو عمرو بن نجيد أو غيره: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق
~~بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لأن الله يقول:
~~(وإن تطيعوه تهتدوا) (1) .
# ومثل هذا كثير في كلام المشايخ، فما يلقى لأهل المكاشفات والمخاطبات من
~~المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل الرأي والقياس من العلم منهم، وكل ذلك فيه
~~حق وفيه باطل، وليس أحد منهم معصوما، وكل منهم عليه أن يزن ذلك بالكتاب
~~والسنة والإجماع، PageV04P057
# فما خالف ذلك فهو باطل.
# و
### | منزلة الصديق والفاروق
# دلت على أن [من] يأخذ من علم النبوة الثابت عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أرفع منزلة ممن يأخذ من أهل القلوب عن قلوبهم، فإن غاية الواحد من
~~هؤلاء أن يكون مشابها لعمر ولا يكون مثله قط، ومنزلة الصديق أفضل، ولهذا
~~كان الصديق يعلم عمر ومعاوية في غير قصة، كما جرى له معه يوم الحديبية لما
~~قال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال:
~~بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: ألست رسول الله حقا؟
# قال: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله، وهو ناصري ولست
~~أعصيه، قال: ألم تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، فقلت لك ms0619 إنك
~~تأتيه في هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آت البيت ومطوف به. ثم جاء عمر إلى
~~أبي بكر، فقال: يا أبا بكر!
# ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال:
~~أليس هو رسول الله حقا؟ قال: بلى، قال: فلم نعطى الدنية في ديننا؟ قال: إنه
~~رسول الله وهو ناصره وليس يعصيه، قال: ألم يكن يحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف
~~به؟ قال: بلى، أقال لك إنك تأتيه هذا العام؟ قال: لا، قال: فإنك آت البيت
~~وتطوف به (1) .
# فأبو بكر أجاب بمثل ما أجاب به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من غير
~~أن يسمع كلامه في تلك القصة التي اضطربت فيها أكثر الصحابة، حتى
~~PageV04P058
# قال سهل بن حنيف - وهو من كبار المؤمنين وشهد مع علي صفين -: "أيها
~~الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن
~~أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته" رواه البخاري (1) .
# فإذا كان الصديق والفاروق - وهما خير الخلق بعد رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -، وهما اللذان قال فيهما: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر
~~- هما مع الرسول كما ترى، فما الظن بغيرهما؟ وبهذا يعلم أن كل من ادعى
~~استغناءه عن الرسالة بمكاشفة أو مخاطبة، أو عصمة ذلك له أو لشيخه ونحو ذلك=
~~فهو من أضل الناس.
# ومن احتج على ذلك بقصة الخضر مع موسى ففي غاية الجهل لوجوه:
# أحدها: أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع
~~موسى، بل قال له موسى: إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت
~~على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه، ولما سلم عليه قال: وأنى بأرضك
~~السلام؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم (2) . فالخضر لم
~~يعرف موسى حتى عرفه نفسه. وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو رسول الله
~~إلى جميع الخلق، فمن لم يتبعه كان كافرا ضالا من جميع من بلغته دعوته ms0620، ومن
~~قال له كما قال الخضر لموسى كان كافرا. PageV04P059
# الوجه الثاني: أن ما فعله الخضر لم يكن خارجا عن شريعة موسى، ولهذا لما
~~بين له الأسباب التي أبيح له بها خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار
~~بغير جعل أقره على ذلك، بل كانت الأسباب المبيحة لذلك قد علمها الخضر دون
~~موسى، كما يدخل الرجل دار غيره، فيأكل طعامه ويأخذ ماله، لعلمه بأنه مأذون
~~له في ذلك، وقتل الآخر لعدم علمه بالإذن قد يكون سببا ظاهرا وقد يكون بسبب
~~باطن، وعلى التقديرين هما في الشريعة.
# الوجه الثالث: أن الخضر إن كان نبيا فليس لغير الأنبياء أن يتشبه إليه،
~~وإن لم يكن نبيا - وهو قول الجمهور - فأبو بكر وعمر أفضل منه، فإن هذه
~~الأمة خير أمة أخرجت للناس، وخيار هذه الأمة القرن الأول من المهاجرين
~~والأنصار، وخير القرن الأول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار،
~~وخيرهم أبو بكر وعمر.
# فإذا كان أبو بكر وعمر أفضل من الخضر، وحالهما مع رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - هذه الحال، ونحن مأمورون أن نقتدي بهما، لا بأن نقتدي بالخضر،
~~كان من ترك الاقتداء بهما في حالهما مع محمد - صلى الله عليه وسلم - واقتدى
~~بالخضر في حاله مع موسى= من أضل الناس وأجهلهم. بل من اعتقد أنه يجوز له أن
~~يخرج عن طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه في شيء من أموره
~~الباطنة أو الظاهرة فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كائنا من كان.
# وإذا عرف أن التوبة ترفع منزلة صاحبها وإن كان فيه قبل ذلك ما كان، لم
~~يكن لأحد أن ينظر إلى صديق ولا غيره باعتبار ما وقع
# PageV04P060
# منه قبل التوبة والاستغفار، ومن فعل ذلك كان جاهلا أو ظالما مهما أمكن أن
~~يقع، إلا إذا كانت التوبة قد وجدت منه، فقد زال أمره وارتفعت بالتوبة
~~درجته. فلا يستكبر بعد هذا أن يقع من صديق قدر ماذا عسى أن يقع، وإن كان
~~صديق هذه الأمة كان من أبعد الناس عن الذنوب قبل الإسلام ms0621 وبعده، حتى إنه لم
~~يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام، وكان معروفا عندهم بالصدق والأمانة
~~ومكارم الأخلاق، لكن المقصود أن يحسم مادة مثل هذا السؤال، لكن مع كونه من
~~أبعد الناس عن الذنوب فكل بني آدم يحتاج أن يتوب ويعترف بظلم نفسه، كما
~~اعترف بذلك من هو أفضل من أبي بكر.
# وتمام ذلك بالوجه الثاني، وهو أن
### | ظلم النفس أنواع مختلفة ودرجات متفاوتة
# كما تقدم التنبيه عليه، وكل أحد ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وما
~~يمكننا أن نحصر ما فعله كل شخص من أشخاص الصديقين، فإن أحوال العباد مع
~~الله أسرار فيما بينهم وبين الله، وإنما يمكن أن يعرف أنواع ذلك كما دل
~~عليه الكتاب والسنة، ولا حاجة بنا إلى معرفة تفصيل ذلك، فإن هذا ليس مما
~~يقتدى فيه بأحد، فإن الاقتداء إنما يكون في الحسنات لا في السيئات التي
~~يثاب فيها. والإنسان لا يقنط من رحمة الله ولو عمل من الذنوب ما عسى أن
~~يعمل، كما قال تعالى: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
~~الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) (1) . PageV04P061
# ونحن نعلم أن التوكل على الله فرض، والإخلاص له فرض، ومحبة الله ورسوله
~~فرض، والصبر على فعل ما أمر الله وعما نهى الله عنه وعلى المصائب التي
~~تصيبه فرض، وخشية الله وحده دون خشية الناس فرض، والرجاء لله وحده فرض،
~~وأمثال ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة والتي يحصل التقصير في كثير منها
~~لعامة الخلق.
# وأي نوع من هذه الأنواع إذا تدبر بعض الصديقين فيه حاله يجده قد ظلم نفسه
~~فيه ظلما كثيرا، دع ما سوى ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد
~~في سبيل الله، وكالقيام بحقوق الأهل والجيران والمؤمنين، وإكمال كل واجب
~~كما أمر به، وأمثال ذلك مما لا يحصى.
# وقد ذكر البخاري (1) عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد
~~كلهم يخاف النفاق على نفسه. وفي الصحيح (2) أن حنظلة الكتاب لما قال: نافق
~~حنظلة، قال أبو بكر: إنا لنجد ms0622 ذلك.
# فهؤلاء كانوا يخافون على أنفسهم النفاق لكمال علمهم وإيمانهم، ولهذا كان
~~عبد الله بن مسعود وغيره من السلف يستثنون الإيمان فيقول أحدهم: أنا مؤمن
~~إن شاء الله. وقد تقدم التنبيه على مجامع الظلم. والله سبحانه أعلم.
# وأما ما ذكره أبو عبد الله الحكيم الترمذي من أصناف الرحمة فلا ريب أن
~~الرحمة أصناف متنوعة ومتفاوتة، كما ذكره من أن له PageV04P062
# رحمة عمت الخلق مؤمنهم وكافرهم، ورحمة خصت المؤمنين، ثم رحمة خصت خواص
~~المؤمنين على قدر درجاتهم، والحديث ليس فيه "رحمة من عندي"، وإنما فيه
~~"فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني"، ولكن مقصوده أن شبه هذا بقوله: (وهب لنا
~~من لدنك رحمة) (1) ، وهو قد جعل هذه المغفرة المسئولة من عنده مغفرة مخصوصة
~~ليست مما تبذل للعامة، كما أن الرحمة منها رحمة مخصوصة ليست مما تبذل
~~للعامة.
# وهذا الكلام في بعضه نظر، فالحكيم الترمذي رحمه الله في الحديث والتصوف،
~~وتكلمه على أعمال القلوب واستشهاده على ذلك بما يذكره من الآثار، وما يبديه
~~عليها (2) من المناسبات والاعتبار= هو في هذا الطريق كغيره من المصنفين في
~~فنون (3) العلم كالتفسير والفقه ونحو ذلك. وكثيرا ما يوجد في هذه الكتب من
~~الآثار الضعيفة بل المضلة ما لا يجوز الالتفات إليه، وكذلك الحكيم الترمذي،
~~فإن له كتبا (4) متعددة كنوادر الأصول والصلاة وغيرها، وفي كتبه فوائد
~~ومقاصد مستحسنة مقبولة، وفيها أيضا أقوال لا دليل عليها وأقوال مردودة يعلم
~~فسادها، وآثار ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها. PageV04P063
# ومن أضعف ما ذكره ما تكلم عليه في كتاب "ختم الولاية" (1) ، فإنه تكلم
~~على حال من زعم أنه خاتم الأولياء بكلام مردود ومخالف لإجماع الأئمة،
~~ويناقض في ذلك. وهذا كان سبب من تكلم في ختم الأولياء وادعى ذلك لنفسه،
~~كابن العربي وابن حمويه ونحوهما، فإن الترمذي أخطأ مقدارا من الخطأ، فزادوا
~~على ذلك زيادات كثيرة حتى خرج بهم الأمر إلى الاتحاد، وكل متكلم في الوجود
~~يوزن كلامه بالكتاب والسنة.
# وكلامه على الحديث من أوسط كلامه، وفيه نظر:
# أحدهما: فإن قوله "مغفرة من عندك ms0623"، وقوله (وهب لنا من لدنك رحمة) ونحو
~~ذلك، ليس في ذلك ما يقتضي اختصاص هذا الشخص الداعي بهذا المطلوب المسؤول،
~~ولو كان كذلك لما كان يسوغ لغيره أن يدعو بهذا الدعاء، وهذا خلاف الإجماع.
# وإن قيل: مراده أن هذا المطلوب يختص من دعا هذا الدعاء. قيل له: كذلك
~~يمكن أن يقال في كل مطلوب بدعاء، فإن ذلك المطلوب هو مختص بذلك الدعاء.
# وإن قال: بل غير هذا من المطلوبات قد ينال بلا دعاء. قيل له: وهذا أيضا
~~قد ينال بلا دعاء، فمن أين لنا أن هذه المغفرة والرحمة المطلوبة لا تنال
~~إلا بهذا الدعاء؟ وأن سائر ما PageV04P064
# يطلب من الله قد ينال بغير الطلب. ومن المعلوم أن الدعاء والطلب سبب لنيل
~~المطلوب المسؤول، فإن جاز أن يكون للمسؤول سبب غير الدعاء في غير هذا
~~الموضع فكذلك في هذا الموضع.
# وأيضا فقوله "من عندك" ليس فيه ما يدل على اختصاصه بالطلب ولا بالمطلوب،
~~وتفسير اللفظ بما لا دليل عليه هو من جنس تفسير القرامطة الذين يفسرون
~~الألفاظ لما أرادوا، وأكثر أهل الإشارات الذين يقعون في أشياء مثل قطعة
~~كثيرة من الحكايات المذكورة في "حقائق التفسير" لأبي عبد الرحمن السلمي،
~~والإشارات التي يعتمدها المشايخ العارفون، هي من جنس القياس والاعتبار.
# وهي كشبه غير المنطق بالمنطق لكونه في معناه أو أولى بالحكم منه، كما
~~يفعل مثل ذلك في القياس الفقهي، كما إذا قيل في قوله: (لا يمسه إلا
~~المطهرون (79) (1) إذا كان المصحف الذي كتب فيه طاهرا لا يمسه إلا البدن
~~الطاهر، فالمعاني التي هي باطن القرآن لا يمسها إلا القلوب المطهرة، وأما
~~القلوب المنجسة لا تمس حقائقه، فهذا معنى صحيح، قال تعالى: (سأصرف عن آياتي
~~الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) (2) . قال بعض السلف: أمنع قلوبهم فهم
~~القرآن. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أذنب العبد نكت في قلبه
~~نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زيد فيها حتى تعلو
~~قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى فيه: (كلا ms0624 بل ران على PageV04P065
# قلوبهم ما كانوا يكسبون (14)) (1) .
# فالذنوب ترين على القلوب حتى تمنعها فهم القرآن، وإذا كان هذا المعنى
~~صحيحا فقياس طهارة القلب على طهارة البدن فيما يشترط له الطهارة من مس
~~القرآن إشارة حسنة، فأما أن يفسر (2) المراد للفظ بغير المراد وبما لا يدل
~~عليه اللفظ فهذا خطأ.
# وقد قال زكريا: (هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38)) (3) ،
~~ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يخرج الأنبياء من
~~أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته - والله أعلم - أنه إذا قال: "من عندك"
~~و"من لدنك"، كان مطلوبا فعل العبد، فإن ما يعطيه الله للعبد على وجهين:
# منه ما يكون بسبب فعله، كالرزق الذي يرزقه بكسبه، والسيئات التي تغفر له
~~بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي
~~يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها.
# ومنه ما يعطيه للعبد ولا يحوجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر،
~~كما أعطى زكريا الولد مع أن امرأته كانت عاقرا، وكان قد بلغ من الكبر عتيا،
~~فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يهبه PageV04P066
# بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي
~~علمه الخضر من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا
~~قال: (إنك أنت الوهاب (8)) (1) .
# وقوله: "مغفرة من عندك"، لم يقل فيه "من لدنك مغفرة" بل "من عندك"، ومن
~~الناس من يفرق بين "لدنك" و"عندك"، وهكذا قد يفرق بين التقديم والتأخير،
~~فإن لم يكن بينهما فرق فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرة من عندك لا تصلها
~~بأسباب، لا من عزائم المغفرة التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما
~~يوجب المغفرة لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تهبها لي وتجود بها علي بلا عمل
~~يقتضي تلك المغفرة.
# ومن المعلوم أن الله تعالى قد يغفر الذنوب بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات
~~الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد
~~وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه ms0625 إذا فسر به قوله: "من
~~عندك" كان أحسن وأشبه مما ذكر من الاختصاص.
# وأما قوله: "والأشياء كلها من عنده"، فيقال: [إن] للأشياء وجهين: منها ما
~~جعل سببا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابة
~~لسؤاله وإحسانا إليه. واستعمال لفظ "من عندك" في هذا المعنى هو المناسب،
~~دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله "من عندك" دلالته على الأول أبين،
~~PageV04P067
# ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: "أعطنى من عندك" لما يطلبه منه بغير سبب،
~~بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدين والنفقة، فإنه لا يقال فيه "من
~~عندك".
# والله تعالى وإن كان الخلق لا يوجبون عليه شيئا فهو قد كتب على نفسه
~~الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، وأوجب بوعده ما يجب لمن وعده إياه، فهذا قد
~~يصير واجبا بحكم إيجابه ووعده، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمال لفظ "من
~~عندك" في هذا هو شبيه باستعماله فيما يطلب من الناس من الإحسان ذو
~~المعاوضات.
# وأيضا فقوله "من عندك" يراد به أن يكون مغفرة تجود بها أنت علي لا تحوجني
~~فيها إلى خلقك، ولا يحتاج إلى أحد يشفع في أو يستغفر لي، واستعمال لفظة "من
~~عندك" في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك (1) لما جاء إلى
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك
~~أمك"، فقلت: يا رسول الله!
# أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: "بل من عند الله"، فأخبره - صلى الله
~~عليه وسلم - أن الله تاب عليه من عنده.
# وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد
~~عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من
~~يشاء بغير حساب (37)) (2) ، فلما كان الرزق لم يأت به بشر ولم PageV04P068
# يسع فيه السعي المعتاد قالت: "هو من عند الله". فهذه المعاني وما يناسبها
~~هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلام الحكيم ms0626
~~الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولا محتملا،
~~وقد قال عمر: احمل كلام أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، والله
~~أعلم.
# PageV04P069
# مسألة
# في رجل قال: إن نبيا من الأنبياء أكله القمل، فاشتكى إلى الله، فأوحى
~~الله إليه: لئن اختلج هذا في سرك مرة أخرى لأمحونك من ديوان الأنبياء.
# الجواب
# الحمد لله. لا يجوز لأحد أن يقول مثل هذا القول من غير بيان حاله، فإن
~~هذا ليس من المنقول الثابت، بل من النقول الباطلة، ولو كان من النقول
~~الصحيحة لم يجز لأحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع مثل هذه
~~الحكاية ويبني عليها طريقه إلى الله تعالى.
# وذلك أن الحكايات الإسرائيليات (1) إن ثبتت عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أو نقلت بالتواتر ونحو ذلك علم صحتها، وإذا صحت فما وافق الشريعة
~~اتبع، وما خالف منها شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يتبع؛ فإن الله
~~تعالى يقول: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (2) .
# وفي النسائي (3) وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو كان
~~موسى PageV04P070
# حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم". وفي رواية (1) : "لو كان موسى حيا ما
~~وسعه إلا اتباعي". وقد قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما
~~آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال
~~أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من
~~الشاهدين (81)) (2) . قال ابن عباس (3) : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه
~~العهد والميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ
~~الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
# وهذا كما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله بعث محمدا - صلى الله
~~عليه وسلم - إلى جميع أهل الأرض، عربهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم، إنسهم
~~وجنهم. فلا يقبل الله من أحد عملا يخالف شريعته وإن كان ذلك العمل مشروعا
~~لبعض الأنبياء. فمن اتبع الشرعة والمنهاج الذي كان مشروعا لموسى وعيسى ms0627 ونسخ
~~على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر باتفاق المسلمين، وإذا كان
~~هذا فيما علم أنه مشروع للأنبياء، فكيف بما يحكى عنهم ولا يعلم صحته؟ فلا
~~يجوز لأحد أن يثبت بالإسرائيليات لا صحيحها ولا ضعيفها حكما يخالف شريعة
~~محمد - صلى الله عليه وسلم -. والمنقولات من PageV04P071
# الإسرائيليات تارة يعلم صحتها، وتارة يعلم أنها كذب، وتارة لا يدرى.
# وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا
~~حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه،
~~وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه".
# إذا تبين هذا فنقول: أجمع المسلمون على أن المسلم يجوز له أن يشتكي إلى
~~الله ما نزل من الضر، والله سبحانه في كتابه قد أمر بذلك، وذم من لا يفعله،
~~قال تعالى: (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (42)) (2) ، وقال
~~تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (76)) (3) ،
~~وقال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55)) (4) .
# وفي الصحيح (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه:
~~"اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة
~~الأعداء". وفي الصحيح (6) أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان
~~يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك (7) ، وفجاءة
~~PageV04P072
# نقمتك، وجميع سخطك".
# وفي الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان لا يدعو دعاء
~~إلا ختمه بقوله: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
~~النار (201)) . وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس وغيره أن يسأل
~~العافية في الدنيا والآخرة (2) ، وعلم رجلا أن يدعو فيقول: "اللهم اغفر في
~~وارحمني واهدني وعافني وارزقني" (3) ، ومثل هذا كثير.
# والعبد إذا اشتكى إلى ربه ما نزل به من الضر وسأله إزالته لم يكن مذموما
~~على ذلك باتفاق المسلمين، و
### | الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر،
# بل الشكوى إلى الخلق قد تنافي الصبر، فإن يعقوب عليه السلام قال: (فصبر
~~جميل) (4) ، وقال: (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ms0628) . وكان عمر بن
~~الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله: (قال
~~إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) فسمع نشيجه من أواخر الصفوف.
# وهذا مما يدل على كذب الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما
~~أصابه بفراق ولده من البث والحزن، ولم يكن PageV04P073
# مذموما بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال: (أني مسني الضر وأنت أرحم
~~الراحمين (83)) قال: (فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم
~~معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84)) (1) .
# وقد قال تعالى: (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في
~~الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين (87) فاستجبنا له
~~ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88)) (2) . وقال تعالى: (ولقد نادانا
~~نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76)) (3) .
# فهؤلاء الأنبياء قد اشتكوا إلى الله، وأزال ما اشتكوا منه من الضر والغم
~~والحزن ونحو ذلك، فكيف يمحى [نبي من] الأنبياء إذا اشتكى من ضر القمل
~~وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سره؟ وأكثر ما يقال:
~~إن العبد ينبغي له أن يرضى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه:
# أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء بل يستحب، وإنما الواجب
~~الصبر، والصبر لا ينافي الشكوى.
# الثاني: أن الرضا لا ينافي القضاء مطلقا، بل يرضى في الحاضر، ويسأل الله
~~في المستقبل أمرا آخر، فإن الرضا إنما يكون PageV04P074
# بعد القضاء، والدعاء إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعه، فالرضا بما مضى لا
~~ينافي طلب زوال المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدوم الرضا، فيسأل الله
~~زوال الشدة التي يخاف معها زوال رضاه، فالداعي قد يكون راضيا وغير راض، كما
~~أن الراضي قد يكون داعيا وغير داع.
# الثالث: أن اختلاج المصيبة في السر لا ينافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا
~~يدخل هذا في التكليف، فضلا عن أن يكون ذنبا، أو أن يستحق صاحبه زوال نبوته.
# وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعة محمد - صلى الله ms0629 عليه وسلم - لا
~~تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبا، وإما أن تكون غير مشروعة لنا في دين
~~الإسلام، فلا يحل لأحد أن يحكيها لمن يتبعها، ولا أن يستحسن العمل بها في
~~ديننا، ولا يمدح على ذلك.
# PageV04P075
# مسألة
# في قوله تعالى: (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) (1) ، هل
~~"من" هاهنا للتبعيض؟ فيكون الحكم بالعداوة على البعض؛ أو تكون "من" زائدة؟
~~فيحكم على كل واحد ولد وكل زوج بالعداوة.
# فإن قلتم: إنها للتبعيض فما حكمكم على من يعتقد زيادتها؟
# ويزعم أنه يستدل على الحديث والقرآن بكلام العرب، وهل من دليل على ذلك
~~فيما ذكر من القرآن والحديث وكلام العرب؟ فبينوه، أم ليس الأمر كذلك؟
# الجواب
# الحمد لله. بل "من" هنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى أن من الأزواج
~~والأولاد عدوا، وليس المراد أن كل زوج وولد عدو (2) . فإن هذا ليس هو مدلول
~~اللفظ، وهو باطل في نفسه، فإن سبحانه قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون:
~~(ربنا هب لنا من PageV04P076
# أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) (1) ، فسألوا الله أن يهب لهم من أزواجهم
~~وأولادهم قرة أعين، فلو كان كل زوج وولد عدوا (2) لم يكن فيهم قرة أعين،
~~فإن العدو لا يكون قرة عين بل سخنة عين، وأيضا فإنه من المعلوم أن مثل
~~إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم، ومثل يحيى بن زكريا وأمثالهم ليسوا أعداء.
# وقول من قال: إنها هنا زائدة، غلط لوجوه:
# أحدها: أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة أنها لا تزاد في الإثبات،
~~وإنما تزاد في النفي تحقيقا لعموم النفي (3) كقوله: (وما من إله إلا إله
~~واحد) (4) ، وقوله (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (5) ونحو
~~ذلك، فإنه لولا "من" لكان الكلام ظاهرا في العموم، فإنه يجوز أن تقول: ما
~~رأيت رجلا بل رجلين، فإذا أدخلت "من" فقلت: ما رأيت من رجل كان نصا في
~~العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيت من رجل بل رجلين، مع أن النكرة في سياق
~~النفي للعموم مطلقا، لكن قد يكون نصا وقد يكون ظاهرا ms0630، فإذا كانت ظاهرا
~~احتملت نفي الواحد من الجنس بخلاف النص، وهذا الموضع إثبات لا نفي، فلا
~~تزاد فيه. PageV04P077
# الثاني: أن من جوز زيادتها في الإثبات - كالأخفش - لا يجوزه إلا إذا كان
~~في الكلام ما يدل عليه، وإلا فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين،
~~وأراد أن جمعهم مسلمون، لم يجز ذلك بالاتفاق.
# الثالث: أنه إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلا.
# الرابع: الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادعاؤها بغير دليل، والله
~~أعلم.
# PageV04P078
# مسألة
# فيمن استدل بتحويل النبي - صلى الله عليه وسلم - رداءه في الاستسقاء،
~~وجعل أعلاه أسفله، ورفع ظاهر كفيه إلى السماء، وجعل باطنها إلى الأرض= على
~~أن الله ليس فوق السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاته لا يختص
~~بجهة العلو، هل هو مصيب في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقول
~~طائفة من الفقهاء إنه يستحب لمن هو في شدة أن يرفع ظاهر كفيه إلى السماء
~~دون باطنها وجه؟ ولو فرض أن الحديث يدل على ذلك ولو على بعد، فهل مثل ذلك
~~مع ما يزعمونه أدلة عقلية دلت على استحالة ذلك يعارض ما ثبت بالكتاب والسنة
~~من أن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه فوق كل شيء وعال على كل شيء
~~أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين. استدلال المستدل بهذا وإن سبقه إلى نحو منه من
~~المتجهمة المنتسبة إلى الحديث، فإنه يدل على غاية الجهل بما فعله رسول الله
~~- صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، وغاية الجهل في الاستدلال بذلك على
~~نفي علو الله، إذ ما فعله يدل على نقيض مطلوب هذا المستدل الجاهل. ونحن
~~نبين ذلك بالكلام على ما
# PageV04P079
# فعله من تحويل الرداء، ومن رفع يديه في الاستسقاء.
# أما الفصل الأول - وهو تحويل الرداء - فما علمت أحدا يستدل به على نفي
~~العلو، ولا فيه شبهة تقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع
~~اليدين، فهذا هو الذي يعترض به بعض الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على
~~الفصلين.
# أما ms0631 الأول فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل أعلاه أسفله كما
~~قاله هذا المستدل، وإنما جعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن، وقلبه
~~فجعل باطنه ظاهرا وظاهره باطنا، كما جاء مفسرا في الأحاديث المعروفة في
~~الباب، فإن في الصحيحين (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - إلى المصلى، فاستسقى، واستقبل القبلة، وقلب رداءه، وصلى
~~ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحول رداءه. فلفظ الحديث جاء بلفظ القلب
~~وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوه بلفظ التحويل (2) ، وذكر عن أبي بكر
~~بن محمد بن عمرو بن حزم قال (3) : جعل اليمين على الشمال.
# ورواه أبو داود (4) من حديث عبد الله بن زيد أيضا، قال: خرج رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - يستسقي، قال: فحول رداءه، وجعل عطافه الأيمن
~~PageV04P080
# على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز
~~وجل.
# ورواه مالك (1) وأحمد (2) أيضا - واللفظ له - من حديث عبد الله ابن زيد
~~قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استسقى لنا أطال الدعاء
~~وأكثر المسألة، قال: ثم تحول إلى القبلة وحول رداءه فقلبه ظهرا لبطن.
# ورواه الدارقطني (3) أيضا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة، فقلب رداءه وصلى
~~ركعتين. قال سفيان: جعل اليمين على الشمال والشمال على اليمين.
# ورواه أحمد (4) وأبو داود (5) أيضا عنه قال: استسقى النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها، فثقلت
~~عليه، فقلبها الأيمن على الأيسر [والأيسر] على الأيمن.
# فهذا فيه أيضا ما في سائر الأحاديث أنه قلب الأيمن على الأيسر والأيسر
~~على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه هم بجعل أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه
~~أنه فعل ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فعله، والظن قد يصيب وقد
~~يخطىء. PageV04P081
# فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديث في تحويل الرداء وفي صلاة
~~الاستسقاء، وأصح الأحاديث في ذلك، فيها ms0632 تارة متصلا بالحديث وتارة من تفسير
~~الرواة أنه جعل الأيمن على الأيسر [والأيسر على الأيمن] ، وفيها تصريح بأنه
~~لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفل أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي
~~هريرة الذي رواه أحمد (1) وابن ماجه (2) ، قال: خرج رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - يوما يستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا
~~ودعا الله عز وجل، وحول وجهه نحو القبلة رافعا يديه، ثم قلب رداءه، فجعل
~~الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن.
# وكذلك رواه الدارقطني (3) من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنة
~~الصلاة في العيدين، إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلب رداءه،
~~فجعل يمينه على يساره ويساره على يمينه، وذكر تمامه.
# وفي إسناده مقال يصلح للاعتضاد (4) والاستشهاد.
# وتحويل الرداء في دعاء الاستسقاء سنة عند فقهاء الحجاز وفقهاء الحديث
~~كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قول صاحبي أبي حنيفة PageV04P082
# أبي يوسف ومحمد، كما أن الصلاة في الاستسقاء سنة عند هؤلاء، وأبو حنيفة
~~لم يبلغه لا الصلاة في الاستسقاء ولا تحويل الرداء في دعائه.
# وأما صفة التحويل فجعل الأيمن على الأيسر كما جاءت بذلك الأحاديث، عند
~~جمهور العلماء كمالك وأحمد وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور، وهو قول الشافعي إذ
~~كان بالعراق، وقال في الجديد: في الرداء المراد كذلك، وفي المربع يجعل
~~أعلاه أسفله، لما تقدم من هم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
# وحجة الجمهور أنه حوله من اليمين إلى اليسار، وأن الخلفاء الراشدين بعده
~~فعلوا ذلك، كما فعله عثمان بحضرة الصحابة. وأما تلك الزيادة فلو كانت ثابتة
~~لكانت ظنا من الراوي لا يترك لها ما ثبت من فعله المتيقن وفعل خلفائه.
# وروى أبو بكر النجاد عن عروة بن أذينة عن أبيه قال: رأيت عثمان يستسقي
~~بالمصلى، فرأيته صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة، ثم خطب الناس، ثم حول وجهه
~~إلى القبلة، ورفع يديه، وحول رداءه، جعل اليمين على اليسار واليسار على
~~اليمين.
# فقد ظهر
### | فساد استدلال الجهمي من وجوه:
# أحدها: أن النبي - صلى الله عليه ms0633 وسلم - لم يجعل أسفله أعلاه، بل قلبه،
~~وإن قيل (1) إنه هم بذلك. PageV04P083
# الثاني: هب أنه جعل أعلاه أسفله، أو أن ذلك هو المستحب - كما هو أحد قولي
~~الفقهاء - لكونه هم بذلك وتركه للعسر، وأي شيء في جعل أسفل الرداء أعلاه
~~مما يدل على أن الله ليس هو العلي الأعلى، وأنه ليس هو فوق العالم؟ أو أي
~~شيء في ذلك ما يبطل أدلة القائلين بذلك أو يعارضها؟ وهذا جواب عن هذا، وعن
~~توجيه اليدين إلى الأرض إن قيل (1) : إنه فعل ذلك. وسنبين حقيقة ما فعله،
~~فإن غاية ما يقدر المقدر أنه وجه وجهه ويديه إلى الأرض وجعل أعلى ردائه
~~أسفله، فليس في بني آدم من يقول: إنه قصد بذلك أن الله في الأرض دون
~~السماء، فإن هذا لا يقوله لا مؤمن ولا كافر، ولا مثبت ولا منافق، بل جميع
~~الخلق متفقون على أن الأرض ليست مختصة به دون السماء، بل الجهمية تقول: لا
~~فرق بين الأرض والسماء، ثم تارة يقولون: إنه بذاته في الأرض والسماء كما
~~يقوله الحلولية والاتحادية، منهم أكثر عبادهم وعوامهم الذين يدعون التحقيق
~~والتوحيد من صوفيتهم. وتارة يقولون: بل ليس هو داخل العالم ولا خارجه
~~البتة، ولا فوق العرش، ولا في السماء ولا في الأرض، وهذا قول نظارهم
~~ومتكلميهم.
# فإذا قدر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد التوجه إلى الأرض دون
~~السماء، لم يقل أحد: إن ذلك يدل على أن الله في الأرض دون السماء، بل غاية
~~ما يقال: يبطل استدلال من يستدل برفع اليدين أنه فوق PageV04P084
# العالم. وسنتكلم على ذلك ونبين أنه لا يبطل هذه الدلالة، وبتقدير أن يبطل
~~هذا الدليل المعين لا يبطل المدلول عليه، فنفرض أن رفع اليدين لا يدل على
~~هذه المسألة، فأدلتها السمعية والعقلية أكثر من أن تسطر هنا، وفي القرآن
~~نحو ثلاثمائة موضع يدل على ذلك، والأحاديث والآثار في ذلك أشهر وأظهر من أن
~~تذكر هنا مع الأدلة العقلية، كما قد بسط في غير هذا الموضع (1) .
# ثم يقال: هب أنه يبطل ms0634 الاستدلال برفع اليدين، فأي شيء أدخل تحويل الرداء
~~في ذلك؟ فإنا ما علمنا أحدا استدل بتحويل الرداء على أن الله فوق حتى تبطل
~~دلالته، فعلم أن إدخال هذا في هذه المسألة جهالة واضحة، وإنما يعرف عن
~~طائفة من المتجهمة المنتسبين إلى الحديث أنهم يذكرون رفع اليدين، وأما
~~تحويل الرداء فما علمت لذكره وجها.
# الوجه الثالث: أن يقال: ما ذكره المستدل إن كان فيه حجة
# فهي عليه لا له، وذلك أن عائبنا يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~جعل أعلى ردائه أسفله، أو أن ذلك هو المستحب، فيقال له: إن لم يكن في هذا
~~التحويل دليل على مسألة العلو بنفي ولا إثبات فلا حجة لك فيه، وإن كانت فيه
~~حجة فثبت بحجة على أن الله في العلو، لأنه جعل أسفله أعلاه، فيكون قد قصد
~~توجيه ردائه إلى ما فوق كما وجه قلبه، كما سنذكره إن شاء الله، وهذا مناسب،
~~وهو لا يمكنه PageV04P085
# أن يقول: توجيهه إلى أسفل لأن الله في العلو، والمثبت يمكنه أن يقول:
~~وجهه إلى فوق لكون الله تعالى في العلو، فإن كان فيه حجة فهو للمثبت لا
~~للنافي.
# ولكن الصواب أنه ليس فيه حجة لا على هذا ولا على هذا، لأن المقصود بذلك
~~تحويل السنة من الجدب إلى الخصب، كما رواة الدارقطني (1) عن جعفر بن محمد
~~عن أبيه عليهم السلام قال: استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحول
~~رداءه ليتحول القحط.
# فصل
# وأما رفع اليدين في الاستسقاء فالأصل فيما ذكر في السؤال حديث أنس بن
~~مالك، وقد أخرجاه في الصحيحين (2) عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع حتى يرى
~~بياض إبطيه. لفظ البخاري. وله (3) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه. ولفظ مسلم (4) : "كان لا يرفع يديه في شيء
~~من دعائه إلا في الاستسقاء PageV04P086
# حتى يرى بياض إبطيه". ولمسلم (1) أيضا عن أنس بن مالك ms0635 قال: رأيت رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه. وفي
~~لفظ لمسلم (2) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه
~~إلى السماء. وفي لفظ لأبي داود (3) عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض
~~إبطيه. وفي لفظ لأبي داود (4) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه
~~حذاء وجهه، أعني في الاستسقاء.
# وعن عمير مولى آبي اللحم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي
~~عند أحجار البيت (5) قريبا من الزوراء قائما يدعو رافعا يديه قبل وجهه لا
~~يجاوز بهما رأسه. رواه أبو داود (6) والنسائي (7) . وروى الأوزاعي عن
~~سليمان بن موسى قال: لم يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رفع
~~يديه الرفع كله إلا في ثلاثة مواطن: في الاستسقاء، والاستنصار، وعشية عرفة،
~~ثم كان بعدها رفعا دون رفع فيها. رواه أبو داود في "المراسيل" (8) .
~~PageV04P087
# وعن ابن عباس قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بعرفة
~~بالموقف ويداه إلى صدره كما يستطعم المسكين. وعن ابن عباس قال: المسألة أن
~~ترفع يديك حذو منكبيك أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بإصبع واحدة،
~~والابتهال أن تمد يديك جميعها (1) . وفي لفظ (2) : والابتهال هكذا، ورفع
~~يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه. [و] رواه أبو داود من طريق آخر (3) عن ابن
~~عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر نحوه.
# إذا تبين هذا فنقول: الكلام على حديث أنس في موضعين:
# أحدهما: قوله "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء".
# والثاني: ما روي في بعض ألفاظ مسلم "فأشار بظهر كفيه إلى السماء".
# فإن من الناس من غلط في كلا الموضعين، فظن بعضهم أن اليد لا ترفع في
~~الدعاء إلا في الاستسقاء، حتى تركوا رفع اليدين في سائر الأدعية، ومنهم من
~~فرق بين دعاء الرغبة ودعاء الرهبة، فقال في دعاء الرغبة: يجعل باطن كفيه
~~إلى السماء وظاهرهما إلى ms0636 الأرض، وقال في دعاء الرهبة بالعكس، يجعل ظاهرهما
~~إلى PageV04P088
# السماء وباطنهما إلى الأرض، وقالوا: إن الراغب كالمستطعم، والراهب
~~كالمستجير المستعيذ الدافع. ونحن نتكلم في بيان السنة في صفة الرفع، ثم
~~نبين أنه على كل تقدير لا حجة فيه للجهمية نفاة العلو.
# أما رفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء فقد تواتر عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -، كما في صحيح البخاري (1) وغيره عن أبي هريرة قال: قدم الطفيل
~~بن عمرو الدوسي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله!
# إن دوسا قد عصت وأبت فادع عليهم، فاستقبل القبلة ورفع، وقال: "اللهم اهد
~~دوسا وأت بهم".
# وفي الصحيحين (2) أيضا عن أبي موسى قال: أصيب أبو عامر رضي الله عنه في
~~ركبته في غزوة أوطاس، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره فيها،
~~فقال لي: اقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام وقل له: استغفر لي
~~واستخلفني على الناس، وسكت يسيرا ثم مات. فلما رجعت إلى النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - وأخبرته خبر أبي عامر وسؤاله أن يستغفر له، فدعا رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ، ثم رفع يديه وقال: "اللهم اغفر لعبيدك
~~أبي عامر".
# وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عمر قال: بحث النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم PageV04P089
# يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر،
~~ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا
~~أسيره، فقلت: والله إني لا أقتل أسيري، ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره، حتى
~~قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرنا له، فرفع يديه فقال:
~~"اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"، مرتين.
# وفي صحيح مسلم (1) عن عائشة قالت: ألا أحدثكم عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي انقلب - صلى الله عليه وسلم -،
~~فوضع نعليه عند رجليه، وذكرت الحديث الطويل في دعائه لأهل ms0637 البقيع، فرفع
~~يديه ثلاث مرات وأطال القيام، ثم انحرف وانحرفت، وذكرت الحديث.
# وفي صحيح مسلم (2) أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - تلا قول الله عز وجل في إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيرا من
~~الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36)) (3) ، وقال عيسى
~~عليه السلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم
~~(118)) (4) ، فرفع يديه فقال: "اللهم أمتي أمتي"، قال الله: يا جبريل اذهب
~~إلى محمد - وربك أعلم - فسله ما يبكيك؟ فأتاه PageV04P090
# جبريل، فسأله، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الله: يا
~~جبريل! اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك فيهم.
# وفي صحيح مسلم (1) عن عمر بن الخطاب قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل
~~القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف برئه: "اللهم وأنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني
~~ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض"،
~~فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه
~~أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، والتزمه من ورائه، وقال يا نبي
~~الله! كذاك (2) منا شدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله (إذ
~~تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9)) (3) ،
~~فأمدهم الله بالملائكة.
# وفي سنن أبي داود (4) وغيره عن قيس بن سعد من حديث زيارة النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -، قال فيه: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه
~~وهو يقول: "اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة". PageV04P091
# وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: خرجنا مع رسول الله
~~- صلى الله عليه وسلم - من مكة نريد المدينة، فلما قدمنا من عزورا نزل، ثم
~~رفع يديه فدعا ساعة، ثم خر ساجدا، قال: "إني سألت ربي وشفعت لأمتي، فأعطاني
~~ثلث أمتي، فخررت ms0638 ساجدا شكرا لربي"، وذكر تمام الحديث.
# وعن أم عطية قالت: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشا فيهم علي،
~~قالت: فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رافع يديه يقول: "اللهم
~~لا تمتني حتى تريني عليا". أخرجه الترمذي (2) .
# و [في] حديث أسامة بن زيد (3) قال: كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه
~~وهو رافع يده الأخرى.
# وقد ذكر فيمن روي عنه رواية رفع اليدين في غير الاستسقاء: أنس أيضا في
~~حديث القنوت، قال أنس: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما صلى
~~الغداة رفع يديه يدعو عليهم. رواه البيهقي (4) . PageV04P092
# فصل
# إذا تبين هذا فنقول
### | : الجمع بين حديث أنس وهذه الأحاديث من وجهين:
# أحدهما: ما قاله طوائف من العلماء في الجمع بين حديث أنس وغيره، وهو أن
~~أنسا ذكر الرفع الشديد الذي يرى فيه بياض إبطيه وينحي فيه يديه، وهذا هو
~~الذي سماه ابن عباس الابتهال، وجعل المراتب ثلاثة:
# الإشارة بإصبع واحدة، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه
~~في التشهد [و] على المنبر يوم الجمعة بإصبعه، والحديث متعدد مشهور. وفي سنن
~~أبي داود (1) عن سعد قال: مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا
~~أدعو بإصبعي، فقال: "أحد أحد"، وأشار بالسبابة.
# والثانية: المسألة، وهو أن تجعل يديك حذو منكبيك، كما في أكثر الأحاديث.
# والثالث: الابتهال، وهو أن تمد يديك جميعا، وفي لفظ: والابتهال هكذا،
~~ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه.
# فهذا الابتهال هو الذي ذكره أنس في الاستسقاء، ولهذا قال: كان يرفع حتى
~~يرى بياض إبطيه، وإنما يرى بياض الإبطين بالرفع PageV04P093
# الشديد، وهذا الرفع إذا اشتد كان بطون يديه مما يلي وجهه والأرض،
~~وظهورهما مما يلي السماء، وكذلك جاء مفسرا: "رفع يديه حذاء وجهه"، وفي لفظ:
~~"جعل بطونهما مما يلي الأرض".
# ولو كان المراد به كما يظنه بعض الغالطين حيث يجعل يديه حذو منكبيه ويجعل
~~ظهورهما مما يلي الوجه والأرض، وتارة ms0639 يكون الظهور مما يلي السماء، يؤيد ذلك
~~ما رواه أبو داود (1) عن أنس بن مالك نفسه قال: رأيت رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - يدعو هكذا بباطن كفيه وظاهرهما.
# وقد يكون أنس أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة كما في صحيح مسلم (2)
~~والسنن (3) عن حصين بن عبد الرحمن قال: رأى عمارة بن رؤيبة بشر بن مروان
~~وهو يدعو في يوم الجمعة، فقال عمارة: قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما يزيد على هذه بإصبعه
~~المسبحة.
# وفي مسند أحمد (4) عن غضيف بن الحارث الثمالي قال بعث إلي عبد الملك بن
~~مروان أنا قد جمعنا الناس على أمرين: برفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة،
~~والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي ولست مجيبك إلى
~~شيء PageV04P094
# منهما، قال: لم؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحدث
~~قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة () . فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة.
# وعلى هذا يحمل الحديث الذي في سنن أبي داود (1) عن سهل بن سعد قال: ما
~~رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - شاهرا يديه يدعو على منبر ولا غيره، لكن
~~رأيته يقول هكذا، وأشار بالسبابة وعقد الوسطى بالإبهام، وقد قيل: في إسناد
~~هذا مقال (2) ، مع أنه ليس فيه إلا نفي الرؤية.
# وهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما وجهان في مذهب أحمد في رفع الخطيب
~~يديه، فقيل: يستحب لعموم الأخبار الواردة في رفع الأيدي، وهذا قول ابن
~~عقيل، وقيل: لا يستحب بل يكره، وهذا أصح، قال إسحاق بن راهويه: ذلك بدعة
~~للخاطب، إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه إذا دعا، لما
~~تقدم من الآثار.
# وأما في الاستسقاء لما استسقى على المنبر رفع يديه، كما رواه البخاري في
~~صحيحه (3) عن أنس، قال: أتى أعرابي من أهل البدو إلى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله! هلكت الماشية وهلك العيال وهلك
~~الناس، فرفع رسول الله - صلى ms0640 الله عليه وسلم - يديه يدعو، ورفع الناس
~~أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مطرنا. PageV04P095
# فقد أخبر أنس في هذا الحديث الصحيح أنه [لما] استسقى بهم يوم الجمعة على
~~المنبر رفع يديه ورفع الناس أيديهم، وقد ثبت أنه لم يكن يرفع على المنبر في
~~غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، لا سيما وبعض بني
~~أمية كانوا قد أحدثوا رفع الأيدي يوم الجمعة، كما تقدم من حديث عبد الملك
~~وبشر بن مروان، وإنكار عمارة بن رؤيبة وغضيف بن الحارث عليهما مخالفة
~~السنة، وأنس أدرك هذا العصر فيكون هو أيضا أخبر بالسنة التي أخبر بها غيره
~~من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرفع يديه - أي على المنبر -
~~إلا في الاستسقاء. وهذا الوجه يوافق الذي قبله، ويبين أن الاستسقاء مخصوص
~~بمزيد الرفع، وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس، فالأحاديث تأتلف ولا تختلف.
# وأما الموضع الثاني فنقول
### | : من ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرفع المعتدل جعل ظهر كفيه إلى السماء فقد أخطأ،
# وكذلك من ظن أنه قصد توجيه ظهر يديه إلى السماء في شيء من الدعاء، فليس
~~في شيء من الحديث ما يدل على أنه قصد جعل كفيه دون بطنهما إلى السماء، ولا
~~على أنه في الرفع المعتدل أشار بظهرهما إلى السماء، بل الأحاديث المشهورة
~~عنه تبين أن سنته إنما هي قصد توجيه بطن اليد إلى السماء دون ظهرها إذا قصد
~~أحدهما.
# ففي سنن أبي داود (1) من حديث مالك بن يسار السكوني ثم PageV04P096
# العوفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سألتم الله
~~فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها". وروى أيضا (1) من حديث محمد بن
~~كعب عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نظر في كتاب
~~أخيه بغير إذنه فإنما ينظر في النار. سلوا الله ببطون أكفكم، ولا تسألوه
~~بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم". قال أبو داود: روي هذا الحديث من
~~غير وجه عن ms0641 محمد بن كعب كلها واهية، وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضا.
# وفي سنن أبي داود (2) وغيره عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم -: "إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن
~~يردهما صفراوين". وفي سنن أبي داود (3) عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه. وقد تقدم في
~~حديث الاستسقاء من حديث عمير مولى آبي اللحم أنه رأى رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - عند أحجار البيت (4) قائما يدعو رافعا يديه قبل وجهه. لكن هذا
~~الرفع دون الرفع الذي أخبر به أنس، وذاك كان في موطن آخر، فإن ذاك الرفع
~~جاوز بهما رأسه. PageV04P097
# وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضت به الأحاديث، وهو الذي عليه الأئمة في
~~دعاء الصلاة، وعليه عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا التاريخ.
# وأما حديث أنس فقد تقدم أنه لشدة الرفع انحنت يده، فصار كفه مما يلي
~~السماء لشدة الرفع، لا قصدا لذلك، كما جاء أنه رفعها حذاء وجهه. وتقدم حديث
~~أنس نفسه أنه رأى رسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو بباطن كفيه وظاهرهما،
~~وتقدم حديث ابن عباس: الابتهال هكذا، ورفع يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهه.
~~فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفع الشديد رفع الابتهال، تارة يذكر فيه أن
~~بطونهما مما يلي وجهه وهذا أشد، وتارة يذكر هذا وهذا، فتبين بذلك أنه لم
~~يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظهر اليد ولا بطنها، لأن الرفع يرتفع وتبقى
~~أصابعها نحو السماء مع نوع من الانحناء الذي يكون فيه هذا تارة وهذا تارة.
~~وأما إذا قصد توجيه بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجه بطنها، وهذا في الرفع
~~المتوسط الذي هو رفع المسألة.
# فبهذا تآلف الأحاديث ويظهر السنة وتبين المعاني المتناسبة.
# إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه: أحدها: أن يقال:
~~لا نسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد توجيه ظهر الكف دون بطنه ms0642 إلى
~~السماء في شيء من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى
# PageV04P098
# حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنت يده.
# الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصد رفع ظهر
~~كفيه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر معارضة له في ذلك،
~~فإن أمكن الجمع بينهما وإلا كان الأكثر الأشهر أولى بالتقديم عند التعارض.
# الوجه الثالث: أن يقال: هب أنه قصد رفع كفيه إلى السماء وتوجيه باطن يديه
~~إلى الأرض، فهذا لا يدل على نفي علو الله سبحانه وتعالى، فإن الناس كلهم
~~متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قصد توجيه
~~بطن يده إلى الله، ولم يقل هذا أحد من الخلائق.
# الوجه الرابع: أن يقال: غاية ما في هذا أنه لم يقصد رفع يده إلى السماء،
~~ولا ريب أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبا، فغاية هذا أن يقال:
~~إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا
~~لا يدل على أن الله ليس في العلو.
# الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطل استدلال من يستدل برفع اليد
~~على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدل على أنه
~~رفعها إلى الله، كما أن جعل الكف إلى السماء لا يدل على أن بطن اليد إلى
~~الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يبقى فيه دلالة على العلو،
~~ومعلوم أن انتفاء الدليل المعين لا ينفي الحكم.
# PageV04P099
# الوجه السادس: أنه لا يتوهم عاقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد
~~بذلك تعريف أمته أن الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرا في هذا
~~المقصود، ولهذا لم يستدل أحد من الجهمية بذلك. والله قد أمر نبيه بالبلاغ
~~المبين، فكيف يترك البيان الذي جعل عليه إلى ما لا بيان فيه؟ كيف والقرآن
~~والأحاديث مملوء من البيان الدال على أن الله في العلو؟ فكيف يجوز أن يقال:
~~إنه قصد ms0643 أن يعرفهم نفي العلو بمثل هذا العلو الذي لا يدل؟ ولا يقال: إنه
~~قصد تعريفهم العلو بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا
~~مما يعلم بالاضطرار أنه من نسب الرسول إليه فهو من أكذب الخلق عليه، وهو في
~~هذا المقام من حبالة أهل السفسطة والقرمطة المبطلين للعقليات والسمعيات.
# الوجه السابع: أن يقال: لا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في
~~الدعاء تارة كان يشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان
~~يدعو بباطن يديه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانا بلا إشارة
~~ولا رفع، فيقال: إذا كان بعض هذه الأفعال دالا على علو الله تعالى وقد فعله
~~بعض الأوقات حصل المقصود، وليس ترك الدلالة في بعض الأوقات نافيا للمدلول
~~بوجود الرفع دليل العلو، وعدمه لا ينافيه، فلا يضر إذا كان في بعض الأدعية
~~لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد علم أنه لم يقصد هنالك توجيه بطن يديه
~~إلى غير الله.
# الوجه الثامن: أنه قد جاء مصرحا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى،
# PageV04P100
# كما تقدم من حديث سلمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن ربكم حيي
~~كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراوين".
# وفي صحيح مسلم (1) عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
~~إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي
~~الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبتيه باسطها. وفي لفظ (2) : كان إذا
~~قعد في التشهد وضع يده اليسرى على ركبته [اليسرى] ، ووضع يده اليمنى على
~~ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة. وفي لفظ (3) : كان إذا
~~جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، فقبض أصابعه كلها، وأشار
~~بإصبعه التي تلي الإبهام، ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى.
# وكذلك في صحيح مسلم (4) حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده
~~اليسرى ms0644 [على فخذه اليسرى] ، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه
~~الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته.
# وفي صحيح مسلم (5) وغيره من حديث جابر الطويل في صفة PageV04P101
# حجة الوداع - وهو أتم حديث جاء في صفة حجته - قال: حتى إذا زاغت الشمس
~~أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس فقال: "إن دماءكم
~~وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل
~~شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم
~~أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد فصلبه هذيل،
~~وربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب
~~فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله،
~~واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه،
~~فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف،
~~وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله. وأنتم تسألون عني
~~فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه
~~السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد،
~~ثلاث مرات. ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر.
# فهو هنا يدعو ربه ويناجيه، مشيرا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم
~~يقول: اللهم اشهد أني على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعل منه وسمع هذا الكلام
~~منه على هذا الوجه علم ضرورة أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يشهد على أمته
~~بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يكابر وقال: هذا لا يدل، فلا ينازع في أنه ظاهر
~~في ذلك، ولو نازع في الظهور لم ينازع في أن دلالة هذا وأمثاله على علو الله
~~أبين
# PageV04P102
# من دلالة ترك رفع اليدين أو ترك رفع بطونهما على عدم علوه، فإن ذلك لا
~~يدل بوجه من الوجوه، فمن ترك هذه الدلالات المحكمات وتمسك بالمتشابهات كان
~~من الذين في قلوبهم زيغ.
# PageV04P103
# مسألة
# في رجال يتركون الصلوات ms0645 الخمس تهاونا، ويدعون في كل وقت إلى فعلها فلا
~~يجيبون، فماذا يجب عليهم؟ وهل إذا سلموا على أحد أن يرد عليهم السلام؟ وهل
~~يهجروا في الله؟ وفيهم رجل قال: صليت بلا وضوء، وقال أيضا: ما كتب الله علي
~~صلاة، فماذا يجب عليه؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إذا لم يكونوا مقرين بوجوبها عليهم فهم
~~كفار مرتدون (1) بإجماع المسلمين، يجب قتلهم كلهم إذا لم يتوبوا. والذي
~~قال: ما كتب الله علي صلاة، فإن هذا كافر باتفاق المسلمين يجب قتله إذا لم
~~يتب. وإذا أقروا بالوجوب وامتنعوا من الفعل فإنه يجب عند جماهير أئمة
~~المسلمين أن يستتابوا أيضا، فإن لم يتوبوا ويقيموا الصلاة المفروضة عليهم
~~فإنه يجب قتلهم أيضا.
# وهل يقتلوا (2) كفرا أو فسقا؟ على قولين مشهورين للعلماء، أحدهما: أنهم
~~يقتلون كفرا، وهو قول أكثر السلف وقول طائفة من PageV04P104
# أصحاب مالك والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أكثر أصحابه،
~~كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس بين العبد وبين الكفر والشرك
~~إلا ترك الصلاة". رواه مسلم (1) ، وقال: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة،
~~فمن تركها فقد كفر" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح. وروى الترمذي (3) عن عبد
~~الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفرا إلا
~~الصلاة، من تركها فقد برئت منه ذمة الله ورسوله.
# وفي صحيح البخاري (4) عن عمر أنه لما طعن قيل له: الصلاة، فقال: نعم، لا
~~حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وقد قال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة
~~وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (5) ، فعلق الأخوة في الدين على التوبة من
~~الشرك وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ترك القتال على ذلك بقوله: (فإن
~~تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (6) . PageV04P105
# وفي الصحيح (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عمن لم يره كيف
~~تعرفهم؟
# فقال: "يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء". فمن لم يصل لم يكن
~~فيه علامة أمة محمد يوم القيامة.
# وفي الصحيحين (2) في حديث الشفاعة أنه ذكر الجهنميين الذين ms0646 أخرجوا من
~~النار بالشفاعة، قال: "فتأكلهم النار إلا موضع السجود، فإن الله حرم على
~~النار أن تأكل أثر السجود". وأمثال ذلك كثيرة.
# وأما قول القائل: صليت بلا وضوء، فإن كان مستحلا لذلك أو مستهزئا بالصلاة
~~كفر باتفاق المسلمين، ووجب قتله، وإن كان معتقدا لوجوب الوضوء للصلاة وأن
~~الصلاة بغير وضوء حرام، ففي كفره قولان للفقهاء، فإن طائفة من أصحاب أبي
~~حنيفة قالوا: يكفر هذا، واتفق المسلمون على مثل هذا يستحق العقوبة الغليظة.
~~والله سبحانه أعلم.
# وهجر هؤلاء وترك رد السلام عليهم من أهون ما يعزرون به، فإنهم يستحقون ما
~~هو أغلظ من ذلك، والله أعلم. PageV04P106
# مسألة
# في رجل مضى عليه زمن لم يصل فيه، ثم تاب ولازم الصلوات الخمس، ولم يتفرغ
~~لقضاء ما فاته من الصلوات، فهل - والحالة هذه - يطالبه الله بذلك أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله. أما إن كان أولا ممن لا يعتقد وجوب الصلاة ويعزم على فعلها
~~فهذا في الباطن ليس بمؤمن، وإن كان في الظاهر مسلما، كالمنافقين الذين تجري
~~عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار. وإن
~~لم يكن مكذبا في الباطن للرسول، بل قد يكون مقرا في الباطن بصدقه، أو معرضا
~~عن تصديقه وتكذيبه، وهو مع ذلك معرض عما جاء به، لا يخطر بقلبه الصلاة هل
~~هي واجبة أو ليست واجبة؟ وهل يلزمه فعلها أو لا يلزمه؟ وإن خطر ذلك بقلبه
~~أعرض عنه، واشتغل بأمور دنياه وشهواته عن أن يعتقد الوجوب ويعزم على الفعل،
~~فهؤلاء وإن صلوا لم تقبل صلاتهم. قال تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله
~~وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون
~~الله إلا قليلا (142)) (1) ، PageV04P107
# وقال تعالى: (فويل للمصلين (4) الذين هم عن صلاتهم ساهون (5) الذين هم
~~يراؤون (6) ويمنعون الماعون (7)) (1) .
# وهذا إذا تاب فاعتقد الوجوب، وعزم على الفعل، وأقام الصلاة، كان بمنزلة
~~من قد تاب من الزكاة، وهذا على أصح قولي العلماء وأكثرهم لا يوجب عليه قضاء
~~ما تركه قبل الإسلام من صلاة وغيرها، ولهذا لم ms0647 يكن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - يأمر من تاب من المنافقين بإعادة ما فعلوه أو تركوه في حال نفاقهم،
~~ولا أمر من تاب من المرتدين بقضاء ما تركوه في حال الردة. وكذلك الصديق
~~والصحابة لما قاتلوا المرتدين لم يأمروهم بقضاء ما تركوه في حال الردة،
~~وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه أنه يجب على المرتد إذا
~~أسلم أن يقضي ما تركه حال الردة، وفي قضاء ما تركه قبل الردة روايتان عن
~~أحمد، ومذهب أبي حنيفة ومالك أنه لا يجب عليه قضاء شيء من ذلك، ومذهب
~~الشافعي: يقضي الجميع، وقد بنوا ذلك على أن الردة هل تحبط مطلقا أو بشرط
~~الموت عليها؟ وفي هذا البناء وتقرير هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه، فإن
~~المسئول عنه قد عرف حكمه بالسنة المعروفة، مع ما دل عليه القرآن في قوله:
~~(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) (2) .
# وقد أجمع المسلمون على أن الكافر لا يصلي، سواء كان حربيا أو ذميا، لا
~~يجب عليه قضاء شيء من هذه الفرائض، مع قول الجمهور إنه يعاقب على تركها في
~~الآخرة إذا لم يسلم. PageV04P108
# وأما إن كان هذا الذي فوت بعض الصلاة عمدا مؤمنا، يعتقد وجوبها ويعزم على
~~أدائها، ولكن تكاسل عنها بعض الأوقات، فهذا يجب عليه عند جمهور العلماء،
~~وعند بعضهم إذا تاب فلا قضاء عليه، بخلاف ما لو نام عنها أو نسيها فإن هذا
~~عليه القضاء بالسنة والإجماع. ومن قال: العامد لا يقضي، فإن ذنبه أكبر ولا
~~ينفعه القضاء، لكن إذا تاب فالتوبة تجب ما قبلها. والذين أوجبوا عليه
~~القضاء أوجبوه بحسب الإمكان.
# وأكثرهم يقولون: إذا كثرت الفوائت لم يجب قضاؤها على الفور مرتبة، كأبي
~~حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وأصحاب الشافعي في أصح الوجهين، يوجبون
~~قضاء ما تعمد تركه على الفور، وأحمد في الرواية الأخرى يوجب قضاء الجميع
~~على الفور مرتبا لكن بحسب الإمكان، بحيث لا يشغله عما لا بد له منه من
~~معيشة ونحوها، ولا يضعفه عن واجب ms0648 أو ما لا بد منه.
# والكثير الذي لا يجب فيه الفور والترتيب، قيل: هو صلاة يوم وليلة، كما هو
~~في مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: ما لا يمكن فعله إلا بفوت الحاضرة، كما هو
~~المنقول عن أحمد.
# والذي ينبغي لهذا التائب أن يجتهد في المحافظة على الصلاة فيما بقي من
~~عمره، وإن قصر في قضاء الفوائت فليجتهد في الاستكثار من النوافل، فإنه
~~يحاسب بها يوم القيامة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - (1) : "أول ما
~~يحاسب به العبد PageV04P109
# صلاته، فإن كان أتمها كتبت تامة، وإن لم يكن أتمها قال الله: انظروا هل
~~تجدون لعبدي من تطوع فتكملون به. فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال
~~على حسب ذلك".
# وأما إن قدر أنه عجز عن القضاء، فلم يتفرغ حتى مات بعد التوبة، فهذا
~~مغفور له، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكذلك لو قضى البعض وعجز عن البعض،
~~ومن العجز أن يكون بحيث لو اشتغل بالقضاء لتضرر في معيشته وما يحتاج إليه
~~لنفقة عياله وقضاء ديونه ونحو ذلك، فإنه ليس عليه أن يواصل القضاء مواصلة
~~تمنعه عما لا بد منه باتفاق العلماء. والله أعلم. PageV04P110
# مسألة
# في رجل له عشرين (1) سنة يشرب الخمر، ولا يصلي إلا بعض الأعياد والجمع،
~~لكنه يتصدق وينظر المعسر، فهل يثاب على ذلك؟ وهل إذا تاب يجب عليه قضاء ما
~~فاته من الواجبات؟
# الجواب
# الحمد لله.
### | تارك الصلاة يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب
# عقوبة شديدة حتى يصلي بإجماع المسلمين. وأكثر الأئمة كمالك والشافعي
~~وأحمد يقولون: إنه إذا لم يصل فإنه يقتل، واختلف هل يقتل كافرا أو فاسقا
~~على قولين. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" (2) ، وقال: "العهد الذي بيننا
~~وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (3) .
# وأما إذا فعل شيئا من الخير فإن الله لا يظلم، فإن اليهود PageV04P111
# والنصارى إذا فعلوا خيرا فإن الله يثيبهم عليه في الدنيا، لكن هذا لا
~~يدفع عنه عقوبة ms0649 ترك الصلاة. ويجب عليه المحافظة على الصلوات في مواقيتها.
~~ومن ترك الصلاة متعمدا فقد قال بعض العلماء: إن الإثم الذي عليه لا يسقط
~~ولا غيره، ولا يقبل منه القضاء، بل يتوب ويستغفر. وقال الأكثرون: بل يقضي
~~ويتوب من التأخير، والله أعلم.
# PageV04P112
# مسألة
# في رجل عنده زوجة لا تصلي، فهل يجب عليه أو يستحب له أن يأمرها بالصلاة؟
~~وإذا لم تأتمر فهل يجوز له إبقاؤها زوجة أو يجب عليه أو يستحب له أن
~~يفارقها؟ وماذا يجب على تارك الصلاة؟ وهل يكفر بتركها أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله. بل يجب عليه أن يأمرها بالصلاة ويجب ذلك عليه، بل يجب عليه أن
~~يأمر بذلك كل من يقدر على أمره به إذا لم يقم غيره بذلك، وقد قال الله
~~تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (1) ، وقال تعالى: (قوا أنفسكم
~~وأهليكم نارا) (2) ، قال علي عليه السلام: علموهم وأدبوهم. وينبغي مع الأمر
~~بذلك أن يحضها على ذلك بالرغبة والرهبة، كما يحضها على ما يحتاج إليه، ف
### | إن أصرت على ترك الصلاة فعليه أن يطلقها،
# وذلك واجب في الصحيح.
# وتارك الصلاة يستحق العقوبة حتى يصلي باتفاق المسلمين، على أنه إن لم يصل
~~قتل، وهل يقتل كافرا أو فاسقا؟ على قولين مشهورين، والله أعلم. PageV04P113
# مسألة
# في رجل عمره سبعين (1) سنة وهو مقيم في بلده مدة ثلاث سنين، ما رآه أحد
~~صلى ولا زكى.
# الجواب
# هذا الرجل يجب أن يستتاب ليقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، فإن لم يقم الصلاة
~~وإلا قتل عند جماهير العلماء، وهل يقتل كفرا أو فسقا على قولين.
# وإن لم يؤد الزكاة وإلا أخذت منه قهرا، فإن غيب ماله وامتنع من أدائها
~~قتل أيضا في أحد قولي العلماء، وفي الآخر: لا يزال يضرب ضربا بعد ضرب حتى
~~يظهر ماله فيوخذ منه الزكاة. ومن عرف حال هذا فينبغي أن يهجره، فلا يسلم
~~عليه ولا يعاشره، ويوبخه ويغلظ له حتى يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة.
# قال عمر بن الخطاب: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
# وقال ابن مسعود: ما ms0650 تارك الزكاة بمسلم. وقد قال تعالى: (فإن تابوا
~~وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (2) ، وفي الآية PageV04P114
# الأخرى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (1)
~~.
# وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرت أن
~~أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا
~~الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
~~بحقها، وحسابهم على الله".
# فقد بين الله في كتابه وسنة رسوله أنه إنما يكف عن قتالهم وإنما يصيرون
~~إخوة في الدين إذا كانوا مع توبتهم من الكفر يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة،
~~فمن لم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة لم يكن من هؤلاء، فيعاقب على ذلك باتفاق
~~المسلمين، وإن وقع نزاع في صفة العقوبة، والله أعلم. PageV04P115
### | مسألة
# في البنت إذا بلغت ولم تصل، وإن قيل لها: صلي تقول: ما أنا كبيرة.
~~والمرأة الكبيرة إذا لم تصل فماذا يجب عليها
# إذا كان زوجها حلف عليها: لا يطأها ولا ينفق عليها إلا أن تواظب على
~~الصلاة؟ هل يحنث أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين.
### | من بلغ من الرجال والنساء فالصلاة فريضة عليه
# باتفاق المسلمين، والمرأة يحصل بلوغها بحيضها وبإنزال الماء، وكذلك الحبل
~~يدل على الإنزال، فمتى حاضت المرأة أو حبلت ولم تقر بوجوب الصلاة عليها بعد
~~أن تعرف أن الله أوجبها عليها فهي كافرة باتفاق المسلمين، ولا تحل لزوجها،
~~ولا يصح عقد النكاح عليها، فإنها مرتدة، ونكاح المرتدة باطل عند الأئمة،
~~ويجب قتلها عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، كما يجب قتل سائر المرتدات
~~عندهم.
# وإن كانت لا تقر بوجوبها لظنها أن الصلاة إنما تجب على العجوز دون
~~الشابة، فهذه لا يحكم بكفرها وردتها حتى تعرف أنها واجبة عليها، وهل على
~~هذه إعادة ما تركته في حال جهلها بوجوب الصلاة عليها؟ على قولين للعلماء في
~~مذهب أحمد وغيره.
# PageV04P116
# وكذلك المرأة الكبيرة إذا لم تقر بوجوب الصلاة وامتنعت من فعلها فإنها
~~تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ms0651. وإذا هجرها
~~وامتنع من وطئها حتى تصلي كان محسنا في الهجر والامتناع، ولا نفقة لها هذه
~~المدة، فإن الذي فعله واجب عليه. ويجب عليها أن تطيعه فيه، وللزوج إلزام
~~زوجته بترك المحرمات، وإن أمكن الوطء مع فعلها، وله أيضا إلزامها بغسل
~~الجنابة وإزالة النجاسة، وإن أمكن وطؤها مع الجنابة، وهذا وإن علل بأن
~~النفس تعاف وطء المرأة الجنب، فالتي لا تصلي شر منها، وترك الصلاة شر من
~~فعل أكثر المحرمات، إذا كانت تطيعه فيما له أن يلزمها به، وإن كانت ناشزا
~~فلا نفقة لها ما دامت كذلك، والله أعلم.
# PageV04P117
# مسألة
# في أقوام يكونون بالمسجد، فإذا حضرت الصلاة قاموا، فيدعون للصلاة فيأبوا
~~(1) ، فيقال لهم: من لا يصلي ما هو مسلم، فيقولون: كل من نطق بالشهادتين هو
~~مسلم.
# فبينوا لنا حكم هؤلاء وما يجب عليهم، ومنهم من لا يصلي إلا من العيد إلى
~~العيد، ومنهم من لا يصلي أبدا.
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، من ترك الصلاة غير مقر بوجوبها عليه - وهو من أهل
~~الوجوب - فإنه كافر باتفاق الأئمة وإن كان مقرا بالشهادتين، وهذا يستتاب،
~~فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا باتفاق الأئمة. وإن كان ممن لا يعرف الوجوب
~~لحدثان عهده بالإسلام أو إنشائه بمكان جهل فإنه يعرف الوجوب، فإن أقر به
~~وإلا قتل كافرا.
# و
### | الصلاة واجبة على كل عاقل بالغ إلا الحائض والنفساء،
# تجب على الحر والعبد، الذكر والأنثى، والمقيم والمسافر، والآمن
~~PageV04P118
# والخائف، والصحيح والمريض، وأهل الأحوال وأهل خوارق العادات ذوي
~~المكاشفات والتأثيرات وغير أهل خوارق العادات، وأهل حضور القلب مع الله
~~وأهل المعرفة والحقائق، وغير هؤلاء، والمتولهين الذين لهم عقل يميزون وغير
~~المتولهين، لا تسقط عن العبد مع حضور عقله بسبب من هذه الأسباب.
# وأما من كان مجنونا فإنه لا صلاة عليه حال جنونه، ولا قضاء عليه بعد
~~الإفاقة، وإن قصر زمن الجنون عند جماهير العلماء، قال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن
~~النائم حتى يستيقظ" (1) . والمجانين منهم من ms0652 يكون مع جنونه له نصيب من
~~الإيمان أو الكشف ونحوه، وقد يسمى هؤلاء عقلاء المجانين، وقد يسمون
~~المولهين، فهؤلاء إذا كانوا مجانين كانوا كما قال فيهم بعض أهل العلم: هم
~~قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا، سلب عقولهم وأبقى أحوالهم، فأسقط ما فرض
~~بما سلب.
# وأما من كان عاقلا فلا تسقط عنه الصلاة، وإن له من الأحوال والمعارف
~~وخوارق العادات ما عسى أن يكون، بل إذا لم يقر بوجوب الصلاة عليه فإنه
~~يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وكذلك من قرره على ذلك واعتقد أن الصلاة لا تجب
~~على مثل هؤلاء لحصول PageV04P119
# مقصود الصلاة لهم ونحو ذلك، فإنه من اعتقد ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
~~ومن كان نائما فإنه يقضي الصلاة إذا استيقظ. وهذا كله لا نزاع فيه بين
~~المسلمين.
# وأما من أغمي عليه لمرض أو خوف أو حال ورد عليه من خشية الله تعالى أو
~~استماع القرآن ونحو ذلك، فهذا قيل: يجب عليه القضاء مطلقا، وهو مذهب أحمد
~~ويروى عن عمار بن ياسر، وقيل: لا قضاء عليه وهو مذهب الشافعي، وقيل: يقضي
~~صلاة يوم وليلة، كمذهب أبي حنيفة ومالك.
# وإن زال عقله بسبب محرم، كالسكر بالخمر والحشيشة وأكل البنج ونحو ذلك، أو
~~بحال محرم مثل أن يستمع القصائد المنهي عنها فيغيب عقله، فهذا عليه القضاء
~~بلا نزاع، وإذا كان السبب محصورا لا يكون (1) السكران معذورا.
# وأما أن أقر الواحد من هؤلاء بوجوب الصلاة وامتنع من فعلها فهذا أيضا
~~يستتاب، فإن تاب وإلا قتل عند جماهير الأئمة كمالك والشافعي وأحمد، ويقتل
~~في ظاهر مذهبهم بترك صلاة واحدة، فإذا مضى من وقت صلاة الفجر قيل له: صل،
~~فإن لم يصل حل دمه ولو طار في الهواء ومشى على الماء، فإن الدجال يأمر
~~السماء فتمطر والأرض فتنبت، ويستتبع معه الكنوز، ومع هذا فهو كافر من خلق
~~الله، يقتله المسيح بن مريم على باب الشرقي. ولكن لا يقتل PageV04P120
# حتى يستتاب. وهل هذه الاستتابة واجبة أو مستحبة هي موقتة ثلاثة أيام؟ هذا
~~فيه نزاع معروف ms0653.
# وإذا قتل فهل يقتل كافرا مرتدا لا يدفن في مقابر المسلمين ولا يغسل ولا
~~يصلى عليه، أو يقتل فاسقا كقتل قاطع الطريق والزاني إذا كان مقرا بوجوبها؟
~~على قولين مشهورين هما روايتان عن أحمد.
# وكلام أكثر السلف يدل على تكفيره، وقد رجحه كثير من أصحاب أحمد وبعض
~~أصحاب مالك والشافعي. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة" (1) ، وقال: "العهد
~~الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (2) .
# وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئا من الأعمال تركه
~~كفرا إلا الصلاة. وقال عمر بن الخطاب لما قيل: الصلاة، فقال لا حظ في
~~الإسلام لمن ترك الصلاة، ولم يقل ثلاثة أيام.
# وسئل ابن مسعود وغيره عن قوله (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة) (3) ،
~~فقال: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، فقالوا: ما كنا نحسب ذلك إلا تركها، فقال:
~~لو تركوها لكانوا كفارا، وقد قال سبحانه وتعالى: (فويل للمصلين (4) الذين
~~هم عن صلاتهم ساهون (5)) (4) . وإذا كان هذا الوعيد لمن نسيها عن وقتها
~~فكيف بمن تركها؟ PageV04P121
# مسألة
### | هل يجوز غيبة تارك الصلاة أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، إذا قيل عنه إنه تارك الصلاة وكان تاركها فهذا جائز،
# وينبغي أن يشاع ذلك عنه ويهجر حتى يصلي، وأما مع القدرة فيجب أن يستتاب،
~~فإن تاب وإلا قتل.
# PageV04P122
# مسألة
# فيمن ترك الصلاة عامدا أو غير عامد، ووجبت عليه الزكاة ولم يزك، وعاق
~~والديه، وقتل نفسا خطأ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حج هذا
~~البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وقد قصد الحج، فهل
~~يسقط هذا جميعه ومظالم العباد؟
# الجواب
# أجمع المسلمون لا يسقط حقوق العباد كالدين ونحو ذلك، ولا يسقط ما وجب
~~عليه من صلاة وزكاة وصيام وحق المقتول عليه وإن حج. والصلاة التي يجب عليه
~~قضاؤها يجب قضاؤها وإن حج. وهذا كله باتفاق العلماء.
# PageV04P123
# مسألة
# في رجل مات، وكان لا يزكي ولا يصلي ms0654 إلا إن كان في رمضان، فيجب لنا أن
~~نصلي على مثل هذا؟
# الجواب
# مثل هذا
### | يستحب لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه عقوبة ونكالا لأمثاله،
# كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على قاتل نفسه، وعلى الغال،
~~وعلى المدين الذي لا وفاء له. وإن كان منافقا فمن علم نفاقه لم يصل عليه،
~~ومن لم يعلم نفاقه فله أن يصلي عليه.
# PageV04P124
# مسألة
# في أقوام لم يصلوا ولم يصوموا، والذي يصوم منهم لم يصل، ومالهم حرام،
~~ويأخذون أموال الناس، ويكرمون الجار والضيف، ولم يعرفوا لهم مذهب (1) وهم
~~مسلمون.
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إن كانوا تحت حكم ولاة الأمور فإنهم يجب أن
~~يأمروهم بإقامة الصلاة ويعاقبوا على تركها باتفاق المسلمين، وكذلك الصيام.
~~فإن أقروا بوجوب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن
~~لم يقر بذلك فهو كافر، وإن أقروا بوجوب الصلاة وامتنعوا من إقامتها عوقبوا
~~حتى يقيموها.
# ويجب قتل كل من لم يصل إذا كان عاقلا بالغا عند جماهير العلماء كمالك
~~والشافعي وأحمد، وكذلك يقام عليهم الحدود، وإن كانوا طائفة ممتنعة ذات شوكة
~~فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا أداء الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلوات
~~والصيام والزكاة، وترك PageV04P125
# المحرمات كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك. ومن لم يقر بوجوب الصلاة
~~والزكاة فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن لم يؤمن بالله ورسوله
~~واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافر أكفر من اليهود والنصارى. وعقوق
~~الوالدين من الكبائر الموجبة للنار.
# PageV04P126
# مسألة
# فيمن قال: صلاة الجماعة ليست بواجبة، وإنما كانت واجبة في زمن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - ومعه فقط.
# قيل له: فقد قال بعض العلماء: إن من ترك الجماعة وصلى في بيته فهو منافق،
~~فقال: من قال هذا هو المنافق، وقال: إنه لا يوجد اليوم منافق، وإنما كان
~~النفاق في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن يقال اليوم: زنديق،
~~ولا يقال: منافق.
# فهل ما قاله هذا الرجل صحيح أم لا؟
# أجاب
# الحمد لله، أما من قال إن صلاة ms0655 الجماعة كانت واجبة في زمن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - ومعه فقط، فهذا القول مخالف لأقوال الأئمة الأربعة وسائر
~~أئمة الدين، بل ما نعلم إماما قال هذا، وإنما قال هذا بعض العلماء في صلاة
~~الخوف خاصة، زعم أنها كانت تصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره،
~~وجمهور الأئمة على خلاف ذلك. وأما الجماعة المعروفة فالأئمة متفقون فيها
~~على خلاف قول هذا القائل، فمنهم من يقول: هي واجبة على الأعيان على عصر
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأعصار على من يصلي خلفه ومن يصلي خلف
~~غيره. ومنهم من
# PageV04P127
# يقول: هي واجبة على الكفاية على عصره وعصر غيره خلفه وخلف غيره، ومنهم من
~~يقول: هي سنة مؤكدة على عصره وعصر غيره خلفه وخلف غيره. وأما وجوبها في
~~عصره معه فقط، فهذا قول مخالف لأقوال أئمة الإسلام، وما سمعت عالما قال
~~هذا.
# وقد كانت الجماعة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - تقام خلفه وخلف
~~غيره من أئمة القبائل، وكان في كل دار من دار الأنصار مسجد، أي في كل قبيلة
~~من قبائل الأنصار مسجد، وكان لهم إمام راتب يصلون خلفه، كما كان معاذ بن
~~جبل يصلي بأهل قباء، وكان غسان بن مالك يصلي بقومه وكذلك غيرهما من الأئمة.
~~وأما الجمعة فلم تكن تقام إلا في مسجده، فمن قال: إن الصحابة كلهم كان يجب
~~عليهم أن يصلوا خلفه الجماعة كما كان يجب عليهم أن يصلوا خلفه الجمعة فقد
~~أخطأ خطأ بينا، وقال قولا معلوم الفساد بالتواتر والإجماع.
# وأما إطلاق النفاق على من تخلف عن الجماعة أو الجمعة، فهذا إنما يكون إذا
~~كان بغير تأويل شرعي، فأما من تخلف لعذر شرعي، أو من اعتقد أن ذلك ليس
~~بواجب عليه، فتخلف لأجل هذا الاعتقاد فإنه قد يكون مؤمنا غير منافق، سواء
~~كان مصيبا في اعتقاده أو مخطئا.
# وقد ثبت في صحيح مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله شرع
~~لنبيه سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما PageV04P128
# يصلي ms0656 هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم،
~~ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. فقد أخبر ابن مسعود أن
~~الجماعة لم يكن يتخلف عنها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا منافق
~~معلوم النفاق، وهذا مما يستدل به من يوجبها، لأنه إذا لم يكن يتركها حينئذ
~~إلا منافق معلوم النفاق علم أنها كانت واجبة إذ لو كانت مستحبة كقيام الليل
~~وصيام يوم الاثنين والخميس وسنة الظهر والمغرب لكان قد يتركها المؤمن، ولم
~~يكن في تركها يقال: إنه منافق، فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) أن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - ذكر ما فرض الله من الصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك
~~لرجل، فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال: "أفلح
~~إن صدق". فإذا كان من أدى الفرائض يكون مفلحا وإن لم يأت المستحبات، وكانت
~~الجماعة لا يتخلف عنها عندهم إلا منافق، علم أنها كانت عندهم من الواجبات،
~~ولكن هذا كان لعلم الصحابة بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاني
~~كلامه، وأنه لم يكن بينهم نزاع على عهده ولا شبهة ولا اختلاف، لظهور العلم
~~والإيمان ومعرفتهم بوجوبها وتوكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - لها. حتى
~~قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم الحطب
~~إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (2) . ومعلوم أن
~~التحريق بالنار لا يكون إلا عن كفر أو كبيرة عظيمة. PageV04P129
# وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت من النساء والذزية"، وفي رواية لأبي
~~داود (2) : "ثم أنطلق إلى رجالي يصلون في بيوتهم، فأحرق بيوتهم بالنار".
~~فلما علم الصحابة هذا الوعيد والتهديد كان المؤمنون يطيعون الله ورسوله،
~~والمنافقون يتخلفون عن الجماعة، فأما اليوم فقد قل العلم والإيمان، وكثير
~~من العلماء يخفى عليه بعض السنة فضلا عن غيرهم، فلهذا صار يتركها من ليس
~~بمنافق معلوم النفاق، لكن هؤلاء يتشبهون بالمنافقين، إذا لم يكونوا
~~منافقين، وهم تاركون للسنة المؤكدة باتفاق المسلمين، وإذا أصروا على ذلك ms0657
~~ردت شهادتهم، بل يقاتلون في أحد القولين، وهذا عند من لا يقول بوجوبها.
# فأما من قال بوجوبها فإنه يقاتل تاركها، ويفسق المصرين على تركها إذا
~~قامت عليهم الحجة التي تبيح القتال والتفسيق، كما يقاتل أهل البغي بعد
~~إزالة الشبهة ورفع المظلمة، بل العلماء قد يعاقبون من ترك واجبا أو فعل
~~محرما وإن كان متأولا، كما قال مالك والشافعي وأحمد في شارب النبيذ المتأول
~~أنه يجلد وإن كان متأولا، والشافعي لا يرد شهادته بذلك، ومالك يردها، وعن
~~أحمد روايتان. وكذلك البغاة المتأولون إذا قاتلوا، كما قاتل علي بن أبي
~~طالب لأهل الجمل وصفين، فإنهم عند الأئمة الأربعة لا يفسقون بذلك البغي،
~~لأنهم كانوا فيه متأولين وإن قوتلوا. PageV04P130
# وهكذا كل ما ثبت تحريمه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد خفي ذلك
~~على بعض العلماء، فإنه يذكر تحريمه وما ورد فيه من التغليظ والوعيد، وإن
~~كان المتأول المعذور من العلماء لا يلحقه الوعيد، بل يغفر الله له لأنه
~~اجتهد فأخطأ، وقد قال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (1) ،
~~وفي الصحيح (2) أن الله تعالى قال: "قد فعلت".
# وهكذا ما يتنازع فيه الأئمة من واجبات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك،
~~إذا تركه التارك متأولا مع قيامه بالواجبات وتركه للمحرمات لم يكن بذلك
~~فاسقا بل ولا آثما، بل الله يغفر له خطأه.
# ومع هذا فمن يقول بوجوبه يبين وجوبه، ويذكر ما جاء فيه من الأدلة الشرعية
~~لبيان العلم وإظهار السنة، وليتبين خطأ القول المخالف للسنة وصواب القول
~~الموافق لها، وإن كان المخالف مجتهدا معذورا، بل يكون المجتهد من أولياء
~~الله المتقين، وعباده الله الصالحين، ومن أئمة الدين، والله يغفر له خطأه
~~ويغفر له ما هو فوق الخطأ من الذنوب، إذ لا معصوم من أن يقر على خطأ أو ذنب
~~بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان صديقا أو شهيدا أو صالحا، لكن
~~يكونون كما قال تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن
~~سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي ms0658 كانوا يوعدون (16)) (3) .
# ووجوب الجماعة من هذا الباب، فإن دلائل وجوبها في PageV04P131
# الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ظاهر بين، لا يستريب فيه بعد معرفته ومعرفة
~~ما قيل في ذلك عالم منصف، ولكن طائفة من العلماء ظنوا أن الوعيد كان في
~~الجمعة خاصة، والنصوص صريحة ثابتة بأنها كانت في الجماعة أيضا. ومنهم من ظن
~~أن العقوبة إنما كانت للنفاق خاصة لا لترك الجماعة، وهذا أيضا خطأ فإن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعاقب أحدا على ما أسره من النفاق،
~~وإنما يعاقبه بما أظهره من ترك واجب أو فعل محرم. وأيضا فإذا [كان] تركها
~~علامة النفاق، فالدليل يستلزم المدلول، علم أن كل من تركها كان منافقا،
~~وهذا دليل الوجوب.
# وأيضا فإنه قد ثبت في الصحيح (1) أن ابن أم مكتوم سأل النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أن يرخص له في تركها، فقال: "هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم.
~~قال: "فأجب". وفي رواية في السنن (2) : فقال: "لا أجد لك رخصة". وابن أم
~~مكتوم مؤمن باتفاق المسلمين، وهو الأعمى الذي ذكره الله بقوله: (عبس وتولى
~~(1) أن جاءه الأعمى (2)) (3) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخلفه
~~على المدينة، وكان يؤذن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا فلم يأذن له
~~في التخلف عن الجماعة، فعلم أنها واجبة على من علم إيمانه.
# ومن ادعى أن هذا الحديث منسوخ أو مخالف للإجماع فقد PageV04P132
# غلط، فإن العمل عليه عند من يوجب الجماعة، يوجبها على الأعمى كما يوجب
~~عليه الجمعة، فإذا أمكنه الخروج إليها وجبت عليه وإن لم يكن له قائد، إذ
~~الأعمى قد يذهب إلى السوق وغيره من حوائجه بلا قائد، فكذلك يذهب إلى
~~الجماعة.
# فصل
# وأما من قال: لا يوجد اليوم منافق، إنما كان النفاق على عهد النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -، فهذا مخطىء بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان
~~بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن النفاق اليوم أكثر منه على عهد
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمنافق هو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام،
~~وهذا ms0659 موجود في سائر الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - وآياته وسماع كلامه يكون المنافقون موجودين فبعده أولى وأحرى.
# وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهل منه، فإن لفظ
~~"زنديق" لفظ معرب لم ينطق به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه،
~~ولكن نطقت به الفرس، فأخذته العرب فعربته. ومعنى الزنديق الذي تنازع
~~الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر،
~~ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتج
~~الشافعي وغيره ممن يرى قبول توبة الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل
~~علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله. وكذلك تكلم
# PageV04P133
# الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثه، ووجوب
~~إعادة ما فعله من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتج على ذلك بأحكام النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة
~~أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يظهر الإسلام ويبطن الكفر فإنه منافق،
~~يسمى منافقا، ويدخل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومن أنكر هذا فإنه
~~يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
# واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يعبر به عن بعض شعب الكفر والنفاق، وهذا
~~هو النفاق الأصغر وهو الذي خافته الصحابة على أنفسهم، كما في صحيح مسلم (1)
~~أن حنظلة الكاتب لقي أبا بكر الصديق فقال: نافق حنظلة، نافق حنظلة.
# وذكر البخاري (2) عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم
~~يخاف النفاق على نفسه. وقد صنف جعفر بن محمد الفريابي الحافظ كتابا في صفة
~~المنافق (3) ، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يتسع له هذا الموضع، وقد
~~قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
~~الكافرون (44)) ، (فأولئك هم الفاسقون (47)) ، (فأولئك هم الظالمون (45))
~~(4) ، PageV04P134
# قال: كفر دون كفر، وفسوق دون فسوق، وظلم دون ظلم (1) . وفي الحديث عن
~~النبي - صلى الله عليه ms0660 وسلم - أنه قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب
~~النمل، والرياء شرك" (2) وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والاستسقاء بالأنواء"
~~(3) . وفي حديث آخر: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن
~~آبائكم" (4) . ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم. PageV04P135
# مسألة
# في رجل له دكان يبيع فيها ويشتري، وهي بقرب المسجد من غير حائل بينهما،
~~فهل يجب عليه إذا أقيمت الصلاة وحضرت الجماعة أن يصلي منفردا في الدكان
~~ويترك الجماعة؟ وهل يوجب (1) أن يؤخر الصلاة مع الجماعة ويصلي في البيت
~~ويقول: أنا أؤخر الصلاة إلى نصف الليل وأصلي في بيتي؟
# الجواب
# لا يجب عليه باتفاق المسلمين أن يصلي منفردا في الحانوت، بل
### | هو مأمور باتفاق المسلمين أن يصلي مع الجماعة،
# وإنما يأمر بالصلاة منفردا دون الجماعة أهل البدع المضلة كالرافضة، وبعض
~~ضلال النساك ونحوهم، وأما أهل السنة والجماعة فمن أعظم شعائرهم الصلاة في
~~الجمعة والجماعة.
# و
### | الصلاة في الجماعة من أوكد ما شرعه الله ورسوله،
# بل هي واجبة، فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "لقد PageV04P136
# هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أنطلق معي رجال معهم حزم الحطب إلى قوم لا
~~يشهدون الصلاة، فأحرق بيوتهم بالنار". وفي رواية (1) : "لولا ما في البيوت
~~من النساء والذرية". فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما يمنعه من تحريق
~~المتخلفين عن الجماعة أن في البيوت نساء وذرية.
# وفي الصحيح (2) أن أعمى جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا
~~رسول الله! إني رجل شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن
~~أصلي في بيتي؟ قال: "هل تسمع النداء"؟ قال: نعم، قال: "فأجب". وفي رواية
~~(3) : "هل تسمع النداء؟ " قال: نعم، قال: "لا أجد لك رخصة". وفي الصحيح (4)
~~عن ابن مسعود أنه قال: شرع الله لنبيه سنن الهدى، وإن هذه الصلوات الخمس في
~~المساجد التي يؤذن بها من سنن الهدى، وإنكم لو صليتم في ms0661 بيوتكم كما صلى هذا
~~المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد
~~رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
# وإذا ظهر من الرجل [الانفراد] بما يجب عليه من الصلاة وواجباتها فإنه
~~يستحق على ذلك العقوبة البليغة، التي تحمله وأمثاله على أداء PageV04P137
# الواجبات وإقامة شرائع الدين، ومتى ادعى ما يظهر خلافه لم يقبل منه، بل
~~يؤمر أن يصلي مع المسلمين، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
~~الصحيح (1) : "تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب
~~أحدهم الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام، فنقر أربعا لا يذكر الله
~~فيها إلا قليلا".
# ومن قال: إنه يؤخر العشاء حتى يصليها بعد نصف الليل، فإنه لا يقر على
~~ذلك، بل يعاقب حتى يصلي الصلاة في وقتها وقت الاختيار، فإن تأخير العصر إلى
~~[ما] بعد الاصفرار وتأخير العشاء إلى ما بعد نصف الليل لا يجوز مع القدرة،
~~بل يجوز ذلك لمن لم تمكنه الصلاة وقت الاختيار، كالحائض تطهر، والمجنون
~~يفيق، والنائم يستيقظ، والكافر يسلم، ونحو ذلك، والله أعلم. PageV04P138
# مسألة
# في مسلم تارك الصلاة ويصلي يوم الجمعة، فهل يجب عليه اللعنة؟
# الجواب
# الحمد لله، هذا يستوجب العقوبة باتفاق المسلمين، والواجب عند جمهور
~~العلماء كمالك والشافعي وأحمد أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
# ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز، وأما لعنة المعين فالأولى تركها،
~~لأنه يمكن أن يتوب.
# PageV04P139
### | مسألة
# في رجل يصوم ولا يصلي ويلعب بالنرد.
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، الصلاة أعظم من الصيام، وتارك الصلاة المفروضة
~~أعظم إثما من تارك الصيام.
# وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من فاتته
~~صلاة العصر حبط عمله". وفي الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~أنه قال: "الذي تفوته الصلاة صلاة واحدة فكأنما وتر أهله وماله" أي سلب
~~أهله وماله. فإذا كان هذا فيمن تفوته صلاة واحدة فكيف بمن يفوته أكثر من
~~صلاة؟
# فكيف بمن يترك الصلاة؟ وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صلى ms0662 الله عليه
~~وسلم - أنه قال: "ليس بين العبد وبين الشرك إلا ترك الصلاة". وتاركها مستحق
~~للعقوبة البليغة بإجماع المسلمين، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وأما لعب
~~النرد فهو حرام باتفاق العلماء. PageV04P140
# مسألة
# فيمن عنده زوجة ما تصفي، هل تحرم عليه؟ أو ينفسخ العقد الذي عقد بينهما؟
~~ولها عليه صداق ثقيل ولم يقدر على شي؟ منه، ويخاف إن يفارقها يطالب بشي لا
~~يقدر عليه.
# الجواب
# الحمد لله، أما إقرار الزوجة أو غيرها ممن هو تحت طاعة الرجل على ترك
~~الصلاة فهو حرام بإجماع المسلمين، والمقر على ذلك مع القدرة على الإنكار
~~آثم فاسق عاص بلا نزاع، بل الأمر بالصلاة لمن ليس تحت طاعة الرجل فرض على
~~الكفاية، إذا تركه الناس عصوا وأثموا، واستحقوا جميعهم عقاب الله، فكيف ترك
~~الأمر بذلك لمن هو في طاعته؟ وقد قال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر
~~عليها) (1) ، وما أمر الله به نبيه فهو أمر لأمته ما لم يقم دليل على
~~التخصيص، ولا تخصيص هنا بالاتفاق، فيجب على كل مسلم أن يأمر أهله بالصلاة.
~~وكذلك قال تعالى: (قوا أنفسكم وأهليكم) (2) ، قال عليه الصلاة والسلام:
~~علموهم وأدبوهم. PageV04P141
# وإذا علم الرجل أن المخطوبة لا تصلي كان تزوجه أشر مما إذا علم أنها قحبة
~~أو سارقة أو شاربة خمر، فإن
### | تارك الصلاة شر من السارق والزاني باتفاق العلماء،
# إذ تارك الصلاة سواء كان رجلا أو امرأة يجب قتله عند جمهور العلماء كمالك
~~والشافعي وأحمد، والسارق لا يجب قتله، ولا يجب قتل الزانية التي لم تحصن
~~باتفاق العلماء، وإن كانت بكرا بالغا عند أبويها وهي لا تصلي كانت شرا من
~~أن تكون قد زنت عندهم أو سرقت، وإذا كان الناس كلهم ينكرون أن يتزوج الرجل
~~بسارقة أو زانية أو شاربة خمر ونحو ذلك فيجب أن يكون إنكارهم لتزوج من لا
~~تصلي أعظم وأعظم باتفاق الأئمة. فإن التي لا تصلي شر من الزانية والسارقة
~~وشاربة الخمر.
# وليس لقائل أن يقول: فالمسلم يجوز له أن يتزوج اليهودية والنصرانية، فكيف
~~بهذه؟ لأن اليهودية والنصرانية ms0663 تقر على دينها، فلا تقتل ولا تضرب، وأما
~~تارك الصلاة والسارق والشارب والزاني فلا يقر على ذلك، بل يعاقب إما بالقتل
~~وإما بالقطع وإما بالجلد، وإن كان عقابه في الآخرة أخف من عقاب الكافر، لكن
~~لا يجوز لغيره أن يقره على فسقه، فمن أقر فاسقا على فسقه ولم ينكر عليه كان
~~عاصيا آثما، ومن أقر ذميا على دينه لم يكن آثما ولا عاصيا، وقد قال تعالى:
~~(الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات
~~أولئك مبرءون مما يقولون) (1) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والنساء
~~الطيبات للرجال الطيبين، PageV04P142
# والخبيثة هي الفاجرة، فهي للرجل الخبيث الفاجر.
# والخبث إن قيل المراد به الزنا دل على أن تزوج الزانية لا يجوز حتى تتوب،
~~وهو أصح قولي العلماء، لقوله تعالى: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك)
~~(1) ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى رجلا أن يتزوج امرأة كان يزني
~~بها اسمها عناق (2) ، وأنزل الله هذه الآية في ذلك، ولهذا كان المتزوج بها
~~مذموما عند عامة العقلاء، حتى يقال: شتمه بالزين والقاف، أي قال له: يا زوج
~~القحبة. والحديث الذي يروى في الرجل الذي قال: إن امرأتي لا ترد كف لامس،
~~قد ضعفوه (3) ، ولا شك أن الزانية يخاف منها إفساد الفراش، وهو من هذا
~~الوجه شر من غيرها، بخلاف من كان فسقها بغير ذلك، ولهذا يقال: ما بغت امرأة
~~نبى قط، لكن عقوبة المرأة التي تترك الصلاة أعظم من عقوبة بعض البغايا
~~فالمتزوج بها يكون قد أقر في بيته من المنكرات أعظم من أن يقر عنده أخته
~~الزانية وبنته الزانية.
# وأما انفساخ النكاح بمجرد الترك فلا يحكم بذلك، لكن إذا PageV04P143
# دعيت إلى الصلاة وامتنعت انفسخ نكاحها في أحد قولي العلماء، وفي الآخر لا
~~ينفسخ، لكن على الرجل أن يقوم بما يجب عليه.
# وليس كل من وجب عليه أن يطلقها ينفسخ نكاحها بلا فعله، بل يقال له: مرها
~~بالصلاة وإلا فارقها، فإن كان عاجزا عن ذلك لثقل صداقها كان مسيئا بتزوجه
~~من لا تصلي على هذا ms0664 الوجه، فيتوب إلى الله من ذلك، وينوي أنه إذا قدر على
~~أكثر من ذلك فعله، والله أعلم.
# PageV04P144
### | مسألة
# فيمن لا يصلي هل تجاب دعوته إذا دعا أحدا؟
# الجواب
# أما من لا يصلي فلا ينبغي أن يسلم عليه، ولا تجاب دعوته، بل هو مستحق
~~للقتل، فإذا هجر فلم يسلم عليه ولم تجب دعوته كان ذلك أخف ما يعاقب به.
### | مسألة
# في رجل ذكر له الصلاة، فقال: قال الله: (لا تقربوا الصلاة) (1) ، فقيل
~~له: اقرأ بقية الآية، فقال: كلمة تكفي العاقل، وهو يضحك،
# فما يجب عليه؟
# الجواب
# هذا الرجل مستهزىء بآيات الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. PageV04P145
# مسألة
# في الميت وخروجه على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل المرور
~~بالميت بالمقربين، وخروج النساء صحبة الميت، وخروجهم إلى القبر اليوم
~~الثالث، ومن يصنع موضع غسل الميت خبزا وماء وسراجا إلى ثلاثة أيام،
~~والقراءة على القبر ثلاثة أيام، وفي اليوم الثالث نسق القبر بأيديهم،
~~والضرب بالدفوف والشبابات، هل يكره ذلك أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، كان الميت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~يخرج به الرجال، يحملونه إلى المقبرة ويسرعون به وعليهم السكينة، لا يخرج
~~معهم النساء، ولا يرفع الرجال أصواتهم لا بقراءة ولا غيرها. وهذه هي السنة
~~باتفاق علماء المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، لا يستحبون أن يكون مع
~~الميت شيء من الأصوات المرتفعة ولو كانت بالقراءة.
# قال قيس بن عبادة -وهو من كبار التابعين الذين صحبوا علي بن أبي طالب-:
~~كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند التحام الحرب. وذكروا
~~أن عبد الله بن عمر سمع رجلا
# PageV04P146
# في جنازة يقول: استغفروا لفلان، فقال عبد الله بن عمر: لا غفر الله
~~للأبعد، قال ذلك نهيا له عن هذه البدعة. وقال سعيد بن المسيب لما احتضر:
~~إياي وحادثكم هذا الذي ترحموا على سعيد، استغفروا لسعيد.
# وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يتبع الجنازة
~~بصوت أو نار. وفي الصحيحين (2) عنه - صلى الله عليه ms0665 وسلم - أنه قال:
~~"أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة فخير تعجلونها إليه، وإن كانت غير ذلك
~~فشر تضعونه عن رقابكم". وفي السنن (3) : "أسرعوا بالجنازة ولا تدبوا بها
~~دبيب اليهود". والآثار في ذلك متعددة.
# وخروج النساء في الجنائز منهي عنه، لا سيما إذا كان النساء ينحن أو يضربن
~~خدودهن ويرفعن أصواتهن، فإن هذا نزاع بلا ريب، سواء فعلته مع الجنازة أو في
~~حال غيبتها، لكنه معها بحضور الرجال أشد. وفي الصحيحين (4) عن أتم عطية
~~قالت: نهينا عن اتباع الجنائز. وفي السنن (5) أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - رأى نسوة مع جنازة، فقال لهن: "هل تحملن مع من يحملن؟ " قلن: لا،
~~قال: "هل تحفرن PageV04P147
# مع من يحفرن؟ " قلن: لا، قال: "هل تدلين مع من يدلي؟ " قلن: لا، قال:
~~"فارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت". ومعنى قوله:
~~"تؤذين الميت" أي بالنياحة، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "من نيح
~~عليه يعذب بما نيح عليه".
# وقد بسطنا الكلام على هذا الحديث في غير هذا الموضع (1) ، وبينا أن ما
~~يحصل للألم بنياحة الحي ليس عقوبة له على ذنب غيره، بل النائحة تعاقب على
~~نياحتها، كما ثبت في صحيح مسلم (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب
~~وسربالا من قطران".
# فالميت ما يحمل وزر النائحة، بل يحصل له بنياحتها من الألم الذي يتعذب به
~~ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -، وليس كل ألم يحصل للإنسان بسبب من
~~الأسباب يكون عقوبة عليه، وفي الصحيحين (3) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية". فقد تبرأ
~~ممن لطم الخدود وشق الجيوب، والجيب هو طوق الثوب، كما يفعله بعض المصابين
~~حين يشق ثيابه. والدعاء بدعوى الجاهلية مثل أن يقول: يا ركناه! يا عضداه!
~~يا ناصراه!
# ونحو ذلك، وهذا هو الندب، لأنه يندب الميت، أي يدعوه، والميت لا يجيب
~~دعاءه، ولا منفعة ms0666 في هذا الندب لا للحي وللميت، PageV04P148
# بل فيه ضرر عليهما، فإنه قد ثبت أن عبد الله بن رواحة أغمي عليه، فجعلت
~~أخته تندب عليه، فلما أفاق قال: ما قلت في شيء إلا قيل لي: أنت كذلك؟ أنت
~~كذاك؟ (1) .
# وفي الصحيحين (2) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه تبرأ من الحالقة
~~والصالقة والشاقة. فالحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، والصالقة التي
~~ترفع صوتها بالمصيبة، والشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة.
# والأحاديث في ذلك كثيرة، حتى قال جرير بن عبد الله البجلي: كنا نعد
~~الاجتماع إلى أهل الميت وصنعهم الطعام من النياحة، رواه أحمد (3) أي إذا
~~اجتمع الناس وصنع أهل الميت للناس وليمة، فهذا من عمل الجاهلية، وإنما
~~السنة أن يصنع لأهل الميت طعام لاشتغالهم بمصيبتهم، كما قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - لما أتاه نعي جعفر: "اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم ما
~~يشغلهم" (4) .
# وعمل العرس للميت من أعظم البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدفوف في
~~الجنائز على وجه النياحة منكر باتفاق العلماء، لم يرخص أحد من أهل العلم في
~~ضرب الدفوف في الجنائز والموت، PageV04P149
# فكيف بالشبابات؟ وإنما يضرب بالدف في عرس النكاح ونحوه، كما جاءت به
~~السنة، مع أن بعض السلف كره ذلك مطلقا، لكن الصحيح أنه يفرق بين الضرب به
~~في الموت أو في الفرح، وكان دفهم ليس له صلاصل، ولهذا تنازع العلماء في
~~الدف المصلصل على قولين. وأما الشبابة فلم يرخص فيها أحد من الأئمة الأربعة
~~لا في عرس ولا موت.
# وكذلك ما يفعله بعض المصابين من كشف الرءوس ونشر الشعور، ولبس المسوح،
~~ونبذ الأواني والبسط، أو كسر بعض ذلك، أو هلب الخيل، أو تقليب سروجها، أو
~~تقليب الكيات التي على رءوس أتباعه، أو وضع التين في داره، وما أشبه هذه
~~الأمور، فكل ذلك من المنكرات التي هي من جنس عمل أهل الجاهلية. وكذلك وضع
~~الفواكه والمشمومات عنده، أو إلباس الميتة حليها أو جميل ثيابها كما يصنع
~~بالمرأة العروس، ونحو ذلك كله من المنكرات التي هي من جنس عمل الجاهلية ms0667،
~~وكذلك وضع طعام وشراب في مغتسله أو إيقاد ضوء في مغتسله كل ذلك من البدع
~~المنكرة التي لا أصل لها، وكذلك شق تراب قبره بعد ثلاث، بل الاختلاف إلى
~~قبره صبيحة موته أو ثالثه وسابعه ورأس شهره ورأس حوله هو أيضا من البدع
~~التي لم يكن يفعل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وإنما قال
~~عمرو بن العاص لما احتضر: اجلسوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها،
~~أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
# PageV04P150
# وأما الصدقة عن الميت فإنها تنفعه، كما ثبت ذلك بنص سنة رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - واتفاق أئمة المسلمين، ففي الصحيح (1) أنه قال سعد: يا
~~رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن
~~أتصدق عنها؟ قال: "نعم"، وأما إخراج الصدقة مع الجنازة فبدعة مكروهة، وهو
~~يشبه الذبح عند القبر، وهذا مما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما
~~في السنن (2) عنه أنه نهى عن العقر عند القبر. وتفسير ذلك أن أهل الجاهلية
~~كانوا إذا مات فيهم كبير عقروا عند قبره ناقة أو بقرة أو شاة أو نحو ذلك،
~~فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، حتى نص بعض الأئمة على كراهة
~~الأكل منها، لأنه يشبه الذبح لغير الله. قال بعض العلماء: وفي معنى ذلك ما
~~يفعله بعض الناس من إخراج الصدقات مع الجنازة من غنم أو خبز أو غير ذلك،
~~وهذا فيه عدة مفاسد:
# منها: أن مشيعي الجنازة تشتغل قلوبهم بذلك.
# الثاني: أنه يتبع الميت من ليس له غرض إلا في أخذ ذلك.
# الثالث: أنهم يختصمون عليها.
# الرابع: أنه يأخذها الغالب غير مستحق ويحرم المستحق. PageV04P151
# الخامس: أنه قد يكون على الميت دين أو في ورثته صغار.
# السادس: أنها تصنع رياء.
# فمن أحب أن ينفع ميته بصدقة عنه فليتصدق بما يسره الله تعالى على من
~~يثيبه الله بالصدقة عليه، فإن الصدقة إذا وصلت إلى المستحق الذي ينتفع بها
~~محمولة إليه كان أعظم للأجر والثواب، وكان ms0668 في ذلك اتباع للسنة والتخلص من
~~البدعة.
# PageV04P152
### | مسألة
# في قوم يقرءون قدام الموتى على طريقة الغناء،
# ويقفون بالميت قليلا بعد قليل لأجل النقوط، فقالت جماعة: هذا حرام على
~~المقرىء والمعطي، وقالت جماعة: مكروه، والمراد بيان ذلك.
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، نعم
### | الوقوف بالميت ليقرأ القراء مما ينهى عنه،
# ولو لم يكن لأجل تنقيطهم، فإذا كان كذلك فهو زيادة شر على شر، بل مجرد
~~الوقوف بالميت منهي عنه مطلقا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
~~"أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر
~~تضعونه عن رقابكم" (1) . وقال: "أسرعوا بالجنازة ولا تدبوا دبيب اليهود"
~~(2) .
# و
### | القراءة على الجنازة بدعة مكروهة
# باتفاق الأئمة الأربعة، فإذا وقفوا تضاعفت المكروهات، والإعطاء نقوطا
~~لمثل هؤلاء مما ينهى عنه فاعله، ولا يثاب عليه، فإنه بإعطائه أعان على ما
~~يكرهه الله ورسوله، والله أعلم. PageV04P153
# مسألة
# المسئول أن يبين لنا عن هذه المشاهد، ومن ابتدعها، وفي زيارتها، وما صح
~~من الأنبياء والصحابة في دفنهم على ما ذكروا عند جامع بني أمية وغيره،
~~وخالد بن الوليد ذكر أنه كان تربته [في] حمص ورجله تخط الأرض. وهل يجوز
~~التبرك بالمشهد أو زيارة رجل ميت؟ ومن يقول: "بحرمة فلان اقض حاجتي" أو
~~يندب له؟ وكيف تكون زيارة الرجل الصالح وما صح من دفن الأنبياء؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذه المسائل متضمن أصلين:
# أحدهما: هذه المقابر والمشاهد وما فيها من حق وباطل، فنقول
### | : القبور ثلاثة أقسام:
### | منها: ما هو حق لا ريب فيه،
# مثل قبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه أبي بكر وعمر، فإن هذا
~~منقول بالتواتر، وإن كان بعض الرافضة تطعن في قبر أبي بكر وعمر، فهؤلاء
~~مكابرون بهاتون، بمنزلة من ينكر قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
# PageV04P154
# ومنها: ما هو كذب بلا ريب، مثل القبر المضاف إلى أبي بن كعب الذي شرقي
~~دمشق، فإن الناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية، وكذلك
~~أمهات المؤمنين كلهن توفين بالمدينة ms0669، فمن قال: إن بظاهر دمشق قبر أم حبيبة
~~أو أم سلمة أو غيرهما فقد كذب. ولكن من الصحابيات بالشام امرأة يقال لها أم
~~سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن، فهذه توفيت بالشام، فهذه قبرها محتمل. كما
~~أن قبر بلال ممكن فإنه دفن بباب الصغير بدمشق، فنعلم أنه دفن هناك، وأما
~~القطع بتعين قبره ففيه نظر، فإنه يقال: إن تلك القبور حدثت.
# وكذلك القبر المضاف إلى أويس القرني غربي دمشق كذب بلا
# ريب، وقد روى أبو عبد الرحمن السلمي حكاية فيها أنه توفي بدمشق، وهي
~~باطلة قطعا، فإن أويسا لم يجيء إلى الشام وإنما ذهب إلى العراق.
# وكذلك القبر المضاف إلى هود بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم، فإن هودا
~~لم يجىء إلى الشام، بل بعث باليمن وهاجر إلى مكة، فقيل: إنه مات باليمن،
~~وقيل: إنه مات بمكة، وإنما ذلك تلقاء قبر معاوية بن أبي سفيان، فإن خلف
~~الحائط تابوت مكتوب فيه اسم معاوية بن أبي سفيان.
# وأما الذي خارج باب الصغير الذي يقال: إنه قبر معاوية، فإنما هو معاوية
~~بن يزيد بن معاوية الذي تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات، ولم يعهد إلى أحد،
~~وكان فيه دين وصلاح، ولكن لما اشتهر أنه قبر معاوية ظن الناس أنه معاوية بن
~~أبي سفيان.
# PageV04P155
# وهكذا يقال في قبر خالد أنه خالد بن يزيد بن معاوية أخو يزيد هذا، ولكن
~~لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة خالد بن الوليد ظنوا أنه خالد بن
~~الوليد، كان قد عزله عمر بن الخطاب لما تولى عن إمارة الشام. وقد اختلف في
~~هذا الذي بحمص هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد، وكذلك اختلف في قبر أبي
~~مسلم الخولاني الذي بداريا على قولين، وكذلك قبور غير هذه اختلف الناس
~~فيها، وهذا هو القسم الثالث، وهو الذي اختلف فيه أهل النقل، فإن كان مع
~~أحدهما ما يرجح به نقله ترجح.
# وأما المكذوب قطعا فكثير، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن
~~الحسين توفي بالمدينة ms0670 بإجماع الناس ودفن بالبقيع، ويقال إن قبة العباس بها
~~قبره وقبر الحسن وعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد، وفيها
~~أيضا رأس الحسين، وأما بدنه فهو بكربلاء باتفاق الناس. والذي صح ما ذكره
~~البخاري في صحيحه (1) من أن رأسه حمل إلى عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت
~~بالقضيب على ثناياه، وقد شهد ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبو برزة
~~الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد روي بإسناد منقطع أو مجهول (2) أنه حمل
~~إلى يزيد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضرا وأنكر
~~ذلك. وهذا كذب، فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد، وإنما كان بالعراق.
~~PageV04P156
# وهذا كما يرويه الكذابون أن أهل البيت سبوا وحملوا على الجمال فنبتت لها
~~سنامان، فإن كل عاقل يعلم أن هذا كذب، وقد كانت البخاتي موجودة في زمن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل ذلك، وكما يروون أن الحجاج بن يوسف قتل
~~أشراف بني هاشم، وهذا كذب أيضا، فإن الحجاج مع ظلمه وغشمه صرفه الله عن بني
~~هاشم، فلم يقتل منهم أحدا، وبذلك أمره خليفته عبد الملك، وقال: إياك وبني
~~هاشم أن تتعرض إلى أحد، فإني رأيت آل حرب لما تعرضوا للحسين أصابهم ما
~~أصابهم، أو كما قال. ولم يقتل في دولة بني مروان من الأشراف بني هاشم من هو
~~معروف، لأن زيد بن علي بن الحسين لما صلب بالكوفة، وقد تزوج الحجاج ابنة
~~عبد الله بن جعفر وأعظم صداقها، فلم يروه كفؤا لها وسعوا في مفارقته إياها،
~~ولكن ذكر الناس أن الحجاج كان يقتل الأشراف أشراف الناس وهم رؤوس قبائل
~~العرب، فظن من ظن أنهم بنو هاشم، وتخصيص لفظ الأشراف بهم عرف حادث، والشرف
~~هو الرئاسة، كالحديث الذي رواه الترمذي (1) وصححه عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه قال: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على
~~المال والشرف لدينه".
# وفي الصحيح (2) عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية، PageV04P157
# فقالوا: من يكلم فيها رسول ms0671 الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: ومن
~~يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد، فكلمه فيها فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه،
~~وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة
~~بنت محمد سرقت لقطعت يدها". فهذه كانت من أشراف قريش، وكانت مخزومية.
# وكذلك قبر نوح الذي بجبل بعلبك كذب قطعا، وإنما ظهر من مدة قريبة، وقد
~~بينت حاله لما سألني عنه أهل الناحية وتبين أنه لا أصل له.
# وكذلك مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على
~~أن الرأس لم يعرف، وأهل المعرفة بالنقل يعلمون أن هذا أيضا كذب، وأصله أنه
~~نقل من مشهد بعسقلان، وذاك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة في أواخر
~~المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين بنحو من
~~خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا
~~المشهد بني بعد بناء القاهرة بنحو مائتي عام.
# وكذلك قبر علي عليه السلام الذي بباطنة النجف بالكوفة، فإن المعروف عند
~~أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة
~~بالشام، ودفن عمرو بقصر الإمارة بمصر، خوفا عليهم من الخوارج أن ينبشوا
~~قبورهم، فإن الخوارج كانوا قد تحالفوا على قتلهم، فقتل عبد الرحمن بن ملجم
~~عليا عليه السلام
# PageV04P158
# وهو خارج إلى صلاة الفجر بمسجد الكوفة باتفاق الناس، ومعاوية ضربه الذي
~~أراد قتله على أليته فعولج من ذلك وعاش، وعمرو بن العاص استخلف على الصلاة
~~رجلا اسمه خارجة، فضربه الخارجي فظنه عمرا، وقال: أردت عمرا وأراد الله
~~خارجة.
# ومثل قبر جابر الذي بظاهر حران، فإن الناس متفقون على أن جابرا توفي
~~بالمدينة النبوية، وهو آخر من مات من الصحابة بها.
# ومثل قبر عبد الله بن عمر الذي بالجزيرة، فإن الناس متفقون على أن عبد
~~الله بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير، وأوصى أن يدفن في ms0672 الحل لكونه من
~~المهاجرين، فشق ذلك عليهم، فدفنوه بأعلى مكة.
# وكثير من هذه الأسماء يقع فيها الغلط من جهة اشتراك الأسماء، كما وقع في
~~قبر معاوية وغيره بسبب اشتراك اللفظ، فلعل رجلا اسمه جابر أو عبد الله بن
~~عمر دفن هناك، فظن الجهال أنه الصاحب لشهرته، ثم اشتهر ذلك.
# وكذلك رقية وأم كلثوم مما هو مدفون بالشام أو مصر أو غيرهما، قد يظن بعض
~~الناس أنه قبر رقية بنت النبي أو أم كلثوم بنته، وقد اتفق الناس على أن
~~رقية وأم كلثوم ماتتا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة تحت
~~عثمان بن عفان وبهما يسمى ذا النورين، وكذلك زينب بنت النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - توفيت في حياته، ولم يخلف من بناته إلا فاطمة، ولم يخرج أحد من
~~بناته إلى الشام ولا مصر ولا غيرهما من الأقاليم.
# PageV04P159
# والمسجد الذي بجانب عرنة الذي يقال له مسجد إبراهيم، فإن بعض الناس يظن
~~أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو من ولد العباس، والمسجد إنما بني في دولة
~~العباسية علامة على الموضع الذي صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~الظهر والعصر يوم عرفة، فإنه أقام بنمرة إلى حين الزوال، ثم ركب فأتى بطن
~~عرنة عند المكان الذي بني فيه هذا المسجد، فخطب على راحلته، ثم نزل فصلى
~~بهم هناك الظهر والعصر قصرا وجمعا، ثم أتى الموقف بعرفات. وكان بحران مسجد
~~يقال له مسجد إبراهيم، فيظن الجهال أنه إبراهيم الخليل، وإنما هو إبراهيم
~~بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، الذي كانت دعوة الخلافة العباسية له،
~~وحبس هناك ومات في الحبس، وأوصى إلى أخيه أبي جعفر الملقب بالمنصور.
# و
### | القبور المختلف فيها كثيرة،
# منها قبر خالد بن الوليد كما تقدم، فإن فيه قولين ذكرهما أبو عمر ابن عبد
~~البر في "الاستيعاب" (1) : توفي بحمص، وقيل: توفي بالمدينة، سنة إحدى
~~وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأوصى إلى عمر بن الخطاب،
~~قال: وروى يحيى بن سعيد القطان [عن سفيان] (2) عن ms0673 حبيب بن أبي ثابت عن أبي
~~وائل قال: بلغ عمر بن الخطاب أن نسوة من نساء بني المغيرة اجتمعن في دار
~~يبكين على خالد بن الوليد، فقال عمر: وما عليهن أن يبكين على أبي سليمان
~~PageV04P160
# ما لم يكن نقع أو لقلقلة.
# وأما قبر الخليل عليه السلام قالت العلماء على أنه حق، لكن كان مسدودا
~~بمنزلة حجرة النبي، ولم يكن عليه مسجد، ولا يصلي أحد هناك، بل المسلمون لما
~~فتحوا البلاد على عهد عمر بن الخطاب بنوا لهم مسجدا يصلون فيه في تلك
~~القرية منفصلا عن موضع الدير، ولكن بعد ذلك نقبت حائط المقبرة كما هو الآن
~~النقب ظاهر فيه، فيقال: إن النصارى لما استولوا على البلاد نقبوه وجعلوه
~~كنيسة، ثم لما فتحه المسلمون لم يكن المتولي لأمره عالما بالسنة حتى يسده
~~ويتخذ المسجد في مكان آخر، فاتخذ ذلك مسجدا وكان أهل العلم والدين العالمون
~~بالسنة لا يصلون هناك.
# فصل
# الأصل الثاني: أن هذه المشاهد والقبور المضافة إلى الأنبياء والصالحين
~~إنما اضطرب النقل فيها ووقع فيها الكذب والاشتباه لأن ضبطها ليس من الدين،
~~والله تعالى قد ضمن حفظ ما نزله من الذكر بقوله: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا
~~له لحافظون (9)) (1) ، والله قد نزل الكتاب والحكمة، كما قال تعالى:
~~(واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) (2) ،
~~والحكمة: السنة، كما قال ذلك PageV04P161
# غير واحد من السلف، كقتادة ويحيى بن أبي كثير والشافعي وغيرهم، بدليل
~~قوله: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) (1) ، والذي كان
~~يتلى في بيوتهن هو القرآن والسنة، فالذكر الذي نزله الله ضمن حفظه، فلهذا
~~كانت الشريعة محفوظة مضبوطة، ومن الشريعة أن هذه المشاهد والقبور لا تتخذ
~~أربابا، بل زيارة القبور نوعان: شرعية وبدعية:
# فالزيارة الشرعية أن يسلم على الميت ويدعو له، كما يصلي على جنازته، فإن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول
~~قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم
~~لاحقون، ويرحم الله المستقدمين ms0674 منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم
~~العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" (2) .
# فهذا الدعاء للميت من جنس الدعاء على جنازته إذا حضرت، وقد قال الله
~~تعالى لنبيه في حق المنافقين: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على
~~قبره) (3) ، فلما نهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم دل ذلك
~~بطريق مفهوم الخطاب وتعليله على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام على قبورهم،
~~وقد فسر ذلك القيام على قبورهم بالدعاء لهم، فالمؤمن يقام على قبره بالدعاء
~~له، فهذا PageV04P162
# هو المشروع.
# وأما زيارة المشاهد والقبور لأجل الصلاة عندها والدعاء عندها وبها،
~~والتمسح بها وتقبيلها، وطلب الحوائج من الرزق والنصر والهدى عندها وبها،
~~فهذا ليس مشروعا باتفاق أئمة المسلمين، إذ هذا لم يفعله رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم -، ولا أمر به، ولا رغب فيه، ولا تعلمه أحد من الصحابة
~~والتابعين وسائر أئمة المسلمين، بل ولا كانوا يبنون مشهدا على قبر ولا
~~مسجدا ولا غيره، وإنما حدثت هذه المشاهد بعد القرون المفضلة التي أثنى
~~عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - القرن الذي بعث فيهم ثم الذين يلونهم
~~ثم الذين يلونهم، وإنما انتشرت في دولة بني بويه ونحوهم من أهل البدع
~~والجهل. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، بل لعن من يفعله،
~~كما في الصحيحين (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات
~~فيه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما
~~صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا (2) .
# وفي صحيح مسلم (3) عن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال قبل أن
~~يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، إلا فلا تتخذوا
~~القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". PageV04P163
# وفي موطأ مالك (1) : "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على
~~قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وفي المسند (2) وغيره عن ابن مسعود عن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ms0675: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم
~~أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". رواه أبو حاتم في صحيحه (3) .
# ولهذا اتفق السلف والأئمة على أن من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- أو غيره من الأنبياء والصالحين عند قبره فإنه لا يتمسح بالقبر ولا يقبله،
~~بل اتفقوا على أنه لا يشرع أن يستلم ويقبل إلا الحجر الأسود، والركن
~~اليماني يستلم ولا يقبل على الصحيح، وإذا سلم على النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - وأراد أن يدعو استقبل القبلة، ودعا في المسجد، ولم يدع مستقبلا
~~للقبر، كما كان الصحابة يفعلون، وهذا ما أعلم فيه نزاعا بين أهل العلم، وإن
~~نقل في ذلك [ما] يخالف ذلك عن مالك مع المنصور فلا أصل لها.
# وإنما تنازعوا في وقت التسليم عليه: هل يستقبل القبر أو يستقبل القبلة؟
~~فقال أصحاب أبي حنيفة: يستقبل القبلة، وقال الأكثرون: بل يستقبل القبر.
~~وكانت حجرته خارجة عن المسجد، فلما كان زمن الوليد بن عبد الملك أمر أن
~~يزاد في المسجد، فاشتريت الحجرة التي شرقي المسجد وقبليها من أهلها وزيدت
~~في المسجد، PageV04P164
# فبقيت حجرة عائشة -التي دفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه-
~~داخلة في المسجد، ولما بنى عمر بن عبد العزيز والمسلمون عليها الحائط
~~حرفوها عن سمت القبلة، وجعلوا ظهرها مثلثا لئلا يصلي إليها أحد، لما ثبت
~~عنه في الصحيح (1) أنه قال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". كل
~~ذلك تحقيقا للتوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن الله تعالى قال
~~في كتابه عن قوم نوح: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا
~~يغوث ويعوق ونسرا (23)) (2) ، قال غير واحد من السلف كابن عباس وغيره:
~~هولاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا اتخذوا تماثيلهم. وفي
~~رواية: عكفوا على قبورهم ولم يعبدوها، ثم طال عليهم الأمد فعبدوها، فكان
~~ذلك أول عبادة الأصنام.
# فنبينا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين الذي بعثه الله بالتوحيد حسم
~~مادة الشرك، حتى أمر بما رواه مسلم في صحيحه ms0676 (3) عن أبي هياج الأسدي قال:
~~قال لي علي بن أبي طالب: إلا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -؟ " إلا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته". فأمر
~~بتسوية القبور وطمس التماثيل، فإن هذين كانا سببا لعبادة الأصنام.
# ولو كان قصد المشاهد هذه التي على القبور لأجل الدعاء أو PageV04P165
# الصلاة عندها مشروعا لم يكره الصلاة فيها، بل كانت تكون الصلاة فيها
~~أفضل، وقد أجمع المسلمون على أن الصلاة والدعاء في المسجد الذي ليس عليه
~~قبر لا رجل صالح ولا غيره أفضل من الصلاة والدعاء في المسجد المبني على قبر
~~من المشاهد وغيره، بل صرح أئمة المسلمين أن بناء المساجد عليها حرام، ونهوا
~~عن الصلاة فيها.
# وفي السنن (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله
~~زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". قال الترمذي: حديث حسن.
# ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه. فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - من يتخذ على القبور مساجد وسرجا. ولهذا قال العلماء: إنه لا يجوز أن
~~ينذر للقبور لا زيت ولا شمع ولا نفقة ولا نحو ذلك، بل هذا نذر معصية. وفي
~~صحيح البخاري (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع
~~الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه".
# ونذر المعصية مثل هذا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق، لكن هل عليه كفارة
~~يمين؟ فيه قولان للعلماء:
# أحدهما: لا شيء عليه، كقول أبي حنيفة ومالك والشافعي.
# والثاني: عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما في PageV04P166
# الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفارة النذر كفارة
~~يمين". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين".
# وإذا نذر طاعة لله، مثل صلاة مشروعة أو صيام شرعي أو صدقة شرعية فعليه
~~الوفاء بذلك، وإن كان أصل عقد النذر مكروها لما في الصحيحين (3) عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما ms0677
~~يستخرج به من البخيل". فنفس عقد النذر منهي عنه باتفاق الأئمة، لكنه إذا
~~نذر نذرا فإن طاعة لله وفى به، وإن كان معصية مثل نذر للكنائس والبيع، ونذر
~~الزيت والشمع والكسوة والنفقة للمشاهد التي على القبور، فهذا لا يجوز
~~الوفاء به، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين للفقهاء.
# ولو سافر لزيارة القبور التي عليها المساجد فلا أعلم أحدا من السلف أذن
~~في ذلك، لكن رخص فيه طائفة من متأخري الفقهاء، ومنع منه آخرون، وقالوا: هو
~~بدعة منهي عنها، حتى قالوا: لا يجوز فيها قصر الصلاة، لأنه قد ثبت في
~~الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تشد الرحال إلا
~~إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا". وفي السنن (5)
~~أن بصرة بن أبي بصرة لما PageV04P167
# رأى بعض من زار الطور -الطور الذي كلم الله عليه موسى- نهاه عن ذلك، وقال
~~له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة
~~مساجد".
# فهذا يبين أن الصحابة فهموا أنه نهى عن السفر لزيارة جميع البقاع إلا
~~المساجد الثلاثة، سواء كانت تلك البقعة فيها آثار الأنبياء أو غير
~~الأنبياء، وهذا هو الذي اتفق عليه أئمة العلماء، فإنهم لم يتنازعوا أنه لو
~~نذر السفر إلى بقعة بعينها غير المساجد الثلاثة لم يجب الوفاء بنذره، ولو
~~كان ذلك طاعة عندهم لوجب الوفاء به، واتفقوا على أن نذر الإتيان في المسجد
~~الحرام يجب الوفاء به، وتنازعوا في من نذر إتيان مسجد النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - والمسجد الأقصى، فقال أبو حنيفة: لا يجب الوفاء بذلك، لأن من
~~أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجبا بالشرع، وقال مالك
~~والشافعي وأحمد: بل يجب الوفاء بذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من
~~نذر أن يطيع الله فليطعه" (1) ، وهذا طاعة لله بالاتفاق، فيستحب الوفاء به.
# فإذا علم أن غير المساجد الثلاثة لم يقولوا بوجوب الوفاء إذا نذر السفر
~~إليه، علم أن ذلك ليس بطاعة، حتى مسجد قباء، قالوا ms0678: من قصده إذا أتى
~~المدينة فحسن، وأما شد الرحل له فلا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~قال: "من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة
~~فيه كان له كأجر عمرة" (2) . فإذا رغب في إتيان من PageV04P168
# يأتيه من بيته فيمن سافر إليه، وكذلك للرجل أن يقصد مسجد مدينته وقريته،
~~وليس له أن يسافر إلى مسجد مدينة أو قرية غير المساجد الثلاثة، بالاتفاق.
# فهكذا يزور القبور الزيارة الشرعية، فيسلم على الميت، ويدعو له، إذا كان
~~قريبا من مدينة هو فيها، أو اجتاز به، ونحو ذلك، فأما السفر لأجل ذلك فليس
~~بمشروع. وإنما عظمت هذه البدع من أهل الأهواء الذين عطلوا المساجد عن
~~الجمعات والجماعات، وابتدعوا الإشراك الذي يفعلونه عند المشاهد، حتى صنفوا
~~كتبا فيها مناسك حج المشاهد. والله تعالى في كتابه إنما أمرنا بالعبادة في
~~المساجد لا في المشاهد، فقال تعالى: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر
~~فيها اسمه وسعى في خرابها) (1) ، ولم يقل: مشاهد الله، وقال تعالى: (وأنتم
~~عاكفون في المساجد) (2) ، ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: (قل أمر ربي
~~بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد) (3) ، ولم يقل: كل مشهد، وقال تعالى:
~~(ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) إلى قوله: (إنما يعمر مساجد الله
~~من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) (4)
~~، ولم يقل: يعمر مشاهد الله، وقال تعالى: (أن المساجد لله فلا تدعوا مع
~~الله أحدا (18)) ، ولم يقل: وأن المشاهد لله. PageV04P169
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "صلاة الرجل في المسجد تفضل على
~~صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين درجة. وذلك أن الرجل إذا تطهر في بيته
~~فأحسن الطهور، ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه، كانت خطوتاه إحداهما
~~ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة، فإذا جلس فإنه في صلاة ما دام ينتظر الصلاة،
~~والملائكة تصفي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صفى فيه: "اللهم اغفر له،
~~اللهم ارحمه " ما لم يحدث أو يخرج ms0679 من المسجد".
# وأما قول السائل: "بحرمة فلان الميت أن تقضي حاجتي أو تغفر لي " فهذا ليس
~~بمشروع، فإن هذا لم يفعله أحد من السلف، ولا استحبه أحد من الأئمة، ولا فيه
~~أثر عمن مضى، والعبادات مبناها على الاستنان والاتباع، لا على الهوى
~~والابتداع، قال تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به
~~الله) (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسنتي وسنة
~~الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ،
~~وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (3) .
# ولو كان هذا مشروعا لأحد أو في حق أحد لكان أحق الناس بذلك أصحاب رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه
~~أفضل الخلق PageV04P170
# وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليه وسيلة حيا وميتا، وقد ثبت في صحيح البخاري
~~(1) عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا أجدب استسقى بالعباس بن عبد المطلب،
~~وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل
~~إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. فأخذوا العباس يتوسلوا به، وجعل يدعو
~~ويدعون معه، كما كانوا يتوسلون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عند
~~الاستسقاء، ولم يجيئوا إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدعوا هناك،
~~ويفعلون ما يفعله كثير من الناس عند من ليس مثل النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-، من سؤاله أو السؤال منه وغير ذلك. ولهذا ذكر العلماء في الاستسقاء ما
~~فعله الصحابة، ولم يذكروا ما ابتدعه الجاهلون.
# فالمقصود بالزيارة الدعاء للميت على جنازته، والله تعالى يثيب العبد على
~~دعائه له، كما يثيبه على الصلاة عليه، وقد يكون الداعي أفضل من المدعو له،
~~وقد يكون المدعو أفضل، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم
~~المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي مرة صلى الله
~~عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنه درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد
~~من عباد الله، وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله ms0680 لي الوسيلة حلت عليه
~~شفاعتي يوم القيامة". رواه مسلم (2) ، والله أعلم. PageV04P171
### | مسألة
# في امرأة توفيت وهي حامل في سبعة أشهر، فهل يشق بطنها أو تضع على بطنها
~~شيئا ثقيلا أو تسطو عليه القوابل؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، ينبغي أن يسعى في خروج الجنين من فرجها،
# إما أن تسطو القوابل عليه فيخرجنه، وإما أن يفتح فرجها بالمفتاح المصنوع
~~لذلك، فإذا اتسع أخرج منه الولد، فإن تعذر ذلك ففيها قولان مشهوران:
# أحدهما: لا يشق بطنها، لأنه مثلة، والعادة أن الولد يموت بموت أمه، فلا
~~يبقى حيا، فيكون تمثيل بالميت بلا استبقاء الحي، بل لو اضطر الجائع إلى أكل
~~ميت معصوم لم يجز، لأن بقاء نفسه في أحد القولين مع أن الحياة منتفية وقد
~~قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كسر عظم ميت ككسر عظم الحي" (1) . وهذا
~~مذهب مالك وأحمد وغيرهما. PageV04P172
# والثاني: بل يشق بطنها لإخراج الولد، فإن مراعاة حق الولد الحي أولى من
~~مراعاة الميت. وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وفي مذهب الشافعي وجه
~~كالأول، وفي مذهب الإمام أحمد وجه كالثاني. وهذا النزاع إذا رجي خروجه حيا،
~~فأما إذا ظهر موته، فإنه لا يشق بطنها بلا خلاف.
# PageV04P173
# مسألة
# في رجل توفي إلى رحمة الله بالقاهرة، فهل يجوز الصلاة عليه غائبة في مصر
~~أو في القلعة؟ وكم قدر مدة البعد الذي يجوز على الغائب فيه؟ وكم مقدار بعد
~~صلاة النبي على النجاشي؟ وهل النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب
~~أو أحد من الصحابة في مقدار بعد القاهرة إلى مصر أو أحد من الأئمة؟
# الجواب
# أصل هذه المسألة هي مسألة الصلاة على الغائب، وفيها للعلماء قولان
~~مشهوران:
# أحدهما: يجوز، وهو قول الشافعي وأحمد في أشهر الروايات عنه عند أكثر
~~أصحابه.
# والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في الرواية الأخرى،
~~وذكر ابن أبي موسى (1) - وهو ثبت في نقل مذهب أحمد - رجحانها في مذهبه.
~~PageV04P174
# وسبب هذا النزاع أنه قد ثبت بالنصوص الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - صلى على النجاشي ms0681 وكان غائبا، ففي الصحيحين (1) عن أبي هريرة أن رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم
~~إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات، وقال: "استغفروا لأخيكم".
~~وفيهما عن جابر (2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكبر
~~أربعا، وللبخاري عنه (3) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على
~~النجاشي، فكنت في الصف الثاني أو الثالث. وله (4) : "قد توفي اليوم رجل
~~صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه". فصففنا، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- ونحن صفوف. ولمسلم (5) : إن أخا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه"، فقمنا
~~فصفنا صفين. وروى مسلم (6) عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "إن أخا لكم"، وفي لفظ: "إن أخاكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه"،
~~يعني النجاشي.
# فهذه السنة ثبتت، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى على
~~غائب غيره، إلا حديث ساقط (7) روي فيه أنه صلى على معاوية بن معاوية
~~PageV04P175
# الليثي في غزوة تبوك لكثرة قراءته "قل هو الله أحد"، وهو حديث لا يحتج
~~به. وقد مات على عهده خلائق من أصحابه في غيبته فلم يصل عليهم، وكذلك لم
~~يصل المسلمون الغائبون عنه في مكة والطائف واليمن وغيرها، ولا صلوا على أبي
~~بكر وعمر وغيرهما في الأمصار البعيدة.
# ولهذا تنازع العلماء، فقالت طائفة: لا يصلى على الغائب، إذ لو كانت سنة
~~لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك، ولكان المسلمون يعملون
~~بذلك في محياه ومماته، واعتذروا عن قضية النجاشي بعذرين:
# أحدهما: أن ذلك [كان] مختصا به، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~كان يشاهده، أو لأنه حمل إلى بين يديه. وهذا عذر ضعيف، لأن ذلك لم ينقله
~~أحد، ولأن الصحابة الذين صلوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
~~يشاهدوه، ولا فرق بين الإمام والمأموم، ولأن المانع عندهم هو البعد أو
~~التكرار، وكلاهما موجود شهد أو لم يشهد، ولأن مثل هذا قد كان ممكنا في ms0682 حق
~~غير النجاشي، فبطل الاختصاص به.
# ولأن الأصل مشاركة أمته في الأحكام ما لم يقم دليل اختصاص النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -.
# والعذر الثاني: قالوا: إن النجاشي قد كان بين قوم نصارى، PageV04P176
# وكان يخفي قومه إسلامه حتى سعوا في محاربته، ولم تكن شريعة الإسلام ظهرت
~~هناك حتى يكون عنده من يصلي عليه، لعدم صلاة القريب عليه. وهذا العذر أقرب
~~من الأول، وبه يظهر تخصيص النجاشي بالصلاة دون غيره من الموتى.
# ثم من قال هذا ولم يجوز الصلاة على الغائب بحال نقض كلامه، ومن قال هذا
~~[و] جوز الصلاة على الغائب الذي لم يصل عليه فقد أحسن فيما قال، ولعل قوله
~~أعدل الأقوال، فإن الشريعة استقرت على قوله تعالى: (فاتقوا الله ما
~~استطعتم) (1) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا
~~منه ما استطعتم" (2) . فما تعذر من العبادات سقط بالعجز، وإذا كانت الصلاة
~~على الميت مأمورا بها ولم تكن إلا مع الغيبة كانت هي المأمور به.
# وقالت طائفة: بل تجوز الصلاة على كل غائب عن البلد وإن كان قد صلي عليه،
~~كما ذكرناه عن أصحاب الشافعي وأكثر متأخري أصحاب أحمد، ثم قال هولاء: يجوز
~~على الغائب عن البلد، سواء كان فوق مسافة القصر أو دونها، وسواء كان الميت
~~خلف المصلي أو أمامه.
# وأما الغائب في البلد الواحد فالأكثرون من أصحاب الإمامين منعوا الصلاة
~~عليه، [و] لم يرد بها أثر ولا نقل ذلك عن أحد من PageV04P177
# السلف، فالفاعل لها مبتدع دينا لم يشرعه الله، ولو ساغ ذلك لم يكن لذلك
~~ضابط، بل كان يجوز أن يصلي الرجل في هذه الدار أو الدرب على من مات في هذا
~~الدرب أو هذه الدار، ومعلوم أن هذا ليس من عمل المسلمين، ولو كان هذا جائزا
~~لكان قربة، ولكان السلف يبادرون إليه، لاسيما ولا يزال في المسلمين من لا
~~يمكنه شهود الجنازة من مريض ومحبوس ومشغول. فلما لم يفعل هذا أحد من السلف
~~علم أنه غير مشروع، وإن كان يشرع الدعاء للميت على كل ms0683 حال، بطهارة أو غير
~~طهارة، إلى القبلة وغيرها، قياما وقعودا وعلى جنوبهم، بتكبير وغير تكبير،
~~وأما صلاة الجنازة فيشترط لها الشروط الشرعية.
# وجوز طائفة من أصحاب الإمامين الصلاة على الغائب في البلد الواحد، ثم
~~محققوهم قيدوا ذلك بما إذا مات الميت في أحد جانبي البلد الكبير، ومنهم من
~~أطلق في أحد جانبي البلد لم يقيدها بالكبيرة، كما إذا مات في أحد جانبي
~~بغداد فصلي عليه في الجانب الآخر. وكانت هذه المسألة قد وقعت في عصر أبي
~~حامد وأبي عبد الله بن حامد، مات ميت في أحد جانبي بغداد، فصلى عليه أبو
~~عبد الله بن حامد، وطائفة في الجانب الآخر، وأنكر ذلك أكثر الفقهاء من
~~أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كأبي حفص البرمكي وغيره، واتفق الفريقان على
~~أنه من مات في الجانب الواحد لا يصلى عليه فيه إذا كان غائبا، كما إذا كان
~~الرجل عاجزا عن حضور الجنازة لمطر أو مرض فإنه لا يصلي على الغائب وفاقا.
# PageV04P178
# لكن بعض متأخري الخراسانيين من أصحاب الشافعي أجرى الوجهين في الغائب في
~~البلد وإن أمكن حضوره، وألحق ذلك بالوجهين في القضاء على الغائب عن مجلس
~~الحكم إذا لم يمكن حضوره، فإن فيه وجها ضعيفا بجواز الحكم عليه، فقاس
~~الصلاة عليه على القضاء عليه. وهذا إلى غاية الضعف والشذوذ، مع ما بين
~~الصلاة والحكم، ولا يستريب من له أدنى معرفة أن تشريع مثل هذا حدث وبدعة
~~ظاهرة. وأمثال هذه الوجوه تخرج عند ضيق مناظرة المخالف طردا لقياس واحترازا
~~عن نقض، ولا يدان الله بها.
# وعلى القول المشهور في المذهبين وأنه لا يصلى إلا على الغائب عن البلد لم
~~يبلغني أنهم حدوا البلد الواحد بحد شرعي، ومقتضى اللفظ أن من كان خارج
~~السور أو خارج ما يقدر سورا يصلى عليه، بخلاف من كان داخله، لكن هذا لا أصل
~~له في الشريعة في المذهبين، إذ الحدود الشرعية في مثل هذا إما أن تكون
~~العبادات التي تجوز في السفر الطويل والقصير، كالتطوع على الراحلة والتيمم
~~والجمع بين الصلاتين على ms0684 قول، فلابد أن يكون منفصلا عن البلد بما يعد
~~الذهاب نوع سفر. وقد قالت طائفة من أهل المذهبين كالقاضي أبي يعلى أنه يكفى
~~خمسين خطوة.
# وإما أن يكون الحد ما يجب فيه الجمعة، وهو مسافة فرسخ، حيث يسمع النداء،
~~ويجب عليه حضور الجمعة، كان من أهل الصلاة في البلد فلا يعد غائبا عنها،
~~بخلاف ما إذا كان فوق ذلك فإنه بالغائب أشبه.
# PageV04P179
# وإما أن يقال مسافة العدوى في مذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين، وهو
~~ما لا يمكن الذاهب العود إليه في يومه، وهذا يناسب قول من جعل الغائب عن
~~البلد كالغائب عن مجلس الحكم. وفيه أيضا من الفقه أنه إذا كان كذلك شق
~~الحضور، بخلاف من يمكنه العود. ولكن إلحاق الصلاة بالصلاة أولى من إلحاق
~~الصلاة بالحكم.
# فهذه هي المآخذ التي ينبني عليها جواب هذه المسألة. إذا تبين ذلك فنقول:
~~القلعة والقاهرة تشبه جانبي بغداد، فمن جوز الصلاة في أحد جانبي بغداد على
~~من مات في الجانب الآخر كقول بعض أصحاب الشافعي وأحمد، فإنه يجوز أن يصلى
~~على من مات في القلعة أو القاهرة على من مات في الآخر، وعلى قول هؤلاء
~~فصلاة أهل القاهرة على من مات في مصر بالعكس، وصلاة أهل القلعة على من مات
~~بمصر وبالعكس أولى بالجواز، فإن القاهرة والقلعة يجمعهما سور واحد، ومصر
~~خارجة عن ذلك، لأنهما بالبلد الواحد الكبير الذي له جانبان أشبه، لكن أكثر
~~العلماء كأصحاب أبي حنيفة ومالك واكثر أصحاب الشافعي وأحمد لا يجوزون
~~الصلاة في أحد جانبي البلد وإن كان كبيرا على من مات في الجانب الآخر، حتى
~~صرحوا بأن بغداد - مع كونها محال كثيرة، ولها جانبان بينهما دجلة، ومع كون
~~الجمعة تقام بها في مواضع من حين بنيت بغداد من زمن أبي جعفر المنصور وإلى
~~الساعة - صرحوا مع ذلك أنه لا يصلى في أحد جانبيها على من مات في الجانب
~~الآخر.
# PageV04P180
# ومما يبين ذلك أن أمصار المسلمين الكبار التي فيها قطع كثيرة كبغداد
~~كثيرة القطع، وليس من عمل المسلمين ms0685 أن يصلوا في هذه القطعة على من مات في
~~القطعة، فلم يعرف أن المسلمين كانوا يصلون في قطعة مصر أو دمشق أو غيرهما
~~على من مات بالمدينة وبالعكس، ولا عرف أنهم كانوا يصلون بمصر على من مات
~~بالقلعة وبالعكس مع اشتمال هذه الأمصار على أئمة من أصحاب الشافعي وأحمد،
~~وهم أهل الترخص في هذه المسألة، وإن لم يقل بهذا القول.
# والأضعف الصلاة على الغائب جدا، فإنا قد علمنا أن المسلمين في جميع
~~الأمصار لم يصلوا بمنى وعرفات على من مات بمكة وبالعكس، ولا كانوا يصلون
~~بقباء والعوالي على من مات بالمدينة وبالعكس، وقد مات خلق كثير على عهد
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء والعوالي ونحوهما، مما هو عن
~~المدينة مثل مصر والقاهرة، وأبعد من دمشق والصالحية، ولم يكن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - والصحابة والتابعون يصلون في أحدهما على من مات في الآخر.
# وأما الصلاة بمصر على من يموت بالقلعة أو بالقاهرة وبالعكس على المشهور -
~~وهو منع الصلاة في أحد جانبي البلد على من يموت في الآخر - فمبني على ما
~~ذكرناه في معنى البلد الواحد، هل المراد به ما خرج عن السور، أو ما يجب فيه
~~الجمعة، أو مسافة العدوى؟
# فعلى المأخذ الأول يجوز ذلك، وعلى المأخذين الآخرين لا
# PageV04P181
# يجوز، فقد تبين مما ذكرناه على أن الصلاة بالقاهرة والقلعة على من مات
~~بمصر وبالعكس لا تجوز عند جمهور العلماء، وتجوز عند بعضهم في مذهب الشافعي
~~وأحمد.
# وأما قول السائل: كم مقدار بعد النجاشي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
# فذلك كثير معروف، فإن النجاشي كان بالحبشة، وبينهما اليمن ثم تهامة، وهو
~~مسافة كبيرة.
# وأما قوله: هل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من الصحابة أو
~~التابعين أو الأئمة صلى على الغائب في مقدار هذا البعد؟ فالجواب أنه لم
~~ينقل ذلك عن أحد من هؤلاء، وغاية ما بلغنا في مثل ذلك ما ذكرناه من النزاع
~~في جانبي بغداد، وكان هذا بعد الأئمة، وأما في زمن الشافعي وأحمد بن ms0686 حنبل
~~فلم يبلغنا أن أحدا صلى في أحد جانبي بغداد على من مات في الآخر، مع كثرة
~~الموتى وتوفر الهمم والدواعي على نقل ذلك. فتبين أن ذلك محدث لم يفعله
~~الأئمة.
# وأما ما يفعله بعض الناس من أنه كل ليلة يصلي على جميع من مات من
~~المسلمين، فلا ريب أيضا أنه بدعة لم يفعلها أحد من السلف، والله أعلم.
# PageV04P182
# مسألة
# في روح ابن آدم إذا خرجت منه وإذا نزل في قبره، هل تعود إليه كما كانت في
~~دار الدنيا أم لا؟ وقوله تعالى: (ويسألونك عن الروح) (1) هل هي روح ابن آدم
~~أو روح الله؟ وهل يموت المهدي إذا أم بعيسى بن مريم قبل إتمام الصلاة؟ وقد
~~روي أن جنازة مرت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة: يا رسول
~~الله! ما أحسن هذه! عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم -: "وما يدريك أن الله خلق خلقا، فقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي،
~~وهؤلاء إلى النار ولا أبالي".
# أجاب
# نعم، إذا وضع الميت في قبره فإن الروح تعاد إليه، ويسأل عن ربه ودينه
~~ونبيه، ويسمع الميت خفق نعال المشيعين إذا ولوا عنه مدبرين، وما من رجل يمر
~~بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد
~~عليه السلام. ومع هذا فمستقر أرواح المؤمنين الجنة، لكن للروح شان آخر بعد
~~الموت PageV04P183
# ليس لها نظير في هذا العالم.
# وأما المسيح فإنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويدرك الدجال
~~فيقتله بباب لد الشرقي، ويأمر الله تعالى بعد قتل الدجال أن يحصن الناس إلى
~~الطور، ويقال له: يا روح الله! تقدم، فصل بنا، فيقول: لا إن بعضكم على بعض
~~أمير، فيصلي بالمسلمين بعضهم، ويتم الصلاة ولا يموت فيها.
# وأما الروح المسئول عنها فأكثر الناس على أنها روح ابن آدم، وهي وإن كانت
~~من أمر الله فهي موجودة مخلوقة باتفاق العلماء المعتبرين، والآدمي كله عبد
~~الله، جسمه وروحه.
# وأما حديث عائشة فصحيح (1) ، فإنا لا ms0687 نشهد لأحد بعينه أنه [من أهل الجنة]
~~إلا ما شهد له النص، أو شهد له الناس شهادة عامة على أحد القولين، فإن الله
~~خلق للجنة أهلا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا، خلقها
~~لهم وهم في أصلاب آبائهم، فنقول بطريق العموم: المؤمنون في الجنة والكافرون
~~في النار، ولا نعين أحدا أنه في جنة أو في نار إلا أن نعلم عاقبته.
# والمهدي الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمه محمد بن عبد
~~الله من ولد الحسن بن علي رضي الله عنه، يقوم إذا شاء الله، وهو خليفة صالح
~~يملأ الأرض قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وجورا، ويحثو المال حثوا. وقد جاءت
~~أخباره في الترمذي وسنن أبي داود ومسند PageV04P184
# الإمام أحمد، ووقع التنبيه عليه في الصحيحين (1) .
# وأما ما يدعيه الضالون أن الحسن بن علي العسكري المتوفى في سامراء، كان
~~له ابن اسمه محمد دخل سرداب سامراء بعد موت أبيه وهو صغير، وأنه المهدي،
~~فهذا كذب باطل باتفاق علماء بني آدم وعقلائهم، وليس هو المخبر به في
~~الأحاديث، فإن هذا حسيني وذاك حسني، وأيضا فإن الحسن بن علي العسكري عند
~~العارفين بالأنساب محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما لم
~~ينسل ولم يعقب، والذين أثبتوه زعموا أنه خليفة معصوم حجة الله على أهل
~~الأرض، وأنه باق إلى الآن، وهذا مخالف للعقل والكتاب والسنة، فإن هذا لو
~~كان حقا لكان يتيما يجب الحجر عليه في نفسه وماله، ولا يجوز أن يولى مثل
~~هذا ولاية أصلا، ولا معصوم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد
~~يجب أبدا طاعته في كل شيء إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز
~~أن يكلف الله العباد طاعة من لا سبيل إلى العلم بأمره، ولا وجه لهذه
~~الاحتجاجات. والله أعلم. PageV04P185
# مسألة
# في رجل مات، وأوصى أن يعمل له ختمة في أسبوعه وتمام شهره، جائز أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، الصدقة عن الميت أفضل من عمل ختمة
# من هذه الختم ms0688 له، فإن الصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة، وقد ثبت في
~~الصحيح (1) أن سعدا قال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو
~~تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال: "نعم".
# وأما قراءة القرآن ففي وصوله إلى الميت نزاع إذا قرئ لله، فأما استئجار
~~من يقرأ ويهدي للميت فهذا لم يستحبه أحد من العلماء المشهورين، فإن المعطي
~~لم يتصدق لله، لكن عاوضوا على القراءة، والقارئ قرأ للعوض، و
### | الاستئجار على نفس التلاوة غير جائز،
# PageV04P186
# وإنما النزاع في الاستئجار على التعليم ونحوه مما فيه منفعة تصل إلى
~~الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر
~~فلا ثواب فيه وإن قيل: يصح الاستئجار عليه، ولأن ذلك يتضمن أن يأكل الطعام
~~من ليس يحتاج إليه، وأن يقرأ القرآن والناس يتحدثون لا يسمعون، وأن القراء
~~ينتهبون الطعام، وهذا كله أمور مكروهة. وإذا تصدق على من يقرأ القرآن
~~ويعلمه ويتعلمه كان له مثل أجر من أعانه على القراءة، من غير أن ينقص من
~~أجورهم شيئا، وينتفع الميت بذلك.
# وإذا وصى الميت بأن يصرف مال في هذه الختمة، وقصده التقرب إلى الله،
~~فصرفت إلى محاويج يقرؤون القرآن ختمة وأكثر، كان ذلك أفضل وأحسن من جمع
~~الناس على مثل هذه الختم، والله أعلم.
# PageV04P187
# مسألة
# في رجل جامع زوجته ولم تغتسل، ثم ماتت، فهل يجزئها غسل الموت؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، يجزئها غسل الميت عن الأمرين.
# PageV04P188
# مسألة
# في رجل غسل صبيا، وأبو الصبي يسكب عليه الماء، والغاسل لا يحفظ القرآن،
~~فهل
### | يجوز تغسيله
# أم لا؟ وهل يجوز للذي لا يحفظ القرآن أن يصلي عليه؟
# الجواب
# الحمد لله، نعم يجوز تغسيله، والفرض في ذلك أن يعم جميع بدنه بالماء كله،
~~وهو أخف من اغتسال الحي، فإن الحي يتمضمض ويستنشق، والميت لا يفعل به ذلك،
~~لكن يستحب أن يمسح منخريه وفمه بالماء.
# والسنة أن ينجى ثم يوضأ، ثم يفاض عليه الماء كالحي، لكن ينبغي أن يغسل
~~الميت ثلاثا.
# و
### | يجوز أن يصلي على ms0689 الميت إذا كان يحفظ الفاتحة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء للميت.
# PageV04P189
# مسألة
# في سماع يسمع رجل الحادي بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصاح وخر
~~ميتا، وكان ثم فقير، فقال: هذا لا يصلى عليه، ودفن ولم يصل عليه، فماذا يجب
~~على من أفتى بذلك؟ وهل يصلى على مثل هذا؟
# الجواب
# أما الميت ف
### | تجوز الصلاة عليه، ويصلى على قبره إلى شهر،
# بل تجب الصلاة عليه. وأما سماع المكاء والتصدية فبدعة مكروهة، كان
~~المشركون إذا اجتمعوا عند الميت يصفقون ويصوتون، والتصفيق هو التصدية،
~~والتصويت هو المكاء، فأنزل الله تعالى بذمهم: (وما كان صلاتهم عند البيت
~~إلا مكاء وتصدية) (1) .
# وأما حب الله ورسوله فهو أصل الإيمان، لكن من تمام ذلك أن يعبد الله بما
~~شرع، لا يعبد بالبدع، ولكن من اجتهد في عمل يقربه إلى الله متحريا لاتباع
~~الكتاب والسنة، وأصاب، فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطأه مغفور له. والله
~~تعالى قد غفر للمؤمنين خطأهم، فالذي عمل السماع مجتهدا، والذي أنكره وترك
~~الصلاة عليه مجتهدا، حكمهم ذلك إلى الله. والله أعلم. PageV04P190
# مسألة
# هل صح أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون؟ وكيف كيفية عرض أعمال الأمة
~~على النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره؟ على روحه الكريمة؟ أم تعاد روحه
~~إلى جسده؟ وإذا صلى عليه أو سلم عليه العبد هل يرد عليه السلام؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، الأنبياء أحياء في قبورهم، وقد يصلون
# كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مررت بموسى ليلة أسري
~~بي يصلي في قبره" (1) . وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما
~~من مسلم يسلم علي إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام" (2) . وقال:
~~"صلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (3) . وقال: "أكثروا من الصلاة
~~علي يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي"، قالوا: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد
~~أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض PageV04P191
# أن تأكل لحوم الأنبياء" (1) .
# وأما عرض الأعمال عليه فإنها تعرض عليه، وهو حق ms0690، وأما محل ذلك فمما لا
~~يتعلق به غرض، والله أعلم. PageV04P192
# مسألة
# في حديث قيس يقول - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم يا قيس أنه لابد لك من
~~قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان
~~لئيما أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تسأل عنه، ألا وهو فعلك أو عملك".
~~فهل ذلك كذلك من كون عمل الإنسان يبرز له في قبره في صورة، فإن كان صالحا
~~كان شابا حسن الوجه طيب الريح فيأنس به، وإن كان طالحا فبعكسه فيستوحش منه
~~إلى يوم القيامة أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله، أما هذا المعنى فقد روي في أحاديث حسان بأن العمل الصالح يصور
~~لصاحبه صورة حسنة، والعمل السيء يصور لصاحبه صورة قبيحة، فالأولى تنعم
~~صالحا والثانية تعذبه.
# وجاء أيضا مخصوصة بأعمال مثل قراءة القرآن وغيرها من الأعمال (1) ، وذلك
~~في البرزخ في القبر وفي عرصات القيامة، فأما جري الأعمال بالعمال فإن كان
~~معناه أن عبورهم على الصراط PageV04P193
# يكون بحسب أعمالهم الصالحة، فمنهم من يجري كالبرق، ومنهم من يجري كالريح،
~~ومنهم من يسعى كأجاويد الخيل، ومنهم من يسعى كركاب الإبل، ومنهم من يعدو
~~عدوا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يزحف زحفا، وذلك على قدر أعمالهم
~~الصالحة، فهذا حق (1) .
# وأما تصوير العمل لصاحبه على الصراط فهذا لم يبلغني فيه شيء، والله أعلم.
~~PageV04P194
# مسألة
# فيما هو شائع بين الناس أن لله ملائكة نقالة ينقلون من قبور المسلمين إلى
~~قبور اليهود والنصارى، وكذلك من قبورهم إلى قبور المسلمين، هل ورد في ذلك
~~خبر أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله، أما الأجساد فإنها لا تنقل من القبور، ولكن يعلم أن في بعض من
~~يكون ظاهره الإسلام ممن يكون منافقا إما يهوديا أو نصرانيا أو زنديقا معطلا
~~فقد يكون في الآخرة مع نظرائه، كما قال تعالى: (احشروا الذين ظلموا
~~وأزواجهم) (1) أي أشباههم ونظراءهم، وقد يكون في بعض من مات وظاهره كافر أن
~~يكون آمن بالله ورسوله قبل الغرغرة، ولم يكن عنده مؤمن، وكتم أهله ms0691 حاله إما
~~لأجل ميراث أو لغير ذلك، فيكون مع المؤمنين وإن كان مقبورا بين الكفار.
# وأما أثر في نقل الملائكة فما سمعت في ذلك بأثر، والله أعلم. PageV04P195
# مسألة
# فيمن يقرأ القرآن العظيم أو شيئا منه هل الأفضل أن يهدي ثوابه لوالديه
~~ولموتى المسلمين؟ وكذلك إذا دعا عقيب القراءة يقول: اللهم أوصل ثوابه
~~لوالديه ولموتى المسلمين أو يجعل ثوابه لنفسه خاصة؟
# الجواب
# أفضل العبادات ما وافق هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي
~~السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم
~~- أنه كان يقول في خطبته (1) : "إن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي
~~محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، وقد قال تعالى: (والسابقون
~~الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا
~~عنه) (2) ، فرضي عن السابقين مطلقا، ورضي عمن اتبعهم بإحسان.
# وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح (3) من غير وجه أنه قال:
~~"خير PageV04P196
# القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وقال
~~عبد الله بن مسعود (1) : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا
~~يؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما،
~~وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم،
~~وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم.
# وقال حذيفة بن اليمان (2) : يا معشر القراء! استقيموا وخذوا طريق من
~~قبلكم، فوالله لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم
~~ضلالا بعيدا.
# وهذا باب واسع، والدلائل عليه كثيرة، وقد قال تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن
~~عملا) ، قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: ما أخلصه وأصوبه؟ قال:
~~إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن
~~خالصا لم يقبل، حتى يكون صوابا خالصا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن
~~يكون على السنة. وهذا الذي قاله الفضيل من الأصول المتفق عليها، فإنه قد صح
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ms0692 قال: "من أحدث في ديننا ما
~~PageV04P197
# ليس منه فهو رد" (1) ، وصح عنه أنه قال: "الأعمال بالنيات، وإنما لكل
~~امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن
~~كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" (2)
~~.
# وهذان الأصلان اللذان ذكرهما الفضيل، وقد أوجب الله الإخلاص له في غير
~~موضع من كتابه، كقوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)
~~(3) ، وقوله (فاعبد الله مخلصا له الدين (2)) (4) ، وقوله: (فادعوا الله
~~مخلصين) (5) وغير ذلك، وقد ذم من دان بغير شرعه في غير موضع، كقوله: (أم
~~لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (6) ، وقوله: (قل أرأيتم
~~ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على
~~الله تفترون (59)) (7) .
# فإذا عرف هذا الأصل فالأمر الذي كان معروفا بين المسلمين في القرون
~~الفاضلة أنهم كانوا يعبدون الله تعالى بأنواع العبادات المشروعة فرضها
~~ونفلها، من الصلاة والصيام والقراءة والذكر وغير PageV04P198
# ذلك، وكانوا يدعون للمؤمنين والمؤمنات كما أمر الله بذلك، يدعون لأحيائهم
~~وأمواتهم في صلاتهم على الجنائز وعند زيارة قبورهم وغير ذلك. وروي عن طائفة
~~من السلف أن عند كل ختمة دعوة مجابة، فإذا دعا الرجل عقيب الختمة لنفسه
~~ولوالديه ومشايخه وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات كان هذا من الجنس المشروع،
~~وكذلك دعاؤه لهم في قيام الليل وغير ذلك من مواطن الإجابة، وقد صح عن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالصدقة عن الميت، وأنه أمر بأن يصام عنه
~~الصوم الذي نذره (1) ، فالصدقة عن الموتى من الأعمال الصالحة، وكذلك ما
~~جاءت به السنة في الصوم عنهم ونحو ذلك.
# وبهذا وغيره احتج من قال من العلماء: إنه يجوز إهداء ثواب العبادات
~~البدنية إلى موتى المسلمين، كما هو مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب
~~مالك والشافعي، فإذا أهدي لميت ثواب صيام أو صلاة أو قراءة جاز ذلك، و
~~[قال] أكثر أصحاب مالك والشافعي: إنما يشرع ذلك في العبادات ms0693 المالية
~~كالصدقة والعتق ونحو ذلك دون العبادات البدنية، بناء على أن هذه تقبل
~~النيابة ويجوز التوكيل فيها بخلاف تلك، والأولون يقولون: هذا ثواب ليس من
~~باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته
~~لمن شاء. وأصحاب أبي حنيفة من أبعد الناس عن الاستنابة في الصيام ونحوه،
~~وجوزوا مع هذا إهداء الثواب، والنيابة إنما تجوز في مواضع مخصوصة بخلاف
~~الإهداء. PageV04P199
# ومن احتج على منع الإهداء بقوله: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى (39)) (1)
~~فهو مبطل لتواتر النصوص واتفاق الأئمة على أن الإنسان قد ينتفع بعمل غيره،
~~والآية إنما نفت الاستحقاق لسعي الغير لم تنف الانتفاع بسعي الغير، والفرق
~~بينهما بين، ومع هذا فلم يكن من عادات السلف إذا صلوا تطوعا أو صاموا تطوعا
~~أو حجوا تطوعا أو قرأوا القرآن أن يهدوا ثواب ذلك إلى موتى المسلمين بل ولا
~~بخصوصهم، بل كان من عاداتهم كما تقدم، فلا ينبغي للناس أن يعدلوا عن طريق
~~السلف فإنه أفضل وأكمل. وقد بسطنا الجواب في الإهداء للنبي - صلى الله عليه
~~وسلم - في جواب كبير (2) ، وبينا أنه ليس بمشروع، وذكرنا ما يتعلق بذلك من
~~الحكم والمعاني، والله أعلم. PageV04P200
# مسألة
# في رجل في مسجد وللمسجد مصيف، وإن الفقير قد حفر فيه قبرا وبنى فسقية (1)
~~بقصد أن يدفن فيه، وقد حصل من ينازعه في ذلك، وهل يجوز له أن يدفن فيه؟ وهل
~~يجوز أن يقر هذا البناء في المكان أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، لا يجوز أن يدفن أحد في المسجد،
# فكيف في مسجد بني قبل موته؟ فإن دفن الميت في مثل هذا المسجد حرام بإجماع
~~المسلمين. ولا يجوز لأحد أن يبني قبرا بفسقية ولا غير فسقية في مسجد، ولا
~~فرق بين سقف المسجد ومصيفه، والمساعد على ذلك عاص لله ورسوله آثم مخطيء
~~باتفاق المسلمين، والمنكر لذلك الناهي عنه مطيع لله ورسوله، ويجب على كل
~~مسلم قادر إعانته، ويجب أن يهدم ما بني في المسجد من المصيف وغيره من فسقية
~~المقبرة باتفاق المسلمين ms0694.
# والسنة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
~~والتابعون وسائر الأئمة والمشايخ أن يدفنوا في مقابر المسلمين، لم يأمر
~~منهم أحد PageV04P201
# أن يدفن في مسجد، ولا دفن أحد منهم في مسجد، بل لعن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - من يفعل ذلك، كما ثبت عنه في الصحيح (1) أنه قال قبل أن يموت
~~بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور
~~مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
# وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا
~~قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا، قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز
~~قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا، وقال (4) : "إن من شرار الناس من تدركهم
~~الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد".
# فهذا سيد ولد آدم يكره أن يتخذ قبره مسجدا، ودفنوه في حجرته لأن لا
~~[يجعل] قبره مسجدا، وكان المسلمون يدفنون في مقابرهم، فالذي يقصد أن يدفن
~~في دار ليصلى عنده مقصوده خلاف مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~وأصحابه، ومن قصد ذلك فقد ضاد أمر الله ورسوله.
# وفي السنن (5) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله زوارات
~~القبور PageV04P202
# والمتخذين عليها المساجد والسرج". فمن قصد أن يدفن بعض الشيوخ في موضع
~~لينذر له ويسرج عليه فقد لعنه الله ورسوله، وليس لهم أن يغيروا المسجد بفتح
~~شباك لأجل ذلك، والله سبحانه أعلم.
# PageV04P203
### | مسألة
# في عمل طعام في الختم هل هو جائز؟ ومن يتحدث بين الناس بكلام أو حكايات
~~مفتعلة كلها كذب هل يجوز ذلك؟
# الجواب
# الحمد لله، أما المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس أو لغرض آخر فإنه عاص
~~لله ورسوله، وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال (1) : "إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم منهم ويل له ثم ويل له
~~ثم ويل له"، وقال ابن مسعود: إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا أن يعد
~~أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجزه. وأما إن كان في ذلك ms0695 ما فيه عدوان على مسلم
~~وضرر في الدين فهذا أشد تحريما من ذلك، وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة
~~الشرعية التي تردعه عن ذلك. PageV04P204
# وأما ما يصنع للميت فالذي ينفع الميت ويصل إليه باتفاق العلماء هو الصدقة
~~ونحوها، فإذا تصدق عن الميت بذلك المال لقوم مستحقين لوجه الله تعالى ولم
~~يطلب منهم عملا أصلا كان ذلك نافعا للميت وللحي الذي يتصدق عنه باتفاق
~~العلماء، كما في الصحيحين (1) أن سعدا قال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت
~~نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟
# قال: نعم.
# و
### | أما اكتراء قوم يقرأون القرآن ويهدون ذلك للميت فهذه بدعة،
# لم يفعلها السلف ولا استحبها الأئمة، لكن لو قرأ الإنسان القرآن لله
~~وأهداه للميت وصل إليه الثواب عند أبي حنيفة وأحمد وغيرهما كما تصل إليه
~~الصدقة، فإن هذا تصدق لله وهذا قرأ لله، وذلك عمك صالح ينفع الله به الحي
~~والميت، بخلاف الذي يكتري من يقرأ، فإن القارىء إنما قرأ لأجل العوض،
~~والمعطي إنما أعطى عوضا عما استعمله فيه.
# والفقهاء تنازعوا في الاستئجار على تعليم القرآن، فأما استئجار من يقرأ
~~ويهدي فما علمت أحدا من العلماء ذكر ذلك، ولكن إذا قرىء القرآن فاستماعه
~~حسن. PageV04P205
# وأما الأكل من الطعام فإن كان قد صنعه الوارث من ماله لم يحرم الأكل منه،
~~وإن كان قد صنع من تركة الميت - وعليه ديون لم توف، وله ورثة صغار، وفي ذلك
~~من حقوقهم - لم يؤكل منه.
# PageV04P206
### | مسألة
# في رجل مات وتزوج أخوه امرأته ثم إنها ماتت، فهل يحل أن تدفن مع زوجها
~~الأول في قبر واحد؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، يكره دفن اثنين في قبر واحد إلا لحاجة،
# سواء كان أجنبيا أو لم يكن، وإذا احتيج إلى ذلك جعل بينهما حاجز.
### | مسألة
# في الصلاة على الجنازة قدام الإمام.
# الجواب
# تنازع العلماء في الصلاة قدام الإمام في الجنازة والجمعة وغير ذلك، فقيل:
~~يصح مطلقا كقول مالك، وقيل: لا يصح مطلقا كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في
~~المشهور عنه في ms0696 مذهبه، وقيل: يصح عند العذر، فإذا كان زحمة وتعذر معها
~~الصلاة خلفه صلى أمامه، وذلك خير من أن يدع الصلاة، وإن أمكنه الصلاة لم
~~يصل أمامه، وهذا أعدل الأقوال.
# PageV04P207
# مسألة
# فيمن يصلي على جنازة قدام الإمام وقدام الجنازة، فهل تصح أم لا؟ وهل تصح
~~صلاته لمن هو لابس مداسه؟
# الجواب
# أما صلاته قدام الإمام في الجمعة والجنازة والصلوات الخمس وغير ذلك
~~فللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
# قيل: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة وهو المشهور من مذهب الشافعي وأحمد.
# وقيل: يجوز، وهو قول مالك والشافعي في القديم.
# وقيل: إن كان للحاجة جاز، وإلا فلا، مثل أن يكون قبال وجهه ولا يمكنه
~~الصلاة إلا قدام الإمام، فالصلاة أمامه خير من ترك الصلاة، وأما إذا أمكنه
~~الصلاة خلفه فلا يصلي إلا خلفه. وهو أعدل الأقوال وأقواها، وهذا قول في
~~مذهب أحمد وغيره، والأحاديث هكذا وردت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم
~~-.
# PageV04P208
# مسألة
# في رجل كلما ختم القرآن أو قرأ شيئا منه يقول: اللهم اجعل ثواب ما قرأته
~~هدية مني واصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى جميع أهل
~~الأرض في مشارق الأرض ومغاربها.
# فهل يجوز ذلك أو يستحب؟ وهل يجب إنكار ذلك على فاعله؟ وهل فعله أحد من
~~علماء المسلمين؟
# الجواب
# الحمد لله، هذه المسألة مبنية على أصل، وهو أن إهداء ثواب العبادات إلى
~~الموتى هل يصل إليهم أم لا؟
# فأما العبادات المالية كالصدقة فلا نزاع بين المسلمين أنها تصل إلى
~~الميت، إذ قد ثبت في الصحيح (1) أن سعدا قال: يا رسول الله!
# إني أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق
~~عنها؟ قال: نعم.
# وأما العبادات البدنية كالصوم والصلاة والقراءة ففيها قولان: أحدهما:
~~يجوز إهداء ثوابها إلى الميت، وهو مذهب أبي PageV04P209
# حنيفة وأحمد وطائفة من أصحاب مالك والشافعي.
# والثاني: لا تصل، وهو المشهور عند أصحاب مالك والشافعي، وقد ثبت في
~~الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة قالت: يا رسول الله!
~~إن أمي ms0697 نذرت صيام شهر، فقال: "صومي عن أمك".
# فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على أن العبادات البدنية تفعل عن الميت
~~كالعبادات المالية، وفي الترمذي (2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه
~~كان يضحي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، ويذكر أنه أمره بذلك.
# إذا عرف هذا فإهداء ثواب القرآن إليه - صلى الله عليه وسلم - أو إلى جميع
~~أهل الأرض هو مثل إهداء ثواب الصيام التطوع والصلاة التطوع ونحوهما، ومثل
~~إهداء ثواب الصدقة والعتق والحج على أحد القولين إلى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - وسائر المسلمين، ولم يبلغنا أن أحدا من السلف والصحابة والتابعين
~~وتابعيهم كان يفعل ذلك، وأقدم من بلغنا أنه فعل شيئا من ذلك علي بن الموفق
~~أحد الشيوخ من طبقة أحمد الكبار وشيوخ الجنيد.
# وبعض الناس ينكر هذا لأجل كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى من أن
~~أحدا يهدي إليه شيئا، وهذا الإنكار ليس بجيد، فإنا مأمورون أن نصلي
~~PageV04P210
# على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن نسلم عليه وأن نسأل له الوسيلة،
~~وقد ثبت عنه أنه قال (1) : "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا
~~الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله،
~~وأرجو أن أكون ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم
~~القيامة".
# والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، كما قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - لعمر: "لا تنسنا من دعائك" (2) ، ولما أخبره بأويس القرني
~~قال: "إن استطعت أن يستغفر لك فليستغفر لك" (3) .
# وكذلك الصدقة عن الميت والصوم عنه يجوز، وإن كان الميت أفضل ممن يصوم عنه
~~ويتصدق عنه، فكون الشخص الميت أفضل من الحي أو كونه نبيا أو صديقا لا يمنع
~~أن يشرع للحي الدعاء له، كما أنه يصلي على جنازته، ولا يمنع أيضا أن يهدي
~~إليه ما يهدي إلى الميت من ثواب الأعمال الصالحة، والله تعالى بفضله يرحم
~~هذا وهذا، كما قال (4) : "من صلى علي واحدة صلى الله عليه ms0698 عشرا". و"من سأل
~~لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة" (5) . PageV04P211
# لكن إهداء ثواب الأعمال إلى جميع الناس ما سمعت أحدا فعله، ولا سمعت أن
~~أحدا كان يهدي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما بلغني عن علي بن
~~الموفق ونحوه. والاقتداء بالصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، فينبغي للإنسان
~~أن يفعل المشروع من الصلاة عليه والتسليم، فهذا هو الذي أمر الله به
~~ورسوله. وفي السنن (1) عنه: "أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة
~~الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي"، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟
~~فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء". وقال له رجل: أجعل
~~لك ثلث صلاتي، فقال: "إذا يكفيك الله ثلث أمرك"، قال: أجعل نصف صلاتي،
~~فقال: "إذا يكفيك الله نصف أمرك"، قال: أجعل ثلثي صلاتي، قال: "إذا يكفيك
~~الله ثلثي أمرك"، فقال: أجعل صلاتي كلها عليك، قال: "إذا يكفيك الله ما
~~أهمك من أمر دنياك وآخرتك" (2) .
# وفي فضل الصلاة عليه - بأبي هو وأمي - من الآثار ما يضيق هذا الموضع عن
~~ذكره، وكذلك الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والاستغفار لهم هو الذي جاء به
~~الكتاب والسنة، قال تعالى: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (3) ، وفي
~~السنن (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - PageV04P212
# مر بعلي وهو يدعو فقال: "يا علي! عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل
~~السماء على الأرض"، وفي السنن (1) : "أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب".
~~وفي الصحيح (2) : "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله به
~~ملكا، كلما قال الملك الموكل به آمين قال: ولك بمثل". فالأفعال الشرعية هي
~~التي ينبغي للمؤمن أن يتحراها، والله أعلم. PageV04P213
### | مسألة
# في الميت هل غسله طاهر أم نجس؟ وهل تلحد المرأة الرجل أو الرجل المرأة؟
~~وهل يجب أن يحج عن المرأة الرجل وعن الرجل المرأة؟
# وما يعطي الحاج عن الميت؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، بل
### | غسله طاهر عند جماهير العلماء،
# فإن ابن عباس وغير واحد من الصحابة قال: الميت لا ينجس حيا ولا ميتا،
~~وثبت في ms0699 الصحيح (1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي بعض أصحابه في
~~طريق فاختفى منه، فذهب فاغتسل ثم جاء، فقال: "أين كنت"؟، قال: إني كنت
~~جنبا، قال: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس".
# ولهذا قال جمهور العلماء على أن الماء المستعمل من غسل الجنابة والحيض
~~والوضوء طاهر. وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ
~~وصب وضوءه على جابر.
# وأما دفن الرجل للمرأة فإذا كانت المرأة تدفن في المقابر PageV04P214
# فالسنة أن لا يشهد جنازتها إلا الرجال لا يحضر النساء، فحينئذ فيدفنها
~~رجل من أهل الخير، كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا طلحة
~~أن ينزل في قبر ابنته (1) . وهذا وإن كان فيه مس المرأة فوق الكفن فهو جائز
~~لأجل الحاجة، لأن خروج النساء مع الجنائز منهي عنه.
# وأما إن قدر أن المرأة تدفن في موضع فيه النساء، فإلحاد المرأة لها أولى
~~من إلحاد الرجل إذا لم يكن في ذلك مفسدة.
# والرجل يلحده الرجال إلا إذا احتيج إلى إلحاد النساء له، فإن ذلك جائز،
~~وإلحاد النساء الرجال أخف من تغسيلهن له، وفي جواز تغسيل ذوات محارمه له
~~وتغسيل الرجل لذوات محارمه نزاع مشهور بين العلماء، وفي إلحاد الرجل للمرأة
~~أيضا نزاع، لكن الذي ذكرناه صحت به السنة.
# ويجوز أن يحج الرجل عن المرأة باتفاق العلماء، وكذلك يجوز للمرأة عن
~~الرجل عند الأئمة الأربعة، وخالفهم بعض الفقهاء لأن حجها أنقص، وليس بشيء،
~~فإنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة أن تحج عن أبيها
~~(2) ، وليس لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول.
# ويحج عن المعتقة كما يحج عن الحرة الأصل، فإن كان الحج وجب عليهما في
~~حياتهما وجب أن يخرج عنهما من رأس المال في PageV04P215
# مذهب الشافعي وأحمد ومن وافقهما، وأما أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما
~~فيستحبون الإخراج عنهما، ولا يوجبونه إلا إذا وصت به، ويكون من الثلث،
~~وينبغي أن يخرج عنها حجة تامة من حيث أمرت بالحاج، ويخرج عنها حجة مثلها ms0700،
~~وإذا أخرج من القاهرة ما ينوي الخمس مئة إلى الألف كان مقاربا. وإن لم يجب
~~الحج عليها في حياتها فيستحب أن يحج عنها بعد موتها، والحجة تامة أفضل من
~~حجة مقامية، ويعطى الحاج ما يكفيه بالمعروف. وأما إذا دبرها - وهي التي
~~يعتقها بعد موته - إذا ماتت في حياته فلا حج عليها بإجماع المسلمين، لكن إن
~~أخرج عنها حج التطوع كان ذلك حسنا، والله أعلم.
# PageV04P216
# مسألة
# في حديث في مسلم (1) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تعدون الرقوب فيكم؟ "، قال؟ قلنا يا رسول
~~الله! الذي لا يولد له، قال: "ليس ذلك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدم
~~من ولده شيئا"، الجواب عن الرقوب ما هو؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، الرقوب في اللغة هو الذي لا ولد له أو الذي لا
~~يعيش له ولد، وهو مشتق من الرقبى، والرقبى أن يرقب كل واحد من الشخصين موت
~~الآخر، كما أن المفلس في اللغة هو الذي لا وفاء لدينه، والمسكين في اللغة
~~هو الطواف، فقوله عن الرقوب مثل قوله (2) : "ما تعدون المفلس فيكم؟ "،
~~قالوا: من ليس له درهم ولا دينار، قال: "لا، ولكن المفلس من يجيء يوم
~~القيامة بحسنات أمثال الجبال، قد ظلم هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا
~~من حسناته وهذا من حسناته، فإذا لم يبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فألقيت
~~عليه، ثم يلقى في النار". PageV04P217
# فهو - صلى الله عليه وسلم - بين لهم أن المفلس الحقيقي هو من أفلس في
~~الآخرة، والرقوب الحقيقي الذي ليس له ولد يؤجر عليه، ومن لم يقدم من ولده
~~شيئا لم يؤجر على الولد، والإنسان إنما يطلب بولده وماله النفع، ويعد عدم
~~ذلك مصيبة، فبين لهم أن النفع الحقيقي والمصيبة الحقيقية التي ينبغي للعاقل
~~أن يعدها منفعة ومصيبة هو حال من نظر في عواقب الأمور ونهاياتها لا في
~~أوائلها وبداياتها، والله أعلم.
# PageV04P218
### | مسألة
# في رجل عزم على حفر قبره في حال حياته،
# فماذا ms0701 يستحب أن يفعل مع ذلك من الأجر الموجب لثواب الله سبحانه والأفضل
~~فيه؟
# عرفونا مبسوطا.
# الجواب
# لا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت، فإن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه، وأيضا فإن الله تعالى يقول: (وما تدري
~~نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت) (1) ، والعبد لا يدري أين
~~يموت، وكم من أعد له قبرا وبني عليه بناء وقتل أو مات في بلد آخر، وإذا كان
~~مقصود الرجل الاستعداد للموت فهذا يكون بالعمل الصالح، فإن العبد إنما
~~يؤنسه في قبره عمله الصالح، فكلما أكثر من الأعمال الصالحة - كالصلاة
~~والقراءة والذكر والدعاء والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - كان
~~ذلك هو الذي ينفعه في قبره، لا ينفعه بناء القبر ولا توسيعه ولا ترتيبه، بل
~~قد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يجصص
~~القبر وأن PageV04P219
# يبنى عليه، فكيف بمن يبني القبور كأنها قصور؟ فهذا من أعظم ما ينكر من
~~الأمور، وهو باتفاق المسلمين لا ينفع الميت شيئا، وإنما ينفعه العمل
~~الصالح، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الكيس من دان نفسه وعمل لما
~~بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" (1) .
# ف
### | من ظن أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمه وتحسينه ينفعه فقد تمنى على الله الأماني الكاذبة،
# وإنما يكون في قبره بحسب ما في قلبه، وكلما كان الإيمان في قلبه أعظم كان
~~في قبره أسر وأنعم، قال الله تعالى:) أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9)
~~وحصل ما في الصدور (10) إن ربهم بهم يومئذ لخبير (11)) (2) ، فجمع سبحانه
~~بين ما في القبور وما في الصدور، وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه قال للمشركين عام الخندق: "ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا
~~كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس". وهذا باب واسع لا
~~يتسع له هذا الموضع، والله أعلم. PageV04P220
# مسألة
# في أطفال المؤمنين الذين يموتون دون الثلاث، هل لهم صحائف أعمال ms0702 يكتب
~~فيها ما يهدى لهم من قرآن وصدقة أم لا؟ وهل يسألون في قبورهم ويحاسبون أم
~~لا؟ وهل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها في القيامة أم يكبرون ويتزوجون
~~إذا دخلوا الجنة؟ والبنات اللاتي يدفن أبكارا هل يزوجن في الجنة؟ وهل في
~~الجنة حبل وولادة في الناس كلهم أم ناس دون ناس؟ وهل ذلك صحيح؟
# الجواب
# الحمد لله رب العالمين، أما ما يهدى إلى الأطفال من صدقة ونحوها من
~~العبادات المالية فتصل إليه بلا نزاع، وفي العبادات البدنية قولان مشهوران،
~~لكن مذهب أحمد وأصحاب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي أنها تصل
~~أيضا كما تصل المالية وهو الصحيح، والمهدى إلى الصغار والكبار سواء في باب
~~كتابته، فلا يقال إن ما يهدى إلى الكبار يكتب دون ما يهدى إلى الصغار، بل
~~حكم النوعين واحد.
# وأما سؤالهم في القبر ففيه قولان مشهوران لأصحاب أحمد وغيرهم من أهل
~~السنة:
# PageV04P221
# أحدهما: أنهم لا يسألون، وهذا قول القاضي وابن عقيل وغيرهما، قالوا: لأن
~~السؤال في القبر إنما يكون لمن كان مكلفا في الدنيا، والصبي والمجنون ليس
~~بمكلف فلا يسأل.
# والقول الثاني: وهو قول أبي حكيم النهرواني، وهو الذي نقله أبو الحسن علي
~~بن عبدوس عن أصحاب أحمد أنهم يسألون، لما في "الموطأ" (1) أن أبا هريرة صلى
~~على صغير لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهم قه عذاب القبر وضيقة القبر. وهذا قد
~~ينبني على امتحانهم في عرصات القيامة، وقد جاءت بذلك أحاديث (2) .
# وأما حالهم في الآخرة فإنهم إذا دخلوا الجنة دخلوها كما يدخلها الكبار
~~على صورة أبيهم آدم، طول أحدهم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع، ويتزوجون كما
~~يتزوج الكبار، ومن مات من النساء ولم تتزوج فإنها تتزوج في الآخرة، وكذلك
~~من مات من الرجال فإنه يتزوج في الآخرة. PageV04P222
# مسألة
# في مقبرة للمسلمين، وأهل الذمة يدفنون فيها، هل يجب على ولي الأمر منعهم
~~أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله
### | ، ليس لأهل الذمة دفن موتاهم في شيء من مقابر المسلمين
# لا الشهداء ولا غيرهم، بل لابد أن ms0703 تكون مقابرهم متميزة عن مقابر المسلمين
~~تميزا ظاهرا، بحيث لا يختلطون بهم ولا يشتبه قبور المسلمين بقبور الكفار،
~~وهذا أوكد من التمييز بينهم حال الحياة بلبس الغيار ونحوه، فإن مقابر
~~المسلمين فيها الرحمة، ومقابر الكفار فيها العذاب، بل ينبغي مباعدة مقابرهم
~~عن المسلمين، وكلما بعدت عنها كان أصلح، والله أعلم.
# PageV04P223
# مسألة
# في الخلائق إذا حشروا يوم القيامة هل يحشرون جميعهم عرايا، أو بعضهم عراة
~~وبعضهم بأكفانهم؟ وقول أبي سفيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بالغوا
~~في أكفان موتاكم، فإن أمتي تحشر بأكفانها، وسائر الأمم عراة" كما ذكره
~~الغزالي. وهل يموت إدريس من الصعقة؟
# الجواب
# الذي في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم -: "الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها". أخرجه أبو حاتم ابن حبان في
~~صحيحه (1) وغيره. وقد روي أن أبا سعيد لما حضرته الوفاة دعا بثياب جدد،
~~فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الميت يبعث
~~في ثيابه التي يموت فيها" (2) .
# فأبو سعيد على هذا حمل الحديث على أن الثياب التي يموت PageV04P224
# فيها العبد يبعث فيها، ولم يقل: إنه يبعث في أكفانه، فإن الكفن غير
~~الثياب التي يموت فيها، فإن عامة الموتى لا يكفنون في ثيابهم التي يقبضون
~~فيها، لا سيما والكفن الذي كفن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس
~~فيه مما يمسى فيه، فإنها لم يكن فيها قميص ولا عمامة، فإنه إذا عرف أن
~~الحديث المأثور إنما هو أنه يبعث في ثيابه التي قبض فيها، فقيل: يبعث في
~~نفس الثوب الطاهر.
# وقال طوائف من أهل العلم - كأبي حاتم وغيره -: إن المراد بذلك أنه يبعث
~~على ما مات عليه من العمل، سواء كان صالحا أو سيئا، كما قال أكثر المفسرين
~~في قوله تعالى: (وثيابك فطهر (4)) (1) أن المراد به إصلاح العمل وتطهير
~~النفس من الرذائل (2) . ومثل هذا كثير في كلامهم، كما قيل:
# ثياب بني عوف طهارى نقية (3)
# ويقال: "فلان طاهر الثياب". يؤيد هذا شيئان:
# أحدهما: أن ms0704 الذي جاء في الحديث أنه يبعث على ما مات عليه من خير وشر، كما
~~جاء، فما ختم له به يبعث عليه، كما في حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "يبعث كل عبد على ما مات عليه". PageV04P225
# رواه أبو حاتم في صحيحه (1) .
# الثاني: أن الأحاديث الصحيحة تبين أنهم يحشرون عراة، كما في الصحيح (2)
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة
~~عراة غرلا"، ثم قرأ: (كما بدأنا أول خلق نعيده) (3) . وفي لفظ في الصحيح
~~(4) : "أول من يكسى إبراهيم الخليل". وفي الصحيح (5) أيضا عن عائشة أن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة
~~غرلا"، قالت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض! قال:
~~"يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض". فهذا وأمثاله أحاديث
~~صحيحة لا يجوز أن تعارض بمثل ذلك اللفظ المجمل.
# وأيضا فإن بعثه على ما مات عليه من خير وشر ظاهر، فإن الأعمال بالخواتيم،
~~وقد ثبت في الصحيح (6) "أن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه
~~وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار،
~~وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق
~~عليه الكتاب، PageV04P226
# فيعمل بعمل [أهل] الجنة فيدخل الجنة". فهذا وأمثاله تبين أنه في الآخرة
~~يحشر على ما مات عليه.
# وأما ثوبه الذي كان عليه وقت الموت فلا مناسبة في بعثه فيه، فقد تموت
~~الأنبياء والصالحون (1) في الثياب الرثة، وقد يموت الكفار والمنافقون في
~~ثياب حسنة، فهل يكون قيام الكفار والمنافقين من قبورهم أجمل وأبهى من قيام
~~الأنبياء والمؤمنين؟ ولو كان صحيحا لكان تكفينه في ثيابه التي مات فيها
~~ويبعث فيها أولى من تكفينه في غيرها، وليس الأمر كذلك، بل قد يختلف الحكم
~~في ذلك.
# وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا
~~كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه". وقد روي أن النبي - صلى ms0705 الله عليه وسلم - أمر
~~بشد الفخذ في بعض الجنائز، وقال: "إن هذا لا يغني شيئا، وإنما تطيب نفس
~~الحي" (3) ، ولو كان الميت يبعث في ثياب موته لوردت السنة بتجميلها.
# وأما الأكفان فلا أصل لكونه يبعث فيها بحال.
# و
### | أما إدريس فقد روي أنه مات في السماء
# (4) ، فلا يحتاج إلى موت ثان، والله سبحانه قد أخبر بصعق من في السماوات
~~ومن في PageV04P227
# الأرض إلا من شاء الله (1) ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~أنه ذكر "أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من أفيق، فأجد موسى باطش
~~بساق العرش، لا أدري هل أفاق قبلي أم كان مما استثنى الله" (2) .
# فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توقف في مثل هذا فكيف يجزم
~~أحدنا بما لا علم له به؟ والله أعلم. PageV04P228
# مسألة
# في معنى قوله "من قتل دون ماله فهو شهيد" (1) ، وهل يجب على الشخص أن
~~يبذل ثلث ماله قبل القتال - كما هو متعارف بين الناس - أم يجوز ذلك؟ وهل
~~الواجب عليه الدفع عن نفسه وأهله وماله دون البذل؟
# الجواب
# قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قتل دون ماله فهو
~~شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد، ومن قتل دون
~~دينه فهو شهيد" (2) .
# واتفق العلماء على أن قطاع الطريق إذا تعرضوا لأبناء السبيل يريدون
~~أموالهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعا عن أموالهم، إذا لم يندفعوا إلا بالقتال،
~~ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلا ولا كثيرا، لا الثلث ولا
~~غير الثلث، لكن إن أحبوا هم أن PageV04P229
# يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلا أن يكونوا
~~عاجزين عن القتال، فحينئذ يصالحونهم بما أمكن، ولا يقاتلون قتالا تذهب فيه
~~أنفسهم وأموالهم.
# وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفع عن أموالهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها
~~ولهم أن يبذلوها، لأن إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد
~~يفعل أصلح الأمرين عنده.
# وأما الدفع عن الحرمة ms0706 مثل أن يريد الظالم أن يفجر بامرأة الإنسان أو ذات
~~محرمه أو بنفسه أو بولده ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفع، لأن التمكين من
~~فعل الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب
~~إمكانه، وإذا لم يندفع إلا بالقتال وهو قادر عليه قاتل.
# وأما دفعه عن دمه فهو جائز أيضا، لكن في وجوبه قولان للعلماء هما روايتان
~~عن أحمد:
# أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قتله لم يدفع عن
~~نفسه، وقال: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني
~~أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب
~~النار وذلك جزاء الظالمين (29)) (1) .
# وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارج قتله لم يدفع PageV04P230
# عن نفسه، وأمر الذين جاءوا ليقاتلوا عنه - كغلمانه وأقاربه والحسن ابن
~~علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم - أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي
~~الله عنه.
# والقول الثاني: يجب الدفع عن نفسه، لأن قتله بغير حق محرم، فلا يجوز له
~~التمكين من محرم.
# وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل
~~رجلان أو طائفتان على ملك أو رئاسة أو على أهواء بينهم، كأهواء القبائل
~~والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيس أعتقهم، فيقاتلون على رئاسة سيدهم،
~~وأهواء أهل المدائن الذين يتعصب كل طائفة لأهل مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب
~~والطرائق كالفقهاء الذين يتعصب كل قوم لحزبهم ويقتتلون، كما كان يجري في
~~بلاد الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة ينهى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل
~~والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟
~~قال: "إنه أراد قتل صاحبه" (1) .
# وفي الصحيح (2) أنه قال: "من قتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ويدعو لعصبة
~~فليس منا - أو قال: - هو في النار". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ستكون
~~فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم ms0707 خير من PageV04P231
# الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المرجع" (1) .
# والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتال
~~في الفتنة، بل عند التداعي بسعارها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه هن أبيه ولا تكنوا" (2) ، يعني:
~~إذا قال الداعي: يا لفلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له:
# اغضض ذكر أبيك.
# وفي الصحيحين (3) عنه أن المسلمين كانوا معه في سفر، فاقتتل - يعني - رجل
~~من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال
~~الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبدعوى
~~الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة".
# وقال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (4) ،
# يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون
~~(102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ
~~كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من
~~النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) ولتكن
~~منكم أمة يدعون إلى الخير PageV04P232
# ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا
~~كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم
~~(105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (1) . قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة
~~والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة.
# وقد قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
~~وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (2) . وقال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "إلا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على
~~أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب" (3) .
~~وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم
~~كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"
~~(4) .
# فالله قد جعل المؤمنين إخوة مع الاقتتال، وأمر بالعدل بينهم، فقال تعالى:
~~(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما ms0708 على
~~الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما
~~بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين
~~PageV04P233
# أخويكم واتقوا الله) (1) . فجعلنا إخوة مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل
~~بينهم.
# فيجب على كل أحد أن يعظم أهل التقوى والحق ويكون معهم، سواء كانوا من
~~طائفته أو لم يكونوا، ويقصد أن يكون الدين لله لا لمخلوق، فإذا فضل هؤلاء
~~على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يسعى بينهم بالعدل والإصلاح.
# فإذا طلب قتل الرجل في هذه الحال وهو لا يريد أن يقاتل أحدا، فهل له أن
~~يدفع عن نفسه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد:
# إحداهما: لا يدفع عن نفسه وإن قتل، حتى لا يكون مقاتلا في الفتنة، ولأن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للسائل لما سأله عن ذلك: "دعه حتى يبوء
~~بإثمه وإثمك" (2) .
# والثاني: يجوز لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تبين أنه نهى عن القتال في
~~الفتنة وإن قتل مظلوما، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن
~~ذلك يفضي إلى الفتنة. والله أعلم. PageV04P234
# مسألة
# سؤال منكر ونكير، الميت إذا مات تدخل الروح في جسده ويجلس ويجاوب منكر
~~ونكير، فيحتاج موتا ثانيا؟
# الجواب
# عود الروح في بدن الميت في القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة
~~الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض الوجوه، كما أن النشأة الآخرة
~~ليست مثل هذه النشأة وإن كانت أكمل منها، بل كل موطن في هذه الدار وفي
~~البرزخ والقيامة له حكم يخضه.
# ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يوسع له في قبره ويسأل
~~ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير. فالروح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه،
~~وهل يسمى ذلك موتا؟ فيه قولان:
# قيل: يسمى ذلك موتا، وتأولوا على ذلك قوله (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا
~~اثنتين) (1) . قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدنيا، والحياة الثانية في
~~القبر، والموتة الثانية في القبر. PageV04P235
# والصحيح أن ms0709 هذه الآية كقوله (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم)
~~(1) . فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة،
~~وقوله (ثم يحييكم) بعد الموت. قال: (*منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
~~نخرجكم تارة أخرى (55)) (2) ، وقال: (فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون
~~(25)) (3) .
# فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتفارقه متى شاء الله، لا يتوقت ذلك
~~بمرة ولا مرتين، والنوم أخو الموت، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~يقول إذا أوى إلى فراشه: "باسمك اللهم أموت وأحيا". وكان إذا استيقظ يقول:
~~"الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور" (4) . فقد سمى النوم
~~موتا والاستيقاظ حياة.
# وقد قال تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
~~فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات
~~لقوم يتفكرون (42)) (5) ، فبين أنه يتوفى الأنفس على نوعين، فيتوفاها حين
~~الموت، ويتوفى الأنفس التي لم تمت بالنوم، ثم إذا ناموا فمن مات في منامه
~~أمسك نفسه، ومن لم يمت PageV04P236
# أرسل نفسه. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه
~~قال: "باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن
~~أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" (1) .
# والنائم يحصل له في منامه لذة وألم، وذلك يحصل للروح والبدن، حتى إنه
~~يحصل له في منامه من يضربه، فيصبح والوجع في بدنه، ويرى في منامه أنه أطعم
~~شيئا طيبا، فيصبح وطعمه في فمه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يحصل لروحه
~~وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به والذي إلى جنبه لا يحس به، حتى قد يصيح
~~النائم من شدة الألم والفزع الذي يحصل له ويسمع اليقظان صياحه، وقد يتكلم
~~إما بقران وإما بذكر وإما بجواب، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينه مغمضة،
~~ولو خوطب لم يستمع، فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول بأنه يسمع قرع
~~نعالهم، وقال: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" (2) .
# والقلب يشبه بالقبر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لما فاتته صلاة ms0710
~~العصر يوم الخندق: "ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا" (3) ، وفي لفظ: "قلوبهم
~~وقبورهم نارا"، وفرق بينها في قوله: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور (9)
~~وحصل ما في الصدور (10)) (4) . PageV04P237
# وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، ولا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من
~~النعيم والعذاب مثل ما يجده النائم في منامه، بل ذلك النعيم والعذاب أكمل
~~وأبلغ وأتم، وهو نعيم حقيقي وعذاب حقيقي، ولكن يذكر هذا المثل لبيان إمكان
~~ذلك إذا قال السائل: الميت لا يتحرك في قبره، أو التراب لا يتغير، ونحو
~~ذلك. مع أن هذه المسألة لها بسط يطول وشرح لا يحتمل هذه الورقة. والله
~~أعلم.
# PageV04P238
# مسألة
# الميت في أيام مرضه أدركه شهر رمضان، ولم يكن يقدر على الصيام، وتوفي
~~وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدة مرضه، ووالداه بالحياة، فهل تسقط
~~الصلاة والصيام عنه إذا صاما عنه وصليا إذا وصى أو لم يوص؟
# الجواب
# إذا اتصل به المرض ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته الاطعام عنه. وأما
~~الصلاة المكتوبة فلا يصلى عن أحد، ولكن إذا صلى عن الميت واحد منهما تطوعا
~~وأهداه له، أو صام عنه تطوعا وأهداه له، نفعه ذلك.
# PageV04P239
# مسألة
# في الشهداء، هل يشفع الشهيد منهم في أربعين من أهل بيته أم لا؟ وهل هم
~~سبعة أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وهل إذا كان الشهيد عاصيا يكون
~~منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دين أو مظلمة يطالب بها أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله، أما الشهيد المقتول في الجهاد في سبيل الله - وهو الذي يقتل
~~في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، ويكون قتاله لتكون كلمة الله هي
~~العليا، لا حمية ولا لدنيا ولا غير ذلك - فهذا جاء فيه أنه يشفع في اثنين
~~وسبعين من أهل بيته (1) .
# وأما سائر الشهداء فهم أكثر من ذلك، وقد جاء أنهم سبعة (2) : PageV04P240
# المبطون شهيد، والغريق شهيد، والذي يموت تحت الردم شهيد، وصاحب ذات الجنب
~~شهيد، والمرأة التي تموت بالطلق شهيد.
# وإن كان أحدهم مذنبا يرجى أن الشهادة ms0711 يغفر له بها، لكن حقوق الآدميين دين
~~عليه لابد لصاحبها من استيفائها. والله أعلم.
# PageV04P241
# مسألة
# في أقوام لهم تربة، وهي في مكان منقطع، وقتل فيها قتيل، وقد بنوا لهم
~~تربة أخرى، هل يجوز نقل موتاهم إلى التربة المستجدة أم لا؟
# الجواب
# لا ينبش الميت لأجل ما ذكر. والله أعلم.
# PageV04P242
# مسألة
# فيمن يحض الناس من أهل الإيمان على أن يصوموا ويصلوا ويتصدقوا، ويقرأوا
~~القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبل منهم، ويوصل أجور ذلك إلى
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أزواجه وأولاده، فسئل عن ذلك، فقال:
~~لأنه كان يحب الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: إن
~~الإمام علي رضي الله عنه كان يضحي عنه بعد موته، وإن أبي بن كعب قال: إني
~~أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: "ما شئت"، قال الربع؟ قال:
~~"ما شئت، وإن زدت فهو خير"، قال: النصف؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"،
~~قال: الثلثين؟ قال: "ما شئت، وإن زدت فهو خير"، قال: يا رسول الله! فاجعل
~~لك كلها، قال: "إذا تكفى همك، ويغفر ذنبك".
# فما هذه الصلاة المقسمة بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاة
~~عليه فكلها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد
~~إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرف المفهوم أنها صلاة
~~نوافله وتطوعاته، وأن يجعل له ربعها ونصفها وثلثيها وكلها، فهل أصاب فيما
~~أمر به وحض عليه؟
# وبنى على ما رواه الدارقطني: أن رجلا سأله فقال: يا رسول الله صلى الله
~~عليك، كان لي أبوان، وكنت أبرهما حال حياتهما،
# PageV04P243
# فكيف لي بالبر بعد موتهما؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من
~~البر بعد البر أن تصلي لهما مع صلاتك، وأن تصوم لهما مع صيامك، وأن تصدق
~~لهما مع صدقتك".
# فقيل: إن عمل الولد من الخير ملحق بالوالدين، لوجوب حقهما.
# فقال: حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب، وحق أزواجه أمهات المؤمنين
~~أوجب من أمهات الأولاد.
# فقيل ms0712 له: فهلا فعل أبو بكر ذلك؟
# قال: وما يدريك؟ قد فعله علي رضي الله عنه حين ضحى عنه.
# فقيل: إن النبي دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من تبعه.
# فقال: إن الواحديه حق لله في الأزل والأبد لا يزيلها إنكار منكر لها،
~~ويثاب المقر بها طوعا راضيا مختارا، والكون وما فيه ملكه ثانيا لا يزيله
~~ملك مالك، ونحن نتقرب منه بشق تمرة.
# فما الحكم في ذلك مع صحة القصد وما ذهب إليه من التأويلات؟
# أفتونا مأجورين.
# أجاب رضي الله عنه
# أما ما ذهب إليه هذا المسئول عنه من إهداء ثواب القربات إلى النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - فقد
### | ذهب إليه طائفة من المتأخرين
# من الفقهاء والعباد، ولكن لم يسلكوا هذا الطريق التي ذكرت عنه، ولكن بنوا
~~ذلك على
# PageV04P244
# إن إهداء ثواب القرب إلى موتى المؤمنين جائز، ورسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - أفضل المؤمنين، ولا ريب أن الصدقة عن الميت جائزة باتفاق العلماء،
~~وكذلك سائر العبادات المالية، هان تنازع الأئمة في العبادات البدنية
~~كالصلاة والصيام والقراءة، فمنهم من سوى بين النوعين كأحمد، وهو المذكور في
~~كتب الحنفية، وذهب إليه طائفة من أصحاب مالك والشافعي، ولكن أكثر أصحاب
~~مالك والشافعي فرقوا بين العبادات البدنية والمالية، لأن المالية يدخلها
~~النيابة والتوكيل، فيجوز للرجل أن يستنيب في صدقته، ولا يجوز له أن يستنيب
~~في صلاته وصيامه.
# والأولون أجابوا عن هذا من وجهين:
# أحدهما: أن النيابة في العبادات البدنية تجوز للحاجة، كما ثبت في
~~الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من مات وعليه صيام
~~صام عنه ولله"، ولكن فرض الصلاة لا نيابة فيه، لأن الإنسان لا يعجز عما وجب
~~من الصلاة، فلا عذر له في (2) ، والصوم له بدل وهو الإطعام، كما قال تعالى:
~~(وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له) (3) ، فلما
~~نسخ ذلك وتعين الصيام على القادر بقي العاجز كالشيخ الذي لا يرجى قدرته
~~والمريض المأيوس من بزيه، فإنه يفطر باتفاق العلماء، وأكثرهم ms0713 PageV04P245
# يوجبون عليه الفدية، وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة، أما مالك فلا
~~يوجب عليه فدية. وأما الصوم عن الميت فقيل: لا يصام عنه بحال، كقول أبي
~~حنيفة ومالك والشافعي في الجديد، لكن الشافعي وطائفة يقولون: يطعم عنه إذ
~~الإطعام هو البدل، وقيل: بل يصام عنه الفرض والنذر، وهو قول للشافعي، وقيل:
~~يصام عنه النذر، وأما الفرض يطعم عنه، وهو مذهب أحمد وغيره اتباعا لابن
~~عباس في تفريقه بينهما، وهو الذي روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (1) ، وروته عائشة أيضا (2) ، وكلا
~~الحديثين في الصحيح، وقد جاء حديث ابن عباس مفسرا في النذر كما في الصحيحين
~~(3) عنه: "أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صوم نذر،
~~أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟
~~"، قالت: نعم، قال: "فصومي عن أمك".
# وفرقوا بين الفرض والنذر بأن الله قد جعل لما فرضه بدلا، وهو الإطعام من
~~مال من وجب عليه، كما جعل في الكفارة من عجز من صوم الشهرين المتتابعين
~~أطعم ستين مسكينا، والبدل من ماله أولى من بدن غيره، والله لا يوجب على
~~عباده ما يعجزون PageV04P246
# عنه، ولهذا لو استمر به المرض المرجو إلى ما بعد رمضان ولم يتمكن من
~~القضاء فلا إطعام عنه ولا قضاء باتفاق الأئمة، بخلاف ما أوجبه العبد على
~~نفسه فإنه قد يوجب ما يعجز عنه، كما يستدين ما لا يطيق وفاءه، فيكون فعل
~~الغير عنه كقضاء الذين عنه، وذلك جائز.
# وحقيقة هذا القول أن من عجز عن الصيام والفدية فلا شيء عليه، فلا يحتاج
~~أن يصوم عنه، ومن قدر على أحدهما فلا بد له من أحدهما. والمقصود هنا أن
~~الشارع سوغ الصوم عن الميت كما سوغ الحج عنه في الجملة، فلا يجوز أق يقال:
~~لا تدخله النيابة بحال.
# والوجه الثاني: أنهم قالوا: إهداء ثواب العمل إلى الميت ليس نيابة عنه،
~~وإنما العامل عمل لنفسه لا عن الميت، والإنسان ليس ms0714 له إلا ما سعى، فهذا
~~السعي للحى لا للميت، لكن الميت استحق عليه أجرا من الله، فتبرع به للميت
~~كما يتبرع الأجير بأجرته لغيره، وإن كان عمله في الإجارة لنفسه لا للغير،
~~ولهذا يفرق في الإجارة بين من يعمل لغيره وبين من يعمل لنفسه، ويعطي الأجرة
~~لغيره، فالأول كالأجير المشترك الذي التزم العمل في ذمته، إذا أعطاه لبعض
~~الناس ليعمل عنه كان ذلك عملا بطريق النيابة عمن وجب عليه العمل، وهو نظير
~~قضاء الدين. والثاني كالأجير الخاص أو المشترك الذى عمل ما عليه، وأخذ
~~أجرته فأعطاها لغيره، ولهذا كان أصحاب أبي حنيفة لا يجوزون النيابة في
~~العبادات البدنية، ويجوزون إهداء ثوابها، وكذلك أصحاب أحمد يجوزون إهداء
# PageV04P247
# ثواب العبادة حيث لا يجوزون النيابة، حتى يجوزون إهداءها إلى الحي في أصح
~~الوجهين، وهو المنصوص عن أحمد، وفي إهداء ثواب الفريضة لهم وجهان.
# وبعض الناس يحتج على أن إهداء ثواب القرب لا يصل إلى الميت بقوله: (وأن
~~ليس للإنسان إلا ما سعى (39)) (1) . واحتجاجه بهذه الآية حجة باطلة بكتاب
~~الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فإن القرآن قد دل على الاستغفار
~~للمؤمنين، كما في استغفار الملائكة والأنبياء لهم، وذلك ليس من سعيهم، قال
~~الله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
~~ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا
~~واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7)) (2) الآية، وقال تعالى: (واستغفر
~~لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (3) ، وقال تعالى عن نوح: (رب اغفر لي ولوالدي
~~ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) (4) ، وقال عن إبراهيم: (ربنا
~~اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)) (5) .
# وقد اتفق المسلمون على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصلاة
~~على الميت والدعاء له والشفاعة فيه، واتفقت الأمة على أن الصدقة تنفع
~~PageV04P248
# الميت كما ثبت في الصحيحين (1) : أن سعدا قال: يا رسول الله! إن أمي
~~افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت لتصدقت، فهل ينفعها إن أتصدق عنها؟ قال:
~~"نعم ". فما كان جواب هذا المحتج عن الدعاء والصدقة عن الميت ms0715 كان جوابا
~~لغيره عن الصيام عنه ونحو ذلك من العبادات.
# وقد ذكر الناس عن الآية أجوبة متعدد (2) ، على أنها منسوخة، وقيل:
~~مخصوصة، وقيل: مختصة بشرع من قبلنا، وقيل: سببه الإيمان الذي هو شرط وصول
~~الثواب من سعيه.
# والآية لا تحتاج إلى شيء من هذا، فإن الله أخبر عما في الصحف أنه (ليس
~~للإنسان إلا ما سعى (39)) (3) ، ولم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وأن
~~الإنسان فيما ينتفع به في الدنيا قد ينتفع بما يملكه وبما لا يملكه، فلا
~~يلزم من نفي الملك نفي الانتفاع، لكن هو يستحق الثواب على سعيه لأنه حفه،
~~فلا يخاف منه ظلما ولا هضما، وأما سعي غيره فهو لذلك الغير، فإن سعى له ذلك
~~الغير أثاب الله ذلك الساعي على سعيه، ونفع هذا من سعي ذلك بما شاء، كما
~~يثيب الداعي على دعائه لغيره وينتفع المدعو له. كما ثبت في الصحيح (4) أنه
~~قال: "ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب PageV04P249
# بدعوة إلا وكل الله به ملكا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال الملك الموكل به:
~~آمين، ولك بمثل ".
# ومن ذلك: الصلاة على الميت، فقد ثبت عنه أنه قال: "من صلى على جنازة فله
~~قيراط" (1) ، وثبت عنه: أن الله يقبل شفاعة مائة (2) ، وروي أربعين (3) ،
~~وروى ثلاثة صفوف (4) . فهو يثيب الداعي وينفع المدعو له، وكذلك المتصدق عن
~~الميت بما يصل إليه من ثواب الصدقة.
# ومن هذا الباب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب الوسيلة،
~~كما ثبت عنه في الصحيح (5) أنه قال: "من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا"،
~~وقال: "ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من
~~عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حفت عليه
~~شفاعتي يوم القيامة".
# فهذا هو الأصل الذي ينبني عليه فعل القرب عن الأموات مطلقا، وبعض الناس
~~يعارض هذا بما ليس بدليل شرعي، بمثل أن PageV04P250
# يقول عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره من النبيين أو الصديقين: هذا
~~أجل ms0716 من أن يهدى له ثواب أو أن يفعل عنه قربة، ويرى أن هذا من باب الخفض من
~~منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه من باب حاجته إلى هذا الفاعل.
# وهذا الكلام ليس بشيء، فإن الله أمرنا أن نصلي عليه ونسلم تسليما،
~~والصلاة عليه من أفضل العبادات مع الدعاء في الصلاة وغيرها، حتى قال عمر بن
~~الخطاب: "إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - "، رواه الترمذي (1) وقال: حديث حسن. وثبت
~~عنه في صحيح مسلم (2) وغيره أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا بمثل ما
~~يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله
~~لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن
~~أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم
~~القيامة". وفي السنن (3) : "ثم سل تعطه ".
# فهذه أربع سنن أمر بها عند استماع الأذان: أن يقول كما يقول المؤذن، وقد
~~جاء مفسرا بالأمر بذلك في الحيعلة والحوقلة، لأنه دعاء للادميين لا ذكر،
~~فيقال ما يستعان به على فعل ما دعي العبد إليه. ثم أن يصلي عليه، ثم أن
~~يسأل له الوسيلة، ثم قال: "سل تعطه"، فإن هذا ليس بمظان إجابة الدعاء.
~~PageV04P251
# وفي سنن أبي داود (1) وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا على فإن
~~صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم ".
# وعن أبي ليلى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الملك جاءني
~~فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: أما ترضى إلا يصلي عليك عبد من عبادي إلا
~~صليت عليه عشرا؟ ولا يسلم عليك تسليمة إلا سلمت عليه عشرا؟ قلت: بلى أي
~~رب". رواه النسائي (2) وأبو حاتم وغيره.
# وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من أفضل
~~أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق ms0717 آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، فأكثروا
~~فيه من الصلاة علي، فإن صلاتكم معروضة"، قالوا: وكيف تعرض عليك وقد أرمت؟
~~فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". رواه أبو داود
~~والنسائي وأبو حاتم في صحيحه (3) . PageV04P252
# وفي سنن أبي داود (1) عنه قال: "ما من مسلم يسلم على إلا رد الله علي
~~روحي حتى أرد عليه السلام ".
# وفي النسائي وأبي حاتم (2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -: "إن لته ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام".
# والأحاديث في ذلك كثيرة، وهذا مما أجمع عليه المسلمون، والصلاة والسلام
~~[عليه]- صلى الله عليه وسلم - هي من هذا الباب من باب الدعاء، و
### | الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى،
# والداعي إذا دعا لغيره أثاب الله الداعي على دعائه، ونفع المدعو له
~~بالدعاء، فلم يكن لأحد عليه منة بصلاته عليه وسلامه، إذ كان الله يصقي على
~~المصلي عليه عشرا، ويسلم على المسلم عليه عشرا، فيعطيه بالحسنة عشر
~~أمثالها، فلله المنة على من استعمله في الصلاة عليه والسلام، ولله المنة
~~على رسوله وعلى جميع عباده إذ نصب أسبابا يرحمهم بها، والخلق كلهم فقراء
~~إلى الله تعالى، والله يرحم عباده بما شاء من الأسباب، فمن جعل أحدا من
~~الأنبياء أو غيرهم مستغنيا عن مزيد الرحمة والرضوان وعلو الدرجات فهو جاهل
~~بالته، ومن ظن أن دعاء الداعي للأنبياء وصلاته عليهم بل صلاته على المؤمنين
~~منه منة عليهم فهو جاهل بذلك، فإن الله يثيبه PageV04P253
# على عمله ولا يظلمه، والمنة لله على هذا وعلى هذا.
# ومن هذا الباب دعاء الملائكة للمؤمنين وسائر الأسباب، بل من هذا الباب
~~جميع ما يعمله العباد من القرب والطاعات، فإن للرسول - صلى الله عليه وسلم
~~- مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، كما ثبت عنه في الصحيح (1)
~~أنه قال: "من دعا إلى هد ى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن
~~ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ms0718 ضلالة كان له من الوزر مثل أوزار من
~~اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا". وقال - صلى الله عليه وسلم - (2) :
~~"من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن
~~ينقص من أجورهم شيئا". وهو - صلى الله عليه وسلم - قد سن سنن الهدى جميعها
~~لأمته.
# ومن هذا الباب يبين جواب المسألة، فإن القائل يقول: إذا كان إهداء القرب
~~إلى الموتى مشروعا وإن كانوا فضلاء، فما بال السلف لم يكونوا يفعلون القرب
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الخلفاء الراشدين؟
# بل ولا عن شيوخهم معلميهم ومؤدبيهم الذين علموهم العلم والإيمان؟ والسلف
~~كانوا أحرص على الخير منا، فلا يمكن أن يقال: تركوه جهلا به ولا رغبة عنه،
~~وهذا هو الذي يظهر به إشكال المسألة، فإن ما تقدم يحتبئ به من يستحب إهداء
~~ثواب القربات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ذهب إليه طائفة من
~~الفقهاء والعباد من أصحاب أحمد وغيرهم، وأقدم من بلغنا ذلك عنه علي بن
~~الموفق أحد PageV04P254
# الشيوخ المشهورين، كان أقدم من الجنيد وطبقته، وقد أدرك أحمد وعصره وعاش
~~بعده.
# ومن لا يستحب بل يراه بدعة -وهو الصواب المقطوع به- يحتج بأن السلف لم
~~يكونوا يفعلون ذلك وهم أعلم بالخير وأرغب، وليس فعل [المذكور] وأمثاله ولا
~~قول طائفة من متأخري الفقهاء مما يعارض به أقوال السلف.
# وأما احتجاج المحتج بتضحية علي رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - فيقال له: هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي (1) من حديث حنش
~~الصنعاني، قال: رأيت عليا عليه السلام يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال:
~~إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه".
~~وقال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك. ومثل هذا الإسناد قد
~~يقال: لا تقوم به سنة، فإن حنشا تكلم فيه غير واحد، قال أبو حاتم: كان كثير
~~الوهم، وشريك بن عبد الله القاضي في حديثه لين.
# وإن ms0719 صح هذا الحديث فإنه إنما ضحى عنه - صلى الله عليه وسلم - بإذنه، وهذا
~~جائز ولو لم يرد هذا الحديث، فإن الميت إذا أوصى أن يضحى عنه كان كما لو
~~أوصى أن يحج عنه، فإن الأضحية عبادة بدنية مالية كالحج عنه، ولو وصى
~~بالصدقة عنه جار بإجماع المسلمين، بل PageV04P255
# هذا الحديث إن صح فقد يستدل به على أنهم لم يكونوا يفعلون عنه عبادة إلا
~~بإذنه، ولو كان مشروعا عندهم التضحية عنه بدون إذنه لما أنكر ذلك على علي،
~~ولبين علي أنه يشرع هذا وغيره من الأعمال عنه بغير إذنه.
# وأما احتجاجه بحديث أبي بن كعب الذي فيه "أجعل صلاتي كلها لك، قال: إذا
~~تكفى همك ويغفر ذنبك"، فيقال له: ليس حملك هذا الحديث على صلاته المتطوعة
~~بأولى من حمل غيرك له على الدعاء، إذ قد سلمت أنه ليس المراد به الصلاة
~~الواجبة ذات الركوع والسجود، فيقال له: كما لم يدخل هذه الصلاة فلا يدخل ما
~~كان من جنسها وهو التطوع، فإنهما من جنس واحد، ولم يعرف أن في السنة أن
~~يكون جميع ما يتطوع به العبد من الصلاة لغيره، كما لم يعرف مثل ذلك في
~~الصيام والحج.
# فإن قيل: يحصل له من أجر الإهداء أكثر من ثواب التطوع، قيل: فسووا ذلك في
~~الفريضة، واجعلوا من المسنون أن يهدي الرجل ثواب فرائضه لبعض الموتى، ويكون
~~ما يحصل من ثواب ذلك أعظم من أجر الفريضة مع أن ذمته بريئة. وقد تقدم أن في
~~إهداء ثواب الفريضة قولين في مذهب أحمد وغيره.
# والذين جوزوا ذلك قالوا: الفرض له مقصودان: براءة الذمة باندفاع العقاب،
~~وحصول الأجر والثواب، فأما براءة الذمة وهو الذي امتاز به عن النافلة فلا
~~يمكن إهداؤه، وأما الأجر وهو المشترك بينهما فيمكن إهداؤه، ولا ريب أن
~~الحديث لا يمكن
# PageV04P256
# حمله على الصلاة عليه كما ذكر السائل. بقي المفهوم الثالث وهو الدعاء،
~~فإن الصلاة من أهل اللغة: الدعاء، كما قال تعالى: (وصل عليهم) (1) ، فيكون
~~هذا السائل له دعاء يدعو به لنفسه، فيمكن أن ms0720 يجعل ثلثه دعاء للنبي - صلى
~~الله عليه وسلم -، فالصلاة عليه صلاة، ويمكن أن له شطره، ويمكن أن يكون
~~جميع دعائه دعاء للنبي، مثل أن يصلي عليه بدل دعائه. وقد ثبت (2) أنه من
~~صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا، فيكون أجر صلاته كافيا له، ولهذا قال:
~~"يكفي همك ويغفر ذنبك"، أي إنك إنما تطلب زوال سبب الضرر الذي يعقب الهم
~~ويوجب الذنب، فإذا صليت على بدل دعائك حصل مقصودك، وهذا معنى مناسب، فإنه
~~قد ثبت (3) أن من دعا لأخيه بظهر الغيب بدعوة قال الملك الموكل به: آمين،
~~ولك بمثل. وثبت عنه (4) أنه قال: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون
~~أخيه"، فإذا كان بدل دعائه لنفسه يدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - حصل له
~~أعظم مما كان يطلب لنفسه.
# واحتجاجه بحديث الدارقطني يقال له: إنما في الحديث فعل العبادات عن
~~الوالدين، وهذا في العبادات المالية متفق عليه بين الأئمة، وإنما تنازعوا
~~في النذر، وقد ذكر مسلم في صحيحه (5) عن PageV04P257
# أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: الحديث الذي جاء في
~~البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، قال فقال عبد
~~الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث شهاب بن خراش، قال ثقة، قال:
~~عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم -، قال: يا أبا إسحاق! إن بين الحجاج بن دينار ورسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي. وليس في الصدقة خلاف.
# ولو احتج في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند أحمد (1) عن
~~عبد الله بن عمرو أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بدنة، وأن
~~هشام بن العاص نحر حصته خمسين، وأن عمرا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~عن ذلك فقال: "أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك". وقد
~~رواه أبو داود (2) ، ولفظه: "لو ms0721 كان مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو
~~حججتم عنه نفعه ذلك". وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية.
# وقد احتج بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما بأحاديث رويت
~~فيمن مر على القبور فقرأ كذا وكذا، و
### | ليس فيها ما يعتمد عليها في إثبات الأحكام الشرعية.
# وقد قدمنا أنه ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها أن الولي
~~يصوم عن الميت الصوم الذي نذره كما يحج عنه، وقد جاء ذكرهما في حديث صحيح
~~PageV04P258
# رواه مسلم (1) وغيره عن بريدة بن الحصيب أن امرأة أتت النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفيجزئ أو يقضي أن أصوم
~~عنها؟ قال: "نعم"، وفي رواية: وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال: "صومي عنها"،
~~قالت: يا رسول الله! إنها لم تحج، فقال؟ "حجي عنها".
# ولا يقال: هذا مختص بالولد، ففي الصحيحين (2) عن ابن عباس: أن امرأة جاءت
~~إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين
~~متتابعين، قال: "أرأيت لو كان على أختك دين أكنت تقضيه؟ " قالت: نعم، قال:
~~"فحق الله أحق". وفي رواية (3) : أن امرأة ركبت في البحر، فنذرت إن نجاها
~~الله أن تصوم شهرا، فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك، فقال: "صومي عنها".
# وأيضا فقوله في الحديث الصحيح: "صام عنه وليه" يتناول الولد وغيره ممن
~~يكون وليا للميت، فلا يجوز أن يقال: الحكم مختص بالولد.
# وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (4) : "إذا مات ابن
~~آدم PageV04P259
# انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو
~~له". فهنا خص الولد بالذكر لأنه استثناه من عمل الميت، وولده من كسبه، كما
~~قال تعالى: (ما أغنى عنه ماله وما كسب (2)) (1) وإن ولده من كسبه. وقد قال
~~- صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال له: إن أبي أراد أن يجتاح مالي،
~~فقال: "أنت ومالك لأبيك" (2) . وقد قال تعالى ms0722: (يهب لمن يشاء إناثا ويهب
~~لمن يشاء الذكور (49)) (3) ، فجعل الولد موهوبا للوالد، فجعل بيت الولد بيت
~~الرجل في قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم)
~~(4) ولم يذكر بيوت الأولاد، لأن بيت ولدك بيتك، وهذا الحكم مختص بالأب فإنه
~~المولود له، كما قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (5)
~~.
# فلما كان الولد من كسب الوالد استثناه من عمله المنقطع، كما استثنى ما
~~ينفق من الصدقة والعلم النافع، وهذا مما احتج به من يقول: إن مال الابن
~~للوالد بمنزلة المباح، فيهلك منه ما لا يضر بولده. وهذا الحديث لا يدل على
~~أن غير الولد لا ينفع دعاؤه PageV04P260
# للميت، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. إذ هم متفقون على أن الدعاء والصلاة
~~على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أو من غير ولده، فهذا بيان أن
~~الحكم لا يختص بالولد أن ذلك لوجوب حقهما، فلا حاجة إلى تعليل ذلك بوجوب
~~حقهما.
# وأما جوابه لمن قال له: "النبي قد دعا إلى كل خير، فله أجر من اتبعه "
~~بأن الواحديه لله حق ثابت، وكل شيء له، ونحن نتقرب إليه بشق تمرة -فهذا مثل
~~ضعيف، وذلك أن الأشياء كلها لته ملك له، إذ هو خالقها وربها ومليكها، وله
~~أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها، وهذا الملك لا يتعلق به ثواب
~~العباد ولا عقابهم ولا وعدهم ولا وعيدهم، فإن هذا حكم ربوبيته الشاملة
~~وقدرته الكاملة، التي تتناول المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأما تقرب
~~العباد إليه فهو بالفعل الذي يحبه ويرضاه لهم، وهذا مما افترقوا فيه. فبعض
~~العباد آمن به وعبده وأطاعه وفعل ما يحبه ويرضاه، وبعضهم كفر به وفسق وعصى،
~~وكلاهما يتناوله حكم ربوبيته وقضائه وقدره، والذي يتقرب إليه بشق تمرة إذا
~~أقرضه قرضا حسنا لم يدخل في ملكه ما لم يكن فيه، بل جميع ما بذله بل هو
~~وفعله وقدرته داخل في ملك الرب وقدرته، سواء كان المبذول من رضاه أو سخطه،
~~لكن ببذله في الجهة التي يحبها ويرضاها ms0723 صار العبد مستوجبا لما وعده في تلك
~~الجهة، كما أن حركات بدنه هي مخلوقة له على كل حال، فإن كانت حركة يحبها
~~ويرضاها أثابه عليها، وإن كانت حركة يكرهها ويسخطها عاقبه عليها، وهذا
~~يتعلق بحكم إلهيته وأمره الديني الشرعي الذي هو
# PageV04P261
# الفارق بين أوليائه وأعدائه. قال تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين
~~(35)) (1) ، وقال تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين
~~آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21)) (2) ، وقال
~~تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل
~~المتقين كالفجار (28)) (3) . والأول يتعلق بحكم ربوبيته وأمره الكوني
~~الشامل لوليه وعدوه، كما قال: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على
~~صراط مستقيم (56)) (4) .
# وقد بسطنا الكلام على هذا المقام الذي ضلت فيه أمم من الأنام، وبينا
~~الفرق بين كلماته الدينية والكونية، وإرادته الكونية والدينية، وإذنه
~~الكوني والديني، وكذلك حكمه، وأمره، وتحريمه، وبعثه، وإرساله، والفرق بين
~~الحقيقة الكونية التي يقر بها المشركون وهي الحقيقة القدرية، وبين الحقيقة
~~الدينية الحي يختص بها المؤمنون، وكيف اشتبه على كثير من الخائضين في
~~الحقيقة هذا الباب بهذا الباب، حتى لم يفرقوا بين الهدى والضلال، والرشاد
~~والغي، والخطأ والصواب، بل آل الأمر بكثير منهم إلى أنهم لم يفرقوا بين
~~الخالق والمخلوق، حتى دخلوا في الحلول والاتحاد الذي هو من أعظم الكفر
~~وأكبر الالحاد، فالأشياء PageV04P262
# التي هي لله إذا جعلناها له وتقربنا بها إليه بحكم ربوبيته، فليست هذه
~~الإضافة تلك الإضافة، فإن تلك الإضافة إضافته بحكم ربوبيته، وهذه إضافة
~~إليه بحكم ألوهيته، كما أن لفظ العبد يعني به المعبد، فجميع الخلق عباد
~~الله بهذا الاعتبار حتى الكفار والفجار، قال تعالى: (إن كل من في السماوات
~~والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (93)) (1) ، وقد يعني به العابد، فيختص به
~~المؤمنين الأبرار، كما قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (2) ،
~~وقال الشيطان: (ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40)) (3) ،
~~وقال: (عينا يشرب بها عباد الله) (4) ، وقال: (وعباد الرحمن الذين يمشون
~~على الأرض هونا) (5) ، وقال: (سبحان الذي أسرى ms0724 بعبده ليلا) (6) ، وقال:
~~(فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)) (7) .
# وبهذا يظهر الفرق بين قوله: (وطهر بيتي) (8) وقوله: (ناقة الله وسقياها
~~(13)) (9) ، وبين سائر البيوت والنوق، فإن سائر البيوت PageV04P263
# والنوق وإن كانت ملكا لله لكن ليست محل عبادته وطاعته والصلاة عليه،
~~كالمساجد التي هي بيوت عبادته، لا سيما المسجد الحرام الذي هو بيت الطواف
~~ببيته والعكوف وتضعيف [الأجر فيه] ، فالإضافة العامة بحكم الربوبية
~~الخلقية، وهذه الإضافة الخاصة بحكم الألوهية الأمرية. وكذلك الناقة التي
~~جعلها آية له وجعلها من شعائره وحرماته التي يجب تعظيمها، فالفرق بين هذا
~~البيت وبيت الكنيسة مثلا كالفرق بين المؤمن الذي هو عبد الله والكافر الذي
~~هو خلقه، وهو معبد له وإن كان لا يعبده، وكذلك قوله عز وجل: (يسألونك عن
~~الأنفال قل الأنفال لله والرسول) (1) ، وقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء
~~فأن لله خمسه وللرسول) (2) ، فإضافة الأنفال والخمس إليه كالإضافة العامة
~~الثابتة لكل مخلوق، كقوله: (ولله ما في السماوات وما في الأرض) (3) . بل
~~هذه الإضافة بحكم أمره ودينه الذي بعث به رسوله، ولهذا قرن هذا بالرسول،
~~فإن أمره الذي أمر به ما يحبه ويرضاه هو ما جاء به الرسول، وهذه الأموال
~~الشرعية التي يحكم بها بأمر الله ورسوله ليست كالأموال التي ملكها لعباده.
# ولهم أن يفعلوا فيها ما أحبوا إذا لم يكن محرما، ولهذا قال - صلى الله
~~عليه وسلم -: "إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع
~~حيث أمرت" (4) . PageV04P264
# وهذا باب قد نبهنا على أصله، وبينا الفرق بين النوعين، وإذا كان كذلك ظهر
~~ضعف القياس الذي قاسه، وتبين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عمل
~~المؤمن من أمته عملا فله مثل أجره، فإذا أهدى له ثوابه فإنما أهدى له مثل
~~ما حصل للرسول سواء بسواء، وهما من جنس واحد ومقدار واحد، وإنما ملكه الرب
~~لعباده إذا أنفقوه في طاعته، فليس كونه أنفق حيث يحبه ويرضاه مثل كونه
~~مملوكا ملكا قدره وقضاه.
# يبين هذا أن الله سبحانه هو يملك الأموال المحرمة في الشريعة، فالظالم
~~والغاضب ms0725 إذا أخذ مالا فالله هو أيضا مالكه، وقد ملكه إياه قدرا لا شرعا
~~ودينا، ولو أنفق منه لم يتقبل الله منه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:
~~"إن الله لا يتقبل صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" رواه مسلم (1) وغيره،
~~فالنفقة المقبولة لابد أن تكون من مال أذن في إنفاقه شرعا، لا يكفي الإذن
~~القدري الكوني، واسم الرزق في كتاب الله يراد به ما ملك شرعا ويراد به ما
~~يتنعم به الحي، فالأول يختص بالحلال، والثاني يتناول كل ما ينتفع به
~~الحيوان وإن [كان] مما لا يملك كالبهائم، وإن كان حراما، فالأول كقوله
~~(ومما رزقناهم ينفقون (3)) (2) ، والثاني كقوله: (وما من دابة في الأرض إلا
~~على الله رزقها) (3) . والقدرية منعوا أن يكون الحرام مرزوقا PageV04P265
# بناء على أصلهم في أن الله لم يخلق أفعال العباد، فتناول العبد له ليس
~~عندهم مقدورا لله، ولا هو ملكه إياه، وهو قول باطل.
# فإن قيل ما ذكره المعترض عليه -من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - له
~~مثل
# أجور أمته، فلا حاجة إلى الإهداء- ضعيف من وجهين:
# أحدهما: أن الابن من كسب أبيه، ودعاؤه مستثنى من عمله المنقطع، ومع هذا
~~فالابن يتصدق عن أبيه بالسنة والإجماع، وكذلك يحج عنه، بل ويصوم عنه،
~~بالسنة الصحيحة.
# الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حصل له مثل أجر العالم من
~~أبيه أمكن أن يحصل له مثل ذلك أيضا بطريق الإهداء إليه، فلا منافاة بين
~~الأمرين.
# قيل عن الأول من وجهين:
# أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل للأب مثل عمل جميع
~~أمته، ولا يعلم دليلا على ذلك، وإنما جعل ما يدعوه الابن له من عمله الذي
~~لا ينقطع، بخلاف الداعي إلى هدى كان له، حصل له مثل أجر المدعو، وهذا الفرق
~~ظاهر، وهو أن الداعي إلى هدى أراد إرادة جازمة فعل ذلك الهدى بحسب قدرته،
~~وهو لم يقدر إلا على الأمر به والدعاء إليه، ومن أراد عملا إرادة جازمة
~~وعمل منه ما يقدر عليه كان ms0726 بمنزلة العامل له، كما قد بسطنا هذه المسألة في
~~غير هذا الموضع، وبينا فصل الخطاب فيما تنازع الناس فيه من الإرادة ونحوها
~~من أعمال القلوب إذا لم يدربه من عمل الجوارح، هل
# PageV04P266
# يترتب عليه عقاب أم لا؟ فمن الناس من جزم بالأول، ومنهم من جزم بالثاني،
~~وقد يحكى ذلك إجماعا.
# واحتج هؤلاء بأحاديث الهم (1) ونحوها، وهؤلاء بقوله؟ "إنه أراد قتل
~~صاحبه" (2) ، وقوله: "فهما في الأجر سواء" (3) ونحوهما.
# وقد بينا أن الإرادة الجازمة لابد أن يدربها من عمل الجوارح ما يقدر عليه
~~العبد، وحينئذ فيترتب عليها العقاب، كالذي يهم بالذي يتمنى وينظر، ويفعل
~~بعض المحرمات ويترك الباقي عجزا، كالذي أراد قتل أخيه بذل مقدوره في قتله
~~حتى قتل، بخلاف من هم ولم يفعل مقدوره كالذي هم بسيئة ولم يفعلها أصلا،
~~فهذا لا تكون إرادته جازمة. وكذلك قوله: "فهما في الأجر سواء، وهما في
~~الوزر سواء"، لأن كلا منهما قال بلسانه: لو أن لي مثل ما لفلان لفعلت فيه
~~مثل ما فعل، فلما أراد إرادة جازمة وفعل مقدوره صار كالفاعل.
# والله تعالى في كتابه ذكر الفعل، وذكر ما يتولد عنه، وجعله من عمل العبد،
~~كما في قوله: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا
~~يطأون موطئا يغيظ PageV04P267
# الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع
~~أجر المحسنين) (1) ، فهذه الأمور لم يفعلوها، ثم قال: (ولا ينفقون نفقة
~~صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب) (2) ، فالإنفاق وقطع الوادي نفس
~~عملهم، فكتب، وما تقدم أثر عملهم الصالح، فكتب لهم به عمل صالح، كدعاء
~~الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد
~~هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب، وأما الداعي إلى الهدى فهو قصد هدى
~~المدعوين ولم يفعلوا ما أمرهم به، وبذل مقدوره في فعلهم، فصار قاصدا للفعل
~~عاملا ما يقدر عليه في حصوله، فله أجر الفاعل، وكذلك من سن سنة حسنة ومن سن ms0727
~~سنة سيئة، والبيان للفعل الذي هو رسمه ليحتذى، فهو يقصد أن يتبع فيه.
# فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول
~~من سن القتل". وهو لم يقصد أن يقتل كل قاتل.
# قيل: هو - صلى الله عليه وسلم - لم يقل هنا إن عليه مثل ألم كل قاتل، بل
~~قال: "عليه كفل من دمها"، لأن ذلك من أثر فعله، كما كتب ابتداء بهذا الفعل،
~~وقد قال تعالى في حق أئمة الكفر: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا
~~سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم PageV04P268
# من شيء إنهم لكاذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن
~~يوم القيامة عما كانوا يفترون (13)) (1) ، وقال: (ليحملوا أوزارهم كاملة
~~يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) (2) . فما تولد عن فعل
~~العبد يحصل له منه ثواب وعقاب وإن لم يقصده، ولكن حصول مثل أجر العامل فرع
~~أخص من ذلك.
# الجواب الثاني، وهو من الوجه الثاني بأن يقال: إذا كان النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - يحصل له مثل أجر العامل، فأهدى له العامل عملا، فلابد أن يثاب
~~العامل على إهدائه، فيكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل إهداء الثواب
~~أيضا، فإهداء هذا الثواب إن جوز لزم التسلسل، وإن لم يجوز فما الفرق بين
~~عمل وعمل؟ بخلاف الولد إذا بر والده بدعاء أو صدقة عنه أو نحو ذلك، فإن
~~الله يثيب الولد على ذلك، ولا يلزم أن يحصل للوالد مثل أجر الابن وإحسانه
~~إلى أبيه، لأن الأب لم يدعه إلى هذا الإحسان. ولا يلزم من صلى منا أو سلم
~~عليه بأن الله يصلي على المصلي عشرا، ويسلم على المسلم عشرا، ويحصل للرسول
~~مثل ذلك لدعائه إلى هذا الهدى، ولا يفضي إلى هذا التسلسل، فإن هذا الأجر
~~ليس من عمل المصلي، بخلاف ما إذا أهدى الثواب، فإن إهداء الثواب عمل فيلزم
~~أن يحصل له مثله، فإن جوزنا أن يهدى ms0728 ثواب الإهداء لزم التسلسل. فنحن بين
~~أمرين: إما أن نقول: يهدى إليه عمل، فيلزم أن يهدى إليه ثواب الإهداء،
~~PageV04P269
# وهلم جرا، [وهذا] يلزم التسلسل. أو نقول: لا يهدى إليه، بل ما حصل له من
~~الأجر المساوي لأجر العامل هو غاية المقصود، وعلى هذا لا يحصل التسلسل.
~~وعلى هذا فيقال: لا يهدى إلى من له مثل ثواب العامل كالنبي - صلى الله عليه
~~وسلم - وكالمعلم للخير من الشيوخ ونحو ذلك، وهذا موافق لطريقة السلف في
~~كونهم لم يكونوا يهدون لمثل هؤلاء لا ثواب العبادات البدنية ولا المالية.
# وأما تضحية علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن صح ذلك فإنه كان
~~بإذنه، كما لو وصى بصدقة وغيرها فإنها تنفذ باتفاق المسلمين، فإن الوصي
~~بمنزلة الوكيل في ذلك، والموصي هو العامل لذلك في الحقيقة، كالمستنيب في
~~إيتاء الزكاة وفي ذبح الأضحية وغير ذلك، فليس هذا من هذا، وإنما كانوا
~~يدعون لهم.
# ولكن يقال: هب أن هذا مستقيم فيما يعمله الإنسان لنفسه من الفرائض
~~والنوافل، فإذا أنشأ عملا آخر ليجعل ثوابه لهم فما المانع من ذلك من
~~العبادات البدنية والمالية؟ وهلا كان السلف يتصدقون ويحجون ويعتمرون
~~ويذبحون عن أئمتهم الذين علموهم الدين؟
# وسيد هؤلاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الصدقة عن الموتى
~~ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين.
# فيقال: الجواب عن هذا هو الجواب عن الأول، وذلك أنهم إذا أهدوا لهم ثواب
~~عمل وجب أن يكون لهؤلاء أجر على هذا الإهداء، وأن يكون لمن دعاهم إلى هذا
~~الخير وعلمهم إياه مثل أجرهم كلى ذلك، وهذا الداعي إلى الخير عنى أن يهدى
~~إليه ثواب
# PageV04P270
# العمل، فلم يبق في الإهداء فائدة، بل فيه إخراج العامل الثواب عن نفسه من
~~غير فائدة تحصل لغيره، إذ العامل يثيبه الله على عمله، ويعطي من دعاه إليه
~~مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا، فإذا أهداه وبذل ثوابه لغيره فإن لم
~~يثب على هذا الإهداء بمثل ثواب العمل كان ذلك ضررا في حقه، من غير منفعة
~~حصلت ms0729 للمهدى إليه، لأن هذا العامل فاته ثواب العمل أو كمال الثواب، وذلك
~~المهدى إليه كان قد حصل له مثل هذا الثواب، فلم يحتج إليه. ولو قدرنا أنه
~~يحصل له ثوابه مرتين فلا ثواب يبقى لهذا، فالله تعالى لا يأمر بمثل هذا ولا
~~يشرعه، ولا يأمر أحدا أن ينفع غيره في الآخرة بغير منفعة تحصل له لا في
~~الدنيا ولا في الآخرة، بل الله تعالى إنما يأمر بالإحسان لأنه يجزي
~~المحسنين على إحسانهم، والجزاء من جنس العمل، كما قال - صلى الله عليه وسلم
~~- في الحديث الصحيح (1) : "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه
~~كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا
~~والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد
~~ما كان العبد في عون أخيه"، وقال (2) : "من صلى علي مرة صلى الله عليه
~~عشرا"، وقال (3) : "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل الله
~~به ملكا، كلما دعا لأخيه بدعوة قال PageV04P271
# الملك الموكل: آمين، ولك بمثل". والأحاديث في ذلك كثيرة.
# وإن قيل: إنه يثاب على هذا الإهداء مثل ثواب العمل لزم أن يكون لمعلمه
~~مثل ذلك ولزم التسلسل، فصار الأمر دائرا بين ضرر العامل -والله لا يأمر به-
~~وبين التسلسل في الجزاء على العمل الواحد، وهو ممتنع، فلهذا لم يشرع مثل
~~ذلك.
# فإن قيل: فهذا ينقض بدعائه لمن دعاه وعلمه ونحو ذلك.
# قيل: هذا ونحوه من باب المكافأة، كما في الحديث (1) : "من أسدى إليكم
~~معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه". وقد
~~قال تعالى: (هل جزاء الأحسان إلا الأحسان (60)) (2) . وهم إذا كافأوا
~~المحسن بالدعاء انتفع بدعائهم له، وحصل لهم ثواب المكافأة، فحصل له مثل
~~ثوابهم على المكافأة التي دعاهم إليها فلم يتضرر، وإن لم يتسلسل الأمر بل
~~يكون فعلهم المكافأة له لفعله المكافأة لغيره وسائر ما يعملونه من العدل
~~والإحسان الذي دعاهم إليه.
# ولهذا جاءت الشريعة في حق نبينا ms0730 - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه
~~والتسليم وسؤال الوسيلة له - صلى الله عليه وسلم - تسليما، فنحن إذا صلينا
~~عليه أثبنا على صلاتنا عليه، وله مثل ذلك الأجر لكونه هدانا إلى ذلك، وذلك
~~من PageV04P272
# المنفعة التي حصلت له بالدعاء. وبهذا تزول شبه تعرض في هذا الموضع، فإن
~~قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا" يوهم
~~أنه يحصل للمصلي أكثر ما يحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثلها، من جهة
~~كونه دعاه إلى هذا الخير لا من جهة صلاة العبد، ويحصل بصلاة العبد أيضا ما
~~جعله الله لذلك.
# فقد ظهر الفرق بين هذا وبين إهدائه لوالديه ونحوهم، كما أمر النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - سعد بن عبادة بالصدقة عن أمه ولم يكن واجبا عليها، إذا
~~ثبت بالسنة أنه يفعل عن الوالد الواجب وغير الواجب، فقد ظهر الفرق من
~~وجهين:
# أحدهما: أنه لم يثبت أن كل عمل يعمله الولد يكون لأمه أو لأبيه مثل أجره،
~~وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من
~~ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (1) . وفي الحديث
~~الآخر: "إن الرجل إذا قرأ القرآن فإنه يكسى والداه من حلل الجنة" (2) ،
~~ويقال: بأخذ ولدكما القرآن"، ونحو ذلك مما فيه أن الوالد يحصل له نفع وثواب
~~بعمل ولده، لكن لا يجب أن يكون مثله، ولو كان لكل والد من عمل أولاده لكان
~~لآدم PageV04P273
# من أعمال الأنبياء من ذريته، وكذلك نوح وغيره، وليس كذلك، بخلاف الداعي
~~إلى الخير كنبينا - صلى الله عليه وسلم -، فإن له مثل أعمال أمته التي
~~دعاهم إليها، فأجر المعلم الداعي للخير مثل أجر المدعو العامل، بخلاف
~~الوالد والولد، ولهذا حق النبي وخلفائه في دعوته على المدعوين والمعلمين
~~أعظم من حقوق الآباء، كما قال تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم
~~وأزواجه أمهاتهم) (1) ، وفي القراءة الأخرى: "وهو أب لهم" (2) .
# وقد تكلم الناس في هذا المقام بكلام كثير، قالوا: هذا هو الأب الروحاني،
~~وهذا ms0731 هو الأب الجثماني، وهذا هو سبب للسعادة الأبدية من الدار الآخرة، وهذا
~~سبب لوجوده في الدنيا. وبالجملة فالداعي إلى الخير قصد أن يعمل المدعو ذلك
~~الخير، وسعى في ذلك بحسب وسعه، فهو قد قصد العمل الصالح الذي فعله المدعو،
~~أو قصد نفع المدعو، وأما الوالد فقد يقصد هذا وقد لا يقصده، ولو قصده
~~بالدعوة إلى حصول المدعو أقرب من نفس وجود الولد إلى حصول سعادته، فإنها هي
~~السبب القريب ووجود السبب البعيد، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه إن يطع معلمه
~~الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بما أمره الله به ورسوله، ولا يجوز له أن يطيع
~~أباه في مخالفة هذا الداعي، بل طاعة هذا الداعي طاعة لله ورسوله، وطاعة
~~الوالد لمخالفة هذا الداعي طاعة PageV04P274
# للشيطان، قال تعالى: (ووصينا الأنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن
~~وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير، وإن جاهداك على أن تشرك
~~بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من
~~أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) (1) ، فوصاه سبحانه
~~بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جاهداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما
~~لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمر مع ذلك فصاحبهما في الدنيا معروفا،
~~وأمره باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيل أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين
~~المتقين، أهل طاعة الله ورسوله. فالداعي إلى هذا السبيل هو أمر بما أمره
~~الله به، فيجب عليه طاعته، فإذا أطاعه كان للداعي بمثل أجره. أما الوالد
~~فيصاحبه في الدنيا معروفا ويحسن إليه، وإن من يجب عليك طاعته إلي من تؤمر
~~بمعاشرته بالمعروف والإحسان إليه وتنهى عن طاعته إذا خالف الأول، فهذا
~~المعلم فأجره أعظم وطاعته أوجب. وأما الوالد فلا يستحق مثل أجر الولد إذا
~~لم يدعه إلى ما عمله، فيكون في الإهداء إليه تحصيل أجر لم يحصل له مثله.
# وظهر الفرق الثاني، وهو أنه إذا لم يستحق مثل أجره أمكن أن يهدي إليه
~~الثواب، ويثاب الولد على ms0732 برهما بذلك، فيكون له مثل أجر بره لهما، فلا يفضي
~~ذلك إلى التسلسل في ثواب العمل الواحد، ولا إلى تضرر الولد، فلهذا كان
~~مشروعا مسنونا، ولو قدر أن المعلم كان والدا، وعلم ولده الخير كله، كان له
~~مثل أجر عمل PageV04P275
# الولد من حيث هو معلم، وله أجر بعمله الصالح، وإن لم يكن مثل أجر الوالد،
~~والولد إذا تصدق عن هذا من حيث هو والده كان هذا أيضا مشروعا لما تقدم.
# وتبين بهذا الجواب عن الوجه الثاني، وهو قوله "يمكن حصول الثواب للنبي -
~~صلى الله عليه وسلم - مرتين" بوجهين أيضا، أحدهما: أن ذلك يفضي إلى
~~التسلسل، إذا كان للعامل بإهدائه مثل أجره وإن لم يكن له أجر، فقد تبين بما
~~ذكرناه ما يعلم به جواب السؤال.
# وقول القائل "حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب من حق الوالد" كلام
~~صحيح، إذ حقه بوجوب طاعته، فله بمثل أجرها بخلاف الوالد كما تقدم.
# وأما أزواجه أمهات المؤمنين فلهن من الاحترام ما ليس لأم الوالدة، ويحرم
~~نكاحهن كما يحرم نكاح أم الولادة، لكن أم الولادة ذات محرم يجوز الخلوة بها
~~والنظر إليها والسفر معها، كما يجوز لسائر ذوات المحارم. وأما أمهات
~~المؤمنين فلا يجوز ذلك في حقهن إذ هن أمهات في الحرمة لا في المحرمية.
# وأما قول القائل: "هلا فعل ذلك أبو بكر وعمر" فكلام صحيح، وأما قول الآخر
~~"وما يدريك قد فعله علي حين ضحى عنه" فليس بجواب صحيح، فإنا نعلم أنه لم
~~يكن يفعل ذلك لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وتضحية علي إن صح
~~الحديث فيها فإنما فعله بإذنه كما تقدم، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه من باب
~~النيابة عن الوصي، وقد تقدم أن نفس حديث التضحية ما
# PageV04P276
# يدل على أنه لا يفعل هذا وأمثاله بغير إذنه، فإن في الحديث أن حنش
~~الصنعاني قال: رأيت عليا يضحي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله
~~- صلى الله عليه وسلم - وصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه ms0733. فسؤال حنش لعلي
~~دليل على أنه لم يكن من المعروف عندهم أن تفعل العبادات البدنية أو المالية
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجواب علي له بقوله "إن رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - وصاني أن أضحي عنه" دليل على أنه إنما فعل ذلك لأجل
~~الوصية، وأنه لو لم يوصه لم يفعل ذلك. ولو كان هذا ونحوه مما يفعل بوصية
~~وبغير وصية لكان علي يجيب بهذا الجواب أيضا، فإنه يكون أعم فائدة وأقطع
~~لسؤال السائل، لأنه هو الذي نقل أنه وصاه، وأما كون ذلك يفعل عنه فدليل هذا
~~يشترك فيه علي غيره، ثم كان ينتفع بذلك في جميع العبادات أو في العبادات
~~المالية.
# وأما قول القائل: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا الناس إلى
~~الهدى والخير كله، وله أجر كل من اتبعه" فكلام صحيح كما تقدم، لكن قد تقدم
~~فساد هذا القياس وبطلان هذا، وتبين أن كونه سبحانه وتعالى مالكا لكل شيء
~~وربه وخالقه لا يستلزم وجود الإيمان والعمل الصالح من العبد إلا بأمره بذلك
~~وبهديه إليه، فإنه سبحانه رب المؤمن والكافر والبر والفاجر، وله الدنيا
~~والآخرة، وهذه الربوبية العامة الشاملة لكل شيء يشترك فيها أولياؤه
~~وأعداؤه، وأهل جنته وناره، وإنما يفترقون في توحيد إلهيته، وهي عبادته وحده
~~لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله، فمن قام بهذا التوحيد والطاعة كان مؤمنا
~~سعيدا، ومن لم يقم بها كان كافرا شقيا، وأنه
# PageV04P277
# رب هذا وهذا: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم
~~جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها
~~وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19) كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك
~~وما كان عطاء ربك محظورا (20)) (1) .
# وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبينا ما وقع من
~~غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين
~~الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقر
~~بها اليهود والنصارى بل المشركون عباد الأصنام، كما ms0734 قال تعالى (ولئن سألتهم
~~من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) (2) ، وقال تعالى: (قل لمن الأرض ومن
~~فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب
~~السماوات السبع ورب العرش العظيم (85) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل
~~من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون (88) سيقولون
~~لله قل فأنى تسحرون (89)) (3) .
# وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم
~~وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم
~~من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفساق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر
~~لمشاهدته الحقيقة الكونية، PageV04P278
# ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي
~~الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة
~~الوجود، فيكون في أول أمره يقول (1) :
# الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف
# إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف
# وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق،
~~والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص،
~~وأمثال ذلك مما قد عرف من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم
~~يقله اليهود ولا النصارى ولا عباد الأصنام، ويدعون أن هذا تحقيق وعرفان
~~وتوحيد.
# وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان
~~قد قدره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوون بين الخالق والمخلوق،
~~ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ولهذا يفرق
~~بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين
~~العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي
~~الديني، فالأول كقوله تعالى: (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن
~~عبدا (93) PageV04P279
# لقد أحصاهم وعدهم عدا (94)) (1) ، والثاني كقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم
~~سلطان) (2) ، وقوله: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) (3) ،
~~وقوله: (عينا يشرب بها عباد ms0735 الله يفجرونها تفجيرا (6)) (4) ، وقوله: (سبحان
~~الذي أسرى بعبده ليلا) (5) ، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) (6) ، (وإن
~~كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) (7) ، (فأوحى إلى عبده ما أوحى (10)) (8)
~~.
# وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية
~~والدينية، كقوله (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (9) ، وقوله:
~~(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا
~~حرجا) (10) ، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث
~~الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب
~~والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية PageV04P280
# القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه،
~~والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية.
# فإذا عرف هذا فتقرب العباد بفعل ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك مما
~~يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به
~~الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل
~~إنما يحصل من جهة أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب،
~~ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم.
# والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك
~~لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر
~~العباد بما أمرهم به حاجة إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، وإنما
~~أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر
~~عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي (1) يقول الله:
~~"يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". وفيه:
~~"يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا
~~فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
# وقد قال سبحانه وتعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (2) ،
~~PageV04P281
# وقال: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (1) ، قال لقمان: (ومن
~~يشكر فإنما يشكر لنفسه) (2) ، وقال ms0736: (ولله على الناس حج البيت من استطاع
~~إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)) (3) .
# فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما
~~هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم
~~بالصدقة، وأخبر أن ذلك نصر له، وإقراض منه، فقال تعالى: (إن تنصروا الله
~~ينصركم) (4) ، وقال تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) (5) ، وهم
~~إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن
~~بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى (ولو يشاء الله
~~لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض) (6) .
# وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه
~~إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا
~~شريك له وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك ويبشره بحكم ربوبيته، فله
~~الحمد في الأولى PageV04P282
# والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو
~~المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا
~~التوحيد أسرار علوية مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات
~~والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع.
# فمن سوى بين ... (1) كان من جنس الذين قال فيهم (لقد سمع الله قول الذين
~~قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق)
~~(2) ، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق
~~لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته
~~وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن
~~تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا
~~هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد،
~~ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى
~~الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر
~~حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود ms0737 الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل
~~لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في
~~الابتلاء كان الابتلاء رحمة في PageV04P283
# حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديث الذي في صحيح مسلم (1) عن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله
~~للمؤمن بقضاء إلا كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء
~~فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له". فالمؤمن الذي من
~~الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرا له، بخلاف من لم يشكر ولم
~~يصبر.
# الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على
~~طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته
~~وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده
~~فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد
~~بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه
~~معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين
~~هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم
~~مصلحتها في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن
~~إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء هم
~~أهل النعمة المطلقة المذكورين في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط
~~الذين أنعمت عليهم (7)) (2) ، كما قال تعالى (ومن يطع الله والرسول فأولئك
~~مع الذين PageV04P284
# أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (1) .
# الوجه الثالث: أن الله سبحانه من عليهم بالثواب على العمل وينعم عليهم
~~بذلك، والعبد إذا عمل لسيده لم ينتظر ثوابا غير ما يستحقه من النفقة عليه.
# فهذا القائل الذي قال: "الكون كله له، ونحن نتقرب إليه منه بشق تمرة"،
~~وقاس على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون له مثل أجرنا ويهدي
~~إليه من ذلك ما يهديه، غالط غلطا ms0738 عظيما. بل حقيقة هذا القول يؤدي إلى الكفر
~~العظيم. وإن كان هذا الذي قاله لم يفطن لما يؤدي إليه، حيث جعل حصول الثواب
~~المهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الصدقة التي يتقبلها الله،
~~فجعل وصول ثواب الأعمال إلى المخلوق بمنزلة ما يتقرب به إلى الخالق من صدقة
~~وغيرها، وأين هذا من هذا
### | ؟ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه،
# والحاجة والفقر للمخلوق وصف لازم، لا يفارقه لا في الدنيا ولا في الآخرة،
~~بل العبد محتاج إلى الله من جهة ألوهيته ومن جهة ربوبيته، فهو محتاج إلى أن
~~يعبد الله لا يعبد غيره، ومحتاج إلى أن يستعين بالله لا يستعين بغيره، كما
~~قال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) (2) ، فإن لم يعبده بل عبد غيره
~~أو أعرض عن العبادة خسر الدنيا والآخرة، وإذا وجبه سبحانه على عبادته لكان
~~مخذولا لا يقدر لعبده، فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن،
~~PageV04P285
# ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجأ إلا إليه.
# ولهذا قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جعل سرها في الكتب
~~الأربعة، وجعل سر الأربعة في القرآن، وسر القرآن في المغصل، وسر المفصل في
~~الفاتحة، وسر الفاتحة في (إياك نعبد وإياك نستعين) . وهذه هي التي نصفها
~~للرب ونصفها للعبد، فإن العبادة حق لله، كما قال في الصحيحين (1) : إنه -
~~صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ "، قلت:
~~الله ورسوله أعلم، قال: "أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد
~~على الله إذا فعلوا ذلك؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا
~~يعذبهم".
# والكلام في استحقاقه العبادة لها أسرار ليس هذا موضع بسطه، وإذا كان
~~العباد كلهم فقراء إلى الله، والله يرحمهم بما يشاء من الأسباب، ومن ذلك
~~دعاء بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم إلى بعض، وإن كان هو سبحانه يثيب الداعي
~~والمحسن، والدعاء يكون من الأعلى للأدنى، ومن الأدنى للأعلى، وليس في هذا
~~غضاضة بالأعلى ms0739، فإن الله هو الذي أمر الأدنى بالدعاء كما أمرنا بالصلاة
~~والسلام على خير الخلق، وهو الذي يثيبنا على ذلك بالحسنة عشرا للأمة على
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل لله عليه أكمل المنة والنعم، ونعمة الله
~~عليه أعظم نعمة أنعم بها على مخلوق - صلى الله عليه وسلم -، وما من به
~~علينا من الثواب على الصلاة عليه وسائر أعمالنا فقد من عليه بمثله، لدعائه
~~PageV04P286
# لنا إلى ذلك، مضافا إلى ما من به عليه من أجر عمله.
# والخالق سبحانه إذا تقربنا إليه بأن نتصدق على العباد بشق تمرة فذاك
~~إحسان منا إلى أنفسنا، وهو الذي أعاننا على ذلك، وإذا كان هو يحب ذلك
~~ويرضاه بل يفرح بتوبة التائبين كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، فحبه
~~ورضاه وفرحه لمخلوق عليه منه منة، فإنه الذي خلق ذلك كله، بل له النعمة على
~~المخلوق الذي أنعم عليه بذلك. كان - صلى الله عليه وسلم - يقول عقيب الصلاة
~~(1) : "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل
~~شيء قدير، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله
~~الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون".
# ف
### | على العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام،
# قال تعالى: (فادعوا الله مخلصين له الدين) (2) ، (الحمد لله رب العالمين
~~(2)) (3) فالخالق سبحانه ليس محتاجا إلى المخلوق بوجه من الوجوه، بل هو
~~الغني عنه، وما أحبه ورضيه وفرح به من أعمال العباد فهو الذي خلقه سواء كان
~~صدقة أو غير صدقة، والمخلوق سواء كان نبيا أو غير نبي هو محتاج إلى
~~الخيرات، والله هو الذي يعينه بأسباب ييسرها، وإذا ساق إليه خيرا على يدي
~~العباد أثاب العباد على ذلك، فما يسوقه على يدي العباد من النفع بصلاتهم
~~عليه وسلامهم PageV04P287
# عليه ومسألتهم له الوسيلة ونحو ذلك هو خالقه، وهو مجازي العباد، والله
~~غني عن كل ما سواه، وهو الخالق لكل ما يحبه ويرضاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ ف
### | من شبه الله ms0740 بخلقه فقد كفر.
# ومثل ذلك مثل المشركين والنصارى ومن ضاهاهم من ضلال هذه الأمة الذين
~~يجعلون التقرب إلى الله بمنزلة التقرب إلى الملوك، ويقولون إذا كان المتقرب
~~إلى الملوك يحتاج إلى وسائل ووسائط وشفعاء من خواص الملك، فكذلك المتقرب
~~إلى الله، على هذا بنت الصابئة والنصارى وغيرهم دينهم الفاسد، وهذا أصل
~~عظيم، فإن العباد إنما يحتاجون إلى الوسائط في تبليغ أمر الله ونهيه وخبره،
~~وهو سبحانه قد أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله
~~حجة بعد الرسل. وأما وجود الأعمال منهم والثواب على الأعمال فالله خالق
~~ذلك، لا يحتاج فيه إلى رسول، لكنه قد خلقه بأسباب وهو يخلق الأسباب، فالرسل
~~ليسوا أسبابا في خلق ذلك، وإنما هم أسباب في تبليغ الرسالة.
# ولهذا قيل لأفضل الرسل: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
~~وهو أعلم بالمهتدين (56)) (1) ، وقال: (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي
~~من يضل) (2) ، وقال تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب
~~ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي) (3) ، PageV04P288
# (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب
~~لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) (1) ، وأنواع ذلك مما يحقق فيه أنه عبد
~~الله، مطيع لربه، مبلغ لرسالته، وأن الله هو الذي يخلق ويرزق ويعطي ويمنع
~~ويهدي ويضل. كما كان يقول في دبر الصلوات: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا
~~معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (2) . وكان ما فعله رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - هو أكمل المقامات، وأعلى الدرجات، وهو بذلك سيد ولد
~~آدم، وخير الخلق، وأكرمهم على الله، إذ ليس بين الخالق والمخلوق إلا نسبة
~~العبودية، فمن كانت عبوديته لله أكمل كان عند الله أفضل، (لن يستنكف المسيح
~~أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر
~~فسيحشرهم إليه جميعا (172)) (3) ، (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا
~~يملكون مثقال ذرة في ms0741 السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له
~~منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (4) .
# فبين أن المخلوق ليس له ملك، ولا شريك في الملك ولا ظهير يعين الملك، بل
~~غايته الشفاعة عند الله، ولكن الشفاعة لا PageV04P289
# تنفع إلا لمن أذن له، (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) ، (وكم من ملك في
~~السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) ،
~~(وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول
~~وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن
~~ارتضى (28)) (1) .
# ولهذا كان سيد الشفعاء - صلى الله عليه وسلم - إذا جاء الخلائق يوم
~~القيامة يطلبون الشفاعة من آدم فيعتذر، ثم يطلبونها من نوح، ومن إبراهيم،
~~ثم موسى، ثم من عيسى، فيقول: اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم
~~من ذنبه وما تأخر، قال: فأذهب إلى ربي، فإذا رأيت ربي خررت ساجدا، فأحمد
~~ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، قل
~~تسمع، وسل تعطه، فأشفع" (2) . فبين - صلى الله عليه وسلم - أنه. إذا أتى
~~ربه لا يشفع حتى يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله، والثناء عليه، فيأذن له ربه
~~في الشفاعة.
# وهذا باب واسع. فإنهم شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق،
~~فجعلوا إهداء الهدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة الهدية إلى
~~الله، وكأنهم يتقربون إلى النبي كما يتقربون إلى الله، فجعلوا المخلوق كأنه
~~الرب الغني عنهم المجازي لهم على أعمالهم، PageV04P290
# وجعلوا الرب محتاجا إلى عباداتهم، مفتقرا إلى صدقاتهم، وإنهم يبغون ضره
~~ونفعه، وهذا دين المشركين والنصارى، بل المؤمن يعلم أن كل ما يعمله من
~~الخير مع أنبياء الله وأوليائه فإنما يطلب أجره من الله لا منهم، والمؤمنون
~~الذين أولهم أبو بكر الصديق إنما يطلب أجر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم
~~وصدقاتهم من الله لا من - مخلوق، ولله يعملون لا لمخلوق، وقد قال النبي -
~~صلى الله عليه ms0742 وسلم - في الحديث المتفق عليه (1) : "إن أمن الناس علي في
~~صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر
~~خليلا".
# قال تعالى: (وسيجنبها الأتقى (17) الذي يؤتي ماله يتزكى (18) وما لأحد
~~عنده من نعمة تجزى (19) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى (20)) (2) .
# وهذه الآية نزلت في الصديق (3) ، وإن كانت متناولة لغيره، فإنه قد يراد
~~بها قطعا، وهي مما استدل به أهل السنة على أنه الأتقى، فيكون أكرم الخلق من
~~هذه الأمة، كقوله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (4) ، قالوا: ولا يجوز أن
~~تكون نزلت في على دونه، لأن عليا عليه السلام كان فقيرا في كفالة النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -، كفله لما وقعت بمكة المجاعة، فبعث الله نبيه وعلي
~~عنده صغير في كفالته، فآمن به كما آمنت به خديجة، ولم يكن له مال ينفقه
~~عليه. PageV04P291
# وأما أبو بكر فكان رجلا بالغا موسرا، فأعانه بنفسه وبماله، كما قال - صلى
~~الله عليه وسلم -: "إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر" (1) ،
~~وإن كانت نفقة أبي بكر في سبيل الله، لم تكن في مؤنة النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مستغنيا في نفقة نفسه عن أبي
~~بكر وغيره، ولكن أعانه بالنفقة في سبيل الله، حيث اشترى سبعة يعذبون في
~~الله منهم بلال وغيره، وفعل غير ذلك.
# والمقصود هنا أن الأعمال لا تعمل إلا لله، ولا يطلب أجرها إلا من الله،
~~وإن وصل بها نفع عظيم إلى الأنبياء وغيرهم، فالله هو المعبود، والرسل دعوا
~~إلى عبادة الله وطاعتهم، وبينوا أن الجزاء على الله لا عليهم، قال تعالى:
~~(فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40)) (2) ، وقال تعالى: (وإما نرينك بعض
~~الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46)) (3)
~~، وقال: (فذكر إنما أنت مذكر (21) لست عليهم بمصيطر (22)) إلى قوله (إن
~~إلينا إيابهم (25) ثم إن علينا حسابهم (26)) (4) . وقال - صلى الله عليه
~~وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا ms0743
~~رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا دماءهم
~~وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" (5) . PageV04P292
# وكثير من أهل الجهل والضلال يطلبون جزاء أعمالهم من أولياء الله أو
~~أنبيائه، كأنهم يعبدونهم أو كأنهم عملوا لأجلهم، وإنما هم لهم دعاة وهداة
~~ومرشدون ومعلمون، ومعينون لهم على الخير بحسب ما يمكنهم من دعاء وغير دعاء،
~~يطلبون أجرهم من الله لا ممن دعوه وأعانوه، ولهذا كان كل من الرسل يقول:
~~(وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين (109)) (1) وقال:)
~~(قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57)) (2) ،
~~وهذا الاستثناء منقطع، وكذلك الاستثناء في قوله: (قل لا أسألكم عليه أجرا
~~إلا المودة في القربى) (3) .
# كما قد فسر ذلك ابن عباس، وحديثه في الصحيحين (4) .
# وكذلك من عمل صالحا ينتفعون به من ذكر وأنثى فإنما يطلب أجره من الله،
~~فنحن كل خير نفعله هو ببركة دعوة الرسول لنا إلى الخير، وأجرنا في ذلك على
~~الله لا على غيره، وله مثل أجورنا من الله لا منا، ولهذا أمرنا عند زيارة
~~القبور أن نسلم عليهم وندعو لهم كما نصلي على جنائزهم، ويكون أجرنا في ذلك
~~على الله، لا من صلينا على جنازته ولا على من زرنا قبره، ويكون رغبتنا إلى
~~الله، كما قال تعالى: (فإذا فرغت فانصب (7) وإلى ربك فارغب (8)) (5) .
~~PageV04P293
# ولكن كثير من أهل الضلال صار يشبه النصارى، فينزل المخلوق بعد موته
~~بمنزلة الخالق، يطلب منه ما يطلب من الخالق، ويتقرب إليه بالهدية وغيرها،
~~يطلب الثواب منه كما يطلب من الخالق، وهذا إنما يفعل بالأنبياء والأولياء
~~بعد موتهم، لأنهم في حياتهم لا يمكنون أحدا من الإشراك بهم، كما قال
~~المسيح: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم
~~شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
~~(117)) (1) ، وقال تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم
~~والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون ms0744 الله ولكن كونوا ربانيين بما
~~كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة
~~والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) ، فمن اتخذ
~~الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر.
# ولهذا كان خاتم الرسل المبعوث بملة إبراهيم قد أقام الملة الحنيفية كما
~~نعت ذلك في الكتب المتقدمة، وثبت ذلك في الصحيح (3) : "إنا أرسلناك شاهدا
~~ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لست بفظ ولا
~~غليظ ولا صخاب بالأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة، ولكن تجزي بالسيئة
~~الحسنة والعفو، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عميا
~~وآذانا صفا وقلوبا غلفا، بأن يقولوا: لا إله إلا الله". PageV04P294
# وفي الصحيح (1) أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطروني كما أطرت
~~النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله".
# وفي الصحيح (2) أيضا: أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود
~~والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". يحذر ما فعلوا، قالت عائشة ولولا
~~ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا".
# وفي الصحيح (3) أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون
~~القبور [مساجد] ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". وفي
~~السنن (4) عنه أنه قال: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تتخذوا قبري عيدا،
~~وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم".
# وقد ثبت عنه في الصحيحين (5) أنه قال: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو
~~القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود
~~والنصارى؟ قال: "فمن؟ ".
# وقد شرحنا هذا الحديث وتكلمنا على جمل ما وقع في ذلك من مخالفة الصراط
~~المستقيم في غير هذا الموضع (6) . والمقصود PageV04P295
# هنا أن النصارى فيهم إشراك وغلو وابتداع، قال تعالى: (اتخذوا أحبارهم
~~ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها
~~واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (1) ، وقال تعالى: (ورهبانية
~~ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) (2) ، وقال تعالى: (يا
~~أهل الكتاب لا ms0745 تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح
~~عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله
~~ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد) (3) ، وقال:
~~(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا
~~من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)) (4) .
# فصار في كثير من الضلال في هذه الأمة إشراك وغلو وابتداع، كما أخبر به
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء الذين يعملون العبادات ويهدونها إلى
~~الأنبياء والأولياء بعد موتهم طالبين الأجر من أولئك الذين يهدونها إليهم،
~~كما يطلبون الأجر من الله فيما يتقربون به إليه من الصدقة وغيرها من
~~الأعمال، فيهم إشراك وابتداع وغلو، أما إشراكهم فقد ضاهوا المخلوق بالخالق،
~~وأما ابتداعهم فإن هذا العمل لم يسنه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~ولا خلفاؤه الراشدون. PageV04P296
# وقد ثبت عنه في الصحيحين (1) أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو
~~رد". وقال (2) : "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي،
~~تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة
~~ضلالة". والغلو حيث جعلوا في البشر شوبا من الربوبية والإلهية والغنى عن
~~صاحبه إلى زيادة النفع مضاهاة للنصرانية، وهم في تقربهم إلى غير الله
~~بالعبادات والأعمال يشبهون المتوكلين على غير الله المستعينين بغير الله.
# والله تعالى له حقوق لا يشركه فيها غيره، ولرسله حقوق لا يشركهم فيها
~~غيرهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق، كما قال تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا
~~ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة
~~وأصيلا (9)) (3) ، فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول،
~~والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، وقال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش
~~الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (52)) (4) ، فالطاعة لله والرسول، والخشية
~~والتقوى لله وحده، وقال تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا
~~حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)) (5) ،
~~فالإيتاء لله والرسول. كما قال تعالى: (وما آتاكم الرسول ms0746 فخذوه وما
~~PageV04P297
# نهاكم عنه فانتهوا) (1) ، فإن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما
~~نهى الله عنه، ويأذن فيما أذن الله. قال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع
~~الله) (2) ، وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (3) .
# وأما التوكل فعلى الله وحده، فلهذا قالوا: حسبنا الله، ولم يقولوا: حسبنا
~~الله ورسوله، كما قالوا: سيؤتينا الله من فضله ورسوله، فإن الحسيب هو
~~الكافي، والله وحده كافي عباده، كما قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده) (4)
~~، وقال تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64)) (5) ،
~~أي الله كافيك وكافي المؤمنين المتقين، [هذا] الذي اتفق عليه السلف. ومن ظن
~~أنه معناه "أن الله والمؤمنين يكفونك" فقد غلط غلطا عظيما من وجوه كثيرة في
~~اللغة والتفسير والمعنى، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وهذه القواعد كلها
~~مبسوطة في غير هذا الموضع، والمقصود هنا أن الإشراك أن يجعل لله ند فيما
~~يختص به من العبادة أو التوكل، ومن البدعة أن يعبد الله بعبادة لم يدل
~~عليها دليل شرعي. ومن الغلو أن يرفع المخلوق إلى درجة الخالق. PageV04P298
# وأصل الإسلام مبني على أصلين: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا
~~نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بالبدع. كما قال الفضيل ابن عياض في قوله:
~~(ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (1) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي! ما
~~أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا
~~كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون
~~لله، والصواب أن يكون على السنة، فهذه العبادات التي فيها شرك وغلو ولم
~~تثبت بدليل شرعي، لا هي خالصة لله ولا هي على موافقة السنة، فهي منهي عنها
~~من هذين الوجهين.
# وهؤلاء الذين ابتدعوا إهداء العبادات إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~يجتمع فيهم هذا وهذا، وإن تخلصوا من الإشراك والغلو لم يتخلصوا عن
~~الابتداع، فإن هذا عمل مبتدع لم يقم على استحبابه دليل شرعي.
# وقد ms0747 بينا فساد ما احتج به من سوغه، وإنا لم نعلم أحدا من القرون الثلاثة
~~المفضلة فعل مثل هذا. والمجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد
~~فأخطأ فله أجر، لكن إذا تبين الحق وجب اتباعه. والله أعلم. PageV04P299
# مسألة
# فيمن قال: إن إبليس أودع ولده لآدم عليه السلام، وأن آدم طرده مرتين،
~~وبعد الثالثة ذبحه وسلقه، وأكله، فلهذا يجري الشيطان في ابن آدم مجرى الدم.
~~وهل عرض على إبليس أن يسجد عند قبر آدم أو يعرض عليه في القيامة؟ وفي قوله
~~تعالى (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (40))
~~(1) هل هذا القول عن الكافر خاصة -وهو إبليس- أو عن الكفار؟
# الجواب
# أما الحديث المذكور عن آدم عليه السلام فمن أقبح الكذب والبهتان، لا
~~يقوله أحد من العقلاء فضلا عن أهل العلم والإيمان.
# ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم والدين، وإنما يروي هذا أو يصدقه أجهل
~~العالمين.
# وأكل الشيطان إذا كان من الممكنات هو من أعظم المحرمات، فإن الله تعالى
~~قد حرم الخبائث من الحيوان -كالخنزير وغيره- على آدم وذريته، كما حرم علينا
~~مع ذلك كل ذي ناب من السباع، لأن PageV04P300
# هذه البهائم فيها البغي والعدوان الذي هو وصف الشيطان، فنهى الله تعالى
~~عن أكلها لئلا يصير في أخلاق المسلمين البغي والعدوان الذي هو بعض أوصاف
~~الشيطان. فكيف يأكل الشيطان الذي هو جامع لكل خبيث؟ ولو كان الشيطان مما
~~يؤكل فهل في كل الشيطان إلا شيطان؟ وبالجملة فمثل هذا الكلام يستحق من
~~يقوله أو من يصدقه العقوبة البليغة التي تردعه وأمثاله.
# وأما عرض السجود لقبر آدم عليه السلام على إبليس فهذا قد ذكره بعض الناس،
~~لكن ليس له إسناد يعتمد عليه. وأما عرض السجود له على إبليس في الآخرة فلم
~~يذكره أحد مما علمته.
# وكلاهما باطل وإن قاله من قاله؛ فإن الله تعالى قد أخبر عن إبليس بما
~~أخبر به من إنظاره وإغوائه الذرية، وقوله: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم
~~أجمعين (85)) (1) ، وأخبر أنه عدو لهم ms0748 بقوله: (أفتتخذونه وذريته أولياء من
~~دوني وهم لكم عدو) (2) ، (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان
~~إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)) (3) . وأخبر بما
~~يكون من الشيطان يوم القيامة حيث قال: (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله
~~وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم
~~فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني
~~PageV04P301
# كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) (1) . وهذا وأمثاله
~~مما يبين أن الشيطان حقت عليه كلمة العذاب، وقد ظهر ذلك للخلق، ولا يحتاج
~~إلى إعادة ذلك الأمر كما لا يحتاج إعادة الأمر.
# وأما قوله: (ويؤم يعض الظالم على يديه) (2) ، (ويقول الكافر يا ليتني كنت
~~ترابا (40)) (3) ، فالكافر اسم جنس، ليس كافرا بعييه، بل قد جاء في الحديث:
~~"إن البهائم يقتص بعضها من بعض، ثم يقال لها: كوني ترابا" (4) ، فأعيدت
~~البهائم إلى أصلها. وأما إبليس فهو مخلوق من مارج من نار، وذلك لا يناسب
~~عوده إلى التراب. PageV04P302
# مسألة
# في رجل قال لزوجته: على الطلاق ما تروحي لبيت أبوك (1) لسنة، فلحت عليه،
~~قال: علي الطلاق ما تروحي لبيت أبوك (1) لسنة، فلحت عليه، قال: علي الطلاق
~~ما تروحي لبيت أبوك (1) لسنة، فجاءت أم الزوجة، فقالت لها: قومي الدار،
~~فقالت: ما أقدر أروح، فغصبتها أمها وأخذتها، وراحت إلى دار أبيها من غير
~~رضي منها ولا إذن الزوج، فهل تقع الثلاث أو واحدة؟ وهل يكون تأثيرا (2)
~~لإكراهها في الخروج بغير رضاها؟ أفتونا مأجورين.
# الجواب
# الحمد لله. إذا أخرجتها مكرهة ولم تقدر أن تمتنع لم يحنث الحالف، ولو
~~قدرت أن تمتنع، واعتقدت أن الإخراج الذي أخرجته ليس محلوف (3) عليه، فلا
~~تكون مخالفة له به، لم يحنث الحالف أيضا. وأما إذا فعلت المحلوف عليه عالمة
~~فإنه يحنث. PageV04P303
# ثم إن كان نوى بتكرير اليمين توكيدها لم يقع به أكثر من طلقبة، وإن كانت
~~أيمانا ففيه قولان: هل يقع به ثلاث أو واحدة، والأظهر أنه لا ms0749 يقع به إلا
~~واحد، فإنه لو كرر اليمين بالله على فعل واحد لأجزأته كفارة واحدة في أصح
~~القولين. ولكن وقوع الثلاث هو المشهور عن أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما،
~~وفرقوا بين اليمين (1) بالله وبين الطلاق. والله أعلم. PageV04P304
# فصل
# ما ضمن بالعقد الصحيح ضمن بالعقد الفاسد، وما لم يضمن بالعقد الصحيح لم
~~يضمن بالعقد الفاسد. والضمانات ثلاثة ضمانات:
# ضمان العقد، كالنكاح والإجارة وما أشبههما.
# وضمان اليد، الغصب والخؤنة (1) وما أشبههما.
# وضمان الإتلاف. كل من أتلف لغيره بمباشرة أو سبب محرم وما أشبهها. والله
~~أعلم. PageV04P305
### | مسألة
# في رجل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نبيا وآدم بين
~~الماء والطين"، فقال له آخر: هذا ما هو صحيح.
# الجواب
# الحمد لله. ليس هذا الحديث بصحيح، وليس هو في شيء من كتب المسلمين
~~المعروفة، وإنما الحديث المعروف عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول الله!
~~متى كنت نبيا؟ وفي لفظ: متى كتبت نبيا؟ قال: "وآدم بين الروح والجسد" (1) .
~~وفي حديث العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إني
~~كنت مكتوبا عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول
~~ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها
~~نور أضاءت له قصور الشام" (2) . PageV04P306
# ففي هذه الأحاديث المعروفة عند علماء المسلمين أن الله كتب نبوته وأظهرها
~~بين خلق آدم وبين نفخ الروح فيه، كما ثبت في الصحيح (1) عن عبد الله بن
~~مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهو الصادف المصدوق-
~~أن خلق أحدكم يجمع في بطن أفه أربعين صباحا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون
~~مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه
~~وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. قال: فوالذي نفسي بيده إن
~~أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه
~~الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل
~~النار ms0750، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل
~~أهل الجنة، فيدخل الجنة.
# فبين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح أنه بعد أن يخلق الجسد
~~وقبل نفخ الروح يكتب رزق العبد وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
# وآدم هو أبو البشر، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم، فكتب الله
~~نبوته بعد خلق آدم وقبل نفخ الروح فيه. فأما قول القائل بين الماء والطين"
~~فهذا الكلام باطل، فإن الماء هو بعض الطين، إذ الطين ماء وتراب، ولم يكن
~~آدم قط بين الماء والطين، وإنما كان بين الروح والجسد، وكان - صلى الله
~~عليه وسلم - حينئذ مكتوبا عند الله خاتم النبيين.
# وأما تبين ذاته وصفاته وجعل الله له نبيا ورسولا فإنما كان حتى خلقه،
~~ونبأه الله على رأس أربعين سنة، فأول ما أنزل الله عليه PageV04P307
# (اقرأ باسم ربك) (1) ، فكان نبيا، ثم أنزل الله عليه (يا أيها المدثر
~~(1)) (2) .
# فكان رسولا. ومن زعم أنه كان يحفظ القرآن قبل أن ينزل عليه به جبريل فهو
~~ضال مفتر بإجماع المسلمين. وما يروى في هذا الباب من الأحاديث -مثل: أنه
~~كان كوكبا في السماء يرى قبل الخلق، أو نحو ذلك- فهي أحاديث مكذوبة باتفاق
~~علماء المسلمين. والله أعلم. PageV04P308
# مسألة
# في قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62))
~~(1) ، وقوله تعالى: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) الآية (2)
~~، فمن هو في هؤلاء أعلى درجة؟
# الجواب
# الحمد لله. أما قوله تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
~~يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63)) فهي تتناول
# جميع أولياء الله الفاضل والمفضول، وكل من ذكر في غير هذه الآية من
~~النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهو صنف ممن دخل فيها، وبعض هذه
~~الأصناف أعلى من بعض.
# ولا يقال: إن بعض هذه الأصناف أعلى ممن ذكر في الآية، لأن أولئك بعض هذه
~~الجملة، إلا أن يراد أن البعض الذي هو أعلى أصنافها أفضل أهلها. ولا يقال
~~أيضا: إن كل ms0751 من في هذه الآية أفضل ممن ذكر في غيرها، لكن يقال: إن مجموع
~~المذكورين فيها أفضل من بعضهم. PageV04P309
# وأما قوله تعالى: (يسبح له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم
~~تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) الآية، فهؤلاء ممن
~~دخل في تلك الآية، وهم من أولياء الله المتقين، وهم أفضل من غيرهم، وقد
~~يكون من له تجارة وبيع لا تلهيه أفضل ممن ليس كذلك، وقد يكون ذلك أفضل من
~~هذا بحسب الإيمان والتقوى، فلذلك قوله: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا
~~الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23)) (1)
~~هذا مدح لهذا الصنف. والصدق في الوفاء واجب على كل مؤمن، وهؤلاء أفضل من
~~غيرهم، وقد يكون بعض من لم يعاهد أفضل من بعض من عاهد، وقد يكون بالعكس.
# والله أعلم. PageV04P310
### | مسألة
# في غلام حلف بالطلاق الثلاث أنه لم يخدم عند إنسان، فأخذه غصبا، واستخدمه
~~بالضرب، فلما ضربه حلف يمينا ثانيا بالطلاق الثلاث أنه ما يخدم، فما الحكم؟
# الجواب
# إن أمكنه الامتناع عن الفعل وامتنع فلا حنث عليه، وإن أكره على فعل
~~المحلوف عليه فلا حنث عليه. والله أعلم.
# PageV04P311
# مسألة
# في رجل صلى صلاة الصبح إماما بسورة المدثر و"لا أقسم بيوم القيامة" في
~~الركعتين، وسبح في الركوع والسجود ما بين سبع تسبيحات إلى عشر، فقال بعض
~~الناس: هذه الصلاة ليست من الشرع ولا يصلى خلفه. فهل يجب على ولي الأمر
~~تعزير من يقول هذا القول واستتابته؟ وما على من ينكر هذه الصلاة؟ أفتونا
~~رحمكم الله أجمعين.
# الجواب
# الحمد لله. بل هذه الصلاة مشروعة باتفاق أئمة المسلمين، فإنهم متفقون على
~~أن السنة للإمام أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل، والمفصل من قاف. وقد كان
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر ما بين الستين آية إلى المئة
~~(1) ، وكان يقرأ فيها بقاف ونحوها من السور (2) ، وهي أطول مما ذكر، وقرأ
~~فيها أيضا بالصافات (3) ، PageV04P312
# و"ألم تنزيل" و"هل أتى" (1) ، وبسورة المؤمنين، لكن أدركته سعلة ms0752 في
~~أثنائها (2) ، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (3) .
# وكان عمر بن الخطاب يقرأ فيها بيونس ويوسف وهود، وكان عثمان يقرأ بطوال
~~المفصل، وقرأ أبو بكر الصديق مرة فيها بسورة البقرة، فقيل له: كادت الشمس
~~تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. ومثل هذا معروف عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وقد أمرنا باتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين
~~فقال: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة
~~الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم
~~ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (4) .
# وفي السنن (5) أن أنس بن مالك لما صلى خلف عمر بن عبد العزيز قال: ما
~~رأيت أشبه بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاة هذا الفتى، وكان
~~يسبح في الركوع والسجود من عشر تسبيحات.
# وفي الصحيحين (6) أن أنس بن مالك قال: لأصلين بكم صلاة رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم -، فكان إذا قام من الركوع يقوم حتى يقول القائل: قد نسي،
~~PageV04P313
# وإذا قعد من السجود يقعد حتى يقول القائل مثل هذا. مع أن الركوع والسجود
~~لا ينقص عن ذلك باتفاق المسلمين، بل يكون مثل ذلك أو أطول.
# وفي الصحيحين (1) عن البراء بن عازب قال: رمقت الصلاة خلف محمد - صلى
~~الله عليه وسلم -، فكان قيامه فركوعه فاعتداله في الركوع فسجوده فجلوسه بين
~~السجدتين فسجوده فجلوسه ما بين السلام والانصراف قريبا من السواء. وفي
~~رواية: ما خلا القيام والقعود.
# وفي الصحيحين (2) عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف
~~الناس صلاة في تمام. فهذا الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من
~~التخفيف الذي أمر به، كما قال: "إذا أم أحدكم الناس فليخفف، فإن من ورائه
~~السقيم والكبير وذا الحاجة" (3) . وقال لمعاذ: "أفتان أنت يا معاذ؟ " (4)
~~لما قرأ في العشاء الآخرة بسورة البقرة. فهذا التطويل الذي فعله معاذ ينهى
~~عنه الإمام.
# ومن أنكر ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنه ليس من الشرع،
~~فإنه ms0753 يعزر على ذلك تعزيرا يناسب حاله، زجرا له ولأمثاله. والله أعلم.
~~PageV04P314
# مسألة
# في رجل إمام مسجد: هل يجوز له أن يكبر أحد خلفه من المؤتمين؟ أو يواضب
~~(1) على السجدة في فجر كل جمعة؟ أو يدعي (2) هو والمؤتمين (3) عقب كل صلاة؟
~~أفتونا يرحمكم الله ويوفقكم للصواب.
# الجواب
# الحمد لله. لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي يسمى التبليغ لغير
~~حاجة باتفاق الأئمة، فإن بلالا لم يكن يبلغ خلف النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- هو ولا غيره، ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين، لكن لما مرض النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس مرة وصوته ضعيف، فكان أبو بكر يصلي إلى
~~جنبه يسمع الناس التكبير (4) . فاستدل العلماء بذلك على أنه يشرع التبليغ
~~عند الحاجة، مثل ضعف صوت الإمام ونحو ذلك، فأما بدون الحاجة فاتفقوا على
~~أنه مكروه غير مشروع. PageV04P315
# وتنازعوا في بطلان صلاة من يفعله على قولين، والنزاع في الصحة معروف في
~~مذهب مالك وأحمد وغيرهما، مع أنه مكروه باتفاق المذاهب كلها.
# وأما في دعاء الإمام والمأمومين بعد الصلاة جميعا رافعين أصواتهم أو غير
~~رافعين، فهذا ليس من سنة الصلاة الراتبة، [و] لم يكن يفعله النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -. وقد استحسنه طائفة من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد في
~~وقت صلاة الفجر وصلاة العصر، لأنه لا صلاة بعدها، وبعض الناس يستحبه في
~~أدبار الخمس. لكن الصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن ذلك ليس من سنة
~~الصلاة، ولا يستحب المداومة عليه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن
~~يفعله هو ولا خلفاؤه الراشدون، ولكن كان يذكر الله عقيب الصلاة ويرغب في
~~ذلك، ويجهر بالذكر عقيب الصلاة، كما ثبت في ذلك الأحاديث الصحيحة: حديث
~~المغيرة بن شعبة (1) وعبد الله بن الزبير (2) وغير ذلك.
# و
### | الناس في هذه المسألة طرفان ووسط:
# منهم من لا يستحب ذكرا ولا دعاء، بل بمجرد انقضاء الصلاة يقوم هو
~~والمأمومون كأنهم فروا من قسورة، وهذا ليس بمستحب.
# ومنهم من يدعو هو والمأمومون رافعين أيديهم وأصواتهم.
# وهذا أيضا خلاف ms0754 السنة. PageV04P316
# والوسط هو اتباع ما جاءت به السنة من الذكر المشروع عقيب الصلاة، ومكث
~~الإمام يستقبل المأمومين على الوجه المشروع.
# لكن إذا دعوا أحيانا لأمر عارض كاستسقاء أو استنصار أو نحو ذلك فلا بأس
~~بذلك، كما أنهم لو قاموا ولم يذكروا لأمر عارض جاز ذلك ولم يكره، وكل ذلك
~~منقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
# وقد كان في أكثر الأوقات يستقبل المأمومين بوجهه بعد أن يسلم، وقبل أن
~~يستقبلهم يستغفر ثلاثا ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا
~~الجلال والإكرام" (2) . وكان يجهر بالذكر، كقوله: "لا إله إلا الله وحده لا
~~شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت،
~~ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (3) . وأحيانا كان يقوم
~~عقيب السلام إذا عرض له أمر، كما قام مرة يخطب خطيبا (4) للناس، وقال:
~~"ذكرت ذهيبة كانت عندنا، فكرهت أن تبيت عندي".
# وأما السجدة يوم الجمعة فليست واجبة باتفاق العلماء، ويكره أن يتعمد
~~الرجل سجدة غير "الم تنزيل". وأما قراءة "هل أتى" PageV04P317
# و"الم تنزيل" في فجر الجمعة فقد جاءت الأحاديث (1) بهذه السنة كما جاءت،
~~فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الجمعة بالجمعة
~~والمنافقين (2) . لكن لا ينبغي المداومة على ذلك خشية أن يظن الناس أنها
~~واجبة، كما لم يواظب (3) النبي - صلى الله عليه وسلم - على مثل ذلك، بل كان
~~يقرأ في الجمعة والعيدين سورا متنوعة، لا يلازم شيئا بعينه.
# والله أعلم. PageV04P318
# مسألة
# في رجل متمسك بأحد المذاهب الأربعة، كمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي
~~وأحمد رضي الله عنهم أجمعين، وقد نزلت به نازلة في طلاق أو غيره، فاستفتى
~~بعض العلماء، فأفتاه بقول أحد الأئمة المذكورين، فعارضه آخر وقال: من
~~استفتى غير أهل مذهبه فهو زنديق أو نحو هذا الكلام، فهل هذا المنكر مصيب في
~~هذا الإنكار أم مخطئ؟ وهل يجب عليه القتل أو غير ذلك من أنواع التعزير؟
~~أفتونا رحمكم الله.
# الجواب
# الحمد لله. بل هذا ms0755 المنكر مخطئ في ذلك باتفاق الأئمة، بل هو آثم في ذلك
~~مستحق للعقوبة التي تزجره وأمثاله عن مثل ذلك، فإن كان يفهم معنى الزنديق
~~وأن الزنديق الكافر، وجعل اتباع المسلم في بعض المسائل لإمام غير إمامه
~~كفرا: فإنه يستتاب من هذا الكلام، فإن تاب وإلا قتل؟ وإن كان يظن أن
~~الزنديق هو العاصي الجاهل الفاسق ونحو ذلك فإنه يعزر على هذا الكلام.
# و
### | لا يجب على أحد أن يتبع واحدا بعينه في كل ما يقوله،
# وإنما يجب على الناس طاعة الله ورسوله، ومن قال: إنه يجب
# PageV04P319
# على الناس طاعة شخص بعينه غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو
~~متناقض مخالف لإجماع المسلمين، فإنهم متفقون على أن كل أحد من الناس يؤخذ
~~من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والأئمة الأربعة رضي
~~الله عنهم نهوا الناس أن يقلدوا واحدا بعينه في جميع ما يقوله وإن وجدت
~~الحجة بخلافه.
# والذي كرهه العلماء للرجل أن يكون رخيصا يستفتي في كل حادثة بما يكون له
~~فيه رخصة. فأما أخذه في بعض المسائل بقول إمام وفي بعضها بقول إمام مع تحري
~~التقوى فهو جائز عند أئمة الإسلام. والله أعلم.
# PageV04P320
# مسألة
# في رجل لم يؤدي (1) الصلوات الفرض وتوفي، وخلف ولد صالح، فكان الولد بعد
~~أن يصلي الصلاة المكتوبة عليه يصلي صلوات دائما، ويحتسبها لوالده عن فرضه،
~~فهل يجوز ذلك عن والده ويحتسب له؟ أفتونا مأجورين يرحمكم الله.
# الجواب
# الحمد لله. أما الفرض فلا يسقط عنه بصلاة غيره، ولكن من مات مؤمنا فإذا
~~صلى عنه ولده أو تصدق عنه أو أعتق عنه أو صام عنه نفعه الله بذلك. وأفضل
~~ذلك الصدقة ونحوها من النفع المتعدي، فإنها تصل إلى المؤمن باتفاق الأئمة.
~~والله أعلم. PageV04P321
# مسألة
# في رجل أوقف زاوية قطعة أرض مخللة بنخل، بعضه طازج وبعضه غير طازج، وشرط
~~النظر لشخص من الفقراء، فجاء الحاكم بالناحية، واجر الأرض مدة عشر سنين
~~بدون أجرة المثل. فهل تجوز هذه الإجارة؟ وهل للحاكم أن يؤجر مع وجود ms0756 الناظر
~~الذي شرط له الواقف النظر أم لا؟ أفتونا مأجورين.
# الجواب
# الحمد لله. إذا كان لها ناظر خاص قائم بالواجب فليس للحاكم أن يؤجرها،
~~ولا يتصرف فيها بدون أمره، لكن [لو] خرج الناظر عما يجب عليه فإن الحاكم
~~يعترض عليه، فيلزمه بالواجب، أو يستبدل به، أو يضم إليه أمينا. وليس للناظر
~~ولا الحاكم أن يؤجرها بدون أجرة المثل. والله أعلم.
# PageV04P322
### | مسألة
# متى فرض الصوم والصلاة والزكاة؟
# الجواب
# الحمد لله. صوم رمضان فرض من السنة الثانية من الهجرة، وأدرك رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - تسع رمضانات. وأما الصلاة والزكاة فأمر بهما بمكة قبل
~~الهجرة، لكن فرائض الصلاة شرعت بالمدينة. والله أعلم.
### | مسألة
# هل يجب للحائض أن تغسل باطن فرجها من الحيض والجنابة؟
# الجواب
# الحمد لله. لا يجب على المرأة غسل باطن الفرج من غسل الحيض والجنابة.
~~والله أعلم.
# PageV04P323
# مسائل وردت من الصلت
# PageV04P325
# مسألة
# في الكلب إذا ولغ في طست لبن أو طعام أو شراب، هل يحل أكله أم بيعه أم
~~لا؟
# فأجاب -رضي الله عنه-
# إذا كان فيه أثر الولوغ أو كشط وجهه جاز أكله في أحد قولي العلماء.
# مسألة
# في الفأرة إذا وقعت في سمن أو زيت وهو مائع، هل يحل أكله أم بيعه أم لا؟
# فأجاب -رضي الله عنه-
# إذا لم يتغير يلقى وما قرب منها، ويوكل المال ويباع في أظهر قولي
~~العلماء. والله أعلم.
# PageV04P327
# مسألة
# في رجل يدخل على امرأة أخيه وبنات عمه وبنات خاله، هل يجوز له ذلك أم لا؟
# الجواب
# لا يجوز له أن يخلو بها، ولكن إذا دخل مع غيره ومن غير خلوة ولا ريبة جاز
~~له ذلك. والله أعلم.
### | مسألة
# في التيمم، هل يجوز لأحد أن يصلي به السنن والرواتب والفريضة ويقتصر عليه
~~إلى حين الحدث أم لا؟
# الجواب
# نعم، يجوز في أظهر قولي العلماء أن يصلي بالتيمم كما يصلي بالوضوء، فيصلي
~~به الفرض والنفل، ويتيمم قبل الوقت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى
~~الروايتين عنه، ولا ينقض التيمم إلا ما ينقض ms0757 الوضوء والقدرة على استعمال
~~الماء.
# PageV04P328
### | سئل
# عن رجل يأمر الناس بالصلاة ولم يصل، فماذا يجب عليه؟
# الجواب
# من لم يصل فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. والله أعلم.
# وسئل أيضا
# فيمن يصلي الفرض خلف من يصلي نفلا.
# الجواب
# يجوز ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى
~~الروايتين عنه.
# وسئل أيضا
# عن الماء إذا غمس الرجل يده، هل يجوز استعماله أم لا؟
# الجواب
# لا ينجس بذلك، بل يجوز استعماله عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي
~~وأحمد، وعنه رواية أخرى أنه يصير مستعملا.
# PageV04P329
# وسئل أيضا
# عن صلاة التراويح، هل يجوز قبل العشاء أم لا؟
# الجواب
# السنة في التراويح أن تصلي بعد عشاء الآخرة. والله أعلم.
# وسئل أيضا
# عن الرجل يمس المرأة، هل ينتقض الوضوء أم لا؟
# الجواب
# إن توضأ من ذلك فحسن، وإن صلى ولم يتوضأ صحت صلاته في أظهر قولي العلماء.
# PageV04P330
# و
### | سئل
# عن الرجل إذا اغتسل من الجنابة، ولم يتوضأ بعده ولا قبله وصلى بالغسل،
~~فهل يجوز ذلك أم لا؟
# الجواب
# نعم، إذا اغتسل للجنابة أجزأته الصلاة بذلك الغسل وإن لم ينوه عند جمهور
~~العلماء. والله تعالى أعلم.
# وسئل أيضا
# عن الرجل لا يواظب على السنن الرواتب.
# الجواب
# من أصر على تركها دل ذلك على قلة دينه، وردت بذلك شهادته في مذهب أحمد
~~والشافعي وغيرهما.
# وسئل أيضا
# فيمن يحلف بالطلاق أنه لا يفعل شيئا، ثم أراد أن يفعله.
# الجواب
# يجوز أن يفعل ما حلف عليه ويكفر عن يمينه. والله أعلم.
# PageV04P331
# وسئل أيضا
# في الرعاف هل ينقض الوضوء أم لا؟
# الجواب
# إن توضأ منه فهو أفضل، ولا يجب عليه في أظهر قولي العلماء. والله أعلم.
# مسألة أيضا
# في الفصاد في شهر رمضان، هل يفسد الصوم أم لا؟
# الجواب
# إن أمكنه الفصاد بالليل أخره، وإن احتاج إليه لمرض افتصد، وعليه القضاء
~~في أحد قولي العلماء، والله أعلم.
# PageV04P332
# وسئل أيضا
# في سفر يوم رمضان، هل يجوز له أن يقصر فيه أو يفطر أم لا؟
# الجواب
# هذا فيه نزاع ms0758، والأظهر أنه يجوز له القصر والفطر في رمضان، كما قصر أهل
~~مكة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة، وعرفة عن المسجد
~~بريد. ولأن السفر مطلق في الكتاب والسنة.
# وسئل أيضا عن رجل معه مال من حرام وحلال، فهل يجوز أن يأكل من عيشه أم
~~لا؟
# الجواب
# إذا عرف الحرام بعينه لم يؤكل حتما، وإن لم يعرف بعينه لم يحرم الأكل،
~~لكن إذا كثر الحرام كان ترك الأكل ورعا. والله أعلم.
# PageV04P333
# مسألة أيضا
# في رجل باع متاعا لإنسان تاجر، وكسب عليه، وقسط عليه الثمن، والمديون
~~يطلب السفر ولم يقم له كافلا، فهل لصاحب الدين أن يمنعه من السفر أم لا؟
# الجواب
# إن كان حالا وهو قادر على وفائه فله أن يمنعه من السفر قبل استيفائه،
~~وكذلك إن كان مؤجلا ومحله قبل قدوم المدين، فله أن يمنعه من السفر حتى يوثق
~~برهن يحفظ المال أو كفيل، وإن كان الدين لا يحل إلا بعد قدوم المدين ففيه
~~نزاع بين العلماء. والله أعلم.
# PageV04P334
# وسئل أيضا
# عن رجل يعمل عملا يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة ويغرس له أغراس باسمه،
~~ثم يعمل ذنوبا يستوجب بها النار، فإذا دخل النار كيف يكون اسمه أنه في
~~الجنة وهو في النار؟
# الجواب
# إن تاب من ذنوبه توبة نصوحا فإن الله يغفر له، ولا يحرمه ما كان وعده، بل
~~يعطيه ذلك. وإن لم يتب وزنت حسناته وسيئاته، فإن رجحت حسناته على سيئاته
~~كان من أهل الثواب، وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العذاب، وما أعد
~~له من الثواب يحبط حينئذ بالسيئات التي زادت على حسناته، كما أنه إذا عمل
~~سيئات استحق بها النار ثم عمل بها حسنات تذهب السيئات. والله أعلم.
# PageV04P335
### | مسألة
# في رجل استلف من رجل دراهم إلى أجل على غلة، بحكم أنه إذا حل الأجل دفع
~~إليه الغلة بأنقص مما تساوي بخمسة دراهم، فهل يحل أن يتناول ذلك منه على
~~هذه الصفة
# أم لا؟
# الجواب
# إذا أعطاه عن البيدر كل غرارة بأنقص ms0759 مما يبيعها لغيره بخمسة دراهم
~~وتراضيا بذلك جاز، فإن هذا ليس بقرض، ولكنه سلف بناقص عن السعر بشيء، وقدر
~~هذا بمنزلة أن يبيعه بسعر ما يبيعه الناس أو بزيادة درهم في كل غرارة أو
~~نقص درهم في كل غرارة.
# وقد تنازع الناس في جواز البيع بالسعر، وفيه قولان في مذهب أحمد، والأظهر
~~في الدليل أن هذا جائز، وأنه ليس فيه حظر ولا غدر، لأنه لو أبطل مثل هذا
~~العقد لرددناهم إلى قيمة المثل، فقيمة المثل التي تراضوا بها أولى من قيمة
~~بمثل لم يتراضيا بها.
# والصواب في مثل هذا العقد أنه صحيح لازم، ولهذا كان الصحيح في النكاح
~~الفاسد أنه يجب فيه المسمى لا مهر المثل، فإنا إذا أوجبنا فيه مهر المثل
~~أوجبنا ما يستحقه نظيرها في النكاح الصحيح أولى مما يستحقه غيرها في النكاح
~~الصحيح، فإنه على التقديرين
# PageV04P336
# قد أوجب في الفاسد ما يجب في الصحيح، ولكن على أحد التقديرين قد اعتبر
~~فاسدها بصحيحها، وعلى الآخر اعتبر فاسدها بصحيح غيرها، والأول أولى، وهي في
~~مسألة البيع بالسعر والإجارة بأجرة المثل. ومنهم من قال: إن ذلك لا يلزم،
~~فإذا تراضيا به جاز. والله أعلم.
# PageV04P337
### | مسألة
# في رجل فاتته صلاة العصر، فجاء إلى المسجد فوجد المغرب قد أقيمت، فهل
~~يصلي الفائتة قبل أم لا؟
# الجواب
# بل يصلي المغرب مع الإمام ثم يصلي العصر باتفاق الأئمة، ولكن [هل] يعيد
~~المغرب؟ فيه قولان: أحدهما يعيدها، وهو قول ابن عمر ومالك وأبي حنيفة وأحمد
~~في المشهور عنه. والثاني: لا يعيد المغرب، وهو قول ابن عباس وقول الشافعي
~~والقول الآخر في مذهب أحمد. والثاني أصح، فإن الله لم يوجب على العبد أن
~~يصلي الصلاة مرتين إذا اتقى الله ما استطاع. والله تعالى أعلم.
# PageV04P338
### | مسألة
# في رجل خص بعض بناته، فجهزها وملكها بنحو مئتي ألف درهم، وخص بعضهم بوقف
~~بعض ماله عليه، فهل لورثة الواقف فسخ ذلك أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله، بل يجب عليه العدل بين أولاده كما أمر الله ورسوله، كما ثبت
~~في الصحيح ms0760 (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبشير بن سعد:
~~"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، وقال: "لا تشهدني على جور" (2) ، وأمره
~~أن يرد التفضيل بين أولاده، وإذا مات ولم يعدل فإنه يرد جوره في أظهر قولي
~~العلماء، كما أمر بذلك أبو بكر وعمر في مال سعد بن عبادة. ولسائر الأولاد
~~المظلومين طلب حقهم وفسخ التخصيص الذي فيه ظلمهم، وإعانتهم على إيصال حقهم
~~إليهم من القرب التي يثاب فاعلها. والله تعالى أعلم. PageV04P339
# مسألة
# في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هل هذه القبور التي يزورها الناس
~~اليوم -مثل قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس وإلياس واليسع
~~وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق- فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا؟
# الجواب
# الحمد لله، القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -،
~~وقبر الخليل فيه نزاع، لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره. وأما يونس
~~وإلياس وشعيب وزكريا فلا يعرف [قبورهم] ، وقبر معاوية هو القبر الذي تقول
~~العامة إنه قبر هود. والله أعلم.
# PageV04P340
# مسألة
# في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم، وهل يحل لبس جلود
~~الجميع وأكل لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودهم بالدباغ؟
# الجواب
# أما لحم الضبع فإنه مباح عند مالك والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ في
~~مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك -في رواية- وأحمد في إحدى الروايتين عنه،
~~وهو أصح قولي العلماء. وهذا إذا دبغ بعد موته، وأما إذا ذكي ودبغ كان طاهرا
~~في مذاهب الأئمة.
# وأما سنور البر والثعلب ففي حلهما قولان، وهما روايتان عند أحمد، أحدهما:
~~يحل، ويكون جلده طاهرا إذا ذكي، وهذا مذهب مالك والشافعي. وعلى هذا القول
~~فإذا مات ودبغ كان طاهرا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك.
~~والقول الثاني: إنهما محرمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين
~~عنه، وعلى هذا إذا ذكي كان جلده طاهرا عند أبي حنيفة دون أحمد، وجلده يطهر
~~بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد ms0761، وظاهر مذهبه أنه لا
~~يطهر.
# PageV04P341
# وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر
~~بالدباغ.
# وأما القول الذي يقوم عليه الدليل فإنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - في السنن من وجوه أنه نهى عن جلود السباع (1) ، كما ثبت أنه حرم
~~لحمها (2) . فما ثبت أنه من السباع -كالنمر وابن آوى وابن عرس- فلا يحل
~~لحمه ولا لبس الفراء من جلده، ما لم يكن من السباع المحرمة كالضبع فإنه
~~يؤكل لحمه ويلبس جلده. وأما الثعلب وسنور البر ففيه نزاع. والله أعلم.
~~PageV04P342
### | مسألة
# في لحوم الخيل وألبانها، هل هي مباحة أم لا؟
# الجواب
# أما لحم الخيل فهو مباح عند أكثر علماء المسلمين، وهو مذهب الشافعي وأحمد
~~بن حنبل وطائفة من أصحاب أبي حنيفة -كأبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة-، وهو
~~مذهب الثوري وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وابن المنذر، وهو قول
~~ابن عمر وابن الزبير وغيرهما من العبادلة. فإنه قد ثبت في الصحيحين (1) عن
~~جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر
~~وأذن في لحوم الخيل. وثبت في الصحيحين (2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت:
~~نحرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسا فأكلنا لحمها. ولم
~~يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم لحم الخيل في حديث صحيح (3)
~~. PageV04P343
# والقرآن لا يدل على تحريمه، فإن قوله (والخيل والبغال والحمير لتركبوها)
~~(1) امتن الله بها على عباده بما يقصد منها في العادة، ولم يرد بذلك تحريم
~~أكلها، بدليل أن الصحابة بعد نزول هذه الآية أكلوا لحم الحمر يوم خيبر حتى
~~نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآية مكية، فلو كان فيها دليل على
~~التحريم كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم بذلك. وأما الذين نهوا عنها من
~~العلماء كأبي حنيفة فقيل عنه: كراهة تحريم، وقيل: كراهة تنزيه.
# وأما ألبانها فإن كانت لا تسكر فهي مباحة كلحمانها، وإن كانت مسكرة فهي
~~حرام. رواه البخاري ومسلم (2) . ولمسلم (3) : "كل مسكر خمر، وكل خمر ms0762 حرام".
~~وتحريم كل مسكر هو مذهب عامة المسلمين، كمالك والشافعي وأحمد بن حنبل ومحمد
~~بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
# ويجوز للرجل أن يأكل لحمها ويشرب لبنها إذا لم يكن مسكرا، كما يجوز أكل
~~اللحم باللبن مطلقا، ولم يحرم أكل اللحم باللبن إلا اليهود الذين حرموا
~~طيبات أحلت لهم لظلمهم وذنوبهم. والله تعالى أعلم. PageV04P344
### | مسألة
# فيمن مات وخلف بنتا وأخا لأم وابن عم.
# الجواب
# للبنت النصف، والباقي لابن العم، ولا شيء للأخ من الأم باتفاق أئمة
~~المسلمين، وما وصى به ينفذ من الثلث ثلث التركة، والباقي للورثة.
### | مسألة
# في رجل حلف بالطلاق، ثم استثنى هنيهة بقدر ما يمكن فيه الكلام.
# فأجاب
# لا يقع فيه الطلاق، ولا كفارة عليه، والحال هذه لو قيل له: قل "إن شاء
~~الله" ينفعه ذلك أيضا، ولو لم يحضر له الاستثناء إلا لما قيل له. والله
~~تعالى أعلم.
# PageV04P345
# مسائل متفرقة
# PageV04P347
# مسألة
# ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في مسجد
~~بيت المقدس وقد جعل فيه أئمة، كل منهم يصلي في موضع منه، فهل إذا صلى أحد
~~منهم في وقت صلاة الآخر هل يدخل في النهي فيكره له ذلك أم لا؟ وهل هذا بدعة
~~مكروه أم لا؟ وأي الأئمة أحق بالصلاة بلا كراهة؟ وهل تبطل صلاة الإمام الذي
~~صلى بعد إقامة الصلاة لإمام غيره أو نكره؟ وهل يصح قول من قال: إن كل بنية
~~فيه لما اختصت بإمام صارت كالمسجد المستقل؟
# فأجاب الشيخ تقي الدين وقال:
# الحمد لله، صلاة إمامين في وقت واحد في المسجد الأقصى أو غيره من المساجد
~~بدعة، لم يكن السلف يفعلونها، وفيها تفريق الجماعات وتقليلها، والسنة اتحاد
~~الجماعة وكثرتها، ولو كان مثل هذا مشروعا لكان يشرع في صلاة الخوف أن يصلي
~~بالناس عدة أئمة، لكن السنة جاءت بصلاتهم خلف إمام واحد، مع ما في ذلك من
~~مخالفة الأصول، مثل مفارقة الإمام قبل السلام، والعمل الكثير في الصلاة،
~~واستدبار القبلة، وقضاء المسبوق قبل سلام إمامه،
# PageV04P349
# وتخلف الصف الثاني عن ms0763 متابعة الإمام. فهذا كله جاءت به السنة ليصلوا
~~جميعا خلف إمام واحد.
# والعلماء قد تنازعوا في المسجد الذي له إمام راتب هل يصلي فيه جماعة من
~~فاتته الجماعة، أو يفرق بين المساجد التي ينتابها الناس وغيرها، أو بين
~~المساجد العظام وغيرها، أو بين المساجد الثلاثة وغيرها، على النزاع المشهور
~~بين الأئمة، لأنه لم يكن يرتب في المسجد إلا إمام واحد، وفي هذه الأزمنة قد
~~ترتب في المسجد عدة أئمة، وإذا فعل ذلك فالذي ينبغي أن يصلي واحد بعد واحد،
~~ليكون من فاتته الصلاة مع الأول صلى مع الثاني، ولأن إقامة جماعة بعد
~~الجماعة الراتبة مما ذهب إليه كثير من العلماء، وجاءت به السنة في مواضع
~~الحاجة، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن فاتته الصلاة: "إلا رجل
~~يتصدق على هذا فيصلي معه" (1) . ولأن أنس بن مالك أتى المسجد وقد صلى فيه
~~الناس، فأقام الصلاة وصلى فيه جماعة أخرى (2) .
# فأما إمامة اثنين في وقت واحد في مسجد واحد فهذا لا يعرف أحد من السلف
~~فعله، وكل ما كان أقرب إلى السنة وأبعد عن البدعة فهو أولى بالاتباع. والذي
~~أحدث الصلاة مع غيره هو أحق بالنهي ممن كان يصلي وحده. والله أعلم.
~~PageV04P350
# وسئل الشيخ -رحمة الله عليه-
# عن رجل يشتري القمح في زمان الصيف من الجند وغيرهم، فإن ذلك الوقت يرى
~~الجند الشرى من عندهم صدقة مما عليهم من الديون وقلة الطالب للقمح، ثم
~~يخزنه المشتري إلى زمان الشتاء، فيطلب فيه ما رزقه الله من الفائدة، فيمسك
~~يده عن بيعه حتى يكثر طالبه. فهل هذا محتكر أم لا؟ ولابد أن يرى في قلبه حب
~~للغلاء، فهل يأثم بذلك أم لا؟ وهل ترك ذلك خير أم لا؟
# وعن رجل رأى في المنام أنه يجامع، ولم تدركه اللذة الكبرى والإنزال إلا
~~بعد أن استيقظ، فهل يفسد صومه أم لا؟
# أفتونا مأجورين.
# فأجاب -رضي الله عنه- عن ذلك وقال:
# الحمد لله. أما ما ذكر من اشتراء القمح وخزنه فتركه خير من فعله، فإنه
~~يورثه محبته ms0764 ارتفاع السعر، وأن يجمع المال من عموم المسلمين. قال أحمد: إن
~~مالا جمع من عموم المسلمين لمال سوء. ولكن هذا عند طائفة من العلماء إذا
~~كان من البلاد الكثيرة القمح الرخيصة السعر إذا لم يضر ذلك أهلها لا يحرم،
~~بخلاف ما إذا كان شراؤه وخزنه يضر أهل المكان، فإن هذا احتكار محرم،
# PageV04P351
# كما ثبت في صحيح مسلم (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
~~يحتكر إلا خاطئ". ومن قال بتحريم هذا الاحتكار أخذ بعموم هذا الحديث، وقوله
~~متوجه.
# وأما إذا رأى في منامه أنه يجامع ولم ينزل حتى استيقظ، فخرج منه الماء
~~بغير اختياره، فإن هذا لا يفطر كما لا يفطر إذا أنزل في منامه، لأن الماء
~~خرج منه بغير اختياره. وإذا خرج منه المني بغير سعي منه ولا عمل لم يفطر،
~~كما لو ذرعه القيء فخرج منه القيء بغير اختياره فإنه لا يفطر، وإنما يفطر
~~من استمنى واستقاء. ولهذا لو غلبه الفكر حتى أنزل لم يفسد صومه باتفاق
~~الأئمة، بخلاف ما إذا استدعى الفكر حتى أنزل، ففي فساد صومه قولان للعلماء:
~~أحدهما يفسد، وهو مذهب مالك وأحمد في أحد القولين، اختاره أبو حفص وابن
~~عقيل. والآخر لا يفطر، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والقول الآخر من مذهب
~~أحمد، اختاره القاضي أبو يعلى وطائفة.
# وأما إذا كرر النظر حتى أنزل، فإنه يفسد صومه في مذهب مالك وأحمد، بخلاف
~~مذهب أبي حنيفة والشافعي، فإنهما لا يريان الفطر إلا أن ينزل بمباشرة
~~كالقبلة ونحوها. والله تعالى أعلم. PageV04P352
# مسألة
# ما تقول السادة العلماء أئمة الدين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- في سورة
~~الأنعام: هل أنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة أم آيات
~~متفرقة متتابعة؟ وقد وجد في كتاب "الوسيط في تفسير القرآن العظيم" (1) لأبي
~~الحسن علي بن أحمد الواحدي: أخبرنا أبو سعيد (2) محمد بن علي الخفاف، حدثنا
~~أبو عمر (3) محمد بن جعفر ابن مطر، ثنا إبراهيم بن شريك الأسدي، ثنا أحمد
~~بن يونس، أنبأنا سلام بن سليم المدائني ms0765، أنبانا هارون بن كثير عن زيد بن
~~أسلم عن أبيه أعن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -: "أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، وتبعها سبعون ألف ملك،
~~لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل". أفتونا مأجورين.
# فأجاب الشيخ أحمد بن تيمية
# -رضي الله عنه وعن سائر العلماء-
# الحمد لله. قد ذكر عن طائفة من السلف أنها نزلت جملة واحدة (4) ، وذكره
~~الإمام أحمد بإسناده عن جماعة، ولكن الإسناد PageV04P353
# المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موضوع. وبكل حال فلا تقرأ في
~~شهر رمضان إلا كما تقرأ في غيره، لا تقرأ جملة واحدة دون غيرها، كما يفعله
~~بعض الناس يقرؤونها وحدها في الركعة الثانية، فإن ذلك بدعة غير مستحبة
~~باتفاق العلماء. والله أعلم.
# PageV04P354
# مسألة
# ما تقول السادة العلماء في رجل كسب جارية من ملطية وباعها، ثم اشترى
~~بثمنها جارية، فتبين أنها مسلمة وأبواها مسلمان، فأعتقها، فهل يجب عليه
~~الخمس أم لا؟
# قال الشيخ تقي الدين -رضي الله عنه-
# بل يجب عليه الخمس الذي أمر الله به ورسوله أن يصرف إلى مستحقه. والله
~~أعلم.
# مسألة
# ومن كان معه ختمة فله أن يحملها بين قماشه وفي خرجة، وحمله سواء كان ذلك
~~القماش لرجل أو امرأة أو صبي، وإن كان القماش فوقها وتحتها.
# مسألة
# وأما قراءة القرآن بقصد التلحين الذي يشبه تلحين الغناء فهي مكروهة
~~مبتدعة، كما نص على ذلك مالك وأحمد بن حنبل والشافعي وغيرهم من الأئمة.
# PageV04P355
# وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-
# عن قوم لهم عيون ما عليها زروع، فجاء رجل فحقن الماء، وأحدث عليه سدا
~~وطاحونا، فتضرر أرباب العيون، فهل لهم إزالة ما أحدثه؟
# فأجاب -رضي الله عنه-
# إن كان قوم يستحقون الانتفاع بتلك العين، وقد أحدث ما يزيل بعض المنفعة
~~التي يستحقونها بغير إذن منهم، فلهم إزالة ما أحدثه من الضرر حتى يعود حقهم
~~كما كان. والله أعلم.
# PageV04P356
# وسئل -رحمه الله-
# عن رجل خطب ابنة رجل فركن إليه، ثم خطبها آخر، فرغب ms0766 عن الأول وركن إلى
~~الثاني، فهل للثاني تزويجها؟ وهل يكون ملعونا؟
# فأجاب -رضي الله عنه-
# إذا كانت المرأة ووليها قد ردا الخاطب الأول وامتنعا من تزويجه جاز لغيره
~~أن يخطبها. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى أن يخطب الرجل على خطبة
~~أخيه (1) حتى ينكح أو يرد، فمتى رد الأول جازت الخطبة لغيره باتفاق
~~العلماء. والله أعلم. PageV04P357
# مسألة
# السؤال محرم إلا عن الحاجة إليه، وظاهر مذهب أحمد -رحمه الله- أنه لو وجد
~~ميتة عند الضرورة ويمكنه السؤال جاز له أكل الميتة، ولو مات مات عاصيا، ولو
~~ترك السؤال فمات لم يمت عاصيا.
# والأحاديث في تحريم السؤال كثيرة جدا نحو بضعة عشر حديثا في الصحاح
~~والسنن، وفي سؤال الناس مفاسد الذل والشرك بهم والإيذاء لهم، وفيها ظلم
~~نفسه بالذل لغير الله عز وجل، وظلم في حق ربه بالشرك به، وظلم للخلق
~~يسؤالهم أموالهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس: "إذا سالت
~~فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" (1) .
### | مسألة
# لا يحرم على الرجل النظر إلى شيء من بدن امرأته ولا لمسه،
# لكن قيل: يكره النظر إلى الفرج، وقيل: لا يكره إلا عند الوطء.
# والله أعلم. PageV04P358
### | مسألة
# في المسافر إذا نزل في موضع وهو يعلم أنه يقيم فيه عشر ليال أو أكثر، فهل
~~يجوز له أن يقصر ويجمع أو يتم؟
# الجواب
# السنة للمسافر أن يقصر الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب، والجمع إذا
~~احتاج إليه. وإذا كان المسافر نازلا فالسنة أن يقصر الصلاة، ولا يجمع إلا
~~احتاج إلى ذلك. وإذا كان لا يدري كم يقيم فإنه يقصر أبدا، وإن علم أنه يقيم
~~خمسا أو عشرا أو خمسة عشر ففيه قولان للعلماء، أظهرهما أن يقصر أيضا. والله
~~أعلم.
# PageV04P359
# مسألة
# قال المجد في الوديعة (1) : وإذا قال: أذنت في دفعها إلى فلان وقد فعلت
~~قبل قوله فيهما.
# وقال في الوكالة (2) : ومن وكل في قضاء دين، ولم يؤمر بإشهاد، فقضاه
~~بحضرة الموكل ولم يشهد، فأنكر الغريم، لم يضمن. وإن قضاه في غيبته ضمن.
~~وعنه لا يضمن ms0767، كالوكيل في الإيداع.
# وقال في الضمان (3) : وإذا ادعى القضاء وأنكره الآخران فلا رجوع له، فإن
~~صدقه رب الحق وحده فوجهان، وإن صدقه المديون وحده رجع عليه إن قضى بحضرته
~~أو بإشهاد، وإلا فلا.
# وقيل: لا يرجع فيما قضى بحضرته.
# فمتى أمر رجل بدفع ألف إلى فلان، فدفعها، فأنكر المدفوع إليه، فإن كان
~~أمره بالإشهاد ولم يشهد ضمن، وإن لم يأمره بالإشهاد فالقول قوله.
~~PageV04P360
# قال أبو الخطاب وغيره: ومعلوم أنه لم يرد القول قوله على المدفوع إليه،
~~فثبت أنه أراد في حق الأمر.
# قلت: هذا صريح في الرواية الأولى.
# وقال الخرقي (1) في الوكالة: ولو أمره أن يدفع إلى رجل مالا فادعى أنه
~~دفعه إليه لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة.
# قلت: وهذا يوافق الثانية أنه لعدم الإشهاد، فيكون لعدم التفريط، كما هي
~~الرواية. وكذلك قال القاضي وغيره. ويحتمل أن لا يقبل قوله في ذلك إلا ببينة
~~أنه فعل، فلو صدقه لم يقبل، والله أعلم. هذا القول قول الخرقي، فيكون
~~الخرقي إنما تكلم في قبول قوله على الآخر.
# قلت: فهذا الذي ذكره المجد في الوديعة يوافق ما ذكره أبو محمد عموم كلام
~~الخرقي، وإن النزاع في الموضعين فإنه قد يتكرر قضاء الدين، أما إذا صدقه في
~~القضاء فيفرق بين أن يفرط أو لا يفرط، وحينئذ لا تختلف مسألة الخرقي ومسألة
~~مهنأ في قضاء الدين ونحوه من نقل الملك، وعلى هذه الرواية التي نقلها
~~الخرقي قد يفرق الأصحاب بين الوفاء وبين الإيداع كما ذكر المجد.
# وقال الشيخ أبو محمد (2) : وإن وكله في إيداع ماله فأودعه ولم يشهد، فقال
~~أصحابنا: لا يضمن إذا أنكر المودع. PageV04P361
# قال: وكلام الخرقي بعمومه يقتضي أن لا يقبل قوله على الآمر، وهو أحد
~~الوجهين لأصحاب الشافعي، لأن الوديعة لا تثبت إلا بالبينة، فهي كالدين.
~~وقال أصحابنا: لا يصح القياس على الدين، لأن قول المودع يقبل في الرد
~~والهلاك، فلا فائدة هنا في الاستيثاق، بخلاف الدين. فإن قال الوكيل: دفعت
~~المال إلى المودع فالقول قول الوكيل، لأنهما اختلفا في ms0768 تصرفه فيما وكل فيه،
~~فكان القول قوله فيه.
# قلت: هذا يخالف ظاهر قول الخرقي على الاحتمال الثاني، وهو أشبه بقوله وما
~~ذكروه من تعليل الأصحاب، ففي دعوى الرد إذا كان الدفع ببينة رواية عن أحمد
~~كقول مالك، وفي دعوى التلفيق بين ماله روايتان.
# وقال أبو الخطاب في الوكالة: وإن وكله في قضاء دين، فقضاه في غيبة الموكل
~~ولم يشهد، فأنكر الغريم، ضمن الوكيل.
# قال المجد: بهذا قال مالك والشافعي.
# وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان، وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو
~~حنيفة وأصحابه: لا يضمن، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني.
# قال: وهذا الذي اختاره أبو الخطاب هنا يناقض ما اختاره في كتاب الرهن.
~~وصرح القاضي وابن عقيل في كتاب الوكالة بأن المسألة على روايتين.
# PageV04P362
# وقال أبو الخطاب في الوديعة: وكذلك إن قال: أمرتني أن أدفعها إلى فلان
~~وقد دفعتها إليه، فقال المالك: ما أمرتك، فالقول قول المودع، نمن عليه.
# قال المجد: بهذا قال ابن أبي ليلى، وبهذا قال مالك والثوري وعبد الله بن
~~الحسن والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي والأوزاعي: لا يقبل قوله في ذلك، وهو
~~ضامن. ووافقوا على أنه إذا وافقه على الإذن فإن القول قوله في الدفع، إلا
~~الأوزاعي، فإنه قال: لا يقبل قوله بدون بينة، ويضمن.
# قلت: هذا الذي محل وفاق، فنقل الطحاوي ما ينافي ما ذكره هو وأبو محمد من
~~عموم كلام الخرقي، فإنه قال هنا: وكذلك الوديعة إذا أمره بدفعها إلى إنسان.
~~وهذا اختيار الخرقي. فجعل الأمر بدفع الوديعة كالأمر بدفع الدين.
# وهذه المسألة هي بعينها الأمر بدفع الوديعة، ومسألة أبي محمد مسألة
~~الكتاب من التوكيل في الإيداع والوكيل في الإيداع هو أمر بدفع الوديعة إلى
~~مطلق أو معين، لكن قد يقال: إنه في التوكيل في الإيداع لم يعين المودع،
~~بخلافه هنا، وهذا فرق عن سويد، كالأمر بقضاء الدين المطلق أو معين، فهذا
~~شيء، وشيء آخر وهو أنه إذا كان منصوص أحمد أنه يقبل قوله عليه في الإذن في
~~الدفع من غير إشهاد، فهذا ms0769 أبلغ من قبول قوله في مجرد الدفع. وقوله "ادفعها
~~إلى فلان" يتناول ما إذا كان بطريق القضاء والإيداع والهبة وغير ذلك، فهذا
~~موافق لرواية مهنأ، ومخالفة ظاهرة لنقل الخرقي،
# PageV04P363
# لا سيما إذا حمل قوله على العموم، وعلى ما نقله الخرقي ينبغي أن لا يقبل
~~قوله هنا بالإذن كقول الجمهور بطريق الأولى، وكلام الخرقي يتناول ذلك، بل
~~ولا في الدفع أيضا.
# وأما
### | مسألة الضمان
# فقال أبو الخطاب: وإذا ادعى الضامن قضاء الحق ولا بينة له، فأنكر المضمون
~~له، حلف وطالب من شاء منهما، فإن طالب المضمون عنه فأخذ منه لم يكن للضامن
~~الرجوع عليه، سواء صدق في قضاء الدين أو كذبه، لأنه أذن له في قضاء جرى ولم
~~يوجد.
# وقال المجد: هذه المسألة فيما إذا قضاه في غيبة المضمون عنه وإذنه له
~~مطلق. وبهذا قالت الشافعية في أحد الوجهين، والثاني أنه يرجع عليه إذا صدق،
~~اختاره أبو إسحاق. فعلى هذا إن كذبه حلف لا يعلم أنه قضى عنه.
# ثم وجدت القاضي قد ذكر في "التعليق" مثل ما ذكرته، وأن قول الخرقي هو في
~~الوديعة، وأن الخلاف في قبول قوله بحيث لو صدقه لم يضمن، فقال في مسألة:
~~إذا قبض وديعة بينة ثم ادعى ردها قبل منه، نص عليه في رواية ابن منصور،
~~وذكر له قول سفيان في رجل استودع رجلا ألف درهم، فجاءه فقال: ادفع إلي
~~دراهمي، قال: قد دفعتها إليك يصدق. فإن قال: أمرتني أن أدفعها
# PageV04P364
# إلى فلان فبينة، فقال أحمد: في كلا الأمرين يصدق. وبهذا قال أبو حنيفة
~~والشافعي. وقال مالك: لا يقبل منه إلا ببينة.
# وقد روى أبو الخطاب عن أحمد مثل مذهب مالك، فقال: قلت لأبي عبد الله: إذا
~~كانت وديعة تريد بينة؟ قال: نعم إذا كان قد أشهد عليه لا يقبل منه حتى يقيم
~~بينة.
# وهذه الرواية صريحة بمثل مذهب مالك، أما الأولى فإنها فيها عموم،
~~والمقصود فيها عموم، فرق سفيان وتسوية أحمد بين الصورتين بين الدفع إليه
~~والدفع إلى فلان. وقول أحمد "يصدق" قد يقال ms0770: إنه لا ينافي قول من يضمن
~~لتفريطه لا لكذبه.
# ثم، قال القاضي: وجه الأول أن المودع أمين في أمثال هذا، ويحفظ الشيء
~~لمصلحة صاحبه ومنفعته، لا لمنفعة نفسه وحظه، فيجب أن يكون القول قوله في
~~الرد. وإن شئت قلت: أمانة مجردة، وكان القول قوله في ردها دليله إذا قبض
~~بغير بينة.
# قلت: الأول كلام مرسل لا أصل له يشهد له، والثاني قياس في صورة الفرق، من
~~غير إلغاء الفارق.
# قال: ولا يلزم على هذا: المرتهن إذا ادعى رد الرهن أنه لا يقبل قوله وإن
~~كان أمانة، لأن ممسك للشيء ليستوفي الحق من نفسه لنفسه. فإذا ادعى الرد لم
~~يقبل منه، نص عليه في رواية أبي طالب. وفي مسألتنا لو أقر بالوديعة وادعى
~~الرد قبل منه.
# ثم قال القاضي: مسألة، فإن أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى
# PageV04P365
# رجل، فدفعها إليه بغير بينة، فالقول قول المودع، نص عليه في رواية ابن
~~منصور في المسألة التي قبلها.
# قلت: نص أحمد أن يصدق في الإذن في الدفع وفي الدفع أيضا.
# قال: وقال أيضا في رجل أمر رجلا أن يدفع إلى رجل ألف درهم، فدفعها، وأنكر
~~المدفوع له أنه قبضها، فإن كان أمره بالإشهاد فلم يشهد ضمن، وإن كان لم
~~يأمره بالإشهاد فالقول قوله، وهو قول أبي حنيفة، وقال مالك والشافعي: لا
~~يقبل قوله في الدفع. وعلموا الخلاف في الوصي إذا ادعى دفع المال إلى اليتيم
~~بعد بلوغه، ولا بينة، فأنكر الصبي ذلك، فالقول قول الوصي، وعندهما لا يقبل
~~قوله إلا ببينة، واختيار الخرقي ذكره في الوكيل. دليلنا إذا ادعى تسليم
~~الوديعة إلى من يجوز الدفع إليه فكان القول قوله، دليله لو ادعى تسليمها
~~إلى المالك فإن القول قوله، كذلك ههنا.
# إلى أن قال: واحتج المخالف بأن المالك لم يأمره بإتلافها
# على المالك، لأنه قد يجحد، فلا يمكن المالك أن يقيم عليه بينة، ولا يقبل
~~الدافع، لأنه ليس بأمين في حقه، فكان مفرطا في ذلك، يلزمه الضمان بتعديه.
# قلت: هذه الحجة مضمونها أنه متعد، لا أنه ms0771 غير مقبول القول كما تقدم، وهذا
~~خلاف ما صدر به المسألة.
# PageV04P366
# ثم قال: احتج بأنه ادعى التسليم إلى من لم يأتمنه بالحفظ، فهو كما لو
~~ادعى تسليمها إلى أجنبي. والواجب أن الأجنبي لو صدقه صاحب الوديعة أنه سلم
~~إليه ضمن كذلك إذا لم يصدقه.
# وفي مسألتنا لو صدقه أنه سلم إليه لم يضمن إذا ادعى التسليم، وله فيه حق.
~~وأما إذا كان بحضرة المضمون عنه رجع، ولم يكن مفرطا بترك الإشهاد عندنا في
~~الصحيح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي. ومن أصحابه من قال: هو كالغيبة، فلا يرون
~~تفريطه بالحضور، فيصير لهم في هذه المسألة ثلاثة أوجه. وكذلك ذكر ابن عقيل
~~والقاضي أنه لا يرجع، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، لأن هذا القضاء لا يترك في
~~الظاهر بخلاف المشهود به.
# قلت: فهذا كما في "المحرر"، وفيه الفرق بين مسألة الضمان والثاني، ذكر
~~الوجهين في القضاء في الحضور في مسألة الضمان دون مسألة الوكالة. وكذلك ذكر
~~أبو محمد في "المغنى" مثل ما ذكر المجد في كتابيه، وعلى هذا فالفرق أن
~~يقال: إذا وكله في القضاء، ولم يأمره بالإشهاد، فقد فعل ما أمره به من غير
~~تفريط.
# أما في الضمان فهو لم يأمر الضامن بالوفاء، لكن الوفاء وجب على الضامن
~~بحكم الضمان، فلو أذن له في الضمان فالموجب للوفاء الضمان دون الإذن، لا
~~سيما على ظاهر المذهب للضامن الرجوع وإن ضمن بغير إذن. وكذلك من أدى عن
~~غيره واجبا عليه، كفداء الأسير. وإذا كان الوفاء هنا حصل بإذن الشارع
~~وإيجابه فالمتصرف عن غيره بحكم الشرع مأمور بأن يتصرف بحسب المصلحة، بحكم
~~التصرف بالوكالة أنه سمع الأمر. ولهذا لو أذن له فيما فيه ضرر
# PageV04P367
# عليه وفعله لم يضمن، كما لو أمره أن يبيعه بدون ثمن المثل ليثمن قدره أو
~~بيعه من غريم غير ملي ونحو ذلك، بخلاف من تصرف بحكم المصلحة كالولي. وأيضا
~~من يريد أن يرجع بما قضاه عنه فهو مطلب بالبذل كالقرض، لأن وفاء المال
~~إقراض للمدين، بخلاف الوكيل فإنه لا يرجع بشيء ms0772. وبهذا يظهر الوجه المذكور
~~فيما إذا كان الوفاء بحضرته في الضمان دون الوكالة، لأن الوكيل يفعل عن
~~الموكل، فسكوته رضى بذلك، والضامن يوفي عن نفسه ما وجب عليه، وهو مقرض
~~للمدين، ومقصود هذا القرض براءة ذمته من الدين.
# فصل
# الذي يكره من شرى الأرض الخراجية إنما كان لأن المشتري يشتريها فيدفع
~~الخراج عنها، وذلك إسقاط لحق المسلمين، كما كانوا أحيانا يقطعون بعضها لبعض
~~المجاهدين إقطاع تمليك لا إقطاع استغلال، كإقطاع الموات، فهذا الابتياع
~~والإقطاع يسقط حق المسلمين من الرقبة والمنفعة.
# والخلفاء أخذوه من الغزاة لتكون منفعة دائمة للمسلمين، فإذا قطعت منفعته
~~عن المسلمين صار ظلما لهم، بمنزلة من غصب طريق المسلمين وبنى في منى ونحوها
~~من المنافع المشتركة بين المسلمين على التأبيد. فأما إذا اشتراها وعليه من
~~الخراج ما على البائع، فهو كما لو ولاه إياها بلا ثمن، وكما لو ورثها، فإن
~~الإرث
# PageV04P368
# مجمع عليه أن الوارث أحق بها بالخراج، وذلك لأن إعطاءها لمن أعطيته
~~بالخراج قد قيل إنه بيع بالثمن المقسط الدائم كما يقول بعض الكوفيين، وقد
~~قيل: إنه إجارة بالأجرة المقسطة المؤبدة المدة كما يقول أصحابنا والمالكية
~~والشافعية. فكلا القولين خرج في قوله عن قياس البيوع والإجارات.
# فالتحقيق أنها معاملة قائمة بنفسها، ذات شبه من البيع دون الإجارة، ويشبه
~~في خروجها عنها المصلحة على منافع مكانه للاستطراق أو إلقاء الزبالة أو وضع
~~الجذوع ونحو ذلك بعرض ناجز، فإنه يملك العين مطلقا ولم يستأجرها، وأما ملك
~~هذه المنفعة مؤبدة.
# وكذلك وضع الخراج، ولو كان إجارة محضة، وكان عمر وغيره قد تركوا الأرض
~~للمسلمين وأكروها لكان ينبغي إكراه المساكن أيضا، لأنها للمسلمين إذ فتحت
~~عنوة، ولكان قد ظلم المسلمين، فإن كرى الأرض يساوي أضعاف الخراج، ولكان على
~~المشهور عندهم، ولا يستحق الآخذون ما في الخراج من الشجر القائم ومن النخيل
~~والأعناب وغيرها، كمن استأجر أرضا فيها غراس، ولكان دفعها مساقاة مزارعة
~~كما فعل المنصور أو المهدي في أرض السواد -أنفع للمسلمين اقتداء بالنبي -
~~صلى الله عليه وسلم - في أرض خيبر ms0773، فإنه لا فرق إلا أن ملاك خيبر معينون
~~وملاك أرض العنوة العمرى مطلقون، وإلا فيجوز للمالك أن يؤاجر، ويجوز لرب
~~الأرض الموقوفة أن يعامل مساقاة ومزارعة.
# PageV04P369
# وأما بيعها فلو كان كذلك لباع المساكن أيضا، ولا بيع يكون بثمن مؤبد إلى
~~يوم القيامة، فالتخريج أصل دلت عليه السنة والإجماع، فلا يقاس بغيره، فإن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت
~~الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها" (1) .
# واتفق الصحابة مع عمر على فعله بوضع ذلك، فإن أصل الخراج في قوله (ما
~~أفاء الله على رسوله من أهل القرى) (2) ، فإن هذا فرق بين العقار والمنقول،
~~ومع هذا فقد أضاف القرى إليهم، فعلم اختصاصهم بها.
# وإذا كان كذلك فلو أخذه ذمي من الذمي الأول بالخراج، وعاوضه في ذلك عوضا،
~~لم يكن في ذلك ضرر أصلا، فلا وجه لمنعه، لأنه إن قيل: إنه وقف فهذا لا يخرج
~~بهذه المعاوضات عن أن يكون وقفا، بل مستحق أهل الوقف باق كما كان. وبيع
~~الوقف إنما منع منه لإزالة حق أهل الوقف، وهذا لا يزول بل هو بمنزلة إجارة
~~أرض الوقف بأكثر مما استأجرها، فكأنه قال: أكريتك هذه بما على من الخراج
~~وبالزيادة التي تعجلها لي، ولهذا انتقل إلى ورثة من هي في يده، والوقف لا
~~يباع ولا يوهب ولا يورث، فإذا جاز انتقاله بالإرث على صفة ما كان فالهبة
~~مثله، وكذلك المعاوضة، سواء سميت بيعا أو إجازة. ولهذا جوز أحمد -رحمه
~~الله- إصداق الأرض الخراجية، وما جاز أن يكون صداقا جاز أن يكون ثمنا
~~وأجرة، وما كان ثمنا كان مثمنا، فهذا ينبغي تأمله. PageV04P370
# يبقى إذا أخذه المسلم، فقد يكره لما فيه من الصغار، ولما فيه من الاشتغال
~~عن الجهاد بالحراثة، فهو مانع آخر غير كونه وقفا يختلف باختلاف المصالح
~~والأوقات، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل اليهود على خيبر لقلة
~~المسلمين، فلما كثر المسلمون أجلاهم عمر بأمر النبي- - صلى الله عليه وسلم
~~-، صار المسلمون يعمرونها. فكذلك الأرض الخراجية، إذا كثر ms0774 المسلمون كان
~~استيلاؤهم عليها بالخراج أنفع لهم من أن يبقوا فقراء محاويج، والكفار
~~يستغلون الأرض بالخراج اليسير، فإنهم كانوا زمن عمر قليلا وأهل الذمة
~~كثيرا، وقد انعكس الأمر، فكما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاملهم على
~~خيبر، ثم عمرها المسلمون لفا كثر المسلمون وتضرروا ببقاء أهل الذمة في أرض
~~العرب، فكان المعنى ضرر المسلمين بأهل الذمة واكتفاء المسلمين بالمسلمين.
~~فكيف إذا احتاج المسلمون إلى الأرض الخراجية وتضرروا ببقائها في أيدي أهل
~~الذمة، فرأى من احتاج من المسلمين أن يعاوض الذمي ويقوم مقامه فيها، فإن
~~كان المؤدى أجرة فهو أحق باستئجار أرض المسلمين وعمارتها، وإن كان ثمنا فهو
~~أحق باشترائها، وإن كان عوضا ثالثا فهو أحق به أيضا.
# ومتى كثر المسلمون لم يبق صغار ولا جزية، وإنما كان فيه صغار وجزية في
~~الزمن المتقدم. كما لو أسلم الذمي الذي هو مسئول عليها، فإنها تبقى في يده
~~مؤديا لخراجها، ويسقط عنه جزية رأسه، فكيف يقاس هذا بهذا؟ وإذا جاز أن يبقى
~~بيده بعد إسلامه، فما المانع أن يدفعها إلى مسلم غيره بعوض أو غيره؟
# PageV04P371
# والمسلم لا صغار عليه بحال، فلو كان المانع كونها صغارا لم يجامع الإسلام
~~لجزية الرأس، ولا يقال: هي الرق يمنع الإسلام ابتداء ولا يمنع دوامه، لأن
~~الرق قهرناهم عليه بغير اختيارهم لم نعاوضهم عليه، فكذلك جزية الرأس لا
~~نمكنهم من المقام بالأرض الإسلامية إلا بهما، فهي نوع من الرق، لثبوتها
~~بغير اختيار المسترق.
# وأما الخراج فإنما ثبت بمعنى الخارج واختياره، ولو لم يقبل الأرض ما لم
~~يدفعها إليه، بمنزلة المساقاة المزارعة التي عامل النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - بها أهل خيبر، سواء كان هناك العوض جزءا من الزرع وهنا العوض مسمى
~~معلوم، وهناك لا يستحق شيئا إلا إذا زرعوا، وهنا يستحق إذا أمكنهم الزرع.
~~فنظيره أن العامل في المزارعة يعامل غيره بأقل من الجزء الذي استخرج، وأن
~~المضارب يدفع المال مضاربة، لكن هذا يتوقف على إذن المالك لتعيين المستحق.
# وبالجملة فالموانع من غير جزية كونها وقفا ينظر ms0775 فيها العاقبة، أما جهة
~~الوقف يتوجه كونها مانعا على أصول الشريعة أبدا، وأما التعليل بالاشتغال
~~بالحراثة عن الجهاد فهذا قائم في جميع الأرضين عشريها وخراجيها، وذلك شيء
~~آخر. ونظير هذا الغلط ما عللوا به أرض مكة.
# PageV04P372
# فصل
# ونظير ذلك مكة، فإنه لا ريب فتحت عنوة، ومن قال: إنها فتحت صلحا فاستقر
~~ملك أصحابها عليه، ليجوز لهم ما يجوز في سائر أراضي الصلح من البيع وغيره،
~~كما يقوله الشافعي= فقوله ضعيف لوجوه كثيرة من المنقولات.
# وأيضا فإنه لا يجوز مثل ذلك، فإنه لو صالح الإمام قوما من المشركين بغير
~~جزية ولا خراج لم يجز إلا لحاجة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام
~~الحديبية. أما إذا فتحت الأرض فتح صلح وأهلها مشركون من غير أهل الجزية،
~~فإنه لا يجوز إقرارهم بغير جزية بإجماع المسلمين.
# وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في العام المقبل لما حج أبو
~~بكر لمن لم يسلم منهم أجل أربعة أشهر، وإلا جعله محاربا يستبيح دمه وماله،
~~ولو كان قد فتحها صلحا لم يجز ذلك.
# وأيضا فإنه قد استباح قتل جماعة سماهم، لكن فتحها عنوة وأمن من ترك
~~القتال منهم على نفسه وماله إلا نفرا استثناهم، وكان قد أرسل بهذا الأمان
~~مع أبي سفيان، فمنهم من قبله فانعقد له، ومنهم من لم يقبل فحارب أو هرب،
~~والأمان لا يثبت إلا بقبول المؤتمن كالهدنة. وأما من لم يترك القتال فلم
~~يؤمنه بحال، لكن خص وأم في ألفاظ الأمان، والمقصود واحد، فإن قوله: "ومن
~~دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى
# PageV04P373
# السلاح فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" كلها ألفاظ معناها: من
~~استسلم فلم يقاتل فهو آمن. ولهذا سماهم الطلقاء، كأنهم أسرهم ثم أطلقهم
~~كلهم.
# فقالت الحنفية: لما فتحها عنوة ولم يقسمها، بل أقرها في يد أهلها، صار
~~هذا أصلا في أرض العنوة أنه لا يجوز إقرارها في يد أهلها. قالوا هم
~~وأصحابنا وغيرهم في أحد التعليلين: ولهذا لم يجز ms0776 بيعها وإجارتها، لكونها
~~فتحت عنوة ولم تقسم كسائر أرض العنوة. وربما قالوا: صار إنزال أهل مكة
~~للناس عندهم هو الخراج المضروب عليهم.
# وأما من قال من أصحابنا: إن الخراج على مزارعها، فقد علم بالنقل المتواتر
~~فساد قوله مع إجرائه لقياسه. وهذا التعليل ضعيف لوجوه:
# أحدها: أن أرض العنوة يجوز إجارتها بالإجماع، وبيوت مكة أحسن ما فيها أنه
~~لا يجوز إجارتها، بل يجوز بذلها للمحتاج بغير عوض. فهذا هو الذي يدك عليه
~~الكتاب والآثار والقياس، وأما المنع من بيعها ففيه نظر، فلو كان المانع كون
~~فتحها عنوة لما منع إجارتها.
# الثاني: أن أرض العنوة إنما تمنع من بيع مزارعها، فأما المساكن فلا يمنع
~~ذلك فيها، بل هي لأصحابها. ومكة إنما منعوا من المعاوضة في رباعها التي لا
~~تمنع فيها في أرض العنوة، وهذا برهان ظاهر على الفرق.
# PageV04P374
# الثالث: أن مزارع مكة ما علمنا أحدا من أصحابنا ولا غيرهم منع بيعها أو
~~إجارتها، وإنما الكلام في الرباع، وهي المساكن لا المزارع، فأين هذا من
~~هذا؟
# الرابع: أن تلك الديار كانت للمهاجرين، فقد طلبوا من النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - إعادتها إليهم فلم يفعل، ولو كانت كسائر العنوة لكان قد أعادها
~~إلى أصحابها، لأن الأرض إن كانت للمسلمين، واستولى عليها الكفار، ثم
~~استنقذناها، وعرف صاحبها قبل القسمة= أعيدت إليه.
# الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض لشيء من أموالهم، لا
~~منقولها ولا عقارها ولا شيء أخذ من ذراريهم، ولو أجرى عليها أحكام غيرها من
~~العنوة لغنم المنقول والذرية.
# بل الصواب أن المانع من إجارتها كونها أرض المشاعر التي يشترك في استحقاق
~~الانتفاع بها جميع المسلمين، كما قال تعالى: (سواء العاكف فيه والباد) (1)
~~، فالساكنون بها أحق بما احتاجوا إليه، لأنهم سبقوا إلى المباح، كمن سبق
~~إلى المباح من طريق أو مسجد أو سوق. وأما الفاضل عليهم بذلوا لأنهم إنما
~~لهم أن يبنوا بهذا الشرط، لكن العرصة مشتركة، وصار هذا بمنزلة من يبني بيئا
~~في رباط أو مدرسة أو نحو ذلك له اختصاص ms0777 بسكناه وليس له المعاوضة عليه، أو
~~من يبني بيتا في خانات السبيل، أو في دور الرباط التي تكون في الثغور، ونحو
~~ذلك. كما تكون الأرض فيه مشتركة PageV04P375
# المنفعة للحج والجهاد وللمرور في الطرقات أو للتعليم أو التعبد ونحو ذلك.
# فإذا قال: البناء لي، قيل له: والعرسة ليست لك، وأعيان الحجر ليست لك،
~~التأليف أو التأليف والابعاض مما ليس لك، لا يجوز لك أن تعاوض عنه، وما هو
~~لك فقد اعتضت عنه بتقديمك في الانتفاع بالعرصة.
# أو لأن المكي لما صار الناس يهدون إليهم الهدايا ويجب عليهم قسمها فيهم
~~صار يجب على المكيين إنزال الناس في منازلهم، مقابلة الإحسان بالإحسان.
~~فصاحب الهدي له أن يأكل منه مثلا حيث يجوز، ويعطي من شاء ولا يعتاض عنه،
~~وكذلك صاحب المنزل يسكنه ويسكنه ولا يعتاض عنه.
# وهذا المعنى الذي قد ذكرناه هو السبب الموجب لإبقائها بيد أربابها من غير
~~خراج مضروب عليهم أصلا، لأن للمقيمين بمكة حقا وعليهم حقا وليست لغيرها من
~~الأمصار، ومن هنا يصير التعليل بفتحها عنوة متناسبا لمنع إجارتها كما
~~ذكرناه لإلحاقها بسائر أرض العنوة.
# فإن قيل: فالأرض إذا فتحت عنوة يجوز أمان أهلها على نفوسهم وأموالهم
~~كذلك؟
# قيل: نعم يجوز قبل الاستيلاء أن يؤمن من ترك القتال على نفسه وماله، لما
~~فيه من الانتفاع بترك قتاله، وهو أمان بشرط.
# PageV04P376
# بل إذا جوزنا المن على الأسير بعد الأسر للمصلحة كيف لا يجوز ذلك قبل
~~الأسر للمصلحة كيف ارباب على ماله، لأن ذلك قبل الاستيلاء، كما لو نزلوا
~~على حكم حاكم فإنه من أسلم منهم قبل الحكم عصم نفسه وماله، لأنه لم يتم
~~القهر.
# فأما أهل مكة كان قبل القهر ودخلها قهرا، ولهذا التجوز تظهر الشبهة التي
~~أدحضت كلا من القولين، وأما بعد القهر فيجوز أن يمن على المقهورين ويدفع
~~إليهم الأرض مخارجة. فالذين حاربوا بمكة أو هربوا، ثم أمنهم بعد قهرهم
~~والقدرة عليهم، هذا جائز في أنفسهم كالمن، ولهذا سماهم الطلقاء. وأما في
~~أموالهم فالأرض قد ذكرت بسبب ذلك فيها. والله ms0778 أعلم.
# PageV04P377
# مسألة
# أيهما أولى: معالجة ما يكره الله من قلبك، مثل الحسد والحقد والغل والكبر
~~والرياء والسمعة ورؤية الأعمال وقسوة القلب وغير ذلك مما يختص بالقلب، من
~~درنه وخبثه؟ أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة من الصلاة والصيام وأنواع
~~القربات من النوافل والمندوبات مع وجود الأمور في قلبه؟ أفتونا مأجورين.
# جواب
# شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية الحراني -رضي الله تعالى عنه- الحمد
~~لله. من ذلك ما هو أوجب، وإن الأوجب أفضل وزيادة، كما قال تعالى فيما يروي
~~عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت
~~عليه"، ثم قال: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" (1) .
# والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فإن القلب
~~ملك والأعضاء جنوده، فإذا خبث الملك خبث جنوده. ولهذا قال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "إلا وإن في الجسد مضغة إذا PageV04P378
# صلحت صلح لها الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها الجسد كله، إلا وهي القلب"
~~(1) .
# وكذلك أعمال القلب لابد أن تؤثر في عمل الجسد، وإذا كان المتقدم هو
~~الأوجب سمي باطنا أو ظاهرا، فقد يكون ما يسمى باطنا أوجب، مثل ترك الحسد
~~والكبرياء، فإنه أوجب عليه من نوافل الصيام. وقد يكون ما سمي ظاهرا أفضل،
~~مثل قيام الليل، فإنه أفضل من مجرد ترك بعض الخواطر التي تخطر في القلب من
~~جنس الغبطة ونحوها. وكل واحد من عمل الباطن والظاهر يعني الآخر، والصلاة
~~تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتورث الخضوع ونحو ذلك من الآثار العظيمة، هي
~~أفضل الأعمال، والصدقة. والله تعالى أعلم. PageV04P379
# مسألة
# ما تقول السادة أئمة الدين - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في مدينة لا
~~يذبح فيها شاة إلا ويأخذ المكاس سقطها ورأسها وأكارعها مسكا، ثم يضع ذلك
~~ويبيعه في الأسواق، وفي المدينة من لا يمنع عن شراء ذلك وأكله من أهل الذمة
~~وغيرها، وليس يباع في المدينة رءوس وأكارع وأسقاط إلا على هذا الحكم، ولا
~~يمكن غير ذلك. فهل يحرم شراء ذلك وأكله والحالة هذه أم لا ms0779؟ أفتونا مأجورين.
# فأجاب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه- هذه حكمها حكم ما يأخذها
~~الملوك من الكلف التي ضربوها على الناس، فإن هذه في الحقيقة تؤخذ من أموال
~~أصحاب الغنم التي يبيعونها للقصابين وغيرهم، فإن المشتري يحسب أنه يؤخذ من
~~السواقط، فيسقط من الثمن بحسب ذلك. وهكذا جميع ما يؤخذ من الكلف، فإنها وإن
~~كانت تؤخذ من المشتري فهي في الحقيقة من مال البائع.
# وهذه الكلف دخلها التأويل والشبهة، منها ما هو ظلم محض، ولكن تعذر معرفة
~~أصحابه وردها إليهم، فوجب صرفه في مصالح
# PageV04P380
# المسلمين، وولاية بيعها وصرفها لهم. فالمشتري لذلك منهم إذا أعطاهم الثمن
~~لم يكن بمنزلة من اشترى المغصوب المحض الذي لا تأويل فيه ولا شبهة، وليس
~~لصاحبه ولاية بيعه، حتى يقال: إنه فعل محرما يفسق بالإصرار عليه. وفي المنع
~~من شرائها إضرار بالناس وإفساد بالأموال من غير منفعة تعود على المظلوم،
~~والمظلوم له أن يطالب ظالمه بالثمن الذي قبضه إن شاء أو بنظير ماله.
# والتورع عن هذه من التورع عن الشبهات، ولا يحكم بأنها حرام محض، ومن
~~اشتراها وأكلها لم يجب الإنكار عليه، ولا يقال: إنه فعل محرما لا تأويل
~~فيه، فإن طائفة من الفقهاء أفتوا طائفة من الملوك بجواز وضع أصل هذه
~~الوظائف، كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في كتابه "غياث الأمم" (1) ،
~~وكما ذكر بعض الحنفية. وما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن
~~قبضه، وإن كان يعتقد المشتري أن ذلك العقد محرم. كالذمي إذا باع خمرا وأخذ
~~ثمنها، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع
~~الخمر، كما قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: "ولوهم بيعها وخذوا أثمانها"
~~وهذا ثابت عن عمر -رضي الله عنه- (2) ، وهو مذهب الأئمة. PageV04P381
# وهكذا من عمل معاملة يعتقد جوازها في مذهبه وقبض المال، جاز لغيره أن
~~يشتري منه ذلك المال، وإذا كان هو لا يرى جواز تلك المعاملة، فإذا قدر أن
~~الوظائف يدفعها من يعتقد جوازها لإفتاء بعض الناس له ms0780 بذلك، أو لاعتقاده أن
~~أخذ هذا المال وصرفه في الجهاد وغيره من المصالح جائز، جاز لغيره أن يشتري
~~منه ذلك المال، وإن كان لا يعتقد جواز أصل هذا القبض.
# وعلى هذا فمن اعتقد أن لولاة الأمور فيما فعلوه تأويلا، جاز له أن يشتري
~~ما فعلوه، وإن كان هو لا يجوز ما فعلوه، مثل أن يقبض ولي الأمر عن الزكاة
~~قيمتها فيشتري منه، أو مثل أن يصادر بعض المال مصادرة يعتقد جوازها، أو مثل
~~أن يرى أن الجهاد وجب على الناس بأموالهم وأن يأخذه من الوظائف هذا من
~~المال الذي يجوز أخذه وصرفه في الجهاد، ونحو ذلك من التأويلات التي قد تكون
~~خطأ، ولكنها قد تنازع فيها الاجتهاد.
# وإن كان قبض ولي الأمر المال على هذا الوجه جاز شراؤه منه، وجاز شراؤه من
~~نائبه الذي أمره بقبضه، وإن كان المشتري لا يسوع قبضه. والمشتري لا يظلم
~~صاحبه، فإنه اشتراه بماله ممن قبضه قبضا يتعقد جوازه، وما كان على هذا
~~الوجه فشراؤه حلال على أصح القولين، وليس من الشبهات.
# فإنه إذا جاز أن يشترى من الكفار ما قبضوه بعقود يعتقدون جوازها وإن كانت
~~محرمة في دين الإسلام، فلأن يجوز أن يشترى من المسلم ما قبضه بعقد يعتقد
~~جوازه- وإن كنا نراه محرما- بطريق الأولى والأحرى،
# PageV04P382
# فإن الكافر تأويله المخالف لدين الإسلام باطل قطعا، بخلاف تأويل المسلم.
~~ولهذا إذا أسلم الكفار وتحاكموا إلينا- وقد قبضوا أموالا يعتقدون جوازها،
~~كالربى وثمن الخمر والخنزير- لم تحرم عليهم تلك الأموال، كما لا تحرم
~~معاملتهم فيها قبل الإسلام ولم يحرم، لقوله تعالى: (اتقوا الله وذروا ما
~~بقي من الربا) (1) . فأمرهم بترك ما بقي في الذمم، ولا يحرم عليهم ما
~~قبضوه.
# وهكذا من كان قد عامل معاملات دنيوية يعتقد جوازها، ثم تبين له أنها لا
~~لجوز، وكانت من المعاولات التي تنازع فيها المسلمين، فإنه لا يحرم عليه
~~قبضه من تلك المعاملات على الصحيح. والله تعالى أعلم. PageV04P383
# مسألة
# في الحلاج، هل قتله الشرع مظلوما؟ وهل كان قتله بحكم الشرع ms0781 أم لا؟ وهل
~~إذا قال قائل: إنه قتل مظلوما وإن الذي قاله الحلاج حق- فهل هو مصيب أم
~~مخطئ؟ أفتونا مأجورين.
# جواب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه-
# بل قتل ظالما غير مظلوم، وقتل على الزندقة التي تعرف حاله، وإن الذي قاله
~~كفرا باطنا وظاهرا يوجب قتله باتفاق أهل الإسلام علمائهم وفقرائهم. فإن أصر
~~على خلاف ذلك عوقب عقوبة مردعة. ولا ينتصر للحلاج إلا جاهل بحاله أو منافق
~~عدو لله ورسوله. والله أعلم.
# وأخبار الحلاج مذكورة في كتب المصنفين، كأبي بكر الخطيب (1) وأبي الفرج
~~ابن الجوزي (2) وسبطه. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي (3) أن جمهور المشايخ
~~أخرجوه عن الطريق. وكان ساحرا، وله مصنف في السحر. والله سبحانه وتعالى
~~أعلم. PageV04P384
### | مسألة
# في رجل قرأ القرآن وقال: هذا هدية مني للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل
~~يجوز هذا أم لا؟ وهل هو محتاج إلينا حتى نصلي عليه أو نسلم عليه؟
# الجواب
# لشيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه-
# الحمد لله. لم يكن من عمل السلف أنهم يصلون ويصومون ويقرأون ويهدون للنبي
~~- صلى الله عليه وسلم - ,وكذلك لم يكونوا يتصدقون عنه ويعتقون عنه وإن
~~فعلوا ذلك، لأن كل ما يفعله المسلمون فله مثل أجر فعلهم من غير أن ينقص من
~~أجورهم شيئا، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص في
~~لك من أجورهم شيئا". بخلاف الأبوين، فإنه ليس كل ما يفعله الولد يكون
~~لوالده مثله، وإن كان الأب ينتفع بعمل ولده. PageV04P385
# وأما صلاتنا عليه وسلامنا عليه وطلبنا له الوسيلة فهذا دعاء فيه لنا،
~~يهحيبنا الله عليه، ويستحب هذا الدعاء في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~فيزيده الله به من فضله ويثيب عليه الداعي، ولا منة له عليه، بل لله المنة
~~عليه، وسائر الخلق محتاجون إلى الله تعالى، والأمة محتاجون إلى ما بعث الله
~~تعالى به نبيها - صلى الله عليه وسلم ms0782 -، فإنما هداهم الله تعالى به. والله
~~أعلم.
# PageV04P386
# رسالة في الرد على بعض أتباع سعد الدين ابن حمويه
# PageV04P387
# بسم الله الرحمن الرحيم
### | ..........
# أهداب الجفن التحتاني، والتفرقة الملكية في العلويات أهداب الجفن
~~الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها، والله تعالى نورها.
~~وإنما قلنا: إن العلويات والسفليات أجفان العين، لأنهما يحافظان على ظهور
~~النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان لتفرق نور عينه وانتشر، بحيث لا يرى
~~شيئا أصلا، فكذلك العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط، بحيث لا يظهر فيه
~~شيء أصلا ورأسا. ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه. هذا هو الحق الصريح
~~المتبع، لا كما يرى المنحرف عن منهاج الإسلام ودينه، المتحير في مبدأ
~~ضلالته وجهله.
# فنقول: هذا الكلام لولا أني علمت مقصود الشيخ به وأنه عنده كلام عظيم فيه
~~كشف حقيقة الأمر، وأن مقصود الشيخ إنما هو المعرفة والهداية، لكنا نقابله
~~بما يستحقه، على حد ما توجبه الشريعة على من قامت عليه الحجة، لكن الله
~~يقول: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15)) (1) ، وقال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" (2) ، وقال: "إن الله
~~رفيق يحب الرفق، ويعطي PageV04P389
# على الرفق ما لا يعطي على العنف " (1) ، وقال: "ما كان الرفق في شيء إلا
~~زانه، ولا كان العنف في شىء إلا شانه" (2) . وقد قال لموسى وهارون: (فقولا
~~له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)) (3) .
# فهذا الكلام وأمثاله الذي فيه من الكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه
~~وتنشق الأرض وتخز الجبال هدا، إذ هو أعظم من قول الذين قالوا: اتخذ الله
~~ولدا، إذا صدر من قوم يظنون ويظن بهم مشايخ الإسلام أهل التحقيق والعرفان،
~~احتاج المخاطب لهم إلى شيئين: قوة عظيمة، وغضب لله، وسلطان حجه، وقدرة يدفع
~~بها شتم الله وسبه والكفر به؛ ورفق ولين يوصل به إلى المخاطبين حقيقة
~~البيان. والرفق في الجهاد باليد واللسان إنما يكون بالنسبة إلى العنف في
~~الجهاد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على
~~[كل] شيء، فإذا قتلتم ms0783 فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" (4) .
# فلابد من القتل الشرعي، ولكن الإحسان فيه يكون بأن يقتل أحسن القتلات،
~~وكذلك دفع الكفر والفرية على الله والإلحاد في PageV04P390
# أسمائه وآياته وجحود ذاته وصفاته، لا يكون الإحسان والرفق في دفعه إلا
~~بأحسن وجوه ذلك، كما قال الله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
~~وجادلهم بالتي هي أحسن) (1) ، وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي
~~أحسن إلا الذين ظلموا منهم) (2) . فمن ظلم وظهر عناده عوقب حينئذ عقوبة
~~مثله، بالقتل المشروع إن إستحق ذلك، وإلا فيما دونه على حسب الأفعال
~~والأحوال وما يتعلق بذلك.
# ولا شك أن طريق الله عظيم، وتحقيق الإيمان هو غاية مطلوب الإنسان، وهؤلاء
~~المتكلمون في هذا الباب من حين ظهور دولة التتار قد خلطوا في هذا الباب
~~تخليطا عظيما، وخلطوا التوحيد بالإلحاد، بل منهم من جرد الإلحاد تجريدا،
~~فيغتر بإضلالهم خلق كثير معتقدين أنهم على غاية الهداية والحق الصريح، فإذا
~~وضح الحق الذي أنزل الله به كتبه وبعث به رسله، قامت الحجة على من بلغه
~~ذلك. فمن خرج عنه حينئذ استوجب ما أمر الله به في مثله.
# وعلمت أن الشيخ لما وقف على الذي كتبه إلي الشيخ نصر في الاتحادية، ظن من
~~ظن أنه قد يرد عليهم من لم يفهم حقيقة قولهم، فأراد الشيخ أن يبين ذلك، ولم
~~يعلم أن مثل هذا الكلام وأمثاله قد صار مضحكة عند الصبيان ومكفرة عند ذوي
~~العلم والإيمان، وأنهم قد علموا من هذا الكلام وأمثاله ما لم يعلمه غيرهم،
~~وهم أعرف بمذهب كل واحد من هؤلاء من أصحابه، بل من نفسه. فإن الواحد من
~~PageV04P391
# هؤلاء يتناقض في كلامه ولا يدري أنه يتناقض، لأن أصلهم فاسد في العقل
~~والدين.
# ولا ريب أن الشيخ إنما استمد هذا الكلام من كلام الشيخ سعد الدين ابن
~~حمويه، وقد قيل: إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فاجلس إلى غيره. وقد كان من
~~الواجب على من خاطبنا في هذا المقام أن يتأمل مع كلام سعد الدين كلام ابن
~~العربي ms0784 في "الفصوص" وفي كتاب "الهو" و"الجلالة"، وفي مواضع من "الفتوحات"
~~وفي غير ذلك؟ ويتأمل كلام القونوي في كتاب "مفتاح غيب الجمع والوجود"؛
~~ويتأمل كلام ابن سبعين في "البد" و"الإحاطة" وغيرهما؛ ويتأمل كلام
~~التلمساني في "شرح الأسماء"؛ ويتأمل آخر قصيدة ابن الفارض التي هي "نظم
~~السلوك"، مثل قوله: (1)
# لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صفت
# كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة
# وما كان لي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدتي
# ومثل قول ابن إسرائيل (2) : PageV04P392
# وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق
# وقوله:
# وقلقل أن مزت على جسدي يدي لأني في التحقيق لست سواكم
# إلى أنواع من هذه المنظومات والمنثورات.
# ثم يتأمل بنور الإسلام: هل هذا القول يرضاه اليهود والنصارى والمشركون،
~~أم هو شر من مقالات هؤلاء؟ ويعرض ما قاله هو على كتاب الله الذي أنزله من
~~السماء وسنة رسولي خاتم الأنبياء وما اتفق عليه أهل العلم والإيمان، فإن
~~ذلك هو سلطان الله ونوره وهداه وبرهانه، ثم بعد هذا يتكلم.
# ونحن فلم نكن أدخلنا سعد الدين ابن حمويه في هؤلاء، لأنه كان قد صحب
~~الشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا الشيخ نجم الدين هو من أجل شيوخ تلك البلاد
~~وأصحهم إسلاما وأبعدهم عما يخالف الكتاب والسنة. وكان الشيخ سعد الدين أخذ
~~منه طريقة صحيحة، لكنه أيضا مزجها بشيء من طريقة هؤلاء. وذلك لأن شيوخ سعد
~~الدين أربعة:
# عمه صدر الدين، وإليه تنسب خرقته، فإن بني حمويه بيت قديم معروف بالمشيخة
~~والتصوف.
# والشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا شيخ جليل من أعظم شيوخ تلك البلاد قدرا
~~وأصحهم طريقة، وله أصحاب كبار: كالشيخ مجد الدين البغدادي، والشيخ علي
~~لالا، والشيخ سيف الدين
# PageV04P393
# الباجوري وغيرهم.
# والثالث: الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو أيضا من أجلاء المشايخ،
~~وأكثرهم حرصا على متابعة السنة في أعمالهم.
# وأما الرابع فهو الملقب بمحيي الدين ابن العربي، ومن هذا الشيخ دخل في
~~كلام سعد الدين الاتحاد ms0785.
# وقد قدم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني
~~حاجا، وخاطبته في حال هؤلاء، وبينت له من كلام ابن العربي وغيره ما كان
~~طالبا له، حتى رجع عن تعظيم هؤلاء، وكفر بما يقوله ابن العربي من الكفريات،
~~وقال: ما كنا نعرف حقيقة حال هؤلاء، ولا نعرف أن كلامهم مشتمل على هذا كله.
~~مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيما لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد
~~الدين. وجرت لنا معه فصول أظهر الله بها الحق وبين حال التوحيد وتلبيس
~~هؤلاء المنافقين.
# وحدثني هذا الشيخ عن شيخه عز الدين الطاوسي أنه سمع الشيخ سعد الدين- وقد
~~سئل عن ابن العربي وعن الشيخ شهاب الدين، فقال:- أما ابن العربي فبحر لا
~~ساحل له، ولكن نور متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبين الشيخ شهاب
~~الدين شيء آخر.
# وهدا كلام صحيح، فإن شهاب الدين شيخ مسلم محب لسنة رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - وشريعته، سالك طريقة أمثاله من المشايخ أهل المعرفة والدين،
~~عظيم القدر في وقته، رضي الله عنه.
# PageV04P394
# وأما قوله عن ابن العربي: "بحر لا ساحل له" فلعمري إنه بحر، لكن ملح
~~أجاج، فإنه كثير الخوض في أحوال العالم وطبقات الكائنات، واسع الخيال، قادر
~~على الكلام، وهو في باطله أشد تمكنا من الشيخ شهاب الدين في حقه، فلهذا
~~جعله سعد الدين أوسع، وإن كان شهاب الدين أقوم، لكن الشيخ شهاب الدين من
~~خيار أمة محمد، وإن كان غيره من المشايخ الكبار- كالشيخ عبد القادر-
~~الواصلين إلى حقائق التوحيد النبوي الذي بعث الله به رسوله، وما اشتمل عليه
~~من أسماء الله وصفاته، التي بها يقتدرون على قمع هؤلاء الملاحدة ودفع
~~الجهمية وضروبهم؛ أرفع درجة، وأعظم علما وإيمانا، وأعظم جهادا ممن ليس
~~مثلهم، ممن يكون معرفته وتوحيده فيه نوع إجمال، لا يتميز فيه أهل المعرفة
~~والسنة المحمدية ممن خرج عن بعض ذلك من أهل النكرة والبدعة. فهم في ذلك
~~بمنزلة ملوك المسلمين الذين ضعف إيمانهم وجهادهم عن مقاومة جنكسخان ms0786 ونحوه،
~~بخلاف المؤيدين بكمال العلم والإيمان والجهاد، المتبعين لسيرة الخلفاء
~~الراشدين كالأئمة والمشايخ الكبار، فهؤلاء لا يقوم معهم لأهل الضلال والبدع
~~قائمة.
# فسعد الدين- مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه
~~أحيانا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانا يجرد الاتحاد تجريدهم، بل يسلك
~~لنفسه مسلكا أبلق لا أبيض ولا أسود؛ وأحيانا يتكلم بكلام أهل الإسلام
~~الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -.
# PageV04P395
# وأما صاحبه الطاوسي ففي كلامه من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - والباطل شيء كثير جدا. وتكلم في الحروف والدوائر بكلام انفرد به، لا
~~يشبه كلام أبي الحسن الحرالي ولا كلام أبي العباس البوني، وهو كلام فيه
~~أشياء حسنة مناسبة، وفيه أشياء لا فائدة فيها، وفيه أشياء ضعيفة بل باطلة
~~من جنس كلام سائر الناس، وفيه أشياء من الهذيان والباطل التي لا يقولها
~~عاقل. والله تعالى يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا يجعل في
~~قلوبنا غلا للذين آمنوا.
# وإذ قد ابتدأ الشيخ بدعوى أن هذا هو الحق الصريح، فنحن نذكر ما تبين به
~~حقيقته. أول ما في هذا الكلام أنه دعوى مجردة بلا حجة ولا دليل، وإذا كان
~~من تكلم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يقبل منه إلا بالحجة
~~والدليل، فمن تكلم في خالق الخلق ورب العالمين بكلام لا يوجد في كتاب الله
~~ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا قاله أحد من السلف ولا
~~شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدق في عمومه، بل جميع أهل العلم والإيمان
~~والمشايخ المقبولون يكفرون من يقوله، ولم يأت عليه لا بحجة ولا دليل، كيف
~~يقبل منه؟
# ثم إن هذا الباب كيف يجوز لمؤمن بالته ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب
~~والسنة؟) ألم يسمع الله يقول: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا
~~على الله إلا الحق) (1) ، ألم يسمع الله PageV04P396
# يقول: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما ms0787 بطن والإثم والبغي بغير
~~الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا
~~تعلمون (33)) (1) .
# ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه:
# الأول
# قوله في صدر الكلام: "كان الله ولا شيء معه"، فهذه الكلمة مأثورة عن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) . ثم قال في آخره: "وهو الآن على ما عليه
~~كان"، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يؤثر عن
~~أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذكر في شيء من كتب
~~الحديث. وقد اعترف بذلك ابن عربي وغيره، فقال: قال النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: "كان الله ولا شيء معه"، قال: وزاد العلماء "وهو الآن على ما عليه
~~كان".
# وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~ويجعلون هذه الكلمة أس زندقتهم، وغرضهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس
~~معه غير ولا سوى، بل الوجود هو عينه ونفسه، فلا الأصنام والأوثان والجن
~~والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيره، وهو
~~الآن ليس معه غيره. PageV04P397
# فإذا عرف أن هذه الكلمة لا أصل لها في الشريعة انهدمت قاعدتهم. ولفظ
~~الحديث الذي في البخاري (1) عن عمران بن حصين قال: جاء وفد بني تميم إلى
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم! "،
~~فقالوا: بشرتنا فأعطنا، فجاء أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن
~~إذ لم يقبلها بنو تميم"، فقالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، فقال: "كان
~~الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء". قال: وجاء
~~رجل فقال: أدرك ناقتك، فخرجت فإذا السراب ينقطع دونها، فوددت أني كنت
~~تركتها ولم أقم.
# والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوز أن نجعل مع الله إلها آخر، فقال
~~تعالى: (لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (22)) (2) ، وقال
~~تعالى: (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ms0788 ملوما مدحورا (39)) (3) ،
~~وقال: (الذين يجعلون مع الله إلها آخر) (4) . لم يقل: لا تجعل مع الله
~~مخلوقا ولا مصنوعا، أو لا تجعل مع الله عبدا ولا مملوكا، أو لا تجعل مع
~~الله عبادا له مخلصين، بل صرح بأنه مع عباده عموما وخصوصا، فقال: (ما يكون
~~من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا
~~أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا) (5) ، وقال PageV04P398
# لموسى وهارون: (إننى معكما أسمع وأرى (46)) (1) ، وقال: (إنا معكم
~~مستمعون (15)) (2) ، وقال: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا (40)) (3)
~~، وقال: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)) (4) ، وقال:
~~(واصبروا عن الله مع الصابرين (46)) (5) .
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم أنت الصاحب في السفر
~~والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا" (6) . وقال
~~"أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت" (7) . وفي حديث: اللبيب في
~~الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء (8) .
# فإذا كان ما ثم غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل
~~أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله (ولا تجعل مع الله إلها
~~آخر) (9) يقتضي أنه ثم شيء غيره، شيء لا يجوز أن نجعله إلها، ولكن يجوز أن
~~نجعله غير إله عبدا ومملوكا. PageV04P399
# وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلها فما جعلت معه إلها، إذ ما ثم غيره، فيجوز
~~عندهم أن يجعل كل شيء إلفا وما يكون قد جعل معه إلها، إذ ما ثم معه شيء
~~آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرح به صاحب "الفصوص"، وقال في فمن
~~الحكمة النوحية: (ومكروا مكرا كبارا (22)) (1) لأن الدعوة إلى الله مكر
~~بالمدعو، كأنه ما عدم في البداية، فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا
~~عين المكر، وقالوا في مكرهم: (لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا
~~يغوث ويعوق ونسرا (23)) (2) لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا
~~من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها، يعرفه من ms0789 عرفه ويجهله من جهله. كما
~~قال في المحمديين: (*وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (3) ، وما قضى الله
~~بشيء إلا وقع. فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق
~~والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة
~~الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود.
# ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عباد الأصنام ما عبدوا إلا
~~الله، وإنه لا يتصور أن يعبد إلا الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود
~~هو عين الله= كيف يؤمن بقوله (ولا تجعل مع الله إلها آخر) ؟ وكيف يتصور
~~عنده أن ينهى أحد عن أن يجعل مع PageV04P400
# الله إلها آخر، وليس مع الله شيء لا إله ولا غير إله! وهذا المنهي عندهم
~~هو الله، وليس هو غيره!
# الوجه
### | الثاني
# قوله: "يحققوا أن الحق كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسه
~~بوحدته الذاتية عالما بنفسه وبما يصدر منه،
# وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهدا لها".
# هذا الكلام مضمونه أن الله كان عالما بالأشياء قبل كوبها، وهذا صحيح، لكن
~~العبارة فيها طول، وفيها ألفاظ موهمة، مثل قوله: "بما يصدر منه "، فإن هذا
~~يوهم مذهب الدهرية الذين يقولون: إن العالم صدر منه وفاض عنه. فلو قيل:
~~"عالم بنفسه وبما يخلقه وبما يريد أن يخلقه" كان ذلك من عبارات المسلمين
~~التي جاء بها الكتاب والسنة. وكذلك لو قيل: "كان رائيا لنفسه" كان ذلك
~~مطابقا لما جاء به الكتاب والسنة من وصفه بالرؤية، وكذلك يقول العلماء.
# وأما لفظ التجلي فإنه لا يكاد يستعمل إلا في ظهور الشيء بعد خفائه، كما
~~قال: (والنهار إذا جلاها (3)) (1) ، وكما قال: (فلما تجلى ربه للجبل) (2)
~~ونحو ذلك. فيشعر ذلك أنه رأى نفسه بعد أن لم PageV04P401
# يكن رآها، وهذا باطل. والمتكلم لم يقصد ذلك، ولكن بتعمقه في العبارات
~~وخروجه عن ألفاظ القرآن والسنة يقع في هذه المزالق.
# وأما قوله "كانت بأسرها منكشفة في حقيقة العلم شاهدا لها"، فهنا كلامان:
# أحدهما: أن هذا ms0790 يقتضي أنه كان يرى المعدومات قبل وجودها. وهذه مسألة قد
~~تنازع فيها المسلمون، فأما العلم بها قبل وجودها فهو حق، لم يخالف به إلا
~~شرذمة كفرهم الأئمة كالشافعي وأحمد. وأما سمع المعدوم ورؤية المعدوم فذهب
~~أكثر العلماء والمتكلمين من أصحاب الشافعي وأحمد والأشعرية والمعتزلة إلى
~~امتناع ذلك؟ وذهب طائفة منهم من السالمية وغيرهم إلى جواز ذلك. وهذا قريب،
~~ليس هذا مما يخاطب فيه هؤلاء الاتحادية، فإن هؤلاء لو قالوا بقول المعتزلة
~~أو اليهود أو النصارى كان خيرا من قولهم، وأما قولهم فلم يظهر في الإسلام
~~إلا مع ظهور دولة التتار. لكن كان حق القائل أن يذكر حجة تدك على أن
~~المعدومات مشهورة مرتبة، فإن موارد النزاع إذا لم يكن فيها حجة كانت دعوى
~~مجردة.
# الكلام الثاني: أن يعلم أن قولنا "كان يعلم الأشياء قبل كونها" ليس في
~~ذلك إثبات لكون المعدوم شيئا في نفسه، فإن مذهب جماهير المسلمين وجماهير
~~العقلاء أن الشيء قبل وجوده ليس بشيء أصلا، وأنه وإن كان معلوما لله فالعلم
~~بالشيء لا يقتضي أن يكون موجودا ولا ثابتا، إلا أن يقيد فيقال: موجود في
~~العلم وثابت
# PageV04P402
# في العلم. وذلك أن الله يعلم الموجود والمعدوم والواجب والممكن والممتنع،
~~وقد اتفق العقلاء على أن الممتنع ليس بشيء، وإنما نازع بعضهم في الممكن،
~~فقال فريق من المعتزلة والرافضة: المعدوم الممكن شي ثابت في نفسه خارجا عن
~~العلم. ثم هؤلاء متفقون على أنه ليس كل ممكن وجد.
# فهذا أيضا ينبغي أن نعرفه، فلا فرق عند أهل السنة وجماهير الخلق بين
~~الوجود والثبوت، بل المعدوم كما قال الله تعالى: (وقد خلقتك من قبل ولم تك
~~شيئا (9)) (1) ، وقال: (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا
~~(67)) (2) . فإذا قال: "إنه معلوم لله" فهذا حق، لا فرق بين أن يقال: هو
~~ثابت في العلم أو موجود في علم الله.
# الوجه الثالث
# قوله: "فلما تحركت الإرادة الأزلية أن يعرض نفسه على الحقائق الكونية
~~المعدومة في نفسها المشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق، نزلت ms0791 الحلية
~~الإلهية من حقيقة كانه إلى سر شأنه، فعند ذلك قارن الألف النون، فعبر عنها
~~ب"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سميت عقدة "حقيقة النبوة"، فهو صورة علم الحق
~~بنفسه الواقعة بصورة العمل، المطابقة للصفة المعلومية، فصارت مرآة
~~PageV04P403
# لانعكاس الوجود المطلق محلا لتمييز صفاته القديمة، فظهر الحق فيه بصورة
~~وصفة واصفا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو الموصوف والثاني هو الواصف؛
~~والأول هو المسمى باسم الله، والثاني هو المسمى باسم الرحمن. فلهذه الحقيقة
~~طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف
~~إلى ظهور العالم منه، وهو المسمى بالروح الإضافي".
# ومضمون هذا الكلام أن الله لما أراد أن تتجلى الحقائق الثابتة في علمه
~~كما كانت متجلية له نزل من الذات إلى الفعل فقال: "أنا"، وظهرت حينئذ حقيقة
~~النبوة، وهي صورة علم الحق بنفسه، فظهر فيها الوجود المطلق الذي كان في علم
~~الله بطريق الانعكاس، كما ينعكس شعاع أحد المرآتين إلى الأخرى، وصارت محلا
~~لتمييز صفاته القديمة، فصار الحق واصفا موصوفا، واصفا باعتبار ظهور علمه
~~المطابق له وموصوفا، وجعل الموصوف هو الله والواصف هو الرحمن، وجعل لهذه
~~الحقيقة التي سماها عقدة "حقيقة النبوة" طرفا إلى الحق لكونها عالمة به،
~~وطرفا إلى ظهور العالم فيه وهو المسمى بالروح الإضافي.
# وهذا كله عندهم في نفس الرب، وهذا كله عنده قديم أزلي كما قال في آخر
~~كلامه، فيكون المصطفى محمد نبيا في الأزل والأبد وسطا بين الله وعباده.
# وأنا أعلم أن هذا الذي يصفونه ليس له حقيقة في الخارج، وإنما هو شيء
~~تخيلوه، ولهذا يصعب تصوره، لأن الخيالات
# PageV04P404
# الفاسدة ليس لها حد. وما أكثر ما يوجد هذا في كلام هؤلاء الملحدة في
~~أسماء الله وآياته المشابهين للإسماعيلية والنصيرية والفرعونية، ولهذا كان
~~العلماء يقولون عنهم: لهم خيال واسع، والخيال والوهم محل الشياطين الذين
~~يتنزلون عليهم بهذا.
# فيقال: قولك "تحركت الإرادة الأزلية" عبارة فيها إنكار، فلو قال: "توجهت
~~أو تعلقت الإرادة" كان أحسن. ومتى كانت هذه الحركة؟ أهي قديمة معه لم تزل ms0792
~~أم كان ذلك بعد أن لم يكن؟ فإن كان قديما بطل قولك "فلما تحركت الإرادة
~~الأزلية نزل من كانه إلى شأنه"، فإن هذا ظرف لفعلات يقتضي تحولا من حال إلى
~~حال، والفعل الذي له ظرف زمان لا يكون إلا حادثا، ولذلك قلت: "فعند ذلك
~~قارن الألف النون فعبر عنها". والقديم ليس له ظرف زمان يتحول فيه، فإنه لم
~~يزل، وإن قلت: إن هذا محدث بطل قولك بعد هذا بنبوة محمد - صلى الله عليه
~~وسلم - من الأزل إلى الأبد.
# وأيضا فقولك "يعرض نفسه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة
~~أعيانها في علمه" كلام باطل، فإن
### | الله لا يعرض نفسه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء،
# وإنما يتجلى لأوليائه يوم القيامة في الجنة كما جاءت الآثار الصحيحة،
~~ويتجلى أيضا لعباده في عرصات القيامة. وقد قيل: إن محمدا رآه ليلة أسري،
~~وأما من سوى محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يراه بعينه في الدنيا، كما
~~ثبت في صحيح
# PageV04P405
# مسلم (1) عن النواس بن سمعان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر
~~الدجال قال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدا منكم لن يرى
~~ربه حتى يموت". وكذلك روي في حديث عبادة ومعاوية وغيرهما: "واعلموا أنكم لن
~~تروا ربكم حتى تموتوا" (2) . ومن قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى
~~ربه ليلة المعراج فإنه لا يقول: إنه تجلى له، فإن التجلي كمال الظهور، ولم
~~يكن الأمر كذلك، بل قد روى مسلم في صحيحه (3) عن عبد الله بن شقيق قال: قلت
~~لأبي ذر: لو رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لسألته، قال: عما كنت
~~تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال: قد سألته فقال: "نور أنى أراه"!
~~وفي رواية: "رأيت نورا". فهذا من يثبت الرؤية يقول: أراد نفي العين، لأن
~~نوره أعشى بصره، ومن ينفيها يحتج به على نفيها، فقد اختلف أهل السنة
~~-واختلفت الرواية عن الإمام أحمد- هل يقال: رآه بعيني رأسه أو بعيني قلبه،
~~أو يقال: رآه ولا يقيد ms0793؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عند أحمد.
# فأما رؤية القلب -وهو شهود أهل المعرفة- فهذا موجود في الدنيا لغير النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - كلما ولي، وكذلك رؤية المنام، لكنه سبحانه يرى في
~~صور بحسب حال الرائي، فإن رؤية المنام تقتضي ذلك. وأما الأحاديث التي فيها:
~~"رأيت ربي في صورة كذا وكذا، فوضع PageV04P406
# يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله على صدري" (1) فهذه كانت في المنام،
~~فإن هذه لم تكن ليلة المعراج لأنها كانت بالمدينة، فإن فيها أنه احتبس عنهم
~~في صلاة الفجر، ورواها معاذ بن جبل وأم الطفيل وغيرهما ممن لم يصل خلفه إلا
~~في المدينة، والمعراج كان بمكة بنص القرآن وبالسنة المتواترة والإجماع، ولم
~~يقل أحد: إنه رآه بالمدينة.
# فأما الأحاديث التي روي فيها أنه رآه في سكك المدينة أو في الطواف أو في
~~عرفة فكلها موضوعة مكذوبة (2) .
# والغرض هنا أنه لم يقل قط مسلم: إن الله عرض نفسه على معلوماته أو
~~مخلوقاته، ولا إنه تجلى لمعلوماته أو لجميع مخلوقاته، بل موسى قد سأل
~~الرؤية فقال: (لن تراني) (3) ، وقال: (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه
~~فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا) (4) . فإذا كان موسى عليه السلام
~~عجز عن PageV04P407
# رؤيته في هذه الدار، والجبل جعله دكا لما تجلى له، وقوله (فلما تجلى ربه
~~للجبل) يدل على أنه لم يكن متجليا له قبل ذلك= فكيف يقال: إنه عرض نفسه أو
~~تجلى للكلاب والخنازير والقرود والديدان والكفار والمنافقين والجن
~~والشياطين؟ كما قال: "عرض نفسه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها
~~المشهودة أعيانها في علمه"، فإن علمه محيط بكل شيء مما ذكر ومما لم يذكر،
~~فإن كان قد عرض نفسه على ذلك كله فقد لزم ما ذكر من الكفر الفاحش وما هو
~~أفحش منه.
# ثم وأيضا فإن المعلوم قبل وجوده ليس هو سببا موجودا ثابتا يعرض فيه شيء
~~أو يتجلى له شيء أصلا، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان
~~كيف كان يكون ms0794، كالجمل الشرطية المعلقة بشرط معدوم مثل قوله: (ولو علم الله
~~فيهم خيرا لأسمعهم) (1) ، وقوله: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) (2) ،
~~وقوله: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) (3) ، وقوله: (ولو شئنا لآتينا
~~كل نفس هداها) (4) ، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا
~~(82)) (5) ، (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (6) ونظائره متعددة.
~~PageV04P408
# بل قد يعلم الله بعض عباده ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان
~~يكون، فإنا نعلم ما مضى من القرون والأحوال، ونعلم أن القيامة ستقوم، وأنه
~~سيدخل قوم الجنة وقوم النار، وقوم ما أخبر الله به من أن أهل النار لو ردوا
~~لعادوا لما نهوا عنه.
# ثم إذا علمنا الحوادث المستقبلة لم يكن أعيانها الحقيقي الخارجية موجودة
~~في علمنا، بل وكذلك الماضية، فإن نفس السماوات والأرض ليست في نفوسها، فكيف
~~يتصور أن يعرض نفسه أو يتجلى لشيء ما وجد بعد ولا صار له حقيقة؟ ولكن علم
~~أن سيوجد. فإذا علم الله أنه سيولد ولد بعد حول، فهل يتصور قبل أن تحبل به
~~أمه أن يعرض عليه شيئا أو يتجلى له شيء من الحقائق؟ وهل يتصور أن يكون
~~المعدوم -وإن علم أن سيوجد- هل يتصور أن يكون عليما تجلت له الحقائق؟ فضلا
~~عن أن يعرض نفسه عليه.
# وأيضا "نزلت الحلية الإلهية من حقيقة كانه إلى سر شأنه" فيه أولا لفظه
~~"كانه" كما استعملت أولا، وهذا خطأ، فإن الفعل لا يضاف، ولا يقال: "كانه
~~وصاره وأصبحه"، وإن كان أبو الحكم ابن برجان يستعمل هذا اللفظ في "شرح
~~الأسماء الحسنى"، وهو كتاب جليل كثير الفوائد، لكن هذا اللفظ خطأ.
# ثم ما هذا "الشأن" الذي نزل إلى سره؟ أهو شيء منفصل عنه أم متصل به؟ فإن
~~كان منفصلا عنه فكيف يكون شيء منفصلا عنه قبل أن يخلق شيئا؟ لا سيما على
~~أصلهم الإلحادي أنه ما ثم شيء
# PageV04P409
# منفصل عنه. وإن كان متصلا به فكيف ينزل من كانه إلى متصل به وقائم به؟
~~وهل كان قبل هذا ms0795 النزول في غير شأنه ثم نزل إلى شأنه؟ أم لم يزل في شأنه؟
# ثم عندكم هو الآن على ما هو عليه كان ليس معه شيء، فهذا الشأن الذي نزل
~~إليه من كانه الأول هو شيء أم لا؟ إن كان شيئا فقد صار معه شيء آخر لم يكن
~~معه، وإن لم يكن شيئا فلم ينزل إلى شيء، فلم يزل في كانه ولم يتجدد شيء،
~~فما الذي بدا مما بدا؟
# هؤلاء قوم تخيلوا خيالات فاسدة، وسمعوا ألفاظا، فوضعوها على غير مواضعها
~~بحسب تلك الخيالات، فإذا حققت معانيها جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان
~~زهوقا. (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك
~~يضرب الله الأمثال (17)) (1) .
# سمعوا قوله (كل يوم هو في شأن (29)) (2) مع قوله "كان ولا شيء معه"، وقول
~~الله ورسولي حق، فإن الله كان ولا شيء معه، وهو في كل يوم في شأن من شئونه،
~~وهو أفعاله كما جاء في الحديث: "يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع
~~آخرين". ليس في هذا نزول عن كانه إلى شأنه، وإنما هو خالق خلق وأبدع وفطر
~~وأنشأ، ويحدث الله من أمره ما يشاء. PageV04P410
# وأيضا "فعند ذلك قارن الألف النون، فعبر عنها ب"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة
~~سميت عقدة "حقيقة النبوة"، يقال له: أين كانت الألف والنون قبل ذلك حتى
~~تقارنا حينئذ؟ وما الذي أوجب اقترانهما بعد افتراقهما؟ وإن حدثا حينئذ فما
~~الموجب للحدوث؟ وقوله "عبر عنها بأنا" فقبل ذلك ما كان يقال له أنا لما كان
~~ولا شيء معه، لم يكن يستحق أن يقول أنا ولم يقل أنا، ولم يستحق أن يقول أنا
~~حتى نزل هذا النزول الذي ليس له حقيقة ولا معقول.
# وكذلك هذه النقطة التي ظهرت، ما الموجب لظهورها؟ وأين ظهرت هذه النقطة؟
~~ثم أغرب من هذا كله تسمية هذه النقطة عقدة حقيقة النبوة، ياليت شعري من
~~الذي سمى هذه النقطة بهذا الاسم؟ هل أنزل الله بهذا الاسم من سلطان؟ أم هي
~~أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ms0796 ما أنزل الله بها من سلطان؟
# قد علمنا وتحققنا أن هذا الاسم المفترى ليس له وجود في شيء من الكتب
~~المنزلة من السماء، ولا هو مأثور عن أحد من الأنبياء، ولا تكلم به أحد
~~السلف القدماء ولا من المشايخ والعلماء إلا هؤلاء المقاربون لدولة التتار
~~الذين بشؤم الكفر به استولى الكفار والفجار، وجاسوا خلال الديار، حيث
~~ألحدوا في أسماء الله وآياته، وغيروا ما بعث الله [به] رسوله من الهدى ودين
~~الحق الذي وعد أن يظهره على الدين كله.
# ثم هذه النقطة العجيبة التي سميتموها عقدة حقيقة النبوة أهي من الأعيان
~~التي تقوم بنفسها من غير محل؟ أم هي من الصفات
# PageV04P411
# التي لابد لها من محل؟ فإن كانت عينا قائمة بنفسها فإما أن تكون هي الحق
~~أو غيره، فإن كانت الحق فلم يتجدد شيء، وإن كانت غيره فقد حدث غير الرب،
~~فقد جعل الحق يظهر فيه وسماه الرحمن، فيكون الرحمن اسما لغير الله. وإن
~~كانت صفة من الصفات، وليس هنا ما يقوم به إلا الرب، فتكون هذه النقطة صفة
~~له، أفهي حادثة أم قديمة؟ فإن كانت قديمة فلم يتجدد شيء، وإن كانت حادثة
~~وهي صورة علم الحق فقد تجدد له علم لم يكن له قبل ذلك، وهذا مع أنه كفر لا
~~يقولون به، لأنه تقدم أنه كان عالما بنفسه وبسائر المعلومات.
# ومقصوده بهذه الكلمات أن الحق صار معلوما متجليا لمعلوماته بعد أن كان
~~عالما بها وهي متجلية له، وقد قدمنا أنه لا يتجلى لجميعها إلا أن يعنى
~~بتجليه لها دلالتها عليه أو علمها به، كما قيل في قوله: (وإن من شيء إلا
~~يسبح بحمده) (1) . ففي الجملة كون الحق يصير معلوما لبعض الخلق أو كلهم هذا
~~معنى صحيح، لكن كيف يعلمونه قبل أن يخلقهم.
# فإن قيل: لأنهم في علمه.
# قلنا: وهم في علمه عالمون به، فإنه يعلم الأشياء على ما عليه، فيعلم
~~المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، والعالم عالما والجاهل جاهلا، وأي حال تجدد
~~للشيء فانه يعلمه عليه في علمه قبل أن PageV04P412
# يكون ms0797، كما يعلم نفس الشيء قبل أن يكون، فلا يتصور أن تصير المخلوقات
~~عالمة في الخارج إلا بعد وجودها في الخارج، كما لا يعلم أنها عالمة إلا إذا
~~علمت هي، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف في الخارج أو العلم محال.
# فهذا التقسيم والتحقيق يكشف ما أبدوه من الزخرف والتزويق، فإن هذه
~~الحقيقة إن كانت صفة لله ليعلم بها نفسه ومعلوماته، فالله علم بذلك قبل
~~ظهور هذه الحقيقة؛ وإن كانت صفة لغيره فلا يتصور وجودها قبل وجود ذلك
~~الغير.
# وقوله "ظهرت نقطة" لفظ مجمل، أيعني حدثت؟ فالمحدث لابد له من محدث، ولابد
~~للصفة من محل، أم يعني انكشفت وتجلت؟ فلمن تجلت "وما ثم إذ ذاك إلا الله؟
~~وهو عالم بنفسه ومعلوماته، فأي شيء انكشف له وتجلى بهذه النقطة العجيبة
~~الشأن؟ ما أشبه هذه النقطة بالكلمة التي تعبدها النصارى وتزعم أنها دخلت
~~الناسوت، فيقول لهم المسلمون: هذه الصفة صفة هي كلام لله، فإن كان كذلك لم
~~يكن إلها يخلق ويرزق ويعبد، ولا يحل المسيح دون الموصوف، وإن كان جوهرا
~~خالقا فإنما يتقدم بنفسه، فهي الأب أو غيره؟ إن كانت الأب فيكون الأب هو
~~الحال، وإن كان غيره فيكون جوهران منفصلان إلهان. فالنصارى في ضلالة وحيرة
~~حيث أثبتوا ثلاثة آلهة وقالوا: هي إله واحد.
# وهؤلاء أثبتوا هذه النقطة العالمة العارفة محلا ولم يجعلوا لها محلا،
~~فالشأن كل الشأن في تحقيق هذه النقطة التي هي عقدة
# PageV04P413
# حقيقة النبوة، فهو "صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة
~~للصورة المعلومية التي صارت مرآة لانعكاس الوجود المطلق محلا لتميز صفاته
~~القديمة التي ظهر الحق فيه بصورة وصفة، واصفا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو
~~الموصوف، والثاني هو الواصف، والأول هو المسمى باسم الله، والثاني هو
~~المسمى باسم الرحمن".
# فيقال: قد علم أن هذان اسمان من أسماء الله، ليسا اسمين لشيء من صفاته
~~كالعزة والقدرة والحكمة، ولا اسمين لشيء سواه، وأسماء الله تعالى كلها
~~متفقة في دلالتها على نفسه المقدسة، ولكل اسم خاصة ينفرد بها عن الاسم
~~الآخر ms0798، فللرحمن الرحمة، وللحكيم الحكمة، وللقدير القدرة. وهكذا أسماء
~~الرسول وأسماء القرآن، ليست هذه الأسماء مترادفة، ولا هي أيضا متباينة من
~~كل وجه، بل هي باعتبار الذات مترادفة، وباعتبار الصفات غير مترادفة بل
~~كالمتباينة، ولهذا يسمى هذا النوع المتكافئة. وكل اسم فإنه يدل على ذات
~~الله وعلى خصوص وصفه بالمطابقة، ويدل على أحدهما بالتضمن، ويدل على الصفة
~~التي للاسم الآخر بالالتزام، فإنه يدل على الذات المستلزمة للصفة الأخرى،
~~فبين كل اسمين اجتماع وامتياز إلا اسم "الله"، ففيه قولان. ولهذا هل يدخل
~~في الأسماء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنه لا يدخل في هذه
~~الأسماء، بل هو متضمن للجميع، وهذا يطابق قول من يقول: ليس بمشتق. والثاني:
~~أنه من الأسماء، وهذا يطابق قول من يقول: إنه مشتق.
# PageV04P414
# والصواب أنه فيه الاشتقاق وعدم الاشتقاق، ففيه الاشتقاق الأصلي لا
~~الوضعي، فليس في الاستعمال مشتقا كاشتقاق سائر الأسماء التي هي اشتقاقها
~~اشتقاق الصفات. وأما في الأصل فإنه مشتق، وهذا يسمى الاشتقاق الوضعي، وذاك
~~يسمى الاشتقاق الوصفي.
# والأسماء جميعها هي أسماء لله رب العالمين، وأما صاحب "الفصوص" وأصحابه
~~الاتحادية فعندهم أسماء الله نسب وإضافات بين الوجود ليس موجودة، فهو يقول:
~~إضافة بين الوجود الذي هو الله عنده وبين الثبوت؛ وغيره يقول: نسبة بين
~~أجزاء الوجود وجزئياته. وهؤلاء أعظم الناس إلحادا في أسماء الله.
# إذا عرف هذا فالفرق بين اسم الله والاسم الرحمن أن الرحمن متضمن للرحمة
~~المتعلقة بالخلق، والاسم الله متضمن للعموم أو لخصوص الإلهية التي هي
~~استحقاق العبادة. فأما كون هذا واصفا والآخر موصوفا فهذا شيء ليس له دخول
~~في معنى اسم الله والاسم الرحمن.
# ثم يقال لهم: فهل كان الله في كانه قبل نزوله إلى سر شأنه مستحق لهذه
~~الأسماء أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهذا كفر، وإن قالوا: نعم، قيل: فأنتم قد
~~جعلتم الرحمن متأخرا عن نزوله إلى سر شأنه!
# PageV04P415
# فصل
# اعلم أن قول هؤلاء المنتسبين إلى ابن حمويه مضطرب مخبط، فإنه ليس توحيدا
~~محضا، ولا إلحادا محضا، وإنما يظهر بظهور مذهب ms0799 أهل التوحيد من المسلمين
~~وسائر أهل الملل، وبظهور مذهب الملحدة الاتحادية مثل أصحاب ابن عربي وابن
~~سبعين والتلمساني، ثم يتبين قول هؤلاء، فنقول:
# أما
### | مذهب المسلمين وسائر أهل الملل
# من اليهود والنصارى بل وسائر المقرين بالصانع فهو أن الله سبحانه حق
~~موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو رب العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في
~~ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات
~~عباد لله فقراء إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقهم.
# والقرآن من أوله إلى آخره يذكر هذا التوحيد ويبينه.
# ومع هذا فلله أسماء وصفات وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله، ومن الجهمية من
~~ينكرها أو بعضها، ويصف الله بصفات سلبية تنافي ما جاءت به الرسل، وتكون تلك
~~الصفات مستلزمة للتعطيل، لكن النفاة لا يقرون أو لا يعتقدون أنها تستلزم
~~التعطيل.
# والفلاسفة الصابئة القائلون بقدم العالم يقولون بواجب الوجود وبأنه ليس
~~هو العالم ولا جزءا منه، لكن يحكى عن فريق من الدهرية إنكار الصانع، وهذا
~~هو الذي ذكره الله في القرآن عن فرعون أنه
# PageV04P416
# أنكر رب العالمين، ولكن كان هو وقومه كما قال الله: (وجحدوا بها
~~واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)) (1) ،
~~قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر0وقال له موسى:
~~(لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر) (2) .
# وكان قدماء الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوق عرشه يقولون: إنه
~~بذاته في كل مكان، وإنه حال في كل مكان، وهو رأي طائفة من متصوفة الجهمية
~~مثل الديلمي ونحوه، وأما علماء الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلا بالسلب،
~~ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا هو فوق العرش ولا في العالم ونحو
~~ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفي ذاته،
~~ويقولون: إنما يدورون على التعطيل.
# وهذا هو الذي أوقع هؤلاء الملاحدة الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود،
~~فإن العابد لا يقدر أن يعبد إلا شيئا موجودا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق
~~بمعدوم، بخلاف ms0800 الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون
~~بالنفي إذا لم يثبتوا وجودا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك
~~ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يغلب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله
~~ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم
~~يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفته رسله PageV04P417
# لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام
~~ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء
~~وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم) (1) ، الذي هو فوق السماوات، فلابد أن
~~تتعلق قلوبهم بموجود ما، فتارة يتعلقون بأنه بذاته في كل مكان، وتارة تتعلق
~~بحلوله أو اتحاده ببعض الأشخاص كالمسيح وعزير وغير ذلك، وتارة يتعلقون
~~بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لابد للقلب
~~من صمد يقصد إليه بالعبادة حق موجود.
# والصفات السلبية لا يتعلق بها القلب ولا يطمئن، فإن قصد العدم كعدم
~~القصد، وعبادة المعدوم كعدم العبادة.
# فهذا الجهل والضلال بصفات ربهم هي التي أوقعتهم في عبادة ما سواه. ثم إنه
~~يحصل من أحدهم توجه إلى الله وعباد له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره،
~~ويرى أن حكم الله وسلطانه ساري في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله
~~الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها،
~~وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلا صنع الخالق وخلقه وملكه وسلطانه، ولهذا
~~تارة يجعلون الرب في ذلك كالروح في الجسد، وتارة كالماء في الصوفة، وهذا
~~قول بالحلول، والرب -كما قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وسائر أئمة
~~السنة والمعرفة- فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. فجاء هؤلاء الاتحادية
~~المستأخرون جعلوه نفس الموجودات لم يخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق
~~PageV04P418
# المصنوع هو الوجود الخالق. ثم قد علموا أن ثم خالقا ومخلوقا، فاضطربوا
~~هنا:
# فأما صاحب "الفصوص" فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول
~~من يقول من المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء ms0801، ويقول: إن نفس وجود الحق فاض
~~عليها وظهر فيها، فوجودها هو وجود الحق، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما
~~كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، وإن الله ما أحسن إلى أحد ولا أنعم على
~~أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلته في فيض
~~وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت
~~الممكنات.
# وهذا القول كفر، وهو باطل من وجهين:
# من جهة أنه جعل المعدوم شيئا ثابتا، وفرق بين الثبوت والوجود، فإن هذا
~~قول باطل وفرق فاسد، وشبهته ثبوتها في علم الحق، ولا يلزم من علم الحق بها
~~ثبوتها في نفسها ولا وجودها.
# الوجه الثاني: أنه لو فرض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجود الحق، بل
~~الرب أبدع وجودها وخلقها، كما قال تعالى: (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50))
~~(1) ، وقال: (خالق كل شيء) (2) .
# وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم، PageV04P419
# يقولون: إنه خلق وجوده، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق.
# وأما سائر الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن
~~المعدوم شيء، بل منهم من يفرق بين الوجود المطلق والمعين، كالقونوي فإنه
~~يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعين لم يكن هو الحق. وعلى قول هذا ليس
~~لله وجود إلا ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودها. وهو أيضا جحد لرب
~~العالمين في الحقيقة، وإثبات للوجود الذي أقر به فرعون.
# وأصحاب هذا القول والذي قبله يفرقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين
~~الظاهر المتجلي، فيقولون: ظهر وجوده في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه
~~"الفصوص"، أو ظهر الوجود المطلق في المتعينات- على رأي صاحبه الرومي.
# وأما التلمساني وغيره فعندهم ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، ولا
~~يفرقون بين المطلق والمعين والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر
~~وأمواجه. وهم تارة يشبهون الله بالشمع والفضة الذي يظهر في صور مختلفة وهو
~~هو.
# ثم يقول الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو.
~~وأما ابن ms0802 العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب
~~لونها، وهو واحد في نفسه. وأما التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء.
# PageV04P420
# وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى سعد الدين بن حمويه فهو مركب من مذهب
~~المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسل عن الله، ومن مذهب هؤلاء
~~الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يشبه قول صاحب
~~"الفصوص" من وجه، وقول صاحبه الرومي من وجه، وليس مثلهما. وذلك أنه جعل
~~ثبوت الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها،
~~وثبوت الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلي على شيء علم قبل
~~أن يوجد. ثم جعل تجلي الحق لها بمنزلة ظهور وجوده في الأعيان الممكنة.
# فهذا القول أقل كفرا، لكنه أظهر تناقضا، فإنه لم يصرح بأن وجودها عين
~~وجوده، ولا صرح بثبوت ذواتها، لكنه زعم أن تجليه لأعيانها الثابتة في علمه،
~~مثل ما ذكر صاحب "الفصوص" أنه حصول وجود الحق في أعيان الممكنات. وتكلم في
~~التعين بكلام قارب مذهب القونوي، كما سنذكره إن شاء الله.
# وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرهم لا يفهمونه، ولعل
~~فاضلهم يفهم بعض مذهب نفسه فقط، لأنها أقوال هي في نفسها متناقضة، فاضطربوا
~~فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن
~~الباطل، كما قال تعالى.
# (إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9)) (1) ، وكما قال تعالى.
~~PageV04P421
# (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)) (1) .
# فصاحب هذا القول يقول: "هو في كانه يتجلى لنفسه بوحدته الذاتية، يشهد
~~نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن
~~يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه
~~الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق".
# وهنا يضطرب أمره، فلم يصرح بأن وجوده قام بالأعيان الممكنة كما صرح ابن
~~العربي، فيكون اتحاديا محضا، ولا اكتفى بمجرد كونه يعلم أن تلك الحقائق أو
~~بعضها ستعلمه كما هو ms0803 الواقع، فإن الله إذا علم الأشياء وعلم أنها ستعلمه
~~لتكن حينئذ قد صارت موجودة عالمة حتى توجد. بل استعمل اللفظ المشترك كما
~~فعله في عين الحق، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره
~~لها علما بمنزلة ظهور وجوده في ذواتها.
# فتدبر هذا، فإنه يبين حقيقة مطلوب هذا، ومعلوم أن وجوده الذاتي إن ظهر في
~~الأعيان فأول ما يظهر باسم "أنا"، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا
~~يتعين، ولا يكون له اسم إلا إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا
~~وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة،
~~وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة،
~~PageV04P422
# وذلك لأن الحق كان متجليا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى
~~شأنه تجلى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء
~~والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه.
# فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم
~~الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلى لهذه
~~النقطة كما تجلى لنفسه، فصار شهودها له مطابقا لشهوده لنفسه، ولهذا قال:
~~فصارت مرآة لانعكاس الوجود المطلق محلا لتميز صفاته القديمة.
# لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات
~~متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه،
~~ليس له اسم ولا صفة أصلا. وهذا وإن كان مطابقا لقوله غالية الصابئة
~~الفلاسفة والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسم ولا صفة، ولا
~~يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير
~~ذلك، فأولئك إذا حكى عنهم أنه يجعلونه عين مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه
~~ساريا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفت
~~على مقالة غلاة الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يضنون بها إلا على
~~خواص أكابرهم، فرأيتهم يصرحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية،
~~كالمذهب الذي ذكره ms0804 الله عن فرعون وحزبه، وعن الذي حاج إبراهيم في ربه.
~~وهكذا حكى عنهم من وقف على سر دعوتهم، كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني
~~والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم
# PageV04P423
# والرد عليهم أبو عبد الله البصري وأبو الوفاء ابن عقيل وأبو حامد الغزالي
~~وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم.
# وأما غالب الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو نفي
~~الأسماء والصفات عن ذاته، كما يظهره هؤلاء الاتحادية، ليظن الجهال أن هذا
~~تحقيق عظيم وتوحيد تائم، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون:
~~[ليس] له إلا صفة سلبية أو إضافية.
# وقريب منه مذهب الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا
~~الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق،
~~وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قررت فساد مذاهب هؤلاء في
~~مواضع، وبينت في مخالفتها للكتاب والسنة والإجماع ولفطرة الله التي فطر
~~الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة.
# وقد رأيت هؤلاء الغالية من الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر
~~والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود
~~الصانع بالكلية وجحود النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب
~~الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلاف إلا
~~في واجب الوجود، يعنون الذي صدرت عنه الممكنات، فإنهم يثبتونه ونحن لا
~~نثبته.
# وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنت لما بينت له حقائق
~~أمرهم يتعجب من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صم بكم
~~عمي فهم لا يعقلون، حدثني أن
# PageV04P424
# سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف.
~~وهذا حقيقة هذا القول المحكي عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية،
~~وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم
~~الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في
~~جحود رب العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهر فيه ms0805 صانعه، وهذا يقول: هو
~~صانعه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي
~~له اسم ولا صفة، وله أسماء وصفات، وهي نسبة ذلك الوجود إلى مظاهره ومجاليه
~~أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كل منهم يتخيل
~~نوعا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة
~~النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان،
~~فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبين أنواع كفرهم، ولئلا يحسب الجهال بهم أن
~~تحتها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملا أو مفصلا، لأنهم
~~منتسبون إلى الإسلام ومدعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد
~~يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج موسى إلى جهاد فرعون، وإبراهيم الخليل إلى
~~مناظرة الذي حاجه في ربه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد القرامطة الباطنية،
~~فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان (1) . PageV04P425
# مقدمة
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين.
# وبعد، فهذه مجموعة خامسة من "جامع المسائل" تحوي 18 رسالة وفتوى لم تنشر
~~ضمن "مجموع الفتاوى" (طبعة الرياض) ، اعتمدت في إخراجها على أصول خطية،
~~ووجدت اثنتين منها (برقمي 3 و9) ضمن كتب مطبوعة، فاعتمدت عليها لعدم العثور
~~على مخطوطاتهما في المكتبات التي زرتها أو راجعت فهارسها.
# والرسائل الآتية بأرقام (1، 4، 6، 7، 10، 12، 13، 14) تطبع هنا لأول مرة،
~~والبقية طبعت من قبل طبعات متفاوتة في الصحة وعلى مناهج مختلفة في التعليق
~~والتحقيق. ومجمل ما لاحظته في أكثر هذه الطبعات -مع اعترافي بفضل السبق
~~للقائمين عليها- أنهم لم يهتموا بضبط النص وتحريره وإخراجه سالما من
~~التصحيف والتحريف والسقط، بل انصرفوا إلى التعليق عليها، ونقل كلام المؤلف
~~من كتبه الأخرى في صفحات، والتعريف بالأعلام والبلدان والفرق، وإحصاء
~~الفروق بين النسخ (وجلها من تحريف النساخ) . وألحق بعضهم بالكتاب فصولا
~~ليست منه، كما في "الأموال السلطانية" (الطبعة الثانية بمكة المكرمة 1409)
~~ص 93-99، وفي "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (ط. دار ابن
~~حزم) ص 46-55.
# PageV05P005
# ومن أمثلة الاضطراب ما وقع في الكتاب الثاني المشار إليه (ص 39) : "وما
~~نقله ms0806 بعض المفسرين في أنه تزوجها، وإنما هو منقول عن أهل الكتاب إن لم يكن
~~قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان
~~لا يصل إليها". وأن يوسف تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من
~~الإسرائيليات مما لا يجوز لمسلم أن يصدق به، فإن هذا لم يخبر بنقله أحد عن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -. [وقد] قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا
~~تصدقوهم ولا تكذبوهم".
# انظر السياق الصحيح في طبعتنا (ص 253، 254) لتعرف مدى الخلط والاضطراب
~~الحاصل في هذه العبارة.
# ومنهم من اجتهد في إخراج النص بالاعتماد على نسخ متأخرة وناقصة، ولم يطلع
~~على الأصل القديم الموجود في بعض المكتبات، وبعضهم اعتمد على أصول قديمة
~~ولم يحسن قراءتها. والأمثلة على ذلك كثيرة، لا أحب الخوض فيها وبيان ما حصل
~~من الناشرين من أوهام وتصرفات، وأقول: جزى الله من أحسن منهم وتجاوز عمن
~~أساء، ووفقنا جميعا لما فيه الخير والصواب، إنه سميع مجيب.
### | وصف الأصول المعتمدة
# الأصول التي اعتمدت عليها في النشر تتفاوت في الجودة والقدم، وفيها ما
~~يصعب الاستفادة منها بسبب رداءة الخط وكثرة التصحيف والتحريف، وقد بذلت
~~الجهد في قراءتها قراءة صحيحة دون الإشارة إلى الأخطاء والتحريفات الواقعة
~~فيها، وتوقفت عند
# PageV05P006
# بعض العبارات والألفاظ أياما حتى توصلت إلى حلها وفك الرموز عنها، وأشرت
~~إلى المواضع التي لم أهتد فيها إلى الصواب، وهي قليلة. وفيما يلي وصف هذه
~~الأصول:
# (1) "ضابط التأويل": توجد نسخته الخطية في مكتبة الملك عبد العزيز
~~بالمدينة المنورة ضمن مجموعة المكتبة المحمودية برقم [2775] ، وهو أول كتاب
~~من "مجموعة رسائل" لشيخ الإسلام بخطوط مختلفة في تواريخ متباعدة. عدد
~~أوراقه 22 ورقة، وليس كاملا، فقد كتب في آخره: "آخر ما وجد، والله أعلم،
~~وليست كاملة". ويبدو أنه مأخوذ من "الكواكب الدراري"، فقد ذكر في آخر
~~الكتاب: "وهو آخر المجلد الخامس بعد المئة من الكواكب الدراري، ولله الحمد
~~والمنة، وصلواته وسلامه وبركاته على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. غفر الله
~~لمؤلفه ولكاتبه ولقارئه ولمن نظر فيه ms0807 ولجميع المسلمين. يتلوه في السادس بعد
~~المئة تفسير سورة سبح، وهي مكية" وفي النسخة بياض في مواضع، أشرت إليها في
~~التعليقات، وفيها اضطراب وغموض وشطب وإلحاق كثير، وكأن الناسخ نقل من الأصل
~~فرسم الكلمات كما وجدها دون أن يفهمها.
# والكتاب في الأصل رد على من انتقد "الرسالة المدنية في الصفات" التي
~~أرسلها المؤلف إلى الشيخ شمس الدين. الدباهي، فقد اقتبس منها ومن كلام
~~المنتقد لها الذي لم يسمه، وأطال في الرد عليه، ولم يصل إلينا بتمامه.
~~وخطبة الكتاب مسجوعة، ولا غرابة فيها، فقد وجدنا المؤلف يميل إلى السجع في
~~مقدمات بعض كتبه، مثل
# PageV05P007
# "شرح حديث إنما الأعمال بالنيات" (الذي وصل إلينا بخطه) وكتاب "تنبيه
~~الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل" (الذي نقل خطبته بتمامها ابن عبد
~~الهادي في "العقود الدرية" ص 29- 35) وغيرهما.
# (2) "قاعدة في الوسيلة": توجد نسختها في مكتبة الدولة ببرلين برقم [2088
~~(We. 1708) ] (الورقة 83-99) ، وذكر المفهرس أنها من القرن التاسع (1) .
~~والنسخة بخط نسخي، وفيها بعض الأخطاء من الناسخ الذي لم يذكر اسمه.
# (3) "الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله) ": ذكرها ابن رشيق (2) وقال:
~~إنها بضع وعشرون ورقة، وذكرها أيضا ابن عبد الهادي (3) ولم أعثر على نسخة
~~خطية منها، والمنشور هنا يمثل قطعة منها توجد في "شرح الكوكب المنير"
~~(2/34-45 من طبعة جامعة أم القرى سنة 1400) .
# (4) "فتوى في الخضر": ذكر ابن رشيق (4) رسالة في الخضر هل مات أو هو حي؟،
~~وذكرها ابن عبد الهادي (5) وقال: "واختار أنه مات".
# وقد نشر في "مجموع الفتاوى" (4/338-340) ما يخالف PageV05P008
# هذا الاختيار، واستشهد به أحد علماء اليمن، فرد عليه قطب الدين الخيضري
~~(ت 894) في كتابه "افتراض دفع الاعتراض"، وقال (ق 13أ) : "هذا الذي نقله عن
~~ابن تيمية ليس هو اعتقاده في مسألة الخضر، وإنما نقله عن الطائفة القائلين
~~بحياته. والمنقول عن ابن تيمية ترجيح القول بوفاته، وقد تتبعت جواب ابن
~~تيمية في هذه المسألة الذي نقل عنه الطحاوي هذا الكلام، فلم أزل حتى ظفرت
~~به، فوجدته قد قال بعد حكاية هذا القول واحتجاج القائلين به ما نصه ... ".
# ثم نقل ms0808 الفتوى، وقال بعدها (ق 14ب) : "فهذا هو المحفوظ عن ابن تيمية في
~~حال الخضر. وقد تكلم على ذلك في عدة مواضع من تصانيفه وفتاويه، وقد وقفت له
~~على فتاوى كثيرة سئل عنها في هذا المعنى".
# ونظرا لأهمية هذه الفتوى ننشرها في هذه المجموعة بالاعتماد على ما ورد في
~~كتاب "افتراض دفع الاعتراض" نسخة مكتبة الدولة في برلين برقم [2530 (Lbg.
~~604) ] ، (الورقة 13أ-14ب) (1) .
# والقول بوفاة الخضر هو المعروف عن الشيخ، كما في كتابه "الرد على
~~المنطقيين" (ص 184-185) و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 198) و"مجموع الفتاوى"
~~(4/337، 27/100) ، وهو الذي نقله ابن القيم عن شيخه في "المنار المنيف" (ص
~~68) . PageV05P009
# (5) "سؤال في يزيد بن معاوية": توجد نسخته الخطية في مكتبة جامعة برنستون
~~برقم [520] (الورقة 63 ب-71 ب) ، وهي نسخة مصححة ومقابلة على الأصل، فقد
~~كتب في آخرها: "بلغ مقابلة على الأصل، ولله الحمد". ولعلها من مخطوطات
~~القرن الثامن. وكانت في ملك الشيخ عبد السلام بن عبد الرحمن الشطي الحنبلي
~~سنة 1280، كما يدل عليه التملك الموجود بخطه على صفحة العنوان.
# وللشيخ كلام آخر في هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى" (4/481-488) يختلف
~~عما هنا. وذكر ابن رشيق (1) وابن عبد الهادي (2) له رسالة في أمر يزيد هل
~~يسب أم لا؟ ولا ندري هل هي إحداهما أو غيرهما.
# (6) "فصل في اسمه تعالى القيوم": أصله في دار الكتب المصرية برقم [330
~~تفسير تيمور] (ق 102-115) ضمن مجموع، وهو بخط حديث لم يكتب عليه تاريخ
~~النسخ واسم الناسخ، وفي هوامشه بعض التصحيح.
# (7) "فصل في معنى الحنيف": هو ضمن المجموع السابق (ق 88-97) .
# (8) "فصل إذا كان في العبد محبة": توجد مخطوطته ضمن PageV05P010
# مجموعة في مكتبة المكتب الهندي بلندن برقم [عربي 1857 من مجموعة دلهي]
~~(الورقة 117-121) ، وهي بخط نسخي حديث، وليس عليها اسم الناسخ. وفي أول هذه
~~المجموعة ما يفيد أنها كانت في "ملك الفقير أحمد الباسطي بن عبد الصمد، ثم
~~ملكه عبد الرحمن أحمد خادم الإمامين الأعظمين".
# وقد نشره الدكتور محمد رشاد سالم رحمه الله ضمن "دراسات عربية وإسلامية
~~مهداة إلى محمود محمد شاكر" (ص 437-452) ط. القاهرة 1403، وهي نشرة ms0809 جيدة.
# (9) "فصل في انتفاع الإنسان بعمل غيره": هذا الفصل مقتبس من كلام الشيخ
~~في "حاشية الجمل على تفسير الجلالين" (4/236- 237) ، وقد أرشدني إليه الشيخ
~~بكر بن عبد الله أبو زيد، فجزاه الله خيرا. ووجدته باختصار في مصادر أخرى،
~~مثل: "حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي" (4/416) و"حاشية
~~الصاوي على تفسير الجلالين" (4/142) و"روح البيان" لإسماعيل حقي
~~(9/248-249) .
# ولشيخ الإسلام فتوى في هذا الموضوع ضمن "مجموع الفتاوى" (24/306-313) قرر
~~فيها أن أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بدعاء الخلق له وبما يعمل
~~عنه من البر، وأن هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه
~~الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع. ثم سرد بعض هذه
~~الأدلة.
# PageV05P011
# وقال في "شرح حديث أبي ذر" ضمن "مجموع الفتاوى" (18/143) : "وقد بينا في
~~غير هذا الموضع نحوا من ثلاثين دليلا شرعيا يبين انتفاع الإنسان بسعي
~~غيره".
# وهذا كله يؤكد صحة نسبة الفصل المذكور إلى الشيخ.
# (10) "رسالة في الاتباع": هي ضمن مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب
~~الظاهرية بدمشق [مجموع رقم 18 (عام 3755) ] .
# (الورقة 6-20) ، مخرومة من أولها، وقد ذهب ذلك بعنوانها.
# وفيها خرم آخر بين الورقتين 14 و15، فالكلام ليس بمتصل فيهما.
# والنسخة جيدة كتبت بخط نسخي واضح من خطوط القرن الثامن تقديرا. وقد
~~عنونها مفهرس المجاميع ب "رسالة في التوحيد" (1) ، والكلام فيها يدور حول
~~اتباع السنة ونبذ البدع، فيحسن أن تسمى "رسالة في الاتباع".
# ولشيخ الإسلام "قاعدة في وجوب الاعتصام بالرسالة، وأن كل خير في العالم
~~فأصله متابعة الرسل" (2) ، و"قاعدة في أن كل عمل صالح أصله اتباع النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - " (3) ، و"اتباع الرسول بصريح المعقول" (4) .
# (11) "شرح حديث لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن": ذكر PageV05P012
# ابن عبد الهادي (1) أن الشيخ شرح هذا الحديث مرات عديدة. وقد
# وصل إلينا أحد شروحه للحديث في النسخة الخطية الموجودة
# بدار الكتب المصرية تحت رقم [20545 ب] (ق 1-9) ، وقد كتبت بخط نسخي جيد،
~~وليس عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع تقديرا.
~~وهذه النسخة ms0810 كثيرة الأخطاء والتحريفات، وفيها اضطراب شديد في موضع أشرت
~~إليه فيما مضى.
# (12) "فصل في قوله: أصدق كلمة قالها شاعر ... ": هو ضمن المجموع الموصوف
~~سابقا برقم (7) ، الورقة 97-102.
# (13) "المسألة الخلافية في الصلاة خلف المالكية": وصلت إلينا ثلاث نسخ
~~منها:
# إحداها: ضمن مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية بدمشق [مجموع
~~40] (الورقة 320-325) بخط العلامة المحدث ابن الملقن (ت 804) ، فقد جاء في
~~آخرها: "تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري
~~الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين". وهو ابن الملقن
~~كما ذكرنا، ولم يثبت تاريخ النسخ، ولعله كتبها في أواخر القرن الثامن.
# والنسخة الثانية: في الخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية [204 مجاميع]
~~الرسالة الخامسة ضمن المجموع، بعنوان "جواب عن حكم PageV05P013
# الصلاة خلف المالكية وغلط المانع". وهي بخط قديم (1) .
# والنسخة الثالثة: ضمن "الكواكب الدراري" لابن عروة، في دار الكتب
~~الظاهرية بدمشق برقم [578] (الورقة 6-8) ، وفيها بعض الأخطاء.
# وتوجد هذه المسألة ضمن "مجموع المنقور" (1/111-115) ، ولكنها مختصرة
~~هناك، واعتمدت على النسخة الأولى في إثبات النص لكونها أصح من غيرها.
# (14) "رسالة إلى الملك المؤيد": توجد نسختها الخطية ضمن المجموعة التي
~~سبق وصفها برقم (9) ، الورقة 121 ب-126 أ. وقد ذكرها ابن رشيق (2) وابن عبد
~~الهادي (3) بعنوان "رسالة إلى ملك حماة".
# (15) "رسالة إلى الملك الناصر في شأن التتار": توجد النسخة الفريدة منها
~~في مكتبة كوبريللي برقم [1142] (الورقة 174- 179) ، وقد كتبت سنة 758 بخط
~~نسخي ممتاز. وللشيخ رسالة أخرى إلى الملك الناصر بعد فتح جبل كسروان، نشرت
~~ضمن "العقود الدرية" (ص 182-194) . ولعلها تلك التي أشار إليها ابن رشيق
~~(4) وابن عبد الهادي (5) بعنوان "رسالة إلى ملك مصر". PageV05P014
# (16) "قاعدة في الانغماس في العدو": ذكرها ابن عبد الهادي (1) ، وتوجد
~~نسخة خطية منه بعنوان "رسالة في الجهاد" ضمن مجموع رسائل لشيخ الإسلام في
~~دار الكتب المصرية برقم [444 فقه تيمور] ، وهي في 48 صفحة بخط حديث، كتبت
~~في 25 من محرم سنة 1319. وناسخها عبد الحميد ... ، كما في خاتمة الرسالة
~~الثانية من هذا المجموع. والنسخة كثيرة الأخطاء والسقط، وقد أشرت إلى بعضها
~~في التعليق.
# (17) "مسألة في المرابطة بالثغور ms0811 أفضل أم المجاورة بمكة": هي الرسالة
~~الثالثة ضمن المجموع السابق، في 75 صفحة، بخط الناسخ المذكور.
# (18) "قاعدة في الأموال السلطانية": توجد منها نسخة في مكتبة جامعة
~~برنستون برقم [1377] (الورقة 23 ب-29 ب) ، كتبت في 15 من شعبان سنة 814 بخط
~~نسخي جيد، وهي مقابلة على الأصل كما يظهر من الدوائر المنقوطة. وقام بنسخها
~~محمد بن أبي شامة في مدرسة أبي عمر بدمشق، وقد قال في أول الرسالة: "نقلتها
~~من النسخة التي نقلت من خط شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن قوبلت".
# ومنها نسخة أخرى بعنوان "قاعدة شريفة في الأموال المشتركة" في مكتبة
~~الأوقاف العامة ببغداد برقم [13754] (في 7 ورقات) ، وهي مكتوبة بخط فارسي
~~حديث، وليس عليها اسم الناسخ وتاريخ PageV05P015
# النسخ، ولعلها كتبت في أوائل القرن الرابع عشر. وهذه النسخة كثيرة
~~الأخطاء، ولذا لم أرجع إليها إلا في مواضع قليلة لاستدراك السقط أو تصحيح
~~الخطأ في النسخة الأولى.
# وبعد، فهذا وصف إجمالي للأصول المعتمدة في تحقيق هذه الرسائل، وأرجو أنني
~~قد وفقت في قراءتها وإخراجها ضمن هذه المجموعة. ولا يفوتني أن أشكر هنا
~~أولئك المحققين الأفاضل الذين قرأوا هذه المجموعة قبل دفعها إلى المطبعة،
~~وأبدوا لي ملاحظات وتصويبات مهمة.
# والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وهو حسبي ونعم الوكيل.
# محمد عزير شمس
# PageV05P016
### | نماذج من النسخ الخطية
# PageV05P017
### | ضابط التأويل
# PageV05P033
# بسم الله الرحمن الرحيم
# رب يسر و [أعن] (1)
# قال الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد
~~بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه:
# الحمد لله رب العالمين، مالك يوم الدين، والحمد لله الذي بعث إلينا رسولا
~~يتلو علينا آياته و [يزكينا] ، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي
~~ضلال مبين. إنه أكمل لنا [ديننا] ، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام
~~دينا، وأخبر أن الدين عنده الإسلام هذا الدين، فمن يبتغ غير الإسلام دينا
~~فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين. وجعل الكتاب الذي أنزله بيانا
~~للناس وهدى وموعظة [للمتقين] ، وأخبر أنه أنزله بلسان عربي مبين، كما أخبر
~~أنه ليس على الرسول [إلا ms0812 البلاغ المبين] ، وذكر أن آياته أحكمت ثم فصلت، إذ
~~الإحكام والتفصيل يجمع خبرا وطلبا، وكمال القصد واللفظ الذي تتم به وتتبين
~~الأشياء، (من لدن حكيم) يحصل بحكمته الإحكام، (خبير (1)) (2) يفصل الخطاب
~~للمخاطبين. [فليس] كل من هدي للحق يسدد الخطاب، كما أنه ليس كل من سدد
~~الخطاب يبلغ PageV05P035
# إلى أفهام المستمعين بالإفصاح البليغ يكون قد هدي للحق. ولهذا قال النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب (1) : "يا علي! سل الهدى والسداد،
~~[واذكر بالهدى] هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك [السهم] " إلى
# كمال العلم والقصد والقول والعمل. فهذا الدعاء المبين وما وصف سبحانه
~~كتابه ورسوله من البيان والتفصيل والهدى والتبليغ والإفتاء والموعظة
~~والشفاء والقصص والشهادة والرحمة، كقوله سبحانه وتعالى: (وأنزلنا إليك
~~الذكر
### | …
# ) (2) .
# ثم إنه سبحانه دعا إلى التفكر والتذكر والتأ [مل] والفقه لهذا البيان
~~عباده المبلغين، وجعل رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو [المبين] لما حصل
~~مجملا أو مشكلا على المكلفين، وثبت بالأدلة المتعددة ضبط علماء أصحابه
~~لمعانيه كضبطهم لحروفه المنقطعة القرين، وكانوا يلقون ما تلقوه عن رسولهم -
~~صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابهم من التابعين من الكتاب ظهرا وبطنا ومن
~~الحكمة صورة ومعنى مشتركين دون مختصين، فيشتركون كلهم أو أكثرهم في كثير من
~~ذلك أو أكثر، ويختص بعضهم ببعض ذلك وكل على ما يأثره أمين، شائع بينهم
~~معرفة أصول دينهم وعمل ملتهم جملة وتفصيلا ليسوا فيها مختلفين، وإن كان قد
~~يمتاز بعضهم من زيادة العلم ببعض ذلك بما ليس عند الباقين، واستفاضت النقول
~~عنهم أنهم تعلموا من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - جميع ما يحتاجون إليه
~~فيصيرون من الكاملين وما يصيرون به من الأكملين. PageV05P036
# ولهذا كانت البدع محرمة في وقت جماعتهم، لعدم مقتضيها أو لوجود منافيها
~~عن هذا الدين، ثم نبغت البدع وتعدت من الصغير إلى الكبير على قضاء سبق من
~~الكتاب المبين، فلما قتل الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على
~~خلافة الخلفاء الراشدين نبغ في آخر خلافة النبوة بدعتان متقابلتان تقابل
~~المغضوب عليهم والضالين: الخوارج يكفرون الخليفتين ومن تولاهما ms0813، يحلون دماء
~~أهل القبلة، ويفعلون بأهل الإيمان فعل اليهود بالنبيين؛ والروافض يغلون
~~فيمن يستحق الولاية والمحبة، فيطرونه إطراء النصارى، حتى وصفوا البشر
~~بالإلهية، وألحقوا الأئمة بالمرسلين. فتولى أمير المؤمنين عقوبة الطائفتين:
~~بقتال الطائفة الممتنعة من المارقين، وقتل المقدور عليه من الغالين،
~~والتعزير بجلد المفترين.
# ثم لما صارت الجماعة على الأقذاء، وانصرف عن ضبط دقيق الدين وعناية الأمر
~~في أواخر عصر الصاحبين حدثت أيضا بدعتان متقابلتان
### | : بدعة القدرية والمرجئة
# على منهاج الأولين، هؤلاء عظموا أمر المعاصي، حتى أوجبوا نفوذ الوعيد
~~بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين، ومنعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم
~~الراحمين، وأعظموا أن يكون الله قدرها أو شاءها أو يسرها، وسلبوا الإيمان
~~بالكلية لمن اتصف بها من المسلمين. وهؤلاء استخفوا بأمر الواجبات
~~والمحرمات، حتى استبعد بعضهم نفوذ الوعيد على الكبائر الموبقات، وزعموا أن
~~ذلك نوع من التخشين. وربما احتجوا لنفوسهم بالقدر السابق، وتشبثوا بكونهم
~~مجبورين، وسوى عامتهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفجار والصالحين
~~والفاسقين.
# PageV05P037
# ثم من تمسك ببعض شعب الخوارج والرافضة والقدرية والمرجئة ولم يوافقهم على
~~أصل بدعتهم ولا دعا إلى مذهبهم كثير من المتقدمين، وهم جمهور من روى عنه
~~أصحاب الصحيح ممن ينسب إلى بعض هؤلاء المخطئين. فقام يرد هذه البدعة بقايا
~~الصحابة العالمين، كابن عمر وابن عباس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الغر
~~الميامين.
# ثم لما فرغ الشيطان من المؤمنين ببدعتين رفعا وخفضا، ومن الدين ببدعتين
~~إبراما ونقضا، شرع في رب العالمين، فحدثت بدعتا الجهمية في أواخر عصر
~~التابعين: هؤلاء ينفون عنه ما جاءت به الرسل من الصفات، كأنه عندهم من
~~الأمور المعدومات، مضاهاة لضلال الصابئين. ثم كثير منهم أو أكثرهم إن اضطر
~~إلى إثباته جعله لآخر شاملا لمخلوقاته شمول الكل لأجزائه شائعا، حتى قد
~~خصهم بالبحر وأمواجه في مصنوعاته مشاع الجنس المطلق في أفراده (1) ، وجعلوه
~~الوجود المطلق الذي لا يوصف بتغييره في معينين، وبعضهم يجعله ساريا في
~~المحدثات بحيث لا يبقى له عندهم حقيقة خارجية من الأرض والسماوات. تعالى
~~الله عن افتراء الظالمين.
# فشاركوا النصارى في ms0814 الحلول والاتحاد، وزادوا عليهم بعموم الحلول والاتحاد
~~في الموجودين. ثم ضربوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل وأصناف
~~المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول كما فطرت عليه من المعقولات وما أتى
~~إليها من المسموعات، تارة بدعوى النظر الثاقب للنظار، وتارة بدعوى الوجد
~~الصادق للعابدين. PageV05P038
# ثم آل الأمر بكثير منهم إلى أن عمم هذا فيما جاءت به الرسل من الوعد
~~والوعيد، وما وصفته من النعيم والعذاب في داري الكفار والمؤمنين، فسلبوا
~~داري القرار ما عرف لهما من الصفات ونفوهما، إذ أثبتوهما كإثباتهم إله
~~المؤمنين، فحملوا مثل ذلك في المحارم والعادات، تارة ينفون عن الأفعال
~~أحكامها الشرعية، وتارة يثبتون ذلك في حق العموم دون المتميزين، وعصامهم في
~~جميع ذلك نوع تعطيل يسمونه بالمعقول، ونوع تحريف يسمونه بالتأويل ويزخرفونه
~~بالتزيين.
# وهؤلاء الممثلة يمثلون صفاته بصفات المخلوقات، ويجعلونه من جنس المصنوعات
~~وصنف الآدميين، حتى وصفه بعضهم باللحم والدم والعظام -تعالى الله عن ذلك-
~~مضاهاة لكثير من اليهود في تمثيلهم لربهم بالمخلوق، حتى عبدوا العجل وكانوا
~~أتباع الدجال اللعين، وإن كان كثير من اليهود أو أكثرهم معطلة جهمية ذات
~~تحريف يسمونه التأويل، يفرون به -زعموا- من تحيز ذي القوة المتين، فإنه قال
~~- صلى الله عليه وسلم - (1) : "لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى
~~لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال:
~~"فمن". وجب بمقتضى هذا الخبر البين أن يكون في أمتنا ما كان في أهل
~~الكتابين قبلنا. هذا، ثم المهتدي منهم قبل المبعث ضل بعدم اتباع نبينا -
~~صلى الله عليه وسلم -، فلذلك افترقت أمتنا زيادة عليهم ثلاثة وسبعين.
~~PageV05P039
# واليهود والنصارى فيهم معطلة وممثلة، وإن كان الغالب على خاصتهم التعطيل،
~~فلذلك كانت المعطلة فينا أكثر من الممثلين، حتى إن المعطلة يكثر وجودهم،
~~والممثلة لا يكاد يوجد منهم إلا الواحد بعد الواحد في الأحايين.
# فلما حدثت بدعة التعطيل والتمثيل أنكر ذلك فقهاء التابعين، وكذلك من
~~بعدهم من العلماء ورثة الأنبياء وأئمة المتقين، وكان ذلك عندهم أعظم من
~~جميع بدع المبتدعين، حتى أعظم السلف أمر ms0815 الجهمية ونحوهم وكفروهم، وإن كانوا
~~عن غيرهم متوقفين، واحتاجوا لانتشار البدع إلى ضبط السنن الدامغة
~~للمبتدعين، وكان أسعد الناس بهذه الوراثة أصحاب الكتاب والآثار المأخوذة عن
~~سيد المرسلين -وهم أهل القرآن والحديث- الباحثين (1) في كل باب في العلم عن
~~آثار الصحابة والتابعين، العالمين بصحيحه وعليله، الفاهمين بمنطوقه ودليله،
~~السالكين سبيل السابقين، الذين أخبر بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث
~~يقول: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال
~~المبطلين وتأويل الجاهلين" (2) .
# وكانوا هم أئمة الإسلام الذين هم قدوة المؤمنين، بحيث كان PageV05P040
# أرباب هذه البدع في أيامهم أصاغر مقموعين، [و] كانت دلائل الحق وآياته
~~ظاهرة مشهورة لمن كان لها يستبين. فقتل برأيهم غيلان القدري والجعد بن درهم
~~والجهم بن صفوان المعطلان ونحوهم من الظالمين.
# إلى أن كان في أواخر المئة الثانية قل أولئك الهداة وكثر هؤلاء الغواة،
~~واستعوزوا إلى باطلهم بعض الولاة، حتى ظهرت محنة الصفات في علماء المسلمين،
~~ودعوهم إلى القول بخلق القرآن، إذ هو مفتاح جحود الصفات، وأقرب من غيره إلى
~~المبتدئين. وظهر في الإسلام ما لم يعهد مثله من الفتنة في الدين، حتى عد
~~الناس من قام به ما كان أسى وصبرا من العلماء، ومن أطفأ شررها من الخلفاء
~~دفعا بجراءة، مفضلا على غيره من الأولين، وانكسرت بذلك سورة أهل البدع
~~ظاهرا، ولكن في النفوس من طواياها كمين مكين.
# وصار من أسباب الفتنة أن نقلة الآثار قل فيهم الفقه والعقل، كما أن ذوي
~~النظر والاعتبار ضعف علمهم بآثار النبيين، ولن يتم الدين إلا بمعرفة الآثار
~~النبوية والسلفية وفقه لما قصدوه من المعاني الدينية، كما كان علماء
~~السالفين، وصار ذلك سببا لإعراض كثير من طلبة العلم من أعيانهم عن النظر في
~~قواعد الدين.
# وظهر في الدولة المعتصمية مقاربا للمحنة الجهمية من الطائفة الخرمية من
~~يقول بتواتر النبيين جريا على منهاج الفلاسفة وسلوكا لسبيل الصابئين، حتى
~~جرت بينهم وبين المسلمين من الحروب ما هو مشهور عند المؤرخين.
# PageV05P041
# وظهر بأثر ذلك من أبطن ذلك من القرامطة ms0816 الباطنية والطائفة الإسماعيلية
~~الذين كثر فسادهم على الخاصة والعامة للدنيا والدين.
# وانتدب للرد على صنوف الكفار والمبتدعة طوائف من المتكلمين بحجج بعضها
~~صحيح قوي وبعضها مهين، لصعوبة الزام (1) علما وقصدا، وعسر الاستبداد في هذا
~~الباب بدرك اليقين، والهوس بفرح ما يقوم لها من الحجة على المنازع قبل تعقب
~~ما يلزم الحجة في سائر المواضع (2) . وهذا من أعظم الآفة على الناظرين
~~والمناظرين، فيحتاج أن تطرد تلك الدلالة، ويلتزم من اللوازم ما لا يظن أن
~~فيه إحالة، وإن كان مخالفا لنص مبين.
# وهذا هو السبب كثيرا أو غالبا في البدع المخالفة للنصوص أو الدافعة لما
~~عليه كل ذي عقل رصين، حتى صار من نصر السنة في غالب الأمر يعد من متكلميها،
~~وإن اضطره تحقق حده وطرد دليله أحيانا إلى ما ينافيها، إذ ذلك غامض إلا على
~~الأقلين. وخرج كثير ممن ينصر السنة بالآثار إلى الاحتجاج بما لا يسوغ لأولي
~~الأبصار، إما لضعف الإسناد، وإما لعدم المتن المتين، وكثر في العلماء
~~المحسنين في أكثر قولهم من المتأخرين من يقع في كلامه من المخالفة للسنة ما
~~يروج عليه وعلى كثير من الناظرين، فيرد هذا عليه سائر حقه لأجل باطله،
~~ويلحقه بالمعطلين، ويقبل هذا جميع كلامه لاعتقاده فيه أنه كالسلف الماضين،
~~ثم إذا صارت الشبهات أهواء أخرجت من النفوس الداء الدفين. PageV05P042
# وصار كثير من طلبة العلم وأذكياء المباحثين يقفون على أقسام محصورة
~~وأمثال مسبورة في كلام كثير من الآخرين، فتوجب حسن الظن بعقول تدرك تلك
~~المطالب، وافتقار رجال ذهبوا تلك المذاهب، وإن كانوا للسلف مخالفين، إذ ليس
~~عندهم من السلف إلا أسماء مستطيرة وكلمات ليست بالكثيرة المعتبرة. ولولا
~~أبهة الإسلام في قلوبهم لعدوهم من العمين، وإن كان في الناس من يعتقد هذا
~~أو يتوقف فيه، وإنما سببه ضعف آثار المرسلين.
# وإذا قيل "أهل الحديث" ذهبت أوهامهم إلى قوم من الرواة وضرب من النساخ
~~والمستمعين، وإن رفعوا البابة إلى قوم من الحفاظ لبعض الأسماء واللغات إذا
~~حدثوا، وظهر من الجهل والظلم اللذين وصف الله بهما الإنسان ms0817 ما أوجب نقص
~~العلم والدين. فهذا وأمثاله أسباب لما قضى به قدر الله في العالمين.
# ثم مع ذلك فلله في كل زمان فترة من الرسل -كما قال الإمام أحمد (1) -
~~بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون
~~بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، وإن كانوا هم الأقلين.
~~بهم تقوم حجة الله في دق الدين وجله، ويحفظ بهم عمود الدين فرعه وأصله إلى
~~يوم الدين. هم الوسط في هذه الأمة، كما أن هذه الأمة هم الوسط في الناس،
~~فهم شهداء عليهم بما أخذوه عن خاتم النبيين، وهم ورثة الأنبياء فيما جاءوا
~~به من العلم، وخلفاء الرسل فيما قاموا به من البلاع المبين، PageV05P043
# وقد يتفرق فيهم علم النبوة إذا لم يقم به واحد، ويغفر للمخطىء منهم في
~~مجتهداته إذا لم يكن عن سنن الاجتهاد بحائد، كما يعذر بعدم البلاع كثير من
~~المؤمنين.
# فالحمد لله على ما بين وأمر، وعلى ما قضى وقدر من هذه الأقانين (1) ،
~~وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك [له] ، شهادة تحصن قائلها من النار
~~وتوجب له نور المتقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بأفضل كتاب وأقوم
~~دين، وأيده بأكمل الآيات وأشرف البراهين، وبعثه في خير أمة وأتم مكان وحين،
~~وبين به الحق بأفصح لغة وأبلغ تبيين، وأخرج به الخلق من الظلمات إلى النور
~~المستبين، وجعله سراجا منيرا، كما جعل الروح الذي أوحاه إليه نورا يهدي به
~~المهتدين، وعصمه من مخالفة سره لعلانيته لا سيما في إيمائه وخطابه
~~المستمعين، إذ لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين (2) ، ولا يومض
~~إيماضا يخفى على الحاضرين، كل ذلك تحقيقا لكمال البلاغ وتنزها عن ظنون
~~الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله كما صلى على إبراهيم إمام المسلمين،
~~وبارك عليه وعلى آله كما بارك على آل إبراهيم في العالمين، إنه سبحانه حميد
~~مجيب سميع لدعاء الطالبين، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وعلينا وعلى
~~عباد الله الصالحين.
# أما بعد، فقد كان جرى بيني ms0818 وبين بعض الناس من نحو عشر PageV05P044
# سنين أو قريب منها أو أكثر منها مناظرة في الصفات والكلام على مذهب أهل
~~التأويل فيها، التمس مني بعد ذلك بعض الأصحاب حكايتها، فكتبتها إليه، مع أن
~~الكتابة لابد فيها من نوع زيادة غير متعمدة ونقصان، لكن المنقوص كثير، إذ
~~الخطاب يحتمل من البسط ما لا يحتمله الكتاب، ومن الورع أن تنقص من الحكاية
~~ولا تزيد فيها.
# وتلك المناظرة -مع ما اشتملت عليه من القواعد المقررة والأصول المحررة-
~~لم تخرج مخرج تصنيف، وإن كان لا غرو في جعلها تصنيفا.
# وصورة ما كاتبت به الطالب: فإن الله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة،
~~وكمل فطرتهم بالنبوة، واصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس، ليعلموا الأمم ما
~~لم يكونوا يعلمونه، كما قال سبحانه وتعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم
~~يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا
~~تعلمون (151)) (1) .
# ولم يبعث رسله بغير فطرته التي فطر عباده عليها، ولا بإفساد عقولهم التي
~~بها ينالون علم ما أنزله عليهم، بل بعث الرسل بتعليم ما تقصر عقولهم عن
~~دركه، لا ما تقضي عقولهم بإحالته، وأمرهم بتقرير الفطر لا بتغييرها. ولهذا
~~قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن
~~الجاهلين (199)) (2) ، وقال في صفة المستحقين الرحمة: (الذين يتبعون الرسول
~~النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة PageV05P045
# والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) (1) . وجعل حجته التي يستحق
~~العذاب تاركها رسله المنذرين، دون مجرد الفطرة والعقل، كما قال سبحانه
~~وتعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) إلى قوله
~~تعالى: (وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس
~~على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)) (2) .
# فأخبر أنه أرسل الرسل لئلا يبقى لأحد حجة، فعلم أن
### | الحجة قامت على أهل الأرض بالرسل،
# وأنه لم يبق لأحد بعدهم.
# و"الحجة" اسم لما يحتج به، سواء كانت بينة أو شبهة، وإن كان قد اصطلح
~~كثير من المتأخرين قصر هذا اللفظ على البينات ms0819 دون الشبهات. فإن الأول هو
~~لغة القرآن ولغة العرب، كما قال سبحانه: (لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا
~~الذين ظلموا منهم) (3) ، وقال تعالى: (لا حجة بيننا وبينكم) (4) . وهي اسم
~~لما يقصده المحاج ويؤمه في حجاجه، ومثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين" (5)
~~.
# وقال سبحانه وتعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم
~~القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
~~(14) PageV05P046
# من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر
~~أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (15) وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا
~~مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)) (1) . فأخبر
~~سبحانه أن كل عامل يلزمه عمله، وأن منفعة هداه وضلالته عائدة عليه، وأنه لا
~~يحمل من سيئات غيره شيئا، وأنه لا يعذب أحد حتى يبعث إليه رسول، وأن القرى
~~إنما تهلك بعد فسق مترفيها.
# وقال سبحانه وتعالى: (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا
~~ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47))
# إلى قوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو
~~عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)) (2) .
# فهذه الآيات تشبه تلك الآيات.
# وأخبر سبحانه عن عذاب الآخرة مثل ما أخبر به عن عذاب الدنيا، فقال سبحانه
~~وتعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال
~~أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال
~~النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) إلى قوله: (يا معشر الجن والإنس
~~ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا
~~شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا
~~كافرين (130) ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى PageV05P047
# بظلم وأهلها غافلون (131)) (1) . فأخبر سبحانه عن المعذبين من الجن
~~والإنس أن الرسل قد جاءتهم، وأخبر أنه لا يهلك ms0820 القرى إلا بعد الرسل
~~المذكرين.
# وقال سبحانه: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت
~~أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم
~~وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين
~~(71)) (2) . فأخبر سبحانه أن الزمر المسوقة إلى جهنم من الذين كفروا قد
~~جاءتهم رسل الله يتلون عليهم آياته وينذرونهم
# يوم القيامة.
# وقال سبحانه: (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير (6) إذا ألقوا
~~فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور (7) تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج
~~سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما
~~نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير (9) وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل
~~ما كنا في أصحاب السعير (10)) (3) .
# فأخبر سبحانه وتعالى أن كل فوج يلقى في النار يعترف بمجيء النذير ويقر
~~بتكذيبه، وأنه لو كان لهم عقل أو سمع لكان ذلك سببا لنجاتهم.
# وهذا نظير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها
~~أو آذان يسمعون بها) (4) ، وقولي تعالى: (إن في ذلك لذكرى PageV05P048
# لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (1) . ودل ذلك علي أنه ليس
~~مراده بالعقل أو بالقلب العاقل ما يستغني به عن الرسول بعد مجيئه، لأنه قد
~~أخبر عن هؤلاء الذين قالوا: "لو كنا نسمع أو نعقل" أن النذير جاء كل فوج
~~منهم، فكذبوه وأنكروا رسالته فعلم أن مع هذا التكذيب لا يبقى عقل منجي، وإن
~~كان العقل باقيا.
# وكذلك في الآية الأخرى قال سبحانه وتعالى: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم
~~أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) إن في ذلك لذكرى لمن كان
~~له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (2) ، وقال تعالى: (أفلم يسيروا في
~~الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) (3) ، فإنما ذكر ذلك
~~لبيان الاعتبار بآثار المهلكين من الأمم الذين كذبوا الرسل وعصوهم، وهذا
~~إنما هو عقل ينتفع به في الإيمان بالرسل ms0821 وطاعتهم، وإن لم يحصل ذلك بلسانه
~~أو بأمر لأخبارهم المفصلة، إذ من الناس من يتدبر بنفسه، ومنهم من يحتاج إلى
~~موقظ. وقد أخبر سبحانه وتعالى في غير موضع العقل المتعلق بآياته، كقوله
~~سبحانه وتعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون (43))
~~(4) .
# وقال سبحانه وتعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان
~~إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) PageV05P049
# ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62)) (1) . فبين سبحانه أن
~~من ترك عهد الله إليه وضل عنه لم يكن يعقل.
# وقال سبحانه وتعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن
~~تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
~~أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39)) (2) . وقال أيضا: (قال اهبطا منها
~~جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى
~~(123) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124)
~~قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها
~~وكذلك اليوم تنسى (126) وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب
~~الآخرة أشد وأبقى (127)) (3) . قال ابن عباس (4) : تكفل الله لمن قرأ
~~القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وقرأ هذه
~~الآية.
# فأخبر سبحانه أن من اتبع ما جاءه من الهدى على ألسن الرسل لا يضل ولا
~~يشقى، فلا يحزن ولا يعذب، وأن من أعرض عنه فإنه يعذب بالمعيشة الضنك، وأنه
~~يكون أعمى يوم القيامة، ضد المتبع لهداه. ثم بين سبحانه أنه يعمى في الآخرة
~~وإن كان بصيرا في الدنيا، لأن آيات الله أتته فتركها وأعرض عنها.
~~PageV05P050
# وفي هذا بيان واضح لأن المعرض عن آيات الله بترك الاستهداء بها يعمى
~~ويعذب، ولا ينفعه بصره وعقله. وبين أن هذا الحق يلحقه وإن لم يكن مكذبا
~~للرسل، لأنه علقه بمجرد الإعراض عن ذكره، وبين أن ذلك نسيان آياته التي هي
~~تركها.
# ثم قال: (وكذلك نجزي من ms0822 أسرف ولم يؤمن بآيات ربه) ، فمجرد عدم الإيمان هو
~~المؤثر وإن لم يكن ثم تكذيب، فإن
### | للناس في الرسل ثلاثة أحوال: إما التصديق، وإما التكذيب، وإما عدمهما.
# وكل واحد من التكذيب وعدم التصديق كفر.
# ولما كان الغالب على المعرضين عن هدى المرسلين الإعجاب بآرائهم وبصائرهم
~~وعقولهم، والاستخفاف بأتباعهم، قال سبحانه عن قوم هود: (ولقد مكناهم فيما
~~إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا
~~أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا
~~به يستهزئون (26)) (1) . فأخبر سبحانه أن السمع والبصر والفؤاد لا يغني مع
~~الجحود بآيات الله.
# ومثل ذلك قوله سبحانه: (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من
~~العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (83) فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا
~~بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84) فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا
~~بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده) (2) . فأخبر أن المنذرين PageV05P051
# أعجبوا بما عندهم من العلم، وهذه حال من استغنى بعقله وعلمه عما جاءت به
~~الرسل. وأخبر سبحانه أنه أحاط بهم ما كانوا يستهزئون به مما أنذرت به
~~الرسل. وهذه حال عامة المتكايسين من هؤلاء الذين ينكرون العقوبات التي
~~أخبرت بها الرسل.
# وأخبر سبحانه أن
### | الرسالة عمت الأمم كلهم
# بقوله سبحانه وتعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله
~~واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في
~~الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (36)) (1) ، وقال سبحانه: (إنا
~~أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)) (2) . وكما
~~أخبر سبحانه أنه لم يكن معذبا أحدا في الدنيا ولا في الآخرة حتى يبعث
~~رسولا، أخبر سبحانه أنه بعث في كل أمة رسولا، لكن قد كان يحصل في بعض
~~الأوقات فترات من الرسل، كالفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما
~~وسلم، كما قال سبحانه وتعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على
~~فترة من الرسل أن تقولوا ما ms0823 جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير
~~والله على كل شيء قدير (19)) (3) .
# وزمان الفترة زمان درست فيه شريعة الرسول وأكثر الدعاة إليها PageV05P052
# إلا القليل، ولم يدرس فيها علم أصول دين المرسلين، بل
### | يبقى في الفترة من الدعاة من تقوم به الحجة،
# كما قال الإمام أحمد (1) رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة
~~من الرسل بقايا من أهل العلم، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بها أهل
~~العمى".
# وكما قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في حديث كميل بن زياد: "لن تخلو
~~الأرض من قائم لله بحجة، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك الأقلون عددا
~~والأعظمون عند الله قدرا" (2) . فمن قامت عليه الحجة في الإيمان والشريعة
~~التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجب عليه اتباع ذلك، ومن درست
~~عنه شرائع الرسل أو لم يكن رسوله جاء بشريعة سوى القدر المشترك بين
~~المرسلين ففرضه ما تواطأت عليه دعوة المرسلين، من الإيمان بالله وباليوم
~~الآخر والعمل الصالح، دون ما تميزت به شريعة عن شريعة. وهؤلاء -والله أعلم-
~~هم الصابئون المحمودون في قوله سبحانه وتعالى: (إن الذين آمنوا والذين
~~هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم
~~عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (3) . PageV05P053
# فحمد سبحانه من هذه الأصناف الأربعة من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
~~صالحا، وجعلهم من السعداء في المعاد، وهذا يبين أن في الصابئين من يكون
~~سعيدا في الآخرة حميدا عند الله.
# وكذلك قال في سورة المائدة (1) : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
~~والنصارى من آمن بالله) ، والنصارى مقدمون على الصابئين كما في سورة
~~البقرة، ويشبه -والله أعلم- أنهم قدموا هنا لفظا لتقدم زمنهم، وجيىء بهم
~~بصيغة الرفع ليبين أن مرتبتهم التأخير، لأن المعطوف على "إن" واسمها بصيغة
~~المرفوع إنما يعطف بعد تمام الكلام. والصابىء هو الخارج، ولهذا كانوا يسمون
~~من خرج من دينهم الصابىء. والعلماء وإن كانوا قد اختلفوا في الصابئين
~~فالأشبه بظاهر القرآن والعربية وما دلت ms0824 عليه السير وما تقتضيه أصول
~~الشريعة: أن الصابئين هم المهتدون المستمسكون بأصول دين الأنبياء، وهو
~~المتفق عليه من الإيمان والعمل الصالح دون شريعة معينة، لأنهم يكونون بذلك
~~يصدق عليهم أنهم خارجون من خصوص كل شريعة، ويصدق عليهم أنهم آمنوا بالله
~~واليوم الآخر وعملوا صالحا.
# فأما من كان صابئا لا يؤمن بالله واليوم الآخر و [لا] يعمل صالحا فهؤلاء
~~الكفار منهم، كعباد الكواكب ونحوهم، والقوم الذين بعث إليهم إبراهيم كانوا
~~صابئة، وكذلك فرعون وقومه، وكذلك أكثر PageV05P054
# أهل الأرض، وكان غالبهم مشركين، وعلماء الصابئين هم الفلاسفة، فمن كان من
~~أولئك الفلاسفة مؤمنا بالله واليوم الأخر عاملا صالحا فهو من الصابئين
~~الذين أثنى الله عليهم، ومن لا فلا (1) .
# وهذا بخلاف المجوس والذين أشركوا فإن الله لم يحمد أحدا منهم، وإنما
~~ذكرهم لبيان حكم الله بينهم وبين غيرهم يوم القيامة في قوله تعالى: (إن
~~الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن
~~الله يفصل بينهم يوم القيامة) (2) .
# ولما كان معلوما أن اليوم الآخر هو يوم القيامة، ولا يؤمن بيوم القيامة
~~إلا أتباع الأنبياء، إذ من لم يتبع الأنبياء من الصابئين وغيرهم إنما يؤمن
~~من المعاد بمعاد الأرواح فقط، كما يؤمن به المجوس وبعض المشركين، وذلك ليس
~~هو اليوم الآخر علم أن من اهتدى من الصابئين فإنما اهتدى باتباع الأنبياء.
# فتبين أن
### | كل هدى حصل به سعادة الآخرة فهو باتباع الأنبياء،
# وأن كل عذاب استحق في الدار الآخرة فهو بالإعراض عما جاءوا به، ومن لم
~~تبلغه دعوتهم فقد ورد أنه يكلف في الدار الآخرة، وليس غرضنا ذكر ذلك.
# ويبين ما قدمناه أن من استقرأ أخبار الأمم -علمائها وعوامها- PageV05P055
# لم يجد أحدا متمسكا بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له إلا من كان
~~متبعا للأنبياء جملة وتفصيلا، ومن أعرض عن الأنبياء فلابد أن يشرك، حتى
~~المنافقين من هذه الأمة لا يجد من أعرض عن اتباع حقيقة الدين في الباطن إلا
~~ولابد أن يشرك، إلا ما شاء الله. وأن اتباع الوحي لابد فيه من فطرة ms0825 بها
~~يعقل ويفقه، وأن الهدى متوقف على صلاح الفطرة والشرعة، فلذلك عمد الشيطان
~~من بني آدم، فاجتالهم تارة عن الفطرة، وزين لهم تارة تحريف الشرعة، وغرهم
~~عن الفطرة الصحيحة السليمة بالقياس الفاسد الذي قد يسمونه معقولا وإن لم
~~يكن، وعن الوحي المنزل بالتحريف الذي يسمونه تأويلا وإن كان فاسدا.
# وذلك أن العلوم لبني آدم نوعان:
# نوع يختص الله به من يشاء من عباده، كما يوحيه إلى الأنبياء. ونوع مشترك،
~~ينال بالتعاطي، كالعلوم النظرية الحساب ونحوه.
# وكل واحد من المختص والمشترك منه ما يحصل في القلب بواسطة دليل، ومنه ما
~~يحصل لا بواسطة دليل، كالعلوم المشتركة التي لا تقف على دليل كالبديهية
~~والحسية، والتي تفتقر إلى دليل هي النظرية. والمختصة التي تقف على دليل قد
~~يكون دليلها أيضا مختصا، وقد لا يكون مختصا، وإنما درك العلم به هو المختص.
# وأما المختصة التي لا تقف على دليل فهو ما يوحيه الله إلى قلب من يشاء من
~~عباده بلا دليل أصلا، بل تكون للخاصة بمنزلة البديهية للعامة.
# PageV05P056
# وزعم فريق من المتفلسفة أن علوم الأنبياء المختصة لابد لها من وسط، وإنما
~~خاصتهم درك وسط لا يدركه غيرهم، وأن الحدس هو درك الوسط، ثم الانتقال منه
~~إلى المطلوب، بخلاف التفكر فإنه تصور المطلوب أولا ثم طلب الوسط.
# وهؤلاء بنوا هذا على أصلهم الفاسد في أن النبوة كمال علمي وعملي من جنس
~~كمال النوع المكتسب، لكنه أرفع درجاته، وأن النبوة ليست خارجة على القوى
~~المعتادة، ولاهي تنزيلا خاصا من عند الله إلى من يختصه بمشيئته. ولم يعلموا
~~أن لا مانع من أن يكون للنبي علم بديهي مختص لا يقف على دليل أصلا، بل هذا
~~يكون لغير النبي ككثير من الأولياء، فكيف بما يكلم الله به النبي أو ينزل
~~به إليه الملك؟
# ثم هؤلاء يزعمون انحصار العلم في القياس، ولعمري إن القياس لطريق صحيح
~~إذا استعمل على وجهه، لكن لم تنحصر طرق العلم فيه، فوقع عليهم من استعماله
~~حيث لا يمشي ومن نفي ما سواه وهو الحق ms0826 (1) .
# ثم إن كثيرا من متكلمي أمتنا وغيرهم من أتباع الأنبياء أقروا بطريق
~~القياس، لكن شركوهم في القياس الفاسد، فصار القياس طريقا لهم في كثير من
~~العلم الإلهي، وضعف علمهم وإيمانهم بآثار المرسلين، فقابلوها إما بالرد
~~والتكذيب، وإما بالتحريف والتأويل، PageV05P057
# معتمدين -زعموا- على ما أوجبه ذلك القياس العقلي. وبإحكام دلالات الوحي
~~والقياس يبين الحق من الباطل.
# ولست أعني بالقياس هنا مجرد قياس التمثيل الذي هو تشبيه أمر معين بأمر
~~معين إما بجامع وإما بغير جامع، وإن كان كثير من فقهائنا يزعم أن هذا هو
~~القياس، وأن ما سواه قياس مجازا؛ ولا مجرد قياس التأصيل الذي هو إدراج
~~الخاص [تحت] العام، كقولنا: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وإن كان طائفة من
~~متكلمينا وفقهائنا يزعم أن هذا هو القياس، وأن ما سواه باطل. بل أعني به ما
~~هو أعم من ذلك على ما تقتضيه اللغة، فإن جميع هذا قياس. وتسمية الأول قياسا
~~ظاهر، إذ القياس تقدير الشيء بنظيره، كما يقال: قست الجراحة بالميل، وقست
~~الأرض أو الثوب بالذراع. وأما الثاني فلأن الخاص إذا أدرجته تحت المعنى
~~العام فلا بد أن يقوم في ذهنك عام مطابق لتلك الأعيان الموجودة وأنت تطلب
~~مماثلة تلك الأعيان الموجودة بذلك المثال المعلوم القائم في قلبك الذي هو
~~مقياس تلك الأعيان، وهو عام باعتبار شموله لكل منها.
# وهذا العلم هو من لوازم الإنسان وبه [تدرك] العلوم العامة الكلية، فإذا
~~لا يمكنك هذا القياس إلا بهذا العلم العام الكلي، والشأن كل الشأن في حصول
~~هذا العلم الكلي العام، فإن المعلوم إذا لم يكن له نظائر يرتسم بمعرفة
~~الواحد منها مثال في الذهن يوزن به سائرها، ولا كانت حقيقته مما يمكن أن
~~تتعدد، حتى يأخذها العقل كلية، وإن لم تكن في الوجود متعددة، بل كانت
~~حقيقته لا متعددة ولا قابلة للتعدد، بل هو الأحد الذي لا أحد غيره، كيف
~~يمكن أن يعلم
# PageV05P058
# هذا الذات بالقياس العقلي أبدا؟ ولهذا قال ابن عباس
### | …
### | …
# (1)
# فتبين أن خواص الرب سبحانه لا تعلم بالقياس الكلي ms0827 الذي يسميه المتكلمون
~~الدليل العقلي. بل قد تعلم بالقياس الأمور المشتركة بينه وبين غيره،
~~لدخولها تحت القياس. ولهذا كان عامة ما يدركه أهل القياس من معرفة الأمور
~~السلبية أو الإضافية أو المشتركة منهما، لأن نفي الأمر عنه هو حكم على ذلك
~~الأمر بالعدم، وذلك الأمر المعدوم يدخل تحت القياس الكلي، وكذلك إضافة أمر
~~إليه هي حكم على ذلك المضاف باستلزام الإضافة إلى أمر ما، وذلك المضاف يدخل
~~تحت القياس والأمر بالمعدومات، وأما علم [الصفات] التي هي خواصه فتعلم تارة
~~بالفطرة العامة المشتركة بين الخلق، وتارة بالهداية الخاصة التي يمتاز بها
~~المؤمنون، وتارة بالتعريف الخاص الذي يختص به علماء المؤمنين، وتارة بالوحي
~~الذي يمتاز به الأنبياء، وكل من هذه الأقسام فأهله فيه على درجات غير
~~محصورة لنا.
# فهذا أصل ينبغي ضبطه.
# وأما الوحي فكتاب الله ثم سنة رسوله، ثم سيرة خير قرون هذه الأمة تشهد
~~بأن الله ورسوله بين وهدى وشفى، وأنه بلغ البلاغ المبين، وبين باللسان
~~العربي المبين، وأنه لم يحل الخلق على غيره في هذا الباب، ولا وكلهم إلى
~~القياس الذي لا يجدي كما تقدم، بل تولى بيان ما تحتاج إليه الأمة. وهذه
~~جملة سيأتي -إن شاء الله- تفصيلها. PageV05P059
# ثم لما كان للقياس على العقول سلطان عظيم إذا لم يهتد إلى مواقفه
~~ومجاريه، وللوحي في القلوب برهان عظيم لعلمها بما اشتمل عليه، ورأى أكثر
~~الخلق أن بين مقتضى القياس والوحي تعارضا بينا وتنافيا واضحا، تحزب الناس
~~هنا فرقا:
# فريق غلب عليهم معرفة القياس دون الأثارة (1) ، فاتبعوا موجبه، ثم ردوا
~~ما بلغهم من الأثارة أو تأولوها.
# وفريق غلب عليهم معرفة الأثارة، ورأوا للقياس وأهله سلطانا عظيما،
~~فأحجموا عن النظر فيه ومفاوضة أهله، صونا لأبصارهم من العمى ولقلوبهم من
~~الحيرة. وهؤلاء أحسن حالا، بل هم على نهج سلامة.
# وفريق أعرضوا عن تدبر هذا والنظر في هذا، وشغلوا نفوسهم بغير هذا.
# وفريق قوي إيمانهم بالأثارة، وأحسوا بسوء حال أهل القياس، فذموهم وعابوهم
~~على طريق الإجمال، وإن لم يستطيعوا فك أقيادهم ولاتذليل قيادهم ms0828، وهذه حال
~~كثير من علماء الأثارة، وهي حال حسنة، وإن كان قد ترتب عليها الجور أحيانا،
~~لكن من كان [من] هؤلاء سببا لدلالة الأثارة نافيا عنها تحريف المخالفين كان
~~من علماء الدين، وإن كان دفعه للمعارض إجماليا. PageV05P060
# وفريق فوق هؤلاء، آمنوا بالأثارة، ثم أوتوا من الهداية الخاصة ما علموا
~~به فساد القياس تفصيلا، فزالت عنهم المعارضات بالكلية، ومنهم من يرفع إلى
~~هداية يدرك بها حقيقة بعض ما جاءت به الآثار، فيكون ذلك مثبتا لفؤاده.
# ثم هذه الطرق قد تنفصل في المسائل، فكثير من أرباب القياس قد خلص إليه من
~~الأثارة ما لا يمكن دفعه، فكان حكمه في ذلك حكم أرباب الأثارة في غيره،
~~فربما أخذ يؤيد بالقياس ما جاءت به الأثارة، وإن كان لولا مجيء الأثارة لم
~~يطمئن إلى موجب القياس.
# وقوم منهم ضعف علمهم أو إيمانهم بالأثارة حتى نأوا عن الهدى، ثم عظم قدر
~~الأنبياء في قلوبهم بكمال التخيل في دعوة الخلق بضروب الاستعارات وأنواع
~~الإشارات. ولا يشك لبيب أن الموغلين في القياس إذا طرق سمعهم جمهور ما جاءت
~~به الأثارة بقوا متحيرين كما يخبرون به عن نفوسهم، فإن القياس أيضا يقضي
~~باستحالة اجتماع هذه الأثارة وهذا القياس، فصار القياس يقضي بفساد القياس.
# وأما جمهور أرباب الأثارة فسوطيهم (1) بالقياس وأهله يرد عليهم، ثم كثير
~~ما يسمعونه من اعتراف أهل القياس المخالفين لهم بالحيرة والتردد، وما
~~يسمعونه عنهم ومنهم من الخصام والتلدد، وما يقترن به من شهادة عموم الأمة
~~التي لا تشهد إلا بحق، وما يخبر به أهل PageV05P061
# البر والتقوى الذي أشربت القلوب لهم خالص المودة من سوء حال هذا وحسن حال
~~هؤلاء، وما يرى ويسمع من البشرى التي وعد الله بها أولياءه في الحياة
~~الدنيا من المبشرات المنامية ولسان الصدق المنشور، وغير ذلك من الأسباب
~~الكثيرة التي توجب رجحان موازينهم وخفة موازين مخالفيهم، صارت تثبت أفئدتهم
~~وتزيد إيمانهم وتدفع عنهم شؤم المعارضات.
# والأمر كما أصف وفوق ما أصف، وكان حصل عندي من هذا ما حصل، فاجتمع لي من
~~مدة ms0829 عشر سنين أو قريب منها أو أكثر من قال لي، فلما كان في هذه الأوقات حدث
~~من الأسباب ما اقتضى أن وقف على حكاية هذه المناظرة أحد الفضلاء المبرزين
~~والنبلاء المتبحرين، عين أعيان المناظرين وفرسان المتكلمين ومن تتبين
~~الفوائد بمذاكرته وتستفاد المقاصد بمناظرته، فعلق عليها من الأسولة ما
~~التمس حلها، ومن المباحث ما اقتضى فرعها وأصلها
### | …
### | …
# (1)
# قلت في حكاية المناظرة (2) : "قال لي بعض الناس: إذا أردنا أن نسلك سبيل
~~السلامة والسكوت، وهي الطريق التي تصلح عليها العامة، قلنا كما قال الشافعي
~~رضي الله عنه: آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله
~~وما جاء عن رسول [الله] على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا
~~سلكنا طريق البحث والتحقيق فإن الحق مذهب من يتأول آيات الصفات وأحاديث
~~الصفات من المتكلمين. PageV05P062
# فقلت له: أما ما قاله الشافعي فإنه حق يجب على كل مسلم أن يقوله ويعتقده،
~~ومن اعتقده ولم يأت بقول يناقضه فإنه سالك سبيل السلامة في الدنيا والآخرة.
~~وأما إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون
~~به أهل الحديث كله باطلا، وتيقن أن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا.
~~فاستعظم ذلك وقال
### | …
# (1) .
# قال الفاضل الباحث على قولنا "إذا بحث الإنسان وفحص وجد
# ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث باطلا":
~~الكلام على [هذا] من ثلاثة أوجه:
# أحدها: القول الموجب، فإن المخالفة القول بما يخالف قولهم ويناقضه، لا
~~القول بما لم يصرحوا بنفيه ولا بإثباته، ولا أسلم أن المعتبرين من المحدثين
~~منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، فإن نقل ما ظاهره ذلك حملناه على
~~التأويل بغير دليل أو على غير القواعد العلمية، توفيقا بين العلماء وصيانة
~~لهم عن تخطئة بعضهم. وبالجملة فلا أسلم أن معتبرا حزم تأويلا يشهد العقل
~~بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد، ولا يرى أن
~~يستعمل في كتب الحقائق نور الحقائق الذي هو من أجل نعم الله على العباد.
# فإن قيل: فقد ms0830 اشتهر النهي عن الكلام في التأويل. PageV05P063
# قلت: لعل ذلك للعوام، أو على طريق الورع لا التحريم، لم قلتم إن الأمر
~~ليس كذلك؟
# والوجه الثاني: لو سلمنا أن بعضهم حرم ذلك، فهل نقل التحريم عن نص الله
~~أو عن نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن إجماع الأمة؟ فإن الحجة
~~ليست في قول البعض، لاسيما إذا خالفوا البعض الآخر.
# الوجه الثالث: أنا ننقل عنهم الإجماع على التأويل في بعض المواضع على ما
~~سيأتي، ونطالب بالفرق.
# والجواب -ولا حول ولا قوة إلا بالله- من مقامين:
# المقام الأول: في بيان أن هذه الأسولة هل هي متوجهة واردة يجب الجواب
~~عنها أم لا؟
# والثاني: في التبرع بالجواب بتقدير عدم وجوبه.
# أما المقام الأول
# فيمكن أن يقال: نحن نطالبكم بتوجيه هذه الأسولة، فإنه ليس منها شيء
~~واردا، فضلا عن أن يستوجب جوابا.
# أما القول بالموجب فعليه أولا مناقشة معروفة، وهو أن القول بالموجب إنما
~~يرد على الأدلة دون الدعاوي، فإن الدليل الصحيح يجب القول بموجبه، ولهذا
~~قيل: إن القول بالموجب سؤال يرد على كل دليل. لكن المعترض يدعي أنه يقول
~~بموجب دليل المستدل من غير التزام لدعواه، ببيان عدم دلالته على محل
~~النزاع،
# PageV05P064
# وحاصله أنه يمنع دلالة الدليل على محل النزاع، ويضيف إلى ذلك أنه قائل
~~بموجبه، وموجبه غير محل النزاع، فالقول بالموجب إبداء لسند المنع.
# أما الدعوى قبل ذكر دليلها، فإذا قيل بموجبها، بأن كان قولا بموجب قصد
~~المدعي، فهو موافقة في المسألة وليس باعتراض، فإن من قال: لا يقتل مؤمن
~~بكافر، فقيل له: تقول بموجب هذا؟
# أي تقول بما قصدته بهذه العبارة، كان هذا وفاقا لا سؤالا، وإن كان قولا
~~بموجب لفظه لا يوجب معناه، بأن يكون اللفظ مشتركا أو مجملا ونحو ذلك، فيقال
~~بموجبه الذي لم يقصده المدعي، مثل أن يقال فيما إذا ادعى لا يقتل مؤمن
~~بكافر: تقول بموجبه في الحربي والمستأمن؟ كان هذا كلاما قليل الفائدة، ولم
~~يعد من الأسولة الواردة، بل يعد من المناقشات اللفظية إن لم ms0831 يكن ظاهر اللفظ
~~ينفي القول بالموجب. فإنه يقال له: لم تحرر الدعوى، بل ادعيت الذي ادعيت
~~بلفظ مجمل أو مبهم بخلاف مقصودك. فأما إن كان ظاهره ينفي القول بالموجب فلا
~~مناقشة فيه أصلا. ثم إذا توجهت المناقشة اللفظية من الناس من يترك مثل هذا
~~السؤال ويقول: هو خروج عن مقصود المسألة، والكلام فيها كأنه بمنزلة مناقشة
~~المتكلم على لفظ قد لحن فيه. ومنهم من يورده ويعده من ضبط آداب المناظرة،
~~والأمر في ذلك قريب.
# أما مسألتنا فالدعوى محررة تمنع القول بالموجب إلا على سبيل الموافقة،
~~وعلى سبيل الموافقة لا يبقى نزاع، فإنا قلنا: "إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما
~~يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون
# PageV05P065
# به أهل الحديث كله باطلا، وتيقن الحق مع أهل الحديث ظاهرا وباطنا".
~~والمخالفة لا تكون إلا بما يخالف قولهم ويناقضه، فنصير مدعين أن قول
~~المتكلمين الذي يناقض قول أهل الحديث قول باطل، كما لو قلنا: إن قول
~~المتكلمين الذي يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع أو المعقول قول باطل.
~~وهذا ليس بدليل حتى يكون القول بموجبه سؤالا جاء في دلالته، وإنما هي دعوى،
~~فإما أن نوافق عليها أو نخالف، فإن خولفنا فالسؤال على الدليل الآتي، وإن
~~ووفقنا فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
# يبقى أن يقال: فهل للمتكلمين قول يخالف قول أهل الحديث، بحيث يكون الكلام
~~في وجوده؟ أم هو كلام على هذه الحقيقة مع قطع النظر على وجودها وعدمها؟ ولا
~~شك أن مرادنا هو القسم الأول، وإن كان تفسير اللفظ بالثاني ممكنا، بأن
~~نقول: إن كان للمتكلمين قول مخالف لأهل الحديث فهو باطل، وإلا فلا نص.
# ومثل هذا السؤال إذا قيل: كل قول للفلاسفة يخالف الأنبياء فهو باطل، فإن
~~المتفلسف المتأول يزعم أن الفلاسفة موافقون الأنبياء لا مخالفون، وإنما
~~يعتقد مخالفتهم لهم عوام أهل الملل ومتكلمو أهل الجدل، فإذا قال: أنا قائل
~~بموجب قولكم لم يكن هذا سؤالا، لكن إن فهم من المتكلم دعوى وجود المخالفة
~~فله أن يطالب بتعيينها.
# ومع هذه المناقشة فتسمية ms0832 مثل هذا الكلام قولا بالموجب لا تأباه اللغة
~~العربية، بل تساعد عليه، وقد يستعمله الناس في مناظراتهم، فإن السائل يقول:
~~ما أوجبته بدعواك من بطلان أحد القولين المتناقضين
# PageV05P066
# أنا أقول به، لكن لم توجد المناقضة بين القولين، فكأنك تدعي بطلان ما لا
~~وجود له، وأنا قائل بموجب عبارتك لا بموجب إرادتك. وأنت تحكم على أهل
~~الكلام بمخالفة أهل الحديث، وهذا لم يوجد. لكن إذا قال السائل هذا قال له
~~المدعي: أنت كما قد وافقتني على مدعاي، فإن لفظي إما أن يعني نوعا أو عينا،
~~إن عني به النوع فليس من ضرورة الحكم على النوع وجوده في الخارج، بل قد
~~يقول: [من] كذب بسورة يس أو جحد بشيء من القرآن فهو كافر، إن لم يعلم وجود
~~ذلك.
# وإن عني به العين كان التقدير: هذا التأويل المعين الذي يخالف أهل الكلام
~~[فيه] أهل الحديث تأويل باطل، فإذا قيل بموجب هذا كان موافقة في بطلان
~~التأويل المعين، ثم تبقى المنازعة في تسميته خلافا لأهل الحديث. ومعلوم أن
~~هذا ثلم للمسألة ونزاع في نفيها.
# فحاصله أن القول بالموجب تسليم للمسألة إن عني بها النوع وتنازع في
~~وجودها، أو تسليم لعينها ونزاع في صفتها، فإن كان الأول فهو نزاع فيما لم
~~يدل عليه اللفظ، وإن كان الثاني فهو تسليم للمسألة، ولا يضر بعد ذلك النزاع
~~في اسمها.
# وتحرير السؤال أن يقال: لا نسلم أن أهل الكلام خالفوا أهل الحديث، فإنهم
~~لو خالفوهم لقلنا: الصواب مع أهل الحديث، وهو أن القول بالموجب على تقدير
~~ثبوت المخالفة تسليم للمسألة بتقدير وجودها، وقد منع ذلك في السؤال بقوله:
~~لو سلمنا أن بعضهم حرم ذلك فهل نقل التحريم عن الله أو رسوله أو أهل
~~الإجماع، ومن سلم الحكم لم يكن له أن يطالب بالدليل، لأنه منع بعد تسليم،
~~وهو غير مقبول.
# PageV05P067
# وأما السؤال الثالث -وهو نقل الإجماع على بعض التأويلات- فلا يرد أيضا،
~~لأن ذلك إن صح لم يدخل في الدعوى، لأنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف لأهل
~~الحديث باطل ms0833، وما أجمعوا عليه ليس من هذا الباب. نعم، يبقى هذا من باب
~~المعارضة لأهل الحديث، وهي أن يقال: كيف تبطلون بعض التأويلات وتصححون
~~البعض؟
# والمعارضة لا تورد عند الدعوى، وإنما تورد بعد الأدلة.
# وأيضا مما يبين عدم ورود هذه الأسولة: السؤال الأول، وهو منع الاختلاف
~~بين أهل الحديث وأهل الكلام في التأويل، فإن المناظرة كانت مع من يدعي أن
~~الحق مع أهل التأويل دون من خالفهم، فإن لم يكن لهذا وجود كان ردا على من
~~نصر أهل الكلام المخالفين لأهل الحديث، لا على من نصر أهل الحديث.
# وأيضا فإنه عقب هذا الكلام قد قلنا (1) : "إن أمهات المسائل التي خالف
~~فيها متأخرو المتكلمين لأهل الحديث ثلاث: مسألة وصف الله بالعلو، ومسألة
~~القرآن، ومسألة تأويل الصفات". وهذا تعيين لهذه المسائل الثلاثة المختلف
~~فيها، والخلاف في هذه المسائل أشهر من أن يحتاج إلى نقل.
# فإن قيل. لا نسلم أن أحدا خالف أحدا في هذه المسائل، بل كل تأويل فيها
~~للمتكلمين فإن أهل الحديث لم ينفوه، بل سكتوا عنه. PageV05P068
# قيل: النقل المتواتر والعلم الاضطراري وما مهدته الكتب المصنفة دليل على
~~وقوع الخلاف في أعيان هذه المسائل وأدلتها السمعية.
# وأيضا فإن الفاضل المباحث -أيده الله- قد حكى في مباحثه هذه عن القاضي
~~عياض (1) : "أما من قال منهم بإثبات جهة "فوق" له تعالى من غير تحديد ولا
~~تكييف من دهماء المحدثين والفقهاء وبعض المتكلمين منهم فيتأول "في السماء"
~~بمعنى على، وأما دهماء النظار والمتكلمين وأصحاب الإثبات [والتنزيه]
~~المحيلين أن يختص به جهة أو يحيط به حد، فلهم فيه تأويلات بحسب مقتضاها".
# ومعلوم بأن هذا تصريح بأن لهؤلاء النفاة تأويلات يخالف فيها المثبتون
~~لكونه فوق العرش، وهذه التأويلات مما قضينا بإبطالها، فكيف يتوجه مع هذا أن
~~يقال: ليس للمتكلمين تأويل يخالفون به أهل الحديث؟
# و
### | نحن لم نقل: إن كل تأويل باطل، حتى ينقض علينا بصورة،
# بل قلنا: كل تأويل للمتكلمين يخالفهم فيه أهل الحديث فهو باطل.
# ومعلوم أن هذا تكفي فيه صورة واحدة، وهذه صورة قد ms0834 سلمتموها وحكيتموها.
# وهب أنهم أجمعوا على تأويلها -وإن كنا سنتكلم على هذا إن شاء الله- لكن
~~مضمون هذه العبارة أن التأويل الذي أثبته المتكلمون ونفاه أهل الحديث باطل.
~~PageV05P069
# وأيضا فقد قلنا في عقب هذا (1) : "إن
### | مذهب السلف وأهل الحديث أنها تصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل،
# وتكييف يفضي إلى تمثيل". وقلتم: هذا حق صريح وحكم صحيح، فهذا التأويل
~~الذي يفضي إلى التعطيل معلوم أنه قد وجد، فإن كثيرا من المتأولين ينفي
~~الصفات كلها وأحكامها، وبعضهم يثبت أحكامها، وبعضهم يثبت أحوالها، وبعضهم
~~يثبت بعضها دون بعض، فهؤلاء معطلة الصفات أو بعضها، وأهل الحديث يخالفونهم
~~في هذا.
# ولم نرد بالتعطيل تعطيل اللفظ عن معنى، فإن التأويل لا يتصور أن يفضي إلى
~~هذا التعطيل، لأن المتأول لابد أن يحمله على معنى ما، فلا يكون قد عطله عن
~~جميع المعاني، وإنما عطل الصفة التي دل عليها النص، وعطله عن معناه المفضول
~~المفهوم. ومعلوم أن التأويل المفضي إلى هذا التعطيل قد وقع فيه كثير من
~~المتكلمين نفاة الصفات أو بعضها، ومعلوم أن هذا التأويل ينكره أهل الحديث،
~~وكل من وافقهم من المتكلمين على إثبات صفة فإنه ينكر التأويل الذي يفضي إلى
~~تعطيلها. فكيف يصح بعد هذا أن يقال بالموجب إلا بالموافقة؟
# نعم، لو قيل: بعض هذه التأويلات التي ينفونها نقول بصحتها، لكان هذا
~~سؤالا متوجها، وهو غير السؤال المذكور، ومع هذا فليس هذا موضعه، وإنما
~~موضعه الأدلة. PageV05P070
# ثم إنا قد فرضنا بأن الدعوى عامة، وإنما أقمنا الدليل على بطلان التأويل
~~في صفة اليد، وهي بعض صورة الخلاف، لأن هذا حكاية مناظرة جرت، وكان الكلام
~~في صفة اليد نموذجا يحتذى عليه غيره من الكلام في غيرها.
# وأيضا فإنا قلنا: "إذا بحث الإنسان وجد ما يقول المتكلمون من التأويل
~~الذي يخالفون به أهل الحديث كله باطلا". فكان موجبه القول بالموجب: إنا لا
~~نسلم أن المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين، وليس
~~هذا المنع مطابقا للدعوى، فإنا لم نقل: إن تأويل المعتبرين من المتكلمين
~~الذين يخالفون ms0835 به المعتبرين من المحدثين باطل، وإنما قلنا: "تأويل
~~المتكلمين المخالف"، ومعلوم أن المتكلمين اسم عام، فتأويلهم المخالف لأهل
~~الحديث يدخل فيه تأويل كل متكلم من الجهمية والنجارية والمعتزلة، بل ومن
~~الفلاسفة والقرامطة الباطنية والإسماعيلية، فما الذي أوجب أن يحمل هذا
~~اللفظ العام على تأويل خاص من تأويلات المتكلمين؟
# من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، بل تمام الكلام يصرح بالعموم حيث
~~قلنا: "أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين -ممن ينتحل مذهب
~~الأشعري- لأهل الحديث ثلاثة".
# فهذا يدل على أن المتقدمين من المتكلمين خالفوا أهل الحديث في أكثر من
~~ذلك، وهذا هو الواقع، فكيف يكون المنع المتوجه "لا نسلم أن معتبري
~~المتكلمين خالفوا معتبري أهل الحديث"؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: ما خالف
~~به الفلاسفة الأنبياء فهو باطل، فيقال: لا نسلم أن فضلاء الفلاسفة خالفوا
~~الأنبياء؛ أو يقال: ما خالف به
# PageV05P071
# المتكلمون للكتاب والسنة فهو باطل، فيقال: لا نسلم أن معتبريهم خالفوا
~~الكتاب والسنة؛ أو يقال: ما خالف فيه بنو آدم للأنبياء فهو ضلال، فيقال: لا
~~نسلم أن معتبري الآدميين خالفوا الأنبياء؛ أو يقال: كفار مكة من قريش
~~والعرب في النار، فيقال: لا نسلم أن المعتبرين من أهل مكة أو قريش والعرب
~~كفروا.
# وأيضا فقولكم -أحسن الله إليكم-: "لا أسلم أن المعتبرين من المحدثين
~~منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين"، أما الذين تعنون بالمعتبرين من
~~المتكلمين لا يخلو: إما أن تريدوا بالمعتبرين ناسا معينين أو موصوفين، فإن
~~أردتم ناسا معينين فاذكروا من شئتم من جميع أعيان المتكلمين، حتى أذكر لكم
~~أن أقواما من أعيان المتكلمين ردوا عليه تلك التأويلات وأبطلوها، فضلا عن
~~أهل الحديث. بل سموا من شئتم، حتى أبين أنه نفسه يرد بنفسه على نفسه، وأنه
~~يتأول التأويل في كتاب، ثم يمنعه أو يبطله في كتاب آخر، وربما فعل ذلك في
~~المصنف الواحد.
# وإن أردتم بالمعتبرين موصوفين، مثل أن يقال: المعتبر من له بصر ثاقب وعلم
~~بما يجوز ويجب ويمتنع على الله وما يسوغ في لسان العرب ms0836، حتى يتأول بعقله
~~وعلمه ومعرفته بالمعقولات والمسموعات تأويلا سائغا= فهذا أوسع عليكم من
~~الأول، فإن المتكلمين أنواع مختلفة، وكل منهم يرد على الآخر تأويلاته
~~ويبطلها ويحرمها عليه، بل كثير منهم يكفر الآخر ببعض تلك التأويلات، حتى إن
~~التلميذ منهم يكفر أستاذه.
# PageV05P072
# وأهل الحديث موافقون لهم جميعهم في إنكار تلك التأويلات لا في إثبات شيء
~~منها:
# فنفاة الرؤية من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة يتأولون النصوص فيها تارة
~~برؤية أفعال الله، وتارة برؤية القلب الذي هو زيادة العلم، ومثبتو الرؤية
~~من أهل الحديث والكلام يردون ذلك وينكرونه.
# ومنكرو الكلام الحقيقي يتأولون "قال الله ويقول" بمعنى أنه أحدث في غيره
~~كلاما خاطب به عباده، ومثبتو الكلام الحقيقي من أهل الحديث والكلام يبطلون
~~هذا التأويل ويحرمونه.
# ونفاة الصفات يتأولون (أنزله بعلمه) (1) و (ذو القوة) (2) والسمع والبصر
~~ونحو ذلك، ومثبتو الصفات من أهل الحديث والكلام ينكر [ون] هذه التأويلات.
~~بل الأشعرية المتمسكون بالقول الثاني -كالأشعري في "الإبانة"، والقاضي أبي
~~بكر ابن الباقلاني، وابن شاذان، وابن فورك وغيرهم- ينكرون على من يتأؤل صفة
~~اليد والوجه وغير ذلك، كما صرحوا به في كتبهم (3) .
# والمسلمون جميعا ينكرون على متكلمي الفلاسفة الذين يتأولون ما ورد في صفة
~~الملائكة والجن والجنة والنار والقيامة وحشر الأجساد.
# وأهل الإثبات جميعا -أهل الحديث وأهل الكلام- ينكرون PageV05P073
# على القدرية الذين يتأولون آيات الإضلال والختم والطبع والإغواء ونحو ذلك
~~من نصوص القدر.
# وأهل الحديث قاطبة مع من وافقهم من أهل الكلام ينكرون على من يتأول
~~النصوص المدخلة للأعمال في الإيمان.
# وجميع أهل القبلة إلا الوعيدية ينكرون على الخوارج والمعتزلة تأويلهم
~~نصوص الشفاعة.
# والمسلمون جميعا ينكرون على القرامطة والباطنية والإسماعيلية وزنادقة
~~الفلاسفة وغلاة الصوفية تأويل نصوص الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات
~~والجنايات ونحو ذلك.
# وأهل الحديث قاطبة والفقهاء والصوفية مع من اتبعهم من المتكلمين وجماهير
~~أهل القبلة ينكرون على المتكلمين والمتفلسفة الذين يتأولون نصوص الفوقية
~~والعلو. وكذلك ينكرون على الذين يتأولون نصوص الصفات بما سنذكره إن شاء
~~الله.
# وأهل القبلة جميعا محدثوهم وفقهاؤهم ومتكلموهم إلا الخوارج والمعتزلة ms0837
~~ينكرون تأويل هاتين الفرقتين النصوص المدخلة للعصاة في اسم الإيمان في
~~الجملة.
# دع التأويلات المتعلقة بأصول الدين، هؤلاء الفقهاء لا يزال بعضهم يرد
~~تأويلات بعض ويبين فسادها قديما وحديثا، ويوافقهم على ذلك الرد أهل الحديث،
~~مع أن الفقهاء معتبرون، فكيف يقال: لا نسلم أن معتبرا رد تأويل معتبر، بل
~~مفسرو القرآن وشراح الحديث
# PageV05P074
# لا يزال أهل الحديث وغيرهم يردون بعض تلك التفسيرات والتأويلات وينكرون،
~~وذلك أشهر وأكثر من أن يسطر.
# ثم كل من هؤلاء الممنوع من ذلك التأويل المردود تأويله معتبر، بمعنى أنه
~~ذو ذهن ذكي وعلم واسع وفضيلة جيدة، بل كثير من هؤلاء المردود عليهم يعتقد
~~أتباعه فيه أنه أفضل من كثير من المعظمين عند غيره، فإن فسرت "المعتبر"
~~بأنه المهتدي أو الذي أجمع المسلمون على أمانته، فالجواب من وجوه:
# أحدها: أنا لا نسلم أن تأويل مثل هذا لا يرد، بل تأويله الباطل يرد، كما
~~ترد فتواه الضعيفة وحديثه الذي غلط فيه.
# الثاني: أن مثل هذا لا يدخل في مطلق اسم المتكلمين عندنا، كما يشهد به
~~استعمال لفظ المتكلمين.
# الثالث: أن هذا منع لغير ما ذكر، فإنا قلنا: تأويل المتكلمين المخالف
~~لتأويل المحدثين باطل، فقيل: لا نسلم أن تأويل من [علم] هداه أو من استفاض
~~عند الأمة هداه باطل، ونحن ما ادعينا هذا قط، وما ذكرناه من هذا الكلام
~~إنما هو نزول مع المخاطب، فإنه فهم من قولنا "أهل الحديث" المحدثين الذين
~~يروون الحديث أو يحفظونه، وهذا لا يدل عليه لفظنا ولم نعنه، فإن أهل الحديث
~~هم المنتسبون إليه اعتقادا وفقها وعملا، كما أن أهل القرآن كذلك، سواء رووا
~~الحديث أو لم يرووه، بحيث يدخل في مثل هذه العبارة اسم التابعين وتابعيهم،
~~كالفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب وذويه، وعلقمة والأسود وطبقتهما، وعطاء
~~وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والنخعي
# PageV05P075
# والزهري ومكحول ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني وابن عون ويونس بن عبيد
~~ومالك والحمادين والسفيانين والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر بن
~~الحارث.
# فإن قلتم: مرادنا لا نسلم أن المعتبرين ms0838 من المحدثين حرموا على المتكلم
~~المعتبر أن يتأول، بمعنى أنهم لم يمنعوه من جنس التأويل، لا أنهم لم يمنعوه
~~من التأويل المعين، لكن سوغوا له أن يتأول، كما يسوغ للمفتي أن يفتي
~~وللقاضي أن يقضي، وإن كان يخالف في بعض أقضيته وفتاويه، كذلك المتأول قد
~~يخالف في بعض تأويلاته، وإن لم يكن ممنوعا من جنسها.
# قلنا أولا: كلامكم يخالف هذا، لأنكم قلتم: إن نقل ما ظاهره المنع من
~~التأويل حملناه على التأويل بغير دليل أو على غير القواعد الكلية، ومعلوم
~~أن كل من تأول تأويلا من المشاهير وقد رده عليه غيره فإنما تأؤله بدليل من
~~عنده، وعلى القواعد العلمية عنده، بل يقيم الأدلة التي يزعم أنها قاطعة في
~~وجوب ذلك التأويل وامتناع الإقرار على الظاهر، مع مخالفة جماهير علماء
~~القبلة وقطعهم بأنه ضال أو مخطىء في تأويله، ولعل كثيرا منهم أو أكثرهم أو
~~كلهم قد يكفرونه بذلك التأويل، كما يكفرون نفاة حشر الأجساد، وإن تأولوا ما
~~جاءت به الرسل لأدلة ادعوها وعلى قواعد وضعوها.
# وأعجب من هذا -ولا عجب- قولكم: "توفيقا بين العلماء وصيانة لهم من تخطئه
~~بعضهم"، فهل إلى هذا من سبيل؟ وقد علم بالاضطرار اختلاف أهل القبلة في كثير
~~من تأويل الآيات والأحاديث: هل تصرف عن ظاهرها أم تقر على ظاهرها؟ وإذا
~~صرفت فهل تصرف
# PageV05P076
# إلى كذا أم إلى كذا؟ بل الكتب والنقول مشحونة بتكفير بعض المتأولين فضلا
~~عن تخطئته. وأما تخطئة بعض المتأولين فهذا أمر معلوم بالاضطرار في الأصول
~~والفروع والتفسير والحديث والشعر واللغة وغير ذلك، بل عامة الاختلاف بين
~~أهل القبلة إنما هو من تخطئة بعضهم في فهمه للكتاب والسنة وتأويلهما على
~~وجه يخالفه فيه الباقون.
# فإن قلتم: كل من تأول بدليل على القواعد سوغناه له، وإن كان قد يخطىء.
# قلنا: فيكون تأويل الجهمية والقدرية والخوارج والروافض والوعيدية
~~والباطنية والفلاسفة كلها سائغة وإن كانت خطأ، وهذا مما علم بالإجماع
~~القديم بل بالاضطرار من دين الإسلام أن جميع هذه التأويلات ليست سائغة، بل
~~تسويغ جميع هذه التأويلات ms0839 على خلاف إجماع هذه الفرق كلها، فإن جميع فرق
~~الأمة لا يسوغ جميع التأويلات.
# وقلنا ثانيا: فنحن إنما قلنا: "تأويل المتكلمين الذي يخالفون
# به أهل الحديث باطل"، وهذا تأويل موصوف، ولا يلزم من بطلان النوع المقيد
~~بطلان الجنس المطلق، فإذا أبطلنا التأويل المخالف لأهل الحديث [لا] يلزمنا
~~أن نمنع كل تأويل في الدنيا، وأن نحرم على كل معتبر أن يتأول تأويلا لا
~~يخالف أهل الحديث
### | …
### | …
# (1) . PageV05P077
# وقلنا ثالثا: نحن قلنا: "هذه التأويلات باطلة"، أما كونها سائغة أو محرمة
~~فهذا لم نتعرض له في هذا الكلام، فقولكم "إن المعتبرين لم يمنعوا المعتبرين
~~أن يتأولوا، وإن معتبرا لم يحرم التأويل الموصوف" كلام لا يمس كلامنا ولا
~~يقابله، بل هو أجنبي عنه غير متوجه، فلا يستوجب الجواب. نعم، إن ادعيتم أن
~~كل تأويل المتكلمين أو بعضه حق أو صواب فهذا نقيض قولنا، ففرق بين صحة
~~التأويل وفساده وبين حرمته وحليته، ألا ترى أن الفقهاء في تأويلهم نصوص
~~الأحكام يجوز لهم التأويل في الجملة، وإن كان كثير من تأويل بعضهم قد يظهر
~~أنه خطأ، كما يجوز للفقيه الاجتهاد في الفتيا والقضاء، وإن كان قد يحكم
~~ببطلان بعض الفتاوى والأقضية.
# على أن من قال: كل مجتهد مصيب، لا يمكنه أن يقول: كل متأؤل مصيب، فإن
~~المتأول يقول: الله أراد بهذه الآية كذا، والآخر يقول: لم يرد هذا، والنفي
~~والإثبات لا يجتمعان، اللهم إلا أن يقول قائل: إن الله أراد من زيد أن يفهم
~~هذا، وأراد من عمرو أن يفهم هذا، وهذا في الأمور الاعتقادية ما يكاد يقوله
~~إلا من يخالفه جمهور الناس، وإن كان قد قاله في العمليات طائفة من
~~المتكلمين.
# فإن قلتم: أردنا بالمعتبرين من المتكلمين صنفا من الطوائف كالمتكلمين من
~~أصحاب الأشعري مثلا، أو كافة المعتزلة أو المتكلمين من الفقهاء ونحو ذلك.
# فالجواب عنه من وجوه:
# أحدها: أنه ما من واحد من هؤلاء إلا له تأويلات ينكرها عليه
# PageV05P078
# بعض أصحابه مع أهل الحديث وغيرهم، بل من هؤلاء [من] هو نفسه يحرم التأويل
~~أو يبطله ms0840 تارة، ويسيغه ويصححه أخرى لأصحاب الحديث.
# أما المعتزلة فمن أكثر الناس في التأويل، وأهل الحديث وغيرهم من علماء
~~المسلمين ينكرون عليهم تأويلاتهم المخالفة لهم تحريما وإبطالا.
# وأما أصحاب الأشعري فهم ثلاثة أصناف:
# صنف يحرم تأويل الصفات السمعية المذكورة في القرآن كالوجه واليد والعين،
~~ويبطل ذلك. وهذا هو الذي ذكره الأشعري في "الإبانة"، حكاه عن أهل السنة
~~جميعهم، وهو الذي ذكره أبو بكر ابن الباقلاني أفضل أصحابه (1) ، وأبو علي
~~ابن شاذان، وذكره أبو بكر ابن فورك في اليد وغيرها، وعليه الأشعرية
~~المتمسكون بالقول الثاني.
# وصنف يحرم التأويل، ولا يتكلم في صحته ولا فساده. وهذا الذي ذكره أبو
~~المعالي الجويني في رسالته "النظامية" (2) ، وهو قول أكثر المفوضة من
~~المتكلمين.
# وصنف يبيحه للعلماء عند الحاجة، ومنهم من يبيحه مطلقا.
# وهذا قول الجويني في "إرشاده" (3) وغيره، وجميع هؤلاء مختلفون في صحة بعض
~~التأويلات وفسادها. PageV05P079
# فهؤلاء -كما ترى- مختلفون في التأويل تحريما وجوازا، وصحة وفسادا.
# وأما المعتزلة فهم وإن كانوا أكثر تأويلا فإنهم مختلفون في عامة
~~التأويلات صحة وفسادا، ومختلفون أيضا في جنس كثير من التأويل، مثل اختلافهم
~~في نصوص عذاب القبر ونعيمه: هل تتأؤل أو تجرى على ظاهرها؛ وفي نصوص الصراط
~~والميزان والحوض:
# هل تتأول أو لا تتأول، إلى غير ذلك. منهم من يبيح تأويل ذلك ويصححه،
~~ومنهم [من] يحرمه ويبطله.
# وسأذكر إن شاء الله مذاهب الأمة في أجناس التأويلات، وإنما الغرض هنا أن
~~من تعصب لفرقة من أهل الكلام وجعلهم هم المعتبرين دون غيرهم، بحيث يبيح لهم
~~التأويل ويدعي أن أحدا من المعتبرين لم يحظره عليهم= لم يصح له ذلك؛ إذ ما
~~من طائفة إلا وقد حرم وأنكر عليها أنواع من التأويل.
# الوجه الثاني: أن تعيين القائل طائفة دون غيرها وتسميتها بالمعتبرين لا
~~يخفى أنه نوع من التحكم والتعصب، فإن مجرد [قول] القائل: أنا معتزلي أو
~~أشعري، أو أنا من أهل الحديث أو من الفقهاء، أو إني حنفي أو مالكي أو شافعي
~~أو حنبلي، [لا] يصير به من المعتبرين عند الله ورسوله، بحيث ms0841 يباح له في
~~الشرع بذلك ما كان محظورا، ويسوغ له من التأويل ما كان محجورا عليه.
# الوجه الثالث: أنا قلنا: "تأويل أهل الكلام المخالف لأهل الحديث باطل"،
~~وذلك لا يوجب أن يكون تأويل طائفة معينة باطلا،
# PageV05P080
# ولا يوجب أن يكون تأويل معتبر باطلا، فلا يرد هذا علينا.
# الوجه الرابع: أنا سننقل إن شاء الله من النقول الكثيرة ما يبين ما عليه
~~أهل الإسلام من إنكار التأويلات الصادرة عن كل طائفة من طوائف المتكلمين إن
~~شاء الله.
# فهذا كله في عدم توجيه سؤال القول بالموجب الذي جعل سنده "لا نسلم أن
~~المعتبرين من المحدثين منعوا تأويل المعتبرين من المتكلمين".
# قولكم: "فإن نقل ما ظاهره المنع حملناه على التأويل بغير دليل، أو على
~~غير القواعد العلمية، توفيقا بين العلماء وصيانة لهم عن تخطئة بعضهم" غير
~~وارد لوجوه:
# أحدها: أن التأويل بغير دليل وبغير قواعد لا يبيحه ولا يسلكه أحد من
~~عقلاء الناس المنتسبين إلى العلم، سواء كانوا كفارا أو مؤمنين، مستنة أو
~~مبتدعة، فإن أشد الناس تأويلا من الفلاسفة والباطنية إنما يتأولون -زعموا-
~~لقيام الأدلة العقلية الموجبة لتلك التأويلات عندهم، ويزعمون أنهم يجرونها
~~على القواعد العقلية والسمعية.
# وأما المعتزلة فأمرهم في ذلك أظهر، فإنهم يزعمون أنهم فرسان الكلام ودعاة
~~الإسلام، الحافظين (1) له بالقواعد العقلية والموارد السمعية، وأن من
~~خالفهم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والأشعرية والكلابية والكرامية
~~وغيرهم هم حشو الناس. وهم أهل فتنة واضطراب، PageV05P081
# ثم بين البصريين منهم والبغداديين من الاختلاف في القياس ما الله به
~~عليم، ثم بين شيوخ البصريين وشيوخ البغداديين خلاف عظيم، وكل منهم إنما
~~يتأول بدليل عنده وعلى القواعد العلمية.
# بل الأشعرية ونحوهم من المتكلمين المنتسبين إلى أهل الحديث مختلفون في
~~التأويل صحة وفسادا وحلا وحظرا، والمتأول منهم إنما يتأول للدليل وعلى
~~القواعد.
# فإذا كان كل متأول إنما تأول بدليل وعلى القواعد، فقد خالفه غيره من أهل
~~الحديث وغيرهم في التأويل، فكيف يمكن أن يحمل إنكارهم على التأويل الخالي
~~من الدليل والقواعد؟
# فإن قلتم: إنما أنكروا التأويل الذي ms0842 لا يعضده دليل صحيح، ولم يكن جاريا
~~على القواعد الصحيحة، وإن كان متأوله يزعم اعتضاده بدليل صحيح وقواعد
~~صحيحة.
# قلنا: فهكذا نقول في جميع تأويلات أهل الكلام المخالفة لأهل الحديث: إنها
~~خالية عن دليل صحيح وعن القواعد الصحيحة.
# وإذا كان هذا مدعيا لم يسغ أن يقال بموجبه إلا على سبيل الموافقة لنا،
~~وإنما يسوغ أن يطالب ببيان خلوها عن الدليل والقواعد الصحيحة، أو أن يبين
~~المتأول اقتران تأويله بدليل وقواعد ليبين فساد قوله.
# الوجه الثاني: أن المنكرين للتأويل إبطالا وتحريما صرحوا بذلك في أعيان
~~التأويلات التي ادعى المتأولون اقترانها بالدليل، وسنذكر إن شاء الله من
~~ذلك بعض ما حضر. وصرحوا أيضا بتحريم التأويل وإن زعم صاحبه اقترانه بدليل.
# PageV05P082
# الوجه الثالث: أنا لم نحكم إلا ببطلان تأويل أهل الكلام المخالف لأهل
~~الحديث، فإذا قلتم بإبطال أو بتحريم التأويل الخالي عن الدليل والقواعد لم
~~يكن هذا نفيا لوجود ما أبطلناه، لأنه يمكن أن يقال: هذا التأويل الذي
~~رفعناه خلي عن الدليل والقواعد، فإنا أبطلنا نوعا من التأويل، ووافقتم على
~~إبطال نوع منه. فإن قلتم: هذه التأويلات جارية على الأدلة والقواعد،
~~نازعناكم فيها.
# فحاصله أن ما ذكرتموه لا يصلح مستندا لمنع أن يكون أهل الحديث خالفوا
~~المتكلمين في أعيان التأويلات.
# الوجه الرابع: قولكم "إن التأويل المقرون بدليل الجاري على القواعد
~~العلمية صحيح"، لا ننازعكم فيه، وإنما الشأن في تقرير الدليل المصحح
~~للتأويل وتثبيت القواعد المحققة له، فإنكم تعلمون أن جميع أهل التأويل من
~~القبلة لهم قواعد يضعون تأويلاتهم عليها.
# ثم هذا القدر لا يصلح أن يكون سندا لقولكم "لا نسلم أن أهل الحديث منعوا
~~تأويل المعتبرين من المتكلمين" كما تقدم، والغرض هنا أن القول بالموجب لا
~~يتوجه. وأما تقرير مذهب أهل الحديث فليس هذا موضعه، لأنا بعد في تحرير
~~الدعوى وما يرد عليها.
# قولكم: "لا أسلم أن معتبرا حرم تأويلا يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه،
~~لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد، ولا يرى أن يستعمل في كشف الحقائق نور
~~البصيرة الذي هو ms0843 من أجل نعم الله على العبيد".
# فنقول أولا: من الذي حكى عن أحد من الناس تحريم مثل
# PageV05P083
# هذا؟ هذا شيء لم نذكره ولم نقصده، فمنعه منع شيء أجنبي خارج عن كلامنا،
~~وهذا منع لا توجيه له.
# ونقول ثانيا: نحن قررنا بطلان التأويل وفساده، لم نتعرض لتحريمه بنفي ولا
~~إثبات، والكلام في صحة التأويل وفساده غير الكلام في حله وحظره، ولا يلزم
~~من عدم تحريم الاجتهاد والإفتاء والحكم أن يكون الاستدلال والفتيا والقضاء
~~صحيحا، كذلك لو فرضنا جواز الإقدام على هذه التأويلات لم يلزم أن تكون
~~صحيحة، بل جاز أن تكون باطلة، يعني أنها غير مطابقة لمراد المتكلم، سواء
~~كان آثما أو معفوا عنه أو مأجورا.
# ونقول ثالثا: التأويل الذي نتكلم فيه هو صرف الكلام [من] الاحتمال الراجح
~~إلى المرجوح لدليل يعتضد، كما تقدم بيانه.
# وكل تأويل فإنما هو بيان مقصود المتكلم أو مراده بكلامه، ومعلوم أن العقل
~~وحده لا يشهد بمعرفة مقصود المتكلم ومراده، فإن دلالة الخطاب سمعية لا
~~يستقل بها العقل، نعم العقل أخذ باستفادته هذه الدلالة، فإذا انضم [إلى]
~~المعقول العلم بلغة المتكلم وعادته في خطابه فقد يحصل بمجموع هذين العلمين
~~العلم بتأويل كلامه، نعم قد يعلم بالعقل وبأدلة أخرى أن المتكلم لم يرد
~~معنى من المعاني، سواء قيل: إنه ظاهر اللفظ، أو قيل: إنه ليس بظاهره، كما
~~يعلم أن الله لم يرد بقوله: (وأوتيت من كل شيء) (1) أنها أوتيت ملك
~~PageV05P084
# السماوات وملك سليمان وفرج الرجل ولحيته؛ ولم يرد بقوله: (تدمر كل شيء)
~~(1) أنها تدمر السماوات والجنة والنار؛ ولم يرد بقوله: (خلق كل شيء) (2)
~~شمول ذلك للخالق بصفاته. ونعلم أن الله لم يرد بقوله: (خلقت بيدي) (3) يدين
~~مثل يدي الإنسان، ولم يرد بقوله: (ليس كمثله شيء) (4) نفي الصفات المذكورة
~~في الكتاب والسنة.
# فإذا كان العقل وحده يشهد بصحة تأويل، وإنما قد يشهد بعدمه، فالتأويل
~~الذي يدعي صاحبه أنه علم بمجرد العقل صحته تأويل مردود محرم. نعم إن فسرتم
~~كلامكم أن العقل بما استفاده من العلوم السمعية وغيرها يعلم ms0844 صحة التأويل،
~~فهذا حق وإن لم يكن ظاهر اللفظ دالا عليه، ونحن ما حكينا تحريم مثل هذا
~~التأويل عن أحد، ولا يمنع تحريمه كلام آخر.
# وسنتكلم -إن شاء الله- عليه متبرعين، فإن الغرض تقرير الحقائق وتحصيل
~~الفوائد، لا ما يقصده المبطلون من التجاهل والتعاند.
# ونقول رابعا: قولكم "عند الحاجة إليه" موافقة لما يقوله كثير من الناس من
~~[أن] التأويل اضطر إليه العلماء، وبيان ذلك أنا إذا علمنا بالأدلة العقلية
~~والسمعية مثلا انتفاء أمر من الأمور، ورأينا بعض PageV05P085
# النصوص تقتضي إثباته ظاهرا، احتجنا إلى تأويله، لأنا إن قلنا بمقتضى
~~الدليلين لزم الجمع بين النقيضين، وإن قلنا بنفيهما لزم انتفاء النقيضين،
~~ثم فيه تعطيل الدليلين من دلالتهما، ومحذور التأويل جزء من هذا المحذور، إذ
~~غايته تعطيل دلالة أحدهما، فلابد من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر، ولا يجوز
~~أن يقدم الدليل المثبت لأنه ظاهر، والنافي قطعي، والقطعي لا يجوز تخلف
~~مدلوله عنه، بخلاف الظني. فتعين إثبات مدلول الدليل القطعي دون الظاهر.
# ولأن القطعي إذا كان عقليا، فلو رجحنا عليه الظاهر السمعي لزم القدح في
~~ذلك الدليل العقلي، والعقل أصل السمع، فالقدح في العقلي القطعي قدح في أصل
~~السمعي، والقدح في الأصل قدح في فرعه، فيصير تقديم السمعي قدحا في السمعي،
~~وإثبات الشيء بما يقتضي نفيه محال. وإذا تعين إثبات مدلول القطعي العقلي
~~دون الظاهر السمعي، فنحن بين أمرين: إما أن نفوض معنى الظاهر إلى الله
~~سبحانه وتعالى، مع علمنا بانتفاء دلالته الظاهرة، أو أن نؤوله على وجه يسوغ
~~في الكلام.
# والقائلون بهذا التقرير يسمون طريق المفوضة النفاة طريق السلف، وهو عندهم
~~طريق أهل الحديث وأحد قولي الأشعري وغيره من أهل الكلام. ثم هم في هذا على
~~أقوال:
# فغلاة المتكلمين يحرمون هذا ويوجبون التأويل، وذهب إلى هذا ابن عقيل في
~~أحد أقواله، وهو قول أكثر المعتزلة وكثير من الأشعرية، ومن هؤلاء من يفيد
~~كلامه بأنه يجب على العلماء دون العامة.
# PageV05P086
# ومنهم من يحرم التأويل، كأبي المعالي الجويني في آخر قوليه (1) .
# ومنهم من يحرمه على أكثر ms0845 الخلق إلا على القليل، كأبي حامد الغزالي (2)
~~وغيره.
# ومنهم من يسوغ كل واحد من التفويض والتأويل، ويعد هذا من العلوم التطوعية
~~التي لا تجب ولا تحرم، كالعلم بأحاديث الملاحم والفتن وأخبار الأمم
~~والأحاديث الإسرائيليات، والأحاديث المتضمنة لأوصاف الملائكة والجن ونحو
~~ذلك، وإن كانت هذه العلوم قد يكون ضبطها فرضا على الكفاية.
# منعكم أن التأويل قد تدعو الحاجة إليه كما تقدم، فلا يحرم على العالم
~~المتبحر لوجوه:
# أحدها: أن لا موجب لتحريمه، والأصل الإباحة، فمن ادعى التحريم فعليه
~~الدليل.
# الثاني: أن هذا من باب طلب العلم ومعرفة مراد الله ورسوله، وجنس العلم
~~خير من جنس الجهل، فكيف العلم بتأويل كلام الله وكلام رسوله؟ كيف يكون هذا
~~محرما؟
# الثالث: أن المخالف للحق من الكفار والمبتدعة إن لم نتأول لهم هذه النصوص
~~لزم سوء الظن بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ووقوع شبهة PageV05P087
# الاختلاف في كلام الله وكلام رسوله، ونفور الناس عن القرآن والإسلام،
~~ونفور أهل الباطل عن الحق. والتأويل هو أسرع إلى القبول وأدعى إلى
~~الانقياد، فأقل أحواله أن يكون بمنزلة تعليل الأحكام الشرعية المنصوصة، فإن
~~التعليل فيه فائدة الاطلاع على حكمة الشارع التي يحصل بسببها من العلم
~~والإيمان ما لا يحصل بدونها، مع أن الحاجة لا تدعو إليها، فكيف بتأويل
~~الخطاب الذي عارض ظاهره القواطع العقلية والسمعية.
# الرابع: أن الطالب الذكي يضيق صدره بأسر التقليد، ويحب أن يخرج إلى
~~بحبوحة العلم، فلا تقنع نفسه ويرضى عقله إلا بالوقوف على التأويل، وهو
~~بدونه يعتور عقله الشبهات وصدره الحرج والضيق، فإذا عرف التأويل اطمأن قلبه
~~وانشرح صدره ورضي عقله، والبدن لو احتاج إلى طعام وشراب لغذاء أو دواء يحصل
~~له الضرر بفقده لأباحه الله له، بل قد أباح الأكل في الصوم الواجب للمريض
~~والمسافر إذا وجد مشقة بالصوم، وأباح ترك القيام في الصلاة إذا خاف زيادة
~~المرض أو لطول البرء. فكيف لا يبيح ما يضر عدمه القلوب لعقولها والنفوس
~~لوجودها، ويزيد بعدمه مرض القلب والدين، أو يتأخر بفقده الشفاء من مرض
~~الكفر والنفاق. وكما ms0846 أن الأطعمة والأشربة تختلف شهوة الناس وحاجتهم إليها
~~باختلاف قواهم وأمزاجهم، فرب مزاج يقرم إلى اللحم ما لا يقرمه غيره، ومن
~~كان مقيما بطيبة إبان الجداد كانت شهوته إلى الرطب بخلاف شهوة سكان الشام،
~~ومن كانت رياضته البدنية أقوى وأكثر -كالحمالين والحراثين- كانت حاجتهم إلى
~~الطعام أشد.
# PageV05P088
# كذلك العلوم والطرق، فمن كان ذكيا كان شوقه إلى درك الأمور الدقيقة أشد،
~~ومن راض عقله بكثرة النظر في العلوم والبحث عن أسبابها وأصنافها كانت حاجته
~~إلى الازدياد منها والوقوف عليها أشد. والمتعمقون في الكتاب والسنة ولو في
~~الأحكام فقط يحصل لهم من الحاجة والشوق إلى معرفة معاني كثير من النصوص ما
~~لا يحصل لغيرهم من المعرضين. وإذا كان نقل الواجب والمستحب قد يستلزم
~~الحاجة والشوق إلى أشياء، فكيف يحرم؟ وإنما الشوق بحسب الإدراك. ولهذا من
~~لم ير المطاعم الشهية والمناظر البهية لا يشتهيها كشهوة المبتلى بها. فمن
~~لم تنفتح عين بصيرته لصنوف المعارف، ولا توسعت في قلبه أنواع المعالم، لا
~~يحتاج إلى الإدراك كحاجة أولي البصائر الوقادة والمعارف المستفادة، ولا
~~يشتاق كاشتياقهم. وهذا تقرير قول السائل -أيده الله-: "لعالم متبحر لا يرضى
~~بأسر التقليد".
# الخامس: أن نعمة الله على عباده بنفوذ البصيرة من أفضل النعم، وإدراك
~~حقيقة مراد الله ورسوله من أفضل إدراك الحقائق، فكيف يحرم استعمال هذه
~~النعمة الجليلة في مثل هذا المطلوب الشريف؟ وهل ذلك إلا أقبح من تحريم
~~استعمال قوى الأبدان في دفع أعداء الدين وعبادة رب العالمين، وتحريم إنفاق
~~الأموال في سبيل الله. بل تحريم هذا تحريم لطلب الدرجات العلى والنعيم
~~المقيم، والله لا يحرم مثل هذا، بل يستحبه إن لم يوجبه.
# السادس: أن إبقاء النصوص المصروفة عن دلالتها الظاهرة بلا تأويل معين
~~بنفيها ذريعة إلى اعتقاد موجبها وتقلد مقتضاها. وتأويلها
# PageV05P089
# يحسم هذه المادة، فيصير الأول مثل بناء الأسوار للأمصار، والثاني كتركها
~~بلا سور. بل الأول بمنزلة كشف النساء الحسان لوجوههن، والثاني كسترها، أو
~~الأول بمنزلة ترك المردان الصباح يعاشرون الأجانب، والثاني كصونهم من هذه
~~العشرة. فإن لم ms0847 يكن الثاني واجبا أو مستحبا فلا أقل من أن يكون مباحا.
# وهذا معنى قول بعض الناس طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أحزم وأحكم؛ لأن
~~طريقة أهل التأويل فيها مخاطر بالإخبار عن مراد الله بالظن، الذي يجوز أن
~~يكون صوابا ويجوز أن يكون خطأ، وذلك قول عليه بما لا يعلم، والأصل تحريم
~~القول عليه بالظن، وكان تركها أسلم. وفي طريقة أهل التأويل حسم مواد
~~الاعتقادات الفاسدة والشبهات الواردة، فكانت أحزم وأحكم.
# وصار في المثال بمنزلة قوم من المسلمين بلغهم أن العدو قاصدهم، وبيت
~~المال خال، فهل يسوغ أن يجمع من أموالهم ما يبني به سورهم لحفظهم من العدو
~~إلى لحوق الذرى، واندفاع العدو بشدة البرد (1) المخاطرة بأخذ الأموال بغير
~~طيب نفوس أصحابها، وفيه إحكام الحفظ للنفوس وباقي الأموال، والحزم بضبط
~~الدين عن الانحلال.
# وهب هذه مسألة اجتهادية يرى فيها قوم الحظر، وقوم الوجوب، وقوم يخيرون
~~بين الأمرين، وقوم يوجبون فعل الأصلح. ويختلف الأصلح باختلاف الأعصار
~~والأمصار والأشخاص. PageV05P090
# السابع: أن السلف تكلموا في تفسير القرآن كله، وما رأيناهم حرموا تفسير
~~شيء منه، إلا أن ينقل عن أحدهم أنه ترك القول فيه، أو حرم القول على غيره
~~بغير علم، أو تركه خوف الخطأ على سبيل الورع ونحوه. وكتب التفسير مشحونة
~~بالروايات عن الصحابة والتابعين في آيات الصفات وغيرها، فكيف يدعي هذا أن
~~المعتبرين حرموا ذلك؟
# فهذا (1) تقرير لما ذكرتموه من قولكم: "لا نسلم أن معتبرا حرم تأويلا
~~يشهد العقل بصحته عند الحاجة إليه، لعالم متبحر لا يرضى بأسر التقليد، ولا
~~يرى أن يستعمل في كشف الحقائق نور البصيرة الذي هو من أجل نعم الله على
~~العبيد".
# وجوابه من وجوه:
# أحدها: ما تكلمنا في تحريم جنس التأويل وجوازه شيئا، وإنما تكلمنا في
~~صحته وفساده، فقلنا: "إذا بحث الإنسان وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من
~~التأويل الذي يخالفون به أهل [الحديث] باطلا، وتيقن [أن] الحق مع أهل
~~الحديث ظاهرا وباطنا".
# وسنبين إن شاء الله بالنقول المستفيضة أن الخلاف وقع في أعيان هل هي
~~صحيحة أو ms0848 فاسد، بل قد بينا في نفس تلك المناظرة PageV05P091
# فساد تأويل اليد بما ذكروه فيها من التأويل (1) ، ولم نتعرض للتحريم ولا
~~للتحليل. وإذا كان أول الكلام وأوسطه وآخره إنما هو في صحة التأويل المعين
~~والمطلق وفساده، فالكلام في التحريم نفيا وإثباتا كلام آخر ليس بوارد
~~علينا. ولولا أنا في هذا المقام غرضنا بيان عدم ورود الأسولة علينا بالكلية
~~لذكرنا نصوص المختلفين، وإنما نؤخر ذلك إلى المقام الثاني إن شاء الله.
# إن الأسولة تارة تكون موجهة واردة، وتارة لا تكون كذلك، والسؤال الوارد
~~منه [ما] يوجب انقطاع المستدل، ومنه ما لا يوجب انقطاعه، إن أجاب عن ضبط
~~حدود النظر والمناظرة هدي إن شاء [الله] إلى الهدى والسداد، اللذين أمر
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا بمسألتهما من الله، والغرض الضبط العلمي
~~الديني، لا الضبط العنادي الذي مضمونه الكلام بلا علم أو عدم قصد الحق.
~~وأما الاصطلاح المحض فأنت فيه بالخيار، ويجب أن تعرف حقيقة هذا النقل وتدين
~~في قولهم: "الإسناد من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" (2) . فإن
~~كان النقل مشهورا -مثل أن يقال: مذهب أهل الحديث أن الله يرى في الآخرة،
~~والإيمان بالشفاعة، أو جمهورهم ونحو ذلك- لم يطلب في مثل هذا الإسناد. فإن
~~نقل: مذهب أهل الحديث بأن الله يرى هو الصحيح، فقد تضمن هذا نقلا وحكما،
~~فيجوز أن يقال: لا نسلم أنه هو الصحيح، وقد يقال أيضا: من أين علمتم؟
~~PageV05P092
# فالمستدل في الأدلة في خطاب أو كتاب إذا قال: مذهب فلان كذا، لم يرد علمه
~~لا منع ولا معارضتها، وقد يعترض النقل بنقل آخر. وفي الحكم ورد عليه منع
~~النقل ومعارضته بأن: من ذكر هذا؟ أو من حكاه؟ أو قد نقل فلان عنه بخلافه.
~~لكن فرق بين منع النقل وبين منع الحكم وبين منع الدلالة، فإن النقل لا يمنع
~~منعا محضا إلا أن يكون المانع يعلم انتفاء ذلك المنقول، مثل أن يعلم أن
~~مذهب الشخص أو روايته بخلاف ذلك، كمن قال: سمع مالك ابن عمر يقول كذا ms0849،
~~فحقول المعترض: ما سمع مالك منه شيئا. وأما إن كان صدقه ممكنا، فإن غلب على
~~الظن خيرته وعدالته اكتفي بذلك.
# (آخر ما وجد، والله أعلم. وليست كاملة) .
# PageV05P093
### | قاعدة في الوسيلة
# PageV05P095
# بسم الله الرحمن الرحيم
# ما تقول السادة العلماء أئمة الدين وهداة المسلمين -رضي الله عنهم
~~أجمعين- فيمن عاب أقوالا نقلها جماعة من أكابر الأئمة وأعيان سادات هذه
~~الأمة:
# أولها: ما أورده الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي في كتابه الكبير في
~~الفقه المسمى بشرح الكرخي (1) في باب الكراهية، وصورة اللفظ: "قال بشر بن
~~الوليد: حدثنا أبو يوسف، قال: قال أبو حنيفة -رضي الله عنه-: لا ينبغي لأحد
~~أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك. وهو
~~قول أبي يوسف.
# قال أبو يوسف: "بمعقد العز من عرشك" هو الله، فلا أكره هذا. وأكره أن
~~يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام.
# قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا
~~يجوز. PageV05P097
# وثانيها: ما ذكره الشيخ أبو القاسم القشيري في كتابه المسمى "التحبير في
~~علم التذكير" المشتمل على تفسير معاني أسماء الله عز وجل، وصورة اللفظ أنه
~~قال (1) : علم الحق سبحانه أنه ليس لك أسام مرضية، فقال تعالى: (ولله
~~الأسماء الحسنى فادعوه بها) ، (2) ولأن تكون بأسماء ربك داعيا خير لك من أن
~~تكون بأسماء نفسك مدعيا، فإنك إن كنت بك كنت بمن لم يكن، وإذا كنت به كنت
~~بمن لم يزل، فشتان بين وصف وبين وصف.
# وقال (3) : من عرف اسم ربه نسي اسم نفسه، بل من صحب اسم ربه تحقق بروح
~~أنسه قبل وصوله إلى دار قدسه، بل من عرف اسم ربه سمت رتبته، وعلت في
~~الدارين منزلته.
# وثالثها: ما ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام في فتاويه (4) المشهورة،
~~وصورة اللفظ أنه قال: لا يجوز التوسل في الدعاء بأحد من الأنبياء والصالحين
~~إلا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن صح حديث الأعمى.
# وزعم العائب لهذه الأقوال ms0850 والطاعن على معانيها أن فيها تنقصا بعباد الله
~~الصالحين، واستخفافا بحرمة البيت والمشعر الحرام.
# فهل في هذه الأقوال المذكورة تنقص واستخفاف والحالة هذه أو لا؟
~~PageV05P098
# وهل يجوز ردها بمجرد رأي الإنسان وما جرت به عوائد بعض أهل الزمان أم لا؟
# وهل اشتهر عن الأئمة الأكابر المتبوعين خلاف لهذه الأقوال؟
# وهل صح حديث الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعه (1) ؟
# وهل في صريح لفظه ما يبطل الأقوال المذكورة ويوجب اعتقاد خلافها؟
# وهل يجوز الحلف بغير الله تعالى؟ وإذا لم يجز هل يجوز التحليف والإقسام
~~بغير الله؟
# والراد لهذه الأقوال المتقدم ذكرها والطاعات فيها، إذا لم يكن عنده دليل
~~شرعي قاطع يدفعها به، هل يردع عن ذلك ويزجر؟
# فأجاب -رضي الله عنه-
# الحمد لله، ليس في شيء من هذه الأقوال تنقص ولا استخفاف، لا بصالحي عباد
~~الله ولا بشعائر الله، وإنما يكون متنقصا من نقصهم عن منزلتهم التي جعلهم
~~الله بها، كمن لا يرى حج البيت قربة وطاعة لله، ولا يرى الوقوف بعرفة
~~ومزدلفة ومنى، كما كان بعض أهل الجاهلية لا يرون الصفا والمروة من شعائر
~~الله، وكان بعضهم يخاف -إذ كانوا يعظمونها في الجاهلية- أن لاتكون من شعائر
~~الله PageV05P099
# في الإسلام، فأنزل الله قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله)
~~(1) جوابا للطائفتين، كما ثبت ذلك في الصحاح (2) .
# وكمن لا يرى تعظيم الهدي والضحايا التي قال الله فيها:
# (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (32) لكم فيها منافع إلى أجل
~~مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33)) (3) .
# وكمن لا يرى تعظيم حرمات الله، فلا يحرم صيد الحرم ونباته وسائر ما حرم
~~الله تعالى من المحرمات، فإن الواجب على الخلق فعل ما أمر الله به من
~~العبادات، واجتناب ما حرمه من المحرمات، فإن هذا وهذا من دين الله الذي بعث
~~به رسله، ولهذا قال الله تعالى: (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه)
~~(4) .
# ومن تمام تعظيم البيت أن يعبد الله فيه كما شرعه رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -، فيطاف به ms0851، ويستلم الركنان اليمانيان، ويقبل الحجر الأسود.
# فلو قال قائل: من تعظيمه استلام الركنين الشاميين، وتقبيل مقام إبراهيم
~~والمسح به، أو تقبيل غير الحجر الأسود من جدران الكعبة، ونحو ذلك مما قد
~~يظنه بعض الناس تعظيما= كان هذا غلطا.
# وإذا نهاه ناه عن ذلك فقال: نهيك لي عن هذا تنقص واستخفاف بحرمة البيت،
~~كان قد غلط غلطا ثانيا. PageV05P100
# ولهذا لما طاف ابن عباس ومعاوية بالبيت فكان ابن عباس لا يستلم إلا
~~الركنين اليمانيين، واستلم معاوية الأركان الأربعة، فقال ابن عباس: إن رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية:
~~ليس من البيت شيء مهجور، فقال له ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة
~~حسنة) (1) ، فسكت معاوية ووافق ابن عباس (2) .
# فمعاوية احتج بأن البيت كله معظم لا يهجر منه شيء، فأجابه ابن عباس بأن
~~العبادات يجب فيها اتباع ما شرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، ليس
~~لأحد أن يشرع برأيه عبادة لما يراه في ذلك من تعظيم الشعائر.
# فوافقه معاوية، وعلم أن الصواب مع ابن عباس.
# وكذلك ما ثبت في الصحيحين (3) أن عمر بن الخطاب لما قبل الحجر الأسود
~~قال: والله إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - يقبلك لما قبلتك.
# بين عمر -رضي [الله] عنه- أن العبادات مبناها على متابعة الرسول - صلى
~~الله عليه وسلم -، إذ كان دين الإسلام مبنيا على أصلين:
# أحدهما: أن لا يعبد إلا الله، لا يشرك به شيئا. PageV05P101
# والثاني: أن يعبده بما شرع من الدين، لا يعبده بشرع من شرع من الدين ما
~~لم يأذن به الله، كالذين قال فيهم: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم
~~يأذن به الله) (1) .
# فأخبر عمر أنا لم نقبلك نرجو منفعتك ونخاف مضرتك، كما كان المشركون
~~يفعلون بأوثانهم، بل نعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أن الرسول قبلك
~~-وقد أمرنا الله باتباعه، فصار ذلك عبادة مشروعة- لما قبلتك، لسنا ms0852 كالنصارى
~~والمشركين وأهل البدع الذين يعبدون غير الله بغير إذن الله، بل لا نعبد إلا
~~الله بإذن الله، كما قال لنبيه: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45)
~~وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)) (2) ، فبين أن رسوله يدعو إليه
~~بما أذن فيه من الشرع، لا بما لم يأذن به، كالذين شرعوا من الدين ما لم
~~يأذن به الله.
# وكذلك قال عمر (3) : فيم الرمل الآن والإبداء عن المناكب؟
# وقد أطأ الله الإسلام ونفى الشرك وأهله، ثم قال: لا ندع شيئا كنا نفعله
~~على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا فعلناه.
# وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه في عمرة القضية
~~بالاضطباع وبالرمل ليري المشركين قوتهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين
~~الركنين PageV05P102
# اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقعيقعان جبل المروة ينظرون إليهم (1) .
# ثم إنه لما حج اضطبع ورمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود، فجعل ذلك
~~شرعا لأمته. فبين عمر أنه لو لم يشرع ذلك لما فعلناه، لزوال السبب الذي
~~أوجبه إذ ذاك.
# ومعلوم أن مكة -شرفها الله- فيها شعائر الله، وفيها بيته الذي أوجب الحج
~~إليه، وأمر الناس باستقباله في صلاتهم، وحرم صيده ونباته، وأثبت له من
~~الفضائل والخصائص ما لم يثبته لشيء من البقاع.
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب
~~أرض الله إلى الله -وفي رواية: وأحب أرض الله إلي-، ولولا أن قومي أخرجوني
~~منك لما خرجت" (2) . قال الترمذي: حديث صحيح.
# فإذا كان الله لم يشرع أن يتمسح إلا بالركنين اليمانيين لكونهما على
~~قواعد إبراهيم، ويقبل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض (3) ،
~~فلا يقبل سائر جدران الكعبة، ولا يقبل مقام إبراهيم الذي هناك ولا يتمسح
~~به، ولا يقبل مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يصلي فيه ولا
~~يتمسح به، ولا يقبل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتمسح به= فمعلوم
~~أن PageV05P103
# قبور سائر الأنبياء والصالحين التي ببقية البلاد (مثل ما بالشام وغيرها
~~من الأمكنة التي يقال: إنها ms0853 مقام إبراهيم أو المسيح أو غيرهما، كمقام
~~إبراهيم ببرزة، وكمغارة الدم، والربوة التي يقال: إنه كان بها المسيح وأمه،
~~وكطور موسى وغار حراء وغيرهما من الجبال والمغارات، وكسائر قبور الصالحين
~~من الصحابة والقرابة وغيرهما، وكصخرة بيت المقدس وغيرها) أولى [بأن] لا
~~يقبل شيء من ذلك ولا يستلم ولا يطاف به، فلا يكون شيء من ذلك بمنزلة
~~الركنين اليمانيين ولا بمنزلة الحجر الأسود. ولهذا قال عمر: والله إني
~~لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - يقبلك لما قبلتك.
# يدل على أنه ليس من الأحجار ما يقبل، إذ كان رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - لم يشرع تقبيل شيء من ذلك.
# والحديث الذي يرويه بعض الكذابين: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله
~~به" (1) كذب مفترى باتفاق أهل العلم، وإنما
### | هذا من قول عباد الأصنام
# الذين يحسنون ظنهم بالحجارة، وقال تعالى لهم: (إنكم وما تعبدون من دون
~~الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98)) (2) ، وقال تعالى: (فاتقوا النار التي
~~وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)) (3) ، وقال الخليل: (يا أبت لم
~~تعبد ما لا يسمع ولا يبصر PageV05P104
# ولا يغني عنك شيئا (42)) (1) ، وقال تعالى عن عباد العجل: (ألم يروا أنه
~~لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) (2) . وذكر تعالى عن الخليل أنه قال لقومه:
~~(ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين
~~(53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54) قالوا أجئتنا بالحق أم
~~أنت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على
~~ذلكم من الشاهدين (56) وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57)
~~فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58) قالوا من فعل هذا
~~بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم
~~(60) قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (61) قالوا أأنت فعلت هذا
~~بآلهتنا يا إبراهيم (62) قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون
~~(63) فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64) ثم نكسوا على
~~رءوسهم ms0854 لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) قال أفتعبدون من دون الله ما لا
~~ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون
~~(67)) (3) . وفي الموضع الآخر: (أتعبدون ما تنحتون (95) والله خلقكم وما
~~تعملون (96)) (4) .
# فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنهم بالحجارة، فكان عاقبتهم أنهم في
~~النار خالدون. وإنما يحسن العبد ظنه بربه، كما PageV05P105
# ثبت في الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يقول
~~الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في
~~نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه". وفي صحيح مسلم (2) عن جابر
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن
~~الظن بالله".
# وبالجملة فهذا أصل متفق عليه بين أئمة الدين أن
### | العبادات مبناها على توقيف الرسول
# وطاعة أمره والاقتداء به، فلا يكون شيء عبادة إلا أن يشرعه الرسول، فيكون
~~واجبا أو مستحبا، وما ليس بواجب ولا مستحب فليس بعبادة باتفاق المسلمين.
~~ومن اعتقد مثل ذلك عبادة كان جاهلا، وإن ظن أن ذلك تعظيم لمن يجب تعظيمه،
~~فإن التعظيم المشروع لا يكون إلا واجبا أو مستحبا.
# ومن نهي عن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم،
~~وعن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، وعن الغلو في الأنبياء والصالحين،
~~فزعم أن هذا تنقص واستخفاف بالأنبياء والصالحين والملائكة، فهو من جنس
~~النصارى وأشباههم من المشركين وأهل البدع، قال تعالى: (يا أهل الكتاب لا
~~تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم
~~رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا
~~ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في
~~السماوات وما في الأرض PageV05P106
# وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة
~~المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما
~~الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ms0855 وأما الذين
~~استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا
~~ولا نصيرا (173)) (1) .
# وقد قال: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول
~~للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون
~~الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين
~~أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) .
# وقال تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله
~~ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون
~~(30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما
~~أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (3) .
# فهذه الأمور التي ذم الله بها النصارى، إذ نهوا عنها قالوا: هذا تنقص
~~بالمسيح والأحبار والرهبان، وكانوا كفارا بجعلهم هذا النهي تنقصا مذموما،
~~إذ كانوا عظموا الأنبياء والصالحين تعظيما لم يشرع لهم. PageV05P107
# وكذلك من اتخذ قبورهم مساجد تعظيما لهم، أو سجد لهم تعظيما لهم، أو دعاهم
~~وسألهم -كما يدعو الله ويسأله- بعد مماتهم وفي تغيبهم، أو رجاهم وخافهم كما
~~يرجو الله ويخافه= فإنه مشرك مبتدع. وإذا نهي عن ذلك فقال: هذا تنقص، زاد
~~ضلالة، قال تعالى: (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم
~~الفائزون (52)) (1) وقال تعالى: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله
~~وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59))
~~(2) .
# فجعل الله الخشية والتقوى والتوكل والرغبة لله وحده، وجعل للرسول أن
~~يطاع، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، وأن يرضوا بما آتاه، وهو ما حلله، فلا
~~يطلب ما حرمه الله، بل الحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه.
~~ويجب أن يكون أحب إلى المؤمنين من أنفسهم وأهليهم، إلى غير ذلك من حقوقه
~~(3) .
# ولا يعبد إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يرغب إلا إلى الله، ولا
~~يخشى ولا يتقى إلا الله.
# وقد اتفقت أئمة المسلمين على أن من قصد الصلاة في المساجد المبنية ms0856 على
~~قبور الأنبياء والصالحين، وقصد الدعاء عندها، معتقدا أن الصلاة فيها
~~والدعاء عندها أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد PageV05P108
# المبنية لله لا على قبر أحد= فإنه مخطىء ضال، وإن كان كثير من الجهال يرى
~~ذلك من تعظيمهم.
# وكذلك اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه
### | لا يشرع لأحد أن يستلم ويقبل غير الركنين اليمانيين،
# لا قبور الأنبياء ولا حجرة بيت المقدس ولا غير ذلك، ولا مقامات الأنبياء
~~كمقام إبراهيم الذي بمكة، والمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين
~~وغير ذلك مما يستلمه ويقبله كثير من الجهال، ويرون ذلك من تعظيمها، وذلك
~~ليس بواجب ولا مستحب باتفاق المسلمين. ومن فعل ذلك معتقدا أنه بر وقربة فهو
~~ضال مبتدع مشابه للنصارى.
# واتفق أيضا أئمة المسلمين على أنه لا يشرع لأحد أن يدعو ميتا ولا غائبا،
~~فلا يدعوه ولا يسأله حاجة، ولا يقول: اغفر ذنبي، أو انصر ديني، أو انصرني
~~على عدوي، أو غير ذلك من المسائل، ولا يشتكي إليه، ولا يستجير به، كما
~~يفعله النصارى بمن يصورون التماثيل على صورته، ويقولون: مقصودنا دعاء أصحاب
~~هذه التماثيل والاستشفاع بهم، فمثل هذا ليس مشروعا -لا واجبا ولا مستحبا-
~~في دين المسلمين باتفاق المسلمين. ومن فعل ذلك معتقدا أنه يستحب فهو ضال
~~مبتدع.
# بخلاف طلب الدعاء والشفاعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - والصالحين،
~~كما كان أصحابه يطلبون منه الدعاء ويستشفعون به ويتوسلون بدعائه في حياته،
~~كما ثبت في صحيح البخاري (1) عن عمر بن الخطاب أنه PageV05P109
# قال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك [بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل
~~إليك] بعم نبينا فاسقنا"، فيسقون.
# وقد ثبت في الصحيحين (1) حديث أنس لما توسلوا بالنبي - صلى الله عليه
~~وسلم - واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يدعو لهم، حين قال له الأعرابي: جهدت
~~الأنفس وجاع العيال وهلك المال، فادع الله لنا، فدعا الله لهم، فأمطروا
~~سبتا. ثم شكوا إليه بهدم الأبنية وانقطاع الطرق، وسألوه أن يدعو الله
~~بكشفها عنهم، فدعاه، فكشفها عنهم.
# وكذلك يوم القيامة يتوسل به أهل الموقف ويستشفعون به، فيشفع ms0857 لهم إلى ربه
~~أن يقضي بينهم. ثم يشفع شفاعة أخرى لأهل الكبائر من أمته، ويشفع في أن يخرج
~~الله من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما استفاضت بذلك الأحاديث
~~الصحيحة (2) .
# ولما مات - صلى الله عليه وسلم - توسلوا بدعاء العباس عمه، ولم يتوسلوا
~~به بعد موته، فإنهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته، وذلك ينقطع بموته،
~~فتوسلوا بدعاء العباس.
# وكذلك معاوية بن أبي سفيان استشفع في الشام وتوسل بيزيد ابن الأسود
~~الجرشي، وقال: "اللهم إنا نتوسل إليك بخيارنا، يا يزيد! ارفع يديك"، فرفع
~~يديه فدعا ودعا الناس، حتى نزل المطر (3) . PageV05P110
# ولهذا قال الفقهاء: يستحب الاستسقاء بأهل الصلاح والدين، والأولى أن
~~يكونوا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اقتداء بعمر لما
~~استسقى بالعباس. ولو كان توسلهم في حياته هو إقساما به على الله وتوسلا
~~بذاته من غير أن يدعو لهم، لأمكن ذلك بعد مماته، ولكان توسلهم به أولى من
~~توسلهم بالعباس. ولكن إنما كانوا يتوسلون بدعائه، كما ثبت ذلك في الصحاح
~~أنهم توسلوا في الاستسقاء بدعائه. وفي صحيح البخاري (1) عن ابن عمر قال:
~~ربما ذكرت قول الشاعر:
# وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
### | …
# ثمال اليتامى عصمة للأرامل
# ولم يقل أحد من المسلمين إنهم كانوا في حياته يقسمون به ويتوسلون بذاته،
~~بل حديث الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم (2) ،
~~ألفاظه صريحة في أن الأعمى إنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~كما قد بسطت ألفاظه في موضع PageV05P111
# آخر (1) . وفي أول الحديث أن الأعمى سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
~~يدعو الله أن يرد إليه بصره، فهو طلب من النبي الدعاء، فأمره النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: "اللهم إني أسألك وأتوجه
~~إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في
~~حاجتي لتقضيها، اللهم فشفعه في". وفي رواية ثانية رواها أحمد والبيهقى
~~وغيرهما (2) : "اللهم شفعه في وشفعني فيه".
# فلما سأل النبي - صلى الله عليه ms0858 وسلم - أن يدعو أمره أن يدعو هو أيضا.
~~كما قال له ربيعة بن كعب الأسلمي: أسأل مرافقتك في الجنة، فقال: "أعني على
~~نفسك بكثرة السجود" (3) . فإن شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤاله
~~الإنسان قد يكون مشروطا بشروط، وقد يكون هناك مانع، كاستغفاره للمنافقين.
# فدعاؤه من أعظم الأسباب في حصول المطلوب، ولكن السبب قد يكون له شروط
~~وموانع، فإذا كان إبراهيم قد استغفر لأبيه فلم يغفر له، وقيل للنبي - صلى
~~الله عليه وسلم - في المنافقين: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
~~لن يغفر الله لهم) (4) ، وقيل له: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم
~~على قبره) (5) ، لم يمنع ذلك أن يكون دعاء PageV05P112
# إبراهيم ومحمد عند الله أعظم الدعاء إجابة، وجاههما عند الله أعظم جاه
~~للمخلوقين، وهما الخليلان، وهما أفضل البرية. لكن الدعاء وإن كان سببا قويا
~~فالكفر مانع معارض، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وقد حرم الجنة على
~~الكافرين والمنافقين وإن استغفر لهم محمد وإبراهيم، لوجود المانع لا لنقص
~~جاه الشفيع العظيم القدير.
# وكذلك ثبت عنه في الصحيح (1) أنه قال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي
~~فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي".
# وقد قال تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو
~~كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)) (2) ، ثم
~~اعتذر عن إبراهيم بقوله: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة
~~وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم
~~(114)) (3) .
# فهو - صلى الله عليه وسلم - قال لربيعة: "سل"، قال: أسأل مرافقتك في
~~الجنة، فقال: "أو غير ذلك"؟ فقال: بل هو ذاك، قال: "أعني على نفسك بكثرة
~~السجود". فإن المطلوب عال لا ينال بمجرد الدعاء، بل لابد من عمل صالح يكون
~~من صاحبه، يكون عونا للداعي، فقال: "أعني على نفسك بكثرة السجود".
~~PageV05P113
# كذلك أمر الأعمى -لما طلب منه الدعاء له- أن يعينه هو أيضا بصلاته
~~ودعائه، وقال: "صل ركعتين ms0859 ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد
~~نبي الرحمة" أي بدعاء نبيك وشفاعته. كما قال عمر: "كنا نتوسل إليك بنبينا،
~~وإنا نتوسل إليك بعم نبينا".
# ومعلوم أنهم إنما توسلوا بدعاء العباس، كما كانوا يتوسلون بدعاء النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -. وهذا فعله عمر بين المهاجرين والأنصار عام الرمادة،
~~ولم ينكره أحد ولم يقل له: بل التوسل بذات النبي أو الإقسام به مشروع، فلم
~~يعدل عن التوسل بالرسول إلى العباس؟
# فلما أقروا عمر على ذلك ولم ينكره أحد علم أن ما فعله عمر وأصحابه معه هو
~~المشروع دون ما يخالفه.
# وكذلك أمر الأعمى أن يتوسل بدعائه وشفاعته، ويدل على ذلك قوله في آخر
~~الحديث: "اللهم فشفعه في"، علم أنه كان يدعو ويشفع له، وأن الأعمى إنما
~~توسل بدعائه وشفاعته، وإلا فكان يقول: "اللهم وهذا شفاعة النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - ".
# و
### | التوسل بدعائه وشفاعته هو التوسل به الذي كان الصحابة يعرفونه ويفعلونه،
# وهو معنى التوسل به عندهم، كما قد بين ذلك حديث عمر وحديث الأعمى. ولكن
~~من الناس من ظن أن المراد بلفظ التوسل به هو التوسل بذاته أو الإقسام
~~بذاته، وهذا غلط على الصحابة.
# وأما كلام العلماء في أن ذلك مشروع أو لا؟ فقد ذكر السائل النقل عن أبي
~~حنيفة وأبي يوسف وغيرهما أن ذلك منهي عنه،
# PageV05P114
# وما ذكره عن أبي محمد بن عبد السلام يوافق ذلك. وأما استثناؤه الرسول إن
~~صح حديث الأعمى، فهو -رحمه الله- لم يستحضر الحديث بسياقه حتى يتبين له أنه
~~لا يناقض ما أفتى به، بل ظن أنه يدل على محل السؤال، فاستثناه بتقدير صحته.
~~والحديث صحيح، لكن لا يدل على هذه المسألة كما تقدم.
# وأما ما نقله (1) السائل عن القشيري فأجنبي عن هذه المسألة، لا يدل عليها
~~بنفي ولا إثبات.
# وقد ذكر المروذي في منسكه عن الإمام أحمد بن حنبل أن الداعي المسلم على
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوسل به في دعائه. فهذا النقل يجعل معارضا
~~لما نقل عن أبي حنيفة ms0860 وغيره.
# ونقل أيضا عن عثمان بن حنيف أنه أمر رجلا بعد موت النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أن يدعو بهذا الدعاء، لكن لم يقل فيه: "اللهم فشفعه في".
# وقد تكلمت على إسناد ذلك، وهل هو ثابت أم لا؟ وبسطت الكلام على ذلك في
~~غير هذا الموضع (2) ، وبينت أنه [على] تقدير ثبوته يكون معارضا لما فعله
~~عمر بمحضر من المهاجرين والأنصار، وإذا كانت مسألة نزاع ردت إلى الله
~~والرسول.
# وما نقل عن أحمد رضي الله عنه فإنه يشبه ما نقل عنه من جواز الإقسام
~~برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يجب بذلك الكفارة، فإن الإقسام به
~~PageV05P115
# في اليمين كالإقسام به على الله، وكالتوسل بذاته.
# وهذه الرواية عن أحمد لم يوافقها [أحد] من الأئمة، بل جمهور الأئمة على
~~الرواية الأخرى عنه، وهو أنه لا يشرع الحلف بمخلوق لا النبي ولا غيره، ولا
~~يجب بذلك كفارة. وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونصروها في الخلاف،
~~كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهم. ثم أكثر هؤلاء يقولون: هذا
~~الحكم مختص به، لكون الإيمان به بخصوصه ركنا في الإيمان، لا يتم الإيمان
~~إلا بالشهادتين. وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك في انعقاد اليمين
~~بالحلف بهم.
# وأما جماهير علماء المسلمين من السلف والخلف فعلى أنه لا ينعقد اليمين
~~بمخلوق، لا الأنبياء ولا غيرهم، كالرواية الثانية عن أحمد. وهذا مذهب مالك
~~والشافعي وأبي حنيفة واختيار طائفة من أصحاب أحمد، وهذا القول هو الصواب،
~~فإنه قد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
~~تحلفوا إلا بالله"، وقال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". وفي السنن
~~(2) عنه أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك".
# وقال ابن مسعود وابن عباس: "لأن أحلف كاذبا أحب إلي PageV05P116
# [من] أن أحلف بغيره صادقا" (1) . وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك
~~أعظم إثما من الكذب. وهذا يوافق أظهر قولي العلماء أن النهي عن الحلف
~~بالمخلوقات نهي تحريم لا نهي تنزيه، وهذا قول أكثر العلماء ms0861، وهو أحد
~~القولين في مذهب الشافعي وأحمد.
# وإذا كان
### | الحلف بغير الله من باب الشرك،
# فمعلوم أنه لا يجوز أن يشرك به ولا يعدل به ولا يسوى به الأنبياء وغيرهم،
~~قال تعالى: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر
~~بعد إذ أنتم مسلمون (80)) (2) ، وقال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه
~~فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى
~~ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا
~~(57)) (3) . قال طائفة من السلف (4) : كان قوم يدعون الملائكة والأنبياء،
~~فأنزل الله هذه الآية بين فيها أن الملائكة والأنبياء قد يتقربون إلى الله
~~ويرجونه ويخافونه، كما أن سائر العباد يتقربون إلى الله ويرجونه ويخافونه،
~~فلا يجوز دعاء الملائكة والأنبياء. وقد قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم
~~-: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده" (5) .
~~وقال: "لا تقولوا ما شاء الله PageV05P117
# وشاء محمد، بل قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد" (1) . فنهاهم [أن] يشركوا
~~به حتى في مثل هذه الأقوال.
# وقد أمر الله أن يقول: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
~~ألا نعبد إلا الله) (2) الآية. ولما قال الأعرابي: ومن يعصهما فقد غوى،
~~قال: "بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله" (3) .
# مع أنه قد روي عنه أنه قال: "ومن يعصهما" (4) ، وذلك لأن هذا إذا قاله من
~~جعل طاعة الرسول تابعة لطاعة الله ويجعله عبدا لله ورسولا، لم ينكر عليه
~~الجمع بينهما في الضمير، بخلاف من قد لا يفهم ذلك، بل يجعل الرسول ندا،
~~كقول القائل: ما شاء الله وشاء محمد.
# وأيضا فقد نهى معاذا وغيره عن السجود له، وقال: "أرأيت لو مررت بقبري
~~أكنت ساجدا لقبري"؟ قال: لا، قال: "فإنه لا يصلح السجود إلا لله" (5) .
~~PageV05P118
# وأيضا فقد ثبت في الصحيح (1) أنهم لما صلوا خلفه قياما وهو قاعد لمرضه
~~قال: "لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا".
# فنهاهم أن يقوموا -مع أن قيامهم كان لله ms0862- لئلا يشبهوا من يقوم له.
# وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" (2) .
# وفي الصحيحين (3) عنه أنه قال [في] مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى
~~اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما فعلوا. قالت عائشة (4) : ولولا ذلك
~~لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
# وفي السنن (5) عنه أنه قال: "لا تتخذوا بيتي عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم،
~~فإن صلاتكم تبلغني".
# وفي الصحيح (6) عنه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم،
~~فإنما أنا [عبد] فقولوا: عبد الله ورسوله".
# فهذه النصوص وغيرها تبين أنه نهاهم عن الشرك به والغلو فيه، وسد هذه
~~الذريعة بنهيهم أن يتخذوا قبره مسجدا، وأن يقولوا PageV05P119
# ما شاء الله وشاء محمد، وأنه دفن في بيته ولم يظهر قبره خوف الإشراك.
# وإذا كان كذلك، والقسم بالمخلوق شرك بالمخلوق، والشرك لا يجوز به ولا
~~بغيره، فلا يجوز القسم به، كما قال الجمهور، ولا تنعقد اليمين به، ولا يجب
~~بذلك كفارة.
# وقد تنازع العلماء في الصلاة عليه عند الذبيحة، فكره ذلك مالك وأحمد
~~وغيرهما، لئلا يذكر على الذبيحة غير الله، خوفا من الإهلال بها لغير الله
~~من أن ذلك صلاة عليه. ورخص في ذلك الشافعي وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحاب
~~أحمد، قالوا: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان، وهذا بخلاف الإقسام به، فإن
~~الإقسام بسائر المخلوقات شرك به، والشرك به لا يجوز بحال.
# وكل ما كان من خصائص الرب: كالعبادة لله، والنذر لله، والصدقة لله،
~~والتوكل على الله، والخوف من الله، والخشية لله، والرغبة إلى الله،
~~والاستعانة به، وغير ذلك مما هو من خصائص الرب= فإنه لا يجوز أن يفعل
~~بمخلوق، لا الأنبياء ولا غيرهم، ولا يستثنى من ذلك أحد.
# وإذا كان الإقسام به منهيا عنه لا ينعقد به اليمين ولا يجب به الكفارة،
~~فالاقسام به على الله أولى أن يكون منهيا عنه، وكذلك الإقسام بسائر
~~المخلوقات على الله.
# وكذلك التوسل بذواب الملائكة والأنبياء والصالحين أيضا كذلك، فإن أعظم
~~الوسائل للخلق إلى الله هو محمد - صلى الله عليه وسلم ms0863 -، وأعظم وسائل الخلق
~~إلى الله التوسل بإيمان به: بتصديقه فيما أخبر،
# PageV05P120
# وطاعته فيما أوجب وأمر، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وتحليل ما حلل،
~~وتحريم ما حرم، وإرضائه ومحبته، وتقديمه في ذلك على الأهل والمال. فهذه
~~الوسيلة التي أمرنا الله بها في قوله: (اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة)
~~(1) . فالوسيلة ما يتوسل به، [و] هو ما يتوصل [به] ، والتوسل والتوصل إلى
~~الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقه وطاعته، لا وسيلة للخلق إلى الله
~~إلا هذه الوسيلة. ثم من آمن بالرسول إذا دعا له الرسول وشفع فيه، كان دعاء
~~الرسول وشفاعته مما يتوسل به. فهذا هو التوسل بالرسول.
# فأما إذا قدر أن الرجل لم يطعه، وهو لم يدع للإنسان، فنفس ذات الرسول لا
~~ينفع الإنسان شيئا، بل هو أعظم الخلق عند الله قدرا وجاها، وذلك فضل الله
~~عليه وإحسانه إليه، وإنما ينتفع العباد من ذلك بما يقوم بهم من الإيمان به،
~~أو ما يقوم به من الدعاء لهم. فأما إذا قام بهم دعاؤه والإقسام به فهذا لا
~~ينفعهم.
# والدعاء من أفضل العبادات، ولم ينقل أحد عنه أنه شرع لأمته الإقسام بأحد
~~من الأنبياء والصالحين على الله، فمن جعل ذلك مشروعا -واجبا أو مستحبا- فقد
~~قفا ما لا علم له به، وقال قولا بلا حجة، وشرع دينا لم يأذن به الله.
# وإذا لم يكن ذلك واجبا ولا مستحبا كان من فعله معتقدا أنه واجب أو مستحب
~~مخطئا في ذلك، وإذا كان مجتهدا [أو] مقلدا PageV05P121
# فله حكم أمثاله من المجتهدين والمقلدين يعفى عن خطئه. فأما إذا أنكر على
~~غيره بلا علم، ورد الأقوال بلا حجة، وذم غيره ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو
~~مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئا، فإن المجتهد المخطىء غفر
~~الله له خطأه، فكيف إذا كان المنازع له المصيب وهو المخطىء؟!
# ولكن شأن أهل البدع أنهم يبتدعون بدعة، ويوالون عليها ويعادون، ويذمون بل
~~يفسقون بل يكفرون من خالفهم، كما يفعل الخوارج والرافضة والجهمية وأمثالهم.
~~وأما أهل العلم والسنة فيتبعون الحق الذي ms0864 جاء به الكتاب والسنة، ويعذرون من
~~خالفهم إذا كان مجتهدا مخطئا أو مقلدا له، فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز
~~لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال في دعاء المؤمنين: (ربنا لا تؤاخذنا
~~إن نسينا أو أخطأنا) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) أن الله استجاب هذا
~~الدعاء، وقال: قد فعلت.
# والكلام على هذه المسائل قد بسط في مواضع غير هذا، وصنفت فيه مصنفات،
~~وللعلماء في ذلك وما يتعلق به من الكلام ما لا يتسع له هذا الموضع. والله
~~أعلم.
# (آخره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
~~تسليما) . PageV05P122
### | الفتيا الأزهرية (في مسألة كلام الله)
# PageV05P123
# (قال في فتيا له تسمى "بالأزهرية":)
# ومن قال: إن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى، وقع في محذورات:
# أحدها: قولهم "إن هذا ليس هو كلام الله"، فإن نفي هذا الإطلاق خلاف ما
~~علم بالاضطرار من دين الإسلام، وخلاف ما دل عليه الشرع والعقل.
# والثاني: قولهم "عبارة" إن أرادوا أن هذا الثاني هو الذي عبر عن كلام
~~الله تعالى القائم بنفسه، لزم أن يكون كل تال معبرا عما في نفس الله تعالى.
~~والمعبر عن غيره هو المنشىء للعبارة، فيكون كل قارىء هو المنشىء لعبارة
~~القرآن. وهذا معلوم الفساد بالضرورة.
# وإن أرادوا أن القرآن العربي عبارة عن معانيه، فهذا حق، إذ كل كلام فلفظه
~~عبارة عن معناه، لكن هذا لا يمنع أن يكون الكلام متناولا للفظ والمعنى.
# الثالث: أن الكلام قد قيل: إنه حقيقة في اللفظ مجاز في المعنى، وقيل:
~~حقيقة في المعنى مجاز في اللفظ، وقيل: بل حقيقة في كل منهما. والصواب الذي
~~عليه السلف والأئمة أنه حقيقة في مجموعهما.
# كما أن الإنسان قيل: هو حقيقة في البدن فقط، وقيل: بل في الروح فقط.
~~والصواب أنه حقيقة في المجموع. فالنزاع في الناطق كالنزاع في منطقه.
# PageV05P125
# وإذا كان كذلك فالمتكلم إذا تكلم بكلام له لفظ ومعنى، وبلغ عنه بلفظه
~~ومعناه، فإذا قيل: ما بلغه المبلغ من اللفظ إن هذا عبارة عن القرآن، وأراد
~~به المعنى الذي ms0865 للمبلغ عنه= نفى عنه اللفظ الذي للمبلغ عنه، والمعنى الذي
~~قام بالمبلغ. فمن لم يثبت إلا القرآن المسموع الذي هو عبارة عن المعنى
~~القائم بالذات، قيل له: فهذا الكلام المنظوم الذي كان موجودا قبل قراءة
~~القراء هو موجود قطعا وثابت، فهل هو داخل في العبارة والمعبر عنه أو
~~غيرهما؟
# فإن جعلته غيرهما بطل اقتصارك على العبارة والمعبر عنه، وإن جعلته أحدهما
~~لزمك إن لم تثبت إلا هذه العبارة والمعنى القائم بالذات أن تجعله نفس ما
~~سمع من القراء، فتجعل عين ما بلغه المبلغون هو عين ما سمعوه، وهذا الذي
~~فررت منه.
# وأيضا فيقال له: القارىء المبلغ إذا قرأ فلابد له فيما يقوم به من لفظ
~~ومعنى، وإلا كان اللفظ الذي قام به عبارة عن القرآن، فيجب أن يكون عبارة عن
~~المعنى الذي قام به، لا عن معنى قام بغيره.
# فقولهم "هذا هو العبارة عن المعنى القائم بالذات" أخطأوا من وجهين:
# أخطأوا في بيان مذهبهم، فإن حقيقة قولهم: أن اللفظ المسموع من القارىء
~~حكاية اللفظ الذي عبر به عن معنى القرآن مطلقا، وذلك أن اللفظ عبارة عن
~~المعنى القائم بالذات، ولفظه ومعناه حكاية عن ذلك اللفظ والمعنى.
# PageV05P126
# ثم إذا عرف مذهبهم بقي خطؤهم في أصول:
# منها: زعمهم أن معاني القرآن معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، وأن معنى
~~التوراة والإنجيل والقرآن معنى واحد، ومعنى آية الكرسي معنى آية الدين.
~~وفساد هذا معلوم بالضرورة.
# ومنها: زعمهم أن القرآن العربي لم يتكلم الله به.
# (وأطال في ذلك وبرهن عليه بما يطول هنا ذكره، وقال بعد ذلك:)
# وأول من قال هذا في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب، وجعل القرآن
~~المنزل حكاية عن ذلك المعنى. فلما جاء الأشعري واتبع ابن كلاب في أكثر
~~مقالته ناقشه على قوله: "إن هذا حكاية عن ذلك"، وقال: الحكاية تماثل
~~المحكي. فهذا اللفظ يصح من المعتزلة، لأن ذلك المخلوق حروف وأصوات عندهم
~~وحكاية مثله، وأما على أصل ابن كلاب فلا يصح أن يكون حكاية. بل نقول: "إنه
~~عبارة ms0866 عن المعنى".
# ف
### | أول من قال بالعبارة الأشعري.
# وكان البلاقلاني -فيما ذكر عنه- إذا درس مسألة القرآن يقول: هذا قول
~~الأشعري ولم يتبين صحته، أو كلاما هذا معناه.
# وكان الشيخ أبو حامد الإسفراييني يقول
### | : مذهب الشافعي وسائر الأئمة في القرآن خلاف قول الأشعري،
# وقولهم هو قول الإمام أحمد (1) . PageV05P127
# وكذلك أبو محمد الجويني ذكر أن الأشعري خالف في مسألة الكلام قول الشافعي
~~وغيره، وأنه أخطأ في ذلك.
# وكذلك سائر أئمة أصحاب مالك والشافعي وغيرهما يذكرون قولهم في حد الكلام
~~وأنواعه من الأمر والنهي والخبر العام والخاص وغير ذلك، ويجعلون الخلاف في
~~ذلك مع الأشعري، كما هو مبين في أصول الفقه التي صنفها أئمة أصحاب أبي
~~حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم.
# (ثم قال بعد ذلك:) ومن قال من المعتزلة والكلابية: إن القرآن المنزل
~~حكاية ذلك، وظنوا أن المبلغ حاك لذلك الكلام، ولفظ الحكاية قد يراد به
~~محاكاة الناس فيما يقولونه ويفعلونه اقتداء بهم وموافقة لهم؛= فمن قال: إن
~~القرآن حكاية كلام الله تعالى بهذا المعنى، فقد غلط وضل ضلالا مبينا، فإن
~~القرآن لا يقدر الناس على أن يأتوا بمثله، ولا يقدر أحد أن يأتي بما يحكيه.
# وقد يراد بلفظ "الحكاية" النقل والتبليغ، كما يقال: "فلان حكى عن فلان
~~أنه قال كذا"، كما يقال عنه: "نقل عنه". فهذا بمعنى التبليغ للمعنى. وقد
~~يقال: "حكي عن فلان أنه قال كذا وكذا"، لما قاله بلفظه ومعناه، فالحكاية
~~هنا بمعنى التبليغ للفظ والمعنى، لكن يفرق بين أن يقول: حكيت كلامه على وجه
~~المماثلة له، وبين أن يقول: حكيت عنه كلامه، وبلغت عنه أنه قال مثل قوله من
~~غير تبليغ عنه، وقد يراد به المعنى الآخر، وهو أنه بلغ عنه ما قاله.
# فإن أريد المعنى الأول جاز أن يقال: هذا حكاية كلام فلان،
# PageV05P128
# وهذا مثل كلام فلان، وليس هو مبلغا عنه كلامه. وإن أريد به المعنى الثاني
~~-وهو ما إذا حكى الإنسان عن غيره ما يقوله وبلغه عنه- فهنا يقال: هذا كلام
~~فلان، ولا يقال: هذا حكاية كلام ms0867 فلان.
# كما لا يقال: هذا مثل كلام فلان. بل قد يقال: هذا كلام فلان بعينه، بمعنى
~~أنه لم يغيره ولم يحرف، ولم يزد ولم ينقص.
# PageV05P129
### | فتوى في الخضر
# PageV05P131
# بسم الله الرحمن الرحيم
# (قال بعد حكاية القول بحياة الخضر واحتجاج القائلين به ما نصه:)
# وقالت طائفة: هو ميت، فإن حياته ليس فيها دليل يصلح مثله للخروج عن
~~العادة المعروفة في بني آدم، وذلك بأن حياته ليس فيها خبر صحيح عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه. والحديث المذكور في مسند الشافعي (1)
~~مرسل ضعيف. والحديث الذي يروى في اجتماع الخضر وإلياس كل عام بالموسم
~~وافتراقهما على تلك الكلمات (2) هو أضعف من ذلك الحديث، والكلمات كلمات
~~حسنة، لكن الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - باجتماعهما كل عام
~~وافتراقهما على هؤلاء الكلمات خبر ضعيف. وإذا لم يكن فيه خبر صحيح عمن علم
~~أمته كل شيء، PageV05P133
# وقال أبو ذر (1) : لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر
~~يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما، ونحو ذلك، مع أنه أخبرهم
~~بقصته مع موسى وتفصيل ما جرى له معه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
~~-: "وددت أن موسى صبر حتى يقص علينا من خبرهما" (2) . فلو كان حيا كانت
~~حياته أعجب من ذلك كله، فكيف لا يخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
~~أم كيف يخبر به فلا يبلغه أصحابه ولا كان هذا معروفا عندهم؟
# وأيضا فلو كان حيا لكان يجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد
~~اجتمع به ليلة المعراج من مات قبله، فكيف لا يجتمع به من هو حي في وقته؟
# وأيضا كان يجب عليه الإيمان به والمجاهدة معه، كما قال تعالى: (وإذ أخذ
~~الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم)
~~(3) الآية. قال ابن عباس (4) : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن
~~بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن
~~بعث محمد ms0868 وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
# والخضر إما نبي أو من أتباع الأنبياء، وعلى التقديرين فعليه أن يؤمن
~~بمحمد وينصره، ومعلوم أن ذلك لو وقع لكان مما تتوفر الدواعي والهمم على
~~نقله، فقد نقل الناس من آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الأحبار
~~PageV05P134
# والرهبان، فكيف لا ينقل إيمان الخضر وجهاده معه لو كان قد وقع؟
# وقول من قال: "الخضر كان حيا في حياته" بمنزلة قول من يقول: "يوشع بن نون
~~كان حيا أو بعض أنبياء بني إسرائيل كإلياس"، وهذا باطل لمقدمتين:
# إحداهما: لو كان حيا لوجب عليه أن يؤمن به ويهاجر إليه ويجاهد معه.
# والثانية: أن ذلك لو وقع لتوفرت الدواعي والهمم على نقله.
# وإذا كان هارون ونحوه تبعا لموسى، وكان أنبياء بني إسرائيل تبعا لموسى،
~~فكيف لا يكون الخضر ونحوه إن قدر نبوته تبعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -،
~~الذي ما خلق الله خلقا أكرم عليه منه، وما تلقوه عن الله بواسطة محمد - صلى
~~الله عليه وسلم - أفضل مما تلقوه بغير واسطة موسى.
# وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بنزول المسيح ابن مريم
~~آخر الزمان، وذكر أنه يحكم فينا بكتاب الله وسنة رسوله (1) ، والمسيح أفضل
~~من الخضر، فلو كان الخضر حيا لكان يكون مع محمد ومع المسيح ابن مريم. وقول
~~بعض الناس (2) : "إن الرجل الذي يقتله الدجال هو الخضر" لا أصل له.
~~PageV05P135
# (ثم قال:) وعدم إيمانه بموسى إنما كان لأن موسى لم يبعث إليه، كما في
~~الحديث الصحيح (1) : إن موسى لما سلم عليه قال له: وأنى بأرضك السلام؟
~~فقال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. وقال في أثنائه: يا موسى
~~إني على علم علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا
~~أعلمه.
# وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فدعوته عامة لجميع الخلق أسودهم
~~وأحمرهم، فلا يمكن الخضر وغيره أن يعامل محمدا - صلى الله عليه وسلم -
~~ويخاطبه كما عامل موسى وخاطبه، بل على كل من أدرك مبعثه أن يؤمن به ms0869 ويجاهد
~~معه، ولا يستغني بما عنده عما عنده. وكل من جوز لأحد ممن أدركته دعوة
~~الرسول أن يكون مع محمد كما كان الخضر مع موسى= فهو ضال ضلالا مبينا، بل هو
~~كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
# ولهذا لم يكن في العلم بحياة الخضر بتقدير صحتها ولا في وجوده حيا منفعة
~~للمسلمين، ولا فائدة لهم في ذلك، فإنه في المسند والنسائي عن جابر (2) أن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة،
~~فقال: "أمتهوكون يا ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيا
~~لما وسعه إلا اتباعي".
# فإذا كان هذا حال الأمة مع موسى فكيف مع الخضر وأمثاله؟ PageV05P136
# والمسيح إذا نزل إنما يحكم في الأمة بكتاب ربها وسنة نبيها. فليست هذه
~~الأمة محتاجة في شيء من دينها إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، لا إلى شيء
~~آخر، ولا إلى غير نبي لا خضر ولا غيره، فإن الذي يجيئهم إن جاءهم بما علم
~~في الكتاب والسنة لم يحتج إليه فيه، وإن جاءهم بخلاف ذلك كان مردودا عليه.
# ولهذا كان أكثر من يتكلم في هذه الأشياء أهل الضلال والحيرة والتهوك
~~الذين لم يستبينوا طريق الهدى من كتاب الله وسنة رسوله، بل يتعلقون
~~بالمجهولات ويرجعون إلى الضلالات. ونجد كثيرا منهم يعنون بالخضر الغوث.
# (ثم أطال الكلام في تقرير ذلك) .
# PageV05P137
### | سؤال في يزيد بن معاوية
# PageV05P139
# بسم الله الرحمن الرحيم
# الحمد لله رب العالمين
# سئل شيخ الإسلام الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي
~~الله عنه:
# ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين في يزيد بن
~~معاوية هل كان صحابيا؟ وما حكم من يعتقد أنه [كان] صحابيا أو أنه كان نبيا؟
~~وهل في الصحابة من اسمه يزيد؟
# فأجاب رضي الله عنه فقال:
# الحمد لله رب العالمين. يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي تولى على
~~المسلمين بعد أبيه معاوية بن أبي سفيان لم يكن من الصحابة، ولكن عمه يزيد
~~بن أبي ms0870 سفيان من الصحابة. فإن أبا سفيان بن حرب كان له عدة أولاد: منهم
~~يزيد بن أبي سفيان، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، ومنهم أم حبيبة أم
~~المؤمنين، تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت قد آمنت قبل
~~أبيها وأخويها، وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، ثم حلت من زوجها، فخطبها النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -. وزوجها ابن عمها خالد بن سعيد (1) . وأصدق النجاشي
~~صداقها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) . PageV05P141
# وزوجة أبي سفيان هند بنت عتبة بن ربيعة.
# فلما كان عام فتح مكة أسلم أبو سفيان وامرأته وأولاده، وأسلم سائر رؤساء
~~قريش مثل سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام أخي أبي جهل بن هشام، وأبي سفيان
~~بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغير
~~هؤلاء، وأسلم أيضا عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وغيرهما.
# وهؤلاء كانوا سادات قريش وأكابرهم بعد الذين قتلوا منهم ببدر، وكانوا قبل
~~ذلك كفارا محاربين لله ورسوله، قد قاتلوه يوم أحد ويوم الأحزاب، ثم لما فتح
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة من عليهم وأطلقهم فسموا الطلقاء.
# وكان قد أخذ بعضادتي البيت فقال (1) : ماذا أنتم قائلون؟
# قالوا: نقول: أخ كريم وابن عم كريم، قال: إني قائل لكم ما قال يوسف
~~لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)) (2)
~~.
# وكان إسلام أبي سفيان قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة بمر
~~الظهران.
# وهرب منه عكرمة ثم رجع فأسلم. وصفوان وغيره شهدوا حنينا وهم كفار، ثم
~~أسلموا بعد ذلك. PageV05P142
# وعامة هؤلاء الذين أسلموا عام الفتح حسن إسلامهم، مثل سهيل بن عمرو، ومثل
~~عكرمة بن أبي جهل، ومثل يزيد بن أبي سفيان، ومثل الحارث بن هشام، ومثل أبي
~~سفيان بن الحارث.
# فإن هؤلاء صاروا من خيار المسلمين.
# فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر وقام بجهاد
~~المرتدين والكافرين أمر الأمراء لقتال النصارى بالشام وفتح الشام. فكان ممن
~~أمره يزيد بن أبي سفيان أخو معاوية ms0871 وعم يزيد الذي تولى الملك. وأمر خالد بن
~~الوليد، وأمر عمرو بن العاص، وأمر شرحبيل بن حسنة، وهؤلاء كلهم من الصحابة.
# ومشى أبو بكر الصديق في ركاب يزيد بن أبي سفيان ووصاه بوصية معروفة عند
~~العلماء ذكرها مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وغيرهم، واعتمد
~~عليها العلماء في الجهاد.
# ففي "الموطأ" (1) عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى
~~الشام، فخرج معه يزيد بن أبي سفيان وكان أمير ربع من تلك الأرباع. فزعموا
~~أن يزيد قال لأبي بكر: إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: ما أنت
~~بنازل وما أنا براكب. إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله.
# ثم قال: إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا
~~أنفسهم له. وستجد قوما فحصوا عن أوساط PageV05P143
# رؤوسهم، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة،
~~ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا
~~تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا ولا تفرقنه، ولا تجبن ولا
~~تغلل. وذكر وصية أخرى.
# ويزيد هذا الذي أمره الصديق وكان من الصحابة هو عند المسلمين من خيار
~~المسلمين، وهو رجل صالح، وهو عند المسلمين خير من أبيه أبي سفيان ومن أخيه
~~معاوية.
# فلما فتح المسلمون بلاد الشام في خلافة أبي بكر وعمر وتوفي أبو بكر
~~واستخلف عمر، كان أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص،
~~وشرحبيل بن حسنة نوابا لعمر بن الخطاب على الشام.
# وكان الشام أربعة أرباع:
# الربع الواحد: ربع فلسطين، وهو بيت المقدس إلى نهر الأردن الذي يقال له
~~الشريعة.
# والربع الثاني: ربع الأردن وهو من الشريعة إلى نواحي عجلون إلى أعمال
~~دمشق.
# والربع الثالث: دمشق.
# والربع الرابع: حمص.
# وكانت سيس وأرض الشمال من أعمال حمص.
# PageV05P144
# ثم إنه في زمن معاوية أو يزيد جعل الشام خمسة أجناد، وجعلت قنسرين
~~والعواصم أحد الأخماس.
# وكان المسلمون قد فتحوا الشام جميعها إلى سيس وغيرها ms0872، وفتحوا قبرص. كان
~~معاوية قد فتحها في خلافة عثمان بن عفان.
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بغزوات البحر، وأخبر أم حرام
~~بنت ملحان أنها تكون فيهم (1) ، فكان كما أخبر به النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -.
# فلما كان في أثناء خلافة عمر بن الخطاب مات في خلافته أبو عبيدة بن
~~الجراح، ومات أيضا يزيد بن أبي سفيان.
# ولما كان المسلمون يقاتلون الكفار، ويزيد بن أبي سفيان أحد الأمراء، كان
~~أبوه أبو سفيان وأخوه معاوية يقاتلان معه تحت رايته، وأصيب يومئذ أبو
~~سفيان، أصيبت عينه في القتال.
# فلما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر، ولى عمر مكانه على أحد أرباع
~~الشام أخاه معاوية بن أبي سفيان.
# وبقي معاوية أميرا على ذلك، وكان حليما كريما، إلى أن قتل عمر. ثم أقره
~~عثمان على إمارته، وضم إليه سائر الشام، فصار نائبا على الشام كله.
# وفي خلافة عثمان ولد لمعاوية ولد سماه يزيد باسم أخيه يزيد. PageV05P145
# وهذا يزيد الذي ولد في خلافة عثمان هو الذي تولى الملك بعد أبيه معاوية،
~~وهو الذي قتل الحسين في خلافته، وهو الذي جرى بينه وبين أهل الحرة ما جرى.
~~و
### | ليس هو من الصحابة، ولا من الخلفاء الراشدين
# المهديين، بل هو خليفة من الخلفاء الذين تولوا بعد الخلفاء الراشدين،
~~كأمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس.
# وهؤلاء الخلفاء لم يكن فيهم من هو كافر، بل كلهم كانوا مسلمين، ولكن لهم
~~حسنات وسيئات، كما لأكثر المسلمين، وفيهم من هو خير وأحسن سيرة من غيره،
~~كما كان سليمان بن عبد الملك الذي ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة من بني
~~أمية، والمهدي والمهتدي، وغيرهما من خلفاء بني العباس، وفيهم من كان أعظم
~~تأييدا وسلطانا، وأقهر لأعدائه من غيره، كما كان عبد الملك والمنصور.
# وأما عمر بن عبد العزيز فهو أفضل من هؤلاء كلهم عند المسلمين، حتى كان
~~غير واحد من العلماء كسفيان الثوري وغيره يقولون: الخلفاء خمسة: أبو بكر،
~~وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر ابن عبد العزيز ms0873. وإذا قيل: "سيرة العمرين" فقد
~~قال أحمد بن حنبل وغيره: العمران عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز. وأنكر
~~أحمد على من قال: العمران أبو بكر وعمر.
# وكان عمر بن عبد العزيز قد أحيا السنة، وأمات البدعة، ونشر العدل، وقمع
~~الظلمة من أهل بيته وغيرهم، ورد المظالم التي كان الحجاج بن يوسف وغيره
~~ظلموها للمسلمين، وقمع أهل البدع - كالذين كانوا يسبون عليا، وكالخوارج
~~الذي كانوا يكفرون عليا
# PageV05P146
# وعثمان ومن والاهما، وكالقدرية مثل غيلان القدري وغيره، وكالشيعة الذين
~~كانوا يثيرون الفتن- بعلمه ودينه وعدله.
# وأما غيره من الخلفاء فلم يبلغوا في العلم والدين والعدل مبلغه، ولكن
~~كانوا مسلمين باطنا وظاهرا، لم يكونوا معروفين بكفر ولا نفاق، وكان لهم
~~حسنات كما لهم سيئات. وكثير منهم أو أكثرهم له حسنات يرحمه الله بها،
~~وتترجح على سيئاته، ومقادير ذلك على التحقيق لا يعلمه إلا الله.
# ويزيد هذا الذي ولي الملك هو أول من غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة
~~أبيه معاوية. وقد روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عمر قال: قال رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم -: "أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له".
# ومن قال إن يزيد هذا كان من الصحابة فهو كاذب مفتر، يعرف أنه لم يكن من
~~الصحابة، فإن أصر على ذلك عوقب عقوبة تردعه.
# وأما من قال إنه كان من الأنبياء فإنه كافر مرتد يستتاب، فإن تاب وإلا
~~قتل.
# ومن جعله من الخلفاء الراشدين المهديين فهو أيضا ضال مبتدع كاذب.
# ومن قال أيضا إنه كان كافرا، أو إن أباه معاوية كان كافرا، PageV05P147
# وإنه قتل الحسين تشفيا وأخذا بثأر أقاربه من الكفار فهو أيضا كاذب مفتر،
~~ومن قال إنه تمثل لما أتي برأس الحسين:
# لما بدت تلك الحمول وأشرفت ... تلك الرؤوس على ربى جيرون
# نعق الغراب فقلت نح أو لا تنح ... فلقد قضيت من النبي ديوني (1)
# أو "من الحسين ديوني".
# والديوان الشعري الذي يعزى إليه عامته كذب، وأعداء الإسلام كاليهود
~~وغيرهم يكتبونه للقدح في الإسلام، ويذكرون فيه ما هو كذب ظاهر، كقولهم إنه ms0874
~~أنشد (2) :
# ليت أشياخي ببدر شهدوا
### | …
# جزع الخزرج من وقع الأسل
# قد قتلنا الكبش من أقرانهم
### | …
# وعدلناه ببدر فاعتدل
# وأنه تمثل بهذا ليالي الحرة فهذا كذب.
# وهذا الشعر لعبد الله بن الزبعرى أنشده عام أحد لما قتل المشركون حمزة،
~~وكان كافرا ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وقال أبياتا يذكر فيها إسلامه
~~وتوبته. PageV05P148
# فلا يجوز أن يغلى لا في يزيد ولا غيره، بل لا يجوز أن يتكلم في أحد إلا
~~بعلم وعدل.
# ومن قال: إنه إمام ابن إمام، فإن أراد بذلك أنه تولى الخلافة كما تولاها
~~سائر خلفاء بني أمية والعباس فهذا صحيح، لكن ليس في ذلك ما يوجب مدحه
~~وتعظيمه، والثناء عليه وتقديمه، فليس كل من تولى أنه كان من الخلفاء
~~الراشدين والأئمة المهديين، فمجرد الولاية على الناس لا يمدح بها الإنسان
~~ولا يستحق على ذلك الثواب، وإنما يمدح ويثاب على ما يفعله من العدل والصدق،
~~والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد وإقامة الحدود، كما يذم ويعاقب
~~على ما يفعله من الظلم والكذب والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وتعطيل
~~الحدود، وتضييع الحقوق، وتعطيل الجهاد.
# وقد سئل أحمد بن حنبل، عن يزيد أيكتب عنه الحديث؟ فقال: لا، ولا كرامة،
~~أليس هو الذي فعل بأهل الحرة ما فعل؟
# وقال له ابنه: إن قوما يقولون إنا نحب يزيد. فقال: هل يحب يزيد أحد فيه
~~خير؟ فقال له: فلماذا لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدا؟
# ومع هذا فيزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولا حمل رأسه إلى بين يديه، ولا نكت
~~بالقضيب على ثناياه، بل الذي جرى هذا منه هو عبيد الله بن زياد، كما ثبت
~~ذلك في "صحيح البخاري" (1) ، ولا طيف برأسه PageV05P149
# في الدنيا، ولا سبي أحد من أهل الحسين، بل الشيعة كتبوا إليه وغروه،
~~فأشار عليه أهل العلم والنصح بأن لا يقبل منهم، فأرسل ابن عمه مسلم بن
~~عقيل، فرجع أكثرهم عن كتبهم، حتى قتل ابن عمه، ثم خرج منهم عسكر مع عمر بن
~~سعد حتى قتلوا الحسين مظلوما شهيدا، أكرمه ms0875 الله بالشهادة كما أكرم بها أباه
~~وغيره من سلفه سادات المسلمين.
# وكان بالعراق طائفتان: طائفة من النواصب تبغض عليا وتشتمه، وكان منهم
~~الحجاج بن يوسف، وطائفة من الشيعة تظهر موالاة أهل البيت منهم المختار بن
~~أبي عبيد الثقفي. وقد ثبت في "صحيح مسلم" (1) عن أسماء، عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه قال: "سيكون في ثقيف كذاب ومبير" فكان الكذاب هو
~~المختار بن أبي عبيد الثقفي، والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي.
# وكان المختار أظهر أولا التشيع والانتصار للحسين، حتى قتل الأمير الذي
~~أمر بقتل الحسين وأحضر رأسه إليه، ونكت بالقضيب على ثناياه: عبيد الله بن
~~زياد.
# ثم أظهر أنه يوحى إليه، وأن جبريل يأتيه، حتى بعث ابن الزبير إليه أخاه
~~مصعبا فقتله، وقتل خلقا من أصحابه. ثم جاء عبد الملك ابن مروان فقتل مصعب
~~بن الزبير. فصار النواصب والروافض في يوم عاشوراء حزبين، هؤلاء يتخذونه يوم
~~مأتم وندب ونياحة، PageV05P150
# وهؤلاء يتخذونه يوم عيد وفرح وسرور. وكل ذلك بدعة وضلالة.
# وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس
~~منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
# وروى الإمام أحمد (2) عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها الحسين، عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن
~~قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها".
# فدل هذا الحديث الذي رواه الحسين على أن المصيبة إذا ذكرت وإن قدم عهدها
~~فالسنة أن يسترجع فيها، وإذا كانت السنة الاسترجاع عند حدوث العهد بها فمع
~~تقدم العهد أولى وأحرى.
# وقد قتل غير واحد من الأنبياء والصحابة والصالحين مظلوما شهيدا، وليس في
~~دين المسلمين أن يجعلوا يوم قتل أحدهم مأتما، وكذلك اتخاذه عيدا بدعة. وكل
~~ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عاشوراء غير صومه فهو كذب
~~(3) ، مثل ما يروى في الاغتسال يوم عاشوراء، والاكتحال، وصلاة يوم عاشوراء،
~~ومثل ما يروى: "من وسع على أهله ms0876 يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته" (4)
~~. قال أحمد PageV05P151
# ابن حنبل: لا أصل لهذا الحديث. وكذلك طبخ طعام جديد فيه الحبوب أو غيرها،
~~أو ادخار لحم الأضحية حتى يطبخ به يوم عاشوراء.
# كل هذا من بدع النواصب، كما أن الأول من بدع الروافض.
# وأهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الأديان، يتولون أصحاب رسول الله
~~- صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته ويعرفون حقوق الصحابة وحقوق القرابة كما
~~أمر الله بذلك ورسوله، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحاح
~~(1) من غير وجه أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين
~~يلونهم، ثم الذين يلونهم".
# وثبت عنه في الصحيحين (2) أنه قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده
~~لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
# وثبت عنه في "صحيح" مسلم (3) عن زيد بن أرقم أن رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - خطب الناس بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة، وذلك منصرفه
~~PageV05P152
# من حجة الوداع. فقال: "يا أيها الناس! إني تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب
~~الله". فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل
~~بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي". قيل لزيد بن أرقم: من أهل بيته؟ قال:
~~الذين حرموا الصدقة: آل علي، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل. قيل له: كل
~~هؤلاء من أهل بيته؟ قال: نعم.
# وهذه أمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
# والمقصود هنا أن يزيد بن معاوية الذي تولى على المسلمين بعد أبيه لم يكن
~~من الصحابة، بل ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
# ولكن عمه يزيد بن أبي سفيان من الصحابة، وهو من خيار طبقته من الصحابة،
~~لا يعرف له في الإسلام ما يذم عليه، بل هو عند المسلمين خير من أبيه أبي
~~سفيان، ومن أخيه معاوية. ولما مات يزيد بن أبي سفيان ولى عمر أخاه معاوية
~~مكانه، ثم بقي متوليا خلافة عمر وعثمان، ثم لما قتل عثمان وقعت الفتنة
~~المشهورة ms0877.
# وكان علي ومن معه أولى بالحق من معاوية ومن معه. كما ثبت في الصحيح (1)
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من
~~المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين". فمرقت الخوارج لما حصلت الفرقة، فقتلهم
~~علي وأصحابه. فدل على أنهم كانوا أولى بالحق PageV05P153
# من معاوية وأصحابه.
# ثم لما قتل علي وصالح الحسن معاوية، وسلم إليه الخلافة كان هذا من فضائل
~~الحسن التي ظهر بها ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال في
~~الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري (1) عن أبي بكرة قال: سمعت النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - يقول للحسن: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين
~~عظيمتين من المسلمين".
# ومات الحسن في أثناء ملك معاوية.
# ثم لما مات معاوية تولى ابنه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن
~~والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداق ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- حيث قال: "سيكون نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك
~~ورحمة، ثم يكون ملك عضوض" (2) .
# فكانت نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - نبوة ورحمة، وكانت خلافة
~~الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية ملكا ورحمة، وبعده
~~وقع ملك عضوض.
# وكان علي بن أبي طالب لما رجع من صفين يقول: لا تسبوا معاوية، فلو قد مات
~~معاوية لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها.
# وكان كما ذكره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. PageV05P154
# وقد روى مسلم في "صحيحه" (1) عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- أنه قال: "النجوم أمنة لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما
~~توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة
~~لأمتي فإذا ذهبت أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".
# وكان كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه لما توفي ارتد كثير من
~~الناس، بل أكثر أهل البوادي ارتدوا، وثبت على الإسلام أهل المدينة ومكة
~~والطائف، وهي أمصار الحجاز التي كان لكل مصر طاغوت يعبدونه ms0878 من الطواغيت
~~الثلاثة المذكورة في قوله: (أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة
~~الأخرى (20) ألكم الذكر وله الأنثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22)) (2) .
# فكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل المدينة، حتى أذهب
~~الله ذلك وغيره من الشرك برسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلما ارتد من ارتد
~~عن الإسلام وقع في أكثر المسلمين خوف وضعف، فأتاهم ما يوعدون، فأقام الله
~~أبا بكر الصديق رضي الله عنه وجعل فيه من الإيمان واليقين، والقوة
~~والتأييد، والعلم والشجاعة، ما ثبت الله به الإسلام، وقمع به المرتدين، حتى
~~عادوا كلهم إلى الإسلام، وقتل الله مسيلمة الكذاب المتنبي المدعي للنبوة،
~~وأقر جاحدو الزكاة بها.
# ثم شرع في قتال فارس والروم: المجوس والنصارى، ففتح PageV05P155
# الله بعض الفتوح في خلافته.
# ثم انتشرت الفتوح والمغازي في خلافة عمر بن الخطاب، ففي خلافته فتحت
~~الشام كلها، ومصر، والعراق، وبعض خراسان.
# ثم فتحت بعض المغرب وتمام خراسان وقبرص وغيرها في خلافة عثمان.
# ثم لما قتل كان المسلمون مشتغلين بالفتنة، فلم يتفرغوا لقتال الكفار وفتح
~~بلادهم، بل استطال بعض الكفار عليهم حتى احتاجوا إلى مداراتهم، وبذلوا
~~لبعضهم مالا. ولما اجتمعوا فتحوا في خلافة معاوية ما كان قد بقي من أرض
~~الشام وغيرها. وكان معاوية أول الملوك. وكانت [ولايته] ولاية ملك ورحمة.
# فلما ذهبت إمارة معاوية كثرت الفتن بين الأمة، ومات سنة ستين، وكان قد
~~مات قبله عائشة والحسن وسعد بن أبي وقاص وأبو هريرة وزيد بن ثابت وغيرهم من
~~أعيان الصحابة، ثم بعده مات ابن عمر وابن عباس وأبو سعيد وغيرهم من علماء
~~الصحابة.
# فحدث بعد الصحابة من البدع والفتن ما ظهر به مصداق ما أخبر به النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -.
# وكان المسلمون لما كانوا مجتمعين في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن
~~لأهل البدع والفجور ظهور، فلما قتل عثمان وتفرق الناس ظهر أهل البدع
~~والفجور، وحينئذ ظهرت الخوارج، فكفروا علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومن
~~والاهما حتى قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب طاعة لله ورسوله ms0879 وجهادا
~~في سبيله.
# PageV05P156
# واتفق الصحابة على قتالهم، لم يختلفوا في ذلك كما اختلفوا في الجمل
~~وصفين. وقد صح الحديث فيهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام
~~أحمد بن حنبل من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري حديثهم
~~من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) .
# وحدثت أيضا الشيعة، منهم من يفضل عليا على أبي بكر وعمر، ومنهم من يعتقد
~~أنه كان إماما معصوما نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافته، وأن
~~الخلفاء والمسلمين ظلموه، وغاليتهم يعتقدون أنه إله أو نبي، والغالية كفار
~~باتفاق المسلمين، فمن اعتقد في نبي من الأنبياء كالمسيح أنه إله، أو في أحد
~~من الصحابة كعلي بن أبي طالب، أو في أحد من المشايخ كالشيخ عدي أنه إله، أو
~~جعل فيه شيئا من خصائص الإلهية فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
# وقد عاقب علي بن أبي طالب طوائف الشيعة الثلاثة فإنه حرق الغالية الذين
~~اعتقدوا إلهيته بالنار، وطلب قتل ابن سبإ لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر
~~فهرب منه. وروي عنه أنه قال: لا أؤتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا
~~جلدته حد المفتري (2) . وقد تواتر عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها
~~أبو بكر ثم عمر (3) . ولهذا كان PageV05P157
# أصحابه الشيعة متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر عليه.
# ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت المرجئة والقدرية، ثم في أواخر عصر
~~التابعين حدثت الجهمية، فإنما ظهرت البدع والفتن لما خفيت آثار الصحابة.
~~فإنهم خير قرون هذه الأمة وأفضلها، رضي الله عنهم وأرضاهم.
# والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
# (بلغ مقابلة على الأصل، ولله الحمد) .
# PageV05P158
### | فصل في اسمه تعالى "القيوم"
# PageV05P159
# فصل
# في اسمه تعالى "القيوم"
# وقد قرأ طائفة "القيام" و"القيم"، وكلها مبالغات في القائم وزيادة. قال
~~الله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما
~~بالقسط) (2) ، (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) (3) . فهو قائم بالقسط ms0880
~~وهو العدل، وقائم على كل نفس بما كسبت، وقيامه بالقسط على كل نفس يستلزم
~~قدرته، فدل هذا الاسم على أنه قادر وأنه عادل.
# وسنبين أن عدله يستلزم الإحسان، وأن كل ما يفعله فهو إحسان للعباد ونعمة
~~عليهم. ولهذا يقول (4) عقيب ما يعدده من النعم على العباد: (فبأي آلاء
~~ربكما تكذبان (13)) ، وآلاؤه هي نعمه، وهي متضمنة لقدرته ومشيئته، كما هي
~~مستلزمة لرحمته وحكمته.
# وأيضا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين: القوة والثبات والاستقرار، ويقتضي
~~العدل والاستقامة، فالقائم ضد الواقع، كما أنه ضد الزائل، PageV05P161
# والمستقيم ضد المعوج المنحرف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)
~~: "ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء
~~أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه". (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ
~~هديتنا) (2) ، وقال: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (3) .
# ومنه تقويم السهم والصف، وهو تعديله، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~يقول: "أقيموا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" (4) .
# وكان يقوم الصف كما يقوم القدح (5) .
# ومنه الصراط المستقيم والاستقامة، وهذا من هذا، كما قال تعالى: (إن هذا
~~القرآن يهدي للتي هي أقوم) (6) من طريقة أهل التوراة.
# وما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبله] ، وإن كان
~~ذلك يهدي إلى الصراط المستقيم، لكن القرآن يهدي للتي هي أقوم. ولهذا ذكر
~~هذا بعد قوله: (وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل) (7) ، ثم
~~قال: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) . PageV05P162
# ولما كان القيام بالأمور بطريقة القرآن يقتضي شيئين: القوة والثبات، مع
~~العدل والاستقامة، جاء الأمر بذلك في مثل قوله: (كونوا قوامين بالقسط شهداء
~~لله) (1) ، و (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط) (2) .
# وقوله: (وأقيموا الشهادة لله) (3) يقتضي أنه يأتي بها تامة مستقيمة، فإن
~~الشاهد قد يضعف عن أدائها وقد يحرفها، فإذا أقامها كان ذلك لقوته
~~واستقامته.
# وكذلك إقام الصلاة يقتضي إدامتها والمحافظة عليها باطنا وظاهرا، وأن يأتي
~~بها مستقيمة معتدلة. ولما كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجل الجهاد قال: (فإذا
~~اطمأننتم فأقيموا ms0881 الصلاة) (4) ، فإن الرجل قد يصلي ولا يقيم الصلاة لنقص
~~طمأنينتها والسكينة فيها، فلا تكون صلاته ثابتة مستقرة، أو لنقص خضوعه لله
~~وإخلاصه له، فلا تكون معتدلة، فإن رأس العدل عبادة الله وحده لا شريك له،
~~كما أن رأس الظلم هو الشرك، إذ كان الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولا أظلم
~~ممن وضع العبادة في غير موضعها فعبد غير الله، فعبادة الله أصل العدل
~~والاستقامة. قال تعالى: (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد
~~وادعوه مخلصين له الدين) (5) ، فأمر بإقامة الوجه له عند كل مسجد،
~~PageV05P163
# وهو التوحيد وتوجيه الوجه إليه سبحانه، فإن توجيهه إلى غيره زيغ.
~~وبالإخلاص يكون العبد قائما، وبالشرك زائغا، كما قال: (فأقم وجهك للدين
~~حنيفا) (1) ، وقال: (فأقم وجهك للدين القيم) (2) .
# وإقامته: توجيهه إلى الله وحده، وهو أيضا إسلامه، فإن إسلام الوجه لله
~~يقتضي إخضاعه له وإخلاصه له.
# وفي القرآن إقامة الوجه، وفيه توجيهه لله وإسلامه لله، وتوجيهه وإسلامه
~~هو إقامته، وهو ضد إزاغته. فلما كانت الصلاة تضمنت هذا وهذا، وهو عبادته
~~وحده وإخلاص الدين له وتوجيه الوجه إليه، كما فيها هذا العدل، فلابد من هذا
~~ولابد من الطمأنينة فيها، وهي إنما تكون مقامة بهذا، وهذا هو الخضوع، فإن
~~الخشوع يجمع معنيين: أحدهما الذل والخضوع والتواضع، والثاني السكون
~~والثبات. ومنه قوله تعالى: (خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة) (3) ، ودوله:
~~(خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) (4) ، وهو الانخفاض والسكون. ومنه خشوع
~~الأرض، وهو سكونها وانخفاضها، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت بدل السكون،
~~وربت بدل الانخفاض.
# وقال: (كونوا قوامين بالقسط) (5) ، (قوامين لله) (6) . و"القوام"
~~PageV05P164
# هو القيام، فإن "قيام" و"قيوم" أصله قيوام وقيووم، ولكن اجتمعت الياء
~~والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما بالأخرى، لأن
~~الياء أخف من الواو. قال الفراء (1) : وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى
~~الفيعال، ويقولون للصواغ: صياغ.
# قلت: هذا إذا أرادوا الصفة، وهي ثبات المعنى للموصوف، عدلوا عن "فعال"
~~إلى "فيعال" كما في سائر الصفات المعدولة، فإن من هذا قلب المضعف حرف عينه،
~~والحروف ms0882 المختلفة أبلغ من حرف واحد مشدد. وأما إذا أرادوا الفعل فهو كما
~~قال تعالى: (كونوا قوامين بالقسط) ، ولم يقل "قيامين".
# وقد قرأ طائفة من السلف: "الحي القيام"، ولم يقرأ أحد قط: "كونوا قيامين
~~بالقسط"، لأن المقصود أمرهم أن يقوموا بالقسط، والأمر طلب فعل يحدثه
~~المأمور. بخلاف الخبر عن الموصوف بأنه صياغ، فإنه خبر عن صفة ثابتة له.
~~ولهذا جاء في أسماء الله "القيام"، ولم يجىء "القوام"، قرأ عمر بن الخطاب
~~وغير واحد "القيام"، وقرأ طائفة "القيم". قال ابن الأنباري (2) : هي كذلك
~~في مصحف ابن مسعود. ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين (3)
~~: "ولك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن". PageV05P165
# ولما كان لفظ "القيام" يتضمن القوة والثبات، وقد يتضمن مع قيام الشيء
~~بنفسه إقامته لغيره، خص لفظ "القوم" بالرجال دون النساء، فلا تسمى النساء
~~بانفرادهن "قوما"، ولكن قد يدخلن في اللفظ تبعا. قال تعالى: (لا يسخر قوم
~~من قوم ... ولا نساء من نساء) (1) ، فإنه قال: (الرجال قوامون على النساء)
~~(2) . ومنه قول الناظم:
# وما أدري وظني كل ظن
### | …
# أقوم آل حصن أم نساء (3)
# ولما كان "القيام" يقتضي الثبات -وهو ضد الزوال- قال: (ومن آياته أن تقوم
~~السماء والأرض بأمره) (4) ، وقال: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا)
~~(5) . وهو يقتضي الاعتدال مع الثبات، وهو خلقهما معتدلتين كما قال: (فسواهن
~~سبع سموات) (6) ، وقال: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (7) . والعدل لازم
~~في كل مخلوق، ومأمور به كل أحد، كما قد بسط في قوله: (الذي خلق فسوى (2))
~~(8) .
# ولما في لفظ "القيام" من العدل سمي ما يساوي المبيع: قيمة PageV05P166
# عدل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "من أعتق شركا له في عبد،
~~وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط،
~~فأعطي شركاؤه وعتق عليه العبد".
# وكذلك يسمى تعديل الحساب تقويما، فإذا جمعت حركة الشمس والقمر وغيرهما
~~السريعة والبطيئة، وأحد يعدل ذلك، سمي ذلك تعديلا وتقويما، ويسمى ما يكتب
~~فيه ذلك تقويما، كما يصنع بالمكان ms0883 إذا أخذ مغله في إقباله وإدباره، فإنه
~~يوجد معدل ذلك، ويقوم باعتبار ذلك.
# ويقال: قامت السوق، إذا حصل فيها التبايع بالتراضي الذي هو أصل العدل،
~~ولابد أن يبقى ذلك زمنا، ففي قيام السوق معنى العدل والثبات، قال الشاعر:
# أقامت سوقها عشرين عاما
# ومنه قوله تعالى: (إلا ما دمت عليه قائما) (2) ، أي يقوم عليه كما يقوم
~~القيم على ما يقوم عليه وإن كان جالسا معه. والإقامة أبلغ من القيام، فإن
~~فيها زيادة الهمزة والزيادة لزيادة المعنى، وهي تقتضي من الثبات والدوام
~~أبلغ مما يدل عليه لفظ القيام. والمقام بالمكان هي السكنى فيه واستيطانه،
~~والمقيم خلاف المسافر. PageV05P167
# ولما كان اسمه "القيوم" يتناول هذا وهذا، وهو قيوم السماوات والأرض ومقيم
~~كل مخلوق من الأعيان والصفات، دل ذلك على أن كل مخلوق له نصيب من القيام،
~~فهو قائم بالقيم الذي أقامه، كما أن له قدرا بالخلق، فإن اسمه "الخالق"
~~يقتضي الإبداع والتقدير، فقال: (إنا كل شيء خلقناه بقدر (49)) (1) ، وقال:
~~(قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)) (2) .
# وإذا كان لكل شيء مخلوق قيام وقدر، دل ذلك على
### | فساد قول من أثبت الجوهر الفرد،
# ومن قال: العرض لا يبقى زمانين.
# فإن الذين يقولون بالجوهر الفرد يثبتون شيئا لا تتميز يمينه عن يساره،
~~ولا يعرف بالحس، وهو ممتنع وجوده، فإن وجود ما لا يتميز منه جانب عن جانب
~~ممتنع، وإنما يفرضونه في الذهن.
# وعلى قولهم لا قدر له، والله تعالى قد جعل لكل شيء قدرا، فما لا قدر له
~~لم يخلق، بل هو ممتنع.
# وما يفرضه أهل الهندسة من نقطة مجردة وخط مجرد وسطح مجرد، هي أمور مقدرة
~~في الأذهان واللسان، لا توجد مجردة في الخارج، بل لا توجد إلا نقطة معينة
~~مثل نقطة الماء والحبر ونحو ذلك مما يتميز منه جانب عن جانب، لقوله تعالى:
~~(قد جعل الله لكل شيء قدرا (3)) ، وقوله: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا (2))
~~(3) . PageV05P168
# والله سبحانه خالق الموجودات العينية ومعلم الصور الذهنية، وأول ما نزل:
~~(اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق ms0884 (2) اقرأ وربك الأكرم (3)
~~الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)) (1) .
# ومن الناس من يقول: المعدوم شيء ثابت في الخارج، وليس بمخلوق، بل ثبوته
~~قديم. وآخرون يقولون: الماهيات غير مجعولة.
# وهؤلاء وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، فأخرجوا بعض
~~مخلوقاته عن أن تكون مخلوقة له.
# وتحقيق الأمر أن كل ما يقدر فإما أن يكون ثابتا في الأعيان والموجود
~~الخارج، أو في العلم والوجود الذهني، وهو سبحانه خالق هذا ومعلم هذا، فلا
~~يخرج شيء أصلا عن تخليقه وتعليمه، بل هو الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وقال:
~~(ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)) (2) . فهو خالق كل شيء
~~وقيومه، وكل ما أقامه القيوم فله قيام، والحركة وإن وجدت شيئا فشيئا فلابد
~~لها من لبث، لا يتصور أن تعدم قبل أن تلبث زمنا من الأزمان، وقيوم السماوات
~~هو الخالق الذي يبدعه ويجعل له ذلك القدر، فجعل للأعيان قدرا، وللحركات
~~قدرا، ولزمانها قدرا، وبعض ذلك يطابق بعضا، فإن الزمان مساوق للحركة،
~~والحركة هي مبدأ الأحداث. قال تعالى: (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار
~~ويولج النهار في الليل) (3) ، PageV05P169
# والإيلاج هو بسبب الحركة الحولية، كما أن اختلاف الليل والنهار وتكوير
~~الليل على النهار وتكوير النهار على الليل هو بسبب الحركة اليومية.
# وهو سبحانه (فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي)
~~(1) ، وهو (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا) (2) .
# فذكر أنه فالق الإصباح بعد ذكره فلق الحب والنوى، فإنه بسبب فلقه الإصباح
~~وجعل الليل والنهار يتم ما يخلقه وينمو ويحصل مصلحته، ثم ذلك يحصل بتسخير
~~الشمس والقمر وجعلهما بحساب على وفق العدل في الحكمة، لا يتقدم شيء على
~~وقته ولا يتأخر شيء عن أجله، وهو سبحانه يسوق المقادير إلى المواقيت.
# واستحالة الأجسام بعضها إلى بعض معلوم بالمشاهدة، وهو مما تطابق عليه أهل
~~الطبائع والشرائع وأهل العادات، والأطباء يعرفون استحالة الأجسام بعضها إلى
~~بعض، وغيرهم. وكذلك الفقهاء تكلموا في استحالة الطاهر إلى النجس، واستحالة
~~النجس إلى الطاهر، وفي الماء والمائع ms0885 إذا خالطته النجاسة هل يستحيل أم لا؟
# والذين أنكروا ذلك وقالوا بالجوهر الفرد زعموا أن كل ما شهد العباد أن
~~الله يخلقه من سحاب ونبات ومطر وإنسان وحيوان، فإن الله -فيما زعموا-[لم]
~~يبدع تلك الأعيان والجواهر القائمة بأنفسها، PageV05P170
# وإنما يحدث أعراضا، وهو تركيب الجواهر بعضها مع بعض، ثم زعموا أن الجواهر
~~إنما يعلم أنه خلقها بالاستدلال، وهو أنها لا تخلو من الأعراض الحادثة، وما
~~لا يخلو إذن فهو حادث. وعلى هذا اعتمدوا في خلق الله للعالم وفي إثبات
~~الصانع، وجعلوا ذلك أصل دين المسلمين، ثم التزموا لوازم من إنكار الصفات أو
~~بعضها، ومن إنكار الرؤية، والقول بخلق القرآن، وغير ذلك.
# فتسلط عليهم السلف والأئمة وعلماء السنة بالتبديع والتكفير مع التجهيل
~~والتضليل، وتسلط عليهم طوائف العقلاء الذين فهموا كلامهم بالتجهيل
~~والتضليل، وخالفوا الحس والعقل والشرع الذي هو خبر الصادق، وهذه الثلاثة هي
~~مدارك العلم عندهم وعند غيرهم، كما ذكروا ذلك في أول كتبهم.
# أما مخالفة الحس فقولهم: إن الله لم يبدع عين الإنسان والحيوان، ولا عين
~~الثمار والمطر والسحاب، وإنما أحدث تأليفا. وعلى قولهم تلك الجواهر التي
~~كانت في بني آدم باقية بأعيانها في كل واحد من ولده، ومعلوم أن هذا غير
~~ممكن، فإن مني الرجل الواحد لا يحتمل أن ينقسم أقساما بعدد كل من ولد من
~~الآدميين. وكذلك عندهم أن كل بني الآدميين فيه جزء من بني نوح، لأنه عندهم
~~لم يبدع الله عينا، بل نفس مني الأب فيه الجواهر، ركبها تركيبا آخر، وضم
~~إليها جواهر أخر.
# وأما مخالفة العقل فإثبات الجوهر الفرد إثبات شيء موجود لا يتميز منه شيء
~~عن شيء، فإذا وضع جوهر بين جوهرين، فإن كان
# PageV05P171
# الذي يماس هذا الجانب فقد التقى الجوهران، وإن كان غيره فقد ثبت
~~الانقسام.
# وأيضا فنحن نشاهد الهواء يستحيل ماء إذا وضع في الزجاج، ونحوه ثلج صار
~~عليه ماء يقطر، ومعلوم أن الثلج لم يثقب الزجاج، بل الهواء الذي أحاط به
~~برد فاستحال ماء، كما يحيل الله سحابا وماء. هذا مشهود ms0886، يكون الإنسان على
~~حيد، فيرى البخار قد صعد من البحار فانعقد سحابا، وينظر تحته وهو أعلى منه
~~في الشمس على رأس الجبل. وكذلك الهواء يستحيل نارا، فإذا قرب ذبالة المصباح
~~إلى النار أوقد، مع أنه لم يخرج من تلك النار شيء، ولكن الهواء المحيط
~~بالذبالة استحال نارا لما سخن سخونة شديدة. فالهواء يبرد فيستحيل ماء،
~~ويسخن فيستحيل نارا.
# وكذلك ما يقدح النار، قال تعالى: (فالموريات قدحا (2)) (1) ، وقال:
~~(أفرأيتم النار التي تورون (71)) (2) الآيات، وقال تعالى: (الذي جعل لكم من
~~الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)) (3) . والعرب يقولون: "في كل
~~شجر نار، واستمجد المرخ والعفار" (4) ، يأخذون عودين أخضرين يحكون أحدهما
~~بالآخر حتى يسخن، فإن الحركة PageV05P172
# توجب السخونة، والسخونة تحصل بالحركة وبالنار وبالشعاع، فإذا سخن انقدح
~~منه نار باستحالة بعض تلك الأجزاء نارا، وما كان هناك قبل هذا نار، بل
~~سبحانه يحدث النار عند باقية بعينها، وهي جوهر يقوم بها الصورة كما يقوله
~~من يقول ذلك من المتفلسفة، فقوله خطأ، بل المادة استحالت فخلق منها شيء
~~آخر، والأولى هلكت وأعدمها الله على هذا الوجه، كما أوجد ما خلق منها على
~~هذا الوجه. وقد بسط الكلام على هذا في موضع آخر.
# والمقصود الكلام على اسمه "القيوم"، والتنبيه على بعض ما دل عليه من
~~المعارف والعلوم، فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض، لو أخذته سنة أو نوم
~~لهلكت السماوات والأرض. والمخلوق ليس له من نفسه شيء، بل الرب أبدع ذاته،
~~فلا قوام لذاته بدون الرب، والمخلوق بذاته فقير إلى خالقه، كما أن الخالق
~~بذاته غني عن المخلوق، فهو الأجل الصمد، والمخلوق لا يكون إلا فقيرا إليه،
~~والخالق لا يكون إلا غنيا عن المخلوق، وغناه من لوازم ذاته، كما أن فقر
~~المخلوق إلى خالقه من لوازم ذاته. وهذا المعنى مما يتعلق بقول الله: (الله
~~لا إله إلا هو الحي القيوم (2)) تعلقا قويا.
# والناس يشهدون إحداثه لمخلوقات كثيرة وإفناءه لمخلوقات كثيرة، وهو سبحانه
~~يحدث ما يحدثه من إرادة يحيلها ويعدمها إلى شيء آخر، ويفني ما يفنيه
~~بإحالته ms0887 إلى شيء آخر، كما يفني الميت بأن يصير ترابا.
# وعلى هذا تترتب مسائل المعاد، فإن الكلام على النشأة الثانية فرع عن
~~النشأة الأولى، فمن لم يتصور الأولى فكيف يعلم الثانية؟
# PageV05P173
# قال تعالى: (أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59)
~~نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم
~~في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون (62)) (1) .
~~فهؤلاء غلطوا في معرفة النشأة الأولى، فكانوا في معرفة النشأة الثانية
~~أغلط، كما قد ذكر هذا في غير هذا الموضع.
# وكان غلطهم لأنهم ظنوا أن الله يفني العالم كله ولا يبقى موجود إلا الله،
~~كما قالوا: إنه لم يكن موجود إلا هو، فقطعوا بعدم كل ما سوى الله. ثم
~~اختلفوا، فقال الجهم: إنه يفني العالم كله، وإنه وإن أعاده فإنه يفني الجنة
~~والنار، فلا يبقى جنة ولا نار، لأن ذلك يستلزم دوام الحوادث، وذلك عند
~~الجهم ممتنع بنهاية وبداية في الماضي والمستقبل. وقال الأكثرون منهم: بل هو
~~إذا أعدم العالم بالكلية فإنه يعيده ولا يفنيه ثانيا، بل الجنة باقية أبدا،
~~وفي النار قولان (2) .
# وهؤلاء قطعوا بإفناء العالم، وللنظار فيه ثلاثة أقوال:
# أحدها: القطع بإفنائه.
# والثاني: التوقف في ذلك، وأنه جائز، لكن لا يقطع بوجوده ولا عدمه.
# والثالث: القطع بأنه لا يفنيه. وهذا هو الصحيح، والقرآن يدل على أن
~~العالم يستحيل من حال إلى حال، فتنشق السماء فتصير PageV05P174
# وردة كالدهان (1) ، وتسير الجبال (2) وتبس بسا (3) ، وتدك الأرض (4) ،
~~وتسجر البحار (5) ، وتنكدر النجوم (6) وتتناثر (7) ، وغير ذلك مما أخبر
~~الله به في القرآن، لم يخبر بأنه يعدم كل شيء، بل أخباره المستفيضة بأنه لا
~~يعدم الموجودات.
# فقوله: (كل من عليها فان (26)) (8) أخبر فيه بفناء من على الأرض فقط،
~~والفناء يراد به الموت ولا يراد به عدم ذواتهم، فإن الناس إذا ماتوا صارت
~~أرواحهم إلى حيث شاء الله من نعيم وعذاب، وأبدانهم في القبور وغيرها، منها
~~البالي وهو الأكثر، ومنها ما لا يبلى كأبدان الأنبياء (9) ، والذي يبلى
~~يبقى منه عجب الذنب، منه بدأ الخلق ms0888 ومنه يركب (10) . فهؤلاء لما قالوا: إنه
~~يفني جميع العالم وإن ذلك واقع وممكن، احتاجوا إلى تلك الأقوال الفاسدة،
~~وإلا فالفناء الذي أخبر به القرآن هو الفناء المشهود بالاستحالة إلى مادة،
~~كما كان الإحداث PageV05P175
# بالحق من مادة.
# فاسمه سبحانه "القيوم" يقتضي الدوام والثبات والقوة، ويقتضي الاعتدال
~~والاستقامة، وقد وصف نفسه بأنه قائم بالقسط (1) ، وأنه على صراط مستقيم (2)
~~. ومنه قوله: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (4)) (3) ، ومنه قامة
~~الإنسان وهو اعتداله، ومنه قيام الإنسان، فإنه يتضمن الاعتدال مع كمال
~~وطمأنينة، ومنه قول الشاعر (4) :
# أقيمي أم زنباع أقيمي
### | …
# صدور العيس شطر بني تميم
# فإنه أراد: وجهي صدور العيس نحو بني تميم. والعيس هي الإبل التي تركب
~~ويحمل عليها، ويقال: الإبل العيس، جمع عيساء. PageV05P176
### | فصل في معنى "الحنيف"
# PageV05P177
# فصل
# في معنى"الحنيف"
# فإن هذا الاسم قد تكرر في القرآن، وقد فرض الله على الناس أن يكونوا
~~حنفاء، فرضه الله على أهل الكتاب ثم على أمة محمد، وأوجب عليه وعليهم أن
~~يتبعوا ملة إبراهيم حنيفا، فقال تعالى في أهل الكتاب: (وما أمروا إلا
~~ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين
~~القيمة (5)) (1) ، وهذا أمر لجميع الخلق من
# المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
# وقال تعالى: (قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)) (2)
~~وقال عن إبراهيم: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما
~~وما كان من المشركين (67)) (3) ، وقال تعالى: (قل صدق الله فاتبعوا ملة
~~إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)) (4) ، وقال تعالى: (ومن أحسن دينا
~~ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا) (5) ، وقال تعالى:
~~(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا
~~PageV05P179
# وما كان من المشركين (161) (1) ، وقال: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله
~~حنيفا ولم يك من المشركين (120)) (2) ، وقال تعالى: (فاجتنبوا الرجس من
~~الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به) (3) ، وقال
# تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
~~لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن ms0889 أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين إليه
~~واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31)) (4) .
# والقرآن كله يدل على أن الحنيفية هي ملة إبراهيم، وأنها عبادة الله وحده
~~والبراءة من الشرك. وعبادته سبحانه إنما تكون بما أمر به وشرعه، وذلك يدخل
~~في الحنيفية. ولا يدخل فيها ما ابتدع من العبادات، كما ابتدع اليهود
~~والنصارى عبادات لم يأمر بها الأنبياء، فإن موسى وعيسى وغيرهما من أنبياء
~~بني إسرائيل ومن اتبعهم كانوا حنفاء بخلاف من بدل دينهم فإنه خارج عن
~~الحنيفية. وقد أمر الله أهل الكتاب وغيرهم أن يعبدوه مخلصين له الدين
~~حنفاء، فبدلوا وتصرفوا من بعد ما جاءتهم البينة.
# وكلام السلف وأهل اللغة يدل على هذا وإن تنوعت عباراتهم.
# روى ابن أبي حاتم (5) بإسناده المعروف عن عثمان بن عطاء PageV05P180
# الخراساني عن أبيه في قوله: (حنيفا مسلما) قال: مخلصا مسلما.
# قال: وروي عن مقاتل بن حيان مثل ذلك. وقال خصيف:
# الحنيف المخلص.
# وذكر ذلك الثعلبي وغيره عن مقاتل بن سليمان بإسناده عن أبي قتيبة البصري
~~نعيم بن ثابت عن أبي قلابة قال: الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم.
# وقال محمد بن كعب: الحنيف المستقيم.
# وبإسناده المعروف عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: (حنيفا)
~~قال: متبعا، وقال: الحنيفية اتباع إبراهيم.
# وذكره طائفة من المفسرين عن مجاهد، وروي نحو ذلك عن الربيع ابن أنس.
# قال مجاهد: هو اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما
~~للناس.
# وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: (حنيفا) قال: حاجا.
# وقال ابن أبي حاتم: وروي عن الحسن والضحاك وعطية والسدي نحو ذلك.
# ونقل طائفة عن الضحاك أنه قال: إذا كان مع الحنيف المسلم فهو الحاج، وإذا
~~لم يكن معه فهو المسلم. PageV05P181
# وذكر الثعلبي ومن اتبعه كالبغوي (1) وغيره عن ابن عباس قال: الحنيف
~~المائل عن الأديان إلى دين الإسلام. قالوا: وأصله من حنف الرجل، وهو ميل
~~وعوج في القدم، ومنه قيل للأحنف بن قيس ذلك، لأنه كان أحنف القدم.
# قلت: والحج داخل في الحنيفية من حين ms0890 أوجبه الله على لسان محمد، فلا تتم
~~الحنيفية إلا به، وهو من ملة إبراهيم، وما زال مشروعا من عهد إبراهيم، فحجه
~~الأنبياء موسى ويونس وغيرهما، وما زال مشروعا من أول الإسلام، وإنما فرض
~~بالمدينة في آخر الأمر بالاتفاق. والصواب أنه فرض سنة عشر أو تسع، وقيل:
~~سنة ست، والأول أصح.
# والله أمر محمدا وأمته أن يكونوا حنفاء، فقال في النحل (2) -وهي مكية-:
~~(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) ، فكان الحج إذ ذاك داخلا في
~~الحنيفية على سبيل الاستحباب والتمام، لا على سبيل الوجوب. وأمر الله أهل
~~الكتاب أن يكونوا حنفاء، ولم يكن الحج مفروضا عليهم، بل كان مستحبا.
# ومثل هذا ما رواه ابن أبي حاتم (3) عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال:
~~الحنيف الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى حجه عليه واجبا إن استطاع إليه
~~سبيلا. PageV05P182
# فهذا تفسيره للحنيف بعد أن حولت القبلة إلى الكعبة وأمر الناس باستقبالها
~~وبعد أن فرض الحج، وإلا فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه
~~وهم بمكة حنفاء وهم يصلون إلى بيت المقدس لما كانوا مأمورين بذلك، وإنما
~~أمروا باستقبالها بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة. وكذلك موسى ومن
~~اتبعه والمسيح ومن اتبعه كانوا حنفاء أيضا، وكانوا يصلون إلى بيت المقدس.
# وروى ابن أبي حاتم (1) وغيره من التفسير الثابت عن قتادة تفسير ابن أبي
~~عروبة عنه قال: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله، يدخل فيها تحريم
~~الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وما حرم الله والختان، وكانت
~~حنيفية في الشرك، وكانوا يحرمون في شركهم الأمهات وما تقدم من القرابات،
~~وكانوا يحجون البيت وينسكون المناسك.
# فذكر قتادة أنها التوحيد واتباع ملة إبراهيم بتحريم ما حرم الله والختان،
~~وأنهم في شركهم كانوا ينتحلون الحنيفية، فيحرمون ذوات المحارم ويحجون
~~ويختتنون، وهذا مما تمسكوا به من دين إبراهيم مع شركهم الذي فارقوا به أصل
~~الحنيفية، لكن كانوا ينتحلونها.
# وكان هذا فارقا بينهم وبين المجوس ومن لا يحرم ذوات المحارم، وبين
~~النصارى ومن لا يرى الختان ms0891، وبين سائر أهل الملل ممن لا يرى حج البيت. فإن
~~الحج كان من الحنيفية، لكن كان من مستحباتها PageV05P183
# لا من واجباتها.
# وكذلك قال أبو الحسن الأخفش (1) : الحنيف المسلم، وقال غيره: إذا ذكر مع
~~الحنيف المسلم فهو الحاج. قال أبو الحسن الأخفش: وكانوا في الجاهلية يقولون
~~لمن اختتن وحج حنيفا، لأن العرب لم تتمسك بشيء من دين إبراهيم غير الختان
~~والحج، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية. وقال الأصمعي: من عدل عن دين
~~اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب.
# قلت: ولهذا يوجد في كتب بعض أهل الكتاب من النصارى وغيرهم وفي كلامهم
~~معاداة الحنيف، وهم هؤلاء العرب الذين كانوا يحجون ويختتنون وهم مشركون،
~~فإن النصارى لا يحجون ولا يختتنون ولا يتعبدون بالختان، بل أكثرهم ينهى
~~عنه، وفيهم من يختتن.
# وفي كلام طائفة ممن ينقل المقالات والأديان المقابلة بين الصابئين
~~والحنفاء، وهذا يتناول الحنيفية المحضة ملة إبراهيم ومن اتبعه من الأنبياء
~~وأممهم، فإنهم كانوا يعبدون الله وحده، بخلاف الصابئين المشركين.
# والصابئون نوعان: صابئون حنفاء، وهم الذين أثنى عليهم القرآن، وصابئون
~~مشركون. وأما المجوس وسائر أنواع المشركين فليسوا حنفاء. PageV05P184
# وقد ذكر طائفة في الكلام والمقالات -مثل أبي بكر ابن فورك وغيره- أن
~~الذين ادعوا النبوة من الفرس مثل زردشت ومزدك وبهافريد (1) كانوا ينتحلون
~~ملة إبراهيم ويزعمون أنهم يدعون إلى دينه.
# قال ابن فورك في مصنف له لما تكلم على إثبات النبوات والرد على من أنكرها
~~من البراهمة حكماء الهند، وذكر ما ذكره غيره من أهل الكلام والمقالات، قال:
~~إن البراهمة صنفان: صنف أنكروا الرسل أجمعين، وصنف أقروا بنبوات بعضهم،
~~فمنهم من أقر بنبوة إبراهيم وجحد من كان بعده.
# قال: فإن قال قائل: قد دللت على جواز بعثة الرسل، فما الدليل على أن
~~الأنبياء الذين بعثهم الله إلى خلقه من ذكرتم دون غيرهم؟
# قيل له: الدليل على ذلك أنه قد نقل إلينا من الجهات المختلفات التي لا
~~يجوز على ناقليها الكذب أنهم أتوا بمعجزات تخرج عن عادة الخلق، مثل: فلق
~~البحر، وقلب العصا حية، وإحياء ms0892 الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وانشقاق
~~القمر، ولم ينقل لغيرهم من المعجزات ممن ادعى النبوة كما نقل لهم، فدل ذلك
~~على أنهم هم الأنبياء دون غيرهم ممن ادعى النبوة ولم يكن لهم معجزة تدل على
~~صدقهم.
# قال: ومما يدل على صدقهم أنا وجدنا كل واحد منهم في زمانه قد منع الناس
~~عن الشهوات واتباع الهوى، وقبض على أيديهم، وحال بينهم وبين مرادهم، وما
~~سرت إليه أنفسهم، ثم مع ذلك كلفوهم PageV05P185
# البراءة من الآباء والأبناء والأقارب، ونبذ أهاليهم وراء ظهورهم، وبذل
~~أموالهم، وخفض الجناح لهم، والائتمار لأمورهم، والجري تحت أحكامهم. وكل هذه
~~الأحوال مما ينفر عنها البشر وتفر وتمل من تكلفهم، فلولا أنهم صادقون فيما
~~ادعوه، وصححوا دعواهم بمعجزات ظاهرة وبراهين بينة تخرج ذلك عن حيل
~~المحتالين ومخرقة الممخرقين، لما كان يوجب ظاهر فعلهم قبوله.
# ولو كان الخلق مكرهين في حياة واحد منهم لنفاذ أمره وقوته وغلبته لكانوا
~~من بعد موته ومفارقته هذا العالم يرجعون إلى ما شاءوا عليه، كما يرجع
~~الملوك في الدنيا. فلما وجدنا الخلق جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن يزدادون في
~~كل يوم لهم محبة وطاعة وولوعا بهم وجزعا على ما فاتهم منهم من الرؤية
~~والصحبة= دل ذلك على أنهم كانوا أنبياء من قبل الله، صححوا دعواهم بمعجزات
~~ظاهرة، وبراهين باهرة نيرة، وأخذوا قلوب الخلق -العالم والجاهل- بذلك.
# قال: فإن قال قائل: قد وجدنا من المفترين المدعين قد ظهروا في العالم،
~~وصار لهم أتباع مثل أتباع الأنبياء، قلنا لهم: من هم؟
# فلا يتهيأ أن يسموا أحدا له تبع ورسم قائم غير زردشت ومزدك وماني
~~وبهافريد.
# قلنا له: زردشت ومزدك وبهافريد فإن ثلاثتهم ادعوا في زمانهم أن كل واحد
~~في زمانه هو المستقيم على دين إبراهيم، ولم يدع واحد منهم خلافا عليه أي
~~على إبراهيم. فبريحه والانتساب إليه اجتمع له الأتباع والأصحاب، لا
~~بسياستهم وسلطانهم، وإنهم لم يشرعوا دينا، بل ادعى كل واحد منهم في زمانه
~~أن شريعة إبراهيم
# PageV05P186
# هي ما كل واحد منهم عليه، يزاد فيه وينقص منه ms0893 لطول الزمان الذي أتى عليه،
~~وكل واحد منهم ترجم في كتابه في زمانه لقومه وأتباعه على لسانهم.
# قال: وأما ماني فإنه ادعى أنه من تلاميذ المسيح المستقيم الجاري على
~~منهاج إبراهيم، وأن غيره من النصارى قد زاغوا عن طريقه، وأن الإنجيل المنزل
~~على عيسى هو الذي عنده، وادعى أنه حين ارتقى إلى السماء أرقي إلى عيسى،
~~وأنه بأمره عمل ما عمل وأسس ما أسس، فبريح المسيح تروح له ما تروح، وتبعه
~~من تبعه، لا برأيه.
# قلت: و
### | المشركون أعداء إبراهيم
# الذين يبغضونه ويحبون عدوه النمرود موجودون إلى اليوم من مشركي الترك
~~والصين ونحوهم، يصورون الأصنام على صورة النمرود كبارا وصغارا، وفيها ما هو
~~كبير جدا، ويعبدون تلك الأصنام ويسبحون باسم النمرود، ومعهم مسابح يسبحون
~~بها: سبحان النمرود! سبحان النمرود!
# وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه هو الذي جعله إماما لمن بعده من الناس،
~~فلا يوجد قط مؤمن ولا منافق يظهر الإيمان إلا وهو معظم لإبراهيم. وإن كان
~~فيهم من يكذب بكثير مما كان عليه إبراهيم. وقد جعل الله في ذريته النبوة
~~والكتاب، فالأنبياء بعده من ذريته، فلا يوجد من يؤمن بالأنبياء إلا وهو
~~مؤمن بإبراهيم، ولا من يدعو إلى عبادة الله في الجملة وينهى عن الشرك إلا
~~وهو معظم لإبراهيم.
# وإن كان فيهم من هو مكذب بكثير مما كان عليه إبراهيم، ومكذب ببعض
~~الأنبياء والرسل= فإبراهيم بريء منه، ومن ذريته محسن وظالم لنفسه مبين، كما
~~كان مشركو العرب، وكما يوجد عليه أهل الكتاب،
# PageV05P187
# فإنه حين بعث إبراهيم كان الشرك قد طبق الأرض، وامتلأت بعبادة الكواكب
~~العلوية والأصنام السفلية، فأظهر التوحيد ودعا إليه، وعادى الشرك وأهله،
~~ونصره الله على قومه.
# والقرآن في غير موضع بين أنه كان حنيفا، وجعل الحنيفية صفته، حتى إن لفظ
~~"حنيف" ينصب على الحال من المضاف إليه، كقوله: (قل بل ملة إبراهيم حنيفا)
~~(1) و (أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) (2) ، وهذا منصوب على الحال، والكوفيون
~~يسمونه نصبا على القطع، لكونه لم يكن صفة في اللفظ فقطع، وهو معنى قول ms0894
~~البصريين إنه منصوب على الحال.
# وقد قال بعض النحويين: انتصاب الحال على المضاف إليه لا يجوز حتى يكون
~~المضاف والمضاف إليه بمنزلة شيء واحد، كقوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
~~ميتا) (3) هو حال من الأخ، لأنه واللحم شيء واحد. وقوله: (قل بل ملة
~~إبراهيم حنيفا) كذلك، لأن الملة بمنزلة البعض منه، كقول عدي بن حاتم (4)
~~-لما أتاه يعرض عليه الإسلام-: "إني على ديني"، كأنه قال هجنة منه. ولهذا
~~يجوز لك أن تقول: "أعمى زيد علمه ودينه" فتجعلهما بدلا من زيد.
# (آخر ما وجد. والله أعلم) . PageV05P188
### | مسألة
# فيما إذا كان في العبد محبة
# لما هو خير وحق ومحمود في نفسه
# PageV05P189
# بسم الله الرحمن الرحيم
# فصل
# فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه، فهو يفعله
~~لما فيه من المحبة له، لا لله، ولا لغيره من الشركاء، مثل أن يحب الإحسان
~~إلى ذوي الحاجات، ويحب العفو عن أهل الجنايات، ويحب العلم والمعرفة وإدراك
~~الحقائق، ويحب الصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم، فإن هذا
~~كثير غالب في الخلق في جاهليتهم وإسلامهم، في قوتي النفس العلمية والعملية،
~~فإن أكثر طلاب العلم يطلبونه محبة، ولهذا قال أبو داود للإمام أحمد بن
~~حنبل: طلبت هذا العلم -أو قال-: جمعته لله؟ فقال: لله عزيز، ولكن حبب إلي
~~أمر ففعلته.
# وهذا حال أكثر النفوس، فإن الله خلق فيها محبة للمعرفة والعلم وإدراك
~~الحقائق، وقد يخلق فيها محبة للصدق والعدل والوفاء بالعهد، ويخلق فيها محبة
~~للإحسان والرحمة للناس، فهو يفعل هذه الأمور: لا يتقرب بها إلى أحد من
~~الخلق، ولا يطلب مدح أحد ولا خوفا من ذمه، بل لأن هذه الإدراكات والحركات
~~يتنعم بها الحي ويلتذ بها، ويجد بها فرحا وسرورا، كما يلتذ بمجرد سماع
~~الأصوات الحسنة، وبمجرد رؤية الأشياء البهجة، وبمجرد الرائحة الطيبة.
# PageV05P191
# وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعم بمعرفة نفسه للأشياء التي تعرف بالباطن، ويلتذ
~~أيضا بشهود باطنه وإحساسه، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه، وكذلك يلتذ بما
~~تعقله نفسه من الأمور الكلية ms0895 التي تعقلها، وكذلك في أفعاله وحركاته، كما
~~يلتذ بأكله وشربه ونكاحه، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من
~~أقاربه وغير أقاربه، ويلتذ بالجود والإعطاء، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه
~~وترك معاقبة المسيء، كما يذكر عن المأمون أنه قال: لقد حبب إلي العفو حتى
~~إني أخاف ألا أثاب عليه.
# فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم، كما كانت تكون في أهل البادية،
~~فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعم به الحي ويتنفع به ويلتذ في الحال.
# ولا يقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب
~~منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع،
~~ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات،
~~ويستجلب لها بها لذات.
# ولهذا يقال: اشتفت نفسه، وشفيت صدري، فيجد شفاء في صدره، كما يجد شفاء في
~~جسمه بزوال المرض وحصول العافية.
# وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر، وهي التي أدرك حسنها من قال: إن العقل
~~يقبح ويحسن، ومن قال: إن العلم بحسنها لصفة قائمة بها معقولة: إما بالبديهة
~~وإما بالنظر، أو معلومة بالشرع.
# PageV05P192
# ولقد صدق في قوله: إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها، وصدق أن ذلك قد يدرك
~~بالعقل، وقد يدرك بالشرع.
# وقد غلط الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع
~~مضرة راجعة إلى نفسه، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضا، فإن ذلك أمر
~~محسوس.
# والثاني غلط حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل، وأن الحسن والقبح ليس
~~إلا مجرد إضافة الفعل إلى الأمر والنهي، فأصاب بعض الإصابة في كونه جعل ذلك
~~من الملاءمة للطبع والمنافرة عنه، ومن باب كمال المتصف بذلك ونقصه، ولكن
~~غلط في ظنه أن الحسن والقبح العقليين صادرين (1) عن ذلك، ولم يغلط كل
~~الغلط، فإن الحسن والقبح الذي يدرك بالحس وبالعقل وبالشرع، وبالبصر والنظر
~~والخبر، بالمشهور الظاهر وبالباطن، وبالمعقول القياسي وبالأمر الشرعي= هو
~~في الأصل من جنس ms0896 واحد، فإن كلا يعلم بذلك ويثبت به ما لا يعلم بالآخر ويثبت
~~به.
# وهذه الطرق الثلاثة: السمع، والبصر، والعقل، هي طرق العلم: فالبصر -وهو
~~المشهود الباطن والظاهر- يدرك ما في هذه الحركات والإرادات من الملاءمة
~~والمنافرة، والمنفعة والمضرة العاجلة.
# والسمع -وهو وحي الله وتنزيله- يخبر بما يقصر الشهود عن إدراكه من منفعة
~~ذلك ومضرته في الدار الآخرة. PageV05P193
# ف
### | تمام الدين بالفطرة وتقديرها، لا بتحويلها وتغييرها،
# فإن كل مولود يولد على الفطرة، والله خلق عباده حنفاء فاجتالتهم الشياطين
~~وحرمت عليهم ما أحل الله لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا.
~~هكذا أخبرنا الله فيما روى عنه رسوله في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم (1)
~~.
# فهم بفطرتهم يحبون الله وحده ويحبون تناول ما يحتاجون إليه من الطيبات،
~~والمحبة تتبع الشهود والإحساس، فهذا الذي في فطرهم من الحس والحركة إلى
~~عبادة خالقهم مما يعينهم عليها من طيبات الرزق، هو وجه الحسن الثابت
~~بالأفعال الحسنة: مأمورها ومباحها، فإن ذلك كله حسن، لما فيه من هذه
~~الملاءمة المناسبة والمحبة التي فطروا عليها، فما كان من ذلك مشهودا في
~~عالم الشهادة أدرك بالشهود والإحساس، وما كان غيبا أدرك بالسمع الذي جاء به
~~المرسلون.
# والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع، فلابد من أن يعقل ما أمر الله به
~~وأخبر، كما لابد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا، فيعقل الشهادة والغيب، بمعنى ضبط
~~العلم بجريان ذلك على وجه كلي ثابت في النفس.
# لكن زعم أولئك أن العقل يدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءمة باطل، كما
~~أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا PageV05P194
# ملاءمة فيه باطل، فأولئك إنما نفوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من
~~جنس ما عقلوه في البشر، وأنكروا الملاءمة في حقه والمنافرة.
# وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعا محضا مبنيا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة
~~ولا منافرة، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة،
~~وبغضه للمسيئين بها، وهذا هو المعنى الذي يعبرون عنه في حقنا: الملاءمة
~~والمنافرة ms0897، وإنما أتوا من جهة ما فيهم من نوع تجهم (1) .
# ولهذا أنكر أولئك -مع إنكارهم لهذه الصفات- أنكروا القدر، وهو عموم قدرته
~~ومشيئته وخلقه، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي
~~انطوى عليها الأمر والنهي، وأنكروا أيضا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة
~~والرحمة.
# فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق، ولكن قصروا في إثبات الرحمة
~~والحكمة والعدل، وأولئك أثبتوا شيئا من الحكمة والعدل، ولكن قصروا في ذلك
~~أيضا، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق، وإن كان كل من الفريقين لا
~~ينكر أمر الشرع ونهيه.
# لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي،
~~وقالوا: هذا يخالف الحكمة المعقولة، كما فعل إبليس وذووه. وغلاة هؤلاء
~~دفعوا أيضا الأمر والنهي وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، كما قال
~~المشركون. وإبليس أغلظ كفرا، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة
~~والجماعة. PageV05P195
# وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف، والتي تبغضها
~~هي المنكر، فإن المعروف هو إحساس مع محبة، والإنكار إحساس مع بغضة. فأما ما
~~لم يحس بحال فلا يعرف ولا ينكر، وما لا يحب ولا يبغض بحال فلا يعرف ولا
~~ينكر. وإذا حدث الرجل بحديث فأنكره لجهله فإنه أنكر ما لا أحبه سمعه، وكذلك
~~الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه، فإذا
~~سمعوا بذلك أنكروه بعد إحساسه.
# والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذموما بل محمودا، ومن فعل
~~هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذموما ولا معاقبا، ولا يقال إن هذا
~~عمله لغير الله، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك، فذاك هو الشرك المذموم.
~~وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضا متقربا بها إلى
~~الله، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده، بل قد يثيبه عليها بأنواع من
~~الثواب: إما بزيادة فيها في أمثالها، فيتنعم بذلك في الدنيا، ولهذا كان
~~الكافر يجزى على حسناته في الدنيا وإن لم يتقرب بها إلى الله، ولو كان فعل
~~كل ms0898 حسن إذا لم يفعل لله مذموما يستحق به صاحبه العقاب لما أطعم الكافر
~~بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئات لا حسنات، وإذا كان قد يتنعم بها في
~~الدنيا ويطعم بها في الدنيا، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها
~~وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، فيكون له عليها
~~أعظم الثواب في الآخرة.
# PageV05P196
# وهذا معنى قول بعض السلف (1) : طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا
~~لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نية، فقال: طلبهم له
~~نية، يعنى نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو
~~الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصله عرفه الإخلاص لله والعمل له.
# ولهذا قال من قال: هو من النظر الأول الذي هو مقدمة العرفان، فإن القصد
~~والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به، فإذا لم يعرفه بعد كيف يتقرب إليه؟
~~فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده.
~~وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا
~~يكون إلا بالإخلاص لزم الدور، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص
~~وغيره، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم.
# وعلى هذا فما ذكره الإمام أحمد عن نفسه هو حسن، وهو حال النفوس المحمودة
~~المستقيم حالها. ومن هذا قول خديجة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم
~~وتعين على نوائب الحق.
# فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها، خلق على ذلك وفطر عليه، فعلمت أن
~~النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد
~~ذلك من الأمور المذمومة، لما قال لها: "قد خشيت PageV05P197
# على نفسي". قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا
### | ....
# الحديث، وهو في الصحيحين (1) .
# وقد تنازع الناس في النبوة: هل هي مجرد إنباء الله لعبده، أو هي راجعة
~~إلى صفات كمال فيه؟ كما تنازعوا في النبوة: هل هي مجرد ms0899 تعلق خطاب الشارع،
~~أو هي راجعة إلى صفات يتميز بها، ولابد من خطاب إلهي أو إنباء؟ ولهذا كانت
~~النبوة أجزاء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الهدي الصالح والسمت
~~الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة". رواه أهل السنن (2)
~~، فهذا في العمل. وقال في العلم: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزء
~~من النبوة" (3) . وقال: "ثلاث من أخلاق المرسلين" (4) .
# و
### | هذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حسن وقبح،
# وكل حمد وذم، فإنه لولا الإحساس الذي يعتد به في حب حبيب وبغض بغيض لما
~~وجدت حركة إرادية أصلا تحرك شيئا من الحيوان باختياره، ولما كان أمر ونهي
~~وثواب وعقاب، PageV05P198
# فإن الثواب إنما هو بما تحبه النفوس وتتنعم به، والعقاب إنما هو بما تكره
~~النفوس وتتعذب به، وذلك إنما يكون بعد الإحساس، فالإحساس والحب والبغض هو
~~أصل ما يوجد في الدنيا والآخرة من أمور الحي، وبه حسن الأمر والنهي والوعد
~~والوعيد. وذاك الأمر والنهي والوعد والوعيد هو تكميل للفطرة، وكل منهما عون
~~على الآخر، فالشريعة تكميل للفطرة الطبيعية، والفطرة الطبيعية مبدأ وعون
~~على الإيمان بالشرع والعمل به، والعبد من دان بالدين الذي يصلحه فيكون من
~~أهل [العمل] الصالح في الآخرة، والشقي من لم يتبع الدين ويعمل العمل الذي
~~جاءت به الشريعة، فهذا هذا، والله أعلم.
# PageV05P199
### | فصل
# في انتفاع الإنسان بعمل غيره
# PageV05P201
# قال الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية:
### | من اعتقد أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله فقد خرق الإجماع،
# وذلك باطل من وجوه كثيرة:
# أحدها: أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
# ثانيها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم
~~لأهل الجنة في دخولها.
# ثالثها: لأهل الكبائر في الخروج من النار، وهذا انتفاع بسعي الغير.
# رابعها: أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض، وذلك منفعة بعمل
~~الغير.
# خامسها: أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيرا قط بمحض رحمته،
~~وهذا انتفاع بغير ms0900 عملهم.
# سادسها: أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض
~~عمل الغير.
# سابعها: قال تعالى في قصة الغلامين اليتيمين: (وكان أبوهما صالحا) (1)
~~فانتفعا بصلاح أبيهما وليس من سعيهما. PageV05P203
# ثامنها: أن الميت ينتفع بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع، وهو من
~~عمل الغير.
# تاسعها: أن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه بنص السنة، وهو انتفاع
~~بعمل الغير.
# عاشرها: أن الحج المنذور أو الصوم المنذور يسقط عن الميت بعمل غيره بنص
~~السنة، وهو انتفاع بعمل الغير.
# حادي عشرها: المدين قد امتنع - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه حتى
~~قضى دينه أبو قتادة (1) ، وقضى دين الآخر علي بن أبي طالب، وانتفع بصلاة
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من عمل الغير.
# ثاني عشرها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن صلى وحده: "ألا رجل
~~يتصدق على هذا فيصلي معه" (2) ، فقد حصل له فضل الجماعة بفعل الغير.
# ثالث عشرها: أن الإنسان تبرأ ذمته من ديون الخلق إذا قضاها قاض عنه، وذلك
~~انتفاع بعمل الغير.
# رابع عشرها: أن من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه، وهذا انتفاع
~~بعمل الغير. PageV05P204
# خامس عشرها: أن الجار الصالح ينفع في المحيا والممات كما جاء في الأثر،
~~وهذا انتفاع بعمل الغير.
# سادس عشرها: أن جليس أهل الذكر يرحم بهم، وهو لم يكن منهم، ولم يجلس لذلك
~~بل لحاجة عرضت له، والأعمال بالنيات، فقد انتفع بعمل غيره.
# سابع عشرها: الصلاة على الميت والدعاء له في الصلاة انتفاع للميت بصلاة
~~الحي عليه، وهو عمل غيره.
# ثامن عشرها: أن الجمعة تحصل باجتماع العدد وكذلك الجماعة بكثرة العدد،
~~وهو انتفاع للبعض بالبعض.
# تاسع عشرها: أن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وما كان
~~الله ليعذبهم وأنت فيهم) (1) ، وقال تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء
~~مؤمنات) (2) ، وقال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) (3) .
# فقد رفع الله تعالى العذاب عن بعض الناس بسبب بعض، وذلك انتفاع بعمل
~~الغير.
# عشروها: أن صدقة الفطر تجب على الصغير وغيره ممن ms0901 يمونه الرجل، فإنه ينتفع
~~بذلك من يخرج عنه ولا سعي له فيها. PageV05P205
# حادي عشريها: أن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون، ويثاب على ذلك ولا
~~سعي له.
# ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله ما لا يكاد يحصى،
~~فكيف يجوز أن نتأول الآية الكريمة على خلاف صريح الكتاب والسنة وإجماع
~~الأمة؟
# PageV05P206
### | رسالة في اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -
# PageV05P207
### | ....
# إلى ما خلقوا له من عبادته، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا
~~ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57)) (1) ، وقال
~~تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله
~~وما أنا من المشركين) (2) ، وقال تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا
~~(45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46)) (3) ، وقال تعالى: (وكذلك
~~أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه
~~نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (52) صراط الله
~~الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور (53)) (4) .
# وفرض على أهل الأرض: عربهم وعجمهم، وإنسهم وجنهم، ودانيهم وقاصيهم اتباعه
~~وطاعته، كما قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي
~~له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله
~~النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)) (5) ،
~~وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) (6) . PageV05P209
# وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فضلنا على الأنبياء بخمس: جعلت صفوفنا
~~كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدا طهورا، وأحلت لنا الغنائم ولم تحل
~~لأحد قبلنا، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". أخرجاه
~~في الصحيحين (1) .
# وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي في هذه الأمة
~~يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار". رواه مسلم (2) .
# وتصديقه قوله تعالى: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) (3) .
# ولم يجعل لأحد بلغته رسالته وصولا إلى الله وإلى رحمته ms0902 إلا بمتابعته، كما
~~قال تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل
~~وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين
~~أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو
~~في الآخرة من الخاسرين (85)) (4) ، وقال في الآية الأخرى: (فإن آمنوا بمثل
~~ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو
~~السميع العليم (137)) (5) ، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
~~يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31)) (6) . PageV05P210
# وقال الحسن البصري وغيره (1) : ادعت طائفة أنهم يحبون الله على عهد النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم
~~الله ويغفر لكم ذنوبكم) ، فجعل اتباع الرسول موجب محبة العبد ربه جل وعلا،
~~موجبا لمحبه الرب تعالى عبده ومغفرته ذنوبه.
# وفي الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل الناس يدخل
~~الجنة إلا من أبى"، قالوا: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل
~~الجنة، ومن عصاني فقد أبي". كقوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات
~~تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم (13) ومن يعص الله
~~ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)) (3) ، وقوله
~~تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في
~~أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65)) (5) .
# وهذا باب واسع، وهو متفق عليه بين المسلمين. فافترق الناس فيما جاء به
~~الرسول ثلاث فرق:
# فرقة امتنعوا من اتباعه، كاليهود والنصارى والمشركين ونحوهم، فهؤلاء كفار
~~تجب معاملتهم بما أمر الله به ورسوله. PageV05P211
# وقسم آمنوا بالله ورسوله باطنا وظاهرا، واتبعوا ما جاء به الرسول - صلى
~~الله عليه وسلم -.
# وقسم أظهروا الإيمان بألسنتهم، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم. فهؤلاء
~~المنافقون الذين قال الله فيهم: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول
~~الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1)) (1) إلى
~~آخر السورة. وقال تعالى: (ومن الناس من ms0903 يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما
~~هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما
~~يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا
~~يكذبون (10)) (2) إلى تمام ثلاث عشرة آية.
# وأنزل الله في صفاتهم سورة براءة، وذكرهم في غير موضع من القرآن، وأمر
~~رسوله بجهادهم كما أمره بجهاد الكفار. وقال تعالى: (يا أيها النبي جاهد
~~الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (9)) (3) .
# وأما الكفار فيجاهدون حتى يؤمنوا أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها، كما
~~قال تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما
~~حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا
~~الجزية عن يد وهم صاغرون (29)) (4) . PageV05P212
# وأما المنافقون فجهادهم بإقامة الحدود عليهم، هكذا ذكره السلف، لأنهم
~~يظهرون الإسلام بألسنتهم، فإذا خرجوا عن موجب الدين أقيم الحد عليهم، وهم
~~قسمان:
# قوم نافقوا في أصل الدين، وأظهروا الإيمان بالله ورسوله، وليس ذلك في
~~قلوبهم، بل هم غافلون عما جاء به الرسول ومعرضون عنه، إلى الاشتغال بدين
~~غيره، والاشتغال بالدنيا عن نفس إيمان القلوب، وأضمروا تكذيب الرسول أو
~~بغضه أو معاداته أو معاداة ما جاء به. فمتى لم يكن الإيمان بالله ورسوله في
~~قلوبهم كانوا منافقين في أصل الدين، سواء كانوا معتقدين لضد ما جاء به
~~الرسول أو خالين عن تصديقه وتكذيبه، كما أن كل من لم يظهر الإسلام فهو ظاهر
~~الكفر، سواء تكلم بضده أو لم يتكلم. ولا ينجي العباد من عذاب الله تعالى
~~إلا إيمان يكون في قلوبهم، حتى إذا سئل أحدهم في القبر فقيل له: من ربك؟
~~وما دينك؟ ومن نبيك؟ قال: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، فيفتح له
~~باب إلى الجنة، وينام نومة العروس الذي قد دخل بامرأته، لا يوقظه إلا أحب
~~أهله إليه.
# وأما المنافق فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلت
~~مثلهم، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو
~~سمعها الإنسان لصعق ms0904 (1) . قال الله تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل
~~من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) PageV05P213
# إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع
~~المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146)) (1) .
# والقسم الثاني: المنافقون في بعض أمور الدين، مثل الذي يكثر الكذب أو نقض
~~العهد أو خلاف الوعد، أو يفجر في الخصومة.
# قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا،
~~ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب،
~~وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
# أخرجاه في الصحيحين (2) .
# وقد أوجب الله تعالى على أهل دينه جهاد من خرج عن شيء حتى يكون الدين كله
~~لله، كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) .
~~(3) فمن خرج عن بعض الدين إن كان مقدورا عليه أمر بالكلام، فإن قبل وإلا
~~ضرب وحبس حتى يؤدي الواجب ويترك المحرم، فإن امتنع عن الإقرار بما جاء به
~~الرسول أو شيء منه ضربت عنقه.
# وإن كان في طائفة ممتنعة قوتلوا، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه وسائر
~~الصحابة مانعي الزكاة، مع أنهم كانوا مقرين بالإسلام باذلين للصلوات الخمس،
~~حتى قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها
~~إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على PageV05P214
# منعها (1) . وكما قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه من الصحابة
~~الخوارج، الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يحقر أحدكم صلاته
~~مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز
~~حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم
~~فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" (2) .
# وهؤلاء الخوارج الحرورية هم أول من ابتدع في الدين وخرج عن السنة
~~والجماعة، حتى إن أولهم خرج عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
~~حياته، وأنكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمة المال ms0905، وأنزل الله
~~فيهم. وفي أمثالهم: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) (3) . قال ابن عباس وغيره:
~~تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة (4) .
# فكل من خرج عن كتاب الله وسنة رسوله من سوائر الطوائف فقد وجب على
~~المسلمين أن يدعوه إلى كتاب الله وسنة رسوله بالكلام، فإن أجاب وإلا عاقبوه
~~بالجلد تارة، وبالقتل أخرى على قدر ذنبه، وسواء كان منتسبا إلى الدين من
~~العلماء والمشايخ أو من رؤساء الدنيا من الأمراء والوزراء، فإن من هؤلاء
~~فيهم الأبرار والفجار. PageV05P215
# فأبرارهم هم أئمة الدين وهداة المسلمين وصالحو المجاهدين أهل الإيمان
~~والقرآن؛ والحامل الناصر للإيمان والقرآن، هم صفوة الله من عباده وخيرته من
~~خلقه، وموضع نظر الله إلى الأرض، وورثة الأنبياء وخلف الرسل، قال الله
~~تعالى فيهم: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين
~~آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل
~~لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) (1) .
# والبشرى قد فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرؤيا الصالحة يراها
~~المؤمن أو ترى له (2) ، وبالثناء الحسن من المؤمنين (3) .
# ومر على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال:
~~"وجبت وجبت"، ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا، فقال: "وجبت وجبت"، قالوا:
~~يا رسول الله! ما قولك وجبت؟ قال: "هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت
~~وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار، أنتم
~~شهداء الله في الأرض" (4) .
# فمن شهد له عموم المؤمنين بالخير كان من أهل الخير، ومن شهد له بالشر كان
~~من أهل الشر. PageV05P216
# وهؤلاء الفجار المنتسبون إلى علم أو دين أو إمرة أو رئاسة كالذين قال
~~الله تعالى فيهم: (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس
~~بالباطل ويصدون عن سبيل الله) إلى أن قال تعالى: (والذين يكنزون الذهب
~~والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34)) (1) وقد قالي
~~تعالي كتابه: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير
~~المغضوب عليهم ولا الضالين (7)) (2) ، قال النبي - صلى الله عليه ms0906 وسلم -:
~~"المغضوب عليهم: اليهود، والضالين هم: النصارى" (3) . قال الترمذي: هذا
~~حديث حسن صحيح.
# قال العلماء: فمن أوتي علما فلم يعمل به كان فيه شبه من اليهود الذين
~~عرفوا الحق ولم يتبعوه، ومن عبد الله بلا علم كان فيه شبه من النصارى الذين
~~ابتدعوا الرهبانية وعبدوه بغير شريعة.
# وأما المؤمنون حقا فهم المتمسكون بالشريعة والمنهاج المحمدي كما قال
~~تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل
~~جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) (4) وقال تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر
~~فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18)) (5) . PageV05P217
# ومن أعظم هؤلاء ضلالا: من انتسب إلى إمام أو شيخ من شيوخ المسلمين،
~~وابتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، أو ضم إلى ذلك أنواعا من التكذيب
~~والتلبيس، كهؤلاء المتولهين الذين يفتلون شعورهم، ومن وافقهم من المظهرين
~~كمحرقة النار واللاذن وماء الورد والسكر والعسل والدم من صدورهم، وإمساك
~~الحيات زاعمين أن ذلك كرامة لهم؛ واحتيالا عن الصد عن سبيل الله، وأكل
~~أموال الناس بالباطل.
# أما فتل الشعور ولفيفها فبدعة ما أمر بها نبى ولا رجل صالح ولا فعلها من
~~يقتدى به، بل قد شرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الترجل من تسريح
~~الشعر ودهنه.
# ودخل عليه رجل ثائر الشعر فقال: "أما وجد هذا ما يسكن به شعره؟ " (1) .
# ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والموصولة (2) ، ولعن
~~المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (3) .
# وأمر بإحفاء الشارب وإعفاء اللحية (4) ، وقال: "من كان له شعر
~~PageV05P218
# فليكرمه" (1) ؛ لا سيما والشعر إذا كان لا يدخل فيه الماء إلى باطنه، لا
~~يصح الاغتسال من الجنابة، ويبقى صاحبه لا طهارة له ولا صلاة، ومن لا صلاة
~~له لا دين له.
# وكذلك معاشرة الرجل الأجنبي للنسوة ومخالطتهن من أعظم المنكرات التي
~~تأباها بعض البهائم فضلا عن بني آدم، قال الله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا
~~من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) (2) ، (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن
~~فروجهن) (3) .
# وفي "الصحيح" (4) عن ابن عباس رضي الله ms0907 عنهما أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "إياكم والدخول على النساء" قالوا: يا رسول الله، أفرأيت
~~الحمو؟ قال: الحمو الموت".
# فإذا كان قد نهى أن يدخل على المرأة حموها أخو زوجها، فكيف بالأجنبي؟
# وقال (5) : "لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان".
# وقال (6) : "لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع زوج أو ذي محرم".
~~PageV05P219
# وكان إذا صلى في مسجده يصلي الرجال خلفه وخلفهم النساء، فإذا قضى الصلاة
~~مكث هو والرجال حتى يخرج النساء لئلا تختلط النساء بالرجال.
# وقال (1) : "خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء
~~آخرها، وشرها أولها".
# وقال أيضا (2) : "يا معشر النساء! لا ترفعن رؤوسكن حتى يرفع الرجال
~~رؤوسهم من ضيق الأزر"، لئلا تبدو عورة الرجال فتراها المرأة.
# وأمر النساء إذا مشين في الطريق أن يمشين على حافة الطريق ولا يحققن
~~الطريق (3) -أي: لا يكن في وسطه- بل يكون وسطه الرجال لئلا يمس منكب الرجل
~~منكب المرأة، حتى يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن عمر بن
~~الخطاب رضي الله عنه أنه ترك بابا من أبواب المسجد للنساء، ونهى الرجال عن
~~دخوله، فكان عبد الله بن عمر لا يدخله (4) .
# وقالت عائشة رضي الله عنها: "ما مست يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~يد امرأة لم يملكها قط" (5) . PageV05P220
# ولما جاء النساء يبايعنه، قال: "إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لمئة
~~امرأة كقولي لامرأة واحدة" (1) .
# ويروى (2) أنه وضع يده في إناء فيه ماء، ووضعن أيديهن فيه، ليكون ذلك
~~عوضا عن مصافحة النساء. كل ذلك لئلا يمس الأجانب، وهو رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - وتزوج بتسع؛ وسيد الخلق وأكرمهم عند الله تعالى، فكيف بهؤلاء
~~الضلال المبتدعين الخارجين عن الإسلام الذين يجمعون بين النساء والرجال في
~~ظلمة أو غير ظلمة؟
# ويوهم بعضهم للنساء أن مباشرة الشيخ والفقراء قربة وطاعة، وأنه مسقط
~~للصلاة، ويتخذون الزنا والقيادة عبادة، ويتركون ما أمر الله تعالى به من
~~الصلوات واجتناب الفواحش، فما أحقهم بقوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف
~~أضاعوا الصلاة واتبعوا ms0908 الشهوات فسوف يلقون غيا (59)) (3) .
# ثم يعدون التوله والتجانن وقلة العقل والخروج عن العقل والدين قربة
~~وطاعة، ويوهمون الجهال والأغمار من الأعراب والأتراك والفلاحين والنسوان أن
~~هؤلاء صفوة الله تعالى، وإن هؤلاء قد ورد عليهم من الأحوال ما جعلهم هكذا،
~~فيتصرفون في النفوس والأموال تصرف اللص الخادع والمنافق المخادع، موهمين
~~حصول البركة PageV05P221
# لمن أفسدوا عليه دينه ودنياه، كما يفعل الرهبان والقسيسون بعوام النصارى،
~~وهذا شيء لم يبعث الله به نبيا ولا قاله رجل صالح قط، ومن كان من الناس قد
~~ذهب عقله حتى صار مجنونا فقد رفع القلم عنه، كما قال النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون
~~حتى يفيق" (1) .
# وينبغي أن يعالج هذا بما يعالج به المجانين، فإن الجنون مرض من الأمراض
~~أو عارض من الجن، ومن هؤلاء قوم لهم قلوب فيها تأله وإنابة إلى الله تعالى
~~ومحبة له وإعراض عن الحياة الدنيا، قد يسمون "عقلاء المجانين"، وقد يسمون
~~"المولهين" فهم كما قال فيهم بعض العلماء: "قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا
~~فسلب عقولهم وأبقى أحوالهم، فأسقط ما فرض بما سلب".
# فالمجانين كالعقلاء فيهم من فيه صلاح، وفيهم من لا صلاح له.
# وسبب جنون أحدهم: إما وارد ورد عليه من المحبة أو المخافة أو الحزن أو
~~الفرح حتى انحرف مزاجه. أو خلط غلب عليه من السوداء. أو قرين قرن به من
~~الجن.
# فهؤلاء إذا صح أنهم مجانين ومولهون كانوا في قسم المعذورين الممنوع (2)
~~على الفساد، ولا يحل الاقتداء بمن فيه منهم صلاح؛ PageV05P222
# ولا اتباع ما يقول من الأقوال والأفعال إلا أن يوافق الشريعة.
# ولا ينبغي تعظيمهم، فإنهم منقوصون مجروحون، وصالحو العقلاء أفضل منهم
~~بكثير كثير، وليس فيهم ولي ولا صالح مشهور، وإنما يغتر بهم بعض الجهال، لأن
~~جنونهم يوجب أن يظهر بعض ما في بواطنهم من كشف أو زهد أو تأثير فيستعظم
~~الجاهل ذلك.
# وصالح العقلاء قد يكون معه أضعاف ذلك، ولا يظهره إلا حيث يراه مصلحة، وقد
~~يكون كتمانه أصلح ms0909 لهم؛ فأما هؤلاء المفتلون الشعر ونحوهم، فعامتهم متولهون
~~لا مولهون، يظهرون ذلك كذبا ومكرا ومخادعة للجهال، كي يتميزوا بذلك مما
~~يريدونه من النفوس والأموال، وحتى لا ينكر عليهم ما يقولونه ويفعلونه من
~~القبيح، فيقول الجاهل: هذا موله.
# وأحدهم يميز بين الدرهم والدينار، والغني والفقير، ويعرف الخير والشر،
~~وله فكر طويل في الحيلة التي يحتال على الجهال بها، ويتواجدون عند السماع
~~المحدث أو غيره، فيصيحون ويزعقون ويزبدون ويتغاشى أحدهم، فبعض ذلك كذب ومكر
~~وحيلة، وبعضه عادة فاسدة وطريقة سيئه.
# وقد يقرن بأحدهم قرين من الجن فيعينه على ذلك، كما أن المصروع يزبد ويصيح
~~كما يجري لهؤلاء؛ وشيوخهم يقرونهم على ذلك [للاحتيال] على الجهال وأكل
~~أموال الناس بهم؛ وإلا فقد أجمع المسلمون بل واليهود والنصارى أن هؤلاء
~~ضلال وفسقة، وأن الواجب توبتهم واتباعهم لما أمر الله به وترك ما نهى عنه،
~~بل الواجب إذا رأينا
# PageV05P223
# مولها أو مجنونا أن نعالجه حتى يصير عاقلا، فهؤلاء يعمدون إلى الصبيان
~~يربونهم على التوله تربية، ويعودونهم الخروج عن العقل والدين عادة كما يعود
~~الأنبياء والصالحون أتباعهم ملازمة العقل والدين.
# قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم
~~عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
# قال العلماء: يجب على كافل الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة، ويمنعه
~~اعتياد المحرمات.
# وهؤلاء بخلاف ذلك، وعامة ما يبدونه من النار ونحوها مكر وحيلة من جنس حيل
~~الرهبان، فإنهم يتوسلون بالطلق ودهن الضفادع وماء النارنج إلى أن يصفو ذلك،
~~ثم يطلون به لحومهم وثيابهم، فتصبر على النار مدة طويلة من الزمان، وكذلك
~~يصنعون من دم الأخوين ونبت يقال له: أم عربيل ما يظهرون به أن الدم يخرج من
~~أحدهم وقت الوجد، وكذلك اللاذن ونحوه، وأضعاف ذلك، كفعل الرهبان على عوام
~~النصارى حيلا أعظم من هذه.
# وللصالحين كرامات معروفة من تسخير السباع والنار لهم وتكثير الطعام
~~والشراب ودفع البلاء، ومن المكاشفات وأنواع الخوارق للعادات، في أبواب
~~العلم وأبواب القدرة، لكن طريقة الصالحين PageV05P224
# طاعة الله ورسوله وملازمة الكتاب والسنة، وأقل أحوالهم الصدق والبر ms0910، كما
~~[أن]
### | علامة الفاجر الكذب والفجور.
# قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي
~~إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى
~~يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور
~~يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله
~~كذابا".
# وهكذا قال الله تعالى في القرآن: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221)
~~تنزل على كل أفاك أثيم (222)) (2) .
# فأخبر أن الشياطين تنزل على الكذاب في قوله، الفاجر في فعله، كما كانت
~~تنزل على المتنبئين الكذابين مثل الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب والمختار بن
~~أبي عبيد؛ حتى قالوا لابن عمر أو لابن عباس (3) رضى الله عنهما: إن المختار
~~يزعم أنه ينزل عليه فقال: صدق: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221) تنزل
~~على كل أفاك أثيم (222)) .
# وقالوا لآخر (4) : إنه يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق: (وإن PageV05P225
# الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) (1) .
# فمن كان من أتباع الكذابين المتنبئين، فإن أولئك كان يظهر عليهم
# أشياء، والساحر والمشعبذ يفعل أشياء، فإذا جاءت عصا الشريعة
# المحمدية ابتلعت ما صنعه الخارجون عنها من السحر المفترى،
# (ولا يفلح الساحر حيث أتى (69)) (2) .
# وقد يفضل شيخه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلوا فيه، كما غلت
~~النصارى في المسيح بن مريم عليه السلام، وغلت الرافضة في علي رضي الله عنه،
~~بل الغالية من النصارى والرافضة أعذر من هؤلاء الغالية في بعض المشايخ
~~المسلمين، كبعض المنتسبين إلى الشيخ أحمد بن الرفاعي والشيخ عدي أو الشيخ
~~يونس (3) .
# ... له في الصيام وبعضهم في الصدقة وبعضهم في العلم وبعضهم في الأمر
~~بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنواع أخر، مع اتفاق قلوبهم واجتماع كلمتهم
~~واعتصامهم بحبل الله تعالى، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا
~~الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا
~~ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم
~~بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار ms0911 فأنقذكم منها كذلك يبين الله
~~لكم آياته لعلكم تهتدون (103)) (4) . PageV05P226
# وقد يتنازعون في بعض أمور الدين، فإذا تنازعوا في شيء من ذلك ردوه إلى
~~الله تعالى ورسوله، والكتاب والسنة، كما أمر الله ورسوله، وليس أحد بعد
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبع كل ما يقوله ويفعله، بل كل أحد يؤخذ
~~من قوله وفعله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه الإمام
~~الذي فرض الله طاعته وأوجب متابعته.
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته (1) : "إن أصدق الكلام
~~كلام الله، وإن خير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
# فمن اتبع رجلا غير الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في كل أقواله وأفعاله
~~معرضا عن الكتاب والسنة، أو غلا في محبة بعضهم وتعظيمه حتى جاوز به حده،
~~وفضله على نظرائه تفضيلا كثيرا بلا بينة، فهو مضاه للنصارى الذين قال الله
~~في حقهم: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (2) الآية، وقال
~~تعالى: (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس
~~كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا) (3) الآية، وقال تعالى: (قل ادعوا
~~الذين زعمتم من دون الله) (4) الآية، وقال تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا
~~تغلوا في دينكم) (5) الآية. PageV05P227
# فإن الله تعالى ذم النصارى بكونهم غلوا في الأنبياء والعلماء والعباد حتى
~~جاوزوهم حدهم، فعبدوهم حيث أطاعوهم فيما ابتدع (1) الأحبار والرهبان من
~~الدين، وحللوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، هكذا فسره النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -؛ واعتقدوا في المسيح نوعا من الإلهية، وضاهاهم على ذلك من
~~اعتقد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من الأئمة أو بعض الأنبياء
~~نوعا من الإلهية، ومن اعتقد في بعض الشيوخ نوعا من الإلهية، حتى إنهم سجدوا
~~لهم أحياء وأمواتا، ويرغبون إليهم في قبورهم في جلب المنافع ودفع المضار،
~~كما كان المشركون يرغبون إلى آلهتهم، ولهذا قال سبحانه وتعالى: (قل ادعوا
~~الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين ms0912
~~يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن
~~عذاب ربك كان محذورا (57)) (2) .
# قال ابن مسعود وغيره (3) : كان أقوام يدعون عزيرا والمسيح والملائكة،
~~فقال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلى الله كما تتقربون إليه
~~ويرجون الله ويخافونه.
# كما قال بعض الفقهاء: إن بعض الفقراء أوصاه عند موته: إذا كان لك حاجة أو
~~أمر مهم أو ضيق استوحني أو استوح بي.
# نعوذ بالله من الشرك والضلال، وهم لا يملكون كشف الضر PageV05P228
# عنكم ولا تحويلا، وكما قال سبحانه: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا
~~يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له
~~منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) (1)
# وقال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) (2) وقال تعالى: (ولا
~~يشفعون إلا لمن ارتضى) (3) .
# فهؤلاء الضلال عمدوا إلى ما لم يشرعه الله تعالى من البدع والضلالات
~~والغلو في الصالحين، وتمسكوا به وعمدوا إلى دين الله تعالى الذي بعث به
~~رسوله فأعرضوا عن بعضه؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) : "بني
~~الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام
~~الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت".
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبريل عليه السلام عن
~~الإسلام والإيمان والإحسان قال (5) : "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله
~~وإن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت،
~~والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته [وكتبه] ورسله والبعث بعد الموت
~~PageV05P229
# وتؤمن بالقدر خيره وشره، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن
~~تراه فإنه يراك" وقال: "هذا جبريل أتاكم ليعلمكم".
# فالمؤمن يدعو إلى الدين وينتسب إليه، وعليه أن يدعو إلى الإسلام والإيمان
~~والإحسان، ومن ذلك
### | : عمارة المساجد بالصلوات الخمس وقراءة القرآن
# وذكر الله تعالى ودعاؤه وأنواع العبادات وتعلم العلم وتعليمه، كما كان
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه عليه، فإنه - صلى الله عليه وسلم -
~~قد ms0913 أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة،
~~قالوا: [من هي يا رسول الله؟ قال:] "هي الجماعة" (1) ، وفي رواية (2) : "من
~~كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي".
# قال الله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) (3) الآية،
~~وقال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) (4) الآية، وقال تعالى: (وأمر
~~أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (5) .
# فأمر الله بالصلاة والمحافظة عليها؛ والذم لمن أضاعها أكثر من
~~PageV05P230
# أن يذكر هنا، حتى إنه أوجب الصلاة في الأمن والخوف، رجالا وركبانا في
~~الإقامة والسفر، وفي الصحة والمرض، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~لعمران بن حصين (1) : "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى
~~جنب".
# وحتى إنه إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله أمر بأن يتيمم بالصعيد
~~الطيب والتمسح له، ولا يجور تأخيرها عن وقتها بحال من الأحوال، إلا أنه في
~~حال العذر يكون الوقت مشتركا بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيجوز
~~الجمع بين العشاءين.
# وشرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس والجماعات، حتى
~~أمرهم الله أن يقيموها في الجماعة حال الخوف، قال الله تعالى: (وإذا كنت
~~فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) (2) الآية.
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) : "لقد هممت أن آمر بالصلاة
~~فتقام، ثم أنطلق مع رجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق
~~عليهم بيوتهم بالنار".
# وقال (4) : "تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمسا وعشرين درجة".
~~PageV05P231
# وقد شرع الله للمسلمين سماع كتابه في الصلاة وخارج الصلاة، لا سيما في
~~صلاة الفجر، كما قال تعالى: (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78))
~~(1) .
# وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحدا
~~منهم يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (2) :
~~"يا أبا موسى ذكرنا ربنا" فيقرأ وهم يستمعون.
# وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج على أهل الصفة فوجد
~~فيهم رجلا يقرأ وهم يستمعون ms0914، فجلس معهم يستمع (3) .
# وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند السماع كما ذكر الله
~~تعالى في كتابه توجل قلوبهم وتقشعر جلودهم وتدمع عيونهم. قال الله تعالى:
~~(الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون
~~ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) (4) ، وقال تعالى: (وإذا سمعوا
~~ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) (5) ،
~~وقال تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من
~~الحق) (6) ، وقال تعالى: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا PageV05P232
# له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)) (1) .
# فلما كان التابعون فيهم من يموت أو يصعق عند سماع القرآن فمن السلف من
~~أنكر ذلك ورآه بدعة، وأن صاحبه متكلف، وأما أكثر السلف والعلماء فقالوا: إن
~~[كان] صاحبه مغلوبا، والسماع مشروعا، فهذا لا بأس به، فقد صعق الكليم لما
~~تجلى ربه للجبل، بل هو حال حسن محمود فاضل بالنسبة إلى من يقسو قلبه.
# وحال الصحابة ومن سلك سبيلهم أفضل وأكمل، فإن الغشي والصراخ والاختلاج
~~إنما يكون لقوة الوارد على القلب، وضعف القلب عن حمله، فلو قوي القلب -كحال
~~نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- لكان أفضل وأكمل.
# ولو لم يرد على القلب ما يحركه لكان قاسيا مذموما، كما ذم الله تعالى
~~اليهود على قسوة القلوب.
# وما زال السلف كذلك إلى حد المئة الثالثة، صار قوم من العباد يجتمعون
~~لسماع القصائد المرققة، وربما ضربوا بالقضيب لذلك، ويسمون ذلك التغبير،
~~فأنكر الأئمة ذلك، ورأوا أنه بدعة محدثة؛ إذ لم يفعله السلف حتى قال فيهم
~~الشافعي رضي الله عنه: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير،
~~يصدون به الناس عن القرآن. PageV05P233
# وكره أحمد الجلوس معهم فيه، وقال: هو محدث أكرهه، ورأى أنهم لا يهجرون؛
~~لأنهم متأولون.
# وحضر هذا السماع المحدث قوم من الصالحين وكرهوه.
# وتركه أفضل من حضوره. والذين حضروه اشترطوا له شروطا كثيرة مثل المكان
~~والخلان والخلوة من المفاسد.
# ومع هذا فالحجة من الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة مع من كرهه ms0915، ونهى
~~عن التعبد به، وإن كان يرخص في الأفراح للنساء والصبيان في أنواع من الغناء
~~وضرب الدف كما جاءت به السنة، فهذا نوع من اللهو واللعب، ليس هو من نوع
~~العبادات والقرب والطاعات، كما يفعله المبتدعون للسماع المحدث، وبكل حال
~~فالإكثار منه حتى يفعل في المساجد، وحتى يشتغل به عن الصلوات، وحتى يقدم
~~على القراءة والصلاة، وحتى يجعل شعار الشيخ وأتباعه، وحتى يضرب بالمعازف،
~~لا ريب أنه من أعظم المنكرات، وهو مضاهاة لعبادة المشركين الذين قال الله
~~تعالى فيهم: (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) (1) . قال السلف:
~~المكاء: الصفير نحو الغناء، والتصدية: التصفيق باليد.
# فمن اتخذ الغناء والتصفيق قربة ففيه شبه من هؤلاء، وإذا شغله عما أمر به
~~وفعله في المسجد، فقد اندرج في قوله: (وما كان صلاتهم) الآية، وفي قوله
~~تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا PageV05P234
# الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59)) (1) ؛ وفي قوله: (وذر الذين
~~اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) (2) ، لا سيما وقد قيل: إنها نزلت في أعياد
~~الجاهلية المشابهة لهذا السماع المشتمل على اللهو واللعب.
# قال الله تعالى: (والذين لا يشهدون الزور) (3) ، وقيل: إن هذا من الزور.
~~وقد قال الله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله
~~بغير علم) (4) . وقال الله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك) (5) .
~~وقال تعالى: (وأنتم سامدون (61)) (6) .
# وقد روى الطبراني (7) عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "إن الشيطان قال: يا رب اجعل لي قرآنا، قال: قرآنك الشعر،
~~قال: اجعل لي مؤذنا، قال: مؤذنك المزمار، قال: اجعل لي بيتا، قال: بيتك
~~الحمام".
# والأحاديث في هذا كثيرة.
# فإذا كان الشيخ يزعم أنه يدعو إلى الله وإلى طاعته، ليس شعاره إلا جمع
~~الناس على مزمور الشيطان ومؤذنه وقراءته، وقل أن يجمعهم PageV05P235
# على أذان الله وقراءته وصلاته، كان إماما من أئمة الضلال الذين (يدعون
~~إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (41)) (1) ، وكان من اتبعه له نصيب من
~~قوله تعالى: (يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا ms0916 أطعنا الله وأطعنا
~~الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67)
~~ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)) (2) .
# وقال تعالى: (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول
~~سبيلا (27) يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر
~~بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)) (3) .
# والناس وإن كانوا قد تكلموا في الغناء، هل هو حرام أو مكروه أو مباح؟ فما
~~قال أحد من المهتدين: إنه قربة أو طاعة، ومن قال ذلك فقد اتبع غير سبيل
~~المؤمنين، ودخل في مشابهة النصارى والصابئين، ولهذا ذكر العلماء أنه من
~~إحداث الزنادقة.
# وكيف يتصور أن يكون قربة، وقد مضت القرون الثلاثة: قرن الصحابة والتابعين
~~وتابعيهم، وذلك لا يفعل في شيء من أمصار المسلمين، لا في الحجاز ولا في
~~اليمن ولا في الشام ولا في العراق ولا في مصر ولا في خراسان ولا في المغرب.
# فالواجب على أهل الإسلام التعاون على البر والتقوى، والتواصي PageV05P236
# بالحق، والتواصي بالصبر والبر، واتباع شرائع الإسلام، وكبت هذه الطرق
~~الجاهلية والضلالات الخارجية، ورد ما تنازع الناس فيه إلى كتاب الله تعالى
~~و [سنة] رسوله، وهو الطريق المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين
~~والصديقين والشهداء والصالحين، وتجنب طريق المغضوب عليهم اليهود ومن شابههم
~~في بعض أمورهم من غواة المنتسبين إلى الفقه والحكمة، ومن طريق الغالين
~~المنتسبين إلى التعبد والتصوف والفقر.
# وعلى أهل الإسلام أن ينصح بعضهم لبعض كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- (1) : "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة"، قالوا: [لمن؟،
~~قال:] "لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
# وقد قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
~~عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104)) (2) ، وقال تعالى: (والمؤمنون
~~والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (3) .
# فهؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر أطباء الأديان، الذين تشفى
~~بهم القلوب المريضة، وتهتدي بهم القلوب الضالة، وترشد بهم القلوب الغاوية،
~~وتستقيم بهم القلوب الزائغة، وهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى. PageV05P237
# والهدى والمعروف اسم لكل ما أمر ms0917 به من الإيمان ودعائمه وشعبه، كالتوبة
~~والصبر والشكر والرجاء والخوف والمحبة والإخلاص والرضا والإنابة وذكر الله
~~تعالى ودعائه والصدق والوفاء وصلة الأرحام وحسن الجوار وأداء الأمانة
~~والعدل والإحسان والشجاعة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك.
# والمنكر اسم لكل ما نهى الله عنه من الكفر والكذب والخيانة والفواحش
~~والظلم والجور والبخل والجبن والكبر والرياء والقطيعة وسوء المسألة واتباع
~~الهوى وغير ذلك.
# فإن كان الشيخ المتبوع آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، داعيا إلى الخير،
~~مصلحا لفساد القلوب، شافيا لمرضاها، كان من دعاة الخير وقادة الهدى وخيار
~~هذه الأمة.
# نسأل الله أن يكثر من هؤلاء ويقويهم، ويدمغ بالحق الباطل، ويصلح هذه
~~الأمة. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
~~تسليما.
# (تمت الرسالة بعون الله ومنه من كلام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس
~~أحمد بن تيمية، قدس الله روحه وسقى ضريحه) .
# PageV05P238
### | شرح حديث
# "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
# PageV05P239
# بسم الله الرحمن الرحيم
# قال الشيخ الحافظ الإمام، شيخ الإسلام، وأستاذ العلماء الأعلام، تقي
~~الدين أحمد بن [عبد الحليم بن] عبد السلام، الشهير بابن تيمية رحمه الله
~~تعالى وجزاه عن المسلمين خيرا:
# فصل
# في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) : "لا يزني الزاني
~~حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولايسرق السارق
~~حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم
~~وهو حين ينتهبها مؤمن".
# وللناس في هذا وأمثاله كلام كثير مضطرب، فإن هذه من مسائل الأسماء
~~والأحكام.
# فالخوارج والمعتزلة يحتجون بهذا على أن صاحب الكبيرة لم يبق معه من
~~الإيمان بل ولا من الإسلام شيء أصلا، بل يستحق التخليد في النار، ولا يخرج
~~منها بشفاعة ولا غيرها.
# ومعلوم أن هذا القول مخالف لنصوص الكتاب والسنة الثابتة في غير موضع.
~~PageV05P241
# والمرجئة والجهمية يقولون: إيمان الفاسق تام كامل لم ينقص منه شيء، ومثل
~~هذا إيمان الصديقين والشهداء والصالحين. ويتأولون مثل هذا الحديث على أن
~~المنفي موجب الإيمان، أو ms0918 ثمرته، أو العمل به، ونحو ذلك من تأويلاتهم.
# والصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأهل الحديث، وأئمة السنة يقولون: لا
~~يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، بل يخرج منها من في قلبه مثقال ذرة من
~~إيمان كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، بخلاف قول الخوارج والمعتزلة.
# ويقولون: إن الإيمان يتفاضل، وليس إيمان من نفى الشارع عنه الإيمان
~~كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
# ومنهم من ينفي عنه إطلاق الاسم، ويقول: خرج من الإيمان إلى الإسلام، كما
~~يروى ذلك عن أبي جعفر الباقر وغيره. وهو قول كثير من أهل السنة من أصحاب
~~أحمد وغيرهم، وقال بمعنى هذا القول حماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي،
~~وأحمد بن حنبل في غير موضع، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم من أئمة
~~السنة.
# فإن أصحاب المنزلة بين المنزلتين ينفون اسم الإسلام، وأولئك يقولون
~~بالتخليد في النار، وأولئك يقولون: ليس معه من الإيمان شيء. وهم لا يقولون
~~معه من الإيمان شيء ما يخرج به من النار ويدخل به الجنة، وبين القولين هذه
~~الفروق الثلاثة.
# وعلى هذا قول من يقول إن الأعراب الذين قالوا: (ءامنا) ،
# PageV05P242
# وقال الله: (لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) (1) لم يكونوا منافقين، بل
~~كانوا دخلوا في الإسلام، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم فيثيبهم الله على
~~الطاعة، ويعاقبهم على المعصية، كما قال تعالى: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا
~~يلتكم من أعمالكم شيئا) (2) . وهذا قول أكثر أهل الحديث.
# وقيل: بل هؤلاء كان إسلامهم إسلام نفاق، فلا يكون مسلما مثابا على العمل
~~إلا من هو مؤمن.
# والتحقيق أن
### | نفي الإيمان وإثباته باعتبارين:
# فمن في قلبه مثقال ذرة من إيمان لم يدخل جميع الإيمان في قلبه، وإنما دخل
~~في قلبه شيء منه، فهذا يثاب على أعماله وهو مسلم ومعه إيمان، ولما يدخل
~~كمال الإيمان في قلبه بل إيمانه ناقص، ولهذ كان الصحابة وجمهور السلف على
~~أن الإيمان يزيد وينقص.
# فالفاسق معه إيمان ناقص نقصا هو نقص جزء واجب، وما كان كذلك فإنه ينفى،
~~وإن كان قد أثيب ms0919 على فعل ما فعل لكن ما تبرأ ذمته، ولا يعاقب عقوبة من لم
~~يفعل شيئا. كمن ترك بعض واجبات العبادة فيقال: صل فإنك لم تصل، ولا يكون من
~~ترك الطمأنينة كمن ترك جميع الصلاة، ولهذا تكمل الفرائض يوم القيامة من
~~النوافل، والعبد ينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، PageV05P243
# إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا
~~تسعها، إلا عشرها (1) . ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش (2) ؛ وليس
~~بمنزلة المفطر، بل وإن لم يحصل له ثواب فهل يرفع عنه عقاب الترك؟ وهذه
~~الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
# والمقصود هنا
### | بيان كيف ينفى الإيمان بفعل الكبائر.
# وذلك أن الإيمان الواجب لابد أن يكون الله ورسوله أحب إلى صاحبه مما
~~سواهما، ولابد أن يخشى الله ويخافه، فمن لا يحب الله ورسوله - صلى الله
~~عليه وسلم - ولا يخشى الله تعالى فهذا ليس بمؤمن، بل قال تعالى: (لا تجد
~~قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا
~~آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان
~~وأيدهم بروح منه) (3) . وقال تعالى: (ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما
~~أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)) (4) .
# فبين سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد المحاد لله ورسوله - صلى الله عليه
~~وسلم -، وأن المؤمن لا يمكن أن يتولى الكافر، والمودة والموالاة تتضمن
~~المحبة، فدل ذلك على أنه لابد في الإيمان من محبة الله ورسوله - صلى الله
~~عليه وسلم - مما ينافي PageV05P244
# محبة من حاد الله ورسوله، ولهذا لا تكون موالاة الله ورسوله إلا بمعاداة
~~من عادى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. كقول إبراهيم والذين معه:
~~(قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا
~~وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده) (1) .
# وفي الصحيحين (2) أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب
~~إليه من والده وولده والناس أجمعين".
# وفي صحيح البخاري (3) أن عمر ms0920 بن الخطاب قال: "والله يا رسول الله لأنت
~~أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! ". قال: "لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من
~~نفسك". قال: "فلأنت أحب إلي من نفسي". قال: "الآن يا عمر".
# بل أبلغ من ذلك قوله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم
~~وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها
~~أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره
~~والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)) (4) . فهذا وعيد لمن كان أهله الذين
~~يحبهم وأمواله التي يحبها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله. فكيف
~~إذا كان الصور المحرمة والمال المحرم ومكاره كثيرة، فكيف إذا كان هذا وهذا؟
~~وهو أحب إليه من الله PageV05P245
# ورسوله بدون الجهاد.
# فعلم أن الزاني والشارب أبعد عن كون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما من
~~هؤلاء التاركين للجهاد، وإن كانوا يحبون الله ورسوله، لكن لم يقل له: إنها
~~أحب إليه مما سواهما، ولا إنه متصف بذلك وقت الشرب، فقد يتصف العبد
~~بالأحبية في حال دون حال، ولابد في الإيمان من أن يكون الله ورسوله أحب
~~إليه مما سواهما.
# ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة؛ فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إما
~~قول القلب الذي هو علمه (1) ، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك. وهذا قول
~~الجهمية ومن تبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب
~~واللسان كالقول المشهور عن المرجئة؛ ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله
~~ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل.
# وغلطوا غلطا آخر غلطت الجهمية فيه أعظم، وهو أنهم ظنوا القلب يقوم به
~~الإيمان قياما لا يظهر على الجوارح. فظنوا أن [الإنسان] (2) يقوم بقلبه
~~تصديق تام للرسول، ومحبة تامة للرسول، وهو مع هذا يشتمه ويلعنه ويضربه من
~~غير إكراه، فصاروا لا يجعلون شيئا من الأعمال الظاهرة مستلزما للكفر
~~الباطن، بل يقولون: نحن نحكم بكفره ظاهرا، وقد يكون في الباطن من أولياء
~~الله. PageV05P246
# وغلطوا غلطة ثالثة فقالوا: كل من ms0921 حكم الشارع بكفره في الظاهر (1) فذلك
~~دليل على أنه لم يكن مصدقا في الباطن.
# وهذا مكابرة ظاهرة، فصاروا يقولون: إن إبليس وفرعون وعلماء اليهود وأمثال
~~هؤلاء هم في الباطن جاحدون لوجود الخالق لأنه ثبت أنهم ليسوا مؤمنين في
~~الباطن. والإيمان عندهم مجرد علم القلب، فاحتاجوا إلى نفي هذا.
# والتحقيق أن الإيمان الباطن المنجي من عذاب الله لابد فيه من قول القلب،
~~وعمل القلب، فلابد فيه من حب الله ورسوله، ولهذا أطلق أكثر السلف القول بأن
~~الإيمان قول وعمل.
# وإذا كان القلب فيه تصديق للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبة تامة له
~~فلابد أن يظهر ذلك على الجسد، فإن الإرادة الجازمة مع وجود القدرة تستلزم
~~وجود المقدور، والمحبة الجازمة تتضمن الإرادة الجازمة لتعظيم الرسول
~~وتوقيره. فإذا كان قادرا على ذلك امتنع أن يصدر منه موالاة من عادى الرسول
~~- صلى الله عليه وسلم -، فكيف يصدر منه شتمه وضربه وقتله طائعا غير مكره؟
# وإذا كان كذلك فمعلوم أن الذنوب كالزنا والسرقة وشرب الخمر تتضمن شهوة
~~ذلك ومحبته، فحب الشهوات من الصور والمطاعم والأموال يوقعه في الزنا والشرب
~~والسرقة. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) : PageV05P247
# "أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: الفم والفرج، وأكثر ما يدخل الناس
~~الجنة: تقوى الله وحسن الخلق".
# والمحبوب المشتهى يصرف عنه طلب ما هو أحب إلى المرء منه، ويصرف عنه خوف
~~ما يكون دفعه أحب إلى النفس من ذلك المشتهى.
# فمن أحب امرأة فأتاه من هو أحب إليه منها، وقيل لا يعطى هذه إلا بترك تلك
~~اشتغل بها عنها، فإن أعطي من المال ما هو أحب إليه منها، أو من الأولاد ما
~~هو أحب إليه منها، على طريق المعاوضة، اشتغل عنها بالضدين اللذين لا
~~يجتمعان، إذا كان أحدهما أحب إليه ترك الآخر لأجله.
# وكذلك إذا خاف من مقامه معها ضربا، أو حبسا، أو أخذ مال، أو عزلا، كان
~~دفع هذا المكروه أحب إليه منها المغرم (1) ، وأما المحب الذي لا يؤثر عليها
~~شيئا من هذه المحبوبات، ولا دفع هذه ms0922 المكروهات فهذا لا يتركها لذلك. وإذا
~~كان كذلك فالمؤمن المحب لله ورسوله الذي يحب الله ورسوله أعظم من كل شيء،
~~والله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والذي يخشى الله ويخافه إذا عصاه هو في
~~حال حصول حبه التام وخوفه في قلبه لا يفعل شيئا PageV05P248
# من ذلك، بل حب الله ورسوله الذي وجد حلاوته وهو أحب إليه من هذه المنهيات
~~التي يبغضها الله ورسوله، ومتى وقع فيها نقص ذلك الحب وتلك اللذة
~~الإيمانية.
# فلو كانت اللذة الإيمانية الكاملة موجودة (1) لما قدم عليها لذة تنقصها
~~وتزيلها، ولهذا يجد العبد في قلبه إذا كان مخلصا لله واجدا لحلاوة العبادة
~~والذكر والمعرفة الصارف قلبه عن هذه المحرمات فلا يلتفت إليها، كالمشغول
~~بالجوهر إذا لاحت له قشور البصل، بخلاف ما إذا عدم هذه الحلاوة الإيمانية،
~~فإنه حينئذ يميل إلى شيء من المحرمات، وكذلك إذا كان في قلبه خوف الله
~~التام وهو مؤمن، فإن هذا المحرم سبب يفضي به إلى عذاب الله وعقابه، بل إلى
~~سخطه وغضبه والبعد عنه، فمتى خاف زوال محبوب أحب إليه من ذلك، أو حصول
~~مكروه أكره إليه من ذلك لم [يعد إلى] (2) هذه المحرمات.
# فالذنب تارة يعدم لعدم المقتضي، وتارة لوجود المانع، والثاني هو الغالب،
~~فإنه الداعي في النفس، والأول موجود إذا حصل في القلب من حلاوة الإيمان
~~وطيبه ما يغنيه عن الذنب لم يبق له داع، كالجائع الذي أكل من الطعام الطيب
~~ما يغنيه عن الرديء، فإذا شبع لم يبق له داع، بل إذا كان قادرا على هذه كان
~~مكتفيا عن ذلك.
# وكذلك العطشان، والنفس مطلوبها ما يسرها ويلذها، فإذا وجدت اللذة والسرور
~~التام في أمر لم تشتغل عنه بما هو دونه في اللذة. PageV05P249
# والإنسان إنما يفعل السيئات القبيحة إما لجهله بقبحها، وإما لحبه الداعي
~~له إلى ذلك، وهو يتضمن حاجته إلى ذلك، فإن المشتهي للشيء من مطعوم أو منكوح
~~أو منظور أو غير ذلك يجد في قلبه فاقة إليه وحاجة إليه، فإذا لم يحصل له
~~بقي في ألم يؤذيه ms0923 بحسب شهوته، فإذا استغنى بما يزيل عنه الشهوة والحاجة لم
~~يبق عنده داع يدعوه إلى ذلك. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) :
~~"إذا أعجبت أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن معها مثل ما معها". وفي الدعاء
~~المأثور (2) : "اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك".
# والناس إذا وقعوا في البدع والمعاصي نقص عليهم إيمانهم، وإلا فمن كان
~~عالما بالحق قاصدا له أغناه ذلك عن أن يعتقد الباطل ويتبعه. ولهذا كانت
~~الصحابة رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن الذنوب والبدع، لاستغنائهم
~~بالعلم والإيمان بالله [وما] تلقوه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا
~~تجد أحدا وقع في بدعة إلا لنقص اتباعه للسنة علما وعملا. وإلا فمن كان بها
~~عالما، ولها متبعا لم يكن عنده داع إلى البدعة، فإن البدعة يقع فيها الجهال
~~بالسنة، وكذلك الزنا والسرقة وشرب الخمر، إنما يزني من عنده شهوة يطلب
~~قضاءها.
# فأما من قضى شهوته بما هو أحب إليه وفترت، فلا يبقى عنده داع، ومن أحب
~~طلب شيء آخر فشهوته لم تقض بل قضي بعضها، PageV05P250
# وقضاء الشهوة إنما هو حصول المطلوب كله، فممتنع معه أن يطلب ما يحصل ما
~~قد حصل.
# وكذلك السارق إنما يسرق لما عنده من إرادة المال، ولكن من الناس من لا
~~يقف عند حد، بل لو حصل عنده أي شيء كان أحب الزيادة، ولهذا يسرق وإن لم يكن
~~ثم منافع أخر.
# وكذلك شارب الخمر يشربها لما يطلب بها من حصول اللذة وزوال الغم، فإذا
~~كانت اللذة الحاصلة بالصلاة وذكر الله أكمل وهي تصده عن ذلك لم يكن عنده
~~داع إليها.
# ومما يبين هذا قوله تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) (1) ، مع قول
~~الشيطان: (لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83)) (2) ، وقال
~~تعالى في حق يوسف الصديق: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا
~~المخلصين (24)) (3) ، فإن عباده تعالى هم الذين عبدوه وليس المراد كل من
~~خلقه، فإن الشياطين عباد بهذا الاعتبار، بل هذا كقوله تعالى: (وعباد الرحمن
~~الذين يمشون على الأرض هونا ms0924) (4) ، وقوله: (عينا يشرب بها عباد الله) (5) ،
~~وقوله: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) (6) . PageV05P251
# وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدرهم، تعس
~~عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن منع سخط،
~~تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".
# فعبد الله الذي هو عبده لابد أن يكون الله أحب إليه مما سواه، فإن الذين
~~جعلوا لله أندادا يحبونهم كحب الله مشركون لا مؤمنون، والذين آمنوا أشد حبا
~~لله، ولابد أن يكون الله أخوف عندهم مما سواه، ومن كان كذلك صرف عنه السوء
~~والفحشاء كما صرف عن يوسف.
# بخلاف المشركين الذين جعلوا لله أندادا يحبونهم كحب الله، فهؤلاء ليسوا
~~عباده، و (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (2) ، فالمشرك به لا يحصل له
~~ما يقر عينه، ويغني قلبه عن الأنداد، بل هذا لا يحصل إلا بعبادة الله وحده.
~~فإن الله سبحانه خلق عباده حنفاء؛ وللسلف في "الحنيف" عبارات، قيل:
~~المستقيم، كقول محمد بن كعب القرظي. والمتبع، كقول مجاهد. والمخلص، كقول
~~عطاء. وأما تفسيره بالمائل فهذا من قول بعض متأخري أهل اللغة، وهو مبسوط في
~~موضع آخر (3) .
# وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (4)
### | : "كل مولود يولد على الفطرة".
# وفي رواية (5) : PageV05P252
# "على فطرة الإسلام". فالقلب مخلوق حنيفا مفطورا على فطرة الإسلام، وهو
~~الإستسلام لله دون ما سواه. فهو بفطرته لا يريد أن يعبد إلا الله، فلا
~~يطمئن قلبه ويحصل لذته وفرحه وسروره إلا بأن يكون الله هو معبوده دون ما
~~سواه، وكل معبود دون الله يوجب الفساد، لا يحصل به صلاح القلب وكماله
~~وسعادته المقتضية لسروره ولذته وفرحه، وإذا لم يحصل هذا لا يبقى طالبا لما
~~يلتذ به فيقع في المحرمات من الصور والشرب وأخذ المال وغير ذلك.
# ولهذا لما كانت امرأة العزيز مشركة طالبة للفاحشة، ويوسف شاب غريب،
~~فالداعي المطيع معه أقوى، لكن معه من الإيمان ما يصده عن ذلك، وتلك هي
~~وقومها كانوا مشركين، ولهذا قال لهم: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ms0925)
~~إلى قوله: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من
~~دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم
~~إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم) (1) .
# وما نقله بعض المفسرين من أن زوجها (2) كان لا يصل إليها، وأن يوسف
~~تزوجها بعد ذلك فوجدها عذراء، فهذا ونحوه من الإسرائيليات مما لا يجوز
~~لمسلم أن يصدق به، فإن هذا لم يخبر PageV05P253
# بنقله أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو منقول عن أهل
~~الكتاب إن لم يكن قد افتراه غيرهم. وقد ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا
~~تكذبوهم". لا سيما وقد نقلوا في قصة يوسف أشياء تخالف القرآن، وتلك يجب
~~القطع بأنها كذب، وأما ما لم يعلم صدقه ولا كذبه يتوقف فيه.
# وهذه الحكاية كذب؛ فإن هذا خلاف العادة الغالبة على بني آدم، وإنما يقع
~~مثل هذا نادرا ولو وقع لأخبر به.
# والمراد لو كان الداعي لها مجرد الشهوة لعدم الزوج لكان في الرجال كثرة،
~~وإذا لم يحصل لها يوسف حصل لها غيره، ومعلوم أن الجائع والشبق إذا طلب
~~غلاما يشتهيه فيتعذر عليه لم يصبر عن الجوع والشبق بل يتناول ما تيسر له،
~~ولهذا يوجد صاحب الشبق يقضي شهوته بأخس ما يمكن، فمن الرجال من يأتي بهيمة
~~وكلبا وحمارا وطيرا، ومن النساء من تمكن منها قردا وحمارا أو غير ذلك لغلبة
~~الشهوة، ومن النساء من تتخذ آلة الرجل على صورة عضو الرجل عند تعذر الرجال
~~إلى أمثال ذلك، فكيف إذا حصل للمرأة رجل، وللرجل امرأة؟
# فعلم أن المرأة هويت يوسف لجماله، لا لكون زوجها لا يأتيها. PageV05P254
# وكذلك ما ينقله بعضهم عن يوسف أنه حل سراويله، وأنه رأى صورة يعقوب وغير
~~ذلك، كل ذلك من الأحاديث التي غالبها أن يكون من كذب اليهود. فإن الله
~~تعالى قال: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) (1) . فقد أخبر أنه صرف عنه
~~السوء والفحشاء فلم ms0926 يفعل سوءا ولا فحشاء، فإن ما صرفه الله عنه انصرف عنه.
~~ولو كان يوسف قد أذنب لتاب، فإن الله لم يذكر ذنب نبي إلا مع التوبة، ولم
~~يذكر عن يوسف توبة، فعلم أنه لم يذنب في هذه القضية أصلا، والله أعلم. إنما
~~أخبر عنه بالهم وقد تركه لله فهو مما أثابه الله عليه.
# وفي الصحيحين (2) عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما
~~يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك،
~~فمن هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هم بها فعملها
~~كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة
~~فلم يعملها كتبها الله [له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها
~~الله له] سيئة واحدة" (3) .
# فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أن من هم بسيئة فلم
~~يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة. وفي الحديث الآخر (4) قال: "يقول الله:
~~PageV05P255
# اكتبوها له حسنة فإنما تركها من جرائي". أي: من أجلي. فالعبد إذا هم
~~بالسيئة وتركها لله كان تركها لله حسنة كاملة، ولم يكن عليه إثم بذلك الهم.
# فيوسف الصديق لم يفعل قط سيئة، بل هم وترك ما هم به لما رأى برهان ربه،
~~فكتب الله له حسنة كاملة.
# وبرهان ربه ما تبين له به ما يوجب الترك، قال الله تعالى: (إن الذين
~~اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم
~~يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (202)) (1) .
# فالشيطان إذا زين المعصية يجعل في القلب ظلمة، ويضعف نور الإيمان، ولهذا
~~سماه طائفا، أي: يطيف بالقلب مثل ما يطيف الخيال بالنائم، ويغيب عن القلب
~~حينئذ من أمر الله ونهيه ووعده ووعيده ما يناقض ذلك، فإذا كان العبد متقيا
~~لله أمده الله تعالى بنور الإيمان، فذكر ما في الذنب من عذاب الله وسخطه،
~~وما يفوته به من كرامة الله وثوابه.
# والبرهان ببصيرة القلب، فيوسف الصديق أبصر برهان ربه بقلبه ms0927، فترك ما هم
~~به كل ذلك.
# وأما ما يذكر أنه تمثل له يعقوب في صورة جبريل وأنه عض يده، أو أن جبريل
~~أو يعقوب مسح على ظهره، أو رأى أنه مكتوب (2) = PageV05P256
# فكل هذا لا يجوز لأحد أن يصدق بشيء منه، بل هذا مما يعلم كذبه من وجوه
~~متعددة، فإن من لم يتنبه إلا بهذا يكون من أفجر الناس، فكيف يقال لمن وصفه
~~الله بالعفة والتقوى ما لا يوصف به إلا من هو أفجر الناس؟
# قال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24))
~~(1) . وما ذكر يقتضي أنه لم يصرف عنه إلا الجماع، وإلا فقد فعل مقدماته
~~وحرص عليه، وهذا كالفاعل، ولو حصل لمشرك دون هذا لامتنع من الفاحشة بدون
~~ذلك، بخلاف امتناع يوسف، مع كمال الدواعي فإن هذا لا يعرف لغيره، فإن التي
~~راودته سيدته التي تملكه، وقد استعانت عليه بعد ذلك بالنساء وحبسوه على ذلك
~~بضع سنين، وهو شاب غريب، وزوجها لم ينهها ولم يعاقبها، ولم ينصر يوسف
~~عليها، وهو في بلد غربة ليس هناك أهله الذين يستحي منهم، بل لو أتاها لم
~~يعلم أحد من الناس.
# وما يذكر من
### | حكاية مسلم بن يسار
# (2) أنه رأى يوسف، قال: "أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم! ".
~~فمسلم رآه بحسب حاله، وفيه دليل على صلاح مسلم، وإلا فأين حال هذا من حال
~~يوسف؟، تلك امرأة بدوية ظلمته في برية ولا حكم لها عليه، وهو شيخ كثير
~~العبادة، فدواعي الزنا منصرفة عنه، وموانعه موجودة، بخلاف يوسف؛ فإن دواعي
~~البشرية كانت تامة في حقه موجودة، PageV05P257
# وصوارف السوء كانت منتفية، وإنما صرف عنه السوء والفحشاء بإخلاصه، وترك
~~ما هم به لما رأى برهان ربه. وهمه الذي تركه كتب له به حسنات كاملة، ولو
~~تساوت القضيتان لكان هو أفضل، فكيف وبينهما من الفرقان ما لا يخفى إلا على
~~العميان؟
# وكثير من المؤمنين يطلب منه الفاحشة، ويراوده من يراوده ويمتنع، لكن لا
~~تجتمع معه هذه الأمور ولا يكون معهودا هذا الضمير (1) ، ولا ms0928 يصبر على حبس
~~بضع سنين= يختار ذلك على فعل ما طلب منه في خلوة عن الوطء لم يمتنع عن
~~مقدماته، ويوسف صرف الله عنه السوء والفحشاء فلم يفعل كبيرة ولا صغيرة، ولا
~~أمرته نفسه بسوء، بل كان ممن رحم الله، فلم تكن نفسه أمارة بسوء، بل امرأة
~~العزيز هي التي كانت نفسها أمارة بالسوء؛ فإنها راودته، وقدت القميص، وكذبت
~~عليه، واستعانت بالنساء ثم حبسته، ولهذا قالت: (أنا راودته عن نفسه وإنه
~~لمن الصادقين (51) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) (2) أي: في مغيبته عني.
# وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن قوله: (وما أبرئ نفسي)
~~هو من تمام كلام امرأة العزيز، وكما دل على ذلك القرآن في غير موضع (3) .
~~PageV05P258
# ومن قال إنه من كلام يوسف فقد قال باطلا، والنقولات في ذلك عن ابن عباس
~~ضعيفة بل موضوعة. ولو قدر أنه قال ذلك فبعض ما يخبره هذا وعبد الله بن عمرو
~~من الإسرائيليات كله مما سمعوه من أهل الكتاب، فلا يجوز الاحتجاج به.
# والصاحب والتابع فقد ينقل عنهم ما لم يتبين [له أنه كذب، فإن تبين] (1)
~~لغيره أنه كذب لم يجز نقله إلا على وجه التكذيب، كما قال كثير منهم: إن
~~الذبيح إسحاق، ودلائل الكتاب والسنة وغير ذلك أنه إسماعيل (2) ، وأمثال
~~ذلك.
# وكثير من السلف يروي أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إما مسندة
~~وإما مرسلة، فإن كان لم يعلم أنها كذب فيجوز له روايتها، وإن كان غيره ممن
~~علم أنها كذب لا يجوز له روايتها. وعامة ما ينقله سلفنا من الإسرائيليات
~~إذا لم يكن عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو دون المراسيل عن نبينا -
~~صلى الله عليه وسلم - بكثير؛ فإن أولئك النقلة من أهل الكتاب، والمدة
~~طويلة، وقد علم الكذب فيهم والله أعلم. PageV05P259
### | فصل
# في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر
# كلمة لبيد:
# ألا كل شيء ماخلا الله باطل
# PageV05P261
# فصل
# في قوله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ms0929:
# ألا كل شيء ماخلا الله باطل
# فقد جعل هذه الكلمة أصدق كلمة قالها شاعر، وهذا كقوله: (ذلك بأن الله هو
~~الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (1) ، وقال: (فذلكم الله ربكم الحق
~~فماذا بعد الحق إلا الضلال) (2) ، ونحو ذلك يتناول كل معبود من دون الله من
~~الملائكة والبشر وغيرهم من كل شيء، فهو باطل، وعبادته باطلة، وعابده على
~~باطل، وإن كان موجودا كالأصنام.
# و"الباطل" يراد به: الذي لا ينفع عابده، ولا ينتفع المعبود بعبادته. فكل
~~شيء سوى الله باطل بهذا الاعتبار، حتى الدرهم والدينار، كما في الدعاء
~~المأثور: "أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل إلا وجهك
~~الكريم" (3) ، فإن كل نفس لابد لها أن تأله إلها هو غاية مقصودها، فكل ما
~~سوى الله باطل، وهو ضال عن عابده، كما أخبر بذلك في كتابه. PageV05P263
# و"الضلال" يراد به الهلاك، كما قال تعالى: (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض
~~أئنا لفي خلق جديد) (1) قالوا: معناه هلكنا وصرنا ترابا. وأصله من قوله: ضل
~~الماء في اللبن، إذا هلك فيه وتلاشى. فإذا كان الضال في الشيء هالكا فيه،
~~فالضال عنه هالك عنه. ولهذا قال: (ضل سعيهم في الحياة الدنيا) (2) أي: هلك
~~وذهب، وهو بمعنى بطل.
# فكل معبود سوى الله فهو باطل وضال، يضل عابده ويضل عنه، ويذهب عنه، وهالك
~~عنه، إلا وجه الله. فعبادة ما سواه فاسدة وباطل وضلال، والمعبود سواه فاسد.
# قال مجاهد في قوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) (3) قال: إلا ما أريد به
~~وجهه. وقال سفيان الثوري: إلا ما ابتغي به وجهه. كما يقال: ما يبقى إلا
~~الله والعمل الصالح. وفي الحديث: "الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر
~~الله وما والاه، وعالم ومتعلم" (4) . فأي شيء قصده العبد وتوجه إليه بقلبه
~~أو رجاه أو خافه أو أحبه أو توكل عليه أو والاه، فإن ذلك هالك مهللك، ولا
~~ينفعه إلا ما كان لله. PageV05P264
# وهذا بخلاف قوله: (كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال
~~والإكرام (27)) (1) ، فإنه ms0930 حصر كل من عليها ولم يستثن، مع أن هذا المعنى
~~يدل عليه، فإن جميع الأعمال تفنى، ولا يبقى منها شيء ينفع صاحبه إلا ما كان
~~لوجه ذي الجلال والإكرام، كما قال مالك: ما كان لله فهو يبقى، وما كان لغير
~~الله لا يدوم ولا يبقى.
# وقال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) (2) ، ولهذا قيل: الناس
~~يقولون: قيمة كل امرىء ما يحسن، وأهل المعرفة يقولون: قيمة كل امرىء ما
~~يطلب. ومما روي عن بني إسرائيل: "يقول الله: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم،
~~ولكني إنما أنظر إلى همته".
# وقد روي أن الله سبحانه يقول (3) : "إن أدنى ما أنا صانع بالعالم إذا أحب
~~الدنيا أن أمنع قلبه حلاوة ذكري". وتصديق ذلك في القرآن: (فأعرض عن من تولى
~~عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم) (4) ، وقال:
~~(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) (5) . وفي الصحيح
~~(6) حديث الثلاثة الذين أول ما سعرت بهم النار، ذكر منهم العالم الذي يقول:
~~تعلمت العلم فيك وعلمته فيك، فيقال له: PageV05P265
# كذبت، بل أردت أن يقال فلان عالم، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار.
~~ومعاوية لما سمع هذا الحديث بكى وقال: صدق الله وبلغ رسوله، ثم قرأ قوله:
~~(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا
~~يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها
~~وباطل ما كانوا يعملون (16)) (1) .
# وكذلك في الحديث في السنن (2) : "من طلب علما مما يبتغى به وجه الله، لا
~~يطلبه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يرح رائحة الجنة". وفي الحديث الآخر
~~(3) : "من طلب علما -أو قال: من تعلم علما- ليجاري به العلماء ويماري به
~~السفهاء، ويتأكل به الدنيا، ويصرف به وجوه الناس إليه، لقي الله وهو عليه
~~غضبان".
# وفي رواية: "لم يجد عرف الجنة".
# وهذا باب واسع قد بسط في غير هذا الموضع، وتكلمنا فيه على آية هود وآية
~~سبحان وآية الشورى وغير ms0931 ذلك من الآيات والأحاديث والآثار في ذم العالم
~~وغيره المريد للدنيا والقالة، وبينا فيه أمارات ذلك، وبينا أن الدين كله
~~لله، وأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، وأن الصحابة والسلف كانوا أخوف الخلق
~~في هذا المقام الخطر.
# والمقصود أن هذا العالم لما لم يكن مقصوده إلا الدنيا بما علمه
~~PageV05P266
# من العلم وبما يعلمه، وذلك مما يبتغى به وجه الله، لم يكن له عند الله
~~قيمة، ولم يكن للعلم في قلبه حلاوة، ولم يرتع في رياض الجنة في الدنيا، وهي
~~مجالس الذكر، فلم يرح رائحة الجنة. فالأول طلب العلم لكسب الأموال والجاه،
~~فكان عقوبته أن لا يجد رائحة الجنة.
# والثاني طلبه لمقاصد مذمومة من المباهاة والمماراة وصرف وجوه الناس، فكان
~~جنس مطلوبه محرما، فلقي الله وهو عليه غضبان.
# والأول جنس مطلوبه مباح، فلم يجد رائحة الجنة في الدنيا، فلم يرتع في
~~رياضها، فقلبه محجوب عنها بما فيه من طلب الدنيا.
# وفي حديث مكحول المرسل (1) : "من أخلص لله العبادة أربعين صباحا تفجرت
~~ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه". وحكي عن أبي حامد قال: أخلصت لله أربعين
~~صباحا فلم يفجر لي شيء، فذكرت ذلك لبعض أهل المعرفة، فقال: إنك لم تخلص
~~لله، وإنما أخلصت للحكمة.
# وكذلك الحكاية المشهورة عن الحسن (2) في ذلك الرجل الذي كان يتعبد ليراه
~~الناس وليقال، فكان الناس يذمونه، ثم أخلص لله ولم يغير عمله الظاهر، فألقى
~~الله له المحبة في قلوب الناس، كما قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا
~~الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96)) (3) . PageV05P267
# وإذا كانت العبادة تبقى ببقاء معبودها ف
### | كل معبود سوى الله باطل،
# فلا تبقى النفس، بل تضل وتشقى بعبادة غير الله شقاء أبديا، كما قال
~~تعالى: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح
~~في مكان سحيق) (1) . إنما كان بقاؤها ببقاء معبودها لأنها مريدة بالذات،
~~فلابد لها من مراد محبوب هو إلهها الذي تبقى ببقائه، فإذا بطل بطلت وتلاشى
~~أمرها، وما ثم باق إلا الله. والأفلاك وما فيها كله يستحيل ms0932، والملائكة
~~مخلوقون يستحيلون، بل ويموتون عند جمهور العلماء.
# والعبد ينتفع بما خلق بشيء من حيث هي من آيات الله له فيها، فهي وسيلة له
~~إلى معرفة الله وعبادته، ولو كان العلم هو الموجب لما يطلبه هؤلاء لكان هو
~~العلم بالله، فإنه هو الحق، وما سواه باطل، ومن له من مخلوقاته فالعلم به
~~تابع للعلم بالله، والعلم الأعلى هو العلم بالأعلى. كما قال: (سبح اسم ربك
~~الأعلى (1)) (2) ، فهو رب كل ما سواه، فهو الأصل، فكذلك العلم به سيد جميع
~~العلوم وهو أصل لها. PageV05P268
### | المسألة الخلافية
# في الصلاة خلف المالكية
# PageV05P269
# بسم الله الرحمن الرحيم
# ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين وعلماء المسلمين -وفقهم الله لطاعته-
~~في رجل يزعم أنه فقيه على مذهب الشافعي، قال للعامة: لا تجوز الصلاة خلف
~~أئمة المالكية، ومن صلى خلف إمام مالكي المذهب لم تصح صلاته، ويلزمه إعادة
~~ما صلى خلف الإمام المالكي. فلما سمع العامة كلامه امتنعوا من الصلاة خلفهم
~~لأجل ما سمعوه منه، وطلبوا فتاوى الأئمة، إما بصحة ما قاله المذكور أو
~~ببطلانه. وإذا لم يصح قوله ماذا يجب عليه؟ وهل على ولي الأمر زجره وردعه
~~ومنعه من ذلك حتى يتعظ به غيره أم لا؟ وإذا ردع وزجر اتعظ به غيره. أفتونا
~~مأجورين.
# فأجاب
# شيخ الإسلام فريد عصره ونحرير زمانه، المميز على شيوخه وأقرانه، تقي
~~الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ الإمام مفتي المسلمين أبي الفضل عبد الحليم
~~بن شيخ الإسلام مجدالدين عبد السلام بن تيمية الحراني، فسح الله في عمره:
~~الحمد لله وحده. إطلاق هذا الكلام من أنكر المنكرات وأشنع المقالات، يستحق
~~مطلقه التعزير البليغ، فإن فيه من إظهار الاستخفاف بحرمة هؤلاء الأئمة
~~السادة ما يوجب غليظ العقوبة، ويدخل صاحبه
# PageV05P271
# في أهل البدع المضلة. فإن مذهب الإمام الأعظم مالك بن أنس -إمام دار
~~الهجرة ودار السنة، المدينة النبوية التي سنت فيها السنن، وشرعت فيها
~~الشريعة، وخرج منها العلم والإيمان- هو من أعظم المذاهب قدرا، وأجلها
~~مرتبة. حتى تنازعت الأمة في إجماع أهل المدينة هل هو ms0933 حجة أم لا؟ ولم
~~يختلفوا في أن إجماع أهل مدينة غيرها ليس بحجة. والصحيح أن إجماعهم في زمن
~~الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان، فإن أمير المؤمنين عليا -رضي الله
~~عنهم- انتقل عنها إلى الكوفة. وفيما نقلوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~كالصاع وترك صدقة الخضرات ونحو ذلك حجة يجب اتباعها.
# وكذلك الصحيح أن اجتهاد أهل المدينة في ذلك الزمن مرجح على اجتهاد غيرهم،
~~فيرجح أحد الدليلين بموافقة عمل أهل المدينة.
# وهذا مذهب الشافعي، وهو المنصوص عن الإمام أحمد وقول محققي أصحابه.
# وكان لمالك بن أنس -رحمه الله- من جلالة القدر عند جميع الأمة، أمرائها
~~وعلمائها ومشايخها وملوكها وعامتها، من القدر ما لم يكن لغيره من نظرائه،
~~ولم يكن في وقته أجل عند الأمة منه. وقد روي حديث نبوي (1) ، وفسر به. ومن
~~جاء بعده من الأئمة -رحمهم الله- PageV05P272
# مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فهم أشد الناس تعظيما لأصوله
~~وقواعده، ومتابعة له فيها. وهم متفقون على أن مذاهب أهل المدينة رأيا
~~ورواية أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية في ذلك الوقت.
# وكيف يستجيز مسلم يطلق مثل هذه العبارة الخبيثة، وقد اتفق سلف الأمة من
~~الصحابة والتابعين على صلاة بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في بعض فروع الفقه،
~~وفي بعض واجبات الصلاة ومبطلاتها. ومن نهى بعض الأمة عن الصلاة خلف بعض
~~لأجل ما يتنازعون فيه من موارد الاجتهاد؛ فهو من جنس أهل البدع والضلال
~~الذين قال الله فيهم: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء)
~~(1) ، وقال الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) (2) ، وقال
~~تعالى: (لا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (3) ،
~~إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن
~~الفرقة والاختلاف.
# ودلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر -إمام الصلاة،
~~والحاكم، وأمير الحرب والفيء، وعامل الصدقة- يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس
~~عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم ms0934
~~لرأيه، فإن مصلحة PageV05P273
# الجماعة والائتلاف ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية.
~~ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض.
# وشبهة هذا المتفقه وأمثاله، ممن قد سمع بعض غلطات بعض الفقهاء، فيما إذا
~~ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، أو فعل ما يعتقد المأموم فسادها به،
~~فإن من الناس من قد يطلق القول ببطلان صلاة المأموم مطلقا، ومنهم من لا
~~يصحح الصلاة خلف من لا يأتي بالواجبات حتى يعتقد وجوبها.
# وهذه الاطلاقات خطأ مخالف للإجماع القديم، ولنصوص الأئمة المتبوعين. مثال
~~ذلك: أن يصلي المأموم خلف من ترك الوضوء من خروج النجاسات من غير السبيلين
~~كالدم، أو خلف من ترك الوضوء من مس الذكر، أو ترك الوضوء من القهقهة، ويكون
~~المأموم يرى وجوب الوضوء من ذلك، أو يكون الإمام قد ترك قراءة البسملة، أو
~~ترك الاستعاذة، أو ترك الاستفتاح، أو ترك تكبيرات الانتقال، أو تسبيحات
~~الركوع والسجود، ويكون المأموم يرى وجوب ذلك.
# فالصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض، وهذا مذهب الأئمة، وإن
~~كان قد يحكى عن بعضهم خلاف في بعض ذلك.
# فهذا الشافعي -رضي الله عنه- كان دائما يصلي خلف أئمة المدينة وأئمة مصر،
~~وكانوا إذ ذاك مالكية لا يقرأون البسملة سرا ولا جهرا، ولو سمع الشافعي من
~~يطعن في صلاته خلف مشايخه مالك وأقرانه، وهو دائما يفعل ذلك؛ لحكم عليه
~~بالضلال، وعده هو وسائر الأمة بعد ذلك خلافا للإجماع.
# PageV05P274
# والإمام أحمد يرى الوضوء من الدم الكثير، فقيل [له] : فإن كان الإمام لا
~~يتوضأ من ذلك، أأصلي خلفه؟ قال: سبحان الله!
# أتقول: إنه لا يصلى خلف سعيد بن المسيب، وخلف مالك بن أنس، أو كما قال.
~~يعني أن هؤلاء الأئمة الذين اجتمعت الأمة على الصلاة خلفهم؛ كانوا لا
~~يتوضؤون من الدم من غير السبيلين.
# وكذلك أبو يوسف -فيما أظن- لما حج مع هارون الرشيد، فاحتجم الخليفة،
~~فأفتاه مالك أنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لأبي يوسف: أصليت خلفه؟ فقال:
~~سبحان الله! أمير المؤمنين!؟
# يريد بذلك أن ms0935 ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل [أهل] البدع، كالرافضة
~~والمعتزلة والخوارج.
# فهذه النصوص وأمثالها عن هؤلاء الأئمة تخالف من يطلق من الحنفية
~~والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح
~~اقتداؤه به.
# يوضح ذلك أن مذهب عامة أئمة الإسلام -مثل مالك والشافعي وأحمد- أن الإمام
~~إذا ترك الطهارة ناسيا، مثل أن يصلي وهو جنب أو محدث ناس لحدثه، ثم تذكر
~~بعد صلاته؛ فإن صلاة المأموم صحيحة، ولا قضاء عليه. وهذا هو المأثور عن
~~الخلفاء الراشدين مثل عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما من الصحابة. ف
### | الإمام إذا كان مخطئا في نفس الأمر كان بمنزلة الناسي،
# وقد دل الكتاب والسنة (1) أن الله تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان.
~~فإذا كانت PageV05P275
# صلاة المأموم تصح خلف إمام تجب عليه الإعادة؛ فخلف إمام لا تجب عليه
~~الإعادة أولى.
# وذلك أن صلاة المأموم إن لم تكن مرتبطة بصلاة الإمام، بل كل منهم يصلي
~~لنفسه؛ فلا محذور. وإن كانت مرتبطة؛ فالإمام معفو عنه في موارد الاجتهاد،
~~فصلاته أيضا باجتهاد صحيحة عند المأموم.
# وإنما
### | غلط الغالط في هذا الأصل
# بحيث يتوهم أن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام، وليس كذلك، فإنه إذا صلى
~~باجتهاده السائغ؛ لم يكن في هذه الحال محكوما ببطلان عبادته، بل بصحتها،
~~كما يحكم بصحة حكمه في موارد الاجتهاد حتى يمنع نقضه.
# فأما فعل المحظورات ناسيا فأسهل، فإن أكثر الأئمة -مثل مالك والشافعي
~~وأحمد في إحدى روايتيه- لا يرون الكلام في الصلاة ناسيا يبطل الصلاة، ولا
~~يوجب الإعادة، فالإمام إذا فعل محظورا متأولا؛ فالمخطىء كالناسي. وإذا لم
~~تجب الإعادة عليه فكيف لا يصح الائتمام به؟ PageV05P276
# وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - قال: "يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم
~~وعليهم". وهذا نص صريح في أن الإمام إذا أخطأ كان خطؤه عليه لا على
~~المأموم، والمجتهد غايته أن يكون أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجبا، أو ms0936
~~فعل محظور اعتقد أنه ليس محظورا. ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن
~~يخالف هذا الحديث الصحيح الصريح بعد أن يبلغه.
# وقد روى الإمام أحمد (2) وأبو داود (3) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه
~~قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أم الناس فأصاب
~~الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم".
# وروى ابن ماجه (4) عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - يقول: "الإمام ضامن، فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء - يعني:
~~فعليه ولا عليهم".
# وهذه السنة الصحيحة الصريحة قد اتصل بها الإجماع القديم، وعمل بها زمن
~~القرون الثلاثة الفاضلة في جميع الأمصار، فإنه قد كان في عهد الصحابة من
~~يقرأ البسملة سرا، ومن يقرأ بها جهرا، PageV05P277
# ومن لا يقرأ بها سرا ولا جهرا، وكل منهم يصلي خلف الآخر وإن كان يرجح
~~قوله.
# ومن أجود ما احتج به من يرى الجهر بالبسملة حديث معاوية (1) ، لما قدم
~~المدينة فترك قراءة البسملة في الركعة الأولى في أول الفاتحة وأول السورة،
~~حتى هتف به الصحابة فقرأها في الركعة الثانية. وقد اعتمد الشافعي على هذا
~~الأثر في "الأم"، وفيه إجماع أولئك الصحابة على الصلاة خلفه وإن كان قد ترك
~~ذلك، وإن كانوا قد أنكروا تركه.
# ومن قال من المتفقهة أتباع المذاهب: إنه لا يصح اقتداؤه بمن يخالفه إذا
~~فعل أو ترك شيئا يقدح في الصلاة عند المأموم؛ فقود مقالته يوقعه في مذاهب
~~أهل الفرقة والبدعة، من الروافض والمعتزلة والخوارج، الذين فارقوا السنة،
~~ودخلوا في الفرقة والبدعة.
# ولهذا آل الأمر ببعض الضالين إلى أنه لا يصلي خلف من يرفع يديه في
~~المواطن الثلاثة، والآخر لا يرى الصلاة خلف من ترك الرفع أول مرة، وآخر لا
~~يصلي خلف من يتوضأ من المياه القليلة، وآخر لا يصلي خلف من لا يتحرز من
~~يسير النجاسة المعفو عنها عنده، إلى أمثال هذه الضلالات التي توجب أيضا أن
~~لا يصلي أهل PageV05P278
# المذهب الواحد ms0937 بعضهم خلف بعض، ولا يصلي التلميذ خلف أستاذه، ولا يصلي أبو
~~بكر خلف عمر، ولا علي خلف عثمان، ولا يصلي المهاجرون والأنصار بعضهم خلف
~~بعض.
# ولا يخفى على مسلم أن هذه من مذاهب أهل الضلال، وإن غلط فيها بعض الناس.
~~فهذه الفتوى لا تحتمل بسط هذا الأصل العظيم الذي هو جماع الدين.
# والواجب على ولاة الأمور المنع من هذه البدع المضلة، وتأديب من يظهر شيئا
~~من هذه المقالات المنكرة، وإن غلط فيها غالطون، فموارد النزاع إذا كان في
~~إظهارها فساد عام؛ عوقب من يظهرها، كما يعاقب من يشرب النبيذ متأولا، وكما
~~يعاقب البغاة المتأولون، لكف الجماعة، وان الناس (1) بعضهم عن البعض.
# وهذه الأصول الثلاثة التي يشتمل عليها هذا الواجب: (أن موارد الاجتهاد
~~معفو فيها عن الأئمة، وأن الاجتماع والائتلاف مما تجب رعايته، وأن عقوبات
~~المعتدين متعينة) هي من أجل أصول الإسلام.
# وقد أخرجا في الصحيحين (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه عام الخندق: "لا يصلين أحد PageV05P279
# العصر إلا في بني قريظة"، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي
~~إلا في بني قريظة، فصلوا بعد الغروب، وقال آخرون: لم يرد منا توقيت الصلاة،
~~فصلوا في الطريق. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يعب على
~~واحدة من الطائفتين. فقد أقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على اجتهادهم
~~في حياته، فبعد وفاته أولى وأحرى. والحمد لله وحده.
# (تمت الفتيا وجوابها على يد عمر بن علي بن أحمد بن محمد الأنصاري
~~الأندلسي الشافعي، غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين) .
# PageV05P280
### | رسالة إلى السلطان الملك المؤيد
# PageV05P281
# بسم الله الرحمن الرحيم
# من أحمد بن تيمية إلى المولى السيد السلطان الملك المؤيد، أيده الله
~~بتكميل القوتين النظرية والعلمية، حتى يبلغه أعلى مراتب السعادة الدنيوية
~~والأخروية، ويجعله ممن أتم عليه نعمه الباطنة والظاهرة، وأعطاه غاية
~~المطالب الحميدة في الدنيا والآخرة، وجعله مع الذين أنعم عليهم من النبيين
~~والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
# ففي الهدى كمال ms0938 القوة العلمية، وفي الرشاد كمال القوة العملية، وبهما
~~أخبر أنه أرسل رسوله حيث قال: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره
~~على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28)) (1) .
# فالهدى يتضمن كمال القوة العلمية، ودين الحق يتضمن كمال القوة العملية.
# وقد نزهه عن ضد ذلك في مثل قوله: (والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما
~~غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4)) (2) .
# فنزهه عن "الضلال" المناقض للهدى، وهو النقص في القوة العلمية، وعن
~~"الغي" المناقض للرشاد، وهو النقص في القوة العملية. PageV05P283
# ثم أخبر بكماله فيهما بقوله (وما ينطق عن الهوى (3)) وهو هوى النفس
~~المفسد للقوة العملية، (إن هو إلا وحي يوحى (4)) وهو أعلى مراتب إعلام الله
~~لعباده، وإن كان أهله متفاضلين فيه.
# فكمال التنزه عن الخطأ للأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهم فيه
~~متفاضلون، كما قال تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) (1) ، وقال
~~تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات
~~وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) (2) .
# وقد استوعب سبحانه أنواع جنس تكليمه لعباده في قوله تعالى: (وما كان لبشر
~~أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما
~~يشاء) (3) ، فجعل ذلك ثلاثة أنواع:
# الوحي الذي منه ما هو إلهام للأنبياء يقظة ومناما، فإن رؤيا الأنبياء
~~وحي.
# والتكليم من وراء حجاب، كما كلم موسى بن عمران حيث نادا وقربه نجيا.
# والتكليم بإرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء هو تكليمه بواسطة إرسال الملك،
~~كما قال تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (18))
~~(4) ، أي علينا أن نجمعه في قلبك، ثم علينا أن نقرأه PageV05P284
# بلسانك. وهذا على أظهر القولين، وهو أن "قرأ" بالهمزة من الظهور والبيان،
~~وقولهم: ما قرأت الناقة بسلا جزور قط، أي ما أظهرته، بخلاف "قرى يقري" فإنه
~~من الجمع، ومنه سميت القرية قرية، والمقراة مجتمع الماء.
# فقوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه (17) فإذا قرأناه) أي قرأناه بواسطة
~~جبريل (فاتبع قرآنه (18)) . وهذا ms0939 كقوله تعالى: (نتلوا عليك من نبإ موسى
~~وفرعون) (1) ، وإنما ذلك بتوسط قراءة جبريل وتلاوته، كقوله: (أو يرسل رسولا
~~فيوحي بإذنه ما يشاء) (2) . فإن هذا قد جعله سبحانه أحد أنواع الجنس العام
~~المقسوم، وهو تكليم الله لعباده، ولهذا قال عبادة بن الصامت: رؤيا المؤمن
~~كلام يكلم به الرب عبده في منامه.
# وأدنى مراتب ذلك الوحي المشترك: الذي يكون لغير الأنبياء، كقوله: (وإذ
~~أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) (3) ، وقوله: (وأوحينا إلى أم
~~موسى أن أرضعيه) (4) .
# وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجه في النبوة من الفلاسفة من أدرجه، كابن
~~سينا وأمثاله، فإن أرسطو وأتباعه القدماء ليس لهم في النبوة كلام، إذ كان
~~أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني PageV05P285
# الذي يؤرخ له التاريخ الرومي، وبه يؤرخ كثير من اليهود والنصارى، وكان
~~قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة. وبعد المسيح بنحو ثلاثمائة سنة
~~كان قسطنطين الذي أقام دين النصارى بالسيف، وفي عهده أحدثوا الأمانة وتعظيم
~~الصليب واستحلال الخنزير والقول بالتثليث والأقانيم بمجمعهم الأول المسمى
~~بمجمع نيقية.
# وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهب إلى أرض الفرس وغير ممالكهم، وليس هو
~~ذا القرنين المذكور في القرآن، الذي بنى سد يأجوج ومأجوج، فإن هذا كان
~~متقدما على ذلك، وكان موحدا مسلما.
# والمقدوني لم يصل إلى تلك الأرض، وكان هو وقومه مشركين يعبدون الهياكل
~~العلوية والأصنام الأرضية، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلت إليهم دعوة المسيح
~~عليه الصلاة والسلام، فأسلم منهم من أسلم، وكانوا متبعين لدين المسيح الحق،
~~إلى أن بدل منه ما بدل.
# وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائر البحر، لم يصل إليهم من أخبار إبراهيم
~~وآل إبراهيم -كموسى بن عمران وغيره- ما عرفوا به حقيقة النبوة، ولهذا كان
~~أرسطو أول من قال بقدم الأفلاك من هؤلاء، بخلاف من قبله كأفلاطون وشيخه
~~سقراط، وشيخ سقراط فيثاغورس، وشيخ فيثاغورس انبدقلس، فإن هؤلاء كانوا
~~يقولون بحدوث صورة الفلك، ولهم في المبادىء كلام طويل قد بسطناه في الكتاب
~~الكبير (1) الذي ذكرنا فيه مقالات العالم في مسألة PageV05P286
# حدوث العالم ms0940 وقدمه، فإنها منشأ نزاع الأولين والآخرين في أقوال الرب
~~وأفعاله، وعنها تنازع أهل الملل من المسلمين وأهل الكتاب في كلام الرب: هل
~~هو قديم النوع أو العين؟ وهل هو قائم به أو مباين له؟ وهل يتكلم بقدرته
~~ومشيئته أو هو لازم له لزوم الحياة؟
# وكذلك تنازعوا في دوام الحدوث ووجود ما لا يتناهى منها في الماضي
~~والمستقبل: هل هو ممتنع في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهم وأبو الهذيل،
~~أو هو جائز في المستقبل ممتنع في الماضي؟ كما يقوله كثير من المتكلمين، أم
~~هو جائز فيهما، كما يقوله أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة، لكن أئمة أهل
~~الملل لا يجوزون ذلك إلا في قديم واحد، لا يجوزون أن يكون شيئان كل منهما
~~قديم أزلي يقوم به حوادث لا بداية لها ولا نهاية، فيكون ما لا يتناهى لا في
~~الماضي ولا في المستقبل قابلا لأن يزاد عليه.
# وهذا المحال إنما يلزم من قال بقدم الأفلاك، وأما أئمة أهل السنة
~~-كالصحابة والتابعين لهم بإحسان ومن سلك سبيلهم من أئمة المسلمين- فهؤلاء
~~أتوا بخلاصة المعقول والمنقول، إذ كانوا عالمين بأن كلا من الأدلة السمعية
~~والعقلية حق، وأنها متلازمة، فمن أعطى الأدلة العقلية اليقينية حقها من
~~النظر التام علم أنها موافقة لما أخبرت به الرسل، ودلته على وجوب تصديق
~~الرسل فيما أخبروا به. ومن أعطى الأدلة السمعية حقها من الفهم علم أن الله
~~أرشد عباده في كتابه إلى الأدلة العقلية اليقينية، التي بها يعلم وجود
~~الخالق وثبوت صفات الكمال له، وتنزهه عن النقائص وعن أن يكون له مثل في شيء
~~من صفات الكمال، و [التي تدل] على
# PageV05P287
# وحدانيته ووحدانية ربوبيته ووحدانية إلهيته، وعلى قدرته وعلمه وحكمته
~~ورحمته، وصدق رسله ووجوب طاعتهم فيما أوجبوا وأمروا، وتصديقهم فيما أعلموا
~~به وأخبروا، وأنهم كملوا بما أوتوا من الهدى ودين الحق للعباد ما كانت تعجز
~~مجرد عقولهم عن بلوغه.
# إذ كانت
### | طرق العلم ثلاثة: الحس، والنظر، والخبر.
# فأتباعهم جمع الله لهم غاية الفضائل العلمية والعملية، ولهذا كانت أمة
~~محمد - صلى ms0941 الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس، فإن الله جمع لهم من
~~الفضائل ما فرقه في غيرهم من الأمم، فجمعوا إلى ما خصهم الله به ما كان عند
~~غيرهم من أهل الكتاب ومن فلاسفة اليونان والفرس والهند وغيرهم.
# ولما كان سلف هذه الأمة عالمين بغايات العلوم العقلية والسمعية وعلموا
~~تلازمهما، لم يكن بينهم تنازع ولا تعارض. وقد أخبر الله في كتابه بما دل به
~~على أن كلا من العقل والسمع يوجب النجاة، فقال تعالى عن أهل النار: (وقالوا
~~لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير (10)) (1) ، وقال تعالى: (أفلم
~~يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا
~~تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)) (2) ، وقال تعالى: (إن
~~في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (3) .
~~PageV05P288
# فدل على أن مجرد العقل يوجب النجاة وكذلك مجرد السمع، [و] معلوم أن السمع
~~لا يفيد دون العقل، فإن مجرد إخبار المخبر لا يدل إن لم يعلم صدقه، وإنما
~~يعلم صدق الأنبياء بالعقل، لكن طائفة من أهل الكلام ظنوا أن دلالة السمع
~~إنما هي من جهة المخبر فقط، وقد علموا أن الخبر لا يفيد إن لم يعلم بالعقل
~~صدق المخبر، فجعلوا دلالة العقل خارجة عما جاءت به الأنبياء.
# وأما حذاق المتكلمين فعلموا أن
### | الرسول بين للناس الأدلة العقلية
# التي بها يعرف إثبات الصانع وتوحيده وصفاته وصدق رسوله، وعلموا أنه لا
~~يكون عالما بالكتاب والسنة إلا من علم ما فيهما من الأدلة العقلية التي تدل
~~على المطلوب، مثل العلم بصدق المخبر، وأن الله إنما بعث رسولا إلى الخلق
~~ليهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم،
~~ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسن. إذ بعثه بالهدى
~~ودين الحق، وقد أكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة.
# وقد تضمنت رسالته ما به يعلم ذلك من الأدلة العقلية، وإلا فمجرد إخبار
~~المخبر قبل العلم بصدقه لا يفيد علما. وكذلك الأدلة العقلية لا ms0942 يكون الناظر
~~فيها قد أعطاها حقها حتى تدله على صدق الرسول، فإن الأدلة العقلية اليقينية
~~مستلزمة لذلك، وثبوت الملزوم بدون ثبوت اللازم محال. ولهذا قال أهل النار
~~لما قيل لهم (ألم يأتكم نذير (8) قالوا بلى) (1) الآية إلى (السعير (11)) .
~~فدل ذلك على PageV05P289
# أنهم كذبوا الرسل فاستحقوا العذاب، ودل على أنهم لم يكونوا يعقلون، وأنهم
~~لو عقلوا لصدقوا الرسل.
# فلما كان السلف عالمين بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنها متلازمة،
~~علموا أنه يمتنع أن تكون متعارضة، فإن الأدلة القطعية اليقينية يمتنع
~~تعارضها، لوجوب ثبوت مدلولها، فلو تعارضت لزم إما الجمع بين النفي
~~والإثبات، وإما رفعهما. والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. لكن جاء بعدهم
### | من أهل الكلام من قصر في معرفة ما جاء به الرسول وما يوجبه النظر المعقول،
# فظنوا في أقوال الرب وأفعاله في مسألة حدوث العالم وغيرها ظنونا مخطئة،
~~ليست مطابقة لخبر الرسل ولا لموجب العقل، وصار يظن من لا يعرف دين الرسل أن
~~هذا هو دينهم، ورأوا في ذلك ما يناقض صريح العقل.
# فكان هذا من أسباب اضطراب الناس في أمر الرسل:
# فطائفة تقول: إنما جاءوا في العلوم الإلهية بطريق التخييل وخطاب الجمهور.
# وطائفة تقول: بل جاءوا بطريق لا يدل على المقصود، بل يشعر بنقيضه، ليعرف
~~الناس الحق بأنفسهم لا من جهة الأنبياء. ثم يتأولون ما قالته الأنبياء على
~~ما عندهم.
# وطائفة تقول: فيما جاءت به الأنبياء متشابه لا يعلم معناه لا الأنبياء
~~ولا غيرهم، ظنوا أن الوقف على قوله (وما يعلم تأويله إلا الله) (1) ، وأنه
~~إذا كان الوقف على هذا فالمراد بالتأويل صرف اللفظ PageV05P290
# عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. وصار من هؤلاء من يقول: هذه
~~الألفاظ تجرى على ظاهرها، ولا يعلم تأويله إلا الله، فيجمع بين النقيضين.
# ولم يعلموا أن لفظ "التأويل" بحسب تعدد الاصطلاحات صار مشتركا في ثلاثة
~~معان:
# معناه في القرآن هو ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره، كقوله تعالى:
~~(هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل
~~ربنا ms0943 بالحق) (1) . وهذا التأويل لا يعلمه إلا الله، كوقت الساعة.
# ويراد بالتأويل نفس الكلام وما قصد إفهام الناس إياه، وهذا التأويل يعلمه
~~الراسخون في العلم. ولا يجوز أن ينزل الله كتابا يأمر بتدبره وعقله، وقد
~~فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كله للمسلمين، ويكون فيه ما لا
~~يعلم تفسيره لا النبي ولا أحد من أمته.
# ويراد بالتأويل تحريف الكلم عن مواضعه، وتفسير الكلام بغير مراد المتكلم،
~~كتحريف أهل الكتاب لما حرفوه من الكتاب، وتحريف الملاحدة وأهل الأهواء لما
~~حرفوه من معاني هذا الكتاب. وهذا تأويل باطل يعلم الله أنه باطل، لا أنه
~~يعلم أنه حق، كما قال تعالى: (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا
~~في الأرض) (2) . فإنه سبحانه PageV05P291
# يعلم الأشياء على ما هي عليه، يعلم الموجود موجودا والمعدوم معدوما، فما
~~كان معدوما لا يعلمه موجودا. وهذا باب واسع.
# والسلطان -أيده الله وسدده- هو من أحق من تجب معاونته على مصالح الدنيا
~~والآخرة، لما جمع الله فيه من الفضائل والمناقب.
# وكان من أسباب هذه التحية أن فلانا قدم، ولكثرة شكره للسلطان وثنائه عليه
~~ودعائه له حتى في الأسحار وغيرها يكثر المفاوضة في محاسن السلطان، ويجدد
~~بحضوره للسلطان من الثناء والدعاء ما هو من بشرى المؤمن، كما قالوا: يا
~~رسول الله! الرجل يعمل العمل لنفسه فيحمده الناس عليه، فقال: "تلك عاجل
~~بشرى المؤمن" (1) .
# فالسلطان جعل الله فيه من الاشتمال على أهل الاستحقاق ما يأجره الله
~~عليه. وفلان هذا من خيار الناس وأصدقهم وأنفعهم، ومن بيت معروف، وقد جعل
~~الله فيه من المحبه والثناء على السلطان ما هو من نعم الله عليه، وهو من
~~أهل الخير والدين معروف، فجمع الله بسببه للسلطان قلوبا تحب السلطان وتدعو
~~له. والله تعالى يجمع له خير الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله
~~وبركاته، وعلى سائر من يحيط به العناية الكريمة. والحمد لله رب العالمين.
~~PageV05P292
### | رسالة إلى السلطان الملك الناصر في شأن التتار
# PageV05P293
# بسم الله الرحمن الرحيم
# (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره ms0944 على الدين كله ولو كره
~~المشركون (33)) (1) .
# (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (10)
~~تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم
~~إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار
~~ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (12) وأخرى تحبونها نصر من الله
~~وفتح قريب وبشر المؤمنين (13) يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما
~~قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار
~~الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم
~~فأصبحوا ظاهرين (14)) (2) .
# (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم
~~إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في
~~الآخرة إلا قليل (38) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم
~~ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير (39) إلا تنصروه فقد نصره الله إذ
~~أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن
~~الله معنا فأنزل الله سكينته عليه PageV05P295
# وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا
~~والله عزيز حكيم (40) انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في
~~سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41)) (1) .
# إلى سلطان المسلمين، نصر الله به الدين، وقمع به الكفار والمنافقين، وأعز
~~به الجند المؤمنين، وأدالهم به على القوم المفسدين.
# سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا
~~هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير. ونسأله أن يصلي على محمد عبده
~~ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
# أما بعد، فإن الله قد تكفل بنصر هذا الدين إلى يوم القيامة، وبظهوره على
~~الدين كله، وشهد بذلك، وكفى بالله شهيدا. وأخبر الصادق المصدوق - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم
~~إلى يوم القيامة (2) ، وأخبر أنهم ms0945 بالناحية الغربية عن مكة والمدينة (3) ،
~~وهي أرض الشام وما يليها.
# كما أخبرنا أنه لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا (4) الترك، قوما صغار
~~PageV05P296
# الأعين دلف الآنف، ينتعلون الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة (1) .
# وأخبر (2) أن أمته لا يزالون يقاتلون الأمم حتى يقاتلوا الأعور الدجال،
~~حين ينزل عيسى بن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل
~~المسلمون جنده القادم معه من يهود أصبهان وغيرهم.
# وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة
~~سنة من يجدد دينها (3) . ولا يكون التجديد إلا بعد استهدام.
# وقال: "سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها،
~~وسألته أن لا يهلكهم بسنة عامة، فأعطانيها" (4) .
# وما زالت دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - تظهر شيئا بعد شيء. وقد
~~أظهر الله في هذه الفتنة (5) من رحمته بهذه الأمة وجندها ما فيه عبرة، حيث
~~ابتلاهم بما يكفر به من خطاياهم، ويقبل بقلوبهم على ربهم، ويجمع كلمتهم على
~~ولي أمرهم، وينزع الفرقة والاختلاف من بينهم، PageV05P297
# ويحرك عزماتهم للجهاد في سبيل الله وقتال الخارجين عن شريعة الله.
# فان هذه الفتنة التي جرت، وإن كانت مؤلمة للقلوب، فما هي -إن شاء الله-
~~إلا كالدواء الذي يسقاه المريض ليحصل له الشفاء والقوة. وقد كان في النفوس
~~من الكبر والجهل والظلم ما لو حصل معه ما تشتهيه من العز لأعقبها ذلك بلاء
~~عظيما. فرحم الله عباده برحمته التي هو أرحم بها من الوالدة بولدها، وانكشف
~~لعامة المسلمين شرقا وغربا حقيقة حال هؤلاء المفسدين الخارجين عن شريعة
~~الإسلام وإن تكلموا بالشهادتين، وعلم من لم يكن يعلم ما هم عليه من الجهل
~~والظلم والنفاق والتلبيس والبعد عن شرائع الإسلام ومناهجه، وحنت إلى
~~العساكر الإسلامية نفوس كانت معرضة عنهم، ولانت لهم قلوب كانت قاسية عليهم،
~~وأنزل الله عليهم من ملائكته وسكينته مالم يكن في تلك الفتنة معهم، وطابت
~~نفوس أهل الإيمان ببذل النفوس والأموال للجهاد في سبيل الله، وأعدوا العدة
~~لجهاد عدو الله وعدوهم، وانتبهوا من سنتهم، واستيقظوا من ms0946 رقدتهم، وحمدوا
~~الله على ما أنعم به من استعداد السلطان والعسكر للجهاد، وما جمعه من
~~الأموال للإنفاق في سبيل الله.
# فإن الله فرض على المسلمين الجهاد بالأموال والأنفس، والجهاد واجب على كل
~~مسلم قادر، ومن لم يقدر أن يجاهد بنفسه فعليه أن يجاهد بماله إن كان له مال
~~يتسع لذلك، فإن الله فرض الجهاد بالأموال والأنفس. ومن كنز الأموال عند
~~الحاجة إلى إنفاقها في الجهاد، من الملوك أو الأمراء أو الشيوخ أو العلماء
~~أو التجار أو الصناع أو الجند أو غيرهم، فهو داخل في قوله سبحانه (والذين
~~يكنزون الذهب
# PageV05P298
# والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها
~~في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا
~~ما كنتم تكنزون (35)) (1) ، خصوصا إن كانت الأموال من أموال بيت المال، أو
~~أموال أخذت بالربا ونحوه، أو لم تؤد زكاتها ولم تخرج حقوق الله منها.
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحض المسلمين على الإنفاق في سبيل
~~الله، حتى إنه في غزاة تبوك حضهم، وكان المسلمون في حاجة شديدة، فجاء عثمان
~~بن عفان بألف راحلة من ماله في سبيل الله بأحلاسها وأقتابها، وأعوزت خمسين
~~راحلة فكملها بخمسين فرسا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما ضر
~~عثمان ما فعل بعد اليوم" (2) .
# وذم الله المخلفين عن الغزو في سورة براءة بأقبح الذم حين قال: (قل إن
~~كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة
~~تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله
~~فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)) (3) .
~~وقال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما PageV05P299
# ويستبدل قوما غيركم) (1) .
# ف
### | من ترك الجهاد عذبه الله عذابا أليما بالذل وغيره،
# ونزع الأمر منه فأعطاه لغيره، فإن هذا الدين لمن ذب عنه.
# وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالجهاد، فإنه باب
~~من أبواب الجنة (2) ، يذهب الله به عن النفوس الهم والغم" (3) . وقال - صلى
~~الله عليه وسلم - (4) : "لن يغلب اثنا ms0947 عشر ألفا من قلة وقتال، واعلم أن
~~النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا".
# ومتى جاهدت الأمة عدوها ألف الله بين قلوبها، وإن تركت الجهاد شغل بعضها
~~ببعض.
# ومن نعم الله على الأمة أنها قد اجتمعت على ذلك في الشرق والغرب، حتى إن
~~المؤمنين من أهل المشرق قد تحركت قلوبهم انتظارا لجنود الله، وفيهم من نوى
~~أنه يخرج مع العدو إذا جمعوا، ثم إما أن يقفز عنهم وإما أن يوقع بهم.
~~والقلوب الساعة محترقة مهتزة لنصر الله ورسوله على القوم المفسدين، حتى إن
~~بالموصل PageV05P300
# والجزيرة وجبال الأكراد خلقا عظيما مستعدين للجهاد مرتقبين العساكر، سواء
~~تحرك العدو أو لم يتحرك.
# وكذلك قدمت (1) بنت بيدرا (2) وكانت مأسورة في بيت قازان (3) ، فأخبرت
~~بما جرى بينه وبين أخيه وأمه مما يؤيد ذلك، وهي الساعة في نيتها تذهب إلى
~~مصر، وقد أقامت في بيتهم مدة إلى نصف شوال على ما ذكرت.
# وسواء ألقى الله بينهم الفرقة والاختلاف وأهلك رؤساءهم أو لم يكن، فإن
~~الأمر إذا كان كذلك فهذا عون عظيم من الله للمسلمين.
# وقد اتصل بالداعي أخبار صادقة من جهات يوثق بها بما قد مال مع المسلمين
~~من أمراء تلك البلاد حتى من المغول، ولابد أن السلطان يطالع بذلك من تلك
~~البلاد، فإن هناك قوم صالحون (4) ساعون في مصالح المسلمين، كشيخ الجزيرة
~~الشيخ أحمد.
# وجاءتنا أخبار مع غير واحد بأن الخربندا أخا قازان (5) قد قدم الروم وهو
~~يجمع العساكر للقدوم. وقدمت بنت لبيدرا كانت مأسورة في بيت قازان (5) ،
~~وذكرت أحوالا من الكلام بين قازان (5) وأخيه الخربندا وأمه، تدل على ذلك،
~~وأن الخربندا هو في نية فاسدة PageV05P301
# للمسلمين، وأمه تنهاه عن ذلك، وهو لا يقبل، ويوقع بينهم فتنة.
# فليس من الواجب أن يترك نصر الله ورسوله والجهاد في سبيل الله إذا كان
~~عدو الله وعدو المسلمين قد وقع البأس بينهم، بل هناك يكون انتهاز الفرصة،
~~ولا يحل للمسلمين أن ينتظروهم حتى يطأوا بلاد المسلمين كما فعلوا عام أول،
~~فإن النبي - صلى الله ms0948 عليه وسلم - قال: "ما غزي (1) قوم في عقر دارهم إلا
~~ذلوا" (2) .
# والله قد فرض على المسلمين الجهاد لمن خرج عن دينه وإن لم يكونوا
~~يقاتلونا، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يجهزون الجيوش إلى
~~العدو وإن كان العدو لا يقصدهم، حتى إنه لما توفي رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - وكانت مصيبته أعظم المصائب، وتفرق الناس بعد موته واختلفوا،
~~نفذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه جيش أسامة بن زيد الذي كان قد أمره رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام إلى غزو النصارى، والمسلمون إذ ذاك
~~في غاية الضعف.
# فلما رآهم العدو فزعوا وقالوا: لو كان هؤلاء
### | ....
# (3) ما بعثوا جيشا.
# وكذلك أبو بكر الصديق لما حضرته الوفاة قال لعمر بن الخطاب: لا يشغلكم
~~مصيبتكم بي عن جهاد عدوكم (4) . وكانوا هم قاصدين PageV05P302
# للعدو لا مقصودين.
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته، وهو يقول: "نفذوا جيش
~~أسامة، نفذوا جيش أسامة" (1) ، لا يشغله ما هو فيه من البلاء الشديد عن
~~مجاهدة العدو. وكذلك أبو بكر.
# والساعة لما ذهب أمير بحلب بعسكر إلى الجزيرة وتصيد هناك، طار الصيت في
~~تلك البلاد بمجيء العسكر، فامتلأت قلوب البنجاي (2) رعبا، حتى صاروا يريدون
~~أن يظهروا زي المسلمين لئلا يؤخذوا، وفي قلوب العدو رعب لا يعلمه إلا الله،
~~وقد هيىء لهم في البلاد إقامات كثيرة من الشعير وغيره، والمسلمون هناك
~~يدعون الله أن يكون رزق المسلمين.
# و
### | أقل ما يجب على المسلمين أن يجاهدوا عدوهم في كل عام مرة،
# وإن تركوه أكثر من ذلك فقد عصوا الله ورسوله، واستحقوا العقوبة، وكذلك
~~إذا تقاعدوا حتى يطأ العدو أرض الإسلام. والتجربة تدل على ذلك، فإنه (3)
~~لما كان المسلمون يقصدونهم في تلك البلاد لم يزالوا منصورين، وفي نوبتي حمص
~~الأولى والثانية لما مكنوهم من دخول البلاد كاد المسلمون في تلك النوبة أن
~~ينكسروا لولا أن ثبت الله، وجرى في هذه المدة ما جرى. وما قصدهم المسلمون
~~قط PageV05P303
# إلا نصروا، كنوبة عين جالوت والفرات والروم ms0949، ونحن نرجو أن يستأصلهم الله
~~تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن البشارات متوفرة على ذلك.
# وقد حدثنا أبي رحمه الله أنه كان عندهم كتاب عتيق وقف عليه من أكثر من
~~خمسين سنة قبل مجيىء التتار إلى بغداد، وهو مكتوب من سنين كثيرة، وفي آخره:
~~والتتار يقلعهم المصريون. وقد رأى المسلمون أنواعا من المبشرات بنصر الله
~~ورسوله، وهذا لاشك منه إن شاء الله.
# وليست هذه النوبة كتلك، فإن تلك المرة كان فيها أمور لا يليق ذكرها عفا
~~الله عنها، وما فعله الله بالمسلمين كان أحمد في حقهم.
# ثم لاشك أن الله ينصر دينه وينتقم من أعدائه، وقد قال تعالى: (ولو يشاء
~~الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل
~~أعمالهم (4) سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6) يا أيها
~~الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7)) (1) .
# ثم
### | في الحركة في سبيل الله أنواع من الفوائد:
# إحداها (2) : طمأنينة قلوب أهل البلاد حتى يعمروا ويزدرعوا (3) ، وإلا
~~فما دامت القلوب خائفة لا يستقيم الحال. PageV05P304
# الثانية: أن البلاد الشمالية كحلب ونحوها فيها خير كثير ورزق عظيم ينتفع
~~به العسكر.
# الفائدة الثالثة: أنه يقوي قلوب المسلمين في تلك البلاد من الأعوان
~~والنصحاء، ويزداد العدو رعبا. وإن لم تحصل حركة فترت القلوب، وربما انقلب
~~قوم فصاروا مع العدو، فإن الناس مع القائم.
# ولما جاء العسكر إلى الشام كان فيه مصلحة عظيمة، ولو تقدم بعضهم إلى
~~الثغر كان في غاية الجودة.
# الفائدة الرابعة: أنهم إن ساروا أو بعضهم حتى يأخذوا ما في بلد الجزيرة
~~من الإقامات والأموال السلطانية من غير إيذاء المسلمين كان من أعظم
~~الفوائد، وإن ساروا قاطنين متمكنين نزلت إليهم أمراء تلك البلاد من أهل
~~الأمصار والجبال، واجتمعت جنود عظيمة، فإن غالب أهل البلاد قلوبهم مع
~~المسلمين، إلا الكفار من النصارى ونحوهم، وإلا الروافض، فإن أكثر الروافض
~~ونحوهم من أهل البدع هواهم مع العدو، فإنهم أظهروا السرور بانكسار عسكر
~~المسلمين، وأظهروا الشماتة بجمهور المسلمين. وهذا معروف لهم ms0950 من نوبة بغداد
~~وحلب، وهذه النوبة أيضا، كما فعل أهل الجبل الجرد والكسروان، ولهذا خرجنا
~~في غزوهم لما خرج إليهم العسكر، وكان في ذلك خيرة عظيمة للمسلمين.
# فإذا كانت عامه القلوب هناك وهنا مع هذا العسكر المنصور، وقد أقامه الله
~~سبحانه وأيده وأمده بنعمته على محمد وأمته، وقلوب العدو في غاية الرعب منه،
~~والله لقد رأى الداعي من رعبهم مالا
# PageV05P305
# يوصف، حتى إن وزيرهم يحيى قال قدام الداعي ومولاي يسمع: واحد منكم يغلب
~~ستة من هؤلاء، وهكذا يخبر القادمون من هناك أنهم مرعوبون جدا، فمن نعمة
~~الله على المسلمين أن ييسر غزاة ينصر الله بها دينه هنا وهناك. وما ذلك على
~~الله بعزيز.
# وليس من شريعة الإسلام أن المسلمين ينتظرون عدوهم حتى يقدم عليهم، هذا لم
~~يأمر الله به ولا رسوله ولا المسلمون، ولكن يجب على المسلمين أن يقصدوهم
~~للجهاد في سبيل الله، وإن بدأوا هم بالحركة فلا يجوز تمكينهم حتى يعبروا
~~ديار المسلمين، بل الواجب تقدم العساكر الإسلامية إلى ثغور المسلمين، فالله
~~تعالى يخ
### | [تار للمسلمي]
# ن في جميع الأمور ما فيه صلاح الدنيا والآخرة.
# والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
# والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد عبده ورسوله.
# PageV05P306
### | قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح؟
# PageV05P307
# بسم الله الرحمن الرحيم
# الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
~~أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له (1) .
# ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى
~~ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، صلى الله عليه وعلى آله
~~وسلم تسليما كثيرا.
# أما بعد، فهذه مسألة يحتاج إليها المؤمنون عموما، والمجاهدون منهم خصوصا،
~~وإن كان (2)
### | الإيمان لا يتم إلا بالجهاد،
# كما قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا)
~~(3) الآية.
# ولكن الجهاد يكون للكفار والمنافقين أيضا، كما قال تعالى: (يا أيها النبي
~~جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) في موضعين من كتاب الله (4) .
# ويكون الجهاد بالنفس ms0951 والمال، كما قال تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم
~~في سبيل الله) (5) . ويكون بغير ذلك وينفعه، لما ثبت في الصحيحين (6) عن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في
~~أهله PageV05P309
# بخير فقد غزا". ويكون الجهاد باليد والقلب واللسان، كما قال - صلى الله
~~عليه وسلم - (1) : "جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم"، وكما قال
~~- صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (2) : "إن بالمدينة لرجالا ما
~~سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر". فهؤلاء كان
~~جهادهم بقلوبهم ودعائهم.
# وقد قال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر
~~والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم
~~وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على
~~القاعدين أجرا عظيما (95)) (3) .
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) : "الساعي (5) على الصدقة بالحق
~~كالمجاهد
# في سبيل الله".
# وقال أيضا (6) : "المجاهد من جاهد نفسه في الله"، كما قال (7) :
~~PageV05P310
# "المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله
~~عنه، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
# و
### $ الجهاد في سبيل الله أنواع متعددة ... (1) سبيل الله، ويفرق بينهما النية واتباع الشريعة. كما في "السنن" (2) عن معاذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة واجتنب الفساد؛ فإن نومه (3) [ونبهه] كله أجر. وأما من غزا فخرا ورياءا وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض؛ فإنه لم يرجع بالكفاف".
# وفي الصحيحين (4) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول
~~الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من
~~قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". وقد قال تعالى:
~~(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) (5) .
# وهذه المسألة هي في الرجل أو الطائفة يقاتل منهم أكثر من ضعفيهم (6) ،
~~إذا كان في قتالهم منفعة للدين، وقد غلب على ظنهم PageV05P311
# أنهم يقتلون، كالرجل يحمل وحده على صف الكفار ms0952 ويدخل فيهم، ويسمي العلماء
~~ذلك الانغماس في العدو؛ فإنه يغيب فيهم كالشيء ينغمس فيه فيما يغمره.
# وكذلك الرجل يقتل بعض رؤساء الكفار بين أصحابه، مثل أن يثب عليه جهرة إذا
~~اختلسه، ويرى أنه يقتله ويقتل (1) بعد ذلك.
# والرجل ينهزم أصحابه فيقاتل وحده أو هو وطائفة معه العدو، وفي ذلك نكاية
~~في العدو، ولكن يظنون أنهم يقتلون.
# فهذا كله جائز عند عامة علماء الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم،
~~وليس في ذلك إلا خلاف شاذ. وأما الأئمة المتبعون كالشافعي وأحمد وغيرهما
~~فقد نصوا على جواز ذلك. وكذلك هو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما.
# ودليل ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأئمة.
# أما الكتاب فقد قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة
~~الله والله رءوف بالعباد (207)) (2) . وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن
~~صهيبا خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~فلحقه المشركون وهو وحده، فنثل كنانته، وقال: والله لا يأتي رجل منكم إلا
~~رميته. فأراد قتالهم وحده، وقال: إن أحببتم أن تأخذوا مالي بمكة فخذوه،
~~وأنا أدلكم عليه. ثم قدم PageV05P312
# على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"ربح البيع أبا يحيى" (1) .
# وروى أحمد (2) بإسناده أن رجلا حمل وحده على العدو، فقال الناس: ألقى
~~بيده إلى التهلكة، فقال عمر: كلا بل هذا ممن قال الله فيه: (ومن الناس من
~~يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (207)) .
# وقوله تعالى: (يشري نفسه) أي يبيع نفسه، يقال: شراه وباعه سواء، واشتراه
~~وابتاعه سواء، ومنه قوله: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) (3) أي باعوه.
~~فقوله: (يشري نفسه) أي يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته، وذلك يكون بأن
~~يبذل نفسه فيما يحبه الله ويرضاه، وإن قتل أو غلب على ظنه أنه يقتل. كما
~~قال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
~~يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
~~والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ms0953 ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو
~~الفوز العظيم (111) التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون
~~الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين
~~(112)) (4) .
# وهذه الآية وهي قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم PageV05P313
# وأموالهم) تدل على ذلك أيضا، فإن المشتري يسلم إليه ما اشتراه، وذلك ببذل
~~النفس والمال في سبيل الله وطاعته، وإن غلب على ظنه أن النفس تقتل والجواد
~~يعقر، فهذا من أفضل الشهادة، لما روى البخاري في "صحيحه" (1) عن ابن عباس
~~قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أيام العمل الصالح فيها
~~[أحب] إلى الله من هذه الأيام" يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا
~~الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه
~~وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء". وفي رواية (2) : "يعقر جواده وأهريق دمه".
# وفي "السنن" (3) عن عبد الله بن حبشي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~سئل أي العمل أفضل؟ قال: "طول القيام". قيل: أي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد
~~المقل". قيل: فأي الهجرة [أفضل؟ قال: "من هجر ما حرم الله عليه".
# قيل: فأي الجهاد أفضل؟] قال: "من جاهد المشركين بنفسه وماله".
# قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: "من أهريق دمه وعقر جواده".
# وأيضا فإن الله سبحانه قد أخبر أنه أمر خليله بذبح ابنه ليبتليه هل يقتل
~~ولده في محبة الله وطاعته؟ وقتل الإنسان ولده قد يكون أشق عليه من تعريضه
~~نفسه للقتل، والقتال في سبيل الله أحب إلى PageV05P314
# الله مما ليس كذلك.
# والله سبحانه أمر إبراهيم بذبح ابنه قربانا ليمتحنه بذلك، ولذلك نسخ ذلك
~~عنه لما علم صدق عزمه في قتله؛ فإن المقصود لم يكن ذبحه لكن ابتلاء
~~إبراهيم.
# والله تعالى يبتلي المؤمنين ببذل أنفسهم؛ ليقتلوا في سبيل الله ومحبة
~~رسوله؛ فإن قتلوا كانوا شهداء، وإن عاشوا كانوا سعداء.
# كما قال: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) (1) .
# وقد قال لبني إسرائيل: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم
~~عند بارئكم) (2) . أي ليقتل بعضكم ms0954 بعضا. فألقى عليهم ظلمة، حتى جعل الذين
~~لم يعبدوا العجل يقتلون الذين عبدوه.
# فهذا الذي كان في شرع من قبلنا من أمره بقتل بعضهم بعضا قد عوضنا الله
~~بخير منه وأنفع؛ وهو جهاد المؤمنين عدو الله وعدوهم، وتعريضهم أنفسهم لأن
~~يقتلوا في سبيله بأيدي عدوهم لا بأيدي بعضهم بعضا، وذلك أعظم درجة وأكثر
~~أجرا. وقد قال تعالى: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من
~~دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم
~~وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا
~~مستقيما (68)) (3) . PageV05P315
# وأيضا فإن الله أمر بالجهاد في سبيله بالنفس والمال مع أن الجهاد مظنة
~~القتل، بل لابد منه في العادة من القتل. وذم الذين ينكلون عنه خوف القتل،
~~وجعلهم منافقين، فقال تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم
~~وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون
~~الناس) إلى قوله: (في بروج مشيدة) (1) . وقال تعالى:
# (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسئولا
~~(15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا
~~قليلا (16) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم
~~رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (17)) (2) .
# فأخبر سبحانه أن الفرار من الموت أو القتل لا ينفع، بل لابد أن يموت
~~العبد، وما أكثر من يفر فيموت أو يقتل، وما أكثر من ثبت فلا يقتل (3) .
# ثم قال: ولو عشتم لم تمتعوا إلا قليلا ثم تموتوا. ثم أخبر أنه لا أحد
~~يعصمهم من الله إن أراد أن يرحمهم أو يعذبهم، فالفرار من طاعته لا ينجيهم.
~~وأخبر أنه ليس لهم من دون الله ولي ولا نصير.
# وقد بين في كتابه أن ما يوجبه الجبن من الفرار هو من الكبائر الموجبة
~~للنار، فقال: (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15)
~~PageV05P316
# ومن يولهم يومئذ دبره إلا ms0955 متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب
~~من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16)) (1) .
# وأخبر أن الذين يخافون العدو خوفا منعهم من الجهاد منافقون، فقال:
~~(ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون
~~ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون (57)) (2) .
# وفي الصحيحين (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عد الكبائر؛ فذكر
~~الشرك بالله، وعقوق الوالدين، والسحر، واليمين الغموس، وقذف المحصنات
~~الغافلات المؤمنات. وذكر منها الفرار من الزحف في الصفين.
# [و] عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"شر ما في المرء: شح هالع، أو جبن خالع" (4) .
# وأما دلالة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فمن وجوه
~~كثيرة:
# منها: أن المسلمين يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، وكان عدوهم بقدرهم
~~ثلاث مرات أو أكثر، وبدر أفضل الغزوات وأعظمها.
# فعلم أن القوم يشرع لهم أن يقاتلوا من يزيدون على ضعفهم، ولا فرق في ذلك
~~بين الواحد والعدد، فمقاتلة الواحد للثلاثة كمقاتلة الثلاثة للعشرة.
~~PageV05P317
# وأيضا فالمسلمون يوم أحد كانوا نحوا من ربع العدو؛ فإن العدو كانوا ثلاثة
~~آلاف أو نحوها، وكان المسلمون نحو السبعمائة أو قريبا منها.
# وأيضا فالمسلمون يوم الخندق كان العدو بقدرهم مرات، فإن العدو كان أكثر
~~من عشرة آلاف، وهم الأحزاب الذين تحزبوا عليهم من قريش وحلفائها وأحزابها
~~الذين كانوا حول مكة وغطفان وأهل نجد، واليهود الذين نقضوا العهد وهم بنو
~~قريظة جيران أهل المدينة، وكان المسلمون بالمدينة دون الألفين.
# وأيضا فقد كان الرجل وحده على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل على
~~العدو بمرأى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وينغمس فيهم، فيقاتل حتى
~~يقتل. وهذا كان مشهورا بين المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~وخلفائه.
# وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - عشرة رهط عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم
~~بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا ms0956 حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة ذكروا
~~لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان، فنهدوا إليهم بقريب من مائة رجل رام -وفي
~~رواية: مائتي رجل- فاقتفوا آثارهم، حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه
~~فقالوا [هذا] تمر يثرب.
# فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع -وفي رواية إلى فدفد، أي إلى
~~مكان مرتفع- فأحاط بهم القوم، فقالوا لهم: PageV05P318
# انزلوا فأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق، لا يقتل منكم أحد. فقال عاصم
~~بن ثابت: أيها القوم! أما أنا فلا أنزل على ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك
~~- صلى الله عليه وسلم -. فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة.
# ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، منهم خبيب وزيد بن الدثنة،
~~ورجل آخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها.
# قال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، لي بهؤلاء أسوة؛ يريد
~~القتلى. فجرروه وعالجوه؛ فأبي أن يصحبهم، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد بن
~~الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر.
# فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيبا، وكان خبيب هو قتل
~~الحارث بن عمرو يوم بدر. ولبث خبيب عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله.
~~فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحد بها، فأعارته فدرج بني لها وهي
~~غافلة حتى أتاه [قالت: فوجدته] مجلسه على فخذه والموسى بيده؛ قالت: ففزعت
~~فزعة عرفها خبيب. فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت: والله ما
~~رأيت أسيرا خيرا من خبيب، فوالله لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده،
~~وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر.
# وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيبا. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه
~~في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين. فتركوه فركع ركعتين. فقال.
~~والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا،
~~ولا تبق منهم أحدا. قال:
# فلست أبالي حين أقتل مسلما
# على أي جنب كان لله مصرعي
# PageV05P319
# وذلك في ذات الإله وإن ms0957 يشأ
# يبارك على أوصال شلو ممزع
# ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو سن لكل مسلم
~~قتل صبرا الصلاة. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة يوم أصيبوا
~~خبرهم. وبعث ناس من قريش إلى عاصم بن ثابت حين حدثوا أنه قد قتل أن يؤتى
~~بشيء منه يعرف، وكان قتل رجلا من عظمائهم. فبعث الله لعاصم مثل الظلة [من
~~الدبر] ، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا منه شيئا.
# فهؤلاء عشرة أنفس قاتلوا أولئك المئة أو المئتين، ولم يستأسروا لهم حتى
~~قتلوا منهم سبعة. ثم لما استأسروا الثلاثة امتنع الواحد من اتباعهم حتى
~~قتلوه. وهؤلاء من فضلاء المؤمنين وخيارهم.
# وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر، وعاصم بن عمر جد عمر بن عبد العزيز (1) ؛
~~فإن عمر بن الخطاب كان قد نهى الناس أن يشوب أحد اللبن بالماء للبيع (2) ،
~~فبينما عمر ذات ليلة يعس إذ سمع امرأة تقول لأخرى: قومي فشوبي اللبن.
~~فقالت: إن أمير المؤمنين قد نهى عن ذلك. فقالت: وما يدري أمير المؤمنين؟
~~فقالت: لا والله PageV05P320
# لا نطيعه في العلانية ونعصيه في السر. فعلم عمر على [الباب] (1) ، فلما
~~أصبح سأل عن أهل ذلك البيت، فإذا به أهل بيت عاصم هذا الأمير (2) المستشهد،
~~والمرأة المطيعة ابنته، فخطبها وتزوجها (3) .
# وقد روي أنه زوجها ابنه عاصم هذا، وإن كان عمر قبل ذلك تزوج ابنة عاصم
~~هذا فولدت له عاصما ابنه، وصدق عمر بن عبد العزيز من ذرية عاصم.
# وأيضا ففي السنن (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "عجب ربنا من
~~رجلين: رجل ثار عن وطائه من بين حيه وأهله إلى صلاته، فيقول الله عز وجل
~~لملائكته: انظروا إلى عبدي، ثار عن فراشه ووطائه من أهله وحيه إلى صلاته،
~~رغبة فيما عندي وشفقا مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله، فانهزم مع أصحابه،
~~فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع، فرجع حتى يهريق دمه. فيقول
~~الله لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقا ms0958 مما عندي حتى
~~يهريق دمه" فهذا رجل انهزم هو وأصحابه، ثم رجع وحده فقاتل حتى قتل.
# وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يعجب منه؛ [و] عجب الله
~~من الشيء يدل PageV05P321
# على عظم قدره، وأنه لخروجه عن نظائره يعظم درجته ومنزلته.
# وهذا يدل على أن مثل هذا العمل محبوب لله مرضي، لا يكتفى فيه بمجرد
~~الإباحة والجواز؛ حتى يقال: وإن جاز مقاتلة الرجل حيث يغلب على ظنه أنه
~~يقتل فترك ذلك أفضل.
# بل الحديث يدل على أن ما فعله هذا يحبه الله ويرضاه، ومعلوم أن مثل هذا
~~الفعل يقتل فيه الرجل كثيرا أو غالبا، وإن كان ذلك لتوبته من الفرار
~~المحرم، فإنه مع هذه التوبة جاهد هذه المجاهدة الحسنة.
# قال الله تعالى: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا
~~وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110)) (1) .
# وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"
~~(2) .
# فمن فتنه الشيطان عن طاعة الله لم هجر ما نهى الله عنه وجاهد وصبر كان
~~داخلا في هذه الآية. وقد يكون هذا في شريعتنا عوضا عما أمر به بنو إسرائيل
~~في شريعتهم لما فتنوا بعبادة العجل بقوله: (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا
~~أنفسكم) (3) .
# وقال تعالى: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم
~~الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)) إلى قوله: (ولو أنا كتبنا عليهم أن
~~اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم..) (4) . PageV05P322
# وذلك يدل على أن التائب قد يؤمر بجهاد تعرض به نفسه للشهادة.
# فإن قيل: قد قال الله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين
~~وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا) إلى قوله: (الآن خفف الله
~~عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم
~~ألف يغلبوا ألفين) (1) . وقد قالوا: إن ما أمر به من مصابرة الضعف (2) في
~~هذه الآية ناسخ لما أمر به قبل ذلك
# من مصابرة عشرة الأمثال.
# قيل: هذا أكثر ms0959 ما فيه أنه لا تجب المصابرة لما زاد على الضعف، ليس في
~~الآية أن ذلك لا يستحب ولا يجوز.
# وأيضا فلفظ الآية إنما هو خبر عن النصر مع الصبر، وذلك يتضمن وجوب
~~المصابرة للضعف، ولا يتضمن سقوط ذلك عما زاد عن الضعف مطلقا، بل يقتضي أن
~~الحكم فيما زاد على الضعفين بخلافه، فيكون أكمل فيه، فإذا كان المؤمنون
~~ظالمين لم يجب عليهم أن يصابروا أكثر من ضعفيهم، وأما إذا كانوا هم
~~المظلومين وقتالهم قتال وقع عن أنفسهم فقد تجب المصابرة كما وجبت عليهم
~~المصابرة يوم أحد ويوم الخندق، مع أن العدو كانوا أضعافهم. وذم الله
~~المنهزمين يوم أحد والمعرضين عن الجهاد يوم الخندق في سورة آل عمران
~~والأحزاب، بما هو ظاهر معروف. PageV05P323
# وإذا كانت الآية لا تنفي وجوب المصابرة لما زاد على الضعفين في كل حال،
~~فأن لا تنفي الاستحباب [و] الجواز مطلقا أولى وأحرى.
# فإن قيل: قد قال الله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (1) .
# وإذا قاتل الرجل في موضع فغلب على ظنه أنه يقتل فقد ألقى بيده إلى
~~التهلكة.
# [قيل] : تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة ينكرون
~~على من يتأول الآية على ذلك، كما ذكرنا أن رجلا حمل وحده على العدو، فقال
~~الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر ابن الخطاب: كلا ولكنه ممن قال
~~الله فيه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) (2) .
# وأيضا فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي (3) من حديث يزيد ابن أبي حبيب
~~-عالم أهل مصر من التابعين- عن أسلم أبي عمران قال: غزونا بالمدينة نريد
~~القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو
~~ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو؛ فقال الناس: لا إله إلا الله!
~~يلقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر
~~الأنصار، لما نصر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الإسلام قلنا:
~~هلم نقم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: PageV05P324
# (وأنفقوا في سبيل الله ولا ms0960 تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (1) . فالإلقاء
~~بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. قال أبو
~~عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية. قال
~~الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
# وأبو أيوب من أجل السابقين الأولين من الأنصار قدرا، وهو الذي نزل النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - في بيته لما قدم مهاجرا من مكة إلى المدينة.
# ورهطه بنو النجار هم خير دور الأنصار، كما أخبر بذلك النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - (2) ، وقبره بالقسطنطينية. قال مالك: بلغني أن أهل القسطنطينية
~~إذا أجدبوا كشفوا عن قبره فيستقون.
# وقد أنكر أبو أيوب على من جعل المنغمس في العدو ملقيا بيده إلى التهلكة
~~دون المجاهدين في سبيل الله، ضد ما يتوهمه هؤلاء الذين يحرفون كلام الله عن
~~مواضعه؛ فإنهم يتأولون الآية على ما فيه ترك الجهاد في سبيل الله. والآية
~~إنما هي أمر بالجهاد في سبيل الله، ونهي عما يصد عنه.
# والأمر في هذه الآية ظاهر كما قال عمر وأبو أيوب وغيرهما من سلف الأمة؛
~~وذلك أن الله قال قبل هذه الآية: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم
~~ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم
~~من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل) إلى قوله: (وقاتلوهم PageV05P325
# حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
~~(193)) إلى قوله: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى
~~عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع
~~المتقين (194) وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا
~~إن الله يحب المحسنين (195)) (1) .
# فهذه الآيات كلها في الأمر بالجهاد في سبيل الله وإنفاق المال في سبيل
~~الله، فلا تناسب ما يضاد ذلك من النهي عما يكمل به الجهاد وإن كان فيه
~~تعريض النفس للشهادة، إذ الموت لابد منه، وأفضل الموت موت الشهداء. فإن
~~الأمر بالشيء لا يناسب النهي عن إكماله، ولكن المناسب لذلك النهي عما يضل
~~عنه؛ والمناسب لذلك ما ذكر ms0961 في الآية من النهي عن العدوان، فإن الجهاد فيه
~~البلاء للأعداء؛ والنفوس قد لا تقف عند حدود الله بل تتبع أهواءها في ذلك،
~~فقال: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)) . فنهى عن العدوان؛ لأن
~~ذلك أمر بالتقوى، والله مع المتقين كما قال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
~~بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)) . وإذا
~~كان الله معهم نصرهم وأيدهم على عدوهم فالأمر بذلك أيسر، كما يحصل مقصود
~~الجهاد به.
# وأيضا فإنه في أول الآية قال: (وأنفقوا في سبيل الله) ، وفي آخرها قال:
~~(وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)) فدل ذلك على ما رواه أبو أيوب من
~~[أن] إمساك المال والبخل عن إنفاقه في سبيل الله والاشتغال به هو التهلكة.
~~PageV05P326
# وأيضا فإن أبا أيوب أخبر بنزول الآية في ذلك؛ لم يتكلم فيها برأيه، وهذا
~~من ثابت روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حجة يجب اتباعها.
# وأيضا فإن التهلكة والهلاك لا يكون إلا بترك ما أمر الله به أو فعل ما
~~نهى الله عنه. فإذا ترك العباد الذي أمروا به، واشتغلوا عنه بما يصدهم عنه
~~من عمارة الدنيا، هلكوا في دنياهم بالذل وقهر العدو لهم، واستيلائه على
~~نفوسهم وذراريهم وأموالهم، ورده لهم عن دينهم، وعجزهم حينئذ عن العمل
~~بالدين. بل وعن عمارة الدنيا وفتور هممهم عن الدين، بل وفساد عقائدهم فيه.
~~قال تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن
~~يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة
~~وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217)) (1) . إلى غير ذلك من المفاسد
~~الموجودة في كل أمة لا تقاتل عدوها سواء كانت مسلمة أو كافرة.
# فإن كل أمة لا تقاتل فإنها تهلك هلاكا عظيما باستيلاء العدو عليها وتسلطه
~~على النفوس والأموال. وترك الجهاد يوجب الهلاك في الدنيا كما يشاهده الناس،
~~وأما في الآخرة فلهم عذاب النار.
# وأما المؤمن المجاهد فهو كما قال الله تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى
~~الحسنيين ms0962 ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا
~~إنا معكم متربصون (52)) (2) . فأخبر أن المؤمن لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين:
~~إما النصر والظفر وإما PageV05P327
# الشهادة والجنة، فالمؤمن المجاهد إن حيي [حيي] حياة طيبة، وإن قتل فما
~~عند الله خير للأبرار.
# وأيضا فإن الله قال في كتابه: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات)
~~(1) . وقال في كتابه: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء
~~عند ربهم يرزقون (169)) (2) . فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد إنه
# ميت. قال العلماء: وخص الشهيد بذلك؛ لئلا يظن الإنسان أن الشهيد يموت
~~فيفر عن الجهاد خوفا من الموت. وأخبر الله أنه حي مرزوق؛ وهذا الوصف يوجد
~~أيضا لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم، لكن خص الشهيد بالنهي لئلا
~~ينكل عن الجهاد لفرار النفوس من الموت.
# فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتا واعتقاده ميتا؛ لئلا يكون ذلك
~~منفرا عن الجهاد فكيف يسمى الشهادة تهلكة؟ واسم الهلاك أعظم تنفيرا من اسم
~~الموت. فمن قال: قوله (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) يراد به الشهادة في
~~سبيل الله، فقد افترى على الله بهتانا عظيما.
# وهذا
### | الذي يقاتل العدو مع غلبة ظنه أنه يقتل قسمان:
# أحدهما: أن يكون هو الطالب للعدو. فهذا الذي ذكرناه.
# والثاني: أن يكون العدو قد طلبه، وقتاله قتال اضطرار. فهذا أولى وأوكد.
~~ويكون قتال هذا إما دفعا عن نفسه وماله وأهله ودينه، PageV05P328
# كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) : "من قتل دون ماله فهو شهيد،
~~ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد". قال الترمذي:
~~[حديث حسن صحيح. و] (2) يكون قتاله دفعا للأمر عن نفسه أو عن حرمته، وإن
~~غلب على ظنه أنه يقتل، إذا كان القتال يحصل المقصود، وإما فعلا لما يقدر
~~عليه من الجهاد، كما ذكرناه عن عاصم بن ثابت وأصحابه.
# ومن هذا الباب
### | : الذي يكره على الكفر فيصبر حتى يقتل ولا يتكلم بالكفر؛
# فإن هذا بمنزلة الذي يقاتله العدو حتى يقتل ولا ms0963 يستأسر لهم، والذي يتكلم
~~بالكفر بلسانه [وهو] موقن من قلبه بالإيمان بمنزلة المستأسر للعدو. فإن كان
~~هو الآمر الناهي ابتداء كان بمنزلة المجاهد ابتداء. فإذا كان الأول أعز
~~الإيمان وأذل الكفر كان هو الأفضل.
# وقد يكون واجبا إذا أفضى تركه إلى زوال الإيمان من القلوب وغلبة الكفر
~~عليها وهي الفتنة، فإن الفتنة أشد من القتل. فإذا كان بترك القتل يحصل من
~~الكفر ما لا يحصل بالقتل، وبالقتل يحصل من الإيمان ما لا يحصل بتركه= ترجح
~~القتل واجبا تارة ومستحبا أخرى. وكثيرا ما يكون ذلك تخويفا به فيجب الصبر
~~على ذلك.
# قال تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير
~~PageV05P329
# وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله
~~والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن
~~استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في
~~الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217)) (1) .
# فأخبر أن الكافرين لا يزالون يقاتلون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم.
~~وأخبر أنه من ارتد فمات كافرا خالدا في النار.
# ومن هذا ما ذكره الله عن عباده المؤمنين في كتابه، كما قال تعالى: (وقال
~~فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في
~~الأرض الفساد (26) وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم
~~الحساب (27)) إلى قوله: (وقد جاءكم بالبينات من ربكم) (2) .
# وقال تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض)
~~إلى قوله: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (128))
~~(3) .
# وقال تعالى: (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا
~~كذبتم وفريقا تقتلون (87)) (4) . PageV05P330
# وقال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق
~~ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) (1) .
# وقال تعالى: (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة
~~وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات ms0964 الله ويقتلون النبيين
~~بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)) (2) .
# وقال تعالى: (ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم
~~الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا
~~ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا) إلى قوله: (ذلك بما عصوا
~~وكانوا يعتدون (78)) (3) .
# وقال تعالى: (قتل أصحاب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5)) إلى قوله: (ما
~~يفعلون بالمؤمنين شهود (7)) (4) .
# وقد روى مسلم في "صحيحه" (5) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب أن رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر،
~~فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاما أعلمه السحر. فبعث إليه
~~غلاما يعلمه. وكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه. فكان إذا
~~أتى الساحر مر بالراهب وقعد PageV05P331
# إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خفت الساحر
~~فقل: حبسني أهلي، فإذا خفت أهلك فقل حبسني الساحر. فبينما هو كذلك، إذ أتى
~~على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب
~~أفضل؟ فأخذ حجرا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر
~~فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس. فرماها وقتلها، ومضى الناس. فأتى الراهب
~~فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما
~~أرى، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرىء الأكمه
~~والأبرص ويداوي الناس [من] سائر الأدواء. وأصبح جليس الملك كان قد عمي
~~فأتاه بهدايا كثيرة. فقال: ما ههنا لك إن أنت شفيتني. قال: إني لا أشفي
~~أحدا إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله
~~فشفاه الله عز وجل. فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس.
# فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي. قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي
~~وربك الله. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له
~~الملك: أي بني قد ms0965 بلغ من سحرك ما تبرىء الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل. قال:
~~فقال إني لا أشفي أحدا، وإنما يشفي الله عز وجل. فأخذه فلم يزل يعذبه حتى
~~دل على الراهب. فجيء بالراهب؛ فقال له: ارجع عن دينك؛ فأبى.
# فدعا بالمنشار؛ فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه. ثم جيء
~~بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي.
# فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه. ثم جيء
# PageV05P332
# بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك؛ فأبي. فدفعه إلى نفر من أصحابه.
# فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به إلى الجبل فإذا بلغتم
~~ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه. فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال:
~~اللهم اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك. فقال
~~له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله. فدفعه إلى نفير آخر من أصحابه
~~فقال: اذهبوا به فاجعلوه في قرقور، ثم توسطوا البحر فإذا رجع عن دينه وإلا
~~فاقذفوه فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة،
~~فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم
~~الله. فقال: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. فقال: ما هو؟ قال: إنك
~~تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع
~~السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارم، فإنك إذا فعلت
~~ذلك قتلتني.
# فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع
~~السهم في كبد القوس. ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في
~~صدغه، فوضع يده في صدغه، فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام. فأتي الملك،
~~فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك؛ قد آمن الناس.
# فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخدت، وأضرمت فيها النيران، وقال: من لم يرجع
~~عن دينه فأقحموه فيها أو قيل له: اقتحم. ففعلوا، حتى جاءت امرأة ms0966 ومعها صبي
~~لها فتقاعست. فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق".
# PageV05P333
# ففي هذا الحديث أنه قتل جليس الملك والراهب بالمناشير، ولم يرجعا عن
~~الإيمان. وكذلك أهل الأخدود صبروا على التحريق بالنار ولم يرجعوا عن
~~الإيمان. وأما الغلام فإنه أمر بقتل نفسه لما علم أن ذلك يوجب ظهور الإيمان
~~في الناس، والذي يصبر [حتى] يقتل أو يحمل حتى يقتل لأن في ذلك ظهور
~~الإيمان= من هذا الباب.
# وفي صحيح البخاري (1) عن قيس بن أبي حازم عن خباب بن الأرت قال: شكونا
~~إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة.
~~فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل،
~~فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل
~~نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، [وما] يصده ذلك عن دينه.
~~والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف
~~إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
# وفي رواية (2) : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة
~~له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله. فقعد وهو
~~محمر وجهه فقال: "لقد كان من قبلكم يمشط بأمشاط الحديد".
# والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لهم ذلك آمرا لهم بالصبر على أذى
~~الكفار، وإن بلغوا بهم إلى حد القتل صبرا، كما قتلوا المؤمنين صبرا؛
~~PageV05P334
# ومدحا لمن يصبر على الإيمان حتى يقتل.
# (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما
~~كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. تمت بعونه تعالى في 25 محرم 1319) .
# PageV05P335
### | مسألة
# في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة؟
# PageV05P337
# بسم الله الرحمن الرحيم
# وهو حسبي ونعم الوكيل
# مسألة
# في المرابطة بالثغور أفضل أم المجاورة بمكة شرفها الله تعالى؟
# الجواب
# الحمد لله. المرابطة في ثغور المسلمين -وهو المقام فيها بنية الجهاد-
~~أفضل من المجاورة في الحرمين باتفاق أئمة المسلمين أهل المذاهب ms0967 الأربعة
~~وغيرهم. وليست هذه المسألة من المشكلات عند من يعرف دين الإسلام؛ ولكن
~~لكثرة ظهور البدع في العبادات وفساد النيات في الأعمال الشرعيات صار يخفى
~~مثل هذه المسألة على كثير من الناس، حتى صاروا يعظمون الأماكن التي كان
~~المسلمون يعظمونها لكونها ثغورا ظانين أن تعظيمها لأمور مبتدعة في دين
~~الإسلام، فاستبدلوا بشريعة الإسلام بدعا ما أنزل الله بها من سلطان. فإنه
~~يوجد في كلام السلف وحكاياتهم في ذكر غزة وعسقلان والإسكندرية وجبل لبنان
~~وعكة وقزوين، ومن أمثال ذلك، ومن وجود الصالحين بها ما يوجب شرف هذه
~~البقاع.
# وإنما كان ذلك لكونها كانت ثغور المسلمين، فكان صالحو المسلمين
~~يتناوبونها لأجل المرابطة بها، لا لأجل الاعتزال عن الناس
# PageV05P339
# وسكنى الغيران والكهوف، أو نحو ذلك مما يظنه الجهال أهل البدع والضلال.
# ثم إن من هذه البقاع ما غلب عليه العدو، أو سكنه أهل البدع والفساق؛ ففسد
~~حال أهله، مثل ما جرى على لبنان ونحوه. وكون المكان ثغرا هو مثل كونه دار
~~الإسلام ودار الكفر مثل كون الرجل مؤمنا وكافرا، هو من الصفات التي تعرض
~~وتزول، فقد كانت مكة -شرفها الله- أم القرى قبل فتحها دار كفر وحرب تجب
~~الهجرة منها، ثم تغير هذا الحكم لما فتحت. حتى قال - صلى الله عليه وسلم -
~~(1) . "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية". وقد كان البيت المقدس بأيدي
~~العدو تارة، وبأيدي المسلمين أخرى.
# فالثغور هي البلاد المتاخمة للعدو من المشركين وأهل الكتاب التي يخيف
~~العدو أهلها ويخيف (2) أهلها العدو، والمرابطة بها أفضل من المجاورة
~~بالحرمين باتفاق المسلمين. كيف والمرابطة بها فرض على المسلمين إما على
~~الأعيان وإما على الكفاية.
# وأما المجاورة فليست واجبة باتفاق المسلمين، بل العلماء متنازعون هل هي
~~مستحبة أم مكروهة؟ فاستحبها طائفة من العلماء من أصحاب مالك والشافعي،
~~وكرهها آخرون كأبي حنيفة وغيره، قالوا: لأن المقام بها يفضي إلى الملك لها،
~~وأنه لا يأمن من مواقعة المحظور؛ فيتضاعف عليه العذاب. ولأنه يضيق على أهل
~~البلد. PageV05P340
# قالوا: وكان عمر يقول عقب المواسم: يا أهل الشام ms0968 شامكم، يا أهل اليمن
~~يمنكم، يا أهل العراق [عراقكم] .
# ولأن المقيم بها يفوته الحج التام والعمرة التامة؛ فإن العلماء متفقون
~~على أنه إن أنشأ سفر العمرة من دويرة أهله كان هذا أفضل أنواع الحج
~~والعمرة. وهم متفقون على أنه أفضل من التمتع والقران ومن الإفراد الذي
~~يعتمر عقب الحج.
# وأما ما يظنه بعض الناس من أن الخروج بأهل مكة في رمضان أو غيره إلى الحل
~~للاعتمار؛ وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : "عمرة في رمضان
~~تعدل حجة معي"، حتى صار المجاورون وغيرهم يحافظون على الاعتمار من أدنى
~~الحل أو أقصاه، كاعتمارهم من التنعيم التي بها المساجد التي يقال لها مساجد
~~عائشة، أو من الحديبية والجعرانة= فكل ذلك غلط عظيم، مخالف للسنة النبوية
~~ولإجماع الصحابة. فإنه لم يعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر
~~ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أمثالهم من مكة قط، لا قبل الهجرة ولا
~~بعدها، بل لم يعتمر أحد من المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~من مكة إلا عائشة فقط، فإنها قدمت متمتعة، فحاضت، فمنعها الحيض من الطواف
~~قبل الوقوف بعرفة، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمرها بعد الحج
~~(2) ، ثم بعد ذلك بنيت هذه المساجد التي هناك، وقيل لها: مساجد عائشة.
~~PageV05P341
# وأما عمرة الحديبية فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل هو وأصحابه من
~~ذي الحليفة، ثم حلوا بالحديبية لما صدهم المشركون عن البيت، فكانت الحديبية
~~حلهم لا ميقات إحرامهم. وهذا متواتر يعلمه عامة العلماء وخاصتهم، وفي ذلك
~~أنزل الله: (وأتموا الحج والعمرة) (1) الآيات باتفاق العلماء.
# وأما عمرة الجعرانة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قاتل هوازن
~~بوادي حنين الذي قال الله فيها: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم
~~شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته
~~على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء
~~الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ms0969 والله غفور رحيم (27))
~~(2) . وحاصر الطائف ونصب عليها بمنجنيق، ولم يفتحها، وقسم غنائم حنين
~~بالجعرانة، فلما قسمها دخل إلى مكة معتمرا ثم خرج منها؛ لم يكن بمكة فخرج
~~منها إلى الحل ليعتمر كما يفعل ذلك من يفعله من أهل مكة.
# بل الصحابة رضي الله عنهم وأئمة التابعين لم يستحبوا لمن كان بمكة ذلك،
~~بل رأوا أن طوافه بالبيت أفضل من خروجه لأجل العمرة، بل كرهوا له ذلك، كما
~~قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع (3) . PageV05P342
# والمقصود هنا أن من العلماء من كره المجاورة بمكة لما ذكر من الأسباب
~~وغيرها، ولكن الجمهور يستحبونها في الجملة إذا وقعت على الوجه المشروع
~~الخالي عن المفسدة المكافئة للمصلحة أو الراجحة عليها.
# قال الإمام أحمد، وقد سئل عن الجوار بمكة، فقال: وكيف لنا [به] ، وقد قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنك لأحب البقاع إلى الله، وإنك لأحب إلي"
~~(1) . وجابر جاور مكة، وابن عمر كان يقيم بمكة.
# وقال أيضا: ما أسهل العبادة بمكة، النظر إلى البيت عبادة.
# واحتج هؤلاء بما رواه عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - يقول، وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "والله إنك لخير
~~أرض الله، وأحب أرض الله [إلى الله] ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه
~~الإمام أحمد وهذا لفظه، والنسائي وابن ماجه والترمذي (2) ، وقال: حديث حسن
~~صحيح.
# ورواه أحمد (3) من حديث أبي هريرة أيضا. وعن ابن عباس قال قال رسول الله
~~- صلى الله عليه وسلم -: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي
~~أخرجوني منك ما سكنت غيرك". رواه الترمذي (4) ، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
~~PageV05P343
# قالوا: فإذا كانت أحب البلاد إلى الله ورسوله، ولولا ما وجب عليه من
~~الهجرة لما كان يسكن إلا إياها، علم أن المقام بها أفضل إذا لم يعارض ذلك
~~مصلحة راجحة، كما كان في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين؛ فإن
~~مقامهم بالمدينة كان أفضل من مقامهم بمكة لأجل الهجرة والجهاد، بل ذلك كان
~~الواجب ms0970 عليهم، وكان مقامهم بمكة حراما حتى بعد الفتح، وإنما رخص للمهاجر أن
~~يقيم فيها ثلاثا. كما في الصحيحين (1) عن العلاء بن الحضرمي أن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - أرخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا.
# وكان المهاجرون يكرهون أن يكونوا بها، لكونهم هاجروا عنها وتركوها لله،
~~حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه (2) ؛ لما عاد
~~سعد بن أبي وقاص، وكان قد مرض بمكة في حجة الوداع فقال: يا رسول [الله] !
~~أخلف عن هجرتي، فقال: "لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون،
~~لكن البائس سعد بن خولة" يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات
~~بمكة.
# ولهذا لما مات عبد الله بن عمر بمكة أوصى أن لا يدفن في الحرم، بل يخرج
~~إلى الحل لأجل ذلك، لكنه كان يوما شديد الحر، فخالفوا وصيته، وكان قد توفي
~~عام قدم الحجاج، فحاصر ابن الزبير وقتله لما كان (3) من الفتنة بينه وبين
~~عبد الملك بن مروان. PageV05P344
# قالوا: ولأن في المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في
~~بلد آخر، فإن الطواف بالبيت لا يمكن إلا بمكة وهو من أفضل الأعمال، ولأن
~~الصلاة بها تضاعف هي وغيرها من الأعمال. وقد قال تعالى: (وطهر بيتي
~~للطائفين والقائمين والركع السجود (26)) (1) . روي أنه ينزل على البيت في
~~كل يوم مئة وعشرون رحمة: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، [وعشرون
~~للناظرين] (2) .
# ولهذا قال العلماء: إن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بالثغر، مع قولهم: إن
~~المرابطة بالثغر أفضل وتضاعف السيئات فيه، وإذا كان المكان دواعي الخير فيه
~~أقوى، ودواعي الشر فيه أضعف، كان المقام فيه أفضل مما ليس كذلك.
# ولا نزاع بين المسلمين في أنه يشرع قصدها لأجل العبادات المشروعة فيها،
~~وأن ذلك واجب أو مستحب. وأما النزاع في المجاورة فلما فيه من تعارض للمصلحة
~~والمفسدة كما تقدم. وحينئذ فمن كان مجاورته فيما يكثر حسناته ويقل سيئاته
~~فمجاورته فيها أفضل من بلد لا يكون حاله فيه كذلك. ف
### | أفضل ms0971 البلاد في حق كل شخص حيث كان أبر وأتقى،
# وإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم.
# ولهذا لما كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي، وكان النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - قد آخى بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق،
~~PageV05P345
# فكتب إليه أبو الدرداء أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن
~~الأرض لا تقدس أحدا؛ وإنما يقدس الرجل عمله الصالح (1) . ومقصوده بذلك أنه
~~قد يكون بالأرض المفضولة من يكون عمله صالحا أو أصلح بما يحبه الله ورسوله.
# وهذا مما يبين أن
### | جنس المرابطة أفضل من جنس المجاورة بالحرمين
# كما اتفق عليه الأئمة. فإذا كانت نية العبد في هذا خالصة، ونيته في هذا
~~خالصة، ولم يكن ثم عمل مفضل يفضل به أحدهما، فالمرابطة أفضل؛ فإنها من جنس
~~الجهاد، وتلك من جنس الحج، و
### | جنس الجهاد أفضل من جنس الحج.
# ولهذا قال أبو هريرة: لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم
~~ليلة القدر عند الحجر الأسود. وفي لفظ رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2) عن
~~عطاء الخراساني عن أبي هريرة قال: "رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن
~~أقوم ليلة القدر في أحد المسجدين -مسجد الحرام ومسجد رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - - ومن رابط أربعين يوما في سبيل الله فقد استكمل الرباط".
# وقد قال تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله
~~واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم
~~الظالمين (19) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم
~~أعظم درجة PageV05P346
# عند الله وأولئك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات
~~لهم فيها نعيم مقيم (21)) (1) .
# وفي صحيح مسلم (2) عن النعمان قال: كنت عند منبر رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم -، فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي
~~الحاج. وقال الآخر: إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل
~~الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب، وقال ms0972: لا ترفعوا أصواتكم عند
~~منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت
~~الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج
~~وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله) هو
~~الآية.
# وعن عثمان بن عفان قال، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "
~~[رباط] يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه". رواه الإمام أحمد،
~~والنسائي وهذا لفظه، والترمذي (3) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وأبو
~~حاتم بن حبان البستي في "صحيحه" (4) . ولفظ الإمام أحمد (5) : عن أبي صالح
~~مولى عثمان بن عفان قال: سمعت PageV05P347
# عثمان يقول على المنبر: أيها الناس! إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله
~~- صلى الله عليه وسلم -، كراهية تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكم، ليختار
~~امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رباط
~~يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل".
# فقد بين لهم عثمان هذا الحديث مع كونهم كانوا مقيمين عنده بالمدينة
~~النبوية؛ مصلين في المسجد الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في
~~مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام" (1) .
# ودل ذلك على أن تضعيف الصلاة لا يقاوم تضعيف اليوم الذي يعم جميع
~~الأعمال، فإن الجهاد يقاوم ما لا يمكن المداومة عليه من صيام وقيام. كما في
~~الصحيحين (2) عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله! ما يعدل الجهاد في سبيل
~~الله؟ قال: "لا تستطيعون".
# قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا تستطيعون".
# قال في الثالثة: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت
~~بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله". هذا
~~لفظ مسلم.
# ولفظ البخاري (3) : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلني
~~على PageV05P348
# عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده. قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن ms0973 تدخل
~~مسجدك فتقوم لا تفتر، وتصوم لا تفطر؟ " قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال أبو
~~هريرة: إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات.
# وفي الصحيحين (1) عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - فقال: أي الناس أفضل؟ فقال: "رجل مجاهد في سبيل الله بماله ونفسه".
~~قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من
~~شره". لفظ مسلم.
# وقد جاءت النصوص الصحيحة الصريحة بفضل الجهاد على الحج، كما في الصحيحين
~~(2) عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال
~~أفضل؟ قال: "الإيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل
~~الله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".
# وفي الصحيحين (3) أيضا عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله!
# أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله، والجهاد في سبيله".
# فهذا موافق ما دل عليه القرآن من تفضيل الجهاد على الحج.
# وقد روي: "غزوة لا قتال فيها أفضل من سبعين حجة". وهذا لا يناقض ما في
~~الصحيحين (4) عن ابن مسعود قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~PageV05P349
# أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين".
~~قلت: ثم أي العمل أفضل؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". حدثني بهن رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم -، ولو استزدته لزادني.
# فإن هذا الحديث أيضا يدل على فضل الجهاد على الحج وغيره.
# وأما الصلاة فإنها قد تدخل في مسمى الإيمان. كما في قوله: (وما كان الله
~~ليضيع إيمانكم) (1) قال البراء بن عازب وغيره (2) : صلاتكم إلى بيت المقدس،
~~إذ هي بمنزلة الشهادتين في أنها لا تسقط بحال، ولا ينوب فيها أحد عن أحد،
~~ويدخل بها في الإيمان، وقد جاءت النصوص بإطلاق الكفر على تاركها.
# ثم في صحيح مسلم (3) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
~~"ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة".
# وفي السنن عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله - صلى ms0974 الله عليه وسلم
~~-: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه الإمام أحمد
~~وابن ماجه والترمذي والنسائي (4) ، وقال: حديث حسن صحيح غريب. أطلق الكفر
~~على جاحد الصلاة (5) . PageV05P350
# وفي الترمذي (1) عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب محمد لا يعدون شيئا
~~من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة.
# وفي البخاري (2) أن عمر بن الخطاب لما طعن وأغمي عليه، قيل: الصلاة!
~~فقال: "نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة".
# وعن غير واحد من الصحابة والتابعين أنهم ذكروا أن من ترك الصلاة فقد كفر.
# فهذه الخاصية التي للصلاة تقتضي أن تدخل في قوله: "إيمان بالله، وجهاد في
~~سبيله، ثم حج مبرور".
# وكذلك بر الوالدين قد قرن حقهما بحق الله، في مثل قوله: (أن اشكر لي
~~ولوالديك) (3) ، وفي قوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين
~~إحسانا) (4) . وكما في الصحيحين الحديث: "كفر بالته: تبرؤ من نسب وإن دق،
~~ومن ادعى إلى غير أبيه فقد كفر، ولا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن
~~ترغبوا عن آبائكم" (5) . PageV05P351
# وإن كان كذلك فيمكن أن يقال: إن هذا دخل في مسمى الإيمان أيضا، أو يقال:
~~بر الوالدين إنما يجب على من له والدان، فذكرهما في حديث ابن مسعود؛ لأن
~~ابن مسعود كان له والدة؛ فكان ذلك حكم من حاله كحاله. وأما حيث لم يذكرهما
~~فذكر ما يعم من الأعمال؛ فيدخل فيه من ليس له أبوان.
# ثم الجهاد إذا صار فرض عين كان أوكد من مطلق بر الوالدين، فيجاهد في هذه
~~الحال بدون إذنهما، وإن كان عليه أن يقوم بما يجب عليه من برهما المتعين
~~عليه، وإن كان لا يجاهد إذا لم يتعين عليه إلا بإذنهما.
# وأما الصلاة فإذا تعارضت هي والجهاد المتعين فإنه يفعل كلاهما بحسب
~~الإمكان، كما في حالة الخوف الخفيف والخوف الشديد.
# قال تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238)
~~فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) (1) . قال تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا
~~من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا..) إلى ms0975 قوله: (وإذا كنت فيهم
~~فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا
~~فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم
~~وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة
~~واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من PageV05P352
# مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين
~~عذابا مهينا (102) فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى
~~جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
~~موقوتا (103)) (1) .
# فقد أمر الله بالجمع بين الواجبين -الصلاة والجهاد- لكنه خفف الصلاة في
~~الخوف من صلاة الأمن؛ بإسقاط أمور تجب في الأمن، وإباحة أفعال لا تفعل في
~~الأمن.
# وصلاة الخوف قد استفاضت بها السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~وذكرها الأئمة كلهم، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها على
~~وجوه متعددة.
# وأما حال المسايفة فللفقهاء ثلاثة أقوال:
# أحدها: وهو قول الجمهور، أنهم يصلون بحسب حالهم مع المقابلة؛ وهذا مذهب
~~الشافعي وغيره وظاهر مذهب أحمد.
# والثاني: أنهم يؤخرون الصلاة؛ وهو قول أبي حنيفة.
# والثالث: أنهم يخيرون بين الأمرين وهو أحد الروايتين عن أحمد.
# وقوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين
~~(238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) هو مع ما قد ثبت في الصحيح (2) عن رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عام الخندق: "شغلونا عن الصلاة الوسطى
~~PageV05P353
# صلاة العصر حتى غربت الشمس، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا"؛ قد احتج به
~~وبغيره على أن تأخير الصلاة في حال الخوف منسوخ بهذه الآية.
# وأجابوا بذلك عما احتج به من جوز الأمرين من قوله - صلى الله عليه وسلم -
~~في الحديث المتفق عليه (1) عن ابن عمر أنه قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في
~~بني قريظة"، فصلى قوم في الطريق وقالوا: لم يرد منا تفويت الصلاة، وأخر قوم
~~الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة، وقد فاتتهم الصلاة، فلم يعنف النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - واحدة ms0976 من الطائفتين. فهذا الحديث حجة في جواز الأمرين،
~~لكن قال أولئك: [إنه] منسوخ بالآية.
# فقد تبين أن الصلاة لما كانت أوكد من الجهاد؛ فإنها عند مزاحمة الجهاد
~~لها أخف، حتى لا تفوت مصلحة الجهاد، وقد يحصل من الفساد بترك الجهاد وقت
~~الضرورة ما لا يمكن تلافيه.
# وهذا أيضا كالحج وإن كان دون الصلاة باتفاق المسلمين. فإذا تضيق وقته
~~وازدحم هو والمقصود، مثل أن يكون ليلة النحر وهي ليلة عرفة ذاهبا إلى عرفة؛
~~فإن صلى صلاة مستقر فاته الوقوف، وإن سار ليدرك عرفة قبل طوع الفجر فاتته
~~الصلاة. فللفقهاء ثلاثة أقوال: قيل: يقدم الوقوف؛ لأن عليه من تفويت الحج
~~ضررا عظيما.
# وقيل: بل يقدم الصلاة لأنها أوكد. PageV05P354
# وقيل: بل يأتي بهما جميعا، فيصلي بحسب الإمكان صلاة لا تفوته الوقوف.
~~وهذا أعدل الأقوال، وهو قول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وغيرهما.
# والعلماء متفقون على أن الخائف المطلوب يصلي صلاة خائف.
# فأما الطالب فتنازعوا فيه، وفيه عن أحمد روايتان: إحداهما أنه يصلي أيضا
~~صلاة الخوف. كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن كأبي داود (1) عن عبد
~~الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن
~~سفيان الهذلي، وكان نحو عرنة وعرفات، فقال: اذهب فاقتله. قال: فرأيته وحضرت
~~الصلاة صلاة العصر فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخر الصلاة.
~~فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء إيماء نحوه. فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟
# قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك، قال: إني
~~لفي ذاك. فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد.
# ومن قال هذا القول راعى أن مصلحة الجهاد مأمور بها أيضا، فلا يمكن تفويت
~~إحداهما، وإن لم يكن من تفويت الجهاد في هذا الوقت مفسدة ظاهرة كما أنه ليس
~~في تأخير الصلاة مفسدة ظاهرة.
# ولو كان تكميل الصلاة مقدما على الجهاد لكان ينبغي أن يترك الجهاد إذا
~~علم أنه لابد فيه من تحقيق الصلاة. PageV05P355
# فلما ثبت ms0977 بالسنة المتواترة أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة
~~بقصر العمل الذي هو قصر العدد فإن قصر العدد سنة السفر، وأما قصر العمل
~~فسنة الخوف. ولهذا إذا اجتمع الأمران شرع القصر المطلق، كما في قوله: (وإذا
~~ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم
~~الذين كفروا) (1) . والآية على ظاهرها؛ فإن القصر المطلق المتضمن لقصر
~~العدد وقصر العمل إنما يكون مع الأمرين. وقد بينت السنة أن مجرد الخوف يفيد
~~قصر العمل، ومجرد السفر يفيد قصر العدد.
# فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع
~~الجهاد لم يترك واحد منهما، بل يصفى بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد
~~بحسب الإمكان. وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
~~واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45)) (2) . فأمر بالثبات والذكر معا.
# وكانت السنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه
~~وخلفاء بني أمية وكثير من خلفاء بني العباس أن أمير الحرب هو أمير الصلاة
~~في المقام والسفر جميعا.
# وما ذكرناه يبين بعض حكمة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين
~~كان مقامهم بالمدينة أفضل على أحد قولي العلماء؛ فإنهم كانوا بها مهاجرين
~~PageV05P356
# مجاهدين مرابطين بخلاف مكة.
# وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين، حتى إن مالكا
~~رضي الله عنه -مع فرط تعظيمه المدينة وتفضيله لها على مكة وكراهية الانتقال
~~منها- لما سئل عمن بدار وهو مقيم بالمدينة يأتي الثغور كالإسكندرية وغيره،
~~أجاب: بأن عليه أن يأتي الثغور؛ لأن المرابطة بالثغور أفضل من مقامه
~~بالمدينة. وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم
~~من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط، وكان هذا على عهد أبي
~~بكر وعثمان أكثر، حتى كان عبد الله بن (1) وغيره مرابطين.
# وكان عمر من يسأله عن أفضل الأعمال إنما يدله على الرباط والجهاد، كما
~~سأله عن ذلك من سأله، كالحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن ms0978 أمية
~~وسهيل بن عمرو وأمثالهم، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية وبني العباس.
~~ولهذا يذكر من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أمور كثيرة.
# وكانوا على طريقتين:
# إحداهما: أن يرابط كل قوم بأقرب الثغور إليهم، ويقاتلون من يليهم. كقوله:
~~(يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) (2) .
# وهذا اختيار أكثر العلماء كالإمام أحمد وغيره، ولهذا كان أصحاب
~~PageV05P357
# مالك كابن القاسم ونحوه يرابط (1) بالثغور المصرية.
# والطريقة الثانية: يجوزون الرباط بثغور الشام ونحوها بما فيه قتال
~~النصارى. فكان عبد الله بن المبارك يقدم من خراسان فيرابط بثغور الشام،
~~وكذلك إبراهيم بن أدهم ونحوهما، كما كان يرابط بها مشايخ الشام كالأوزاعي
~~وحذيفة المرعشي ويوسف بن أسباط وأبي إسحاق الفزاري ومخلد بن الحسين
~~وأمثالهم. وكان المسلمون قد فتحوا قبرص في خلافة عثمان، وبقيت تحت حكمهم
~~أكثر من ثلاثمائة سنة. وكانت "سيس" ثغر المسلمين، و"طرسوس" كانت من أسماء
~~الثغور، ولهذا تذكر في كتب الفقه المصئفة في ذلك الوقت، وتولى قضاءها أبو
~~عبيد الإمام وصالح بن أحمد بن حنبل وغيرهما.
# وكان ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهم يقولون: إذا اختلف الناس في شيء
~~فانظروا ما عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله تعالى يقول: (والذين
~~جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (2) .
# وبالجملة إن السكن بالثغور والرباط والاعتناء به أمر عظيم، وكانت الثغور
~~معمورة بخيار المسلمين علما وعملا، وأعظم البلاد إقامة بشعائر الإسلام
~~وحقائق الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان كل من أحب التبتل
~~للعبادة والانقطاع إلى الله وكمال الزهد والعبادة والمعرفة يدلونه على
~~الثغور. PageV05P358
# وإنما اختار من اختار الرباط بثغور النصارى للحديث الذي في سنن أبي داود
~~(1) عن ثابت بن قيس قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال
~~لها أم خلاد وهي منتقبة تسأل عن ابنها وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -: جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة!
# فقالت: [إن] أرزأ ابني فلن أرزأ حيائي، فقال رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم -: "ابنك له أجر شهيدين ms0979". قالت: ولم ذاك؟ قال: "لأنه قتله أهل
~~الكتاب".
# وهذا بعض [الأخبار التي] تبين فضيلة سكنى الشام؛ فإن أهل الشام ما زالوا
~~مرابطين من أول الإسلام لمجاورتهم النصارى ومجاهدتهم لهم، فكانوا مرابطين
~~مجاهدين لأهل الكتاب. ولهذا فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - جندهم على
~~جند اليمن والعراق؛ مع ما قاله في أهل اليمن (2) .
# ففي سنن أبي داود وغيره (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"إنكم ستجندون أجنادا؛ جندا بالشام وجندا باليمن وجندا بالعراق"، قال: فقلت
~~يا رسول الله! خر لي، فقال: "عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي
~~إليها خيرته من عباده، فمن أبي فليلحق بيمنه، وليسق من غدره فإن الله قد
~~تكفل لي بالشام وأهله". قال الحوالي: ومن يتكفل الله به فلا ضيعة عليه.
~~PageV05P359
# وفي سنن أبي داود (1) أيضا عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه قال: "إنه ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر
~~إبراهيم، ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الرحمن،
~~تحشرهم النار مع القردة والخنازير".
# وفي صحيح مسلم (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال أهل
~~الغرب ظاهرين".
# قال الإمام أحمد: أهل الغرب هم أهل الشام. يعني: ومن يغرب عنهم؛ فإن
~~التغريب والتشريق من الأمور النسبية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم
~~بذلك وهو بالمدينة النبوية، فما تغرب عنها فهو غرب المدينة، كما أن حران
~~والرقة ونحوهما خلف مكة.
# والكلام في هذا ونحوه يطول ويتعذر، بحيث لا تحتمله هذه الفتوى، لكن هذه
~~الأمور المتيسرة تعود إلى أفضل الأحوال: الإيمان بالله ورسوله والجهاد في
~~سبيله كما ثبت ذلك بالنصوص. وقد قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا
~~بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك
~~هم الصادقون (15)) (3) .
# فالجهاد تحقيق كون المؤمن مؤمنا؛ ولهذا روى مسلم في صحيحه (4) عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث PageV05P360
# نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق".
# وذلك أن ms0980 الجهاد فرض على الكفاية، فيخاطب به جميع المؤمنين عموما، ثم إذا
~~قام به بعضهم سقط عن الباقين. ولابد لكل مؤمن من أن يعتقد أنه مأمور به،
~~وأن يعتقد وجوبه وأن يعزم عليه إذا احتيج إليه، وهذا يتضمن تحديث نفسه
~~بفعله. فمن مات ولم يغز أو لم يحدث نفسه بالغزو نقص من إيمانه الواجب عليه
~~بقدر ذلك؛ فمات على شعبة نفاق.
# فإن قيل: فإذا كان الجهاد أفضل من الحج بالكتاب والسنة فما معنى الحديث
~~الذي روته عائشة أم المؤمنين قالت: يا رسول الله!
# أرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد: حج مبرور"
~~رواه البخاري (1) ، ورواه النسائي (2) ، وفيه: ألا نخرج نجاهد معك فإني لا
~~أرى عملا أفضل من الجهاد. قال: "لا، ولكن أحسن الجهاد وأجمله حج البيت حج
~~مبرور".
# قيل: أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~أن أفضل الجهاد للنساء حج مبرور. وكذلك جاء مبينا، رواه النسائي (3) عن أبي
~~هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جهاد الكبير والصغير والضعيف
~~والمرأة: الحج والعمرة". وفي حديث آخر (4) : "الحج جهاد كل PageV05P361
# ضعيف". وفي حديث آخر (1) : هل على النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتال فيه:
~~الحج والعمرة".
# سياق الحديث المتقدم بين ذلك، فإنها قالت: نرى الجهاد أفضل العمل أفلا
~~نجاهد معك؟ قال: "لكن أفضل الجهاد: حج مبرور". فقد أقرها على قولها: "نرى
~~الجهاد أفضل العمل"، ثم ذكر أن "أفضل الجهاد الحج المبرور".
# وفي اللفظ الآخر (2) : ألا نخرج فنجاهد معك فإني لا أرى عملا في القرآن
~~أفضل من الجهاد؟ قال: "لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور". فأقرها على قولها
~~بفضل الجهاد، ثم لما استأذنته في الجهاد (3) المعروف قال: "لا، ولكن أحسن
~~الجهاد وأجمله حج البيت"، وجعل فضله بكونه جهادا، ومعلوم بالحس أن الجهاد
~~لا يقاوم الجهاد في الكفار والمنافقين؛ فعلم أنه أراد جهاد النساء، واللام
~~للتعريف، ينصرف إلى ما يعرفه المخاطب.
# ومقصود الناقل هنا الجهاد الذي هو أفضل العمل له عند الله؛ فبين النبي -
~~صلى الله عليه ms0981 وسلم - أن الجهاد الذي هو مقصوده ومطلوبه هو الحج؛ فإن
~~السائل ضعيف؛ والحج جهاد كل ضعيف. وفي صحيح مسلم (4) عن أبي هريرة عن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى PageV05P362
# الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا
~~تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله
~~وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".
# وقد جاء في فضائل الرباط أحاديث في الصحاح والسنن تبين ما ذكرناه:
# فروى البخاري في صحيحه (1) عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها".
# وفي صحيح مسلم (2) عن سلمان الفارسي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~أنه قال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه
~~[عمله] الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان".
# وفي السنن (3) عن فضالة بن عبيد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"ما من ميت يموت إلا ختم عليه عمله إلا من مات مرابطا في سبيل الله، فإنه
~~ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر" رواه أحمد وأبو داود
~~وهذا لفظه والترمذي بمعناه. وزاد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~يقول: "المجاهد [من جاهد] نفسه في طاعة الله" قال الترمذي: حسن صحيح.
~~PageV05P363
# وقد تقدم حديث عثمان: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه
~~من المنازل".
# وقد جاء عن السلف آثار فيها ذكر الثغور مثل غزة وعسقلان والإسكندرية
~~وقزوين ونحو ذلك.
# وأما الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتعيين قزوين
~~والإسكندرية ونحو ذلك فهي موضوعة كذب بلا ريب عند علماء الحديث (1) ، وإن
~~كان ابن ماجه قد روى في سننه (2) الحديث الذي في فضل قزوين؛ وقد أنكر عليه
~~العلماء ذلك، كما أنكروا عليه رواية أحاديث أخرى بضعة عشر حديثا من
~~الموضوعات؛ ولهذا نقصت مرتبة ms0982 كتابه عندهم عن مرتبة أبي داود والنسائي.
# وقد قدمنا كون البلد ثغرا صفة عارضة لا لازمة؛ فلا يمكن فيه مدح مؤبد ولا
~~ذم مؤبد، إلا إذا علم أنه لا يزال على تلك الصفة.
# وإذا تبين ما في الرباط من الفضل؛ فمن الضلال ما تجد عليه أقواما ممن
~~غرضه التقرب إلى الله والعبادة له بما يحبه ويرضاه يكون في الشام أو ما
~~يقاربها، فيسافر السفر الذي لا يشرع بل يكره، ويترك ما هو مأمور به واجب أو
~~مستحب.
# مثال ذلك أن قوما يقصدون التعريف بالبيت المقدس، فيقصدون زيارته في وقت
~~الحج ليعرفوا به، ويدعو [ن] المقام بالثغور التي تقاربه. PageV05P364
# وهذا في غاية الضلال والجهل والحرمان من وجوه:
# أحدها: أن التعريف بالبيت المقدس ليس مشروعا لا واجبا ولا مستحبا بإجماع
~~المسلمين، ومن اعتقد السفر إليه للتعريف قربة فهو ضال باتفاق المسلمين، بل
~~يستتاب فإن تاب وإلا قتل، إذ ليس السفر مشروعا للتعريف إلا للتعريف بعرفات.
# وأقبح من ذلك تعريف أقوام عند بعض قبور المشايخ والأنبياء وغير ذلك من
~~المشاهد أو السفر لذلك، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين. بل تنازع
~~السلف في تعريف الإنسان في مصره من غير سفر، مثل أن يذهب عشية عرفة إلى
~~مسجد بلده فيدعو الله ويذكره، فكره ذلك طوائف؛ منهم أبو حنيفة ومالك
~~وغيرهما. ورخص فيه آخرون؛ منهم الإمام أحمد، قال: لأنه فعله ابن عباس
~~بالبصرة وعمرو بن حرب بالكوفة. ومع هذا فلم يستحبه أحمد، وكان هو نفسه لا
~~يعرف ولا ينهى من عرف. وقد قيل عنه: إنه يستحب.
# وأما السفر للتعريف بغير عرفة فلا نزاع بين المسلمين أنه من الضلالات، لا
~~سيما إذا كان بمشهد مثل قبر نبي (1) أو رجل صالح أو بعض أهل البيت، فإن
~~السفر إلى ذلك لغير التعريف منهي عنه عند جمهور العلماء من الأئمة
~~وأتباعهم. كما قال - صلى الله عليه وسلم - (2) : "لا تشد الرحال إلا إلى
~~ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". وقد رأى بصرة بن
~~أبي بصرة الغفاري أبا هريرة ms0983 PageV05P365
# راجعا من زيارة الطور فقال: لو رأيتك قبل أن تزوره لم تزره، فإن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد
~~الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا" (1) .
# [وقد] قال من قال من هؤلاء كأبي الوفاء ابن عقيل وغيره: إن المسافر لمجرد
~~الزيارة لبعض المشاهد لا يقصر الصلاة لأنه عاص بسفره، وإنما رخص في هذا
~~السفر طائفة من المتأخرين، ولكن الزيارة المشروعة إذا اجتاز الرجل بالقبور
~~أو خرج إلى ما يجاوره من القبور كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج
~~إلى البقيع، وكما زار قبر أمه لما اجتاز بها في غزوة الفتح. وقد ثبت عنه في
~~الصحيح (2) أنه قال: "استأذنت ربي أن أزور قبر أمي؛ فأذن لي، واستأذنته في
~~أن أستغفر لها؛ فلم يأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة".
# وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول
~~أحدهم: "السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون،
~~ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم
~~لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم" (3) .
# وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (4) : "ما من رجل يمر
~~بقبر الرجل PageV05P366
# كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه
~~السلام".
# والزيارة المشروعة للمسلم: أن يسلم عليه ويدعى له، كما أن الصلاة مقصودها
~~الدعاء له. ولهذا نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الأمرين في حق
~~المنافقين. كما قال تعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على
~~قبره) (1) ، نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة على المنافقين
~~والقيام على قبورهم؛ فكان في ذلك دلالة على أن المؤمنين يصلى عليهم ويقام
~~على قبورهم. وقد قال طوائف من السلف والخلف: وهو القيام على قبورهم بالدعاء
~~والاستغفار.
# فزيارة قبر المؤمن من نبي وغيره مقصودها التحية والدعاء له، فأما اتخاذ
~~القبور مساجد أو الاشراك بها فذلك كله حرام بإجماع المسلمين. كما في ms0984
~~الصحيحين (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في مرضه الذي مات
~~فيه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يحذر ما
~~صنعوا. قالت عائشة (3) : ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
~~PageV05P367
# وفي صحيح مسلم (1) أنه قال قبل أن يموت بخمس: "إني أبرأ إلى الله أن يكون
~~لي منكم خليل، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان
~~قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني
~~أنهاكم عن ذلك".
# وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها
~~المساجد والسرج".
# وقد اتفق أئمة المسلمين على أنه لا تشرع الصلاة عند القبور، وقصدها لأجل
~~الدعاء عندها، ولا التمسح بها وتقبيلها؛ سواء في ذلك قبور الأنبياء وغيرهم.
~~بل ليس تحت أديم السماء ما يشرع التمسح به وتقبيله إلا الحجر الأسود،
~~والركن اليماني يستحب التمسح به.
# وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين (3) ، فلم
~~يمسحوا إلا الركنين اليمانيين، ولم يمسحوا سائر جوانب البيت ولا مقام
~~إبراهيم الذي هناك؛ فكيف بمقام إبراهيم في تلك البقعة ومقام غيره من
~~الأنبياء والصالحين؟ وقد قال الله في كتابه: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا
~~تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (23)) (4) . قال طوائف من الصحابة
~~PageV05P368
# والتابعين: "هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على
~~قبورهم، ثم لما طال عليهم الأمد صوروا صورهم، فكان ذلك مبدأ عبادة
~~الأوثان".
# ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه مالك في الموطأ (1) :
~~"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد". وفي السنن (2) عنه أنه قال: "لا تتخذوا
~~قبري عيدا".
# فالسفر للتعريف ببعض المشاهد حرام، فيكون بمنزلة لحم الخنزير، وأما السفر
~~للتعريف ببيت المقدس مثلا، والسفر لزيارة بعض القبور أو البقاع غير المساجد
~~الثلاثة فهو أيضا منهي عنه، وإن كان وجد في ذلك من عمد إلى هذه البدع التي
~~فيها من الشرك ما فيها، وتعبد بها وأقام بها، وقصد ما يقصده من البقاع ms0985
~~لأجلها، وترك أن يقصد من البقعة أو ما هو قريب منها لأجل الرباط في سبيل
~~الله الذي هو من أفضل الأعمال بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أليس هو ممن
~~استبدل السيئات بالحسنات؟
# الوجه الثاني: أنه لو قدر أنه قصد بعض هذه البقاع قصدا مشروعا مثل السفر
~~إلى بيت المقدس على الوجه المشروع للصلاة فيه والاعتكاف فيه، فإن هذا عمل
~~صالح باتفاق المسلمين، وإن كان قد دخل فيه بدع كثيرة، مثل البدع التي تفعل
~~هنا من السماع PageV05P369
# للمكاء والتصدية في النصف وعشر ذي الحجة ونحو ذلك، ومثل استلام بعض ما
~~هناك من الأحجار، فإنه لا يشرع أن يستلم أحد قط إلا الركنين اليمانيين
~~للبيت العتيق، ومثل اعتقادهم أن ذلك القدم المصنوع قدم النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -، وظن أجهل منهم أنه قدم الله وأشباه هذه الجهالات. فالزيارة
~~إذا سلمت عن هذه البدع وغيرها كانت شرعية، والسفر إلى الثغر للرباط أفضل
~~منها، والعدول عن الفاضل إلى المفضول مع استوائهما غير محمود.
# الوجه الثالث: أن من الناس من يقصد المجاورة ببيت المقدس ويدع المجاورة
~~بالثغر الذي هو قريب منه. وهذا الباب من أفضل الأفضل وأجلها، وهو فرض على
~~الكفاية، ومعلوم أن هذا أعظم خسرانا، وأشد حرمانا، وأبعد عن اتباع الشريعة؛
~~فإن المجاور بالحرمين قد يتعسر عليه ذلك دون المرابطة لاختلاف المكانين.
~~أما مع تفاوت المكانين فالعدول عن هذا إلى هذا لا يصدر إلا من جهل أو من
~~ضعف إيمان، اللهم [إلا] إذا نذر هذا فيكون هذا معذورا. وإنما الكلام فيمن
~~يقدر على الأمرين.
# ولهذا [لما] كان أهل البدع مهملين أمر الجهاد معظمين للزيارات، استولى
~~الكفار على كثير من الثغور، حتى قتل ببيت المقدس وقتلوا فيه من المجاورين
~~من شاء الله، وكان قد جرت فيه بدع كثيرة.
# ومن ذلك من يقصد بعض هذه البقاع، إما جبل لبنان وإما غيره، إما لزيارته
~~لظنه أن فيه الصالحين من الأبدال وغيرهم، ويدع أن يقصد للرباط في سبيل
~~الله، فإن هذا أيضا من الضلال العظيم، وأصل السفر
# PageV05P370
# إلى الزيارة ms0986 غير مشروع ولا مأمور به، بل هو من البدع والضلال. وكذلك
~~السياحة لغير قصد معين ليس ذلك مشروعا لنا. قال الإمام أحمد: ليست السياحة
~~من أمر الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين. والسياحة
~~المذكورة في القرآن ليست هذه السياحة؛ فإن الله قد قال: (عسى ربه إن طلقكن
~~أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات
~~ثيبات وأبكارا (5)) (1) .
# ومعلوم أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء المؤمنين لا يشرع لهن
~~هذه السياحة. ولكن قد فسرت السياحة بالصيام، وفسرت بالجهاد (2) ، وكلاهما
~~مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
# أما الأول: فرواه عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - مرسلا.
# وأما الثاني فقال أبو داود في سننه (3) : "باب النهي عن السياحة"؛ وروى
~~فيه حديث العلاء بن الحارث عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلا
~~قال: يا رسول الله! ائذن لي بالسياحة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
~~"إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله".
# وكذلك أيضا روي (4) : "إن
### | رهبانية هذه الأمة: الجهاد في سبيل الله".
# إذ لا رهبانية في الإسلام، وأما ما ذكره في كتابه أن النصارى PageV05P371
# ابتدعوا الرهبانية فقد نهانا الله ورسوله عن البدع.
# وثبت عنه في صحيح مسلم (1) وغيره عن جابر أنه كان يقول في خطبته: "إن
~~أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل
~~بدعة ضلالة".
# وثبت عنه في السنن (2) الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية
~~قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة فقال رجل: يا
~~رسول الله! كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بالسمع
~~والطاعة فإن من يعش منكم سيرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة
~~الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم
~~ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة".
# فكيف بما نهى الله عنه ورسوله من العبادات المبتدعة؟ كما أخرجا في
~~الصحيحين (3) -واللفظ لمسلم- عن أنس بن مالك أن ms0987 نفرا من أصحاب النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي عن عمله في السر؟
# فقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا آكل اللحم.
# وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه فقال: "ما بال أقوام
~~قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن
~~سنتي فليس مني". PageV05P372
# ولفظ البخاري (1) : جاء ثلاثة رهط بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما أخبروا كأنهم
~~تقالوها! فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر له ما
~~تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا. وقال
~~الآخر: أنا أصوم الدهر أبدا.
# وقال الآخر: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج. فجاء رسول الله [فقال] : "أنتم
~~الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم
~~وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
# وفي الصحيحين (2) عن سعد بن أبي وقاص قال: رد رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا.
# وفي صحيح البخاري (3) وغيره عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا أبو إسرائيل، نذر أن
~~يقوم في الشمس ولا يجلس ولا يستظل وأن يصوم، فقال: "مروه فليجلس، وليستظل
~~وليتكلم وليتم صومه".
# فلما كان هذا الناذر نذر ما هو سنة وما هو بدعة أمره بالوفاء بالسنة دون
~~البدعة، كما في صحيح البخاري (4) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر
~~PageV05P373
# أن يعصي الله فلا يعصه".
# وهذا متفق عليه بين أئمة الدين، لكن تنازعوا هل عليه كفارة يمين أو نذر
~~ما ليس مشروعا؛ بعد اتفاقهم على أنه لا يفعله؟
# فقيل: لا شيء عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما لأنه ليس في هذا
~~الحديث وغيره أنه ms0988 أمر له بالتكفير.
# وقيل: بل عليه كفارة يمين، وهو ظاهر مذهب أحمد، لما ثبت في صحيح مسلم (1)
~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كفارة النذر كفارة يمين". وفي
~~السنن (2) عنه أنه قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين".
# وقد ثبت في الصحيح (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أفضل
~~الصيام صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وأفضل القيام قيام داود كان
~~ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه". وقد استفاض عنه في الصحيح (4) أنه
~~نهى عن مداومة الصيام والقيام وقراءة القرآن في أقل من ثلاث. وأمثال ذلك من
~~النصوص التي تبين ما بعث الله به رسوله من الحنيفية السمحة. كما جاء في
~~الحديث: "أحب الدين إلي الحنيفية السمحة" (5) . PageV05P374
# وفي الصحيح (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن هذا الدين متين
~~وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من
~~الدلجة، والقصد القصد تبلغوا".
# وفي الصحيحين (2) عنه أنه قال: "اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا
~~يمل حتى تملوا".
# وفي السنن (3) عنه أنه قال: "لكل عامل شرة وفتر، فمن كانت فترته إلى سنة
~~فقد اهتدى، ومن أخطأها فقد ضل". وفي لفظ: "ولكل شرة فتر؛ فإن [كان] صاحبها
~~سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه".
# فقيل للحسن البصري لما روى هذا الحديث: "إنك إذا مررت بالسوق فإن الناس
~~يشيرون إليك؟ فقال: "لم يرد ذلك، وإنما أراد المبتدع في دينه والفاجر في
~~دنياه". وهو كما قال الحسن رضي الله عنه، فإن من الناس من يكون له شدة
~~ونشاط وحدة واجتهاد عظيم في العبادة، ثم لابد من فتور في ذلك. وهم في
~~الفترة نوعان:
# منهم: من يلزم السنة فلا يترك ما أمر به، ولا يفعل ما نهي عنه بل يلزم
~~عبادة الله إلى الممات؛ كما قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99))
~~(4) ، يعني الموت، قال الحسن البصري: لم يجعل PageV05P375
# الله لعباده المؤمنين أجلا دون الموت.
# ومنهم: من يخرج إلى البدعة في ms0989 دينه أو فجور في دنياه حتى يشير إليه
~~الناس، فيقال: هذا كان مجتهدا في الدين ثم صار كذا وكذا. فهذا مما يخاف على
~~من عدل (1) عن العبادات الشرعية إلى الزيارات البدعية. ولهذا قال أبي بن
~~كعب وعبد الله بن مسعود: "اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة".
# ومع هذا فجنس الجهاد أفضل، بل قد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: مر رجل
~~من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشعب فيه عيينة من ماء عذبة
~~فأعجبته. فقال: لو اعتزلت الناس، فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم - فقال: "لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته
~~سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؛ اغزوا في سبيل
~~الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة" (2) . قال الترمذي:
~~حديث حسن صحيح. وفواق الناقة: ما بين الحلبتين.
# وجماع الأمر ما قاله الفضيل بن عياض في قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا)
~~(3) قال: أخلصه وأصوبه، قالوا يا أبا علي! ما أخلصه PageV05P376
# وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان
~~صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله،
~~والصواب أن يكون على السنة.
# وهذا كما قال تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك
~~بعبادة ربه أحدا (110)) (1) . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم
~~اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا.
# والعمل الصالح هو المشروع، وهو طاعة الله ورسوله، وهو فعل الحسنات التي
~~يكون الرجل به محسنا. قال تعالى: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو
~~محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125)) (2) . وقال:
~~(بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم
~~يحزنون (112)) (3) .
# ولابد ms0990 في الرباط والهجرة والجهاد وسائر الأعمال الشرعية من السنة التي هي
~~روح العمل، كما في الصحيحين (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
~~"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله
~~ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة
~~يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". PageV05P377
# وفي الصحيحين (1) عنه أنه قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة
~~ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة
~~الله هي العليا فهو في سبيل الله".
# قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا
~~فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم
~~المولى ونعم النصير (40)) (2) .
# فالله تعالى يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه لنا من
~~الأحوال والأعمال الباطنة والظاهرة، ويجنبنا ما يكرهه لنا من ذلك كله.
# وأعظم من ذلك أن يتشاغل المسلمون بقتال بعضهم بعضا، كما يجري بين أهل
~~الأهواء من القبائل وغيرها، كقيس ويمن وجرم وتغلب ولخم وجذام وغير هؤلاء،
~~مع مجاورتهم للثغور، فيدعون الرباط والجهاد الذي هو سعادة الدنيا والآخرة
~~-كما قال تعالى: (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) (3) يعني: إما النصر
~~والظفر، وإما الشهادة والجنة- ويشتغلون بقتال الفتن والأهواء الذي هو خسارة
~~الدنيا والآخرة.
# وفي الصحيحين (4) عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [قال]
~~: "إذا PageV05P378
# التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". فقيل: يا رسول
~~الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه".
# وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا
~~وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله
~~عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا
~~حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)
~~ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك ms0991
~~هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
~~البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين
~~اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما
~~الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107)) (1) .
# وهذه الفتيا لا تحتمل البسط في هذه الورقة، وإنما نبهنا على النكت
~~الجامعة.
# (والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا
~~الله ونعم الوكيل) . تمت PageV05P379
### | قاعدة في الأموال السلطانية
# PageV05P381
# بسم الله الرحمن الرحيم
# فصل
# الأموال السلطانية والأموال العقدية من وقف ونذور ووصية ونحو ذلك، الأصل
~~في ذلك مبني على شيئين:
# أحدهما: أن يعلم المسلم بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله وإجماع
~~المؤمنين نصا واستنباطا.
# ويعلم الواقع من ذلك في الولاة والرعيه، ليعلم الحق من الباطل، ويعلم
~~مراتب الحق ومراتب الباطل، ليستعمل الحق بحسب الإمكان، ويدع الباطل بحسب
~~الإمكان، ويرجح عند (1) التعارض أحق الحقين، ويدفع أبطل الباطلين.
# فنقول: إن الأموال المشتركة السلطانية الشرعية ثلاثة: الفيء، والمغانم،
~~والصدقة. وإذا صنف العلماء كتب الأموال -ككتاب "الأموال" لأبي عبيد ولحميد
~~بن زنجويه، و"الأموال" للخلال من جوابات أحمد، وغير ذلك- فهذه هي الأموال
~~التي يتكلمون فيها.
# وكذلك من العلماء من يجمع الكلام فيها في الكتب المصنفة في ربع الأموال،
~~كما في "المختصر" للمزني و"مختصر" الخرقي وغيرهما PageV05P383
# كتاب قسم الفيء والغنائم والصدقة، يذكرونه قبل قسم الوصايا والفرائض بعد
~~قسم الوقوف. ومنهم من يذكر قسم الصدقة في كتاب الزكاة، وقسم المغانم والفيء
~~في الجهاد، كما هي طريقة كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم. ومنهم من
~~يذكر الخراج والفيء في كتاب الإمارة، كما فعل أبو داود في "السنن" في كتاب
~~الخراج والإمارة.
# وهذه الأموال الثلاثة ثابتة مستخرجها ومصروفها بكتاب الله وسنة رسوله،
~~وأكثرها مجتمع عليه، وفيها مواضع متنازع فيها بين العلماء. فإن الله فرض
~~الزكاة في الأموال وذكر أهلها في كتابه بقوله: (إنما الصدقات للفقراء
~~والمساكين) الآية (1) . والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين من ذلك ما ms0992
~~أجمله الكتاب بما سنه من نصب الزكاة وفرائضها، وفسر من مواضعها، وعمل به
~~خلفاؤه من بعده.
# وكذلك المغانم، قد أحلها الله بكتابه وسنة رسوله، وقسمها رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، وهي المال المأخوذ من الكفار بالقتال،
~~وما أخذ من المرتدين والخارجين عن شريعة الإسلام، فتفصيله ليس هذا موضع
~~ذكره. ويسمى أيضا فيئا وأنفالا.
# وكذلك الفيء الخاص، وهو ما أخذ من الكفار بغير قتال، ذكره الله في سورة
~~الحشر (2) ، وجرى قسمه في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~PageV05P384
# وسنة خلفائه الراشدين على الوجه الذي جرى عليه. ويلتحق به الأموال
~~المشتركة التي لم تؤخذ من الكفار، كالمواريث التي لا وارث لها، والأموال
~~الضائعة التي لا يعلم لها مستحق معين، ونحو ذلك من الأموال المشتركة.
# ثم خلفاء الرسول أهل العدل من العلماء والأمراء الجامعين بين العلم
~~والإمارة مع العدل -كالخلفاء الراشدين- قد يجتهدون في كثير من هذه الأموال
~~قبضا وصرفا، كما يجتهدون في الأحكام والولايات والأعمال والعقوبات ونحو
~~ذلك، واجتهادهم سائغ، والأموال المأخوذة بمثل هذا الاجتهاد سائغة، و
### | إن اعتقد الرجل تحريم بعض ذلك، فليس له أن ينكر على الإمام المجتهد في ذلك،
# ولا على من أخذ باجتهاده، كما لا ينكر على ما أعطاه الحاكم بحكمه في
~~الفرائض والوقوف ونحو ذلك. ولكن هل يباح له بالحكم ما اعتقد تحريمه قبل
~~الحكم؟ على روايتين.
# وكذلك يخرج في القسم، فإن قسم الإمام المال الذي يجب عليه قسمه هو كحكمه،
~~وأما قسمته لغير ذلك فهي بمنزلة فعل الحاكم، كتزويج الأيامى وبيع أموال
~~اليتامى. وهل فعل الحاكم حكم فلا يسوغ نقضه، أم هو كفعل غيره فيجوز نقضه
~~حتى ينفذه أو غيره من الحكام؟ فيها وجهاد.
# ثم إذا قلنا: هو حرام عليه، فليس حراما على غيره، ويحل له -إذا أخذه غيره
~~بتأويل- أن يأخذه منه بابتياع واتهاب ونحو ذلك من العقود. هذا هو الصواب،
~~فإن ما قبضه المسلم بالتأويل أولى
# PageV05P385
# بالإباحة مما يقبضه الكفار من أهل الحرب والذمة بالتأويل. وإذا كان
~~الكفار فيما يعتقدون ms0993 حله إذا أسلموا لو تحاكموا إلينا بعد القبض حكمنا
~~بالاستحقاق لمن هو في يده، وحللناه لمن قبضه من المسلمين منه بمعاوضة،
~~وحللناه له بعد إسلامه، فالمسلم فيما هو متأول في حكمه باجتهاد وتقليد إذا
~~قبضه أولى أن تحل معاملته فيه، وأن يكون مباحا له إذا رجع بعد ذلك عن القول
~~الذي اعتقده أولا، وأن يحكم له به بعد القبض، كما لو حكم به حاكم.
# وقد ذكرت هذه المسألة في غير هذا الموضع، وذكرت فيها روايتين أصحهما ذلك،
~~بناء على أن حكم الإيجاب والتحريم لا يثبت في حكم المكلف إلا بعد بلوغ
~~الخطاب، وأنه [لا] يجب عليه قضاء ما تركه من الواجبات بتأويل، ولا رد ما
~~قبضه من المحرمات بتأويل كالكفار بعد الإسلام وأولى، فإن المسلم في ذلك
~~أعذر.
# وتنفير الكفار عن الإسلام كتنفير أهل التأويل عن الرجوع إلى الحق والتوبة
~~من ذلك الخطأ. وهذا في الأنكحة والمعاوضات والمقاسمات.
# وكذلك
### | ما أتلفه أهل البغي على أهل العدل من النفوس والأموال، لا يجب عليهم ضمانه
# في ظاهر المذهب الموافق لقول جمهور العلماء، وهو قول أبي حنيفة والشافعي
~~في أحد قوليه، كما أجمع عليه السلف من الصحابة والتابعين. قال الزهري: وقعت
~~الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فأجمعوا أن كل
~~دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر. وذلك لأنهم متأولون، وإن
~~كان ما فعلوه حراما في نفس الأمر.
# PageV05P386
# وفي أهل الردة أيضا روايتان، أصحهما أنهم لا يضمنون كأهل الحرب، كما أشار
~~به عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه، لما قال لأهل
~~الردة: تدوا قتلانا ولا ندي (1) قتلاكم، فقال عمر: لا، لأنهم قوم قتلوا في
~~سبيل الله واستشهدوا. دل على ذلك كتاب الله في عفوه عن الخطأ، وسنة رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة أسامة بن زيد (2) وقصة عمار بن ياسر
~~(3) وعدي بن حاتم (4) وأبي ذر (5) وغير ذلك.
# ف
### | ما قبضه المسلم بعقد متأولا فيه ملكه،
# ولو تحاكم اثنان في ms0994 عقد اعتقدا صحته بعد القبض فينبغي للحاكم أن يقرهما
~~على ذلك التقابض.
# ويجوز معاملة المسلم فيما قبضه بهذا الوجه، ولهذا أمر أحمد لمن يعامل
~~السلطان في وقته أن يكون بينه وبينه آخر، وكلما بعد كان أجود، لأن المباشر
~~لهم قد يستحل من المعاملة باجتهاد أو تقليد ما لا يستحله المستفتي، فإذا
~~قبضه المباشر بتأويله حل للمستفتي حينئذ.
# ونظير هذا قول عمر في الخمر والخنزير: ولوهم بيعها وخذوا أثمانها، ولا
~~تبيعوها أنتم (6) . فإن المسلم لا يحل له بيع الخمر PageV05P387
# والخنزير، ويحل له قبض ثمن ذلك ممن باعه بتأويله في دينه.
# فالمسلم الذي قبض بتأويل أولى. فهذا مأخذ لقول أحمد.
# وله مأخذ ثان: أن الظالم إذا باع المغصوب فالمشتري قبض عوض ماله،
~~والأموال التي بأيديهم مجهولة الملك، فالعوض فيها كالمعوض. فالمستفتي قبض
~~ممن قبض عوض [ماله] ، ولم يقبض ممن قبض نفس مال الغير. ولهذه القاعدة فروع
~~في جواباتي في الفتاوى.
# وما قبضه الإمام من الحقوق -الزكوات والخراج وغير ذلك- بتأويل من اجتهاد
~~أو تقليل وجبت طاعته فيه، كما يجب طاعة الحاكم في الحكم المتنازع فيه، فإذا
~~طلب أخذ القيمة أو أخذ ما فضل عن الفرائض ونحو ذلك أطيع في ذلك، وتبرأ ذمة
~~المسلم بما يدفعه من ذلك.
# وهل يجزئه ذلك إذا كان يعتقد أنه لا يجزئه لو فعله؟ الصواب أنه يجزئه،
~~كما ذكر أصحابنا في الخلطة أنه لو أخذ القيمة أو الكبير عن الصغير فإنه
~~يرجع أحد الخليطين على الآخر بذلك، وإطلاقهم يقتضي أنه يجزىء.
# ونظير هذا من مسائل العبادات البدنية الصلاة، فإن المأموم يجب عليه
~~متابعة الإمام فيما يسوغ فيه الاجتهاد وإن كان المأموم لا يراه، كما لو قنت
~~الإمام في الفجر، أو زاد في تكبير الجنازة إلى سبع. لكن لو أخل في الصلاة
~~بركن أو شرط في مذهب المأموم دون مذهبه فهذه فيها الخلاف. وهو يشبه إجزاء
~~إخراج الزكاة من بعض الوجوه، لكن إن كان الإمام لا يطلب منه الزكاة وإنما
~~هو بذلها له،
# PageV05P388
# فقبضها الإمام (1) باجتهاده، فهذا نظير صلاته ms0995 خلفه؛ وإن كان الإمام يطلب
~~منه الزكاة بحيث يجب طاعته، فهذا نظير أن يصلي خلفه ما لا يمكنه فعله خلف
~~غيره، كالجمعة والعيدين ونحوهما. ولهذا إذا قلنا: لا تصح الصلاة خلف
~~الفاسق، فإنه يجب فعل هذه الصلوات خلفه، وفي الإعادة روايتان. فالأمر بفعل
~~الصلاة خلفه وبالإعادة يشبه الأمر بإيتاء الزكاة وبالإعادة.
# ومع هذا فمذهب أهل السنة المأثور عن الصحابة أنه
### | يجزىء دفع الزكاة إلى الإمام الذي يجور في قسمها،
# فإجزاؤها مع أخذها بالاجتهاد أولى، وإن كان رب المال لا يجزئه صرفها في
~~غير المصارف، لكن المأثور عن الصحابة الأمر بدفع الزكاة إليهم وبالصلاة
~~خلفهم.
# والمفسدة في الزكاة أشد، فإذا ساغ ذلك فهذا أسوغ.
# والسلف لم يأمروا من صلى خلفهم بإعادة، ولا من دفع الزكاة إليهم بإعادة،
~~ولهذا قال أحمد في رسالته في "السنة" (2) : إن من أعاد الجمعة فهو مبتدع.
~~لكن المسألتان واحدة، فالمتفق عليه حجة على المختلف فيه، وتخرج في صورة
~~الوفاق ما في صورة النزاع، فإن طائفة من السلف ذهبوا إلى أنه لا يدفع إليهم
~~الزكاة، كعبيد بن عمير وغيره، وكان عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين رضي
~~الله عنه، الذي انتشرت الرعية في زمنه، وكثرت الأموال، وعدل فيها صادقا
~~بارا راشدا تابعا للحق، فوضع الخراج على ما فتحه عنوة، PageV05P389
# كأرض السواد ونحوها، ووضع ديوان العطاء للمقاتلة وللذزية، وكان عثمان بن
~~حنيف على الخراج، وزيد بن ثابت -فيما أظن- على ديوان العطاء. وما زالت هذه
~~التسمية معروفة: "ديوان الخراج" وهو المستخرج من الأموال السلطانية؛
~~و"ديوان العطاء" كديوان الجيش وديوان النفقات ونحو ذلك.
# ولولاة الأمور من الملوك ودولهم في ذلك عادات واصطلاحات، بعضها مشروع،
~~وبعضها مجتهد فيه، وبعضها محرم، كما للقضاة والعلماء والمشايخ، منهم من هو
~~من أهل العلم والعدل كأهل السنة، فيتبعون النص تارة والاجتهاد أخرى؛ ومنهم
~~أهل جهل وظلم كأهل البدع المشهورة من ذوي المقالات والعبادات، وذوي الجهل
~~والجور من القضاة والولاة.
# وكانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في غاية الاستقامة والسداد، بحيث
~~لم يمكن ms0996 الخوارج أن يطعنوا فيهما فضلا عن أهل السنة. وأما عثمان وعلي رضي
~~الله عنهما فهما من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وسيرتهما سيرة
~~العلم والعدل والهدى والرشاد والصدق والبر، لكن فيهما نوع مجتهد فيه،
~~والمجتهد فيما اجتهد فيه إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور
~~له، فاجتهاد الخلفاء أعظم وأعظم.
# وأما عثمان فحصل منه اجتهاد في بعض قسم المال والتخصيص به، وفي بعض
~~العقوبات هو فيها رضي الله عنه مجتهد، والعلماء منهم من يرى رأيه، ومنهم من
~~لا يراه. وعلي رضي الله عنه حصل
# PageV05P390
# منه اجتهاد في محاربة أهل القبلة، والعلماء منهم من يرى رأيه، ومنهم من
~~لا يراه. وبكل حال فإمامتهما ثابتة، ومنزلتهما من الأمة منزلتهما، لكن أهل
~~البدع الخوارج الذين خرجوا على عثمان وعلى علي جعلوا آراءهم وأهواءهم حاكمة
~~على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الراشدين، فاستحلوا بذلك الفتنة
~~وسفك الدماء وغير ذلك من المنكرات.
# وأما من بعد الخلفاء الراشدين ف
### | لهم في تفاصيل قبض الأموال وصرفها طرق (1) متنوعة:
# منها ما هو حق منصوص موافق للكتاب والسنة والخلفاء الراشدين.
# ومنها ما هو اجتهاد يسوغ بين العلماء، وقد يسقط الوجوب بأعذار، ويباح
~~المحظور بأسباب، وليس هذا موضع تفصيل ذلك.
# ومنها ما هو اجتهاد، لكن صدوره لعدوان من المجتهد وتقصير منه، شاب الرأي
~~فيه الهوى، فاجتمعت فيه حسنة وسيئة. وهذا النوع كثير جدا.
# ومنه ما هو معصية محضة لا شبهة فيه بترك واجب أو فعل محرم.
# وهذه الأنواع الأربعة موجودة في عامة تصرفاتهم من الحكم والقسم والعقوبات
~~وغير ذلك، إما أن يوافق سنة الخلفاء أو لا يوافق، والذي لا يوافق إما أن
~~يكون معذورا فيه كعذر العلماء المجتهدين PageV05P391
# أو لا يكون كذلك، والذي لا يكون معذورا فيه عذرا شرعيا إما أن يكون فيه
~~شبهة واجتهاد مع التقصير والعدوان أو لا يكون فيه شبهة ولا تأويل.
# ولم أعلم أن في الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية وظفوا على الناس
~~وظائف تؤخذ منهم غير الوظائف التي هي مشروعة في الأصل ms0997، وإن كان التغيير قد
~~وقع في أنواعها وصفاتها ومصارفها، نعم كان السواد مخارجة عليه الخراج
~~العمري، فلما كان في دولة المنصور -فيما أظن- نقله إلى المقاسمة، وجعل
~~المقاسمة تعدل المخارجة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر. وهذا
~~من الاجتهادات السائغة.
# وأما استئثار ولاة الأمور بالأموال والمحاباة بها فهذا قديم، بل قال -
~~صلى الله عليه وسلم - للأنصار: "إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني
~~على الحوض" (1) . وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال الأمراء بعده
~~في غير حديث، وكان الخلفاء هم المطاعين في أمر الحرب والقتال وأمر الخراج
~~والأموال، ولهم عمال ونواب على الحروب، وعمال ونواب على الأموال، ويسمون
~~هذه ولاية الحرب وهذه ولاية الخراج.
# ووزراؤهم الكبار ينوبون عنهم في الأمرين إلى أثناء الدولة العباسية بعد
~~المئة الثالثة، فإنه ضعف أمر خلافة بني العباس وأمر وزرائهم بأسباب جرت،
~~وضيعت بعض الأموال، وعصى عليهم قوم من النواب PageV05P392
# بتفريط جرى في الرجال والأموال. فذكر ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة فيما
~~علمته من "التاريخ" (1) أنه في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة فوض الراضي
~~الخليفة الإمارة ورئاسة الجيش وأعمال الخراج وتدبير سائر المملكة إلى مقدم
~~اسمه محمد بن رائق، وجعله أمير الأمراء، وأمر بأن يخطب له على سائر منابر
~~المملكة، ولم يكن قبل ذلك شيء من ذلك.
# قال: وبطل قبل ذلك أمر الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيء من النواحي
~~ولا الدواوين، ولا كان له اسم غير اسم الوزارة فقط، وأن يحضر في أيام
~~المواكب دار السلطان بسواد وسيف ومنطقة، ويقف ساكنا. وصار ابن رائق وكاتبه
~~ينظران فيما كان الوزراء ينظرون فيه، وكذلك كل من تقلد الإمارة بعد ابن
~~رائق، وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء، فيأمرون فيها وينفقون
~~منها، ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون، وبطلت بيوت الأموال.
# ثم إنه بعد ذلك حدثت دولة بني بويه الأعاجم، وغلبوا على الخلافة، وازداد
~~الأمر عما كان عليه، وبقوا قريبا من مئة عام إلى بعد المئة الرابعة بنحو من
~~ثلاثين سنة ms0998 أو نحوها حدثت دولة السلاجقة الأتراك، وغلبوا على الخلافة أيضا.
# وكان أحيانا تقوى دولة بني العباس بحسن تدبير وزرائهم -كما جرى في وزارة
~~ابن هبيرة- بما يفعلونه من العدل واتباع الشريعة، PageV05P393
# وينهضون به من الجهاد، وكان ملوك النواحي يعطونهم السكة والخطبة وطاعة
~~يسيرة تشبه قبول الشفاعة. فأما الولايات وإمارة الحروب وجباية الأموال
~~وإنفاقها فكانوا خارجين فيه عن أمر الخلفاء.
# وكانت سيرة الملوك تختلف، فمنهم العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة،
~~المقيم للجهاد وللعدل، كنور الدين محمود بن زنكي بالشام والجزيرة ومصر؛
~~ومنهم الملك المسلم المعظم لأمر الله ورسوله، كصلاح الدين؛ ومنهم غير ذلك
~~أقسام يطول شرحها.
# وهكذا هم في وضع الوظائف، فمن الملوك والوزراء من يسرف فيها وضعا وجباية؛
~~ومنهم من يستن بما فعل قبله، ويجري على العادة، فيجري هو والذي قبله على
~~القسم الرابع؛ ومنهم من يجتهد في ذلك اجتهادا ملكيا يشبه القسم الثالث؛
~~ومنهم من يقصد اتباع الشريعة وإسقاط ما يخالفها، كما فعل نور الدين لما
~~أسقط الكلف السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر
~~والجزيرة، وكانت أموالا عظيمة جدا، وزاد الله البركات، وفتح البلاد وقمع
~~العدو بسبب عدله وإحسانه.
# ثم هذه الوظائف السلطانية التي ليس لها أصل في سنة رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين، ولا ذكرها أهل العلم المصنفون للشريعة
~~في كتب الفقه من الحديث والرأي، هي حرام عند المسلمين، حتى [ذكر ابن حزم]
~~(1) إجماع المسلمين على ذلك، فقال (2) . ومع هذا PageV05P394
# فبعض من وضع بعضها وضعه بتأويل واجتهاد علمي ديني، واتفق على ذلك الفتوى
~~والرأي من بعض علماء ذلك الوقت ووزرائه، فإنه [لما] قامت دولة السلاجقة
~~ونصروا الخلافة العباسية، وأعادوا الخليفة القائم إلى بغداد، بعد أن كان
~~أمراء مصر من أهل البدع أولئك الروافض قد قهروه وأخرجوه عن بغداد، وأظهروا
~~شعار البدع في بلاد الإسلام، وهي التي تسمى فتنة البساسيري في نصف المئة
~~الخامسة= حدثت أمور:
# منها: بناء المدارس والخوانق ووقف الوقوف عليها، وهي المدارس النظاميات
~~بالعراق وغيره، والرباطات كرباط شيخ الشيوخ ms0999 وغير ذلك.
# ومنها: ذهاب الدولة الأموية من المغرب وانتقال الأمر إلى ملوك الطوائف.
# وصنف أبو المعالي الجويني كتابا للنظام سماه "غياث الأمم في التياث
~~الظلم"، وذكر فيه (1) قاعدة في وضع الوظائف عند الحاجة إليها للجهاد، فإن
~~الجهاد بالنفوس والأموال واجب، بل هو من أعظم واجبات الدين، ولا يمكن حصول
~~الجهاد إلا بأموال تقام بها الجيوش، إذ أكثر الناس لو تركوا باختيارهم لما
~~جاهدوا لا بأنفسهم ولا بأموالهم، وإن ترك جمع الأموال وتحصيلها حتى يحدث
~~فتق عظيم من عدو أو خارجي كان تفريطا وتضييعا. فالرأي أن تجمع الأموال
~~ويرصد للحاجة.
# وطريق ذلك أن توظف وظائف راتبة لا يحصل بها ضرر، ويحصل PageV05P395
# بها المصلحة المطلوبة من إقامة الجهاد. والوظائف الراتبة لابد أن تكون
~~على الأمور العادية، فتارة وظفوها على المعاوضات والأملاك، مثل أن يضعوا
~~على البائع والمشتري في الدواب والحبوب والثمار وسائر الأطعمة والثياب
~~مقدارا، إما على مقدار المبيع وإما على مقدار الثمن، ويضعوا على الجعالات
~~والإجارات، ويضعوا على العقار من جنس الخراج الشرعي، وكان ما وضعوه تارة
~~يشبه الزكاة المشروعة من كونه يوجد في العام على مقدار؛ وتارة يشبه الخراج
~~الشرعي؛ وتارة يشبه ما يؤخذ من تجار أهل الذمة والحرب.
# ومنهم من يعتدي، فيضع على أثمان الخمور ومهور البغايا ونحو ذلك مما أصله
~~محرم بإجماع المسلمين، ومنهم من يضع على أجور المغاني من الرجال والنساء،
~~فإن الأثمان والأجور تارة تكون حلالا في نفسها، وإنما المحرم الظلم فيها،
~~كغالب الأثمان والأجور، وتارة تكون في نفسها حراما، كأثمان الخمور ومهور
~~البغايا. وكان بعد موت الملك العادل بالشام قد وضعه ابنه ذلك على دار الخمر
~~(1) والفواحش، فبقي غير ممنوع من جهة السلطان، لما له عليه من الوظيفة،
~~وكان ذلك سنة خمس عشرة [وست مئة] .
# وفي ذلك الوقت ظهرت دولة المغل جنكسخان بأرض المشرق، واستولى على أرض
~~الإسلام، وظهرت النصارى بمصر في مملكة الأفرون، وظهرت بدع في العلماء
~~والعباد، كبحوث ابن الخطيب (2) PageV05P396
# وجست العميدي (1) وتصوف ابن العربي وخرقة اليونسية وبعض الأحمدية
~~والعدوية وغير ذلك.
# وحقيقة ms1000 الأمر في ذلك أن هذا من القسم الثالث أو الرابع، فإن هذا إذا صدر
~~باجتهاد فهو في الأصل مشوب بهوى ومقرون بتقصير أو عدوان، وإن التقصير أو
~~العدوان صادر أيضا من أكثر الرعية، فإن كثيرا منهم أو أكثرهم لو تركوا لما
~~أدوا الواجبات التي عليهم، من الزكوات الواجبة والنفقات الواجبة والجهاد
~~الواجب بالأنفس والأموال، كما أنه صادر من كثير من الولاة أو أكثرهم بما
~~يقبضونه من الأموال بغير حق، ويصرفونه في غير مصرفه، ويتركون أيضا ما يجب
~~من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
# فجمع هذه الأموال وصرفها هي من مسائل الفتن، مثل الحروب الواقعة بين
~~الأمراء بآراء وأهواء، وهي مشتملة على طاعات ومعاصي وحسنات وسيئات، وأمور
~~مجتهد فيها تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا أو عمليا، نظير
~~الطرائق والمذاهب من الاعتقادات والفتاوى والأحكام، وأنواع الزهادات
~~والعبادات والأخلاق، وما في ذلك من مسائل النزاع بين أهل العلم والدين في
~~الأصول والفروع والعبادات والأحوال، فإنها أيضا مشتملة على حسنات وسيئات،
~~طاعات ومعاصي، وأمور مجتهد فيها تارة بهوى وتارة بغير هوى اجتهادا اعتقاديا
~~أو عمليا. PageV05P397
# فالواجب أن
### | ما شهد الدليل الشرعي بوجوبه أو تحريمه أو إباحته عمل به،
# ثم يعامل الرجال والأموال بما توجبه الشريعة، فيعفى عما عفت عنه، وإن
~~تضمن ترك واجب أو فعل محرم، ويثنى على ما أثنت عليه، وإن كان فيه سيئات
~~ومفاسد مرجوحة. وهذه المشتبهات في الأقوال والأعمال والأموال داخلة في
~~الحديث الذي هو أحد مباني الإسلام، حديث النعمان بن بشير المشهور في الصحاح
~~(1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحلال بين والحرام بين،
~~وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن ترك الشبهات استبرأ
~~لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى
~~يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه. ألا وإن في
~~الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد،
~~ألا وهي القلب".
# فإنه ضمن هذا ms1001 الحديث الأكل والشرب من الطيبات والعمل الصالح، كما أمر به
~~في قوله: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا) (2) ، إذ أمر به المرسلين
~~والمؤمنين، كما في حديث أبي هريرة المخرج في صحيح مسلم (3) . وذكر فعل
~~المعروف وترك المنكر الذي هو صلاح القلب والجسد والحلال والحرام، كما قال:
~~(يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث)
~~(4) . PageV05P398
# وذكر أن الشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فدل ذلك على أن من الناس من
~~يعلمها، فمن تبينت له الشبهات لم يبق في حقه شبهة، ومن لم تتبين له فهي في
~~حقه شبهة، إذ التبين والاشتباه من الأمور النسبية، فقد يكون الشيء متبينا
~~لشخص مشتبها على الآخر.
# وبين أن الحزم ترك الشبهات، والشبهات قد تكون في المأمور به، وقد تكون في
~~المنهي، فالحزم في ذلك الفعل وفي هذا الترك، فإذا شك في الأمر هل هو واجب
~~أو محرم فهنا هو المشكل جدا، كما في الاعتقادات، فلا يحكم بوجوبه إلا بدليل
~~ولا بتحريمه إلا بدليل، فقد لا يكون لا واجبا ولا محرما وإن كان اعتقادا،
~~إذ ليس كل اعتقاد مطلق أوجبه الله على الخلق، بل الاعتقاد إما صواب وإما
~~خطأ، وليس كل خطأ حرمه الله، بل قد عفا الله عن أشياء لم يوجبها ولم
~~يحرمها. والله أعلم.
# (تم بحمد الله تعالى وعونه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم،
~~في خامس عشر من شعبان المكرم سنة أربع عشرة وثمان مئة، بمدرسة أبي عمر قدس
~~الله تعالى روحه ونور ضريحه) .
# PageV05P399
# بسم الله الرحمن الرحيم
# مقدمة
# الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه
~~أجمعين.
# وبعد، فهذه مجموعة جديدة من رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية التي لم تنشر
~~ضمن "مجموع الفتاوى"، وقد اعتمدت في تحقيقها وإخراجها على أصول خطية موجودة
~~في مكتبات مختلفة كما سيأتي وصفها، وهذه الأصول تتفاوت في الصحة والجودة،
~~وبعضها كثيرة التصحيف والتحريف تطلب استخراج النص الصحيح منها جهدا كبيرا.
~~وقد كنت أقف أحيانا ساعات لإصلاح الأخطاء والتحريفات في ms1002 بعض الرسائل، وأقرأ
~~الفقرة مرات، وأراجع كلام المؤلف في الموضوع نفسه في كتاباته الأخرى، حتى
~~أهتدي إلى الصواب أو ما يقاربه ويستقيم السياق.
# ومنهجي فيها هو الذي التزمت به في المجلدات السابقة، من ضبط النص وتقسيمه
~~إلى فقرات واستخدام علامات الترقيم، والتخريج المختصر للأحاديث، وتوثيق
~~النقول، وعدم استعمال الأقواس إلا عند إضافة ما لا بد منه على الأصل، وعدم
~~الإشارة إلى التحريفات والأخطاء الواضحة.
# أما التعريف بالأعلام والأماكن والقبائل، وشرح المسائل الفقهية والكلامية
~~واللغوية، وجمع طرق الأحاديث واستقصاء الكلام حولها، فليس مكانه التعليق
~~على النص المحقق، بل ينبغي أن يفرد لكل غرض منها كتاب مستقل كما فعل ذلك
~~سلفنا رحمهم الله.
# PageV00P000
# تحتوي هذه المجموعة على رسائل مهمة لشيخ الإسلام في موضوعات مختلفة، وهي
~~ثابتة النسبة له، وقد نسب كثير منها له في النسخ الخطية، والبقية التي ليس
~~عليها اسمه مكتوبة بأسلوبه المتميز
# في العرض والنقد والإحالة إلى مواضع أخرى من كتاباته، وتتناول الموضوعات
~~التي عرف بالكتابة فيها والاحتجاج لها. ويتفق رأيه فيها هنا مع رأيه في
~~كتبه الأخرى.
# وقد بحثت في فهرس مؤلفاته عن عناوين رسائل هذه المجموعة، فلم أجد إلا
~~ثلاثة منها، وهي: "قاعدة في مواقيت الصلاة" و"قاعدة في الجمع بين الصلاتين"
~~(العقود الدرية ص 46) و"قاعدة في ضمان البساتين هل يجوز أم لا؟ " (العقود
~~الدرية ص 48) . ولعل الرسالة الثانية عشرة (فصل في المواقيت والجمع بين
~~الصلاتين) هي المذكورة في "العقود" بعنوانين منفصلين، ويمكن أن تكون غيرها،
~~لكثرة المؤلفات والقواعد التي كتبها الشيخ في هذه الموضوعات الفقهية، حتى
~~عجز المترجمون له عن إحصائها.
# والرسالة الثامنة عشرة (مسألة في ضمان البساتين والأرض) هي المذكورة
~~بعنوان "قاعدة في ضمان البساتين" في "العقود"، وقد نشر منها جزء في "مجموع
~~الفتاوى" (30/220 وما بعدها) ، وينقصه الثلث الأخير، وفيه زيادات في أوله
~~عما هنا، لأن الناسخ هنا اختصر.
# أما بقية الرسائل والمسائل فلم أجد لها عناوين محددة في كتب التراجم،
~~فاعتمدت في إثباتها على النسخ الخطية، واستنبطت بعضها من أوائل هذه
~~الرسائل.
# PageV00P000
### | وصف الأصول ms1003 المعتمدة
# اعتمدت في إخراج هذه الرسائل على عدة مجاميع ورسائل مفردة من مكتبات
~~مختلفة، وفيما يلي وصفها مرتبة حسب ورودها في المجموعة:
# (1) "قاعدة في الإخلاص لله تعالى، وعبادته وحده لا شريك له هي حقيقة
~~الدين ... ": توجد نسخته الخطية ضمن مجموعة في مكتبة جار الله بإستانبول
~~برقم [1729] (ق 1-18 أ) ، وعنوان هذه المجموعة مطموس في الصفحة الأولى
~~منها، وقد كتب في أعلاها "فهرست ما في
# هذه المجموعة ... " ثم ذكرت عناوين بعض الرسائل. وعليها تملك بخط مالكه
~~ظهر منه: "تزايدت نعم الله على أبي عبد الله ولي الدين جار الله سنة 1143".
# والمجموعة في 122 ورقة، كتبت بخط نسخي جيد، وآخرها ناقص، فلم يظهر لنا
~~تاريخ النسخ واسم الناسخ، ولعلها من خطوط القرن التاسع، وفي الصفحات الأولى
~~منها طمس ذهب بكثير من الكلمات. ومع كونها مجودة في الخط فهي كثيرة التصحيف
~~والتحريف، وغالبا ما يرسم الناسخ الكلمة ويعجمها فيبعد النجعة، وفيها غير
~~قليل من الأخطاء اللغوية والنحوية.
# وتحوي المجموعة تسع رسائل للشيخ، نشرت ثلاث منها ضمن "مجموع الفتاوى"،
~~والبقية تنشر ههنا.
# (2) "فصل في حق الله على عباده، وقسمه من أم القرآن، وما
# PageV00P000
# يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك": هي الرسالة الثانية ضمن
~~المجموعة السابقة (ق 18 أ-28 أ) . وفي آخرها: "تمت هذه القاعدة بحمد الله
~~وعونه، والحمد لله وحده".
# (3) "فصل في صفات المنافقين": هي الرسالة الثالثة ضمن المجموعة السابقة
~~(ق 28 ب-35 أ) . وينتهي الكلام في النسخة دون الإشعار بنهايتها، فلعل آخرها
~~ناقص.
# (4) "فصل في التوحيد": هي الرسالة الرابعة ضمن المجموعة السابقة (ق 35
~~ب-56 ب) .
# (5) "فصل في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع
~~وعمل صالح": ضمن المجموعة السابقة (ق 56 ب-100 ب) .
# (6) "قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله وطلبه والتعليل به
~~ونحو ذلك": أصلها ضمن المجموعة السابقة (ق 101 أ-106 ب) .
# (7) "فصل في الإسلام وضده": يوجد أصله ضمن مجموعة خطية في مكتبة جامعة أم
~~القرى بمكة المكرمة برقم [1491] (ق 13 ب-22 ب) ، وهي بخط نسخي جيد، كتبها
~~أحمد بن أبي ms1004 بكر الطبراني الكاملي، وجمع فيها مختارات من كتب مختلفة، ومنها
~~بعض رسائل شيخ الإسلام. ولعل الناسخ من القرن التاسع، وقد بحثت عن ترجمته
~~في المصادر، فوجدت في "شذرات الذهب" (7/212) : شهاب
# PageV00P000
# الدين أحمد بن أبي بكر بن علي المعروف ببواب الكاملية الحنبلي (ت 835) ،
~~قال العليمي في طبقاته: عني بالحديث كثيرا وسمع، وكان يتغالى في حب الشيخ
~~تقي الدين، ويأخذ بأقواله وأفعاله، وكتب بخطه تاريخ ابن كثير، وزاد فيه
~~أشياء حسنة. فلينظر هل الناسخ هو المترجم له هناك؟
# ونسخة هذه الرسالة ناقصة الآخر، والورقة التي تليها في المجموعة ليست
~~متصلة بما قبلها. والنسخة صحيحة، يندر فيها وجود الخطأ، فإنها بخط عالم.
# (8) مسألة في مقتل الحسين وحكم يزيد: توجد نسخته ضمن مجموعة خطية بعنوان
~~"المسائل والأجوبة" في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم [4 فقه حنبلي] (ق 14
~~ب-25 أ) . وقد كتبت بخط نسخي جميل، وفي آخرها ذكر الناسخ وتاريخ النسخ
~~بقوله: "وكتب في سادس عشر من ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وسبع مئة، على يد
~~الفقير محمد بن عيسى بن أبي الفضلى الشافعي غفر الله له ولوالديه ولجميع
~~المسلمين".
# وعدد أوراق هذه المجموعة 85 ورقة، وأولها ناقص، ولا ندري مقدار النقص،
~~فقد بدأت بالأسطر الأخيرة من فتوى لشيخ الإسلام ضمن "مجموع الفتاوى"
~~(24/10-13) . والمجموعة تحتوي على مسائل مهمة للشيخ لم ينشر بعضها ضمن
~~"مجموع الفتاوى".
# (9) "مسألة في الاستغفار": وصلت إلينا قطعة منها ضمن المجموعة الموصوفة
~~سابقا برقم (7) ، (الورقة 12 أ- 13 ب) . ولا
# PageV00P000
# ندري مقدار ما ضاع من أولها.
# (10) "مسائل في الصلاة": هي ضمن المجموعة السابقة برقم (7) ، (ق 23 أ-26
~~ب) ، وهي مجموعة فصول في مسائل من الصلاة، لم يصل إلينا أولها، ولا نعرف
~~مقداره، ولم نجد منها نسخة
# أخرى تكمل النقص.
# (11) "فصل في الصلاة الوسطى": ضمن المجموعة السابقة برقم (7) ، (ق 26
~~ب-30 ب) ، وآخرها ناقص، ولم نجد في المجموعة ما يكمل النقص.
# (12) "فصل في المواقيت والجمع بين الصلاتين": وصلت إلينا نسختان منه،
~~إحداهما: ضمن "الكواكب الدراري" (المجلد 83) نسخة دار الكتب الظاهرية برقم
~~[578] (ق 9 ب-21 ب) ، وليس عليها تاريخ النسخ، ولكنها كتبت ms1005 حوالي سنة 830
~~كما يظهر من تاريخ نسخ الأجزاء الأخرى الموجودة من الكتاب، وهي نسخة جيدة
~~قليلة الأخطاء.
# والثانية: مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة برقم [7921
~~فلم] عن مصدر مجهول، ولعلها كانت في مصر، فقد كتب أحد القراء في أسفل
~~الصفحة الأولى منها: "طالعه ورقم أوراقه الفقير إلى عفو ربه أبو نهلة أحمد
~~بن عبد المجيد بن هريدي بالقاهرة المحمية في الخامس من ربيع الأول سنة 1400
~~من الهجرة النبوية". ويبدو من دراستها أنها حديثة الخط، وقد جاء في آخرها:
~~"بلغ
# PageV00P000
# مقابلة على الأم المنقول منها، وهي نسخة مضطربة". ولعل الأم المنقول منها
~~هي النسخة الموجودة ضمن "الكواكب"، فلا فرق بين النسختين إلا نادرا، وكان
~~الثانية طبق الأولى.
# (13) "مسألة في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟ ":
~~أصلها ضمن "أجوبة عن مسائل فقهية" في مكتبة شهيد علي بإستانبول برقم [2751]
~~(ق 143 أ-145 أ) ، والنسخة بخط نسخي جيد، كتبها محمد بن كامل الشافعي كما
~~في الورقة (173 ب) . ولعلها
# من خطوط القرن التاسع.
# (14) "مسألة في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد": هي ضمن المجموعة
~~السابقة (ق 161 أ-170 أ) ، ويبدو أن الناسخ لم ينسخها بتمامها، فقد اختصر
~~كلام الشيخ وحذف منه، كما أشار إلى ذلك في آخرها بقوله: "واستشهد بغير ذلك،
~~حذفته اختصارا لضيق الوقت"، ودل عليه بقوله: "ثم قال" في أثناء المسألة
~~مرارا. وليته نسخها على وجهها!
# (15) "مسألة في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودها":
~~نسختها في مكتبة حسن حسني عبد الوهاب ضمن دار الكتب الوطنية بتونس برقم
~~[18567] ، وهي مكتوبة بخط نسخي قديم، والمسألة في صفحة واحدة، وقبلها "فتوى
~~فيمن يؤخر الصلاة عن وقتها" (= ضمن "مجموع الفتاوى" 22/27-38 ثم 24/27-28)
~~، وفي أولها ذكر الشيخ والدعاء له بقوله: "أطال الله بقاءه" مما يدل على
~~أنها كتبت في حياته.
# PageV00P000
# (16) "مسألة في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟ ": توجد
~~نسختها الخطية ضمن المجموعة الموصوفة برقم (13) ، (ق 160 ب-161 ب) .
# (17) "مسألة في إجارة الإقطاع": هي ضمن المجموعة التي وصفت برقم (8) ، (ق
~~1 أ-3 ب ms1006) .
# (18) "مسألة في ضمان البساتين والأرض": أصلها ضمن المجموعة الموصوفة برقم
~~(13) ، (ق 145 أ-157 أ) ، وجاء في آخرها: "قال الناقل لنفسه -عفا الله
~~عنه-: اختصرت جواب الشيخ تقي الدين، وحذفت منه المكرر وغيره، والله أعلم".
~~وليته نقلها بتمامها، ولم يحذف منها شيئا!
# وبعد فهذا وصف موجز للأصول المعتمدة، وأرجو أنني وفقت في قراءتها
~~وإخراجها في هذه المجموعة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي
~~لولا أن هدانا الله، وله الحمد في الأولى والآخرة، عليه توكلت وإليه أنيب.
# محمد عزير شمس
# PageV00P000
# بسم الله الرحمن الرحيم
# رب يسر ولا تعسر
# قال [الشيخ الإمام] (1) العالم الزاهد العابد الورع أبو العباس أحمد ابن
~~الشيخ [الإمام العالم] عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم أبي البركات ابن
~~تيمية رضي الله [عنه] وأرضاه:
# الحمد لله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد،
~~وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث إلى كل أحد، صلى الله عليه وعلى آله
~~وسلم تسليما بلا عدد.
# أما بعد، فهذه
### | قاعدة في الإخلاص لله تعالى،
# وعبادته وحده لا شريك له، هي حقيقة الدين، ومقصود الرسالة، وزبدة الكتاب،
~~ولها خلق الخلق، وهي الغاية التي إليها ينتهون، وبذكرها تحصل السعادة
~~لأوليائه، وبتركها تكون الشقاوة [لأعدائه] ، وهي حقيقة لا إله إلا الله،
~~وعليها اتفقت الرسل، ولها قامت السموات والأرض.
# وقد تكلمت على هذا الأصل بأنواع من القواعد المتقدمة، مثل: قاعدة
~~الشهادتين، وقاعدة المحبة والإرادة، وقاعدة الأعمال بالنيات. والمقصود هنا
~~أن كل عمل يعمله عامل فلا بد فيه من شيئين: من مراد بذلك العمل هو المطلوب
~~المقصود، ومن [حركة إلى] المراد وهي الوسيلة، فلا بد من الوسائل والمقاصد
~~... (2) المطلوبة بالوسائل، PageV06P005
# والإرادة في الباطن ... الظاهر، فتقوم بالجسم. فنسبة النية إلى العمل
~~الظاهر نسبة الروح إلى الجسد، ... أرواح أجسامها أجسام أرواحها النيات، ولا
~~بد لكل جسم حي من روح، ولا بد لكل جسم حي من إرادة ونية.
# ثم إن الروح إن كانت (1) طيبة كان الجسم طيبا، وإن كانت خبيثة كان الجسم
~~خبيثا، فكذلك العمل والنية، ولهذا ms1007 قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في
~~الحديث المشهور: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت
~~هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا
~~يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2) .
# فهذا اللفظ عام (3) في كل عمل كائنا ما كان، هو بنيته، سواء كانت صورته
~~صورة العبادات، كالطهارة والصلاة والحج، أو صورة العادات، كالسفر والاكل
~~والشرب وغير ذلك.
# و
### | سبب الحديث
# كان مما صورته صورة العادات من وجه، [وصورة العبادات من وجه، فالعادة] من
~~جهة كونه سفرا، وهو السفر من مكة إلى المدينة، والدين (4) من جهة كون السفر
~~كان إلى دار الإسلام ومقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من
~~المؤمنين المجاهدين، وبهذا الاعتبار سمي هجرة، ثم إن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - جعله نوعين: أحدهما: ما كان PageV06P006
# إلى الله ورسوله، والثاني: ما كان لغير ذلك، مثل السفر (1) للنكاح.
# وقوله: "وإنما لكل امرىء ما نوى" يوجب أنه ليس للعامل من العمل إلا ما
~~نواه، وهو المقصود المراد بالعمل. وهذا
### | الحديث عام لا يجوز تخصيصه بالأعمال الشرعية
# كما جعله بعض الفقهاء، وهو كلام تام لا يحتاج إلى إضمار قبول الأعمال أو
~~غير ذلك، كما يضمره بعض الفقهاء، وإنما حملهم على ذلك توهمهم أن النية
~~المراد بها النية المقبولة، أو الصحيحة المأمور بها، فزادوا في لفظ الحديث
~~ما لم يذكر، ونقصوا من معناه ما أريد. والحديث من جوامع الكلم، ومن أمهات
~~الدين، والأصل في الكلام عدم الإضمار وعدم التخصيص.
# ثم إن هذا (2) ممتنع، لأنه قال في تمام الحديث: "فمن كانت هجرته إلى الله
~~ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة
~~يتزوجها"، فقد جمع في العمل الذي هو الهجرة بين الثنتين: المقبولة
~~والمردودة، والمحمودة والمذمومة، والصحيحة والفاسدة، وقوله: "وإنما لكل
~~امرئ ما نوى" يعم من نوى المقصود المحمود، وهو من أراد الله ورسوله، ومن
~~نوى غير ذلك، وهو المرأة والمال، فكيف يجوز أن يقال مع ms1008 ذلك: إنه أراد قبول
~~الأعمال وصحتها بالنيات، أو صحة الأعمال الدينية؟
# ثم ما أضمروه يرد عليه نوع من الفساد ليس هذا موضعه. PageV06P007
# ثم
### | الكلام هنا في فصلين: الواقع الموجود، والواجب المقصود.
# أما الأول: فكل حي يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك
~~العمل مطلوب ما، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن أصدق الأسماء
~~الحارث وهمام" (1) ، فالحارث: الكاسب العامل، والهمام: صاحب الهم الذي يكون
~~له إرادة وقصد. وقد بينت فيما تقدم أن طلب المخلوق لا بد أن يتعلق بغيره،
~~فكما أنه لا يكون فاعل نفسه، لا يكون مطلوب نفسه، وبينت أن المخلوق كما لا
~~يكون فاعلا، لا يكون مطلوبا، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله، ولو كان فيهما
~~آلهة إلا الله لفسدتا.
# والغرض هنا أن المخلوق لا بد له في كل عمل من مطلوب ومراد، وحظ ونصيب، لا
~~يمكن غير ذلك، ف
### | اعتقاد وجود اختياري بلا مراد محال،
# سواء كان من الملائكة أو النبيين أو الصديقين أو الشهداء أو الصالحين أو
~~الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين، فما نسمعه من الكلمات المأثورة عن
~~بعض المشايخ مما ينافي هذا فأحد الأمرين PageV06P008
# فيه لازم: إما أنه لفظ مجمل لم يفهم مراد صاحبه، أو صاحبه غالط فيما أمر
~~به أو أخبر به.
# مثال ذلك
### | قول بعضهم: ينبغي للمريد أن يكون بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل.
# فهذا الكلام إذا أريد به في جانب الله أن يكون مفوضا إليه أموره فيما
~~يقدر عليه مما ليس فيه ترك واجب ولا مستحب، فهذا معنى صحيح، لكن دلالة
~~اللفظ عليه بعيدة، وظاهره يعطي أنه لا يكون له من نفسه حركة قط حتى تحرك
~~تحريكا جبريا، فهذا باطل ممتنع. ثم إن الممكن منه محرم في الدين على
~~الإطلاق، وذلك أن الميت لا تقوم به حركة ببدنه ولا إرادة تحرك بدنه، والحي
~~ليس كذلك، فإن جسده يتحرك حركة اختيارية (1) ، وهذا أمر لا بد منه، فلا بد
~~من الحركة الاختيارية، ويمتنع أن يحرك حركة ينتفي حكم ms1009 إرادته فيها، فالأمر
~~فيه عكس الميت من وجهين: الوجود والعدم، فإن الميت لا يتحرك بدنه في العادة
~~باختياره، وهو يحرك دائما بغير اختياره، وقول المطلق احتراز على المقيد
~~ونحوه ممن غسل، فذاك لا فعل له بحال، فهذا بطلانه وامتناعه.
# وأما مخالفته للدين والشريعة، فإن الله لم يأمرنا بعدم الإرادة والحركة،
~~ولا مراده في دينه منا أن نكون مسلوبي (2) الاختيار والحركة PageV06P009
# والعمل، وإنما المراد منا أن نكون مطيعين له ولرسوله، وأن تكون حركتنا
~~واختيارنا تبعا لأمره الذي بعث به رسوله، فعلينا أن نختار ونعمل ما أوجب
~~علينا عمله واختياره، وهو يحب لنا ويرضى أن نختار ونعمل ما يستحب لنا في
~~دينه، ويعاقبنا على عدم الإرادة والعمل المستحب.
# وهنا قد تغلط طائفة من المتصوفة فيقولون: ما المراد؟ (1) قد يستعملون ذلك
~~فيما فيه ترك مستحبات، وقد يتعدون إلى ما فيه ترك واجبات، فيقال: ليس
~~المراد منا الانقياد لكل حكم قاهر، ولا الاستسلام لكل ذي سلطان قادر، وإنما
### | المطلوب منا الاستسلام لله، وإخلاص الدين له،
# وطاعة أمره ونهيه: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله
~~عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) (2) ، (ومن يطع الله
~~ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم
~~(13)) (3) . فإن الدين: الإيمان والبر والتقوى وطاعة الله ورسوله والإحسان
~~والعمل الصالح ونحو ذلك هو المطلوب منا والمراد بنا في دين الله تعالى
~~وكتابه، فأما الحوادث التي تكون بغير أفعالنا فالأقسام فيها ثلاثة:
# تارة نؤمر بدفعها بالباطن أو الظاهر، كما يؤمر بجهاد الأعداء عن الدين.
~~PageV06P010
# وتارة نؤمر بالصبر عليها، وهو ما قضي من المصائب ولا فائدة في الجزع
~~عليه، كالمصائب في الأنفس والأموال والأعراض، والرضى بهذه أعظم من الصبر.
~~وهل هو واجب أو مستحب، على قولين أصحهما أنه مستحب.
# وتارة نخير بين الأمرين بين دفعها وقبولها، وإن كان قد يترجح أحدهما،
~~كدفع الصائل عن المال، وكالتداوي أحيانا ونحو ذلك، وقد فصلنا مسائل هذا
~~الباب في غير هذا الموضع.
# وكذلك الأمور التي ليست حاصلة عندنا، منها ما نؤمر ms1010 بطلبه واستعانة الله
~~عليه، كأداء الواجبات، ومنها ما ننهى عن طلبه كالظلم، ومنها ما نخير بين
~~الأمرين، فكيف يقال مع هذا: إن العبد ينبغي له أن يكون كالميت بين يدي
~~الغاسل؟ هذا مع الله.
# وأما كونه كذلك مع الشيخ ففيه تنزيل الشيخ منزلة الرسول، وهذا على إطلاقه
~~باطل، لكن فيه تفصيل ليس هذا موضعه.
# ومما يغلط فيه ما يذكر عن الشيخ أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال في بعض
~~مناجاته لما قيل له: ماذا تريد؟ فقال: أريد ألا أريد، لأني أنا المراد وأنت
~~المريد. ويتحذلق بعضهم على أبي يزيد (1) ، فيقول: فقد أراد بقوله "أريد".
~~وهذا الاعترض خطأ لوجهين:
# أحدهما: أنه من قيل له: ماذا تريد لم يطلب منه عدم الإرادة، وإنما
~~PageV06P011
# طلب منه تعيين المراد.
# الثاني: أن انتفاء الإرادة ممتنع، وهو محزم، بل عليه أن يريد ما أراده
~~منه، ولا بد له من ذلك.
# وأما قوله: "أريد أن لا أريد، لأني أنا المراد وأنت المريد"، فلا ينبغي
~~أن يفهم من قوله: "أن لا أريد" أن لا تكون لي إرادة، فإن هذا باطل محرم،
~~وإنما أراد أن لا يكون ابتداء الإرادة مني، بل إرادتي تابعة لك لأنك أنت
~~مرادي، فأريد أن لا أريد إلا إياك. وهذا حقيقة الحنيفية والإخلاص، فإذا كنت
~~لا أريد إلا إياك لم أحب (1) ولا أفعل إلا ما أمرتني به، فكان حقيقة قوله:
~~أريد أن لا أعبد إلا إياك، ولا أريد شيئا قط إلا وجهك الكريم، وهذا عين ما
~~أوجبه الله لكل عبد، وهي الإرادة الدينية الشرعية.
# وأيضا فقد يقول: أريد ألا تكون لي إرادة إلا ما أمرتني أن أريده، وأردته
~~لي إرادة محبة ورضى، لجهلي وعجزي. وأريد أن أكون عبدا محضا، فلا أريد إلا
~~ما تريده أنت، بحيث يكون المراد (2) المختار أمرا دينيا وقضاء كونيا لا
~~يخالف الأمر الديني. فهذا الكلام يكون إخلاصا وتفويضا، وكلاهما إسلام وجهه
~~لله.
# وأيضا فإنه قد يقول هذا في مقام الفناء والاصطلام، إذا غلب على قلبه، حتى
~~غاب به عن شهود ms1011 نفسه وإرادته، فهو يحب هذا الفناء، لأنه PageV06P012
# متى رجع إلى نفسه أرادت بهواها، فهو يريد أن يفنى عن نفسه حتى يكون الحق
~~هو الذي يريد له وبه.
# ثم إنه مع الفناء في نوع من الإرادة لله التي هي أعظم الإرادات، لكنه
~~غائب كغيبته عن نفسه مع وجودها. وهذا كله حسن، وإن كان البقاء أفضل ما لم
~~يفض (1) الأمر إلى ترك مأمور به جريا مع الكوني.
# ومما (2) يغلط فيه بعضهم قول طوائف منهم: إن من طلب شيئا بعبادته لله كان
~~له حظ، وكان يسعى لحظه، وإنما الإخلاص أن لا تطلب بعملك شيئا، ولا يكون لك
~~حظ ولا مراد. ثم يقولون: لا يريد إلا الله، ولا يطلب إلا وجهه، هذا في
~~الدنيا، وفي الآخرة لا يطلب إلا رؤيته.
# وبعضهم قد يقول: إذا طلبت رؤيته كنت في حظك، بل لا يكون لك مطلوب. وينشد
~~قول بعضهم (3) :
# أحبك حبين: حب الهوى وحب لأنك أهل (4) لذاكا
# فأما الذي هو حب الهوى فكشفك للحجب حتى أراكا
# وأما الذي أنت أهل (5) له فحبي خصصت به عن سواكا PageV06P013
# فما الفضل في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الفضل في ذا وذاكا
# وهذا الكلام فيه حق، ويقع فيه غلط، فأما [الحق] (1) فهو ما اشتمل عليه من
~~الإخلاص لله وإرادة وجهه دون ما سواه، وطلب النظر إلى وجهه، والشوق إلى
~~لقائه، كما في الحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين،
~~أحدهما من حديث عمار بن ياسر، و [الثاني] من حديث زيد بن ثابت، فيه: "أسالك
~~النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة" (2) .
# وأما الغلط فتوهم المتوهم أن إرادة وجه الله والنظر إليه ليس فيها حظ
~~للعبد ولا غرض، وأن طالبها قد ترك مقاصده ومطالبه، وأنه عامل لغيره لا
~~لنفسه، حتى قد يخيل أن عمله لله بمنزلة كسب العبد لسيده وخدمة الجند
~~لملكهم. وهذا غلط، بل إرادة وجه الله أعلى حظوظ العبد، وأكبر مطالبه وأعظم
~~مقاصده، والنظر إلى وجهه أعظم لذاته، ففي ms1012 الحديث الصحيح عن أهل الجنة قال:
~~"فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه،
~~وهي الزيادة"، رواه مسلم (3) عن صهيب. PageV06P014
# وإنما
### | العبد له حظان: حظ من المخلوق (1) ، وحظ من الخالق،
# وله لذتان: لذة تتعلق بالمخلوق، ولذة تتعلق بالخالق. فترك أدنى الحظين
~~واللذتين لينال أعلاهما، وما عمل إلا لنفسه ولا حطب إلا في حبله، قال
~~تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) (2) .
~~وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسألك لذة النظر" كما تقدم.
# وقال الله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (3) ، وقال: (إن
~~أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (4) ، وقال: (لها ما كسبت وعليها ما
~~اكتسبت) (5) وقال: (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم
~~(40)) (6) . والله سبحانه أمره بما يحتاج إليه في سعادته، وأحب له أعلى
~~السعادات وأعظم اللذات، وإن كان لمحبة الرب عبده ولعمله الصالح تعلق بالله
~~ليس هذا موضعه، فالعبد إذا لم يتصرف إلا بأمر الله ورسوله فهو بمنزلة من لا
~~يتصرف إلا بأمر مالكه العالم بحاله، والناصح له، لا بأمر المالك الذي ينتفع
~~به في حياته، قال الله تعالى (7) : "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني،
~~ولن PageV06P015
# تبلغوا نفعي فتنفعوني" (1) ، وقد كتبت فيما تقدم العمل لله والعمل
~~للمالك، وبهذا تزول جهالات كثيرة من بعض العابدين المحبين.
# قال تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن
~~عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (17)) (2) ، فأخبر أنه هو الذي من
~~بهدايتهم للإيمان، إلا أنهم يمنون على رسوله إسلامهم، فتدبر هذا، فإن فيه
~~معاني (3) لطيفة، منها: أنه إنما من بهدايتهم للإيمان التي هي دعوتهم إليه
~~بالرسالة، وإنعامه عليهم بالاهتداء، لم يكن مجرد الدعوة إليه ولا مجرد
~~الإسلام الظاهر، ولأنه يشركهم في الأول الكافر، وفي الثاني المنافق، ولهذا
~~قال: إن كنتم صادقين في قولكم آمنا.
# ومنها: أن (4) منهم على رسوله الإسلام الظاهر الذي قد ينتفع به الرسول في
~~نصره وموافقته وغير ذلك، فكان ذلك ms1013 تنبيها على إنكاره منهم على الله الغني
~~الحميد، الذي لا يبلغون ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، فالله هو الذي أنعم
~~على عبده المؤمن بأمره وتعبيده له، وهو الذي من عليه بهدايته وإرشاده، فله
~~الحمد في كونه هو المعبود، وفي كونه هو المستعان، وهو الأول والاخر، وهو
~~بكل شيء عليم، والعبد إنما عمل في مطلوبه مراده الذي هو معبوده وإلهه، وإذا
~~أحبه (5) ربه، PageV06P016
# وأحب عبادته ودينه (1) ورضي ذلك، فما للعبد من ذلك فهو نعمة من الله
~~عليه، وما للرب في ذلك فهو منه وإليه، وهو الغني عن خلقه.
# والعباد أعجز من أن يبلغوا ضره فيضروه، أو يبلغوا نفعه فينفعوه من وجهين:
# من جهة الأسماء والصفات، وهو أنه سبحانه أحد صمد قيوم لا تأخذه سنة ولا
~~نوم، ويمتنع عليه أضداد أسمائه الحسنى التي وجبت له بنفسه.
# ومن جهة القضاء والقدر، وهو أنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاؤه ويريده،
~~ولا حول ولا قوة إلا به، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا
~~قوة إلا به.
# وأما قول العابدة المحبة القائلة:
# أحبك حبين: حب الهوى وحب لأنك أهل لذاكا
# فأما الذي هو حب الهوى فكشفك للحجب حتى أراكا
# وأما الذي أنت أهل له فشيء (2) خصصت به عن سواكا
# فلكلامها وجهان:
# أحدهما: أن تريد بالحب الأول من جهة إنعامه على عباده، وهو الحب المأمور
~~به. وبالثاني محبته لذاته. والأولى متفق عليها، والثانية PageV06P017
# حق عند أهل السنة والجماعة، وفيهم أهل العلم والمعرفة واليقين، فإنهم
~~متفقون على محبته لذاته، وقد قررت هذه المسألة في غير هذا الموضع.
# الوجه الثاني: أن تريد بالحب الأول: الحب الذوقي الذي لا يتقيد بالأمر
~~المحض، فإن من عرف الله ولو بعقله ونظره أحبه وعظمه، حتى المشركون فيهم
~~محبة الله، كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم
~~كحب الله) (1) أي كحبهم الله، لا كحب المؤمنين لله، فإن الذين آمنوا أشد
~~حبا لله، ثم إن المحبين (2) من الأنبياء عليهم السلام، وأهل العلم ms1014 والايمان
~~كثيرا ما يستعملهم الحب في أشياء ويدعوهم إلى أشياء من طلب، وسؤال عبادة،
~~واجلال، ونعوت، لابتغاء الوسيلة، وطلب نيل الفضيلة، وإن لم تكن تلك الأشياء
~~قد أمروا بها، لكن إذا لم يكونوا نهوا عنها، بل وغير الحب من الأحوال
~~المحمودة قد يفعل مثل ذلك، من الرحمة للخلق، والرجاء لرحمة الله، والخوف من
~~عذابه، فإن الأفعال ثلاثة: مأمور به، ومنهي عنه، وما ليس مأمورا به ولا
~~منهيا عنه.
# فكثير من المحبين يفعل ما يراه محصلا لمقصوده من محبوبه إذا لم يكن منهيا
~~عنه، حتى إن منهم من ينهى أويمنع كما منع موسى عليه السلام عن النظر لما
~~ساله، وانما دعاه إليه قلق الشوق والمحبة، كما أن نوحا لما سال في ابنه قيل
~~له: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) (3) ، PageV06P018
# (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن
~~إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم أعرض عن هذا) (1) . وأما نبينا -
~~صلى الله عليه وسلم - فلا يفعل إلا ما أمر به (2) من دعاء وعبادة، فإن
~~نبينا - صلى الله عليه وسلم - العبد المحض الذي لا يفعل إلا ما أمره به
~~ربه، فلهذا أمره بالدعاء فقيل له: (وقل رب زدني علما (114)) (3) ، وقيل له:
~~(واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (4) ، وإذا كان يوم القيامة ورد
~~الأنبياء إليه الشفاعة العظمى، وجاءته الأمم، يجيء إلى (5) ربه، ويخر
~~ساجدا، ويحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، فيقول له: "أي محمد! ارفع رأسك، وقل
~~يسمع، واشفع تشفع" (6) ، فلا يشفع إلا بعد أن يؤمر بالشفاعة، فلا يقال له:
~~أعرض عن هذا، ولا يقال له: لاتسألني ما ليس لك به علم.
# وقد أوجب الله على أهل المحبة متابعته بقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون
~~الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (7) ، فهؤلاء المتبعون لأمره،
~~المستمسكون بسنته في الباطن والظاهر، هم خالص أمته، وأما من كان من أهل
~~المحبة أو الخوف أو الرجاء أو الإخلاص، استعمله PageV06P019
# حاله في أعمال لم يؤمر بها، ولم تسمح له، مثل كلام المكاء والتصدية التي
~~تحرك حبه ms1015 أو حزنه أو خوفه أو رحمته أو رجاءه، ومثل الشدة في عقوبة (1)
~~الفساق حتى يدعو عليهم، أو يعاقبهم بقوة عظيمة لله، من غير أمر منه بذلك،
~~ومثل فرط الرحمة لهم حتى يشفع فيمن يحب الله، ويرضى عقوبته والانتقام له،
~~أو تركه، بترك عقوبته، ولهذا يقول الله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على
~~ألا تعدلوا اعدلوا) (2) ، (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام
~~أن تعتدوا) (3) ، وقال تعالى: (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم
~~تؤمنون بالله واليوم الآخر) (4) ، ومنهم من يحمله حب أقاربه حتى يدعو لهم
~~بدعوة لم يؤمر بها، وغير ذلك.
# وهذا كثير في أرباب الأحوال المتأخرين من هذه الأمة، وهم في هذه الأمور
~~خارجون عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة خلفائه الراشدين،
~~بمنزلة خروج من خرج من ولاة الأمور في السياسات الظاهرة عن طريقة الخلفاء
~~إلى نوع من الملك في العقوبات وفي الولايات وفي الأعطية، فإن تصرف هذا وهذا
~~ببغضه للحرمات من جنس واحد، لكن هذا بباطنه وهذا بظاهره، وكذلك عطاء هذا
~~وهذا برحمته للعباد من جنس واحد، ثم كل منهما قد يكون مقصوده الرئاسة إما
~~الباطنة وإما PageV06P020
# الظاهرة، وقد يكون مقصوده الديانة، وإنما تصرف بحاله لا بالأمر.
# وهذا باب عظيم ننبه عليه في مواضع، وإنما أشرنا إليه هنا لما ذكرنا محبة
~~الهوى التي لم تتقيد بالعلم والأمر، وإن كانت محبة الله إذا لم تكن منهيا
~~عنها، ولهذا قالت:
# فكشفك للحجب حتى أراكا
# أي هذا الحب يستدعي طلب الرؤية كما طلبها من طلبها في الدنيا.
# وأما المحبة الثانية فهي العبودية المحضة للذي يحبه لذاته، فلا يفعل إلا
~~ما أمر به، ولا يطلب إلا ما أمر به، ولا يستحق شيء أن يحب لذاته إلا الله،
~~فإنه لا إله إلا الله، والإله هو الذي يعبد لذاته، فلذلك قالت: لأنك أهل
~~لذاكا، وقالت: فشيء خصصت به عن سواكا.
### | الفصل الثاني: في الواجب من المقاصد والوسائل.
# أما المقصود المطلوب لذاته، وهو المعبود، فلا يجوز أن يعبد ms1016 إلا الله لا
~~إله إلا هو، وهذا أصل الدين وأساسه ودعامته، وأوله وآخره، وباطنه وظاهره.
~~والوسيلة هي الأعمال الصالحة الحسنة، إذ ليس كل عمل يصلح لأن يعبد به الله،
~~ويراد به وجهه، وليس كل ما كان في نفسه حسنا وصلاحا يراد به وجه الله وليس
~~بصالح، مثل
### | عبادات المبتدعة
# المخلصين، كرهبانية النصارى التي قال الله فيها: (ورهبانية ابتدعوها ما
~~كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله) (1) ، ومثل ما في هذه الأمة من أنواع
~~المقالات والعبادات التي فعلها صاحبها لله، لكن بغير PageV06P021
# إذن من الله، مثل بدع الخوارج، واستحلالهم (1) ما استحلوه من مفارقة
~~السنة والجماعة، حتى قال شاعرهم (2) في قاتل علي بن أبي طالب- وهو أشقى
~~الآخرين عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي-:
# ياضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
# إني لأذكره حينا فأحسبه أو فى البرية عند الله ميزانا
# وكذلك ما عليه كثير من القدرية والمرجئة والجهمية والرافضة، وغيرهم من
~~أهل البدع الاعتقادية إذا كانوا فيها مخلصين مريدين التقرب بها إلى الله.
# وكذلك ما عليه كثير من المبتدعة في العبادات والأحوال، من الصوفية
~~والعباد والفقهاء والأمراء والأجناد والولاة والعمال، فكثير من هؤلاء قد
~~يزين له سوء عمله فيراه حسنا، ويتقرب إلى الله بشيء يظنه حسنا، وهو شيء
~~مكروه، وهذا باب واسع.
# ومن هذا الباب
### | عبادات اليهود والنصارى
# التي يتقربون بها إلى الله ويخلصون فيها، قال الله تعالى: (قل هل ننبئكم
~~بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم
~~يحسنون صنعا) (3) ، وسئل عنهم سعد بن أبي وقاص فقال: "هم أهل الصوامع
~~والديارات" (4) . وسئل عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه
~~فقالى: "هم أهل PageV06P022
# حروراء" (1)
# ولا منافاة بين القولين، فإن مثل هذا الكلام قد لا يكون للتحديد، وإنما
~~يكون للتمثيل، كمن سئل عن الخبز فأخذ رغيفا وقال: هو هذا. ففسروا الضالين
~~من عباد الكفار وعباد أهل البدع، وقد أخبر الله أنهم يحسبون أنهم يحسنون
~~صنعا، وأخبر أنهم يرون أعمالهم السيئة حسنة، فهم ms1017 مع رأي وحسبان غير مطابق
~~للحقيقة.
# القسم الثالث
### | : ما يكون صالحا، ولا يريد به فاعله وجه الله،
# وهذا أيضا كثير، مثل ما يعمله العاملون من الأعمال الظاهرة المشروعة من
~~إقراء العلم والقرآن، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وعدل
~~بين الناس، وإحسان إليهم من صدقة ومعروف وإصلاح بين الناس، ولهذا قال
~~تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين
~~الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114)) (2) ،
~~وقال عن المتصدقين: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا
~~(9)) (3) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من قاتل لتكون كلمة الله هي
~~العليا فهو في سبيل الله" (4) .
# وقد ثبت في صحيح مسلم (5) حديث أبي هريرة في متعلم العلم PageV06P023
# والمقتول في الجهاد وفي المتصدق إذا لم يكونوا مخلصين، وأنهم أول ثلاثة
~~تسجر بهم النار.
# - القسم الرابع: الذي لا يكون عمله خالصا لله، وهو شر الأقسام، مثل جهاد
~~المشركين للمسلمين ينصرون بذلك آلهتهم، فلم يعبدوا به ولا أحسنوا، حيث
~~أهلكوا أهل الإيمان.
# وكذلك كل ما كان من هذا الجنس من الأعمال التي يفعلها الكفار لغير الله
~~وليست خيرا في نفسها، من نصر (1) أهل الكفر، وكذب على الله، وتكذيب برسله،
~~واعتقاد للباطل.
# وكذلك اتباع قوم مسيلمة لمسيلمة، وقتالهم معه، وكذلك أهل البدع والضلال
~~التي يقصدون بها نصر أهوائهم. وكذلك الفجور والمعاصي التي تفعلها النفوس
~~لأجل العلو في الأرض والفساد، وهذا الضرب كثير جدا.
# وإذا كانت الأقسام الأربعة، فالقسم الأول هو المحمود، وأهله هم السعداء
~~من جميع بني ادم من الأولين والاخرين، وبذلك جاء الكتاب والسنة والإجماع،
~~قال الله تعالى: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك
~~أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله وهو
~~محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112)) (2) ، فإن أهل
~~الكتاب تمنوا هذه الأمنية PageV06P024
# التي قالوا بألسنتهم، وقدروها بقولهم، وجمعوا فيها بين النفي ms1018- وهو دخول
~~الجنة- عن غير اليهود والنصارى، وبين الإثبات لمن كان هودا أو نصارى، وهذا
~~من باب اللف والنشر. أي وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا.
~~وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، (قل هاتوا برهانكم إن
~~كنتم صادقين (111)) فطالبهم بالبرهان على هذه القضية والدعوى الجامعة بين
~~النفي والإثبات.
# وكان في ذلك ما دل على أن النافي عليه الدليل، كما أن المثبت عليه
~~الدليل، كما طالب المثبت في قوله: (أئله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم
~~صادقين) (1) ، ومعلوم أن ليس مع اليهود والنصارى لا برهان شرعي ولا عقلي
~~يدل على ذلك، فإن الرسل لم تخبرهم بهذا النفي، ولا هو مدرك بالعقل، ولهذا
~~قال الله تعالى: (تلك أمانيهم) ، ثم قال تعالى: (بلى من اسلم وجهه لله وهو
~~محسن فلة اجرة عند ربه) . وهذا حصول الخير والثواب والنعيم واللذة، ثم قال:
~~(ولا خوف عليهم) والخوف إنما يتعلق بالمستقبل، (ولا هم يحزنون) والحزن
~~يتعلق بالحاضر والماضي، فلا هم يخافون ما أمامهم، ولا هم يحزنون على ما هم
~~فيه وما وراءهم، ثم إنه قال في الخوف: (ولا خوف عليهم) ولم يقل: يخافون،
~~فإنهم في الدنيا يخافون مع أنه لا خوف عليهم، وقال: (ولاهم يحزنون) فلا
~~يحزنون بحال، لأن الحزن إنما يتعلق بالماضي، وهم (2) فأنواع الألم منتفية
~~بانتفاء الخوف PageV06P025
# والحزن، فإن المتألم لا يخلو من حزن، فإذا انتفى الحزن انتفى كل ألم.
# وقال في عملهم: (بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن) ، فإسلام وجهه كما قاله
~~أئمة التفسير: هو إخلاص دينه وعمله لله، وقيل: تفويض أمره إلى الله (1) .
~~وهو (2) يعم القسمين، كما سنبينه إن شاء الله، فإن إسلام وجهه يقتضي أنه
~~أسلم نيته وعمله ودينه لله، أي جعله لله خالصا سالما، والإحسان هو فعل
~~الحسنات، فاجتمع له أن عمله خالص، وأنه صالح، كما قال عمر بن الخطاب رضي
~~الله عنه: "اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد
~~فيه شيئا" (3) .
# وقال الفضيل بن عياض في قوله ms1019 تعالى: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (4) ، قال:
~~أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان
~~خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى
~~يكون خالصا صوابا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
# وبهذا البيان يعرف بالعقل أن هذا الدين الحق هو أفضل الأديان، لأن الدين
~~هو الخضوع والانقياد والعمل، فلا بد له من شيئين، من PageV06P026
# مقصود هو المعبود، ووسيلة هي الحركة، فأي معبود يسامي الله؟ وأي قصد
~~للمعبود خير من أن يكون القاصد ذليلا له مخلصا له، لا متكبرا ولا مشركا به؟
~~وأي حركة خير من فعل الحسنات؟ فبهذا تبين أن من أسلم وجهه لله وهو محسن،
~~فإنه مستحق للثواب، كما تبين أنه لا أحسن منه.
# وبيان ذلك أن الوجه إما أن يكون هو القصد والنية كما قال:
# أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل (1)
# والوجه مثل الجهة، مثل الوعد والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، وقد
~~قررت هذا في غير هذا الموضع، وهذا مقتضى كلام أئمة التفسير، وهو مقتضى ظاهر
~~الخطاب لمن كان يفقه بالعربية المحضة من غير حاجة إلى إضمار ولا تكلف، ومثل
~~هذه الاية قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا
~~يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن يعمل من الصالحات
~~من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن
~~أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله
~~إبراهيم خليلا (125)) (2) .
# روى الإمام أحمد في مسنده (3) عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: PageV06P027
# "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، وإنما بعثت بالحنيفية السمحة".
# فبين الله أنه لا دين أحسن من دين من أسلم وجهه لله، وهو محسن غير مسيء،
~~واتبع ملة إبراهيم حنيفا.
# وقال: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (1) ، فدل بذلك على متابعة إبراهيم في
~~محبته لله، ومحبة الله له ms1020، ولفظ "أسلم" يتضمن شيئين: أحدهما الإخلاص،
~~والثاني الاتباع (2) والإذلال. كما أن "أسلم" إذا استعمل لازما مثل: (ربنا
~~واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) (3) ، وقوله: (أسلمت لرب
~~العالمين (131)) (4) ، يتضمن الخضوع لله والإخلاص له.
# وضد ذلك إما الكبر وإما الشرك، وهما أعظم الذنوب، ولهذا كان الدين عند
~~الله الإسلام، فإن دين الله أن نعبده وحده لا شريك له، وهذا حقيقة قول لا
~~إله إلا الله، وبه بعثت الرسل جميعها، ومن عبادته وحده أن لا نشرك به، ولا
~~نتكبر عن أمره، فلا بد من الإيمان بجميع كتبه، PageV06P028
# وجميع رسله، وإلا لم يكن العبد مسلما له، ولا مسلما وجهه لى، إذا امتنع
~~عن الإيمان بشيء من كتبه ورسله، وهذا هو الإسلام العام الذي دخل فيه جميع
~~الأنبياء والمرسلين، وأممهم المتبعين غير المبدلين.
# ثم إن الإسلام في كل ملة قد يكون بنوع من الشرع والمناهج والوجه
~~والمناسك، فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وختم به الرسل كان
~~الإسلام لله لا يتم إلا بالدخول فيما جاء به من الشرع والمناهج والمناسك،
~~وهو الإسلام الخالص، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على
~~خمس " الحديث (1) .
# فإن
### | الإسلام الذي في القلب لا يتم إلا بعمل الجوارح،
# فكن مباني له ينبني عليها، فالمباني الظاهرة تحمل الإسلام الذي في القلب
~~كما يحمل الجسد الروح، وكما تحمل العمد السقف، والقبة الأركان، فالإسلام
~~الذي هو دين الله بني بمبعث محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذه
~~الأركان، وإن كان بني بمبعث غيره على أركان أخرى، إذ الإسلام الخاص
~~المستلزم للإسلام العام الذي بعث به محمد - صلى الله عليه وسلم - بني على
~~هذه الخمسة. وقد تنازع أصحابنا هل يسمى ما سوى ديننا هذا إسلاما، والنزاع
~~لفظي.
# كما أخبر عن حقيقة الإسلام بقوله: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل
~~بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135) قولوا آمنا بالله وما أنزل
~~إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي
~~PageV06P029
# موسى وعيسى وما ms1021 أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له
~~مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في
~~شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة الله ومن أحسن من الله
~~صبغة ونحن له عابدون) (1) ، فأمرهم بعد أمره لهم باتباع ملة إبراهيم أن
~~يقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا، إلى آخر الآية، ففي ذلك الإيمان بما
~~أنزله الله، وما اوتيه النبيون من ربهم، والإيمان بجماعتهم من غير تفريق
~~بينهم، وهو الإيمان ببعض والكفر ببعض، كما قال عن الكفار حيث قالوا: (نؤمن
~~ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) (2) ، وكان نصيب خالصة
~~الأمة من ذلك أن تؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة، لا تفرق بين النصوص فتتبع
~~بعضها وتترك بعضها، فبذلك يصيرون من أهل السنة، دون الذين تركوا السنن
~~والآثار أو بعضها، أو تمسكوا ببعض آي القرآن دون بعض، من أصناف المبتدعة.
# وكذلك لا يفرقون بين أولي الأمر من الأمة من علمائها وأمرائها، بل يعطون
~~كل ذي حق حقه، ويقبلون منه ما أمر الله بقبوله منه، ويتركونه حيث تركه
~~الله، فيكونون أهل جماعة لا أهل فرقة، وهذا فيه جمع عظيم يحتاج إلى تفصيل،
~~وذلك أن الله أمرنا بطاعة أولي الأمر منا، وأمرنا أن نعتصم بحبل الله جميعا
~~ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم
~~البينات، وبرأ نبيه من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. PageV06P030
# فصل
# وقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا) (1) هذه القراءة العامة
~~التي في المصحف الإمام، وقد كان ابن عباس يقرأ: "بما آمنتم به "، ويقول: إن
~~الله لا مثل له (2) .
# وتلك قراءة صحيحة المعنى، لكن قراءة العامة أحسن وأجمع، فإنه لو قيل: بما
~~آمنتم به، وقيل: إنه أريد به الله، لقالوا: قد آمنا بالله، فإنهم لا يكفرون
~~بأصل وجود الخالق، وإنما يكفرون ببعض كتبه ورسله وأسمائه وصفاته ودينه،
~~ولذلك استحقوا اسم الكفر.
# وأيضا فلو آمنوا بما آمنا به من غير أن يؤمنوا بمثل ما آمنا ms1022 به، لم
~~يكونوا مهتدين وإن آمنوا بجميع الأشياء، وذلك أنه سبحانه قال في المائدة
~~لما أباح نساء أهل الكتاب وطعامهم، قال: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)
~~(3) ، والإيمان هو: الإيمان الذي هو الدين، الذي هو الإقرار بالله وملائكته
~~وكتبه ورسله، فإن الإيمان الذي يجب على العباد اتباعه يجب الإيمان به، فمن
~~كفر بما يفعله المؤمنون من الإيمان، فقد كفر بالله. وهذا الإيمان الذي في
~~القلوب هو مثل مطابق للحقيقة الخارجة، وما في القلوب [من] ، (4) الإيمان
~~متماثل أيضا، فنحن آمنا بالله، وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم، وما
~~أوتي النبيون من ربهم، PageV06P031
# فإذا آمنوا هم بمثل ما آمنا به- وهو ما في القلوب- فقد اهتدوا، كما أنهم
~~لو كفروا بالإيمان الذي في القلوب لحبط عملهم.
# وهنا وجهان، أحدهما: إذا صار في قلوبهم مثل ما في قلوبنا، وآمنوا به، فقد
~~آمنوا بمثل ما آمنا به، فإنا آمنا بما في القلوب من الإيمان، فإذا صار مثله
~~في قلوبهم وآمنوا به فقد اهتدوا. ويكون فائدة الإيمان بالإيمان مثل ما
~~يقال: أعلم وأعلم أني أعلم، وأعتقد أن زيدا في الدار، وأعتقد أن اعتقادي
~~حق، فهم مؤمنون بالإيمان غير مرتابين (1) فيه، جازمون أن جزمهم حق، وأيضا
~~فإن هذا مستلزم، وهو كمال وتمام، لأنه إذا حصل هذا الإيمان بالإيمان، وجب
~~حصول الأول ووجوبه، مع أنهما متلازمان من وجه آخر، فإن الوجود العملي
~~الإرادي مع الوجود ... (2) ، لكن على هذا الوجه (3) الضمير فيه يعود إلى
~~إيماننا بما أنزل، لا إلى نفس ما أنزل.
# الوجه الثاني (4) : أن الإيمان الذي في القلب مثل مطابق للمؤمن به، كما
~~تقدم، وقد قررت هذا في مواضع، فإذا آمنوا بهذا المثل فقد اهتدوا، والضمير
~~هنا عائد على "ما" كما هو الظاهر، ويكون المثل كما قد قيل في قوله: (ليس
~~كمثله شيء وهو السميع البصير (11)) (5) . PageV06P032
# وقد يقال: المعنى، فإن آمنوا مثل ما آمنتم. والتقدير: فإن جاؤوا بإيمان
~~مثل الإيمان الذي جئتم به، ويكون "الذي" هنا صفة للمصدر الذي هو الإيمان،
~~لا للمفعول به الذي هو ms1023 المؤمن به، لكن هذا يفتقر إلى أن يقال: آمنت بمثل
~~إيمانك، أي مثل إيمانك، وهذا يكون إذا ... ) (1) .
# وقد يقال: "المثل" مقحم ليتبين الكلام والتوحيد، كما قد قيل مثل ذلك في
~~نظائره لأسباب قد تكون هناك.
# وقوله: (وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
~~(137) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) (2) ، صبغ القلوب
~~والأشياء بهذا الإيمان حتى أنارت به القلوب، وأشرقت به الوجوه، وظهر
~~الفرقان بين وجوه أهل السنة وأهل البدعة، كما قال في المؤمنين: (تعرفهم
~~بسيماهم) (3) ، وفي الكفار: (سنسمه على الخرطوم (16)) (4) ، وفي المنافقين:
~~(ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) (5) PageV06P033
# فصل
# وإذا كان الله قد شرط في من له أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
~~أن يكون محسنا مع إسلام وجهه لله، دل بذلك على أن الإحسان شرط في استحقاق
~~هذا الجزاء، وهذا الجزاء لا يقف إلا على فعل الواجب، فإن كل من أدى الواجب
~~فقد استحق الثواب، ودرأ العقاب، وذلك يدل على أن الإحسان واجب، وقد قال
~~تعالى: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) (1) والأمر يقتضي الوجوب.
# وقال تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) (2) ، ومن فعل الواجب فما عليه من
~~سبيل، إنما السبيل على من أساء بترك ما أمر به، أوفعل ما نهي عنه.
# وقال تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها) (3) ونظائره كثيرة.
# وفي الصحيح (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله كتب
~~الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فاحسنوا
~~الذبحة"، ففي هذا الحديث أن الإحسان واجب على كل حال، حتى في حال إزهاق
~~النفوس، ناطقها وبهيمتها، فعلمه أن يحسن القتلة للادميين والذبحة للبهائم.
~~والإحسان الواجب هو فعل الحسنات، PageV06P034
# وهو أن يكون عمله حسنا، ليس المراد بذلك فعل الإحسان التطوع، وهذا
~~الإحسان في حق الله، وفي حقوق عباده، فأما في حق الله ففعل ما أمره به من
~~غير أن يتعلق المأمور [به] ، وأما في حق عباده ففعل ما أوجب لهم من
~~الإحسان، وترك ما ms1024 لا يجوز من الإساءة. وأصل ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة،
~~ولهذا ثنى الله ذكر هذين الأصلين في القرآن في مواضع كثيرة جدا، وقال:
~~(واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى) الاية
~~(1) . وإذا كان الإحسان إلى الخلق واجبا، وإن كان قد يكون مستحبا أيضا،
~~فالإحسان إليهم جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم.
# والظلم ضد الإحسان الذي يدخل فيه العدل وغيره، فإن العادل محسن من جهة
~~عدله، وأما حيث يكون العدل هو الواجب، فالعادل أي بكمال الإحسان كالعدل بين
~~الناس في القسم والحكم، بخلاف عدل الإحسان في حق نفسه في استيفاء حقوقه من
~~غير زيادة، فإن هذا محسن من جهة أنه لم يعتد ولم يظلم.
# وقد قررنا في مواضع كثيرة أن الظلم حرام كله، لم يبح منه شيء، وأصله قصد
~~الإضرار، فإن الظلم إضرار غير مستحق، لكن الإضرار المستحق جائز تارة، وواجب
~~أخرى، وإنما أبيح إضرار الحيوان للحاجة، والحكم المقيد بالحاجة مقدر
~~بقدرها، فليس للعبد أن يكون مقصوده بالقصد الأول إضرار بني ادم، بل الضرار
~~محرم بالكتاب والسنة، قال الله PageV06P035
# تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار) (1) ، وقال في المطلقات:
~~(ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) (2) ، وقال: (ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) (3)
~~.
# وأما السنة فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" من شق شق الله عليه، ومن
~~ضار أضر الله به" (4) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار"
~~(5) .
# ومعلوم أن المشاقة والمضارة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر
~~لا يحتاج إليه في قصد الإضرار، ولو بالمباح، أو فعل الإضرار من غير
~~استحقاق، فهو مضار.
# وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به، لا لقصد الإضرار،
~~فليس بمضار، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث النخلة التي
~~PageV06P036
# كانت تضر صاحب الحديقة، لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق، فلم
~~يفعل، فقال: "إنما أنت مضار" (1) ثم أمر بقلعها.
# فدل ذلك على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه، ف
### | على الإنسان أن يكون ms1025 مقصوده نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقا،
# وهذا هو الرحمة التي بعث بها محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (وما
~~أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107)) (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-:"إنما أنا رحمة مهداة" (3) .
# والرحمة يحصل بها نفع العباد، فعلى العبد أن يقصد الرحمة والإحسان
~~والنفع، لكن للاحتياج إلى دفع الظلم شرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن
~~يقصد بها النفع والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ولده، والطبيب بدواء
~~المريض.
# والمقصود بهذه النكتة أن الدين والشرع لم يأمر إلا بما هو نفع وإحسان
~~ورحمة للعباد، وأن المؤمن عليه أن يقصد ذلك ويريده، فيكون مقصوده الإحسان
~~إلى الخلق ونفعهم. واذا لم يحصل ذلك إلا بالإضرار ببعضهم فعله على نية أن
~~يدفع به ما هو شر منه، أو يحصل به PageV06P037
# ما هو أنفع من عدمه، فهاهنا أصلان:
# أحدهما: أن هذا هو الذي أمر الله به ورسوله.
# والثاني: أن هذا واجب على العبد، عليه أن يفعله، وفاعله هو البار والبر،
~~وهو المحسن المذكور في الاية.
# وقد أمر الله في كتابه بالعدل والإحسان، والأمر يقتضي الوجوب، وقد يكون
~~بعض المأمور به مندوبا، والإحسان المأمور به ما يمكن اجتماعه مع العدل،
~~فأما ما يرفع العدل فذاك ظلم، وإن كان فيه نفع لشخص، مثل نفع أحد الشريكين
~~إعطاء أكثر من حقه، ونفع أحد الخصمين بالمحاباة له، فإن هذا ظلم، وإن كان
~~فيه نفع قد يسمى إحسانا.
# والعدل نوعان:
# أحدهما: هو الغاية، والمأمور بها، فليس فوقه شيء هو أفضل منه يؤمر به،
~~وهو العدل بين الناس.
# والثاني: ما يكون الإحسان أفضل منه، وهو عدل الإنسان بينه وبين خصمه في
~~الدم والمال والعرض، فإن الاستيفاء (1) عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا
~~أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، كما قدمناه، وهو أن
~~لا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلما من العافي، إما لنفسه،
~~وإما لغيره، فلا يشرع. PageV06P038
# فالعدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبا، وقد يكون مستحبا،
~~ففي الحكم بين الناس والقسم ms1026 بينهم ما ثم إلا العدل، والعدل بينهم إحسان
~~إليهم، وفيما بين الناس وبينهم مستحب له الإحسان إليهم، بفعل المستحبات من
~~الابتداء بالإحسان الذي ليس بواجب، والعفو عن حقوقه عليهم، ويدخل في قوله
~~تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199)) (1) .
# ونكتة هذا الكلام أن يفرق الإنسان بين العدل الذي هو الغاية، وليس بعده
~~إحسان، وهو العدل بين الناس، وبين العدل الذي فوقه الإحسان، وهو العدل مع
~~الناس. الأول: حق الخلق عليه، والثاني: حق له عليهم. فلكل منهما على صاحبه
~~العدل، فعليه أن يوفيهم العدل الذي عليه، وليس عليه أن يستوفي العدل (2)
~~منهم، بل قد يستحب له الإحسان بتركه.
# ومن العدل الواجب- كما قررته في غير هذا الموضع- أن الظالم لا يجوز أن
~~يظلم، بل لا يعتدى عليه إلا بقدر ظلمه، كما قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا
~~تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)
~~(3) ، وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) (4) ،
~~وقال تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا PageV06P039
# تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190)) (1) وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم
~~على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (2) ، وقال: (ولا يجرمنكم شنآن قوم
~~أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) (3) .
# وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب الإحسان على كل
~~شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة".
# فتبين أن الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة،
~~ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة- سواء كان في حق الله أو حقوق
~~عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول
~~كالكفر والبدع، والثاني كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض.
# والغالب أن
### | الظلم في الدين يدعو إلى الظلم في الدنيا،
# وقد لا ينعكس، ولهذا كان المبتدع في دينه أشد من الفاجر في دنياه،
~~وعقوبات الخوارج أعظم من عقوبات أئمة الجور، كما قررت هذا في قاعدة "بيان
~~أن البدع أعظم من المعاصي بالكتاب والسنة وإجماع ms1027 الأمة، وبما يعقل به ذلك
~~من الأسباب". ثم مع هذا لا يجوز أن يعاقب هذا الظالم ولا هذا الظالم إلا
~~بالعدل بالقسط، لا يجوز ظلمه. PageV06P040
# فهذا موضع يجب النظر فيه، والعمل بالحق، فإن كثيرا من أهل العلم والدين
~~والزهد والورع والإمارة والسياسة والعامة وغيرهم، إما في نظرائهم أو غير
~~نظرائهم من نوع الظلم والسيئات، إما بدعة، وإما فجور، وإما مركب منهما،
~~فأخذوا يعاقبونهم بغير القسط، إما في (1) أعراضهم، وإما في حقوقهم، وإما في
~~دمائهم وأموالهم، وإما في غير ذلك، مثل أن ينكروا (2) لهم حقا واجبا، أو
~~يعتدوا عليهم بفعل محرم، مع أن الفاعلين لذلك متأولون، معتقدون أن عملهم
~~هذا عمل صالح، وأنهم مثابون على ذلك، ويتعلقون (3) بباب قتال أهل العدل
~~والبغي، وهم الخارجون بتأويل سائغ، فقد تكون الطائفتان جميعا باغيتين
~~بتأويل أو بغير تأويل، فتدبر هذا الموضع، ففيه يدخل جمهور الفتن الواقعة
~~بين الأمة، كما قال تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا
~~بينهم) (4) ، فأخبر أن التفرق بينهم كان بغيا، والبغي: الظلم.
# وهكذا التفرق الموجود في هذه الأمة، مثل الفتن الواقعة بينها في المذاهب
~~والاعتقادات والطرائق والعبادات والممالك والسياسات والأموال، فإنما تفرقوا
~~بغيا بينهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والباغي قد يكون متأولا وقد
~~لا يكون متأولا، فأهل الصلاح منهم هم المتأولون في بغيهم، وذلك يوجب عذرهم
~~لا اتباعهم. PageV06P041
# فتدبر العدل والبغي، واعلم أن عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغ
~~يعلم أنه باغ لهانت القضية، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنهم بغاة،
~~بل يعتقدون أن العدل منهم، أو يعرضون عن تصور بغيهم، ولولا هذا لم تكن
~~البغاة متاولين، بل كانوا ظلمة ظلما صريحا، وهم البغاة الذين لا تاويل
~~معهم.
# وهذا القدر من البغي بتاويل (1) ، وأحيانا بغير تأويل، يقع فيه الأكابر
~~من أهل العلم، ومن أهل الدين، فإنهم ليسوا أفضل من السابقين الأولين، ولما
~~وقعت الفتنة الكبرى كانوا فيها ثلاثة أحزاب، قوم يقاتلون مع أولى الطائفتين
~~بالحق، وقوم يقاتلون مع الأخرى ms1028، وقوم قعدوا اتباعا لما جاء من النصوص في
~~الإمساك في الفتنة.
# والفتن التي يقع فيها التهاجر والتباغض والتطاعن والتلاعن ونحو ذلك هي
~~فتن، وإن لم تبلغ السيف، وكل ذلك تفرق بغيا، فعليك بالعدل والاعتدال
~~والاقتصاد في جميع الأمور، ومتابعة الكتاب والسنة، ورد ما تنازعت فيه الأمة
~~إلى الله والرسول، وإن كان المتنازعون (2) أهل فضائل عظيمة ومقامات كريمة،
~~والله يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
# تمت القاعدة PageV06P042
### | فصل
# في حق الله على عباده وقسمه من أم القرآن،
# وما يتعلق بذلك من محبته وفرحه ورضاه ونحو ذلك
# PageV06P043
# فصل
# في حق الله على عباده، وقسمه من أم القرآن، وما يتعلق بذلك من محبته
~~وفرحه ورضاه، ونحو ذلك.
# قال الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من
~~رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58))
~~وقوله: (ما أريد منهم من رزق) هو نكرة في سياق النفي، تعم كل رزق، فيعم
~~اللفظ: من رزق لي، ومن رزقي لهم، ومن رزق من بعضهم لبعض، لكن قوله بعد ذلك:
~~(وما أريد ان يطعمون (57)) والإطعام هو رزق له، فقد يقال: هو تخصيص بعد
~~تعميم، وقد يقال: الأول رزق المخلوق والثاني [يتعلق] بالخالق، فيكون
~~المعنى: ما خلقتهم إلا ليعبدون، لا ليطعمون، ولا ليرزقوا (2) أحدا، فإن
~~الله هو الرزاق الذي يرزق الخلق، وهو ذو القوة المتين.
# فبين الله بهذه الاية أنه خلقهم لعبادته التي أرادها منهم، فهي مراده
~~ومطلوبه، لا يريد منهم أن يرزقوه، ولا أن يطعموه، لأنه لما نفى الإرادة عن
~~الرزق وإطعامه، دل على إثباتها للعبادة، وفي إثباتها للعبادة ونفي إرادة
~~الرزق والإطعام دليل (3) على أن له حقا عليهم PageV06P045
# يريده منهم، وهو محب له، راض به.
# وقال تعالى: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)
~~(1) وقال: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) (2) ، وقال: (إن
~~الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222)) (3) ، وقال: إن الله يحب الذين
~~يقاتلون في سبيله صفا) (4) ، وقال: (إن الله يحب ms1029 المقسطين (42)) (5) ،
~~وقال: (يحبهم ويحبونه) (6) ، وقال: (فاتبعوني يحببكم الله) (7) ، وقال:
~~(رضي الله عنهم ورضوا عنه) في مواضع (8) .
# وقد جاءت السنة بذكر حقه عليهم، في الصحيح (9) عن معاذ بن جبل قال: كنت
~~رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا معاذ! أتدري ما حق الله
~~على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا،
~~أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم".
# وروى الطبراني في كتاب الدعاء (10) مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: (يقول PageV06P046
# الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك،
~~وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي، فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي
~~هي لك، فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك، فمنك
~~الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأت إلى الناس ما تحب أن
~~يأتوه إليك ".
# وفي صحيح مسلم (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول
~~الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي،
~~ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين (2)) ، يقول الله:
~~حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم (3)) ، يقول الله: أثنى علي عبدي،
~~وإذا قال: (مالك يوم الدين (4)) ، يقول الله: مجدني عبدي- وفي رواية: فوض
~~إلي عبدي- وإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) قال: فهذه الاية بيني
~~وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط
~~الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال الله: فهؤلاء لعبدي،
~~ولعبدي ما سأل".
# ففي هذا الحديث أن النصف الأول- وهو الحمد والثناء والتمجيد والعبادة-
~~لله تعالى، والنصف الثاني- وهو الاستعانة والمسألة- للعبد، هذا مع العلم
~~بان العبد يثاب على حمده وثنائه وعبادته، وقد يحصل له بذلك من الثواب أكثر
~~مما يحصل بالاستعانة والسؤال، [و] PageV06P047
# لا بد أن تكون للنصف الذي هو للرب خاصية تعود إلى الرب، تميزها عن نصف
~~العبد، وإلا فإذا كان للعبد في كلاهما ms1030 أجر وثواب، فتخصيص أحدهما بأنه للرب،
~~لا بد فيه من خاصية للرب.
# وأيضا فإن الله أخبر (إن الشرك لظلم عظيم) (1) ، وقال تعالى: (الذين
~~آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) الآية (2) ، وقد ورد في الصحيحين (3) عن
~~ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"
~~إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: إن الشرك لظلم عظيم " أو كما
~~قال.
# وفي الحديث عن طائفة من السلف، وروي مرفوعا (4) : "الدواوين ثلاثة: ديوان
~~لا يغفر الله منه شيئا، وهو الشرك، وديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا
~~يترك الله منه شيئا. فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئا، فهو الشرك،
~~وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا، فهو ظلم العبد نفسه، وأما الديوان
~~الذي لا يترك الله منه شيئا، فهو الظلم للعباد بعضهم بعضا".
# وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن
~~PageV06P048
# يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون (254)) (1)
~~، فجعل الظلم في حق الله تعالى قسما خارجا عن ظلم العبد نفسه، وعن ظلم
~~العباد، وهذا يقتضي أن لله فيه حقا قد ضيعه العبد، لا أنه مجرد ظلم العبد
~~نفسه كالمعاصي، وإن كانت المعاصي مخالفة لأمر الله وتركا لما أوجبه، وجناية
~~على دين الله.
# وأيضا فإن الله قد أخبر أنه يحب الحسنات المأمور بها، من الإيمان والعمل
~~الصالح، وأنه يرضاها، ويحب أهلها، ويرضى عنهم، والحب مستلزم للإرادة، وهو
~~مع ذلك فقد شاء جميع الكائنات، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد قررت
~~هذه القاعدة في غير هذا الموضع، وبينت الفرق بين كلماته الكونيات، وما يتصل
~~بها من أمر وإرادة وإذن وحكم وبعث وإرسال وغير ذلك، وبين كلماته الدينيات،
~~وما يتصل بها من أمر وإرادة وحكم وبعث وإرسال، قررت هذا الأصل الفارق في
~~غير موضع، وأن منه تزول الشبهات الحاصلة في مسائل ms1031 الدين والقدر وتعارضهما.
# وحقيقة ذلك تعود إلى أن الدين الذي أمر الله به شرعا من بين سائر
~~الكائنات، له من الله مزية واختصاص بذلك صار محبوبا مأمورا به، وذلك من
~~وجهين:
# أحدهما: من جهة عوده إلى الخلق، لما في الدين من مصلحتهم ومنفعتهم في
~~الدنيا والآخرة بالثواب والنعيم المقيم المتعلق بالمخلوق، والمتعلق
~~بالخالق، كالنظر إلى وجهه الكريم. PageV06P049
# والثاني: من جهة عوده إلى الخالق، حتى يصح أن يكون محبوبا لله مرضيا
~~محمودا مفروحا به، وإلا فنفس تنعم هذا العبد وتعذب هذا العبد، وصلاح هذا
~~وفساد هذا، سواء بالنسبة إلى الله من جهة الخلق والمشيئة والتكوين، فلابد
~~أن يكون لأحدهما إلى الله إضافة وتعلق ونسبة بها يكون محبوبا له، مرضيا
~~مفروحا به، محمودا مثنيا على أصحابه، ويكون الآخر مسخوطا عليه، ممقوتا
~~مبغضا، ونحو ذلك، وراء ما يلحقه من العذاب.
# وهذا الفرق هو حقيقة الدين، وسر الأمر والنهي، وغاية التكليف الشرير،
~~ومقصود الرسالة والكتاب، ولهذا تكلم الناس في علة خلقه للخلق، ثم أمره
~~بالدين.
# فقال فريق: إنه فعل ذلك لنفع الخلق ومصلحتهم، وزعموا أن هذا وجه حسن
~~الفعل والأمر، وإن لم يكن هذا واقعا بالجميع ولا عائدا منه حكم إلى الفاعل،
~~وهذا قول المعتزلة وغيرهم من القدرية، ثم التزموا على هذا مسائل التعديل
~~والتجوير، والتحسين والتقبيح بالقياس الفاسد على الخلق، واضطربوا فيه
~~اضطرابا لا ينضبط.
# وقد يوافق بعض أهل السنة- من أصحابنا وغيرهم- هؤلاء في بعض المسائل التي
~~لا تخالف الأصول المشهورة في السنة، وعارضهم كثير من متكلمة الإثبات للقدر،
~~الذابين عن السنة في مواضع كثيرة، فقالوا: لا يجوز تعليل شيء من ذلك، بل
~~خلق وأمر لمحض المشيئة، وصرف الأرادة، ولا يجوز تعليل ذلك بمصلحة العباد
~~ونفعهم، ولا غير ذلك.
# PageV06P050
# ثم إن كثيرا من العلماء يعتقدون أن ليس في هذا الأصل العظيم الجامع-
~~المتعلق بأصول الدين والتوحيد، وبأصول الفقه وبالشريعة- إلا هذان القولان
~~(1) ، إما التعليل بنفع العباد وصلاحهم، وإما رد ذلك إلى محض المشيئة
~~والإرادة الصرفة، وهذا القول الثاني يلزمه من اللوازم الفاسدة ms1032- التي تتضمن
~~التسوية بين محبوب الله ومكروهه، ومأموره ومنهيه، وأوليائه وأعدائه- أشياء
~~فيها من البطلان والشناعة ما يعلم به تفريط هؤلاء وغلطهم، كما فرط الأولون.
# ويقارب هؤلاء من يقول من الفلاسفة وغيرهم: إن هذه المخلوقات لازمة لذاته،
~~وإن قالوا: إنها صادرة عن عنايته، وإن تضمنت ما تضمنت من منافع الخلق
~~ومصالحهم بطريق اللزوم. ويجعلون ذلك علة غائية.
# ثم إنهم يتناقضون فلا يجعلون ذلك مقصودا للفاعل ولا مرادا له بالقصد
~~الأول، وإلا لزمهم ما لزم الأولين من التعليل، فيثبتون في أفعاله من الحكم
~~والعلل الغائية والمنافع ما لا يصدر إلا عن قصد وإرادة، ثم يتكلمون عن
~~الإرادة بما يناقض ما قالوه.
# ومما يبين ذلك أن يقال لمنكري التعليل- الذين لا يثبتون وراء العلم
~~والإرادة لا حكمة، ولا رحمة، ولا لطفا، ولا محبة، ولا رضى، ولا فرحا، ولا
~~غضبا، ولا مقتا، ولا غير ذلك، بل يجعلون لذلك إرادة أو فعلا-: معلوم أن
~~الإرادة المحضة خاصتها التخصيص PageV06P051
# والتمييز، كتخصيص بعض الأعيان بنوع من المقادير والصفات والحركات وغير
~~ذلك، مما يمكن ضده وخلافه. أما التخصيص بالخير دون الشر، والنفع دون الضر،
~~والنعيم دون العذاب، وجعل هذا محبوبا، وهذا مودودا مرضئا، وهذا ممقوتا
~~مبغضا مسخوطا، فلا يجوز أن يكون معنى هذا الإرادة المحضة، لأن الإرادة
~~متعلقة (1) بكل حادث، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وحكمها في سائر
~~أنو اع الحوادث حكم واحد، فلم سميت هنا محبة وهنا بغضا؟ وهنا رضى وهنا
~~غضبا؟ وهنا مودة وهنا مقتا؟ ألا ترى أن الإرادة المتعلقة بغير المأمور به
~~والمنهي عنه لا تتنوع إلى ذلك، فلا يقال في حق الجائع والشبعان والصحيح
~~والمريض والامن والخائف والناكح والمحتلم والغني والفقير والرئيس والمرؤوس:
~~هذا محبوب مرضي مودود، وهذا مبغض مسخوط ممقوت، وإن كان أحدهما متنعما بما
~~هو فيه، والاخر معذبا بما هو فيه.
# فإذا كان قد أثاب قوما بعملهم الصالح في الدنيا والآخرة، وعاقب قوما
~~بعملهم السيء في الدنيا والآخرة، والجميع بمشيئته، كما أن التفريق بين
~~الجائع والشبعان، وبأنه ms1033 بمشيئته، فلم يجعل في هؤلاء محبوبا ومكروها، ولم
~~يجعل في باب الشبعان والجائع محبوبا ومكروها، حيث لا يتعلق به أمر شرعي،
~~فتعلق الحب والرضى والبغض والسخط بالأمر الديني الشرعى، دون مالم يتعلق به
~~ذلك- مع PageV06P052
# أن الإرادة عامة التعلق بجميع الكائنات- دليل على أن باب أحدهما ليس هو
~~باب الآخر.
# وهذا بين معقول ببرهان لمن تأمله، وهو دليل عقلي على ثبوت هذه الصفات،
~~كما كان أصل التخصيص دليلا على ثبوت الإرادة.
# ويقال لمثبتي التعليل من القدرية: عندكم أن جميع هذه الصفات تعود إلى
~~معنى النفع والإضرار، فإن مصلحة العباد والإحسان إليهم وغير ذلك هو عندكم
~~نفعهم، وضد ذلك إضرارهم، فعطلتم صفات الله من هذا الوجه، ولكم في الإرادة
~~من الاضطراب ما هو مذكور في غير هذا الموضع.
# ثم تزعمون أنه إنما خلق وأمر لنفع الخلق، فيقال لكم: وأي فرق بالنسبة
~~إليه، نفعهم أو لم ينفعهم؟ فإن جعلتم ذلك قياسا على الخلق، فالخلق إنما
~~يحسن منهم نفع بعضهم لبعض، لأن النافع يعود إليه من نفعه مصلحة له، وإلا
~~فحيث لا مصلحة له في ذلك، لا يكون نفعه حسنا.
# ويقال لكم أيضا: النافع من الخلق يختلف حاله، بين ما قبل أن ينفع وبعد ما
~~ينفع، فيكسب نفسه بذلك صفة كمال له، يدرك ذلك من نفسه، ويدرك ذلك الخلق
~~منه، فنفس السخي الجواد أكمل وأشرف وأعظم من نفس البخيل الجبان، كما قال
~~الله تعالى: (قد أفلح من زكاها (9) وقد خاب من دساها (10)) (1) ، وقال:
~~(فأما من أعطى واتقى (5) وصدق PageV06P053
# بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى
~~(9) فسنيسره للعسرى (10)) (1) ، ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة.
# ويقال لكم: إذا كان المقصود مجرد النفع، والفاعل قادر، فهلا حصل؟ ففي
~~انتفائه في صور كثيرة وحصول الضرر دليل على أن هناك مقصودا آخر.
# ويورد عليهم ما في المخلوقات من أنواع المضار، وما في المأمورات من ذلك،
~~وقد عرف اعتذارهم عن ذلك، وما فيه من التناقض والفساد.
# ويقال لهم: ما الموجب لما وقع من أنواع المضرات بالكفار والفساق؟ إذا ms1034 كان
~~المقصود نفعهم بالتكليف، وهم لم يقبلوا هذا النفع، فما الموجب لمقابلتهم
~~بأنواع من العقاب والسخط والمقت إذا لم يصدر منهم إلا مجرد عدم قبول نفعهم؟
~~لولا أن هناك أسبابا أخرى وحكمة أخرى لم يعلموها، ولم يتكلموا بها، فهذا
~~هذا.
# وأيضا فالكتاب والسنة إنما أطلق الحب والبغض والود والمقت والرضا والغضب
~~والفرح والأذى، دون لفظ اللذة والألم، لأن هذين الاسمين كثيرا ما يطلقان في
~~خصائص المخلوق التي تنفعه وتضره، مثل الاكل والشرب والنكاح، ومثل المرض
~~الذي هو الوصب والنصب والجوع والعطش والعذاب بالنار ونحو ذلك، قال الله
~~تعالى: (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من
~~عسل PageV06P054
# مصفى) (1) ، وقال: (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) (2) ، وقال
~~تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم (24)) (3) ، فالالتذاذ والانتفاع متقاربان،
~~والتألم والتضرر متقاربان، وإن كان المنفعة والمضرة أعم في الاستعمال،
~~ولهذا قيل: إن المنفعة قرينة الحاجة، فإنما ينتفع الحي بما هو محتاج إليه،
~~ويتضرر بما يؤلمه، وقد قال الله تعالى- فيما يروى في الحديث الصحيح (4) -:
~~"يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني "، وهذا
~~الحديث ينفي بلوغ الخلق لذلك، وعجزهم عن ذلك، وما فعله الخلق فإنما فعلوه
~~بقوة الله ومشيئته وإذنه، ولا حول ولا قوة إلا به.
# وقد قال الله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله) (5) ، وقال: (فلما
~~آسفونا انتقمنا منهم) (6) ، وقال في الحديث الصحيح (7) : "يؤذيني ابن آدم".
~~وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله "
~~(8) ، كما قال: "ما أحد أحب إليه المدح من الله " (9) ، وقال: "ما
~~PageV06P055
# أحد أغير من الله، وما أحد أحب إليه العذر من الله" (1) ، فأخبر - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه ليس أحد يحب أن يمدح ويعذر مثل ما يحب الله ذلك، ولا
~~أحد أصبر على أذاه وأغير على محارمه من الله، فالممدوح بإزاء المعذور يمدح
~~على إحسانه، ويعذر على عدله وعقوبته، والصبر بإزاء الغيرة، يصبر على أذى
~~خلقه له، ويغار أن ترتكب محارمه.
# وعن هذا خلق النبي - صلى الله ms1035 عليه وسلم - كما قالت عائشة: "ما انتقم
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا
~~انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله" (2) . فهذا صبر الرسول
~~على ما يؤذي، وهذا غيرته وانتقامه لمحارم الله.
# وفريق رابع يقولون: إنه فعل ذلك ليحمد ويشكر ويمجد، أعني خلقه سبحانه
~~للخلق، كما دلت عليه النصوص في مثل قوله تعالى: (إلا ليعبدون) (3) ، وقوله:
~~(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) (4) ،
~~وقوله: (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون) (5) ، وقوله: (فاذكروني
~~أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) (6) ، وقوله: (أن اشكر لي ولوالديك) (7) ،
~~وقوله: (ولكن يريد ليطهركم PageV06P056
# وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)) (1) ، وقوله: (فاجعل أفئدة من الناس
~~تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)) (2) .
# وفي الأحاديث كثير، مثل قوله ... (3) .
# لكن هؤلاء [يرد] عليهم سؤالان عظيمان، سؤال متعلق بالأفعال والقدر، وسؤال
~~متعلق بالأسماء والصفات.
# أحدهما: أنه فعل ذلك، فلم لا حصل مراده مع قدرته عليه؟ فإذا كان مراده
~~العبادة، فلم لا حصلت من جميعهم؟
# وهذا السؤال لما استشعر الناس وروده، أجابوا عنه على أصولهم، فقال كثير
~~ممن ينصر السنة: (إلا ليعبدون (56)) (4) : إلا ليعرفون، يعني المعرفة
~~العامة الفطرية الموجودة في المؤمن والكافر. وهذا القول ضعيف جدا، لأنه
~~ذمهم على ترك ذلك، ولأن ذلك لم يوجد من المجانين ولا من الجاحدين، ولأنه أي
~~مقصود له في ذلك حتى ينفي إطعامهم ويثبت ذلك، إذا كان الكل سواء؟
# ومنهم من جعل الجن والإنس هنا خاصا لمن عبده، وهو ضعيف لوجوه.
# ومنهم من قال: إلا لآمرهم بالعبادة. وهو قريب إذا تمم. PageV06P057
# وقالت القدرية: ما أراد منهم كلهم إلا العبادة، لم يرد غير ذلك، لكن منهم
~~من خالف مراده كما عصى أمره، ومنهم من لم يخالف.
# فقيل لهم: ولم خلقهم للعبادة؟
# فقالوا: لنفعهم.
# قيل لهم: فقد أراد ما علم أنه لا يحصل.
# وقيل لهم: لأي شيء أراد نفعهم؟ فاضطربوا.
# ثم قيل لهم: فلم لا أعانهم على مراده؟
# فقالوا: استفرغ وسعه، ولم يمكنه ms1036 أن يجعل لهم إرادة، وإنما أمكنه أن
~~يجبرهم ويضطرهم إلى الإيمان والعبادة، وتلك لا تنفعهم. وأما العبادة
~~الاختيارية فلا يقدر عليها إلا هم، ولا يفعلها إلا هم. والتزموا من اللوازم
~~الفاسدة ما يطول وصفه، ورد الناس عليهم ردودا يطول وصفها.
# وقيل لهم: وقد قال تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم
~~قلوب لا يفقهون بها) (1) ، وقال: (ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك
~~ولذلك خلقهم) (2) ، قال جمهور السلف: ما دل عليه الخطاب: خلق فريقا للرحمة،
~~وفريقا للاختلاف.
# فقالوا: هذه لام العاقبة والصيرورة، لا لام الغرض والقصد PageV06P058
# والإرادة، فإن الفاعل الذي يقصد غاية تكون اللام في فعله للتعليل
~~والإرادة، إذ هي العلة الغائية، والذي لا يقصدها تكون اللام في فعله لام
~~العاقبة.
# فيقال لهم: لام العاقبة إما أن تكون من جاهل بالعاقبة، كقوله: (فالتقطه
~~آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (1) ، أو من عاجز عن دفع العاقبة السيئة،
~~كقولهم (2) :
# لدوا للموت وابنوا للخراب
# وقولهم (3) :
# وللموت ما تلد الوالده
# فأما العالم القادر فعلمه بالعاقبة وقدرته على وجودها ودفعها، يبتغي أن
~~لا يكون مريدا لها.
# فافترق القدرية فرقتين:
# منهم من اختار أنه لم يكن عالما بما يؤول إليه الأمر من الطاعة والمعصية.
~~PageV06P059
# ومنهم من اختار أنه لا يقدر على أن يفعل بهم غير ما فعل من الإعانة،
~~وهؤلاء أكثر القدرية.
# ولا بد من بيان الكلام في ذلك على أصول العربية التي نزل بها القرآن، فإن
~~هذه اللام التي ينصب بها الفعل تسميها النحاة لام [كي] ، وهي في الحقيقة
~~لام الجر، أضمر بعدها "أن" فانتصب الفعل، ولهذا تليها الأسماء المجردة، كما
~~في قوله: (لجهنم) .
# والمجرور بها تارة يكون سببا فاعليا، كما تقول: فعلت هذا لأني اشتهيته
~~وأحببته. وقد يكون سببا غاليا، كما تقول: فعلت هذا ليرضي زيدا وليحسن إلي.
# وأما المنصوب على المفعول له فلا يكون إلا لسبب الفاعل، كقوله: (ابتغاء
~~مرضات الله) (1) ونحو ذلك، والفرق بينهما مذكور في غير هذا الموضع.
# وأما الذين أجروا الآية على مقتضاها مع الإيمان بالسنة، وقالوا: المراد ms1037
~~أن يعبد ويحمد ويشكر، فمنهم من يقول: قد وجد ذلك من بعضهم. ومنهم من يقول:
~~مقصوده أمرهم بذلك، لا نفس وجود المأمور به.
# والتحقيق أن اللام هنا لام إرادة المحبة والرضا والأمر، لا لام الإرادة
~~العامة الشاملة للكائنات. واللام في قوله: (ولذلك خلقهم) (2) (ولقد ذرأنا
~~لجهنم) (3) لام الإرادة العامة الشاملة، فتلك الإرادة PageV06P060
# الدينية، وهذه الإرادة الكونية، ويجب الفرق بين اللامين والعلتين
~~والغايتين، كما فرق بين الأمرين والإرادتين والحكمين والبعثين والإرسالين.
~~وليس كل ما يحبه ويرضاه ويفرح به لخلقه يكون، وإنما كل ماشاء يكون.
# وقد روينا في كتاب القدر (1) عن ابن عباس: أن الأنبياء موسى وعزيرا
~~والمسيح سألوا عن هذه المسألة، فقالوا: أي رب! أنت رب عظيم، لو تشاء أن
~~تطاع لأطعت، ولو تشاء أن لاتعصى لما عصيت، وأنت تحب أن تطاع، وأنت مع ذلك
~~تعصى؟ فاوحى الله إليهم: "إن هذا سري، فلا تسألوني عن سري".
# وذلك أنه وإن أحث عبادتهم، فلا يجب في كل ما أحبه الحي أن يفعله، بل قد
~~يكون في حقنا من يترك محبوبه لمعارض راجح، أو يتركه فلا يفعله لا لمعارض
~~راجح، ولا نقص في ذلك، كالأفعال الحسنة التي تستحب لنا، كما قال الله
~~تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) (2) .وقال: (يثبت
~~الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله
~~الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (3) . PageV06P061
# وأيضا فإن الله يحب هذه الأعيان والأفعال والصفات بتقدير وجودها، كما
~~يسمع المسموعات ويبصر المدركات بتقدير وجودها، وأما ما لم يوجد منها وقد
~~علم أنه لا يوجد، فلا يقال: إنه يحب العدم المحض والنفي الصرف، كما لم
~~يتعلق به حمد ولا ذم ولا ثواب ولا عقاب، والله خلق الجن والإنس، والغاية
~~المحبوبة منهم التي بها يكملون ويصلحون وينالون الكرامة ويحبهم الحق أن
~~يعبدوه، فإذا لم يبلغوا هذه الغاية لم يبلغوا سعادتهم، ولا محبوب الحق
~~منهم. ثم إن منهم من شاء كون العبادة أمنه، فأعانه، ومنهم من لم يشأكون ذلك
~~منه فلم يعنه ms1038، ولكنه من ذرئه لجهنم.
# السؤال الثاني: أي مقصود له في أن يعبدوه ويحمدوه إذا كان غنيا عن
~~العالمين؟ وهو أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد. ثم إما أن
~~يكون يحصل بالعبادة ما لم يكن حاصلا، فيكون قبله ناقصا، أو يكون قبل
~~العبادة وبعدها سواء، فسيان عبدوه أو لم يعبدوه. ويتصل ذلك الكلام في حلول
~~الحوادث به، إذا حصل له بالعبادة ما لم يكن حاصلا.
# وهذا السؤال هو الذي منع جمهور متكلمي أهل الإثبات عن التعليل ورد الأصول
~~إلى محض المشيئة، فيقولون في الجواب: غناه عن العالمين لا يمنع أن يحب
~~ويرضى ويفرح، والإيمان به، وعبادته، وشكره، والعمل الصالح، وأن يفرح بتوبة
~~التائب (1) ، لأن هذه الأشياء PageV06P062
# إذا وجدت فهو الذي خلقها وأوجدها، فلم يكن في ذلك فقر إلى غيره بوجه من
~~الوجوه.
# وأما تجدد هذه العبادات فهو بمنزلة تجدد المسموعات والمرئيات في كونه
~~يسمعها ويراها، فما كان الجواب عن تلك فهو الجواب عن هذه.
# كما يقال: إما أن يكون بالسمع والبصر يحصل له إدراك لم يكن، أو لم يحصل؟
~~فإذا لم يحصل فلا فرق بين وجودها وعدمها، وإن حصل لزم أن يكون قبل ذلك
~~ناقصا، ولزم حلول الحوادث به.
# فإذا أجيب عن ذلك بأن ذلك ليس بكمال بالنسبة إليه، أو أن المتجدد هو أمر
~~عدمي لا أمر ثبوتي، وقنع العقل بذلك الجواب، فهو الجواب هنا.
# وإن قيل: الكمال أن يكون بحيث يسمع ويبصر كل ما يحدث من مسموع ومرئي.
# قيل: والكمال أن يكون يحب ويفرح بكل ما يحدث من محبوب ومرضي ومفروح به.
# وإذا قيل: ليس ثبوت هذا الإدراك بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق التي
~~تستلزم حدوثه وإمكانه.
# قيل: وليس (1) ثبوت هذه الأحوال المتعلقة بالإدراك- من المحبة
~~PageV06P063
# والرضا والفرح والغضب- بمنزلة حلول الحوادث بالمخلوق، التي تستلزم حدوثه
~~وإمكانه.
# وإن قيل: إن علمه وسمعه وبصره وإرادته تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما
~~يتجدد من الأشخاص التي تندرج فيها.
# قيل: وكذلك محبته ورضاه وفرحه تتعلق بالأنواع الكلية الحافظة لما يتجدد ms1039
~~من الأشخاص التي تندرج فيها.
# فما كان جوابا عن أحد البابين، وهو ما أثبت من الصفات كالسمع والبصر
~~والإرادة، فهو الجواب عن الباب الآخر، وهو المحبة والرضى والفرح ونحو ذلك.
~~وإنما يتخيل الفرق لكثرة النظر والاعتبار في أفعال الربوبية، وتعلقها
~~بالصفات التي بها صدرت الأفعال ودلت الأفعال عليها، فإن أكثر نظر الكلاميين
~~والبحاثين في هذا.
# وأما النظر في الغايات المطلوبة في العباد، وهو مقتضى الإلهية وما يتعلق
~~بذلك من صفات الحب والبغض والرضا والغضب، فإن الرسل الذين دعوا إلى عبادة
~~الله جاؤوا به، وإنما يحققه أهل العلم والإيمان من أهل ولاية الله تعالى
~~وخاصته.
# فإن قيل: هذا يقتضي وصفه باللذة، ومن وصفه بها وصفه بالألم، وذلك يقتضي
~~حدوثه أو إمكانه.
# قيل: العبارات المجملة لا نطلقها إذا لم يجيء بها الشرع إلا مفسرة،
~~فالشرع جاء بالحب والرضا والفرح والضحك والبشبشة ونحو ذلك، وجاء أنه يؤذى
~~ويصبر على الأذى، فقال: (إن الذين يؤذون الله
# PageV06P064
# ورسوله) (1) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أحد أصبر على أذى
~~يسمعه من الله" (2) . وقال الله تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا
~~الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار" (3) ، وقال النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - للباصق في القبلة: "إنك قد آذيت الله ورسوله" (4) ، وقال: "من لكعب
~~بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله" (5) .
# فهذه الصفات حق نطق بها الكتاب والسنة، واتفق عليها سلف الأمة وعامة أهل
~~العلم والإيمان من أهل المعرفة واليقين، ودل العقل القياسي والعقل الإيماني
~~على صحتها، فلا خروج عن هذه الأدلة والسنة والجماعة وزمرة الأولياء
~~والأنبياء.
# وأما إطلاق لفظ "اللذة" فقد أطلقه قوم من أتباع الأوائل ومن هذه الأمة
~~المتفلسفة وغيرهم، كما أطلقوا لفظ "العشق"، وهو بالمعنى الذي فسروه به ليس
~~بباطل، لكن اتباع الألفاظ الشرعية في هذا الباب من الأدب المشروع لنا، إما
~~إيجابا وإما استحبابا، فإذا تركنا إطلاق هذا اللفظ مع صحة المعنى، فلعدم
~~جواز الخروج عن الألفاظ الشرعية في هذا الباب، أو لاستحباب ترك الخروج عن
~~الألفاظ الشرعية في هذا الباب ms1040. PageV06P065
# وأما إذا كان اللفظ فيه إجمال، فإطلاقه بلا تفسير ممنوع منه، لما فيه من
~~إضلال المستمع، وتنفير القلوب الصحيحة، ولعدم دلالته على المعنى المقصود
~~إلا بعد مقدمات غير مذكورة، لكن هؤلاء يجعلون ذلك متعلقا بنفسه فقط،
~~فيقولون: هو عاشق ومحب لنفسه، ويلتذ ويبتهج بها، أو، الذي جاءت به الكتب
~~والرسل أن حكم ذلك يتصل بعباده الصالحين، فيحبهم ويرضى عنهم ويفرح بتوبتهم،
~~وإلى هذا دعت الرسل، وفيه نزلت الكتب.
# والقران والإيمان يفرقان بين من يحبه ويبغضه، ويرضاه ويسخطه، ويوده
~~ويمقته، وبذلك حصل الفرق بين أولياء الله وأعدائه. وأولئك المتفلسفة لا
~~يصعدون إلى هذا، فإنهم صابئة، وغالبهم عباد لغير ذلك من العلويات والسفليات
~~إلا من هداه الله، فآمن بالله واليوم الآخر، قال الله تعالى: (إن الذين
~~آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
~~صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (1) .
# وأما كون ذلك مستلزما للحدث أو الإمكان فلا دليل عليه البتة، بل عامة
~~الصفات الثابتة قد يقال فيها مثل ذلك. ومن أثبت شيئا من الصفات مثل إرادة
~~قائمة، يورد عليه مثل ذلك، بل نفس إثبات كونه خالقا وآمرا بالدين، يورد
~~عليه مثل ذلك، وهو إيراد فاسد، لأن مبناه على قياس الله على ابن ادم، الذي
~~كان معدوما ثم وجد، ولا وجود له PageV06P066
# من نفسه، وإنما وجوده بخالقه، والله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،
~~فلا يجوز ضرب المثل له من مخلوقاته.
# وإذا تبين أن الإرادة نوعان: منها ما هو بمقتضى الربوبية، وهي الإرادة
~~الكونية، ومنها ما هو بمقتضى الإلهية، وهي الإرادة الدينية، فالأولى إرادة
~~فاعلية، والثانية إرادة غائية، الأولى من اسمه الأول، والثانية من اسمه
~~الآخر، الأولى يكون الرب بها مريدا والعبد مرادا إرادة تكوين وربوبية،
~~ولذلك قد يكون مريدا، والثانية يكون الرب بها مريدا إرادة حب ورضى وإلهية،
~~والعبد أيضا مريدا إرادة عبادة وديانة وإنابة وإرادة وقصد، وقد يكون بها
~~مرادا إرادة ربوبية إذا حصل ذلك.
# تمت هذه القاعدة بحمد الله وعونه، والحمد ms1041 لله وحده.
# PageV06P067
### | فصل
# في صفات المنافقين
# PageV06P069
# (وهذا فصل من كلام الشيخ تقي الدين رضي الله عنه من غير الكلام الأول) .
# فصل
# ذكر الله المنافقين في القرآن فوصفهم بصفات كقول الله تعالى: (أولئك
~~الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16) مثلهم
~~كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات
~~لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات
~~ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط
~~بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم
~~عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير
~~(20)) (1) .
# وهذا كما قال من قال من السلف المفسرين، كقتادة وغيره: عرفوا ثم أنكروا،
~~وأبصروا ثم عموا، واهتدوا ثم ضلوا، ونحو ذلك. فإنه أخبر أنهم اشتروا
~~الضلالة بالهدى، وهذه حال من أخذ الضلالة التي لم تكن عنده، وأخرج الهدى
~~الذي كان عنده، وإن كان قد يقال: إن مثل هذا قد يقال للقادر على الأمرين،
~~إذا ترك هذا وأخذ هذا، لكن سياق الكلام يدل على الأول، فإنه قال: (مثلهم
~~كمثل الذي استوقد نارا) أي طلب إيقادها وأوقدها، (فلما أضاءت ما حوله ذهب
~~الله بنورهم) إلى آخر الاية، فمثلهم بالذي جعل لنفسه نارا ينتفع بضوئها،
~~فلما أضاءت PageV06P071
# ذهب النور، وبقي في ظلمة لا يبصر، وأخبر أنهم (صم بكم عمي فهم لا يرجعون
~~(18)) إلى الحال التي كانوا عليها من الهدى والنور.
# وأما المثل الثاني وهو حال المطر الذي فيه ظلمات ورعد يسمع، وبرق يرى،
~~وأنهم يخافون من صوت الصواعق ومن لمعان البرق، فيمتنعون، فتحصل الافة في
~~سمعهم وبصرهم، وأنهم مع ذلك إذا (أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا)
~~فهذه حال من يكون إدراكه الذي هو سمعه وبصره، وعمله الذي هو حركته، فيه خلل
~~واضطراب وآفة ونقص وفساد، ولكن لم يعدم ذلك بالكلية.
# وهذه تشبه حال من فيه إيمان ونفاق، وفي قلبه مرض، والأولى ms1042 حال من ارتد عن
~~الهدى بالكلية.
# وقد قال أيضا في سورة المنافقين (1) : (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد
~~إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1)
~~اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2) ذلك
~~بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3)) فأخبر أنهم آمنوا
~~ثم كفروا كما ذكر نحو ذلك في سورة البقرة، وهذا يقتضي شيئين، أحدهما: أنه
~~قد كان منهم ما هو إيمان، وأنهم رجعوا عنه، ومعلوم أنهم ليسوا كالمرتدين
~~الظاهري الردة، فإن ذلك قسم آخر ذكره الله في القرآن في غير موضع، وله حكم
~~آخر في الكتاب والسنة، بل هذه حال المنافقين المتناقضين، الذين يقولون قول
~~المؤمنين، PageV06P072
# ويقولون ما ينقض قول المؤمنين، ولو كانوا صادقين محققين القول الأول لم
~~يأتوا بما يناقضه.
# وليسوا أيضا تاركين لكل ما يتركه المؤمنون ويفعلونه، بل يوافقونهم على
~~شيء، ويوافقون شياطينهم على شيء، وهم وإن كانوا في الظاهر مع المؤمنين، ففي
~~الباطن مع شياطينهم، وهذا هو النفاق، وقد فسر بذلك إيمانهم وكفرهم، أي
~~امنوا ظاهرا ثم كفروا باطنا.
# فالقران يدل على أنهم أولا حصل لهم هدى، ثم رجعوا عنه، مع كونهم أظهروا
~~خلاف ما يبطنون، وهذه حال طوائف من العباد، يقرون بالحق من بعض الوجوه، ولم
~~يقروا به إقرارا تاما، فهم كاذبون في دعواهم الإيمان به، ثم إنهم يتناقضون
~~فيأتون بما ينافي الإيمان، وقد قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا
~~ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا
~~يلتكم من أعمالكم شيئا) (1) ، فهذا يبين أنهم دخلوا في الإسلام الذي إذا
~~عملوا فيه عملا صالحا لم ينقصوه، ومع ذلك لم يدخل حقيقة الإيمان إلى
~~قلوبهم، فكثير من الناس يقر بالحق ابتداء، وإن لم يكن في قلبه إذ ذاك تكذيب
~~به أو بغض له، بل لا يكون في قلبه حقيقة التصديق والمحبة، وإن كان فيه بعض
~~ذلك، مع إقراره بلسانه وظاهره.
# وفرق بين ان يقوم بقلبه نقيض ms1043 ما أظهره، وبين أن لا يحقق بقلبه ما أظهره،
~~فإن الأول قام بقلبه كفر وجودي، وهذا لم يقم بقلبه كفر PageV06P073
# وجودي، لكن لم يقم بقلبه حقيقة الإيمان، وإن كان قد دخل فيهم منادي
~~الإيمان، إذ تكلموا به، وكان له أثر في قلوبهم، فهذا- والله أعلم- حال
~~الموصوفين في سورة البقرة والمنافقين، فإنه قال: (ومن الناس من يقول آمنا
~~بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8)) (1) فأخبر أنهم في الحقيقة لم
~~يؤمنوا، وأن في قلوبهم مرضا، والمرض يكون ريبا وشكا. وأخبر أنه إذا قيل
~~لهم: (آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) (2) ، وأخبر أنهم
~~يوافقون في الظاهر المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم، إنما
~~نحن مستهزؤون، ثم أخبر عنهم (3) بما يقتضي ردتهم عن هدى حصل لهم، فهذا-
~~والله أعلم- يقتضي أنهم في أول الأمر حصل لهم أمر ناقص، لا يستوجبون به
~~حقيقة الإيمان، كما ذكر عن الأعراب، ولكن لو استمروا على اتباع الحق قوي
~~إيمانهم، فرجعوا عن ذلك الهدى ونافقوا المؤمنين.
# والنفاق ينقسم إلى أكبر وأصغر، ومن تدبر حال كثير من أئمة الضلال- من
~~المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ومن فيه شعب من ذلك من الجهمية والرافضة
~~ونحوهم- وجدهم على ذاك الحال، فإنهم يتناقضون، فيقرون بالحق وينكرونه،
~~ويعرفونه ثم ينكرونه، ولهذا يجمعون في كلامهم بين ما هو من قول المؤمنين،
~~وبين ما هو من قول الكفار الجاحدين، كالذي يكون مسلما، ثم يتفلسف وينافق
~~شيئا بعد شيء، كالقرامطة الذين كان أولا فيهم إسلام، وإن كانوا مبتدعة من
~~PageV06P074
# الشيعة مثلا، ثم إن النفاق قوي فيهم، حتى جحدوا ما كانوا أقروا به أولا،
~~وصاروا يقولون: لا نقول حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا سميع ولا أصم،
~~ولا بصير ولا أعمى، ولا يتكلم ولا ساكت، ونحو ذلك، فيمتنعون أن يصفوا الله
~~تعالى بالصفات الثبوتية أو السلبية. فهذا في الحقيقة ترك الإيمان الواجب،
~~وإن كانوا قد تركوا أيضا الكفر الوجودي، فإن عدم الإيمان كفر، وبذلك يزول
~~الهدى والنور الذي حصل لهم، وكذلك إذا ms1044 قالوا: هو موجود، لكن ليس بعالم ولا
~~قادر ولا حي، وكذلك إذا قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه.
# ولا ريب أن في هؤلاء طوائف فيهم إقرار وإنكار، وعلم وجهل، فهؤلاء لهم
~~المثل الثاني. [والله] سبحانه وتعالى أعلم.
# فصل
# ثم إنه سبحانه ذكر هذين المثلين للمنافقين، أحدهما: المستوقد للنار.
~~والثاني: الصيب، هذا بالنار، وهذا بالماء، وهذا التمثيل نظير التمثيل بهما
~~في سورة الرعد، بقوله تعالى: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها
~~فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع
~~زبد مثله) (1) ، فإنه ذكر أيضا ما يعمله الماء والنار، وأن النار فيها
~~إضاءة ونور وإشراق مع الحرارة، والماء هو مادة الحياة مع الرطوبة والحياة،
~~والنور جماع الهدى، كما قال تعالى: (أو من كان ميتا PageV06P075
# فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج
~~منها) (1) ، وقال: (وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور
~~(20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الأحياء ولا الأموات) (2) .
# والماء وإن كان مادة الحياة، فالنار أيضا كذلك، ولهذا فيها من الحركة
~~والشوق والإرادة ما يستلزم الحياة، لكن الماء فيه برودة ورطوبة يحصل به
~~الإحساس الذي لا بد فيه من لين، والنار فيها الحرارة التي توجب العمل،
~~والإرادة التي لا بد فيها من حركة، فهذا مادة الإحساس، وهذا مادة الحركة
~~الإرادية، والحياة مستلزمة لهذا ولهذا، فإن الحي المطلق لا يكون ... (3) ،
~~ولهذا يجمع الله بين حقيقة هاتين النعمتين والايتين اللتين بهما يكمل
~~الموجود فيما ينزله على رسله، وما خاطبت به الرسل لقومها، بل أول ما يعرف
~~به آياته أسباب الحياة والهداية، فأول ما أنزل الله على نبيه محمد - صلى
~~الله عليه وسلم -: (اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2)
~~اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)) (4)
~~، فذكر الخلق والهداية عموما وخصوصا، وذكر خلق الإنسان من علق، إذ هو في
~~هذا الطور يصير حيا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يجمع خلق
~~أحدكم في ms1045 بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل
~~ذلك، ثم يبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع PageV06P076
# كلمات، فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح
~~" (1) .
# فهو بعد المضغة ينفخ فيه الروح، فلو قيل: خلقه من مضغة، لكان يظن أن
~~الروح خلقت من مضغة، بخلاف ما إذا قيل: خلق من علق، فإنه يعلم أن المخلوق
~~منها هو المضغة، التي ينفخ فيها الروح.
# وأيضا فالعلق واسطة بين النطفة وبين المضغة، وأيضا فمن يصير علقة يخلق
~~فيميز رأسه ويداه ورجلاه، كما قال الله تعالى في الاية الأخرى: (ثم من مضغة
~~مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم) (2) ، قال من فسر ذلك من السلف: المخلقة ما تم
~~خلقها، وغير المخلقة ما أسقطها الرحم. ليبين الله لعباده مبدا خلقهم، وأنهم
~~خلقوا من هذه المضغة. ولهذا تكلم الفقهاء فيما تلقيه المرأة، مما يثبت به
~~حكم النفاس، وتنقضي به العدة والاستبراء، وتصير به المرأة أم ولد، فإنه إذا
~~كان مضغة مخلقة فلا ريب فيه، وأما إذا كان مضغة غير مخلقة أو علقة ففيه
~~نزاع، فلما قال: خلق من علق، دل بذلك على أن تخليق البدن بتصوير الأعضاء
~~كان من نفس العلقة، وهذا أخص من خلقه من نطفة، فإن ذلك تقدير جملته
~~وتصويرها قبل التفصيل.
# وأيضا فالعلق أول الاستحالات التي يخلق منها، فإنه قبل ذلك كان نطفة،
~~والنطفة لا تتعين أن تكون مبدأ الإنسان بلا ريب. ولهذا يتنازع الفقهاء أنها
~~لو ألقت نطفة، لم يثبت به شيء من أحكام الولد، لا PageV06P077
# نفاس، ولا عدة، ولا استبراء، ولا استيلاد، ولا غير ذلك، بخلاف العلقة،
~~والعلقة تنازعوا فيها، لأنه يجوز أن تكون مبدأ آدمي، ويجوز أن لا تكون،
~~ولهذا قال من قال منهم: يرجع في ذلك إلى شهادة القوابل وغيرهن.
# وأيضا فالعلق دم، والدم فيه الحرارة والرطوبة، وهما سبب الحياة، ولهذا
~~كان الدم مادة حياة الإنسان، وفيه الأرواح البدنية التي تكون فيها القوى.
~~وقد دل هذا الكلام على أن الإنسان الذي هو جوهر جسم ms1046 قائم بنفسه وأنه صورة-
~~مصورة، مخلوق من هذه المادة التي هي جسم أيضا، وهي العلق. فبان بهذا أن
~~الحادث بعد أن لم يكن جوهر قائم بنفسه، ليس كما يطلقه بعض المتكلمين
~~والمتفلسفة أن الحادث إنما هو صفات في الجواهر، فإن الفرق بين الصور
~~والأجسام، وبين الصفات والأعراض، فرق ظاهر كما قد بيناه في غير هذا الموضع.
# والفلاسفة يفرقون أيضا بين الأمرين، ويقولون: الحال في المحل إن كان
~~المحل مستغنيا عنه فهو الموضوع، وهو الجوهر، والحال فيه هو العرض، وإن كان
~~المحل محتاجا إليه، فهو الهيولى، والحال فيه هو الصورة، ومجموعهما هو
~~الجسم، ويقولون: إن الهيولى جوهر، والصورة جوهر، والجسم جوهر، والموضوع
~~جوهر، بخلاف الحال في الموضوع فإنه عرض.
# والجواهر عندهم خمسة (1) : المادة، والصورة، والجسم، PageV06P078
# والعقل، والنفس، وإن كان الذي لا ريب فيه هو الجسم والصورة، فأما ما
~~يقوله من المادة للجسم، ومن وجود موجود قائم بنفسه ليس بجسم، فهذا لاحقيقة
~~له، كما قد بين في موضعه.
# والمقصود هنا أن الله سبحانه ذكر خلق الإنسان من علق، وهو الإنسان حي،
~~فذكر خلق الحياة، ثم ذكر التعليم مطلقا، والتعليم بالقلم، وهو الهداية التي
~~هي النور، فذكر خلق الحي وهدايته، مبينا بذلك أنه خالقه أول ما أنزل على
~~نبيه، وكذلك قال: (سبح اسم ربك الأعلى (1) الذي خلق فسوى (2) والذي قدر
~~فهدى (3)) (1) ، فذكر أيضا هذين النوعين. وكذلك قال موسى لفرعون: (الذي
~~أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)) (2) .
# وفي إثبات الربوبية بهذه الطريقة فوائد عظيمة يطول ذكرها هنا.
# منها: أن ذلك تعريف للإنسان بحال نفسه ونوعه وجنسه، وذلك أقرب الأمور
~~إليه، فهي دلالة له لازمة له ذاتية.
# ومنها: أن ذلك يبين فقره وحاجته، وأنه مربوب مقهور مدبر.
# ومنها: أن ذلك يثبت القدر، وأنه خالق الحيوان وأفعالهم، وذلك يدل بطريق
~~التنبيه على خلق غير الحيوان، فإن كثيرا من الناس عرضت لهم شبهة في خلق
~~أفعال الحيوان، لما له من العلم والقدرة والإرادة. PageV06P079
# وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ما يستدل به على أن الله خالق ms1047 غير العبد،
~~يستدل به على ذلك في العبد، وإن أشبهه ذلك، حتى إن مناظري القدرية لم يتفطن
~~جمهور متكلميهم على ذلك. وذكرنا أن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم،
~~فبين سبحانه أنه خلق وعلم، وخلق فسوى، وقدر فهدى، فإنه إذا كان هو المعلم
~~الهادي إلى خلقه، فمعلوم أن مبدأ الحركات الإرادية هو جنس العلم، والتعليم
~~ينطبق على تعليم الناطق والبهيم، كما قال تعالى: (وما علمتم من الجوارح
~~مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) (1) ، وذكر الكلب المعلم، والفرق بينه
~~وبين غير المعلم ثابت بالسنة الثابتة واتفاق العلماء.
# ولهذا قال سبحانه: (قدر فهدى (3)) (2) فجعل التقدير قبل الهداية، كما جعل
~~الخلق قبل التسوية، والتقدير يتضمن علمه بما قدره، وقد يتضمن تكلمه به
~~وكتابته له، فدل ذلك على ثبوت القدر، وعلى أن أصل القدر هو علمه أيضا، فدل
~~ذلك على أنه بكل شيء عليم، ولهذا قال في السورة الأخرى: (الذي علم بالقلم
~~(4) علم الإنسان ما لم يعلم (5)) (3) ، والكتابة بالقلم تتضمن القول،
~~والقول يتضمن العلم، وهذه الثلاثة هي مراتب التقدير العلمي، وذلك مذكور بعد
~~خلق العين، فذكر إحداثه لذاته وصفاته وأفعاله، فانظر كيف كانت الرسالة
~~تتضمن الدلالة بهذين الأصلين: الخلق المستلزم للحياة، والهدى PageV06P080
# والنور الذي هو كمال الحياة.
# وكذلك قال الخليل عليه السلام لما قال: (ربى الذى يحي ويميت) (1) ، ذكر
~~الأصل الأول، ثم ذكر أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وفي الشمس الضياء
~~والنور الذي يعيش الناس، فذكر الحياة والنور.
# فهذه المعاني في
### | التمثيل بالماء والنار،
# وأيضا فالماء رطب، والنار حارة، والحياة إنما تحصل بالحرارة والرطوبة،
~~ولما ذكر الله في سورة الواقعة خلقه للنسل والحرث للخلق والرزق بقوله:
~~(أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59)) (2) ، وقوله:
~~(أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64)) (3) ، فذكر
~~النسل والحرث، وذلك يتضمن خلق الإنسان وخلق طعامه، كما قال: (فلينظر
~~الإنسان إلى طعامه (24)) (4) الآية، ثم ذكر بعد ذلك ما يتم به الحرث والنسل
~~من الماء والنار، فقال: (أفرأيتم الماء الذي تشربون (68)) (5) ، (أفرأيتم
~~النار التي تورون (71)) (6) .
# وأيضا فالتمثيل ms1048 بالنار يقتضى الحركة، وحرارة الطلب والإرادة، PageV06P081
# والشوق والمحبة، والنور والهدى مع ذلك، فتبين أن العلم لا يحصل إلا بعمل،
~~والعمل مقارن للعلم، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا تلازم العلم
~~والعمل، وذلك أنها مثل الحياة.
# وأيضا ففي النار إنارة وحرارة وأشواق، ففي التمثيل بذلك إشارة إلى أن
~~النور والهدى في القلب، لا يحصل إلا بنوع من الحرارة التي تكون عن الحركة
~~والشوق والمحبة، فإن الحب والشوق والطلب يوجب للقلب أعظم من حرارة النار
~~البسيطة، هكذا يقوله الطبيعيون، وكذلك يجربه العاشقون، كما قال بعضهم: إن
~~لم تكن نار المحبين أعظم من نار جهنم، وإلا كان كذا وكذا.
# فإذا كان النور مع الحرارة المقارنة للحركة والمحبة والإرادة، دل ذلك على
~~أن الهدى ينال بذلك، كما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
~~(1) ، قال معاذ بن جبل: والبحث في العلم جهاد.
# وقال تعالى: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) (2) فعلق
~~الهداية بالإنابة، وقال: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (3) ،
~~وقال تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66)
~~وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)) (4)
~~. PageV06P082
# وأما الماء ففيه رطوبة وبرودة، وفيه إرواء وإغراق، وهذا يدفع ضرره
~~الحرارة التي في النار، كما أن العطشان يجد حرارة العطش، فإذا شرب الماء
~~روي، فكذلك طالب الهدى يكون عنده شوق وطلب وحرارة حين يكون طالبا، فإذا
~~أتاه الهدى، وأحيا قلبه بحياة العلم والإيمان، روي بذلك، ووجد له اللذة،
~~وأما إذا كان عنده الحرارة النارية التي توجب له الحياة المشوقة له ولم
~~يشرب، فإنه يكون عذابا له، كالذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا
~~يحيى، فإن حياته لم تحصل مقصودها من الهدى واللذة، وما لم يحصل مقصوده يصح
~~نفيه، فإن الشيء إنما هو مطلوب لأجل مقصوده، كما يقال عما لا ينفع: ليس
~~بشيء. وهذا باب مبسوط في موضعه، كقوله: "لا نكاح إلا بولي" (1) ، "ولا بيع
~~فيما لا يملك" (2) ، ونحو ذلك.
# وهو لم ms1049 يمت أيضا، لأنه فيه حياة، وهذا باب واسع، قال الإمام أحمد في أول
~~خطبته (3) : "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل
~~العلم، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل
~~لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال PageV06P083
# تائه قد هدوه ".
# وقد قال الله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما
~~الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) (1) ،
~~فسماه روحا ونورا، ليبين أن به الحياة والهدى، والهدى يتضمن اهتداء الحي
~~إلى ما ينفعه هو، الذي يوجب لذته وفرحه وسروره، وذلك كما قال الله تعالى:
~~(أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله) (2)
~~،ولهذا قالت الملائكة: حياك الله وبياك (3) ، أي أضحكك، والضحك إنما يكون
~~عند السرور. PageV06P084
### | فصل
# في التوحيد
# PageV06P085
# الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
~~شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله
~~وأصحابه أجمعين..
# قال الشيخ الإمام العالم الزاهد القدوة المحقق أبو العباس أحمد ابن الشيخ
~~الإمام العالم الورع عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العالم الورع الفاضل أبي
~~البركات ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه:
# فصل في التوحيد
# قال الله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب
~~العرش عما يصفون (22)) (1) ، قد كتبنا فيما تقدم قواعد تتعلق بذلك في توحيد
~~الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي أنه كما يمتنع أن يكون للخلق ربان، يمتنع
~~أن يكون له إلهان، وتكلمنا على العلل والأسباب الفاعلية والغائية، وما
~~يتعلق بقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) وفي أن جميع الحركات ناشئة عن
~~المحبة التي هي حقيقة العبادة، وبسطنا الكلام في هذه المواضع بسطا شريفا
~~نافعا كاشفا، ولله الحمد.
# فنقول: إنه
### | يمتنع أن يكون شيئان كل منهما علة للآخر وسبب له،
# لما فيه من الدور القبلي، ولا يمتنع شيئان كل منهما مع الآخر بشرط فيه،
~~وهو الدور المعي.
# وقد بينا ms1050 هذا في جواب مسائل الدور، وذلك أن العلة والسبب PageV06P087
# والفاعل يجب أن تتقدم المعلول والمسبب والمفعول، فإذا كان هذا علة ذاك،
~~وجب أن يكون هذا قبله. وإذا كان ذاك علة هذا وجب أن يكون ذاك قبله، فيجب أن
~~يكون هذا قبل ذاك، وذاك قبل هذا، وهو ممتنع، إذ هذا إذا كان قبل ذاك، وذاك
~~قبله، كان ذاك قبل قبل نفسه، وهو لو كان قبل نفسه كان ممتنعا، لالتزامه
~~اجتماع النقيضين، إذ هو قبل نفسه معدوم، فإذا كان قبلها كان معدوما موجودا،
~~فيلزم هنا اجتماعهما مرتين.
# وكذلك إذا قيل: يلزم أن يكون ذاك قبل هذا، وهذا قبله، يلزم مثل ذلك،
~~فيلزم أن يكون ذاك قبل قبل نفسه، وهذان الاجتماعان هما ذانك باعيانهما،
~~وإنما فيه التقديم والتأخير، ومضمونه أن يكون الشيء موجودا قبل أن يكون
~~موجودا بدرجتين، فإن كون الشيء فاعلا لنفسه ممتنع، فكيف يكون فاعلا لفاعل
~~نفسه، وكذا كونه علة نفسه يعني أن نفسه وجدت فأوجدت نفسه، وهذا الممتنع
~~لازم في العلتين جميعا، فيلزم اجتماع النقيضين أربع مرات.
# وكذلك يمتنع في العلة الغائية، التي يقال لها الحكمة والعاقبة، سواء كانت
~~العلة جوهرا أو عرضا. وذلك أن الغائية يجب تأخرها عن المعلول في الوجود،
~~كما يجب تقدم العلة الفاعلة التي هي السبب، فإذا كان هذا علة ذاك لزم تاخر
~~هذا عن ذاك، وبالعكس، يلزم تاخر ذاك عن هذا، فيكون هذا متاخرا عن نفسه
~~بدرجتين، فيلزم هنا مثل ما لزم هناك، وهو اجتماع النقيضين أربع مرات، فإن
~~امتناع تأخر هذا عن نفسه بدرجة أو درجتين، وهكذا ذاك.
# PageV06P088
# وكذا إذا قدر أن الغاية عرض من الأعراض، كاللذة مثلا والتنغم والانتفاع
~~وغير ذلك، فإنه يجب تأخر هذا عن ذاك، وذاك عن هذا، فيلزم ما تقدم من
~~التناقض أربع مرات.
# وأيضا فالعلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية، لأنها متقدمة في العلم
~~والقصد، فيجب أن يكون هذا متقدما على ذاك علما وقصدا، فيكون هو المقصود
~~بالقصد الأول، وأن يكون ذاك متقدما على هذا، فيكون هو المقصود بالقصد ms1051
~~الأول، فيلزم تقدم هذا على ذاك، أو تقدم ذاك على هذا، وبالعكس، فيلزم تقدم
~~كل منهما على نفسه بمرتبتين، فكما لا يفعل هذا لذاك، وبالعكس، لا يكون هذا
~~هو المقصود من فعل ذاك وبالعكس.
# وهذا يبين في الفاعل الواحد الذي هو القاصد، قدر كل منهما فاعلا مفعولا،
~~والغاية غيرهما، وهنا قدر كل منهما مفعولا وغاية، والفاعل غيرهما، ويجوز أن
~~يكون اثنان مفعولان لفاعل واحد معا، ويكون وجود أحدهما مشروطا بالاخر، بحيث
~~لا يوجد كل منهما إلا مع الآخر، كالمتضايفات، مثل: الأبوة والبنوة وغيرهما،
~~فهما مقترنان متلازمان لفاعل ثالث، فكذلك يجوز أن تكون غاية واحدة مقصودة
~~من مفعولين، ويكون وجود أحدهما مشروطا بوجود الآخر، لا يوجد إلا معه،
~~والغاية أمر ثالث غيرهما، كالأجزاء المركبة، والأمور المتلازمة، والأعضاء
~~ونحو ذلك.
# والفاعلان إذا تعاونا على فعل واحد كتعاون المتناظرين والمتحاملين والجيش
~~والسابين ونحو ذلك، لم يكن أحدهما فاعلا
# PageV06P089
# للمفعول، ولا للفاعل الآخر، بل كل منهما فاعل بعض ذلك المفعول، ومفعول
~~أحدهما مع مفعول الآخر وشرط فيه، فالفعلان معا كالأخوين كالوالد والولد.
# وكذلك الفعلان، إذا كان لكل منهما غاية، والغايتان متعاونتان مشتركتان،
~~بحيث يكون قصد إحداهما مع قصد الآخر، كالزوجين المتناكحين، وكالمتبايعين
~~ونحوهما ممن يقصد كل منهما بفعله الآخر نظير ما يقصد الآخر بفعله، فهنا
~~ليست واحدة من الغايتين علة للأخرى، بل كل منهما علة فعل الآخر قاصدها،
~~ولكن كل من العلتين المقصودتين الغائيتين معاونة للأخرى ومقارنة لها ودائرة
~~معها دورا معيا، والفاعلان المتعاونان كل منهما لفعله سبب غير المعاون،
~~كذلك المقصودان الغايتان لكل منهما حكمة مقصودة غير الغاية المعاونة، وقد
~~يكون سبب الفاعلين واحد، كالفاعلين بعضوين، كالذي يأمر رجلين بالتعاون،
~~وكالذي يغسل إحدى اليدين بالأخرى. وقد يكون مقصود المقصودين وغايتهما
~~واحدة، كالغاية من المتناكحين، وهو انعقاد الولد.
# فصل
### | الفعل الواحد في الحقيقة لا يكون عن فاعلين اثنين،
# وكذلك المعلول الواحد في الحقيقة لا يكون عن علتين تامتين.
# وقول من قال من الفقهاء: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين، يعنون به تعليل
~~الحكم الواحد بالنوع ms1052، كالملك وحل الدم، والحكم الواحد بالنوع له علة واحدة
~~بالنوع، والواحد بالعين له علة واحدة
# PageV06P090
# بالعين.
# وإذا تعددت أشخاص النوع من العلل تعددت أشخاص الأنواع من الأحكام، وإذا
~~كانت هناك جنس من العلل له علل مختلفة كان لها أحكام مختلفة، وإن كان جنس
~~من الأحكام له أنواع مختلفة كان له أسباب مختلفة، ومثل هذا يجوز، فلا نزاع،
~~لكن هذا يعلم بالنص والإجماع.
# وأما إذا وجدنا حكما واحدا وهناك وصفان مناسبان له، فهل يجوز جعلهما
~~علتين كل منهما مستقل بالحكم بدون الآخر، بدون أن نعلم ذلك بدليل غير
~~الاستنباط؟ أو الواجب تعليق الحكم بهما جميعا وجعلهما جزءا العلة؟ الصواب
~~هو الثاني، وهو معنى قول من قال: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين
~~لا مستنبطتين، وهو في الحقيقة واحد النوع، أي كل منهما مستقلة بالحكم في
~~محل آخر.
# وبهذا يظهر الفرق وعدم التأثير، فإن الفرق معارضه في الأصل وفي الفرع بأن
~~يبدي الفارق في الأصل وصفا آخر غير وصف المستدل له مدخل في التعليل، أو
~~يبدي في الفرع وصفا مختصا به يمنع من إلحاقه بالأصل، فإذا عارض في الأصل
~~بوصف آخر، فلو كان كل وصف مناسب يمكن جعله علة مستقلة لما أمكن الفرق قط،
~~لإمكان أن يقول المستدل: وصفي علة، وهذا الوصف علة أخرى، فلا يقدح هذا في
~~تعليل الحكم بوصفي.
# وهذا باطل لا ريب فيه عند الفقهاء، إلا أن يبيق المستدل استقلال ذلك
~~الوصف بالحكم، وذلك إنما يكون باعتبار الشارع له وحده بدليل
# PageV06P091
# اخر، غير المناسبة ومجرد التأثير الذي لا يقتضي استقلاله بالحكم.
# وأما عدم التأثير فأن يبين المعترض ثبوت الحكم بدون الوصف، كما أن النقض
~~إبداء الحكم بدون الوصف فإن ذلك يبين أن الحكم غني عن الوصف، فلا يكون
~~مؤثرا فيه، بل المؤثر في الحكم غيره.
# وهذا إنما يكون إذا لم يخلف ذلك الوصف وصف آخر، فإن كان قد ثبت الحكم عند
~~انتفاء هذا الوصف لعلة أخرى لم يقدح فيه، لكون الحكم له علتان، مع عدم
~~إحداهما كان لوجود الأخرى ms1053.
# فالفارق يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، بل المؤثر هو والوصف الآخر، أو
~~الوصف الآخر، فلا يكون هو العلة.
# ونافي التأثير يقول: هذا الوصف ليس هو المؤثر، لأن الحكم ثابت بدونه، ففي
~~كل من الوضعين قد بين استغناء الحكم عن كون الوصف علة، تارة بوجوده دونه،
~~وتارة بأن معه غيره.
# فذاك وجود الحكم بدون وجوده، وهذا وجود الحكم بدون تأثيره واقتضائه،
~~وكلاهما معارضة في علية الوصف.
# كما أن النقض أيضا معارضة، وإذا كان في الفرق مع قولنا: يصح تعليل الحكم
~~بعلتين، ليس له دعوى ذلك، إذا لم يثبت العلية إلا بالاستنباط، بل الأصل أن
~~تكون العلة جميع الأوصاف، لا أن كل وصف علة.
# كذلك في عدم التأثير، ليس له أن يقول: ثبوت الحكم بدون هذا الوصف كان
~~لعلة أخرى إن لم يبين تلك العلة، لأن الأصل عدم علة
# PageV06P092
# أخرى، والأصل زوال الحكم لزوال علته.
# وأما إمكان أن تخلفها علة أخرى فتحتاج إلى ثبوت علة أخرى غيرها، وإلى
~~بيان وجودها، وهذا لا يكون مجرد الاستنباط، فليس له أن يقول: إنما وجد
~~الحكم هناك لوجود الوصف الآخر المناسب، وذاك علة أخرى، بل يقال له: ذاك جزء
~~العلة، كما يقول الفارق سواء، فإن وجود الحكم بدون الوصف المعلل به كوجود
~~الحكم بدون كونه علة، وكلاهما معارضة في كون الوصف المعلل به علة، لكن هذا
~~بين ذلك بوجود الحكم مع غيره، فلم يكن هذا المقتضي له.
# وبهذا يتبين صحة سؤال عدم التأثير مع قولنا بجواز تعليل الحكم بعلتين
~~وكذلك سؤال الفرق، فإنهما سؤالان مشهوران مستعملان عند أئمة الفقهاء
~~القائلين بجواز تعليل الحكم بعلتين، وذلك أنهم قالوا: "يجوز في الجملة". لم
~~يقولوا: إنا نحكم به حيث رأينا وصفين، ولا أنه يسوغ أن يدعى تعليل الحكم
~~بعلتين لمجرد ذلك، بل هم إنما أثبتوا ذلك في تعليل الحكم الواحد بالنوع
~~بعلل منصوصة، فهذا شرطان موجودان فيما ذكروه من الصور.
# وقد ظهر الكلام في أحد الشرطين، وهو النص، وأما الكلام في الشرط الثاني،
~~وهو المناسب لهذا المقام، فإن ms1054
### | الحكم الواحد بالعين إذا اجتمعت فيه أسباب،
# فلا يخلو إما أن يكون كل منها مستقلا به لو انفرد.
# أما الأول: فظاهر أنها علة واحدة، والأوصاف أبعاضها، لا أنها علل.
# PageV06P093
# وأما الثاني: مثل الردة والزنا والقصاص في حل الدم، ومثل الحيض والجنابة
~~في إيجاب الغسل، ومثل المس والبول في نقض الوضوء.
# فهذا وان حصل نزاع في كون الحكم وإن حصل واحدا أو متعددا، فالصواب أنها
~~أحكام متعددة، وعلى ذلك نص الأئمة، كما قال الإمام أحمد في بعض ما ذكره:
~~هذا مثل لحم خنزير ميت، حرام من وجهين، فلو كان الحكم واحدا لم يفرق بين
~~الخنزير الميت وبين الميتة من غير الخنزير، بل أثبت فيه تحريمين.
# وكذلك حل الدم بالأسباب المجتمعة هو حل متعدد، ولكن ضاق المحل، ولهذا إذا
~~زال الواحد بقي الآخر، ولو كان الحل واحدا لوجب إذا زال أحدها أن يكون قد
~~زال بعضه، فيكون الباقي بعض حل، فلا يباح، لكن قد تتداخل هذه الأحكام،
~~فتداخلها لا يمنع تعددها.
# وعلى هذا، فإذا وجبت عليه حدود، فالواجب عقوبات متداخلة من جنس، وقول
~~الفقهاء: تتداخل، كمن سرق ثم سرق، أو شرب ثم شرب، دليل على أن الثابت
~~أحكام، لكن لاتحاد الجنس في مثل هذا تداخلت، وإلا فالشيء الواحد لا يعقل
~~فيه تداخل، وإنما التداخل مع التعدد.
# وهذا كله مما يبين أن
### | الشيء الواحد لا يجتمع له سببان مستقلان،
# وكذلك الفعل الواحد والمفعول الواحد، لا يتصور أن يصدر عن فاعلين تامين،
~~فالشخصان المتعاونان على حمل شيء يقوم بذات كل
# PageV06P094
# منهما من الفعل ما لا يقوم بذات الآخر، فليس فعلهما واحدا بل متعدد.
# وأما المفعول، وهو أثر فعلهما، وهو ما قام بالمحمول من الحمل، فأثر فعل
~~أحدهما الموجود في المحمول ليس هو أثر فعل الآخر، بل هو غيره، والمحمول لم
~~يكن محمولا بفعل هذا وحده وأثره، ولا بفعل هذا وحده وأثره، بل بالمجموع،
~~فليس كل منهما فاعلا بل جزء فاعل، والفاعل مجموعهما، وليس كل منهما مستقلأ
~~بالحمل في مثل هذا، بل المعلوم بالاضطرار أن ms1055 المفعول بين فاعلين لا يكون كل
~~منهما مستقلا به، فإن المستقل هو الذي يفعل الفعل وحده، فإذا قدر أن له فيه
~~شريكا وقيل مع ذلك: إنه مستقل، كان جمعا بين النقيضين، وكان التقدير أنه ما
~~فعله إلا وحده، وأنه ما فعله إلا هو وغيره، فيكون فيه إثبات فعل الغير،
~~وهذا جمع بين النقيضين.
# وإذا لم يكن أحدهما مستقلأ بالفعل في صورة التعاون، فهل يقال: لو انفرد
~~أحدهما لاستقل به؟
# هذا قد لا يمكن في صور كثيرة، وفي صور يمكن، كأن يكون حينئذ الفعل
~~الموجود من المستقل أكمل منه إذا كان له معين وشريك.
# وأما أن يقال: فعله إذا كان له شريك معاون، مثل فعله إذا كان مستقلا،
~~فهذا باطل، وفيه جمع بين النقيضين أيضا، لأنه إذا كان له شريك معاون، وقدر
~~أن المفعول الموجود معه هو مثل الموجود في صورة الاستقلال سواء، فإن لم يكن
~~لهذا الشريك تأثير فيه لم يكن شريكا، وإن كان له تأثير فقد فعل بعض
~~المفعول، فلا يكون إلا فاعلا
# PageV06P095
# لبعضه، وفي الاستقلال فعله كله.
# ومن الممتنع أن يكون بأنه يفعل الجميع وحده، مساويا لما به يفعل البعض من
~~القدرة والعمل إذا كان له شريك، بل هو أكمل معه، كما نجده في الواقع أن
~~الإنسان إذا فعل عملا وحده ما كان يفعله هو وشريكه بغير عمله، ولم يكن حالى
~~الانفراد مثله حال الاشتراك، كما يظهر ذلك في الاشتراك المعوق، كازدحام
~~الرؤساء، فإنه إذا زال الشريك حصل بانفراد الرئيس راحة له وتمكن. كما يتمكن
~~الشريك من التصرف في الملك المشترك إذا صار له وحده ما لم يكن يتمكن حين
~~كان معه شريكه، وقد يعجز عن أن يفعل وحده ما كان يفعل هو وشريكه، وقد يقدر
~~لكن بنوع من زيادة العمل، وهذا كله موجود.
# والمقصود هنا أنه من البين في بدائه العقول عند وجود التصرف أن الفعل
~~الواحد لا يكون من فاعلين، ولا المقدور من الواحد قادر بينهما، لما اشتركا
~~فيه وجد من كل منهما بعضه لا كله ms1056، إذ صدوره من كل منهما جمع بين النقيضين،
~~وبذلك يتبين أن الاشتراك في الفعل في كل من الشريكين، فإنه إذا لم يكن
~~قادرا على الفعل وحده كان عاجزا، وإن كان قادرا على العمل وحده فوجود الآخر
~~معه منعه عن نفاذ قدرته، إذ هو لا يمكن مع معاونة الآخر أن يفعل الفعل كله،
~~بل بعضه، فإن كان الكل مقدورا كان ممنوعا، وإن لم يكن الكل مقدورا كان
~~عاجزا، والممنوع كالعاجز، فالمشاركة في العمل تقتضي عجز كل منهما، وعدم
~~كمال قدرته على ذلك العمل حين الاشتراك. وهذا تمانع بأن المنع من فعل البعض
~~كالمنع من فعل الجميع، فظهر أن الاشتراك
# PageV06P096
# نفسه مع التعاون والتناصر هو تمانع يقتضي عجز كل منهما.
# وأما التمانع الذي قدروه- أعني المتكلمين- فذاك تمانع الإرادتين، فهذا لا
~~يكون إلا مفروضا، لا يمكن أن يكون موجودا، فلا يتصور صدور العالم عن ربين
~~متمانعين، بل المتمانعان لا يفعلان شيئا.
# وظنهم أن هذه الآية هي دليل التمانع غلط عظيم، فإن التمانع لا يقدر في
~~فعل موجود أصلا، وقولهم: لو قدرنا ربين لكان إذا أراد أحدهما تحريك جسم،
~~وأراد الآخر تسكينه، إما أن ينفذ مرادهما، فيجتمع الضدان، أو لا ينفذ
~~مرادهما، فيكونا عاجزين، أو ينفذ مراد أحدهما، فهو الرب القادر والاخر
~~مربوب عاجز= لا يدل (1) على امتناع الاشتراك فيما وجد، وإنما يدل على أن
~~المتمانعين لا يفعلان شيئا ما داما متمانعين، إذ حينئذ يلزم اجتماع الضدين
~~أو عجز الربين، والعاجز لا يفعل، لكن ليس فيه ما يدل على أنهما إذا لم
~~يتمانعا بل تعاونا أنهما لا يفعلان، فمن أين بدل هذا على أن الفعل الموجود
~~لا يكون عن اثنين؟
# لكن دلوا به من وجه اخر، وهو أنهما لو وجدا لتمانعا في الفعل، فكان لا
~~يوجد، وقد وجد، فلم يتمانعا، فلم يوجدا، فاستدلوا بوجود الفعل على انتفاء
~~التمانع. والتمانع إما أن يكون لازما لوجودهما أو ممكنا، فإذا قدر لم يلزم
~~محال، أو لا يكون ممكنا، فيكون كل منهما غير قادر على منع الآخر ms1057 من مراده،
~~والعاجز لا يكون ربا، فثبت عجز PageV06P097
# كل منهما إذا لم يقدر على منع الآخر.
# وهذا بعينه هو العجز حال التعاون إذ كان كل منهما عاجزا عن الفعل وحده،
~~فظهر بما ذكرناه أن دليل التمانع إنما يصح إذا كان التمانع لازما لهما أو
~~جائزا عليهما، وأما إذا قدر وجوب اتحاد الإرادتين، كان هو الدليل الأول
~~المذكور في امتناع الفعل الواحد من فاعلين، ولزوم العجز للمتعاونين، لكن
~~ذاك عجز عن الاستقلال بالفعل، وهذا عجز عن منع الآخر منه.
# وأيضا فإن المتعاونين لأنه لا يتميز مفعول أحدهما عن مفعول الآخر، فلا
~~يكون الشيء الواحد الموجود في العالم واحدا فعل أحدهما.
# ومعلوم أن العالم يتميز فيه هذا عن هذا، يدل عليه قوله: (إذا لذهب كل إله
~~بما خلق) (1) ، ولهذا قال الثنوية: بأن مفعول النور ليس هو مفعول الظلمة،
~~بل زعموا باختلاط المفعولين وامتزاجهما مع التباين، كما زعم من زعم من
~~الثنوية بأن نفس الأصلين امتزجا واختلطا ثم تميزا، فلم يقل أحد من العقلاء:
~~إن المفعول الواحد صدر عن اثنين، وهذا توحيد الربوبية، وهو متفق عليه بين
~~العقلاء، ولم يكن هو المقصود بالذكر ولا الاية أنزلت لتقريره، كما يظنه من
~~يظنه من المتكلمين، وإنما هي لتوحيد الإلهية المستلزم لتوحيد الربوبية، وهو
~~الذي قصدناه في هذا الموضع. PageV06P098
# فصل
# فنقول: كما استحال أن يكون ربان كل منهما فاعل الشيء، فكذلك يستحيل أن
~~يكون إلهان كل منهما معبود لشيء، كما قدمنا أنه إذا استحال كون كل من
~~الشئين فاعلا للآخر وعلة له، فيستحيل أن يكون كل منهما هو المقصود للآخر،
~~والعلة الغائية له، لمفعول لهما، سواء اشتركا في مفعول أو انفرد كل منهما
~~بمفعول مباين.
# وكذلك يستحيل أن يكون الشيء فاعلا لنفسه محدثا لها، ويستحيل أن يكون هو
~~الغاية المقصودة من فعل نفسه لفاعلها، فكما لا يكون شيء من الموجودات ربا
~~لنفسه فاعلا، فلا يكون شيء منها مقصودا لنفسه، هي الغاية المطلوبة من
~~وجوده، بل كما وجب أن يكون لجميع المصنوعات رب غيرها فعلها وأحدثها، وجب ms1058 أن
~~يكون ثبوته بعد أن خلقهم، إذ الحاجة إلى المقصود قبل الافتقار إلى ألوهيته،
~~وهو أعظم الوجهين، فقد يكون لفعلهما جميعا مقصودا مرادا غيرها.
# والخارج عن الممكنات المحدثات هو الله الذي لا رب غيره، ولا إله إلا هو،
~~فهو ربها كلها وخالقها ومليكها، وهو إلهها جميعا، الذي يجب أن يكون هو
~~المعبود المقصود المراد بها جميعها، فهو نفسه هو الفاعل لأجل نفسه، إذ لا
~~يجوز أن تكون الغاية المقصودة له غيره، كما لا يجوز أن يكون الرب الفاعل
~~غيره.
# ومعلوم أن كل واحد من العلتين- الفاعل والغاية- خارج (1) عن PageV06P099
# الشيء المفعول، وإنما جزاه المادة والصورة، إذ المادة والصورة هما ماهيته
~~وحقيقته، فلا يجوز أن يكون في المخلوقات ما هو فاعل لها.
# كذلك لا يجوز أن يكون فيها ما هو المقصود المراد لفاعلها، ومن هنا تندفع
~~مسائل الإرادة الموجبة بالذات والتعليل والتجوير، وتعليل أفعاله، فإن
~~المعللين أوجب ذلك عليهم رعاية الحكمة، والمانعين أوجب المنع عليهم رعاية
~~الغنى، فإن الفاعل لأجل غيره مفتقر إلى ذلك الغير، فأما إذا فعل لأجل نفسه
~~كان غاية ما يقال: إنه فعل لنفسه، كما يقال: واجب بنفسه.
# وهذا خيال باطل، إنما يتوهم صدقه لأنه يظن أن نفسه منفصلة عن نفسه، وأن
~~الشيء الفاعل نفسه هو شيء متقدم عليها، والشيء المطلوب المقصود هو شيء
~~منفصل عن نفسه التي لها القصد والإرادة. وكل ذلك باطل، بل هو سبحانه القائم
~~بنفسه الذي هو موجود بها، ومريد لها، ومحب لها، ومسبح لنفسه، ومثني على
~~نفسه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحصي ثناء عليك، أنت كما
~~أثنيت على نفسك" (1) .
# ومن هنا يظهر الفرق بين ما يحبه ويرضاه، وبين ما يريده من غير محبته، فإن
~~ذلك محبوب لنفسه مرضي لها، وهذا مراد من جهة الربوبية.
# لكن يقال: هو فعل الأفعال بإرادته، فالوجود كله بمشيئته، لكنه
~~PageV06P100
# يحب ويرضى شيئا دون شيء، وذلك في مفعولاته وأفعال عباده، فهو فعل لوجود
~~ما يحبه ويرضاه، ومراده وجود المحبوب المرضي، وهو ألوهيته وكونه هو المقصود ms1059
~~المراد، وإن كان في ضمن ذلك قد فعل ما أراده، وهو لا يحبه ويرضاه، لأن فعله
~~له وسيلة إلى ما يحبه ويرضاه، فهو مراد بالقصد الثاني. وقد بسطنا في غير
~~هذا الموضع من كلامنا في القدر، وتكلمنا على أنواع تتعلق بذلك.
# ومن هنا يعرف قوله عليه الصلاة والسلام: "والشر ليس إليك" (1) ، فإن الله
~~إليه المنتهى من جهة إلهيته، والشر لا ينتهي إليه، ولا يصعد إليه، ولا يصل
~~إليه، ولا يحبه، ولا يرضاه، فهو قطع له من جهة الألوهية، وهذا نحو قول من
~~قال: لا يتقرب به إليك، ألا ترى كيف قال في الأضحية: "اللهم منك ولك" (2) .
# لكن قد يقال: المعروف إن قال: هذا العمل لله، فكان مناسبه أن يقال: والشر
~~ليس إليك. وأما "إلى" فيعدى بها الفعل، كما قال الخليل عليه السلام: (إني
~~ذاهب إلى ربي سيهدين (99)) (3) ، وقال: (إنك كادح إلى ربك كدحا) (4) .
# فيقال: وقد قال (5) : PageV06P101
# رب العباد إليك الوجه والعمل
# وأما من جهة الربوبية فهي مخلوقة، لكن بالقصد الثاني لأجل غيره، وليس هو
~~أيضا مرادا بالإرادة الأولى، ولا مخلوقا بالقصد الأول، فليس هو مضافا إليه
~~من جهة كونه شرا، إذ لم يقصده ويرده من هذه الجهة، ولكن من جهة ما هو وسيلة
~~إلى الخير الذي هو يبدئه، كما قال تعالى: (أحسن كل شيء خلقه) (1) ، وقال:
~~(صنع الله الذي أتقن كل شيء) (2) ، وهو لم يقل: الشر ليس بك ولا منك ولا من
~~عندك، بل قد يقال: كل من عند الله في الحسنات والسيئات، التي هي المسار
~~والمصائب، كما قد بينته في غير هذا الموضع.
# وقد يعترض على هذا فيقال: قد فرق بينهما في قوله: (فمن الله) و (فمن
~~نفسك) (3) في هذه الاية، وفي قوله: (فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله
~~علي إذ لم أكن معهم) (4) الاية، و (ولئن أصابكم فضل من الله) (5) ، وقد قال
~~تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) (6) ، وقال: (ولئن أذقنا الإنسان منا
~~رحمة) (7) ولم يقل في الشر مثل ذلك. PageV06P102
# فالمقصود هنا أنه سبحانه كما أنه ms1060 واجب بنفسه، فهو محبوب لنفسه، مثني على
~~نفسه، ومن هذا صلواته بثنائه على نفسه وطلبه من نفسه، وهذا غير صلاته على
~~عباده. 0. (1) يحب ما أمر به، ويحب عباده المؤمنين.
# وقد خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا
~~ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57)) (2) ، وفي
~~الصحيحين (3) عن معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أتدري ما
~~حق الله على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا
~~به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله
~~أعلم، قال: "حقهم عليه أن لا يعذبهم ".
# وفي الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء (4) عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -:"يقول الله: يا عبدي! إنما هي أربعة: واحدة لي، وواحدة لك،
~~وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك
~~بي شيئا، وأما التي لك فعملك أجزيك به أحوج ما تكون إليه، وأما الذي بيني
~~وبينك فمنك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي، فأت إلى الناس
~~ما تحب أن يؤتى إليك".
# فهو سبحانه قد جعل عبادته حقا له على عباده، كما بين أنه خلقهم
~~PageV06P103
# لعبادته، ومعلوم أن
### | عبادته تتضمن كمال محبته بكمال الذل له،
# فهي متضمنة كونه هو المراد المقصود المحبوب المعبود.
# فإذا كان قد خلقهم لعبادته، وذلك يتضمن أنه أمرهم بها وأحبها ورضيها
~~وأرادها إرادة شرع، فمعلوم أن محبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود، فمن أحب
~~محبة محبوب ومحبي محبوب، كانت محبته لذلك المحبوب هي الأصل، وكانت ثابتة
~~بطريق الأولى، وكان إنما أحب أن يحب، وأحب محبته لكونه محبوبا له، وكان ذلك
~~فرعا لهذا الأصل.
# ولهذا كانت محبة المؤمنين لما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، والحب لله،
~~والبغض دئه، والحب في الله، والبغض في الله، كل ذلك تبع وفرع على محبتهم
~~لله، فإذا أحبوه أحبوا ما أحبه هو من الأعمال والأشخاص، إذ محبوب المحبوب
~~محبوب، وبغيض المحبوب بغيض. وكذلك محب المحبوب ms1061 محبوب، ومبغض المحبوب مبغض،
~~فالمؤمنون يحبون ربهم، وكانت محبتهم لما يحبه الله ولما يحب الله فرعا
~~وتبعا لمحبتهم له، والله تعالى يحبهم ويحب ما يحبونه وما يحبهم، حتى قال
~~أبو يزيد: إن الله لينظر إلى رجال في قلوب رجال، وينظر إلى رجال من قلوب
~~رجال.
# فالأول: حال من أحبه المؤمنون، فينظر الله إلى قلوبهم، فيجد فيها أولئك
~~المحبوبين.
# والثاني: حال من أحب المؤمنين (1) ، فينظر إليهم من قلوب PageV06P104
# المؤمنين، فهو يرحم من يحبه أولئك، ومن يحبه أولياؤه، وإذا كان كذلك كانت
~~محبته لما أحبه من الأعيان والأعمال ومحبته لمن يحبه تبعا وفرعا لمحبته
~~لنفسه بطريق الأولى والأحرى، وذلك يتبين من وجوه:
# أحدها: أن كل محب فإما أن يحب الشيء لذات المحبوب أو لذات نفسه، فيحبه
~~لمحبته لنفسه، والفرق بين الموضعين أن الأول يتنعم بنفس المحبوب، والثاني
~~يتمتع بما يصل إلى نفسه من نفع المحبوب. فهذا أحط النفع الواصل، فكانت ذات
~~ذلك وسيلة إليه لا غرض له فيها، بحيث لو حصل النفع بدونه لم يكن له بذاته
~~محبة، وذاك أحب نفس المحبوب، لا لأجل نفع يصل إليه سوى نفعه وانتفاعه
~~بذاته، كما تنعم ذلك وانتفع بما وصل إليه من المحبوب، وهذا شبيه بمن يحب
~~إحدى زوجتيه لتمتعه بجمالها، ويحب الأخرى لكونها تنفق عليه مالها، ويحب
~~شخصا لما فيه من العلم والدين، ويحب آخر لكونه محسنا إليه. وقد جبلت القلوب
~~على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
# وإذا تبين ذلك فالله سبحانه إذا أحب شيئا، فإن أحبه لأجل نفسه تعالى وجب
~~أن تكون نفسه هي المحبوبة، حتى يصح أن يحب الغير لأجلها، ولا يمتنع أن يحب
~~شيئا لأجل شيء إن لم تكن الغاية هي المحبوبة ابتداء.
# وهكذا كل من فعل شيئا لكذا، فإنه يحب أن يكون المفعول له هو المراد
~~ابتداء، وهذه هي العلة الغائية، وهي متقدمة في الإرادة
# PageV06P105
# والقصد، ولكونها مرادة ابتداء صار الفعل المؤدي إليها مرادا، وإن قدر أنه
~~تعالى يحب شيئا لذات ذلك الشيء، فمن المعلوم أنه هو ms1062 الذي خلق تلك الذات،
~~وجعلها على الوجه الذي يحبه هو، فإذا كان محب المحبوب محبوب (1) ، فكيف
~~بفاعل المحبوب ومبدعه وخالقه؟ فقد وجب أن تكون محبته لنفسه هي الأصل في
~~القسمين، في الأول من جهة الغاية، وفي الثاني من جهة السبب، من جهة
~~الألوهية، ومن جهة الربوبية.
# الوجه الثاني: أنه يحب من يحبه، ومن يتقرب إليه بما يحبه، كما ثبت ذلك
~~بنصوص الكتاب والسنة، ومحبة محب الشيء ومحبة المتقرب إلى الشيء والساير في
~~مراضي الشيء، تبع وفرع على محبة ذلك الشيء محبوبا، امتنع أن يحب محبه (2) ،
~~ويحب من يتقرب إليه بمحابه، ويسعى في مراضيه، وإذا كان الله يحب من يحبه،
~~ومن يتقرب إليه بمحابه ويسعى في مراضيه، كان هو أحق بأن يكون هو المحبوب
~~لنفسه المرضي، إذ هو المحبوب المقصود بالقصد الأول.
# الوجه الثالث: أنه يبغض ويمقت أعيانا وأفعالا، والموجود لا يبغض إلا
~~لكونه مانعا من المحبوب. وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع في "قاعدة
~~المحبة" (3) ، وبينا أن البغض تبع للحب، وأن الحب هو الأصل، فإذا كان بغضه
~~لأمور مستلزما محبته لأضدادها، فمحبة تلك الأمور مستلزمة محبته لنفسه، كما
~~تقدم. PageV06P106
# الوجه الرابع: أنه يحب من يبغض تلك الأمور، ويجاهد أهلها، قال الله
~~تعالى: (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (4))
~~(1) ، وإنما أحبهم لإعانتهم على حصول محبوبه، فتكون محبته لنفسه التي أحب
~~من أعان على محبوبها أولى وأحرى.
# فإن قيل: فتلك الأمور التي يبغضها هو خلقها بإرادته، فكيف يريد مايبغضه؟
# فيقال: الشيء الواحد [قد] يكون (2) مرادا من وجه، مكروها من وجه، كما
~~يوجد في حقنا شرب الأدوية الكريهة، فإنها مكروهة من جهة إيلامها لنا، مرادة
~~من جهة تحصيلها للدنيا في المستقبل، وهو سبحانه إنما خلق الحوادث وأرادها
~~لحكمة فيها، فتلك الغاية التي هي الحكمة هي محبوبة له مرضية، وإن كان بعض
~~ما هو وسيلة إليها قد يكون مكروها مبغضا مع كونه مرادا، وقد بسطنا هذا في
~~غير هذا الموضع.
# وأما المأمورات فهي كلها محبوبة بتقدير وجودها، إذ ms1063 هي الغايات، لكن قد
~~يريد أن تكون إذا كانت الغاية المترتبة عليها مما يحبه ويرضاه، وقد لا يريد
~~أن تكون في بعض الصور، وإن كانت لو وقعت لأحبها، لأن وجودها قد يكون
~~مستلزما لوقوع ما يبغضه ويكرهه، فكما أن المكروه قد يراد وقوعه لأنه وسيلة
~~إلى المحبوب، فالمحبوب PageV06P107
# لا يراد وقوعه [لأنه] وسيلة إلى مكروه، وإن كان لو تجرد عن تلك السيئة
~~كان محبوبا، كما قد يقال في قوله: (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم) (1) ،
~~وإن كان ذلك الانبعاث هو المأمور به، وإلا فيكون مكروها لنفسه إذا لم يكن
~~على الوجه المأمور به.
# لكن قوله: (فثبطهم) هو دليل على أنه كره وقوعه كونا، لما فيه من الشر
~~بالمؤمنين، وذلك يقتضي أنه لو تجرد عن هذه العاقبة لم يكن وقوعه مكروها له
~~كونا، ولم يكن يثبط عنه، بل غايته أن يكون بمنزلة ما يقع من المعاصي
~~المكروهة، فإنه قد لا يثبط عنها إذا كانت مفضية إلى ما يحبه. وأما هذا فثبط
~~عنه لإفضائه إلى ما يكرهه بالمؤمنين.
# وهذا باب فيه بسط وتفصيل مذكور في غير هذا الموضع، وهو من المقامات
~~الشريفة الهائلة، التي اضطرب فيها الأولون والاخرون، مسألة اجتماع الشرع
~~والقدر، وإنما المقصود هنا بيان أنه سبحانه هو المقصود المراد المحبوب
~~لنفسه مما فعله خلقا وأمرا، وبهذا يتبين أن حقه على العباد أن يعبدوه لا
~~يشركوا به شيئا، ويظهر الفرق بين ما أمر به لأنه حق له، وبين ما أمر به
~~لينتفع به العامل، وإن كانا متلازمين، كما بيناه في غير هذا الموضع. ولكن
~~يظهر الفرق بحسب القصد الأول، فإذا كان حقه على عباده أن يعبدوه، وهو يستحق
~~ذلك عليهم، علم أنه يحب ذلك ويطلبه ويريده منهم إرادة دينية. ومن أحب حقه
~~على غيره، وأنه يعطيه حقه، فمن المعلوم أنه لولا أنه يحب نفسه التي
~~PageV06P108
# لها الحق وإلا لما تصور أن يكون له حق، ولهذا الإنسان إنما يطلب حقوقه
~~التي يحبها ويرضاها، ولولا تعلق المحبة والرضى بتلك الأمور لما عقل كونها
~~حقوقا ms1064.
# ومن هذا الباب أنه يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته
~~التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، إذا وجدها بعد اليأس، فهذا
~~المثال فيه أنه فقد ما يحتاج إليه وتقوم به نفسه من المنفعة التي لا بد له
~~منها، وهي الطعام والشراب، وما يدفع به المضرة، وهو الركوب للخلاص من تلك
~~المفازة. ومعلوم أنه لولا محبته لنفسه لما أحب ما يجلب إليها من المنفعة،
~~ويدفع عنها من المضرة. فإذا كان فرح الرب بتوبة التائب أعظم من ذلك، وهو
~~سبحانه يحب التوابين ويحب المتطهرين، فمعلوم أن الفرح العظيم بحصول الشيء
~~المحبوب فرع على المحبة العظيمة له، ومحبة المحبوب فرع على محبة النفس التي
~~كان لها ذلك محبوبا.
# فصل
# فإذا كان هو رب كل شيء ومليكه، ولا وجود لشيء إلا بقدرته ومشيئته، فهو
~~إله الخلق كلهم، لا إله غيره، ولا صلاح للخلق إلا بأن يكون هو المعبود
~~المقصود بالقصد الأول من جميع حركاتهم.
# فكما أن ما لا يريده ويشاؤه لا يكون، فما لا يراد لأجله ويقصد له فإنه
~~فاسد لا صلاح فيه، فكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه.
# ومن المعلوم أن المخلوق لم يخلق نفسه، ولا وجد من غير
# PageV06P109
# خالق، فلا بد له من خالق غيره خلقه. كما قال تعالى: (أم خلقوا من غير شيء
~~أم هم الخالقون (35)) (1) ، فكذلك المخلوق ليس هو المقصود بوجوده وفعله،
~~ولا وجد من غير مقصود، فوجب أن يكون المقصود بوجوده وفعله شيئا غيره، كما
~~تقدم بيانه.
# ثم إنه في نفسه، كما أنه لا يكون شيء من أفعاله إلا بإعانة الله، فلا
~~يصلح شيء من حركاته وأفعاله إلا أن يكون لله، ولهذا [كان سر] (2) القرآن في
~~قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين (5)) كما قال بعض السلف: إن الله أنزل مائة
~~كتاب وأربعة كتب، جمع سرها في الكتب الأربع، وجمع سر الأربعة في القرآن،
~~وجمع سر القرآن في المفصل، وجمع سر المفصل في الفاتحة.
# ففرق بالنسبة إلى خالقه بين ربوبيته له وخلقه- وهو السبب- وبين ms1065 مقصوده
~~ومراده- وهو الغاية-. وفرق بالنسبة إليه بين فعله أنه لا يكون إلا بحبه،
~~وبين فعله أنه لا يصلح إلا لإلهه، فلا يجوز إلا بمعونة الله، ولا يصلح إلا
~~لوجه الله.
# ويتبين ذلك فيه بالنسبة إلى نفسه، كما يتبين بالنسبة إلى خالقه، وذلك أن
~~فعله وقصده يمتنع أن يكون وجد من غير سبب، ويمتنع أن يكون وجد بقصد منه
~~وفعل آخر، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فلا بد أن يكون وجوده بسبب من
~~غيره، وهو داخل في جملته التي تناولها PageV06P110
# قوله: (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (35)) (1) .
# وكل ما دل على أن الحوادث الممكنات مخلوقة لله، فهو يدل على أفعال
~~العباد، إذ هي جزء من الحوادث الممكنات، فاستدلال بعضهم على ذلك لكونها
~~ممكنة فتفتقر إلى مرجح- كما سلكه أبو عبد الله الرازي- ليس هو أبلغ من
~~الاستدلال على ذلك بكون ذلك محدثا بعد أن لم يكن، فيفتقر إلى محدث، بل هو
~~أبلغ وأكمل، فإن
### | افتقار المحدث إلى المحدث أظهر من افتقار الممكن إلى المرجح،
# ولكن هو وطائفة من أهل الكلام قبله عكسوا الأمر في إثبات الصانع، فجعلوا
~~طريقة الاستدلال بالمحدث على المحدث مبنية على طريقة افتقار الممكن إلى
~~المرجح، وهذا غلط جدا، فإنه إذا قيل: إن تلك معلومة بالضرورة فالضرورة هنا
~~أرجح بكثير، والمحدث شيء موجود، كان بعد أن لم يكن، حدوثه أمر خارجي موجود
~~في الخارج.
# وأما الممكن فإنما يقدر مستوي الطرفين في النفس، إذ هو في الخارج إما
~~واجب بنفسه وإما ممتنع بنفسه، ولهذا منع طائفة من الفلاسفة أن يقال في
~~الموجودات: إنها ممكنة بنفسها. وخالفوا ابن سينا في ذلك كما ذكره ابن رشد
~~الحفيد. فالعلم بثبوت الممكن فيه من الصعوبة ما ليس في العلم بحدوث المحدث،
~~فإن حدوث المحدثات مشهود بالحس، وهو صفة خارجية ثابتة ليست مقدرة في العقل.
# ثم افتقار المحدث إلى محدث أظهر وأبين وأبده للعقل من كون PageV06P111
# الممكن المستوي الطرفين مفتقرا إلى المرجح، وهذا مبسوط في غير هذا
~~الموضع.
# وإنما المقصود هنا ms1066 أن كل ما دل في بعض الموجودات أنه مخلوق لله، فهو يدل
~~على ذلك في أفعال العباد، فيعلم بذلك كثرة الأدلة وقوتها على هذا المطلوب.
~~ولهذا قال من قال من أئمة السلف، كحماد بن زيد وغيره: من قال: أفعال العباد
~~لم يخلقها [الله] ، بمنزلة من قال: السماء والأرض لم يخلقها الله.
# والمقصود هنا أنه إذا كان قصده وفعله مخلوقا لله مربوبا له، لا يوجد إلا
~~بمشيئته وقدرته وربوبيته وإعانته، إذ يمتنع أن يكون حادثا بنفسه، أو حادثا
~~من غير محدث، فكذلك أيضا يجب أن يكون لله، مبتغى به وجه الله، لا يفعل إلا
~~لمحبته ورضاه وإلهيته وعبادته، فإنه لا يجوز أن يكون ليس فيه مقصود مراد،
~~إذ القصد والعمل لغير مقصود مراد ممتنع، كما أن الحادث من غير محدث ممتنع.
# ولا يجوز أن يكون هو المقصود المراد المحبوب بعمله، كما لا يجوز أن يكون
~~هو الخالق له، لأنه يفضي إلى التسلسل والدور، فكما قلنا: لو كان قصده حادثا
~~بقصد آخر، فإن كان ذلك القصد الثاني حادثا بالأول لزم الدور، وإن كان حادثا
~~بغيره لزم التسلسل.
# فيقال: لو كان هو المقصود بذلك، فإما أن يكون مقصودا لنفسه أو لأمر آخر،
~~ويمتنع أن يكون مقصودا لنفسه، كما يمتنع أن يكون محدثا لنفسه، لأن المقصود
~~يجب أن يتأخر عن القاصد، كما يجب أن يتقدم الفاعل على المفعول، فإذا لم يجز
~~أن تفعل نفسه نفسه لم يجز أن
# PageV06P112
# تقصد نفسه نفسه، لوجوب تأخر نفسه عن نفسه، ولوجوب تقدم نفسه على نفسه في
~~العلم والقصد، وهذا بين، إذ لا بد أن يتأخر هذا المقصود عن وجود ذاته،
~~فتكون ذاته قبل وجود هذا المقصود، فإذا كانت ذاته هي المقصود وهي القاصد،
~~لزم أن لا تكون إلا متقدمة، وأن لا تكون إلا متأخرة، فتكون موجودة معدومة
~~أربع مرات، كما تقدم بيانه.
# وقد يقال: إن هذا ظاهر فيما إذا كان نفس ذاته هي العلة الغائية من
~~وجودها، وهذا تقدم، وإنما الكلام هنا في قصده لفعل نفسه الذي يفعله ms1067 هو.
# فيقال: مقصوده بفعله كإحداثه لفعله، كما أن مقصود فاعله به كإحداث فاعله
~~له، وقد تبين أن حدوث قصده لا يجوز أن يكون ابتداء منه بل من الله، وأن
~~كونه منه يفضي إلى التسلسل والدور.
# فكذلك لا يجوز أن يكون هو منتهى قصده وإرادته بعمله، بل ذلك يفضي إلى
~~الفساد وكون العمل غير نافع بل ضارا، لأن المراد المقصود بعمله إما أن يكون
~~مصلحة لنفسه، أو لا يكون، فإن لم يكن فيه مصلحة لنفسه كان عمله فاسدا
~~باطلا، وإن كان فيه مصلحة لنفسه، فإن كانت تلك المصلحة حاصلة في نفسه قبل
~~قصده وعمله كان هذا القصد والعمل باطلا لا فائدة فيه أيضا، وإن لم يكن
~~حاصلا في نفسه لم يكن في مجرد كون النفس هي منتهى القصد ما يوجب مصلحة، فإن
~~النفس موجودة قبل ذلك، بل لا بد أن يطلب المصلحة بالقصد من غير النفس،
~~فيكون ذلك هو المقصود لمصلحة النفس، فإن المطلوب لها
# PageV06P113
# إذا لم يكن فيها لا يطلب إلا من غيرها، وهذا مبين نظير ما قلناه في
~~الأسباب، فإن المطلوب للنفس من المصلحة بهذا القصد والعمل إن كان حاصلا
~~فيها لم يكن في القصد والعمل فائدة، وإن لم يكن حاصلا فيها لم يطلب حصوله
~~بالقصد والعمل إلا من غيرها.
# فكما استدللنا على أن حدوث أفعال النفس لا توجد بمجردها، بل لا بد من سبب
~~منفصل، فكذلك نستدل على أن أفعال النفس لا تنفعها وتفيدها وتصلحها بمجرد
~~النفس، بل لا بد من غاية منفصلة يكون في قصدها صلاح النفس ومنفعتها وخيرها.
# ولهذا كل من عمل عملا لنفسه كان طالبا لمصلحتها من الأمور الخارجة عنها،
~~مثل من يصنع الطعام للأكل، والثياب للباس، والكرسي للجلوس، فإن الغاية
~~المقصودة للطعام هي الأكل، وغاية الأكل هي وجود اللذة والمنفعة بالاكل
~~والشبع ودفع ألم الجوع، فهذه المنفعة واللذة المطلوبة للنفس لا تطلب من
~~النفس، بل يطلب حصولها لها بسبب آخر غيرها، كما أن الإنسان لا تتحرك إرادته
~~إلا بسبب منفصل، مثل أن يحس ما ms1068 يوجب حركته أو يسمع بذلك، فإن الإرادة لا
~~تتحرك إلا بشعور وإحساس، وذلك لا يكون ابتداء إلا بأسباب منفصلة، إذ هي
~~وحدها لا تقتضي الحركة والإرادة، كما أنها وحدها لا تحصل اللذة والمصلحة.
# يبين ذلك أنها إذا قصدت بفعلها أمرا فالمقصود إن كان حاصلا فيها كان ذلك
~~تحصيلا للحاصل، وهو محال، وإذا لم يكن المقصود فيها امتنع أن تكون هي منتهى
~~القصد وغاية المراد، إذ المقصود المراد
# PageV06P114
# يطلب حينئذ لها من غيرها، فإذا جعل الإنسان غاية مقصوده هو نفسه وهوى
~~نفسه، لم يقصد ما يصلح نفسه وينفعها، بل ما يضره أو لا ينفعها، كما قال
~~تعالى: (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) (1) .
# وبيان ذلك بالبرهان المشابه لبرهان الإحداث أن يقال: هو إذا فعل فعلا
~~فإما أن يصلح أن يكون ذلك الفعل بمجرده مقصودا لنفسه، أو لا بد أن يقصد به
~~شيئا آخر، فإن صلح أن يكون مقصودا لنفسه وغاية الفاعل، جاز في كل فعل مقصود
~~أن يكون مقصودا لنفسه، وحينئذ فيلزم أن يصلح للنفوس كل ما يحبه ويهواه،
~~ومعلوم أن هذا مستلزم للفساد، وإن لم يجز أن يكون مقصودا لنفسه، بل وجب أن
~~يقصد به شيئا آخر، فإما أن يكون هوي نفسه ومراده أو أمرا آخر، فأما الأول
~~فيفضي إلى الدور، وذلك أنه إذا قصد بفعل أمر لكون نفسه تهواه وتقصده وتحبه،
~~فكونها تحب ذلك وتهواه وتقصده إما أن يجوز أن يكون غاية مقصودة بالفعل أو
~~لا يجوز، فإن لم يجز ذلك بطل هذا، وإن جاز أن يكون غاية مقصودة بالفعل صلح
~~في فعلها الأول الذي قصدت به هذا أن يكون لمجرد كونها تحبه وتقصده وتهواه.
# ومتى صلح ذلك لم يجب أن تكون لهذه الغاية ولا غيرها، فصار كون هذا مقصودا
~~لنفسه يمتنع أن يكون مقصودا لنفسه، وذلك هو الدور. وصار كون الفعل يصلح أن
~~يكون مقصودا، وذلك يوجب أن لا يمنع متحرك من حركته التي يهواها، ومعلوم أن
~~هذا مستلزم للفساد، PageV06P115
# فوجب أن يكون مقصوده بذلك الفعل أمرا آخر ms1069، لا مجرد ما تهواه نفسه وتحبه
~~وتريده.
# وهذا يبين بالدليل العقلي أن اتباع الأهواء مطلقا موجب للفساد، وأنه لا
~~يصلح أن يعبد الإنسان مجرد ما يهواه، كما قال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)
~~(1) ، وأنه لا بد أن يكون المعبود المقصود يعبد لمعنى فيه، لا لمجرد إرادة
~~النفس وهواها، وحينئذ فذلك المعنى الذي اختص به وصار لأجله محبوبا معبودا
~~إما أن يكون لنفع منه إلى المحب القاصد العابد، وإما أن يكون لذاته، بمعنى
~~أن في قصده ومحبته صلاح القاصد العابد.
# أما الأول فقد تبين في المقام الأول أن الله هو رب، كل شيء وخالقه، فليس
~~غيره مستقلا بالنفع، وإن كان غيره سببا فيه، فذلك النفع الذي يفعله إما أن
~~ييسره الله أو لا ييسره، فإن يسره وصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده،
~~وإن لم ييسره لم يصل إليك منه، سواء قصدته أو لم تقصده، فلم يكن في عبادته
~~ما يوجب وصول تلك المنفعة إليك.
# وأيضا فذاك المعبود إما أن يعلم بعبادتك أو لا يعلم، فإن لم يعلم لم يجز
~~أن يقصد إيصال النفع إليك، وإن علم فالعالم الشاعر لا يعمل إلا لجلب منفعة
~~أو دفع مضرة. وكونك تعبده وتقصده وتجعله هو الغاية المطلوبة بعملك ليس له
~~في هذا منفعة ولا مصلحة، لأنه لو جاز PageV06P116
# أن تكون نفسه غاية له مقصودة بعمل غيره، لكان أن تكون غاية له بعمل نفسه
~~أولى وأحرى.
# وقد تبين أنه لا يجوز أن تكون نفسه غاية نفسه بعمل نفسه، فأن لا تكون
~~غاية له بعمل غيره أولى وأحرى.
# وهذا كما نقول في جانب الربوبية: إذا [كان] كل من المخلوقات فقيرا عن أن
~~يقيم نفسه، ويكون وجودها به، فهو عن أن يكون مقيما لغيره وجوده به أولى
~~وأحرى، إذ ذاته أقرب إلى ذاته من غيره، فإذا لم يجز أن يكون فاعلا لنفسه،
~~ولا يصلح أن يكون غاية مقصوده لها بعمله، لم يجز أن يكون فاعلا لغيره
~~ومقصودا لغيره.
# وقد تبين أن المخلوق إذا لم يكن له ms1070 في مجرد كونه معبودا مصلحة، فإن حصل
~~له بعبادة غيره له غرض آخر من غيره، مثل إقامة رئاسته وتعظيمه عند الخلق،
~~ونحو ذلك مما يلتذ به، كان ذلك إحسانا إليه، وكان ما يعطيه إياه من باب
~~المعاوضة، فالمعبود من الخلق مفتقر إلى شيء غيره منفصل عنه يحصل به مقصوده
~~من عبادة غيره الذي يحسن إليه بقوة نفسه، وهذا فقير إلى غيره في هذا كفقره
~~إلى غيره في هذا.
# وأما ما يكون محبوبا معبودا لذاته، بأن يكون في مجرد ذلك مصلحة ومنفعة
~~لقاصده، مع تقدير أنه لا يقصد نفع قاصده، فهذا كما يتمتع الإنسان بالنظر
~~إلى المناظر الجميلة، ويتمتع بسمع الأصوات المطربة، وهذا قد يكون من
~~الجانبين، كما أن كلا من الزوجين يتمتع بالاخر، فهذا يقصد انتفاعه بهذا،
~~وهذا يقصد انتفاعه بهذا، إذ في
# PageV06P117
# مباشرة كل منهما للاخر لذة وسرور. وكذلك المتعاونان على علم أو عبادة أو
~~تجارة أو غير ذلك.
# وبالجملة فعامة أمور بني آدم إما معاوضة وإما مشاركة، وكل منهما يقصد ما
~~ينتفع به من الآخر، لا يقصد نفع الآخر، لكن تارة يكون الانتفاع بذاته كما
~~في الزوجين، وتارة بما منه كما في شريكي العنان.
# وكل من هذين النوعين لا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لذاته، فإنه إنما يحب
~~لأمر عارض لذاته ليس بلازم لها، ثم ذلك المحبوب تنقضي محبته بحصول الغرض
~~منه، كما ينقضي غرض أحد الزوجين من الآخر إذا انقضت المنفعة.
# وكذلك المتمتع بالنظر إلى منظر بهيج، وكل ما يذكر عن عشاق الصور والمال
~~والرئاسة، فإنه لأمر عارض في المحبوب، وعارض في المحب، ليس لذات واحد
~~منهما، ولهذا تكون المحبة في وقت دون وقت، وقد تتبدل بالبغضاء، وما كان
~~الشيء فإنه باق ببقاء ذاته، وإنما هذه المحبوبات تتناول لقضاء الحاجة، وإذا
~~زادت على الحاجة ضرت على الإنسان وأفسدته.
# ولهذا يقال: إنها في الحقيقة دفع آلام، ولا ريب أن لذات الدنيا متضمنة
~~دفع ألم، بخلاف لذات الآخرة، فإنه يتمتع بها من غير دفع ألم، لكن مع هذا لا ms1071
~~يجوز أن تكون هي المقصود لذاته في الأفعال الاختيارية، وذلك أن العلة أكمل
~~من المعلول، سواء كانت فاعلية أم غائية.
# PageV06P118
# فكما أن الفاعل المبدع أكمل من المفعول، فالمفعول لأجله- الذي هو المحبوب
~~المقصود المعبود- أكمل من الفاعل، بل العلة الغائية أكمل من العلة
~~الفاعلية، فإنها هي التي جعلت الفاعل فاعلا، ولولا ذلك لم يكن فاعلا، وإن
~~كان الفاعل مستغنيا عنها من جهة نفسه، لا من جهة كونه فاعلا، والغائية غير
~~مفتقرة إلى، الفاعل من حيث كونها غاية ومطلوبة، بل هي في نفسها غاية
~~ومطلوب، سواء قدر وجود الفاعل أو عدمه، لكن لا ينال المقصود بها إلا
~~بالفاعل، فحصول المقصود بها كحصول الفعل من الفاعل.
# فالفعل سبب ووسيلة إلى المقصود بها، ومعلوم أن المقاصد أشرف من الوسائل،
~~ولهذا قدم سبحانه قوله: (إياك نعبد) على قوله: (وإياك نستعين (5)) لأن
~~العبادة هي المقصود المطلوب، والاستعانة سبب ووسيلة إليها.
# وكونه سبحانه إلها معبودا للخلق أكمل من جهة كونه ربا معينا لهم من جهتهم
~~ومن جهته.
# أما من جهتهم فإن من لم يعبده منهم، فلم يؤمن به، ولم يطع رسله، يكون
~~شقيا معذبا، وإن كان مربوبا مخلوقا، وإنما سعادتهم إذا عبدوه فامنوا به
~~وأطاعوا رسله.
# وأما من جهته فإنه يكون إلها يفتقرون إلى ذاته، ويكون ربا يفتقرون إلى ما
~~منه، وكون الشيء مقصودا لنفسه أشرف من كونه مقصودا لغيره.
# PageV06P119
# وبالجملة فمن المستقر في فطر الناس أن ما يطلب لغيره فذلك الغير أشرف
~~منه، وأن المقاصد أشرف من الوسائل.
# ولهذا يقال: إن العالي لا يفعل لأجل السافل، وإذا كان كذلك، فكل ما يقدر
~~أنه هو المقصود المعبود لذاته دون الله تعالى، فإنه محتاج إلى ما يكون
~~مقصودا معبودا لذاته، فإن الحي لا بد له من إرادة، ولا بد لكل إرادة من
~~مراد لذاته، فإن المراد إما مراد لنفسه وإما مراد لغيره، واذا أريد لغيره
~~فذلك الغير إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره، فإن كان ذلك الغير هو الأول
~~لزم الدور القبلي، وان كان غيرا آخر ms1072 لزم التسلسل في العلل، وكلاهما ممتنع.
~~وكل ما دل على أن كل محدث فله محدث، وكل ممكن فله واجب، وأن الممكنات
~~المحدثات لا بد لها من قديم واجب بنفسه، قطعا للدور القبلي والتسلسل في
~~العلل، فإنه يدل على أن كل مريد فلا بد له من مراد، وكل متحرك بالإرادة فلا
~~بد له من غاية، وأنه لا بد لجميع الإرادات والحركات الاختيارية من مراد
~~لنفسه ينقطع به الدور القبلي في العلل، فإذن كل متحرك بالإرادة من
~~المخلوقات، بل كل مريد فلا بد له من مراد لنفسه هي الغاية. والمراد لنفسه
~~أكمل من المراد لغيره، فكل مريد من المخلوقات مفتقر إلى مراد لنفسه يكون
~~أكمل منه، فلو كان شيء محبوبا مرادا لذاته لكان المحب له يحب محبوبه، لأن
~~محبوب المحبوب محبوب، ومراد المراد مراد بطريق اللزوم. فإن استلزام الحب
~~الأول للأول كاستلزام الحب الثاني للثاني، فكما أن المحب لا تتم مصلحته إلا
~~بمحبوبه، فالمحبوب كذلك لا تتم مصلحته إلا بمحبوبه، ولا تتم مصلحة محبوبه
~~إلا بحصول مصلحته، لأنه إذا فسد حال المحبوب فسد حال محبه، فإذا
# PageV06P120
# قدر أن من المخلوقات ما يحب لنفسه، وذلك مستلزم لمحبته محبوبه الذي هو
~~أكمل منه، كان الاكمل محبوبا مرادا بطريق اللزوم والقصد الثاني، وكان
~~الأنقص محبوبا مرادا بطريق الأصالة والقصد الأول. ومعلوم أن هذا فساد ينافي
~~الصلاح، فإن الحب والإرادة إن لم يتعلق بالأشياء على ما تستحقه الأشياء،
~~لزم حال الحب الفاسد.
# وأيضا فالفطرة السليمة تنافي ذلك، ولا يقع مثل هذا إلا عند فساد الفطرة
~~وتغيرها. وإلا فمن كان تلذذه بالماكل الرديئة دون تلذذه بالمآكل التي هي
~~أطيب منها، دل على نوع فساد فيه، وذلك يستلزم الفساد، كما يحصل للمريض من
~~تلذذه بالماكل الرديئة الضارة دون الجيدة النافعة.
# وكذلك القلوب فطرت على الصحة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل
~~مولود يولد على الفطرة" (1) ، فهي مع السلامة لا تطمئن إلا بذكر الله، ولا
~~تسكن إلا إليه، ولا تتأله إلا إياه، وافتقارها إلى معرفته وذكره وعبادته ms1073 لا
~~يشبهه شيء من الأشياء. فماذا قلنا: كافتقار الجائع إلى الطعام، والعطشان
~~إلى الماء، والمغتلم إلى الجماع، كان ذلك كله تمثيلا ناقصا.
# وكما أن هذه المفتقرات إلى هذه الأمور تفسد إذا لم يحصل ما يصلحها، ففساد
~~النفوس إذا لم تعرف الله وتحبه وتعبده أعظم بكثير كثير، وهذا حال كل من في
~~السموات والأرض من الملائكة والجن PageV06P121
# والإنس، لا يجوز أن يصلح حالهم إلا بأن يكون الله إلههم ومعبودهم، وتكون
~~حركاتهم لأجله عبادة له تجمع كمال محبته وكمال الذل له، فإن العبادة تجمع
~~كمال الحب وكمال الذل، وهذا شأن المراد لذاته المقصود لذاته، وكل ما سواه
~~فمفتقر إلى هذا المراد المحبوب المعبود لذاته، فلا يكون هو مرادا محبوبا
~~لذاته، فإن محبته مستلزمة محبة محبوبه ومعبوده الذي هو أكمل منه، بل هو
~~معبود له. والفساد أن يكون كل من الشيئين محبوبا، والتابع لغيره محبوب
~~لذاته، والمتبوع محبوب لغيره.
# وهذا الأصل هو أصل أصول الشرائع والملك، فإن الرسل جميعهم إنما بعثوا لأن
~~يعبدوا الله وحده لا شريك له، وكما أنه مبرهن بالمعقول والقياس والنظر، فهو
~~أيضا معروف بالوجد والإحساس والذوق، فإن العبد يحس من قلبه فقرا ذاتيا إلى
~~ذكره وعبادته، غير فقره إليه من جهة إعطائه سؤله، وجلب المنافع له، ودفع
~~المضار عنه، فإن الفقر إليه من هذا الوجه هو أظهر في الابتداء، ولكن
~~الإنسان يجد نفسه إلى أي موجود توجه بقلبه وذكره، لا يجد الطمأنينة ولا
~~السكينة حتى يذكر الله ويوجه قلبه إليه، فإنه يجد الطمأنينة والسكينة فلا
~~يبقى عنده منازعة إلى شيءآخر.
# فكما أن السائل الداعي الراغب في قضاء حاجته إذا توجه إلى الله بصدق
~~اطمأن طمأنينة من وصل إلى من نال منه المطالب والحاجات، فكذلك المريد المحب
~~[السائل] (1) لما يطمئن إليه إذا توجه إلى الله PageV06P122
# بصدق، اطمأن طمأنينة من حصل بغيته ووجد محبوبه ومألوهه وطلبته، وهذا
~~الأصل إنما يستقر لأهل الملل أتباع ملة إبراهيم، أهل الحنيفية، فأما غيرهم
~~فلا، حتى المتفلسفة الإلهيون ومن سلك سبيلهم من أهل الملل مع دعواهم ms1074 أنهم
~~حققوا المعارف اليقينية والحكمة الحقيقية، وقالوا: سعادة النفوس كمالها
~~علما وعملا، هم من أبعد الناس عن هذا، وذلك أن عندهم غاية سعادة النفوس نيل
~~العلم فقط، وحقيقة العلم بالكليات التي لا وجود لها في الخارج كليات،
~~والوجود الذي يثبتونه لواجب الوجود هو من هذا النمط.
# ويقولون: غاية الإنسان أن يصير عاقلا معقولا موازيا للعالم الموجود.
# ويقولون: كمال الإنسان أن يتشبه بالخالق بحسب الإمكان.
# وقد سلك نحوا من سبيلهم أبو حامد في "المقصد الأسنى (1) في شرح الأسماء
~~الحسنى"، وهم يزعمون أن الأفلاك إنما تتحرك للتشبيه في قوتها، وهم في هذا
~~ضالون من وجوه:
# أحدها: جعلهم غاية العبادة مجرد العلم، والنفس لها قوة العلم وقوة الحب
~~والإرادة، فإذا حصل مجرد العلم من غير معلوم محبوب مراب لذاته فسدت النفس،
~~فكيف يكمل مجرد ذلك؟ PageV06P123
# ومن هنا تجدهم معرضين عن العبادات، بل مستخفين بأهلها، وقد يظنون أن
~~الرسل إنما أمروا بحفظ قانون يستعان به على نيل الحكمة النظرية (1) فقط،
~~كما ذكر ذلك من ذكره من متفلسفة المسلمين واليهود وغيرهم. وأما الرسل فأول
~~دعوتهم الأمر بعبادة الله، ولهذا كان نهاية المتفلسف أول قدم يدخل به
~~الإنسان في الإسلام.
# الوجه الثاني: أنهم جعلوا المعلوم الذي تكمل به النفوس هو العلم
~~بالمجردات التي عند التحقيق لا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان، كما
~~قد بسطناه في غير هذا الموضع. فاما الموجودات الخارجية فهم لا يعلمونها
~~بأنفسها، ولا يعترفون بالله ولا ملائكته، وإنما يقرون بوجود مطلق بشرط
~~الإطلاق لا حقيقة له في الخارج.
# الثالث: جعلهم غاية كمال الإنسان التشبه بالإله، وأن المتحركات العلوية
~~إنما تتحرك للتشبه بمن فوقها، مع أنهم أشد الناس إنكار، للتشبيه، وأدخلهم
~~في التعطيل، [فينكرون] (2) من التشبيه ما يخلقه الله، ويدعون من التشبيه ما
~~يفعلونه بكسبهم.
# وقد استدل أبو حامد (3) بحديث ذكره مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "تخلقوا بأخلاق الله " (4) . PageV06P124
# وأنكر أبو عبد الله المازري وغيره ذلك، وقالوا: ليس للرب خلق يتخلق به
~~العبد. وتحقيق هذا في موضع آخر ms1075.
# وذكر هذا أبو طالب المكي، وأنكره عليه الشيخ أبو البيان الدمشقي، فيما
~~أنكر عليه.
# الرابع: أن هذا القدر في ثبوته نزاع مذكور في غير هذا الموضع، كما قرره
~~أبو حامد وغيره، فليس الكمال والسعادة في أن يقصد العبد التشبه بالرب فقط،
~~بل أن يقصد عبادته، فإنه بدون أن يكون معبودا له مقصودا، يفسد حاله، فلا
~~تكون له سعادة بحال، وإذا عبده مع نقيض اتصافه بصفات الكمال حصل له من
~~السعادة بقدر ما عبده، فإذا اتصف مع ذلك بما يحبه الرب كانت سعادته أكمل،
~~وجميع ما في العباد من صفات المدح والكمال التي يوصف الرب بالكمال المطلق
~~فيها كالعلم والرحمة والقدرة ونحو ذلك، إنما يصير صاحبها سعيدا كاملا نائلا
~~سعادته إذا قصد المقصود المعبود لذاته، فأما بدون ذلك فلا سعادة له أصلا.
~~فمثل هذه الصفات من توابع الكمال والسعادة ومكملات ذلك، وأما عبادة المعبود
~~المقصود لذاته فإنه من لوازم السعادة والفلاح، لايتصور وجود السعادة
~~والفلاح بدون ذلك.
# فالمتحركات العلوية جميعها حركاتها عبادة لله، كما وصف الله بذلك
~~الملائكة وغيرهم، وقال: (ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في
~~الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس) ثم
~~قال (وكثير حق عليه العذاب) (1) ، فبين بذلك أنه ليس PageV06P125
# المراد بالسجود مجرد دلالتها على الخالق وشهادتها، بل إن الحال له فإن
~~هذا يشترك فيه جميع الناس (فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا
~~يسأمون (38)) (1) ، وقال تعالى: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي
~~والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19)) (2) .
# ولهذا عدل أبو الحكم بن برجان في شرحه للأسماء الحسنى من لفظ التخلق
~~والتشبه إلى لفظ التعبد، فصار يذكر معنى الاسم واشتقاقه، ثم الاعتبار إثبات
~~مقتضاه في المخلوقات، ثم تعبد العبد بما شرع له من مقتضاه.
# فقد تبين بذلك أنه لا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات مقصودا لنفسه، لا
~~مقصودا له ولا مقصودا لغيره، وأن ذلك مستلزم لكون شيء من المخلوقات لا يكون
~~ربا بنفسه، لا ربا لنفسه ms1076 ولا ربا لغيره.
# لكن هذا ممتنع الوقوع كما اعترف به المشركون.
# وأما الأول فهو محرم الوقوع، بمعنى أنه إذا وقع كان فيه فساد، لكون
~~الحركات إلى غير غاية نافعة، بل إلى غاية ضارة، كما قال تعالى: (لو كان
~~فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (3) ، ولم يقل: عدمتا، إذ لو جاز أن يشرع أن
~~تكون المخلوقات آلهة مقصودة معبودة لذواتها لزم من PageV06P126
# ذلك تجويز عبادة كل شيء، وتجويز كل فعل وكل قصد، وذلك مستلزم فساد
~~السموات والأرض، قال الله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين
~~لله) (1) ، فإذا لم يكن الدين لله فتكون حركات العباد لغير الله، كانت
~~الفتنة والفساد، فالصلاح أن تكون الحركات لله، والفساد أن تكون لغير الله،
~~وهذا- والله أعلم- من أحسن الأمور، لكنه يحتاج إلى بسط وإكمال.
# ولهذا يستدل بالحركات السماوية على وجود الرب وعلى أنه هو الإله المعبود،
~~فإن الحركة تستلزم وجود مبدأ هو السبب الفاعل، وغاية هي المنتهى المقصود،
~~والمقصود بتلك الحركات لو كانت المتحركات يقصد بها غير الله لزم الفساد في
~~المتحركات.
# كما بيناه في أنه متى قدر أن يكون المخلوق مقصودا لذاته لزم الفساد،
~~ومعلوم أن الحركات السماوية جارية على انتظام لا فساد فيها، فعلم أنها
~~عائدة بهذه الحركات لله قاصدة له، كما دل على [ذلك] الكتاب والسنة، لا كما
~~يقوله المشاؤون من الفلاسفة أن ذلك لاستخراج الأيون والأوضاع، فإن ذلك من
~~أفسد الكلام.
# وأما المبدأ فقد علم أن الحركة ليست طبيعية، لأن تلك إنما تكون إذا خرج
~~المتحرك عن مستقره، وذلك إنما يكون في الحركات المستقيمة، فأما إذا كان
~~المطلوب من جنس المتروك امتنع أن يكون تاركا لأحدهما طالبا للاخر، فعلم أن
~~الحركة إرادية. PageV06P127
# والحركة الصادرة عن إرادة إما أن تكون الإرادة أحدثها ذلك المتحرك أو
~~غيره من المخلوقات، لا يجوز أن يكون هو المحدث لها، ولا غيره من المخلوقات،
~~لأن إحداثه لها يجب أن يكون بإرادة، فيلزم الدور والتسلسل، فوجب أن تكون
~~تلك الإرادة المقتضية للحركة حدثت بإرادة من الله، وهذا ms1077 هو المقصود.
# وأيضا فمن المعلوم أن كل واحد من ذوي الحركات المختلفة السماوية له حركة
~~تخصه، فلا يجوز أن تكون حركة أحدهما بحركة الآخر، كحركة الشمس والقمر
~~الخاصتين بهما، فتبين أنه ليس بعضها خالقا لبعض ومحدثا لحركته، فيكون
~~المحدث لذلك غيرها، وهو المقصود.
# ولا يجوز أيضا أن يكون المحدث لذلك هو الفلك الأعلى وحركته، لأنها حركة
~~واحدة بسيطة متشابهة الأجزاء، ولو كانت هي المحدثة لما سواها لوجب أن تكون
~~جميع الحركات من جنس واحد بسيطة، ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، وهذا يبين أن
~~حركات الأفلاك والكواكب الحركات المختلفة ليست صادرة عن الفلك، فعلم أن
~~المحرك لها غير الفلك، وإذا ثبت أن المحرك لها غير الفلك التاسع، ثبت وجود
~~موجود غير الفلك التاسع يكون مبدأ الحركات.
# ومعلوم أن حركة الفلك التاسع من جنس هذه الحركات، بل الفلك من جنس هذه
~~الأفلاك، فإذا كانت هذه محدثة مخلوقة امتنع أن لا يكون الفلك التاسع وحركته
~~محدثة مخلوقة، لأن القديم الواجب الوجود لا يكون مثل المخلوق المحدث، ولأن
~~الفلك التاسع لو كان
# PageV06P128
# وحده قديما واجبا- وهو أيضا محرك للأفلاك، ولهذا أيضا حركته من غيره-
~~لكان في الأفلاك محركان كل منهما قديم واجب الوجود، فإن اختلفا في الإرادة
~~لزم تضاد الحركات والتمانع، وهو خلاف الواقع. وإن اتفقا في الإرادة لزم
~~اتفاقهما في الفعل، والاتفاق في الفعل يوجب أن لا يكون أحدهما فاعلا له
~~مستقلا به، لا هذا ولا هذا، وإذا كان ذلك يوجب عجز كل منهما عن أن يكون
~~فاعلا- والعاجز يمتنع أن يكون قديما واجب الوجود خالقا- امتنع أن يكون
~~الفلك كذلك.
# PageV06P129
### | فصل
# في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير
# من علم نافع وعمل صالح
# PageV06P131
# فصل
# في أن التوحيد الذي هو إخلاص الدين لله أصل كل خير من علم نافع وعمل
~~صالح.
# وهذا المعنى قد تكلمنا عليه مرارا في القواعد المتقدمة وغيرها، وفي
~~مراسيل مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أخلص لله
~~أربعين صباحا تفجرت ينابيع ms1078 الحكمة من قلبه على لسانه " (1) ، هكذا رواه
~~الإمام أحمد فيما رواه عنه المروذي في الإخلاص ونحوه من أعمال القلوب. وقد
~~روي هذا- فيما أظن- من حديث يوسف بن عطية عن ثابت عن أنس، ويوسف ضعيف ساقط.
# ولهذا ذكر أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث في "الموضوعات" (2) ، وطعن
~~على الصوفية الذين جعلوه عمدتهم فيما يفعلونه من الخلوة أربعين يوما، وأبو
~~الفرج فيما ينكره على الصوفية في مثل "تلبيس إبليس" ونحوه، قد شاركه طوائف
~~في إنكار ما أنكره، وكل من المنكرين والمنكر عليهم مجتهدون، لهم علم ودين،
~~والصواب تارة يكون مع هذا الطرف، وتارة يكون كل منهما مصيبا من وجه مخطئا
~~من وجه، فيقتسمان الصواب والخطأ، ويكون الصواب PageV06P133
# تارة في غير ما عليه الطائفتان المتقابلتان، وهذا في مواضع كثيرة، ولعل
~~هذا منها.
# فأما الطعن في الإخلاص لله أربعين صباحا فهذا ليس بسديد، فإن نفس الإخلاص
~~وكونه أصل كل خير قد دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه الأمة، وسنذكر من
~~ذلك ما شاء الله.
# وأما توقيته بأربعين ففيه هذا الحديث المرسل، ولكن لم يذكره أبو الفرج،
~~فما أظنه بلغه، ورآهم اعتمدوا حديثا ضعيفا، فكثيرا ما يعتمدون على أحاديث
~~واهية.
# ثم مراسيل مكحول فيها نظر، وفي الاستدلال بالمرسل نزاع، لكن يقال: المرسل
~~إذا عضدته أدلة أخرى استدل به.
# والأربعين فيها يتحول الإنسان من حال إلى حال، كما ثبت في الصحيحين (1)
~~من حديث [ابن مسعود] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يجمع خلق
~~أحدكم في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل
~~ذلك، ثم ينفخ فيه الروح ".
# ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن (2) : "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة
~~أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم PageV06P134
# تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها لم
~~تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا
~~على الله أن يسقيه من طينة ms1079 الخبال ".
# وفي صحيح مسلم (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرافا فسأله
~~عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما".
# ومثل هذا كثير، وقد جمع الحافظ عبد القادر الرهاوي في أول كتابه في
~~الأربعين حديثا أربعين بابا، في كل باب حديث فيه ذكر الأربعين.
# فإخلاص أربعين يوما له شواهد في أصول الشريعة، لكن الخلوة المعينة قد
~~يشترطون فيها شروطا مبتدعة خارجة عن المشروع، بل منهيا عنها، مثل اشتراط
~~الصمت الدائم، والجوع الدائم، أو السهر الدائم، أو طعاما معين القدر
~~والوصف، واشتراط شيخ يدخله الخلوة، وتسمية ذلك خلوة، ومثل ترك الصلاة في
~~جماعة، وبعضهم قد يترك الجمعة.
# وبالجملة فالمشروع من هذا الباب هو الاعتكاف الشرعي الذي كان يفعله رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وأما ما كان يفعله بحراء قبل
~~المبعث، فلسنا مأمورين باتباع ذلك، فإنه من حين بعث إلى الخلق وجب على
~~الخلق كلهم طاعته واتباعه، والعبادة بما شرعه بعد المبعث دون العبادة التي
~~لم يشرعها هو، ولو أراد أحد أن يفعل بغار حراء ما PageV06P135
# كانوا يفعلونه فى الجاهلية من المجاورة فيه، وترإو الجمعة والجماعة، لنهي
~~عن ذلك.
# وقد كانوا في الجاهلية، كما قال أبو طالب في قصيدته الطويلة (1) :
# وراق ليرقى في حراء ونازل
# والمقصود هنا بيان ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع من أن
### | إخلاص الدين لله هو أصل كل علم وهدى.
# وفي الحديث حكاية بلغتنا لا أعلم إسنادها هو ثابت أم لا، لكن المعنى
~~المقصود منها صحيح، وهو أن أبا حامد الغزالي قال: لما بلغني هذا الخبر
~~أخلصت أربعين صباحا، فلم أجد شيئا، فذكرت ذلك لبعض شيوخ أهل المعرفة، فقال
~~لي: يابني، إنك لم تخلص لله، وإنما أخلصت للحكمة.
# فإن هذا المعنى حق، وهو أن
### | الواجب أن يكون الله هو المقصود والمراد بالقصد الأول،
# ثم الحكمة وغير ذلك يتبع ذلك، لا أن يكون غيره هو المقصود بالقصد الأول،
~~ويجعل قصد الله وسيلة إلى ذلك.
# وإن كان الناس قد يؤمرون بما يؤمرون به من الطاعة ms1080 والعبادة لأمور أخرى
~~تكون هي، مطلوبهم ومقصودهم، بل قد ينازع الناس في PageV06P136
# أنه هل يمكن أن يكون الله سبحانه هو المقصود المراد بالقصد الأول، بحيث
~~يراد لذاته فيحب لذاته؟ فذهب طوائف كثيرون من أصناف المتفقهة والمتكلمة
~~وغيرهم إلى امتناع ذلك، وأنكروا أن يكون الله محبوبا لذاته، وهذا هو
~~المشهور من قول المعتزلة ومن اتبعهم من المتكلمة والجهمية والفقهاء وغيرهم،
~~ولم يجعلوا المقصود بالقصد الأول- وهو الغاية التي يطلبها العباد- إلا ما
~~يحصل من تنعمهم بالأكل والشرب واللباس ونحو ذلك، مما وعدوا به في الجنة،
~~وجعلوا جميع ما أمروا به من العبادات والطاعات تكاليف إنما تفعل لتحصيل هذه
~~الغاية المطلوبة.
# وهؤلاء ينكرون أن يتنعم في الدنيا بعبادته وفي الاخرة بالنظر إليه، بل قد
~~ينكرون أن يتنعم بذكره ورحمته، اللهم إلا من جهة لذة جنس العلم الذي لا
~~يمكن أن ينكرها من وجدها.
# وقد وافقهم على إنكار حقيقة المحبة لله وتوابعها طوائف من أصحاب الأئمة
~~الأربعة. وأول من أنكر حقيقة المحبة لله الجعد بن درهم، الذي ضحى به خالد
~~بن عبد الله القسري بواسط في خطبة يوم الأضحى، وقال: "أيها الناس ضحوا تقبل
~~الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم
~~خليلا، ولم يكلم موسى تكليما". ثم نزل من المنبر فذبحه (1) .
# فإنكار حقيقة الخلة هو إنكار حقيقة المحبة. وهؤلاء ينكرون أن PageV06P137
# يحب وأن يحب، ويتأولون ما ورد في ذلك على أنه يحب طاعته وعبادته، وهو
~~يريد الإحسان إلى عبده.
# وأما من وافقهم وأثبت الرؤية، فقد ينكر- إن صحت الرؤية- التمتع (1) بها،
~~كما ذكر ذلك أبو المعالي في "الرسالة النظامية"، وذكر أنه من أسرار
~~التوحيد، وزعم أن المحدث لا يتمتع بالقديم، ولكن يخلق الله مع الرؤية لذة
~~بشيءآخر.
# وكذلك قال ابن عقيل لرجل سمعه يقول: اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك،
~~فقال: ويحك! هب أن له وجها، أتتلذذ بالنظر إليه؟
# ومعلوم أن الدعاء النبوي قد ورد بهذا اللفظ في حديث عمار بن ياسر، وكذلك
~~غيره- فيما ms1081 أظن- والحديث في المسند والنسائي وغيرهما (2) ، وفيه: "اللهم
~~بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينى ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني ما
~~كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك
~~كلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لاينفد،
~~وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت،
~~وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة
~~مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ". PageV06P138
# وأما المتفلسفة فالذي يعترفون به هو لذة العلم أيضا فقط، إذ رؤيته عندهم
~~بالعين ممتنعة، وكل من تكلم في لذة النظر والمشاهدة والتجلي ونحو ذلك من
~~متصوفة المتفلسفة، فكلامه يعود إلى ذلك، وهو دونه، فإنه لا يثبت قدرا زائدا
~~على ما أثبته المعتزلة، بل لا يكاد يصل إليهم، ولكن يموهون بالتعبير على
~~المعاني الفلسفية بالعبارات الإسلامية، وإلا فهم في الرؤية والمشاهدة لا
~~يجاوزون قول المعتزلة حيث يفسرونها بنوع من العلم. وفي كلام أبي حامد
~~وأمثاله من ذلك أصناف، والفارابي.
# ومن تدبر كلام الفلاسفة كابن سينا ونحوه، وجد ما يثبتونه من اللذات
~~العقلية إنما هو لذة العلم بالموجود من حيث هو موجود، لا اختصاص للرب بذلك،
~~اللهم إلا من حيث يولد وجوده، وغايته تلذذ بامور كلية حاصلة في ذهن العالم
~~لا وجود لها في الخارج، لا سيما إذا قالوا: إن النفس الناطقة لا تدرك
~~المغيبات التي يسمونها الجزئيات، وإنما تدرك الكليات، لا سيما بعد
~~المفارقة. والكليات لا تكون كليات إلا في الذهن، فلا تكون لذة النفس عندهم
~~إلا بأمور مقيدة فيها متصلة بها، لا بعلم شيء موجود في الخارج عنها.
# وهذا في غاية البعد عن الحق، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، وإنما هو
~~إثبات النعيم بأمور مقدرة في الذهن، ولهذا كان الاتحادية وهم من خلاصة جهم،
~~لا ينكرون اللذة بالمشاهدة، كما ذكر ذلك ابن العربي الطائي في بعض كلامه
~~(1) أن المشاهدة ما التذ بها PageV06P139
# عارف قط.
# وأما أهل السنة ms1082 والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ومشايخ أهل التصوف
~~والحديث، فلا ينكرون حقيقة محبة الله أصلا، وهؤلاء هم الباقون على ملة
~~إبراهيم خليل الرحمن الذي قال الله تعالى فيه: (ومن أحسن دينا ممن أسلم
~~وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا
~~(125)) (1) ، وعلى أصل هؤلاء فيظهر أن يكون الله هو المقصود بالقصد الأول،
~~المحبوب المطلوب لذاته.
# يبقى أن يقال: فالحب والإرادة فرع (2) الشعور، فكيف يكون هذا هو الأصل،
~~وهو مسبوق بطلب وإرادة، وذلك مستلزم لحب؟ فلا بد أن يكون قد أحب شيئا ما
~~حتى أداه ذلك إلى هذه المعرفة المستلزمة محبة الله وقصده لذاته؟ فيجاب عن
~~ذلك بوجهين:
# أحدهما: أن كون الإقرار بالله لا يكون إلا نظريا، إنما قاله طوائف من أهل
~~الكلام كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وليس هذا قول سلف الأمة وأئمتها، ولا قول
~~مشايخ التصوف ومشايخ أهل الحديث، ولا قول جميع أهل الكلام، بل طوائف كثيرة
~~من أهل الكلام والنظر قد يقولون: إنها لا تكون نظرية بحال، بل لا تكون إلا
~~ضرورية.
# والتحقيق أنها فطرية ضرورية، ولكن قد يحصل لبعض الفطر ما يفسدها، فيحيلنا
~~إلى نظر، كما يقرن النظر بالضرورة، كما قال النبي PageV06P140
# - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة- وفي لفظ: على هذه
~~الملة، وفي لفظ: على فطرة الإسلام- فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما
~~تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة:
~~اقرؤوا إن شئتم: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك
~~الدين القيم) (1) .
# وذلك قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها
~~لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون (30) منيبين
~~إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا
~~دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32)) (2) .
# الوجه الثاني: أن
### | الحب يتبع الشعور،
# فإذا شعر بالحق مجملا أحبه مجملا، وإذا شعر به مفصلا أحبه مفصلا، لا بد
~~من الشعور به ومحبته ولو ms1083 مجملا، وإن لم يكن ذلك أصل مقصوده كان معلولا، فإن
~~من كان مطلوبه الحق من حيث هو حق، غير متبع لهواه المخالف للحق، فإنما
~~مقصوده في الحقيقة هو الله، فإنه الحق المحض، إذ كل مخلوق فإنما قوامه به،
~~وبه صار موجودا، ثم إنه قد يشعر أولا بموجود قديم، أو موجود واجب، إذ
~~الوجود شاهد بأنه لا بد فيه من قديم واجب، إذ يمتنع أن يكون الوجود كله
~~محدثا ممكنا، فإن ذلك لا يكون بنفسه، وهذا من أوضح المعارف الضرورية،
~~فالإقرار بموجود PageV06P141
# قديم واجب أمر ضروري فطري في النفوس كلها.
# ولهذا تجد جميع الأمم معرفة بالله فطرية، فإن أخطأ بعضهم عينه فاعتقده
~~غير ما هو، فالمقصود الأول هو الله، والقلب مفطور على الحنيفية التي هي
~~الإقرار بالله وعبادته المتضمنة معرفته ومحبته. ولكن قد يعرض للفطرة ما
~~يغيرها، وإذا كان كذلك، فقد دل الكتاب والسنة- في غير موضع- على أن من كان
~~هذا مقصوده، وكان مجتهدا في ذلك، فإنه يحصل له الهدى، وأن من اتبع هواه فلم
~~يكن الحق مقصوده، ضل عن سبيله، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
~~سبلنا) (1) ، فإن المجاهد في الله لا بد له من شيئين:
# أحدهما: محبة الله وإرادته المستلزمة بغض عدوه.
# والثاني: الاجتهاد في دفع ما يبغضه الحق ويكرهه، بقهر عدوه، ليحصل ما
~~يحبه الحق ويرضاه بعلو كلمته، وأن يكون الدين كله لله.
# فالمجتهد في تحصيل محبوبه ودفع مكروهه، هو المجاهد في سبيله، وهو الذي
~~استفرغ وسعه في ذلك حتى جاهد أعداءه الظاهرين والباطنيين، فيجتمع في
~~المجاهد في سبيله شيئان: كمال القصد، وكمال العمل.
# فالأول: أن مقصوده هو الله، فهو معبوده ومحبوبه.
# والثاني؟ أنه يستفرغ مقدوره في تحصيل هذا المقصود. PageV06P142
# فهذا يهدى سبل الله.
# وهذا مجرب في سائر المحبوبات، فكل من أحب شيئا محبة شديدة ولد له شدة
~~المحبة طرق تحصيل المحبوب، وطرق المعرفة به. وكذلك من أبغض شيئا بغضا
~~شديدا، ولد له شدة البغض طرق دفعه وإزالته، ولهذا يقال: الحب يفتق الحيلة،
~~كما يقال: الحاجة تفتق ms1084 الحيلة. فإن المحتاج محب لما احتاج إليه محبة شديدة.
# وإنما يوقع النفوس في القبائح الجهل والحاجة، فأما العالم بقبح القبيح
~~الغني عنه فلا يفعله، قال الله تعالى: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه
~~من ينيب (13)) (1) ، وقد قال في ضد هؤلاء: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل
~~الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26))
~~(2) ، فبين أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فمن اتبع ما تهواه نفسه أضل
~~عن سبيل الله، فإنه لا يكون الله هو المقصود، ولا المقصود الحق الذي يوصل
~~إلى الله، فلا قصد الحق، ولا ما يوصل إلى الحق، بل قصد ما يهواه من حيث هو
~~يهواه، فتكون نفسه في الحقيقة هي مقصوده، فيكون كأنه يعبد نفسه، ومن يعبد
~~نفسه فقد ضل عن سبيل الله قطعا، فإن الله ليس هو نفسه.
# ولهذا لما كان حقيقة قول الاتحادية: إن الرب تعالى هو العالم نفسه، لا
~~يميزون بين الرب الخالق وبين المخلوق المربوب، بل كل PageV06P143
# موجود فهو عندهم الرب العبد، كان حقيقة قولهم إنكار محبة الله ومعرفته
~~وعبادته. فجعلوا المعبود بذاته إنما هو الهوى، كما قال صاحب الفصوص "فصوص
~~الحكم" ابن عربي: "وكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل
~~بالتسليط على العجل، كما سلط موسى عليه، حكمة من الله ظاهرة في الوجود،
~~ليعبد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك فما ذهبت إلا بعد أما،
~~تلبست عند عابدها بالألوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا عبد، إما
~~عبادة تأله، وإما عبادة تسخير- إلى أن قال- وأعظم محل فيه عبد وأعلاه
~~الهوى، كما قال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) (1) فهو أعظم معبود، فإنه لا
~~يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته " (2) .
# وهذا جهل منه حيث قال: "لا يعبد إلا بذاته"، فإن الهوى نفسه إن عني به
~~المهوي، فكل ما هوي فهو هوى، فإذن كل ما هوي فقد هوي لذاته، فيبطل التخصيص.
# وإن عني به ms1085 نفس المصدر الذي هو نفس إرادة النفس مثلا، فذاك هو القصد
~~والإرادة التي تكون عبادة، فكيف تكون العبادة هي المعبود؟
# وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق
~~هواه، ويخالفه إذا خالف هواه.
# فإذن هو لايثاب على ما اتبعه من الحق، ويعاقب على ما اتبعه من
~~PageV06P144
# الباطل، وذلك لأنه يكون إنما اتبع هواه في الموضعين، لم يتبع الحق لأنه
~~حق.
# فلما كان اتباع الهوى يضل عن سبيل الله أخبر بأن الضلال مع اتباع الهوى
~~في غير موضع من كتابه، كقوله تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من
~~الله) (1) ، وقوله: (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم) (2) وقوله: (ولا
~~تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77))
~~(3) وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه
~~وقلبه وجعل على بصره غشاوة) (4) .
# كما أخبر أن الهدى مع السنة التي هي اتباع سبيله، كقوله: (ولو أنهم فعلوا
~~ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا
~~عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68)) (5) ، وقال تعالى: (وإن تطيعوه
~~تهتدوا) (6) ، وقوله: (ويهدي إليه من ينيب (13)) (7) ، وقوله: (والذين
~~جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (8) . PageV06P145
# ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء، فإنهم على ضلال، والضلال
~~مستلزم لاتباع الهوى، كما أن الهدى لازم لاتباع سبيله، وهذا الهدى الثاني
~~كما في قوله: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82)) (1) ،
~~قال طائفة من التابعين: لزم السنة والجماعة.
# ومنهم [من قال:] من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. ومن أخلص لله
~~أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
# وذلك أن مخلص الدين لله محفوظ من الشيطان الذي يأمر باتباع الهوى، كما
~~قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42))
~~(2) ، والغي: اتباع الهوى.
# وقال عنه: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين
~~(83)) (3) ، فالمخلص لا يغويه، فلا يتبع هواه، كما قال ms1086: (لنصرف عنه السوء
~~والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (24)) (4) ، فصرف عنه الغي لأجل إخلاصه.
# ولما كان الإخلاص أن يكون الدين كله لله، وعلى هذا أمر بالجهاد، وهذا
~~يوجب الاجتماع والألفة، إذ ذلك هو دين الأنبياء الذي PageV06P146
# أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:"إنا
~~معاشر الأنبياء ديننا واحد" (1) .
# قال تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما
~~وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (2) ، وقال
~~في الاية الأخرى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها
~~لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) (3) .
# فصل
# وإيضاح هذا الكلام أن يقال
### | : الإنسان له فعل باختياره وإرادته،
# وهذا ضروري له، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:" أصدق الأسماء
~~الحارث وهمام " (4) ، بل وكل حي فهو كذلك.
# والفعل الاختياري له مبدأ، وهو الإحسالس والشعور المحرك للمحبة والإرادة
~~والقدرة عليه، وله منتهى، وهو المقصود المراد المحبوب بذلك الفعل.
# وقد بينا- فيما تقدم- أن مبادىء الفعل لا يجوز أن تكون من العبد، لأن
~~فعله لها حادث من الحوادث، فلا يجوز أن يحدث بنفسه، ولا يجوز أن يحدث فعله
~~بمبادىء فعله، لأنه يلزم أن تكون تلك PageV06P147
# المبادىء علة فعله ومعلولة فعله، وذلك ممتنع إن كانت هي إياها، وإن كانت
~~غيرها لزم أن يكون فاعلا لفعله بفعل. وكذلك الفعل بفعل آخر، وكذلك الفعل
~~بفعل آخر، فتحدث تلك الإرادة بإرادة، وتلك الإرادة بإرادة، وهلم جرا. وهذا
~~يفضي إلى وجود حوادث لا تتناهى في الإنسان، والإنسان متناهي، ويمتنع وجود
~~ما لا يتناهى فيما يتناهى، فلا بد أن تنتهي تلك الأفعال إلى أسباب خارجة من
~~العبد، وهذا خارج من قولنا، لأنه يفضي إلى التسلسل، فإن التسلسل إن أريد به
~~تسلسل العلل التامة التي يجب وجودها في زمن واحد، لم يجب ذلك. وإن توقف
~~الفعل الثاني على الأول جاز أن يكون من باب الشروط التي يجوز تقدمها، فتكون
~~كوجود حوادث لا تتناهى. وهذا فيه نزاع، فمن جوزه ms1087 في القديم أو المحدث لم
~~يصح أن يبطل التسلسل فيه. ومن لم يجوزه يرد عليه سؤالات مذكورة في غير هذا
~~الموضع.
# وإن شئت أن تقول: لأن الفعل القريب إما أن يكون مفعولا عن الفعل الذي
~~قبله بحيث يكون كل فعل علة لما بعده أو شرطا، فإن كان علة لزم وجود إرادات
~~وأفعال لا تتناهى في زمان واحد، والإنسان يعلم بحسه وعقله أن الأمر بخلاف
~~ذلك علما ضروريا. وإن كان شرطا لزم ما لا يتناهى على التعاقب، وهو إما أن
~~يكون ممتنعا فيما يتناهى، وإن شئت أن تقول: التسلسل في الإنسان ممتنع، لأنه
~~مستلزلم وجود ما لا يتناهى في زمن واحد، أو في أزمنة لا تتناهى في حق
~~الإنسان، وذلك ممتنع في الوجهين.
# وهذا السؤال يرد على أبي عبد الله الرازي، فإنه يقرر خلق فعل
# PageV06P148
# العبد بشبيه هذا، لكن لا يبين امتناع التسلسل اكتفاء منه بما قرر في حدوث
~~العالم، وذلك متنازع فيه بين المسلمين وغيرهم، أو لظهور ذلك في حق العبد،
~~وهو يقرره بالإمكان، وتقريره بالحدوث أظهر.
# وقد ذكرنا غير مرة أن ما دل على حدوث الحوادث المشهودة وأنها خلق لله،
~~يدل على ذلك في أفعال العبد، لا فرق بين أفعاله وسائر صفاته.
# والمقصود هنا الطرف الثاني، وهو أن ذلك الفعل لا بد له من منتهى هو
~~المحبوب المقصود المطلوب به. فنقول: كما أن العبد يوجد فعله تارة ويعدم
~~أخرى، ففعله الموجود بإرادته قد يريد به ما يصلحه وينفعه تارة، وقد يريد به
~~ما يفسده ويضره أخرى، وذلك لأنه إما أن يصلح له أن يفعل كل ما يهواه ويحبه
~~ويريده من الأفعال، فيقصد ويعبد ويطلب كل ما يهواه، أو لا يصلح ذلك إلا في
~~بعض الأمور دون بعض.
# والأول باطل، لأنه إذا فعل كل شيء يهواه ويحبه لزم وقوع الفساد المستلزم
~~لنقيض ما يحبه ويهواه، بل لو وقع في الوجود كل ما يهواه كل إنسان لزم فساد
~~العالم، كما قال تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن
~~فيهن ms1088) (1) ، وذلك أن أهواء النفوس ليس لها حد تقف عنده إذا أعطيت القدرة،
~~بل هذا يهوى أن يغلب هذا فيقتله أو يأخذ ماله أو رئاسته، وهذا كذلك، وهذا
~~يهوى أن ينال ما PageV06P149
# اشتهاه من الفروج والصور، وهذا يهوى ذلك، فيلزم فساد الحرث والنسل، والله
~~لا يحب الفساد. وهذا يهوى أن يعظم ويعبد من دون الله حتى لا يفعل أحد
~~مصلحته، بل لا يفعل إلا ما يهواه، وهذا كذلك. وأمثال هذا مما يطول عده. وما
~~من عاقل إلا ويعرف ذلك.
# ولهذا اتفق العقلاء على أن بني آدم لا يعيشون جميعا إلا بشرع يستلزمونه
~~ولو بوضع بعض رؤسائهم، يفعلون ما يأمر به، ويتركون ما ينهى عنه، فإن تركهم
~~بدون " ذلك مستلزم أن يفعل كل قادر منهم ما يهواه، وذلك يمنع بقاءهم، ويوجب
~~فسادهم وهلاكهم، لأن أهواءهم وإراداتهم إذا لم تتعاون وتتناصر فإنها تتهاون
~~تارة، وتتمانع تارة، وتتخاذل تارة، فإذا تهاونت فلم يعن هذا هذا، ولا هذا
~~هذا، عجزوا عن مصالحهم التي لا بد لهم منها، فوقع الفساد، وإن تخاذلت فلم
~~ينصر هذا هذا، ولا هذا هذا، لزم أن يستولي عليهم الحيوان الناطق والبهيم،
~~بل ومن المؤذيات الجامدة ما يفسدهم ويهلكهم. وإذا تمانعت فلم يمكن هذا هذا
~~من فعل ما يصلحه، ولم يمكن هذا هذا من فعل ما يصلحه، لزم عجزهم عن جلب
~~المنافع ودفع المضار. وإذا تغالبت فغلب هؤلاء هؤلاء تارة، وهؤلاء هؤلاء
~~تارة، لزم فساد كل فريق إذا غلبوا، بل وإذا غلبوا أيضا، إذا لم يكن لهم شرع
~~يعتصمون به في تقاسم نفوس الأعداء وأموالهم، وأمثال ذلك.
# وبهذا وأمثاله يتبين أن
### | الدين والشرع ضروري لبني آدم،
# لا يعيشون بدونه، وقد بسطناه في غير موضع، لكن ينقسم إلى شرع غايته نوع
~~من الحياة الدنيا وشرع فيه صلاح الدنيا فقط، وشرع فيه صلاح
# PageV06P150
# الدنيا والاخرة، ولا يتصور شرع فيه صلاح الاخرة دون الدنيا، فإن الاخرة
~~لا تقوم إلا بأعمال في الدنيا مستلزمة لصلاح الدنيا، وصلاحها غير التناول
~~لفضولها.
# وإذا تبين أن الإنسان لو فعل ms1089 ما يريده ويهواه لزم الفساد والضرر المنافي
~~لما يحبه ويرضاه، فإن المحبوب بالقصد الأول هو ما يصلحه وينفعه، فإذا كان
~~فعله ما يهواه يستلزم وقوع ما يضره وخلاف ما يهواه، كان وجود هذا مستلزما
~~لضده ونقيضه في العاقبة، فلا يصلح أن يكون ذلك مقصودا، لما فيه من الضرر
~~والفساد المخالف للمقصود بالقصد الأول، ولأن كونه مقصودا ينافي كونه
~~مقصودا، فإنه إذا فعل ما يحبه لمقصوده حصل المحبوب، فإذا كان حصول هذا
~~المحبوب يستلزم نفي المحبوب ووقوع المكروه صار وجود هذه الغاية المقصودة
~~مستلزما نقيض هذه الغاية وضدها، وما استلزم وجوده عدمه ووجود ضده امتنع أن
~~يكون علة غائية أو علة فاعلية أو غير ذلك.
# كما أن في العلة الفاعلية لو كانت إرادته حادثة بلا فاعل للزم جواز حدوث
~~حادث بلا فاعل، ولو جاز ذلك لجاز أن لا يكون لفعله وغيره من الحوادث فاعل،
~~فيلزم حينئذ جواز حدوث فعله بلا فاعل، فلا يجب أن يكون هو الفاعل له.
# ومن قال: إرادته حادثة بلا فاعل، قصد بذلك أن يكون هو المحدث لفعله، فإنه
~~إذا جعل لها فاعلا، صار ذلك هو الخالق لفعله، فصار ما جعله هو المحدث
~~يستلزم أن لا يكون هو المحدث، فلا يكون صحيحا.
# PageV06P151
# وهنا يصير ما جعل هو الغاية مستلزما أن لا يكون هو الغاية، بل تكون
~~الغاية تقتضيه وضده، فلا يجوز أن يكون هو الغاية.
# وقولنا: لا يجوز أن يكون هو الغاية، يتضمن شيئين:
# أحدهما: لا يصلح للعبد أن يعتقد ذلك ويقصده.
# والثاني: أنه في نفسه لا يقع غاية، أي ما تهواه النفوس وتحبه إذا جعلته
~~النفوس هو غايتها، لم تحصل محبوباتها وما تهواه.
# فهذا بيان أن هذه الغاية لا تحصل ولا تقع، وهي حصول المحبوب المطلوب. وإن
~~كانت النفوس تفعل لأجلها، فالفعل إذا لم يحصل غايته كان باطلا، وهي أعمال
~~الكفار. وإن حصل ضدها كان فاسدا.
# ولهذا قال الفقهاء: العقد والعبادة الباطلة ما لم يحصل به مقصوده، ولم
~~يترتب عليه أثره شرعا (1) . ولهم في الفرق بين الباطل ms1090 والفاسد كلام ليس هذا
~~موضعه.
# ف
### | وجود الأفعال التي لا تحصل غاياتها بمنزلة وجود العقائد التي لا تطابق معتقداتها،
# فهذا في الأفعال بالنسبة إلى الغاية، فاعتقاد من اعتقد أنه خالق فعله
~~بالنسبة إلى الفاعل، ووجود هذا الاعتقاد لا يمنع أن يكون الخالق غيره، وأنه
~~ليس هو الخالق، وإن أخطأ في اعتقاده. كذلك عمله لهذه الغاية الفاسدة
~~المتناقضة، لا يمنع أن تكون الغاية PageV06P152
# الصحيحة غير هذه، وإن ضل هو في قصد هذه والعمل لها.
# وإذا تبين أنه لا يمكن أن يكون ما تهواه النفوس هو الذي ينبغي أن يكون
~~مقصودها ومرادها، بل ذلك يستلزم نقيض ما تهواه وتحبه، علم بهذا أنه لا يصلح
~~أن تكون الغاية من قصد الفعل وإرادته ومحبته هو كون النفس تحبه وتهواه
~~وتقصده.
# كما تبين أنه لا يجوز أن يكون ذلك القصد حادثا عن مجرد النفس، فكما أن
~~مبدأ الفعل والفاعل ليس من الإنسان، فغايته ومقصوده لا يصلح أن يكون في
~~الإنسان، فكما أنه ليس هو المباع لفعله، ليس هو الغاية لفعله، بل لا بد من
~~غاية تكون معبوده، كما أنه لا بد من مبدأ يكون مستعانه، كما قال: (إياك
~~نعبد وإياك نستعين (5)) فلا يصلح أن يفعل الإنسان لأجل نفسه بمعنى أنها هي
~~المعبود المقصود لذاته بذلك الفعل، فيفعل ما تحبه وترضاه مطلقا، لكن يفعل
~~لأجلها بمعنى أن يفعل ما يصلحها وينفعها، ويجلب لها الخير، ويدفع عنها
~~الشر، وذلك أن يكون مقصوده بالفعل ما يحصل مصلحتها بقصده.
# وكما أن الإنسان ليس محدثا لفعله بمعنى أنه هو الخالق المباع له ولمبادئه
~~المستقل به، ولكن هو المحدث لفعله بمعنى أنه فعله بقدرته ومشيئته واعتقاده،
~~وذلك أنه كله مخلوق لله، فربه هو الرب الخالق لفعله وإن كان هو فاعله،
~~وإلهه هو المقصود المعبود بفعله، وإن كان العبد يقصد نفع نفسه.
# وكون الرب خالقا وربا للفعل لا يمنع أن يكون العبد فاعلا كاسبا
# PageV06P153
# له، وكذلك كون الرب هو الإله المقصود الذي يستحق ذلك العمل ويحبه ويرضاه
~~ويفرح به، وهو غايته ومنتهاه ms1091، لا يمنع أن يكون للعبد فيه غاية من المنفعة
~~والصلاح والخير واللذة.
# فتدبر هذا كله، فإنه جامع نافع، يتبين لك من هذا كون العبد إنما يعمل
~~لنفسه مع كون الرب يستحق ذلك عليه ويطلبه منه طلب المستحق المحب المريد لما
~~يستحقه ويحبه، كما تبين لك كون العبد فاعلا حقيقة بقدرته ومشيئته، مع كون
~~الرب هو الخالق لذلك، وهو ربه ومليكه.
# ويتبين لك أن قوله: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) (1) ، وقوله: (ومن
~~شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم (40)) (2) ، وقوله: (إن
~~أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) (3) ونحو ذلك لا ينافي قوله: (وما
~~خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (4) ، وقوله: (أفتتخذونه وذريته أولياء من
~~دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)) (5) ، وقول النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - لمعاذ: "أتدري ما حق الله على العباد؟ " قلت: الله ورسوله
~~أعلم. قال: "حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا" (6) . PageV06P154
# وتبين لك من غضب الله وعقابه على من أشرك به وكفر، ومحبته ورضاه وفرحه
~~لمن أطاعه وأناب إليه وتاب إليه ونحو ذلك.
# كما تبين لك أن آيات الأمر والنهي، والوعد والوعيد، والآيات المخبرة بأن
~~العباد فاعلون، لا تنافي آيات القدر المتضمنة أن الله خلق أفعال العباد،
~~فإن كثيرا من الناس تاهوا في الغايات المقصودة، كما تاه كثير من الناس في
~~الأسباب الفاعلة، ولا بد من توحيد الربوبية بأن يكون الله خالق كل شيء وبأن
~~يكون الله هو المعبود المقصود بذاته بالأفعال لا سواه. ولا يدفع ذلك من
~~إثبات فعل العبد وقدرته ومشيئته واعتقاده، كما أنه لا بد من إثبات انتفاع
~~العبد بالفعل، وأنه يعمل مصلحته ومنفعته، وأنه وإن قصد غيره فمقصده هذا،
~~لأن في كون ذلك مقصودا معبودا صلاحه وانتفاعه.
# فإن الناس يغلطون في هذا، فكثير من الصوفية لا يلحظون هنا إلا (1) غاية
~~الألوهية، ولا يستشعرون أن ذلك منفعة للنفس وصلاحها.
# وكثير من أهل الكلام كالمعتزلة وغيرهم لا يستشعرون أن لله في ذلك محبة
~~ورضى وفرحا، بل لا غاية له إلا ms1092 ما يعود على العبد.
# كما أنهم كذلك يتنازعون (2) في السبب الفاعل ما بين قدرية مجوس وجبرية
~~نفاة، ومنحرفو الصوفية يغلب عليهم في الموضعين نفي ما في العبد من سبب
~~وغاية، كما أن منحرفي المتكلمين من PageV06P155
# المعتزلة والرافضة يغلب عليهم نفي ما للرب من مبدأ ومنتهى من ربوبيته
~~وإلهيته.
# وأما المثبتة من الأشعرية ونحوهم، ففي جانب القدر يوافقون الصوفية، وأما
~~في جانب الغاية فقد يوافقون المعتزلة، فتدبر هذا فإنه أصل عظيم.
# وهذا المعنى يستقر في فطر الناس، كما أنه مستقر في فطرهم افتقار العبد في
~~فعله إلى الله، ولهذا يحتملون المكاره طلبا للمنافع، ويتقون الشهوات طلبا
~~لما هو أحب منها، ودفعا لما هو أضر من تركها، ويقولون: فعل ما تهوى يمنعك
~~ما تهوى، وأمثال هذا الكلام.
# وإنكار من أنكر من المرجئة لمعرفة حسن الفعل وقبحه بالفعل يتضمن إنكار
~~هذه الغاية، كما أن إنكار القدرية لكون الله خالق أفعال العباد يتضمن إنكار
~~السبب الفاعل. والفطرة والشريعة ترد على الطائفتين، أولئك منعوا غايات
~~الأفعال وعواقبها ومصالحها، وأنه يجب عقلا الفرق بين فعل وفعل، ويجب عقلا
~~كون هذا الفعل مقتضيا للمنفعة والصلاح، وهو حسنه، وكون هذا الفعل مقتضيا
~~للمضرة والفساد، وهو قبحه، لكن ظن الأولون أن الحسن والقبح في حق الخالق
~~والمخلوق قد يكون لذات الفعل، أو لصفة فيه، لا لغاية محبوبة أو مسخوطة،
~~وهذا الظن الفاسد أوقع هؤلاء في نفي التفريق بين الحسن والقبيح، وسلموا
~~الغاية الملائمة والمنافرة، لكن ظنوا أن الحسن والقبح في الشرع بغير
~~المعنى، أو أن له حقيقة وراء هذه، وليس الأمر كذلك، بل الحسن مطلقا هو
~~الملائم النافع المحبوب
# PageV06P156
# المرضي، والقبيح ضد ذلك، وصفات الكمال تعود إلى ذلك. فالحسن والقبح
~~متعلقان بالعلة الغائية مطلقا، وقد بسطنا هذا في غير موضع، كقاعدة مفردة في
~~غير ذلك.
# والقدرية لم ينبتوا الغاية كما ينبغي، بل تخبطوا فيها، وإن كانوا من
~~الحسن والقبح بأصله دون تفصيله الصحيح، ثم عدلوا الله بخلقه تشبيها باطلا
~~مع غلوهم في إنكار التشبيه في الصفات، وإن كانوا أثبتوه ms1093 هنا أصلا، كما له
~~أصل في الصفات، ولكن جهلوا التفصيل هنا، كما جهلوا هناك الأصل، وأنكروا أن
~~يكون الله نفسه هو الغاية المقصودة، وأنكروا السبب، فأنكروا كونه خالقا
~~لأفعال العباد (1) .
# وإذا لم يصلح أن يكون هوى العبد هو الغاية المقصودة لذاتها مطلقا، تبين
### | فساد حال من اتخذ إلهه هواه،
# ومن عبد ما استحسن من دون الله، وهؤلاء المشركون المتبعون لأهوائهم
~~المتخذون آلهتهم أهواءهم. ويحكى ذلك عن البراهمة منكري النبوات، كما حكاه
~~أبو الحسن الربعي في كتاب "اتباع المرسلين في الاحتياط للدين "، قال: وقال
~~قوم يقال لهم البرهمية بقول عبدة الأصنام: ما استحسنه العبد فهو معبوده.
# وهذا أيضا حقيقة قول الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، إذ عندهم كل ما
~~كان موجودا يصلح أن يكون لكل عابد معبودا، وإن كان عندهم كل عابد فهو أيضا
~~معبود، كما قال شيخهم صاحب الفصوص: PageV06P157
# "فليعبدني وأعبده" (1) . وقال: "أعظم معبود عبد فيه الهوى" (2) .
# وإذا تبين أنه لا يصلح أن يكون كل ما يهواه العبد ويريده مقصودا ... (3)
~~تبين من ذلك أنه لا يصلح أن يكون ما يوجد من اللذة هي الغاية المقصودة
~~بفعله، لأن اللذة تتبع الشهوة، فإذا حصل ما يشتهيه وجد اللذة، فإذا امتنع
~~أن يكون المنتهى مطلقا مقصودا، امتنع أن تكون اللذة مطلقا غاية مقصودة، لما
~~بيناه من أن وجود ذلك يمنع وجوده، لما فيه من الفساد، ولكن لا بد في فعله
~~من حب، ولا بد له من لذة، فالشهوة واللذة سببان في فعله، ذلك سبب فاعلي،
~~وهذا سبب غالي، بهما كان الإنسان من وجه فاعلا لفعله، ومن وجه غاية لفعله،
~~كما تقدم بيانه.
# لكن كما بينا أن هذا السبب فيه لم يحصل به مستقلا، بل بالرب الذي خلقه
~~وأعانه، فكذلك هذه اللذة لم يحصل الفعل لأجلها فقط، بل للغاية التي هي الرب
~~الذي هو إلهه.
# وكما أنه بدون الرب يمتنع الفعل، فبدون الإله لا يصلح الفعل، بل لا يكون
~~إلا فساد، فإن ما في العبد من القوة والإرادة محدث من جهة الله، كذلك كون
~~لذته ms1094 العاجلة غاية إنما كان لغاية أخرى من جهة الله، وذلك أنه كما كان
~~المحدث عن عدم فلا بد له من محدث، فهذه الغاية منقطعة يتعقبها العدم
~~والزوال، فلا بد له من غاية أخرى باقية PageV06P158
# دائمة، إذ كل ما يمنع أن تكون الحوادث مستغنية عن الفاعل يمنع أن تكون
~~المنقطعة مقصودة بالذات، فجعله نفسه الغاية مثل جعله نفسه السبب، فكما أنه
~~لا يجوز أن يكون معينه وممده لحصول قوته وقصده وعمله هو نفسه، بل من توكل
~~على [نفسه] خذل، كذلك لا يجوز أن يكون ما يطلبه ويقصده ويحبه ويعمله هو
~~نفسه، بل من عبد نفسه واتبع هواه ضل وخسر، وما أكثر ما يتخذ العبد إلهه
~~هواه، فيكون ما يهواه إلهه، وهو يهوى نفسه كثيرا، فيعبد نفسه. كما يستعين
~~بنفسه إذا أعجب بها.
# وكذلك لو أدخل واسطة، مثل الذي يستعين بغيره، وهو الذي يعين ذلك الغير،
~~وذلك الغير يستعين به، فهو في الحقيقة إنما يستعين بنفسه. وكذلك إذا عمل
~~لذلك الغير، وهو يقصد أن يكون عمل ذلك له، فهو إنما عمل لنفسه.
# ونبين ذلك، فإن هذا لم يتقدم بعد الكلام فيه، بل قد تكلمنا في بيان
~~الغاية الإلهية بكلام ثم كلام، ولم يتحقق ذلك على الوجه إلى الآن، فنقول في
~~هذا الكلام الثالث:
# كما أن الشيء لا يوجد من معدوم، فلا يوجد لمعدوم، إذ إيجاد الشيء للعدم
~~كوجوده من العدم، فمن قصد الشيء لنفيه كان بمنزلة من لم يقصده، ولذا لا
~~يفعل هذا عاقل بل سفيه، لأنه إذا قصد وجوده ليعدمه كان عدمه هو المقصود
~~بالقصد الأول، والعدم (1) لا يصلح أن يكون مقصودا، كما لا يصلح أن يكون
~~فاعلا، لأنه لا شيء، وما ليس PageV06P159
# بشيء لا يكون سببا فاعليا ولا غاليا للموجود، فإن الموجود لا تكون أسبابه
~~عدمية، كيف والأسباب الفاعلية والغائية أكمل من المسبب المفعول لغيره. وهذا
~~ظاهر.
# وأيضا ف
### | من كان قصده العدم لم يفعل شيئا،
# بل يترك الأمر على ما هو عليه من العدم المستمر، فاما أن يقصد أن ms1095 يفعل
~~لأن يعدم فهذا إما سفيه جاهل قد تناقض في فعله، وإما مكار مخادع يظهر قصد
~~شيء وغرضه غيره.
# وبالجملة فهذا القصد إما أن لا يكون، وإن ادعى كونه كان كاذبا،
~~كالمخادعين في الحيل المحرمة، وإن كان من الفقهاء من يظن أن القصود غير
~~معتبرة في ذلك، فهذا مخالف لما اقتضته الشريعة والفطرة من كون الأعمال لا
~~تكون إلا بالنيات، مع قول الشارع: "إنما الأعمال بالنيات" (1) ، وهي من
~~أجمع الكلمات وأجلها وأعظمها قدرا.
# وإما أن يكون هذا القصد من جاهل سفيه يقصد النقيضين ولا يشعر تناقضهما،
~~فتناقض الادميين في المقاصد والنيات كتناقضهم في الاراء والاعتقادات، كثيرا
~~ما يريدون النقيضين في وقت أو وقتين.
# وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، تبين بذلك دلالة القرآن على هذا
~~المجنى في مثل قوله: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن
~~الذين كفروا) (2) ، وفي قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى (36)) (3) ،
~~PageV06P160
# وقوله: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما
~~إلا بالحق) (1) ، وقوله: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق
~~وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل (85)) (2) .
# وإن كان قوله: (بالحق) أي بقوله الحق، فهذا إشارة إلى شيء من السبب
~~الفاعل، والآية أعم من هذا، فإن الباء باء السبب، والسبب يتناول الفاعل
~~والغاية، فإن الغاية سبب فاعل للسبب الفاعل، ولهذا يقال: جئت بسبب زيد،
~~وبسبب تخليص هذا المال، وبسبب دفع العدو، ونحو ذلك.
# والحق يعم الحق المقصود والحق الموجود، فالحق المقصود هو الغاية، وهو
~~نقيض الباطل الذي في قوله - صلى الله عليه وسلم -:"كل لهو يلهو به الرجل
~~فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وملاعبته امرأته، وتأديبه فرسه، فإنهن من الحق"
~~(3) . وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
# ويتبين أن النظر والاعتبار قد يعلم به المعاد، كما يعلم به مبدأ العباد،
~~كما علم بالنظر والاعتبار ابتداء خلق العباد، بل الفطرة تقضي بذلك كما تقضي
~~بالابتداء، وأن الذين أنكروا هذا من متكلمة أهل الإثبات، وقالوا لا نعلم
~~ذلك إلا بالسمع، فذلك كقولهم: لا نعلم ms1096 PageV06P161
# الأحكام إلا بالسمع، وهم في ذلك قصدوا مناقضة القدرية الذين أوجبوا
~~المعاد والجزاء بالعقل، كما أثبتوا الأحكام بالعقل.
# والفلاسفة أيضا يثبتون شريعة عقلية بآرائهم، كما يثبتون معاذا عقليا
~~بارائهم، إذ الجزاء في المعاد مبنى على حسن الأفعال وقبحها، والأمر بها
~~والنهي عنها، زيادة على ما في ذلك من صلاح الدنيا.
# ولهذا أوجب الفلاسفة النبوة لصلاح العباد في الدنيا بقانون العدل المشروع
~~لهم، ثم إنهم مع ذلك عموا- أو من عمي منهم- عما في الشريعة من مصالح
~~العباد، وإن كانوا يقولون: الشريعة قصدت ذلك أيضا للعامة.
# لكن آفتهم من دعوى الاختصاص بما يتسلون به في الباطن من أخبار الرسل
~~وأوامرها، فهم في الحقيقة يوجبون اتباع الشرائع على الجمهور، ويدعون أنهم
~~أجل من ذلك، وهذا لما بهرهم من منفعة الشرائع وحاجة العباد إليها، ثم عموا
~~مع ذلك عن حاجتهم هم بخصوصهم إليها، ووجود منفعتهم بكمالها فيها، فظنوا
~~أنها لا تقوم بجميع مطالبهم وحاجاتهم ومصالحهم من العلم والعمل، فابتدعوا
~~وبدلوا وحرفوا واعتدوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
# وإذا تبين أنه لا يقصد بالوجود العدم، كما لا يصدر الوجود عن العدم، علم
~~أن ما يوجد في النفوس من لذات منصرفة لا يجوز أن تكون هي الغاية، كما أن ما
~~فيها من قصد محدث لا يجوز أن يكون هو الخالق، وذلك أن ما وجد ثم عدم من غير
~~أن يترتب على وجوده
# PageV06P162
# مقصود آخر كان وجوده ثم عدمه بمنزلة عدم وجوده، إذ قد بينا أن العدم لا
~~يكون مقصودا، وعلم القاصد بأن هذا يعدم بعد وجوده يمنعه أن يكون هو المقصود
~~بالقصد الأول له، لأنه إذا علم أنه سيعدم، علم أنه حال عدمه لا يكون فيه ما
~~يقصده، بل يكون تلك الحال كحاله قبل وجوده، فلا يقصد أن يفعل ما يكون حاله
~~بعد وجوده وعدمه كحاله قبل وجوده، إذ هذا أيضا عبث وسفه، فكما أنه لا يقصد
~~بالوجود العدم، فإذا علم أن الوجود يتعقبه العدم لم يقصده، إذ كان حاله بعد
~~عدمه كحاله بعد ms1097 وجوده، فإنه يكون قد قصد ما لا يفيد قصده فائدة، وإنما يقصد
~~ذلك لأنه يحصل بوجوده مقصود يبقى بعد عدمه، فإذا كان المقصود يحصل بعد عدمه
~~أمكن أن يقصد وجوده وإن عدم، ويكون هذا الوجود مقصودا بالقصد الثاني،
~~والمقصود بالقصد الأول هو ما يبقى بعد العدم.
# وهذا أمر بين يجده الإنسان ويعلمه بعقله وفطرته، ولهذا اتفق عقلاء الناس
~~على أن الأمور المنقضية المنصرفة لا تكون هي غاية مقصود العامل ومنتهى
~~مراده، لأنها إذا كانت منتهى قصده وإرادته كان حاله بعد عدمها كحاله قبل
~~وجودها، وإنما يقصدونها ليستعينوا بها على أمور غيرها.
# ثم إن الزهاد منهم يذمون المحبوبات والملذوذات المنصرفة وإن لم تكن نهاية
~~المقصود، لما فيها من شغل النفوس بها عما تحتاج إليه، ومن ألم الترك وغير
~~ذلك، لكن الحال حال الكافرين بالمعاد، فإنه إذا لم يكن الموت ما يقصدونه
~~ويرجونه كحال الذين لا يرجون لقاء الله، ويظن أحدهم أن لن يحور، فهم يجعلون
~~المنصرفات نهاية مقصودهم،
# PageV06P163
# وهؤلاء الذين قال الله فيهم: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف
~~إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة
~~إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16)) (1) ، وقال
~~تعالى: (فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك
~~مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى (30))
~~(2) ، فهذا حال من لم يحقق الإيمان بالله واليوم الآخر، فأعرض عن ذكر ربه
~~والعمل لمعاده، كما قال تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع
~~هواه وكان أمره فرطا (28)) (3) ، فاتباع هواه هو اتباع متاع الحياة الدنيا.
# وقد يقال هذا معنى الأول والاخر، فالأول ليس قبله شيء، إذ هو خالق كل
~~شيء، والاخر ليس بعده شى، أي إليه يصير العباد وتنتهي الحركات، كما قال:
~~(وأن إلى ربك المنتهى (42)) (4) ، أي الغاية، لا يراد بذلك أن الأشياء
~~تعدم، ويكون هو بعد وجودها، وإنما هو آخرها كما كان أولها، فمنه ابتدأت
~~واليه ms1098 تعود، كما يقال: ما بعد هذا غاية.
# فالاخر قد يعنى به في الوجود، وقد يعنى به في الغايات المقصودة، فإذا عني
~~به أنت الآخر بعد كل موجود، لم يدل على الغاية، وإذا قيل: أنت الآخر أي
~~الغاية والمنتهى لكل موجود، فليس بعدك ما يوجد ويطلب، كان هذا المعنى أبلغ،
~~مع أن قوله "الآخر" يعم PageV06P164
# القسمين، كما أن قوله "الأول " ظاهر في كونه موجودا أولا، وقد تضمن أنت
~~الأول في المقصود، كما قال: (إياك نعبد) وغيرك إنما يقصد بالقصد الثاني لا
~~بالقصد الأول، لكن هذا المعنى ليس وحده ظاهر الحديث (1) ، لكن يقال: الحديث
~~أشار إليه مع المعنى الظاهر.
# وأما قوله: "وأنت الآخر فليس بعدك شيء"، فظهور الاخرية في كونه الغاية
~~المقصودة أظهر من ظهور الأولية في كونه أولا في القصد والإرادة.
# ومما يبين هذا أن الأفعال إنما تتفاضل وتحمد وتذم ويؤمر بها وينهى عنها
~~باعتبار غاياتها وعواقبها المقصودة منها، فما كانت عاقبته وغايته أكمل كان
~~أعلى وأفضل عند الشارع.
# ولهذا ذكرنا فيما تقدم من القواعد أنه أي العملين كان لله أطوع ولصاحبه
~~أنفع فهو أفضل، فإن منفعته لصاحبه تكون مصلحة وخيرا، وبامر الشارع به يكون
~~طاعة ودينا وقربة، وهما متلازمان، فالله تعالى إنما أمر العبد بما إذا فعله
~~العبد كان مصلحة له، ونهاه عما إذا فعله كان مضرة له، كما قال قتادة: إن
~~الله لم يأمر العباد بما أمرهم حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم بخلا به
~~عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.
# ولهذا إذا وقع التنازع في كون العمل هو طاعة وقربة أم لا؟ إذ كان
~~PageV06P165
# المجتهدون قد تنازعوا فيه، فإنه يستدل على ذلك تارة بالأدلة السمعية
~~الدالة على كونه طاعة أو ليس كذلك، وتارة بالأدلة النظرية، وهو ما ترتب على
~~ذلك العمل من المصلحة والمفسدة، كما قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق
~~وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد
~~(53)) (1) ، فأخبر أنه سيري الآيات الأفقية والنفسية التي بين ms1099 فيها أن
~~القرآن حق، وهو ما فيه من الخبر والأمر والوعد والوعيد. وذلك لما يحدثه
~~الله من نصر المؤمنين وجعل العاقبة لهم وعقوبة الكافرين، فجعل سبحانه ما
~~يشهد ويرى من عواقب الأعمال والكمال مما يتبين به الحق من الباطل.
# ثم قال: (أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53)) ،وهو شهادته بذلك في
~~كلامه المسموع. فهذه الأدلة السمعية الشرعية، ولهذا قال تعالى: (وكم أهلكنا
~~قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) إن في ذلك
~~لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)) (2) ، وقال: (أفلم
~~يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا
~~تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (46)) (3) ، وكما أنه يستدل
~~بالأدلة السمعية والبصرية على الفرق بين المؤمن والكافر، فيستدل بها أيضا
~~على البر والفاجر من المسلمين، وعلى المطيع والعاصي، وعلى المصيب في
~~اجتهاده PageV06P166
# والمخطىء، والفاضل والمفضول.
# كما يستدل مع الأدلة السمعية الشرعية على فضيلة أبي بكر وعمر بما أراه
~~الله في الافاق وفي الأنفس، من صلاح أعمالهما وجميل سيرتهما، وفضل علمهما
~~وقصدهما وعملهما وقدرتهما، فإن ظهور رجحان ذلك على سيرة عثمان وعلي رضي
~~الله عنهم أجمعين بين واضح.
# وكما يستدل على [أن] القتال في الفتنة الكبرى وغيرها لم يكن في نفس الأمر
~~مصلحة ولا مامورا به، وإن اجتهد فيه من اجتهد من المغفور لهم، فيستدل على
~~ذلك مع الأدلة الشرعية، وهو ما ورد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن القتال
~~في الفتنة، وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي
~~خير من الساعي، والساعي خير من الموضع (1) ، وأنه ليس في الشريعة أمر بذلك،
~~كما فيها أمر بقتال الخوارج ... (2) وأن من ظن أن قتال البغاة المأمور به
~~في القرآن يتناولها، فقد وضع النص في غير موضعه، فإن القرآن لم يأمر
~~بالقتال ابتداء، لكن إذا اقتتلت الطائفتان فإنه أمر بالإصلاح، ثم أمر عند
~~ذلك بقتال الباغية، فكان البغي في الاقتتال. وعلى ذلك ms1100 ما ورد من أن عمارا
~~تقتله الفئة الباغية (3) ، فأما أن يكون قبل القتال من بغى يقاتل ابتداء
~~فهذا لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا على إطلاقه خلاف PageV06P167
# الإجماع.
# والفرق بين البغي بلا قتال والبغي في القتال واضح، وعلى هذا فإذا قيل:
~~كان مأمورا بالقتال بعد البغي فيه أمكن ذلك، ولكن تلك الحال عصت الطائفة
~~العراقية فنكلت عن القتال، فحال القتال لم يكن أمر، وحال الأمر لم تكن طاعة
~~الأمر، وذلك يستدل به على حكم الشارع في نحو ذلك، نعوذ بالله من الفتن ما
~~ظهر منها وما بطن.
# والمقصود هنا أن عواقب الأفعال وغايتها تبين ما كان منها محمودا وأحمد،
~~فمن وفق لذلك في الابتداء فليحمد الله، وإلا فعليه بالتوبة والاستغفار، فإن
~~الله يقول: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
~~إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53)) (1) ، وهذا يستقيم
~~لمن لم يتبع هواه، فقد تقدم بالبرهان العقلي المعلوم من الآيات المرئية في
~~الأنفس والافاق ما يوافق ما شهد الله به في كتابه، أن اتباع الهوى بغير هدى
~~من الله ضلال عما ينفع العبد، وسمي ضلالا لأن متبع هواه إنما يقصد لذته
~~بنيل ما يهواه، لكن ينبغي أن يعرف أن لذته ومنفعته ليست في نيل ما يهواه،
~~إلا أن يكون بهدى من الله، وهو ما أمر به أو أباحه، دون ما نهى عنه وحظره،
~~فإذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى.
# والأهواء في الدين والآراء والاعتقادات والأذواق والعبادات أعظم من
~~الأهواء في الدنيا. وأكثر ما ذكر في القرآن من ذم اتباع PageV06P168
# الأهواء يتعلق بالقسم الأول، وإن كان أيضا يتناول القسم الثاني، كما قال
~~الله تعالى: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق
~~ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله
### | …
# ) (1) .
# وإذا تبين ذلك علم أن الإرادة لا بد أن يكون لها مقصود لذاته، خارج عن
~~اللذة المنقضية، إذ ms1101 اللذة المنقضية لا يجوز أن تكون مقصودة لذاتها، كما لا
~~يجوز أن يكون القصد الحادث حادثا بذاته، كما تقدم من أن ما يعقبه عدم لا
~~يجوز أن يحدث بذاته، ومن المعلوم أن كل مقصود فإما أن يقصد لنفسه أو لغيره،
~~وعلى التقديرين يلزم وجود الموجود بنفسه، وذلك أنه إذا قصد المقصود لغيره،
~~فذلك الغير إما أن يكون مقصودا لنفسه، فثبت المقصود لنفسه، وإما أن يكون
~~مقصودا لغيره، فإن كان الغير هو الأول لزم الدور، وهو أن يكون هذا مقصوذا
~~لأجل هذا، وهذا مقصودا لأجل هذا، وقد تقدم بيان استحالة أن يكون كل شيء من
~~الشيئين علة للآخر علة فاعلية أو غائية. وإن كان غير الأول لزم أن يكون
~~لذلك المقصود مقصود، ولذلك المقصود مقصود، ويلزم تسلسل العلل الغائية. ومن
~~المعلوم أن المقصود يتقدم في العلم والقصد، فيلزم أن يجتمع في علم الإنسان
~~وقصده مقصود لا يتناهى في آن واحد.
# وأيضا فالمقصود يتعقب الفعل الذي هو السبب التام، ثم المقصود يتعقب
~~الآخر، كما أن السبب التام يتعقبه المسبب، فيلزم PageV06P169
# اجتماع معلولات لا تتناهى في ان واحد، وهذا محال كاستحالة اجتماع علل لا
~~تتناهى.
# ثم إن ثبوت هذا فطري، كثبوت الواجب الوجود بنفسه. وإذا كان وجود المقصود
~~لنفسه- وهو المعبود- ضروريا (1) في وجود الحركات كلها، إذ جميع الحركات
~~إنما تصدر عن إرادة، فإنها ثلاثة: قسري، وطبعي، وإرادي. أما القسري فتابع
~~للقاسر، وأما الطبعي فإنما يتحرك إذا خرج عن مركزه، فهو فرع على غيره. وإذا
~~كان كل من الحركتين الطبعية والقسرية تابعا للغير وفرعا عليه ومستلزمة له،
~~فلا بد من الحركة الإرادية، فتكون هي الأصل.
# وإذا ثبت أن جميع الحركات صادرة عن الإرادة، وثبت أنه لا بد في الإرادة
~~من مقصود معبود، وتبين أن ما يتعقبه عدم من اللذات الموجودات لا يجوز أن
~~يكون مقصودا لذاته، ثبت أن المقصود المعبود لذاته يجب أن يكون باقيا أبديا،
~~كما ثبت أن الموجود بنفسه يجب أن يكون قديما أزليا. كما قال الخليل عليه
~~السلام: (لا أحب ms1102 الأفلين) (2) .
# ثم إنه كما امتنع أن يكون المخلوق ربا خالقا، يمتنع أن يكون إلها معبودا
~~من جهة كونه لا يستقل بجلب المنافع ودفع المضار، ومن جهة أنه في نفسه يمتنع
~~أن يكون هو الغاية المقصودة لغيره بالأفعال، وذلك لأنه هو في نفسه ليس
~~الغاية المقصودة لفاعله، ولا هو أيضا الغاية المقصودة لفعله، فإنه يمتنع أن
~~تكون ذاته هي الغاية المقصودة له. PageV06P170
# أما أولا فلأن ذاته ليست فعله ولا نتيجة فعله، فيمتنع أن تكون هي الغاية
~~المقصودة بفعله.
# وأما ثانيا فلأنه يمتنع أن يكون الشيء الواحد علة معلولا، فاعلا مفعولا،
~~وقاصدا ومقصودا كما تقدم بيان ذلك.
# وإذا امتنع أن تكون ذاته هي العلة الغائية لذاته ولفاعله، امتنع أن تكون
~~هي العلة الغائية لغيره بطريق الأولى، وهو وإن كان قد يفعل للذة التي تحصل
~~فتكون لذاته غاية له، كما يكون قصده سببا لفعله، فيمتنع أن تكون نفس لذته
~~غاية مقصودة لغيره. كما يمتنع أن يكون مجرد قصده قصدا لغيره، إذ الشهوة
~~واللذة القائمة بالشيء، وهي القصد والغاية، لا تكون بعينها شهوة لغيره ولذة
~~له وقصدا له وغاية، ولكن يكون له نظيرها، وذلك لا يوجب أن يكون هو المقصود.
# ويمكن أيضا أن يكون في ذاته ما يكون مقصودا بقصد لأمر آخر، كما هو
~~الموجود في كل المحبوبات من المخلوقات، فإنها تحب لأمر آخر لا يصلح أن تكون
~~هي منتهى المراد المقصود، ومن أحب مخلوقا جعله غاية المطلوب المراد، فهذا
~~هو الفساد الذي بينته.
# كما أن من جعله هو الرب المحدث، فهذا فساد أيضا، ولكن كما أنه يكون محدثا
~~بفاعل غيره خلقه، كذلك يكون مقصودا لمقصود آخر هو المعبود، كما يحب
~~الأنبياء أو المؤمنون لله، وكما يطاعون لطاعة الله.
# وما تحبه النفوس من المطاعم والمشارب والمناكح فانه مقصود لغيره، وهو
~~صلاح الأجساد، ومثل الذات التي يستعان بها على
# PageV06P171
# المقصود لذاته.
# ولهذا كان الإنسان إذا أحسن إلى غيره، فإما أن يقصد به معاوضته، فيكون
~~العوض هو المقصود الأول، وإما أن يقصد به غير ذلك، إما ms1103 طلب عوض من غير ذلك
~~الشخص، وإما لما في قلبه من الرحمة والرقة، فيقصد بذلك تسكين قلبه ولذة
~~نفسه بالإحسان إليه، وزوال الألم عن نفسه، كما يقصد ما هو نحو ذلك، وإما أن
~~يقصد به التقرب إلى الله.
# والإنسان في لذته مثل ما هو في إرادته وشهوته، فإن هذا سبب، وهذا غاية،
~~لكن تقدم أن اللذات المنصرمة لا يجوز أن تكون هي المقصود لذاته، فكل ما
~~يقصده الإنسان بالإحسان إلى غيره هو أمر منصرم إلا إرادة وجه الله، فإن لم
~~يقصد ذلك أو يقصد ما يستعين به على ذلك حتى يكون مقصودا لذلك، كان من
~~الأعمال الباطلة الفاسدة، كما تقدم.
# ومما يبين أن المخلوق لا يكون مقصودا بالقصد الأول لذاته لا لنفسه ولا
~~لغيره ولا لفاعله، كما لا يكون فاعلا مستقلا لا لنفسه ولا لغيره ولا
~~لمعبوده الذي هو مقصوده= أن نفسه أقرب إلى نفسه من غيره إلى نفسه، فلو كان
~~يستحق أن يكون محبوبا لذاته مرادا لذاته لكانت ذاته أحق بأن تكون هي المحبة
~~المريدة له، لأنها أقرب وأعلم، فلما تبرهن امتناع ذلك فيه كان في غيره أعظم
~~امتناعا.
# وقد تبين لنا أيضا أنه كما أن الحادث المنصرم لا يجوز أن يكون
# PageV06P172
# مطلوبا لذاته، فالحادث مطلقا لا يجوز أن يكون هو العلة الغائية، وإن كان
~~يحدث ما يتعلق بها مما هو مقصود الفاعل، بل العلة الغائية يجب أن تكون
~~متقدمة، وإن كان ما يقصد بالفعل لها يكون بعد الفعل، لكن لا بد من مقصود
~~مراد متقدم بالذات على الفعل، وذلك لأن العلة الغائية هي علة ماهيتها
~~وحقيقتها لفاعلية العلة الفاعلية، فإنما صار الفعل فاعلا لأجلها، والعلة
~~يجب تقديمها على المفعول.
# فإن قيل: الفاعل فعلها ويتصورها، فهي متقدمة في ذلك على الفعل، وإن كانت
~~في الوجود تتأخر عن الفعل.
# قيل: هذا يكون في المقصود من الغاية لا في ذاتها، وهذا كما أن الإنسان
~~يحب المحبوب مثلا، فيقصد الاتصال به، كما يحب المرأة فيريد مباشرتها،
~~فالذات المحبوبة هي الغاية متقدمة على ms1104 الفعل، وأما المقصود منها كلذة
~~المباشرة فهي تتأخر عن الفعل، وليس إذا كانت اللذة الحادثة للفاعل حادثة
~~بعد فعله يجب أن تكون نفس الغاية حادثة، كما أن فعل العلة الفاعلية إذا كان
~~حادثا لم يجب أن تكون هي حادثة.
# يبين هذا أن العلة الغائية إذا كانت سابقة في العلم والتصوير والقصد
~~والإرادة، فلا بد أن يكون لها حقيقة يجب أن تراد لأجلها، إذ العدم المحض لا
~~يتصور هذا فيه، ولا يجوز أن يكون إنما صارت مطلوبة لإرادة الفاعل، لأن هذا
~~يستلزم الدور، فإنه إنما أرادها لأنها تستحق أن تراد، فعلم أنه لا بد من
~~ثبوت حقيقة موجودة قبل الفعل تكون هي التي يفعل الفعل لأجلها، وتكون مرادة
~~لذاتها، واللذة تحصل عقيب الفعل.
# PageV06P173
# فقد تبين أن من عبد المخلوقات عبادة العبد لربه الذي يسأله ويرغب إليه في
~~تحصيل ماربه، أو عبادته لإلهه الذي هو مع ذلك يعبده لذاته ويحبه لذاته، كان
~~ذلك موجبا لفساده. والمعبود إذا رضي أيضا بذلك لزم أيضا فساده، بمنزلة من
~~جعل المعدوم مقصودا لذاته، فإن الحركة الإرادية تطلب مرادا يكون به صلاح
~~المريد ونفعه، فإذا لم يكن فيه لزم الفساد، وإن وجد في ذلك لذة فإنه
~~يستعقبه ألما وضررا، بمنزلة من أكل ما يظنه عسلا وكان فيه حلاوة، وكان سما،
~~فإنه يهلكه ويقتله.
# فقد تبين بالقياس العقلي امتناع أن يكون معبود إلا الله، كما امتنع أن
~~يكون رب إلا الله، وهذا قصد بقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)
~~(1) قصد نفي إله سواه. ولهذا قيل: (لفسدتا) وهذا يتضمن نفي رب غيره.
# والمتكلمون قصروا في معنى الاية من وجهين:
# أحدهما: من جهة ظنهم أنه إنما معناها نفي تعدد الأرباب فقط، كما أقاموا
~~هم الدليل على ذلك.
# والثاني: ظنهم أن دليل ذلك هو ما ذكروه من التمانع، وليس كذلك، فإن
~~التمانع يوجب عدم الفعل، والتقدير أن الفعل قد وجد، ثم الاشتراك في الفعل
~~يوجب العجز فيهما، والقرآن إنما أخبر بفسادهما، لم يخبر بعدمهما، والفساد
~~يكون عن الإرادات الفاسدة ms1105، PageV06P174
# وهو ضد الصلاح الذي يكون عن الإرادات الصالحة، والله قد أمر بالصلاح ونهى
~~عن الفساد في غير آية.
# قال الله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
~~والله لا يحب الفساد (205)) (1) ، وقالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد
~~فيها ويسفك الدماء) (2) ، وقال تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل
~~أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) (3) ،
~~وقال: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح
~~أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين (4)) (4) ، وقال: (وقضينا إلى
~~بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) (5) ،وقال: (وإذا قيل لهم لا
~~تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا
~~يشعرون) (6) ، وقال (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض
~~أولئك هم الخاسرون (27)) (7) ، وقال: (ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا
~~يحب المفسدين (77)) (8) . PageV06P175
# فسبب الفساد هو معصية الله، كما أن سبب الصلاح هو طاعة الله، ورأس الفساد
~~والمعصية هو أن تعبد غير الله، وذلك هو الفساد الناشىء من أن يكون فيهما
~~آلهة إلا الله، فإنه كما تكون حركات المتحركين صادرة عن الارادة والمحبة
~~صارت بالقصد الأول لعبادة تلك الأمور التي لا تصلح لأن تكون هي المقصودة،
~~بمنزلة من لا يتقوت إلا بالزجاج، ولا يشرب إلا الماء الزعاق، أو لا يدفع
~~البرد في الأرض الباردة إلا بالثياب الرقاق، أو لا يدفع عدوه عنة من القتال
~~إلا بالأيدي، ونحو ذلك من الأفعال التي يقصد بها جلب منفعة يحتاج إليها،
~~ودفع مضرة لا تكون محصلة لذلك، فهذا يوجب الفساد. وقصد غير الله بالعبادة
~~يتضمن هذا كله وأضعافه، ولهذا قيل: (إن الشرك لظلم عظيم (13)) (1) .
# فصل
# وإذا كان قد تبين أن الفعل الواحد ألا، يكون من فاعلين مستقلين، ولا يكون
~~مقدور واحد من قادرين على ذلك المقدور حال الاشتراك، فكذلك الفعل الواحد
~~والقصد الواحد لا يكون لمقصودين مستقلين، بل كما تبين أن الحكم الواحد
~~بالعين لا ms1106 يكون لعلتين مستقلتين، فسواء في ذلك العلة الفاعلية والعلة
~~الغائية، فمتى قصد بالفعل اثنين لم يكن الفعل لا لهذا ولا لهذا.
# وهذا هو الإشراك الذي تبرأ الله منه، كما في الحديث PageV06P176
# الصحيح (1) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول
~~الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا
~~منه بريء، وهو كله للذي أشرك " أي أشركه، فإنه سبحانه لا شريك له، فكما لا
~~يجوز أن يكون معه شريك في فعله لا يصلح أن يجعل له شريك في قصده وعبادته،
~~قال الله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في
~~السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير (22)) (2)
~~، وقال تعالى: (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل
~~يستويان مثلا) (3) ، وهذا كثير في القرآن، بل هو المقصود الأعظم بتنزيل
~~القرآن.
# والمقصود هنا أن الفعل الواحد كما لا يتصور أن يكون من اثنين لا يتصور أن
~~يكون لاثنين، فمن عمل لله ولغيره فما عبد الله ولا عمل له عملا، كما أن ما
~~تعاون عليه اثنان فما فعله أحدهما، ولا هو ربه، فكما أنه لو قدر أن معه
~~شريكا في الفعل لم يكن هو رب ذلك المفعول ومليكه، فكذلك إذا جعل له شريك في
~~القصد والعمل، لم يكن هو إله ذلك العابد ولا معبوده، فلا يتقبل ذلك العمل،
~~وإنما يتقبل ما كان خالصا لوجهه.
# يوضح هذا أنه هو الرب المليك الخالق، فلو قدر في الذهن أن معه شريكا في
~~الفعل امتنع أن يكون هو ربه ومليكه وخالقه، واذا امتنع PageV06P177
# ذلك بطل وجود الفعل، لأنه قد علم أن غيره لم يفعل شيئا، فإذا كان على هذا
~~التقدير هو أيضا ليس برب فاعل لم يكن للفعل وجود، كذلك إذا كان هو الإله
~~المعبود المقصود، فإذا جعل معه من يشرك به، وعبادة ذلك فاسدة باطلة، لم يصر
~~هو معبودا بذلك العمل، وما عمل ms1107 لذلك الغير باطل فاسد، فلا يكون الفعل عبادة
~~ولا عملا صالحا، فلا يتقبل. ولا يمكن أن يقال: لم لا أخذ نصيبه منه؟ لأنه
~~مع تقدير الاشراك يمتنع أن يكون له منه شيء، كما أنه بتقدير الإشراك في
~~الربوبية يمتنع أن يصدر عنه شيء، فإن الغير لا وجود له، وهو لم يستقل
~~بالفعل، كذلك هنا هو لم يستقل بالقصد، والغير لا ينفع قصده. ولهذا نظائر
~~كثيرة في الشرعيات والحسيات إذا خلط بالنافع الضار أفسده، كما يخلط الماء
~~بالخمر، بخلاف الشركة الصحيحة، كاشتراك الناس فيما يصلح اشتراكهم فيه، فإن
~~هذا لا يضر.
# يبين هذا أنه لو سأل الله شيئا فقال: اللهم افعل كذا أنت وغيرك، أو دعا
~~الله وغيره فقال: افعلا كذا= لكان هذا طلبا ممتنعا (1) ، فإن غيره لا
~~يشركه، وهو على هذا التقدير لا يكون فاعلا له، لأن تقدير وجود الشريك يمنع
~~أن يكون هو أيضا فاعلا، فإذا كان يمتنع هذا في الدعاء والسؤال، فكذلك يمتنع
~~في العبادة والعمل أن يكون له ولغيره. وقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~بسعد وهو يدعو ويشير بإصبعين، فقال: "أحد أحد" (2) . PageV06P178
# ولهذا سن الإشارة بالسباحة في الدعاء.
# وكذلك إذا كان قد تبين أن الشيئين لا يكون كل منهما للاخر علة فاعلية،
~~فكذلك ألا يكون، كل منهما للاخر علة غائية، كما تقدم بيانه. وكذلك الشيء
~~الواحد لا يكون علة لنفسه، ولا معلولا لنفسه، فلا يكون لنفسه علة فاعلية
~~ولا علة غائية، فإن الأول يقتضي تقدمه على نفسه وتأخره عن نفسه، فيلزم أن
~~يكون موجودا معدوما إذا قدر فاعلا، وإذا قدر مفعولا، فيلزم اجتماع النقيضين
~~مرتين. والعلة الغائية يجب تأخرها عن المعلول، فإذا كانت نفسه هي معلول
~~نفسه لزم تاخرها وتقدمها، فيلزم أن يكون متاخرا عن وجود نفسه ومتقدما على
~~وجود نفسه، فيلزم أيضا اجتماع النقيضين مرتين.
# وأيضا فالعلة الغائية متقدمة في التصور والقصد، فيلزم أن يكون تصور
~~الفاعل وقصده له قبل ما يكون متصورا مقصودا له، ويكون تصوره وقصده له بعد
~~تصوره وقصده، لأنه يتصور ms1108 أولا ويقصد الغاية، ثم يتصور المفعول ويقصده، فإذا
~~كان هو المفعول وهو الغاية، فيلزم اجتماع النقيضين أيضا في التصور والقصد
~~مرتين، وقد تقدم هذا.
# وإنما المقصود هنا شيء آخر، وهو أنه كما يمتنع أن يكون الشيء علة لنفسه
~~معلولا له، أو أن يكون الشيئان كذلك، فيمتنع أيضا أن يكون جزء علة أو شرط
~~علة، فإن جزء العلة وشرطها يجب أيضا أن يتقدم المعلول، كما يجب تقدم ذات
~~العلة، فيلزم ما تقدم من الدور PageV06P179
# الممتنع، لكن لا يمتنع أن يكون كل منهما شرطا للاخر، وتكون العلة أمرا
~~غيرهما، فيجوز أن يكون وجود أحد الشيئين مشروطا بالاخر، وهو الدور المعي.
~~ولا يجوز أن يكون شرطا في علته لا الفاعلة ولا الغائية، وهو الدور القبلي.
# فالفاعلان المتعاونان يجوز أن يكون فعل أكل، واحد لما يفعله مشروطا
~~بالاخر، بحيث يكون لا يحصل إلا باجتماع الفعلين، كالأمور التي يعجز عنها
~~الواحد في الادميين، وإنما يقدر عليها عدد، ولكن لا يجوز أن يكون أحد
~~المتعاونين مستفيدا لا يحتاج فيه إليه من الآخر المحتاج إلى مشاركته، فإذا
~~كان كل منهما محتاجا إلى معاونة الآخر لم يجز أن يكون الآخر هو الفاعل لما
~~يحتاج إليه، لاستلزامه أن يكون كل منهما معلولا لذلك، فإنه إذا قدر أن
~~أحدهما محتاج إلى شيء من المعونة، وأنه يستعين بالاخر على حصولها، فلو كان
~~ذلك الآخر يستفيدها من الأول لم يكن هو قادرا عليها، فلا يعين، ولكان الأول
~~قادرا عليها فلا يحتاج إليها، ولا يدخل في هذا ما يعين به أحدهما الآخر من
~~الأسباب، مثل الالات ونحوها، فذاك ليس من هذا.
# وكذلك ما يحصل لأحدهما معاونة الآخر من القوة، فتلك القوة تأثير الاجتماع
~~والتعاون، ليس أحدهما مستقلا بها، ولكن هو من الفعل المشترك، لكل منهما، أو
~~في بعضه.
# وكذلك كما لا يصلح أن يكون كل منهما الغاية المقصودة، فلا يكون بعض
~~الغاية المقصودة، لما تقدم في ذلك من الدور الممتنع أربع مرات.
# PageV06P180
# وإذا قدر فاعلان متعاوضان أو متعاونان كل منهما يفعل ما يحبه ms1109 الآخر
~~ويرضاه، فلا بد أن يكون مقصود كل منهما غاية غير محبة الآخر ورضاه، فإنه
~~إذا كان نهاية مقصود كل منهما غاية محبة الآخر ورضاه ولذته ونحو ذلك، لزم
~~أن تكون هذه علة مقصودة لهذه ومعلولة لها، وهذه مقصودة لهذه ومعلولة لها،
~~ويمتنع كون كل من الشيئين معلولا للاخر، ولو كان كذلك لزم أن لا تحصل واحدة
~~من المحبتين واللذتين، وإنما يكون كل منهما مع قصده ومحبته الآخر ولذته له
~~هو مقصود آخر، هو منتهى قصده، يكون هو محبوبه وفيه لذته، كالزوجين
~~المتناكحين.
# وإن فرض أن كلا منهما يقصد إنالته الآخر لذته، فهو لا يقصد ذلك إلا لعوض،
~~إما أن يقصد بذلك الأجر، أو أن يقصد نيل لذته بهذا الطريق، فيجعل ما ينيله
~~لذاك من اللذة وسيلة إلى ما يناله هو، كما هو الواقع في جميع المعاوضات
~~والمشاركات التي بني عليها صلاح العالم، فإن أحد المتعاوضين والمتشاركين
~~مقصوده بالقصد الأول ما يحصل له هو من المحبوب المطلوب الذي يلتذ هو
~~بوجوده، ولكن يقصد ما هو للاخر كذلك من باب الوسيلة والطريق، وبهذا
~~يتعاوضان ويتشاركان، وكل منهما محتاج إلى الآخر لا حاجة العلل إلى المعلول،
~~لكن حاجة الشروط إلى المشروطات، والعلة الفاعلة والغائية لكل منهما غير
~~الآخر. فهذا له قوة وشعور وقصد وله مقصود، وهذا له قوة وشعور وقصد وله
~~مقصود، وليس ما لهذا من هذين مستفادا من هذا، ولا بالعكس، ولكن لا يحصل
~~مقصود كل منهما إلا باجتماع هذين القصدين والعملين.
# PageV06P181
# واعلم أنه كما يعقل امتناع الدور في العلل الفاعلة التي هي الأسباب،
~~والغائية التي هي الحكم والمقاصد، من اثنين، فكذلك يعقل امتناع الدور فيهما
~~من واحد، وذلك أن الفاعل الواحد قد يفعل. الشيء بسبب آخر، كما يخلق الله
~~سبحانه النبات بالمطر، والمطر بالسحاب، وكما يخلق الولد بالوالدين، وكما
~~يخلق سبحانه الشيء لحكمة وهي عامة مقصودة ... (1) فيمتنع أن يكون كل من
~~الشيئين سببا للاخر، ويمتنع أن يكون كل من الشيئين حكمة وغاية للاخر. ولا
~~يمتنع أن يكونا جميعا عن سبب ms1110 واحد غيرهما، ولا أن يكونا جميعا لحكمة واحدة
~~غيرهما، ولا أن يكون أحدهما شرطا للاخر بحيث لا يكون هذا السبب إلا مع ذلك
~~السبب لا به، وأن تكون هذه الحكمة والغاية مع تلك لا لأجلها.
# فليتدبر اللبيب هذه الحقائق، ينتفع بها في معرفة أن الله هو إله كل شيء،
~~وأن جميع المخلوقات غايته له، مسبحة بحمده، قانتة له، وأن الحركات الموجودة
~~في العلو والسفل إنما أصلها عبادة الله وقصده. كما دل القرآن على ذلك في
~~غير موضع، وهذا شيء اخر غير كونها مربوبة له ومقدورة ومقهورة، وغير ذلك من
~~معاني ربوبيته وقدرته التي هي منتهى نظر أكثر المتكلمين والمتفلسفة، حتى
~~يظنوا أن هذا هو تسبيحها، وأن دلالتها على وجود الرب وقدرته هو تسبيحها
~~بلسان الحال فقط، وإن كان ما أثبتوه حقا، فليس الأمر كما زعموه، بل على ما
~~أخبرت به الرسل ودلت عليه، كما نطقت به الكتب الإلهية، ودلت PageV06P182
# عليه البراهين العقلية، كالأمثال المضروبة التي بينها الله تعالى في
~~كتابه، وعرف ذلك أهل العلم والإيمان الذين قال الله فيهم: (ويرى الذين
~~أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) (1) ، وقال: (أفمن يعلم أنما
~~أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) (2) ، وقال: (وتلك الأمثال نضربها
~~للناس وما يعقلها إلا العالمون (43)) (3) .
# فإن قيل: فقد ذكرتم أن الموجودين كما لا يكون أحدهما فاعلا للاخر ولا
~~سببا له، فلا يكون كل منهما معلولا للآخر ومقصودا له هو منتهى إرادته، ولا
~~يكون كل منهما هو المقصود بالاخر من فاعل واحد، وأنتم تعلمون أن التحاب من
~~الجانبين موجود في نفوس الحيوان، كما أن الزوجين الذكر والأنثى من الناس
~~والبهائم يحب كل واحد منهما الاخر، كما قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم
~~من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) (4) ، بل كل من
~~الزوجين قد يكون الآخر محبوبا له معشوقا لذاته، وهو غاية مقصودة، لا يحبه
~~ويقصده لشيء آخر غير نفسه والاتصال به، ويوجد مثل ذلك في أنواع التحاب
~~والتعاشق الذي هو محرم ms1111 ومكروه في العقل والدين، إذ المقصود هنا ذكر الواقع.
# قيل: المحب والعاشق لزوجه لا يجوز أن يحبه ويعشقه لذاته PageV06P183
# ونفسه، فإن الله إنما جعل المودة بين الزوجين لتتم مصلحتهما من المعاشرة
~~والمناكحة، فيحصل لكل واحد منهما من اللذة ما هو موجود في نفسه، وما يمكن
~~تحصيله من غير هذا المحل، كما يحصل للاكل مطلوبه في الطعام المعين والشراب
~~المعين، فإرادته إنما هو لما يحصل في نفسه من اللذة، سواء حصل بهذا المعين
~~أو بغيره.
# ثم هذه اللذة لا ريب أن الحيوان يقصدها لوجود اللذة، لأن كل ما يتنعم به
~~الحي يقصد وجود اللذة به، إذ اللذة غاية مطلوب الحي، ومن حكمة هذا ... (1)
~~أراها الله سبحانه بخلق هذا وجود التناسل الذي به يدوم نسل الحيوان، كما أن
~~من حكمة الأكل أن يستخلف بدن الحيوان بدل ما تحلل منه، إذ كانت الحرارة
~~تحلل الرطوبة دائما، فإن لم يحدث بدل المتحلل وإلا فسد بدن الحيوان، فهذه
~~الحكمة موجودة في الدنيا.
# ومن هنا جهل من جهل من الكفار والمنافقين من المتفلسفة الصابئة، ومن
~~اليهود والنصارى، الذين أنكروا وجود الأكل والشرب والنكاح في الجنة، مع أن
~~اليهود والنصارى يثبتون معاد الأبدان، وأما أولئك المتفلسفة فإنهم منافقون
~~لأهل الملل مع دعواهم التحقيق، يقولون: إن الذي أخبرت به الرسل من أنواع
~~هذا النعيم إنما هو أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني، وهذه من شبههم،
~~وهو أن الأكل والشرب والنكاح علتها الغائية وجود النسل وثبات الأبدان، وهذا
~~PageV06P184
# مفقود في الأخرة، وهذا جهل منهم، وهم يقولون: إن هذه اللذات البدنية ليست
~~لذات حقيقية، وإنما هي مجرد دفع آلام، فإن الاكل يدفع ألم الجوع، والنكاح
~~يدفع ألم الشبق، ولا ريب أن هذه مكابرة لما هو من أظهر الحسيات الذوقيات
~~الموجودات، فإن إحساس الحيوان باللذة من أعظم الإحساس، وإحساسه لذة الأكل
~~والنكاح أمر هو أظهر عند الحيوان من أكثر الأشياء، فقول المتحذلق: إن هذه
~~ليست لذة وإنما هي دفع الام، كلام فاسد، فإنه لا ريب أن هنا لذة، وهنا فقد
~~ألم، فالأمران ms1112 موجودان.
# وإن قال: لولا ذاك الألم لم تحصل هذه اللذة.
# فإن أراد أن الموجود في الدنيا كذلك، فهذا صحيح، لكن كون هذه اللذة في
~~الدنيا إنما توجد بعد ألم، لا يمنع وجودها في دار الحيوان التي لا ألم فيها
~~بلا ألم، فإن الألم سبب هذه اللذة في الدنيا، وكمال البدن والنسل هو العلة
~~الغائية لهذه اللذة، ولكن كونها في الدنيا لا توجد إلا بسبب قبلها هو
~~الألم، وحكمة بعدها هي النسل وثبات الجسد، لا يمنع أن يوجد في الآخرة بدون
~~هذا السبب ودون هذه الحكمة، كما أن كل موجودات الدار الاخرة ومن يوجد فيها
~~بدون ما اقترن بها في الدنيا من أسبابها وغاياتها، وعدم وجود الشيء شيء،
~~والعلم بامتناعه شيء اخر، ولا ريب أن الموعود به في الجنة ليست حقائقه
~~وغاياته وأسبابه مماثلا لما هو في الدنيا، كما قال ابن عباس: "ليس في
~~الدنيا شيء مما في الاخرة إلا الأسماء" (1) . وإنما أخبرنا منها
~~PageV06P185
# بما له في الدنيا ما يشبهه من بعض الوجوه، ثم قيل: (فلا تعلم نفس ما أخفي
~~لهم من قرة أعين) (1) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"يقول الله:
~~أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
~~(2)
# ولهذا أخبر الله بوجود هذا النعيم واللذات في الجنة مع نفيه لما يقترن به
~~في الدنيا من سبب وغاية، كما نفى عن الأشربة واللباس وغير ذلك آفاته، إذ هي
~~دار نعيم لا آفة فيها بحال، فالتحاب بين الزوجين ونحوهما في الدنيا وإن
~~أعقب لذة مطلوبة لنفسها، فليس أحدهما محبا للآخر لذاته، بل لقضاء الوطر
~~منه، كما تقدم، وهو نوع من المعاوضة كالتعاوض بالأموال، ولهذا كان عقد
~~النكاح يوجب المعاوضة من الطرفين، كما قال تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن
~~بالمعروف وللرجال عليهن درجة) (3)
# فإن قيل: فالعشق الموجود، وهو محبة المعشوق لنفسه، وكما قد يتحاب الشخصان
~~لذواتهما لا لأجل نكاح وتناسل، فيحب كل منهما الآخر لنفسه.
# قيل: هذا قصد فاسد، وحب فاسد، وإرادة فاسدة، فإن كل ms1113 من أحب مخلوقا لنفسه
~~لا لأمر آخر وراء ذلك، فحبه فاسد، وقصده PageV06P186
# فاسد، ونحن إنما ذكرنا امتناع الدور الغائي لبيان فساد هذا ونحوه،
~~وامتناع أن يكون لله ند يحب كحب الله الذي تجب محبته لذاته، ونحن إذا قلنا:
~~إن الدور في العلل الغائية ممتنع، كان المراد به أنه يمتنع أن يكون كل
~~منهما مرادا مطلوبا للاخر محبوبا للاخر بإرادة صحيحة، وقصد صحيح، ومحبة
~~صحيحة، فأما الفاسد من الإرادة فهو نظير من يعتقد جواز كون كل من الشيئين
~~علة للاخر، وقد منعنا أن يكون علة في نفس الأمر أو فاعلا له في نفس الأمر،
~~وإن كان من الناس من يعتقد أنه فاعل له ورب له، لكن هذا اعتقاد فاسد، فكذلك
~~من ظن في شيء غير الله أنه مقصود لنفسه، معبود لنفسه، محبوب لنفسه، حتى
~~أحبه وعبده وعشقه، فهذا أيضا جاهل في ذلك ضال فيه، كما أن الأول جاهل في
~~ظنه أن غير الله رب. ولهذا لما تكلم الناس في العشق [هل] هو لفساد الإدراك،
~~وهو تخيل المعشوق على خلاف ما هو به، أو لفساد في الإرادة، وهو المحبة
~~المفرطة الزائدة على الحق= كان الصواب أن العشق يتناول النوعين، وهو فساد
~~في الإدراك والتصور، وفساد في الإرادة والقصد، ولهذا كان سكرا وجنونا ونحو
~~ذلك مما يتضمن فساد الإدراك والإرادة، حتى قيل (1) :
# قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
# ولهذا سماه الله مرضا في قوله: (فيطمع الذي في قلبه مرض) (2) ، ولهذا
~~إنما يوجد كثيرا في أهل الشرك الذين ليس في قلوبهم ما تسكن PageV06P187
# إليه من إخلاص العبادة لله والطمأنينة بذكره، كما ذكر الله ذلك في كتابه
~~عن امرأة العزيز والنسوة اللاتي كن مشركات، وأخبر عن نوع هؤلاء بالسكر
~~والجهل كما في قوله تعالى: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) (1) .
# وبهذا الفرقان يتبين أن القول الحق أنه لا إله إلا الله، مع كون
~~المخلوقات فيها ما اتخذ آلهة من دون الله، فإن الإله يجب أن يكون معبودا،
~~وهو المعبود لذاته الذي يحب ms1114 غاية الحب بغاية الذل، وهذا لا يصلح إلا لله،
~~ومن عبد غيره واتخذه إلها فهو لفساد عمله وقصده، حيثما اتخذ إلها فأحبه
~~لذاته، وبذل له غاية الحب بغاية الذل لجهله وضلاله، ولهذا سموا جاهلية إذ
~~كان أصل قصدهم جهلا لا علما.
# وكون الشيء مقصودا ومحبوبا ومعبودا ولذيذا ونحو ذلك لا يثبت له في
~~الحقيقة بحال من فسد إدراكه كالمطعومات، فإنه إذا قيل في الحلاوة واللحم
~~ونحو ذلك: إنه طيب ولذيذ ومحبوب ونافع ونحو ذلك، كان ذلك حقا، لأن الأبدان
~~الصحيحة تجده كذلك، ولا يندفع ذلك ببغض المريض ووجده إياه مرا لما خالطه من
~~المرة الصفراء.
# وكذلك من تلذذ بأكل الطين وغيره من الخبائث لفساد مزاجه، لم يمنع ذلك أن
~~يقال: هذا غير طيب ولا لذيذ ولا مطلوب ولا مراد ولا محبوب، ولأجل هذا إنما
~~حمد من ذلك ما كان لله.
# وجاء في الأحاديث من مدح المتحابين لله والتحاب في الله ما هو
~~PageV06P188
# كثير مشهور، كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه
~~تعالى: "حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي
~~للمتجالسين في، وحقت محبتي للمتباذلين في " (1) .
# وكقوله: "إن لله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء
~~والشهداء بقربهم من الله "، فقيل: من هم يا رسول الله؟ صفهم لنا، جلهم لنا،
~~لعلنا نحبهم! قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أموال تباذلوها ولا
~~أرحام تواصلوها، هم نور، ووجوههم نور، على كراسي من نور، لا يحزنون إذا حزن
~~الناس، ولا يخافون إذا خاف الناس "، ثم قرأ قوله: (ألا إن أولياء الله لا
~~خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)) (2) .
# وكقوله في صحيح مسلم (3) فيما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -: "إن عبدا زار أخا له في الله، فأرصد الله على مدرجته ملكا، قال:
~~أين تريد؟ قال: أزور أخا لي في الله، قال: هل لك عنده من نعمة تربها؟ قال:
~~لا، قال: فهل بينك وبينه رحم؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، فقال: إني رسول ms1115
~~الله إليك أن الله قد أحبك ".
# وفي الترمذي (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب لله،
~~وأبغض لله، PageV06P189
# وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ".
# وفي الحديث في الترمذي (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوثق عرى
~~الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله ".
# وفي الصحيحين (2) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث
~~من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما،
~~وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه
~~الله منه، كما يكره أن يلقى في النار".
# فإن هذه المحبة أصلها محبة الله، والمحبوب لغيره ليس محبوبا لذاته، وإنما
~~هو محبوب لذلك الغير، فمن أحب شيئا لله فإنما أحب الله، وحبه لذلك الشيء
~~تبع لحبه لله، لا أنه محبوب لذاته.
# لكن قد يظن كثير من الناس في أشياء مما يهواها أنه يحبها لله، وإنما يكون
~~محبا لما يهواه، ولهذا كان أعظم ما تجب محبته من المخلوقات هو الرسول - صلى
~~الله عليه وسلم -، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه
~~(3) عن أنس: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
~~PageV06P190
# ولده ووالده والناس أجمعين ".
# وفي صحيح البخاري (1) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: يا رسول
~~الله! فلأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: "لا يا عمر، حتى أكون
~~أحب إليك من نفسك "، فقال: فلأنت أحب إلي من نفسي، قال: "الان يا عمر".
# ومحبته رضي الله عنه إنما هي تابعة لمحبة الله، كما قال تعالى: (قل إن
~~كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة
~~تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله
~~فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) (2) .
# وأما محبة الله فهي الأصل، فإنه يجب أن يحب لذاته، وليس هذا لغيره، وهي
~~أصل التوحيد العملي، كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله ms1116 أندادا
~~يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله) (3) ، وقال: (فسوف يأتي الله
~~بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل
~~الله ولا يخافون لومة لائم) (4) .
# ونحن بينا بما ذكرناه من البرهان امتناع الدور، وأنه لا يجوز أن يكون كل
~~من الشيئين سببا للاخر وعلة له ولا حكمة له ومعلولا له، PageV06P191
# سواء كان هذا من فاعلين أو من فاعل واحد.
# فأما كون بعض بني آدم قد يجعلون ما ليس سببا سببا، وما ليس مقصودا
~~مقصودا، فهذا هو الشرك الذي ضل به بنو آدم من الأولين والاخرين، حيث جعلوا
~~بعض المخلوقات علة تامة لبعض، إما فاعلا ربا، وإما إلها معبودا. وهذا هو
~~الباطل، أعني هذا باطل في نفسه، والجاعلون لذلك مفسدون في اعتقادهم
~~وإرادتهم، فإن من قصد وأراد بالقصد التام ما لا يصلح أن يقصد ويراد فإن
~~عمله فاسد، كمن أحب الأشياء التي تضره وتفسده دون الأشياء التي تصلحه
~~وتنفعه، فإنه وإن أحبها وقصدها وعمل لها فهذا هو الفساد. وإذا ضرب مثل ذلك
~~بمحب العسل المسموم وآكله، كان في هذا المثل بعض الشبه، وإلا فالأمر فوق
~~ذلك. ولو قيل: هو مثل محبة الفراش للنار التي تحرقه، كان الأمر فوق ذلك.
# ونحن في هذا الموضع إنما أصل كلامنا في الدور، وهو أنه يمتنع أن يكون كل
~~من الشيئين سببا للاخر أو مقصودا له، ولا يمتنع أن يكون الشيئان متعاونين
~~على مقصودهما، فيكونان مشتركين فيما هو سبب لهما وفيما هو مقصود لهما، ثم
~~أحدهما يقصد الآخر لذلك، كمحبة الشيء لغيره، كما أن أحدهما يعين الآخر،
~~فهذا تعاون وتشارك في المحبوب وفي سببه.
# وبهذا البرهان يتبين أنه لا بد في الوجود من إله يجب أن يكون هو منتهى
~~قصد القاصدين، وعبادة العابدين، وإرادة المريدين، ومحبة المحبين، كما أنه
~~منتهى سؤال السائلين، وطلب الطالبين، لأنه الخالق
# PageV06P192
# القديم الواجب بنفسه، الذي هو فاعل للممكنات والمحدثات وربها وخالقها. إذ
~~الوجود فيه أشياء محدثة، ولا بد لها من محدث، وفيه حركات موجودة، ولا بد ms1117
~~لها من غاية، فإن الحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قسرية، لأنها إن كان
~~المتحرك شاعرا فهي الإرادية، وإن لم يكن شاعرا، فإن كانت بلا شعور على خلاف
~~طبعها فهي القسرية، كحركة الحجر إلى فوق، وإلا فهي الطبعية، كحركته إلى
~~أسفل، لكن القسرية تابعة للقاسر. وأما الطبعية فلا تكون إلا إذا خرج
~~المطبوع عن مركزه ومستقره، كخروج التراب والحجارة عن مركزها إلى فوق، وكذلك
~~الماء. فبطلت بطبعها أن تعود إلى مركزها ومستقرها، فلو لم تحرك أولا عنه
~~لما خرجت، فتبين أن الطبعية والقسرية تابعتان، فعلم أن كل حركة في العالم
~~عن إرادة، وتلك حركات الملائكة الذين أخبر الله عنهم في كتابه عما يدبرونه
~~بإذنه وأمره من أمر السموات والأرض، كما قال تعالى: (والذاريات ذروا (1)
~~فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4)) (1) ، فأقسم
~~بالمخلوقات طبقا بعد طبق، بالرياح ثم بالسحاب ثم بالنجوم وأفلاكها، ثم
~~بالملائكة المقسمات أمرا. وكذلك قوله: (والنازعات غرقا (1) والناشطات نشطا
~~(2) والسابحات سبحا (3) فالسابقات سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5)) (2) .
# ونصوص الكتاب والسنة في ذلك أكثر من أن يمكن ذكرها هنا، فإذا كانت جميع
~~الحركات هي عن إرادات، ولا بد للمريد من غاية هي PageV06P193
# مراده ومقصوده الذي هو معبوده، فلا بد للموجودات من إله هو إلهها
~~ومعبودها سبحانه وتعالى.
# ومن المعلوم بالبديهة أن الشيء لا يكون فاعلا لنفسه، ولا يكون حادثا من
~~غير محدث، وكذلك من المعلوم بالبديهة أن المتحرك لا يكون متحركا إلى نفسه،
~~ولا يكون متحركا بإرادته إلى غير شيء، فكما أن الكائن بعد أن لم يكن لا
~~يكون موجودا بنفسه ولا من غير شيء، كما قال تعالى: (أم خلقوا من غير شيء أم
~~هم الخالقون (35)) (1) ، فالمتحرك بإرادته بعد أن لم يكن متحركا لا يجوز أن
~~يكون متحركا مريدا لنفسه، ولا يجوز أن تكون حركته وإرادته لغير شيء، لأن
~~ونفسه كانت موجودة قبل حركته، وكونها هي المراد بما أحدثه يقتضي حدوثها بعد
~~حركته، فيقتضي أن تكون موجودة معدومة معا.
# كما أنه إذا قدر أنه فاعل نفسه لزم أن يكون متقدما على ms1118 نفسه، لكونه
~~فاعلا، ومتأخرا عن نفسه، لكونه مفعولا، فهذا الذي ذكر من (2) كون الإنسان
~~يمتنع أن يكون فاعلا مفعولا يقتضي امتناع كونه عابدا معبودا. وكذلك يقال في
~~كل ممكن ومحدث، وهذا أيضا يدخل في الدور الممتنع، وما ذكر أولا هو دور بين
~~اثنين من فاعلين أو من فاعل واحد. وكل ذلك يستدل به على إثبات الإله
~~المعبود الخالق للممكنات والمحدثات. PageV06P194
# فصل
# وكذلك كما يمتنع أن يكون في الشخص الواحد أن يكون علة لنفسه ومعلولا لها
~~في الفاعل والغاية، يمتنع أن يكون جزء علته أو شرط علته، فلا يكون فعل
~~فاعله محتاجا إلى وجود شيء منه، ولا يكون في المقصود شيء منه، وكذلك
~~أفعاله، كما لا يجوز أن يكون حدوث اعتقاده وقصده وقدرته منه، فلا يجوز أن
~~يكون علة كل فعله حادثا بفعله الذي حدث بفعله، ولا يجوز أن يكون حادثا بعلة
~~فعله جزؤها أو شرطها المتقدم على المعلول، لكن يجوز أن يكون هو فعلا في
~~حدوث المعلول بحيث لا يحدث هذا الفعل إلا مع هذا الفعل أو نحو ذلك، فإن
~~الشرط إنما يجب أن يقارن المشروط، لا يجب أن يتقدم عليه. وأما العلة فيجب
~~تقدمها عليه، فلو كان الفعل علة أو جزء علة لزم تقدم كل منهما على الآخر.
# وأما كون أحد الفعلين مشروطا بالآخر فهذا لا محذور فيه، وكذلك لا محذور
~~في كون الفعل يحدث بأسباب بعضها من الإنسان، ويكون ذاك السبب متقدما على
~~الفعل، فكذلك لا يجوز أن تكون لذته المنقضية هي العلة الغائية مطلقا، لوجود
~~قصده وعمله، ولا جزءا من العلة، وإن كانت شرطا في وجود المعلول الذي هو
~~المقصود لذاته.
# ولهذا يوجد بعد حصول اللذة نفسه تطلب أمورا أخرى وتقصدها، ولا تطمئن
~~القلوب وتسكن إلا إلى الله، كما قال: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28))
~~(1) ، وذلك لأن ما يتعقبه العدم لا يصلح أن يكون PageV06P195
# مقصودا لذاته، فإنه لو كان هو المقصود بالذات، لكان حال القاصد له بعد
~~عدمه كحاله قبل وجوده، فيمتنع أن يكون مقصودا، لأن ذلك ms1119 عبث وسفه، كما تقدم
~~بيانه، وإنما يقصد لأنه بعد عدمه يبقى أمر موجود يصلح أن يكون مقصودا، كما
~~أن الأكل والشرب ولذة ذلك وإن كانت منقضية، ولذة الوقاع وإن أكانت، منقضية،
~~فليست هي المقصودة من هذا الفعل بالذات، بل وإن قصدها الحيوان لما فيها من
~~اللذة، فالمقصود مع ذلك ثبات جسمه وبقاؤه ووجود النسل، وهذه الغاية فإن لم
~~يقصدها الحيوان الفاعل، فهي مقصودة لخالق الفعل وغيره، وذلك أن الحيوان لما
~~لم يكن مستقلا بالفعل، لم يجب أن يكون مستقلا بالقصد الذي هو مبدأ الفعل،
~~بل كما أن فعله لغيره فيه تأثير، فلغيره مقصود، فالسبب الفاعل كالسبب
~~الغائي، ثم الإنسان إذا لم يقصدها، لا يمتنع وجود الفعل، بل يقتضي ذلك فساد
~~حاله، فإنه من لم يقصد بأفعاله إلا نيل اللذة العاجلة فهذا أفعاله فاسدة
~~باطلة، وهي حال من اتبع هواه، ومن كان لا يريد إلا العاجلة.
# ونحن إنما قصدنا تبيين فساد مثل هذا القصد والعمل، وأنه لا يصلح حال
~~صاحبه، لا تبيين امتناع الفعل بدونه، فإن امتناع الفعل ووجوده يتعلق بخلق
~~الله وما ييسره من الأسباب، فهناك يتبين أنه لو كان هو الغاية أو جزؤها
~~لامتنع أن يكون موجودا مخلوقا.
# وأما في قصد الإنسان فتبين أنه يكون فسادا وضررا وشرا كما تقدم، فإن
~~الموجودات لا توجد بدون أسبابها الفاعلة، ولا تكون موجودة من الله بدون
~~غاياتها المقصودة، وهو الحكيم في تلك
# PageV06P196
# الغايات.
# وأما الحيوان فلا بد له من مقصود بفعله، لكن لا يجب أن يكون ذلك الذي
~~قصده مصلحة له ونافعا له، كما أنه لا بد له من قصد وقوة، لكن لا يجب أن
~~يكون مقرا بأن ذلك بإعانة الله وقدرته.
# وإذا تبين أنها ليست مقصودة بالذات، فالمقصود بالذات لا بد أن يكون باقيا
~~أبديا، كما بينا أن ما يتعقبه العدم لا يكون مقصودا بالذات، وكذلك أيضا لا
~~بد أن تكون ذات العلة الغائية متقدمة على الفعل، وإن كان ما يطلب بالحركة
~~إليها يكون لذة حادثة، وإن كانت متواصلة، وهذا مما ms1120 نبينه هنا، وإن لم يكن
~~مبينا فيما مضى، وذلك أن العلة الغائية هي علة بماهيتها وحقيقتها المقصودة
~~لفاعلية العلة الفاعلية، إذ لولا كون تلك الحقيقة تستحق أن تطلب وتقصد
~~لامتنع أن يقصدها الفاعل، فامتنع فعلها، ولا يجوز أن يكون الفاعل بإرادته
~~وفعله جعلها مقصودة مرادة، لأن إرادته متوقفة على كون المراد يجب أن يكون
~~مرادا، فلو كان كون المراد مرادا حاصلا بإرادته لزم الدور، وإذا كانت
~~إرادته هي [التي] جعلت المراد مرادا، والمراد هو الذي جعل الإرادة مريدة،
~~بل لابد من حقيقة تكون هي بنفسها تستحق أن تكون مرادة مقصودة، وحينئذ يراد
~~ويقع الفعل، كما أنه لا بد من حقيقة ... (1) فاعلة، وحينئذ فيفعل أفعالا،
~~فلا يجوز أن يكون مفعولها أحدثها وفعلها.
# و
### | الإرادة بالنسبة إلى المراد كالفعل بالنسبة إلى الفاعل،
# فإن المراد PageV06P197
# هو الذي يوجب الإرادة، يوضح ذلك أن العلة الغائية إذا كانت لا بد من
~~تقدمها في العلم والقصد، فالعلم والقصد لا يتعلق بالعدم المحض ابتداء، بل
~~المقصود إنما يعلم بطريق التمثيل بالموجود، ولذلك إنما يقصد بالغرض، فيكون
~~الغرض من عدم أحد الضد وثبوت الضد الآخر، كما يقصد عدم المانع. أما أن يكون
~~العدم مقصودا بالقصد الأول أو معلوما بالعلم الأول، فهذا محال.
# وإذا كان كذلك، فالغاية التي لا توجد إلا بعد الفعل تكون حال العلم
~~والقصد معدومة، فإنما يعلم بالقياس إلى غيرها، وإنما يقصد لقصد أمر وجودي،
~~وإلا فالعدم المحض إذا قصد إيجاده لا لقصد أمر موجود، لزم أن يكون في العدم
~~المحض ما يتميز فيه مقصود عن مقصود، وهذا ممتنع.
# ومن هنا غلط الغالطون القائلون بأن المعدوم شيء، وأهل الإثبات وإن قالوا:
~~هو ثابت في العلم، فالقصد يتوجه إلى المعلوم، لكن يقال: العلم يتعلق
~~بالمعلوم على ما هو عليه، فكذلك المعلوم لم كان مقصودا دون غيره، وليس في
~~العدم المحض تميز، بل لا بد أن يكون المقصود أمرا وجوديا، ثم أريد حصول فعل
~~وغاية قريبة لحصول ما يطلب من العمل للغاية المقصودة لذاتها.
# ولهذا مكة موجودة قبل ms1121 سعي الحاج إليها، فهي الغاية، وإن كان وصوله إليها،
~~وأعمال المناسك هي غاية عمله لها، وهذه هي الغاية التي تتأخر عن العمل، لكن
~~نفس الغاية المقصودة لذاتها لا بد أن تتقدم الفعل.
# PageV06P198
# وهذا أصل عظيم، يسر الله بيانه بعد كثرة تحويم القلوب عليه، وهو نافع في
~~أصلين عظيمين:
# أحدهما: أن الله هو الإله المعبود لذاته.
# والثاني: أنه هو المحبوب لذاته، فإليه تصير الأمور، وإليه المنتهى في
~~أفعاله وأفعال عباده، كما أنه رب ذلك كله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
# PageV06P199
# قاعدة
# في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله
# PageV06P201
# الحمد لله رب العالمين. قال الشيخ الإمام العالم المحقق أبو العباس أحمد
~~بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله:
# فصل
# قاعدة في إرادة العدم والإعدام واستطاعته وفعله
# وطلبه والتعليل به ونحو ذلك
# قد ذكرت بعض ما يتعلق بذلك عند الكلام في العلم بالمعدوم، ومسألة النهي
~~هل هو طلب العدم أو الوجود، وعند الكلام في إحسان الله لخلق كل شيء، وأنه
~~إنما لا يصرف إليه المعدوم ونحو ذلك. ونحن نذكر هنا قاعدة، فنقول:
# الصفات المتعلقة بالوجود مثل: العلم والإرادة والأمر والقدرة والفعل
~~والسبب الفاعل كيف يتعلق بالعدم؟ أما العلم فقد قررنا في غير هذا الموضع
~~أنه إنما يعلم المعدوم بطريق التبع للعلم بالوجود، وكذلك قررنا أنه إنما
~~يراد المعدوم بطريق التبع للموجود، فإن الشاعر منا لا يدرك بنفسه ابتداء
~~عدم شيء، وإنما يدرك الوجود، ثم يقدر في نفسه ما يركبه أو يفرعه من أجزاء
~~الوجود، مثل تقدير إله آخر، أو نبى بعد محمد، أو جبل ياقوت، أو بحر زئبق،
~~فحينئذ يعلم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا نبي بعد محمد، وأنه ليس هنا جبل
~~ياقوت وبحر زئبق، وإنما يعلم ذلك بعد أن يكون علم إلها موجودا ونبيا موجودا
~~وبحرا وجبلا وياقوتا وزئبقا، وأما ما لم يتصور مفرداته من الموجود فإدراك
~~عدمه مثل عدم إدراكه، كما قال تعالى: (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في
# PageV06P203
# السماوات ولا في الأرض) (1) ، فعدم علمه بوجود ذلك مثل ms1122 علمه بعدمه. وهذا
~~في حق الله تعالى، لأنه بكل شيء عليم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات
~~ولا في الأرض، فما لم يعلمه من الأشياء يعلم أنه ليس في الأشياء.
# وكذلك الإرادة، فإن الحي إنما يريد بالقصد الأول ويحب ما يناسبه أو
### | ....
# (2) ، فلا يحب ويريد بذاته إلا ما يطلب وجوده، ثم قد تعارضه أشياء
~~فيكرهها ويبغضها ويريد أن لا تكون. ثم إذا كره هذه الأشياء قبل كونها أو
~~بعد كونها فإنه يسعى في إبطالها، وقد يكون قادرا على ذلك وينهى عنها غيره.
~~فاختلف النالس في هذا المقام:
# منهم من قال: القدرة لا تكون قدرة على العدم، ولا الفعل يكون فعلا للعدم،
~~ولا الإرادة تكون إرادة للعدم، لأن العدم لا شيء، والقدرة على ما هو لا شيء
~~لا شيء، فتكون القدرة على العدم كعدم القدرة، وكذلك فعل ما هو لا شيء
~~وإرادة ما هو لا شيء بمنزلة وجوده، فإن هذا مما لا يستريب الناس فيه أنه لا
~~يحتاج إلى فاعل وقادر، بل يكفي في عدمه عدم مقتضيه وموجبه، ولهذا نقول: ما
~~شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فنضيف عدم الكون إلى عدم المشيئة. لا
~~يحتاج أن يقال: وما شاء أن لا يكون لم يكن.
# وهذا قول كثير من المتكلمة والمتفقهة من المعتزلة والأشعرية PageV06P204
# والحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية وغيرهم. ثم اختلف هؤلاء فيما إذا
~~أراد الله أن يفني شيئا ويعدمه:
# فقال البصريون من المعتزلة: يحدث فناء لا في محل، فيفنى به.
# كما يقولون في الإيجاد: إنه أحدث لا في محل، فحدث به.
# وهذا عند العقلاء معلوم الفساد بالضرورة والنظر من وجوه كثيرة، كما ذلك
~~معلوم الفساد في الإرادة، فإن قيام الصفات بغير محل وحدوث شيء بلا إرادة
~~ومنافاة شيء سموه الفناء لجميع الكائنات= كل هذا مما يعلم فساده عند
~~تصورحقيقته.
# وقال كثير من متكلمة الإثبات من الأشعرية والحنبلية: عدمه وفناؤه بأن لا
~~يحدث سبب بقائه، إما أن لا يحدث البقاء عند من يقول منهم: إن الباقي باق
~~ببقاء، وإما ms1123 أن لا يحدث الأعراض عند من يقول منهم: إن العرض لا يبقى
~~زمانين. فإن هؤلاء يقولون: إنما بقاء الأعيان التي هي الجواهر بما يحدثه له
~~من الأعراض، أو بما يحدثه من البقاء، فإذا انتفى شرط بقائها انتفت وعدمت،
~~وانتفاء شرط البقاء يكفي فيه أنه لا يفعله ولا يريده.
# وحقيقة قولهم أن العدم الطارىء المتجدد بمنزلة العدم الدائم المستمر،
~~يكفي فيه عدم الإرادة للإيجاد والإبقاء وعدم إيجاده وإبقائه. فالمعتزلة
~~قالوا: يفني الأشياء ويعدمها بإحداث ضد ينافيها هو الفناء، وهؤلاء يقولون
~~بفوات شرطها ومقتضاها، فالنزاع بينهم هل الإعدام والإفناء لإيجاد مانع أو
~~لعدم شرط، وكلهم فروا من كون نفس المعدوم مفعولا بنفسه أو مرادا بنفسه.
# PageV06P205
# فهذا أحد القولين، وهؤلاء يقولون: المطلوب بالنهي أو المراد بالنهي ليس
~~عدم المنهي عنه، وإنما هو فعل ضد من أضداد المنهي عنه: إما الامتناع من
~~الفعل، وإما البغض له والكراهة ونحو ذلك، حتى يصح أن يكون مطلوبا مرادا
~~للناهي، ويصح أن يكون مقدورا مفعولا مرادا للمنهي. فعلى قول هؤلاء كما أن
~~العلة الفاعلية للأمر الموجود لا تكون عدما بالاتفاق، وإلا لصح [نسبة]
~~الحوادث إلى معدوم، فيبطل الاستدلال بها على الخالق البارىء المصور. كذلك
~~يقولون: العلة الغائية لا يصح أن تكون عدما أيضا، إذ هي مطلوب الفاعل
~~ومراده، والمعدوم لا يكون مطلوبا ولا مرادا.
# والقول الثاني في أصل المسألة: إن العدم نوعان كما أن الوجود نوعان، فكما
~~أن الوجود بنفسه هو غني عن الفاعل، وهو الله سبحانه، والممكن بنفسه مفتقر
~~إلى الفاعل محتاج إليه. فكذلك العدم نوعان:
# أحدهما: ما انعقد سبب وجوده التام أو المقتضي، وجد أو لم يوجد.
# والثاني: ما لم ينعقد سبب وجوده.
# فما لم ينعقد سبب وجوده يكفي في عدمه عدم سببه، لا يحتاج إلى فاعل ولا
~~مريد لعدمه.
# وأما ما انعقد سببه التام فوجد، أو انعقد سببه المقتضي فهو معترض للوجود،
~~فهذا إن لم يوجد ما يعارضه وينافيه لم يعدم.
# فالعدم الحادث الطارىء كالوجود الحادث الطارىء، كل منهما لا
# PageV06P206
# بد له من سبب، لكن ms1124 الوجود يتوقف على وجود السبب وانتفاء المانع، والعدم
~~يكفي فيه كل واحد من عدم المقتضي ووجود المانع، فالوجود مفتقر إلى الأمرين
~~كليهما، والعدم يكفي فيه أحدهما إذا عني بالسبب العلة المقتضية دون التامة،
~~وأما إذا عني به العلة التامة فهذه العلة يلزم من وجودها وجود المعلول، ومن
~~عدمها عدم المعلول، فالوجود لا يقف إلا على وجودها، والعدم لا يقف إلا على
~~عدمها.
# وبهذا التفسير تزول الشبهة الواقعة بين كثير من الناس في مثل هذه
~~المحارات والمضطربات التي يكثر فيها النزاع والجدال، وينتشر فيها القيل
~~والقال، ويحصل فيها التفرق والاختلاف، ويزول بها الاجتماع والائتلاف، فإذا
~~فسرت الأسماء المشتركة وفصل الحق من الباطل وحكم بالعدل بين الفرق
~~والمقالات ظهر الكتاب والسنة والجماعة، وزال الضلال والبدعة والفرقة.
# فنقول: العلة والموجب والمقتضي والباعث والسبب والمناط والمحرك والداعي
~~ونحو ذلك من الأسماء هي أسماء متقاربة، تكون مترادفة من وجه ومتباينة من
~~وجه، وفيها تقسيمان:
# أحدهما: أن العلة تنقسم إلى تامة موجبة يوجد بها المعلول لا محالة، وإلى
~~مقتضية قاصرة تقف على شروط وانتفاء موانع. ولفظ العلة يعبر به عن كل من
~~المعنيين في أصول الدين وأصول الفقه وفي الكلام والفلسفة وغير ذلك.
# فأما الأولى فلا توجد إلا مجموع أمور، وما ثم سبب واحد يوجب مسببه لا
~~محالة وينتفي مسببه عند انتفائه إلا مشيئة الله، فإنه ما شاء كان
# PageV06P207
# وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه فعال لما يشاء، (وإن يمسسك الله بضر فلا
~~كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) (1) ، (قل أفرأيتم ما تدعون
~~من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن
~~ممسكات رحمته) (2) ، وقال تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا
~~قوة إلا بالله) (3) . وهذا كثير في الكتاب والسنة وعلى اتفاق الملل وأهل
~~الفطرة السليمة، لم يخالف فيه إلا القدرية من جميع الطوائف الذين يزعمون:
~~قد يريد ما لا يكون، ولا يفرقون بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية.
~~فإرادته سبحانه ومشيئته ms1125 هي السبب والعلة الكاملة التامة وجودها، ومحبوبه
~~ومرضيه هي الحكمة والغاية التامة الكاملة.
# هذا في العلة السببية، وأما الغائية فهو كذلك أيضا، غالب التام منها
~~مركب، وما ثم ما هو العلة الغائية على الإطلاق إلا محبوب الله ومرضيه، وإن
~~كان الحب والرضا يستلزم ... (4) ، فإن عبادته وطاعته وطاعة رسله هي غاية
~~الأعمال في الدنيا، والتلذذ بالنظر إليه هو غاية المطلوب في الاخرة. وأما
~~ما فى حق الرب وأمره فإن محبوبه ومرضيه هو الغاية المرادة من ذلك كله، وإن
~~كان من الأسباب والوسائل ما هو مراد غير محبوب ولا مرضى، فإن الشيء المحبوب
~~المشتهى قد PageV06P208
# يتوقف حبه على وجود شرط وانتفاء موانع غير محبة الله تعالى، مثل اقتضاء
~~النار الإحراق والماء الإغراق، والطعام والشراب للشبع والري، والشعاع
~~للتسخين، والأعمال الصالحة للثواب، والأعمال السيئة للعقاب، ونحو ذلك. فكل
~~هذه الأمور قد يتخلف مقتضاها لفوات شرط أو وجود مانع. وكذلك في الغائيات،
~~فإن جعلت العلة مجموع الأمور التي يجب عندها الحكم فهي العلة التامة، وإن
~~جعلتها الأمر المقتضي للحكم لولا المعارض المقاوم فهي العلة المقتضية
~~الناقصة.
# وبهذا التقسيم يعرف اختلاف العلماء من أصحابنا وغيرهم في العلة هل يجوز
~~تخصيصها، فإن عني بالعلة التامة فتلك لا تقبل التخصيص، وإن عني بها
~~المقتضية فإنها تقبل التخصيص. وهذا عام في العلل الكونية والدينية، الطبعية
~~والشرعية، العقلية والسمعية.
# فإن قلت: فإن كثيرا من أصحابنا وغيرهم يقولون: العلة العقلية توجب
~~معلولها، لا يتخلف عنها، ولا يقف على شرط، ولا لها مانع، بخلاف العلة
~~الشرعية.
# قلت لك: هؤلاء مرادهم بالعلة الصفات التي توجب الأحوال، مثل أن العلم علة
~~كون العالم عالما، والحركة علة كون المتحرك متحركا، مبنية على ثبوت الأحوال
~~في الخارج معاني غير الصفات. فمن أثبت الأحوال من متكلمة المعتزلة ومتكلمة
~~الصفاتية من أصحابنا وغيرهم فإنه يفرق بين العلم والعالمية والقدرة
~~والقادرية، ويجعل الصفات توجب الأحوال. ومن نفى الأحوال فإن عنده العلم نفس
~~كون
# PageV06P209
# العالم عالما، والحركة نفس كون المتحرك متحركا، ليس عندهم هنا شيئان
~~أحدهما علة والآخر معلول ms1126.
# وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علة للشبع
~~والري، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات
~~من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهل الطبع وأهل القدر في أن الله خالق كل شيء
~~أنكروا أن يكون في العلم علة أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند
~~هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم،
~~وهذه طريقة كثير من الفقهاء الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل
~~الإثبات من الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدت في كلام القاضي أبي بكر ابن
~~الباقلاني أوالقاضي أبي يعلى أو القاضي أبي الطيب أو أبي إسحاق
~~الفيروزابادي أو أبي الخطاب أو ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرق بين العلل
~~العقلية والشرعية فهذا مرادهم.
# وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردون على أهل
~~الطبيعة الذين يضيفون الحوادث إلى ما دون الله من جسم أو طبع أو فلك أو نجم
~~أو عقل أو نفس، وعلى القدرية الذين يزعمون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله
~~ولا يقدر على خلقها، ويعلمون (1) أن الله خالق كل شيء = فلا ينكرون ثبوت
~~الأسباب وأن الله يخلق الأشياء بها، كما نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق
~~عليه PageV06P210
# سلف الأمة والسالمو الفطرة من أهل الملة. قال الله تعالى: (وهو الذي يرسل
~~الرياح) إلى قوله: (فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) (1) ، وقال
~~تعالى: (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) (2) ،
~~وقال: (فأنبتنا به حدائق ذات بهجة) (3) ، وقال تعالى: (فأنبتنا به جنات وحب
~~الحصيد (9)) (4) ، وقال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)
~~(5) ، وقال تعالى: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) (6) . وهذا كثير في
~~الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يفعل بها، وإنما يفعل عندها لا
~~بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفطر العقلاء.
# فإن قلت: قد ذكرت أنه ليس في الوجود علة تامة وحدها إلا مشيئة الله، فكيف
~~تصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ms1127 ونحو هذه الأفعال التي
~~لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزم للانكسار، والإحراق مستلزم للاحتراق،
~~والإزهاق مستلزم للزهوق، ونحو ذلك.
# قلت: الإحراق ونحوه إما أن يعنى به فعل المحرق فقط، أويعنى PageV06P211
# به فعله وقبول المحترق، فإن عني به فعل الفاعل فقط فهو من العلل المقتضية
~~لا الموجبة، يقال: أحرقته فلم يحترق، وعلمته فلم يتعلم، وكسرته فلم ينكسر،
~~وإن عني به فعل الفاعل وقبول القابل فهما أمران مركبان.
# وهذا طرد قولنا
### | : ليس في الوجود علة تامة إلا مركبة سوى مشيئة الله تعالى،
# وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد
~~القسمين.
# التقسيم الثاني: أن الشيء ليس له خارج عن نفسه علتان: علة فاعلة وعلة
~~غائية، ويسمي الفقهاء الفاعلة السبب والموجب، ويسمون الغائية الحكمة
~~والمراد والمقصود. أما المادة والصورة فذلك علتان للمركب في نفسه، فالمركب
~~كالخاتم مثلا مركب من الفضة التي هي المادة، والصورة التي هي القالب (1) ،
~~وتسمية هذا عللا ليس من اللغة المعروفة ولا من المعروف في الفعل، وإنما هو
~~اصطلاح لطائفة من النظار من المتفلسفة وغيرهم، وإنما العلة المعروفة ما كان
~~مغايرا للمعلول، فالإنسان بعقل يفعل فعلا لمقصود، فهو الفاعل له، والمقصود
~~هو الغاية المقصودة به، والعلة الغائية علة العلم وفاعلية العلة الفاعلية،
~~فإنه لولا المقصود والفاعل لما فعل الفاعل، وهي [أول] في القصد آخر في
~~الوجود والفعل. ولهذا قال تعالى: في أم الكتاب: (إياك نعبد وإياك نستعين
~~(5)) ، فإن الله سبحانه هو PageV06P212
# الإله المعبود بجميع الأعمال الصالحة، وهو الخالق الرب المعين عليها، فله
~~الدعاء وحده لا شريك له دعاء العبادة والتأله لألوهيته، ودعاء السؤال
~~والطلب لربوبيته الداخلة في ألوهيته. وهو رب العالمين وخالق كل شيء، ولهذا
~~قال: (فاعبده وتوكل عليه) (1) ، وقال: (عليه توكلت وإليه أنيب (10)) (2) ،
~~وقال: (عليه توكلت وإليه متاب (30)) (3) .
# إذا عرف ذلك فالعلل في اصطلاح الفقهاء في الدين والشريعة قد يراد بها
~~الأسباب التي هي بمنزلة الفاعل، كما يقال: ملك النصاب سبب لوجوب الزكاة،
~~والزنا سبب لوجوب الحد، والقتل العمد سبب لوجوب القود. وقد ms1128 يراد بها الحكمة
~~المقصودة التي هي الغاية، كما يقال: شرعت العقوبات للكف عن المحظورات،
~~وشرعت الضمانات لإقامة العدل في النفوس والأموال، وشرعت العبادات لأن يعبد
~~الله وحده لا شريك له، وشرع الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين
~~كله لله.
# وهذه الحكم والمصالح التي هي الغايات تكون مقصودة مرادة للشارع الامر
~~وللفاعل المطيع، ولكن تحصل بدون قصده، كما يحصل ثواب كثير من الأعمال
~~الصالحة في الدنيا والآخرة لمن أطاع الله ورسوله في أفعال كثيرة، وإن كان
~~لم يعلم ذلك فضلا عن أن PageV06P213
# يقصده.
# وقد تنازع الفقهاء هل يجوز تعليل الوجود بالعدم، فذهب طوائف من أصحابنا
~~وغيرهم إلى جواز ذلك، وذهب طوائف إلى أنه لا يجوز. ثم منهم من يقول: يجوز
~~أن يكون العدم جزءا من العلة أو شرطا، ومنهم من يمنع ذلك، ومنهم من يمنع
~~الجزء دون الشروط. وفصل أبو الخطاب أن ذلك يجوز في قياس الدلالة بلا ريب،
~~فإن قياس الدلالة المشترك بين الأصل والفرع دليل على العلة وإن لم يذكر نفس
~~العلة، والدليل يجوز أن يكون وجودا وعدما، سواء كان المدلول وجودا أو عدما.
~~ومن جعل علل الشرع كلها أمارات ومعرفات من أصحابنا وغيرهم فجميع الأقيسة
~~عندهم قياس دلالة، وجميع العلل عندهم مجرد أدلة. لكن هذا قول ضعيف.
# وأما في قياس العلة فيمتنع أن يكون العدم فاعلا للوجود، وهذا معلوم
~~ببديهة العقل، ولو جاز ذلك لجاز إسناد الحوادث إلى معدوم، فامتنع بهذا أن
~~تكون العلة العدمية بمعنى الفاعل علة لوجود.
# لكن هل يكون العدم شرطا أو جزءا؟ فهذا ينبني على ما تقدم أن العلة إذا
~~عني بها الموجبة التامة لم يمتنع أن يكون العدم جزءا منها، وإن عني بها
~~المقتضي لم يمتنع أن يكون العدم شرطا في تأثيرها، فإن تأثير السبب المقتضي
~~لأثره قد يقف على انتفاء الضد المعارض. ثم إنه كثيرا ما يكون قد انعقد سبب
~~الشيء، وإنما تخلف الحكم لمانع [أو] لمعارض، فإذا انتفى ذلك المانع أضيف
~~الحكم إلى انتفاء المانع، وهو في الحقيقة جزء ms1129 العلة أو شرطها، ويجعل علة في
~~اللفظ عند النزاع،
# PageV06P214
# لأن الجزء الآخر قد علم وجوده واتفق عليه، مثل أن يقال: يباح دمه لأنه
~~ليس بمسلم ولا معاهد، أو تجب عليه الزكاة لأنه ليس بمدين، أو يعزر لأنه ليس
~~بمحصن، ونحو ذلك.
# وأما العلة التي هي الحكمة الغائية فهل يجوز أن تكون علة الوجود، بمعنى
~~أن يكون مقصود الفاعل ومراده العدم، فهذا يتعلق بالقاعدة التي تكلمنا فيها،
~~وبينا أن العدم لا يكون مقصودا لنا ومرادا ابتداء، لأنه ليس فيه لنا فائدة
~~ولا مناسبة، وإنما نقصده ونريده إذا كان في الوجود ضرر، فنريد زوال الضرر
~~وعدمه، فيكون أعدم، الضرر علة غائية مقصودة بهذا الاعتبار.
# PageV06P215
### | فصل
# في الإسلام وضده
# PageV06P217
# فصل
# في الإسلام وضده
# قد كتبنا في غير هذا الموضع في مواضع أن الإسلام هو الاستسلام لله وحده،
~~فهو يجمع معنيين: الانقياد والاستسلام، والثاني إخلاص ذلك لله، كما قال
~~تعالى: (ورجلا سلما لرجل) (1) أي خالصا له، ليس لأحد فيه شيء. وإنه يستعمل
~~لازما ومتعديا، فالأول كقوله: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
~~(131)) (2) ، وقوله: (وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66)) (3) ، وقوله:
~~(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها) إلى
~~قوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (4) . وهو هذا الإسلام
~~الذي هو الاستسلام لرب العالمين.
# وقد يستعمل متعديا في مثل قوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو
~~محسن) (5) ، وفي قوله: (بلى من أسلم وجهه لله) (6) . فهنا لما كان مقيدا
~~بإسلام الوجه قرن به الإحسان، لأن إسلام الوجه له هو يتضمن إخلاص القصد له،
~~فلا بد مع ذلك من الإحسان، ليكون PageV06P219
# عمله صالحا خالصا لله.
# وهذا الإسلام الذي هو الإسلام لله- إذ إسلام الوجه لله وهو محسن يستلزم
~~أصل الإيمان- لا يمكن أن يكون صاحبه منافقا محضا، فإن المنافق المحض لا
~~يكون مسلما لرب العالمين ولا مسلما وجهه لله، لكن قد شارك أصحابه في
~~الإيمان، لأن الإسلام قد يتضمن القصد والعمل، والإيمان يتضمن العلم والحب،
~~ولهذا ms1130 قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد في المسند (1) :
~~"الإسلام علانية، والإيمان في القلب ". وكذلك حديث جبريل (2) . فصاحبه قد
~~يكون معه أصله لا كماله. وأما مطلق لفظ المسلم فقد يكون أسلم رغبة أو رهبة
~~من الخلق ولم يسلم لله، وهذا قد يكون منافقا محضا.
# وأما لفظ الإسلام المطلق فقد يكون لله، وقد يكون لغير الله، وقد يظهر
~~صاحبه أنه أسلم لله، قال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن
~~قولوا أسلمنا) الاية (3) ، وكذلك قال في قصة لوط: (فأخرجنا من كان فيها من
~~المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) (4) . وكذلك حديث سعد
~~بن أبي وقاص الصحيح (5) : لما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجالا ولم
~~يعط رجالا كان أعجب إلى سعد مما أعطى، فقلت: ما لك PageV06P220
# عن فلان عن فلان، إني لأراه مؤمنا، فقال: "أو مسلما" مرتين أو ثلاثا، ثم
~~قال: "إني لأعطي الرجل وأدع من هو أحب إلي منه، أعطيه لما في قلبه من الهلع
~~والجزع " أو كما قال.
# فامرأة لوط كانت منافقة كافرة في الباطن، وكانت مسلمة في الظاهر مع
~~زوجها، ولهذا عذبت بعذاب قومها. فهذه حال المنافقين الذين كانوا مع النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - مستسلمين له في الظاهر، وهم في الباطن غير مؤمنين.
~~والأعراب قد نفى الله عنهم الإيمان بقوله (لم تؤمنوا) ، وأمرهم أن يقولوا:
~~أسلمنا، ثم قال: (ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) . و"لما" ينفى بها ما يفوت
~~وجوده وينتظر وجوده، فيكون دخول الإيمان في قلوبهم منتظرا مرجوا، وقد قال
~~لهم: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) وظاهره أنهم إذا
~~أطاعوه في هذه الحال أثيبوا على الأعمال. ثم قال: (إنما المؤمنون الذين
~~آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
~~أولئك هم الصادقون (15)) (1) .
# وهذا هو الإيمان الواجب، وقد يكون مع كثير من الناس شيء من الإيمان ولم
~~يصل إلى هذا، كالذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يخرج من
~~النار من قال لا ms1131 إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة، أو من كان في
~~قلبه مثقال ذرة من إيمان " (2) . فسلب الإيمان عنهم لا يقتضي سلب هذا
~~المقدار من الإيمان، بل هذه الأجزاء اليسيرة من الإيمان قد يكون في العبد
~~ولا يصل بها إلى الإيمان الواجب، فإنه إذا انتفت عنه جميع PageV06P221
# آجزاء الإيمان كان كافرا.
# وقد روي عن حذيفة قال (1) : "القلوب أربعة: قلب أغلف، فذاك قلب الكافر؟
~~وقلب مصفح، فذاك قلب المنافق؟ وقلب أجرد فيه سراج يزهر، فذاك قلب المؤمن؟
~~وقلب فيه نفاق وإيمان، فمثل الإيمان فيه كمثل شجرة يمدها ماء طيب، ومثل
~~النفاق فيه كمثل القرحة يمدها قيح ودم ". وفي رواية: "فأي المادين غلب كان
~~الحكم له ". وفي رواية: "وقلب فيه مادتان: مادة إيمان ومادة نفاق، فأولئك
~~قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا".
# وهذا- والله أعلم- معنى كلام قاله بعض السلف والأئمة في الزاني والسارق
~~والشارب: أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وأن الإيمان يصير على رأسه مثل
~~الظلة. فإنهم لم يريدوا بذلك الإسلام الظاهر المحض الذي يكون للمنافق
~~المحض، لأن الكلام فيمن هو مقر في باطنه بما جاء من عند الله، لكن ارتكب
~~هذه الكبائر، فعلم أنه يخرج إلى الإسلام الذي يكون معه أصل الإيمان وبعضه،
~~ولكن لا تكون معه حقيقته الواجبة. ويشبه أن يكون إسلام الأعراب من هذا
~~الباب، فإن الإنسان قد يسلم لله حقيقة فينقاد ويستسلم، ومع هذا لا يكون في
~~قلبه من الهدى والعلم ما يمنع ورود الذنب عليه، ولا يكون في قلبه من المحبة
~~ما يوجب صبره على الجهاد، إذ الإسلام هو الدين، والدين هو العمل والخلق،
~~ومثل هذا قد يكون عن علم ويقين وحب، وقد يكون PageV06P222
# عن نوع اعتقاد ونوع إرادة. وليس المقصود هنا بسط الكلام في هذا، وإنما
~~الغرض ما يأتي بعد.
# فصل
# المقصود هنا أنا قد نبهنا عليه غير مرة أن
### | الإسلام له ضدان: الإشراك والاستكبار،
# لأنه الاستسلام لله وحده كما يترجم فيه شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة
~~أن محمدا ms1132 عبده ورسوله، فمن استسلم لله ولغير الله فقد أشرك بالله وجعل له
~~عدلا وندا وشريكا، ومن لم يستسلم بحال فقد استكبر كحال فرعون وغيره. ولهذا
~~قال: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17)) إلى قوله: (إني
~~آتيكم بسلطان مبين (19)) (1) . وقال تعالى: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي
~~سيدخلون جهنم داخرين (60)) (2) .
# وكل من الشرك والكبر كفر يضاد الإيمان والإسلام، كما ثبت في الحديث
~~الصحيح (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يدخل النار من في
~~قلبه مثقال ذرة من إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر"،
~~فقال رجل: يا رسول الله! إني أحب أن يكون قولي حسنا وفعلي حسنا، أذلك من
~~الكبر؟ فقال: "لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس ".
~~ولهذا قرن هذا في شعار الإسلام الذي هو PageV06P223
# الأذان بين التكبير والتهليل، فإن التكبير- وهو قول "الله أكبر"- يمنع
~~كبر غير الله، وقول لا إله إلا الله يوجب التوحيد، وهاتان الكلمتان
~~قرينتان، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبتنا اقتران التهليل
~~والتكبير كاقتران التسبيح والتحميد.
# و
### | قد يقال: الشرك أعم، ولهذا كان هو المقابل للتوحيد،
# فإن المشرك قد يكون متكبرا وقد لا يكون، وأما المستكبر فلا بد أن يكون
~~فيه شرك، فذم المشرك يدخل فيه ذم المستكبر من أهل الكتاب، وذم المستكبر لا
~~يدخل فيه ذم المشرك الذي ليس مستكبرا، ولهذا يكتفى بكلمة التوحيد التي هي
~~لا إله إلا الله عن كلمة التكبير، من غير عكس، كما قال تعالى عن النصارى:
~~(ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82)) (1) ، وقال في
~~وصفهم: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة) (2) ، وقال فيهم: (اتخذوا
~~أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا
~~ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)) (3) ، فوصفهم
~~بالشرك وترك الكبر، وهذا ظاهر من حال كثير منهم أن فيهم شركا وتواضعا، لكن
~~الشرك من أعظم الفساد لصاحبه، إن لم يرد علوا في ms1133 الأرض فقد أراد فسادا.
# لكن هذا في مشركي أهل الكتاب، إذ الشرك مبتدع في دينهم لا PageV06P224
# أصل له، فأما المشركون من غيرهم فقد قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم
~~لا إله إلا الله يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)
~~(1) .
# وأما اليهود فقد وصفهم بالاستكبار والعلو في الأرض في مثل قوله: (وقضينا
~~إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4))
~~(2) ، كما وصف فرعون بذلك في قوله: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها) إلى
~~قوله: (إنه كان من المفسدين (4)) (3) ، فوصفه بالعلو والفساد كما وصفهم.
~~وقال في اخر السورة: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في
~~الأرض ولا فسادا) الاية (4) ، وقال تعالى في خطابه لبني إسرائيل: (وإذ
~~أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) إلى قوله تعالى: (أفكلما
~~جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87))
~~(5) ، فهم استكبروا عما جاءت به الرسل، فقتلوا فريقا من الرسل وكذبوا
~~فريقا. والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن
~~مريم.
# وقد قال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن
~~يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا
~~سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا PageV06P225
# عنها غافلين (146)) (1) ، فوصف الله المستكبرين بالتكذيب بآياته والغفلة
~~عنها، لأن الكبر- كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - - بطر الحق وغمط
~~الناس (2) ، وبطر الحق جحده ودفعه، وهذا هو التكذيب، وأعظم من ذلك التكذيب
~~بآيات الله، قال تعالى عن قوم فرعون: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
~~وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)) (3) ، وقال عن المشركين: (ولا
~~تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله)
~~الاية (4) ، وقال: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون
~~(33)) (5)
# وإنما يقال: إن المستكبر لا بد أن يكون مشركا، لأن الإنسان حارث همام،
~~فلا بد له من حرث هو عمله وحركته، ولا بد لذلك من هم هو ms1134 قصده ونيته وحبه،
~~فإذا استكبر عن أن يكون الله هو مقصوده الذي ينتهي إليه قصده وإرادته،
~~فيسلم وجهه لله، فلابد أن يكون له مقصود آخر ينتهي إليه قصده، وذاك هو إلهه
~~الذي أشرك. ولهذا كان قوم فرعون الذين وصفهم بالاستكبار والعلو في الأرض
~~وهم الذين استعبدوا بني إسرائيل، كانوا مع ذلك مشركين بفرعون اتخذوه إلها
~~وربا، كما قال لهم: (ما علمت لكم من إله غيري) (6) ، وقال لهم: PageV06P226
# (أنا ربكم الأعلى (24)) (1) ، وقال: (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا
~~قوما فاسقين (54)) (2) . وفرعون نفسه الذي كان هو المستكبر الأعظم على قومه
~~وغيرهم، كان مع هذا مشركا، كما ذكر ذلك تعالى عنه في قوله: (وقال الملأ من
~~قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك) (3) ، قيل: كان
~~له آلهة يعبدها سرا. وقد وصفهم جميعا بالإشراك في قول الرجل المؤمن: (ويا
~~قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41) تدعونني لأكفر بالله
~~وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار (42) لا جرم أنما
~~تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن
~~المسرفين هم أصحاب النار (43)) (4) . وقال قبل هذا: (ولقد جاءكم يوسف من
~~قبل بالبينات) الاية (5) ، وقد ذكر الله قول يوسف: (السجن أأرباب متفرقون
~~خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم
~~وآباؤكم) الاية (6) . وهذا إخبار عن جميعهم بالشرك واتخاذ آلهة يدعونها من
~~دون الله. وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله
~~واجتنبوا الطاغوت) الاية (7) ، وهذا يبين PageV06P227
# أن جميع الرسل بعثوا بالتوحيد والدعوة إلى عبادة الله وحده، كما قال
~~تعالى في سورة هود بعد أن ذكر الأنبياء وأممهم ثم قال: (ذلك من أنباء القرى
~~نقصه عليك منها قائم وحصيد (100)) الايات (1) ، يخبر تعالى فيها عن جميعهم
~~بالشرك واتخاذ آلهة.
# ولو لم يكن المستكبر يعبد غير الله فإنه يعبد نفسه ولا بد، فيكون مختالا
~~فخورا متكبرا، فيكون قد أشرك بنفسه إن لم يشرك بغيره. وإبليس هو ms1135 أول
~~المستكبرين، قال تعالى: (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)) (2)
~~.
# ومن بطر الحق فجحده فإنه يضطر إلى أن يقر بالباطل، ومن غمط الناس
~~فاحتقرهم وازدراهم بغير حق فإنه يضطر إلى أن يعظم آخرين بالباطل، وهذا من
~~الشرك. فمن غمط الناس جحد حقهم ليعظم نفسه بذلك، وهذا هو الاستكثار
~~والاختيال، فلا بد له ممن يعينه على استكباره واختياله للشرك به، وهو يفرح
~~بمن يحمده ويثني عليه ويعظمه، ويشنأ من يذمه ويبغضه ويعيبه، فيكون من أعظم
~~رياء وسمعة، والرياء والسمعة من الشرك، فالمستكبر من أعظم الناس شركا ورياء
~~وسمعة. وإبليس هو الذي يزين كل شرك وكل كبر لبني آدم، وينفخ في أحدهم حتى
~~يتعاظم، ويدعوهم إلى الإشراك بالله ويأمرهم بذلك، كما قال تعالى: (ولا
~~تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم PageV06P228
# بطرا ورئاء الناس) (1) . وهذا من أعظم الشرك بغير الله، وإن كان قد يشرك
~~به أيضا، فهو يجمع الإشراك بالله وبغيره ممن أطاع الخلق وعظمهم، فمن أطاعهم
~~اقتدى بهم، ومن أطاع الرسل اقتدى بهم في توحيدهم وطاعتهم لربهم، ومن عصاهم
~~ضل، فجميع من عصى الرسل ولم يقتد بهم فهو مشرك.
# وقد استقرت الشريعة على أن كل من ليس من أهل الكتاب فهو مشرك يعبد ما
~~يستحسن، كما يذكر الفقهاء ذلك في باب أخذ الجزية، فليس لأحد أن يخرج أحدا
~~من هؤلاء عن الإشراك، وذلك لأن العبد هو حارث وهمام حساس متحرك بالإرادة،
~~وليس كل مراد مرادا لغيره، بل لا بد أن تنتهي الإرادة إلى مراد لذاته هو
~~المطاع المحبوب المعظم، وذلك هو إله العبد الذي يعبده. فكل من لم يكن الله
~~إلهه الذي يعبده الذي هو منتهى قصده وإرادته، فلا بد أن يكون مشركا ينتهى
~~قصده وإرادته إلى غيره، سواء كان ملكا له أو وثنا أو غيره.
# ومن هذا الباب قول فرعون: (ما علمت لكم من إله غيري) (2) ، وقوله: (أنا
~~ربكم الأعلى (24)) (3) . ويشبهه في ذلك من بعض الوجوه النمروذ وجنكزخان ملك
~~المغل من الترك وأمثاله، فهؤلاء قومهم مشركون بهم، وقد قال تعالى في ms1136
~~النصارى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم)
~~PageV06P229
# الآية (1) ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادتهم إياهم:
~~"إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك
~~عبادتهم إياهم " (2) . فكيف بمن يكون هو المطاع المطلق في أمره ونهيه
~~وتحليله وتحريمه؟ ويكون قومه يقاتلون الناس على أن يكون الدين والطاعة لله
~~وحده بحيث يستبيحون دم كل من خرج عن طاعته!
# فصل
# ومن المعلوم أن الشرك ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، كما قد ذكر الله ذلك
~~في كتابه، وتكلمنا على ذلك في مواضع متعددة. والإسلام هو التوحيد لله، وهو
~~أصل العدل والقسط، والاستكبار أيضا من أعظم الظلم، ولو لم يكن فيه إلا
~~الاستكبار على بعض الناس، فإن أدنى ما فيه تفضيل نفسه على نظيره بغير حق،
~~ولقصده العلو على غيره يجحد الحق ويغمط الخلق، فلهذا يوجد في الناس احادهم
~~وأممهم أن كل من كان أعظم تحقيقا للإسلام كان أبعد عن الشرك والكبر، وكل من
~~كان أبعد عن الإسلام كان أقرب إلى الشرك والكبر، فإن الإسلام هو أن يستسلم
~~العبد لله رب العالمين، فلا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستكبر عن
~~عبادته وطاعته وطاعة رسله التي جماعها العدل، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا
~~رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب PageV06P230
# والميزان ليقوم الناس بالقسط) (1) ، وقال: (قل أمر ربي بالقسط وأقيموا
~~وجوهكم عند كل مسجد) (2) . ولهذا أمر الله رسوله أن يقول لأهل الكتاب:
~~(تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله) الاية (3) .
# ف
### | الإسلام يتضمن العدل،
# وهو التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المتفاضلين من المخلوقات، إذ
~~ذلك من الإسلام لله رب العالمين وحده، فإنه إذا كان الدين كله لله وكانت
~~كلمة الله هي العليا كان الله يأمر بالعدل وينهى عن الظلم. وأصل العدل هو
~~القسط، والقسط هو الإقساط في حق الله تعالى بان لا يعدل به غيره ولا يجعل
~~له شريك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "حق الله على عباده
~~أن ms1137 يعبدوه لا يشركون به شيئا" (4) . فإذا لم يسلموا له بل عدلوا به غيره
~~كان ذلك ظلما عظيما، وإذا فعلوا هذا الظلم في حق الله فهم في حقوق العباد
~~أظلم، والتسوية بين المتفاضلين ظلم، كما أن التفضيل بين المتماثلين ظلم،
~~والشرك من نوع الأول كما قال تعالى: (إذ نسويكم برب العالمين (98)) (5) ،
~~والاستكبار قد يكون من نوع الثاني، والإسلام يتضمن العدل كله، كما أنه
~~ينافي الشرك والكبر. PageV06P231
# فصل
# والمقصود هنا أن يعرف المؤمن حال الناس الذين يحتاج إلى معرفة حالهم،
~~ويعمل معهم ما أمر الله به، ويكون فيمن مضى عبرة له، فآل فرعون لما كانوا
~~أبعد الخلق عن الإسلام الذي هو دين الله جعلهم الله في أشد العذاب، كما قال
~~تعالى: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46)) (1) ، لأنهم كانوا من أعظم الخلق
~~استكبارا وإشراكا، حيث جعلوا واحدا من جنسهم إلههم وربهم، فأطاعوه واتبعوا
~~أمره الذي ليس برشيد، واستكبروا قبل مجيىء الرسول إليهم على من هو من
~~جنسهم، فاستعبدوهم بغير حق وكانوا خولهم، وبعد مجيىء الرسول علوا على ربهم
~~وعلى رسوله.
# وكذلك بنو إسرائيل لما بعث إليهم المسيح كان من استكبارهم على رسولهم
~~سؤالهم المائدة وعبادتهم الطاغوت كما ذكره الله عنهم في كتابه، ولما كانوا
~~أبعد الناس عن الإسلام إذ ذاك قال الله لهم: (قال الله إني منزلها عليكم
~~فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115)) (2)
~~.
# وكذلك الذين بعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كان فيهم من الشرك
~~والكبر ما هو معروف، وقد دل كتاب الله من ذلك على ما فيه عبرة. والمنافق
~~أسوأ حالا في الآخرة من الكافر، كما قال: (إن المنافقين في الدرك
~~PageV06P232
# الأسفل من النار) الاية (1) . وقد روي في الحديث عن عبد الله بن عمرو:
~~"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة آل فرعون ومن كفر من أهل المائدة
~~والمنافقون من هذه الأمة" (2) . فإن هؤلاء عاندوا الرسل الثلاثة الكبار أهل
~~الشرائع موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام في وجوههم، وباشروهم بذلك.
# والمشركون الذين خرجوا على ديار ms1138 الإسلام عبيد جنكسخان، وهو الذي استخف
~~قومه فأطاعوه من الترك وأشركوا به، حتى اعتقدوا فيه أن أمه أحبلتها الشمس،
~~إذ لا يعرف له أب بينهم، وإنما كانت أمه بغيا فجرت ببعض الترك، ثم كتمت ذلك
~~وأظهرت غيره، وكانت ذات مكر وكيد. وقد ذكر الله في كتابه قول العزيز: (إنه
~~من كيدكن إن كيدكن عظيم (28)) (3) . ولهذا لما علا ابنها وقهر الأمم
~~المجاورة له كان من سنتهم تعظيم النساء وطاعتهن. ولما كانوا من أبعد الخلق
~~عن الإسلام كانوا من أعظم الأمم كبرا وشركا، فهم مطيعون لمن قهرهم وأذلهم
~~واستعبدهم كطاغوتهم الأعظم جنكسخان طاعة وعبادة وتألها، فهم بذلك من أعظم
~~المشركين، وهم مع ذلك مستكبرون على من قهروه من جنسهم وغير جنسهم استكبارا
~~وعلوا. PageV06P233
# فصل
# كل مشرك فإنه مكذب بالاخرة، إذ لو كان مؤمنا بها لما أشرك بالله شيئا،
~~وهذا الشرك يدخل في العلم والعمل. ومن فضائل توحيد الإلهية أنه ليس لغير
~~الله مطلقا ولا مقيدا، وأما توحيد الربوبية فهو لغيره مقيدا، كقول الذين
~~جعلوا لله أندادا، وقد أخبر عن الكفار أنهم لم يشركوا به في توحيد
~~الربوبية.
# فصل
# ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا من الناس لا يعلمون كون الشرك من الظلم،
~~وأنه لا ظلم إلا ظلم الحكام أو ظلم العبد نفسه، وإن علموا ذلك من جهة
~~الاتباع والتقليد للكتاب والسنة والإجماع لم يفهموا وجه ذلك، ولذلك لم يسبق
~~ذلك إلى فهم جماعة من الصحابة لما سمعوا قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا
~~إيمانهم بظلم) (1) ، كما ثبت ذلك في الصحيحين (2) من حديث ابن مسعود أنهم
~~قالوا: أينا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله: "ألم تسمعوا إلى قول العبد
~~الصالح: (إن الشرك لظلم عظيم) (3) ؟ ". وذلك أنهم ظنوا أن الظلم- كما حده
~~طائفة من المتكلمين- هو إضرار غير مستحق، ولا يرون الظلم إلا ما فيه إضرار
~~بالمظلوم، إن كان المراد أنهم لن يضروا دين الله وعباده المؤمنين، فإن
~~PageV06P234
# ضرر دين الله وضرر المؤمنين بالشرك والمعاصي أبلغ وأبلغ. ومعلوم أن الله
~~سبحانه لا يضره عباده ولا ms1139 ينفعونه، وإنما يضرون أنفسهم، ولهذا قال: (ولا
~~يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل
~~لهم حظا في الآخرة) (1) ، فأخبر أن الكافر الذي كفر بربه وترك حقه وأشرك به
~~وعبد غيره وتعدى حدوده وانتهك محارمه لا يضره شيئا، كما يضر المخلوق من
~~السادة ونحوهم من يجحد حقوقهم ويكفر نعمهم ويعتدي عليهم، فالله سبحانه
~~وتعالى ليس كمثله شيء ولا تضرب له الأمثال.
# ولهذا قال تعالى في الحديث الصحيح (2) عن أبي ذر- وهو أشرف حديث رواه أهل
~~الشام-: "يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا
~~تظالموا" الحديث إلى قوله: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن
~~تبلغوا نفعي فتنفعوني " إلى قوله: "فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير
~~ذلك فلا يلومن إلا نفسه ". وكذلك أخبر في القرآن أنه غنى عن خلقه، لن
~~يبلغوا نفعه فينفعوه، كما يبلغ بعضهم نفع بعض، كما قال: (ومن كفر فإن الله
~~غني عن العالمين (97)) (3) ، وقال (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى
~~لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم) (4) ، وقال موسى: (إن تكفروا أنتم
~~PageV06P235
# ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد (8)) (1) بعد أن أخبرهم أن ربهم
~~تأذن (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (7)) (2) وقال سليمان:
~~(هذا من فضل ربي ليبلوني ءأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر
~~فإن ربي غني كريم (40)) (3) . وقال: (من عمل صالحا فلنفسه) الاية (4) .
~~وقال: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) الآية (5) . وقال: (لها ما كسبت وعليها
~~ما اكتسبت) (6) . وقال عن بني إسرائيل: (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم
~~يظلمون (57)) (7) ، فهذا نص في أنهم لم يظلموا الله وإنما ظلموا أنفسهم.
~~وقال تعالى: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون
~~الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23)) (8) .
# ولكن عبادته وحده حق استحقه عليهم لذاته، كما قال: (وما خلقت الجن والإنس
~~إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو
~~الرزاق ذو القوة المتين (58)) (9) ، فأخبر أنه ms1140 إنما خلق الخلق لعبادته،
~~وأخبر أن الذي خلقه لهم وأمره بهم ورضيه وأحبه وأراده بأمره PageV06P236
# منهم هو عبادته، لم يرد منهم رزقا ولا أن يطعموه، والرزق يعم كل ما ينتفع
~~به الحي ظاهرا وباطنا، فلم يرد منهم ما يريده السادة والمخلوقون من عبادهم،
~~من جلب المنفعة إليهم التي هي الرزق.
# وقال تعالى: (ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74)
~~ونزعنا من كل أمة شهيدا) الاية (1) فأخبر تعالى أنهم علموا يومئذ أن الحق
~~لله، وأن أولئك الشركاء الذين اتخذوهم من دون الله لم يكن لهم في ذلك الحق
~~شي، بل كان دعواهم أن لهم حقا افتراء افتروه، فضل عنهم وقت الحقيقة ما
~~افتروه.
# وفي الصحيحين (2) عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
~~له: "هل تدري ما حق الله على العباد؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حقه
~~عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" وذكر الحديث.
# ولهذا يكثر من ذكر الشرك والكفر وأنواعه في القرآن، ويخبر بأنه ظلم، وأنه
~~من أعظم الظلم، كقوله: (والكافرون هم الظالمون (254)) " (3) ، وقوله: (ويوم
~~يعض الظالم على يديه) إلى قوله: (وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)) (4) .
~~وقد أخبر المسيح أن العبادة ليست بحق للمخلوق، وإنما هي حق للخالق تعالى،
~~في قوله: (قال سبحانك ما PageV06P237
# يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) (1) . وفي الحديث الصحيح (2) : "ومن أظلم
~~ممن ذهب يخلق كخلقي ". وقال تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو
~~قال أوحي إلي) الاية (3) . وقوله: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض
~~عنها إنا من المجرمين منتقمون (22)) (4) . وقال: (ومن أظلم ممن ذكر بآيات
~~ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت) الآيات (5) . وقال: (ومن أظلم ممن افترى على
~~الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين (6)) .
# وقوله في الذي آتاه الله الملك: (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم
~~الظالمين) (7) . وقوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب
~~الله والذين آمنوا أشد حبا لله) الآية (8) . وقوله: (ولن ينفعكم اليوم ms1141 إذ
~~ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون (39)) (9) . وقوله: (وقوم نوح من قبل إنهم
~~كانوا هم أظلم وأطغى (52)) (10) . وقال: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
~~ظلما وعلوا) (11) . وقوله: (ونذر الظالمين فيها PageV06P238
# جثيا (72)) (1) ، (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا) (2) . وقال: (إنا
~~أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) (3) ، (وقد خاب من حمل ظلما (111))
~~(4) . وقال: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
~~(38)) (5) ، (وأسروا النجوى الذين ظلموا) (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة)
~~(ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46)) (6) .
~~وقوله: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من
~~القوم الظالمين (28)) (7) . وقوله: (قل رب إما تريني ما يوعدون (93) رب فلا
~~تجعلني في القوم الظالمين (94)) (8) . وقول أهل الأعراف: (ربنا لا تجعلنا
~~مع القوم الظالمين (47)) (9) . وقوله: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
~~ينقلبون (227)) (10) . وقوله: (وأعتدنا للظالمين عذابا أليما (37)) (11)
~~(فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) (12) (ووقع القول PageV06P239
# عليهم بما ظلموا) (1) . وقوله: (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40) (2) .
~~والآيات في هذا كثيرة.
# وهؤلاء الذين قالوا: إن الظلم إضرار غير مستحق، قصدوا بذلك الظلم المعروف
~~بينهم، وهو ظلم العباد الذين يتضررون بالظلم في حقوقهم. وأما الظلم في حق
~~الله تعالى فلم يستشعروه ولم يقصدوه، ولعلهم لا يعدونه ظلما، كما هو في
~~أكثر النفوس العامية، بناء على أن الله غني لا يلحقه ضرر، لكن أكثر هؤلاء
~~مع هذا يوجبون شكره على إحسانه إليهم بالعقل المجرد قبل ورود شرع إذا فرض
~~خلو العباد عن شرع يجعلون العقل معرفا لوجوب ذلك مع الشرع، كما تعرف بالعقل
~~أمور كثيرة تعرف بالشرع أيضا، مع علمهم بأنه سبحانه لا ينتفع بشكر
~~الشاكرين، ولا يتضرر بكفر الكافرين. ومعلوم أن ترك الحق الواجب ظلم، فيناسب
~~أصولهم أن لا يكون الظلم مجردا لإضرار غير المستحق، بل يدخل فيه ترك ما يحب
~~لذاته وفعل ما يقبح لذاته عندهم. ولهذا يقولون: إنه عرف بالعقل أن الظلم من
~~الله قبيح وإن كان لا يتضرر بفعله. وهذا فيه حق، لكنهم يعنون بذلك أن الظلم
~~منه نظير ms1142 الظلم من العباد بعضهم بعضا، فيجعلون لله أندادا، ويمثلونه بخلقه،
~~ويضربون له الأمثال، ومن هنا وقعوا في الضلال، وصاروا من القدرية المجوسية
~~المنكرين لمشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه للأفعال. ومنهم من ينكر
~~علمه القديم وكتابه المحيط بجميع الأحوال. PageV06P240
# وقد عارضهم آخرون من المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، وهم فيما
~~أثبتوه "من علم الله ومشيئته وقدرته وخلقه على الصواب الموافق للكتاب
~~والسنة وإجماع الأمة، لكن نازعوهم فيما تنزه الله عنه من الظلم، وفيما يجب
~~له على خلقه من الحق، نزاعا فيه نوع من الباطل في الجدال، وقالوا: إذا كان
~~الله لا يتضرر بما يفعله ولا ينتفع به ولا يأمر به، فلا معنى لتنزيهه عن
~~فعل قبيح أوتسمية شيء مما يقدر عليه قبيحا أو ظلما أو سفها، لأنه لا يتضرر
~~بهذه الأشياء ولو نسبت إليه، إذ هذه الأسماء لا تكون إلا لمن ينتفع بفعله
~~ويتضرر به، أو لمن فوقه آمر مطاع أمره يخافه، وإذا كان لا ينتفع بشيء من
~~معرفة عباده وعبادتهم وشكرهم فلا معنى لإيجاب شيء عليهم له. وإذا كان لم
~~يأمرهم ولم ينههم فلا معنى لقبح شيء منهم، ولا معنى لقبح فعل العبد إلا
~~كونه منهيا عنه، ولا معنى لحبه إلا كونه مأمورا به.
# وهؤلاء وإن كان في كلامهم نوع من المردود المخالف للكتاب والسنة وإجماع
~~السلف، فالحق الذي معهم أضعاف الحق الذي مع الأولين، وهم الذين يجعلون
~~العقل معرفا، وهم الذين قالوا: إضرار غير مستحق. فإن مخالفة أولئك للكتاب
~~والسنة وإجماع سلف الأئمة أوقعهم في أمور عظيمة، وعظم الذم لهم بسبب ذلك.
~~وأما هؤلاء فقصروا نوع تقصير لدقة الأمر وغموضه، وحصل منهم نوع تعد باجتهاد
~~قل أن يسلم منه في هذه المضايق إلا من شاء الله، ولهذا كانوا مضافين إلى
~~السنة والجماعة، وكان الأولون داخلين في الفرقة والخروج.
# PageV06P241
# وقد تكلمت على مسألة التحسين والتقبيح العقلي وعلى مسألة تنزيه الرب عن
~~الظلم في غير هذا الموضع بما يوقف مريد الحق على حقيقة الأمر إن شاء الله،
~~ولا حول ولا ms1143 قوة إلا بالله. ولم يكن الغرض هنا ذكر هذا، وإنما بينا ذلك
~~لاتصال الكلام به، لأنه بسبب كون الظلم في النفوس عامة مستلزما لاحتراز
~~المظلوم من الظلم، وكون الحق مستلزما لنفع المستحق، ولم يهتد أكثرهم إلى
~~كون عبادة الله وحده حقا له، وكون الشرك ظلما في حقه.
# ثم اضطربوا في وجه التكليف وجنسه، فزعمت المعتزلة ونحوهم ممن يتكلم في
~~التعديل والتجويز (1) أن ذلك لما فيه من تعريض المكلف للنفع الذي لا يحصل
~~بدونه، وكان هذا الكلام من اللغو بين الناس بطلانه من وجوه كثيرة. هذا مع
~~أنهم يوجبون شكره بدون التكليف الشرعي، وهذا تناقض بين.
# وقال آخرون من المنتسبين إلى السنة: إن ذلك محض المشيئة وصدق الإرادة،
~~وهذا الإطلاق غالب على أهل السنة الظاهرين من فقهاء أهل السنة ومتكلميهم،
~~ومعلوم أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لكن لا ينكر العاقل ما في خلقه
~~وأمره من أنواع الحكمة والمصالح لخلقه، بل إخلاء الوجود من الوجوه التي
~~فيها المناسبة لأحكامها من الظلم، فقد سلمت الشريعة لبابها وحرر الفقه في
~~الدين صاحبه، ولم يفهم المعارض كون السنة التي سنها الرسول هي PageV06P242
# الحكمة، وأن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة.
# ثم من تدبر قوله: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) (1) وقوله: (إن الشرك لظلم
~~عظيم (13)) (2) وقوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)) (3) وقوله:
~~"أتدري ما حق الله على عباده " (4) = علم أنه يستحق أن يعبد، وأن في الشرك
~~والفواحش ما يوجب قبحها وقبحه وتحريمه، وظهر له الفرق بين ما اتفقت عليه
~~الرسل من الأمر الذي لا يقبل النسخ، مثل الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل
~~الصالح الذي أصله عبادة الله وحده لا شريك له، وما فيه من تحريم قتل النفس
~~بغير حق والزنا والكذب والظلم وغير ذلك مما أنزل الله فيه السور المكية
~~المشتملة على أصول الدين، وما شرعت فيه شرائع الرسل مثل صفة العبادات
~~وأقدارها ومقادير العقوبات وأنواعها وغير ذلك مما أنزله الله في السور
~~المدنية، وأنزل فيها ما جعله لأهل القرآن من الوجهة والشرعة ms1144 والمنهاج
~~والمنسك، وفضلهم بذلك على سائر الأمم. والحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم
~~علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا. PageV06P243
# فصل
# ولهذا قال اخرون من المتسننة: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، كما يقول
~~العرب (1) : "من أشبه أباه فما ظلم " أي ما وضع الشبه في غير موضعه. وهذا
~~الحد أسلم من الأول الذي تكلمنا عليه في الفصل قبله، لكن فيه إجمال، فإنه
~~يحتاج إلى بيان موضع الشيء، وهو يرجع إلى معرفة الحق، فكأنه قال: الظلم ترك
~~الحق. ولكن هذا الإجمال لا يمنع أن يكون كلاما سديدا، وأن هذا الأمر العام
~~لا يعبر عنه إلا بمثل هذه العبارة الجامعة، وأما التفصيل ففي كل موضع
~~بحسبه.
# ولهذا كان الحد الأول فيه هذا، وهو قوله في الفصل قبله: "إضرار غير مستحق
~~"، فإن قول القائل: "إضرار غير مستحق " فيه من الإجمال نحو هذا، فلا بد من
~~معرفة المستحق، فيحتاج إلى بيان الحق والعدل المضاد للظلم. فإذا كان كل من
~~الحدين موقوفا على معرفة الحق، وكان الأول هو الجامع للمعنيين، كان أحكم،
~~ولذلك قال بعضهم: الظلم نقص الحق أو النقص عن الواجب أو نحو ذلك، مستشهدين
~~بقوله: (ولم تظلم منه شيئا) (2) أي لم تنقص منه شيئا. وهذا وإن كان صحيحا
~~فظاهره إنما يتناول أحد نوعي الظلم، وهو ترك PageV06P244
# الواجب، وقد يستلزم الآخر، وهو تعدي الحد، فإن من تعدى الحد لا بد أن
~~ينقص حق المتعدى عليه، فنقص الحق ملازم لمسمى الظلم، وهو فساد الحد الثاني
~~في العموم، فإن وضع الشيء في غير موضعه نقص وخلو لموضعه منه. وربما يقال:
~~هو أعم منه (1) لأن نقص الحق قد يكون تركا له بالكلية، وقد يكون نقلا له
~~إلى موضع آخر، وقد يقال: لا يكون إلا أمرا موجودا ثابتا، وإن استلزم عدم
~~أمور أخرى، فلا بد له من محل، فإذا لم يوضع في موضعه وضع في غيره، وهو
~~الظلم. أما العدم المحض الذي لا يستلزم حقا مرتبا وأمرا وجوديا فليس بشيء
~~أصلا، فلا يقال فيه: إنه ظلم ولا ms1145 إنه غير ظلم.
# وهذه معان فيها دقة، قد تكلمت على أصلها في "قاعدة العلم والإرادة
~~وتعلقهما بالموجود والمعدوم "، فقد عاد معرفة الظلم مفتقرا إلى معرفة الحق.
~~وقد تكلمت على
### | معنى الحق
# في غير هذا الموضع، وأنه يعنى به الموجود تارة وما يستحق الوجود، أي أن
~~يوجد منا فعل الطاعة، وهو المانع أخرى. ففي الكلام الخبري الحق هو الثابت
~~والعلم به والخبر عنه. وفي الكلام الطلبي الحق هو ما يبتغى وجوده أو ما
~~يستحق الوجود كالنافع للعبد، وهو الخير وهو الحق وإرادته والأمر به، الباطل
~~يضاده، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل لهو يلهو به الرجل فهو
~~باطل إلأ رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق" (2) ،
~~أي أن اللهو لا منفعة فيه ولا فائدة له إلا في هذه الأمور. وكذلك قوله:
~~PageV06P245
# "الوتر حق " (1) ونحو ذلك مما يصف فيه الأفعال بأنها حق أو باطل، كما وصف
~~الله أعمال الكفار بانها باطل، ولهذا يقول الفقهاء: عمل وعقد صالح وصحيح،
~~وبإزائه الباطل، فما حصل به مقصوده وترتب عليه أثره فهو الصحيح وهو الصالح،
~~وما لم يحصل به مقصوده ولا ترتب عليه أثر فهو باطل.
# إذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن
### | العدل والحق والظلم والجور يكون مع النفع للمستحق والضرر للمستحق،
# ويكون بدون ذلك في الجمادات والحيوانات في كل يابس ورطب، فليس كل من وقع
~~الظلم في حقه يكون متضررا به، وإنما حصل الضرر لغيره لعدم العدل فيه. وتدبر
~~هذا في الانية والأطعمة والملابس والأشجار والثمار والزروع ونحو ذلك، فإن
~~البيت المبني إذا نقص أحد الحائطين المتناظرين عن الآخر أو جعل السقف أو
~~بعض جذوعه أقصر مما بين الحائطين كان هذا تركا للعدل والحق الذي يقوم به
~~ذلك البناء، وكان هذا ظلما لأحد الحائطين ولأحد الجذعين، ويقال فيه: هذا لا
~~يصلح، ويقال: هذا الجذع يستحق أن يوضع هنا، وهذا الحائط يستحق أن يجعل بقدر
~~هذا، ونحو ذلك من المعاني التي يذكر فيها الاستحقاق والمراد، ويجعل ذلك من
~~العدل بينها، ويجعل بعضها يطلق ms1146 إذا ما نقص عما يستحقه أو وضع في غير موضعه.
~~وذلك كله مستلزم ضرر الساكن في PageV06P246
# ذلك المسكن أو فوات الانتفاع المقصود، لأنه لم يفعل الشيء الذي ينتفع به،
~~فنقص منفعته ظلم.
# وكذلك في اللباس، لو نقص أحد جانبي الثوب عن الآخر، أو نقص ما يتم به من
~~خياطة وقدر، أو نقص الثوب عما يستحقه من النسج أو الغزل أو نحوه= قيل فيه:
~~لم يعط حقه، وكان حقه أن يفعل به كذا وكذا، وكان الواجب أن يسوى بين هذا
~~وهذا، وهذا عدل وهذا ظلم، وقد ظلم هذا الجانب هذا الموضع ونحوه.
# وكذلك في الأطعمة، في أجزاء الطعام ومقدار طبخه ونحو ذلك، لها حقوق
~~مبناها على العدل. وكذلك في الزروع إذا أثيرت الأرض وبذرت وسقي الزرع ونظف
~~على الوجه الذي يستحقه، وإلا قيل: هذا كان يستحق كذا وكذا، وهذا الزرع لم
~~يعط حقه، ونحو ذلك. فإذا عمل كما يستحقه وأخرج الثمر قيل: أخرج ثمره ولم
~~يظلم منه شيئا، كما قال تعالى: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين
~~من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين آتت أكلها
~~ولم تظلم منه شيئا) (1) ، فهنا جعل الظلم من نفس الجماد، لأنه لما أعطي حقه
~~من عمل العبد فيه لم يظلم عامله شيئا، كما قد يجعل لها فتكون ظالمة تارة
~~ومظلومة أخرى، كما قال النابغة (2) :
# وقفت فيها أصيلالا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد PageV06P247
# إلا الأواري لأيا ما أبينها والنوي كالحوض بالمظلومة الجلد
# وما كان أشرف في ذاته مثل الخبز إذا أنتن ألقي في النتن وأكرمت العذرة
~~ونحوها وفضلت عليه في المكان وغيره= كان هذا ظلما له وتركا لحقه، وإن لم
~~يكن هو متضررا في ذلك، وإنما المتضرر الظالم. ولهذا قال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - لعائشة لما رأى لقمة ملقاة: "يا عائشة، أحسني جوار نعم الله
~~عندك، فإنها قل نعمة فارقت قوما (1) فعادت إليهم " (2) .
# وقد ذم الله قوما بدلوا نعمه كفرا، وإن لم تكن بعض النعم متضررة، ولهذا
~~ينهى عن الاستنجاء ms1147 بما له حرمة، حتى الروث والعظام التي هي طعام الجن وطعام
~~دوابهم، فكيف طعام الإنس وطعام دوابهم؟ وذلك وإن كان لما فيه من تفويت
~~منفعتها على الجن فلها شرف بذلك، حتى لو فوتها الإنسان بغير الاستنجاء- مثل
~~الكسر والتفتيت- لم يكن في ذلك بمنزلة المستنجي بها.
# ف
### | كل ما كانت المنفعة به أعظم كان له من الحق بقدر ذلك،
# واستحق ما لم يستحقه ما هو دونه، وإن كان هو في نفسه لا يتضرر بتفويت
~~حقه، سواء كانت ذاته ينتفع بها أو كانت المنفعة منه، وإن كان هو لا يتضرر
~~بتفويت حقه، وقد قالت عائشة: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن
~~ننزل الناس منازلهم، رواه أبو داود وغيره (3) . وكان قد وقف على بابها
~~PageV06P248
# سائلان أحدهما أشرف من الآخر، ففضلته في العطاء.
# وقد قال تعالى: (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل
~~هو خير لكم) (1) ، فأخبر أن الإفك عليهم- وهو من أعظم الظلم- هو خير لهم لا
~~شر. لكن هذا قد يقال فيه: إنه وإن تضرر الإنسان بالكذب عليه، لكن لما كانت
~~عاقبته منفعة زائدة كان خيرا لا شرا. وقد قال تعالى: (ولو آمن أهل الكتاب
~~لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى)
~~الاية (2) ، فأخبر أنهم لن يضروا المؤمنين إلا أذى، وإن كانوا مع هذا
~~ظالمين للمؤمنين بالكذب والفجور.
# وقالي تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
~~اهتديتم) (3) ، فأخبر سبحانه أن الضالين لا يضرون المهتدين، وإن كانوا قد
~~يؤذونهم، فالأذى ليس هو الضرر، وإن كانوا مع هذا ظالمين لهم بأنواع من
~~الظلم، كما يظلم الكفار المحاربون والمنافقون المؤمنين، وقد قال تعالى: (يا
~~أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا) إلى قوله
~~تعالى: (وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا) (4) . فأخبر عن هؤلاء
~~المنافقين الظالمين للمؤمنين بما PageV06P249
# ذكر، وأن المؤمنين إذا صبروا واتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا.
# فعلم أنه ليس كل ظالم يضر المظلوم ms1148 البتة، بل قد لا يضره ظلمه شيئا وإن
~~قصد الظالم إضراره، ومنه قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت
~~طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء) الاية (1) .
~~ومعلوم أن ذلك من ظلمهم، ومع هذا فلا يضرونه.
# وفي صحيح مسلم (2) عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل
~~سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي ". والسم قد يكون
~~من شقي ظالم.
# وفي الصحيح (3) : "من قال إذا نزل منزلا: أعوذ بكلمات الله التامات من شر
~~ما خلق، لم يضره شيء في ذلك المنزل حتى يرتحل منه ". وقد يعرض له ظالم من
~~الإنس أو الجن بظلم أو أذى ولا ... (4) وقد أمر الله بالاستعاذة من شر ما
~~خلق، وشر النفاثات في العقد، وشر حاسد إذا حسد، ومن أعاذه الله لم يضره
~~ذلك، وهو كله ظلم.
# وكذلك قوله في الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة: "لا يضرهم من خذلهم ولا
~~من خالفهم " (5) ، فهم يضرون ويخالفون، وذلك ظلم، PageV06P250
# ولكن لا يضرهم ذلك.
# فإذا كان
### | الظلم في حق المخلوق مما يتضرر به وما لا يتضرر به، وليس من شرطه إضرار المظلوم،
# ولا أن يكون مما يضر المظلوم، أو يكون المظلوم ممن يتضرر به، فالظلم في
~~حق الله تعالى أولى أن يكون كذلك، فإن الله لا يضر العباد أو يظلمهم، وإنما
~~العباد يتضررون بترك الحق الذي استحقه لذاته، ويتضرر العبد بتركه، فإن ترك
~~حق من يحتاج إليه العبد يضر العبد، والعبد لا صلاح له ولا قيام إلا بعبادة
~~الله الجامعة لمعرفته ومحبته والذل له، فتفويته هذا ظلم عظيم فيه عليه
~~الضرر العظيم الذي لا ينجبر.
# ويشبهه من بعض الوجوه من كان عنده ما يحتاج إليه من الطعام والشراب
~~فأتلفه، واعتاض عنه بما ظن أنه يقوم مقامه من العذرة والبول، فهذا ظلم في
~~حق القوت ضر صاحبه، والمستحق إذا ظلم حقه فقد فوت ما هو بالنسبة إليه كمال
~~مطلوب له ومحبوب من جهته، فإن الجامدات إذا ms1149 ترك ما تستحمه بقيت ناقصة عن
~~كمالها الذي لها، والإنسان إذا ظلم حقه وإن لم يضره فلابد أن يكون قد فوت
~~ما هو محبوب له وصلاح له.
# والله سبحانه يحب ما أمر به من الحسنات ويرضاه، وهو سبحانه يفرح بتوبة
~~عبده إذا تاب إليه أعظم مما يفرح من أضل راحلته التي عليها طعامه وشرابه في
~~مفازة مهلكة ثم وجدها، وهذا أمر عظيم حيث كانت محبته ورضاه بإيمان العبد
~~وطاعته أعظم من محبة العبد الفاقد الواجد لما لا بد له منه ولا قوام له إلا
~~به من القوت والشراب والمركب
# PageV06P251
# والسلامة. ولهذا يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل
~~الجنة، ونظائره كثيرة متعددة. وكذلك (1) PageV06P252
### | مسألة
# في مقتل الحسين وحكم يزيد
# PageV06P253
# سئل- رحمه الله ورضي عنه-
# عن مقتل الحسين- رضي الله عنه- وما حكمه وحكم قاتله؟ وما حكم يزيد؟ وما
~~صح من صفة مقتل الحسين وسبي أهله وحملهم إلى دمشق والرأس معهم؟ وما حكم
~~معاوية في أمر الحسن والحسين وعلي وقتل عثمان ونحو ذلك؟
# فأجاب- رضي الله عنه-
# الحمد لله. أما عثمان وعلي والحسين- رضي الله عنهم- فقتلوا مظلومين شهداء
~~باتفاق أهل السنة والجماعة، وقد ورد في عثمان وعلي أحاديث صحيحة في أنهم
~~شهداء وأنهم من أهل الجنة، بل وفي طلحة والزبير أيضا، كما في الحديث الصحيح
~~(1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للجبل لما اهتز ومعه أبو بكر وعمر
~~وعثمان وعلي: "اثبت حراء- أو أحد- فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ". بل قد
~~شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة للعشرة (2) ، وهم: الخلفاء
~~الأربعة وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف
~~وأبو عبيدة بن الجراح.
# أما
### | فضائل الصديق
# فكثيرة مستفيضة، وقد ثبت من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~قال (3) : "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت PageV06P255
# أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله " يعني نفسه. وقال: "إن أمن الناس
~~علينا في صحبته وذات يده أبو بكر". وقال: "لا ms1150 يبقين في المسجد خوخة إلأ سدت
~~إلأ خوخة أبي بكر". وقال لعائشة (1) : "ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي
~~بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ". ثم قال: "يأبي الله والمؤمنون
~~إلا أبا بكر". وجاءته امرأة فسألته شيئا، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت:
~~أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ - كأنها تعني الموت- قال: "إن لم تجديني فائتي أبا
~~بكر" (2) . وقال: "أيها الناس، إني جئت إليكم فقلت: إني رسول الله إليكم،
~~فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي
~~صاحبي؟ " (3) .
# وهذه الأحاديث كلها في الصحاح ثابتة عند أهل العلم بالنقل. وقد تواتر أنه
~~أمره أن يصلي بالناس في مرض موته، فصلى بالناس أياما متعددة بأمره، وأصحابه
~~كلهم حاضرون- عمر وعثمان وعلي وغيرهم- فقدمه عليهم كلهم. وثبت في الصحيح
~~(4) أن عمر قال له بمحضر من المهاجرين والأنصار: "أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا
~~إلى PageV06P256
# رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وثبت في الصحيح (1) : أن عمرو بن
~~العاصي سأله عن أحب الرجال إليه، فقال: "أبو بكر".
# وفضائل عمر وعثمان وعلي كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها، وإنما المقصود أن
~~من هو دون هؤلاء- مثل طلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف- قد توفي
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، كما ثبت ذلك في الصحيح (2)
~~عن عمر أنه جعل الأمر شورى في سته: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد
~~الرحمن، وقال: هؤلاء الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم
~~راض. بل قد ثبت في الصحيح (3) من حديث علي بن أبي طالب أن حاطب بن أبي
~~بلتعة قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه شهد بدرا، وما يدريك
~~أن الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". وكانوا
~~ثلاث مئة وثلاثة عشر.
# وثبت في صحيح مسلم (4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا
~~يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة". وكان أهل الشجرة ألفا وأربعمئة كلهم رضي
~~الله ms1151 عنهم ورضوا عنه، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وهم
~~الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، فهم أعظم درجة ممن أنفق من بعد الفتح
~~وقاتل. وثبت في الصحيح (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
~~PageV06P257
# قال: "لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا
~~نصيفه ". وثبت في الصحيح (1) أن غلام حاطب قال: والله يا رسول الله، ليدخلن
~~حاطب النار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "كذبت، إنه قد شهد بدرا
~~والحديبية". وهذا وقد كان حاطب سيئ الملكة، وقد كاتب المشركين باخبار رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح، ومع هذه الذنوب أخبر النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - أنه ممن يدخل الجنة ولا يدخل النار، فكيف بمن هو أفضل
~~منه بكثير؟ كعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف.
# وأما الحسين فهو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة (2) ، وهما ريحانة رسول الله
~~- صلى الله عليه وسلم - من الدنيا، كما ثبت ذلك في الصحيح (3) . وثبت في
~~الصحيح (4) أنه أدار كساءه على علي وفاطمة والحسن والحسين، وقال: "اللهم
~~هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". وإن كان الحسن الاكبر هو
~~الأفضل، لكونه كان أعظم حلما وأرغب في الإصلاح بين المسلمين وحقن دماء
~~المسلمين، كما ثبت في صحيح البخاري (5) عن أبي بكرة قال: رأيت النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - على المنبر PageV06P258
# والحسن بن علي إلى جانبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، ويقول: "إن
~~ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ". وفي
~~صحيح البخاري (1) عن أسامة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذني
~~فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ويقول: "اللهم إني أحبهما،
~~فأحبهما، وأحب من يحبهما". وكانا من أكره الناس للدخول في اقتتال الأمة.
# والحسين- رضي الله عنه- قتل مظلوما شهيدا، وقتلته ظالمون متعدون، وإن كان
~~بعض الناس يقول: إنه قتل بحق، ويحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "
~~من جاءكم وأمركم على ms1152 رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه
~~بالسيف، كائنا من كان ". رواه مسلم (2) . فزعم هؤلاء أن الحسين أتى الأمة
~~وهم مجتمعون، فأراد أن يفرق الأمة، فوجب قتله. وهذا بخلاف من يتخلف عن بيعة
~~الإمام ولم يخرج عليه، فإنه لا يجب قتله، كما لم يقتل الصحابة سعد بن عبادة
~~مع تخلفه عن بيعة أبي بكر وعمر.
# وهذا كذب وجهل، فإن الحسين رضي الله عنه لم يقتل حتى أقام الحجة على من
~~قتله، وطلب أن يذهب إلى يزيد أو يرجع إلى المدينة أو يذهب إلى الثغر. وهذا
~~لو طلبه آحاد الناس لوجب إجابته، فكيف لا يجب إجابة الحسين رضي الله عنه
~~إلى ذلك وهو يطلب الكف والإمساك؟ PageV06P259
# وأما أصل مجيئه فإنما كان لأن قوما من أهل العراق من الشيعة كتبوا إليه
~~كتبا كثيرة يشتكون فيها من تغير الشريعة وظهور الظلم، وطلبوا منه أن يقدم
~~ليبايعوه ويعاونوه على إقامة الشرع والعدل، وأشار عليه أهل الدين والعلم-
~~كابن عباس وابن عمر وابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- بأن لا يذهب
~~إليهم، وذكروا له أن هؤلاء يغزونه، وأنهم لا يوفون بقولهم، ولا يقدر على
~~مطلوبه، وأن أباه كان أعظم حرمة منه وأتباعا ولم يتمكن من مراده. فظن
~~الحسين أنه يبلغ مراده، فأرسل ابن عمه مسلم بن عقيل، فاووه أولا ثم قتلوه
~~ثانيا، فلما بلغ الحسين ذلك طلب الرجوع، فأدركته السرية الظالمة، فلم تمكنه
~~من طاعة الله ورسوله، لا من ذهابه إلى يزيد، ولا من رجوعه إلى بلده ولا إلى
~~الثغر. وكان يزيد لو يجتمع بالحسين من أحرص الناس على إكرامه وتعظيمه
~~ورعاية حقه، ولم يكن في المسلمين عنده أجل من الحسين، فلما قتله أولئك
~~الظلمة حملوا رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد، فنكت بالقضيب على ثناياه،
~~وكان في المجلس أنس بن مالك فقال: إنك تنكت بالقضيب حيث كان رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - يقبل. هكذا ثبت في الصحيح (1) ، وفي المسند (2) أن
~~أبا برزة الأسلمي كان أيضا شاهدا. فهذا ms1153 كان بالعراق عند ابن زياد.
# وأما حمل الرأس إلى الشام أو غيرها والطواف به فهو كذب، والروايات التي
~~تروى أنه حمل إلى قدام يزيد ونكت بالقضيب= PageV06P260
# روايات ضعيفة لا يثبت شيء منها، بل الثابت أنه لما حمل علي بن الحسين
~~وأهل بيته إلى يزيد وقع البكاء في بيت يزيد، لأجل القرابة التي كانت بينهم،
~~لأجل المصيبة. وروي أن يزيد قال: لعن الله ابن مرجانة- يعني ابن زياد-، لو
~~كان بينه وبين الحسين قرابة لما قتله. وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل
~~العراق بدون قتل الحسين. وأنه خير علي بن الحسين بين مقامه عنده وبين
~~الرجوع إلى المدينة، فاختار الرجوع، فجهزه أحسن جهاز.
# ويزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولكن أمر بدفعه عن منازعته في الملك، ولكن لم
~~يقتل قتلة الحسين ولم ينتقم منهم، فهذا مما أنكر على يزيد، كما أنكر عليه
~~ما فعل بأهل الحرة لما نكثوا بيعته، فإنه أمر بعد القدرة عليهم بماباحة
~~المدينة ثلاثا. ولهذا قيل لأحمد بن حنبل: أيؤخذ الحديث عن يزيد؟ فقال: لا،
~~ولا كرامة، أو ليس هو الذي فعل باهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إن قوما
~~يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر؟
~~فقيل له: أو لا تلعنه؟ فقال: متى رأيت أباك يلعن أحدا؟
# ومع هذا ف
### | يزيد أحد ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات
# كما لغيره من الملوك، وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمر
~~أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له
~~". وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد، غزاها في خلافة أبيه معاوية، ومعه أبو
~~PageV06P261
# أيوب الأنصاري ومات ودفن هناك.
# ويزيد هذا ليس هو من الصحابة، بل ولد في خلافة عثمان، وأما عفه يزيد بن
~~أبي سفيان فهو من الصحابة، وهو رجل صالح، أمره أبو بكر في فتوح الشام ومشى
~~في ركابه، ووصاه بوصايا معروفة عند الفقهاء يعملون بها، ولما مات في خلافة
~~عمر ولى عمر أخاه معاوية مكانه ms1154، ثم ولي عثمان فأقره وولاه إلى أن قتل
~~عثمان، وولد له يزيد ابنه في خلافة عثمان.
# و
### | لم يسب قط في الإسلام أحد من بني هاشم،
# لا علوي ولا غير علوي، لا في خلافة يزيد ولا غيرها، وإنما سبى بعض
~~الهاشميات الكفار من المشركين وأهل الكتاب، كما سبى الترك المشركون من سبوه
~~لما قدموا بغداد، وكان من أعظم [أسباب] سبي الهاشميات معاونة الرافضة لهم
~~كابن العلقمي وغيره. بل ولا قتل أحد من بني مروان أحدا من بني هاشم- لا
~~علوي ولا عباسي ولا غيرهما- إلا زيد ابن علي، قتل في خلافة هشام. وكان عبد
~~الملك قد أرسل إلى الحجاج: إياي ودماء بني هاشم، فلم يقتل الحجاج أحدا من
~~بني هاشم لا علوي ولا عباسي. بل لما تزوج بنت عبد الله بن جعفر فأمره عبد
~~الملك أن يفارقها، لأنه ليس بكفؤ لها، فلم يروه كفوا أن يتزوج بهاشمية..
# وأما معاوية لما قتل عثمان مظلوما شهيدا، وكان عثمان قد أمر الناس بأن لا
~~يقاتلوا معه، وكره أن يقتل أحد من المسلمين بسببه،
# PageV06P262
# وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بشره بالجنة على بلوى تصيبه (1) ،
~~فأحب أن يلقى الله سالما من دماء المسلمين، وأن يكون مظلوما لا ظالما، كخير
~~ابني ادم الذي قال: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك
~~لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28)) (2) . وعلي بن أبي طالب بريء من
~~دمه لم يقتله ولم يعن عليه ولم يرض، بل كان يحلف وهو الصادق المصدوق أني ما
~~قتلت عثمان ولا أعنت على قتله ولا رضيت بقتله. ولكن لما قتل عثمان وكان
~~عامة المسلمين يحبون عثمان لحلمه وكرمه وحسن سيرته، وكان أهل الشام أعظم
~~محبة له، فصارت شيعة عثمان إلى أهل الشام، وكثر القيل والقال كما جرت
~~العادة بمثل ذلك من الفتن، فشهد قوم بالزور على علي أنه أعان على دم عثمان،
~~فكان هذا مما أوغر قلوب شيعة عثمان على علي، فلم يبايعوه، وآخرون يقولون:
~~إنه خذله وترك ما يجب ms1155 من نصره، وقوى هذا عندهم أن القتلة تحيزت إلى عسكر
~~علي، وكان علي وطلحة والزبير قد اتفقوا في الباطن على إمساك قتلة عثمان،
~~فسعوا بذلك، فأقاموا الفتنة عام الجمل، حتى اقتتلوا من غير أن يكون علي
~~أراد القتال ولا طلحة ولا الزبير، بل كان المحرك للقتال الذين أقاموا
~~الفتنة على عثمان.
# فلما طلب علي من معاوية ورعيته أن يبايعوه امتنعوا عن بيعته، ولم يبايعوا
~~معاوية، ولا قال أحد قط: إن معاوية مثل علي، أو إنه أحق من علي بالبيعة، بل
~~الناس كانوا متفقين على أن عليا أفضل وأحق، PageV06P263
# ولكن طلبوا من علي أن يقيم الحد على قتلة عثمان، وكان علي غير متمكن من
~~ذلك لتفرق الكلمة وانتشار الرعية وقوة المعركة لأولئك، فامتنع هؤلاء عن
~~بيعته، إما لاعتقادهم أنه عاجز عن أخذ حقهم، وإما لتوهمهم محاباة أولئك،
~~فقاتلهم علي لامتناعهم من بيعته، لا لأجل تأمير معاوية.
# و
### | علي وعسكره أولى من معاوية وعسكره،
# كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تمرق
~~مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ". فهذا نص
~~صريح أن علي ابن أبي طالب وأتباعه أولى بالحق من معاوية وأصحابه. وفي صحيح
~~مسلم (2) وغيره أنه قال: "يقتل عمارا الفئة الباغية".
# لكن الفئة الباغية هل يجب قتالها ابتداء قبل أن تبدأ الإمام بالقتال، أم
~~لا تقاتل حتى تبدأ بالقتال؟ هذا مما تنازع فيه العلماء، وأكثرهم على القول
~~الثاني، فلهذا كان مذهب أكابر الصحابة والتابعين والعلماء أن ترك على
~~القتال كان أكمل وأفضل وأتم في سياسة الدين والدنيا. ولكن علي إمام هدى من
~~الخلفاء الراشدين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تكون خلافة
~~النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا". رواه أهل السنن (3) ، واحتج به أحمد
~~وغيره على خلافة علي والرد على من طعن فيها، وقال أحمد: من لم يربع بعلي في
~~خلافته فهو أضل من حمار أهله. PageV06P264
# والقران لم يأمر بقتال البغاة ابتداء، بل قال تعالى: (وإن طائفتان من
~~المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا ms1156 بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي
~~تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن
~~الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله
~~لعلكم ترحمون (10)) (1) .
# وما حرمه الله تعالى من البغي والقتل وغير ذلك إذا فعله الرجل متأولا
~~مجتهدا معتقدا أنه ليس بحرام لم يكن بذلك كافرا ولا فاسقا، بل ولا قود في
~~ذلك ولا دية ولا كفارة، كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج أصيب
~~بتأويل القرآن فهو هدر. وقد ثبت في الصحيح (2) أن أسامة بن زيد قتل رجلا من
~~الكفار بعد ما قال "لا إله إلا الله "، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم
~~-: "يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟! " قال؟ فقلت: يا رسول
~~الله، إنما قالها تعوذا، فقال: "هلا شققت عن قلبه". وكرر عليه قوله:
~~"أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ ". ومع هذا فلم يحكم عليه بقود ولا
~~دية ولا كفارة، لأنه كان متأولا اعتقد جواز قتله بهذا. مع ما روي عنه أن
~~رجلا قال له: أرأيت إن قطع رجل من الكفار يدي ثم أسلم، فلما أردت أن أقتله
~~لاذ مني بشجرة، أأقتله؟ فقال: "إن قتلته كنت بمنزلته قبل أن يقول ما قال،
~~وكان بمنزلتك قبل أن تقتله " (3) . فبين أنك تكون PageV06P265
# مباح الدم كما كان مباح الدم، ومع هذا فلما كان أسامة متأولا لم يبح دمه.
# وأيضا فقد ثبت (1) أنه أرسل خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فلم يحسنوا أن
~~يقولوا: أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فلم يجعل خالد ذلك إسلاما، بل أمر
~~بقتلهم، فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك رفع يديه إلى السماء
~~وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد"، وأرسل عليا فوداهم بنصف دياتهم.
~~ومع هذا فلم يعاقب خالدا ولم يعزله عن الإمارة، لأنه كان متأولا. وكذلك فعل
~~به أبو بكر لما قتل مالك ms1157 بن نويرة، كان متأولا في قتله فلم يعاقبه ولم
~~يعزله، لأن خالدا كان سيفا قد سله الله تعالى على المشركين، فكان نفعه
~~للإسلام عظيما، وإن كان قد يخطىء أحيانا. ومعلوم أن عليا وطلحة والزبير
~~أفضل من خالد وأسامة وغيرهما.
# ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحسن: "إن ابني هذا سيد،
~~وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "، فمدح الحسن على الإصلاح،
~~ولم يمدح على القتال في الفتنة= علمنا أن الله ورسوله كان يحب الإصلاح بين
~~الطائفتين دون الاقتتال. ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث
~~الصحيح (2) في الخوارج: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم،
~~يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام PageV06P266
# كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا
~~عند الله لمن قتلهم يوم القيامة"، وقال (1) : "يقتلهم أدنى الطائفتين إلى
~~الحق " وروي (2) : "أولى الطائفتين بالحق " من معاوية وأصحابه- أعلم أن
~~قتال الخوارج المارقة أهل النهروان الذين قاتلهم علي بن أبي طالب، كان
~~قتالهم مما أمر الله به ورسوله، وكان علي محمودا مأجورا مثابا على قتاله
~~إياهم. وقد اتفق الصحابة والأئمة على قتالهم، بخلاف قتال الفتنة، فإن النص
~~قد دل على أن ترك القتال فيها كان أفضل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"
~~ستكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي " (3) ومثل
~~قوله لمحمد بن مسلمة: "هذا لا تضره الفتنة" (4) ، فاعتزل محمد بن مسلمة
~~الفتنة، وهو من خيار الأنصار، فلم يقاتل لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. وكذلك
~~أكثر السابقين لم يقاتلوا، بل مثل سعد بن أبي وقاص ومثل أسامة وزيد وعبد
~~الله بن عمر وعمران بن الحصين، ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن
~~أبي وقاص ولم يقاتل، وزيد بن ثابت، ولا أبو هريرة ولا أبو بكرة ولا غيرهما
~~من أعيان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد قال النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - لأهبان بن صيفي: "خذ هذا السيف فقاتل به المشركين، فإذا ms1158 اقتتل
~~المسلمون فاكسره"، ففعل ذلك ولم يقاتل في الفتنة (5) . PageV06P267
# وفي الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يوشك أن
~~يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من
~~الفتن ". وفي الصحيح (2) عن أسامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
~~"إني لأرى الفتنة تقع خلال بيوتكم كمواقع القطر". والأحاديث عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - كثيرة في إخباره بما سيكون في الفتنة بين أمته، وأمره
~~بترك القتال في الفتنة، وأن الإمساك عن الدخول فيها خير من القتال.
# وقد ثبت عنه في الصحيح (3) أنه قال: "سألت ربي لأمتي ثلاثا، فأعطاني
~~اثنين ومنعني واحدا، سالته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم، فأعطانيها،
~~وسالته أن لا يهلكهم بسنة عامة، فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم،
~~فمنعنيها".
# وكان هذا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - وفضائل هذه الأمة، إذ
~~كانت النشأة الإنسانية لا بد فيها من تفرق واختلاف وسفك دماء، كما قالت
~~الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) (4) . ولما كانت هذه
~~الأمة أفضل الأمم وآخر الأمم عصمها الله أن تجتمع على ضلالة، وأن يسلط عدو
~~عليها كلها كما سلط على بني إسرائيل، بل إن غلب PageV06P268
# طائفة منها كان فيها طائفة قائمة ظاهرة بأمر الله إلى يوم القيامة، وأخبر
~~أنه "لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله " (1) ، وجعل ما
~~يستلزم من نشأة الإنسانية من التفرق والقتال هو لبعضها مع بعض، ليس بتسليط
~~غيرهم على جميعهم، كما سلط على بني إسرائيل عدوا قهرهم كلهم. فهذه الأمة-
~~ولله الحمد- لا تقهر كلها، بل لا بد فيها من طائفة ظاهرة على الحق منصورة
~~إلى قيام الساعة إن شاء الله تعالى. والله أعلم. PageV06P269
### | مسألة في الاستغفار
# PageV06P271
# قال (1) الوليد: قلت للأوزاعي: ما الاستغفار؟ قال: تقول: أستغفر الله
~~أستغفر الله.
# فهذا حديث صحيح في
### | تكرير الاستغفار
# ثلاثا دبر الصلاة، فتكرير الاستغفار في الصلاة أوكد، كما أنه [لما] سن
~~تكرير التسبيح في الصلوات كان تكرير التسبيح ms1159 في الركوع والسجود أوكد. وفي
~~صحيح مسلم (2) من حديث الأغر المزني- وكانت له صحبة- أن رسول الله - صلى
~~الله عليه وسلم - قال: "إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم
~~مئة مرة". وفيه (3) من حديث عمرو بن مرة عن أبي بردة قال: سمعت الأغر- وكان
~~من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - يحدث ابن عمر أن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - قال: "أيها الناس! توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم
~~مئة". قال الحميدي (4) : وقد أخرجه البخاري في تاريخه من هذين الوجهين، ولم
~~يخرجه في الجامع، وهو لاحق بشرطه فيه. وفي الصحيح (5) أيضا: "إني لأستغفر
~~الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة".
# وقد أمر أن يختم عمله الخاص والعام بالاستغفار، فكان الاستغفار نهاية
~~أمره. وتارة يجمع بين التوحيد والاستغفار، فقال تعالى: (فاعلم أنه لا إله
~~إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) (6) ، وقال: (أنما
~~PageV06P273
# إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه) (1) .
# فهذان الأمران جماع الدين، كما يروى أن الشيطان قال: أهلكت بني آدم
~~بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم
~~الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد قال
~~تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) (2) .
# فالتوحيد هو جماع الدين الذي هو أصله وفرعه ولبه، وهو الخير كله،
~~والاستغفار يزيل الشر كله، فيحصل من هذين جميع الخير وزوال جميع الشر. وكل
~~ما يصيب المؤمن من الشر فإنما هو بذنوبه.
# و
### | الاستغفار يمحو الذنوب فيزيل العذاب،
# كما قال تعالى: (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)) (3) . وقد كان
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلب من الله المغفرة في أول الصلاة في
~~الاستفتاح، كما في حديث أبي هريرة الصحيح (4) وحديث علي الصحيح (5) في أول
~~ما يكبر، ثم يطلب الاستغفار بعد التحميد إذا رفع رأسه، ويطلب الاستغفار في
~~دعاء التشهد كما في حديث علي (6) وغيره، ويطلب الاستغفار في الركوع
~~PageV06P274
# والسجود كما في حديث عائشة الصحيح (1) ، ورواه أبو داود والنسائي ms1160 وابن
~~ماجه. وروى مسلم وأبو داود (2) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- كان يقول في سجوده: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله وأوله وآخره
~~وعلانيته وسره".
# فلم يبق حال من أحوال الصلاة ولا ركن من أركانها إلا استغفر الله فيه،
~~فعلم أنه كان اهتمامه به أكثر من اهتمامه بسائر الأدعية. ويميز ذلك أن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استغفر لرجل كان ذلك سببا لوجوب
~~الجنة له، مثل أن يستشهد، كما في حديث سلمة بن الأكوع (3) . وكان استغفاره
~~للرجل أعظم عندهم من جميع الأدعية له، كما في صحيح مسلم (4) عن عبد الله بن
~~سرجس قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكلت معه خبزا ولحما -أو
~~قال: ثريدا- فقلت: يا رسول الله! غفر الله لك، قال: ولك. قال: فقلت له:
~~أستغفر لك رسول الله؟ قال: نعم ولك، ثم تلا هذه الآية: (واستغفر لذنبك
~~وللمؤمنين والمؤمنات) (5) .
# وهذا أيضا توكيد له، حيث أمره الله بالاستغفار للمؤمنين، وخص ذلك بسائر
~~الأدعية. وكذلك أخبر عن ملائكته أنهم يستغفرون للمؤمنين، وذلك أن المغفرة
~~مشروطة بالإيمان، فلا تكون إلا لأهل PageV06P275
# الإيمان، بخلاف العافية والرزق والهداية العامة، فإنها تحصل بدون
~~الإيمان، فإن الكافر قد يهديه الله فيصير مؤمنا، وقد يعافيه ويرزقه مع
~~كفره، وقد يجاب دعاؤه. والمغفرة إنما هي للمؤمنين، فهي النهاية. ولهذا قال
~~في المنافقين (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن
~~يغفر الله لهم) (1) ، وقال فيهم: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر
~~لهم) (2) ، وقال: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو
~~كانوا أولي قربى) (3) ، وقال: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين
~~معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله) الآية (4) .
~~فأمرهم الله بالاقتداء بهم إلا في الاستغفار للمشركين.
# وفي الصحيح (5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استأذنت ربي في
~~الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". وفي
~~الصحيح (6) أنه قال ms1161 لأبي طالب: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، فأنزل الله:
~~(ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من
~~بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) (7) . وفي PageV06P276
# الصحيح (1) أنه صلى على ابن أبي وألبسه قميصه وتفل في فيه واستغفر له، ثم
~~قال: "وماذا يغني عنه ذلك من الله؟ ".
# وكذلك استغفر للذين اعتذروا إليه لما رجع من غزوة تبوك، ثم أنزل الله
~~فيهم بعد ذلك ما أنزل، فلم ينفعهم ذلك (2) .
# فإذا كان استغفار الإنسان لغيره لا ينفعه إلا مع الإيمان، بخلاف الأدعية
~~المروية في هذا الحديث من العافية والرزق والهداية والرحمة، إذا أريد بها
~~رحمة الدنيا أو الرحمة من الدين تصيب الكافر، وأما إذا أريد بها أنه لا
~~يعذب أو يدخل الجنة فهذا لا يصلح. بل
### | استغفار الإنسان أهم من جميع الأدعية لوجهين:
# أحدهما: أن استغفاره لنفسه يغفر له به جميع الذنوب إذا كان على وجه
~~التوبة، حتى إن الكفار إذا استغفروا لأنفسهم نفعهم ذلك، وكان سبب نجاتهم من
~~عذاب الدنيا. وعذاب الآخرة إنما ينجي منه الاستغفار مع الإيمان. وهذا أيضا
~~من خصائص التوحيد، فإن المكلف لا ينفعه توحيد غيره عنه، ولا ينجيه ذلك من
~~عذاب الله عز وجل، بل لا ينجيه إلا توحيد نفسه، ولا ينفعه مع عدم التوحيد
~~الاستغفار عنه، بل لا ينفعه إلا استغفاره الذي تضمن توحيده وتوبته من
~~الشرك. فصار الاستغفار مقرونا بالتوحيد من بداية، لا تقبل النيابة فيه ولا
~~يهدى إلى الغير إلا إذا أتى هو به، فإذا كان هو من أهل ذلك نفعه حينئذ ما
~~يريده PageV06P277
# غيره من ذلك، بخلاف الأعمال والأدعية التي تفعل عن الغير وتهدى له وإن لم
~~يأت بأصلها.
# وإنما كان الاستغفار هو النهاية من العبد لأن الذنب لازم لجميع بني آدم،
~~وإنما كمال المؤمنين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في التوبة من
~~الذنب والاستغفار، كما قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض
~~والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الأنسان إنه كان ظلوما جهولا)
~~إلى آخر ms1162 السورة (1) . وقد أخبر تعالى أنه يبدل سيئات التائب حسنات، وأنه
~~يفرح بتوبة العبد أشد فرح يقدر.
# فالذنوب إذا كانت مغمورة بالحسنات لم يعاقب صاحبها بالنار، لكن يكون
~~تأثيرها في تفاوت الدرجات، فأعلى الخلق منزلة العبد الذي غفر له ما تقدم من
~~ذنبه وما تأخر، وبذلك وصفه الرسول الذي قبله (2) الذي دل عليه والطالبون
~~للشفاعة منه، وجعل ذلك هو السبب في كونه يكون شفيع الخلائق، لأنه لما غفر
~~له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لم يبق يحتاج إلى أن يشفع لنفسه ويستغفر،
~~فأمكنه أن يشفع لغيره، بخلاف من يقول: نفسي نفسي، فإنه يكون محتاجا إلى
~~الشفاعة حينئذ لنفسه ويستغفر لنفسه، فلا يشفع لغيره في هذا المقام، وإن كان
~~يشفع بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا بد أن يغفر جميع هذه الذنوب وما هو أعظم
~~منها، لكن يتأخر ذلك عن مقام الشفاعة، بخلاف الذي غفر له ما PageV06P278
# تقدم من ذنبه وما تأخر قبل هذا المقام، فإنه سائر في مقام المغفرة. ولهذا
~~قال الخليل -وهو أحد الرسل الكبار المطلوب منهم الشفاعة يومئذ-: (والذي
~~أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) (1) ، فالمغفرة التي رجاها تكون يوم
~~الدين، وهي واقعة بعد شفاعة سيد ولد آدم، فإنه قبل ذلك يقول (2) : إن ربي
~~قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ويذكر خطيئته:
~~نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى موسى.
# وهذا كله مما يؤكد أمر الاستغفار ويبين أنه نهاية الأمر، وأن السائر فيه
~~هو من سائر السابقين، فتكريره يوجب من ذلك ما لا يوجبه غيره. والله أعلم.
~~PageV06P279
### | مسائل في الصلاة
# PageV06P281
# ذكر (1) إلا في فعل من أفعالها، وليس فيها فعل خال من ذكر إلا جلسة
~~الاستراحة حيث تفعل، فإنها فعل لا ذكر فيه لقصره، ومثل تكبيرات الانتقال،
~~فإنها ليست في فعل مستقر.
# وقد تنازعوا في الجهر والمخافتة في الصلوات هل هما واجبان تبطل الصلاة
~~بتعمد مخالفتهما أم هما سنة؟ وفي ذلك خلاف مشهور في مذهب مالك وأحمد
~~وغيرهما، والمشهور أنهما سنة، وكذلك دعاء الاستفتاح ms1163 سنة. ومن السنن الراتبة
~~المتفق عليها: المخافتة بالذكر والدعاء في الركوع والسجود، والاعتدال فيهما
~~وفي التشهدين، ومخافتة المأموم بقراءته ودعائه، وأما المنفرد فقد تنازعوا
~~هل الأفضل له المخافتة بالقراءة أو الجهر بها؟ والاستعاذة السنة المخافتة
~~بها عند الجمهور، وقيل: يتعوذ بين المخافتة والجهر. والبسملة عند الذين
~~يقرؤونها -وهم الجمهور- سنتها الراتبة المخافتة، وقيل: الجهر، وقيل: يخير
~~بين الأمرين. وكذلك التأمين سنته الجهر به عند أحمد والشافعي، وأصح قوليه
~~للإمام والمأموم، وقيل: المخافتة به لهما، وقيل: يخافت به المأموم دون
~~الإمام تبعا لقراءته.
# والدليل على أن سنة الاستفتاح المخافتة ما في الصحيحين (2) عن أبي هريرة
~~قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال:
~~"أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب
### | …
# " إلى آخره، وظاهره أنه لم يكن PageV06P283
# يجهر بالاستعاذة أيضا، لقوله "بين القراءة والتكبير". وكذلك سائر
~~الأحاديث الصحاح التي فيها المخافتة بالبسملة، مثل حديث عائشة (1) وأنس (2)
~~وأبي هريرة (3) وغيرها، تدك على ذلك. وكذلك حديث سمرة بن جندب وأبي بن كعب،
~~قال سحمرة: حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين، وهو في السنن
~~(4) .
# وأما لعارض فقد ثبت في الصحيح (5) أن عمر كان يجهر بدعاء الاستفتاح مرات
~~كثيرة، فكان يقول: الله أكبر، "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى
~~جدك، ولا إله غيرك". وكان طائفة من الصحابة يجهرون بالبسملة، كابن الزبير
~~وغيره. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجهر بها بمكة،
~~وروي في جهره بها بالمدينة أحاديث ضعيفة ضعفها أهل الحديث (6) . وثبت في
~~الصحيح (7) عن أبي قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمعهم الآية
~~أحيانا من صلاة الظهر والعصر، وثبت في صحيح البخاري (8) أن ابن عباس جهر
~~بالقراءة على الجنازة بفاتحة PageV06P284
# الكتاب وقال: لتعلموا أنها السنة.
# فمثل هذا الجهر إذا كان لتعليم المأمومين يحسن، ولو كان لمصلحة أخرى فهو
~~حسن أيضا، فإنه قد يكون الجهر أعون على القراءة، كما قال عمر: أوقظ الوسنان
~~وأرضي الرحمن وأطرد الشيطان (1) . فقد ms1164 يكون الجهر أبلغ في تعليمه، وقد يكون
~~عليه في المخافتة مشقة، ومهما استجلب به الخشوع والبكاء من خشية الله وكان
~~أنفع للمأمومين جاز، ولا يداوم على ذلك في أكل، وقت، كما يداوم على قراءة
~~الفاتحة وعلى الركوع.
# ومما يدل على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانا ما في الصحيح (2) عن
~~أنس أن رجلا جاء إلى الصلاة وقد حفزه النفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله
~~حمدا كثيرا طبيا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فلما قضى رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "أيكم المتكلم بالكلمات؟ لقد رأيت
~~اثني عشر ملكا يبتدرونها أيهم يرفعها". فهذا مأموم جهر بهذا الذكر بعد
~~التكبير، وقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بذلك، وهذا دليل على
~~جواز الجهر أحيانا في المواضع التي يخافت فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في
~~الصلاة بما هو من جنسها كان حسنا وإن لم يؤمر به. وهذا موافق لجهر عمر
~~بالاستفتاح. PageV06P285
# وكذلك ما رواه البخاري (1) من حديث رفاعة بن رافع قال: كنا نصلي وراء
~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمع الله
~~لمن حمده، فقال رجل وراءه: ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، فلما
~~قضى صلاته قال: "من المتكلم؟ رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم
~~يكتبها". فهذا أيضا جهر من المأموم بالتحميد الذي هو ليس المأمور به، ولكنه
~~من جنس المأمور به، فإن النبي لم ينقل عنه مثله.
# وأيضا فالذين ذكروا أنهم صلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلموا ما
~~كان يفتتح به، وما كان يقوله في ركوعه وسجوده واعتداله، مثل حديث جبير بن
~~مطعم أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فقال: "الله أكبر
~~كبيرا، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، أعوذ
~~بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه". رواه أهل السنن (2) ، وهو
~~حديث حسن. فلولا أنه جهر بذلك لما سمعه يقول ذلك، إلا أن يخبره به بعد
~~الصلاة، ولو ms1165 أخبره كما أخبر أبا هريرة لبين ذلك، ولأنه لم يكن ليخبره من
~~غير استخبار عن الاستفتاح وحده دون بقية أذكار الصلاة، إذ لا موجب للتخصيص.
# وكذلك حديث حذيفة (3) أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان
~~يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى"،
~~PageV06P286
# وما أتى على آية رحمة إلا سأل، ولا على آية عذاب إلا تعوذ، وهذا كان في
~~قيام الليل. وهو حديث صحيح. وكان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي، رب اغفر
~~لي" (1) ، وهذا بين أنه كان يسمع منه ما قاله في ركوعه وسجوده وبين
~~السجدتين، وكذلك دعاؤه عند آية الرحمة والعذاب. فهذا يقتضي جواز الجهر
~~بذلك.
# وكذلك حديث ابن أبي أوفى (2) أنه كان إذا رفع ظهره من الركوع قال: "سمع
~~الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت
~~من شيء بعد"، وفي حديث أبي سعيد (3) : "أهل الثناء والمجد، أحق ما قال
~~العبد" إلى آخره. وهذا يدل ظاهره على أنهم سمعوا ذلك منه يقوله في الصلاة
~~من غير إخبار منه لهم.
# وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح (4) أنه كان يكثر أن يقول في ركوعه
~~وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. وقولها في
~~الصحيح (5) : كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح".
~~وأصرح من ذلك ما رواه PageV06P287
# مسلم (1) عنها قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة على
~~الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في السجود وهما منصوبتان،
~~وهو يقول: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك" إلى آخره. فهذا صريح في أنه جهر
~~بهذا الدعاء في سجوده، حتى سمعت ذلك عائشة.
# فإن كان الإمام ضعيفا أو صوته لا يبلغ المأمومين جاز أن يبلغ بعضهم بعضا
~~بالتكبير، كما كان أبو بكر يبلغ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التكبير
~~في مرضه لما خرج وأبو بكر يصلي بالناس، وبنى على صلاة أبي بكر.
# وأما الإمام فالسنة في حقه الجهر بالتكبير باتفاق العلماء، وفي ms1166 حديث أبي
~~هريرة الصحيح (2) : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام [إلى]
~~الصلاة يكبر حين يقوم وحين يركع، ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" حين يرفع
~~صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: "ربنا ولك الحمد"، ثم يكبر حين يهوي
~~وحين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه. وكذلك ذكره أبو
~~حميد الساعدي (3) . وكذلك حديث أبي موسى في صحيح مسلم (4) يبين هذا: "إذا
~~صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: (ولا
~~الضالين) فقولوا "آمين" يجبكم الله، فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا، فإذا
~~قال PageV06P288
# "سمع الله لمن حمده" فقولوا "ربنا ولك الحمد" يسمع الله لكم". ففي هذه
~~الأحاديث بيان جهر الإمام بالتكبير حتى يسمعوه.
# فصل
# وأما مقدار الكلم والعمل فإن السنة التي اتفق عليها العلماء في صلاة
~~المغرب أن قراءتها أقصر من قراءة غيرها، كما اتفقوا على أن سنتها التعجيل
~~من أول الوقت، وإن كان تأخيرها إلى وقت العشاء جائزا، كما دلت على ذلك
~~الأحاديث الصحيحة في إمامة جبريل النبي صلى الله عليهما وسلم، ويكره
~~تأخيرها عن أول وقتها من غير عذر، بخلاف غيرها من الصلوات. وقد روى الإمام
~~أحمد (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المغرب وتر النهار،
~~فأوتروا صلاة الليل". فإذا كانت وتر صلاة النهار كان تعجيلها مع عمل النهار
~~هو السنة، ومع هذا فقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~أنه كان يقرأ فيها بطولى الطوليين، وفي الصحيح عنه أنه كان يقرأ فيها
~~بالمرسلات (3) وبالطور (4) .
# وأما صلاة الفجر فالسنة فيها التي استفاضت بها الأحاديث واتفق عليها
~~العلماء إطالة القراءة فيها زيادة على غيرها، حتى قيل: إنها إنما جعلت
~~ركعتين لأجل طول القراءة فيها. وفي PageV06P289
# الصحيح (1) من حديث أبي برزة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان
~~يقرأ فيها ما بين الستين إلى المئة، وتارة بقاف، وهو في الصحيح أيضا عن
~~جابر بن سمرة (2) . وتارة بالمؤمنين (3) ، وتارة بغيرها. وفي مسند أحمد (4)
~~أنه قرأ ms1167 فيها بالروم، وكان يأمرهم بالتخفيف، ويؤمهم بالصافات. فالتخفيف
~~الذي أراده منهم هو أن يقرأ بقدر الصافات. وقرأ فيها في السفر ب (قل أعوذ
~~برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس) ، كما رواه أهل السنن (5) عن عقبة بن
~~عامر قال: كنت أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقته في السفر،
~~فقال لي: "يا عقبة، إلا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ "، فعلمني "قل أعوذ برب
~~الفلق" و"قل أعوذ برب الناس"، فلما نزل إلى صلاة الصبح صلى بهما. والسفر قد
~~وضع فيه عن المسافر شطر الصلاة، فكذلك يوضع عنه إطالة القراءة فيه في
~~الفجر.
# وكان يخفف الصلاة لأمر عارض كبكاء الصبي (6) ، فإن تخفيف الصلاة لئلا يشق
~~على المأمومين من السنة. وفي حديث عائشة (7) أنه كان يصلي من الليل إحدى
~~عشرة ركعة، وفي حديث ابن PageV06P290
# عباس (1) : ثلاث عشرة ركعة، وكان يفتتح قيام الليل بركعتين خفيفتين (2) ،
~~فلعل هذه هي محل الاختلاف، وكان يصلي بعد وتره سجدتين وهو جالس.
# قال: وقد أطلق بعض العلماء أن التطوعات قبل الصلوات وبعدها أفضل التطوع.
# قال الشيخ: وليس كذلك، بل قيام الليل أفضل التطوعات، كما ثبت في الصحيح
~~(3) عنه أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ فقال: "صلاة الليل". وأفضل
~~الرواتب الوتر وركعتا الفجر، وهذا هو الذي لم يكن يتركه سفرا ولا حضرا، بل
~~كان في السفر يوتر على راحلته، وكان يصلي ركعتي الفجر، حتى قضاهما لما نام
~~عنهما، حين نام هو [و] أصحابه عن صلاة الفجر لما قفل عن خيبر، وقال عنهما:
~~"لا تدعوهما ولو طردتكم الخيل " (4) . وقد كان مالك لا يسمي سنة إلا هما
~~خاصة، فهما أول العمل، والوتر آخره. و [لم] يحفظ أحد عن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - أنه صلى مع الظهر والعصر والمغرب والعشاء شيئا من الرواتب في
~~السفر، وكان يصلي صلاة الليل على راحلته، بل ثبت عنه في غير حديث صحيح أنه
~~كان يصلي المغرب والعشاء ولا يصلي معهما شيئا، وأنه لم يكن في السفر يزيد
~~على ركعتين. وأقصى ما في PageV06P291
# الأحاديث الصحيحة ms1168 أن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ركعات الفرض
~~أربع وأربعون ركعة، وعائشة كانت أعلم بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~بالليل من غيرها.
# فصل
# وصف الله سبحانه أنبياءه ورسله والعلماء من عباده بأنهم إذا سمعوا آيات
~~الله خروا سجدا وبكيا، كما قال تعالى لما ذكر الأنبياء في سورة مريم:
~~(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح
~~ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن
~~خروا سجدا وبكيا (58)) (1) . وصف جميع هؤلاء الذين هم صفوة خلقه وخيرهم
~~بأنهم إذا سمعوا آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا، وهذا نظير ما وصف به علماء
~~أهل الكتاب بقوله: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون
~~للأذقان سجدا (107)) إلى قوله: (ويزيدهم خشوعا (109)) (2) ، أي إذا سمعوا
~~القرآن سجدوا وبكوا.
# وهذا مما أمر الله به الناس عموما، وذم من لم يفعل ذلك في قوله: (فما لهم
~~لا يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21)) (3) .
# فذم من إذا قرىء عليه القرآن لا يسجد، كما مدح النبيين وغيرهم من
~~المؤمنين بالسجود إذا سمعوه. والسجود وإن كان مشروعا عند استماع هذه الآيات
~~السجدات وواجب عند بعض العلماء، فلا يجوز أن يكون PageV06P292
# المراد بهذه الآيات ونحوها مجرد سجود التلاوة، لأنه تعالى وصفهم بأنهم
~~إذا تليت عليهم خروا سجدا، وأخبر أنه لا يؤمن بآياته إلا الذين إذا ذكروا
~~بها خروا سجدا، وهذا يعم الآيات التي شرع فيها سجود التلاوة وغيرها، ولا
~~يجوز حمله على تلك الآيات فقط، لأنها قليلة يسيرة من حيث آيات الله عز وجل.
# وكذلك ما وصف به أهل العلم وكذلك ما حض عليه الناس بقوله: (فما لهم لا
~~يؤمنون (20) وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) (1) ، فيه من العموم
~~والتحضيض ما لا يجوز حمله على مجرد سجود التلاوة، يوضح ذلك أنه لما أثنى
~~على النبيين وأهل العلم وصفهم بالسجود والبكاء، ولما أخبر عما لا بد منه من
~~الإيمان وما يذم من تركه ذكر السجود فقط، فقال ms1169: (إنما يؤمن بآياتنا الذين
~~إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15)) (2) ،
~~وقال: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون (21)) (3) . بل هذا- والله أعلم-
~~كما شرعه لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (اقرأ باسم ربك الذي خلق
~~(1)) إلى أن قال: (كلا لا تطعه واسجد واقترب (19)) (4) ، فأمره بالقراءة
~~والسجود، وعلى ذلك بنيت الصلوات، فاعظم أركانها القولية القراءة، وأعظم
~~أركانها الفعلية السجود، وهما أفضل أعمال الصلاة. وقد تنازع [العلماء] أيما
~~PageV06P293
# أفضل: طول القراءة أو كثرة الركوع والسجود أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال،
~~أصحها التسوية، كما كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما بسطنا
~~القول في ذلك في غير هذا الموضع.
# فصل
# والصلوات المشروعة مشتملة على ذلك، على استماع لقراءة آيات الله وعلى
~~السجود، ويدل على ذلك أنه قال بعد ذلك: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
~~واتبعوا الشهوات) (1) ، فعلم أن ما وصف به الذين أنعم عليهم قبل ذلك ضد
~~الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، فنعت النبيين وأتباعهم بإقام الصلاة
~~والمحافظة عليها.
# ولهذا لما احتج بهذه الآيات ونحوها من أوجب سجود التلاوة أجاب عن ذلك من
~~لم يوجبه بأن المراد بها سجود الصلب المفروض في الصلوات والقعود للثناء ما
~~يتضمن الجمع بين القراءة والسجود، كما تضمن ذلك أول سورة أنزلت. ومما يشبه
~~هذه الآيات الثلاث قوله في آخر النجم: (أفمن هذا الحديث تعجبون (59)
~~وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62)) (2) .
~~يذم تعالى من يعجب من القرآن، ويضحك ولا يبكي بل يلهو، وأمر بالسجود لله
~~والعبادة له.
# وهذا متضمن (3) للسجود عند سماع هذا الحديث، كما وضعت الصلاة على ذلك.
~~PageV06P294
# وقد أخبر تعالى في قوله أنه لا يكون مؤمنا بآياته إلا من يسجد عند ما
~~يذكر بها، فقال: (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا
~~بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15)) (1) . وهذه الآية يستدل بها على أن من لم
~~يسجد لله فليس بمؤمن، وهذا يقتضي كفر تارك الصلاة، وقوله: (وسبحوا بحمد
~~ربهم) يقتضي أن التسبيح واجب، وذلك يقتضي ms1170 وجوب التسبيح مع السجود، والركوع
~~يدخل في مسمى السجود عند الانفراد، فيقتضي وجوب التسبيح في الركوع والسجود.
# وأما قوله: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) (2) فإنه داخل في حيز "الذين"
~~أيضا، وذلك يجعل للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لصلاة الصبح وصلاة العشاء،
~~وكلما أخرت هذه وقدمت هذه كان أشد للتجافي عن المضاجع.
# فصل
# وقد وضعت الصلاة على السجود بعد القراءة، فإن الركوع والسجود- كما قدمنا-
~~كلاهما يدخل في اسم الآخر [عند] الانفراد، وإن ميز بينهما عند الجمع، كما
~~في لفظ الفقير والمسكين، كما قال تعالى: (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة)
~~(3) ، قيل: المراد به الركوع، لأن الساجد على الأرض لا يمكنه الدخول لذلك،
~~ومنه قول PageV06P295
# العرب: سجدت النخلة، إذا مالت، فهذا إدخال الركوع في مسمى السجود، فإنه
~~مبدؤه وأوله. وأما الآخر فكقوله في قصة داود: (وخر راكعا وأناب) (1) ،
~~وإنما هو سجود بالأرض، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح
~~(2) أنه قال: "سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا"، فإن الركوع يحصل
~~بالانحناء، والزيادة على ذلك إلى حد الأرض زيادة فيه.
# ويعبر عن الصلاة تارة بلفظ الركوع، كما في قوله: (واركعوا مع الراكعين)
~~(3) ، وقوله: (اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) (4) .
# ولهذا إذا كانت السجدة في آخر السورة أجزأ ما في الصلاة من السجود
~~والركوع عن سجود التلاوة، كما يروى ذلك عن ابن مسعود، وهذا هو المنصوص عن
~~أحمد، وهو قول من قال من فقهاء العراق وغيرهم، لكن هل المجزئ عن سجود
~~التلاوة هو الركوع أو سجود الصلب أو كلاهما؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه.
# ومما يبين أصل الكلام أن ما في القرآن من الأمر بالسجود- كقوله: (اركعوا
~~واسجدوا) (5) - هو أمر بركوع الصلاة وسجودها، والله سبحانه وتعالى كما يقرن
~~بعض أركان الصلاة ببعض- كما قرن بين PageV06P296
# القراءة والسجود، وبين الركوع والسجود- فإنه يقرن بين الصلاة وبين غيرها
~~من الشرائع، كما قرن بينها وبين الزكاة، وبينها وبين الصبر الداخل في
~~الجهاد والصوم وغيرهما، وأكثر الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في
~~الصلاة والجهاد ms1171، وقد قرن بينهما فى قوله: (اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم
~~وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده) هو الآية (1) ،
~~وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا
~~في سبيله) الآية (2) ، وقال تعالى: (على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا
~~سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا) (3) ، وقال في القرآن: (وجاهدهم به
~~جهادا كبيرا) (4) .
# فصل
# الذي تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واتفقت عليه الأحاديث
~~الصحيحة أنه لم يكن يقنت دائما في صلاة الفجر ولا غيرها، لكن كان يطيل
~~الفجر بالقراءة أكثر من غيرها، وقد ثبت في الصحيح (5) عن أنس أنه لم يقنت
~~بعد الركوع إلا شهرا، والعلم بعدم قنوت راتب كالعلم بعدم قنوته في العشاء
~~والمغرب دائما، إذ لم ينقل عنه مسلم كلمة تقال في القنوت الراتب، وقد نقلوا
~~عنه قنوت الوتر. PageV06P297
# وقد تنازع الناس هل كان قنوته راتبا أو منسوخا أو كان لسبب عارض ثم تركه
~~لزواله؟ على ثلاثة أقوال، والثالث قول أهل الحديث، وهو الصواب، وهو قنوت
~~النوازل، كقنوته على الذين قتلوا القراء يوم بئر معونة، فقنت شهرا بعد
~~الركوع يدعو عليهم، وكقنوته يدعو للمستضعفين بمكة، فكان يدعو في قنوته
~~لقوم، ويدعو على قوم من الكفار لينصر عليهم. وكذلك عمر بن الخطاب كان يقنت
~~إذا أرسل جيشا إلى الشام بالقنوت الذي فيه الدعاء على أهل الكتاب، وهو من
~~قنوته موقوف عليه ليس مرفوعا. وكذلك علي قنت في حروبه. وقد سأل أبو ثور
~~الإمام أحمد عن القنوت فقال: في النوازل، فقال: وأي نازلة أعظم من نازلتنا؟
~~قال: فاقنتوا إذا، أو كما قال، يريد بذلك امتحان الجهمية للمسلمين.
# فإذا نزل بالمسلمين أمر عام قنتوا فيه، كما إذا ظهر قوم من المبتدعة
~~والمنافقين قنت المؤمنون، وكذلك في الفتن التي تقع بين المسلمين من
~~الافتراق والاختلاف. لكن لما وقعت الفرقة في زمن علي هل قنت الناس للجماعة
~~والائتلاف كما قنت الطائفتان المقتتلتان؟ أو قنتت كل طائفة تطلب النصر على
~~الأخرى؟ وفي حروب النبي - صلى الله عليه وسلم - عام ms1172 الأحزاب ونحوه لم لم
~~يقنت أو لم لم ينقل قنوته؟ فإن المأثور عنه القنوت حيث لم يمكنه النصرة
~~بالقتال، كقنوته على الذين قتلوا القراء، وللمستضعفين الذين بمكة من
~~المؤمنين بخلاصهم.
# وكذلك عمر كان يقنت لجنوده، ويدعو لهم بالنصر، ويدعو علي الكفار بالخذلان
~~والنكال، وهذا عوض عن مباشرته القتال بنفسه.
# PageV06P298
### | فصل
# في الصلاة الوسطى
# PageV06P299
# فصل
# في الصلاة الوسطى
# قد ثبت في النصوص الصحيحة المستفيضة أن
### | الصلاة الوسطى هي العصر،
# كما صرح به في حديث علي المتفق على صحته (1) ، وحديث ابن مسعود: "الصلاة
~~الوسطى هي العصر" (2) . والعصر ثبت لها خصائص، كقوله في الحديث الصحيح (3)
~~: "من ترك صلاة العصر حبط عمله"، وكذلك في الصحيح (4) : "الذي تفوته صلاة
~~العصر كأنما وتر أهله وماله"، وقوله (5) : "إن هذه الصلاة عرضت على من كان
~~قبلكم فضيعوها، فمن حافظ عليها كان له الأجر مرتين، ولا صلاة بعدها حتى
~~يطلع الشاهد". والشاهد: النجم. ولهذا قال علي: هي الصلاة التي شغل عنها
~~سليمان حتى توارت بالحجاب (6) . وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تلك صلاة
~~المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا اصفرت
~~وكانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" (7) .
~~وهي الصلاة التي قال الله فيها في القرآن: PageV06P301
# (تحبسونهما من بعد الصلاة) (1) . وقد ثبت في الصحيح (2) عن النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم
~~القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا
~~لقد أعطي بها أكثر مما أعطي. ورجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل، فيقول
~~الله له: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك. ورجل بايع إماما
~~لا يبايعه إلا للدنيا، إن أعطاه رضي، وإن منعه سخط". فذكر اليمين الفاجرة
~~بعد العصر.
# ويقال: إن وقتها وقمت تعظمه الأمم كلها، ولذلك أمر الله بالاستحلاف فيه
~~لغير المسلمين. والمحافظة على الصلاة توجب تعظيمه وحفظ وقتها حتى لا يضيع
~~حتى يخرج الوقت، وليس في مواقيت الصلوات ما ms1173 لا يتميز أوله بفصل يحس إلا وقت
~~العصر، فإن الفجر يتميز أول وقتها وآخره بطلوع الفجر وطلوع الشمس، والظهر
~~يتميز أول وقتها بالزوال، وآخر وقتها وإن لم يكن متميزا فيجوز تأخيرها إلى
~~وقت العصر للعذر، فلا يفوت إلا بفوات وقت العصر. والمغرب يتميز أول وقتها
~~وآخره بغروب الشمس وغروب الشفق. وعشاء الآخرة يتميز أول وقتها بمغيب الشفق،
~~وآخر وقتها وإن لم يتميز تميزا في الحس لكنه يمد للعذر إلى طلوع الفجر
~~كالظهر. والصلاة التي يمكن تأخيرها إلى ما بعد الوقت الخاص للعذر، لا يخاف
~~من فوتها ما يخاف من فوت الصلاة التي لا يمكن تأخيرها، PageV06P302
# فالظهر والعشاء يجوز تأخيرهما عن وقت الاختيار، وإن جاز تقديم العشاء،
~~بخلاف العصر فإنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها بحال من الأحوال، وأول وقتها
~~ليس يميز، مع أنه أقصر من وقت العشاء والظهر، ووقتها يكون الناس فيه
~~مشتغلين بالأعمال في العادة، لا يكونون في وقت صلاة أشغل منهم في وقتها،
~~وإن كان ذلك يختلف باختلاف الأحوال والآحاد في بعض الصلوات، لكن هذا هو
~~الغالب. فالمحافظة عليها بسبب الوقت وقصره ووجود الشغل فيه.
# ولهذا لم يشتغل نبينا عليه السلام عن صلاة من الصلوات حتى نسيها إلا صلاة
~~العصر يوم الخندق، كما أنه لم ينم عن صلاة إلا عن صلاة الفجر، وقال (1) :
~~"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك"، وهو -
~~صلى الله عليه وسلم - نام عن الصلاة مرة ونسيها أخرى. ولهذا قال لأصحابه:
~~"لا يصلين أحد العصر [إلا] في بني قريظة"، فأدركتهم العصر في الطريق، فمنهم
~~من صلى في الوقت، ومنهم من أخرها حتى صلاها بعد المغرب هناك، فلم يعنف
~~واحدة من الطائفتين (2) .
# ولهذا تنازع العلماء هل يجوز في حال شدة الخوف تأخير الصلاة عن وقتها أو
~~يجب فعلها في وقتها بحسب الحال؟ على قولين هما روايتان عن أحمد.
~~PageV06P303
# إحداهما: أنه يخير بين تعجيلها بحسب الحال وبين تأخيرها، كما أن الصحابة
~~منهم من صلى في الوقت ومنهم من صلى بعد ms1174 الوقت، لكن أولئك صلوا صلاة كاملة،
~~لكونهم لم يمنعوا عن ذلك.
# والثاني: أنه يجب فعلها في الوقت بحسب الحال، وأن ذلك التأخير كان منسوخا
~~بقوله بعد ذلك: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) (1) ، فأمرهم
~~بالمحافظة التي هي فعلها في الوقت. ولأنه بذلك يجمع بين الواجبين: الصلاة
~~والجهاد بحسب حاله، وإتيانه بالواجبين أولى من تفويت أحدهما، ووقت الصلاة
~~أعظم فروضها، ولا تسقط بحال، ولهذا تفعل على أي حال أمكن في الوقت، ولا
~~تؤخر صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل إلى النهار، لا لاشتغال مفرط
~~ولا غير ذلك.
# وأما الجمع بين الصلاتين فهو فعل لها في وقتهما، إذ الوقت ينقسم إلى وقت
~~اختيار ووقت اضطرار، ولهذا قلنا في المحرم إذا خاف إن صلى العشاء أن يفوته
~~الوقوف بعرفة، وإن بادر إلى إدراك الوقوف قبل صلاة الفجر فاتته العشاء= إنه
~~يجمع بين الواجبين الصلاة والحج، فيصلي بحسب حاله ويدرك الوقوف. وهذا القول
~~خير من قول من قدم الصلاة وفوت الحج، أو قدم الحج وفوت الصلاة، إذ كل من
~~الوقوف والصلاة له وقت لا يجوز تأخيره عنه. وبعد هذا القول قول من سوغ
~~تأخير الصلاة لإدراك الحج، فهو شبيه بقول من سوغ تأخير PageV06P304
# الصلاة لأجل الجهاد. وأما من أمر بفعل الصلاة وتفويت الحج فهو يقول: لا
~~يخرج عن الإحرام بذلك، بل ينتقل عن الحج إلى العمرة.
# وهذا ضعيف، فإن ذلك لا يجوز مع القدرة بحال.
# ومن العلماء من جعل فعل الصلاة يوم بني قريظة من الصحابة فعل اجتهاد، وأن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسوغ الفعلين جميعا حتى جعلهم مخيرين،
~~ولكن لما اجتهدوا أقر كلا منهما على اجتهاده. وجعلوا هذا الحديث أصلا في
~~تقرير المجتهدين على اجتهادهم. وهذا وإن كنت قد ذكرته في بعض كلامي قبل هذا
~~ففيه نظر، لأن المجتهدين إنما يقرون إذا عدمت النصوص، فلو كان هذا من باب
~~الاجتهاد لكان أحدهما هو المصيب دون الآخر، فكان النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - يصوب فعل إحدى الطائفتين ويعذر الأخرى، لا يسوي بين ms1175 الطائفتين التي
~~اختصت إحداهما بالإصابة في موارد الاجتهاد.
# والمقصود الكلام على "الوسطى"، وأنها مما قد يشتغل عنها الأنبياء
~~والصالحون، كما نسيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن نسيها من أصحابه
~~يوم الخندق، وكما نسيها سليمان يوم عرضت عليه الخيل. فتخصيصها بالأمر
~~بالمحافظة عليها مناسب، كما هو قول أهل الحديث والسلف.
# ويليه قول من قال: إنها الفجر، فإنه أيضا قول طائفة من الصحابة والعلماء
~~المتبوعين. والفجر أحق الصلوات بذلك بعد العصر، فإن هاتين الصلاتين بينهما
~~من الاشتراك الذي اختصا به ما ليس لغيرهما من الصلوات، كما قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (1) : "لن يلج النار PageV06P305
# أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها" يعني الفجر والعصر. وقال في الحديث
~~الصحيح (1) : "من صلى البردين دخل الجنة". وقال (2) : "إنكم سترون ربكم كما
~~ترون القمر ليلة البدر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس
~~وقبل غروبها فافعلوا"، ثم قرأ: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)
~~(3) . وقال في الحديث الصحيح (4) : "من أدرك [ركعة] من الفجر قبل أن تطلع
~~الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك".
# وذلك أن الله أمر بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، وهذا يتناول هاتين
~~الصلاتين قطعا، وإن كانت صلاة الظهر قد تدخل في ذلك. وكذلك قوله: (وسبح
~~بحمد ربك بالعشي والإبكار) (5) ، (وأقم الصلاة طرفي النهار) (6) و (بالغدو
~~والآصال) (7) ، ونحو ذلك يتناول الفجر والعصر قطعا، والظهر وإن دخلت في ذلك
~~فوقتها وقت العصر حين العذر، كما أن وقت العصر هو وقتها حال العذر فوقت
~~هاتين الصلاتين واحد من وجه.
# ومن خصائص هاتين الصلاتين أن كلا منهما لا يجوز تأخيرها عن PageV06P306
# وقتها بحال ولا لسبب من الأسباب، كما تؤخر الظهر [إلى العصر] ، والمغرب
~~إلى العشاء للعذر، ولهذا خصهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "من
~~أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة من العصر
~~قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك"، إذ سائر الصلوات ms1176 لا تحتاج إلى مثل هذا. فهذه
~~صلاة النهار لا تؤخر إلى الليل، وتلك صلاة ليل من بعض الوجوه لأجل الجهر
~~فيها، وصلاة نهار من بعض الوجوه لكونها بعد طلوع الفجر، وإن كانت معدودة من
~~صلوات النهار كما قد نص عليه أحمد وغيره، لكن فيها شبه من صلاة الليل. وذلك
~~أن لفظ "الليل" "والنهار" فيهما اشتراك، فقد يراد في الشريعة بالنهار ما
~~أوله طلوع الفجر، كقوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) (1) الطرف الأول فيه
~~صلاة الفجر، وهذا هو المعروف في باب الصيام، إذ [إنا] نصوم النهار ونقوم
~~الليل، فصيام النهار أوله طلوع الفجر، وقيام الليل ينتهى بطلوع الفجر. وقد
~~يراد بالنهار ما أوله طلوع الشمس، كما يجيىء في الحديث: فعل كذا نصف
~~النهار، ولما انتصف النهار، وقبل نصف النهار، فأراد نصف النهار الذي أوله
~~طلوع الشمس، إذ زوال الشمس منتصف هذا النهار، لا منتصف النهار الذي أوله
~~طلوع الفجر.
# فلهذا كان وقت الفجر فيه اشتراك بين الليل والنهار، وإن كانت الفجر
~~معدودة من صلوات النهار، وهذا مما قيل في معنى توسطها، قالوا: لأنها بين
~~صلاتي الليل وصلاتي نهار، وهو معنى مناسب، لكن العصر أحق بالتوسط كما دل
~~عليه الأحاديث، وكما قال من قال من PageV06P307
# السلف لمن سأله عن ذلك وقيل له، فأومأ بأصابعه، فأشار بالخنصر وقال: هذه
~~الفجر، وأشار إلى البنصر وقال: هذه الظهر، وأشار بالوسطى إلى العصر وقال:
~~هذه العصر، وأشار إلى المغرب وقال: هذه السباحة، ولأنها وتر، والسباحة تشير
~~بالتوحيد، وأشار إلى الإبهام وقال: هذه العشاء. وهذا صحيح، فإن أول الصلوات
~~هي الفجر، وهي ركعتان، لتنتقل النفس منها على التدريج إلى ما هو أكثر منها،
~~ولهذا قدمها في الترتيب بعض المصنفين، وذلك أحسن ممن قدم الظهر، فإن الذين
~~قدموا الظهر اتبعوا ما فعله جبريل والنبي - صلى الله عليه وسلم - حين أمه
~~وأقام له مواقيت الصلوات. والذين قدموا الفجر تبعوا فيها الأحاديث الثابتة
~~الصحيحة، مثل حديث بريدة (1) وأبي موسى (2) وحديث ابن عمرو (3) وأبي هريرة
~~(4) -إن ثبت-، فإن النبي - صلى الله عليه ms1177 وسلم - بدأ فيها بالفجر في قوله
~~وفعله.
# وأما تسمية الظهر الأولى فليس هو تسمية سنة عنه عليه السلام، وإنما هو
~~قول بعض السلف، كما في الصحيح (5) عن أبي برزة أنه قال: PageV06P308
# "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الهجير التي تدعونها الأولى".
~~فجعل دعاءها بهذا الاسم من قول المخاطبين، لا من قول الشارع، كما قال:
~~"وكان يصلي العشاء التي تدعونها العتمة"، مع أن تسمية هذه الصلاة بالعتمة
~~وإن ورد النهي عن ذلك (1) لئلا يغلب عليه، فقد ورد فيه أحاديث صحيحة لم يرد
~~مثلها في تسمية الظهر بالأولى.
# وأما فعل جبريل فعنه جوابان:
# أحدهما: أن ذلك كان ليلة المعراج حين فرضت الصلوات الخمس، ولم يكن
~~المسلمون قد علموا بهذا الفرض حتى طلع النهار، فلما طلع أقام لهم الصلوات،
~~فكان ابتدأ حينئذ بالظهر.
# والثاني: أن ذلك كان متقدما قبل تكميل عدد الصلوات وأوصافها، وكانت
~~الصلاة ركعتين ركعتين، ثم إن الله بعد ذلك أكمل عدد الصلوات، وإنما أخذ
~~بالآخر من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال: "المغرب وتر النهار،
~~فأوتروا صلاة الليل"، رواه أحمد (2) . ولو كانت الظهر أول الصلوات لم تكن
~~الفجر داخلة لا في وتر الليل ولا في وتر النهار.
# وأيضا فمعلوم أن أول النهار طلوع الفجر، فصلاة ذلك الوقت تكون أول
~~الصلوات، والإنسان حينئذ يكون كالميت. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - إذا استيقظ يقول (3) : "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه
~~PageV06P309
# النشور". فكان أول الصلوات هي الفجر، وإذا كانت الفجر أولها كانت العصر
~~أوسطها، فالمحافظة عليهما في أول وقتهما أولى من غيرهما، لأن وقتهما ليس
~~بالطويل الممتد كالظهر والمغرب والعشاء، فلا يجوز. تأخيرهما عنه، فلهذا كان
~~توكيد المحافظة عليهما متعينا، فإن المحافظة تتعلق بالوقت.
# والفجر لها خصائص تتميز بها عن العصر، مثل كون القراءة فيها طويلة، كما
~~قال تعالى: (إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)) (1) . وفي السنن (2) عن أبي
~~هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تشهده ملائكة الليل وملائكة
~~النهار"، وفي رواية: "يشهده الله وملائكته ms1178". ومن خصائصها أنها لا تجمع إلى
~~غيرها.
# ومن خصائصهما أنه يجتمع فيهما ملائكة الليل وملائكة النهار، كما في
~~الصحيح (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يتعاقبون فيكم
~~ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيعرج
~~الذين باتوا فيكم، فيسألهم -وهو أعلم منهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون:
~~أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون". ومن خصائصهما ترك الصلاة بعدهما،
~~كما في حديث ابن عباس (4) وأبي سعيد (5) وغيرهما من النهي عن ذلك. والله
~~سبحانه أعلم. PageV06P310
# فصل
# يتعلق بما قبله من اجتماع الصلاة والجهاد
# وذلك أن الله أمر بالمحافظة على الصلاة، والمحافظة عليها فعلها في أول
~~وقتها. والوقت وقتان: وقت يتقدر بالزمان، فلا يجوز تأخرها عنه بحال، والوقت
~~الثاني يتقدر بالفعل، وذلك نوعان: أحدهما أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة
~~إلا التي أقيمت، لأن الإقامة مختصة بها بعينها، فصار ذلك الوقت وقتها
~~المقدر لا يسع لغيرها، فلا يفعل فيه غيرها لا تطوع ولا غيره. ولهذا تنازع
~~العلماء فيما إذا ذكر العبد فائتة بعد أن أقيمت الحاضرة، لأن كلاهما واجب،
~~وقد ضاق الوقت عنهما، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن
~~صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكر، فإن ذلك وقتها، لا وقت لها إلا ذلك" (1) .
~~فأوجب فعلها وقضاءها على الفور، وهذا مما يحتج به على الترتيب في قضاء
~~الفوائت، كما هو مذهب أكثر الفقهاء في الفوائت القليلة، ومذهب بعضهم في
~~الفوائت القليلة والكثيرة. كما إذا ذكرها بعد ضيق الوقت المقدر بالزمن، هل
~~يقدم الفائتة لتقدم وجوبها، أو يقدم الحاضرة خوف فواتها وخروجها عن وقتها
~~فتصير فائتتين، أو يصلي الحاضرة مرتين، فيفعلها مرة لأنه وقتها، ثم يصليها
~~بعد أن يصلي الفائتة لأجل مراعاة الترتيب؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد
~~وغيره. وقد رأى أبو هريرة رجلا خرج من المسجد بعد النداء فقال: "أما هذا
~~فقد عصى أبا PageV06P311
# القاسم" (1) . لأن النداء إليها عين وقتها، ولهذا نهوا يوم الجمعة عن
~~البيع بعد النداء، لأن ذلك وقت الصلاة المعين المقدر.
# فصل ms1179
# وإذا كانت الصلاة على ما ذكر من توسيع الوقت تارة وتقديره أخرى، فلا تؤخر
~~عن الوقت الموسع، بل المحافظة عليها في الوقت أمر واجب على كل حال، كما أمر
~~به القرآن فقال: (حافظوا على الصلوات) (2) ، وقال: (فويل للمصلين (4) الذين
~~هم عن صلاتهم ساهون (5)) (3) ، وقال: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
~~واتبعوا الشهوات) (4) ، وقال: (الذين هم على صلاتهم دائمون (23)) (5) ،
~~(والذين هم على صلواتهم يحافظون (9)) (6) ، مستثنيا هؤلاء ممن خلف هؤلاء،
~~وعاد ذاكرا لهم في "الوارثين الذين يرثون الفردوس". وكما قال: (أقم الصلاة
~~لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (7) ، وقال: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من
~~الليل) (8) ، وقال: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل PageV06P312
# غروبها) الآية (1) . ومثلها في (ق) (2) ، وقال: (وسبح بحمد ربك حين تقوم
~~(48) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49)) (3) ، وقال: (وسبح بحمد ربك
~~بالعشي والإبكار (55)) (4) ، وقال: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا
~~موقوتا (103)) (5) . فأمر بفعل الصلوات في مواقيتها مطلقا وعموما، وأمر به
~~مفصلا وخصوصا في الآيات التي عينتها.
# وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه سيكون عليكم أمراء يؤخرون
~~الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة" (6) .
# وقال: "من نام عن صلاة أو نسيها" الحديث (7) . وقال: "ليس في النوم
~~تفريط، إنما التفريط في اليقظة، أن تؤخر صلاة حتى يدخل وقت التي تليها" (8)
~~. وقال: "من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله" (9) ، و"من فاتته صلاة العصر
~~فكأنما وتر أهله وماله" (10) ، وقال: "الوقت ما بين PageV06P313
# هذين" (1) ، إلى أمثال ذلك.
# فالجهاد واجب على الفور تارة وعلى التراخي أخرى، وعلى الأعيان تارة وعلى
~~الكفاية أخرى، وهو سنام الدين، كما أن الصلاة عمود الدين، والإسلام رأسه.
~~ولهذا كانت غاية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثرها وآكدها في
~~الصلاة والجهاد، وكان إذا عاد مريضا قال: "اللهم اشف عبدك هذا يشهد صلاة
~~وينكأ لك عدوا" (2) .
# وكانت السنة أن الإمام هو الذي يقيم للناس الصلاة ويجاهد بهم العدو،
~~فأمير الحرب والصلاة واحد، كما قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات
~~وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ms1180 وأنزلنا الحديد فيه بأس
~~شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز
~~(25)) (3) ، فاخبر أنه أنزل الكتاب والميزان والحديد، ولهذا كان قوام الدين
~~كتاب يهدي وعدل يعمل به وحديد ينصر، (وكفى بربك هاديا ونصيرا (31)) (4) .
# والجهاد يلزم بالشروع، كما أن الكتاب يلزم بالشروع، كما قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -: "من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم" (5) ، فقد
~~قال: "من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا"، وفي رواية: "فقد عصى"، وهو
~~PageV06P314
# في الصحيح (1) . وإذا كانت الصلاة التي يتلى فيها الكتاب يتعين وقتها
~~بالفعل، فتلزم بالشروع، فكذلك الجهاد، فإذا صار المسلمون حذوهم أو حاصروا
~~حصنهم لم يكن لهم الانصراف حتى يقضى الجهاد، كما قال تعالى: (إذا لقيتم
~~الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار (15)) الآية (2) . وقد أمر سبحانه
~~بالأمرين في حال القتال، فقال: (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا)
~~(3) ، فأمر بالثبات الذي هو مقصود الجهاد، وبذكره الذي هو مقصود الصلاة،
~~كما قال ابن مسعود: ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة ولو كنت في السوق.
# ولهذا يقرن سبحانه كثيرا بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر الذي هو حقيقة
~~الجهاد، كقوله: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)
~~(4) ، (استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153)) (5) ، وقال:
~~(وأقم الصلاة طرفي النهار) إلى قوله: (واصبر فإن الله لا يضيع أجر
~~المحسنين) (6) ، وقال: (فأصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس
~~وقبل غروبها) (7) ، وكذلك في (ق) (8) والطور (9) PageV06P315
# وغافر (1) ، وقوله: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا (8)) إلى قوله:
~~(واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (10)) (2) ، وقال تعالى: (إنا نحن
~~نزلنا عليك القرآن تنزيلا (23) فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا
~~(24) واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا (25) ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا)
~~(3) .
# فأمر سبحانه بهذا وبهذا، وكلاهما وإن كان ينقسم بحسب فعله ووقته إلى موسع
~~ومقدر، وبحسب فعله إلى معين ومخير، وبحسب فاعله إلى واجب على الأعيان وواجب
~~على الكفاية، فهما مشتركان في أن ما كان كذلك ms1181 يلزم بالشروع فيه إتمامه، فما
~~كان وقته موسعا يتعين بالدخول فيه، وما كان واجبا على الكفاية يتعين على من
~~باشره.
# والمقصود ههنا أنه قد يجتمع الواجبان في وقت واحد، وله صورتان:
# إحداهما: أن لا يكون مباشرا للجهاد، بل مصابرا للعدو، فهذا يصلي صلاة
~~الخوف إذ كان ... (4) له، كما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة
~~على وجوه خلاف الوجوه المعتادة في الأمن، فيسوغ فيها استدبار القبلة،
~~والعمل الكثير في نفس الصلاة، ومفارقة الإمام قبل السلام، واقتداء المفترض
~~فيها بالمتنفل، والتخلف عن متابعة الإمام حتى يصلي ركعة. وهذه الأمور فيها
~~ما لا يفعل إلا لعذر بالاتفاق، وفيها ما PageV06P316
# لا يسوغ فعله أكثر العلماء.
# والثاني: أن يكون محتاجا إلى مباشرة القتال في حال الصلاة، وهو الذي
~~قصدناه بهذا الفصل، فهذه تسمى صلاة المسايفة، لأن المسايفة هي أحوال
~~المقاتلين، وإلا فالمطاعنة والمداناة والمضاربة بالمثقلات من الحجارة
~~والدبابيس ونحو ذلك، سواء كان القتال بمحدد أو مثقل أو ما يجمعهما، فيه
~~ثلاثة أقوال:
# أحدها -وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب الشافعي- أنه يأتي بالواجبين
~~جميعا، وأن تأخير الصلاة منسوخ بآية المحافظة.
# والثاني -وهو الرواية الأخرى عن أحمد- أنه يخير بين تقديم الصلاة
~~وتأخيرها، لحديث بني قريظة.
# والثالث -وهو قول طائفة- أنه يؤخر الصلاة على ظاهر الأمر، وهذا قول جماعة
~~من أهل الرأي وأهل الظاهر.
# فصل
# والمؤمن له ثلاثة أعداء: شياطين الإنس والجن والدواب، وقد وردت السنة
~~بجهاد الثلاثة في الصلاة، فيجمع بين مناجاة ربه وبين دفع عدوه من جميع
~~الحيوان. أما قتال الإنس فقوله تعالى:
# (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم
# PageV06P317
# فرجالا أو ركبانا) (1) . وفي حديث ابن عمر: فإن كان خوفا شديدا صلوا (2)
~~. PageV06P318
### | فصل
# في المواقيت والجمع بين الصلاتين
# PageV06P319
# فصل
# في المواقيت والجمع بين الصلاتين
# أصل ذلك أن الله أمر بالصلاة في مواقيتها، كما ثبت ذلك بالكتاب والسنة،
~~وجعل الصلوات خمس صلوات كما فرضها سبحانه على المؤمنين ليلة المعراج،
~~وجعلها خمسا في العمل وخمسين في الأجر.
# وقد ثبت في ms1182 الصحيحين (1) عن عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فرضت أول ما
~~فرضت ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر.
# وروي فيه في الصحيح (2) أن صلاة الحضر جعلت أربعا لما هاجر النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة. وفي السنن (3) عن عمر بن الخطاب رضي
~~الله عنه أنه قال: صلاة السفر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة الفطر
~~ركعتان، وصلاة النحر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم.
# ولهذا كان أصح قولي العلماء أن
### | الفرض على المسافر ركعتان،
# وأن صلاته ركعتين لا يحتاج إلى النية، بل لو نوى أربعا كان السنة في حقه
~~أن يصلي ركعتين. وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد على مقتضى
~~نصوصه، وهو قول أكثر قدماء أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وغيره. وقال طائفة
~~منهم كالخرقي والقاضي أبي يعلى وغيرهما: إنه يفتقر إلى النية، موافقة
~~للشافعي، إذ كان أصله أن PageV06P321
# فرض السفر أربع، وإنما تصير ثنتين بالنية، وهؤلاء [لا] يكرهون الأربع، بل
~~للشافعي قول: إن الأربع أفضل، وحكي عنه قول إنه لا يجوز القصر إلا مع الخوف
~~كقول بعض الخوارج. لكن الأظهر أن هذا كذب على الشافعي، فإن الشافعي أجل
~~قدرا من أن يقول مثل هذا.
# وظاهر مذهبه أن القصر أفضل، وهو مذهب أحمد بلا خلاف عنه، بل قد نص أحمد
~~على أن الأربع مكروهة، كما نقل ذلك عنه الأثرم، وتوقف أيضا في بعض أجوبته
~~هل تجزئه الأربع. وما توقف فيه من المسائل يخرجه أصحابه على وجهين أيضا.
~~ومذهبه في هذا كمذهب مالك، قيل: إن الإتمام لا يجوز، وقيل: يكره، وقيل: هو
~~ترك الأولى.
# وبالجملة فعامة العلماء على أنه
### | ليس القصر كالجمع،
# كما تواترت بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد تواترت
~~السنة على أنه إنما كان يصلي في السفر ركعتين في جميع أسفاره، وما روى عنه
~~أحد من علماء الحديث أنه صلى في السفر أربعا قط. والحديث الذي يروى عن
~~عائشة (1) أنه كان يصوم ويفطر ويقصر ويتم ضعيف، ولفظه أنها ms1183 قالت: قلت له:
~~أفطرت وصمت وقصرت وأتممت، فقال: "أحسنت يا عائشة". فأخبرته أنها هي التي
~~أتمت وصامت، مع أن هذا ضعيف بل كذب على عائشة، كما ذكر في موضعه.
# بل من تتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم أنه من روى عنه أنه
~~صلى أربعا في السفر فقد كذب عليه. ولما حج كان يصلي بمكة وبمنى ركعتين،
~~PageV06P322
# ولما فتح مكة كان يصلي ركعتين، وأقام بها تسعة عشر يوما يصلي بها ركعتين،
~~وقال لأهل مكة: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر (1) .
# وأما في حجة الوداع فكان يصلي بعرفة ومزدلفة ومنى ركعتين، ويصلي وراءه
~~الحجاج من أهل مكة وغيرهم، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولا
~~روى ذلك أحد من أهل الحديث، ولكن ذكر ذلك بعض المصنفين في الرأي، واشتبه
~~عليه قوله لهم بمكة في غزوة الفتح، فظن أنه قال في سفره بهم إلى عرفة
~~ومزدلفة ومنى.
# وكذلك ذكر بعضهم أن عمر بن الخطاب قال ذلك بمنى في حجه، وهذا خطأ رواه
~~بعض العراقيين، والصواب الثابت الذي رواه مالك وغيره أن عمر إنما قال ذلك
~~بمكة (2) .
# ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن
### | أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة ومزدلفة،
# كما هو مذهب أكثر فقهاء مكة والمدينة، وهو مذهب مالك وغيره وقول طائفة من
~~أصحاب أحمد كأبي الخطاب في "العبادات الخمس".
# وقيل: يجمعون ولا يقصرون، كقول أبي حنيفة، وهو المنقول عن أحمد، وقد أجاب
~~بأنهم لا يقصرون، ولم ينههم عن الجمع. ولهذا جزم أبو محمد وغيره من أصحاب
~~أحمد أنهم يجمعون، وخطأ PageV06P323
# من قال: لا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب الشافعي.
# والقول الثالث: إنهم لا يقصرون ولا يجمعون، كما يقوله كثير من أصحاب
~~الشافعي وبعض أصحاب أحمد. وهو أضعف الأقوال المخالفة للسنة المعلومة من
~~وجهين.
# والذين قالوا: يقصرون، منهم من قال ذلك لأجل النسك، كما قال مالك وبعض
~~أصحاب أحمد. ومنهم من قال ذلك لأجل السفر، كما قال ذلك كثير من السلف
~~والخلف، وهو قول بعض أصحاب ms1184 أحمد، وهو أصح الأقوال.
# وكذلك جمعهم، فإن من العلماء من قال: جمعهم لأجل النسك،
# كما يقوله أبو حنيفة وغيره فلم يجوز الجمع إلا بعرفة ومزدلفة خاصة.
# والجمهور قالوا: بل الجمع كان لغير النسك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد.
~~وهؤلاء منهم من قال: الجمع كان لأجل السفر، ومن قال: الجمع يجوز لأهل مكة،
~~[ومن] قال: يجوز الجمع في السفر الطويل والقصير، ومن قال: لا يجوز الجمع
~~إلا في الطويل.
# وهما وجهان في مذهب الشافعي وأحمد.
# والصواب أن كل واحد من القصر والجمع لم يكن لأجل النسك، بل كان القصر
~~لأجل السفر فقط، وأما الجمع فلأجل الحاجة أو المصلحة الشرعية، وذلك أن
~~القصر يدور مع السفر وجودا وعدما، والقصر معلق به بالنص لقول النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة". وهو حديث
~~حسن ثابت من رواية أنس بن
# PageV06P324
# مالك الكعبي (1) ، وكذلك أخبر عنه أصحابه، كقول عمر بن الخطاب: "صلاة
~~السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على
~~لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - " (2) . وكذلك قال ابن عمر: "صلاة السفر
~~ركعتان، من خالف السنة كفر" رواه مسلم وغيره (3) . ومعناه: من اعتقد أن
~~الركعتين لا تجزىء فقد كفر، لأنه خالف السنة المعلومة، كما لو قال: إن
~~الفجر لا تجزىء فيه ركعتان، وإن الجمعة والعيد لا تجزىء فيه ركعتان. وهذا
~~يحكى عن بعض الخوارج الذين زعموا أنهم يتبعون ظاهر القرآن وإن خالفته السنة
~~المتواترة. وهؤلاء ضالون في فهمهم للقرآن وضالون في مخالفة السنة.
# وقوله: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين
~~كفروا) (4) لم يذكر فيها أنه قصر للعدد، والصحابة عمر وغيره جعلوا صلاة
~~المسافر ركعتين تماما غير قصر. وهذا قاله عمر بعد سؤال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -، كما ثبت في الصحيح (5) عن يعلى بن أمية سأل عمر عن هذه الآية
~~(فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) ،
~~فقال عمر: عجبت مما عجبت منه ms1185، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
~~"صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته". فكأن المتعجب ظن أن القصر
~~PageV06P325
# قصر العدد [و] أنه معلق بالسفر مع الخوف، كما ظن بعضهم أن الجنب لا
~~يتيمم، وظن عمار أنه يتيمم عن الجنابة بالتمرغ في التراب كما تتمرغ الدابة،
~~وظن عمار وغيره من الصحابة أن التيمم يمسح فيه اليدين إلى الآباط، فلما
~~سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لهم أنه يجزىء المسح إلى الكوعين
~~وأن الجنب يتيمم كذلك (1) ، وكان ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~موافقا لما دل عليه القرآن، لا يخالفه لا لباطنه ولا لظاهره، ولكن كل أحد
~~منهم يفهم ما دل عليه القرآن، فقد يظهر له معنى يظن أن ظاهر القرآن دل
~~عليه، ويكون من نقص فهمه لا من نقص دلالة القرآن.
# كمن ظن أن قوله: (وأتموا الحج والعمرة لله) (2) يمنع الفسخ الذي أمر [به]
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أطوع
~~الخلق لربه وأتبعهم لهذه الآية، فكيف يأمرهم بأن لا يتموا الحج والعمرة
~~لله؟ والذي لا يتم هو الذي يحل بعمرة لا يتمتع بها أو بلا عمرة، وهذا لا
~~يجوز بالإجماع.
# وأما من أحل بعمرة وتمتع بها فعمرته جزء من الحج، وهو
### | ......
# (3) بصوم الأيام الثلاثة التي قيل فيها: (فصيام ثلاثة أيام في الحج) (4)
~~، وعمرته قد دخلت في حجته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت
~~العمرة في الحج إلى يوم القيامة" (5) ، كما دخل الوضوء في الغسل غسل
~~الجنابة وغسل PageV06P326
# الميت، وتحلله في أثناء الإحرام تحلل من يقصد أنه يحل ثم يحرم بالحج بعد
~~ذلك، لا يجوز له التحلل بدون ذلك، فدخل الحل رحمة من الله. والحاج يتحلل
~~التحلل الأول وقد بقي عليه الطواف والرمي، وإن فعل ذلك بلا إحرام فهو من
~~الحج، لكن من تحلل [بعمرة] لم يبق عليه بعض الحج، بل المتمتع يتحلل أولا
~~حلا تاما، ثم عليه أن يحرم بعد ذلك التحلل الثاني بعد رمي جمرة العقبة، ثم
~~عليه الطواف ms1186 والرمي وهما من الحج.
# وكذلك من ظن أن ظاهر القرآن يخالفه قوله للمبتوتة: "لا نفقة لك ولا سكنى"
~~(1) ، والقرآن لا يدل على إيجاب نفقة وسكنى للمبتوتة أصلا، وإنما المطلقة
~~المذكورة في قوله: (إذا طلقتم) (2) هي الرجعية كما يدل عليه سياق الكلام،
~~والإنفاق على ذوات الحمل إنما كان لأجل الحمل. ولهذا كان أصح قولي العلماء
~~أن النفقة للحمل نفقة والد على ولده، لا نفقة زوج على زوجته، كما هو مذهب
~~مالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه التي اختارها أصحابه، وهو أحد قولي
~~الشافعي. ومن أوجبه للزوجات فإنه لم يخص به الحامل، كما قال من يوجب النفقة
~~للمبتوتة، لم يكن للحمل عنده تأثير. ومن قال: نفقة زوج لأجل الحمل فقوله
~~متناقض غير معقول، والقرآن علق النفقة بالحمل والإرضاع، والمعلق بالإرضاع
~~نفقة والد على ولده باتفاق المسلمين، فكذلك نفقة الحمل، ومن علقها بالزوجية
~~فهو مخالف PageV06P327
# للكتاب والسنة.
# ونظائر هذا كثيرة مما يظنه بعض الناس أن السنة خالفت فيه ظاهر الكتاب،
~~ولا يكون الأمر كما قاله، بل تكون السنة موافقة لظاهر القرآن. والمقصود هنا
~~ذكر الجمع وذكر القصر تبعا.
# فقوله تعالى: (أن تقصروا) (1) مطلق مجمل قد يراد به قصر العمل والأركان،
~~وذلك لا يجوز إلا في الخوف، فإن المسافر ليس له لأجل سفره أن يقصر عمل
~~الصلاة كما يقصره الخائف، وأما الخائف فيجوز له القصر كما قال تعالى: (وإذا
~~كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) إلى قوله تعالى: (فإذا
~~اطمأننتم فأقيموا الصلاة) (2) .
# فالصلاة مع الأمن صلاة مقامة إقامة مطلقة وهي التامة، ومع الخوف مقصور،
~~وإذا ضربوا في الأرض وكانوا خائفين قصروا لأجل الخوف مع صلاة ركعتين، فإن
~~كانت الركعتان لا تسمى في السفر قصرا، فإنه بين حال الخوف في السفر، كما
~~بين التيمم عند عدم الماء في السفر، لأن ذلك هو الذي يحتاج إلى بيانه في
~~العادة العامة، فأما عدم الماء في الحضر فنادر، واحتياج المقاتل لصلاة
~~الخوف نادر.
# ودل القرآن على أن مجرد الضرب في الأرض ليس نسخا للقصر المذكور ms1187 في
~~القرآن، وليس في القرآن أنه لا قصر إلا قصر المسافر، بل قصر الخائف قصر،
~~وصلاته ناقصة بالكتاب والسنة والإجماع. وأما PageV06P328
# المسافر ففي تسمية صلاته قصرا نزاع وتفصيل، ومن لم يفرض عليه إلا ركعتان
~~مع قدريه على الأربع وتيسر ذلك عليه لم يكن قد نقص مما أمر به شيئا، كمن
~~صلى الفجر والعيد ركعتين والجمعة ركعتين، بخلاف الخائف والمريض ونحوهما،
~~فإنه إنما أبيح لهما نقص الصلاة لأجل العجز عن إكمالها، والمسافر يباح له
~~ذلك مع القدرة، كما أبيح له الفطر، واستحب له أو وجب عليه ذلك عند طائفة.
~~وإن كان المسافر إنما وضع عنه الصوم وشطر الصلاة لكون السفر مظنة الحاجة
~~إلى التخفيف فهذا حكم عام لكل مسافر معلق بجنس السفر، إما لكون السفر قطعة
~~من العذاب فتكون الحكمة عامة، أو لكونه مظنة كما يظنه بعض الناس، وإن تخلفت
~~الحكمة في آحاد الصور. وهذا بمنزلة المسافر ليس عليه جمعة، وأن عرفة ومنى
~~لا جمعة فيهما، وأن المسافر يمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن والمقيم
~~يمسح يوما وليلة، ونحو ذلك من الأحكام التي فرق الله فيها بين حكم المقيم
~~والمسافر.
# وإذا كان قصر العدد أمرا معلقا بالسفر يثبت به ولا يثبت بدونه كان السفر
~~هو المؤثر في قصر العدد، فأما النسك فلا تأثير له في قصر العدد، بل كان
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصر قبل أن يحرم بالحج هو وأصحابه، ولم يزل
~~يقصر إلى أن رجع إلى المدينة، فقصر قبل إحرامه وبعد تحلله، وقصر معه أهل
~~مكة، كما قصر معه سائر من حج معه. فعلم أن ذلك كان لأجل سفرهم من مكة إلى
~~عرفة، لا لكونهم حجاجا. ولهذا لو أحرموا بالحج وهم مقيمون بمكة لم يجز لهم
~~القصر عند أحد من العلماء، فعلم أن ذلك لم يكن لأجل النسك. فمن جعل قصر
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة ومنى إنما كان لأجل النسك لا
~~السفر فقد علق الحكم
# PageV06P329
# بوصف عديم التأثير فيه، ولم يعلقه بالوصف المؤثر فيه بالنص والإجماع ms1188.
# ولهذا نظائر يغلط فيها من يعلق الحكم بالوصف الذي لم يؤثر فيه، دون الوصف
~~المؤثر فيه، كمن علق على استئذان الصغيرة في النكاح بالبكارة دون الصغر،
~~وهذا خلاف النصوص والأصول، فإنها إنما علقت ذلك بالصغر، فأما البكارة فإنما
~~علقت بها صفة الاستئذان فقط، وهو كون سكوتها إقرارها. وكذلك من علق بعض
~~الأحكام في الطلاق والخلع والكناية أو غير ذلك بكونه تعليقا بشرط، وفرق بين
~~أن يكون العقد بصيغة تعليق أو بغير صيغة تعليق. وهذا ربط الحكم بوصف عديم
~~التأثير في الكتاب والسنة، وإنما ربط الله الأحكام بمعاني الأسماء المذكورة
~~في النص، مثل كونها طلاقا وخلعا وكناية ويمينا وغير ذلك، فما كان من هذا
~~النوع علق حكم ذلك به، سواء كان بصيغة الشرط، وإن لم يكن من هذا النوع لم
~~يدخل فيه بأي صيغة كان.
# فصل
# وأما الجمع بين الصلاتين فلم يعلق بمجرد السفر في شيء من النصوص، بل
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وكان
~~بمنى يقصر ولا يجمع، وكذلك في سائر سفر حجته، ولا يجمع لمجرد النسك، فإن
~~الناسك هو في النسك، وإنما جمع بعرفة لما كان مشتغلا بالوقوف، وجمع بجمع
~~لما كان جادا في السير من عرفة إلى مزدلفة. وهكذا ثبت عنه في الصحاح (1) من
~~حديث ابن عمر أنه كان إذا PageV06P330
# جد به السير أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل يجمع بينهما، وكذلك إذا جد
~~به السير جمع بين المغرب والعشاء، وكذلك يجمع في سفره إذا جد به السير، كما
~~فعل بمزدلفة. وكذلك ثبت في الصحيح (1) من حديث أنس عنه أنه كان إذا ارتحل
~~قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فصلاهما جميعا. وثبت في
~~الصحيح (2) عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى بالمدينة سبعا جميعا وثمانيا
~~جميعا، أراد بذلك أن لا يحرج أمته. وثبت في الصحيح (3) من حديث معاذ أنه
~~جمع في غزوة تبوك جمع التأخير. وروى أبو داود (4) وغيره بإسناد حسن جمع
~~التقديم من ms1189 غير طريق، فنبه الذي أنكر عليه، وكان هذا موافقا لجمعه بعرفة،
~~وجمع التأخير أشهر، وقد روي عنه أنه كان يجمع بالمدينة بالمطر، كما استدل
~~بذلك من حديث ابن عباس (5) .
# وكان سلف أهل المدينة يجمعون في المطر بين المغرب والعشاء، ويجمع معهم
~~ابن عمر وغيره من الصحابة مقرين لهم على ذلك، مع أن الأمراء كانوا إذا
~~خالفوا السنة أنكروا ذلك عليهم، [كما أنكروا عليهم] لما أذنوا للعيد،
~~وأنكروا عليهم لما قدموا الخطبة في العيد ولما أخرجوا المنبر لصلاة العيد،
~~بل وأنكر ابن عمر قنوتهم في الفجر وغير PageV06P331
# ذلك، ولم ينكروا جمعهم للمطر، فدل ذلك على أنه كان من السنن الموروثة
~~عندهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
# وفي السنن (1) أنه قال للمستحاضة: "سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من
~~الآخر"، فخيرها بين أن تصلي كل صلاة في وقتها بوضوء، وبين أن تؤخر الظهر
~~وتعجل العصر وتجمع بينهما بغسل، وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتجمع بينهما
~~بغسل، قال: "وهذا أحب الأمرين إلي". فاختار الجمع بين الصلاتين بغسل على
~~التفريق بالوضوء، وكان هذا مما يستدل به على أن الجمع مع إكمال الصلاة أولى
~~من التفريق مع نقصها، فإنه لا سبب هنا للجمع إلا الاغتسال الذي هو أكمل
~~للمستحاضة من الوضوء، مع أن الاغتسال ليس بواجب عليها، والغسل مع تيقن
~~الحيض واجب، وأما في هذه الصورة فيستحب احتياطا، لإمكان أن يكون دم الحيض
~~قد انقطع حينئذ، ولهذا يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة.
# وهذا بمنزلة الشاك هل أحدث أم لا؟ بعد تيقن الطهارة، فإن الوضوء أفضل له،
~~وإن استصحب الحال أجزأه عند الجمهور، وهو الصواب، كما أجزأ المستحاضة أن
~~تصلي إذا اغتسلت، وإن جاز أن يكون الدم الخارج بعد ذلك دم حيض.
# ومعلوم أن كل ما أمر الله به في الصلاة وإنما رخص في تركه للعذر
~~PageV06P332
# فالصلاة معه أكمل، كما ثبت في الصحيح (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم
~~- أنه قال: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة المضطجع على
~~النصف من صلاة القاعد ms1190". وهذا قيل: إنه المتطوع غير المعذور، وجوز من قال:
~~إن الصحيح يتطوع مضطجعا، وهو قول لبعض أصحاب الشافعي وأحمد، وهو غلط مخالف
~~لما عليه سلف الأمة وأئمتها وما عليه عمل المسلمين دائما أن أحدا لا يتطوع
~~مضطجعا مع قدرته على القيام والقعود. وهذا الحديث إنما كان في المعذور،
~~وكذلك جاء مصرحا به أنه خرج عليهم وهم يصلون قعودا بسبب مرض عرض لهم، فذكر
~~هذا القول.
# وأما قوله: "إذا مرض العبد أو سافر فإنه يكتب له من العمل ما كان يعمل
~~وهو صحيح مقيم" فهو حديث صحيح متفق عليه (2) ، لكن فيه أن العبد إذا كان
~~عادته أن يعمل عملا وتركه لأجل السفر أو المرض كتب له عمله لأجل نيته
~~وعادته، ليس فيه أن كل مسافر أو مريض يكتب له كعمل الصحيح. ولهذا إذا مرض
~~أو سافر ولم يكن عادته أن يقوم الليل لم يكتب له قيام، وإذا لم يكن عادته
~~أن يصلي في الجماعة لم يكتب له صلاة الجماعة. فإن كان عادته [أن] يصلي
~~قائما وصلى قاعدا لأجل المرض كتب له مثل أجر صلاة القائم، كما أنه لو عجز
~~عن PageV06P333
# الصلاة بالكلية كتب له مثل ما كان يصلي وإن لم يوجد منه صلاة.
# وكما يكتب لمن خرج ليصلي في جماعة وإذا أدركهم سلموا مثل أجر من شهد
~~الجماعة وإن كان لم يصل في جماعة. وهكذا من لم يدرك ركعة من الجماعة فإنه
~~لا يكون مدركا لها إلا بركعة، لا في الجمعة ولا في الجماعة، في أصح أقوال
~~العلماء الذي دل عليه النص وأقوال الصحابة، وهو مذهب مالك وإحدى الروايتين
~~عن أحمد، والرواية الأخرى عنه الفرق بين الجمعة وغيرها، كظاهر مذهب
~~الشافعي، وفي مذهبه قول ثالث: إنه يكون مدركا للجمعة بتكبيرة، كقول أبي
~~حنيفة.
# والذي دل عليه النص وآثار الصحابة والقياس هو القول الأول. ومع هذا فيكتب
~~له أجر من شهد إذا جاء بعد الفوات لأجل نيته، فإن القاصد للخير الذي لو قدر
~~عليه لفعله وإنما يتركه عجزا يكتب له مثل أجر ms1191 فاعله، كما قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -: "إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا
~~كانوا معكم"، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة، حبسهم العذر" (1) .
# وفي حديث كبشة الأنماري الذي صححه الترمذي (2) عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - قال: "إنما الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يتقي في
~~ذلك المال ربه ويصل فيه رحمه، فهذا بأشرف المنازل؛ ورجل آتاه الله علما ولم
~~يؤته مالا، فيقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -: فهما في الأجر سواء؛ ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما،
~~PageV06P334
# فهو لا يتقي في ذلك المال ربه ولا يصل فيه رحمه، فهذا بأخبث المنازل؛
~~ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما، فيقول: لو أن لي مالا لعملت مثل عمل
~~فلان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فوزرهما سواء".
# فالثواب الذي يكتب بالنية غير الثواب المستحق بنفس العمل، فقول النبي -
~~صلى الله عليه وسلم -: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة
~~المضطجع على النصف من صلاة القاعد" كلام مطلق، وقد علم بأدلة أخرى أن هذا
~~لا يجوز في الفرض إلا مع العذر، كما قال لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم
~~تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (1) . وعلم أن تطوع الجالس يجوز مع
~~القدرة بدليل آخر، كما علم أن صلاة النافلة في السفر تجوز على الراحلة،
~~لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي التطوع على راحلته قبل أي وجه توجهت،
~~غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة، وكان يوتر عليها.
# ونظير هذا قوله: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين
~~درجة" (2) ، فإن هذا مطلق، لم يدل على صلاة الرجل وحده، [كما] يعلم بدليل
~~آخر، فإذا دل دليل آخر على أن المنفرد لا يجزئه صلاته إلا مع العذر، كقوله
~~- صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء ثم لم يجب بغير عذر فلا صلاة له"
~~(3) ، ولأن الجماعة إذا كانت واجبة، فمن ترك PageV06P335
# الواجب لم تبرأ ms1192 ذمته إلا بأدائه، كما يقول كثير من السلف والخلف من أصحاب
~~أحمد وغيرهم= لم يكن في ذلك تناقض بين أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -،
~~بل ذلك لمن فهمه يدله على أن ذلك كله جاء من عند الله، ولو كان من عند غير
~~الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
# وكذلك الصلاة بالوضوء والغسل أكمل من الصلاة بالتيمم، والصلاة في الأماكن
~~التي لم ينه عنها أكمل من الصلاة في مواضع النهي، كالحمام والمقبرة وأعطان
~~الإبل. والصلاة في الجماعة أكمل من صلاة الرجل وحده، وفضل الفاضل هنا على
~~المفضول أبلغ من فضل صلاة المستحاضة بغسل على صلاتها بغير غسل، لأن الكمال
~~هنا لاحتمال وجوب الغسل لا للعجز عنه، ولما شك في وجوبه جاز تركه مع
~~القدرة، وما لا يجوز تركه مع القدرة أولى مما يجوز تركه مع القدرة،
~~والمستحب المحض دون ذلك.
# والنبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين بعرفة في وقت الأولى،
~~وهذا الجمع ثابت بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين عليه، ومعلوم أنه قد
~~كان يمكنه أن يترك العصر فيصليها في وقتها المختص، لكن عدل عن ذلك إلى أن
~~قدمها مع الظهر لمصلحة تكميل الوقوف، لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بأن
~~اتصال الوقوف إلى المغرب بغير قطع له بصلاة العصر في أثنائه أحب إلى الله
~~من أن يصلي العصر في وقتها الخاص، ولو أخر مؤخر العصر وصلاها في الوقت
~~الخاص وقطع الوقوف لأجزأه ذلك فيما ذكره العلماء من غير نزاع أعلمه، ولكن
~~ترك ما هو أحب إلى الله ورسوله، فإنه لو قطع الدعاء والذكر لبعض أعماله
~~المباحة ووقف إلى المغرب
# PageV06P336
# لم يبطل بذلك حجه، فأن لا يبطل بترك ذلك لصلاة العصر أولى وأحرى. ودلت
~~هذه السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الجمع يكون
~~للحاجة والمصلحة الشرعية، فلما لم يكن لمجرد السفر فلم يكن لمجرد النسك.
# وقد أخذ جمهور العلماء بالسنن الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~في الجمع، وأحمد أعظمهم أخذا بما ورد كله، فإنه يجوز الجمع ms1193 للمسافر في وقت
~~الثانية، كما ثبت في الصحيح. وأما الجمع للنازل في وقت الأولى كما روي في
~~السنن ففيه عنه روايتان: إحداهما الجواز كقول الشافعي، والثانية المنع كقول
~~مالك. وهل المباح للسفر مختص للطويل؟ فيه وجهان في مذهب الشافعي وأحمد،
~~ومذهب مالك أنه لا يختص بالطويل، وهو الصحيح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية.
~~"وثلاثتهم يجوزون الجمع بين المغرب والعشاء، وأما صلاتا الظهر والعصر
~~ففيهما نزاع بينهم، وعن أحمد فيها روايتان. ومالك وأحمد يجوزان الجمع
~~للمريض، وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي.
# وجوز أحمد الجمع للمستحاضة، كما في الحديث الذي في السنن سنن أبي داود
~~وابن ماجه والترمذي وصححه ورواه أحمد من حديث حمنة بنت جحش (1) ، قالت: كنت
~~أستحاض حيضة شديدة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه، فقلت: إني
~~أستحاض حيضة كثيرة فما تأمرني فيها؟ فقد منعتني الصيام والصلاة، قال: أنعت
~~لك الكرسف، قالت: PageV06P337
# هو أكثر، قال: فاتخذي ثوبا، قالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجا، قال
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك، فإن
~~قويت عليهما فأنت أعلم"، فقال: "إنما هي ركضة من الشيطان، فتحيضي ستة أيام
~~أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي، فإذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي
~~أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي وصلي، فإن ذلك
~~يجزئك، وكذلك فاغتسلي كما تحيض النساء وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن، فإن
~~قويت على أن تؤخرين الظهر وتعجلين العصر ثم تغتسلي حتى تطهرين، فتصلين
~~الظهر والعصر جميعا، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين
~~بين الصلاتين بغسل، وتغتسلين مع الصبح وتصلين، فكذلك فافعلي وصومي إن قدرت
~~على ذلك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهو أعجب الأمرين إلي".
# وعن عائشة رضي الله عنها أن سهلة بنت سهيل استحيضت، فأتت النبي - صلى
~~الله عليه وسلم -، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن
~~تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وأن تغتسل للصبح. رواه
~~أحمد ms1194 والنسائي وأبو داود (1) ، وهذا لفظه.
# وأصل هذا الباب أن تعلم أن
### | وقت الصلاة وقتان: وقت الرفاهية والاختيار، ووقت الحاجة والعذر.
# فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات، كما ثبت في صحيح مسلم (2) عن عبد
~~الله بن عمرو عن النبي PageV06P338
# - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله،
~~ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق، ووقت
~~العشاء إلى نصف الليل، ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس".
# وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن (1) ، ولم يرو عن النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - حديث في المواقيت من قوله إلا هذا، وسائر ما روي فعل
~~منه، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث.
# ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين
~~بالحديث، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بل أصحهما.
# والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر وآخره، وآخر وقت
~~المغرب، وآخر وقت العشاء، وآخر وقت الفجر.
# فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم
~~من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس.
~~وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: إلى أن
~~يصير ظل كل شيء مثليه. ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما
~~يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه. ونقل عنه أن ما بين المثل إلى المثلين ليس
~~وقتا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور هل هذا آخر هذا أو بينهما قدر
~~أربع ركعات مشترك؟ فيه نزاع، فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك.
~~وإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد، وهو
~~منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في PageV06P339
# مذهبهما، والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس، وهو الرواية
~~الثانية عن أحمد، كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو (1) بما عمل ms1195 به النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعد عمله بمكة، وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن
~~الحسن. فلم يكن للعصر وقت متفق عليه، ولكن الصواب المقطوع به الذي تواترت
~~به السنن واتفق عليه الجماهير أن وقتها يدخل إذا صار [ظل] كل شيء مثله،
~~وليس مع القول الآخر نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا صحيح ولا
~~ضعيف، ولكن الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة لما اعتادوا تأخير الصلاة
~~[و] اشتهر ذلك صار يظن من ظن أنه السنة، وقد احتج له بالمثل المضروب
~~للمسلمين وأهل الكتاب (2) ، ولا حجة فيه باتفاق أهل الحساب على أن وقت
~~الظهر أطول من وقت العصر الذي أوله إذا صار ظل كل شيء مثله.
# وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب، ومن المغرب
~~إلى الفجر، ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر -عند العذر-
~~واسع فيهما من وجهين:
# أحدهما: تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدمها النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - يوم عرفة، وكما كان يقدمها في سفرة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ
~~الشمس، أو تقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمع تقديم.
# والثاني: جمع تأخير العصر فيها إلى المغرب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -
~~في PageV06P340
# الحديث الصحيح (1) : "من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك
~~الفجر، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". هذا مع
~~قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (2) : "وقت العصر ما لم تصفر
~~الشمس". وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار، ويوم الخندق كان التأخير إلى
~~بعد الغروب، وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى: (حافظوا على
~~الصلوات والصلاة الوسطى) (3) .
# وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه. وقيل: يخير حال
~~القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان، وهو الرواية الأخرى عنه.
~~وقيل: بل يؤخرها، وهو قول أبي حنيفة أيضا، ففي الحديث الصحيح (4) عنه - صلى
~~الله عليه وسلم - أنه قال: "تلك صلاة المنافق ms1196، تلك صلاة المنافق، يرقب
~~الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام، فنقر أربعا لا يذكر الله فيها
~~إلا قليلا". فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر، فدل على
~~المنع من هذا وهذا، فلما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا وهذا علم أن
~~الوقت وقتان، فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقا،
~~وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله، بخلاف من لا يمكنه
~~الصلاة قبل ذلك، كالحائض إذا طهرت، والمجنون يفيق، والنائم يستيقظ، والناسي
~~يذكر. فدل تقديمه للعصر يوم عرفة على أنها تفعل في موضع مع الظهر عقيب
~~PageV06P341
# الزوال، ودل هذا الحديث على أنها يدرك وقتها بإدراك ركعة منها قبل
~~الغروب، مع أنه جائز (1) بقوله وفعله أن وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله ما
~~لم تصفر الشمس، فدل على أن هذا الوقت المختص بها وقت مع التمكن والرفاهية،
~~ليس لأحد أن يؤخرها عنه ولا يقدمها عليه.
# وقد عرف عن الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وابن عباس رضي الله
~~عنهم أنهم قالوا في الحائض: إذا طهرت قبل غروب الشمس تصلي الظهر والعصر،
~~وإذا طهرت قبل طلوع الشمس (2) صلت المغرب والعشاء. ولم يعرف عن صحابي خلاف
~~ذلك، وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد. وهذا مما يدل على أنه كان
~~الصحابة [يرون] أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء وإلى الفجر،
~~والنصف الثاني من النهار مشترك عند العذر بين الظهر والعصر من الزوال إلى
~~الغروب، كما دل على ذلك السنة، والقرآن يدل على ذلك، قال الله تعالى: (وأقم
~~الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل) (3) ، فالطرف الأول صلاة الفجر، فإن
~~صلاة الفجر من النهار، كما قد نص على ذلك أحمد، فإن الصائم يصوم النهار،
~~وهو يصوم من طلوع الفجر، والوتر يصلى بالليل. وقد قال النبي - صلى الله
~~عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بركعة" (4) .
~~فليس لأحد أن يتعمد تأخير PageV06P342
# الوقت إلى ما بعد طلوع الفجر ms1197 عند جماهير العلماء، كأبي حنيفة والشافعي
~~وأحمد في ظاهر مذهبه.
# وإذا قيل: "نصف النهار" فالمراد به النهار المبتدىء من طلوع الشمس، فهذا
~~في هذا الموضع، ولفظ "النهار" يراد به من طلوع الفجر، ويراد به من طلوع
~~الشمس، لكن قوله (وأقم الصلاة طرفي النهار) أريد به من طلوع الفجر بلا ريب،
~~لأن ما بعد طلوع [الشمس] ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة بل ولا مستحبة،
~~بل الصلاة في أول الطلوع منهي عنها حتى ترتفع الشمس. وهل تستحب الصلاة لوقت
~~الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه.
# فعلم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر، وأما الطرف الثاني فمن الزوال
~~إلى الغروب، فجعل الصلاة وأشرك بينهما فيه، ثم قال: (وزلفا من الليل) وهي
~~ساعات من الليل. فالوقت هنا ثلاثة، وكذلك في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك
~~الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا (78)) (1) .
~~فالدلوك: الزوال عند أكثر السلف، وهو الصواب، يقال: دلكت وهي الشمس إذا
~~زالت. وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته. فالأول يتناول الظهر والعصر تناولا
~~واحدا، والثاني [يتناول المغرب والعشاء] تناولا واحد، ثم قال: (وقرآن
~~الفجر) وهي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر. PageV06P343
# وقال تعالى: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم
~~ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة
~~العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح) (1) . فذكر الفجر وذكر
~~الظهر وذكر صلاة العشاء، فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة.
~~وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت.
# وقد دل على المواقيت في آيات أخرى، كقوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين
~~تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (18)) (2) ،
~~فبين أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض حين الصباح وحين المساء وعشيا
~~وحين الإظهار، فالمساء يتناول المغرب والعشاء، والصباح يتناول الفجر،
~~والعشي يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر.
# وقال تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل ms1198 غروبها ومن آناء الليل
~~فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) (3) ، وفي الآية الأخرى: (قبل طلوع الشمس
~~وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40)) (4) .
# فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر، وقبل غروبها هي العصر، وكذلك فسرها النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته (5) من حديث PageV06P344
# جرير بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
~~إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة
~~البدر، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها
~~فافعلوا"، ثم قرأ قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (1) .
~~و"من آناء الليل" مطلق في آناء الليل يتناول المغرب والعشاء.
# والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك ويقولون: ليس لكل منهما إلا وقت
~~يخصها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن، والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله:
~~(قد أفلح من تزكى (14) وذكر اسم ربه فصلى (15)) (2) ، فلا موجب لخصوص
~~التكبير عندهم، بل مطلق الذكر.
# فمان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل قط إلا بتكبير، ولا أحد من
~~خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا
~~بتكبير، ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر لأن القرآن مطلق في الذكر= فيقال
~~لهم: القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل، ومطلق في الأول وفي الطرف
~~الثاني، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدر أن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - داوم على التفريق، فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت الأول
~~غير مرة، وفي الوقت الثاني غير مرة؟ وكذلك يقولون: قوله تعالى: (اركعوا
~~واسجدوا) (3) مطلق، PageV06P345
# فهو الفرض، والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد، فيفيد الوجوب دون الفريضة.
~~وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه، مع
~~أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من بعده لم يصلوا إلا بالفاتحة،
~~ومع قوله: "لا صلاة إلا بأم القرآن" (1) وأن "كل صلاة لا يقرأ فيها ms1199 بأم
~~القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج" (2) ، ويقولون: هذا يفيد الوجوب دون
~~الفريضة، وهذا خبر واحد لا يقيد به مطلق القرآن.
# ومعلوم أن القرآن مطلق في الوقت المشترك أعظم من هذا، وليس معهم عن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - ما يوجب فعل كل واحدة من الأربع في الوقت الخاص إلا
~~فعله المتواتر، وقوله الذي هو من أخبار الآحاد، مع ما فيه من الإجمال،
~~كقوله لما بين المواقيت الخمسة: "الوقت ما بين هذين" (3) ، وقوله: "ما بين
~~هذين وقت" (4) ، دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة قوله: "لا
~~صلاة إلا بأم القرآن" وقوله: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي
~~خداج".
# وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (5) : "سيكون بعدي
~~أمراء PageV06P346
# يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم
~~نافلة"، وهو الوقت الذي بينه لهم. والأمراء إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى
~~وقت العصر، أو العصر إلى آخر النهار. ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل،
~~لأنهم سألوه عن الأمراء نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلوا"، وهذه كانت صلاتهم.
~~ودل على أن هذه الصلاة صحيحة، وإن كان فاعلها آثما. بخلاف صلاة النهار بعد
~~الغروب، فإن من قال: لا يصليها إلا بعد الغروب قد قوتل بلا ريب. وكذلك من
~~قال: لا يصلي المغرب والعشاء إلا بعد طلوع الفجر فإنه يقاتل بلا ريب. وقد
~~قال ابن مسعود وغيره في قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
~~واتبعوا الشهوات) (1) ، قالوا: إضاعتها تأخيرها عن وقتها، ولو تركوها
~~لكانوا كفارا، وأرادوا بذلك تأخيرها إلى الوقت المشترك أو وقت الاضطرار،
~~ولم يريدوا بذلك تأخير صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى صلاة
~~النهار، فإن الخلف الذين كان ابن مسعود يسميهم الخلف -كالوليد بن عقبة بن
~~أبي معيط وغيره- لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل، ولا صلاة الليل
~~إلى النهار، بل كان التأخير كما تقدم، مع أن ابن مسعود كان يسميهم "خلف"،
~~ويقول: "ما فعل خلفكم ms1200؟ "، فالخلف لم يكونوا يصلون بغير الفاتحة، ولا بغير
~~التكبير، ولا يقرأون القرآن بغير العربية، بل كانوا يصلون في الوقت المطلق
~~في كتاب الله في الطرف الثاني وقبل الغروب. ثم لما دل الشرع على وجوب
~~الصلاة في الوقت المختص ذموا لأجل ترك هذا الواجب، مع PageV06P347
# أن في القرآن مع النصوص المطلقة في آناء الليل والطرف الثاني أكثر مما
~~فيه من إطلاق قوله: (واذكر اسم ربك) (1) ، وقوله: (فاقرءوا ما تيسر منه)
~~(2) . والسنة والآثار دلت على الوقت المشترك، ولم تدل سنة على الصلاة بغير
~~فاتحة، فعلم أن الكتاب والسنة وآثار الصحابة تدل على أن الأوقات في حق
~~المعذور ثلاثة، وأن ذلك لم يعارضه دليل شرعي أصلا، وما قدر معارضا له
~~فالإيجاب به أضعف من الإيجاب بما دل على الفاتحة والتكبير.
# وقوله تعالى: (ومن آناء الليل) (3) وقوله: (وزلفا من الليل) (4) كان
~~مطلقا، دل على أن جميع الليل وقت في الجملة للصلاة، كما كان الطرف الثاني
~~وقتا للصلاة، وأن النصف الثاني من الليل كما بعد الاصفرار، ليس لأحد أن
~~يؤخر إليه العشاء مع الاختيار. وأما الحائض إذا طهرت والمجنون إذا أفاق
~~والكافر إذا أسلم والنائم إذا استيقظ والناسي إذا ذكر فيصلون المغرب
~~والعشاء، كما كانوا يصلون الظهر والعصر قبل الغروب، كما قال أصحاب رسول
~~الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي
~~الله عنهم، وهو قول الجمهور. PageV06P348
# فصل
# وهذا الذي ذكرناه من أن الوقت مشترك عند العذر إلى آخر وقت العصر فقد صلى
~~في وقتها، فهو كما لو أخرها إلى آخر الوقت المختص، فلو قدر أن الحائض طهرت
~~والنائم استيقظ والكافر أسلم بعد دخول وقت العصر المختص فإنهم يصلون الظهر
~~والعصر في وقتها، ولا يقال: إن الظهر صلوها بعد خروج الوقت. وكذلك من قدم
~~العصر إلى وقت الظهر، وصلى العشاء وقت المغرب جمعا للمطر لم يحتج أن ينوي
~~الجمع، سواء كان إماما أو مأموما أو منفردا. وهذا قول جمهور العلماء كمالك
~~وأبي حنيفة حيث يجوز الجمع، وهو المعروف عن ms1201 أحمد بن حنبل في أجوبته، لم
~~يوجب النية في ذلك ولا جمهور قدماء أصحابه كأبي بكر وغيره، لكن الخرقي
~~ومتبعوه كالقاضي أبي يعلى وغيره أوجبوا في الجمع النية، وهذا قول الشافعي.
~~وأما أحمد فلا أصل لهذا في كلامه ولا في كلام جمهور الفقهاء من أصحابه، كما
~~هو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما، وهذا هو الصواب، فإن النبي - صلى الله
~~عليه وسلم - لما جمع بأصحابه بعرفة لم يكونوا يعرفون أنه يصلي العصر بعد
~~الظهر، ولا قال حين صلو الظهر: إنكم تجمعون إليها العصر. وكذلك لما جمع بهم
~~بالمدينة فصلى سبعا جمعا وثمانيا جمعا لم يقل لهم: انووا الجمع. وكذلك لما
~~كان يقصر بهم لا يأمرهم بنية القصر، بل قد لا يعرفون ذلك حتى يقصر.
# ولهذا قد ثبت في حديث ذي اليدين (1) أنه لما صلى بهم الظهر أو
~~PageV06P349
# العصر ركعتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟
~~وقال: "لم أنس ولم تقصر الصلاة"، قال: بل نسيت يا رسول الله، قال: "أكما
~~يقول ذو اليدين؟ "، قالوا: نعم، الحديث. فلما أقره على قوله: أقصرت الصلاة
~~أم نسيت، وقال: لم أنس ولم تقصر، ولم يقل: كيف تقصر ولم آمركم بنية القصر=
~~دل على أنه كان ممكنا أن يقصر من غير أن ينوي القصر.
# وأيضا فيقال: الجامع إن كان مصليا للصلاة في وقتها الذي يجوز فعلها فيه
~~فقد جاز، سواء نوى الجمع أو لم ينوه، وإن لم يكن وقتها فمجرد النية لا يبيح
~~الصلاة في غير وقتها، ولهذا لو نوى الجمع حيث لا يجوز لم تفده النية شيئا،
~~فإذا قدر أن المصلي بعرفة صلى الظهر، ولم يخطر بقلبه إذ ذاك أنه يصلي معها
~~العصر، فمعلوم أن ما بعد صلاة الظهر هو وقت العصر في حقه، فلا فرق بين أن
~~يصليها في ذلك الوقت مع نيته ذلك عند صلاة الظهر أو لا، وأي تأثير للجواز
~~إذا نوى ذلك عند صلاة الظهر؟ وكذلك من يجوز له أن يصلي العشاء مع المغرب
~~للمطر فأي تأثير ms1202 لنيته في ذلك عند صلاة المغرب؟
# ثم هذا الشرط يكدر مقصود الرخصة، فإن الناس متلاحقون بعد شروع الإمام،
~~ولا يعرفون أنه نوى الجمع، فلو لم يجز الجمع إلا لمن نواه فات كثيرا منهم
~~رخصة الجمع، أو لزم أن يوكل الإمام من يقول لكل من يدخل: انو الجمع. وهذا
~~مع ما فيه من البدعة والحرج المتيقن بالشرع ففيه إبطال الصلاة في الجماعة
~~على ذلك المعلم.
# وكذلك الموالاة بين الصلاتين، وقد أوجبها الشافعي ومن وافقه
# PageV06P350
# من أصحاب أحمد، وقد نص أحمد على أن المسافر إذا صلى العشاء قبل غروب
~~الشفق في السفر جاز، وجعله بذلك جامعا. وليس مراده الأبيض، فإن الوقت يدخل
~~في حق المسافر بغروب الشفق الأحمر عنده بلا ريب، وكذلك الحاضر، وإنما اختار
~~للحاضر أن يؤخرها إلى مغيب الأبيض ليتيقن مغيب الشفق الأحمر عنده بلا ريب،
~~لأن الجدران تواري الحمرة في الحضر دون السفر، وإن جوز أن يصلي قبل مغيب
~~الأحمر في السفر، لأن المسافر يجوز له الجمع، فلو أراد أن يصليها عقيب
~~المغرب جاز، فإذا أخرها كان أولى بالجواز، لأنه أقرب إلى الوقت المختص،
~~فكيف يسوغ أن يقال: يصلي في الوقت البعيد عن وقتها المختص دون المشترك.
# وإذا قال قائل: إن ذلك لا يسمى جمعا إلا مع الاقتران.
# قيل: هذا لا يجوز الاحتجاج به لوجهين:
# أحدهما: أن الشارع لم يعلق الحكم بهذا اللفظ ولا معناه، ولكن دل الشرع
~~على جوازه.
# الثاني: أن الجمع سمي بذلك، لأنه جمع بينهما في وقت إحداهما المختص، لا
~~لاقتران الفصل، بدليل أنه لو جمع في وقت الثانية لم يجز (1) الاقتران بلا
~~ريب، بل له أن يصلي الأولى في أول الوقت والثانية في آخره. وقد صلى النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - ليلة جمع المغرب قبل إناخة الرحال، ثم أناخوها، ثم
~~صلى العشاء بعد ذلك بفصل بينهما. PageV06P351
# فصل
# وإذا عرف أن الأوقات في حال العذر ثلاثة أوقات، فنقول
### | : العذر نوعان:
# أحدهما: ما فيه حرج المسلم، كجمع المريض والمسافر إذا جد به السير.
# والثاني: أن يشتغل بعبادة ms1203 أفضل من الصلاة في الوقت المختص، مثل اتصال
~~الوقوف بعرفة، فإن هذه العبادة أولى بالسنة المتواترة وإجماع المسلمين من
~~أن يصلي العصر في وقتها المختص. كما أن الفطر لأجل الدعاء والذكر في هذا
~~اليوم أفضل من صوم يوم عرفة الذي يكفر سنتين، مع أن هذا فيه نزاع بين
~~العلماء، فإنهم تنازعوا (1) .
# وإذا كان هذا في الوقت فمعلوم أن
### | جنس الجهاد أفضل من جنس الحج،
# ومن الجهاد ما يكون أفضل من وقوف عرفة إذا كان المسلمون بإزائهم عدو يتصل
~~قتاله لهم إلى الغروب مصافة أو محاصرة أو غير ذلك= كان أن يجمعوا بين
~~الصلاتين ثم يدخلوا في الجهاد المتصل خيرا من أن يؤخروا الصلاة إلى بعد
~~الغروب، كما يقوله من لا يجوز الجمع ولا الصلاة مع القتال ويجوز تأخير
~~الصلاة، وكان خيرا من أن يصلوا في حال القتال. فإنه لا يستريب مسلم أن فعل
~~الصلاتين في وقت الظهر خير من فعلهما أو فعل إحداهما بعد الغروب، فإن هذا
~~فعل صلاة النهار في النهار وجمع في الوقت الذي يجوز جنسه بالنص والإجماع.
~~PageV06P352
# وأما تفويت الصلاة إلى الغروب مع إمكان فعلها في الوقت فهذا لم يرد به
~~سنة قط، فإن غاية ما يحتج به تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة
~~يوم الخندق، وقد روي أنه أخر الظهر والعصر جميعا وأخر المغرب أيضا، فلم
~~يصلهن إلا بعد مضي طائفة من الليل. وهذا إن كان نسيانا فليس هو مما نحن
~~فيه، فإنه من نام عن صلاة أو نسيها كان مأمورا بأن يصليها إذا ذكرها. وإن
~~لم يكن نسيانا بل اشتغالا بالقتال كما يقوله الجمهور فعنه جوابان:
# أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا بقتالهم في النهار،
~~ولم يعلم أنه يفرغ للصلاة بعد الزوال دون ما بعد العصر فإذا كان كذلك لم
~~يكن هذا مما نحن فيه، فإن الكلام إنما هو فيمن تفرغ للجمع في أول وقت
~~الظهر، كما تفرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك يوم عرفة.
# الثاني: أن هذا التأخير منسوخ ms1204 بقوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
~~وقوموا لله قانتين (238)) (1) ، فإنها نزلت في ذلك، والوسطى هي العصر،
~~ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق: "ملأ الله أجوافهم
~~وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" (2) . وأيضا فقد ثبت
~~عنه في الصحيح أنه قال: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" (3) .
~~وعلق إدراكها بإدراك ركعة منها فقال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب
~~الشمس فقد أدرك" (4) . PageV06P353
# وأما صلاتها مع الظهر فقد سنه في الجملة، ومعلوم أن جنس ما توعد عليه
~~محرم، وجنس ما فعله مشروع، فعلم أن الجمع بينهما في وقت الظهر خير من
~~التأخير إلى أن تفوت. وهذا مذهب جماهير العلماء كمالك والشافعي وأحمد في
~~المشهور عنه، بل لا يجوزون التأخير ولا غيره، ويجوزون الجمع لما هو دون
~~القتال. وأحمد وإن قال في رواية عنه: إن المقاتل يخير بين الصلاة في الوقت
~~والتأخير، فلا يختلف قوله: إن الجمع أولى من التفويت، وإنما يقول -على تلك
~~الرواية-: إذا لم يمكنه أن يصلي بالنهار لأجل القتال خير بين الصلاة حال
~~القتال في الوقت وبين الصلاة بعد المغرب. وأما على ظاهر مذهبه فلا يجوز
~~تفويتها إلى الغروب بحال.
# والمقصود هنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان قد صلاهما
~~بالمسلمين في وقت الظهر لاشتغاله عن فعلهما في الوقت المختص باتصال الدعاء
~~والذكر، ف
### | الجمع للاشتغال بالجهاد
# أولى وأحرى. هذا إذا أمكنه أن يصلي مع الجهاد صلاة تامة، لكن يتعطل عن
~~بعض مصلحة الجهاد.
# وأما إذا قدر أنه لا يمكنه أن يصلي إلا على دابته إلى غير القبلة لأجل
~~القتال، فلا ريب أن صلاته بالأرض صلاة تامة جمعا بين الصلاتين خير من أن
~~يصلي العصر في وقتها المختص صلاة ناقصة، لما فعله النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - في حجته، ولحديث المستحاضة، ولأن تكميل العبادة بفعل واجباتها أمر
~~مقصود في نفسه، والجامع مصل لها في وقتها لا في غير وقتها، لكن صلاها في
~~وقت المعذور، وهو الوقت المشترك، وما ms1205 حصله بالتكميل المأمور به في الصلاة
~~أكمل مما فاته من الوقت المختص. فإذا كان تكميل الدعاء والذكر بعرفة أفضل
~~من الصلاة في
# PageV06P354
# الوقت المختص، فتكميل نفس الصلاة أفضل من الوقت المختص.
# ولهذا لا يجوز التكميل (1) المأمور به في الصلاة لأجل تكميل اتصال
~~الدعاء، لأن ذلك واجب وهذا مستحب. ولو كان عادما للماء والسترة ولم يمكنه
~~تحصيل ذلك إلا بتفويت بعض الدعاء والذكر كان مأمورا أن يصلي بالماء
~~والسترة، وإن كان ذلك في أثناء الدعاء.
# ولهذا كان الجمع بين الصلاتين بطهارة كاملة أولى من الصلاة في الوقت
~~المختص بطهارة ناقصة، فالمستحاضة التي تجمع بين الصلاتين بغسل واحد، هو
~~أفضل من الصلاة في الوقت المختص بوضوء.
# ومثل ذلك من جمع بين الصلاتين بوضوء، فإنه أكمل ممن صلى في الوقت المختص
~~بتيمم، ومن جمع بين الصلاتين قائما فهو أكمل ممن صلى في الوقت المختص
~~قاعدا، ومن جمع بين الصلاتين في جماعة فهو أكمل ممن صلى في الوقت المختص
~~منفردا.
# ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يجمعون بين المغرب
~~والعشاء للمطر ونحوه، مع إمكان أن يصليها وحده في بيته، لكن لما كان الجمع
~~لمصلحة الجماعة وكان صلاته معهم أكمل من الانفراد= كان صلاته معهم جمعا
~~أكمل من صلاته منفردا في الوقت المختص. وهكذا في صلاة الخوف الصلاة في
~~جماعة مع استدبار القبلة في أثناء الصلاة -مع العمل الكثير ومع مفارقة
~~الإمام قبل السلام وغير ذلك- أكمل من أن يصلي كل واحد منفردا مع عدم هذه
~~المحاذير. PageV06P355
# وإذا صلى بالتيمم في الوقت المشترك هل هو أكمل من الصلاة في الموضع
~~المنهي عنه في الوقت المختص؟ فإن هذا حصل فيه نقصان: نقص التيمم والوقت
~~المشترك، وهناك حصل نقص المكان المنهي عنه فقط. وسيأتي الكلام على هذه
~~المسألة، ونبين أن الصلاة بالتيمم في الوقت المشترك خير من الصلاة المنهي
~~عنها في الوقت المختص، لأن الصلاة في الوقت المشترك بالتيمم أصلا يؤم فيها
~~المتيمم للمتوضىء بخلاف الصلاة في المكان المنهي عنه، فإنها لا تفعل إلا
~~لضرورة ms1206.
# ونظير ذلك من كان في مكان قد نهي عن الصلاة فيه -كالحمام والمكان النجس
~~وغير ذلك- فإنه إذا لم يمكنه أن يصلي في الوقت إلا فيه صلى فيه، فإن فعل
~~الصلاة في وقتها واجب، أعني الوقت المطلق، فلا يجوز له أن يؤخر صلاة النهار
~~إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار أصلا، بل يصلي في الوقت المطلق: إما
~~المختص وإما المشترك بحسب الإمكان. فإذا كان قد دخل إلى الحمام، وإن لم يصل
~~فيه خرج الوقت، صلى فيه. وكذلك من حبس في موضع نجس لا يخرج منه إلا بعد فوت
~~الوقت صلى فيه، ولا إعادة عليه، كما نص على ذلك أحمد وغيره. وهذا بين، لكن
~~إن أمكنه أن يجمع بين الصلاتين خارجا عن الموضع المنهي عنه، فالجمع خارجا
~~عن الموضع المنهي عنه خير من الصلاة فيه، والصلاة فيه خير من التفويت.
# وذلك مثل المرأة إذا كان عليها غسل جنابة أو حيض، ولا يمكنها الاغتسال في
~~الوقت، فعليها أن تصلي بالتيمم، فإذا صلت الفجر بالتيمم ثم لم يمكن الحمام
~~إلا بعد الظهر، وإذا دخلت الحمام لم
# PageV06P356
# يمكنها الخروج منه إلا بعد الغروب، فالصلاة في الحمام بعد التطهر مع ستر
~~رأسها وبدنها خير من التفويت بلا ريب، إذ التفويت إلى الغروب لا يجوز بحال،
~~بل المصلي للعصر بعد الغروب كالصائم لرمضان في شوال باتفاق العلماء، فإنهم
~~متفقون على أنه لا يجوز تفويت رمضان إلى شوال لمن يجب عليه، والصلاة في
~~وقتها أوكد من الصوم في وقته كما بيناه. وهذه المرأة إذا صلت الظهر والعصر
~~جمعا بينهما بالتيمم كان خيرا من صلاتها في الحمام مغتسلة، والصلاة في
~~الحمام مغتسلة خير من التفويت، لأن الصلاة في الحمام منهي عنها كالصلاة في
~~المقبرة وأعطان الإبل والمكان النجس والثوب النجس وصلاة العريان، ففي
~~صلاتها جمعا تكميل الصلاة من هذا الوجه، كما تقدم.
# والصلاة بالتيمم إذا لم يمكن الصلاة في الوقت بالماء جائزة أيضا، بل هي
~~الواجبة، فقد ثبت بالنص والإجماع أن المتيمم العادم للماء في سفره يجب ms1207 عليه
~~أن يصلي في الوقت بالتيمم، ولا يجوز له أن يؤخرها ليصلي بعد الوقت بوضوء.
~~وكذلك العريان عليه أن يصلي في الوقت عريانا مع إمكان الصلاة بعد الوقت
~~بالثياب.
# وكذلك المريض يجب عليه أن يصلي في الوقت قاعدا أو مضطجعا، وإن أمكنه أن
~~يصلي بعد الوقت قائما. وكذلك الخائف يصلي في الوقت صلاة الخائف، وإن أمكنه
~~أن يصلي بعد الوقت صلاة أمن. كما دل على أمثال هذه المسائل الكتاب والسنة
~~والإجماع، إذ ليس في واجبات الصلاة أوكد من وجوب الوقت، وهذا مجمع عليه
# PageV06P357
# في عامة المسائل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وهذا مذهب مالك وأصحابه
~~وأحمد بن حنبل وأصحابه، وكذلك مذهب أبي حنيفة والشافعي وغيرهما في أكثر
~~الصور، لكن اختلف مذهب أبي حنيفة والشافعي في أكثر الصور، وتابعهم بعض
~~أصحاب أحمد.
# كما اختلفوا فيما إذا وجد المسافر بئرا، ولم يمكنه أن يصنع الحبل حتى
~~يخرج الوقت. أو وجد العراة ثوبا، ولم يمكنهم أن يصلوا فيه واحدا بعد واحد
~~حتى يخرج الوقت. أو كانوا جماعة في سفينة، وليس هناك موضع يقومون فيه إلا
~~موضعا واحدا، ولا يمكنه الصلاة في الوقت إلا مع القعود، أو أمكنه تعلم
~~دلائل القبلة، ولكنه لا يتعلم ذلك حتى يخرج الوقت، أو أمكنه أن يخيط ثوبه
~~ولا يتم ذلك حتى يخرج الوقت. ففي هذه المسائل نزاع في مذهب الشافعي، ونصوصه
~~اختلفت في ذلك، فمن أصحابه من خرج، ومنهم من أقر، ووافقه بعض أصحاب أحمد.
~~وأما أحمد وسائر أصحابه وكذلك مالك وغيره ما علمتهم اختلفوا في تقديم الوقت
~~في هذه المواضع، كما اتفق المسلمون كلهم على تقديم الوقت في المتيمم إذا
~~عدم الماء في السفر، وفي العريان، وفي المريض والخائف، فإنهم متفقون على أن
~~هؤلاء يصلون في الوقت بحسب حالهم، ولا يفوتون الصلاة. ولم يتنازعوا إلا في
~~حال القتال كما تقدم، وكذلك الآمن الذي لا يمكنه التعلم حتى يخرج الوقت.
# والمقصود هنا ذكر الجمع، وأن الجمع بين الصلاتين بالتيمم خير من الصلاة
~~في المكان المنهي عنه، كما أنها ms1208 خير من الصلاة عريانا،
# PageV06P358
# ومن الصلاة إلى غير القبلة ونحو ذلك، فإن الصلاة في الوقت المشترك صلاة
~~في الوقت يفعل فيه للمصلحة الشرعية، بخلاف الصلاة بدون شروطها، فإنه يحرم،
~~[و] لا يجوز إلا لضرورة.
# ولهذا كانت الصلاة بالغسل وبالوضوء في الوقت المشترك خيرا من الصلاة
~~بطهارة ناقصة في الوقت المختص. ومن ذلك الأجير والمملوك إذا أدخله سيده
~~الحمام والمكان النجس، ولم يخرجه منه إلى المغرب، فصلاته فيه خير من
~~التفويت، وذلك واجب عليه، والجمع بين الصلاتين خير له من الصلاة في ذلك
~~المكان المنهي عنه، وهذا الجمع بطهارة الماء، وتلك بطهارة التيمم.
# فإن قيل: هذه المرأة تفوت الوقت المختص وطهارة الماء، فهذان نقصان،
~~والصلاة في الحمام ليس فيها إلا نقص واحد، فلم كان هذا أولى؟
# قيل: الصلاة في الحمام منهي عن جنسها، ليس لأحد أن يفعلها لغير ضرورة،
~~لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"
~~(1) . وأما الجمع فيجوز للحاجة والمصلحة الراجحة كما تقدم، وأما التيمم فإن
~~الصلاة بتيمم خير من الصلاة في الحمام، لأن التيمم طهارة مأمور بها، وهي
~~تقوم مقام الماء عند عدم الماء وخوف PageV06P359
# الضرر باستعماله، ومن لم يمكنه أن يصلي بالماء إلا في المكان المنهي عنه
~~لم يمكنه الصلاة بالماء، كما لو لم يمكنه أن يصلي بالماء إلا عريانا أو إلى
~~غير القبلة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور
~~المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك، فإن ذلك
~~خير" (1) . فكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم، من صلاة الفرض والنفل ومس
~~المصحف وقراءة القرآن.
# والتيمم يجوز عند الحدث الأكبر في مذهب أحمد وغيره، وهو مذهب أبي حنيفة،
~~[و] الذي يقوم عليه الدليل الشرعي أنه كل ما يجوز قبل الوقت ويبقى بعده،
~~سواء نوى به فرضا أو نفلا أو غير ذلك مما يستباح بالتيمم، فيجوز لقول النبي
~~- صلى الله عليه وسلم -: "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر
~~سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه ms1209 بشرتك، فإن ذلك خير".
# ويجوز أن يؤم المتيمم المتطهرين بالماء، كما أم عمرو بن العاص أصحابه في
~~غزوة ذات السلاسل، وكما أم ابن عباس أصحابه بالتيمم وكان قد أجنب من وطء
~~أمته. وهذا جائز عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي
~~يوسف وغيرهم، وإن كان أكثر هؤلاء يجوز اقتداء القارىء بالأمي خلف العريان
~~ونحوه.
# فعلم أن طهارة التيمم حيث أمر بها خير من الصلاة في المكان PageV06P360
# النجس، وصلاة العريان والصلاة إلى غير القبلة وكذلك بسترة جمعا خير من
~~صلاة العريان مع التفريق، والصلاة قائما مع الجمع خير من الصلاة وحده مع
~~التفريق.
# ولهذا يجوز للمسلمين في المطر مع إمكان صلاة الرجل وحده في بيته، وما ذاك
~~إلا لأجل الجماعة، فعلم أن الجماعة في وقت إحداهما خير من كل صلاة في الوقت
~~المختص مع الانفراد، وكذلك الجمع مع الخوف في الجماعة خير من الصلاة فرادى
~~في الوقت. بل صلاة الخوف في جماعة كما مضت به السنة، مع مفارقة بحضهم
~~الإمام قبل السلام، ومع العمل الكثير إذا صلى بطائفة ركعة ثم ذهب إلى
~~العدو، مع استدبارهم القبلة، ومع اقتداء المفترض بالمتنفل، ومع الصلاة
~~أربعا في السفر، وأمثال ذلك كما جاءت به السنة= خير من صلاة كل منهم وحده.
~~فالشارع يأمر بالجماعة ويحض عليها، ويحتمل لأجلها ترك واجبات وفعل محظورات.
# والوقت أوكد من الجماعة باتفاق المسلمين، فإذا لم يمكنه أن يصلي جماعة
~~إلا بعد الوقت صلى منفردا في الوقت باتفاق العلماء.
# و
### | الجمع بين الصلاتين صلاة في الوقت، لكنه لا يجوز إلا لحاجة أو مصلحة راجحة.
# والصلاة بالماء جمعا خير من الصلاة بالتيمم مفرقا.
# فمن علم أنه لا يجد الماء إلا في وقت العصر كان صلاته الظهر والعصر
~~بالماء جمعا وقت العصر خيرا من أن يصلي الظهر بالتيمم، وكذلك من وجده وقت
~~الظهر وعلم أنه لا يجده إلا وقت المغرب كان جمعه بالماء أفضل، كما تكون
~~صلاته في آخر الوقت المختص بالماء أفضل من
# PageV06P361
# صلاته في أوله بالتيمم.
# فإن قيل: إنما ms1210 جمع لأنه بمنزلة المسافر الذي لا ينزل قبل الغروب، وكذلك
~~المريض الذي لا يمكنه الوضوء إلا في أحد الوقتين، وصلاته في أحد الوقتين
~~جمعا بالوضوء خير من صلاته مفرقة بالتيمم، كما ذكرنا في المستحاضة أن
~~صلاتها بالاغتسال جمعا خير من صلاتها بالوضوء في الوقت المختص، والواقف
~~بعرفة صلاته العصر جمعا مع الظهر لإتمام الوقوف خير من فعلها في وقتها مع
~~نقصه. وهذا الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أصل عظيم في هذا
~~الباب، فإنه ليس الجمع هنا لحاجة ولا تحصيل واجب ولا مشكوك في وجوبه، بل
~~لتحصيل مستحب، وهو كمال الوقوف، فدل على أن الجمع جائز حيث تكون المصلحة
~~الشرعية معه أكمل من المصلحة الشرعية مع التفريق، بحيث كانت العبادة مع
~~الجمع أكمل في الشرع من التفريق فالجمع أولى، لأنه حين وقف يريد أن يفيض
~~بعد الغروب إلى مزدلفة كان كما روي عنه أنه كان إذا ارتحل بعد أن تزيغ
~~الشمس قدم العصر إلى الظهر، فصلاهما جمعا.
# قيل: إن كان جمعه كذلك دل على جواز الجمع لمثل هذا مع إمكان النزول، فإنه
~~لو نزل قبل الغروب لم يكن عليه في ذلك مشقة عظيمة. فإذا جاز الجمع لمواصلة
~~السير فالجمع لتكميل العبادات الشرعية أولى، ولم يكن جمعه لمجرد السفر،
~~فإنه لم يجمع في حجته إلا بعرفة والمزدلفة، وقد كان يصلي قصرا بلا جمع، ولم
~~يقل أحد قط أنه جمع بمنى ولا صلى أربعا، بل كلهم متفقون على أنه قصر ولم
# PageV06P362
# يجمع، فعلم أن ذلك لم يكن لمجرد السفر بل للسير، كما قال ابن عمر وغيره:
~~كان إذا جد به السير فعل ذلك، مع أن النزول ممكن ليس فيه إلا تفويت الإسراع
~~الذي لا يفوت به الحج إلا أمر مستحب لا يفوت به واجب، فإنه لو نزل وصلى
~~العصر ثم ركب وأتم الوقوف كان ممكنا، لكن يفوت بذلك كمال مقصود الوقوف
~~والإفاضة. فعلم أن الجمع كان لتحصيل مصلحة شرعية راجحة، لا لمجرد مشقة
~~دنيوية.
# وإذا كان قد جمع لتحصيل عبادة ms1211 هي أفضل من التفريق من غير أن يكون ذلك
~~واجبا ولا ضرر فيه= علم أن الجمع يجوز للحاجة والمصلحة الشرعية الراجحة.
~~وقد نص أحمد على جواز الجمع للشغل، وفسره القاضي بما يبيح ترك الجمعة
~~والجماعة. ونص على جمع المستحاضة بالغسل، وليس فيه إلا مصلحة شرعية راجحة.
# ومما يبين ذلك أن الجمع لو كان معلقا بسبب محدود يدور معه وجودا وعدما
~~كالقصر والفطر، لكان الشارع يعلقه به، كما علق الفطر بالمرض والسفر بقوله:
~~(فمن كان منكم مريضا أو على سفر) (1) ، وكما علق القصر بالسفر دون المرض
~~بقوله: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" (2) .
# وأما الجمع فإنما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بافعال فعلها في
~~أول الوقت، وتارة يؤخرها، وكان التأخير أحب إليه إلا إذا شق عليه، فإذا
~~اجتمعوا PageV06P363
# قدمها لمشقة التأخير عليهم، فتقديم الصلاة في أول الوقت وإن كان هو
~~الأفضل في الأصل، فإذا كان في التأخير مصلحة راجحة كان أفضل، كالإبراد
~~بالظهر وتأخير العشاء. وكما إذا رجا المتيمم الماء في آخر الوقت، أو رجا أن
~~يصلي مستور العورة في آخر الوقت أو إلى القبلة أو في جماعة ونحو ذلك، وهكذا
~~الجمع. فالأصل وجوب كل صلاة في وقتها الخاص، ثم يجوز أو يستحب فعلها في
~~الوقت المشترك لدفع الحرج.
# وأما الجمع لمصلحة راجحة مع إمكان الفعل في الوقت فهذا قد جاء فيه حديث
~~المستحاضة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب لها أن تجمع بين صلاتي
~~النهار بغسل وبين صلاتي الليل بغسل، وكان هذا أحب إليه من أن تصلي في الوقت
~~المختص بوضوء، لأن طهارة الغسل متيقنة وطهارة الوضوء محتملة، لإمكان انقطاع
~~وجوب الغسل، مع أن الغسل ليس بواجب عليها، وعلى هذا فالجمع بوضوء أو غسل
~~أفضل من التفريق عريانا، والجمع إلى القبلة المتيقنة أفضل من التفريق
~~بالاجتهاد، والجمع في جماعة أفضل من التفريق وحده.
# ولهذا كان الصحابة والتابعون يجمعون للمطر، مع إمكان صلاة كل واحد وحده
~~في بيته، لكن ذلك لمصلحة الجماعة، فصلاته مع الجماعة جمعا ms1212 أفضل من صلاته في
~~الوقتين. ولهذا لو كان مقيما في المسجد لكان جمعه معهم على الصحيح أفضل من
~~صلاته وحده في الوقتين.
# وهكذا القول فيما يجب في الصلاة إذا أمكن فعله في الجمع فهو
# PageV06P364
# أفضل من تركه مع التفريق، وإن كان ذلك جائزا، فإن الجامع للمصلحة الراجحة
~~قد صلى الصلاة في وقتها، وإنما يجب عليه في الوقت المختص إذا أمكن فعلها
~~فيه كاملة، فلا يجوز له تفويت الوقت المختص بلا موجب. فأما إذا كان فعلها
~~في الوقتين فيه نقص عفي عنه للحاجة وأمكن فعلها في المشترك بلا نقص كان
~~أفضل.
# والقرآن والسنة دلا على أن الوقت يكون، خمسة في حال الاختيار، ويكون
~~ثلاثة في حق المعذور، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من الكبائر
~~الجمع بين الصلاتين إلا من عذر. وقد أباح أحمد الجمع إذا كان له شغل. قال
~~القاضي أبو يعلى: المراد العذر الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة، فالعذر الذي
~~يبيح ترك ذاك يبيح الجمع. وهذا بين، فإنه إذا سقطت الجمعة مع توكيدها
~~والجماعة مع وجوبها، فاختصاص الوقت أولى، لأن فعلها في الوقت المشترك جماعة
~~أفضل من فعلها في الوقت المختص فرادى.
# فإذا سقطت الجماعة بالعذر فاختصاص الوقت أولى، ينبغي أن يكون الجمع أوسع.
~~من ذلك (1) أن الجمعة والجماعة آكد من اختصاص الوقت، وقد ترك النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - في صلاة الخوف لأجل الجماعة ما كان يمكن أن يفعل مع
~~الانفراد مما لا يجوز إلا لعذر، إنما احتمل لأجل الجماعة مع الخوف.
# وهذا الذي ذكرنا من أن الوقت يكون ثلاثة في حق المعذور مما PageV06P365
# ثبت بالسنة المتواترة وباتفاق المسلمين في الجمع بعرفة ومزدلفة، وهو مذهب
~~مالك والشافعي وأحمد في أمور أخرى، وأحمد أوسع قولا به من غيره، وأما تفويت
~~الصلاة فلا يجوز بحال في ظاهر مذهب أحمد، ولكن في مذهبه قول بجواز التفويت
~~في بعض الصور، ولكن في مذهبه في مثل عدم الماء والتراب يجوز التفويت. وأما
~~أبو حنيفة فيوجب التفويت في مواضع، ولا يجوز الجمع ms1213 إلا بعرفة ومزدلفة. وقول
~~الأكثرين الذين يسوغون الجمع بين الصلاتين ويمنعون التفويت مطلقا هو
~~الصحيح، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال: (حافظوا على
~~الصلوات والصلاة الوسطى) (1) ، وثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - أنه قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" (2) ، وقال: "من فاتته
~~صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" (3) . فالتفويت لا يجوز بحال، وتفويت
~~الخندق منسوخ.
# وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت بالسنة في مواضع متعددة،
~~وبعضها مما أجمع عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تبين أن الوقت
~~المشترك وقت في حال العذر، كقول عمر بن الخطاب: الجمع بين الصلاتين من غير
~~عذر من الكبائر. فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن
~~عوف وابن عباس وأبو هريرة فيمن طهرت في آخر النهار: إنها تصلي الظهر
~~والعصر، PageV06P366
# وفيمن طهرت في آخر الليل: إنها تصلي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة
~~مالك والشافعي وأحمد.
# وأما التفويت فلا يجوز بحال، فمن جوز التفويت في بعض الصور فقوله ضعيف
~~وإن جوز الجمع. وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع فقد جمع في قوله بين أصلين
~~ضعيفين: بين إباحة ما حرم الله ورسوله وتحريم ما شرعه الله ورسوله، فإنه قد
~~ثبت أن الجمع خير من التفويت.
# فبهذا الأصل ينتظم كثير من مسائل المواقيت. وتفويت العصر إلى حين
~~الاصفرار وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضا لا يجوز إلا لضرورة، والجمع
~~بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل الصلاة بالتيمم قبل دخول وقت
~~الضرورة خير من الصلاة بالوضوء في وقت الضرورة. وقد نص على ذلك الفقهاء من
~~أصحاب أحمد وغيره، وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار، بل إذا لم يجد
~~الماء إلا فيه فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يصليها حين الاصفرار
~~بالوضوء. والله أعلم.
# PageV06P367
### | مسألة
# في رجل فقير وعليه دين، هل لأخيه الغني دفع الزكاة إليه؟
# PageV06P369
# مسألة
# في رجل فقير وعليه دين، وله أخ لأبويه وهو غني، هل للغني دفع الزكاة
~~لأخيه ms1214 الفقير دون الأجانب؟ وهل يجوز له تعجيل الزكاة له سنة أو سنتين؟
# جواب الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية
# نعم، يجوز أن يدفع إليه من زكاته ما يستحقه مثله من الزكاة، وهو أولى من
~~أجنبي ليس مثله في الحاجة، ويجوز تعجيل الزكاة. وذلك لأن نصوص الكتاب
~~والسنة تتناول القريب والبعيد في الإعطاء من الزكاة، وامتاز إعطاء القريب
~~بما فيه من الصلة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدقتك على
~~المسكين صدقة، وصدقتك على ذي الرحم صدقة وصلة" (1) . والصدقة في الصلة أفضل
~~من الصدقة المجردة.
# والذين منعوا من إعطاء الزكاة له قالوا: نفقته واجبة على الأخ، فيكون
~~مستغنيا بها، فلا يعطيه ما يقوم مقام النفقة الواجبة. وهذا القول ضعيف
~~لوجوه:
# أحدها: أنه قد لا تكون النفقة واجبة عليه، بأن لا يكون للمزكي فضل ينفقه
~~على أخيه، وهذا حال كثير من الناس. فإذا حرم الصدقة مع النفقة كان هذا ضد
~~مقصود الشارع. PageV06P371
# الثاني: أن يقال: هب أن نفقته واجبة عليه، فإنما ذلك بشرط أن لا يكون
~~قادرا على الكسب وأن يطالب بها، فإذا كان متمكنا من أخذ الزكاة واختار ذلك
~~لم تجب النفقة في هذا الحال. كما لو اختار أخذ الزكاة من أجنبي، فإن النفقة
~~لا تجب في هذا الحال إجماعا. وليس أن يمنع من الزكاة لأجل وجوب النفقة
~~بأولى من أن يمنع من النفقة لأجل وجوب الزكاة، بل هذا أولى، لأن الصدقة مال
~~أباحه الله له ولأمثاله، فإذا كان قادرا عليه لم يكن به حاجة إلى النفقة،
~~والنفقة إنما وجبت عند العجز عن الاكتساب، وأخذ الزكاة من جملة وجوه
~~الاكتساب.
# وكما أن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة سوي، فهو أيضا لا يستحق النفقة.
# الوجه الثالث: لو وجبت نفقته على غيره، وامتنع ذلك الغير من إعطائها، كان
~~له أخذ الزكاة بالاتفاق. فهذا القريب لو قدر امتناعه من الإنفاق لم يحرم
~~على هذا أخذ زكاته. ولا يقال: الزكاة لم تسقط عن ذلك، بل غاية ما يقال: إنه
~~عاص بترك النفقة ms1215.
# الرابع: أن يقال: لا ريب أنه يجب إغناء هذا الفقير، فإما أن يغنيه قريبه
~~من ماله وإما من الزكاة، فالواجب إما الإنفاق عينا وإما الزكاة عينا وإما
~~أحدهما، وإيجاب الإنفاق عينا مع تمكن المحتاج من أخذ الزكاة ومع اختياره
~~لذلك لا يقول به أحد، وأما إيجاب إعطاء الزكاة عينا مع اختيار رب المال أن
~~يصل رحمه من ماله فلا يقول به أحد، فمتى اختار الفقير أخذ الزكاة فله ذلك،
~~ومتى اختار الغني صلته من ماله فله ذلك إذا اختار الفقير، ولو أراد الفقير
~~أن لا يقبل الصلة وقال: لا آخذ إلا من
# PageV06P372
# الزكاة فله ذلك. وإن أراد المطالبة بالنفقة وقال: لا أريد إلا النفقة دون
~~الزكاة، فهذا فيه نظر ونزاع، وأما إذا اتفقا على الصلة جاز بالاتفاق، فكذلك
~~إذا اتفقا على الإعطاء من الزكاة هو جائز أيضا. كما لو كان الغني يعطيه من
~~صدقة موقوفة، أو من صدقة هو وكيل فيها أو ولي عليها.
# فإن قيل: إذا أعطاه وقى بها ماله، وقد ذكر الإمام أحمد عن سفيان ابن
~~عيينة قال: كان العلماء يقولون: لا يقي بها ماله، ولا يحابي بها قريبا، ولا
~~يدفع بها مذمة.
# قيل: هذا إنما يكون إذا كان القريب من عياله، فيعطيه ما يستغني به عن
~~النفقة المعتادة، ففي مثل هذه الصورة لا يجزئه على الصحيح، وهو المنقول عن
~~ابن عباس وغيره، أفتوا بأنه إذا كان من عياله لم يعطه ما يدفع به الإنفاق
~~عليه. حتى لو كان متبرعا بالإنفاق على رجل لم يكن له أن يعطيه ما يقي به
~~ماله، لأنه هنا دفع عن نفسه بالزكاة، فأخرجها لغرضه لا لله، والزكاة عليه
~~أن يخرجها لله، وإن لم يكن هذا واجبا بالشرع، لكن العادات لازمة لأصحابها.
~~والمحاباة أن يعطي القريب وهناك من هو أحق منه، وأما إذا استويا في الحاجة
~~وأعطاه لم يكن هذا محاباة. وهذا بخلاف ما إذا لم تكن عادته الإنفاق على
~~الأخ، فإن وجوب الإنفاق عليه مشروط بعدم قدرته على الأخذ من الزكاة واختيار ms1216
~~ذلك، فمتى كان قادرا على الأخذ مريدا له لم يستحق في هذه الحال نفقة. كما
~~لو حصل ذلك مع غنى أجنبي، فإنه إذا اختار الأخذ من زكاته لم يجب على أخيه
~~في هذه الحال الإنفاق عليه.
# PageV06P373
# الوجه الخامس: أن يقال: لو أعطى الزكاة للإمام، فأعطى الإمام أخاه من
~~ذلك، جاز، وكذلك لو أعطاها لمن يقسمها بين المستحقين، فأعطاه أخاه، فكذلك
~~إذا قسمها هو. وسبب ذلك أن الزكاة يجب صرفها إلى الله تعالى، الذي يثيب
~~صاحبها، والفقراء يأخذونها من الله، لا يستحق أرباب الأموال عليهم معاوضة.
~~فهو كما أعطى الإمام من بيت المال، وناظر الوقف من الوقف، وإذا كان كذلك
~~فأخذه من زكاة قريبه وغيره سواء، كأخذه من مال ينظر عليه قريبه، سواء كان
~~سلطانيا أو وقفا أو نذرا.
# يدل على ذلك أن أبا طلحة لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أحب
~~أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا
~~رسول الله حيث شئت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أرى أن تجعلها
~~في الأقربين" (1) . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بجعلها في الأقربين
~~بعد أن جعلها لله وخرج عنها. والله سبحانه أعلم. PageV06P374
### | مسألة
# في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد
# PageV06P375
# مسألة
# في التسمية على ذكاة الذبيحة وذكاة الصيد، والنزاع فيها مشهور بين السلف
~~والخلف، وقد ذكروا عن أحمد رحمه الله فيها خمس روايات، ذكرها أبو الخطاب في
~~"رؤوس مسائله ". قال أبو الخطاب: متروك التسمية لا يحل أكله، سواء ترك
~~التسمية عامدا أو ناسيا. وعنه إن تركها عامدا لم يحل، وإن تركها ناسيا حلت.
~~وهو قول أبي حنيفة والثوري ومالك. وعنه إن سها على الذبيحة حل، فأما على
~~الصيد فلا.
# (قال تقي الدين:) قلت: وأكثر الروايات عن أحمد على هذا، وهي اختيار أكثر
~~أصحابه، كالخرقي والقاضي وأكثر أصحابه والشيخ الموفق.
# قال: وعنه إن سها على السهم حل، وأما على الكلب والفهد فلا.
# وقال الشافعي: يحل أكله سواء تركها عامدا أو ساهيا، وعن أحمد ms1217 بنحوه.
# ونصر أبو الخطاب التحريم مطلقا. (قال الشيخ تقي الدين:) وهذا هو الصواب،
~~فإني تدبرت نصوص الكتاب والسنة فوجدتها متظاهرة على إيجاب التسمية
~~واشتراطها في الحل، وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه، وكل نص منها يوافق
~~الآخر، مع كثرة النصوص وصراحتها في الدلالة، ولم أجد شيئا يصلح أن يقارب
~~معارضة هذه النصوص، فضلا عن أن يكافئها أو يرجح عليها. ولو لم يكن إلا نص
~~سالم عن المعارض المقاوم لوجب العمل به، فكيف مع كثرتها وقوة دلالتها وعدم
~~معارضها.
# PageV06P377
# قال الله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين
~~(118) اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم
~~بالمعتدين (119) وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما
~~كانوا يقترفون (120) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن
~~الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (121))
~~(1) . فقد أمر سبحانه بالأكل مما ذكر اسم الله عليه، وعلق ذلك بالإيمان،
~~وأنكر على من لم يأكل مما ذكر اسم الله عليه، ونهى عن أكل ما لم يذكر اسم
~~الله عليه، وقال: (وإنه لفسق) كما قال فيما أهل به لغير الله في قوله
~~تعالى: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة
~~أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به) (2) . فقد
~~ذكر تحريم ما أهل لغير الله به في أربعة مواضع كما ذكر تحريم الميتة والدم
~~ولحم الخنزير.
# وقال تعالى فيما ذم به المشركين: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها
~~إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها
~~افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون) (3) . وقال تعالى في المائدة (4) :
~~(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به) إلى قوله:
~~(وما ذبح على النصب) إلى قوله: (يسألونك ماذا PageV06P378
# أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما
~~علمكم الله ms1218 فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) .
# فهذه خمس آيات في التسمية. وفي الصحاح والمساند حديث عدي بن حاتم الذي
~~اتفق العلماء على صحته، وتلقته بالقبول تصديقا وعملا به، ففي الصحيحين (1)
~~عن إبراهيم النخعي عن همام بن الحارث عن عدي قال: قلت: يا رسول الله، إني
~~أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله، فقال: "إذا أرسلت كلبك
~~المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك "، قلت: وإن قتلن؟، قال: "وإن
~~قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها". قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب،
~~فقال: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله ".
# وفي الصحيحين (2) عن شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي سمعت عدي
~~بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المعراض، فقال:
~~"إذا أصاب بحده فكل، وإذا أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل "، قال: قلت:
~~إني أرسل كلبي، قال: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل "، قال: قلت: فإن
~~أكل منه؟ قال: "فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه ولم يمسك عليك ". قال: قلت:
~~أرسل كلبي وأجد معه كلبا آخر، قال: "لا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم
~~على الآخر". PageV06P379
# وفي الصحيحين (1) أيضا عن عدي قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه
~~وسلم -: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركته حيا
~~فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكل، فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره
~~وقد قتل فلا تأكله، فإنك لا تدري أيهما قتله. وإن رميت بسهمك فاذكر اسم
~~الله، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته
~~غريقا في الماء فلا تأكله ".
# وفي لفظ البخاري (2) : قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي وأسمي، فأجد معه على
~~الصيد كلبا آخر لم أسم عليه، ولا أدري أيهما أخذ، قال: "لا تأكل، إنما سميت
~~على كلبك، ولم تسم على الآخر".
# قوله: "فأدركته حيا فاذبحه" من أفراد مسلم، وزاد ms1219 غيره بإسناده الصحيح:
~~"فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله".
# فهذا فيه الدلالة من وجوه عديدة:
# أحدها: قول عدي أولا: "إني أرسل كلابي المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم
~~الله"، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت
~~اسم الله عليه"، وقوله: "إنما سميت على كلبك" دليل على أن عديا فهم من قوله
~~تعالى: (وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما
~~أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) (3) أنه أمر من الله بذكر اسمه
~~PageV06P380
# على الصيد، لم يرد به مجرد ذكر اسمه عند الأكل، كما ظن ذلك بعض الناس.
# (ثم قال:) فيقال: حديث عدي بن حاتم سؤاله وجواب النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - يدل على التسمية عليه على الصيد حين الاصطياد، وإن كانت التسمية عند
~~الأكل مأمورا بها أيضا وجوبا أو استحبابا، على قولين معروفين لأصحابنا
~~وغيرهم. لكن التسمية حين الاصطياد مأمور بها في الآية قطعا، كما دلى عليه
~~حديث عدي، مع أن ظاهر القرآن يدل على ذلك أيضا، وهذه من أدلة القرآن، فإن
~~الضمير في قوله: (واذكروا اسم الله عليه) ضمير عائد على "ما" في قوله: (مما
~~أمسكن عليكم) ، أي: واذكروا اسم الله على ما أمسكن. وذكر اسم الله على ما
~~أمسكن هو ذكره على الصيد حين الاصطياد، كما يقال: ذكر اسم الله على الذبيحة
~~أي حين الذبح، وهو ذكر اسمه على الكلب حين الإرسال، كما في الحديث: "فإنك
~~إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره ". وأما إذا سمى على الكلب وأرسله،
~~فعند إرسال الكلب له يكون صاحبه بعيدا عنه، وقد لا يراه، فلا يؤمر حينئذ
~~بالتسمية. ولم يقل أحد من أهل العلم أن ذكر اسم الله على ما أمسكن هو مخصوص
~~بهذه الحال.
# وأيضا فإنه لم يتقدم اسم يصلح أن يعود الضمير إليه إلا "ما أمسكن "، وأما
~~الأكل فلم يتقدم اسمه، وإنما تقدم قوله: (فكلوا مما أمسكن) . وقد يعود
~~الضمير إلى الاسم الذي دل عليه الفعل، كما في قوله: (ولا يحسبن ms1220 الذين
~~يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم) (1) ، PageV06P381
# لكن ذاك يكون إذا لم يكن هناك ما يعود الضمير إليه إلا ما دل عليه الفعل
~~من الاسم لعدم اللبس، وأما إذا كان الاسم هو القريب إلى الضمير فهذا يترجح
~~عوده إليه دون الاسم الأبعد، فكيف إذا كان الأبعد فعلا؟
# وأيضا فالقرآن حيث أمر فيه بذكر اسم الله على ما ذكي فإنما هو حين
~~التذكية، كسائر الآيات، وإنما ذم من ترك ذكر اسمه عليها حينئذ، كما قال:
~~(وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها) (1) ، فالذي ذم به المشركين على تركه
~~أمر المؤمنين بفعله. وهذه الدلالة من حديث عدي هي دلالة القرآن، لكن حديث
~~عدي قررها وطابقها.
# الثاني: أنه قال في بعض طرقه: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه "،
~~فأمر بذلك، وأمره للوجوب.
# الثالث: أنه قال أيضا: "إذا رميت بقوسك فاذكر اسم الله ".
# الرابع: أنه قال: "إن أدركته ولم يقتل فاذبحه واذكر اسم الله ".
# الخامس: أنه قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك
~~عليك ". فشرط في الأكل أن يذكر اسم الله، كما اشترط أن يكون الكلب معلما،
~~وأن يمسك عليه. وهذه الشروط الثلاثة المذكورة في القرآن.
# السادس: أنه قال: قلت: يا رسول الله، أرسل كلبي وأسمي، PageV06P382
# فأجد معه على الصيد كلبا اخر لم أسم عليه، ولا أدري أيهما أخذ.
# قال: "لا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر".
# فنهاه عن أكل ما شك في تذكيته، وعلل ذلك بأنك إنما سميت على كلبك ولم تسم
~~على الآخر، فجعل المانع من حل صيد الكلب الآخر ترك التسمية، كما جعل فعل
~~التسمية علة لحل صيد كلبه. وهذا من أصرح الدلالات وأبينها في جعله وجود
~~التسمية شرطا في الحل، وعدم التسمية مانعا من الحل، ولم يفرق بين أن يتركها
~~ناسيا أو غير ناس، مع أن حال الاصطياد حال قد يدهش الإنسان ويذهل عن
~~التسمية فيها، وإذا لم يعذره في هذه الحال بترك التسمية فأن لا يعذره بذلك
~~في ms1221 حال الذبح وهو أحضر عقلا= أولى وأحرى.
# السابع: أنه كرر علية ذكر التسمية حين إرساله الكلب، وحين إرساله السهم،
~~وعند منعه من أكل ما خالط كلبه كلب لم يسم عليه، وعند ذبحه. وهذا كله يدل
~~على اعتناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتسمية على الذكاة بالذبح
~~والسهم والجارح، وأنه لا بد منها في الحل، وأن انتفاءها يوجب انتفاء الحل.
~~وهذا في غاية البيان من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي ليس عليه إلا
~~البلاغ المبين، وبدون هذا يحصل البيان الذي تقوم به الحجة على الناس.
# وأيضا حديث أبي ثعلبة الخشني (1) - وهو في الصحاح والسنن PageV06P383
# والمساند أيضا، وعلى حديثه وحديث عدي يدور باب الصيد، وعليهما اعتمد
~~الفقهاء كلهم- قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا بأرض
~~قوم من أهل الكتاب نأكل في آنيتهم، وأرض صيد، أصيد بقوسي، أصيد بكلبي
~~المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم، فأخبرني ما الذي يحل لنا من ذلك؟ فقال: "أما
~~ما ذكرت أنكم بأرض قوم من أهل الكتاب تأكلون في آنيتهم، فإن وجدتم غير
~~آنيتهم فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها. وأما ما ذكرت
~~أنكم بأرض صيد، فما أصبت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل، وما أصبت بكلبك
~~المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما أصبت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته
~~فكل ". وفي لفظ البخاري: "ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك
~~المعلم وذكرت اسم الله فكل ".
# فهذا أبو ثعلبة يسأله، يقول له: أخبرني ما الذي يحل من ذلك؟ فلم يحل له
~~إلا ما ذكر اسم الله عليه في الاصطياد بقوسه وفي الاصطياد بكلبه، ولم يستثن
~~حالة نسيان ولا غيرها، وهذا من أبين الدلالة على أنه لا يحل له إلا ذلك، إذ
~~لو كان يحل ما ترك التسمية عليه خطأ أو عمدا لم يكن ما ذكره جوابه، بل كان
~~الجواب إذن إحلال ذلك كله أو إحلال ما سمي عليه وما نسي التسمية عليه، كما
~~أن المستفتي لمن يحل ms1222 هذا من الفقهاء يجيبه بجواب يخالف جواب النبي - صلى
~~الله عليه وسلم - لأبي ثعلبة، وهذا دليل على خطأ ذلك الجواب.
# وبهذين الحديثين ونحوهما احتج من أوجب التسمية على الصيد دون الذبيحة في
~~حال الخطأ من أصحابنا، قال: لأن هذه النصوص
# PageV06P384
# صريحة في اشتراط ذلك، ولم يرد مثل ذلك في الذبيحة. وقالوا: لأن تذكية
~~الذبيحة تذكية اختيار، فلم تحتج إلى اقترانها بالتسمية كتذكية الصيد، فإنها
~~تذكية ضرورية وقعت رخصة، فلا بد أن تكمل بالتسمية، ولهذا لا يجوز تذكية
~~المقدور عليه من الصيد والأهلي إلا في الحلق واللبة. وبهذا فرق من اشترطها
~~في الكلب دون السهم، لأن التذكية بالسهم يحصل بفعل الادمي، بخلاف التذكية
~~بالجارح، فإنها تحصل بفعل الجارح، فكانت أضعف.
# لكن ما ذكروه يعارضه أنكم توجبونها على الذبيحة، ولكن عذرتم الناسي بعذر
~~النسيان، والصائد أولى بالعذر من الذابح، لما يحصل له من العذر والدهش الذي
~~يوجب له النسيان.
# (ثم قال:) وذكاة السهم والكلب ذكاة تامة يحصل بها الحل التام، كما أن
~~صلاة الخائف والمريض تبرأ بها ذمته، فإن الله إنما أوجب على الناس ما
~~يستطيعون، ولما كان المعجوز عنه من الحيوان لا يمكن تذكيته إلا على هذا
~~الوجه لم يوجب الله ما يعجزون عنه.
# ولهذا كانت ذكاة الجنين عندنا ذكاة أمه كما مضت به السنة، وإن لم يكن في
~~ذلك سفح دمه، إذ لا يمكن تذكيته إلا على هذا الوجه، ولا يكفف الله نفسا إلا
~~وسعها. ولهذا قلنا: إذا أدرك الصيد مجروحا ولم يتسع الزمان لتذكيته أبيح،
~~ونظائر ذلك.
# وأيضا ففي الصحاح والسنن والمساند عن رافع بن خديج (1) قال: PageV06P385
# كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة، فأصاب القوم
~~جوع، فأصابوا إبلا وغنما، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات
~~القوم، فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فند منها بعير، فطلبوه
~~فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجل منهم بسهم، فحبسه الله، فقال ms1223
~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما
~~غلبكم فاصنعوا به هكذا". قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقو العدو غدا وليست
~~معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه،
~~ليس السن والظفر. وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى
~~الحبشة".
# وهذا الحديث أيضا تلقا [ه] ، العلماء بالقبول، وقد علق الحل فيه بشرطين:
~~بإنهار الدم وذكر اسم الله على المذكى. فكما أن إنهار الدم شرط فكذلك ذكر
~~اسم الله عليه، وكما أن الذكاة بما لا ينهر الدم لا يباح بحال، بل قد يعفى
~~عما لا يمكن إنهار دمه، كالجنين في بطن أمه، فيكون ذكاته ذكاة أمه التي
~~أنهر دمها، وأما ما لم يذكر اسم الله عليه فلم يعف عنه.
# وأيضا فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه أنه قال للجن: "لكم كل عظم
~~ذكر اسم الله عليه، تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم" (1) ،
~~PageV06P386
# [و] ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تستنتجوا بهما، فإنهما زاد
~~إخوانكم من الجن " (1) . فماذا كان لم يبح للجن المؤمنين من الطعام الذي
~~يصلح للجن- وهو ما يكون على العظام- إلا الطعام الذي ذكر اسم الله عليه،
~~فكيف بالإنس الذين هم أكمل وأعقل، وهم الذين يتولون تذكية الحيوان، كيف
~~يباح لهم ما لم يذكر اسم الله عليه؟ وهذا كما أنه لما نهى عن الاستنجاء
~~بطعام الجن وعلف دوابهم، كان النهي عن الاستنجاء بطعام الإنس وعلف دوابهم
~~أولى وأحرى.
# وأيضا ففي صحيح البخاري (2) وغيره عن عائشة أن ناسا قالوا: يا رسول الله،
~~إن قوما يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: "سموا
~~عليه اسم الله وكلوا". قال: وكانوا حديثي عهد بكفر.
# وهذا يدل على أنه كان قد استقر عند المسلمين أنه لا بد من ذكر اسم الله
~~على الذبح، كما بين الله ذلك لهم هو ورسوله في غير موضع، فلما كان هؤلاء
~~حديثي عهد بالكفر خافوا أن لا ms1224 يكونوا سموا، فاستفتوا عن ذلك رسول الله -
~~صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يسموا هم ويأكلوا. وذلك لأن من أباح الله
~~ذبيحته من مسلم وكتابي لا يشترط في حل ذبيحته أن أعلم أنه بعينه قد سمى، إذ
~~العلم بهذ الشرط متعذر في غالب الأمر، ولو كان هذا العلم شرطا لما أكل
~~اللحم غالب الناس، فأجريت أعمال الناس على الصحة، كما أن من اشتريت منه
~~الطعام حملت أمره على الصحة، وأنه إنما باع ما له بيعه بملك أو ولاية أو
~~وكاله، مع أن كثيرا من الناس PageV06P387
# يبيعون ما لا يجوز لهم بيعه.
# (ثم قال:) ولو لم تكن التسمية شرطا لكان النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~يقول لهم: سواء سموا أو لم يسموا فإنهم مسلمون، أو يقال: لعل أحدهم نسي
~~التسمية. فلما أعرض عن هذا كله علم أن أحدا لا يعذر بترك التسمية، وإنما
~~يعذر من لم يعلم حال المذكي، والفرق بينهما ظاهر جدا، كما أن المذكي عليه
~~أن لا يذكي إلا في الحلق واللبة، ومن لم يعلم حاله له أن يأكل ما ذكي حملا
~~لفعله على الصحة والسلامة.
# ثم إن وجوب تذكية المقدور عليه في الحلق واللبة مما يقول به عامة
~~العلماء، وليس في إيجاب ذلك نص مشهور صريح، بل فيه آثار عن بعض الصحابة،
~~وفيه من الحديث ما ليس بمشهور. ثم إن ذلك جعل شرطا على كل قادر، لا يسقط
~~إلا بالعجز، فالتسمية التي دل على وجوبها النصوص الصحيحة الصريحة أولى
~~بالإيجاب والاشتراط، فإن التذكية في غير الحلق واللبة يحصل بها إنهار الدم،
~~لكن هو عدول عن أحسن القتلتين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن
~~الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم
~~فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " (1) . فإذا كان بترك
~~أولى الذبحتين تحرم الذبيحة، فترك ذكر اسم الله أولى بذلك، لأن هذا هو
~~الفرق بين ذكاة أهل الإيمان وأهل الكفر، أن هؤلاء يذكرون اسم الله على
~~الذكاة، وأولئك لا يذكرون اسم ms1225 الله. PageV06P388
# و
### | أدلة إيجاب التسمية على الذكاة أظهر بكثير من أدلة وجوب قراءة التسمية في الصلاة،
# بل من إيجاب قراءة فاتحة الكتاب.
# (ثم أشار إلى حجة من لم يوجب التسمية على الذكاة، وضعفها الشيخ تقي
~~الدين، وأجاب عنها بأجوبة، ثم قال:)
# التاسع: أن ما لم يذكر اسم الله عليه كان للشيطان فيه نصيب، وذكر اسم
~~الله يدفع الشيطان، كما في الصحيحين (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن
~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن أحدهم إذا أتى إلى أهله قال:
~~"بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا"، فرزق ولدا، لم
~~يضره الشيطان ولم يسلط عليه ".
# (واستشهد بغير ذلك حذفته اختصارا، لضيق الوقت) ، والله سبحانه أعلم.
~~PageV06P389
### | مسألة
# في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم
# PageV06P391
# مسألة
# في أكل لحم الضبع والثعلب وسنور البر وابن آوى وجلودهم، هل يحل لبس جلود
~~الجميع وأكل لحم الجميع أم البعض؟ وهل تطهر جلودهم بالدباغ؟
# الجواب
# أما لحم الضبع فإنه مباح عند مالك والشافعي وأحمد، وجلده يطهر بالدباغ في
~~مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك في رواية وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو
~~أصح قولي العلماء. هذا إذا دبغ بعد موته، وأما إن ذكي ودبغ كان طاهرا في
~~مذهب الأئمة.
# وأما سنور البر والثعلب ففي حلهما قولان هما روايتان عن أحمد، أحدهما:
~~يحل، فيكون جلده طاهرا إذا ذكي، وهذا مذهب مالك والشافعي، وعلى هذا القول
~~فإذا مات ودبغ كان طاهرا في مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك.
# والقول الثاني: إنهما محرمان، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى
~~الروايتين عنه. وعلى هذا فإذا ذكي كان جلده طاهرا عند أبي حنيفة دون أحمد،
~~وجلده يطهر بالدباغ إذا مات عند أبي حنيفة ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه
~~أنه لا يطهر.
# وأما ابن آوى فإنه حرام عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد، وجلده يطهر
~~بالدباغ عند أبي حنيفة والشافعي ووجه في مذهب أحمد، وظاهر مذهبه أنه لا
~~يطهر بالدباغ.
# PageV06P393
# وأما القول الذي يقوم ms1226 عليه الدليل فإنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - في السنن (1) من وجوه أنه نهى عن جلود السباع كما ثبت أنه حرم
~~لحمها، فما ثبت أنه من السباع- كالنمر وابن آوى وابن عرس - فلا يحل لحمه
~~ولا تلبس الفراء من جلده، وما لم يكن من السباع المحرمة- كالضبع- فإنه يؤكل
~~لحمه ويلبس جلده. وأما الثعلب وسنور البر ففيه نزاع. والله أعلم.
~~PageV06P394
### | مسألة
# في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد؟
# PageV06P395
# مسألة
# في الشاة المذبوحة ونحوها، هل يجوز بيعها دون الجلد أو الجلد وحده؟
# جواب
# الشيخ تقي الدين ابن تيمية ورأيه فيه
### | نعم، يجوز بيعها
# جميعا، كما يجوز بيع ذلك قبل الذبح. وإلى هذا ذهب جماعة علماء المسلمين
~~من المتقدمين والمتأخرين، وما زال المسلمون يبيعون المذبوح من الطيور
~~والبهائم في كل عصر ومصر.
# وإنما حرم ذلك بعض متأخري الفقهاء، ظانا أن هذا من باب بيع الغائب بدون
~~صفة ولا رؤية، وليس كذلك، بل المشتري يعلم ما يشتريه برؤية ما يراه كما
~~يعلم نظائره، وكما يعلم إذا رأى الجلد منفردا وإذا رأى اللحم منفردا، كما
~~يعلمه إذا رآه حيا.
# (ثم قال:) ومن فرق بين الحيوان الحي والمذبوح بأن الحي في صوانه بخلاف
~~الميت، كما يفرق في الباقلا ونحوه بين بيعه في القشر الأعلى والصوان. لكن
~~هذا الفرق ضعيف مخالف للسنة ولإجماع السلف والاعتبار.
# (ثم قال:) ولما فتح المسلمون الأمصار كان أصحاب رسول الله - صلى الله
~~عليه وسلم - يشرون الباقلا الأخضر ونحو ذلك، ولم ينكر ذلك منكر. وكذلك يجوز
~~بيع اللحم وحده والجلد وحده. وأبلغ من ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
~~لما سافر هو وأبو بكر في سفر الهجرة اشتريا من رجل شاة، واشترطا له
# PageV06P397
# رأسها وجلدها وسواقطها (1) . وكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم
~~- كانوا يتبايعون الشاة أو البقرة أو البعير ويستثنون للبائع سواقطها، حكاه
~~الشعبي عن الصحابة مطلقا، وأفتى به زيد بن ثابت وغيره من الصحابة، وجوزه
~~مالك وأحمد وغيرهما. فإذا كان الصحابة جوزوا هذا ms1227 فهذا أجوز. والله أعلم.
~~PageV06P398
### | مسألة
# في إجارة الإقطاع
# PageV06P399
# سئل- رحمه الله تعالى ورضي عنه-
# عن إجارة الإقطاع هل هي صحيحة أم باطلة؟ وقد ذكر في مذهب الشافعي قولان،
~~وفيهم من حكم به.
# فأجاب
# الحمد لله.
### | إيجار الإقطاع صحيح،
# كما نص على ذلك غير واحد من العلماء، وما علمت أحدا من علماء المسلمين
~~قال: إنه لا يصح، لا من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ومن أفتى بأنه لا
~~يصح من أهل زماننا فليس معهم بذلك نقل، لا عن أحد من الأئمة الأربعة ولا
~~غيرهم من المسلمين، وإنما عمدتهم في ذلك أن بعض شيوخهم كان يفتي بأنه لا
~~يصح. وحجتهم أن المقطع لم يملك المنفعة، فبقي المستأجر لم يملك المنفعة،
~~فتكون الإجارة مزلزلة، فلا تجوز، كما لو آجر المستعير العين المعارة.
# والكلام في مقامين: أحدهما أنه
### | ليس لأحد أن يحدث مقالة في الإسلام في مثل هذا الأمر
# العام الذي ما زال المسلمون عليه خلفا عن سلف، بل إذا عرضت له شبهة في
~~ذلك كانت من جنس شبهة أهل الضلال القادحين في الشرع، وكثير منها أقوى من
~~هذه الشبهة.
# والجواب عنها من وجهين:
# أحدهما: أن العين المعارة في إجارتها نزاع، وإذا أذن المالك في إجارتها
~~جاز، والسلطان المقطع قد أذن لهم أن ينتفعوا بالقطع بالاستغلال والإجارة
~~والمزارعة.
# PageV06P401
# الثاني: أن هذه المنافع ليست كالعارية، فإن السلطان لا يملك هذه المنافع،
~~بل هي حق للمسلمين وملك لهم، وإنما السلطان قاسم يقسم بينهم تلك المنافع،
~~فيستحقونها بحكم الملك لها والاستحقاق لا بحكم الإباحة، كما يستوفي أهل
~~الوقف منفعة وقفهم. والموقوف عليه إذا آجر الموقف جاز، وإن كانت الإجارة
~~تنفسخ بموت الموقوف عليه عند جمهور العلماء، فإن البطن الثاني يتلقى الوقف
~~عن الواقف لا عن البطن الأول، بخلاف الميراث. فلهذا كان جمهور العلماء على
~~أن الإجارة لا تنفسخ بموت الميت الذي تنتقل العين إلى وارثه، وهو مذهب مالك
~~والشافعي وأحمد، وأما أبو حنيفة فيقول بانفساخها، لأن من أصله أن المستأجر
~~لم يملك المنفعة، وإنما ملك أن يملكها ms1228 بالاستيفاء، فيقول: إن المنفعة لم
~~تخرج عن ملك الميت، بل تحدث على ملك الوارث، ومع هذا فهو يقول: لو باع
~~العين المؤجرة لم يجز، لأن المنفعة للمستأجر، لأن المؤجر لا يملك فسخ
~~الإجارة. وأما جمهور العلماء فعندهم لا تنفسخ بالموت، سواء قيل: إن
~~المستأجر ملك المنفعة أو ملك أن يملكها، وأن الوارث لم ينتقل إليه منفعة
~~العين المؤجرة.
# وأما إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه فهنا تنفسخ في أظهر قولي العلماء،
~~وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، لأن البطن الأول ليس له
~~ولاية التصرف في حق البطن الثاني إلا أن يكون المؤجر ناظرا له الولاية على
~~البطنين. فكذلك الإقطاع، إذا قدر أن المقطع مات أو أخذ منه الإقطاع كان
~~كالموقوف عليه تنفسخ الإجارة عند الجمهور، ويبقى زرع المستأجر محترما،
~~يبقيه بأجرة المثل إلى
# PageV06P402
# كمال بلوغه، كما يقال مثل ذلك في الوقف، وليست إجارة المقطع الأول لازمة
~~للثاني كالبطن الأول مع الثاني.
# وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب أن الإجارة لا تصح إلا في منفعة تمنع
~~انفساخ الإجارة فيها، بل يجوز إجارة الظئر للرضاع بالكتاب والسنة والإجماع،
~~مع جواز أن تموت المرأة فتنفسخ الإجارة بالإجماع، وكذلك إذا مات الطفل
~~انفسخت عند الأكثرين، وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد، وقد قيل: لا تنفسخ، بل
~~يؤتى بطفل اخر مكانه. والأول أصح، لأن الإجارة على عينه، ولو تلفت العين
~~المؤجرة كالعبد والبعير انفسخت الإجارة بالإجماع. وأمثال ذلك كثيرة.
# ف
### | الإجارة جائزة بالنص والإجماع في مواضع متعددة،
# مع إمكان انفساخ الإجارة في أثناء المدة، فمن اشترط فيها امتناع الانفساخ
~~فقد خالف النص والإجماع. وليس مع من يقول: لا تصح إجارة الإقطاع نقل عن أحد
~~من العلماء الذين يفتي الناس بأقوالهم، لا من أتباع الأئمة الأربعة ولا
~~غيرهم، فكيف يسوغ لأحد أن يقول قولا لم يستق إليه؟ سواء كان مجتهدا أو
~~مقلدا. وغاية حجته قياس ذلك بالعارية لكونها بعرض الانفساخ، والحكم في
~~العارية بتقدير تسليمه ليست علته كونه بعرض الانفساخ، ولكن العلة فيه أن
~~المستعير ms1229 لا يملك المنفعة إلا بالقبض والاستيفاء، ليس له أن يعاوض عليها،
~~كما لا يعاوض على ما لم يملكه، لأن التبرعات لا تملك إلا بالقبض عند من قال
~~ذلك. ولهذا يجوز إجارة المستأجر وإن جاز أن تنفسخ الإجارة، والمقطع
# PageV06P403
# بالمستأجر والموقوف عليه أشبه منه بالمستعير، لأنه يأخذ حقه وعوض عمله.
# فإن قلت: كيف يدعى الإجماع وفي أصل الإجارة نزاع؟
# قلت: النزاع المحكي فيها عن بعض السلف في إجارة الأرض، وأما إجارة الظئر
~~والحيوان للركوب ونحو ذلك فلم يخالف في ذلك أحد من سلف المسلمين، فإن خالف
~~في ذلك أحد من الملاحدة فهو مسبوق بالإجماع المستند إلى النص. والله أعلم.
# PageV06P404
### | مسألة
# في ضمان البساتين والأرض
# PageV06P405
# مسألة
# في ضمان البساتين والأرض التي فيها الشجر أو النخيل قبل أن يبدو صلاحه،
~~هل يجوز ضمانه السنة والسنتين أم لا؟
# جواب الشيخ تقي الدين ابن تيمية
# هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة أقوال:
# أحدها: أن ذلك لا يجوز بحال، بناء على أن هذا داخل فيما نهى عنه النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - من بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه (1) ، فاعتقد من قال
~~ذلك أن هذا بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، فلا يجوز، كما لا يجوز في غير
~~الضمان، مثل أن يشتري ثمرة مجردة بعد ظهورها وقبل بدو صلاحها، بحيث يكون
~~على البائع مؤونة سقيها وخدمتها إلى كمال الصلاح. وهذا هو القول المعروف في
~~مذهب الشافعي وأحمد، وهو منقول عن نصه. ومذهب أبي حنيفة في ذلك أشد منعا.
# وتنازع أصحاب هذا القول: هل يجوز الاحتيال على ذلك بأن يؤجر الأرض ويساقي
~~على الشجر بجزء يسير؟ على قولين، فالمنصوص عن أحمد أنه لا يجوز، وذكر
~~القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال الحيل" أنه يجوز، وهو المعروف عند أصحاب
~~الشافعي.
# (وتكلم الشيخ تقي الدين على فسادها من وجوه، ثم قال:) فمن PageV06P407
# فعل ذلك وجب على ولاة الأمر الحجر عليه، فضلا عن إمضاء فعله والحكم
~~بصحته.
# (ثم قال:) والأدلة على فساد مثل هذه المعاملة كثيرة.
# (ثم قال بعد استدلال وتنفير ms1230 عن هذا الفعل وتقبيحه:)
# القول الثاني في أصل المسألة: إنه إن كان منفعة الأرض هي المقصود، والشجر
~~تبع، جاز أن يؤجر الأرض، ويدخل في ذلك الشجر تبعا. وهذا مذهب مالك، وهو
~~يقدر التابع بقدر الثلث.
# وصاحب هذا القول يجوز من بيع الثمر قبل بدو الصلاح ما يدخل ضمنا وتبعا،
~~كما جاز إذا ابتاع نخلة بعد أن تؤبر أن يشترط المبتاع ثمرتها، كما ثبت ذلك
~~في الصحيحين (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمبتاع هنا قد اشترى
~~الثمر قبل بدو صلاحه لكن تبعا للأصل، وهذا جائز باتفاق العلماء، فيقيس ما
~~كان تبعا في الإجارة على ما كان تبعا في البيع.
# والقول الثالث: إنه
### | يجوز ضمان الأرض والشجر جميعا، وإن كان الشجر أكثر.
# وهذا قول ابن عقيل، وهو المأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله
~~عنه، فإنه قبل حديقة أسيد بن حضير ثلاث سنين، وأخذ القبالة فوفى بها دينه.
~~روى ذلك حرب الكرماني صاحب الإمام أحمد في "مسائله " المشهورة عن أحمد،
~~ورواه أبو زرعة الدمشقي وغيرهما، وهو معروف عن عمر. والحدائق التي بالمدينة
~~يغلب عليها الشجر. PageV06P408
# قال حرب الكرماني: ثنا سعيد بن منصور، ثنا عباد بن عباد، عن هشام بن
~~عروة، عن أبيه أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دين، فدعا عمر بن
~~الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه سنين، وفيها الشجر والنخل.
# وقد ذكر هذا الأثر عن عمر بعض المصنفين من فقهاء ظاهرية المغرب، وزعم أنه
~~خلاف الأجماع. وليس بشيء، بل ادعاء الإجماع على جواز ذلك أقرب، فإن عمر فعل
~~ذلك بالمدينة النبوية بمشهد من المهاجرين والأنصار، وهذه القضية في مظنة
~~الاشتهار، ولم ينقل عن أحد أنه أنكرها، وقد كانوا ينكرون ما هو دونها وإن
~~فعله عمر، كما أنكر عليه عمران بن حصين وغيره ما فعله في متعة الحج. وإنما
~~هذه القضية بمنزلة توريث عثمان بن عفان لامرأة عبد الرحمن بن عوف التي بتها
~~في مرض موته، وأمثال هذه القضية.
# والذي فعله عمر بن الخطاب هو الصواب، أو ms1231، إذا تدبر الفقيه أصول الشريعة،
~~تبين له أن مثل هذا الضمان ليس داخلا فيما نهى عنه النبي - صلى الله عليه
~~وسلم -، وهذا يظهر بأمور:
# أحدها أن يقال: معلوم أن الأرض يمكن فيها الإجارة، ويمكن فيها بيع حبها
~~قبل أن يشتد، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بيع الحب حتى
~~يشتد (1) لم يكن ذلك نهيا عن إجارة الأرض، فإن كان مقصود PageV06P409
# المستأجر هو الحب فإن المستأجر هو الذي يعمل في الأرض حتى يحصل له الحب،
~~بخلاف المشتري، فإنه يشتري حبا مجردا، وعلى البائع تمام خدمته حتى يستحصد.
# وكذلك نهيه عن بيع العنب حتى يسود (1) ، ليس نهيا عن أن يأخذ الشجر،
~~فيقوم عليها ويسقيها حتى تثمر، وإنما النهي لمن اشترى عنبا مجردا، وعلى
~~البائع خدمته حتى يكتمل صلاحه، كما يفعله المشترون للأعناب التي تسمى
~~الكروم. ولهذا كان هؤلاء لا يبيعونها حتى يبدو صلاحها، بخلاف التضمين.
# الوجه الثاني: أن المزارعة على الأرض كالمساقاة على الشجر، وكلاهما جائز
~~عند فقهاء الحديث، كأحمد وغيره مثل ابن خزيمة وابن المنذر، وهي أيضا عند
~~ابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد وعند الليث ابن سعد وغيرهم من الأئمة جائز،
~~كما دل على جواز المزارعة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع
~~الصحابة من بعده.
# والذين نهوا عنها ظنوا أنها من باب الإجارة، فتكون إجارة بعوض مجهول،
~~وذلك لا يجوز. وأبو حنيفة طرد قياسه، فلم يجوزها بحال.
# وأما الشافعي فاستثنى ما تدعو إليه الحاجة، كالبياض إذا دخل تبعا للشجر
~~في المساقاة. وكذلك مالك، لكن راعى القلة والكثرة على أصله.
# وهؤلاء جعلوا المضاربة أيضا خارجة عن القياس، ظنا أنها من PageV06P410
# باب الإجارة بعوض مجهول، وأنها جوزت للحاجة لأن صاحب النقد لا يمكن
~~إجارته.
# والتحقيق أن هذه المعاملات هي من باب المشاركات لا من باب المؤاجرات،
~~فالمضاربة والمساقاة والمزارعة مشاركة، هذا يشارك بنفع بدنه، وهذا بنفع
~~ماله، وما قسم الله من ربح كان بينهما كشريكي العنان. ولهذا ليس العمل فيها
~~مقصودا ولا معلوما كما يقصد ويعلم ms1232 في الإجارة، ولو كانت إجارة لوجب أن يكون
~~العمل فيها معلوما.
# لكن إذا قيل: هي جعالة كان أشبه، فإن الجعالة لا يكون العمل فيها معلوما،
~~وكذلك في كل عقد جائز غير لازم، لكن هي جعالة شرط فيها للعامل جزءا مما
~~يحصل بعمله. كما إذا قال الأمير في الغزو: من دل على مال للعدو فله الربع
~~بعد الخمس، أو الثلث بعد الخمس، فإن هذا جائز.
# (ومثل بغير هذا في جوابه، ثم قال:) والذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه
~~وسلم - من بيع الثمرة ليس للمشتري في حصوله عمل أصلا، بل العمل كفه على
~~البائع، فإذا استأجر الأرض والشجر حتى حصل له ثمر وزرع كان كما إذا استأجر
~~الأرض حتى يحصل له الزرع.
# الوجه الثالث: أن الثمرة تجري مجرى المنافع والفوائد في الوقف والعارية
~~ونحوهما، فيجوز أن يقف الشجر لينتفع أهل الوقف بممرها، كما يقف الأرض
~~لينتفع أهل الوقف بغلتها.
# (ثم تكلم كلاما طويلا في المعنى وضرب أمثلة، ثم قال:)
# PageV06P411
# فإن قيل: ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعا لأجل الحاجة، وسلك مسلك
~~مالك، لكن مالك اعتبر القلة في الشجر، وابن عقيل عمم، فإن الحاجة داعية إلى
~~إجارة الأرض التي فيها شجر، وإفراده عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه
~~من الضرر، فجوز دخولها في الإجارة، كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر
~~تبعا في باب المساقاة. ومن حجة ابن عقيل أن غاية ما في ذلك جواز بيع ثمر
~~قبل بدو صلاحه تبعا لغيره لأجل الحاجة، وهذا يجوز بالنص والإجماع فيما إذا
~~باع شجرا وعليها ثمر باد، كالنخل المؤبر إذا اشترط المبتاع، فإنه اشترى
~~شجرا وثمرا قبل بدو صلاحه. وما ذكرتموه يقتضي أن جواز هذا هو القياس، وأنه
~~جائز بدون الحاجة حتى مع الانفراد.
# قيل: هذا زيادة توكيد، فإن هذه المسألة لها مأخذان:
# أحدهما: أن يسلم أن الأصل يقتضي المنع، لكن يجوز ذلك لأجل الحاجة، كما في
~~نظائره.
# والثاني: أن يمنع هذا، ويقال: لا نسلم أن الأصل يقتضي المنع، بل نهى
~~النبي ms1233 في عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، فإنه إنما نهى عن بيع لا عن إجارة،
~~فنهيه لا يتناول مثل هذه الصورة وأمثالها من أنواع إلاجارة، لا لفظا ولا
~~معنى.
# أما اللفظ فإن هذا لم يبع ثمرة قبل بدو صلاحها، ولو كان قد باع ثمرة لكان
~~عليه مؤونة التوفية، كما لو باعها بعد بدو صلاحها، فإن مؤونة التوفية عليه،
~~وهنا المستأجر للبستان كالمستأجر للأرض سواء
# PageV06P412
# بسواء إنما يتسلم الأصول، وهو الذي يقوم عليها حتى يشتد الزرع ويبدو صلاح
~~الثمر، كما يقوم على ذلك العامل في المساقاة والمزارعة، فإن جاز أن يقال:
~~إن هذا مشتر للثمر فلنقل: إن المستأجر مشتر للزرع، وإن العامل في المساقاة
~~والمزارعة والمضاربة مشتر لما يحصل من النماء. فإذا كان هذا لا يدخل في
~~مسمى البيع امتنع شمول العموم له لفظا.
# ويمتنع إلحاقه بذلك من جهة القياس وشمول العموم المعنوي له، لأن الفرق
~~بينهما في غاية الظهور، فإن إلحاق هذه الإجارة بإجارة الأرض لاشتراكهما في
~~المساقاة والمزارعة وفي العارية والوقف وغير ذلك مما يجعل حكم أحدهما حكم
~~الآخر= أولى من إلحاقها بالبيع كما تقدم. فكل من نظر في هذا نظرا صحيحا
~~سليما تبين له أن هذا من باب الإجارات والقبالات التي تسمى الضمانات، كما
~~تسميه العامة ضمانا، وكما سماه السلف قبالة، وليس هو من باب المبايعات،
~~وأحكام البيع منتفية في مثل هذا، مثل كون مؤونة التوفية على البائع، ومثل
~~أنه لو باع الحب بعد اشتداده وفرط في سقي الحنطة حتى لم يكمل صلاحها، كان
~~ذلك من ضمانه ولم يستحق الثمن. ولو قصر المستأجر للأرض في السقي وغيره حتى
~~لم ينبت الزرع كان ذلك من ضمانه، لا من ضمان المؤجر. وكذلك بائع الثمرة إذا
~~لم يقم بما يجب عليه من خدمتها حتى لم يكمل صلاحها كان النقص من ضمانه.
# ومستأجر الشجر إذا قصر في خدمتها حتى لم تثمر، أو أثمرت ثمرا ناقصا، كان
~~ذلك من ضمانه.
# PageV06P413
# وكل
### | ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع المعدومات-
# مثل ms1234 نهيه عن بيع الملاقيح والمضامين وحبل الحبلة (1) ، وهو بيع ما في
~~أصلاب الفحول أو أرحام الإناث ونتاج النتاج، ونهيه عن بيع المعاومة وهو بيع
~~السنين (2) ، وأمثال ذلك- إنما هو أن يشتري المشتري تلك الأعيان التي لم
~~تخلق بعد، وأصولها يقوم عليها البائع، فهو الذي يستنتجها ويستثمرها، ويسلم
~~إلى المشتري ما يحصل من النتاج والثمرة. وهذا هو الذي كان أهل الجاهلية
~~يفعلونه. وهذا على تفسير الجمهور في حبل الحبلة أنه بيع نتاج النتاج، ومن
~~فسره بتفسير الشافعي أنه البيع إلى نتاج النتاج فإنه يكون إبطاله لجهالة
~~الأجل.
# وهذه البيوع التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي من باب
~~القمار الذي هو ميسر، وذلك أكل مال بالباطل، وأصحاب هذه الأصول يمكنهم
~~تأخير البيع إلى أن يخلق الله ما يخلقه من هذه الثمار والأولاد، وإنما
~~يفعلون هذا مخاطرة مباختة كفعل المقامرين من أهل الميسر.
# وأما مسألة النزاع فهي من باب الإجارات، فضمان البساتين لمن يقوم عليها
~~كضمان الأرض لمن يقوم عليها فيزدرعها، واحتكار الأرض لمن يبني فيها ويغرس
~~فيها ونحو ذلك.
# وأيضا فإن المسلمين اتفقوا على ما فعله أمير المؤمنين عمر بن PageV06P414
# الخطاب رضي الله عنه، من ضرب الخراج على السواد وغيره من الأرض التي فتحت
~~عنوة، سواء قيل. إنه يجب في الأرض التي فتحت عنوة أن تجعل فيئا- كما قاله
~~مالك وهو رواية عن أحمد-؛ أو قيل: إنه يجب قسمتها بين الغانمين- كما قال
~~الشافعي، وهو رواية عن أحمد-؛ أو قيل: يخير الإمام فيها بين هذا وهذا- كما
~~هو مذهب أبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وغيرهم، وهو ظاهر مذهب أحمد-. فإن
~~الشافعي يقول: إن عمر استطاب أنفس الغانمين، حتى جعلها فيئا وضرب الخراج
~~عليها.
# فاتفق المسلمون في الجملة على أن وضع الخراج على أرض العنوة جائز إذا لم
~~يكن فيه ظلم للغانمين. ثم الخراج عند أكثرهم أجرة الأرض، وإنه لم يقدر مدة
~~الإجارة لعموم مصلحتها، والخراج ضربه على الأرض التي فيها شجر والأرض
~~البيضاء، وضرب على جريب النخل مقدارا وعلى ms1235 جريب الكرم مقدارا، وهذا بعينه
~~إجارة للأرض مع الشجر، فإن كان جواز ذلك على وفى القياس فهو المطلوب، وإن
~~كان جواز ذلك للحاجة فالحاجة داعية إلى ذلك، فإن الناس لهم بساتين فيها
~~مساكن، ولها أجور وافرة، فإن دفعوها إلى من يعملها مساقاة ومزارعة تعطلت
~~منفعة المساكن عليهم، كما في أرض دمشق ونحوها.
# ثم قد يكون وقفا أو ليتيم ونحو ذلك، فكيف يجوز تعطيل منفعة المساكن
~~المبنية في الحدائق، وقد تكون منفعة المسكن هي أكثر المنفعة، ومنفعة الزرع
~~والشجر تابعة، فيحتاجون إلى إجارة تلك المساكن، ولا يمكن أن تؤجر دون منفعة
~~الأرض والشجر، فإن العامل إذا كان غير الساكن تضرر هذا وهذا تضررا، الساكن
~~يبقى ممنوعا من
# PageV06P415
# الانتفاع بالثمر والزرع هو وعياله مع كونها عندهم، ويتضررون بدخول العامل
~~عليهم في دارهم. والعامل أيضا لا يبقى مطمئنا إلى سلامة ثمره وزرعه، بل
~~يخاف عليها في مغيبه، وما كل ساكن أمينا، ولو كان أمينا لم يؤمن الضيفان
~~والصبيان والنسوان، وهذا كله معلوم.
# فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة (1) - وهي بيع
~~الرطب بالتمر- لما في ذلك من بيع الربا بجنسه مجازفة، وباب الربا أشر من
~~باب الميسر، ثم إنه أرخص في العرايا أن تباع بخرصها لأجل الحاجة، وأمر رجلا
~~أن يبيع شجرة له في ملك الغير- لتضرره بدخوله عليه- أو يهبها له، فلما لم
~~يفعل أمر بقلعها (2) ، فأوجب عليه المعاوضة لرفع الضرر عن مالك العقار، كما
~~أوجب للشريك أن يأخذ الشقص بثمنه رفعا لضرر المشاركة والمقاسمة- فكيف إذا
~~كان الضرر ما ذكر؟
# ومعلوم أن
### | الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها،
# وأنها تقدر خير الخيرين بتفويت أدناهما، وتدفع شر الشرين باحتمال
~~أدناهما، والفساد في ذلك أعظم مما يظن من حصول ضرر ما لأحد المتعاوضين، فإن
~~هذا ضرر كبير محقق. وذاك إن حصل فيه ضرر فهو يسير قليل مشكوك فيه.
# وأيضا فالمساقاة والمزارعة يعتمد فيها أمانة العامل، وقد يتعذر ذلك كثيرا
~~فيحتاج الناس إلى المؤاجرة التي فيها مال مضمون في ms1236 PageV06P416
# الذمة.
# (ثم قال:) فهذا وجه من وجوه جواز المؤاجرة.
# (ثم قال:) وقد اتفق العلماء على أن المنفعة في الإجارة إذا تلفت قبل
~~التمكن من استيفائها، فإنه لا يجب أجرة ذلك، مثل أن يستأجر حيوانا فيموت
~~قبل التمكن من الانتفاع به. وكذلك المبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه، مثل
~~أن يشتري قفيزا من صبرة، فتتلف الصبرة قبل القبض والتمييز، فإن ذلك من ضمان
~~البائع بلا نزاع.
# ولكن تنازعوا في تلفه بعد التمكن من القبض وقبل القبض، كمن اشترى معيبا
~~وتمكن من قبضه، وفيه قولان مشهوران: أحدهما أنه لا يضمنه، كقول مالك وأحمد
~~في المشهور عنه، لقول ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا
~~فهو من مال المشتري.
# والثاني: يضمنه، كقول أبي حنيفة والشافعي، لكن أبو حنيفة يستثني العقار،
~~ومع هذا فمذهبه أن التخلية قبض، كقول أحمد في إحدى الروايتين، فيتقارب
~~مذهبه ومذهب مالك وأحمد في المعين ونحوه.
# وكذلك تنازعوا في الثمر إذا اشتري بعد بدو صلاحه، فتلف قبل كمال صلاحه،
~~فمذهب مالك وأحمد أنه يتلف من ضمان البائع، لما ثبت في الصحيح (1) عن النبي
~~- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا
~~يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا، لم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ ".
~~ومذهب الشافعي المشهور عنه: يكون PageV06P417
# في ضمان المشتري، لأنه تلف بعد القبض. وأما أبو حنيفة فمذهبه أن التبقية
~~ليست من مقتضى العقد، ولا يجوز اشتراطها. والأولون يقولون: قبض هذا بمنزلة
~~قبض المنفعة في الإجارة، وذلك ليس بقبض تام ينقل الضمان، لأن القابض لم
~~يتمكن من استيفاء المعقود عليه. وهذا طرد أصلهم في أن المعتبر هو القدرة
~~على الاستيفاء المقصود بالعقد، ولهذا يقولون: لو أن المشتري فرط في قبض
~~الثمرة بعد كمال صلاحها حتى تلفت كانت من ضمانه، كما لو فرط في قبض المعين
~~حتى تلف، وهذا ظاهر في المناسبة والتأثير، فإن البائع إذا لم يكن منه تفريط
~~فما يجب عليه.
# (ثم قال:) ولهذا اتفقوا ms1237 على مثل ذلك في الإجارة، فإن المستأجر لو فرط في
~~استيفاء المنافع حتى تلفت كانت من ضمانه، ولو تلفت من غير تفريط كانت من
~~ضمان المؤجر، وفي الإجارة إذا لم يتمكن المستأجر من ازدراع الأرض لافة حصلت
~~لم يكن عليه الأجرة، وإن نبت الزرع ثم حصلت آفة سماوية أتلفته قبل التمكن
~~من حصاده ففيه نزاع.
# (ثم قال:) و
### | أصل مسألة ضمان البساتين هو الفرق بين البيع والإجارة،
# فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمرة قبل أن يبدو صلاحها،
~~ونهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد، ولم ينه عن الإجارة
~~ولا عن المساقاة والمزارعة. فالمساقاة والمزارعة نوع من المشاركة، وهي
~~جائزة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وباتفاق أصحابه وبالقياس،
~~ويجوز ذلك على جميع الشجر، ويجوز على الأرض البيضاء والأرض
# PageV06P418
# التي فيها شجر، ويجوز سواء كان البذر من رب الأرض أو من العامل أو منهما،
~~بل إذا كان البذر من العامل فهو أولى بالجواز، وهذا الذي عامل عليه النبي -
~~صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر، عاملهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على
~~أن يعملوها من أموالهم. رواه البخاري في صحيحه (1) .
# وكذلك الصحابة جوزوها على هذا الوجه.
# ومن قال من الفقهاء أن يكون البذر فيها من رب الأرض قاسها على المضاربة،
~~إذ كان المال فيها من واحد والعمل من آخر. وهو قياس فاسد من وجهين:
# أحدهما: أن المال في المضاربة يعود إلى المالك، ويقتسمان الربح، والبذر
~~هنا لا يعود إلى العامل، فلو كان يجري مجرى المال لوجب أن يعود نظيره إلى
~~صاحبه، فعلم أنهم جعلوه من باب الأعيان التي تجري مجرى المنافع، كالماء
~~الذي تسقى به الأرض والعلف الذي تعلف به البقر.
# الوجه الثاني: أنه في المضاربة لو كان من هذا مال والعمل، ومن هذا مال
~~والعمل من أحدهما لجاز ذلك في أصح قولي العلماء. فيجوز ببدنين ومال، ومال
~~وبدنين، فكذلك يجوز نظيره في المساقاة والمزارعة. وكذلك المؤاجرة، لم ينه
~~عنها النبي ms1238 - صلى الله عليه وسلم -، بل ما نهى عنه من كراء الأرض ومن
~~المخابرة فهو ما كانوا يفعلونه، وهو أن يشترط رب الأرض زرع بقعة بعينها،
~~فهذا لا يجوز. وإذا كانت الإجارة PageV06P419
# صحيحة فإنها تصح، سواء كانت الأرض تبعا ليس فيها شجر ولا بناء، أو كان
~~فيها بناء أو بناء وشجر، أو كان فيها بياض أو شجر، أو فيها بناء وبياض، فكل
~~هذا من باب الإجارة لا من باب بيع الثمر قبل بدو صلاحها. كما أن الإجارة في
~~الأرض البيضاء لمن يزدرعها ليس من باب بيع الحب قبل أن يشتد، وذلك أن
~~المبيع هو عين يجب على البائع تسليمها، فإذا باع الثمرة أو الحب كان على
~~البائع السقي والخدمة وشق الأرض وغير ذلك، حتى تكمل الثمرة والزرع. وإذا
~~آجر أرضا بيضاء أو أرضا فيها شجر وبياض أو شجر محض كان المستأجر هو الذي
~~يسقي ويخدم ويشق الأرض، حتى يحصل الثمر والزرع بعمله، كما يحصل في المساقاة
~~والمزارعة، لكن في المساقاة والمزارعة يستحق جزءا شائعا من الثمر والزرع،
~~وفي الإجارة يستحق جميع الثمر والزرع، وعليه الأجرة المسماة في ذمته.
# وإذا استأجر العبد أو الأمة سواء كانت ظئرا أو غير ظئر، فهذا على وجهين:
~~تارة يستأجرها بأجرة مسماة، وتارة يستأجرها بطعامها وكسوتها بالمعروف، وذلك
~~جائز في أظهر قولي العلماء.
# وعلى هذا فإذا استأجر بقرا أو نوقا أو غنما أيام اللبن بأجرة مسماة
~~وعلفها على المالك، أو بأجرة مسماة مع علفها على أن يأخذ اللبن- جاز ذلك في
~~أظهر قولي العلماء، كما في الظئر. وهذا يشبه البيع ويشبه الإجارة، ولهذا
~~يذكره بعض الفقهاء في البيع وبعضهم في الإجارة. لكن إذا كان اللبن يحصل
~~بعلف المستأجر وقيامه على الغنم فإنه يشبه استئجار الشجر، وإن كان المالك
~~هو الذي يعلفها، وإنما
# PageV06P420
# يأخذ المشتري لبنا مقدرا، فهذا بيع محض، وإن كان يأخذ اللبن مطلقا فهو
~~بيع أيضا، فإن صاحب الغنم يوفيه اللبن، بخلاف الظئر فإنها هي تسقي الطفل.
~~وليس هذا داخلا فيما نهى عنه النبي - صلى الله ms1239 عليه وسلم - من بيع الغرر
~~(1) ، لأن الغرر ما يتردد بين الوجود والعدم، فنهى عن بيعه لأنه من جنس
~~القمار الذي هو الميسر، والله حرم ذلك لما فيه من أكل المال بالباطل، وذلك
~~من الظلم الذي حرمه الله تعالى.
# (ثم قال:) فأما إذا كان شيئا معروفا بالعادة، كمنافع الأعيان في الإجارة،
~~مثل منفعة الأرض والدابة، ومثل لبن الظئر المعتاد، ولبن البهائم المعتاد،
~~ومثل الثمر والزرع المعتاد- فهذا كله من باب واحد، وهو جائز. ثم إن حصل على
~~الوجه المعتاد، وإلا حط عن المستأجر بقدر ما فات من المنفعة المقصودة. وهو
~~مثل وضع الجائحة في البيع، ومثل ما إذا تلف بعض المبيع قبل التمكن من القبض
~~في سائر البيوع.
# وهذا الذي ذكرناه من ضمان البساتين هو فيما إذا ضمنه على أن يعمل الضامن
~~حتى يحصل الثمر والزرع، فأما إذا كان الخدمة والعمل على البائع فهذا بيع،
~~كما يباع العنب بعد بدو صلاحه، وكما يضمن البستان زمن الصيف لمن يسكنه
~~ويأكل فاكهته، وإذا كان بيعا محضا لم يجز إلا بعد بدو صلاحه، لكن إذا بدا
~~صلاح بعض الشجر جاز بيع جميعها بلا نزاع، وكذلك يجوز بيع سائر ذلك النوع في
~~ذلك البستان في سائر البساتين في أشهر قولي العلماء. PageV06P421
# وإذا كان البستان أجناسا، كالعنب والرطب والتفاح والمشمش والتوت، فبدا
~~الصلاح في جنس من ذلك، جاز بيع جميع ما في البستان من ذلك في أحد قوليهم
~~أيضا، لأن الشرط في المبيع أن يبدو صلاح بعضه لا صلاح كل جزء منه، إذا كان
~~مما يباع جملة في العادة.
# ومعلوم أنه إذا كان فيه نخيل وأعناب كان بيع بعض النخيل دون بعض فيه
~~مشقة، فجوز بيع الجميع. وهكذا إذا كان عنبا ورمانا وجوزا ونحو ذلك فبيع بعض
~~هذه الأجناس دون بعض فيه مشقة، كما في بيع بعض النخيل دون بعض فإن المشتري
~~إن لم يشتر الجميع لم يرض بشراء البعض، إذ لا يمكن أن يدخل عليه غيره في
~~البستان من المشتري، ففي بيع بعض البستان دون ms1240 بعض ضرر على البائع والمشتري،
~~ولا فساد في بيع الجميع.
# بل إن قيل: قد تصيبه جائحة فلا يثمر الباقي، قيل: هذا بمنزلة الجائحة
~~فيما بدا صلاحه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجائحة (1) .
# والشارع بعث بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فنهى عن
~~بيع الثمار قبل بدو صلاحها لما فيه من المخاطرة من غير حاجة، وأما بعد بدو
~~صلاحها فهم محتاجون إلى بيعها في هذه الحال وإن كان فيه نوع مخاطرة، لأن
~~المنع من ذلك أشد ضررا على الناس من المخاطرة، كما في الإجارة، لأن المنع
~~منها أشد ضررا من إباحتها مع المخاطرة، ثم إنه جبر هذا الضرر بوضع الجوائح،
~~فما تلف PageV06P422
# قبل التكمن من قبضه كان من مال البائع كالمؤجر، وأما إذا تمكن من الجداد
~~والحصاد ففرط حتى تلفت العين، أو أخر ذلك لطلب ارتفاع السعر فإن الضمان هنا
~~يكون من ماله. والله سبحانه أعلم (1) . PageV06P423 ms1241