######OpenITI# #META# 000.SortField :: Shamela_0010443 #META# 000.BookURI :: NOCODE #META# 010.AuthorAKA :: NODATA #META# 010.AuthorNAME :: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795هـ) #META# 011.AuthorBORN :: NOTGIVEN #META# 011.AuthorDIED :: 795 #META# 019.AuthorDIED :: NODATA #META# 020.BookTITLE :: جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم #META# 020.BookTITLESUB :: NODATA #META# 021.BookSUBJ :: شروح الحديث #META# 022.BookVOLS :: 3 (في ترقيم مسلسل واحد) #META# 025.BookLANG :: NODATA #META# 029.BookTITLEalt :: NODATA #META# 030.LibURI :: Shamela_0010443 #META# 030.LibURIextra :: NODATA #META# 031.LibREADONLINE :: http://shamela.ws/browse.php/book-10443 #META# 031.LibURL :: http://shamela.ws/index.php/book/10443 #META# 031.LibURLFILE :: NODATA #META# 031.LibURLextra :: NODATA #META# 040.EdALL :: NODATA #META# 040.EdEDITOR :: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور #META# 041.EdNUMBER :: الثانية، 1424 هـ - 2004 م #META# 041.EdNumber :: NODATA #META# 043.EdPUBLISHER :: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع #META# 044.EdPLACE :: NODATA #META# 045.EdYEAR :: NODATA #META# 049.EdISBN :: NODATA #META# 049.EdPAGES :: NODATA #META# 049.EdPHYSICAL :: NODATA #META# 049.EdVOLUME :: NODATA #META# 090.RecMISC :: NODATA #META# 999.MiscINFO :: NODATA #META#Header#End# # PageV00P000 ### | [جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم] # المؤلف: زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السلامي، ~~البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795ه) # تحقيق: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور # الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع # الطبعة: الثانية، 1424 ه - 2004 م # [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] # (ضبط النص ومقدمة التحقيق والحواشي، من عمل د ماهر الفحل وليس من ~~المطبوع) # PageV00P000 # بسم الله الرحمن الرحيم # إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ~~وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن ~~لا إله إلا الله وحده لا شريك له. # ((وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره ~~بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله ~~رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وحجة على الخلائق أجمعين)) (1) # {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} # [آل عمران: 102] . {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ~~وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به ~~والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: 1] . {يا أيها الذين آمنوا ~~اتقوا الله وقولوا قولا سديدا - يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع ~~الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب: 70-71] . # أما بعد: فإني أحمد الله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا على إنهاء العمل بهذا ~~الكتاب العظيم "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم "، ~~ذلك الكتاب المهم الذي يشرح أهم الأحاديث التي يحتاجها المسلم؛ فهي أحاديث ~~كلية في أصول الدين. PageV00P000 # والكتاب قد طبع طبعات عديدة (1) # واعتنى به عدد من الأفاضل من المختصين # بهذا الشأن فأردت أن أشرك نفسي معهم في طبعة متميزة راجيا من الله أن ~~ينفعني بها يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. # وقد حققت الكتاب على نسخة خطية للكتاب تعود إلى عصر متأخر وقد تملكها ~~الشيخ محمد أمين الشنقيطي. وقد اجتهدت ms001 في ضبط النص على النسخة الخطية مع ~~الاستفادة من النسخ المطبوعة مع الرجوع إلى موارد المصنف من كتب السنة ~~المشرفة. أما التخريج فقد أوليت عناية بالحكم على الأحاديث. وفيما يتعلق ~~بالصحيحين فقد أحلت إلى صحيح البخاري بالجزء والصفحة على الطبعة الأميرية ~~ثم أردفته برقم الحديث من فتح الباري ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، وأحلت ~~إلى صحيح مسلم بالجزء والصفحة للطبعة الإستانبولية ثم أردفته برقم الحديث ~~من طبعة محمد فؤاد عبد الباقي؛ وذلك لانتشار هذه الطبعات وتداولها. وأما ~~التعليق على الأحاديث فقد شرحت بعض الغريب الذي لم يذكره المصنف وعلقت على ~~بعض الأشياء مما يحتاجه المسلم في حياته وعبادته وكان جل ذلك بالاعتماد على ~~كتب أهل العلم، وحكمت على الأحاديث بما يليق بها من صحة أو ضعف، وقدمت ~~للكتاب بمقدمة يسيرة كمدخل للكتاب سميتها: ((الحافظ ابن رجب وشيء من سيرته ~~العطرة)) . PageV00P000 # وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ~~وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. # الحافظ ابن رجب وشيء من سيرته العطرة # توسع المحققون في دراسة حياة العالم الجليل ابن رجب الحنبلي رحمه الله، ~~فتناولته الأيادي بالبحث والاستقصاء، حتى أثروا مقدمات كتبه بتعريفات جمة ~~عن هذا العالم المبجل، لذلك آثرت أن لا أطيل الكلام في ذلك، واكتفي بهذا ~~المختصر عن حياته وآثاره. # اسمه ونسبه وكنيته # هو الإمام الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمان ~~بن الحسن بن محمد بن أبي البركات مسعود السلامي البغدادي، ثم الدمشقي ~~الحنبلي أبو الفرج، المعروف بابن رجب (1) وهو لقب جده عبد الرحمن، وقد طغت ~~هذه النسبة على اسمه حتى لا يكاد يعرف إلا بها. # مولده # اتفقت المصادر التي اطلعت عليها، على أن ولادة ابن رجب، كانت في بغداد ~~مدينة السلام في ربيع الأول سنة ست وثلاثين وسبعمئة، وقدم دمشق مع والده ~~فسمع من كبار العلماء هناك، وقد أرخ الحافظ ابن حجر رحمه الله ولادته في ~~سنة ست وسبعمئة (2) ، ولعله سبق قلم من الناسخ، والله أعلم ms002. # أسرته ونشأته وطلبه للعلم # لم توفر المصادر التي بين أيدينا، التفصيل الكامل عن أسرة هذا الإمام، ~~وبذلك أغفلت الكثير من الجوانب المهمة عن حياته، بل قصارى ما عرفناه في هذه # المصادر، هي أسطر قليلة قد ألقت الضوء على حياة جده أبي أحمد المعروف # برجب، وحياة والده أبي العباس شهاب الدين أحمد، ويبدو أنه ينحدر من أسرة ~~علمية عريقة في العلم. PageV00P000 # أما جده عبد الرحمن فكل ما ذكره عنه حفيده ابن رجب هو قوله: ((قرئ على ~~جدي أبي أحمد - رجب بن الحسن - غير مرة ببغداد وأنا حاضر في الثالثة ~~والرابعة والخامسة: أخبركم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إبراهيم ~~البزار، سنة ست وثمانين وستمئة، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن عمر ~~القطيعي ... عن سلمة بن الأكوع، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: ((من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار)) (1) . وهذا الخبر ~~يدل على أن جده كان مهتما بعلم الحديث، ويقرأ عليه الناس. # وأما أبوه فهو الشيخ شهاب الدين أحمد ولد في بغداد وسمع من مشايخها، ثم ~~رحل مع أولاده إلى دمشق سنة أربع وأربعين وسبعمئة (2) . # ولما كان ابن رجب رحمه الله ينحدر من هذه الأسرة التي اهتمت بالعلوم ~~والمعارف، فقد نشأ نشأة علمية أهلته أن يكون في مصاف العلماء الكبار الذين ~~صنعوا للإسلام أزهى أمجاده، فذاع صيته وكثر مريدوه من كل البلاد، وتنوعت ~~فنونه. فكانت بداية طلبه للعلم في سن الصغر إذ رحل به والده إلى بلاد أخرى ~~وحصل على إجازات من بعض المشايخ، فأجازه ابن النقيب وغيره، وسمع أيضا من ~~علماء مكة ومصر وغيرها، وقيل: ((إنه اشتغل بسماع الحديث باعتناء والده (3)) ~~) فقد كان إماما في صناعة الأسانيد وفن العلل، بالإضافة إلى أنه كان عالما # بالفقه، حتى صار من أعلام المذهب الحنبلي، ويشهد لذلك ما خلفه من تراث ~~ضخم في هذه العلوم، وهكذا يكون أحد الجهابذة الذين جمعوا بين الحديث ~~PageV00P000 # والفقه، مما أدى إلى انفتاح قرائح العلماء في الثناء عليه كما سيأتي، إلا ms003 ~~أن هذه المنزلة الكبيرة التي بلغها هذا العالم لم تزده إلا صفاء وخلقا ~~وتواضعا فمالت إليه القلوب بالمحبة، واجتمعت عليه الفرق، وفي ذلك يقول ابن ~~العماد: ((وكانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة وللناس عامة مباركة نافعة، ~~اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه (1)) ) ، كيف لا وقد جبلت ~~القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. # وفاته # بعد رحلة طويلة وشاقة من الجهاد في خدمة هذا الدين العظيم، استعد ابن رجب ~~للقاء ربه الكريم، بعد أن أفنى عمره في التأليف والتدريس، والدفاع عن سنة ~~المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من خلال بيان صحيح الحديث وسقيمه، واتباع ~~منهج السلف الكرام رحمهم الله تعالى، فوافاه الأجل سنة (795 ه‍) في شهر ~~رمضان (2) بدمشق بأرض الحميرية ببستان كان استأجره، وصلي عليه من الغد كما ~~قال ابن العماد (3) وخالف ابن حجر (4) والسيوطي (5) رحمهما الله فقالا: إن ~~وفاته كانت في شهر رجب وشك أبو المحاسن الدمشقي فقال: ((في رجب أو رمضان ~~(6)) ) من ذلك نجد أنه لا خلاف بين العلماء في تقييد وفاته بعام (795 ه‍) ، ~~إلا أنهم اختلفوا في شهر وفاته # ودفن رحمه الله بالباب الصغير جوار قبر الشيخ الفقيه أبي الفرج عبد ~~الواحد بن محمد الشيرازي ثم المقدسي الدمشقي المتوفى في ذي الحجة سنة (486 ~~ه‍ (7)) . PageV00P000 # قال ابن ناصر الدين الدمشقي: ((ولقد حدثني من حفر لحد ابن رجب أن الشيخ ~~زين الدين بن رجب جاءه قبل أن يموت بأيام فقال لي: احفر لي ها هنا لحدا، ~~وأشار إلى البقعة التي دفن فيها قال فحفرت له، فلما فرغ نزل في القبر ~~واضطجع فيه فأعجبه قال: هذا جيد ثم خرج، وقال: فو الله ما شعرت بعد أيام ~~إلا وقد أتي به ميتا محمولا في نعشه فوضعته في ذلك اللحد (1) فرحمك الله يا ~~أبا الفرج ورزقك الفردوس الأعلى. # شيوخه # حرص ابن رجب رحمه الله على تلقي العلم من أفواه الرجال، فطاف البلاد ورحل ~~في الآفاق، فسمع من البعض وأجازه البعض الآخر، وكانت بداية رحلته في سن ~~الصغر، عندما رحل به ms004 والده من موطن ولادته بغداد قبة الإسلام وحاضرة الدنيا ~~إلى دمشق، ومن هناك بدأت رحلته في طلب العلم والتلقي عن الشيوخ فرحل إلى ~~مصر ونابلس والحجاز والقدس ومكة والمدينة، فأصبح له عدد غفير من # الشيوخ، ونذكر هنا أبرز الشيوخ الذين أخذ عنهم وهم مرتبون حسب حروف ~~المعجم، وهم كما يلي: ### | 1- # داود بن إبراهيم بن داود بن يوسف بن سليمان بن سالم بن مسلم بن سلامة ~~جمال الدين ابن العطار (ت 752 ه‍ (2)) . ### | 2- # زين الدين أبو الفرج عبد الرحمان بن أبي بكر بن أيوب بن سعد، أخو شمس ~~الدين بن قيم الجوزية الحنبلي، ذكره ابن رجب في مشيخته، وقال: سمعت عليه ~~كتاب "التوكل" لابن أبي الدنيا بسماعه على الشهاب العابر وتفرد بالرواية ~~عنه (3) . ### | 3- # عماد الدين أبو العباس أحمد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة ~~المقدسي (ت 754 ه‍) (4) . ### | 4- # فتح الدين أبو الحرم محمد بن محمد بن محمد بن أبي الحرم بن أبي طالب ~~القلانسي الحنبلي (ت 765 ه‍ (5)) . ### | 5- # محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي ~~PageV00P000 # (748ه‍ (1)) . ### | 6- # الميدومي محمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم بن عنان، صدر الدين أبو ~~الفتح (ت 754 ه‍ (2)) . ### | 7- # ابن الخباز محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم بن بركات أبو عبد الله ~~الأنصاري الخزرجي العبادي الدمشقي من ولد سعد بن عبادة # (ت 756 ه‍ (3)) . ### | 8- # ابن شيخ السلامية حمزة بن موسى بن أحمد الحنبلي عز الدين أبو يعلى # (ت 769 ه‍ (4)) . ### | 9- # ابن قاضي الجبل أحمد بن الحسن بن عبد الله بن أبي عمر المقدسي الحنبلي ~~شرف الدين (ت 771 ه‍ (5)) . ### | 10- # ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقي ~~شمس الدين الحنبلي (ت 751 ه‍ (6)) . ### | 11- # ابن قيم الضيائية عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن نصر بن فهد الدمشقي ثم ~~الصالحي الحنبلي المروزي العطار أبو محمد تقي الدين (ت 761 ه‍ (7)) . ### | 12- # أبو الربيع علي بن عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الحسن بن # عبد الله البغدادي الحنبلي ms005 (ت 742 ه‍ (8)) . ### | 13- # أبو سعيد العلائي خليل بن كيكلدي بن عبد الله الشافعي صلاح الدين # (ت 761 ه‍ (9)) . ### | 14- # أبو العباس أحمد بن محمد بن سليمان الحنبلي البغدادي (10) . ### | 15- # زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد المقدسية المعروفة ~~ببنت الكمال (ت 740 ه‍ (11)) . # تلامذته PageV00P000 # لما كان لهذا العالم منزلة كبيرة بين علماء عصره، وتفوقه عليهم وتنوع ~~فنونه التي شملت معظم العلوم، أدى إلى تدفق طلاب العلم عليه من كل حدب ~~وصوب، لينهلوا من عذبه الصافي، ومن خلقه الرفيع، ومن علمه الوافر، فتفقه ~~على يده الكثير من علماء المذهب الحنبلي، الذين أصبحوا فيما بعد من العلماء ~~العاملين الذين يشار إليهم بالبنان، قال ابن حجي - فيما نقله عنه ابن ~~العماد - # : ((وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق (1)) ) ، ونذكر هنا طائفة منهم ~~مرتبين حسب حروف المعجم، وهم كما يلي: ### | 1- # داود بن سليمان بن عبد الله الزين الموصلي ثم الدمشقي الحنبلي سمع على ~~ابن رجب شرحه للأربعين النووية (ت 844 ه‍ (2)) . ### | 2- # الزركشي عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله بن محمد الزين أبو ذر بن الشمس ~~ابن الجمال بن الشمس المصري الحنبلي، يعرف بالزركشي صنعة أبيه # (ت 846 ه‍ (3)) . ### | 3- # شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبادة السعدي الأنصاري الحنبلي، ~~قاضي قضاة دمشق (ت 820 ه‍ (4)) . ### | 4- # شمس الدين محمد بن أحمد بن سعيد المقدسي الأصل النابلسي ثم الدمشقي ~~الحلبي المكي قاضيها الحنبلي (ت 855 ه‍ (5)) . ### | 5- # علاء الدين علي بن محمد بن علي الطرسوسي المزي (ت بعد 850 ه‍ (6)) . ### | 6- # عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي الأصل الدمشقي ~~الشافعي (ت 841 ه‍ (7)) . ### | 7- # محب الدين أبو الفضل أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر البغدادي ~~ثم المصري الحنبلي، شيخ الإسلام وعلم الأعلام، المعروف بابن نصر الله شيخ ~~المذهب ومفتي الديار المصرية (ت 844 ه‍ (8)) . PageV00P000 ### | 8- # ابن الرسام أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن علي بن إسماعيل، الشهاب أبو ~~العباس ابن سيف الدين الحموي الأصل الحلبي الحنبلي (ت 844 ه‍ (1)) . ### | 9- # ابن زهرة شمس الدين محمد بن خالد ms006 بن موسى الحمصي القاضي الحنبلي (2) . ### | 10- # ابن الشحام أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن محمود بن عبادة، الشهاب ~~الأنصاري الحلبي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي (ت 864 ه‍ (3)) . ### | 11- # ابن اللحام علي بن محمد بن علي بن عباس بن فتيان علاء الدين البعلي ثم ~~الدمشقي الحنبلي، يعرف بابن اللحام وهي حرفة أبيه (ت 803 ه‍ (4)) . ### | 12- # ابن المنصفي شمس الدين أبو عبيد الله محمد بن خليل بن محمد بن طوغان ~~الدمشقي الحريري الحنبلي (ت 803 ه‍ (5)) . ### | 13- # ابن المزلق أبو حفص عمر بن محمد بن علي بن أبي بكر بن محمد السراج الحلبي ~~الأصل الدمشقي الشافعي (ت 841 ه‍ (6)) . ### | 14- # ابن المغلي علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر السلمي ثم الحموي الحنبلي # (ت 828 ه‍ (7)) . ### | 15- # أبو شعر زين الدين عبد الرحمان بن سليمان بن أبي الكرم بن سليمان، أبو ~~الفرج الدمشقي الصالحي الحنبلي (ت 844 ه‍ (8)) . # ثناء العلماء عليه # حظي ابن رجب رحمه الله بثناء منقطع النظير، يدل على مدى توسعه وتبحره في ~~العلوم، وعلى مكانته العالية في قلوب الناس، فلم نجد من العلماء من ذكره ~~بسوء أو قدح بشخصيته، فالكل كان يحبه ويحترمه، وما هذا إلا دليل على علو ~~منزلته وعظم شأنه في ذلك الوقت، ويتضح هذا جليا من أقوالهم التي نورد طائفة ~~منها، وهي كما يلي: PageV00P000 ### | 1- # قال أبو المحاسن الدمشقي: ((الإمام الحافظ الحجة والفقيه العمدة أحد ~~العلماء الزهاد والأئمة العباد مفيد المحدثين واعظ المسلمين (1)) ) . ### | 2- # قال الحافظ ابن حجر: ((الشيخ المحدث الحافظ ... أكثر من المسموع وأكثر ~~الاشتغال حتى مهر (2)) ) . ### | 3- # قال السيوطي: ((هو الإمام الحافظ المحدث الفقيه الواعظ (3)) ) . ### | 4- # قال ابن العماد الحنبلي: ((الإمام العالم العلامة الزاهد القدوة البركة ~~الحافظ العمدة الثقة الحجة الحنبلي (4)) ) . # وقال أيضا: ((وكانت مجالس تذكيره للقلوب صارعة وللناس عامة مباركة نافعة، ~~اجتمعت الفرق عليه، ومالت القلوب بالمحبة إليه (5)) ) . # وقال أيضا: ((وكان لا يعرف شيئا من أمور الناس، ولا يتردد إلى أحد من ذوي ~~الولايات، وكان يسكن بالمدرسة السكرية بالقصاعين (6)) ) . # وقال ابن حجي - فيما نقله عنه ابن العماد -: ((أتقن الفن - أي: فن الحديث ~~- وصار أعرف أهل ms007 عصره بالعلل وتتبع الطرق، وتخرج به غالب أصحابنا الحنابلة ~~بدمشق (7)) ) . # وغير ذلك من الأقوال التي حوتها كتب التراجم والأعلام. # آثاره العلمية # سخر ابن رجب رحمه الله حياته وعمره لخدمة هذا الدين العظيم، يتضح ذلك من ~~خلال مؤلفاته وتراثه الضخم الذي خلفه لنا، قال السخاوي: ((جمع نفسه على ~~التصنيف والإقراء (8)) ) ، إضافة إلى تنوع فنونه فألف في التفسير والحديث ~~والفقه والتاريخ والوعظ وغيره فأجاد وأبدع، قال أبو المحاسن الدمشقي: ((له ~~المؤلفات السديدة والمصنفات المفيدة (9)) ) ، وقال ابن العماد: ((له مصنفات ~~مفيدة ومؤلفات عديدة (10)) ) ، ونذكر هنا البعض من هذه المصنفات على سبيل ~~المذاكرة لا على سبيل الاستيعاب، مرتبة حسب الموضوعات: # التفسير: ### | 1- # تفسير سورة الإخلاص، وهو مطبوع. PageV00P000 ### | 2- # تفسير سورة النصر، وهو مطبوع. # الحديث: ### | 3- # اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى، وهو مطبوع. ### | 4- # البشارة العظمى في أن حظ المؤمن من النار الحمى، وهو مخطوط. ### | 5- # تحفة الأكياس بشرح وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس، وهو ~~مطبوع. ### | 6- # تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال، وهو مخطوط. ### | 7- # جامع العلوم والحكم وهو الذي بين يديك. ### | 8- # الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت ~~بالسيف بين يدي الساعة)) ، وهو مطبوع. ### | 9- # شرح جامع الترمذي الكبير، وتوجد منه قطعة مخطوطة في المكتبة الظاهرية. ### | 10- # شرح علل الترمذي، وهو مطبوع (1) . ### | 11- # فتح الباري في شرح البخاري، وصل به إلى كتاب الجنائز، ينقل فيه كثيرا من ~~كلام المتقدمين (2) ، وهو مطبوع. # الفقه: ### | 12- # الاستخراج في أحكام الخراج، وهو مطبوع. ### | 13- # تعليق الطلاق بالولادة، وهو مخطوط. ### | 14- # القواعد الفقهية، وهو مطبوع. ### | 15- # مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة، وهو مفقود. # التاريخ: ### | 16- # الذيل على طبقات الحنابلة، وهو مطبوع. ### | 17- # مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز، وهو مطبوع. ### | 18- # مشيخة ابن رجب (3) . # الوعظ والفضائل والرقائق: ### | 19- # أهوال القبور، وهو مطبوع. ### | 20- # التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار، وهو مطبوع. ### | 21- # الفرق بين النصيحة والتعيير، وهو مطبوع. ### | 22- # فضل علم السلف على علم الخلف، وهو مطبوع. PageV00P000 ### | 23- # لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، وهو مطبوع. # وغير ذلك مما حوته كتب التراجم والأعلام. # وصف ms008 النسخة الخطية (الأصل) # اعتمدت على نسخة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل، وتقع تحت الرقم # (628) ، رمزت لها بالحرف (ص) وهي نسخة جيدة قليلة السقط، نوع خطها نسخي ~~عادي، تحتوي على (288) صفحة، في كل صفحة (29) سطرا، وفي كل سطر (21) كلمة ~~تقريبا، على حواشيها بعض التعليقات والاستدراكات، ويبدو أنها قرءت على بعض ~~العلماء، ويوجد على طرة الكتاب بعض التملكات، نذكرها كما كتبت وهي: ((بسم ~~الله دخل هذا الكتاب ملكا بالشراء الشرعي بملك أحقر العباد إلى ربه، وأنا ~~الفقير إلى الله عبد العزيز بن حمد بن سيف العتيقي (1) بغرة صفر سنة سبعة ~~وأربعين ومئتين وألف من هجرته - صلى الله عليه وسلم -)) . # ((وقفه مالكه حمد (2) بن الحاج عبد العزيز العتيقي عفى الله عنه وغفر له ~~ولأبويه وجميع المسلمين)) . # ((في حوزة الفقير إلى الله محمد بن أمين الشنقيطي (3) سنة (1333)) ) . ~~PageV00P000 # بسم الله الرحمن الرحيم # وبه نستعين (1) # الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أمتنا -ولله ~~الحمد- خير أمة، وبعث فينا رسولا منا يتلو علينا آياته، ويزكينا ويعلمنا ~~الكتاب والحكمة. # أحمده على نعمه الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ~~تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله للعالمين ~~رحمة، وفوض إليه بيان ما أنزل إلينا، فأوضح لنا كل الأمور المهمة، وخصه ~~بجوامع الكلم، فربما جمع أشتات (2) الحكم والعلوم (3) في كلمة، أو في شطر ~~كلمة، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه صلاة تكون لنا نورا من كل ظلمة، ~~وسلم تسليما كثيرا (4) . # أما بعد: # فإن الله - سبحانه وتعالى - بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بجوامع ~~الكلم، وخصه ببدائع الحكم. كما في # " الصحيحين " عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~PageV01P047 # ((بعثت بجوامع الكلم)) (1) . # قال الزهري -رحمه الله-: جوامع الكلم (2) -فيما بلغنا- أن الله تعالى ~~يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد ~~والأمرين، ونحو ذلك (3) . # وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما ms009 -، ~~قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما كالمودع، فقال: ~~((أنا محمد النبي الأمي)) . قال ذلك ثلاث مرات. ((ولا نبي بعدي، أوتيت ~~فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه)) ... ، وذكر الحديث (4) . # وخرج أبو يعلى الموصلي من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، قال: PageV01P048 # ((إني أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي الكلام (1) اختصارا)) (2) . # وخرج الدارقطني - رحمه الله - من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث # اختصارا)) (3) . # وروينا من حديث عبد الرحمان بن إسحاق القرشي، عن أبي بردة، عن أبي موسى ~~الأشعري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((أعطيت فواتح الكلم وخواتمه # وجوامعه)) ، فقلنا: يا رسول الله، علمنا مما علمك الله - عز وجل -، قال ~~(4) : فعلمنا # التشهد (5) . # وفي " صحيح مسلم " (6) عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن ~~جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن البتع (7) والمزر (8) ، قال: ~~وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - # قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال: ((أنهى عن كل مسكر أسكر عن # الصلاة)) . PageV01P049 # وروى هشام بن عمار (1) في كتاب " المبعث " (2) بإسناده عن أبي سلام # الحبشي، قال: حدثت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((فضلت على ~~من كان (3) قبلي بست ولا فخر)) ، فذكر منها: قال: ((وأعطيت جوامع الكلم، ~~وكان أهل الكتاب يجعلونها جزءا بالليل إلى الصباح، فجمعها الله لي (4) في ~~آية واحدة # {سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} )) (5) . # فجوامع الكلم التي خص بها النبي (6) - صلى الله عليه وسلم - نوعان: # أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله - عز وجل -: {إن الله يأمر بالعدل ~~والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} (7) قال ~~الحسن: لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به، ولا شرا إلا نهت عنه (8) . # والثاني: ما هو في كلامه - صلى الله عليه وسلم -، وهو موجود منتشر (9) في ~~السنن المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد ms010 جمع العلماء جموعا من ~~كلماته - صلى الله عليه وسلم - الجامعة، فصنف الحافظ (10) أبو # بكر بن السني (11) كتابا سماه: " الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة ~~"، وجمع القاضي أبو عبد الله (12) القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا ~~سماه: " الشهاب في الحكم والآداب " (13) ، PageV01P050 # وصنف على منواله (1) قوم آخرون، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة، وأشار ~~الخطابي في أول كتابه " غريب الحديث " (2) إلى يسير من الأحاديث الجامعة. # وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح - رحمه الله - مجلسا سماه # " الأحاديث الكلية " جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال: إن مدار الدين ~~عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، فاشتمل مجلسه هذا ~~على ستة وعشرين حديثا. # ثم إن الفقيه الإمام الزاهد القدوة أبا زكريا يحيى النووي -رحمة الله ~~عليه- أخذ هذه الأحاديث التي أملاها ابن الصلاح، وزاد عليها تمام اثنين ~~وأربعين حديثا، وسمى كتابه ب " الأربعين "، واشتهرت هذه الأربعون التي ~~جمعها، وكثر حفظها، ونفع الله بها ببركة نية جامعها، وحسن قصده - رحمه الله ~~-. # وقد تكرر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث ~~المشار إليها، فاستخرت الله - سبحانه وتعالى - في جمع كتاب يتضمن شرح ما ~~ييسره الله تعالى من معانيها، وتقييد ما يفتح الله (3) به سبحانه من تبيين ~~قواعدها ومبانيها، وإياه أسأل العون على ما قصدت، والتوفيق في صلاح (4) ~~النية والقصد فيما أردت، وأعول في أمري كله عليه، وأبرأ من الحول والقوة ~~إلا إليه. # وقد كان بعض من شرح هذه الأربعين قد تعقب على جامعها -رحمه الله- ~~PageV01P051 # تركه لحديث: ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل # ذكر)) (1) ، قال: لأنه جامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم، فكان ~~ينبغي ذكره في هذه الأحاديث الجامعة، كما ذكر حديث: ((البينة على المدعي، ~~واليمين على من أنكر)) (2) لجمعه لأحكام القضاء. # فرأيت أنا أن أضم هذا الحديث إلى أحاديث الأربعين التي جمعها الشيخ -رحمه ~~الله-، وأن أضم إلى ذلك كله أحاديث أخر من جوامع الكلم الجامعة لأنواع ~~العلوم والحكم، حتى تكمل عدة الأحاديث كلها خمسين حديثا، وهذه ms011 تسمية ~~الأحاديث المزيدة على ما ذكره الشيخ -رحمه الله- في كتابه: # حديث: ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) (3) ، وحديث: ((يحرم من الرضاع # ما يحرم من النسب)) (4) ، وحديث: ((إن الله إذا حرم شيئا، حرم ثمنه)) (5) ~~، وحديث: ((كل مسكر حرام)) (6) ، وحديث: ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من # بطن)) (7) ، وحديث: ((أربع من كن فيه كان منافقا)) (8) ، # وحديث: ((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق # الطير)) (9) ، وحديث: ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله - عز وجل -)) ~~(10) . # وسميته: # " جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم ". PageV01P052 # واعلم أنه ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية التي تضمنتها هذه الأحاديث # الكلية، فلذلك لا أتقيد بألفاظ الشيخ -رحمه الله- في تراجم رواة هذه ~~الأحاديث من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا بألفاظه في (1) العزو إلى ~~الكتب التي يعزو إليها، وإنما آتي بالمعنى الذي يدل على ذلك؛ لأني قد ~~أعلمتك أنه ليس لي غرض إلا في شرح (2) معاني كلمات النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - الجوامع، وما تضمنته من الآداب والحكم والمعارف والأحكام والشرائع. # وأشير إشارة لطيفة قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده؛ ليعلم بذلك صحته ~~وقوته وضعفه، وأذكر بعض (3) ما روي في معناه من الأحاديث إن كان في ذلك ~~الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ، وإن لم يكن في الباب غيره، أو لم ~~يكن (4) يصح فيه غيره، نبهت على ذلك كله، والله المستعان، وعليه التكلان، ~~ولا حول ولا قوة إلا بالله (5) . PageV01P053 ### | الحديث الأول # عن عمر - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرته إلى ~~الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ~~ينكحها (1) فهجرته إلى ما هاجر إليه)) . رواه البخاري ومسلم (2) . # هذا الحديث تفرد بروايته يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد # ابن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص الليثي، عن عمر بن الخطاب - رضي ~~الله عنه -، # وليس له طريق يصح غير هذا (3) الطريق، كذا قال علي ms012 بن المديني # وغيره (4) . وقال الخطابي: لا أعلم خلافا بين أهل الحديث في ذلك، مع أنه ~~قد # روي من حديث أبي سعيد وغيره (5) ، # وقد قيل: إنه قد (6) روي من طرق كثيرة، لكن لم (7) يصح من ذلك شيء عند ~~الحفاظ. # ثم رواه عن الأنصاري الخلق الكثير والجم الغفير، فقيل: رواه عنه أكثر من ~~مئتي PageV01P055 # راو، وقيل: رواه عنه سبع مئة راو، ومن أعيانهم: مالك، والثوري، ~~والأوزاعي، وابن المبارك، والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وشعبة، وابن عيينة، ~~وغيرهم (1) . # واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول، وبه صدر البخاري كتابه # " الصحيح "، وأقامه مقام الخطبة له، إشارة منه إلى أن كل عمل لا يراد به # وجه الله فهو باطل، لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال عبد ~~الرحمان بن مهدي: لو صنفت الأبواب، لجعلت حديث عمر في الأعمال بالنية في كل ~~باب، وعنه أنه قال: من أراد أن يصنف كتابا، فليبدأ بحديث (2) ((الأعمال # بالنيات)) (3) . # وهذا الحديث أحد الأحاديث التي يدور الدين عليها (4) ، فروي عن الشافعي # أنه قال: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من PageV01P056 # الفقه (1) . # وعن الإمام أحمد قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث (2) : حديث عمر # : ((الأعمال بالنيات)) ، وحديث عائشة: ((من أحدث في أمرنا هذا (3) ما ليس ~~منه، فهو رد)) (4) ، وحديث النعمان بن بشير: ((الحلال بين، والحرام بين)) ~~(5) . وقال الحاكم: حدثونا عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه: أنه ذكر قوله ~~عليه الصلاة والسلام: ((الأعمال بالنيات)) ، وقوله: ((إن خلق أحدكم يجمع في ~~بطن # أمه أربعين يوما)) (6) ، وقوله: ((من أحدث في أمرنا (7) هذا (8) ما ليس ~~منه # فهو رد)) فقال: ينبغي أن يبدأ بهذه الأحاديث في كل تصنيف، فإنها أصول ~~الحديث. # وعن إسحاق بن راهويه: قال أربعة أحاديث هي من أصول الدين: حديث عمر: ~~((إنما الأعمال بالنيات)) ، وحديث: ((الحلال بين والحرام بين)) ، وحديث ~~((إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه (9)) ) ، PageV01P057 # وحديث: ((من صنع في أمرنا شيئا (1) ليس منه، فهو رد)) . # وروى عثمان بن سعيد، عن أبي عبيد، قال: جمع النبي - صلى الله ms013 عليه وسلم - ~~جميع أمر الآخرة في كلمة: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) ، وجمع ~~أمر الدنيا كله (2) في كلمة: ((إنما الأعمال بالنيات)) يدخلان في كل باب. # وعن أبي داود، قال: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم ~~نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير: ~~((الحلال بين والحرام بين)) ، وحديث عمر (3) : ((إنما الأعمال بالنيات)) ، ~~وحديث أبي هريرة: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين ~~بما أمر به المرسلين)) الحديث (4) ، وحديث: ((من حسن إسلام المرء تركه ما ~~لا يعنيه)) (5) . قال: فكل حديث (6) من هذه ربع العلم (7) . # وعن أبي داود أيضا، قال: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس ~~مئة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني كتاب " السنن " - ~~جمعت فيه أربعة آلاف (8) وثمانمئة حديث (9) ، PageV01P058 # ويكفي الإنسان لدينه (1) من ذلك أربعة أحاديث: أحدها: قوله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إنما (2) الأعمال بالنيات)) ، والثاني: قوله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، والثالث: قوله - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((لا يكون المؤمن مؤمنا حتى لا يرضى لأخيه (3) إلا ~~ما يرضى لنفسه)) (4) ، والرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحلال ~~بين، والحرام بين)) (5) . # وفي رواية أخرى عنه أنه قال: الفقه يدور على خمسة أحاديث: ((الحلال بين، ~~والحرام بين)) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار)) (6) ، ~~وقوله: # ((إنما (7) الأعمال بالنيات)) ، وقوله (8) : ((الدين النصيحة)) (9) ، ~~وقوله: ((وما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم)) ~~(10) . # وفي رواية عنه، قال: أصول السنن في كل فن أربعة أحاديث: حديث عمر # ((إنما (11) الأعمال بالنيات)) ، وحديث: ((الحلال بين والحرام بين)) ، ~~وحديث: # ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، وحديث: ((ازهد في الدنيا يحبك ~~الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)) (12) . PageV01P059 # وللحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي (1) : # عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع من كلام خير البريه # اتق الشبهات وازهد ودع ما ... ليس يعنيك ms014 واعملن بنيه (2) # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات)) ، وفي رواية: ~~((الأعمال بالنية (3)) ) . # وكلاهما يقتضي الحصر على الصحيح، وليس غرضنا هاهنا توجيه ذلك (4) ، ولا ~~بسط القول فيه. # وقد اختلف في تقدير قوله: ((الأعمال بالنيات)) ، فكثير من المتأخرين يزعم ~~أن تقديره: الأعمال صحيحة، أو معتبرة، أو مقبولة بالنيات، وعلى هذا ~~فالأعمال إنما أريد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية، فأما مالا ~~يفتقر إلى النية كالعادات من الأكل والشرب، واللبس وغيرها، أو مثل رد ~~الأمانات والمضمونات، كالودائع والغصوب، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية، ~~PageV01P060 # فيخص هذا كله من عموم الأعمال المذكورة هاهنا. # وقال آخرون: بل الأعمال هنا على عمومها، لا يخص منها شيء (1) . # وحكاه بعضهم عن الجمهور، وكأنه يريد به جمهور المتقدمين، وقد وقع ذلك في ~~كلام ابن جرير الطبري، وأبي طالب المكي وغيرهما من المتقدمين، وهو ظاهر ~~كلام الإمام أحمد. # قال في رواية حنبل: أحب لكل من عمل عملا من صلاة، أو صيام، أو صدقة، أو ~~نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل، قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((الأعمال بالنيات)) ، فهذا يأتي على كل أمر من الأمور. # وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله - يعني: أحمد - عن النية في ~~العمل، قلت: كيف النية؟ قال: يعالج نفسه، إذا أراد عملا لا يريد به الناس. # وقال أحمد بن داود الحربي: حدث يزيد بن هارون بحديث عمر: ((إنما (2) # الأعمال بالنيات)) وأحمد جالس، فقال أحمد ليزيد: يا أبا خالد، هذا ~~الخناق. # وعلى هذا القول، فقيل: تقدير الكلام: الأعمال واقعة، أو حاصلة بالنيات، ~~فيكون إخبارا عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصد من العامل وهو ~~سبب عملها ووجودها، ويكون قوله بعد ذلك: ((وإنما لكل امرىء (3) ما نوى)) ~~إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله نيته، فإن كانت صالحة فعمله ~~صالح، فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد، فعليه وزره. PageV01P061 # ويحتمل أن يكون التقدير في قوله: ((الأعمال بالنيات)) : الأعمال صالحة، ~~أو فاسدة، أو ms015 مقبولة، أو مردودة، أو مثاب عليها، أو غير مثاب عليها، ~~بالنيات، فيكون خبرا عن حكم شرعي، وهو أن صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح ~~النيات وفسادها، كقوله - صلى الله عليه وسلم - (1) : ((إنما الأعمال ~~بالخواتيم)) (2) ، أي: إن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمه بحسب الخاتمة. # وقوله بعد ذلك: ((وإنما لامرىء (3) ما نوى)) إخبار أنه لا يحصل له من ~~عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيرا حصل له خير، وإن نوى به (4) شرا حصل # له (5) شر، وليس هذا تكريرا محضا للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلت ~~على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية ~~دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأن عقابه عليه بحسب ~~نيته الفاسدة، وقد تكون نيته مباحة، فيكون العمل مباحا، فلا يحصل له به ~~ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النية الحاملة ~~عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب نيته التي بها ~~صار العمل (6) صالحا، أو فاسدا، أو مباحا. # واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة (7) ، وإن كان قد فرق بين ~~هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره. PageV01P062 # والنية في كلام العلماء تقع بمعنيين: # أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة ~~العصر مثلا (1) ، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من ~~العادات (2) ، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف، ونحو ذلك، ~~وهذه النية هي التي توجد كثيرا في كلام الفقهاء في كتبهم. # والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك ~~له، أم غيره، أم الله وغيره (3) ، وهذه النية هي التي يتكلم فيها العارفون ~~في كتبهم في # كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرا في كلام السلف ~~المتقدمين. # وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفا سماه: كتاب ((الإخلاص والنية)) ، ~~وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - تارة بلفظ النية، وتارة بلفظ الإرادة، وتارة بلفظ مقارب ms016 ~~لذلك، وقد جاء ذكرها كثيرا في كتاب الله - عز وجل - بغير لفظ النية أيضا من ~~الألفاظ المقاربة لها. # وإنما فرق من فرق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوهما؛ لظنهم اختصاص ~~النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النية تختص بفعل ~~الناوي، والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ~~ينوي ذلك. PageV01P063 # وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة ~~إنما يراد بها هذا المعنى الثاني غالبا، فهي حينئذ بمعنى الإرادة، ولذلك ~~يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرا، كما في قوله تعالى: {منكم من يريد ~~الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} (1) ، وقوله: {تريدون عرض الدنيا والله يريد ~~الآخرة} (2) ، وقوله: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد ~~حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} (3) ، وقوله: {من كان يريد ~~العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما ~~مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} ~~(4) ، وقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم ~~فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما ~~صنعوا فيها وباطل ما كانوا # يعملون} (5) ، وقوله: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون ~~وجهه} (6) ، وقوله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون ~~وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا} (7) ، وقوله # {ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربا ~~ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله ~~فأولئك هم المضعفون} (8) . PageV01P064 # وقد يعبر عنها في القرآن بلفظ ((الابتغاء)) ، كما في قوله تعالى: {إلا ~~ابتغاء وجه ربه الأعلى} (1) ، وقوله: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء ~~مرضات # الله} (2) ، وقوله: {وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله} (3) ، وقوله: {لا ~~خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف ms017 أو إصلاح بين الناس ومن ~~يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (4) . # فنفى الخير عن كثير مما يتناجى الناس به إلا في الأمر بالمعروف، وخص من ~~أفراده الصدقة، والإصلاح بين الناس؛ لعموم نفعهما، فدل ذلك على أن التناجي ~~بذلك خير، وأما الثواب عليه من الله فخصه بمن فعله ابتغاء مرضات الله. # وإنما جعل الأمر بالمعروف من الصدقة، والإصلاح بين الناس وغيرهما خيرا، ~~وإن لم يبتغ به وجه الله، لما يترتب على ذلك من النفع المتعدي، فيحصل به ~~للناس إحسان وخير، وأما بالنسبة إلى الأمر، فإن قصد به وجه الله وابتغاء ~~مرضاته كان خيرا له، وأثيب عليه، وإن لم يقصد ذلك لم يكن خيرا له، ولا ثواب ~~له عليه، وهذا بخلاف من صام وصلى وذكر الله، يقصد بذلك عرض الدنيا، فإنه لا ~~خير له فيه بالكلية؛ لأنه لا نفع في ذلك لصاحبه، لما يترتب عليه من الإثم ~~فيه، ولا لغيره؛ لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، اللهم إلا أن يحصل لأحد به ~~اقتداء في ذلك. PageV01P065 # وأما ما ورد في السنة وكلام السلف من تسمية هذا المعنى بالنية، فكثير ~~جدا، ونحن نذكر بعضه، كما خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث عبادة بن ~~الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من غزا في سبيل الله ~~ولم ينو إلا عقالا، فله ما نوى)) (1) . # وخرج الإمام أحمد (2) من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم ~~بنيته)) . # وخرج ابن ماجه (3) من حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((يحشر الناس على نياتهم)) ، ومن حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((إنما يبعث الناس على نياتهم)) (4) . # وخرج ابن أبي الدنيا من حديث عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إنما يبعث # المقتتلون على النيات)) (5) . # وفي " صحيح مسلم " (6) عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((يعوذ عائذ PageV01P066 # بالبيت، فيبعث إليه ms018 بعث، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم)) ، فقلت: # يا رسول الله، فكيف بمن كان كارها؟ قال: ((يخسف به معهم، ولكنه يبعث يوم ~~القيامة على نيته)) . # وفيه أيضا عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى هذا الحديث، ~~وقال # فيه: ((يهلكون مهلكا واحدا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على # نياتهم)) (1) . # وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين ~~عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله ~~له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) . لفظ ابن ماجه، ~~ولفظ أحمد: ((من كان همه الآخرة، ومن كانت نيته الدنيا)) (2) ، وخرجه ابن ~~أبي الدنيا (3) ، وعنده: ((من كانت نيته الدنيا، ومن كانت نيته الآخرة)) . # وفي " الصحيحين " عن سعد بن أبي وقاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إنك لن تنفق نفقة PageV01P067 # تبتغي بها وجه الله إلا أثبت عليها، حتى اللقمة تجعلها في في # امرأتك)) (1) . # وروى ابن أبي الدنيا بإسناد منقطع عن عمر، قال: لا عمل لمن لا نية له، ~~ولا أجر لمن لا حسبة له، يعني: لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله - ~~عز وجل -. # وبإسناد ضعيف عن ابن مسعود، قال: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول ~~وعمل إلا بنية، ولا ينفع قول وعمل ونية إلا بما وافق السنة. # وعن يحيى بن أبي كثير، قال: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل (2) . # وعن زبيد اليامي، قال: إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء، حتى في الطعام ~~والشراب، وعنه أنه قال: انو في كل شيء تريده الخير، حتى خروجك إلى الكناسة ~~(3) . # وعن داود الطائي (4) ، قال: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك ~~به خيرا وإن لم تنصب. PageV01P068 # قال داود: والبر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوما ~~نيته إلى أصله. # وعن سفيان الثوري، قال: ما ms019 عالجت شيئا أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب # علي (1) . # وعن يوسف بن أسباط، قال: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول ~~الاجتهاد (2) . # وقيل لنافع بن جبير: ألا تشهد الجنازة؟ قال: كما أنت حتى أنوي، قال: ففكر ~~هنية، ثم قال: امض (3) . # وعن مطرف بن عبد الله قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح ~~النية (4) . # وعن بعض السلف قال: من سره أن يكمل له عمله، فليحسن نيته، فإن الله # - عز وجل - يأجر العبد إذا حسنت نيته حتى باللقمة. # وعن ابن المبارك، قال: رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره ~~النية. # وقال ابن عجلان: لا يصلح العمل إلا بثلاث: التقوى لله، والنية الحسنة، ~~والإصابة. PageV01P069 # وقال الفضيل بن عياض: إنما يريد الله - عز وجل - منك نيتك وإرادتك. # وعن يوسف بن أسباط، قال: إيثار الله - عز وجل - أفضل من القتل في سبيله. # خرج ذلك كله ابن أبي الدنيا في كتاب " الإخلاص والنية ". # وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر - رضي الله عنه -، قال: أفضل الأعمال أداء ~~ما افترض الله - عز وجل -، والورع عما حرم الله - عز وجل -، وصدق النية ~~فيما عند الله - عز وجل -. # وبهذا يعلم معنى ما روي عن الإمام أحمد: أن أصول الإسلام ثلاثة أحاديث: ~~حديث: ((الأعمال بالنيات)) ، وحديث: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ~~رد)) ، وحديث: ((الحلال بين والحرام بين)) . فإن الدين كله يرجع إلى فعل ~~المأمورات، وترك المحظورات، والتوقف عن الشبهات، وهذا كله تضمنه حديث ~~النعمان بن بشير. # وإنما يتم ذلك بأمرين: # أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السنة، وهذا هو الذي تضمنه ~~حديث عائشة: ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)) (1) . # والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله - عز وجل -، كما تضمنه ~~حديث عمر: ((الأعمال بالنيات)) . PageV01P070 # وقال الفضيل في قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (1) ، قال: أخلصه ~~وأصوبه. وقال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان ~~صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل ms020 حتى يكون خالصا صوابا، قال: والخالص إذا كان ~~لله - عز وجل -، والصواب إذا كان على السنة (2) . # وقد دل على هذا الذي قاله الفضيل قول الله - عز وجل -: {فمن كان يرجوا ~~لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (3) . # وقال بعض العارفين: إنما تفاضلوا بالإرادات، ولم يتفاضلوا بالصوم ~~والصلاة. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته ~~إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته ~~إلى ما هاجر إليه)) . PageV01P071 # لما ذكر - صلى الله عليه وسلم - أن الأعمال بحسب النيات، وأن حظ العامل ~~من عمله نيته من خير أو شر، وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كليتان، لا ~~يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالا من أمثال الأعمال التي صورتها واحدة، ~~ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، وكأنه يقول: سائر الأعمال على حذو ~~هذا المثال. # وأصل الهجرة: هجران بلد الشرك، والانتقال منه إلى دار الإسلام، كما كان ~~المهاجرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينة (1) النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النجاشي. # فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الهجرة تختلف باختلاف النيات ~~والمقاصد بها (2) ، فمن هاجر إلى دار الإسلام حبا لله ورسوله، ورغبة في ~~تعلم دين الإسلام، وإظهار دينه حيث كان يعجز عنه في دار الشرك، فهذا هو ~~المهاجر إلى الله ورسوله حقا، وكفاه شرفا وفخرا أنه حصل له ما نواه من ~~هجرته إلى الله ورسوله. # ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشرط على إعادته بلفظه؛ لأن حصول ما ~~نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة. # ومن كانت هجرته من دار الشرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ~~PageV01P072 # ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأول تاجر، ~~والثاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر. # وفي قوله: ((إلى ما هاجر إليه)) تحقير لما طلبه من أمر الدنيا، واستهانة ~~به، حيث لم يذكره بلفظه. وأيضا فالهجرة إلى الله ورسوله ms021 واحدة فلا تعدد ~~فيها، فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشرط. # والهجرة لأمور الدنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارة، ~~ومحرمة أخرى، وأفراد (1) ما يقصد بالهجرة من أمور الدنيا لا تنحصر، فلذلك ~~قال: ((فهجرته (2) إلى ما هاجر إليه)) ، يعني: كائنا ما كان. # وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إذا جاءكم المؤمنات ~~مهاجرات فامتحنوهن} الآية (3) . PageV01P073 # قال: كانت المرأة إذا أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - حلفها بالله: ما ~~خرجت من بغض زوج، وبالله: ما خرجت رغبة بأرض عن # أرض (1) ، وبالله: ما خرجت التماس دنيا، وبالله: ما خرجت إلا حبا لله ~~ورسوله. خرجه ابن أبي حاتم (2) ، وابن جرير (3) ، والبزار في " مسنده " (4) ~~، وخرجه الترمذي في بعض نسخ كتابه مختصرا. # وقد روى وكيع في كتابه عن الأعمش، عن شقيق - هو أبو وائل - قال: خطب ~~أعرابي من الحي امرأة يقال لها: أم قيس. فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر، ~~فتزوجته، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال: فقال عبد الله - يعني: ابن مسعود ~~-: من هاجر يبتغي شيئا، فهو له. # وهذا السياق يقتضي أن هذا لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~إنما كان في # عهد ابن مسعود، ولكن روي من طريق سفيان الثوري، عن الأعمش، # عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال # لها: أم قيس، فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجها، # فكنا نسميه مهاجر أم قيس. قال ابن مسعود: من هاجر لشيء (5) # فهو له (6) . # وقد اشتهر أن قصة مهاجر أم قيس هي (7) كانت سبب قول النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها)) ، وذكر ~~ذلك كثير من المتأخرين # في PageV01P074 # كتبهم، ولم نر لذلك أصلا بإسناد يصح، والله أعلم (1) . # وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى، فصلاحها وفسادها بحسب النية ~~الباعثة عليها، كالجهاد والحج وغيرهما، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- عن اختلاف نيات الناس في الجهاد وما يقصد به من الرياء، وإظهار (2) ~~الشجاعة والعصبية ms022، وغير ذلك: أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون ~~كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل # الله)) فخرج بهذا كل (3) ما سألوا عنه من المقاصد الدنيوية. # ففي " الصحيحين " عن أبي موسى الأشعري: أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، ~~والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)) (4) ~~. # وفي رواية لمسلم: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل ~~شجاعة، ويقاتل # حمية (5) ، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فذكر الحديث. # وفي رواية له أيضا: الرجل يقاتل غضبا، ويقاتل حمية. PageV01P075 # وخرج النسائي من حديث أبي أمامة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - (1) : ((لا شيء له)) ، ثم قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إن (2) الله لا يقبل من العمل إلا ما كان # خالصا، وابتغي به وجهه)) (3) . # وخرج أبو داود (4) من حديث أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله، رجل ~~يريد الجهاد وهو يبتغي عرضا من عرض (5) الدنيا؟ فقال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((لا أجر له)) فأعاد عليه ثلاثا، والنبي - صلى الله عليه وسلم ~~- يقول: ((لا أجر له)) . # وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث معاذ بن جبل، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، # قال: ((الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق ~~الكريمة (6) ، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما ~~من غزا # فخرا ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع # بالكفاف)) (7) . # وخرج أبو داود (8) # من حديث عبد الله بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد ~~والغزو، فقال (9) : ((إن قاتلت صابرا محتسبا، بعثك الله صابرا محتسبا، وإن ~~قاتلت مرائيا مكاثرا، بعثك الله مرائيا مكاثرا، على أي ms023 حال قاتلت أو قتلت ~~بعثك الله على تيك الحال)) . PageV01P076 # وخرج مسلم (1) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: سمعت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول: ((إن # أول الناس يقضى يوم القيامة عليه (2) رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه ~~عليه (3) ، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: ~~كذبت، ولكنك قاتلت؛ لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، ~~حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به، فعرفه ~~نعمه عليه (4) فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت ~~فيك (5) القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم، ليقال: عالم، وقرأت القرآن ~~ليقال: قارىء، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل ~~وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به، فعرفه نعمه عليه (6) ، ~~فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا ~~أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت، ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر ~~به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار)) . # وفي الحديث: إن معاوية لما بلغه هذا الحديث (7) ، بكى حتى غشي عليه، فلما ~~أفاق، قال: صدق الله ورسوله، قال الله - عز وجل -: {من كان يريد الحياة ~~الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس ~~لهم في الآخرة إلا النار} (8) . PageV01P077 # وقد ورد الوعيد على تعلم العلم لغير وجه الله، كما خرجه الإمام أحمد وأبو ~~داود وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ~~ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني: ريحها (1) ~~. # وخرج الترمذي (2) من حديث كعب بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف به ~~وجوه الناس إليه، أدخله الله النار)) . # وخرجه ابن ماجه ms024 (3) # - بمعناه - من حديث (4) ابن عمر، وحذيفة، وجابر، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - (5) ، ولفظ حديث جابر: ((لا تعلموا العلم، لتباهوا به العلماء، ~~ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك، فالنار ~~النار)) . # وقال ابن مسعود: لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا ~~به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم PageV01P078 # وفعلكم ما # عند الله (1) ، فإنه يبقى ويذهب ما سواه (2) . # وقد ورد الوعيد على العمل لغير الله عموما، كما خرج الإمام أحمد (3) من ~~حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين (4) في الأرض، فمن عمل ~~منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في # الآخرة (5) نصيب)) . # واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا، بحيث لا يراد به ~~سوى مراآت المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم، كما قال الله - ~~عز وجل -: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون ~~الله إلا قليلا} (6) . # وقال تعالى: {فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون} ~~الآية (7) . # وكذلك وصف الله تعالى الكفار بالرياء في قوله: {ولا تكونوا كالذين خرجوا ~~من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله} (8) . # وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر ~~في الصدقة الواجبة أو الحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي ~~PageV01P079 # يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، ~~وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة (1) . # وتارة يكون العمل لله، ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص ~~الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضا (2) . # وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء (4) عن ~~الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشريكه)) ، وخرجه ابن ماجه ~~(5) ، ولفظه: ((فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)) . # وخرج الإمام أحمد (6) عن شداد ms025 بن أوس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((من صلى يرائي، فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي ~~فقد أشرك، وإن الله - عز وجل - يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي شيئا، فإن ~~جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني)) . # وخرج الإمام أحمد (7) والترمذي (8) وابن ماجه (9) من حديث أبي سعيد بن # أبي فضالة PageV01P080 # - وكان من الصحابة - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ~~جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل ~~عمله لله - عز وجل - فليطلب ثوابه من عند غير الله - عز وجل -، فإن الله ~~أغنى الشركاء عن الشرك)) . # وخرج البزار في " مسنده " (1) من حديث الضحاك بن قيس، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله - عز وجل - يقول: أنا خير شريك، فمن أشرك ~~معي شريكا، فهو لشريكي. يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله - عز وجل -؛ فإن ~~الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أخلص له، ولا تقولوا: هذا لله وللرحم، ~~فإنها للرحم، وليس لله منها شيء، ولا تقولوا: هذا لله ولوجوهكم، فإنها ~~لوجوهكم، وليس لله فيها شيء (2)) ) . # وخرج النسائي (3) بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي: أن رجلا جاء إلى رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا غزا يلتمس ~~الأجر والذكر (4) ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا شيء له)) ~~فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله # - صلى الله عليه وسلم - (5) : ((لا شيء له)) ، ثم قال: ((إن الله لا يقبل ~~من العمل إلا ما كان له خالصا، وابتغي به وجهه)) . # وخرج الحاكم (6) من حديث ابن عباس قال (7) : قال رجل: يا رسول الله، إني ~~أقف الموقف أريد به وجه الله، وأريد أن يرى موطني، فلم يرد عليه رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم - شيئا حتى نزلت: {فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل ~~عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (8) . PageV01P081 # وممن روي عنه هذا المعنى، وأن العمل إذا ms026 خالطه شيء من الرياء كان # باطلا (1) : طائفة من السلف، منهم: عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، ~~والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم. # وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((لا يقبل الله عملا فيه مثقال حبة خردل من رياء)) (2) . # ولا نعرف عن السلف في هذا خلافا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين. # فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة، أو أخذ ~~شيء من الغنيمة، أو التجارة، نقص بذلك أجر جهادهم، ولم يبطل بالكلية، وفي " ~~صحيح مسلم " (3) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إن الغزاة إذا غنموا غنيمة، تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئا، ~~تم لهم أجرهم)) . # وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه ~~PageV01P082 # لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا. # وقال الإمام أحمد: التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من ~~نيتهم في غزاتهم، ولا يكون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره. # وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس ~~أن يأخذ، كأنه خرج لدينه، فإن أعطي شيئا أخذه. # وكذا روي عن عبد الله بن عمرو، قال: إذا أجمع أحدكم على الغزو، فعوضه ~~الله رزقا، فلا بأس بذلك، وأما إن أحدكم إن أعطي درهما غزا، وإن منع درهما ~~مكث، فلا خير في ذلك. # وكذا قال الأوزاعي: إذا كانت نية الغازي على الغزو، فلا أرى بأسا. # وهكذا يقال فيمن أخذ شيئا في الحج ليحج به: إما (1) عن نفسه، أو عن غيره، ~~وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر: هو تمام لا ~~ينقص من أجورهم شيء، وهذا محمول على أن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون ~~التكسب. # وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ~~ودفعه، فلا PageV01P083 # يضره ms027 بغير خلاف، وإن استرسل معه، فهل يحبط (1) عمله أم لا يضره ذلك ~~ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام ~~أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته ~~الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره. # ويستدل لهذا القول بما خرجه أبو داود في " مراسيله " (2) عن عطاء ~~الخراساني: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من ~~يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم ~~الشهيد؟ قال # : ((كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا)) . # وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو في عمل يرتبط آخره # بأوله، كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه كالقراءة والذكر ~~وإنفاق المال ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى ~~تجديد نية. # وكذلك روي عن سليمان بن داود الهاشمي (3) أنه قال: ربما أحدث بحديث # ولي (4) نية، فإذا أتيت على بعضه، تغيرت نيتي، فإذا الحديث الواحد يحتاج ~~إلى # نيات (5) . # ولا يرد على هذا الجهاد، كما في مرسل عطاء الخراساني (6) ، فإن الجهاد ~~يلزم بحضور الصف، ولا يجوز تركه حينئذ، فيصير كالحج. # فأما إذا عمل العمل لله (7) خالصا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في # قلوب المؤمنين بذلك، ففرح PageV01P084 # بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك، لم يضره # ذلك. # وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه ~~سئل عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ويحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل ~~بشرى المؤمن)) خرجه مسلم (1) ، وخرجه ابن ماجه (2) ، وعنده: الرجل يعمل ~~العمل لله فيحبه الناس # عليه. وبهذا المعنى فسره الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وابن جرير # الطبري (3) ، وغيرهم (4) . # وكذلك الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة: أن رجلا ~~قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل فيسره، فإذا اطلع عليه أعجبه، فقال: ~~((له أجران: أجر السر، وأجر العلانية)) (5) . # ولنقتصر على هذا المقدار من الكلام على ms028 الإخلاص والرياء، فإن فيه كفاية. # وبالجملة، فما أحسن قول سهل بن عبد الله التستري: ليس على النفس شيء أشق ~~من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب. # وقال يوسف بن الحسين الرازي: أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم اجتهد في ~~إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر. # وقال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما ~~تبت إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي، ثم لم أف لك ~~به، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه PageV01P085 # ما قد (1) علمت (2) . # فصل # وأما النية بالمعنى الذي يذكره الفقهاء، وهو أن تمييز العبادات من ~~العادات، وتمييز العبادات بعضها من بعض، فإن الإمساك عن الأكل والشرب يقع ~~تارة حمية، وتارة لعدم القدرة على الأكل (3) ، وتارة تركا للشهوات لله - عز ~~وجل -، فيحتاج في الصيام إلى نية ليتميز بذلك عن ترك الطعام على غير هذا ~~الوجه. # وكذلك العبادات، كالصلاة والصيام، منها فرض، ومنها نفل. # والفرض يتنوع أنواعا، فإن الصلوات المفروضات خمس صلوات كل يوم وليلة، ~~والصوم الواجب تارة يكون صيام رمضان، وتارة (4) صيام كفارة، أو عن نذر، ولا ~~يتميز هذا كله إلا بالنية، وكذلك الصدقة، تكون نفلا، وتكون فرضا، والفرض ~~منه زكاة، ومنه كفارة، ولا يتميز ذلك إلا بالنية، فيدخل ذلك في عموم قوله - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((وإنما لكل امرىء (5) ما نوى)) . # وفي بعض ذلك اختلاف مشهور بين العلماء، فإن منهم من لا يوجب تعيين # النية للصلاة المفروضة، بل يكفي عنده أن ينوي فرض الوقت، وإن لم يستحضر # تسميته في الحال، وهي رواية عن الإمام (6) أحمد (7) . PageV01P086 # ويبنى على هذا القول: أن من فاتته صلاة من يوم وليلة، ونسي عينها، أن ~~عليه أن يقضي ثلاث صلوات: الفجر والمغرب ورباعية واحدة (1) . # وكذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن صيام رمضان لا يحتاج إلى نية تعينية # أيضا، بل تجزىء بنية الصيام مطلقا؛ لأن وقته غير قابل لصيام آخر، وهو ~~أيضا رواية عن الإمام (2) أحمد ms029 (3) . وربما حكي عن بعضهم أن صيام رمضان لا ~~يحتاج إلى نية بالكلية (4) ؛ لتعيينه بنفسه، فهو كرد الودائع، وحكي عن ~~الأوزاعي أن الزكاة كذلك (5) . وتأول بعضهم قوله على أنه أراد أنها تجزىء ~~بنية الصدقة المطلقة كالحج. وكذلك قال أبو حنيفة: لو تصدق بالنصاب كله من ~~غير نية أجزأه عن زكاته (6) . # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سمع رجلا يلبي بالحج عن ~~رجل، فقال له: PageV01P087 # ((أحججت عن نفسك؟)) قال: لا، قال: ((هذه عن نفسك، ثم حج عن الرجل)) . # وقد تكلم في صحة هذا الحديث، ولكنه صحيح عن ابن عباس وغيره (1) . # وأخذ بذلك الشافعي (2) وأحمد (3) في المشهور عنه وغيرهما، في أن حجة ~~الإسلام تسقط بنية الحج مطلقا، سواء نوى التطوع أو غيره، ولا يشترط للحج ~~تعيين النية، فمن حج عن غيره، ولم يحج عن نفسه، وقع عن نفسه، وكذا لو حج عن ~~نذره، أو نفلا، ولم يكن حج حجة الإسلام، فإنه ينقلب عنها، وقد ثبت عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أصحابه في حجة الوداع بعد ما دخلوا معه، ~~وطافوا، وسعوا أن يفسخوا حجهم، ويجعلوها عمرة، وكان منهم القارن والمفرد ~~(4) ، # وإنما كان طوافهم عند قدومهم طواف القدوم وليس بفرض، وقد أمرهم أن يجعلوه ~~طواف عمرة (5) وهو فرض، وقد أخذ بذلك الإمام أحمد في فسخ الحج (6) ، وعمل ~~به، وهو مشكل على أصله، فإنه يوجب تعيين الطواف الواجب للحج والعمرة ~~بالنية، وخالفه في ذلك أكثر الفقهاء، كمالك والشافعي وأبي حنيفة (7) . # وقد يفرق الإمام أحمد بين أن يكون طوافه في إحرام انقلب، كالإحرام # الذي يفسخه، ويجعله عمرة، فينقلب الطواف فيه تبعا لانقلاب الإحرام، كما # ينقلب الطواف في الإحرام الذي نوى به التطوع إذا كان عليه حجة الإسلام، ~~تبعا لانقلاب إحرامه من أصله، ووقوعه عن فرضه، بخلاف ما إذا طاف للزيارة ~~بنية # الوداع، أو التطوع (8) ، فإن هذا لا يجزئه لأنه (9) لم ينو به الفرض، ولم ~~ينقلب فرضا تبعا لانقلاب إحرامه، والله أعلم (10) . PageV01P088 # ومما يدخل في هذا الباب: أن رجلا في عهد النبي ms030 - صلى الله عليه وسلم - ~~كان قد وضع صدقته عند رجل، فجاء ابن صاحب الصدقة، فأخذها ممن هي عنده، فعلم ~~بذلك أبوه، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما إياك أردت، ~~فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتصدق: ((لك ما نويت)) ، وقال للآخذ: ~~((لك ما أخذت)) خرجه (1) البخاري (2) . # وقد أخذ الإمام (3) أحمد بهذا الحديث، وعمل به في المنصوص عنه، وإن كان ~~أكثر أصحابه على خلافه، فإن الرجل إنما يمنع من دفع الصدقة إلى ولده خشية ~~أن يكون محاباة، فإذا وصلت إلى ولده من حيث لا يشعر، فالمحاباة منتفية، وهو ~~من (4) أهل استحقاق الصدقة في نفس الأمر (5) ، ولهذا لو دفع صدقته إلى من ~~يظنه فقيرا، وكان غنيا في نفس الأمر، أجزأته على الصحيح؛ لأنه إنما دفع إلى ~~من يعتقد استحقاقه، والفقر أمر خفي، لا يكاد يطلع على حقيقته (6) . # وأما الطهارة، فالخلاف في اشتراط النية لها مشهور، وهو يرجع إلى أن # الطهارة PageV01P089 # للصلاة هل هي عبادة مستقلة، أم هي شرط من شروط الصلاة، كإزالة # النجاسة، وستر العورة؟ فمن لم يشترط لها النية، جعلها كسائر شروط الصلاة، # ومن اشترط لها النية، جعلها عبادة مستقلة، فإذا كانت عبادة في نفسها، لم ~~تصح # بدون نية، وهذا قول جمهور العلماء (1) ، # ويدل على صحة ذلك تكاثر النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~بأن الوضوء يكفر الذنوب والخطايا، وأن (2) من توضأ كما أمر، كان كفارة ~~لذنوبه (3) . # وهذا يدل على أن الوضوء المأمور به في القرآن عبادة مستقلة (4) بنفسها، ~~حيث رتب عليه تكفير الذنوب، والوضوء الخالي عن النية لا يكفر شيئا من ~~الذنوب # بالاتفاق (5) ، فلا يكون مأمورا به، ولا تصح به الصلاة، ولهذا لم يرد في ~~شيء من # بقية شرائط الصلاة، كإزالة النجاسة، وستر العورة ما ورد في الوضوء من ~~الثواب (6) ، ولو شرك بين نية الوضوء، وبين قصد التبرد، أو إزالة النجاسة، ~~أو الوسخ، أجزأه في المنصوص عن الشافعي (7) ، وهذا (8) قول أكثر أصحاب أحمد ~~(9) ؛ لأن هذا القصد (10) ليس بمحرم، ولا مكروه، ولهذا لو قصد مع رفع ms031 الحدث ~~تعليم الوضوء، لم يضره ذلك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصد ~~أحيانا (11) بالصلاة تعليمها للناس، وكذلك الحج، كما قال: PageV01P090 # ((خذوا عني مناسككم (1)) ) . # ومما تدخل النية فيه من أبواب العلم: مسائل الأيمان. # فلغو اليمين لا كفارة فيه، وهو ماجرى على اللسان من غير قصد بالقلب إليه، ~~كقوله: لا والله، وبلى والله في أثناء الكلام (2) ، # قال تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت ~~قلوبكم} (3) . # وكذلك يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وما قصد بيمينه، فإن حلف بطلاق، أو ~~عتاق، ثم ادعى أنه نوى ما يخالف ظاهر لفظه، فإنه يدين فيما بينه وبين الله ~~- عز وجل - (4) . # وهل يقبل منه في ظاهر الحكم؟ فيه قولان للعلماء (5) مشهوران، وهما ~~روايتان عن أحمد (6) ، وقد روي عن عمر أنه رفع إليه رجل قالت له امرأته: ~~شبهني، قال: كأنك ظبية، كأنك حمامة، فقالت (7) : لا أرضى حتى تقول: أنت ~~خلية (8) طالق، فقال ذلك، فقال عمر: خذ بيدها فهي امرأتك. خرجه أبو عبيد ~~(9) ، # وقال: أراد الناقة تكون معقولة، ثم تطلق من عقالها ويخلى عنها، فهي خلية ~~من العقال، وهي طالق؛ لأنها قد طلقت منه، فأراد الرجل ذلك، فأسقط عنه عمر ~~الطلاق لنيته. قال: وهذا أصل لكل (10) من تكلم بشيء يشبه لفظ الطلاق (11) ~~والعتاق، # وهو ينوي غيره أن القول فيه قوله فيما بينه وبين الله، في الحكم على ~~تأويل مذهب (12) عمر - رضي الله عنه -. PageV01P091 # ويروى عن سميط السدوسي، قال: خطبت امرأة، فقالوا: لا نزوجك حتى تطلق ~~امرأتك، فقلت: إني قد طلقتها ثلاثا، فزوجوني، ثم نظروا، فإذا امرأتي عندي، ~~فقالوا: أليس قد طلقتها ثلاثا؟ فقلت: كان عندي فلانة فطلقتها، وفلانة ~~فطلقتها، وفلانة فطلقتها (1) ، فأما هذه، فلم أطلقها، فأتيت شقيق بن ثور ~~وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدا، فقلت له: سل أمير المؤمنين عن هذه، فخرج ~~فسأله، فقال: نيته. خرجه أبو عبيد في " كتاب الطلاق "، وحكى إجماع العلماء ~~على مثل (2) ذلك. # وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: حديث السميط تعرفه (3) ؟ قال: نعم، ~~السدوسي، إنما جعل نيته ms032 بذلك، فذكر ذلك شقيق لعثمان، فجعلها نيته (4) . # فإن كان الحالف ظالما، ونوى خلاف ما حلفه عليه غريمه، لم تنفعه # نيته، وفي " صحيح مسلم " (5) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يمينك على ما ~~يصدقك عليه صاحبك)) . وفي رواية له (6) : ((اليمين على نية # المستحلف (7)) ) ، PageV01P092 # وهذا محمول على الظالم، فأما المظلوم، فينفعه ذلك. وقد خرج الإمام أحمد، ~~وابن ماجه من حديث سويد بن حنظلة، قال: خرجنا نريد رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج الناس أن يحلفوا، # فحلفت أنا إنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~فأخبرته أن القوم # تحرجوا أن يحلفوا، وحلفت أنا (1) إنه أخي، فقال: ((صدقت، المسلم أخو # المسلم (2)) ) . # وكذلك تدخل النية في الطلاق والعتاق، فإذا أتى بلفظ من ألفاظ الكنايات ~~المحتملة PageV01P093 # للطلاق أو العتاق، فلا بد له من النية (1) . # وهل يقوم مقام النية دلالة الحال من غضب أو سؤال الطلاق ونحوه أم لا؟ # فيه خلاف مشهور بين العلماء (2) ، وهل يقع بذلك الطلاق في الباطن كما لو ~~نواه، أم يلزم به في ظاهر الحكم فقط؟ فيه خلاف مشهور أيضا (3) ، ولو أوقع ~~الطلاق بكناية ظاهرة، كالبتة ونحوها، فهل يقع به الثلاث أو واحدة؟ فيه ~~قولان مشهوران، وظاهر مذهب أحمد أنه يقع به الثلاث مع إطلاق النية، فإن نوى ~~به ما دون الثلاث، وقع به ما نواه، وحكي عنه رواية أنه يلزمه الثلاث أيضا ~~(4) . # ولو رأى امرأة، فظنها امرأته، فطلقها، ثم بانت (5) أجنبية، طلقت امرأته؛ ~~لأنه إنما قصد طلاق امرأته. نص على ذلك أحمد (6) ، وحكي عنه رواية أخرى: ~~أنها لا تطلق (7) ، وهو قول الشافعي (8) ، ولو كان العكس، بأن رأى امرأة ~~ظنها أجنبية، فطلقها، فبانت امرأته، فهل تطلق؟ فيه قولان هما روايتان عن ~~أحمد (9) ، والمشهور من مذهب الشافعي وغيره أنها تطلق (10) . PageV01P094 # ولو كان له امرأتان، فنهى إحداهما عن الخروج، ثم رأى امرأة قد # خرجت، فظنها المنهية (1) ، فقال لها: فلانة خرجت (2) ، أنت طالق، فقد ~~اختلف العلماء فيها، فقال الحسن: تطلق المنهية ms033؛ لأنها هي التي نواها (3) . # وقال إبراهيم: تطلقان (4) ، وقال عطاء: لا تطلق واحدة منهما، ومذهب أحمد: ~~أنه تطلق المنهية رواية (5) واحدة؛ لأنه نوى طلاقها. وهل تطلق المواجهة على ~~روايتين عنه، واختلف الأصحاب على القول بأنها (6) تطلق: هل تطلق في الحكم ~~فقط، أم في الباطن أيضا؟ على طريقتين لهم. # وقد استدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الأعمال بالنيات، وإنما ~~لامرىء ما نوى)) على # أن العقود التي يقصد بها في الباطن التوصل إلى ما هو محرم غير صحيحة، # كعقود البيوع التي يقصد بها معنى الربا ونحوها، كما هو مذهب مالك وأحمد ~~وغيرهما، فإن هذا العقد إنما نوي به الربا، لا البيع (7) ، ((وإنما لامرىء ~~ما # نوى)) . # ومسائل النية المتعلقة بالفقه كثيرة جدا، وفيما ذكرناه كفاية. # وقد تقدم عن الشافعي أنه قال في هذا الحديث: إنه يدخل في سبعين بابا من # الفقه، والله أعلم (8) . # والنية: هي قصد القلب (9) ، ولا يجب التلفظ بما في القلب في شيء من ~~العبادات، وخرج بعض أصحاب الشافعي له قولا باشتراط التلفظ بالنية للصلاة، ~~وغلطه المحققون منهم، PageV01P095 # واختلف المتأخرون من الفقهاء في التلفظ بالنية في الصلاة # وغيرها، فمنهم من استحبه، ومنهم من كرهه (1) . # ولا يعلم في هذه المسائل نقل خاص عن السلف، ولا عن الأئمة إلا في # الحج وحده، فإن مجاهدا قال: إذا أراد الحج، يسمي ما يهل به، وروي عنه أنه # قال: يسميه في التلبية، وهذا ليس مما نحن فيه، فإن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - كان يذكر # نسكه في تلبيته، فيقول: ((لبيك عمرة وحجا)) (2) ، وإنما كلامنا أنه يقول ~~عند إرادة عقد الإحرام: اللهم إني أريد الحج أو العمرة، كما استحب ذلك كثير ~~من الفقهاء (3) ، # وكلام مجاهد ليس صريحا في ذلك. وقال أكثر السلف، منهم عطاء وطاووس ~~والقاسم بن محمد والنخعي: تجزئه النية عند الإهلال، وصح عن ابن عمر أنه سمع ~~رجلا عند إحرامه يقول: اللهم إني أريد الحج أو العمرة، فقال له: أتعلم ~~الناس؟ أو ليس الله يعلم ما في نفسك؟ (4) # ونص مالك على مثل هذا، وأنه لا يستحب ms034 له أن يسمي ما أحرم به. حكاه # صاحب كتاب " تهذيب المدونة " من أصحابه (5) ، وقال أبو داود: قلت لأحمد: ~~أتقول قبل التكبير -يعني: في الصلاة- شيئا؟ قال: لا، وهذا قد يدخل فيه أنه ~~لا يتلفظ بالنية، والله أعلم (6) . PageV01P096 ### | الحديث الثاني # عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قال: بينما نحن جلوس (1) عند رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، ~~شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على ~~فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. # فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الإسلام: أن تشهد أن لا إله ~~إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، ~~وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا)) . قال: صدقت (2) ، قال: فعجبنا له يسأله ~~ويصدقه. # قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله، ~~واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) . قال: صدقت. # قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن ~~تراه فإنه يراك)) . # قال: فأخبرني عن الساعة؟ # قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)) . # قال: فأخبرني عن أمارتها؟ # قال: ((أن تلد الأمة ربتها (3) ، # وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) . # ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال لي: ((يا عمر، أتدري من السائل؟)) # قلت: الله ورسوله أعلم. # قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم (4) دينكم)) . رواه مسلم (5) # هذا الحديث تفرد مسلم عن البخاري بإخراجه، فخرجه من طريق كهمس، عن عبد ~~الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: PageV01P097 # كان (1) أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن ~~عبد الرحمان الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا ~~عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن ms035 ~~يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد ~~الرحمان، إنه (2) قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون (3) العلم، ~~وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف (4) ، فقال: إذا ~~لقيت أولئك، فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد ~~الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن ~~بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -، فذكر الحديث بطوله. # ثم خرجه من طرق أخرى، بعضها يرجع إلى عبد الله بن بريدة (5) ، وبعضها ~~يرجع إلى يحيى بن يعمر (6) ، وذكر أن في بعض ألفاظها زيادة ونقصا. # وقد خرجه ابن حبان في " صحيحه " (7) من طريق سليمان التيمي، عن يحيى ابن ~~يعمر، وقد خرجه مسلم من هذه الطريق، إلا أنه لم يذكر لفظه، وفيه زيادات ~~منها: في الإسلام، قال: ((وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وأن تتم الوضوء، ~~وتصوم رمضان)) قال: PageV01P098 # فإذا أنا فعلت ذلك، فأنا مسلم؟ قال: ((نعم)) . # وقال في الإيمان: ((وتؤمن بالجنة والنار والميزان)) ، وقال فيه: فإذا ~~فعلت ذلك، فأنا مؤمن؟ قال: ((نعم)) . # وقال في آخره: ((هذا جبريل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم، خذوا عنه، والذي ~~نفسي بيده ما شبه علي منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولى)) . # وخرجاه في " الصحيحين " (1) # من حديث أبي هريرة، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما بارزا ~~للناس، فأتاه رجل، فقال: ما الإيمان (2) ؟ قال: ((الإيمان: أن تؤمن بالله ~~وملائكته وكتابه، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث الآخر)) . # قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: ((الإسلام (3) : أن تعبد الله لا ~~تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان ~~(4)) ) . # قال: يا رسول الله، ما الإحسان؟ قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن ~~لا تراه (5) ، فإنه يراك)) . # قال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ~~ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربتها، فذاك ms036 من # أشراطها، وإذا رأيت العراة الحفاة رؤوس الناس، فذاك من أشراطها، وإذا ~~تطاول رعاء البهم في البنيان، فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله)) ~~، ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إن الله عنده علم الساعة ~~وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس ~~بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} (6) . # قال: ثم أدبر الرجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((علي ~~بالرجل (7)) ) ، فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئا، فقال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((هذا جبريل جاءكم ليعلمكم أمر دينكم (8)) ) . # وخرجه مسلم بسياق أتم من هذا، وفيه في خصال الإيمان: ((وتؤمن بالقدر ~~PageV01P099 # كله)) ، وقال في الإحسان: ((أن تخشى الله كأنك تراه)) (1) . # وخرجه الإمام أحمد في " مسنده " (2) من حديث شهر بن حوشب، عن ابن عباس. ~~ومن حديث شهر بن حوشب أيضا، عن ابن عامر، أو أبي عامر، أو أبي مالك (3) ، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي حديثه قال: ونسمع رجع النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، ولا نرى الذي يكلمه، ولا نسمع كلامه (4) ، وهذا يرده ~~حديث عمر الذي خرجه مسلم، # وهو أصح (5) . # وقد روي الحديث (6) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس بن مالك ~~(7) ، وجرير بن عبد الله البجلي، وغيرهما (8) . # وهو حديث عظيم جدا، يشتمل على شرح الدين كله (9) ، ولهذا قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - في آخره: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم (10) دينكم)) بعد أن ~~شرح درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان، فجعل ذلك كله دينا. # واختلفت الرواية في تقديم الإسلام على الإيمان وعكسه، ففي حديث عمر الذي ~~خرجه مسلم أنه (11) بدأ بالسؤال عن الإسلام، وفي الترمذي وغيره: أنه بدأ ~~بالسؤال عن الإيمان، كما في حديث أبي هريرة، وجاء في بعض روايات حديث (12) ~~عمر أنه سأل عن الإحسان بين الإسلام والإيمان. PageV01P100 # فأما الإسلام، فقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأعمال الجوارح ~~الظاهرة من القول والعمل، وأول ذلك: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا ~~رسول ms037 الله، وهو عمل اللسان، ثم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، ~~وحج البيت من استطاع إليه سبيلا. # وهي منقسمة إلى عمل بدني: كالصلاة والصوم، وإلى عمل مالي: وهو إيتاء ~~الزكاة، وإلى ما هو مركب منهما: كالحج بالنسبة إلى البعيد عن مكة. # وفي رواية ابن حبان أضاف إلى ذلك الاعتمار، والغسل من الجنابة، # وإتمام الوضوء، وفي هذا تنبيه على أن جميع الواجبات الظاهرة داخلة في ~~مسمى الإسلام. # وإنما ذكرنا هاهنا أصول أعمال الإسلام التي ينبني عليها كما سيأتي شرح ~~ذلك في حديث ابن عمر: ((بني الإسلام على خمس)) في موضعه إن شاء الله تعالى. # وقوله في بعض الروايات: فإذا فعلت ذلك، فأنا مسلم؟ قال: ((نعم)) # يدل على أن من كمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس، صار مسلما حقا، مع أن # من أقر بالشهادتين، صار مسلما حكما، فإذا دخل في الإسلام (1) بذلك، # ألزم بالقيام ببقية خصال الإسلام، ومن ترك الشهادتين، خرج من الإسلام، # وفي خروجه من الإسلام بترك الصلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في # ترك بقية مباني الإسلام الخمس، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ~~(2) . # ومما يدل على أن جميع الأعمال الظاهرة تدخل في مسمى الإسلام قول النبي # - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (3) . ~~PageV01P101 # وفي " الصحيحين " (1) عن عبد الله بن عمرو: أن رجلا سأل النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ قال: ((أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من ~~عرفت ومن لم تعرف)) . # وفي " صحيح الحاكم " (2) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) قال: ((إن للإسلام ~~صوى (4) ومنارا كمنار الطريق، من ذلك: أن تعبد الله (5) ولا تشرك به شيئا، ~~وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن ~~المنكر، وتسليمك على بني آدم إذا لقيتهم وتسليمك على أهل بيتك إذا دخلت ~~عليهم، فمن انتقص منهن شيئا، فهو سهم من الإسلام تركه، ومن يتركهن فقد نبذ ~~الإسلام وراء ظهره)) . PageV01P102 # وخرج ابن مردويه من حديث (1) أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ms038 ~~-، قال # : ((للإسلام ضياء وعلامات كمنار الطريق، فرأسها وجماعها شهادة أن لا إله ~~إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وتمام ~~الوضوء، # والحكم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وطاعة ولاة الأمر، ~~وتسليمكم على أنفسكم، وتسليمكم على أهليكم (2) إذا دخلتم بيوتكم، وتسليمكم ~~على بني آدم إذا لقيتموهم (3)) ) وفي إسناده ضعف، ولعله موقوف (4) . # وصح من حديث أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة، قال: الإسلام ثمانية ~~أسهم: الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والجهاد سهم، وحج البيت سهم ~~(5) ، وصوم رمضان سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وخاب من ~~لا سهم له. وخرجه البزار مرفوعا (6) ، والموقوف أصح (7) . # ورواه بعضهم عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، خرجه أبو يعلى الموصلي (8) وغيره (9) ، والموقوف على حذيفة أصح. ~~قاله الدارقطني (10) وغيره. # وقوله: ((الإسلام سهم)) يعني: الشهادتين؛ لأنهما علم الإسلام، وبهما يصير ~~الإنسان مسلما. PageV01P103 # وكذلك ترك المحرمات داخل في مسمى الإسلام أيضا، كما روي عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أنه قال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، ~~وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى (1) . # ويدل على هذا أيضا ما خرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث ~~العرباض بن سارية (2) ، # عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، ~~وعلى جنبتي الصراط سوران، فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، ~~وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا، ولا ~~تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، ~~قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. والصراط: الإسلام. والسوران: حدود ~~الله. والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب ~~الله. والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم)) . # زاد الترمذي: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط # مستقيم} (3) . # ففي هذا المثل الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام هو ~~الصراط المستقيم الذي ms039 أمر الله تعالى (4) بالاستقامة عليه، ونهى عن تجاوز ~~حدوده، وأن من ارتكب شيئا من المحرمات، فقد تعدى حدوده. PageV01P104 # وأما الإيمان، فقد فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ~~بالاعتقادات الباطنة، فقال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، ~~والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) . # وقد ذكر الله في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع، كقوله ~~تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته ~~وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} (1) . وقال تعالى: {ولكن البر من آمن ~~بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} (2) ، وقال تعالى: {الذين ~~يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل ~~إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} (3) . # والإيمان بالرسل يلزم منه الإيمان بجميع ما أخبروا به من الملائكة، ~~والأنبياء، والكتاب (4) ، والبعث، والقدر، وغير ذلك من تفاصيل ما أخبروا به ~~من صفات الله # تعالى وصفات اليوم الآخر، كالميزان والصراط، والجنة، والنار. # وقد أدخل في هذه الآيات الإيمان بالقدر خيره وشره، ولأجل هذه الكلمة روى ~~ابن عمر هذا الحديث محتجا به على من أنكر القدر، وزعم أن الأمر # أنف: يعني أنه (5) مستأنف لم يسبق به سابق قدر من الله عز وجل، وقد غلظ # ابن عمر عليهم، وتبرأ منهم، وأخبر أنه لا تقبل منهم أعمالهم بدون الإيمان ~~بالقدر (6) . PageV01P105 # والإيمان بالقدر على درجتين (1) : # إحداهما: الإيمان بأن الله تعالى سبق (2) في علمه ما يعمله العباد من خير # وشر وطاعة ومعصية قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن أهل ~~النار، وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنه # كتب ذلك عنده وأحصاه (3) ، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه ~~وكتابه (4) . # والدرجة الثانية: أن الله تعالى خلق أفعال عباده كلها (5) من الكفر ~~والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم، فهذه الدرجة (6) يثبتها أهل السنة ~~والجماعة، وينكرها القدرية، والدرجة الأولى أثبتها كثير من القدرية، ونفاها ~~غلاتهم، كمعبد الجهني، الذي سئل ابن عمر عن مقالته، وكعمرو بن عبيد ms040 وغيره ~~(7) . # وقد قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به # خصموا، وإن جحدوه، فقد كفروا، يريدون أن من (8) أنكر العلم القديم السابق ~~بأفعال العباد، وأن الله قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في ~~كتاب حفيظ، فقد كذب بالقرآن، فيكفر بذلك، وإن أقروا بذلك، وأنكروا أن الله ~~خلق أفعال عباده، وشاءها، وأرادها منهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا؛ لأن ~~ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه. وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور بين ~~العلماء (9) . # وأما من أنكر العلم القديم، فنص الشافعي وأحمد على تكفيره، وكذلك غيرهما ~~من PageV01P106 # أئمة الإسلام (1) . # فإن قيل: فقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين ~~الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام، لا من الإيمان، والمشهور ~~عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان: قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة ~~في مسمى الإيمان (2) . وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن ~~بعدهم ممن أدركهم (3) . # وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا، وممن أنكر ذلك ~~على قائله، وجعله قولا محدثا: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، ~~وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي (4) ، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، ~~وغيرهم. وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره. وقال الأوزاعي: ~~كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان (5) والعمل (6) . # وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار: أما بعد، فإن للإيمان فرائض ~~وشرائع وحدودا وسننا (7) ، فمن استكملها، استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها، ~~لم يستكمل الإيمان، ذكره البخاري في " صحيحه " (8) . # قيل: الأمر على ما ذكره، PageV01P107 # وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين ~~إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم ~~يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم # ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا} (1) . # وفي " الصحيحين " (2) # عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: # ((آمركم بأربع: الإيمان بالله وحده (3) ، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ ~~شهادة أن لا إله ms041 إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن ~~تعطوا من المغنم الخمس)) . # وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((الإيمان # بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها ~~إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) ولفظه لمسلم. # وفي " الصحيحين " (5) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو ~~مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) فلولا أن ترك هذه الكبائر من ~~مسمى الإيمان لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها؛ لأن الاسم لا ينتفى ~~إلا بانتفاء بعض أركان المسمى، أو واجباته (6) . # وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال (7) جبريل - عليه السلام - ~~PageV01P108 # عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، ~~وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان، فإنه يتضح بتقرير أصل، ~~وهو أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا ~~قرن ذلك الاسم بغيره صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال ~~على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما دخل فيه كل من هو ~~محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات ~~(1) ، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان: إذا أفرد أحدهما، ~~دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر (2) بانفراده، فإذا قرن ~~بينهما دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي (3) ~~. # وقد صرح بهذا المعنى جماعة من الأئمة. قال أبو بكر الإسماعيلي في رسالته ~~إلى أهل الجبل: قال كثير من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان قول وعمل (4) ، ~~والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموما ~~إلى # الآخر، فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعا مفردين، أريد بأحدهما معنى لم يرد ~~بالآخر، وإذا ذكر أحد الاسمين، شمل (5) الكل وعمهم (6) . # وقد ذكر هذا ms042 المعنى أيضا الخطابي في كتابه " معالم السنن " (7) ، وتبعه ~~عليه جماعة من العلماء من بعده. # ويدل على صحة ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الإيمان عند ذكره ~~مفردا في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام المقرون بالإيمان في حديث ~~جبريل (8) ، وفسر في حديث آخر الإسلام بما فسر به الإيمان، كما في " مسند ~~الإمام PageV01P109 # أحمد " (1) عن عمرو بن عبسة، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فقال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال (2) : ((أن تسلم قلبك لله، وأن ~~يسلم المسلمون من لسانك ويدك)) ، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: ((الإيمان)) ~~. قال: وما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث ~~بعد الموت)) . قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: ((الهجرة)) . قال: فما الهجرة؟ ~~قال: ((أن تهجر السوء)) ، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: ((الجهاد)) . فجعل ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان أفضل الإسلام، وأدخل فيه الأعمال. # وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسألة الإسلام والإيمان: هل هما واحد، ~~أو هما مختلفان؟ # فإن أهل السنة والحديث مختلفون في ذلك، وصنفوا في ذلك تصانيف متعددة، ~~فمنهم من يدعي أن جمهور أهل السنة على أنهما شيء واحد (3) : منهم محمد بن ~~نصر المروزي (4) ، وابن عبد البر، وقد روي هذا القول عن سفيان الثوري من ~~رواية أيوب بن سويد الرملي عنه، وأيوب فيه ضعف. PageV01P110 # ومنهم من يحكي عن أهل السنة التفريق بينهما (1) ، كأبي بكر بن السمعاني ~~وغيره، وقد نقل التفريق بينهما عن كثير من السلف، منهم: قتادة، وداود بن ~~أبي هند، وأبو جعفر الباقر، والزهري، وحماد بن زيد، وابن مهدي، وشريك، وابن ~~أبي ذئب، وأحمد بن حنبل، وأبو خيثمة، ويحيى بن معين، وغيرهم، # على اختلاف بينهم في صفة التفريق بينهما، وكان الحسن وابن سيرين يقولان # : ((مسلم)) ويهابان ((مؤمن)) (2) . # وبهذا التفصيل الذي ذكرناه يزول الاختلاف، فيقال: إذا أفرد كل من الإسلام ~~والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، وإن قرن بين الاسمين، كان بينهما ~~فرق (3) . # والتحقيق في الفرق بينهما: أن الإيمان هو تصديق القلب، وإقراره، ومعرفته ms043، ~~والإسلام: هو استسلام العبد لله، وخضوعه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، ~~وهو الدين، كما سمى الله تعالى في كتابه الإسلام دينا (4) ، وفي حديث جبريل ~~سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام والإيمان والإحسان دينا، وهذا ~~أيضا مما يدل على أن أحد الاسمين إذا أفرد دخل فيه الآخر، وإنما يفرق ~~بينهما حيث قرن أحد الاسمين بالآخر، فيكون حينئذ المراد بالإيمان: جنس ~~تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل (5) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (6) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((الإسلام علانية، والإيمان في القلب)) . وهذا لأن الأعمال تظهر ~~علانية، والتصديق في القلب لا يظهر. PageV01P111 # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه إذا صلى على الميت: ~~((اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على ~~الإيمان (1)) ) ؛ # لأن الأعمال بالجوارح إنما يتمكن منه (2) في الحياة، فأما عند الموت فلا ~~يبقى غير التصديق بالقلب (3) . # ومن هنا قال المحققون من العلماء: كل مؤمن مسلم، فإن من حقق # الإيمان، ورسخ في قلبه، قام بأعمال الإسلام (4) ، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((ألا وإن في # الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي ~~القلب (5)) ) ، فلا يتحقق القلب بالإيمان إلا وتنبعث الجوارح في # أعمال الإسلام، وليس كل مسلم مؤمنا، فإنه قد يكون الإيمان ضعيفا، فلا ~~يتحقق القلب به تحققا تاما مع عمل جوارحه بأعمال الإسلام، فيكون مسلما، ~~وليس بمؤمن الإيمان التام، كما قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ~~ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} (6) ، ولم يكونوا منافقين # بالكلية على أصح التفسيرين، وهو قول ابن عباس وغيره (7) ، بل كان إيمانهم ~~ضعيفا، ويدل عليه قوله تعالى: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم # شيئا} (8) ، يعني: لا ينقصكم من أجورها، فدل على أن معهم من الإيمان ما ~~تقبل به أعمالهم (9) . # وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص لما قال له: لم ~~(10) تعط فلانا وهو PageV01P112 # مؤمن؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ms044 -: ((أو مسلم (1)) ) # يشير إلى أنه لم يحقق مقام الإيمان، وإنما هو في مقام الإسلام الظاهر، ~~ولا ريب أنه متى ضعف الإيمان الباطن، لزم منه ضعف أعمال الجوارح الظاهرة ~~أيضا، لكن اسم الإيمان ينفى عمن ترك شيئا من واجباته، كما في قوله - صلى ~~الله عليه وسلم - (2) : ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (3)) ) . # وقد اختلف أهل السنة: هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان، أو يقال: ليس بمؤمن، ~~لكنه مسلم، على قولين، وهما روايتان عن أحمد (4) . # وأما اسم الإسلام، فلا ينتفي بانتفاء بعض واجباته، أو انتهاك بعض ~~محرماته، وإنما ينفى بالإتيان بما ينافيه بالكلية، ولا يعرف في شيء من ~~السنة الصحيحة نفي الإسلام عمن ترك شيئا من واجباته، كما ينفى الإيمان عمن ~~ترك شيئا من واجباته، وإن كان قد ورد إطلاق الكفر على (5) فعل بعض ~~المحرمات، وإطلاق النفاق أيضا. # واختلف العلماء: هل يسمى مرتكب الكبائر كافرا كفرا أصغر أو منافقا النفاق ~~الأصغر، ولا أعلم أن أحدا منهم أجاز إطلاق نفي اسم الإسلام عنه، إلا أنه ~~روي عن ابن مسعود أنه قال: ما تارك الزكاة بمسلم (6) ، ويحتمل أنه كان يراه ~~كافرا بذلك، خارجا من الإسلام. # وكذلك روي عن عمر فيمن تمكن من الحج ولم يحج أنهم ليسوا بمسلمين، والظاهر ~~أنه كان يعتقد كفرهم، ولهذا أراد أن يضرب عليهم الجزية يقول: لم ~~PageV01P113 # يدخلوا في الإسلام بعد، فهم مستمرون على كتابيتهم (1) . # وإذا تبين أن اسم الإسلام لا ينتفي إلا بوجود ما ينافيه، ويخرج عن الملة ~~بالكلية، فاسم الإسلام إذا أطلق أو اقترن به المدح، دخل فيه الإيمان كله من ~~التصديق وغيره، كما سبق في حديث عمرو بن عبسة (2) . # وخرج النسائي (3) # من حديث عقبة بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية، فغارت ~~على قوم (4) ، فقال رجل منهم: إني مسلم، فقتله رجل من السرية، فنمي (5) ~~الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال فيه قولا شديدا، فقال ~~الرجل: إنما قالها تعوذا من القتل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~((إن الله أبى علي أن ms045 أقتل مؤمنا)) ثلاث مرات. PageV01P114 # فلولا أن الإسلام المطلق يدخل فيه الإيمان والتصديق بالأصول الخمسة، لم ~~يصر من قال: أنا مسلم مؤمنا بمجرد هذا القول، وقد أخبر الله عن ملكة سبأ ~~أنها دخلت في الإسلام بهذه الكلمة: {قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع ~~سليمان لله رب العالمين} (1) ، وأخبر عن يوسف - عليه السلام - أنه دعا ~~بالموت على الإسلام. وهذا كله يدل على أن الإسلام المطلق يدخل فيه ما يدخل ~~في الإيمان من التصديق. # وفي " سنن ابن ماجه " (2) عن عدي بن حاتم، قال: قال لي رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((يا عدي، أسلم تسلم)) ، قلت: وما الإسلام؟ قال: ((تشهد ~~أن لا إله إلا الله، وتشهد أني رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها، خيرها ~~وشرها، حلوها ومرها)) فهذا نص في أن الإيمان بالقدر من الإسلام. # ثم إن الشهادتين من خصال الإسلام بغير نزاع، وليس المراد الإتيان بلفظهما ~~دون التصديق بهما، فعلم أن التصديق بهما داخل في الإسلام، قد فسر الإسلام ~~المذكور في قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (3) بالتوحيد والتصديق ~~طائفة من السلف، منهم محمد بن جعفر بن الزبير (4) . PageV01P115 # وأما إذا نفي الإيمان عن أحد، وأثبت له الإسلام، كالأعراب الذين أخبر ~~الله عنهم، فإنه ينتفي رسوخ الإيمان في القلب، وتثبت لهم المشاركة في أعمال ~~الإسلام الظاهرة مع نوع إيمان يصحح لهم العمل، إذ لولا هذا القدر من ~~الإيمان (1) لم يكونوا مسلمين، وإنما نفي عنهم الإيمان؛ لانتفاء ذوق ~~حقائقه، ونقص بعض واجباته، وهذا مبني على أن التصديق القائم بالقلوب ~~متفاضل، وهذا هو الصحيح، وهو أصح الروايتين عن أحمد (2) ، فإن إيمان ~~الصديقين الذين يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة، بحيث لا يقبل ~~التشكيك ولا الارتياب، ليس كإيمان غيرهم ممن لم يبلغ هذه الدرجة بحيث لو ~~شكك لدخله الشك، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبة الإحسان أن ~~يعبد العبد ربه كأنه يراه، وهذا لا يحصل لعموم المؤمنين، ومن هنا قال ~~بعضهم: ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر ms046 في # صدره (3) . # وسئل ابن عمر: هل كانت الصحابة يضحكون؟ فقال: نعم والإيمان في قلوبهم ~~أمثال الجبال (4) . فأين هذا ممن الإيمان في قلبه يزن ذرة أو شعيرة؟! ~~كالذين يخرجون من أهل التوحيد من النار، فهؤلاء يصح أن يقال: لم يدخل ~~الإيمان في قلوبهم لضعفه عندهم. # وهذه المسائل - أعني: مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق - مسائل ~~عظيمة PageV01P116 # جدا، فإن الله علق بهذه الأسماء السعادة، والشقاوة، واستحقاق الجنة ~~والنار، والاختلاف في مسمياتها أول (1) اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف ~~الخوارج # للصحابة، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في ~~دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين ~~وأموالهم، ثم حدث بعدهم خلاف المعتزلة وقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، ثم ~~حدث خلاف المرجئة، وقولهم: إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان (2) . # وقد صنف العلماء قديما وحديثا في هذه المسائل تصانيف متعددة، وممن صنف في ~~الإيمان من أئمة السلف: الإمام أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام (3) ، وأبو ~~بكر بن أبي شيبة (4) ، ومحمد بن أسلم الطوسي. وكثرت فيه التصانيف بعدهم من ~~جميع الطوائف (5) ، وقد ذكرنا هاهنا نكتا جامعة لأصول كثيرة من هذه المسائل ~~والاختلاف فيها، وفيه - إن شاء الله - كفاية. # فصل # قد تقدم أن الأعمال تدخل في مسمى الإسلام ومسمى الإيمان أيضا، وذكرنا ما ~~يدخل في ذلك من أعمال الجوارح الظاهرة، ويدخل في مسماها أيضا أعمال الجوارح ~~الباطنة. # فيدخل في أعمال الإسلام إخلاص الدين لله، والنصح له ولعباده، وسلامة ~~القلب لهم من الغش والحسد والحقد، وتوابع ذلك من أنواع الأذى. # ويدخل في مسمى الإيمان وجل القلوب من ذكر الله، وخشوعها عند سماع ذكره ~~وكتابه، وزيادة الإيمان بذلك، وتحقيق التوكل على الله، وخوف الله سرا ~~PageV01P117 # وعلانية، والرضا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم ~~- رسولا، واختيار تلف النفوس بأعظم أنواع الآلام على الكفر، واستشعار قرب ~~الله من العبد، ودوام استحضاره، وإيثار محبة الله ورسوله على محبة (1) ما ~~سواهما، والمحبة (2) في الله والبغض في الله، والعطاء له، والمنع له، وأن ~~يكون جميع الحركات والسكنات له، وسماحة النفوس ms047 بالطاعة المالية والبدنية، ~~والاستبشار بعمل الحسنات، والفرح بها، والمساءة بعمل السيئات والحزن عليها، ~~وإيثار المؤمنين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهم وأموالهم، ~~وكثرة الحياء، وحسن الخلق، ومحبة ما يحبه لنفسه لإخوانه المؤمنين، ومواساة ~~المؤمنين، خصوصا الجيران، ومعاضدة المؤمنين، ومناصرتهم، والحزن بما يحزنهم. # ولنذكر بعض النصوص الواردة بذلك (3) : # فأما ما ورد في دخوله في اسم الإسلام، ففي " مسند الإمام أحمد " (4) ، # و" النسائي " (5) # عن معاوية بن حيدة، قال: قلت: يا رسول الله، أسألك (6) بالذي بعثك بالحق، ~~ما الذي بعثك به؟ قال: ((الإسلام)) ، قلت: وما الإسلام؟ قال: ((أن تسلم ~~قلبك لله، وأن توجه وجهك إلى الله، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة ~~المفروضة)) ، وفي رواية له: قلت: وما آية الإسلام؟ قال: ((أن تقول: أسلمت ~~وجهي لله، وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وكل مسلم على مسلم حرام)) . # وفي السنن (7) عن جبير بن مطعم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ~~في خطبته # بالخيف (8) من منى: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ~~ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم PageV01P118 # جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)) ، فأخبر أن هذه الثلاث ~~الخصال تنفي الغل عن قلب المسلم. # وفي " الصحيحين " (1) # عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل: أي المسلمين ~~أفضل؟ فقال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((المسلم أخو المسلم، فلا يظلمه، ولا يخذله، ولا ~~يحقره (3) . بحسب امرىء من الشر # أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، # وعرضه)) . # وأما ما ورد في دخوله في اسم الإيمان، فمثل قوله: {إنما المؤمنون الذين ~~إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم ~~يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون # حقا} (4) ، وقوله: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما ~~نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست ~~قلوبهم ms048} (5) . وقوله: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (6) ، وقوله: {وعلى ~~الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (7) ، وقوله: {وخافون إن كنتم مؤمنين} (8) . # وفي " صحيح مسلم " (9) عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: # ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا)) . ~~PageV01P119 # والرضا بربوبية الله يتضمن الرضا بعبادته وحده لا شريك له، وبالرضا ~~بتدبيره للعبد واختياره له. # والرضا بالإسلام دينا يقتضي اختياره على سائر الأديان. # والرضا بمحمد رسولا يقتضي الرضا بجميع ما جاء به من عند الله، وقبول ذلك ~~بالتسليم والانشراح، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما ~~شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (1) . # وفي " الصحيحين " (2) # عن أنس (3) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ثلاث من كن فيه ~~وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب ~~المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع (4) إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله ~~منه كما يكره أن يلقى (5) في النار)) . وفي رواية: ((وجد بهن طعم الإيمان ~~(6)) ) ، وفي بعض الروايات: ((طعم الإيمان وحلاوته (7)) ) . PageV01P120 # وفي " الصحيحين " (1) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((لا يؤمن أحدكم # حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين)) ، وفي رواية: ((من # أهله، وماله، والناس أجمعين (2)) ) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (3) عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول ~~الله، ما الإيمان؟ قال: ((أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن ~~محمدا عبده ورسوله، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وأن تحترق ~~في النار أحب إليك من أن تشرك بالله شيئا (4) ، وأن تحب غير ذي نسب لا تحبه ~~إلا لله، فإذا كنت كذلك، فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل حب الماء ~~للظمآن (5) # في اليوم القائظ)) . قلت: يا رسول الله، كيف لي بأن أعلم # أني مؤمن؟ قال: ما من أمتي - أو هذه الأمة - عبد يعمل حسنة، فيعلم أنها # حسنة، وأن الله - عز وجل ms049 - جازيه بها خيرا (6) ، ولا يعمل سيئة، فيعلم ~~أنها # سيئة، ويستغفر الله منها، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله (7) ، إلا ~~وهو # مؤمن)) . # وفي " المسند " (8) # وغيره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- (9) ، قال: ((من سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن)) . # وفي " مسند بقي بن مخلد " (10) عن رجل سمع رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((صريح الإيمان إذا أسأت، أو ظلمت أحدا: عبدك، أو أمتك، أو ~~أحدا من الناس، صمت أو تصدقت، وإذا أحسنت استبشرت)) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (11) عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال # : ((المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم ~~لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله (12) ، PageV01P121 # والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، ثم الذي إذا أشرف على طمع تركه ~~لله - عز وجل -)) . # وفيه أيضا (1) عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، ما الإسلام؟ ~~قال: ((طيب الكلام، وإطعام الطعام)) . قلت: ما الإيمان؟ قال: ((الصبر ~~والسماحة)) . قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ~~ويده)) . قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: ((خلق حسن)) . # وقد فسر الحسن البصري الصبر والسماحة (2) ، فقال: هو الصبر عن محارم الله ~~- عز وجل -، والسماحة بأداء فرائض الله - عز وجل - (3) . # وفي " الترمذي " (4) وغيره (5) عن عائشة - رضي الله عنها -، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) ، وخرجه ~~أبو داود (6) وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. PageV01P122 # وخرج البزار في " مسنده " (1) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ثلاث من فعلهن، فقد طعم طعم الإيمان: ~~من عبد الله وحده بأنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في ~~كل عام)) وذكر الحديث، وفي آخره: فقال رجل: وما تزكية المرء نفسه يا رسول ~~الله؟ قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان)) . وخرج أبو داود (2) # أول الحديث دون آخره. # وخرج الطبراني (3) من حديث عبادة بن ms050 الصامت، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((إن (4) أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت)) . # وفي " الصحيحين " (5) عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((الحياء من الإيمان)) . # وخرج الإمام أحمد (6) ، وابن ماجه (7) # من حديث العرباض بن سارية، عن PageV01P123 # النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما ~~قيد انقاد)) . # وقال الله - عز وجل -: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (1) . # وفي " الصحيحين " (2) عن النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم (3) وتعاطفهم وتراحمهم مثل ~~الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) . وفي ~~رواية لمسلم (4) # : ((المؤمنون كرجل واحد)) . وفي رواية له (5) أيضا (6) : ((المسلمون كرجل ~~واحد (7) إذا اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله)) . # وفي " الصحيحين " (8) # عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((المؤمن للمؤمن ~~كالبنيان يشد بعضه بعضا)) ، وشبك بين أصابعه. # وفي " مسند الإمام أحمد " (9) عن سهل بن سعد، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهل ~~الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس)) . PageV01P124 # وفي " سنن أبي داود " (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكف عنه ~~ضيعته، ويحوطه من ورائه)) . # وفي " الصحيحين " (2) # عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب ~~لأخيه ما يحب لنفسه)) . # وفي " صحيح البخاري " (3) عن أبي شريح الكعبي، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((والله لا يؤمن (4) ، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قالوا: من ذاك يا ~~رسول الله؟! قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) . # وخرج الحاكم (5) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((ليس بمؤمن من (6) يشبع وجاره جائع)) . # وخرج الإمام أحمد (7) والترمذي (8) من حديث سهل بن معاذ الجهني، عن # أبيه (9) ، عن النبي - صلى الله ms051 عليه وسلم -، قال: ((من أعطى لله، ومنع ~~لله، وأحب لله، وأبغض # لله)) زاد الإمام أحمد: ((وأنكح لله، فقد استكمل إيمانه)) . PageV01P125 # وفي رواية للإمام أحمد (1) : أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ~~أفضل الإيمان، فقال: ((أن تحب لله، وتبغض لله، وتعمل لسانك في ذكر الله)) ، ~~فقال: وماذا يا رسول الله؟ قال: ((أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ~~(2) ما تكره لنفسك)) ، وفي رواية له: ((وأن تقول خيرا أو تصمت)) . # وفي هذا الحديث أن كثرة ذكر الله من (3) أفضل الإيمان. # وخرج أيضا (4) من حديث عمرو بن الجموح - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((لا يستحق العبد (5) صريح الإيمان حتى يحب ~~لله، ويبغض لله، فإذا أحب لله، # وأبغض لله، فقد استحق الولاية من الله تعالى)) . # وخرج أيضا (6) من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((إن (7) أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض ~~في الله)) . PageV01P126 # وقال ابن عباس: أحب في الله، وأبغض في الله، ووال في الله، وعاد في الله، ~~فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد (1) عبد طعم الإيمان - وإن كثرت صلاته ~~وصومه - حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك ~~لا يجدي على أهله شيئا. خرجه محمد (2) بن جرير الطبري (3) ، ومحمد بن نصر ~~المروزي (4) . # فصل # وأما الإحسان، فقد جاء ذكره (5) في القرآن في مواضع: تارة مقرونا # بالإيمان، وتارة مقرونا بالإسلام، وتارة مقرونا بالتقوى، أو بالعمل (6) . # فالمقرون بالإيمان: كقوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ~~جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم ~~اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} (7) ، وكقوله تعالى: {إن الذين آمنوا ~~وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} (8) . # والمقرون بالإسلام: كقوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله ~~أجره عند ربه} (9) ، وكقوله تعالى: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد ~~استمسك بالعروة الوثقى} (10) . PageV01P127 # والمقرون بالتقوى: كقوله تعالى: {إن الله مع ms052 الذين اتقوا والذين هم ~~محسنون} (1) ، وقد يذكر مفردا كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى # وزيادة} (2) ، وقد ثبت في " صحيح مسلم " (3) عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله - عز وجل - في الجنة، وهذا مناسب ~~لجعله جزاء (4) لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا ~~(5) على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته ~~(6) ، فكان جزاء ذلك النظر إلى (7) الله عيانا في الآخرة (8) . # وعكس هذا ما أخبر الله تعالى به عن جزاء الكفار في الآخرة: {إنهم عن ربهم ~~يومئذ لمحجوبون} (9) ، وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا، وهو تراكم الران ~~على قلوبهم، حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك ~~أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة (10) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك ~~تراه ... )) إلخ يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة، وهو ~~استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة ~~والتعظيم (11) ، كما جاء في رواية أبي هريرة: ((أن تخشى الله كأنك تراه)) . # ويوجب أيضا النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها. ~~PageV01P128 # وقد وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه بهذه الوصية، كما ~~روى إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن أبي ذر، قال: أوصاني خليلي - صلى ~~الله عليه وسلم - أن أخشى الله كأني أراه، فإن لم أكن أراه، فإنه يراني. # وروي عن ابن عمر، قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي، ~~فقال: # ((اعبد الله كأنك تراه)) ، خرجه النسائي (1) ، ويروى من حديث زيد بن أرقم ~~مرفوعا وموقوفا: ((كن كأنك ترى الله، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك)) (2) . # وخرج الطبراني (3) من حديث أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، حدثني بحديث ~~(4) ، واجعله موجزا، فقال: ((صل صلاة مودع؛ فإنك إن كنت لا تراه، فإنه ~~يراك)) . # وفي حديث حارثة المشهور - وقد روي من وجوه مرسلة (5) ، وروي متصلا، ~~والمرسل أصح - أن النبي - صلى الله عليه وسلم ms053 - قال له: ((كيف أصبحت يا ~~حارثة؟)) قال: أصبحت مؤمنا حقا، قال: ((انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة)) ~~، قال: # يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني ~~أنظر إلى عرش ربي بارزا (6) ، وكأني PageV01P129 # أنظر إلى أهل الجنة في الجنة كيف يتزاورون (1) فيها، وكأني أنظر إلى أهل ~~النار كيف (2) يتعاوون فيها. قال: ((أبصرت فالزم، عبد نور الله الإيمان في ~~قلبه)) (3) . # ويروى من حديث أبي أمامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى رجلا، ~~فقال له: ((استحي من الله استحياءك من رجلين من صالحي عشيرتك لا يفارقانك)) ~~(4) . ويروى من وجه آخر مرسلا (5) . # ويروى عن معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاه لما بعثه إلى اليمن، ~~فقال: ((استحي من الله كما تستحي رجلا ذا هيبة من أهلك)) (6) . # وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كشف العورة خاليا، فقال: ((الله ~~أحق أن يستحيا # منه)) (7) . PageV01P130 # ووصى أبو الدرداء رجلا، فقال له: اعبد الله كأنك تراه (1) . # وخطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف، فلم يجبه، ثم ~~لقيه بعد ذلك، فاعتذر إليه، وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا. ~~أخرجه أبو نعيم (2) وغيره. # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) . # قيل (3) : إنه تعليل للأول، فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله في العبادة، ~~واستحضار قربه من عبده، حتى (4) كأن العبد يراه، فإنه قد يشق ذلك عليه، ~~فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته وباطنه ~~وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره، فإذا حقق هذا المقام، سهل عليه ~~الانتقال إلى المقام الثاني، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من ~~عبده ومعيته (5) ، حتى كأنه يراه. # وقيل: بل هو إشارة (6) إلى أن من شق عليه أن يعبد الله كأنه يراه (7) ، ~~فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه، فليستحي من نظره إليه، كما قال ~~بعض العارفين: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك. PageV01P131 # وقال بعضهم: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي ms054 من الله على قدر قربه ~~منك. # قالت بعض العارفات من السلف: من عمل لله على المشاهدة، فهو عارف، ومن عمل ~~على مشاهدة الله إياه، فهو مخلص. فأشارت إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما: # أحدهما: مقام الإخلاص، وهو أن يعمل العبد على استحضار (1) مشاهدة الله ~~إياه، واطلاعه عليه، وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله، وعمل عليه، ~~فهو مخلص لله؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله ~~وإرادته بالعمل. # والثاني: مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى # بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان، حتى يصير ~~الغيب كالعيان. # وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل - عليه السلام -، ~~ويتفاوت أهل هذا المقام فيه بحسب قوة نفوذ البصائر. # وقد فسر طائفة من العلماء المثل الأعلى المذكور في قوله - عز وجل -: {وله ~~المثل الأعلى في السماوات والأرض} (2) بهذا المعنى، ومثله قوله تعالى: # {الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} (3) ، والمراد: ~~مثل نوره في قلب المؤمن، كذا قال أبي بن كعب (4) وغيره من السلف. # وقد سبق حديث: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت)) ، وحديث: ما ~~تزكية المرء نفسه؟ ، قال: ((أن يعلم أن الله معه حيث # كان)) . PageV01P132 # وخرج الطبراني (1) من حديث أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((ثلاثة في ظل الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله: رجل حيث توجه علم ~~أن الله معه ... )) ، وذكر الحديث. # وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة، كقوله تعالى: {وإذا سألك ~~عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (2) ، وقوله تعالى: {وهو ~~معكم أين ما كنتم} (3) ، وقوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا ~~خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} ~~(4) ، وقوله: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا # تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه} (5) ، وقوله ms055: {ونحن ~~أقرب إليه من حبل الوريد} (6) ، وقوله: {ولا يستخفون من الله وهو # معهم} (7) . # وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب إلى استحضار هذا القرب في # حال العبادات، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم إذا قام يصلي، ~~فإنما يناجي # ربه، أو ربه بينه وبين القبلة)) (8) ، PageV01P133 # وقوله: ((إن الله قبل وجهه إذا # صلى)) (1) ، وقوله: ((إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم # يلتفت)) (2) . # وقوله للذين رفعوا أصواتهم بالذكر: ((إنكم لا تدعون أصم (3) ولا غائبا، ~~إنكم تدعون سميعا (4) قريبا)) (5) ، وفي رواية (6) : ((وهو أقرب إلى أحدكم ~~من عنق راحلته)) (7) ، وفي رواية: ((هو أقرب إلى أحدكم من حبل الوريد)) . # وقوله: ((يقول الله - عز وجل -: أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي # شفتاه)) (8) . # وقوله: ((يقول الله - عز وجل -: أنا مع ظن عبدي بي، وأنا معه حيث ذكرني، ~~فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير ~~منه، وإن تقرب مني شبرا، تقربت منه ذراعا، وإن تقرب مني ذراعا، تقربت منه # باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة)) (9) . # ومن فهم من شيء من هذه النصوص تشبيها أو حلولا أو اتحادا، فإنما أتي من ~~جهله (10) ، وسوء فهمه عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله ~~ورسوله بريئان من ذلك كله، فسبحان من ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. ~~PageV01P134 # قال بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم: خلي بينك وبين المحراب والماء، كلما ~~شئت دخلت على الله - عز وجل - (1) ، ليس بينك وبينه ترجمان (2) . # ومن وصل إلى استحضار هذا في حال ذكره الله وعبادته استأنس بالله، واستوحش ~~من خلقه ضرورة. # قال ثور بن يزيد: قرأت في بعض الكتب: أن عيسى - عليه السلام - قال: يا ~~معشر الحواريين، كلموا الله كثيرا، وكلموا الناس قليلا، قالوا: كيف نكلم ~~الله كثيرا؟ قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا بدعائه. خرجه أبو نعيم (3) . # وخرج أيضا (4) بإسناده عن رياح، قال: كان عندنا رجل يصلي كل يوم وليلة ~~ألف ركعة، حتى أقعد من رجليه، فكان يصلي جالسا ألف ركعة، فإذا صلى العصر، ~~احتبى، فاستقبل ms056 القبلة، ويقول: عجبت للخليقة كيف أنست بسواك، بل عجبت ~~للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك. # وقال أبو أسامة: دخلت على محمد بن النضر الحارثي، فرأيته كأنه منقبض، ~~فقلت: كأنك تكره أن تؤتى؟ قال: أجل (5) ، فقلت: أوما تستوحش؟ فقال: كيف ~~أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني (6) . PageV01P135 # وقيل لمالك بن مغول وهو جالس في بيته وحده: ألا تستوحش؟ فقال: ويستوحش مع ~~الله أحد؟ # وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته، ويقول: من لم تقر عينه بك، فلا قرت # عينه، ومن لم يأنس بك، فلا أنس (1) . # وقال غزوان: إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي. # وقال مسلم بن يسار: ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله - عز وجل ~~- (2) . # وقال مسلم العابد: لولا الجماعة، ما خرجت من بابي أبدا حتى أموت، وقال: ~~ما يجد المطيعون لله لذة في الدنيا أحلى من الخلوة بمناجاة سيدهم (3) ، ولا ~~أحسب لهم في الآخرة من عظيم الثواب أكبر في صدورهم وألذ في قلوبهم من النظر ~~إليه، ثم غشي عليه. # وعن إبراهيم بن أدهم، قال: أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه ~~بقلبك، وعقلك (4) ، وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ربك، ولا تخاف إلا ذنبك، ~~وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئا، فإذا كنت كذلك لم تبال في بر ~~كنت، أو في بحر، أو في سهل، أو في جبل، وكان شوقك إلى لقاء الحبيب شوق ~~الظمآن إلى الماء البارد، وشوق الجائع إلى الطعام الطيب، ويكون ذكر الله ~~عندك (5) أحلى من العسل، وأحلى من الماء (6) العذب الصافي عند العطشان في ~~اليوم الصائف. # وقال الفضيل: طوبى لمن استوحش من الناس، وكان الله جليسه (7) . ~~PageV01P136 # وقال أبو سليمان: لا آنسني الله إلا به أبدا. # وقال معروف لرجل: توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك (1) . # وقال ذو النون: من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه، ولا يستوحشوا ~~معه، ثم قال: إذا سكن القلب حب الله تعالى، أنس بالله؛ لأن الله أجل في ~~صدور العارفين أن يحبوا ms057 سواه. # وكلام القوم في هذا الباب يطول ذكره جدا، وفيما ذكرنا كفاية إن شاء الله ~~تعالى. # فمن تأمل ما أشرنا إليه مما دل عليه هذا الحديث العظيم، علم أن جميع ~~العلوم والمعارف ترجع إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وأن جميع العلماء من فرق ~~هذه PageV01P137 # الأمة لا تخرج علومهم التي يتكلمون فيها عن هذا الحديث، وما دل عليه ~~مجملا ومفصلا، فإن الفقهاء إنما يتكلمون في العبادات التي هي من جملة خصال ~~الإسلام، ويضيفون إلى ذلك الكلام في أحكام الأموال والأبضاع والدماء، وكل ~~ذلك من علم الإسلام كما سبق التنبيه عليه، ويبقى كثير من علم الإسلام من ~~الآداب والأخلاق وغير ذلك لا يتكلم عليه إلا القليل منهم، ولا يتكلمون على ~~معنى الشهادتين، وهما أصل الإسلام كله. # والذين يتكلمون في أصول الديانات، يتكلمون على الشهادتين، وعلى الإيمان ~~بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر (1) . # والذين يتكلمون على علم المعارف والمعاملات يتكلمون على مقام الإحسان، ~~وعلى الأعمال الباطنة التي تدخل في الإيمان أيضا (2) ، كالخشية، والمحبة، ~~والتوكل، والرضا، والصبر، ونحو ذلك، فانحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم ~~عليها فرق المسلمين في هذا الحديث، ورجعت كلها إليه، ففي هذا الحديث وحده ~~كفاية، ولله الحمد والمنة (3) . # وبقي الكلام على ذكر الساعة من الحديث. # فقول جبريل عليه السلام أخبرني عن الساعة، فقال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل)) (4) يعني: أن علم الخلق كلهم ~~في وقت الساعة سواء، وهذه إشارة إلى أن الله تعالى استأثر بعلمها (5) ، ~~PageV01P138 # ولهذا في حديث أبي هريرة (1) : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خمس ~~لا يعلمهن إلا الله تعالى (2) ، ثم تلا: {إن الله عنده علم الساعة وينزل ~~الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي ~~أرض تموت إن الله عليم خبير} (3) ، وقال الله - عز وجل -: {يسألونك عن ~~الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في ~~السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة} (4) . # وفي " صحيح البخاري " (5) عن ms058 ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله)) ثم قرأ هذه الآية: {إن الله ~~عنده علم الساعة} الآية. # وخرجه الإمام أحمد (6) ، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس: {إن الله عنده علم الساعة} الآية. # وخرج أيضا (7) بإسناده عن ابن مسعود، قال: أوتي نبيكم - صلى الله عليه ~~وسلم - مفاتيح كل شيء غير خمس: {إن الله عنده علم الساعة} الآية. # قوله: فأخبرني عن أماراتها. يعني: عن علاماتها (8) التي تدل على ~~اقترابها، PageV01P139 # وفي حديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سأحدثك عن ~~أشراطها)) (1) ، وهي علاماتها (2) أيضا. # وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - للساعة علامتين: # الأولى: ((أن تلد الأمة ربتها (3)) ) ، والمراد بربتها سيدتها ومالكتها، # وفي حديث أبي هريرة ((ربها)) ، وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جلب # الرقيق حتى تكثر السراري، ويكثر أولادهن، فتكون الأم رقيقة لسيدها، # وأولاده منه بمنزلته، فإن ولد السيد بمنزلة السيد، فيصير ولد الأمة ~~بمنزلة ربها وسيدها (4) . # وذكر الخطابي (5) أنه استدل بذلك من يقول: إن أم الولد إنما تعتق على ~~ولدها من نصيبه من ميراث والده، وإنها تنتقل إلى أولادها بالميراث، فتعتق ~~عليهم، وإنها قبل موت سيدها تباع، قال: وفي هذا الاستدلال نظر. # قلت: قد استدل به بعضهم على عكس ذلك، وعلى أن أم الولد لا تباع، وأنها ~~تعتق بموت سيدها بكل حال؛ لأنه جعل ولد الأمة ربها، فكأن ولدها هو الذي ~~أعتقها فصار عتقها منسوبا إليه؛ لأنه سبب عتقها (6) ، فصار كأنه # مولاها (7) . وهذا كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في ~~أم ولده مارية لما ولدت إبراهيم - عليه السلام -: ((أعتقها ولدها)) (8) . ~~PageV01P140 # وقد استدل بهذا الإمام أحمد، فإنه قال في رواية محمد بن الحكم عنه: تلد ~~الأمة ربتها: تكثر أمهات الأولاد، يقول: إذا ولدت، فقد عتقت لولدها، وقال: ~~فيه حجة أن أمهات الأولاد لا يبعن (1) . # وقد فسر قوله: ((تلد الأمة ربتها)) بأنه يكثر جلب الرقيق، حتى تجلب ~~البنت، فتعتق ms059، ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بأنها أمها، ~~وقد وقع هذا في الإسلام (2) . # وقيل: معناه أن الإماء يلدن الملوك، وقال وكيع (3) : معناه تلد العجم ~~العرب، والعرب ملوك العجم وأرباب لهم (4) . # والعلامة الثانية: ((أن ترى الحفاة العراة العالة)) (5) . # والمراد بالعالة: الفقراء (6) ، كقوله تعالى: {ووجدك عائلا فأغنى} (7) . # وقوله: ((رعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) . هكذا في حديث عمر (8) ، ~~والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم، وتكثر أموالهم حتى يتباهون بطول ~~البنيان وزخرفته وإتقانه (9) . # وفي حديث أبي هريرة ذكر ثلاث علامات: منها: أن تكون الحفاة العراة رؤوس ~~الناس، ومنها: أن يتطاول رعاء البهم في البنيان (10) . # وروى هذا الحديث عبد الله بن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، فقال فيه: # ((وأن ترى الصم البكم العمي (11) الحفاة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ~~ملوك # الناس)) ، قال: فقام الرجل، فانطلق، فقلنا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين # نعت؟ قال: ((هم العريب)) (12) . وكذا روى هذه اللفظة الأخيرة علي بن زيد، ~~عن يحيى بن يعمر، PageV01P141 # عن ابن عمر (1) . # وأما الألفاظ الأول، فهي في الصحيح من حديث أبي هريرة بمعناها (2) . # وقوله: ((الصم البكم العمي)) إشارة إلى جهلهم وعدم علمهم وفهمهم. # وفي هذا المعنى أحاديث متعددة، فخرج الإمام أحمد (3) # والترمذي (4) من حديث حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا ~~تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع)) . # وفي " صحيح ابن حبان " (5) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا تنقضي الدنيا حتى تكون عند لكع بن لكع)) . # وخرج الطبراني (6) من حديث أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا تقوم الساعة حتى يغلب على الدنيا لكع بن لكع)) . # وخرج الإمام أحمد (7) والطبراني (8) من حديث أنس، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال # : ((بين يدي الساعة سنون خداعة، يتهم فيها الأمين، ويؤتمن فيها المتهم، ~~وينطق فيها الرويبضة)) . قالوا: وما الرويبضة؟ قال: ((السفيه ينطق في أمر ~~العامة)) . وفي رواية: ((الفاسق يتكلم في أمر العامة)) (9) . وفي رواية ~~الإمام أحمد (10) : ((إن بين يدي الدجال سنين خداعة، يصدق فيها ms060 الكاذب، ~~ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين ويؤتمن فيها الخائن)) ، وذكر باقيه. ~~PageV01P142 # ومضمون ما ذكر من أشراط الساعة في هذا الحديث يرجع إلى أن الأمور توسد ~~إلى غير أهلها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الساعة: ~~((إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة (1)) ) (2) ، فإنه إذا صار ~~الحفاة العراة رعاء الشاء - وهم أهل الجهل والجفاء - رؤوس الناس، وأصحاب ~~الثروة والأموال، حتى يتطاولوا في البنيان، فإنه يفسد بذلك نظام الدين ~~والدنيا، فإنه إذا رأس الناس من كان فقيرا عائلا، فصار ملكا على الناس، ~~سواء كان ملكه عاما أو خاصا في بعض الأشياء، فإنه لا يكاد يعطي الناس ~~حقوقهم، بل يستأثر عليهم بما استولى عليهم من المال، فقد قال بعض السلف: ~~لأن تمد يدك إلى فم التنين، فيقضمها، خير لك من أن تمدها إلى يد غني قد ~~عالج الفقر (3) . وإذا كان مع هذا جاهلا جافيا، فسد بذلك الدين؛ لأنه لا ~~يكون له همة في إصلاح دين الناس ولا تعليمهم، بل همته في جباية المال ~~واكتنازه، ولا يبالي بما فسد من دين (4) الناس، ولا بمن ضاع من أهل # حاجاتهم. # وفي حديث آخر: ((لا تقوم الساعة حتى يسود كل (5) قبيلة منافقوها)) (6) . # وإذا صار ملوك الناس ورؤوسهم على هذه الحال، انعكست سائر الأحوال، فصدق ~~الكاذب، وكذب الصادق، وائتمن الخائن، وخون الأمين، وتكلم الجاهل، وسكت ~~العالم، أو عدم بالكلية، كما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~PageV01P143 # ((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل)) (1) وأخبر: ((أنه ~~يقبض العلم بقبض # العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا ~~بغير علم، فضلوا وأضلوا)) (2) . وقال الشعبي: لا تقوم الساعة حتى يصير ~~العلم جهلا، والجهل علما. # وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر (3) الزمان وانعكاس الأمور. # وفي " صحيح الحاكم " (4) عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: ((إن من أشراط ~~الساعة أن يوضع الأخيار، ويرفع الأشرار)) . # وفي قوله: ((يتطاولون في البنيان)) دليل على ذم التباهي والتفاخر، خصوصا ~~بالتطاول في البنيان ms061، ولم يكن إطالة (5) البناء معروفا (6) في زمن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، بل كان بنيانهم قصيرا بقدر الحاجة (7) ، ~~وروى أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة، حتى يتطاول الناس في البنيان)) . خرجه ~~البخاري (8) . # وخرج أبو داود (9) من حديث أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ~~فرأى (10) قبة مشرفة، فقال: ((ما هذه؟)) قالوا: هذه لفلان، رجل من الأنصار، ~~فجاء صاحبها، PageV01P144 # فسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عنه، فعل ذلك مرارا، ~~فهدمها الرجل. وخرجه الطبراني (1) من وجه آخر عن أنس أيضا، وعنده، فقال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بناء - وأشار بيده هكذا على رأسه - ~~أكثر من هذا، فهو وبال على # صاحبه (2)) ) . # وقال حريث بن السائب، عن الحسن: كنت أدخل بيوت أزواج النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - في خلافة عثمان - رضي الله عنه - فأتناول سقفها بيدي (3) . # وروي عن عمر أنه كتب: لا تطيلوا بناءكم، فإنه شر أيامكم (4) . # وقال يزيد بن أبي زياد: قال حذيفة لسلمان: ألا نبني لك مسكنا يا أبا # عبد الله؟ قال: لم، لتجعلني ملكا؟ قال: لا، ولكن نبني لك بيتا من قصب ~~ونسقفه بالبواري، إذا قمت كاد أن يصيب رأسك، وإذا نمت كاد أن يمس طرفيك، ~~قال: كأنك كنت في نفسي (5) . # وعن عمار بن أبي عمار، قال: إذا رفع الرجل بناءه فوق سبع أذرع، نودي # يا أفسق الفاسقين، إلى أين (6) ؟ # خرجه كله (7) ابن أبي الدنيا. PageV01P145 # وقال يعقوب بن شيبة في " مسنده ": بلغني عن ابن عائشة، حدثنا ابن أبي ~~شميلة، قال: نزل المسلمون حول المسجد، يعني: بالبصرة في أخبية الشعر، ففشا ~~فيهم السرق، فكتبوا إلى عمر، فأذن لهم في اليراع، فبنوا بالقصب، ففشا فيهم ~~الحريق، فكتبوا إلى عمر، فأذن لهم في المدر، ونهى أن يرفع الرجل سمكه أكثر ~~من سبعة أذرع، وقال: إذا بنيتم منه بيوتكم، فابنوا منه المسجد. قال ابن ~~عائشة: وكان عتبة بن غزوان بنى مسجد البصرة بالقصب، قال: من صلى فيه ms062 وهو من ~~قصب أفضل ممن صلى فيه وهو من لبن، ومن صلى فيه وهو من لبن خير (1) ممن صلى ~~فيه وهو من آجر. # وخرج ابن ماجه (2) # من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تقوم الساعة ~~حتى يتباهى الناس في المساجد)) . # ومن حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أراكم ~~ستشرفون مساجدكم بعدي كما شرفت اليهود كنائسها، وكما شرفت النصارى # بيعها (3)) ) (4) . # وروى ابن أبي الدنيا (5) بإسناده عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن - رضي ~~الله عنه -، # قال: لما بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، قال: ((ابنوه ~~عريشا كعريش موسى)) . # قيل للحسن: وما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العريش، يعني: # السقف. PageV01P146 ### | الحديث الثالث # عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: سمعت # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((بني الإسلام على خمس: شهادة ~~أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ~~وحج البيت، وصوم رمضان)) . رواه البخاري ومسلم. # هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " (1) من رواية عكرمة بن خالد، عن ابن ~~عمر، وخرجه مسلم (2) من طريقين آخرين عن ابن عمر (3) ، وله طرق أخرى (4) ~~عنه. # وقد روي هذا الحديث من رواية جرير بن عبد الله البجلي، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، وخرج حديثه (5) الإمام أحمد (6) . # وقد سبق في الحديث الذي قبله ذكر الإسلام. # والمراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس، فهي كالأركان ~~والدعائم لبنيانه، وقد خرجه محمد بن نصر المروزي في " كتاب الصلاة " (7) ، ~~ولفظه: ((بني الإسلام على خمس دعائم)) فذكره. PageV01P147 # والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانه ودعائم البنيان هذه الخمس، فلا يثبت ~~البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان، فإذا فقد منها شيء، نقص ~~البنيان وهو قائم لا ينتقض بنقص ذلك، بخلاف نقض هذه الدعائم الخمس؛ فإن ~~الإسلام يزول بفقدها جميعها بغير إشكال، وكذلك يزول بفقد الشهادتين، ~~والمراد بالشهادتين (1) الإيمان بالله ورسوله. وقد جاء في رواية ذكرها ~~البخاري تعليقا: # ((بني الإسلام على خمس ms063: إيمان بالله ورسوله)) ، وذكر بقية الحديث (2) . ~~وفي رواية لمسلم (3) : ((على خمس: على أن يوحد الله)) وفي رواية له (4) : ~~((على أن يعبد الله ويكفر بما دونه)) . # وبهذا يعلم أن الإيمان بالله ورسوله داخل في ضمن الإسلام كما سبق تقريره ~~في الحديث الماضي. # وأما إقام الصلاة، فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها، فقد خرج ~~من الإسلام، ففي " صحيح مسلم " (5) # عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: # ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) ، وروي مثله من حديث بريدة ~~(6) وثوبان (7) وأنس (8) وغيرهم. PageV01P148 # وخرج محمد بن نصر المروزي (1) من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((لا تترك الصلاة متعمدا، فمن تركها متعمدا، فقد ~~خرج من الملة)) . # وفي حديث معاذ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأس الأمر الإسلام، ~~وعموده # الصلاة (2)) ) # فجعل الصلاة كعمود الفسطاط الذي لا يقوم الفسطاط ولا يثبت إلا # به، ولو سقط العمود، لسقط الفسطاط، ولم يثبت بدونه. # وقال عمر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة (3) ، وقال سعد وعلي بن أبي ~~طالب (4) : من تركها فقد كفر. # وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ~~يرون من الأعمال شيئا تركه كفر غير الصلاة (5) . # وقال أيوب السختياني: ترك الصلاة كفر، لا يختلف فيه. # وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف، وهو قول ابن المبارك وأحمد ~~وإسحاق، وحكى إسحاق عليه إجماع أهل العلم، وقال محمد بن نصر المروزي: هو ~~قول جمهور أهل الحديث (6) . # وذهب طائفة منهم إلى أن من ترك شيئا من أركان الإسلام الخمسة عمدا أنه ~~كافر بذلك، PageV01P149 # وروي ذلك (1) عن سعيد بن جبير ونافع والحكم، وهو رواية عن أحمد اختارها ~~طائفة من أصحابه وهو قول ابن حبيب من المالكية. # وخرج الدارقطني (2) وغيره من حديث أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله الحج ~~في كل عام؟ قال: ((لو قلت: نعم، لوجب عليكم، ولو وجب عليكم، ما أطقتموه، ~~ولو تركتموه لكفرتم)) . # وخرج اللالكائي (3) من طريق مؤمل، قال ms064: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو ابن ~~مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، ولا أحسبه إلا رفعه قال: # ((عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة، عليهن أسس الإسلام: شهادة أن لا إله ~~إلا الله وأن محمدا رسول الله (4) ، والصلاة، وصوم رمضان. من ترك منهن ~~واحدة، فهو بها كافر، حلال الدم، وتجده كثير المال لم يحج، فلا يزال بذلك ~~كافرا ولا يحل دمه، وتجده كثير المال فلا PageV01P150 # يزكي، فلا يزال بذلك كافرا ولا يحل دمه)) ورواه قتيبة بن سعيد، عن حماد ~~بن زيد موقوفا مختصرا، ورواه سعيد بن زيد أخو حماد، عن عمرو بن مالك، بهذا ~~الإسناد مرفوعا، وقال: ((من ترك منهن واحدة، فهو بالله كافر، ولا يقبل منه ~~صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله)) ولم يذكر # ما بعده. # وقد روي عن عمر ضرب الجزية على من لم يحج، وقال: ليسوا بمسلمين (1) . وعن ~~ابن مسعود: أن تارك الزكاة (2) ليس بمسلم (3) ، وعن أحمد رواية: أن ترك ~~الصلاة والزكاة خاصة كفر دون الصيام والحج. # وقال ابن عيينة: المرجئة سموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، ~~وليس سواء؛ لأن ركوب المحارم متعمدا من غير استحلال معصية، وترك الفرائض من ~~غير جهل ولا PageV01P151 # عذر هو كفر. وبيان ذلك في أمر إبليس وعلماء اليهود الذين أقروا ببعث (1) ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - بلسانهم، ولم يعملوا بشرائعه (2) . # وقد استدل أحمد وإسحاق على كفر تارك الصلاة بكفر إبليس بترك السجود # لآدم، وترك السجود لله أعظم (3) . # وفي " صحيح مسلم " (4) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا قرأ ابن آدم ~~السجدة فسجد، اعتزل الشيطان (5) يبكي ويقول: يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود، ~~فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار)) . # واعلم أن هذه الدعائم الخمس بعضها مرتبط ببعض، وقد روي أنه لا يقبل بعضها ~~بدون بعض كما في "مسند الإمام أحمد" (6) عن زياد بن نعيم الحضرمي، قال: قال ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع فرضهن الله في الإسلام، فمن أتى ~~بثلاث لم يغنين عنه ms065 شيئا حتى يأتي بهن جميعا: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، ~~وحج البيت)) وهذا مرسل، وقد روي عن زياد، عن عمارة بن حزم، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - (7) . # وروي عن عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الدين خمس لا يقبل الله (8) منهن ~~شيئا دون شيء: شهادة أن لا PageV01P152 # إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإيمان بالله وملائكته وكتبه ~~ورسله، وبالجنة والنار، والحياة بعد الموت هذه واحدة، والصلوات الخمس عمود ~~الدين لا يقبل الله الإيمان إلا بالصلاة، والزكاة طهور من الذنوب، ولا يقبل ~~الله الإيمان ولا الصلاة إلا بالزكاة، فمن فعل هؤلاء (1) ، ثم جاء رمضان ~~فترك صيامه متعمدا، لم يقبل الله منه الإيمان، ولا الصلاة، ولا الزكاة (2) ~~، فمن فعل هؤلاء الأربع، ثم تيسر له الحج، فلم يحج، ولم يوص بحجة، ولم يحج ~~عنه بعض أهله، لم يقبل الله منه الأربع التي قبلها)) ذكره ابن أبي حاتم (3) ~~، وقال: سألت أبي عنه فقال: هذا حديث منكر يحتمل أن هذا من كلام عطاء ~~الخراساني. # قلت: الظاهر أنه من تفسيره لحديث ابن عمر، وعطاء من جلة علماء # الشام. # وقال ابن مسعود: من لم يزك، فلا صلاة له. ونفي القبول هنا لا يراد به نفي ~~الصحة، ولا وجوب الإعادة بتركه، وإنما يراد بذلك انتفاء الرضا به، ومدح ~~عامله، والثناء بذلك عليه في الملأ الأعلى، والمباهاة به للملائكة. # فمن قام بهذه الأركان على وجهها، حصل له القبول بهذا المعنى، ومن # قام (4) ببعضها دون بعض، لم يحصل له ذلك، وإن كان لا يعاقب على ما أتى به ~~منها عقوبة تاركه، بل تبرأ به ذمته، وقد يثاب عليه أيضا. # ومن هنا يعلم أن ارتكاب بعض المحرمات التي ينقص بها الإيمان تكون مانعة ~~من قبول بعض الطاعات، ولو كان من بعض أركان الإسلام بهذا المعنى الذي ~~ذكرناه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من شرب الخمر لم يقبل ~~الله له صلاة أربعين # يوما)) (5) ، PageV01P153 # وقال: ((من أتى عرافا فصدقه ms066 بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين # يوما)) (1) ، وقال: ((أيما عبد أبق من مواليه، لم تقبل له صلاة)) (2) . # وحديث ابن عمر يستدل به على أن الاسم إذا شمل أشياء متعددة، لم يلزم زوال ~~الاسم بزوال بعضها، فيبطل بذلك قول من قال: إن الإيمان لو دخلت فيه ~~الأعمال، للزم أن يزول بزوال عمل مما دخل في مسماه، فإن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - جعل هذه الخمس دعائم الإسلام ومبانيه، وفسر بها الإسلام في ~~حديث جبريل (3) ، وفي حديث طلحة ابن عبيد الله الذي فيه أن أعرابيا سأل ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، ففسره له بهذه الخمس (4) . # ومع هذا فالمخالفون في الإيمان يقولون: لو زال من الإسلام خصلة واحدة، أو ~~أربع خصال سوى الشهادتين، لم يخرج بذلك من الإسلام. وقد روى بعضهم: أن ~~جبريل - عليه السلام - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شرائع الإسلام، ~~لا عن الإسلام، وهذه اللفظة لم تصح عند أئمة الحديث ونقاده، منهم: أبو زرعة ~~الرازي، ومسلم بن الحجاج (5) ، وأبو جعفر العقيلي وغيرهم. # وقد ضرب العلماء مثل الإيمان بمثل (6) شجرة لها أصل وفروع وشعب، فاسم ~~الشجرة يشمل ذلك كله، ولو زال شيء من شعبها وفروعها، لم يزل عنها اسم ~~الشجرة، وإنما يقال: هي شجرة ناقصة، أو غيرها أتم منها. # وقد ضرب الله مثل الإيمان بذلك في قوله تعالى: {ضرب الله مثلا كلمة طيبة ~~كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} (7) ~~. PageV01P154 # والمراد بالكلمة كلمة التوحيد، وبأصلها التوحيد الثابت في القلوب، ~~وأكلها: هو (1) الأعمال الصالحة الناشئة منه (2) . # وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل المؤمن والمسلم بالنخلة (3) ، ولو ~~زال شيء من فروع النخلة، أو من ثمرها، لم يزل بذلك عنها اسم النخلة ~~بالكلية، وإن كانت ناقصة الفروع أو الثمر. # ولم يذكر الجهاد في حديث ابن عمر هذا، مع أن الجهاد أفضل الأعمال، # وفي رواية: أن ابن عمر قيل له: فالجهاد؟ قال: الجهاد حسن، ولكن هكذا ~~حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خرجه ms067 الإمام أحمد (4) . # وفي حديث معاذ بن جبل: ((إن رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة ~~سنامه الجهاد)) (5) وذروة سنامه: أعلى شيء فيه، ولكنه ليس من دعائمه ~~وأركانه التي بني عليها، وذلك لوجهين: # أحدهما: أن الجهاد فرض كفاية عند جمهور العلماء، ليس بفرض عين، بخلاف هذه ~~الأركان (6) . # والثاني: أن الجهاد لا يستمر فعله إلى آخر الدهر، بل إذا نزل عيسى - عليه ~~السلام -، ولم يبق حينئذ ملة إلا ملة (7) الإسلام، فحينئذ تضع الحرب ~~أوزارها، ويستغنى عن الجهاد، بخلاف هذه الأركان، فإنها واجبة على المؤمنين ~~إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك، والله أعلم. PageV01P155 ### | الحديث الرابع # عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين ~~يوما نطفة (1) ، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله ~~إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمله وأجله، ~~وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما ~~يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار ~~فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ~~ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه البخاري ~~ومسلم. # هذا الحديث متفق على صحته، وتلقته الأمة بالقبول، رواه الأعمش، عن زيد ~~ابن وهب، عن ابن مسعود، ومن طريقه خرجه الشيخان في " صحيحيهما (2) " (3) . # وقد روي عن محمد بن يزيد الأسفاطي، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- فيما يرى النائم، فقلت: يا رسول الله، حديث ابن مسعود الذي حدث عنك، ~~فقال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق. فقال - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((والذي لا إله إلا هو (4) حدثته به أنا)) يقوله ~~ثلاثا، ثم قال: غفر الله للأعمش كما حدث به، وغفر الله لمن حدث به قبل ~~الأعمش، ولمن حدث به بعده (5) . # وقد روي عن ابن مسعود من ms068 وجوه أخر. # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين ~~يوما نطفة)) PageV01P157 # قد روي تفسيره عن ابن مسعود؛ روى الأعمش، عن خيثمة، عن ابن مسعود، قال: ~~إن النطفة إذا وقعت في الرحم، طارت في كل شعر وظفر، فتمكث أربعين يوما، ثم ~~تنحدر في الرحم، فتكون علقة. قال: فذلك جمعها. خرجه ابن أبي حاتم (1) ~~وغيره. # وروي تفسير الجمع مرفوعا بمعنى آخر، فخرج الطبراني وابن منده في # كتاب " التوحيد " من حديث مالك بن الحويرث: أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((إن الله تعالى إذا أراد خلق عبد، فجامع الرجل المرأة، طار ~~ماؤه في كل عرق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله، ثم أحضره كل عرق ~~له دون آدم (2) : {في أي صورة ما شاء ركبك} (3) ، وقال ابن منده: إسناده ~~متصل مشهور على رسم أبي # عيسى والنسائي وغيرهما. # وخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني من رواية مطهر بن الهيثم، # عن موسى بن علي (4) بن رباح، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال لجده: ((يا فلان، ما ولد لك؟)) قال: يا رسول الله، وما عسى أن ~~يولد لي؟ إما غلام وإما جارية، قال: ((فمن يشبه؟)) قال: من عسى أن يشبه؟ ~~يشبه أمه أو أباه، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقولن ~~كذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم، أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم، ~~أما قرأت هذه الآية: {في أي صورة ما شاء # ركبك} ، قال: سلكك)) (5) PageV01P158 # وهذا إسناد ضعيف، ومطهر بن # الهيثم ضعيف جدا (1) ، وقال البخاري: هو حديث لم يصح وذكر بإسناده عن # موسى بن علي، عن أبيه: أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق، يعني: ~~أنه لا صحبة له. # ويشهد لهذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له: ولدت ~~امرأتي غلاما أسود # : ((لعله نزعه عرق)) (2) . # وقوله: ((ثم يكون علقة مثل ذلك)) يعني: أربعين يوما، والعلقة: قطعة من ~~دم. # ((ثم يكون مضغة مثل ms069 ذلك)) يعني: أربعين يوما. والمضغة: قطعة من # لحم. # ((ثم يرسل الله إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب ~~رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد)) . # فهذا الحديث يدل على أنه يتقلب في مئة وعشرين يوما، في ثلاثة أطوار، في ~~كل PageV01P159 # أربعين منها يكون في طور، فيكون في الأربعين الأولى نطفة، ثم في الأربعين ~~الثانية علقة، ثم في الأربعين الثالثة مضغة، ثم بعد المئة وعشرين يوما ينفخ ~~الملك فيه الروح، ويكتب له هذه الأربع كلمات. # وقد ذكر الله في القرآن في مواضع كثيرة تقلب الجنين في هذه الأطوار، ~~كقوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ~~ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في ~~الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى} (1) . # وذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة والعلقة والمضغة في مواضع متعددة من ~~القرآن، وفي موضع آخر ذكر زيادة عليها، فقال في سورة المؤمنين: {ولقد خلقنا ~~الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ~~فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه ~~خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين} (2) . # فهذه سبع تارات ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه. ~~وكان ابن عباس يقول: خلق ابن آدم من سبع، ثم يتلو هذه الآية، وسئل عن ~~العزل، فقرأ هذه الآية، ثم قال: فهل يخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة؟ وفي ~~رواية عنه قال: وهل تموت نفس حتى تمر على هذا الخلق (3) ؟ (4) # وروي عن رفاعة بن رافع قال: جلس إلي عمر وعلي والزبير وسعد في نفر (5) من ~~أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس ~~به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤدة الصغرى، فقال علي: لا تكون موؤدة ~~حتى PageV01P160 # تمر على التارات السبع: تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ~~ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، ثم تكون ms070 لحما، ثم تكون خلقا آخر، فقال عمر: ~~صدقت، أطال الله بقاءك. رواه الدارقطني في " المؤتلف والمختلف " (1) . # وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة (2) في إسقاط ما في بطنها مالم ينفخ فيه ~~الروح، وجعلوه كالعزل (3) ، # وهو قول ضعيف؛ لأن الجنين ولد انعقد، وربما تصور، وفي العزل لم يوجد ولد ~~بالكلية، وإنما تسبب إلى منع انعقاده، وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا ~~أراد الله خلقه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن العزل: ~~((لا عليكم أن لا تعزلوا، إنه ليس من نفس منفوسة إلا الله خالقها)) (4) . ~~وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة (5) ، لم يجز للمرأة إسقاطه؛ لأنه ~~ولد انعقد، بخلاف النطفة، فإنها لم تنعقد بعد، وقد لا تنعقد ولدا. # وقد ورد في بعض روايات حديث ابن مسعود ذكر العظام، وأنه يكون عظما أربعين ~~يوما، فخرج الإمام أحمد (6) من رواية علي بن زيد سمعت أبا عبيدة يحدث قال: ~~قال عبد الله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن النطفة تكون في ~~الرحم أربعين يوما على حالها لا تغير، فإذا مضت الأربعون، صارت علقة، ثم ~~مضغة كذلك، ثم عظاما كذلك، فإذا أراد الله أن يسوي خلقه، بعث الله إليها ~~ملكا)) ، وذكر بقية الحديث. PageV01P161 # ويروى من حديث عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((إن النطفة إذا استقرت في الرحم، تكون أربعين ليلة، ثم ~~تكون علقة أربعين # ليلة، ثم تكون مضغة أربعين ليلة (1) ، ثم تكون عظاما أربعين ليلة، ثم ~~يكسو الله # العظام لحما)) (2) . # ورواية الإمام أحمد تدل على أن الجنين لا يكسى اللحم إلا بعد مئة وستين # يوما، وهذه غلط بلا ريب، فإنه بعد مئة وعشرين يوما ينفخ فيه الروح بلا ~~ريب # كما سيأتي ذكره، وعلي بن زيد: هو ابن جدعان، لا يحتج به (3) . وقد ورد في # حديث حذيفة بن أسيد ما يدل على خلق اللحم والعظام في أول الأربعين ~~الثانية، # ففي "صحيح مسلم" (4) عن حذيفة بن أسيد، عن النبي - صلى الله عليه ms071 وسلم - ~~قال: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكا، فصورها ~~وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ ~~فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقول: ربك ما شاء، ~~ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم ~~يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص)) . # وظاهر هذا الحديث يدل على أن تصوير الجنين وخلق سمعه وبصره وجلده ولحمه ~~وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية، فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين ~~الثانية لحما وعظاما. # وقد تأول بعضهم ذلك على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى # أجزاء، PageV01P162 # فيجعل بعضها للجلد، وبعضها للحم، وبعضها للعظام، فيقدر ذلك كله قبل ~~وجوده. وهذا خلاف ظاهر الحديث، بل ظاهره أنه يصورها ويخلق هذه الأجزاء ~~كلها، وقد يكون خلق ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام، وقد يكون ~~هذا في بعض الأجنة دون بعض. # وحديث مالك بن الحويرث المتقدم يدل على أن التصوير يكون للنطفة أيضا في ~~اليوم السابع، وقد قال الله - عز وجل -: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج} ~~(1) وفسر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها (2) . قال ابن ~~مسعود: أمشاجها: عروقها (3) . # وقد ذكر علماء أهل الطب ما يوافق ذلك، وقالوا: إن المني إذا وقع في # الرحم، حصل له زبدية ورغوة ستة أيام أو سبعة، وفي هذه الأيام تصور النطفة ~~من # غير استمداد من الرحم، ثم بعد ذلك تستمد منه، وابتداء الخطوط والنقط بعد ~~هذا # بثلاثة أيام، وقد يتقدم يوما ويتأخر يوما (4) ، ثم بعد ستة أيام - وهو ~~الخامس عشر من وقت العلوق - ينفذ الدم إلى الجميع فيصير علقة، ثم تتميز ~~الأعضاء تميزا ظاهرا، ويتنحى بعضها عن مماسة بعض، وتمتد رطوبة النخاع، ثم ~~بعد تسعة أيام ينفصل # الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الأصابع تميزا يتبين في بعض، ويخفى في ~~بعض. # قالوا: وأقل مدة يتصور الذكر فيها ثلاثون يوما، والزمان المعتدل في ms072 تصور ~~الجنين خمسة وثلاثون يوما (5) ، وقد يتصور في خمسة وأربعين يوما. # قالوا: ولم يوجد في الأسقاط ذكر تم قبل ثلاثين يوما، ولا أنثى قبل أربعين ~~يوما (6) ، فهذا يوافق ما دل عليه حديث حذيفة بن أسيد في التخليق في ~~الأربعين الثانية، ومصيره لحما فيها أيضا. # وقد حمل بعضهم حديث ابن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين ~~PageV01P163 # الأولى وصف المني، وفي الأربعين الثانية وصف العلقة، وفي الأربعين ~~الثالثة وصف المضغة، وإن كانت خلقته قد تمت وتم تصويره، وليس في حديث ابن ~~مسعود ذكر وقت تصوير الجنين. # وقد روي عن ابن مسعود نفسه ما يدل على أن تصويره قد يقع قبل الأربعين # الثالثة أيضا، فروى الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: النطفة إذا ~~استقرت # في الرحم جاءها ملك فأخذها بكفه، فقال: أي رب، مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن # قيل: غير مخلقة، لم تكن نسمة، وقذفتها الأرحام، وإن قيل: مخلقة، قال: أي # رب، أذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأي أرض تموت؟ # قال: فيقال للنطفة: من ربك؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، # فيقال: اذهب إلى الكتاب، فإنك تجد فيه قصة (1) هذه النطفة، قال: فتخلق، ~~فتعيش في أجلها وتأكل رزقها، وتطأ في أثرها، حتى إذا جاء أجلها، ماتت، ~~فدفنت في ذلك، ثم تلا الشعبي هذه الآية: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من ~~البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير # مخلقة} (2) . فإذا بلغت مضغة، نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة، فإن كانت ~~غير مخلقة، قذفتها الأرحام دما، وإن كانت مخلقة نكست نسمة. خرجه ابن أبي ~~حاتم وغيره (3) . # وقد روي من وجه آخر عن ابن مسعود أن لا تصوير قبل ثمانين يوما، فروى ~~السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن ~~مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - عز وجل -: ~~{هو الذي يصوركم في الأرحام ms073 كيف يشاء} (4) ، قال: إذا وقعت النطفة في ~~الأرحام، طارت في الجسد أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يوما، ثم تكون ~~مضغة أربعين يوما، فإذا بلغ أن تخلق، بعث الله ملكا يصورها، فيأتي الملك ~~بتراب بين PageV01P164 # أصبعيه، فيخلطه في المضغة، ثم يعجنه بها، ثم يصورها (1) كما يؤمر فيقول: ~~أذكر أو أنثى؟ # أشقي أو سعيد؟ وما رزقه؟ وما عمره، وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله ~~تبارك وتعالى، ويكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد، دفن حيث أخذ ذلك التراب، ~~خرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " (2) ، ولكن السدي مختلف في أمره (3) ، ~~وكان الإمام أحمد ينكر عليه جمعه الأسانيد المتعددة للتفسير الواحد (4) ، # كما كان هو وغيره ينكرون على الواقدي جمعه الأسانيد المتعددة للحديث ~~الواحد. # وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية، وتأولوا حديث ابن مسعود ~~المرفوع عليها، وقالوا: أقل ما يتبين فيه (5) خلق الولد أحد وثمانون يوما؛ ~~لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق قبل أن يكون مضغة ~~(6) . # وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي بناء على هذا الأصل: إنه لا تنقضي العدة، ~~ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلقة (7) ، وأقل ما يمكن أن يتخلق ويتصور ~~في أحد وثمانين يوما. # وقال أحمد في العلقة: هي دم لا يستبين فيها الخلق، فإن كانت المضغة غير ~~مخلقة، فهل تنقضي بها العدة، وتصير أم الولد بها مستولدة؟ على قولين، هما ~~روايتان عن أحمد (8) ، وإن لم يظهر فيها التخطيط، ولكن كان خفيا لا يعرفه ~~إلا أهل الخبرة من النساء، فشهدن بذلك، قبلت شهادتهن، ولا فرق بين أن يكون ~~بعد تمام أربعة أشهر أو قبلها عند أكثر العلماء، ونص على ذلك الإمام أحمد ~~في رواية خلق من أصحابه، ونقل عنه ابنه صالح في الطفل في الأربعة يتبين ~~خلقه (9) . PageV01P165 # قال الشعبي: إذا نكس في الخلق الرابع كان مخلقا، انقضت به العدة، # وعتقت به الأمة إذا كان لأربعة أشهر (1) ، وكذا نقل عنه حنبل: إذا اسقطت ~~أم الولد، فإن كان خلقة تامة، عتقت، وانقضت به العدة إذا دخل في الخلق ~~الرابع في ms074 أربعة أشهر ينفخ فيه الروح، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه، وقد ~~قال أحمد في رواية عنه: إذا تبين خلقه، ليس فيه اختلاف أنها تعتق بذلك إذا ~~كانت # أمة، ونقل عنه جماعة أيضا في العلقة إذا تبين أنها ولد أن الأمة تعتق ~~بها، وهو قول النخعي، وحكي قولا للشافعي، ومن أصحابنا من طرد هذه الرواية ~~عن أحمد في انقضاء العدة به أيضا. وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في ~~العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة بن أسيد المتقدم إلا أن يقال: ~~حديث حذيفة إنما يدل على أنه يتخلق إذا صار لحما وعظما، وإن ذلك قد يقع في ~~الأربعين الثانية، لا في حال كونه علقة، وفي ذلك نظر (2) ، والله أعلم. # وما ذكره الأطباء يدل على أن العلقة تتخلق وتتخطط، وكذلك القوابل من ~~النسوة يشهدن بذلك، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال (3) كون ~~الجنين نطفة أيضا، والله تعالى أعلم. # وبقي في حديث ابن مسعود أن بعد مصيره مضغة أنه يبعث إليه الملك، فيكتب ~~الكلمات الأربع، وينفخ فيه الروح، وذلك كله بعد مئة وعشرين يوما. ~~PageV01P166 # واختلفت ألفاظ روايات هذا الحديث في ترتيب الكتابة والنفخ، ففي رواية ~~البخاري في " صحيحه " (1) : ((ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، ثم ينفخ ~~فيه الروح)) ففي هذه الرواية تصريح بتأخر نفخ الروح عن الكتابة، وفي رواية ~~خرجها البيهقي في كتاب " القدر " (2) : ((ثم يبعث الملك، فينفخ فيه الروح، ~~ثم يؤمر بأربع كلمات)) ، وهذه الرواية تصرح بتقدم النفخ على الكتابة، فإما ~~أن يكون هذا من تصرف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإما أن يكون ~~المراد ترتيب الإخبار فقط، لا ترتيب ما أخبر به. # وبكل حال، فحديث ابن مسعود يدل على تأخر نفخ الروح في الجنين وكتابة ~~الملك لأمره إلى بعد أربعة أشهر حتى تتم الأربعون الثالثة. فأما نفخ الروح، ~~فقد روي صريحا عن الصحابة أنه إنما ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دل ~~عليه ظاهر حديث ابن مسعود. فروى زيد بن علي، عن أبيه، عن علي ms075، قال: إذا تمت ~~النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك، فنفخ فيها الروح في الظلمات، فذلك قوله ~~تعالى: {ثم أنشأناه PageV01P167 # خلقا آخر} (1) ، خرجه ابن أبي حاتم (2) ، وهو إسناد منقطع (3) . # وخرج اللالكائي بإسناده عن ابن عباس، قال: إذا وقعت النطفة في الرحم، ~~مكثت أربعة أشهر وعشرا، ثم نفخ فيها الروح، ثم مكثت أربعين ليلة، ثم بعث ~~إليها ملك، فنقفها في نقرة القفا، وكتب شقيا أو سعيدا (4) ، وفي إسناده نظر ~~(5) ، وفيه أن نفخ الروح يتأخر عن الأربعة أشهر بعشرة أيام. # وبنى الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود، وأن الطفل ~~ينفخ فيه الروح بعد الأربعة أشهر، وأنه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر، صلي ~~عليه (6) ؛ حيث كان قد نفخ فيه الروح ثم مات. وحكي ذلك أيضا عن سعيد ابن ~~المسيب (7) وهو أحد أقوال الشافعي وإسحاق (8) ، ونقل غير واحد عن أحمد أنه ~~قال: إذا بلغ أربعة أشهر وعشرا (9) ، ففي تلك العشر ينفخ فيه الروح، ويصلى ~~عليه. وقال في رواية أبي الحارث عنه: تكون النسمة نطفة أربعين ليلة، وعلقة ~~أربعي PageV01P168 # ن ليلة، ومضغة أربعين ليلة، ثم تكون عظما ولحما، فإذا تم أربعة أشهر ~~وعشرا (1) ، نفخ فيه الروح. # فظاهر هذه الرواية أنه لا ينفخ فيه الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر وعشر، # كما روي عن ابن عباس، والروايات التي قبل هذه عن أحمد إنما تدل على أنه ~~ينفخ # فيه الروح في مدة العشر بعد تمام الأربعة، وهذا هو المعروف عنه، وكذا قال ~~ابن المسيب لما سئل عن عدة الوفاة حيث جعلت أربعة أشهر وعشرا: ما بال ~~العشر؟ قال: ينفخ فيها الروح. # وأما أهل الطب، فذكروا أن الجنين إن تصور في خمسة وثلاثين يوما، تحرك في ~~سبعين يوما، وولد في مئتين وعشرة أيام، وذلك سبعة أشهر، وربما تقدم أياما، ~~وتأخر في التصوير والولادة، وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يوما (2) ، ~~تحرك في تسعين يوما، وولد في مئتين وسبعين يوما، وذلك تسعة أشهر، والله ~~أعلم. # وأما كتابة الملك، فحديث ابن مسعود يدل على أنها تكون ms076 (3) بعد الأربعة ~~أشهر أيضا على ما سبق، وفي " الصحيحين " (4) عن أنس، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال # : ((وكل الله بالرحم ملكا يقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، ~~فإذا أراد الله أن يقضي خلقا، قال: PageV01P169 # يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في ~~بطن أمه)) وظاهر هذا يوافق حديث ابن مسعود؛ لكن ليس فيه تقدير مدة، وحديث ~~حذيفة بن أسيد الذي تقدم يدل على أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية، ~~وخرجه مسلم (1) أيضا بلفظ آخر من حديث حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم ~~بأربعين أو خمسة وأربعين ليلة (2) ، فيقول: يا رب أشقي أو سعيد؟ فيكتبان، ~~فيقول: أي رب أذكر أو أنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه، ثم ~~تطوى الصحف، فلا يزاد فيها ولا ينقص)) . # وفي رواية أخرى لمسلم (3) أيضا: ((إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم ~~يتسور عليها الملك فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟)) وذكر الحديث. وفي رواية ~~أخرى لمسلم (4) أيضا: ((لبضع وأربعين ليلة)) . PageV01P170 # وفي " مسند الإمام أحمد " (1) من حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((إذا استقرت النطفة في الرحم أربعين يوما، أو أربعين ليلة بعث ~~إليها ملك، فيقول: # يا رب، شقي أو سعيد؟ فيعلم)) . # وقد سبق ما رواه الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود من قوله، وظاهره يدل على ~~أن الملك يبعث إليه وهو نطفة، وقد روي عن ابن مسعود من وجهين آخرين أنه ~~قال: ((إن الله - عز وجل - تعرض عليه كل يوم (2) أعمال بني آدم، فينظر فيها ~~ثلاث ساعات، ثم يؤتى بالأرحام، فينظر فيها ثلاث ساعات، وهو قوله # : {يصوركم في الأرحام كيف يشاء} (3) ، وقوله: {يهب لمن يشاء إناثا} (4) ، ~~ويؤتى بالأرزاق، فينظر فيها ثلاث ساعات، وتسبحه الملائكة ثلاث ساعات، قال: ~~فهذا من شأنكم وشأن ربكم (5)) ) ولكن ليس (6) في هذا توقيت ما ينظر فيه من ~~الأرحام بمدة. # وقد ms077 روي عن جماعة من الصحابة أن الكتابة تكون في الأربعين الثانية، فخرج ~~اللالكائي (7) بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إذا مكثت النطفة ~~في رحم المرأة أربعين ليلة، جاءها ملك، فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمان - ~~عز وجل -، فيقول: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله فيها ما يشاء من أمره، ~~ثم تدفع إلى الملك عند ذلك، فيقول: يا رب أسقط أم تام؟ فيبين له، ثم يقول: ~~يا رب (8) أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له، ويقول: يا رب أواحد أم ~~توأم؟ فيبين له، فيقول: يا رب أذكر PageV01P171 # أم أنثى (1) ؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب، أشقي أم سعيد؟ فيبين له، ثم ~~يقول: يا رب اقطع له رزقه، فيقطع له رزقه مع أجله، فيهبط بهما جميعا. ~~فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له. # وخرج ابن أبي حاتم (2) بإسناده (3) عن أبي ذر، قال: إن المني يمكث في ~~الرحم أربعين ليلة، فيأتيه ملك النفوس، فيعرج به إلى الجبار - عز وجل -، ~~فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله - عز وجل - ما هو قاض، ثم يقول: يا ~~رب، أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق بين يديه، ثم تلا أبو ذر من فاتحة سورة ~~التغابن إلى قوله: # {وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير} (4) . # وهذا كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أسيد. وقد تقدم عن ابن عباس أن كتابة ~~الملك تكون بعد نفخ الروح بأربعين ليلة وأن إسناده فيه نظر. # وقد جمع بعضهم بين هذه الأحاديث والآثار، وبين حديث ابن مسعود، فأثبت ~~الكتابة مرتين، وقد يقال مع ذلك: إن إحداهما في السماء والأخرى في بطن ~~الأم، والأظهر - والله أعلم - أنها مرة واحدة، ولعل ذلك يختلف باختلاف ~~الأجنة، فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين الأولى، وبعضهم بعد الأربعين ~~الثالثة (5) . (6) # وقد يقال: إن لفظة ((ثم)) في حديث ابن مسعود إنما أريد به ترتيب الإخبار، ~~لا ترتيب المخبر عنه في نفسه (7) ، والله أعلم. PageV01P172 # ومن المتأخرين من رجح أن الكتابة تكون في أول ms078 الأربعين الثانية، كما دل ~~عليه حديث حذيفة بن أسيد، وقال: إنما أخر ذكرها في حديث ابن مسعود إلى ما ~~بعد ذكر المضغة، وإن ذكرت بلفظ ((ثم)) لئلا ينقطع ذكر الأطوار الثلاثة التي ~~يتقلب فيها الجنين وهي كونه: نطفة وعلقة ومضغة، فإن ذكر هذه الثلاثة على ~~نسق واحد أعجب وأحسن، ولذلك أخر المعطوف عليها، وإن كان المعطوف (1) متقدما ~~على بعضها في الترتيب (2) ، واستشهد لذلك بقوله تعالى: {وبدأ خلق الإنسان ~~من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه} (3) ، ~~والمراد بالإنسان: آدم - عليه السلام - (4) ، ومعلوم أن تسويته، ونفخ الروح ~~فيه، كان قبل (5) جعل نسله من سلالة من ماء مهين، لكن لما كان المقصود ذكر ~~قدرة الله - عز وجل - في مبدأ خلق آدم وخلق نسله، عطف أحدهما على الآخر، ~~وأخر ذكر تسوية آدم ونفخ الروح فيه، وإن (6) كان ذلك متوسطا بين خلق آدم من ~~طين وبين خلق نسله، والله أعلم. # وقد ورد أن هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين، ففي " مسند البزار " (7) ~~عن # ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا خلق ~~الله النسمة، قال ملك # الأرحام: أي رب أذكر أم أنثى؟ قال: فيقضي الله إليه أمره، ثم يقول: أي رب # أشقي أم سعيد؟ فيقضي الله إليه أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى ~~النكبة ينكبها)) . # وقد روي موقوفا على ابن عمر (8) غير مرفوع، وحديث حذيفة بن أسيد المتقدم ~~صريح في أن الملك يكتب ذلك في صحيفة، PageV01P173 # ولعله يكتب في صحيفة، ويكتب بين عيني الولد. # وقد روي أنه يقترن بهذه الكتابة أنه يخلق مع الجنين ما تضمنته من صفاته ~~القائمة به، فروي عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن ~~الله إذا أراد أن يخلق الخلق، بعث ملكا، فدخل الرحم، فيقول: أي رب، ماذا؟ ~~فيقول: غلام أو جارية أو ما شاء الله أن يخلق في الرحم، فيقول: أي رب، أشقي ~~أم سعيد؟ فيقول: ما شاء الله، فيقول ms079: يا رب ما أجله؟ فيقول: كذا وكذا، ~~فيقول: ما خلقه؟ ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا، فما من شيء إلا وهو يخلق معه ~~في الرحم)) . خرجه أبو داود في كتاب " القدر " والبزار في " مسنده " (1) . # وبكل حال، فهذه الكتابة التي تكتب للجنين في بطن أمه غير كتابة المقادير ~~السابقة لخلق الخلائق المذكورة في قوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض # ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} (2) ، كما في " صحيح # مسلم " (3) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف ~~سنة)) . وفي حديث عبادة ابن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((أول ما خلق الله القلم PageV01P174 # فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)) (1) . # وقد سبق ذكر ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن الملك إذا سأل عن ~~حال النطفة، أمر أن يذهب إلى الكتاب السابق، ويقال له: إنك تجد فيه قصة هذه ~~النطفة، وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق، بالسعادة والشقاوة، # ففي " الصحيحين " (2) # عن علي بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ما من ~~نفس منفوسة إلا وقد كتب الله (3) مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت ~~شقية أو سعيدة)) ، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا، وندع ~~العمل؟ فقال: ((اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسرون ~~لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسرون لعمل أهل الشقاوة)) ، ثم قرأ # : {فأما من أعطى واتقى} (4) . # ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر ~~بحسب الأعمال، وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب للسعادة أو ~~الشقاوة. PageV01P175 # وفي " الصحيحين " (1) عن عمران بن حصين، قال: قال رجل: # يا رسول الله، أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: ((نعم)) ، قال: فلم ~~يعمل العاملون؟ قال: ((كل يعمل لما خلق له، أو لما ييسر له ms080)) . # وقد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة، ~~وحديث ابن مسعود فيه أن السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال. # وقد قيل: إن قوله في آخر الحديث ((فوالله (2) الذي لا إله غيره، إن أحدكم ~~ليعمل بعمل أهل الجنة)) إلى آخر الحديث مدرج من كلام ابن مسعود، كذلك رواه ~~سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود من قوله (3) ، وقد روي هذا ~~المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة أيضا. # وفي " صحيح البخاري " (4) عن سهل بن سعد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) . # وفي " صحيح ابن حبان " (5) عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إنما الأعمال بالخواتيم)) . PageV01P176 # وفيه أيضا عن معاوية قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ~~((إنما الأعمال # بخواتيمها، كالوعاء، إذا طاب أعلاه، طاب أسفله وإذا خبث أعلاه، خبث # أسفله)) (1) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل ~~أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله ~~بعمل أهل # الجنة)) . # وخرج الإمام أحمد (3) من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((لا عليكم أن لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل ~~زمانا من عمره، أو برهة من دهره بعمل صالح، لو مات عليه دخل الجنة، ثم ~~يتحول، فيعمل عملا سيئا، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيء، لو مات ~~عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا (4)) ) . # وخرج أيضا من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن ~~الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، وهو مكتوب في الكتاب من أهل النار، فإذا كان ~~قبل موته تحول، فعمل بعمل أهل النار، فمات، فدخل النار، وإن الرجل ليعمل ~~بعمل أهل النار، وإنه لمكتوب في الكتاب من أهل الجنة، فإذا كان قبل موته ~~تحول، فعمل بعمل ms081 أهل الجنة، فمات PageV01P177 # فدخلها)) (1) . # وخرج أحمد، والنسائي، والترمذي (2) من حديث عبد الله بن عمرو قال: خرج ~~علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده كتابان، فقال: ((أتدرون ما ~~هذان الكتابان؟)) ، فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا، فقال للذي في ~~يده اليمنى: ((هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء ~~آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدا)) ~~، ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار ~~وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ~~أبدا)) ، فقال أصحابه: ففيم العمل # يا رسول الله إن كان أمرا قد فرغ منه؟ فقال: ((سددوا وقاربوا، فإن # صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم ~~له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل (3)) ) ، ثم قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - بيديه فنبذهما، ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد: فريق في الجنة، ~~وفريق في # السعير)) (4) . # وقد روي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، ~~وخرجه الطبراني (5) من حديث علي بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، وزاد فيه: ((صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة، وصاحب النار ~~مختوم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، PageV01P178 # وقد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاء حتى يقال: ما أشبههم بهم، بل هم ~~(1) منهم، وتدركهم السعادة فتستنقذهم، وقد يسلك بأهل الشقاء طريق أهل ~~السعادة حتى يقال: ما أشبههم بهم بل هم منهم ويدركهم الشقاء، من كتبه الله ~~سعيدا في أم الكتاب لم يخرجه من الدنيا حتى يستعمله بعمل يسعده قبل موته ~~ولو بفواق # ناقة (2)) ) ، ثم قال: ((الأعمال بخواتيمها، الأعمال بخواتيمها)) . وخرجه ~~البزار في "مسنده " (3) بهذا المعنى أيضا من حديث ابن عمر عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -. # وفي " الصحيحين " (4) عن سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~التقى هو والمشركون وفي أصحابه رجل ms082 لا يدع شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها ~~بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((هو من أهل النار)) ، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، ~~فأتبعه، فجرح الرجل جرحا شديدا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه على الأرض ~~وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -، فقال: أشهد أنك رسول الله، # وقص عليه القصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرجل ~~ليعمل عمل أهل الجنة # فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما ~~يبدو للناس، وهو من أهل الجنة)) زاد البخاري (5) في رواية له: ((إنما ~~الأعمال # بالخواتيم)) . PageV01P179 # وقوله: ((فيما يبدو للناس)) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وإن ~~خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة ~~عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك ~~قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب ~~عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة. # قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلا عند الموت يلقن لا إله # إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: ~~فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر. فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنها ~~هي التي أوقعته. # وفي الجملة: فالخواتيم ميراث السوابق، وكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن ~~هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر ~~السوابق. # وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ ~~وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا. # وبكى بعض الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين، فقال: هؤلاء في ~~الجنة، وهؤلاء في النار)) ، ولا أدري ms083 في أي القبضتين كنت. (1) # قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق. PageV01P180 # وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: ~~تركتني لا أفرح أبدا. وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتم، فكان يبكي ~~ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيا (1) ، ويبكي ويقول: أخاف أن أسلب ~~الإيمان عند الموت. # وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضا على لحيته، ويقول: يا رب، قد ~~علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك؟ (2) # قال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار (3) ، فهو مغتر، فلا ~~يأمن الشقاء: الأول: خطر يوم (4) الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة ولا ~~أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان، والثاني: ~~حين خلق في ظلمات ثلاث، فنودي الملك بالسعادة والشقاوة، ولا يدري: أمن ~~الأشقياء هو أم من السعداء؟ والثالث: ذكر هول المطلع، فلا يدري أيبشر برضا ~~الله أو بسخطه؟ والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتا، ولا يدري، أي الطريقين ~~يسلك به. # وقال سهل التستري: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى ~~بالكفر. # ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ~~ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن ~~يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس ~~السوء الخفية توجب سوء الخاتمة، PageV01P181 # وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في دعائه: ((يا مقلب ~~القلوب ثبت قلبي على دينك)) فقيل له: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به، فهل ~~تخاف علينا؟ فقال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله - عز وجل - ~~يقلبها كيف يشاء)) خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس (1) . # وخرج الإمام أحمد (2) والترمذي (3) من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم يا (4) مقلب القلوب، ثبت ~~قلبي على دينك)) ، فقلت: يا رسول الله ms084، أو (5) إن القلوب لتتقلب؟ قال: ~~((نعم، ما من خلق الله تعالى من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من ~~(6) أصابع الله، فإن شاء الله - عز وجل - أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ~~ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه ~~هو الوهاب)) ، قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ ~~قال: ((بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، ~~وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني)) ، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. # وخرج مسلم (7) # من حديث عبد الله بن عمرو: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: # ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمان - عز وجل - كقلب ~~واحد يصرفه حيث يشاء)) ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ~~يا (8) مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) . PageV01P182 ### | الحديث الخامس # عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) رواه البخاري ومسلم (1) ، وفي ~~رواية لمسلم # : ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) . # هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " (2) من حديث (3) القاسم بن محمد، عن ~~عمته عائشة - رضي الله عنها -، وألفاظ الحديث مختلفة، ومعناها متقارب، وفي ~~بعض ألفاظه: ((من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد)) . # وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال (4) في ~~ظاهرها كما أن حديث: ((الأعمال بالنيات)) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن ~~(5) كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل ~~لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله (6) ، وكل من أحدث في ~~الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. # وسيأتي حديث العرباض بن سارية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ~~((من يعش منكم PageV01P183 # بعدي (1) ، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ~~المهديين من ms085 بعدي (2) ، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن ~~كل محدثة بدعة، وكل بدعة (3) ضلالة)) (4) . # وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: ((أصدق الحديث كتاب الله، ~~وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها)) (5) وسنؤخر الكلام على ~~المحدثات إلى ذكر حديث العرباض المشار إليه، ونتكلم هاهنا على الأعمال التي ~~ليس عليها أمر الشارع وردها. # فهذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع، فهو مردود، ~~ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره، فهو غير مردود، والمراد بأمره ~~هاهنا: دينه وشرعه، كالمراد بقوله في الرواية الأخرى: ((من أحدث في أمرنا ~~هذا ما ليس منه فهو رد (6)) ) . # فالمعنى إذا (7) : أن من كان عمله خارجا عن الشرع ليس (8) متقيدا بالشرع، ~~فهو مردود. # وقوله: ((ليس عليه أمرنا)) إشارة إلى أن أعمال العاملين كلهم ينبغي أن ~~تكون تحت أحكام الشريعة، وتكون أحكام (9) الشريعة حاكمة عليها بأمرها ~~ونهيها، فمن كان عمله جاريا تحت أحكام الشرع، موافقا لها، فهو مقبول، ومن ~~كان خارجا عن ذلك، فهو مردود. # والأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات. # فأما العبادات، فما كان منها خارجا عن PageV01P184 # حكم (1) الله ورسوله بالكلية، فهو مردود على عامله، وعامله يدخل تحت ~~قوله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} (2) ، فمن ~~تقرب إلى الله بعمل، لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود ~~عليه، وهو شبيه بحال الذين كانت صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، وهذا كمن ~~تقرب إلى الله تعالى بسماع الملاهي، أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير ~~الإحرام، وما أشبه ذلك من المحدثات التي لم يشرع الله ورسوله التقرب بها ~~بالكلية. # وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقا، فقد رأى النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - رجلا قائما في الشمس، فسأل عنه، فقيل: إنه نذر أن ~~يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ~~يقعد ويستظل، وأن يتم صومه (3) فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفى ~~بنذرهما. # وقد روي ms086 أن ذلك كان في يوم جمعة عند سماع خطبة النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وهو على المنبر، فنذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ما دام النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - يخطب (4) ، إعظاما لسماع خطبة النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - (5) ، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قربة توفى بنذره، ~~مع أن القيام عبادة في مواضع أخر، كالصلاة والأذان والدعاء (6) بعرفة، ~~والبروز للشمس قربة للمحرم، فدل على أنه ليس كل PageV01P185 # ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن (1) ، وإنما يتبع في ذلك ما ~~وردت به الشريعة في مواضعها. # وكذلك من تقرب بعبادة نهي عنها بخصوصها، كمن صام يوم العيد، أو صلى في ~~وقت النهي. # وأما من عمل عملا أصله مشروع وقربة، ثم أدخل فيه ما ليس بمشروع، أو أخل ~~فيه بمشروع، فهذا مخالف أيضا للشريعة بقدر إخلاله بما أخل به، أو إدخاله ما ~~أدخل فيه، وهل يكون عمله من أصله مردودا عليه أم لا؟ فهذا لا يطلق القول ~~فيه برد ولا قبول، بل ينظر فيه: فإن كان ما أخل به من أجزاء العمل أو شروطه ~~موجبا لبطلانه في الشريعة، كمن أخل بالطهارة للصلاة مع القدرة عليها (2) ، ~~أو كمن أخل بالركوع، أو بالسجود، أو بالطمأنينة فيهما، فهذا عمله مردود ~~عليه، وعليه إعادته إن كان فرضا (3) ، وإن كان ما أخل به لا يوجب بطلان ~~العمل، كمن أخل بالجماعة للصلاة المكتوبة عند من يوجبها ولا يجعلها شرطا، ~~فهذا لا يقال: إن عمله مردود من أصله، بل هو ناقص. # وإن كان قد زاد في العمل المشروع ما ليس بمشروع، فزيادته مردودة عليه، ~~بمعنى أنها لا تكون قربة ولا يثاب عليها، ولكن تارة يبطل بها العمل من ~~أصله، فيكون مردودا، كمن زاد في صلاته ركعة عمدا مثلا (4) ، وتارة لا ~~يبطله، ولا يرده من أصله، كمن توضأ أربعا أربعا، أو صام الليل مع النهار، ~~وواصل في صيامه، وقد يبدل بعض ما يؤمر به في العبادة بما هو منهي عنه، كمن ~~ستر عورته في ms087 الصلاة بثوب محرم، أو تؤضأ للصلاة بماء مغصوب، أو صلى في بقعة ~~غصب، فهذا قد اختلف PageV01P186 # العلماء فيه: هل عمله مردود من أصله، أو أنه غير مردود، وتبرأ به الذمة ~~من عهدة الواجب؟ وأكثر الفقهاء على أنه ليس بمردود من أصله، وقد حكى # عبد الرحمان بن مهدي، عن قوم من أصحاب الكلام يقال لهم: الشمرية أصحاب ~~أبي شمر أنهم يقولون: إن من صلى في ثوب كان في ثمنه درهم حرام أن عليه ~~إعادة صلاته، وقال: ما سمعت قولا أخبث من قولهم، نسأل الله العافية (1) ، # وعبد الرحمان بن مهدي من أكابر فقهاء أهل الحديث المطلعين على مقالات # السلف، وقد استنكر هذا القول وجعله بدعة، فدل على أنه لم يعلم عن أحد من ~~السلف القول بإعادة الصلاة في مثل هذا. # ويشبه هذا الحج بمال حرام، وقد ورد في حديث أنه مردود على صاحبه (2) ، ~~ولكنه حديث لا يثبت، وقد اختلف العلماء هل يسقط به الفرض أم لا؟ # وقريب من ذلك الذبح بآلة محرمة، أو ذبح من لا يجوز له الذبح، كالسارق، ~~فأكثر العلماء قالوا: إنه تباح الذبيحة بذلك، ومنهم من قال: هي محرمة، وكذا ~~الخلاف في ذبح المحرم للصيد، لكن القول بالتحريم فيه أشهر وأظهر؛ لأنه منهي ~~عنه بعينه. # ولهذا فرق من فرق من العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة ~~فيبطلها، PageV01P187 # وبين أن لا يكون مختصا بها فلا يبطلها، فالصلاة بالنجاسة، أو بغير طهارة، ~~أو بغير ستارة، أو إلى غير القبلة يبطلها، لاختصاص النهي بالصلاة بخلاف ~~الصلاة في الغصب، ويشهد لهذا أن الصيام لا يبطله إلا ارتكاب ما نهي عنه فيه ~~بخصوصه، وهو جنس الأكل والشرب والجماع، بخلاف ما نهي عنه الصائم، لا بخصوص ~~الصيام، كالكذب والغيبة عند الجمهور. # وكذلك الحج لا يبطله إلا ما نهي عنه في الإحرام، وهو الجماع، ولا يبطله ~~ما لا يختص بالإحرام من المحرمات (1) ، كالقتل والسرقة وشرب الخمر. # وكذلك الاعتكاف: إنما يبطل بما نهي عنه فيه بخصوصه، وهو # الجماع، وإنما يبطل بالسكر عندنا وعند الأكثرين، لنهي ms088 السكران عن قربان ~~المسجد ودخوله على أحد التأويلين في قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم ~~سكارى} (2) أن المراد مواضع الصلاة، فصار كالحائض، ولا يبطل الاعتكاف بغيره ~~من ارتكابه الكبائر عندنا وعند كثير من العلماء، وقد (3) خالف في ذلك # طائفة من السلف، منهم: عطاء والزهري والثوري ومالك، وحكي PageV01P188 # عن غيرهم أيضا. # وأما المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما، فما كان منها تغييرا للأوضاع ~~الشرعية، كجعل حد الزنى عقوبة مالية، وما أشبه ذلك، فإنه مردود من أصله، لا ~~ينتقل به الملك؛ لأن هذا غير معهود في أحكام (1) الإسلام، ويدل على ذلك أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله: إن ابني كان عسيفا على فلان، ~~فزنى بامرأته، فافتديت # منه بمئة شاة وخادم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المئة شاة ~~والخادم رد عليك، وعلى ابنك # جلد مئة، وتغريب عام)) (2) . # وما كان منها عقدا منهيا عنه في الشرع، إما لكون المعقود عليه ليس محلا ~~للعقد، أو لفوات شرط فيه، أو لظلم يحصل به للمعقود معه أو عليه، أو لكون ~~العقد يشغل عن ذكر الله الواجب عند تضايق وقته، أو غير ذلك، فهذا العقد: هل ~~هو مردود بالكلية، لا ينتقل به الملك، أم لا؟ هذا الموضع قد اضطرب الناس ~~فيه اضطرابا كثيرا، وذلك أنه ورد في بعض الصور (3) أنه مردود لا يفيد ~~الملك، وفي بعضها أنه يفيده، فحصل الاضطراب فيه بسبب ذلك، والأقرب - إن شاء ~~الله تعالى - أنه إن كان النهي عنه لحق لله - عز وجل -، فإنه لا يفيد ~~PageV01P189 # الملك بالكلية، ونعني بكون الحق لله: أنه لا يسقط برضا المتعاقدين عليه، ~~وإن كان النهي عنه لحق آدمي معين، بحيث يسقط برضاه به، فإنه يقف على رضاه ~~به، فإن رضي لزم العقد، واستمر الملك، وإن لم يرض به فله الفسخ، فإن كان ~~الذي يلحقه الضرر لا يعتبر رضاه بالكلية، كالزوجة والعبد في الطلاق ~~والعتاق، فلا عبرة برضاه ولا بسخطه، وإن كان النهي رفقا بالمنهي خاصة لما ~~يلحقه من المشقة، فخالف وارتكب المشقة، لم يبطل بذلك عمله ms089. # فأما الأول، فله صور كثيرة: # منها نكاح من يحرم نكاحه، إما لعينه (1) ، كالمحرمات على التأبيد بسبب أو ~~نسب، أو للجمع، أو لفوات شرط لا يسقط بالتراضي بإسقاطه: كنكاح المعتدة ~~والمحرمة، والنكاح بغير ولي ونحو ذلك، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فرق بين رجل وامرأة تزوجها وهي حبلى، فرد النكاح لوقوعه في العدة ~~(2) . # ومنها عقود الربا، فلا تفيد الملك، ويؤمر بردها، وقد أمر النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - من باع صاع تمر بصاعين أن يرده (3) . # ومنها بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام والكلب، وسائر ما نهي عن بيعه ~~مما لا يجوز التراضي (4) ببيعه. # وأما الثاني، فله صور عديدة: # منها: إنكاح الولي من لا يجوز له إنكاحها إلا بإذنها PageV01P190 # بغير إذنها، وقد رد النبي # - صلى الله عليه وسلم - نكاح امرأة ثيب زوجها أبوها وهي كارهة (1) ، وروي ~~عنه أنه خير امرأة زوجت بغير إذنها (2) ، وفي بطلان هذا النكاح ووقوفه على ~~الإجازة روايتان عن أحمد (3) . # وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أن من تصرف لغيره في ماله بغير إذنه، لم ~~يكن تصرفه باطلا من أصله، بل يقف على إجازته، فإن أجازه جاز، وإن رده بطل، ~~واستدلوا بحديث عروة بن الجعد في شرائه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ~~شاتين، وإنما كان أمره بشراء شاة واحدة، ثم باع إحداهما، وقبل ذلك النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - (4) . وخص ذلك الإمام أحمد في المشهور عنه بمن كان ~~يتصرف لغيره في ماله بإذن إذا خالف الإذن. # ومنها تصرف المريض في ماله كله: هل يقع باطلا من أصله أم يقف تصرفه في ~~الثلثين على إجازة الورثة؟ فيه اختلاف مشهور للفقهاء، والخلاف في مذهب أحمد ~~وغيره (5) ، PageV01P191 # وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع إليه (1) : أن رجلا أعتق ستة ~~مملوكين له عند موته، لا مال له غيرهم، فدعا بهم، فجزأهم ثلاثة أجزاء، ~~فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا (2) ، ولعل الورثة لم يجيزوا ~~عتق الجميع، والله أعلم. # ومنها بيع المدلس ونحوه كالمصراة، وبيع النجش، وتلقي الركبان ونحو ms090 ذلك، ~~وفي صحته كله اختلاف مشهور في مذهب الإمام أحمد، وذهب طائفة من أهل الحديث ~~إلى بطلانه ورده (3) . # والصحيح أنه يصح ويقف على إجازة من حصل (4) له ظلم بذلك، فقد صح عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - أنه جعل مشتري المصراة بالخيار (5) ، وأنه جعل ~~للركبان الخيار إذا هبطوا السوق (6) ، وهذا كله يدل على أنه غير مردود من ~~أصله، وقد أورد على بعض من قال بالبطلان حديث المصراة، فلم يذكر عنه جوابا ~~(7) . # وأما بيع الحاضر للبادي، فمن صححه، جعله من هذا القبيل، ومن أبطله، جعل ~~الحق فيه PageV01P192 # لأهل البلد كلهم، وهم غير منحصرين، فلا يتصور إسقاط حقوقهم، فصار كحق ~~الله - عز وجل -. # ومنها: لو باع رقيقا يحرم التفريق بينهم، وفرق بينهم كالأم وولدها، فهل ~~يقع باطلا مردودا، أم يقف على رضاهم بذلك؟ # وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برد هذا البيع (1) ونص أحمد ~~على أنه لا يجوز # التفريق بينهم، ولو رضوا بذلك (2) ، وذهب طائفة إلى جواز التفريق بينهم ~~برضاهم، منهم: النخعي، وعبيد الله بن الحسن العنبري، فعلى هذا يتوجه أن ~~يصح، ويقف على الرضا (3) . # ومنها لو خص بعض أولاده بالعطية دون بعض، فقد صح عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه أمر بشير بن سعد لما خص ولده النعمان بالعطية أن يرده (4) ~~، # ولم يدل ذلك على أنه لم ينتقل الملك بذلك إلى الولد، فإن هذه العطية تصح ~~وتقع مراعاة، فإن سوى بين الأولاد في العطية، أو استرد ما أعطي الولد، جاز، ~~وإن مات ولم يفعل شيئا من ذلك، فقال مجاهد: هي ميراث (5) ، وحكي عن أحمد ~~نحوه (6) ، وأن العطية تبطل، والجمهور على أنها لا تبطل، وهل للورثة الرجوع ~~فيها أم لا؟ فيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد (7) . PageV01P193 # ومنها الطلاق المنهي عنه، كالطلاق في زمن الحيض، فإنه قد قيل: إنه قد نهي ~~عنه لحق الزوج، حيث كان يخشى عليه أن يعقبه فيه الندم، ومن نهي عن شيء رفقا ~~به، فلم ينته عنه، بل فعله وتجشم مشقته، فإنه لا يحكم ms091 ببطلان ما أتى به، ~~كمن صام في المرض أو السفر، أو واصل في الصيام، أو أخرج ماله كله وجلس ~~يتكفف الناس، أو صلى قائما مع تضرره بالقيام للمرض، أو اغتسل وهو يخشى على ~~نفسه الضرر، أو التلف ولم يتيمم، أو صام الدهر، ولم يفطر، أو قام الليل ولم ~~ينم، وكذلك إذا جمع الطلاق الثلاث على القول بتحريمه. # وقيل: إنما نهي عن طلاق الحائض، لحق المرأة لما فيه من الإضرار بها ~~بتطويل # العدة، ولو رضيت بذلك بأن سألته الطلاق بعوض في الحيض، فهل يزول بذلك ~~تحريمه؟ فيه قولان مشهوران للعلماء، والمشهور من مذهبنا ومذهب الشافعي أنه ~~يزول التحريم بذلك، فإن قيل: إن التحريم فيه لحق الزوج خاصة، فإذا أقدم ~~عليه، فقد أسقط حقه فسقط، وإن علل بأنه لحق المرأة، لم يمنع نفوذه ووقوعه ~~أيضا، فإن رضا المرأة بالطلاق غير معتبر لوقوعه عند جميع المسلمين، لم ~~يخالف فيه سوى شرذمة يسيرة من الروافض ونحوهم، كما أن رضا الرقيق بالعتق ~~غير معتبر، ولو تضرر به، ولكن إذا تضررت المرأة بذلك، وكان قد بقي شيء من ~~طلاقها، أمر الزوج بارتجاعها، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن ~~عمر بارتجاع زوجته تلافيا منه لضررها، وتلافيا منه لما وقع منه من الطلاق ~~المحرم حتى لا تصير بينونتها منه ناشئة عن طلاق محرم، وليتمكن من طلاقها ~~على وجه مباح، فتحصل إبانتها على هذا الوجه. وقد روي عن أبي الزبير، عن ابن ~~عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردها عليه ولم يرها شيئا (1) ، وهذا ~~مما تفرد به أبو الزبير عن أصحاب ابن عمر كلهم مثل: ابنه PageV01P194 # سالم، ومولاه نافع، وأنس، وابن سيرين، وطاووس، ويونس بن جبير، وعبد الله ~~بن دينار، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران وغيرهم. # وقد أنكر أئمة العلماء هذه اللفظة على أبي الزبير من المحدثين والفقهاء، ~~وقالوا: إنه تفرد بما خالف الثقات، فلا يقبل تفرده، فإن في رواية الجماعة ~~عن ابن عمر ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسب عليه ms092 الطلقة من ~~وجوه كثيرة، وكان ابن عمر يقول لمن سأله عن الطلاق في الحيض: إن كنت طلقت ~~واحدة أو اثنتين (1) ، فإن # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني بذلك، يعني (2) : بارتجاع ~~المرأة، وإن كنت طلقت ثلاثا، فقد عصيت ربك، وبانت منك امرأتك. # وفي رواية أبي الزبير زيادة أخرى لم يتابع عليها وهي قوله: ثم تلا رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن ~~لعدتهن وأحصوا العدة} (3) ولم يذكر ذلك أحد من الرواة عن ابن عمر، وإنما ~~روى عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه كان يتلو هذه الآية عند روايته ~~للحديث، وهذا هو الصحيح. # وقد كان طوائف من الناس يعتقدون أن طلاق ابن عمر كان ثلاثا، وأن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - إنما ردها عليه؛ لأنه لم يوقع الطلاق في الحيض، وقد ~~روي ذلك عن أبي الزبير أيضا من رواية معاوية بن عمار الدهني عنه (4) ، فلعل ~~أبا الزبير اعتقد هذا حقا، فروى تلك اللفظة بالمعنى الذي فهمه، وروى ابن ~~لهيعة هذا الحديث عن أبي الزبير، فقال: عن جابر: أن ابن عمر طلق امرأته وهي ~~حائض، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (5) # ((ليراجعها فإنها امرأته)) (6) وأخطأ في ذكر جابر في هذا الإسناد، وتفرد ~~بقوله: ((فإنها امرأته)) وهي لا تدل على عدم وقوع الطلاق إلا على تقدير أن ~~يكون ثلاثا، فقد اختلف في هذا الحديث على أبي الزبير وأصحاب ابن عمر الثقات ~~الحفاظ العارفون به الملازمون له لم يختلف عليهم فيه، PageV01P195 # وروى أيوب، عن ابن سيرين قال: مكثت عشرين سنة يحدثني من لا أتهم أن ابن ~~عمر طلق امرأته ثلاثا وهي حائض، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ~~يراجعها، فجعلت لا أتهمهم ولا أعرف الحديث حتى لقيت أبا غلاب (1) يونس بن ~~جبير وكان ذا ثبت، فحدثني أنه سأل ابن عمر فحدثه أنه طلقها واحدة. خرجه ~~مسلم (2) . # وفي رواية: قال ابن سيرين: فجعلت لا أعرف للحديث وجها ولا # أفهمه. # وهذا يدل على أنه كان قد (3) شاع ms093 بين الثقات من غير أهل الفقه والعلم أن ~~طلاق ابن عمر كان ثلاثا، ولعل أبا الزبير من هذا القبيل، ولذلك كان نافع ~~يسأل كثيرا عن طلاق ابن عمر، هل كان ثلاثا أو واحدة؟ ولما قدم نافع مكة، ~~أرسلوا إليه من مجلس عطاء يسألونه عن ذلك لهذه الشبهة، واستنكار ابن سيرين ~~لرواية الثلاث يدل على أنه لم يعرف قائلا معتبرا يقول: إن الطلاق المحرم ~~(4) غير واقع، وإن هذا القول لا وجه له. # قال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، وسئل عمن قال: لا يقع الطلاق # المحرم؛ لأنه يخالف ما أمر به، فقال: هذا قول سوء رديء، ثم ذكر قصة ابن ~~عمر وأنه احتسب بطلاقه في الحيض. # وقال أبو عبيد: الوقوع هو الذي عليه العلماء مجمعون في جميع الأمصار: ~~حجازهم وتهامهم، ويمنهم وشامهم، وعراقهم ومصرهم، وحكى ابن المنذر ذلك عن كل ~~من يحفظ قوله من أهل العلم إلا ناسا من أهل البدع لا يعتد بهم. PageV01P196 # وأما ما حكاه ابن حزم (1) عن ابن عمر أنه لا يقع الطلاق في الحيض مستندا ~~إلى ما رواه (2) من طريق محمد بن عبد السلام الخشني الأندلسي: حدثنا محمد ~~بن بشار، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن ~~عمر في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال: لا يعتد بها، وبإسناده عن خلاس ~~نحوه (3) ، فإن هذا الأثر قد سقط من آخره لفظة وهي قال: لا يعتد بتلك ~~الحيضة، كذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه (4) عن عبد الوهاب الثقفي، ~~وكذا رواه يحيى بن معين، عن عبد الوهاب أيضا، وقال: هو غريب لم يحدث به إلا # عبد الوهاب، ومراد ابن عمر أن الحيضة التي طلق فيها المرأة لا تعتد بها ~~المرأة قرءا، وهذا هو مراد خلاس وغيره. # وقد روي ذلك أيضا عن جماعة من السلف، منهم: زيد بن ثابت (5) ، وسعيد بن ~~المسيب (6) ، فوهم جماعة من المفسرين وغيرهم كما وهم ابن حزم فحكوا عن بعض ~~من سمينا أن الطلاق في الحيض لا يقع ms094، وهذا سبب وهمهم، والله أعلم. # وهذا الحديث إنما رواه القاسم بن محمد لما سئل عن رجل له ثلاثة (7) # مساكن، فأوصى بثلث ثلاث مساكن هل تجمع له في مسكن واحد؟ فقال: يجمع ذلك ~~كله في مسكن واحد، حدثتني عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) PageV01P197 # خرجه مسلم (1) . ومراده أن تغيير وصية الموصي إلى ما هو أحب إلى الله ~~وأنفع جائز، وقد حكي هذا عن عطاء وابن جريج، وربما يستدل بعض من ذهب إلى ~~هذا بقوله تعالى: {فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه} ~~(2) ولعله أخذ هذا من جمع العتق، فإنه صح ((أن رجلا (3) أعتق ستة مملوكين ~~عند موته، فدعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق ~~اثنين وأرق أربعة)) خرجه مسلم (4) . وذهب فقهاء الحديث إلى هذا الحديث؛ لأن ~~تكميل عتق العبد مهما أمكن أولى من تشقيصه، ولهذا شرعت السراية والسعاية ~~إذا أعتق أحد الشريكين نصيبه من عبد. وقال - صلى الله عليه وسلم - فيمن ~~أعتق بعض عبد له: ((هو عتيق كله ليس لله شريك)) (5) . # وأكثر العلماء على خلاف قول القاسم هذا، وإن وصية الموصي لا تجمع، ويتبع ~~لفظه PageV01P198 # إلا في العتق خاصة؛ لأن المعنى الذي جمع له في العتق غير موجود في بقية ~~الأموال، فيعمل فيها بمقتضى وصية الموصي. # وذهب طائفة من الفقهاء في العتق إلى أنه يعتق من كل عبد ثلثه، ويستسعون ~~في الباقي (1) ، واتباع قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق وأولى، ~~والقاسم نظر إلى أن في مشاركة الموصى له للورثة في المساكن كلها ضررا ~~عليهم، فيدفع عنهم هذا الضرر ويجمع الوصية في مسكن واحد، فإن الله قد شرط ~~في الوصية (2) عدم المضارة بقوله تعالى: {غير مضار وصية من الله} (3) فمن ~~ضار في وصيته، كان عمله مردودا عليه # لمخالفته ما شرط الله في الوصية (4) . # وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لو وصى له بثلث مساكنه كلها (5) ، ثم ~~تلف ثلثا المساكن، وبقي منها ثلث ms095 أنه يعطى كله للموصى له، وهذا قول طائفة ~~من أصحاب أبي حنيفة، وحكي عن أبي يوسف ومحمد، ووافقهم القاضي أبو يعلى من ~~أصحابنا في خلافه، وبنوا ذلك على أن المساكن المشتركة تقسم بين المشتركين ~~فيها قسمة إجبار، كما هو قول مالك، وظاهر كلام ابن أبي موسى من أصحابنا، ~~والمشهور عند أصحابنا أن المساكن المتعددة لا تقسم قسمة إجبار (6) ، وهو ~~قول أبي حنيفة والشافعي، وقد تأول بعض المالكية فتيا القاسم المذكورة في ~~هذا الحديث على أن أحد الفريقين من الورثة أو الموصى لهم طلب قسمة المساكن ~~وكانت متقاربة بحيث يضم بعضها إلى بعض في القسمة، فإنه يجاب إلى قسمتها على ~~قولهم، وهذا التأويل بعيد مخالف للظاهر، والله أعلم. PageV01P199 ### | الحديث السادس # عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - يقول: ((إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، ~~لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في ~~الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن ~~لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح ~~الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم ~~(1) . # هذا الحديث صحيح (2) متفق على صحته من رواية الشعبي، عن النعمان بن بشير، ~~وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص، والمعنى واحد أو متقارب. # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر (3) ، وعمار بن ~~ياسر (4) ، # وجابر (5) ، وابن مسعود، وابن عباس (6) ، وحديث النعمان أصح أحاديث ~~الباب. # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور ~~مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس)) معناه: أن الحلال المحض بين لا اشتباه ~~فيه، وكذلك الحرام المحض، ولكن بين PageV01P201 # الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من # الحرام؟ وأما الراسخون في العلم، فلا يشتبه عليهم ذلك، ويعلمون من أي ~~القسمين هي. # فأما الحلال المحض: فمثل أكل ms096 الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمة # الأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان، أو ~~الصوف أو الشعر، وكالنكاح، والتسري وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح ~~كالبيع، أو بميراث، أو هبة، أو غنيمة. # والحرام المحض: مثل أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح ~~المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرمة كالربا، والميسر، وثمن ~~مالا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس (1) أو نحو ~~ذلك. # وأما المشتبه: فمثل أكل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه، إما (2) من ~~الأعيان كالخيل والبغال والحمير، والضب، وشرب (3) ما اختلف من الأنبذة التي ~~يسكر كثيرها، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها، وإما من ~~المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة (4) والتورق (5) ونحو ذلك، وبنحو هذا ~~المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة (6) . # وحاصل الأمر أن الله تعالى أنزل على نبيه (7) الكتاب، وبين فيه للأمة ما ~~يحتاج إليه من حلال وحرام، كما قال تعالى: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل # شيء} (8) قال PageV01P202 # مجاهد وغيره: لكل شيء أمروا به أو نهوا عنه (1) ، وقال تعالى في آخر سورة ~~النساء التي بين الله فيها كثيرا من أحكام الأموال (2) والأبضاع: {يبين ~~الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} (3) وقال تعالى: {وما لكم ألا ~~تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم ~~إليه} (4) ، وقال تعالى: {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين ~~لهم ما # يتقون} (5) ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول - صلى الله عليه ~~وسلم - كما قال تعالى # : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (6) وما قبض - صلى الله ~~عليه وسلم - حتى أكمل له ولأمته الدين، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته ~~بمدة يسيرة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ~~دينا} (7) . # وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا ~~يزيغ عنها إلا # هالك)) (8) . # وقال أبو ذر: توفي رسول الله - صلى ms097 الله عليه وسلم - وما طائر يحرك ~~جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما (9) . # ولما شك الناس في موته - صلى الله عليه وسلم -، قال عمه العباس - رضي ~~الله عنه -: والله ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ترك السبيل ~~(10) نهجا واضحا، وأحل الحلال وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، وما ~~كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخبطه، PageV01P203 # ويمدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~كان فيكم (1) . # وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالا إلا مبينا ولا حراما إلا مبينا، ~~لكن بعضه كان أظهر بيانا (2) من بعض، فما ظهر بيانه، واشتهر وعلم من # الدين بالضرورة من ذلك (3) لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد ~~يظهر # فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة # خاصة، فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض من ليس # منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا، فاختلفوا في تحليله ~~وتحريمه وذلك لأسباب: # منها: أنه قد يكون النص عليه خفيا لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ ~~جميع (4) حملة العلم. # ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ ~~طائفة أحد النصين دون الآخرين، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معا من ~~لم يبلغه التاريخ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ. # ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم (5) أو قياس، ~~فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا. # ومنها: ما يكون فيه أمر، أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب ~~أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه، وأسباب الاختلاف أكثر مما ~~ذكرنا. # ومع هذا فلابد في الأمة من عالم (6) يوافق قوله الحق، فيكون هو العالم ~~بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبها عليه ولا يكون عالما بهذا، فإن ~~PageV01P204 # هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، فلا ~~يكون الحق مهجورا ms098 غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - في المشتبهات: ((لا يعلمهن كثير من الناس)) ~~فدل على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست ~~مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضي لاشتباه بعض الأشياء على كثير ~~من العلماء. # وقد يقع (1) الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من ~~وجه آخر، وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن. ومنها ما ~~يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت ملك الغير عليه، فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين ~~زوال الملك عنه، اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك، ~~أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمه إلا ~~بيقين العلم بانتقال الملك فيه. # وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري: هل هو له ~~أو لغيره فهذا مشتبه، ولا يحرم عليه تناوله؛ لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه ~~لثبوت يده عليه، والورع اجتنابه، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~((إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم ~~أخشى أن تكون صدقة # فألقيها)) خرجاه في " الصحيحين " (2) . PageV01P205 # فإن كان هناك من جنس المحظور، وشك # هل هو منه أم لا؟ قويت الشبهة. وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: ~~أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابه أرق من الليل، فقال له بعض نسائه: ~~يا رسول الله أرقت الليلة. فقال: ((إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي، فأكلتها ~~وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه)) (1) . # ومن هذا أيضا ما أصله الإباحة كطهارة الماء، والثوب، والأرض إذا لم يتيقن ~~زوال أصله، فيجوز استعماله، وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان، فلا ~~يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد، فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب ~~آخر رجع إلى الأصل فبنى عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم ms099 ولهذا ~~نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر ~~سهم غير سهمه، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في ماء (2) . # وعلل بأنه لا يدرى: هل مات من السبب المبيح له أو من غيره، فيرجع فيما ~~أصله الحل إلى الحل، فلا ينجس الماء والأرض والثوب بمجرد ظن النجاسة، وكذلك ~~البدن إذا تحقق طهارته، وشك: هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء خلافا ~~لمالك (3) - رحمه الله - إذا لم يكن قد دخل في الصلاة. PageV01P206 # وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه شكي إليه الرجل يخيل إليه ~~أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1)) ~~) وفي بعض الروايات: ((في المسجد)) بدل: ((الصلاة)) . # وهذا يعم حال الصلاة وغيرها، فإن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما ~~أصله الطهارة مثل أن يكون الثوب (2) يلبسه كافر لا يتحرز من # النجاسات، فهذا محل اشتباه، فمن العلماء من رخص فيه أخذا بالأصل، ومنهم ~~من كرهه تنزيها، ومنهم من حرمه إذا قوي ظن النجاسة مثل أن يكون الكافر ممن ~~لا تباح ذبيحته أو يكون ملاقيا لعورته كالسراويل والقميص، وترجع هذه ~~المسائل وشبهها إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، فإن الأصل الطهارة والظاهر ~~النجاسة. وقد تعارضت الأدلة في ذلك. # فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله أحل طعام أهل الكتاب، وطعامهم إنما ~~يصنعونه بأيديهم في أوانيهم، وقد أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة ~~يهودي (3) ، وكان هو # وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما نسجه الكفار بأيديهم (4) من ~~الثياب والأواني، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية ~~والثياب، ويستعملونها، وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة مشركة (5) . ~~PageV01P207 # والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~سئل عن آنية أهل الكتاب الذين يأكلون الخنزير، ويشربون الخمر، فقال: إن لم ~~تجدوا غيرها، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها (1) . # وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام (2) ، يعني: ~~الحلال المحض والحرام المحض، وقال ms100: من اتقاها، فقد استبرأ لدينه، وفسرها ~~تارة باختلاط الحلال والحرام. # ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله ~~الحرام، فقال أحمد: ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا ~~يعرف، واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين. # وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته والأكل من ماله. وقد روى الحارث ~~عن علي أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر ~~مما يعطيكم من الحرام (3) . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ~~يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا PageV01P208 # يجتنبون الحرام كله (1) . # وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه ~~أعجب إلي (2) . # وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن ~~لم يعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أن فيه شبهة، فلا بأس بالأكل منه، ~~نص عليه أحمد في رواية حنبل. # وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة، ~~وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ مما يقضي من الربا # والقمار، نقله عنه ابن منصور. # وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرا، ~~أخرج منه قدر الحرام، وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلا، اجتنبه كله ~~(3) ، وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئا، فإنه تبعد معه السلامة من ~~الحرام بخلاف الكثير، ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح ~~التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية ~~وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي. # ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من ~~الحرام بعينه، كما تقدم عن مكحول والزهري. وروي مثله عن الفضيل بن عياض. # وروي في ذلك آثار عن السلف، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل ~~الربا ms101 علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه يدعوه إلى طعامه، قال: أجيبوه، ~~فإنما المهنأ لكم والوزر عليه (4) . PageV01P209 # وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئا إلا خبيثا أو حراما، فقال: أجيبوه. ~~وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: ~~الإثم حواز القلوب (1) . # وروي عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول (2) ، وعن سعيد بن جبير، والحسن ~~البصري، ومورق العجلي، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين وغيرهم، والآثار بذلك ~~موجودة في كتاب " الأدب " لحميد بن زنجويه، وبعضها في كتاب " الجامع " ~~للخلال، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم (3) . # ومتى علم أن عين الشيء حرام، أخذ بوجه محرم، فإنه يحرم تناوله، وقد حكى ~~الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره، وقد روي عن ابن سيرين في الرجل يقضى ~~من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يقضى من القمار قال: لا بأس به (4) ، ~~خرجه الخلال بإسناد صحيح، وروي عن الحسن خلاف هذا، وأنه قال: إن هذه ~~المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر. PageV01P210 # وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان، ما روي عن أبي بكر الصديق أنه أكل ~~طعاما ثم أخبر أنه من حرام، فاستقاءه (1) . # وقد يقع الاشتباه في الحكم، لكون الفرع مترددا بين أصول تجتذبه، كتحريم ~~الرجل زوجته، فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى، ~~وبين تحريم الطلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد، ~~وبين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة (2) بدون زوج وإصابة ~~وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه، ~~وإنما يوجب الكفارة الصغرى، أو لا يوجب شيئا على الاختلاف في ذلك، فمن ~~هاهنا كثر الاختلاف في هذه المسألة في زمن الصحابة فمن بعدهم. # وبكل حال فالأمور المشتبهة التي لا تتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من ~~الناس، كما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد يتبين لبعض الناس ~~أنها حلال أو حرام، لما عنده من ذلك من مزيد علم ms102 (3) ، وكلام النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم ~~لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: # أحدهما: من يتوقف فيها؛ لاشتباهها عليه. PageV01P211 # والثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه، ودل كلامه على أن غير هؤلاء # يعلمها، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو ~~تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال ~~والحرام المشتبهة المختلف (1) فيها واحد عند الله - عز وجل -، وغيره ليس ~~بعالم بها، بمعنى أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد ~~فيها اعتقادا يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلا، ويكون مأجورا على اجتهاده، ~~ومغفورا له خطؤه لعدم اعتماده. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه ~~وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام)) قسم الناس في الأمور المشتبهة ~~إلى قسمين، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو ممن لا ~~يعلمها، فأما من كان عالما بها، واتبع ما دله علمه عليها، فذلك قسم ثالث، ~~لم يذكره لظهور حكمه، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة؛ لأنه علم حكم ~~الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس (2) ، واتبع علمه في ذلك. وأما من ~~لم يعلم حكم الله فيها، فهم قسمان: أحدهما من يتقي هذه الشبهات؛ لاشتباهها ~~عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه. # ومعنى استبرأ: طلب البراءة لدينه وعرضه (3) من النقص والشين، والعرض: هو ~~موضع المدح والذم من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مدح، وبذكره ~~بالقبيح قدح، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان، وتارة في سلفه، أو في ~~أهله، فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها، فقد حصن عرضه من القدح والشين ~~الداخل على من لا يجتنبها، وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات، فقد عرض ~~نفسه للقدح فيه والطعن، كما قال بعض السلف: من عرض نفسه للتهم، فلا يلومن ~~من أساء به الظن (4) . PageV01P212 # وفي رواية للترمذي (1) في هذا الحديث: ((فمن ms103 تركها استبراء لدينه وعرضه، ~~فقد سلم)) والمعنى: أنه يتركها بهذا القصد - وهو براءة دينه وعرضه من النقص ~~- لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه. # وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين، ولهذا ~~ورد: ((أن ما وقى به المرء عرضه، فهو صدقة (2)) ) . # وفي رواية في " الصحيحين " (3) في هذا الحديث: ((فمن ترك ما يشتبه # عليه من الإثم، كان لما استبان أترك)) يعني: أن من ترك الإثم مع اشتباهه ~~عليه، وعدم تحققه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان ~~تركه تحرزا من الإثم، فأما من يقصد التصنع للناس، فإنه لا يترك إلا ما يظن ~~أنه ممدوح عندهم تركه (4) . # القسم الثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده، فأما من أتى شيئا ~~مما يظنه الناس شبهة، لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر، فلا حرج عليه من الله ~~في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، كان تركها حينئذ استبراء ~~لعرضه، فيكون حسنا، وهذا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن رآه ~~واقفا مع صفية: ((إنها صفية بنت حيي (5)) ) . # وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناس قد صلوا ورجعوا، فاستحيى، ودخل موضعا لا ~~يراه الناس فيه، وقال: ((من لا يستحيي من الناس، # لا يستحيي من الله)) . وخرجه الطبراني مرفوعا، ولا يصح (6) . PageV01P213 # وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ، أو تقليد سائغ، وكان ~~مخطئا في اعتقاده، فحكمه حكم الذي قبله، فإن كان الاجتهاد ضعيفا، أو ~~التقليد غير سائغ، وإنما حمل عليه مجرد اتباع الهوى، فحكمه حكم من أتاه مع ~~اشتباهه عليه، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه، فقد أخبر عنه النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه وقع في الحرام، وهذا يفسر بمعنيين: # أحدهما: أنه يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه ~~الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح. # وفي رواية في " الصحيحين " (1) لهذا الحديث: ((ومن اجترأ على ما يشك فيه ~~من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان)) . وفي رواية: ((ومن ms104 يخالط الريبة، ~~يوشك أن يجسر (2)) ) ، # أي: يقرب أن يقدم على الحرام المحض، والجسور: المقدام الذي لا يهاب شيئا، ~~ولا يراقب أحدا، ورواه بعضهم: ((يجشر)) بالشين المعجمة، أي: يرتع (3) ، ~~والجشر: الرعي، وجشرت الدابة: إذا رعيتها. وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرعى بجنبات الحرام، PageV01P214 # يوشك أن يخالطه، ومن تهاون بالمحقرات، يوشك أن يخالط الكبائر)) (1) . # والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أو ~~حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراما في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري ~~أنه حرام. وقد روي من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((الحلال بين والحرام بين وبينهما (2) مشتبهات، فمن اتقاها، كان أنزه لدينه ~~وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالمرتع حول الحمى، يوشك ~~أن يواقع الحمى وهو لا يشعر)) خرجه الطبراني (3) وغيره. # واختلف العلماء: هل يطيع والديه في الدخول في شيء من الشبهة أم لا ~~يطيعهما؟ فروي عن بشر بن الحارث، قال: لا طاعة لهما في الشبهة، وعن محمد ~~ابن مقاتل العباداني قال: يطيعهما، وتوقف أحمد في هذه المسألة، وقال: ~~يداريهما، وأبى أن يجيب فيها. # وقال أحمد: لا يشبع الرجل من الشبهة، ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة، ~~وتوقف في حد ما يؤكل وما يلبس منها، وقال في التمرة يلقيها الطير: لا ~~يأكلها، ولا يأخذها، ولا يتعرض لها. PageV01P215 # وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلس أو الدراهم: أحب إلي أن يتنزه # عنها، يعني: إذا لم يدر من أين هي. وكان بعض السلف لا يأكل إلا شيئا يعلم ~~من أين هو، ويسأل عنه حتى يقف على أصله. وقد روي في ذلك (1) حديث مرفوع، ~~إلا أن فيه ضعفا (2) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع ~~فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه)) : هذا مثل ضربه النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - لمن وقع في الشبهات، وأنه يقرب وقوعه ms105 في الحرام ~~المحض، وفي بعض الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال # ((وسأضرب لذلك مثلا)) ، ثم ذكر هذا الكلام، فجعل النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - مثل المحرمات كالحمى الذي تحميه الملوك، ويمنعون غيرهم من قربانه، ~~وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حول مدينته (3) اثني عشر ميلا حمى ~~محرما لا يقطع شجره ولا يصاد صيده (4) ، وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها ~~الكلأ لأجل إبل الصدقة (5) . # والله - عز وجل - حمى هذه المحرمات، ومنع عباده من قربانها وسماها حدوده، ~~فقال: # {تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} (6) ~~، وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم، فلا يقربوا الحرام، ~~ولا يتعدوا PageV01P216 # الحلال، ولذلك قال في آية أخرى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد ~~حدود الله فأولئك هم الظالمون} (1) ، وجعل من يرعى حول الحمى، أو قريبا منه ~~جديرا بأن يدخل الحمى ويرتع فيه، فكذلك من تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، ~~فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ~~ويقع فيه، وفي هذا إشارة إلى أنه (2) ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل ~~الإنسان بينه وبينها حاجزا. # وقد خرج الترمذي (3) وابن ماجه (4) من حديث عبد الله بن يزيد، عن النبي # - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى ~~يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس (5)) ) . # وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ~~ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراما، حجابا بينه وبين # الحرام (6) . # وقال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة ~~الحرام. # وقال الثوري: إنما سموا المتقين؛ لأنهم اتقوا مالا يتقى (7) . وروي عن ~~ابن عمر قال: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. # وقال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام ~~PageV01P217 # حاجزا من الحلال (1) . # وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب ms106 عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين ~~الحرام حاجزا من الحلال (2) ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه (3) . # ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم # الوسائل إليها، ويدل على ذلك أيضا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر ~~كثيره (4) ، # وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سدا لذريعة ~~الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها (5) ، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت ~~تحرك شهوته، ومنع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتها ~~إلا من وراء حائل، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر امرأته إذا ~~كانت حائضا أن تتزر، فيباشرها من فوق الإزار (6) . # ومن أمثلة ذلك وهو شبيه (7) بالمثل الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره، فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع، ولو ~~كان ذلك # نهارا (8) ، # هذا هو الصحيح؛ لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال. # وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريبا من الحرم، فدخل الحرم فصاد فيه، ففي ~~ضمانه روايتان عن أحمد (9) ، وقيل: يضمنه بكل حال (10) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح ~~الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) ، فيه إشارة إلى أن ~~صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح ~~حركة قلبه. # فإن كان قلبه سليما، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية ~~الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك ~~اجتناب المحرمات كلها، وتوقي PageV01P218 # للشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات. # وإن كان القلب فاسدا، قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه ~~الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب ~~اتباع هوى القلب. # ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا (1) ~~جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ~~ذلك، فإن كان الملك صالحا كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسدا كانت ms107 جنوده ~~بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم (2) ، # كما قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} ~~(3) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: ((اللهم إني (4) ~~أسألك قلبا سليما)) (5) ، فالقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات ~~كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبه الله، وخشية الله، ~~وخشية ما يباعد منه. # وفي " مسند الإمام أحمد " (6) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا يستقيم PageV01P219 # إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)) . # والمراد باستقامة إيمانه: استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال الجوارح لا ~~تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب: أن يكون ممتلئا من محبة ~~الله (1) ، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته. # وقال الحسن (2) لرجل: داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم ~~(3) ، يعني: أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى تستقر ~~فيها معرفة الله وعظمته (4) ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، ~~وتمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى ((لا إله إلا الله)) ، فلا ~~صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده ~~لا شريك له، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله، لفسدت بذلك (5) ~~السماوات والأرض، كما قال تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (6) ~~. # فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي (7) معا حتى تكون حركات ~~أهلها كلها لله (8) ، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت ~~حركته وإرادته لله وحده، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله (9) ، وإن كانت ~~حركة القلب وإراداته لغير الله تعالى فسد، وفسدت حركات الجسد بحسب فساد ~~(10) حركة القلب. # وروى الليث، عن مجاهد في قوله تعالى: {لا تشركوا به شيئا} (11) قال: لا ~~تحبوا غيري. # وفي " صحيح الحاكم " عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((الشرك PageV01P220 # أخفى من دبيب الذر (1) على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على ~~شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين ms108 إلا الحب والبغض؟ قال ~~الله - عز وجل - # : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (2)) ) (3) فهذا يدل على ~~أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والموالاة على ذلك ~~والمعاداة عليه من الشرك الخفي، ويدل على ذلك قوله: {قل إن كنتم تحبون الله ~~فاتبعوني يحببكم الله} فجعل الله علامة الصدق في محبته اتباع رسوله، فدل ~~على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة. # قال الحسن: قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إنا ~~نحب ربنا حبا شديدا. فأحب الله أن يجعل لحبه علما (4) ، فأنزل الله هذه ~~الآية: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} . ومن هنا قال الحسن: ~~اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته. # وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر ~~(5) . وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك (6) . ~~PageV01P221 # وقال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله - عز وجل -، ولم يوافق ~~الله في أمره ونهيه (1) ، فدعواه باطل. وقال رويم: المحبة الموافقة في كل ~~الأحوال، وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، ~~وعن بعض السلف قال: قرأت في بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن عنده ~~شيء آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه. # وفي " السنن " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أعطى لله، ومنع ~~لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل الإيمان)) (2) ومعنى هذا أن حركات ~~القلب والجوارح إذا كانت كلها لله فقد كمل إيمان العبد بذلك ظاهرا وباطنا، ~~ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحا ليس ~~فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، ~~فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفت عما يكرهه، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه (3) ~~وإن لم يتيقن ذلك. PageV01P222 # قال الحسن: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني ms109، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على ~~قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية ~~تأخرت. # وقال محمد بن الفضل البلخي: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله - عز ~~وجل -. وقيل لداود الطائي: لو تنحيت من الظل إلى الشمس، فقال: هذه خطا لا ~~أدري كيف تكتب (1) . # فهؤلاء القوم لما صلحت قلوبهم، فلم يبق فيها إرادة لغير الله - عز وجل -، ~~صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله - عز وجل -، وبما فيه رضاه، والله تعالى ~~أعلم. PageV01P223 ### | الحديث السابع # عن تميم الداري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((الدين النصيحة ثلاثا)) ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ~~ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (1) من رواية سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد ~~الليثي، عن تميم (2) الداري، وقد روي عن سهيل وغيره، عن أبي صالح، عن أبي ~~هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) ، وخرجه الترمذي (4) من هذا ~~الوجه، فمن العلماء من صححه من الطريقين جميعا، ومنهم من قال: إن الصحيح ~~حديث تميم، والإسناد الآخر وهم (5) . # وقد روي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر، ~~وثوبان، وابن عباس، وغيرهم (6) . # وقد ذكرنا في أول الكتاب عن أبي داود: أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي ~~يدور عليها الفقه (7) . # وقال الحافظ أبو نعيم: هذا حديث له شأن، ذكر محمد بن أسلم PageV01P225 # الطوسي أنه أحد أرباع الدين (1) . # وخرج الطبراني (2) من حديث حذيفة بن اليمان، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحا ~~لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم)) . # وخرج الإمام أحمد (3) # من حديث أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((قال الله - ~~عز وجل -: أحب ما تعبدني به عبدي النصح لي)) . # وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عموما، وفي بعضها: النصح لولاة ~~أمورهم، وفي بعضها: نصح ولاة الأمور لرعاياهم. # فأما ms110 الأول: وهو النصح للمسلمين عموما (4) ، ففي " الصحيحين " (5) عن ~~جرير بن عبد الله قال: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقام ~~الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. # وفي " صحيح مسلم " (6) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((حق المؤمن على المؤمن ست)) فذكر منها: ((وإذا استنصحك فانصح له)) . ~~وروي هذا الحديث من وجوه أخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (7) . # وفي " المسند " (8) # عن حكيم بن أبي يزيد، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال # : PageV01P226 # ((إذا استنصح أحدكم أخاه، فلينصح له)) . # وأما الثاني: وهو النصح لولاة الأمور، ونصحهم لرعاياهم، ففي " صحيح # مسلم " عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله ~~يرضى لكم ثلاثا: يرضى # لكم (1) أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا ~~تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (2)) ) . # وفي " المسند " (3) وغيره عن جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال في خطبته بالخيف من منى: ((ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: ~~إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين)) . وقد روى ~~هذه الخطبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة منهم أبو سعيد الخدري ~~(4) . # وقد روي حديث أبي سعيد بلفظ آخر خرجه الدارقطني في " الأفراد " (5) ~~بإسناد جيد، ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث لا يغل ~~عليهن قلب امرئ مسلم: النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين)) . # وفي " الصحيحين " (6) # عن معقل بن يسار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من عبد ~~يسترعيه الله رعية ثم لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة)) . # وقد ذكر الله في كتابه عن الأنبياء عليهم السلام أنهم نصحوا لأممهم كما ~~أخبر بذلك (7) عن نوح، وعن صالح، PageV01P227 # وقال تعالى (1) : {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا ~~يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله} (2) يعني: أن من تخلف عن الجهاد ~~لعذر، فلا حرج عليه بشرط أن يكون ناصحا لله ورسوله في تخلفه ms111، فإن المنافقين ~~كانوا يظهرون الأعذار كاذبين، ويتخلفون عن الجهاد من غير نصح لله ورسوله. # وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدين (3) النصيحة، فهذا يدل ~~على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث ~~جبريل، وسمى ذلك كله (4) دينا، فإن النصح لله يقتضي القيام بأداء واجباته ~~على أكمل وجوهها، وهو مقام الإحسان، فلا يكمل النصح لله بدون ذلك، ولا ~~يتأتى ذلك بدون كمال المحبة الواجبة والمستحبة، ويستلزم ذلك الاجتهاد في ~~التقرب إليه بنوافل الطاعات على هذا الوجه وترك المحرمات والمكروهات على ~~هذا الوجه أيضا. # وفي مراسيل الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أرأيتم لو كان ~~لأحدكم عبدان، فكان أحدهما يطيعه إذا أمره، ويؤدي إليه إذا ائتمنه، وينصح ~~له إذا غاب عنه، وكان الآخر يعصيه إذا أمره، ويخونه إذا ائتمنه، ويغشه إذا ~~غاب عنه كانا # سواء؟)) قالوا: لا، قال: ((فكذاكم أنتم عند الله - عز وجل -)) (5) خرجه ~~ابن أبي # الدنيا. # وخرج الإمام أحمد (6) معناه من حديث أبي الأحوص، عن أبيه، عن النبي # - صلى الله عليه وسلم -. # وقال الفضيل بن عياض: الحب أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان ~~أحدهما يحبك، والآخر يخافك، فالذي يحبك منهما ينصحك (7) شاهدا كنت أو غائبا ~~لحبه إياك، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخاف، ويغشك إذا ~~PageV01P228 # غبت ولا ينصحك (1) . # قال عبد العزيز بن رفيع: قال الحواريون لعيسى - عليه السلام -: ما الخالص ~~من # العمل؟ قال: ما لا تحب أن يحمدك الناس عليه، قالوا: فما النصح لله؟ قال: ~~أن تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس، وإن عرض لك أمران: أحدهما لله، ~~والآخر للدنيا، بدأت بحق الله تعالى (2) . # قال الخطابي: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، ~~قال: وأصل النصح في اللغة الخلوص، يقال: نصحت العسل: إذا خلصته من الشمع. # فمعنى النصيحة لله سبحانه: صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في # عبادته، والنصيحة لكتابه: الإيمان به، والعمل بما فيه، والنصيحة لرسوله: ~~التصديق بنبوته، وبذل الطاعة ms112 له فيما أمر به، ونهى عنه، والنصيحة لعامة ~~المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم. انتهى (3) . # وقد حكى الإمام أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في كتاب " تعظيم قدر # الصلاة " (4) عن بعض أهل العلم أنه فسر هذا الحديث بما لا مزيد على حسنه، ~~ونحن نحكيه هاهنا بلفظه. قال محمد بن نصر: قال بعض أهل العلم: جماع تفسير ~~النصيحة هو عناية القلب للمنصوح له من كان، وهي على وجهين: أحدهما # فرض، والآخر نافلة، فالنصيحة المفترضة لله: هي شدة العناية من الناصح ~~باتباع محبة الله في أداء ما PageV01P229 # افترض، ومجانبة ما حرم. # وأما النصيحة التي هي نافلة، فهي إيثار محبته على محبة نفسه، وذلك أن ~~يعرض أمران، أحدهما لنفسه، والآخر لربه، فيبدأ بما كان لربه، ويؤخر ما كان ~~لنفسه، فهذه جملة تفسير النصيحة لله، الفرض منه والنافلة، ولذلك تفسير، ~~وسنذكر بعضه ليفهم (1) بالتفسير من لا يفهم الجملة. # فالفرض منها مجانبة نهيه، وإقامة فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقا له، # فإن عجز عن الإقامة بفرضه لآفة حلت به من مرض، أو حبس، أو غير ذلك، # عزم على أداء ما افترض عليه متى زالت عنه العلة المانعة له، قال الله - ~~عز وجل -: {ليس # على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا ~~نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل} (2) ، فسماهم محسنين لنصيحتهم ~~لله بقلوبهم لما منعوا من الجهاد بأنفسهم. # وقد ترفع الأعمال كلها عن العبد في بعض الحالات، ولا يرفع عنه النصح # لله، فلو كان من المرض بحال لا يمكنه عمل بشيء من جوارحه بلسان ولا غيره، # غير أن عقله ثابت، لم يسقط عنه النصح لله بقلبه (3) وهو أن يندم على ~~ذنوبه، وينوي إن صح أن يقوم بما افترض الله عليه، ويجتنب ما نهاه عنه، وإلا ~~كان غير ناصح لله بقلبه. # وكذلك النصح لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما أوجبه على الناس عن ~~أمر ربه، PageV01P230 # ومن النصح الواجب لله أن لا يرضى بمعصية العاصي، ويحب طاعة من أطاع الله ms113 ~~ورسوله. # وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض (1) : فبذل المجهود بإيثار الله تعالى ~~على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح حتى لا يكون في الناصح فضل عن غيره، لأن ~~الناصح إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ~~ومحبته، فكذلك الناصح لربه، ومن تنفل لله بدون الاجتهاد، فهو ناصح على قدر ~~عمله، غير مستحق للنصح بكماله. # وأما النصيحة لكتاب الله، فشدة حبه وتعظيم قدره، إذ هو كلام الخالق، # وشدة الرغبة في فهمه، وشدة العناية (2) لتدبره والوقوف عند تلاوته؛ لطلب ~~معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعد ما يفهمه، وكذلك الناصح ~~من العباد يفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه، عني بفهمه ليقوم ~~عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب ربه، يعنى بفهمه؛ ليقوم لله ~~بما أمر به كما يحب ويرضى، ثم ينشر ما فهم في العباد ويديم دراسته بالمحبة ~~له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه. PageV01P231 # وأما النصيحة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته: فبذل المجهود في ~~طاعته ونصرته ومعاونته، وبذل المال إذا أراده والمسارعة إلى محبته. وأما ~~بعد وفاته: فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه وآدابه، وتعظيم أمره، ~~ولزوم القيام به، وشدة الغضب، والإعراض عمن تدين بخلاف سنته، والغضب على من ~~ضيعها لأثرة دنيا، وإن كان متدينا بها، وحب من كان منه بسبيل من قرابة، أو ~~صهر، أو هجرة أو نصرة، أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام والتشبه به ~~في زيه ولباسه. # وأما النصيحة (1) لأئمة المسلمين: فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع ~~الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله - ~~عز وجل -، والبغض لمن رأى الخروج عليهم، وحب (2) إعزازهم في طاعة الله - عز ~~وجل -. # وأما النصيحة للمسلمين: فأن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم # ما يكره لنفسه، ويشفق عليهم، ويرحم صغيرهم، ويوقر كبيرهم، ويحزن # لحزنهم، ويفرح لفرحهم، وإن ضره ذلك في دنياه كرخص أسعارهم، وإن # كان في ذلك فوات ربح ms114 ما يبيع من تجارته، وكذلك جميع ما يضرهم عامة، ويحب ~~صلاحهم وألفتهم ودوام النعم عليهم، ونصرهم على عدوهم، ودفع كل أذى ومكروه ~~عنهم. # وقال أبو عمرو بن الصلاح (3) : النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح ~~للمنصوح PageV01P232 # له بوجوه الخير إرادة وفعلا. # فالنصيحة لله تعالى: توحيده ووصفه بصفات الكمال والجلال، وتنزيهه عما ~~يضادها ويخالفها، وتجنب معاصيه، والقيام بطاعته ومحابه بوصف الإخلاص، والحب ~~فيه والبغض فيه، وجهاد من كفر به تعالى وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك، ~~والحث عليه. # والنصيحة لكتابه: الإيمان به وتعظيمه وتنزيهه، وتلاوته (1) حق تلاوته، ~~والوقوف مع أوامره ونواهيه، وتفهم علومه وأمثاله، وتدبر آياته، والدعاء ~~إليه، # وذب تحريف الغالين (2) وطعن الملحدين عنه. # والنصيحة لرسوله قريب من ذلك (3) : الإيمان به وبما جاء به وتوقيره ~~وتبجيله، والتمسك بطاعته، وإحياء سنته واستنشارة علومه ونشرها ومعاداة من ~~عاداه وعاداها، وموالاة من والاه ووالاها، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه ~~ومحبة آله وصحابته ونحو ذلك. # والنصيحة لأئمة المسلمين: معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، ~~وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق وحث ~~الأغيار على ذلك. PageV01P233 # والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ~~ودنياهم، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذب عنهم، ~~ومجانبة الغش والحسد لهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره ~~لنفسه، وما شابه ذلك، انتهى ما ذكره (1) . # ومن أنواع نصحهم بدفع الأذى والمكروه عنهم: إيثار فقيرهم وتعليم جاهلهم، ~~ورد من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردهم إلى الحق، والرفق ~~بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر محبة لإزالة فسادهم ولو بحصول ضرر ~~له في دنياه، كما قال بعض السلف: وددت أن هذا الخلق أطاعوا الله وأن لحمي ~~قرض بالمقاريض (2) ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يا ليتني عملت فيكم # بكتاب الله وعملتم به، فكلما عملت فيكم بسنة، وقع منى عضو حتى يكون آخر ~~شيء منها خروج نفسي. # ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله - وهو مما يختص به العلماء - # رد ms115 الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء # كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب ~~والسنة على ردها، ومن ذلك بيان ما صح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، ومالم يصح منه بتبين حال رواته ومن تقبل رواياته منهم ومن لا تقبل، ~~وبيان غلط من غلط من ثقاتهم الذين تقبل روايتهم. # ومن أعظم أنواع النصح أن ينصح لمن استشاره في أمره، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: # ((إذا استنصح أحدكم أخاه، فلينصح له)) (3) ، وفي بعض الأحاديث: ((إن من ~~حق المسلم على PageV01P234 # المسلم أن ينصح له إذا غاب)) (1) # ومعنى ذلك: أنه إذا ذكر في غيبه بالسوء أن ينصره، ويرد عنه، وإذا رأى من ~~يريد أذاه في غيبه، كفه عن ذلك، فإن النصح في الغيب يدل على صدق النصح، ~~فإنه قد يظهر النصح في حضوره تملقا، ويغشه في غيبه. # وقال الحسن: إنك لن تبلغ حق نصيحتك لأخيك حتى تأمره بما تعجز عنه. # قال الحسن: وقال بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي ~~بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون ~~الله إلى عباده ويحببون عباد الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة (2) ~~. # وقال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: المحب لله - عز وجل - أمير مؤمر ~~على الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هناك ~~والمحبة # منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله - عز وجل ~~-، يحبونه ويحبون ذكره، ويحببونه إلى خلقه، يمشون بين عباده بالنصائح، ~~ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله وأحباؤه ~~وأهل (3) صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه. # وقال ابن علية في قول أبي بكر المزني: ما فاق أبو بكر - رضي الله عنه - ~~أصحاب # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه، ~~قال: الذي كان في قلبه الحب لله - عز وجل -، والنصيحة في خلقه. # وقال الفضيل بن عياض: ما ms116 أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة PageV01P235 # والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة ~~(1) . # وسئل ابن المبارك: أي الأعمال أفضل؟ قال: النصح لله. # وقال معمر: كان يقال: أنصح الناس لك من خاف الله فيك. # وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سرا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه ~~فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه (2) . # وقال الفضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. # وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه ~~شيئا يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه ~~فيستغضب أخاه ويهتك ستره. # وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عن أمر السلطان بالمعروف، ونهيه عن ~~المنكر، فقال: إن كنت فاعلا ولابد، ففيما بينك وبينه (3) . # وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس على المسلم نصح الذمي، وعليه نصح ~~المسلم. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والنصح لكل مسلم، وأن ينصح ~~لجماعة المسلمين وعامتهم)) (4) . PageV01P236 ### | الحديث الثامن # عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا ~~رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني ~~دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى)) رواه البخاري ~~ومسلم. # هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " (1) من رواية واقد بن محمد بن زيد بن ~~عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمر. # وقوله: ((إلا بحق الإسلام)) هذه اللفظة تفرد بها البخاري (2) دون مسلم. # وقد روي معنى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة ~~ففي " صحيح # البخاري " (3) # عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى ~~يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا شهدوا أن لا إله ~~إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وأكلوا ~~ذبيحتنا، فقد حرمت علينا ms117 دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)) . PageV01P237 # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال # : ((إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويشهدوا ~~أن لا إله إلا الله وحده لا شريك (2) له، وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا ~~فعلوا ذلك، فقد اعتصموا (3) وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على ~~الله - عز وجل -)) . # وخرجه ابن ماجه مختصرا (4) . # وخرج نحوه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أيضا (5) ، ولكن المشهور ~~من رواية أبي هريرة ليس فيه ذكر: إقام الصلاة ولا إيتاء الزكاة، ففي " ~~الصحيحين " (6) # عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أمرت أن أقاتل ~~الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ~~ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله - عز وجل -)) وفي رواية لمسلم (7) : ((حتى ~~يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به)) . # وخرجه مسلم (8) أيضا من حديث جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - بلفظ حديث أبي هريرة الأول وزاد في آخره: ثم قرأ: {فذكر إنما ~~أنت مذكر لست عليهم # بمصيطر} (9) . # وخرج أيضا (10) من حديث أبي مالك الأشجعي، عن أبيه قال: سمعت رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من ~~دون الله حرم ماله ودمه PageV01P238 # وحسابه على الله - عز وجل -)) . # وقد روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: كان هذا في أول (1) الإسلام قبل فرض ~~الصلاة والصيام والزكاة والهجرة، وهذا ضعيف جدا، وفي صحته عن سفيان نظر، ~~فإن رواة هذه الأحاديث إنما صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ~~وبعضهم تأخر إسلامه. # ثم قوله: ((عصموا مني دماءهم وأموالهم)) يدل على أنه كان عند هذا القول ~~مأمورا بالقتال، وبقتل من أبى الإسلام، وهذا كله بعد هجرته إلى المدينة، ~~ومن المعلوم بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل من كل من ~~جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين ms118 فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلما، ~~فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال: لا إله إلا الله، لما رفع عليه ~~السيف، واشتد نكيره عليه (2) . # ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشترط على من جاءه يريد الإسلام أن ~~يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام، واشترطوا أن لا ~~يزكوا، ففي " مسند الإمام # أحمد " (3) عن جابر قال: اشترطت ثقيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((سيصدقون ويجاهدون)) . # وفيه أيضا عن نصر بن عاصم الليثي، عن رجل منهم: أنه أتى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، فأسلم على PageV01P239 # أن لا يصلي إلا صلاتين، فقبل منه (1) . # وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث، وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم ~~يلزم بشرائع الإسلام كلها، واستدل أيضا بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - على أن لا أخر إلا قائما (2) . قال أحمد: معناه أن ~~يسجد من غير ركوع (3) . # وخرج محمد بن نصر المروزي (4) بإسناد ضعيف جدا عن أنس قال: لم يكن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - يقبل من أجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة، ~~وإيتاء الزكاة، وكانتا فريضتين على من أقر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ~~وبالإسلام، وذلك قول الله - عز وجل -: {فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ~~فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (5) وهذا لا يثبت، وعلى تقدير ثبوته، فالمراد ~~منه أنه لم يكن يقر أحدا دخل في الإسلام على ترك الصلاة والزكاة وهذا حق، ~~فإنه - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذا لما بعثه إلى اليمن أن يدعوهم أولا ~~PageV01P240 # إلى الشهادتين، وقال: ((إن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم بالصلاة، ثم ~~بالزكاة)) (1) # ومراده أن من صار مسلما بدخوله في الإسلام أمر (2) بعد ذلك بإقام الصلاة، ~~ثم بإيتاء الزكاة، وكان من سأله عن الإسلام يذكر له مع الشهادتين بقية ~~أركان (3) الإسلام، كما قال لجبريل - عليه السلام - لما سأله عن الإسلام ~~(4) ، وكما قال للأعرابي الذي جاءه ثائر ms119 الرأس يسأل عن الإسلام (5) . # وبهذا الذي قررناه يظهر الجمع بين ألفاظ (6) أحاديث هذا الباب، ويتبين أن ~~كلها # حق، فإن كلمتي الشهادتين بمجردهما تعصم من أتى بهما، ويصير بذلك مسلما، ~~فإذا دخل في الإسلام، فإن أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وقام بشرائع الإسلام، ~~فله ما # للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن أخل بشيء من هذه الأركان، فإن كانوا جماعة ~~لهم منعة قوتلوا. # وقد ظن بعضهم أن معنى الحديث: أن الكافر يقاتل حتى يأتي بالشهادتين، ~~ويقيم # الصلاة، ويؤتي الزكاة، وجعلوا ذلك حجة على خطاب الكفار بالفروع، وفي هذا # نظر، وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتال الكفار تدل على خلاف ~~هذا، PageV01P241 # وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - دعا عليا يوم خيبر، فأعطاه الراية وقال: ((امش ولا تلتفت ~~حتى يفتح الله عليك)) فسار علي شيئا، ثم وقف، فصرخ: يا رسول الله على ماذا ~~أقاتل الناس؟ فقال: ((قاتلهم على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا # رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد عصموا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، ~~وحسابهم على الله - عز وجل -)) فجعل مجرد الإجابة إلى الشهادتين عاصمة ~~للنفوس والأموال إلا بحقها، ومن حقها الامتناع من الصلاة والزكاة بعد ~~الدخول في الإسلام كما فهمه الصحابة - رضي الله عنهم - (2) . # ومما يدل على قتال الجماعة الممتنعين من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة من ~~القرآن قوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} ~~(3) وقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في ~~الدين} (4) وقوله تعالى: # {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} (5) مع قوله تعالى: {وما ~~أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا ~~الزكاة وذلك دين # القيمة} (6) . # وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى ~~(7) يصبح فإن سمع أذانا وإلا أغار عليهم، مع احتمال أن يكونوا قد دخلوا في ~~الإسلام (8) . # وكان يوصي سراياه: ((إن سمعتم مؤذنا أو رأيتم مسجدا، فلا تقتلوا أحدا ms120)) ~~(9) . # وقد بعث عيينة بن حصن إلى قوم من بني العنبر، فأغار عليهم ولم يسمع ~~أذانا، ثم ادعوا أنهم قد أسلموا قبل ذلك. # وبعث - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل عمان كتابا فيه: ((من محمد النبي ~~إلى أهل عمان، سلام PageV01P242 # أما بعد: فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأدوا ~~الزكاة، وخطوا المساجد، وإلا غزوتكم)) خرجه البزار والطبراني وغيرهما (1) . # فهذا كله يدل على أنه كان يعتبر حال الداخلين في الإسلام، فإن أقاموا ~~الصلاة، وآتوا الزكاة وإلا لم يمتنع عن قتالهم، وفي هذا وقع تناظر أبي بكر ~~وعمر رضي الله عنهما (2) كما في " الصحيحين " (3) # عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - واستخلف أبو بكر الصديق بعده (4) ، وكفر من كفر من العرب، قال عمر ~~لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا ~~الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله - عز وجل -)) فقال ~~أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، ~~والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر ~~أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. # فأبو بكر - رضي الله عنه - أخذ قتالهم من قوله: ((إلا بحقه)) فدل على أن ~~قتال من أتى بالشهادتين بحقه جائز، ومن حقه أداء حق المال الواجب، وعمر - ~~رضي الله عنه - ظن أن مجرد الإتيان بالشهادتين يعصم الدم في الدنيا تمسكا ~~بعموم أول الحديث كما ظن طائفة من الناس أن من أتى بالشهادتين امتنع من ~~دخول النار في الآخرة تمسكا (5) بعموم ألفاظ وردت، وليس الأمر على ذلك، ثم ~~إن عمر رجع إلى موافقة أبي بكر - رضي الله عنه - (6) . # وقد خرج النسائي قصة تناظر أبي بكر وعمر بزيادة: وهي PageV01P243 # أن ms121 أبا بكر قال لعمر: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت ~~أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا ~~الصلاة، ويؤتوا الزكاة)) (1) وخرجه ابن خزيمة في # " صحيحه " (2) ، ولكن هذه الرواية أخطأ فيها عمران القطان إسنادا ومتنا، ~~قاله أئمة الحفاظ، منهم: علي بن المديني وأبو زرعة وأبو حاتم والترمذي ~~والنسائي، ولم يكن هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ ~~عند أبي بكر ولا عمر، وإنما قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة ~~والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وهذا أخذه - والله أعلم - من قوله في الحديث ~~(3) ((إلا بحقها)) . وفي رواية: ((إلا بحق الإسلام)) فجعل من حق الإسلام ~~إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما أن من حقه أن لا يرتكب الحدود، وجعل كل ذلك ~~مما استثنى بقوله: ((إلا بحقها)) (4) . # وقوله: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، يدل على ~~أن من ترك الصلاة، فإنه يقاتل؛ لأنها حق البدن، فكذلك من ترك الزكاة التي ~~هي حق المال. PageV01P244 # وفي هذا إشارة إلى أن قتال تارك الصلاة أمر مجمع عليه؛ لأنه جعله أصلا ~~مقيسا عليه، وليس هو مذكورا في الحديث الذي احتج به عمر (1) وإنما أخذ من ~~قوله: ((إلا بحقها)) فكذلك الزكاة؛ لأنها من حقها، وكل ذلك من حقوق الإسلام ~~(2) . # ويستدل أيضا على القتال على ترك الصلاة بما في " صحيح مسلم " (3) # عن أم سلمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يستعمل عليكم أمراء، ~~فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)) ~~فقالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: ((لا ما صلوا)) . # وحكم من ترك شيئا من (4) أركان الإسلام أن يقاتلوا عليها كما يقاتلون على ~~ترك الصلاة والزكاة. # وروى ابن شهاب، عن حنظلة بن علي بن الأسقع: أن أبا بكر الصديق بعث خالد ~~بن الوليد، وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمن ترك واحدة من الخمس، فقاتله ~~عليها كما تقاتل على الخمس: شهادة أن لا ms122 إله إلا الله، وأن محمدا رسول ~~الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان (5) . # وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن الخطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم ~~عليه، كما نقاتلهم على الصلاة والزكاة. فهذا الكلام في قتال الطائفة ~~الممتنعة عن شيء من هذه الواجبات. PageV01P245 # وأما قتل الواحد الممتنع عنها، فأكثر العلماء على أنه يقتل الممتنع من ~~الصلاة، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد، وغيرهم (1) ، # ويدل على ذلك ما في # " الصحيحين " (2) عن أبي سعيد الخدري: أن خالد بن الوليد استأذن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - في قتل رجل، فقال: ((لا، لعله أن يكون يصلي)) ، فقال ~~خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم (3)) ) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (4) عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلا من ~~الأنصار حدثه أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في قتل رجل من ~~المنافقين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - # : ((أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟)) قال: بلى، ولا شهادة له، قال: ~~((أليس # يصلي؟)) قال: بلى، ولا صلاة له، قال: ((أولئك الذين نهاني الله عن ~~قتلهم)) . # وأما قتل الممتنع عن أداء الزكاة، ففيه قولان لمن قال: يقتل الممتنع من ~~فعل الصلاة: # أحدهما: يقتل أيضا، وهو المشهور عن أحمد، ويستدل له بحديث ابن عمر هذا ~~(5) . # والثاني: لا يقتل، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد في رواية (6) . ~~PageV01P246 # وأما الصوم فقال مالك وأحمد في رواية عنه: يقتل بتركه (1) ، وقال الشافعي ~~وأحمد في رواية: لا يقتل بذلك، ويستدل له بحديث ابن عمر وغيره مما في ~~معناه، فإنه ليس في شيء منها ذكر الصوم، ولهذا قال أحمد في رواية أبي طالب: ~~الصوم لم يجئ فيه شيء (2) . # قلت: قد روي عن ابن عباس مرفوعا وموقوفا: أن من ترك الشهادتين أو الصلاة ~~أو الصيام، فهو كافر حلال الدم (3) بخلاف الزكاة والحج (4) . وقد سبق ذكره ~~في # شرح (5) حديث: ((بني الإسلام ms123 على خمس)) (6) . # وأما الحج، فعن أحمد في القتل بتركه روايتان، وحمل بعض أصحابنا رواية ~~قتله على من أخره عازما على تركه بالكلية، أو أخره وغلب على ظنه الموت في ~~عامه، فأما إن أخره معتقدا أنه على التراخي كما يقوله كثير من العلماء، فلا ~~قتل بذلك (7) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إلا بحقها)) وفي رواية: ((إلا بحق ~~الإسلام)) قد سبق أن أبا بكر أدخل في هذا الحق فعل الصلاة والزكاة، وأن من ~~العلماء من أدخل فيه فعل الصيام والحج أيضا. # ومن حقها ارتكاب ما يبيح دم المسلم من المحرمات، وقد ورد تفسير حقها ~~بذلك، خرجه الطبراني وابن جرير الطبري من حديث أنس، عن PageV01P247 # النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا ~~إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم ~~على الله - عز وجل -)) قيل: وما حقها؟ قال: ((زنى بعد إحصان، وكفر بعد ~~إيمان، وقتل نفس، فيقتل بها (1)) ) ولعل آخره من قول أنس، وقد قيل: إن ~~الصواب وقف الحديث كله عليه. # ويشهد لهذا ما في " الصحيحين " (2) # عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل دم امرئ ~~مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب ~~الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ، وسيأتي الكلام ~~على هذا الحديث مستوفى عند ذكره في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ~~(3) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وحسابهم على الله - عز وجل -)) يعني: أن ~~الشهادتين مع إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا ~~إلا أن يأتي ما يبيح دمه، وأما في الآخرة، فحسابه على الله - عز وجل -، فإن ~~كان صادقا، أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبا فإنه من جملة المنافقين ~~في الدرك الأسفل من النار. # وقد تقدم أن في بعض الروايات في " صحيح مسلم " (4) ثم تلا: {فذكر إنما ~~أنت مذكر لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إن ~~إلينا ms124 إيابهم ثم إن علينا حسابهم} (5) والمعنى: إنما عليك تذكيرهم بالله، ~~ودعوتهم إليه، ولست مسلطا على إدخال الإيمان في قلوبهم قهرا ولا مكلفا ~~بذلك، ثم أخبر أن مرجع العباد كلهم إليه وحسابهم عليه (6) . # وفي " مسند البزار " (7) عن عياض الأنصاري، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((إن لا إله # إلا الله كلمة PageV01P248 # على الله كريمة، لها عند الله مكان، وهي كلمة من قالها صادقا، أدخله الله ~~بها الجنة، ومن قالها كاذبا حقنت ماله ودمه، ولقي الله غدا فحاسبه (1)) ) . # وقد استدل بهذا من يرى قبول توبة الزنديق، وهو المنافق إذا أظهر العود ~~إلى الإسلام، ولم ير قتله بمجرد ظهور نفاقه، كما كان النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يعامل المنافقين، ويجريهم على أحكام المسلمين في الظاهر مع علمه ~~بنفاق بعضهم في الباطن، وهذا قول الشافعي وأحمد في رواية عنه، وحكاه ~~الخطابي عن أكثر العلماء، والله أعلم (2) . PageV01P249 ### | الحديث التاسع # عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- يقول: ((ما نهيتكم عنه، فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما استطعتم، ~~فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم)) . رواه ~~البخاري ومسلم (1) . # هذا الحديث بهذا اللفظ (2) خرجه مسلم وحده من رواية الزهري، عن سعيد ابن ~~المسيب وأبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة (3) ، وخرجاه من رواية أبي الزناد، ~~عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((دعوني ~~ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا ~~نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (4) ~~وخرجه مسلم من طريقين آخرين (5) عن أبي هريرة بمعناه (6) . # وفي رواية له ذكر سبب هذا الحديث من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة ~~قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يا أيها الناس قد فرض ~~الله عليكم الحج # فحجوا)) فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قلت: نعم، لوجبت، ولما ms125 استطعتم)) ~~ثم قال: ((ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على ~~أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، ~~فدعوه (7)) ) (8) . # وخرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرا (9) ، وقال فيه: فنزل قوله تعالى ~~PageV01P251 # : {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (1) . # وقد روي من غير وجه أن هذه الآية نزلت لما سألوا النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - عن الحج، وقالوا: أفي كل عام؟ (2) # وفي " الصحيحين " (3) # عن أنس قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رجل: # من أبي؟ فقال: ((فلان)) ، فنزلت هذه الآية {لا تسألوا عن أشياء} (4) . # وفيهما أيضا عن قتادة، عن أنس قال: سألوا (5) رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - حتى أحفوه في المسألة، فغضب، فصعد المنبر، فقال: ((لا تسألوني اليوم ~~عن شيء إلا بينته)) ، فقام رجل كان إذا لاحى الرجال دعي إلى غير أبيه، ~~فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: ((أبوك حذافة)) ، ثم أنشأ (6) عمر، فقال: ~~رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، نعوذ بالله من الفتن. وكان ~~قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية (7) {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا ~~عن أشياء} (8) . # وفي " صحيح البخاري " (9) عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ~~ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن ~~أشياء} . PageV01P252 # وخرج ابن جرير الطبري في " تفسيره " (1) # من حديث أبي هريرة، قال: # خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان محمارا وجهه، حتى جلس ~~على المنبر، فقام إليه رجل، فقال: أين أنا؟ فقال: ((في النار)) ، فقام إليه ~~آخر (2) فقال: من أبي؟ قال: ((أبوك حذافة)) ، فقام عمر فقال: رضينا بالله ~~ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، إنا يا رسول الله حديثو ~~عهد بجاهلية وشرك، والله أعلم من آباؤنا، قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية: ~~{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم ms126 تسؤكم} (3) . # وروى أيضا (4) من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {يا أيها الذين آمنوا ~~لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} قال: إن رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - أذن في الناس، فقال: ((يا قوم كتب عليكم الحج)) ، فقام رجل، فقال: ~~يا رسول الله، أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا ~~شديدا، فقال: ((والذي نفسي بيده، لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ~~وإذن لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإذا أمرتكم بشيء، فافعلوا منه ما ~~استطعتم (5) ، وإذا نهيتكم عن شيء، فانتهوا عنه)) ، فأنزل الله: {يا أيها ~~الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم # تسؤكم} ، نهاهم أن يسألوا مثل الذي سألت النصارى في المائدة، فأصبحوا بها ~~كافرين، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن ~~فيها بتغليظ ساءكم (6) ، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن، فإنكم لا تسألون ~~عن شيء # إلا وجدتم تبيانه. # فدلت هذه الأحاديث على النهي عن السؤال عما لا يحتاج إليه مما يسوء ~~السائل جوابه مثل سؤال السائل، هل هو في النار أو في الجنة، وهل أبوه من ~~ينتسب إليه أو غيره، وعلى النهي عن السؤال على وجه التعنت والعبث # والاستهزاء (7) ، كما كان يفعله PageV01P253 # كثير من المنافقين وغيرهم. # وقريب من ذلك سؤال الآيات واقتراحها على وجه التعنت، كما كان يسأله ~~المشركون وأهل الكتاب، وقد قال عكرمة وغيره: إن الآية نزلت في ذلك (1) . # ويقرب من ذلك السؤال عما أخفاه الله عن عباده، ولم يطلعهم عليه، كالسؤال ~~عن وقت الساعة، وعن الروح. # ودلت أيضا على نهي المسلمين عن السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما ~~يخشى أن يكون السؤال سببا لنزول التشديد فيه، كالسؤال عن الحج: هل يجب كل ~~عام أم لا (2) ؟ وفي " الصحيح " (3) عن سعد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أنه قال: ((إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، ~~فحرم من أجل مسألته)) . # ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللعان ms127 كره المسائل وعابها حتى ~~ابتلي السائل عنه قبل # وقوعه بذلك في أهله (4) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن قيل ~~وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال (5) . PageV01P254 # ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص في المسائل إلا للأعراب ~~ونحوهم من الوفود القادمين # عليه، يتألفهم بذلك، فأما المهاجرون والأنصار المقيمون بالمدينة الذين ~~رسخ الإيمان في قلوبهم، فنهوا عن المسألة، كما في " صحيح مسلم " (1) عن ~~النواس بن سمعان، قال: أقمت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ~~سنة ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -. # وفيه أيضا عن أنس، قال: نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن ~~نسمع (2) . # وفي " المسند " (3) عن أبي أمامة قال: كان الله قد أنزل: {يا أيها الذين ~~آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} (4) قال: فكنا قد كرهنا كثيرا ~~من مسألته، واتقينا ذلك حين أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: فأتينا أعرابيا، فرشوناه بردا، ثم قلنا له: سل النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وذكر حديثا. # وفي "مسند أبي يعلى" (5) عن البراء بن عازب، قال (6) : إن كان لتأتي علي ~~السنة أريد أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فأتهيب منه، ~~وإن كنا لنتمنى الأعراب. PageV01P255 # وفي " مسند البزار " (1) # عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم ~~- ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآن: {يسألونك عن الخمر ~~والميسر} (2) ، {يسألونك عن الشهر الحرام} (3) ، {ويسألونك عن # اليتامى} (4) ، وذكر الحديث. # وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يسألونه عن حكم حوادث ~~قبل وقوعها، لكن للعمل بها عند وقوعها، كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غدا، ~~وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ (5) وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم ~~بعده، وعن طاعتهم وقتالهم، وسأله حذيفة عن الفتن، وما يصنع فيها (6) . # فهذا ms128 الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذروني ما تركتكم، فإنما ~~هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، يدل على كراهة ~~المسائل وذمها، ولكن بعض الناس يزعم أن ذلك كان مختصا بزمن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لما يخشى حينئذ من تحريم ما لم يحرم، أو إيجاب ما يشق ~~القيام به، وهذا قد أمن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. # ولكن ليس هذا وحده هو سبب كراهة المسائل، بل له سبب آخر، وهو # الذي أشار إليه ابن عباس في كلامه الذي ذكرنا بقوله: ولكن (7) انتظروا، ~~فإذا نزل # القرآن، فإنكم لا PageV01P256 # تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه. # ومعنى هذا: أن جميع ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم لابد أن يبينه الله ~~في كتابه العزيز، ويبلغ ذلك رسوله عنه، فلا حاجة بعد هذا لأحد في السؤال، ~~فإن الله تعالى أعلم بمصالح عباده منهم، فما كان فيه هدايتهم ونفعهم، فإن ~~الله لابد أن يبينه لهم ابتداء من غير سؤال، كما قال: {يبين الله لكم أن ~~تضلوا} (1) ، وحينئذ فلا حاجة إلى السؤال عن شيء، ولا سيما قبل وقوعه ~~والحاجة إليه، وإنما الحاجة المهمة إلى فهم ما أخبر الله به ورسوله، ثم ~~اتباع ذلك والعمل به، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن ~~المسائل، فيحيل على القرآن، كما سأله عمر عن الكلالة، فقال # : ((يكفيك آية الصيف)) (2) . # وأشار - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إلى أن في الاشتغال بامتثال ~~أمره، واجتناب نهيه شغلا عن المسائل، فقال: ((إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، ~~وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم)) فالذي يتعين على المسلم الاعتناء ~~به والاهتمام أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله (3) - صلى الله عليه وسلم -، ~~ثم يجتهد في فهم ذلك، والوقوف على معانيه، ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان ~~من الأمور العلمية، وإن كان من الأمور العملية، بذل وسعه في الاجتهاد في ~~فعل ما يستطيعه من الأوامر، واجتناب ما ينهى عنه، وتكون همته مصروفة ~~بالكلية إلى ذلك؛ لا إلى غيره ms129. وهكذا كان حال (4) أصحاب النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة. ~~PageV01P257 # فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد # تقع، وقد لا تقع، فإن هذا مما يدخل في النهي، ويثبط عن الجد في متابعة ~~الأمر. وقد سأل رجل ابن عمر عن استلام الحجر، فقال له: رأيت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله، فقال له الرجل: أرأيت إن غلبت عليه؟ أرأيت ~~إن زوحمت؟ فقال له ابن عمر: اجعل ((أرأيت)) باليمن، رأيت النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - يستلمه ويقبله. خرجه الترمذي (1) . # ومراد ابن عمر أنه لا يكن لك هم إلا في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، ولا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه؛ فإنه قد يفتر ~~العزم على التصميم على المتابعة، فإن التفقه في الدين، والسؤال عن العلم ~~إنما يحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدال. # وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان، فقال ~~له عمر: متى ذلك يا علي؟ قال: إذا تفقه لغير الدين، وتعلم لغير العمل، ~~والتمست الدنيا بعمل (2) الآخرة (3) . # وعن ابن مسعود أنه قال: كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم ~~فيها الكبير، وتتخذ سنة، فإن غيرت يوما قيل: هذا منكر؟ قالوا: ومتى ذلك؟ ~~قال: إذا قلت أمناؤكم، وكثرت أمراؤكم، وقلت فقهاؤكم، وكثر PageV01P258 # قراؤكم، # وتفقه لغير الدين، والتمست الدنيا بعمل الآخرة. خرجهما عبد الرزاق في ~~"كتابه" (1) . # ولهذا المعنى كان كثير من الصحابة والتابعين يكرهون السؤال عن الحوادث ~~قبل وقوعها، ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة: خرج عمر على الناس، فقال: ~~أحرج عليكم أن تسألونا عن ما لم يكن، فإن لنا فيما كان شغلا (2) . # وعن ابن عمر، قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر لعن السائل عما ~~لم يكن (3) . # وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن الشيء يقول: كان هذا؟ فإن قالوا: لا، قال: ~~دعوه حتى يكون ms130 (4) . # وقال مسروق: سألت أبي بن كعب عن شيء، فقال: أكان بعد؟ فقلت: لا، فقال: ~~أجمنا - يعني: أرحنا حتى يكون -، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا (5) . # وقال الشعبي: سئل عمار عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا، قال: ~~فدعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناه لكم (6) . # وعن الصلت بن راشد، قال: سألت طاووسا عن شيء، فانتهرني وقال: أكان هذا؟ ~~قلت: نعم، قال: آلله؟ قلت: آلله، قال: إن أصحابنا أخبرونا عن معاذ بن جبل ~~أنه قال: أيها الناس، لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله (7) ، فيذهب بكم ~~PageV01P259 # هاهنا وهاهنا، فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، لم ينفك المسلمون ~~أن يكون فيهم من إذا سئل سدد، أو قال وفق (1) . # وقد خرجه أبو داود في كتاب " المراسيل " (2) # مرفوعا من طريق ابن عجلان، عن طاووس، عن معاذ قال: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لم تفعلوا لم ~~ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال سدد أو وفق، وأنكم إن عجلتم، تشتت ~~بكم السبل هاهنا وهاهنا. ومعنى إرساله (3) أن طاووسا لم يسمع من معاذ. # وخرجه أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، بمعناه (4) مرسلا (5) . # وروى الحجاج بن منهال: حدثنا جرير بن حازم، سمعت الزبير بن سعيد: أن رجلا ~~من بني هشام قال: سمعت أشياخنا يحدثون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((لا يزال في أمتي من إذا سئل سدد وأرشد حتى يسألوا عن ما لا ينزل ~~تبينه، فإذا فعلوا ذلك ذهب بهم هاهنا وهاهنا (6)) ) . # وقد روى الصنابحي، عن معاوية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه ~~نهى عن الأغلوطات)) خرجه الإمام أحمد رحمه الله (7) . # وفسره الأوزاعي وقال: هي شداد المسائل (8) . PageV01P260 # وقال عيسى بن يونس: هي ما لا يحتاج إليه من كيف وكيف (1) . # ويروى من حديث ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((سيكون ~~أقوام من أمتي يغلطون فقهاءهم بعضل المسائل، أولئك شرار أمتي)) . (2) # وقال الحسن: شرار ms131 عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يغمون بها عباد ~~الله (3) . # وقال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه # المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما (4) . # وقال ابن وهب، عن مالك: أدركت هذه البلدة وإنهم ليكرهون الإكثار الذي فيه ~~الناس اليوم: يريد المسائل (5) . # وقال أيضا: سمعت مالكا وهو يعيب كثرة الكلام وكثرة الفتيا، ثم قال: يتكلم ~~كأنه جمل مغتلم، يقول: هو كذا هو كذا يهدر في كلامه. PageV01P261 # وقال: سمعت مالكا يكره (1) الجواب في كثرة المسائل (2) ، وقال: قال الله ~~- عز وجل -: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي} (3) فلم يأته في ذلك ~~جواب. # وكان مالك يكره المجادلة عن السنن أيضا (4) . قال الهيثم بن جميل: قلت ~~لمالك: يا أبا عبد الله، الرجل يكون عالما بالسنن يجادل عنها؟ قال: لا، ~~ولكن يخبر بالسنة، فإن قبل منه، وإلا سكت. # قال إسحاق بن عيسى: كان مالك يقول: المراء والجدال في العلم يذهب بنور ~~العلم من قلب الرجل. # وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول (5) : المراء في العلم يقسي القلوب، ويورث ~~الضغن. # وكان أبو شريح الإسكندراني يوما في مجلسه، فكثرت المسائل، فقال: قد درنت ~~قلوبكم منذ اليوم، فقوموا إلى أبي حميد خالد بن حميد اصقلوا قلوبكم، ~~وتعلموا هذه الرغائب، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، ~~وأقلوا المسائل إلا ما نزل، فإنها تقسي القلوب، وتورث العداوة. # وقال الميموني: سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يسأل عن مسألة، فقال: ~~وقعت هذه المسألة؟ بليتم بها بعد؟ # وقد انقسم الناس في هذا الباب أقساما: # فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل ~~PageV01P262 # الله على رسوله، وصار حامل فقه غير فقيه (1) . # ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها، ما يقع في ~~العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك (2) ، وكثرة ~~الخصومات فيه، والجدال عليه حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب، ويستقر فيها ~~بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيرا بنية ~~المغالبة، وطلب ms132 العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس وهذا مما ذمه العلماء ~~الربانيون، ودلت السنة على قبحه # وتحريمه. # وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب ~~الله - عز وجل -، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم ~~بإحسان، وعن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ~~ثم التفقه فيها وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة ~~والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال ~~والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ~~ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل ~~بما أحدث من الرأي مما لا ينتفع به، ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه ~~الخصومات والجدال وكثرة القيل والقال. وكان الإمام أحمد كثيرا إذا سئل عن ~~شيء من المسائل المولدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة ~~(3) . PageV01P263 # وما أحسن ما قاله يونس بن سليمان السقطي: نظرت في الأمر، فإذا هو الحديث ~~والرأي، فوجدت في الحديث ذكر الرب - عز وجل - وربوبيته وإجلاله وعظمته، ~~وذكر العرش وصفة الجنة والنار، وذكر النبيين والمرسلين، والحلال والحرام، ~~والحث على صلة الأرحام (1) ، وجماع الخير فيه، ونظرت في الرأي، فإذا فيه ~~المكر، والغدر، والحيل، وقطيعة الأرحام، وجماع الشر فيه. # وقال أحمد بن شبويه: من أراد علم القبر فعليه بالآثار، ومن أراد علم ~~الخبز، فعليه بالرأي (2) . # ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه، تمكن من فهم جواب # الحوادث الواقعة غالبا؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ~~ولابد أن # يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهل الدين المجمع على هدايتهم ودرايتهم # كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك # هذا الطريق على غير طريقهم وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ ~~به، وترك ما يجب العمل به (3) . # وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على ~~رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه ms133، ومن كان كذلك، وفقه ~~الله وسدده، وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين ~~في الكتاب في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (4) ، ومن ~~الراسخين في العلم، PageV01P264 # وقد خرج ابن أبي حاتم في "تفسيره" من حديث أبي الدرداء: أن رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - سئل عن الراسخين في العلم، فقال: ((من برت يمينه، ~~وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم)) ~~(1) . # وقال نافع بن يزيد: يقال: الراسخون في العلم: المتواضعون لله، والمتذللون ~~لله في مرضاته لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقرون من دونهم (2) . # ويشهد لهذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاكم (3) أهل اليمن، هم ~~أبر قلوبا، وأرق أفئدة. الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية)) (4) . # وهذا إشارة منه إلى أبي موسى الأشعري، ومن كان على طريقه من علماء أهل ~~اليمن، ثم إلى مثل أبي مسلم الخولاني، وأويس القرني، وطاووس، ووهب بن منبه، ~~وغيرهم من علماء أهل اليمن، وكل هؤلاء من العلماء الربانيين الخائفين لله، ~~فكلهم علماء بالله يخشونه ويخافونه، وبعضهم أوسع علما بأحكام الله وشرائع ~~دينه من بعض، ولم يكن تميزهم عن الناس بكثرة قيل وقال، ولا بحث ولا جدال. # وكذلك معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أعلم الناس بالحلال والحرام (5) ، ~~وهو الذي يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة (6) ، ولم يكن علمه بتوسعة ~~المسائل وتكثيرها، بل قد سبق عنه PageV01P265 # كراهة الكلام فيما لا يقع، وإنما كان عالما بالله وعالما بأصول دينه. وقد ~~قيل للإمام أحمد: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق، قيل له: إنه ليس # له اتساع في العلم، قال: إنه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق. # وسئل عن معروف الكرخي، فقال: كان معه أصل العلم: خشية الله. وهذا يرجع ~~إلى قول بعض السلف: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا. وهذا ~~باب واسع يطول استقصاؤه. # ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فنقول: من لم يشتغل ~~بكثرة المسائل التي لا يوجد مثلها في كتاب ms134، ولا سنة، بل اشتغل بفهم كلام ~~الله ورسوله، وقصده بذلك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فهو ممن امتثل ~~أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، وعمل بمقتضاه، ومن لم ~~يكن اهتمامه بفهم ما أنزل الله على رسوله، واشتغل بكثرة توليد المسائل قد ~~تقع وقد لا تقع، وتكلف أجوبتها بمجرد الرأي، خشي عليه أن يكون مخالفا لهذا ~~الحديث، مرتكبا لنهيه، تاركا لأمره. # واعلم أن كثرة وقوع الحوادث التي لا أصل لها في الكتاب والسنة إنما هو من ~~ترك الاشتغال بامتثال أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، فلو ~~أن من أراد أن يعمل عملا سأل عما شرع الله في ذلك العمل فامتثله، وعما نهى ~~عنه فاجتنبه، وقعت الحوادث مقيدة بالكتاب والسنة. # وإنما يعمل العامل بمقتضى رأيه وهواه، فتقع الحوادث عامتها مخالفة لما ~~شرعه الله وربما عسر ردها إلى الأحكام المذكورة في الكتاب والسنة؛ لبعدها ~~عنها. # PageV01P266 # وفي الجملة: فمن امتثل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا ~~الحديث، وانتهى عما نهى # عنه، وكان مشتغلا بذلك عن غيره، حصل له النجاة في الدنيا والآخرة، ومن ~~خالف ذلك، واشتغل بخواطره وما يستحسنه، وقع فيما حذر منه النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على ~~أنبيائهم، وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه وإذا ~~أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) قال بعض العلماء: هذا يؤخذ منه أن ~~النهي أشد من الأمر؛ لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قيد بحسب ~~الاستطاعة (1) ، وروي هذا عن الإمام أحمد. # ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البر يعملها البر والفاجر، وأما المعاصي، فلا ~~يتركها إلا صديق (2) . # وروي عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((اتق ~~المحارم، تكن أعبد # الناس)) (3) . # وقالت عائشة رضي الله عنها: من سره أن يسبق الدائب المجتهد، فليكف عن ~~الذنوب، وروي عنها مرفوعا (4) . # وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ms135 ما نهاهم الله عنه. ~~PageV01P267 # والظاهر أن ما ورد من تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات، إنما أريد به ~~على نوافل الطاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات؛ ~~لأن الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم المطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى ~~نية بخلاف الأعمال، وكذلك كان جنس ترك الأعمال قد يكون كفرا كترك التوحيد، ~~وكترك أركان الإسلام أو بعضها على ما سبق، بخلاف ارتكاب (1) المنهيات فإنه ~~لا يقتضي الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قول ابن عمر: لرد دانق من حرام أفضل من ~~مئة ألف تنفق في سبيل الله. # وعن بعض السلف قال: ترك دانق مما يكره الله أحب إلي من خمس مئة # حجة. # وقال ميمون بن مهران: ذكر الله باللسان حسن، وأفضل منه أن يذكر الله ~~العبد عند المعصية فيمسك عنها (2) . # وقال ابن المبارك: لأن أرد درهما من شبهة أحب إلى من أن أتصدق بمئة ألف ~~ومئة ألف، حتى بلغ ست مئة ألف. # وقال عمر بن عبد العزيز: ليست التقوى قيام الليل، وصيام النهار، والتخليط ~~فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، فإن كان ~~مع ذلك عمل، فهو خير إلى خير، أو كما قال (3) . # وقال أيضا: وددت أني لا أصلي غير الصلوات الخمس سوى الوتر، وأن أؤدي ~~الزكاة، ولا أتصدق بعدها بدرهم، وأن أصوم رمضان ولا أصوم بعده يوما أبدا، ~~وأن أحج حجة الإسلام ثم لا أحج بعدها أبدا، ثم أعمد إلى فضل قوتي، فأجعله ~~فيما حرم الله علي، فأمسك عنه. PageV01P268 # وحاصل كلامهم يدل على أن اجتناب المحرمات - وإن قلت - فهي أفضل من ~~الإكثار من نوافل الطاعات فإن ذلك فرض، وهذا نفل. # وقالت طائفة من المتأخرين: إنما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ~~نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) ؛ لأن ~~امتثال الأمر لا يحصل إلا بعمل، والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب، ~~وبعضها قد لا يستطاع، فلذلك قيده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى ~~بالاستطاعة، قال تعالى: {فاتقوا الله ما ms136 استطعتم} (1) . وقال في الحج: ~~{ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (2) . # وأما النهي: فالمطلوب عدمه، وذلك هو الأصل، فالمقصود استمرار # العدم (3) الأصلي، وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يستطاع، وهذا أيضا فيه نظر، ~~فإن الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويا، لا صبر معه للعبد على الامتناع ~~مع فعل المعصية مع القدرة عليها، فيحتاج الكف عنها حينئذ إلى مجاهدة شديدة، ~~ربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفس على فعل الطاعة، ولهذا يوجد ~~كثيرا من يجتهد فيفعل الطاعات، ولا يقوى على ترك المحرمات (4) . # وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية ولا يعملون بها، فقال: أولئك قوم ~~امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم. # وقال يزيد بن ميسرة: يقول الله في بعض الكتب: أيها الشاب التارك # شهوته، المتبذل شبابه من أجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي (5) . # وقال: ما أشد الشهوة في الجسد، إنها مثل حريق النار، وكيف ينجو منها ~~PageV01P269 # الحصوريون؟ (1) . # والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، ~~وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم، ورحمة لهم، # وأما المناهي، فلم يعذر أحدا بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلفهم # تركها على كل حال، وأن ما أباح أن يتناول من المطاعم المحرمة عند الضرورة ~~ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قاله ~~الإمام أحمد: إن النهي أشد من الأمر. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - من حديث ثوبان وغيره أنه قال: ((استقيموا ولن تحصوا)) (2) يعني: لن ~~تقدروا على الاستقامة كلها. # وروى الحكم بن حزن الكلفي، قال: وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-، فشهدت معه الجمعة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئا على ~~عصا أو قوس، فحمد الله، وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات، ثم قال: ~~((أيها الناس إنكم لن تطيقوا، أو لن تفعلوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا ~~وأبشروا)) PageV01P270 # خرجه الإمام أحمد وأبو داود (1) . # وفي قوله - صلى ms137 الله عليه وسلم -: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما ~~استطعتم)) دليل على أن من عجز عن فعل المأمور به كله، وقدر على بعضه، فإنه ~~يأتي بما أمكنه منه، وهذا مطرد في مسائل: # منها: الطهارة، فإذا قدر على بعضها، وعجز عن الباقي: إما لعدم الماء، أو ~~لمرض في بعض أعضائه دون بعض، فإنه يأتي من ذلك بما قدر عليه، ويتيمم ~~للباقي، وسواء في ذلك الوضوء والغسل على المشهور (2) . # ومنها: الصلاة، فمن عجز عن فعل الفريضة قائما صلى قاعدا، فإن عجز صلى ~~مضطجعا (3) ، وفي "صحيح البخاري" (4) عن عمران بن حصين: أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى ~~جنب)) ، ولو عجز عن ذلك كله، أومأ بطرفه، وصلى بنيته، ولم تسقط عنه الصلاة ~~على المشهور (5) . # ومنها: زكاة الفطر، فإذا قدر على إخراج بعض صاع، لزمه ذلك على الصحيح (6) ~~، # فأما من قدر على صيام بعض النهار دون تكملته، فلا يلزمه ذلك بغير # خلاف؛ لأن صيام بعض اليوم ليس بقربة في نفسه (7) ، وكذا لو قدر على عتق ~~بعض رقبة في الكفارة لم يلزمه؛ لأن تبعيض العتق غير محبوب للشارع بل يؤمر ~~بتكميله بكل طريق (8) . # وأما من فاته الوقوف بعرفة في الحج، فهل يأتي بما بقي منه من المبيت ~~بمزدلفة، ورمي الجمار أم لا؟ بل يقتصر على الطواف والسعي، ويتحلل بعمرة على ~~روايتين عن أحمد، PageV01P271 # أشهرهما: أنه يقتصر على الطواف والسعي؛ لأن المبيت والرمي من لواحق ~~الوقوف بعرفة وتوابعه، وإنما أمر الله تعالى بذكره عند المشعر الحرام، ~~وبذكره في الأيام المعدودات لمن أفاض من عرفات، فلا يؤمر به من لا يقف ~~بعرفة كما لا يؤمر به المعتمر (1) . PageV01P272 ### | الحديث العاشر # عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((إن الله طيب لا يقبل # إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا ~~أيها # الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} (1) ، وقال تعالى: {يا أيها الذين ~~آمنوا كلوا من طيبات ms138 ما رزقناكم} (2) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر: أشعث ~~أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه # حرام (3) ، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟)) . رواه مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (4) من رواية فضيل بن مرزوق، عن عدي بن ثابت، عن ~~أبي حازم، عن أبي هريرة، وخرجه الترمذي (5) ، وقال: حسن غريب. وفضيل بن ~~مرزوق (6) ثقة وسط خرج له مسلم دون البخاري. PageV01P273 # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى طيب)) هذا قد جاء أيضا من ~~حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله ~~طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، جواد يحب الجود)) . خرجه الترمذي (1) ، # وفي إسناده مقال (2) ، والطيب هنا: معناه # الطاهر (3) . # والمعنى: أنه تعالى مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها، وهذا كما في ~~قوله: {والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرأون مما يقولون} (4) ، ~~والمراد: المنزهون من أدناس الفواحش وأوضارها (5) . # وقوله: ((لا يقبل إلا طيبا)) قد ورد معناه في حديث الصدقة، ولفظه: ((لا ~~يتصدق أحد بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا ... )) (6) ، والمراد ~~أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبا حلالا. PageV01P274 # وقد قيل: إن المراد في هذا الحديث الذي نتكلم فيه الآن بقوله: ((لا يقبل ~~الله إلا طيبا)) أعم من ذلك، وهو أنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبا ~~طاهرا من المفسدات كلها، كالرياء والعجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبا ~~حلالا، فإن الطيب توصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات، فكل هذه تنقسم إلى ~~طيب وخبيث. # وقد قيل: إنه يدخل في قوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك ~~كثرة الخبيث} (1) هذا كله (2) . # وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال: {ضرب الله مثلا كلمة ~~طيبة كشجرة طيبة} (3) ، {ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة} (4) ، وقال تعالى: ~~{إليه يصعد الكلم الطيب} (5) ، ووصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه ~~يحل الطيبات ويحرم الخبائث. # وقد قيل: إنه يدخل في ذلك الأعمال والأقوال والاعتقادات أيضا، ووصف الله ~~تعالى المؤمنين ms139 بالطيب بقوله تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين} (6) ~~وإن الملائكة تقول عند الموت: اخرجي أيتها النفس الطيبة التي كانت في الجسد ~~الطيب، وإن الملائكة تسلم عليهم عند دخول PageV01P275 # الجنة، ويقولون لهم: طبتم فادخلوها خالدين (1) ، وقد ورد في الحديث أن ~~المؤمن إذا زار أخا له في الله تقول له الملائكة: ((طبت، وطاب ممشاك، ~~وتبوأت من الجنة منزلا)) (2) . # فالمؤمن كله طيب قلبه ولسانه وجسده بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على ~~لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان، ~~وداخلة في اسمه، فهذه الطيبات (3) كلها يقبلها الله - عز وجل -. # ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن طيب مطعمه، وأن يكون من # حلال، فبذلك يزكو عمله. # وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، ~~وإن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله، فإنه قال بعد تقريره: ((إن الله ~~لا يقبل إلا طيبا)) إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا ~~أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} (4) ، وقال: {يا أيها الذين ~~آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} (5) . # والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، ~~وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالا، فالعمل صالح مقبول، فإذا كان الأكل ~~غير PageV01P276 # حلال، فكيف يكون العمل مقبولا؟ # وما ذكره بعد ذلك من الدعاء، وأنه كيف يتقبل مع الحرام، فهو مثال ~~لاستبعاد قبول الأعمال مع التغذية بالحرام. وقد خرج الطبراني بإسناد فيه ~~نظر عن ابن عباس (1) ، # قال: تليت هذه الآية عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يا أيها ~~الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا} (2) ، فقام سعد بن أبي وقاص، فقال: يا ~~رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((يا سعد (3) ، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده ~~إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل الله منه عمل أربعين يوما، ~~وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به)) . # وفي ms140 " مسند الإمام أحمد " (4) بإسناد فيه نظر أيضا عن ابن عمر قال: ((من ~~اشترى ثوبا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة ما كان ~~عليه)) ، ثم أدخل أصبعيه في أذنيه فقال: صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -. ويروى من حديث علي - رضي الله عنه - مرفوعا معناه ~~أيضا، خرجه البزار وغيره بإسناد ضعيف # جدا (5) . PageV01P277 # وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((إذا خرج الرجل حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز (1) ~~، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك زادك حلال، ~~وراحلتك حلال (2) ، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة، ~~فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا ~~لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور)) (3) . ويروى من ~~حديث عمر نحوه بإسناد ضعيف أيضا (4) . # وروى أبو يحيى القتات (5) ، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: لا يقبل الله ~~صلاة امريء في جوفه حرام. # وقد اختلف العلماء في حج من حج بمال حرام، ومن صلى في ثوب حرام، هل يسقط ~~عنه فرض الصلاة والحج بذلك، وفيه عن الإمام أحمد روايتان، وهذه الأحاديث ~~المذكورة تدل على أنه لا يتقبل العمل مع مباشرة الحرام، لكن القبول قد يراد ~~به الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة والمباهاة به، وقد ~~يراد به حصول الثواب والأجر عليه، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة، ~~PageV01P278 # فإن كان المراد هاهنا القبول بالمعنى الأول أو الثاني لم يمنع ذلك من ~~سقوط الفرض به من الذمة (1) ، كما ورد أنه لا تقبل صلاة الآبق، ولا المرأة ~~التي زوجها عليها ساخط، ولا من أتى كاهنا، ولا من شرب الخمر أربعين يوما، ~~والمراد - والله أعلم - نفي القبول بالمعنى الأول أو الثاني، وهو المراد - ~~والله أعلم - من قوله - عز وجل -: {إنما يتقبل الله من المتقين} (2) . ~~ولهذا كانت هذه الآية يشتد منها خوف السلف على ms141 نفوسهم، فخافوا أن لا يكونوا ~~من المتقين الذين يتقبل منهم. # وسئل أحمد عن معنى ((المتقين)) فيها، فقال: يتقي الأشياء، فلا يقع فيما ~~لا يحل له. # وقال أبو عبد الله الناجي (3) الزاهد رحمه الله: خمس خصال بها تمام ~~العمل: الإيمان بمعرفة الله - عز وجل - (4) ، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل ~~لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة، لم يرتفع العمل، وذلك ~~أنك إذا عرفت الله - عز وجل -، ولم تعرف الحق، لم تنتفع، وإذا عرفت الحق، ~~ولم تعرف الله، لم تنتفع، وإن عرفت الله، وعرفت الحق، ولم تخلص العمل، لم ~~تنتفع، وإن عرفت الله، وعرفت الحق (5) ، وأخلصت العمل، ولم يكن على السنة، ~~لم تنتفع، وإن تمت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع (6) . ~~PageV01P279 # وقال وهيب بن الورد (1) : لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ~~ما يدخل بطنك حلال أو حرام (2) . # وأما الصدقة بالمال الحرام، فغير مقبولة كما في " صحيح مسلم " (3) عن ابن ~~عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا ~~صدقة من غلول)) . # وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (4) ~~: ((ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها ~~الرحمان بيمينه)) (5) ، وذكر الحديث. # وفي " مسند الإمام أحمد " (6) عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((لا يكتسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك له فيه، ولا ~~يتصدق به، فيتقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله ~~لا يمحو السيىء بالسيئ، ولكن يمحو السيىء بالحسن، إن الخبيث لا يمحو ~~الخبيث)) . # ويروى من حديث دراج، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((من كسب مالا حراما، فتصدق به، لم يكن له فيه أجر، وكان ~~إصره عليه)) . خرجه ابن حبان في " صحيحه " (7) ، ورواه بعضهم موقوفا على ~~أبي هريرة. # ومن مراسيل القاسم بن مخيمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ms142 ~~-: PageV01P280 # ((من أصاب مالا من مأثم، فوصل به رحمه، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل ~~الله، جمع الله ذلك جميعا، ثم قذف به في نار جهنم)) (1) . # وروي عن أبي الدرداء، ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير ~~حله، فتصدق به مثل من أخذ مال يتيم، وكسا به أرملة (2) . # وسئل ابن عباس عمن كان على عمل، فكان يظلم ويأخذ الحرام، ثم تاب، فهو يحج ~~ويعتق ويتصدق منه، فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، وكذا قال ابن مسعود: إن ~~الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث (3) ، وقال الحسن: أيها ~~المتصدق على المسكين يرحمه، ارحم من قد ظلمت. # واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين: # أحدهما: أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما عن نفسه، فهذا هو المراد ~~من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه، بمعنى: أنه لا يؤجر عليه، بل يأثم ~~بتصرفه في مال غيره بغير إذنه، ولا يحصل للمالك بذلك أجر؛ لعدم قصده ونيته، ~~كذا قاله جماعة من العلماء، منهم: ابن عقيل من أصحابنا، وفي كتاب عبد ~~الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي: أنه سأل سعيد بن المسيب قال: وجدت ~~لقطة، أفأتصدق بها؟ قال: لا تؤجر أنت ولا صاحبها (4) . PageV01P281 # ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب. ولو أخذ السلطان، أو بعض ~~نوابه من بيت المال ما لا يستحقه، فتصدق منه أو أعتق، أو بنى به مسجدا أو ~~غيره مما ينتفع به الناس، فالمنقول عن ابن عمر أنه كالغاصب إذا تصدق بما ~~غصبه، كذلك قال لعبد الله بن عامر أمير البصرة، وكان الناس قد اجتمعوا عنده ~~في حال موته وهم يثنون عليه ببره وإحسانه، وابن عمر ساكت، فطلب منه أن ~~يتكلم، فروى له حديث: ((لا يقبل الله صدقة من غلول)) (1) ، ثم قال له (2) : ~~وكنت على البصرة. # وقال أسد بن موسى في " كتاب الورع ": حدثنا الفضيل بن عياض، عن # منصور، عن تميم بن سلمة قال: قال ابن عامر (3) لعبد الله بن عمر: أرأيت ~~هذا العقاب ms143 التي نسهلها، والعيون التي نفجرها، ألنا فيها أجر؟ فقال ابن ~~عمر: أما علمت أن خبيثا لا يكفر خبيثا قط؟ (4) # حدثنا عبد الرحمان بن زياد، عن أبي مليح، عن ميمون بن مهران قال: قال ابن ~~عمر لابن عامر وقد سأله عن العتق: مثلك مثل رجل سرق إبل حاج، ثم جاهد بها ~~(5) في سبيل الله، فانظر هل يقبل منه؟ # وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع (6) ، كطاووس ووهيب بن الورد (7) ~~يتوقون PageV01P282 # الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك، وأما الإمام أحمد - رحمه الله - ~~فإنه رخص فيما فعلوه من المنافع العامة، كالمساجد والقناطر والمصانع، فإن ~~هذه ينفق عليها من مال الفيء، اللهم إلا أن يتيقن أنهم فعلوا شيئا من ذلك ~~بمال حرام كالمكوس والغصوب ونحوها، فحينئذ يتوقى الانتفاع بما عمل بالمال ~~الحرام، ولعل ابن عمر إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم، ~~ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك، فهو صدقة منهم، فإن هذا شبيه بالغصوب، ~~وعلى مثل هذا يحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد. # قال أبو الفرج بن الجوزي: رأيت بعض المتقدمين سئل عمن كسب حلالا وحراما ~~من السلاطين والأمراء، ثم بنى الأربطة والمساجد: هل له ثواب؟ فأفتى بما ~~يوجب طيب قلب المنفق، وأن له في إيقاف ما لا يملكه نوع سمسرة؛ لأنه لا يعرف ~~أعيان المغصوبين، فيرد عليهم. قال: فقلت واعجبا من متصدرين للفتوى لا ~~يعرفون أصول الشريعة، ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولا، فإن كان ~~سلطانا، فما يخرج من بيت المال، قد عرفت وجوه مصارفه، فكيف يمنع مستحقيه، ~~ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة أو رباط؟ وإن كان من الأمراء ونواب ~~السلاطين، فيجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال، وإن كان حراما أو غصبا، ~~فكل تصرف فيه حرام، والواجب رده على من أخذ منه أو ورثته، فإن لم يعرف رد ~~إلى بيت المال (1) يصرف في المصالح أو في الصدقة، ولم يحظ آخذه بغير الإثم. ~~انتهى. PageV01P283 # وإنما كلامه في السلاطين الذين ms144 عهدهم في وقته الذين يمنعون المستحقين من ~~الفيء حقوقهم، ويتصرفون فيه لأنفسهم تصرف الملاك ببناء ما ينسبونه إليهم من ~~مدارس وأربطة ونحوها مما قد لا يحتاج إليه، ويخص به قوما دون قوم، فأما لو ~~فرض إمام عادل يعطي الناس حقوقهم من الفيء، ثم يبني لهم منه ما يحتاجون ~~إليه من مسجد، أو مدرسة، أو مارستان، ونحو ذلك كان ذلك جائزا، ولو كان بعض ~~من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذه بناء محتاجا إليه في حال، ~~يجوز البناء فيه من بيت المال، لكنه نسبه إلى نفسه، فقد يتخرج على الخلاف ~~في الغاصب إذا رد المال إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ ~~بذلك أم # لا؟ وهذا كله إذا بني على قدر الحاجة من غير سرف ولا زخرفة. # وقد أمر عمر بن عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من مال بيت المال، ونهاهم ~~أن يتجاوزوا ما تصدع منه، وقال: إني لم أجد للبنيان في مال الله حقا، وروي ~~عنه أنه قال: لا حاجة للمسلمين فيما أضر ببيت مالهم. # واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفا على ~~إجازة مالكه، فإن أجاز تصرفه فيه جاز، وقد حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد ~~أن من أخرج زكاته من مال مغصوب، ثم أجازه له المالك، جاز وسقطت عنه الزكاة، ~~وكذلك خرج ابن أبي موسى رواية عن أحمد: أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ~~ملتزما ضمانه في ماله، ثم أجازه المالك جاز، ونفذ عتقه، وهو خلاف نص أحمد، ~~وحكي عن الحنفية أنه لو غصب شاة، فذبحها لمتعته وقرانه، ثم أجازه المالك ~~أجزأت عنه. # PageV01P284 # الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدق به عن صاحبه ~~إذا عجز عن رده إليه أو إلى ورثته، فهذا جائز (1) عند أكثر العلماء، منهم: ~~مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وغيرهم. قال ابن عبد البر: ذهب الزهري ومالك ~~والثوري، والأوزاعي، والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل ~~إليهم أنه ms145 يدفع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي، روي ذلك عن عبادة بن ~~الصامت ومعاوية، والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس؛ لأنهما ~~كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، قال: وقد أجمعوا في اللقطة ~~على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين ~~الأجر والضمان، وكذلك الغصوب. انتهى (2) . # وروي عن مالك بن دينار، قال: سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال # حرام، ولا يعرف أربابه، ويريد الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول: إن ~~ذلك يجزئ عنه. قال مالك: كان هذا القول من عطاء أحب إلي من وزنه ذهبا. # وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا: يرده إليهم، فإن لم يقدر # عليهم، تصدق به كله، ولا يأخذ رأس ماله، وكذا قال فيمن باع شيئا ممن تكره ~~معاملته لشبهة ماله، قال: يتصدق بالثمن، وخالفه ابن المبارك، وقال: يتصدق ~~بالربح خاصة، وقال أحمد: يتصدق بالربح. PageV01P285 # وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه، وكان أبوه يبيع ممن تكره معاملته: أنه ~~يتصدق منه بمقدار الربح، ويأخذ الباقي (1) . وقد روي عن طائفة من الصحابة ~~نحو ذلك: منهم: عمر بن الخطاب، وعبد الله بن يزيد الأنصاري. # والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام: أنها تحفظ، ولا يتصدق ~~بها حتى يظهر مستحقها. # وكان الفضيل بن عياض يرى: أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه، أنه ~~يتلفه، ويلقيه في البحر، ولا يتصدق به، وقال: لا يتقرب إلى الله إلا ~~بالطيب. # والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا ~~تعريض له للإتلاف، واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى ~~يكون تقربا منه بالخبيث، وإنما هي صدقة عن مالكه، ليكون نفعه له في الآخرة ~~حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا. # وقوله: ((ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ~~رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى ~~يستجاب لذلك؟!)) (2) . # هذا الكلام أشار فيه - صلى الله ms146 عليه وسلم - إلى آداب الدعاء، وإلى ~~الأسباب التي تقتضي إجابته، PageV01P286 # وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة: # أحدهما: إطالة السفر، والسفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء، كما في حديث أبي ~~هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك ~~فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)) (1) ، خرجه أبو ~~داود وابن ماجه والترمذي، وعنده: ((دعوة الوالد على ولده)) . # وروي مثله عن ابن مسعود من قوله. # ومتى طال السفر، كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصول انكسار النفس ~~بطول الغربة عن الأوطان، وتحمل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب إجابة ~~الدعاء. # والثاني: حصول التبذل في اللباس والهيئة بالشعث والإغبرار، وهو - أيضا - ~~من المقتضيات لإجابة الدعاء، كما في الحديث المشهور عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله ~~لأبره)) (2) . PageV01P287 # ولما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - للاستسقاء، خرج متبذلا متواضعا ~~متضرعا (1) . وكان مطرف بن عبد الله قد حبس له ابن أخ، فلبس خلقان ثيابه، ~~وأخذ عكازا بيده، فقيل له: ما هذا؟ قال: أستكين لربي، لعله أن يشفعني في ~~ابن أخي (2) . # الثالث: مد يديه إلى السماء، وهو من آداب الدعاء التي يرجى بسببها ~~إجابته، وفي حديث سلمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله تعالى ~~حيي كريم، يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين)) ، خرجه ~~الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وروي نحوه من حديث أنس وجابر ~~وغيرهما (3) . # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الاستسقاء حتى يرى بياض ~~إبطيه (4) ، ورفع يديه يوم بدر يستنصر على المشركين حتى (5) سقط رداؤه عن ~~منكبيه (6) . PageV01P288 # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة رفع يديه في الدعاء (1) ~~أنواع متعددة، فمنها # أنه كان يشير بأصبعه السبابة فقط (2) ، وروي عنه أنه كان يفعل ذلك على ~~المنبر (3) ، # وفعله لما ركب راحلته (4) . # وذهب جماعة من العلماء إلى أن دعاء القنوت في الصلاة يشير فيه ms147 بإصبعه، ~~منهم: الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، وإسحاق بن راهويه. وقال ابن عباس ~~وغيره: هذا هو الإخلاص في الدعاء (5) ، وعن ابن سيرين: إذا أثنيت على الله، ~~فأشر بإصبع واحدة. # ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة ~~وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلي وجهه (6) . وقد رويت هذه الصفة عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستسقاء (7) ، PageV01P289 # واستحب بعضهم الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة، منهم: الجوزجاني. # وقال بعض السلف: الرفع على هذا الوجه تضرع. # ومنها عكس ذلك، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء ~~أيضا، وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يدعون كذلك، وقال بعضهم: الرفع ~~على هذا الوجه استجارة بالله - عز وجل - واستعاذة به، منهم: ابن عمر، وابن ~~عباس، وأبو هريرة، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا ~~استسقى رفع يديه، وإذا (1) استعاذ رفع يديه على هذا الوجه (2) . # ومنها: رفع يديه، جعل كفيه إلى السماء وظهورهما إلى الأرض. وقد ورد الأمر ~~بذلك في سؤال الله - عز وجل - في غير حديث (3) ، وعن ابن عمر، وأبي هريرة، ~~وابن سيرين أن هذا هو الدعاء والسؤال لله - عز وجل -. # ومنها: عكس ذلك، وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء وبطونهما مما يلي ~~الأرض. وفي " صحيح مسلم " (4) عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. وخرجه الإمام أحمد (5) - رحمه الله - ~~ولفظه: ((فبسط يديه، وجعل ظاهرهما مما يلي السماء)) . وخرجه أبو داود (6) ، ~~ولفظه: استسقى هكذا، يعني: مد يديه، وجعل بطونهما مما يلي الأرض. # وخرج الإمام أحمد (7) من حديث أبي سعيد الخدري، قال: كان النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - PageV01P290 # واقفا بعرفة يدعو هكذا ورفع يديه حيال ثندوته (1) ، وجعل بطون كفيه مما ~~يلي الأرض. وهكذا وصف حماد بن سلمة رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه ~~بعرفة. وروي عن ابن سيرين: أن هذا هو الاستجارة. وقال الحميدي: هذا هو ~~الابتهال. # والرابع: الإلحاح على الله بتكرير ذكر (2) ربوبيته، وهو ms148 من أعظم ما يطلب ~~به إجابة الدعاء، وخرج البزار (3) من حديث عائشة مرفوعا: ((إذا قال العبد: ~~يا رب أربعا، قال الله: لبيك عبدي، سل تعطه)) . # وخرج الطبراني (4) # وغيره من حديث سعد بن خارجة: أن قوما شكوا إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قحوط المطر، فقال: ((اجثوا على الركب، وقولوا: يا رب يا رب (5)) ) ~~ورفع السبابة إلى السماء، فسقوا حتى أحبوا أن يكشف عنهم. # وفي " المسند " وغيره عن الفضل بن عباس (6) ، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((الصلاة مثنى مثنى، وتشهد في كل ركعتين، وتضرع، وتخشع، ~~وتمسكن، وتقنع يديك - يقول: ترفعهما إلى ربك مستقبلا بهما وجهك - وتقول: يا ~~رب يا رب، فمن لم يفعل ذلك فهي خداج)) (7) . PageV01P291 # وقال يزيد الرقاشي عن أنس: ما من عبد يقول: يا رب يا رب يا رب، إلا قال ~~له ربه: ((لبيك لبيك)) . # وروي عن أبي الدرداء وابن عباس أنهما كانا يقولان: اسم الله الأكبر رب # رب (1) . # وعن عطاء قال: ما قال عبد يا رب يا رب يا رب (2) ثلاث مرات، إلا نظر الله ~~إليه، فذكر ذلك للحسن، فقال: أما تقرءون القرآن؟ ثم تلا قوله تعالى # {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات ~~والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل ~~النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي ~~للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ~~وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة ~~إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم} (3) (4) ~~. # ومن تأمل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالبا تفتتح باسم الرب، كقوله ~~تعالى: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} (5) ، # {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته ~~على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} (6) ، وقوله: {ربنا ~~لا تزغ ms149 قلوبنا بعد إذ هديتنا} (7) . ومثل هذا في القرآن كثير. # وسئل مالك وسفيان عمن يقول في الدعاء: يا سيدي، فقالا: يقول يا رب. زاد ~~مالك: كما قالت الأنبياء في دعائهم. PageV01P292 # وأما ما يمنع إجابة الدعاء، فقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه ~~التوسع في الحرام أكلا وشربا ولبسا وتغذية، وقد سبق حديث ابن عباس في هذا ~~المعنى أيضا، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد: ((أطب مطعمك، تكن ~~مستجاب الدعوة)) (1) فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجب لإجابة ~~الدعاء. # وروى عكرمة بن عمار: حدثنا الأصفر، قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: تستجاب ~~دعوتك من بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ما رفعت إلى ~~فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها، ومن أين خرجت. # وعن وهب بن منبه قال: من سره أن يستجيب الله دعوته، فليطب طعمته، وعن سهل ~~بن عبد الله قال: من أكل الحلال أربعين يوما (2) أجيبت دعوته، وعن يوسف بن ~~أسباط قال: بلغنا أن دعاء العبد يحبس عن السماوات بسوء المطعم. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأنى يستجاب لذلك)) ، معناه: كيف يستجاب ~~له؟ فهو استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحا في استحالة ~~الاستجابة، ومنعها بالكلية، فيؤخذ من هذا أن التوسع في الحرام والتغذي به ~~من جملة موانع الإجابة، وقد يوجد ما يمنع هذا المانع من منعه، وقد يكون ~~ارتكاب المحرمات الفعلية مانعا من الإجابة أيضا، وكذلك ترك الواجبات كما في ~~الحديث: أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء (3) ~~الأخيار (4) ، # وفعل الطاعات يكون موجبا لاستجابة الدعاء. ولهذا لما توسل الذين دخلوا ~~الغار، وانطبقت عليهم الصخرة بأعمالهم الصالحة التي PageV01P293 # أخلصوا فيها لله تعالى ودعوا الله بها، أجيبت دعوتهم. # وقال وهب بن منبه: مثل الذي يدعو بغير عمل، كمثل الذي يرمي بغير وتر (1) ~~. وعنه قال: العمل الصالح يبلغ الدعاء، ثم تلا قوله تعالى: {إليه يصعد ~~الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (2) . # وعن عمر قال: بالورع عما حرم الله يقبل الله (3) الدعاء ms150 والتسبيح. # وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: يكفي مع البر من الدعاء مثل ما يكفي ~~الطعام من الملح (4) . # وقال محمد بن واسع: يكفي من الدعاء (5) مع الورع اليسير (6) ، وقيل ~~لسفيان: لو دعوت الله؟ قال: إن ترك الذنوب هو الدعاء. # وقال الليث (7) : رأى موسى - عليه السلام - رجلا رافعا يديه وهو يسأل ~~الله مجتهدا، فقال موسى: أي رب عبدك دعاك (8) حتى رحمته، وأنت أرحم ~~الراحمين، فما صنعت في حاجته؟ فقال: يا موسى لو رفع يديه حتى ينقطع ما نظرت ~~في حاجته حتى ينظر في حقي. # وخرج الطبراني (9) # بإسناد ضعيف عن ابن عباس مرفوعا معناه. # وقال مالك بن دينار: أصاب بني إسرائيل بلاء، فخرجوا مخرجا، فأوحى الله ~~تعالى PageV01P294 # إلى نبيه أن أخبرهم أنكم تخرجون إلى الصعيد بأبدان نجسة، وترفعون إلي ~~أكفا قد سفكتم بها الدماء وملأتم بها بيوتكم من الحرام، الآن اشتد غضبي ~~عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بعدا. # وقال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طرقها بالمعاصي، وأخذ هذا ~~المعنى بعض الشعراء فقال: # نحن ندعو الإله في كل كرب ... ثم ننساه عند كشف الكروب # كيف نرجو إجابة لدعاء ... قد سددنا طريقها بالذنوب # PageV01P295 ### | الحديث الحادي عشر # عن الحسن بن علي سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته - رضي ~~الله عنه - قال: حفظت من # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) . ~~رواه النسائي (1) والترمذي (2) ، وقال: حسن صحيح. # هذا الحديث خرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن حبان في # " صحيحه " والحاكم (3) من حديث بريد بن أبي مريم، عن أبي الحوراء، عن ~~الحسن ابن علي، وصححه الترمذي، PageV01P297 # وأبو الحوراء (1) السعدي، قال الأكثرون: اسمه ربيعة بن شيبان، ووثقه ~~النسائي وابن حبان، وتوقف أحمد في أن أبا الحوراء (2) اسمه ربيعة بن شيبان، ~~ومال إلى التفرقة بينهما، وقال الجوزجاني: أبو الحوراء مجهول لا يعرف (3) . # وهذا الحديث قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر (4) ، وعند الترمذي ~~وغيره زيادة في هذا الحديث وهي: ((فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)) ، ~~ولفظ ابن حبان ms151: ((فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة)) . # وقد خرجه الإمام أحمد (5) بإسناد فيه جهالة عن أنس، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال # ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) وخرجه من وجه آخر أجود منه موقوفا على ~~أنس (6) . # وخرجه الطبراني (7) من رواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، قال ~~الدارقطني: PageV01P298 # وإنما يروى هذا من قول ابن عمر، وعن عمر (1) ، ويروى عن مالك من قوله (2) ~~. انتهى. # ويروى بإسناد ضعيف، عن عثمان بن عطاء الخراساني - وهو ضعيف - عن # أبيه، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال ~~لرجل: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) ، قال: وكيف لي بالعلم بذلك؟ قال: ~~((إذا أردت أمرا، فضع يدك على صدرك، فإن القلب يضطرب للحرام، ويسكن للحلال، ~~وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة)) . وقد روي عن عطاء الخراساني ~~مرسلا (3) . # وخرج الطبراني (4) نحوه بإسناد ضعيف عن واثلة بن الأسقع، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، وزاد فيه: قيل له: فمن الورع؟ قال: ((الذي يقف عند ~~الشبهة)) . # وقد روي هذا الكلام موقوفا على جماعة من الصحابة: منهم عمر، وابن عمر، ~~وأبو الدرداء، وعن ابن مسعود، قال: ما تريد إلى ما يريبك وحولك أربعة آلاف ~~لا تريبك؟! (5) # وقال عمر (6) : دعوا الربا والريبة، يعني: ما ارتبتم فيه، وإن لم تتحققوا ~~أنه ربا. # ومعنى هذا الحديث يرجع إلى الوقوف عند الشبهات واتقائها، فإن الحلال ~~المحض PageV01P299 # لا يحصل لمؤمن في قلبه منه ريب - والريب: بمعنى القلق والاضطراب - بل ~~تسكن إليه النفس، ويطمئن به القلب، وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق ~~(1) والاضطراب الموجب للشك. # وقال أبو عبد الرحمان العمري الزاهد: إذا كان العبد ورعا، ترك ما يريبه ~~إلى ما لا يريبه. # وقال الفضيل: يزعم الناس أن الورع شديد، وما ورد علي أمران إلا أخذت ~~بأشدهما، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) . # وقال حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون من الورع، إذا رابك شيء فدعه. وهذا ~~إنما يسهل على مثل حسان - رحمه الله -. # قال ms152 ابن المبارك: كتب غلام لحسان بن أبي سنان إليه من الأهواز: إن قصب ~~السكر أصابته آفة، فاشتر السكر فيما قبلك، فاشتراه من رجل، فلم يأت عليه ~~إلا قليل فإذا فيما اشتراه ربح ثلاثين ألفا، قال: فأتى صاحب السكر، فقال: ~~يا هذا إن غلامي كان قد كتب إلي، فلم أعلمك، فأقلني فيما اشتريت منك، فقال ~~له الآخر: قد أعلمتني الآن، وقد طيبته لك، قال: فرجع فلم يحتمل قلبه، ~~فأتاه، فقال: يا هذا إني لم آت هذا الأمر من قبل وجهه، فأحب أن تسترد هذا ~~البيع، قال: فما زال به حتى رد عليه. # وكان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع ونفق، وأرسل يشتريه يقول لمن يشتري له: ~~أعلم من تشتري منه أن المتاع قد طلب. # وقال هشام بن حسان: ترك محمد بن سيرين أربعين ألفا فيما لا ترون به اليوم ~~بأسا (3) . PageV01P300 # وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاما إلى البصرة مع رجل وأمره أن يبيعه يوم ~~يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه: أني قدمت البصرة، فوجدت الطعام مبغضا فحبسته، ~~فزاد الطعام، فازددت (1) فيه كذا وكذا، فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا، ~~وعملت بخلاف ما أمرناك به، فإذا أتاك كتابي، فتصدق بجميع ثمن ذلك الطعام ~~على فقراء البصرة، فليتني أسلم إذا فعلت ذلك. # وتنزه يزيد بن زريع عن خمس مئة ألف من ميراث أبيه، فلم يأخذه، وكان أبوه ~~يلي الأعمال للسلاطين، وكان يزيد يعمل الخوص، ويتقوت منه إلى أن مات - رحمه ~~الله -. # وكان المسور بن مخرمة قد احتكر طعاما كثيرا، فرأى سحابا في الخريف # فكرهه، فقال: ألا أراني قد كرهت ما ينفع المسلمين؟ فآلى أن لا يربح فيه ~~شيئا، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فقال له عمر: جزاك الله خيرا (2) . # وفي هذا أن المحتكر ينبغي له التنزه عن ربح ما احتكره احتكارا منهيا عنه. ~~وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على التنزه عن ربح ما لم يدخل في ضمانه ~~PageV01P301 # لدخوله في ربح ما لم يضمن، وقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ~~، فقال ms153 أحمد في رواية عنه فيمن أجر ما استأجره بربح: إنه يتصدق بالربح، ~~وقال في رواية عنه في ربح مال المضاربة إذا خالف فيه المضارب: إنه يتصدق ~~به، وقال في رواية عنه فيما إذا اشترى ثمرة # قبل بدو (2) صلاحها بشرط القطع، ثم تركها حتى بدا صلاحها: إنه يتصدق ~~بالزيادة، وحمله طائفة من أصحابنا على الاستحباب؛ لأن الصدقة بالشبهات ~~مستحب. # وروي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها سئلت عن أكل الصيد للمحرم، فقالت: ~~إنما هي أيام قلائل فما رابك فدعه (3) ، يعني: ما اشتبه عليك، هل هو حلال ~~أو حرام، فاتركه، فإن الناس اختلفوا في إباحة أكل الصيد للمحرم إذا لم يصده ~~هو. # وقد يستدل بهذا على أن الخروج من اختلاف العلماء أفضل (4) ؛ لأنه أبعد عن ~~الشبهة، PageV01P302 # ولكن المحققون من العلماء من أصحابنا وغيرهم على أن هذا ليس هو على ~~إطلاقه، فإن من مسائل الاختلاف ما ثبت فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~رخصة ليس لها معارض، فاتباع تلك الرخصة أولى من اجتنابها، وإن لم تكن تلك ~~الرخصة بلغت بعض العلماء، فامتنع منها لذلك، وهذا كمن تيقن الطهارة، وشك في ~~الحدث، فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا ينصرف حتى ~~يسمع صوتا أو يجد (1) ريحا)) (2) ولا سيما إن كان شكه في الصلاة، فإنه لا ~~يجوز له قطعها لصحة النهي عنه، وإن كان بعض العلماء يوجب ذلك. # وإن كان للرخصة معارض، إما من سنة أخرى، أو من عمل الأمة بخلافها، ~~فالأولى ترك العمل بها، وكذا لو كان قد عمل بها شذوذ من الناس، واشتهر في ~~الأمة العمل بخلافها في أمصار المسلمين من عهد الصحابة، فإن الأخذ (3) بما ~~عليه عمل المسلمين هو المتعين، فإن هذه الأمة قد أجارها الله أن يظهر أهل ~~باطلها على أهل حقها، فما ظهر العمل به في القرون الثلاثة المفضلة، فهو ~~الحق، وما عداه فهو باطل. # وهاهنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن التدقيق في التوقف عن (4) الشبهات ~~إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله ms154 في التقوى والورع، فأما ~~من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق ~~الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه، كما قال ابن عمر لمن سأله عن ~~دم البعوض من PageV01P303 # أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين، وسمعت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول: ((هما ريحانتاي من الدنيا)) (1) . # وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان ~~بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها ~~بطلاق زوجته، ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه، فيضربها، فلا يفعل. # وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلا، ويشترط الخوصة، يعني: ~~التي تربط بها جرزة (2) البقل، فقال أحمد: أيش هذه المسائل؟! قيل له: إنه ~~إبراهيم بن أبي نعيم، فقال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم، فنعم هذا ~~يشبه ذاك. # وإنما أنكر هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع ~~فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد نفسه يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه ~~أمر من يشتري له سمنا، فجاء به على ورقة، فأمر برد الورقة إلى البائع. # وكان الإمام أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرة يستمد ~~منها، واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته، فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، ~~واستأذن رجل آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا، وهذا قاله ~~على وجه التواضع وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، PageV01P304 # وكان ينكره على من لم يصل (1) إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات ~~الظاهرة، ويقدم على الشبهات من غير توقف. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة)) (2) ~~يعني: أن الخير تطمئن به # القلوب، والشر ترتاب به، ولا تطمئن إليه، وفي هذا إشارة إلى الرجوع إلى ~~القلوب عند الاشتباه، وسيأتي مزيد لهذا الكلام على حديث النواس بن سمعان إن ~~شاء الله تعالى (3) . # وخرج ابن ms155 جرير بإسناده عن قتادة، عن بشير بن كعب: أنه قرأ هذه الآية: # {فامشوا في مناكبها} (4) ثم قال لجاريته: إن دريت ما مناكبها، فأنت حرة ~~لوجه الله، قالت: مناكبها: جبالها، فكأنما سفع في وجهه، ورغب في جاريته، ~~فسألهم، فمنهم من أمره، ومنهم من نهاه، فسأل أبا الدرداء، فقال: الخير ~~طمأنينة والشر ريبة، فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك (5) . # وقوله في الرواية الأخرى: ((إن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)) يشير إلى ~~أنه لا ينبغي الاعتماد على قول كل قائل كما قال في حديث وابصة: ((وإن أفتاك ~~الناس وأفتوك)) (6) وإنما يعتمد على قول من يقول الصدق، PageV01P305 # وعلامة الصدق أنه تطمئن به القلوب، وعلامة الكذب أنه تحصل به الريبة، فلا ~~تسكن القلوب إليه، بل تنفر منه. # ومن هنا كان العقلاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا ~~كلامه وما يدعو إليه، عرفوا أنه صادق، وأنه جاء بالحق، وإذا سمعوا كلام ~~مسيلمة، عرفوا أنه كاذب، وأنه جاء بالباطل، وقد روي أن عمرو بن العاص سمعه ~~قبل إسلامه يدعي أنه أنزل عليه: يا وبر يا وبر، لك أذنان وصدر، وإنك لتعلم ~~يا عمرو، فقال: والله إني لأعلم أنك تكذب. # وقال بعض المتقدمين: صور ما شئت في قلبك، وتفكر فيه، ثم قسه إلى ضده، ~~فإنك إذا ميزت بينهما، عرفت الحق من الباطل، والصدق من الكذب، قال: كأنك ~~تصور محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ثم تتفكر فيما أتى (1) به من القرآن ~~فتقرأ {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري ~~في البحر بما ينفع الناس} (2) ، ثم تتصور ضد محمد - صلى الله عليه وسلم -، ~~فتجده مسيلمة، فتتفكر فيما جاء به فتقرأ: # ألا يا ربة المخدع ... قد هيئ لك المضجع # يعني قوله لسجاح حين تزوج بها، قال: فترى هذا - يعني: القرآن - رصينا # عجيبا، يلوط بالقلب، ويحسن في السمع، وترى ذا - يعني: قول مسيلمة - باردا ~~غثا فاحشا، فتعلم أن محمدا حقا أتي بوحي، وأن مسيلمة كذاب أتي # بباطل. PageV01P306 ### | الحديث الثاني عشر # عن أبي هريرة - رضي ms156 الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) حديث حسن، رواه الترمذي وغيره. # هذا الحديث خرجه الترمذي (1) ، وابن ماجه (2) من رواية الأوزاعي، عن قرة ~~ابن عبد الرحمان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنهم -، ~~وقال الترمذي: غريب (3) ، وقد حسنه الشيخ المصنف رحمه الله؛ لأن رجال ~~إسناده ثقات، وقرة ابن عبد الرحمان بن حيويل (4) وثقة قوم وضعفه آخرون (5) ~~، # وقال ابن عبد البر (6) : هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من ~~رواية الثقات، وهذا موافق لتحسين الشيخ له، وأما أكثر الأئمة، فقالوا: ليس ~~هو محفوظا بهذا الإسناد وإنما هو محفوظ عن الزهري، عن علي بن حسين، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا (7) ، كذلك رواه الثقات عن الزهري، ~~منهم: مالك في " الموطأ " (8) ، ويونس، ومعمر، PageV01P307 # وإبراهيم ابن سعد إلا أنه قال: ((من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه)) (1) ~~وممن قال: إنه لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا الإمام أحمد، ويحيى بن ~~معين، والبخاري، والدارقطني (2) ، وقد خلط الضعفاء في إسناده عن الزهري ~~تخليطا فاحشا، والصحيح فيه المرسل، ورواه عبد الله (3) بن عمر (4) # العمري، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فوصله وجعله من مسند الحسين بن علي، وخرجه الإمام أحمد في " مسنده ~~" من هذا الوجه (5) ، والعمري ليس بالحافظ (6) ، وخرجه أيضا من وجه آخر عن ~~الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (7) ، وضعفه البخاري في # " تاريخه " من هذا الوجه أيضا، وقال: لا يصح إلا عن علي بن حسين مرسلا ~~(8) ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر وكلها ضعيفة. # وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح، ~~عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية في زمانه أنه قال: جماع آداب (9) ~~الخير وأزمته تتفرع من أربعة أحاديث: PageV01P308 # قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ~~فليقل خيرا أو ليصمت)) (1) ، وقوله ms157 - صلى الله عليه وسلم -: ((من حسن إسلام ~~المرء تركه ما لا يعنيه)) (2) ، وقوله للذي اختصر له في الوصية: ((لا تغضب ~~(3)) ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - # : ((المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (4) . # ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه ترك ما لا يعنيه من قول وفعل، واقتصر ~~على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى يعنيه: أن تتعلق عنايته به، ويكون ~~من مقصده ومطلوبه، والعناية: شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه: إذا ~~اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له به ولا إرادة بحكم ~~الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام، ~~فإذا حسن إسلام المرء، ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، ~~فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل - عليه ~~السلام -. # وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم - # : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) (5) ، PageV01P309 # وإذا حسن الإسلام، اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات ~~والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها، فإن هذا كله لا يعني ~~المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى ~~كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ~~ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه، فقد حسن ~~إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه ~~فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيى ~~منه، كما وصى - صلى الله عليه وسلم - رجلا أن يستحيي من الله كما يستحيي من ~~رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه. # وفي " المسند " والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: ((الاستحياء من الله تعالى ~~أن تحفظ الرأس وما حوى، وتحفظ البطن وما وعى، ولتذكر الموت والبلى (1) ، ~~فمن فعل ذلك، فقد استحيى من الله حق الحياء)) (2) . # قال بعضهم: استحي من الله على قدر قربه منك، وخف ms158 الله على قدر قدرته ~~عليك. # وقال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكت فاذكر نظره ~~إليك (3) . # وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كثيرة (4) : ~~كقوله تعالى: PageV01P310 # {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل ~~الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا ~~لديه رقيب عتيد} (1) ، وقوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ~~ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من ~~مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب ~~مبين} (2) ، وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا ~~لديهم يكتبون} (3) . # وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ~~ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة (ق) . # وفي " المسند " من حديث الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه)) (4) . # وخرج الخرائطي (5) من حديث ابن مسعود قال: أتى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - رجل، فقال: # يا رسول الله إني مطاع في قومي فما آمرهم؟ قال له: ((مرهم بإفشاء السلام، ~~وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم)) . # وفي " صحيح ابن حبان " (6) عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وعلى العاقل ما لم يكن ~~مغلوبا على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها ~~نفسه، وساعة يتفكر PageV01P311 # فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى ~~العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في ~~غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا ~~للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه)) . # وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله ms159 -: من عد كلامه من عمله، قل كلامه ~~إلا فيما يعنيه (1) . وهو كما قال؛ فإن كثيرا من الناس لا يعد كلامه من ~~عمله، فيجازف فيه، ولا يتحرى، وقد خفي هذا على معاذ بن جبل حتى سأل عنه ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنؤاخذ بما نتكلم به؟ قال: ((ثكلتك أمك ~~يا معاذ، وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)) (2) . # وقد نفى الله الخير عن كثير مما يتناجى به الناس بينهم، فقال: {لا خير في ~~كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} (3) . ~~PageV01P312 # وخرج الترمذي (1) ، وابن ماجه (2) # من حديث أم حبيبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل (3) كلام ~~ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذكر الله - عز ~~وجل -)) . # وقد تعجب قوم من هذا الحديث عند سفيان الثوري، فقال سفيان: وما تعجبكم من ~~هذا، أليس قد قال الله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة ~~أو معروف أو إصلاح بين الناس} ؟ (4) أليس قد قال تعالى: {يوم يقوم الروح ~~والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا} ؟ (5) # وخرج الترمذي من حديث أنس قال: توفي رجل من أصحابه - يعني: النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((أو لا تدري، فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه)) (6) ~~. PageV01P313 # وقد روي معنى هذا الحديث من وجوه متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، وفي بعضها: أنه قتل شهيدا (1) . # وخرج أبو القاسم البغوي في " معجمه " من حديث شهاب بن مالك، وكان وفد على ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت ~~له امرأة: يا رسول الله ألا تسلم علينا؟ فقال: ((إنك من قبيل يقللن الكثير، ~~وتمنع ما لا يغنيها، وسؤالها عما لا يعنيها)) (2) . PageV01P314 # وخرج العقيلي من حديث أبي هريرة مرفوعا: ((أكثر الناس ذنوبا أكثرهم كلاما ~~فيما لا يعنيه)) (1) . # قال عمرو ms160 بن قيس الملائي: مر رجل بلقمان والناس عنده، فقال له: ألست # عبد بني فلان (2) ؟ قال: بلى، قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: ~~بلى، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني ~~(3) . # وقال وهب بن منبه: كان في بني إسرائيل رجلان بلغت بهما عبادتهما أن مشيا ~~على الماء، فبينما هما يمشيان في البحر إذ هما برجل يمشي على الهواء، فقالا ~~له: يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة؟ قال: بيسير من الدنيا: فطمت ~~نفسي عن الشهوات، وكففت لساني عما لا يعنيني، ورغبت فيما دعاني إليه، ولزمت ~~الصمت، فإن أقسمت على الله، أبر قسمي، وإن سألته أعطاني. # دخلوا على بعض الصحابة في مرضه ووجهه يتهلل، فسألوه عن سبب (4) تهلل # وجهه، فقال: ما من عمل أوثق عندي من خصلتين: كنت لا أتكلم فيما لا ~~يعنيني، وكان قلبي سليما للمسلمين. PageV01P315 # وقال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه ولست ~~بتارك طلبه أبدا، قالوا: وما هو؟ قال: الكف عما لا يعنيني. رواه ابن أبي ~~الدنيا (1) . # وروى أسد بن موسى، حدثنا أبو معشر (2) ، عن محمد بن كعب قال: قال # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول من يدخل عليكم رجل من أهل ~~الجنة)) فدخل عبد الله بن # سلام، فقام إليه ناس، فأخبروه، وقالوا له: أخبرنا بأوثق عملك في نفسك، ~~قال: إن عملي لضعيف، أوثق ما أرجو به سلامة الصدر، وتركي ما لا يعنيني. # وروى أبو عبيدة، عن الحسن قال: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن ~~يجعل شغله فيما لا يعنيه. وقال سهل بن عبد الله التستري: من تكلم فيما لا ~~يعنيه حرم الصدق (3) ، PageV01P316 # وقال معروف: كلام العبد فيما لا يعنيه (1) خذلان من الله # - عز وجل - (2) . # وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا ترك ما ~~لا يعنيه، وفعل ما يعنيه كله، فقد كمل حسن إسلامه، وقد جاءت الأحاديث بفضل ~~من حسن إسلامه ms161 وأنه تضاعف حسناته، وتكفر سيئاته، والظاهر أن كثرة المضاعفة ~~تكون بحسب حسن الإسلام، ففي " صحيح مسلم " (3) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أحسن أحدكم ~~إسلامه، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وكل سيئة ~~يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله - عز وجل -)) فالمضاعفة للحسنة بعشر ~~أمثالها لابد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام، وإخلاص النية ~~والحاجة إلى ذلك العمل وفضله، كالنفقة في الجهاد، وفي الحج، وفي الأقارب، ~~وفي اليتامى والمساكين، وأوقات الحاجة إلى النفقة، ويشهد لذلك ما روي عن ~~عطية، عن ابن عمر قال: نزلت: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (4) في ~~الأعراب، قيل له: فما للمهاجرين (5) ؟ قال: ما هو أكثر، ثم تلا قوله تعالى: ~~{وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا # عظيما} (6) (7) . # وخرج النسائي (8) # من حديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أسلم ~~العبد فحسن إسلامه، كتب الله له كل حسنة كان أزلفها، ومحيت عنه كل سيئة كان ~~أزلفها (9) ، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، ~~والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله)) ، PageV01P317 # وفي رواية أخرى: ((وقيل له: استأنف # العمل)) . # والمراد بالحسنات والسيئات التي كان أزلفها: ما سبق منه قبل الإسلام، ~~وهذا يدل على أنه يثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم وتمحى عنه سيئاته إذا ~~أسلم، لكن بشرط أن يحسن إسلامه، ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه، وقد نص ~~على ذلك الإمام أحمد، ويدل على ذلك ما في " الصحيحين " (1) عن ابن مسعود ~~قال: قلنا: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: ((أما من ~~أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية ~~والإسلام)) . # وفي " صحيح مسلم " عن عمرو بن العاص قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ~~لما أسلم: أريد أن أشترط، قال: ((تشترط ماذا؟)) قلت: أن يغفر لي، قال: ~~((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟)) (2) . # وخرجه الإمام أحمد ولفظه: ((إن الإسلام يجب ms162 ما كان قبله من الذنوب)) (3) ~~PageV01P318 # وهذا محمول على الإسلام الكامل الحسن جمعا بينه وبين حديث ابن مسعود الذي ~~قبله. # وفي " صحيح مسلم " (1) أيضا عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله # أرأيت (2) أمورا كنت أصنعها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم، ~~أفيها أجر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسلمت على ما أسلفت ~~من خير)) وفي رواية له: قال: فقلت: والله لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية ~~إلا صنعت في الإسلام مثله، وهذا يدل على أن حسنات الكافر إذا أسلم يثاب ~~عليها كما دل عليه حديث أبي سعيد المتقدم. # وقد قيل: إن سيئاته في الشرك تبدل حسنات، ويثاب عليها أخذا من قوله ~~تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله ~~إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ~~ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم ~~حسنات} (3) ، وقد اختلف المفسرون في هذا التبديل على قولين: # فمنهم من قال: هو في الدنيا بمعنى أن الله يبدل من أسلم وتاب إليه بدل ما ~~كان عليه من الكفر والمعاصي: الإيمان والأعمال الصالحة، وحكى هذا القول ~~إبراهيم الحربي في " غريب الحديث " عن أكثر المفسرين، وسمى منهم: ابن عباس، ~~وعطاء، وقتادة، والسدي، وعكرمة، قلت: وهو المشهور عن الحسن. PageV01P319 # قال: وقال الحسن وأبو مالك وغيرهما: هي في أهل الشرك خاصة ليس هي في أهل ~~الإسلام. قلت: إنما يصح هذا القول على أن يكون التبديل في الآخرة كما ~~سيأتي، وأما إن قيل: إنه في الدنيا، فالكافر إذا أسلم والمسلم إذا تاب في ~~ذلك سواء، بل المسلم إذا تاب، فهو أحسن حالا من الكافر إذا أسلم. # قال: وقال آخرون: التبديل في الآخرة: جعلت لهم مكان كل سيئة حسنة، منهم: ~~عمرو بن ميمون، ومكحول، وابن المسيب، وعلى بن الحسين قال: وأنكره أبو ~~العالية، ومجاهد، وخالد سبلان (1) ، وفيه مواضع إنكار، ثم ذكر ما حاصله أنه ~~يلزم من ms163 ذلك أن يكون من كثرت سيئاته أحسن حالا ممن قلت سيئاته (2) حيث يعطى ~~مكان كل سيئة حسنة، ثم قال: ولو قال قائل: إنما ذكر الله أن يبدل السيئات ~~حسنات ولم يذكر العدد كيف تبدل، فيجوز أن معنى تبدل: أن من عمل سيئة واحدة ~~وتاب منها تبدل مئة ألف حسنة، ومن عمل ألف سيئة أن تبدل ألف حسنة، فيكون ~~حينئذ من قلت سيئاته أحسن حالا. # قلت: هذا القول - وهو التبديل في الآخرة - قد أنكره أبو العالية، وتلا ~~قوله تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو ~~أن بينها وبينه أمدا بعيدا} (3) ورده بعضهم بقوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ~~ذرة شرا يره} (4) ، وقوله تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما ~~فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ~~ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (5) ولكن قد أجيب عن هذا بأن ~~التائب يوقف على سيئاته، ثم تبدل حسنات، قال أبو عثمان النهدي (6) : إن ~~المؤمن يؤتى كتابه في ستر من الله - عز وجل -، فيقرأ سيئاته، فإذا قرأ تغير ~~لها لونه حتى يمر بحسناته، فيقرؤها فيرجع إليه لونه، ثم ينظر فإذا سيئاته ~~قد بدلت حسنات، فعند ذلك يقول: {هاؤم اقرأوا كتابيه} (7) PageV01P320 # ورواه بعضهم عن أبي عثمان، عن ابن مسعود، وقال بعضهم: عن أبي عثمان، عن ~~سلمان (1) . # وفي " صحيح مسلم " (2) # من حديث أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني لأعلم آخر ~~أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم ~~القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فيعرض الله ~~عليه صغار ذنوبه (3) ، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم ~~كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه ~~أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: يا رب قد عملت ~~أشياء لا أراها هاهنا)) قال: فلقد رأيت رسول ms164 الله - صلى الله عليه وسلم - ~~ضحك حتى بدت نواجذه. # فإذا بدلت السيئات بالحسنات في حق من عوقب على ذنوبه بالنار، ففي حق من ~~محى سيئاته بالإسلام والتوبة النصوح أولى؛ لأن محوها بذلك أحب إلى الله من ~~محوها بالعقاب. # وخرج الحاكم (4) من طريق الفضل بن موسى، عن أبي العنبس، عن أبيه، عن أبي ~~هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليتمنين أقوام أنهم ~~أكثروا من # السيئات)) ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((الذين بدل الله سيئاتهم ~~حسنات)) ، وخرجه ابن أبي حاتم (5) من طريق سليمان أبي داود (6) الزهري، عن ~~أبي العنبس، عن أبيه (7) ، عن أبي هريرة موقوفا، وهو أشبه من المرفوع (8) ، ~~PageV01P321 # ويروى مثل هذا عن الحسن البصري أيضا يخالف قوله المشهور: إن التبديل في ~~الدنيا (1) . # وأما ما ذكره الحربي في التبديل، وأن من قلت سيئاته يزاد في حسناته، ومن ~~كثرت سيئاته يقلل من حسناته، فحديث أبي ذر صريح في رد هذا، وأنه يعطى مكان ~~كل سيئة حسنة. # وأما قوله: يلزم من ذلك أن يكون من كثرت سيئاته أحسن حالا ممن # قلت سيئاته، فيقال: إنما التبديل في حق من ندم على سيئاته، وجعلها نصب # عينيه، فكلما ذكرها ازداد خوفا ووجلا، وحياء من الله، ومسارعة إلى ~~الأعمال الصالحة المكفرة كما قال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} ~~(2) وما ذكرناه كله داخل في العمل الصالح ومن كانت هذه حاله، فإنه يتجرع من ~~مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعاف ما ذاق من حلاوتها عند فعلها، ويصير كل ~~ذنب من ذنوبه سببا لأعمال صالحة ماحية له، فلا يستنكر بعد هذا تبديل هذه ~~الذنوب حسنات. # وقد وردت أحاديث صريحة في أن الكافر إذا أسلم، وحسن إسلامه، تبدلت سيئاته ~~في الشرك حسنات، فخرج الطبراني (3) # من حديث عبد الرحمان بن جبير بن نفير، عن أبي فروة شطب: أنه أتى النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها، ولم يترك حاجة ولا ~~داجة، فهل له من توبة؟ فقال: ((أسلمت؟)) قال: نعم، قال: ((فافعل الخيرات ms165، ~~واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها (4)) ) ، قال: وغدراتي وفجراتي؟ ~~قال: ((نعم)) ، قال: فما زال يكبر حتى توارى. PageV01P322 # وخرجه من وجه آخر بإسناد ضعيف عن سلمة بن نفيل، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -. # وخرج ابن أبي حاتم نحوه من حديث مكحول مرسلا، وخرج البزار (1) الحديث ~~الأول وعنده: عن أبي طويل شطب الممدود (2) : أنه أتى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فذكره # بمعناه، وكذا خرجه أبو القاسم البغوي في " معجمه "، وذكر أن الصواب عن # عبد الرحمان بن جبير بن نفير مرسلا: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - طوي (3) شطب، والشطب في اللغة: الممدود، فصحفه بعض الرواة، وظنه اسم ~~رجل. PageV01P323 ### | الحديث الثالث عشر # عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) . رواه البخاري ومسلم (1) . # هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " (2) من حديث قتادة، عن أنس، ولفظ مسلم: ~~((حتى يحب لجاره أو لأخيه)) بالشك (3) . # وخرجه الإمام أحمد، ولفظه: ((لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما ~~يحب لنفسه من الخير)) (4) . PageV01P325 # وهذه الرواية تبين معنى الرواية المخرجة في " الصحيحين "، وأن المراد ~~بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته، فإن الإيمان كثيرا ما ينفى لانتفاء ~~بعض أركانه وواجباته (1) ، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزني الزاني ~~حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين ~~يشربها وهو مؤمن)) (2) ، وقوله: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) (3) . # وقد اختلف العلماء (4) في مرتكب الكبائر: هل يسمى مؤمنا ناقص الإيمان، أم ~~لا يسمى مؤمنا؟ وإنما يقال: هو مسلم، وليس بمؤمن على قولين، وهما روايتان ~~عن الإمام أحمد (5) . # فأما من ارتكب الصغائر، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية، بل هو مؤمن ~~ناقص PageV01P326 # الإيمان، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك (1) . # والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له: مؤمن ناقص الإيمان مروي عن جابر بن # عبد الله، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، والقول بأنه ~~مسلم ms166، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي، وذكر بعضهم أنه المختار عند ~~أهل السنة. # وقال ابن عباس: الزاني ينزع منه نور الإيمان (2) . وقال أبو هريرة: ينزع ~~منه الإيمان، فيكون فوقه كالظلة، فإذا تاب عاد إليه (3) . # وقال عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء: الإيمان كالقميص، يلبسه الإنسان ~~تارة، ويخلعه أخرى، وكذا قال الإمام أحمد - رحمه الله - وغيره (4) ، ~~والمعنى: أنه إذا كمل خصال الإيمان لبسه، فإذا نقص منها شيئا نزعه، وكل هذا ~~إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء. # والمقصود أن من جملة خصال الإيمان الواجبة أن يحب المرء لأخيه المؤمن ما ~~يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإذا زال ذلك عنه، فقد نقص إيمانه ~~بذلك. PageV01P327 # وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي هريرة: ((أحب للناس ما ~~تحب لنفسك تكن مسلما)) خرجه الترمذي وابن ماجه (1) . # وخرج الإمام أحمد (2) من حديث معاذ: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- عن أفضل الإيمان، قال: ((أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله، وتعمل لسانك ~~في ذكر الله)) ، قال: وماذا يا رسول الله؟ قال: ((أن تحب للناس ما تحب ~~لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، وأن تقول خيرا أو تصمت)) . # وقد رتب النبي - صلى الله عليه وسلم - دخول الجنة على هذه الخصلة؛ ففي " ~~مسند الإمام # أحمد " (3) - رحمه الله - عن يزيد بن أسد القسري، قال: قال لي رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -: ((أتحب الجنة)) قلت: نعم، قال: ((فأحب لأخيك ما ~~تحب لنفسك)) . # وفي " صحيح مسلم " (4) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه ~~منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى ~~إليه)) . PageV01P328 # وفيه أيضا عن أبي ذر، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على ~~اثنين، ولا تولين مال ms167 # يتيم)) (1) . # وإنما نهاه عن ذلك، لما رأى من ضعفه، وهو - صلى الله عليه وسلم - يحب هذا ~~لكل ضعيف، وإنما كان يتولى أمور الناس؛ لأن الله قواه على ذلك، وأمره بدعاء ~~الخلق كلهم إلى طاعته، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم (2) . # وقد روي عن علي قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أرضى لك ~~ما أرضى لنفسي، وأكره لك ما أكره لنفسي، لا تقرأ القرآن وأنت جنب، ولا وأنت # راكع، ولا وأنت ساجد)) (3) . # وكان محمد بن واسع يبيع حمارا له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته ~~لم أبعه (4) ، وهذه إشارة منه إلى أنه لا يرضى لأخيه إلا ما يرضى لنفسه، ~~وهذا كله من جملة النصيحة لعامة المسلمين التي هي من جملة الدين كما سبق ~~تفسير ذلك في موضعه (5) . PageV01P329 # وقد ذكرنا فيما تقدم حديث النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا ~~اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) خرجاه في " الصحيحين " ~~(1) ، وهذا يدل على أن المؤمن يسوؤه ما يسوء أخاه المؤمن، ويحزنه ما يحزنه. # وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه ~~المؤمن، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير، وهذا كله إنما يأتي ~~من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد ~~أن يفوقه أحد في خير، أو يساويه فيه؛ لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله، ~~وينفرد بها عنهم، والإيمان يقتضي خلاف ذلك، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم ~~فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء (2) . # وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يريد العلو في الأرض ولا الفساد، ~~فقال: # {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا} (3) ~~. وروى ابن جرير بإسناد فيه نظر (4) عن علي - رضي الله عنه -، قال: ~~PageV01P330 # إن الرجل ليعجبه من # شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه ms168 فيدخل في قوله: {تلك الدار الآخرة ~~نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين} (1) (2) ~~. وكذا روي عن الفضيل بن عياض في هذه الآية، قال: لا يحب أن يكون نعله أجود ~~من نعل غيره، ولا شراكه أجود من شراك غيره (3) . # وقد قيل: إن هذا محمول على أنه إذا أراد (4) الفخر على غيره لا مجرد ~~التجمل (5) ، قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية: العلو في الأرض: ~~التكبر، وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها، والفساد: العمل بالمعاصي (6) ~~. # وقد ورد ما يدل على أنه لا يأثم من كره أن يفوقه من الناس أحد في الجمال، ~~فخرج الإمام أحمد - رحمه الله - (7) والحاكم في " صحيحه " (8) من حديث ابن ~~مسعود - رضي الله عنه -، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده ~~مالك بن مرارة الرهاوي، فأدركته وهو يقول: يا رسول الله، قد قسم لي من ~~الجمال ما ترى، فما أحب أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما، أليس ذلك ~~هو من البغي؟ فقال: ((لا، ليس ذلك بالبغي، ولكن البغي من بطر - أو قال: سفه ~~- الحق وغمط الناس)) . # وخرج أبو داود (9) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - معناه، وفي PageV01P331 # حديثه: ((الكبر)) (1) بدل: ((البغي)) . # فنفى أن تكون كراهته؛ لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا، وفسر الكبر ~~والبغي ببطر الحق وغمط الناس (2) ، وهو التكبر عليه، والامتناع من قبوله ~~كبرا إذا خالف هواه. ومن هنا قال بعض السلف: التواضع أن تقبل الحق من كل من ~~جاء به، وإن كان صغيرا، فمن قبل الحق ممن جاء به، سواء كان صغيرا أو كبيرا، ~~وسواء كان يحبه أو لا يحبه، فهو متواضع، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه، ~~فهو متكبر. # وغمط الناس: هو احتقارهم وازدراؤهم، وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين ~~الكمال، وإلى غيره بعين النقص (3) . # وفي الجملة: فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما ~~يكره لنفسه، فإن رأى في أخيه المسلم نقصا في دينه اجتهد ms169 في إصلاحه. قال بعض ~~الصالحين من السلف: أهل المحبة لله نظروا بنور الله، وعطفوا على أهل معاصي ~~الله، مقتوا أعمالهم، وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم، وأشفقوا ~~على أبدانهم من النار، PageV01P332 # لا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه، وإن رأى في ~~غيره فضيلة فاق بها عليه فيتمنى لنفسه مثلها، فإن كانت تلك الفضيلة دينية، ~~كان حسنا، وقد تمنى النبي - صلى الله عليه وسلم - لنفسه منزلة الشهادة (1) ~~. # وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله ~~مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن، فهو ~~يقرؤه آناء الليل وآناء النهار)) (2) . # وقال في الذي رأى من (3) ينفق ماله في طاعة الله، فقال: ((لو أن لي مالا، ~~لفعلت فيه كما فعل، فهما في الأجر سواء)) (4) وإن كانت دنيوية، فلا خير في ~~تمنيها، كما قال تعالى: {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة ~~الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا ~~العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا} (5) . وأما قول الله - عز ~~وجل - # : {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (6) ، فقد فسر ذلك بالحسد، ~~وهو تمني الرجل نفس ما أعطي أخوه من أهل ومال، وأن ينتقل ذلك إليه، وفسر ~~بتمني ما هو ممتنع شرعا أو قدرا، كتمني النساء (7) أن يكن رجالا، أو يكون ~~لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد، والدنيوية كالميراث والعقل ~~والشهادة # ونحو ذلك، وقيل: إن الآية تشمل ذلك كله (8) . # ومع هذا كله، فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية، ولهذا أمر أن ~~ينظر في الدين إلى من فوقه، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته، كما قال ~~تعالى: PageV01P333 # {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (1) ولا يكره أن أحدا يشاركه في # ذلك، بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه، ويحثهم على ذلك، وهو من تمام أداء ~~النصيحة للإخوان (2) . # قال الفضيل: إن كنت تحب أن يكون الناس مثلك، فما أديت النصيحة ms170 لأخيك (3) ~~، كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك؟! (4) يشير إلى أن أداء النصيحة لهم أن يحب ~~(5) أن يكونوا فوقه، وهذه منزلة عالية، ودرجة رفيعة في النصح، وليس ذلك ~~بواجب، وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله، ومع هذا فإذا ~~فاقه أحد في فضيلة دينية اجتهد على لحاقه، وحزن على تقصير نفسه، وتخلفه عن ~~لحاق السابقين، لا حسدا لهم على ما آتاهم الله من فضله - عز وجل - (6) ، بل ~~منافسة لهم، وغبطة وحزنا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين. # وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرا عن الدرجات العالية، فيستفيد ~~بذلك أمرين نفيسين: الاجتهاد في طلب الفضائل، والازدياد منها، والنظر إلى ~~نفسه بعين النقص، وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرا منه؛ لأنه ~~لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه، ~~بل يجتهد في إصلاحها، وقد قال محمد بن واسع لابنه: أما أبوك، فلا كثر الله ~~في المسلمين مثله (7) . # فمن كان لا يرضى عن نفسه، فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم؟ ~~بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا (8) خيرا منه، ويحب لنفسه أن يكون خيرا مما ~~هو PageV01P334 # عليه. # وإن علم المرء أن الله قد خصه على غيره بفضل، فأخبر به لمصلحة دينية، ~~وكان إخباره على وجه التحدث بالنعم، ويرى نفسه مقصرا في الشكر، كان جائزا، ~~فقد قال ابن مسعود: ما أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، ولا يمنع هذا أن يحب ~~للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به، فقد قال ابن عباس: إني لأمر على الآية ~~من كتاب الله، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم، وقال الشافعي: وددت ~~أن الناس تعلموا هذا العلم، ولم ينسب إلي منه شيء (1) ، وكان عتبة الغلام ~~إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أعماله: أخرج إلي ماء أو ~~تمرات أفطر عليها؛ ليكون لك مثل أجري (2) . PageV01P335 ### | الحديث الرابع عشر # عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال ms171: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس ~~بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) . رواه البخاري ومسلم (1) . # هذا الحديث (2) خرجاه في " الصحيحين " (3) من رواية الأعمش، عن # عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن ابن مسعود، وفي رواية لمسلم: ((التارك ~~للإسلام)) بدل قوله: ((لدينه)) (4) . # وفي هذا المعنى أحاديث متعددة: فخرج مسلم (5) من حديث عائشة، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - مثل حديث ابن مسعود. # وخرج الترمذي (6) ، والنسائي (7) ، وابن ماجه (8) من حديث عثمان، عن # النبي - صلى الله عليه وسلم - (9) ، قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا ~~بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه (10) ، أو قتل نفسا ~~بغير نفس)) . وفي رواية للنسائي # : ((رجل زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم، أو قتل عمدا، فعليه القود، أو ارتد ~~بعد إسلامه، PageV01P337 # فعليه القتل)) (1) . # وقد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية ابن عباس ~~(2) وأبي هريرة وأنس وغيرهم (3) ، وقد ذكرنا حديث أنس فيما تقدم، وفيه ~~تفسير أن هذه الثلاث خصال هي حق الإسلام التي يستباح بها دم من شهد أن لا ~~إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث ~~متفق عليه بين المسلمين (4) . # أما زنى الثيب، فأجمع المسلمون على أن حده الرجم حتى يموت، وقد رجم النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - ماعزا والغامدية (5) ، وكان في القرآن الذي نسخ ~~لفظه: ((والشيخ # والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله، والله عزيز حكيم)) (6) ~~. # وقد استنبط ابن عباس الرجم من القرآن من قوله تعالى: {يا أهل الكتاب قد ~~جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن # كثير} (7) ، قال: فمن كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، ثم ~~تلا هذه الآية، وقال: كان الرجم مما أخفوا. خرجه النسائي (8) ، والحاكم (9) ~~، وقال: صحيح الإسناد. PageV01P338 # ويستنبط أيضا من قوله تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها ~~النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} إلى قوله: {وأن احكم ms172 بينهم بما أنزل ~~الله} (1) . وقال الزهري: بلغنا أنها نزلت في اليهوديين اللذين رجمهما ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني أحكم بما في التوراة)) وأمر بهما ~~فرجما (2) . # وخرج مسلم في " صحيحه " (3) من حديث البراء بن عازب قصة رجم اليهوديين، ~~وقال في حديثه: فأنزل الله: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في ~~الكفر} (4) وأنزل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (5) في ~~الكفار كلها. # وخرجه الإمام أحمد (6) وعنده: فأنزل الله: {لا يحزنك الذين يسارعون في ~~الكفر} إلى قوله: {إن أوتيتم هذا فخذوه} (7) ، يقولون: ائتوا محمدا (8) ، ~~فإن أفتاكم بالتحميم والجلد، فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا، إلى قوله: ~~{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (9) ، قال: في # اليهود. PageV01P339 # وروي من حديث جابر قصة رجم اليهوديين، وفي حديثه قال: فأنزل الله: # {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} إلى قوله: {وإن حكمت فاحكم # بينهم بالقسط} (1) . # وكان الله تعالى قد أمر أولا بحبس النساء (2) الزواني إلى أن يتوفاهن ~~الموت، أو يجعل الله لهن السبيل، ثم جعل الله (3) لهن سبيلا، ففي " صحيح ~~مسلم " (4) عن عبادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خذوا عني ~~خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام، والثيب ~~بالثيب جلد مئة والرجم)) . # وقد أخذ بظاهر هذا الحديث جماعة من العلماء، وأوجبوا جلد الثيب مئة، ثم ~~رجمه كما فعل علي بشراحة الهمدانية، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5) . يشير إلى أن كتاب الله فيه جلد ~~الزانيين من غير تفصيل بين ثيب وبكر، وجاءت السنة برجم الثيب خاصة مع ~~استنباطه من القرآن أيضا، وهذا القول هو المشهور عن الإمام أحمد رحمه الله ~~وإسحاق، وهو قول الحسن وطائفة من السلف (6) . # وقالت طائفة منهم: إن كان الثيبان شيخين رجما وجلدا، وإن كانا شابين، ~~رجما بغير جلد؛ لأن ذنب الشيخ أقبح، لا سيما بالزنى، وهذا قول أبي بن كعب، ~~وروي عنه مرفوعا، ولا يصح رفعه، وهو رواية عن أحمد وإسحاق ms173 أيضا (7) . # وأما النفس بالنفس، فمعناه: أن المكلف إذا قتل نفسا بغير حق (8) عمدا، ~~فإنه يقتل بها، وقد دل القرآن على ذلك بقوله تعالى: PageV01P340 # {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (1) وقال تعالى: {يا أيها الذين ~~آمنوا كتب عليكم القصاص في # القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} (2) . # ويستثنى من عموم قوله تعالى: {النفس بالنفس} صور: # منها: أن يقتل الوالد ولده، فالجمهور على أنه لا يقتل به، وصح ذلك عن ~~عمر. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة، وقد تكلم في ~~أسانيدها (3) ، وقال مالك: إن تعمد قتله تعمدا لا يشك فيه، مثل أن يذبحه، ~~فإنه يقتل به، وإن # حذفه بسيف أو عصا، لم يقتل. وقال البتي: يقتل بقتله بجميع وجوه العمد ~~للعمومات (4) . # ومنها: أن يقتل الحر عبدا، فالأكثرون على أنه لا يقتل به (5) ، وقد # وردت في ذلك أحاديث في أسانيدها مقال (6) . وقيل: يقتل بعبد غيره دون # عبده (7) ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، PageV01P341 # وقيل: يقتل بعبده وعبد غيره، وهي رواية عن الثوري، وقول طائفة من أهل ~~الحديث (1) ؛ لحديث سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قتل عبده ~~قتلناه، ومن جدعه جدعناه)) (2) وقد طعن فيه الإمام أحمد # وغيره. # وقد أجمعوا على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار في الأطراف، وهذا يدل ~~على أن هذا الحديث مطرح لا يعمل به، وهذا مما يستدل به على أن المراد بقوله ~~تعالى: {النفس بالنفس} (3) الأحرار؛ لأنه ذكر بعده القصاص في الأطراف، وهو ~~يختص بالأحرار (4) . # ومنها: أن يقتل المسلم كافرا، فإن كان حربيا، لم يقتل به بغير خلاف (5) ؛ ~~لأن قتل الحربي مباح بلا ريب، وإن كان ذميا أو معاهدا، فالجمهور على أنه لا # يقتل به أيضا (6) ، وفي " صحيح البخاري " (7) # عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا # يقتل مسلم بكافر)) . # وقال أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الكوفيين: يقتل به (8) ، وقد روى ربيعة، ~~عن ابن البيلماني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قتل رجلا من أهل ~~القبلة برجل من أهل الذمة، وقال: ((أنا ms174 أحق من وفى بذمته)) (9) وهذا مرسل ~~ضعيف قد ضعفه الإمام أحمد، وأبو عبيد، وإبراهيم الحربي، PageV01P342 # والجوزجاني، وابن المنذر، والدارقطني، وقال: ابن البيلماني ضعيف لا تقوم ~~به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله؟ وقال الجوزجاني: إنما أخذه ربيعة، ~~عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن ابن المنكدر، عن ابن البيلماني، وابن أبي يحيى: ~~متروك الحديث. وفي " مراسيل أبي داود " حديث آخر مرسل: أن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قتل يوم خيبر مسلما بكافر، قتله غيلة، وقال: ((أنا أولى وأحق ~~من وفى بذمته)) (1) . وهذا مذهب مالك وأهل المدينة: أن القتل (2) غيلة لا ~~تشترط له المكافأة، فيقتل فيه المسلم بالكافر، وعلى هذا حملوا حديث ابن ~~البيلماني أيضا على تقدير صحته (3) . # ومنها: أن يقتل الرجل امرأة، فيقتل بها بغير خلاف (4) ، وفي كتاب عمرو ~~ابن حزم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الرجل يقتل بالمرأة (5) . ~~وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - قتل يهوديا قتل جارية (6) وأكثر العلماء ~~على أنه لا يدفع إلى أولياء الرجل شيء. وروي عن علي أنه يدفع إليهم نصف ~~الدية؛ لأن دية المرأة نصف دية الرجل وهو قول طائفة من السلف وأحمد في ~~رواية عنه (7) . # وأما التارك لدينه المفارق للجماعة، فالمراد به من ترك الإسلام، وارتد ~~عنه، وفارق PageV01P343 # جماعة المسلمين (1) ، كما جاء التصريح بذلك في حديث عثمان، وإنما استثناه ~~مع من يحل دمه من أهل الشهادتين باعتبار ما كان عليه قبل الردة وحكم ~~الإسلام لازم له بعدها، ولهذا يستتاب، ويطلب منه العود إلى الإسلام (2) ، # وفي إلزامه بقضاء ما فاته في زمن الردة من العبادات اختلاف مشهور بين # العلماء (3) . # وأيضا فقد يترك دينه، ويفارق الجماعة، وهو مقر بالشهادتين، ويدعي ~~الإسلام، كما إذا جحد شيئا من أركان الإسلام، أو سب (4) الله ورسوله، أو ~~كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم (5) ~~بذلك (6) ، PageV01P344 # وفي " صحيح البخاري " (1) # عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بدل دينه ~~فاقتلوه)) . # ولا فرق في هذا بين الرجل والمرأة عند أكثر العلماء ms175 (2) ، ومنهم من قال: ~~لا # تقتل المرأة إذا ارتدت كما لا تقتل نساء أهل دار (3) الحرب في الحرب، ~~وإنما تقتل رجالهم، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه (4) ، وجعلوا الكفر الطارئ ~~كالأصلي، والجمهور فرقوا بينهما، وجعلوا الطارئ أغلظ من الأصلي (5) لما ~~سبقه من الإسلام، ولهذا يقتل بالردة عنه من لا يقتل من أهل الحرب، كالشيخ ~~الفاني والزمن (6) والأعمى، ولا يقتلون في الحرب (7) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((التارك لدينه المفارق للجماعة (8)) ) ~~يدل على أنه لو تاب ورجع إلى الإسلام لم يقتل؛ لأنه ليس بتارك لدينه بعد ~~رجوعه، ولا مفارق للجماعة (9) . # فإن قيل: بل استثناء هذا ممن يعصم دمه من أهل الشهادتين يدل على أنه يقتل ~~ولو كان مقرا بالشهادتين، كما يقتل الزاني المحصن، وقاتل النفس، وهذا يدل ~~على أن المرتد لا تقبل توبته (10) ، كما حكي عن الحسن، أو أن يحمل ذلك على ~~من ارتد ممن ولد على الإسلام، فإنه لا تقبل توبته (11) ، وإنما تقبل توبة ~~من كان كافرا، ثم أسلم، ثم ارتد على قول طائفة من العلماء، منهم: الليث بن ~~سعد، وأحمد في رواية عنه، وإسحاق. قيل: إنما استثناه من المسلمين باعتبار ~~ما كان عليه قبل مفارقة دينه كما سبق تقريره، وليس هذا كالثيب الزاني، ~~وقاتل النفس؛ لأن قتلهما وجب عقوبة لجريمتهما الماضية، ولا يمكن تلافي ذلك ~~(12) . PageV01P345 # وأما المرتد، فإنما قتل لوصف قائم به في الحال، وهو ترك دينه ومفارقة ~~الجماعة، فإذا عاد إلى دينه، وإلى موافقته الجماعة، فالوصف الذي أبيح به ~~دمه قد انتفى، فتزول إباحة دمه، والله أعلم (1) . # فإن قيل: فقد خرج النسائي (2) من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: زان محصن يرجم، ~~ورجل قتل متعمدا فيقتل، ورجل يخرج من الإسلام فحارب الله ورسوله فيقتل، أو ~~يصلب، أو ينفى من الأرض)) . وهذا يدل على أن المراد من جمع بين الردة ~~والمحاربة. # قيل: قد خرج أبو داود (3) # حديث عائشة بلفظ آخر، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ms176: ((لا ~~يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا في ~~إحدى (4) ثلاث: [رجل] (5) زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ~~ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل بها)) . # وهذا يدل على أن من وجد منه الحراب من المسلمين، خير الإمام فيه مطلقا، ~~كما يقوله علماء أهل المدينة مالك وغيره (6) ، والرواية الأولى قد تحمل على ~~أن المراد بخروجه عن الإسلام خروجه عن أحكام الإسلام (7) ، وقد تحمل على ~~ظاهرها، ويستدل بذلك من يقول: إن آية (8) المحاربة تختص بالمرتدين (9) ، # فمن ارتد وحارب PageV01P346 # فعل به ما في الآية، ومن حارب من غير ردة، أقيمت عليه أحكام المسلمين من ~~القصاص والقطع في السرقة، وهذا رواية عن أحمد لكنها غير مشهورة عنه، وكذا ~~قالت طائفة من السلف: إن آية المحاربة تختص بالمرتدين، منهم: أبو قلابة # وغيره (1) . # وبكل حال فحديث عائشة ألفاظه مختلفة، وقد روي عنها مرفوعا، وروي عنها ~~موقوفا، وحديث ابن مسعود لفظه لا اختلاف فيه، وهو ثابت متفق على صحته، ولكن ~~يقال على هذا: إنه قد ورد قتل المسلم بغير إحدى هذه الخصال الثلاث: # فمنها: في اللواط، وقد جاء من حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال # : ((اقتلوا الفاعل والمفعول به)) (2) ، # وأخذ به كثير من العلماء كمالك وأحمد، وقالوا: إنه موجب للقتل بكل حال، ~~محصنا كان أو غير محصن (3) ، وقد روي عن عثمان أنه قال: لا يحل دم امرئ ~~مسلم إلا بأربع، فذكر الثلاثة المتقدمة، وزاد: ورجل عمل عمل قوم لوط (4) . # ومنها من أتى ذات محرم، وقد روي الأمر بقتله، PageV01P347 # وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل من تزوج بامرأة أبيه (1) ، ~~وأخذ بذلك طائفة من العلماء، وأوجبوا قتله مطلقا محصنا كان أو غير محصن (2) ~~. # ومنها الساحر: وفي " الترمذي " (3) # من حديث جندب مرفوعا (4) : ((حد الساحر (5) ضربة بالسيف)) ، وذكر أن ~~الصحيح وقفه على جندب (6) ، وهو مذهب جماعة من العلماء، منهم: عمر بن عبد ~~العزيز ومالك وأحمد وإسحاق، ولكن ms177 هؤلاء يقولون: إنه يكفر بسحره، فيكون حكمه ~~حكم المرتدين (7) . # ومنها: قتل من وقع على بهيمة، وقد ورد فيه حديث مرفوع (8) ، وقال به # طائفة من العلماء (9) . # ومنها: من ترك الصلاة، فإنه يقتل عند كثير من العلماء مع قولهم: إنه ليس # بكافر، وقد سبق ذكر ذلك مستوفى. PageV01P348 # ومنها قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، وقد ورد الأمر به عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - من # وجوه متعددة (1) ، # وأخذ بذلك عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره، وأكثر العلماء على أن القتل ~~انتسخ، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بالشارب في المرة ~~الرابعة، فلم يقتله (2) . وفي " صحيح البخاري " (3) : أن رجلا كان يؤتى به ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر، فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى ~~به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ~~ورسوله)) ولم يقتله بذلك. # وقد روي قتل السارق في المرة الخامسة (4) ، وقيل: إن بعض الفقهاء ذهب # إليه (5) . # ومنها: ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا بويع لخليفتين، ~~فاقتلوا الآخر # منهما)) خرجه مسلم (6) من حديث أبي سعيد، وقد ضعف العقيلي أحاديث هذا ~~الباب كلها (7) . # ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أتاكم وأمركم جميع على رجل ~~واحد، فأراد # أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) (8) ، PageV01P349 # وفي رواية: ((فاضربوا # رأسه بالسيف كائنا من كان)) . وقد خرجه مسلم (1) أيضا من رواية # عرفجة. # ومنها: من شهر السلاح، فخرج النسائي (2) من حديث ابن الزبير، عن النبي # - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من شهر السلاح ثم وضعه، فدمه هدر)) ، وقد ~~روي عن ابن الزبير # مرفوعا وموقوفا، وقال البخاري: إنما هو موقوف (3) . # وسئل أحمد عن معنى هذا الحديث، فقال: ما أدري ما هذا. وقال إسحاق ابن ~~راهويه: إنما يريد من شهر سلاحه ثم وضعه في الناس حتى استعرض الناس، فقد حل ~~قتله، وهو مذهب الحرورية يستعرضون الرجال والنساء والذرية. # وقد روي عن عائشة ما يخالف تفسير إسحاق، فخرج الحاكم (4) من رواية علقمة ~~ابن أبي علقمة، عن ms178 أمه: أن غلاما شهر السيف على مولاه في إمرة سعيد بن # العاص، وتفلت به عليه، فأمسكه الناس عنه، فدخل المولى (5) على عائشة، ~~فقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أشار بحديدة إلى ~~أحد من المسلمين يريد قتله، فقد وجب دمه)) فأخذه مولاه فقتله، PageV01P350 # وقال: صحيح على شرط الشيخين (1) . # وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: ((من قتل دون ماله، ~~فهو شهيد)) (2) ، # وفي رواية: ((ومن قتل دون دمه، فهو شهيد)) (3) . # فإذا أريد مال المرء أو دمه، دافع عنه بالأسهل. هذا مذهب الشافعي (4) ~~وأحمد، وهل يجب أن ينوي أنه لا يريد قتله أم لا؟ فيه روايتان عن الإمام # أحمد (5) . # وذهب طائفة إلى أن من أراد ماله أو دمه، أبيح له قتله ابتداء، ودخل على ~~ابن عمر لص، فقام إليه بالسيف صلتا، فلولا أنهم حالوا بينه وبينه، لقتله ~~(6) . وسئل الحسن عن لص دخل بيت رجل ومعه حديدة، قال: اقتله بأي قتلة قدرت ~~عليه، وهؤلاء أباحوا قتله وإن ولى هاربا من غير جناية (7) ، منهم: أيوب ~~السختياني. PageV01P351 # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال # : ((الدار حرمك، فمن دخل عليك حرمك، فاقتله)) ولكن في إسناده ضعف. # ومنها: قتل الجاسوس المسلم إذا تجسس للكفار على المسلمين، وقد توقف فيه ~~أحمد (2) ، وأباح قتله طائفة من أصحاب مالك، وابن عقيل من # أصحابنا (3) ، ومن المالكية من قال: إن تكرر ذلك منه، أبيح قتله (4) ، ~~واستدل من أباح قتله (5) بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق حاطب بن ~~أبي بلتعة لما كتب الكتاب إلى أهل مكة يخبرهم بسير النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - إليهم (6) ، ويأمرهم بأخذ حذرهم، فاستأذن عمر في قتله، فقال: ((إنه ~~شهد بدرا)) (7) ، فلم يقل: إنه لم يأت ما يبيح دمه، وإنما علل بوجود مانع ~~من قتله، وهو شهوده بدرا ومغفرة الله لأهل بدر، وهذا المانع منتف في حق من ~~بعده. # ومنها: ما خرجه أبو داود في " المراسيل " (8) من رواية ابن المسيب: أن # النبي - صلى ms179 الله عليه وسلم - قال: ((من ضرب أباه فاقتلوه)) PageV01P352 # وروي مسندا من وجه آخر لا # يصح (1) . # وأعلم أن من هذه الأحاديث المذكورة ما لا يصح ولا يعرف به قائل معتبر، ~~كحديث: ((من ضرب أباه فاقتلوه)) ، وحديث: ((قتل السارق في المرة # الخامسة)) (2) . وباقي النصوص كلها يمكن ردها إلى حديث ابن مسعود، وذلك ~~أن حديث ابن مسعود تضمن أنه لا يستباح دم المسلم إلا بإحدى ثلاث خصال: إما ~~أن يترك دينه ويفارق جماعة المسلمين، وإما أن يزني وهو محصن، وإما أن يقتل ~~نفسا بغير حق (3) . # فيؤخذ منه أن قتل المسلم لا يستباح إلا بأحد ثلاثة أنواع: ترك الدين، ~~وإراقة الدم المحرم، وانتهاك الفرج المحرم، فهذه الأنواع الثلاثة هي التي ~~تبيح دم المسلم دون غيرها. # فأما انتهاك الفرج المحرم، فقد ذكر في الحديث أنه الزنا بعد الإحصان، ~~وهذا - والله أعلم - على وجه المثال، فإن المحصن قد تمت عليه النعمة بنيل ~~هذه الشهوة # بالنكاح (4) ، فإذا أتاها بعد ذلك من فرج محرم عليه، أبيح دمه (5) ، وقد ~~ينتفي شرط # الإحصان، فيخلفه شرط آخر، وهو كون الفرج لا يستباح بحال، إما مطلقا ~~كاللواط، أو في حق الواطئ، كمن وطىء ذات محرم بعقد أو غيره، فهذا ~~PageV01P353 # الوصف هل يكون قائما مقام الإحصان وخلفا عنه؟ هذا هو محل النزاع بين ~~العلماء، والأحاديث دالة على أنه يكون خلفا عنه، ويكتفى به في إباحة الدم ~~(1) . # وأما سفك الدم الحرام، فهل يقوم مقامه إثارة الفتن المؤدية إلى سفك ~~الدماء، كتفريق جماعة المسلمين (2) ، وشق العصا (3) ، والمبايعة لإمام ثان ~~(4) ، ودل الكفار على عورات المسلمين (5) ؟ هذا هو محل النزاع. وقد روي عن ~~عمر ما يدل على # إباحة القتل بمثل هذا (6) . # وكذلك شهر السلاح لطلب القتل: هل يقوم مقام القتل في إباحة الدم أم # لا؟ فابن الزبير وعائشة رأياه قائما مقام القتل الحقيقي في ذلك (7) . # وكذلك قطع الطريق بمجرده: هل يبيح القتل أم لا؟ لأنه مظنة لسفك # الدماء المحرمة، وقول الله - عز وجل -: {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في # الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} (8) ، يدل ms180 على أنه إنما يباح قتل النفس # بشيئين: أحدهما: بالنفس (9) ، والثاني: بالفساد في الأرض، ويدخل في # الفساد في الأرض: الحراب (10) والردة، والزنى، فإن ذلك كله فساد في # الأرض (11) ، وكذلك تكرر شرب الخمر والإصرار عليه هو مظنة سفك الدماء ~~المحرمة. وقد اجتمع الصحابة في عهد عمر على حده ثمانين، وجعلوا السكر مظنة ~~الافتراء والقذف الموجب لجلد الثمانين (12) ، PageV01P354 # ولما قدم وفد عبد القيس على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن ~~الأشربة والانتباذ في الظروف قال: ((إن أحدكم ليقوم إلى ابن عمه - يعني: ~~إذا شرب - فيضربه بالسيف)) ، وكان فيهم رجل قد أصابته جراحة من ذلك (1) ، ~~فكان يخبؤها حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) فهذا كله يرجع إلى ~~إباحة الدم بالقتل إقامة لمظان القتل مقام حقيقته، لكن هل نسخ ذلك أم حكمه ~~باق وهذا هو محل النزاع. # وأما ترك الدين، ومفارقة الجماعة، فمعناه: الارتداد عن دين الإسلام ولو ~~أتى بالشهادتين، فلو سب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مقر ~~بالشهادتين، أبيح دمه؛ لأنه قد ترك بذلك دينه (3) . # وكذلك (4) لو استهان بالمصحف، وألقاه في القاذورات، أو جحد ما يعلم من ~~الدين بالضرورة كالصلاة، وما أشبه ذلك مما يخرج من الدين (5) . # وهل يقوم مقام ذلك ترك شيء من أركان الإسلام الخمس؟ وهذا ينبني على أنه ~~هل يخرج من الدين بالكلية بذلك أم لا؟ فمن رآه خروجا عن الدين، كان عنده ~~كترك الشهادتين وإنكارهما، PageV01P355 # ومن لم يره خروجا عن الدين، فاختلفوا هل يلحق بتارك الدين في القتل، ~~لكونه ترك أحد مباني الإسلام أم لا؟ لكونه لم يخرج عن الدين. # ومن هذا الباب ما قاله كثير من العلماء في قتل الداعية إلى البدع، فإنهم ~~نظروا إلى أن ذلك شبيه بالخروج عن الدين، وهو ذريعة ووسيلة إليه، فإن ~~استخفى بذلك ولم يدع غيره، كان حكمه حكم المنافقين إذا استخفوا، وإذا دعا ~~إلى ذلك، تغلظ جرمه بإفساد دين الأمة (1) . وقد صح عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - الأمر بقتال الخوارج وقتلهم (2) . وقد اختلف العلماء في حكمهم. # فمنهم من ms181 قال: هم كفار، فيكون قتلهم لكفرهم (3) . # ومنهم من قال: إنما يقتلون لفسادهم في الأرض (4) بسفك دماء المسلمين ~~وتكفيرهم لهم، وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا، وأجازوا الابتداء بقتالهم، ~~والإجهاز على جريحهم. # ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه، قوتلوا، وإن أظهروه ولم يدعوا ~~إليه لم يقاتلوا، وهو نص أحمد وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة ~~مغلظة. # ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتال يبيح قتالهم من سفك ~~دماء # ونحوه، كما روي عن علي، وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا (5) . # وقد روي من وجوه متعددة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجل ~~كان يصلي، وقال: ((لو قتل، لكان أول فتنة وآخرها)) (6) ، PageV01P356 # وفي رواية: ((لو قتل، لم يختلف # رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال)) ، خرجه الإمام أحمد رحمه الله وغيره (1) ~~. فيستدل بهذا على قتل المبتدع إذا كان قتله يكف شره عن المسلمين، ويحسم ~~مادة الفتن (2) . # وقد حكى ابن عبد البر وغيره عن مذهب مالك جواز (3) قتل الداعي إلى ~~البدعة. # فرجعت نصوص القتل كلها إلى ما في حديث ابن مسعود (4) بهذا التقدير، ولله ~~الحمد. # وكثير من العلماء يقول في كثير من هذه النصوص التي ذكرناها هاهنا: إنها ~~منسوخة (5) بحديث ابن مسعود، وفي هذا نظر من وجهين: # أحدهما: أنه لا يعلم أن حديث ابن مسعود كان متأخرا عن تلك النصوص كلها، ~~لا سيما وابن مسعود من قدماء المهاجرين. وكثير من تلك النصوص يرويها من ~~تأخر إسلامه كأبي هريرة، وجرير بن عبد الله، ومعاوية، فإن هؤلاء كلهم # رووا حديث (6) قتل شارب الخمر في المرة الرابعة (7) . # والثاني: أن الخاص لا ينسخ بالعام، ولو كان العام متأخرا عنه في الصحيح ~~الذي عليه PageV01P357 # جمهور العلماء؛ لأن دلالة الخاص على معناه بالنص، ودلالة العام عليه ~~بالظاهر عند الأكثرين، فلا يبطل الظاهر حكم النص (1) . وقد روي أن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل رجل كذب عليه في حياته، وقال لحي من العرب: ~~إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني ms182 وأمرني أن أحكم في دمائكم ~~وأموالكم، وهذا روي من وجوه متعددة كلها ضعيفة (2) ، وفي بعضها أن هذا ~~الرجل كان قد خطب امرأة منهم في الجاهلية، فأبوا أن يزوجوه، وأنه لما قال ~~لهم هذه المقالة صدقوه، ونزل على تلك المرأة، وحينئذ # فهذا الرجل قد زنى (3) ، ونسب إباحة ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- (4) ، وهذا كفر وردة عن الدين. # وفي " صحيح مسلم " (5) : # أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليا بقتل القبطي الذي كان # يدخل على أم ولده مارية، وكان الناس يتحدثون بذلك، فلما وجده علي مجبوبا ~~تركه. وقد حمله بعضهم على أن القبطي لم يكن أسلم بعد، وأن المعاهد إذا فعل ~~ما يؤذي المسلمين انتقض عهده، فكيف إذا آذى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ~~وقال بعضهم: بل كان مسلما، ولكنه نهي عن ذلك فلم ينته، حتى تكلم الناس ~~بسببه في فراش النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأذى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في فراشه (6) مبيح للدم، لكن لما ظهرت براءته بالعيان، تبين للناس ~~براءة مارية، فزال السبب المبيح للقتل (7) . # وقد روي عن الإمام أحمد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له أن يقتل ~~بغير هذه الأسباب الثلاثة التي في حديث ابن مسعود، وغيره ليس له ذلك، كأنه ~~يشير إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان له أن PageV01P358 # يعزر بالقتل إذا رأى ذلك مصلحة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ~~التعدي والحيف، وأما غيره فليس له ذلك؛ لأنه غير مأمون عليه التعدي بالهوى. ~~قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن حديث أبي بكر ما كانت لأحد بعد النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: لم يكن لأبي بكر أن يقتل رجلا إلا بإحدى ثلاث (1) ، # والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان له ذلك أن يقتل، وحديث أبي بكر المشار ~~إليه هو أن رجلا كلم أبا بكر فأغلظ له، فقال له أبو برزة: ألا أقتله يا ~~خليفة رسول الله؟ فقال أبو بكر: ما كانت لأحد بعد النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - (2) . # وعلى ms183 هذا يتخرج حديث الأمر بقتل هذا القبطي، ويتخرج عليه أيضا حديث الأمر ~~بقتل السارق إن كان صحيحا، فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر ~~بقتله في # أول مرة، فراجعوه فيه فقطعه، ثم فعل ذلك أربع مرات وهو يأمر بقتله، # فيراجع فيه، فيقطع حتى قطعت أطرافه الأربع، ثم قتل في الخامسة، والله ~~تعالى أعلم (3) . PageV01P359 ### | الحديث الخامس عشر # عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من كان يؤمن بالله واليوم # الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ~~جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) رواه البخاري ومسلم ~~(1) . # هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة، وفي بعض ألفاظها: ((فلا يؤذ ~~جاره)) PageV01P361 # وفي بعض ألفاظها: ((فليحسن قرى ضيفه)) ، وفي بعضها: ((فليصل رحمه)) بدل ~~ذكر الجار. # وخرجاه أيضا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - (1) . # وقد روي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة (2) ~~وابن مسعود (3) # وعبد الله بن عمرو (4) ، وأبي أيوب الأنصاري (5) PageV01P362 # وابن عباس (1) وغيرهم من # الصحابة. # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)) ~~فليفعل كذا وكذا، يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان، وقد سبق أن ~~الأعمال تدخل في الإيمان، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان ~~بالصبر والسماحة (2) ، قال الحسن: المراد (3) : الصبر عن المعاصي، والسماحة ~~بالطاعة (4) . # وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله، كأداء الواجبات وترك المحرمات، ~~ومن ذلك قول الخير، والصمت عن غيره. # وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف، وإكرام الجار، والكف عن أذاه، ~~فهذه ثلاثة أشياء يؤمر بها المؤمن: أحدها: قول الخير والصمت عما سواه، وقد ~~روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي، قال: PageV01P363 # قلت: يا رسول الله أوصني، قال: ((هل تملك لسانك؟)) قلت: ما أملك إذا لم ~~أملك لساني؟ قال: ((فهل تملك يدك؟)) قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: ~~((فلا تقل # بلسانك إلا معروفا، ولا ms184 تبسط يدك إلا إلى خير)) (1) . # وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان، كما في " المسند " (2) عن ~~أنس (3) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى ~~يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) . # وخرج الطبراني (4) من حديث أنس (5) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه)) ، وخرج الطبراني (6) # من حديث معاذ بن جبل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: PageV01P364 # ((إنك لن تزال سالما ما سكت، فإذا تكلمت، كتب لك أو عليك)) . وفي " مسند ~~الإمام أحمد " (1) ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن # النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صمت نجا)) . # وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يزل بها في النار أبعد ~~ما بين المشرق والمغرب)) . # وخرج الإمام أحمد، والترمذي (3) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: PageV01P365 # ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في ~~النار)) (1) . # وفي " صحيح البخاري " (2) # عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (3) ~~: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله ~~بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي ~~بها في جهنم)) . # وخرج الإمام أحمد (4) من حديث سليمان بن سحيم، عن أمه، قالت: سمعت النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه ~~وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة، فيتباعد منها أبعد من صنعاء)) . # وخرج الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث بلال بن الحارث # قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أحدكم ليتكلم بالكلمة ~~من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم ~~يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ PageV01P366 # ما بلغت، فيكتب ms185 الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه)) (1) . # وقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((كلام ابن آدم عليه لا له، إلا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذكر ~~الله - عز وجل -)) (2) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فليقل خيرا أو ليصمت)) أمر بقول الخير، ~~وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه، ~~بل إما أن يكون خيرا، فيكون مأمورا بقوله، وإما أن يكون غير خير، فيكون ~~مأمورا بالصمت عنه، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا. # وخرج ابن أبي الدنيا حديث معاذ بن جبل ولفظه: إن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال له # : ((يا معاذ ثكلتك أمك وهل تقول شيئا إلا وهو لك أو عليك)) (3) . # وقد قال الله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما ~~يلفظ من قول PageV01P367 # إلا لديه رقيب عتيد} (1) وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه ~~يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث ~~أبي أمامة بإسناد ضعيف (2) . وفي " الصحيح " (3) # عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أحدكم يصلي، فإنه يناجي ربه ~~والملك عن يمينه (4)) ) . وروي من حديث حذيفة مرفوعا: ((إن عن يمينه كاتب ~~الحسنات)) (5) . PageV01P368 # واختلفوا: هل يكتب كل ما تكلم به، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب؟ ~~على قولين مشهورين. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به ~~من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت، حتى إذا كان يوم ~~الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر (1) ، وألقي سائره، ~~فذلك قوله تعالى: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (2) . # وعن يحيى بن أبي كثير، قال: ركب رجل الحمار، فعثر به، فقال: تعس # الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة أكتبها، وقال صاحب الشمال: ما هي ~~من السيئات فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب ms186 اليمين من ~~شيء، فاكتبه، فأثبت في السيئات: ((تعس الحمار)) (3) . # وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة فهو سيئة، وإن كان لا يعاقب عليها، فإن بعض ~~السيئات قد لا يعاقب عليها (4) ، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر، ولكن ~~زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهب باطلا، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة # وأسف عليه، وهو نوع عقوبة. # وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا ~~قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة)) (5) . PageV01P369 # وخرجه الترمذي (1) ولفظه: ((ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه، ولم ~~يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة (2) ، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر ~~لهم)) . # وفي رواية لأبي داود والنسائي: ((من قعد مقعدا لم يذكر الله فيه كانت ~~عليه # من الله ترة، ومن اضطجع مضطجعا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ~~ترة)) زاد النسائي: ((ومن قام مقاما لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ~~ترة)) (3) . وخرج أيضا من حديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((ما من قوم يجلسون مجلسا لا يذكرون الله فيه إلا كانت عليهم حسرة يوم ~~القيامة، وإن دخلوا الجنة)) (4) . PageV01P370 # وقال مجاهد: ما جلس قوم مجلسا، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله، إلا تفرقوا ~~عن أنتن من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم، وما جلس قوم ~~مجلسا، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا، إلا تفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان ~~مجلسهم يشهد لهم بذكرهم. # وقال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة تمر ~~بابن آدم (1) لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها (2) حسرات. # وخرجه الطبراني (3) من حديث عائشة مرفوعا: ((ما من ساعة تمر بابن آدم لم # يذكر الله فيها بخير، إلا حسر عندها يوم القيامة)) . # فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، ~~اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة ms187 مما لابد منه. وقد روي عن ابن مسعود قال: ~~إياكم وفضول الكلام، حسب امرئ ما بلغ حاجته (4) ، وعن النخعي قال: يهلك ~~الناس في فضول المال والكلام. # وأيضا فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في ~~" الترمذي " (5) من حديث ابن عمر مرفوعا: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر ~~الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب، وإن أبعد الناس عن الله ~~القلب # القاسي)) . # وقال عمر: من كثر كلامه، كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ~~ذنوبه، كانت النار أولى به (6) . وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعا ~~بإسناد ضعيف (7) . PageV01P371 # وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، ~~وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك. # وقال رجل لسلمان: أوصني، قال: لا تكلم، قال: ما يستطيع من عاش في الناس ~~أن لا يتكلم، قال: فإن تكلمت، فتكلم بحق أو اسكت (1) . # وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يأخذ بلسانه ويقول: هذا أوردني ~~الموارد (2) . # وقال ابن مسعود: والله الذي (3) لا إله إلا هو، ما على الأرض أحق بطول ~~سجن من اللسان (4) . وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحكم ~~الصمت (5) . # وقال شميط بن عجلان: يا ابن آدم، إنك ما سكت، فأنت سالم، فإذا تكلمت، فخذ ~~حذرك، إما لك وإما عليك (6) . وهذا باب يطول استقصاؤه. # والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكلام بالخير، والسكوت ~~عما ليس بخير، وخرج الإمام أحمد وابن حبان (7) من حديث البراء بن عازب: أن ~~رجلا قال: يا رسول الله، علمني عملا يدخلني الجنة، فذكر الحديث، وفيه قال: ~~PageV01P372 # ((فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، واسكت عن ~~الشر (1) ، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا من خير)) (2) . # فليس الكلام مأمورا به على الإطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لابد من الكلام ~~بالخير، والسكوت عن الشر، وكان السلف (3) كثيرا يمدحون الصمت عن الشر، وعما ~~لا يعني؛ لشدته على النفس، ولذلك يقع فيه ms188 الناس كثيرا، فكانوا يعالجون ~~أنفسهم، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم. # قال الفضيل بن عياض: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو ~~أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في غم شديد، وقال: سجن اللسان سجن المؤمن، ولو ~~أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في غم شديد (4) . # وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه: إن كان الكلام من فضة، فإن الصمت ~~من ذهب، فقال: معناه: لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية ~~الله من ذهب (5) . وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات، ~~وقد سبق القول في هذا مستوفى. # وتذاكروا عند الأحنف بن قيس، أيما أفضل الصمت أو النطق؟ فقال قوم: الصمت ~~أفضل، فقال الأحنف: النطق أفضل؛ لأن فضل (6) الصمت لا يعدو صاحبه، ~~PageV01P373 # والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه (1) . # وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصامت على علم ~~كالمتكلم على علم، فقال عمر: إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما ~~يوم القيامة حالا، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال له: يا ~~أمير المؤمنين وكيف بفتنة المنطق (2) ؟ فبكى عمر عند ذلك (3) بكاء شديدا. # ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يوما فرق الناس وبكوا، فقطع خطبته، فقيل له: ~~لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به، فقال عمر: إن القول فتنة والفعل ~~أولى بالمؤمن من القول. # وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام (4) أمير المؤمنين عمر بن عبد ~~العزيز - رضي الله عنه -، وسمعته يتكلم في هذه المسألة، وأظن أني فاوضته ~~فيها، وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت، وأظن أنه وقع في ~~أثناء الكلام ذكر سليمان ابن عبد الملك، وأن عمر قال ذلك له، وقد روي عن ~~سليمان بن عبد الملك أنه قال: الصمت منام العقل، والمنطق يقظته (5) ، ولا ~~يتم حال إلا بحال، يعني: لابد من الصمت والكلام. # وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته، وكان أحد ~~الحكماء ms189: إذا كان المرء يحدث في مجلس، فأعجبه الحديث فليسكت، وإذا كان ~~ساكتا، فأعجبه السكوت، فليحدث (6) ، PageV01P374 # وهذا حسن فإن من كان كذلك، كان سكوته وحديثه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه، ~~ومن كان كذلك، كان جديرا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته؛ لأن ~~كلامه وسكوته يكون لله - عز وجل -. # وفي مراسيل الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه - ~~عز وجل - قال: ((علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا، فإذا كان كذلك ~~لم ينسني على حال، وإذا كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني، ~~فإذا نسيني حركت قلبه، فإن تكلم، تكلم لي، وإن سكت، سكت لي، فذلك الذي ~~تأتيه المعونة من عندي)) خرجه إبراهيم بن الجنيد. # وبكل حال، فالتزام الصمت مطلقا، واعتقاده قربة إما مطلقا، أو في بعض ~~العبادات، كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه. وروي من حديث أبي هريرة عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن صيام الصمت (1) . وخرج ~~الإسماعيلي من حديث علي قال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ~~الصمت في العكوف، وفي " سنن أبي داود " (2) من حديث علي، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((لا صمات يوم إلى الليل)) . PageV01P375 # وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لامرأة حجت مصمتة: إن هذا لا يحل ~~هذا من عمل الجاهلية (1) . وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: ~~صوم الصمت حرام (2) . # الثاني مما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث المؤمنين: ~~إكرام الجار، وفي بعض الروايات: ((النهي عن أذى الجار)) فأما أذى الجار، ~~فمحرم، فإن الأذى بغير حق محرم لكل أحد، ولكن في حق الجار هو أشد تحريما، ~~وفي " الصحيحين " (3) # عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل: أي الذنب أعظم؟ ~~قال: ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك ~~مخافة أن يطعم معك)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) . وفي " ~~مسند الإمام أحمد " (4) عن المقداد بن الأسود ms190 قال: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: PageV01P376 # ((ما تقولون في الزنى؟)) قالوا: # حرام حرمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة ~~جاره)) ، قال: ((فما تقولون في السرقة؟)) قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي ~~حرام، قال: ((لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)) ~~. # وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي شريح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: ومن يا رسول ~~الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) . وخرجه الإمام أحمد (2) ، وغيره من ~~حديث أبي هريرة. # وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) . # وخرج الإمام أحمد، والحاكم من حديث أبي هريرة، قال: قيل: # يا رسول الله إن فلانة تصلي الليل، وتصوم النهار وفي لسانها شيء تؤذي ~~جيرانها PageV01P377 # سليطة، قال: ((لا خير فيها، هي في النار)) ، وقيل له: إن فلانة تصلي ~~المكتوبة، وتصوم رمضان، وتتصدق بالأثوار، وليس لها شيء غيره، ولا تؤذي ~~أحدا، قال: ((هي في الجنة)) ولفظ الإمام أحمد: ((ولا تؤذي بلسانها ~~جيرانها)) (1) . # وخرج الحاكم (2) من حديث أبي جحيفة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - يشكو جاره، فقال له: ((اطرح متاعك في الطريق)) ، قال: فجعل ~~الناس يمرون به فيلعنونه، فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا ~~رسول الله، ما لقيت من الناس، قال # : ((وما لقيت منهم؟)) قال: يلعنوني، قال: ((فقد لعنك الله قبل الناس)) ، ~~قال: يا رسول الله، فإني لا أعود. وخرجه أبو داود (3) # بمعناه من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه: ((فقد لعنك الله قبل الناس)) . # وخرج الخرائطي من حديث أم سلمة، قالت: دخلت شاة لجار لنا، فأخذت ~~PageV01P378 # قرصة لنا، فقمت إليها فاجتذبتها من بين لحييها، فقال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - # : ((إنه لا قليل من أذى الجار ms191)) (1) . # وأما إكرام الجار والإحسان إليه، فمأمور به، وقد قال الله - عز وجل -: ~~{واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى ~~والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ~~ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا} (2) ، فجمع الله تعالى ~~في هذه الآية بين ذكر حقه على العبد وحقوق العباد على العبد أيضا، وجعل ~~العباد الذين أمر بالإحسان إليهم خمسة أنواع: # أحدها: من بينه وبين الإنسان قرابة، وخص منهم الوالدين بالذكر؛ ~~لامتيازهما عن سائر الأقارب بما لا يشركونهما فيه، فإنهما كانا السبب في ~~وجود الولد ولهما حق التربية والتأديب وغير ذلك. # الثاني: من هو ضعيف محتاج إلى الإحسان، وهو نوعان: من هو محتاج لضعف ~~PageV01P379 # بدنه، وهو اليتيم، ومن هو محتاج لقلة ماله، وهو المسكين. # والثالث: من له حق القرب والمخالطة، وجعلهم ثلاثة أنواع: جار ذو قربى، ~~وجار جنب، وصاحب بالجنب. # وقد اختلف المفسرون في تأويل ذلك، فمنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار ~~الذي له قرابة، والجار الجنب: الأجنبي (1) ، ومنهم من أدخل (2) المرأة في ~~الجار ذي القربى، ومنهم من أدخلها في الجار الجنب (3) ، ومنهم من أدخل ~~الرفيق في السفر في الجار الجنب (4) ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه كان يقول في دعائه: ((أعوذ بك من جار السوء في دار الإقامة، فإن ~~جار البادية يتحول)) (5) . # ومنهم من قال: الجار ذو القربى: الجار المسلم، والجار الجنب: الكافر (6) ~~، # وفي " مسند البزار " (7) من حديث جابر مرفوعا: ((الجيران ثلاثة: جار له ~~حق واحد، وهو أدنى الجيران حقا (8) ، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو ~~أفضل الجيران حقا، فأما الذي له حق واحد، فجار مشرك، لا رحم له، له حق ~~الجوار، وأما الذي له حقان، فجار مسلم، له حق الإسلام وحق الجوار، وأما ~~الذي له ثلاثة حقوق، فجار مسلم ذو رحم، له حق الإسلام، وحق الجوار، ~~PageV01P380 # وحق الرحم)) . وقد روي هذا الحديث من وجوه أخر متصلة ومرسلة (1) ، ولا ~~تخلو كلها من مقال. # وقيل: الجار ذو ms192 القربى: هو القريب الملاصق، والجار الجنب: البعيد الجوار ~~(2) . # وفي " صحيح البخاري " (3) # عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ~~((إلى أقربهما منك بابا)) . PageV01P381 # وقال طائفة من السلف: حد الجوار أربعون دارا، وقيل: مستدار أربعين دارا ~~من كل جانب (1) . # وفي مراسيل الزهري (2) : أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشكو ~~جارا له، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه (3) أن ينادي: ~~((ألا إن أربعين دارا جار)) . قال الزهري (4) : أربعون هكذا، وأربعون هكذا، ~~وأربعون هكذا، وأربعون هكذا، يعني: بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن ~~شماله (5) . # وسئل الإمام أحمد عمن يطبخ قدرا (6) وهو في دار السبيل، ومعه في الدار ~~نحو ثلاثين أو أربعين نفسا، يعني: أنهم سكان معه في الدار، فقال: يبدأ ~~بنفسه، وبمن يعول، فإن فضل فضل أعطى الأقرب إليه، وكيف يمكنه أن يعطيهم ~~كلهم؟ قيل له: لعل الذي هو جاره يتهاون بذلك القدر ليس له عنده موقع؟ فرأى ~~أنه لا يبعث إليه (7) . # وأما الصاحب بالجنب، ففسره طائفة بالزوجة (8) ، وفسره طائفة منهم: ابن ~~عباس بالرفيق في السفر (9) ، ولم يريدوا إخراج الصاحب الملازم في الحضر ~~إنما أرادوا أن صحبة السفر تكفي، فالصحبة الدائمة في الحضر أولى، ولهذا قال ~~سعيد بن جبير: هو الرفيق الصالح (10) ، وقال زيد بن أسلم: هو جليسك في ~~الحضر، ورفيقك في السفر (11) ، وقال ابن زيد: هو الرجل يعتريك ويلم بك ~~لتنفعه (12) . وفي " المسند " والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: PageV01P382 # ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم ~~لجاره)) (1) . # الرابع: من هو وارد على الإنسان، غير مقيم عنده، وهو ابن السبيل يعني: ~~المسافر إذا ورد إلى بلد آخر (2) ، وفسره بعضهم بالضيف، يعني: به ابن ~~السبيل إذا نزل ضيفا (3) على أحد (4) . # والخامس: ملك اليمين، وقد وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم كثيرا ~~وأمر بالإحسان إليهم، وروي أن آخر ما وصى به عند موته: ((الصلاة وما ملكت ~~أيمانكم)) (5) ، وأدخل # بعض السلف ms193 في هذه الآية: ما يملكه الإنسان من الحيوانات والبهائم (6) . # ولنرجع إلى شرح (7) حديث أبي هريرة في إكرام الجار، وفي "الصحيحين" (8) ~~عن عائشة وابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما زال جبريل ~~يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) . # فمن أنواع الإحسان إلى الجار مواساته عند حاجته، وفي " المسند " (9) # عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يشبع المؤمن دون ~~جاره)) ، PageV01P383 # وخرج الحاكم من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)) (1) ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما آمن من بات شبعانا وجاره طاويا)) ~~(2) . # وفي " المسند " (3) عن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((أول خصمين يوم القيامة جاران)) . PageV01P384 # وفي كتاب " الأدب " (1) للبخاري عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة، فيقول: يا رب هذا أغلق ~~بابه دوني فمنع # معروفه)) . # وخرج الخرائطي (2) وغيره بإسناد ضعيف من حديث عطاء الخراساني، عن عمرو بن ~~شعيب، عن أبيه، عن، جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أغلق بابه ~~دون جاره مخافة على أهله وماله، فليس ذلك بمؤمن، وليس بمؤمن من لم يأمن ~~جاره بوائقه. أتدري ما حق الجار؟ إذا استعانك أعنته، وإذا استقرضك أقرضته، ~~وإذا افتقر، عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابه خير هنأته، وإذا أصابته ~~مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء، فتحجب عنه ~~الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت ~~فاكهة، فاهد له، فإن لم تفعل، فأدخلها سرا، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ~~ولده)) PageV01P385 # ورفع هذا الكلام منكر، ولعله من تفسير عطاء الخراساني. # وقد روي أيضا عن عطاء، عن الحسن، عن جابر مرفوعا: ((أدنى حق الجوار أن لا ~~تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقدح له منها)) (1) . # وفي " صحيح مسلم " (2) # عن أبي ذر قال: ((أوصاني خليلي - صلى ms194 الله عليه وسلم -: إذا طبخت مرقا، ~~فأكثر ماءه، ثم انظر إلى أهل (3) بيت جيرانك، فأصبهم منها بمعروف)) . وفي ~~رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أبا ذر إذا طبخت مرقة (4) ~~، فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك)) . # وفي " المسند " والترمذي (5) عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنه ذبح شاة، ~~فقال: هل أهديتم منها لجارنا اليهودي ثلاث مرات، ثم قال: سمعت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول: ((ما زال PageV01P386 # جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) . # وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره)) ، PageV01P387 # ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين ~~أكتافكم. # ومذهب الإمام أحمد أن الجار يلزمه أن يمكن جاره من وضع خشبه على جداره ~~إذا احتاج الجار إلى ذلك ولم يضر بجداره، لهذا الحديث الصحيح، # PageV01P389 # وظاهر كلامه أنه يجب عليه أن يواسيه من فضل ما عنده بما لا يضر به إذا ~~علم حاجته (1) . # قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إني أسمع السائل في الطريق يقول: إني ~~جائع، فقال: قد يصدق وقد يكذب. قلت: فإذا كان لي جار أعلم أنه يجوع؟ قال: ~~تواسيه، قلت: إذا كان قوتي رغيفين؟ قال: تطعمه شيئا، ثم قال: الذي جاء في ~~الحديث إنما هو الجار. # وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: الأغنياء يجب عليهم المواساة؟ قال: إذا ~~كان قوم يضعون شيئا على شيء كيف لا يجب عليهم، قلت: إذا كان للرجل قميصان، ~~أو قلت: جبتان، يجب عليه المواساة؟ قال: إذا كان يحتاج إلى أن يكون فضلا. # وهذا نص منه في وجوب المواساة من الفاضل، ولم يخصه بالجار، ونصه الأول ~~(2) يقتضي اختصاصه بالجار. # وقال في رواية ابن هانئ في السؤال يكذبون أحب إلينا لو صدقوا ما وسعنا ~~إلا مواساتهم، وهذا يدل على وجوب مواساة الجائع من الجيران، وغيرهم. # وفي " الصحيح " عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) (3) . # وفي " المسند ms195 " و" صحيح الحاكم " عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال # : ((أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع، فقد برئت منهم ذمة الله - عز وجل ~~-)) (4) . PageV01P390 # ومذهب أحمد ومالك أنه يمنع الجار أن يتصرف في خاص ملكه بما يضر # بجاره، فيجب عندهما كف الأذى عن الجار بمنع إحداث الانتفاع المضر به، ولو ~~كان المنتفع إنما ينتفع (1) بخاص ملكه، ويجب عند أحمد أن يبذل لجاره ما ~~يحتاج إليه، ولا ضرر عليه في بذله (2) ، وأعلى من هذين أن يصبر على أذى ~~جاره، ولا يقابله بالأذى. # قال الحسن: ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى، ~~ويروى من حديث أبي ذر يرفعه: ((إن الله يحب الرجل يكون له الجار يؤذيه ~~جواره، فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن)) خرجه الإمام أحمد (3) ~~. PageV01P391 # وفي مراسيل أبي عبد الرحمان الحبلي: أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - يشكو إليه جاره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كف أذاك ~~عنه، واصبر لأذاه، فكفى بالموت مفرقا)) خرجه ابن أبي الدنيا (1) . # الثالث مما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين: إكرام الضيف، ~~والمراد: إحسان ضيافته، وفي "الصحيحين" (2) # من حديث أبي شريح، قال: أبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ~~وسمعته أذناي حين تكلم به قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ~~ضيفه جائزته)) قالوا: وما جائزته؟ قال: ((يوم وليلة)) قال: ((والضيافة ~~ثلاثة أيام، وما كان بعد ذلك، فهو صدقة)) . # وخرج مسلم من حديث أبي شريح أيضا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، وما أنفق عليه بعد ذلك، فهو ~~صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه)) ، قالوا: يا رسول الله وكيف ~~يؤثمه؟ قال: ((يقيم عنده ولا شيء له PageV01P392 # يقريه به)) (1) . # وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: # ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) . قالها ثلاثا، قالوا: ~~وما كرامة ms196 الضيف يا رسول الله؟ قال: ((ثلاثة أيام، فما جلس بعد ذلك فهو ~~صدقة)) (2) . # ففي هذه الأحاديث أن جائزة الضيف يوم وليلة، وأن الضيافة ثلاثة أيام، ~~ففرق بين الجائزة والضيافة، وأكد الجائزة، وقد ورد في تأكيدها أحاديث أخر، ~~فخرج أبو داود (3) # من حديث المقدام بن (4) معدي كرب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((ليلة الضيف حق على كل مسلم، فمن أصبح بفنائه، فهو عليه دين، إن شاء ~~اقتضى، وإن شاء ترك)) . وخرجه ابن ماجه (5) ولفظه: ((ليلة الضيف حق على كل # مسلم)) . # وخرج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث المقدام، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال # : ((أيما رجل أضاف قوما، فأصبح الضيف محروما، فإن نصره حق على كل مسلم ~~حتى يأخذ بقرى ليلة من زرعه وماله)) (6) . PageV01P393 # وفي " الصحيحين " (1) عن عقبة بن عامر، قال: قلنا يا رسول الله، إنك ~~تبعثنا، فننزل بقوم لا يقرونا، فما ترى (2) ؟ فقال لنا رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، ~~فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم)) . # وخرج الإمام أحمد والحاكم من حديث أبي هريرة (3) ، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال # : ((أيما ضيف نزل بقوم، فأصبح الضيف محروما، فله أن يأخذ بقدر قراه، ولا ~~حرج عليه)) (4) . # وقال عبد الله بن عمرو: من لم يضف، فليس من محمد، ولا من إبراهيم. # وقال عبد الله (5) بن الحارث بن جزء: من لم يكرم ضيفه، فليس من محمد، ولا ~~من إبراهيم (6) . # وقال أبو هريرة لقوم نزل عليهم، فاستضافهم، فلم يضيفوه، فتنحى ونزل، ~~فدعاهم إلى طعامه، فلم يجيبوه، فقال لهم: لا تنزلون الضيف ولا تجيبون ~~الدعوة ما أنتم من PageV01P394 # الإسلام على شيء، فعرفه رجل منهم، فقال له: انزل عافاك الله، قال: هذا شر ~~وشر، لا تنزلون إلا من تعرفون. # وروي عن أبي الدرداء نحو هذه القضية إلا أنه قال لهم: ما أنتم من الدين ~~إلا على مثل هذه، وأشار إلى هدبة في ثوبه. # وهذه النصوص تدل (1) على وجوب الضيافة ms197 يوما وليلة، وهو قول الليث وأحمد ~~(2) ، وقال أحمد: له المطالبة بذلك إذا منعه؛ لأنه حق له واجب، وهل يأخذ ~~بيده من ماله إذا منعه، أو يرفعه إلى الحاكم؟ على روايتين منصوصتين عنه (3) ~~. # وقال حميد بن زنجويه: ليلة الضيف واجبة، وليس له أن يأخذ قراه منهم قهرا، ~~إلا أن يكون مسافرا في مصالح المسلمين العامة دون مصلحة نفسه. # وقال الليث بن سعد: لو نزل الضيف بالعبد أضافه من المال الذي بيده، ~~وللضيف أن يأكل، وإن لم يعلم أن سيده أذن له؛ لأن الضيافة واجبة (4) . وهو ~~قياس قول أحمد؛ لأنه نص على أنه يجوز إجابة دعوة العبد المأذون له في ~~التجارة وقد روي عن جماعة من الصحابة أنهم أجابوا دعوة المملوك، وروي ذلك ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا (5) ، فإذا جاز له أن يدعو الناس إلى ~~طعامه PageV01P395 # ابتداء وجاز إجابة دعوته، فإضافته لمن نزل به أولى. # ومنع مالك والشافعي وغيرهما من دعوة العبد المأذون له بدون إذن سيده (1) ~~، ونقل علي بن سعيد، عن أحمد ما يدل على وجوب الضيافة للغزاة خاصة بمن مروا ~~بهم ثلاثة أيام (2) ، والمشهور عنه الأول، وهو وجوبها لكل ضيف نزل بقوم. # واختلف قوله: هل تجب على أهل الأمصار والقرى أم تختص بأهل القرى ومن كان ~~على طريق يمر بهم المسافرون؟ على روايتين منصوصتين عنه (3) . # والمنصوص عنه: أنها تجب للمسلم والكافر، وخص كثير من أصحابه الوجوب ~~للمسلم، كما لا تجب نفقة الأقارب مع اختلاف الدين على إحدى الروايتين عنه ~~(4) . # وأما اليومان الآخران، وهما الثاني والثالث، فهما تمام الضيافة، والمنصوص ~~عن أحمد أنه لا يجب إلا الجائزة الأولى، وقال: قد فرق بين الجائزة ~~والضيافة، والجائزة أوكد، ومن أصحابنا من أوجب الضيافة ثلاثة أيام، منهم: ~~أبو بكر بن عبد العزيز، وابن أبي موسى، والآمدي، وما بعد الثلاث، فهو صدقة، ~~وظن بعض الناس أن الضيافة ثلاثة أيام (5) بعد اليوم والليلة الأولى، ورده ~~أحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فهو ~~صدقة)) (6) ، ولو كان كما ظن هذا لكان ms198 أربعة (7) . # قلت: ونظير هذا قوله تعالى: PageV01P396 # {قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في # يومين} إلى قوله: {وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام} (1) ~~والمراد: في تمام الأربعة. # وهذا الحديث الذي احتج به أحمد قد تقدم (2) من حديث أبي شريح، وخرجه ~~البخاري من حديث أبي هريرة (3) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن قرى ضيفه)) ، قيل: يا رسول الله، ~~وما قرى الضيف؟ قال: ((ثلاث، فما كان بعد فهو صدقة)) (4) . # قال حميد بن زنجويه: عليه أن يتكلف له في اليوم والليلة من الطعام أطيب ~~ما يأكله هو وعياله، وفي تمام الثلاث يطعمه من طعامه، وفي هذا نظر. وسنذكر ~~حديث سلمان بالنهي عن التكلف للضيف، ونقل أشهب عن مالك، قال: جائزته يوم ~~وليلة يكرمه ويتحفه ويخصه يوما وليلة وثلاثة أيام ضيافة (5) ، وكان ابن عمر ~~يمتنع من الأكل من مال من نزل عليه فوق ثلاثة أيام، ويأمر أن ينفق عليه من ~~ماله (6) . # ولصاحب المنزل أن يأمر الضيف بالتحول عنه بعد الثلاث؛ لأنه قضى ما # عليه، وفعل ذلك الإمام أحمد. PageV01P397 # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه)) ~~يعني: يقيم عنده حتى يضيق عليه، لكن هل هذا في الأيام الثلاثة أم فيما زاد ~~عليها؟ فأما فيما ليس بواجب، فلا شك في تحريمه، وأما في ما هو واجب وهو ~~اليوم والليلة فينبني على أنه هل تجب الضيافة على من لا يجد شيئا أم لا تجب ~~إلا على من وجد ما يضيف به؟ فإن قيل: إنها لا تجب إلا على من يجد ما يضيف ~~به - وهو قول طائفة من أهل الحديث، منهم: حميد بن زنجويه - لم يحل للضيف أن ~~يستضيف من هو عاجز عن ضيافته. وقد روي من حديث سلمان قال: ((نهانا رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتكلف للضيف (1) ما ليس عندنا)) (2) # فإذا نهي المضيف أن يتكلف للضيف ما ليس عنده دل على أنه لا تجب عليه ~~المواساة للضيف إلا مما عنده ms199، فإذا لم يكن عنده فضل لم يلزمه شيء، وأما إذا ~~آثر على نفسه، كما فعل الأنصاري (3) الذي نزل فيه # : PageV01P398 # {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} (1) فذلك مقام فضل # وإحسان، وليس بواجب. # ولو علم الضيف أنهم لا يضيفونه إلا بقوتهم وقوت صبيانهم، وأن الصبية ~~يتأذون بذلك، لم يجز له استضافتهم حينئذ عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((ولا يحل له أن يقيم عنده حتى يحرجه)) (2) . # وأيضا فالضيافة نفقة واجبة، فلا تجب إلا على من عنده فضل عن قوته وقوت ~~عياله، كنفقة الأقارب، وزكاة الفطر. وقد أنكر الخطابي تفسير تأثيمه بأن ~~يقيم عنده ولا شيء له يقريه، وقال: أراه غلطا، وكيف يأثم في ذلك وهو لا ~~يتسع لقراه، ولا يجد سبيلا إليه؟ وإنما الكلفة على قدر الطاقة، قال: وإنما ~~وجه الحديث أنه كره له المقام عنده بعد ثلاث لئلا يضيق صدره بمكانه، فتكون ~~الصدقة منه على وجه المن والأذى فيبطل أجره (3) ، وهذا الذي قاله فيه نظر؛ ~~فإنه قد صح تفسيره في الحديث بما أنكره، وإنما وجهه أنه إذا أقام عنده ~~ولاشيء له يقريه به، فربما دعاه ضيق صدره به، وحرجه إلى ما يأثم به في قول، ~~أو فعل، وليس المراد أنه يأثم بترك قراه مع عجزه عنه، والله أعلم. ~~PageV01P399 ### | الحديث السادس عشر # عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مرارا قال: ((لا تغضب)) . رواه البخاري ~~(1) . # هذا الحديث خرجه البخاري من طريق أبي حصين الأسدي (2) ، عن أبي صالح، عن ~~أبي هريرة، ولم يخرجه مسلم؛ لأن الأعمش رواه عن أبي صالح، واختلف عليه في ~~إسناده فقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، كقول أبي حصين، وقيل: عنه، ~~عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، وعند يحيى بن معين أن هذا هو الصحيح، ~~وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة وأبي سعيد (3) ، وقيل: عنه، عن أبي ~~صالح، عن أبي هريرة أو جابر، وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن رجل من ms200 الصحابة ~~غير مسمى. # وخرج الترمذي (4) هذا الحديث من طريق أبي حصين أيضا ولفظه: جاء رجل إلى ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله علمني شيئا ولا تكثر علي ~~لعلي أعيه، قال: ((لا تغضب)) ، فردد ذلك مرارا كل ذلك يقول: ((لا تغضب)) ~~وفي رواية أخرى (5) لغير الترمذي قال: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل ~~يدخلني الجنة ولا # تكثر علي، قال: ((لا تغضب)) . PageV01P401 # فهذا الرجل طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوصيه وصية وجيزة ~~جامعة لخصال الخير، ليحفظها عنه خشية أن لا يحفظها؛ لكثرتها، فوصاه النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أن لا يغضب، ثم ردد هذه المسألة عليه مرارا، والنبي - ~~صلى الله عليه وسلم - يردد عليه هذا الجواب، فهذا يدل على أن الغضب جماع ~~الشر، وأن التحرز منه جماع الخير (1) . # ولعل هذا الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أبو الدرداء، ~~فقد خرج الطبراني (2) من حديث أبي الدرداء قال: قلت: يا رسول الله دلني على ~~عمل يدخلني الجنة، قال: ((لا تغضب ولك الجنة)) . # وقد روى الأحنف بن قيس، عن عمه جارية (3) بن قدامة: أن رجلا قال: # يا رسول الله قل لي قولا، وأقلل علي لعلي أعقله، قال: ((لا تغضب)) ، ~~فأعاد عليه مرارا كل ذلك يقول: ((لا تغضب)) خرجه الإمام أحمد (4) ، وفي ~~رواية (5) # له # أن جارية بن قدامة قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره. # فهذا يغلب على الظن أن السائل هو جارية بن قدامة، ولكن ذكر الإمام أحمد ~~(6) PageV01P402 # عن يحيى القطان أنه قال: هكذا قال هشام، يعني: أن هشاما ذكر في الحديث أن ~~جارية سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال يحيى: وهم يقولون: لم يدرك ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا قال العجلي وغيره: إنه تابعي وليس ~~بصحابي. # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمان، عن رجل من ~~أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: ~~((لا # تغضب)) قال الرجل: ففكرت حين قال النبي ms201 - صلى الله عليه وسلم - ما قال، ~~فإذا الغضب يجمع الشر كله، ورواه مالك في " الموطأ " (2) عن الزهري، عن ~~حميد، مرسلا. # وخرج الإمام أحمد (3) من حديث عبد الله بن عمرو: أنه سأل النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: ماذا يباعدني من غضب الله - عز وجل -؟ قال: ((لا تغضب)) ~~. # وقول الصحابي: ففكرت فيما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا الغضب ~~يجمع الشر كله يشهد لما ذكرناه أن الغضب جماع الشر، قال جعفر بن محمد: ~~الغضب مفتاح كل شر. وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ~~ترك الغضب. # وكذا فسر الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه حسن الخلق بترك الغضب، ~~PageV01P403 # وقد روي ذلك مرفوعا، خرجه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " (1) من ~~حديث أبي العلاء بن الشخير: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ~~قبل وجهه، فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: ((حسن الخلق)) ثم أتاه ~~عن يمينه، فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: ((حسن الخلق)) ، ثم ~~أتاه عن شماله، فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: ((حسن الخلق)) ، ~~ثم أتاه من بعده، يعني: من خلفه، فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ فالتفت ~~إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مالك لا تفقه! حسن الخلق هو ~~أن لا تغضب إن استطعت)) . وهذا مرسل. # فقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن استوصاه: ((لا تغضب)) يحتمل أمرين: # أحدهما: أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم ~~والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال وكف الأذى، والصفح والعفو، وكظم ~~الغيظ، والطلاقة والبشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة، فإن النفس إذا تخلقت ~~بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. # والثاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك ~~على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان كالآمر ~~والناهي له (2) ، ولهذا المعنى قال الله - عز وجل -: {ولما سكت عن ms202 موسى ~~الغضب} (3) فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، ~~اندفع عنه شر الغضب، وربما سكن غضبه، وذهب عاجلا، فكأنه حينئذ لم يغضب، ~~PageV01P404 # وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في القرآن بقوله - عز وجل -: {وإذا ما ~~غضبوا هم يغفرون} (1) ، وبقوله - عز وجل -: {والكاظمين الغيظ والعافين عن ~~الناس والله يحب المحسنين} (2) . # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر من غضب بتعاطي أسباب تدفع عنه ~~الغضب، وتسكنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه، ففي " الصحيحين " (3) # عن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن ~~عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ ~~بالله من الشيطان الرجيم)) فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -؟ قال: إني لست بمجنون (4) . # وخرج الإمام أحمد (5) والترمذي (6) من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: ((ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم، ~~أفما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فمن أحس من ذلك شيئا فليلزق ~~بالأرض)) . PageV01P405 # وخرج الإمام أحمد (1) ، وأبو داود (2) من حديث أبي ذر: أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال # : ((إذا غضب أحدكم وهو قائم، فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) . # وقد قيل: إن المعنى في هذا أن القائم متهيئ، للانتقام والجالس دونه في ~~ذلك، والمضطجع أبعد عنه، فأمره بالتباعد عن حالة الانتقام (3) ، ويشهد لذلك ~~أنه روي من حديث سنان بن سعد، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~ومن حديث الحسن مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) قال: ((الغضب ~~جمرة في قلب الإنسان توقد، ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فإذا ~~أحس أحدكم من ذلك شيئا، فليجلس، ولا يعدونه الغضب)) (5) . # والمراد: أنه يحبسه في نفسه، ولا يعديه إلى غيره بالأذى بالفعل، ولهذا ~~المعنى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتن: ((إن المضطجع ms203 فيها خير ~~من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي ~~خير من الساعي)) (6) ، وإن كان هذا على وجه ضرب المثال في الإسراع في ~~الفتن، إلا أن المعنى: أن من كان أقرب إلى الإسراع فيها، فهو شر ممن كان ~~أبعد عن ذلك. # وخرج الإمام أحمد من حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((إذا غضب # أحدكم، فليسكت)) ، قالها ثلاثا (7) . # وهذا أيضا دواء عظيم للغضب؛ لأن الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ~~ما يندم عليه في حال زوال غضبه كثيرا من السباب وغيره مما يعظم ضرره، فإذا ~~سكت زال هذا الشر كله عنه، PageV01P406 # وما أحسن قول مورق العجلي - رحمه الله -: ما امتلأت غيضا قط ولا تكلمت في ~~غضب قط بما أندم عليه إذا رضيت (1) . وغضب يوما عمر بن عبد العزيز فقال له ~~ابنه: عبد الملك - رحمهما الله -: أنت يا أمير المؤمنين مع ما أعطاك الله ~~وفضلك به تغضب هذا الغضب؟ فقال له: أو ما تغضب يا عبد الملك؟ فقال عبد ~~الملك: وما يغني عني سعة جوفي إذا لم أردد فيه # الغضب حتى لا يظهر (2) ؟ فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب - رضي الله ~~عنهم -. # وخرج الإمام أحمد (3) ، وأبو داود (4) من حديث عروة بن محمد السعدي: أنه ~~كلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم قال: حدثني أبي عن جدي عطية، قال: قال ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق ~~من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)) . # وروى أبو نعيم (5) بإسناده عن أبي مسلم الخولاني: أنه كلم معاوية بشيء ~~وهو على المنبر، فغضب، ثم نزل فاغتسل، ثم عاد إلى المنبر، وقال: سمعت # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الغضب من الشيطان، والشيطان ~~من النار، والماء يطفئ النار، فإذا غضب أحدكم فليغتسل)) . # وفي " الصحيحين " (6) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)) . ~~PageV01P407 # وفي " صحيح مسلم ms204 " (1) عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((ما تعدون الصرعة فيكم؟)) قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: ((ليس ~~ذلك، ولكنه الذي يملك نفسه عند الغضب)) . # وخرج الإمام أحمد (2) ، وأبو داود (3) ، والترمذي (4) ، وابن ماجه (5) من ~~حديث معاذ بن أنس الجهني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من كظم ~~غيظا وهو يستطيع # أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور # شاء)) . # وخرج الإمام أحمد (6) # من حديث ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما تجرع عبد ~~جرعة أفضل عند الله من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه الله - عز وجل -)) ومن ~~حديث ابن عباس (7) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من جرعة ~~أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظم عبد لله إلا ملأ الله جوفه ~~إيمانا)) . PageV01P408 # وخرج أبو # داود (1) معناه من رواية بعض الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~وقال: ((ملأه الله أمنا وإيمانا (2)) ) . # وقال ميمون بن مهران: جاء رجل إلى سلمان، فقال: يا أبا عبد الله أوصني، ~~قال: لا تغضب، قال: أمرتني أن لا أغضب وإنه ليغشاني ما لا أملك، قال: فإن ~~غضبت، فاملك لسانك ويدك. خرجه ابن أبي الدنيا (3) ، وملك لسانه ويده هو ~~الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره لمن غضب أن يجلس، ~~ويضطجع وبأمره له أن يسكت (4) . # قال عمر بن عبد العزيز: قد أفلح من عصم من الهوى، والغضب، والطمع (5) . # وقال الحسن: أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان، وحرمه على النار: من ~~ملك نفسه عند الرغبة، والرهبة، والشهوة، والغضب (6) . # فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشر كله، فإن الرغبة في الشيء هي ~~ميل النفس إليه لاعتقاد نفعه، فمن حصل له رغبة في شيء، حملته تلك الرغبة ~~على طلب ذلك الشيء من كل وجه يظنه موصلا إليه (7) ، وقد يكون كثير منها ~~محرما، وقد يكون ذلك الشيء المرغوب فيه محرما. # والرهبة: هي الخوف من الشيء (8) ، وإذا خاف الإنسان ms205 من شيء تسبب في دفعه ~~عنه بكل طريق يظنه دافعا له، وقد يكون كثير منها محرما. PageV01P409 # والشهوة: هي ميل النفس إلى ما يلائمها، وتلتذ به (1) ، وقد تميل كثيرا ~~إلى ما هو محرم كالزنا والسرقة وشرب الخمر، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق ~~والبدع. # والغضب: هو غليان دم القلب طلبا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبا ~~للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه (2) ، وينشأ من ذلك كثير من ~~الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان، وكثير من الأقوال ~~المحرمة كالقذف والسب والفحش، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة ~~بن الأيهم (3) ، # وكالأيمان التي لا يجوز التزامها شرعا، وكطلاق الزوجة الذي يعقب الندم. # والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورة على طلب ما أباحه الله له، ~~وربما تناولها بنية صالحة، فأثيب عليها، وأن يكون غضبه دفعا للأذى في الدين ~~له أو لغيره وانتقاما ممن عصى الله ورسوله، كما قال تعالى: {قاتلوهم يعذبهم ~~الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم} ~~(4) . # وهذه كانت حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان لا ينتقم لنفسه، ~~ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء (5) ولم يضرب بيده خادما ولا ~~امرأة إلا أن يجاهد في سبيل الله (6) . وخدمه أنس عشر سنين، فما قال له: ~~((أف)) قط، ولا قال له لشيء فعله: ((لم فعلت كذا)) (7) ، # ولا لشيء لم يفعله: ((ألا فعلت كذا)) . PageV01P410 # وفي رواية أنه كان إذا لامه بعض أهله قال - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوه ~~فلو قضي شيء كان)) (1) . وفي رواية للطبراني (2) قال أنس: خدمت رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما دريت شيئا قط وافقه، ولا شيئا قط خالفه ~~رضي من الله بما كان. # وسئلت عائشة عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: كان خلقه ~~القرآن (3) ، PageV01P411 # تعني: أنه كان تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه ~~رضاه، # PageV01P412 # وما ذمه القرآن، كان فيه سخطه (1) ، وجاء في رواية عنها، قالت: كان خلقه ~~القرآن يرضى ms206 لرضاه ويسخط لسخطه (2) . # وكان - صلى الله عليه وسلم - لشدة حيائه لا يواجه أحدا بما يكره، بل تعرف ~~الكراهة في وجهه، كما في " الصحيح " (3) # عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من ~~العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئا يكرهه، عرفناه في وجهه، ولما بلغه ابن ~~مسعود قول القائل: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شق عليه - صلى الله عليه ~~وسلم -، وتغير وجهه، وغضب، ولم يزد على أن قال: ((قد أوذي موسى بأكثر من ~~هذا فصبر)) (4) . PageV01P413 # وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى، أو سمع ما يكرهه الله، غضب لذلك، ~~وقال فيه، ولم يسكت، وقد دخل بيت عائشة فرأى سترا فيه تصاوير، فتلون وجهه ~~وهتكه، وقال: ((إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يصورون هذه ~~الصور)) (1) . ولما شكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر ~~بعضهم عن الصلاة معه، غضب، واشتد غضبه، ووعظ الناس (2) ، وأمر بالتخفيف (3) ~~. PageV01P414 # ولما رأى النخامة في قبلة المسجد، تغيظ، وحكها، وقال: ((إن أحدكم إذا كان ~~في الصلاة، فإن الله حيال وجهه، فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة)) (1) . ~~PageV01P415 # وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك كلمة الحق في الغضب ~~والرضا)) (1) وهذا عزيز جدا، وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحق سواء غضب أو ~~رضي، فإن أكثر الناس إذا غضب لا يتوقف فيما يقول. PageV01P416 # وخرج الطبراني (1) من حديث أنس مرفوعا: ((ثلاث من أخلاق الإيمان: من إذا ~~غضب، لم يدخله غضبه في باطل، ومن إذا رضي، لم يخرجه رضاه من حق، ومن إذا ~~قدر، لم يتعاط ما ليس له)) . PageV01P417 # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنه أخبر عن رجلين ممن كان ~~قبلنا كان # أحدهما عابدا، وكان الآخر مسرفا على نفسه، فكان العابد (1) يعظه، # فلا ينتهي، فرآه يوما على ذنب استعظمه، فقال: والله لا يغفر الله لك، # فغفر الله للمذنب، وأحبط عمل العابد)) . وقال أبو هريرة: لقد تكلم # بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا # مثل ms207 هذه الكلمة (2) في غضب. وقد خرجه الإمام أحمد (3) # وأبو # داود (4) ، PageV01P418 # فهذا غضب لله، ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز، وحتم على الله بما ~~لا يعلم، فأحبط الله (1) عمله، فكيف بمن تكلم في غضبه لنفسه، ومتابعة هواه ~~بما لا يجوز. # وفي " صحيح مسلم " (2) عن عمران بن حصين: أنهم كانوا مع النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة، فضجرت، فلعنتها ~~فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((خذوا متاعها ودعوها)) . # وفيه أيضا عن جابر قال: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ~~غزوة ورجل من الأنصار على ناضح له، فتلدن عليه بعض التلدن، فقال له: سر، ~~لعنك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انزل عنه، فلا تصحبنا ~~بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على ~~أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء، فيستجيب لكم)) (3) . # فهذا كله يدل على أن دعاء الغضبان قد يجاب إذا صادف ساعة إجابة، وأنه ~~ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب. # وأما ما قاله مجاهد (4) في قوله تعالى: {ولو يعجل الله للناس الشر ~~استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} (5) ، قال: هو الواصل لأهله وولده ~~وماله إذا غضب عليه، قال: اللهم لا تبارك فيه، PageV01P419 # اللهم العنه، يقول: لو عجل له ذلك، لأهلك من دعا عليه، فأماته. فهذا يدل ~~على أنه لا يستجاب جميع ما يدعو به الغضبان على نفسه وأهله وماله، والحديث ~~دل على أنه قد يستجاب لمصادفته ساعة إجابة. # وأما ما روي عن الفضيل بن عياض قال: ثلاثة لا يلامون على غضب: الصائم ~~والمريض والمسافر، وعن الأحنف بن قيس قال: يوحي الله إلى الحافظين اللذين ~~مع ابن آدم: لا تكتبا على عبدي في ضجره شيئا، وعن أبي عمران الجوني قال: إن ~~المريض إذا جزع فأذنب، قال الملك الذي على اليمين للملك الذي على الشمال: ~~لا تكتب. خرجه ابن أبي الدنيا، فهذا كله لا يعرف له أصل صحيح من ms208 الشرع يدل ~~عليه، والأحاديث التي ذكرناها من قبل تدل على خلافه. # وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا غضبت فاسكت)) (1) يدل على أن ~~الغضبان مكلف في حال غضبه بالسكوت، فيكون حينئذ مؤاخذا بالكلام، وقد صح عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أمر من غضب أن يتلافى غضبه بما يسكنه من ~~أقوال وأفعال، PageV01P420 # وهذا هو عين التكليف له بقطع الغضب، فكيف يقال: إنه غير مكلف في حال غضبه ~~بما يصدر منه. # وقال عطاء بن أبي رباح: ما أبكى العلماء بكاء آخر العمر من غضبة يغضبها ~~أحدهم فتهدم عمل خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، ورب غضبة قد أقحمت ~~صاحبها مقحما ما استقاله. خرجه ابن أبي الدنيا. # ثم إن من قال من السلف: إن الغضبان إذا كان سبب غضبه مباحا، كالمرض، أو ~~السفر، أو طاعة كالصوم لا يلام عليه إنما مراده أنه لا إثم عليه إذا كان ~~مما يقع منه في حال الغضب كثيرا من كلام (1) يوجب تضجرا أو سبا ونحوه كما ~~قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا بشر أرضى كما يرضي البشر، وأغضب ~~كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته أو جلدته، فاجعلها له كفارة)) (2) . # فأما ما كان من كفر، أو ردة، أو قتل نفس، أو أخذ مال بغير حق ونحو ذلك، ~~فهذا لا يشك مسلم أنهم لم يريدوا أن الغضبان لا يؤاخذ به، وكذلك ما يقع من ~~الغضبان من طلاق وعتاق، أو يمين، فإنه يؤاخذ بذلك كله بغير خلاف (3) . وفي ~~" مسند الإمام أحمد " (4) # عن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنها راجعت زوجها، فغضب، فظاهر ~~منها، وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وضجر، وأنها جاءت إلى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه، فأنزل الله آية (5) ~~الظهار، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكفارة الظهار في قصة ~~طويلة، وخرجها ابن أبي حاتم (6) من وجه آخر، عن أبي العالية: أن خويلة غضب ~~زوجها فظاهر منها، فأتت النبي - صلى الله عليه ms209 وسلم -، فأخبرته بذلك، ~~وقالت: إنه لم يرد الطلاق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: PageV01P421 # ((ما أراك إلا حرمت عليه)) ، وذكر القصة بطولها، وفي آخرها، قال: فحول ~~الله الطلاق، فجعله ظهارا. # فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى ~~حينئذ أن الظهار طلاق، وقد قال: إنها حرمت عليه بذلك، يعني: لزمه الطلاق، ~~فلما جعله الله ظهارا مكفرا ألزمه بالكفارة، ولم يلغه. # وروى مجاهد عن ابن عباس: أن رجلا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثا وأنا ~~غضبان، فقال: إن ابن عباس لا يستطيع أن يحل لك ما حرم الله عليك، عصيت ربك ~~وحرمت عليك امرأتك. خرجه الجوزجاني والدارقطني (1) بإسناد على شرط مسلم. # وخرج القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب " أحكام القرآن " بإسناد صحيح عن ~~عائشة قالت: اللغو في الأيمان ما كان في المراء والهزل والمزاحة، والحديث ~~الذي لا يعقد عليه القلب، وأيمان الكفارة على كل يمين حلفت عليها على جد من ~~الأمر في غضب أو غيره: لتفعلن أو لتتركن، فذلك عقد الأيمان فيها الكفارة. ~~وكذا رواه ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وهذا من أصح ~~الأسانيد (2) ، وهذا يدل على أن الحديث المروي عنها مرفوعا: ((لا طلاق ولا ~~عتاق في إغلاق)) (3) # إما أنه غير صحيح، أو إن تفسيره بالغضب غير صحيح (4) . PageV01P422 # وقد صح عن غير (1) واحد من الصحابة أنهم أفتوا أن يمين الغضبان منعقدة ~~وفيها الكفارة (2) ، وما روي عن ابن عباس مما يخالف ذلك فلا يصح إسناده (3) ~~، قال الحسن: طلاق السنة أن يطلقها واحدة طاهرا من غير جماع، وهو بالخيار ~~ما بينه وبين أن تحيض ثلاث حيض، فإن بدا له أن يراجعها كان أملك بذلك، فإن ~~كان غضبان، ففي ثلاث حيض، أو في ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض ما يذهب غضبه. ~~وقال الحسن: لقد بين الله لئلا يندم أحد في طلاق كما أمره الله، خرجه ~~القاضي إسماعيل. # وقد جعل كثير من العلماء الكنايات مع الغضب كالصريح في أنه يقع بها ~~الطلاق ظاهرا؛ ولا ms210 يقبل تفسيرها مع الغضب بغير الطلاق، ومنهم من جعل الغضب ~~مع الكنايات كالنية، فأوقع بذلك الطلاق في الباطن أيضا، فكيف يجعل الغضب ~~مانعا من وقوع صريح الطلاق (4) . PageV01P423 ### | الحديث السابع عشر # عن أبي يعلى شداد بن أوس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن ~~الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم ~~فأحسنوا # الذبحة (1) ، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)) . رواه مسلم (2) . # هذا الحديث خرجه مسلم دون البخاري من رواية أبي قلابة، عن أبي الأشعث ~~الصنعاني، عن شداد بن أوس (3) ، وتركه البخاري؛ لأنه لم يخرج في " صحيحه " ~~لأبي الأشعث شيئا وهو شامي ثقة. وقد روي نحوه من حديث سمرة، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((إن الله - عز وجل - محسن فأحسنوا، فإذا قتل أحدكم، ~~فليكرم مقتوله، وإذا ذبح، فليحد شفرته، وليرح ذبيحته)) خرجه ابن عدي (4) . ~~PageV01P425 # وخرج الطبراني (1) # من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا حكمتم فاعدلوا، # وإذا قتلتم فأحسنوا، فإن الله محسن يحب المحسنين)) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) ، وفي ~~رواية لأبي إسحاق الفزاري في كتاب " السير " عن خالد، عن أبي قلابة، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) ، أو ~~قال: ((على كل خلق)) هكذا خرجها مرسلة، وبالشك في: ((كل شيء)) ، أو: ((كل ~~خلق)) ، وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان، فيكون كل شيء، أو كل ~~مخلوق هو المكتوب عليه، والمكتوب هو الإحسان (2) . # وقيل: إن المعنى: أن الله كتب الإحسان إلى كل شيء، أو في كل شيء، أو كتب ~~الإحسان في الولاية على كل شيء، فيكون المكتوب عليه غير مذكور، وإنما ~~المذكور المحسن إليه (3) . # ولفظ: ((الكتابة)) يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافا # لبعضهم، وإنما يعرف (4) استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم ~~إما شرعا، كقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (5) ، ~~وقوله: {كتب عليكم الصيام} (6) ، {كتب عليكم القتال} (7) ، أو فيما هو واقع ms211 # قدرا لا محالة، كقوله: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} (8) ، وقوله: {ولقد # كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (9) ، ~~وقوله # : {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (10) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- في قيام شهر رمضان # : ((إني خشيت أن يكتب عليكم)) (11) ، PageV01P426 # وقال: ((أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي)) (1) ، وقال: ((كتب على ابن ~~آدم حظه من الزنى، فهو مدرك ذلك لا محالة)) (2) . # وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان، وقد أمر الله تعالى به، # فقال: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} (3) ، وقال: {وأحسنوا إن الله يحب ~~المحسنين} (4) . PageV01P427 # وهذا الأمر (1) بالإحسان تارة يكون للوجوب كالإحسان إلى الوالدين ~~والأرحام بمقدار ما يحصل به البر والصلة والإحسان إلى الضيف بقدر ما يحصل ~~به قراه على ما سبق ذكره. # وتارة يكون للندب كصدقة التطوع ونحوها (2) . # وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال، لكن إحسان كل ~~شيء بحسبه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنة: الإتيان بها ~~على وجه كمال واجباتها، فهذا القدر من الإحسان فيها واجب، وأما الإحسان ~~فيها بإكمال مستحباتها فليس بواجب. # والإحسان في ترك المحرمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها، كما # قال تعالى: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} (3) . فهذا القدر من الإحسان فيها # واجب (4) . # وأما الإحسان في الصبر على المقدورات، فأن يأتي بالصبر عليها على وجهه من ~~غير تسخط ولا جزع. # والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب الله من ~~حقوق ذلك كله، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم، القيام بواجبات ~~الولاية كلها، والقدر الزائد على الواجب في ذلك كله إحسان ليس بواجب. # والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب: إزهاق نفسه على أسرع ~~الوجوه وأسهلها وأوحاها من غير زيادة في التعذيب، فإنه إيلام لا حاجة إليه. ~~PageV01P428 # وهذا النوع هو الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، ~~ولعله ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: ((إذا ~~قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)) والقتلة والذبحة ~~بالكسر، أي ms212: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل. وهذا يدل ~~على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه (1) . ~~وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة (2) ، وأسهل وجوه (3) ~~قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حق الكفار: {فإذا ~~لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} (4) ، وقال تعالى: {سألقي في قلوب الذين ~~كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق} (5) . وقد قيل: إنه عين الموضع الذي يكون ~~الضرب فيه أسهل على المقتول وهو فوق العظام دون الدماغ، ووصى دريد بن الصمة ~~قاتله أن يقتله كذلك. # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية تغزوا في سبيل الله قال ~~لهم: ((لا تمثلوا ولا تقتلوا # وليدا)) (6) . PageV01P429 # وخرج أبو داود، وابن ماجه من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال # : ((أعف # PageV01P430 # الناس قتلة أهل الإيمان)) (1) . # وخرج أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين وسمرة بن جندب: أن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - كان ينهى عن المثلة (2) . PageV01P431 # وخرجه البخاري (1) من حديث عبد الله بن يزيد، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه: نهى عن # المثلة (2) . # وخرج الإمام أحمد من حديث يعلى بن مرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~((قال الله تعالى: لا تمثلوا بعبادي (3)) ) (4) . PageV01P432 # وخرج أيضا من حديث رجل من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من مثل بذي روح، ثم لم يتب مثل الله به يوم القيامة)) (1) . # واعلم أن القتل المباح يقع على وجهين: PageV01P433 # أحدهما أن يكون قصاصا، فلا يجوز التمثيل فيه بالمقتص منه، بل يقتل كما ~~قتل، فإن كان قد مثل بالمقتول، فهل يمثل به كما فعل أم لا يقتل إلا بالسيف؟ ~~فيه قولان مشهوران للعلماء: # أحدهما (1) : أنه يفعل به كما فعل، وهو قول مالك والشافعي (2) وأحمد في ~~المشهور عنه (3) ، وفي " الصحيحين " (4) عن أنس قال: خرجت جارية عليها ~~أوضاح بالمدينة، فرماها يهودي بحجر، فجيء بها إلى رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - وبها رمق، فقال لها # رسول الله - صلى الله عليه وسلم ms213 -: ((فلان قتلك؟)) فرفعت رأسها، فقال لها ~~في الثالثة: ((فلان قتلك؟)) فخفضت رأسها، فدعا به رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -، فرضخ رأسه بين الحجرين. وفي رواية لهما: فأخذ فاعترف، ~~PageV01P434 # وفي رواية لمسلم: أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ~~ثم ألقاها في القليب، ورضخ رأسها بالحجارة، فأخذ، فأتي به النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات (1) . PageV01P437 # والقول الثاني: لا قود إلا بالسيف، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة، ورواية ~~عن # أحمد (1) . # وعن أحمد رواية ثالثة: يفعل به كما فعل إلا أن يكون حرقه بالنار أو مثل ~~به، فيقتل بالسيف للنهي عن المثلة وعن التحريق بالنار نقلها عنه الأثرم (2) ~~، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا قود إلا بالسيف)) ~~خرجه ابن ماجه وإسناده ضعيف (3) ، # قال أحمد: يروى: ((لا قود إلا بالسيف)) وليس إسناده بجيد (4) ، وحديث ~~أنس، يعني: في قتل اليهودي بالحجارة أسند منه وأجود (5) . # ولو مثل به، ثم قتله مثل أن قطع أطرافه، ثم قتله، فهل يكتفى بقتله أم ~~يصنع به كما صنع، فتقطع أطرافه ثم يقتل؟ على قولين: # أحدهما: يفعل به كما فعل سواء، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى ~~الروايتين وإسحاق وغيرهم (6) . # والثاني: يكتفى بقتله، وهو قول الثوري وأحمد في رواية وأبي يوسف ومحمد ~~(7) ، وقال مالك: إن فعل به ذلك على سبيل التمثيل والتعذيب، فعل به كما ~~فعل، وإن لم يكن على هذا الوجه اكتفي بقتله (8) . PageV01P438 # الوجه الثاني: أن يكون القتل (1) للكفر، إما لكفر أصلي، أو لردة عن ~~الإسلام، فأكثر العلماء على كراهة المثلة فيه أيضا، وأنه يقتل فيه بالسيف، ~~وقد روي عن طائفة من السلف جواز التمثيل فيه بالتحريق بالنار وغير ذلك، كما ~~فعله خالد بن الوليد وغيره (2) . # وروي عن أبي بكر: أنه حرق الفجاءة بالنار (3) . # وروي أن أم قرفة الفزارية ارتدت في عهد أبي بكر الصديق، فأمر بها، فشدت ~~ذوائبها في أذناب قلوصين أو فرسين، ثم صاح بهما فتقطعت المرأة، وأسانيد هذه ms214 ~~القصة منقطعة. وقد ذكر ابن سعد في " طبقاته " بغير إسناد: أن زيد بن حارثة ~~قتلها هذه القتلة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - بذلك (4) . # وصح عن علي أنه حرق المرتدين، وأنكر ذلك ابن عباس عليه (5) ، وقيل: إنه ~~لم # يحرقهم، وإنما دخن عليهم حتى ماتوا (6) ، وقيل: إنه قتلهم، ثم حرقهم، ولا ~~يصح ذلك. وروي عنه أنه جيء بمرتد، فأمر به فوطئ بالأرجل حتى مات. # واختار ابن عقيل - من أصحابنا - جواز القتل بالتمثيل للكفر لاسيما إذا ~~تغلظ، PageV01P439 # وحمل النهي عن المثلة على القتل بالقصاص، واستدل من أجاز ذلك بحديث ~~العرنيين، وقد خرجاه في " الصحيحين " من حديث أنس: أن أناسا من عرينة قدموا ~~على # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجتووها، فقال لهم رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -: ((إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة، فتشربوا من ~~ألبانها وأبوالها، فافعلوا)) ففعلوا فصحوا، ثم مالوا على الرعاء، فقتلوهم، ~~وارتدوا عن الإسلام، وساقوا ذود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ~~ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبعث في أثرهم، فأتي بهم، فقطع أيديهم ~~وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا (1) ، وفي رواية: ثم ~~نبذوا في الشمس حتى ماتوا (2) ، وفي رواية: وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة ~~(3) يستسقون فلا يسقون (4) ، PageV01P440 # وفي رواية للترمذي: قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف (1) ، وفي رواية للنسائي: ~~وصلبهم (2) . # وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء، فمنهم من قال: من فعل مثل فعلهم # فارتد، وحارب، وأخذ المال، صنع به كما صنع بهؤلاء، وروي هذا عن طائفة، ~~منهم: أبو قلابة (3) ، وهو رواية عن أحمد. # ومنهم من قال: بل PageV01P444 # هذا يدل على جواز التمثيل بمن تغلظت جرائمه في # الجملة، وإنما نهي عن التمثيل في القصاص، وهو قول ابن عقيل من # أصحابنا. # ومنهم من قال: بل نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المثلة (1) . # ومنهم من قال: كان قبل نزول الحدود وآية المحاربة (2) ، ثم نسخ بذلك (3) ~~، وهذا قول جماعة منهم: الأوزاعي وأبو عبيد. # ومنهم من قال ms215: بل ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم إنما كان ~~بآية المحاربة، ولم ينسخ شيء من ذلك، وقالوا: إنما قتلهم النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، وقطع أيديهم؛ لأنهم أخذوا المال، ومن أخذ المال وقتل (4) ، ~~قطع وقتل، وصلب حتما، فيقتل لقتله (5) ويقطع لأخذه المال يده ورجله من ~~خلاف، ويصلب لجمعه (6) بين الجنايتين وهما: القتل وأخذ المال، وهذا قول ~~الحسن، ورواية عن أحمد (7) . # وإنما سمل أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة كذا خرجه مسلم من حديث أنس ~~(8) ، # وذكر ابن شهاب أنهم قتلوا الراعي (9) ، ومثلوا به (10) ، وذكر ابن سعد ~~أنهم قطعوا يده ورجله، وغرسوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات (11) ، وحينئذ ~~فقد يكون قطعهم، وسمل أعينهم، وتعطيشهم قصاصا (12) ، وهذا يتخرج على قول من ~~يقول: إن المحارب إذا جنى جناية توجب القصاص استوفيت منه قبل قتله، وهو ~~مذهب أحمد. لكن هل يستوفى (13) منه تحتما كقتله أم على وجه القصاص، فيسقط ~~بعفو الولي؟ # على روايتين عنه (14) ، ولكن رواية الترمذي أن قطعهم من خلاف يدل على أن # قطعهم للمحاربة إلا أن يكونوا قد قطعوا يد الراعي ورجله من خلاف، والله # أعلم (15) . PageV01P445 # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان أذن في التحريق بالنار ~~(1) ، ثم نهى عنه كما في # " صحيح البخاري " (2) عن أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - في بعث (3) # فقال: ((إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش - فاحرقوهما بالنار)) ، # ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: ((إني كنت ~~أمرتكم أن تحرقوا فلانا # وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما ~~فاقتلوهما)) . # وفيه أيضا عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ~~تعذبوا بعذاب الله - عز وجل -)) (4) . # وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن مسعود قال: كنا مع ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمررنا بقرية نمل قد أحرقت، فغضب النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إنه لا ينبغي لبشر أن يعذب بعذاب الله - عز ~~وجل -)) (5) . # وقد حرق خالد جماعة ms216 في الردة (6) ، وروي عن طائفة من الصحابة تحريق من ~~عمل عمل قوم لوط (7) ، وروي عن علي أنه أشار على أبي بكر أن يقتله ثم يحرقه # بالنار (8) ، واستحسن ذلك إسحاق بن راهويه (9) لئلا يكون تعذيبا بالنار ~~(10) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (11) : أن عليا لما ضربه ابن ملجم، قال: افعلوا ~~به كما أراد رسول PageV01P446 # الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل برجل أراد قتله، قال: ((اقتلوه ثم ~~حرقوه)) . # وأكثر العلماء على كراهة التحريق بالنار حتى للهوام، وقال إبراهيم ~~النخعي: تحريق العقرب بالنار مثلة. ونهت أم الدرداء عن تحريق البرغوث ~~بالنار. وقال أحمد: لا يشوى السمك في النار وهو حي، وقال: الجراد أهون؛ ~~لأنه لا دم له (1) . # وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن صبر البهائم، وهو: ~~أن تحبس البهيمة، ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت (2) . ففي " الصحيحين " ~~(3) عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تصبر البهائم. # وفيهما أيضا عن ابن عمر: أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها، فقال ابن عمر: ~~من فعل هذا؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من فعل هذا (4) . # وخرج مسلم من حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى ~~أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا (5) ، # والغرض: هو الذي يرمى فيه بالسهام (6) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (7) عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - نهى عن الرمية: أن ترمى الدابة ثم تؤكل ولكن تذبح، ثم يرموا (8) إن ~~شاؤوا. PageV01P447 # وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة. # فلهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإحسان القتل والذبح، وأمر أن ~~تحد الشفرة، وأن تراح الذبيحة، يشير إلى أن الذبح بالآلة الحادة يريح ~~الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها (1) . # وخرج الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عمر، قال: أمر رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - بحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: ((إذا ذبح ~~أحدكم، فليجهز)) (2) يعني: # فليسرع الذبح (3) . # وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها، وخرج ابن ماجه (4) من حديث أبي ~~سعيد الخدري ms217 قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل وهو يجر شاة ~~بأذنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دع أذنها وخذ بسالفتها)) ~~والسالفة: مقدم العنق (5) . # وخرج الخلال والطبراني من حديث عكرمة، عن ابن عباس قال: مر رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - برجل واضع رجله على صفحة شاة وهو يحد شفرته وهي تلحظ ~~إليه ببصرها، فقال: ((أفلا قبل هذا؟ تريد أن تميتها موتتان (6) ؟)) (7) . ~~وقد روي عن عكرمة مرسلا خرجه عبد الرزاق (8) وغيره، وفيه زيادة: ((هلا حددت ~~شفرتك قبل أن تضجعها)) . # وقال الإمام أحمد: تقاد إلى الذبح قودا رفيقا، وتوارى السكين عنها، ولا ~~تظهر السكين إلا عند الذبح، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك: أن ~~توارى الشفار (9) . PageV01P448 # وقال: ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنها تعرف ربها، وتعرف أنها تموت. ~~وقال: يروى عن ابن سابط أنه قال: إن البهائم جبلت على كل شيء إلا على أنها ~~تعرف ربها، وتخاف الموت. # وقد ورد الأمر بقطع الأوداج عند الذبح، كما خرجه أبو داود من حديث عكرمة، ~~عن ابن عباس، وأبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن ~~شريطة الشيطان، وهي التي تذبح فتقطع الجلد، ولا تفري الأوداج، وخرجه ابن ~~حبان في " صحيحه " وعنده: قال عكرمة: كانوا يقطعون منها الشيء اليسير، ثم ~~يدعونها حتى تموت، ولا يقطعون الودج، فنهى عن ذلك (1) . # وروى عبد الرزاق في " كتابه " (2) عن محمد بن راشد، عن الوضين بن عطاء، ~~قال: إن جزارا فتح بابا على شاة ليذبحها فانفلتت منه حتى جاءت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فاتبعها، فأخذ يسحبها برجلها، فقال لها النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((اصبري لأمر الله، وأنت يا جزار فسقها إلى الموت سوقا ~~رفيقا)) . # وبإسناده عن ابن سيرين: أن عمر رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال ~~له: ويلك قدها إلى الموت (3) قودا جميلا (4) . # وروى محمد بن زياد: أن ابن عمر رأى قصابا يجر شاة، فقال: سقها إلى الموت ~~سوقا جميلا، فأخرج القصاب شفرة، فقال: ما أسوقها سوقا ms218 جميلا وأنا أريد أن ~~أذبحها الساعة، فقال: سقها سوقا جميلا (5) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (6) عن معاوية بن قرة، عن أبيه: أن رجلا قال ~~للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، ~~فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والشاة إن رحمتها PageV01P449 # رحمك الله)) . # وقال مطرف بن عبد الله: إن الله ليرحم برحمة العصفور (1) . # وقال نوف البكالي: إن رجلا ذبح عجولا (2) له بين يدي أمه، فخبل، فبينما ~~هو تحت شجرة فيها وكر فيه فرخ، فوقع الفرخ إلى الأرض، فرحمه فأعاده في ~~مكانه، فرد الله إليه قوته (3) . # وقد روي من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن توله ~~والدة عن ولدها، وهو # عام في بني آدم وغيرهم (4) . # وفي " سنن أبي داود " (5) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ~~الفرع، فقال: ((هو حق وإن تتركوه حتى يكون بكرا ابن مخاض، أو ابن لبون، ~~فتعطيه أرملة، أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلصق لحمه ~~بوبره، وتكفئ إناءك وتوله ناقتك)) . PageV01P450 # والمعنى: أن ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عند ولادته لم ينتفع بلحمه، ~~وتضرر صاحبه بانقطاع لبن ناقته، فتكفئ إناه وهو المحلب الذي تحلب فيه ~~الناقة، وتوله الناقة على ولدها بفقدها إياه (1) . PageV01P451 ### | الحديث الثامن عشر: # عن أبي ذر ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: # ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق # حسن)) . # رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح. # هذا الحديث خرجه الترمذي (1) (2) من رواية سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ~~ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذر، وخرجه أيضا بهذا الإسناد عن ميمون، ~~عن معاذ (3) ، وذكر عن شيخه محمود بن غيلان أنه قال: حديث أبي ذر أصح (4) . # فهذا الحديث قد اختلف في إسناده وقيل فيه: عن حبيب (5) ، عن ميمون: أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى بذلك، مرسلا، ورجح الدارقطني هذا المرسل ~~(6) . # وقد حسن ms219 الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه (7) ، # فبعيد، ولكن الحاكم خرجه، وقال: صحيح على شرط الشيخين (8) ، وهو وهم من ~~وجهين: # أحدهما: أن ميمون بن أبي شبيب، ويقال: ابن شبيب لم يخرج له البخاري في " ~~صحيحه " شيئا، ولا مسلم إلا في مقدمة كتابه حديثا عن المغيرة بن شعبة (9) . # والثاني: أن ميمون بن أبي شبيب لم يصح سماعه من أحد من الصحابة، قال ~~الفلاس (10) : ليس في شيء من رواياته عن الصحابة: ((سمعت)) ، ولم أخبر أن ~~أحدا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (11) . وقال أبو ~~حاتم الرازي: روايته عن أبي ذر وعائشة غير متصلة (12) . PageV02P465 # وقال أبو داود: لم يدرك عائشة (1) ، ولم ير عليا (2) ، وحينئذ فلم يدرك ~~معاذا بطريق الأولى. # ورأي البخاري وشيخه علي بن المديني، وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم أن ~~الحديث لا يتصل إلا بصحة اللقي، وكلام الإمام أحمد يدل على ذلك، ونص عليه ~~الشافعي في " الرسالة " (3) وهذا كله خلاف رأي مسلم - رحمه الله - (4) . # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وصى بهذه الوصية معاذا وأبا ~~ذر من وجوه أخر، فخرج البزار (5) من حديث ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن أبي ~~الطفيل، عن معاذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى قوم، فقال: يا ~~رسول الله أوصني، فقال (6) : ((أفش السلام، وابذل الطعام، واستحي من الله ~~استحياء رجل ذا هيئة من أهلك، وإذا أسأت فأحسن، وليحسن خلقك ما استطعت)) . # وخرج الطبراني والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن معاذ ابن ~~جبل أراد سفرا، فقال: يا رسول الله أوصني، قال: ((اعبد الله، ولا تشرك به ~~شيئا)) قال: يا رسول الله زدني، قال: ((إذا أسأت فأحسن)) ، قال: # يا رسول الله زدني، قال: ((استقم ولتحسن خلقك)) (7) . # وخرج الإمام أحمد (8) من حديث دراج، عن أبي الهيثم (9) ، عن أبي ذر: أن ~~رسول الله PageV02P466 # - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، ~~وإذا أسأت فأحسن، ولا تسألن أحدا شيئا وإن سقط ms220 سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا ~~تقض بين اثنين)) . # وخرج أيضا من حديث آخر عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله علمني عملا ~~يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: ((إذا عملت سيئة، فاعمل حسنة، ~~فإنها عشر أمثالها)) قال: قلت: يا رسول الله، أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ ~~قال: ((هي أحسن الحسنات)) (1) . # وخرج ابن عبد البر في " التمهيد " (2) بإسناد فيه نظر عن أنس قال: بعث ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن، فقال: ((يا معاذ اتق الله، ~~وخالق الناس بخلق حسن، وإذا عملت سيئة، فأتبعها حسنة)) فقال: قلت: يا رسول ~~الله لا إله إلا الله من الحسنات؟ قال: ((هي من أكبر الحسنات)) . وقد رويت ~~وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ من حديث ابن عمر وغيره بسياق مطول ~~من وجوه فيها ضعف. PageV02P467 # ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه سئل: ما أكثر (1) ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) ~~خرجه الإمام أحمد وابن # ماجه والترمذي وصححه، وابن حبان في " صحيحه " (2) . # فهذه الوصية وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق عباده، فإن حق الله على ~~عباده أن يتقوه حق تقاته، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين. قال تعالى: ~~{ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} (3) . # وأصل التقوى (4) : أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه ~~منه، فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه ~~وعقابه وقاية تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه. PageV02P468 # وتارة تضاف التقوى إلى اسم الله - عز وجل - (1) ، كقوله تعالى: {واتقوا ~~الله الذي إليه تحشرون} (2) ، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ~~ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} (3) ، فإذا ~~أضيفت التقوى إليه - سبحانه وتعالى -، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ~~ما يتقى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي، قال تعالى: {ويحذركم الله ~~نفسه} (4) ، وقال تعالى: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة ms221} (5) ، فهو سبحانه ~~أهل أن يخشى ويهاب ويجل ويعظم في صدور عباده حتى يعبدوه ويطيعوه، لما ~~يستحقه من الإجلال والإكرام، وصفات الكبرياء والعظمة وقوة البطش، وشدة ~~البأس. وفي الترمذي (6) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه ~~الآية {هو أهل التقوى وأهل المغفرة} قال: ((قال الله تعالى: أنا أهل أن ~~أتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر، فأنا أهل أن أغفر له)) . # وتارة تضاف التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه، كالنار، أو إلى زمانه، كيوم ~~القيامة، كما قال تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} (7) ، وقال ~~تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (8) ، ~~وقال تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله} (9) ، وقال تعالى: {واتقوا ~~الله الذي إليه تحشرون} (10) ، {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا} (11) ~~. PageV02P469 # ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات، وترك المحرمات والشبهات، وربما ~~دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات، وترك المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى ~~(1) ، قال الله تعالى: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين ~~يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل # إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} (2) . # وقال تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب ~~والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ~~والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ~~والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم # المتقون} (3) . # قال معاذ بن جبل: ينادى (4) يوم القيامة: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من ~~الرحمان لا يحتجب منهم ولا يستتر، قالوا له: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا ~~الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة (5) . # وقال ابن عباس: المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من ~~الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به (6) . # وقال الحسن: المتقون اتقوا ما حرم عليهم، وأدوا ما افترض عليهم (7) . # وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، ~~والتخليط فيما بين ذلك، ولكن ms222 تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض ~~الله، # فمن رزق بعد ذلك خيرا، فهو خير (8) إلى خير (9) . # وقال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ~~ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله (10) . ~~PageV02P470 # وعن أبي الدرداء قال: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال # ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه ~~وبين الحرام (1) ، فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال: {فمن ~~يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (2) ، فلا تحقرن شيئا ~~من الخير أن تفعله، ولا شيئا من الشر أن تتقيه. # وقال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة ~~الحرام (3) . # وقال الثوري: إنما سموا متقين؛ لأنهم اتقوا ما لا يتقى (4) . # وقال موسى بن أعين: المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في ~~الحرام، فسماهم الله متقين. # وقد سبق حديث: ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس # به حذرا مما به بأس)) (5) . وحديث: ((من اتقى الشبهات استبرأ لدينه # وعرضه)) (6) . # وقال ميمون بن مهران: المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه ~~(7) . # وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} (8) ، قال: أن يطاع ~~فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. وخرجه الحاكم مرفوعا ~~والموقوف أصح (9) ، وشكره يدخل فيه جميع فعل الطاعات. # ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته ~~وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها. PageV02P471 # وقد يغلب استعمال التقوى على اجتناب المحرمات كما قال أبو هريرة وسئل عن ~~التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا ~~رأيت الشوك عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك # التقوى (1) . وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال: # خل الذنوب صغيرها ... وكبيرها فهو التقى # واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك ms223 يحذر ما يرى # لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى # وأصل التقوى: أن يعلم العبد ما يتقى ثم يتقي، قال عون بن عبد الله: تمام ~~التقوى أن تبتغي علم ما لم يعلم منها إلى ما علم منها (2) . # وذكر معروف الكرخي (3) عن بكر بن خنيس، قال: كيف يكون متقيا من لا يدري ~~ما يتقي؟ ثم قال معروف: إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن ~~تتقي لقيتك امرأة فلم تغض بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على ~~عاتقك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمحمد بن مسلمة: ((إذا رأيت ~~أمتي قد اختلفت، فاعمد PageV02P472 # إلى سيفك فاضرب به أحدا (1)) ) (2) ، ثم قال معروف: ومجلسي هذا لعله كان ~~ينبغي لنا أن نتقيه، ثم قال: ومجيئكم معي من المسجد إلى هاهنا كان ينبغي ~~لنا أن نتقيه، أليس جاء في الحديث: ((إنه فتنة للمتبوع مذلة # للتابع؟)) (3) يعني: مشي الناس خلف الرجل (4) . # وفي الجملة، فالتقوى: هي وصية الله لجميع خلقه، ووصية رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - لأمته، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرا على ~~سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا (5) . # ولما خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم النحر وصى ~~الناس بتقوى الله PageV02P473 # وبالسمع والطاعة لأئمتهم (1) . # ولما وعظ الناس، وقالوا له: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: # ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة)) (2) . # وفي حديث أبي ذر الطويل الذي خرجه ابن حبان وغيره: قلت: # يا رسول الله أوصني، قال: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله)) (3) ~~. # وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قلت: يا رسول الله ~~أوصني، قال: ((أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه ~~رهبانية الإسلام)) (4) ، وخرجه غيره ولفظه: قال: ((عليك بتقوى الله فإنها ~~جماع كل خير)) . # وفي الترمذي (5) عن يزيد بن سلمة: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~فقال: يا رسول الله إني PageV02P474 # سمعت منك حديثا كثيرا فأخاف أن ينسيني أوله ms224 آخره، فحدثني بكلمة تكون ~~جماعا، قال: ((اتق الله فيما تعلم)) . # ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ~~يقول في خطبته: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو ~~أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة، فإن الله - عز ~~وجل - أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ~~ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين} (1) (2) . # ولما حضرته الوفاة، وعهد إلى عمر، دعاه، فوصاه بوصية، وأول ما قال له: ~~اتق الله يا عمر (3) . # وكتب عمر إلى ابنه عبد الله: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله - عز وجل -، ~~فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، فاجعل التقوى نصب ~~عينيك وجلاء قلبك. # واستعمل علي بن أبي طالب رجلا على سرية، فقال له: أوصيك بتقوى الله الذي ~~لابد لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة (4) . # وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله - عز وجل - التي لا ~~يقبل # غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، ~~والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين (5) . # ولما ولي خطب، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أوصيكم بتقوى الله - عز وجل ~~-، PageV02P475 # فإن تقوى الله - عز وجل - خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف (1) . # وقال رجل ليونس بن عبيد: أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله والإحسان، فإن ~~الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. # وقال له رجل يريد الحج: أوصني، فقال له: اتق الله، فمن اتقى الله، فلا ~~وحشة عليه. # وقيل لرجل (2) من التابعين عند موته: أوصنا، فقال: أوصيكم بخاتمة سورة ~~النحل: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} (3) . # وكتب رجل من السلف إلى أخ له: أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، ~~وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك عليها، وأوجب لنا ولك ~~ثوابها. # وكتب رجل منهم إلى أخ له: أوصيك وأنفسنا بالتقوى، فإنها خير زاد الآخرة ~~والأولى، واجعلها ms225 إلى كل خير سبيلك، ومن كل شر مهربك، فقد توكل الله - عز ~~وجل - لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون. # وقال شعبة: كنت إذا أردت الخروج، قلت للحكم: ألك حاجة، فقال أوصيك بما ~~أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل: ((اتق الله حيثما كنت، ~~وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) (4) . وقد ثبت عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقول في دعائه: ((اللهم إني أسألك الهدى ~~PageV02P476 # والتقى والعفة والغنى)) (1) . # وقال أبو ذر: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {ومن يتق ~~الله يجعل # له مخرجا} (2) ، ثم قال: ((يا أبا ذر لو أن الناس كلهم (3) أخذوا بها # لكفتهم)) (4) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتق الله حيثما كنت)) مراده في السر ~~والعلانية حيث يراه الناس وحيث لا يرونه، وقد ذكرنا من حديث أبي ذر: أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((أوصيك بتقوى الله في سر أمرك ~~وعلانيته (5)) ) (6) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: ~~((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)) (7) وخشية الله في الغيب والشهادة هي من # المنجيات. PageV02P477 # وقد سبق من حديث أبي الطفيل، عن معاذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال له: ((استحي من الله استحياء رجل ذي هيبة من أهلك)) (1) وهذا هو السبب ~~الموجب لخشية الله في السر، فإن من علم أن الله يراه حيث كان، وأنه مطلع ~~على باطنه وظاهره، وسره وعلانيته، واستحضر ذلك في خلواته، أوجب له ذلك ترك ~~المعاصي في السر، وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله - عز وجل -: ~~{واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (2) . # كان بعض السلف يقول لأصحابه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهد من قدر ~~عليه في الخلوة، فعلم أن الله يراه، فتركه من خشيته، أو كما قال (3) . # وقال الشافعي: أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة ~~الحق عند من يرجى ويخاف. # وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له: أما بعد ms226، أوصيك بتقوى الله الذي هو ~~نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حالك في ليلك ~~ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك، وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من ~~سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك، وليكثر ~~منه وجلك والسلام (4) . # وقال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك: ما ~~بالكم تسترون الذنوب من خلقي، وتظهرونها لي، إن كنتم ترون أني لا أراكم، ~~فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم (5) فلم جعلتموني أهون الناظرين ~~إليكم؟ # وكان وهيب بن الورد يقول: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه ~~PageV02P478 # على قدر قربه منك (1) ، وقال له رجل: عظني، فقال: اتق الله أن يكون أهون ~~الناظرين إليك (2) . وكان بعض السلف يقول: أتراك ترحم من لم تقر عينيه ~~بمعصيتك حتى علم أن لا عين تراه غيرك؟ # وقال بعضهم: ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تصف لك من عين ناظرة ~~إليك، فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيته، ولم تستحي منه حياءك من بعض ~~خلقه، ما أنت إلا أحد رجلين: إن كنت ظننت أنه لا يراك، فقد كفرت، وإن كنت ~~علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه لقد اجترأت عليه (3) . # دخل بعضهم غيضة (4) # ذات شجر، فقال: لو خلوت هاهنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع هاتفا بصوت ملأ ~~الغيضة: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف # الخبير} (5) (6) . # راود بعضهم أعرابية، وقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: فأين ~~مكوكبها؟ # رأى محمد بن المنكدر رجلا واقفا مع امرأة يكلمها فقال: إن الله يراكما ~~سترنا الله وإياكما. # قال الحارث المحاسبي: المراقبة علم القلب بقرب الرب (7) . وسئل الجنيد ~~بما يستعان على غض البصر، قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما ~~تنظره. PageV02P479 # وكان الإمام أحمد ينشد: # إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل: ... خلوت ولكن قل: علي رقيب # ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما ms227 يخفى عليه يغيب (1) # وكان ابن السماك ينشد: # يا مدمن الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة ثانيكا # غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا # والمقصود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصى معاذا بتقوى الله سرا ~~وعلانية، أرشده إلى ما يعينه على ذلك وهو أن يستحيي من الله كما يستحيي من ~~رجل ذي هيبة من قومه. ومعنى ذلك: أن يستشعر دائما بقلبه قرب الله منه ~~واطلاعه عليه فيستحيي من نظره إليه. # وقد امتثل معاذ ما وصاه به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عمر قد ~~بعثه على عمل، فقدم وليس معه شيء، فعاتبته امرأته، فقال: كان معي ضاغط، ~~يعني: من يضيق علي، ويمنعني من أخذ شيء، وإنما أراد معاذ ربه - عز وجل -، ~~فظنت امرأته أن عمر بعث معه # رقيبا، فقامت تشكوه إلى الناس. # ومن صار له هذا المقام حالا دائما أو غالبا، فهو من المحسنين الذين ~~يعبدون الله كأنهم يرونه، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ~~إلا اللمم. PageV02P480 # وفي الجملة فتقوى الله في السر هو علامة كمال الإيمان، وله تأثير عظيم في ~~إلقاء الله لصاحبه الثناء في قلوب المؤمنين. وفي الحديث: ((ما أسر عبد ~~سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرا فخير، وإن شرا فشر)) (1) روي ~~هذا مرفوعا، وروي عن ابن مسعود من قوله. # وقال أبو الدرداء: ليتق أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو ~~بمعاصي الله، فيلقي الله له البغض في قلوب المؤمنين (2) . # قال سليمان التيمي: إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته (3) ~~، وقال غيره (4) : إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله، ثم يجيء إلى ~~إخوانه، فيرون أثر ذلك عليه، وهذا من أعظم الأدلة على وجود الإله الحق ~~المجازي بذرات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة (5) ، ولا يضيع عنده عمل عامل، ~~ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، PageV02P481 # فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله (1) ، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله ~~أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامد الناس بسخط ms228 الله، عاد حامده ~~من الناس له ذاما. # قال أبو سليمان: الخاسر من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو ~~أقرب إليه من حبل الوريد. # ومن أعجب ما روي في هذا ما روي عن أبي جعفر السائح قال: كان حبيب أبو ~~محمد تاجرا يكري الدراهم، فمر ذات يوم، فإذا هو بصبيان يلعبون، فقال بعضهم ~~لبعض: قد جاء آكل الربا، فنكس رأسه، وقال: يا رب، أفشيت سري إلى الصبيان، ~~فرجع فجمع ماله كله، وقال: يا رب إني أسير، وإني قد اشتريت نفسي منك بهذا ~~المال فاعتقني، فلما أصبح، تصدق بالمال كله وأخذ في العبادة، ثم مر ذات يوم ~~بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض (2) : اسكتوا فقد # جاء حبيب العابد، فبكى وقال: يا رب أنت تذم مرة وتحمد مرة، وكله من # عندك. # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) لما كان ~~العبد مأمورا بالتقوى # في السر والعلانية مع أنه لابد أن يقع منه أحيانا تفريط في التقوى، إما ~~بترك # بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمره أن يفعل (3) ما يمحو به # هذه السيئة وهو أن يتبعها بالحسنة، قال الله - عز وجل -: {وأقم الصلاة ~~طرفي # النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى # للذاكرين} (4) . PageV02P482 # وفي " الصحيحين " (1) عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، ثم أتى ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فسكت النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - حتى نزلت هذه الآية، فدعاه فقرأها عليه، فقال رجل: هذا له خاصة؟ ~~قال: ((بل للناس عامة)) . # وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في هذه الوصية في قوله - عز وجل -: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة ~~عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء ~~والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا ~~فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا ~~الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم ms229 مغفرة من ربهم وجنات ~~تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين} (2) . # فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق، وكظم الغيظ، والعفو ~~عنهم، فجمع بين وصفهم ببذل الندى، واحتمال الأذى، وهذا هو غاية حسن الخلق ~~الذي وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ، ثم وصفهم بأنهم: {إذا ~~فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} ولم يصروا ~~عليها، فدل على أن المتقين قد يقع منهم أحيانا كبائر وهي الفواحش، وصغائر ~~وهي ظلم النفس، لكنهم لا يصرون عليها، بل يذكرون الله عقب وقوعها، ~~ويستغفرونه ويتوبون إليه منها، والتوبة: هي ترك الإصرار على الذنب (3) . # ومعنى قوله: {ذكروا الله} أي: ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه، وما توعد ~~به على المعصية من العقاب، فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك ~~الإصرار، وقال الله تعالى: {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان ~~تذكروا فإذا هم مبصرون} (4) . PageV02P483 # وفي " الصحيحين " (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أذنب عبد ~~ذنبا، فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفر لي فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر ~~الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر - إلى أن قال في ~~الرابعة: - فليعمل ما شاء)) يعني: ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبا ~~استغفر منه. وفي الترمذي (2) من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم ~~سبعين مرة)) . # وخرج الحاكم (3) من حديث عقبة بن عامر: أن رجلا أتى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - فقال: # يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: ((يكتب عليه)) ، قال: ثم يستغفر منه، قال # : ((يغفر له، ويتاب عليه)) ، قال: فيعود فيذنب، قال: ((يكتب عليه)) ، ~~قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: ((يغفر له، ويتاب عليه، ولا يمل الله حتى # تملوا)) . # وخرج الطبراني (4) بإسناد ضعيف عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاء ~~حبيب بن الحارث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني ~~رجل مقراف ms230 للذنوب، قال: ((فتب إلى الله - عز وجل -)) ، قال: أتوب، ثم أعود، ~~قال: ((فكلما أذنبت، PageV02P484 # فتب)) ، قال: يا رسول الله إذا تكثر ذنوبي، قال: ((فعفو الله أكثر من ~~ذنوبك # يا حبيب بن الحارث)) . وخرجه بمعناه من حديث أنس مرفوعا (1) بإسناد ضعيف. ~~وبإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، ~~واستغفر الله، لم يحبسها شيء حتى يمحاها. # وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي قال: خياركم كل مفتن تواب، قيل: فإن ~~عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: ~~فإن عاد؟ قال: يستغفر الله ويتوب (2) ، قيل: حتى متى؟ قال: حتى يكون ~~الشيطان هو المحسور. # وخرج ابن ماجه من حديث ابن مسعود مرفوعا: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب ~~له)) (3) . # وقيل للحسن (4) : ألا يستحيي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم ~~يستغفر، ثم يعود، فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا من ~~الاستغفار. وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين (5) ، ~~PageV02P485 # يعني: أن المؤمن كلما أذنب تاب، وقد روي ((المؤمن مفتن تواب)) (1) . وروي ~~من حديث جابر بإسناد ضعيف مرفوعا: ((المؤمن واه راقع فسعيد من هلك على ~~رقعه)) (2) . # وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: من أحسن منكم فليحمد الله، ومن أساء ~~فليستغفر الله وليتب (3) ، فإنه لابد لأقوام من أن يعملوا أعمالا وظفها ~~الله في رقابهم، وكتبها عليهم. وفي رواية أخرى عنه أنه قال: أيها الناس من ~~ألم بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد ~~فليستغفر الله وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل ~~الهلاك في الإصرار عليها (4) . # ومعنى هذا أن العبد لا بد أن يفعل ما قدر عليه من الذنوب كما قال النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((كتب على ابن آدم حظه من الزنى، فهو مدرك ذلك لا ~~محالة)) (5) . PageV02P486 # ولكن الله جعل للعبد مخرجا مما وقع فيه من الذنوب (1) بالتوبة ~~والاستغفار، فإن فعل، فقد تخلص من شر ms231 الذنب، وإن أصر على الذنب، هلك. # وفي " المسند " من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: # ((ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين ~~يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)) (2) وفسر أقماع القول بمن كانت أذناه ~~كالقمع لما يسمع من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه ~~(3) خرج من الأخرى، ولم ينتفع بشيء مما سمع. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتبع السيئة الحسنة)) قد يراد بالحسنة ~~التوبة من تلك السيئة، وقد ورد ذلك صريحا في حديث مرسل (4) خرجه ابن أبي ~~الدنيا من مراسيل محمد بن جبير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث ~~معاذا إلى اليمن قال: ((يا معاذ اتق الله ما استطعت، واعمل بقوتك لله - عز ~~وجل - ما أطقت، واذكر الله - عز وجل - عند كل شجرة وحجر، وإن أحدثت ذنبا، ~~فأحدث عنده توبة، إن سرا فسر، وإن علانية فعلانية)) (5) . وخرجه أبو نعيم ~~(6) # بمعناه من وجه آخر ضعيف عن معاذ. PageV02P487 # وقال قتادة: قال سلمان: إذا أسأت سيئة في سريرة، فأحسن حسنة في سريرة، ~~وإذا أسأت سيئة في علانية، فأحسن حسنة في علانية، لكي تكون هذه بهذه. وهذا ~~يحتمل أنه أراد بالحسنة التوبة أو أعم منها. # وقد أخبر الله في كتابه أن من تاب من ذنبه، فإنه يغفر له ذنبه أو يتاب ~~عليه في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون ~~السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم} (1) ، وقوله: {ثم ~~إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من ~~بعدها لغفور رحيم} (2) ، وقوله: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك ~~يبدل الله سيئاتهم حسنات} (3) ، وقوله: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل ~~صالحا ثم اهتدى} (4) ، وقوله: {إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون ~~الجنة ولا يظلمون شيئا} (5) ، وقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا ~~أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} (6) . ~~الآيتين. # قال ms232 عبد الرازق: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس قال: بلغني أن ~~إبليس حين نزلت هذه الآية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا ~~الله فاستغفروا لذنوبهم} ، بكى (7) . # ويروى عن ابن مسعود قال: هذه الآية (8) خير لأهل الذنوب من الدنيا وما ~~فيها (9) . PageV02P488 # وقال ابن سيرين: أعطانا الله هذه الآية مكان ما جعل لبني إسرائيل في ~~كفارات ذنوبهم. # وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: قال رجل: ~~يا رسول الله لو كانت (1) كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - # : ((اللهم لا نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، ~~كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة، وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، ~~فإن كفرها كانت خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، فما ~~أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل قال: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم ~~يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} (2) (3) . # وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} (4) ، ~~قال: هو سعة الإسلام، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة (5) . # وظاهر هذه النصوص تدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا، واجتمعت شروط ~~التوبة في حقه، فإنه يقطع بقبول الله توبته، كما يقطع بقبول إسلام الكافر ~~إذا أسلم إسلاما صحيحا، وهذا قول الجمهور، وكلام ابن عبد البر يدل على أنه ~~إجماع (6) . # ومن الناس من قال: لا يقطع بقبول التوبة، بل يرجى، وصاحبها تحت المشيئة ~~وإن تاب (7) ، واستدلوا بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ~~ذلك لمن يشاء} (8) فجعل الذنوب كلها تحت مشيئته، وربما استدل بمثل قوله ~~تعالى: {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى PageV02P489 # ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم} (1) ، وبقوله: {فأما من تاب وآمن وعمل صالحا ~~فعسى أن يكون من المفلحين} (2) ، وقوله: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها ~~المؤمنون لعلكم تفلحون} (3) ، وقوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا ~~صالحا وآخر سيئا ms233 عسى الله أن يتوب عليهم} (4) . # والظاهر أن هذا في حق التائب؛ لأن الاعتراف يقتضي الندم، وفي حديث عائشة، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب ~~تاب الله # عليه)) (5) ، والصحيح قول الأكثرين. # وهذه الآيات لا تدل على عدم القطع، فإن الكريم إذا أطمع، لم يقطع # من رجائه المطمع، ومن هنا قال ابن عباس: إن ((عسى)) من الله واجبة (6) ، # نقله عنه علي بن أبي طلحة. وقد ورد جزاء الإيمان والعمل الصالح بلفظ # : ((عسى)) أيضا، ولم يدل ذلك على أنه غير مقطوع به، كما في قوله # : {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة # وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من # المهتدين} (7) . # وأما قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (8) ، فإن التائب ممن شاء أن ~~يغفر PageV02P490 # له، كما أخبر بذلك في مواضع كثيرة من كتابه. # وقد يراد بالحسنة في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتبع السيئة ~~الحسنة)) ما هو أعم من التوبة، كما في قوله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي ~~النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} (1) ، وقد روي من حديث ~~معاذ أن الرجل الذي نزلت بسببه هذه الآية أمره النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- أن يتوضأ ويصلي (2) . # وخرج الإمام أحمد (3) ، وأبو داود (4) ، والترمذي (5) ، والنسائي (6) ، ~~وابن ماجه (7) من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي، ثم ~~يستغفر الله إلا غفر الله له)) PageV02P491 # ثم قرأ هذه الآية: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ~~فاستغفروا لذنوبهم} (1) . PageV02P492 # وفي " الصحيحين " (1) عن عثمان: أنه توضأ، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: ((من توضأ نحو وضوئي هذا ثم ~~صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه)) . PageV02P493 # وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم ms234 - يقول: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى ركعتين أو ~~أربعا يحسن فيهما الركوع والخشوع، ثم استغفر الله غفر له)) . # وفي " الصحيحين " (2) عن أنس قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~فجاء رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه علي، قال: ولم يسأله ~~عنه، فحضرت # الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - الصلاة قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقم ~~في كتاب الله، قال: ((أليس قد صليت معنا؟)) قال: نعم، قال: ((فإن الله قد ~~غفر لك ذنبك - أو قال: - حدك)) ، PageV02P494 # وخرجه مسلم (1) بمعناه من حديث أبي أمامة، وخرجه ابن جرير الطبري (2) من ~~وجه آخر عن أبي أمامة، وفي حديثه قال: ((فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمك فلا ~~تعد)) ، وأنزل الله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات ~~يذهبن السيئات} (3) . # وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من ~~درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس ~~يمحو الله بهن # الخطايا)) . # وفي " صحيح (5) مسلم " (6) عن عثمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت ~~أظفاره)) . PageV02P495 # وفيه (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (2) : ((ألا ~~أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا ~~رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، ~~وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) . # وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ~~رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا ~~واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه (4)) ) . PageV02P496 # وفيهما (1) عن أبي هريرة، عن ms235 النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من حج ~~هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: ((إن الإسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن ~~الحج يهدم ما كان قبله)) . PageV02P497 # وفيه (1) من حديث أبي قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في صوم ~~عاشوراء: # ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) ، وقال في صوم يوم عرفة # ((أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)) . # وخرج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((مثل الذي يعمل السيئات، ثم يعمل الحسنات، كمثل رجل كانت عليه درع ~~ضيقة قد خنقته، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة، ثم عمل حسنة أخرى، فانفكت أخرى ~~حتى يخرج إلى الأرض)) (2) . # ومما يكفر الخطايا ذكر الله - عز وجل -، وقد ذكرنا فيما تقدم أن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - سئل # عن قول: ((لا إله إلا الله)) أمن الحسنات هي؟ قال: ((هي أحسن # الحسنات)) . # وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((من قال: سبحان الله وبحمده في يومه مئة مرة، حطت خطاياه وإن ~~PageV02P498 # كانت مثل زبد # البحر)) . # وفيهما (1) عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من قال: لا إله ~~إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء ~~قدير في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه ~~مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل ~~مما جاء به إلا أحد عمل أفضل من ذلك)) . # وفي " المسند " وكتاب ابن ماجه عن أم هانئ، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: PageV02P499 # ((لا إله إلا الله لا تترك ذنبا، ولا يسبقها عمل)) (1) . # وخرج الترمذي (2) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه مر ms236 بشجرة ~~يابسة الورق، فضربها بعصاه، فتناثر الورق، فقال: ((إن الحمد لله، وسبحان ~~الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما يتساقط ورق ~~هذه الشجرة)) . # وخرجه الإمام أحمد (3) بإسناد صحيح عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - قال # : ((إن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر تنفض ~~الخطايا كما تنفض الشجرة ورقها)) . PageV02P500 # والأحاديث في هذا كثيرة جدا يطول الكتاب بذكرها. # وسئل الحسن عن رجل لا يتحاشى عن معصية إلا أن لسانه لا يفتر من ذكر الله، ~~قال: إن ذلك لعون حسن. # وسئل الإمام أحمد عن رجل اكتسب مالا من شبهة: صلاته وتسبيحه يحط عنه شيئا ~~من ذلك؟ فقال: إن صلى وسبح يريد به ذلك، فأرجو، قال الله تعالى: # {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم} (1) . # وقال مالك بن دينار: البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما تحط الريح الورق ~~اليابس. # وقال عطاء: من جلس مجلسا من مجالس الذكر، كفر به عشرة مجالس من مجالس ~~الباطل (2) . # وقال شويس العدوي (3) - وكان من قدماء التابعين - إن صاحب اليمين أمير - ~~أو قال: أمين - على صاحب الشمال، فإذا عمل ابن آدم سيئة، فأراد صاحب الشمال ~~أن يكتبها، قال له صاحب اليمين: لا تعجل لعله يعمل حسنة، فإن عمل حسنة، ~~ألقى واحدة بواحدة، وكتبت له تسع حسنات، فيقول الشيطان: يا ويله من يدرك ~~تضعيف ابن آدم (4) . # وخرج الطبراني (5) بإسناد فيه نظر عن أبي مالك الأشعري، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((إذا نام ابن آدم، قال الملك للشيطان: أعطني ~~صحيفتك، فيعطيه إياها، فما وجد في صحيفته من حسنة، محى بها عشر سيئات من ~~صحيفة الشيطان، # وكتبهن حسنات، فإذا أراد أن ينام أحدكم، فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ~~ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة، PageV02P501 # ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة، فتلك مئة)) وهذا غريب منكر. # وروى وكيع (1) : حدثنا الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، # قال: قال عبد الله، يعني: ابن مسعود: وددت أني صولحت على أن أعمل # كل يوم (2) تسع ms237 خطيئات وحسنة (3) . وهذا إشارة منه إلى أن الحسنة يمحى ~~بها # التسع خطيئات، ويفضل له ضعف واحد من ثواب الحسنة، فيكتفي به، والله # أعلم. # وقد اختلف الناس في مسألتين: # إحداهما: هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر أم لا تكفر # سوى الصغائر؟ فمنهم من قال: لا تكفر سوى الصغائر (4) ، وقد روي هذا # عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر، وقال سلمان الفارسي # في الوضوء: إنه يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكبر # من ذلك، والصلاة تكفر أكبر من ذلك. خرجه محمد بن نصر # المروزي (5) . # وأما الكبائر، فلابد لها من التوبة؛ لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل ~~من لم يتب ظالما، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض، والفرائض لا تؤدى إلا ~~بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان ~~الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع. PageV02P502 # وأيضا فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا ~~أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البر ~~في كتابه " التمهيد " (1) وحكى إجماع المسلمين على ذلك، واستدل عليه # بأحاديث: # منها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى ~~الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)) وهو مخرج ~~في " الصحيحين " (2) من حديث أبي هريرة، وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها ~~هذه الفرائض. # وقد حكى ابن عطية في " تفسيره " في معنى هذا الحديث قولين: أحدهما # - وحكاه عن جمهور أهل السنة -: أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض ~~للصغائر، فإن لم تجتنب، لم تكفر هذه الفرائض شيئا بالكلية. # والثاني: أنها تكفر الصغائر مطلقا، ولا تكفر الكبائر وإن وجدت، لكن بشرط ~~التوبة من الصغائر، وعدم الإصرار عليها، ورجح هذا القول، وحكاه عن الحذاق ~~(3) . # وقوله: بشرط التوبة من الصغائر، وعدم الإصرار عليها، مراده أنه إذا أصر # عليها، صارت كبيرة، فلم تكفرها الأعمال. والقول الأول الذي حكاه غريب، مع ~~أنه قد حكي عن أبي بكر عبد العزيز بن ms238 جعفر من أصحابنا مثله. # وفي " صحيح مسلم " (4) عن عثمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~PageV02P503 # ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا ~~كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن سلمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((لا يتطهر الرجل -يعني: يوم الجمعة- فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة ~~فينصت حتى يقضي الإمام صلاته، إلا كان كفارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ~~ما اجتنبت الكبائر # المقتلة)) . # وخرج النسائي، وابن حبان (2) ، والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: PageV02P504 # ((والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، # ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له أبواب ~~الجنة، ثم قيل له: ادخل بسلام)) (1) . وخرج الإمام أحمد والنسائي من حديث ~~أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضا (2) . وخرج الحاكم ~~(3) معناه من حديث عبيد بن # عمير، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. PageV02P505 # ويروى من حديث ابن عمر مرفوعا: ((يقول الله - عز وجل -: ابن آدم اذكرني ~~من أول النهار ساعة ومن آخر النهار ساعة، أغفر لك ما بين ذلك، إلا الكبائر، ~~أو تتوب منها)) (1) . # وقال ابن مسعود: الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (2) . # وقال سلمان: حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنهن كفارات لهذه الجراح ما ~~لم تصب المقتلة (3) . # قال ابن عمر لرجل: أتخاف النار أن تدخلها، وتحب الجنة أن تدخلها؟ قال: ~~نعم، قال: بر أمك فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام، لتدخلن ~~الجنة ما اجتنبت الموجبات (4) . وقال قتادة: إنما وعد الله المغفرة لمن ~~اجتنب الكبائر (5) ، وذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا)) (6) . # وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر، ومنهم: ~~ابن حزم الظاهري، وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب " التمهيد " بالرد عليه ~~وقال: قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في ms239 هذا الباب، لولا قول ذلك القائل، ~~PageV02P506 # وخشيت أن يغتر به جاهل، فينهمك في الموبقات، اتكالا على أنها تكفرها ~~الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة، والله نسأله العصمة والتوفيق (1) . # قلت: وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه، ووقع ~~مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر، قال: يرجى لمن قامها أن يغفر ~~له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها. فإن كان مرادهم أن من أتى بفرائض الإسلام ~~وهو مصر على الكبائر تغفر له الكبائر قطعا، فهذا باطل قطعا، يعلم بالضرورة ~~من الدين بطلانه، وقد سبق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أساء في ~~الإسلام أخذ بالأول والآخر)) (2) يعني: بعمله في الجاهلية والإسلام، وهذا ~~أظهر من أن يحتاج إلى بيان، وإن أراد هذا القائل أن من ترك الإصرار على ~~الكبائر، وحافظ على الفرائض من غير توبة ولا ندم على ما سلف منه، كفرت ~~ذنوبه كلها بذلك، واستدل بظاهر قوله # {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا # كريما} (3) . وقال: السيئات (4) تشمل الكبائر والصغائر، فكما أن الصغائر ~~تكفر باجتناب الكبائر من غير قصد ولا نية، فكذلك الكبائر، وقد يستدل لذلك # بأن الله وعد المؤمنين والمتقين بالمغفرة وبتكفير السيئات، وهذا مذكور في ~~غير موضع من القرآن، وقد صار هذا من المتقين، فإنه فعل الفرائض، واجتنب # الكبائر، واجتناب الكبائر لا يحتاج إلى نية وقصد، فهذا القول يمكن أن ~~يقال في الجملة. # والصحيح قول الجمهور: إن الكبائر لا تكفر بدون التوبة؛ لأن التوبة فرض ~~على PageV02P507 # العباد، وقد قال -عز وجل-: {ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (1) . وقد ~~فسرت الصحابة كعمر وعلي وابن مسعود التوبة بالندم (2) ، ومنهم من فسرها ~~بالعزم على أن لا يعود (3) ، وقد روي ذلك مرفوعا من وجه فيه ضعف (4) ، # لكن لا يعلم مخالف من الصحابة في هذا، وكذلك التابعون ومن بعدهم، كعمر بن ~~عبد العزيز، والحسن وغيرهما. # وأما النصوص الكثيرة المتضمنة مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات للمتقين، ~~كقوله تعالى: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم ms240 سيئاتكم ويغفر # لكم} (5) ، وقوله تعالى: {ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ~~ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار} (6) ، وقوله: {ومن يتق الله يكفر عنه ~~سيئاته ويعظم له أجرا} (7) ، فإنه لم يبين في هذه الآيات خصال التقوى، ولا ~~العمل الصالح، ومن جملة ذلك: التوبة النصوح، فمن لم يتب، فهو ظالم، غير ~~متق. # وقد بين في سورة آل عمران خصال التقوى التي يغفر لأهلها ويدخلهم الجنة، ~~فذكر منها الاستغفار، وعدم الإصرار، فلم يضمن تكفير السيئات ومغفرة الذنوب ~~إلا لمن كان على هذه الصفة، والله أعلم. # ومما يستدل به على أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة منها، أو العقوبة ~~عليها حديث عبادة بن الصامت، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- فقال: ((بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولاتزنوا)) ، ~~وقرأ عليهم الآية ((فمن وفى منكم، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، ~~فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا، فستره الله عليه، فهو إلى ~~الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) PageV02P508 # خرجاه في " الصحيحين " (1) ، # وفي رواية لمسلم: ((من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارته)) (2) . ~~PageV02P509 # وهذا يدل على أن الحدود كفارات. قال الشافعي: لم أسمع في هذا الباب - أن ~~الحد يكون كفارة لأهله - شيئا أحسن من حديث عبادة ابن الصامت (1) . # وقوله: ((فعوقب به)) يعم العقوبات الشرعية، وهي الحدود المقدرة أو غير ~~المقدرة، كالتعزيزات، ويشمل العقوبات القدرية، كالمصائب والأسقام والآلام، ~~فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يصيب المسلم نصب ~~ولا وصب (2) ولا # هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا PageV02P510 # كفر الله بها خطاياه)) (1) . وروي عن # علي أن الحد كفارة لمن أقيم عليه (2) ، وذكر ابن جرير الطبري في هذه ~~المسألة اختلافا بين الناس، ورجح أن إقامة الحد بمجرده كفارة، ووهن القول ~~بخلاف ذلك جدا (3) . # قلت: وقد روي عن سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم أن إقامة الحد ليس ~~بكفارة، ولابد معه من التوبة، ورجحه طائفة من المتأخرين، منهم: البغوي ms241 (4) ~~، وأبو عبد الله بن تيمية في " تفسيريهما "، وهو قول ابن حزم الظاهري (5) ، ~~والأول قول مجاهد وزيد بن أسلم والثوري وأحمد. # وأما حديث أبي هريرة المرفوع: ((لا أدري: الحدود طهارة لأهلها أم لا؟)) ~~فقد خرجه الحاكم وغيره (6) ، وأعله البخاري، وقال: لا يثبت، وإنما هو من ~~مراسيل الزهري، وهي ضعيفة، وغلط عبد الرزاق فوصله، قال: وقد صح عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أن الحدود كفارة (7) . PageV02P511 # ومما يستدل به من قال: الحد ليس بكفارة قوله تعالى في المحاربين: {ذلك ~~لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن ~~تقدروا عليهم} (1) وظاهره أنه تجتمع لهم عقوبة الدنيا والآخرة. ويجاب عنه ~~بأنه ذكر عقوبتهم في الدنيا وعقوبتهم في الآخرة (2) ، ولا يلزم اجتماعهما، ~~وأما استثناء ((من تاب)) فإنما استثناه من عقوبة الدنيا خاصة، فإن عقوبة ~~الآخرة تسقط بالتوبة قبل القدرة وبعدها. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن أصاب شيئا من ذلك، فستره الله عليه، ~~فهو إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له)) (3) صريح في أن هذه الكبائر من ~~لقي الله بها كانت # جتحت مشيئته، وهذا يدل على أن إقامة الفرائض لا تكفرها ولا تمحوها، فإن ~~عموم المسلمين يحافظون على الفرائض، لاسيما من بايعهم النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، وخرج من ذلك من لقي الله وقد تاب منها بالنصوص الدالة من ~~الكتاب والسنة (4) على أن من تاب إلى الله، تاب الله عليه، وغفر له، فبقى ~~من لم يتب داخلا تحت المشيئة. # وأيضا، فيدل على أن الكبائر لا تكفرها الأعمال: إن الله لم يجعل للكبائر ~~في الدنيا كفارة واجبة، وإنما جعل الكفارة للصغائر ككفارة وطء المظاهر، ~~ووطء المرأة في الحيض على حديث ابن عباس الذي ذهب إليه الإمام أحمد وغيره ~~(5) ، وكفارة من PageV02P512 # ترك شيئا من واجبات الحج، أو ارتكاب بعض محظوراته، وهي أربعة أجناس: هدي، ~~وعتق، وصدقة، وصيام، ولهذا لا تجب الكفارة في قتل العمد عند جمهور العلماء ~~(1) ، ولا في اليمين الغموس أيضا عند أكثرهم، وإنما يؤمر القاتل بعتق ms242 رقبة ~~استحبابا، كما في حديث واثلة بن الأسقع: أنهم جاؤوا إلى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - في صاحب لهم قد أوجب، فقال: ((اعتقوا عنه رقبة يعتقه الله بها ~~من النار)) (2) . ومعنى أوجب: عمل عملا يجب له به النار، ويقال: إنه كان ~~قتل قتيلا. وفي # " صحيح مسلم " (3) عن ابن عمر: أنه ضرب عبدا له، فأعتقه وقال: ليس لي فيه ~~من الأجر مثل هذا - وأخذ عودا من الأرض - إني سمعت النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يقول: PageV02P513 # ((من لطم مملوكه، أو ضربه، فإن كفارته أن يعتقه)) . # فإن قيل: فالمجامع في رمضان يؤمر بالكفارة، والفطر في رمضان من الكبائر، ~~قيل: ليست الكفارة للفطر، ولهذا لا يجب عند الأكثرين على كل مفطر في رمضان ~~عمدا، وإنما هي لهتك حرمة نهار (1) رمضان بالجماع، ولهذا لو كان مفطرا فطرا ~~لا يجوز له في نهار رمضان، ثم جامع، للزمته الكفارة عند الإمام أحمد لما ~~ذكرنا (2) . # ومما يدل على أن تكفير الواجبات مختص بالصغائر ما خرجه البخاري عن حذيفة، ~~قال: بينا نحن جلوس عند عمر، إذ قال: أيكم يحفظ قول رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - في الفتنة؟ قال: قلت: ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره ~~يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) قال: ليس عن هذا ~~أسألك. PageV02P514 # وخرجه مسلم بمعناه، وظاهر هذا السياق يقتضي رفعه، # PageV02P516 # وفي رواية للبخاري أن حذيفة قال: سمعته يقول: ((فتنة الرجل)) فذكره، وهذا ~~كالصريح في رفعه، وفي رواية لمسلم أن هذا من كلام عمر (1) . # وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي قال له: أصبت حدا، فأقمه ~~علي، فتركه حتى # صلى، ثم قال له: ((إن الله غفر لك حدك)) (2) ، فليس صريحا في أن المراد ~~به شيء من الكبائر؛ لأن حدود الله محارمه كما قال تعالى: {تلك حدود الله ~~ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} (3) وقوله: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} ~~(4) ، وقوله: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات} الآية إلى ~~قوله: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا ms243 خالدا فيها وله عذاب ~~مهين} (5) . # وفي حديث النواس بن سمعان (6) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ضرب ~~مثل الإسلام PageV02P517 # بالصراط المستقيم الذي على جنبتيه سوران، قال: ((والسوران حدود الله)) . ~~وقد سبق ذكره بتمامه. # فكل من أصاب شيئا من محارم الله، فقد أصاب حدوده، وركبها، وتعداها. وعلى ~~تقدير أن يكون الحد الذي أصابه كبيرة، فهذا الرجل جاء نادما تائبا، وأسلم ~~نفسه إلى إقامة الحد عليه، والندم توبة، والتوبة تكفر الكبائر بغير تردد، ~~وقد روي ما يستدل به على أن الكبائر تكفر ببعض الأعمال الصالحة، فخرج ~~الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن عمر: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فقال: يا رسول الله، إني أصبت ذنبا عظيما، فهل لي من توبة؟ قال: ~~((هل لك من أم؟)) قال: لا، قال: ((فهل لك من خالة؟)) قال: نعم، قال: ~~((فبرها)) ، وخرجه ابن حبان في # " صحيحه " والحاكم، وقال: على شرط الشيخين (1) ، لكن خرجه الترمذي من وجه ~~آخر مرسلا، وذكر أن المرسل أصح من الموصول (2) ، وكذا قال PageV02P518 # علي بن # المديني والدارقطني (1) . # وروي عن عمر أن رجلا قال له: قتلت نفسا، قال: أمك حية؟ قال: لا، قال: ~~فأبوك؟ قال: نعم، قال: فبره وأحسن إليه، ثم قال عمر: لو كانت أمه حية ~~فبرها، وأحسن إليها، رجوت أن لا تطعمه النار أبدا. وعن ابن عباس معناه أيضا ~~(2) . # وكذلك المرأة التي عملت بالسحر بدومة الجندل، وقدمت المدينة تسأل عن # توبتها، فوجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توفي، فقال لها أصحابه: ~~لو كان أبواك حيين أو أحدهما كانا يكفيانك. خرجه الحاكم وقال: فيه إجماع ~~الصحابة حدثان وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن بر الأبوين ~~يكفيانها (3) . PageV02P519 # وقال مكحول والإمام أحمد: بر الوالدين كفارة للكبائر. وروي عن بعض السلف ~~في حمل الجنائز أنه يحط الكبائر، وروي مرفوعا من وجوه لا تصح. # وقد صح من رواية أبي بردة أن أبا موسى لما حضرته الوفاة قال: يا بني، ~~اذكروا صاحب الرغيف: كان رجل يتعبد في صومعة أراه سبعين سنة، فشبه ms244 الشيطان ~~في عينه امرأة، فكان معها سبعة أيام وسبع ليال، ثم كشف عن الرجل غطاؤه، ~~فخرج تائبا، ثم ذكر أنه بات بين مساكين، فتصدق عليهم برغيف رغيف، فأعطوه ~~رغيفا، ففقده صاحبه الذي كان يعطاه، فلما علم بذلك، أعطاه الرغيف وأصبح ~~ميتا، فوزنت السبعون سنة بالسبع ليال، فرجحت الليالي، ووزن الرغيف بالسبع ~~الليال، فرجح الرغيف (1) . # وروى ابن المبارك بإسناده في كتاب " البر والصلة " عن ابن مسعود، # قال: عبد الله رجل سبعين سنة، ثم أصاب فاحشة، فأحبط الله عمله، ثم # أصابته زمانة وأقعد، فرأى رجلا يتصدق على مساكين، فجاء إليه، فأخذ # منه رغيفا، فتصدق به على مسكين، فغفر الله له، ورد عليه عمل سبعين # سنة. # وهذه كلها لا دلالة فيها على تكفير الكبائر بمجرد العمل؛ لأن كل من ذكر ~~فيها كان نادما تائبا من ذنبه، وإنما كان سؤاله عن عمل صالح يتقرب به إلى ~~الله بعد التوبة حتى يمحو به أثر الذنب بالكلية، فإن الله (2) شرط في قبول ~~التوبة ومغفرة الذنوب بها العمل الصالح، كقوله: {إلا من تاب وآمن وعمل ~~صالحا} (3) ، وقوله: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا} (4) ، وقوله: ~~{فأما # من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين} (5) ، PageV02P521 # وفي هذا # متعلق لمن يقول: إن التائب بعد التوبة في المشيئة، وكان هذا حال كثير من # الخائفين من السلف. وقال بعضهم لرجل: هل أذنبت ذنبا؟ قال: نعم، قال: ~~فعلمت أن الله كتبه عليك؟ قال: نعم، قال: فاعمل حتى تعلم أن الله قد محاه. ~~ومنه قول ابن مسعود: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع # عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه، فقال به هكذا. خرجه ~~البخاري (1) . # وكانوا يتهمون أعمالهم وتوباتهم، ويخافون أن لا يكون قد قبل منهم ذلك، ~~فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف، وكثرة الاجتهاد في الأعمال الصالحة. # قال الحسن: أدركت أقواما لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في ~~نفسه (2) . وقال ابن عون: لا تثق بكثرة العمل، فإنك لا تدري أيقبل ms245 منك أم ~~لا، ولا تأمن ذنوبك، فإنك لا تدري كفرت عنك أم لا، إن عملك مغيب عنك # كله. # والأظهر - والله أعلم - في هذه المسألة - أعني: مسألة تكفير # الكبائر بالأعمال - أنه إن أريد أن الكبائر تمحى بمجرد الإتيان بالفرائض، # وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر، فهذا باطل. # وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض الأعمال، فتمحى # الكبيرة بما يقابلها من العمل، ويسقط العمل، فلا يبقى له ثواب، فهذا قد # يقع. # وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه، قال: ليس لي فيه من ~~الأجر PageV02P522 # شيء، حيث كان كفارة لذنبه، ولم يكن ذنبه من الكبائر، فكيف بما كان من ~~الأعمال مكفرا للكبائر؟ # وسبق أيضا قول من قال من السلف: إن السيئة تمحى، ويسقط نظيرها حسنة من ~~الحسنات التي هي ثواب العمل، فإذا كان هذا في الصغائر، فكيف بالكبائر؟ فإن ~~بعض الكبائر قد يحبط بعض الأعمال المنافية لها، كما يبطل المن والأذى ~~الصدقة، وتبطل المعاملة بالربا الجهاد كما قالت عائشة (1) . وقال حذيفة: ~~قذف المحصنة يهدم عمل مئة سنة، وروي عنه مرفوعا خرجه البزار (2) ، وكما ~~يبطل ترك صلاة العصر العمل (3) ، فلا يستنكر أن يبطل ثواب العمل الذي يكفر ~~الكبائر. # وقد خرج البزار في "مسنده" والحاكم من حديث ابن عباس، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((يؤتي بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة، فيقص أو ~~يقضى بعضها من بعض، فإن بقيت له حسنة، وسع له بها في الجنة)) (4) . ~~PageV02P523 # وخرج ابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة، قال: حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد ~~بن جبير في قول الله - عز وجل -: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (1) ، قال: ~~كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه، فيجيء ~~المسكين، فيستقلون أن يعطوه تمرة وكسرة وجوزة ونحو ذلك، فيردونه، ويقولون: ~~ما هذا بشيء، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، وكان آخرون يرون أنهم لا ~~يلامون على الذنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ms246، يقولون: ~~إنما وعد الله النار على الكبائر، فرغبهم الله في القليل من الخير أن ~~يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر، فإنه يوشك أن يكثر، ~~فنزلت: {فمن يعمل مثقال ذرة} ، يعني: وزن أصغر النمل {خيرا يره} يعني: في ~~كتابه، ويسره ذلك قال: يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة، وبكل حسنة ~~عشر حسنات، فإذا كان يوم القيامة، ضاعف الله حسنات المؤمن أيضا بكل واحدة ~~عشرا، فيمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ~~ذرة، دخل الجنة (2) . # وظاهر هذا أنه تقع المقاصة بين الحسنات والسيئات، ثم تسقط الحسنات ~~المقابلة للسيئات، وينظر إلى ما يفضل منها بعد المقاصة، وهذا يوافق قول من ~~قال بأن من رجحت حسناته على سيئاته بحسنة واحدة أثيب بتلك الحسنة خاصة، ~~وسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته، خلافا لمن قال: يثاب بالجميع، وتسقط ~~سيئاته كأنها لم تكن، وهذا في الكبائر، أما الصغائر، فإنه قد تمحى بالأعمال ~~الصالحة مع بقاء ثوابها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أدلكم على ~~ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، ~~PageV02P524 # وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)) (1) فأثبت لهذه ~~الأعمال تكفير الخطايا ورفع الدرجات، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ~~ويميت، وهو على كل شيء قدير (2) مئة مرة، كتب الله له مئة حسنة، ومحيت عنه ~~مئة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب)) (3) ، فهذا يدل على أن الذكر يمحو ~~السيئات، ويبقى ثوابه لعامله مضاعفا. # وكذلك سيئات التائب توبة نصوحا تكفر عنه، وتبقى له حسناته، كما قال الله ~~تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك ~~التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت ~~إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن ~~سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق ms247 الذي كانوا يوعدون} (4) . # وقال تعالى: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون ~~عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي # عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون} (5) ، فلما وصف هؤلاء ~~بالتقوى والإحسان، دل على أنهم ليسوا بمصرين على الذنوب، بل هم تائبون # منها. # وقوله: {ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا} يدخل فيه الكبائر؛ لأنها أسوأ ~~الأعمال، وقال: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} (6) # فرتب على التقوى المتضمنة لفعل الواجبات وترك المحرمات تكفير السيئات ~~وتعظيم الأجر، وأخبر الله عن المؤمنين المتفكرين في خلق السماوات والأرض ~~أنهم قالوا # {ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر ~~لنا ذنوبنا وكفر PageV02P525 # عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار} (1) ، فأخبر أنه استجاب لهم ذلك، وأنه ~~كفر عنهم سيئاتهم، وأدخلهم الجنات. # وقوله: {فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا} فخص الله الذنوب بالمغفرة، ~~والسيئات بالتكفير. فقد يقال: السيئات تخص الصغائر، والذنوب يراد بها ~~الكبائر، فالسيئات تكفر؛ لأن الله جعل لها كفارات في الدنيا شرعية وقدرية، ~~والذنوب تحتاج إلى مغفرة تقي صاحبها من شرها والمغفرة والتكفير متقاربان، ~~فإن المغفرة قد قيل: إنها ستر الذنوب، وقيل: وقاية شر الذنب مع ستره، ولهذا ~~يسمى (2) ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مغفرا، ولا يسمى كل ساتر للرأس ~~مغفرا، وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم يدعون للمؤمنين التائبين بالمغفرة ~~ووقاية السيئات والتكفير من هذا الجنس؛ لأن أصل الكفر الستر والتغطية أيضا. # وقد فرق بعض المتأخرين بينهما بأن التكفير محو أثر الذنب، حتى كأنه لم ~~يكن، والمغفرة تتضمن - مع ذلك - إفضال الله على العبد وإكرامه، وفي هذا ~~نظر. # وقد يفسر بأن مغفرة الذنوب بالأعمال الصالحة تقلبها حسنات، وتكفيرها ~~بالمكفرات تمحوها فقط، وفيه أيضا نظر، فإنه قد صح أن الذنوب المعاقب عليها # بدخول النار تبدل حسنات فالمكفرة بعمل صالح يكون كفارة لها أولى. # ويحتمل معنيين آخرين: # أحدهما: أن المغفرة لا تحصل إلا مع عدم العقوبة والمؤاخذة؛ لأنها وقاية ~~شر الذنب بالكلية، والتكفير قد ms248 يقع بعد العقوبة، فإن المصائب الدنيوية كلها ~~مكفرات للخطايا، وهي عقوبات، وكذلك العفو يقع مع العقوبة وبدونها، وكذلك # الرحمة. # والثاني: أن الكفارات من الأعمال ما جعلها الله لمحو الذنوب المكفرة بها، ~~ويكون ذلك هو ثوابها، ليس لها ثواب غيره، والغالب عليها أن تكون من جنس ~~مخالفة هوى النفوس، وتجشم المشقة فيه، كاجتناب الكبائر الذي جعله الله ~~كفارة PageV02P526 # للصغائر. # وأما الأعمال التي تغفر بها الذنوب، فهي ما عدا ذلك، ويجتمع فيها المغفرة ~~والثواب عليها، كالذكر الذي يكتب به الحسنات، ويمحى به السيئات، وعلى هذا ~~الوجه فيفرق بين الكفارات من الأعمال وغيرها، وأما تكفير الذنوب ومغفرتها ~~إذا أضيف ذلك إلى الله، فلا فرق بينهما، وعلى الوجه الأول يكون بينهما فرق ~~أيضا. # ويشهد لهذا الوجه الثاني أمران: # أحدهما: قول ابن عمر لما أعتق العبد الذي ضربه: ليس لي في عتقه من الأجر ~~شيء، واستدل بأنه كفارة. # والثاني: أن المصائب الدنيوية كلها مكفرات للذنوب، وقد قال كثير من ~~الصحابة وغيرهم من السلف: إنه لا ثواب فيها مع التكفير، وإن كان بعضهم قد ~~خالف في ذلك، ولا يقال: فقد فسر الكفارات في حديث المنام بإسباغ الوضوء في ~~المكروهات، ونقل الأقدام إلى الصلوات (1) ، وقال: من فعل ذلك عاش بخير، ~~ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه. # وهذه كلها مع تكفيرها للسيئات ترفع الدرجات، ويحصل عليها الثواب، لأنا ~~نقول: قد يجتمع في العمل الواحد شيئان يرفع بأحدهما الدرجات، ويكفر بالآخر ~~السيئات، فالوضوء نفسه يثاب عليه، لكن إسباغه في شدة البرد من جنس الآلام ~~التي تحصل للنفوس في الدنيا، فيكون كفارة في هذه الحال، وأما في غير هذه ~~الحالة، فتغفر به الخطايا، كما تغفر بالذكر وغيره، وكذلك المشي إلى ~~الجماعات هو قربة وطاعة، ويثاب عليه، ولكن ما يحصل للنفس به من المشقة ~~والألم بالتعب والنصب هو كفارة، PageV02P527 # وكذلك حبس النفس في المسجد لانتظار الصلاة وقطعها عن مألوفاتها من الخروج ~~إلى المواضع التي تميل النفوس إليها، إما لكسب الدنيا أو للتنزه، هو من هذه ~~الجهة مؤلم للنفس، فيكون ms249 كفارة (1) . # وقد جاء في الحديث أن إحدى خطوتي الماشي إلى المسجد ترفع له درجة، ~~والأخرى تحط عنه خطيئة (2) . وهذا يقوي ما ذكرناه، وأن ما حصل به التكفير ~~غير # ما حصل به رفع الدرجات، والله أعلم. # وعلى هذا، فيجتمع في العمل الواحد تكفير السيئات، ورفع الدرجات من # جهتين، ويوصف في كل حال بكلا الوصفين، فلا تنافي بين تسميته كفارة وبين ~~الإخبار عنه بمضاعفة الثواب به، أو وصفه برفع الدرجات، ولهذا قال - صلى ~~الله عليه وسلم - # : ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما ~~بينهن ما اجتنبت الكبائر)) (3) ، فإن في حبس النفس على المواظبة على ~~الفرائض من مخالفة هواها وكفها عما تميل إليه ما يوجب ذلك تكفير الصغائر. # وكذلك الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب بما يحصل بها من الألم، وترفع ~~الدرجات بما اقترن بها من الأعمال الصالحة بالقلب والبدن، فتبين بهذا أن ~~بعض الأعمال يجتمع فيها ما يوجب رفع الدرجات وتكفير السيئات من جهتين، ولا ~~يكون بينهما منافاة، وهذا ثابت في الذنوب الصغائر بلا ريب، وأما الكبائر، ~~فقد تكفر بالشهادة مع حصول الأجر للشهيد، لكن الشهيد ذو الخطايا في رابع ~~درجة من درجات الشهداء، كذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ~~فضالة بن عبيد خرجه الإمام أحمد PageV02P528 # والترمذي (1) . # وأما مغفرة الذنوب ببعض الأعمال مع توفير أجرها وثوابها، فقد دل عليه ~~الأحاديث الصحيحة في الذكر، وقد قيل: إن تلك السيئات تكتب حسنات أيضا، كما ~~في حديث أبي مالك الأشعري الذي سبق ذكره (2) ، وذكرنا أيضا عن بعض السلف ~~أنه يمحى بإزاء السيئة الواحدة ضعف واحد من أضعاف ثواب الحسنة، وتبقى له ~~تسع حسنات (3) . والظاهر أن هذا مختص بالصغائر، وأما في الآخرة، فيوازن بين ~~الحسنات والسيئات، ويقص بعضها من بعض، فمن رجحت حسناته على سيئاته، فقد ~~نجا، ودخل الجنة، وسواء في هذا الصغائر والكبائر، وهكذا من كانت له حسنات ~~وعليه مظالم، فاستوفى المظلومون حقوقهم من حسناته، وبقي له حسنة، دخل بها ~~الجنة. قال ابن مسعود: إن كان وليا لله ms250 ففضل له مثقال ذرة، ضاعفها الله له ~~حتى يدخل الجنة، وإن كان شقيا قال الملك: رب فنيت حسناته، وبقي له طالبون ~~كثير، قال: خذوا من سيئاتهم، فأضعفوها إلى سيئاته، ثم صكوا له صكا إلى ~~النار. خرجه ابن أبي حاتم وغيره (4) . # والمراد أن تفضيل مثقال ذرة من الحسنات إنما هو بفضل الله - عز وجل -، ~~لمضاعفته PageV02P529 # لحسنات المؤمن وبركته فيها، وهكذا حال من كانت له حسنات وسيئات، وأراد ~~الله رحمته، فضل له من حسناته ما يدخله به الجنة، وكله من فضل الله ورحمته، ~~فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله ورحمته (1) . # وخرج أبو نعيم بإسناد ضعيف عن علي مرفوعا: ((أوحى الله إلى نبي من أنبياء ~~بني إسرائيل: قل لأهل طاعتي من أمتك: لا يتكلوا على أعمالهم، فإني لا أقاص ~~عبدا الحساب يوم القيامة أشاء أن أعذبه إلا عذبته، وقل لأهل معصيتي من ~~أمتك: لا يلقوا بأيديهم، فإني أغفر الذنب العظيم ولا أبالي)) (2) ، ومصداق ~~هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ((من نوقش الحساب ~~عذب)) ، وفي رواية # : ((هلك)) (3) ، والله أعلم. # المسألة الثانية: أن الصغائر هل تجب التوبة منها كالكبائر أم لا؟ لأنها ~~تقع مكفرة باجتناب الكبائر (4) ، لقوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون ~~عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} (5) . هذا مما اختلف الناس ~~فيه. # فمنهم من أوجب التوبة منها، وهو قول أصحابنا وغيرهم من الفقهاء ~~والمتكلمين وغيرهم. # وقد أمر الله بالتوبة عقيب ذكر الصغائر والكبائر، فقال تعالى: {قل ~~للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما ~~يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن PageV02P530 # ويحفظن فروجهن} إلى قوله # : {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (1) . # وأمر بالتوبة من الصغائر بخصوصها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ~~يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا ~~منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ~~ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (2) . # ومن ms251 الناس من لم يوجب التوبة منها، وحكي عن طائفة من المعتزلة، ومن ~~المتأخرين من قال: يجب أحد أمرين، إما التوبة منها، أو الإتيان ببعض ~~المكفرات للذنوب من الحسنات. # وحكى ابن عطية في " تفسيره " (3) في تكفير الصغائر بامتثال الفرائض ~~واجتناب الكبائر قولين: # أحدهما - وحكاه عن جماعة من الفقهاء وأهل الحديث -: أنه يقطع بتكفيرها ~~بذلك قطعا، لظاهر الآية والحديث. # والثاني - وحكاه عن الأصوليين -: أنه لا يقطع بذلك، بل يحمل على غلبة ~~الظن وقوة الرجاء، وهو في مشيئة الله - عز وجل -، إذ لو قطع بتكفيرها لكانت ~~الصغائر في حكم المباح الذي لا تبعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة. # قلت: قد يقال: لا يقطع بتكفيرها؛ لأن أحاديث التكفير المطلقة بالأعمال ~~جاءت مقيدة بتحسين العمل، كما ورد ذلك في الوضوء والصلاة، وحينئذ فلا يتحقق ~~وجود حسن العمل الذي يوجب التكفير، وعلى هذا الاختلاف الذي ذكره ابن عطية ~~ينبني الاختلاف في وجوب التوبة من الصغائر. PageV02P531 # وقد خرج ابن جرير من رواية الحسن: أن قوما أتوا عمر، فقالوا: نرى أشياء ~~من كتاب الله لا يعمل بها، فقال لرجل منهم: أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم، ~~قال: فهل أحصيته في نفسك؟ قال: اللهم لا، قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل ~~أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، ثم قال: ~~ثكلت عمر أمه، أتكلفونه أن يقيم على الناس كتاب الله؟ قد علم ربنا أنه ~~سيكون لنا سيئات (1) ، قال: وتلا: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر ~~عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} (2) . # وبإسناده عن أنس بن مالك: أنه قال: لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى، ~~ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال، ثم سكت، ثم قال: والله لقد كلفنا ربنا أهون ~~من ذلك، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر، فمالنا ولها، ثم تلا: {إن تجتنبوا ~~كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} PageV02P532 # وخرجه البزار في " مسنده " مرفوعا، والموقوف أصح (1) . # وقد وصف الله المحسنين باجتناب الكبائر قال تعالى: {ويجزي الذين ms252 أحسنوا ~~بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع # المغفرة} (2) . # وفي تفسير اللمم قولان للسلف: # أحدهما: أنه مقدمات الفواحش كاللمس والقبلة (3) ، وعن ابن عباس: هو ما ~~دون الحد من وعيد الآخرة بالنار وحد الدنيا (4) . # والثاني: أنه الإلمام بشيء من الفواحش والكبائر مرة واحدة، ثم يتوب منه ~~(5) ، وروي عن ابن عباس وأبي هريرة، وروي عنه مرفوعا بالشك في رفعه، قال: ~~اللمة من الزنى ثم يتوب فلا يعود، واللمة من شرب الخمر، ثم يتوب فلا يعود، ~~واللمة من السرقة، ثم يتوب فلا يعود (6) . PageV02P533 # ومن فسر الآية بهذا قال: لابد أن يتوب منه بخلاف من فسره بالمقدمات، فإنه ~~لم يشترط توبة. # والظاهر أن القولين صحيحان، وأن كليهما مراد من الآية، وحينئذ فالمحسن: ~~هو من لا يأتي بكبيرة إلا نادرا ثم يتوب منها، ومن إذا أتى بصغيرة كانت ~~مغمورة في حسناته المكفرة لها، ولابد أن لا يكون مصرا عليها، كما قال ~~تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} (1) . وروي عن ابن عباس أنه ~~قال: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وروي مرفوعا من وجوه ~~ضعيفة (2) . # وإذا صارت الصغائر كبائر بالمداومة عليها، فلا بد للمحسنين من اجتناب ~~المداومة على الصغائر حتى يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش، وقال الله ~~- عز وجل -: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين ~~يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا ~~لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا ~~أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على ~~الله إنه لا يحب الظالمين} (3) . # فهذه الآيات تضمنت وصف المؤمنين بقيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان ~~والتوكل، وإقام الصلاة، والإنفاق مما رزقهم الله، والاستجابة لله في جميع ~~طاعاته، ومع هذا فهم مجتنبون كبائر الإثم والفواحش، فهذا هو تحقيق التقوى، ~~PageV02P534 # ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عند الغضب، وندبهم إلى العفو ~~والإصلاح. وأما قوله # {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} فليس منافيا للعفو، فإن ms253 الانتصار ~~يكون بإظهار القدرة على الانتقام، ثم يقع العفو بعد ذلك، فيكون أتم وأكمل. ~~قال النخعي في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا (1) . ~~وقال مجاهد: كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه، فيجترئ عليه الفساق (2) ، ~~فالمؤمن إذا بغي عليه، يظهر القدرة على الانتقام، ثم يعفو بعد ذلك، وقد جرى ~~مثل هذا لكثير من السلف، منهم: قتادة وغيره (3) . # فهذه الآيات تتضمن جميع ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصيته ~~لمعاذ، فإنها تضمنت أصول خصال التقوى بفعل الواجبات، والانتهاء عن كبائر ~~المحرمات ومعاملة الخلق بالإحسان والعفو، ولازم هذا أنهم إن وقع منهم شيء ~~من الإثم من غير الكبائر والفواحش، يكون مغمورا بخصال التقوى المقتضية ~~لتكفيرها ومحوها. # وأما الآيات التي في سورة آل عمران، فوصف فيها المتقين بالإحسان إلى ~~الخلق، وبالاستغفار من الفواحش وظلم النفس، وعدم الإصرار على ذلك، وهذا هو ~~الأكمل، وهو إحداث التوبة، والاستغفار عقيب كل ذنب من الذنوب صغيرا كان أو ~~كبيرا، كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصى بذلك معاذا، وقد ~~ذكرناه فيما سبق. PageV02P535 # وإنما بسطنا القول في هذا؛ لأن حاجة الخلق إليه شديدة، وكل أحد يحتاج إلى ~~معرفة هذا، ثم إلى العمل بمقتضاه، والله الموفق والمعين. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أتبع السيئة الحسنة تمحها)) ظاهره أن ~~السيئات تمحى بالحسنات، وقد تقدم ذكر الآثار التي فيها أن السيئة تمحى من ~~صحف الملائكة بالحسنة إذا عملت بعدها. قال عطية العوفي (1) : بلغني أنه من ~~بكى على خطيئة محيت عنه، وكتبت له حسنة (2) . وعن عبد الله بن عمرو، قال: ~~من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، فاستغفر الله - عز وجل - لم يحبسها ~~شيء حتى يمحوها عنه الرحمان. وقال بشر بن الحارث: بلغني عن الفضيل بن عياض ~~قال: بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاء الليل يمحو ذنوب السر. وقد ~~ذكرنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - # : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) (3) ~~الحديث. # وقالت طائفة: لا تمحى الذنوب من صحائف ms254 الأعمال بتوبة ولا غيرها، بل لابد ~~PageV02P536 # أن يوقف عليها صاحبها ويقرأها يوم القيامة، واستدلوا بقوله تعالى: {ووضع ~~الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا ~~يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (1) ، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر؛ ~~لأنه إنما ذكر فيها حال المجرمين، وهم أهل الجرائم والذنوب العظيمة، فلا ~~يدخل فيهم المؤمنون التائبون من ذنوبهم، أو المغمورة ذنوبهم بحسناتهم. ~~وأظهر من هذا الاستدلال بقوله: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل ~~مثقال ذرة شرا يره} (2) ، وقد ذكر بعض المفسرين أن هذا القول هو الصحيح عند ~~المحققين، وقد روي هذا القول عن الحسن البصري، وبلال بن سعد الدمشقي، قال ~~الحسن: في العبد يذنب، ثم يتوب ويستغفر: يغفر له، ولكن لا يمحاه من كتابه ~~دون أن يقفه عليه، ثم يسأله عنه، ثم بكى الحسن بكاء شديدا، وقال: لو لم نبك ~~إلا للحياء من ذلك المقام، لكان ينبغي لنا أن نبكي. # وقال بلال بن سعد: إن الله يغفر الذنوب، ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى ~~يوقفه عليها يوم القيامة وإن تاب (3) . # وقال أبو هريرة: يدني الله العبد يوم القيامة، فيضع عليه كنفه، فيستره من ~~الخلائق كلها، ويدفع إليه كتابه في ذلك الستر، فيقول: اقرأ يا ابن آدم ~~كتابك، فيقرأ، فيمر بالحسنة، فيبيض لها وجهه، ويسر بها قلبه، فيقول الله: ~~أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم، فيقول: إني قبلتها منك، فيسجد، فيقول: ارفع ~~رأسك وعد في كتابك، فيمر PageV02P537 # بالسيئة، فيسود لها وجهه، ويوجل منها قلبه، وترتعد منها فرائصه، ويأخذه ~~من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره، فيقول: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا ~~رب، فيقول: إني قد غفرتها لك، فيسجد، فلا يرى منه الخلائق إلا السجود حتى ~~ينادي بعضهم بعضا: طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط، ولا يدرون ما قد ~~لقي فيما بينه وبين ربه مما قد وقفه عليه (1) . # وقال أبو عثمان النهدي، عن سلمان: يعطى الرجل صحيفته يوم القيامة، فيقرأ ~~أعلاها، فإذا سيئاته، فإذا كاد يسوء ms255 ظنه، نظر في أسفلها، فإذا حسناته، ثم ~~نظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات (2) . وروي عن أبي عثمان، عن ابن ~~مسعود، وعن أبي عثمان من قوله وهو أصح. # وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن بعض أصحاب معاذ بن جبل قال: يدخل أهل الجنة ~~الجنة على أربعة أصناف: المتقين، ثم الشاكرين، ثم الخائفين، ثم أصحاب ~~اليمين. قيل: لم سموا أصحاب اليمين؟ قال: لأنهم عملوا الحسنات والسيئات، ~~فأعطوا كتبهم بأيمانهم، فقرؤوا سيئاتهم حرفا حرفا قالوا: يا ربنا هذه ~~سيئاتنا فأين حسناتنا؟ فعند ذلك محا الله السيئات، وجعلها حسنات، فعند ذلك ~~قالوا: {هاؤم اقرأوا كتابيه} (3) فهم أكثر أهل الجنة (4) . وأهل هذا القول ~~قد يحملون أحاديث محو السيئات بالحسنات على محو عقوباتها دون محو كتابتها ~~من الصحف، والله أعلم. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وخالق الناس بخلق حسن)) هذا من خصال ~~التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإن ~~كثيرا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده، فنص له ~~على الأمر بإحسان العشرة للناس، فإنه PageV02P538 # كان قد بعثه إلى اليمن معلما لهم ومفقها وقاضيا، ومن كان كذلك، فإنه ~~يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس ~~به ولا يخالطهم، وكثيرا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، ~~والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير ~~فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدا لا يقوى عليه إلا ~~الكمل من الأنبياء # والصديقين. # وقال الحارث المحاسبي: ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة: حسن الوجه مع ~~الصيانة، وحسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة (1) . # وقال بعض السلف: جلس داود - عليه السلام - خاليا، فقال الله - عز وجل -: ~~مالي أراك خاليا؟ قال: هجرت الناس فيك يا رب العالمين، قال: يا داود ألا ~~أدلك على ما تستبقي به وجوه الناس (2) ، وتبلغ فيه رضاي؟ خالق الناس ~~بأخلاقهم، واحتجز الإيمان بيني وبينك (3) . # وقد عد الله في كتابه مخالقة ms256 الناس بخلق حسن من خصال التقوى، بل بدأ بذلك ~~في قوله: {أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ ~~والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} (4) . # وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سعيد المقبري قال: بلغنا أن رجلا جاء إلى # عيسى بن مريم - عليه السلام - فقال: يا معلم الخير، كيف أكون تقيا لله - ~~عز وجل - كما ينبغي # له؟ PageV02P539 # قال: بيسير من الأمر: تحب الله بقلبك كله، وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت، ~~وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك، قال: من ابن جنسي يا معلم الخير؟ قال: ولد ~~آدم كلهم، وما لا تحب أن يؤتى إليك، فلا تأته لأحد وأنت تقي لله - عز وجل - ~~كما ينبغي له (1) . # وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حسن الخلق من أحسن خصال الإيمان، ~~كما خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا)) (2) ، # وخرجه محمد بن نصر المروزي، وزاد فيه: ((وإن المرء # ليكون مؤمنا وإن في خلقه شيئا فينقص ذلك من إيمانه)) (3) . # وخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من حديث أسامة بن شريك قال: ~~قالوا: يا رسول الله، ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟ قال: ((الخلق الحسن)) ~~(4) . PageV02P540 # وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صاحب الخلق الحسن يبلغ بخلقه درجة ~~الصائم القائم لئلا # PageV02P541 # يشتغل المريد للتقوى عن حسن الخلق بالصوم والصلاة، ويظن أن ذلك يقطعه عن ~~فضلهما، فخرج الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجات الصائم القائم)) (1) . # وأخبر أن حسن الخلق أثقل ما يوضع في الميزان، وإن صاحبه أحب الناس إلى ~~الله وأقربهم من النبيين مجلسا، فخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من ~~حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من شيء يوضع ~~في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق (2) ليبلغ به درجة صاحب ~~الصوم # والصلاة)) (3) . # وخرج ابن حبان في " صحيحه " من ms257 حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسا يوم ~~القيامة؟)) قالوا: بلى، قال: PageV02P542 # ((أحسنكم خلقا)) (1) . وقد سبق حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق)) (2) . # وخرج أبو داود من حديث أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) ، وخرجه الترمذي وابن ماجه ~~بمعناه من حديث أنس (3) . # وقد روي عن السلف تفسير حسن الخلق، فعن الحسن قال: حسن الخلق: الكرم ~~والبذلة والاحتمال. # وعن الشعبي قال: حسن الخلق: البذلة والعطية والبشر الحسن، وكان الشعبي ~~كذلك. PageV02P543 # وعن ابن المبارك قال: هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى (1) . # وسئل سلام بن أبي مطيع عن حسن الخلق، فأنشد: # تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله # ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله # هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله # وقال الإمام أحمد: حسن الخلق أن لا تغضب ولا تحتد، وعنه أنه قال: حسن ~~الخلق أن تحتمل ما يكون من الناس. # وقال إسحاق بن راهويه: هو بسط الوجه، وأن لا تغضب، ونحو ذلك قال محمد بن ~~نصر. # وقال بعض أهل العلم: حسن الخلق: كظم الغيظ لله، وإظهار # الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر، والعفو عن الزالين إلا تأديبا أو ~~إقامة حد وكف الأذى عن كل مسلم أو معاهد إلا تغيير منكر أو أخذا بمظلمة ~~لمظلوم من غير تعد (2) . # وفي "مسند الإمام أحمد" (3) # من حديث معاذ بن أنس الجهني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن شتمك (4)) ) . # وخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر الجهني، قال: قال لي رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: PageV02P544 # ((يا عقبة، ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ تصل من قطعك، ~~وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)) (1) . # وخرج الطبراني من ms258 حديث علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا ~~أدلك على أكرم أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، ~~وتعفو عمن ظلمك)) (2) . PageV02P545 ### | الحديث التاسع عشر # عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فقال: # ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا ~~سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على ~~أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن ~~يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت ~~الصحف)) . # رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. # وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء ~~يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن # ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر # يسرا)) . # هذا الحديث خرجه الترمذي (1) من رواية حنش الصنعاني، عن ابن عباس، وخرجه ~~الإمام أحمد (2) # من حديث حنش أيضا مع إسنادين آخرين منقطعين (3) ولم يميز لفظ بعضها من ~~بعض، ولفظ حديثه: ((يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟)) ~~فقلت: بلى، فقال: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله ~~في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت، فاسأل الله، وإذا استعنت، فاستعن ~~بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن ينفعوك ~~بشيء لم يقضه الله، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه ~~الله عليك، لم يقدروا # عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا، وأن النصر مع الصبر، ~~وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا)) . PageV02P547 # وهذا اللفظ أتم من اللفظ الذي ذكره الشيخ - رحمه الله -، وعزاه إلى غير ~~الترمذي، واللفظ الذي ذكره الشيخ رواه عبد بن حميد في " مسنده " بإسناد ~~ضعيف عن عطاء (1) ، عن ابن ms259 عباس، وكذلك عزاه ابن الصلاح في " الأحاديث ~~الكلية " التي هي أصل أربعين الشيخ رحمه الله إلى عبد بن حميد وغيره. # وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية جماعة منهم (2) : ~~ابنه علي، ومولاه عكرمة (3) ، وعطاء بن أبي رباح (4) ، وعمرو بن دينار، ~~وعبيد الله بن عبد الله (5) ، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة (6) # وغيرهم (7) . # وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي (8) ، كذا قاله ~~ابن منده وغيره. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وصى ابن عباس ~~بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري (9) ، وسهل بن سعد ~~(10) ، وعبد الله بن جعفر (11) ، وفي أسانيدها كلها ضعف. # وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة، وبعضها أصلح من بعض (12) ، ~~وبكل حال، فطريق حنش التي خرجها الترمذي حسنة جيدة. # وهذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين، حتى قال ~~بعض العلماء (13) : تدبرت هذا الحديث، فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفى من ~~الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه. PageV02P548 # قلت: وقد أفردت لشرحه جزءا كبيرا ونحن نذكر هاهنا مقاصده على وجه ~~الاختصار إن شاء الله تعالى (1) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((احفظ الله)) يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، ~~وأوامره، # ونواهيه، وحفظ ذلك: هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه ~~بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، ~~فمن فعل ذلك، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه، وقال ~~- عز وجل -: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمان بالغيب وجاء بقلب ~~منيب} (2) . وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب ~~منها. # ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله الصلاة، وقد أمر الله بالمحافظة ~~عليها، فقال: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (3) ومدح المحافظين ~~عليها بقوله: {والذين هم على صلاتهم يحافظون} (4) . # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من حافظ عليها، كان له عند الله ~~عهد أن يدخله الجنة)) (5) PageV02P549 # وفي حديث آخر: ((من حافظ عليهن، كن ms260 له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة)) ~~(1) . # وكذلك الطهارة، فإنها مفتاح الصلاة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)) (2) . # ومما يؤمر بحفظه الأيمان، قال الله - عز وجل -: {واحفظوا أيمانكم} (3) ، ~~فإن الأيمان يقع الناس فيها كثيرا، ويهمل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ~~ولا يلتزمه. # ومن ذلك حفظ الرأس والبطن كما في حديث ابن مسعود المرفوع: ((الاستحياء من ~~الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى)) خرجه الإمام ~~أحمد والترمذي (4) . PageV02P550 # وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظ ~~البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم. قال الله - عز وجل -: # {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} (1) ، وقد جمع الله ذلك كله ~~في قوله: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (2) . # ويتضمن أيضا حفظ البطن من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب. # ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله - عز وجل -: اللسان والفرج، وفي حديث ~~أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من حفظ ما بين لحييه، ~~وما بين رجليه، دخل الجنة)) خرجه الحاكم (3) . PageV02P551 # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((من حفظ ما بين فقميه وفرجه، دخل الجنة)) . # وأمر الله - عز وجل - بحفظ الفروج، ومدح الحافظين لها، فقال: {قل ~~للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (2) ، وقال: {والحافظين فروجهم ~~والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} ~~(3) ، وقال: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} إلى قوله: ~~{والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ~~ملومين} (4) . # وقال أبو إدريس الخولاني: أول ما وصى الله به آدم عند إهباطه إلى الأرض: ~~حفظ فرجه، وقال: لا تضعه إلا في حلال. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحفظك)) يعني: أن من حفظ حدود الله، ~~وراعى حقوقه، حفظه الله، فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: {وأوفوا ms261 ~~بعهدي أوف # بعهدكم} (5) ، وقال: {فاذكروني أذكركم} (6) ، وقال: {إن تنصروا الله ~~ينصركم} (7) . PageV02P552 # وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: # أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال ~~الله - عز وجل -: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} ~~(1) . قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا ~~عنه (2) . # وقال علي - رضي الله عنه -: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا ~~جاء القدر خليا بينه وبينه، وإن الأجل جنة حصينة (3) . # وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس ~~والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئا أذن الله فيه فيصيبه ~~(4) . # وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عمر، قال: لم يكن ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: ~~((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو ~~والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عورتي، وآمن روعتي، ~~واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك ~~أن أغتال من PageV02P553 # تحتي)) (1) . # ومن حفظ الله في صباه وقوته، حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه ~~بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله. # كان بعض العلماء قد جاوز المئة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يوما وثبة ~~شديدة، فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها ~~الله علينا في الكبر (2) . وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخا يسأل الناس، ~~فقال: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره. # وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قيل في قوله تعالى: ~~{وكان أبوهما صالحا} (3) : أنهما حفظا بصلاح أبيهما (4) . قال سعيد بن ~~المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك، ثم تلا هذه ~~الآية {وكان أبوهما صالحا} (5) ، PageV02P554 # وقال عمر بن عبد العزيز: ما من مؤمن (1) يموت إلا حفظه الله ms262 في عقبه وعقب ~~عقبه. # وقال ابن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات ~~التي حوله فما يزالون في حفظ من الله وستر (2) . # ومتى كان العبد مشتغلا بطاعة الله، فإن الله يحفظه في تلك الحال، وفي " ~~مسند الإمام أحمد " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كانت امرأة في ~~بيت، فخرجت في سرية من المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عنزا وصيصيتها كانت تنسج ~~بها، قال: ففقدت عنزا لها وصيصيتها، فقالت: يا رب، إنك قد ضمنت لمن خرج في ~~سبيلك أن تحفظ عليه، وإني قد فقدت عنزا من غنمي وصيصيتي، وإني أنشدك عنزي ~~وصيصيتي)) . قال: وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر شدة مناشدتها ~~ربها تبارك وتعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: # ((فأصبحت عنزها ومثلها، وصيصيتها ومثلها)) (3) . # والصيصية: هي الصنارة التي يغزل بها وينسج (4) . # فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى. قال بعض السلف: من اتقى الله، فقد حفظ ~~نفسه، ومن ضيع تقواه، فقد ضيع PageV02P555 # نفسه، والله الغنى عنه. # ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له ~~من الأذى، كما جرى لسفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كسر به ~~المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسد، فجعل يمشي معه حتى دله على الطريق، ~~فلما أوقفه عليها، جعل يهمهم كأنه يودعه، ثم رجع عنه (1) . # ورؤي إبراهيم بن أدهم نائما في بستان وعنده حية في فمها طاقة نرجس، فما ~~زالت تذب عنه حتى استيقظ (2) . # وعكس هذا أن من ضيع الله، ضيعه الله، فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر ~~والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف: إني لأعصي # الله، فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي (3) . # النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله للعبد في دينه ~~وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المحرمة، ويحفظ ~~عليه دينه عند PageV02P556 # موته، فيتوفاه على الإيمان، قال بعض السلف: إذا حضر الرجل الموت يقال ~~للملك: شم رأسه، قال ms263: أجد في رأسه القرآن، قال: شم قلبه، قال: أجد في قلبه ~~الصيام، قال: شم قدميه، قال: أجد في قدميه القيام، قال: حفظ نفسه، فحفظه ~~الله. # وفي " الصحيحين " عن البراء بن عازب (1) ، # عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه أمره أن يقول عند منامه: إن قبضت ~~نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين. # وفي حديث عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه أن يقول: اللهم ~~احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ~~ولا تطع في عدوا ولا حاسدا. خرجه ابن حبان في " صحيحه " (2) . PageV02P557 # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يودع من أراد سفرا، فيقول: ((استودع ~~الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)) ، وكان يقول: ((إن الله إذا استودع شيئا ~~حفظه)) . خرجه النسائي وغيره (1) . PageV02P558 # وفي الجملة، فالله - عز وجل - يحفظ على المؤمن الحافظ لحدود دينه، ويحول ~~بينه وبين ما يفسد عليه دينه بأنواع من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها، ~~وقد يكون كارها له، كما قال في حق يوسف - عليه السلام -: {كذلك لنصرف عنه ~~السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} (1) . # قال ابن عباس في قوله تعالى: {أن الله يحول بين المرء وقلبه} (2) ، قال: ~~يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار (3) . # وقال الحسن - وذكر أهل المعاصي -: هانوا عليه، فعصوه، ولو عزوا عليه ~~لعصمهم (4) . # وقال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، ~~فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته ~~النار، فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو ~~إلا فضل الله - عز وجل -. # وخرجه الطبراني من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول ~~الله - عز وجل -: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت عليه ~~أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسده ~~ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، ~~وإن من عبادي من لا يصلح ms264 إيمانه إلا السقم، ولو أصححته، لأفسده ذلك، ~~PageV02P559 # وإن من عبادي من يطلب بابا من العبادة، فأكفه عنه، لكيلا يدخله العجب، ~~إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير)) (1) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((احفظ الله تجده تجاهك)) ، وفي رواية: ~~((أمامك)) معناه: أن من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كل ~~أحواله حيث توجه يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده ف {إن الله مع الذين ~~اتقوا والذين هم محسنون} (2) قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله ~~معه، فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل ~~(3) . # كتب بعض السلف إلى أخ له: أما بعد، فإن كان الله معك فمن تخاف؟ وإن كان ~~عليك فمن ترجو؟ # وهذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله تعالى لموسى وهارون: {لا تخافا ~~إنني معكما أسمع وأرى} (4) ، وقول موسى: {إن معي ربي سيهدين} (5) . وفي قول # النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وهما في الغار: ((ما ظنك باثنين ~~الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله # معنا)) (6) . # فهذه المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد، والحفظ والإعانة بخلاف المعية ~~العامة المذكورة في قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا ~~خمسة إلا PageV02P560 # هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا} (1) ، ~~وقوله: {ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} (2) ~~، فإن هذه # المعية تقتضي علمه واطلاعه ومراقبته لأعمالهم، فهي مقتضية لتخويف العباد ~~منه، # والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطته ونصره، فمن حفظ الله، وراعى ~~حقوقه، وجده أمامه وتجاهه على كل حال، فاستأنس به، واستغنى به عن خلقه، # كما في حديث: ((أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان)) (3) ~~وقد # سبق. # وروي عن بنان الحمال: أنه دخل البرية وحده على طريق تبوك، فاستوحش، فهتف ~~به هاتف: لم تستوحش؟ أليس حبيبك معك؟ (4) # وقيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك؟ فقال: كيف أستوحش، وهو يقول: # ((أنا جليس من ذكرني)) (5) ، # وقيل ms265 لآخر: نراك وحدك؟ فقال: من يكن الله معه، كيف يكون وحده؟ ، وقيل ~~لآخر: أما معك مؤنس؟ قال: بلى، قيل له: أين هو؟ قال: أمامي (6) ، وخلفي، ~~وعن يميني، وعن شمالي، وفوقي. وكان الشبلي # ينشد: # إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بذكرك هاديا (7) # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في ~~الشدة)) يعني: أن العبد إذا اتقى الله، وحفظ حدوده، وراعى حقوقه في حال ~~رخائه، فقد تعرف بذلك إلى الله، وصار بينه وبين ربه معرفة خاصة، فعرفه ربه ~~في الشدة، ورعى له تعرفه إليه في الرخاء، فنجاه من الشدائد بهذه المعرفة، ~~PageV02P561 # وهذه معرفة خاصة تقتضي قرب العبد من ربه، ومحبته له، وإجابته لدعائه. # فمعرفة العبد لربه نوعان: # أحدهما: المعرفة العامة، وهي معرفة الإقرار به والتصديق والإيمان، وهذه ~~عامة للمؤمنين. # والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميل القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه، ~~والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة ~~الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكين أهل الدنيا، ~~خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله - عز ~~وجل -. # وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي، وليس معرفته ~~الإقرار به، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييت منه (1) . # ومعرفة الله أيضا لعبده نوعان: # معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده، واطلاعه على ما أسروه وما أعلنوه، ~~كما قال: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} (2) ، وقال: {هو ~~أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} (3) . # والثاني: معرفة خاصة: وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبه إليه، وإجابة دعائه، ~~وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما ~~يحكى عن ربه: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، ~~كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله ~~التي يمشي بها، فلئن سألني، لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) ، ~~PageV02P562 # وفي رواية: ((ولئن دعاني لأجيبنه)) (1) . # ولما ms266 هرب الحسن من الحجاج دخل إلى بيت حبيب أبي محمد، فقال له حبيب: # يا أبا سعيد، أليس بينك وبين ربك ما تدعوه به فيسترك من هؤلاء؟ ادخل ~~البيت، فدخل، ودخل الشرط على أثره، فلم يروه، فذكر ذلك للحجاج، فقال: بل ~~كان في البيت، إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه. # واجتمع الفضيل بن عياض بشعوانة العابدة، فسألها الدعاء، فقالت: يا فضيل، ~~وما بينك وبينه، ما إن دعوته أجابك، فغشي على الفضيل (2) . # وقيل لمعروف: ما الذي هيجك (3) إلى الانقطاع والعبادة - وذكر له الموت ~~والبرزخ والجنة والنار -؟ فقال معروف: إن ملكا هذا كله بيده إن كانت بينك ~~وبينه معرفة كفاك جميع هذا. # وفي الجملة: فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله ~~باللطف والإعانة في حال شدته. # وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء)) (4) . ~~PageV02P563 # وخرج ابن أبي حاتم (1) وغيره من رواية يزيد الرقاشي، عن أنس يرفعه: أن ~~يونس - عليه السلام - لما دعا في بطن الحوت، قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت ~~معروف من بلاد غريبة، فقال الله - عز وجل -: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومن ~~هو؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة ~~مستجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا رب، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه ~~من البلاء؟ قال: بلى، قال: # فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء. # وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء، يذكركم في الشدة، وإن يونس - ~~عليه السلام - كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت، قال الله - عز ~~وجل -: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (2) ، وإن ~~فرعون كان طاغيا ناسيا لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله ~~تعالى: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} (3) (4) . # وقال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاء في السراء، فنزلت به ضراء، فدعا ~~الله تعالى، قالت الملائكة: صوت ms267 معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعاء في ~~السراء، فنزلت به ضراء، فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف، ~~فلا يشفعون له (5) . # وقال رجل لأبي الدرداء: أوصني، فقال: اذكر الله في السراء يذكرك الله - ~~عز وجل - في الضراء (6) . # وعنه أنه قال: ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم # ضرائك (7) . PageV02P564 # وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت، وما بعده أشد منه إن لم ~~يكن مصير العبد إلى خير، فالواجب على المؤمن الاستعداد للموت وما بعده في ~~حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله - عز وجل -: {يا أيها الذين ~~آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما ~~تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} (1) ~~. # فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعد حينئذ للقاء الله بالموت وما ~~بعده، ذكره الله عند هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولطف به، وأعانه، وتولاه، ~~وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راض، ومن نسي الله في حال صحته ورخائه، ~~ولم يستعد حينئذ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنه أعرض عنه، ~~وأهمله، فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له، أحسن الظن بربه، وجاءته البشرى ~~من الله، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، والفاجر بعكس ذلك، وحينئذ يفرح ~~المؤمن، ويستبشر بما قدمه مما هو قادم عليه، ويندم المفرط، ويقول: {يا ~~حسرتى على ما فرطت في جنب # الله} (2) . # قال أبو عبد الرحمان السلمي قبل موته: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين ~~رمضان (3) . # وقال أبو بكر بن عياش لابنه عند موته: أترى الله يضيع لأبيك أربعين سنة ~~يختم PageV02P565 # القرآن كل ليلة؟ (1) # وختم آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجى للموت، ثم قال: بحبي لك، إلا رفقت ~~بي في هذا المصرع؟ كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك لا إله إلا الله، ثم ~~قضى (2) . # ولما احتضر زكريا بن عدي، رفع يديه، وقال: اللهم إني إليك لمشتاق (3) . # وقال عبد الصمد الزاهد عند موته: سيدي لهذه ms268 الساعة خبأتك، ولهذا اليوم ~~اقتنيتك، حقق حسن ظني بك (4) . # وقال قتادة في قول الله - عز وجل -: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} (5) ~~قال: من الكرب عند الموت (6) . # وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: ينجيه من كل كرب في ~~الدنيا والآخرة (7) . # وقال زيد بن أسلم في قوله - عز وجل -: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم ~~استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا} (8) الآية. قال: ~~يبشر بذلك عند موته، وفي قبره، ويوم يبعث، فإنه لفي الجنة، وما ذهبت فرحة ~~البشارة من قلبه. PageV02P566 # وقال ثابت البناني في هذه الآية: بلغنا أن المؤمن حيث يبعثه الله من ~~قبره، يتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخف ولا ~~تحزن، فيؤمن الله خوفه، ويقر الله عينه، فما من عظيمة تغشى الناس يوم ~~القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما # هداه الله، ولما كان يعمل في الدنيا (1) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت، ~~فاستعن بالله)) هذا منتزع من قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} (2) ، ~~فإن السؤال لله هو دعاؤه والرغبة إليه، والدعاء هو العبادة، كذا روي عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث النعمان بن بشير، وتلا قوله تعالى: ~~{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (3) خرجه الإمام أحمد، وأبو داود (4) ، ~~والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (5) . # وخرج الترمذي (6) من حديث أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~((الدعاء مخ # العبادة)) ، فتضمن هذا الكلام أن يسأل الله - عز وجل -، ولا يسأل غيره، ~~وأن يستعان بالله دون غيره. # وأما السؤال، فقد أمر الله بمسألته، فقال: {واسألوا الله من فضله} (7) . ~~وفي # " الترمذي " (8) # عن ابن مسعود مرفوعا: PageV02P567 # ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن # يسأل)) . # وفيه أيضا عن أبي هريرة مرفوعا: ((من لا يسأل الله يغضب عليه)) (1) . # وفي حديث آخر: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا ~~انقطع)) (2) . PageV02P568 # وفي النهي عن مسألة المخلوقين أحاديث كثيرة صحيحة، # PageV02P569 # وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم ms269 - جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا ~~الناس شيئا، منهم: أبو بكر الصديق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه ~~أو خطام ناقته، فلا يسأل أحدا أن يناوله إياه (1) . # وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود: أن رجلا ~~جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن بني فلان ~~أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~((إن آل محمد كذا وكذا أهل بيت (2) ، مالهم مد من طعام أو صاع، فاسأل الله ~~- عز وجل -)) فرجع إلى امرأته، فقالت: ما قال لك؟ فأخبرها، فقالت: نعم ما ~~رد عليك، فما لبث أن رد الله عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت، فأتى النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وأمر ~~الناس بمسألة الله - عز وجل - والرغبة إليه، وقرأ: {ومن يتق الله يجعل له ~~مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} (3) (4) . # وقد ثبت في "الصحيحين" (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن الله - ~~عز وجل - يقول: ((هل من داع، فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر ~~فأغفر له؟)) . PageV02P570 # وخرج المحاملي وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((قال الله تعالى: من ذا الذي دعاني فلم أجبه؟ وسألني فلم أعطه؟ ~~واستغفرني فلم أغفر له؟ وأنا أرحم الراحمين)) (1) . # واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين؛ لأن السؤال فيه إظهار ~~PageV02P571 # الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول ~~على دفع هذا # الضرر، ونيل المطلوب، وجلب المنافع، ودرء المضار، ولا يصلح الذل ~~والافتقار إلا لله وحده؛ لأنه حقيقة العبادة، وكان الإمام أحمد يدعو ويقول: ~~اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك (1) ، ولا يقدر ~~على كشف الضر وجلب النفع سواه. كما قال: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له ~~إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} (2) ، وقال: {ما يفتح الله للناس من ~~رحمة فلا ممسك لها ms270 وما يمسك فلا مرسل له من بعده} (3) . # والله سبحانه يحب أن يسأل ويرغب إليه في الحوائج، ويلح في سؤاله ودعائه، ~~ويغضب على من لا يسأله، ويستدعي من عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه ~~كلهم سؤلهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، والمخلوق بخلاف ذلك كله: يكره أن ~~يسأل، ويحب أن لا يسأل، لعجزه وفقره وحاجته. ولهذا قال وهب بن منبه لرجل ~~كان يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يغلق عنك بابه، ويظهر لك فقره، ويواري عنك ~~غناه، وتدع من يفتح لك بابه بنصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ~~ادعني أستجب لك؟! (4) # وقال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل ~~دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله، ووعدك ~~أن يجيبك (5) . # وأما الاستعانة بالله - عز وجل - دون غيره من الخلق؛ فلأن العبد عاجز عن ~~الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا ~~الله - عز وجل -، PageV02P572 # فمن أعانه الله، فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول، وهذا تحقيق معنى قول: ~~((لا حول ولا قوة إلا بالله)) ، فإن المعنى: لا تحول للعبد من حال إلى حال، ~~ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الجنة، ~~فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، ~~والصبر على المقدورات كلها في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ~~ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله - عز وجل -، فمن حقق ~~الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه. وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: # ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز)) (1) . # ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكله الله إلى من استعان به ~~فصار مخذولا. كتب الحسن إلى عمر بن العزيز: لا تستعن بغير الله، فيكلك الله ~~إليه. ومن كلام بعض السلف: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك، عجبت لمن ~~يعرفك كيف يستعين بغيرك. # قوله ms271 - صلى الله عليه وسلم -: ((جف القلم بما هو كائن)) وفي رواية أخرى: ~~((رفعت الأقلام، وجفت الصحف)) هو كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها، ~~والفراغ منها من أمد بعيد، فإن الكتاب إذا فرغ من كتابته، ورفعت الأقلام ~~عنه، وطال عهده، فقد رفعت عنه الأقلام، وجفت الأقلام التي كتب بها من ~~مدادها، وجفت الصحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها، PageV02P573 # وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها. # وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى، قال الله ~~تعالى: # {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ~~إن # ذلك على الله يسير} (1) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض ~~بخمسين ألف سنة)) . # وفيه (3) أيضا عن جابر: أن رجلا قال: يا رسول الله، فيم العمل اليوم؟ ~~أفيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا، بل ~~فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير)) ، قال: ففيم العمل؟ قال: ((اعملوا ~~فكل ميسر لما خلق له)) . # وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث عبادة بن الصامت، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال: ~~اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)) (4) . PageV02P574 # والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا يطول ذكرها. # PageV02P575 # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك ~~بشيء لم يقضه الله، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه ~~الله عليك، لم يقدروا عليه)) . # هذه رواية الإمام أحمد، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضا (1) ، والمراد: ~~إن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه، فكله مقدر عليه، ولا يصيب ~~العبد إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق ~~كلهم جميعا. # وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله - عز وجل -: {قل لن يصيبنا ms272 إلا ما كتب ~~الله # لنا} (2) ، وقوله: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب ~~من قبل أن نبرأها} (3) ، PageV02P576 # وقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} ~~(1) . # وخرج الإمام أحمد (2) # من حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن لكل شيء ~~حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ~~ما أخطأه لم يكن ليصيبه)) . # وخرج أبو داود (3) وابن ماجه (4) من حديث زيد بن ثابت، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - معنى # ذلك أيضا. # واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده، فهو ~~متفرع عليه، وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله ~~له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد ~~البتة، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك ~~للعبد توحيد ربه # - عز وجل -، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته ~~جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولا ~~يغني عن عابده شيئا، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير ~~الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء، ~~وتقديم طاعته على طاعة الخلق # جميعا، وأن يتقي سخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا، وإفراده بالاستعانة ~~به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، بخلاف ما كان ~~PageV02P577 # المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء ~~من يرجون نفعه من دونه، قال الله - عز وجل -: {قل أفرأيتم ما تدعون من دون ~~الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات ~~رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون} (1) . # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا ~~كثيرا)) يعني: أن ms273 ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر ~~عليها، كان له في الصبر خير كثير. # وفي رواية عمر مولى غفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام، ~~وهي: ((فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطع، فإن ~~في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا)) . # وفي رواية أخرى من رواية علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه؛ لكن إسنادها ~~ضعيف، زيادة أخرى بعد هذا، وهي: قلت: يا رسول الله، كيف أصنع باليقين؟ قال: ~~((أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا ~~أنت أحكمت باب اليقين)) . ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق ~~والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما أصابه، فمن استطاع أن ~~يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل، فإن لم يستطع ~~الرضا، فإن في الصبر على (2) المكروه خيرا كثيرا. # فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب: # إحداهما: أن يرضى بذلك، وهذه درجة عالية رفيعة جدا، قال الله - عز وجل -: ~~{ما PageV02P578 # أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (1) . قال علقمة: ~~هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى. # وخرج الترمذي من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن ~~الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) (2) ، ~~وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: ((أسألك الرضا بعد ~~القضاء)) (3) . # ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته ~~سراء شكر، كان خيرا له، وإن أصابته # ضراء صبر، كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن)) (4) . # وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أن يوصيه وصية جامعة ~~موجزة، فقال: ((لا تتهم الله في قضائه)) (5) . PageV02P579 # قال أبو الدرداء: إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به ms274، وقال ابن مسعود: ~~إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن ~~في الشك والسخط (1) ، فالراضي لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء، كذا ~~روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما (2) . وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي ~~سرور إلا في مواضع القضاء والقدر. # فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشه كله في نعيم وسرور، قال الله تعالى: # {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} (3) قال بعض ~~السلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة (4) . وقال عبد الواحد بن زيد: ~~الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين (5) . # وأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء، وأنه غير ~~متهم في قضائه، وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء، فينسيهم ألم المقتضي به، ~~وتارة يلاحظون عظمة المبتلي وجلاله وكماله، فيستغرقون في مشاهدة ذلك، حتى ~~لا يشعرون بالألم، وهذا يصل إليه خواص أهل المعرفة والمحبة، حتى ربما ~~تلذذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم، كما قال بعضهم: أوجدهم في ~~عذابه عذوبة. PageV02P580 # وسئل بعض التابعين عن حاله في مرضه، فقال: أحبه إليه أحبه إلي (1) . وسئل ~~السري: هل يجد المحب ألم البلاء؟ فقال: لا. وقال بعضهم: # عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب # وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب # حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب # والدرجة الثانية: أن يصبر على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، ~~فالرضا فضل مندوب إليه مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير ~~كثير، فإن الله أمر به، ووعد عليه جزيل الأجر. قال الله - عز وجل -: {إنما ~~يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (2) ، وقال: {وبشر الصابرين الذين إذا ~~أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ~~ورحمة وأولئك هم # المهتدون} (3) . قال الحسن: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن (4) . # والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر (5) : كف النفس وحبسها عن التسخط مع ~~وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: ~~انشراح الصدر ms275 وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم، وإن وجد الإحساس # بالألم، لكن الرضا يخففه لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا ~~قوي الرضا، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق. # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واعلم أن النصر مع الصبر)) هذا موافق ~~لقول الله - عز وجل -: {قال PageV02P581 # الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ~~والله مع # الصابرين} (1) ، وقوله تعالى: {فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن ~~يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} (2) . وقال عمر ~~لأشياخ من بني عبس: بم قاتلتم الناس؟ قالوا: بالصبر، لم نلق قوما إلا صبرنا ~~لهم كما صبروا لنا. وقال بعض السلف: كلنا يكره الموت وألم الجراح، ولكن ~~نتفاضل بالصبر. وقال البطال (3) : # الشجاعة صبر ساعة. # وهذا في جهاد العدو الظاهر، وهو جهاد الكفار، وكذلك جهاد العدو الباطن، ~~وهو جهاد النفس والهوى، فإن جهادهما من أعظم الجهاد، كما قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: # ((المجاهد من جاهد نفسه في الله)) (4) . # وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك PageV02P582 # فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها (1) . # وقال بقية بن الوليد: أخبرنا إبراهيم بن أدهم، قال: حدثنا الثقة، عن علي ~~بن أبي طالب، قال: أول ما تنكرون من جهادكم جهادكم أنفسكم. # وقال إبراهيم بن أبي عبلة (2) لقوم جاءوا من الغزو: قد جئتم من الجهاد ~~الأصغر، فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد ~~القلب (3) . ويروى هذا مرفوعا من حديث جابر بإسناد ضعيف، ولفظه: ((قدمتم من ~~الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: ~~((مجاهدة العبد لهواه)) (4) . # ويروى من حديث سعد بن سنان، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: PageV02P583 # ((ليس عدوك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة، وإذا قتلته كان لك نورا، أعدى ~~عدوك نفسك التي بين جنبيك)) (1) . # وقال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنهما حين استخلفه: إن أول ~~ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك. # فهذا الجهاد يحتاج ms276 أيضا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه ~~غلبه، وحصل له النصر والظفر، وملك نفسه، فصار عزيزا ملكا، ومن جزع ولم يصبر ~~على مجاهدة ذلك، غلب وقهر وأسر، وصار عبدا ذليلا أسيرا في يدي شيطانه وهواه ~~(2) ، كما قيل: # إذا المرء لم يغلب هواه أقامه ... بمنزلة فيها العزيز ذليل PageV02P584 # قال ابن المبارك: من صبر، فما أقل ما يصبر، ومن جزع، فما أقل ما يتمتع. # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن النصر مع الصبر)) يشمل النصر في ~~الجهادين: جهاد العدو الظاهر، وجهاد العدو الباطن، فمن صبر فيهما، نصر وظفر ~~بعدوه، ومن لم يصبر فيهما وجزع، قهر وصار أسيرا لعدوه، أو قتيلا له. # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن الفرج مع الكرب)) وهذا يشهد له قوله ~~- عز وجل -: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته} (1) وقول ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: # ((ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)) خرجه الإمام أحمد، وخرجه ابنه عبد ~~الله (2) # في حديث طويل، وفيه: ((علم الله يوم الغيث أنه ليشرف عليكم أزلين قنطين، ~~فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قرب)) (3) ، PageV02P585 # والمعنى: أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس القطر عنهم وقنوطهم ~~ويأسهم من الرحمة، وقد اقترب وقت فرجه ورحمته # لعباده، بإنزال الغيث عليهم، وتغيره لحالهم وهم لا يشعرون. وقال تعالى: ~~{فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل ~~عليهم من قبله لمبلسين} (1) ، وقال تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا ~~أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} (2) ، وقال تعالى: {حتى يقول الرسول والذين ~~آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} (3) ، وقال حاكيا عن يعقوب ~~أنه قال لبنيه: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح ~~الله} (4) ، ثم قص قصة اجتماعهم عقيب ذلك. # وكم قص سبحانه من قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهي الكرب كإنجاء نوح ~~ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، ~~وإنجاء موسى ms277 وقومه من اليم، وإغراق عدوهم، وقصة أيوب ويونس، وقصص محمد - ~~صلى الله عليه وسلم - مع أعدائه، وإنجائه منهم، كقصته في الغار، ويوم بدر، ~~ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، وغير ذلك. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن مع العسر يسرا)) هو منتزع من قوله ~~تعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} (5) ، وقوله - عز وجل -: {فإن مع العسر ~~يسرا إن مع العسر # يسرا} (6) . PageV02P586 # وخرج البزار في " مسنده " (1) ، وابن أبي حاتم - واللفظ له - من حديث ~~أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لو جاء العسر، فدخل هذا ~~الجحر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه (2)) ) ، فأنزل الله - عز وجل - ~~{فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا} . # وروى ابن جرير (3) وغيره من حديث الحسن مرسلا (4) نحوه، وفي حديثه: فقال # النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يغلب عسر يسرين)) . # وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال: لو أن العسر دخل في جحر ~~لجاء اليسر حتى يدخل معه، ثم قال: قال الله تعالى: {فإن مع العسر يسرا إن ~~مع العسر يسرا} (5) . وبإسناده أن أبا عبيدة حصر فكتب إليه عمر يقول: مهما ~~ينزل بامرئ شدة يجعل الله بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين (6) ، وإنه ~~يقول: # {اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (7) . # ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليسر بالعسر: أن الكرب إذا اشتد ~~وعظم وتناهى، وحصل للعبد الإياس من كشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبه ~~بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تطلب ~~بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال تعالى: {ومن يتوكل على ~~الله فهو حسبه} (8) . PageV02P587 # وروى آدم بن أبي إياس في " تفسيره " بإسناده عن محمد بن إسحاق قال: جاء ~~مالك الأشجعي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أسر ابني عوف، فقال ~~له: أرسل إليه أن # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة ~~إلا بالله، فأتاه الرسول فأخبره، فأكب عوف يقول: لا حول ms278 ولا قوة إلا بالله، ~~وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها، فأقبل ~~فإذا هو بسرح القوم الذين كانوا شدوه، فصاح بهم، فاتبع آخرها أولها، فلم ~~يفاجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه (1) : عوف ورب الكعبة، فقالت ~~أمه: واسوأتاه (2) ، وعوف كئيب يألم ما فيه من القد، فاستبق الأب والخادم ~~إليه، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا، فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فأتى ~~أبوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال ~~له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعا ~~بإبلك)) (3) ، ونزل: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ~~ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (4) الآية. # قال الفضيل: والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئا، لأعطاك مولاك ~~كل ما تريد. وذكر إبراهيم بن أدهم عن بعضهم قال: ما سأل السائلون مسألة هي ~~ألحلف من أن يقول العبد: ما شاء الله، قال: يعني بذلك التفويض إلى الله - ~~عز وجل -. وقال سعيد بن سالم القداح: بلغني أن موسى - عليه السلام - كانت ~~له إلى الله حاجة، فطلبها، فأبطأت عليه، فقال: ما شاء الله، فإذا حاجته بين ~~يديه، فعجب، فأوحى الله إليه: أما علمت أن قولك: ما شاء الله أنجح ما طلبت ~~به الحوائج. PageV02P588 # وأيضا فإن المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعد كثرة دعائه وتضرعه، ولم ~~يظهر عليه أثر الإجابة يرجع إلى نفسه باللائمة، وقال لها: إنما أتيت من ~~قبلك، ولو كان فيك خير لأجبت، وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات، ~~فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه أهل لما نزل به من البلاء، ~~وأنه ليس بأهل لإجابة الدعاء، فلذلك تسرع إليه حينئذ إجابة الدعاء وتفريج ~~الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. # قال وهب: تعبد رجل زمانا، ثم بدت له إلى الله حاجة، فصام سبعين سبتا، ~~يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم ms279 سأل الله حاجته فلم يعطها، فرجع إلى ~~نفسه فقال: منك أتيت، لو كان فيك خير، أعطيت حاجتك، فنزل إليه عند ذلك ملك، ~~فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت، وقد قضى الله حاجتك. ~~خرجه ابن أبي الدنيا. # ولبعض المتقدمين في هذا المعنى شعر (1) : # عسى ما ترى أن لا يدوم وأن ترى ... له فرجا مما ألح به الدهر # عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر # إذا لاح عسر فارج يسرا فإنه ... قضى الله أن العسر يتبعه اليسر ~~PageV02P589 ### | الحديث العشرون # عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي، ~~فاصنع ما شئت)) رواه # البخاري. # هذا الحديث خرجه البخاري من رواية منصور بن المعتمر، عن ربعي بن حراش، عن ~~أبي مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وأظن أن مسلما لم يخرجه؛ ~~لأنه قد رواه قوم، فقالوا: عن ربعي، عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - (2) فاختلف في إسناده، لكن أكثر الحفاظ حكموا بأن القول قول من قال: ~~عن أبي مسعود، منهم: البخاري، وأبو زرعة الرازي (3) ، والدارقطني (4) ~~وغيرهم، ويدل على صحة ذلك أنه قد روي من وجه آخر عن أبي مسعود من رواية ~~مسروق عنه (5) . # وخرجه الطبراني من حديث أبي الطفيل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أيضا (6) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة ~~الأولى)) يشير إلى أن هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأن الناس تداولوه ~~بينهم، وتوارثوه عنهم قرنا بعد قرن، وهذا يدل PageV02P591 # على أن النبوات المتقدمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بين الناس حتى وصل ~~إلى أول هذه الأمة. وفي بعض الروايات قال: ((لم يدرك الناس من كلام النبوة ~~الأولى إلا هذا)) . خرجها حميد بن زنجويه وغيره. # وقوله: ((إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت)) في معناه قولان: # أحدهما: أنه ليس بمعنى الأمر: أن يصنع ما شاء، ولكنه على ms280 معنى الذم ~~والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان: # أحدهما: أنه أمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعني: إذا لم يكن لك حياء، ~~فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه، كقوله: {اعملوا ما شئتم إنه بما ~~تعملون بصير} (1) ، وقوله: {فاعبدوا ما شئتم من دونه} (2) وقول النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - # : ((من باع الخمر، فليشقص الخنازير)) (3) ، PageV02P592 # يعني: ليقطعها إما لبيعها أو لأكلها، وأمثلته متعددة وهذا اختيار جماعة، ~~منهم: أبو العباس ثعلب. # والطريق الثاني: أنه أمر، ومعناه: الخبر، والمعنى: أن من لم يستحي، صنع ~~ما شاء، فإن المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء، انهمك ~~في كل فحشاء ومنكر، وما يمتنع من مثله من له حياء على حد قوله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((من كذب علي متعمدا (1) ، فليتبوأ مقعده من النار)) (2) ، ~~PageV02P594 # فإن لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، وإن من كذب عليه تبوأ مقعده من النار، ~~وهذا اختيار أبي عبيد القاسم بن سلام - رحمه الله -، وابن قتيبة، ومحمد بن ~~نصر المروزي وغيرهم، وروى أبو داود عن الإمام أحمد ما يدل على مثل هذا ~~القول. # وروى ابن لهيعة، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((إذا أبغض الله عبدا، نزع منه الحياء، فإذا نزع منه ~~الحياء لم تلقه إلا بغيضا متبغضا، ونزع منه الأمانة، فإذا نزع منه الأمانة ~~نزع منه الرحمة، فإذا نزع منه الرحمة نزع منه ربقة الإسلام، فإذا نزع منه ~~ربقة الإسلام، لم تلقه إلا شيطانا # مريدا)) (1) . خرجه حميد بن زنجويه، وخرجه ابن ماجه بمعناه بإسناد ضعيف ~~عن ابن عمر مرفوعا أيضا (2) . # وعن سلمان الفارسي قال: إن الله إذا أراد بعبد هلاكا، نزع منه الحياء، ~~فإذا نزع منه الحياء، لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا كان مقيتا ممقتا، نزع ~~منه الأمانة، فلم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا كان خائنا مخونا، نزع منه ~~الرحمة، فلم تلقه إلا فظا # غليظا، فإذا كان فظا غليظا، نزع ربق الإيمان PageV02P595 # من عنقه، فإذا نزع ربق الإيمان من ms281 عنقه لم تلقه إلا شيطانا لعينا ملعنا ~~(1) . # وعن ابن عباس قال: الحياء والإيمان في قرن، فإذا نزع الحياء، تبعه الآخر. ~~خرجه كله حميد بن زنجويه في كتاب " الأدب ". # وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الحياء من الإيمان كما في " ~~الصحيحين " (2) عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل ~~وهو يعاتب أخاه في الحياء يقول: إنك لتستحيي، كأنه يقول: قد أضر بك، فقال ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعه، فإن الحياء من الإيمان)) (3) . # وفي " الصحيحين " (4) عن أبي هريرة قال: ((الحياء شعبة من الإيمان)) . # وفي " الصحيحين " (5) عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) ، وفي رواية لمسلم قال: ((الحياء خير ~~كله)) ، أو قال: ((الحياء كله خير)) . # وخرج الإمام أحمد (6) والنسائي (7) من حديث الأشج العصري قال: قال لي ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن فيك لخلقين يحبهما الله)) قلت: ما ~~هما؟ قال: ((الحلم والحياء)) قلت: أقديما كان أو حديثا؟ قال: ((بل قديما)) ~~، قلت: الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبهما الله. PageV02P596 # وقال إسماعيل بن أبي خالد: دخل عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - وعنده رجل فاستسقى، فأتي بماء فشرب، فستره النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فقال: ما هذا؟ قال: ((الحياء خلة أوتوها ومنعتموها)) (1) . # واعلم أن الحياء نوعان: # أحدهما: ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها ~~الله العبد ويجبله عليها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياء لا ~~يأتي إلا بخير)) ، فإنه يكف عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، ويحث على ~~استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو من خصال الإيمان بهذا الاعتبار، وقد ~~روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى، ~~ومن اتقى وقي. # وقال الجراح بن عبد الله الحكمي - وكان فارس أهل الشام -: تركت الذنوب ~~حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع (2) . وعن بعضهم قال: رأيت المعاصي ~~نذالة، فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة (3) . PageV02P597 # والثاني: ما كان مكتسبا من ms282 معرفة الله، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، ~~واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا من أعلى خصال # الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان، وقد تقدم أن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال لرجل: # ((استحي من الله كما تستحي رجلا من صالح عشيرتك)) (1) . # وفي حديث ابن مسعود: ((الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن ~~وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ~~ذلك، فقد استحيى من الله)) خرجه الإمام أحمد والترمذي مرفوعا (2) . # وقد يتولد من الله الحياء من مطالعة نعمه ورؤية التقصير في شكرها، فإذا ~~سلب العبد الحياء المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، ~~والأخلاق الدنيئة، فصار كأنه لا إيمان له. وقد روي من مراسيل الحسن، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الحياء حياءان: طرف من الإيمان، ~~والآخر عجز)) ولعله من كلام الحسن، وكذلك قال بشير بن كعب العدوي لعمران بن ~~حصين: إنا نجد في بعض الكتب أن منه سكينة ووقارا لله، ومنه ضعف، فغضب عمران ~~وقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعارض فيه؟ (3) # والأمر كما قاله عمران - رضي الله عنه -، فإن الحياء الممدوح في كلام ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يريد به الخلق الذي يحث على فعل الجميل، ~~وترك القبيح، PageV02P598 # فأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده، ~~فليس هو من الحياء، إنما هو ضعف وخور، وعجز ومهانة، والله أعلم. # والقول الثاني في معنى قوله: ((إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت)) (1) : أنه ~~أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه، وأن المعنى: إذا كان الذي تريد فعله مما ~~لا يستحيى من فعله، لا من الله ولا من الناس، لكونه من أفعال الطاعات، أو ~~من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنع منه حينئذ ما شئت، وهذا قول ~~جماعة من الأئمة، منهم: أبو إسحاق المروزي الشافعي، وحكي مثله عن الإمام ~~أحمد، ووقع كذلك في بعض نسخ " مسائل أبي ms283 داود " المختصرة عنه، ولكن الذي في ~~النسخ المعتمدة التامة كما حكيناه عنه من قبل، وكذلك رواه عنه الخلال في ~~كتاب # " الأدب "، ومن هذا قول بعض السلف - وقد سئل عن المروءة - فقال: أن لا ~~تعمل في السر شيئا تستحيي منه في العلانية، وسيأتي قول النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (2) في ~~موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. # وروى عبد الرازق في " كتابه " (3) ، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن رجل من ~~مزينة قال: قيل: يا رسول الله، ما أفضل ما أوتي الرجل المسلم؟ قال # : ((الخلق الحسن)) ، قال: فما شر ما أوتي المسلم؟ قال: ((إذا كرهت أن يرى ~~عليك شيء في نادي القوم، فلا تفعله إذا خلوت)) . # وفي " صحيح ابن حبان " (4) عن أسامة بن شريك قال: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: PageV02P599 # ((ما كره الله منك شيئا، فلا تفعله إذا خلوت)) . # وخرج الطبراني (1) من حديث أبي مالك الأشعري قال: قلت: يا رسول الله ما ~~تمام البر؟ قال: ((أن تعمل في السر عمل العلانية)) . وخرجه أيضا من حديث ~~أبي عامر السكوني (2) ، قال: قلت: يا رسول الله، فذكره. # وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ في كتاب " أدب المحدث " بإسناده # عن حرملة بن عبد الله، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزداد من ~~العلم، فقمت بين # يديه، فقلت: يا رسول الله، ما تأمرني أن أعمل به؟ قال: ((ائت المعروف، ~~واجتنب المنكر، وانظر الذي سمعته أذنك من الخير يقوله القوم لك إذا قمت # من عندهم فأته، وانظر الذي تكره أن يقوله القوم لك إذا قمت من عندهم، ~~فاجتنبه)) قال: فنظرت فإذا هما أمران لم يتركا شيئا: إتيان المعروف، ~~واجتناب المنكر (3) . # وخرجه ابن سعد في " طبقاته " (4) بمعناه. # وحكى أبو عبيد في معنى الحديث قولا آخر حكاه عن جرير قال: معناه ~~PageV02P600 # أن يريد الرجل أن يعمل الخير، فيدعه حياء من الناس كأنه يخاف الرياء، ~~يقول: فلا يمنعك الحياء من المضي لما أردت، كما جاء في الحديث ms284: ((إذا جاءك # الشيطان وأنت تصلي، فقال: إنك ترائي، فزدها طولا)) (1) ثم قال أبو عبيد: ~~وهذا الحديث ليس يجيء سياقه ولا لفظه على هذا التفسير، ولا على هذا يحمله ~~الناس. # قلت: لو كان على ما قاله جرير، لكان لفظ الحديث: إذا استحييت مما لا ~~يستحيى منه فافعل ما شئت، ولا يخفى بعد هذا من لفظ الحديث ومعناه، والله ~~أعلم. PageV02P601 ### | الحديث الحادي والعشرون # عن سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه -، قال: قلت: يا رسول الله، قل لي ~~في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) ~~رواه # مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (1) من رواية هشام بن عروة، عن أبيه، عن سفيان ~~وسفيان: هو ابن عبد الله الثقفي الطائفي له صحبة، وكان عاملا لعمر بن ~~الخطاب على الطائف. # وقد روي عن سفيان بن عبد الله من وجوه أخر بزيادات، فخرجه الإمام أحمد، ~~والترمذي وابن ماجه من رواية الزهري، عن محمد بن عبد الرحمان بن ماعز (2) ، ~~وعند الترمذي: عبد الرحمان بن ماعز، عن سفيان بن عبد الله قال: قلت: يا ~~رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به، قال: ((قل: ربي الله، ثم استقم)) ، قلت: ~~يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه، ثم قال # : ((هذا)) ، PageV02P603 # وقال الترمذي: حسن صحيح (1) . # وخرجه الإمام أحمد، والنسائي (2) من رواية عبد الله بن سفيان الثقفي، عن ~~أبيه: أن رجلا قال: يا رسول الله، مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا ~~بعدك، # قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)) . قلت: فما أتقي؟ فأومأ إلى # لسانه (3) . # قول سفيان بن عبد الله للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قل لي في الإسلام ~~قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك)) طلب منه أن يعلمه كلاما جامعا لأمر الإسلام ~~كافيا حتى لا يحتاج بعده إلى # غيره، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قل: آمنت بالله، ثم ~~استقم)) ، وفي الرواية الأخرى: ((قل: ربي الله، ثم استقم)) . هذا منتزع من ~~قوله - عز وجل -: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم ms285 استقاموا تتنزل عليهم ~~الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} (4) ، ~~وقوله - عز وجل -: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ~~ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون} (5) . # وخرج النسائي في " تفسيره " (6) من رواية سهيل بن أبي حزم: حدثنا ثابت، ~~عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: {إن الذين قالوا ربنا الله ~~ثم استقاموا} ، فقال # : ((قد قالها الناس، ثم كفروا، فمن مات عليها فهو من أهل الاستقامة)) . ~~وخرجه الترمذي (7) ، ولفظه: فقال: ((قد قالها الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن ~~مات # عليها، فهو ممن استقام)) ، وقال: حسن غريب، وسهيل تكلم فيه من قبل # حفظه (8) . PageV02P604 # وقال أبو بكر الصديق في تفسير {ثم استقاموا} قال: لم يشركوا بالله شيئا. ~~وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيره. وعنه قال: ثم استقاموا على أن الله ~~ربهم (1) . # وعن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: هذه أرخص آية في كتاب الله {قالوا ربنا ~~الله ثم استقاموا} على شهادة أن لا إله إلا الله (2) . وروي نحوه عن أنس، ~~ومجاهد، والأسود بن هلال، وزيد بن أسلم، والسدي، وعكرمة، وغيرهم. # وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية على المنبر {إن الذين قالوا ~~ربنا الله ثم استقاموا} فقال: لم يروغوا روغان الثعلب (3) . # وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى {ثم استقاموا} قال: ~~استقاموا على أداء فرائضه (4) . # وعن أبي العالية، قال: ثم أخلصوا له الدين والعمل (5) . # وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية ~~قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة (6) . # ولعل من قال: إن المراد الاستقامة على التوحيد إنما أراد التوحيد الكامل ~~الذي يحرم صاحبه على النار، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإن الإله هو ~~الذي يطاع، فلا يعصى خشية وإجلالا ومهابة ومحبة ورجاء وتوكلا ودعاء، ~~والمعاصي كلها قادحة في هذا التوحيد؛ لأنها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان، ~~قال الله - عز وجل -: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} (7) قال الحسن ms286 وغيره: هو ~~الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه (8) ، PageV02P605 # فهذا ينافي الاستقامة على التوحيد. # وأما على رواية من روى: ((قل: آمنت بالله)) فالمعنى أظهر؛ لأن الإيمان ~~يدخل فيه الأعمال الصالحة عند السلف ومن تابعهم من أهل الحديث (1) ، وقال ~~الله # - عز وجل -: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون ~~بصير} (2) . # فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه، وأن لا يجاوزوا ما أمروا به، وهو ~~الطغيان، وأخبر أنه بصير بأعمالهم، مطلع عليها، وقال تعالى: {فلذلك فادع ~~واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم} (3) . قال قتادة: أمر محمد - صلى الله ~~عليه وسلم - أن يستقيم على أمر الله. وقال الثوري: على القرآن (4) ، وعن ~~الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية شمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما ~~رؤي ضاحكا. خرجه ابن أبي حاتم (5) . # وذكر القشيري وغيره عن بعضهم: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ~~المنام، فقال له: يا رسول الله قلت: ((شيبتني هود وأخواتها)) ، فما شيبك ~~منها؟ قال: ((قوله # {فاستقم كما أمرت} )) (6) . # وقال - عز وجل -: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ~~فاستقيموا إليه واستغفروه} (7) . # وقد أمر الله تعالى بإقامة الدين عموما كما قال: {شرع لكم من الدين ما ~~وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا ~~PageV02P606 # الدين ولا تتفرقوا فيه} (1) ، وأمر بإقام الصلاة في غير موضع من كتابه، # كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين. # والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه ~~يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك ~~المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها. # وفي قوله - عز وجل - {فاستقيموا إليه واستغفروه} إشارة إلى أنه لابد من ~~تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتوبة ~~والرجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: ~~((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) (2) . وقد أخبر النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أن الناس ms287 لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، كما خرجه ~~الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال # : ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على ~~الوضوء إلا مؤمن)) ، وفي رواية للإمام أحمد: ((سددوا وقاربوا، ولا يحافظ ~~على الوضوء إلا مؤمن)) (3) . PageV02P607 # وفي "الصحيحين" (1) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((سددوا وقاربوا)) . # فالسداد: هو حقيقة الاستقامة، وهو الإصابة في جميع الأقوال والأعمال # والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرض، فيصيبه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - عليا أن يسأل الله - عز وجل - السداد والهدى، وقال له: ((اذكر ~~بالسداد تسديدك السهم، وبالهدى هدايتك الطريق)) (2) . # والمقاربة: أن يصيب ما قرب من الغرض إذا لم يصب الغرض نفسه، ولكن بشرط أن ~~يكون مصمما على قصد السداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربته عن غير # عمد، ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحكم بن حزن ~~الكلفي: ((أيها الناس، إنكم لن تعملوا - أو لن تطيقوا - كل ما أمرتكم، ولكن ~~سددوا وأبشروا)) (3) والمعني: اقصدوا التسديد والإصابة والاستقامة، فإنهم ~~لو سددوا في العمل كله، لكانوا قد فعلوا ما أمروا به كله. # فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصديق وغيره ~~PageV02P608 # قوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} (1) بأنهم لم يلتفتوا إلى # غيره، فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ~~ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه، ~~استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، ~~فإذا استقام الملك، استقامت جنوده ورعاياه، وكذلك فسر قوله تعالى: {فأقم ~~وجهك للدين حنيفا} (2) بإخلاص القصد لله وإرادته وحده لا شريك له. # وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان، فإنه ترجمان القلب ~~والمعبر عنه، ولهذا لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستقامة، وصاه ~~بعد ذلك بحفظ لسانه، وفي # " مسند الإمام أحمد " (3) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ms288، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم ~~لسانه)) . PageV02P609 # وفي " الترمذي " (1) عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وموقوفا: ((إذا أصبح ابن ~~آدم، فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، ~~فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) . PageV02P610 ### | الحديث الثاني والعشرون # عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رجلا سأل رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت ~~الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئا، أأدخل الجنة؟ قال: ((نعم)) . ~~رواه مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (1) من رواية أبي الزبير، عن جابر، وزاد في آخره: ~~قال: والله لا أزيد على ذلك شيئا. وخرجه أيضا (2) من رواية الأعمش، عن أبي ~~صالح، وأبي سفيان، عن جابر قال: قال النعمان بن قوقل: يا رسول الله، أرأيت ~~إذا صليت المكتوبة، وحرمت الحرام، وأحللت الحلال ولم أزد على ذلك شيئا ~~أأدخل الجنة؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)) . # وقد فسر بعضهم تحليل الحلال باعتقاد حله، وتحريم الحرام باعتقاد حرمته مع ~~اجتنابه (3) ، ويحتمل أن يراد بتحليل الحلال إتيانه، ويكون الحلال هاهنا ~~عبارة عما ليس بحرام، فيدخل فيه الواجب والمستحب والمباح، ويكون المعنى أنه ~~يفعل ما ليس بمحرم عليه، ولا يتعدى ما أبيح له إلى غيره، ويجتنب المحرمات. ~~وقد روي عن طائفة من السلف، منهم: ابن مسعود وابن عباس في قوله - عز وجل -: ~~{الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} (4) ، قالوا: ~~يحلون PageV02P611 # حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه (1) . # والمراد بالتحليل والتحريم: فعل الحلال واجتناب الحرام كما ذكر في هذا ~~الحديث. وقد قال الله تعالى في حق الكفار الذين كانوا يغيرون تحريم الشهور ~~الحرم: {إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ~~ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله} (2) ، ~~والمراد: أنهم كانوا يقاتلون في الشهر الحرام عاما، فيحلونه بذلك، ويمتنعون ~~من القتال فيه عاما، فيحرمونه بذلك (3) . # وقال الله - عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله ~~لكم ms289 ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا} ~~(4) وهذه الآية نزلت بسبب قوم امتنعوا من تناول بعض الطيبات زهدا في الدنيا ~~وتقشفا، وبعضهم حرم ذلك عن نفسه، إما بيمين حلف بها، أو بتحريمه على نفسه، ~~وذلك كله لا يوجب تحريمه في نفس الأمر، وبعضهم امتنع منه من غير يمين ولا ~~تحريم، PageV02P612 # فسمى الجميع تحريما (1) ، حيث قصد الامتناع منه إضرارا بالنفس، وكفا لها ~~عن شهواتها. ويقال في الأمثال: فلان لا يحلل ولا يحرم، إذا كان لا يمتنع من ~~فعل حرام، ولا يقف عند ما أبيح له، وإن كان يعتقد تحريم الحرام، فيجعلون من ~~فعل الحرام ولا يتحاشى منه محللا له، وإن كان لا يعتقد حله. # وبكل حال، فهذا الحديث يدل على أن من قام بالواجبات، وانتهى عن # المحرمات، دخل الجنة، وقد تواترت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- بهذا المعنى، أو ما هو قريب منه، كما خرجه النسائي، وابن حبان، والحاكم ~~من حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من ~~عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع، ~~إلا فتحت له أبواب الجنة، يدخل من أيها شاء)) ، ثم تلا: {إن تجتنبوا كبائر ~~ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} (2) (3) . # وخرج الإمام أحمد (4) والنسائي (5) من حديث أبي أيوب الأنصاري، عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، PageV02P613 # قال: ((من عبد الله، لا يشرك به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، ~~واجتنب الكبائر، فله الجنة، أو دخل الجنة)) . # وفي " المسند " (1) عن ابن عباس: أن ضمام بن ثعلبة وفد على النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فذكر له الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وشرائع ~~الإسلام كلها، فلما فرغ، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول ~~الله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه، لا أزيد ولا أنقص، فقال ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن صدق دخل الجنة)) . وخرجه الطبراني ~~(2) من وجه آخر، وفي حديثه قال: والخامسة لا أرب لي ms290 فيها، يعني: الفواحش، ~~ثم قال: لأعملن بها، ومن أطاعني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((لئن صدق، ليدخلن الجنة)) . # وفي " صحيح البخاري " (3) عن أبي أيوب: أن رجلا قال للنبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئا، ~~وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)) . وخرجه مسلم (4) إلا أن عنده ~~أنه قال: أخبرني بعمل يدنيني من الجنة PageV02P614 # ويباعدني من النار. وعنده في رواية: فلما أدبر قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إن تمسك بما أمر به، دخل الجنة)) . # وفي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة: أن أعرابيا قال: يا رسول الله، دلني ~~على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم ~~الصلاة PageV02P615 # المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان)) ، قال: والذي بعثك ~~بالحق، لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه، فلما ولى، قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى ~~هذا)) . # وفي " الصحيحين " (1) عن طلحة بن عبيد الله: أن أعرابيا جاء إلى رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - ثائر الرأس، فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا ~~فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: ((الصلوات الخمس، إلا أن تطوع شيئا)) ، ~~فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الصيام؟ فقال: ((شهر رمضان، إلا أن تطوع ~~شيئا)) فقال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة؟ فأخبره رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، فقال: والذي أكرمك (2) بالحق، لا أتطوع ~~شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا، فقال # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق)) ~~ولفظه للبخاري. # وفي " صحيح مسلم " (3) عن أنس: أن أعرابيا سأل النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - فذكره بمعناه، وزاد فيه: ((حج البيت من استطاع إليه سبيلا)) فقال: ~~والذي بعثك بالحق لا أزيد PageV02P616 # عليهن ولا أنقص منهن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لئن صدق ~~ليدخلن الجنة)) . # ومراد الأعرابي أنه لا يزيد على ms291 الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، ~~وصيام رمضان، وحج البيت شيئا من التطوع، ليس مراده أنه لا يعمل بشيء من ~~شرائع الإسلام وواجباته غير ذلك، وهذه الأحاديث لم يذكر فيها اجتناب ~~المحرمات؛ لأن السائل إنما سأله عن الأعمال التي يدخل بها عاملها الجنة. # وخرج الترمذي (1) من حديث أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - يخطب في حجة الوداع يقول: ((أيها الناس، اتقوا الله، وصلوا خمسكم، ~~وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم)) ~~وقال: حسن صحيح، وخرجه الإمام أحمد (2) ، وعنده: ((اعبدوا ربكم)) بدل قوله # : ((اتقوا الله)) . وخرجه بقي بن مخلد في " مسنده " من وجه آخر، ولفظ ~~حديثه: ((صلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيتكم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة ~~بها أنفسكم، تدخلوا جنة ربكم)) (3) . PageV02P617 # وخرج الإمام أحمد (1) بإسناده عن ابن المنتفق، قال: أتيت النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - وهو بعرفات، فقلت: ثنتان أسألك عنهما: ما ينجيني من ~~النار، وما يدخلني الجنة؟ قال: ((لئن كنت أوجزت في المسألة لقد أعظمت ~~وأطولت، فاعقل عني إذن: اعبد الله لا تشرك به شيئا وأقم الصلاة المكتوبة، ~~وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان، وما تحب أن يفعله بك الناس، فافعله بهم، ~~وما تكره أن يأتي إليك الناس، فذر الناس منه)) . # وفي رواية له أيضا قال: ((اتق الله، لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، ~~وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، ولم تزد على ذلك)) وقيل: إن هذا ~~الصحابي هو وافد بني المنتفق، واسمه لقيط (2) . # فهذه الأعمال أسباب مقتضية لدخول الجنة، وقد يكون ارتكاب المحرمات موانع، ~~ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد (3) من حديث عمرو بن مرة الجهني، قال: ~~جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، شهدت أن لا ~~إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس، وأديت زكاة مالي، وصمت شهر ~~رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مات على هذا، كان مع ~~النبيين PageV02P618 # والصديقين والشهداء (1) يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق ~~والديه)) . # وقد ورد ms292 ترتب (2) دخول الجنة على فعل بعض هذه الأعمال كالصلاة، ففي ~~الحديث المشهور: ((من صلى الصلوات لوقتها، كان له عند الله عهد أن يدخله ~~الجنة)) . وفي الحديث الصحيح: ((من صلى البردين دخل الجنة)) ، وهذا كله من ~~ذكر السبب المقتضي الذي لا يعمل عمله (3) إلا باستجماع شروطه، وانتفاء ~~موانعه؛ ويدل على هذا ما خرجه الإمام أحمد (4) عن بشير بن الخصاصية، ~~PageV02P619 # قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبايعه، فشرط علي شهادة أن لا ~~إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أوتي الزكاة، ~~وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا ~~رسول الله أما اثنتان فوالله ما أطيقهما: الجهاد والصدقة، فقبض رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - يده، ثم حركها، وقال: ((فلا جهاد ولا صدقة؟ فبم تدخل ~~الجنة إذا؟)) قلت: يا رسول الله أنا أبايعك، فبايعته عليهن كلهن. ففي هذا ~~الحديث أنه لا يكفي في دخول الجنة هذه الخصال بدون الزكاة والجهاد. # وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن ارتكاب بعض الكبائر يمنع دخول الجنة، ~~كقوله: ((لا يدخل الجنة قاطع)) (1) ، وقوله: ((لا يدخل الجنة من في قلبه ~~مثقال ذرة من كبر)) (2) ، PageV02P620 # وقوله: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) (1) ~~والأحاديث التي جاءت في منع دخول الجنة بالدين حتى يقضى، وفي الصحيح # : ((أن المؤمنين إذا جازوا الصراط، حبسوا على قنطرة يقتص منهم مظالم كانت ~~بينهم في الدنيا)) (2) . # وقال بعض السلف: إن الرجل ليحبس على باب الجنة مئة عام بالذنب كان يعمله ~~في الدنيا (3) . فهذه كلها موانع. PageV02P621 # ومن هنا يظهر معنى الأحاديث التي جاءت في ترتيب دخول الجنة على مجرد ~~التوحيد، ففي " الصحيحين " (1) عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة)) ~~، قلت: وإن زنى وإن سرق؟! قال: ((وإن زنى وإن سرق)) ، قالها ثلاثا، ثم قال ~~في الرابعة: ((على رغم أنف أبي ذر)) ، فخرج أبو ذر، وهو يقول ms293: وإن رغم أنف ~~أبي ذر. # وفيهما (2) عن عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن ~~عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، ~~والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل)) . # وفي " صحيح مسلم " (3) عن أبي هريرة، أو أبي سعيد - بالشك -، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ~~لا يلقى الله بهما عبد # غير شاك، فيحجب عن الجنة)) . # وفيه (4) عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له يوما: ~~((من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة)) ~~PageV02P622 # وفي المعنى أحاديث كثيرة جدا. # وفي " الصحيحين " (1) عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوما ~~لمعاذ: ((ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله إلا ~~حرمه الله على النار)) . # وفيهما (2) عن عتبان بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن ~~الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله)) . # فقال طائفة من العلماء: إن كلمة التوحيد سبب مقتض لدخول الجنة وللنجاة من ~~النار، لكن له شروط، وهي الإتيان بالفرائض، وموانع وهي إتيان الكبائر. قال ~~الحسن للفرزدق: إن ل ((لا إله إلا الله)) شروطا، فإياك وقذف المحصنة (3) . ~~وروي عنه أنه قال: هذا العمود، فأين الطنب (4) ، يعني: أن كلمة التوحيد ~~عمود الفسطاط، ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه، وهي فعل الواجبات، وترك ~~المحرمات. # وقيل للحسن: إن ناسا يقولون: من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة، فقال: ~~من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها وفرضها، دخل الجنة (5) . PageV02P623 # وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى؛ ولكن ما ~~من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح ms294 لك ~~(1) . # ويشبه هذا ما روي عن ابن عمر: أنه سئل عن لا إله إلا الله: هل يضر معها ~~عمل، كما لا ينفع مع تركها عمل؟ فقال ابن عمر: عش ولا تغتر (2) . # وقالت طائفة - منهم: الضحاك والزهري -: كان هذا قبل الفرائض والحدود (3) ~~، فمن هؤلاء من أشار إلى أنها نسخت، ومنهم من قال: بل ضم إليها شروط زيدت ~~عليها، وزيادة الشرط هل هي نسخ أم لا؟ فيه خلاف مشهور بين الأصوليين، وفي ~~هذا كله نظر، فإن كثيرا من هذه الأحاديث متأخر بعد الفرائض والحدود. # وقال الثوري: نسختها الفرائض والحدود، فيحتمل أن يكون مراده ما أراده ~~هؤلاء، ويحتمل أن يكون مراده أن وجوب الفرائض والحدود تبين بها أن عقوبات ~~الدنيا لا تسقط بمجرد الشهادتين، فكذلك عقوبات الآخرة، ومثل هذا البيان # وإزالة الإيهام كان السلف يسمونه نسخا، وليس هو بنسخ في الاصطلاح # المشهور. # وقالت طائفة: هذه النصوص المطلقة جاءت مقيدة بأن يقولها بصدق وإخلاص، ~~وإخلاصها وصدقها يمنع الإصرار معها على معصية (4) . # وجاء من مراسيل الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا ~~إله إلا الله مخلصا دخل الجنة)) قيل: وما إخلاصها؟ قال: ((أن تحجزك عما حرم ~~الله)) (5) . وروي ذلك مسندا من وجوه أخر ضعيفة (6) . PageV02P624 # ولعل الحسن أشار بكلامه الذي حكيناه عنه من قبل إلى هذا فإن تحقق القلب ~~بمعنى ((لا إله إلا الله)) وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تأله ~~الله وحده، إجلالا، وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيما، وتوكلا، ويمتلئ ~~بذلك، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه ~~محبة، ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من ~~القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها، ووسواس الشيطان، فمن أحب شيئا وأطاعه، ~~وأحب عليه وأبغض عليه، فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله، ولا ~~يوالي ولا يعادي إلا له، فالله إلهه حقا، ومن أحب لهواه، وأبغض له، ووالى ~~عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه، كما قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه ms295 هواه} ~~(1) قال الحسن: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه (2) . وقال قتادة: هو الذي ~~كلما هوي شيئا ركبه، وكلما اشتهى شيئا أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى ~~(3) . ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعا ((ما تحت ظل السماء إله يعبد أعظم ~~عند الله من هوى متبع)) (4) . # وكذلك من أطاع الشيطان في معصية الله، فقد عبده، كما قال الله - عز وجل - # : {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} ~~(5) . # فتبين بهذا أنه لا يصح تحقيق معنى قول: لا إله إلا الله، إلا لمن لم يكن ~~في قلبه إصرار على محبة ما يكرهه الله، ولا على إرادة ما لا يريده الله، ~~ومتى كان في القلب PageV02P625 # شيء من ذلك، كان ذلك نقصا في التوحيد، وهو من نوع الشرك الخفي. ولهذا قال ~~مجاهد في قوله تعالى: {ألا تشركوا به شيئا} (1) قال: لا تحبوا غيري. # وفي " صحيح الحاكم " (2) عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن ~~تحب على شيء من الجور، وتبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ ~~قال الله - عز وجل -: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (3) . ~~وهذا نص في أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والموالاة ~~على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي. # وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أنس مرفوعا: ((لا تزال لا إله إلا الله # تمنع العباد من سخط الله، ما لم يؤثروا دنياهم على صفقة دينهم، فإذا ~~آثروا # صفقة دنياهم على دينهم، ثم قالوا: لا إله إلا الله ردت عليهم، وقال الله: # كذبتم)) (4) . # فتبين بهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من شهد أن لا إله إلا ~~الله صادقا من قلبه حرمه الله على النار)) ، وأن من دخل النار من أهل هذه ~~الكلمة، فلقلة صدقه في قولها، فإن هذه الكلمة إذا صدقت، طهرت من القلب كل ~~ما سوى الله، فمن صدق ms296 في قوله: لا إله إلا الله، لم يحب سواه، ولم يرج إلا ~~إياه، ولم يخش أحدا إلا الله، ولم يتوكل إلا على الله، ولم تبق له بقية من ~~آثار نفسه وهواه، ومتى بقي في القلب أثر لسوى الله، فمن قلة الصدق في ~~قولها. PageV02P626 # نار جهنم تنطفىء بنور إيمان الموحدين، كما في الحديث المشهور: ((تقول ~~النار للمؤمن: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي)) (1) . # وفي " مسند الإمام أحمد " (2) عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((لا يبقى بر # ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على ~~إبراهيم، # حتى أن للنار ضجيجا من بردهم)) . # فهذا ميراث ورثه المؤمنون من حال إبراهيم - عليه السلام -، فنار المحبة ~~في قلوب المؤمنين تخاف منها نار جهنم. قال الجنيد: قالت النار: يا رب، لو ~~لم أطعك، هل كنت تعذبني بشيء هو أشد مني؟ قال: نعم، كنت أسلط عليك ناري ~~الكبرى، قالت: وهل نار أعظم مني وأشد؟ قال: نعم، نار محبتي أسكنتها قلوب ~~أوليائي المؤمنين. وفي هذا يقول بعضهم: # ففي فؤاد المحب نار هوى ... أحر نار الجحيم أبردها # ويشهد لهذا المعنى حديث معاذ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من ~~كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة)) (3) ، فإن المحتضر لا يكاد ~~يقولها إلا بإخلاص، وتوبة، وندم على ما مضى، وعزم على أن لا يعود إلى مثله، ~~ورجح هذا القول الخطابي في مصنف له مفرد في التوحيد، وهو حسن. PageV02P627 ### | الحديث الثالث والعشرون # عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، ~~والحمد لله، تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة ~~برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، ~~فمعتقها ... أو موبقها)) . رواه مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (1) من رواية يحيى بن أبي كثير: أن زيد بن سلام ~~حدثه: أن أبا سلام حدثه عن أبي مالك الأشعري، قال ms297: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ... ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان)) ، ~~فذكر الحديث. وفي أكثر نسخ # " صحيح مسلم ": ((والصبر ضياء)) وفي بعضها: ((والصيام ضياء)) (2) . # وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام، فأنكره يحيى بن ~~معين، وأثبته الإمام أحمد، وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه (3) . # وخرج هذا الحديث النسائي (4) ، وابن ماجه (5) من رواية معاوية بن سلام، # عن أخيه زيد بن سلام، عن جده أبي سلام، عن عبد الرحمان بن غنم، عن أبي ~~مالك، فزاد في إسناده عبد الرحمان بن غنم، ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ، ~~وقال: معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد PageV02P629 # من يحيى بن أبي كثير (1) ، ويقوي ذلك أنه قد روي عن عبد الرحمان بن غنم، ~~عن أبي مالك من وجه آخر، وحينئذ فتكون رواية مسلم منقطعة (2) . # وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير، فإن لفظ حديثه عند ~~ابن ماجه: ((إسباغ الوضوء شطر الإيمان، والحمد لله ملء الميزان، والتسبيح ~~والتكبير ملء السماء والأرض، والصلاة نور، والزكاة برهان، والصبر ضياء، ~~والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو # موبقها)) (3) . # وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم، ولفظ حديثه: # ((الوضوء شطر الإيمان)) ، وباقي حديثه مثل سياق مسلم (4) . # وخرج الإمام أحمد (5) والترمذي (6) من حديث رجل من بني سليم، قال: عدهن ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يدي أو في يده: ((التسبيح نصف ~~الميزان، والحمد لله تملؤه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض، والصوم ~~نصف الصبر، والطهور نصف الإيمان)) . PageV02P630 # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الطهور شطر الإيمان)) فسر بعضهم الطهور ~~هاهنا بترك الذنوب، كما في قوله تعالى: {إنهم أناس يتطهرون} (1) ، وقوله: ~~{وثيابك فطهر} (2) ، وقوله: {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} (3) . # وقال: الإيمان نوعان: فعل وترك، فنصفه: فعل المأمورات، ونصفه: ترك ~~المحظورات، وهو تطهير النفس بترك المعاصي، وهذا القول محتمل لولا أن رواية: # ((الوضوء شطر الإيمان)) ترده، وكذلك رواية: ((إسباغ الوضوء)) . # وأيضا، ففيه نظر من ms298 جهة المعنى، فإن كثيرا من الأعمال تطهر النفس من ~~الذنوب السابقة، كالصلاة، فكيف لا تدخل في اسم الطهور، ومتى دخلت الأعمال، ~~أو بعضها، في اسم الطهور، لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان. # والصحيح الذي عليه الأكثرون: أن المراد بالطهور هاهنا: التطهر بالماء من ~~الأحداث، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء (4) ، وكذلك خرجه النسائي ~~وابن ماجه (5) وغيرهما، وعلى هذا، فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء ~~شطر الإيمان. PageV02P631 # فمنهم من قال: المراد بالشطر: الجزء، لا أنه النصف بعينه، فيكون الطهور ~~جزءا من الإيمان، وهذا فيه ضعف؛ لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في ~~النصف؛ ولأن في حديث الرجل من بني سليم: ((الطهور نصف الإيمان)) كما سبق. # ومنهم من قال: المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان، لكن ~~من غير تضعيف، وفي هذا نظر، وبعد. # ومنهم من قال: الإيمان يكفر الكبائر كلها، والوضوء يكفر الصغائر، فهو شطر ~~الإيمان بهذا الاعتبار، وهذا يرده حديث: ((من أساء في الإسلام أخذ بما عمل ~~في الجاهلية)) وقد سبق ذكره. # ومنهم من قال: الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان، فصار نصف الإيمان، وهذا ~~ضعيف (1) . # ومنهم من قال: المراد بالإيمان هاهنا: الصلاة، كما في قوله - عز وجل -: ~~{وما كان الله ليضيع إيمانكم} (2) ، والمراد: صلاتكم إلى بيت المقدس، فإذا ~~كان المراد بالإيمان الصلاة، فالصلاة لا تقبل إلا بطهور، فصار الطهور شطر ~~الصلاة بهذا الاعتبار، حكى هذا التفسير محمد بن نصر المروزي في " كتاب ~~الصلاة " (3) عن إسحاق بن PageV02P632 # راهويه، عن يحيى بن آدم، وأنه قال في معنى قولهم: لا أدري نصف العلم: إن ~~العلم إنما هو: أدري ولا أدري، فأحدهما نصف الآخر (1) . # قلت: كل شيء كان تحته نوعان: فأحدهما نصف له، وسواء كان عدد النوعين على ~~السواء، أو أحدهما أزيد من الآخر، ويدل على هذا حديث # : ((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين)) (2) # والمراد: قراءة الصلاة، ولهذا فسرها بالفاتحة، والمراد أنها مقسومة ~~للعبادة والمسألة، فالعبادة حق الرب والمسألة حق العبد، وليس المراد قسمة ~~كلماتها على السواء (3) . وقد ذكر ms299 هذا الخطابي، واستشهد بقول العرب: نصف ~~السنة سفر، ونصفها حضر، قال: وليس على تساوي الزمانين فيهما، لكن على ~~انقسام الزمانين لهما، وإن تفاوتت مدتاهما (4) ، وبقول شريح - وقيل له: كيف ~~أصبحت؟ - قال: أصبحت ونصف الناس علي غضبان (5) ، يريد أن الناس بين محكوم ~~له ومحكوم عليه، فالمحكوم عليه غضبان، والمحكوم له راض عنه، فهما حزبان ~~مختلفان. ويقول الشاعر: PageV02P633 # إذا مت كان الناس نصفين: شامت ... بموتي ومثن بالذي كنت أفعل # ومراده أنهم ينقسمون قسمين. # قلت: ومن هذا المعنى: حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض: ((إنها نصف ~~العلم)) خرجه ابن ماجه (1) ، فإن أحكام المكلفين نوعان: نوع يتعلق بالحياة، ~~ونوع يتعلق بما بعد الموت، وهذا هو الفرائض. وقال ابن مسعود: الفرائض ثلث ~~العلم (2) . ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود (3) وابن ماجه (4) # من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: ((العلم ثلاثة، وما سوى ذلك، فهو فضل: ~~آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)) . # وروي عن مجاهد أنه قال: المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء، ولعله أراد أن ~~الوضوء قسمان: أحدهما مذكور في القرآن، والثاني مأخوذ من السنة، وهو ~~المضمضة والاستنشاق، أو أراد أن المضمضة والاستنشاق يطهر باطن الجسد، وغسل ~~سائر الأعضاء يطهر ظاهره، فهما نصفان بهذا الاعتبار، ومنه قول ابن مسعود: ~~الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله (5) . وجاء من رواية يزيد الرقاشي، ~~عن أنس مرفوعا: ((الإيمان نصفان: نصف في الصبر، PageV02P634 # ونصف في الشكر)) (1) ، فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات، وترك ~~المحرمات، ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر، كان الصبر نصف الإيمان، فهكذا يقال ~~في الوضوء: إنه نصف الصلاة. # وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه، فصار شطر ~~الصلاة بهذا الاعتبار أيضا، كما في " صحيح مسلم " (2) عن عثمان، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه، ~~فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن)) . وفي رواية له (3) : ~~((من أتم الوضوء كما أمره الله، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن)) . # وأيضا فالصلاة مفتاح الجنة، والوضوء مفتاح الصلاة، كما ms300 خرجه الإمام أحمد ~~(4) والترمذي (5) من حديث جابر مرفوعا، وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح ~~أبواب الجنة كما في " صحيح مسلم " (6) عن عقبة بن عامر سمع النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول: ((ما من مسلم يتوضأ، فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ~~ركعتين، يقبل عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة)) ، PageV02P635 # وعن عقبة، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما منكم من ~~أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد ~~أن محمدا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها ~~شاء)) (1) . # وفي " الصحيحين " (2) عن عبادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ~~ورسوله، وأن عيسى عبد الله، وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ~~وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء)) ~~. # فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة، صار الوضوء نصف ~~الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار. # وأيضا فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن، كما ~~في حديث ثوبان وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحافظ على ~~الوضوء إلا مؤمن)) (3) . والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة، كما ~~خرجه العقيلي (4) من حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((خمس من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة: من حافظ على الصلوات الخمس على ~~وضوئهن وركوعهن وسجودهن PageV02P636 # ومواقيتهن، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - قال: وكان يقول: - وايم ~~الله، لا يفعل ذلك إلا مؤمن، وصام رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ~~وأدى الأمانة)) قالوا: يا أبا الدرداء، وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من ~~الجنابة، فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. # وخرج ابن ماجه (1) # من حديث أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصلوات ~~الخمس، والجمعة إلى الجمعة، وأداء ms301 الأمانة كفارة لما بينهن)) ، قيل: وما ~~أداء الأمانة؟ قال: ((الغسل من الجنابة، فإن تحت كل شعرة جنابة)) ، وحديث ~~أبي الدرداء الذي قبله (2) جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة. # وجاء في حديث آخر خرجه البزار (3) من رواية شبابة بن سوار: حدثنا المغيرة ~~ابن مسلم، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا: ((الصلاة ثلاثة ~~أثلاث: الطهور ثلث، والركوع ثلث، والسجود ثلث، فمن أداها بحقها، قبلت منه، ~~وقبل منه سائر عمله، ومن ردت عليه صلاته، رد عليه سائر عمله)) وقال: تفرد ~~به المغيرة، والمحفوظ عن أبي صالح، عن كعب من قوله. # فعلى هذا التقسيم الوضوء ثلث الصلاة، إلا أن يجعل الركوع # والسجود كالشيء الواحد، لتقاربهما في الصورة، فيكون الوضوء نصف الصلاة ~~أيضا. PageV02P637 # ويحتمل أن يقال: إن خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب ~~وتزكيه، وأما الطهارة بالماء، فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه، فصارت خصال ~~الإيمان قسمين: أحدهما يطهر الظاهر، والآخر يطهر الباطن، فهما نصفان بهذا # الاعتبار، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله ~~والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض)) فهذا شك من الراوي في ~~لفظه، وفي رواية النسائي وابن ماجه: ((والتسبيح والتكبير ملء السماء ~~والأرض)) . وفي حديث الرجل من بني سليم: ((التسبيح نصف الميزان، والحمد لله ~~تملؤه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض)) (1) . # وخرج الترمذي (2) من حديث الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله ~~ابن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((التسبيح نصف الميزان، ~~والحمد لله تملؤه، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه)) ~~، وقال: ليس إسناده بالقوي (3) . # قلت: اختلف في إسناده على الإفريقي، فروي عنه، عن أبي علقمة، عن أبي ~~هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه زيادة: ((والله أكبر ملء ~~السماوات والأرض)) (4) . # روى جعفر الفريابي في كتاب " الذكر " وغيره من حديث علي، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((الحمد لله ملء الميزان ms302، وسبحان الله نصف الميزان، ~~ولا إله إلا الله والله أكبر ملء السماوات والأرض وما بينهن)) . ~~PageV02P638 # وخرج الفريابي أيضا من حديث معاذ بن جبل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: ((كلمتان إحداهما من قالها لم يكن لها ناهية دون العرش، والأخرى ~~تملأ ما بين السماء ... والأرض: لا إله إلا الله والله أكبر)) (1) . # فقد تضمنت هذه الأحاديث فضل هذه الكلمات الأربع التي هي أفضل الكلام، ~~وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. # فأما الحمد لله، فاتفقت الأحاديث كلها على أنه يملأ الميزان، وقد قيل: ~~إنه ضرب مثل، وأن المعنى: لو كان الحمد جسما لملأ الميزان، وقيل: بل الله - ~~عز وجل - يمثل أعمال بني آدم وأقوالهم صورا ترى يوم القيامة وتوزن، كما قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي القرآن يوم القيامة تقدمه البقرة وآل ~~عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان (2) أو فرقان (3) من طير صواف)) (4) . ~~PageV02P639 # وقال: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمان، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على ~~اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (1) . # وقال: ((أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن)) (2) ، # وكذلك المؤمن يأتيه عمله الصالح في قبره في أحسن صورة، والكافر يأتيه ~~عمله في أقبح صورة، وروي أن الصلاة والزكاة والصيام وأعمال البر (3) تكون ~~حول الميت في قبره تدافع عنه، PageV02P640 # وأن القرآن يصعد فيشفع له (1) . # وأما سبحان الله، ففي رواية مسلم: ((سبحان الله والحمد لله تملأ - أو ~~تملآن - ما بين السماء والأرض)) (2) ، فشك الراوي في الذي يملأ ما بين ~~السماء والأرض: هل هو الكلمتان أو إحداهما؟ وفي رواية النسائي وابن ماجه: ~~((التسبيح والتكبير ملء السماء والأرض)) ، وهذه الرواية أشبه، وهل المراد ~~أنهما معا يملآن ما بين السماء والأرض، أو أن كلا منهما يملأ ذلك؟ هذا ~~محتمل (3) . وفي حديث أبي هريرة والرجل الآخر أن التكبير وحده يملأ ما بين ~~السماء والأرض. # وبكل حال فالتسبيح دون التحميد في الفضل كما جاء صريحا في حديث علي وأبي ~~هريرة، وعبد الله بن عمرو، والرجل من بني سليم: أن التسبيح نصف الميزان، ~~والحمد ms303 لله تملؤه، وسبب ذلك أن التحميد إثبات المحامد كلها لله، فدخل في ~~ذلك إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال كلها، والتسبيح هو تنزيه الله عن ~~النقائص والعيوب والآفات (4) ، والإثبات أكمل من السلب، ولهذا لم يرد ~~التسبيح مجردا، لكن مقرونا بما يدل على إثبات الكمال، فتارة يقرن بالحمد، ~~كقول: سبحان الله وبحمده، وسبحان الله والحمد لله، PageV02P641 # وتارة باسم من الأسماء الدالة على العظمة والجلال، كقوله: سبحان الله ~~العظيم، فإن كان حديث أبي مالك يدل على أن الذي يملأ ما بين السماء والأرض ~~هو مجموع التسبيح والتكبير، فالأمر ظاهر، وإن كان المراد أن كلا منهما يملأ ~~ذلك، فإن الميزان أوسع مما بين السماء والأرض، فما يملأ الميزان هو أكبر ~~مما يملأ ما بين السماء والأرض، ويدل عليه أنه صح عن سلمان - رضي الله عنه ~~- أنه قال: يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، ~~فتقول الملائكة: يا رب لمن تزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، ~~فتقول الملائكة: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ~~(1) ، ولكن الموقوف (2) هو المشهور. # وأما التكبير، ففي حديث أبي هريرة والرجل من بني سليم: أنه وحده يملأ ما ~~بين السماوات والأرض، وفي حديث علي أن التكبير مع التهليل يملأ السماوات ~~والأرض وما بينهن. # وأما التهليل وحده، فإنه يصل إلى الله من غير حجاب بينه وبينه. وخرج ~~الترمذي (3) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~PageV02P642 # ((ما قال عبد لا إله إلا الله # مخلصا، إلا فتحت له أبواب السماء، حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت # الكبائر)) . # وقال أبو أمامة: ما من عبد يهلل تهليلة، فينهنهها (1) شيء دون العرش، ~~وورد أنه لا يعدلها شيء في الميزان في حديث البطاقة المشهور، وقد خرجه أحمد ~~(2) والترمذي (3) والنسائي، وفي آخره عند الإمام أحمد: ((ولا يثقل شيء بسم ~~الله الرحمن الرحيم)) . وفي " المسند " (4) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن نوحا - عليه السلام - لما حضرته ~~الوفاة، قال لابنه ms304: آمرك ب (لا إله إلا الله) ، فإن السماوات السبع ~~والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا ~~إله إلا الله)) . # وفيه أيضا عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إن PageV02P643 # موسى - عليه السلام - قال: يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به، قال: يا ~~موسى، قل: لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقول هذا، إنما أريد شيئا تخصني ~~به، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في ~~كفة ولا إله إلا الله في # كفة مالت بهن لا إله إلا الله)) (1) . # وقد اختلف في أي الكلمتين أفضل؟ أكلمة الحمد أم كلمة التهليل؟ وقد حكى ~~هذا الاختلاف ابن عبد البر (2) وغيره. وقال النخعي: كانوا يرون أن # الحمد أكثر الكلام تضعيفا (3) ، وقال الثوري: ليس يضاعف من الكلام مثل ~~الحمد لله (4) . # والحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله، فيدخل فيه التوحيد. وفي # " مسند الإمام أحمد " (5) # عن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن ~~الله اصطفى من الكلام أربعا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، ~~والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كتبت له عشرون حسنة، أو حطت عنه عشرون ~~سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن ~~قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه، كتبت له ثلاثون حسنة، أو حطت عنه # ثلاثون سيئة)) . وقد روي هذا عن كعب من قوله (6) ، وقيل: إنه أصح من ~~المرفوع. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ~~ضياء)) ، وفي بعض نسخ " صحيح مسلم ": ((والصيام ضياء)) ، فهذه الأنواع ~~الثلاثة من الأعمال أنوار كلها، لكن منها ما يختص بنوع من أنواع النور، ~~فالصلاة نور مطلق، PageV02P644 # ويروى بإسنادين فيهما نظر عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((الصلاة نور # المؤمن)) (1) ، فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم، تشرق بها # قلوبهم، وتستنير بصائرهم ولهذا ms305 كانت قرة عين المتقين، كما كان النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - يقول: ((جعلت قرة عيني في الصلاة)) خرجه أحمد (2) ~~والنسائي (3) . # وفي رواية: ((الجائع يشبع، والظمآن يروى، وأنا لا أشبع من حب ... ~~الصلاة)) (4) . وفي " المسند " (5) عن ابن عباس، قال: قال جبريل للنبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد حبب إليك الصلاة، فخذ منها ما شئت. وخرج ~~أبو داود (6) # من حديث رجل من خزاعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا بلال، ~~أقم الصلاة وأرحنا بها)) . # قال مالك بن دينار: قرأت في التوراة: يا ابن آدم، لا تعجز أن تقوم بين ~~يدي في صلاتك باكيا، فأنا الذي اقتربت بقلبك وبالغيب رأيت نوري، يعني: ما ~~يفتح للمصلي في الصلاة من الرقة والبكاء (7) . # وخرج الطبراني (8) من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: ((إذا حافظ العبد على ~~صلاته، فأقام وضوءها، وركوعها، وسجودها، والقراءة فيها، قالت له: حفظك الله ~~كما حفظتني، وصعد بها إلى السماء، ولها نور حتى تنتهي إلى الله - عز وجل -، ~~فتشفع PageV02P645 # لصاحبها)) . # وهي نور للمؤمنين في قبورهم، ولاسيما صلاة الليل، كما قال أبو الدرداء: ~~((صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور)) (1) . # وكانت رابعة قد فترت عن وردها بالليل مدة، فأتاها آت في منامها # فأنشدها: # صلاتك نور والعباد رقود ... ونومك ضد للصلاة عنيد # وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات القيامة، وعلى الصراط، فإن الأنوار ~~تقسم لهم على حسب أعمالهم. وفي " المسند " و" صحيح ابن حبان " عن عبد الله ~~بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه ذكر الصلاة، فقال: ((من ~~حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم ~~يكن له نور ولا نجاة ولا برهان)) (2) . # وخرج الطبراني (3) # بإسناد فيه نظر من حديث ابن عباس وأبي هريرة، عن ... النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((من صلى الصلوات الخمس في جماعة، جاز على الصراط كالبرق ~~اللامع في أول زمرة من السابقين، وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة ~~البدر)) . # وأما الصدقة، فهي برهان، والبرهان: هو الشعاع الذي يلي # وجه ms306 الشمس، ومنه حديث أبي موسى: أن روح المؤمن تخرج من جسده # لها برهان كبرهان الشمس (4) ، ومنه سميت الحجة القاطعة برهانا؛ لوضوح # دلالتها على ما دلت عليه، فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، # وطيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان وطعمه، كما في حديث # عبد الله بن معاوية الغاضري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من ~~فعلهن فقد طعم # طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا الله، PageV02P646 # وأدى زكاة ماله طيبة # بها نفسه رافدة عليه في كل عام)) ، وذكر الحديث، خرجه أبو # داود (1) . # وقد ذكرنا قريبا حديث أبي الدرداء فيمن أدى زكاة ماله طيبة بها # نفسه، قال: وكان يقول: لا يفعل ذلك إلا مؤمن (2) . وسبب هذا أن المال # تحبه النفوس، وتبخل به، فإذا سمحت بإخراجه لله - عز وجل - دل ذلك على صحة # إيمانها بالله ووعده ووعيده، ولهذا منعت العرب الزكاة بعد النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، # وقاتلهم الصديق - رضي الله عنه - على منعها، والصلاة أيضا برهان على صحة # الإسلام. # وقد خرج الإمام أحمد (3) # والترمذي (4) من حديث كعب بن عجره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((الصلاة برهان)) . # وقد ذكرنا في شرح حديث: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا ~~الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)) (5) أن الصلاة ~~هي الفارقة PageV02P647 # بين الكفر والإسلام، وهي أيضا أول ما يحاسب به المرء يوم القيامة، فإن ~~تمت صلاته، فقد أفلح وأنجح، وقد سبق حديث عبد الله بن عمرو فيمن حافظ عليها ~~أنها تكون له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة (1) . # وأما الصبر، فإنه ضياء، والضياء: هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة ~~وإحراق كضياء الشمس بخلاف القمر، فإنه نور محض، فيه إشراق بغير إحراق، قال ~~الله - عز وجل -: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} (2) ومن هنا وصف ~~الله شريعة موسى بأنها ضياء، كما قال: {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ~~وضياء وذكرا للمتقين} (3) وإن كان قد ذكر أن في التوراة نورا كما قال: {إنا ms307 ~~أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} (4) ، ولكن الغالب على شريعتهم الضياء لما ~~فيها من الآصار والأغلال والأثقال. # ووصف شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنها نور لما فيها من الحنيفية ~~السمحة، قال تعالى: # {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} (5) وقال: {الذين يتبعون الرسول النبي ~~الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ~~وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم ~~والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور ~~الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} (6) . # ولما كان الصبر شاقا على النفوس، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها، وكفها ~~عما تهواه، كان ضياء، فإن معنى الصبر في اللغة: الحبس، ومنه قتل الصبر: وهو ~~أن يحبس الرجل حتى يقتل (7) . PageV02P648 # والصبر المحمود أنواع: منه صبر على طاعة الله - عز وجل -، ومنه صبر عن ~~معاصي الله - عز وجل -، ومنه صبر على أقدار الله - عز وجل -، والصبر على ~~الطاعات وعن المحرمات أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة، صرح بذلك السلف، ~~منهم: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران (1) ، وغيرهما. وقد روي بإسناد ضعيف ~~من حديث علي مرفوعا: ((إن الصبر على المصيبة يكتب به للعبد ثلاث مئة درجة، ~~وإن الصبر على الطاعة يكتب له به ست مئة درجة، وإن الصبر عن المعاصي يكتب ~~له به تسع مئة # درجة)) (2) ، # وقد خرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير الطبري. # ومن أفضل أنواع الصبر: الصيام، فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة؛ ~~لأنه صبر على طاعة الله - عز وجل -، وصبر عن معاصي الله؛ لأن العبد يترك ~~شهواته لله - عز وجل - ونفسه قد تنازعه إليها، ولهذا في الحديث الصحيح: ~~((إن الله - عز وجل - يقول: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا ~~أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي)) (3) ، وفيه أيضا صبر على ~~الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش، وكان النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يسمي شهر الصيام شهر الصبر (4) . # وقد جاء في حديث الرجل من بني سليم، عن ms308 النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن ~~الصوم نصف الصبر، PageV02P649 # وربما عسر الوقوف على سر كونه نصف الصبر أكثر من عسر الوقوف على سر (1) ~~كون الطهور شطر الإيمان، والله أعلم. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والقرآن حجة لك أو عليك)) ، قال الله - ~~عز وجل -: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين ~~إلا خسارا} (2) . قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن فقام عنه سالما؛ بل ~~إما أن يربح أو أن يخسر، ثم تلا هذه الآية (3) . # وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((يمثل القرآن يوم القيامة رجلا، فيؤتى بالرجل قد حمله، فخالف أمره، ~~فيتمثل له خصما، فيقول: يا رب حملته إياي فشر حامل تعدى حدودي، وضيع ~~فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: ~~شأنك به، فيأخذ بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل ~~الصالح كان قد حمله، وحفظ أمره، فيمتثل خصما دونه، فيقول: يا رب، حملته ~~إياي، فخير حامل: حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، ~~فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى ~~يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر)) (4) . # وقال ابن مسعود: ((القرآن شافع مشفع وماحل مصدق، فمن جعله أمامه، قاده ~~إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره، قاده إلى النار)) (5) . # وعنه قال: ((يجيء القرآن يوم القيامة، فيشفع لصاحبه، فيكون قائدا إلى ~~الجنة، أو يشهد عليه، فيكون سائقا إلى النار)) (6) . PageV02P650 # وقال أبو موسى الأشعري: إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن عليكم # وزرا، فاتبعوا القرآن، ولا يتبعكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به ~~على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن، زخ في قفاه، فقذفه في النار (1) . # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو ~~موبقها)) وخرج الإمام أحمد، وابن حبان من حديث كعب بن عجرة، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((الناس غاديان، فمبتاع نفسه ms309، فمعتق نفسه وموبقها)) ~~(2) . PageV02P651 # وفي رواية خرجها الطبراني: ((الناس غاديان، فبائع نفسه فموبقها، وفاد ~~نفسه فمعتقها)) . وقال الله - عز وجل -: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها ~~وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من ... دساها} (1) ، والمعنى: قد أفلح من ~~زكى نفسه بطاعة الله، وخاب من دساها بالمعاصي، فالطاعة تزكي النفس وتطهرها، ~~فترتفع، والمعاصي تدسي النفس، وتقمعها، فتنخفض، وتصير كالذي يدس في التراب. # ودل الحديث على أن كل إنسان فهو ساع في هلاك نفسه، أو في فكاكها، فمن سعى ~~في طاعة الله، فقد باع نفسه لله، وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصية الله، ~~فقد باع نفسه بالهوان، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه، قال الله ~~- عز وجل -: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} ~~إلى قوله: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} (2) ، ~~وقال تعالى: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف ~~بالعباد} (3) ، وقال تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ~~يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} (4) . # وفي " الصحيحين " (5) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - حين أنزل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (6) : ((يا معشر قريش، ~~اشتروا أنفسكم من الله، PageV02P652 # لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله ~~شيئا)) ، وفي رواية للبخاري: ((يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله، يا ~~بني عبد المطلب، اشتروا أنفسكم من الله، يا عمة رسول الله، يا فاطمة بنت ~~محمد، اشتريا أنفسكما من الله، لا أملك لكما من الله شيئا)) . # وفي رواية لمسلم أنه دعا قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: ((يا بني كعب ~~بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، ~~يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من ~~النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا ~~أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني ms310 لا أملك لكم من الله ~~شيئا)) . # وخرج الطبراني (1) والخرائطي من حديث ابن عباس مرفوعا: ((من قال إذا ~~أصبح: سبحان الله وبحمده ألف مرة، فقد اشترى نفسه من الله تعالى، وكان من ~~آخر يومه عتيقا من النار)) . # وقد اشترى جماعة من السلف أنفسهم من الله - عز وجل - بأموالهم، فمنهم من ~~تصدق بماله كحبيب أبي محمد (2) ، ومنهم من تصدق بوزنه فضة ثلاث مرات أو ~~أربعا، كخالد الطحان (3) . # ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة ويقول: إنما أنا أسير أسعى في ~~PageV02P653 # فكاك رقبتي، منهم عمرو بن عتبة (1) ، وكان بعضهم يسبح كل يوم اثني عشر ~~ألف تسبيحة بقدر ديته، كأنه قد قتل نفسه، فهو يفتكها بديتها (2) . # قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالأسير، يسعى في فكاك رقبته (3) ، لا يأمن ~~شيئا حتى يلقى الله - عز وجل - (4) . وقال: ابن آدم، إنك تغدو أو تروح في ~~طلب الأرباح، فليكن همك نفسك، فإنك لن تربح مثلها أبدا. # قال أبو بكر بن عياش: قال لي رجل مرة وأنا شاب: خلص رقبتك ما استطعت في ~~الدنيا من رق الآخرة، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدا، قال: فوالله ما ~~نسيتها بعد (5) . # وكان بعض السلف يبكي، ويقول: ليس لي نفسان، إنما لي نفس واحدة، إذا ذهبت ~~لم أجد أخرى. # وقال محمد بن الحنفية: إن الله - عز وجل - جعل الجنة ثمنا لأنفسكم، فلا ~~تبيعوها بغيرها (6) . وقال: من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر (7) ~~. وقيل له: من # أعظم الناس قدرا؟ قال: من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطرا (8) . # وأنشد بعض المتقدمين: # أثامن بالنفس النفيسة ربها ... وليس لها في الخلق كلهم ثمن # بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها ... بشيء من الدنيا، فذاك هو الغبن # لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها ... لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن PageV02P654 ### | الحديث الرابع والعشرون # عن أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي ~~عن ربه - عز وجل - أنه قال: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته ~~بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال ms311 إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، ~~يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار ~~إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا ~~أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري ~~فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم ~~وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا ~~عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ~~ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا ~~في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ~~ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم ~~أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا ~~نفسه)) . رواه مسلم (1) . # هذا الحديث خرجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن ~~PageV02P655 # أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، وفي آخره: قال سعيد بن عبد العزيز: كان ~~أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثى على ركبتيه. # وخرجه مسلم أيضا من رواية قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ~~أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسقه بلفظه، ولكنه قال: وساق ~~الحديث بنحو سياق أبي إدريس، وحديث أبي إدريس أتم. # وخرجه الإمام أحمد (1) والترمذي (2) وابن ماجه (3) ، من رواية شهر بن ~~حوشب، عن عبد الرحمان بن غنم، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - # : ((يقول الله تعالى: يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديت، فسلوني الهدى ~~أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيت، ~~فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة واستغفرني غفرت له ولا أبالي، ولو أن ~~أولكم وآخركم وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أتقى قلب عبد من ~~عبادي ما ms312 زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ~~ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته ~~فأعطيت كل سائل منكم، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر، ~~فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه، PageV02P656 # ذلك بأني جواد واجد ماجد أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما ~~أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون)) وهذا لفظ الترمذي، وقال: ~~((حديث حسن)) . # وخرجه الطبراني (1) بمعناه من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، إلا أن إسناده ضعيف. # وحديث أبي ذر قال الإمام أحمد: هو أشرف حديث لأهل الشام (2) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه: ((يا عبادي إني حرمت ~~الظلم على نفسي)) ، يعني: أنه منع نفسه من الظلم لعباده، كما قال - عز وجل ~~-: {وما أنا بظلام للعبيد} (3) ، وقال: {وما الله يريد ظلما للعباد} (4) ، ~~وقال: {وما الله يريد ظلما للعالمين} (5) ، وقال: {وما ربك بظلام للعبيد} ~~(6) ، وقال: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} (7) ، وقال: {إن الله لا يظلم ~~مثقال ذرة} (8) ، وقال: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا ~~هضما} (9) ، والهضم: أن ينقص من جزاء حسناته، والظلم: أن يعاقب بذنوب غيره ~~(10) ، ومثل هذا كثير في القرآن. # وهو مما يدل على أن الله قادر على الظلم، ولكنه لا يفعله فضلا منه وجودا، ~~وكرما وإحسانا إلى عباده (11) . # وقد فسر كثير من العلماء الظلم: بأنه وضع الأشياء في غير موضعها (12) . ~~وأما من فسره بالتصرف في ملك الغير بغير إذنه - وقد نقل نحوه عن إياس بن ~~PageV02P657 # معاوية وغيره - فإنهم يقولون: إن الظلم مستحيل عليه وغيره متصور في حقه؛ ~~لأن كل ما يفعله فهو تصرف في ملكه (1) ، وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي ~~لعمران بن حصين حين سأله عن القدر (2) . # وخرج أبو داود، وابن ماجه من حديث أبي سنان سعيد بن سنان، عن وهب بن خالد ~~الحمصي، عن ابن الديلمي أنه سمع أبي بن كعب يقول: لو ms313 أن الله عذب أهل ~~سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم، لكانت رحمته خيرا ~~لهم من أعمالهم، وأنه أتى ابن مسعود، فقال له مثل ذلك، ثم أتى زيد ابن ~~ثابت، فحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل ذلك (3) . وفي هذا ~~الحديث نظر، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم (4) . PageV02P658 # وقد يحمل على أنه لو أراد تعذيبهم، لقدر لهم ما يعذبهم عليه، فيكون غير ~~ظالم لهم حينئذ. # وكونه خلق أفعال العباد وفيها الظلم لا يقتضي وصفه بالظلم - سبحانه ~~وتعالى -، كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خلقه ~~وتقديره (1) ، فإنه لا يوصف إلا بأفعاله لا يوصف بأفعال عباده، فإن أفعال ~~عباده مخلوقاته ومفعولاته، وهو لا يوصف بشيء منها، إنما يوصف بما قام به من ~~صفاته وأفعاله! والله أعلم. # وقوله: ((وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا)) يعني: أنه تعالى حرم الظلم ~~على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره، ~~مع أن الظلم في نفسه محرم مطلقا، وهو نوعان: # أحدهما: ظلم النفس، وأعظمه الشرك، كما قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} ~~(2) ، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، فعبده وتألهه، فوضع الأشياء ~~في غير موضعها، وأكثر ما ذكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به ~~المشركون، كما قال الله - عز وجل -: {والكافرون هم الظالمون} (3) ، ثم يليه ~~المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر. # والثاني: ظلم العبد لغيره، وهو المذكور في هذا الحديث، وقد قال النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم ~~وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) (4) . ~~PageV02P659 # وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم عرفة، وفي يوم النحر، وفي اليوم الثاني من ~~أيام التشريق، وفي رواية: ثم قال: ((اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا ~~لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) ~~(1) . # وفي " الصحيحين " (2) عن ابن عمر، عن النبي - صلى ms314 الله عليه وسلم - أنه ~~قال: ((الظلم ظلمات يوم القيامة)) . # وفيهما (3) عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن ~~الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا ~~أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} (4) . وفي " صحيح البخاري " (5) عن ~~أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من كانت عنده مظلمة ~~لأخيه، فليتحلله منها، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من ~~حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه)) . # قوله: ((يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، ~~كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من ~~كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل ... والنهار، وأنا ~~أغفر الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم)) . # هذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم، ودفع ~~مضارهم في أمور دينهم ودنياهم، وإن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئا من ذلك ~~كله، PageV02P660 # وإن من لم يتفضل الله عليه بالهدى والرزق، فإنه يحرمهما في الدنيا، ومن ~~لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه، أوبقته خطاياه في الآخرة. # قال الله تعالى: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا ~~مرشدا} (1) ، ومثل هذا كثير في القرآن، وقال تعالى: {ما يفتح الله للناس من ~~رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} (2) ، وقال: {إن الله هو ~~الرزاق ذو القوة المتين} (3) ، وقال: {فابتغوا عند الله الرزق ... واعبدوه} ~~(4) ، وقال: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (5) . # وقال تعالى حاكيا عن آدم وزوجه أنهما قالا: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم ~~تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (6) ، وعن نوح عليه الصلاة والسلام ~~أنه قال: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} (7) . # وقد استدل إبراهيم الخليل - عليه السلام - بتفرد الله بهذه الأمور على ~~أنه لا إله غيره، وإن كل ما أشرك معه، فباطل، فقال لقومه: {أفرأيتم ما كنتم ~~تعبدون ms315 أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو ~~يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين ~~والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} (8) ، فإن من تفرد بخلق العبد ~~وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا، وبمغفرة ذنوبه في الآخرة، ~~مستحق أن يفرد بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرع إليه، والاستكانة له. قال ~~الله - عز وجل -: {الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم PageV02P661 # يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون} ~~(1) . # وفي الحديث دليل (2) على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ~~ودنياهم، من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه الهداية ~~والمغفرة، وفي الحديث: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله ~~إذا انقطع)) (3) . # وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينه وعلف شاته. ~~وفي الإسرائيليات: أن موسى - عليه السلام - قال: يا رب إنه لتعرض لي الحاجة ~~من الدنيا، فأستحيي أن أسألك، قال: سلني حتى ملح عجينك وعلف حمارك. # فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهر حاجته فيه، ~~وافتقاره إلى الله، وذلك يحبه الله، وكان بعض السلف يستحيي من الله أن ~~يسأله شيئا من مصالح ... الدنيا، والاقتداء بالسنة أولى. # وقوله: ((كلكم ضال إلا من هديته)) قد ظن بعضهم أنه معارض لحديث عياض بن ~~حمار، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله PageV02P662 # - عز وجل -: خلقت عبادي حنفاء)) ، وفي رواية: ((مسلمين فاجتالتهم ~~الشياطين)) (1) # وليس كذلك، فإن الله خلق بني آدم، وفطرهم على قبول الإسلام، والميل إليه ~~دون غيره، والتهيؤ لذلك، والاستعداد له بالقوة، لكن لابد للعبد من تعليم ~~الإسلام بالفعل، فإنه قبل التعليم جاهل لا يعلم شيئا، كما قال - عز وجل -: ~~{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون ... شيئا} (2) وقال لنبيه - صلى ~~الله عليه وسلم -: {ووجدك ضالا فهدى} (3) ، والمراد: وجدك غير عالم بما ~~علمك من الكتاب والحكمة (4) ، كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من ms316 ~~أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} (5) فالإنسان يولد مفطورا على ~~قبول الحق، فإن هداه الله سبب له من يعلمه الهدى، فصار مهتديا بالفعل بعد ~~أن كان مهتديا بالقوة، وإن خذله الله، قيض له من يعلمه ما يغير فطرته كما ~~قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه ~~وينصرانه ويمجسانه)) (6) . # وأما سؤال المؤمن من الله الهداية، فإن الهداية نوعان: هداية مجملة: وهي ~~الهداية للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن، وهداية مفصلة: وهي هدايته إلى ~~معرفة PageV02P663 # تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل ~~مؤمن ليلا ونهارا، ولهذا أمر (1) الله عباده أن يقرؤوا في كل ركعة من ~~صلاتهم قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} (2) ، وكان النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يقول في دعائه بالليل: ((اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك ~~تهدي من تشاء إلى صراط ... مستقيم)) (3) ، ولهذا يشمت العاطس، فيقال له: ~~((يرحمك الله)) فيقول # : ((يهديكم الله)) كما جاءت السنة بذلك (4) ، PageV02P664 # وإن أنكره من أنكره من فقهاء العراق ظنا منهم أن المسلم لا يحتاج أن يدعى ~~له بالهدى، وخالفهم جمهور العلماء اتباعا للسنة في ذلك. وقد أمر النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - عليا أن يسأل الله السداد والهدى (1) ، وعلم الحسن أن ~~يقول في قنوت الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديت)) (2) . # وأما الاستغفار من الذنوب، فهو طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إليه؛ لأنه ~~يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرر في القرآن ذكر التوبة والاستغفار، والأمر ~~بهما، والحث عليهما، وخرج الترمذي، وابن ماجه من حديث أنس، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) (3) . # وخرج البخاري من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) (4) ، ~~وخرجه النسائي وابن ماجه، ولفظهما: ((إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ~~مئة مرة)) (5) . PageV02P665 # وخرج مسلم (1) من حديث الأغر المزني سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: ((يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ms317، فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة)) ~~، وخرجه النسائي (2) ، ولفظه: ((يا أيها الناس توبوا إلى ربكم واستغفروه، ~~فإني أتوب إلى الله وأستغفره كل يوم مئة مرة)) . # وخرج الإمام أحمد (3) من حديث حذيفة قال: كان في لساني ذرب # على أهلي لم أعده إلى غيره، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~فقال: ((أين أنت # من الاستغفار يا حذيفة، إني لأستغفر الله كل يوم مئة مرة)) . ومن حديث ~~أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إني لأستغفر الله كل ~~يوم مئة مرة وأتوب # إليه)) (4) . # وخرج النسائي (5) من حديث أبي موسى، قال: كنا جلوسا، فجاء النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فقال: ((ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله مئة مرة)) . # وخرج الإمام أحمد، وأبو داود (6) ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من ~~حديث ابن عمر، قال: PageV02P666 # إن كنا لنعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرة ~~يقول # : ((رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم)) (1) . # وخرج النسائي (2) من حديث أبي هريرة، قال: لم أر أحدا أكثر أن يقول: ~~أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. # وخرج الإمام أحمد (3) من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أنه كان يقول: ... ((اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا ~~أساءوا استغفروا)) ، وسنذكر بقية الكلام في الاستغفار فيما بعد إن شاء الله ~~تعالى. # وقوله: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي # فتنفعوني)) يعني: أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعا ولا ضرا، ~~فإن الله تعالى في نفسه غني حميد، لا حاجة له بطاعات العباد، ولا يعود ~~نفعها إليه، وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرر بمعاصيهم، وإنما هم يتضررون ~~بها، قال الله تعالى: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا ~~الله شيئا} (4) . وقال: # {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} (5) . # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: ((ومن يعص الله ورسوله ~~فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه ms318 ولا يضر الله شيئا)) (6) . PageV02P667 # قال الله - عز وجل -: {وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض ~~وكان الله غنيا حميدا} (1) ، وقال حاكيا عن موسى: {وقال موسى إن تكفروا ~~أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد} (2) ، وقال: {ومن كفر فإن ~~الله غني عن العالمين} (3) ، وقال: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ~~يناله التقوى منكم} (4) . # والمعنى: أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن ~~يعصوه، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها ~~طعامه وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أعيى وأيس منها، واستسلم للموت، ~~وأيس من الحياة، ثم غلبته عينه فنام، فاستيقظ وهي قائمة عنده، وهذا أعلى ما ~~يتصوره المخلوق من الفرح، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم إليه، ~~وإنه إنما يعود نفعها إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى ~~عباده، ومحبته لنفعهم، ودفع الضرر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبوه ~~ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب ~~غيره، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، كما في رواية عبد الرحمان بن غنم، ~~عن أبي ذر لهذا الحديث: ((من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة، ثم ~~استغفرني، غفرت له ولا أبالي)) . # وفي " الصحيح " (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن عبدا أذنب ~~ذنبا، فقال: يا رب، إني عملت PageV02P668 # ذنبا، فاغفر لي، فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ~~قد غفرت لعبدي)) . وفي حديث علي بن أبي طالب، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: أنه لما ركب دابته، حمد الله ثلاثا، وكبر ثلاثا، وقال: ((سبحانك ~~إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، وقال: إن ~~ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب ~~غيري)) ، خرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه (1) . # وفي الصحيح (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((والله لله أرحم ms319 ~~بعباده من الوالدة بولدها)) . # كان بعض أصحاب ذي النون يطوف وينادي: آه أين قلبي، من وجد قلبي؟ فدخل ~~يوما بعض السكك، فوجد صبيا يبكي وأمه تضربه، ثم أخرجته من الدار، وأغلقت ~~الباب دونه، فجعل الصبي يتلفت يمينا وشمالا لا يدري أين يذهب ولا أين # يقصد، فرجع إلى باب الدار، فجعل يبكي ويقول: يا أماه من يفتح لي الباب ~~إذا أغلقت عني بابك؟ ومن يدنيني من نفسه إذا طردتيني؟ ومن الذي يدنيني بعد ~~أن غضبت علي؟ فرحمته أمه، فقامت، فنظرت من خلل الباب، فوجدت ولدها تجري ~~الدموع على خديه متمعكا في التراب، ففتحت الباب، وأخذته حتى وضعته في ~~حجرها، وجعلت تقبله، وتقول: يا قرة عيني، ويا عزيز نفسي، أنت الذي ~~PageV02P669 # حملتني على نفسك، وأنت الذي تعرضت لما حل بك، لو كنت أطعتني لم تلق مني ~~مكروها، فتواجد الفتى، ثم قام، فصاح، وقال: قد وجدت قلبي، قد وجدت قلبي. # وتفكروا في قوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ~~فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} (1) ، فإن فيه إشارة إلى أن ~~المذنبين ليس لهم من يلجؤون إليه، ويعولون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، ~~وكذلك قوله في حق الثلاثة الذين خلفوا: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ~~وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ~~ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم} (2) ، فرتب توبته عليهم على ظنهم أن لا ~~ملجأ من الله إلا إليه، فإن العبد إذا خاف من مخلوق، هرب منه، وفر إلى ~~غيره، وأما من خاف من الله، فما له من ملجأ يلجأ إليه، ولا مهرب يهرب إليه ~~إلا هو، فيهرب منه إليه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في ~~دعائه: ((لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك)) (3) وكان يقول: ((أعوذ برضاك من ~~سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك)) (4) . # قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل ~~سربال سترها، إلا نادى الجليل - جل جلاله -: من أعظم ms320 مني جودا، والخلائق لي ~~عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم، كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم، ~~كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على ~~المسيء، PageV02P670 # من ذا الذي دعاني فلم ألبه؟ أم من ذا الذي سألني فلم أعطه؟ أم من الذي ~~أناخ ببابي فنحيته؟ أنا الفضل، ومني الفضل، أنا الجواد، ومني الجود، أنا ~~... الكريم، ومني الكرم، ومن كرمي أن أغفر للعاصين بعد المعاصي (1) ، ومن ~~كرمي أن أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي ~~التائب كأنه لم يعصني، فأين عني يهرب الخلائق؟ وأين عن بابي يتنحى العاصون ~~(2) ؟ خرجه أبو نعيم (3) . # ولبعضهم في المعنى: # أسأت ولم أحسن وجئتك تائبا ... وأنى لعبد عن مواليه مهرب # يؤمل غفرانا فإن خاب ظنه ... فما أحد منه على الأرض أخيب # فقوله بعد هذا: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على ~~أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو كانوا على أفجر قلب ~~رجل منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئا)) : هو إشارة إلى أن ملكه لا يزيد بطاعة ~~الخلق، ولو كانوا كلهم بررة أتقياء، قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم، ولا ~~ينقص ملكه بمعصية العاصين، ولو كان الجن والإنس كلهم عصاة فجرة قلوبهم على ~~قلب أفجر رجل منهم، فإنه سبحانه الغني بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق ~~في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه ملك كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أي ~~وجه كان. PageV02P671 # ومن الناس من قال: إن إيجاده لخلقه على هذا الوجه الموجود أكمل من إيجاده ~~على غيره، وهو خير من وجوده على غيره، وما فيه من الشر، فهو شر إضافي نسبي ~~بالنسبة إلى بعض الأشياء دون بعض، وليس شرا مطلقا، بحيث يكون عدمه خيرا من ~~وجوده من كل وجه، بل وجوده خير من عدمه، قال: وهذا معنى قوله: ((بيده ~~الخير)) (1) ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والشر ليس إليك)) ~~(2) # يعني: أن الشر المحض الذي عدمه خير من ms321 وجوده ليس موجودا في ملكك، فإن ~~الله تعالى أوجد خلقه على ما تقتضيه حكمته وعدله، وخص قوما من خلقه بالفضل، ~~وترك آخرين منهم في العدل، لما له في ذلك من الحكمة البالغة. # وهذا فيه نظر، وهو يخالف ما في الحديث من أن جميع الخلق لو كانوا على صفة ~~أكمل خلقه من البر والتقوى، لم يزد ذلك ملكه شيئا، ولا قدر جناح بعوضة، ولو ~~كانوا على صفة أنقص PageV02P672 # خلقه من الفجور، لم ينقص ذلك من ملكه شيئا، فدل على أن ملكه كامل على أي ~~وجه كان لا يزداد ولا يكمل بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي، ولا يؤثر فيه شيء. # وفي هذا الكلام دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هو القلب، فإذا بر ~~القلب واتقي برت الجوارح، وإذا فجر القلب، فجرت الجوارح، كما قال النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((التقوى هاهنا)) ، وأشار إلى صدره (1) . # قوله: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد # واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ~~ينقص المخيط إذا أدخل البحر)) المراد بهذا ذكر كمال (2) قدرته سبحانه، ~~وكمال ملكه، وإن ملكه وخزائنه لا تنفد، ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين ~~والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث للخلق على ~~سؤاله وإنزال حوائجهم به، وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: PageV02P673 # ((يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار (1) ، أفرأيتم ما ~~أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه)) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إذا دعا # أحدكم، فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم ~~الرغبة، # فإن الله لا يتعاظمه شيء)) . # وقال أبو سعيد الخدري: إذا دعوتم الله، فارفعوا في المسألة، فإن ما عنده ~~لا ينفده شيء، وإذا دعوتم فاعزموا، فإن الله لا مستكره له. # وفي بعض الآثار الإسرائيلية: يقول الله - عز وجل -: أيؤمل ms322 غيري للشدائد ~~والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم؟ ويرجى غيري، ويطرق بابه بالبكرات، وبيدي ~~مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني؟ من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به؟ ~~أو من ذا الذي رجاني لعظيم، فقطعت رجاءه؟ أو من ذا الذي طرق بابي، فلم ~~أفتحه له؟ أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟ أبخيل أنا فيبخلني ~~عبدي؟ أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن ~~يؤملوني؟ لو جمعت أهل السماوات والأرض، ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت ~~الجميع، وبلغت # كل واحد منهم أمله، لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، كيف ينقص ملك # أنا قيمه؟ فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني وتوثب على # محارمي (3) . # قوله: ((لم ينقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)) ~~تحقيق لأن ما عنده لا ينقص البتة، كما قال تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند ~~PageV02P674 # الله باق} (1) ، فإن البحر إذا غمس فيه إبرة، ثم أخرجت، لم ينقص من البحر ~~بذلك شيء، وكذلك لو فرض أنه شرب منه عصفور مثلا، فإنه لا ينقص البحر البتة، ~~ولهذا ضرب الخضر لموسى عليهما السلام هذا المثل في نسبة علمهما إلى علم ~~الله - عز وجل - (2) ، # وهذا لأن البحر لا يزال تمده مياه الدنيا وأنهارها الجارية، فمهما أخذ ~~منه، لم ينقصه شيء؛ لأنه يمده ما هو أزيد مما أخذ منه، وهكذا طعام الجنة ~~وما فيها، فإنه لا ينفد، كما قال تعالى: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ~~ممنوعة} (3) ، وقد جاء: ((أنه كلما نزعت ثمرة، عاد مكانها مثلها)) وروي: ~~((مثلاها)) (4) ، فهي لا تنقص أبدا ويشهد لذلك قول النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في خطبة الكسوف: ((وأريت الجنة، فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته ~~لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)) خرجاه في # " الصحيحين " من حديث ابن عباس (5) ، وخرجه الإمام أحمد من حديث جابر، ~~ولفظه: ((ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض، لا ينقصونه شيئا)) ~~(6) . PageV02P675 # وهكذا لحم الطير الذي يأكله أهل الجنة يستخلف ويعود كما كان حيا لا ينقص ms323 ~~منه شيء، وقد روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه فيها ضعف ~~(1) ، وقاله كعب. وروي أيضا عن أبي أمامة الباهلي من قوله، قال أبو أمامة: ~~وكذلك الشراب يشرب حتى ينتهي نفسه، ثم يعود مكانه. ورؤي بعض العلماء ~~الصالحين بعد موته بمدة في المنام فقال: ما أكلت منذ فارقتكم إلا بعض فرخ، ~~أما علمتم أن طعام الجنة لا ينفد؟ (2) # وقد بين في الحديث الذي خرجه الترمذي وابن ماجه السبب الذي لأجله لا ينقص ~~ما عند الله بالعطاء بقوله: ((ذلك بأني جواد واجد ماجد، أفعل ما أريد، ~~عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له: ... كن ~~فيكون)) (3) وهذا مثل قوله - عز وجل -: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول ~~له كن فيكون} (4) ، وقوله تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له ~~كن # فيكون} (5) . PageV02P676 # في " مسند البزار " بإسناد فيه نظر من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: # ((خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئا، قال له: كن، فكان)) (1) ، فهو ~~سبحانه إذا أراد شيئا من عطاء أو عذاب أو غير ذلك، قال له: كن، فكان، فكيف ~~يتصور أن ينقص هذا؟ وكذلك إذا أراد أن يخلق شيئا، قال له: كن، فيكون، كما ~~قال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن # فيكون} (2) . # وفي بعض الآثار الإسرائيلية: أوحى الله تعالى إلى موسى - عليه السلام -: ~~يا موسى لا تخافن غيري ما دام لي السلطان، وسلطاني دائم لا ينقطع، يا موسى، ~~لا تهتمن برزقي أبدا ما دامت خزائني مملوءة، وخزائني مملوءة لا تفنى أبدا، ~~يا موسى لا تأنس بغيري ما وجدتني أنيسا لك، ومتى طلبتني وجدتني، يا موسى، ~~لا تأمن مكري ما لم تجز الصراط إلى الجنة. وقال بعضهم: # لا تخضعن لمخلوق على طمع ... فإن ذاك مضر منك بالدين # واسترزق الله مما في خزائنه ... فإنما هي بين الكاف والنون # وقوله: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها)) يعني ms324: ~~أنه سبحانه يحصي أعمال عباده، ثم يوفيهم إياها بالجزاء عليها، وهذا كقوله: ~~{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (3) ، وقوله: ~~{ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (4) ، وقوله: {يوم تجد كل ~~PageV02P677 # نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا ~~بعيدا} (1) ، وقوله: {يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا # أحصاه الله ونسوه} (2) . # وقوله: ((ثم أوفيكم إياها)) الظاهر أن المراد توفيتها يوم القيامة كما ~~قال تعالى: {وإنما توفون أجوركم يوم القيامة} (3) ، ويحتمل أن المراد: أنه ~~يوفي عباده جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة كما في قوله: {من يعمل سوءا ... ~~يجز به} (4) . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر ذلك بأن ~~المؤمنين يجازون بسيئاتهم في الدنيا، وتدخر لهم حسناتهم في الآخرة، فيوفون ~~أجورها (5) . وأما الكافر فإنه يعجل له في الدنيا ثواب حسناته، وتدخر له ~~سيئاته، فيعاقب بها في الآخرة. وتوفية الأعمال هي توفية جزائها من خير أو ~~شر، فالشر يجازى به مثله من غير زيادة، إلا أن يعفو الله عنه، والخير تضاعف ~~الحسنة منه بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا يعلم قدرها ~~إلا الله (6) ، كما قال - عز وجل -: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} ~~(7) . # وقوله: ((فمن وجد خيرا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا ~~نفسه)) إشارة إلى أن الخير كله من الله فضل منه على عبده، من غير استحقاق ~~له، والشر كله من عند ابن آدم من اتباع هوى نفسه، كما قال - عز وجل -: {ما ~~أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (8) ، PageV02P678 # وقال علي - رضي الله عنه -: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه ~~(1) ، فالله سبحانه إذا أراد توفيق عبد وهدايته أعانه، ووفقه لطاعته، فكان ~~ذلك فضلا منه، وإذا أراد خذلان عبد، وكله إلى نفسه، وخلى بينه وبينها، ~~فأغواه الشيطان لغفلته عن ذكر الله، واتبع هواه، وكان أمره فرطا، وكان ذلك ~~عدلا منه، فإن ms325 الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتاب، وإرسال الرسول، فما ~~بقي لأحد من الناس (2) على الله حجة بعد الرسل. # فقوله بعد هذا: ((فمن وجد خيرا، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، # فلا يلومن إلا نفسه)) إن كان المراد: من وجد ذلك في الدنيا، فإنه يكون # حينئذ مأمورا بالحمد لله على ما وجده من جزاء الأعمال الصالحة الذي عجل # له في الدنيا كما قال: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن # فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} (3) ، # ويكون مأمورا بلوم نفسه على ما فعلت من الذنوب التي وجد عاقبتها في ~~الدنيا، كما قال تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ~~لعلهم يرجعون} (4) ، فالمؤمن إذا أصابه في الدنيا بلاء، رجع على نفسه ~~باللوم، # ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار، PageV02P679 # وفي " المسند " (1) و" سنن أبي داود " (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قال: ((إن المؤمن إذا أصابه سقم، ثم عافاه الله منه، كان كفارة لما مضى ~~من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل من عمره، وإن المنافق إذا مرض وعوفي، كان ~~كالبعير عقله أهله، وأطلقوه، لا يدري لم عقلوه ولا لم أطلقوه)) . # وقال سلمان الفارسي: إن المسلم ليبتلى، فيكون كفارة لما مضى ومستعتبا ~~فيما بقي، وإن الكافر يبتلى، فمثله كمثل البعير أطلق، فلم يدر لما أطلق، ~~وعقل، فلم يدر لم عقل؟ (3) # وإن كان المراد من وجد خيرا أو غيره في الآخرة، كان إخبارا منه بأن الذين ~~يجدون الخير في الآخرة يحمدون الله على ذلك، وأن من وجد غير ذلك يلوم نفسه ~~حين لا ينفعه اللوم، فيكون الكلام لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، كقوله - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((من كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار)) (4) ~~والمعنى: أن الكاذب عليه يتبوأ مقعده من النار. # وقد أخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يحمدون الله على ما رزقهم من ~~فضله، فقال: {ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا ~~الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا ms326 لنهتدي لولا أن هدانا الله} (5) ، وقال: # {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من PageV02P680 # الجنة حيث نشاء} (1) ، وقال: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ~~ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا ~~يمسنا فيها لغوب} (2) ، وأخبر عن أهل النار أنهم يلومون أنفسهم، ويمقتونها ~~أشد المقت، فقال تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد ~~الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم ~~لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} (3) ، وقال تعالى: {إن الذين كفروا ينادون ~~لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون} (4) . # وقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة؛ حذرا من لوم النفس عند ~~انقطاع الأعمال على التقصير. وفي " الترمذي " (5) عن أبي هريرة مرفوعا # : ((ما من ميت يموت إلا ندم، إن كان محسنا ندم على أن لا يكون ازداد، وإن ~~كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب)) . # وقيل لمسروق: لو قصرت عن بعض ما تصنع من الاجتهاد، فقال: والله لو أتاني ~~آت، فأخبرني أن لا يعذبني، لاجتهدت في العبادة، قيل: كيف ذاك؟ قال: حتى ~~تعذرني نفسي إن دخلت النار أن لا ألومها، أما بلغك في قول الله تعالى: ... ~~{ولا أقسم بالنفس اللوامة} (6) إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم، ~~فاعتنقتهم الزبانية، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني، ~~ورفعت عنهم الرحمة، وأقبل كل امرئ منهم يلوم نفسه (7) . PageV02P681 # وكان عامر بن عبد قيس يقول: والله لأجتهدن، ثم والله لأجتهدن، فإن نجوت ~~فبرحمة الله، وإلا لم ألم نفسي (1) . # وكان زياد مولى ابن عياش يقول لابن المنكدر ولصفوان بن سليم: الجد الجد ~~والحذر الحذر، فإن يكن الأمر على ما نرجو، كان ما عملتما فضلا، وإلا لم ~~تلوما أنفسكما. # وكان مطرف بن عبد الله يقول: اجتهدوا في العمل، فإن يكن الأمر كما نرجو ~~من رحمة الله وعفوه، كانت لنا درجات في الجنة، وإن يكن الأمر شديدا كما ~~نخاف ونحاذر، لم نقل: {ربنا أخرجنا ms327 نعمل صالحا غير الذي كنا ... نعمل} (2) ~~، نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك (3) . PageV02P682 ### | الحديث الخامس والعشرون # عن أبي ذر - رضي الله عنه -: أن ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: # يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ~~ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: ((أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل ~~تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر ~~بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)) . قالوا: يا رسول ~~الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها ... أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في ~~حرام، أكان عليه وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) . رواه مسلم ~~(1) . # هذا الحديث خرجه مسلم من رواية يحيى بن يعمر، عن أبي الأسود الديلي، عن ~~أبي ذر - رضي الله عنه -، وقد روي معناه عن أبي ذر من وجوه كثيرة بزيادة ~~ونقصان، وسنذكر بعضها فيما بعد إن شاء الله تعالى. # وفي هذا الحديث دليل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - لشدة حرصهم على ~~الأعمال # الصالحة، وقوة رغبتهم في الخير كانوا يحزنون على ما يتعذر عليهم فعله من ~~الخير مما يقدر عليه غيرهم، فكان الفقراء يحزنون على فوات الصدقة بالأموال ~~التي يقدر عليها الأغنياء، ويحزنون على التخلف عن الخروج في الجهاد؛ لعدم ~~القدرة على آلته، وقد أخبر الله عنهم بذلك في كتابه، فقال: {ولا على الذين ~~إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من ~~الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون} (2) . PageV02P683 # وفي هذا الحديث: أن الفقراء غبطوا أهل الدثور - والدثور: هي ... الأموال ~~(1) - بما يحصل لهم من أجر الصدقة بأموالهم، فدلهم النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - على صدقات يقدرون عليها. # وفي " الصحيحين " (2) عن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن فقراء المهاجرين ~~أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى ~~والنعيم المقيم، فقال: ((وما ذاك؟)) قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما ms328 ~~نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((أفلا أعلمكم شيئا # تدركون به من قد سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد # أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال # : ((تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة)) ، قال أبو # صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -: {ذلك فضل الله يؤتيه من # يشاء} (3) . # وقد روي نحو هذا الحديث من رواية جماعة من الصحابة منهم: علي (4) ، # وأبو ذر (5) ، وأبو الدرداء (6) ، وابن عمر (7) ، وابن عباس (8) ، ~~وغيرهم. # ومعنى هذا أن الفقراء ظنوا أن لا صدقة إلا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، ~~فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جميع أنواع فعل المعروف والإحسان ~~صدقة. وفي " صحيح مسلم " (9) عن حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((كل معروف صدقة)) . PageV02P684 # وخرجه البخاري (1) من حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ~~فالصدقة تطلق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان، حتى إن فضل الله الواصل ~~منه إلى عباده صدقة منه عليهم. وقد كان بعض السلف ينكر ذلك، ويقول: إنما ~~الصدقة ممن يطلب جزاءها وأجرها، والصحيح خلاف ذلك، وقد قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - في قصر الصلاة في السفر: ((صدقة تصدق الله بها عليكم، ~~فاقبلوا صدقته)) خرجه مسلم (2) ، وقال: من كانت له صلاة بليل، فغلب عليه ~~نوم فنام عنها، كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة من الله تصدق بها ~~عليه)) . خرجه النسائي وغيره من حديث عائشة (3) ، # وخرجه ابن ماجه من حديث أبي الدرداء (4) . # وفي " مسندي " (5) بقي بن مخلد والبزار من حديث أبي ذر مرفوعا: ((ما من ~~يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة يمن بها على من يشاء من عباده، ~~وما من الله على عبد مثل أن يلهمه ذكره)) . PageV02P685 # وقال خالد بن معدان: إن الله يتصدق كل ms329 يوم بصدقة، وما تصدق الله على أحد ~~من خلقه بشيء خير من أن يتصدق عليه بذكره (1) . # والصدقة بغير المال نوعان: # أحدهما: ما فيه تعدية الإحسان إلى الخلق، فيكون صدقة عليهم، وربما # كان أفضل من الصدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، # فإنه دعاء إلى طاعة الله، وكف عن معاصيه، وذلك خير من النفع بالمال، # وكذلك تعليم العلم النافع، وإقراء القرآن، وإزالة الأذى عن الطريق، ~~والسعي # في جلب النفع للناس، ودفع الأذى عنهم، وكذلك الدعاء للمسلمين والاستغفار ~~لهم. # وخرج ابن مردويه بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر مرفوعا: ((من كان له مال، ~~فليتصدق من ماله، ومن كان له قوة، فليتصدق من قوته، ومن كان له علم، ~~فليتصدق من علمه)) ولعله موقوف (2) . # وخرج الطبراني (3) بإسناد فيه ضعف عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((أفضل # الصدقة اللسان)) قيل: يا رسول الله، وما صدقة اللسان؟ قال: ((الشفاعة تفك ~~بها الأسير، وتحقن بها الدم، وتجر بها المعروف والإحسان إلى أخيك، وتدفع ~~عنه الكريهة)) . # وقال عمرو بن دينار: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~PageV02P686 # ((ما من صدقة أحب إلى الله من قول، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {قول معروف ~~ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى} (1) خرجه ابن أبي حاتم (2) . # وفي مراسيل الحسن (3) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من الصدقة ~~أن تسلم على الناس وأنت طليق الوجه)) . خرجه ابن أبي الدنيا. PageV02P687 # وقال معاذ: تعليم العلم لمن لا يعلمه صدقة، وروي مرفوعا (1) . ~~PageV02P689 # ومن أنواع الصدقة: كف الأذى عن الناس، ففي " الصحيحين " (1) عن أبي ذر ~~قال: قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان والجهاد في ~~سبيله)) ، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا)) ~~قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعا، وتصنع لأخرق)) . قلت: يا رسول الله، ~~أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس، فإنها ... صدقة)) . # وقد روي في حديث أبي ذر زيادات أخرى، فخرج الترمذي (2) من حديث أبي ذر، ~~عن النبي ms330 - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك ~~بالمعروف، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، ~~PageV02P690 # وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو ~~أخيك لك صدقة)) . # وخرج ابن حبان في " صحيحه " (1) من حديث أبي ذر: أن رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه ~~الشمس)) . قيل: يا رسول الله، ومن أين لنا صدقة نتصدق بها؟ قال: ((إن أبواب ~~الخير لكثيرة: التسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والأمر بالمعروف، ~~والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل ~~المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ~~ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة منك على نفسك)) . # وخرج الإمام أحمد (2) من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، ذهب ~~الأغنياء بالأجر، يتصدقون ولا نتصدق، قال: ((وأنت فيك صدقة: رفعك العظم عن ~~الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقة، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن ~~الأغتم صدقة، ومباضعتك امرأتك صدقة)) ، قلت: يا رسول الله، نأتي شهوتنا ~~ونؤجر؟! قال: ((أرأيت لو جعله في PageV02P691 # حرام، أكان يأثم؟)) قال: قلت: نعم، قال: ((أفتحتسبون بالشر ولا تحتسبون ~~بالخير؟)) وفي رواية أخرى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن فيك ~~صدقة كثيرة، فذكر فضل سمعك وفضل بصرك)) وفي رواية أخرى للإمام أحمد (1) : ~~قال: ((إن من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا ~~الله، وأستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق ~~الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل ~~المستدل على حاجة له قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان ~~المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أبواب الصدقة منك على ~~نفسك، ولك في جماعك زوجتك أجر)) ، قلت: كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيت لو كان لك ولد، فأدرك ms331 ورجوت ~~خيره، فمات، أكنت تحتسب به؟ قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قلت: بل الله خلقه، ~~قال: فأنت هديته؟ قلت: بل الله هداه، قال: فأنت كنت ترزقه؟ قلت: بل الله ~~كان يرزقه، قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن ~~شاء أماته، ولك أجر)) . PageV02P692 # وظاهر هذا السياق يقتضي أنه يؤجر على جماعه لأهله بنية طلب الولد الذي ~~يترتب الأجر على تربيته وتأديبه في حياته، ويحتسبه عند موته، وأما إذا لم ~~ينو شيئا # بقضاء شهوته، فهذا قد تنازع الناس في دخوله في هذا الحديث (1) . # وقد صح الحديث بأن نفقة الرجل على أهله صدقة، ففي " الصحيحين " (2) # عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((نفقة ~~الرجل على أهله صدقة)) . وفي رواية لمسلم: ((وهو يحتسبها)) ، وفي لفظ ~~للبخاري: ((إذا أنفق الرجل على أهله وهو يحتسبها، فهو له صدقة)) ، فدل على ~~أنه إنما يؤجر فيها إذا احتسبها عند الله كما في حديث سعد بن أبي وقاص، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنك لن تنفق # نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في ~~امرأتك)) خرجاه (3) . # وفي " صحيح مسلم " (4) عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~PageV02P693 # ((أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه على فرس في ~~سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله)) قال أبو قلابة ~~عند رواية هذا الحديث: بدأ بالعيال، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على ~~عيال له صغار يعفهم الله به، ويغنيهم الله به. # وفيه أيضا (1) عن سعد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن نفقتك ~~على عيالك # صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من مالك صدقة)) . وهذا قد ورد مقيدا في الرواية ~~الأخرى بابتغاء وجه الله. وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في ~~رقبة، ودينار تصدقت به # على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أفضلها الدينار الذي ms332 أنفقته على # أهلك)) . # وخرج الإمام أحمد (3) ، وابن حبان في " صحيحه " (4) من حديث أبي هريرة ~~قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تصدقوا)) ، فقال رجل: عندي ~~دينار، فقال: ... ((تصدق به على نفسك)) قال: عندي دينار آخر، قال: ((تصدق ~~به على زوجتك)) ، قال: عندي دينار آخر، قال: ((تصدق به على ولدك)) ، قال: ~~عندي دينار آخر، قال: ((تصدق به PageV02P694 # على خادمك)) ، قال: عندي دينار آخر، قال: ((أنت أبصر)) . # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث المقدام بن معدي كرب، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((ما أطعمت نفسك، فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك، فهو لك ~~... صدقة، وما أطعمت زوجتك، فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك، فهو لك صدقة)) ~~وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة يطول ذكرها. # وفي " الصحيحين " (2) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه إنسان، أو طير، أو دابة، ~~إلا كان له صدقة)) . # وفي " صحيح مسلم " (3) عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ~~وما أكل السبع منه فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد ~~إلا كان له صدقة)) . وفي رواية له أيضا: ((فيأكل منه إنسان، ولا دابة، ولا ~~طائر إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة)) . PageV02P695 # وفي " المسند " (1) بإسناد ضعيف عن معاذ بن أنس الجهني، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((من بنى بنيانا في غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس ~~غراسا في غير ظلم ولا اعتداء، كان له أجرا جاريا ما انتفع به أحد من خلق ~~الرحمان)) . # وذكر البخاري في " تاريخه " (2) من حديث جابر مرفوعا: ((من حفر ماء لم ~~تشرب منه كبد حرى من جن ولا إنس ولا سبع ولا طائر إلا آجره الله يوم ... ~~القيامة)) . # وظاهر هذه الأحاديث كلها يدل على أن هذه الأشياء تكون صدقة يثاب عليها ~~الزارع والغارس ونحوهما من غير ms333 قصد ولا نية، وكذلك قول النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - # : ((أرأيت لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال ~~كان له أجر)) يدل بظاهره على أنه يؤجر في إتيان أهله من غير نية، فإن ~~المباضع لأهله كالزارع في الأرض الذي يحرث الأرض ويبذر فيها، وقد ذهب إلى ~~هذا طائفة من العلماء، ومال إليه أبو محمد بن قتيبة في الأكل والشرب ~~والجماع، واستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن ليؤجر في ~~كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه)) (3) . وهذا اللفظ الذي استدل به غير ~~معروف، إنما المعروف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد # : ((إنك لن PageV02P696 # تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في ~~امرأتك)) (1) ، وهو مقيد بإخلاص النية لله، فتحمل الأحاديث المطلقة عليه، ~~والله أعلم. # ويدل عليه أيضا قول الله - عز وجل -: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من ~~أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله ~~فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (2) ، فجعل ذلك خيرا، ولم يرتب عليه الأجر إلا مع ~~نية # الإخلاص. وأما إذا فعله رياء، فإنه يعاقب عليه، وإنما محل التردد إذا ~~فعله بغير نية صالحة ولا فاسدة. وقد قال أبو سليمان الداراني: من عمل عمل ~~خير من غير نية كفاه نية اختياره للإسلام على غيره من الأديان (3) ، وظاهر ~~هذا أنه يثاب عليه من غير نية بالكلية؛ لأنه بدخوله في الإسلام مختار ~~لأعمال الخير في الجملة، فيثاب على كل عمل يعمله منها بتلك النية، والله ~~أعلم. # وقوله: ((أرأيت لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا # وضعها في الحلال، كان له أجر)) . هذا يسمى عند الأصوليين قياس العكس، # ومنه قول ابن مسعود، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة وقلت أنا ~~أخرى، قال: ((من مات يشرك بالله شيئا دخل النار)) ، وقلت: من مات لا يشرك ~~بالله شيئا دخل # الجنة (4) . PageV02P697 # والنوع الثاني من الصدقة التي ليست مالية: ما نفعه ms334 قاصر على فاعله، ~~كأنواع الذكر: من التكبير، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، ~~وكذلك المشي إلى المساجد صدقة، ولم يذكر في شيء من الأحاديث الصلاة والصيام ~~والحج والجهاد أنه صدقة، وأكثر هذه الأعمال أفضل من الصدقات المالية؛ لأنه ~~إنما ذكر ذلك جوابا لسؤال الفقراء الذين سألوه عما يقاوم تطوع الأغنياء ~~بأموالهم، وأما الفرائض، فقد كانوا كلهم مشتركين فيها. # وقد تكاثرت النصوص بتفضيل الذكر على الصدقة بالمال وغيرها من ... ~~الأعمال، كما في حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير ~~لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم، فتضربوا أعناقهم، ~~ويضربوا ... أعناقكم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله - عز وجل ~~-)) . خرجه الإمام # أحمد (1) والترمذي (2) ، وذكره مالك في " الموطأ " (3) موقوفا على أبي ~~الدرداء. # وفي " الصحيحين " (4) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: PageV02P698 # ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ~~ويميت، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت ~~له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى ~~يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)) . # وفيهما (1) أيضا عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ~~((من قالها عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل)) . # وخرج الإمام أحمد، والترمذي من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: ((الذاكرون ~~الله كثيرا)) قلت: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: ((لو ضرب ~~بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما، لكان الذاكرون لله أفضل ~~منه درجة)) (2) . ويروى نحوه من حديث معاذ وجابر مرفوعا، والصواب وقفه على ~~معاذ من قوله (3) . # وخرج الطبراني (4) من حديث أبي الوازع، عن أبي بردة، عن ms335 أبي موسى، عن ~~PageV02P699 # النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لو أن رجلا في حجره دراهم يقسمها، ~~وآخر يذكر الله، كان الذاكر لله أفضل)) . # قلت: الصحيح عن أبي الوازع، عن أبي برزة الأسلمي من قوله. خرجه جعفر ~~الفريابي (1) . # وخرج أيضا من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من كبر ~~مئة، وسبح مئة (2) ، وهلل مئة، كانت خيرا له من عشر رقاب يعتقها، ومن سبع ~~بدنات ... ينحرها)) (3) . # وخرج ابن أبي الدنيا بإسناده عن أبي الدرداء أنه قيل له: إن رجلا أعتق ~~مئة # نسمة، فقال: إن مئة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم ~~بالليل والنهار، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله - عز وجل - (4) . # وعن أبي الدرداء أيضا، قال: لأن أقول: الله أكبر مئة مرة، أحب إلى من أن ~~أتصدق بمئة دينار (5) . وكذلك قال سلمان الفارسي وغيره من الصحابة ~~والتابعين: إن الذكر أفضل من الصدقة بعدده من المال. # وخرج الإمام أحمد (6) والنسائي (7) من حديث أم هانئ: أن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - قال لها: ... PageV02P700 # ((سبحي الله مئة تسبيحة، فإنها تعدل مئة رقبة من ولد إسماعيل، واحمدي ~~الله مئة تحميدة، فإنها تعدل لك مئة فرس ملجمة مسرجة (1) تحملين عليهن في ~~سبيل الله، وكبري الله مئة تكبيرة، فإنها تعدل لك مئة بدنة مقلدة متقبلة، ~~وهللي الله مئة تهليلة - لا أحسبه إلا قال: - تملأ ما بين السماء والأرض، ~~ولا يرفع يومئذ لأحد مثل عملك إلا أن يأتي بمثل ما أتيت)) ، وخرجه أحمد (2) ~~أيضا وابن ماجه (3) ، وعندهما: ((وقولي: لا إله إلا الله مئة مرة، لا تذر ~~ذنبا، ولا يسبقها العمل)) . وخرجه الترمذي (4) من حديث عمرو بن شعيب، عن ~~أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بنحوه. # وخرج الطبراني (5) من حديث ابن عباس مرفوعا: قال: ((ما صدقة أفضل من ذكر ~~الله - عز وجل -)) . # وخرج الفريابي بإسناد فيه نظر عن أبي أمامة مرفوعا: ((من فاته الليل أن ~~يكابده، وبخل بماله أن ينفقه، وجبن من العدو أن يقاتله، فليكثر من ms336 سبحان ~~الله وبحمده، فإنها أحب إلى الله - عز وجل - من جبل ذهب، أو جبل ~~PageV02P701 # فضة ينفقه في سبيل الله - عز وجل - (1)) ) . وخرجه البزار (2) بإسناد ~~مقارب من حديث ابن عباس مرفوعا وقال # في حديثه: ((فليكثر ذكر الله)) ولم يزد على ذلك، وفي المعنى أحاديث أخر # متعددة. PageV02P702 ### | الحديث السادس والعشرون # عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((كل سلامى (1) من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين ~~الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه ~~صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى ~~عن الطريق صدقة)) . رواه البخاري ومسلم. # هذا الحديث خرجاه من رواية همام بن منبه، عن أبي هريرة (2) ، # وخرجه البزار (3) من رواية أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((الإنسان ثلاث مئة وستون عظما، أو ستة وثلاثون سلامى، ~~عليه في كل يوم صدقة)) قالوا: فمن لم يجد؟ قال: ((يأمر بالمعروف، وينهى عن ~~المنكر)) قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: ((يرفع عظما عن الطريق)) قالوا: فمن لم ~~يستطع؟ قال: ((فليعن ضعيفا)) قالوا: فمن لم يستطع ذلك؟ قال: ((فليدع الناس ~~من شره)) . # وخرج مسلم (4) من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((خلق ابن آدم على ستين وثلاث مئة مفصل، فمن ذكر الله، وحمد الله، ~~PageV02P703 # وهلل الله، وسبح الله، وعزل حجرا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكة، أو عزل ~~عظما، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاث مئة السلامى ~~أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار)) . # وخرج مسلم (1) أيضا من رواية أبي الأسود الديلي، عن أبي ذر، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة ~~صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف ~~صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى)) . # وخرج الإمام أحمد (2) ، وأبو داود ms337 (3) من حديث بريدة، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((في الإنسان ثلاث مئة وستون مفصلا، فعليه أن يتصدق ~~عن كل مفصل منه بصدقة)) PageV02P704 # قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: ((النخاعة في المسجد تدفنها، ~~والشيء تنحيه عن الطريق، فإن لم تجد، فركعتا الضحى تجزئك)) . # وفي " الصحيحين " (1) عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((على كل مسلم # صدقة)) قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((فيعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق)) ~~قالوا: فإن لم يستطع، أو لم يفعل؟ قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف)) ، ~~قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((فليأمر بالخير أو قال: بالمعروف)) قالوا: فإن ~~لم يفعل؟ قال: ... ((فليمسك عن الشر، فإنه له صدقة)) . # وخرج ابن حبان في " صحيحه " (2) من حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((على كل منسم (3) من ابن آدم صدقة كل يوم)) فقال رجل من ~~القوم: ومن يطيق هذا؟ قال: ((أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ~~والحمل على الضعيف صدقة، وكل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة)) . وخرجه ~~البزار (4) وغيره. # وفي رواية: ((على كل ميسم (5) من الإنسان صدقة كل يوم، أو صلاة)) ، فقال ~~رجل: هذا من أشد ما أتيتنا به، فقال: ((إن أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ~~صلاة أو صدقة، وحملك عن PageV02P705 # الضعيف صلاة، وإنحاؤك القذر عن الطريق صلاة، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة ~~صلاة)) (1) . وفي رواية البزار: ((وإماطة الأذى عن الطريق صدقة)) أو قال: ~~((صلاة)) . # وقال بعضهم: يريد بالميسم: كل عضو على حدة، مأخوذ من الوسم: وهو العلامة، ~~إذ ما من عظم ولا عرق ولا عصب إلا وعليه أثر صنع الله، فيجب على العبد ~~الشكر على ذلك لله والحمد له على خلقه سويا صحيحا، وهذا هو المراد بقوله: ~~((عليه صلاة كل يوم)) ؛ لأن الصلاة تحتوي على الحمد والشكر والثناء. # وخرج الطبراني (2) من وجه آخر عن ابن عباس رفع الحديث إلى النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((على كل سلامى، أو على كل عضو من بني آدم في كل ~~يوم صدقة ms338، ويجزئ من ذلك ركعتا الضحى)) . # ويروى من حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((على ~~كل نفس في كل يوم صدقة)) قيل: فإن كان لا يجد شيئا؟ قال: ((أليس ~~PageV02P706 # بصيرا شهما فصيحا صحيحا؟)) قال: بلى، قال: ((يعطي من قليله وكثيره، وإن ~~بصرك للمنقوص بصره صدقة، وإن سمعك للمنقوص سمعه صدقة)) (1) . # وقد ذكرنا في شرح الحديث الماضي - حديث أبي ذر - الذي خرجه ابن حبان في " ~~صحيحه " (2) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس من نفس ابن آدم ~~إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس)) ، قيل: يا رسول الله، ومن أين ~~لنا صدقة نتصدق بها؟ قال: ((إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح، والتحميد، ~~والتكبير، والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن ~~الطريق، وتسمع الأصم، وتهدي الأعمى، وتدل المستدل على حاجته، وتسعى بشدة ~~ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف، فهذا كله صدقة ~~منك على نفسك)) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((على كل سلامى من الناس عليه صدقة)) . ~~قال أبو عبيد: السلامى في الأصل (3) عظم يكون في فرسن البعير، قال: فكأن ~~معنى الحديث: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة (4) ، يشير أبو عبيد إلى أن ~~السلامى اسم لبعض العظام الصغار التي في الإبل، ثم عبر بها عن العظام في ~~الجملة بالنسبة إلى الآدمي وغيره. # فمعنى الحديث عنده: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. # وقال غيره: السلامى: عظم في طرف اليد والرجل، وكني بذلك عن جميع عظام ~~الجسد، والسلامى جمع، وقيل: هو مفرد. # وقد ذكر علماء الطب أن جميع عظام البدن PageV02P707 # مئتان وثمانية وأربعون عظما سوى السمسمانيات، وبعضهم يقول: هي ثلاث مئة ~~وستون عظما، يظهر منها للحس مئتان وخمسة وستون عظما، والباقية صغار لا تظهر ~~تسمى السمسمانية، وهذه الأحاديث تصدق هذا القول، ولعل السلامى عبر بها عن ~~هذه العظام ... الصغار، كما أنها في الأصل اسم لأصغر ما في البعير من ~~العظام، ورواية البزار لحديث أبي هريرة يشهد لهذا، حيث قال فيها: ((أو ms339 ستة ~~وثلاثون سلامى)) وقد خرجه غير البزار، وقال فيه: ((إن في ابن آدم ست مئة ~~وستين عظما)) وهذه الرواية غلط. وفي حديث عائشة وبريدة ذكر ثلاث مئة وستين ~~مفصلا. # ومعنى الحديث: أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نعم الله على عبده، ~~فيحتاج كل عظم منها إلى صدقة يتصدق ابن آدم عنه، ليكون ذلك شكرا لهذه ~~النعمة. قال الله - عز وجل -: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي ~~خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك} (1) ، وقال - عز وجل -: {قل هو ~~الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} (2) ، وقال # : {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار ~~والأفئدة لعلكم تشكرون} (3) ، وقال: {ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين} (4) ~~، PageV02P708 # قال مجاهد: هذه نعم من الله متظاهرة يقررك بها كيما تشكر (1) ، # وقرأ الفضيل ليلة هذه الآية، فبكى، فسئل عن بكائه، فقال: هل بت ليلة ~~شاكرا لله أن جعل لك عينين تبصر بهما؟ هل بت ليلة شاكرا لله أن جعل لك ~~لسانا تنطق به؟ وجعل يعدد من هذا الضرب. # وروى ابن أبي الدنيا (2) بإسناده عن سلمان الفارسي، قال: إن رجلا بسط له ~~من الدنيا، فانتزع ما في يديه، فجعل يحمد الله - عز وجل -، ويثني عليه، حتى ~~لم يكن له فراش إلا بوري (3) ، فجعل يحمد الله، ويثني عليه، وبسط للآخر من ~~الدنيا، فقال لصاحب البوري: أرأيتك أنت على ما تحمد الله - عز وجل -؟ قال: ~~أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطي الخلق، لم أعطهم إياه، قال: وما ذاك؟ ~~قال: أرأيت بصرك؟ أرأيت لسانك؟ أرأيت يديك؟ أرأيت رجليك؟ # وبإسناده عن أبي الدرداء أنه كان يقول: الصحة غنى الجسد (4) . # وعن يونس بن عبيد: أن رجلا شكا إليه ضيق حاله، فقال له يونس: أيسرك أن لك ~~ببصرك هذا الذي تبصر به مئة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيدك مئة ألف ~~درهم؟ قال: لا، قال: فبرجليك؟ قال: لا، قال: فذكره نعم الله عليه، فقال ~~يونس: أرى عندك ms340 مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة (5) . # وعن وهب بن منبه، قال: مكتوب في حكمة آل داود: العافية الملك الخفي (6) . ~~PageV02P709 # وعن بكر المزني قال: يا ابن آدم، إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك، ~~فغمض عينيك (1) . وفي بعض الآثار: كم من نعمة لله في عرق ساكن (2) . # وفي " صحيح البخاري " (3) عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) . # فهذه النعم مما يسأل الإنسان عن شكرها يوم القيامة، ويطالب بها كما قال ~~تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} (4) . وخرج الترمذي (5) وابن حبان (6) ~~من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن أول ما ~~يسأل العبد عنه يوم القيامة من النعيم، فيقول له: ألم نصح لك جسمك، ونرويك ~~من الماء البارد؟)) . # وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: النعيم: الأمن والصحة (7) . وروي عنه ~~مرفوعا (8) . # وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {ثم لتسألن يومئذ عن ... ~~النعيم} (9) ، قال: النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله ~~العباد: فيما استعملوها؟ وهو أعلم بذلك منهم (10) ، وهو قوله تعالى: {إن ~~السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (11) . # وخرج الطبراني (12) من رواية أيوب بن عتبة - وفيه ضعف (13) -، عن عطاء، ~~عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: PageV02P710 # ((من قال: لا إله إلا الله، كان له بها عهد عند الله، ومن قال: سبحان ~~الله وبحمده، كتب له بها مئة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة)) ، فقال ~~رجل: كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله؟ قال: ((إن الرجل ليأتي يوم القيامة ~~بالعمل، لو وضع على جبل لأثقله، فتقوم النعمة من نعم الله، فتكاد أن تستنفد ~~ذلك كله، إلا أن يتطاول الله برحمته)) . # وروى ابن أبي الدنيا (1) # بإسناد فيه ضعف أيضا عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((يؤتى بالنعم يوم القيامة، وبالحسنات والسيئات، فيقول الله لنعمة من نعمه: ~~خذي حقك من حسناته فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها)) . # وبإسناده عن وهب ms341 بن منبه قال: عبد الله عابد خمسين عاما، فأوحى الله - عز ~~وجل - إليه: إني قد غفرت لك، قال: يا رب، وما تغفر لي ولم أذنب؟ فأذن الله ~~- عز وجل - لعرق في عنقه، فضرب عليه، فلم ينم، ولم يصل (2) ، ثم سكن وقام، ~~فأتاه ملك، فشكا إليه ما لقي من ضربان العرق، فقال الملك: إن ربك - عز وجل ~~- يقول: عبادتك خمسين سنة تعدل سكون ذا العرق (3) . # وخرج الحاكم (4) # هذا المعنى مرفوعا من رواية سليمان بن هرم القرشي، عن محمد PageV02P711 # بن المنكدر، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن جبريل أخبره ~~أن عابدا عبد الله على رأس جبل في البحر خمس مئة سنة، ثم سأل ربه أن يقبضه ~~وهو ساجد، قال: فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا، ونجد في العلم أنه ~~يبعث يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله - عز وجل -، فيقول الرب - عز وجل -: ~~أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول العبد: يا رب، بعملي، ثلاث مرات، ثم يقول ~~الله للملائكة: قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فيجدون نعمة البصر قد ~~أحاطت بعبادة خمس مئة سنة، وبقيت نعم الجسد له، فيقول: أدخلوا عبدي النار، ~~فيجر إلى النار، فينادي ربه: برحمتك أدخلني الجنة، برحمتك، فيدخله الجنة، ~~قال جبريل: إنما الأشياء برحمة الله يا محمد. وسليمان بن هرم، قال العقيلي: ~~هو مجهول وحديثه غير محفوظ (1) . # وروى الخرائطي (2) بإسناد فيه نظر عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: ((يؤتى ~~بالعبد يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله - عز وجل - فيقول للملائكة: انظروا ~~في عمل عبدي ونعمتي عليه، فينظرون فيقولون: ولا بقدر نعمة واحدة من نعمك ~~عليه، فيقول: انظروا في عمله سيئه وصالحه، فينظرون فيجدونه كفافا، فيقول: ~~عبدي، قد قبلت حسناتك، وغفرت لك سيئاتك، وقد وهبت لك نعمتي فيما بين # ذلك)) . # والمقصود: أن الله تعالى أنعم على عباده بما لا يحصونه كما قال: {وإن ~~PageV02P712 # تعدوا نعمت الله لا تحصوها} (1) ، وطلب منهم الشكر، ورضي به منهم. قال ~~سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم ms342 ~~حتى رضي منهم من الشكر بالاعتراف بقلوبهم بنعمه (2) ، وبالحمد بألسنتهم ... ~~عليها، كما خرجه أبو داود (3) والنسائي (4) من حديث عبد الله بن غنام، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح ~~بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر، ~~فقد أدى شكر ذلك اليوم، ومن قالها حين يمسي أدى شكر ليلته)) . وفي رواية ~~للنسائي عن # عبد الله بن عباس (5) . # وخرج الحاكم (6) من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((ما أنعم الله على عبد نعمة، فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها ~~قبل أن يشكرها، وما أذنب عبد ذنبا، فندم عليه إلا كتب الله له مغفرته قبل ~~أن يستغفره)) . PageV02P713 # قال أبو عمرو الشيباني: قال موسى - عليه السلام - يوم الطور: يا رب، إن ~~أنا صليت فمن قبلك، وإن أنا تصدقت فمن قبلك، وإن أنا بلغت رسالتك فمن قبلك، ~~فكيف أشكرك؟ قال: الآن شكرتني (1) . # وعن الحسن قال: قال موسى - عليه السلام -: يا رب، كيف يستطيع آدم أن يؤدي ~~شكر ما صنعت إليه؟ خلقته بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسكنته جنتك، وأمرت ~~الملائكة فسجدوا له، فقال: يا موسى، علم أن ذلك مني، فحمدني عليه، فكان ذلك ~~شكرا لما صنعته (2) . # وعن أبي الجلد (3) قال: قرأت في مسألة داود أنه قال: أي رب كيف لي أن ~~أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ قال: فأتاه الوحي: أن يا داود، ~~أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب (4) ، قال: فإني أرضى # بذلك منك شكرا (5) . # قال: وقرأت في مسألة موسى: يا رب، كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها ~~عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟ قال: فأتاه الوحي: أن يا موسى، الآن ~~شكرتني (6) . # وقال أبو بكر بن عبد الله: ما قال عبد قط: الحمد لله مرة، إلا وجبت عليه ~~نعمة بقوله: الحمد لله، فما جزاء تلك النعمة؟ جزاؤها أن يقول: الحمد ms343 لله، ~~فجاءت نعمة أخرى، فلا تنفد نعماء الله (7) . PageV02P714 # وقد روى ابن ماجه (1) من حديث أنس مرفوعا: ((ما أنعم الله على عبد نعمة، ~~فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ)) . # وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب (2) ، عن أسماء بنت يزيد مرفوعا أيضا. # وروي هذا عن الحسن البصري من قوله (3) . # وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إني بأرض قد كثرت فيها النعم، حتى ~~لقد أشفقت على أهلها من ضعف الشكر، فكتب إليه عمر: إني قد كنت أراك أعلم ~~بالله مما أنت، إن الله لم ينعم على عبد نعمة، فحمد الله عليها، إلا كان # حمده أفضل من نعمه، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل، قال ~~الله تعالى: {ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على ~~كثير من عباده المؤمنين} (4) ، وقال تعالى: {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى ~~الجنة زمرا حتى إذا جاءوها} إلى قوله: {وقالوا الحمد لله} (5) وأي نعمة ~~أفضل من دخول الجنة (6) ؟ # وقد ذكر ابن أبي الدنيا في " كتاب الشكر " (7) عن بعض العلماء أنه صوب ~~هذا القول: أعني قول من قال: إن الحمد أفضل من النعم، وعن ابن عيينة أنه ~~خطأ قائله، قال: ولا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب - عز وجل - (8) . ~~PageV02P715 # ولكن الصواب قول من صوبه، فإن المراد بالنعم: النعم الدنيوية، كالعافية ~~والرزق والصحة، ودفع المكروه، ونحو ذلك، والحمد هو من النعم الدينية، ~~وكلاهما نعمة من الله، لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد ~~عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده، فإن النعم الدنيوية إن لم يقترن بها ~~الشكر، كانت بلية كما قال أبو حازم: كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية (1) ~~، فإذا وفق الله عبده للشكر على نعمه الدنيوية بالحمد أو غيره من أنواع ~~الشكر، كانت هذه النعمة خيرا من تلك النعم وأحب إلى الله - عز وجل - منها، ~~فإن الله يحب المحامد، ويرضى عن عبده أن يأكل الأكلة، فيحمده عليها، ويشرب ~~الشربة، فيحمده عليها ms344، والثناء بالنعم والحمد عليها وشكرها عند أهل الجود ~~والكرم أحب إليهم من ... أموالهم، فهم يبذلونها طلبا للثناء، والله - عز ~~وجل - أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فهو يبذل نعمه (2) لعباده، ويطلب ~~منهم الثناء بها، وذكرها، والحمد عليها، ويرضى منهم بذلك شكرا عليها، وإن ~~كان ذلك كله من فضله عليهم، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحب ذلك من ~~عباده، حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه. # ومن فضله أنه نسب الحمد والشكر إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا ~~كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال، ثم استقرض منهم بعضه، ومدحهم ~~بإعطائه، والكل ملكه، ومن فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك، ومن هنا يعلم معنى ~~الأثر الذي جاء مرفوعا (3) وموقوفا (4) : ((الحمد لله حمدا يوافي نعمه، ~~ويكافئ مزيده)) . PageV02P716 # ولنرجع الآن إلى تفسير حديث: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع ~~فيه الشمس)) . # يعني: أن الصدقة على ابن آدم عن هذه الأعضاء في كل يوم من أيام الدنيا، ~~فإن اليوم قد يعبر به عن مدة أزيد من ذلك، كما يقال: يوم صفين، وكان مدة ~~أيام، وعن مطلق الوقت كما في قوله: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} (1) . ~~وقد يكون ذلك ليلا ونهارا، فإذا قيل: كل يوم تطلع فيه الشمس، علم أن هذه ~~الصدقة على ابن آدم في كل يوم يعيش فيه من أيام الدنيا، وظاهر الحديث يدل ~~على أن هذا الشكر بهذه الصدقة واجب على المسلم كل يوم، ولكن الشكر على ~~درجتين: # إحداهما: واجب، وهو أن يأتي بالواجبات، ويجتنب المحارم، فهذا لابد منه، ~~ويكفي في شكر هذه النعم، ويدل على ذلك ما خرجه أبو داود من حديث أبي الأسود ~~الديلي، قال: كنا عند أبي ذر، فقال: يصبح على كل سلامى من أحدكم في كل يوم ~~صدقة، فله بكل صلاة صدقة، وصيام صدقة، وحج صدقة، وتسبيح صدقة، وتكبير صدقة، ~~وتحميد صدقة، فعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأعمال ~~الصالحات قال: ((يجزئ أحدكم من ذلك ركعتا الضحى)) (2) PageV02P717 # وقد تقدم في حديث ms345 أبي موسى (1) المخرج في " الصحيحين ": ((فإن لم يفعل، ~~فليمسك عن الشر، فإنه له صدقة)) . وهذا يدل على أنه يكفيه أن لا يفعل شيئا ~~من الشر، وإنما يكون مجتنبا للشر إذا قام بالفرائض، واجتنب المحارم، فإن ~~أعظم الشر ترك الفرائض، ومن هنا قال بعض السلف: الشكر ترك المعاصي (2) . ~~وقال بعضهم: الشكر أن لا يستعان بشيء من النعم على معصية (3) . # وذكر أبو حازم الزاهد شكر الجوارح كلها، وأن تكف عن المعاصي وتستعمل في ~~الطاعات، ثم قال: وأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله كمثل ~~رجل له كساء، فأخذ بطرفه، فلم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج ~~والمطر (4) . # وقال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم: لينظر العبد في نعم الله عليه في بدنه ~~وسمعه وبصره ويديه ورجليه وغير ذلك، ليس من هذا شيء إلا وفيه نعمة من الله ~~- عز وجل -، حق على العبد أن يعمل بالنعم التي في بدنه لله - عز وجل - في ~~طاعته، ونعمة أخرى في الرزق، حق عليه أن يعمل لله - عز وجل - فيما أنعم ~~عليه من الرزق في طاعته، فمن عمل بهذا، كان قد أخذ بحزم الشكر وأصله وفرعه ~~(5) . ورأى الحسن رجلا يتبختر في مشيته، فقال: لله في كل عضو منه نعمة، ~~اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمك على معصيتك. PageV02P718 # الدرجة الثانية من الشكر: الشكر المستحب، وهو أن يعمل العبد بعد أداء ~~الفرائض، واجتناب المحارم بنوافل الطاعات، وهذه درجة السابقين المقربين، ~~وهي التي أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث التي ~~سبق ذكرها، وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في الصلاة، ويقوم ~~حتى تتفطر قدماه، فإذا قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ~~وما تأخر؟ فيقول: ((أفلا أكون عبدا شكورا؟)) (1) . # وقال بعض السلف: لما قال الله - عز وجل -: {اعملوا آل داود شكرا} (2) ، ~~لم يأت عليهم ساعة من ليل أو نهار إلا وفيهم مصل يصلي (3) . # وهذا مع أن بعض هذه الأعمال التي ذكرها النبي - صلى الله عليه ms346 وسلم - ~~واجب: إما على الأعيان، كالمشي إلى الصلاة عند من يرى وجوب الصلاة في ~~الجماعات في المساجد، وإما على الكفاية، كالأمر بالمعروف، والنهي عن ~~المنكر، وإغاثة الملهوف، والعدل بين الناس، إما في الحكم بينهم، أو في ~~الإصلاح. وقد روي من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((أفضل الصدقة إصلاح ذات البين)) (4) . # وهذه الأنواع التي أشار إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة، ~~منها ما نفعه متعد # كالإصلاح، وإعانة الرجل على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها، ~~والكلمة الطيبة، ويدخل فيها السلام، وتشميت العاطس، وإزالة الأذى عن ~~الطريق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودفن النخامة في المسجد، ~~وإعانة ذي الحاجة الملهوف، وإسماع الأصم، PageV02P719 # والبصر للمنقوص بصره، وهداية الأعمى أو غيره الطريق. وجاء في بعض روايات ~~حديث أبي ذر: ((وبيانك عن الأرتم صدقة)) يعني: من لا يطيق الكلام (1) ، إما ~~لآفة في لسانه، أو لعجمة في لغته، فيبين عنه ما يحتاج إلى بيانه. # ومنه ما هو قاصر النفع: كالتسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والمشي ~~إلى الصلاة، وصلاة ركعتي الضحى، وإنما كانتا مجزئتين عن ذلك كله؛ لأن في ~~الصلاة استعمالا للأعضاء كلها في الطاعة والعبادة، فتكون كافية في شكر نعمه ~~سلامة (2) هذه الأعضاء. وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرها استعمال لبعض ~~أعضاء البدن خاصة، فلا تكمل الصدقة بها حتى يأتي منها بعدد سلامى البدن، ~~وهي ثلاث مئة وستون كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -. # وفي " المسند " (3) عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((أتدرون أي الصدقة أفضل وخير؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((المنحة: ~~أن تمنح أخاك الدراهم، أو ظهر الدابة، أو لبن الشاة أو لبن البقرة)) . ~~والمراد بمنحة الدراهم: قرضها، وبمنحة ظهر الدابة إفقارها، وهو إعارتها لمن ~~يركبها، وبمنحة لبن الشاة أو البقرة أن يمنحه بقرة أو شاة ليشرب لبنها ثم ~~يعيدها إليه، وإذا أطلقت المنيحة، لم تنصرف إلا إلى هذا. # وخرج الإمام أحمد (4) والترمذي (5) من حديث البراء بن عازب، عن ~~PageV02P720 # النبي - صلى ms347 الله عليه وسلم -، قال: ((من منح منيحة لبن، أو ورق، أو هدى ~~زقاقا، كان له مثل عتق رقبة)) وقال الترمذي: معنى قوله: ((من منح منيحة ~~ورق)) إنما يعني به قرض الدراهم، وقوله: ((أو هدى زقاقا)) إنما يعني به ~~هداية الطريق، وهو إرشاد السبيل. # وخرج البخاري (1) من حديث حسان بن عطية، عن أبي كبشة السلولي، قال: سمعت ~~عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربعون ~~خصلة، أعلاها منيحة (2) العنز (3) ، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ~~ثوابها، وتصديق # موعودها، إلا أدخله الله بها الجنة)) . قال حسان: فعددنا ما دون منيحة ~~العنز من رد السلام، وتشميت العاطس، وإماطة الأذى عن الطريق ونحوه، فما ~~استطعنا أن نبلغ خمس عشرة خصلة. # وفي " صحيح مسلم " (4) عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((حق الإبل حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها، ومنيحتها، وحمل ~~عليها في سبيل الله)) . PageV02P721 # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((كل معروف صدقة، ومن المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من ~~دلوك في إنائه)) . وخرجه الحاكم (2) # وغيره بزيادة، وهي: ((وما أنفق المرء على نفسه وأهله، كتب له به صدقة، ~~وما وقى به عرضه كتب له به صدقة، وكل نفقة أنفقها مؤمن، فعلى الله خلفها ~~ضامن إلا نفقة في معصية أو بنيان)) . # وفي " المسند " (3) عن أبي جري الهجيمي، قال: سألت النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - عن المعروف، فقال: ((لا تحقرن من المعروف شيئا، ولو أن تعطي صلة ~~الحبل، ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو ~~أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ~~ولو أن تلقى أخاك فتسلم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض)) . # ومن أنواع الصدقة: كف الأذى عن الناس باليد واللسان، كما في # " الصحيحين " عن أبي ذر (4) ، قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال # : ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيله)) قلت ms348: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين ~~صانعا، PageV02P722 # أو تصنع لأخرق (1)) ) ، قلت: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك ~~عن الناس، فإنها صدقة)) . # وفي " صحيح ابن حبان " (2) عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله، دلني على ~~عمل، إذا عمل به العبد دخل به الجنة، قال: ((يؤمن بالله)) قلت: # يا رسول الله، إن مع الإيمان عملا؟ قال: ((يرضخ (3) مما رزقه الله)) ، ~~قلت: وإن كان معدما لا شيء له؟ قال: ((يقول معروفا بلسانه)) ، قلت: فإن كان ~~عييا لا يبلغ عنه لسانه؟ قال: ((فيعين مغلوبا)) ، قلت: فإن كان ضعيفا لا ~~قدرة له؟ قال: ((فليصنع لأخرق)) ، قلت: فإن كان أخرق؟ فالتفت إلي، فقال: ~~((ما تريد أن تدع في صاحبك شيئا من الخير؟ فليدع الناس من أذاه)) ، قلت: يا ~~رسول الله، إن هذا كله ليسير، قال: ((والذي نفسي بيده، ما من عبد يعمل ~~بخصلة منها يريد بها ما عند الله، إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل ~~الجنة)) . # فاشترط في هذا الحديث لهذه الأعمال كلها إخلاص النية كما في حديث # عبد الله بن عمرو الذي فيه ذكر الأربعين خصلة (4) ، وهذا كما في قوله - ~~عز وجل -: {لا # خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن ~~يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} (5) . PageV02P723 # وقد روي عن الحسن، وابن سيرين أن فعل المعروف يؤجر عليه، وإن لم يكن له ~~فيه نية. سئل الحسن عن الرجل يسأله آخر حاجة وهو يبغضه، فيعطيه حياء: هل له ~~فيه أجر؟ فقال: إن ذلك لمن المعروف، وإن في المعروف لأجرا. خرجه حميد بن ~~زنجويه. # وسئل ابن سيربن عن الرجل يتبع الجنازة، لا يتبعها حسبة، يتبعها حياء من ~~أهلها: أله في ذلك أجر؟ فقال: أجر واحد؟ بل له أجران: أجر لصلاته على أخيه، ~~وأجر لصلته الحي. خرجه أبو نعيم في " الحلية " (1) . # ومن أنواع الصدقة: أداء حقوق المسلم على المسلم، وبعضها مذكور في ~~الأحاديث الماضية، ففي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ms349 ~~عليه وسلم -، قال: ... ((حق المسلم على المسلم خمس، رد السلام، وعيادة ~~المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) وفي رواية لمسلم ~~(3) : ((للمسلم على المسلم ست)) ، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا ~~لقيته تسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك، فانصح له، وإذا عطس فحمد ~~الله، فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) . PageV02P724 # وفي " الصحيحين " (1) عن البراء قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - بسبع: بعيادة # المريض واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، # وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. وفي رواية لمسلم (2) : وإرشاد الضال، بدل ~~إبرار القسم. # ومن أنواع الصدقة: المشي بحقوق الآدميين الواجبة إليهم، قال ابن عباس: من ~~مشى بحق أخيه إليه ليقضيه، فله بكل خطوة صدقة (3) . # ومنها: إنظار المعسر، وفي " المسند " (4) و" سنن ابن ماجه " (5) عن بريدة ~~مرفوعا: PageV02P725 # ((من أنظر معسرا، فله بكل يوم صدقة قبل أن يحل الدين، فإذا حل الدين، ~~فأنظره بعد ذلك، فله بكل يوم مثله صدقة)) . # ومنها: الإحسان إلى البهائم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ~~سئل عن سقيها، فقال: ((في كل كبد رطبة أجر)) (1) ، وأخبر أن بغيا سقت كلبا ~~يلهث من العطش، فغفر لها (2) . # وأما الصدقة القاصرة على نفس العامل بها، فمثل أنواع الذكر من التسبيح، # والتكبير، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، والصلاة على النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، وكذلك # تلاوة القرآن، والمشي إلى المساجد، والجلوس فيها لانتظار الصلاة، أو ~~لاستماع الذكر. # ومن ذلك: التواضع في اللباس، والمشي، والهدي، والتبذل في المهنة، واكتساب ~~الحلال، والتحري فيه. # ومنها أيضا: محاسبة النفس على ما سلف من أعمالها، والندم والتوبة من ~~الذنوب السالفة، والحزن عليها، واحتقار النفس، والازدراء عليها، ومقتها في ~~الله - عز PageV02P726 # وجل -، والبكاء من خشية الله تعالى، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، ~~وفي أمور الآخرة، وما فيها من الوعد والوعيد ونحو ذلك مما يزيد الإيمان في ~~القلب، وينشأ عنه كثير من أعمال القلوب، كالخشية، والمحبة، والرجاء، ~~والتوكل، وغير ذلك. وقد قيل: إن هذا التفكر أفضل من نوافل الأعمال البدنية، ~~روي ذلك عن ms350 غير واحد من التابعين، منهم: سعيد بن المسيب (1) ، والحسن (2) ، ~~وعمر بن # عبد العزيز، وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه. وقال كعب: لأن أبكي من ~~خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا (3) . PageV02P727 ### | الحديث السابع والعشرون # عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((البر حسن الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه ~~الناس)) . رواه مسلم (1) . # وعن وابصة بن معبد قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ~~((جئت تسأل عن البر والإثم؟)) قلت: نعم، قال: ((استفت قلبك، البر ما اطمأنت ~~إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، ~~وإن أفتاك الناس وأفتوك)) (2) . # قال الشيخ - رحمه الله -: حديث حسن رويناه في " مسندي " الإمامين أحمد ~~والدارمي (3) بإسناد حسن. # أما حديث النواس بن سمعان، فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح، عن # عبد الرحمان بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس، ومعاوية وعبد الرحمان ~~وأبوه تفرد بتخريج حديثهم مسلم دون البخاري (4) . # وأما حديث وابصة فخرجه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة، عن الزبير ابن ~~PageV02P729 # عبد السلام، عن أيوب بن عبد الله بن مكرز، عن وابصة بن معبد، قال: أتيت ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم ~~إلا سألت عنه، # فقال لي: ((ادن يا وابصة)) ، فدنوت منه، حتى مست ركبتي ركبته، فقال # : ((يا وابصة أخبرك ما جئت تسأل عنه أو تسألني؟)) قلت: يا رسول الله # أخبرني، قال: ((جئت تسألني عن البر والإثم)) ، قلت: نعم، فجمع # أصابعه الثلاث، فجعل ينكت بها في صدري، ويقول: ((يا وابصة، # استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم: # ما حاك في القلب، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)) (1) . وفي # رواية أخرى للإمام أحمد (2) أن الزبير لم يسمعه من أيوب، قال: وحدثني # جلساؤه، وقد رأيته، ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما # ضعفه: # أحدهما: انقطاعه بين الزبير وأيوب ms351؛ فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم. # والثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني: روى أحاديث مناكير، وضعفه ابن ~~حبان أيضا، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام، فأخطأ في اسمه، وله طريق آخر عن ~~وابصة خرجه الإمام أحمد (3) أيضا من رواية معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله ~~السلمي، قال: سمعت وابصة، فذكر الحديث مختصرا، ولفظه: قال: ((البر ما انشرح ~~له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتاك عنه الناس)) . PageV02P730 # والسلمي هذا: قال علي بن المديني: هو مجهول. # وخرجه البزار (1) والطبراني (2) وعندهما أبو عبد الله الأسدي، وقال ~~البزار (3) : لا نعلم أحدا سماه، كذا قال، وقد سمي في بعض الروايات محمدا. ~~قال عبد الغني ابن سعيد الحافظ: لو قال قائل: إنه محمد بن سعيد المصلوب، ~~لما دفعت ذلك، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة، وهو مشهور بالكذب ~~والوضع، ولكنه لم يدرك وابصة (4) ، والله أعلم. # وقد روي هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة وبعض ~~طرقه جيدة، فخرجه الإمام أحمد (5) ، وابن حبان في " صحيحه " (6) من طريق ~~يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن أبي أمامة، قال: قال ~~رجل: # يا رسول الله، ما الإثم؟ قال: ((إذا حاك في صدرك شيء فدعه)) وهذا إسناد ~~جيد على شرط مسلم، فإنه خرج حديث يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، وأثبت ~~أحمد سماعه منه، وإن أنكره ابن معين. # وخرج الإمام أحمد (7) من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر: سمعت مسلم ~~PageV02P731 # بن مشكم قال: سمعت أبا ثعلبة الخشني يقول: قلت: يا رسول الله، أخبرني ما ~~يحل لي وما يحرم علي، فقال: ((البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، ~~والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون)) ~~، وهذا أيضا إسناد جيد، وعبد الله بن العلاء بن زبر ثقة مشهور (1) ، وخرجه ~~البخاري (2) ، ومسلم بن مشكم ثقة مشهور أيضا (3) . # وخرج الطبراني (4) # وغيره بإسناد ضعيف من حديث واثلة بن الأسقع قال: قلت للنبي - صلى الله ms352 ~~عليه وسلم -: أفتني عن أمر لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: ((استفت نفسك)) ، ~~قلت: كيف لي بذاك؟ قال: ((تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك ~~المفتون)) ، قلت: وكيف لي بذاك؟ قال: ((تضع يدك على قلبك، فإن الفؤاد يسكن ~~للحلال، ولا يسكن للحرام)) . ويروى نحوه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف ~~أيضا. # وروى ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب (5) : أن سويد بن قيس أخبره عن # عبد الرحمان بن معاوية: أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ~~يا رسول الله ما يحل # لي مما يحرم علي؟ وردد عليه ثلاث مرار، كل ذلك يسكت النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، ثم قال # : ((أين السائل؟)) فقال: أنا ذا يا رسول الله، فقال بأصابعه: ((ما أنكر # قلبك فدعه)) . خرجه أبو القاسم البغوي في " معجمه " (6) ، وقال: لا # أدري عبد الرحمان بن معاوية سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ ~~ولا أعلم له غير هذا الحديث. # قلت: هو عبد الرحمان بن معاوية بن حديج جاء منسوبا في كتاب " الزهد " ~~لابن المبارك، وعبد الرحمان هذا تابعي مشهور، فحديثه مرسل. PageV02P732 # وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: الإثم حواز القلوب (1) ، واحتج به # الإمام أحمد، ورواه عن جرير، عن منصور، عن محمد بن عبد الرحمان، عن # أبيه، قال: قال عبد الله: إياكم وحزاز القلوب، وما حز في قلبك من شيء ~~فدعه (2) . # وقال أبو الدرداء: الخير في طمأنينة، والشر في ريبة (3) . # وروي عن ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له: أرأيت شيئا يحيك في # صدورنا، لا ندري حلال هو أم حرام؟ فقال: إياكم والحكاكات، فإنهن ... ~~الإثم (4) ، والحز والحك متقاربان في المعنى، والمراد: ما أثر في القلب ~~ضيقا وحرجا، ونفورا وكراهة (5) . # فهذه الأحاديث اشتملت على تفسير البر والإثم، وبعضها في تفسير الحلال # والحرام، فحديث النواس بن سمعان فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ~~البر بحسن الخلق (6) ، وفسره في حديث وابصة وغيره بما اطمأن إليه القلب ~~والنفس (7) ، كما فسر الحلال بذلك في حديث أبي ثعلبة ms353. وإنما اختلف تفسيره ~~للبر؛ لأن البر يطلق باعتبارين معينين: PageV02P733 # أحدهما: باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم، وربما خص بالإحسان إلى ~~الوالدين، فيقال: بر الوالدين، ويطلق كثيرا على الإحسان إلى الخلق عموما، ~~وقد صنف ابن المبارك كتابا سماه كتاب " البر والصلة "، وكذلك في "صحيح ~~البخاري" و" جامع الترمذي ": كتاب " البر والصلة "، ويتضمن هذا الكتاب ~~الإحسان إلى الخلق عموما، ويقدم فيه بر الوالدين على غيرهما. وفي حديث بهز ~~بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنه قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: ((أمك)) ، ~~قال: ثم من؟ قال: ((ثم أباك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((ثم الأقرب فالأقرب)) ~~(1) . # ومن هذا المعنى: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحج المبرور ليس ~~له جزاء إلا الجنة)) (2) . وفي " المسند " (3) : أنه - صلى الله عليه وسلم ~~- سئل عن بر الحج، فقال: ((إطعام الطعام، وإفشاء السلام)) ، وفي رواية ~~أخرى: ((وطيب الكلام)) (4) . # وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: البر شيء هين: وجه طليق وكلام لين ~~(5) . # وإذا قرن البر بالتقوى، كما في قوله - عز وجل -: {وتعاونوا على البر ... ~~والتقوى} (6) ، PageV02P734 # فقد يكون المراد بالبر معاملة الخلق بالإحسان، وبالتقوى: معاملة الحق ~~بفعل طاعته، واجتناب محرماته، وقد يكون أريد بالبر: فعل الواجبات، ~~وبالتقوى: اجتناب المحرمات (1) ، وقوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم # والعدوان} (2) قد يراد بالإثم: المعاصي، وبالعدوان: ظلم الخلق، وقد يراد ~~بالإثم: ما هو محرم في نفسه كالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، وبالعدوان: تجاوز ~~ما أذن فيه إلى ما نهي عنه مما جنسه مأذون فيه، كقتل من أبيح قتله لقصاص، ~~ومن لا يباح، وأخذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها، ومجاوزة ~~الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك (3) . # والمعنى الثاني من معنى البر: أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة ~~والباطنة (4) ، كقوله تعالى: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ~~والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى ~~والمساكين وابن # السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم ~~إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين ms354 صدقوا ~~وأولئك هم المتقون} (5) ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ~~الإيمان، فتلا هذه الآية (6) . # فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله ~~وملائكته وكتبه ورسله، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله، ~~وإقام الصلاة، PageV02P735 # وإيتاء # الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر على الأقدار، كالمرض والفقر، وعلى ~~الطاعات، كالصبر عند لقاء العدو. # وقد يكون جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النواس (1) شاملا ~~لهذه الخصال # كلها؛ لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب ~~الله التي أدب بها عباده في كتابه، كما قال تعالى لرسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: {وإنك لعلى خلق عظيم} (2) ، وقالت عائشة: كان خلقه - صلى الله ~~عليه وسلم - القرآن (3) ، يعني: أنه يتأدب بآدابه، فيفعل أوامره ويجتنب ~~نواهيه، فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه، وهذا أحسن ~~الأخلاق وأشرفها وأجملها (4) . # وقد قيل: إن الدين كله خلق. وأما في حديث وابصة، فقال: ((البر ما اطمأن ~~إليه القلب، واطمأنت إليه النفس)) (5) ، وفي رواية: ((ما انشرح إليه # الصدر)) (6) ، وفسر الحلال بنحو ذلك كما في حديث أبي ثعلبة وغيره، وهذا ~~يدل على أن الله فطر عباده على معرفة الحق، والسكون إليه وقبوله، وركز في ~~الطباع محبة ذلك، والنفور عن ضده. PageV02P736 # وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حمار: ((إني خلقت عبادي حنفاء ~~مسلمين، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، فحرمت عليهم ما أحللت لهم، ~~وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) (1) . # وقوله: ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه، ~~كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)) قال أبو هريرة: ~~اقرؤوا إن شئتم: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (2) ~~. # ولهذا سمى الله ما أمر به معروفا، وما نهى عنه منكرا، فقال: {إن الله ~~يأمر بالعدل والأحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} ~~(3) ، وقال في صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {ويحل لهم الطيبات ويحرم ~~عليهم الخبائث} (4) ، وأخبر أن قلوب ms355 المؤمنين تطمئن بذكره، فالقلب الذي ~~دخله نور الإيمان، وانشرح به وانفسح، يسكن للحق، ويطمئن به ويقبله، وينفر ~~عن الباطل ويكرهه ولا يقبله (5) . # قال معاذ بن جبل: أحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة ~~على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فقيل لمعاذ: ما يدريني أن ~~الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: اجتنب من ~~كلام الحكيم المشتهرات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنينك ذلك عنه، فإنه لعله ~~أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإنه على الحق نورا، خرجه أبو داود (6) . ~~وفي رواية له قال: بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول: ما أراد بهذه ~~الكلمة؟ (7) # فهذا يدل على أن الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير، # بل يعرف PageV02P737 # الحق بالنور الذي عليه، فيقبله قلبه، وينفر عن الباطل، فينكره ولا # يعرفه، ومن هذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سيكون في آخر ~~الزمان قوم يحدثونكم # بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)) (1) ، يعني: أنهم يأتون ~~بما # تستنكره قلوب المؤمنين، ولا تعرفه، وفي قوله: ((أنتم ولا آباؤكم)) إشارة # إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع تقادم العهد وتطاول الزمان، فهو ~~الحق، وأن ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر، فلا خير فيه. # فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه، فما ~~إليه سكن القلب، وانشرح إليه الصدر، فهو البر والحلال، وما كان خلاف ... ~~ذلك، فهو الإثم والحرام. PageV02P738 # وقوله في حديث النواس: ((الإثم ما حاك في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه ~~الناس)) (1) إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا، وضيقا، وقلقا، ~~واضطرابا، فلم ينشرح له الصدر (2) ، ومع هذا، فهو عند الناس مستنكر، بحيث ~~ينكرونه عند اطلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ~~ما استنكره الناس على فاعله وغير فاعله. # ومن هذا المعنى قول ابن مسعود: ما رآه المؤمنون حسنا، فهو عند الله # حسن، وما رآه المومنون قبيحا، فهو عند الله قبيح (3) . # وقوله ms356 في حديث وابصة وأبي ثعلبة: ((وإن أفتاك المفتون)) يعني: أن ما # حاك في صدر الإنسان، فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة # ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره، وقد جعله أيضا ~~إثما، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان، وكان المفتي ~~يفتي # له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي، فأما ما كان مع المفتي به # دليل شرعي، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لم ينشرح له # صدره، وهذا كالرخص الشرعية، مثل الفطر في السفر، والمرض، وقصر # الصلاة في السفر، ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا ~~عبرة به. PageV02P739 # وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح ~~به صدور بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى ~~العمرة (1) ، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هديهم، والتحلل من عمرة ~~الحديبية، فكرهوه، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه، وعلى أن من ~~أتاه منهم يرده إليهم (2) . # وفي الجملة، فما ورد النص به، فليس للمؤمن إلا طاعة الله ورسوله، كما قال ~~تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم ~~الخيرة من أمرهم} (3) . # وينبغي أن يتلقى ذلك بانشراح الصدر والرضا، فإن ما شرعه الله ورسوله يجب ~~الإيمان والرضا به، والتسليم له، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى ~~يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا ~~تسليما} (4) . # وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف ~~الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور ~~المعرفة واليقين منه شيء، وحك في صدره لشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه ~~بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه، بل هو معروف ~~باتباع الهوى، فهنا PageV02P740 # يرجع المؤمن إلى ما حك في صدره ms357، وإن أفتاه هؤلاء # المفتون (1) . # وقد نص الإمام أحمد على مثل هذا، قال المروزي في كتاب "الورع" (2) : قلت ~~لأبي عبد الله: إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق، وقد وقع في قلبي من ~~أمرها شيء، فقال: أمرها أمر قذر متلوث، قلت: فتكره العمل فيها؟ قال: دع ذا ~~عنك إن كان لا يقع في قلبك شيء، قلت: قد وقع في قلبي منها، قال: قال ابن ~~مسعود: الإثم حواز القلوب (3) . قلت: إنما هذا على المشاورة؟ قال: أي شيء ~~يقع في قلبك؟ قلت: قد اضطرب علي قلبي، قال: الإثم حواز القلوب. # وقد سبق في شرح (4) حديث النعمان بن بشير: ((الحلال بين والحرام # بين)) (5) ، وفي شرح حديث الحسين بن علي: ((دع ما يريبك إلى ما لا # يريبك)) (6) ، وشرح حديث: ((إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت)) (7) شيء يتعلق ~~بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا. PageV02P741 # وقد ذكر طوائف من فقهاء الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه مسألة ~~الإلهام: هل هو حجة أم لا؟ وذكروا فيه اختلافا بينهم، وذكر طائفة من ~~أصحابنا أن الكشف ليس بطريق للأحكام، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد ~~في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك، ~~وقد ذكرنا نص أحمد هاهنا بالرجوع إلى حواز القلوب، وإنما ذم أحمد وغيره ~~المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند ~~إلى دليل شرعي، بل إلى مجرد رأي وذوق، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال ~~والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي. # فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب، فقد دلت عليه النصوص ~~النبوية، وفتاوى الصحابة، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك؟ لا سيما وقد نص ~~على الرجوع إليه موافقة لهم. وقد سبق حديث: ((إن الصدق طمأنينة، والكذب ~~ريبة)) (1) ، فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه، ومعرفته، وبنفوره عن ~~الكذب وإنكاره، كما قال الربيع بن خثيم: إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه، ~~وظلمة كظلمة الليل تنكره (2) . # وخرج الإمام أحمد (3) # من حديث ربيعة، عن عبد الملك بن ms358 سعيد بن سويد، عن أبي PageV02P742 # حميد وأبي أسيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا سمعتم ~~الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، ~~فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم ~~وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه)) . وإسناده قد قيل: إنه ~~على شرط مسلم؛ لأنه خرج بهذا الإسناد بعينه حديثا (1) ، لكن هذا الحديث ~~معلول (2) ، فإنه رواه بكير بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن ~~سهل، عن أبي بن كعب من قوله (3) ، قال البخاري: وهو أصح. # وروى يحيى بن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ولا ~~تنكرونه، فصدقوا به، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر، وإذا حدثتم عني حديثا ~~تنكرونه ولا تعرفونه، فلا تصدقوا به، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف)) (4) ~~، وهذا الحديث معلول أيضا، PageV02P743 # وقد اختلف في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفاظ عنه، عن سعيد مرسلا، ~~والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ، منهم: ابن معين والبخاري (1) وأبو حاتم ~~الرازي (2) وابن خزيمة، وقال: ما رأيت أحدا من علماء الحديث يثبت وصله. # وإنما تحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحتها - على معرفة أئمة الحديث ~~الجهابذة النقاد، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~وكلام غيره، ولحال رواة الأحاديث، ونقلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم ~~وحفظهم وضبطهم، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته، كما يختص ~~الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود، جيدها ورديئها، وخالصها ومشوبها، والجوهري ~~الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن ~~سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلا لغيره، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد ~~على جماعة ممن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة. # وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم، فوجد الأمر على ~~ذلك، فقال السائل: أشهد أن ms359 هذا العلم إلهام. قال الأعمش: كان إبراهيم ~~النخعي صيرفيا في الحديث، كنت أسمع من الرجال، فأعرض عليه ما سمعته (3) . ~~PageV02P744 # وقال عمرو بن قيس: ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينتقد ~~الدراهم، فإن الدراهم فيها الزائف والبهرج وكذلك الحديث (1) . # وقال الأوزاعي: كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم ~~الزائف على الصيارفة، فما عرفوا أخذنا، وما أنكروا تركنا (2) . # وقيل لعبد الرحمان بن مهدي: إنك تقول للشيء: هذا صحيح وهذا لم # يثبت، فعن من تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: ~~هذا جيد، وهذا بهرج أكنت تسأله عن من ذلك، أو كنت تسلم الأمر إليه؟ قال: ~~لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، قال: فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة ~~والخبرة به (3) . # وقد روي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضا، وأنه قيل له: يا أبا عبد ~~الله تقول: هذا الحديث منكر، فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله؟ قال: مثلنا ~~كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها، وإذا وقع بيده الدينار يعلم أنه ~~جيد، وأنه رديء. # وقال ابن مهدي: معرفة الحديث إلهام (4) . وقال: إنكارنا الحديث عند ~~الجهال كهانة (5) . # وقال أبو حاتم الرازي (6) : مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مئة دينار، ~~وآخر مثله على لونه، ثمنه عشرة دراهم، قال: وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر ~~بسبب نقده، فكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا ~~حديث كذب، وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه، قال: وتعرف جودة الدينار ~~بالقياس إلى غيره، فإن تخلف عنه في الحمرة PageV02P745 # والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في ~~المائية والصلابة، علم أنه # زجاج، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثله أن يكون ~~كلام النبوة، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته، والله # أعلم. # وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل ~~الحديث جدا، وأول من اشتهر بالكلام (1) في نقد الحديث ابن سيرين، ثم خلفه ms360 ~~أيوب PageV02P746 # السختياني، وأخذ ذلك عنه # PageV02P747 # شعبة، # PageV02P748 # وأخذ عن شعبة يحيى القطان # PageV02P749 # وابن مهدي، # PageV02P750 # وأخذ عنهما أحمد، # PageV02P751 # وعلي بن المديني، # PageV02P753 # وابن معين، وأخذ عنهم مثل البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم (1) . # وكان أبو زرعة في زمانه يقول: قل من يفهم هذا، وما أعزه إذا دفعت هذا ~~PageV02P754 # عن واحد أو اثنين، فما أقل من تجد من يحسن هذا (1) ! ولما مات أبو زرعة، ~~قال أبو حاتم: ذهب الذي كان يحسن هذا - يعني: أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا ~~بالعراق واحد يحسن هذا (2) . وقيل له بعد موت أبي زرعة: تعرف اليوم أحدا ~~يعرف هذا؟ قال: لا (3) . # وجاء بعد هؤلاء جماعة، منهم: النسائي والعقيلي وابن عدي والدارقطني، وقل ~~من جاء بعدهم ممن هو بارع في معرفة ذلك حتى قال أبو الفرج بن الجوزي في أول ~~كتابه " الموضوعات " (4) : قد قل من يفهم هذا بل عدم، والله أعلم. ~~PageV02P755 ### | الحديث الثامن والعشرون # عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - موعظة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول ~~الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع ~~والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، ~~فعليكم بسنتي وسنة # الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، ~~فإن كل بدعة ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي (1) ، وقال: حديث حسن # صحيح. # هذا الحديث خرجه الإمام أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه (3) ~~من رواية ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمان بن عمرو السلمي، ~~زاد أحمد في رواية له، وأبو داود: وحجر بن حجر الكلاعي، كلاهما عن العرباض ~~ابن سارية، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحافظ أبو نعيم: هو حديث جيد من ~~صحيح حديث الشاميين (4) ، قال: ولم يتركه البخاري ومسلم من جهة إنكار منهما ~~له، وزعم الحاكم (5) أن سبب تركهما له أنهما توهما أنه ليس له راو عن خالد ~~بن PageV02P757 # معدان غير ثور بن يزيد، وقد رواه عنه أيضا بحير بن سعد ms361 ومحمد بن إبراهيم ~~التيمي وغيرهما. # قلت: ليس الأمر كما ظنه، وليس الحديث على شرطهما، فإنهما لم يخرجا # لعبد الرحمان بن عمرو السلمي، ولا لحجر الكلاعي شيئا، وليسا ممن اشتهر ~~بالعلم والرواية. # وأيضا، فقد اختلف فيه على خالد بن معدان، فروي عنه كما تقدم، وروي عنه عن ~~ابن أبي بلال، عن العرباض، وخرجه الإمام أحمد (1) من هذا الوجه أيضا، وروي ~~أيضا عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمان بن عمرو السلمي، عن العرباض، خرجه من ~~طريقه الإمام أحمد وابن ماجه (2) ، وزاد في حديثه: ((فقد تركتكم على ~~البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)) ، وزاد في آخر ~~الحديث: ((فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد)) . PageV02P758 # وقد أنكر طائفة من الحفاظ هذه الزيادة في آخر الحديث، وقالوا: هي مدرجة ~~فيه، وليست منه، قاله أحمد بن صالح المصري وغيره، وقد خرجه # الحاكم (1) ، وقال في حديثه: وكان أسد بن وداعة يزيد في هذا الحديث: ~~((فإن المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد)) . # وخرجه ابن ماجه (2) أيضا من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر، حدثني يحيى ~~ابن أبي المطاع، سمعت العرباض فذكره، وهذا في الظاهر إسناد جيد متصل، ~~ورواته ثقات مشهورون، وقد صرح فيه بالسماع، وقد ذكر البخاري في # " تاريخه " (3) : أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادا على هذه ~~الرواية، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك، وقالوا: يحيى بن أبي المطاع لم ~~يسمع من العرباض، ولم يلقه، وهذه الرواية غلط، وممن ذكر ذلك أبو زرعة ~~الدمشقي، وحكاه عن دحيم (4) ، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم (5) ، والبخاري ~~- رحمه الله - يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام، وقد روي عن ~~العرباض من وجوه أخر، وروي من حديث بريدة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، إلا أن إسناد حديث بريدة لا يثبت، والله أعلم. # فقول العرباض: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة، ~~PageV02P759 # وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي: ((بليغة)) ، وفي روايتهم أن ذلك كان ~~بعد صلاة الصبح، وكان النبي - صلى الله ms362 عليه وسلم - كثيرا ما يعظ أصحابه في ~~غير الخطب الراتبة، كخطب الجمع والأعياد، وقد أمره الله تعالى بذلك، فقال: ~~{وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا} (1) ، وقال: {ادع إلى سبيل ربك ~~بالحكمة والموعظة الحسنة} (2) ، ولكنه كان لا يديم وعظهم، بل يتخولهم به ~~أحيانا، كما في " الصحيحين " (3) # عن أبي وائل، قال: كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس، فقال له ~~رجل: يا أبا # عبد الرحمان، إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم، فقال: ~~ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم، إن رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا. # والبلاغة في الموعظة مستحسنة؛ لأنها أقرب إلى قبول القلوب واستجلابها، ~~والبلاغة: هي التوصل إلى إفهام المعاني المقصودة، وإيصالها إلى قلوب ~~السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها، وأفصحها وأحلاها للأسماع، ~~وأوقعها في القلوب. وكان - صلى الله عليه وسلم - يقصر خطبتها، ولا يطيلها، ~~بل كان يبلغ ويوجز. # وفي " صحيح مسلم " (4) عن جابر بن سمرة قال: كنت أصلي مع النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فكانت صلاته قصدا، وخطبته قصدا. # وخرجه أبو داود (5) ولفظه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطيل ~~الموعظة يوم الجمعة، إنما هو كلمات يسيرات. # وخرج مسلم (6) من حديث أبي وائل قال: PageV02P760 # خطبنا عمار فأوجز وأبلغ، فلما # نزل، قلنا: يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت، فلو كنت تنفست، فقال: إني ~~سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن طول صلاة الرجل، وقصر ~~خطبته، مئنة (1) من فقهه، فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة، فإن من البيان ~~سحرا)) . # وخرج الإمام أحمد (2) وأبو داود (3) من حديث الحكم بن حزن، قال: # شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة فقام متوكئا على عصا أو ~~قوس، فحمد الله، وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات. # وخرج أبو داود (4) عن عمرو بن العاص: أن رجلا قام يوما، فأكثر القول، ~~فقال عمرو: لو قصد في قوله، لكان خيرا له، سمعت رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - يقول: PageV02P761 # ((لقد رأيت ms363 - أو أمرت - أن أتجوز في القول، فإن الجواز هو خير)) . # وقوله: ((ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب)) هذان الوصفان بهما مدح ~~الله المؤمنين عند سماع الذكر كما قال تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر ~~الله وجلت قلوبهم} (1) ، وقال: {وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت ~~قلوبهم} (2) ، وقال: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما ~~نزل من الحق} (3) ، وقال: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر ~~منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر # الله} (4) ، وقال تعالى: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض ~~من الدمع مما عرفوا من الحق} (5) . # وكان - صلى الله عليه وسلم - يتغير حاله عند الموعظة، كما قال جابر: كان ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا # خطب، وذكر الساعة، اشتد غضبه، وعلا صوته، واحمرت عيناه، كأنه منذر جيش ~~يقول: صبحكم ومساكم. خرجه مسلم بمعناه (6) . # وفي " الصحيحين " (7) عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج حين ~~زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم، قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن ~~بين يديها أمورا عظاما، ثم قال: ((من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، ~~فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به في مقامي هذا)) ، قال أنس: فأكثر ~~الناس البكاء، وأكثر رسول PageV02P762 # الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: ((سلوني)) ، فقام إليه رجل فقال: ~~أين مدخلي # يا رسول الله، قال: ((النار)) ، وذكر الحديث. # وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن النعمان بن بشير: أنه خطب، فقال: سمعت ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم ~~النار)) حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، قال: حتى وقعت ~~خميصة كانت على عاتقه عند رجليه. # وفي " الصحيحين " (2) عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: # ((اتقوا النار)) ، قال: وأشاح، ثم قال: ((اتقوا النار)) ، ثم أعرض وأشاح ~~ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن ~~لم يجد فبكلمة طيبة)) . PageV02P763 # وخرج ms364 الإمام أحمد (1) من حديث عبد الله بن سلمة، عن علي، أو عن الزبير # ابن العوام، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا، فيذكرنا ~~بأيام الله، حتى يعرف ذلك في وجهه، وكأنه نذير قوم يصبحهم الأمر غدوة، وكان ~~إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه. # وخرجه الطبراني والبزار (2) من حديث جابر، قال: كان النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - إذا أتاه الوحي، أو وعظ، قلت: نذير قوم أتاهم العذاب، فإذا ذهب ~~عنه ذلك، رأيت أطلق الناس وجها، وأكثرهم ضحكا، وأحسنهم بشرا - صلى الله ~~عليه وسلم -. # وقولهم: ((يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا)) يدل على أنه كان - ~~صلى الله عليه وسلم - قد أبلغ في تلك الموعظة ما لم يبلغ في غيرها، فلذلك ~~فهموا أنها موعظة مودع، فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول ~~والفعل، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي صلاة مودع (3) ؛ # لأنه من استشعر أنه مودع بصلاته، أتقنها على أكمل وجوهها. ولربما كان قد ~~وقع منه - صلى الله عليه وسلم - تعريض في تلك الخطبة بالتوديع، كما عرض ~~بذلك في خطبته في حجة الوداع، وقال: ((لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي ~~هذا)) (4) ، وطفق يودع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، PageV02P764 # ولما رجع من حجه إلى المدينة، جمع الناس بماء بين مكة والمدينة يسمى خما ~~(1) ، وخطبهم، فقال: ((يا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ~~ربي فأجيب)) ثم حض على التمسك بكتاب الله، ووصى بأهل بيته، خرجه مسلم (2) . ~~PageV02P765 # وفي " الصحيحين " (1) ولفظه لمسلم عن عقبة بن عامر، قال: صلى # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد، ثم صعد المنبر كالمودع ~~للأحياء والأموات، فقال # : ((إني فرطكم على الحوض، فإن عرضه، كما بين أيلة إلى الجحفة، وإني لست ~~أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، ~~وتقتتلوا، فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم)) . قال عقبة: فكانت آخر ما رأيت ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ms365. # وخرجه الإمام أحمد (2) # ولفظه: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد بعد ثمان سنين ~~كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر، فقال: ((إني فرطكم، وأنا عليكم ~~شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه، ولست أخشى عليكم الكفر، ولكن ~~الدنيا أن تنافسوها)) . # وخرج الإمام أحمد (3) أيضا عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما كالمودع، فقال: ((أنا محمد النبي ~~الأمي - قال ذلك ثلاث مرات - ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح PageV02P766 # الكلم وخواتمه وجوامعه، وعلمت كم خزنة النار، وحملة العرش، وتجوز لي ربي ~~وعوفيت وعفيت أمتي، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم، فإذا ذهب بي، فعليكم ~~بكتاب الله، أحلوا حلاله، وحرموا # حرامه)) . # فلعل الخطبة التي أشار إليها العرباض بن سارية في حديثه كانت بعض هذه # الخطب، أو شبيها بها مما يشعر بالتوديع. # وقولهم: ((فأوصنا)) ، يعنون وصية جامعة كافية، فإنهم لما فهموا (1) أنه # مودع، استوصوه وصية ينفعهم التمسك بها بعده، ويكون فيها كفاية لمن تمسك # بها، وسعادة له في الدنيا والآخرة. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة)) ، ~~فهاتان الكلمتان تجمعان سعادة الدنيا والآخرة. # أما التقوى، فهي كافلة بسعادة الآخرة لمن تمسك بها، وهي وصية الله ~~للأولين والآخرين، كما قال تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ~~وإياكم أن اتقوا الله} (2) ، وقد سبق شرح التقوى بما فيه كفاية في شرح حديث ~~وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ (3) . # وأما السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين، ففيها سعادة الدنيا (4) ، وبها ~~تنتظم مصالح العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم، ~~كما قال علي - رضي الله عنه -: إن الناس لا يصلحهم إلا إمام بر أو فاجر، إن ~~كان PageV02P767 # فاجرا عبد # المؤمن فيه ربه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله (1) . # وقال الحسن في الأمراء: هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة والجماعة والعيد ~~والثغور والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله ~~لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن - والله - إن ms366 طاعتهم لغيظ، وإن ~~فرقتهم لكفر. # وخرج الخلال في كتاب " الإمارة " من حديث أبي أمامة قال: أمر النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - أصحابه حين صلوا العشاء: ((أن احشدوا، فإن لي إليكم ~~حاجة)) فلما فرغ من صلاة الصبح، قال: ((هل حشدتم كما أمرتكم؟)) قالوا: نعم، ~~قال: ((اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، هل عقلتم هذه؟)) ثلاثا، قلنا: ~~نعم، قال: ((أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، هل عقلتم هذه؟)) ثلاثا. قلنا: ~~نعم، قال: ((اسمعوا وأطيعوا)) ثلاثا، ((هل عقلتم هذه؟)) ثلاثا، قلنا: نعم، ~~قال: فكنا نرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتكلم كلاما طويلا، ثم ~~نظرنا في كلامه، فإذا هو قد جمع لنا الأمر كله (2) . # وبهذين الأصلين وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع ~~أيضا، كما خرج الإمام أحمد والترمذي من رواية أم الحصين الأحمسية، قالت: ~~سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع، فسمعته يقول: ~~((يا أيها الناس، اتقوا الله، وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع، فاسمعوا له ~~وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله)) (3) . PageV02P768 # وخرج مسلم منه ذكر السمع والطاعة (1) . # وخرج الإمام أحمد والترمذي أيضا من حديث أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم - يخطب في حجة الوداع، يقول: ((اتقوا الله، وصلوا ~~خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة # ربكم)) (2) ، وفي رواية أخرى أنه قال: ((يا أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ~~ولا أمة بعدكم)) وذكر الحديث بمعناه (3) . # وفي " المسند " (4) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((من لقي الله لا يشرك به شيئا، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه محتسبا، وسمع ~~وأطاع، فله الجنة، PageV02P769 # أو دخل الجنة)) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإن تأمر عليكم عبد)) ، وفي رواية: ~~((حبشي)) هذا مما تكاثرت به الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ~~مما اطلع عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر أمته بعده، وولاية ~~العبيد عليهم، وفي " صحيح البخاري " (1) عن أنس، عن النبي - صلى الله ms367 عليه ~~وسلم -، قال: ((اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه ~~زبيبة)) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: إن خليلي - صلى ~~الله عليه وسلم - أوصاني أن أسمع وأطيع، ولو كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف. ~~والأحاديث في المعنى كثيرة جدا. # ولا ينافي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ~~ما بقي في الناس # اثنان)) (3) ، وقوله: ((الناس تبع لقريش)) (4) ، PageV02P770 # وقوله: ((الأئمة من قريش)) (1) ؛ لأن ولاية العبيد قد تكون من جهة إمام ~~قرشي، ويشهد لذلك ما خرجه الحاكم (2) من حديث علي - رضي الله عنه -، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الأئمة من قريش أبرارها أمراء # أبرارها، وفجارها أمراء فجارها، ولكل حق، فآتوا كل ذي حق حقه، وإن أمرت ~~عليكم قريش عبدا حبشيا مجدعا، فاسمعوا له وأطيعوا)) وإسناده جيد، ولكنه روي ~~عن علي موقوفا (3) ، وقال الدارقطني (4) : هو أشبه. # وقد قيل: إن العبد الحبشي إنما ذكر على وجه ضرب المثل وإن لم يصح وقوعه، ~~كما قال: ((من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة)) (5) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فمن يعش منكم بعدي، فسيرى اختلافا ~~كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها ~~بالنواجذ)) . PageV02P771 # هذا إخبار # منه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع في أمته بعده من كثرة الاختلاف في ~~أصول الدين وفروعه، وفي الأقوال والأعمال والاعتقادات، وهذا موافق لما روي ~~عنه من افتراق أمته على بضع وسبعين فرقة، وأنها كلها في النار إلا فرقة ~~واحدة، وهي من كان على ما هو عليه وأصحابه، # PageV02P772 # وكذلك في هذا الحديث أمر عند الافتراق والاختلاف بالتمسك بسنته وسنة ~~الخلفاء الراشدين من بعده، والسنة: هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك ~~بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه ~~هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما ~~يشمل ذلك كله، وروي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض. # وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقادات ms368؛ لأنها ~~أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم، وفي ذكر هذا الكلام بعد الأمر ~~بالسمع والطاعة لأولي الأمر إشارة إلى أنه لا طاعة لأولي الأمر إلا في طاعة ~~الله، كما صح عنه أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف)) (1) . PageV02P773 # وفي " المسند " (1) عن أنس: أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله، أرأيت # إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك، فما تأمر في ~~أمرهم؟ # فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا طاعة لمن لم يطع الله - عز ~~وجل -)) . # وخرج ابن ماجه (2) من حديث ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون من السنة ويعملون بالبدعة، ويؤخرون ~~الصلاة عن مواقيتها)) فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم، كيف أفعل؟ قال: ((لا ~~طاعة لمن عصى الله)) . # وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته، وسنة خلفائه الراشدين بعد ~~أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين ~~متبعة، كاتباع سنته، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. # وفي " مسند الإمام أحمد " (3) و" جامع الترمذي " (4) عن حذيفة قال: كنا ~~عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوسا، فقال: ((إني لا أدري ما قدر بقائي ~~فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسكوا بعهد ~~عمار، وما حدثكم ابن مسعود، فصدقوه)) ، وفي رواية: ((تمسكوا بعهد ابن أم ~~عبد، واهتدوا بهدي عمار)) . فنص - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره على من ~~يقتدى به من بعده، PageV02P774 # والخلفاء الراشدون الذين أمر بالاقتداء بهم هم: أبو بكر وعمر وعثمان ~~وعلي، فإن في حديث سفينة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الخلافة بعدي ~~ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا)) (1) ، # وقد صححه الإمام أحمد، # واحتج به على خلافة الأئمة الأربعة (2) . # ونص كثير من الأئمة على أن عمر بن عبد العزيز خليفة راشد أيضا، ويدل عليه ~~ما خرجه الإمام أحمد (3) من حديث حذيفة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((تكون فيكم النبوة ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا ms369 شاء أن ~~يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم ~~يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا ما شاء الله أن تكون، ثم ~~يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ~~ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)) ثم سكت. ~~فلما ولي عمر بن عبد العزيز، دخل عليه رجل، فحدثه بهذا الحديث، فسر به، ~~وأعجبه. # وكان محمد بن سيرين أحيانا يسأل عن شيء من الأشربة، فيقول: نهى عنه إمام ~~هدى: عمر بن عبد العزيز (4) . PageV02P775 # وقد اختلف العلماء في إجماع الخلفاء الأربعة: هل هو إجماع، أو حجة، مع ~~مخالفة غيرهم من الصحابة أم لا؟ وفيه روايتان عن الإمام أحمد (1) ، وحكم ~~أبو خازم الحنفي في زمن المعتضد بتوريث ذوي الأرحام، ولم يعتد بمن خالف ~~الخلفاء، ونفذ حكمه بذلك في الآفاق. # ولو قال بعض الخلفاء الأربعة قولا، ولم يخالفه منهم أحد، بل خالفه غيره ~~من الصحابة، فهل يقدم قوله على قول غيره؟ فيه قولان أيضا للعلماء، والمنصوص ~~عن أحمد أنه يقدم قوله على قول غيره من الصحابة، وكذا ذكره الخطابي (2) ~~وغيره، وكلام أكثر السلف يدل على ذلك، خصوصا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ~~-، فإنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنه قال: ((إن الله ~~جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) (3) . وكان عمر بن عبد العزيز يتبع أحكامه، ~~ويستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله جعل الحق على لسان ~~عمر وقلبه)) . # وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~وولاة الأمر من بعده سننا، الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، وقوة على دين ~~الله، ليس لأحد تبديلها، ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى ~~بها، فهو مهتد، ومن استنصر بها، فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل ~~المؤمنين، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم، وساءت مصيرا (4) . PageV02P776 # وحكى عبد الله بن ms370 عبد الحكم عن مالك: أنه قال: أعجبني عزم (1) عمر على ~~ذلك، يعني: هذا الكلام. وروى عبد الرحمان بن مهدي هذا الكلام عن مالك، ولم ~~يحكه عن عمر. # وقال خلف بن خليفة: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة، فقال ~~في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه، فهو ~~وظيفة دين، نأخذ # به، وننتهي إليه (2) . وروى أبو نعيم (3) من حديث عرزب الكندي: أن # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنه سيحدث بعدي أشياء، فأحبها ~~إلي أن تلزموا ما أحدث عمر)) . # وكان علي يتبع أحكامه وقضاياه، ويقول: إن عمر كان رشيد الأمر (4) . # وروى أشعث، عن الشعبي، قال: إذا اختلف الناس (5) في شيء، فانظروا كيف قضى ~~فيه عمر، فإنه لم يكن يقضي في أمر لم يقض فيه قبله حتى # يشاور (6) . # وقال مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء، فانظروا ما صنع عمر، فخذوا # به (7) . وقال أيوب، عن الشعبي: انظروا ما اجتمعت عليه أمة محمد، فإن ~~الله لم يكن ليجمعها على ضلالة، فإذا اختلفت، فانظروا ما صنع عمر بن ~~الخطاب، فخذوا به. # وسئل عكرمة عن أم الولد، فقال: تعتق بموت سيدها، فقيل له: بأي شيء تقول؟ ~~قال: بالقرآن، قال: بأي القرآن؟ قال: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول # وأولي الأمر منكم} (8) ، وعمر من أولي الأمر (9) . # وقال وكيع: إذا اجتمع عمر وعلي على شيء، فهو الأمر. # وروي عن ابن مسعود أنه كان يحلف بالله: إن الصراط المستقيم هو الذي ~~PageV02P777 # ثبت عليه عمر حتى دخل الجنة (1) . # وبكل حال، فما جمع عمر عليه الصحابة، فاجتمعوا عليه في عصره، فلا شك أنه ~~الحق، ولو خالف فيه بعد ذلك من خالف، كقضائه في مسائل من الفرائض كالعول، ~~وفي زوج وأبوين وزوجة وأبوين أن للأم ثلث الباقي، وكقضائه فيمن جامع في ~~إحرامه أنه يمضي في نسكه وعليه القضاء والهدي، ومثل ما قضى به في امرأة ~~المفقود، ووافقه غيره من الخلفاء أيضا، ومثل ما جمع عليه الناس في الطلاق ~~الثلاث، وفي تحريم متعة النساء، ومثل ما ms371 فعله من وضع الديوان، ووضع الخراج ~~على أرض العنوة، وعقد الذمة لأهل الذمة بالشروط التي شرطها عليهم ونحو ذلك. # ويشهد لصحة ما جمع عليه عمر الصحابة، فاجتمعوا عليه، ولم يخالف في وقته ~~قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رأيتني في المنام أنزع على قليب، فجاء ~~أبو بكر، فنزع ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم جاء ابن ~~الخطاب، PageV02P778 # فاستحالت غربا، فلم أر أحدا يفري فريه حتى روي الناس، وضربوا بعطن)) ، ~~وفي رواية: ((فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب)) # PageV02P779 # وفي رواية: ((حتى تولى والحوض يتفجر)) (1) . # وهذا إشارة إلى أن عمر لم يمت حتى وضع الأمور مواضعها، واستقامت الأمور، ~~وذلك لطول مدته، وتفرغه للحوادث، واهتمامه بها، بخلاف مدة أبي بكر فإنها ~~كانت قصيرة، وكان مشغولا فيها بالفتوح، وبعث البعوث للقتال، فلم يتفرغ ~~لكثير من الحوادث، وربما كان يقع في زمنه ما لا يبلغه، ولا يرفع إليه، حتى ~~رفعت تلك الحوادث إلى عمر، فرد الناس فيها إلى الحق وحملهم على # الصواب. # وأما ما لم يجمع عمر الناس عليه، بل كان له فيه رأي، وهو يسوغ لغيره أن ~~يرى رأيا يخالف رأيه، كمسائل الجد مع الإخوة، ومسألة طلاق البتة، فلا يكون ~~قول عمر فيه حجة على غيره من الصحابة، والله أعلم. # وإنما وصف الخلفاء بالراشدين؛ لأنهم عرفوا الحق وقضوا به، PageV02P780 # فالراشد ضد الغاوي، والغاوي من عرف الحق، وعمل بخلافه. # وفي رواية ((المهديين)) ، يعني: أن الله يهديهم للحق، ولا يضلهم عنه، ~~فالأقسام ثلاثة: راشد وغاو وضال، فالراشد عرف الحق واتبعه، والغاوي: عرفه ~~ولم يتبعه، والضال: لم يعرفه بالكلية، فكل راشد، فهو مهتد، وكل مهتد هداية ~~تامة، فهو راشد؛ لأن الهداية إنما تتم بمعرفة الحق والعمل به أيضا. # وقوله: ((عضوا عليها بالنواجذ)) كناية عن شدة التمسك بها، والنواجذ: ~~الأضراس. # قوله: ((وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة)) تحذير للأمة من ~~اتباع الأمور المحدثة المبتدعة، وأكد ذلك بقوله: ((كل بدعة ضلالة)) ، ~~والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة ms372 يدل عليه، فأما ما كان ~~له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة، وفي " صحيح # مسلم " (1) عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: ~~((إن خير الحديث # كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)) ~~. PageV02P781 # وخرج الترمذي (1) وابن ماجه (2) من حديث كثير بن عبد الله المزني - وفيه ~~ضعف (3) - عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من ~~ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ~~ينقص ذلك من أوزارهم شيئا)) . # وخرج الإمام أحمد (4) من رواية غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إلي عبد ~~الملك بن مروان، فقال: إنا قد جمعنا الناس على أمرين: رفع الأيدي على ~~المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم ~~عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((ما أحدث PageV02P782 # قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة)) فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة. وقد ~~روي عن ابن عمر من قوله نحو هذا. # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بدعة ضلالة)) من جوامع الكلم لا يخرج ~~عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: ((من أحدث في أمرنا ~~ما ليس منه فهو رد)) (1) ، فكل من أحدث شيئا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له ~~أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل ~~الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة. # وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع ~~اللغوية، لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في ~~قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت ~~البدعة هذه. وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة (2) . ~~PageV02P783 # وروي أن أبي بن كعب، قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت ms373، ولكنه ~~حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له ~~أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ~~يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد ~~جماعات متفرقة ووحدانا، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان # PageV02P784 # غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن ~~القيام به، وهذا قد أمن بعده - صلى الله عليه وسلم - (1) . # وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (2) . # ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا ~~قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان ~~وعلي. # ومن ذلك: أذان الجمعة الأول، زاده عثمان (3) لحاجة الناس إليه، وأقره ~~علي، واستمر عمل المسلمين عليه، وروي عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة (4) ، ~~ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام رمضان. # ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت، وقال لأبي بكر ~~وعمر: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم علم أنه ~~مصلحة، فوافق على جمعه (5) ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر ~~بكتابة الوحي، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا، بل جمعه صار أصلح. # وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة، ~~وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة، وكان ذلك عين المصلحة. PageV02P785 # وكذلك قتال من منع الزكاة: توقف فيه عمر وغيره حتى بين له أبو بكر أصله ~~الذي يرجع إليه من الشريعة (1) ، فوافقه الناس على ذلك. # ومن ذلك القصص، وقد سبق قول غضيف بن الحارث: إنه بدعة، وقال الحسن: القصص ~~بدعة، ونعمت البدعة، كم من دعوة مستجابة، وحاجة مقضية، وأخ مستفاد (2) . ~~وإنما عني هؤلاء بأنه بدعة الهيئة الاجتماعية عليه في وقت معين، فإن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - لم يكن له وقت معين يقص على أصحابه فيه ms374 غير خطبه ~~الراتبة في الجمع والأعياد، وإنما كان يذكرهم أحيانا، أو عند حدوث أمر ~~يحتاج إلى التذكير عنده، ثم إن الصحابة اجتمعوا على تعيين وقت له كما سبق ~~عن ابن مسعود: أنه كان يذكر أصحابه كل يوم خميس. # وفي " صحيح البخاري " (3) عن ابن عباس قال: حدث الناس كل جمعة مرة، فإن ~~أبيت فمرتين، فإن أكثرت، فثلاثا، ولا تمل الناس. # وفي " المسند " (4) عن عائشة أنها وصت قاص أهل المدينة بمثل ذلك. وروي ~~عنها أنها قالت لعبيد بن عمير: حدث الناس يوما، ودع الناس يوما، لا تملهم ~~(5) . وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أمر القاص أن يقص كل ثلاثة أيام مرة. ~~وروي عنه أنه قال له: روح الناس ولا تثقل عليهم، ودع القصص يوم السبت ويوم ~~الثلاثاء. # وقد روى الحافظ أبو نعيم (6) بإسناده عن إبراهيم بن الجنيد، حدثنا حرملة ~~ابن يحيى قال: سمعت الشافعي - رحمة الله عليه - PageV02P786 # يقول: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو ~~محمود، وما خالف السنة فهو مذموم. واحتج بقول عمر: نعمت البدعة هي. # ومراد الشافعي - رحمه الله - ما ذكرناه من قبل: أن البدعة المذمومة ما ~~ليس لها أصل من الشريعة يرجع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع، وأما البدعة ~~المحمودة فما وافق السنة، يعني: ما كان لها أصل من السنة يرجع إليه، وإنما ~~هي بدعة لغة لا شرعا؛ لموافقتها السنة. # وقد روي عن الشافعي كلام آخر يفسر هذا، وأنه قال: والمحدثات ضربان: ما ~~أحدث مما يخالف كتابا، أو سنة، أو أثرا، أو إجماعا، فهذه البدعة الضلال، ~~وما أحدث من الخير، لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة (1) . # وكثير من الأمور التي حدثت، ولم يكن قد اختلف العلماء في أنها هل هي بدعة ~~حسنة حتى ترجع إلى السنة أم لا؟ فمنها: كتابة الحديث، نهى عنه عمر وطائفة ~~من الصحابة، ورخص فيها الأكثرون، واستدلوا له بأحاديث من السنة. # ومنها: كتابة تفسير الحديث والقرآن، كرهه قوم من العلماء، ورخص فيه كثير ~~منهم. # وكذلك اختلافهم ms375 في كتابة الرأي في الحلال والحرام ونحوه، وفي توسعة ~~الكلام في المعاملات وأعمال القلوب التي لم تنقل عن الصحابة والتابعين. ~~وكان الإمام أحمد يكره أكثر ذلك (2) . # وفي هذه الأزمان التي بعد العهد فيها بعلوم السلف يتعين ضبط ما نقل عنهم ~~من ذلك كله، ليتميز به ما كان من العلم موجودا في زمانهم، وما حدث من ذلك ~~بعدهم، PageV02P787 # فيعلم بذلك السنة من البدعة. # وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: إنكم قد أصبحتم اليوم على الفطرة، وإنكم ~~ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة، فعليكم بالهدي الأول (1) . وابن ~~مسعود قال هذا في زمن الخلفاء الراشدين. # وروى ابن مهدي، عن مالك قال: لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان (2) . وكأن مالكا يشير بالأهواء ~~إلى ما حدث من التفرق في أصول الديانات من أمر الخوارج والروافض والمرجئة ~~ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم وأموالهم، أو في ~~تخليدهم في النار، أو في تفسيق خواص هذه الأمة، أو عكس ذلك، فزعم أن ~~المعاصي لا تضر أهلها، أو أنه لا يدخل النار من أهل التوحيد أحد. # وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال الله تعالى من قضائه وقدره، ~~فكذب بذلك من كذب، وزعم أنه نزه الله بذلك عن الظلم. # وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في ذات الله وصفاته، مما سكت عنه النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، فقوم نفوا كثيرا مما ~~ورد في الكتاب والسنة من ذلك، وزعموا أنهم فعلوه تنزيها لله عما تقتضي ~~العقول تنزيهه عنه، وزعموا أن لازم ذلك مستحيل على الله - عز وجل -، وقوم ~~لم يكتفوا بإثباته، حتى أثبتوا بإثباته ما يظن أنه لازم له بالنسبة إلى ~~المخلوقين، وهذه اللوازم نفيا وإثباتا درج صدر الأمة على السكوت عنها. ~~PageV02P788 # ومما أحدث في الأمة بعد عصر الصحابة والتابعين الكلام في الحلال والحرام ~~بمجرد الرأي، ورد كثير مما وردت به السنة في ذلك لمخالفته للرأي والأقيسة # العقلية. # ومما ms376 حدث بعد ذلك الكلام في الحقيقة بالذوق والكشف، وزعم أن الحقيقة ~~تنافي الشريعة، وأن المعرفة وحدها تكفي مع المحبة، وأنه لا حاجة إلى ~~الأعمال، وأنها حجاب، أو أن الشريعة إنما يحتاج إليها العوام، وربما انضم ~~إلى ذلك الكلام في الذات والصفات بما يعلم قطعا مخالفته للكتاب والسنة، ~~وإجماع سلف الأمة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. # PageV02P789 ### | الحديث التاسع والعشرون # عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني ~~الجنة ويباعدني من النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره ~~الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم ~~رمضان، وتحج البيت)) . ثم قال: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، ~~والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم ~~تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ: {يعملون} (1) ، ثم قال: ((ألا ~~أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((رأس ~~الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) ، ثم قال: ((ألا أخبرك ~~بملاك ذلك كله؟)) ، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، قال: ((كف عليك ~~هذا)) ، قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: # ((ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم إلا ~~حصائد ألسنتهم)) . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. # هذا الحديث خرجه الإمام أحمد (2) ، والترمذي (3) ، والنسائي (4) ، وابن ~~ماجه (5) # من PageV02P791 # رواية معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن معاذ بن # جبل، وقال الترمذي: حسن صحيح. # وفيما قاله - رحمه الله - نظر من وجهين: # أحدهما: أنه لم يثبت سماع أبي وائل من معاذ، وإن كان قد أدركه بالسن، ~~وكان معاذ بالشام، وأبو وائل بالكوفة، وما زال الأئمة - كأحمد وغيره - ~~يستدلون على انتفاء السماع بمثل هذا، وقد قال أبو حاتم الرازي في سماع أبي ~~وائل من أبي الدرداء: قد أدركه، وكان بالكوفة، وأبو الدرداء بالشام، يعني: ~~أنه لم يصح له سماع منه (1) . وقد حكى أبو ms377 زرعة الدمشقي عن قوم أنهم توقفوا ~~في سماع أبي وائل من عمر، أو نفوه، فسماعه من معاذ أبعد. # والثاني: أنه قد رواه حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النجود، عن شهر بن ~~حوشب، عن معاذ، خرجه الإمام أحمد مختصرا (2) ، قال الدارقطني (3) : وهو ~~أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عليه فيه. # قلت: ورواية شهر عن معاذ مرسلة يقينا (4) ، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه ~~(5) ، وقد خرجه الإمام أحمد من رواية شهر، عن عبد الرحمان بن غنم، عن معاذ ~~(6) ، # وخرجه الإمام أحمد أيضا من رواية عروة بن النزال، أو النزال ابن عروة، ~~وميمون بن أبي شبيب (7) ، كلاهما عن معاذ، ولم يسمع عروة ولا ميمون من ~~معاذ، PageV02P792 # وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة (1) . PageV02P793 # وقوله: ((أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار)) قد تقدم في شرح ~~الحديث الثاني والعشرين من وجوه ثابتة من حديث أبي هريرة وأبي أيوب ~~وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن مثل هذه المسألة، وأجاب ~~بنحو ما أجاب به في حديث معاذ. # وفي رواية الإمام أحمد في حديث معاذ أنه قال: يا رسول الله، إني أريد أن # PageV02P798 # أسألك عن كلمة (1) قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني، قال: ((سل عما شئت)) ، ~~قال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك غيره، وهذا يدل على شدة اهتمام ~~معاذ - رضي الله عنه - بالأعمال الصالحة، وفيه دليل على أن الأعمال سبب ~~لدخول الجنة، كما قال تعالى: {وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون} ~~(2) . # وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)) (3) ~~فالمراد - والله أعلم - أن العمل بنفسه لا يستحق به أحد الجنة لولا أن الله ~~جعله - بفضله ورحمته - سببا لذلك، والعمل نفسه من رحمة الله وفضله على ~~عبده، فالجنة وأسبابها كل من فضل الله ورحمته. # وقوله: ((لقد سألت عن عظيم)) قد سبق في شرح الحديث المشار إليه أن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - قال لرجل سأله عن مثل هذا: ((لئن كنت أوجزت ~~المسألة، لقد أعظمت # وأطولت)) (4) ، وذلك ms378 لأن دخول الجنة والنجاة من النار أمر عظيم جدا، ~~ولأجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~لرجل: ((كيف تقول إذا # صليت؟)) قال: أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، ولا أحسن دندنتك (5) ~~ولا دندنة معاذ، يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة، فقال النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: # ((حولها ندندن)) . PageV02P799 # وفي رواية: ((هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله # الجنة، ونعوذ به من النار)) (1) . # وقوله: ((وإنه ليسير على من يسره الله عليه)) إشارة إلى أن التوفيق كله ~~بيد الله - عز وجل -، فمن يسر الله عليه الهدى اهتدى، ومن لم ييسره عليه، ~~لم يتيسر له ذلك، قال الله تعالى: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ~~فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى} (2) ، ~~PageV02P800 # وقال - صلى الله عليه وسلم - # ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسرون لعمل أهل ~~السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسرون لعمل أهل الشقاوة)) ، ثم تلا - صلى ~~الله عليه وسلم - هذه الآية (1) . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ~~في دعائه: ((واهدني ويسر الهدى لي)) (2) ، PageV02P801 # وأخبر الله عن نبيه موسى - عليه السلام - أنه قال في دعائه: {رب اشرح لي ~~صدري ويسر لي أمري} (1) ، وكان ابن عمر يدعو: اللهم يسرني لليسرى، وجنبني ~~العسرى (2) . # وقد سبق في شرح الحديث المشار إليه توجيه ترتيب دخول الجنة على الإتيان ~~بأركان الإسلام الخمسة، وهي: التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. # وقوله: ((ألا أدلك على أبواب الخير)) لما رتب دخول الجنة على واجبات ~~الإسلام، دله بعد ذلك على أبواب الخير من النوافل، فإن أفضل أولياء الله هم ~~المقربون، الذين يتقربون إليه بالنوافل بعد أداء الفرائض. # وقوله: ((الصوم جنة)) هذا الكلام ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~من وجوه كثيرة، وخرجاه في " الصحيحين " (3) من حديث أبي هريرة، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، وخرجه الإمام أحمد (4) بزيادة، وهي: ((الصيام جنة ~~وحصن حصين من النار)) . # وخرج من حديث عثمان بن أبي العاص، عن النبي - صلى الله ms379 عليه وسلم -، قال: ~~PageV02P802 # ((الصوم جنة من النار (1) ، كجنة أحدكم من القتال)) (2) . # ومن حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((قال ربنا - عز ~~وجل -: الصيام جنة يستجن بها العبد من النار)) (3) . # وخرج أحمد (4) والنسائي (5) من حديث أبي عبيدة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((الصيام جنة ما لم يخرقها)) ، وقوله: ((ما لم يخرقها)) ، يعني: بالكلام ~~السيء ونحوه، ولهذا في حديث أبي هريرة المخرج في " الصحيحين " (6) عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - # : ((الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ ~~سابه فليقل: إني امرؤ صائم)) . # وقال بعض السلف: الغيبة تخرق الصيام، والاستغفار يرقعه، فمن استطاع منكم ~~أن لا يأتي بصوم مخرق فليفعل (7) . # وقال ابن المنكدر: الصائم إذا اغتاب خرق، وإذا استغفر رقع. # وخرج الطبراني (8) بإسناد فيه نظر عن أبي هريرة مرفوعا: ((الصيام جنة ما ~~لم يخرقها)) ، قيل: بم يخرقه؟ قال: ((بكذب أو غيبة (9)) ) . # فالجنة: هي ما يستجن بها العبد، كالمجن الذي يقيه عند القتال من الضرب، ~~فكذلك الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا، كما قال - عز وجل -: {يا ~~أيها الذين آمنوا PageV02P803 # كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (1) ، # فإذا كان له جنة من المعاصي، كان له في الآخرة جنة من النار، وإن لم يكن ~~له جنة في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جنة في الآخرة من النار. # وخرج ابن مردويه من حديث علي مرفوعا، قال: ((بعث الله يحيى بن زكريا إلى ~~بني إسرائيل بخمس كلمات)) ، فذكر الحديث بطوله، وفيه: ((وإن الله يأمركم أن ~~تصوموا، ومثل ذلك كمثل رجل مشى إلى عدوه، وقد أخذ للقتال جنة، فلا يخاف من ~~حيث ما أتي)) (2) . وخرجه من وجه آخر عن علي موقوفا، وفيه قال: ((والصيام ~~مثله كمثل رجل انتصره الناس، فاستحد في السلاح، حتى ظن أنه لن يصل إليه ~~سلاح العدو، فكذلك الصيام جنة)) (3) . # وقوله: ((والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) هذا الكلام روي عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - من ms380 وجوه أخر، فخرجه الإمام أحمد والترمذي ~~PageV02P804 # من حديث كعب بن عجرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الصوم جنة ~~حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار)) (1) . # وخرجه الطبراني وغيره من حديث أنس مرفوعا، بمعناه (2) . # وخرجه الترمذي (3) وابن حبان في " صحيحه " (4) من حديث أنس، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن صدقة السر لتطفئ غضب الرب، وتدفع ميتة ~~السوء)) . # وروي عن علي بن الحسين: أنه كان يحمل الخبز على ظهره بالليل يتبع # به المساكين في ظلمة الليل، ويقول: إن الصدقة في ظلام (5) الليل تطفئ # غضب الرب - عز وجل - (6) . وقد قال الله - عز وجل -: {إن تبدوا الصدقات ~~فنعما هي # وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من # سيئاتكم} (7) ، فدل على أن الصدقة يكفر بها من السيئات: إما مطلقا، أو ~~صدقة السر. # وقوله: ((وصلاة الرجل في جوف الليل)) ، يعني: أنها تطفئ الخطيئة أيضا ~~كالصدقة، ويدل على ذلك ما خرجه الإمام أحمد من رواية عروة بن النزال، عن ~~معاذ قال: أقبلنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك، فذكر ~~الحديث، وفيه: ((الصوم جنة، والصدقة وقيام العبد في جوف الليل يكفر ~~PageV02P805 # الخطيئة)) (1) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)) . # وقد روي عن جماعة من الصحابة: أن الناس يحترقون بالنهار بالذنوب، وكلما ~~قاموا إلى صلاة من الصلوات المكتوبات أطفؤوا ذنوبهم، وروي ذلك مرفوعا من ~~وجوه فيها نظر. # فكذلك قيام الليل يكفر الخطايا؛ لأنه أفضل نوافل الصلاة، وفي # " الترمذي " (3) من حديث بلال، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((عليكم بقيام الليل، # فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله - عز وجل -، ~~ومنهاة عن # الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد)) . وخرجه أيضا من حديث # أبي أمامة (4) ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه، وقال: هو أصح من ~~حديث بلال. PageV02P806 # وخرجه ابن خزيمة (1) والحاكم (2) في " صحيحيهما " من حديث أبي أمامة # أيضا. # وقال ابن مسعود: فضل صلاة ms381 الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة ~~العلانية. وخرجه أبو نعيم عنه مرفوعا (3) ، والموقوف (4) أصح. # وقد تقدم أن صدقة السر تطفئ الخطيئة، وتطفئ غضب الرب، فكذلك صلاة الليل. # وقوله: ((ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما ~~رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا ~~يعملون} (5) ، يعني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هاتين الآيتين ~~عند ذكره فضل صلاة الليل، ليبين بذلك فضل صلاة الليل، وقد روي عن أنس أن ~~هذه الآية نزلت في انتظار صلاة العشاء، خرجه الترمذي وصححه (6) . وروي عنه ~~أنه قال في هذه الآية: كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء، خرجه أبو داود ~~(7) . وروي نحوه عن بلال، خرجه البزار بإسناد ضعيف (8) . PageV02P807 # وكل هذا يدخل في عموم لفظ الآية، فإن الله مدح الذين تتجافى جنوبهم عن ~~المضاجع لدعائه، فيشمل ذلك كل من ترك النوم بالليل لذكر الله ودعائه، فيدخل ~~فيه من صلى بين العشاءين، ومن انتظر صلاة العشاء فلم ينم حتى يصليها # لاسيما مع حاجته إلى النوم، ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، وقد # قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن انتظر صلاة العشاء: ((إنكم لن ~~تزالوا في صلاة ما انتظرتم # الصلاة)) (1) . # ويدخل فيه من نام ثم قام من نومه بالليل للتهجد، وهو أفضل أنواع التطوع ~~بالصلاة مطلقا. # وربما دخل فيه من ترك النوم عند طلوع الفجر، وقام إلى أداء صلاة الصبح، ~~لاسيما مع غلبة النوم عليه، ولهذا يشرع للمؤذن في أذان الفجر أن يقول في ~~أذانه: الصلاة خير من النوم. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وصلاة الرجل من جوف الليل)) ذكر أفضل ~~أوقات التهجد بالليل، وهو جوف الليل، PageV02P808 # وخرج الترمذي (1) والنسائي (2) من حديث أبي أمامة، قال: قيل: يا رسول ~~الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) . # وخرجه ابن أبي الدنيا (3) ، ولفظه: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فقال: أي # الصلاة أفضل؟ قال: ((جوف الليل الأوسط)) ، قال: أي الدعاء أسمع؟ قال ms382 # : ((دبر المكتوبات)) . # وخرج النسائي (4) من حديث أبي ذر قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~أي الليل خير؟ قال: ((خير الليل جوفه)) . وخرج الإمام أحمد (5) من حديث أبي ~~مسلم قال: قلت لأبي ذر: أي قيام الليل أفضل؟ قال: سألت النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - كما سألتني، فقال: # ((جوف الليل الغابر (6) ، أو نصف الليل، وقليل فاعله)) . # وخرج البزار (7) ، والطبراني (8) من حديث ابن عمر، قال: سئل النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: أي الليل أجوب دعوة؟ قال: ((جوف الليل)) ، زاد البزار في ~~روايته: ((الآخر)) . PageV02P809 # وخرج الترمذي (1) من حديث عمرو بن عبسة، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- يقول # : ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ~~ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) ، وصححه، وخرجه الإمام أحمد (2) ، # ولفظه قال: قلت: يا رسول الله، أي الساعات أفضل؟ قال: ((جوف الليل ~~الآخر)) وفي رواية (3) له أيضا: قال: ((جوف الليل الآخر أجوبه دعوة)) ، وفي ~~رواية (4) له: قلت: يا رسول الله، هل من ساعة أقرب إلى الله من أخرى؟ قال: ~~((جوف الليل الآخر (5)) ) . وخرجه ابن ماجه (6) ، وعنده: ((جوف الليل ~~الأوسط)) وفي رواية للإمام أحمد (7) عن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول ~~الله، هل من ساعة أفضل من ساعة؟ قال: ((إن الله ليتدلى في جوف الليل، فيغفر ~~إلا ما كان من الشرك)) . # وقد قيل: إن جوف الليل إذا أطلق، فالمراد به وسطه، وإن قيل: جوف الليل ~~الآخر، PageV02P810 # فالمراد وسط النصف الثاني، وهو السدس الخامس من أسداس الليل، وهو الوقت ~~الذي ورد فيه النزول الإلهي. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة ~~سنامه؟)) قلت: بلى # يا رسول الله، قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه # الجهاد)) ، وفي رواية للإمام أحمد من رواية شهر بن حوشب، عن ابن غنم، عن ~~معاذ قال: قال لي نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن شئت حدثتك برأس ~~هذا الأمر وقوام هذا الأمر وذروة السنام)) ، قلت: بلى، فقال رسول الله - ~~صلى الله ms383 عليه وسلم -: ((إن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده ~~لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وإن قوام هذا الأمر إقام الصلاة، ~~وإيتاء الزكاة، وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله، إنما أمرت أن ~~أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويشهدوا أن لا إله إلا ~~الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك، فقد اعتصموا وعصموا دماءهم ~~وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله - عز وجل -)) . وقال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: # ((والذي نفس محمد بيده، ما شحب وجه، ولا اغبرت قدم في عمل يبتغى فيه ~~درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله، ولا ثقل ميزان عبد ~~كدابة تنفق له في سبيل الله، أو يحمل عليها في سبيل الله - عز وجل -)) (1) ~~. # فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثلاثة أشياء: رأس الأمر، وعموده، ~~وذروة سنامه. PageV02P811 # فأما رأس الأمر، ويعني بالأمر: الدين الذي بعث به وهو الإسلام، وقد جاء ~~تفسيره في الرواية الأخرى بالشهادتين، فمن لم يقر بهما ظاهرا وباطنا، فليس ~~من الإسلام في شيء. # وأما قوام الدين الذي يقوم به الدين كما يقوم الفسطاط على عموده، فهو # الصلاة، وفي الرواية الأخرى: ((وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)) وقد سبق ~~القول في أركان الإسلام وارتباط بعضها ببعض. # وأما ذروة سنامه - وهو أعلى ما فيه وأرفعه - فهو الجهاد، وهذا يدل على ~~أنه أفضل الأعمال بعد الفرائض، كما هو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء. # وقوله في رواية الإمام أحمد: ((والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرت ~~قدم في عمل يبتغى به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله - ~~عز وجل -)) يدل على ذلك صريحا. # وفي " الصحيحين " (1) عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ ~~قال: ((إيمان بالله وجهاد في سبيله)) . PageV02P812 # وفيهما (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أفضل ~~الأعمال إيمان بالله، ثم جهاد في سبيل الله)) . # والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا. # وقوله: ((ألا ms384 أخبرك بملاك ذلك كله)) قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ~~فقال: ((كف عليك هذا)) إلى آخر الحديث. هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه ~~وحبسه هو أصل الخير كله، وأن من ملك لسانه، فقد ملك أمره وأحكمه (2) وضبطه، ~~وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم ~~الآخر، فليقل خيرا، أو ليصمت)) (3) . وفي شرح حديث: ((قل: آمنت بالله، ثم ~~استقم)) (4) . وخرج البزار في " مسنده " (5) من حديث أبي اليسر (6) أن رجلا ~~قال: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال # ((أمسك هذا)) ، وأشار إلى لسانه، فأعادها عليه، فقال: ((ثكلتك أمك، # هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم)) PageV02P813 # وقال: إسناده # حسن. # والمراد بحصائد الألسنة: جزاء الكلام المحرم وعقوباته؛ فإن الإنسان يزرع ~~بقوله وعمله (1) الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع ~~خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شرا من قول أو عمل حصد غدا ~~الندامة. # وظاهر حديث معاذ يدل على أن أكثر ما يدخل الناس به النار النطق بألسنتهم، ~~فإن معصية النطق يدخل فيها الشرك وهو أعظم الذنوب عند الله - عز وجل - (2) ~~، ويدخل فيها القول على الله بغير علم، وهو قرين الشرك، ويدخل فيه شهادة ~~الزور التي عدلت الإشراك بالله - عز وجل -، ويدخل فيها السحر والقذف وغير ~~ذلك من الكبائر والصغائر كالكذب والغيبة والنميمة، وسائر المعاصي الفعلية ~~لا يخلو غالبا من قول يقترن بها يكون معينا عليها. # وفي حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أكثر ما ~~يدخل الناس النار الأجوفان: الفم والفرج)) خرجه الإمام أحمد (3) والترمذي ~~(4) . # وفي " الصحيحين " (5) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الرجل ليتكلم ~~بالكلمة ما يتبين ما فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) ~~PageV02P814 # وخرجه الترمذي (1) ، ولفظه: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا، ~~يهوي بها سبعين خريفا في النار)) . # وروى مالك (2) ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر دخل ms385 على أبي بكر الصديق ~~رضي الله عنهما وهو يجبذ لسانه، فقال عمر (3) : مه، غفر الله لك! فقال أبو ~~بكر: هذا أوردني الموارد. # وقال ابن بريدة: رأيت ابن عباس آخذا بلسانه وهو يقول: ويحك، قل خيرا ~~تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم، قال: فقيل له: يا ابن ~~عباس، لم تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان -أراه قال- ليس على شيء من ~~جسده أشد حنقا أو غيظا يوم القيامة منه على لسانه إلا من قال به خيرا، أو ~~أملى به خيرا (4) . # وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: ما على الأرض شيء # أحوج إلى طول سجن من لسان (5) . # وقال الحسن: اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت، وإذا عف ~~عفت (6) . # وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أحدا لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحا ~~في سائر عمله (7) . # وقال يحيى بن أبي كثير: ما صلح منطق رجل إلا عرفت ذلك في سائر عمله، ولا ~~فسد منطق رجل قط إلا عرفت ذلك في سائر عمله (8) . PageV02P815 # وقال المبارك بن فضالة، عن يونس بن عبيد: لا تجد شيئا من البر واحدا ~~يتبعه البر كله غير اللسان، فإنك تجد الرجل يصوم النهار، ويفطر على حرام، ~~ويقوم الليل ويشهد بالزور بالنهار - وذكر أشياء نحو هذا - ولكن لا تجده لا ~~يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبدا (1) . PageV02P816 ### | الحديث الثلاثون # عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إن الله فرض فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم ~~أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها)) ~~. حديث حسن، رواه الدارقطني (1) وغيره. # هذا الحديث من رواية مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، وله علتان: # إحداهما: أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر ~~الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما. # والثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول ~~من قوله، لكن ms386 قال الدارقطني (2) : الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر. # وقد حسن الشيخ رحمه الله هذا الحديث، وكذلك حسنه قبله الحافظ أبو بكر ابن ~~السمعاني في " أماليه ". # وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر، خرجه البزار في # " مسنده " (3) والحاكم (4) من حديث أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما ~~سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا)) ثم ~~تلا هذه الآية: {وما كان ربك نسيا} (5) ، وقال الحاكم (6) : صحيح الإسناد، ~~PageV02P817 # وقال البزار (1) : إسناده # صالح. # وخرجه الطبراني (2) والدارقطني (3) من وجه آخر، عن أبي الدرداء، عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث (4) أبي ثعلبة، وقال في آخره: ((رحمة من ~~الله، فاقبلوها)) ، ولكن إسناده ضعيف. # وخرج الترمذي (5) ، وابن ماجه (6) من رواية سيف بن هارون، عن سليمان ~~التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~عن السمن والجبن والفراء، فقال: ((الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما ~~حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه)) . # وقال الترمذي (7) : رواه سفيان - يعني: ابن عيينة - عن سليمان، عن أبي # عثمان، عن سلمان من قوله، قال: وكأنه أصح. وذكر في كتاب " العلل " (8) عن ~~البخاري: أنه قال في الحديث المرفوع: ما أراه محفوظا، وقال أحمد: هو # منكر، وأنكره ابن معين أيضا، وقال أبو حاتم الرازي (9) : هو خطأ، رواه ~~الثقات عن التيمي، عن أبي عثمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، ~~ليس فيه سلمان. # قلت: وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر. # وخرجه ابن عدي (10) من حديث ابن عمر مرفوعا وضعف إسناده. # ورواه أبو صالح المري، عن الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن عائشة # مرفوعا، وأخطأ في إسناده. PageV02P818 # وروي عن الحسن مرسلا (1) . # وخرج أبو داود (2) من حديث ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ~~ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل كتابه، ~~وأحل ms387 # حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت # عنه فهو عفو، وتلا: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما} (3) ، وهذا # موقوف. # وقال عبيد بن عمير: إن الله - عز وجل - أحل حلالا وحرم حراما، وما أحل ~~فهو # حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو (4) . # فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله أربعة أقسام: فرائض، ومحارم، وحدود، ~~ومسكوت عنه، وذلك يجمع أحكام الدين كلها. # قال أبو بكر بن السمعاني: هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين، قال: وحكي ~~عن بعضهم أنه قال: ليس في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث ~~واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة، قال: وحكي عن ~~أبي واثلة المزني أنه قال: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدين في ~~أربع كلمات، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة. # قال ابن السمعاني: فمن عمل بهذا الحديث، فقد حاز الثواب، وأمن # العقاب؛ لأن من أدى الفرائض، واجتنب المحارم، ووقف عند الحدود، وترك ~~البحث عما غاب عنه، فقد استوفى أقسام الفضل، وأوفى حقوق الدين؛ لأن الشرائع ~~لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث. انتهى. PageV02P819 # فأما الفرائض، فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به، كالصلاة ~~والزكاة والصيام والحج. # وقد اختلف العلماء: هل الواجب والفرض بمعنى واحد أم لا؟ فمنهم من # قال: هما سواء، وكل واجب بدليل شرعي من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو غير ~~ذلك من أدلة الشرع، فهو فرض، وهو المشهور عن أصحاب الشافعي # وغيرهم (1) ، وحكي رواية عن أحمد؛ لأنه قال: كل ما في الصلاة فهو فرض. # ومنهم من قال: بل الفرض ما ثبت بدليل مقطوع به (2) ، والواجب ما ثبت بغير ~~مقطوع به، وهو قول الحنفية وغيرهم (3) . # وأكثر النصوص عن أحمد تفرق بين الفرض والواجب (4) ، فنقل جماعة # من أصحابه عنه أنه قال: لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى، ~~وقال # في صدقة الفطر: ما أجترئ أن أقول: إنها فرض (5) ، مع أنه ms388 يقول بوجوبها، # فمن أصحابنا من قال: مراده أن الفرض: ما ثبت بالكتاب، والواجب: ما # ثبت بالسنة، ومنهم من قال: أراد أن الفرض: ما ثبت بالاستفاضة والنقل # المتواتر، والواجب: ما ثبت من جهة الاجتهاد، وساغ الخلاف في # وجوبه (6) . # ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر الوالدين: ليس بفرض، ~~ولكن أقول: واجب ما لم يكن معصية، وبر الوالدين مجمع على وجوبه، وقد كثرت ~~الأوامر به في الكتاب والسنة، فظاهر هذا أنه لا يقول: فرضا إلا ما ورد في ~~الكتاب والسنة تسميته فرضا. PageV02P820 # وقد اختلف السلف في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: هل يسمى فريضة أم ~~لا (1) ؟ فقال جويبر، عن الضحاك: هما من فرائض الله - عز وجل -، وكذا روي ~~عن مالك. # وروى عبد الواحد بن زيد، عن الحسن، قال: ليس بفريضة، كان فريضة على بني ~~إسرائيل، فرحم الله هذه الأمة لضعفهم، فجعله عليهم نافلة. # وكتب عبد الله بن شبرمة إلى عمرو بن عبيد أبياتا مشهورة أولها: # الأمر بالمعروف يا عمرو نافلة ... والقائمون به لله أنصار # واختلف كلام أحمد فيه: هل يسمى واجبا أم لا؟ فروى عنه جماعة ما يدل على ~~وجوبه، وروى عنه أبو داود في الرجل يرى الطنبور ونحوه: أواجب عليه تغييره؟ ~~قال: ما أدري ما واجب إن غير، فهو فضل (2) . # وقال إسحاق بن راهويه: هو واجب على كل مسلم، إلا أن يخشى على نفسه، ~~PageV02P821 # ولعل أحمد يتوقف في إطلاقه الواجب على ما ليس بواجب على الأعيان، بل على ~~الكفاية. # وقد اختلف العلماء في الجهاد: هل هو واجب أم لا؟ فأنكر جماعة منهم وجوبه ~~(1) ، منهم: عطاء (2) ، وعمرو بن دينار (3) ، وابن شبرمة (4) ، ولعلهم ~~أرادوا هذا المعنى، وقالت طائفة: هو واجب، منهم: سعيد بن المسيب (5) ، ~~ومكحول، ولعلهما أرادا وجوبه على الكفاية. # وقال أحمد في رواية حنبل: الغزو واجب على الناس كلهم كوجوب الحج، فإذا ~~غزا بعضهم أجزأ عنهم، ولابد للناس من الغزو. # وسأله المروذي عن الجهاد: أفرض هو؟ قال: قد اختلفوا فيه، وليس هو مثل ~~الحج، ومراده: أن الحج لا ms389 يسقط عمن لم يحج مع الاستطاعة بحج غيره، بخلاف ~~الجهاد. # وسئل عن النفير: متى يجب؟ فقال: أما إيجاب فلا أدري، ولكن إذا خافوا على ~~أنفسهم، فعليهم أن يخرجوا. # وظاهر هذا التوقف في إطلاق لفظ الواجب (6) على ما لم يأت فيه لفظ الإيجاب ~~تورعا، ولذلك توقف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختلف فيه، وتعارضت أدلته من ~~نصوص الكتاب أو السنة، فقال في متعة النساء: لا أقول: هي حرام، ولكن ينهى ~~عنه، ولم يتوقف في معنى التحريم، ولكن في إطلاق لفظه؛ لاختلاف النصوص ~~والصحابة فيها، PageV02P822 # هذا هو الصحيح في تفسير كلام أحمد (1) . # وقال في الجمع بين الأختين بملك اليمين: لا أقول: حرام، ولكن ينهى # عنه (2) ، والصحيح في تفسيره أنه توقف في إطلاق لفظة الحرام دون معناها، ~~وهذا كله على سبيل الورع في الكلام؛ حذرا من الدخول تحت قوله تعالى: {ولا ~~تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله # الكذب} (3) . # قال الربيع بن خثيم: ليتق أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، وحرم كذا، # فيقول الله: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرم كذا (4) . # وقال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل: ~~أكره هذا، ولا أحبه، ولا يقول: حلال ولا حرام. # وأما ما حكي عن أحمد أنه قال: كل ما في الصلاة فهو فرض، فليس كلامه كذلك ~~وإنما نقل عنه ابنه عبد الله أنه قال: كل شيء في الصلاة مما وكده الله، فهو # فرض، وهذا يعود إلى معنى قوله: إنه لا فرض إلا ما في القرآن والذي وكده ~~الله من أمر الصلاة القيام والقراءة والركوع والسجود، وإنما قال أحمد هذا؛ ~~لأن بعض الناس كان يقول: الصلاة فرض، والركوع والسجود (5) لا أقول: إنه ~~فرض، ولكنه سنة. PageV02P823 # وقد سئل مالك بن أنس عمن يقول ذلك، فكفره، فقيل له: إنه يتأول، فلعنه، ~~وقال: لقد قال قولا عظيما. وقد نقله أبو بكر النيسابوري في كتاب " مناقب ~~مالك " من وجوه عنه (1) . # وروى أيضا بإسناده عن عبد الله بن عمرو ms390 بن ميمون بن الرماح، قال: دخلت ~~على مالك بن أنس، فقلت: يا أبا عبد الله، ما في الصلاة من فريضة وما فيها ~~من سنة، أو قال: نافلة؟ فقال مالك: كلام الزنادقة، أخرجوه (2) . # ونقل إسحاق بن منصور، عن إسحاق بن راهويه: أنه أنكر تقسيم أجزاء الصلاة ~~إلى سنة وواجب، فقال: كل ما في الصلاة، فهو واجب، وأشار إلى أن منه ما تعاد ~~الصلاة بتركه، ومنه لا تعاد. # وسبب هذا - والله أعلم - أن التعبير بلفظ السنة قد يفضي إلى التهاون بفعل # ذلك، وإلى الزهد فيه وتركه، وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه، ~~والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله، فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى ~~الإتيان به، والرغبة فيه. # وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه، ولا يعاقب ~~عليه عند الأكثرين (3) ، كغسل الجمعة، وكذلك ليلة الضيف عند كثير من ~~العلماء أو أكثرهم، وإنما المراد به المبالغة في الحث على فعله وتأكيده. # وأما المحارم: فهي التي حماها الله تعالى، ومنع من قربانها وارتكابها # وانتهاكها (4) . PageV02P824 # والمحرمات المقطوع بها مذكورة في الكتاب والسنة، كقوله تعالى: {قل تعالوا ~~أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا ~~أولادكم من إملاق} (1) إلى آخر الآيات الثلاثة، وقوله تعالى: {قل إنما حرم ~~ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ~~ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (2) . # وقد ذكر في بعض الآيات المحرمات المختصة بنوع من الأنواع كما ذكر ~~المحرمات من المطاعم في مواضع، منها قوله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي ~~محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه ~~رجس أو فسقا أهل لغير الله به} (3) ، وقوله: {إنما حرم عليكم الميتة والدم ~~ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله} (4) وفي الآية الأخرى: {وما أهل لغير ~~الله # به} (5) ، وقوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير ~~الله به ms391 والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ~~ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} (6) . # وذكر المحرمات في النكاح في قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} (7) . # وذكر المحرمات من المكاسب في قوله: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (8) . # وأما السنة، ففيها ذكر كثير من المحرمات، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) (9) . PageV02P825 # وقوله: ((إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)) (1) . وقوله: ((كل مسكر حرام)) ~~(2) . وقوله: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) (3) . # فما ورد التصريح بتحريمه في الكتاب والسنة، فهو محرم. # وقد يستفاد التحريم من النهي مع الوعيد والتشديد، كما في قوله - عز وجل ~~-: # {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ~~لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر ~~والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (4) . # وأما النهي المجرد، فقد اختلف الناس: هل يستفاد منه التحريم أم لا (5) ؟ ~~وقد روي عن ابن عمر إنكار استفادة التحريم منه. قال ابن المبارك: أخبرنا ~~سلام بن أبي مطيع، عن ابن أبي دخيلة، عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر، ~~PageV02P826 # فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الزبيب والتمر، يعني: أن ~~يخلطا، فقال لي رجل من خلفي: ما قال؟ فقلت: حرم رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - الزبيب والتمر، فقال عبد الله بن عمر: كذبت، فقلت: ألم تقل: نهى ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه، فهو حرام؟ فقال: أنت تشهد بذاك؟ قال ~~سلام: كأنه يقول: من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو أدب. # وقد ذكرنا فيما تقدم عن العلماء الورعين كأحمد ومالك توقي إطلاق لفظ ~~الحرام على ما لم يتيقن تحريمه مما فيه نوع شبهة أو اختلاف. # وقال النخعي: كانوا يكرهون أشياء لا يحرمونها، وقال ابن عون: قال لي ~~مكحول: ما تقولون في الفاكهة تلقى بين القوم فينتهبونها؟ قلت: إن ذلك عندنا # لمكروه، قال: حرام هي؟ قلت: إن ذلك عندنا لمكروه، قال: حرام هي ms392 (1) ؟ قال ~~ابن عون: فاستجفينا ذلك من قول مكحول. # وقال جعفر بن محمد: سمعت رجلا يسأل القاسم بن محمد: الغناء أحرام هو؟ ~~فسكت عنه القاسم، ثم عاد، فسكت عنه، ثم عاد، فقال له: إن الحرام ما حرم في ~~القرآن؟ أرأيت إذا أتي بالحق والباطل إلى الله، في أيهما يكون الغناء؟ فقال ~~الرجل: في الباطل، فقال: فأنت، فأفت نفسك. # قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: أما ما نهى النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، فمنها أشياء حرام، مثل قوله: ((نهى أن تنكح المرأة على ~~عمتها، أو على خالتها)) (2) ، فهذا حرام، ونهى عن جلود السباع (3) ، فهذا ~~حرام، وذكر أشياء من نحو هذا. # ومنها أشياء نهى عنها، فهي أدب. PageV02P827 # وأما حدود الله التي نهى عن اعتدائها، فالمراد بها جملة ما أذن في فعله، ~~سواء كان على طريق الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، واعتداؤها: هو تجاوز ذلك ~~إلى ارتكاب ما نهى عنه، كما قال تعالى: {وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله ~~فقد ظلم نفسه} (1) والمراد: من طلق على غير ما أمر الله به وأذن فيه، وقال ~~تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} ~~(2) ، والمراد: من أمسك بعد أن طلق بغير معروف، أو سرح بغير إحسان، أو أخذ ~~مما أعطى المرأة شيئا على غير وجه الفدية التي أذن الله فيها. # وقال تعالى: {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات} (3) إلى ~~قوله: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب ~~مهين} (4) ، والمراد: من تجاوز ما فرضه الله للورثة، ففضل وارثا، وزاد على ~~حقه، أو نقصه منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة ~~الوداع: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) (5) . ~~PageV02P828 # وروى النواس بن سمعان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) قال: ((ضرب ~~الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى ~~الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا ms393 أيها الناس، ادخلوا ~~الصراط جميعا، ولا تعرجوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد أن يفتح ~~شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والصراط: ~~الإسلام، والسوران: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي ~~على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله في قلب كل مسلم)) ~~خرجه الإمام أحمد (2) ، وهذا لفظه، والنسائي في " تفسيره " (3) ، والترمذي ~~(4) وحسنه. # فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل الإسلام في هذا الحديث بصراط ~~مستقيم، وهو الطريق السهل الواسع، الموصل سالكه إلى مطلوبه، وهو - مع هذا - ~~مستقيم، لا عوج فيه، فيقتضي PageV02P829 # ذلك قربه وسهولته، وعلى جنبتي الصراط يمنة ويسرة سوران، وهما حدود الله، ~~وكما أن السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته، فكذلك الإسلام يمنع من ~~دخله من الخروج عن حدوده ومجاوزتها، وليس وراء ما حد الله من المأذون فيه ~~إلا ما نهى عنه، ولهذا مدح سبحانه الحافظين لحدوده، وذم من لا يعرف حد ~~الحلال من الحرام، كما قال تعالى: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا ~~يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (1) . وقد تقدم حديث القرآن وأنه يقول ~~لمن عمل به: حفظ حدودي، ولمن لم يعمل به: تعدى حدودي. # والمراد: أن من لم يجاوز ما أذن له فيه إلى ما نهي عنه، فقد حفظ حدود ~~الله، ومن تعدى ذلك، فقد تعدى حدود الله (2) (3) . # وقد تطلق الحدود، ويراد بها نفس المحارم (4) ، وحينئذ فيقال: لا تقربوا # حدود الله، كما قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} (5) ، والمراد: ~~النهي عن ارتكاب ما نهى عنه في الآية من محظورات الصيام والاعتكاف في ~~المساجد، ومن هذا المعنى - وهو تسمية المحارم حدودا - قول النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها، كمثل قوم اقتسموا ~~سفينة)) (6) الحديث المشهور، PageV02P830 # وأراد بالقائم على حدود الله: المنكر للمحرمات والناهي عنها (1) . # وفي حديث ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إني آخذ ~~بحجزكم أقول: اتقوا النار، اتقوا الحدود)) قالها ثلاثا، خرجه الطبراني ms394 (2) ~~والبزار (3) ، وأراد بالحدود محارم الله ومعاصيه، ومنه قول الرجل الذي قال ~~للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أصبت حدا فأقمه علي (4) . PageV02P831 # وقد تسمى العقوبات المقدرة الرادعة عن المحارم المغلظة حدودا، كما يقال: ~~حد الزنى، وحد السرقة، وحد شرب الخمر، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- لأسامة: # ((أتشفع في حد من حدود الله؟)) (1) ، يعني: في القطع في السرقة. وهذا هو ~~المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء. # وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في ~~حد من حدود # الله)) (2) فهذا قد اختلف الناس في معناه، فمنهم من فسر الحدود هاهنا ~~بهذه الحدود المقدرة، وقال: إن التعزير لا يزاد على عشر جلدات، ولا يزاد ~~عليها إلا في هذه الحدود المقدرة، ومنهم من فسر الحدود هاهنا بجنس محارم ~~الله، وقال: المراد أن مجاوزة العشر جلدات لا يجوز إلا في ارتكاب محرم من ~~محارم الله، فأما ضرب التأديب على غير محرم، فلا يتجاوز به عشر جلدات (3) . # وقد حمل بعضهم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وحد حدودا فلا تعتدوها)) ~~على هذه العقوبات PageV02P832 # الزاجرة عن المحرمات، وقال: المراد النهي عن تجاوز هذه الحدود وتعديها ~~عند إقامتها على أهل الجرائم. ورجح ذلك بأنه لو كان المراد بالحدود الوقوف ~~عند الأوامر والنواهي لكان تكريرا لقوله: ((فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم ~~أشياء، فلا تنتهكوها)) وليس الأمر على ما قاله، فإن الوقوف عند الحدود ~~يقتضي أنه لا يخرج عما أذن فيه إلى ما نهى عنه، وذلك أعم من كون المأذون ~~فيه فرضا، أو ندبا، أو مباحا كما تقدم، وحينئذ فلا تكرير في هذا الحديث، ~~والله أعلم. # وأما المسكوت عنه، فهو ما لم يذكر حكمه بتحليل، ولا إيجاب، ولا تحريم، ~~فيكون معفوا عنه، لا حرج على فاعله، وعلى هذا دلت هذه الأحاديث المذكورة ~~هاهنا، كحديث أبي ثعلبة وغيره. # وقد اختلفت ألفاظ حديث أبي ثعلبة، فروي باللفظ المتقدم، وروي بلفظ آخر، ~~وهو: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وعفا ~~عن ms395 أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) خرجه إسحاق بن راهويه. وروي بلفظ ~~آخر وهو: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وسن لكم سننا فلا تنتهكوها، ~~وحرم عليكم أشياء فلا تعتدوها، وترك بين ذلك أشياء من غير نسيان رحمة منه ~~فاقبلوها ولا تبحثوا عنها)) خرجه الطبراني (1) . PageV02P833 # وهذه الرواية تبين أن المعفو عنه ما ترك ذكره، فلم يحرم ولم يحلل. # ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن ذكر الشيء بالتحريم والتحليل مما قد يخفى ~~فهمه من نصوص الكتاب والسنة، فإن دلالة هذه النصوص قد تكون بطريق النص ~~والتصريح، وقد تكون بطريق العموم والشمول، وقد تكون دلالته بطريق الفحوى ~~والتنبيه، كما في قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (1) ، فإن دخول ما هو أعظم ~~من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى، ويسمى ذلك مفهوم الموافقة ~~(2) . # وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة، كقوله: ((في الغنم السائمة # الزكاة)) (3) فإنه يدل بمفهومه على أنه لا زكاة في غير السائمة، وقد أخذ ~~الأكثرون بذلك، واعتبروا مفهوم المخالفة، وجعلوه حجة (4) . # وقد تكون دلالته من باب القياس، فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من ~~المعاني، وكان ذلك المعنى موجودا في غيره، فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد ~~في ذلك المعنى عند جمهور العلماء، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزله ~~الله، وأمر بالاعتبار به، فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل ~~والتحريم. # فأما ما انتفى فيه ذلك كله، فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على ~~أنه معفو عنه، وهاهنا مسلكان: # أحدهما: أن يقال: لا إيجاب ولا تحريم إلا بالشرع، ولم يوجب الشرع كذا، أو ~~لم يحرمه، فيكون غير واجب، أو غير حرام، كما يقال مثل هذا في الاستدلال على ~~نفي وجوب الوتر والأضحية، أو نفي تحريم الضب ونحوه، أو نفي تحريم بعض ~~العقود المختلف فيها، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك، ويرجع هذا إلى استصحاب ~~براءة الذمة حيث لم يوجد ما يدل على اشتغالها، ولا يصلح هذا الاستدلال إلا ~~لمن عرف أنواع أدلة الشرع وسبرها ms396، فإن قطع - مع ذلك - بانتفاء PageV02P834 # ما يدل على إيجاب أو تحريم، قطع بنفي الوجوب أو التحريم، كما يقطع ~~بانتفاء فرضية صلاة سادسة، أو صيام شهر غير شهر رمضان، أو وجوب الزكاة في ~~غير الأموال الزكوية، أو حجة غير حجة الإسلام، وإن كان هذا كله يستدل عليه ~~بنصوص مصرحة بذلك، وإن ظن انتفاء ما يدل على إيجاب أو تحريم، ظن انتفاء ~~الوجوب والتحريم من غير قطع. # والمسلك الثاني: أن يذكر من أدلة الشرع العامة ما يدل على أن ما لم يوجبه ~~الشرع، ولم يحرمه، فإنه معفو عنه، كحديث أبي ثعلبة هذا وما في معناه من ~~الأحاديث المذكورة معه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الحج ~~أفي كل عام؟ فقال: # ((ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على ~~أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما ~~استطعتم)) (1) . # ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث سعد بن أبي وقاص: ((إن أعظم ~~المسلمين في # المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته)) (2) . # وقد دل القرآن على مثل هذا أيضا في مواضع، كقوله - عز وجل -: {قل لا أجد ~~في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} (3) ، فإن هذا يدل ~~على أن ما لم يجد تحريمه، فليس بمحرم، وكذلك قوله: {وما لكم ألا تأكلوا مما ~~ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} (4) ، ~~فعنفهم على ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه، معللا بأنه قد بين لهم ~~الحرام، وهذا ليس منه، فدل على أن الأشياء على الإباحة، وإلا لما ألحق ~~اللوم بمن امتنع من الأكل مما لم ينص له على حله بمجرد كونه لم ينص على ~~تحريمه. PageV02P835 # واعلم أن هذه المسألة غير مسألة حكم الأعيان قبل ورود الشرع: هل هو الحظر ~~أو الإباحة، أو لا حكم فيها؟ فإن تلك المسألة مفروضة فيما قبل ورود الشرع ~~(1) ، فأما بعد وروده فقد دلت ms397 هذه النصوص وأشباهها على أن حكم ذلك الأصل ~~زال واستقر أن الأصل في الأشياء الإباحة بأدلة الشرع. وقد حكى بعضهم ~~الإجماع على ذلك، وغلطوا من سوى بين المسألتين، وجعل حكمهما واحدا. # وكلام الإمام أحمد يدل على أن ما لا يدخل في نصوص التحريم، فإنه معفو عنه ~~(2) . قال أبو الحارث: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد -: إن أصحاب الطير ~~يذبحون من الطير شيئا لا نعرفه، فما ترى في أكله؟ فقال: كل ما لم يكن ذا ~~مخلب أو يأكل الجيف، فلا بأس به، فحصر تحريم الطير في ذي المخلب المنصوص ~~عليه، وما يأكل الجيف؛ لأنه في معنى الغراب المنصوص عليه (3) وحكم بإباحة ~~ما عداهما. وحديث ابن عباس (4) الذي سبق ذكره يدل على مثل هذا، وحديث سلمان ~~الفارسي (5) فيه النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء، فإن الجبن كان ~~يصنع بأرض المجوس ونحوهم من الكفار، وكذلك السمن، وكذلك الفراء تجلب من ~~عندهم، وذبائحهم ميتة، وهذا مما يستدل به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها، ~~وعلى إباحة أطعمة المجوس، وفي ذلك كله خلاف مشهور، ويحمل على أنه إذا اشتبه ~~الأمر، لم يجب السؤال والبحث عنه، كما قال ابن عمر لما سئل عن الجبن الذي ~~يصنعه المجوس، فقال: ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه (6) ، ~~PageV02P836 # وذكر عند عمر الجبن وقيل له: إنه يصنع بأنافح الميتة، فقال: سموا الله ~~وكلوا (1) . قال الإمام أحمد: أصح حديث فيه هذا الحديث، يعني: جبن المجوس ~~(2) . # وقد روي من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بجبنة في ~~غزوة الطائف، # فقال: ((أين تصنع هذه؟)) قالوا: بفارس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ~~((ضعوا فيها السكين واقطعوا، واذكروا اسم الله وكلوا)) خرجه الإمام أحمد ~~(3) ، وسئل عنه، فقال: # هو حديث منكر، وكذا قال أبو حاتم الرازي (4) . # وخرج أبو داود (5) معناه من حديث ابن عمر، إلا أنه قال: في غزوة تبوك، ~~وقال أبو حاتم (6) : هو منكر أيضا. # وخرجه عبد الرزاق في " كتابه " (7) مرسلا، وهو أشبه، وعنده زيادة، وهي: ~~أنه قيل له ms398: يا رسول الله، نخشى أن تكون ميتة؟ قال: ((سموا عليه # وكلوه)) . # وخرج الطبراني (8) معناه من حديث ميمونة، وإسناده جيد، لكنه غريب جدا. # وفي " صحيح البخاري " (9) عن عائشة: أن قوما قالوا للنبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: إن قوما يأتوننا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: ~~((سموا عليه أنتم # وكلوا)) PageV02P837 # قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر. # وفي " مسند الإمام أحمد " (1) عن الحسن: أن عمر أراد أن ينهى عن حلل ~~الحبرة؛ لأنها تصبغ بالبول، فقال له أبي: ليس ذلك لك، قد لبسهن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - ولبسناهن في عهده، وخرجه الخلال من وجه آخر وعنده: إن ~~أبيا قال له: يا أمير المؤمنين، قد لبسها نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ~~ورأى الله مكانها، ولو علم الله أنها حرام، لنهى عنها، فقال: صدقت. # وسئل الإمام أحمد عن لبس ما يصبغه أهل الكتاب من غير غسل، فقال: لم تسأل ~~عما لا تعلم، لم يزل الناس منذ أدركناهم لا ينكرون ذلك. وسئل عن يهود ~~يصبغون بالبول، فقال: المسلم والكافر في هذا سواء، ولا تسأل عن هذا، ولا ~~تبحث عنه، وقال: إذا علمت أنه لا محالة يصبغ بشيء من البول، وصح عندك، فلا ~~تصل فيه حتى تغسله. # وخرج من حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدي ~~إليه خفان، فلبسهما ولا يعلم أذكي هما أم لا (2) . # وقد ورد ما يستدل به على البحث والسؤال، فخرج الإمام أحمد (3) من حديث ~~رجل عن أم مسلم الأشجعية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاها وهي في ~~قبة فقال: ((ما أحسنها PageV02P838 # إن لم يكن فيها ميتة)) ، قالت: فجعلت أتتبعها. والرجل مجهول (1) . # وخرج الأثرم بإسناده عن زيد بن وهب، قال: أتانا كتاب عمر بأذربيجان: إنكم ~~بأرض فيها الميتة، فلا تلبسوا من الفراء حتى تعلموا حله من حرامه. # وروى الخلال بإسناده عن مجاهد: أن ابن عمر رأى على رجل فروا، فمسه وقال: ~~لو أعلم أنه ذكي، لسرني أن يكون لي منه ثوب (2) . # وعن محمد بن كعب ms399 أنه قال لعائشة: ما يمنعك أن تتخذي لحافا (3) من # الفراء؟ قالت: أكره أن ألبس الميتة. # وروى عبد الرزاق (4) بإسناده عن ابن مسعود: أنه قال لمن نزل من المسلمين ~~بفارس: إذا اشتريتم لحما فسلوا، إن كان ذبيحة يهودي أو نصراني فكلوا، وهذا ~~لأن الغالب على أهل فارس المجوس وذبائحهم محرمة. # والخلاف في هذا يشبه الخلاف في إباحة طعام من لا تباح ذبيحته من الكفار، ~~وفي استعمال أواني المشركين وثيابهم، والخلاف فيها يرجع إلى قاعدة تعارض ~~الأصل # والظاهر، وقد سبق ذكر ذلك في الكلام على حديث: ((الحلال بين والحرام بين، ~~وبينهما أمور مشتبهات)) (5) . PageV02P839 # وقوله في الأشياء التي سكت عنها: ((رحمة من غير نسيان)) (1) يعني: أنه ~~إنما سكت عن ذكرها رحمة بعباده ورفقا؛ حيث لم يحرمها عليهم حتى يعاقبهم على ~~فعلها، ولم يوجبها عليهم حتى يعاقبهم على تركها، بل جعلها عفوا، فإن ~~فعلوها، فلا حرج عليهم، وإن تركوها فكذلك، وفي حديث أبي الدرداء (2) : ثم ~~تلا: {وما كان ربك نسيا} (3) ومثله قوله - عز وجل -: {لا يضل ربي ولا # ينسى} (4) . # وقوله: ((فلا تبحثوا عنها)) يحتمل اختصاص هذا النهي بزمن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -؛ لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سببا لنزول ~~التشديد فيه بإيجاب أو تحريم، وحديث سعد بن أبي وقاص (5) يدل على هذا، ~~فيحتمل أن يكون النهي عاما، والمروى عن سلمان من قوله يدل على ذلك، فإن ~~كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات، قد ~~يوجب اعتقاد تحريمه، أو إيجابه؛ لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات، فقبول ~~العافية فيه، وترك البحث والسؤال عنه خير، وقد يدخل ذلك في قول النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((هلك المتنطعون)) ، قالها ثلاثا. خرجه مسلم (6) ~~PageV02P840 # من حديث ابن مسعود مرفوعا، والمتنطع: هو المتعمق البحاث عما لا يعنيه (1) ~~، وهذا قد يتمسك به من يتعلق بظاهر اللفظ، وينفي المعاني والقياس ~~كالظاهرية. # والتحقيق في هذا المقام - والله أعلم - أن البحث عما لم يوجد فيه نص خاص ~~أو عام على قسمين: # أحدهما: أن يبحث ms400 عن دخوله في دلالات النصوص الصحيحة من الفحوى والمفهوم ~~والقياس الظاهر الصحيح، فهذا حق، وهو مما يتعين فعله على المجتهدين في ~~معرفة الأحكام الشرعية. # والثاني: أن يدقق الناظر نظره وفكره في وجوه الفروق المستبعدة، فيفرق بين ~~متماثلين بمجرد فرق لا يظهر له أثر في الشرع، مع وجود الأوصاف المقتضية ~~للجمع، أو يجمع بين متفرقين بمجرد الأوصاف الطردية التي هي غير مناسبة، ولا ~~يدل دليل على تأثيرها في الشرع، فهذا النظر والبحث غير مرضي ولا محمود، مع ~~أنه قد وقع فيه طوائف من الفقهاء، وإنما المحمود النظر الموافق لنظر ~~الصحابة ومن بعدهم من القرون المفضلة كابن عباس ونحوه، ولعل هذا مراد ابن ~~مسعود بقوله: إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق، يعني: بما كان ~~عليه الصحابة - رضي الله عنهم -. # ومن كلام بعض أئمة الشافعية: لا يليق بنا أن نكتفي بالخيالات في الفروق، ~~PageV02P841 # كدأب أصحاب الرأي، والسر في تلك أن متعلق الأحكام في الحال الظنون ~~وغلباتها، فإذا كان اجتماع مسألتين أظهر في الظن من افتراقهما، وجب القضاء ~~باجتماعهما، وإن انقدح فرق على بعد، فافهموا ذلك فإنه من قواعد الدين. ~~انتهى. # ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه: أمور (1) الغيب الخبرية التي ~~أمر بالإيمان بها، ولم يبين كيفيتها، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا ~~العالم المحسوس، فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني، وهو مما ينهى عنه، ~~وقد يوجب الحيرة والشك، ويرتقي إلى التكذيب. # وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا يزال الناس يسألون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ~~فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل: آمنت بالله)) ، وفي رواية (3) له: ((لا يزال ~~الناس يسألونكم عن العلم، حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟)) وفي ~~رواية له أيضا (4) : # ((ليسألنكم الناس عن كل شيء، حتى يقولوا: الله خلق كل شيء، فمن خلقه؟)) . ~~وخرجه البخاري (5) ، ولفظه: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ # من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك ms401؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته)) . # وفي " صحيح مسلم " (6) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((قال الله - عز وجل -: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا ما كذا، حتى ~~يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟)) . PageV02P842 # وخرجه البخاري (1) ، ولفظه: ((لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل ~~شيء، فمن خلق الله؟)) . # قال إسحاق بن راهويه: لا يجوز التفكر في الخالق، ويجوز للعباد أن يتفكروا ~~في المخلوقين بما سمعوا فيهم، ولا يزيدون على ذلك؛ لأنهم إن فعلوا تاهوا، ~~قال: وقد قال الله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} (2) ، فلا يجوز أن يقال: ~~كيف تسبح القصاع، والأخونة، والخبز المخبوز، والثياب المنسوجة؟ وكل هذا قد ~~صح العلم فيهم أنهم يسبحون، فذلك إلى الله أن يجعل تسبيحهم كيف شاء وكما ~~شاء، وليس للناس أن يخوضوا في ذلك إلا بما علموا، ولا يتكلموا في هذا وشبهه ~~إلا بما أخبر الله، ولا يزيدوا على ذلك، فاتقوا الله، ولا تخوضوا في هذه ~~الأشياء المتشابهة، فإنه يرديكم الخوض فيه عن سنن الحق. نقل ذلك كله حرب، ~~عن إسحاق - رحمه الله -. PageV02P843 ### | الحديث الحادي والثلاثون # عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~فقال: # يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وأحبني الناس، فقال # : ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)) . ~~حديث حسن رواه ابن ماجه (1) وغيره بأسانيد حسنة. # هذا الحديث خرجه ابن ماجه من رواية خالد بن عمرو القرشي، عن سفيان ~~الثوري، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، PageV02P845 # وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - أن إسناده حسن، وفي ذلك نظر، فإن خالد بن ~~عمرو القرشي الأموي قال فيه الإمام أحمد: منكر الحديث، وقال مرة: ليس بثقة، ~~يروي أحاديث بواطيل، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء، وقال مرة: كان كذابا ~~يكذب، حدث عن شعبة أحاديث موضوعة، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث، # PageV02P850 # وقال أبو حاتم: متروك الحديث ضعيف (1) (2) ، PageV02P851 # ونسبه صالح بن محمد، وابن ms402 عدي إلى وضع الحديث (1) ، وتناقض ابن حبان في ~~أمره، فذكره في كتاب "الثقات" (2) ، وذكره في كتاب " الضعفاء " (3) ، وقال: ~~كان ينفرد عن الثقات بالموضوعات، لا يحل الاحتجاج بخبره، PageV02P852 # وخرج العقيلي (1) حديثه هذا وقال: ليس له أصل من حديث سفيان الثوري، قال: ~~وقد تابع خالدا عليه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذه عنه ودلسه؛ لأن ~~المشهور به خالد هذا. # قال أبو بكر الخطيب: وتابعه أيضا أبو قتادة الحراني ومهران بن أبي عمر ~~الرازي، فرووه عن الثوري قال: وأشهرها حديث ابن كثير. كذا قال، وهذا يخالف ~~قول العقيلي: إن أشهرها حديث خالد بن عمرو، وهذا أصح، ومحمد بن كثير ~~الصنعاني هو المصيصي، ضعفه أحمد (2) . وأبو قتادة ومهران تكلم فيهما أيضا، ~~لكن محمد بن كثير خير منهما، فإنه ثقة عند كثير من الحفاظ. # وقد تعجب ابن عدي من حديثه هذا، وقال: ما أدري ما أقول فيه (3) . # وذكر ابن أبي حاتم (4) أنه سأل أباه عن حديث محمد بن كثير، عن سفيان ~~الثوري، فذكر هذا الحديث، فقال: هذا حديث باطل، يعني: بهذا الإسناد، يشير ~~إلى أنه لا أصل له عن محمد بن كثير، عن سفيان. # وقال ابن مشيش: سألت أحمد عن حديث سهل بن سعد، فذكر هذا الحديث، فقال ~~أحمد: لا إله إلا الله - تعجبا منه - من يروي هذا؟ قلت: خالد ابن عمرو، ~~فقال: وقعنا في خالد بن عمرو، ثم سكت، ومراده الإنكار على من ذكر له شيئا ~~من حديث خالد هذا، فإنه لا يشتغل به. # وخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " المواعظ " (5) له عن خالد بن ~~عمرو، ثم قال: كنت منكرا لهذا الحديث، فحدثني هذا الشيخ عن وكيع: أنه سأله ~~عنه، ولولا مقالته هذه لتركته. وخرج ابن عدي (6) هذا الحديث (7) في ترجمة ~~خالد بن عمرو، وذكر رواية محمد بن كثير له أيضا، وقال: هذا الحديث عن ~~الثوري منكر، PageV02P853 # قال: ورواه زافر - يعني: ابن سلمان - عن محمد بن عيينة أخي سفيان، عن أبي ~~حازم، عن ابن عمر. انتهى، وزافر ومحمد بن عيينة، كلاهما ضعيف ms403. # وقد روي هذا الحديث من وجه آخر مرسل (1) : خرجه أبو سليمان بن # زبر الدمشقي في " مسند إبراهيم بن أدهم " (2) من جمعه من رواية معاوية بن # حفص، عن إبراهيم بن أدهم، عن منصور، عن ربعي بن حراش، قال: # جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، دلني على ~~عمل يحبني الله # عليه، ويحبني الناس عليه، فقال: ((أما العمل الذي يحبك الله عليه، # فالزهد في الدنيا، وأما العمل الذي يحبك الناس عليه، فانظر هذا الحطام، ~~فانبذه إليهم)) . # وخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب " ذم الدنيا " من رواية علي بن بكار، عن # إبراهيم بن أدهم، قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره، ~~ولم يذكر في إسناده منصورا ولا ربعيا، وقال في حديثه: ((فانبذ إليهم ما في ~~يديك من الحطام)) . # وقد اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين: # إحداهما: الزهد في الدنيا، وأنه مقتض لمحبة الله - عز وجل - لعبده. # والثانية: الزهد فيما في أيدي الناس، وأنه مقتض لمحبة الناس. # فأما الزهد في الدنيا، فقد كثر في القرآن الإشارة إلى مدحه، وإلى ذم ~~الرغبة في الدنيا، قال تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} ~~(3) ، PageV02P854 # وقال تعالى: {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (1) ، وقال تعالى في ~~قصة قارون: {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت ~~لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب ~~الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون} إلى قوله: {تلك ~~الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة # للمتقين} (2) ، وقال تعالى: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في ~~الآخرة إلا متاع} (3) ، وقال: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ~~ولا تظلمون فتيلا} (4) . # وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: {يا قوم اتبعون أهدكم سبيل ~~الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} (5) ~~. # وقد ذم الله من كان يريد الدنيا ms404 بعمله وسعيه ونيته، وقد سبق ذكر ذلك في ~~الكلام على حديث: ((الأعمال بالنيات)) (6) . # والأحاديث في ذم الدنيا وحقارتها عند الله كثيرة جدا، ففي " صحيح # مسلم " (7) عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بالسوق والناس ~~كنفيه (8) ، فمر بجدي # أسك (9) ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، فقال: ((أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)) ~~فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) ~~قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: ~~((والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) . PageV02P855 # وفيه أيضا (1) # عن المستورد الفهري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما الدنيا ~~في # الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بماذا ترجع)) . # وخرج الترمذي (2) من حديث سهل بن سعد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة)) ~~وصححه (3) . # ومعنى الزهد في الشيء: الإعراض عنه لاستقلاله، واحتقاره، وارتفاع الهمة # عنه، يقال: شيء زهيد، أي: قليل حقير (4) . # وقد تكلم السلف ومن بعدهم في تفسير الزهد في الدنيا، وتنوعت عباراتهم ~~عنه، وورد في ذلك حديث مرفوع خرجه الترمذي (5) وابن ماجه (6) من رواية عمرو ~~PageV02P856 # بن واقد، عن يونس بن حلبس، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال، ولا ~~إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق مما في ~~يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها أرغب فيها لو أنها ~~بقيت لك)) . وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن واقد ~~منكر الحديث (1) . # قلت: الصحيح وقفه، كما رواه الإمام أحمد في كتاب " الزهد " (2) ، حدثنا ~~زيد بن يحيى الدمشقي، حدثنا خالد بن صبيح، حدثنا يونس بن حلبس قال: قال أبو ~~مسلم الخولاني: ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ~~إنما الزهادة في الدنيا أن تكون بما في ms405 يد الله أوثق مما في يديك، وإذا ~~أصبت بمصيبة، كنت أشد رجاء لأجرها وذخرها من إياها لو بقيت لك. PageV02P857 # وخرجه ابن أبي الدنيا من راوية محمد بن مهاجر، عن يونس بن ميسرة، قال: ~~ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال، ولكن الزهادة في ~~الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن يكون حالك في ~~المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء. # ففسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب، لا من أعمال # الجوارح، ولهذا كان أبو سليمان يقول: لا تشهد لأحد بالزهد، فإن الزهد في ~~القلب. # أحدها: أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ ~~من صحة اليقين وقوته، فإن الله ضمن أرزاق عباده، وتكفل بها، كما قال: # {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (1) ، وقال: {وفي السماء ~~رزقكم وما توعدون} (2) ، وقال: {فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه} (3) . # قال الحسن: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله ~~- عز وجل -. # وروي عن ابن مسعود قال: إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت ~~دقيق. وقال مسروق: إن أحسن ما أكون ظنا حين يقول الخادم: ليس في البيت قفيز ~~من قمح ولا درهم (4) . وقال الإمام أحمد: أسر أيامي إلي يوم أصبح وليس عندي ~~شيء (5) . # وقيل لأبي حازم الزاهد: ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: ~~الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس (6) . PageV02P858 # وقيل له: أما تخاف الفقر؟ فقال: أنا أخاف الفقر ومولاي له ما في السماوات ~~وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! # ودفع إلى علي بن الموفق ورقة، فقرأها فإذا فيها: يا علي بن الموفق أتخاف ~~الفقر وأنا ربك؟ # وقال الفضيل بن عياض (1) : أصل الزهد الرضا عن الله - عز وجل -. وقال: ~~القنوع هو الزهد، وهو الغنى. # فمن حقق اليقين، وثق بالله في أموره كلها ms406، ورضي بتدبيره له، وانقطع عن ~~التعلق بالمخلوقين رجاء وخوفا، ومنعه ذلك من طلب الدنيا بالأسباب المكروهة، ~~ومن كان كذلك، كان زاهدا في الدنيا حقيقة، وكان من أغنى الناس، وإن لم يكن ~~له شيء من الدنيا كما قال عمار: كفى بالموت واعظا، وكفى باليقين غنى، وكفى ~~بالعبادة شغلا (2) . # وقال ابن مسعود: اليقين: أن لا ترضي الناس بسخط الله، ولا تحمد أحدا على ~~رزق الله، ولا تلم أحدا على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ~~ولا يرده كراهة كاره، فإن الله تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحكمه - جعل ~~الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط (3) . # وفي حديث مرسل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو بهذا الدعاء: ~~((اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي، ويقينا (4) صادقا (5) حتى أعلم أنه ~~لا يمنعني رزقا قسمته لي، ورضني من المعيشة بما قسمت لي)) (6) . ~~PageV02P859 # وكان عطاء الخراساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول: اللهم هب لنا يقينا منك ~~حتى تهون علينا مصائب الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا، ~~ولا يصيبنا من هذا الرزق إلا ما قسمت لنا (1) . # روينا من حديث ابن عباس مرفوعا، قال: ((من سره أن يكون أغنى الناس، فليكن ~~بما في يد الله أوثق منه بما في يده)) (2) . # والثاني: أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه من ذهاب مال، أو ولد، ~~أو غير ذلك، أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقي له، وهذا أيضا ~~ينشأ من كمال اليقين. # وقد روي عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: ~~((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما ~~تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا)) (3) ~~PageV02P860 # وهو من علامات الزهد في الدنيا، وقلة # الرغبة فيها، كما قال علي - رضي الله عنه -: من زهد في الدنيا، هانت عليه ~~المصيبات. # والثالث: أن يستوي عند العبد حامده وذامه في ms407 الحق، وهذا من علامات الزهد ~~في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإن من عظمت الدنيا عنده أحب ~~المدح وكره الذم، فربما حمله ذلك على ترك كثير من الحق خشية الذم، وعلى فعل ~~كثير من الباطل رجاء المدح، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق، دل على ~~سقوط منزلة المخلوقين من قلبه، وامتلائه من محبة الحق، وما فيه رضا مولاه، ~~كما قال ابن مسعود: اليقين أن لا ترضي الناس بسخط الله (1) . وقد مدح الله ~~الذين يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم. # وقد روي عن السلف عبارات أخر في تفسير الزهد في الدنيا، وكلها ترجع إلى ~~ما تقدم، كقول الحسن: الزاهد الذي إذا رأى أحدا قال: هو أفضل مني، وهذا ~~يرجع إلى أن الزاهد حقيقة هو الزاهد في مدح نفسه وتعظيمها، ولهذا يقال: ~~PageV02P861 # الزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة (1) ، فمن أخرج من قلبه حب ~~الرياسة في الدنيا، والترفع فيها على الناس، فهو الزاهد حقا، وهذا هو الذي ~~يستوي عنده حامده وذامه في الحق، وكقول وهيب بن الورد: الزهد في الدنيا أن ~~لا تأسى على ما فات منها، ولا تفرح بما آتاك منها (2) ، قال ابن السماك: ~~هذا هو الزاهد المبرز في زهده. # وهذا يرجع إلى أنه يستوي عند العبد إدبارها وإقبالها وزيادتها ونقصها، ~~وهو مثل استواء المصيبة وعدمها كما سبق. # وسئل بعضهم - أظنه الإمام أحمد - عمن معه مال: هل يكون زاهدا؟ قال: إن ~~كان لا يفرح بزيادته ولا يحزن بنقصه، أو كما قال. # وسئل الزهري عن الزاهد فقال: من لم يغلب الحرام صبره، ولم يشغل الحلال ~~شكره (3) ، وهذا قريب مما قبله، فإن معناه أن الزاهد في الدنيا إذا قدر ~~منها على حرام، صبر عنه، فلم يأخذه، وإذا حصل له منها حلال، لم يشغله عن ~~الشكر، بل قام بشكر الله عليه. # قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لسفيان بن عيينة: من الزاهد في الدنيا؟ ~~قال: من إذا أنعم عليه شكر (4) ، وإذا ابتلي صبر. فقلت: يا أبا محمد ~~PageV02P862 # قد أنعم عليه ms408 فشكر، وابتلي فصبر، وحبس النعمة (1) ، كيف يكون زاهدا؟! ~~فقال: اسكت، من لم تمنعه النعماء من الشكر، ولا البلوى من الصبر، فذلك ~~الزاهد (2) . # وقال ربيعة: رأس الزهادة جمع الأشياء بحقها، ووضعها في حقها (3) . # وقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا ~~بلبس العباء (4) ، وقال: كان من دعائهم: اللهم زهدنا في الدنيا، ووسع علينا ~~منها، ولا تزوها عنا، فترغبنا فيها. وكذا قال الإمام أحمد: الزهد في ~~الدنيا: قصر الأمل، وقال مرة: قصر الأمل واليأس مما في أيدي الناس. # ووجه هذا أن قصر الأمل يوجب محبة لقاء الله بالخروج من الدنيا، وطول ~~الأمل يقتضي محبة البقاء فيها، فمن قصر أمله، فقد كره البقاء في الدنيا، ~~وهذا نهاية الزهد فيها، والإعراض عنها، واستدل ابن عيينة لهذا القول بقوله ~~تعالى # : {قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا ~~الموت إن كنتم صادقين} إلى قوله: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} (5) . # وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن الضحاك بن مزاحم قال: أتى النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - # رجل، فقال: يا رسول الله، من أزهد الناس؟ فقال: ((من لم ينس القبر ~~والبلى، وترك أفضل (6) زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعد غدا ~~من أيامه وعد نفسه من الموتى)) (7) وهذا مرسل. # وقد قسم كثير من السلف الزهد أقساما: فمنهم من قال: أفضل الزهد: الزهد في ~~PageV02P863 # الشرك، وفي عبادة ما عبد من دون الله، ثم الزهد في الحرام كله من ~~المعاصي، ثم الزهد في الحلال، وهو أقل أقسام الزهد، فالقسمان الأولان من ~~هذا الزهد، كلاهما واجب، والثالث: ليس بواجب، فإن أعظم الواجبات: الزهد في ~~الشرك، ثم في المعاصي كلها (1) . وكان بكر المزني يدعو لإخوانه: زهدنا الله ~~وإياكم زهد من أمكنه الحرام والذنوب في الخلوات، فعلم أن الله يراه فتركه. # وقال ابن المبارك: قال سلام بن أبي مطيع: الزهد على ثلاثة وجوه: # واحد: أن يخلص العمل لله - عز وجل - والقول، ولا يراد بشيء منه الدنيا. # والثاني: ترك ما لا ms409 يصلح، والعمل بما يصلح. # والثالث: الحلال أن يزهد فيه وهو تطوع، وهو أدناها (2) . # وهذا قريب مما قبله، إلا أنه جعل الدرجة الأولى من الزهد الزهد في # الرياء المنافي للإخلاص في القول والعمل، وهو الشرك الأصغر، والحامل عليه # محبة المدح في الدنيا، والتقدم عند أهلها، وهو من نوع محبة العلو فيها # والرياسة. # وقال إبراهيم بن أدهم: الزهد ثلاثة أصناف: فزهد فرض، وزهد فضل، وزهد ~~سلامة، فالزهد الفرض: الزهد في الحرام، والزهد الفضل: الزهد في الحلال، ~~والزهد السلامة: الزهد في الشبهات (3) . # وقد اختلف الناس: هل يستحق اسم الزاهد من زهد في الحرام خاصة، ولم يزهد ~~في فضول المباحات أم لا؟ على قولين: # أحدهما: أنه يستحق اسم الزهد بذلك، وقد سبق ذلك عن الزهري وابن عيينة ~~وغيرهما. PageV02P864 # والثاني: لا يستحق اسم الزهد بدون الزهد في فضول المباح، وهو قول طائفة ~~من العارفين وغيرهم، حتى قال بعضهم: لا زهد اليوم لفقد المباح المحض، وهو ~~قول يوسف بن أسباط (1) وغيره، وفي ذلك نظر. وكان يونس بن عبيد يقول: وما ~~قدر الدنيا حتى يمدح من زهد فيها؟ # وقال أبو سليمان الداراني: اختلفوا علينا في الزهد بالعراق، فمنهم من ~~قال: الزهد في ترك لقاء الناس، ومنهم من قال: في ترك الشهوات، ومنهم من ~~قال: في ترك الشبع، وكلامهم قريب بعضه من بعض، قال: وأنا أذهب إلى أن الزهد ~~في ترك ما يشغلك عن الله - عز وجل - (2) ، وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن، ~~وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه. # واعلم أن الذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا ليس هو راجعا إلى زمانها ~~الذي هو الليل والنهار، المتعاقبان إلى يوم القيامة، فإن الله جعلهما خلفة ~~لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا. ويروى عن عيسى - عليه السلام - أنه قال: ~~إن هذا الليل والنهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما، وكان يقول: اعملوا ~~الليل لما خلق له، والنهار لما خلق له. # وقال مجاهد: ما من يوم إلا يقول: ابن آدم قد دخلت عليك اليوم، ولن أرجع ~~إليك بعد اليوم، فانظر ms410 ماذا تعمل في، فإذا انقضى، طوي، ثم يختم عليه، فلا ~~يفك حتى يكون الله PageV02P865 # هو الذي يفضه يوم القيامة، ولا ليلة إلا تقول كذلك (1) ، وقد أنشد بعض ~~السلف: # إنما الدنيا إلى الجن ... ة والنار طريق # والليالي متجر الإن ... سان والأيام سوق # وليس الذم راجعا إلى مكان الدنيا الذي هو الأرض التي جعلها الله لبني آدم ~~مهادا وسكنا، ولا إلى ما أودعه الله فيها من الجبال والبحار والأنهار ~~والمعادن، ولا إلى ما أنبته فيها من الشجر والزرع، ولا إلى ما بث فيها من ~~الحيوانات وغير ذلك، فإن ذلك كله من نعمة الله على عباده بما لهم فيه من ~~المنافع، ولهم به من الاعتبار والاستدلال على وحدانية صانعه وقدرته وعظمته، ~~وإنما الذم راجع إلى أفعال بني آدم الواقعة في الدنيا؛ لأن غالبها واقع على ~~غير الوجه الذي تحمد عاقبته، بل يقع على ما تضر عاقبته، أو لا تنفع، كما ~~قال - عز وجل -: {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم ~~وتكاثر في الأموال والأولاد} (2) . # وانقسم بنو آدم في الدنيا إلى قسمين: # أحدهما: من أنكر أن يكون للعباد بعد الدنيا دار للثواب والعقاب، وهؤلاء ~~هم الذين قال الله فيهم: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا ~~واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا # يكسبون} (3) ، وهؤلاء همهم التمتع بالدنيا، واغتنام لذاتها قبل الموت، ~~كما قال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار ~~مثوى # لهم} (4) . ومن هؤلاء من كان يأمر بالزهد في الدنيا؛ لأنه يرى أن ~~الاستكثار منها يوجب PageV02P866 # الهم والغم، ويقول: كلما كثر التعلق بها، تألمت النفس بمفارقتها عند ~~الموت، فكان هذا غاية زهدهم في الدنيا. # والقسم الثاني: من يقر بدار بعد الموت للثواب والعقاب، وهم المنتسبون إلى ~~شرائع المرسلين، وهم منقسمون إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق ~~بالخيرات بإذن الله. # فالظالم لنفسه: هم الأكثرون منهم، وأكثرهم وقف مع زهرة الدنيا وزينتها، ~~فأخذها من غير وجهها، واستعملها في غير وجهها، وصارت الدنيا أكبر همه ms411، لها ~~يغضب (1) ، وبها يرضى، ولها يوالي، وعليها يعادي، وهؤلاء هم أهل اللهو ~~واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وكلهم لم يعرف المقصود من الدنيا (2) ، ~~ولا أنها منزل سفر يتزود منها لما بعدها من دار الإقامة، وإن كان أحدهم ~~يؤمن بذلك إيمانا مجملا، فهو لا يعرفه مفصلا، ولا ذاق ما ذاقه أهل المعرفة ~~بالله في الدنيا مما هو أنموذج ما ادخر لهم في الآخرة. # والمقتصد منهم أخذ الدنيا من وجوهها المباحة، وأدى واجباتها، وأمسك لنفسه ~~الزائد على الواجب، يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا (3) ، وهؤلاء قد ~~اختلف في دخولهم في اسم الزهادة في الدنيا كما سبق ذكره، ولا عقاب عليهم في ~~ذلك، إلا أنه ينقص من درجاتهم من الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا. قال ابن ~~عمر: لا يصيب عبد من PageV02P867 # الدنيا شيئا إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عليه كريما، خرجه ابن ~~أبي الدنيا (1) بإسناد جيد. وروي مرفوعا من حديث عائشة بإسناد فيه نظر. # وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " بإسناده: أن رجلا دخل على معاوية، ~~فكساه، فخرج فمر على أبي مسعود الأنصاري ورجل آخر من الصحابة، فقال أحدهما ~~له: خذها من حسناتك، وقال الآخر: من طيباتك. # وبإسناده عن عمر قال: لولا أن تنقص حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم، ولكني ~~سمعت الله عير قوما، فقال: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} (2) (3) . # وقال الفضيل بن عياض: إن شئت استقل من الدنيا، وإن شئت استكثر منها فإنما ~~تأخذ من كيسك. # ويشهد لهذا أن الله - عز وجل - حرم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا ~~وزينتها وبهجتها، حيث لم يكونوا محتاجين إليه، وادخره لهم عنده في الآخرة، ~~وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله - عز وجل -: {ولولا أن يكون الناس أمة ~~واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج} إلى قوله: ~~{وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} (4) . ~~PageV02P868 # وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من لبس الحرير في ~~الدنيا، لم يلبسه في # الآخرة)) (1) ، و ((من شرب الخمر ms412 في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) (2) . ~~PageV02P869 # وقال: # ((لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا ~~تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة)) (1) . ~~PageV02P871 # قال وهب: إن الله - عز وجل - قال لموسى - عليه السلام -: إني لأذود ~~أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك ~~العرة، وما ذلك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا ~~لم تكلمه الدنيا (1) . # ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن قتادة بن النعمان، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: # ((إن الله إذا أحب عبدا حماه عن الدنيا، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه ~~الماء)) (2) ، وخرجه الحاكم (3) ، ولفظه: ((إن الله ليحمي عبده الدنيا وهو ~~يحبه، كما تحمون PageV02P872 # مريضكم الطعام والشراب، تخافون عليه)) . # وفي " صحيح مسلم " (1) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال # : ((الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر)) . # وأما السابق بالخيرات بإذن الله، فهم الذين فهموا المراد من الدنيا، ~~وعملوا بمقتضى ذلك، فعلموا أن الله إنما أسكن عباده في هذه الدار، ليبلوهم ~~أيهم أحسن # عملا، كما قال: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على ~~الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (2) ، وقال: {الذي خلق الموت والحياة ~~ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (3) . # قال بعض السلف: أيهم أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة، وجعل ما في الدنيا ~~من البهجة والنضرة محنة، لينظر من يقف منهم معه، ويركن إليه، ومن ليس كذلك، ~~كما قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} ~~(4) ثم بين انقطاعه ونفاده، فقال: {وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} (5) ~~، فلما فهموا أن هذا هو المقصود من الدنيا، جعلوا همهم التزود منها للآخرة ~~التي هي دار القرار، واكتفوا من الدنيا بما يكتفي به المسافر في سفره، كما ~~كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل ~~الدنيا كراكب قال في PageV02P873 # ظل شجرة، ثم راح وتركها)) (1) . # ووصى - صلى الله عليه وسلم - جماعة من الصحابة أن ms413 يكون بلاغ أحدهم من ~~الدنيا كزاد الراكب، منهم: سلمان (2) ، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو ذر، ~~وعائشة (3) ، PageV02P874 # ووصى ابن عمر أن يكون في الدنيا كأنه (1) غريب أو عابر سبيل، وأن يعد ~~نفسه من أهل القبور (2) . PageV02P875 # وأهل هذه الدرجة على قسمين: منهم من يقتصر من الدنيا على قدر ما يسد ~~الرمق فقط، وهو حال كثير من الزهاد. ومنهم من يفسح لنفسه أحيانا في تناول ~~بعض شهواتها المباحة؛ لتقوى النفس بذلك، وتنشط للعمل، كما روي عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت ~~قرة عيني في # الصلاة)) خرجه الإمام أحمد (1) والنسائي (2) من حديث أنس. PageV02P876 # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - يحب # من الدنيا النساء والطيب والطعام، فأصاب من النساء والطيب، ولم يصب من ~~الطعام. # وقال وهب: مكتوب في حكمة آل داود - عليه السلام -: ينبغي للعاقل أن لا ~~يغفل عن أربع ساعات: ساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يناجي فيها ربه، وساعة ~~يلقى فيها إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي بين ~~نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عونا على تلك الساعات، ~~وفضل بلغة واستجماما للقلوب، يعني: ترويحا لها (2) . # ومتى نوى المؤمن بتناول شهواته المباحة التقوي على الطاعة كانت شهواته له ~~طاعة يثاب عليها، كما قال معاذ بن جبل: إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ~~(3) ، يعني: أنه ينوي بنومه التقوي على القيام في آخر الليل، فيحتسب ثواب ~~نومه كما PageV02P877 # يحتسب ثواب قيامه. وكان بعضهم إذا تناول شيئا من شهواته المباحة واسى ~~منها إخوانه، كما روي عن ابن المبارك أنه كان إذا اشتهى شيئا لم يأكله حتى ~~يشتهيه بعض أصحابه، فيأكله معهم، وكان إذا اشتهى شيئا، دعا ضيفا له ليأكل ~~معه. # وكان يذكر عن الأوزاعي أنه قال: ثلاثة لا حساب عليهم في مطعمهم: # المتسحر، والصائم حين يفطر، وطعام الضيف (1) . # وقال الحسن: ليس من حبك للدنيا طلبك ما يصلحك فيها، ومن زهدك فيها ترك ~~الحاجة يسدها ms414 عنك تركها، ومن أحب الدنيا وسرته، ذهب خوف الآخرة من قلبه. # وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك ~~فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاع بلاغ إلى ما هو خير منه (2) . # وقال يحيى بن معاذ الرازي: كيف لا أحب دنيا قدر لي فيها قوت، أكتسب بها ~~حياة، أدرك بها طاعة، أنال بها الآخرة. # وسئل أبو صفوان الرعيني - وكان من العارفين -: ما هي الدنيا التي ذمها ~~الله في القرآن التي ينبغي للعاقل أن يجتنبها؟ فقال: كل ما أصبت في الدنيا ~~تريد به الدنيا، فهو مذموم، وكل ما أصبت فيها تريد به الآخرة، فليس منها ~~(3) . # وقال الحسن: نعمت الدار كانت الدنيا للمؤمن، وذلك أنه عمل قليلا، وأخذ ~~زاده منها إلى الجنة، وبئست الدار كانت للكافر والمنافق، وذلك أنه ضيع ~~لياليه، وكان زاده منها إلى النار (4) . PageV02P878 # وقال أيفع بن عبد الكلاعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ~~دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، قال الله: يا أهل الجنة، كم لبثتم ~~في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، قال: نعم ما اتجرتم في ~~يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم يقول ~~لأهل النار: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، ~~فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، سخطي ومعصيتي وناري، امكثوا فيها ~~خالدين مخلدين)) (1) . # وخرج الحاكم (2) من حديث عبد الجبار بن وهب، أنبأنا سعد بن طارق، عن ~~أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((نعمت الدار الدنيا لمن تزود ~~منها لآخرته حتى يرضي ربه، وبئست الدار لمن صدته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ~~ربه، وإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: قبح الله أعصانا ~~لربه)) وقال (3) : صحيح الإسناد، وخرجه العقيلي (4) ، وقال: عبد الجبار بن ~~وهب مجهول وحديثه غير محفوظ، قال: وهذا الكلام يروى عن علي من قوله. # وقول علي خرجه ابن أبي الدنيا (5) عنه بإسناد فيه نظر: أن ms415 عليا سمع رجلا ~~يسب الدنيا، PageV02P879 # فقال: إنها لدار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن ~~تزود منها، مسجد أحباء الله، ومهبط وحيه، ومصلى ملائكته، ومتجر أوليائه، ~~اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت ~~بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلت ببلائها البلاء، وشوقت ~~بسرورها إلى السرور، فذمها قوم عند الندامة، وحمدها آخرون، حدثتهم فصدقوا، ~~وذكرتهم فذكروا؟ فيا أيها المغتر بالدنيا، المغتر بغرورها، متى استلامت ~~إليك الدنيا؟ بل متى غرتك؟ أبمضاجع آبائك من الثرى؟ أم بمصارع أمهاتك من ~~البلى؟ كم قد قلبت بكفيك، ومرضت بيديك تطلب له الشفاء، وتسأل له الأطباء، ~~فلم تظفر بحاجتك، ولم تسعف بطلبتك، قد مثلت لك الدنيا بمصرعه مصرعك غدا، ~~ولا يغني عنك بكاؤك، ولا ينفعك أحباؤك. # فبين أمير المؤمنين - رضي الله عنه - أن الدنيا لا تذم مطلقا، وأنها تحمد ~~بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة، وأن فيها مساجد الأنبياء، ومهبط ~~الوحي، وهي دار التجارة للمؤمنين، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا بها الجنة، ~~فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفته. وأما ما ذكر من أنها تغر وتخدع، فإنها ~~تنادي بمواعظها، وتنصح بعبرها، وتبدي عيوبها بما تري أهلها من مصارع ~~الهلكى، وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم، ومن الشبيبة إلى الهرم، ومن ~~الغنى إلى الفقر، ومن العز إلى الذل، لكن محبها قد أصمه وأعماه حبها، فهو ~~لا يسمع نداءها، كما قيل: # قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع # كم واثق بالعمر أفنيته ... وجامع بددت ما يجمع # PageV02P880 # قال يحيى بن معاذ: لو يسمع الخلائق صوت النياحة على الدنيا في الغيب من ~~ألسنة الفناء، لتساقطت القلوب منهم حزنا (1) . وقال بعض الحكماء: الدنيا ~~أمثال تضربها الأيام للأنام، وعلم الزمان لا يحتاج إلى ترجمان، وبحب الدنيا ~~صمت أسماع القلوب عن المواعظ، وما أحث السائق لو شعر الخلائق. # وأهل الزهد في فضول الدنيا أقسام: فمنهم من يحصل له، فيمسكه ويتقرب به ~~إلى الله، كما كان كثير من الصحابة وغيرهم، قال ms416 أبو سليمان: كان عثمان # وعبد الرحمان بن عوف خازنين من خزان الله في أرضه، ينفقان في طاعته، ~~وكانت معاملتهما لله بقلوبهما (2) . # ومنهم من يخرجه من يده، ولا يمسكه، وهؤلاء نوعان: منهم من يخرجه اختيارا ~~وطواعية، ومنهم من يخرجه ونفسه تأبى إخراجه، ولكن يجاهدها على ذلك. وقد ~~اختلف في أيهما أفضل، فقال ابن السماك والجنيد: الأول أفضل، لتحقق نفسه ~~بمقام السخاء والزهد، وقال ابن عطاء: الثاني أفضل؛ لأن له عملا ومجاهدة. ~~وفي كلام الإمام أحمد ما يدل عليه أيضا. # ومنهم من لم يحصل له شيء من الفضول، وهو زاهد في تحصيله، إما مع قدرته، ~~أو بدونها، والأول أفضل من هذا، ولهذا قال كثير من السلف: إن عمر ابن عبد ~~العزيز كان أزهد من أويس ونحوه، كذا قال أبو سليمان (3) وغيره. # وكان مالك بن دينار يقول: الناس يقولون: مالك زاهد، إنما الزاهد عمر ابن ~~PageV02P881 # عبد العزيز (1) . # وقد اختلف العلماء: أيما أفضل: من طلب الدنيا من الحلال، ليصل رحمه، ~~ويقدم منها لنفسه، أم من تركها فلم يطلبها بالكلية؟ فرجحت طائفة من تركها # وجانبها، منهم: الحسن وغيره، ورجحت طائفة من طلبها على ذلك الوجه، منهم: ~~النخعي وغيره، وروي عن الحسن عنه نحوه. # والزاهدون في الدنيا بقلوبهم لهم ملاحظ ومشاهد يشهدونها، فمنهم من يشهد ~~كثرة التعب بالسعي في تحصيلها، فهو يزهد فيها قصدا لراحة نفسه. قال الحسن: ~~الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن. # ومنهم من يخاف أن ينقص حظه من الآخرة بأخذ فضول الدنيا. ومنهم من يخاف من ~~طول الحساب عليها، قال بعضهم (2) : من سأل الله الدنيا، فإنما يسأل طول ~~الوقوف (3) للحساب. # ومنهم من يشهد كثرة عيوب الدنيا، وسرعة تقلبها وفنائها، ومزاحمة الأراذل ~~في طلبها، كما قيل لبعضهم: ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة ~~جفائها، وخسة شركائها. # ومنهم من كان ينظر إلى حقارة الدنيا عند الله، فيقذرها، كما قال الفضيل: ~~لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي حلالا لا أحاسب بها في الآخرة، لكنت ~~أتقذرها كما يتقذر الرجل الجيفة إذا مر بها أن ms417 تصيب ثوبه (4) . # ومنهم من كان يخاف أن تشغله عن الاستعداد للآخرة والتزود لها. قال الحسن: ~~إن كان أحدهم ليعيش عمره مجهودا شديد الجهد، والمال الحلال إلى PageV02P882 # جنبه، يقال له: ألا تأتي هذا فتصيب منه؟ فيقول: لا والله لا أفعل، إني ~~أخاف أن آتيه، فأصيب منه، فيكون فساد قلبي وعملي (1) . # وبعث إلى عمر بن المنكدر بمال، فبكى، واشتد بكاؤه، وقال: خشيت أن تغلب ~~الدنيا على قلبي، فلا يكون للآخرة فيه نصيب، فذلك الذي أبكاني، ثم أمر به، ~~فتصدق به على فقراء أهل المدينة. # وخواص هؤلاء يخشى أن يشتغل بها عن الله، كما قالت رابعة: ما أحب أن لي ~~الدنيا كلها من أولها إلى آخرها حلالا، وأنا أنفقها في سبيل الله، وأنها ~~شغلتني # عن الله طرفة عين. # وقال أبو سليمان: الزهد ترك ما يشغل عن الله (2) . وقال: كل ما شغلك عن ~~الله من أهل ومال وولد، فهو مشؤوم (3) . # وقال: أهل الزهد في الدنيا على طبقتين (4) : منهم من يزهد في الدنيا، فلا ~~يفتح له فيها روح الآخرة، ومنهم من إذا زهد فيها، فتح له فيها روح الآخرة ~~(5) ، فليس شيء أحب إليه من البقاء ليطيع الله (6) . # وقال: ليس الزاهد من ألقى هموم الدنيا، واستراح منها، إنما الزاهد من زهد ~~في الدنيا، وتعب فيها للآخرة (7) . # فالزهد في الدنيا يراد به تفريغ القلب من الاشتغال بها؛ ليتفرغ لطلب ~~الله، ومعرفته، والقرب منه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، PageV02P883 # وهذه الأمور ليست من الدنيا كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ~~((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) (1) ، ولم ~~يجعل الصلاة مما حبب إليه من الدنيا، كذا في # " المسند " (2) و" النسائي " (3) ، وأظنه وقع في غيرهما: ((حبب إلي من ~~دنياكم # ثلاث)) (4) ، فأدخل الصلاة في الدنيا، ويشهد لذلك حديث: ((الدنيا ملعونة، ~~ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالما أو متعلما)) خرجه ابن ~~ماجه (5) والترمذي (6) ، # وحسنه من حديث أبي هريرة مرفوعا. وروي نحوه من غير وجه مرسلا ومتصلا. # وخرج الطبراني (7) من حديث أبي ms418 الدرداء مرفوعا قال: ((الدنيا ملعونة، ~~ملعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله)) . وخرجه ابن أبي الدنيا (8) ~~موقوفا، PageV02P884 # وخرجه أيضا من رواية شهر بن حوشب (1) ، عن عبادة، أراه رفعه، قال # : ((يؤتى بالدنيا يوم القيامة، فيقال: ميزوا منها ما كان لله - عز وجل -، ~~وألقوا سائرها في النار)) . # فالدنيا وكل ما فيها ملعونة، أي: مبعدة عن الله؛ لأنها تشغل عنه، إلا ~~العلم النافع الدال على الله، وعلى معرفته، وطلب قربه ورضاه، وذكر الله وما ~~والاه مما يقرب من الله، فهذا هو المقصود من الدنيا، فإن الله إنما أمر ~~عباده بأن يتقوه ويطيعوه، ولازم ذلك دوام ذكره، كما قال ابن مسعود: تقوى ~~الله حق تقواه أن يذكر فلا ينسى (2) . وإنما شرع الله أقام الصلاة لذكره، ~~وكذلك الحج والطواف. وأفضل أهل العبادات أكثرهم ذكرا لله فيها، فهذا كله ~~ليس من الدنيا المذمومة، وهو المقصود من إيجاد الدنيا وأهلها، كما قال ~~تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (3) . # وقد ظن طوائف من الفقهاء والصوفية أن ما يوجد في الدنيا من هذه العبادات ~~أفضل مما يوجد في الجنة من النعيم، قالوا: لأن نعيم الجنة حق (4) العبد، ~~والعبادات في الدنيا حق الرب، وحق الرب أفضل من حظ العبد، وهذا غلط، ويقوي ~~غلطهم قول كثير من المفسرين في قوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} (5) ~~قالوا: الحسنة: لا إله إلا الله، وليس شيء خيرا منها. ولكن الكلام على ~~التقديم والتأخير، PageV02P885 # والمراد: فله منها خير، أي: له خير بسببها ولأجلها. # والصواب إطلاق ما جاءت به نصوص الكتاب والسنة أن الآخرة خير من الأولى ~~مطلقا. وفي " صحيح الحاكم " (1) عن المستورد بن شداد، قال: كنا عند النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، فتذاكروا الدنيا والآخرة، فقال بعضهم: إنما الدنيا ~~بلاغ # للآخرة، وفيها العمل، وفيها الصلاة، وفيها الزكاة. وقالت طائفة منهم: ~~الآخرة فيها الجنة، وقالوا ما شاء الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((ما الدنيا في الآخرة # إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم، فأدخل إصبعه فيه، فما خرج منه، فهو ms419 # الدنيا)) ، فهذا نص بتفضيل الآخرة على الدنيا، وما فيها من # الأعمال. # ووجه ذلك: أن كمال الدنيا إنما هو في العلم والعمل، والعلم مقصود ~~الأعمال، يتضاعف في الآخرة بما لا نسبة لما في الدنيا إليه، فإن العلم أصله ~~العلم بالله وأسمائه وصفاته، وفي الآخرة ينكشف الغطاء، ويصير الخبر عيانا، ~~ويصير # علم اليقين عين اليقين، وتصير المعرفة بالله رؤية له ومشاهدة، فأين هذا ~~مما في # الدنيا؟ # وأما الأعمال البدنية، فإن لها في الدنيا مقصدين: # أحدهما: اشتغال الجوارح بالطاعة، وكدها بالعبادة. # والثاني: اتصال القلوب بالله وتنويرها بذكره. # فالأول قد رفع عن أهل الجنة، ولهذا روي أنهم إذا هموا بالسجود لله عند ~~تجليه لهم يقال لهم: ارفعوا رؤوسكم فإنكم لستم في دار مجاهدة. PageV02P886 # وأما المقصود الثاني، فحاصل لأهل الجنة على أكمل الوجوه وأتمها، ولا نسبة ~~لما حصل لقلوبهم في الدنيا من لطائف القرب والأنس والاتصال إلى ما يشاهدونه ~~في الآخرة عيانا، فتتنعم قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم بقرب الله ورؤيته، وسماع ~~كلامه، ولاسيما في أوقات الصلوات في الدنيا، كالجمع والأعياد، والمقربون ~~منهم يحصل ذلك لهم كل يوم مرتين بكرة وعشيا في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر، ~~ولهذا لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الجنة يرون ربهم (1) حض ~~عقيب ذلك على المحافظة على صلاة العصر وصلاة الفجر؛ لأن وقت هاتين الصلاتين ~~وقت لرؤية خواص أهل الجنة ربهم وزيارتهم له، وكذلك نعيم الذكر وتلاوة ~~القرآن لا ينقطع عنهم أبدا، فيلهمون التسبيح كما يلهمون النفس. قال ابن ~~عيينة: لا إله إلا الله لأهل الجنة، كالماء البارد لأهل الدنيا، فأين لذة ~~الذكر للعارفين في الدنيا من لذتهم به في الجنة. # فتبين بهذا أن قوله: {من جاء بالحسنة فله خير منها} (2) على ظاهره، فإن ~~ثواب كلمة التوحيد في الدنيا أن يصل صاحبها إلى قولها في الجنة على الوجه ~~الذي يختص به أهل الجنة. PageV02P887 # وبكل حال، فالذي يحصل لأهل الجنة من تفاصيل العلم بالله وأسمائه وصفاته ~~وأفعاله، ومن قربه ومشاهدته ولذة ذكره، هو أمر لا يمكن التعبير عن كنهه ms420 في ~~الدنيا؛ لأن أهلها لم يدركوه على وجهه، بل هو مما لا عين رأت، ولا أذن ~~سمعت، ولا خطر على قلب بشر، والله تعالى المسؤول أن لا يحرمنا خير ما عنده ~~بشر ما عندنا بمنه وكرمه ورحمته آمين. # ولنرجع إلى شرح حديث: ((ازهد في الدنيا يحبك الله)) (1) ، فهذا الحديث ~~يدل على أن الله يحب الزاهدين في الدنيا، قال بعض السلف: قال الحواريون ~~لعيسى - عليه السلام -: يا روح الله، علمنا عملا واحدا يحبنا الله - عز وجل ~~- عليه، قال: أبغضوا الدنيا يحبكم الله - عز وجل -. # وقد ذم الله تعالى من يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة، كما قال: {كلا بل ~~تحبون العاجلة وتذرون الآخرة} (2) ، وقال: {وتحبون المال حبا جما} (3) ، ~~وقال: {وإنه لحب الخير لشديد} (4) ، والمراد حب المال، فإذا ذم من أحب ~~الدنيا دل على مدح من لا يحبها، بل يرفضها ويتركها. # وفي " المسند " (5) و" صحيح ابن حبان " (6) عن أبي موسى، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته، أضر ~~بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى)) . PageV02P888 # وفي " المسند " (1) و" سنن ابن ماجه " (2) عن زيد بن ثابت، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، ~~وجعل فقره بين عينيه، ولم # يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، ~~وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) . وخرجه الترمذي (3) من حديث ~~أنس # مرفوعا بمعناه. # ومن كلام جندب بن عبد الله الصحابي: حب الدنيا رأس كل خطيئة (4) ، وروي ~~مرفوعا، وروي عن الحسن مرسلا (5) . PageV02P889 # قال الحسن: من أحب الدنيا وسرته، خرج حب الآخرة من قلبه (1) . # وقال عون بن عبد الله: الدنيا والآخرة في القلب ككفتي الميزان بقدر ما ~~ترجح إحداهما تخف الأخرى (2) . # وقال وهب: إنما الدنيا والآخرة كرجل له امرأتان: إن أرضى إحداهما أسخط ~~الأخرى (3) . # وبكل حال، فالزهد في الدنيا شعار أنبياء الله وأوليائه وأحبائه، قال عمرو ~~بن العاص: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم - صلى ms421 الله عليه وسلم -، إنه كان ~~أزهد الناس في الدنيا، وأنتم أرغب الناس فيها، خرجه الإمام أحمد (4) . # وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صوما وصلاة وجهادا من أصحاب محمد - ~~صلى الله عليه وسلم -، وهم كانوا خيرا منكم، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: كانوا ~~أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة (5) . # وقال أبو الدرداء: لئن حلفتم لي على رجل أنه أزهدكم، لأحلفن لكم أنه ~~خيركم (6) . ويروى عن الحسن، قال: قالوا: يا رسول الله، من خيرنا؟ قال: # ((أزهدكم في الدنيا، وأرغبكم في الآخرة)) (7) والكلام في هذا الباب يطول ~~جدا. وفيما أشرنا إليه كفاية إن شاء الله تعالى. PageV02P890 # الوصية الثانية: الزهد فيما في أيدي الناس، وأنه موجب لمحبة الناس. وروي ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وصى رجلا، فقال: ((ايأس مما في أيدي ~~الناس تكن غنيا)) خرجه الطبراني (1) وغيره. # ويروى من حديث سهل بن سعد مرفوعا: ((شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه ~~استغناؤه عن الناس)) (2) . PageV02P891 # وقال الحسن: لا تزال كريما على الناس، أو لا يزال الناس يكرمونك ما لم ~~تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك، استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك (1) ~~. # وقال أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان: العفة عما في ~~أيدي الناس، والتجاوز عما يكون منهم (2) . # وكان عمر يقول في خطبته على المنبر: إن الطمع فقر، وإن اليأس غنى، وإن ~~الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه (3) . # وروي أن عبد الله بن سلام لقي كعب الأحبار عند عمر، فقال: يا كعب، من ~~أرباب العلم؟ قال: الذين يعملون به، قال: فما يذهب بالعلم من قلوب العلماء ~~بعد إذ حفظوه وعقلوه؟ قال: يذهبه الطمع، وشره النفس، وتطلب الحاجات إلى ~~الناس، قال: صدقت (4) . # وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالاستعفاف ~~عن مسألة الناس والاستغناء عنهم، فمن سأل الناس ما بأيديهم، كرهوه وأبغضوه؛ ~~لأن المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبونه، كرهوه لذلك. ~~PageV02P892 # وأما من كان يرى المنة للسائل عليه، ويرى أنه لو خرج له عن ملكه ms422 كله، لم ~~يف له ببذل سؤاله له وذلته له، أو كان يقول لأهله: ثيابكم على غيركم أحسن ~~منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم، فهذا نادر جدا من طباع بني ~~آدم، وقد انطوى بساط ذلك من أزمان متطاولة. # وأما من زهد فيما في أيدي الناس، وعف عنهم، فإنهم يحبونه ويكرمونه لذلك ~~ويسود به عليهم، كما قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ ~~قالوا: الحسن، قال: بما سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن ~~دنياهم (1) ، وما أحسن قول بعض السلف في وصف الدنيا وأهلها: # وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها # فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها PageV02P893 ### | الحديث الثاني والثلاثون # عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) حديث حسن، رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما ~~مسندا، ورواه مالك في # " الموطإ " عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~مرسلا، فأسقط أبا سعيد، وله طرق يقوى بعضها ببعض. # حديث أبي سعيد لم يخرجه ابن ماجه، إنما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي ~~من رواية عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة، حدثنا الدراوردي، عن عمرو بن ~~يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضره الله، ومن شاق شق الله عليه)) (1) ~~وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، وقال البيهقي: تفرد به عثمان عن ~~الدراوردي، وخرجه مالك في " الموطإ " (2) عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، مرسلا. # قال ابن عبد البر (3) : لم يختلف عن مالك في إرسال هذا الحديث، قال: ولا ~~يسند من وجه صحيح، PageV03P905 # ثم خرجه من رواية عبد الملك بن معاذ النصيبي، عن الدراوردي موصولا، ~~والدراوردي كان الإمام أحمد يضعف ما حدث به من حفظه، ولا يعبأ به، ولا شك ~~في تقديم قول مالك على قوله. وقال خالد بن سعد الأندلسي الحافظ: لم يصح ~~حديث: ((لا ms423 ضرر ولا ضرار)) مسندا. # وأما ابن ماجه، فخرجه من رواية فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، ~~حدثني إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - قضى أن لا ضرر ولا ضرار (1) ، وهذا من جملة صحيفة تروى ~~بهذا الإسناد، وهي منقطعة مأخوذة من كتاب، قاله ابن المديني وأبو زرعة ~~وغيرهما، وإسحاق بن يحيى قيل: هو ابن طلحة، وهو ضعيف لم يسمع من عبادة، ~~قاله أبو زرعة وابن أبي حاتم (2) والدارقطني في موضع (3) ، وقيل: إنه إسحاق ~~بن يحيى بن الوليد بن عبادة، ولم يسمع أيضا من عبادة، قاله الدارقطني أيضا ~~(4) . وذكره ابن عدي في كتابه # " الضعفاء "، وقال: عامة أحاديثه غير محفوظة (5) ، وقيل: إن موسى بن عقبة ~~لم يسمع منه، وإنما روى هذه الأحاديث عن أبي عياش الأسدي عنه، وأبو عياش لا ~~يعرف. # وخرجه ابن ماجه (6) أيضا من وجه آخر من رواية جابر الجعفي، عن عكرمة، عن ~~PageV03P906 # ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ~~ضرار)) ، وجابر الجعفي ضعفه الأكثرون، وخرجه الدارقطني (1) من رواية ~~إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، وإبراهيم ضعفه جماعة، ~~وروايات داود، عن عكرمة مناكير. # وخرج الدارقطني (2) من حديث الواقدي، حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان ~~بن زيد بن ثابت، عن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) PageV03P907 # والواقدي متروك، وشيخه مختلف في تضعيفه. وخرجه الطبراني (1) من وجهين ~~ضعيفين أيضا عن القاسم، عن عائشة. # وخرج الطبراني (2) أيضا من رواية محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن ~~يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) وهذا إسناد مقارب وهو غريب، ~~لكن خرجه أبو داود في " المراسيل " (3) من رواية عبد الرحمان بن مغراء، عن ~~ابن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع مرسلا، وهو ms424 أصح. ~~PageV03P908 # وخرج الدارقطني (1) من رواية أبي بكر بن عياش، قال: أراه عن ابن عطاء، عن ~~أبيه، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا ضرر ولا ~~ضرورة، ولا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه على حائطه)) ، وهذا الإسناد فيه ~~شك، وابن عطاء: هو يعقوب، وهو ضعيف. # وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا ضرر ولا ضرار)) قال ابن عبد البر (2) : ~~إسناده غير صحيح. # قلت: كثير هذا يصحح حديثه الترمذي ويقول البخاري في بعض حديثه: هو أصح ~~حديث في الباب، وحسن حديثه إبراهيم بن المنذر الحزامي، وقال: هو خير من ~~مراسيل ابن المسيب، وكذلك حسنه ابن أبي عاصم، وترك حديثه آخرون، منهم: ~~الإمام أحمد وغيره، فهذا ما حضرنا من ذكر طرق أحاديث هذا الباب. # وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - أن بعض طرقه تقوى ببعض، وهو كما قال، ~~PageV03P909 # وقد قال البيهقي في بعض أحاديث كثير بن عبد الله المزني: إذا انضمت إلى ~~غيرها من الأسانيد التي فيها ضعف قويت (1) . # وقال الشافعي (2) في المرسل: إنه إذا أسند من وجه آخر، أو أرسله من يأخذ ~~العلم عن غير من يأخذ عنه المرسل الأول، فإنه يقبل. # وقال الجوزجاني: إذا كان الحديث المسند من رجل غير مقنع - يعني: لا يقنع ~~برواياته - وشد أركانه المراسيل بالطرق المقبولة عند ذوي الاختيار، استعمل، ~~واكتفي به، وهذا إذا لم يعارض بالمسند الذي هو أقوى منه. # وقد استدل الإمام أحمد بهذا الحديث، وقال: قال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((لا ضرر ولا # ضرار)) (3) . # وقال أبو عمرو بن الصلاح: هذا الحديث أسنده الدارقطني من وجوه، ومجموعها ~~يقوي الحديث ويحسنه، وقد تقبله جماهير أهل العلم، واحتجوا به، وقول أبي ~~داود: إنه من الأحاديث التي يدور الفقه عليها يشعر بكونه غير ضعيف، والله ~~أعلم. # وفي المعنى أيضا حديث أبي صرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من ضار ضار الله به، ومن شاق شق الله ms425 عليه)) . خرجه أبو داود والترمذي، ~~وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب (4) . # وخرج الترمذي (5) بإسناد فيه ضعف عن أبي بكر الصديق، عن النبي ~~PageV03P910 # - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ملعون من ضار مؤمنا أو مكر به)) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار)) . هذه الرواية ~~الصحيحة، ضرار بغير # همزة (1) ، وروي ((إضرار)) بالهمزة (2) ، ووقع ذلك في بعض روايات ابن ~~ماجه والدراقطني، بل وفي بعض نسخ " الموطأ "، وقد أثبت بعضهم هذه الرواية ~~وقال: يقال: ضر وأضر بمعنى، وأنكرها آخرون، وقالوا: لا صحة لها. # واختلفوا: هل بين اللفظتين - أعني: الضرر والضرار - فرق أم لا؟ فمنهم من ~~قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهور أن بينهما فرقا، ثم قيل: إن ~~الضرر هو الاسم، والضرار: الفعل، فالمعنى أن الضرر نفسه منتف في الشرع، ~~وإدخال الضرر بغير حق كذلك. # وقيل: الضرر: أن يدخل على غيره ضررا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يدخل ~~على غيره ضررا بما لا منفعة له به (3) ، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به ~~الممنوع، ورجح هذا القول طائفة، منهم ابن عبد البر، وابن الصلاح. # وقيل: الضرر: أن يضر بمن لا يضره، والضرار: أن يضر بمن قد أضر به على ~~PageV03P911 # وجه غير جائز. # وبكل حال فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نفى الضرر والضرار بغير حق. # فأما إدخال الضرر على أحد بحق، إما لكونه تعدى حدود الله، فيعاقب بقدر ~~جريمته، أو كونه ظلم غيره، فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد ~~قطعا، وإنما المراد: إلحاق الضرر بغير حق، وهذا على نوعين: # أحدهما: أن لا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في ~~قبحه وتحريمه (1) ، وقد ورد في القرآن النهي عن المضارة في مواضع: منها في ~~الوصية، قال الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار} (2) ، وفي ~~حديث أبي هريرة المرفوع: ((إن العبد ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضره ~~الموت، فيضار في الوصية، فيدخل النار)) ، ثم تلا: {تلك حدود الله} إلى ~~قوله: {ومن يعص ms426 الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها} (3) ، وقد # خرجه الترمذي (4) وغيره بمعناه. PageV03P912 # وقال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر (1) ، ثم تلا هذه الآية. ~~PageV03P913 # والإضرار في الوصية تارة يكون بأن يخص بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي ~~فرضه الله له، فيتضرر بقية الورثة بتخصيصه، ولهذا قال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) (1) . ~~PageV03P914 # وتارة بأن يوصي لأجنبي بزيادة على الثلث، فتنقص حقوق الورثة، ولهذا قال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الثلث والثلث كثير)) (1) . # ومتى وصى لوارث أو لأجنبي بزيادة على الثلث، لم ينفذ ما وصى به إلا ~~بإجازة الورثة، وسواء قصد المضارة أو لم يقصد، وأما إن قصد المضارة بالوصية ~~لأجنبي بالثلث، فإنه يأثم بقصده المضارة، PageV03P916 # وهل ترد وصيته إذا ثبت ذلك بإقراره أم لا؟ حكى ابن عطية رواية عن مالك ~~أنها ترد، وقيل: إنه قياس مذهب أحمد. # ومنها: في الرجعة في النكاح، قال تعالى: {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن ~~بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم # نفسه} (1) ، وقال: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} (2) فدل ~~ذلك على أن من كان قصده بالرجعة المضارة، فإنه آثم بذلك، وهذا كما كانوا في ~~أول الإسلام قبل حصر الطلاق في ثلاث يطلق الرجل امرأته، ثم يتركها حتى ~~تقارب انقضاء عدتها، ثم يراجعها، ثم يطلقها، ويفعل ذلك أبدا بغير نهاية، ~~فيدع المرأة لا مطلقة ولا ممسكة، فأبطل الله ذلك، وحصر الطلاق في ثلاث ~~مرات. # وذهب مالك إلى أن من راجع امرأته قبل انقضاء عدتها، ثم طلقها من غير مسيس ~~أنه إن قصد بذلك مضارتها بتطويل العدة، لم تستأنف العدة، وبنت على ما مضى ~~منها، وإن لم يقصد بذلك، استأنفت عدة جديدة، وقيل: تبني مطلقا، وهو قول ~~عطاء وقتادة، والشافعي في القديم، وأحمد في رواية، وقيل: تستأنف مطلقا، وهو ~~قول الأكثرين، منهم أبو قلابة والزهري والثوري وأبو حنيفة والشافعي - في ~~الجديد - وأحمد في رواية وإسحاق وأبو عبيد وغيرهم. # ومنها في الإيلاء ms427، فإن الله جعل مدة المؤلي أربعة أشهر إذا حلف الرجل على ~~امتناع وطء زوجته، فإنه يضرب له مدة أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطء، ~~كان ذلك توبته، وإن أصر على الامتناع لم يمكن من ذلك، وفيه قولان للسلف ~~والخلف: أحدهما: أنها تطلق عليه بمضي هذه المدة، والثاني: أنه يوقف، فإن ~~فاء، وإلا أمر بالطلاق، ولو ترك الوطء لقصد الإضرار بغير يمين مدة أربعة ~~أشهر، فقال كثير من PageV03P917 # أصحابنا: حكمه حكم المؤلي في ذلك، وقالوا: هو ظاهر كلام أحمد. # وكذا قال جماعة منهم: إذا ترك الوطء أربعة أشهر لغير عذر، ثم طلبت ~~الفرقة، فرق بينهما بناء على أن الوطء عندنا في هذه المدة واجب، واختلفوا: ~~هل يعتبر لذلك قصد الإضرار أم لا يعتبر؟ ومذهب مالك وأصحابه إذا ترك الوطء ~~من غير عذر، فإنه يفسخ نكاحه، مع اختلافهم في تقدير المدة. # ولو أطال السفر من غير عذر، وطلبت امرأته قدومه، فأبي، فقال مالك وأحمد ~~وإسحاق: يفرق الحاكم بينهما، وقدره أحمد بستة أشهر، وإسحاق بمضي سنتين. # ومنها: في الرضاع، قال تعالى: {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} ~~(1) ، قال مجاهد (2) في قوله: {لا تضار والدة بولدها} قال: لا يمنع أمه أن ~~ترضعه ليحزنها، وقال عطاء وقتادة والزهري وسفيان والسدي وغيرهم: إذا رضيت ~~ما يرضى به غيرها، فهي أحق به، وهذا هو المنصوص عن أحمد، ولو كانت الأم في ~~حبال الزوج. وقيل: إن كانت في حبال الزوج، فله منعها من إرضاعه، إلا أن لا ~~يمكن ارتضاعه من غيرها، وهو قول الشافعي، وبعض أصحابنا، لكن إنما يجوز ذلك ~~إذا كان قصد الزوج به توفير الزوجة للاستمتاع، لا مجرد إدخال الضرر عليها. ~~PageV03P918 # وقوله: {ولا مولود له بولده} (1) ، يدخل فيه أن المطلقة إذا طلبت # إرضاع ولدها بأجرة مثلها، لزم الأب إجابتها إلى ذلك، وسواء وجد غيرها أو ~~لم يوجد. هذا منصوص الإمام أحمد، فإن طلبت زيادة على أجرة مثلها زيادة ~~كثيرة، ووجد الأب من يرضعه بأجرة المثل، لم يلزم الأب إجابتها إلى ما طلبت، ~~لأنها ms428 تقصد المضارة، وقد نص عليه الإمام أحمد. # ومنها في البيع قد ورد النهي عن بيع المضطر، خرجه أبو داود (2) من حديث ~~علي بن أبي طالب أنه خطب الناس، فقال: سيأتي على الناس زمان عضوض (3) يعض ~~الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك، قال الله تعالى: {ولا تنسوا الفضل ~~بينكم} (4) ويبايع المضطرون، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ~~بيع المضطر. وخرجه الإسماعيلي، وزاد فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((إن كان عندك خير تعود به على أخيك، وإلا فلا تزيدنه هلاكا إلى ~~هلاكه)) وخرجه أبو يعلي الموصلي (5) بمعناه من حديث حذيفة مرفوعا أيضا. # وقال عبد الله بن معقل: بيع الضرورة ربا. # وقال حرب: سئل أحمد عن بيع المضطر، فكرهه، فقيل له: كيف هو؟ قال: يجيئك ~~وهو محتاج، فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، وقال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح ~~بالعشرة خمسة؟ فكره ذلك، وإن كان المشتري مسترسلا لا يحسن أن يماكس، فباعه ~~بغبن كثير، لم يجز أيضا. قال أحمد: الخلابة: الخداع، وهو أن يغبنه فيما لا ~~يتغابن الناس في مثله؛ يبيعه ما يساوي درهما بخمسة، PageV03P919 # ومذهب مالك وأحمد أنه يثبت له خيار الفسخ بذلك. # ولو كان محتاجا إلى نقد، فلم يجد من يقرضه، فاشترى سلعة بثمن إلى أجل في ~~ذمته، ومقصوده بيع تلك السلعة، ليأخذ ثمنها، فهذا فيه قولان للسلف، ورخص ~~أحمد فيه في رواية، وقال في رواية: أخشى أن يكون مضطرا؛ فإن باع السلعة من ~~بائعها له، فأكثر السلف على تحريم ذلك، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد ~~وغيرهم. # ومن أنواع الضرر في البيوع: التفريق بين الوالدة وولدها في البيع، فإن ~~كان صغيرا، حرم بالاتفاق، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ~~قال: ((من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة)) ~~(1) ، فإن رضيت الأم بذلك، ففي جوازه اختلاف، PageV03P920 # ومسائل الضرر في الأحكام كثيرة جدا، وإنما ذكرنا هذا على وجه المثال. # والنوع الثاني: أن يكون له غرض آخر صحيح ms429، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه ~~مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرا ~~له، فيتضرر الممنوع بذلك. # فأما الأول وهو التصرف في ملكه بما يتعدى ضرره إلى غيره فإن كان على غير ~~الوجه المعتاد، مثل أن يؤجج في أرضه نارا في يوم عاصف، فيحترق ما يليه، ~~فإنه متعد بذلك، وعليه الضمان، وإن كان على الوجه المعتاد، ففيه للعلماء ~~قولان مشهوران: # أحدهما: لا يمنع من ذلك، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. # والثاني: المنع، وهو قول أحمد، ووافقه مالك في بعض الصور؛ فمن صور ذلك: ~~أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفة على جاره، أو يبني بناء عاليا يشرف على ~~جاره ولا يستره، فإنه يلزم بستره، نص عليه أحمد، ووافقه طائفة من أصحاب ~~الشافعي، قال الروياني منهم في كتاب " الحلية ": يجتهد الحاكم في ذلك، ~~ويمنع إذا ظهر له التعنت، وقصد الفساد، قال: وكذلك القول في إطالة البناء ~~ومنع الشمس والقمر. # وقد خرج الخرائطي (1) وابن عدي (2) بإسناد ضعيف (3) عن عمرو بن شعيب، عن ~~أبيه، عن جده مرفوعا حديثا طويلا في حق الجار، وفيه: ((ولا يستطيل عليه ~~بالبناء فيحجب عنه الريح إلا بإذنه)) . PageV03P921 # ومنها أن يحفر بئرا بالقرب من بئر جاره، فيذهب ماؤها، فإنها تطم في ظاهر ~~مذهب مالك وأحمد، وخرج أبو داود في " المراسيل " (1) من حديث أبي قلابة، ~~قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تضاروا في الحفر، وذلك أن ~~يحفر الرجل إلى جنب الرجل ليذهب بمائه)) . # ومنها أن يحدث في ملكه ما يضر بملك جاره من هز أو دق ونحوهما، فإنه يمنع ~~منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحد الوجوه للشافعية. # وكذا إذا كان يضر بالسكان، كما له رائحة خبيثة ونحو ذلك. # ومنها أن يكون له ملك في أرض غيره، ويتضرر صاحب الأرض بدخوله # إلى أرضه، فإنه يجبر على إزالته ليندفع به ضرر الدخول، وخرج أبو داود في # " سننه " (2) # من حديث أبي جعفر محمد بن علي أنه حدث سمرة بن ms430 جندب أنه كانت له عضد من ~~نخل في حائط رجل من الأنصار، ومع الرجل أهله، PageV03P922 # وكان سمرة يدخل إلى نخله، فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يناقله، ~~فأبى، فأتى النبي # - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: ((فهبه له ولك كذا ~~وكذا)) أمرا رغبه فيه، فأبى، فقال: ((أنت مضار)) ، فقال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)) ، وقد روي عن أبي جعفر مرسلا. ~~قال أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث: كل ما كان على هذه ~~الجهة، وفيه ضرر يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلا أجبره السلطان، ولا يضر بأخيه ~~في ذلك، فيه مرفق له. # وخرج أبو بكر الخلال من رواية عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن ~~سليط بن قيس، عن أبيه: أن رجلا من الأنصار كانت له في حائطه نخلة لرجل آخر، ~~فكان صاحب النخلة لا يريمها غدوة وعشية، فشق ذلك على صاحب الحائط، فأتى ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - لصاحب النخلة: ((خذ منه نخلة مما يلي الحائط مكان نخلتك)) ، قال: لا ~~والله، قال: ((فخذ مني ثنتين)) قال: لا والله، قال: ((فهبها لي)) ، قال: لا ~~والله، قال: فردد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى، فأمر النبي ~~- صلى # PageV03P923 # الله عليه وسلم - أن يعطيه نخلة مكان نخلته (1) . # وخرج أبو داود في "المراسيل" (2) من رواية ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن ~~حبان، عن عمه واسع بن حبان، قال: كان لأبي لبابة عذق في حائط رجل، فكلمه، ~~فقال: إنك تطأ حائطي إلى عذقك، فأنا أعطيك مثله في حائطك، وأخرجه عني، فأبى ~~عليه، فكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، فقال: ((يا أبا لبابة، خذ ~~مثل عذقك، فحزها إلى مالك، واكفف عن صاحبك ما يكره)) ، فقال: ما أنا بفاعل، ~~فقال: ((اذهب، فأخرج له مثل عذقه إلى ms431 حائطه، ثم اضرب فوق ذلك بجدار، فإنه ~~لا ضرر في الإسلام ولا ضرار)) . # ففي هذا الحديث والذي قبله إجباره على المعاوضة حيث كان على شريكه أو ~~جاره ضرر في تركه، وهذا مثل إيجاب الشفعة لدفع ضرر الشريك الطارئ. # ويستدل بذلك أيضا على وجوب العمارة على الشريك الممتنع من العمارة، وعلى ~~إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة، وقد ورد من حديث محمد بن أبي بكر، عن أبيه ~~مرفوعا: ((لا تعضية في الميراث إلا ما احتمل القسم)) (3) وأبو بكر: هو # ابن عمرو بن حزم، قاله الإمام أحمد، PageV03P924 # فالحديث حينئذ مرسل، والتعضية: هي القسمة. ومتى تعذرت القسمة، لكون ~~المقسوم يتضرر بقسمته، وطلب أحد الشريكين البيع، أجبر الآخر، وقسم الثمن، ~~نص عليه أحمد وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة. # وأما الثاني - وهو منع الجار من الانتفاع بملكه، والارتفاق به - فإن كان ~~ذلك يضر بمن انتفع بملكه، فله المنع، كمن له جدار واه لا يحتمل أن يطرح ~~عليه خشب، وأما إن لم يضر به، فهل يجب عليه التمكين، ويحرم عليه الامتناع ~~أم لا؟ فمن قال في القسم الأول: لا يمنع المالك من التصرف في ملكه، وإن أضر ~~بجاره، قال هنا: للجار المنع من التصرف في ملكه بغير إذنه، ومن قال هناك ~~بالمنع، فاختلفوا هاهنا على قولين: أحدهما: المنع هاهنا وهو قول مالك. ~~والثاني: أنه لا يجوز المنع، وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار جاره، ~~ووافقه الشافعي في القديم وإسحاق وأبو ثور، وداود، وابن المنذر، وعبد الملك ~~بن حبيب المالكي، وحكاه مالك عن بعض قضاة المدينة. # وفي الصحيحين (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة (2) على جداره)) قال أبو هريرة: مالي ~~أراكم عنها معرضين، # والله لأرمين بها بين أكتافكم (3) . # وقضى عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه، وقال: ~~لتمرن به ولو على بطنك (4) . # وفي الإجبار على ذلك روايتان عن الإمام أحمد، ومذهب أبي ثور الإجبار على ~~إجراء الماء في أرض ms432 جاره إذا أجراه في قناة في PageV03P925 # باطن أرضه، نقله عنه حرب الكرماني. # ومما ينهى عن منعه للضرر منع الماء والكلأ، وفي " الصحيحين " (1) عن أبي ~~هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به ~~الكلأ)) . # وفي " سنن أبي داود " (2) أن رجلا قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا # يحل منعه؟ قال: ((الماء)) ، قال: يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل ~~منعه؟ # قال: ((الملح)) قال: ما الشيء الذي لا يحل منعه، قال: ((أن تفعل الخير ~~خير # لك)) . # وفيه أيضا (3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((الناس شركاء في ~~ثلاث: الماء PageV03P926 # والنار والكلأ)) . # وذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يمنع فضل الماء الجاري والنابع مطلقا، سواء ~~قيل: إن الماء ملك لمالك أرضه أم لا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد ~~وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم، والمنصوص عن أحمد وجوب بذله مجانا بغير عوض ~~للشرب، وسقي البهائم، وسقي الزروع، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا يجب بذله ~~للزروع. # واختلفوا: هل يجب بذله مطلقا، أو إذا كان بقرب الكلأ، وكان منعه مفضيا ~~إلى منع الكلأ؟ على قولين لأصحابنا وأصحاب الشافعي، وفي كلام أحمد ما يدل ~~على اختصاص المنع بالقرب من الكلأ، وأما مالك، فلا يجب عنده بذل فضل الماء ~~المملوك بملك منبعه ومجراه إلا للمضطر كالمحاز في الأوعية، وإنما يجب عنده ~~بذل فضل الماء الذي لا يملك. # وعند الشافعي (1) : حكم الكلأ كذلك يجوز منع فضله إلا في أرض الموات. ~~ومذهب أبي حنيفة وأحمد وأبي عبيد أنه لا يمنع فضل الكلأ مطلقا، ومنهم من ~~قال: لا يمنع أحد الماء والكلأ إلا أهل الثغور خاصة، وهو قول الأوزاعي، لأن ~~أهل الثغور إذا ذهب ماؤهم وكلؤهم لم يقدروا أن يتحولوا من مكانهم من وراء ~~بيضة الإسلام وأهله. # وأما النهي عن منع النار، فحمله طائفة من الفقهاء على النهي عن الاقتباس ~~منها دون أعيان الجمر، PageV03P927 # ومنهم من حمله على منع الحجارة المورية للنار، وهو بعيد، ولو حمل على منع ~~الاستضاءة بالنار، وبذل ما فضل ms433 عن حاجة صاحبها لمن يستدفئ بها، أو ينضج ~~عليها طعاما ونحوه، لم يبعد. # وأما الملح، فلعله يحمل على منع أخذه من المعادن المباحة، فإن الملح من ~~المعادن الظاهرة، لا يملك بالإحياء، ولا بالإقطاع، نص عليه أحمد، وفي " سنن ~~أبي دواد " (1) : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع رجلا الملح، فقيل ~~له: يا رسول الله إنه بمنزلة الماء العد، فانتزعه منه. # ومما يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر)) أن الله لم ~~يكلف عباده فعل ما يضرهم البتة، فإن ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ~~ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عين فساد دينهم ودنياهم، لكنه لم يأمر عباده ~~بشيء هو ضار لهم في أبدانهم أيضا، ولهذا أسقط الطهارة بالماء عن المريض، ~~وقال: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} (2) ، وأسقط الصيام عن المريض ~~والمسافر، وقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (3) ، وأسقط ~~اجتناب PageV03P928 # محظورات الإحرام، كالحلق ونحوه عمن كان مريضا، أو به أذى من رأسه، وأمر ~~بالفدية. وفي " المسند " (1) # عن ابن عباس، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأديان ~~أحب إلى الله؟ قال: ((الحنيفية السمحة)) . ومن حديث عائشة (2) ، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: ((إني أرسلت بحنيفية سمحة)) . # ومن هذا المعنى ما في " الصحيحين " (3) عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: رأى رجلا يمشي، قيل: إنه نذر أن يحج ماشيا، فقال: ((إن الله لغني ~~عن مشيه، فليركب)) ، وفي رواية: ((إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه)) . # وفي " السنن " (4) عن عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت، فقال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتركب)) ~~. # وقد اختلف العلماء في حكم من نذر أن يحج ماشيا، فمنهم من قال: لا يلزمه ~~المشي، وله الركوب بكل حال، وهو رواية عن أحمد والأوزاعي. وقال أحمد: يصوم ~~ثلاثة أيام، وقال الأوزاعي: عليه كفارة يمين، والمشهور أنه يلزمه ذلك إن ~~أطاقه، فإن عجز عنه، فقيل: يركب عند ms434 العجز، ولاشيء عليه، وهو أحد ~~PageV03P929 # قولي الشافعي (1) . # وقيل: بل عليه - مع ذلك - كفارة يمين، وهو قول الثوري وأحمد في رواية. # وقيل: بل عليه دم، قاله طائفة من السلف، منهم عطاء ومجاهد والحسن والليث ~~وأحمد في رواية. # وقيل: يتصدق بكراء ما ركب، وروي عن الأوزاعي، وحكاه عن عطاء، وروي عن ~~عطاء: يتصدق بقدر نفقته عند البيت. # وقالت طائفة من الصحابة وغيرهم: لا يجزئه الركوب، بل يحج من قابل، فيمشي ~~ما ركب، ويركب ما مشى، وزاد بعضهم: وعليه هدي، وهو قول مالك إذا كان ما ~~ركبه كثيرا. # ومما يدخل في عمومه أيضا أن من عليه دين لا يطالب به مع إعساره، بل ينظر ~~إلى حال إيساره، قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (2) ، وعلى ~~هذا جمهور العلماء خلافا لشريح في قوله: إن الآية مختصة بديون الربا في ~~الجاهلية (3) ، والجمهور أخذوا باللفظ العام، ولا يكلف المدين أن يقضي مما ~~عليه في خروجه من ملكه ضرر، كثيابه ومسكنه المحتاج إليه، وخادمه كذلك، ولا ~~ما يحتاج إلى التجارة به لنفقته ونفقة عياله هذا مذهب الإمام أحمد. ~~PageV03P930 ### | الحديث الثالث والثلاثون # عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البينة على ~~المدعي واليمين على من أنكر)) . حديث حسن، رواه البيهقي وغيره هكذا، وبعضه ~~في # " الصحيحين ". # أصل هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " (1) من حديث ابن جريج، عن ابن أبي ~~مليكة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لو يعطى ~~الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى ~~عليه)) . # وخرجاه (2) أيضا من رواية نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة، عن ابن ~~PageV03P931 # عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن اليمين على المدعى عليه. # واللفظ الذي ساقه به الشيخ ساقه ابن الصلاح قبله في الأحاديث الكليات، ~~وقال: رواه البيهقي (1) بإسناد حسن. # وخرجه الإسماعيلي في " صحيحه " (2) من رواية الوليد بن مسلم، حدثنا ابن ~~جريج ms435، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة ~~على الطالب، واليمين على المطلوب)) . # وروى الشافعي (3) : أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، ~~عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((البينة على ~~المدعي)) قال # الشافعي (4) : وأحسبه - ولا أثبته - أنه قال: ((واليمين على المدعى ~~عليه)) . # وروى محمد بن عمر بن لبابة الفقيه الأندلسي، عن عثمان بن أيوب الأندلسي - ~~ووصفه بالفضل -، عن غازي بن قيس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - فذكر هذا الحديث، وقال: ((لكن البينة على من ادعى، ~~واليمين على من أنكر)) وغازي بن قيس الأندلسي كبير صالح، سمع من مالك وابن ~~جريج وطبقتهما، وسقط من هذا الإسناد ابن جريج، والله أعلم. # وقد استدل الإمام أحمد وأبو عبيد بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)) ، وهذا يدل على أن اللفظ عندهما ~~صحيح محتج به، وفي المعنى أحاديث كثيرة، ففي " الصحيحين " (5) # عن الأشعث بن قيس، قال: كان بيني وبين رجل خصومة في PageV03P932 # بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((شاهداك أو يمينه)) ، قلت: إذا يحلف ولا يبالي، ~~فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف على يمين يستحق بها مالا ~~هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان)) ، فأنزل الله تصديق ذلك، ثم اقترأ ~~هذه الآية: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} (1) وفي رواية ~~لمسلم بعد قوله: ((إذا يحلف)) قال: ((ليس لك إلا ذلك)) . وخرجه أيضا مسلم ~~(2) بمعناه من حديث وائل بن حجر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. # وخرج الترمذي (3) من حديث العرزمي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في خطبته: ((البينة على المدعي، واليمين ~~على المدعى عليه)) ، وقال: في إسناده ms436 مقال، والعرزمي يضعف في الحديث من قبل ~~حفظه. وخرج الدارقطني (4) من رواية مسلم بن خالد الزنجي - وفيه ضعف -، عن ~~ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، إلا في القسامة)) ~~. ورواه الحفاظ (5) عن ابن جريج، عن عمرو مرسلا. # وخرجه أيضا (6) من رواية مجاهد عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال في خطبته يوم PageV03P933 # الفتح: ((المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة)) ، وخرجه الطبراني، ~~وعنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده كلام. وخرج الدارقطني هذا ~~المعنى من وجوه متعددة ضعيفة. # وروى حجاج الصواف، عن حميد بن هلال، عن زيد بن ثابت، قال: قضى رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -: ((أيما رجل طلب عند رجل طلبة، فإن المطلوب هو أولى ~~باليمين)) (1) . خرجه أبو عبيد والبيهقي، وإسناده ثقات، إلا أن حميد بن ~~هلال ما أظنه لقي زيد بن ثابت، وخرجه الدارقطني، وزاد فيه ((بغير شهداء)) . # وخرج النسائي (2) من حديث ابن عباس، قال: جاء خصمان إلى النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، # فادعى أحدهما على الآخر حقا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدعي: ~~((أقم بينتك)) ، فقال: # يا رسول الله، ما لي بينة، فقال للآخر: ((احلف بالله الذي لا إله إلا هو: ~~ما له عليك أو عندك شيء)) . # وقد روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: أن البينة على المدعي، واليمين على ~~PageV03P934 # من أنكر (1) . وقضى بذلك زيد بن ثابت على عمر لأبي بن كعب ولم # ينكراه (2) . # وقال قتادة: فصل الخطاب الذي أوتيه داود - عليه السلام -: هو أن البينة ~~على المدعي، واليمين على من أنكر (3) . # قال ابن المنذر (4) : أجمع أهل العلم على أن البينة على المدعي، واليمين ~~على # المدعى عليه، قال: ومعنى قوله: ((البينة على المدعي)) يعني: يستحق بها ما ~~ادعى، لأنها واجبة عليه يؤخذ بها، ومعنى قوله: ((اليمين على المدعى عليه)) ~~أي: يبرأ بها، لأنها واجبة عليه، يؤخذ بها على ms437 كل حال. انتهى. # وقد اختلف الفقهاء من أصحابنا والشافعية في تفسير المدعي والمدعى عليه. ~~PageV03P935 # فمنهم من قال: المدعي: هو الذي يخلى وسكوته من الخصمين، والمدعى عليه: من ~~لا يخلى وسكوته منهما. # ومنهم من قال: المدعي: من يطلب أمرا خفيا على خلاف الأصل أو الظاهر، ~~والمدعى عليها بخلافه (1) . # وبنوا على ذلك مسألة، وهي: إذا أسلم الزوجان الكافران قبل الدخول، ثم ~~اختلفا، فقال الزوج: أسلمنا معا، فنكاحنا باق، وقالت الزوجة: بل سبق أحدنا ~~إلى الإسلام، فالنكاح منفسخ، فإن قلنا: المدعي من يخلى وسكوته، فالمرأة هي ~~المدعي، فيكون القول قول الزوج، لأنه مدعى عليه؛ إذ لا يخلى وسكوته، وإن ~~قلنا: المدعي من يدعي أمرا خفيا، فالمدعي هنا هو الزوج، إذ التقارن في ~~الإسلام خلاف الظاهر، فالقول قول المرأة؛ لأن الظاهر معها. # وأما الأمين إذا ادعى التلف، كالمودع إذا ادعى تلف الوديعة، فقد قيل: إنه # مدع؛ لأن الأصل يخالف ما ادعاه، وإنما لم يحتج إلى بينة، لأن المودع ~~ائتمنه، والائتمان يقتضي قبول قوله. # وقيل: إن المدعي الذي يحتاج إلى بينة هو المدعي، ليعطى بدعواه مال قوم أو ~~دماءهم، كما ذكر ذلك في الحديث، فأما الأمين، فلا يدعي ليعطى شيئا، وقيل: ~~بل هو مدعى عليه؛ لأنه إذا سكت، لم يترك، بل لابد له من رد الجواب، والمودع ~~مدع؛ لأنه إذا سكت ترك؛ ولو ادعى الأمين رد الأمانة إلى من ائتمنه؛ ~~فالأكثرون على أن قوله مقبول أيضا كدعوى التلف. وقال الأوزاعي: لا يقبل ~~قوله، لأنه مدع. وقال مالك وأحمد في رواية: إن ثبت قبضه للأمانة ببينة، لم ~~يقبل قوله في الرد بدون البينة، PageV03P936 # ووجه بعض أصحابنا ذلك بأن الإشهاد على دفع الحقوق الثابتة بالبينة واجب، ~~فيكون تركه تفريطا، فيجب به الضمان، وكذلك قال طائفة منهم في دفع مال ~~اليتيم إليه: لابد له من بينة؛ لأن الله تعالى أمر بالإشهاد عليه فيكون ~~واجبا. # وقد اختلف الفقهاء في هذا الباب على قولين: # أحدهما: أن البينة على المدعي أبدا. واليمين على المدعى عليه أبدا، وهو ~~قول أبي حنيفة، ووافقه ms438 طائفة من الفقهاء والمحدثين كالبخاري، وطردوا ذلك في ~~كل دعوى، حتى في القسامة، وقالوا: لا يحلف إلا المدعى عليه، ورأوا أن لا ~~يقضى بشاهد ويمين؛ لأن اليمين لا تكون على المدعي، ورأوا أن اليمين لا ترد ~~على المدعي؛ لأنها لا تكون إلا في جانب المنكر المدعى عليه. واستدلوا في ~~مسألة القسامة بما روى سعيد بن عبيد، حدثنا بشير بن يسار الأنصاري، عن سهل ~~بن أبي حثمة: أنه أخبره أن نفرا منهم انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها، ~~فوجدوا أحدهم قتيلا، فذكر الحديث، وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((تأتوني بالبينة على من قتله)) ، قالوا: ما لنا بينة، قال: ((فيحلفون)) ~~، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطل ~~دمه، فوداه مئة من إبل الصدقة. خرجه البخاري (1) ، وخرجه مسلم (2) مختصرا ~~ولم يتمه، PageV03P937 # ولكن هذه الرواية تعارض رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، عن بشير بن يسار، ~~عن سهل بن أبي حثمة فذكر قصة القتيل، وقال فيه: فذكروا لرسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - مقتل عبد الله بن سهل، فقال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته)) ، وهذه هي الرواية ~~المشهورة الثابتة المخرجة بلفظها بكمالها في " الصحيحين " (1) . # وقد ذكر الأئمة الحفاظ أن رواية يحيى بن سعيد أصح من رواية سعيد بن عبيد ~~الطائي، فإنه أجل وأعلم وأحفظ، وهو من أهل المدينة، وهو أعلم بحديثهم من ~~الكوفيين. # وقد ذكر الإمام أحمد مخالفة سعيد بن عبيد ليحيي بن سعيد في هذا الحديث، ~~فنفض يده، وقال: ذاك ليس بشيء، رواه على ما يقول الكوفيون، وقال: أذهب إلى ~~حديث المدنيين يحيى بن سعيد. وقال النسائي: لا نعلم أحدا تابع سعيد بن عبيد ~~على روايته عن بشير بن يسار، وقال مسلم في كتاب " التمييز " (2) : لم يحفظه ~~سعيد بن عبيد على وجهه؛ لأن جميع الأخبار فيها سؤال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - إياهم قسامة خمسين يمينا، وليس في شيء من أخبارهم أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - سألهم ms439 البينة، وترك سعيد القسامة، وتواطؤ الأخبار بخلافه ~~يقضي عليه بالغلط، وقد خالفه يحيى بن سعيد. # وقال ابن عبد البر (3) في رواية سعيد بن عبيد: هذه رواية أهل العراق عن ~~بشير بن يسار، ورواية أهل المدينة عنه أثبت، وهم به أقعد، ونقلهم أصح عند ~~أهل العلم. # قلت: وسعيد بن عبيد اختصر قصة القسامة، وهي محفوظة في الحديث، وقد خرج ~~النسائي (4) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي - صلى الله ~~PageV03P938 # عليه وسلم - طلب من ولي القتيل شاهدين على من قتله، فقال: ومن أين أصيب ~~شاهدين؟ قال: ((فتحلف خمسين قسامة)) ، قال: كيف أحلف على ما لم أعلم؟ قال: # ((فتستحلف منهم خمسين قسامة)) فهذا الحديث يجمع به بين روايتي سعيد بن # عبيد، ويحيى بن سعيد، ويكون كل منهما ترك بعض القصة، فترك سعيد ذكر قسامة ~~المدعين، وترك يحيى ذكر البينة قبل طلب القسامة، والله أعلم. # وأما مسألة الشاهد مع اليمين، فاستدل من أنكر الحكم بالشاهد واليمين ~~بحديث: ((شاهداك أو يمينه)) (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس لك ~~إلا ذلك)) (2) ، وقد تكلم القاضي إسماعيل المالكي في هذه اللفظة، وقال: ~~تفرد بها منصور عن أبي وائل، وخالفه سائر الرواة، وقالوا: إنه سأله: ((ألك ~~بينة أم لا؟)) والبينة لا تقف على الشاهدين فقط. بل تعم سائر ما يبين الحق. # وقال غيره: يحتمل أن يريد بشاهديه كل نوعين يشهدان للمدعي بصحة دعواه ~~يتبين بهما الحق، فيدخل في ذلك شهادة الرجلين، وشهادة الرجل مع المرأتين، ~~وشهادة PageV03P939 # الواحد مع اليمين، وقد أقام الله سبحانه أيمان المدعي مقام الشهود في # اللعان. # وقوله في تمام الحديث: ((ليس لك إلا ذلك)) : لم يرد به النفي العام، بل ~~النفي الخاص، وهو الذي أراده المدعي، وهو أن يكون القول قوله بغير بينة، ~~فمنعه من ذلك، وأبى ذلك عليه، وكذلك قوله في الحديث الآخر: ((ولكن اليمين ~~على المدعى عليه)) إنما أريد بها اليمين المجردة عن الشهادة، وأول الحديث ~~يدل على # ذلك، وهو قوله: ((لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم ms440)) ~~فدل على أن قوله: ((اليمين على المدعى عليه)) إنما هي اليمين القاطعة ~~للمنازعة مع عدم البينة، وأما اليمين المثبتة للحق، مع وجود الشهادة، فهذا ~~نوع آخر، وقد ثبت بسنة أخرى. # وأما رد اليمين على المدعي، فالمشهور عن أحمد موافقة أبي حنيفة (1) ، ~~وأنها لا ترد، واستدل أحمد بحديث: ((اليمين على المدعى عليه)) ، وقال في ~~رواية أبي طالب عنه: ما هو ببعيد أن يقال له: تحلف وتستحق، واختار ذلك ~~طائفة من متأخري الأصحاب، وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد، وروي عن طائفة ~~من الصحابة، وقد ورد فيه حديث مرفوع خرجه الدارقطني (2) وفي إسناده نظر (3) ~~. # قال أبو عبيد: ليس هذا إزالة لليمين عن موضعها، فإن الإزالة أن لا يقضي ~~باليمين على المطلوب، فأما إذا قضي بها عليه، فرضي بيمين صاحبه، كان هو ~~الحاكم على نفسه بذلك، لأنه لو شاء، لحلف وبريء، وبطلت عنه الدعوى. # والقول الثاني في المسألة: أنه يرجح جانب أقوى المتداعيين، وتجعل اليمين ~~في جانبه، هذا مذهب مالك، وكذا ذكر القاضي أبو يعلى في خلافه أنه مذهب ~~أحمد، وعلى هذا تتوجه المسائل التي تقدم ذكرها من الحكم بالقسامة والشاهد ~~واليمين، PageV03P940 # فإن جانب المدعي في القسامة لما قوي باللوث جعلت اليمين في جانبه، وحكم ~~له بها، وكذلك المدعي إذا أقام شاهدا، فإنه قوي جانبه، فحلف معه، وقضي له. # وهؤلاء لهم في الجواب عن قوله: ((البينة على المدعي)) طريقان: # أحدهما: أن هذا خص من هذا العموم بدليل. # والثاني: أن قوله: ((البينة على المدعي)) ليس بعام؛ لأن المراد: على ~~المدعي المعهود، وهو من لا حجة له سوى الدعوى كما في قوله: ((لو يعطى الناس ~~بدعواهم، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)) ، فأما المدعي الذي معه حجة تقوي ~~دعواه، فليس داخلا في هذا الحديث. # وطريق ثالث وهو أن البينة: كل ما بين صحة دعوى المدعي، وشهد بصدقه، ~~فاللوث مع القسامة بينة، والشاهد مع اليمين بينة. # وطريق رابع سلكه بعضهم، وهو الطعن في صحة هذه اللفظة، أعني قوله: # ((البينة على المدعي)) ، وقالوا: إنما الثابت هو قوله: ((اليمين ms441 على ~~المدعى عليه)) . وقوله: ((لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء قوم ~~وأموالهم)) ، يدل على أن مدعي الدم والمال لابد له من بينة تدل على ما ~~ادعاه، ويدخل في عموم ذلك أن من ادعى على رجل أنه قتل موروثه، وليس معه إلا ~~قول المقتول عند موته: جرحني فلان، أنه لا يكتفى بذلك، ولا يكون بمجرده ~~لوثا، وهذا قول الجمهور، خلافا للمالكية، وأنهم جعلوه لوثا يقسم معه ~~الأولياء، ويستحقون الدم. # ويدخل في عمومه أيضا من قذف زوجته ولاعنها، فإنه لا يباح دمها بمجرد # لعانها، وهو قول الأكثرين خلافا للشافعي، واختار قوله الجوزجاني، لظاهر ~~قوله - عز وجل -: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} (1) ، ~~PageV03P941 # والأولون منهم من حمل العذاب على الحبس، وقالوا: إن لم تلاعن، حبست حتى ~~تقر أو تلاعن، وفيه نظر. # ولو ادعت امرأة على رجل أنه استكرهها على الزنى، فالجمهور أنه لا يثبت ~~بدعواها عليه شيء. وقال أشهب من المالكية: لها الصداق بيمينها، وقال غيره ~~منهم: لها الصداق بغير يمين، هذا كله إذا كانت ذات قدر، وادعت ذلك على متهم ~~تليق به الدعوى، وإن كان المرمي بذلك من أهل الصلاح، ففي حدها للقذف عن ~~مالك روايتان. # وقد كان شريح وإياس بن معاوية يحكمان في الأموال المتنازع فيها بمجرد ~~القرائن الدالة على صدق أحد المتداعيين، وقضى شريح في أولاد هرة تداعاها ~~امرأتان، كل منهما تقول هي ولد هرتي، قال شريح: ألقها مع هذه، فإن هي قرت ~~ودرت واسبطرت فهي لها، وإن هي فرت وهرت وازبأرت، فليس لها (1) . قال ابن ~~قتيبة: قوله: اسبطرت، يريد: امتدت للإرضاع (2) ، وإزبأرت: اقشعرت وتنفشت. ~~وكان يقضي بنحو ذلك أبو بكر الشامي من الشافعية، ورجح قوله ابن عقيل من ~~أصحابنا. # وقد روي عن الشافعي وأحمد استحسان قول القافة في سرقة الأموال، والأخذ ~~بذلك، ونقل ابن منصور عن أحمد: إذا قال صاحب الزرع: أفسدت غنمك زرعي ~~بالليل، ينظر في الأثر، فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع، لابد لصاحب الزرع من ~~أن يجيء بالبينة. PageV03P942 # قال إسحاق بن راهويه ms442 كما قال أحمد؛ لأنه مدع، وهذا يدل على اتفاقهما على ~~الاكتفاء برؤية أثر الغنم، وأن البينة إنما تطلب عند عدم الأثر. # وقوله: ((واليمين على المدعى عليه)) يدل على أن كل من ادعى عليه دعوى، ~~فأنكر، فإن عليه اليمين، وهذا قول أكثر الفقهاء، وقال مالك: إنما تجب ~~اليمين على المنكر إذا كان بين المتداعيين نوع مخالطة، خوفا من أن يتبذل ~~السفهاء الرؤساء بطلب أيمانهم. # وعنده: لو ادعى على رجل أنه غصبه، أو سرق منه، ولم يكن المدعى عليه متهما ~~بذلك، لم يستحلف المدعى عليه، وحكي أيضا عن القاسم بن محمد، وحميد بن عبد ~~الرحمان، وحكاه بعضهم عن فقهاء المدينة السبعة، فإن كان من أهل الفضل، وممن ~~لا يشار إليه بذلك، أدب المدعي عند مالك، ويستدل بقوله: # ((اليمين على المدعى عليه)) على أن المدعي لا يمين عليه، وإنما عليه ~~البينة، وهو قول الأكثرين. # وروي عن علي أنه أحلف المدعي مع بينته أن شهوده شهدوا بحق، وفعله أيضا ~~شريح، وعبد الله بن عتبة وابن مسعود وابن أبي ليلى، وسوار العنبري # وعبيد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وروي عن النخعي أيضا. ~~وقال إسحاق: إذا استراب الحاكم، وجب ذلك. # وسأل مهنا الإمام أحمد عن هذه المسألة، فقال أحمد: قد فعله علي، فقال له: ~~أيستقيم هذا؟ فقال: قد فعله علي، فأثبت القاضي هذا رواية عن أحمد، لكنه # PageV03P943 # حملها على الدعوى على الغائب والصبي، وهذا لا يصح؛ لأن عليا إنما حلف ~~المدعي مع بينته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون: هذه اليمين لتقوية الدعوى ~~إذا ضعفت باسترابة الشهود كاليمين مع الشاهد الواحد (1) . وكان بعض ~~المتقدمين يحلف الشهود إذا استرابهم (2) أيضا، ومنهم سوار العنبري قاضي ~~البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة. ~~وقد قال ابن عباس في المرأة الشاهدة على الرضاع: إنها تستحلف، وأخذ به ~~الإمام أحمد. # وقد دل القرآن على استحلاف الشهود عند الارتياب بشهادتهم في الوصية # في السفر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر ms443 أحدكم # الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} إلى قوله: # {فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم ~~شهادة الله} (3) ، وهذه الآية لم ينسخ العمل بها عند جمهور السلف، وقد عمل ~~بها أبو موسى، وابن مسعود، وأفتى بها علي، وابن عباس، وهو مذهب شريح ~~والنخعي وابن أبي ليلى، وسفيان والأوزاعي وأحمد وأبي عبيد وغيرهم، قالوا: ~~تقبل شهادة الكفار في وصية المسلمين في السفر، ويستحلفان مع شهادتهما. وهل ~~يمينهما من باب تكميل الشهادة، فلا يحكم بشهادتهما بدون يمين، أم من باب ~~الاستظهار عند الريبة؟ وهذا محتمل، وأصحابنا جعلوها شرطا، وهو ظاهر ما روي ~~عن أبي موسى وغيره. # وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن اليمين مع الشاهد الواحد هو من باب ~~الاستظهار، فإن رأى الحاكم الاكتفاء بالشاهد الواحد، لبروز عدالته، وظهور ~~صدقه، PageV03P944 # اكتفى بشهادته بدون يمين الطالب. # وقوله: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين ~~استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما} (1) يدل على ~~أنه إذا ظهر خلل في شهادة الكفار، حلف أولياء الميت على خيانتهما وكذبهما، ~~واستحقوا ما حلفوا عليه، وهذا قول مجاهد وغيره من السلف. # ووجه ذلك أن اليمين في جانب أقوى المتداعيين، وقد قويت هاهنا دعوى الورثة ~~بظهور كذب الشهود الكفار، فترد اليمين على المدعين، ويحلفون مع # اللوث، ويستحقون ما ادعوه، كما يحلف الأولياء في القسامة مع اللوث، ~~ويستحقون بذلك الدية والدم أيضا عند مالك وأحمد وغيرهما. # وقضى ابن مسعود في رجل مسلم حضره الموت، فأوصى إلى رجلين مسلمين # معه، وسلمهما ما معه من المال، وأشهد على وصيته كفارا، ثم قدم الوصيان، ~~فدفعا بعض المال إلى الورثة، وكتما بعضه، ثم قدم الكفار، فشهدوا عليهم بما ~~كتموه من المال، فدعا الوصيين المسلمين، فاستحلفهما: ما دفع إليهما أكثر ~~مما دفعاه، ثم دعا الكفار، فشهدوا وحلفوا على شهادتهم، ثم أمر أولياء الميت ~~أن يحلفوا أن ما شهدت به اليهود والنصارى حق، فحلفوا، فقضى على الوصيين ms444 بما ~~حلفوا عليه (2) ، وكان ذلك في خلافة عثمان، وتأول ابن مسعود الآية على ذلك، ~~فكأنه قابل بين يمين الأوصياء والشهود الكفار فأسقطهما، وبقي مع الورثة ~~شهادة الكفار، فحلفوا معها، واستحقوا، لأن جانبهم ترجح بشهادة الكفار لهم، ~~فجعل اليمين مع أقوى المتداعيين، وقضى بها. # واختلف الفقهاء: هل يستحلف في جميع حقوق الآدميين كقول الشافعي ورواية عن ~~أحمد PageV03P945 # أو لا يستحلف إلا فيما يقضي فيه بالنكول كرواية عن أحمد؟ أو لا يستحلف ~~إلا فيما يصح بذله كما هو المشهور عن أحمد؟ أو لا يستحلف إلا في كل دعوى لا ~~تحتاج إلى شاهدين كما حكي عن مالك؟ # وأما حقوق الله - عز وجل -، فمن العلماء من قال: لا يستحلف فيها بحال، ~~وهو # قول أصحابنا وغيرهم، ونص عليه أحمد في الزكاة، وبه قال طاووس، والثوري # والحسن بن صالح وغيرهم، وقال أبو حنيفة ومالك والليث والشافعي: إذا اتهم، # فإنه يستحلف، وكذا حكي عن الشافعي فيمن تزوج من لا تحل له، ثم ادعى # الجهل: أنه يحلف على دعواه، وكذا قال إسحاق في طلاق السكران: يحلف أنه # ما كان يعقل، وفي طلاق الناسي: يحلف على نسيانه، وكذا قال القاسم بن محمد ~~وسالم بن عبد الله في رجل قال لامرأته: أنت طالق: يحلف أنه ما أراد به ~~الثلاث، وترد إليه. # وخرج الطبراني (1) من رواية أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: ~~كان أناس من الأعراب يأتون بلحم، فكان في أنفسنا منه شيء، فذكرنا ذلك لرسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((اجهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها، ثم ~~اذكروا اسم الله # وكلوا)) وأبو هارون ضعيف جدا. # وأما المؤتمن في حقوق الآدميين حيث قبل قوله، فهل عليه يمين أم لا؟ فيه ~~ثلاثة أقوال للعلماء: # أحدها: لا يمين عليه؛ لأنه صدقه بائتمانه، ولا يمين مع التصديق، وبالقياس ~~على الحاكم، PageV03P946 # وهذا قول الحارث العكلي. # والثاني: عليه اليمين، لأنه منكر، فيدخل في عموم قوله: ((واليمين على من ~~أنكر)) ، وهو قول شريح وأبي حنيفة والشافعي ومالك في رواية، وأكثر أصحابنا. # والثالث: لا يمين عليه إلا ms445 أن يتهم وهو نص أحمد، وقول مالك في رواية لما ~~تقدم من ائتمانه. # وأما إذا قامت قرينة تنافي حال الائتمان، فقد اختل معنى الائتمان. # وقوله: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) إنما أريد به إذا # ادعى على رجل ما يدعيه لنفسه، وينكر أنه لمن ادعاه عليه، ولهذا قال في ~~أول # الحديث: ((لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)) ، فأما ~~من ادعى ما ليس له مدع لنفسه، منكر لدعواه، فهذا أسهل من الأول، ولابد ~~للمدعي هنا من بينة، ولكن يكتفى من البينة هنا بما لا يكتفى بها في الدعوى ~~على المدعي لنفسه المنكر. # ويشهد لذلك مسائل: # منها: اللقطة إذا جاء من وصفها، فإنها تدفع إليه بغير بينة بالاتفاق، لكن ~~منهم من يقول: يجوز الدفع إذا غلب على الظن صدقه، ولا يجب، كقول الشافعي ~~وأبي حنيفة، ومنهم من يقول: يجب دفعها بذكر الوصف المطابق، كقول مالك ~~وأحمد. # ومنها: الغنيمة إذا جاء من يدعي منها شيئا، وأنه كان له، واستولى عليه # الكفار، وأقام على ذلك ما يبين أنه له اكتفي به، وسئل عن ذلك أحمد وقيل ~~له: فيريد على ذلك بينة؟ قال: لابد من بيان يدل على أنه له، وإن علم ذلك، ~~دفعه إليه الأمير. وروى الخلال بإسناده عن الركين بن الربيع، عن أبيه قال: ~~جشر لأخي فرس بعين التمر، فرآه في مربط سعد، فقال: فرسي، فقال سعد: ألك # بينة؟ قال: لا، ولكن أدعوه، فيحممم، فدعاه فحمحم، فأعطاه إياه (1) ، ~~PageV03P947 # وهذا يحتمل أنه كان لحق بالعدو، ثم ظهر عليه المسلمون، ويحتمل أنه عرف ~~أنه ضال، فوضع بين الدواب الضالة، فيكون كاللقطة. # ومنها الغصوب إذا علم ظلم الولاة، وطلب ردها من بيت المال، قال أبو ~~الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، ~~كان يكتفي باليسير، إذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق ~~البينة، لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس، ولقد انفد بيت مال العراق ~~في رد المظالم حتى حمل إليها من ms446 الشام، وذكر أصحابنا أن الأموال المغصوبة ~~مع قطاع الطريق واللصوص يكتفى من مدعيها بالصفة كاللقطة، ذكره القاضي في ~~خلافه، وأنه ظاهر كلام أحمد. # PageV03P948 ### | الحديث الرابع والثلاثون # عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ~~((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع ~~فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) . رواه مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (1) من رواية قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن أبي ~~سعيد، ومن رواية إسماعيل بن رجاء (2) ، عن أبيه، عن أبي سعيد، وعنده في ~~حديث طارق قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه ~~رجل، فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما ~~هذا، فقد قضى ما عليه، ثم روى هذا الحديث. # وقد روي معناه من وجوه أخر، فخرج مسلم (3) # من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من نبي ~~بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ~~ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ~~مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن ~~جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)) . # وروى سالم المرادي، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن عمر بن الخطاب، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((سيصيب أمتي في آخر الزمان بلاء ~~شديد من سلطانهم، لا ينجو منه إلا رجل عرف دين الله بلسانه ويده وقلبه، ~~فذلك الذي سبقت له السوابق، ورجل عرف دين الله فصدق به، PageV03P949 # وللأول عليه سابقة، ورجل عرف دين الله، فسكت، فإن رأى من يعمل بخير، أحبه ~~عليه، وإن رأى من يعمل بباطل، أبغضه عليه، فذلك الذي ينجو على إبطائه)) ~~وهذا غريب، وإسناده منقطع (1) . # وخرج الإسماعيلي من حديث أبي هارون العبدي - وهو ضعيف جدا (2) - عن مولى ~~لعمر، عن عمر، عن النبي - صلى الله عليه ms447 وسلم -، قال: ((توشك هذه الأمة أن ~~تهلك إلا ثلاثة نفر: رجل أنكر بيده وبلسانه وبقلبه، فإن جبن بيده، فبلسانه ~~وقلبه، فإن # جبن بلسانه وبيده فبقلبه)) . # وخرج أيضا من رواية الأوزاعي، عن عمير بن هانئ، عن علي سمع النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - يقول: ((سيكون بعدي فتن لا يستطيع المؤمن فيها أن يغير ~~بيد ولا بلسان)) ، قلت: يا رسول الله، وكيف ذاك؟ قال: ((ينكرونه بقلوبهم)) ~~، قلت: يا رسول الله، وهل ينقص ذلك إيمانهم شيئا؟ قال: ((لا، إلا كما ينقص ~~القطر من الصفا)) ، وهذا الإسناد منقطع (3) . وخرج الطبراني (4) معناه من ~~حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ضعيف. # فدلت هذه الأحاديث كلها على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه، وأن ~~إنكاره بالقلب لابد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر، دل على ذهاب الإيمان من ~~قلبه. # وقد روي عن أبي جحيفة، قال: قال علي: إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد: ~~الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه ~~المعروف، وينكر قلبه المنكر، نكس فجعل أعلاه أسفله (5) . # وسمع ابن مسعود رجلا يقول: هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، ~~فقال PageV03P950 # ابن مسعود: هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر (1) ، يشير إلى أن ~~معرفة # المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هلك. # وأما الإنكار باللسان واليد، فإنما يجب بحسب الطاقة، وقال ابن مسعود: ~~يوشك من عاش منكم أن يري منكرا لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قلبه أنه ~~له كاره (2) . وفي " سنن أبي داود " (3) عن العرس بن عميرة، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال # ((إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها، فكرهها كمن غاب عنها، ومن ~~غاب عنها، فرضيها، كان كمن شهدها)) ، فمن شهد الخطيئة، فكرهها بقلبه، كان ~~كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان ~~كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح ~~المحرمات، ويفوت ms448 به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن ~~أحد في حال من الأحوال. # وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((من حضر معصية فكرهها، فكأنه غاب عنها، ومن غاب PageV03P951 # عنها، فأحبها، فكأنه # حضرها)) (1) وهذا مثل الذي قبله. # فتبين بهذا أن الإنكار بالقلب فرض على كل مسلم في كل حال، وأما الإنكار ~~باليد واللسان فبحسب القدرة، كما في حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ~~عن # النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم ~~يقدرون على أن # يغيروا، فلا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) خرجه أبو داود بهذا # اللفظ (2) ، # وقال: قال شعبة فيه: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أكثر ممن يعمله)) ~~. # وخرج أيضا (3) من حديث جرير: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ~~((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون أن يغيروا عليه، فلا ~~يغيرون، إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا)) . # وخرجه الإمام أحمد (4) ، ولفظه: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز ~~وأكثر ممن يعمله، فلم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب)) . # وخرج أيضا (5) من حديث عدي بن عميرة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - يقول: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر ~~بين PageV03P952 # ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك، عذب ~~الله الخاصة والعامة)) . # وخرج أيضا هو (1) وابن ماجه (2) من حديث أبي سعيد الخدري، قال: سمعت ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، ~~حتى يقول: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره، فإذا لقن الله عبدا حجته، ~~قال: يا رب، رجوتك، وفرقت الناس)) . # فأما ما خرجه الترمذي (3) ، وابن ماجه (4) من حديث أبي سعيد أيضا، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته: ((ألا لا يمنعن رجلا هيبة ~~الناس أن يقول بحق إذا # علمه)) ، وبكى أبو سعيد، وقال: قد والله ms449 رأينا أشياء فهبنا. وخرجه الإمام # أحمد (5) ، وزاد فيه: ((فإنه لا يقرب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يقال ~~بحق أو يذكر بعظيم)) . # وكذلك خرج الإمام أحمد (6) وابن ماجه (7) من حديث أبي سعيد، عن النبي # - صلى الله PageV03P953 # عليه وسلم -، قال: ((لا يحقر أحدكم نفسه)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف ~~يحقر أحدنا نفسه؟ قال: ((يرى أمر لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول ~~الله له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، ~~فيقول الله: إياي كنت أحق أن تخشى)) . # فهذان الحديثان محمولان على أن يكون المانع له من الإنكار مجرد الهيبة، ~~دون الخوف المسقط للإنكار. # قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: آمر السلطان بالمعروف وأنهاه عن ~~المنكر؟ قال: إن خفت أن يقتلك، فلا، ثم عدت، فقال لي مثل ذلك، ثم عدت، فقال ~~لي مثل ذلك، وقال: إن كنت لابد فاعلا، ففيما بينك وبينه (1) . # وقال طاووس: أتى رجل ابن عباس، فقال: ألا أقوم إلى هذا السلطان فآمره ~~وأنهاه؟ قال: لا تكن له فتنة، قال: أفرأيت إن أمرني بمعصية الله؟ قال: ذلك ~~الذي تريد، فكن حينئذ رجلا (2) . وقد ذكرنا حديث ابن مسعود الذي فيه: # ((يخلف من بعدهم خلوف، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمن)) (3) ... الحديث، وهذا ~~يدل على جهاد الأمراء باليد. وقد استنكر الإمام أحمد هذا الحديث في رواية ~~أبي داود (4) ، وقال: هو خلاف الأحاديث التي أمر رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - فيها بالصبر على جور الأئمة. وقد يجاب عن ذلك: بأن التغيير باليد لا ~~يستلزم القتال. وقد نص على ذلك أحمد أيضا في رواية صالح، فقال: التغيير ~~باليد ليس بالسيف والسلاح، وحينئذ فجهاد الأمراء باليد أن يزيل بيده ما ~~فعلوه من المنكرات، مثل أن يريق خمورهم أو يكسر آلات الملاهي التي لهم، ~~ونحو ذلك، أو يبطل بيده ما أمروا به من الظلم إن كان له قدرة على ذلك، ~~PageV03P954 # وكل هذا جائز، وليس هو من باب قتالهم، ولا من الخروج عليهم الذي ورد ~~النهي عنه ms450، فإن هذا أكثر ما يخشى منه أن يقتل الآمر وحده. # وأما الخروج عليهم بالسيف، فيخشى منه الفتن التي تؤدي إلى سفك دماء ~~المسلمين. نعم، إن خشي في الإقدام على الإنكار على الملوك أن يؤذي أهله أو ~~جيرانه، لم ينبغ له التعرض لهم حينئذ، لما فيه من تعدي الأذى إلى غيره، ~~كذلك قال الفضيل بن عياض وغيره، ومع هذا، فمتى خاف منهم على نفسه السيف، أو ~~السوط، أو الحبس، أو القيد، أو النفي، أو أخذ المال، أو نحو ذلك من الأذى، ~~سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك، منهم: مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم. # قال أحمد: لا يتعرض للسلطان، فإن سيفه مسلول. # وقال ابن شبرمة: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر كالجهاد، يجب على ~~الواحد أن يصابر فيه الاثنين، ويحرم عليه الفرار منهما، ولا يجب عليهم ~~مصابرة أكثر من ذلك. # فإن خاف السب، أو سماع الكلام السيء، لم يسقط عنه الإنكار بذلك نص عليه ~~الإمام أحمد، وإن احتمل الأذى، وقوي عليه، فهو أفضل، نص عليه أحمد أيضا، ~~وقيل له: أليس قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((ليس ~~للمؤمن أن يذل نفسه)) أن يعرضها من البلاء لما لا طاقة له به، قال: ليس هذا ~~من ذلك. # PageV03P955 # ويدل على ما قاله ما خرجه أبو داود (1) وابن ماجه (2) والترمذي (3) من ~~حديث أبي سعيد # عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان ~~جائر)) . # وخرج ابن ماجه (4) معناه من حديث أبي أمامة. # وفي " مسند البزار " (5) بإسناد فيه جهالة، عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: ~~قلت: يا رسول الله، أي الشهداء أكرم على الله؟ قال: ((رجل قام إلى إمام ~~جائر، فأمره بمعروف، ونهاه عن المنكر فقتله)) . PageV03P956 # وقد روي معناه من وجوه أخر كلها فيها ضعف (1) . # وأما حديث: ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه)) (2) ، فإنما يدل على أنه إذا ~~علم أنه لا يطيق الأذى، ولا يصبر عليه، فإنه لا يتعرض حينئذ للآمر، وهذا ~~حق، وإنما الكلام فيمن علم من نفسه ms451 الصبر، كذلك قاله الأئمة، كسفيان وأحمد، ~~والفضيل بن عياض وغيرهم. # وقد روي عن أحمد ما يدل على الاكتفاء بالإنكار بالقلب، قال في رواية أبي ~~داود: نحن نرجو إن أنكر بقلبه، فقد سلم، وإن أنكر بيده، فهو أفضل، وهذا ~~محمول على أنه يخاف كما صرح بذلك في رواية غير واحد. وقد حكى القاضي أبو ~~يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه، ~~وصحح القول بوجوبه، وهو قول أكثر العلماء. وقد قيل لبعض السلف في هذا، ~~فقال: يكون لك معذرة، وهذا كما أخبر الله تعالى عن الذين أنكروا على ~~المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: {لم تعظون قوما الله مهلكهم أو ~~معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون} (3) ، وقد ورد ما ~~يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، ففي ~~PageV03P957 # " سنن أبي داود " (1) وابن ماجه (2) والترمذي (3) عن أبي ثعلبة الخشني ~~أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: {عليكم أنفسكم} (4) ، فقال: أما والله ~~لقد سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((بل ائتمروا ~~بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا ~~مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام)) . # وفي " سنن أبي داود " (5) عن عبد الله بن عمرو، قال: بينما نحن حول رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ ذكر الفتنة، فقال: ((إذا رأيتم الناس مرجت ~~عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا)) وشبك بين أصابعه، فقمت إليه، فقلت: ~~كيف أفعل عند ذلك، جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملك عليك # لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر ~~العامة)) . # وكذلك روي عن طائفة من الصحابة في قوله تعالى: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ~~PageV03P958 # ضل إذا اهتديتم} ، قالوا: لم يأت تأويلها بعد، إنما تأويلها في آخر ~~الزمان (1) . # وعن ابن مسعود، قال: إذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق ~~بعضكم بأس بعض، فيأمر الإنسان حينئذ ms452 نفسه، حينئذ تأويل هذه الآية (2) . # وعن ابن عمر، قال: هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل ~~منهم (3) . # وقال جبير بن نفير عن جماعة من الصحابة، قالوا: إذا رأيت شحا مطاعا وهوى ~~متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت (4) ~~. # وعن مكحول، قال: لم يأت تأويلها بعد، إذا هاب الواعظ، وأنكر الموعوظ، ~~فعليك حينئذ بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت (5) . # وعن الحسن: أنه كان إذا تلا هذه الآية، قال: يا لها من ثقة ما أوثقها! ~~ومن سعة ما أوسعها! (6) # وهذا كله قد يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف، أو خاف الضرر، سقط ~~عنه، وكلام ابن عمر يدل على أن من علم أنه لا يقبل منه، لم يجب عليه، كما ~~حكي رواية عن أحمد (7) ، وكذا قال الأوزاعي: مر من ترى (8) أن يقبل منك. # وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي ينكر بقلبه: ((وذلك أضعف الإيمان)) ~~يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الإيمان، ويدل على أن ~~من قدر على خصلة من خصال الإيمان وفعلها، كان أفضل ممن تركها عجزا عنها، ~~ويدل على ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - في حق النساء: ((أما نقصان ~~دينها، فإنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي)) (9) يشير إلى أيام الحيض، مع ~~أنها ممنوعة من الصلاة حينئذ، وقد جعل ذلك نقصا في دينها، فدل على أن من ~~قدر على واجب PageV03P959 # وفعله، فهو أفضل ممن عجز عنه وتركه، وإن كان معذورا في تركه، والله أعلم. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكرا)) يدل على أن الإنكار ~~متعلق بالرؤية، فلو كان مستورا فلم يره، ولكن علم به، فالمنصوص عن أحمد في ~~أكثر الروايات أنه لا يعرض له، وأنه لا يفتش على ما استراب به (1) ، وعنه ~~رواية أخرى أنه يكشف المغطى إذا تحققه، ولو سمع صوت غناء محرم أو آلات ~~الملاهي، وعلم المكان التي هي فيه، فإنه ينكرها، لأنه قد تحقق المنكر، وعلم ~~موضعه ms453، فهو كما رآه، نص عليه أحمد، وقال: إذا لم يعلم مكانه، فلا شيء عليه. # وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر، فقد أنكره الأئمة مثل ~~سفيان الثوري وغيره، وهو داخل في التجسس المنهي عنه، وقد قيل لابن مسعود: ~~إن فلانا تقطر لحيته خمرا، فقال: نهانا الله عن التجسس (2) . # وقال القاضي أبو يعلى في كتاب " الأحكام السلطانية ": إن كان في المنكر ~~الذي PageV03P960 # غلب على ظنه الاستسرار به بإخبار ثقة عنه انتهاك حرمة يفوت استدراكها ~~كالزنى والقتل، جاز التجسس والإقدام على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا ~~يستدرك من انتهاك المحارم، وإن كان دون ذلك في الرتبة، لم يجز التجسس عليه، ~~ولا الكشف عنه. # والمنكر الذي يجب إنكاره: ما كان مجمعا عليه، فأما المختلف فيه، فمن # أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه، أو مقلدا لمجتهد ~~تقليدا سائغا. # واستثنى القاضي في ((الأحكام السلطانية)) ما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة ~~إلى محظور متفق عليه، كربا النقد الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة إلى ربا ~~النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، فإنه ذريعة إلى الزنى. وذكر عن ~~أبي إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنى صراحا. # وعن ابن بطة أنه قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إذا كان قد تأول # فيه تأويلا، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثا في لفظ # واحد، وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود، وعلى فاعله العقوبة ~~والنكال. # والمنصوص عن أحمد: الإنكار على اللاعب بالشطرنج، وتأوله القاضي على من ~~لعب بها بغير اجتهاد، أو تقليد سائغ، وفيه نظر، فإن المنصوص عنه أنه يحد ~~شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار، مع أنه لا يفسق ~~بذلك عنده، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه، لدلالة السنة ~~على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك، والله أعلم. وكذلك نص ~~أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود ms454 (1) ~~، مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك. # واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل عليه رجاء ثوابه، ~~وتارة خوف العقاب في تركه، PageV03P961 # وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه، وتارة النصيحة للمؤمنين، والرحمة ~~لهم، ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في ~~الدنيا والآخرة، وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته، وأنه أهل أن ~~يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وأن يفتدى من انتهاك ~~محارمه بالنفوس والأموال، كما قال بعض السلف: وددت أن الخلق كلهم أطاعوا ~~الله، وإن لحمي قرض بالمقاريض (1) . وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - ~~رحمهما الله - يقول لأبيه: وددت أني غلت بي وبك القدور في الله - عز وجل - ~~(2) . # ومن لحظ هذا المقام والذي قبله، هان عليه كل ما يلقى من الأذى في الله ~~تعالى، وربما دعا لمن آذاه، كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ~~ضربه قومه فجعل يمسح الدم # عن وجهه، ويقول: ((رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) (3) . PageV03P962 # وبكل حال يتعين الرفق في الإنكار، قال سفيان الثوري: لا يأمر بالمعروف ~~وينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، ~~عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى (1) . # وقال أحمد: الناس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا ~~رجل معلن بالفسق، فلا حرمة له، قال: وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم ~~يرون منهم ما يكرهون، يقولون: مهلا رحمكم الله، مهلا رحمكم الله. # وقال أحمد: يأمر بالرفق والخضوع، فإن أسمعوه ما يكره، لا يغضب، فيكون ~~يريد ينتصر لنفسه. PageV03P963 ### | الحديث الخامس والثلاثون # عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم ~~على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا ~~يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا)) ، - ويشير إلى صدره ثلاث مرات ~~- ((بحسب امرئ من ms455 الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: ~~دمه وماله وعرضه)) . رواه مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (1) من رواية أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن ~~كريز عن أبي هريرة، وأبو سعيد هذا لا يعرف اسمه، وقد روى عنه غير واحد، ~~وذكره ابن حبان في " ثقاته " (2) ، وقال ابن المديني: هو مجهول. # وروى هذا الحديث سفيان الثوري، فقال فيه: عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، ~~ووهم في قوله: ((سعيد بن يسار)) ، إنما هو: أبو سعيد مولى ابن كريز، قاله ~~أحمد ويحيى والدارقطني (3) ، وقد روي بعضه من وجه آخر (4) . # وخرجه الترمذي (5) من رواية أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، ~~كل المسلم على المسلم حرام: عرضه وماله ودمه، التقوى هاهنا، PageV03P965 # بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) . # وخرج أبو داود (1) من قوله: ((كل المسلم)) إلى آخره. # وخرجاه في " الصحيحين " (2) من رواية الأعرج عن أبي هريرة عن النبي # - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا ~~تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)) . # وخرجاه من وجوه أخر عن أبي هريرة (3) . PageV03P966 # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث واثلة بن الأسقع، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، المسلم أخو المسلم، لا ~~يظلمه ولا يخذله، والتقوى هاهنا - وأومأ بيده إلى القلب - وحسب امرئ من ~~الشر أن يحقر أخاه المسلم)) . # وخرج أبو داود آخره فقط (2) . # وفي " الصحيحين " (3) # من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((المسلم أخو ~~المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه)) . وخرجه الإمام أحمد (4) ، ولفظه: ((المسلم ~~أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، وبحسب المرئ من الشر أن يحقر ~~أخاه المسلم)) . PageV03P967 # وفي " الصحيحين " (1) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)) . # ويروى معناه من حديث أبي بكر الصديق مرفوعا (2) وموقوفا (3) . # فقوله ms456 - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تحاسدوا)) يعني: لا يحسد بعضكم بعضا، ~~والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يكره أن يفوقه أحد من جنسه في ~~شيء من الفضائل. # ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام، فمنهم من يسعى في زوال نعمة المحسود ~~بالبغي عليه بالقول والفعل، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من # يسعى في إزالته عن المحسود فقط من غير نقل إلى نفسه، وهو شرهما وأخبثهما، ~~وهذا هو الحسد المذموم المنهي عنه، وهو كان ذنب إبليس حيث حسد آدم - عليه ~~السلام - لما رآه قد فاق على PageV03P968 # الملائكة بأن خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، ~~وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها، ويروى عن ~~ابن عمر أن إبليس قال لنوح: اثنتان بهما أهلك بني آدم: الحسد، وبالحسد لعنت ~~وجعلت شيطانا رجيما، والحرص وبالحرص أبيح آدم الجنة كلها، فأصبت حاجتي منه ~~بالحرص. خرجه ابن أبي الدنيا. # وقد وصف الله اليهود بالحسد في مواضع من كتابه القرآن، كقوله تعالى: # {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند ~~أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} (1) ، وقوله: {أم يحسدون الناس على ما ~~آتاهم الله من فضله} (2) . # وخرج الإمام أحمد (3) والترمذي (4) من حديث الزبير بن العوام، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، ~~والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده لا ~~تؤمنوا حتى تحابوا، أولا # أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) . # وخرج أبو داود (5) # من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: PageV03P969 # ((إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال: ~~العشب)) . # وخرج الحاكم (1) وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: # ((سيصيب أمتي داء الأمم)) ، قالوا: يا نبي الله، وما داء الأمم؟ قال: ~~((الأشر والبطر، والتكاثر والتنافس في الدنيا ms457، والتباغض، والتحاسد حتى يكون ~~البغي ثم الهرج)) . # وقسم آخر من الناس إذا حسد غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغ على ~~المحسود بقول ولا فعل. وقد روي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك (2) ، وروي ~~مرفوعا من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين: # أحدهما: أن لا يمكنه إزالة الحسد من نفسه، فيكون مغلوبا على ذلك، فلا ~~يأثم به. # والثاني: من يحدث نفسه بذلك اختيارا، ويعيده ويبديه في نفسه مستروحا إلى ~~تمني زوال نعمة أخيه، فهذا شبيه بالعزم المصمم على المعصية، PageV03P970 # وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء، وربما يذكر في موضع آخر إن شاء ~~الله تعالى، لكن هذا يبعد أن يسلم من البغي على المحسود، ولو بالقول، فيأثم ~~بذلك. # وقسم آخر إذا حسد لم يتمن زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل ~~فضائله، ويتمنى أن يكون مثله، فإن كانت الفضائل دنيوية، فلا خير في ذلك، ~~كما قال الذين يريدون الحياة الدنيا: {يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون} (1) ، ~~وإن كانت فضائل دينية، فهو حسن، وقد تمنى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~الشهادة في سبيل الله - عز وجل -. وفي " الصحيحين " (2) عنه - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: PageV03P971 # رجل آتاه الله # مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله القرآن، فهو ~~يقوم به آناء الليل وآناء النهار)) ، وهذا هو الغبطة، وسماه حسدا من باب ~~الاستعارة. # وقسم آخر إذا وجد من نفسه الحسد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود ~~بإسداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد له في ~~نفسه من الحسد حتى يبدله بمحبة أن يكون أخوه المسلم خيرا منه وأفضل، وهذا ~~من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يحب لأخيه ما يحب # لنفسه، وقد سبق الكلام على هذا في تفسير حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب ~~لأخيه ما يحب لنفسه)) (1) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تناجشوا)) : فسره كثير من العلماء ~~بالنجش (2) في البيع، وهو: أن يزيد في السلعة من ms458 لا يريد شراءها (3) ، إما ~~لنفع البائع بزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه، وفي " ~~الصحيحين " (4) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ~~النجش. PageV03P972 # وقال ابن أبي أوفى: الناجش: آكل ربا خائن، ذكره البخاري (1) . # قال ابن عبد البر: أجمعوا أن فاعله عاص لله - عز وجل - إذا كان بالنهي ~~عالما (2) . # واختلفوا في البيع، فمنهم من قال: إنه فاسد، وهو رواية عن أحمد (3) ، ~~اختارها طائفة من أصحابه، ومنهم من قال: إن كان الناجش هو البائع، أو من ~~واطأه البائع على النجش فسد؛ لأن النهي هنا يعود إلى العاقد نفسه، وإن لم ~~يكن كذلك، لم يفسد، لأنه يعود إلى أجنبي. وكذا حكي عن الشافعي أنه علل صحة ~~البيع بأن البائع غير الناجش (4) ، وأكثر الفقهاء على أن البيع صحيح مطلقا ~~وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية عنه، إلا أن مالكا وأحمد ~~أثبتا للمشتري الخيار إذا لم يعلم بالحال (5) ، وغبن غبنا فاحشا يخرج عن ~~العادة، PageV03P973 # وقدره مالك وبعض أصحاب أحمد بثلث الثمن، فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ، ~~فله ذلك، وإن أراد الإمساك، فإنه يحط ما غبن به من الثمن، ذكره أصحابنا. # ويحتمل أن يفسر التناجش المنهي عنه في هذا الحديث بما هو أعم من ذلك، فإن ~~أصل النجش في اللغة: إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة، ومنه سمي ~~الناجش في البيع ناجشا، ويسمى الصائد في اللغة ناجشا (1) ، لأنه يثير الصيد ~~بحيلته عليه، وخداعه له، وحينئذ، فيكون المعنى: لا تتخادعوا، ولا يعامل ~~بعضكم بعضا بالمكر والاحتيال. وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصال الأذى إلى ~~المسلم: إما بطريق الأصالة، وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصول الضرر ~~إليه، ودخوله عليه، وقد قال الله - عز وجل -: {ولا يحيق المكر السيئ إلا ~~بأهله} (2) . وفي حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من ~~غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار)) (3) . PageV03P974 # وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي بكر الصديق المرفوع: ((ملعون من ضار مسلما ~~أو مكر به)) خرجه الترمذي (1) . # فيدخل على هذا ms459 التقدير في التناجش المنهي عنه جميع أنواع المعاملات بالغش # ونحوه، كتدليس العيوب، وكتمانها، وغش المبيع الجيد بالرديء، وغبن ~~المسترسل PageV03P975 # الذي لا يعرف المماكسة، وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفار والمنافقين ~~بالمكر بالأنبياء وأتباعهم، وما أحسن قول أبي العتاهية: # ليس دنيا إلا بدين ولي ... س الدين إلا مكارم الأخلاق # إنما المكر والخديعة في النار ... هما من خصال أهل النفاق # وإنما يجوز المكر بمن يجوز إدخال الأذى عليه، وهم الكفار المحاربون، كما ~~قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحرب خدعة)) (1) . PageV03P976 # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا تباغضوا)) : نهى المسلمين عن ~~التباغض بينهم في غير الله، بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله ~~إخوة، والإخوة يتحابون بينهم، ولا يتباغضون، وقال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى ~~تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلمتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) ~~خرجه مسلم (1) . وقد ذكرنا فيما تقدم أحاديث في النهي عن التباغض والتحاسد. # وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال: # {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ~~ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (2) . # وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى: {واذكروا نعمت الله ~~عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} (3) ، وقال: ~~{هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض ~~جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} (4) . # ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ~~ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب الله في الإصلاح بينهم، كما قال ~~تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف # أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا # عظيما} (5) ، وقال: {وإن طائفتان من PageV03P977 # المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} (1) ، وقال: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات ~~بينكم} (2) . # وخرج الإمام أحمد (3) وأبو داود (4) والترمذي (5) من حديث أبي ms460 الدرداء، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة ~~والصيام والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((صلاح ذات البين؛ فإن ~~فساد ذات البين هي الحالقة)) . # وخرج الإمام أحمد (6) وغيره من حديث أسماء بنت يزيد، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((ألا أنبئكم بشراركم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ~~((المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرءاء العنت)) . # وأما البغض في الله، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلا في النهي، ولو ~~ظهر لرجل من أخيه شر، فأبغضه عليه، وكان الرجل معذورا فيه في نفس الأمر، ~~أثيب المبغض له، وإن عذر أخوه، كما قال عمر: إنا كنا نعرفكم إذ رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من ~~أخباركم ألا وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انطلق به، وانقطع ~~الوحي، فإنما نعرفكم بما نخبركم، ألا من أظهر منكم لنا خيرا ظننا به خيرا، ~~وأحببناه عليه، ومن أظهر منكم شرا، ظننا به شرا، وأبغضناه عليه، سرائركم ~~بينكم وبين ربكم - عز وجل -)) (7) . PageV03P978 # وقال الربيع بن خثيم: لو رأيت رجلا يظهر خيرا، ويسر شرا، أحببته عليه، ~~آجرك الله على حبك الخير، ولو رأيت رجلا يظهر شرا، ويسر خيرا أبغضته عليه، ~~آجرك الله على بغضك الشر. # ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك ~~تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر ~~معذورا، وقد لا يكون معذورا، بل يكون متبعا لهواه، مقصرا في البحث عن معرفة ~~ما يبغض عليه، فإن كثيرا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا ~~يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعا، وإن أريد أنه لا يقول إلا الحق فيما ~~خولف فيه، فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى، ~~أو الإلف، أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على ~~المؤمن أن ينصح نفسه، ويتحرز في ms461 هذا غاية التحرز، وما أشكل # منه، فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهي عنه من البغض المحرم. # وهاهنا أمر خفي ينبغي التفطن له، وهو أن كثيرا من أئمة الدين قد يقول ~~قولا مرجوحا ويكون مجتهدا فيه، مأجورا على اجتهاده فيه، موضوعا عنه خطؤه ~~فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ~~ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث أنه لو قاله غيره من أئمة ~~الدين، لما قبله ولا انتصر له، ولا والى من وافقه، ولا عادى من خالفه، وهو ~~مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما ~~كان قصده الانتصار للحق، وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع، فقد شاب ~~انتصاره لما يظنه الحق إرادة علو متبوعه، وظهور # PageV03P979 # كلمته، وأن لا ينسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق، ~~فافهم هذا، فإنه فهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. # وقوله: ((ولا تدابروا)) قال أبو عبيد: التدابر: المصارمة والهجران، مأخوذ ~~من أن يولي الرجل صاحبه دبره (1) ، ويعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع. # وخرج مسلم (2) من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا ~~تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم ~~الله)) . وخرجه (3) أيضا بمعناه من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -. # وفي " الصحيحين " (4) عن أبي أيوب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيصد هذا، ويصد هذا، ~~وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) . # وخرج أبو داود (5) من حديث أبي خراش السلمي، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال # : ((من هجر أخاه سنة، فهو كسفك دمه)) . # وكل هذا في التقاطع للأمور الدنيوية، PageV03P980 # فأما لأجل الدين، فتجوز الزيادة على الثلاث (1) ، نص عليه الإمام أحمد، ~~واستدل بقصة الثلاثة الذين خلفوا، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~بهجرانهم لما خاف منهم النفاق، وأباح هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى ~~الأهواء، وذكر ms462 الخطابي أن هجران الوالد لولده، والزوج لزوجته، وما كان في ~~معنى ذلك تأديبا تجوز الزيادة فيه على الثلاث؛ لأن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - هجر نساءه شهرا (2) . # واختلفوا: هل ينقطع الهجران بالسلام؟ فقالت طائفة: ينقطع بذلك، وروي عن ~~الحسن ومالك في رواية ابن وهب (3) ، وقاله طائفة من أصحابنا، وخرج أبو داود ~~(4) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل ~~لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث، فليلقه، فليسلم عليه، فإن ~~رد عليه السلام، فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه، فقد باء بالإثم، ~~وخرج المسلم من الهجرة)) . ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخر من الرد عليه، ~~فأما مع الرد إذا كان بينهما قبل الهجرة مودة، ولم يعودا إليها، ففيه نظر. ~~وقد قال أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن السلام: يقطع الهجران؟ فقال: قد ~~PageV03P981 # يسلم عليه وقد صد عنه (1) ، ثم # قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا)) ~~، فإذا كان قد عوده أن يكلمه أو يصافحه. وكذلك روي عن مالك أنه لا تنقطع ~~الهجرة بدون العود إلى المودة (2) . # وفرق بعضهم بين الأقارب والأجانب، فقال في الأجانب: تزول # الهجرة بينهم بمجرد السلام، بخلاف الأقارب، وإنما قال هذا لوجوب صلة # الرحم. # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) قد تكاثر ~~النهي عن ذلك، ففي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)) ~~. وفي رواية لمسلم (4) : ((لا يسم المسلم على سوم المسلم، ولا يخطب على ~~خطبته)) . وخرجاه (5) من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا PageV03P982 # يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له)) . ~~ولفظه لمسلم. # وخرج مسلم (1) من حديث عقبة بن عامر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب ~~على ms463 خطبة أخيه، حتى يذر)) . # وهذا يدل على أن هذا حق للمسلم على المسلم، فلا يساويه الكافر في ذلك، بل ~~يجوز للمسلم أن يبتاع على بيع الكافر، ويخطب على خطبته، وهو قول الأوزاعي ~~(2) وأحمد، كما لا يثبت للكافر على المسلم حق الشفعة عنده، وكثير من ~~الفقهاء ذهبوا إلى أن النهي عام في حق المسلم والكافر. # واختلفوا: هل النهي للتحريم، أو للتنزيه، فمن أصحابنا من قال: هو للتنزيه ~~دون التحريم، والصحيح الذي عليه جمهور العلماء: أنه للتحريم. # واختلفوا: هل يصح البيع على بيع أخيه، أو النكاح على خطبته؟ فقال أبو ~~حنيفة والشافعي (3) وأكثر أصحابنا: يصح، وقال مالك في النكاح: إنه إن لم ~~يدخل بها، فرق بينهما، وإن دخل بها لم يفرق (4) . وقال أبو بكر من أصحابنا ~~في البيع والنكاح: إنه باطل بكل حال، وحكاه عن أحمد. # ومعنى البيع على بيع أخيه: أن يكون قد باع منه شيئا، فيبذل للمشتري سلعته ~~ليشتريها، ويفسخ بيع الأول. PageV03P983 # وهل يختص ذلك بما إذا كان البذل في مدة الخيار، بحيث يتمكن المشتري من ~~الفسخ فيه، أم هو عام في مدة الخيار وبعدها؟ فيه اختلاف بين العلماء، قد ~~حكاه الإمام أحمد في رواية حرب، ومال إلى القول بأنه عام في الحالين، وهو ~~قول طائفة من أصحابنا. ومنهم من خصه بما إذا كان ذلك في مدة الخيار، وهو ~~ظاهر كلام أحمد في رواية ابن مشيش، ومنصوص الشافعي (1) ، والأول أظهر، لأن ~~المشتري وإن لم يتمكن من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار فإنه إذا رغب ~~في رد السلعة الأولى على بائعها، فإنه يتسبب في ردها عليه بأنواع من الطرق ~~المقتضية لضرره، ولو بالإلحاح عليه في المسألة، وما أدى إلى ضرر المسلم، ~~كان محرما، والله أعلم. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكونوا عباد الله إخوانا)) : هذا ذكره ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتعليل لما تقدم، وفيه إشارة إلى أنهم إذا ~~تركوا التحاسد، والتناجش، والتباغض (2) ، # والتدابر، وبيع بعضهم على بيع بعض، كانوا إخوانا. # وفيه أمر باكتساب ما يصير المسلمون به إخوانا على ms464 الإطلاق، وذلك يدخل فيه ~~أداء حقوق المسلم على المسلم من رد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، ~~وتشييع الجنازة، وإجابة الدعوة، والابتداء بالسلام عند اللقاء، والنصح ~~بالغيب. # وفي " الترمذي " (3) # عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تهادوا، ~~PageV03P984 # فإن الهدية تذهب وحر الصدر)) . وخرجه غيره (1) ، ولفظه: ((تهادوا ~~تحابوا)) . PageV03P985 # وفي " مسند البزار " (1) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((تهادوا، فإن الهدية تسل السخيمة)) . # ويروى عن عمر بن عبد العزيز - يرفع الحديث - قال: ((تصافحوا، فإنه يذهب ~~الشحناء، وتهادوا)) (2) . # وقال الحسن: المصافحة تزيد في الود (3) . # وقال مجاهد (4) : بلغني أنه إذا تراءى المتحابان، فضحك أحدهما إلى الآخر، # وتصافحا، تحاتت خطاياهما كما يتحات الورق من الشجر، فقيل له: إن هذا ~~ليسير من العمل، قال: تقول يسير والله يقول: {لو أنفقت ما في الأرض جميعا ~~ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (5) . # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا ~~يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره)) . هذا مأخوذ من قوله - عز وجل -: {إنما ~~المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} (6) ، فإذا كان المؤمنون إخوة، أمروا ~~فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب واجتماعها، ونهوا عما يوجب تنافر القلوب ~~واختلافها، وهذا من ذلك. # وأيضا، فإن الأخ من شأنه أن يوصل إلى أخيه النفع، ويكف عنه الضرر، ومن ~~PageV03P986 # أعظم الضر الذي يجب كفه عن الأخ المسلم الظلم، وهذا لا يختص بالمسلم، بل ~~هو محرم في حق كل أحد، وقد سبق الكلام على الظلم مستوفى عند ذكر حديث أبي ~~ذر الإلهي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا ~~تظالموا)) (1) . # ومن ذلك: خذلان المسلم لأخيه، فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه، # كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما)) ، قال: ~~يا رسول الله، أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: ((تمنعه عن الظلم، ~~فذلك نصرك # إياه)) . خرجه البخاري (2) بمعناه من حديث أنس، وخرجه مسلم (3) بمعناه من ~~حديث جابر. # وخرج أبو داود (4) # من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر ms465 بن عبد الله، عن النبي PageV03P987 # - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلما في موضع ~~تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه ~~نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من ~~حرمته، إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته)) . # وخرج الإمام أحمد (1) من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((من أذل عنده مؤمن، فلم ينصره وهو يقدر على أن ~~ينصره، أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة)) . # وخرج البزار (2) من حديث عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره، نصره الله في الدنيا ~~والآخرة)) . # ومن ذلك: كذب المسلم لأخيه، فلا يحل له أن يحدثه فيكذبه، بل لا يحدثه إلا ~~صدقا، وفي " مسند الإمام أحمد " (3) عن النواس بن سمعان، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت ~~به # كاذب)) . PageV03P988 # ومن ذلك: احتقار المسلم لأخيه المسلم، وهو ناشئ عن الكبر، كما قال النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) خرجه مسلم (1) من ~~حديث ابن مسعود، وخرجه الإمام أحمد (2) ، وفي رواية له: ((الكبر سفه الحق، ~~وازدراء الناس)) ، وفي رواية: ((وغمص الناس)) (3) ، وفي رواية زيادة: ((فلا ~~يراهم # شيئا)) PageV03P989 # وغمص الناس: الطعن عليهم وازدراؤهم (1) ، وقال الله - عز وجل -: {يا أيها ~~الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء ~~عسى أن يكن خيرا منهن} (2) ، فالمتكبر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى ~~غيره بعين النقص، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلا لأن يقوم بحقوقهم، ولا ~~أن يقبل من أحد منهم الحق إذا أورده عليه. # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((التقوى هاهنا)) يشير إلى صدره ثلاث ~~مرات: فيه إشارة إلى أن كرم الخلق عند الله بالتقوى، فرب من يحقره الناس ~~لضعفه، وقلة حظه من ms466 الدنيا، وهو أعظم قدرا عند الله تعالى ممن له قدر في ~~الدنيا، فإن الناس إنما يتفاوتون بحسب التقوى، كما قال الله تعالى: {إن ~~أكرمكم عند الله أتقاكم} (3) ، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أكرم ~~الناس؟ قال: ((أتقاهم لله - عز وجل -)) (4) . PageV03P990 # وفي حديث آخر: ((الكرم التقوى)) (1) ، والتقوى أصلها في القلب، كما قال ~~تعالى: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (2) . وقد سبق ذكر هذا ~~المعنى في الكلام على حديث أبي ذر الإلهي عند قوله: ((لو أن أولكم وآخركم ~~وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا)) ~~(3) . # وإذا كان أصل التقوى في القلوب، فلا يطلع أحد على حقيقتها إلا الله - عز ~~وجل -، كما PageV03P991 # قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ~~ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (1) وحينئذ، فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة، ~~أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدنيا، قلبه خرابا من التقوى، ويكون من ليس ~~له شيء من ذلك قلبه مملوءا من التقوى، فيكون أكرم عند الله تعالى، بل ذلك ~~هو الأكثر وقوعا، كما في " الصحيحين " (2) عن حارثة بن وهب، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف متضعف، لو أقسم ~~على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار: كل عتل جواظ مستكبر)) . ~~PageV03P992 # وفي " المسند " (1) عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أما ~~أهل الجنة، فكل ضعيف متضعف، أشعث، ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره؛ وأما ~~أهل النار، فكل جعظري جواظ جماع، مناع، ذي تبع)) . # وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، ~~وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم، فقال الله للجنة: أنت ~~رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء ~~من عبادي)) . # وخرجه الإمام أحمد (3) من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال ms467: ((افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: يا رب، يدخلني الجبابرة ~~والمتكبرون والملوك # والأشراف، وقالت الجنة: يا رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين)) وذكر ~~الحديث. PageV03P993 # وفي " صحيح البخاري " (1) عن سهل بن سعد، قال: مر رجل على # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لرجل عنده جالس: ((ما رأيك في ~~هذا؟)) فقال رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن ~~يشفع، وإن # قال أن يسمع لقوله، قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم مر رجل ~~آخر، فقال له # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما رأيك في هذا؟)) قال: يا رسول ~~الله، هذا رجل من # فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، # وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا خير ~~من ملء الأرض مثل # هذا)) . # وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها ~~كاذبة خافضة رافعة} (2) ، قال: تخفض رجالا كانوا في الدنيا # مرتفعين، وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين. PageV03P994 # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) ~~يعني: يكفيه من الشر احتقار أخيه المسلم، فإنه إنما يحتقر أخاه المسلم ~~لتكبره عليه، والكبر من أعظم خصال الشر، وفي " صحيح مسلم " (1) عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من ~~كبر)) . # وفيه أيضا (2) عنه أنه قال: ((العز إزاره والكبر (3) ردائه، فمن نازعني ~~عذبته)) فمنازعته الله تعالى صفاته التي لا تليق بالمخلوق، كفى بها شرا. # وفي " صحيح ابن حبان " (4) عن فضالة بن عبيد، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((ثلاثة لا يسأل عنهم: رجل ينازع الله إزاره، ورجل ينازع الله رداءه، فإن ~~رداءه الكبرياء، وإزاره العز، ورجل في شك من أمر الله تعالى والقنوط من ~~رحمة الله)) . # وفي " صحيح مسلم " (5) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم (6)) ) قال مالك ms468: إذا قال ذلك تحزنا ~~لما يرى في الناس، يعني في دينهم فلا أرى به بأسا، PageV03P995 # وإذا قال ذلك عجبا بنفسه، وتصاغرا للناس، فهو المكروه الذي نهي عنه. ذكره ~~أبو داود في " سننه " (1) . # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله ~~وعرضه)) هذا مما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب به في المجامع ~~العظيمة، فإنه خطب به في حجة الوداع يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم الثاني من ~~أيام التشريق، وقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة ~~يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) (2) وفي رواية للبخاري (3) وغيره: ~~((وأبشاركم)) . # وفي رواية: فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه، فقال: ((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل ~~PageV03P996 # بلغت؟)) . # وفي رواية: ثم قال: ((ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) (1) . # وفي رواية للبخاري (2) : ((فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم ~~إلا بحقها)) . # وفي رواية (3) : ((دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، مثل هذا اليوم، ~~وهذا البلد إلى يوم القيامة، حتى دفعة يدفعها مسلم مسلما يريد بها سوءا ~~حرام)) . # وفي رواية (4) قال: ((المؤمن حرام على المؤمن، كحرمة هذا اليوم لحمه عليه ~~حرام أن يأكله ويغتابه بالغيب، وعرضه عليه حرام أن يخرقه، ووجهه عليه حرام ~~أن يلطمه، ودمه عليه حرام أن يسفكه، وحرام عليه أن يدفعه دفعة تعنته)) . # وفي " سنن أبي داود " (5) عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسيرون مع النبي # - صلى الله عليه وسلم -، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، ~~فأخذها ففزع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لمسلم أن يروع ~~مسلما)) . # وخرج أحمد (6) وأبو داود (7) والترمذي (8) # عن السائب بن يزيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، PageV03P997 # قال: ((لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبا جادا، فمن أخذ عصا أخيه، فليردها ~~إليه)) . قال أبو عبيد: يعني أن يأخذ شيئا لا يريد سرقته، إنما يريد إدخال ~~الغيظ عليه، فهو لاعب في مذهب السرقة، جاد في إدخال الأذى والروع عليه (1) ~~. # وفي " الصحيحين " (2) عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إذا كنتم # ثلاثة، فلا ms469 يتناجى (3) اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه)) ولفظه لمسلم. # وخرج الطبراني (4) من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى ~~المؤمن)) . # وخرج الإمام أحمد (5) من حديث ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: PageV03P998 # ((لا تؤذوا عباد الله، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإن من طلب عورة ~~أخيه المسلم، طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته)) . # وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ~~عن الغيبة، فقال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، قال: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ ~~فقال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد ~~بهته)) . # فتضمنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحل إيصال الأذى إليه بوجه من ~~الوجوه من قول أو فعل بغير حق، وقد قال الله تعالى: {والذين يؤذون المؤمنين ~~والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} (2) . # وإنما جعل الله المؤمنين إخوة ليتعاطفوا ويتراحموا، وفي " الصحيحين " (3) ~~عن النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((مثل المؤمنين ~~في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكي منه عضو، تداعى له سائر ~~الجسد بالحمى والسهر)) . # وفي رواية لمسلم (4) : ((المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه تداعى له ~~سائر الجسد بالحمى والسهر)) . # وفي رواية له أيضا (5) : PageV03P999 # ((المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى ~~كله)) . # وفيهما (1) عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((المؤمن ~~للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا)) . # وخرج أبو داود (2) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكف عنه ضيعته، ويحوطه من ~~ورائه)) . وخرجه الترمذي (3) ، ولفظه: ((إن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به ~~أذى، فليمطه عنه)) . # قال رجل لعمر بن عبد العزيز: اجعل كبير المسلمين عندك أبا، وصغيرهم ابنا، ~~وأوسطهم أخا، فأي أولئك تحب أن تسيء إليه (4) ؟ ومن كلام يحيى بن ms470 معاذ ~~الرازي: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه، فلا تضره، وإن لم تفرحه، ~~فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه. PageV03P1000 ### | الحديث السادس والثلاثون # عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم ~~القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر ~~مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في ~~عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، ~~وما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا ~~نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن ~~عنده، ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم. # هذا الحديث خرجه مسلم (1) من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ~~واعترض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه، منهم أبو الفضل الهروي ~~والدارقطني (2) ، فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش (3) ؛ # قال: حدثت عن أبي صالح، فتبين أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح ولم يذكر ~~من حدثه به عنه، ورجح الترمذي (4) وغيره هذه الرواية، PageV03P1001 # وزاد بعض أصحاب الأعمش في متن # الحديث: ((ومن أقال مسلما أقال الله عثرته # PageV03P1002 # يوم القيامة)) (1) . # وخرجا في " الصحيحين " (2) من حديث ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه، كان ~~الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ~~ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة)) . # وخرج الطبراني (3) من حديث كعب بن عجرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال: ((من نفس عن مؤمن كربة من كربه، نفس الله عنه كربة من كرب يوم ~~القيامة، ومن ستر على مؤمن عورته، ستر الله عورته، ومن فرج عن مؤمن كربة، ~~فرج الله عنه كربته)) . # وخرج الإمام ms471 أحمد (4) من حديث مسلمة بن مخلد (5) ، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: # ((من ستر مسلما في الدنيا، ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نجى مكروبا، ~~فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في # حاجته)) . # فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس ~~الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) PageV03P1003 # هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى، ~~كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) (1) ، ~~وقوله: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا)) (2) . # والكربة: هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أن يخفف ~~عنه منها، مأخوذ من تنفيس الخناق، كأنه يرخى له الخناق حتى يأخذ نفسا، ~~والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة، فتنفرج عنه كربته، ويزول ~~همه وغمه، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، PageV03P1004 # كما في حديث ابن عمر، وقد جمع بينهما في حديث كعب بن عجرة. # وخرج الترمذي (1) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: ((أيما مؤمن أطعم ~~مؤمنا على جوع، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى ~~مؤمنا على ظمأ، سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم (2) ، وأيما مؤمن ~~كسا مؤمنا على عري، كساه الله من خضر الجنة)) . وخرجه الإمام أحمد (3) ~~بالشك في رفعه، وقيل: إن الصحيح وقفه (4) . # وروى ابن أبي الدنيا (5) بإسناده عن ابن مسعود قال: ((يحشر الناس يوم ~~القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأنصب ما ~~كانوا قط، فمن كسا لله - عز وجل -، كساه الله، ومن أطعم لله - عز وجل -، ~~أطعمه الله، ومن سقى لله - عز وجل -، سقاه الله، ومن عفى لله - عز وجل -، ~~أعفاه الله)) . # وخرج البيهقي (6) من حديث أنس مرفوعا: ((أن رجلا من أهل الجنة يشرف يوم ~~القيامة على أهل النار، فيناديه رجل من أهل النار، يا فلان، هل تعرفني؟ ~~فيقول: لا والله ما أعرفك، من ms472 أنت؟ فيقول: أنا الذي مررت بي في دار الدنيا، ~~فاستسقيتني شربة من ماء، فسقيتك، قال: قد عرفت، قال: فاشفع لي بها عند ربك، ~~قال: فيسأل الله - عز وجل -، ويقول: شفعني فيه، فيأمر به، فيخرجه من ~~النار)) . # وقوله: ((كربة من كرب يوم القيامة)) ، ولم يقل: ((من كرب الدنيا ~~والآخرة)) كما قيل في التيسير والستر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إن الكرب هي ~~الشدائد العظيمة، وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا، بخلاف الإعسار ~~والعورات المحتاجة إلى الستر، فإن PageV03P1005 # أحدا لا يكاد يخلو في الدنيا من ذلك، ولو بتعسر بعض الحاجات المهمة. ~~وقيل: لأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء، فادخر الله جزاء ~~تنفيس الكرب عنده، لينفس به كرب الآخرة، ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، ~~وينفذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ~~ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من ~~يشفع لكم إلى ربكم؟)) ، وذكر حديث الشفاعة، خرجاه (1) بمعناه من حديث أبي ~~هريرة. # وخرجا (2) من حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((تحشرون ~~حفاة عراة غرلا)) ، قالت: فقلت: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم ~~إلى بعض؟ قال: ((الأمر أشد من أن يهمهم ذلك)) . # وخرجا (3) من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ~~{يوم يقوم الناس لرب العالمين} (4) ، قال: ((يقوم أحدهم في الرشح إلى أنصاف ~~أذنيه)) . PageV03P1006 # وخرجا (1) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((يعرق الناس يوم # القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)) ~~ولفظه للبخاري، ولفظ مسلم: ((إن العرق ليذهب في الأرض سبعين باعا، وإنه ~~ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم)) . # وخرج مسلم (2) من حديث المقداد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين، فتصهرهم الشمس، فيكونون ~~في ms473 العرق كقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ~~ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما)) . # وقال ابن مسعود: الأرض كلها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها ترى ~~أكوابها وكواعبها، فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قدر قامة، ثم يرتفع ~~حتى يبلغ أنفه، PageV03P1007 # وما مسه الحساب، قال: فمم ذاك يا أبا عبد الرحمان؟ قال: مما يرى الناس ~~يصنع بهم (1) . # وقال أبو موسى: الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، فأعمالهم تظلهم أو ~~تضحيهم (2) . # وفي " المسند " (3) من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: ((كل امرئ في ظل صدقته ~~حتى يفصل بين الناس)) . # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في ~~الدنيا والآخرة)) . هذا أيضا يدل على أن الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد ~~وصف الله يوم القيامة بأنه يوم عسير وأنه على الكافرين غير يسير، فدل على ~~أنه يسير على غيرهم، وقال: # {وكان يوما على الكافرين عسيرا} (4) . # والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إما ~~بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجب، كما قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة ~~إلى ميسرة} (5) ، وتارة بالوضع عنه إن كان غريما، وإلا فبإعطائه ما يزول به ~~إعساره، وكلاهما له فضل عظيم. # وفي " الصحيحين " (6) # عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كان تاجر يداين ~~الناس، فإذا رأى معسرا، قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، ~~PageV03P1008 # فتجاوز الله عنه)) . # وفيهما عن (1) حذيفة وأبي مسعود الأنصاري سمعا النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يقول: ((مات رجل فقيل له (2) ، فقال: كنت أبايع الناس، فأتجاوز عن ~~الموسر، وأخفف عن المعسر)) وفي رواية، قال: كنت أنظر المعسر، وأتجوز في ~~السكة، أو قال: في النقد، فغفر له)) . وخرجه مسلم (3) من حديث أبي مسعود عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي حديثه: ((فقال الله: نحن أحق بذلك منه، ~~تجاوزوا عنه)) . # وخرج أيضا (4) من حديث أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((من سره أن ms474 ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر، أو يضع عنه)) ~~. # وخرج أيضا (5) من حديث أبي اليسر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((من أنظر معسرا، أو وضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) . # وفي " المسند " (6) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((من أراد أن تستجاب دعوته، وتكشف كربته، فليفرج عن معسر)) . PageV03P1009 # وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا ~~والآخرة)) . هذا مما تكاثرت النصوص بمعناه. وخرج ابن ماجه (1) من حديث ابن ~~عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من ستر عورة أخيه المسلم، ~~ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى ~~يفضحه بها في بيته)) . # وخرج الإمام أحمد (2) من حديث عقبة بن عامر سمع النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، يقول: # ((من ستر مؤمنا في الدنيا على عورة، ستره الله - عز وجل - يوم القيامة)) ~~. PageV03P1010 # وقد روي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قوما لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب ~~الناس، فذكر الناس لهم عيوبا، وأدركت أقواما كانت لهم عيوب، # فكفوا عن عيوب الناس، فنسيت عيوبهم (1) ، أو كما قال. # وشاهد هذا حديث أبي برزة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: ~~((يا معشر من آمن # بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا ~~عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، ~~يفضحه في بيته)) خرجه الإمام أحمد وأبو داود (2) ، وخرج الترمذي (3) معناه ~~من حديث ابن عمر. # واعلم أن الناس على ضربين: # أحدهما: من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو ~~PageV03P1011 # زلة، فإنه لا يجوز كشفها، ولا هتكها، ولا التحدث بها، لأن ذلك غيبة ~~محرمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص، وفي ذلك قد قال الله تعالى: # {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا ~~والآخرة} (1) . والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر ms475 فيما وقع منه، ~~أو اتهم به وهو بريء منه، كما في قصة الإفك. قال بعض الوزراء الصالحين لبعض ~~من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل ~~الإسلام، وأولى الأمور ستر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائبا نادما، وأقر بحد، ~~ولم يفسره، لم يستفسر، بل يؤمر بأن يرجع ويستر نفسه، كما أمر النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - ماعزا والغامدية (2) ، وكما لم يستفسر الذي قال: ((أصبت ~~حدا، فأقمه علي)) (3) . ومثل هذا لو أخذ بجريمته، ولم يبلغ الإمام، فإنه ~~يشفع له حتى لا يبلغ الإمام. وفي مثله جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)) . خرجه أبو داود والنسائي من حديث ~~عائشة (4) . # والثاني: من كان مشتهرا بالمعاصي، معلنا بها لا يبالي بما ارتكب منها، ~~ولا بما قيل له فهذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة، كما نص على ذلك الحسن ~~البصري (5) وغيره، PageV03P1012 # ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لتقام عليه الحدود. صرح بذلك بعض ~~أصحابنا، واستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((واغد يا أنيس على ~~امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها)) (1) . ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ، ولو ~~لم يبلغ السلطان، بل يترك حتى يقام عليه الحد لينكف شره، ويرتدع به أمثاله. ~~قال # مالك: من لم يعرف منه أذى للناس، وإنما كانت منه زلة، فلا بأس أن يشفع له ~~ما لم يبلغ الإمام، وأما من عرف بشر أو فساد، فلا أحب أن يشفع له أحد، ولكن ~~يترك حتى يقام عليه الحد، حكاه ابن المنذر وغيره (2) . # وكره الإمام أحمد رفع الفساق إلى السلطان بكل حال، وإنما كرهه؛ لأنهم ~~غالبا لا يقيمون الحدود على وجهها، ولهذا قال: إن علمت أنه يقيم عليه الحد ~~فارفعه، ثم ذكر أنهم ضربوا رجلا، فمات: يعني لم يكن قتله جائزا. # ولو تاب أحد من الضرب الأول، كان الأفضل له أن يتوب فيما بينه وبين الله ~~تعالى، ويستر على نفسه. PageV03P1013 # وأما الضرب الثاني، فقيل: إنه كذلك، وقيل: بل الأولى له ms476 أن يأتي الإمام، ~~ويقر على نفسه بما يوجب الحد حتى يطهره. # قوله: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) وفي حديث ابن ~~عمر: ((ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته)) . وقد سبق في # شرح الحديث الخامس والعشرين والسادس والعشرين فضل قضاء الحوائج والسعي ~~فيها. وخرج الطبراني (1) من حديث عمر مرفوعا: ((أفضل الأعمال إدخال السرور ~~على المؤمن: كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له # حاجة)) . # وبعث الحسن البصري قوما من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مروا ~~بثابت البناني، فخذوه معكم، فأتوا ثابتا، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى ~~الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك ~~المسلم خير لك من حجة بعد حجة؟ فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه، وذهب # معهم (2) . # وخرج الإمام أحمد (3) من حديث ابنة لخباب بن الأرت (4) ، قالت: خرج خباب ~~في سرية، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعاهدنا حتى يحلب عنزة لنا في ~~جفنة لنا، فتمتلئ حتى تفيض، فلما قدم خباب حلبها، فعاد حلابها إلى ما كان. # وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف، ~~قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا ~~يغيرني ما PageV03P1014 # دخلت فيه عن شيء كنت أفعله، أو كما قال (1) . # وإنما كانوا يقومون بالحلاب؛ لأن العرب كانت لا تحلب النساء منهم، وكانوا ~~يستقبحون ذلك، فكان الرجال إذا غابوا، احتاج النساء إلى من يحلب لهن. وقد ~~روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لقوم (2) : ((لا تسقوني حلب ~~امرأة)) (3) . # وكان عمر يتعاهد الأرامل فيستقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل ~~بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارا، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما ~~يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما ~~يصلحني، ويخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك طلحة، عثرات عمر تتبع؟ (4) # وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهم كل يوم، فيشتري لهن ms477 حوائجهن ~~وما يصلحهن. # وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني (5) . # وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم. وصحب رجل ~~قوما في الجهاد، فاشترط عليهم أن يخدمهم، فكان إذا أراد أحد منهم أن يغسل ~~رأسه أو ثوبه، قال: هذا من شرطي، فيفعله، فمات فجردوه للغسل، فرأوا على يده ~~مكتوبا: من أهل الجنة، فنظروا، فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم. # وفي " الصحيحين " (6) عن أنس، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~في السفر، # فمنا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا ~~صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام، وقام المفطرون، ~~وضربوا الأبنية، وسقوا الركاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) . PageV03P1015 # ويروى عن رجل من أسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بطعام في بعض ~~أسفاره، فأكل منه وأكل أصحابه، وقبض الأسلمي يده، فقال له رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((مالك؟)) فقال: إني صائم، قال: ((فما حملك على ذلك؟)) ~~قال: معي ابناي يرحلان لي ويخدماني، فقال: ((مازال لهم الفضل عليك بعد)) ~~(1) . # وفي " مراسيل أبي داود " (2) عن أبي قلابة أن ناسا من أصحاب رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - قدموا يثنون على صاحب لهم خيرا، قالوا: ما رأينا مثل ~~فلان قط، ما كان في مسير إلا كان في قراءة، ولا نزلنا منزلا إلا كان في ~~صلاة، قال: ((فمن كان يكفيه ضيعته (3) ؟)) حتى ذكر: ((ومن كان يعلف جمله أو ~~دابته؟)) قالوا: نحن، قال: ((فكلكم خير منه)) . # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله ~~له به طريقا إلى # الجنة)) ، وقد روى هذا المعنى أيضا أبو الدرداء عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - (4) ، وسلوك الطريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي، ~~وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطرق المعنوية ~~المؤدية إلى حصول العلم، مثل حفظه، ودارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، ~~والتفهم له، ونحو ذلك من الطرق ms478 المعنوية التي يتوصل بها إلى العلم. # وقوله: ((سهل الله له به طريقا إلى الجنة)) ، قد يراد بذلك أن الله يسهل ~~له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريق موصل إلى ~~الجنة، PageV03P1016 # وهذا كقوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (1) . وقال بعض ~~السلف (2) : هل من طالب علم فيعان عليه؟ # وقد يراد أيضا: أن الله ييسر لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله ~~الانتفاع به والعمل بمقتضاه، فيكون سببا لهدايته ولدخول الجنة بذلك. # وقد ييسر الله لطالب العلم علوما أخر ينتفع بها، وتكون موصلة إلى الجنة، ~~كما قيل: من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم (3) ، وكما قيل: ثواب ~~الحسنة الحسنة بعدها (4) ، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {ويزيد الله الذين ~~اهتدوا هدى} (5) ، وقوله: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} (6) . # وقد يدخل في ذلك أيضا تسهيل طريق الجنة الحسي يوم القيامة - وهو الصراط - ~~وما قبله وما بعده من الأهوال، فييسر ذلك على طالب العلم للانتفاع # به، فإن العلم يدل على الله من أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقه، ولم يعرج ~~عنه، وصل إلى الله تعالى وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها فسهلت عليه ~~الطرق الموصلة إلى الجنة كلها في الدنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة الله، ~~وإلى الوصول إلى رضوانه، والفوز بقربه، ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم ~~النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدى ~~في ظلمات الجهل # والشبه والشكوك، ولهذا سمى الله كتابه نورا؛ لأنه يهتدى به في الظلمات. ~~قال # الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع ~~رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط # مستقيم} (7) . # ومثل النبي - صلى الله عليه وسلم - حملة العلم الذي جاء به بالنجوم التي ~~يهتدى بها في الظلمات، PageV03P1017 # ففي " المسند " (1) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن ~~مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات ms479 البر ~~والبحر، فإذا انطمست النجوم، أوشك أن تضل الهداة)) . # وما دام العلم باقيا في الأرض، فالناس في هدى، وبقاء العلم بقاء # حملته، فإذا ذهب حملته ومن يقوم به، وقع الناس في الضلال، كما في # " الصحيحين " (2) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إن الله لا # يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا ~~لم يبق (3) عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا # وأضلوا)) . # وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما رفع العلم، فقيل له: كيف يذهب ~~العلم وقد # قرأنا القرآن، وأقرأناه نساءنا وأبناءنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((هذه التوراة والإنجيل # عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟)) فسئل عبادة بن الصامت عن # هذا الحديث، فقال: لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الناس # الخشوع (4) ، وإنما قال عبادة هذا، لأن العلم قسمان: # أحدهما: ما كان ثمرته في قلب الإنسان، وهو العلم بالله تعالى، وأسمائه، # وصفاته، وأفعاله المقتضي لخشيته، ومهابته، وإجلاله، والخضوع له، ولمحبته، # ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، ونحو ذلك، فهذا هو العلم النافع، كما قال ~~ابن مسعود: إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع ~~PageV03P1018 # في القلب، فرسخ فيه، نفع (1) . # وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللسان، فذاك حجة الله على ابن آدم، ~~وعلم في القلب، فذاك العلم النافع (2) . # والقسم الثاني: العلم الذي على اللسان، وهو حجة الله كما في الحديث: # ((القرآن حجة لك أو عليك)) (3) ، فأول ما يرفع من العلم، العلم النافع، ~~وهو العلم الباطن الذي يخالط القلوب ويصلحها، ويبقى علم اللسان حجة، ~~فيتهاون الناس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حملته ولا غيرهم، ثم يذهب هذا ~~العلم بذهاب حملته، فلا يبقى إلا القرآن في المصاحف، وليس ثم من يعلم ~~معانيه، ولا حدوده، ولا أحكامه، ثم يسرى به في آخر الزمان، فلا يبقى في ~~المصاحف ولا في القلوب منه شيء بالكلية، وبعد ذلك تقوم الساعة، كما قال - ~~صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقوم الساعة إلا على ms480 شرار الناس)) (4) ، وقال: ~~((لا تقوم الساعة (5) وفي الأرض أحد يقول: الله # الله)) (6) . # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون ~~كتاب الله، ويتدارسونه PageV03P1019 # بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم ~~الله فيمن عنده)) (1) . هذا يدل على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة ~~القرآن ومدارسته. وهذا إن حمل على تعلم القرآن وتعليمه، فلا خلاف في ~~استحبابه، وفي " صحيح البخاري " (2) عن عثمان، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: # ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) . قال أبو عبد الرحمان السلمي: فذاك الذي ~~أقعدني مقعدي هذا، وكان قد علم القرآن في زمن عثمان بن عفان حتى بلغ الحجاج ~~بن يوسف. # وإن حمل على ما هو أعم من ذلك، دخل فيه الاجتماع في المساجد على دراسة ~~القرآن مطلقا، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يأمر من يقرأ ~~القرآن ليستمع قراءته، كما أمر ابن مسعود أن يقرأ عليه، وقال: ((إني أحب أن ~~أسمعه من غيري)) (3) وكان عمر يأمر من يقرأ عليه وعلى أصحابه وهم يسمعون، ~~فتارة يأمر أبا موسى، وتارة يأمر عقبة بن عامر. # وسئل ابن عباس: أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله، وما جلس قوم في بيت من ~~بيوت الله يتعاطون فيه كتاب الله فيما بينهم ويتدارسونه، إلا أظلتهم ~~الملائكة بأجنحتها، وكانوا أضياف الله ما داموا على ذلك حتى يفيضوا في حديث ~~غيره (4) . وروي مرفوعا والموقوف أصح. # وروى يزيد الرقاشي عن أنس قال: كانوا إذا صلوا الغداة، قعدوا حلقا حلقا، ~~PageV03P1020 # يقرؤون القرآن، ويتعلمون الفرائض والسنن، ويذكرون الله - عز وجل - (1) . # وروى عطية عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((ما من قوم صلوا صلاة الغداة، ثم قعدوا في مصلاهم، يتعاطون كتاب الله، ~~ويتدارسونه، إلا وكل الله بهم ملائكة يستغفرون لهم حتى يخوضوا في حديث ~~غيره)) (2) وهذا يدل # على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لمدارسة القرآن، ولكن عطية فيه # ضعف (3) . # وقد روى حرب الكرماني بإسناده عن الأوزاعي أنه سئل عن الدراسة بعد صلاة ms481 ~~الصبح، فقال: أخبرني حسان بن عطية أن أول من أحدثها في مسجد دمشق هشام بن ~~إسماعيل المخزومي في خلافة عبد الملك بن مروان، فأخذ الناس بذلك. # وبإسناده عن سعيد بن عبد العزيز، وإبراهيم بن سليمان: أنهما كانا يدرسان ~~القرآن بعد صلاة الصبح ببيروت والأوزاعي في المسجد لا يغير عليهم. # وذكر حرب أنه رأى أهل دمشق، وأهل حمص، وأهل مكة، وأهل البصرة يجتمعون على ~~القراءة بعد صلاة الصبح، لكن أهل الشام يقرءون القرآن كلهم جملة من سورة ~~واحدة بأصوات عالية، وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون، فيقرأ أحدهم عشر آيات، ~~والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشرا، حتى يفرغوا. قال حرب: وكل ذلك حسن جميل. # وقد أنكر ذلك مالك على أهل الشام. قال زيد بن عبيد الدمشقي: قال لي مالك ~~بن أنس: بلغني أنكم تجلسون حلقا تقرؤون، فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا، ~~فقال مالك: عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا، قال: فقلت: هذا ~~طريف؟ قال: وطريف رجل يقرأ ويجتمع الناس حوله، فقال: هذا عن غير رأينا. # قال أبو مصعب وإسحاق بن محمد الفروي: سمعنا مالك بن أنس يقول: الاجتماع ~~بكرة بعد صلاة الفجر لقراءة القرآن بدعة، ما كان أصحاب رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -، ولا العلماء بعدهم على هذا، كانوا إذا صلوا يخلو كل ~~بنفسه، ويقرأ، PageV03P1021 # ويذكر الله - عز وجل -، ثم ينصرفون من غير أن يكلم بعضهم بعضا، اشتغالا ~~بذكر الله، فهذه كلها محدثة. # وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لم تكن القراءة في المسجد من أمر الناس ~~القديم، وأول من أحدث ذلك في المسجد الحجاج بن يوسف، قال مالك: وأنا أكره ~~ذلك الذي يقرأ في المسجد في المصحف. وقد روى هذا كله أبو بكر النيسابوري في ~~كتاب " مناقب مالك رحمه الله ". # واستدل الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجملة ~~بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذكر، والقرآن أفضل أنواع الذكر، ~~ففي " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إن لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل ms482 الذكر، فإذا وجدوا قوما ~~يذكرون الله - عز وجل -، تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى ~~السماء الدنيا، فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم -: ما يقول عبادي؟ قال: ~~يقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: ~~لا والله ما رأوك، فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك، كانوا أشد لك ~~عبادة، وأشد لك تمجيدا وتحميدا، وأكثر لك تسبيحا، فيقول: فما يسألوني؟ ~~قالوا: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب، ما ~~رأوها، فيقول: كيف لو أنهم رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها، كانوا أشد عليه ~~حرصا وأشد لها طلبا، وأشد فيها رغبة، قال: فمم يتعوذون؟ فيقولون: من النار، ~~قال: يقول: فهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها، فيقول: كيف لو ~~رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها، كانوا أشد منها فرارا، وأشد لها مخافة، ~~فيقول الله تعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فيهم ~~فلان ليس منهم، إنما جاء # لحاجته، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم)) . PageV03P1022 # وفي " صحيح مسلم " (1) عن معاوية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~خرج على حلقة من # أصحابه، فقال: ((ما يجلسكم)) ؟ قالوا: جلسنا نذكر الله - عز وجل -، ~~ونحمده لما هدانا للإسلام، ومن علينا به، فقال: ((آلله ما أجلسكم إلا ~~ذلك؟)) قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: ((أما أني لم أستحلفكم لتهمة ~~لكم، إنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة)) . # وخرج الحاكم (2) من حديث معاوية، قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- يوما، فدخل # المسجد، فإذا هو بقوم في المسجد قعود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((ما أقعدكم؟)) فقالوا: صلينا الصلاة المكتوبة، ثم قعدنا نتذاكر كتاب ~~الله - عز وجل - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقال # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله إذا ذكر شيئا تعاظم ذكره)) ~~. # وفي المعنى أحاديث أخر متعددة (3) . # وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن جزاء الذين يجلسون في بيت الله ~~يتدارسون كتاب الله أربعة # أشياء: # أحدها: تنزل السكينة عليهم ms483، وفي " الصحيحين " (4) عن البراء بن عازب، ~~قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف PageV03P1023 # وعنده فرس، فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما ~~أصبح، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال: ((تلك السكينة ~~تنزلت للقرآن)) . # وفيهما أيضا (1) عن أبي سعيد أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في # مربده (2) ، إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضا، فقال ~~أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى - يعني ابنه - قال: فقمت إليها، فإذا مثل الظلة ~~فوق رأسي فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، قال: فغدا على النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تلك ~~الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت، لأصبحت يراها الناس ما تستتر منهم)) ~~واللفظ لمسلم فيهما. PageV03P1024 # وروى ابن المبارك (1) ، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن سعد ~~ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في مجلس، فرفع بصره إلى ~~السماء، ثم طأطأ بصره، ثم رفعه، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ~~ذلك، فقال: ((إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله تعالى - يعني: أهل مجلس ~~أمامه - فنزلت عليهم السكينة تحملها الملائكة كالقبة، فلما دنت منهم تكلم ~~رجل منهم بباطل، فرفعت عنهم)) وهذا مرسل (2) . # والثاني: غشيان الرحمة، قال الله تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} ~~(3) . # وخرج الحاكم (4) من حديث سلمان أنه كان في عصابة يذكرون الله تعالى، # فمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ما كنتم تقولون؟ فإني ~~رأيت الرحمة تنزل عليكم، فأردت أن أشارككم فيها)) . # وخرج البزار (5) من حديث أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إن لله سيارة من الملائكة، يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم حفوا بهم، ~~ثم بعثوا رائدهم إلى السماء إلى رب العزة تبارك وتعالى فيقولون: ربنا أتينا ~~على عباد من عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألونك ~~لآخرتهم ودنياهم، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم برحمتي، فيقولون: ربنا، إن ms484 ~~فيهم فلانا الخطاء، إنما اعتنقهم اعتناقا، فيقول تعالى: غشوهم برحمتي، فهم ~~الجلساء لا يشقى بهم جليسهم. PageV03P1025 # والثالث: أن الملائكة تحف بهم، وهذا مذكور في هذه الأحاديث التي ذكرناها، ~~وفي حديث أبي هريرة المتقدم: ((فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء # الدنيا)) . وفي رواية للإمام أحمد (1) : ((علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا # العرش)) . # وقال خالد بن معدان (2) ، يرفع الحديث: ((إن لله ملائكة في الهواء، ~~يسيحون بين السماء والأرض، يلتمسون الذكر، فإذا سمعوا قوما يذكرون الله # تعالى، قالوا: رويدا زادكم الله، فينشرون أجنحتهم حولهم حتى يصعد كلامهم ~~إلى العرش)) . خرجه الخلال في كتاب " السنة ". # الرابع: أن الله يذكرهم فيمن عنده، وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقول الله - عز وجل -: أنا عند ظن ~~عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ~~ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) . PageV03P1026 # وهذه الخصال الأربع لكل مجتمعين على ذكر الله تعالى، كما في " صحيح مسلم ~~" (1) عن أبي هريرة وأبي سعيد، كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إن لأهل ذكر الله تعالى أربعا: تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، ~~وتحف بهم الملائكة، ويذكرهم الرب فيمن عنده)) . وقد قال الله تعالى: ~~{فاذكروني أذكركم} (2) وذكر الله لعبده: هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ~~ملائكته ومباهاتهم به وتنويهه بذكره. قال الربيع بن أنس: إن الله ذاكر من ~~ذكره، وزائد من شكره، ومعذب من كفره (3) ، وقال - عز وجل -: {يا أيها الذين ~~آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم ~~وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى # النور} (4) ، وصلاة الله على عبده: هي ثناؤه عليه بين ملائكته، وتنويهه ~~بذكره، كذا قال أبو العالية، ذكره البخاري في " صحيحه " (5) . PageV03P1027 # وقال رجل لأبي أمامة: رأيت في المنام كأن الملائكة تصلي عليك، كلما دخلت، ~~وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست، فقال أبو أمامة: وأنتم لو شئتم، صلت ~~عليكم الملائكة، ثم قرأ: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا ~~وسبحوه بكرة وأصيلا ms485 هو الذي يصلي عليكم وملائكته} خرجه # الحاكم (1) . # قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه)) : ~~معناه أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، كما قال تعالى: {ولكل ~~درجات مما # عملوا} (2) ، فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند الله ~~تعالى، لم يسرع به نسبه، فيبلغه تلك الدرجات، فإن الله تعالى رتب الجزاء ~~على الأعمال، لا على الأنساب، كما قال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب ~~بينهم يومئذ ولا يتساءلون} (3) ، وقد أمر الله تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ~~ورحمته بالأعمال، كما قال: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات ~~والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ} (4) ~~الآيتين، وقال: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم ~~يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم ~~إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (5) . # قال ابن مسعود: يأمر الله بالصراط، فيضرب على جهنم، فيمر الناس على قدر ~~أعمالهم زمرا زمرا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، ثم ~~كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيا، وحتى يمر الرجل مشيا، حتى يمر آخرهم ~~يتلبط على بطنه، فيقول: PageV03P1028 # يا رب، لم بطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك، إنما بطأ بك عملك (1) . # وفي " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - حين أنزل عليه: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (3) : ((يا معشر قريش، ~~اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب، لا ~~أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، ~~يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، ~~سليني ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا)) . وفي رواية خارج " الصحيحين ": ~~((إن أوليائي منكم المتقون لا يأتي الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا ~~تحملونها على رقابكم، فتقولون: يا محمد، فأقول: قد بلغت ms486)) (4) . # وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((إن أوليائي المتقون يوم القيامة، وإن كان نسب أقرب من نسب، يأتي ~~الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون: يا محمد، يا ~~محمد، فأقول هكذا # وهكذا)) وأعرض في كلا عطفيه (5) . PageV03P1029 # وخرج البزار (1) من حديث رفاعة بن رافع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال لعمر # : ((اجمع لي قومك يعني: قريشا، فجمعهم، فقال: ((إن أوليائي منكم # المتقون، فإن كنتم أولئك، فذاك، وإلا، فانظروا، لا يأتي الناس بالأعمال # يوم القيامة وتأتون بالأثقال، فيعرض عنكم)) . وخرجه الحاكم (2) مختصرا # وصححه. # وفي " المسند " (3) عن معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ~~بعثه إلى اليمن، خرج معه يوصيه، ثم التفت، فأقبل بوجهه إلى المدينة، فقال: ~~((إن أولى الناس بي المتقون من كانوا، وحيث كانوا)) . PageV03P1030 # وخرجه الطبراني، وزاد فيه: ((إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، ~~وليس كذلك، إن أوليائي منكم المتقون، من كانوا وحيث كانوا)) . # ويشهد لهذا كله ما في " الصحيحين " (1) عن عمرو بن العاص، أنه سمع النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما ~~وليي الله وصالح المؤمنين)) يشير إلى أن ولايته لا تنال بالنسب، وإن قرب، ~~وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيمانا وعملا، فهو أعظم ~~ولاية له، سواء كان له منه نسب قريب، أو لم يكن، وفي هذا المعنى يقول ~~بعضهم: # لعمرك ما الإنسان إلا بدينه ... فلا تترك التقوى اتكالا على النسب # لقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد وضع الشرك الشقي أبا لهب (2) ~~PageV03P1031 ### | الحديث السابع والثلاثون # عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ~~يروي عن ربه تبارك وتعالى قال: ((إن الله - عز وجل - كتب الحسنات والسيئات، ~~ثم بين ذلك، فمن هم # بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها، ~~كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم ms487 بسيئة، ~~فلم يعملها، كتبها عنده حسنة كاملة، وإن هم بها، فعملها كتبها الله سيئة ~~واحدة)) . رواه البخاري ومسلم. # هذا الحديث خرجاه (1) من رواية الجعد أبي عثمان: حدثنا أبو رجاء ~~العطاردي، عن ابن عباس. وفي رواية لمسلم (2) زيادة في آخر الحديث، وهي: # ((أو محاها الله، ولا يهلك على الله إلا هالك)) . # وفي هذا المعنى أحاديث متعددة، PageV03P1033 # فخرجا في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى ~~يعملها، فإن عملها، فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي، فاكتبوها له حسنة، ~~وإذا أراد أن يعمل حسنة، فلم يعملها، فاكتبوها له حسنة، فإن عملها، ~~فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف)) وهذا لفظ البخاري (1) ، وفي ~~رواية لمسلم (2) : # ((قال الله - عز وجل -: إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له ~~حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها، فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدث بأن ~~يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها، فأنا أكتبها له ~~بمثلها)) . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قالت الملائكة: رب ~~ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة - وهو أبصر به - قال: ارقبوه، فإن عملها، ~~فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها، فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي)) . ~~قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنة ~~يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها ~~حتى يلقى الله)) . # وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: PageV03P1034 # ((كل عمل ابن آدم يضاعف: الحسنة عشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، قال الله - ~~عز وجل -: إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه وشرابه من ~~أجلي)) ، وفي رواية بعد قوله: ((إلى سبع مئة ضعف)) : ((إلى ما يشاء الله)) ~~. # وفي " صحيح مسلم " (1) عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((يقول الله: من عمل حسنة، فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن ms488 عمل سيئة، فجزاؤها ~~مثلها أو أغفر)) . # وفيه أيضا (2) عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من هم ~~بحسنة، فلم يعملها، كتبت له حسنة، فإن عملها، كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة، ~~فلم يعملها لم يكتب عليه شيء، فإن عملها، كتبت عليه سيئة واحدة)) . # وفي " المسند " (3) عن خريم بن فاتك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((من هم # بحسنة، فلم يعملها، فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه، وحرص عليها، كتبت له ~~حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت له واحدة، ولم تضاعف ~~عليه، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة في سبيل الله، ~~كانت له بسبع مئة PageV03P1035 # ضعف)) . وفي المعنى أحاديث أخر متعددة. # فتضمنت هذه النصوص كتابة الحسنات، والسيئات، والهم بالحسنة والسيئة، فهذه ~~أربعة أنواع: # النوع الأول: عمل الحسنات، فتضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف ~~إلى أضعاف كثيرة، فمضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكل الحسنات، وقد دل ~~عليه قوله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (1) . # وأما زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء الله أن يضاعف له، فدل عليه قوله ~~تعالى: PageV03P1036 # {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل ~~سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} (1) ، فدلت هذه الآية ~~على أن النفقة في سبيل الله تضاعف بسبع مئة ضعف. # وفي " صحيح مسلم " (2) عن أبي مسعود، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: ~~يا رسول الله، هذه في سبيل الله، فقال: ((لك بها يوم القيامة سبع مئة # ناقة)) . # وفي " المسند " (3) بإسناد فيه نظر عن أبي عبيدة بن الجراح، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبع مئة، ~~ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضا، أو ماز أذى، فالحسنة بعشر ~~أمثالها)) . PageV03P1037 # وخرج أبو داود (1) من حديث سهل بن معاذ عن أبيه، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((إن الصلاة، والصيام، والذكر يضاعف على النفقة في ms489 سبيل ~~الله بسبع مئة # ضعف)) . # وروى ابن أبي حاتم (2) بإسناده عن الحسن، عن عمران بن حصين عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أرسل نفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، ~~فله بكل درهم سبع مئة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله، فله بكل درهم سبع ~~مئة ألف درهم)) ثم تلا هذه الآية: {والله يضاعف لمن يشاء} (3) . # وخرج ابن حبان في " صحيحه " (4) من حديث عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن ~~عمر، قال: لما نزلت هذه الآية: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ~~كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} (5) ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((رب زد أمتي)) ، فأنزل الله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ~~فيضاعفه له أضعافا # كثيرة} (6) ، فقال: ((رب زد أمتي)) ، فأنزل الله تعالى: {إنما يوفى ~~الصابرون أجرهم بغير حساب} (7) . # وخرج الإمام أحمد (8) من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن أبي عثمان النهدي، ~~عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله ليضاعف ~~الحسنة ألفي ألف حسنة)) PageV03P1038 # ثم تلا أبو هريرة: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} (1) . ~~وقال: ((إذا قال الله أجرا عظيما، فمن يقدر قدره؟)) وروي عن أبي هريرة ~~موقوفا (2) . # وخرج الترمذي (3) من حديث ابن عمر مرفوعا: ((من دخل السوق، فقال: لا إله ~~إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا ~~يموت، بيده الخير، وهو علي كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا ~~عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة)) . # ومن حديث تميم الداري (4) مرفوعا: ((من قال: أشهد أن لا إله إلا الله ~~وحده لا شريك له، إلها واحدا أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن ~~له كفوا أحد عشر مرات، كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة)) ، وفي كلا ~~الإسنادين ضعف. # وخرج الطبراني (5) بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا: ((من قال: سبحان الله، ~~كتب الله مئة ألف حسنة، وأربعة ms490 وعشرين ألف حسنة)) . # وقوله في حديث أبي هريرة: ((إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به)) (6) ~~PageV03P1039 # يدل على أن الصيام لا يعلم قدر مضاعفة ثوابه إلا الله - عز وجل - لأنه ~~أفضل أنواع الصبر، و {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (1) ، وقد روي ~~هذا المعنى عن طائفة من السلف، منهم كعب (2) # وغيره، وقد ذكرنا فيما سبق في شرح حديث: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا ~~يعنيه)) (3) أن مضاعفة الحسنات زيادة على العشر تكون بحسب حسن الإسلام، كما ~~جاء ذلك مصرحا به في حديث أبي هريرة وغيره، وتكون بحسب كمال الإخلاص، وبحسب ~~فضل ذلك العمل في نفسه، وبحسب الحاجة إليه. وذكرنا من حديث ابن عمر (4) أن ~~قوله: {من جاء # بالحسنة فله عشر أمثالها} (5) نزلت في الأعراب، وأن قوله: {وإن تك # حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} (6) نزلت في المهاجرين. # النوع الثاني: عمل السيئات، فتكتب السيئة بمثلها من غير مضاعفة، كما قال ~~تعالى: {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون} (7) . # وقوله: ((كتبت له سيئة واحدة)) إشارة إلى أنها غير مضاعفة، ما صرح به في ~~حديث آخر، لكن السيئة تعظم أحيانا بشرف الزمان، أو المكان، كما قال تعالى: ~~{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات ~~والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن # أنفسكم} (8) . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: {فلا ~~تظلموا فيهن أنفسكم} (9) : في كلهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن ~~حرما، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم (10) ~~. PageV03P1040 # وقال قتادة (1) في هذه الآية: اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم ~~خطيئة ووزرا فيما سوى ذلك، وإن كان الظلم في كل حال غير طائل، ولكن الله ~~تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا. # وقد روي في حديثين (2) مرفوعين أن السيئات تضاعف في رمضان، ولكن إسنادهما ~~لا يصح. # وقال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا ms491 فسوق ~~ولا جدال في الحج} (3) . قال ابن عمر (4) : الفسوق: ما أصيب من معاصي الله ~~صيدا كان أو غيره، وعنه قال: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم. # وقال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} (5) . # وكان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم، خشية ارتكاب الذنوب فيه منهم: ~~ابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك كان عمر بن # عبد العزيز يفعل، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: الخطيئة فيه أعظم ~~(6) . وروي عن عمر بن الخطاب، قال: لأن أخطئ سبعين خطيئة - يعني: بغير مكة ~~- أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة (7) . وعن مجاهد قال: تضاعف السيئات ~~بمكة كما تضاعف الحسنات (8) . وقال ابن جريج: بلغني أن الخطيئة بمكة بمئة ~~خطيئة، والحسنة على نحو ذلك. # وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: في شيء من الحديث أن السيئة # تكتب PageV03P1041 # بأكثر من واحدة؟ قال: لا، ما سمعنا إلا بمكة لتعظيم البلد ((ولو أن رجلا ~~بعدن أبين هم)) (1) . وقال إسحاق بن راهويه كما قال أحمد، وقوله: ولو أن ~~رجلا بعدن أبين هم هو من قول ابن مسعود، وسنذكره فيما بعد إن شاء الله ~~تعالى. # وقد تضاعف السيئات بشرف فاعلها، وقوة معرفته بالله، وقربه منه، فإن من ~~عصى السلطان على بساطه أعظم جرما (2) ممن عصاه على بعد، ولهذا توعد الله ~~خاصة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها، ليبين لهم ~~فضله عليهم بعصمتهم من ذلك، كما قال تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن ~~إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} (3) . # وقال تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ~~ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها ~~أجرها مرتين} (4) . وكان علي بن الحسين يتأول في آل النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - من بني هاشم مثل ذلك لقربهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -. # النوع الثالث: الهم بالحسنات، فتكتب حسنة كاملة، وإن لم يعملها، كما في ms492 ~~حديث ابن عباس وغيره، وفي حديث أبي هريرة الذي خرجه مسلم (5) كما تقدم: ~~((إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة)) ، والظاهر أن المراد ~~بالتحدث: حديث النفس، وهو الهم، PageV03P1042 # وفي حديث خريم بن فاتك: ((من هم بحسنة فلم يعملها)) فعلم الله أنه قد ~~أشعرها قلبه، وحرص عليها، كتبت له # حسنة، وهذا يدل على أن المراد بالهم هنا: هو العزم المصمم الذي يوجد معه ~~الحرص على العمل، لا مجرد الخطرة التي تخطر، ثم تنفسخ من غير عزم ولا ~~تصميم. # قال أبو الدرداء: من أتى فراشه، وهو ينوي أن يصلي من الليل، فغلبته عيناه ~~حتى يصبح، كتب له ما نوى. وروي عنه مرفوعا (1) ، # وخرجه ابن ماجه (2) مرفوعا. قال الدارقطني (3) : المحفوظ الموقوف، وروي ~~معناه من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) . # وروي عن سعيد بن المسيب، قال: من هم بصلاة، أو صيام، أو حج، أو عمرة، أو ~~غزو، فحيل بينه وبين ذلك، بلغه الله تعالى ما نوى. # وقال أبو عمران الجوني (5) : ينادى الملك: اكتب لفلان كذا وكذا، فيقول: ~~يا رب، إنه لم يعمله، فيقول: إنه نواه. # وقال زيد بن أسلم: كان رجل يطوف على العلماء، يقول: من يدلني على عمل لا ~~أزال منه لله عاملا، فإني لا أحب أن تأتي علي ساعة من الليل والنهار إلا ~~وأنا عامل لله تعالى، فقيل له: قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا ~~فترت، أو تركته فهم بعمله، فإن الهام بعمل الخير كفاعله. # ومتى اقترن بالنية قول أو سعي، تأكد الجزاء، والتحق صاحبه بالعامل، كما ~~روى أبو كبشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إنما الدنيا لأربعة ~~نفر: عبد رزقه الله مالا # وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه PageV03P1043 # حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو صادق ~~النية، يقول: لو أن لي مالا، لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، ~~وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم ms493، لا يتقي فيه ~~ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم ~~يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا، لعملت فيه بعمل فلان ~~فهو بنيته فوزرهما سواء)) خرجه الإمام أحمد والترمذى وهذا لفظه، وابن ماجه ~~(1) . # وقد حمل قوله: ((فهما في الأجر سواء)) على استوائهما في أصل أجر العمل، ~~دون مضاعفته، فالمضاعفة يختص بها من عمل العمل دون من نواه فلم يعمله، ~~فإنهما لو استويا من كل وجه، لكتب لمن هم بحسنة ولم يعملها عشر حسنات، وهو ~~خلاف النصوص كلها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فضل الله المجاهدين بأموالهم ~~وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على ~~القاعدين أجرا عظيما درجات منه} (2) . قال ابن عباس (3) # وغيره (4) : القاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجة هم القاعدون من أهل ~~الأعذار، والقاعدون المفضل عليهم المجاهدون درجات هم القاعدون من غير أهل ~~الأعذار. # النوع الرابع: الهم بالسيئات من غير عمل لها، ففي حديث ابن عباس: أنها ~~تكتب PageV03P1044 # حسنة كاملة، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما (1) : أنها تكتب حسنة، ~~وفي حديث أبي هريرة قال: ((إنما تركها من جراي)) يعني: من أجلي. وهذا يدل ~~على أن المراد من قدر على ما هم به من المعصية، فتركه لله تعالى، وهذا لا ~~ريب في أنه يكتب له بذلك حسنة؛ لأن تركه للمعصية بهذا المقصد عمل صالح. # فأما إن هم بمعصية، ثم ترك عملها خوفا من المخلوقين، أو مراءاة لهم، فقد ~~قيل: إنه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأن تقديم خوف المخلوقين على خوف ~~الله محرم. وكذلك قصد الرياء للمخلوقين محرم، فإذا اقترن به ترك المعصية ~~لأجله، عوقب على هذا الترك، وقد خرج أبو نعيم (2) بإسناد ضعيف عن ابن عباس، # قال: يا صاحب الذنب، لا تأمنن سوء عاقبته، ولما يتبع الذنب أعظم من # الذنب إذا عملته، وذكر كلاما، وقال: وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك ~~وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك، أعظم ms494 من الذنب إذا ~~عملته. # وقال الفضيل بن عياض: كانوا يقولون: ترك العمل للناس رياء، والعمل لهم ~~شرك (3) . # وأما إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثم حال بينه وبينها القدر، فقد ذكر ~~جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ~~تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو تعمل)) (4) PageV03P1045 # ومن سعى في حصول المعصية جهده، ثم عجز عنها، فقد عمل بها، وكذلك قول ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل ~~والمقتول في النار)) ، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟! ~~قال: ((إنه كان حريصا على قتل صاحبه)) (1) . PageV03P1046 # وقوله: ((ما لم تكلم به، أو تعمل)) يدل على أن الهام بالمعصية إذا تكلم ~~بما هم به بلسانه إنه يعاقب على الهم حينئذ؛ لأنه قد عمل بجوارحه معصية، ~~وهو التكلم باللسان، ويدل على ذلك حديث الذي قال: ((لو أن لي مالا، لعملت ~~فيه ما عمل فلان)) يعني: الذي يعصي الله في ماله، قال: ((فهما في الوزر ~~سواء)) (1) . # ومن المتأخرين من قال: لا يعاقب على التكلم بما هم به ما لم تكن المعصية ~~التي هم بها قولا محرما، كالقذف والغيبة والكذب؛ فأما ما كان متعلقها العمل ~~بالجوارح، فلا يأثم بمجرد التكلم ما هم به، وهذا قد يستدل به على حديث أبي ~~هريرة المتقدم: ((وإذا تحدث عبدي بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم # يعملها)) (2) . ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس، جمعا بينه وبين ~~قوله: ((ما لم تكلم به أو تعمل)) ، وحديث أبي كبشة يدل على ذلك صريحا، فإن ~~قول القائل بلسانه: ((لو أن لي مالا، لعملت فيه بالمعاصي، كما عمل فلان)) ~~(3) ، ليس هو العمل بالمعصية التي هم بها، وإنما أخبر عما هم به فقط مما ~~متعلقه إنفاق المال في المعاصي، وليس له مال بالكلية، وأيضا، فالكلام بذلك ~~محرم، فكيف يكون معفوا عنه، غير معاقب عليه؟ # وأما إن انفسخت نيته، وفترت عزيمته من غير سبب منه، فهل يعاقب على ما هم ~~به ms495 من المعصية، أم لا؟ هذا على قسمين: # أحدهما: أن يكون الهم بالمعصية خاطرا خطر، ولم يساكنه صاحبه، ولم يعقد ~~PageV03P1047 # قلبه عليه، بل كرهه، ونفر منه، فهذا معفو عنه، وهو كالوساوس الرديئة التي ~~سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: ((ذاك صريح الإيمان)) (1) . # ولما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ~~فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} (2) ، شق ذلك على المسلمين، وظنوا دخول هذه ~~الخواطر فيه، فنزلت الآية التي بعدها، وفيها قوله: {ربنا ولا تحملنا ما لا ~~طاقة لنا به} (3) ، فبينت أن ما لا طاقة لهم به، فهو غير مؤاخذ به، ولا ~~مكلف # به، وقد سمى ابن عباس (4) وغيره (5) ذلك نسخا، ومرادهم أن هذه الآية ~~أزالت الإيهام الواقع في النفوس من الآية الأولى، وبينت أن المراد بالآية ~~الأولى العزائم المصمم # عليها، ومثل هذا كان السلف يسمونه نسخا. # القسم الثاني: العزائم المصممة التي تقع في النفوس، وتدوم، ويساكنها ~~صاحبها، فهذا أيضا نوعان: # أحدهما: ما كان عملا مستقلا بنفسه من أعمال القلوب، كالشك في الوحدانية، ~~أو النبوة، أو البعث، أو غير ذلك من الكفر والنفاق، أو اعتقاد تكذيب ذلك، ~~فهذا كله يعاقب عليه العبد، ويصير بذلك كافرا ومنافقا. وقد روي عن ابن عباس ~~أنه حمل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} ~~(6) ، على مثل هذا (7) . وروي عنه حملها على كتمان الشهادة لقوله تعالى: ~~{ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (8) . PageV03P1048 # ويلحق بهذا القسم سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب، كمحبة ما يبغضه الله، # وبغض ما يحبه الله، والكبر، والعجب، والحسد، وسوء الظن بالمسلم من غير # موجب، مع أنه قد روي عن سفيان أنه قال في سوء الظن إذا لم يترتب عليه قول ~~أو فعل، فهو معفو عنه. وكذلك روي عن الحسن أنه قال في الحسد، ولعل هذا ~~محمول من قولهما على ما يجده الإنسان، ولا يمكنه دفعه، فهو يكرهه ويدفعه عن ~~نفسه، فلا يندفع إلا على ما يساكنه، ويستروح إليه، ويعيد حديث نفسه به ~~ويبديه ms496. # والنوع الثاني: ما لم يكن من أعمال القلوب، بل كان من أعمال الجوارح، ~~كالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، والقذف، ونحو ذلك، إذا أصر العبد على ~~إرادة ذلك، والعزم عليه، ولم يظهر له أثر في الخارج أصلا. فهذا في المؤاخذة ~~به قولان مشهوران للعلماء: # أحدهما: يؤاخذ به، قال ابن المبارك: سألت سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد # بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما أوخذ (1) . ورجح هذا القول كثير من الفقهاء ~~والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم، واستدلوا له بنحو قوله - عز وجل ~~-: # {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} (2) ، وقوله: {ولكن يؤاخذكم ~~بما كسبت قلوبكم} (3) ، وبنحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الإثم ~~ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس)) (4) ، وحملوا قوله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو ~~تعمل)) على الخطرات، وقالوا: ما ساكنه العبد، وعقد قلبه عليه، فهو من كسبه ~~وعمله، فلا يكون PageV03P1049 # معفوا عنه، ومن هؤلاء من قال: إنه يعاقب عليه في الدنيا بالهموم والغموم، ~~روي ذلك عن عائشة مرفوعا وموقوفا، وفي صحته نظر. # وقيل: بل يحاسب العبد به يوم القيامة، فيقفه الله عليه، ثم يعفو عنه، ولا ~~يعاقبه به، فتكون عقوبته المحاسبة، وهذا مروي عن ابن عباس، والربيع بن أنس، ~~وهو اختيار ابن جرير، واحتج له بحديث ابن عمر (1) # في النجوى، وذاك ليس فيه عموم، وأيضا، فإنه وارد في الذنوب المستورة في ~~الدنيا، لا في وساوس الصدور. # والقول الثاني: لا يؤاخذ بمجرد النية مطلقا، ونسب ذلك إلى نص الشافعي، ~~وهو قول ابن حامد من أصحابنا عملا بالعمومات. وروى العوفي عن ابن عباس ما ~~يدل على مثل هذا القول. # وفيه قول ثالث: أنه لا يؤاخذ بالهم بالمعصية إلا بأن يهم بارتكابها في ~~الحرم، كما روى السدي، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود، قال: ما من عبد يهم ~~بخطيئة، فلم يعملها، فتكتب عليه، ولو هم بقتل إنسان عند البيت، وهو بعدن ~~أبين، أذاقه الله من عذاب أليم، وقرأ عبد ms497 الله: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ~~نذقه من عذاب أليم} (2) . خرجه الإمام أحمد (3) وغيره. PageV03P1050 # وقد رواه عن السدي شعبة وسفيان، فرفعه شعبة ووقفه سفيان، والقول قول ~~سفيان في وقفه (1) . # وقال الضحاك (2) : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة، وهو بأرض أخرى، فتكتب ~~عليه، ولم يعملها، وقد تقدم عن أحمد وإسحاق ما يدل على مثل هذا القول، وكذا ~~حكاه القاضي أبو يعلي عن أحمد. وروى أحمد في رواية المروذي حديث ابن مسعود ~~هذا، ثم قال أحمد يقول: من يرد فيه بإلحاد بظلم، قال أحمد: لو أن رجلا بعدن ~~أبين (3) PageV03P1051 # هم بقتل رجل في الحرم، هذا قول الله سبحانه: {نذقه من عذاب أليم} ، هكذا ~~قول ابن مسعود رحمه الله. # وقد رد بعضهم هذا إلى ما تقدم من المعاصي التي متعلقها القلب، وقال: ~~الحرم يجب احترامه وتعظيمه بالقلوب، فالعقوبة على ترك هذا الواجب، وهذا لا ~~يصح، فإن حرمة الحرم ليست بأعظم من حرمة محرمه سبحانه، والعزم على معصية ~~الله عزم على انتهاك محارمه، ولكن لو عزم على ذلك قصدا، لانتهاك حرمة ~~الحرم، واستخفافا بحرمته، فهذا كما لو عزم على فعل معصية لقصد الاستخفاف ~~بحرمة الخالق - عز وجل -، فيكفر بذلك، وإنما ينتفي الكفر عنه إذا كان همه ~~بالمعصية لمجرد نيل شهوته، وغرض نفسه، مع ذهوله عن قصد مخالفة الله، ~~والاستخفاف بهيبته وبنظره، ومتى اقترن العمل بالهم، فإنه يعاقب عليه، سواء ~~كان الفعل متأخرا أو متقدما، فمن فعل محرما مرة، ثم عزم على فعله متى قدر ~~عليه، فهو مصر على المعصية، ومعاقب على هذه النية، وإن لم يعد إلى عمله إلا ~~بعد سنين عديدة. وبذلك فسر ابن المبارك وغيره الإصرار على المعصية. # وبكل حال، فالمعصية إنما تكتب بمثلها من غير مضاعفة، فتكون العقوبة على ~~المعصية، ولا ينضم إليها الهم بها، إذا لو ضم إلى المعصية الهم بها، لعوقب ~~على عمل المعصية عقوبتين، ولا يقال: فهذا يلزم مثله في عمل الحسنة، فإنه ~~إذا عملها بعد الهم بها، أثيب على الحسنة دون الهم بها، لأنا نقول: هذا ~~ممنوع، فإن ms498 من عمل حسنة، كتبت له عشر أمثالها، فيجوز أن يكون بعض هذه ~~الأمثال جزاء للهم بالحسنة، والله أعلم. # وقوله في حديث ابن عباس في رواية مسلم (1) : ((أو محاها الله)) يعني: أن ~~عمل السيئة: إما أن تكتب لعاملها سيئة واحدة، أو يمحوها الله بما شاء من ~~الأسباب، كالتوبة والاستغفار، وعمل الحسنات. PageV03P1052 # وقد سبق الكلام على ما تمحى به السيئات في شرح حديث أبي ذر: ((اتق الله ~~حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) (1) . # وقوله بعد ذلك: ((ولا يهلك على الله إلا هالك)) : يعني بعد هذا الفضل ~~العظيم من الله، والرحمة الواسعة منه بمضاعفة الحسنات، والتجاوز عن ~~السيئات، لا يهلك على الله إلا من هلك، وألقى بيده إلى التهلكة، وتجرأ على ~~السيئات، ورغب عن الحسنات، وأعرض عنها. ولهذا قال ابن مسعود (2) : ويل لمن ~~غلب وحدانه عشراته. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، مرفوعا: ((هلك من ~~غلب واحده عشرا)) (3) . # وخرج الإمام أحمد PageV03P1053 # وأبو داود والنسائي والترمذي (1) من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال ~~PageV03P1054 # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل # الجنة، وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل: تسبح الله في دبر كل صلاة عشرا، ~~وتحمده عشرا، وتكبره عشرا، قال: فتلك خمسون، ومئة باللسان، وألف وخمس مئة ~~في الميزان، وإذا أخذت مضجعك، تسبحه، وتكبره، وتحمده مئة، فتلك مئة ~~باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مئة ~~سيئة. # وفي " المسند " (1) عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا يدع (2) أحد منكم أن يعمل لله ألف حسنة حين يصبح يقول: سبحان ~~الله وبحمده مئة مرة، فإنها ألف حسنة، فإنه لن يعمل إن شاء الله تعالى مثل ~~ذلك في يومه من الذنوب، ويكون ما عمل من خير سوى ذلك وافرا)) . ~~PageV03P1055 ### | الحديث الثامن والثلاثون # عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي ~~عبدي ms499 بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى ~~أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي ~~يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني ~~لأعيذنه)) . رواه البخاري (1) . # هذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري من دون بقية أصحاب الكتب، خرجه عن محمد ~~بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني شريك ~~بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فذكر الحديث بطوله، PageV03P1057 # وزاد في آخره: ((وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره ~~الموت وأنا أكره مساءته)) . # وهو من غرائب " الصحيح "، تفرد به ابن كرامة عن خالد، وليس هو في # " مسند أحمد "، مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه أحمد وغيره، ~~وقالوا: له # مناكير (1) ، وعطاء الذي في إسناده قيل: إنه ابن أبي رباح، وقيل: إنه ابن ~~يسار، وإنه وقع PageV03P1058 # في بعض نسخ " الصحيح " منسوبا كذلك. # وقد روي هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال، فرواه # عبد الواحد بن ميمون أبو حمزة مولى عروة بن الزبير عن عروة، عن عائشة، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من آذى لي وليا، فقد استحل محاربتي، ~~وما تقرب إلي # عبدي بمثل أداء فرائضي، وإن عبدي ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا # أحببته، كنت عينه التي يبصر بها، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي # بها، وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به، إن دعاني أجبته، وإن ~~سألني أعطيته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن موته، وذلك أنه يكره ~~الموت وأنا أكره مساءته)) . خرجه ابن أبي الدنيا (1) وغيره، وخرجه الإمام ~~أحمد (2) # بمعناه. PageV03P1063 # وذكر ابن عدي (1) أنه تفرد به عبد الواحد هذا عن عروة، وعبد الواحد هذا ~~قال فيه البخاري (2) : منكر الحديث، ولكن خرجه الطبراني (3) : حدثنا هارون ~~بن كامل، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا إبراهيم بن سويد المدني ms500، حدثني أبو ~~حزرة يعقوب بن مجاهد، أخبرني عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فذكره. وهذا إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات مخرج لهم في " الصحيح " ~~سوى شيخ الطبراني، فإنه لا يحضرني الآن معرفة حاله، PageV03P1064 # ولعل الراوي قال: حدثنا أبو حمزة، يعني: # عبد الواحد بن ميمون (1) ، فخيل للسامع أنه قال: أبو حزرة، ثم سماه من ~~عنده بناء على وهمه، والله أعلم. PageV03P1065 # وخرج الطبراني (1) وغيره من رواية عثمان بن أبي العاتكة، عن علي بن يزيد، ~~عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقول ~~الله - عز وجل -: من أهان لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة، ابن آدم، إنك لن ~~تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك، ولا يزال عبدي يتحبب إلي بالنوافل ~~حتى أحبه، فأكون قلبه الذي يعقل به، ولسانه الذي ينطق به، وبصره الذي يبصر ~~به، فإذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته، وإذا استنصرني نصرته، وأحب عبادة ~~عبدي إلي النصيحة)) . عثمان # وعلي ابن يزيد ضعيفان. قال أبو حاتم الرازي في هذا الحديث: هو منكر # جدا (2) . # وقد روي من حديث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد ضعيف، خرجه ~~الإسماعيلي في # " مسند علي " (3) . # وروي من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف، خرجه الطبراني (4) ، وفيه زيادة في ~~لفظه، ورويناه من وجه آخر عن ابن عباس وهو ضعيف أيضا. # وخرجه الطبراني وغيره (5) # من حديث الحسن بن يحيى الخشني، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن هشام ~~الكناني، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن جبريل، عن ربه تعالى ~~قال: PageV03P1066 # ((من أهان لي وليا، فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ما ~~ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأكره مساءته، ولابد له منه، ~~وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابا من العبادة، فأكفه عنه لا يدخله عجب، ~~فيفسده ذلك، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي ~~يتنفل إلي حتى أحبه، ومن أحببته، كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ms501، دعاني، ~~فأجبته، وسألني، فأعطيته، ونصح لي فنصحت له، وإن من عبادي من لا يصلح ~~إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه ~~إلا الفقر، وإن بسطت له، أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا ~~الصحة، ولو أسقمته، لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ~~ولو أصححته، لأفسده ذلك، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم ~~خبير)) . والخشني وصدقة ضعيفان، وهشام لا يعرف، وسئل ابن معين عن هشام هذا: ~~من هو؟ قال: لا أحد، يعني: أنه لا يعتبر به. وقد خرج البزار (1) بعض الحديث ~~من طريق صدقة، عن عبد الكريم الجزري، عن أنس (2) . # وخرج الطبراني من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة، حدثني زر بن # حبيش، سمعت حذيفة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله ~~تعالى أوحى إلي: يا أخا المرسلين، ويا أخا المنذرين أنذر قومك أن لا يدخلوا ~~بيتا من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة، فإني ألعنه ما دام قائما بين يدي يصلي ~~حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها، فأكون سمعه الذي يسمع به، وأكون بصره الذي ~~يبصر به، ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين ~~والشهداء في الجنة)) (3) وهذا إسناد جيد وهو غريب جدا (4) . PageV03P1067 # ولنرجع إلى شرح حديث أبي هريرة الذي خرجه البخاري، وقد قيل: إنه أشرف ~~حديث روي في ذكر الأولياء (1) . # قوله - عز وجل -: ((من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب)) يعني: فقد ~~أعلمته بأني محارب له، حيث كان محاربا لي بمعاداة أوليائي (2) ، ولهذا جاء ~~في حديث عائشة (3) : ((فقد استحل محاربتي)) وفي حديث أبي أمامة (4) وغيره: ~~((فقد بارزني بالمحاربة)) ، وخرج ابن ماجه (5) بإسناد ضعيف (6) عن معاذ بن ~~جبل، سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول # ((إن يسير الرياء شرك، وإن من عادى لله وليا، فقد بارز الله بالمحاربة، ~~وإن الله تعالى يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم ~~يفتقدوا، وإن حضروا، لم PageV03P1068 # يدعوا، ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح ms502 الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة)) . # فأولياء الله تجب موالاتهم، وتحرم معاداتهم، كما أن أعداءه تجب معاداتهم، ~~وتحرم موالاتهم، قال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (1) ، وقال: ~~{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ~~وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم # الغالبون} (2) ، ووصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه بأنهم أذلة على ~~المؤمنين، أعزة على الكافرين، وروى الإمام أحمد في كتاب " الزهد " (3) ~~بإسناده عن وهب ابن منبه، قال: إن الله تعالى قال لموسى - عليه السلام - ~~حين كلمه: اعلم أن من أهان لي وليا، أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، ~~وبادأني، وعرض نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن ~~الذي يحاربني أن يقوم لي؟ أو يظن الذي يعازني أن يعجزني؟ أم يظن الذي ~~يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟ وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، فلا ~~أكل نصرتهم إلى غيري. PageV03P1069 # واعلم أن جميع المعاصي محاربة لله - عز وجل -، قال الحسن: ابن آدم هل لك # بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله، فقد حاربه، لكن كلما كان الذنب ~~أقبح، كانت المحاربة لله أشد ولهذا سمى الله تعالى أكلة الربا، وقطاع ~~الطريق محاربين لله تعالى ورسوله؛ لعظيم ظلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في ~~بلاده، وكذلك معاداة أوليائه، فإنه تعالى يتولى نصرة أوليائه، ويحبهم ~~ويؤيدهم، فمن عاداهم، فقد عادى الله وحاربه، وفي الحديث عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا، فمن آذاهم ~~فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله # يوشك أن يأخذه)) خرجه الترمذي (1) وغيره. PageV03P1070 # وقوله: ((وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي ~~يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) (1) : لما ذكر أن معاداة أوليائه محاربة له، ~~ذكر بعد ذلك وصف أوليائه الذين تحرم معاداتهم، وتجب موالاتهم، فذكر ما ~~يتقرب به إليه، وأصل الولاية: القرب، وأصل العداوة: البعد، فأولياء الله هم ~~الذين يتقربون إليه بما يقربهم منه، وأعداؤه الذين أبعدهم عنه بأعمالهم ms503 ~~المقتضية لطردهم وإبعادهم منه، فقسم أولياءه المقربين إلى قسمين: # أحدهما: من تقرب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك ~~المحرمات؛ لأن ذلك كله من فرائض الله التي افترضها على عباده. # والثاني: من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، فظهر بذلك أنه لا طريق يوصل ~~إلى التقرب إلى الله تعالى، وولايته، ومحبته سوى طاعته التي شرعها على لسان ~~رسوله، فمن ادعى ولاية الله، والتقرب إليه، ومحبته بغير هذه الطريق، تبين ~~أنه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقربون إلى الله تعالى بعبادة من ~~يعبدونه من دونه، كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا ~~إلى الله # زلفى} (2) ، وكما حكى عن اليهود والنصارى أنهم قالوا: {نحن أبناء الله # وأحباؤه} (3) مع إصرارهم على تكذيب رسله، وارتكاب نواهيه، وترك فرائضه. # فلذلك ذكر في هذا الحديث أن أولياء الله على درجتين: # أحدهما: المتقربون إليه بأداء الفرائض، PageV03P1071 # وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال ~~عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع ~~عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله - عز وجل -. وقال عمر بن عبد ~~العزيز في خطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب # المحارم (1) ، وذلك لأن الله - عز وجل - إنما افترض على عباده هذه ~~الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته. # وأعظم فرائض البدن التي تقرب إليه: الصلاة، كما قال تعالى: {واسجد ~~واقترب} (2) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ~~ربه وهو ساجد)) (3) ، وقال: ((إذا كان أحدكم يصلي، فإنما يناجي ربه، أو ربه ~~بينه وبين القبلة)) (4) . وقال: ((إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما ~~لم يلتفت)) (5) . PageV03P1072 # ومن الفرائض المقربة إلى الله تعالى: عدل الراعي في رعيته، سواء كانت ~~رعيته عامة # PageV03P1073 # كالحاكم، أو خاصة كعدل آحاد الناس في أهله وولده، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (1) . # وفي " صحيح مسلم " (2) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((إن المقسطين ms504 عند الله على منابر من نور على يمين الرحمان - ~~وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا)) . # وفي " الترمذي " (3) عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إن أحب العباد إلى الله يوم القيامة وأدناهم إليه مجلسا إمام عادل)) . ~~PageV03P1074 # الدرجة الثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد ~~الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، ~~وذلك يوجب للعبد محبة الله، كما قال: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ~~حتى أحبه)) (1) ، فمن أحبه الله، رزقه محبته وطاعته والاشتغال بذكره ~~وخدمته، فأوجب له ذلك القرب منه، والزلفى لديه، والحظوة عنده، كما قال الله ~~تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على ~~المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك ~~فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم} (2) ، ففي هذه الآية إشارة إلى أن ~~من # أعرض عن حبنا، وتولى عن قربنا، لم نبال، واستبدلنا به من هو أولى بهذه ~~المنحة # منه وأحق، فمن أعرض عن الله، فما له من الله بدل، ولله منه أبدال. # ما لي شغل سواه ما لي شغل ... ما يصرف عن هواه قلبي عذل # ما أصنع إن جفا وخاب الأمل ... مني بدل ومنه ما لي بدل # وفي بعض الآثار يقول الله - عز وجل -: ((ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن ~~وجدتني، وجدت كل شيء، وإن فتك، فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل # شيء)) (3) . # كان ذو النون يردد هذه الأبيات بالليل كثيرا: # اطلبوا لأنفسكم ... مثل ما وجدت أنا # قد وجدت لي سكنا ... ليس في هواه عنا # إن بعدت قربني ... أو قربت منه دنا (4) # من فاته الله، فلو حصلت له الجنة بحذافيرها، لكان مغبونا، فكيف إذا لم ~~يحصل له إلا نزر يسير حقير من دار كلها لا تعدل جناح بعوضة: PageV03P1075 # من فاته أن يراك يوما ... فكل أوقاته فوات # وحيثما كنت من بلاد ... فلي إلى وجهك التفات # ثم ذكر أوصاف الذين يحبهم الله ms505 ويحبونه، فقال: {أذلة على # المؤمنين} (1) ، يعني أنهم يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ~~{أعزة على الكافرين} (2) ، يعني أنهم يعاملون الكافرين بالعزة والشدة ~~عليهم، والإغلاظ لهم، فلما أحبوا الله، أحبوا أولياءه الذين يحبونه، ~~فعاملوهم بالمحبة، والرأفة، والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه، ~~فعاملوهم بالشدة والغلظة، كما قال تعالى: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} ~~(3) {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} (4) ، فإن من تمام المحبة ~~مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضا، فالجهاد في سبيل الله دعاء للمعرضين عن الله ~~إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان، فالمحب ~~لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى بابه؛ فمن لم يجب الدعوة باللين والرفق، ~~احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف: ((عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة ~~بالسلاسل)) (5) . # {ولا يخافون لومة لائم} (6) ؛ PageV03P1076 # لا هم للمحب غير ما يرضي حبيبه، رضي من رضي، وسخط من سخط، من خاف الملامة ~~في هوى من يحبه، فليس بصادق في المحبة: # وقف الهوي بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم # أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم (1) PageV03P1077 # قوله: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} (1) ، يعني درجة الذين يحبهم # ويحبونه بأوصافهم المذكورة، {والله واسع عليم} (2) : واسع العطاء، عليم ~~بمن يستحق الفضل، فيمنحه، ومن لا يستحقه، فيمنعه. # ويروى أن داود - عليه السلام - كان يقول: اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك ~~إذا أحببت عبدا، غفرت ذنبه، وإن كان عظيما، وقبلت عمله، وإن كان يسيرا، ~~وكان داود - عليه السلام - يقول في دعائه: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك ~~وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن ~~الماء البارد (3) . # وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أتاني ربي - عز وجل - يعني: في ~~المنام - فقال لي: يا محمد قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل ~~الذي يبلغني حبك)) (4) . # وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني ~~حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت ms506 ~~عني مما أحب فاجعله فراغا لي فيما تحب)) (5) . # وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو: ((اللهم اجعل حبك أحب ~~PageV03P1078 # الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق ~~إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيني من عبادتك)) ~~(1) . # فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم هم إلا فيما يقربهم ممن يحبهم # ويحبونه، قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على ~~المحبة لا يدخله الفتور، ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم، فلن ~~يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك (2) . # قال فرقد السبخي: قرأت في بعض الكتب: من أحب الله، لم يكن عنده شيء آثر ~~من هواه، ومن أحب الدنيا، لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله ~~تعالى أمير مؤمر على الأمراء زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب ~~المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من ~~طول اجتهادهم لله - عز وجل - يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه يمشون ~~بين عباده # بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله # وأحباؤه، وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون PageV03P1079 # لقائه. # وقال فتح الموصلي: المحب لا يجد مع حب الله - عز وجل - للدنيا لذة، ولا ~~يغفل عن ذكر الله طرفة عين. # وقال محمد بن النضر الحارثي: ما يكاد يمل القربة إلى الله تعالى محب لله ~~- عز وجل -، وما يكاد يسأم من ذلك. # وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب، كثير الذكر، متسبب إلى رضوانه بكل ~~سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل دوبا دوبا، وشوقا شوقا، وأنشد بعضهم: # وكن لربك ذا حب لتخدمه ... إن المحبين للأحباب خدام # وأنشد آخر: # ما للمحب سوى إرادة حبه ... إن المحب بكل بر يضرع # ومن أعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تعالى من النوافل: كثرة تلاوة ~~القرآن، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم، قال خباب بن الأرت لرجل: تقرب إلى الله ~~ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من ms507 كلامه (1) . # وفي " الترمذي " (2) عن أبي أمامة مرفوعا: ((ما تقرب العباد إلى الله ~~بمثل ما خرج منه)) يعني القرآن، PageV03P1080 # لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية ~~مطلوبهم. قال عثمان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام # ربكم (1) . وقال ابن مسعود: من أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله (2) . # قال بعض العارفين لمريد: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، فقال: واغوثاه بالله! ~~مريد لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟ فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه - عز وجل -؟ # كان بعضهم يكثر تلاوة القرآن، ثم اشتغل عنه بغيره، فرأى في المنام قائلا ~~يقول له: # إن كنت تزعم حبي ... فلم جفوت كتابي # أما تأملت ما في ... ه من لطيف عتابي # ومن ذلك: كثرة ذكر الله الذي يتواطأ عليه القلب واللسان. وفي " مسند # البزار " (3) عن معاذ، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بأفضل الأعمال ~~وأقربها إلى الله تعالى؟ قال: ((أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله تعالى)) . ~~PageV03P1081 # وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - عز ~~وجل -: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته ~~في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم)) (1) . وفي حديث آخر: ~~((أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه)) (2) . PageV03P1082 # وقال - عز وجل -: {فاذكروني أذكركم} (1) . # ولما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين يرفعون أصواتهم بالتكبير ~~والتهليل وهم معه في سفر، قال لهم: ((إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم ~~تدعون سميعا قريبا، وهو # معكم)) (2) . PageV03P1083 # وفي رواية: ((وهو أقرب إليكم من أعناق رواحلكم)) (1) . # ومن ذلك: محبة أولياء الله وأحبائه فيه، ومعاداة أعدائه فيه، ~~PageV03P1084 # وفي " سنن أبي # داود " (1) عن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء ~~والشهداء بمكانهم من الله - عز وجل -)) ، قالوا: يا رسول الله، من هم؟ قال: ~~((هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، ~~فوالله، إن وجوههم لنور ms508، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا ~~يحزنون إذا حزن الناس)) ، ثم تلا هذه الآية: {ألا إن أولياء الله لا خوف ~~عليهم ولا هم يحزنون} (2) . ويروى نحوه من حديث أبي مالك الأشعري عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، PageV03P1085 # وفي حديثه: ((يغبطهم النبيون بقربهم ومقعدهم من الله - عز وجل -)) (1) . # وفي " المسند " (2) عن عمرو بن الجموح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله، ~~وأبغض لله، فقد استحق الولاية من الله، إن أوليائي من عبادي وأحبائي من ~~خلقي الذين يذكرون بذكري، وأذكر بذكرهم)) . # وسئل المرتعش: بم تنال المحبة؟ قال: بموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه ~~(3) ، وأصله الموافقة. # وفي " الزهد " (4) للإمام أحمد عن عطاء بن يسار، قال: قال موسى - عليه ~~السلام -: يا رب، من هم أهلك الذين تظلهم في ظل عرشك؟ قال: يا موسى، هم ~~البريئة # أيديهم، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، ~~وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم، الذين يسبغون الوضوء في المكاره، وينيبون إلي ذكري ~~كما تنيب النسور إلى وكورها، ويكلفون بحبي كما يكلف الصبي بالناس، ويغضبون ~~لمحارمي إذا استحلت، كما يغضب النمر إذا حرب. PageV03P1086 # قوله: ((فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده ~~التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) (1) ، وفي بعض الروايات: ((وقلبه ~~الذي يعقل به، ولسانه الذي ينطق به)) (2) . # المراد بهذا الكلام: أن من اجتهد بالتقرب إلى الله بالفرائض، ثم ~~بالنوافل، قربه إليه، ورقاه من درجة الإيمان إلى درجة الإحسان، فيصير يعبد ~~الله على الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتلئ قلبه بمعرفة الله تعالى، ~~ومحبته، وعظمته، وخوفه، ومهابته، وإجلاله، والأنس به، والشوق إليه، حتى ~~يصير هذا الذي في قلبه من المعرفة مشاهدا له بعين البصيرة كما قيل: # ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره # غاب عن سمعي وعن بصري ... فسويدا القلب تبصره # قال الفضيل بن عياض: إن الله يقول: ((كذب من ادعى محبتي، ونام عني، أليس ~~كل محب يحب خلوة ms509 حبيبه؟ ها أنا مطلع على أحبابي وقد مثلوني بين # أعينهم، وخاطبوني على المشاهدة، وكلموني بحضور، غدا أقر أعينهم في # جناني)) (3) . # ولا يزال هذا الذي في قلوب المحبين المقربين يقوى حتى تمتلئ قلوبهم به، ~~فلا يبقي في قلوبهم غيره، ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلا بموافقة ما في ~~قلوبهم، ومن كان حاله هذا، قيل فيه: ما بقي في قلبه إلا الله، والمراد ~~معرفته ومحبته وذكره، وفي هذا المعنى الأثر الإسرائيلي المشهور: ((يقول ~~الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)) (4) . ~~PageV03P1087 # وقال بعض العارفين: احذروه، فإنه غيور لا يحب أن يرى في قلب عبده غيره، ~~وفي هذا يقول بعضهم: # ليس للناس موضع في فؤادي ... زاد فيه هواك حتى امتلا # وقال آخر: # قد صيغ قلبي على مقدار حبهم ... فما لحب سواهم فيه متسع # وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته لما قدم ~~المدينة فقال: ((أحبوا الله من كل قلوبكم)) كما ذكره ابن إسحاق في " سيرته ~~" (1) فمتى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى، محا ذلك من القلب كل ما سواه، ~~ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه، ولا إرادة إلا لما يريده منه مولاه، ~~فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره، ولا يتحرك إلا بأمره، فإن نطق، نطق بالله، ~~وإن سمع، سمع به، وإن نظر، نظر به، وإن بطش، بطش به، PageV03P1088 # فهذا هو المراد بقوله: ((كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ~~ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) (1) ، ومن أشار إلى غير هذا، ~~فإنما يشير إلى الإلحاد من الحلول، أو الاتحاد، والله ورسوله بريئان منه. # ومن هنا كان بعض السلف كسليمان التيمي يرون أنه لا يحسن أن يعصي الله. ~~ووصت امرأة من السلف أولادها، فقالت لهم: تعودوا حب الله وطاعته، فإن ~~المتقين ألفوا الطاعة، فاستوحشت جوارحهم من غيرها، فإن عرض لهم الملعون ~~بمعصية، مرت المعصية بهم محتشمة، فهم لها منكرون. # ومن هذا المعنى قول علي: إن كنا لنرى أن شيطان عمر ليهابه أن يأمره ~~بالخطيئة ms510 (2) ، وقد أشرنا فيما سبق إلى أن هذا من أسرار التوحيد الخاصة، ~~فإن معنى لا إله إلا الله: أنه لا يؤله غيره حبا، ورجاء، وخوفا، وطاعة، ~~فإذا تحقق القلب بالتوحيد التام، لم يبق فيه محبة لغير ما يحبه الله، ولا ~~كراهة لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك، لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، ~~وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله، أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ~~ينشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله وخشيته، وذلك يقدح في كمال التوحيد ~~الواجب، فيقع العبد بسبب ذلك في التفريط في بعض الواجبات، أو ارتكاب بعض ~~المحظورات، فأما من تحقق قلبه بتوحيد الله، فلا يبقى له هم إلا في الله ~~وفيما يرضيه به، وقد ورد في الحديث مرفوعا: ((من أصبح وهمه غير الله، فليس ~~من الله)) (3) ، PageV03P1089 # وخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بن كعب موقوفا قال: من أصبح وأكبر همه غير ~~الله فليس من الله. قال # بعض العارفين: من أخبرك أن وليه له هم في غيره، فلا تصدقه. # كان داود الطائي ينادي بالليل: همك عطل علي الهموم، وحالف بيني وبين ~~السهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، ~~فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب (1) ، وفي هذا يقول بعضهم: # قالوا تشاغل عنا واصطفى بدلا ... منا وذلك فعل الخائن السالي # وكيف أشغل قلبي عن محبتكم ... بغير ذكركم يا كل أشغالي # قوله: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) (2) ، وفي الرواية ~~الأخرى: ((إن دعاني أجبته، وإن سألني، أعطيته)) (3) ، يعني أن هذا المحبوب ~~المقرب، له عند الله منزلة خاصة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئا، أعطاه إياه، ~~وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيصير مجاب الدعوة ~~لكرامته على ربه - عز وجل -، وقد كان كثير من السلف الصالح معروفا بإجابة ~~الدعوة. وفي # " الصحيح " (4) : أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فعرضوا عليهم ~~الأرش، فأبوا، فطلبوا منهم العفو، فأبوا، فقضى بينهم رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - PageV03P1090 # بالقصاص، فقال أنس بن ms511 النضر: أتكسر ثنية الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا ~~تكسر ثنيتها، فرضي القوم، وأخذوا الأرش، فقال رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -: ((إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره)) . # PageV03P1091 # وفي " صحيح الحاكم " (1) # عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كم من ضعيف متضعف ذي ~~طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك)) ، وأن البراء لقي ~~زحفا من المشركين، فقال له المسلمون: أقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب ~~لما منحتنا أكتافهم، فمنحهم أكتافهم، ثم التقوا مرة أخرى، فقالوا: أقسم على ~~ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيك - صلى ~~الله عليه وسلم -، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء. PageV03P1092 # وروى ابن أبي الدنيا (1) بإسناد له أن النعمان بن قوقل قال يوم أحد: ~~اللهم إني أقسم عليك أن أقتل، فأدخل الجنة، فقتل، فقال النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إن النعمان أقسم على الله فأبره)) . # وروى أبو نعيم (2) بإسناده عن سعد: أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: يا ~~رب، إذا لقيت العدو غدا، فلقني رجلا شديدا بأسه، شديدا حرده أقاتله فيك ~~ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدا، قلت: يا عبد الله، ~~من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت، قال سعد: فلقد ~~لقيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط. # وكان سعد بن أبي وقاص مجاب الدعوة، فكذب عليه رجل، فقال: اللهم إن كان ~~كاذبا، فاعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن، فأصاب الرجل ذلك كله، فكان ~~يتعرض للجواري في السكك ويقول: شيخ كبير، مفتون أصابتني دعوة سعد (3) . # ودعا على رجل سمعه يشتم عليا، فما برح من مكانه حتى جاء بعير ناد، فخبطه ~~بيديه ورجليه حتى قتله (4) . PageV03P1093 # ونازعت امرأة سعيد بن زيد في أرض له، فادعت أنه أخذ منها أرضها، فقال: ~~اللهم إن كانت كاذبة، فاعم بصرها، واقتلها في أرضها، فعميت، وبينا هي ذات ~~ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها، فماتت (1) . # وكان العلاء بن الحضرمي ms512 في سرية، فعطشوا فصلى فقال: اللهم يا عليم # يا حليم يا علي يا عظيم، إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك، فاسقنا غيثا # نشرب منه ونتوضأ، ولا تجعل لأحد فيه نصيبا غيرنا، فساروا قليلا، فوجدوا # نهرا من ماء السماء يتدفق فشربوا وملؤوا أوعيتهم، ثم ساروا فرجع بعض # أصحابه إلى موضع النهر، فلم ير شيئا، وكأنه لم يكن في موضعه ماء # قط (2) . # وشكي إلى أنس بن مالك عطش أرض له في البصرة، فتوضأ وخرج إلى # البرية، وصلى ركعتين؛ ودعا فجاء المطر فسقى أرضه، ولم يجاوز المطر أرضه ~~إلا يسيرا (3) . # واحترقت خصاص بالبصرة في زمن أبي موسى الأشعري، وبقي في وسطها خص لم ~~يحترق، فقال أبو موسى لصاحب الخص: ما بال خصك لم يحترق؟ # فقال: إني أقسمت على ربي أن لا يحرقه، فقال أبو موسى: إني سمعت رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((في أمتي رجال طلس رؤوسهم، دنس ثيابهم لو ~~أقسموا على الله لأبرهم)) (4) . # وكان أبو مسلم الخولاني مشهورا بإجابة الدعوة، فكان يمر به الظبي، فيقول ~~له الصبيان: ادع الله لنا أن يحبس علينا هذا الظبي، فيدعو الله، فيحبسه حتى ~~يأخذوه PageV03P1094 # بأيديهم (1) . # ودعا على امرأة أفسدت عليه عشرة امرأته له بذهاب بصرها، فذهب بصرها في ~~الحال، فجاءته، فجعلت تناشده الله وتطلب إليه، فرحمها ودعا الله فرد عليها ~~بصرها، ورجعت امرأته إلى حالها معه (2) . # وكذب رجل على مطرف بن عبد الله الشخير، فقال له مطرف: إن كنت # كاذبا، فعجل الله حتفك، فمات الرجل مكانه (3) . # وكان رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن البصري، فيؤذيهم، فلما زاد # أذاه، قال الحسن: اللهم قد علمت أذاه لنا، فاكفناه بما شئت، فخر الرجل من ~~قامته، فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سريره (4) . # وكان صلة بن أشيم في سرية، فذهبت بغلته بثقلها، وارتحل الناس، فقام يصلي، ~~PageV03P1095 # وقال: اللهم إني أقسم عليك أن ترد علي بغلتي وثقلها، فجاءت حتى قامت بين ~~يديه (1) . # وكان مرة في برية قفر فجاع، فاستطعم الله، فسمع وجبة خلفه، فإذا هو بثوب ~~أو منديل ms513 فيه دوخلة (2) رطب طري، فأكل منه، وبقي الثوب عند امرأته معاذة ~~العدوية، وكانت من الصالحات (3) . # وكان محمد بن المنكدر في غزاة، فقال له رجل من رفقائه: اشتهي جبنا رطبا، ~~فقال ابن المنكدر: استطعموا الله يطعمكم، فإنه القادر، فدعا القوم، فلم ~~يسيروا إلا قليلا، حتى رأوا مكتلا مخيطا، فإذا هو جبن رطب، فقال بعض القوم: ~~لو كان عسلا فقال ابن المنكدر: إن الذي أطعمكم جبنا هاهنا قادر على أن ~~يطعمكم # عسلا، فاستطعموه، فدعوا، فساروا قليلا، فوجدوا ظرف عسل على الطريق، ~~فنزلوا فأكلوا (4) . # وكان حبيب العجمي أبو محمد معروفا بإجابة الدعوة؛ دعا لغلام أقرع الرأس، ~~وجعل يبكي ويمسح بدموعه رأس الغلام، فما قام حتى اسود شعر رأسه، وعاد كأحسن ~~الناس شعرا (5) . # وأتي برجل زمن في محمل فدعا له، فقام الرجل على رجليه، فحمل محمله على ~~عنقه، ورجع إلى عياله (6) . # واشترى في مجاعة طعاما كثيرا، فتصدق به على المساكين، ثم خاط أكيسة، ~~فوضعها تحت فراشه، ثم دعا الله، فجاءه أصحاب الطعام يطلبون ثمنه، فأخرج ~~PageV03P1096 # تلك الأكيسة، فإذا هي مملوءة دراهم، فوزنها، فإذا هي قدر حقوقهم، فدفعها ~~إليهم (1) . # وكان رجل يعبث به كثيرا، فدعا عليه حبيب (2) فبرص (3) . وكان مرة عند ~~مالك بن دينار، فجاءه رجل، فأغلظ لمالك من أجل دراهم قسمها مالك، فلما طال ~~ذلك من أمره، رفع حبيب يده إلى السماء، فقال: اللهم إن هذا قد شغلنا عن ~~ذكرك، فأرحنا منه كيف شئت، فسقط الرجل على وجهه ميتا (4) . # وخرج قوم في غزاة في سبيل الله، وكان لبعضهم حمار، فمات وارتحل أصحابه، ~~فقام فتوضأ وصلى، وقال: اللهم إني خرجت مجاهدا في سبيلك، وابتغاء مرضاتك، ~~وأشهد أنك تحيي الموتى، وتبعث من في القبور، فأحي لي حماري، ثم قام إلى ~~الحمار فضربه، فقام الحمار ينفض أذنيه، فركبه ولحق أصحابه، ثم باع الحمار ~~بعد ذلك بالكوفة (5) . # وخرجت سرية في سبيل الله، فأصابهم برد شديد حتى كادوا أن # يهلكوا، فدعوا الله - عز وجل - وإلى جانبهم شجرة عظيمة، فإذا هي تلتهب ~~نارا، فجففوا ثيابهم، ودفئوا بها حتى طلعت عليهم ms514 الشمس، فانصرفوا، وردت ~~الشجرة على هيئتها. # وخرج أبو قلابة صائما حاجا فتقدم أصحابه في يوم صائف، فأصابه عطش شديد، ~~فقال: اللهم إنك قادر على أن تذهب عطشي من غير فطر، فأظلته سحابة، فأمطرت ~~عليه حتى بلت ثوبه، وذهب العطش عنه، فنزل فحوض حياضا فملأها، فانتهى إليه ~~أصحابه فشربوا، وما أصاب أصحابه من ذلك المطر شيء (6) . # ومثل هذا كثير جدا، ويطول استقصاؤه. وأكثر من كان مجاب الدعوة من السلف ~~كان يصبر على البلاء، ويختار ثوابه، ولا يدعو لنفسه بالفرج منه. ~~PageV03P1097 # وقد روي أن سعد بن أبي وقاص كان يدعو للناس لمعرفتهم له بإجابة دعوته، ~~فقيل له: لو دعوت الله لبصرك، وكان قد أضر، فقال: قضاء الله أحب إلي من ~~بصري. # وابتلي بعضهم بالجذام، فقيل له: بلغنا أنك تعرف اسم الله الأعظم، فلو ~~سألته أن يكشف ما بك؟ فقال: يا ابن أخي، إنه هو الذي ابتلاني، وأنا أكره أن ~~أراده (1) . # وقيل لإبراهيم التيمي - هو في سجن الحجاج - لو دعوت الله تعالى، فقال: ~~أكره أن أدعوه أن يفرج عني ما لي فيه أجر. وكذلك سعيد بن جبير صبر على أذى ~~الحجاج حتى قتله، وكان مجاب الدعوة؛ كان له ديك يقوم بالليل بصياحه للصلاة ~~فلم يصح ليلة في وقته، فلم يقم سعيد للصلاة فشق عليه فقال: ما له؟ قطع الله ~~صوته، فما صاح الديك بعد ذلك، فقالت له أمه: يا بني لا تدع بعد هذا على شيء ~~(2) . # وذكر لرابعة رجل له منزلة عند الله، وهو يقتات مما يلتقطه من المنبوذات ~~على المزابل، فقال رجل: ما ضر هذا أن يدعو الله أن يغنيه عن هذا؟ فقالت ~~رابعة: إن أولياء الله إذا قضي الله لهم قضاء لم يتسخطوه. # وكان حيوة بن شريح ضيق العيش جدا، فقيل له: لو دعوت الله أن يوسع # عليك، فأخذ حصاة من الأرض فقال: اللهم اجعلها ذهبا، فصارت تبرة في كفه، ~~وقال: ما خير في الدنيا إلا الآخرة، ثم قال: هو أعلم بما يصلح عباده (3) . # وربما دعا المؤمن المجاب الدعوة بما يعلم ms515 الله الخيرة له في غيره، فلا ~~يجيبه إلى # سؤاله، ويعوضه عنه ما هو خير له إما في الدنيا أو في الآخرة. وقد تقدم في ~~حديث أنس المرفوع: ((إن الله يقول: إن من عبادي من يسألني بابا ~~PageV03P1098 # من العبادة، فأكفه عنه كيلا يدخله العجب)) (1) . # وخرج الطبراني (2) من حديث سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((إن من أمتي من لو جاء أحدكم يسأله دينارا لم ~~يعطه، ولو سأله درهما لم يعطه، ولو سأله فلسا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة ~~لأعطاه إياها ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره)) . وخرجه غيره ~~من حديث سالم مرسلا، وزاد فيه: ((ولو سأل الله شيئا من الدنيا ما أعطاه ~~تكرمة له)) . # وقوله: ((وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن: يكره ~~الموت، وأكره مساءته)) . المراد بهذا أن الله تعالى قضى على عباده بالموت، ~~كما قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} (3) ، والموت: هو مفارقة الروح للجسد، ~~ولا يحصل ذلك إلا بألم عظيم جدا، وهو أعظم الآلام التي تصيب العبد في ~~الدنيا، قال عمر لكعب: أخبرني عن الموت، قال يا أمير المؤمنين، هو مثل شجرة ~~كثيرة الشوك في جوف ابن آدم، فليس منه عرق ولا مفصل إلا ورجل شديد ~~الذراعين، فهو يعالجها ينزعها، فبكى عمر (4) . PageV03P1099 # ولما احتضر عمرو بن العاص سأله ابنه عن صفة الموت، فقال: والله لكأن جنبي ~~في تخت، ولكأني أتنفس من سم إبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قدمي إلى هامتي ~~(1) . # وقيل لرجل عند الموت: كيف تجدك؟ فقال: أجدني أجتذب اجتذابا، وكأن الخناجر ~~مختلفة في جوفي، وكأن جوفي تنور محمى يلتهب توقدا. # وقيل لآخر: كيف تجدك؟ قال: أجدني كأن السماوات منطبقة على الأرض علي، ~~وأجد نفسي كأنها تخرج من ثقب إبرة. # فلما كان الموت بهذه الشدة، والله تعالى قد حتمه على عباده كلهم، ولابد ~~لهم منه، وهو تعالى يكره أذى المؤمن ومساءته، سمى ترددا في حق المؤمن، فأما ~~الأنبياء عليهم ms516 السلام، فلا يقبضون حتى يخيروا (2) . # قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت، هون الله عليهم بلقاء الله، وبكل ما ~~أحبوا من تحفة أو كرامة حتى إن نفس أحدهم تنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك ~~لما قد مثل له. # وقد قالت عائشة: ما أغبط أحدا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) ، # قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ~~ويقول: ((اللهم أعني على سكرات الموت)) (4) PageV03P1100 # قالت: وجعل يقول: ((لا إله إلا الله إن للموت لسكرات)) (1) . وجاء في ~~حديث مرسل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: ((اللهم إنك تأخذ الروح من ~~بين العصب والقصب والأنامل، اللهم فأعني على الموت وهونه علي)) (2) . # وقد كان بعض السلف يستحب أن يجهد عند الموت، كما قال عمر بن # عبد العزيز: ما أحب أن تهون علي سكرات الموت، إنه لآخر ما يكفر به عن ~~المؤمن (3) . وقال النخعي: كانوا يستحبون أن يجهدوا عند الموت (4) . # وكان بعضهم يخشى من تشديد الموت أن يفتن، وإذا أراد الله أن يهون على # العبد الموت هونه عليه. وفي " الصحيح " (5) عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((إن المؤمن إذا حضره الموت، بشر برضوان الله وكرامته، فليس ~~شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب PageV03P1101 # الله لقاءه)) . # قال ابن مسعود: ((إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن، قال له: إن ربك ~~يقرئك السلام)) (1) . # وقال محمد بن كعب: يقول له ملك الموت: السلام عليك يا ولي الله، الله ~~يقرأ عليك السلام، ثم تلا: {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام # عليكم} (2) (3) . # وقال زيد بن أسلم: تأتي الملائكة المؤمن إذا حضر، وتقول له: لا تخف مما ~~أنت قادم عليه - فيذهب الله خوفه - ولا تحزن على الدنيا وأهلها، وأبشر ~~بالجنة، فيموت وقد جاءته البشرى. # وخرج البزار (4) من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - قال: ((إن الله أضن بموت عبده المؤمن من أحدكم بكريمة ماله حتى ~~يقبضه ms517 على فراشه)) . # وقال زيد بن أسلم: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن لله عبادا ~~هم أهل المعافاة في الدنيا والآخرة)) (5) . # وقال ثابت البناني: إن لله عبادا يضن بهم في الدنيا عن القتل والأوجاع، ~~يطيل أعمارهم، ويحسن أرزاقهم، ويميتهم على فرشهم، ويطبعهم بطابع الشهداء ~~(6) . PageV03P1102 # وخرجه ابن أبي الدنيا (1) والطبراني (2) مرفوعا من وجوه ضعيفة، وفي بعض # ألفاظها: ((إن لله ضنائن من خلقه يأبى بهم عن البلاء، يحييهم في عافية، ~~ويميتهم في عافية، ويدخلهم الجنة في عافية)) . # قال ابن مسعود وغيره (3) : إن موت الفجاءة تخفيف على المؤمن (4) . وكان ~~أبو ثعلبة الخشني يقول: إني لأرجو أن لا يخنقني الله كما أراكم تخنقون عند # الموت (5) ، وكان ليلة في داره، فسمعوه ينادي: يا عبد الرحمان، وكان # عبد الرحمان قد قتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أتى مسجد ~~بيته، فصلى فقبض وهو ساجد (6) . # وقبض جماعة من السلف في الصلاة وهم سجود. وكان بعضهم يقول لأصحابه: إني ~~لا أموت موتكم، ولكن أدعى فأجيب، فكان يوما قاعدا مع أصحابه، فقال: لبيك ثم ~~خر ميتا. # وكان بعضهم جالسا مع أصحابه فسمعوا صوتا يقول: يا فلان أجب، فهذه والله ~~آخر ساعاتك من الدنيا، فوثب وقال: هذا والله حادي الموت، فودع أصحابه، ~~PageV03P1103 # وسلم عليهم، ثم انطلق نحو الصوت، وهو يقول: سلام على المرسلين، والحمد ~~لله رب العالمين، ثم انقطع عنهم الصوت، فتتبعوا أثره، فوجدوه ميتا. # وكان بعضهم جالسا يكتب في مصحف، فوضع القلم من يده، وقال: إن كان موتكم ~~هكذا، فوالله إنه لموت طيب، ثم سقط ميتا. وكان آخر جالسا يكتب الحديث، فوضع ~~القلم من يده، ورفع يديه يدعو الله، فمات. # PageV03P1104 ### | الحديث التاسع والثلاثون # عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)) . حديث ~~حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما. # هذا الحديث خرجه ابن ماجه (1) من طريق الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخرجه ابن ms518 حبان في " صحيحه " (2) ~~والدارقطني (3) ، وعندهما: عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن ~~عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. # وهذا إسناد صحيح في ظاهر الأمر، ورواته كلهم محتج بهم في " الصحيحين " ~~وقد خرجه الحاكم (4) ، وقال: صحيح على شرطهما. كذا قال، ولكن له علة، وقد ~~أنكره الإمام أحمد (5) جدا، وقال: ليس يروى فيه إلا عن الحسن، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - مرسلا. PageV03P1105 # وقيل لأحمد: إن الوليد بن مسلم روى عن مالك، عن نافع، عن ابن # عمر مثله (1) ، فأنكره أيضا (2) . # وذكر لأبي حاتم الرازي حديث الأوزاعي، وحديث مالك، وقيل له: إن الوليد ~~روى أيضا عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان، عن عقبة بن عامر، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - مثله (3) ، فقال أبو حاتم: هذه أحاديث منكرة كأنها ~~موضوعة، وقال: لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء، وإنما سمعه من رجل لم ~~يسمه، أتوهم أنه عبد الله بن عامر، أو إسماعيل بن مسلم، قال: ولا يصح هذا ~~الحديث، ولا يثبت إسناده (4) . # قلت: وقد روي عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير مرسلا من غير ذكر ~~ابن عباس (5) ، وروى يحيى بن سليم، عن ابن جريج، قال: قال عطاء: بلغني أن ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ ~~والنسيان، وما استكرهوا عليه)) (6) خرجه الجوزجاني، وهذا المرسل أشبه. # وقد ورد من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعا رواه مسلم بن خالد الزنجي، # عن سعيد العلاف، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((تجوز لأمتي عن # ثلاث: عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) (7) خرجه الجوزجاني. وسعيد # العلاف: هو سعيد بن أبي صالح، قال أحمد: وهو مكي، قيل له: كيف حاله؟ # قال: لا أدري وما علمت أحدا روى عنه غير مسلم بن خالد (8) ، قال أحمد: ~~وليس هذا مرفوعا، إنما هو عن ابن عباس قوله. نقل ذلك عنه مهنا، ~~PageV03P1106 # ومسلم بن خالد ضعفوه (1) . # وروي من وجه ثالث من رواية بقية بن الوليد ms519، عن علي الهمداني، عن أبي جمرة ~~عن ابن عباس مرفوعا، خرجه حرب، ورواية بقية عن مشايخه المجاهيل لا تساوي ~~شيئا. # وروي من وجه رابع خرجه ابن عدي (2) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي، عن ~~أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~وعبد الرحيم هذا ضعيف (3) . # وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أخر، وقد تقدم أن ~~الوليد بن مسلم رواه عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا، وصححه الحاكم ~~وغربه (4) ، وهو عند حذاق الحفاظ باطل على مالك، كما أنكره الإمام أحمد ~~وأبو حاتم، وكانا يقولان عن الوليد: إنه كثير الخطأ. ونقل أبو عبيد الآجري ~~عن أبي داود، قال: روى الوليد بن مسلم عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، ~~منها: عن نافع أربعة (5) . # قلت: والظاهر أن منها هذا الحديث، والله أعلم. # وخرجه الجوزجاني من رواية يزيد بن ربيعة سمعت أبا الأشعث يحدث عن ثوبان ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله - عز وجل - تجاوز عن أمتي ~~عن ثلاثة: عن الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه)) (6) . PageV03P1107 # ويزيد بن ربيعة ضعيف جدا (1) . # وخرج ابن أبي حاتم (2) # من رواية أبي بكر الهذلي، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث: عن الخطأ والنسيان ~~والاستكراه)) . قال أبو بكر: فذكرت ذلك للحسن، فقال: أجل، أما تقرأ بذلك ~~قرآنا: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (3) . وأبو بكر الهذلي متروك ~~الحديث (4) . # وخرجه ابن ماجه (5) ، ولكن عنده عن شهر، عن أبي ذر الغفاري، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما ~~استكر هوا عليه)) ولم يذكر كلام الحسن. # وأما الحديث المرسل عن الحسن، فرواه عنه هشام بن حسان (6) ، ورواه منصور، ~~وعوف عن الحسن (7) من قوله، لم يرفعه. ورواه جعفر بن جسر بن فرقد، عن أبيه، ~~عن الحسن، عن أبي بكرة PageV03P1108 # مرفوعا (1) ، وجعفر وأبوه # ضعيفان ms520 (2) . # قال محمد بن نصر المروزي (3) : ليس لهذا الحديث إسناد يحتج به حكاه ~~البيهقي. PageV03P1109 # وفي " صحيح مسلم " (1) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال لما نزل قوله ~~تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (2) قال الله: قد فعلت. # وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أنها لما نزلت، قال: نعم (3) ، وليس ~~واحد منهما مصرحا برفعه. PageV03P1110 # وخرج الدارقطني (1) من رواية ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن # النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به ~~أنفسها، وما أكرهوا عليه، # إلا أن يتكلموا به أو يعملوا)) ، وهو لفظ غريب. وقد خرجه النسائي (2) ولم ~~يذكر الإكراه. وكذا رواه ابن عيينة عن مسعر، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، ~~عن أبي هريرة، PageV03P1111 # عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزاد فيه: ((وما استكرهوا عليه)) خرجه ~~ابن # ماجه (1) . وقد أنكرت هذه الزيادة على ابن عيينة، ولم يتابعه عليها أحد. ~~والحديث مخرج من رواية قتادة في " الصحيحين " والسنن والمسانيد بدونها. # ولنرجع إلى شرح حديث ابن عباس المرفوع، فقوله: ((إن الله تجاوز لي عن ~~أمتي الخطأ والنسيان)) إلى آخره تقديره: إن الله رفع لي عن أمتي الخطأ، أو ~~ترك ذلك عنهم، فإن ((تجاوز)) لا يتعدى بنفسه. # وقوله: ((الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه)) . # فأما الخطأ والنسيان، فقد صرح القرآن بالتجاوز عنهما قال الله تعالى: # {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (2) ، وقال: {وليس عليكم جناح فيما ~~أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} (3) . # وفي " الصحيحين " (4) عن عمرو بن العاص سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: ((إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ~~فأخطأ، فله أجر)) . PageV03P1112 # وقال الحسن: لولا ما ذكر الله من أمر هذين الرجلين - يعني: داود وسليمان ~~- لرأيت أن القضاة قد هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده ~~(1) : يعني: قوله: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم # القوم} (2) الآية. # وأما الإكراه فصرح القرآن أيضا بالتجاوز عنه، قال تعالى: {من كفر بالله ms521 ~~من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (3) ، وقال تعالى: {لا ~~يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله ~~في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} (4) الآية. # ونحن نتكلم إن شاء الله في هذا الحديث في فصلين: أحدهما في حكم الخطأ ~~والنسيان، والثاني في حكم الإكراه. # الفصل الأول # في الخطأ والنسيان # الخطأ: هو أن يقصد بفعله شيئا، فيصادف فعله غير ما قصده، مثل: أن يقصد ~~قتل كافر، فيصادف قتله مسلما. # والنسيان: أن يكون ذاكرا لشيء، فينساه عند الفعل، وكلاهما معفو عنه، ~~بمعنى أنه لا إثم فيه، ولكن رفع الإثم لا ينافي أن يترتب على نسيانه حكم. # كما أن من نسي الوضوء، وصلى ظانا أنه متطهر، فلا إثم عليه بذلك، ثم إن ~~تبين له أنه كان قد صلى محدثا فإن عليه الإعادة. # ولو ترك التسمية على الوضوء نسيانا، وقلنا بوجوبها، فهل يجب عليه إعادة ~~الوضوء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد (5) . # وكذا لو ترك التسمية على الذبيحة نسيانا، فيه عنه روايتان (6) ، وأكثر ~~الفقهاء على أنها تؤكل. # ولو ترك الصلاة نسيانا، ثم ذكر، فإن عليه القضاء، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا PageV03P1113 # ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)) (1) ثم تلا: {أقم الصلاة لذكري} (2) . # ولو صلى حاملا في صلاته نجاسة لا يعفى عنها، ثم علم بها بعد صلاته، أو في ~~أثنائها، فأزالها فهل يعيد صلاته أم لا؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد ~~(3) ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خلع نعليه في صلاته ~~وأتمها، وقال: ((إن جبريل أخبرني أن فيهما أذى)) (4) ولم يعد صلاته. # ولو تكلم في صلاته ناسيا أنه في صلاة، ففي بطلان صلاته بذلك قولان # مشهوران، هما روايتان عن أحمد (5) ، ومذهب الشافعي: أنها لا تبطل بذلك ~~(6) . # ولو أكل في صومه ناسيا، فالأكثرون على أنه لا يبطل صيامه، عملا # بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أكل، أو شرب ناسيا، فليتم صومه، ~~فإنما أطمعه الله # وسقاه)) (7) . وقال ms522 مالك: عليه الإعادة؛ لأنه بمنزلة من ترك الصلاة ناسيا ~~(8) ، والجمهور يقولون: قد أتى بنية الصيام، وإنما ارتكب بعض محظوراته ~~ناسيا، فيعفى عنه (9) . # ولو جامع ناسيا، فهل حكمه حكم الآكل ناسيا أم لا؟ فيه قولان: ~~PageV03P1114 # أحدهما: - وهو المشهور عن أحمد - أنه يبطل صيامه بذلك وعليه القضاء، وفي ~~الكفارة عنه روايتان (1) . والثاني: لا يبطل صومه بذلك، كالأكل، وهو مذهب ~~الشافعي (2) ، وحكي رواية عن أحمد (3) . وكذا الخلاف في الجماع في الإحرام ~~ناسيا: هل يبطل به النسك أم لا؟ # ولو حلف لا يفعل شيئا، ففعله ناسيا ليمينه، أو مخطئا ظانا أنه غير ~~المحلوف عليه، فهل يحنث في يمينه أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عن ~~أحمد (4) : # أحدها: لا يحنث بكل حال، ولو كانت اليمين بالطلاق والعتاق، وأنكر هذه ~~الرواية عن أحمد الخلال، وقال: هي سهو من ناقلها، وهو قول الشافعي في أحد ~~قوليه، وإسحاق، وأبي ثور، وابن أبي شيبة، وروي عن عطاء، قال إسحاق: ويستحلف ~~أنه كان ناسيا ليمينه. # والثاني: يحنث بكل حال، وهو قول جماعة من السلف ومالك. # والثالث: يفرق بين أن يكون يمينه بطلاق أو عتاق، أو بغيرهما، وهو المشهور ~~عن أحمد، وقول أبي عبيد، وكذا قال الأوزاعي في الطلاق، وقال: إنما الحديث ~~الذي جاء في العفو عن الخطأ والنسيان ما دام ناسيا، وأقام على امرأته، فلا ~~إثم عليه، فإذا ذكر، فعليه اعتزال امرأته، فإن نسيانه قد زال. وحكى إبراهيم ~~الحربي إجماع التابعين على وقوع الطلاق بالناسي. # ولو قتل مؤمنا خطأ، فإن عليه الكفارة والدية بنص الكتاب، PageV03P1115 # وكذا لو أتلف مال غيره خطأ يظنه أنه مال نفسه. # وكذا قال الجمهور في المحرم يقتل الصيد خطأ، أو ناسيا لإحرامه أن عليه ~~جزاءه (1) ، ومنهم من قال: لا جزاء عليه إلا أن يكون متعمدا لقتله تمسكا # بظاهر (2) قوله - عز وجل -: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من ~~النعم} (3) الآية، وهو رواية عن أحمد، وأجاب الجمهور عن الآية بأنه رتب على ~~قتله متعمدا الجزاء وانتقام الله تعالى، ومجموعهما يختص بالعامد، وإذا ~~انتفى ms523 العمد، انتفى الانتقام، وبقي الجزاء ثابتا بدليل آخر. # والأظهر - والله أعلم - أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى رفع ~~الإثم # عنهما؛ لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد ~~لهما، فلا إثم عليهما، وأما رفع الأحكام عنهما، فليس مرادا من هذه النصوص، ~~فيحتاج في ثبوتها ونفيها إلى دليل آخر. PageV03P1116 # الفصل الثاني # في حكم المكره # وهو نوعان: # أحدهما: من لا اختيار له بالكلية، ولا قدرة له على الامتناع، كمن حمل # كرها وأدخل إلى مكان حلف على الامتناع من دخوله، أو حمل كرها، وضرب # به غيره حتى مات ذلك الغير، ولا قدرة له على الامتناع، أو أضجعت، ثم زني ~~بها # من غير قدرة لها على الامتناع، فهذا لا إثم عليه بالاتفاق، ولا يترتب ~~عليه حنث # في يمينه عند جمهور العلماء. وقد حكي عن بعض السلف - كالنخعي - فيه # خلاف، ووقع مثله في كلام بعض أصحاب الشافعي وأحمد، والصحيح عندهم أنه لا ~~يحنث بحال. # وروي عن الأوزاعي في امرأة حلفت على شيء، وأحنثها زوجها كرها أن كفارتها ~~عليه، وعن أحمد رواية كذلك، فيما إذا وطئ امرأته مكرهة في صيامها أو ~~إحرامها أن كفارتها عليه. والمشهور عنه أنه يفسد بذلك صومها وحجها. # والنوع الثاني: من أكره بضرب أو غيره حتى فعل، فهذا الفعل يتعلق به # التكليف، فإنه يمكنه أن لا يفعل فهو مختار للفعل، لكن ليس غرضه نفس ~~الفعل، بل دفع الضرر عنه، فهو مختار من وجه، غير مختار من وجه، ولهذا اختلف ~~الناس: هل هو مكلف أم لا؟ # واتفق العلماء على أنه لو أكره على قتل معصوم لم يبح له أن يقتله، فإنه ~~إنما يقتله باختياره افتداء لنفسه من القتل (1) ، هذا إجماع من العلماء ~~المعتد بهم، وكان في زمن الإمام أحمد يخالف فيه من لا يعتد به، فإذا قتله ~~في هذه الحال، فالجمهور على أنهما يشتركان في وجوب القود: المكره والمكره؟ ~~لاشتراكهما في القتل، وهو قول مالك والشافعي في المشهور وأحمد، ~~PageV03P1117 # وقيل: يجب على المكره وحده؛ لأن المكره صار كالآلة، وهو قول ms524 أبي حنيفة ~~وأحد قولي الشافعي، وروي عن زفر كالأول، وروي عنه أنه يجب على المكره ~~لمباشرته، وليس هو كالآلة؛ لأنه آثم بالاتفاق، وقال أبو يوسف: لا قود على ~~واحد منهما، وخرجه بعض أصحابنا وجها لنا من الرواية لا توجب فيها قتل ~~الجماعة بالواحد، وأولى (1) . # ولو أكره بالضرب ونحوه على إتلاف مال الغير المعصوم، فهل يباح له ذلك؟ ~~فيه وجهان لأصحابنا: فإن قلنا: يباح له ذلك، فضمنه المالك، رجع بما ضمنه ~~على المكره، وإن قلنا: لا يباح له ذلك، فالضمان عليهما معا كالقود. وقيل: ~~على المكره المباشر وحده وهو ضعيف. # ولو أكره على شرب الخمر أو غيره من الأفعال المحرمة، ففي إباحته بالإكراه ~~قولان: # أحدهما: يباح له ذلك استدلالا بقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على ~~البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من ~~بعد إكراههن غفور رحيم} (2) ، وهذه نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، كانت ~~له أمتان يكرههما على الزنى، وهما يأبيان ذلك (3) ، وهذا قول الجمهور ~~كالشافعي، وأبي حنيفة، وهو المشهور عن أحمد، وروي نحوه عن الحسن، ومكحول، ~~ومسروق، وعن عمر بن الخطاب ما يدل عليه. # وأهل هذه المقالة اختلفوا في إكراه الرجل على الزنى، فمنهم من قال: يصح ~~إكراهه PageV03P1118 # عليه، ولا إثم عليه، وهو قول الشافعي، وابن عقيل من أصحابنا، ومنهم من ~~قال: لا يصح إكراهه عليه، وعليه الإثم والحد، وهو قول أبي حنيفة ومنصوص ~~أحمد، وروي عن الحسن. # والقول الثاني: إن التقية إنما تكون في الأقوال، ولا تقية في الأفعال، ~~ولا إكراه عليها، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي العالية، وأبي الشعثاء، ~~والربيع بن أنس، والضحاك (1) ، وهو رواية عن أحمد، وروي عن سحنون أيضا. # وعلى هذا لو شرب الخمر، أو سرق مكرها، حد. # وعلى الأول لو شرب الخمر مكرها، ثم طلق أو أعتق، فهل يكون حكمه حكم ~~المختار لشربها أم لا؟ بل يكون طلاقه وعتاقه لغوا؟ فيه لأصحابنا وجهان (2) ~~، وروي عن الحسن فيمن قيل له: اسجد لصنم وإلا قتلناك، قال: إن كان ms525 الصنم ~~تجاه القبلة، فليسجد، ويجعل نيته لله، وإن كان إلى غير القبلة، فلا يفعل ~~وإن # قتلوه، قال ابن حبيب المالكي: وهذا قول حسن، قال ابن عطية: وما يمنعه أن ~~يجعل نيته لله، وإن كان لغير القبلة (3) ، وفي كتاب الله: {فأينما تولوا ~~فثم وجه الله} (4) ، وفي الشرع إباحة التنفل للمسافر إلى غير القبلة؟ # وأما الإكراه على الأقوال، فاتفق العلماء على صحته، وأن من أكره على قول ~~محرم PageV03P1119 # إكراها معتبرا أن له أن يفتدي نفسه به، ولا إثم عليه، وقد دل عليه قول ~~الله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} (1) . وقال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - لعمار: # ((إن عادوا فعد)) (2) . وكان المشركون قد عذبوه حتى يوافقهم على ما ~~يريدونه # من الكفر، ففعل. # وأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه وصى طائفة من أصحابه، ~~وقال: ((لا تشركوا بالله وإن قطعتم وحرقتم)) (3) ، # فالمراد الشرك بالقلوب، كما قال تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ~~ليس لك به علم فلا تطعهما} (4) ، وقال تعالى: {ولكن من شرح بالكفر صدرا ~~فعليهم غضب من الله} (5) . # وسائر الأقوال يتصور عليها الإكراه، فإذا أكره بغير حق على قول من ~~الأقوال، لم يترتب عليه حكم من الأحكام، وكان لغوا، فإن كلام المكره صدر ~~منه وهو غير راض به، فلذلك عفي عنه، ولم يؤاخذ به في أحكام الدنيا والآخرة. ~~وبهذا فارق الناسي والجاهل، وسواء في ذلك العقود: كالبيع، والنكاح، أو ~~الفسوخ: كالخلع والطلاق والعتاق، وكذلك الأيمان والنذور، وهذا قول جمهور ~~العلماء، وهو قول مالك والشافعي وأحمد. PageV03P1120 # وفرق أبو حنيفة بين ما يقبل الفسخ عنده، ويثبت فيه الخيار كالبيع ونحوه، # فقال: لا يلزم مع الإكراه، وما ليس كذلك، كالنكاح والطلاق والعتاق ~~والأيمان، # فألزم بها مع الإكراه (1) . # ولو حلف: لا يفعل شيئا، ففعله مكرها، فعلى قول أبي حنيفة يحنث (2) ، وأما ~~على قول الجمهور، ففيه قولان: # أحدهما: لا يحنث، كما لا يحنث إذا فعل به ذلك كرها، ولم يقدر على ~~الامتناع كما سبق، وهذا قول الأكثرين منهم. # والثاني: يحنث هاهنا ms526؛ لأنه فعله باختياره بخلاف ما إذا حمل، ولم يمكنه ~~الامتناع، وهو رواية عن أحمد وقول للشافعي، ومن أصحابه - وهو القفال - من ~~فرق بين اليمين بالطلاق والعتاق وغيرهما كما قلنا نحن في الناسي، وخرجه بعض ~~أصحابنا وجها لنا. # ولو أكره على أداء ماله بغير حق، فباع عقاره ليؤدي ثمنه، فهل يصح الشراء # منه أم لا؟ فيه روايتان عن أحمد، وعنه رواية ثالثة: إن باعه بثمن المثل، ~~اشتري منه، وإن باعه بدونه، لم يشتر منه، ومتى رضي المكره بما أكره عليه ~~لحدوث رغبة له فيه بعد الإكراه، والإكراه قائم، صح ما صدر منه من العقود ~~وغيرها بهذا القصد. هذا هو المشهور عند أصحابنا، وفيه وجه آخر: أنه لا يصح ~~أيضا، وفيه بعد. # وأما الإكراه بحق، فهو غير مانع من لزوم ما أكره عليه، فلو أكره الحربي ~~على الإسلام فأسلم، صح إسلامه، وكذا لو أكره الحاكم أحدا على بيع ماله ~~ليوفي دينه، أو أكره المؤلي بعد مدة PageV03P1121 # الإيلاء وامتناعه من الفيئة على الطلاق، ولو حلف لا يوفي دينه، فأكرهه ~~الحاكم على وفائه، فإنه يحنث بذلك؛ لأنه فعل ما حلف عليه حقيقة على وجه لا ~~يعذر فيه. ذكره أصحابنا بخلاف ما إذا امتنع من الوفاء، فأدى عنه الحاكم، ~~فإنه لا يحنث؛ لأنه لم يوجد منه فعل المحلوف عليه. # PageV03P1122 ### | الحديث الأربعون # عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~بمنكبي، فقال: # ((كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت، ~~فلا تنتطر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن ~~حياتك لموتك. رواه البخاري. # هذا الحديث خرجه البخاري (1) عن علي بن المديني، حدثنا محمد # ابن عبد الرحمان الطفاوي، حدثنا الأعمش، حدثني مجاهد، عن ابن عمر، # فذكره، وقد تكلم غير واحد من الحفاظ في لفظة: ((حدثنا مجاهد)) وقالوا: هي ~~غير ثابتة، وأنكروها على ابن المديني وقالوا: لم يسمع الأعمش هذا الحديث من ~~مجاهد، إنما سمعه من ليث بن أبي سليم عنه، وقد ms527 ذكر ذلك العقيلي (2) وغيره، ~~وخرجه الترمذي (3) من حديث ليث عن مجاهد، وزاد فيه: ((وعد نفسك من # أهل القبور)) وزاد في كلام ابن عمر: فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك # غدا. PageV03P1123 # وخرجه ابن ماجه (1) ولم يذكر قول ابن عمر. وخرج الإمام أحمد (2) والنسائي ~~(3) من حديث الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة، عن ابن عمر، قال: أخذ النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي، فقال: ((اعبد الله كأنك تراه، وكن في ~~الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)) . وعبدة بن أبي لبابة أدرك ابن عمر، ~~واختلف في سماعه # منه (4) . # وهذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ ~~الدنيا وطنا ومسكنا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح ~~سفر: يهيئ جهازه للرحيل. # وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكيا عن مؤمن آل ~~فرعون أنه قال: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار ~~القرار} (5) . # وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل ~~الدنيا PageV03P1124 # كمثل راكب قال (1) في ظل شجرة ثم راح وتركها)) (2) . # ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنه قال لهم: اعبروها ولا ~~تعمروها (3) ، وروي عنه أنه قال: من ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تلكم ~~الدنيا، فلا تتخذوها قرارا (4) . # ودخل رجل على أبي ذر، فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين ~~متاعكم؟ قال: إن لنا بيتا نوجه إليه، قال: إنه لابد لك من متاع مادمت ~~هاهنا، قال: إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه (5) . # ودخلوا على بعض الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته، فقالوا له: إنا نرى بيتك ~~بيت رجل مرتحل، فقال: أمرتحل؟ لا، ولكن أطرد طردا. # وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، ~~وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا ~~تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل (6) . # قال بعض ms528 الحكماء: عجبت ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه يشغتل ~~بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة (7) . # وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله ~~PageV03P1125 # عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عن قليل ~~يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا - رحمكم الله - منها ~~الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى (1) . # وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنا، فينبغي للمؤمن أن يكون ~~حاله فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه ~~التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ~~ونهاره، يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن ~~عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين. # فأحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في ~~بلد غربة، فهو غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع ~~إليه، وإنما هو مقيم في الدنيا ليقضي مرمة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، قال ~~الفضيل بن عياض: المؤمن في الدنيا مهموم حزين، همه مرمة جهازه (2) . # ومن كان في الدنيا كذلك، فلا هم له إلا في التزود بما ينفعه عند عوده إلى ~~وطنه، فلا ينافس أهل البلد الذي هو غريب بينهم في عزهم، ولا يجزع من الذل ~~عندهم، قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في ~~عزها، له شأن، وللناس شأن (3) . PageV03P1126 # لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطا منها، ووعدا الرجوع إليها، ~~وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبدا يحن إلى وطنه الأول (1) ، وكما قيل: # كم منزل للمرء يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل # ولبعض شيوخنا (2) : # فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم # ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم # وقد زعموا أن الغريب إذا نأى ... وشطت به أوطانه فهو مغرم # وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت ms529 الأعداء فينا تحكم # كان عطاء السليمي يقول في دعائه: اللهم ارحم في الدنيا غربتي، وارحم في ~~القبر وحشتي، وارحم موقفي غدا بين يديك (3) . # قال الحسن: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: ~~((إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا، كقوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا ~~ما سلكوا منها أكثر، أو ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ~~ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك، إذ خرج ~~عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا ~~إلا من قريب، PageV03P1127 # فلما انتهى إليهم، قال: علام أنتم؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتكم إن ~~هديتكم إلى ماء رواء، ورياض خضر، ما تعملون؟ قالوا: لا نعصيك شيئا، قال: ~~عهودكم ومواثيقكم بالله، قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه ~~شيئا، قال: فأوردهم ماء، ورياضا خضرا، فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا ~~هؤلاء الرحيل، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست ~~كرياضكم، فقال جل القوم - وهم أكثرهم -: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن ~~نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم -: ألم تعطوا هذا ~~الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم في أول حديثه، ~~فوالله ليصدقنكم في آخره، قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فنذر بهم ~~عدو، فأصبحوا من بين أسير وقتيل)) خرجه ابن أبي الدنيا (1) ، PageV03P1128 # وخرجه الإمام أحمد (1) من حديث علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، ~~عن ابن # عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه مختصرا. # فهذا المثل في غاية المطابقة بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمته، ~~فإنه أتاهم والعرب حينئذ أذل الناس، وأقلهم، وأسوؤهم عيشا في الدنيا وحالا ~~في الآخرة، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقه، كما ظهر ~~من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة، وقد نفد ماؤهم، وهلك ظهرهم ~~برؤيته في حلة مترجلا يقطر ms530 رأسه ماء، ودلهم على الماء والرياض المعشبة، ~~فاستدلوا بهيئته وحاله على صدق مقاله، فاتبعوه، ووعد من اتبعه بفتح بلاد ~~فارس والروم، وأخذ كنوزهما، وحذرهم من الاغترار بذلك، والوقوف معه، وأمرهم ~~بالتجزي من الدنيا بالبلاغ، وبالجد والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد ~~لها، فوجدوا ما وعدهم به كله حقا، فلما فتحت عليهم الدنيا - كما وعدهم - ~~اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها، والمنافسة فيها، ورضوا بالإقامة فيها، ~~والتمتع بشهواتها، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في ~~طلبها، وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة والاستعداد لها. ~~فهذه الطائفة القليلة نجت، ولحقت نبيها في الآخرة حيث سلكت طريقه في ~~الدنيا، وقبلت وصيته، وامتثلت ما أمر به. وأما أكثر الناس، فلم يزالوا في ~~سكرة الدنيا والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتى فاجأهم الموت بغتة ~~على هذه الغرة، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير. # وما أحسن قول يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم ~~يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين (2) . PageV03P1130 # الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، ~~وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ~~ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في ~~الاستكثار من متاع الدنيا، ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة ~~من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب. # قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى ~~الآخرة (1) ؟ # وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك (2) . وقال: ~~ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى ~~النهار، حتى يسلمانك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا ابن آدم خطرا (3) ، وقال: ~~الموت معقود في نواصيكم والدنيا تطوى من ورائكم. # قال داود الطائي: إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ~~ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن ms531 تقدم في كل مرحلة زادا لما بين ~~يديها، فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود ~~لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك (4) . # وكتب بعض السلف إلى أخ له: يا أخي يخيل لك أنك مقيم، بل أنت دائب السير، ~~تساق مع ذلك سوقا حثيثا، الموت موجه إليك، والدنيا تطوى من ورائك، وما مضى ~~من عمرك، فليس بكار عليك PageV03P1131 # حتى يكر عليك يوم التغابن. # سبيلك في الدنيا سبيل مسافر ... ولابد من زاد لكل مسافر # ولابد للإنسان من حمل عدة ... ولاسيما إن خاف صولة قاهر # قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم # سنته، وسنته تهدم عمره، وكيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته ~~إلى موته. # وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال فأنت منذ ~~ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه ~~راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمن علم ~~أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم ~~أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول، فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما ~~الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك ~~إن أسأت فيما بقي، أخذت بما مضى وبما بقي (1) ، وفي هذا يقول بعضهم: # وإن امرءا قد سار ستين حجة ... إلى منهل من ورده لقريب # قال بعض الحكماء: من كانت الليالي والأيام مطاياه، سارت به وإن لم # يسر (2) ، وفي هذا قال بعضهم: # وما هذه الأيام إلا مراحل ... يحث بها داع إلى الموت قاصد # وأعجب شيء - لو تأملت - أنها ... منازل تطوى والمسافر قاعد (3) ~~PageV03P1132 # وقال آخر: # أيا ويح نفسي من نهار يقودها ... إلى عسكر الموتى وليل يذودها # قال الحسن: لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار، وتقريب الآجال، ~~هيهات قد صحبا نوحا وعادا وثمود وقرونا بين ذلك كثيرا، فأصبحوا قدموا على ms532 ~~ربهم، ووردوا على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين، لم يبلهما ما ~~مرا به، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى. # وكتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد، فقد أحيط بك من كل جانب، واعلم أنه ~~يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله، والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك ~~به، والسلام (1) . # نسير إلى الآجال في كل لحظة ... وأيامنا تطوى وهن مراحل # ولم أر مثل الموت حقا كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطل # وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب للرأس شامل # ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام وهن قلائل # وأما وصية ابن عمر رضي الله عنهما، فهي مأخوذة من هذا الحديث الذي رواه، ~~وهي متضمنة لنهاية قصر الأمل، وأن الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا ~~أصبح، لم ينتظر المساء، بل يظن أن أجله يدركه قبل ذلك، وبهذا فسر غير واحد ~~من العلماء الزهد في الدنيا، قال المروذي: قلت لأبي عبد الله - يعني: أحمد ~~- أي شيء الزهد في الدنيا؟ PageV03P1133 # قال: قصر الأمل (1) ، من إذا أصبح، قال: لا أمسي، قال: وهكذا قال سفيان ~~(2) . قيل لأبي عبد الله: بأي شيء نستعين على قصر الأمل؟ قال: ما ندري إنما ~~هو توفيق. # قال الحسن: اجتمع ثلاثة من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أملك؟ قال: ما أتى ~~علي شهر إلا ظننت أني سأموت فيه، قال: فقال صاحباه: إن هذا لأمل، فقالا ~~لأحدهم: فما أملك؟ قال: ما أتت علي جمعة إلا ظننت أني سأموت فيها، قال: ~~فقال صاحباه: إن هذا لأمل، فقالا للآخر: فما أملك؟ قال: ما أمل من نفسه في ~~يد غيره (3) ؟ # قال داود الطائي: سألت عطوان بن عمر التميمي، قلت: ما قصر الأمل؟ قال: ما ~~بين تردد النفس، فحدث بذلك الفضيل بن عياض، فبكى، وقال: يقول: يتنفس فيخاف ~~أن يموت قبل أن ينقطع نفسه، لقد كان عطوان من الموت على # حذر (4) . # وقال بعض السلف: ما نمت نوما قط، فحدثت نفسي أني أستيقظ منه. # وكان حبيب أبو محمد ms533 يوصي كل يوم بما يوصي به المحتضر عند موته من تغسيله ~~ونحوه، وكان يبكي كلما أصبح أو أمسى، فسئلت امرأته عن بكائه، فقالت: يخاف - ~~والله - إذا أمسى أن لا يصبح، وإذا أصبح أن لا يمسي (5) . # وكان محمد بن واسع إذا أراد أن ينام قال لأهله: أستودعكم الله، فلعلها أن ~~PageV03P1134 # تكون منيتي التي لا أقوم منها فكان هذا دأبه إذا أراد النوم. # وقال بكر المزني: إن استطاع أحدكم أن لا يبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب، ~~فليفعل، فإنه لا يدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا، ويصبح في أهل الآخرة. # وكان أويس إذا قيل له: كيف الزمان عليك؟ قال: كيف الزمان على رجل إن أمسى ~~ظن أنه لا يصبح، وإن أصبح ظن أنه لا يمسي فيبشر بالجنة أو النار؟ (1) # وقال عون بن عبد الله: ما أنزل الموت كنه منزلته من عد غدا من أجله. كم ~~من مستقبل يوما لا يستكمله، وكم من مؤمل لغد لا يدركه، إنكم لو رأيتم الأجل ~~ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره (2) ، وكان يقول: إن من أنفع أيام المؤمن له ~~في الدنيا ما ظن أنه لا يدرك آخره. # وكانت امرأة متعبدة بمكة إذا أمست قالت: يا نفس، الليلة ليلتك، لا ليلة ~~لك غيرها، فاجتهدت، فإذا أصبحت، قالت: يا نفس اليوم يومك، لا يوم لك # غيره فاجتهدت (3) . # وقال بكر المزني: إذا أردت أن تنفعك صلاتك فقل: لعلي لا أصلي غيرها، وهذا ~~مأخوذ مما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((صل صلاة مودع)) ~~(4) . PageV03P1135 # وأقام معروف الكرخي الصلاة، ثم قال لرجل: تقدم فصل بنا، فقال الرجل: إني ~~إن صليت بكم هذه الصلاة، لم أصل بكم غيرها، فقال معروف: وأنت تحدث نفسك أنك ~~تصلي صلاة أخرى؟ نعوذ بالله من طول الأمل، فإنه يمنع خير العمل (1) . # وطرق بعضهم باب أخ له، فسأل عنه، فقيل له: ليس هو في البيت، فقال: متى ~~يرجع؟ فقالت له جارية من البيت: من كانت نفسه في يد غيره، من يعلم متى ~~يرجع، ولأبي العتاهية من جملة ms534 أبيات: # وما أدري وإن أملت عمرا ... لعلي حين أصبح لست أمسي # ألم تر أن كل صباح يوم ... وعمرك فيه أقصر منه أمس # وهذا البيت الثاني أخذه مما روي عن أبي الدرداء (2) والحسن (3) أنهما ~~قالا: ابن آدم، إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، ومما أنشد بعض ~~السلف: # إنا لنفرح بالأيام نقطعها ... وكل يوم مضى يدني من الأجل PageV03P1136 # فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا ... فإنما الربح والخسران في العمل # قوله: ((وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك)) ، يعني: اغتنم الأعمال ~~الصالحة في الصحة قبل أن يحول بينك وبينها السقم، وفي الحياة قبل أن يحول ~~بينك وبينها الموت، وفي رواية: ((فإنك يا عبد الله لا تدري ما اسمك غدا)) ~~يعني: لعلك غدا من الأموات دون الأحياء. # وقد روي معنى هذه الوصية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه، ففي ~~"صحيح البخاري" عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) (1) . # وفي " صحيح الحاكم " (2) عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- قال لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل ~~سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) . # وقال غنيم بن قيس: كنا نتواعظ في أول الإسلام: ابن آدم، اعمل في فراغك ~~قبل شغلك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك. وفي حياتك ~~لموتك (3) . # وفي " صحيح مسلم " (4) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ~~PageV03P1137 # ((بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو ~~الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة)) . # وفي " الترمذي " (1) عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((قال بادروا ~~بالأعمال سبعا: هل تنظرون إلا إلى فقر منس، أو غنى مطغ، أو مرض مفسد، أو ~~هرم مفند، أو موت مجهز، أو الدجال، فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى ~~وأمر؟)) # والمراد من هذا أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال، فبعضها يشغل عنه ms535، ~~إما في خاصة الإنسان، كفقره وغناه ومرضه وهرمه وموته، PageV03P1138 # وبعضها عام، كقيام الساعة، وخروج الدجال، وكذلك الفتن المزعجة، كما جاء ~~في حديث آخر: # ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم)) (1) . # وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: {يوم يأتي بعض ~~آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها ~~خيرا} (2) . # وفي " الصحيحين " (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس، ~~آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت ~~في إيمانها خيرا)) . PageV03P1139 # وفي " صحيح مسلم " (1) عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث ~~إذا خرجن، لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها ~~خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض)) . # وفيه أيضا (2) عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من تاب قبل ~~أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) . # وعن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله يبسط يده ~~بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع ~~الشمس من # مغربها)) (3) . # وخرج الإمام أحمد (4) ، والنسائي (5) ، والترمذي (6) ، وابن ماجه (7) من ~~حديث صفوان بن عسال، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله فتح ~~بابا قبل المغرب PageV03P1140 # عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه)) . # وفي " المسند " (1) عن عبد الرحمان بن عوف وعبد الله بن عمرو، ومعاوية، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع ~~الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل)) . # وروي عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات، طرحت الأقلام وحبست # الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال. خرجه ابن جرير الطبري (2) ، وكذا قال ~~كثير ابن مرة، ويزيد بن شريح، وغيرهما من السلف: إذا طلعت الشمس من مغربها ~~طبع على القلوب بما ms536 فيها، وترفع الحفظة والعمل، وتؤمر الملائكة أن لا ~~يكتبوا عملا (3) ، وقال سفيان الثوري: إذا طلعت الشمس من مغربها، طوت ~~الملائكة صحائفها ووضعت أقلامها (4) . # فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها ~~ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض هذه الآيات التي لا ~~يقبل معها عمل. قال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة ويوشك أن تنفق، فلا ~~يوصل منها إلى قليل ولا كثير. PageV03P1141 # ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى ~~الرجوع إلى حالة يتمكن فيها من العمل، فلا تنفعه الأمنية (1) . # قال تعالى: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا ~~تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة ~~وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن ~~الساخرين أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب ~~لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} (2) . # وقال تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ~~فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم # يبعثون} (3) . # وقال - عز وجل -: {وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت ~~فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر # الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون} (4) . # وفي " الترمذي " (5) عن أبي هريرة مرفوعا: ((ما من ميت يموت إلا ندم)) ، ~~قالوا: وما ندامته؟ قال: ((إن كان محسنا، ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان ~~مسيئا، ندم أن لا يكون استعتب)) . # فإذا كان الأمر على هذا فيتعين على المؤمن اغتنام ما بقي من عمره، ولهذا ~~قيل: إن بقية عمر المؤمن لا قيمة له. وقال سعيد بن جبير: كل يوم يعيشه ~~المؤمن غنيمة (6) ، وقال بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا ~~يقول: يا ابن آدم، اغتنمني PageV03P1142 # لعله ms537 لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني لعله لا ليلة ~~لك بعدي (1) ، ولبعضهم: # اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بغتة # كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة # وقال محمود الوراق (2) : # مضى أمسك الماضي شهيدا معدلا ... وأعقبه يوم عليك جديد # فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة ... فثن بإحسان وأنت حميد # فيومك إن أعتبته عاد نفعه ... عليك وماضي الأمس ليس يعود # ولا ترج فعل الخير يوما إلى غد ... لعل غدا يأتي وأنت فقيد PageV03P1143 ### | الحديث الحادي والأربعون # عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)) (1) ~~قال الشيخ # رحمه الله: حديث حسن صحيح، رويناه في كتاب " الحجة " بإسناد صحيح! . # يريد بصاحب كتاب " الحجة " الشيخ أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي ~~الشافعي الفقيه الزاهد نزيل دمشق (2) ، وكتابه هذا هو كتاب " الحجة على ~~تارك المحجة " يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة. # وقد خرج هذا الحديث الحافظ أبو نعيم في كتاب " الأربعين " وشرط في أولها ~~أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار مما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه، ~~وخرجته الأئمة في مسانيدهم، ثم خرجه عن الطبراني: حدثنا أبو زيد عبد ~~الرحمان ابن حاتم المرادي، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، ~~عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عقبة بن أوس، عن عبد الله بن عمرو، ~~قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه ~~تبعا لما جئت به لا يزيغ عنه)) . ورواه الحافظ أبو بكر بن عاصم الأصبهاني ~~(3) عن ابن واره، عن نعيم بن حماد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا بعض ~~مشيختنا هشام أو غيره عن ابن سيرين، فذكره. وليس عنده ((لا يزيغ عنه)) ، ~~قال الحافظ أبو موسى المديني: هذا الحديث مختلف فيه على نعيم، وقيل فيه: ~~PageV03P1145 # حدثنا بعض مشيختنا، حدثنا هشام أو غيره. # قلت: تصحيح ms538 هذا الحديث بعيد جدا من وجوه، منها: أنه حديث يتفرد به نعيم ~~بن حماد المروزي، ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة، وخرج له ~~البخاري، فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن، لصلابته في السنة، وتشدده ~~في الرد على أهل الأهواء، وكانوا ينسبونه إلى أنه يهم، ويشبه عليه في بعض ~~الأحاديث، فلما كثر عثورهم على مناكيره، حكموا عليه بالضعف، فروى صالح ابن ~~محمد الحافظ عن ابن معين أنه سئل عنه فقال: ليس بشيء ولكنه صاحب سنة، قال ~~صالح: وكان يحدث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها. وقال أبو ~~داود: عند نعيم نحو عشرين حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لها ~~أصل (1) ، وقال النسائي: ضعيف (2) . وقال مرة: ليس بثقة. وقال مرة: قد كثر ~~تفرده عن الأئمة المعروفين في أحاديث كثيرة، فصار في حد من لا يحتج به. ~~وقال أبو زرعة الدمشقي: يصل أحاديث يوقفها الناس (3) ، يعني: أنه يرفع ~~الموقوفات، وقال أبو عروبة الحراني: هو مظلم الأمر، وقال أبو سعيد بن يونس: ~~روى أحاديث مناكير عن الثقات، ونسبه آخرون إلى أنه كان يضع الحديث، وأين ~~كان أصحاب # عبد الوهاب PageV03P1146 # الثقفي، وأصحاب هشام بن حسان، وأصحاب ابن سيرين عن هذا الحديث حتى يتفرد ~~به نعيم؟ # ومنها: أنه قد اختلف على نعيم في إسناده، فروي عنه، عن الثقفي، عن # هشام، وروي عنه عن الثقفي، حدثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره، وعلى هذه # الرواية، فيكون شيخ الثقفي غير معروف عينه، وروي عنه عن الثقفي، حدثنا ~~بعض مشيختنا، حدثنا هشام أو غيره، فعلى هذه الرواية، فالثقفي رواه عن شيخ ~~مجهول، وشيخه رواه عن غير معين، فتزداد الجهالة في إسناده. # ومنها: أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري، ويقال فيه: يعقوب ابن ~~أوس أيضا (1) ، وقد خرج له أبو داود والنسائي وابن ماجه حديثا عن عبد الله ~~ابن عمرو، PageV03P1147 # ويقال: عبد الله بن عمر، وقد اضطرب في إسناده، وقد وثقه العجلي، وابن ~~سعد، وابن حبان (1) ، وقال ابن خزيمة: روى عنه ابن سيرين ms539 مع جلالته، وقال ~~ابن عبد البر: هو مجهول. # وقال الغلابي في " تاريخه ": يزعمون أنه لم يسمع من عبد الله بن عمرو، ~~وإنما يقول: قال عبد الله بن عمرو، فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن ~~عمرو منقطعة، والله أعلم. # وأما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى ~~تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأوامر ~~والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به، ويكره ما نهى عنه. # وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون ~~حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا ~~تسليما} (2) . # وقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون ~~لهم الخيرة من أمرهم} (3) . # وذم سبحانه من كره ما أحبه الله، أو أحب ما كرهه الله، قال: {ذلك بأنهم ~~كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم} (4) ، وقال تعالى: {ذلك بأنهم اتبعوا ما ~~أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} (5) . # فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما وجب ~~عليه منه، فإن زادت المحبة، حتى أتى بما ندب إليه منه، كان ذلك فضلا، وأن ~~يكره ما كرهه الله تعالى كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، ~~PageV03P1148 # فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها، كان ذلك فضلا. وقد ثبت ~~في # " الصحيحين " (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا يؤمن أحدكم ~~حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وأهله والناس أجمعين)) فلا يكون المؤمن ~~مؤمنا حتى يقدم محبة الرسول على محبة جميع الخلق، ومحبة الرسول تابعة لمحبة ~~مرسله. # والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في حب المحبوبات وبغض ~~المكروهات، قال - عز وجل -: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم ~~وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم ~~من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} (2) . # وقال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله ms540 فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم # ذنوبكم} (3) قال الحسن (4) : قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا ~~رسول الله، إنا نحب ربنا حبا شديدا، فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل ~~الله هذه الآية. # وفي " الصحيحين " (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ثلاث من ~~كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن ~~يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله ~~منه كما يكره أن يلقى في PageV03P1149 # النار)) . # فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه، أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما ~~يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى بما يرضى الله ~~ورسوله، ويسخط ما يسخطه الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب ~~والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك، فإن ارتكب بعض ما يكرهه الله ~~ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله، مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك ~~على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة ~~الواجبة. # PageV03P1150 # قال أبو يعقوب النهرجوري: كل من ادعى محبة الله - عز وجل -، ولم يوافق ~~الله في أمره، فدعواه باطلة، وكل محب ليس يخاف الله، فهو مغرور (1) . # وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله - عز وجل - ولم يحفظ ~~حدوده. # وسئل رويم عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد: # ولو قلت لي مت مت سمعا وطاعة ... وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا (2) # ولبعض المتقدمين (3) : # تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمري في القياس شنيع # لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع # فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف ~~الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، وقال تعالى: {فإن لم ~~يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من ~~الله} (4) . # وكذلك البدع، إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل ~~الأهواء. # وكذلك ms541 المعاصي، إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه. # وكذلك حب الأشخاص: الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول - صلى الله ~~عليه وسلم -. PageV03P1151 # فيجب على المؤمن محبة الله ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل ~~والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما، ولهذا كان من علامات وجود ~~حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، ويحرم موالاة أعداء الله. ومن ~~يكرهه الله عموما، وقد سبق ذلك في موضع آخر، وبهذا يكون الدين كله لله. و ~~((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)) (1) ، ~~ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب، ~~فيجب عليه التوبة من ذلك، والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول - صلى الله ~~عليه وسلم - من تقديم محبة الله ورسوله، وما فيه رضا الله ورسوله على هوى ~~النفوس ومراداتها كلها. # قال وهيب بن الورد (2) : بلغنا - والله أعلم - أن موسى - عليه السلام -، ~~قال: يا رب أوصني؟ قال: أوصيك بي، قالها ثلاثا حتى قال في الآخرة: أوصيك بي ~~أن لا يعرض لك أمر إلا آثرت فيه محبتي على ما سواها، فمن لم يفعل ذلك لم ~~أزكه ولم أرحمه. # والمعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنه الميل إلى خلاف الحق، كما في ~~قوله - عز وجل -: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (3) ، وقال: {وأما ~~من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} (4) . # وقد يطلق الهوى بمعنى المحبة والميل مطلقا، فيدخل فيه الميل إلى الحق ~~وغيره، وربما استعمل بمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه، PageV03P1152 # وسئل صفوان بن عسال: هل سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر ~~الهوى، فقال: سأله أعرابي عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم، فقال: ((المرء ~~مع من أحب)) (1) . ولما نزل قوله - عز وجل -: {ترجي من تشاء منهن وتؤوي ~~إليك من تشاء} (2) ، قالت عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أرى ربك ~~إلا يسارع في هواك (3) . وقال عمر في قصة ms542 المشاورة في أسارى بدر: فهوي رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت (4) ، وهذا ~~الحديث مما جاء استعمال الهوى فيه بمعنى المحبة المحمودة، وقد وقع مثل ذلك ~~في الآثار الإسرائيلية كثيرا، وكلام مشايخ القوم وإشاراتهم نظما ونثرا يكثر ~~في هذا الاستعمال، ومما يناسب معنى الحديث من ذلك قول بعضهم: # إن هواك الذي بقلبي ... صيرني سامعا مطيعا # أخذت قلبي وغمض عيني ... سلبتني النوم والهجوعا # فذر فؤادي وخذ رقادي ... فقال: لا بل هما جميعا PageV03P1153 ### | الحديث الثاني والأربعون # عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ~~على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم ~~استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم ~~لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة)) . رواه الترمذي (1) وقال: ~~حديث حسن. # هذا الحديث تفرد به الترمذي خرجه من طريق كثير بن فائد، حدثنا سعيد ابن ~~عبيد، سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول: حدثنا أنس، فذكره، وقال: حسن ~~غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. انتهى. # وإسناده لا بأس به، وسعيد بن عبيد هو الهنائي، قال أبو حاتم: شيخ. وذكره ~~ابن حبان في " الثقات " (2) ، ومن زعم أنه غير الهنائي، فقد وهم، وقال ~~الدارقطني: تفرد به كثير بن فائد، عن سعيد مرفوعا، ورواه سلم بن قتيبة، عن ~~سعيد بن عبيد، فوقفه على أنس. # قلت: قد روي عنه مرفوعا وموقوفا، وتابعه على رفعه أيضا أبو سعيد مولى بني ~~هاشم، فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا أيضا، وقد روي أيضا من حديث ثابت، عن ~~أنس مرفوعا، ولكن قال أبو حاتم: هو منكر (3) . PageV03P1155 # وقد روي أيضا من حديث أبي ذر خرجه الإمام أحمد (1) من رواية شهر بن حوشب، ~~عن معد يكرب، عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه - ~~عز وجل ms543 - فذكره بمعناه، ورواه بعضهم عن شهر، عن عبد الرحمان بن غنم، عن أبي ~~ذر (2) ، وقيل: عن شهر، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، ولا يصح هذا القول (3) . # وروي من حديث ابن عباس خرجه الطبراني (4) من رواية قيس بن الربيع، عن ~~حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -. # وروي بعضه من وجوه أخر، فخرج مسلم في " صحيحه " (5) من حديث المعرور بن ~~سويد، عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((يقول الله تعالى: ~~من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن ~~أتاني يمشي، أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا ~~لقيته بقرابها مغفرة)) . # وخرج الإمام أحمد (6) من رواية أخشن السدوسي، قال: دخلت على أنس، فقال: ~~سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((والذي نفسي بيده، لو أخطأتم ~~حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله، لغفر لكم)) . ~~PageV03P1156 # فقد تضمن حديث أنس المبدوء بذكره أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها ~~المغفرة: # أحدها: الدعاء مع الرجاء، فإن الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة، # كما قال تعالى: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (1) . # وفي " السنن الأربعة " (2) عن النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال: ((إن الدعاء هو العبادة)) ثم تلا هذه الآية. # وفي حديث آخر خرجه الطبراني (3) مرفوعا: ((من أعطي الدعاء، أعطي الإجابة؛ ~~لأن الله تعالى يقول: {ادعوني أستجب لكم} )) (4) . # وفي حديث آخر: ((ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء، ويغلق عنه باب ~~الإجابة)) (5) . # لكن الدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه، وقد ~~تتخلف إجابته، لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، وقد سبق ذكر بعض ~~شرائطه وموانعه وآدابه في شرح الحديث العاشر. # ومن أعظم شرائطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى، كما خرجه ~~PageV03P1157 # الترمذي (1) من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ms544: ~~((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل ~~لاه)) . # وفي " المسند " (2) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((إن هذه القلوب أوعية، فبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله، ~~فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاء من ظهر قلب ~~غافل)) . # ولهذا نهي العبد أن يقول في دعائه: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم ~~المسألة، فإن الله لا مكره له (3) . # ونهي أن يستعجل، ويترك الدعاء لاستبطاء الإجابة (4) ، وجعل ذلك من موانع ~~الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة، فإنه ~~سبحانه يحب الملحين في الدعاء (5) . # وجاء في الآثار: إن العبد إذا دعا ربه وهو يحبه، قال: يا جبريل، لا تعجل ~~بقضاء حاجة عبدي، فإني أحب أن أسمع # صوته (6) ، وقال تعالى: {وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من ~~المحسنين} (7) فما دام العبد يلح في الدعاء، ويطمع في الإجابة من غير قطع # الرجاء، فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب، يوشك أن يفتح له، وفي ~~" صحيح الحاكم " (8) عن أنس مرفوعا: ((لا تعجزوا عن الدعاء، فإنه لن يهلك ~~مع الدعاء أحد)) . PageV03P1158 # ومن أهم ما يسأل العبد ربه مغفرة ذنوبه، أو ما يستلزم ذلك كالنجاة من ~~النار، ودخول الجنة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((حولها ~~ندندن)) (1) يعني: حول سؤال الجنة والنجاة من النار (2) . وقال أبو مسلم ~~الخولاني: ما عرضت لي دعوة فذكرت النار إلا صرفتها إلى الاستعاذة منها. # ومن رحمة الله تعالى بعبده أن العبد يدعوه بحاجة من الدنيا، فيصرفها عنه، ~~ويعوضه خيرا منها، إما أن يصرف عنه بذلك سوءا، أو أن يدخرها له في الآخرة، ~~أو يغفر له بها ذنبا، كما في " المسند " (3) و" الترمذى " (4) من حديث ~~جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما من أحد يدعو بدعاء إلا ~~آتاه الله ما سأل أو كف عنه من السوء مثله ما لم PageV03P1159 # يدع بإثم أو قطيعة رحم)) . # وفي " المسند " (1) و" صحيح ms545 الحاكم " (2) عن أبي سعيد، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -، قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة ~~رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها ~~له في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها)) ، قالوا: إذا نكثر؟ قال: ~~((الله أكثر)) . # وخرجه الطبراني (3) ، وعنده ((أو يغفر له بها ذنبا قد سلف)) بدل قوله: # ((أو يكشف عنه من السوء مثلها)) . # وخرج الترمذي (4) من حديث عبادة مرفوعا نحو حديث أبي سعيد أيضا. # وبكل حال، فالإلحاح بالدعاء بالمغفرة مع رجاء الله تعالى موجب للمغفرة، ~~والله تعالى يقول: ((أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)) (5) وفي رواية # : ((فلا تظنوا بالله إلا خيرا)) (6) . PageV03P1160 # ويروى من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعا: ((يأتي الله تعالى # بالمؤمن يوم القيامة، فيقربه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق، فيقول ~~له: اقرأ # صحيفتك، فيعرفه ذنبا ذنبا: أتعرف أتعرف؟ فيقول: نعم نعم، ثم يلتفت العبد ~~يمنة ويسرة، فيقول الله تعالى: لا بأس عليك، يا عبدي أنت في ستري من جميع ~~خلقي، ليس بيني وبينك اليوم # PageV03P1161 # أحد يطلع على ذنوبك غيري، اذهب فقد غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما ~~أتيتني به، قال: ما هو يا رب؟ قال: كنت لا ترجو # العفو من أحد غيري)) (1) . # فمن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبا لم يرج مغفرته من غير ~~ربه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره، وقد سبق ذكر ذلك في شرح ~~حديث # أبي ذر: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي)) (2) ... الحديث. # وقوله: ((إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)) ~~يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظمني ذلك، ولا أستكثره، وفي # " الصحيح " (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا دعا أحدكم ~~فليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء)) . # فذنوب العباد وإن عظمت فإن عفو الله ومغفرته أعظم منها وأعظم، فهي صغيرة ~~في جنب عفو الله ومغفرته ms546. # وفي " صحيح الحاكم " (4) عن جابر أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - يقول: واذنوباه واذنوباه مرتين أو ثلاثا، فقال له النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((قل: اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبي، ورحمتك أرجى عندي من ~~عملي)) ، فقالها، ثم قال له: ((عد)) ، فعاد، ثم قال له: ((عد)) ، فعاد، ~~فقال له: ((قم، فقد غفر الله لك)) . PageV03P1162 # وفي هذا يقول بعضهم: # يا كبير الذنب عفو ال ... له من ذنبك أكبر # أعظم الأشياء في ... جنب عفو الله يصغر (1) # وقال آخر: # يا رب إن عظمت ذنوني كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم # إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو ويدعو المجرم # مالي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم إني مسلم (2) # وقال آخر: # ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما # تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعضما (3) # السبب الثاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت الكثرة عنان ~~السماء، وهو السحاب. وقيل: ما انتهى إليه البصر منها، وفي الرواية الأخرى: ~~((لو أخطأتم حتى بلغت خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر ~~لكم)) (4) ، والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شر الذنوب مع ~~سترها. # وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار، فتارة يؤمر به، كقوله تعالى: # {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (5) ، وقوله: {وأن استغفروا ربكم ثم ~~توبوا إليه} (6) . # وتارة يمدح أهله، كقوله: {والمستغفرين بالأسحار} (7) ، وقوله: # {وبالأسحار هم يستغفرون} (8) ، وقوله: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا ~~أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} (9) . ~~PageV03P1163 # وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى: {ومن يعمل سوءا أو ~~يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} (1) . # وكثيرا ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارة عن ~~طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع عن الذنوب بالقلوب ~~والجوارح. # وتارة يفرد الاستغفار، ويرتب عليه المغفرة، كما ذكر في هذا الحديث وما # أشبهه، فقد قيل: إنه أريد به الاستغفار المقترن بالتوبة، وقيل: إن نصوص ~~الاستغفار المفردة كلها مطلقة ms547 تقيد بما ذكر في آية ((آل عمران)) من عدم ~~الإصرار؛ فإن الله وعد فيها المغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يصر على ~~فعله، فتحمل النصوص المطلقة في الاستغفار كلها على هذا المقيد، ومجرد قول ~~القائل: اللهم اغفر لي، طلب منه للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر ~~الدعاء، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، لاسيما إذا خرج عن قلب منكسر ~~بالذنب أو صادف ساعة من ساعات الإجابة كالأسحار وأدبار الصلوات. # ويروى عن لقمان - عليه السلام - أنه قال لابنه: يا بني عود لسانك: اللهم ~~اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلا (2) . # وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، ~~وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة (3) ~~. # وخرج ابن أبي الدنيا في كتاب " حسن الظن " (4) من حديث أبي هريرة # مرفوعا: ((بينما رجل مستلق إذ نظر إلى السماء وإلى النجوم، فقال: إني ~~لأعلم أن لك ربا خالقا، اللهم اغفر لي، فغفر له)) . # وعن مورق قال: كان رجل يعمل السيئات، فخرج إلى البرية، فجمع ترابا، ~~PageV03P1164 # فاضطجع عليه مستلقيا، فقال: رب اغفر لي ذنوبي، فقال: إن هذا ليعرف أن له ~~ربا يغفر ويعذب، فغفر له. # وعن مغيث بن سمي، قال: بينما رجل خبيث، فتذكر يوما، فقال: اللهم غفرانك، ~~اللهم غفرانك، اللهم غفرانك، ثم مات فغفر له (1) . # ويشهد لهذا ما في " الصحيحين " (2) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إن عبدا أذنب ذنبا، فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، قال الله ~~تعالى: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم مكث ما ~~شاء الله، ثم أذنب ذنبا آخر، فذكر مثل الأول مرتين أخريين)) وفي رواية ~~لمسلم (3) : أنه قال في الثالثة: ((قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء)) . ~~والمعنى: ما دام على هذا الحال كلما أذنب استغفر. والظاهر أن مراده ~~الاستغفار المقرون بعدم الإصرار، ولهذا في حديث أبي بكر الصديق، عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال: ((ما أصر من استغفر وإن ms548 عاد في اليوم سبعين ~~مرة)) خرجه أبو داود والترمذي (4) . PageV03P1165 # وأما استغفار اللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرد إن شاء ~~الله أجابه، وإن شاء رده. # وقد يكون الإصرار مانعا من الإجابة، وفي " المسند " (1) من حديث عبد الله ~~ابن عمرو مرفوعا: ((ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)) . ~~PageV03P1166 # وخرج ابن أبي الدنيا (1) من حديث ابن عباس مرفوعا: ((التائب من الذنب كمن ~~لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزيء بربه)) ورفعه منكر، ~~ولعله موقوف (2) . # قال الضحاك: ثلاثة لا يستجاب لهم، فذكر منهم: رجل مقيم على امرأة زنى ~~كلما قضى شهوته، قال: رب اغفر لي ما أصبت من فلانة، فيقول الرب: تحول عنها، ~~وأغفر لك، فأما ما دمت مقيما عليها، فإني لا أغفر لك، ورجل عنده مال قوم ~~يرى أهله، فيقول: رب اغفر لي ما آكل من مال فلان، فيقول تعالى: رد إليهم ~~مالهم، وأغفر لك، وأما ما لم ترد إليهم، فلا أغفر لك. # وقول القائل: أستغفر الله، معناه: أطلب مغفرته، فهو كقوله: اللهم اغفر ~~لي، فالاستغفار التام الموجب للمغفرة: هو ما قارن عدم الإصرار، كما مدح ~~الله أهله، ووعدهم المغفرة، قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره ~~تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره، وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج ~~إلى استغفار كثير، وفي ذلك يقول بعضهم: # أستغفر الله من أستغفر الله ... من لفظة بدرت خالفت معناها PageV03P1167 # وكيف أرجو إجابات الدعاء وقد ... سددت بالذنب عند الله مجراها # فأفضل الاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نصوح، وإن قال ~~بلسانه: أستغفر الله وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة، كما يقول: ~~اللهم اغفر لي، وهو حسن وقد يرجى له الإجابة، وأما من قال: توبة الكذابين، ~~فمراده أنه ليس بتوبة، كما يعتقده بعض الناس، وهذا حق، فإن التوبة لا تكون ~~مع الإصرار. # وإن قال: أستغفر الله وأتوب إليه فله حالتان: # إحداهما: أن يكون مصرا بقلبه على المعصية، فهذا كاذب في قوله: # ((وأتوب إليه)) لأنه غير ms549 تائب، فلا يجوز له أن يخبر عن نفسه بأنه تائب ~~وهو غير تائب. # والثانية: أن يكون مقلعا عن المعصية بقلبه، فاختلف الناس في جواز قوله: ~~وأتوب إليه، فكرهه طائفة من السلف، وهو قول أصحاب أبي حنيفة حكاه عنهم ~~الطحاوي، وقال الربيع بن خثيم: يكون قوله: ((وأتوب إليه)) كذبة وذنبا، ولكن ~~ليقل: اللهم تب علي، أو يقول: اللهم إني أستغفرك فتب علي، وهذا قد يحمل على ~~من لم يقلع بقلبه وهو بحاله أشبه. وكان محمد بن سوقة يقول في استغفاره: ~~استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله توبة نصوحا. # وروي عن حذيفة أنه قال: بحسب المرء من الكذب أن يقول: أستغفر الله، ثم ~~يعود. وسمع مطرف رجلا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فتغيظ عليه، وقال: ~~لعلك لا تفعل. # وهذا ظاهره يدل على أنه إنما كره أن يقول: وأتوب إليه؛ لأن التوبة النصوح ~~أن # PageV03P1168 # لا يعود إلى الذنب أبدا، فمتى عاد إليه، كان كاذبا في قوله: ((أتوب ~~إليه)) . # وكذلك سئل محمد بن كعب القرظي عمن عاهد الله أن لا يعود إلى معصية أبدا، ~~فقال: من أعظم منه إثما يتألي على الله أن لا ينفذ فيه قضاؤه، ورجح قوله في ~~هذا أبو الفرج ابن الجوزي، وروي عن سفيان بن عيينة نحو ذلك. # وجمهور العلماء على جواز أن يقول التائب: أتوب إلى الله، وأن يعاهد العبد ~~ربه على أن لا يعود إلى المعصية، فإن العزم على ذلك واجب عليه، فهو مخبر ~~بما عزم عليه في الحال، لهذا قال: ((ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم ~~سبعين # مرة)) (1) . وقال في المعاود للذنب: ((قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء)) ~~(2) . وفي حديث كفارة المجلس: ((أستغفرك اللهم وأتوب إليك)) (3) ، وقطع ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - سارقا، ثم قال له: ((استغفر الله وتب إليه)) ~~، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: ((اللهم تب عليه)) PageV03P1169 # خرجه أبو داود (1) . # واستحب جماعة من السلف الزيادة على قوله: ((أستغفر الله وأتوب إليه)) ~~فروي عن عمر أنه سمع رجلا يقول ms550: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال له: يا حميق، # قل: توبة من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. # وسئل الأوزاعي عن الاستغفار: أيقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي ~~القيوم وأتوب إليه، فقال: إن هذا لحسن، ولكن يقول: رب اغفر لي حتى يتم ~~الاستغفار. # وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يثني ~~بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة كما في حديث شداد بن أوس عن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، قال # : ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني ~~وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك ~~بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) خرجه ~~البخاري (2) . # وفي " الصحيحين " (3) عن عبد الله بن عمرو أن أبا بكر الصديق - رضي الله ~~عنه - قال: # يا رسول الله، PageV03P1170 # علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: ((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما ~~كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت ~~الغفور الرحيم)) . # ومن أنواع الاستغفار أن يقول العبد: ((أستغفر الله الذي لا إله إلا هو ~~الحي القيوم وأتوب إليه)) . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من ~~قاله، غفر له وإن كان فر من الزحف؛ خرجه أبو داود والترمذي (1) . # وفي كتاب " اليوم والليلة " (2) للنسائي، عن خباب بن الأرت، قال: قلت يا ~~رسول الله، كيف نستغفر؟ قال: ((قل: اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا، إنك ~~أنت التواب الرحيم)) ، وفيه عن أبي هريرة، قال: ما رأيت أحدا أكثر أن # يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) . # وفي " السنن الأربعة " (4) عن ابن عمر، قال: إن كنا لنعد لرسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مئة مرة يقول: PageV03P1171 # ((رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب # الغفور)) . # وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى ms551 الله عليه وسلم ~~-، قال: ((والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة)) ~~. # وفي " صحيح مسلم " (2) عن الأغر المزني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة)) . # وفي " المسند " (3) عن حذيفة قال: قلت: يا رسول الله إني ذرب اللسان وإن ~~عامة ذلك على أهلي، فقال: ((أين أنت من الاستغفار؛ إني لأستغفر الله في ~~اليوم والليلة مئة مرة)) . # وفي " سنن أبي داود " (4) عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ~~ورزقه من حيث لا يحتسب)) . PageV03P1172 # قال أبو هريرة: إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ألف مرة، وذلك على ~~قدر ديتي (1) . # وقالت عائشة: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا (2) . # قال أبو المنهال: ما جاور عبد في قبره من جار أحب إليه من استغفار كثير. # وبالجملة فدواء الذنوب الاستغفار، وروينا من حديث أبي ذر مرفوعا: ((إن ~~لكل داء دواء، وإن دواء الذنوب الاستغفار)) (3) . # قال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم: فالذنوب، ~~وأما دواؤكم: فالاستغفار (4) . قال بعضهم: إنما معول المذنبين البكاء ~~والاستغفار، فمن أهمته ذنوبه، أكثر لها من الاستغفار. # قال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنبا، قد استغفرت الله لكل ذنب مئة ألف ~~مرة (5) . # وحاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاته لا تجاوز ستا وثلاثين # زلة، فاستغفر الله لكل زلة مئة ألف مرة، وصلى لكل زلة ألف ركعة، ختم في ~~كل ركعة منها ختمة، قال: ومع ذلك، فإني غير آمن سطوة ربي أن يأخذني بها، ~~وأنا على خطر من قبول التوبة. # ومن زاد اهتمامه بذنوبه، فربما تعلق بأذيال من قلت ذنوبه، فالتمس منه # الاستغفار. وكان عمر يطلب من الصبيان الاستغفار، ويقول: إنكم لم تذنبوا، ~~وكان أبو هريرة يقول لغلمان الكتاب: قولوا اللهم اغفر لأبي هريرة، فيؤمن ~~PageV03P1173 # على دعائهم. # قال بكر المزني: لو كان رجل يطوف على الأبواب ms552 كما يطوف المسكين يقول: ~~استغفروا لي، لكان نوله أن يفعل. # ومن كثرت ذنوبه وسيئاته حتى فاتت العد والإحصاء (1) ، فليستغفر الله مما ~~علم الله، فإن الله قد علم كل شيء وأحصاه، كما قال تعالى: {يوم يبعثهم الله ~~جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه} (2) ، وفي حديث شداد بن أوس، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسألك من خير ما تعلم. وأعوذ بك من شر ما ~~تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب)) (3) . وفي هذا يقول بعضهم: # أستغفر الله مما يعلم الله ... إن الشقي لمن لا يرحم الله # ما أحلم الله عمن لا يراقبه ... كل مسيء ولكن يحلم الله # فاستغفر الله مما كان من زلل ... طوبى لمن كف عما يكره الله # طوبى لمن حسنت فيه سريرته ... طوبى لمن ينتهي عما نهى الله PageV03P1174 # السبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده، ~~فقد المغفرة، ومن جاء به، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، قال # تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (1) فمن ~~جاء مع التوحيد بقراب الأرض - وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها - خطايا، # لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله - عز وجل -، فإن شاء غفر ~~له، وإن # شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها، ثم ~~يدخل الجنة. # قال بعضهم: الموحد لا يلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يلقى فيها ما ~~يلقى الكفار، ولا يبقى فيها كما يبقى الكفار، فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه ~~لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند ~~الموت، أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار # بالكلية. # فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما ~~وإجلالا ومهابة، وخشية، ورجاء وتوكلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو ~~كانت مثل زبد البحر، وربما قلبتها حسنات، كما سبق ذكره في تبديل السيئات ~~حسنات، فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم ms553، فلو وضع ذرة منها على جبال ~~الذنوب والخطايا، لقلبها حسنات كما في " المسند " (2) وغيره، عن أم هانئ، ~~عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((لا إله إلا الله لا تترك ذنبا، ~~ولا يسبقها عمل)) . # وفي " المسند " (3) عن شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت: أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال لأصحابه: ((ارفعوا أيديكم، وقولوا: لا إله إلا الله)) ~~، فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، ثم ~~قال: ((الحمد لله، اللهم بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني الجنة ~~عليها، وإنك لا تخلف الميعاد)) ، ثم قال: PageV03P1175 # ((أبشروا، فإن الله قد غفر لكم)) . # قال الشبلي: من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها، فصار رمادا تذروه الرياح، ~~ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها، فصار ذهبا أحمر ينتفع به، ومن ركن إلى ~~الله، أحرقه نور التوحيد، فصار جوهرا لا قيمة له. # إذا علقت نار المحبة بالقلب أحرقت منه كل ما سوى الرب - عز وجل -، فطهر ~~القلب حينئذ من الأغيار، وصلح عرشا للتوحيد: ((ما وسعني سمائي ولا أرضي، # ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)) (1) . # غصني الشوق إليهم بريقي ... فوا حريقي في الهوى وا حريقي # قد رماني الحب في لج بحر ... فخذوا بالله كف الغريق # حل عندي حبكم في شغافي ... حل مني كل عقد وثيق # فهذا آخر ما ذكره الشيخ رحمه الله من الأحاديث في هذا الكتاب، ونحن بعون ~~الله ومشيئته نذكر تتمة الخمسين حديثا من الأحاديث الجامعة لأنواع العلوم ~~والحكم والآداب الموعود بها في أول الكتاب، والله الموفق للصواب. ~~PageV03P1176 ### | الحديث الثالث والأربعون # عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر)) . خرجه ~~البخاري (1) ومسلم (2) . # هذا الحديث الذي زعم بعض شراح هذه الأربعين أن الشيخ - رحمه الله تعالى # - أغفله، فإنه مشتمل على أحكام المواريث وجامع لها، وهذا الحديث خرجاه من ~~رواية وهيب، وروح بن القاسم، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس، وخرجه ~~مسلم (3) من رواية معمر، ويحيى بن ms554 أيوب، عن ابن طاووس أيضا. وقد رواه ~~الثوري (4) ، وابن عيينة، وابن جريج وغيرهم عن ابن طاووس عن أبيه مرسلا من ~~غير ذكر ابن عباس، PageV03P1177 # ورجح النسائي (1) إرساله. # وقد اختلف العلماء في معنى قوله: ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) : # فقالت طائفة: المراد بالفرائض الفروض المقدرة في كتاب الله تعالى، ~~والمراد: أعطوا الفروض المقدرة لمن سماها الله لهم، فما بقي بعد هذه ~~الفروض، فيستحقه أولى الرجال، والمراد بالأولى: الأقرب، كما يقال: هذا يلي ~~هذا، أي: يقرب منه (2) ، فأقرب الرجال هو أقرب العصبات، فيستحق الباقي ~~بالتعصيب، وبهذا # المعنى فسر الحديث جماعة من الأئمة، منهم الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، ~~نقله عنهما إسحاق بن منصور، وعلى هذا، فإذا اجتمع بنت وأخت وعم أو ابن عم ~~أو ابن أخ، فينبغي أن يأخذ الباقي بعد نصف البنت العصبة، وهذا قول ابن ~~عباس، وكان يتمسك بهذا الحديث، ويقر بأن الناس كلهم على خلافه، وذهبت ~~الظاهرية إلى قوله أيضا. # وقال إسحاق: إذا كان مع البنت والأخت عصبة، فالعصبة أولى، وإن لم يكن ~~معهما أحد، فالأخت لها الباقي، وحكي عن ابن مسعود أنه قال: البنت عصبة من ~~لا عصبة له، ورد بعضهم هذا، وقال: لا يصح عن ابن مسعود. # وكان ابن الزبير ومسروق يقولان بقول ابن عباس، ثم رجعا عنه. # وذهب جمهور العلماء إلى أن الأخت مع البنت عصبة لها ما فضل، منهم عمر، ~~وعلي، وعائشة، وزيد، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وتابعهم سائر العلماء (3) . # وروى عبد الرزاق (4) : أخبرنا ابن جريج: سألت ابن طاووس عن ابنة وأخت، ~~فقال: كان أبي يذكر عن ابن عباس، عن رجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~فيها شيئا، وكان طاووس لا يرضى بذلك الرجل، قال: وكان أبي يشك فيها، ولا ~~PageV03P1178 # يقول فيها شيئا، وقد كان يسأل عنها. والظاهر - والله أعلم - أن مراد ~~طاووس هو هذا الحديث، فإن ابن عباس لم يكن عنده نص صريح عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - في ميراث الأخت مع البنت، إنما كان يتمسك بمثل عموم هذا ~~الحديث. # وما ذكر طاووس ms555 أن ابن عباس رواه عن رجل وأنه لا يرضاه، فابن عباس أكثر ~~رواياته للحديث عن الصحابة، والصحابة كلهم عدول قد رضي الله عنهم، # جوأثنى عليهم، فلا عبرة بعد ذلك بعدم رضا طاووس. # وفي " صحيح البخاري " (1) عن أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شرحبيل، قال: ~~جاء رجل إلى أبي موسى، فسأله عن ابنة وابنة ابن، وأخت لأب وأم، فقال: ~~للابنة النصف، وللأخت ما بقي وائت ابن مسعود فسيتابعني، فأتى ابن مسعود، ~~فذكر ذلك له، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بقضاء # رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس ~~تكملة الثلثين، وما بقي، فللأخت، قال: فأتينا أبا موسى، فأخبرناه بقول ابن ~~مسعود، فقال: لا تسألوني مادام هذا الحبر فيكم. # وفيه (2) أيضا عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد، قال: قضى فينا ~~معاذ بن جبل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصف للابنة، ~~والنصف للأخت، ثم ترك الأعمش ذكر عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ~~فلم يذكره. وخرجه أبو داود (3) من وجه آخر عن الأسود، وزاد فيه: ونبي الله ~~- صلى الله عليه وسلم - يومئذ حي. PageV03P1179 # واستدل ابن عباس لقوله بقول الله - عز وجل -: {قل الله يفتيكم في الكلالة ~~إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} (1) وكان يقول: أأنتم ~~أعلم أم الله؟! يعني: أن الله لم يجعل لها النصف إلا مع عدم الولد، وأنتم ~~تجعلون لها النصف مع الولد وهو البنت (2) . # والصواب قول عمر والجمهور، ولا دلالة في هذه الآية على خلاف ذلك (3) ؛ ~~لأن المراد بقوله: {فلها نصف ما ترك} (4) بالفرض، وهذا مشروط بعدم الولد ~~بالكلية، ولهذا قال بعده: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} (5) ~~يعني بالفرض، والأخت الواحدة إنما تأخذ النصف مع عدم وجود الولد الذكر ~~والأنثى، وكذلك الأختان فصاعدا إنما يستحقون الثلثين مع عدم وجود الولد ~~الذكر والأنثى، فإن كان هناك ولد، فإن كان ذكرا، فهو مقدم على الإخوة مطلقا ~~ذكورهم وإناثهم، وإن لم ms556 يكن هناك ولد ذكر، بل أنثى، فالباقي بعد فرضها ~~يستحقه الأخ مع أخته بالاتفاق، فإذا كانت الأخت لا يسقطها أخوها؛ فكيف ~~يسقطها من هو أبعد منه من العصبات كالعم وابنه؟ وإذا لم يكن العصبة الأبعد ~~مسقطا لها، فيتعين تقديمها عليه، لامتناع مشاركته لها، فمفهوم الآية أن ~~الولد يمنع أن يكون للأخت النصف بالفرض، وهذا حق ليس مفهومها أن الأخت تسقط ~~بالبنت، ولا تأخذ ما فضل من ميراثها، يدل عليه قوله تعالى: {وهو يرثها إن ~~لم يكن لها ولد} (6) ، وقد أجمعت الأمة على أن الولد الأنثى لا يمنع الأخ ~~أن يرث من مال أخته ما فضل عن البنت أو البنات، وإنما وجود الولد الأنثى ~~يمنع أن يحوز الأخ ميراث أخته # كله، PageV03P1180 # فكما أن الولد إن كان ذكرا، منع الأخ من الميراث، وإن كان أنثى، لم يمنعه ~~الفاضل عن ميراثها، وإن منعه حيازة الميراث، فكذلك الولد إن كان ذكرا منع ~~الأخت الميراث بالكلية، وإن كان أنثى، منعت الأخت أن يفرض لها النصف، # ولم يمنعها أن تأخذ ما فضل عن فرضها، والله أعلم (1) . # وأما قوله: ((فما أبقت الفرائض، فلأولى رجل ذكر)) ، فقد قيل: إن المراد ~~به العصبة البعيد خاصة، كبني الإخوة والأعمام وبنيهم، دون العصبة القريب؛ ~~بدليل أن الباقي بعد الفروض يشترك فيه الذكر والأنثى إذا كان العصبة قريبا، ~~كالأولاد والإخوة بالاتفاق، فكذلك الأخت مع البنت بالنص الدال عليه (2) . # وأيضا فإنه يخص منه هذه الصور بالاتفاق، وكذلك يخص منه المعتقة مولاة ~~النعمة بالاتفاق، فتخص منه صورة الأخت مع البنت بالنص. # وقالت طائفة آخرون: المراد بقوله: ((ألحقوا الفرائض بأهلها)) (3) ما ~~يستحقه ذوو الفروض في الجملة، سواء أخذوه بفرض أو بتعصيب طرأ لهم، والمراد ~~بقوله: ((فما بقي، فلأولى رجل ذكر)) العصبة الذي ليس له فرض بحال، ويدل ~~عليه أنه قد روي الحديث بلفظ آخر، وهو: ((اقسموا المال بين أهل الفرائض على ~~كتاب الله)) (4) ، فدخل في ذلك كل من كان من أهل الفروض بوجه من الوجوه، ~~وعلى هذا، فما تأخذه الأخت مع أخيها، أو ابن عمها ms557 إذا عصبها هو داخل في هذه ~~القسمة؛ لأنها من أهل الفرائض في الجملة، فكذلك ما تأخذه الأخت مع البنت. ~~PageV03P1181 # وقالت فرقة أخرى: المراد بأهل الفرائض في قوله: ((ألحقوا الفرائض # بأهلها)) ، وقوله: ((اقسموا المال بين أهل الفرائض)) جملة من سماه الله ~~في كتابه (1) من أهل المواريث من ذوي الفروض والعصبات كلهم، فإن كل ما ~~يأخذه الورثة، فهو فرض فرضه الله لهم، سواء كان مقدرا أو غير مقدر، كما قال ~~بعد ذكر ميراث الوالدين والأولاد: {فريضة من الله} (2) ، وفيهم ذو فرض ~~وعصبة، وكما قال: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب ~~مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا} (3) ، وهذا ~~يشمل العصبات وذوي الفروض، فكذلك قوله: ((اقسموا الفرائض بين أهلها على ~~كتاب الله)) يشمل قسمته بين ذوي الفروض والعصبات على ما في كتاب الله (4) ، ~~فإن قسم على ذلك ثم فضل منه شيء، فيختص بالفاضل أقرب الذكور من الورثة، ~~وكذلك إن لم يوجد في كتاب الله تصريح بقسمته بين من سماه الله من الورثة، ~~فيكون حينئذ المال لأولى رجل ذكر منهم. # فهذا الحديث مبين لكيفية قسمة المواريث المذكورة في كتاب الله بين أهلها ~~ومبين لقسمة ما فضل من المال عن تلك القسمة مما لم يصرح به في القرآن من ~~أحوال أولئك الورثة وأقسامهم، ومبين أيضا لكيفية توريث بقية العصبات الذين ~~لم يصرح بتسميتهم في القرآن، فإذا ضم هذا الحديث إلى آيات القرآن، انتظم ~~ذلك كله معرفة قسمة المواريث بين جميع ذوي الفروض والعصبات. # ونحن نذكر حكم توريث الأولاد والوالدين كما ذكره الله في أول ~~PageV03P1182 # سورة النساء، وحكم توريث الإخوة من الأبوين، أو من الأب، كما ذكره الله ~~في آخر السورة المذكورة. # فأما الأولاد، فقد قال الله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ ~~الأنثيين} (1) ، فهذا حكم اجتماع ذكورهم وإناثهم أنه يكون للذكر منهم مثل ~~حظ الأنثيين، ويدخل في ذلك الأولاد، وأولاد البنين باتفاق العلماء، فمتى ~~اجتمع الأولاد إخوة وأخوات، اقتسموا الميراث على هذا الوجه عند الأكثرين، ~~فلو كان ms558 هناك بنت للصلب أو ابنتان، وكان هناك ابن ابن مع أخته اقتسما ~~الباقي أثلاثا؛ لدخولهم في هذا العموم. هذا قول جمهور العلماء، منهم عمر ~~وعلي وزيد وابن عباس، وذهب إليه عامة العلماء، والأئمة الأربعة (2) . # وذهب ابن مسعود إلى أن الباقي بعد استكمال بنات الصلب الثلثين، كله لابن ~~الابن، ولا يعصب أخته، وهو قول علقمة وأبي ثور وأهل الظاهر، فلا يعصب عندهم ~~الولد أخته إلا أن يكون لها فريضة لو انفردت عنه، فكذلك قالوا فيما إذا كان ~~هناك بنت وأولاد ابن ذكور وإناث: أن الباقي لجميع ولد الابن، للذكر منهم ~~مثل حظ الأنثيين (3) . # وقال ابن مسعود في بنت وبنات ابن وبني ابن: للبنت النصف، والباقي بين ولد ~~الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين إلا أن تزيد المقاسمة بنات الابن على السدس، ~~فيفرض لهن السدس، ويجعل الباقي لبني الابن (4) ، وهذا قول أبي ثور. # وأما الجمهور، فقالوا: النصف الباقي لولد الابن، للذكر مثل حظ الأنثيين ~~عملا بعموم الآية، وعندهم أن الولد وإن نزل يعصب من في درجته بكل حال، سواء ~~كان للأنثى PageV03P1183 # فرض بدونه أو لم يكن، ولا يعصب من أعلى منه من الإناث إلا بشرط أن لا ~~يكون لها فرض بدونه، ولا يعصب من أسفل منه بكل حال. # ثم قال تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة ~~فلها النصف} (1) . فهذا حكم انفراد الإناث من الأولاد أن للواحدة # النصف، ولما فوق الاثنتين الثلثان، ويدخل في ذلك بنات الصلب وبنات الابن ~~عند عدمهن، فإن اجتمعن، فإن استكمل بنات الصلب الثلثين، فلا شيء لبنات ~~الابن المنفردات، وإن لم يستكمل البنات الثلثين، بل كان ولد الصلب بنتا ~~واحدة، ومعها بنات ابن، فللبنت النصف، ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين؛ ~~لئلا يزيد فرض البنات على الثلثين، وبهذا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~في حديث ابن مسعود الذي تقدم ذكره، وهو قول عامة العلماء، إلا ما روي عن ~~ابن مسعود وسلمان بن ربيعة: أنه لا شيء لبنات الابن، وقد رجع أبو موسى إلى ms559 ~~قول ابن مسعود لما بلغه قوله في ذلك (2) . # وإنما أشكل على العلماء حكم ميراث البنتين، فإن لهما الثلثين بالإجماع ~~كما حكاه ابن المنذر (3) وغيره، وما حكي فيه عن ابن عباس أن لهما النصف، ~~فقد قيل: إن إسناده لا يصح، والقرآن يدل على خلافه، حيث قال: {وإن كانت ~~واحدة فلها النصف} (4) ، فكيف تورث أكثر من واحدة النصف؟ وحديث ابن مسعود ~~في توريث البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة الثلثين يدل على توريث ~~البنتين الثلثين بطريق الأولى. PageV03P1184 # وخرج الإمام أحمد (1) ، وأبو داود (2) ، والترمذي (3) من حديث جابر أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - ورث ابنتي سعد بن الربيع الثلثين، ولكن أشكل ~~فهم ذلك من القرآن لقوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين} (4) ، فلهذا ~~اضطرب الناس في هذا، وقال كثير من الناس فيه أقوالا مستبعدة. # ومنهم من قال: استفيد حكم ميراث الابنتين من ميراث الأختين، فإنه قال ~~تعالى: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} (5) ، واستفيد حكم ميراث ~~أكثر من الأختين من حكم ميراث ما فوق الاثنتين. # ومنهم من قال: البنت مع أخيها لها الثلث بنص القرآن، فلأن يكون لها الثلث ~~مع أختها أولى، وسلك بعضهم مسلكا آخر، وهو أن الله تعالى ذكر حكم توريث (6) ~~اجتماع الذكور والإناث من الأولاد، وذكر حكم توريث الإناث إذا انفردن عن ~~الذكور، ولم ينص على حكم انفراد الذكور منهم عن الإناث، وجعل حكم الاجتماع ~~أن الذكر له مثل حظ الأنثيين، فإن اجتمع مع الابن ابنتان فصاعدا، فله مثل ~~نصيب اثنتين منهن، PageV03P1185 # وإن لم يكن معه إلا ابنة واحدة، فله الثلثان ولها الثلث، وقد سمى الله ما ~~يستحقه الذكر حظ الأنثيين مطلقا، وليس الثلثان حظ الأنثيين في حال ~~اجتماعهما مع الذكر؛ لأن حظهما حينئذ النصف، فتعين أن يكون الثلثان حظهما ~~حال الانفراد. # وبقي هاهنا قسم ثالث لم يصرح القرآن بذكره، وهو حكم انفراد الذكور من ~~الولد، وهذا مما يمكن إدخاله في حديث ابن عباس: ((فما بقي فلأولى رجل ذكر)) ~~، فإن هذا القسم قد بقي ولم يصرح بحكمه في القرآن ms560، فيكون المال حينئذ لأقرب ~~الذكور من الولد والأمر على هذا، فإنه لو اجتمع ابن وابن ابن، لكان المال ~~كله للابن، ولو كان ابن ابن وابن ابن ابن، لكان المال كله لابن الابن على ~~مقتضى حديث ابن عباس، والله أعلم (1) . # ثم ذكر تعالى حكم ميراث الأبوين، فقال: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس ~~مما ترك إن كان له ولد} (2) ، فهذا حكم ميراث الأبوين إذا كان الولد ~~المتوفى ولد، وسواء في الولد الذكر والأنثى، وسواء فيه ولد الصلب وولد ~~الابن، هذا كالإجماع من العلماء وقد حكى بعضهم عن مجاهد فيه خلافا، فمتى ~~كان للميت ولد، أو ولد ابن، وله أبوان، فلكل واحد من أبويه السدس فرضا، ثم ~~إن كان الولد ذكرا، فالباقي بعد سدسي الأبوين له، وربما دخل هذا في قوله - ~~صلى الله عليه وسلم - # : ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي، فلأولى رجل ذكر)) . PageV03P1186 # وأقرب العصبات الابن، وإن كان الولد أنثى، فإن كانتا اثنتين فصاعدا، ~~فالثلثان لهن، ولا يفضل من المال شيء، وإن كانت بنتا واحدة، فلها النصف (1) ~~، ويفضل من المال سدس آخر، فيأخذه الأب بالتعصيب، عملا بقوله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)) (2) ، فهو ~~أولى رجل ذكر عند فقد # الابن؛ إذ هو أقرب من الأخ وابنه والعم وابنه. # ثم قال تعالى: {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} (3) ، يعني: ~~إذا لم يكن للميت ولد، وله أبوان يرثانه، فلأمه الثلث، فيفهم من ذلك أن ~~الباقي بعد الثلث للأب؛ لأنه أثبت ميراثه لأبويه، وخص الأم من الميراث ~~بالثلث، فعلم أن الباقي للأب، ولم يقل: فللأب - مثلا - ما للأم، لئلا يوهم ~~أن اقتسامهما المال هو بالتعصيب كالأولاد والإخوة، إذا كان فيهم ذكور ~~وإناث. # وكان ابن عباس يتمسك بهذه الآية بقوله في المسألتين الملقبتين بالعمريتين ~~وهما: زوج وأبوان، وزوجة وأبوان، فإن عمر قضى أن الزوجين يأخذان فرضهما من ~~المال، وما بقي بعد فرضهما في المسألتين، فللأم ثلثه، والباقي للأب (4) ، ~~وتابعه على ذلك جمهور الأمة (5) . # وقال ابن عباس: بل للأم ms561 الثلث كاملا (6) ، تمسكا بقوله: {فإن لم يكن له ~~ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} (7) . # وقد قيل في جواب هذا: إن الله إنما جعل للأم الثلث بشرطين: PageV03P1187 # أحدهما: أن لا يكون للولد المتوفى ولد، والثاني: أن يرثه أبواه، أي: أن ~~ينفرد أبواه بميراثه، # فما لم ينفرد أبواه بميراثه، فلا تستحق الأم الثلث، وإن لم يكن للمتوفى ~~ولد. # وقد يقال - وهو أحسن -: إن قوله: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} (1) أي: مما ~~ورثه الأبوان، ولم يقل: فلأمه الثلث مما ترك كما قال في السدس، فالمعنى: ~~أنه إذا لم يكن له ولد، وكان لأبويه من ماله ميراث، فللأم ثلث ذلك الميراث ~~الذي يختص به الأبوان، ويبقى الباقي للأب. ولهذا السر والله أعلم حيث ذكر ~~الله الفروض المقدرة لأهلها، قال فيها: {مما ترك} ، أو ما يدل على ذلك، ~~كقوله: {من بعد وصية يوصي بها أو دين} (2) ، ليبين أن ذا الفرض حقه ذلك ~~الجزء المفروض المقدر له من جميع المال بعد الوصايا والديون، وحيث ذكر ~~ميراث العصبات، أو ما يقتسمه الذكور والإناث على وجه التعصيب، كالأولاد ~~والإخوة لم يقيده بشيء من ذلك، ليبين أن المال المقتسم بالتعصيب ليس هو ~~المال كله، بل تارة يكون جميع المال، وتارة يكون هو الفاضل عن الفروض ~~المفروضة المقدرة، وهنا لما ذكر ميراث الأبوين من ولدهما الذي لا ولد له، ~~ولم يكن اقتسامهما للميراث بالفرض المحض، كما في ميراثهما مع الولد، ولا ~~كان بالتعصيب المحض الذي يعصب فيه الذكر الأنثى، ويأخذ مثلي ما تأخذه ~~الأنثى، بل كانت الأم تأخذ ما تأخذه بالفرض، والأب يأخذ ما يأخذه بالتعصيب، ~~قال: {وورثه أبواه فلأمه الثلث} (3) يعني: أن القدر الذي يستحقه الأبوان من ~~ميراثه تأخذ الأم ثلثه فرضا، والباقي يأخذه الأب بالتعصيب (4) ، وهذا مما ~~فتح الله به، ولا أعلم أحدا سبق إليه، ولله الحمد والمنة. PageV03P1188 # ثم قال تعالى: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو ~~دين} (1) يعني: للأم السدس مع الأخوة من جميع التركة الموروثة التي يقتسمها ~~الورثة، ولم يذكر هنا ميراث ms562 الأب مع الأم، ولا شك أنه إذا اجتمع أم وإخوة ~~ليس معهم أب، فإن للأم السدس، والباقي للإخوة، ويحجبها الأخوان فصاعدا عند ~~الجمهور (2) . # وأما إن كان مع الأم والإخوة أب، فقال الأكثرون: يحجب الإخوة الأم ولا ~~يرثون، وروي عن ابن عباس أنهم يرثون السدس الذي حجبوا عنه الأم بالفرض كما ~~يرث ولد الأم مع الأم بالفرض. # وقد قيل: إن هذا مبني على قوله: إن الكلالة من لا ولد له خاصة، ولا يشترط ~~للكلالة فقد الوالد، فيرث الإخوة مع الأب بالفرض (3) . # ومن العلماء المتأخرين من قال: إذا كان الإخوة محجوبين بالأب، فلا يحجبون ~~الأم عن شيء، بل لها حينئذ الثلث، ورجحه الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمة ~~الله عليه، وقد يؤخذ من عموم قول عمر وغيره من السلف: من لا يرث لا يحجب ~~(4) ، وقد قال نحوه أحمد والخرقي، لكن أكثر العلماء يحملون ذلك على أن ~~المراد من ليس له أهلية الميراث بالكلية، كالكافر والرقيق، دون من لا يرث، ~~لانحجابه بمن هو أقرب منه، والله أعلم. # وقد يشهد للقول بأن الإخوة إذا كانوا محجوبين لا يحجبون الأم أن الله ~~تعالى قال: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} (5) ولم يذكر الأب، فدل على أن ~~ذلك حكم انفراد الأم مع الإخوة، فيكون الباقي بعد السدس كله لهم، وهذا ~~ضعيف، فإن الإخوة قد يكونون من أم، فلا يكون لهم سوى الثلث، والله تعالى ~~أعلم. PageV03P1189 # واعلم أن الله تعالى ذكر حكم ميراث الأبوين، ولم يذكر الجد ولا الجدة، ~~فأما الجدة، فقد قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما: إنه ~~ليس لهما في كتاب الله شيء (1) ، وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك، وأن ~~فرضها إنما ثبت بالسنة. وقيل: إن السدس طعمة أطعمها رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - وليس بفرض، كذا روي عن ابن مسعود (2) وسعيد بن المسيب (3) . # وقد روي عن ابن عباس من وجوه فيها ضعف أنها بمنزلة الأم عند فقد الأم ترث ~~ميراث الأم، فترث الثلث تارة، والسدس أخرى، وهذا شذوذ ms563 (4) ، ولا يصح إلحاق ~~الجدة بالجد؛ لأن الجد عصبة يدلي بعصبة، والجدة ذات فرض تدلي بذات فرض ~~فضعفت، وقد قيل: إنه ليس لها فرض بالكلية، وإنما السدس طعمة أطعمها النبي - ~~صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قالت طائفة ممن يرى الرد على ذوي الفروض: إنه ~~لا يرد على الجدة، لضعف فرضها، وهو رواية عن أحمد. # وأما الجد، فاتفق العلماء على أنه يقوم مقام الأب في أحواله المذكورة من # قبل (5) ، فيرث مع الولد السدس بالفرض، ومع عدم الولد يرث بالتعصيب، وإن ~~بقي شيء مع إناث الولد أخذه بالتعصيب أيضا عملا بقوله: ((فما أبقت الفرائض، ~~فلأولى رجل ذكر)) . # ولكن اختلفوا إذا اجتمع أم وجد مع أحد الزوجين، فروي عن طائفة من الصحابة ~~أن للأم ثلث الباقي، كما لو كان معها الأب كما سبق، روي ذلك عن عمر، وابن ~~مسعود كذا نقله بعضهم، ومنهم من قال: إنما روي عن عمر، وابن مسعود في زوج ~~وأم وجد أن للأم ثلث الباقي. PageV03P1190 # وروي عن ابن مسعود رواية أخرى: أن النصف الفاضل بين الجد والأم نصفان (1) ~~، وأما في زوجة وأم وجد، فروي عن ابن مسعود رواية شاذة: أن للأم ثلث ~~الباقي، والصحيح عنه، كقول الجمهور: إن لها الثلث كاملا، وهذا يشبه تفريق ~~ابن سيرين في الأم مع الأب أنه إن كان معهما زوج فللأم ثلث الباقي، وإن كان ~~معهما زوجة، فللأم الثلث. # وجمهور العلماء على أن الأم لها الثلث مع الجد مطلقا، وهو قول علي وزيد، ~~وابن عباس، والفرق بين الأم مع الأب ومع الجد أنها مع الأب يشملها اسم ~~واحد، وهما في القرب سواء إلى الميت، فيأخذ الذكر منهما مثل حظ الأنثى ~~مرتين كالأولاد والإخوة، وأما الأم مع الجد، فليس يشملها اسم واحد، والجد ~~أبعد من الأب، فلا يلزم مساواته به في ذلك. # وأما إن اجتمع الجد مع الإخوة، فإن كانوا لأم سقطوا به؛ لأنهم إنما # يرثون من الكلالة، والكلالة: من لا ولد له ولا والد، إلا رواية شذت عن ~~ابن عباس. # وأما إن كانوا لأب أو ms564 لأبوين، فقد اختلف العلماء في حكم ميراثهم قديما # وحديثا، فمنهم من أسقط الإخوة بالجد مطلقا، كما يسقطون بالأب وهذا قول # الصديق، ومعاذ، وابن عباس وغيرهم، واستدلوا بأن الجد أب في كتاب الله - ~~عز وجل -، فيدخل في مسمى الأب في المواريث، كما أن ولد الولد ولد، ويدخل في ~~مسمى الولد عند عدم الولد بالاتفاق، وبأن الإخوة إنما يرثون مع الكلالة، ~~فيحجبهم الجد كالإخوة من الأب، وبأن الجد أقوى من الإخوة، لاجتماع الفرض ~~والتعصيب له من جهة واحدة، فهو كالأب، وحينئذ، فيدخل في عموم قوله - صلى ~~الله عليه وسلم - (2) : ((فما بقي، فلأولى رجل ذكر)) (3) . PageV03P1191 # ومنهم من شرك بين الإخوة والجد وهو قول كثير من الصحابة، وأكثر الفقهاء ~~بعدهم على اختلاف طويل بينهم في كيفية التشريك بينهم في الميراث، وكان من ~~السلف من يتوقف في حكمهم ولا يجيب فيهم بشيء؛ لاشتباه أمرهم وإشكاله، ولولا ~~خشية الإطالة لبسطنا القول في هذه المسألة، ولكن ذلك يؤدي إلى الإطالة جدا. # وأما حكم ميراث الإخوة للأبوين أو للأب، فقد ذكره الله تعالى في آخر سورة ~~النساء في قوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ # هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} (1) والكلالة مأخوذة من تكلل ~~النسب وإحاطته بالميت (2) ، وذلك يقتضي انتفاء الانتساب مطلقا من العمودين ~~الأعلى والأسفل، وتنصيصه تعالى على انتفاء الولد تنبيه على انتفاء الوالد ~~بطريق الأولى؛ لأن انتساب الولد إلى والده أظهر من انتسابه إلى ولده، فكان ~~ذكر عدم الولد تنبيها على عدم الوالد بطريق الأولى، وقد قال أبو بكر ~~الصديق: الكلالة: من لا ولد له ولا والد (3) ، وتابعه جمهور الصحابة ~~والعلماء بعدهم، وقد روي ذلك مرفوعا من مراسيل أبي سلمة بن عبد الرحمان، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، خرجه أبو داود في " المراسيل " (4) ، وخرجه ~~الحاكم (5) من رواية عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعا، وصححه، ~~PageV03P1192 # ووصله بذكر أبي هريرة ضعيف. # فقوله: {إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك} (1) ، # يعني: إذا لم يكن ms565 للميت ولد بالكلية لا ذكر ولا أنثى، فللأخت - حينئذ - ~~النصف مما ترك فرضا، ومفهوم هذا أنه إذا كان له ولد فليس للأخت النصف فرضا، ~~ثم إن كان الولد ذكرا، فهو أولى بالمال كله لما سبق تقريره في ميراث ~~الأولاد الذكور إذا انفردوا، فإنهم أقرب العصبات، وهم يسقطون الإخوة، فكيف ~~لا يسقطون الأخوات؟ وأيضا، فقد قال تعالى: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء ~~فللذكر مثل حظ الأنثيين} (2) ، وهذا يدخل فيه ما إذا كان هناك ذو فرض ~~كالبنات وغيرهن، فإذا استحق الفاضل ذكور الإخوة مع الأخوات، فإذا انفردوا، ~~فكذلك يستحقونه وأولى، وإن كان الولد أنثى، فليس للأخت هنا النصف # بالفرض، ولكن لها الباقي بالتعصيب عند جمهور العلماء، وقد سبق ذكر ذلك ~~والاختلاف فيه، فلو كان هناك ابن لا يستوعب المال وأخت، مثل ابن نصفه حر ~~عند من يورثه نصف الميراث، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء، فهل ~~يقال: إن الابن هنا يسقط نصف فرض الأخت، فترث معه الربع فرضا، أم يقال: إنه ~~يصير كالبنت، فتصير PageV03P1193 # الأخت معه عصبة، كما تصير مع الأخت، لكنه يسقط نصف تعصيبها فتأخذ معه ~~النصف الباقي بالتعصيب هذا محتمل، وفي هذه المسألة لأصحابنا وجهان. # وقوله تعالى: {وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} (1) ، يعني أن الأخ يستقل ~~بميراث أخته إذا لم يكن لها ولد ذكر أو أنثى، فإن كان لها ولد ذكر، فهو ~~أولى من الأخ بغير إشكال، فإنه أولى رجل ذكر، وإن كان أنثى، فالباقي بعد ~~فرضها يكون للأخ؛ لأنه أولى رجل ذكر، ولكن لا يستقل بميراثها حينئذ، كما ~~إذا لم يكن لها ولد. # وقوله: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك} (2) يعني: أن فرض ~~الثنتين الثلثان، كما أن فرض الواحدة النصف، فهذا كله في حكم انفراد الإخوة ~~والأخوات (3) . # وأما حكم اجتماعهم، فقد قال تعالى: {وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر ~~مثل حظ الأنثيين} (4) فيدخل في ذلك ما إذا كانوا منفردين، وأما إذا كان ~~هناك ذو فرض من الأولاد أو غيرهم، كأحد الزوجين أو الأم أو الإخوة ms566 من الأم، ~~فيكون الفاضل عن فروضهم للإخوة والأخوات بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. # فقد تبين بما ذكرناه أن وجود الولد إنما يسقط فرض الأخوات من الأبوين أو # الأب، ولا يسقط توريثهن بالتعصيب مع أخواتهن بالإجماع، ولا تعصيبهن ~~بانفرادهن مع البنات عند الجمهور، فالكلالة شرط لثبوت فرض الأخوات، لا ~~لثبوت ميراثهن، كما أنه ليس بشرط لميراث ذكورهم بالإجماع، وهذا بخلاف ولد ~~الأم، فإن انتفاء الكلالة أسقطت فروضهم، وإذا أسقطت PageV03P1194 # فروضهم، سقطت مواريثهم؛ لأنه لا تعصيب لهم بحال، لإدلائهم بأنثى، ~~وللأخوات للأبوين أو للأب يدلون بذكر، فيرثن بالتعصيب مع إخوتهن بالاتفاق، ~~وبانفرادهن مع البنات عند الجمهور. # وإذا كان الولد مسقطا لفرض ولد الأبوين، أو الأب دون أصل توريثهم بغير ~~الفرض، فقد يقال: إن الله تعالى إنما خص انتفاء الولد في قوله: {ليس له ~~ولد} ولم يذكر انتفاء الوالد، أو الأب؛ لأنه كان يدخل فيه الجد، والجد لا ~~يسقط ميراث الإخوة بالكلية، وإنما يشتركون معه في ميراث، تارة بالفرض، ~~وتارة بغيره، وهذا على قول من يقول: إن الجد لا يسقط الإخوة - وهم الجمهور ~~- ظاهر، وهذا كله في انفراد ولد الأبوين أو الأب، فإن اجتمعوا، فإن العصبات ~~من ولد الأبوين يسقطون ولد الأب كلهم بغير خلاف حتى في الأخت من الأبوين مع ~~البنت عند من يجعلها عصبة يسقط بها الأخ من الأبوين. # وفي "المسند " (1) و" الترمذي " (2) و" ابن ماجه " (3) عن علي قال: قضى # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعيان بني الأم يرثون دون بني ~~العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. # وقال عمرو بن شعيب: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأخ للأب ~~والأم أولى بالكلالة بالميراث، ثم الأخ للأب (4) ، PageV03P1195 # وهذا أيضا مما يدخل في قوله - عليه السلام -: ((فما بقي فلأولى رجل ذكر)) ~~. # والتحقيق في ذلك: أن كل ما دل عليه القرآن، ولو بالتنبيه، فليس هو مما ~~أبقته الفرائض، بل هو من إلحاق الفرائض المذكورة في القرآن بأهلها، كتوريث ~~الأولاد ذكورهم وإناثهم الفاضل عن الفروض، للذكر مثل حظ ms567 الأنثيين، وتوريث ~~الإخوة ذكورهم وإناثهم كذلك، ودل ذلك بطريق التنبيه على أن الباقي يأخذه ~~الذكر منهم عند الانفراد بطريق الأولى، ودل أيضا بالتنبيه على أن الأخت ~~تأخذ الباقي مع البنت كما كانت تأخذه مع أخيها، ولا يقدم عليها من هو أبعد ~~منها، كابن الأخ والعم وابنه، فإن أخاها إذا لم يسقطها فكيف يسقطها من هو ~~أبعد منه؟ فهذا كله من باب إلحاق الفرائض بأهلها، ومن باب قسمة المال بين ~~أهل الفرائض على كتاب الله. # وأما من لم يذكر باسمه من العصبات في القرآن، كابن الأخ والعم وابنه، ~~وإنما دخل في عمومات مثل قوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في ~~كتاب الله} (1) ، وقوله: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان # والأقربون} (2) ، فهذا يحتاج في توريثهم إلى هذا الحديث، أعني حديث ابن ~~عباس، فإذا لم يوجد للمال وارث غيرهم، انفردوا به، ويقدم منهم الأقرب ~~فالأقرب؛ لأنه أولى رجل ذكر (3) ، وإن وجدت فروض لا تستغرق المال، كأحد ~~الزوجين أو الأم، أو ولد الأم، أو بنات منفردات، أو أخوات منفردات، فالباقي ~~كله لأولى ذكر من هؤلاء. ولهذا لو كان هؤلاء إخوة رجالا ونساء، لاختص به ~~رجالهم دون نسائهم، بخلاف الأولاد والإخوة، فإنه يشترك في الباقي، أو في ~~المال كله ذكورهم وإناثهم بنص القرآن، والحديث إنما دل على توريث العصبات ~~الذين يختص ذكورهم دون إناثهم، وهم من عدا الأولاد والإخوة، PageV03P1196 # فهذا حكم العصبات المذكورين في كتاب الله، وفي حديث ابن عباس. # وأما ذوو الفروض، فقد ذكرنا حكم مواريثهم، ولم يبق منهم إلا الزوجان ~~والإخوة للأم، فأما الزوجان، فيرثان بسبب عقد النكاح. ولما كان بين الزوجين ~~من الألفة والمودة والتناصر والتعاضد ما بين الأقارب، جعل ميراثهما كميراث ~~الأقارب، وجعل للذكر منهما مثلا ما للأنثى؛ لامتياز الذكر على الأنثى بمزيد ~~النفع بالإنفاق والنصرة. # وأما ولد الأم، فإنهم ليسوا من قبيلة الرجل، ولا عشيرته، وإنما هم في ~~المعنى من ذوي رحمه، ففرض الله لواحدهم السدس، ولجماعتهم الثلث صلة، وسوى ~~بين ذكورهم وإناثهم، حيث لم يكن لذكرهم زيادة على ms568 أنثاهم في الحياة من ~~المعاضدة والمناصرة، كما بين أهل القبيلة والعشيرة الواحدة، فسوى بينهم في ~~الصلة، ولهذا لم تشرع الوصية للأجانب بزيادة على الثلث، بل كان الثلث كثيرا ~~في حقهم؛ لأنهم أبعد من ولد الأم، فينبغي أن لا يزادوا على ما يوصل به ولد ~~الأم، بل ينقصون منه. # واستدل بعضهم بقوله: ((فما بقي فلأولى رجل ذكر)) (1) على أن لا ميراث ~~لذوي الأرحام؛ لأنه لم يجعل حق الميراث لمن لم يذكر في القرآن إلا لأقرب ~~الذكور، وهذا الحكم يختص بالعصبات دون ذوي الأرحام، فإن من ورث ذوي ~~الأرحام، ورث ذكورهم وإناثهم. # وأجاب من يرى توريث ذوي الأرحام بأن هذا الحديث دل على توريث # العصبات، لا على نفي توريث غيرهم، PageV03P1197 # وتوريث ذوي الأرحام مأخوذ من أدلة أخرى، فيكون ذلك زيادة على ما دل عليه ~~حديث ابن عباس. # وأما قوله: ((لأولى رجل ذكر)) مع أن الرجل لا يكون إلا ذكرا، فالجواب ~~الصحيح عنه أنه قد يطلق الرجل، ويراد به الشخص، كقوله: من وجد ماله عند رجل ~~قد أفلس، ولا فرق بين أن يجده عند رجل أو امرأة، فتقييده بالذكر ينفي هذا ~~الاحتمال، ويخلصه للذكر دون الأنثى وهو المقصود، وكذلك الابن: لما كان قد ~~يطلق، ويراد به أعم من الذكر، كقوله: ابن السبيل، جاء تقييد ابن اللبون في ~~نصب الزكاة بالذكر. وللسهيلي كلام على هذا الحديث فيه تكلف وتعسف شديد ولا ~~طائل تحته، وقد رده عليه جماعة ممن أدركناهم، والله أعلم (1) . ~~PageV03P1198 ### | الحديث الرابع والأربعون # عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الرضاعة ~~تحرم ما تحرم # الولادة)) خرجه البخاري (1) ومسلم (2) . # هذا الحديث خرجاه في ((الصحيحين)) من رواية عمرة عن عائشة، وخرج مسلم (3) ~~أيضا من رواية عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)) ، وخرجاه (4) أيضا من رواية عروة عن ~~عائشة من قولها، وخرجاه (5) من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، PageV03P1199 # وخرجه الترمذي (1) من حديث علي عن النبي - صلى ms569 الله عليه وسلم -. # وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجملة، وإن الرضاع يحرم ما ~~يحرمه النسب (2) ، ولنذكر المحرمات من النسب كلهن حتى يعلم بذلك ما يحرم من ~~الرضاع، فنقول: الولادة والنسب قد يؤثران التحريم في النكاح، وهو على ~~قسمين: # أحدهما: تحريم مؤبد على الانفراد، وهو نوعان: # أحدهما: ما يحرم بمجرد النسب، فيحرم على الرجل أصوله وإن علون، وفروعه ~~وإن سفلن، وفروع أصله الأدنى وإن سفلن، وفروع أصوله البعيدة دون فروعهن، ~~فيدخل في أصوله أمهاته وإن علون من جهة أبيه وأمه، وفي فروعه بناته وبنات ~~أولاده وإن سفلن، وفي فروع أصله الأدنى أخواته من الأبوين، أو من أحدهما، ~~وبناتهن وبنات الإخوة وأولادهم وإن سفلن، ودخل في فروع أصوله البعيدة ~~العمات والخالات وعمات الأبوين وخالاتهما وإن علون، PageV03P1200 # فلم يبق من الأقارب حلالا للرجل سوي فروع أصوله البعيدة، وهن بنات العم ~~وبنات العمات، وبنات الخال، وبنات الخالات (1) . # والنوع الثاني: ما يحرم بالنسب مع سبب آخر، وهو المصاهرة؛ فيحرم على ~~الرجل حلائل آبائه، وحلائل أبنائه، وأمهات نسائه، وبنات نسائه المدخول بهن؛ ~~فيحرم على الرجل أم امرأته وأمهاتها من جهة الأم والأب وإن علون، ويحرم ~~عليه بنات امرأته، وهن الربائب وبناتهن وإن سفلن، وكذلك بنات بني زوجته وهن ~~بنات الربائب نص عليه الشافعي وأحمد، ولا يعلم فيه خلاف (2) . # ويحرم عليه أن يتزوج بامرأة أبيه، وإن علا، وامرأة ابنه وإن سفل، ودخول ~~هؤلاء في التحريم بالنسب ظاهر؛ لأن تحريمهن من جهة نسب الرجل مع سبب # المصاهرة (3) . # وأما أمهات نسائه وبناتهن، فتحريمهن مع المصاهرة بسبب نسب المرأة، فلم ~~يخرج التحريم بذلك عن أن يكون بالنسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة، فإن ~~التحريم بالنسب المجرد، والنسب المضاف إلى المصاهرة يشترك فيه الرجال ~~والنساء؛ فيحرم على المرأة أن تتزوج أصولها وإن علوا، وفروعها وإن سفلوا، ~~وفروع أصلها الأدنى وإن سفلوا من أخوتها، وأولاد الإخوة وإن سفلوا، وفروع ~~أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم، فهذا كله ~~بالنسب المجرد (4) . # وأما بالنسب المضاف إلى المصاهرة، فيحرم عليها ms570 نكاح أبي زوجها وإن علا، ~~ونكاح ابنه وإن سفل بمجرد العقد، ويحرم عليها زوج ابنتها وإن سفلت بالعقد، ~~وزوج أمها وإن علت، لكن بشرط الدخول بها (5) . PageV03P1201 # والقسم الثاني: التحريم المؤبد على الاجتماع دون الانفراد، وتحريمه يختص ~~الرجال لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين، فكل امرأتين بينهما رحم محرم ~~يحرم الجمع بينهما بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له التزوج بالأخرى، ~~فإنه يحرم الجمع بينهما بعقد النكاح. قال الشعبي: كان أصحاب محمد - صلى ~~الله عليه وسلم - يقولون: لا يجمع الرجل بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا ~~لم يصلح له أن يتزوجها. وهذا إذا كان التحريم لأجل النسب، وبذلك فسره سفيان ~~الثوري وأكثر العلماء، فلو كان لغير النسب مثل أن يجمع بين زوجة رجل وابنته ~~من غيرها، فإنه يباح عند الأكثرين، وكرهه بعض السلف. # فإذا علم ما يحرم من النسب، فكل ما يحرم منه، فإنه يحرم من الرضاع نظيره، ~~فيحرم على الرجل أن يتزوج أمهاته من الرضاعة وإن علون، وبناته من الرضاعة ~~وإن سفلن، وأخواته من الرضاعة، وبنات أخواته من الرضاعة وعماته وخالاته من # الرضاعة، وإن علون دون بناتهن. # ومعنى هذا أن المرأة إذا أرضعت طفلا الرضاع المعتبر في المدة المعتبرة، ~~صارت # أما له بنص كتاب الله، فتحرم عليه هي وأمهاتها، وإن علون من نسب أو رضاع، ~~وتصير بناتها كلهن أخوات له من الرضاعة، فيحرمن عليه بنص القرآن (1) ؛ ~~وبقية # التحريم من الرضاعة استفيد من السنة، كما استفيد من السنة أن تحريم الجمع ~~لا يختص بالأختين، بل المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها كذلك (2) ، وإذا كان ~~أولاد # المرضعة من نسب أو رضاع إخوة للمرتضع، فيحرم عليه بنات إخوته أيضا، ~~PageV03P1202 # وقد امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تزويج ابنة حمزة وابنة أبي ~~سلمة، وعلل بأن أبويهما كانا أخوين له من الرضاعة (1) . # ويحرم عليه أيضا أخوات المرضعة؛ لأنهن خالاته، وينتشر التحريم أيضا إلى ~~الفحل صاحب اللبن الذي ارتضع منه الطفل، فيصير صاحب اللبن أبا للطفل، وتصير ~~أولاده كلهم من المرضعة، أو من غيرها من نسب ms571 أو رضاع إخوة للمرتضع ويصير ~~إخوته أعماما للطفل المرتضع، وهذا قول جمهور العلماء من السلف، وأجمع عليه ~~الأئمة الأربعة ومن بعدهم (2) . وقد دل على ذلك من السنة ما روت عائشة أن ~~أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليها بعد ما أنزل الحجاب، قالت عائشة: فقلت: ~~والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أبا ~~القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، قالت: فلما دخل رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم -، ذكرت ذلك له، فقال # : ((ائذني له؛ فإنه عمك تربت يمينك)) ، وكان أبو القعيس زوج المرأة التي ~~أرضعت عائشة. خرجاه في " الصحيحين " (3) بمعناه. PageV03P1203 # وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما ~~أيحل للغلام أن يتزوج الجارية، فقال: لا، اللقاح واحد (1) . # ولو كان اللبن الذي ارتضع به الطفل قد ثاب للمرأة من غير وطء فحل بأن ~~تكون امرأة لا زوج لها قد ثاب لها لبن أو هي بكر أو آيسة، فأكثر العلماء ~~على أنه يحرم الرضاع به، وتصير المرضعة أما للطفل، وقد حكاه ابن المنذر ~~إجماعا عمن يحفظ عنه من أهل العلم، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي ~~وإسحاق # وغيرهم (2) . # وذهب الإمام أحمد في المشهور المنصوص عنه إلى أنه لا ينتشر التحريم به ~~بحال حتى يكون له فحل يدر اللبن من رضاعه. وحكي للشافعي قول مثله (3) . # ولو انقطع نسبه من جهة صاحب اللبن، كولد الزنى، فهل تنتشر الحرمة إلى ~~الزاني صاحب اللبن؟ هذا ينبني على أن البنت من الزنى هل تحرم على الزاني؟ ~~ومذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك في رواية عنه تحريمها عليه خلافا للشافعي، ~~وبالغ الإمام أحمد في الإنكار على من خالف في ذلك، فعلى قولهم: هل ينتشر ~~التحريم إلى الزاني صاحب اللبن، فيكون أبا للمرتضع أم لا؟ فيه قولان هما ~~وجهان # لأصحابنا (4) ، واختار ابن حامد أن التحريم لا ينتشر إليه، واختار أبو ~~بكر، والقاضي أبو يعلى أن التحريم ينتشر إلى الزاني، وهو نص أحمد، وحكاه عن ~~ابن عباس، وهو قول إسحاق بن ms572 راهويه، نقله عنه حرب. PageV03P1204 # وينتشر التحريم بالرضاع إلى ما حرم بالنسب مع الصهر: إما من جهة # نسب الرجل، كامرأة أبية وابنه، أو من جهة نسب الزوجة، كأمها وابنتها، ~~وإلى # ما حرم جمعه لأجل نسب المرأة أيضا، كالجمع بين الأختين والمرأة وعمتها # أو خالتها، فيحرم ذلك كله من الرضاع كما يحرم من النسب (1) ، لدخوله في ~~قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) (2) . ~~وتحريم هذا كله للنسب، فبعضه لنسب الزوج، وبعضه لنسب الزوجة، وقد نص على ~~ذلك أئمة السلف، ولا يعلم بينهم فيه اختلاف (3) ، ونص عليه الإمام أحمد، ~~واستدل بعموم قوله: # ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) . # وأما قوله - عز وجل -: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} (4) ، فقالوا: ~~لم يرد بذلك أنه لا يحرم حلائل الأبناء من الرضاع، إنما أراد إخراج حلائل ~~الذين # تبنوا، ولم يكونوا أبناء من النسب كما تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~زوجة زيد بن حارثة بعد أن كان قد تبناه (5) . # وهذا التحريم بالرضاع يختص بالمرتضع نفسه، وينتشر إلى أولاده، ولا ينتشر ~~تحريمه إلى من في درجة المرتضع من إخوته وأخواته، ولا إلى من هو أعلى منه ~~من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته، فتباح المرضعة نفسها ~~لأبي المرتضع من النسب ولأخيه، وتباح أم المرتضع من النسب وأخته منه لأبي ~~المرتضع من الرضاع ولأخيه. هذا قول جمهور العلماء، وقالوا: يباح أن يتزوج ~~أخت أخيه من الرضاعة، وأخت ابنته من الرضاعة (6) ، حتى قال الشعبي: هي أحل ~~من ماء # قدس (7) ، PageV03P1205 # وصرح بإباحتها حبيب بن أبي ثابت وأحمد. # وروى أشعث عن الحسن أنه كره أن يتزوج الرجل بنت ظئر ابنه، ويقول: أخت ~~ابنه، ولم ير بأسا أن يتزوج أمها، يعني: ظئر ابنه، وروى سليمان التيمي عن ~~الحسن: أنه سئل عن الرجل يتزوج أخت أخيه من الرضاعة، فلم يقل فيه شيئا، ~~وهذا يقتضي توقفه فيه، ولعل الحسن إنما كان يكره ذلك تنزيها، لا تحريما، ~~لمشابهته للمحرم بالنسب في الاسم، وهذا بمجرده لا يوجب تحريما. # وقد استثنى كثير ms573 من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم مما يحرم من النسب صورتين، ~~فقالوا: لا يحرم نظيرهما من الرضاع: # إحداهما: أم الأخت، فتحرم من النسب، ولا تحرم من الرضاع. # والثانية: أخت الابن، فتحرم من النسب دون الرضاع، ولا حاجة إلى # استثناء هذين، ولا أحدهما (1) . # أما أم الأخت فإنما تحرم من النسب، لكونها أما أو زوجة أب، لا لمجرد ~~كونها أم أخت، فلا يعلق التحريم بما لم يعلقه الله به، وحينئذ، فيوجد في ~~الرضاع من هي أم أخت ليست أما ولا زوجة أب، فلا تحرم؛ لأنها ليست نظيرا ~~لذات النسب، وأما أخت الابن، فإن الله تعالى إنما حرم الربيبة المدخول ~~بأمها، فتحرم لكونها ربيبة دخل بأمها، لا لكونها أخت ابنه، والدخول في ~~الرضاع منتف فلا يحرم به أولاد المرضعة. PageV03P1206 # ومما قد يدخل في عموم قوله: ((يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)) (1) : ~~لو ظاهر من امرأته فشبهها بمحرمة من الرضاع، فقال لها: أنت علي كأمي من ~~الرضاع، فهل يثبت بذلك تحريم الظهار أم لا؟ فيه قولان: # أحدهما: أنه يثبت به تحريم الظهار، وهو قول الجمهور، منهم مالك، # والثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وعثمان البتي، وهو ~~المشهور عن أحمد. # والثاني: لا يثبت به التحريم، وهو قول الشافعي (2) ، وتوقف أحمد فيه في ~~رواية ابن منصور. PageV03P1207 ### | الحديث الخامس والأربعون # عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ~~وهو بمكة يقول: # ((إن الله ورسوله حرم (1) # بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم ~~الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال: ~~((لا، هو حرام)) ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ~~((قاتل الله اليهود، إن الله حرم عليهم الشحوم، فأجملوه، ثم باعوه، فأكلوا ~~ثمنه)) خرجه البخاري (2) ومسلم (3) . # هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من حديث يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء، عن ~~جابر. وفي رواية لمسلم (4) أن يزيد قال: كتب إلي عطاء، فذكره، ولهذا قال ~~أبو حاتم الرازي (5) : لا أعلم ms574 يزيد بن أبي حبيب سمع من عطاء شيئا، يعني ~~أنه إنما يروي عنه كتابه، وقد رواه أيضا يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن ~~الوليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~بنحوه. # وفي " الصحيحين " (6) عن ابن عباس قال: بلغ عمر أن رجلا باع خمرا، فقال: ~~قاتله الله، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((قاتل ~~الله اليهود، حرمت PageV03P1209 # عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها)) ، وفي رواية: ((وأكلوا أثمانها)) . # وخرج أبو داود (1) من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~نحوه، وزاد فيه: # ((وإن الله إذا حرم أكل شيء، حرم عليهم ثمنه)) ، وخرجه ابن أبي شيبة (2) ~~، ولفظه: ((إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه)) . # وفي "الصحيحين" (3) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((قاتل الله يهودا، حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها)) . # وفي " الصحيحين " (4) عن عائشة، قالت: لما أنزلت الآيات من آخر سورة ~~البقرة، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاقترأهن على الناس، ثم نهى ~~عن التجارة في الخمر، PageV03P1210 # وفي رواية لمسلم (1) : لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا، خرج # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد، فحرم التجارة في الخمر. # وخرج مسلم (2) من حديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا ~~يبع)) . قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها في طريق المدينة، فسفكوها. # وخرج أيضا (3) من حديث ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - راوية خمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل علمت أن ~~الله قد حرمها؟)) قال: لا، قال: فسار إنسانا، فقال له رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((بما ساررته؟)) قال: أمرته ببيعها، قال: ((إن الذي حرم شربها ~~حرم بيعها)) ، قال: ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها. # فالحاصل من هذه الأحاديث كلها أن ما حرم الله الانتفاع به ms575، فإنه يحرم ~~بيعه وأكل ثمنه، كما جاء مصرحا به في الراوية المتقدمة: ((إن الله إذا حرم ~~شيئا حرم ثمنه)) (4) ، وهذه كلمة عامة جامعة تطرد في كل ما كان المقصود من ~~الانتفاع به حراما، وهو قسمان: PageV03P1211 # أحدهما: ما كان الانتفاع به حاصلا مع بقاء عينه، كالأصنام، فإن منفعتها ~~المقصودة منها هو الشرك بالله، وهو أعظم المعاصي على الإطلاق (1) ، ويلتحق ~~بذلك ما كانت منفعته محرمة، ككتب الشرك والسحر والبدع والضلال، وكذلك # الصور المحرمة، وآلات الملاهي المحرمة كالطنبور، وكذلك شراء الجواري ~~للغناء (2) . # وفي " المسند " (3) # عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن الله بعثني ~~رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكنارات - يعني: البرابط ~~والمعازف - والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية، وأقسم ربي بعزته لا يشرب ~~عبد من عبيدي جرعة من خمر إلا سقيته مكانها من حميم جهنم، معذبا أو مغفورا ~~له، ولا يسقيها صبيا صغيرا إلا سقيته مكانها من حميم جهنم، معذبا أو مغفورا ~~له، ولا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيتها إياه في حظيرة القدس، ولا ~~يحل بيعهن ولا شراؤهن، ولا تعليمهن، ولا تجارة فيهن، وأثمانهم حرام)) يعني: ~~المغنيات. # وخرجه الترمذي (4) ، PageV03P1212 # ولفظه: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة ~~فيهن، وثمنهن حرام، في مثل ذلك أنزل الله: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} ~~(1) الآية، وخرجه ابن ماجه (2) أيضا، وفي إسناد الحديث مقال، وقد روي نحوه ~~من حديث عمر (3) وعلي (4) بإسنادين فيهما # ضعف أيضا. PageV03P1213 # ومن يحرم الغناء كأحمد ومالك، فإنهما يقولان: إذا بيعت الأمة المغنية، ~~تباع على أنها ساذجة، ولا يؤخذ لغنائها ثمن، ولو كانت الجارية ليتيم، ونص ~~على ذلك أحمد، ولا يمنع الغناء من أصل بيع العبد والأمة؛ لأن الانتفاع به ~~في غير الغناء حاصل بالخدمة وغيرها، وهو من أعظم مقاصد الرقيق (1) . نعم، ~~لو علم أن المشتري لا يشتريه إلا للمنفعة المحرمة منه، لم يجز بيعه له عند ~~الإمام أحمد وغيره من العلماء، كما لا يجوز عندهم بيع العصير ممن يتخذه ~~خمرا ms576، ولا بيع السلاح في الفتنة، ولا بيع الرياحين والأقداح لمن يعلم أنه ~~يشرب عليها الخمر، أو الغلام لمن يعلم منه الفاحشة (2) . # القسم الثاني: ما ينتفع به مع إتلاف عينه، فإذا كان المقصود الأعظم منه # محرما، فإنه يحرم بيعه، كما يحرم بيع الخنزير والخمر والميتة، مع أن في # بعضها منافع غير محرمة، كأكل الميتة للمضطر، ودفع الغصة بالخمر، # وإطفاء الحريق به. والخرز بشعر الخنزير عند قوم، والانتفاع بشعره وجلده ~~عند # من يرى ذلك، ولكن لما كانت هذه المنافع غير مقصودة، لم يعبأ بها، وحرم # البيع بكون المقصود الأعظم من الخنزير والميتة أكلهما، ومن الخمر شربها، # ولم يلتفت إلى ما عدا ذلك، وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا ~~المعنى لما قيل له: أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها ~~الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال # : ((لا، هو حرام)) (3) . PageV03P1214 # وقد اختلف الناس في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((هو حرام)) ~~فقالت طائفة: أراد أن هذا الانتفاع المذكور بشحوم الميتة حرام، وحينئذ ~~فيكون ذلك تأكيدا للمنع من بيع الميتة، حيث لم يجعل شيئا من الانتفاع بها ~~مباحا (1) . # وقالت طائفة: بل أراد أن بيعها حرام، وإن كان قد ينتفع بها بهذه الوجوه، ~~لكن المقصود الأعظم من الشحوم هو الأكل، فلا يباح بيعها لذلك. # وقد اختلف العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة، فرخص فيه عطاء، وكذلك نقل ~~ابن منصور عن أحمد وإسحاق، إلا أن إسحاق قال: إذا احتيج إليه، وأما إذا وجد ~~عنه مندوحة، فلا، وقال أحمد: يجوز إذا لم يمسه بيده، وقالت طائفة: لا يجوز ~~ذلك، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وحكاه ابن عبد البر إجماعا عن غير ~~عطاء. # وأما الأدهان الطاهرة إذا تنجست بما وقع فيها من النجاسات، ففي جواز ~~الانتفاع بها بالاستصباح ونحوه اختلاف مشهور في مذهب الشافعي وأحمد ~~وغيرهما، وفيه روايتان عن أحمد (2) . # وأما بيعها، فالأكثرون على أنه لا يجوز بيعها، وعن أحمد رواية: يجوز ~~بيعها من كافر، ويعلم بنجاستها، وهو مروى عن أبي موسى الأشعري، ~~PageV03P1215 # ومن أصحابنا ms577 من خرج جواز بيعها على جواز الاستصباح بها وهو ضعيف مخالف ~~لنص أحمد بالتفرقة، فإن شحوم الميتة لا يجوز بيعها وإن قيل بجواز الانتفاع ~~بها، ومنهم من خرجه على القول بطهارتها بالغسل، فيكون - حينئذ - كالثوب ~~المتمضخ بنجاسة. وظاهر كلام أحمد منع بيعها مطلقا؛ لأنه علل بأن الدهن ~~المتنجس فيه ميتة، والميتة # لا يؤكل ثمنها (1) . # وأما بقية أجزاء الميتة، فما حكم بطهارته منها، جاز بيعه، لجواز الانتفاع ~~به، وهذا كالشعر والقرن عند من يقول بطهارتهما، وكذلك الجلد عند من يرى أنه ~~طاهر بغير دباغ، كما حكي عن الزهري، وتبويب البخاري يدل عليه (2) ، واستدل ~~بقوله: ((إنما حرم من الميتة أكلها)) (3) . وأما الجمهور الذين يرون نجاسة ~~الجلد قبل الدباغ، فأكثرهم منعوا من بيعه حينئذ؛ لأنه جزء من الميتة (4) ، ~~وشذ بعضهم، فأجاز بيعه كالثوب النجس، ولكن الثوب طاهر طرأت عليه النجاسة، ~~وجلد الميتة جزء منها، وهو نجس العين. وقال سالم بن عبد الله بن عمر: هل ~~بيع جلود الميتة إلا كأكل لحمها؟ وكرهه طاووس وعكرمة، وقال النخعي: كانوا ~~يكرهون أن يبيعوها، فيأكلوا أثمانها. # وأما إذا دبغت، فمن قال بطهارتها بالدبغ، أجاز بيعها، PageV03P1216 # ومن لم ير طهارتها # بذلك، لم يجز بيعها. ونص أحمد على منع بيع القمح إذا كان فيه بول الحمار ~~حتى يغسل، ولعله أراد بيعه ممن لا يعلم بحاله، خشية أن يأكله ولا يعلم ~~نجاسته. # وأما الكلب، فقد ثبت في " الصحيحين " (1) عن أبي مسعود الأنصاري أن # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب. # وفي " صحيح مسلم " (2) عن رافع بن خديج سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: ((شر الكسب مهر البغي، وثمن الكلب، وكسب الحجام)) . # وفيه عن معقل الجزري عن أبي الزبير، قال: سألت جابرا عن ثمن الكلب # والسنور، فقال: زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (3) . وهذا إنما ~~يعرف عن ابن لهيعة عن أبي الزبير. وقد استنكر الإمام أحمد روايات معقل عن ~~أبي الزبير، وقال: هي تشبه أحاديث ابن لهيعة، وقد تتبع ذلك، فوجد كما قاله ~~أحمد رحمه ms578 الله. # وقد اختلف العلماء في بيع الكلب، فأكثرهم حرموه، منهم الأوزاعي، ومالك في ~~المشهور عنه، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وغيرهم (4) ، وقال أبو هريرة: هو سحت ~~(5) ، وقال ابن سيرين: هو أخبث الكسب (6) . PageV03P1217 # وقال # عبد الرحمان بن أبي ليلى: ما أبالي ثمن كلب أكلت أو ثمن خنزير (1) . ~~وهؤلاء لهم مآخذ: # أحدها: أنه إنما نهي عن بيعها لنجاستها (2) ، وهؤلاء التزموا تحريم بيع ~~كل نجس العين، وهذا قول الشافعي، وابن جرير، ووافقهم جماعة من أصحابنا، ~~كابن عقيل في " نظرياته " وغيره، والتزموا أن البغل والحمار إنما نجيز ~~بيعهما إذا لم نقل بنجاستهما، وهذا مخالف للإجماع. # والثاني: أن الكلب لم يبح الانتفاع به واقتناؤه مطلقا كالبغل والحمار، ~~وإنما أبيح اقتناؤه لحاجات مخصوصة، وذلك لا يبيح بيعه كما لا تبيح الضرورة ~~إلى الميتة والدم بيعهما، وهذا مأخذ طائفة من أصحابنا وغيرهم. # والثالث: أنه إنما نهي عن بيعه لخسته ومهانته، فإنه لا قيمة له إلا عند ~~ذوي الشح والمهانة، وهو متيسر الوجود، فنهي عن أخذ ثمنه ترغيبا في المواساة ~~بما يفضل منه عن الحاجة، وهذا مأخذ الحسن البصري وغيره من السلف، وكذا قال ~~بعض أصحابنا في النهي عن بيع السنور. # ورخصت طائفة في بيع ما يباح اقتناؤه من الكلاب، ككلب الصيد، وهو قول عطاء ~~والنخعي وأبي حنيفة وأصحابه، ورواية عن مالك، وقالوا: إنما نهي عن بيع ما ~~يحرم اقتناؤه منها (3) . وروى حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب والسنور، إلا كلب صيد، خرجه ~~النسائي (4) ، وقال: هو حديث منكر، وقال أيضا: ليس بصحيح، PageV03P1218 # وذكر الدارقطني (1) أن الصحيح وقفه على جابر، وقال أحمد: لم يصح عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم - رخصة في كلب الصيد، وأشار البيهقي (2) وغيره إلى ~~أنه اشتبه على بعض الرواة هذا الاستثناء، فظنه من البيع، وإنما هو من ~~الاقتناء، وحماد بن سلمة في رواياته عن أبي الزبير ليس بالقوي، ومن قال: إن ~~هذا الحديث على شرط مسلم - كما ظنه طائفة من المتأخرين - فقد أخطأ؛ لأن ~~مسلما ms579 لم يخرج لحماد بن سلمة، عن أبي الزبير شيئا، وقد بين في # كتاب " التمييز " (3) أن رواياته عن كثير من شيوخه أو أكثرهم غير قوية. # فأما بيع الهر، فقد اختلف العلماء في كراهته، فمنهم من كرهه، وروي ذلك عن ~~أبي هريرة وجابر وعطاء وطاووس ومجاهد، وجابر بن زيد، والأوزاعي، وأحمد في ~~رواية عنه، وقال: هو أهون من جلود السباع، وهذا اختيار أبي بكر من أصحابنا، ~~ورخص في بيع الهر ابن عباس وعطاء في رواية والحسن وابن سيرين والحكم وحماد، ~~وهو قول الثوري وأبي حنيفة PageV03P1219 # ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه (1) ، وعن إسحاق روايتان، وعن الحسن ~~أنه كره بيعها، ورخص في شرائها للانتفاع بها. # وهؤلاء منهم من لم يصحح النهي عن بيعها، قال أحمد: ما أعلم فيه شيئا يثبت ~~أو يصح، وقال أيضا: الأحاديث فيه مضطربة. # ومنهم من حمل النهي على ما لا نفع فيه كالبري ونحوه (2) . # ومنهم من قال: إنما نهى عن بيعها؛ لأنه دناءة وقلة مروءة، لأنها متيسرة ~~الوجود والحاجة إليها داعية، فهي من مرافق الناس التي لا ضرر عليهم في بذل ~~فضلها، فالشح بذلك من أقبح الأخلاق الذميمة، فلذلك زجر عن أخذ ثمنها. # وأما بقية الحيوانات التي لا تؤكل، فما لا نفع فيه كالحشرات ونحوه لا ~~يجوز بيعه (3) ، وما يذكر من نفع في بعضها، فهو قليل، فلا يكون مبيحا ~~للبيع، كما لم يبح النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الميتة لما ذكر له ما ~~فيها من الانتفاع، ولهذا كان الصحيح أنه لا يباح بيع العلق لمص الدم، ولا ~~الديدان للاصطياد ونحو ذلك. # وأما ما فيه نفع للاصطياد منها، كالفهد والبازي والصقر، فحكى أكثر ~~الأصحاب في جواز بيعها روايتين عن أحمد، PageV03P1220 # ومنهم من أجاز بيعها، وذكر الإجماع # عليه (1) ، وتأول رواية الكراهة كالقاضي أبي يعلى في " المجرد " (2) ، ~~ومنهم من قال: لا يجوز بيع الفهد والنسر، وحكى فيه وجها آخر بالجواز، وأجاز ~~بيع البزاة والصقور، ولم يحك فيه خلافا، وهو قول ابن أبي موسى (3) . # وأجاز بيع الصقر والبازي والعقاب ونحوه أكثر العلماء ms580، منهم: الثوري، ~~والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، والمنصوص عن أحمد في أكثر الروايات عنه جواز ~~بيعها، وتوقف في رواية عنه في جوازه إذا لم تكن معلمة، قال الخلال: العمل ~~على ما رواه الجماعة أنه يجوز بيعها بكل حال. # وجعل بعض أصحابنا الفيل حكمه حكم الفهد ونحوه (4) ، وفيه نظر، والمنصوص ~~عن أحمد في رواية حنبل أنه لا يحل بيعه ولا شراؤه، وجعله كالسبع، وحكي عن ~~الحسن أنه قال: لا يركب ظهره، وقال: هو مسخ، وهذا كله يدل على أنه لا منفعة ~~فيه. # ولا يجوز بيع الدب، قاله القاضي في " المجرد "، وقال ابن أبي موسى: لا # يجوز بيع القرد (5) ، قال ابن عبد البر: لا أعلم في ذلك خلافا بين ~~العلماء، وقال # القاضي في " المجرد ": إن كان ينتفع به في موضع، لحفظ المتاع، فهو كالصقر ~~والبازي (6) ، # وإلا، فهو كالأسد لا يجوز بيعه، والصحيح المنع مطلقا، وهذه المنفعة ~~يسيرة، وليست هي المقصودة منه، فلا تبيح البيع كمنافع الميتة. # ومما نهي عن بيعه جيف الكفار إذا قتلوا، PageV03P1221 # خرج الإمام أحمد (1) من حديث ابن عباس قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلا ~~من المشركين، فأعطوا بجيفته مالا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ~~((ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية)) ، فلم يقبل منهم ~~شيئا. وخرجه الترمذي (2) ، ولفظه: إن المشركين أرادوا أن يشتروا جسد رجل من ~~المشركين فأبى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعهم. وخرجه وكيع في ~~كتابه من وجه آخر عن عكرمة مرسلا، ثم قال وكيع: الجيفة لا تباع. # وقال حرب: قلت لإسحاق، ما تقول في بيع جيف المشركين من # المشركين (3) ؟ قال: لا. وروى أبو عمرو الشيباني أن عليا أتي بالمستورد ~~العجلي وقد تنصر، فاستتابه فأبى أن يتوب، فقتله، فطلبت النصارى جيفته ~~بثلاثين ألفا، فأبى علي فأحرقه (4) . PageV03P1222 ### | الحديث السادس والأربعون # عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربة تصنع بها، فقال: ((وما هي؟)) قال: البتع ~~والمزر، فقيل لأبي بردة: وما البتع؟ قال: نبيذ العسل ms581، والمزر نبيذ الشعير، ~~فقال: ((كل مسكر حرام)) خرجه البخاري (1) . # وخرجه مسلم (2) ، ولفظه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا ~~ومعاذ إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، إن شرابا يصنع بأرضنا يقال له: المزر ~~من الشعير، وشراب يقال له: البتع من العسل، فقال: ((كل مسكر حرام)) . وفي ~~رواية لمسلم (3) : فقال: ((كل ما أسكر عن الصلاة فهو حرام)) ، وفي رواية له ~~(4) قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطي جوامع الكلم ~~بخواتمه، فقال: ((أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة)) . PageV03P1223 # هذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكرات، المغطية للعقل، وقد ذكر ~~الله في كتابه العلة المقتضية لتحريم المسكرات، وكان أول ما حرمت الخمر عند ~~حضور وقت الصلاة لما صلى بعض المهاجرين، وقرأ في صلاته، فخلط في # قراءته (1) ، فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة ~~وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (2) ، فكان منادي رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - ينادي: لا يقرب الصلاة سكران (3) ، ثم إن الله حرمها على ~~الإطلاق بقوله تعالى: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل ~~الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة ~~والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} ~~(4) . # فذكر سبحانه علة تحريم الخمر والميسر، وهو القمار، وهو أن الشيطان يوقع ~~بهما العداوة والبغضاء، فإن من سكر اختل عقله، فربما تسلط على أذى الناس في ~~أنفسهم وأموالهم، وربما بلغ إلى القتل، وهي أم الخبائث، فمن شربها، قتل ~~النفس وزنى، وربما كفر. وقد روي هذا المعنى عن عثمان (5) وغيره (6) ، ~~PageV03P1224 # وروي مرفوعا أيضا (1) . # ومن قامر، فربما قهر، وأخذ ماله منه قهرا، فلم يبق له شيء، فيشتد حقده ~~على من أخذ ماله. وكل ما أدى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حراما، وأخبر ~~سبحانه أن الشيطان يصد بالخمر والميسر عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن السكران ~~يزول عقله، أو يختل، فلا يستطيع أن يذكر الله، ولا أن يصلي، ولهذا قال ~~طائفة من السلف (2) : إن ms582 شارب الخمر تمر عليه ساعة لا يعرف فيها ربه، والله ~~سبحانه إنما خلق الخلق ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويطيعوه (3) ، فما أدى ~~إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربه وذكره ومناجاته، كان ~~محرما، وهو السكر، وهذا بخلاف النوم، فإن الله تعالى جبل العباد عليه، ~~واضطرهم إليه، ولا قوام لأبدانهم إلا به، إذ هو راحة لهم من السعي والنصب، ~~فهو من أعظم نعم الله على عباده، فإذا نام المؤمن بقدر الحاجة، ثم استيقظ ~~إلى ذكر الله ومناجاته ودعائه، كان نومه عونا له على الصلاة والذكر، ولهذا ~~قال من قال من الصحابة: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. # وكذلك الميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فإن صاحبه يعكف بقلبه # عليه، ويشتغل به عن جميع مصالحه ومهماته حتى لا يكاد يذكرها لاستغراقه ~~فيه، ولهذا قال علي لما مر على قوم يلعبون بالشطرنج: ما هذه التماثيل التي ~~أنتم لها عاكفون (4) ؟ فشبههم بالعاكفين على التماثيل. PageV03P1225 # وجاء في الحديث: ((إن مدمن الخمر كعابد وثن)) (1) ، فإنه يتعلق قلبه بها، ~~فلا يكاد يمكنه أن يدعها كما لا يدع عابد الوثن عبادته. # وهذا كله مضاد لما خلق الله العباد لأجله من تفريغ قلوبهم لمعرفته، ~~ومحبته، وخشيته، وذكره، ومناجاته، ودعائه، والابتهال إليه، فما حال بين ~~بالعبد وبين # ذلك، ولم يكن بالعبد إليه ضرورة، بل كان ضررا محضا عليه، كان محرما، وقد ~~روي عن علي أنه قال لمن رآهم يلعبون بالشطرنج: ما لهذا خلقتم (2) . ومن # هنا يعلم أن الميسر محرم، سواء كان بعوض أو بغير عوض، وإن الشطرنج # كالنرد أو شر منه؛ لأنها تشغل أصحابها عن ذكر الله، وعن الصلاة أكثر من # النرد. # والمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كل مسكر حرام، وكل ما ~~أسكر عن الصلاة فهو حرام)) . # وقد تواترت الأحاديث بذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرجا في " ~~الصحيحين " (3) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كل ~~مسكر خمر، وكل خمر حرام)) # ولفظ مسلم: ((وكل مسكر حرام)) . وخرجا أيضا (4) من حديث ms583 عائشة أن # النبي - صلى الله عليه وسلم - PageV03P1226 # سئل عن البتع، فقال: ((كل شراب أسكر فهو حرام)) ، وفي رواية # لمسلم: ((كل شراب مسكر حرام)) وقد صحح هذا الحديث أحمد ويحيى بن # معين (1) ، واحتجا به ونقل ابن عبد البر (2) إجماع أهل العلم بالحديث على ~~صحته، وأنه أثبت شيء يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم ~~المسكر. # وأما ما نقله بعض فقهاء الحنفية عن ابن معين من طعنه فيه، فلا يثبت ذلك ~~عنه (3) . وقد خرج مسلم (4) من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: # ((كل مسكر حرام)) . # وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ~~من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك والشافعي والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق ~~ومحمد بن الحسن وغيرهم، وهو مما اجتمع على القول به أهل المدينة كلهم. # وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة، وقالوا: إن الخمر إنما هو خمر ~~العنب خاصة (5) ، وما عداها، فإنما يحرم منه القدر الذي يسكر، ولا يحرم ما ~~دونه، وما زال علماء الأمصار ينكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين ~~مغفورا لهم، وفيهم خلق من أئمة العلم والدين. قال ابن المبارك: ما وجدت في ~~النبيذ رخصة عن أحد صحيح إلا عن إبراهيم، - PageV03P1227 # يعني: النخعي (1) -، وكذلك أنكر الإمام أحمد أن يكون فيه شيء يصح، وقد ~~صنف كتاب " الأشربة " ولم يذكر فيه شيئا من الرخصة، وصنف كتابا في المسح ~~على الخفين، وذكر فيه عن بعض السلف إنكاره، فقيل له: كيف لم تجعل في كتاب " ~~الأشربة " الرخصة كما # جعلت في المسح؟ فقال: ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح (2) . # ومما يدل على أن كل مسكر خمر أن تحريم الخمر إنما نزل في المدينة بسبب ~~سؤال أهل المدينة عما عندهم من الأشربة، ولم يكن بها خمر العنب، فلو لم تكن ~~آية تحريم الخمر شاملة لما عندهم، لما كان فيها بيان لما سألوا عنه، ولكان ~~محل السبب خارجا من عموم الكلام، وهو ممتنع، ولما نزل تحريم الخمر أراقوا ~~ما ms584 عندهم من الأشربة، فدل على أنهم فهموا أنه من الخمر المأمور باجتنابه. # وفي " صحيح البخاري " (3) عن أنس قال: حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد ~~خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر. # وعنه أنه قال: إني لأسقي أبا طلحة، وأبا دجانة، وسهيل بن بيضاء خليط بسر ~~وتمر إذ حرمت الخمر، فقذفتها، وأنا ساقيهم وأصغرهم، وإنا نعدها يومئذ الخمر ~~(4) . # وفي " الصحيحين " (5) عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي ~~تسمونه الفضيخ. # وفي " صحيح مسلم " (6) عنه قال: لقد أنزل الله الآية التي حرم فيها ~~الخمر، وما بالمدينة PageV03P1228 # شراب يشرب إلا من تمر. # وفي " صحيح البخاري " (1) عن ابن عمر، قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة ~~يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب. # وفي " الصحيحين " (2) # عن الشعبي، عن ابن عمر، قال: قام عمر على المنبر، فقال: أما بعد، نزل ~~تحريم الخمر وهي من خمس: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير. والخمر: ما ~~خامر العقل. وخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، # والترمذي (3) من حديث الشعبي عن النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -. وذكر الترمذي أن قول من قال: عن الشعبي عن ابن عمر، عن عمر ~~أصح، وكذا قال ابن المديني (4) . PageV03P1229 # وروى أبو إسحاق عن أبي بردة قال: قال عمر: ما خمرته فعتقته، فهو خمر، ~~وأنى كانت لنا الخمر خمر العنب (1) . # وفي " مسند " الإمام أحمد (2) عن المختار بن فلفل قال: سألت أنس بن # مالك عن الشرب في الأوعية فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ~~المزفتة وقال: ((كل مسكر حرام)) قلت له: صدقت السكر حرام، فالشربة ~~والشربتان على طعامنا؟ قال: المسكر قليله وكثيره حرام وقال: الخمر من العنب ~~والتمر والعسل # والحنطة والشعير والذرة، فما خمرت من ذلك فهو الخمر، خرجه أحمد عن عبد ~~الله ابن إدريس: سمعت المختار بن فلفل يقول فذكره، وهذا إسناد على شرط # مسلم. # وفي " صحيح مسلم " (3) ، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((الخمر من # هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة)) ، وهذا صريح في أن ms585 نبيذ التمر خمر. # وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما خرجه أبو داود، وابن ~~ماجه، PageV03P1230 # والترمذي (1) ، وحسنه من حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) . # وخرج أبو داود، والترمذي (2) ، وحسنه من حديث عائشة، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -، قال: ((كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق، فملء الكف منه حرام)) ، ~~وفي رواية ((الحسوة منه حرام)) ، وقد احتج به أحمد، وذهب إليه. وسئل عمن ~~قال: إنه لا يصح؟ فقال: هذا رجل مغل، يعني أنه قد غلا في مقالته. وقد خرج ~~النسائي (3) هذا الحديث من رواية سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمرو، عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ~~وجوه كثيرة يطول ذكرها. # وروى ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، حدثني أبو وهب الجيشاني، عن وفد أهل ~~اليمن أنهم قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألوه عن أشربة تكون ~~باليمن، قال: فسموا له البتع من العسل، والمزر من الشعير، قال النبي - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((هل تسكرون # منها؟)) قالوا: إن أكثرنا سكرنا، قال: ((فحرام قليل ما أسكر كثيره)) (4) ~~خرجه القاضي إسماعيل. # وقد كانت الصحابة تحتج بقول النبي - صلى الله عليه PageV03P1231 # وسلم -: ((كل مسكر حرام)) على تحريم جميع أنواع المسكرات، ما كان موجودا ~~منها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وما حدث بعده، كما سئل ابن عباس ~~عن الباذق، فقال: سبق محمد الباذق، فما أسكر، فهو حرام، خرجه البخاري (1) ، ~~يشير إلى أنه إن كان مسكرا، فقد دخل في هذه الكلمة الجامعة العامة. # واعلم أن المسكر المزيل للعقل نوعان: # أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، فهذا هو الخمر المحرم شربه، وفي # " المسند " (2) عن طلق الحنفي أنه كان جالسا عند النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، فقال له رجل: يا رسول الله، ما ترى في شراب نصنعه بأرضنا من ~~ثمارنا؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سائل عن المسكر؟ فلا تشربه، ولا ~~تسقه أخاك المسلم ms586، فوالذي نفسي بيده - أو بالذي يحلف به - لا يشربه رجل ~~ابتغاء لذة سكره، فيسقيه الله الخمر يوم القيامة)) . # قال طائفة من العلماء: وسواء كان هذا المسكر جامدا أو مائعا، وسواء # كان مطعوما أو مشروبا، وسواء كان من حب أو ثمر أو لبن، أو غير ذلك، ~~وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق القنب، وغيرها مما يؤكل لأجل ~~PageV03P1232 # لذته وسكره (1) ، وفي " سنن أبي داود " (2) من حديث شهر بن حوشب، عن أم ~~سلمة، قالت: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل مسكر ومفتر)) ~~والمفتر: هو المخدر للجسد، وإن لم ينته إلى حد الإسكار (3) . # والثاني: ما يزيل العقل ويسكر، ولا لذة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه، فقال ~~أصحابنا: إن تناوله لحاجة التداوي به، وكان الغالب منه السلامة جاز، وقد ~~روي عن عروة بن الزبير أنه لما وقعت الأكلة في رجله، وأرادوا قطعها، قال له ~~الأطباء: نسقيك دواء حتى يغيب عقلك، ولا تحس بألم القطع، فأبى، وقال: ما ~~ظننت أن خلقا يشرب شرابا يزول منه عقله حتى لا يعرف ربه (4) . # وروي عنه أنه قال: لا أشرب شيئا يحول بيني وبين ذكر ربي - عز وجل -. # وإن تناول ذلك لغير حاجة التداوي، فقال أكثر أصحابنا كالقاضي، وابن عقيل، ~~وصاحب " المغني ": إنه محرم؛ لأنه تسبب إلى إزالة العقل لغير حاجة، فحرم ~~كشرب المسكر، وروى حنش الرحبي - وفيه ضعف (5) # - عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا: ((من شرب شرابا يذهب بعقله، فقد أتى ~~بابا من أبواب # الكبائر)) (6) . # وقالت طائفة منهم ابن عقيل في " فنونه ": لا يحرم ذلك؛ لأنه لا لذة فيه، ~~والخمر PageV03P1233 # إنما حرمت لما فيها من الشدة المطربة، ولا اطراب في البنج ونحوه ولا شدة. # فعلى قول الأكثرين: لو تناول ذلك لغير حاجة، وسكر به، فطلق، فحكم طلاقه ~~حكم طلاق السكران، قاله أكثر أصحابنا كابن حامد والقاضي، وأصحاب الشافعي، ~~وقالت الحنفية: لا يقع طلاقه، وعللوا بأنه ليس فيه لذة، وهذا يدل على أنهم ~~لم يحرموه. وقالت الشافعية: هو محرم، وفي وقوع الطلاق معه وجهان، وظاهر ms587 ~~كلام أحمد أنه لا يقع طلاقه بخلاف السكران، وتأوله القاضي، وقال: إنما قال ~~ذلك إلزاما للحنفية، لا اعتقادا له، وسياق كلامه محتمل لذلك (1) . # وأما الحد، فإنما يجب بتناول ما فيه شدة وطرب من المسكرات؛ لأنه هو الذي ~~تدعو النفوس إليه، فجعل الحد زاجرا عنه. # فأما ما فيه سكر بغير طرب ولا لذة، فليس فيه سوى التعزير؛ لأنه ليس في ~~النفوس داع إليه حتى يحتاج إلى حد مقدر زاجر عنه، فهو كأكل الميتة ولحم ~~الخنزير، وشرب الدم. # وأكثر العلماء الذين يرون تحريم قليل ما أسكر كثيره يرون حد من شرب # ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حله متأولا، وهو قول الشافعي وأحمد، خلافا لأبي ~~ثور، فإنه قال: لا يحد لتأوله، فهو كالناكح بلا ولي. وفي حد الناكح بلا # ولي خلاف أيضا، ولكن الصحيح أنه لا يحد، PageV03P1234 # وقد فرق من فرق بينه وبين شرب النبيذ متأولا بأن شرب النبيذ المختلف فيه ~~داع إلى شرب الخمر المجمع على # تحريمه بخلاف الناكح بغير ولي، فإنه مغن عن الزنى المجمع على تحريمه، ~~وموجب للاستعفاف عنه. والمنصوص عن أحمد أنه إنما حد شارب النبيذ متأولا؛ ~~لأن تأويله ضعيف لا يدرأ عنه الحد به، فإنه قال في رواية الأثرم: يحد من ~~شرب النبيذ متأولا، ولو رفع إلى الإمام من طلق البتة، ثم راجعها متأولا أن ~~طلاق البتة # واحدة، والإمام يرى أنها ثلاث لا يفرق بينهما، وقال: هذا غير ذاك، أمره ~~بين في كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ونزل تحريم الخمر ~~وشرابهم الفضيخ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مسكر خمر)) ، ~~فهذا بين، وطلاق البتة إنما هو شيء اختلف الناس # فيه (1) . PageV03P1235 ### | الحديث السابع والأربعون # عن المقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن ~~كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) رواه الإمام أحمد ~~والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن. # هذا الحديث خرجه ms588 الإمام أحمد (1) والترمذي (2) من حديث يحيى بن جابر ~~الطائي عن المقدام، وخرجه النسائي (3) من هذا الوجه ومن وجه آخر من رواية ~~صالح بن يحيى بن المقدام عن جده (4) ، وخرجه ابن ماجه (5) من وجه آخر عنه ~~PageV03P1237 # وله طرق أخرى (1) . # وقد روي هذا الحديث مع ذكر سببه، فروى أبو القاسم البغوي في # " معجمه " من حديث عبد الرحمان بن المرقع، قال: فتح رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - خيبر وهي مخضرة من الفواكة، فواقع الناس الفاكهة، فمغثتهم ~~الحمى، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: ((إنما الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض، وهي قطعة ~~من النار، فإذا أخذتكم فبردوا الماء في الشنان، فصبوها عليكم بين ~~الصلاتين)) يعني المغرب والعشاء، قال: ففعلوا ذلك، فذهبت عنهم، فقال رسول ~~الله - صلى الله عليه وسلم -: # ((لم يخلق الله وعاء إذا ملئ شرا من بطن، فإن كان لابد، فاجعلوا ثلثا ~~للطعام، # وثلثا للشراب، وثلثا للريح)) (2) . # وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها. وقد روي أن ابن أبي # ماسويه (3) الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: لو استعمل ~~الناس هذه الكلمات، سلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات (4) ~~ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داء التخم، كما قال بعضهم: ~~أصل كل داء البردة، وروي مرفوعا ولا يصح رفعه (5) . PageV03P1238 # وقال الحارث بن كلدة طبيب العرب: الحمية رأس الدواء، والبطنة رأس الداء، ~~ورفعه بعضهم ولا يصح أيضا (1) . # وقال الحارث أيضا: الذي قتل البرية، وأهلك السباع في البرية، إدخال ~~الطعام على الطعام قبل الانهضام. # وقال غيره: لو قيل لأهل القبور: ما كان سبب آجالكم؟ قالوا: التخم (2) . # فهذا بعض منافع تقليل الغذاء، وترك التملي من الطعام بالنسبة إلى صلاح ~~البدن وصحته. # وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب، ~~وقوة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك. # قال الحسن: يا ابن آدم كل في ثلث بطنك، واشرب في ثلث، ودع ثلث بطنك ms589 يتنفس ~~لتتفكر. PageV03P1239 # وقال المروذي: جعل أبو عبد الله: يعني: أحمد يعظم أمر الجوع والفقر، فقلت ~~له: يؤجر الرجل في ترك الشهوات، فقال: وكيف لا يؤجر، وابن عمر يقول: ما ~~شبعت منذ أربعة أشهر؟ قلت لأبي عبد الله: يجد الرجل من قلبه رقة وهو يشبع؟ ~~قال: ما أرى (1) . # وروى المروذي عن أبي عبد الله قول ابن عمر هذا من وجوه، فروى بإسناده عن ~~ابن سيرين، قال: قال رجل لابن عمر: ألا أجيئك بجوارش؟ قال: وأي شيء هو؟ ~~قال: شيء يهضم الطعام إذا أكلته، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وليس ذاك ~~أني لا أقدر عليه، ولكن أدركت أقواما يجوعون أكثر مما يشبعون (2) . # وبإسناده عن نافع، قال: جاء رجل بجوارش إلى ابن عمر، فقال: ما هذا؟ قال: ~~جوارش: شيء يهضم به الطعام، قال: ما أصنع به؟ إني ليأتي علي الشهر # ما أشبع فيه من الطعام (3) . # وبإسناده عن رجل قال: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمان رقت مضغتك، وكبر ~~سنك، وجلساؤك لا يعرفون لك حقك ولا شرفك، فلو أمرت أهلك أن يجعلوا لك شيئا ~~يلطفونك إذا رجعت إليهم، قال: ويحك، والله ما شبعت منذ إحدى عشرة سنة، ولا ~~اثنتي عشرة سنة، ولا ثلاث عشرة سنة، ولا أربع عشرة سنة مرة واحدة، فكيف بي ~~وإنما بقي مني كظمء الحمار (4) . # وبإسناده عن عمرو بن الأسود العنسي أنه كان يدع كثيرا من الشبع مخافة ~~الأشر (5) . # وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " الجوع " (6) بإسناده عن نافع، عن ابن عمر، ~~قال: ما شبعت منذ أسلمت. # وروى بإسناده (7) عن محمد بن واسع، قال: من قل طعمه فهم، وأفهم، وصفا، ~~PageV03P1240 # ورق، وإن كثرة الطعام ليثقل صاحبه عن كثير مما يريد. # وعن أبي عبيدة الخواص، قال: حتفك في شبعك، وحظك في جوعك، إذا أنت شبعت ~~ثقلت، فنمت، استمكن منك العدو، فجثم عليك، وإذا أنت تجوعت كنت للعدو بمرصد ~~(1) . # وعن عمرو بن قيس، قال: إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب (2) . # وعن سلمة بن سعيد قال: إن كان الرجل ليعير بالبطنة كما يعير ms590 بالذنب يعمله ~~(3) . # وعن بعض العلماء قال: إذا كنت بطينا، فاعدد نفسك زمنا حتى تخمص (4) . # وعن ابن الأعرابي قال: كانت العرب تقول: ما بات رجل بطينا فتم # عزمه (5) . # وعن أبي سليمان الداراني قال: إذا أردت حاجة من حوائج الدنيا والآخرة، ~~فلا تأكل حتى تقضيها، فإن الأكل يغير العقل (6) . # وعن مالك بن دينار قال: ما ينبغي للمؤمن أن يكون بطنه أكبر همه، وأن تكون ~~شهوته هي الغالبة عليه (7) . # قال: وحدثني الحسن بن عبد الرحمان، قال: قال الحسن أو غيره: كانت بلية ~~أبيكم آدم - عليه السلام - أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة (8) . قال: ~~وكان يقال: من ملك بطنه، ملك الأعمال الصالحة كلها (9) ، وكان يقال: لا ~~تسكن الحكمة معدة ملأى (10) . # وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان يقال: قلة الطعام عون على التسرع ~~إلى الخيرات (11) . # وعن قثم العابد قال: كان يقال: ما قل طعم امرئ قط إلا رق قلبه، ونديت ~~عيناه (12) . # وعن عبد الله بن مرزوق قال: لم نر للأشر مثل دوام الجوع، فقال له أبو # عبد الرحمان العمري الزاهد: وما دوامه عندك؟ قال: دوامه أن لا تشبع أبدا. ~~قال: وكيف يقدر من كان في الدنيا على هذا؟ قال: ما أيسر ذلك يا أبا عبد ~~الرحمان على أهل ولايته ومن وفقه لطاعته، لا يأكل إلا دون الشبع هو دوام ~~الجوع (13) . # ويشبه هذا قول الحسن لما عرض الطعام على بعض أصحابه، فقال له: أكلت حتى ~~لا PageV03P1241 # أستطيع أن آكل، فقال الحسن: سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن ~~يأكل؟! (1) . # وروى أيضا بإسناده عن أبي عمران الجوني، قال: كان يقال: من أحب أن ينور ~~له قلبه، فليقل طعمه (2) . # وعن عثمان بن زائدة قال: كتب إلي سفيان الثوري: إن أردت أن يصح # جسمك، ويقل نومك، فأقل من الأكل (3) . # وعن ابن السماك قال: خلا رجل بأخيه، فقال: أي أخي، نحن أهون على الله من ~~أن يجيعنا، إنما يجيع أولياءه. # وعن عبد الله بن الفرج قال: قلت لأبي سعيد التميمي: الخائف يشبع؟ قال: ~~لا، قلت: المشتاق يشبع ms591؟ قال: لا. # وعن رياح القيسي أنه قرب إليه طعام، فأكل منه، فقيل له: ازدد فما أراك ~~شبعت، فصاح صيحة وقال: كيف أشبع أيام الدنيا وشجرة الزقوم طعام الأثيم بين # يدي؟ فرفع الرجل الطعام من بين يديه، وقال: أنت في شيء ونحن في شيء (4) . # قال المروذي: قال لي رجل: كيف ذاك المتنعم؟ يعني: أحمد، قلت له: وكيف هو ~~متنعم؟ قال: أليس يجد خبزا يأكل، وله امرأة يسكن إليه ويطؤها، فذكرت ذلك ~~لأبي عبد الله، فقال: صدق، وجعل يسترجع، وقال: إنا لنشبع. # وقال بشر بن الحارث: ما شبعت منذ خمسين سنة، وقال: ما ينبغي للرجل أن ~~يشبع اليوم من الحلال؛ لأنه إذا شبع من الحلال، دعته نفسه إلى الحرام، فكيف ~~من هذه الأقذار؟ (5) # وعن إبراهيم بن أدهم قال: من ضبط بطنه، ضبط دينه، ومن ملك جوعه، ملك ~~الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع، قريبة من الشبعان، ~~والشبع يميت القلب، ومنه يكون الفرح والمرح والضحك. # وقال ثابت البناني: بلغنا أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما ~~PageV03P1242 # السلام، فرأى عليه معاليق من كل شيء، فقال له يحيى: يا إبليس، ما هذه ~~المعاليق التي أرى عليك؟ قال: هذه الشهوات التي أصيب من بني آدم، قال: فهل ~~لي فيها شيء؟ قال: ربما شبعت، فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: فهل غير ~~هذا؟ قال: # لا، قال: لله علي أن لا أملأ بطني من طعام أبدا، قال: فقال إبليس: ولله ~~علي أن لا أنصح مسلما أبدا (1) . # وقال أبو سليمان الداراني: إن النفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورق، وإذا ~~شبعت ورويت، عمي القلب (2) ، وقال: مفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة ~~الجوع، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله - عز وجل -، وإن الله ~~ليعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وإن الجوع عنده في خزائن مدخرة، فلا يعطي ~~إلا من أحب خاصة؛ ولأن أدع من عشائي لقمة أحب إلي من أن آكلها ثم أقوم من ~~أول الليل إلى آخره (3) . # وقال الحسن بن يحيى الخشني: من أراد ms592 أن تغزر دموعه، ويرق قلبه، فليأكل، ~~وليشرب في نصف بطنه، قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت بهذا أبا سليمان، ~~فقال: إنما جاء الحديث: ((ثلث طعام وثلث شراب)) ، وأرى هؤلاء قد حاسبوا ~~أنفسهم، فربحوا سدسا (4) . # وقال محمد بن النضر الحارثي: الجوع يبعث على البر كما تبعث البطنة على # الأشر (5) . # وعن الشافعي، قال: ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة اطرحتها؛ لأن الشبع ~~يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة (6) . # وقد ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التقلل من الأكل في حديث ~~المقدام، وقال: ((حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)) (7) . وفي " الصحيحين " ~~(8) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: # ((المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل PageV03P1243 # في سبعة أمعاء)) والمراد أن المؤمن يأكل بأدب الشرع، فيأكل في معى واحد، ~~والكافر يأكل بمقتضى الشهوة والشره والنهم، فيأكل في سبعة أمعاء. # وندب - صلى الله عليه وسلم - مع التقلل من الأكل والاكتفاء ببعض الطعام ~~إلى الإيثار بالباقي منه، فقال: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين ~~يكفي الثلاثة، وطعام الثلاثة يكفي الأربعة)) (1) . # فأحسن ما أكل المؤمن في ثلث بطنه، وشرب في ثلث، وترك للنفس ثلثا، كما ~~ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المقدام، فإن كثرة الشرب تجلب ~~النوم، وتفسد الطعام. قال سفيان: كل ما شئت ولا تشرب، فإذا لم تشرب، لم ~~يجئك النوم (2) . # وقال بعض السلف: كان شباب يتعبدون في بني إسرائيل، فإذا كان عند # فطرهم، قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيرا، فتشربوا كثيرا، فتناموا ~~كثيرا، # فتخسروا كثيرا (3) . # وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجوعون كثيرا، ويتقللون من ~~أكل الشهوات، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام، إلا أن الله لا يختار لرسوله ~~إلا أكمل الأحوال وأفضلها. ولهذا كان ابن عمر يتشبه بهم في ذلك، مع قدرته ~~على الطعام، وكذلك كان أبوه PageV03P1244 # من قبله. # ففي " الصحيحين " (1) عن عائشة، قالت: ما شبع آل محمد - صلى الله عليه ~~وسلم - منذ قدم المدينة من خبز بر ثلاث ليال تباعا حتى ms593 قبض، ولمسلم (2) : ~~قالت: ما شبع # رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض. # وخرج البخاري (3) عن أبي هريرة قال: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - من طعام ثلاثة أيام حتى قبض. # وعنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من ~~خبز الشعير (4) . # وفي " صحيح مسلم " (5) عن عمر أنه خطب، فذكر ما أصاب الناس من الدنيا، ~~فقال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد ~~دقلا يملأ به بطنه. # وخرج الترمذي (6) ، وابن ماجه (7) من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم -، قال # ((لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد ~~أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال)) . ~~PageV03P1245 # وخرج ابن ماجه (1) بإسناده عن سليمان بن صرد، قال: أتانا رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -، فمكثنا ثلاث ليال لا نقدر - أو لا يقدر - على طعام. # وبإسناده (2) عن أبي هريرة، قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ~~بطعام سخن، فأكل، فلما فرغ، قال: ((الحمد لله، ما دخل بطني طعام سخن منذ ~~كذا وكذا)) . # وقد ذم الله ورسوله من اتبع الشهوات، قال تعالى: {فخلف من بعدهم خلف ~~أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب} (3) . # وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((خير القرون قرني، ثم ~~الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ~~ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) (4) . # وفي " المسند " (5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا سمينا، ~~فجعل يومئ بيده إلى بطنه ويقول: ((لو كان هذا في غير هذا، لكان خيرا لك)) . # وفي " المسند " (6) عن أبي برزة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى)) . # وفي " مسند البزار " وغيره (7) عن فاطمة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-، قال: ((شرار ms594 أمتي الذين غذوا PageV03P1246 # بالنعيم يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في ~~الكلام)) . # وخرج الترمذي (1) وابن ماجه (2) من حديث ابن عمر، قال: تجشأ (3) رجل عند ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعا في ~~الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة)) . # وخرجه ابن ماجه (4) من حديث سلمان أيضا بنحوه، PageV03P1247 # وخرجه الحاكم (1) # من حديث أبي جحيفة وفي أسانيدها كلها مقال. # وروى يحيى بن منده في كتاب " مناقب الإمام أحمد " بإسناد له عن الإمام ~~أحمد أنه سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلث للطعام، وثلث ~~للشراب، وثلث للنفس)) فقال: ثلث للطعام: هو القوت، وثلث للشراب: هو القوى، ~~وثلث للنفس: هو الروح، والله أعلم. PageV03P1248 ### | الحديث الثامن والأربعون # عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((أربع من كن فيه كان منافقا، وإن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة ~~من النفاق حتى يدعها: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا ~~عاهد غدر)) خرجه البخاري (1) ومسلم (2) . # هذا الحديث خرجاه في " الصحيحين " من رواية الأعمش، عن عبد الله بن مرة، ~~عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وخرجا في " الصحيحين " (3) أيضا ~~من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((آية المنافق ~~ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) . وفي رواية لمسلم (4) ~~: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)) وفي رواية له أيضا (5) : ((من علامات ~~المنافق ثلاثة)) . وقد روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ~~أخر. # وهذا الحديث قد حمله طائفة ممن يميل إلى الإرجاء على المنافقين الذين ~~كانوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم حدثوا النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - فكذبوه، وائتمنهم على سره فخانوه، PageV03P1249 # ووعدوه أن يخرجوا معه في الغزو فأخلفوه، وقد روى محمد المحرم هذا التأويل ~~عن عطاء، وأنه قال: حدثني به جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر ~~أن الحسن رجع إلى # قول عطاء ms595 هذا لما بلغه عنه (1) . وهذا كذب، والمحرم شيخ كذاب معروف # بالكذب (2) . # وقد روي عن عطاء من وجهين آخرين ضعيفين أنه أنكر على الحسن قوله: ثلاث من ~~كن فيه، فهو منافق، وقال: قد حدث إخوة يوسف فكذبوا، ووعدوا فأخلفوا، ~~وائتمنوا فخانوا ولم يكونوا منافقين (3) ، وهذا لا يصح عن عطاء، والحسن لم ~~يقل هذا من عنده وإنما بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالحديث ثابت ~~عنه - صلى الله عليه وسلم - لا شك في ثبوته وصحته والذي فسره به أهل العلم ~~المعتبرون أن النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر وإظهار الخير، ~~وإبطان خلافه، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين: # أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته ~~وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق ~~الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل القرآن بذم أهله ~~وتكفيرهم، وأخبر أن أهله في الدرك الأسفل من النار (4) . # والثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل (5) ، وهو أن يظهر الإنسان ~~علانية # صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك. # وأصول هذا النفاق ترجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث، وهي خمسة: # أحدها: أن يحدث بحديث لمن يصدقه به وهو كاذب له، وفي " المسند " (6) عن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك ~~PageV03P1250 # مصدق، وأنت به كاذب)) . # قال الحسن: كان يقال: النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول # والعمل، والمدخل والمخرج، وكان يقال: أس النفاق الذي بني عليه النفاق # الكذب (1) . # الثاني: إذا وعد أخلف، وهو على نوعين: # أحدهما: أن يعد ومن نيته أن لا يفي بوعده، وهذا أشر الخلف، ولو قال: أفعل ~~كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته أن لا يفعل، كان كذبا وخلفا، قاله ~~الأوزاعي. # الثاني: أن يعد ومن نيته أن يفي، ثم يبدو له، فيخلف من غير عذر له في # الخلف. # وخرج أبو داود (2) ، والترمذي (3) # من حديث زيد بن أرقم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إذا وعد ~~الرجل ونوى أن ms596 يفي به، فلم يف، فلا جناح عليه)) . وقال الترمذي (4) : ليس ~~إسناده بالقوي. # وخرجه الإسماعيلي وغيره من حديث سلمان أن عليا لقي أبا بكر وعمر، # فقال: ما لي أراكما ثقيلين؟ قالا: حديث سمعناه من النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - ذكر خلال المنافق: # ((إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان)) فأينا ينجو من هذه # الخصال؟ فدخل علي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال: ~~((قد حدثتهما، ولم # أضعه على الموضع الذي تضعونه، ولكن المنافق إذا حدث وهو يحدث نفسه أن # يكذب، وإذا وعد وهو يحدث نفسه أن يخلف، وإذا اؤتمن وهو يحدث نفسه أن # يخون)) (5) . PageV03P1251 # وقال أبو حاتم الرازي (1) في هذا الحديث من رواية سلمان وزيد بن أرقم: ~~الحديثان مضطربان وفي الإسنادين مجهولان. وقال الدارقطني (2) : الحديث غير ~~ثابت، والله أعلم. # وخرج الطبراني (3) والإسماعيلي من حديث علي مرفوعا: ((العدة دين، ويل # لمن وعد ثم أخلف)) قالها ثلاثا، وفي إسناده جهالة، ويروى من حديث ابن ~~مسعود، قال: لا يعد أحدكم صبيه، ثم لا ينجز له، فإن رسول الله - صلى الله ~~عليه وسلم - قال: ((العدة # عطية)) (4) وفي إسناده نظر، وأوله صحيح عن ابن مسعود من قوله. # وفي مراسيل الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العدة هبة)) ~~(5) . وفي " سنن أبي داود" (6) عن مولى لعبد الله بن عامر بن ربيعة، عن عبد ~~الله بن عامر بن ربيعة، قال: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيتنا ~~وأنا صبي، فخرجت لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعال أعطك، فقال رسول الله ~~- صلى الله عليه وسلم -: ((ما أردت أن تعطيه؟)) قلت: أردت أن أعطيه تمرا، ~~فقال: ((أما إن لم تفعلي كتبت عليك كذبة)) . وفي إسناده من لا يعرف. # وذكر الزهري عن أبي هريرة، قال: من قال لصبي: تعال هاك تمرا، ثم لا يعطيه ~~شيئا فهي كذبة (7) . # وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد، فمنهم من أوجبه مطلقا، وذكر ~~البخاري في "صحيحه" (8) أن ابن أشوع قضى بالوعد، وهو قول طائفة من أهل ~~PageV03P1252 # الظاهر ms597 وغيرهم، منهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى تغريما للموعود، وهو ~~المحكي عن مالك، وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقا. # والثالث: إذا خاصم فجر ويعني بالفجور أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق ~~باطلا والباطل حقا، وهذا مما يدعو إليه الكذب (1) ، كما قال - صلى الله ~~عليه وسلم -: ((إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي ~~إلى النار)) (2) . # وفي " الصحيحين " (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أبغض الرجال ~~إلى الله الألد الخصم)) . # وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ~~ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق ~~أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)) (4) . PageV03P1253 # وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن من البيان سحرا)) (1) . # فإذا كان الرجل ذا قدرة عند الخصومة - سواء كانت خصومته في الدين أو في ~~الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويخيل للسامع أنه حق، ويوهن الحق، ويخرجه في ~~صورة الباطل، كان ذلك من أقبح المحرمات، ومن أخبث خصال النفاق، وفي # " سنن أبي داود " (2) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع)) . # وفي رواية له (3) أيضا: ((ومن أعان على خصومة بظلم، فقد باء بغضب من ~~الله)) . # الرابع: إذا عاهد غدر، ولم يف بالعهد، وقد أمر الله بالوفاء بالعهد، ~~فقال: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} (4) ، PageV03P1254 # وقال: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد ~~جعلتم الله عليكم كفيلا} (1) ، وقال: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ~~ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ~~يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب # أليم} (2) . # وفي " الصحيحين " (3) عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به)) ، وفي رواية: ((إن الغادر ينصب له ~~لواء يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان)) (4) ، وخرجاه (5) أيضا من ms598 ~~حديث أنس بمعناه. # وخرج مسلم (6) من حديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة)) . # والغدر حرام في كل عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهد كافرا، ولهذا ~~في حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قتل نفسا ~~معاهدا بغير حقها لم يرح (7) رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين ~~عاما)) خرجه البخاري (8) . # وقد أمر الله تعالى في كتابه بالوفاء بعهود المشركين إذا أقاموا على ~~عهودهم ولم PageV03P1255 # ينقضوا منها شيئا. # وأما عهود المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثما. # ومن أعظمها: نقض عهد الإمام على من بايعه، ورضي به، وفي # " الصحيحين " (1) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ~~((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فذكر منهم: ~~ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه ما يريد، وفى له، وإلا لم ~~يف له)) . # ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها، ويحرم الغدر فيها: جميع عقود ~~المسلمين فيما بينهم، إذا تراضوا عليها من المبايعات والمناكحات وغيرها من ~~العقود اللازمة التي يجب الوفاء بها (2) ، وكذلك ما يجب الوفاء به لله - عز ~~وجل - مما يعاهد العبد ربه عليه من نذر التبرر ونحوه. # الخامس: الخيانة في الأمانة، فإذا اؤتمن الرجل أمانة، فالواجب عليه أن ~~يؤديها، كما قال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (3) ~~، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أد الأمانة إلى من ائتمنك)) (4) ، ~~PageV03P1256 # وقال في خطبته في حجة الوداع: ((من كانت عنده أمانة، فليؤدها إلى من ~~ائتمنه عليها)) (1) وقال - عز وجل -: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله ~~والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (2) فالخيانة في الأمانة من خصال ~~النفاق. # وفي حديث ابن مسعود من قوله، وروي مرفوعا: ((القتل في سبيل الله يكفر كل ~~ذنب إلا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أد أمانتك، فيقول: أنى يا ~~رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال: اذهبوا به إلى الهاوية، فيهوي ms599 فيها حتى ينتهي ~~إلى قعرها، فيجدها هناك كهيئتها، فيحملها، فيضعها على عنقه فيصعد بها في ~~نار جهنم حتى إذا رأى أنه قد خرج منها، زلت فهوت، وهو في إثرها أبد ~~الآبدين)) قال: والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في ~~الحديث، وأشد ذلك الودائع (3) . # وقد روي عن محمد بن كعب القرظي أنه استنبط ما في هذا الحديث - أعني حديث: ~~((آية المنافق ثلاث)) (4) - من القرآن، فقال: مصداق ذلك في كتاب الله ~~تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله} إلى قوله: # {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} (5) ، وقال تعالى: {ومنهم من عاهد ~~الله لئن آتانا من فضله} إلى قوله: {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم ~~يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} (6) ، وقال: {إنا ~~عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال} إلى قوله: {ليعذب الله ~~المنافقين والمنافقات} (7) وروي عن ابن مسعود نحو هذا الكلام، ثم تلا قوله: ~~{فأعقبهم # نفاقا في قلوبهم} (8) الآية. PageV03P1257 # وحاصل الأمر أن النفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية ~~قاله الحسن (1) ، وقال الحسن أيضا: من النفاق اختلاف القلب واللسان، ~~واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج (2) . # وقال طائفة من السلف: خشوع النفاق أن ترى الجسد خاشعا، والقلب ليس بخاشع، ~~وقد روي معنى ذلك عن عمر، وروي عنه أنه قال على المنبر: إن أخوف ما أخاف ~~عليكم المنافق العليم، قالوا: كيف يكون المنافق عليما؟ قال: يتكلم بالحكمة، ~~ويعمل بالجور (3) ، أو قال: المنكر. وسئل حذيفة عن المنافق، فقال: الذي يصف ~~الإيمان ولا يعمل به (4) . # وفي " صحيح البخاري " (5) عن ابن عمر أنه قيل له: إنا ندخل على سلطاننا، ~~فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم، قال: كنا نعد هذا نفاقا. # وفي " المسند " (6) عن حذيفة، قال: إنكم لتكلمون كلاما إن كنا لنعده # على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النفاق، وفي رواية (7) قال: إن ~~كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصير ~~بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم في المجلس عشر ms600 مرار. # قال بلال بن سعد: المنافق يقول ما يعرف، ويعمل ما ينكر. PageV03P1258 # ومن هنا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم، وكان عمر يسأل حذيفة عن ~~نفسه. # وسئل أبو رجاء العطاردي: هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم - يخشون النفاق؟ فقال: نعم إني أدركت منهم بحمد الله صدرا ~~حسنا، نعم شديدا، نعم شديدا (1) . # وقال البخاري في " صحيحه " (2) : وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من ~~أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه. # ويذكر عن الحسن قال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق (3) . انتهى. # وروي عن الحسن أنه حلف: ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق، ~~ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن. وكان يقول: من لم يخف ~~النفاق، فهو منافق (4) . # وسمع رجل أبا الدرداء يتعوذ من النفاق في صلاته، فلما سلم، قال له: ما ~~شأنك وشأن النفاق؟ فقال: اللهم غفرا - ثلاثا - لا تأمن البلاء، والله إن ~~الرجل ليفتن في ساعة واحدة، فينقلب عن دينه (5) . والآثار عن السلف في هذا ~~كثيرة جدا. قال سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث، فذكر منها ~~قال: نحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق (6) . # وقال الأوزاعي: قد خاف عمر النفاق على نفسه، قيل له: إنهم يقولون: # إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حتى سأل حذيفة، ولكن خاف أن يبتلى # بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع، يشير إلى أن عمر كان يخاف # النفاق على نفسه (7) في الحال، PageV03P1259 # والظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف على نفسه في الحال من النفاق الأصغر، ~~والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد ~~الكفر، فكما يخشى على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند # الموت، كذلك يخشى على من أصر على خصال النفاق أن يسلب الإيمان، فيصير # منافقا خالصا. # وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ فقال: ومن يأمن ms601 ~~على نفسه النفاق؟ وكان الحسن يسمي من ظهرت منه أوصاف النفاق العملي منافقا، ~~وروي نحوه عن حذيفة. # وقال الشعبي: من كذب، فهو منافق (1) ، وحكى محمد بن نصر المروزي هذا ~~القول عن فرقة من أهل الحديث، وقد سبق في أوائل الكتاب ذكر الاختلاف عن ~~الإمام أحمد وغيره في مرتكب الكبائر: هل يسمي كافرا كفرا لا ينقل عن الملة ~~أم لا؟ واسم الكفر أعظم من اسم النفاق، ولعل هذا هو الذي أنكره عطاء عن ~~الحسن إن صح ذلك عنه (2) . # ومن أعظم خصال النفاق العملي: أن يعمل الإنسان عملا، ويظهر أنه قصد به ~~الخير، وإنما عمله ليتوصل به إلى غرض له سيئ، فيتم له ذلك، ويتوصل بهذه ~~الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه وحمد الناس له على ما أظهره، وتوصل ~~به إلى غرضه السيئ الذي أبطنه، PageV03P1260 # وهذا قد حكاه الله في القرآن عن المنافقين واليهود، فحكى عن المنافقين ~~أنهم: {اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب ~~الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} ~~(1) ، وأنزل في اليهود: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا ~~بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم} (2) وهذه ~~الآية نزلت في اليهود، سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء فكتموه، ~~وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا ~~بذلك، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم وما سئلوا عنه، قال ذلك ابن عباس، ~~وحديثه مخرج في " الصحيحين " (3) . # وفيهما (4) # أيضا عن أبي سعيد أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلافه فإذا قدم ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الغزو، اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا ~~أن يحمدوا بما لم يفعلوا. # وفي حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من غشنا، ~~فليس منا، والمكر والخديعة في النار)) (5) . PageV03P1261 # وقد وصف الله المنافقين بالمخادعة، وأحسن أبو العتاهية في قوله (1) : # ليس ms602 دنيا إلا بدين وليس الد ... ين إلا مكارم الأخلاق # إنما المكر والخديعة في النا ... ر هما من خصال أهل النفاق # ولما تقرر عند الصحابة - رضي الله عنهم - أن النفاق هو اختلاف السر ~~والعلانية خشي # بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع # الذكر برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك ~~منه نفاقا، كما في " صحيح مسلم " (2) عن حنظلة الأسيدي (3) أنه مر بأبي بكر ~~وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله - ~~صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، ~~عافسنا (4) الأزواج والضيعة (5) فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا ~~لكذلك، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((ما لك يا ~~حنظلة؟)) قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال ~~رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو تدومون على الحال التي تقومون بها ~~من # عندي، لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة ~~وساعة)) . PageV03P1262 # وفي " مسند البزار " (1) # عن أنس قال: قالوا: يا رسول الله، إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك ~~كنا على غيره، قال: ((كيف أنتم وربكم؟)) قالوا: الله # ربنا في السر والعلانية، قال: ((ليس ذاكم النفاق)) . # وروي من وجه آخر عن أنس (2) قال: غدا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم -، فقالوا: هلكنا، قال: ((وما ذاك؟)) قالوا: النفاق، النفاق، قال: ~~((ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟)) قالوا: بلى، ~~قال: ((فليس ذلك بالنفاق)) ثم ذكر معنى حديث حنظلة كما تقدم. PageV03P1263 ### | الحديث التاسع والأربعون # عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، ~~وتروح بطانا)) رواه الإمام أحمد (1) والترمذي (2) والنسائي (3) وابن ماجه ~~(4) وابن حبان في " صحيحه " (5) والحاكم (6) ، وقال الترمذي: حسن صحيح. # هذا الحديث خرجه هؤلاء كلهم من رواية ms603 عبد الله بن هبيرة، سمع أبا تميم ~~الجيشاني، سمع عمر بن الخطاب يحدثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو ~~تميم وعبد الله بن هبيرة خرج لهما مسلم، ووثقهما غير واحد (7) ، وأبو تميم ~~ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهاجر إلى المدينة في زمن عمر - ~~رضي الله عنه - (8) . PageV03P1265 # وقد روي هذا الحديث من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) ~~، ولكن في إسناده من لا يعرف حاله. قاله أبو حاتم الرازي (2) . # وهذا الحديث أصل (3) في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها ~~الرزق، قال الله - عز وجل -: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا ~~يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} (4) ، وقد قرأ النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - هذه الآية على أبي ذر، وقال له: ((لو أن الناس كلهم أخذوا بها ~~لكفتهم)) (5) يعني: لو أنهم حققوا التقوى والتوكل؛ لاكتفوا بذلك في مصالح ~~دينهم ودنياهم. وقد سبق الكلام على هذا المعنى في شرح حديث ابن عباس: ~~((احفظ الله يحفظك)) (6) . # قال بعض السلف: بحسبك من التوسل إليه أن يعلم من قلبك حسن توكلك # عليه، فكم من عبد من عباده قد فوض إليه أمره، فكفاه منه ما أهمه (7) ، ثم ~~قرأ: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} ، وحقيقة ~~التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله - عز وجل - في استجلاب المصالح، ودفع ~~المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وكلة الأمور كلها إليه، وتحقيق ~~الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه. # قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان (8) . # وقال وهب بن منبه: الغاية القصوى التوكل (9) . # قال الحسن: إن توكل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته (10) . # وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من سره أن ~~يكون أقوى الناس، PageV03P1266 # فليتوكل على الله)) (1) . # وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: ((اللهم إني ~~أسألك صدق # التوكل عليك)) (2) ، وأنه كان يقول: ((اللهم ms604 اجعلني ممن توكل عليك # فكفيته)) (3) . # واعلم أن تحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه ~~PageV03P1267 # المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي ~~الأسباب مع أمره بالتوكل، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل ~~بالقلب عليه إيمان به، كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا ~~حذركم} (1) ، وقال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} (2) ، ~~وقال: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (3) . # وقال سهل التستري: من طعن في الحركة - يعني: في السعي # والكسب - فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل، فقد طعن في الإيمان (4) ، ~~فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والكسب سنته، فمن عمل على حاله، ~~فلا يتركن # سنته. # ثم إن الأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام: # أحدها: الطاعات التي أمر الله عباده بها، وجعلها سببا للنجاة من النار ~~ودخول الجنة، فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله فيه، والاستعانة به ~~عليه، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فمن ~~قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك، استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعا ~~وقدرا. قال يوسف بن أسباط: كان يقال: اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، ~~وتوكل توكل رجل لا يصيبه إلا ما كتب له (5) . # والثاني: ما أجرى الله العادة به في الدنيا، وأمر عباده بتعاطيه، كالأكل ~~عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحر، والتدفؤ من البرد ونحو ~~ذلك، فهذا أيضا واجب على المرء تعاطي أسبابه، PageV03P1268 # ومن قصر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله، فهو مفرط يستحق ~~العقوبة، لكن الله سبحانه قد يقوي بعض عباده من ذلك على مالا يقوى عليه ~~غيره، فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختص بها عن غيره، فلا حرج عليه، ولهذا ~~كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواصل في صيامه، وينهى عن ذلك أصحابه، ~~ويقول لهم: ((إني لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى)) (1) ، وفي رواية: ((إني ~~أظل ms605 عند ربي يطعمني ويسقيني)) (2) ، وفي رواية: ((إن لي مطعما يطعمني، ~~وساقيا يسقيني)) (3) . # والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقويه ويغذيه بما يورده على قلبه من ~~الفتوح # القدسية، والمنح الإلهية، والمعارف الربانية التي تغنيه عن الطعام ~~والشراب برهة من # الدهر، كما قال القائل (4) : # لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد # لها بوجهك نور تستضيء به ... وقت المسير وفي أعقابها حادي # إذا اشتكت من كلال السير أوعدها ... روح القدوم فتحيى عند ميعاد # فلا تجوع ولا تظمأ وما ضعفت ... ولا تظل إذا كانت لها هاد (5) # وقد كان كثير من السلف لهم من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس # لغيرهم، ولا يتضررون بذلك. وكان ابن الزبير يواصل ثمانية أيام (6) . وكان ~~أبو الجوزاء يواصل في صومه بين سبعة أيام، ثم يقبض على ذراع الشاب فيكاد # يحطمها (7) . وكان إبراهيم التيمي يمكث شهرين لا يأكل شيئا غير أنه يشرب ~~شربة حلوى (8) . وكان حجاج ابن فرافصة يبقي أكثر من عشرة أيام لا يأكل ولا ~~يشرب ولا ينام (9) ، وكان بعضهم لا يبالي بالحر ولا بالبرد كما كان علي - ~~رضي الله عنه - يلبس لباس PageV03P1269 # الصيف في الشتاء ولباس الشتاء في الصيف، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- دعا له أن يذهب الله عنه الحر والبرد (1) . # فمن كان له قوة على مثل هذه الأمور، فعمل بمقتضى قوته ولم يضعفه عن # طاعة الله، فلا حرج عليه، ومن كلف نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات، ~~فإنه ينكر عليه ذلك، وكان السلف ينكرون على عبد الرحمان بن أبي نعم، حيث ~~كان يترك الأكل مدة حتى يعاد من ضعفه (2) . # القسم الثالث: ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب، وقد ~~يخرق العادة في ذلك لمن يشاء من عباده، وهو أنواع: # منها ما يخرقه كثيرا، ويغني عنه كثيرا من خلقه كالأدوية بالنسبة إلى كثير ~~من البلدان وسكان البوادي ونحوها. وقد اختلف العلماء: هل الأفضل لمن أصابه ~~المرض التداوي أم تركه لمن حقق التوكل على الله؟ وفيه قولان مشهوران، وظاهر ms606 ~~كلام أحمد أن التوكل لمن قوي عليه أفضل، لما صح عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - أنه قال: # ((يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا بغير حساب)) ثم قال: ((هم الذين لا ~~يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)) (3) . PageV03P1270 # ومن رجح التداوي قال: إنه حال النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان ~~يداوم عليه، وهو لا يفعل إلا الأفضل، وحمل الحديث على الرقى المكروهة التي ~~يخشى منها الشرك # بدليل أنه قرنها بالكي والطيرة وكلاهما مكروه. # ومنها ما يخرقه لقليل من العامة، كحصول الرزق لمن ترك السعي في # طلبه، فمن رزقه الله صدق يقين وتوكل، وعلم من الله أنه يخرق له العوائد، ~~ولا يحوجه إلى الأسباب المعتادة في طلب الرزق ونحوه، جاز له ترك الأسباب، ~~ولم ينكر عليه ذلك، وحديث عمر هذا الذي نتكلم عليه يدل على ذلك، ويدل على ~~أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة ~~بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك يتعبون أنفسهم في الأسباب، ويجتهدون فيها ~~غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله ~~بقلوبهم، لساق الله إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها ~~بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير. # وربما حرم الإنسان رزقه أو بعضه بذنب يصيبه، كما في حديث ثوبان، عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، قال: ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) (1) . # وفي حديث جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن نفسا لن تموت حتى ~~تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم)) ~~(2) . PageV03P1271 # وقال عمر: بين العبد وبين رزقه حجاب، فإن قنع ورضيت نفسه، آتاه # رزقه، وإن اقتحم وهتك الحجاب، لم يزد فوق رزقه (1) . # وقال بعض السلف: توكل تسق إليك الأرزاق بلا تعب، ولا تكلف. # قال سالم بن أبي الجعد: حدثت أن عيسى - عليه السلام - كان يقول: اعملوا ~~لله ولا تعملوا لبطونكم، وإياكم وفضول الدنيا، فإن فضول الدنيا عند الله ~~رجز، هذه طير ms607 السماء تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيء، لا تحرث ولا تحصد ~~الله يرزقها، فإن قلتم: إن بطوننا أعظم من بطون الطير، فهذه الوحوش من ~~البقر والحمير وغيرها تغدو وتروح ليس معها من أرزاقها شيء لا تحرث ولا ~~تحصد، الله # يرزقها (2) . خرجه ابن أبي الدنيا. # وخرج بإسناده عن ابن عباس قال: كان عابد يتعبد في غار، فكان غراب يأتيه ~~كل يوم برغيف يجد فيه طعم كل شيء حتى مات ذلك العابد (3) . # وعن سعيد بن عبد العزيز، عن بعض مشيخة دمشق، قال: أقام إلياس هاربا من ~~قومه في جبل عشرين ليلة، - أو قال: أربعين - تأتيه الغربان برزقه. # وقال سفيان الثوري: قرأ واصل الأحدب هذه الآية: {وفي السماء رزقكم وما ~~توعدون} (4) ، فقال: ألا إن رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض؟ فدخل ~~خربة، فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا، فلما كان اليوم الرابع، إذ هو بدوخلة من ~~رطب، وكان له أخ أحسن نية منه، فدخل معه، فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك ~~دأبهما (5) حتى فرق الموت بينهما (6) . # ومن هذا الباب من قوي توكله على الله ووثوقه به، فدخل المفاوز بغير زاد، # فإنه يجوز لمن هذه صفته دون من لم يبلغ هذه المنزلة، وله في ذلك أسوة ~~بإبراهيم الخليل - عليه السلام -، حيث ترك هاجر وابنها إسماعيل بواد غير ذي ~~زرع، وترك عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، فلما تبعته هاجر، وقالت له: ~~PageV03P1272 # إلى من تدعنا؟ قال # لها: إلى الله، قالت: رضيت بالله، وهذا كان يفعله بأمر الله ووحيه، فقد ~~يقذف الله في قلوب بعض أوليائه من الإلهام الحق ما يعلمون أنه حق، ويثقون ~~به. قال المروذي: قيل لأبي عبد الله: أي شيء صدق التوكل على الله؟ قال: أن ~~يتوكل على الله، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء، ~~فإذا كان كذا، كان الله يرزقه، وكان متوكلا (1) . # قال: وذكرت لأبي عبد الله التوكل، فأجازه لمن استعمل فيه الصدق (2) . # قال: وسألت أبا عبد الله عن رجل جلس في بيته، ويقول: أجلس وأصبر ms608 ولا أطلع ~~على ذلك أحدا، وهو يقدر أن يحترف، قال: لو خرج فاحترف كان أحب إلي، وإذا ~~جلس خفت أن يخرجه إلى أن يكون يتوقع أن يرسل إليه بشيء. قلت: فإذا كان يبعث ~~إليه بشيء، فلا يأخذ؟ قال: هذا جيد (3) . # وقلت لأبي عبد الله: إن رجلا بمكة قال: لا آكل شيئا حتى يطعموني، ودخل في ~~جبل أبي قبيس، فجاء إليه رجلان وهو متزر بخرقة، فألقيا إليه قميصا، وأخذا ~~بيديه، فألبساه القميص، ووضعا بين يديه شيئا، فلم يأكل حتى وضعا مفتاحا من ~~حديد في فيه، وجعلا يدسان في فمه، فضحك أبو عبد الله، وجعل يعجب. # وقلت لأبي عبد الله: إن رجلا ترك البيع والشراء، وجعل على نفسه أن لا يقع ~~في يده ذهب ولا فضة، وترك دوره لم يأمر فيها بشيء وكان يمر في الطريق، فإذا ~~رأى شيئا مطروحا، أخذه مما قد ألقي. قال المروذي: فقلت للرجل: مالك حجة ~~PageV03P1273 # على هذا غير أبي معاوية الأسود، قال: بل أويس القرني، وكان يمر بالمزابل، ~~فيلتقط الرقاع، قال: فصدقه أبو عبد الله، وقال: قد شدد على نفسه. ثم قال: ~~قد جاءني البقلي ونحوه، فقلت لهم: لو تعرضتم للعمل تشهرون أنفسكم، قال: ~~وإيش نبالي من الشهرة؟ (1) # وروى أحمد بن الحسين بن حسان عن أحمد أنه سئل عن رجل يخرج إلى مكة بغير ~~زاد، قال: إن كنت تطيق وإلا فلا إلا بزاد وراحلة، لا تخاطر (2) . قال أبو ~~بكر الخلال: يعني: إن أطاق وعلم أنه يقوى على ذلك، ولا يسأل، ولا تستشرف ~~نفسه لأن يأخذ أو يعطى فيقبل، فهو متوكل على الصدق، وقد أجاز العلماء ~~التوكل على الصدق. قال: وقد حج أبو عبد الله وكفاه في حجته أربعة عشر ~~درهما. # وسئل إسحاق بن راهويه: هل للرجل أن يدخل المفازة بغير زاد؟ فقال: إن كان ~~الرجل مثل عبد الله بن منير، فله أن يدخل المفازة بغير زاد (3) ، وإلا لم ~~يكن له أن يدخل، ومتى كان الرجل ضعيفا، وخشي على نفسه أن لا يصبر، أو يتعرض ~~للسؤال، أو أن ms609 يقع في الشك والتسخط، لم يجز له ترك الأسباب حينئذ، وأنكر ~~عليه غاية الإنكار كما أنكر الإمام أحمد وغيره على من ترك الكسب وعلى من ~~دخل المفازة بغير زاد، وخشي عليه التعرض للسؤال. وقد روي عن ابن عباس، قال: ~~كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: PageV03P1274 # نحن متوكلون، فيحجون، فيأتون مكة، فيسألون الناس، فأنزل الله هذه الآية: ~~{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (1) (2) ، وكذا قال مجاهد (3) ، وعكرمة (4) ~~، والنخعي (5) ، وغير واحد من السلف (6) ، فلا يرخص في ترك السبب بالكلية ~~إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية. # وقد روي عن أحمد أنه سئل عن التوكل، فقال: قطع الاستشراف باليأس من ~~الخلق، فسئل عن الحجة في ذلك، فقال: قول إبراهيم - عليه السلام - لما عرض ~~له جبريل وهو يرمى في النار، فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك، فلا (7) . # وظاهر كلام أحمد أن الكسب أفضل بكل حال، فإنه سئل عمن يقعد ولا يكتسب ~~ويقول: توكلت على الله، فقال: ينبغي للناس كلهم يتوكلون على الله، ولكن ~~يعودون على أنفسهم بالكسب (8) . # وروى الخلال بإسناده عن الفضيل بن عياض أنه قيل له: لو أن رجلا قعد في # بيته زعم أنه يثق بالله، فيأتيه برزقه، قال: إذا وثق بالله حتى يعلم منه ~~أنه قد وثق # به، لم يمنعه شيء أراده، ولكن لم يفعل هذا الأنبياء ولا غيرهم، وقد كان ~~الأنبياء يؤجرون أنفسهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤجر نفسه وأبو ~~بكر وعمر، ولم يقولوا: نقعد حتى يرزقنا الله - عز وجل -، وقال الله - عز ~~وجل -: {وابتغوا من فضل الله} (9) ، ولابد من طلب المعيشة. PageV03P1275 # وقد روي عن بشر ما يشعر بخلاف هذا، فروى أبو نعيم في " الحلية " (1) أن ~~بشرا سئل عن التوكل، فقال: اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب، فقال له ~~السائل: فسره لنا حتى نفقه، قال بشر: اضطراب بلا سكون، رجل يضطرب بجوارحه، ~~وقلبه ساكن إلى الله، لا إلى عمله، وسكون بلا اضطراب فرجل ساكن إلى الله ~~بلا حركة، وهذا عزيز، وهو من صفات الأبدال. # وبكل حال ms610، فمن لم يصل إلى هذه المقامات العالية، فلابد له من معاناة ~~الأسباب لاسيما من له عيال لا يصبرون، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-: ((كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت)) (2) . وكان بشر يقول: لو كان لي ~~عيال لعملت واكتسبت. # وكذلك من ضيع بتركه الأسباب حقا له، ولم يكن راضيا بفوات حقه، فإن هذا ~~عاجز مفرط، وفي مثل هذا جاء قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المؤمن ~~القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، ~~واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء، فلا تقولن: لو أني فعلت كان كذا ~~وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء PageV03P1276 # فعل، فإن اللو تفتح عمل الشيطان)) خرجه مسلم (1) بمعناه من حديث أبي ~~هريرة. # وفي " سنن أبي داود " (2) عن عوف بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال ~~النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك ~~بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله ونعم # الوكيل)) . # وخرج الترمذي (3) من حديث أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله، أعقلها ~~وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: ((اعقلها وتوكل)) . وذكر عن يحيى القطان ~~أنه قال: هو عندي حديث منكر (4) ، PageV03P1277 # وخرجه الطبراني (1) من حديث عمرو بن أمية، عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~-. # وروى الوضين بن عطاء عن محفوظ بن علقمة عن ابن عائذ (2) : أن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - قال: ((إن التوكل بعد الكيس)) (3) وهذا مرسل، ومعناه أن ~~الإنسان يأخذ بالكيس، والسعي في الأسباب المباحة، ويتوكل على الله بعد ~~سعيه، وهذا كله إشارة إلى أن التوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب بل قد يكون ~~جمعهما أفضل. قال معاوية بن قرة: لقي عمر بن الخطاب ناسا من أهل اليمن، ~~فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، قال: بل أنتم المتأكلون، إنما ~~المتوكل الذي يلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله - عز وجل - (4) . # قال الخلال: أخبرنا محمد بن أحمد ms611 بن منصور قال: سأل المازني بشر بن ~~الحارث عن التوكل، فقال: المتوكل لا يتوكل على الله ليكفى، ولو حلت هذه ~~القصة في قلوب المتوكلة، لضجوا إلى الله بالندم والتوبة، ولكن المتوكل يحل ~~بقلبه الكفاية من الله تبارك وتعالى فيصدق الله - عز وجل - فيما ضمن. ومعنى ~~هذا الكلام أن المتوكل على الله حق التوكل لا يأتي بالتوكل، ويجعله سببا ~~لحصول الكفاية له من الله بالرزق وغيره، فإنه لو فعل ذلك، لكان كمن أتى ~~بسائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها، وهذا نوع نقص في تحقيق التوكل. # وإنما المتوكل حقيقة من يعلم أن الله قد ضمن PageV03P1278 # لعبده رزقه وكفايته، فيصدق الله فيما ضمنه، ويثق بقلبه، ويحقق الاعتماد ~~عليه فيما ضمنه من الرزق من غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب ~~الرزق به، والرزق مقسوم لكل أحد من بر وفاجر، ومؤمن وكافر، كما قال تعالى: ~~{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (1) ، هذا مع ضعف كثير من ~~الدواب وعجزها عن السعي في # طلب الرزق، قال تعالى: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها # وإياكم} (2) . # فما دام العبد حيا، فرزقه على الله، وقد ييسره الله له بكسب وبغير كسب، ~~فمن توكل على الله لطلب الرزق، فقد جعل التوكل سببا وكسبا، ومن توكل عليه ~~لثقته بضمانه، فقد توكل عليه ثقة به وتصديقا، وما أحسن قول مثنى الأنباري ~~وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد: لا تكونوا بالمضمون مهتمين، فتكونوا ~~للضامن متهمين، وبرزقه غير راضين (3) . # واعلم أن ثمرة التوكل الرضا بالقضاء، فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما ~~يقضيه له، ويختاره، فقد حقق التوكل عليه (4) ، ولذلك كان الحسن والفضيل ~~وغيرهما يفسرون التوكل على الله بالرضا. # قال ابن أبي الدنيا (5) : بلغني عن بعض الحكماء قال: التوكل على ثلاث ~~درجات: أولها: ترك الشكاية، والثانية: الرضا، والثالثة: المحبة، فترك ~~الشكاية درجة الصبر، والرضا سكون القلب بما قسم الله له، وهي أرفع من ~~الأولى، PageV03P1279 # والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به، فالأولى للزاهدين، والثانية ~~للصادقين، والثالثة للمرسلين ms612. انتهى. # فالمتوكل على الله إن صبر على ما يقدره الله له من الرزق أو غيره، فهو ~~صابر، وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه، فهو الراضي، وإن لم يكن له اختيار ~~بالكلية ولا رضا إلا فيما يقدر له، فهو درجة المحبين العارفين، كما كان عمر ~~بن عبد العزيز يقول: أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر. # PageV03P1280 ### | الحديث الخمسون # عن عبد الله بن بسر قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل، فقال: يا ~~رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فباب نتمسك به جامع؟ قال: ((لا ~~يزال لسانك رطبا من ذكر الله - عز وجل -)) خرجه الإمام أحمد (1) بهذا ~~اللفظ. # وخرجه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان في " صحيحه " (2) بمعناه، وقال ~~الترمذي: حسن غريب، PageV03P1281 # وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي، عن عبد الله بن بسر. # وخرج ابن حبان في " صحيحه " (1) وغيره (2) من حديث معاذ بن جبل، قال: آخر ~~ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له: أي الأعمال خير ~~وأقرب إلى الله؟ قال: ((أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله - عز وجل -)) . # وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر، ونذكر هاهنا فضل ~~إدامته، والإكثار منه. # قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا، ومدح من ذكره كذلك؛ ~~قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة # وأصيلا} (3) ، وقال تعالى: {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (4) ، وقال ~~تعالى: {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} ~~(5) ، وقال تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} (6) . # وفي " صحيح مسلم " (7) عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- مر على جبل يقال له: جمدان، فقال: ((سيروا هذا جمدان (8) ، قد سبق ~~المفردون)) . قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله ~~كثيرا والذاكرات)) . PageV03P1282 # وخرجه الإمام أحمد (1) ، ولفظه: ((سبق المفردون)) قالوا: وما المفردون؟ ~~قال: ((الذين يهترون (2) في ذكر الله)) . # وخرجه الترمذي (3) ، وعنده: قالوا: يا رسول الله، وما ms613 المفردون؟ قال: # ((المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة ~~خفافا)) . # وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ، عن معاذ بن جبل قال: بينما ~~نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه، ~~فقال: ((يا معاذ، أين السابقون؟)) فقلت: قد مضوا، وتخلف ناس. فقال: ((يا ~~معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله - عز وجل -)) (4) خرجه جعفر ~~الفرياني. # ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث، فإنه لما سبق ~~الركب، وتخلف بعضهم، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على ~~الحقيقة هم الذين يديمون ذكر الله، ويولعون به، فإن الاستهتار بالشيء: هو ~~الولوع به، والشغف، حتى لا يكاد يفارق ذكره، وهذا على رواية من رواه ~~((المستهترون)) PageV03P1283 # ورواه بعضهم، فقال فيه: ((الذين أهتروا في ذكر الله)) وفسر ابن قتيبة ~~الهتر بالسقط في الكلام (1) ، كما في الحديث: ((المستبان شيطانان يتكاذبان ~~ويتهاتران)) (2) . # قال: والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته، قال: ~~والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه، ~~وأما على الرواية الأولى، فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله ~~تعالى، كذا قال، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين ~~الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي، إما عن القرن أو ~~عن المخالطة، والله أعلم. # ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة: ~~ليس السابق اليوم من سبق بعيره، وإنما السابق من غفر له (3) . PageV03P1284 # وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ((من أحب أن يرتع ~~في رياض الجنة، فليكثر ذكر الله - عز وجل -)) (1) . # وخرج الإمام أحمد والنسائي، وابن حبان في " صحيحه " (2) من حديث أبي سعيد ~~الخدري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((استكثروا من الباقيات ~~الصالحات)) قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((التكبير والتسبيح والتهليل ~~والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) . # وفي " المسند " و" صحيح ms614 ابن حبان " (3) عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي ~~- صلى الله عليه وسلم -، قال: ((أكثروا ذكر الله حتى يقولوا: مجنون)) . ~~PageV03P1285 # وروى أبو نعيم في " الحلية " (1) من حديث ابن عباس مرفوعا: ((اذكروا الله ~~ذكرا يقول المنافقون: إنكم تراؤون)) . # وخرج الإمام أحمد والترمذي (2) من حديث أبي سعيد، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم - أنه سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: ~~((الذاكرون الله كثيرا)) ، قيل: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟ ~~قال: ((لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما، لكان ~~الذاكرون لله أفضل منه درجة)) . # وخرج الإمام أحمد (3) من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه، عن النبي - صلى الله ~~عليه وسلم -: أن رجلا سأله فقال: أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال: ~~((أكثرهم لله ذكرا)) ، قال: فأي الصائمين أعظم؟ قال: ((أكثرهم لله ذكرا)) ، ~~ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - يقول: ((أكثرهم لله ذكرا)) ، فقال أبو بكر: يا أبا حفص، ذهب ~~الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: # ((أجل)) . # وقد خرجه ابن المبارك (4) ، وابن أبي الدنيا من وجوه أخر مرسلة بمعناه. # وفي " صحيح مسلم " (5) عن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - يذكر الله على كل أحيانه. PageV03P1286 # وقال أبو الدرداء: الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله، يدخل أحدهم ~~الجنة وهو يضحك (1) ، وقيل له: إن رجلا أعتق مئة نسمة، فقال: إن مئة نسمة ~~من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، وأن لا يزال ~~لسان أحدكم رطبا من ذكر الله - عز وجل - (2) . # وقال معاذ: لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد ~~الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل (3) . # وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته} (4) قال: أن يطاع ~~فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر (5) ، وخرجه الحاكم (6) مرفوعا ~~وصححه، والمشهور وقفه. # وقال زيد بن أسلم ms615: قال موسى - عليه السلام -: يا رب قد أنعمت علي كثيرا، ~~فدلني على أن أشكرك كثيرا، قال: اذكرني كثيرا، فإذا ذكرتني كثيرا، فقد ~~شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني (7) . # وقال الحسن: أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا. # وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثني أبو المخارق، قال: قال رسول الله - صلى ~~الله عليه وسلم -: # ((مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش، فقلت: من هذا؟ ملك؟ قيل: ~~لا، قلت: نبي؟ قيل: لا، قلت: من هو؟ قال: هذا رجل كان لسانه رطبا من ذكر ~~PageV03P1287 # الله، وقلبه معلق بالمساجد، ولم يستسب لوالديه قط)) (1) . # وقال ابن مسعود: قال موسى - عليه السلام -: رب أي الأعمال أحب إليك أن ~~أعمل به؟ قال: تذكرني فلا تنساني (2) . # وقال أبو إسحاق عن ميثم: بلغني أن موسى - عليه السلام -، قال: رب أي ~~عبادك أحب إليك؟ قال: أكثرهم لي ذكرا (3) . # وقال كعب: من أكثر ذكر الله، برئ من النفاق (4) ، ورواه مؤمل، عن حماد بن ~~سلمة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا (5) . # وخرج الطبراني (6) بهذا الإسناد مرفوعا: ((من لم يكثر ذكر الله فقد برئ ~~من الإيمان)) . ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا ~~يذكرون الله إلا قليلا، فمن أكثر ذكر الله، فقد باينهم في أوصافهم، ولهذا ~~ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ~~ولد، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله، فهو من الخاسرين. # قال الربيع بن أنس، عن بعض أصحابه: علامة حب الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب ~~شيئا إلا أكثرت ذكره (7) . # قال فتح الموصلي: المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين، قال ذو النون: ~~من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه (8) . # قال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب ~~واللسان، PageV03P1288 # وقلما ولع المرء بذكر الله - عز وجل - إلا أفاد منه حب الله. وكان بعض ~~السلف يقول في مناجاته: إذا سئم ms616 البطالون من بطالتهم، فلن يسأم محبوك من ~~مناجاتك # وذكرك. # قال أبو جعفر المحولي: ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه، ولا ~~يسأم من خدمته (1) . وقد ذكرنا قول عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- يذكر الله على كل # أحيانه (2) ، والمعنى: في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه، وسواء كان ~~على طهارة أو على حدث. # وقال مسعر: كانت دواب البحر في البحر تسكن، ويوسف - عليه السلام - في ~~السجن لا يسكن عن ذكر الله - عز وجل -. # وكان لأبي هريرة خيط فيه ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبح به (3) . # وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من # القرآن، فلما مات وضع على سريره ليغسل، فجعل يشير بأصبعه يحركها # بالتسبيح (4) . # وقيل لعمير بن هانئ: ما نرى لسانك يفتر، فكم تسبح كل يوم؟ قال: مئة ألف ~~تسبيحة، إلا أن تخطئ الأصابع، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه (5) . # وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني ~~عشرة ألف تسبيحة، فماتت، فلما بلغت القبر، اختلست من بين أيدي الرجال (6) . # كان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث، ولم يكن له شغل: سبحان الله ~~العظيم، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة، فقال: إن صاحبكم لفقيه، ما قالها أحد سبع ~~مرات إلا بني له بيت في الجنة. PageV03P1289 # وكان عامة كلام ابن سيرين: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده. # وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون، نزل إلى البحر، وقام في ~~الماء يذكر الله مع دواب البحر (1) . # نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال: فكنت كلما استيقظت من الليل، وجدته ~~يذكر الله، فأغتم، ثم أعزي نفسي بهذه الآية: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} ~~(2) . # المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه، فلو كلف أن ينسى تذكره لما قدر، ولو ~~كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر. # كيف ينسى المحب ذكر حبيب ... اسمه في فؤاده مكتوب # كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول ms617: أحد أحد، فإذا ~~قالوا له قل: اللات والعزى، قال: لا أحسنه (3) . # يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل # كلما قويت المعرفة، صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة، حتى كان ~~بعضهم يجري على لسانه في منامه: الله الله، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح، ~~كما يلهمون النفس، وتصير ((لا إله إلا الله)) لهم، كالماء البارد لأهل ~~الدنيا، كان الثوري ينشد: # لا لأني أنساك أكثر ذكرا ... ك ولكن بذاك يجري لساني # إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه، وتضاعف قلقه، قال النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود: ((اقرأ علي القرآن)) ، قال: أقرأ عليك ~~وعليك أنزل؟ قال: # ((إني أحب أن أسمعه من غيري)) (4) ، # فقرأ عليه، ففاضت عيناه. PageV03P1290 # سمع الشبلي قائلا يقول: يا الله يا جواد، فاضطرب (1) : # وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج أشجان الفؤاد وما يدري # دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري (2) # النبض ينزعج عند ذكر المحبوب: # إذا ذكر المحبوب عند حبيبه ... ترنح نشوان وحن طروب # ذكر المحبين على خلاف ذكر (3) الغافلين: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر ~~الله وجلت قلوبهم} (4) . # وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلله القطر # أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل ذكر الله ~~خاليا، ففاضت عيناه)) (5) . # قال أبو الجلد: أوحى الله - عز وجل - إلى موسى - عليه السلام -: إذا ~~ذكرتني، فاذكرني، وأنت تنتفض أعضاؤك، وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا، وإذا ~~ذكرتني، فاجعل لسانك من وراء قلبك (6) . # وصف علي يوما الصحابة، فقال: كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر ~~في اليوم الشديد الريح، وجرت دموعهم على ثيابهم (7) . # قال زهير البابي: إن لله عبادا ذكروه، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا، ~~وقوم PageV03P1291 # ذكروه، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة، فلو حرقوا بالنار، لم يجدوا مس النار، ~~وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده، فارفضوا عرقا من خوفه، وقوم ذكروه، فحالت ~~ألوانهم غبرا، وقوم ذكروه، فجفت أعينهم سهرا. # صلى أبو يزيد الظهر، فلما أراد أن يكبر، لم ms618 يقدر إجلالا لاسم الله، ~~وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه (1) . # كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى ذلك جميع ~~من عنده، وكان يقول: ما أظن محقا يذكر الله عن غير غفلة، ثم يبقى حيا إلا ~~الأنبياء، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم (2) . # إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت ... مفاصلها من هول ما تتذكر # وقف أبو يزيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول: لا إله إلا الله، فما قدر ~~إجلالا وهيبة، فلما كان عند الصباح، نزل، فبال الدم (3) . # وما ذكرتكم إلا نسيتكم ... نسيان إجلال لا نسيان إهمال # إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا ... أجللت مثلكم يخطر على بالي # الذكر لذة قلوب العارفين. قال - عز وجل -: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم ~~بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (4) . قال مالك بن دينار: ما تلذذ ~~المتلذذون بمثل ذكر الله - عز وجل - (5) . PageV03P1292 # وفي بعض الكتب السالفة: يقول الله - عز وجل -: معشر الصديقين بي فافرحوا، ~~وبذكري فتنعموا (1) . وفي أثر آخر سبق ذكره: وينيبون إلى الذكر كما تنيب ~~النسور إلى وكورها. # وعن ابن عمر قال: أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب ~~الحمامة وكرها، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها (2) . # قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته، ~~قال ذو النون: ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا ~~طابت الجنة إلا برؤيته (3) . # أبدا نفوس الطالبي ... ن إلى طلولكم تحن # وكذا القلوب بذكركم ... بعد المخافة تطمئن # جنت بحبكم ومن ... يهوى الحبيب ولا يجن؟ # بحياتكم يا سادتي ... جودوا بوصلكم ومنوا # قد سبق حديث: ((اذكروا الله حتى يقولوا: مجنون)) ولبعضهم: # لقد أكثرت من ذكرا ... ك حتى قيل وسواس # كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر، فرآه بعض الناس، فأنكر حاله، فقال ~~لأصحابه: أمجنون صاحبكم؟ فسمعه أبو مسلم، فقال: لا يا أخي، ولكن هذا دواء ~~الجنون (4) . # وحرمة الود مالي منكم عوض ... وليس لي في سواكم سادتي غرض # وقد شرطت على ms619 قوم صحبتهم ... بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا PageV03P1293 # ومن حديثي بكم قالوا: به مرض ... فقلت: لا زال عني ذلك المرض # المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة ~~بحبيبهم. # قال عيسى - عليه السلام -: يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرا، وكلموا ~~الناس قليلا، قالوا: كيف نكلم الله كثيرا؟ قال: اخلوا بمناجاته، اخلوا ~~بدعائه (1) . # وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه، فكان يصلي جالسا ~~ألف ركعة، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة، ويقول: عجبت للخليقة كيف ~~أنست بسواك، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك (2) . # وكان بعضهم يصوم الدهر، فإذا كان وقت الفطور، قال: أحس نفسي تخرج ~~لاشتغالي عن الذكر بالأكل. # قيل لمحمد بن النضر: أما تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا ~~جليس من ذكرني (3) . # كتمت اسم الحبيب من العباد ... ورددت الصبابة في فؤادي # فواشوقا إلى بلد خلي ... لعلي باسم من أهوى أنادي # فإذا قوي حال المحب ومعرفته، لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان # شاغل، فهو بين الخلق بجسمه، وقلبه معلق بالمحل الأعلى، كما قال علي - رضي ~~الله عنه - في وصفهم: PageV03P1294 # صحبوا الدنيا بأجساد أرواحها معلقة بالمحل الأعلى (1) ، وفي هذا المعنى ~~قيل: # جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن # وقال غيره: # ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت جسمي من أراد جلوسي # فالجسم مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي (2) # وهذه كانت حالة الرسل والصديقين، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ~~لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} (3) . # وفي " الترمذي " (4) مرفوعا: ((يقول الله - عز وجل -: إن عبدي كل عبدي ~~الذي # يذكرني وهو ملاق قرنه (5)) ) . # وقال تعالى: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} ~~(6) يعني: الصلاة في حال الخوف، ولهذا قال: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} ~~(7) ، PageV03P1295 # وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ~~وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (1) ، فأمر بالجمع ~~بين الابتغاء من فضله ms620، وكثرة ذكره. # ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند " # و" الترمذى " و" سنن ابن ماجه " عن عمر مرفوعا (2) : ((من دخل سوقا يصاح ~~فيه ويباع، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد ~~يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ~~ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة)) . ~~PageV03P1296 # وفي حديث آخر: ((ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين، # وذاكر الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس)) (1) . # قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما دام قلب الرجل يذكر الله، فهو في ~~صلاة، وإن كان في السوق وإن حرك به شفتيه فهو أفضل (2) . # وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة. # والتقى رجلان منهم في السوق، فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نذكر الله في ~~PageV03P1297 # غفلة الناس، فخلوا في موضع، فذكرا الله، ثم تفرقا، ثم مات أحدهما، فلقيه ~~الآخر في منامه، فقال له: أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق؟ ~~(1) # فصل # في وظائف الذكر الموظفة في اليوم والليلة # معلوم أن الله - عز وجل - فرض على المسلمين أن يذكروه كل يوم وليلة خمس ~~مرات، بإقامة الصلوات الخمس (2) في مواقيتها الموقتة، وشرع لهم مع هذه ~~الفرائض الخمس أن يذكروه ذكرا يكون لهم نافلة، والنافلة: الزيادة، فيكون ~~ذلك زيادة على الصلوات الخمس، وهو نوعان: # أحدهما: ما هو من جنس الصلاة، فشرع لهم أن يصلوا مع الصلوات الخمس قبلها، ~~أو بعدها أو قبلها وبعدها سننا، فتكون زيادة على الفريضة، فإن كان في ~~الفريضة نقص، جبر نقصها بهذه النوافل، وإلا كانت النوافل زيادة على ~~الفرائض. # وأطول ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة ما بين صلاة ~~العشاء وصلاة الفجر، وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فشرع كل واحدة من ~~هاتين الصلاتين صلاة تكون نافلة؛ لئلا يطول وقت الغفلة عن الذكر، فشرع ما ms621 ~~بين صلاة العشاء، وصلاة الفجر صلاة الوتر وقيام الليل، وشرع ما بين صلاة ~~الفجر، وصلاة الظهر صلاة الضحى. # وبعض هذه الصلوات آكد من بعض، فآكدها الوتر، ولذلك اختلف العلماء في ~~وجوبه، ثم قيام الليل، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه حضرا ~~وسفرا، ثم صلاة الضحى، وقد اختلف الناس فيها، وفي استحباب المدوامة عليها، ~~وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحة (3) ، PageV03P1298 # وورد الترغيب أيضا في الصلاة عقيب زوال الشمس. # وأما الذكر باللسان، فمشروع في جميع الأوقات، ويتأكد في بعضها. # فمما يتأكد فيه الذكر عقيب الصلوات المفروضات، وأن يذكر الله عقيب كل ~~صلاة منها مئة مرة ما بين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل. # ويستحب - أيضا - الذكر بعد الصلاتين اللتين لا تطوع بعدهما، وهما: الفجر ~~والعصر، فيشرع الذكر بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس، وبعد العصر حتى ~~تغرب الشمس، وهذان الوقتان - أعني: وقت الفجر ووقت العصر - هما أفضل أوقات ~~النهار للذكر، ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن كقوله: ~~{وسبحوه بكرة وأصيلا} (1) ، وقوله: {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا} (2) ، ~~وقوله: {وسبح بالعشي والإبكار} (3) ، وقوله: {فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة ~~وعشيا} (4) ، وقوله: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} (5) ، وقوله: ~~{واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي # والإبكار} (6) ، وقوله: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من ~~القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين} (7) ، وقوله: {وسبح بحمد ربك ~~قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} (8) ، وقوله: {وسبح بحمد ربك قبل # طلوع الشمس وقبل الغروب} (9) . # وأفضل ما فعل في هذين الوقتين من الذكر: صلاة الفجر وصلاة العصر، وهما ~~PageV03P1299 # أفضل الصلوات. وقد قيل في كل منهما: إنها الصلاة الوسطى (1) ، # وهما البردان اللذان من حافظ عليهما، دخل الجنة (2) ، ويليهما من أوقات # الذكر: الليل. ولهذا يذكر بعد ذكر هذين الوقتين في القرآن تسبيح الليل # وصلاته. # والذكر المطلق يدخل فيه الصلاة، وتلاوة القرآن، وتعلمه، وتعليمه، والعلم ~~النافع، كما يدخل فيه التسبيح والتكبير والتهليل، ومن أصحابنا من رجح ~~التلاوة على التسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر. وسئل الأوزاعي عن ذلك، فقال: ~~كان ms622 هديهم ذكر الله، فإن قرأ، فحسن. وظاهر هذا أن الذكر في هذا الوقت أفضل ~~من التلاوة، وكذا قال إسحاق في التسبيح عقيب المكتوبات مئة مرة: إنه أفضل ~~من التلاوة حينئذ. والأذكار والأدعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - في الصباح والمساء كثيرة جدا. # ويستحب أيضا إحياء ما بين العشاءين بالصلاة والذكر، وقد تقدم حديث أنس ~~(3) أنه نزل في ذلك قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} (4) . # ويستحب تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ~~(5) - وهو مذهب الإمام أحمد وغيره - حتى يفعل هذه الصلاة في أفضل وقتها، ~~وهو آخره، ويشتغل منتظر هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول من الليل ~~بالصلاة، أو بالذكر وانتظار الصلاة في المسجد، ثم إذا صلى العشاء، وصلى ~~بعدها ما يتبعها من سننها الراتبة، أو أوتر بعد ذلك إن كان يريد أن يوتر ~~قبل النوم. # فإذا أوى إلى فراشه بعد ذلك للنوم، فإنه يستحب له أن لا ينام إلا على ~~طهارة وذكر، فيسبح ويحمد ويكبر تمام مئة، PageV03P1300 # كما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وعليا أن يفعلاه عند منامهما ~~(1) ويأتي بما قدر عليه من الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم ~~- عند # النوم، وهي أنواع متعددة من تلاوة القرآن وذكر الله، ثم ينام على ذلك. # فإذا استيقظ من الليل، وتقلب على فراشه، فليذكر الله كلما تقلب، وفي # " صحيح البخاري " (2) عن عبادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ~~((من تعار من الليل (3) ، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك ~~وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، ~~والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي - أو قال: ((ثم ~~دعا - استجيب له، فإن عزم، فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته)) . # وفي " الترمذي " (4) عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ~~قال: ((من أوى إلى فراشه طاهرا يذكر الله حتى يدركه النعاس، لم يتقلب ساعة ~~من ms623 الليل يسأل الله شيئا من خير الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه)) . # وخرجه أبو داود (5) بمعناه من حديث معاذ، وخرجه النسائي (6) من حديث عمرو ~~بن عبسة. # وللإمام أحمد (7) من حديث عمرو PageV03P1301 # بن عبسة في هذا الحديث: ((وكان أول ما يقول إذا استيقظ: سبحانك لا إله ~~إلا أنت اغفر لي، إلا انسلخ من خطاياه كما تنسلخ الحية من جلدها)) . # وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ من منامه يقول: ((الحمد ~~لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور)) (1) . # ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد، أتى بذلك كله على ما ورد عن النبي - صلى ~~الله عليه وسلم - (2) ، # ويختم تهجده بالاستغفار في السحر، كما مدح الله المستغفرين بالأسحار، ~~وإذا طلع الفجر، صلى ركعتي الفجر، ثم صلى الفجر، ويشتغل بعد صلاة الفجر ~~بالذكر المأثور إلى أن تطلع الشمس على ما تقدم ذكره، فمن كان حاله على ما ~~ذكرنا، لم يزل لسانه رطبا بذكر الله، فيستصحب الذكر في يقظته حتى ينام ~~عليه، ثم يبدأ به عند استيقاظه، وذلك من دلائل صدق المحبة، كما قال بعضهم: # وآخر شيء أنت في كل هجعة ... وأول شيء أنت وقت هبوبي # وذكرك في قلبي بنوم ويقظة ... تجافى من اللين اللبيب جنوب (3) # وأول ما يفعله الإنسان في آناء الليل والنهار من مصالح دينه ودنياه، ~~فعامة ذلك يشرع ذكر اسم الله عليه، فيشرع له ذكر اسم الله (4) # وحمده على أكله وشربه (5) ولباسه وجماعه لأهله ودخوله منزله، وخروجه منه، ~~ودخوله الخلاء، وخروجه منه، وركوبه دابته، ويسمي على ما يذبحه من نسك وغيره ~~(6) . # ويشرع له حمد الله تعالى على عطاسه (7) ، وعند رؤية أهل البلاء في الدين ~~أو الدنيا (8) ، وعند التقاء الإخوان، وسؤال بعضهم بعضا عن حاله، وعند تجدد ~~ما يحبه الإنسان من النعم، واندفاع ما يكرهه من النقم، وأكمل من ذلك أن ~~يحمد الله على السراء والضراء والشدة والرخاء، ويحمده على كل حال. # ويشرع له دعاء الله تعالى عند دخول السوق، وعند سماع أصوات الديكة بالليل ~~(9) ، وعند سماع الرعد، وعند نزول المطر (10) ، وعند ms624 اشتداد هبوب الرياح ~~(11) ، وعند رؤية الأهلة (12) ، PageV03P1302 # وعند رؤية باكورة الثمار (1) . # ويشرع أيضا ذكر الله ودعاؤه عند نزول الكرب (2) ، وحدوث المصائب ~~الدنيوية، وعند الخروج للسفر (3) ، وعند نزول المنازل في السفر (4) ، وعند ~~الرجوع من السفر (5) . # ويشرع التعوذ بالله عند الغضب، وعند رؤية ما يكره في منامه، وعند سماع ~~أصوات الكلاب والحمير بالليل (6) . # وتشرع استخارة الله عند العزم على مالا يظهر الخيرة فيه (7) . # وتجب التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، كما قال ~~تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا ~~لذنوبهم} (8) ، فمن حافظ على ذلك، لم يزل لسانه رطبا بذكر الله في كل ~~أحواله. # فصل # قد ذكرنا في أول الكتاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بجوامع ~~الكلم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه جوامع الذكر، ويختاره على غيره ~~من الذكر، كما في " صحيح مسلم " (9) عن ابن عباس، عن جويرية بنت الحارث أن ~~النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في ~~مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ((مازلت على الحال التي ~~فارقتك عليها؟)) قالت: نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد قلت ~~بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله ~~وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) . # وخرجه النسائي (10) ، ولفظه: ((سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا ~~الله، والله PageV03P1303 # أكبر عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) . # وخرج أبو داود، والترمذي، والنسائي (1) من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل ~~مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى، أو قال: حصى ~~تسبح به، فقال: ((ألا أخبرك بما هو أيسر من هذا وأفضل؟ سبحان الله عدد ما ~~خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ~~ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ~~ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك ms625)) . # وخرج الترمذي (2) من حديث صفية، قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح الله بها فقلت: لقد سبحت بهذه، فقال: ~~((ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به؟)) فقلت: علمني، فقال: ((قولي: سبحان الله ~~عدد خلقه)) . # وخرج النسائي، وابن حبان في " صحيحه " (3) من حديث أبي أمامة: أن النبي - ~~صلى الله عليه وسلم - مر به وهو يحرك شفتيه، فقال: ((ماذا تقول يا أبا ~~أمامة؟)) قال: أذكر ربي، قال: ((ألا أخبرك بأكثر وأفضل من ذكرك الليل مع ~~النهار والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، وسبحان الله ملء ~~ما خلق، وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض ~~والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه، ~~وسبحان الله عدد كل شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول: الحمد لله مثل ~~ذلك)) . PageV03P1304 # وخرج البزار (1) نحوه من حديث أبي الدرداء. # وخرج ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ~~لمعاذ: ((يا معاذ، كم تذكر ربك كل يوم؟ تذكره كل يوم عشرة آلاف مرة؟)) قال: ~~كل ذلك أفعل، قال: ((أفلا أدلك على كلمات هن أهون عليك من عشرة آلاف وعشرة ~~آلاف أن تقول: لا إله إلا الله عدد ما أحصاه، لا إله إلا الله عدد كلماته، ~~لا إله إلا الله عدد خلقه، لا إله إلا الله زنة عرشه، لا إله إلا الله ملء ~~سماواته، لا إله إلا الله ملء أرضه، لا # إله إلا الله مثل ذلك معه، والله أكبر مثل ذلك معه، والحمد لله مثل ذلك ~~معه)) . # وبإسناده أن ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقدة، فقال: ألا أدلك ~~على ما هو خير لك منه؟ سبحان الله ملء البر والبحر، سبحان الله ملء ~~السماوات # والأرض، سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه، فإذا أنت قد ملأت البر والبحر ~~والسماء والأرض. # وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم ms626 ~~يقول: امهلوا، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا ~~حول ولا قوة إلا بالله عدد ما خلق وعدد ما هو خالق، وزنة ما خلق وزنة ما هو ~~خالق، وملء ما خلق، وملء ما هو خالق، وملء سماواته، وملء أرضه، ومثل ذلك ~~وأضعاف ذلك، وعدد خلقه، وزنة عرشه، ومنتهى رحمته، ومداد كلماته، ومبلغ رضاه ~~وحتى يرضى وإذا رضي، وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى، وعدد ما هم ~~ذاكروه فيما بقي، في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات، وتنسم ~~وتنفس من أبد إلى الأبد أبد الدنيا والآخرة أمد من ذلك لا ينقطع أولاه، ولا ~~ينفد أخراه (2) . PageV03P1305 # وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال: رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته، ~~فقلت: ما صنعت؟ قال: خيرا، فقلت: ترجو للخاطئ شيئا؟ قال: يلتمس علم تسبيحات ~~أبي المعتمر نعم الشيء. # قال ابن أبي الدنيا: وحدثني محمد بن الحسين، حدثني بعض البصريين أن يونس ~~بن عبيد رأى رجلا فيما يرى النائم كان قد أصيب ببلاد الروم، فقال: ما أفضل ~~ما رأيت ثم من الأعمال؟ قال: رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان (1) . # وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه من الدعاء جوامعه، ففي " ~~سنن أبي داود " (2) عن عائشة، قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك. # وخرج الفريابي وغيره من حديث عائشة أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ~~قال لها: ((يا عائشة، عليك بجوامع الدعاء: اللهم إني أسألك من الخير كله ~~عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ~~ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه محمد عبدك ~~ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما ~~قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما قرب إليها من قول وعمل، ~~وأسألك ما قضيت لي من قضاء ms627، أن تجعل عاقبته رشدا)) وخرجه الإمام أحمد (3) ، ~~وابن # ماجه (4) ، وابن حبان في " صحيحه " (5) والحاكم (6) ، وليس عندهم ~~PageV03P1306 # ذكر جوامع الدعاء، وعند الحاكم ((عليك بالكوامل)) وذكره. وخرجه أبو بكر ~~الأثرم وعنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((ما منعك أن تأخذي ~~بجوامع الكلم وفواتحه؟)) وذكر هذا الدعاء. # وخرج الترمذي (1) من حديث أبي أمامة قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه ~~وسلم - بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا، فقلنا: يا رسول الله، دعوت بدعاء كثير ~~لم نحفظ منه شيئا، فقال: ((ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كله؟ تقولون: اللهم ~~إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه ~~نبيك محمد، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله)) . ~~PageV03P1307 # وخرجه الطبراني (1) وغيره (2) من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه ~~وسلم - كان يقول في دعاء له طويل: ((اللهم إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، ~~وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره، وباطنه)) . # وفي " المسند " (3) أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنا له يدعو، ويقول: اللهم ~~إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار ~~وسلاسلها وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت بالله من شر ~~كثير، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنه سيكون قوم ~~يعتدون في الدعاء، وقرأ هذه الآية: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب ~~المعتدين} (4) وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من ~~قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل)) . # وفي " الصحيحين " (5) عن ابن مسعود، قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول ~~الله PageV03P1308 # - صلى الله عليه وسلم -: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، ~~السلام على فلان وفلان، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ~~يوم: ((إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة، فليقل: التحيات لله ~~والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام ~~علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا ms628 قالها أصابت كل عبد لله صالح في ~~السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم ~~يتخير من المسألة ما شاء)) . # وفي " المسند " (1) عن ابن مسعود قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ~~- علم فواتح الخير # وجوامعه، أو جوامع الخير وفواتحه وخواتمه، وإنا كنا لا ندري ما نقول في ~~صلاتنا حتى علمنا، فقال: ((قولوا: التحيات لله)) فذكره إلى آخره، والله ~~أعلم. # آخر الكتاب والحمد لله وحده، وصلى الله على # سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم # وحسبنا الله ونعم الوكيل PageV03P1309 ms629