######OpenITI# #META# URI: 1331JurjiZaydan.CarusFarghana.Hindawi36379464 #META# Tags: novels #META# ID: 36379464 #META# Title: عـروس فرغانة #META# AuthorID: 40590249 #META# Author: جُرجي زيدان #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # أبطال الرواية‏ # مراجع رواية عروس فرغانة‏ # 1 - فذلكة تاريخية‏ # 2 - جهان عروس فرغانة‏ # 3 - كتاب ضرغام‏ # 4 - ضرغام وجهان‏ # 5 - في قصر المرزبان‏ # 6 - ضرغام وجهان‏ # 7 - اجتماع المحبين‏ # 8 - موت المرزبان ووصيته‏ # 9 - بين الأفشين وجهان‏ # 10 - المعتصم و«سامرا»‏ # 11 - أم ضرغام‏ # 12 - المعتصم والأسد‏ # 13 - أحمد بن أبي دؤاد‏ # 14 - المعتصم والعرب‏ # 15 - فراق فرغانة‏ # 16 - بين بابك وجهان‏ # 17 - يأس ضرغام‏ # 18 - سقوط البذ‏ # 19 - مصرع بابك‏ # 20 - فتح عمورية‏ # 21 - محاكمة الأفشين‏ # 22 - نسب ضرغام‏ # أبطال الرواية‏ # مراجع رواية عروس فرغانة‏ # 1 - فذلكة تاريخية‏ # 2 - جهان عروس فرغانة‏ # 3 - كتاب ضرغام‏ # 4 - ضرغام وجهان‏ # 5 - في قصر المرزبان‏ # 6 - ضرغام وجهان‏ # 7 - اجتماع المحبين‏ # 8 - موت المرزبان ووصيته‏ # 9 - بين الأفشين وجهان‏ # 10 - المعتصم و«سامرا»‏ # 11 - أم ضرغام‏ # 12 - المعتصم والأسد‏ # 13 - أحمد بن أبي دؤاد‏ # 14 - المعتصم والعرب‏ # 15 - فراق فرغانة‏ # 16 - بين بابك وجهان‏ # 17 - يأس ضرغام‏ # 18 - سقوط البذ‏ # 19 - مصرع بابك‏ # 20 - فتح عمورية‏ # 21 - محاكمة الأفشين‏ # 22 - نسب ضرغام‏ # | عروس فرغانة # | عروس فرغانة # تأليف # جرجي زيدان # | أبطال الرواية # المرزبان طهماز: # من سراة فرغانة. # عروس فرغانة: # جهان بنت طهماز. # القهرمانة خيزران: # مربية جهان. # سامان: # شقيق جهان. # ضرغام: # رئيس حرس المعتصم. # الأفشين حيدر: # قائد جند بغداد. # آفتاب: # والدة ضرغام. # أحمد بن أبي دؤاد: # قاضي القضاة. # بابك الخرمي: # صاحب أردبيل. # | مراجع رواية عروس فرغانة # هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية: # تاريخ: ابن الأثير - المسعودي - المقدسي. # تاريخ التمدن الإسلامي. # البلدان لليعقوبي. # معجم ياقوت. # سير الملوك. # رحلة ابن بطوطة. # تاريخ طبرستان لابن اسفندبار. # الفصل الأول # | فذلكة تاريخية # فرغانة مدينة كبيرة على حدود تركستان، كانت عاصمة الكورة المسماة باسمها، وكان الفرس ~~يسمونها «اخشيكسيت». وهي تطل على ضفاف نهر جيحون الذي يسميه العرب نهر «الشاش» ويسميه ~~الإفرنج نهر «يكسارت» والأتراك يسمونه نهر «سرداريا». # وبيننا وبين فرغانة بعد شاسع يستغرق قطعه بضعة أشهر، في السير شرقا عبر الشام فالعراق ~~ففارس فخراسان. ثم عبور نهر سيحون واختراق بخارى وسمرقند وأشروسنة للوصول إلى ضفاف جيحون أو ~~نهر الشاش، بعد اجتياز كثير من الجبال والصحاري والسهول والأودية، ومشاهدة أمم شتى فيما بين ~~سيحون وجيحون. تختلف لغة وعنصرا ودينا. ناهيك بالمفاوز التي يعسر سلوكها، وكثرة قطاع ~~الطرق فيها، وأكثرهم ms001 من بدو التركمان وهم أهل خشونة وسطو. # وقد استطاع العرب بعد الإسلام أن يفتحوا الشام والعراق ومصر وفارس في بضع عشرة سنة. لكنهم ~~لم يستطيعوا الوصول إلى فرغانة إلا في أواخر القرن الأول للهجرة. وكان فتحها على يد قتيبة ~~بن مسلم فاتح تركستان سنة 94ه. ولم يستعمرها العرب أو يقيموا بها إلا بعد ذلك بأعوام عديدة. ~~وكانت تابعة لعامل خراسان في تأدية الجزية والخراج. # وبرغم ما تقدم ذكره من المفاوز والجبال في الطريق إلى فرغانة، كان المسافر إليها إذ ينتهي ~~بعد تلك الأخطار إلى نهر جيحون يسير ما بقي من الطريق حتى مدينة فرغانة على ضفة النهر ~~الشرقية، فيرى هنالك الأسواق والقصور ذات الأسوار العالية، ويرى الأرباض والبساتين على ضفتي ~~النهر ممتدة في أرض مستوية مساحتها ثلاثة فراسخ. ثم يرى شماليها جبلا وعرا على بعد ميل ~~منها. ويرى وسطها قلعة عظيمة يقال لها في اصطلاح الفرس «قهندر» شيدت لتعتصم بها حامية ~~المدينة عند الحاجة. ولذلك بنيت بناء متينا بالأحجار الضخمة دون كل أبنية المدينة المتخذة ~~من الطين. وحول القلعة سور له أربعة أبواب. تليه أرباض فسيحة، ثم سور ثان بأبواب أربعة ~~أيضا. ويتخلل المدينة والأرباض مياه جارية وحياض كثيرة. هذا إلى ما يحيط بالمدينة كلها من ~~بساتين ملتفة ونهيرات جارية تصلها بالنهر. فكانت هذه المنطقة من أنزه بلاد تركستان أو ما ~~وراء النهر. # وكان سكان فرغانة عند الفتح الإسلامي خليطا من أهل البلاد الأصليين الذين يسمونهم ~~«طاجية». وجماعات من الفرس والهنود والأتراك وأهل الصين. وكان الفرس أرقاهم جميعا. بل ~~كانوا أرقى المشارقة في ذلك العصر. فكانت لهم الرياسة والسياسة والنفوذ الأدبي والديني، ~~لأنهم كانوا ينقلون معهم تمدنهم حيثما حلوا. وكانت لغتهم البهلوية (الفارسية القديمة) لغة ~~الطبقة الراقية في الشرق الأقصى، كما هو شأن اللغة الفارسية الحديثة الآن. وكانت لغة أهل ~~فرغانة الأصليين التركية القديمة المعروفة بالشاغطائية. وكانت المجوسية دين أكثر الفرس حتى ~~ذلك الحين. # وحينما فتح العرب فرغانة كان يحكمها أمراء أو ملوك يلقب كل منهم بلقب خاص بهم هو ms002 ~~«أخشيد ». كما يلقب ملك الحبشة بالنجاشي، وملك الروم بقيصر، وملك الفرس بكسرى. وكان ~~الأخاشيد الذين يتولون أجزاء كورة فرغانة كثيرين. فلما دخلت في حوزة المسلمين وألحقوها ~~بإمارة خراسان، لم تبق بها حاجة إلى ملوكها المذكورين، ولم يعترضهم المسلمون في دينهم أو ~~عاداتهم أو شيء من أحوالهم، فبقي أكثرهم في البلاد يتمتعون بالسكينة والعيش الهنيء في ظل ~~المسلمين، ونزح بعضهم إلى قلب المملكة الإسلامية في العراق، فتقربوا إلى بلاط الخلفاء ~~وخدموهم واعتنقوا الإسلام وتولوا الأعمال، وأشهرهم الأخشيد طغج بن جف صاحب مصر. # الفصل الثاني # | جهان عروس فرغانة # أصبح أهل فرغانة في يوم من أيام سنة 221 للهجرة وهم يتأهبون للاحتفال بالنيروز (رأس ~~السنة). فأخذوا في إقامة معالم الزينة، ناصبين الأعلام الملونة فوق منازلهم، معلقين طاقات ~~الرياحين على أبوابها. ثم تقاطروا إلى الأسواق يبتاعون الألبسة الجديدة لهم ولأولادهم، ~~وأطباق الحلوى وغيرها من المآكل التي تكفي خلال أيام العيد الستة. # ولو دخلت المنازل لرأيت النساء قد أوقدن النيران لإعداد الأطعمة والحلوى، وأحمين ~~الحمامات للاغتسال. ولرأيت الجواري مشتغلات بتزيين الأولاد والطبخ وعجن أرغفة العيد. وهي ~~أرغفة كان يصنعها الفرس في ذلك اليوم من حنطة السنة الجديدة ليقتسموها صباح العيد متفائلين ~~بأكلها استبشارا بخصب تلك السنة. # وكانوا يتعاملون في ذلك اليوم بالنقود الجديدة ويتهادون الحبوب الجديدة على أطباق من ~~الفضة ونحوها، ويترامون بالبيض والثمار. # أما الأسواق فكانت في ذلك الصباح تحفل بالمارة من الرجال والأولاد. هذا يحمل قفة وذاك ~~ينقل سلة، وذاك يسوق حمارا أو فرسا، وكلهم يتسابقون إلى المنازل أو إلى بيت النار، ~~يحملون الهدايا لأولادهم أو للموبذان - كهان المجوس - وقد تصاكت مناكبهم وتصادمت ~~أقدامهم. # ولو أنك صعدت إلى القلعة الكبرى (القهندر) القائمة وسط المدينة وأشرفت من سطحها على أطراف ~~فرغانة، لرأيتها أشبه بخريطة مرسومة على ورق أو صورة ملونة. فحول القلعة مبان متشابهة من ~~الطين كلها من طبقة واحدة ما عدا بناءين: أولهما «بيت النار» وهو الهيكل الذي يتعبد فيه ~~المجوس. وكانت المجوسية لا تزال متغلبة هناك، ويسمونه «كارشان شاه». وهو رفيع العماد يظهر ms003 ~~بارزا بين أبينة المدينة كالنخلة بين الرياحين وقد نصبوا حول سطحه رايات من الديباج طول ~~الواحدة منها عشرات من الأذرع، مرسلة في الفضاء يلاعبها الهواء، أكثرها خضراء اللون. أما ~~البناء الثاني فهو «بيت المرزبان» - والمرازبة هم حكام المقاطعات في عهد الأكاسرة - وحول ~~البيت حديقة فيها من كل فاكهة زوجان. # وهناك وراء سور المدينة امتدت الأغراس والأعناب والرياحين تتخللها مجاري الماء وتتغنى ~~على أفنانها الأطيار. # فبينا أهل المدينة في ذلك الاحتفال إذا بموكب جليل يخترق الأسواق ويشغلهم عما هم فيه ~~لفخامته وغرابته. وهو مؤلف من مركبة كبيرة أشبه بالغرفة منها بالعربة، فوقها قبة من الفضة ~~المموهة بالذهب قائمة على أعمدة من الخشب الملون بينها ستائر من الديباج الأزرق، ويجر ~~المركبة جوادان مجللان بالحرير المزركش، وقد ركب السائق أحدهما وفي يده سوط يسوقهما به. ~~وعود كبير يصوبهما به إذا عاجا عن القصد. ويكتنف المركبة بضعة من الخصيان يركضون إلى ~~جانبيها، وقد أرخيت الستائر على الراكبين فلا يراهم أحد. على أنه لم يكن في فرغانة أحد من ~~الرجال أو النساء لا يعرف صاحب هذه المركبة؛ إذ ليس هناك مثلها، وهي مركبة مرزبان المدينة، ~~أهداها إليه بعض أهل امرأته في بلاد القوقاز؛ إذ كان فارسي الأصل وامرأته جركسية من ~~القوقاز. وأهل تلك البلاد يستخدمون هذه المركبات لحمل الخواتين في خروجهن أو أسفارهن، وفي ~~المركبة كل ما يحتاج إليه الخاتون من الأدوات حتى الطعام والشراب، فكان أهل فرغانة لا تمر ~~بهم هذه المركبة إلا تشوقوا لرؤية من فيها لعلمهم أنها تقل بنت المرزبان التي يحبونها ~~ويجلون قدرها ويعجبون بجمالها وتعقلها. وكثيرا ما رأوها تمر بهم في مركبتها وقد أزاحت ~~ستائرها فلا تحتجب عن أحد. وإذا وقع بصرها على أحدهم ابتسمت له ابتساما يزيده تهيبا ~~منها. # أما في ذلك اليوم فكانت ابنة المرزبان قد أرخت ستائر المركبة، وأركض السائق الجوادين، ~~وأدرك المارة من إسراعه أنه يريد الخروج من المدينة. ثم رأوا وراء المركبة جوادين مسرجين لا ~~يقودهما سائق ولا يركبهما راكب، أحدهما أدهم على سرجه جعبة ms004 مملوءة بالنبال فلم يخف على ~~العارفين أن الجواد لصاحبة المركبة وقد تعودوا أن يروها خارجة عليه بألبسة الرجال للصيد ~~أو السباق، ووراء الجوادين خدمة الصيد وفيهم أصحاب الكلاب والفهود. ولم يعجب أهل فرغانة ~~لرؤيتهم معدات الصيد هذه؛ لأنهم يعلمون مهارة بنت المرزبان فيه، ولكنهم عجبوا لخروجها في ~~ذلك اليوم. # وكان بين المارة رجلان؛ أحدهما تاجر من أهل فرغانة، والآخر قريب له من أهل «خوقند» أتى ~~لقضاء أيام النيروز عنده. ولم يكن رأى شيئا من ذلك قبلا. فسأل رفيقه عن صاحب هذا الموكب ~~فقال: «هو موكب الخاتون «جهان» بنت المرزبان «طهماز». ألم تسمع عنها من قبل؟» # قال: «سمعت في المرة الماضية عن مرزبان يقيم بهذه المدينة معتزلا وأنه ذو ثروة طائلة ~~وليس له إلا ابنة سمعت الناس يتحدثون بجمالها، فهل هي وحيدته؟» # قال: «لها أخ أجرد قبيح الخلق والخلق كأنه ليس أخاها.» # قال: «لعل المرزبان من أهل المدينة؟» # قال: «بل هو غريب عنها جاءها وهو شاب منذ ثلاثين سنة أو أربعين، واتخذها وطنا له فرارا ~~من المسلمين العرب. وكان حاكما في بعض مقاطعات فارس فقاسى اضطهادا ولم يشأ أن يبدل دينه ~~فأتى بأمواله وأقام هنا.» # فسأله: «وهل هو غني يا صاحبي؟» # قال: «له ثروة طائلة، وأكثر المغارس خارج فرغانة على ضفة نهر الشاش ملك له، فضلا عن ~~المنازل والنقود والجواهر. ولكن ما لنا وله؟ دعنا من ذلك وامض بنا إلى سوق اللحم لنبتاع ~~خروفا نذبحه لأولادنا.» # وكان رفيقه من محبي الاطلاع على أخبار الناس والاعتراض على أعمالهم فلم يصغ لرأي صاحبه، ~~بل قال: «قل لي كيف تخرج هذه الخاتون من البيت في مثل هذا اليوم؟» # فضحك رفيقه وقال: «كأنك تريدها أن تبقى في البيت لتعجن العجين وتخبزه ولتطبخ الطبيخ كما ~~تفعل نساؤنا؟! إنها يا صاحبي سيدة بيت أبيها، وقد توفيت والدتها منذ أعوام فلم يتزوج ~~المرزبان بعدها إكراما لها، فهو يحبها حبا جما ويعاملها كأنه عاشق يدلل ~~عشيقته!» # قال: «لست أعني أن تقيم في البيت للعجن أو الطبخ بل تبقى فيه ms005 لاستقبال الزائرين الذين ~~يتوافدون على بيت أبيها بالهدايا والتحف في يوم العيد.» # فقطع الآخر كلامه قائلا: «دعنا من ذلك يا صديقي، وسر بنا إلى السوق لننتقي خروفا ~~نشتريه.» # وكان الموكب قد جاوز الرجلين حتى خرج من المدينة إلى الأرباض، ومنها إلى البساتين، فوقف ~~عند مضرب لبعض أتباع المرزبان تعودوا استقبال هذا الموكب فخفوا لملاقاته. فلما وقفت ~~المركبة ترجل السائق ووقف بجانب الجوادين ليمنعهما من السير أثناء نزول الخاتون، وتقدم ~~أحد الخصيان للأخذ بيدها، وكانت قد قربته للطفه وخفة ظله واسمه «مرجان». فوقف بجانب ~~المركبة لا يتجرأ على إزاحة الستارة. فطال وقوفه دون أن تفتح أو تطل الخاتون، ولكنه سمع ~~حديثا داخل الستارة فتاق إلى معرفته، ولكن رده التهيب عن الإصغاء لسماعه. وكان رجال ~~الموكب والأجراء في المزرعة واقفين ينتظرون ترجل جهان. فلما أبطأت قلقوا. وكان جوادها ~~الأدهم أشد قلقا منهم. فأخذ يفحص الأرض بقوائمه وسائسه لا يقوى على زجره. ثم صهل كأنه ~~ينادي صاحبته أو يستعجلها، فإذا بستارة المركبة قد أزيحت ونزلت منها امرأة كهلة في الخمسين ~~من عمرها عليها سمات الرزانة، وقد زادها الانقباض فتنة، وكانت ترتدي ثوبا يغطي كل جسمها، ~~وعلى رأسها وعنقها خمار أحمر لا يظهر غير وجهها. فعرف الواقفون أنها القهرمانة خيزران ~~مربية جهان ووصيفتها ومستودع أسرارها. # وبعد أن ترجلت القهرمانة مدت يدها لاستقبال سيدتها، فنزلت «جهان» حتى وقفت بجانب ~~المركبة والأبصار شاخصة إليها للتمتع بجمالها الجاذب النادر. وكانت قد لبست ذلك اليوم ثوب ~~الصيد، وهو يتألف من السراويل والقباء أو الدراعة، وتزملت بما يشبه العباءة من الحرير ~~المزركش، ولفت رأسها بعمامة أشبه بالعصابة تغطي الجبين إلى الحاجبين، وأرسلت منها ذؤابتين ~~خلف العنق اتقاء حر الشمس. وأدارت العباءة حول العنق حتى لا يبدو منها غير بعض ~~وجهها. # وكانت طويلة القامة جليلة الطلعة، في وجهها هيبة وصحة وجمال، وعيناها كبيرتان فيهما نور ~~وذكاء وجاذبية لا يعبر عنها بغير السحر؛ ولذلك يشعر من يبادلها النظر أو الحديث بسلطانها ~~على قلبه وعقله فلا يقوى على التبسط معها في الحديث ms006، ولا تطاوعه نفسه على مخالفتها في أمر ~~كأنها ملكت عليه إرادته فيصبح آلة بيدها. وكان الناس ينتظرون خروجها من منزلها للصيد أو ~~النزهة فيقفون في الطرق ليشاهدوا محياها فكانت تبتسم للناظرين فتزيدهم تعلقا بها. # أما في ذلك اليوم فخاب فألهم؛ لأنهم رأوا في وجهها قلقا وفي عينيها دمعتين تحاول ~~إخفاءهما بالابتسام. # ولو أنك نظرت إلى جهان في بيتها وقد أزاحت اللثام حتى ظهر عنقها وأرخت شعرها، لرأيت قوة ~~الجنان ورباطة الجأش ظاهرتين حول فمها وفي ذقنها، وتجلت لك قوتها في اندماج عنقها. وقد ~~تعجب لأول وهلة من اختلاف ملامحها عن ملامح الفارسيين وأبوها منهم. فإذا علمت أن أمها ~~جركسية زال تعجبك وعلمت أنها ورثت تلك الملامح عن أمها، كما ورثت عنها كثيرا من سجايا ~~الجراكسة كالقوة والشجاعة والأنفة وتعود ركوب الخيل والسباق بها والخروج للصيد. على أنها ~~أخذت عن أبيها ذكاء الفرس وتعقلهم ودقة إحساسهم؛ فكانت لهذا وذاك نادرة عصرها جمالا ~~وجلالا، وشغف بها الفرغانيون وسموها «عروس فرغانة». # فلما نزلت من المركبة ورأت الناس وقوفا لانتظارها وهم شاخصون بأبصارهم إليها، حيتهم ~~على عجل خوفا من ظهور اضطرابها وهي حريصة على كتمان ما بها؛ ثم التفتت إلى القهرمانة ~~وقالت بصوت موسيقي جميل: «أين الجواد يا أماه؟» وكانت تناديها بذلك تلطفا وتحببا؛ لأنها ~~ربتها من صغرها وكانت ضنينة بها شفيقة عليها؛ ولذلك كانت جهان تستودعها أسرارها وتكشف ~~لها عن مكنونات قلبها. ولم تبطئ في الخروج من المركبة إلا لاشتغالها بالتحدث إليها في شيء ~~أهمها. # فأشارت القهرمانة إلى السائس، فأتى بالجواد يختال تيها كأنه يرقص، فلما دنا من جهان نظرت ~~إليه وابتسمت ثم داعبت جبينه بأناملها، وكان على جبينه شعرات بيضاء تمثل أسدا رابضا ~~فسمته لذلك «شير» وهو اسم الأسد بالفارسية. فلما شعر الجواد بأناملها استأنس وأخذ يضرب ~~الأرض برجله. ثم التفتت القهرمانة إلى الواقفين وقالت: «إن مولاتنا ذاهبة إلى الصيد ~~فامكثوا مع المركبة هنا لإعداد الطعام، وليتبعنا منكم رجلان يحسنان الركض حتى إذا وقع ~~لنا صيد أتيا به.» ثم امتطت جهان جوادها ms007 الأدهم بأسرع من البرق، وقدم «فيروز» السائس ~~للقهرمانة خيزران جوادها، وأعانها على الركوب، فركبت وأشارت إلى السائس أن يتقهقر ويمشي مع ~~الرجلين الآخرين وأحدهما مرجان، وساقت جوادها إلى جانب جواد سيدتها وسارتا متلازمتين، وقد ~~تنكبت جهان القوس وأما جعبة النبال فكانت معلقة بالقربوس، والتمست عرض البر والجوادان ~~يسيران معا على مهل، والأرض سهلة وأكثرها مزروع، وتبدو في أقصاها الجبال المحيطة ~~بالمدينة. # كانت جهان قد تعودت الذهاب في الشعاب والأودية مع الفهادين وأصحاب الكلاب لاصطياد ~~الغزلان أو حمر الوحوش أو الوعول. ولكنها في هذا اليوم لم تصطحب أحدا من أولئك؛ لرغبتها في ~~الانفراد، وإنما اتخذت الصيد حيلة للخروج. # فلما أمعنتا في الخلاء التفتت القهرمانة إلى جهان لفتة حنو وانعطاف وقالت: «والآن يا ~~سيدتي ألا تكشفين لي عن سبب انقباضك، وأنت تعلمين أني مستودع أسرارك وأسرار أمك من ~~قبلك؟» # فتنهدت جهان وقالت: «دعيني يا أماه من هذا الحديث، إنما جئت لأروح عن النفس ~~بالصيد.» # فضحكت القهرمانة وقالت: «وهل تريدين مني أن أصدق أنك خرجت للصيد وأنا التي اخترعت هذه ~~الحيلة لنخرج معا؟ أم تحسبين سرك خافيا علي؟!» # فأرادت مغالطتها فقالت: «أتستغربين انقباضي وأنت ترين أبي مريضا بالنقرس منذ أعوام. وقد ~~سمعت طبيبه يصرح بضعف الأمل في شفائه؟! إنني إذا أصيب أبي بسوء أصبح وحيدة لا أهل لي هنا، ~~ولست أعرف أهل أبي في بلاد فارس ولا أهل أمي في بلاد القوقاز، ولا أدري مع ذلك كيف ...!» ~~وغصت بريقها. # فقالت القهرمانة: «إن مرض سيدي المرزبان لم يحدث بغتة، وقد كنت تخافين على حياته من قبل ~~ولم يبد عليك مثل هذا الانقباض ... وإنما سببه سر أنت شديدة الحرص على كتمانه، ولكنني ~~أعرفه!» # فالتفتت إليها جهان مستغربة وتفرست في عينيها ووجهها كأنها تحاول أن تقرأ ضميرها، ~~فتأثرت القهرمانة من نظرها وبما تلألأ في عينيها وهي تغالب عواطفها وقالت: «نعم إن سرك ~~غير خاف علي، وإن كنت تحاولين إخفاءه حياء. وأرى هذا الحياء يبدو على وجهك ~~الآن.» # فصعد الدم إلى وجنتي جهان فتوردتا وأشرق وجهها وأبرقت ms008 عيناها بريقا ينم عما يجيش في ~~قلبها من لواعج الحب. واعتراف العينين حجة صادقة مهما يبالغ صاحبهما في الإنكار. فإذا قالت ~~العين قولا وقال اللسان آخر فالصادق هي لا هو، خصوصا من يكون مثل جهان في رقة الإحساس ~~وقوة العاطفة؛ فقد كانت كبيرة القلب وكبيرة العقل معا، ولكن الضعف النسائي غلب عليها في ~~تلك اللحظة فأطرقت، فابتدرتها خيزران قائلة: «لا تعجبي يا سيدتي لاطلاعي على السر، ولست أنا ~~وحدي المطلعة عليه فإنه متداول بين أهل القصر لا يجهله أحد غير أبيك، ولولا تهيب أهل القصر ~~لنقلوه إليه ولكنهم لا يستطيعون ذلك إلا على يدي وأنا لم أفعل.» # فبغتت جهان وقالت وهي تتشاغل بإصلاح عرف جوادها: «وأخي سامان؟ هل يعلمه أيضا؟!» # فابتسمت ابتسامة تشف عن تألمها من ذكر ذلك الاسم وقالت: «سامان؟! إن سامان لا تخفى عليه ~~خافية يا سيدتي وقد قلت لك ذلك مرارا.» # فأدركت جهان أنها تريد انتقاد إخلاص أخيها. فقطعت كلامها قائلة: «إني أتوسم في أخي سامان ~~شيئا لا يرتاح إليه قلبي ولا أدري ما هو، ولكنني لا أحب العيب فيه فهو أخي الوحيد، وأرى ~~منه انعطافا إلي، وإن كان بعضه لا يروق لي، على أني لا أحبذ انشغاله بالأسرار حتى ليخيل ~~إلي أنه جعبة خفايا وغوامض. وكثيرا ما يغيب عن البيت يوما فنبحث عنه في فرغانة بحثا ~~دقيقا فلا نقف له على خبر، ثم يرجع ونسأله عن غيابه فلا يجيب أو يجيب جوابا مبهما. وقد ~~أخبرنا بعضهم أنه كثير الاختلاء بالموبذ كاهن بيت النار في المدينة. ولا يخفى ما هو عليه ~~هذا الكاهن من الدهاء والمكر.» # فقالت خيزران: «أظن هذا الموبذ يؤيد طائفة الخرمية الجمعية السرية التي يتزعمها «بابك ~~الخرمي» صاحب الحول والطول، والذي أصبح خليفة المسلمين يخافه، ولا يبعد أن يكون أخوك سامان ~~أحد أعضاء هذه الجمعية، ولا بأس بذلك فالخرمية يعملون على إعادة السلطة للفرس ومحاربة ~~المسلمين.» # قالت: «لا أنكر ما في أخي سامان من مواضع الضعف، ولكنه أخي. وعلى كل حال ما لنا وله ms009 ~~الآن ؟» # فأطرقت القهرمانة وهي تعجب لحسن ظن الفتاة بأخيها، رغم ما يظهر من قبيح أعماله وما ~~تعتقده هي من سوء قصده، ولكنها أعرضت عن ذكره. # ورجعت إلى ما كانا فيه فقالت: «والآن ألا تبوحين لي بما شغلك؟» # فأعظمت جهان أن يغلب عليها الضعف إلى هذا الحد أمام مربيتها، فتحركت فيها الأنفة وقالت: ~~«لا تستضعفيني يا أماه فقد تكونين واهمة، وإلا فاذكري لي سبب كدري إن كنت تعلمين.» # فقالت: «إن ضرغام هو السبب!» # فلما سمعت جهان ذلك خفق قلبها وعاد الدم إلى وجنتيها وأبرقت عيناها فابتدرتها خيزران ~~قائلة: «لا تنكري يا حبيبتي فعيناك تشهدان بأنك تحبين ضرغاما!» # فسكتت جهان منتظرة أن تسمع من خيزران استحسانا أو استهجانا لذلك الحب، فقالت القهرمانة: ~~«إن ضرغاما شاب جميل وشجاع باسل، لا مثيل له في فرغانة ولا في غيرها من بلاد فارس.» # فقالت: «فهمت أنه شجاع وجميل ثم ماذا؟» # فهمت خيزران بأن تصرح برأيها ولكنها خافت على جهان فأطرقت وسكتت. فقالت لها جهان بصوت ~~هادئ وجأش رابط: «صرحي يا أماه ولا تخشي شيئا.» # فقالت: «ليس في العالم أحسن من ضرغام لولا نسبه؛ فليس في فرغانة من يعرف أصله ونسبه حتى ~~هو لا يعرف من أبوه.» # قالت جهان وهي تتشاغل بإصلاح القوس على كتفيها: «وماذا يقول الناس عنه؟» # قالت: «يقولون إنه مثال الشجاعة وكرم الخلق، عدا جماله وعلو همته وكبر نفسه. لكنهم ~~يتساءلون عن نسبه، وأنا أذكر أمه عندما أتت إلى فرغانة تحمله، وكانت في إبان شبابها جميلة ~~الطلعة، وقد خطبها غير واحد من أهل فرغانة فأبت أن تتزوج وانصرفت إلى تربية ابنها، فقد كانت ~~على فقرها شديدة العناية به، ثم سمع سيدي المرزبان بخبرها فدعاها إليه وسألها ما خطبها ~~فتكتمت في بادئ الأمر، ثم ذكرت أنها أخذت طفلة من حضن أمها في بادية الترك ونشأت في منزل ~~أحد النخاسين بالعراق حتى انتهت إلى رجل من أهل تلك البلاد فأعتقها وتزوجها، ثم توفي قبل ~~أن تضع حملها، فلما وضعته أحبت الانقطاع إلى تربيته. وقد شك سيدي ms010 المرزبان في قولها ~~وأحب أن يجربها فعرض عليها أن يزوجها من أحد رجاله فأبت واعتذرت؛ فازداد شكا في ~~حديثها، وأنزلها بجانب قصره وأمر لها بما تحتاج إليه من أسباب المعيشة، وكانت تحسن الخياطة ~~وتعمل مع خدم القصر حتى أصيبت بالرمد وكف بصرها فكفت عن العمل وظلت في بيت أبيك كما ~~تعلمين. ولما شب ضرغام تعلم ركوب الخيل والرمي بالنشاب وظهرت فيه سجايا نبيلة؛ فجعله ~~مولاي المرزبان في جملة أعوانه. وكان يحبه ويجل مناقبه حتى بعث الخليفة المعتصم منذ بضعة ~~أعوام إلى هذه البلاد ليجند الرجال من الأتراك والفراغنة والأشروسنيين، فتطوع ضرغام ~~لخدمته. وكنت قد لحظت ما بينكما من الحب المتبادل الذي تحاولين الآن إخفاءه، ولكنني عجبت ~~لذهابه وغيابه كأنه رأى نفسه أقصر باعا من أن ينالك للتباعد بينكما في المقام ~~والنسب!» # وكانت القهرمانة تتكلم وجهان مصغية تسمع كلامها بشوق ولهفة. ثم أجابتها قائلة: «إنه ~~تطوع للعمل في خدمة المعتصم لعلمه أن الرجال إنما تظهر مواهبهم في مثل هذا الوقت. وكان قد ~~تغلب عليه الوهم الذي أراه متغلبا عليك؛ فرغم أنه لا يستحقني، وأنا أراه يفضلني بدرجات، ~~فالمرء لا يقدر بمزارعه ومنازله وإنما بمواهبه ومناقبه، وأنت تشهدين والناس كلهم يشهدون ~~بأنه لا يبارى في مواهبه ومناقبه. ولا ريب عندي أنه سيبلغ أرقى مراتب الجند، فقد سمعنا ~~بأناس من رقيق البلاد ابتاعهم الخليفة ورباهم وجندهم فبلغ بعضهم وبلغوا مراتب القواد. ~~فكيف بضرغام وهو كما تعرفينه وأعرفه!» وكانت تقول ذلك ولسانها يكاد يتلعثم لخفقان قلبها ~~وثورة عواطفها. # فأدركت القهرمانة مما سمعت أنها عالقة بضرغام، وهي تعرف ثباتها على رأيها فلم تر أن ~~تعارضها لكنها قالت: «لا شك عندي أن ضرغاما سينال مرتبة عليا في جند المعتصم، ولكن عروس ~~فرغانة أرقى من أن ينالها القواد؛ فإن الملوك يخطبون رضاها.» قالت ذلك جادة تعني ما تقول لا ~~على سبيل الإطراء والمجاملة. ولكيلا تترك لجهان وقتا للتفكير والجواب أظهرت أنها تعبت من ~~الركوب والتفتت إلى ما حولها فوجدت أنها على مقربة من تل يشرف على أودية ms011 كانت تأتيها ~~جهان للصيد، فقالت لها: «ألا ترين أن نترجل للاستراحة هنا قليلا ثم نعود إلى الركوب إذا ~~شئت؛ لأني لا أصبر صبرك على هذه المشقة؟» # فأجابت جهان بالقبول. وترجلتا فسارع السائس إلى الجوادين فانتحى بهما ناحية، وافترش ~~لنا ذنبها على صخرة مبسطة فوق التل قعدتا عليها واشتغل هو بعلف الجوادين. ثم أشارت جهان إلى ~~الخادمين بأن يتوغلا في الأودية يستطلعان حال الصيد هناك. # الفصل الثالث # | كتاب ضرغام # قالت القهرمانة لجهان: «كيف رأيت كلامي يا سيدتي؟» # قالت: «لا بدع إذا أطريتني وأعجبت بي فإني بمنزلة ابنتك وكل أم بابنتها معجبة حتى تظن ~~الملوك يقتتلون عليها.» # فقالت: «إني لم أقل ما قلته إلا واثقة من صحته، وهل هناك شك في أن أعظم ملوك الفرس ~~يطلبون رضاك؟!» # فهزت جهان كتفيها مفكرة مستبعدة وقالت: «ملوك الفرس؟ وهل للفرس ملوك اليوم؟» فاستبشرت ~~القهرمانة بقرب إقناعها بعلو مرتبتها؛ لأنها على ثقة مما تقول فقالت: «لا تهزي كتفيك يا ~~سيدتي. إن للفرس ملوكا عظاما لا يلبثون أن يعيدوا سلطان الأكاسرة. ألا تعرفين مازيار صاحب ~~طبرستان؟ ألا تعرفين بابك الخرمي صاحب أردبيل؟ إن كلا من هذين ملك عظيم تخضع له الألوف من ~~الأبطال، ولكنه في الوقت نفسه يخضع لعروس فرغانة، ويضحي بحياته في سبيل رضاها.» # فهزت جهان رأسها مستخفة وقالت وهي تنظر إلى جوادها الأدهم سارحا يرعى العشب: «دعينا من ~~الملوك، لا أرب لنا في غير ضرغام. وما لنا وبابك ومازيار وأين نحن من أردبيل ~~وطبرستان؟» # قالت: «إذا كنت في شك من قولي فاسألي أخاك سامان عن بابك الخرمي.» # قالت وقد تذكرت: «أظنني سمعته يطري صاحب هذا الاسم، ولكنني لا أثق بأقواله كلها كما ~~تعلمين، ولم أكترث للأمر؛ لأن ضرغاما ليس مثله أحد عندي ولا رغبة لي في الملوك ~~والأمراء.» # فقالت: «إذا كنت تستبعدين تلك البلاد فهذا الأفشين صاحب أشروسنة على مقربة منا، وهو الآن ~~قائد جند المسلمين كافة في بغداد، وعما قليل يأتي لزيارة أبيك؛ لأن سيدي كتب إليه منذ أشهر ~~يدعوه إلى زيارته في عيد ms012 النيروز .» # وكانت جهان حتى الساعة لا تبالي ما تقوله خيزران، فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وتغير ~~وجهها وانقبضت نفسها، وصدت خيزران عن الكلام بكفها كأنها تقول: «كفي لا تذكري هذا ~~الاسم!» # وأرادت هذه أن تستأنف الحديث فصاحت بها جهان قائلة: «دعيني من ذكر هذا الرجل؛ إني لا ~~أتحمل سماع اسمه! إنه سبب كدري الذي زعمت أنك عرفته؛ فإن نفسي انقبضت منذ سمعت بقرب قدومه ~~إلى فرغانة وأنه سيقضي بعض أيام عيد النيروز عندنا، ولو أني استطعت أن أقضي العيد في مكان ~~بعيد لفعلت.» # فاستغربت خيزران كرهها للأفشين وقالت: «وهل أساء إليك الأفشين في شيء؟» # قالت: «ما أساء إلي ولا كلمني كلمة، ولكنني منذ رأيته يأتي لزيارة أبي ونفسي تعافه ~~وتنكر النظر إليه. ولا أذكر أن شعوري خانني في الحكم على الناس!» # فقالت القهرمانة: «يا للعجب! ألا تعلمين أن الأفشين رئيس ضرغام، وإن غاية ما يبلغه ضرغام ~~من التقدم في جند المسلمين أن يصير قائدا من قواد الأفشين وتحت رايته.» # فقالت بترفع وهدوء: «كلا يا أماه، إنه لا يعمل تحت رايته بل هو رئيس حرس الخليفة.» # قالت وقد ظهر الاستغراب في محياها: «وهل أنت على يقين مما تقولين؟!» # فنظرت إليها وابتسمت وقالت: «نعم، أنا من ذلك على يقين أصح من يقينك برغبة الملوك في ~~طلبي!» ومدت يدها إلى جيبها وقالت: «وقد جاءني كتابه منذ بضعة أشهر يخبرني بذلك وينبئني ~~بقرب قدومه إلى فرغانة، ولكنه إلى الآن لم يأت.» وأخرجت الكتاب ودفعته إليها لتقرأه وهو ~~مكتوب بالبهلوية، فقرأت فيه: # من ضرغام في سامرا إلى حبيبة قلبه جهان في فرغانة # يا سيدتي، ولا أزال أدعوك سيدتي لأنك سيدة العالمين؛ وأنت أيضا حبيبتي لأنك ملكت ~~قلبي وكل جوارحي. تركت فرغانة منذ بضع سنوات ولم أكتب إليك حتى الآن؛ لأني لم أكن ~~أهلا لمخاطبتك، وكيف يتجاسر ضرغام الفقير اليتيم أن يخاطب جهان بنت المرزبان صاحبة ~~السيادة مالكة الأموال والرقاب! وقد وعدتك يوم الوداع أن أبذل جهدي في طلب العلا، ~~فإذا بلغت درجة تقربني من مقامك ms013 أتيت إليك والتمست رضاك وإلا فإني أموت في سبيل ~~طلبك. وقد انتظمت في الجندية وخضت المعامع باسمك واستقبلت النبال بصدري وهو فيه ~~فوقاني من الأذى. ولما ارتقيت في مراتب الجند حتى صرت رئيس الحرس في قصر الخليفة ~~بادرت إلى زف البشرى إليك، وكأنك تسألينني عن عاقبة ذلك التقدم فإنه إن لم يكن ~~لأكتسب به رضاك فلا مأرب لي فيه؛ لأني لا أرى للحياة قيمة إن لم تكن لك ومعك. وقد ~~أخذت أسعى في الشخوص إلى فرغانة لأقبل يد سيدي المرزبان وأحظى بمشاهدة حبيبتي ~~جهان، ولولا بعض المشكلات التي نخاف عواقبها على الخلافة لجئت إليك منذ أشهر، على ~~أني ظفرت الآن بوسيلة تساعدني على الرحيل؛ ذلك أن أمير المؤمنين بنى سامرا بالقرب ~~من بغداد كما تعلمين لتكون خاصة به ليجعل فيها جنده الأتراك وأنا واحد منهم، وقد ~~أراد أن ينتصر بهم على الأحزاب المختلفة التي نشأت في المملكة الإسلامية من الفرس ~~وغيرهم، وخشي على هؤلاء الجنود إذا اختلطوا بسكان المدن المجاورة أن تذهب شدتهم ~~ونخوتهم؛ فارتأى أن يزوجهم جواري تركيات من وراء النهر، وعين أناسا يرسل بهم إلى ~~ما وراء فرغانة يبتاعون الجواري والإماء ويعودون بهن. وقد أعربت له عن رغبتي في ~~زيارة وطني وطلبت السماح لي بمصاحبة ذلك الوفد، فوعدني الخليفة بتحقيق هذه الرغبة. ~~فعسى أن آتيك قريبا. وقد عهدت في توصيل كتابي هذا إلى رجل من خاصتي. أمي تهديك ~~السلام. # فلما فرغت القهرمانة من تلاوة الكتاب همت بجهان وضمتها إلى صدرها وقبلتها وهي تقول: ~~«بورك فيك وفيه، إنه أهل لك. صدقت؛ إن الرجل بأعماله لا بماله، وإذا كان قد أصبح رئيس ~~الحرس بجده وبسالته فكيف بعد أعوام والدولة الإسلامية لا تزال حروبها قائمة ومثل ضرغام لا ~~يعدم وسيلة للارتقاء!» # فسرت جهان لموافقة القهرمانة على ما في ذهنها لكنها ما لبثت أن استدركت وقالت: «إن هذا ~~الكتاب جاءني منذ عدة أشهر ولم يأت ضرغام ولا عرفت شيئا عنه.» # قالت: «لا تجزعي إنه آت. ولكن ...» وأطرقت كأنها تفكر في أمر طرأ ms014 لها . فقالت جهان: «ولكن ~~ماذا؟ قولي يا أماه!» # قالت: «ولكن أباك قد لا يرضى بضرغام.» # قالت: «لم أخاطبه في شأنه بعد، ولكنني أعلم أنه يحبه ويجله. كما أنه لم يمنعني أمرا ~~أردته قط.» # قالت: «أعلم أن سيدي المرزبان يحب ضرغاما ويجله، ولكن هناك أمرا آخر هل فكرت ~~فيه؟» # قالت: «وما هو؟» # قالت: «إن ضرغاما مسلم على ما أعلم، فكيف يصح زواجه بك إلا إذا اعتنقت الإسلام.» # فقالت: «وما يمنعني من ذلك، والإسلام دين الدولة؟!» # فقالت: «وتتركين ديانة أبيك وعشيرتك؟!» # قالت: «إذا كانت هذه الديانة تحول بيني وبين ضرغام فإني أتركها؛ لأني أحب أن أكون حيث ~~يكون هو في الدنيا والآخرة.» قالت ذلك واغرورقت عيناها وهي تبتسم. # وأحست القهرمانة أن الحديث طال وتحرج، فأحبت أن تشغل عنه جهان فنهضت وقالت: «مضى قسم ~~من النهار ولم تباشري الصيد، فاركبي فرسك وأنا أتبعك وألهو بما أشاهده من مهارتك في مطاردة ~~الغزلان.» ~~••• # أشارت جهان إلى السائس أن يأتي بالجواد والقوس والنبال، ثم نظرت إلى الجبال أمامها لتختار ~~جهة تركب إليها، فبصرت بوعل يركض على صخر قريب منها، ولم تكن تعهد وجود الوعول في تلك الجهة ~~فبغتت وصاحت بالسائس: «فيروز، هات القوس.» # فأسرع إليها بالقوس فأوترتها وسددت السهم، وأسرت أنها إذا أصابت طريدتها كان ذلك ~~فألا بنيلها ضرغام وقرب مجيئه وإلا فلا. ونظرت إلى الوعل فرأته وقفا على تلك الصخرة ~~والتفت نحوهم فرمته بأسرع من لمح البصر وسمعت طنين النبل في الهواء وخيزران تنظر إلى الوعل ~~وتخاف أن يفر قبل إطلاق السهم فما لبثت أن رأته سقط ثم انقلب إلى شق بين صخرين فصاحت ~~جهان: «وقع وقع ... إلي به يا مرجان.» فركض ورفيقه والسائس في أثرهما، وظلت جهان واقفة ~~وقلبها يكاد يطير من الفرح، ثم تقدمت خيزران إليها وهي تضحك وتقول: «لقد سرني رمي هذا ~~الوعل، ليس لأنك أصبته فقط ولكنني قبل أن ترميه أضمرت أن يكون فوزك في صيدك هذا رمزا إلى ~~فوزك بضرغام.» # فابتسمت جهان وقالت: «وهذا ضميري أيضا ... أتقولين بعد ذلك إن ms015 ضرغاما يليق بي؟» # قالت: «بسطت لك رأيي وأنا الآن أكثر رغبة فيه.» وضحكت تمازحها. # فانبسطت نفس جهان وسري عنها بعد مكاشفة خيزران. ثم سمعت صياحا فالتفتت فرأت الرجال ~~يجرون الوعل جرا لثقله فأسرعت إليهم فرأت الوعل ميتا لا حراك به. فتعجبت من سرعة مصرعه ~~بسهم واحد. فلما وصلت إليه رأت سهمها لا يزال مغروسا في خاصرته ولاحت منها التفاتة فرأت ~~سهما آخر في ليته فصاحت: «إنه مصاب بسهمين وأنا لم أطلق إلا سهما واحدا. هو ذا السهم ~~الآخر!» # وأمرت مرجان أن يستخرجه فأخرجه بعد عنف شديد وهو يقول: «إن الوعل مات بهذا السهم.» ودفعه ~~إلى جهان فتناولته وقلبته بين أناملها فرأت على ريشه كتابة بالعربية وكانت تحسن قراءتها، ~~ولم تكد تتبين أحرفها حتى صاحت: «ضرغام ... ضرغام! إني أقرأ اسم ضرغام على هذا السهم.» فتقدم ~~مرجان، وكان يقرأ العربية أيضا، فقال: «هو اسم ضرغام.» # فبهتت جهان والتفتت إلى خيزران وهي تتجلد خوفا من ظهور بغتتها أمام الرجلين، ثم أمرتهما ~~أن يذهبا بالوعل إلى مكان يذبحانه فيه ويفعلان به ما شاءا، فلما ابتعدا قالت: «ما قولك في ~~هذه المصادفة؟» # قالت: «يظهر أن ضرغاما قريب من هذا المكان وهذا سهمه قد رمى الوعل به فحمل الوعل جرحه ~~مسافة طويلة؛ لأن هذه الوعول لا تسرح إلا عند ضفاف نهر الشاش على مسافة بعيدة من هذا ~~المكان.» # فأطرقت جهان وهي تحسب نفسها في حلم ثم قالت: «إنها مصادفة غريبة! على أني أخاف أن نكون قد ~~أخطأنا الظن. ولكن لا ... إن قلبي يحدثني بصدق ظني ... فإذا كنت مصيبة فأين تظنين ضرغاما ~~الآن؟» # قالت: «أظنه معسكرا على ماء للاستراحة قبل دخول فرغانة، ولا أعرف ماء في هذه الجهة إلا ~~نهر الشاش فلعله معسكر على ضفته الشرقية.» # قالت: «وهل هذه الضفة بعيدة عنا؟» # قالت: «إنها على فرسخ وبعض الفرسخ من هنا. أظنك تريدين الذهاب؟» # فابتسمت والخجل يعارض ابتسامها، وحدقت في خيزران لتستطلع حقيقة غرضها من السؤال، فرأتها ~~تنظر إليها باهتمام فعلمت أنها تشاركها شعورها فقالت: «وهل تظنين في ms016 ذهابي إليه ~~بأسا؟» # فأشفقت خيزران على عواطفها وأحبت مجاراتها فقالت: «لو علم القوم أنك ذاهبة إليه عمدا ~~لتحدثوا بذهابك، ولكننا إذا لقيناه اتفاقا فلا بأس، على أن المكان بعيد لا يخلو الذهاب ~~إليه من المشقة. هل تستطيعين ذلك؟» # قالت: «لا مشقة علينا ونحن راكبتان، هلمي بنا.» قالت ذلك والتفتت إلى الرجلين فرأتهما ~~مشتغلين بذبح الوعل بعيدا. # فأدركت خيزران أنها تريد استقدامهما فسبقتها إلى ذلك وقالت: «أرى أن آتي بخادمك فيروز ~~يسير في ركابك وتأمري الآخر بالذهاب مع بقية الموكب بباب المدينة ينتظرنا مع بقية الخدم ~~هناك.» # فاستحسنت جهان رأيها، فمشت خيزران إلى الرجلين ونادتهما وأومأت إلى فيروز أن يأتي فأسرع ~~مهرولا فأمرته بإبلاغ رفيقه أن يذهب للانتظار مع بقية الركب، وبأن يأتي هو بالجوادين، ويظل ~~في ركابهما ففعل، وانطلق خلفهما لا يدري إلى أين تسيران. # الفصل الرابع # | ضرغام وجهان # أدارت جهان رأس جوادها نحو النهر ومضت وعيناها شائعتان في الأفق لعلها ترى حبيبها قادما، ~~وبجانبها خيزران على جوادها. وكانت الشمس قد تكبدت السماء، ونسيت جهان لفرط انشغالها أنها ~~لم تذق طعاما في ذلك اليوم. وقد يغلب الحب على صاحبه حتى ينسيه وجوده. # وظل الجوادان يسيران بهما في أرض بعضها مزروع وفيه الأجراء الذين يعرفون عروس فرغانة، ~~كما يعرفون جوادها وخادمها. فكانوا يقفون لها احتراما ويبتسمون إعجابا، وهي لا تبتسم ~~لتبلبل بالها. وبينما هي غارقة في تفكيرها صهل فرسها وفرس خيزران فانتبهت ونظرت أمامها فرأت ~~على مقربة منها مزرعة فيها خيام كروية السقف على شكل خيام التركمان - وهم يبنونها مستديرة ~~وسقفها قبة - ورأت بين الخيام بضعة جياد وغلامين يحلبان فرسين على عادة أهل بادية تركستان ~~إذ يغتذون بألبان الخيل كما يتغذى بدو العرب بألبان الإبل. # فلما رأتهم جهان أرادت أن تسلك طريقا آخر لا يمر بهم توفيرا للوقت. ولكن خيزران حولت ~~شكيمة جوادها نحوهم وأشارت إليها أن تتبعها قائلة: «أرى يا مولاتي أن نسأل هؤلاء القوم عن ~~ضرغام لعلهم رأوه مارا فيغنينا ذلك عن تكبد المشقة في الوصول إلى النهر؟» # فاستحسنت ms017 جهان رأيها وحولت إليهم شكيمة جوادها أيضا. فلما رآهما أحد الغلامين فنهض وقد ~~علم من قيافة جهان أنها أميرة كبيرة وأسرع إلى أبيه في إحدى الخيام يدعوه إلى استقبال ~~الأضياف. فجاء الرجل وهو فلاح شيخ يتوكأ على عكازه، وما وقع بصره على جهان حتى عرفها. فأمر ~~أولاده بأن يعاونوها على الترجل مبالغة في الحفاوة بها، ولكنها لم تشأ النزول وأثنت على ~~الرجل. ثم التفتت إلى خيزران كأنها تحرضها على السؤال، فقالت لها هذه: «انزلي يا سيدتي ~~للاستراحة هنيهة ثم نركب.» فأطاعتها مرغمة واستلم فيروز زمام الجوادين وابتعد بهما عن ~~المكان لئلا يشوشا الموقف بالصهيل مع بقية الخيل. # ولما ترجلتا خاطبهما الشيخ بلطف وسذاجة قائلا: «ألا تشرفنا بنت المرزبان بجلوسها لحظة في ~~هذا البيت الحقير؟» فخجلت وجلست على جلد افترشوه لها ولرفيقتها. وقبل أن تهم خيزران بالسؤال ~~جاء الغلام يحمل قدحا من الخشب فيه سائل عرفت أنه لبن الأفراس فاعتذرت بأنها لا تشعر ~~بالجوع. فقال الشيخ يخاطب غلامه: «قدم لها قدحا من القومز، وهو لبن الخيل يخمرونه ويقدمونه ~~شرابا للزائرين كما يقدم العرب السويق وكما يقدم أهل هذا الزمان الليمونادة أو الشاي. ونظر ~~إلى جهان وقال: «هذا القومز لا يستدعي جوعا فإنه كالماء ويزيل التعب.» # فلم تستطع جهان رده فتناولته، فاغتنمت خيزران تلك الفترة وخاطبت الشيخ قائلة: «ألم يمر ~~بكم أضياف غيرنا في هذا اليوم؟» # قال: «كلا يا سيدتي؛ ولذلك سررت بقدومكم، وقد تشرفت بمرور مولاتنا جهان فإذا فاتنا ~~الأضياف فهي خير من ألف ضيف.» # فقالت: «وهل يمر بكم المسافرون دائما؟» # قال: «نعم يا سيدتي؛ لأن القادم من أشروسنة أو خوكند أو بخارى قاصدا إلى المشرق لا بد له ~~من أن يمر بنا بعد اجتيازه النهر. ثم يذهب إلى فرغانة أو إلى غيرها. وكثيرا ما تمر بنا ~~قوافل التجار قادمة من الهند أو التبت أو الصين قاصدة إلى بلاد الروم، أو راجعة منها إلى ~~بلادهم.» # فنظرت إلى جهان وكلمتها بالفارسية - وأكرة تلك البلاد يتكلمون الشاغطائية أي التركية ~~القديمة - وقالت لها: «ألا ms018 ترين أن نمكث هنا ريثما يمر ضرغام إذا كان لا بد من مروره؟ أليس ~~ذلك أفضل من أن نقصده هناك وقد نسير إليه من طريق ويأتي هو من طريق آخر فلا نلتقي؟» # فلم تجب ولكن ظهر على ملامح وجهها أنها رضيت. فقالت لخيزران: «ائذني للرجل في أن يقدم ~~لنا شيئا نأكله.» # فقالت: «وكيف نطلب الطعام بعد أن رفضناه؟» # قالت: «أنا أطلبه بأسلوب معقول. والتفتت إلى الرجل وقالت بلغته: «ألا تبيعون خيلا ~~للذبح؟» # قال: «كلا يا سيدتي؛ لأننا نربي الأفراس للبن ولا نذبحها إلا متى عجزت وقل ~~لبنها.» # قالت: «وإذا أردتم مهرا للذبح كيف تفعلون؟» # قال: «نترصد قطيعا من الخيل مارا من هنا فنشتري منه ما شئنا.» # ثم أشار بيده إلى الشرق وقال: «وقد مضت علي برهة وأنا أنظر إلى هذه الجهة فأرى في الأفق ~~البعيد غبارا كثيفا محلقا في الجو، وأتوقع دنوه فلعله غبار قطيع من الخيل قادم إلينا ~~فأبتاع منه فرسا أو فرسين للذبح. وإذا شاءت مولاتنا المكث هنيهة أخرى وتنازلت بأن تتناول ~~الطعام عندنا ذبحت لها فرسا سمينا.» # فاستحسنت جهان أريحية الرجل وخفة روحه وابتسمت له، ففهم أنها رضيت فأمر أحد أبنائه ~~بملاقاة القطيع وتعجيله، فأسرع الغلام يعدو واشتغل الشيخ بإعداد المائدة ثم أتى ببطيخة ~~وضعها بين يدي جهان وقال: «وهذه بطيخة من بطيخ بخارى المشهور بحلاوته سنذبحها لمولاتنا في ~~جملة الذبائح!» # فاستغربت جهان وجود هذا البطيخ عنده وهو مما يتفاخر باقتنائه الكبراء. ولم يفت الرجل ما ~~جال في خاطرها فاستدرك قائلا: «أهداني هذه البطيخة شاب مغرم جاء ليطلب إلي إحدى بناتي ~~فأتى بهذه البطيخة في جملة الهدايا.» # فلما سمعت جهان ذكر الغرام تذكرت لوعتها، فتنهدت وأومأت إلى الشيخ أن يحتفظ بالهدية ~~وقالت: «احفظ الهدية لصاحبتها.» # وأراد الشيخ أن يجيبها فسمع صوتا يناديه فالتفت فرأى ابنه راجعا يعدو وهو يلهث من ~~التعب ويقول: «إن رعاة القطيع لا يبيعون من قطيعهم شيئا.» # ونظرت جهان إلى جهة الغبار المتصاعد من قطيع الخيل القادم، فرأت في مقدمته فارسا على ~~جواد مسرج ms019، ووراءه عشرات من الخيول عارية تتزاحم وتتراكض، وعلى بعضها رعاة من بدو الكرج ~~الذين يعيشون في براري تركستان على رعاية الخيل والماشية. ورأت الفارس الأول لابسا لباس ~~الجند وبيده راية على رمح لم تنتبه للاسم الذي طرز عليها ولو قرأته لارتعدت ~~فرائصها. # أما الشيخ فأسرع إلى الفارس واستوقفه وقال: «ألا تبيعوننا فرسا من هذه الأفراس؟» # فأجاب الفارس بأنفة وعجرفة: «كلا.» # قال: «أنا في حاجة إلى ذبيحة فنعطيكم الثمن الذي تريدونه.» # فأدار رأسه يمنة ويسرة إشارة إلى الرفض. ولكن الشيخ عاد فسأله: «ولماذا لا ~~تبيعون؟» # فقال: «لأن هذا القطيع لأناس لا يبيعونه.» # فقال: «ومن هؤلاء؟ أليسوا تجارا؟» # أجاب: «كلا». ثم أومأ إلى الراية وقال: «أظنك لا تعرف القراءة ولو عرفتها لكفيتنا مئونة ~~السؤال والجواب». # فلما سمعت جهان قوله نظرت إلى الراية فقرأت فيها: «الأفشين حيدر بن كاوس» بأحرف عربية. ~~فتغير لونها ونظرت إلى خيزران فرأتها في مثل بغتتها. أما الشيخ فأجاب الفارس قائلا: ~~«صدقت إني لا أعرف القراءة. لمن هذه الراية؟» # قال: «هي للأفشين حيدر بن كاوس قائد جند الخليفة المعتصم وصاحب مملكة أشروسنة.» # ولم يكن أحد في تركستان يجهل هذا الاسم؛ لأن الأفشين كان ملكا على أشروسنة قبل دخوله في ~~خدمة المعتصم. فبغت الشيخ وتهيب وقال: «إن مولانا الأفشين مقيم ببغداد على ما ~~نعلم.» # قال: «كان في بغداد ولكنه جاء إلى أشروسنة منذ أيام وبعثنا نبتاع الماشية لرجاله.» # فقال: «وأنتم ذاهبون الآن بهذا القطيع إلى أشروسنة؟» # قال: «كان مولانا الأفشين في أشروسنة، ولكنه قادم إلى فرغانة يقضي عيد النيروز فيها، ~~ورجاله معسكرون خارجها على ضفاف الشاش، وهذه الخيول لهم. فهل تحتاج إلى زيادة إيضاح؟» قال ~~ذلك وساق جواده وتبعه الرعاة بالخيول. # فلم يعد الشيخ يجرؤ على السؤال، وخجل من جهان؛ لأنه عجز عن القيام بضيافتها. وأخذ يهيئ ~~عبارة يعتذر بها إليها فإذا بها وقفت وأشارت إلى خادمها أن يأتي بالجوادين وأسرعت إلى الشيخ ~~وقالت: «إني شاكرة حسن صنيعك يا عماه وقد طرأ علي ما يدعو إلى الإسراع برجوعي، وعسى أن ms020 ~~أتمكن من زيارتك في فرصة أخرى.» # فأكبر الشيخ ذلك التلطف وهم بتقبيل يد ابنة المرزبان شكرا على تلطفها وتنازلها، ~~فاجتذبت يدها منه وأشارت إلى القهرمانة فدفعت إليه بضعة دنانير وقالت له: «أعط هذه الدوانق ~~إلى الغلام يشتري بها قوسا ونشابا يلهو بهما.» فشكر الشيخ لهما، وودعتاه وركبتا جواديهما ~~فانطلقا بهما وخلفهما فيروز. # وبعد هنيهة التفتت جهان إلى خيزران وقالت بعد تنهد يدل على غيظ تكتمه: «والآن ماذا ~~تقولين؟ هذا الأفشين أتى فرغانة ولا شك أنه نازل عندنا لزيارة أبي.» # قالت: «وما الذي يهمك من زيارته؟ و...» # فقطعت كلامها قائلة: «لا يهمني شيء من أمره ولا أكترث له، ولا جنده يخيفني، ولكنني أكره ~~مجالسته و...» وبلعت ريقها، وتشاغلت عن إتمام الحديث بإصلاح عصابتها على رأسها. # ففهمت خيزران تخوفها ولكنها تجاهلت وقالت: «إن جهان العاقلة الحكيمة لا يخشى عليها من ~~أحد ألا تزالين عازمة على المسير إلى النهر.» # فنظرت إليها جهان شزرا وابتسمت كأنها تستغرب سؤالها ولسان حالها يقول: «وكيف ~~لا؟!» # وساقتا الجوادين وهما تنظران إلى قطيع الخيل حتى توارى وطريقه غير طريقهما، وكانت الشمس ~~قد مالت إلى الأصيل وأثر الجوع في خيزران. أما جهان فشغلها تلهفها للقيا حبيبها عن كل ~~عاطفة، وقضت معظم الطريق ساكتة وهواجسها تتعاظم وتتلاطم، وكلما تصورت لقاءها حبيبها اختلج ~~قلبها ورأت أنها ارتكبت شططا ما كانت لتأتيه لولا غلبة الحب على إرادتها. وكثيرا ما يغلب ~~الحب الإرادة ويكون الفوز له عليها، وقد تفوز الإرادة ولكن إلى أجل قريب، وإذا طالت غلبتها ~~كان الحب ضعيفا سريع الزوال. وقد يكون المحب كبير العقل مدبرا حكيما ويرتكب في سبيل الحب ~~أمورا لا يأتيها غير أهل الطيش. وليس استغراب الناس عمله أكثر من استغرابه هو عمل نفسه؛ ~~لأنه يأتي تلك الأمور وعقله مشرف على عمله ينتقده ويقبحه ولا يرى له سلطانا على رده؛ وذلك ~~لأن للعاقل الحكيم قلبا فطر على الحب الشديد، فإذا هو خالف هوى قلبه تألم ألما لا طاقة ~~له باحتماله وقد يجن أو يصعق، وكم من عاشق ذهب ms021 ضحية النزاع بين العقل والقلب؛ فالعاقل ~~إذا أحب انتشبت بين إرادته وعواطفه حرب لها اضطرام، فإذا كان كبير النفس قوي الجنان جارى ~~عواطفه اعتمادا على عزة نفسه وقوة جنانه فلا يخاف أن يغلب على أمره. # وكانت جهان كبيرة العقل قوية الإرادة، ولكنها كانت كذلك كبيرة القلب شديدة العواطف، ألوفة ~~شديدة التعلق بما تألفه. فكيف بها وهي تحب الأليف وقد عاشرته أعواما عدة حتى تمكن حبه من ~~قلبها؟! وكانت قوية الجنان ثابتة الرأي في حبه وزادها تعلقا به تخوفها من الأفشين ونفورها ~~من رؤيته، فلم تر بأسا من السعي لملاقاة حبيبها خصوصا أنها ذاهبة بحجة الصيد. ~~••• # سارت جهان وخيزران حينا وهما تنظران إلى الأفق والجوادان يدلانهما على الطريق المؤدي إلى ~~ضفة النهر، حتى أطلتا على الماء عن بعد ورأتا الشاطئ فلم تجدا عليه خياما ولا رأتا جندا ~~ماشيا ولا راكبا. فأوقفت جهان جوادها والتفتت إلى القهرمانة وقالت: «هل ترين أحدا ~~هناك؟» # قالت: «كلا يا سيدتي ولكننا على مقربة من الشاطئ. فهلم بنا إليه لعلنا نرى فيه أثرا ~~يفيدنا.» # فاستأنفتا السير وخلفهما فيروز، حتى بلغتا الشاطئ بقرب كوخ تحت شجرة. فرأتا آثار أناس ~~كانوا هناك وانصرفوا من برهة وجيزة. ومن بين هذه الآثار بقية نار لا تزال موقدة. وبقايا ~~طعام وفاكهة وعظام. ثم إذا بصاحب الكوخ قد خرج للقائهما ورحب بهما ظانا أنهما نازلتان ~~عنده. وكانت خيزران قد دعت فيروز وأمرته أن يسأل أهل الكوخ عن القوم الذين كانوا هناك، ~~فتقدم وحيا الرجل وسأله فقال: «هم جند من المسلمين عبروا النهر عند الفجر وأقاموا هنا إلى ~~الظهر فتغدوا وانصرفوا.» # قال: «وهل عرفت وجهة مسيرهم؟» # قال: «أظنهم يقصدون فرغانة ولعلهم يريدون قضاء النيروز فيها.» # فلما سمعت جهان قوله رجحت أن القوم ضرغام ورجاله، وندمت على مجيئها لاعتقادها أن ~~ضرغاما إذا أتى فرغانة يذهب توا إلى دار أبيها، فرأت أن ترجع إليها لتدركه، وأشارت إلى ~~خيزران أن تحول عنان جوادها وتتبعها قبل أن يدركهما الظلام وهما على بعد ميلين من المدينة. ~~ففعلت وحثتا الجوادين ms022 عائدتين إلى المكان الذي ينتظرهما الركب فيه بباب المدينة. # وكان من في الموكب قد قلقوا لغياب جهان، وأرسلوا بعضهم للبحث عنها في الجهة التي ذهبت ~~للصيد فيها، فعاد هؤلاء دون أن يجدوها. فازداد القلق عليها. فلما رأوها مقبلة عرفوها من ~~بعيد بقيافتها ولون فرسها. ثم رحبوا بها وجاءوها بالطعام المهيأ لها، فأشارت عليها خيزران ~~أن تتناول شيئا منه فأطاعتها وتناولت بعض اللحم والقومز والفاكهة على عجل. ولحظت أثناء ذلك ~~أن خادما يكلم القهرمانة همسا وأن هذه تغير وجهها. فأدركت أن هناك أمرا ذا بال. ونادت ~~القهرمانة ونظرت في عينيها مستفهمة فقالت خيزران: «إن مولاي سامان جاء إلى هنا وسأل عنك، ثم ~~رجع لتوه.» # فقالت: «وماذا قال؟» # قالت: «لم يقل شيئا.» وتشاغلت بازدراد لقمة كانت تمضغها وكادت تغص بها. # فتفرست جهان في وجه الخادم الذي كان يخاطب خيزران وقالت: «أظنه جاء في شأن أبي. هل عليه ~~بأس؟» # فلم تستغرب خيزران سرعة انتباهها؛ لأنها كثيرا ما كانت تقرأ أفكار المتكلمين بالتفرس في ~~عيونهم. فأجابتها بقولها: «لا بأس على مولاي بفضل «أورمزد» - إله الخير عند المجوس - لكنه ~~استبطأ عودتك ويريد أن يراك فنحن في يوم النيروز.» # فنهضت جهان وأشارت إلى الخدم أن يعدوا المركبة للعودة وقالت: «لم يبعث أبي إلي إلا وهو ~~يشكو من اشتداد المرض عليه. هيا بنا.» # وكانوا قد أعدوا المركبة فركبتاها معا، وسار الموكب إلى القصر وهي تتوقع أن تجد ضرغاما ~~هناك. # الفصل الخامس # | في قصر المرزبان # بلغ موكب جهان قصر أبيها عند العشاء، فرأت الحديقة تتلألأ بما أوقد فيها من المصابيح، ~~وقد غصت بجماهير الناس وما يحملونه من الهدايا والتحف إلى المرزبان كعادتهم في مثل ذلك ~~المهرجان. على أنهم في الأعياد السابقة كانت وجوههم تطفح سرورا وبهجة. وكانوا يقرعون ~~طبولهم ويضربون طنابيرهم. أما اليوم فقد أتوا بآلات الطرب لكنهم لم يضربوا عليها تهيبا لما ~~علموه من اشتداد المرض على المرزبان. فرأتهم جهان متفرقين زرافات ووحدانا في طرقات الحديقة ~~وعلى السلم، وعليهم ألبسة العيد من الخز والديباج، وكلهم وقوف يتهامسون ms023 ويتلفت بعضهم إلى ~~بعض وعلامات الأسف بادية على وجوههم. وبباب الحديقة الدواب تحمل التحف من الثياب والأطياب ~~والفاكهة. والخدم يشتغلون بإنزالها وحملها إلى داخل القصر. # ولما وصلت مركبة جهان إلى باب القصر تفرق الناس إلى الجانبين وشغلوا بمشاهدتها عما هم ~~فيه. وكانوا يحبونها ويتبركون بطلعتها ويتوسمون فيها الخير. فلما نزلت من المركبة هتفوا ~~بالسلام عليها، وسري عنهم حين رأوا وجهها ونسوا ما كانوا فيه من القلق كأنهم يحسبون دخولها ~~على أبيها يذهب مرضه ويعافيه. # أما هي فحنت رأسها للسلام تلطفا، وخيل إليهم أنها ابتسمت لفرط ما في محياها من الوداعة ~~والإيناس. وكانت خيزران قد نزلت فسبقتها ومشت إلى جانبها، والناس يوسعون الطريق ويقفون ~~احتراما حتى دخلت جهان الحديقة ماشية بجلال ورشاقة وصعدت درجات السلم المؤدي إلى إيوان ~~القصر وهي تتفرس في الوجوه خلسة لعلها ترى ضرغاما، خائفة أن ترى الأفشين. وكان أهل القصر ~~في انتظارها على أحر من الجمر فجاءوا لاستقبالها، ولم تجد أخاها سامان بينهم فظنته عند ~~أبيها في غرفته. فلما لقيت قيمة القصر سألتها عن أبيها فقالت: «إنه في خير، فشكرا لرحمة ~~أورمزد.» # فاطمأنت قليلا ولكنها ظلت سائرة إلى غرفة أبيها بين صفوف الجواري والخصيان والكل ~~وقوف إجلالا لها. فمشت في دهليز مفروش بالسجاد حتى أتت غرفة أبيها وقد اشتدت لهفتها لرؤيته ~~وقلبها يخفق خشية عليه. وكان بباب الغرفة حاجب من المماليك الخصيان قد اختص بباب المرزبان، ~~فلما رأى جهان أسرع إلى سيده وبشره بقدومها، ثم عاد ورفع الستر ووسع لها، فدخلت وهي ~~لا تزال باللباس الذي خرجت به للصيد والعصابة على رأسها، ولكنها حسرت عن وجهها وعنقها فبان ~~إشراقهما وقد زادها القلق والتعب هيبة وجمالا، فأقبلت على سرير أبيها ووجهها يطفح رونقا ~~وبهاء وعيناها تبرقان ذكاء وفطنة. # وكان المرزبان كهلا لم يتجاوز الستين من عمره، ولكن المرض والضعف جعلاه شيخا هرما، ~~فابيض شعر لحيته التي تملأ صدره، وزاد الضعف في غور عينيه وتجاعيد وجهه. ولكن هذا كله لم ~~يقلل شيئا من هيبته ولا من بريق عينيه الذي ms024 اشتد حين علم بمجيء ابنته في إبان الحاجة ~~إليها. وكان قد استلقى على سريره المصنوع من خشب الأبنوس، تحمله أربع قوائم نزل فيها العاج، ~~وعلى رأسه عمامة صغيرة، وفوقه غطاء من الديباج المزركش بالقصب على نصفه الأعلى الذي يغطي ~~الصدر مطرف من فرو النمور الثمين، ويداه مرسلتان فوق المطرف وقد حسر عنهما كم القميص فبان ~~هزالهما. # فلما دخلت جهان من الباب، اتجهت أولا إلى صنم مذهب نصب على عضادة بارزة من الحائط ~~بجانب سرير أبيها وأمامه شمعة مضيئة غير المصباح المعلق بالسقف، فانحنت للصنم خاشعة على ~~عادة المجوس، ثم سارعت إلى أبيها فجثت بجانب سريره وأكبت على يده تقبلها. وقد أثر فيها ~~ضعفه ولكنها تجلدت تشجيعا له فابتسمت وعيناها لا تبتسمان ولكنهما تنطقان بأجلى بيان بعظيم ~~احترامها لأبيها وشدة حبها له. أما هو فحالما رآها ابتسم والدمع يترقرق في مآقيه، وفتح ~~ذراعيه فعلمت أنه يريد تقبيلها فألقت نفسها على صدره فقبلها واستنشق رائحة عنقها فأحست ~~بحرارة نفسه وخشونة شعره فاستأنست بتلك الخشونة لاطمئنانها على صحته؛ لأنها كانت تخاف ألا ~~تدركه حيا. # ثم تجلد المرزبان وتحامل على ساعديه حتى اتكأ على الوسادة وأشار إليها أن تقعد على الفراش ~~بجانبه فقعدت وسألته: «كيف ترى نفسك يا سيدي؟» # قال: «إني بفضل أورمزد إله الخير الحنون في خير، وكنت أخشى أن يتغلب أهريمان إله الشر فلا ~~أراك، وذلك لشدة ما قاسيته من الألم والضعف. ولكنني شعرت بالراحة منذ علمت برجوعك إلى ~~القصر، وأنت تعلمين أنك تعزيتي الوحيدة في هذا العالم، فلا تفارقي القصر؛ لأني أرتاح ~~لرؤيتك.» # فأرسلت جهان دمعتين دلتا على حنوها وخففتا لوعة أبيها الشيخ المريض وأثرتا في نفسه. ~~وكأنه تصور حال ابنته بعد موته فغلب عليه الحنو فبكى وهو يحاول إخفاء عواطفه رفقا ~~بعواطفها، فابتسمت هي وتجلدت، ولم يفتها ما خالج ذهنه فقالت: «شكرا لأورمزد الشفوق، إني ~~أراك في صحة، وسأصلي له وأتوسل إليه (وأشارت إلى التمثال) أن يعافيك ويدفع عنك المرض، ولا ~~ريب أنه يسمع دعائي.» # فقال: «قد أرسلت أخاك سامان ms025 في طلب الموبذ (الكاهن) فإذا جاء صلينا معا.» # فأحست جهان براحة لاتكال أبيها على الصلاة. وليس للإنسان تعزية في مثل هذه الساعة غير ~~الإيمان، فهو وحده خير تعزيه له في الشدائد، بعد أن يعجز عقله وتغل يده عن درئها. ولولا ~~الإيمان لكان حظ الناس من دنياهم التعاسة والشقاء. يدلك على ذلك أن الأرض لم تخل من دين. ~~وما من أمة إلا وهي تدين بشيء ترجع إليه في رد القوي عن الضعيف، وتتعزى به في المصائب التي ~~يضيع فيها الاجتهاد ويعجز عنها العقول، ولا ينجح في دفعها لا مال ولا سلطان، ولا يفيد فيها ~~جند ولا أعوان. وتقصر عن معالجتها مهارة الأطباء، وحكمة الفلاسفة وعلوم العلماء. هذه ~~المصائب لا ينجح فيها غير الإيمان والاستسلام عن اعتقاد صحيح في الدين؛ فالمؤمن يتلقى ~~المصائب بالشكر، ويستقبل الموت ضاحكا مسرورا. وليس أضر للبشرية ممن يضع الشكوك في أذهان ~~العامة؛ لأنها تقتلهم وتذهب بسعادتهم، وهو نفسه، مهما يبلغ من شكوكه أو إنكاره، إذا أصيب ~~بضعف أو خاف على حبيب نفدت حيلته في إسعافه لا يرى مندوحة عن الالتجاء إلى غير الوسائل ~~المعروفة فيستغيث بقوة لا يعرفها. ويتوسل إلى شخص لا يراه ولا يعتقد بوجوده. وقد اختلف ~~الناس في تفاضل الأديان لكنهم أجمعوا على التدين بواحد منها. # فلما رأت جهان اتكال أبيها على الصلاة سكن اضطرابها واطمأن قلبها فقالت: «وهل يأتي الموبذ ~~الليلة؟» # فتنهد وقال: «قد بعثت أخاك في طلبه، ولكن ما أظنه يأتي به لأنه عودني ألا يطابق عمله ~~ما في نفسي.» وكأنه ندم على هذا التعريض فاستدرك وقال: «لا بأس من تأجيل ذلك إلى ~~الغد.» # وشعرت جهان بأن أباها غير راض عن أخيها. وكانت قد لحظت شيئا من ذلك من قبل ولم تعلم ~~سببا لهذا الفتور. وكان المرزبان يبالغ في كتمان ذلك لعلمه بذكاء جهان وسرعة انتباهها ~~وأنها إذا اطلعت على ما في قلبه من أمر أخيها يتكدر عيشها. فسكتت وسكت أبوها حينا، ~~وأخيرا انتبه هو فقال: «اذهبي يا جهان يا حبيبتي إلى غرفتك ms026، لتبدلي ثيابك وتتناولي عشاءك ~~فإني أشعر براحة وميل إلى الرقاد.» # فنهضت وهي تقول: «ألا تحتاج إلى شيء أقضيه لك يا أبتي قبل ذهابي؟» # قال: «لا أحتاج إلى شيء الآن، وإذا أصبح الصباح وجاء الموبذان علمت شيئا جديدا. اذهبي ~~محفوظة محروسة.» # شغلت جهان بأمر النبأ الذي وعد أبوها بأن يطلعها عليه في اليوم التالي، وتاقت إلى ~~معرفته. ولكن تفكيرها لم يهدها إلى شيء، وقد سرها على أية حال أن أباها لم يذكر ~~«الأفشين». وودت لو سنحت لها فرصة تذكر فيها ضرغاما لعله يذكره بخير فتطلعه على ميلها ~~إليه. وكان أبوها قد عودها ألا تتحرج أمامه من ذكر مثل ذلك، ثم همت بالخروج من حجرة ~~أبيها مؤجلة ذلك حتى يأتي ضرغام لزيارته فتتخذ هذه الزيارة ذريعة للحديث في ذلك ~~الشأن. # وقبل أن تخرج دخل الخادم وقال للمرزبان: «إن سامان بالباب.» فلما سمع المرزبان اسمه ~~انقبضت نفسه ولكنه قال: «يدخل». فدخل سامان ولا يكاد الناظر إليه يصدق أن جهان أخته؛ إذ ~~كانت أمه جارية هندية ماتت وهو في الثامنة من عمره وسافر أبوه على أثر ذلك إلى بلاد القوقاس ~~فلقي هناك فتاة شركسية أعجبه جمالها فتزوجها وجاء بها إلى فرغانة فولدت له توأمين هما جهان ~~وطفلة أخرى. وماتت الأم والطفلتان صغيرتان فعهد في أمرهما خيزران ولم يتزوج بعد أمهما؛ لأنه ~~كان يحبها حبا شديدا لفرط جمالها وتعلقها، وأحب ابنتيها لشدة مشابهتهما لها، ولكنهما لم ~~تبلغا الثالثة من العمر حتى فقدت توأم جهان فبقيت هذه وحدها وتحولت كل محبة أبيها ~~إليها. # ولم يكن فقد تلك الشقيقة بسبب موتها، ولكنها فقدت بطريقة عجيبة هي أن فرسا اختطفتها. ~~وكان في تركستان جماعة من اللصوص يدربون الخيل على اختطاف الأطفال أو الأحمال بأسنانها ~~والفرار بها إلى حيث ينتظرونها في مكان بعيد. وبقي أهل فرغانة من ذلك العهد يحذرون خطف ~~أطفالهم بهذه الطريقة. # أما المرزبان فنظر إلى سبب ضياع ابنته نظرا آخر، وتولد البغض في قلبه لسامان من ذلك ~~الحين، لكنه كتم السبب عن كل إنسان! ~~••• # كان سامان ms027 قصيرا أجرد ليس في وجهه إلا شعرات متفرقة في ذقنه. وخداه منبسطان، ويخامر بياض ~~عينيه حمرة كأنه استيقظ من رقاد، فضلا عن شدة حوله، فإذا نظر إليك حسبته ينظر إلى السقف ~~أو إلى الباب ولا يستقر نظره على شيء. وهو يكلمك مطرقا أو محولا بصره عنك وأجفانه ترتجف، ~~وشفتاه ترتعشان كأنه خائف تخرج الألفاظ من بينهما متلاحقة متقطعة. ولكنه كان كثير الدهاء ~~واسع الحيلة شديد الأنانية يكره كل أحد إلا نفسه. # فلما أذن له أبوه في الدخول، دخل مهرولا، وعلى رأسه قلنسوة من الخز بلا عمامة، وقد ارتدى ~~جبة طويلة تغطي ثيابه فكان يتعثر بأردانها، ثم وقف بين يدي أبيه وقال: «ذهبت إلى بيت كرشان ~~شاه (هيكل المجوس بفرغانة) فلم أجد الموبذ هناك، وقيل لي أنه يعود في الصباح فهل أبحث عنه ~~في منزله؟» # فهز المرزبان رأسه متضجرا وقال: «لقد كان في إمكانك أن تبحث عنه قبل مجيئك ولكن لا بأس ~~... غدا نرسل من يأتينا به. اذهب الآن.» # فرأت جهان في خطاب أبيها له جفاء زادها شكا في ميله إليه. ولم تكن قد سمعته يخاطبه بهذه ~~اللهجة من قبل. أما سامان فقال: «لم أكن أحسبك تريده الليلة، وإلا لبحثت عنه حتى رجعت به. ~~هل أذهب للبحث عنه الآن؟» # وكان المرزبان يحدق في وجه ابنه وهو يتكلم، فلما انتهى أدار وجه عنه وقال: «كلا، ولكن ~~دعني الآن فإني أحتاج إلى الراحة!» # فأكب سامان على يدي أبيه يقبلهما، ثم خرج يتعثر في أذياله، وظلت جهان واقفة تنظر ~~إلى أبيها فرأت في عينيه دمعتين تكادان تنحدران وهو ينظر إلى الشمعة المضيئة بين يدي ~~التمثال، وقرأت حول شفتيه معنى دلها على سر في خاطره يحب إفشاءه فقعدت على السرير ~~وتناولت يده فشعرت بعرق بارد ورعدة خفيفة فقالت: «هل تريد شيئا يا أبتاه أم أذهب؟» # فقال وهو يصلح متكأه: «اذهبي يا حبيبتي ... لا ... لا تذهبي ... لا بل اذهبي واستريحي!» # فقالت: «ما بالك؟ هل أغضبك إهمال أخي سامان؟ إنه لم يكن يعلم مرادك.» # فهز رأسه وقال ms028: «إنه لم يفهم مرادي ولكنني فهمت مراده. وقد دنا وقت الحساب.» قال ذلك ~~واستلقى على الفراش ورفع الغطاء إلى كتفيه لينام، فعلمت أنه لا يريد الخوض في الموضوع، ~~فأصلحت غطاءه وقبلت يده ثم خرجت وذهبت إلى غرفتها وهي في شاغل جديد بأخيها، وكانت خيزران ~~في انتظارها فرحبت بها وسألتها عن أبيها ثم قالت: «أبدلي ثيابك واذهبي إلى فراشك.» # فظلت واقفة ولم تجبها فأدركت أن ذهنها مشتغل بضرغام فقالت لها: «إن الناس قد انصرفوا ~~وأطفئت الأنوار في الحديقة والإيوان ولم يأت ضرغام ولعله يأتي غدا.» # فاقتنعت وأخذت في تبديل ثيابها بمساعدة خيزران، ثم ودعتها هذه وانصرفت، وأرادت جهان أن ~~تذهب إلى فراشها وإذا بخادمة دخلت تقول: «إن مولاي سامان يطلب أن يكلم مولاتي.» # فسرت جهان بمجيئه؛ لأن حديث أبيها معه لم يرق لها، فدخل وعليه ملامح الاكتئاب ~~والانكسار، فلما رأته أخذتها الشفقة عليه فرحبت به وابتسمت له وقالت: «لا يسوءك ما صدر من ~~أبينا من إشارات الكدر، فأنت ضيق الصدر لمرضه.» # فقعد مطرقا على وسادة ولم يجب. فجلست إلى جانبه ونظرت إليه فرأت دموعه تتساقط على خديه ~~فأثر منظره وغلب حنوها وطيب عنصرها على فراستها وتعقلها وقالت: «ما يبكيك يا أخي؟» # فرفع بصره إليها وقال وصوته مختنق: «تسألينني عن أمري وقد شاهدت بعينيك وسمعت ~~بأذنيك؟!» # قالت: «قلت لك إن ما أتاه أبوك ليس عن غرض بل هو عن مرض، فإنه يحبك وليس له ابن سواك، ~~وأنت حامل اسمه وأنت ...» فقطع كلامها قائلا: «قد يكون أبي يحبني، ولكني سيء الطالع. فأنا ~~أبذل جهدي في طاعته، ولم يكن قد كلفني استدعاء الموبذ ولكنني رأيته يسأل عن خادم يرسله في ~~طلبه، فتطوعت لخدمته. ولا أرى منه غير الإعراض، ويؤلمني ألا يكون راضيا عني!» # قالت: «إنه راض عنك، أو إنه سيرضى، كن مطمئنا.» # قال: «أنا أعلم أنك تحبينني وتسعين في استرضائه لي، ولكن آخرين يكيدون لي عنده، وهو ~~لسلامة نيته ينخدع بأقوالهم.» قال ذلك ووقف يهم بالخروج خشية أن يسوءها حديثه، فأوقفته ~~وقالت: «من تعني ms029 بأولئك الكائدين؟» # قال: «أعني جماعة تعرفينهم أسروا عقولنا وقلوبنا وأموالنا باسم الدين.» # فأدركت أنه يعني الموبذان (الكهان) فقالت: «فهمت، وأظنك تعمدت الرجوع وحدك الليلة فلم ~~تأت بالموبذ؟» # فتنحنح وبلع ريقه وقال: «لم أتعمد ولكنني لم أجده في بيت النار فلم أبحث عنه في مكان آخر؛ ~~لأن دخول الموبذان بيتنا يفسده!» # فقطعت كلامه قائلة: «لا أرى رأيك في هذا؛ لأن أولئك الموبذان يصلون لأجلنا فهم بركة لنا، ~~وليس لنا عزاء إلا بهم، ثم إن أبانا يؤمن بهم ولا ينبغي أن نخالفه.» # فقال: «لا أنكر أن بينهم أناسا صالحين، ولكن بعضهم طماعون يبغون أن يستولوا على كل شيء. ~~ما لنا ولهم الآن فإنما يهمني ألا يكون أبي ناقما علي.» # فقالت: «اترك هذا لي، واذهب إلى فراشك مطمئنا.» # فخرج مطأطئ الرأس مظهرا الانكسار، ودخلت هي فراشها حيث عادت إلى هواجسها ولم تنم تلك ~~الليلة إلا قليلا. # الفصل السادس # | ضرغام وجهان # وبكرت جهان في صباح اليوم فالتفت بمطرفها وذهبت إلى أبيها فرأته جالسا في سريره وهو ~~أحسن حالا منه بالأمس، ففرحت وسألته عن حاله فقال: «شكرا لأورمزد، لقد نمت ليلتي مرتاحا، ~~وأشعر اليوم بنشاط. ألم يبلغك قدوم الأفشين إلى فرغانة؟ لقد كنت على موعد من مجيئه في هذا ~~العيد.» # فلما سمعت اسم الأفشين أجفلت وقالت: «لا أعلم يا سيدي، ولعله جاء ولم يأت إلينا ~~بعد.» # فقال: «من لي بمن يبحث عنه؟» # فقالت: «إذا أمرت أن نبعث في طلبه فعلنا، ولكنه لو أتى فرغانة لجاءنا بلا دعوة.» # قال: «صدقت، وهل ذهب أخوك ليدعو الموبذ اليوم؟» # قالت: «خرج من الفجر للبحث عنه، وقد ساءه البارحة أنك لم تكن راضيا عنه.» # فقال: «ننتظر رجوعه. اسقني شربة ماء من يدك.» # فأسرعت مسرورة فأتته بكأس ماء وقدمته إليه فشربه. ثم دخل الحاجب يقول: «إن ضيفا قادما ~~من العراق يستأذن على مولاي المرزبان.» # فصاح المرزبان: «هذا هو الأفشين.» وأظهر ارتياحه لمجيئه ولم يسأل عمن هو قبل الإذن على ~~جاري العادة فقال: «ليدخل.» وأسفت جهان لوجودها هناك، ولو استطاعت أن تشق ms030 الحائط وتخرج منه ~~لفعلت، ولكنها تجلدت إكراما لأبيها فوقفت وقد انقبضت نفسها فتماسكت لئلا يبدو ذلك ~~عليها. # فأزاح الحاجب الستر فدخل القادم، فلما أطل أجفلت جهان وبدت الدهشة في وجهها وانقلب ~~انقباضها إلى انبساط، وتحول امتقاع لونها إلى تورد؛ لأن القادم لم يكن الأفشين وإنما ~~ضرغام. فلما رآه المرزبان ابتسم له ورحب به وصاح: «ضرغام؟ أهلا بولدنا ضرغام. ظننتك ~~صديقنا الأفشين. أقادم أنت من العراق؟» قال: «نعم يا مولاي.» # قال: «وهل أتى الأفشين معك؟» قال: «لم يأت معي ولكنني علمت يوم خروجي من العراق أنه عازم ~~على المجيء إلى أشروسنة، وأظنه أتى.» # وكان ضرغام شابا في حوالي الثلاثين من العمر قد كمله الله خلقا وخلقا؛ ربع ~~القامة، ممتلئ الجسم، عريض المنكبين، واسع الجبهة كبير العارضين كث اللحية، تلوح البسالة ~~والهمة في عينيه، وتتجلى المروءة وصدق اللهجة حول شفتيه. وعلى رأسه قلنسوة قرمزية حولها ~~عمامة سوداء، وقد لبس قباء سماوي اللون تمنطق عليه بمنطقة علق عليها سيفا قبضته مذهبة، ~~وتحت القباء سراويل من الخز الأرجواني وفوق القباء حبة سوداء، وقامته قامة الأبطال؛ إذا وقف ~~حسبته جبلا راسخا. # وكان قد دخل على المرزبان غير مقدر أن يلقى جهان هناك، فلم تكن دهشته أقل من ~~دهشتها. # أما هي فلما وقع بصرها عليه لم تعد تعلم كيف تخفي عواطفها، فإذا استطاعت إخفاء خفقان ~~قلبها وارتعاش أعضائها فكيف تستطيع إخفاء ما ظهر من التورد في وجنتيها أو الإشراق في ~~عينيها. وقد نسيت مرض أبيها وأصبح همها أن تلاحظ ما يبدو منه نحو حبيبها من ترحاب أو ~~انعطاف، فلما رأته يرحب به فرحت وكانت بجانب الصنم فأسندت ظهرها إلى العضادة وتشاغلت ~~بمسح ما على الصنم من الغبار مخافة أن يبدو ارتعاشها، ولم تغط وجهها؛ لأن نساء تلك البلاد ~~لم يكن يعرفن الحجاب يومئذ ولا سيما جهان فقد كانت تستنكف من تغطية وجهها وتعد الحجاب ~~جبنا وضعفا. # ولا تسل عن سرور ضرغام بتك المصادفة. وساعده في إخفاء عواطفه السلام على المرزبان فأكب ~~على يديه يقبلهما. فأمر بوسادة ms031 جلس عليها وجلست جهان على وسادة أخرى، وأخذ المرزبان يسأله ~~عن حاله فقال ضرغام: «قد أسرعت في الزيارة لأكون أول من يهنئك بهذا المهرجان المبارك، ولم ~~أكن أعلم أنك متوعك فأرجو أن تكون أحسن حالا.» # فقال المرزبان: «أصبحت مرتاحا اليوم وقد سررت برؤيتك وأنت تعلم حبي لك.» # فانحنى ضرغام شاكرا، وسره عطفه عليه، ولكن سروره لم يكن شيئا يذكر بالقياس إلى سرور ~~جهان، فكانت تسمع كلمات أبيها وقلبها يرقص فرحا فأجابه ضرغام: «إني أشكر لسيدي المرزبان ~~التفاته إلى ضيفه، وقد تأكدت فضله علي من قبل وأنا غرس نعمته.» # فخجل المرزبان من ذلك الإطراء وسأله: «أقادم أنت توا من العراق؟» # قال: «نعم يا سيدي، وقد وصلت إلى فرغانة مساء أمس.» # قال: «وكيف فارقت القوم هناك؟» # قال: «فارقتهم في شغل شاغل بالمشكلات، وكل واحد يخاف صاحبه ويحذره، ويستعين عليه بجند من ~~غير جنسه. وإنما السبق اليوم للجند التركي.» # فقال: «علمت أن الخليفة الجديد المعتصم بالله استعان في تأييد خلافته بأخواله الأتراك ~~فأعانوه، وفي جملتهم الأفشين ملك أشروسنة وأنت.» # فسرت أن قرن المرزبان اسمه باسم الأفشين فقال: «إن الأفشين عون كبير للخلافة وأما أنا فلا ~~أستحق الذكر.» # فقطع المرزبان كلامه قائلا: «إن مستقبلا مجيدا ينتظرك لما أعلمه من بسالتك وعلو همتك. ~~إنك لنعم القائد البطل ولا شك أنك تقدمت في جند الخليفة.» # قال: «نعم أصبحت بفضل مولاي رئيسا للحرس.» # قال: «رئيس حرس الخليفة؟!» # قال: «نعم يا سيدي.» # فبان السرور على وجه المرزبان والتفت إلى جهان كأنه يشركها في إعجابه بذلك التقدم ~~السريع، فرأى جهان شاخصة إلى ضرغام تسمع حديثه وتكاد تلتقفه ببصرها. ولو أدنى المرزبان ~~أذنيه من صدرها لسمع خفقان قلبها. فالتفتت إليه وابتسمت ثم سكتت وعيناها تتكلمان كلاما لم ~~يفهمه وإن فهمه ضرغام. # وعاد المرزبان إلى الكلام عن الجند فقال: «إذن في العراق الآن جند كبير من ~~الأتراك.» # قال: «إنهم يزيدون على عشرين ألفا، وفي جملتهم أبناء ملوك فرغانة الأخاشيد ~~وغيرهم.» # فقال: «أظنه رغب في تجنيدهم لأن أمه منهم.» # قال: «لا يخلو ms032 أن يكون ذلك بعض السبب، ولكن السبب الأكبر أن دولة المسلمين هذه عربية ~~الأصل كما تعلم، ولما نهض المسلمون للفتح كان الجند كلهم عربا ففتحوا الأمصار وأسسوا ~~الدولة وظل معظم الجنود عربا في أيام بني أمية. ثم قام الفرس بنصرة العباسيين وشاركوهم ~~في تأسيس دولتهم، فاشتد ساعد الفرس وضعف أمر العرب. وما زال الفرس يتوقون إلى أيام ~~المأمون الخليفة السابق، فأصبحوا أهل الدولة وفي أيديهم الحل والعقد. ولا يخفى عليك أنهم ~~ما زالوا من أول الإسلام يعملون على رد السلطة إلى الأكاسرة.» # فتنهد المرزبان تنهدا عميقا أدرك منه ضرغام أنه يتحسر على ضياع دولة الفرس، فتجاهل ومضى ~~في حديثه فقال: «فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم، خاف الفرس ولا سيما أنهم قتلوا أخاه الأمين ~~وسلموا الدولة إلى أخيه وابن أختهم المأمون تمهيدا لردها إلى الفرس بعد موته؛ فلم ير ~~المعتصم خيرا من أن يستعين بقوم أشداء لم تذلهم الحضارة فعمد إلى تجنيد الأتراك.» # فقال: «وهل يقيم هؤلاء ببغداد؟» # قال: «كانوا يقيمون بها إلى عهد غير بعيد، ولكن البغداديين ضاقوا بهم لأنهم كانوا يؤذون ~~العوام في الشوارع، وربما قتلوا بعضهم في الأسواق، فابتنى لهم المعتصم مدينة سماها «سر من ~~رأى» أو «سامرا» واختط فيها الخطط واقتطع فيها القطائع. وأفرد أهل كل صنعة بسوق وكذلك ~~التجار. ثم شيدت بها القصور وكثرت العمارات واستنبطت المياه وتسامع الناس أن دار الملك قد ~~انتقلت إلى هناك؛ فقصدوها وجهزوا إليها من أنواع الأمتعة وسائر ما ينتفع به الناس؛ فاتسع ~~عمرانها.» # فأعجب المرزبان بهذا التدبير فقال: «إذن هي مدينة كبيرة؟ وهل بقي الأتراك على دينهم أم ~~غيروه؟» # قال: «لا يخفى على مولاي أن معظمهم يدين بالزرادشتية ولكنهم أصبحوا اليوم مسلمين. ومن ~~أغرب الوسائل التي تذرع بها الخليفة لإبقاء الجند قويا كما هو الآن أنه أبعده عن أهل ~~البلاد ومنع رجاله أن يتزوجوا منهم. ورأى أن يزوجهم ببنات تركيات ابتاعهن من تركستان. وقد ~~أرسل وفدا لابتياع هؤلاء الجواري فاغتنمت أنا الفرصة واستأذنت في مرافقة هذا الوفد فأتيت ~~إلى فرغانة ms033 لهذا السبب.» # فقال المرزبان: «لقد سرني قدومك يا ولداه وفرحت برؤيتك، وكأن أورمزد قد هيأ ذلك حتى ~~أراك قبل ...» قال ذلك وتغيرت سحنته وبان الانقباض في وجهه لكنه تشاغل بالسعال ومسح شاربيه ~~وعينيه حتى لا يظهر بكاءه. فاختلست جهان أثناء ذلك نظرة إلى ضرغام بادلها مثلها. وقد فرحت ~~بتودد أبيها إليه ولكنها تأثرت من يأس أبيها. وهي أرغب في بقائه بعد ما عاينته من رضاه على ~~حبيبها، ووثقت بأنه لا يمانع في زواجها منه، وعزمت على ذكر ذلك له في أول فرصة. # أما المرزبان فأراد أن يشغل ضرغاما عما بدا منه فقال: «وكيف حال أمك المسكينة؟» # قال: «هي في خير والحمد لله، ولا تفتر لحظة عن ذكر مولاي وأفضاله علينا، وتذكر مولاتنا ~~جهان؛ لأنها شديدة التعلق بها.» # فرأت جهان سبيلا لمخاطبته فقالت: «مسكينة آفتاب! إني أحبها محبة الابنة لوالدتها، ولم ~~ألق امرأة أطيب قلبا منها، وقد كنت كثيرة الاستئناس بها.» # وهب المرزبان بغتة كأن شيئا نبهه فقال: «أين سامان؟ هل أتى الموبذ؟ ادعوه لي حالا. إن ~~سامان لا يعول عليه.» قال ذلك وهز رأسه هزة كلها معان. # فنهض ضرغام وقال: «أنا ذاهب لاستدعائه فإني أعرفه وأعرف مكانه.» # فقال المرزبان: «لا تكلف نفسك الذهاب وفي قصرنا عشرات من الخدم والخصيان ... ولو لم يتصد ~~سامان للذهاب بنفسه لكان لنا غنى عنه بواحد منهم.» # فقال: «قد أحسن سامان بتطوعه لتنفيذ أمر أبيه بنفسه. وإذا أذن مولاي أن أتولى أنا ذلك ~~فعلت.» # فقطع المرزبان حديثه قائلا: «كلا لا تذهب أنت.» # فقال: «أتأذن لي في أن أبعث إليه بخادمي بل رفيقي وردان. فإني لم أكل إليه أمرا إلا ~~أنفذه ولو ركب إليه رءوس الأسنة.» قال ذلك وخرج فنادى: «وردان». فأتاه رجل في نحو الأربعين ~~من العمر خفيف العضل خفيف اللحية، يظهر من بروز أنفه وبقية ملامحه أنه أرمني. وكان قد دخل ~~في خدمة ضرغام بسامرا منذ عهد قريب وسرعان ما اكتسب ثقته بما أبداه من علو همته ونشاطه، ~~فكان ضرغام يعامله معاملة الرفيق فلما وقف ms034 بين يديه وعليه عمامة مستديرة وسراويل قصيرة ~~وفروة من جلد الغنم قال له ضرغام: «هل عرفت بيت النار الذي مررنا به مساء أمس وعليه الأنوار ~~والرايات؟» قال: «نعم.» # قال: «اذهب إلى هناك واسأل عن الموبذ، وقل له: «إن المرزبان يريدك في هذه الساعة.» وارجع ~~به معك.» فأشار مطيعا وخرج. # أما جهان فأصبحت متشوقة لتحادث ضرغاما وتشاكيه الغرام، وكانت تشعر بأن رأسها مملوء ~~بالأخبار التي يلذ لها كشفها له، على عادة المحب إذا فارق حبيبه فإنه لا يمل الكلام مهما ~~يكن موضوعه أو مرماه، فلا عجب إذا اشتاقت جهان لمجالسة ضرغام بعد ذلك الفراق الطويل. # وكان هو في مثل شوقها ولهفتها. ولكنه كان في حيرة لا يدري كيف يتسنى لهما ذلك. فإذا ~~بالمرزبان ينادي جهان قائلا: «مري «المهتر» - قيم الدار - أن ينزل حبيبنا ضرغام في ~~القصر، ويعد له ما يحتاج إليه، ومتى فرغ من ذلك يجيء إلي فإني أريد أن أختلي به حينا حتى ~~يأتي الموبذ.» # فخرجت لتنفيذ ما أمر به أبوها. وسبقها ضرغام إلى قاعة خاصة تعود أن يراها جالسة ~~فيها. ~~••• # حينما خرج وردان من قصر المرزبان رأى الناس يتزاحمون ببابه بأفراسهم وهداياهم وعليهم ~~أثواب العيد وهم ينتظرون الإذن في الدخول، فلما رأوه خارجا جعلوا يتساءلون عن سبب عجلته ~~وسأله بعضهم عن حال المرزبان فلم يجبهم وظل سائرا حتى جاوز القصر، فمضى في الطريق وقد ~~تزاحمت فيها الأقدام وتصادمت المناكب والناس في شغل شاغل من أمر العيد، وهم يحملون الفاكهة ~~والحلوى، ويتبادلون التهنئة. فلم يكترث لشيء من هذا، ومشى حتى أطل على بيت النار. ~~والأعلام تخفق على سوره وحوله مقاصير تعد بالعشرات، يقيم بها السدنة والخدم والقوام، ~~وقد تزاحم الناس ببابه الذي زين بالريحان. فتظاهر وردان بأنه واحد من عباد النار وقد ~~جاء لأداء فريضة الزيارة. ودخل إلى صحن المعبد فرآه مفروشا بالديباج والحرير، تحيط به ~~أروقة مستديرة قد علقت فيها الستائر المطرزة وبعضها مرصعة بالحجارة الكريمة. # واتصل من الصحن بباحة المعبد حيث يقيمون الصلاة، فإذا هي بقعة مربعة يقوم ms035 وسطها بناء ~~معقود في وسطه فجوة بمثابة الباب يصعد إليها بخمس درجات. وحول الباحة أحواض ملتصقة ~~بالجدران أوقدوا فيها النيران وأحرقوا البخور فتصاعد دخانها في الفضاء، وعلى زوايا القبة ~~أجران تصاعد دخانها كما تصاعد من مئات أمثالها فوق السور. وفي بعض جوانب الباحة إلى اليسار ~~وعاء مستدير مملوء بالنفط يتصاعد اللهب من فوهة فيه، وقد اصطف الناس حوله بين جلوس ووقوف ~~وهم يتعبدون أو يصلون. # ورأى رجلا واقفا على الدرج ظنه الموبذ، فهم بالذهاب إليه فاعترضه رجل على رأسه ~~قلنسوة مستطيلة هرمية الشكل عرف من منظره أنه أحد السدنة، فقال له وردان: «أريد مولانا ~~الموبذ. أليس هذا هو؟» وأشار إلى الرجل الواقف على الدرج. # فقال السادن: «كلا، إن الموبذ مشغول الآن.» # قال: «وأين هو؟» # قال: «ما لك وله؟! إذا شئت الصلاة أو البركة فهذه هي النار في الأجران.» # قال: «بل أنا أريد الموبذ.» # فحول الرجل وجهه عنه وقال: «إنك لن تظفر برؤيته إلا بعد الصلاة.» # فاستمهله قائلا: «لا تغضب يا سيدي فإني غريب وقد أتيت من خوكند بالأمس وعهدي بكم تكرمون ~~الغرباء.» # فخجل السادن ووقف له وقال: «ألم تأت للصلاة أو الاقتباس؟ أمامك النار المقدسة فاقبس منها ~~ما شئت.» قال: «بل أنا أريد الموبذ.» # فتقدم السادن وأدنى فاه من أذنه وهمس قائلا: «إن الموبذ في خلوة مع بعض الكبراء في هذه ~~الحجرة التي إلى اليمين، فانتظر خروجه أو افعل ما شئت.» # فمد وردان يده إلى جيبه وأخرج دنانير دفعها إليه وهو يبتسم وقال: «ألا تأذن لي أن أدنو ~~من الحجرة أصلي بجانبها استئناسا بمولانا الموبذ.» # فتناول السادن الدنانير وقال: «افعل ولكن احذر أن يشعر بك أحد.» # فقال: «طبعا.» وهرول إلى الحجرة معتزما أن يحتال للدخول على الموبذ ويبلغه أمر ~~المرزبان. فلما دنا من الباب رأى الموبذ ومعه رجلان بلباس فاخر. عرف أن أحدهما «الأفشين» ثم ~~ما كاد يعرف الآخر حتى اضطرب دهشة إذ عرف فيه رجلا في نفسه منه أمر عظيم، وهو أصبهنذ ~~(نائب) بابك الخرمي. # وأخذ يسائل نفسه عما ms036 جاء به من أردبيل في أرمينيا، وبينها وبين فرغانة سفر طويل؟ فلما لم ~~يجد جوابا شافيا وقف في مكانه متظاهرا بالصلاة والدعاء، وأخذ يفكر في سبب هذه الخلوة في ~~بيت نار المجوس بين «الأفشين» قائد جند المسلمين، ونائب بابك الخرمي المجوسي ألد أعداء ~~المسلمين! # وبعد هنيهة تحول إلى فرجة تؤدي إلى ممر وراء الحجرة به نافذة تشرف على ما في داخلها ~~بحيث يرى الجلوس فيها وهم لا يرونه. فتربص وأخذ يتفرس فيهم فرآهم جالسين على بساط من ~~الديباج؛ الموبذ بقلنسوته وقبائه الأرجواني، والأفشين بعمامته حول القلنسوة. والأصبهبذ ~~بالقلنسوة بلا عمامة. وكان عهده بالأفشين يلبس الجبة السوداء شعار العباسيين، وطالما رآه ~~يصلي بمسجد سامرا. فعجب لارتدائه القباء الأرجواني الذي يلبسه كبار المجوس في العيد. ~~ولوجوده مع المصلين في بيت النار. على أنه لم يستغرب مجوسية الأصبهبذ؛ لعلمه بأنه لم يعتنق ~~الإسلام. # وأصاخ بسمعه إلى ما يقولون فسمع الموبذ يقول: «سنفوز بعون أورمزد، ولكن علينا أن ~~نصبر.» # قال الأصبهبذ: «إننا صابرون، ولن يطول اصطبارنا بشرط.» وسكت فجأة. فقال الأفشين: «لا بأس ~~من الصبر وإن طال، ولكن ما كان ينبغي لصاحبك أن يغير رأيه في.» # فقال الأصبهبذ: «إنه لم يغير رأيه فيك، ولكنه رآك أصلت التقرب من أولئك اليهود الذين ~~يسمون أنفسهم مسلمين أو عربا. وقد أرسلني للاجتماع بك في هذا العيد لأذكرك بعهدك بين يدي ~~الموبذ.» # فضحك الأفشين وقال: «ربما ظن صاحبك أنني غافل عما تعاهدنا عليه هنا منذ بضع سنين ومعنا ~~المازيار صاحب طبرستان. ولكن هذا هو الموبذ يشهد بأني أقمت بعهدي.» # فأشار الموبذ برأسه أن «نعم». واستطرد الأفشين قائلا: «إن هذه النار تشهد على عهدنا، فقل ~~لأخي بابك بأنني لا أدخر وسيلة في جمع المال وإرساله، ولا أخطو خطوة في حرب أو سلم لدى ~~المعتصم إلا اقتضيت عليها مالا أرسله إلى خزينتنا بأشروسنة. وأما المازيار فإنه كذلك مقيم ~~على العهد، ولم يحضر معنا هذا العام لأسباب خاصة. وقد كتب إلي يحثني على الثبات، ويعد بأن ~~يكون هو وطبرستان كلها معنا ms037 متى تحركنا. ولا شك أنه أشد غيرة منا على التخلص من هذه الدولة ~~وإرجاع دولة الفرس.» # فقال الأصبهبذ: «ذلك عهد مولاي بك، ولكنه رآك أطلت الرضوخ لحكم اليهود كأنك أصبحت واحدا ~~منهم حتى تصديت لحربنا غير مرة.» # فقهقه الأفشين وهز رأسه قائلا: «ألمثلي يقال هذا؟ وهل يخفى قصدي على أخي بابك؟ ألا ~~يعلم أني إذا خرجت لحربه فإنما أفعل ذلك إخفاء لغرضي! إنني لن أدع فرصة تسنح دون أن أنتهزها ~~لنقوم جميعا قومة رجل واحد فننال أمنية قصر عن نيلها أبو مسلم الخراساني وجعفر البرمكي ~~والفضل بن سهل! إن هؤلاء أفسدوا أمرهم بالعجلة، أما نحن فسنفوز بالتؤدة.» # فالتفت الموبذ إلى الأصبهبذ وقال: «صدق الملك. فإنه رجل حنكه الدهر، فأبلغ ولدنا بابك أن ~~ينتظر. وليثق بأن أورمزد في عوننا. فقد رأيت فيما يرى النائم أن الفوز قد دنا أجله.» # وكان وردان يسمع الحديث وقد أخذته الدهشة، وكيف لا وقد تبين أن قائد جند الخليفة مجوسي ~~يمالئ أعداء المسلمين على الإيقاع بالدولة عند سنوح الفرصة. على أنه اغتبط بأنه حصل على ~~سلاح ماض يستعمله عند الحاجة. ثم رأى الموبذ يتحفز للنهوض، فنهض الأفشين ورفيقه وتلثما ~~تخفيا. فغادر مكمنه، ثم وقف في صحن الهيكل ليلتقي بالموبذ عند خروجه. # وكان الناس في شغل شاغل بعبادتهم، فأومأ إليهم السادن أن الموبذ خارج، فتهيئوا للتبرك ~~بطلعته، ووقف وردان بينهم يقلد حركاتهم، ثم ظهر الموبذ يخطر بثوب يبهر البصر بألوانه ~~وتطريزه، وفي عنقه عقد من الجوهر، وفي شماله صولجان قبضته مذهبة، وفي يمينه عصا يضرب بها ~~الأرض مختالا، والناس يطأطئون رءوسهم إجلالا وتعظيما له. # فلما اقترب من وردان، سارع هذا إليه وأكب على يده يقبلها وقال: «إن مولانا المرزبان ~~يدعوك إليه الساعة لأمر ذي بال.» # فقال: «هل اشتد المرض عليه؟» # قال: «لا أدري، ولكنه ألح علي أن أرجو منك أن تزوره الآن، وأمرني ألا أعود إلا بك.» ~~قال: «انتظرني خارجا لأذهب معك.» # فخرج وردان محاذرا أن يراه الأفشين لئلا يدرك أنه اطلع على شيء من سره. ولما ms038 صار بالباب ~~رأى مركبة شد إليها فرسان عليهما العدة المذهبة فعلم أنها معدة للأفشين. ثم خرج الموبذ ~~فركبها والأفشين إلى جانبه وهو ملثم، وأشار إلى وردان فركب أحد الفرسين، ومضوا إلى قصر ~~المرزبان. # الفصل السابع # | اجتماع المحبين # تركنا ضرغاما في انتظار جهان بغرفتها وأهل القصر لا يرون بأسا من اجتماعهما، لما ~~يعلمونه من منزلة ضرغام عند مولاهم، ولأن جهان لا تحتجب عن الرجال، جلس ضرغام على كرسي في ~~بعض جوانب الغرفة ينتظر حبيبته وهو على مثل الجمر وقد أهمه ما شاهده من مرض أبيها وتشاءم من ~~ذلك، ولكن شوقه لجهان وشدة رغبته في مقابلتها أنسياه كل شاغل. # ثم سمع صوتها بجانب باب الغرفة تكلم «المهتر» وتوصيه بما أمر به أبوها، فخفق قلبه، ثم ~~دخلت فلما أقبلت عليه خف للقائها وكلاهما يبتسم وقلبه يضحك، وقد نسيا الدنيا ومصائبها ~~كأنهما انتقلا من عالم الشقاء إلى عالم السعادة والهناء. # وإذا عجز الفلاسفة تمثيل الفردوس، فإن أقرب مثل لحال المقيمين به، وحال حبيبين تصافيا ~~وصفا لهما الزمان وخلا الجو، فاجتمعا وطفقا يتشاكيان لا يزعجهما رقيب، ولا يخامر قلبيهما ~~شك أو غيرة. تلك هي الجنة لولا ما ينتابها من القصر، أو يعرض لأصحابها من طوارق ~~الحدثان. # فلما رأت جهان حبيبها واقفا لاستقبالها هشت له ومدت يدها لمصافحته، فمد يده وقبض ~~على كفها وقلبه يضحك وعيناه تبرقان. وإذا كان، وهو الشجاع الباسل الذي لا يهاب مواقف ~~القتال، قد ارتعد واضطرب. فكيف يكون شأنها وهي مهما تبلغ من رباطة الجأش والتعقل لا تخرج عن ~~طبيعة المرأة الحساسة! # وبدأ ضرغام الكلام فقال: «لقد أطلت الغيبة عليك يا سيدتي.» # فنزعت يدها من يده ونظرت في عينيه نظرة المحب العاتب وقالت: «لا تقل سيدتي بل ...» وتشاغلت ~~عن إتمام الكلام بالقعود وهي تدعوه إليه، فقعد كل منهما على كرسي، وأدرك هو مرادها فقال: ~~«كيف لا أدعوك سيدتي وأنت جهان عروس فرغانة وبنت المرزبان، وأنا ضرغام اليتيم ابن آفتاب ~~الأرملة المسكينة؟!» # فقطعت كلامه قائلة: «بل أنت سيدي ومولاي. ليس لأنك رئيس حرس ms039 الملك أو قائد جند الخليفة، ~~ولكن لأنك شهم نبيل باسل. بل إن هذا أيضا لا يزيدك رفعة في عيني. إني أشعر بشيء آخر يعجزني ~~التعبير عنه؛ أشعر بسلطة لك علي، إذا لم تسعفني بالتعبير عنها كنت حزينة بائسة!» قالت ذلك ~~وتوردت وجنتاها وغلب الحياء عليها، فعلم أنها تعني الحب وأن الحياء يمنعها من التصريح فقال: ~~«إن العامل الذي تحسبين ضرغاما المسكين أصبح به سيدا قد جعل الأميرة جهان معبودة فأنا ~~عبدها الخاضع المطيع.» # فقالت: «قلت لك إني عاجزة عن أداء ما في خاطري أو بيان أسبابه، وإنما أعلم أن منزلتك عندي ~~لا تعلوها منزلة أحد على وجه هذه البسيطة. ويهمني الآن ألا نضيع الوقت سدى؛ إذ أخشى أن يأتي ~~الموبذ فيدعوني أبي إليه.» # ولما ذكرت أباها تذكرت حاله فتنهدت ثم استدركت فقالت: «إن وقتنا ثمين يا حبيبي. نعم يا ~~حبيبي! سامحني إذا دعوتك بهذا اللقب قبل أن تدعوني أنت به. آه من سلطان الحب!» # فقال وقد هاجت أشجانه: «لا يحق لأحد أن يبدأ بهذا التصريح سواك، وقد فعلت حتى يكون لك فضل ~~المتقدم. وهل أجسر أنا أن أدعوك به قبل أن أسمعه من فيك؟ فأحمد الله على ذلك. وحق لي الآن ~~أن أسميك حبيبتي ... آه ما أشهى هذا اللفظ في فمي، وما أخفه على قلبي! لطالما كررته في ~~خلواتي، وكم تمنيت أن أسمعه من فيك. وقد سمعته. فهل في العالم رجل أسعد مني؟!» # فأطرقت وهو لا يحول نظره عنها وكأنه يهم بأن يضمها بجفنيه تهيبا من أن يضمها بذراعيه، ~~فلما رآها مطرقة وقد بدا الاهتمام في محياها اختلج قلبه في صدره وتوهم أنها ستخطف من بين ~~يديه فقال: «ما بالك مطرقة يا حبيبتي؟» # فرفعت بصرها إليه وابتسمت وقد فهمت ما خالج خاطره وقالت: «لا تذهب بك المخاوف بعيدا. إني ~~لم أسمك بهذا الاسم وأنا أخاف أحدا أو أخشى بأسا، ولا سيما بعد أن آنست من أبي ما آنسته ~~من الارتياح إليك والتعلق بك، ولولا مرضه. آه لولا مرضه ...!» وسكتت. # فقال ms040: «أرجو أن يشفى قريبا.» وسكت وعيناه تتفرسان في عينيها، وكل منهما يقرأ فكر ~~صاحبه، ولعلها قرأت أكثر مما قرأ هو فقالت: «ضرغام، لا ينبغي أن يغلب الضعف على جهان حتى ~~تخفي إحساسها عن حبيبها وتحمله على الشك في شيء من أمرها. لقد تعاشرنا أعواما وعرف كل ~~منا صاحبه حتى امتزجت روحانا فما في الأرض قوة تستطيع التفريق بيننا، وأراني غير قادرة على ~~الاستقلال بفكري أو حياتي عنك. فأنا أشعر بأنك مني وأنا منك. فإذا فكرت في شيء رأيت فكري ~~يمر على تذكارات أنت قوامها، وإذا تخيلت أمرا كان خيالك نصب عيني يحول بيني وبينه، ولا ~~ترتسم في عقلي صورة إلا وفيها شيء من صورتك. فهل بعد ذلك يستطيع البشر أن يفصلوا بيننا؟ ~~وإذا استطاعوا التفريق بين هذين الثوبين الباليين فإنهم أعجز من أن يفصلوا بين روحينا ~~وفكرينا. ولكننا مقبلون على أمر عظيم. فإذا تجاوزناه ...» وسكتت وحولت وجهها عنه خشية أن ~~يبدو له ما يتردد في مآقيها. # أما هو فأسكره تعبيرها ومرآها، على أنه لم يفهم مرادها فقال: «وما الذي يخيفك؟ لا أعهدك ~~تخافين، ولك من تعقلك وثبات جأشك حصن حصين. وهذه روحي بين يديك فارمي بها من ~~تشائين.» # قالت: «سلمت روحك يا ضرغام. إني لا أخاف شيئا؛ إذ ليس في الأرض قوة تستطيع أن تبعدني ~~عنك. وكنت أحاذر أن أجد من أبي تغيرا أو فتورا، فذهب حذري اليوم. ولكنه مريض، فعساه أن ~~يشفى قريبا.» # قال: «يشفى بإذن الله. وهل تخافين شيئا آخر؟» # قالت: «أتوقع أمورا كثيرة تخيف غيري، ولكنني لا أخافها لأني أعدها أعراضا وأنت الجوهر، ~~فإذا كنت لي فقد ملكت الدنيا وما فيها - اعذرني على هذا التصريح وخاطبني بمثله فإني لا أحب ~~التكتم والتردد!» # فقال بلهفة وعزم ثابت: «تريدين أن أصرح بأني أحبك، أو بأني أترك الدنيا لأجلك؟ إن هذا لا ~~حاجة لي إلى ذكره، والظمآن لا يطلب منه الاعتراف بحاجته إلى الماء، والتعس لا يسأل هل ~~يتمنى السعادة. وأنا بغيرك ظمآن بلا ماء، وجسم بلا روح، وأنت سعادتي ms041 وحياتي وأنت كل ~~شيء!» # فأبرقت عيناها وسري عنها وقالت: «هذا كل ما أبغيه. إني أسمع صوت سامان في الدار، وربما ~~دخل علينا فيقطع حديثنا، فنحن على العهد وعند إبلال أبي سأفاتحه في هذا الشأن ثم أخبرك بما ~~يكون.» قالت ذلك وتحفزت للوقوف، فإذا بخيزران قد دخلت وفي وجهها انقباض ولهفة، فنهضت جهان ~~لملاقاتها فابتدرتها خيزران قائلة: «إن سامان داخل على مولاي المرزبان.» # قالت: «وهل أتى الموبذ معه؟» قالت: «كلا». # فهزت رأسها وحرقت أسنانها ثم قالت لها وهي تشير إلى ضرغام: «هل رأيت ضرغاما؟» # قالت وقد علاها الخجل: «لم أره يا سيدتي. اعذريني لدخولي بهذه اللهفة فقد شغلت بأمر ~~سامان لعلمي أن أباك يستاء من دخوله عليه وقد أوصى بألا يدخل عليه أحد.» وتحولت إلى ضرغام ~~فحيته باحترام وهمت بتقبيل يده. # فرد التحية وابتسم لها، وكان يستأنس بها لعلمه بحبها لجهان، وقال: «ما لي أراكم تخافون ~~دخول سامان على أبيه؟!» # قالت جهان: «لأن أبي تكدر منه أمس لإهماله المجيء بالموبذ إليه.» # قالت ذلك وخرجت وهي تقول: «سأذهب إلى أبي ثم أعود.» # لبث ضرغام في مكانه وسارت جهان حتى أتت غرفة أبيها، فرأت سامان واقفا بالباب والحاجب ~~يحول بينه وبين الدخول وهو يجادله مغضبا، فقالت: «ما بالك يا أخي؟» # قال: «إن هذا الرجل يمنعني من الدخول على أبي.» # قالت: «لا تغضب فإن أبانا في فراشه، وقد صرفني وأدخل المهتر ليكلمه في بعض الشئون. هل ~~رأيت الموبذ؟» # قال: «لا. لم أجده.» # قالت: «ألا تعلم أن رجوعك وحدك يغضب أبانا؟» # وبينما هما في ذلك سمعا المرزبان ينادي من الداخل: «لا تدخلوا علي سامان، ادخلي ~~يا جهان.» # فالتفتت إلى أخيها وقالت له هامسة: «اذهب يا أخي إلى الإيوان، ولا تكدر أبانا، وسأعود ~~إليك حالا.» فأطاع وانصرف. ودخلت هي فوجدت القيم جاثيا بين يدي أبيها وأمامه أوراق ~~ودفاتر وقلم ودواة، ورأت أباها جالسا في السرير وقد تغير وجهه وبدا الجد في عينيه، فلما ~~دخلت رفع بصره إليها وابتسم، فبشت له ودنت منه فقبلت يده وقالت: «وكيف ms042 أنت الآن يا أبتاه؟ ~~عسى أن تكون بخير!» # فضمها إليه وقبلها وأطال معانقتها، وأحست بدمعة حارة سقطت على عنقها فارتجفت ونظرت في ~~وجهه فرأت الدمع في عينيه، فأثر منظره فيها، وكأنه خاف أن تنزعج فقال وهو يتكلف الابتسام: ~~«إنني في خير. لا تخافي. سأعمل كل شيء في سبيل راحتك، اجلسي.» وأشار إلى القيم فخرج وأغلق ~~الباب، فأعادت نظرها إلى ما بين يدي أبيها من الأوراق والدفاتر ولم تستحسن أن تسأله ~~عنها. # أما هو فتثاءب وأشار إليها أن تساعده على التوسد فأعانته، فاستلقى واتكأ على الوسادة ~~وقال: «علمت أن أخاك سامان عاد هذه المرة أيضا وحده، فإنه لا يرى في مجيء الموبذ نفعا ~~له.» # فقالت: «لقد أرسل ضرغام خادمه ليأتي بالموبذ، ولا يلبث أن يجيء، فاطمئن.» # وقد ذكرت ضرغاما عمدا لترى ما يبدو من أبيها، فقال: «إن ضرغاما جل كريم النفس، وقد ~~سررت بلقائه وهو جدير لأن يكون أخا لك لا سامان الشرير.» # فسرها ثناؤه على حبيبها، وهمت بأن تفاتحه في شأنه وإذا بالحاجب دخل يقول: «الموبذ ~~بالباب ومعه الأفشين.» # فلما سمع اسم الأفشين أشرق وجهه وبغت وقال: «والأفشين أيضا؟!» # قال: «نعم يا سيدي.» # أما جهان فلما سمعت اسم الأفشين انقلب سرورها كآبة، ووقفت كأنها تحاول الفرار من رؤية ذلك ~~الرجل، ولكنها تجلدت ولبثت تنتظر أمر أبيها فقال لها: «لا بأس من بقائك هنا إذا شئت، ولك ~~الخيار.» # قالت: «أتأذن لي في الخروج؟» # قال: «اخرجي واطمئني.» فخرجت من باب سري في ناحية من الغرفة، والتفت المرزبان إلى الحاجب ~~وقال: «يدخل الموبذ والأفشين.» # فدخل الموبذ والأفشين وراءه، وتوجه الموبذ أولا إلى الصنم فوقف أمامه وانحنى متمتما، ~~وفعل الأفشين فعله. # فأشار المرزبان إليهما فجلسا، ثم رحب بهما ووجه كلامه إلى الأفشين قائلا: «لقد أبطأت ~~علي حتى اشتد شوقي إليك.» # فقال وهو يحك ذقنه وقد شاب معظمها لأنه كان في نحو سن المرزبان: «كان قد طرأ علي ما ~~عاقني فلم أصل إلى فرغانة إلا اليوم. كيف أنت؟» # قال: «كما تراني. وقد جئت في إبان ms043 الحاجة إليك.» ثم التفت إلى الموبذ وقال: «أرسلت في ~~طلبك غير مرة فلم تأت.» # قال: «لم يأتني أحد قبل الآن.» # قال: «أرسلت إليك بني سامان أمس واليوم فلم يجدك في كارشان شاه.» # فاستغرب الموبذ كلامه وقال: «إني لم أفارق المعبد منذ ثلاثة أيام لمناسبة العيد وتقاطر ~~الناس إلى فرغانة للتبرك وإيفاء النذور. وكيف تدعوني ولا أجيب؟! وكيف يسأل عني في المعبد ~~ولا أعلم. لا شك أن ولدنا سامان لم يسأل عني أو لعله سأل غير العارفين.» # فحرق المرزبان أسنانه غيظا وقال: «بل هو لم يسأل عنك. ولا أدري غرضه من ذلك أو لعلي أدري ~~ولا أقول، ولقد آن وقت الجزاء وهذا أخي الأفشين شاهد.» ثم صفق فدخل الحاجب فقال له: «لا ~~تأذن لأحد علينا وأغلق الباب.» # كانت جهان قد غادرت الغرفة منفعلة مضطربة لمفاجأتها بقدوم الأفشين، ولما لاحظته من اهتمام ~~أبيها بإعداد الورق والدواة والقلم. فسارت توا إلى ضرغام فرأته واقفا بالإيوان وحده، ~~فأنستها رؤيته هواجسها، وسري عنها. أما هو فتقدم نحوها وسألها عن أبيها، فقالت: «إنه أحسن ~~حالا من الصباح وقد ذكر أنه كان يتمنى أن تكون لي في مكان أخي سامان. فليته علم أنك خير ~~منه مكانا.» قالت ذلك ونظرت إليه نظرة أغنته عن شرح كثير. # فقال لها وعيناه تضحكان: «أشكرك على حسن ظنك يا جهان. وكيف تركت أباك الآن؟» # فتنهدت وقالت: «ألم تعلم بمجيء الأفشين والموبذ؟» # قال: «هل جاء الأفشين أيضا. إني لم أر وردان بعد.» # قالت: «أتيا معا ... هذا الذي كنت أتخوفه! ولكن لا بأس ما دام أبي أحسن حالا.» # قال: «وأين هما؟» قالت: «هما عنده في خلوة وقد خيرني بين البقاء معهم وبين الخروج ففضلت ~~الخروج للتخلص من رؤيتهما ولكي أشاهد حبيبي ضرغاما.» # قال: «لعل خلوتهم ستطول. فهل تأذنين لي بالانصراف برهة ثم أعود؟» # قالت: «إلى أين تتركني؟» # قال: «إذا شئت بقيت، ولكنني لن أطيل الغياب.» # قالت: «اذهب في حراسة أورمزد ولا تبطئ.» # فلما سمعها تذكر أورمزد قال: «لقد أذكرتني شيئا لا بأس من سؤالك ms044 عنه فهل أقول؟» # فحدقت في عينيه فقرأت فكره وقالت: «أظنك ستسألني عن أورمزد وأنت تدين لغيره أليس ~~كذلك؟» # فدهش لفراستها وقال: «نعم هذا سؤالي.» # قالت: «إني أدين بما تدين به لأني لا أحب فراقك في الدنيا ولا في الآخرة.» # ففرح لتعلقها به وقال: «ولي سؤال آخر!» قالت: «قل ما بدا لك.» # قال: «أنت تعلمين غرام والدتي بالإقامة بالعراق لسر لا أعلمه.» # فقطعت كلامه وقالت: «إني أكون حيث تشاء أنت، فإن الدنيا كلها حيث تقيم، ولا يهمني شيء مما ~~لنا في فرغانة أو غيرها.» # فقال: «قد نلت الآن ما أتمناه وقبضت على السعادة بيدي. فهل تأذنين في ذهابي لأرى رجال ~~الوفد الذين صحبتهم فأتخلص منهم ثم آتي الليلة؟» # قالت: «اذهب في حراسة الله.» فودعها وخرج بعد أن أرسل من يستقدم وردان. # الفصل الثامن # | موت المرزبان ووصيته # خيل إلى جهان أن قلبها يتحفز للذهاب في أثر ضرغام، فتماسكت واسترجعت رشدها وفكرت فيما هي ~~فيه من أسباب القلق والاضطراب لمرض أبيها فإنه إذا مات تصبح يتيمة ليس لها إلا أخوها، وهو ~~لا يؤمن جانبه ولا يعول عليه. وذكرت خلوة أبيها بالموبذ والأفشين فخفق قلبها خوفا من تلك ~~الخلوة وقامت في ذهنها هواجس كثيرة ومخاوف شتى؛ لما تعلمه من مطامع الموبذان ودسائسهم ~~ولا سيما بعد أن تحولت الكهانة إلى مرتزق لهم ومورد للأموال. # والعقائد إذا تقادم عهدها وتولاها أهل المطامع دب إليها الفساد وأصبحت شرا على الناس ~~من الكفر. وعلى ذلك لم تكن جهان شديدة الأخذ بأسباب دينها. وإنما كانت على الزردشتية مذهب ~~أبيها على غير تفهم أو نقد؛ لأنها ولدت فيها فشبت عليها كما شبت على سائر عاداتها ~~وأخلاقها. وهذا شأن السواد الأعظم من العامة فإنهم يدينون بما يألفونه من صغرهم، وإذا كبروا ~~وتثقفوا ودلهم العلم على مظنة للنقد فيه اغتفروها في جانب ما غرس في قلوبهم وعقولهم من ~~مبادئه، فأصبح الدين كالجنس يغضب له المرء وينصره غيرة وحمية كما ينصر عرضه ويذب عن ~~حياضه. # وكانت تنظر إلى الموبذان وأمثاله مستخفة بما يقولونه ms045 ويزعمونه ، فلم تكن تحذرهم لاعتقادهم ~~أنهم يعجزون في كل شيء عدا اكتناز الأموال. فلم يكن اختلاء الموبذ بأبيها ليهمها لو لم يكن ~~الأفشين معه وهي تكرهه بلا سبب ظاهر. وتخافه لأنه ملك ذو أعوان وجند. على أن أباها كان ~~يجله ويعول عليه. # ووقع بصرها عفوا على بساط في الغرفة رأت عليه من الرسوم المزركشة صورة أسد رابض عيناه ~~كأنهما شرارتان فتذكرت حبيبها لأن اسمه من أسماء الأسد. فلما ذكرته ذهبت مخاوفها لعلمها ~~بأنه ما دام بقربها فلا خوف عليها. # بقيت جهان مستغرقة في هواجسها، حتى سمعت وقع أقدام أدركت أنها لخيزران القهرمانة فخفق ~~قلبها توقعا لخبر تسمعه، فلما دنت منها قالت: «إن سيدي المرزبان يدعوك إليه. تجلدي يا جهان ~~وكوني كما أعهدك.» # فأوجست خيفة من تحذيرها ولم تسألها عن السبب اعتمادا على قدرتها في تحمل الصدمات، وأكبرت ~~أن تبدي جزعا فمشت مسرعة، وذكرت أنها سترى الموبذ والأفشين عند أبيها فانقبضت نفسها وظلت ~~سائرة حتى وصلت إلى باب الغرفة فوسع لها الحاجب فدخلت وعيناها إلى سرير والدها. فرأته ~~مستلقيا وعيناه شاخصتان إلى الباب وقد غشيهما الدمع وتكسرت أهدابهما من البكاء. وحالما وقع ~~بصره عليها ابتسم ابتسامة لا حياة فيها، ولولا بريق تينك العينين وما يتحلى فيهما من الحنو ~~والمحبة لظننته ميتا. فتمالكت ودنت من السرير، فلما رآها أحس بنشاط جديد فبسط ذراعيه وفتح ~~فاه ليكلمها فامتنع عليه النطق فاكتفت بحركات شفتيه وترامت على صدره، ولولا ثبات جأشها ~~لأغمي عليها؛ لأنها تحققت في تلك اللحظة أنها لا تلبث أن تصير يتيمة وحيدة. # فأمسكت بذراعي أبيها المحتضر ونظرت في وجهه نظرة الاستعطاف كأنها تتوسل إليه ألا يتركها، ~~فسبقتها العبرات وبكت وهي تمسك أنفاسها لئلا يسمع شهيقها وأطرفت لئلا تظهر دموعها. # أما هو فلم يفته ما خامر قلبها من الحزن والخوف، وأراد تعزيتها فعصاه النطق ولم يزد على ~~أن حرك شفتيه وحول نظره وأشار بيده إلى الأفشين والموبذ. فالتفتت فرأت الأفشين جالسا وفي ~~يده لفافة من الورق فلما رآها تنظر إليه بعد إشارة أبيها ms046 أراها اللفافة وابتسم لها كأنه ~~يعزيها. وكان الموبذ واقفا بجانب التمثال يصلي ويتضرع فالتفت إليها وهو يظهر الأسف ~~والحزن. ففهمت جهان خلاصة ما تم في تلك الخلوة وهو ما كانت تخشاه وتحذر الوقوع فيه. ~~وأعادت النظر إلى المريض وصاحت: «كيف أنت؟ إنك في خير.» # فأراد أن يجيبها ويطمئنها والحشرجة تمنعه من الكلام، فجلست بجانبه وأمسكت يده فوجدتها ~~تندى بعرق بارد، فكادت تصيح وتولول لأنها تحققت أنه في آخر ساعات الدنيا، وتجلدت لكنها لم ~~تستطع إمساك دموعها فأطرقت والدمع يتساقط على خديها وقد زادهما احتباس العواطف توردا وزاد ~~عينيها بريقا. وأما المريض فإن سرعة تنفسه وخرير صدره ودنو أجله لم تفقده شيئا من رشده ~~ولا أنسته ابنته الحبيبة، وجاهد كي يطلق لسانه بكلمة يقولها ولكنه غلب على أمره. فلما تحقق ~~عجزه عن الكلام أشار إليها أن تخرج لعله ينام. فوقفت ترتعد مترددة لا تدري أتطيعه فتخرج أن ~~تبقى بين يديه. # ثم رأته قد ازدادت حشرجة صدره وأخذ يدير رأسه ويلتفت كأنه يحاول النهوض ولا يقوى عليه، ~~وأخيرا حدق نظره في جهان فتطلعت في عينيه فرأت ماءهما قد جف وذهب منهما بصيص الحياة ~~وكأنه هم بأن يبسط يديه نحوها فلم ترتفعا إلا قليلا، ثم شهق وأرخى يديه وسكن صدره وهمد ~~جسده وأظلمت عيناه وتراخت أجفانه وبرز أنفه ووجنتاه، واصفر اصفرار الموت ونفش شعر لحيته ~~ورأسه حتى أصبح منظره مروعا مفزعا، فصاحت جهان: «وا أبتاه!» وحلت شعرها ولطمت وجهها ~~وسمع أهل القصر صوتها، وبلغ الخبر إلى القهرمانة فركضت وأخذت بيد جهان وراحت تخفف عنها ~~وتعزيها. # ولما قضي الأمر أخذ أهل القصر في إعداد المأتم كما هي عادة المجوس، فغسلوا الجثة ~~وألبسوها ثوبا أبيض ووضعوها على دكة في غرفة كبيرة أخلوها من الأثاث، وجلس الأخصاء حولها. ~~والموبذ يصلي ويدعو وهم يؤمنون ويستغفرون. وبعد هنيهة جاء سامان وكان غائبا عن البيت وأخذ ~~يندب أباه والناس يخففون عنه، وأما جهان فبعد أن استسلمت للجزع ساعة الوفاة رجعت إلى نفسها ~~فغلب عليها التعقل وإعمال الفكر. وكانت تفكر ms047 في ضرغام مصدر تعزيتها الوحيد فأخذت تتلفت ~~لعلها تجده قادما فتتعزى برؤيه ومخاطبته. # ثم أشار إليها الموبذ أن تتبعه إلى غرفة أخرى، ومشى فتبعته مطأطئة الرأس، وتبعها سامان ~~فلما خلا الموبذ إليهما قال: «لا ينبغي أن تبالغا في الحزن على أخينا الراحل، فإن أورمزد ~~معه لأنه كان رجلا تقيا محسنا، وسنوقد النيران على اسمه ثلاثة أيام ونجعل وقودها الند ~~والصندل. ولا يخفى عليكما أن روح أبيكما لم تفارق هذا المكان بعد ولا تفارقه إلا بعد ثلاثة ~~أيام فلا تحزناها بالبكاء والنوح. وقد أوصى بتفريق الحسنات والمبرات وهو لا ريب عندي من أهل ~~النعيم. ولذلك فإن روحه بعد أن تقضي ثلاث ليال حول الجثة تصعد إلى الأماكن المباركة فتلاقي ~~ضميره على هيئة حورية تقص عليه حسناته وتقوده إلى النور الأبدي. كما أننا سنوالي الصلاة على ~~روحه طول السنة فلا تجزعا. على أني أبلغكما وصيته عن دفنه.» # وكانت جهان تسمع مطرقة وتتلقى دموعها بمنديلها، فلما قال ذلك رفعت بصرها إليه وفي عينيها ~~ملامح الاستفهام فقال: «لقد أوصى بأن ندفنه في برج السكوت.» # فلما قال ذلك بانت الدهشة على وجه الفتاة وأخيها وقالت: «كيف ذلك؟! إنما يدفن في برج ~~السكوت عامة الناس والفقراء، ومثل أبي يدفن في حجرة خاصة.» # قال: «نعم ولكنه أوصى بدفنه هناك، وأسر إلي السبب الذي بعثه على ذلك ولا أقدر أن أبوح ~~به.» # فاكتفت بقوله وسكتت، أما سامان فلم يسكت وقال: «كيف ندفن أبانا المرزبان في برج السكوت ~~وأنت تعلم أنه مدفن العامة، توضع فيه الأجساد على أحجار تعرضها للهواء وتذهب طعاما للنسور ~~والكواسر فلا يبقى منها إلا العظام ثم تطرح هذه في البئر العميقة وسط البرج فتختلط بعظام ~~الطغام والمجرمين و...» # فاستغرب الموبذ اعتراضه ولم يعره التفاتا وإنما قال له: «هذه وصية الفقيد بحضور ~~مولانا الأفشين وقد دونها في وصيته التي ستتلى عليكم بعد بضعة أيام.» قال ذلك وتوجه إلى ~~قيم القصر فأوصاه بما ينبغي إعداده للدفن. # وقضى القوم بضعة أيام في المأتم وتوابعه من مراسم وتعاز وإحسانات ms048 وصلوات . وطال انتظار ~~جهان رجوع ضرغام، وشغلت لإبطائه وزادها هذا حزنا على حزنها، وغم عليها أن المهمة التي ذهب ~~فيها قد تستغرق أسابيع، والمحب كثير القلق سريع التخوف. ولكنها آنست من أخيها سامان تقربا ~~وتلطفا لم تعهدهما فيه قبلا، فلم يعد يفارقها لحظة، وكلما رآها تتضجر خفف عنها. ولم يكن ~~غافلا عن تعلقها بضرغام وإن لم يفاتحها في شأنه من قبل، فأخذ يكثر من ذكره وبالغ في الثناء ~~عليه، مع أنه كثيرا ما كان يحسن لها غيره ولا سيما بابك الخرمي. وكان سامان لا يعرف الحب ~~ولا يشعر بجواذب المحبين ولكنه لذكائه ودهائه لم يكن يخفى عليه أمرهم وأوجه الضعف ~~فيهم. # ورغم قوة فراسة جهان وسوء ظنها بأخيها، كانت تلتذ بحديثه، وسرها أنه يحب حبيبها ويعجب ~~بمناقبه وبسالته، فاستأنست به وأخذت تتناسى ما كانت تعهده من نقائصه أو تخافه من ~~مطامعه. # ذلك هو سلطان الحب، يعمي ويصم فمهما أوتي صاحبه من الحكمة والتعقل فإنه يفقدهما إذا وقع ~~في شراكه، وقد يبقى حكيما في كل شيء، وقد يعد من كبار أهل الدهاء والسياسة أو من كبار ~~العلماء أو الشعراء أو الفلاسفة، ولكنه إزاء الحب يكون كالطفل يقاد بخيط، وقد يغلب عليه ~~الوهم في بعض الأحوال حتى يصدق المستحيل ويعتقد الخرافات إذا كان في ذلك ما يسهل عليه أمنية ~~أو يطمئن له قلبا. # ومن هنا نرى الأب الحنون مهما يبلغ من إثارة الخرافات إذا مرض ابنه وفشلت في علاجه حيل ~~الأطباء قادته رغبته في شفائه إلى تصديق ما يصف الدجالون! ~~••• # بقي الموبذ والأفشين يترددان على قصر المرزبان أثناء المأتم قياما بواجب العزاء، وسامان ~~في شوق إلى معرفة وصية أبيه. فلما انتهى المأتم جاء الموبذ وطلب الاختلاء بجهان وأخيها، ~~فلما اختلوا أخرج من جيبه أسطوانة من فضة فتحها وأخرج منها درجا ملفوفا وقال: «هذه هي ~~وصية أبيكما التي عهد بها إلى مولانا الأفشين بحضوري.» والتفت إلى جهان وقال: «والحق يقال ~~أن أباك قد أحسن الاختيار بإلقاء مقاليد الوصية إلى صديقه الأفشين.» # فأصاخت جهان ms049 بسمعها وسامان جامد لا يتحرك. ففتح الموبذ الدرج وقال: «وقد أوصاني مولانا ~~الأفشين بأن أبلغكما الوصية ثم أدفعها إليه فاسمعاها وتفهماها.» ثم أخذ يتلوها متمهلا، ~~وهذه هي: # هذا ما عهد به المرزبان طهماز في فرغانة، في آخر يوم من أيام حياته، إلى الملك ~~الأفشين حيدر بن كاروس صاحب أشروسنة وقائد جند المعتصم، بحضور الموبذ صاحب بيت ~~كارشان شاه وبمعونة أورمزد العظيم، في اليوم العاشر من شهر خرداد ماه من السنة ... ~~للإسكندر. # يعهد المرزبان طهماز إلى الأفشين حيدر بن كاروس ملك أشروسنة وقائد جند المعتصم ~~بأن يكون وصيا على أهله من بعده يتصرف فيما خلفه من مال وعقار، فيما يعود على ~~الورثة بالخير، بمقتضى هذه الوصية. ولم يخلف المرزبان طهماز من الورثة الشرعيين ~~غير ولدين، هما الفتى سامان، والفتاة جهان، وقد أوصى بما يملكه جميعه لابنته جهان ~~وحدها فهي الوريثة للقصر بما فيه والضياع وما فيها من ماشية ودواب ومنشآت، ولها كل ~~ما خلفه من جارية ورفيق وأثاث ومصنوعات وآنية ونقد. يكون ذلك كله ملكا لها بشرط ~~إشراف صديقنا الأفشين عليه وتدبيره بما يلهمه أورمزد إليه من أسباب النفع ~~لها. # أما ولدنا سامان فإنه محروم من هذا الميراث كله، لا يصير إليه منه مال ولا عقار ~~إلا ما يكفي لمعيشته على ما يقدره الوصي. وأما سبب حرماني إياه فلم أشأ أن أدونه في ~~هذه الوصية. ولكن لكيلا يبقى مجهولا ويذهب معي إلى القبر قصصته على الوصي بحضور ~~الموبذ. على أن يبقى مكتوما عندهما إلى حين الحاجة. # هذه وصيتي كتبت أمامي، وقد صدرتها وختمتها بتوقيعي، وشهد فيها الموبذ. ومن ~~أخل بحرف منها كان ملعونا خمسين لعنة. وقد فعلت كل ذلك باختياري وأنا في سلامة ~~العقل. # وأوصيت أيضا أن أدفن بعد موتي في برج السكوت في ضاحية فرغانة، وتترك جثتي ~~طعاما للكواسر. # وأورمزد يتولى القيام بهذه الوصية ويعين صديقي الأفشين على العمل بها. # وكان الموبذ يقرأ وسامان وجهان صامتان، حتى بلغ إلى حرمان سامان من الإرث فتغير وجه ~~الشاب وامتقع لونه، ولكنه تجلد ms050 وكظم حتى فرغ الموبذ من تلاوة الوصية فقال له: «كيف حرمني ~~أبي من حقي وأنا ابنه الوحيد؟! هذا لا يكون أبدا. أنا وارث اسم أبي ولقبه وأما العقار فلي ~~ولأختي جهان!» # فقال الموبذ: «قد قرأت عليكما الوصية ولا سبيل إلى غير ما فيها. والرأي في كل حال رأي ~~الأفشين، وقد فرغت من رسالتي فائذنا لي في الانصراف، وسيأتي الأفشين فيتولى العمل بالوصية، ~~والدولة تساعده على تنفيذها بالقوة، فأنصح لك يا ولدي بأن تصبر على ما فاتك من إرث والدك.» ~~قال ذلك وخرج مسرعا وخرج سامان يشيعه إلى سلم الإيوان. فلما ودعه ونزل الحديقة وقف سامان ~~ينظر إليه ويحرق أسنانه ويقول في نفسه: «هذا ما كنت أخافه من مجيئك يا موبذ النحس، كم ~~أرسلني أبي لطلبك وأنا أماطل وأحتال لتأخير حضورك خوفا من مثل هذه الوصية؛ لأني كنت أشعر ~~بما في نفس أبي علي. نعم أنا أعرف سبب غضبه وما كنت أظنه عرفه، ولكن ذلك لا يحرمني من حقي ~~في الميراث. صدقت يا موبذ إن الأمر بيد الأفشين اللعين وهذا أطمع من نملة. ولعله سعى في ~~الوصاية ليستولي على التركة ويحرمنا منها جميعا. آه لو كانت جهان تطاوعني لكنا نكيد له ~~كيدا عظيما، ولكنها شديدة التمسك بما يسمونه شرف النفس والأريحية على أني سأكيد لهم ~~جميعا.» وكان يناجي نفسه بهذه الخواطر وهو ينظر إلى الموبذ الذي غادر الحديقة وركب فرسه ~~وسار في سبيله، ثم رجع سامان إلى أخته. وكانت قد شق عليها أن يكون الأفشين وصيا عليها، ~~ولكنها رأت ألا مفر من ذلك. كما شق عليها حرمان أخيها من الإرث، فقالت له: «طب نفسا يا ~~أخي، إنك لن تلاقي ضيما وأنا على قيد الحياة. فأنت أخي وأنا أعوضك عما فاتك من ~~الميراث.» # فأطرق ولوى عنقه تذللا ومسكنة، ثم رفع بصره والدمع في عينيه وقال: «لم يسؤني حرماني من ~~الإرث بقدر ما ساءني سببه، فأي ذنب ارتكبته حتى أعامل هذه المعاملة؟!» # قالت: «لا أعلم السبب ولا يعلمه إلا الأفشين، وسيسافر إلى بغداد ms051 ونبقى نحن والمال بين ~~أيدينا نتصرف فيه كما نشاء.» # فشكر لها عطفها عليه، وكظم ما في نفسه، وشق عليه أن يطلع الأفشين والموبذ على سبب ~~حرمانه فسكت، وجلس يفكر في تدبير المكائد ونصب الحبائل، وخاف أن تنتبه أخته لما في ذهنه ~~فشغلها بذكر ضرغام فقال: «لقد أبطأ علينا البطل ضرغام، ولا بد لتغيبه من سبب قهري.» # قالت: «يلوح لي أنه بعيد عن فرغانة، فلو كان بها أو قريبا منها لما فاته خبر المصيبة ~~التي حلت بنا، ولعله يعود قريبا.» # فقال: «لو كان هنا لخفت المصيبة علينا؛ إني أستأنس بطلعته، لقد سموه ضرغاما وهو اسم ~~على مسمى. وكم فيه من خصال تندر في سواه!» # فوقع ذلك الإطراء في نفس جهان وقوع الماء على الظمآن. ومع علمها أن أخاها يمدحه مجاملة ~~لها، أسرع لسماع الحديث عمن تحب، وأخذت تغالط نفسها في أن أخاها يحبه، وأنها كانت مخطئة في ~~زعمها الأول! # وبينما هما في الحديث أتت القهرمانة تنبئ سيدتها بمجيء ضرغام، فخفق قلبها ونسيت حزنها. ~~ولكنها بكت إذ تذكرت إعجاب أبيها به وما كانت تتوقعه من السعادة لو بقي حيا. ثم تجلدت ~~وابتسمت له عندما رأته، فحياها وأخذ في تعزيتها، ثم تحول نحو سامان وعزاه فقال سامان: «إن ~~لنا في بقائك تعزية كبرى.» # ومشت جهان إلى غرفتها فتبعها ضرغام بلباس السفر فدعته إلى الجلوس وقالت: «لقد كانت ~~مصيبتنا مضاعفة لغيابك يا ضرغام.» # قال: «كنت في مكان بعيد اضطررت للذهاب إليه تعجيلا للفراغ من المهمة التي جئت لإنجازها، ~~ولكن ...» وسكت، فسألته: «وماذا جرى؟» # قال: «جاءني أمر الخليفة يستعجلني بالرجوع.» # فأطرقت ثم قالت: «إن سفرك يسوءني كثيرا ولكنني ...» # فقطع كلامها قائلا: «سأبقى في فرغانة؛ لأن فيها قلبي وعقلي وكل جوارحي.» وانتبه إلى أن ~~سامان يسمعه فأجفل وخجل. فقالت له: «لا تخجل، إن أخي عالم بما بيننا، وأراه يحبك كثيرا ~~ويعجب ببسالتك ومناقبك، وليس ما يمنعنا من العلانية، أما بقاؤك هنا فهو أمنية حياتي، ولكنني ~~أرى أن تلبي طلب الخليفة؛ لأنه أكرمك ورفع منزلتك وقد يكون ms052 في حاجة إلى حسامك أو رأيك. وهل ~~لم يرسل الخليفة في طلب الأفشين أيضا؟» # قال: «لم يبلغني شيء عن دعوته، ولكنني أظنه يطلبه قريبا؛ لأن الأمر حرب والأفشين كبير ~~القواد. ولكن كيف أسافر وأنت في هذا الحزن وكيف أطمئن وأنت ...!» # فقطع سامان كلامه قائلا: «لا بأس عليها؛ لأن أبانا عهد إلى مولانا الأفشين بتولي ~~شئونها.» وارتجفت شفتاه من الغضب والحقد. فالتفتت جهان إليه وقد شق عليها أن يفشي ذلك ~~لضرغام فيقلقه. وهذا شأن المرأة العاقلة فإنها تكتم متاعبها عن رجلها ولا تظهر له إلا ما ~~يسره، ما لم تضطر إلى غير ذلك. # وعجب ضرغام مما سمعه عن وصاية الأفشين، ونظر إلى جهان مستفهما فقالت: «إن الأفشين صديق ~~لأبي، وكان يثق فيه كثيرا، فأراد أن يكرمني ويهيئ لي أسباب الراحة بعد موته فأوصاه بي بعهد ~~كتبه له وأشهد الموبذ عليه. وما في ذلك شيء غريب.» # فأطرق وأعمل فكرته، فرأى أن الأفشين معه في العراق، فوصايته خير من وصاية رجل من أهل ~~فرغانة لا سبيل له إليه. فمال إلى السفر وأحب أن يسمع رأيها في سفرها معه، فنظر إليها ~~وعيناه تسبقانه إلى الكلام وهي لا تحول نظرها عنه فقال: «إذا كان الأمر كذلك فقد يبقى ~~الأفشين هنا أياما ليدبر ما عهد فيه إليه، وفي هذا ما يطمئنك في بعدنا.» # فأدركت غرضه وقالت: «لا يطول بقائي هنا إلا ريثما تنقضي عدة الحداد، ثم أسافر إلى بغداد؛ ~~فإني لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد بعد وفاة أبي، وقد أصبحت رغم ما ألقاه من مؤانسة ~~الفرغانيين ومحبتهم أشعر بأني غريبة بينهم، ولا سيما بعد أن تسافر.» # وكان سامان يسمع ما يدور بينهما ولا يشعر؛ لأن قلب الأجرود مغلق لا نافذة فيه ولا سبيل ~~للحب إليه، ولكنه رأى من الحكمة أن يجاريهما فلما سمع كلام أخته قال: «إن جهان ولا شك ~~مشتاقة إلى رؤية والدتك في بغداد، فهي صديقتها وكانت تحبها وتأنس بها.» # فالتفتت جهان إلى أخيها لفتة تأنيب وقالت: «أنا لا أحب غير الصراحة ms053، لكأنك تظنني أخشى ~~التصريح بحبي ضرغاما، على أني لا أرى في الحب عارا، ولو مد أورمزد في أجل أبي عاما آخر ~~لانتهى الأمر على ما تمنيناه. فماذا ترى أنت؟» # فقال سامان: «لا أرى بأسا بحبك ضرغاما؛ إنه أهل لذلك، ولو لم تسبقيني إلى حبه لسبقتك ~~أنا إليه. لولا أنه لا يرضى بهذا البدل!» # فراقها مزاح أخيها، على ما في قلبه من الغيظ منذ سمع الوصية. ولكنها كانت تعرف فيه الكظم ~~والدهاء والحقد. فلما سمعت مزاحه نظرت إليه شذرا في غير غضب، ثم وجهت كلامها إلى ضرغام ~~قائلة: «إن سفرك يسوءني، ولكنه واجب، ولا يمضي إلا القليل حتى ألحق بك.» فقطع سامان كلامها ~~قائلا: «وأنا أكون في خدمتها حتى أصل بها إليك، أو إلى والدتك.» # فأتمت كلامها قائلة: «ولا تظن شيئا من حطام الدنيا يحول بيني وبينك وقد أكتب إليك قبل ~~سفري.» قالت ذلك وهي تشعر بما يهددها من التعب ولكنها كانت كثيرة التعويل على نفسها كبيرة ~~الثقة بتدبيرها. أما ضرغام فكان يخشى أن تمنعه من السفر وهو راغب فيه تحقيقا لآماله، فلما ~~رآها تدعوه إليه زهد فيه وآثر البقاء، فسكت وهو لا يعلم بماذا يجيب، فأدركت تردده فقالت: ~~«إن بقاءك معي أكبر أسباب سعادتي، ولكن القائد الباسل ليس من شأنه إلا أن يلبي الدعوة، فما ~~بالك وهي موجهة إليه من الخليفة مالك رقاب الناس؟!» # وقال له سامان: «كن مطمئنا فإني في خدمتها حتى تصل إليك سالمة.» # ولم يكن ضرغام ممن يتخلفون عن أداء الواجب، ولكنه ظن أن في سفره وحده ما يسوء جهان؛ ~~لأنها لا تستطيع مصاحبته قبل انتهاء أيام الحداد، فلما رآها ترغبه في السفر سري عنه فقال: ~~«إذا كان هذا ما تريدين فأنا طوع أمرك، وغدا أسافر إن شاء الله.» # وأحس سامان بثقل وجوده في تلك الساعة، فنهض بحجة أن لديه أمورا خاصة لا بد من ذهابه ~~لإنجازها ثم يعود، فقالت له جهان: «لا تطل غيابك كعادتك فقد تغيرت الأحوال الآن وأصبح وجودك ~~في القصر ضروريا.» # فأشار مطيعا ms054 وخرج مسرعا يتعثر بأذيال قبائه. أما ضرغام فلما رأى نفسه في خلوة مع جهان ~~شعر كأنه في عالم غير هذا العالم، ونسي السفر والحرب والرتب والألقاب، وتمنى لو تتحول تلك ~~الساعة إلى دهر أو تمتد إلى الأبد، لا يلتمس معها طعاما ولا شرابا ولا ثراء، كأنه تجرد عن ~~المادة ورأى في تقارب روحيهما معنى لا يشوبه شيء مما يفتقر إليه البدن أو تجر إليه ~~الشهوات. والحب تجاذب بين الأرواح لا يفسده أو يضعفه غير الجسد بشهواته وميوله؛ ولذلك لا ~~يبرح قويا ما دام عذريا. فمن رغب في بقاء الحب فلينزهه عن شهوة الجسد. فإذا بادل المحب ~~حبيبته حبا بحب أتته السعادة صاغرة وأنبأ الملأ الذين عجزوا عن تمثيل النعيم أنه استمتاع ~~الأرواح بالحب الطاهر المنزه عن أغراض الجسد - وقد يعد الناس هذا الحب خيالا شعريا، ولكن ~~ما أدرانا أن هذا الخيال لا يكون حقيقة في وقت من الأوقات. # ولا خلاف على كل حال في أن اجتماع الحبيبين بعد فراق طويل، مثل اجتماع جهان وضرغام، ~~يمثل السعادة الحقيقية. ولعل جهان كانت أشد شعورا بتلك السعادة بعد ما نال الحزن من ~~قلبها بموت أبيها. والنفس الحزينة أحوج إلى التعزية وأشد شعورا بها من سواها. # فأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، وما حديثهما إلا التشاكي، وقد نسيا موقعهما وطال حديثهما، ~~ولو لم تدخل عليهما القهرمانة خيزران لبقيا في غفلة عن الوجود وأهله. # وكانت خيزران لا تترك جهان برهة طويلة وحدها لئلا تستسلم للأحزان، وكانت تحسبها وحدها بعد ~~خروج سامان فأتت تفتقدها، فلما رأت ضرغاما عندها خجلت وتراجعت، فنادتها جهان فدخلت وقد ~~أذهلها ما رأته في ذينك المحبين من ظواهر الهيام كتورد الوجنتين وبريق العينين وشخوص كل ~~منهما إلى رفيقه ببصره وسمعه، فأيقظهما دخولها ونقلهما من عالم الأرواح إلى عالم الأجساد. ~~فحيت ضرغاما وسألت جهان عن حالها وعما تحتاج إليه. فقالت هذه: «لا أحتاج إلى شيء. ولكن ~~كيف رأيت ضرغاما يا خيزران؟» # فأجفلت القهرمانة لأنها لم تكن تتوقع سماع هذا السؤال وقالت: «تسألينني عن رجل وقع ms055 منك ~~هذا الموقع وأنت أعلم مني بأقدار الناس. فمن أين لمثلي أن تبدي رأيا، وغاية جهدي أن أتوسل ~~إلى أورمزد ليمنحكما ما تتمنيان!» # ثم سألتهما عن سامان فقالت: «خرج من القصر على أن يعود على عجل، فعسى أن يصدق.» # ووقفت فوقف ضرغام وقال: «أتأذنين لي في الانصراف؟» فقالت: «يعز علي سفرك، ولكن ...» ثم ~~تجلدت وقالت: «سر محروسا وكن مطمئنا فإني لا ألبث أن ألحق بك فقد كرهت الإقامة بهذه ~~البلاد.» # فودعها وخرج، وكان وردان في انتظاره مع بعض أهل القصر فأمره بإعداد ما يقتضيه الرحيل ~~إلى العراق. # الفصل التاسع # | بين الأفشين وجهان # عادت جهان إلى القاعة وقد فارقها قلبها وفقدت رباطة جأشها، فندمت على ترغيب ضرغام في ~~السفر، وأخذت تفكر فيما هي فيه، فعزمت على أخذ أمورها بالحزم والتعقل حتى تتخلص من تلك ~~الوصية أو ترى سبيلا آخر. # ومضى النهار وسامان لم يعد. وفي اليوم التالي نهضت مبكرة وضفرت شعرها ولبست ثوبا أسود ~~وتزملت فوقه بمطرف من الخز الأسود، وغطت رأسها بنقاب أسود ووجهها من وراء ذلك السواد ~~كالقمر، لو أن في القمر تلك المعاني، أو لو كان فيه مثل تينك العينين الساحرتين! # وخرجت إلى الحديقة تتمشى بين أشجارها متشاغلة بالتنقل من شجرة إلى أخرى حتى وصلت إلى مقعد ~~فقعدت واستغرقت في تأملاتها، وإذا بالقهرمانة تأتي مسرعة تقول: «سيدتي، أنت هنا؟» # قالت: «ما وراءك؟» # قالت: «جاء ... جاء الأفشين، وهو يطلب أن يراك.» # لم تستغرب جهان الخبر؛ لأنها كانت تنتظره بل فرحت بقدومه لتعرف غرضه عسى أن ترى وسيلة ~~للنجاة من وصايته. فنهضت وسألت: «أين هو؟» قالت: «في الإيوان ينتظر قدومك.» # فمشت مشية الجلال كأنها ملك يحف به الأعوان لا تبالي ما ينتظرها لاعتمادها على قوة جنانها ~~وعزة نفسها، حتى أتت القصر، فصعدت الدرجات المؤدية إلى الإيوان متشاغلة بمخاطبة القهرمانة ~~في شئون لا أهمية لها، حتى أطلت على باب الإيوان فرأت الأفشين جالسا متصدرا، فلما رآها ~~خف لاستقبالها، وهو يومئذ في نحو الستين من عمره وقد خضب لحيته حرصا على مظاهر ms056 الشباب . ~~وكان طويل القامة كبير العينين مستطيل الوجه والعنق، وقد تجعد جبينه وبرزت وجنتاه، وعلى ~~رأسه قلنسوة قصيرة حولها عمامة من الخز الموشى، ولبس قباء بني اللون تظهر السراويل من تحته ~~ترف على قدميه، وفوق القباء جبة سوداء. تمنطق تحتها بمنطقة مرصعة علق بها سيفا قبضته ~~مرصعة. ومشى لملاقاتها مشية معجب بمنصبه، يحسب الترحيب بها تلطفا أو تنازلا، فلما دنا ~~منها ابتسم وقال: «مرحبا بعروس فرغانة، كيف أنت اليوم؟» ومد يده لمصافحتها فمدت يدها ~~فأخذها وتباطأ في الإفراج عنها، فاقشعر بدنها وأحست بنفور دلها عليه قلبها ولكنها أجابته عن ~~سؤاله فقالت: «إني في خير، تفضل اجلس.» # فتثاقل حتى جلست، ثم جلس على كرسي أمامها وعيناه لا تتحولان عن وجهها، فلمحت فيهما معاني ~~زادتها نفورا منه فأطرقت حياء وترفعا، فحمل ذلك منها على محمل الحزن فقال لها: «إن ~~المصيبة التي أصابتك كبيرة يا عزيزتي؛ لأن موت أبيك - رحمه الله - خسارة لا تعوض، وأنت ~~تعلمين ما كان بيننا من صلات المودة، ويؤكدها أنه قد وكل إلي الاهتمام بشئونك بعده، ولم ~~يفعل إلا لعلمه بمنزلتك عندي. ألم تسمعي ذلك منه في حياته ...؟ ألم يقل لك كم أنا معجب بتعقلك ~~وذكائك.» # فاستغربت دخوله في الحديث على هذه الصورة، ولكنها سايرته فقالت: «كثيرا ما سمعت أبي يذكر ~~مودتك ورفعة مقامك، والأفشين صاحب أشروسنة مشهور ليس في فرغانة ولا أشروسنة من لا يعرف اسمه ~~أو سمع بأعماله.» # فسره إطراؤها وجرأه على التقدم خطوة أخرى نحو الغرض الذي طالما كتمه فقال: «لم أسألك ~~هذا السؤال لأسمع إطراءك ومدحك وإنما أردت سماع الجواب عن سؤالي. فهل لم تسمعي من أبيك عما ~~لك من المنزلة عندي؟» # فلم يفتها ما يعنيه أو يضمره، ولكنها تجاهلت وقالت: «لا أذكر أني سمعت شيئا من ذلك، ولا ~~أظنك أحسنت الظن بي إلا لأنك تعدني من بعض أولادك كما تعد أبي أخا لك، فشكرا لك على هذا ~~الإحساس، وهذا ما يشجعني على أن تجيبني إلى طلب لي عندك.» # قال: «وما هو؟» قالت: «رأيتك تثني ms057 على تعقلي وذكائي، فإذا كنت عند حسن ظنك فما معنى ~~الوصاية علي؟» # فضحك وقال: «إن الوصاية يا عزيزتي لا تسلبك شيئا من هذه الخلال!» # فقالت: «إنك ملك وقائد، ولك من المهام والأعمال ما يشغلك عن الاهتمام بمثلي، وأنت مقيم ~~بالعراق وأنا بفرغانة، فهل ألقيت أثقال الوصاية عنك؟» # فقال: «كلا ... كلا! إني لا أستطيع أن أخالف وصية أبيك، ومهما تكلفني من الأعباء فهي هينة ~~ما دامت في سبيل خدمتك، وهذه أمنية طالما تمنيتها، وأما البعد بين العراق وفرغانة فأمره ~~سهل، فإما أن تنتقلي إلى العراق أو أنتقل أنا إلى فرغانة، ولا بد من أن نكون معا على كل ~~حال!» # فتحققت غرضه ولكنها لم تشأ أن تفهم مراده فقالت: «لا أرى باعثا على هذا الارتباط يا ~~مولاي.» # فقال وهو يستعطفها: «لا تقولي مولاي.» # فقالت: «يا أبت أو يا عماه، كما تشاء، إني لا أرى داعيا لهذا الارتباط.» # فقطب حاجبيه وابتسم، ثم قرب كرسيه من كرسيها وقال: «إن قولك يا عماه يسيء إلي أكثر من ~~قولك يا مولاي. لماذا لا تخاطبيني كما أخاطبك؟» قال ذلك وأخرج من جيبه عقدا من الجوهر ~~يساوي مالا كثيرا ومد يده نحوها والعقد يتلألأ في كفه وقال: «ما لي أناديك يا عزيزتي ~~فتنادينني يا عمي؟!» # فحولت جهان وجهها عنه وهي تنظر إليه شزرا وتباعد كرسيها، ووضعت يديها وراء ظهرها ~~وقالت: «لا يا سيدي، لا حاجة لي إلى الجواهر، فإني حزينة ولا أرى مع ذلك مسوغا لهذا ~~الخطاب.» # فأظهر استغرابه من نفورها وقال: «أهكذا تعاملين رجلا أقامه أبوك وصيا عليك؟ هبي أني من ~~عامة الناس فاحترمي وصية أبيك.» # فقالت بصوت هادئ يزينه وقار وترفع: «كان الأولى أن تبدأ أنت باحترام تلك الوصية أيها ~~الملك والقائد!» # فقال بنغمة الفائز الظافر: «أتظنين أباك لم يوص إلا بما في تلك الورقة؟ إنه أوصاني وصية ~~شفاهية لا بد لي من تنفيذها.» # فقالت والازدراء باد في شفتيها وعينيها: «لو كان أبي حيا ما قبل منك ذلك.» # فابتسم وأبرقت عيناه بريقا أزعجها، وقال بلحن الهائم ms058 الولهان : «هبي أنه لم يقل شيئا من ~~ذلك، ألا يكفي أن أقوله أنا. يلوح لي أن ما ظننته من تعقلك وذكائك لم يكن في محله؟ أيسوق ~~إليك ملك أشروسنة عبارات التقرب والتودد وتجيبينه بالخشونة والنفور؟!» # فنظرت إليه نظرة ملؤها الاستغراب والدهشة وقالت وفي كلامها تهديد: «قف عند هذا الحد من ~~التلميح، واحذر أن تنزع إلى التصريح، إن ملكك وإن ضخم لا يساوي عندي شيئا.» # قال: «يظهر أنك لم تفهمي مرادي. ألم تفهمي بعد؟ إني أحبك يا جهان، نعم إني أحبك.» قال ذلك ~~وقد ازدادت عيناه بريقا وبدا فيهما الاحمرار. # فلما سمعت ذلك نهضت عن كرسيها ونفرت نفور الظبي من الأسد، وقالت: «قلت لك قف عند حد ~~التلميح فلم تصغ، أما وقد تجاوزته، فاعلم أني لا أسمح لك بمثل هذا الخطاب. وهل يليق بك وقد ~~اشتعل رأسك شيبا أن تخطب محبة فتاة أصغر من بعض أبنائك؟» # فتنهد الأفشين تنهدا حارا وقال وهو يتذلل ويتلطف: «آه يا جهان! أتحسبين الحب محرما ~~على غير الشبان؟ إني أرى الكهولة أولى به وأقدر عليه. إن الناس مخطئون بما يتوهمون فلا شأن ~~للسن بالحب.» # ثم اعتدل في مجلسه وأشار إلى صدره وقال: «إن في هذا القلب من لواعج الغرام ما لا يتسع له ~~صدور الشبان. ولقد كنت شابا وأنا اليوم كهل، وأقسم لك بما تعبدين أني أشد كلفا وأعرق في ~~الحب من قبل، ويدلك على ذلك أني وأنا الملك السيد والقائد الباسل أترامى عند قدميك لأخطب ~~ودك وألتمس رضاك متذللا متصاغرا.» وترامى عند قدميها وقال: «فإذا أطعتني رأيتني عاشقا ~~يبذل نفسه في سبيل سعادتك، وكنت الملكة النافذة الكلمة في العراقين وفارس وخاراسان وأشروسنة ~~وفرغانة. وإن أبيت وظللت على خطئك ...» # فقطعت كلامه وهي تنظر في وجهه مستخفة وقالت: «انهض يا حيدر، انهض يا ابن كاروس، انهض يا ~~ملك أشروسنة وارجع إلى رشدك ودع ما تقول وأنا أصفح عنك وأغضي عما فرط منك وأكتم خبر جرأتك. ~~إنه لا ينبغي أن تكون فتاة مثلي أربط منك جأشا وأكثر تعقلا ms059.» # فوقع كلامها وقع السهم في قلبه فنهض يحرق أسنانه وقال: «لقد قتلتني بعنادك، فلا تحسبيني ~~عاجزا عن إرغامك؟ وارجعي إلى صوابك وفكري فيما عرضته عليك من أسباب السعادة ولا تعملي عمل ~~أهل الجهالة، واعلمي أنك وما تملكين في قبضة يدي. فإذا أطعتني كنت أنا وما أملك في قبضة ~~يدك!» # فهاج غضبها ودبت الحمية في عروقها وحدثتها نفسها بأن تزيده تأنيبا، لكنها أمسكت ~~لعلمها أنها لا تقوى على مناوأته وهو ملك وعنده الجند والعوان، وبيده عهد أبيها بالوصاية ~~المطلقة عليها، فلا ينصرها عليه حاكم ولا ينجيها منه سلطان، إلا إذا كان في دار الخلافة ~~فربما استعانت عليه بالخليفة فينصفها. # فرأت من الحكمة أن تستعين عليه بالتعقل والتدبير، فتمالكت جأشها بما فطرت عليه من قوة ~~الإرادة وقالت بصوت خافت: «سمعتك تستمهلني ريثما أفكر فيما عرضته علي، وأنا أمهلك لتفكر ~~فيما قلته لك، ونرى بعد ذلك ما يكون ... وسأكتم ما بدا منك وأبذل جهدي في نسيانه حتى يكون ~~مكتوما عني أيضا؛ لأني أضن بصديق أبي ووصيه أن يقال عنه ما قد يقال عنك لو علم الناس ~~أقوالك. فهل تقبل ما أقوله لك؟ وإذا أبيت إلا الطيش فأنا أولى بالطيش منك ولا تحسبني فتاة ~~ضعيفة.» # فأحس الأفشين بعظمة تلك الفتاة، ولم يعد يقوى على النظر في عينيها، كأن الغضب زاد ~~كهربائيتهما فتطاير منهما الشرر. ووقع كلامها على رأسه كالصاعقة وقال: «ما أنت فتاة ضعيفة ~~ولا أنا من أهل الطيش، ولكنك ترين ما يرى سائر الناس أن الحب مقصور على الشبان، وأنا أريك ~~رأي العين أن الكهول أشد هياما. إن بين جنبي قلبا يضحي بالملك وبالحياة في سبيل محبوبه، ~~فهل يفعل الشبان ذلك؟ وهم إنما يحبون عن خفة وجهالة لا يثبتون في الحب ولا يرعون زمام ~~المحبوب. أما وقد استمهلتني فها أنا ذا أجيب طلبك راجيا أن ترجعي إلى رشدك، وأيام الحزن ~~على صديقي أبيك لم تنقض بعد، فنحن الآن في أوائلها، ولعلي لا يخيب ظني بعد انقضاء أجل ~~الحداد، وبعد أن تتحققي صفاء نيتي ms060 فيما أرجوه لك من الخير في دنياك، فأعملي فكرك على ~~مهل.» # فأغضت عن طويل شرحه في بث عواطفه وآماله. وقالت بصوت هادئ وجأش رابط: «بقيت لي كلمة أحب ~~أن تسمعها بوصفك وصيي الأمين، هل قمت بحق الوصية فدبرت شئون القصر وأهله؟» # قال: «فعلت كل شيء؛ فالزراع عاملون في الحقول، والقيم يدير شئون القصر، وأنا أحرص على ~~مالك منك.» ومد يده والعقد لا يزال فيها وقال: «والعقد ألا تقبلينه؟ خذيه إذا ~~شئت.» # فحولت وجهها عنه مشمئزة وقالت: «لا أريد قبول شيء يذكرني بهذا الاجتماع، ولو استطعت أن ~~أجرد هذه القاعة من فراشها وأثاثها لفعلت حتى لا أرى شيئا شهد هذا الموقف أو سمع هذا ~~الكلام. والآن اسمح لي أن أشكر لك عنايتك بشئون التركة، وذلك ما كنت أرجوه من الأفشين صديق ~~أبي الأمين على أهله. وأخيرا هل لي أن أعرف لماذا حرمتم أخي سامان إرثه؟» # فأحس الأفشين عند سماع أقوالها أنه يتصاغر أمامها، وأنها هي تعظم وتعلو حتى كاد يتلعثم ~~لسانه وأغلق عليه. وإنما غلبته على بسالته وسلطانه بالعفة وأدب النفس، فتجلد وقال: «إنك ~~تسألينني سؤال القاصر لولي أمره وأنا مكلف أن أكتم السبب، فلو سألتني سؤال الحبيب لمحبه ~~لأطلعتك على كل شيء.» # قالت: «اعمل بالوصية ودع الحب للمحبين.» # فدهش الأفشين ولم يزدد إلا هياما بها، ولكنه تهيب الكلام معها، فسكت ونهض مستأذنا في ~~الانصراف. ثم خرج وقد غلب على أمره وعلم أنه لن ينال رضاها، وإنما أطاعها وقبل التأجيل ~~فرارا من الفشل. # الفصل العاشر # | المعتصم و«سامرا» # ظلت جهان واقفة تنظر إلى الأفشين حتى غادر غرفتها، فرفعت بصرها إلى صورة مطرزة على ~~ستارة الحائط تمثل وجه أبيها، وتنهدت تنهدا عميقا وأحست بضعف مفاصلها كأنها خارجة ~~من عمل شاق فألقت نفسها على الكرسي، والتفتت إلى ما حولها وناجت نفسها قائلة: «آه ~~يا جهان، أواه يا عروس فرغانة! ما الذي دهاني في هذين اليومين؟» مات أبي، وحسنت السفر ~~لحبيبي. ولكن لا بأس من سفره حتى لا يعلم بما يضمره ذلك الشيخ الجاهل ms061 - قبحه الله من ملك ~~صعلوك وتبا له من قائد مغرور! أيطمع في جهان وهي أبعد عنه من الثريا؟ ما لي لم أقل له إن ~~قلبي لضرغام؟ ولكني لو قلت ذلك لعرضت حبيبي للخطر. حبيبي ضرغام أين أنت؟!» ولما ذكرت اسمه ~~وتذكرت بعده عنها انقبضت نفسها واستسلمت للبكاء؛ فأطلقت لدموعها العنان وهي تحاذر أن يسمع ~~صوت بكائها أحد، وكأنها نسيت نفسها وهون عليها البكاء آلامها فأغرقت فيه. وفيما هي في ذلك ~~أعادها إلى نفسها أن سمعت وقع خطوات مسرعة نحوها، فالتفتت فإذا بالقهرمانة دخلت مذعورة وقد ~~فتحت ذراعيها كأنها تهم بأن تضمها إليها، فترامت جهان بين ذراعيها وقد أخذها الخجل لما بدا ~~من ضعفها فابتدرتها خيزران قائلة: «ما بالك يا سيدتي، ماذا أصابك؟» # فقالت وهي تتجلد وتمسح دموعها: «أتستغربين بكائي يا أماه وقد فقدت أبي بالأمس؟ إن مصيبتي ~~بفقده مضاعفة!» # ولم تكن خيزران غافلة عما دار بين جهان والأفشين وإن لم تسمعه، ولكنها أدركت شيئا منه ~~لما رأت وجه الأفشين عند خروجه فقالت: «صدقت، إن وفاة سيدي المرزبان رزء عظيم، خصوصا إذا ~~خلفه مثل هذا الوصي!» وغصت بريقها وهمت بجهان فضمتها وقبلتها وقالت: «أنا أعلم سبب ~~بكائك فلا تهتمي، واعلمي أني أضحي بحياتي في خدمتك، وكذلك كل أهل القصر بل أهل فرغانة ~~جميعا يفدونك بأنفسهم.» # فتخلصت جهان من بين ذراعي خيزران بلطف، وأشارت إليها أن تقعد إلى جانبها، فجلست وهي ترمق ~~جهان ولا ترتوي من النظر فرأت وجهها تغير من الحزن والقنوط إلى الاهتمام والجد وأطرقت وبدا ~~التفكير في عينيها وجبينها. وطال سكوتها وخيزران مصغية تنتظر ما يبدو منها وما تريد أن ~~تقوله، وأخيرا وقفت جهان فجأة ونظرت إلى خيزران نظرا حادا وقالت: «لا مقام لي بهذه ~~الديار بعد الآن!» # فصعقت خيزران عند سماعها ذلك منها ووقفت وصاحت قائلة: «ماذا تقولين؟!» # قالت: «ينبغي أن أترك هذا القصر، يجب أن أسافر حالا.» # قالت: «وإلى أين؟ كيف تتركينه وفيه كل مالك وقد ربيت فيه؟! لمن تتركينه؟» # قالت: «أتركه للطامعين فيه. أتركه للأفشين والموبذ ms062!» # قالت وقد اصفر وجهها وجلا: «كيف تتركينه وفيه ثروتك وأنت صاحبة الأمر والنهي ~~فيه؟!» # قالت والحزم باد في محياها: «لا تهمني الثروة ولا الأمر والنهي، وما الفائدة من الجدران ~~والأشجار والأحجار؟ ليست السعادة بهذه الأمور.» # فأدركت أنها تشير إلى ما تخشاه من مطامع الأفشين وهي بعيدة عن ضرغام، فقالت: «إذا كان ذلك ~~الرجل قد أساء إليك فانبذيه نبذ النواة. لا تعيريه التفاتة فأنت سيدة في قصرك ولن يجرؤ على ~~إخراجك منه.» # فنظرت إليها شزرا وقالت: «هل هو يريدني أن أبقى فيه وأنا التي أطلب الذهاب.» # قالت: «كيف تذهبين يا سيدتي وإلى أين؟» # فأطرقت ثم قالت: «إني ذاهبة. نعم ذاهبة ... لا محالة. وأما أنت فامكثي هنا!» # فقطعت خيزران كلامها وقالت وهي تشرق بدموعها: «أنا أبقى؟! وماذا أفعل هنا من غيرك؟ إني ~~بين يديك حيثما تذهبين. وإنما أردت أن أعلم الجهة التي تقصدين.» # قالت: «إني ذاهبة إلى العراق.» # قالت: «إنك تقولين ما يسهل لفظه ويصعب فعله، أتعلمين المسافة بيننا وبين العراق؟» # قالت: «لا أعلم، ولكني سأذهب إليها.» # قالت: «إنك حكيمة لا تقدمين على أمر إلا بعد التفكير، فهل تعلمين أن بيننا وبين العراق ~~مسيرة بضعة أشهر، يقطع معظمها في البراري الخطرة التي لا يستطيع سلوكها إلا القوافل ~~المحروسة لكثرة اللصوص وقاطعي الطريق؟» # قالت: «مهما يكن من الأمر فإني ذاهبة إلى العراق.» # قالت: «تبصري يا سيدتي، أو يا حبيبتي، وأشفقي على شبابك ولا تعرضي نفسك للهلاك ... إن ~~القاصد إلى العراق ينبغي له أن يقطع صحاري قاحلة يكثر فيها اللصوص من التركمان وغيرهم، ~~وكثيرا ما يعترضون قوافل التجار الذاهبة إلى خراسان أو فارس فيقتلون أصحابها ويسلبون ~~أموالها فكيف تسافرين أنت فيها؟» # قالت: «أسافر كما يسافر الناس. وسندبر وسيلة للسفر.» # فلما لم تر حيلة لإرجاعها عن عزمها قالت: «إذا كنت تذهبين إلى العراق خوفا من الأفشين ~~فالعراق مقره وهو صاحب النفوذ هناك.» # قالت: «لست أخافه هناك، فإن يد الخليفة فوق يده، وهناك ضرغام أيضا.» قالت ذلك وسكتت لحظة ~~ثم استأنفت الكلام قائلة: «لا أعني أن ms063 أستعين بضرغام عليه ولكنني ألقى هذا الشيخ الجاهل في ~~بلد يسمع فيه صوت الحق. إنه يغلبني هنا بجنوده ولكنه هناك لا يقدر على ذلك، فلا تحاولي أن ~~ترجعيني عن عزمي.» ومشت إلى الباب فتبعتها خيزران وقد أخذتها الدهشة ولم تتمالك عن ~~البكاء. # أما جهان فمشت مسرعة نحو غرفتها لا تلتفت يمينا ولا شمالا وقد تمثلت فيها الشجاعة ~~وثبات الجنان، ولم تجرؤ خيزران أن تعترضها ولا أن تدخل في أثرها فتباطأت في مشيتها. وإذا ~~بجهان تناديها من الداخل، فأسرعت إليها فرأتها جالسة على سريرها والحيرة تتجلى في عينيها ~~رغم ما في جبينها من دلائل العزم الصادق، فلما دخلت ابتدرتها جهان قائلة: «ألم يعد سامان ~~بعد؟» # قالت: «كلا يا سيدتي، لم أشاهده هذا الصباح.» # فهزت رأسها وقالت: «تعالي، اجلسي بجانبي يا أماه.» # فجلست خيزران وهي تتهيب النظر إليها، فقالت جهان: «احذري أن يعلم أحد سبب سفري، وأوصي ~~المهتر (قيم القصر) بأن يستمر في تعهد أموالنا ومغارسنا، وأخبريه أننا خارجون إلى بلد ~~قريب ...» # قالت: «سأفعل ذلك يا مولاتي ... ومتى السفر؟» # قالت: «في أقرب وقت. وقبل انقضاء عدة الحداد وهي لا تزال طويلة وسأحدده لك. إنما أرجو منك ~~أن تعدي ما ينبغي حمله من الأمتعة فإننا على سفر طويل.» # فأشارت برأسها مطيعة وسكتت تنتظر ما يأتي به الغد، وإن كانت لا تتوقع رجوع جهان عن عزمها ~~لما خبرته من إقدامها وثباتها وحزمها فتركتها في الغرفة وحدها وخرجت. # قضت جهان بقية اليوم تفكر في أخيها سامان لاحتياجها إلى صحبته في ذلك السفر الطويل وهي ~~تعلم أنه لا يقل عنها رغبة فيه. وأصبحت في اليوم التالي فإذا سامان يقرع باب غرفتها ~~فابتدرته بالعتاب على غيابه فقال: «إذا كان غيابي عنك يوما واحدا قد أقلقك فكيف إذا غبت ~~عنك أشهرا؟» # قالت: «هل اعتزمت السفر؟» # قال: «وفيم الإقامة ببلد حرمت من خيراته فأنا غريب بين أهلي! أما أنت فإنك وريثة القصر ~~والمال فامكثي ودعيني أضرب في الأرض.» قال ذلك وهو يتظاهر بالحزن فلم يفتها قصده ولكن سفره ~~وافق ms064 هواها فقالت: «وما قولك إذا سافرنا معا؟» # قال: «أعازمة على السفر أيضا؟» # قالت: «نعم.» # قال: «لا أرى باعثا على شكرك إلا إذا كنت تقصدين العراق وهناك ضرغام حبيبك.» # قالت: «نعم أنا عازمة على السفر إلى العراق. وأنت؟» # قال: «ولكن مثل هذا السفر لا يتأتى إلا بعد التأهب الكافي، ولا بد لنا من صحبة قافلة؛ لأن ~~الطريق وعر وطويل.» # قالت: «دبر ما تراه وليكن في القريب العاجل.» # فأبرقت أسرة سامان وهو إنما بدأ بتلك المقدمة ليسمع هذه الخاتمة لحاجة في نفسه طالما ~~سعى في قضائها، ولولا رغبة جهان في السفر فرارا من الأفشين لانكشف لها غرض أخيها، ولكنها ~~تعامت وتجاهلت رغبة في النجاة، والإنسان كثيرا ما يطغى غرضه على تعقله، فعهدت إلى سامان ~~بتدبير أمر السفر وأخذت هي وخيزران تستعدان في الخفاء.» ~~••• # وكان المعتصم قد ترك بغداد وبنى مدينة «سر من رأى» أو «سامرا» على مسافة خمسين ميلا ~~شمالها، ليقيم بها رجاله الأتراك وغيرهم، فكانت المدينة الثانية من مدن بني العباس، ~~وقسمها إلى قطائع أقطعها لرجاله وهم فرق تنتسب كل فرقة منهم إلى مواطنها التي حملت منها، ~~فقد حمل بعضهم من سمرقند وهم الأتراك، وبعضهم من فرغانة، وبعضهم من أشروسنة أو غيرها، وجعل ~~على كل جماعة قائدا. وأشهر قواده الأفشين وأصله من أشروسنة، وأشناس وكان في الأصل مملوكا ~~لبعض قواد المعتصم فابتاعه ورقاه، وأيتاخ، وسما، وكانا مملوكين أيضا. # ولما استقر رأيه على بناء «سامرا» أحضر المهندسين والفعلة والبنائين وأصحاب المهن من ~~النجارين والحدادين، وأمر بحمل الساج والخشب والجذوع من البصرة وبغداد وسائر السواد، ومن ~~أنطاكية وسائر سواحل الشام، وأحضر الرخام من اللاذقية. # وأقام قصره وسط المدينة وبجانبه المسجد الجامع، واختط الأسواق حول المسجد، وجعل كل ~~تجارة منفردة في سوق على نحو ما فعل المنصور في بغداد، وأفرد لقواده قطائع أبعدها عن قصره ~~وعن منازل الناس وأهل الأسواق، فأقام أشناس في محلة بأقصى شمال المدينة على بضعة أميال من ~~قصره سماها الكرخ على اسم كرخ بغداد. وأقام الأفشين في الطرف الجنوبي في ms065 مكان يسمى ~~المطيرة على نحو تلك المسافة من قصره. وأنشأ للفراغنة قطائع أقرب إليه من سواهم. وكذلك ~~الأتراك والخراسانية والمغاربة. وأمر قواده أن يبنوا المساجد والأسواق في قطائعهم لرجالهم. ~~وجعل لسامرا شوارع موازية لمجرى دجلة تقطعها دروب وأزقة أكبرها الشارع الأعظم يمتد من ~~المطيرة شمالا على موازاة دجلة إلى الكرخ، وتمتد قطائع الناس يمنة ويسرة على هذا الشارع ~~وتتصل إليه بدروب وأزقة تنفذ إلى دجلة. وفي هذا الشارع كان ديوان الخراج وقصر المعتصم ~~والمسجد وسوق الرقيق. ويلي الشارع الأعظم شارع آخر على موازاته يعرف بشارع أبي حمد. # وبنى على دجلة جسرا يوصل الشاطئ الشرقي بالغربي، وأقام في هذا الجانب العمارات وغرس ~~البساتين وحفر الآبار واستقدم من كل بلد أصحاب الأعمال اللازمة للعمارة، فاستقدم مهندسي ~~الماء وصناع القراطيس من مصر، وصناع الزجاج والخزف من البصرة، وأنزل أهل كل مهنة وصناعة ~~مع عيالهم، وجعل الأبنية قصورا حولها البساتين وبينها الميادين. ولما تسامع الناس ببناء ~~هذه المدينة تقاطروا إليها للبيع والشراء، وزاد فيها الواثق والمتوكل وغيرهما ممن خلف ~~المعتصم كثيرا من الأبنية الفخمة. # وكان في جملة أبنية الفراغنة بقرب قصر المعتصم بيت متوسط الحجم قائم في حديقة حولها سور، ~~له باب مطل على دجلة وعنده نخلتان. ولم يكن أهل سامرا يعرفون شيئا عن أهل هذا البيت؛ إذ ~~قلما كانوا يرون فيه أحدا غير الخدم الذين يخرجون إلى السوق في حوائجه، على أن القواد ~~كانوا يعرفون أنه منزل القائد ضرغام وكانوا يعجبون لرغبته عن زخارف الحياة خلافا لسائر ~~القواد أو الأمراء الذين كانوا يستكثرون من الحاشية والموالي والمماليك. وكان أكثرهم يظنونه ~~وحيدا فيه، وربما زاره بعضهم أثناء إقامته بسامرا. أما بعد سفره الأخير فإنهم انقطعوا عنه ~~إذ لم يبق في البيت أحد إلا امرأة مكفوفة البصر هي أمه ومعها جارية عجوز تخدمها اسمها ~~مسعودة. # الفصل الحادي عشر # | أم ضرغام # كانت أم ضرغام واسمها آفتاب قد كف بصرها في عنفوان شبابها قبل ذهابها إلى فرغانة، ولم ~~يكن أهل ذلك البلد أكثر معرفة بسابق حياتها من ms066 أهل سامرا، حتى المرزبان وأهل قصره مع طول ~~إقامتها بينهم؛ فقد كانت تكتم أصلها حتى عن ابنها ضرغام، فكان إذا سألها عن أبيه زعمت أنه ~~كان من جند المسلمين وقتل في بعض الوقائع، وأنها نذرت لبس السواد عليه كل حياتها. ولم يصدق ~~ضرغام قولها؛ لما لاحظه من التجائها إلى الإيجاز عند ذكره، فألح عليها ذات يوم واستحلفها ~~أن تخبره الحقيقة، فوعدته أن تطلعه عليها فيما بعد، وكان كلما ذكرها بوعدها استمهلته إلى ~~فرصة أخرى. وقضى شبابه في فرغانة وهو يطلب الشخوص إلى العراق لينخرط في الجندية أو يتعاطى ~~عملا يرتزق منه كما فعل أمثاله من أهل النشاط والذكاء، فلم توافقه على ذلك إلا في الأعوام ~~الأخيرة فجاء معها وأقام بسامرا، فظهرت مواهبه وارتقى في الجندية حتى صار رئيس الحرس، وكان ~~يسألها عن أبيه فتؤجل الجواب. # ولما استأذنها في الذهاب إلى فرغانة في مهمته الأخيرة أذنت له وألحت عليه في أن يعجل ~~بالرجوع، وبقيت في ذلك القصر ليس معها غير جاريتها مسعودة. وكانت تقضي نهارها في البيت لا ~~تخرج إلى البستان إلا نادرا، والجارية تبذل جهدها في تسليتها، وقد قضت في خدمتها أعواما ~~عديدة لم ترها ضاحكة قط، فلم تكن أقل استغرابا لحالها من الآخرين. على أنها كانت ~~تحترمها وتحبها حبا جما لما خبرته من لطفها وطيب عنصرها، مع التزامها الصمت إلا ~~نادرا. # وكانت آفتاب على كهولتها وابتلائها بفقد بصرها جميلة الخلقة خفيفة الروح، تدل ملامح وجهها ~~على ما كانت عليه في شبابها من الجمال المفرط وكانت رشيقة القوام ممتلئة البدن محتفظة بآثار ~~الجمال رغم ما مر بها من تكاليف الحياة، فكانت جاريتها مسعودة تبذل جهدها في تسليتها ~~وتروي لها ما تسمعه من الأخبار، فتلحظ منها الإصغاء لسماع أخبار الخليفة المعتصم، ولا سيما ~~بعد أن صار ابنها رئيسا لحراسه. ولم تكن تسمع منها جوابا غير قولها وهي تتنهد: «متى يعود ~~ضرغام! لقد طال غيابه.» # حتى إذا جاء البشير بقدومه كان أول من علم به مسعودة، أخبرها به رسول أنفذه ضرغام قبل ms067 ~~وصوله لعلمه أن أمه تتلهف لرجوعه. فدخلت مسعودة على سيدتها مهرولة، ولو تيسر لآفتاب أن ترى ~~وجهها لقرأت فيه دلائل البشر. ولكنها حرمت نعمة النظر لا لذنب أو مرض وإنما قضت عليها بذلك ~~مظالم ذلك العصر، كما قضت تلك المظالم أيضا بأن تكتم سبب عماها وتخفي حقيقة حالها على كل ~~إنسان. # فلما دخلت مسعودة شعرت آفتاب بسرعة حركتها وحدثها قلبها بخير تحمله إليها فبدت على ~~وجهها ملامح الاهتمام ولم تمهل خادمتها حتى تتكلم فابتدرتها قائلة: «ما وراءك يا مسعودة؟ هل ~~أتى ضرغام؟» # فصاحت: «نعم يا سيدتي، من أنبأك بهذا؟» # قالت: «أنبأني قلبي! وهل لقلبي شغل سواه! أين هو؟» # قالت: «إنه على مقربة منا.» # فما تمالكت آفتاب عن النهوض فجأة وبدت في محياها علامات البشر وتقطر من بياض عينيها ~~دمعتان سالتا على خديها فتلقتهما بطرف نقابها الأسود، وصاحت وهي تبتسم: «أتى ضرغام؟! الحمد ~~لله. متى يصل إلينا؟» # قالت: «يصل هذا المساء، إن شاء الله.» # فقالت: «أعدي العشاء.» ومشت نحو غرفتها مشية البصير لا تعثر بشيء ولا يوقفها شيء، على ~~عادة العميان الأذكياء. فدخلت غرفتها وغسلت وجهها وبدلت ثيابها وشغلت نفسها ببعض المهام ~~حتى لا يطول عليها الانتظار. # وكان من توقد ذهنها ورقة شعورها أنها تتعرف مكان كل واحد من خدمها في الغرفة أو الحديقة ~~وهي جالسة في مجلسها، فبعد أن فرغت من إصلاح شأنها جلست في الإيوان ومسعودة في المطبخ تهيئ ~~الطعام تفكر في قدوم مولاها مفعمة سرورا لفرح مولاتها، فإذا بها تسمعها تنادي: «مسعودة ~~...» # فهرولت الجارية تقول: «أمرك يا مولاتي.» # قالت: «إن ضرغاما آت قولي للخدم يخرجوا لاستقباله.» # فعجبت مسعودة لكلامها؛ لأنها لم تكن ترى شيئا يدل على ذلك، فخرجت إلى الحديقة فلم تجد ~~أحدا فعادت تقول: «لم يأت بعد ولكنه آت قريبا.» # قالت: «إني أسمع وقع حوافر جواد!» # وكانت مسعودة قد تعودت منها كثيرا من أدلة الشعور البعيد، فذهبت إلى البستان وأمرت ~~الخدم بالخروج لاستقبال سيدهم وهي لا ترى أحدا قادما، ولكنها لم تبلغ البستان حتى نظرت ~~الغبار من ms068 بعيد وسمعت وقع حوافر الخيل وتحققت قول سيدتها، ولم تمض هنيهة حتى رأت ضرغاما ~~قادما على جواده بلباس السفر، ووراءه تابعه وردان على جواد آخر. فرجعت لتبشر سيدتها فرأتها ~~قد سبقتها إلى باب الدار وعيناها شائعتان نحو الجهة التي تسمع الصوت منها وهما تجولان بين ~~الأجفان كأنهما تريان شيئا. وإنما حركهما محرك البصيرة النقادة ولهفة الوالدة المشتاقة، ~~ولم تمهلها فسبقتها إلى الكلام قائلة: «ألم أقل لك إنه جاء؟! وإني أشعر بوقع حوافر جواده ~~يمشي في مفاصلي وكأني أحس بحرارة أنفاسه، حرسه الله.» قالت ذلك وكأنها تنطق بعينيها ~~وحاجبيها ويديها وبكل جارحة من جوارحها، فأثر منظرها في مسعودة وخفق قلبها شفقة عليها، ~~وودت لو تعيرها عينيها لترى بهما ابنها وتفرح بمنظره. # ولما وصل ضرغام إلى باب البستان ترجل وأعطى الخادم زمام جواده، ثم صعد درجات الدار حتى ~~بلغ مكان أمه، فأكب على يديها يقبلهما. فضمته إلى صدرها وقبلته ومشت إلى الإيوان ترحب ~~به وتكرر تقبيله وتستنشقه وتتفحص كتفيه وذراعيه وصدره وعنقه بيديها وتتحسس بأصابعها وجهه ~~ولحيته وشاربيه وعينيه كأنها تحدق فيه بأناملها. حتى إذا دخل الإيوان جلست على وسادة ~~وأجلسته بجانبها وهي تضمه وتشمه كأنها تخاف أن يخطفه أحد من بين يديها. بينما الدمع يتساقط ~~من عينيها وهو لا يعترضها فيما تعمله ليسرها. ثم أخذت تسأله عن صحته، فطمأنها وشرح لها شوقه ~~إليها وأنها لم تبرح من خاطره أثناء ذلك السفر الطويل. فأمرت مسعودة أن تهيئ المائدة، ~~فاستأذنها ضرغام في تبديل ثيابه قبل الطعام فأذنت له، ثم قاموا إلى المائدة ففرغوا من ~~الطعام نحو العشاء وقد أنير البيت بالشموع وهي أول ليلة أنير فيها منذ سفره؛ لأن آفتاب في ~~غنى عن الضوء ولم يكن يزورها أحد فلم تكن تنار الشموع في غياب ضرغام إلا نادرا. # وبعد العشاء خلت آفتاب إلى ابنها وأخذا يتحدثان. فاتكأ ضرغام على وسادة، ووالدته بجانبه ~~وهي قابضة بيدها على يده كأنها تعتاض عن المشاهدة باللمس، وأخذت تسأله عن سفره وهو يقص ~~عليها ما شاهده في طريقه من ms069 الغرائب والأخطار حتى وصل سامرا في ذلك المساء فقالت: «وهل أقمت ~~بفرغانة كثيرا؟» # فلما ذكرت فرغانة تذكر أشياء كثيرة فقال: «نعم، أقمت بها بضعة أيام.» وسكت مترددا في ~~إخبارها بموت المرزبان فأدركت تردده من صوته فقالت: «قص علي ما رأيته هناك. ماذا ~~جرى؟» # قال: «ماذا أقص عليك! إن القوم يذكرون جيرتك ويتحدثون عنك كثيرا.» # قالت: «وكيف المرزبان وأهله؟» # قال: «كلهم في خير إلا المرزبان فإنه مريض مرضا ثقيلا عجز الطب والأطباء عن ~~علاجه.» # قالت: «أظنه مات. أليس كذلك؟» # قال: «إذا لم يكن مات فإنه يموت قريبا لطول مرضه. والحق يقال إنه رجل طيب القلب يكن ~~لك احتراما كبيرا.» # قالت: «أراك تتلطف في إبلاغي خبر موته، رحمه الله، كيف فارقت أهله؟» # فلم يستغرب ضرغام شعورها بموت المرزبان، وقد تعود منها مثل هذا الشعور المرهف، وأحب ~~الاستطراق إلى التحدث عن جهان فقال: «إن أهله في خير فقد ترك لهم مالا كثيرا.» # قالت: «وقد آل هذا الميراث إلى جهان على ما أظن.» # فاستغرب نسيانها سامان فقال: «وهل نسيت سامان أخاها؟» # فأدركت أنها كادت تبوح بسر تكتمه، وبان الارتباك في وجهها فأطرقت وعيناها ترقصان في وجهها ~~من الحيرة ثم قالت: «لم أنس سامان ولكنني أحسب أن أباه حرمه من الميراث.» # فازداد تعجبه وهو يعلم أنها لا تلقي الكلام جزافا فقال: «أتقولين ذلك تخمينا أم أن ~~هنالك سببا تكتمينه؟» # فقالت: «ربما كان ذلك. وهب أني لم أكتم سببا، فلو جاز لي أن أقوله لك لقلته، دعنا الآن ~~من سامان وأخبرني عن جهان عروس فرغانة كيف هي؟ إني أحبها وأعجب بذكائها ولطفها.» # فلما سمع إطراءها جهان شغل بها عن رغبته في استطلاع خبر سامان وطاب له التحدث عن حبيبته ~~فقال: «إن جهان جديرة بإعجابك، وهي موضع إعجاب الفرغانيين على بكرة أبيهم. إني لم أر مثلها ~~بين النساء ولا مثل جمالها وتعقلها. وكم تمنيت أن يمن الله عليك بالبصر ~~لتشاهديها.» # وحينما سمعت إعجابه بها آنست منه ميلا شديدا إليها فقالت: «أراك كثير الإطراء لسجاياها، ~~ولا ألومك على ms070 ذلك ؛ إذ لم يفتني من مشتهيات المبصرين في هذه الدنيا إلا رؤيتك ورؤيتها.» ~~وتنهدت وقالت: «هذا نصيبي من دنياي، وأحمد الله أنه أنار بصيرتي ومن علي ببقائك. وإذا ~~فاتني أن أراك بعيني فلم تفتني رؤيتك بقلبي. أما جهان فلم أحب فتاة مثل حبي لها وهي أيضا ~~مرسومة في قلبي.» قالت ذلك ومدت يدها إلى صدر ضرغام وهي تظهر أنها تحاول ضمه فأحست ~~بخفقان قلبه فتحققت حبه لجهان وهو لا يفقه مرادها ثم قالت: «إني أحب جهان يا ضرغام فهل أنت ~~تحبها؟» # فقال: «نعم يا أماه. ولا أظنك ترين بأسا بذلك؛ لأنك وضعتها في قلبك معي كما ~~تقولين.» # قالت: «لا أرى بأسا. ولكن هل هي تحبك أيضا؟ إنها بنت المرزبان وقد كنا أضيافا في قصر ~~أبيها. فربما حسبت نفسها أرفع منك مقاما على عادة أهل اليسار. ولا لوم عليها إذا فعلت ذلك ~~لأنها لا تعرف أباك.» ولم تكد تقول ذلك حتى تصاعد الدم إلى وجهها ثم أمسكت كأنها ندمت على ~~ما فرط منها. # فقال: «اطمئني يا أماه، إن جهان تحبني حبا شديدا، وهي بحمد الله بمنجاة من الكبرياء، ~~وقد تعاقدنا على الزواج وهي لا تعرف نسبي، والآن وقد جرنا الحديث إلى ذلك ألا ترين أنه قد ~~آن لك أن تبري بوعدك؟» # فعلمت أنه يستنجزها وعدها ليعرف اسم أبيه فقالت: «لم يجئ الوقت يا ولدي، وسيأتي قريبا. ~~عد بي إلى حديث جهان فإن خبر خطبتها يفرحني وطالما تمنيت وأنا أحسبه بعيدا. فهل حدث ذلك ~~على يد أبيها؟» # فقال: «أعترف لك الآن بسرنا فقد تعاقدنا على الزواج قبل مجيئي معك إلى سامرا، ولم أبح لك ~~قبلا لأني لم أكن أحسب نفسي أهلا لها وأنا يومئذ لا شأن لي، فلما وفقني الله إلى المنصب ~~الذي نلته عند أمير المؤمنين احتلت في الذهاب إلى فرغانة لأعلمها وأتمم العقد على يد أبيها ~~فذهبت فوجدتها عند عهدنا. وكدنا نعقد القران لولا مرض أبيها ووفاته فأجلنا هذا الأمر إلى ~~فرصة أخرى.» # قالت: «وهل تنوي إن تزوجتا أن تقيما ms071 بفرغانة ، أم تأتي بها إلى هنا؟» # قال: «هذا أمر منوط برأيك، فهي لا تخالف لك رأيا، وكنت قد عزمت على البقاء هناك حتى ~~تنقضي عدة الحداد فأعقد القران وآتي بها إلى هنا. فجاء أمر الخليفة يستعجلني الرجوع، ~~ولقيتها قبل سفري فحبذته على أن نعمل بما نراه بعد ذلك.» # فأبرقت أسرة آفتاب وابتسمت وقالت: «أحمد الله على هذا التوفيق وأطلب إليه أن يتم نعمته ~~عليك بما في خاطري لتكون أسعد الناس.» # فعلم أنها تشير إلى سر أبيه فقال: «إني أسعد الناس بك. ولكن ...» # فخافت أن يستأنف سؤالها عن أبيه فقطعت كلامه وقالت: «لماذا استعجل الخليفة ~~بقدومك؟» # قال: «لم أعلم بعد، ولعله سيرسلني في مهمة عسكرية. هل علمت شيئا عن هذا؟» # قالت: «لم أسمع شيئا في غيابك؛ لأني لم أكن أعلم أحدا غير مسعودة.» # فقال: «وهل بعث في طلب الأفشين أيضا؟» # قالت: «لا أدري. أين هو الأفشين الآن؟ أليس في سامرا؟» # قال: «كلا إني لقيته في فرغانة.» # فأطرقت كأنها تفكر في أمر خطر لها ثم قالت: «إن الأفشين كان صديقا حميما للمرزبان. هل ~~شهد موته؟» # قال: «نعم شهده وقد أقامه المرزبان وصيا على أهله بعده.» # فابتسمت ابتسام مطلع على أمور سابقة تؤيد ما قاله. فلحظ ضرغام ابتسامتها فقال: «ما بالك ~~تبتسمين؟ هل عرفت شيئا عن هذا الأمر من أحد غيري؟» # قالت: «لا، ولكنني تذكرت أشياء كنت سمعتها من صديقتي أم جهان، رحمها الله، فقد كانت تسر ~~إلي كل ما يهمها. وأنا أيضا كنت أكاشفها بأسراري. وكثيرا ما شكت إلي ثقة زوجها ~~بالأفشين وهي لا تثق به؛ لما تعلمه من جشعه وطمعه، ولكنها لا تجسر على اعتراض المرزبان في ~~أعماله.» # فلما سمع ذكر الجشع والطمع شغل باله لأن الرجل أصبح وصيا على تركة كبيرة ربما تلاعب ~~بأموالها ولكنه كان حسن الظن بالناس لسلامة طويته، فأكبر أن يطمع ذلك القائد العظيم في مال ~~أقيم وصيا عليه فقال: «هل تظنين الأفشين يمد يده إلى شيء من التركة؟» # قالت: «لا أدري، ولكنني ذكرت لك ما كانت ms072 تسره إلي تلك المسكينة. وهي التي أسرت ~~إلي ما علمته عن سامان وسبب حرمانه من الإرث.» # فانتبه ضرغام لشيء لحظه من سامان فقال لها: «لا شك أن سامان نفسه كان عالما بنية أبيه؛ ~~ولذلك كان يبذل جهده في منع الوصية؛ فكان كلما بعث به أبوه لاستقدام الموبذ، لم يفعل وانتحل ~~أعذارا غير مقبولة!» # قالت: «وهل كتبت الوصية على يد الموبذ؟» # قال: «نعم، وأنا أرسلت وردان للمجيء به.» # فهزت رأسها وقالت: «أنعم به من موبذ! وهكذا أيضا كانت تلك المسكينة تستثقل ظله وتنفر ~~من رؤيته، فإذا زارهم في عيد هربت من الإيوان حتى لا تلتقي به. وقد أذكرتني وردان، أين ~~هو؟» # قال: «هنا عندنا، وأظنه نام الآن؛ لأنه متعب من السفر. إنه والحق يقال همام غيور كنت ~~كثير الاعتماد عليه في شئوني، وأنا لا أدعوه خادما فهو أولى أن يدعى صديقا؛ لأنه أرقى ~~كثيرا من طبقة الخدم، ولعل له شأنا.» # فقالت: «احتفظ به فقد يكون شهما خانه الدهر والدهر بالناس قلب.» ثم انتبهت إلى أن قد دنا ~~موعد الرقاد، ولا سيما أنه متعب من السفر؛ فقالت: «اذهب يا حبيبي إلى فراشك، وغدا تخرج ~~بحراسة الله إلى المعتصم، وأرجو أن تلقاه وأنت في خير وعافية.» قالت ذلك ونهضت وذهب كل ~~إلى فراشه. # الفصل الثاني عشر # | المعتصم والأسد # نهض ضرغام في صباح اليوم التالي، فقبل يد أمه وأفطر، ثم ارتدى الثياب التي يدخل بها على ~~الخليفة وأهمها: القلنسوة حولها العمامة، والسواد وهو الجبة السوداء الخاصة بالعباسيين ~~وتحتها القباء والسراويل. وتقلد السيف، ثم ركب جواده، وركب وردان في أثره، وسارا يلتمسان ~~قصر الخليفة. # وكان قصر المعتصم في الجانب الشرقي من سامرا، ويقال له الجوسق، ويحتوي على أبنية عدة ~~يضمها سور واحد. وقد قلد في بنائه طراز الأكاسرة في المدائن؛ فجعل بابه الخارجي مثلث ~~القناطر؛ القنطرة الوسطى كبيرة لمرور الفرسان، وإلى كل من جانبيها قنطرة صغيرة يمر ~~تحتها المشاة. ويستطرق الداخل إلى حديقة كبيرة بها أبنية كثيرة أكبرها البناء الذي يقيم به ~~المعتصم، وبقية الأبنية ms073 للحاشية وفي جملتها بناء للأضياف وآخر للسباع. فقد كان المعتصم ~~مولعا باقتنائها وكثيرا ما يخرج لاقتناصها. # وصل ضرغام إلى ذلك القصر في الضحى، فلما أقبل على الباب وقف له الحرس وحيوه، فدخل على ~~جواده، وترجل وردان وقاد فرسه في أثره أما ضرغام فلم يترجل حتى دنا من قصر الخليفة فأخذ ~~وردان فرسه وساق الفرسين إلى الإصطبل، فرحب الحاجب بضرغام، ولما سأله عن المعتصم قال: ~~«لقد خرج أمس للقنص ولم يعد بعد.» # قال: «وهل تظنه يعود الآن؟» # قال: «لا يلبث أن يأتي.» # فأدخله الحاجب إلى قاعة يستريح فيها، ووقف بين يديه وأخذ يرحب به ويسأله عن سفره، فطمأنه ~~وسأله عن الأحوال الجارية لعله يفهم سبب طلبه فلم يجد ما يشفي غليله. ومكث وهو يتشاغل ~~بمشاهدة ما أحدث في القصر من الرياش الجديد. ثم رأى أن يخرج إلى الحديقة يتفرج على ما فيها ~~من الأشجار والرياحين فرافقه الحاجب إلى بعض أطرافها وإذا بأهل القصر في هرج ومرج وصاح ~~بعضهم: «عاد الخليفة.» فتحول القوم نحو الممر المؤدي إلى القصر وأخذت طلائع الموكب تتقاطر ~~بين فرسان ومشاة، ثم أقبل الخليفة على جواده وعليه لباس الصيد فوق الدرع التي يلبسها إذا ~~خرج للصيد خوفا من وثوب السباع أو غيرها من الضواري. # وكان المعتصم ربع القامة طويل اللحية أبيض أصهب مشربا حمرة تلوح الشجاعة في وجهه وتتجلى ~~القوة العضلية في بدنه. وبلغ من قوته أنه كان يحمل ألف رطل ويمشي بها خطوات. وإذا اعتمد ~~بإصبعيه السبابة والوسطى على ساعد إنسان دقه. وكان يلوي العمود الحديد حتى يصير طوقا ~~ويشد على الدينار بإصبعه فيمحو كتابته. وكان غضوبا شديد النقمة منصرف الهمة إلى ركوب الخيل ~~واللعب بالصوالجة. فلما وصل إلى باب القصر ترجل وحيا الوقوف وأكثرهم من القواد ~~والفرسان، فوقع بصره على ضرغام فهش له وحياه فأسرع ضرغام إليه وهم بتقبيل يده. فمنعه ~~وقال: «أنت هنا!» # قال: «جئت يا مولاي طوعا لأمرك.» # قال: «وددت لو كنت البارحة معي في هذا الصيد.» # قال: «وأنا أشتهي ذلك يا أمير المؤمنين ms074 ... لا زلت ظافرا غانما.» # وبعد أن حول الخليفة وجهه نحو القصر رجع كأنه تذكر شيئا وأشار إلى الوقوف فانصرفوا ~~واستبقى ضرغاما، وقال له: «سأذكر لك الآن شيئا يسرك؛ فقد اصطدت أسدا هائلا، ولا أرى ~~أسدا إلا تذكرتك؛ لأنك تسمى ببعض أسمائه.» ثم أشار إلى الحاجب فوقف بين يديه فقال له: «قل ~~لأصحاب الصيد أن يأتوا بالأسد إلى تلك المصطبة.» ومشى الخليفة إلى مصطبة في بعض جوانب ~~الحديقة وهو يراعي ضرغاما ويكلمه، واغتنم فرصة الانتظار وأخذ يسأله عن سفره قائلا: «عسى ~~أن تكون قد وفقت في هذه الرحلة إلى ما يسرنا.» # قال: «صدعت بأمر مولاي فرافقنا توفيقه فابتعنا الجواري ...» # فقطع كلامه قائلا: «أنت ابتعتهن؟» # قال: «كلا يا مولاي، فليس لي أن أكون تاجرا، ولكنني ساعدت الجماعة في ابتياع ما يلزم ~~وسيصلون هنا عما قليل، وإنما تعجلت المجيء طوعا لأمر أمير المؤمنين.» # فلما قال ذلك بدا الاهتمام في وجه المعتصم وأطرق ثم قال: «سنتكلم في هذا بعد قليل.» ~~والتفت إلى باب الحديقة فأبرقت أسرته، وأشار إلى ضرغام فالتفت فإذا بجماعة يحملون قفصا ~~من قضبان الحديد على أعمدة. وفي القفص أسد هائج يكاد الشرر يتطاير من عينيه. فقطب ضرغام ~~حاجبيه تهيبا وكأن شيئا جاش في خاطره؛ إذ تمثلت له الشجاعة في وجه ذلك الحيوان ~~المفترس. # فلبث المعتصم واقفا، فلما اقتربوا بالقفص أمرهم بوضعه، فوضعوه أرضا والأسد يزأر زئيرا ~~تصطك له المسامع، فقال المعتصم: «إنه يزأر من شدة الألم؛ لأني رميته بنبل أصاب ليته، وأخشى ~~أن يموت منه. مع أني أحب أن يبقى حيا لأتمتع بلذة هذا الصيد كلما رأيته.» قال ذلك ومشى ~~إلى القفص وضرغام بجانبه إلى الوراء تأدبا حتى أصبحا على بضع أذرع من الأسد. وكان بيد ~~الخليفة نبل ليس معه من الأسلحة سواه؛ لأن صاحب لباسه أخذ أسلحته ساعة وصوله واستبقى النبل ~~بيده يتشاغل به. فلما دنا من القفص أخذ يداعب الأسد ويشير إليه بالنبل كأنه يهم بضربه ~~والأسد يزأر ويتململ والدم يقطر من ليته وقد جمد بعضه على صدره وقائمتيه ms075 واحمرت عيناه ~~وتناعستا، فظن المعتصم أنه سيموت فرمى النبل عليه لمداعبته، فأصاب عينه فهب الأسد غضبا ~~وألما ووثب يطلب الخليفة فلطم رأسه قضبان الحديد فارتد وقد اشتد غضبه كأنه جن، ~~والمعتصم وضرغام ينظران إليه مستهزئين وقلباهما يخفقان، فإن للأسد رهبة حتى في حالة ~~الاحتضار. # وفيما هم في ذلك وضرغام يتفرس في الأسد راثيا لما أصابه إذا بالأسد يضرب جانب القفص ~~برأسه ضربة قوية حطمت منه قضيبين وأحدث فرجة نفذ منها خارجه، فذعر الناس وفروا مسرعين ~~يطأ بعضهم بعضا، ما عدا ضرغاما والخليفة. ولم تكن إلا لحظة حتى هجم الأسد على الخليفة ~~ممسكا ذراعه بمخالبه، وفتح فمه وهم بأن يلتقم رأسه، فبغت المعتصم، وذهبت قوته وأيقن ~~بالهلاك؛ إذ لم يجد شيئا يدفع به عن نفسه ولا وسيلة للنجاة من براثن الأسد وقد ولى الناس ~~فرارا ورعبا. على أن ضرغاما ثبت في موقفه وانقض على الأسد فقبض على فكه الأسفل بيد ~~وعلى الأعلى باليد الأخرى، وهو يقول: «لبيك يا مولاي. سلمت بإذن الله.» وما عتم الخليفة أن ~~سمع تمزق شدقي الأسد. وشعر بأن ذراعه تخلصت من مخالبه ثم رآه يهجم على ضرغام، ولكن هذا ~~استل خنجره ومضى يطعنه في ليته وخاصرته وتحت إبطه، وقد غلبت عليه سورة الغضب حتى أصبح ~~منظره أشبه رهبة من الأسد، فوقف شارباه واحمرت عيناه وتقطب حاجباه. # وكان الجمود قد استولى على الحاضرين، ولكنهم لما رأوا الأسد مضرجا بدمه وضرغام فوقه ~~والخليفة واقف وعيناه شائعتان إلى ضرغام تقاطروا راجعين، وعلا صياحهم يهنئون الخليفة ~~وينظرون إلى ضرغام معجبين. وابتسم المعتصم لضرغام والاصفرار غالب على سحنته من أثر البغتة، ~~وقال: «بورك فيك يا ضرغام ... إنك والله ضرغام حقيقة!» # فلما سمع إعجاب الخليفة به رجع إلى رشده فوقف والخنجر في يده يقطر دما. فرماه وقال: «إني ~~عبد أمير المؤمنين ولم أفعل شيئا إلا ببركته، وإنه أولى مني بالانتقام من هذا الوحش. ولو ~~انفرد به لقتله ولكنني غلبت على رشدي فلم أستطع صبرا على ما رأيته من جرأته فنبت عن ~~مولاي بقتله ms076، وهي جرأة أستغفر لها.» # فأعجب المعتصم بأسلوبه في الاعتذار وشكره، ورأى أن يؤجل ما بقي عنده من الكلام لخلوة ~~يختليانها، وهم بالمسير فأحس بألم في ذراعه من أثر مخالب الأسد ولكنه تجلد ومشى وأمر ~~القوم بالانصراف، وتحول ضرغام إلى قصره وأمر الحاجب أن يمنع الدخول عليه في ذلك اليوم إلا ~~للطبيب الذي أمر بإحضاره، فلما أتى هذا وكشف عن الجرح لم يجده يستحق الاهتمام؛ لأن الدرع ~~صانت موقع المخالب. فهنأه بالسلامة وأشار عليه أن يلزم الفراش بقية ذلك اليوم. ~~••• # وتسامع أهل الجوسق بما وقع للخليفة، فتقاطر الوزراء والقواد للسؤال فأنبأهم الحاجب بما ~~أوصاه به فرجعوا. ثم دعا ضرغاما إلى مخدعه فدخل بعد أن غسل يده وأصلح من شأنه، فتحفز ~~المعتصم للوقوف له إظهارا لإعجابه، فأكب ضرغام على يده يقبلها، ثم أمره الخليفة بالجلوس ~~بجانبه فجلس متأدبا، فقال له: «إن حياتي الآن من يدك يا ضرغام.» # فأطرق ضرغام استحياء وقال: «عفوك يا مولاي، إني لم أفعل ما يستحق هذا الإطراء فإنما نبل ~~أمير المؤمنين أردى الأسد من قبل، وما وثوبه هذا إلا من حشرجة الاحتضار. وهب أني أتيت شيئا ~~فأنا عبد أمير المؤمنين أفديه بدمي.» # قال: «بورك فيك. إني لطالما أعجبت ببسالتك وإخلاصك وأنا محاط بالمداهنين والمملقين لا ~~أثق إلا بقليلين، وإن كنت أظهر وثوقي بهم جميعا. وإن قائدا مثلك يندر في بلاط الخلفاء في ~~مثل هذا الجيل الفاسد. ولم أكن أجهل إخلاصك من قبل؛ ولذلك جعلتك رئيس حرسي، فأنت جدير بهذا ~~المنصب ولا يليق إلا بك.» ثم التفت إلى الباب ثم إلى النافذة كأنه يتفقد المكان ليتحقق ~~خلوه من الرقباء وأطرق وضرغام ساكت يسترق النظر إليه، ثم رفع المعتصم رأسه وقال: «أتعلم ~~لماذا استعجلت مجيئك من فرغانة؟» قال: «كلا يا مولاي.» # قال: «أتعلم أن دولتنا قامت على كتم الأسرار؟» # قال: «نعم أعلم ذلك، وليتأكد مولاي أني أحفظ لسره من صدره.» # قال: «إني وثقت بك لإخلاصك وحسن بلائك منذ رأيتك للمرة الأولى وقد شعرت بشيء حببك ~~إلي.» # فتحفز ضرغام للوقوف إجلالا ms077 وشكرانا وقال: «تلك منة لا أستحقها، ومن أين لجندي مثلي أن ~~ينال هذه الحظوة عند أمير المؤمنين؟! وأي فضل لي إذا أخلصت الخدمة لخليفة الرسول؟ أليس ذلك ~~فرضا على كل مسلم؟!» # فقال وهو يقعده بيده: «بلى. إن ذلك فرض على المسلمين ولكن المخلصين قليلون، ولولا ذلك ما ~~اضطررت إلى الخروج من بغداد وإنشاء هذه المدينة ولا كان ثمة ما يدعو لتجنيد هؤلاء الأجناد ~~من أقصى تركستان وفرغانة لأستعين بهم على قومي وعشيرتي، وعلى أولئك الفرس الذين أطمعهم أخي ~~المأمون في الدولة. إني محاط بالأعداء من كل ناحية. وكأنه ما كفاني الأعداء الأباعد في ~~أذربيجان وطبرستان حتى ابتليت بهم في مدينتي وفي قصري! حتى هؤلاء الأتراك الذين جعلتهم ~~بطانتي وعهدت إليهم في حمايتي ونصرة هذه الدولة، لا ينصرونني إلا طمعا في المال! وأنا إنما ~~أسايرهم وأخادعهم وأنفق الأموال فيهم، وهم يظنون أنهم يخدعونني!» وسكت وبدا الجد في عينيه ~~فأبرقتا بريقا يوهم الناظر إليهما أن الدمع يغشاهما فتهيب ضرغام من ذلك وأطرق ينتظر ما ~~يبدو من الخليفة فاستأنف هذا كلامه وقال: «ضرغام، هل رأيت الأفشين في فرغانة؟» قال: «نعم ~~يا مولاي.» # قال: «وما الذي ذهب به إلى هناك؟» # قال: «لم يخبرني عن سبب ذهابه، ولكنني أظنه ذهب ليتعهد بلده وأهله في عيد النيروز. وأظنه ~~قادما قريبا.» # قال: «إنه قادم لا شك؛ لأنه لا يجد رزقا أوسع من هذا ولكن ...» # قال: «وهل أمير المؤمنين في ريب من إخلاصه؟» # فقال: «إني أكاد ألمس ذلك بيدي ولكني أغالط نفسي وأظهر الثقة به؛ لأننا في حرب لا غنى لنا ~~فيها عن رجاله، وليتني كنت مخطئا، فالذي أبغيه منك الآن أن تكون موضع سري وألا تفارق ~~قصري.» # فأجابه على الفور: «إني عبد أمير المؤمنين وطوع إشارته.» # قال: «أنت منذ الآن صاحبي، فإنه وإن كان اسمك أليق الأسماء ببسالتك فقد اخترت لك اسم ~~«الصاحب»؛ لأنك مصاحبي. فهمت يا صاحب؟» # فحنى ضرغام رأسه شكرا وقال: «لقد تكاثرت علي نعم أمير المؤمنين، ولا أراني أهلا لها ~~ولكنه أراد أن يرفع ms078 صنيعته و...» # فقطع الخليفة كلامه قائلا: «كيف لا تكون أهلا لذلك وقد أنقذتني من براثن ~~الأسد؟!» # فأطرق ضرغام استحياء وقلبه يرقص طربا لما يتوقع من فرح جهان بارتفاعه في نظر الخليفة، ~~وبأنه صار أهلا لها بحق - والمحبون إنما يطلبون العلا إرضاء لأحبائهم - ونظر إلى الخليفة ~~وقال: «لم أعد أستطيع الشكر على نعم مولاي.» # فقال: «إذا كنت تعد هذه نعما، فكيف بما أعددته لك من النعم الحقيقية؟» # فظل ضرغام ساكتا واستأنف الخليفة الكلام قائلا: «علمت أنك لم تتزوج بعد وأنك تقيم مع ~~والدتك. فأردت أن تقيما بقصر خاص بجوار هذا القصر، وقد آن لك أن تتزوج. أليس كذلك؟» # فأطرق ضرغام أدبا وقال: «الأمر لمولاي.» # قال: «لقد استحسنت لك جارية تركية عرفت فيها الذكاء والجمال. رأيتها منذ عام وبعض العام ~~فأضمرت أن أزوجك منها.» # فلما سمع ضرغام كلامه سقط في يده؛ لأن قلبه ليس له، وقد أحب جهان ولا يريد أن يحب سواها، ~~ولكنه لم يستطع مخالفة الخليفة ولا استطاع التأمين على قوله، فظل ساكتا وقد حار في ~~أمره. # فرأى المعتصم حيرته، ولم يدر في خلده أنه يمتنع. فقال: «لماذا لا تجيب؟ ألم يرقك ~~اقتراحي؟» # قال: «كيف لا! إن جوار أمير المؤمنين أمنية الأماني.» وسكت عن الزواج فظنه الخليفة سكت ~~حياء فقال: «والزواج ... لعلك لست كسائر الناس؟ ليس في جندي واحد لا يتمنى الزواج؛ ولذلك ~~تراني أبعث في ابتياع الجواري لهم من تركستان؛ لأني لا أريد لهم أن يختلطوا بالسوقة ببغداد ~~وغيرها فيغلب عليهم التخنث. أم لعلك تؤثر أن تختار جارية من الجواري اللواتي ابتعتموهن في ~~هذه الرحلة. ولكنك لن تجد في تركستان كلها فتاة أجمل من التي اخترتها لك ولو جهدت. ويكفي أن ~~اختياري وقع عليها. وقوادي يتنازعون عليها لفرط جمالها وذكائها ولكنني قد اختصصتك بها ~~دونهم!» # فلم يجد ضرغام سبيلا للقبول أو لإبداء ما يجول في خاطره، ثم تشجع وقال: «إننا في حرب أو ~~في تأهب لحرب، ومتى فرغنا من ذلك فإني عبد أمير المؤمنين.» # فاكتفى المعتصم بما سمعه وأعجبه ms079 منه تأهبه للحرب فقال: «وهب أننا في حرب فلست تفارق ~~قصري. وأت بأمك وأهلك إلى هنا وأخبرها أن اسمك من اليوم «الصاحب»، وسأوصي بطانتي وقوادي ~~وسائر رجال دولتي بذلك.» ثم تزحزح من مكانه فتحفز ضرغام للنهوض وقال: «أيأذن أمير ~~المؤمنين في أن أذهب لأخبر والدتي بما أمر؟» # قال: «سر إذا شئت وستهيئ القهرمانة لكم المنزل اليوم.» # فمشى ضرغام ووجهه إلى المعتصم حتى خرج. ثم أرسل إلى وردان فجاءه بالفرس فركبا قاصدين إلى ~~البيت وضرغام تتقاذفه الأفكار، وقد سره إعجاب الخليفة به ودعوته ليقيم بقربه كما ساءه أمر ~~الزواج، ولكنه لم يعلق عليه كبير شأن؛ إذ لا دخل له بالسياسة فيسهل التخلص منه. # فلما وصل إلى منزله تلقته أمه بالترحاب، وسألت وردان عن حاله وكانت قد أعدت الطعام ~~فجلست معه إلى المائدة، وشعرت من سكوته أن تغييرا طرأ عليه فقالت: «هل لقيت أمير ~~المؤمنين؟» قال: «نعم يا أماه.» # قالت: «كيف حاله؟ وهل أخبرك بسبب تعجيله باستقدامك؟» # فأبطأ في الجواب؛ لأنه خاف إن قال لها كل شيء أن يخلف الوعد ويبوح بالسر ثم قال: «أخبرني، ~~ولكن حدث أمر غريب.» # قالت: «ما هو؟» فقص عليها خبر الأسد وما كان من دفاعه عن الخليفة، فانشرح صدرها وبان في ~~محياها. ثم أخبرها أن الخليفة غير اسمه وسماه «صاحب»، وذكر لها السبب فازداد سرورها، ثم ~~قال: «وقد دعاني للإقامة بجواره.» # وكانت تهم بلقمة من الرغيف لتتناولها فلما سمعت كلامه ارتبكت وشخصت بعينيها البيضاوين ~~إليه وقالت: «دعاك للإقامة بجواره؟ لماذا؟» # قال: «لأكون ملازما له. وذلك إكرام عظيم.» # قالت وقد توقفت عن ازدراد ما فيها من الطعام: «وهل يريد أن أكون أنا معك أيضا؟» # قال: «نعم فقد قال لي: «تسكن أنت وأمك هنا».» # فتغير لونها وتشاغلت بالمضغ وبان قلقها من تسرعها فيه وقالت: «اذهب أنت وحدك، ولا حاجة ~~بي إلى الإقامة بقصر الخليفة.» # قال: «ولماذا يا أماه؟ إذا كنت لا تريدين الذهاب معي فأنا أيضا لا أذهب.» # قالت: «اذهب أنت فإن القرب من الخليفة شرف يتمناه القواد، وأما ms080 أنا فأمكث هنا على أن ~~تتردد علي حينا بعد آخر لألمسك وأقبلك.» # فعجب ضرغام من استنكافها وإبائها وقال: «بل تذهبين معي فنقيم هناك كما نقيم هنا، وقد وعدت ~~الخليفة بذلك ولا سبيل إلى الإخلاف.» # فوجمت حينا ثم قالت: «ننظر في ذلك.» # قال: «ليس في الوقت متسع فإننا ذاهبون غدا، فقولي لمسعودة تستعد، وسأوصي وردان بأن ~~يساعدها. ولا ريب أنك ستأنسين بمن في قصر الخليفة من النساء فتقضين النهار في الحديث أو ~~سماع الغناء. وذلك خير من بقائك وحيدة هنا. هذا فضلا عن حاجتي إلى وجودك هناك لأمر ~~يهمني.» # فصعد الدم إلى وجنتيها وتغيرت سحنتها وأدارت عينيها دورة تكاد تنطق بما اعتراه من ~~الارتباك، وقالت: «أما الاستئناس فلا أبغيه من سواك فأنت تعزيتي الوحيدة لا أطلب سواها، بل ~~أنا أشترط عليك إذا كان لا بد من ذهابي أن يكون لي الخيار في البقاء بالمنزل أو الخروج منه. ~~ولكن ما حاجتك إلي وأنا مكفوفة البصر كما ترى؟» # قال: «أنت ضوئي، وستكونين عوني على إنقاذي من السعادة التي أعدها الخليفة لي.» # قالت: «إنقاذك من سعادة؟! ماذا تعني؟» # قال: «أعني أن الخليفة خطب لي جارية تركية ذكر أنها أجمل نساء هذه المدينة واختصني بها ~~دون قواده.» # قالت: «وبماذا أجبته؟» قال: «أجلت الجواب لأني استحييت أن أرفض.» # قالت: «هل نويت الرفض؟» قال: «وهل أقبل؟» # فسكتت وذكرت أنه عالق بجهان فقالت: «وكيف ترفض أمر الخليفة؟» # قال: «وجهان؟ أليست خطيبتي؟» # قالت: «لذلك تريدني أن أكون معك؟ عسى أن أحتال لإنقاذك من هذه الورطة. ذلك شيء ~~يسير.» # فانشرح صدره وقال: «إذن غدا ننتقل جميعا. واحذري أن تناديني ضرغاما فإن الخليفة قد ~~سماني «الصاحب» وقد يستاء إذا دعيتني بغير ما سماني.» # قالت: «لك علي ذلك.» وكانوا قد فرغوا من الطعام فأمرت مسعودة بالتأهب، وأمر وردان ~~بمساعدتها، وفي اليوم التالي انتقل الجميع إلى قصر الخليفة وأقاموا بمنزل بجانبه وليس معهم ~~من الخدم إلا وردان ومسعودة. اكتفاء بخدم الخليفة. # الفصل الثالث عشر # | أحمد بن أبي دؤاد # قضى الصاحب في جوار الخليفة ms081 أياما يتوقع أن يسمع خبرا عن جهان أو نبأ بقدومها، وقد ~~ازداد رغبة في مجيئها لتنقذه من الجارية التي اختارها الخليفة. ولم يداخله شك في أن الخليفة ~~إذا رأى جهان زهد في سائر نساء الأرض فلا يلومه حينئذ إذا أبى الزواج بسواها. وطال غيابها ~~واستبطأها فقلق لتأخرها وانقطاع أخبارها، وضاق صدره عن كتمان القلق، فاستدعى وردان ذات يوم ~~وقال له: «ما قولك في أهل فرغانة؟» # ففهم وردان قصده وقال: «أتعني مولاتي جهان؟» # قال: «أعني أني كنت على موعد معها هنا بعد انقضاء الحداد، ولكنها لم تأت ولا سمعنا عنها ~~خبرا، فما رأيك؟» # قال: «أتريد أن أذهب للبحث عنها؟» # فأعجب الصاحب بتفانيه في خدمته وابتسم وقال: «بورك فيك يا وردان، لا أكلفك هذه المشقة ~~ولكنني أستشيرك في الأمر.» # فأطرق وردان يفكر ثم قال: «الرأي عندي أن نصبر مدة أخرى حتى يأتي مولانا الأفشين من ~~فرغانة.» # قال: «ومتى يكون هذا؟» # قال: «جاءت البشائر بقرب وصوله، فإذا جاء سألناه أو سألنا بعض رجاله.» # فاستحسن ضرغام ذلك، وقال له: «أرى أن تتولى أنت أمر البحث من بعض رجال الأفشين.» # قال: «فهمت مرادك.» # فضحك الصاحب (ضرغام) وقال: «لا تكتم رأيا ترى فيه نفعا لي. واعلم أني أعدك رفيقا لي ~~لا خادما فأنت أرقى من ذلك كثيرا.» # فأطرق وردان احتراما وقال: «أنا خادمك، أتفانى في خدمتك. أتأذن لي في أن أذهب للقاء حملة ~~الأفشين قبل وصولها؟» قال: «افعل ما يبدو لك.» فودعه وخرج. # ومكث ضرغام ساعة في القصر، ثم جاءه رسول المعتصم يدعوه إليه، فلبس سواده وذهب إلى القصر ~~فقيل له إن الخليفة في خلوة مع قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد في دار الخاصة. # وكان ضرغام يعرف منزلة ابن أبي دؤاد عند الخليفة، وأنه لا يختلي به إلا أمر ذي بال، ~~فاستأذن ودخل فرأى الخليفة جالسا على سريره في صدر القاعة، وأحمد بن أبي دؤاد على كرسي بين ~~يديه. # وكان أحمد هذا معروفا بالمروءة وبعصبيته العربية؛ إذ كان ينتسب إلى بني إياد، ولكن ~~المعتصم وإن ms082 أبعد العرب من مجلسه وقطع أعطياتهم وحط من أقدارهم واختص الأتراك ببطانته؛ ~~كان شديد الثقة به لا يمضي أمرا إلا بمشورته ولا يشاور وزراءه. # وكانت نشأة ابن أبي دؤاد في قرية من أعمال قنسرين، ثم هاجر أبوه إلى الشام للتجارة فأخذه ~~معه إليها وهو غلام، فنشأ في طلب العلم ولا سيما الفقه والكلام حتى فاق معاصريه، وأصبح ~~معتزليا فصيحا قوي الحجة، ونال عند المعتصم حظوة ودالة لم يسبقه إليهما أحد، حتى صار ~~يفتتح الكلام في حضرته وكانت العادة عند الخلفاء ألا يبدأهم أحد بالكلام. ومن أمثلة دالته ~~هذه أن المعتصم غضب مرة على خالد بن يزيد الشيباني وأشخصه من ولايته لعجز لحقه في مال طلب ~~منه وأسباب أخرى، فجلس المعتصم لعقوبته، وكان قد طرح نفسه على القاضي أحمد فشفع فيه فلم ~~يجبه المعتصم، فلما جلس لعقوبته حضر القاضي أحمد فجلس دون مجلسه الذي اعتاده فقال له ~~المعتصم: «يا أبا عبد الله لم جلست في غير مجلسك؟» قال: «ما ينبغي لي أن أجلس إلا دون ~~مجلسي هذا!» فقال له: «وكيف؟» قال: «لأن الناس يزعمون أن ليس موضعي موضع من يشفع في رجل ~~فيشفع.» قال: «فارجع إلى مجلسك.» قال: «مشفعا أو غير مشفع؟» قال: «بل مشفعا.» فارتفع ~~إلى مجلسه. ثم قال: «إن الناس لا يعلمون رضا أمير المؤمنين عنه إن لم يخلع عليه.» فأمر ~~بالخلع عليه فقال: «يا أمير المؤمنين، قد استحق هو وأصحابه رزق ستة أشهر لا بد أن ~~ينالوها، وإن أمرت لهم بها في هذا الوقت قامت مقام الصلة.» فقال: «قد أمرت بها.» فخرج خالد ~~وعليه الخلع والمال بين يديه، وكان الناس في الطريق ينتظرون الإيقاع به فصاح به رجل: «الحمد ~~لله على خلاصك يا سيد العرب.» فقال له: «اسكت، سيد العرب، والله، أحمد بن أبي دؤاد.» # ولم يكن نفوذ ابن أبي دؤاد خافيا على ضرغام، فلما دخل على المعتصم وهو عنده علم أنه دعي ~~لأمر ذي بال، فلما أقبل على الخليفة حياه بتحية الخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير ms083 ~~المؤمنين ورحمة الله وبركاته.» # فهش له المعتصم وناداه وأمره بالجلوس بجانب ابن أبي دؤاد وهو يقول: «مرحبا بالصاحب.» ~~ثم التفت إلى القاضي وقال: «أظنك تستغرب تسميتي هذا القائد بغير اسمه، فاعلم أني عملت بحسن ~~رأيك فيه؛ فقد طالما أثنيت على شهامته وإخلاصه، وقد رأيت منه فوق ما وصفت حتى عرض نفسه ~~للموت لأجلي؛ إنه أنقذني من براثن الأسد ببسالته؛ فقربته وسميته الصاحب وأسكنته بعض ~~قصوري.» # وكان ابن أبي دؤاد في نحو الستين من عمره وقد خط الشيب لحيته وعارضيه، فازداد إجلالا ~~ووقارا وهو يلبس زي القضاة: العمامة الطويلة، والطيلسان الرقيق، فلما سمع إطراء المعتصم ~~وترحيبه بضرغام هش له وحياه، والتفت إلى المعتصم فقال: «ألا يرى أمير المؤمنين حسن ظني ~~في محله؟ إني أنزلته من نفسي منزلا رفيعا يوم رأيته، وتوقعت له مستقبلا مجيدا. أعانه ~~الله على خدمة أمير المؤمنين.» # فقال المعتصم: «وبناء على ذلك أرى ألا نخفي عنه ما يدور بيننا.» # وكان ضرغام جالسا متأدبا ينتظر أمر الخليفة فقال الخليفة: «اعلم يا صاحب أني كنت ~~والقاضي نتشاور فيما بلغنا من أخبار المجوسي في أرمينيا.» # فأدرك ضرغام أنه يعني بابك الخرمي القائم على الدولة في أردبيل. وكان عالما بانتقاضه ~~وبوقائع جرت بينه وبين جند المسلمين ولم يظفروا منه بطائل حتى استفحل أمره، فقال: «وهل ~~أحدث هذا الرجل حادثا جديدا؟» # فقال القاضي: «لا يخفى عليك أن بابك الخرمي تمرد على أمير المؤمنين بأرمينيا، فرماه ~~بالأفشين ورجاله مرة، وبغيرهم مرة أخرى، والشقة بيننا وبين أرمينيا واسعة؛ فكانت الحرب ~~سجالا، ولا يزال الرجل معتصما هناك وأمير المؤمنين ...» وسكت ونظر إلى المعتصم، فأتم هذا ~~كلامه قائلا: «قلت لك يا صاحب إني لا أثق بالأفشين هذا ولا أعلم كيف أستغني عنه وقد رأيته ~~أنت في بلاده بين أهله وعشيرته، فكيف وجدته؟» # قال: «إن لهذا الرجل سطوة عظيمة في تلك البقاع، فهم يعدونه ملكا كبيرا ويسمونه ملك ~~الملوك، وبعضهم يخاطبه بإله الآلهة كما كانوا يفعلون قبل إسلامه، ولعله الآن يستنكف من هذا. ~~وقد رأيت يا أمير المؤمنين ms084 من سلطانه شيئا عظيما حتى يجتمع لندائه ألوف الألوف من الرجال. ~~وإذا رأى أمير المؤمنين أن يخلعه فإنه فاعل ما يشاء، وإذا شاء أن يرمي بي في مكانه بذلت دمي ~~وروحي في خدمته. ولا أزعم أني أقدر من ذلك الرجل ولكنني طوع أمير المؤمنين والنصر من عند ~~الله يؤتيه من يشاء.» # فقال القاضي للمعتصم: «إن الصاحب يبدي إخلاصه وتفانيه في خدمة الدولة، ولكنه لو سئل عن ~~عاقبة هذا التبديل لما جهل الخطر الذي يترتب عليه. لا أرى أن يعلم الأفشين أو أحد رجاله بما ~~يجول بأذهاننا عنهم، وإذا أذن أمير المؤمنين أبديت رأيا لعل فيه نفعا.» # فقال: «قل ما بدا لك.» والتفت إلى ضرغام وقال: «إن القاضي أحمد يحل لدينا محل الوزراء ~~والمشيرين، فعندنا من الوزراء والخاصة غير واحد ولكنني لا أثق بأحد منهم وثوقي به. قل أيها ~~القاضي.» # فقال: «إن الأفشين ملك في بلده وعنده الجند والأعوان، وقد رضي أن يخدم أمير المؤمنين ~~طمعا في المال. ويتحدث بعض الناس بأنه لا يخدم المسلمين إلا لذلك، ولو ترك لشأنه لانضم ~~إلى بابك وحاربنا. وهو إذا صح إسلامه فإنه لا يزال حديثا فيه، فإذا جافيناه انقلب علينا، ~~وإذا اتحد مع بابك أصبحا خطرا علينا مما لا يخفى على أمير المؤمنين. والذي أراه أن نظهر له ~~ثقتنا بإخلاصه ونشتريه بالمال هو ورجاله ونضرب بهم ذلك المجوسي المتمرد في أرمينيا، فإذا ~~غلبوه كفونا شره، وإذا اتضح لأمير المؤمنين بعد ذلك أن الأفشين خائن، سهل علينا الاقتصاص ~~منه؛ إذ يكون وحيدا. وإذا أخلص حقا نال ما يستحقه.» # فلما سمع ضرغام كلام القاضي أدرك أن الرجل ينطق عن تعقل ودهاء، ولو ترك هو لرأيه لم يصل ~~إلى هذا الحكم؛ لأنه من أهل الشجاعة وليس من أهل الرأي، ويندر اجتماع الشجاعة والرأي في ~~واحد. ثم قال الخليفة: «أرى قاضي القضاة يغالي بقوة هذا الفارسي أو الأشروسني ويخشاه، ~~وفاته من في جندنا من القواد العظام وكل منهم يدفع عن دولتنا برجاله وعدته.» # قال: «صدق أمير المؤمنين؛ فعنده ms085 أشناس التركي وأيتاخ وبغا وسما وغيرهم، ولكن هؤلاء نشئوا ~~من العامة ليس لأحد منهم ما للأفشين من النفوذ في نفوس الجند، وقد سمعنا الآن بما لهذا ~~الرجل من السطوة في قومه وهم ألوف الألوف، فإذا أغضبناه لا يقوم هؤلاء مقامه. ولولا تمرد ~~بابك هذا لم نكن نخشى بأس الأفشين. وأنت يا أمير المؤمنين شجاع باسل، أيدك الله بالخلافة، ~~فلا ترى الالتجاء إلى الحيلة أو الصبر على المكاره، ولكنا نعلم من الحديث المأثور عن الرسول # صلى الله عليه وسلم # أنه قال: «الحرب خدعة.» فهذا رأيي والأمر من قبل ومن بعد لأمير المؤمنين، وأنا ~~وسائر رجال الدولة رهن ما يريد، نبذل دماءنا وأرواحنا في طاعته.» # فالتفت المعتصم إلى ضرغام كأنه يستطلعه رأيه، فقال ضرغام: «إني لا أرى ردا على قول ~~قاضي القضاة، ولم أكن لأفطن لما فطن هو له من حسن السياسة، وقد سمع أمير المؤمنين جوابي ~~فإني رجل سيف أصدع بالأمر، فإذا رميت بي أذربيجان أو تركستان أو أرمينيا ركبت إليها ودمي ~~على كفي، ولكن الصواب فيما قاله قاضي القضاة والرأي الأعلى لأمير المؤمنين.» # فقال المعتصم: «قد استشرتكما في الأمر لسببين؛ الأول: أن طلائع الأفشين جاءت تبشر بقرب ~~وصوله، والثاني: أن قد جاءنا جاسوس من أرمينيا بأن بابك الملعون قد استفحل أمره وربما ~~تحرك نحونا، فلا ينبغي أن نمكث هنا في انتظاره.» # قال القاضي: «لا أظنه يجسر على القدوم وإنما هو يقنع بأن نتركه وشأنه، وعلى كل حال أرى أن ~~نحتفل بقدوم الأفشين ونبالغ في إكرامه حتى نفرغ من حاجتنا إليه.» ~~••• # وفيما هم في ذلك سمعوا صوت الأذان لصلاة العصر، فتحفز الخليفة للقيام وصفق فجاء الحاجب ~~فأمره بأن يخبر صاحب وضوئه أنه سيصلي العصر في المسجد الكبير. # فلم يبق لضرغام والقاضي بد من الذهاب إلى الصلاة معه في ذلك المسجد، وكان المعتصم قد ~~بناه وبالغ في إتقانه على شكل لم يسبق له مثيل في الإسلام، فجعل جدرانه من مرايا حتى إذا ~~وقف الخليفة للصلاة رأى من يدخل المسجد من خلفه، وبنى ms086 له منارة عظيمة على شكل لولبي مكشوف ~~يصعد إليها على درج لولبي من ظاهرها. ولعل ابن طولون بنى منارة جامعه في مصر على مثال تلك. ~~وكان المعتصم كثيرا ما يصلي في ذلك المسجد لقربه من قصره. فلما تحفز للنهوض استأذن أحمد ~~وضرغام في الانصراف وذهب كل منهما إلى منزله حيث توضأ ويمم المسجد. # دخل الخليفة أولا والناس وقوف للتبرك برؤيته، وفيهم القواد والوزراء حتى إذا دخل ~~المقصورة الخاصة في أثره، وفيهم القاضي أحمد، ومحمد بن عبد الملك الزيات وزيره، وقواده ~~الأتراك الذين ذكرناهم. أما ضرغام فدخل حتى وقف في جملة الحاشية وكانت المرايا في الجدران ~~على شكل غريب يرى الناس صورهم فيها كأن أمامهم مسجدا آخر فيه أناس يصلون، ووقف ضرغام في ~~جملة الواقفين للصلاة. # وبينما ضرغام واقف يصلي وعيناه على المرايا في المحراب يرى الناس يدخلون من الباب وراءه ~~ممن يعرفهم ولا يعرفهم، وقع بصره على رجل لم يكد يتثبته حتى أجفل ولم يتمالك أن التفت إلى ~~الوراء ليتحقق ظنه فإذا هو مصيب في تخيله؛ وكان قد رأى بالمرآة صورة سامان أخي جهان، فاحتال ~~في التقهقر رويدا رويدا حتى دنا من الباب ورآه سامان يتقهقر فسبقه إلى صحن المسجد، فخرج ~~ضرغام في أثره وهو يحدق فيه ويكاد ينكره لما رأى في حاله من التغير. فقد فارقه في فرغانة ~~وعليه لباس أهل الوجاهة مما يعوض عن قبح صورته بعض الشيء، ولكنه رآه هذه الساعة في حالة ~~يرثى لها من الضعف ورثاثة الثوب وقد ربط زنده وعصب رأسه ووقف ذليلا كئيبا، فأثر منظره ~~فيه وأخذته عليه الشفقة وخشي أن يكون قد أصاب جهان سوء فصاح به: «سامان؟!» قال: «نعم أنا ~~سامان يا سيدي.» # فقال: «ما بالك؟ ماذا جرى لك؟ أين جهان؟» # قال: «إذا أذنت لي في خلوة قصصت عليك كل شيء، فقد تعبت من البحث عنك في سامرا، وأخيرا ~~أتيت المسجد لعلي أراك.» # فأشار إليه أن يمشي وراءه في صحن الجامع وقال: «يظهر أنك سألت عني باسمي القديم (ضرغام) ~~وأنا اليوم ms087 لا يعرفني أحد بهذا الاسم، وإنما اسمي الصاحب. أين جهان؟ وما لي أراك رث ~~السربال على هذه الحال؟» وكانا قد انتهيا من الصحن إلى بناء مربع على هيئة الكعبة. فرأى ~~الصاحب أن يدخل إليه ليختلي بسامان؛ إذ لم يبق له صبر حتى يصل إلى المنزل، فدخل وأشار إليه ~~أن يجلس على دكة هناك وهو يقول: «أخبرني أين جهان وماذا جرى لكم؟» # فجلس يتنهد ويتمسكن وقال: «أحمل إليك خبرا لا يسرك.» # فاضطرب ضرغام وقال: «هل أصاب جهان سوء؟» # قال: «لم يصبها سوء ولكن ...» وبلع ريقه. # قال: «ولكن ماذا؟ أين هي؟ قل!» # قال: «لا أدري أين هي يا سيدي ... فقد خطفها مني اللصوص.» قال ذلك وتظاهر بالبكاء. # فزأر ضرغام كزأر الأسد وحملق عينيه ووقف شعر شاربيه وأصبح منظره مخيفا وقال: «اختطفوها؟ ~~من تجاسر على ذلك؟» # قال: «لا أعلم يا سيدي من أولئك اللئام الذين اختطفوها. ولكن تمهل قليلا حتى أقص عليك ~~الخبر كما وقع.» # قال: «قل وأوجز.» # قال: «فارقتنا يا مولاي وظللنا في فرغانة بعد سفرك بضعة أيام ذقنا فيها الأمرين.» ~~قال ذلك وأرسل بصره إلى صحن الجامع وخفض صوته كأنه يحاذر أن يسمعه أحد. فلما تحقق خلو ~~المكان من السامعين قال: «إن مصيبتنا أتت من أقرب الناس إلينا؛ أتت من الرجل الذي أوصاه أبي ~~بنا؛ فالأفشين لم يكتف بأنه حرمني من ميراث أبي حتى مد يده إلى أختي!» # فاقشعر جسد ضرغام من هذا التعبير مع ظنه أنه يعني تعديه على حصتها من الميراث كما ~~تعدى على حصة سامان، ولم يخطر له شيء وراء ذلك فقال: «أظنه طمع في ميراثها أيضا؟» # فتشاغل سامان بحك ذقنه الأجرود وتنحنح وظل ساكتا، فارتاب ضرغام في أمره فقال: «أليس ~~الأمر كما أقول؟» # قال: «لو أنه اكتفى بالإرث لكان خيرا، ولكنه طمع فيها هي نفسها. ويحزنني أن أغضبك بهذا ~~الخبر ولكنه الواقع وعلي أن أصدقك؛ فإنه طلب الاقتران بأختي على علمه أنها مخطوبة للبطل ~~ضرغام وأنها يستحيل أن تقبل سواه.» # فقال ضرغام وهو يرتعد: «ثم ماذا؟» # قال ms088: «تداركنا الأمر بالفرار؛ ففررت أنا وجهان في قافلة بما خف حمله من المال والمتاع، ~~ولم نخبر أحدا من أهل القصر إلا القهرمانة خيرزان، فأخذناها معنا وركبنا مسرعين نقصد إلى ~~سامرا قبل أن يعلم الأفشين بنا، فقطعنا البراري والقفار، وقاسينا عذابا شديدا من الحر ~~والبرد والتعب حتى دخلنا خراسان ودنونا من همذان. وهناك فارقتنا القافلة وحسبنا أننا صرنا ~~في أمان، فاعترضنا قوم من قطاع الطريق على خيولهم فدافعنا عن أنفسنا دفاعا حسنا جهد ~~طاقتنا حتى كلت يدي وجرح رأسي، وكنت أتمنى لو أقتل وتبقى جهان سالمة ولكن ...» # فصاح به: «ولكن ماذا؟ هل أصابها سوء ...؟ أليست حية؟» # قال: «هي حية يا سيدي ولكنهم خطفوها وذهبوا بها وبقهرمانتها، وآخر ما سمعته منها قولها: ~~«سلم على ضرغام وأخبره بما جرى».» # فتعاظم غضب ضرغام حتى غلى دمه واحمرت عيناه وقال: «ومن هم أولئك اللصوص؟ ألم تعرف أحدا ~~منهم؟» # قال: «كلا؛ فقد كانوا ملثمين ولم يفوهوا بكلمة ولا سمعنا لهم صوتا خوفا من انكشاف ~~أمرهم.» ~~••• # وأطرق ضرغام برهة كان فيها كالضائع يحسب نفسه في حلم أو كأنه انتقل إلى عالم آخر، ثم ~~انتبه لجلبة الناس أثناء خروجهم من المسجد وتذكر أن الخليفة معهم، فخاف أن يراه مختبئا ~~فيشك في أمره فخرج واختلط برجال الدولة وأشار إلى سامان أن ينتظره فظل واقفا في مكانه. ~~وبعد قليل انفرج الوقوف وشقوا طريقا للخليفة ووقفوا للتحية فمر بهم المعتصم يتفرس في ~~وجوههم حتى وقع بصره على ضرغام فأشار إليه أن يتبعه، فاستعاذ بالله وخاف أن يكون في تلك ~~الدعوة ما يحول دون البحث عن جهان. وتفرق الناس عن الخليفة رويدا رويدا حتى وصل إلى ~~القصر ولم يبق معه غير ضرغام، فدخل وأشار إليه أن يلحقه، ففعل حتى وصلوا إلى غرفة خاصة، ~~فالتفت الخليفة إليه وقال: «رأيتك خرجت من المسجد قبل الفراغ من الصلاة.» # فخجل ضرغام من هذا الاستفهام وقد فاته أن الخليفة يرى الخارجين والداخلين بالمرايا كما ~~رأى هو سامان، ولكن رؤية سامان فجأة أنسته نفسه وموقفه. فلما سأله الخليفة ms089 عن سبب خروجه ~~اعتذر بقوله: «خرجت لمشاهدة رجل لم أكن أنتظر رؤيته ويهمني أمره، وكان ينبغي أن أتم الصلاة ~~لأكون في معية أمير المؤمنين، فعفوا لمولاي، وإني أعد ملاحظته التفاتا كبيرا إلى ~~صنيعته.» # قال: «إني كثير الاهتمام بشئونك؛ لأنك صاحبي، فأرجو ألا يكون عليك بأس مما رأيته أو ~~سمعته.» # فرأى ضرغام الفرصة مناسبة للاستئذان في الذهاب إلى همذان فقال: «لا بأس علي ما دمت في ~~ظل مولاي أمير المؤمنين، ولكن قوما من أهلي قادمين من فرغانة إلى العراق فأصابهم ما أخر ~~وصولهم فبعثوا يستعينون بي على ذلك، فهل يأذن مولاي بذهابي بضعة أيام؟» # فأطرق المعتصم ثم قال: «سر ولا تطل الغياب، وإذا رأيت أن تستعين بجند أو بريد ~~فافعل.» # فانحنى ضرغام شاكرا واستأذن وعاد إلى المسجد حيث ترك سامان، وقد سره اهتمام المعتصم ~~بأمره ولكنه ظل مضطرب البال لما سمعه عن جهان والأفشين، ولم يكن الأفشين قد وصل إلى سامرا ~~بعد، فرأى ضرغام المبادرة إلى همذان فأمر بإعداد أفراس البريد ينتقل بها هو وسامان، وذهب ~~لوداع أمه وذكر لها أنه ذاهب في مهمة يعود منها بعد بضعة أيام، فقبلته وودعته. فركب في ~~ذلك المساء وقلبه يكاد يسبقه من شدة القلق إلى همذان، وكلما وصل إلى محطة من محطات البريد ~~لتبديل الركائب يسأل الناس هل سمعوا بلصوص يلجئون إلى بعض الأماكن في تلك الناحية. وكان ~~يواصل السير نهارا وليلا ولا ينام إلا قليلا حتى دنوا من همذان وبجانبها جبل وعر وطريق ~~البريد بجانب ذلك الجبل وفيه محطة لخيل البريد، فلما وصل إلى هناك سأل سامان: «ألا تذكر ~~المكان الذي وقع فيه الحادث؟» # قال: «وراء هذا الجبل على ما أظن.» # وكان وصولهم إلى الجبل عند الغروب، وقد أعد له أصحاب البريد منزلا يبيت فيه، ولكنه لم ~~يستطع صبرا إلى الغد. وكان في تلك المحطة غير واحد من السعاة والكوهبانية وأصحاب الأخبار ~~التقوا هناك صدفة وكل منهم سائر في طريق، وعلم صاحب تلك المحطة أن الصاحب من خاصة ~~الخليفة وقد جاء للبحث عن ms090 شيء يهمه، وأنبأ الآخرين بذلك فأصبحوا يتوقون إلى خدمته، وسأل ~~ضرغام صاحب المحطة: «هل أنت هنا من زمن طويل؟» # فقال: «من بضعة أسابيع ونحن أصحاب البريد ننتقل دائما، فهل يأمر مولاي بخدمة نقوم ~~بها؟» # قال: «شكرا لك، هل سمعت بلصوص أو قطاع طريق يعتصمون في بعض هذه الأودية أو الجبال أو ~~يمرون من هذه الأمكنة؟» # قال: «قلما نسمع بشيء من هذا، ولكني علمت بالأمس أن جماعة من قطاع الطريق معتصمون وراء ~~هذا الجبل، ولم يصل خبرهم إلى الحكومة بعد على ما أظن.» # فلما سمع ضرغام كلامه قال له: «أرسل معي رجلا يهديني إلى مكان أولئك اللصوص.» ~~ومشى. # فأعجب الرجل بشجاعته ومبادرته إلى الذهاب وحده فقال: «ألا ترى يا سيدي أن نرسل أحدا ~~للبحث عنهم وتمكث أنت هنا؟» # قال: «كلا، يكفي أن ترسل معنا رجلا يدلنا على الطريق.» ومشى وسيفه إلى جانبه وقد التف ~~بعباءته والكوفية حول رأسه، وتبعه سامان ورجل من حراس تلك المحطة، سار أمامهما في شعاب وعرة ~~وقد غابت الشمس وأخذ الظلام يتكاثف، وضرغام مطرق لا يلتفت ولا يتكلم، حتى انتهوا إلى منعطف ~~في ذلك الجبل فوقف الدليل وأشار بيده إلى نور ضعيف على أكمة أمامهم وقال: «هذا مقر القوم يا ~~سيدي، وأخاف أن يبطشوا بنا.» # الفصل الرابع عشر # | المعتصم والعرب # أظهر سامان أنه يود الذهاب مع ضرغام، ولكن هذا أبقاه هناك ومشى وحده يتعثر بالحصى ويسمع ~~لوقوع نعاله قرقعة كأن غضبه أعماه عن الخطر الذي يهدده بالسير وحده، ولكنه كان شديد ~~الاعتداد بقوته كثير الاعتماد على بسالته. حتى إذا صار على مرمى سهم من مقر اللصوص، رأى ~~أشباحا تتراوح بينه وبين المصباح وسمع هرير الكلاب فلم يبال. ورآه القوم قادما وحده فلم ~~يخطر لهم أنه عدو لعلمهم أن العدو لا يجسر على القدوم وحيدا، فتصدر واحد منهم وصاح: «من ~~هذا؟» # فقال ضرغام: «قادم يبحث عن ضائع ... أين كبيركم؟» # ومضت لحظة رأى في أثنائها القوم في حركة وتهامس، ثم تقدم واحد منهم وبيده قبس وقد تلثم ~~بكوفية والتف ms091 بعباءة ، فتفرس ضرغام فيه فلم يعرفه ولكنه جعل يده على قبضة سيفه وهو يتحفز ~~للوثوب أو الدفاع ولم يكد صاحب القبس يصل إلى ضرغام حتى قال له: «أهلا بضرغام، أهلا ~~بالصاحب.» # فلما سمعه يناديه باسمه خفق قلبه واستأنس به ولكنه لم يعرفه فقال: «من أنت؟» # وكان قد وصل إليه فأزاح اللثام وأدنى القبس من وجهه وقال: «ألم تعرفني؟» # فتفرس ضرغام فيه، ولما عرفه صاح: «حماد؟! ما الذي أتى بك إلى هنا؟» # قال: «أتى بي إلى هنا ظلم صاحبك. تفضل.» قال ذلك وصفر صفيرا أبطل نباح الكلاب، وفرق ~~الرجال الذين كانوا مجتمعين، ومشى وهو قابض على يد ضرغام يرشده إلى الطريق، وضرغام يعجب لما ~~يراه؛ لأنه يعرف حمادا من وجوه رجال الدولة في سامرا، وقد رآه فيها منذ أسابيع وكان صديقا ~~حميما له، فتبعه مطمئنا حتى وصلا إلى بناء قديم حجارته ضخمة وجدرانه مهدمة. ولو تفرس ~~القادم فيما بقي من أنقاضه على ضوء القبس لرأى عليها نقوشا وصورا من آثار قدامى الفرس. ~~ولكن ضرغاما لم ينتبه إلى شيء من ذلك. وإذا بصاحبه قد أوصله إلى غرفة ليس فيها شيء من ~~الأثاث أو الرياش، ولكنه شاهد في أرضها أكياسا من الحبوب وصناديق فيها الآنية والمتاع ~~كأنها أخذت من أصحابها التجار في تلك الساعة. فأشار حماد إلى ضرغام فجلس على صندوق وجلس هو ~~على صندوق آخر وقال: «أظنك تعجب لما تراه؟» # فقال: «كيف لا أعجب وقد بلغني عن هذا المكان أنه مأوى اللصوص وأراك فيه كواحد من ~~أهله.» # قال: «بل أنا زعيم أصحابه. ولم أكن لأكاشفك بذلك وأدخلك هذا المكان لولا ثقتي بك ولتعلم ~~مغبة ظلم صاحبك.» # قال: «أتعني أمير المؤمنين؟» # قال: «بل أعني أمير الأتراك والفراغنة، وإذا أحرجتني قلت إنه أمير الكافرين مثل أخيه ~~المأمون.» # فشغل ضرغام بهذا الأمر الغريب عن الغرض الذي جاء من أجله فقال: «إني لا أرى مسوغا لهذه ~~النقمة، ولولا ما تعلمه من حبي لك ما صبرت على ما أسمعه منك، ولكنني أذكر صداقتك وأحب أن ~~تصرح لي ms092 بما يكنه ضميرك عساي أن أذهب ما في نفسك من الغل على الخليفة، ونحن في حاجة إلى ~~رأيك وسيفك وأعداؤنا كثيرون فلا ينبغي أن نتفرق.» # فاعتدل حماد في مجلسه وبان الاهتمام في وجهه وقال: «لا ألومك على دفاعك عن المعتصم؛ لأنه ~~صديق الأتراك والفراغنة، وقد عادى أهله وعشيرته من أجلهم. وأنت الآن صاحبه ومن أقرب ~~المقربين إليه. لا أقول إنك لا تستحق ذلك بل أنت أهل لأكثر منه، ولكنك لو كنت في مكاننا نحن ~~العرب لما قبلت ما يأتيه هذا الرجل من المظالم؛ لم يكفه أنه صادرنا في ديننا وجلد ~~الإمام أحمد بن حنبل الرجل التقى البار حتى غاب عن رشده وسال دمه وتقطع جلده، ثم قيده ~~وحبسه واضطهد كل من لم يقل بخلق القرآن، لم يكفه ذلك حتى قطع العطاء عن العرب كافة، ومنع ~~المسلمين من رواتبهم ولم يفعل ذلك أحد قبله. ولا أذكرك بما كان للعرب من العز والسؤدد في ~~عهد الراشدين والأمويين يوم كان الفرس والترك وسائر الأعاجم يعدون من العبيد والموالي، ولا ~~يستنكفون أن يكون العرب سادتهم، بل كانوا يتشرفون بالانتماء إليهم. وإنما أذكرك بما كان لهم ~~من الزعامة في صدر الدولة العباسية مع أنها قامت بسيوف الفرس. حتى المأمون الذي حارب العرب ~~وحاربوه لم ينقص شيئا من أعطياتهم كما فعل المعتصم هذا، مع أن المأمون كان معتزليا ~~مثله يقول بخلق القرآن ويضطهد الأئمة القائلين بقدمه، ولكنه كان يعلم أن العرب مادة الإسلام ~~وأصل هذه الدولة وروح هذه الأمة. أما صاحبك فقد قطع العطاء عن كل عربي، ولم يفعل ذلك عن فقر ~~أو جدب فإنه ينفق الأموال الطائلة في اصطناع الأتراك والأشروسنية والفراغنة، وقد بنى لهم ~~سامرا وأحضر لهم النساء والجواري وأسال النضار في خزائنهم. ولو كنت أنت أعرابيا ما صبرت ~~على ذلك.» # فلم ير ضرغام حجة يدفع بها قول حماد؛ لعلمه أنه يقول الحق، ولكن غيرته على المعتصم ~~وإخلاصه في خدمته حملاه على انتحال الأعذار فقال: «لا أنكر عليك ما ذكرته من مواضع النقد ~~على ms093 أمير المؤمنين. ولكنك حملت ذلك منه على سوء القصد؛ فهو قطع العطاء عن بعض العرب بعد أن ~~تحقق عداوتهم للدولة، ومنهم من حاربه وجرد الجيش عليه. أما الذين يخلصون في خدمته فيبالغ ~~في تقريبهم والإنعام عليهم. هذا القاضي أحمد بن أبي دؤاد لا أزيدك علما بمنزلته عند ~~الخليفة وهو عربي. وأنت؟ ألم تكن مقربا ولك منصب رفيع؟» # فهز حماد رأسه وقال: «أراك تحسن الدفاع عن صديقك الخليفة. وقد أتيت بالقاضي أحمد شاهدا ~~وهو عربي من بين ألوف قد لحقهم الذل والعار والفقر. أما أنا فقد كان لي منصب وبئس المنصب لو ~~بقي! جعلني سادن الكعبة التي أنشأها في سامرا ليحول المسلمين عن كعبة مكة ويذهب بما بقي ~~للعرب من مصادر الرزق حتى يميت عرب الحجاز؛ لأنهم يرتزقون من الحجاج، فأنشأ الكعبة في سامرا ~~ليغني المسلمين عن الحجاز ...» # فقطع ضرغام كلامه قائلا: «ولكنه ليس أول من فعل ذلك من الخلفاء أو الأمراء؛ فقد حاول ذلك ~~الحجاج والمنصور ولم يفلحا.» # فقال: «وهذا لن يفلح أيضا؛ لأن بيت الله في مكة فلا يقدر أن يجعله في سامرا.» ~~••• # ورأى ضرغام أن الحديث قد طال لا يهمه بقدر ما يهمه الأمر الذي جاء لأجله، فأراد أن يختصر ~~الكلام فقال: «ومع ذلك لا أجد فيما ذكرته مسوغا يجيز لك اللصوصية.» # فقال: «لا تقل اللصوصية. إننا لم نرتكب شيئا من ذلك على الإطلاق.» # فتضاحك ضرغام وهز رأسه استخفافا بدفاع حماد. فابتدره هذا قائلا: «لا تضحك يا صديقي. ~~إننا لا نسرق وما نحن لصوص وإنما نحن نستولي على حقوقنا بأيدينا.» # فاستغرب قوله ونظر إليه وتطاول بعنقه نحوه كأنه يستفهمه فقال حماد: «إن هذه الأموال التي ~~تجدها ملقاة هنا إنما هي حق الفقراء وأبناء السبيل بأمر الله - تعالى - في كتابه، وهي عشور ~~الأموال أو أخماس الفيء، فهذه كان الخلفاء في صدر الإسلام يأخذونها من أصحاب الأموال ~~والتجار ويفرقونها صدقة أو عطاء، وقد قطع المعتصم هذه الأعطيات، فهل يموت المسلمون جوعا ~~لأنهم عرب؟! فنحن إنما نستولي على حقوق الفقراء بالقوة ms094؛ لأن الإمام أراد ضياعنا!» # فتعجب ضرغام لقوة تلك الحجة ولكنه أراد وقف الجدال فقال: «ما لنا وذاك! لقد علمت أنك كنت ~~في سامرا من عهد قريب ولم يقطع الخليفة عطاءك فما الذي حملك على الخروج؟» # فوقف حماد وتنهد وتغيرت سحنته من الغضب إلى الكآبة ونظر إلى ضرغام وقال: «إن ما ~~حملني على هذا الخروج وأثار في هذه الضغائن أمر أصاب مني مقتلا، أصاب قلبي فأذهب رشدي؛ ~~فأنا ناقم على الرجل الظالم ما دمت حيا.» قال ذلك وقد تصبب العرق من جبينه، فازداد ضرغام ~~رغبة في كشف خبره وتوسم من عبارته أنه يشكو من حبيب فارقه فقال: «وما ذاك يا أخي؟ قل ~~وأوجز فإني أتيتك لأمر يهمني كثيرا فشغلتني بأمورك.» # قال: «مهما يكن من أمرك فلست بالغا أمري. أحببت جارية لبعض البغداديين وأحبتني، فلما ~~أقدمت على الزواج بها، تصدى لي رجل من خاصة المعتصم اسمه الحارث السمرقندي أظنك تعرفه ~~وطلبها لنفسه وأخذها مني عنوة، فشكوت أمري إلى الخليفة على يد القاضي الذي ذكرته فأجابني ~~بقوله: «ابحث عن جارية أخرى فإن هذه لا تكون لك.» مع علمه بأنها تحبني حبا شديدا.» ثم ~~تنهد وقال: «آه يا ياقوته!» # فقال ضرغام: «هل اسمها ياقوتة؟» # قال: «نعم هذا اسمها. فهب أني أغضيت عن كل السيئات التي ذكرتها فهل أقدر أن أغضي عن هذه؟ ~~إني والله ناقم على الخليفة ودولته، وما خرجت لأكون لصا وإنما خرجت لأنتقم من هذه ~~الدولة ما وجدت إلى ذلك سبيلا، وأعداؤها كثيرون.» # فتأثر ضرغام من حكاية ياقوتة؛ لأنه واقع في مثلها. والإنسان إنما يشارك الناس في ~~المصائب التي أصيب بمثلها أو يخشى أن يصاب بها. فالأعزب لا يشعر بمصاب الآباء بفقد ~~أبنائهم كما يشعر من تزوج وله ولد، ولا يشارك المحب في شعوره إلا الذي جرب الهوى. فقال ~~ضرغام لحماد: «هون عليك ولعلي أنفعك في شيء من شكواك. وقد آن لي أن أسألك عن الأمر الذي ~~جئت في هذا الليل لأجله فأعرني سمعك واعلم أني أول من يشاركك إحساسك؛ لأني واقع ms095 في مثل ما ~~أنت فيه.» # فقال حماد: «قل أيها البطل فإني سامع.» # قال: «لي خطيبة كانت في فرغانة وأنا في سامرا، فركبت مع أخيها وجاريتها، فلما وصلوا إلى ~~همذان هجم عليهم اللصوص واختطفوا الفتاة وجاريتها وجاء إلي أخوها بالخبر فأسرعت للبحث عن ~~الجناة فأنبأني صاحب البريد عن هذا المكان فأتيت، فما قولك؟» # قال: «أما نحن فلا نختطف نساء. وقد أخبرتك بما نفعله، وأنا على يقين أنه ليس في هذا ~~الجوار لصوص أو قاطعو طريق.» # قال: «ولكن أخا الفتاة شهد الوقعة وهو الذي نجا من المعركة وأخبرني.» # فهز رأسه هزة الإنكار وقال: «نحن هنا منذ أسابيع، ولم نسمع بحدوث شيء من ذلك وأظن ~~الراوي كاذبا.» # فانتبه ضرغام إلى ما يعلمه من سوء نية سامان من يوم عرفه فقال: «إن الراوي واقف في مدخل ~~هذه الشعب. وسأستقدمه إليك لتسأله.» # فأشار حماد إلى بعض رجاله أن ينادي الرجل الواقف هناك، فذهب وعاد يقول إنه لم يجد أحدا. ~~فذهب ضرغام بنفسه فلم يجد سامان. وسأل الدليل عنه فقال إنه مضى إلى حيث لا يعلم. فبعث في ~~البحث عنه فلم يقف له على أثر، فرجح لديه أن في الأمر سرا غامضا وأن الرجل قد يكون ~~كاذبا فيما رواه حتى عن الأفشين، فقلت ثقته بما رواه عن جهان. ولم ير بدا من الرجوع ~~إلى سامرا، فاستأنف الكلام مع صديقه ونصح له أن يرجع معه فلم يرض وقال: «لا أرى في رجوعي ~~فائدة ولو اقتصر ظلم صاحبك على خسارة المال لتحملته ولكنه طعنني في قلبي وأنت تقدر شعوري. ~~فلا تلمني.» # فتذكر ضرغام مصيبته وتصور نقمته على خاطف حبيبته فعذره وقال: «صدقت إني معك فيما ذكرت، ~~ولو علمت أن الخليفة صادرني في خطيبتي لنقمت عليه مثل نقمتك وأشد منها. فافعل ما بدا لك. ~~وعلى كل حال أرجو أن تذكرني ولك مني مثل ذلك.» وأطرق قليلا ثم قال: «وإذا حدث ما يدعو إلى ~~الاتصال بك أو المجيء إليك فهل أجدك هنا؟» # فأجاب: «لا أعلم أين يكون مقري بعد الليلة ms096، وما قيامي هنا إلا إلى أجل موقوت. وأنا إذا ~~وفقت إلى أمر يسرك وأردت أن أراك فأين تكون؟» # قال: «في سامرا.» ~~••• # ودع ضرغام صاحبه وهو يفكر فيما سمعه، وصورة جهان لا تذهب من مخيلته؛ لأنه في المكان ~~الذي قيل له أنها أخذت فيه والليل مظلم مثل ظلام الليلة التي خطفت فيها. فتصور حالها وهم ~~يقبضون عليها وتوهم أنه يسمعها تستغيث به وتناديه باسمه فاقشعر بدنه وحرق أسنانه. وقضى في ~~تلك الهواجس مدة وهو يتلمس ذلك الطريق الوعر على هدي الدليل يسير بين يديه حتى أدرك محطة ~~البريد فركب وعاد إلى سامرا. وطريق البيت في الرجوع إليه أقصر منها في الخروج منه ولكن ~~ضرغاما استطال الطريق واستبطأ وصوله لشدة رغبته في ملاقاة وردان لكي يستشيره في الأمر وقد ~~تعود ذكاءه وصدق فراسته. # وأشرف ضرغام أو الصاحب على سامرا نحو الغروب والشمس تقابله وقد ضعف نورها وتبددت أشعتها ~~واحمر لونها وتكور شكلها وتعاظم حرها فظهرت كأنها كرة من نار سابحة في ضباب من دم. ~~ونظر إلى أبينة سامرا وأعظمها قصر الخليفة والمسجد الأعظم ومنارته تناطح السحاب. ويخترق ~~المدينة من الشمال إلى الجنوب نهر دجلة وعلى ضفافه أشجار النخيل واقفة وقوف الجند يحملون ~~سهامهم في عمائمهم. فشغله منظر الطبيعة عما في نفسه فأحس بارتياح فوقف هنيهة والبريدي على ~~بغلته إلى جانبه لم يدهشه ذلك المنظر؛ لأنه تعوده، والنفس يختلف تأثرها بمناظر الطبيعة ~~باختلاف حالها. والمحبون أكثر الناس مشاركة للطبيعة في أحوالها. # وأحس ضرغام بميل إلى الانفراد هناك، فأشار إلى البريدي أن يسبقه إلى سامرا فأطاع، وبقي ~~ضرغام وحده يراقب الشمس ساعة الغروب وهي تتراءى لعينيه من وراء جذوع النخل عن بعد، بألوانها ~~القزحية وإن غلب عليها لون الأرجوان، حتى إذا أدركت حافتها الأفق استطالت تلك الحافة إلى ~~شبه خرطوم نزل وراء الأفق وهبطت في أثره الهويناء وقد أخذت الظلال تستطيل وتنتشر حتى توارت ~~الشمس وخلفت مكانها أفقا أخذ احمراره في الاكفهرار شيئا فشيئا؛ من الدموي إلى ~~الأرجواني فالبنفسجي فالأزرق على اختلاف ألوانه، حتى ms097 استحالت الظلال إلى ظلام. فأحس ضرغام ~~بانقباض نبهه إلى المسير فوخز الفرس وخزا خفيفا فمشى مشيا بطيئا حتى تخلل مغارس ~~المدينة من طرفها الأسفل، وتراءى له دجلة في مكان لا يغشاه النخيل فيممه على أن يسير على ~~ضفته إلى الجوسق. # وكان الجو هادئا، فلما دنا من دجلة عاد إلى تخيله فلج في نيار فكره والجواد يسير على ضفة ~~النهر من تلقاء نفسه، وقد هب النسيم عليلا، وسكنت الطبيعة، فلم يعد يسمع إلا حفيف الورق ~~ووقع حوافر الفرس. ولم يكن ضرغام يسمع شيئا لذهوله، وإذا بجلبة فاجأته من ورائه وسمع صوتا ~~وقع وقوع السهم في قلبه وأجفله؛ لأنه صوت امرأة تستغيث قائلة: «خافوا من الله ... اتركوني ... ~~يا ناس ... اتركوني ...» ثم اختنق الصوت. فارتعدت فرائص ضرغام؛ لأن الصوت كثير الشبه بصوت جهان، ~~وتذكر ما أصابها من اللصوص، وتصور أنها استغاثت بمثل الكلام ولم ينجدها أحد فصمم على ~~نجدة هذه المستغيثة لعل الله يوفق جهان إلى منجد ينقذها. وسرعان ما ترجل عن جواده وركض إلى ~~جهة الصوت شاهرا في يده حسامه وهو يقول: «لبيك لبيك. اتركوها أيها اللئام.» # قال ذلك وهو لا يرى أحدا لشدة الظلام، فخاف أن تكون قد خدعته أوهامه وأن ما سمعه هاتف ~~يمثل له جهان. لكنه ما عتم أن سمع الصوت يقترب منه ورأى شبح امرأة تعدو من ضفة النهر باسطة ~~يديها إليه وتصيح: «بالله أغثني أشفق على حياتي.» ورأى رجلين يجريان في أثرها وقد شهر ~~أحدهما السيف ويقول: «إلى أين تهربين يا خائنة؟! سأقتلك لا محالة.» # فصاح ضرغام: «دعها يا رجل وإلا ضربت عنقك.» # فلم يبال الرجل وظل مسرعا حتى كاد يدرك المرأة، وكانت قد وصلت إلى ضرغام وترامت على ~~قدميه. فلما رآه ضرغام هاجما والسيف بيده تناوله بضربة أطارت رأسه فوقع مجندلا بدمه، وهجم ~~على رفيقه وهم بأن يضربه فرآه أعزل، فأمسك وصاح فيه: «من أنتم؟» فقال: «ما لك ولنا؟ ليس ~~هذا من شأنك. دع الجارية وامض في سبيلك وسترى عاقبة أمرك.» # قال: «قف حيث أنت وإلا ms098 قتلتك . أو قل لي من أنت وما خبر هذه الفتاة؟» # قال: «إنها جارية هربت من بيت مولاها فبعثنا للبحث عنها فأدركناها هنا وأبت الرجوع ~~فهددها رفيقي تخويفا لها. ولولاك لرجعت صاغرة ولكنها سببت قتل رفيقي. وسوف تعلم ~~مصيرك.» # فلما سمعت الجارية كلامه وكانت مستلقية على العشب من التعب نهضت وصاحت: «كذبتم أيها ~~الغادرون، ليس الأمر كذلك.» # فلما سمع كلامها شبه له صوت جهان واختلج قلبه في صدره واستبعد أن تكون هي نفسها؛ إذ لو ~~كانت هي لعرفت صوته فقال للرجل: «قل الحق ولا تخوفني بأحد وإلا ألحقتك برفيقك.» # قال: «لا تغتر بما سمعته، إن هذه الجارية هاربة من بيت الخليفة فمن يجسر على ~~حمايتها؟» # قال: «أنا أجسر، دعها وسر في طريقك.» # فصاح الرجل: «من أنت حتى تجسر على ذلك؟» # فحول ضرغام وجهه عنه وأمسك الفتاة بيدها ومشى وهو يقول: «قل للخليفة أو لسواه ممن يدعي ~~السيادة على هذه الفتاة أنها في حماية الصاحب.» # فلما سمع الرجل اسمه تراجع وبهت كأنه صعق ثم قال: «عفوك يا مولاي عن جرأتي؛ إذ لم أكن ~~أعلم أن مولانا الصاحب يخاطبني.» قال ذلك وقفل راجعا. # أما ضرغام فترك يد الفتاة ومشى إلى جواده وكان لا يزال واقفا في مكانه، فقاده بلجامه ~~وسار وقال للجارية: «امشي يا بنية لا تخافي. وأخبريني عن حقيقة أمرك فقد سلمت الآن من ~~الخطر.» # فقالت وصوتها مختنق: «أشكر الله إذ أرسلك لإنقاذي، ولولاك لذهبت ضحية الظلم.» # فأطربه صوتها وأحب أن ينظر إلى وجهها وقلقه على جهان يوهمه أنها قد تكون هي بعينها، ~~ولكن الظلام كان يحول دون ذلك فقال لها: «قولي ما خبرك؟» # قالت: «كنت جارية لبعض الناس وأعتقني سيدي لوجه الله. فطلبني شاب عرفني وعرفته وتحاببنا ~~وتواعدنا على الزواج، ثم رآني رجل من بطانة أمير المؤمنين يقال له الحارث السمرقندي، ~~فتقرب إلي وخطبني لنفسه، فأبيت عليه ذلك.» # فلما سمع ضرغام اسم الحارث ذكر ما سمعه من حماد فقال: «وما اسم خطيبك؟» قالت: ~~«حماد.» # قال: «فأنت إذن ياقوتة؟!» # فلما سمعته يذكر ms099 اسمها دهشت وتلعثم لسانها وقالت: «كيف عرفت ذلك يا مولاي؟ هل تعرف ~~حمادا؟ أين هو؟» # قال: «عرفته ولكن لا سبيل إليه الآن. وسأقص عليك خبره فيما بعد. فأتمي حديثك.» # فلم تعد تعرف كيف تتكلم لشدة فرحها فقالت: «فلما أبيت على الحارث ما أراد وسط القاضي ~~أحمد لدى أمير المؤمنين، فطلب الخليفة أن يراني، فلما مثلت بين يديه نظر إلي طويلا ثم ~~أودع أذن القاضي كلاما وأمرني أن أبقى عند الحارث بلا زواج حتى يبدي رأيه في. فأخذني ~~الحارث إلى منزله وحبسني وأخذ يحاول إقناعي بأن أقترن به، تارة بالحسنى وطورا بالتهديد. ~~حتى جاءني منذ بضعة أسابيع وهو يهزأ بي ويقول: «إن خطيبك غادر سامرا.» فلم أصدقه، وعزمت على ~~الفرار إلى حماد وهو على مقربة من قصر الخليفة. فأدركني هذان الرجلان وهما من أعوان الحارث ~~وأرادا إرجاعي، ولما رفضت الرجوع هدداني فصحت الصيحة التي سمعتها وجئت لإنقاذي، جزاك الله ~~عني خيرا.» # فلما فرغت من حديثها سره أنه أنقذها إكراما لصديقه، ولكنه تذكر أن حمادا برح همذان ~~في الليلة التي فارقه فيها ولا يعرف مقره، فظل ساكتا وهو يفكر في ذلك وصورة جهان أمام ~~عينيه وهو يناجي نفسه: «هل يتاح لجهان من ينقذها يا ترى كما أنقذت أنا هذه الفتاة؟» ظل ~~برهة يفكر في ذلك وياقوتة ماشية إلى جانبه وقلبها يخفق سرورا وقلقا وهي تتوقع أن تسمع منه ~~ما يعلمه عن حبيبها، فلما استبطأته قالت: «وعدتني يا مولاي أن تخبرني عن حماد. هل خرج من ~~سامرا؟» # قال: «نعم، خرج منها كما قال لك الحارث.» # قالت: «وأين هو؟» قال: «لا أدري. وقد لقيته منذ بضعة أيام في مكان خارج بغداد، وأخبرني ~~أنه مسافر إلى حيث لا يعلم، وقد قص علي غضبه من الحارث والخليفة من أجلك. كوني على ثقة ~~أنه شديد المحافظة على ودك.» # فلطمت خدها بكفها وقالت: «ويلاه وأين أذهب وأين أبيت وكيف أعرف مقره؟!» # فقال: «لا بأس عليك، إنك تمكثين في منزلي مع أمي حتى يأتي الله بالفرج، فإني على موعد ms100 مع ~~حماد أن يكتب إلي عند الحاجة؛ لأنه صديقي.» # فقالت: «جزاك الله خيرا يا سيدي، ولكن ...» # قال: «لا تخافي يا أخية، إنما تكونين مع أمي في خير وأمان لا يمسك أحد بسوء، إن أمي ~~وحيدة في البيت ولا ريب أنها تتخذك ابنة لها وتستأنس بك كثيرا.» # وانتبهت ياقوتة في تلك اللحظة إلى أنها على مقربة من الجوسق، فوقفت وقالت: «أراني بجانب ~~قصر الخليفة؟» # قال: «إني أقيم بقصر داخل هذا الجوسق.» # فتراجعت وقالت: «أكون إذن في خطر إذا عرف الخليفة بأمري؟» # قال: «كوني مطمئنة. إنك في مأمن عندي.» وكانا قد وصلا إلى باب الجوسق، فلما رأى الحراس ~~ضرغاما وسعوا له وتقدم أحدهم فأخذ الجواد إلى الإصطبل. وسار ضرغام مع ياقوتة حتى أتى ~~منزله، فلما رآه الخدم أسرع بعضهم إلى أمه فبشروها وأناروا الشموع، فدخل والفتاة في إثره ~~حتى توسط الدار، وأول شيء فعله أنه تفرس في الفتاة على نور الشموع، وحالما وقع بصره ~~عليها خفق قلبه وبدت البغتة في وجهه لشدة المشابهة بينها وبين جهان، فقال في نفسه: «سبحان ~~الخالق! ما هذه الصدفة؟» وأحس بارتياح إلى الفتاة، وأعجبه ما قرأه في محياها من الهيبة ~~والجمال رغم ما كان يغشاها من الاضطراب. ويكفي لارتياحه إليها مشابهتها حبيبته بالوجه ~~والصوت. وزاده استئناسا بها ما قاساه في سبيل إنقاذها. والمرء بفطرته يحب الذين يشقى في ~~سبيل راحتهم، ولذلك كان الرجل أكثر انعطافا إلى أشد أولاده حاجة إليه. وكلما تعب الوالد في ~~سبيل ابنه ازداد تعلقا به. ولو لم يكن قلب ضرغام مشتغلا بجهان لتعلق بياقوتة. # أما آفتاب فكانت قد تهيأت لاستقبال ابنها، فلما سمعت وقع خطواته أسرعت إليه وقبلته. ثم ~~شعرت بحركة في الدار فقالت: «من رفيقك؟» قال: «بل هي رفيقة لك.» # فظنت أنه جاءها بجهان فتوجهت ببصرها نحو الحركة التي كانت تسمعها كأنها تستقبل الضيفة ~~وصاحت: «هل هي جهان؟» # فوقع قولها وقعا شديدا على قلب ضرغام فتح جراحه فتنهد وقال: «كلا يا أماه ولكنها عزيزة ~~علي؛ لأنها خطيبة بعض أصدقائي.» # ودنت الفتاة من ms101 آفتاب وهمت بتقبيل يدها فضمتها ورحبت بها وقالت: «ما اسمك يا ~~حبيبتي؟» # قالت: «اسمي ياقوتة يا سيدتي.» # فلما سمعت صوتها دهشت وبان الاستغراب حول مبسمها وفي اختلاج عينيها البيضاوين وقالت: ~~«سبحان الله، كأني أعرف هذا الصوت!» # فقال ضرغام: «أظنك تعنين صوت جهان فإنه كثير الشبه به وقد لحظت ذلك منذ سمعتها تتكلم ~~للمرة الأولى.» # فسكتت آفتاب ولم تجبه، وأخذت الفتاة بيدها وأجلستها إلى جانبها وجعلت تضمها وترحب بها ~~والتفتت إلى ضرغام وقالت: «كيف لقيت هذه الياقوتة، وأين كانت؟» # فقال: «اتفق لي وأنا عائد من المهمة التي أخبرتك عنها أني مررت بأسفل المدينة، فسمعت ~~الفتاة تستغيث من رجلين كانا يحاولان أخذها إلى رجل يريد أن يتزوجها رغم إرادتها، فأنقذتها ~~منهما وجئت بها.» # قالت: «ومن هو ذلك الرجل؟» # قال: «يقال له الحارث السمرقندي من أعوان أمير المؤمنين.» # قالت: «ولماذا لم تقبله فإنه ذو جاه ومال؟» # قال: «لأنها أحبت رجلا اسمه حماد العربي، ألا تعرفينه؟» # قالت: «أظنني سمعت صوته مرة وقد جاء معك. أين هو الآن؟» # قال: «غائب، وستبقى ياقوتة هنا حتى يعود. هل يسرك ذلك؟» # قالت: «يسرني كثيرا؛ لأنها تكون تسليتي إذا خرجت أنت في مهمة. ولقد شعرت من هذه اللحظة ~~كأني أعرفها منذ أعوام، أهلا وسهلا بك يا حبيبتي.» ~~••• # وأمرت مسعودة فأخذتها لتبدل ثيابها وتصلح من شأنها ثم جيء لهم بالطعام، فقال ضرغام ~~لأمه: «ألم يأت وردان؟» # قالت: «جاء منذ بضعة أيام وسألني عنك فلم أقدر أن أخبره عن مكانك.» # قال: «هل أخبرك بشيء عن الأفشين؟» # قالت: «أخبرني أنه جاء وعسكر خارج سامرا على أن ينتقل بعد بضعة أيام إلينا، وأظن أن وردان ~~قد عاد إليه أو لعله يريد الذهاب إليه غدا أو بعد غد.» # ولم يطيلوا السهرة التماسا للراحة. وأصبح ضرغام في اليوم التالي وقد عادت إليه هواجسه ~~وأصبح شديد الاهتمام بلقاء وردان ليسأله عما سمعه من أصحاب الأفشين عن جهان. # وفي أصيل ذلك اليوم جاءه رسول الخليفة يطلب حضوره، فلبس سواده وقلنسوته وذهب إليه في دار ~~العامة، فاستأذن ودخل ms102 فوجد القاضي أحمد فسلم ووقف فاستدناه إليه وأمره بالجلوس فجلس. فقال ~~له الخليفة وهو يبش في وجهه: «متى عدت من السفر؟» # قال: «أتيت مساء البارحة يا مولاي، وكنت عازما على المثول بين يدي أمير المؤمنين قبل أن ~~يأتيني رسوله.» # قال: «من لقيت في طريقك؟» ففطن إلى أنه يشير إلى ياقوتة، لعلمه أن الحارث لا بد من أن ~~يشكوه فقال: «لقيت فتاة بين يدي رجلين يعذباها.» # قال: «وهل أنقذتها كعهدك؟ بارك الله فيك.» # فعلم أن الخليفة يشير إلى فضله عليه في إنقاذه من مخالب الأسد، فخجل وتجاهل وقال: «لم ~~أتمالك يا أمير المؤمنين عن إنقاذها. ثم علمت أنها تنتمي إلى بعض رجال الدولة فحملت تبعة ~~عملي طمعا في حلم أمير المؤمنين وهو ذنب أستغفر له.» # فضحك المعتصم وقال: «لقد اصطدت حلالا، أنت أولى الناس بإحرازه، كيف رأيت الفتاة؟ أهي ~~جميلة؟» # قال: «لا بأس بها يا مولاي.» قال: «قد وجب عليك إقرارك.» # فلم يفهم ضرغام قصده فابتدره القاضي: «أتذكر أن أمير المؤمنين خطب لك جارية؟» قال: ~~«نعم.» # قال: «هذه هي الفتاة بعينها.» فاستغرب ضرغام ذلك الاتفاق الغريب، وتحير في الجواب فقال ~~القاضي: «إن أمير المؤمنين رأى هذه الفتاة للمرة الأولى منذ أسابيع وقد جاء بها الحارث ~~يخطبها لنفسه، وكان رجل آخر يدعي أنها له، وكنت حاضرا فقال لي أمير المؤمنين: «إنها تصلح ~~للصاحب.» وأمر الحارث أن يحتفظ بها حتى يطلبها. وفي هذا الصباح جاء الحارث يشكوك؛ لأنك خطفت ~~ياقوتة منه فقال له: «إنها للصاحب، ولا سبيل لك إليها.» فخرج مفحما، ولذلك قال مولانا إنك ~~اصطدت صيدا حلالا ووجب إقرارك عليك.» # فلم يسع ضرغام إلا الدعاء للمعتصم على التفاته إليه وقال: «إن أمير المؤمنين يتصرف ~~بعبيده ومواليه كما يشاء.» # فقال المعتصم: «أحرزت أجمل نساء سامرا، بارك الله لك فيها.» # ثم صفق، فجاء الحاجب، فأشار إليه إشارة فهمها، وخرج ثم عاد غلام يحمل طبقا عليه عقد من ~~الجوهر يتلألأ كالشمس، فأشار الخليفة إلى الغلام أن يقدمه إلى الصاحب، فقدمه، فبهر ضرغام ~~من لمعان ذلك ms103 العقد ووقف احتراما، فابتدره المعتصم قائلا: «هذا عقد تلبسه ياقوتة وتتحلى ~~به.» # فانحنى ضرغام احتراما وامتنانا وقال: «قد غمرني أمير المؤمنين بإنعامه.» # قال: «إنك أهل لأكثر من ذلك.» # فتناول ضرغام العقد ولفه بمنديل وكرر الدعاء. ثم استأذن وخرج فقصد إلى منزله والهواجس ~~تتقاذفه، على أن أمر الزواج بياقوتة لم يزده قلقا؛ لأنه رأى استبقاءها في بيته حتى يجد ~~خطيبها فيجمعه بها دون أن يعلم الخليفة هل تزوجها أم لا. فوصل إلى المنزل ولقي أمه فسألته ~~وياقوتة جالسة عن سبب ذهابه إلى الخليفة فقال: «دعاني لأمر يتعلق بياقوتة.» # فأجفلت ياقوتة؛ لأنها كانت تخاف وشاية الحارث، لكنها اطمأنت لما رأته يبتسم ونظرت إليه ~~مستعطفة، ثم سألته أمه عما جرى فقال: «شكانا السمرقندي إلى أمير المؤمنين، فأرجعه خائبا، ~~وأوصاني بياقوتة خيرا.» # فانشرح صدر الفتاة وازدادت إعجابا بضرغام وسمو منزلته عند الخليفة ونفوذ كلمته في ~~الدولة، وأعجبت بهيبته وجلال طلعته. والإعجاب إذا اقترن بالألفة وبالعادة تحول إلى غرام، ~~ولكن ياقوتة كانت مشتغلة القلب بحماد ورأت ضرغاما فوق ما ترجوه لنفسها. ولما سمعت قوله عن ~~الخليفة توردت وجنتاها حياء ولم يمنعها الحياء عن الكلام؛ لأنها كانت عاقلة رابطة الجأش ~~فقالت: «أشكر لمولاي الصاحب فضله؛ فقد أنقذني من العار والموت، ورفع منزلتي؛ إذ جعلني تحت ~~حمايته.» # فمد ضرغام يده إلى جيبه وأخرج العقد وقدمه إليها وقال: «هذه هدية أمير المؤمنين ~~إليك.» # فأصبحت ياقوتة لا تدري كيف تعبر عن إحساسها، فتناولت العقد ودفعته إلى آفتاب فأخذته ~~وتلمست حباته وقالت: «يظهر أنه عقد جدير بك.» وتقدمت نحوها وقلدتها إياه. # كل ذلك لم يشغل ضرغاما عن قلقه وكل ما حدث في مساء الأمس وصباح اليوم يذكره بحبيبته ~~وخاصة العقد لما لبسته ياقوتة فقال في نفسه: «لماذا لا تكون جهان هنا وتلبسه!» فلما ~~تخيل ذلك اضطرب وترك الغرفة وخرج ليسأل الخدم عن وردان، فلقيه داخلا وفي وجهه ذعر. ولما ~~رأى ضرغاما حياه، فقال ضرغام: «قد طال غيابك، فما الذي أعاقك؟» ثم مضى إلى حجرة منعزلة ~~جلسا فيها، فقال وردان: «قد ms104 عاقني تأخر الأفشين عن الحضور؛ لأنه لم يصل إلى سامرا إلا منذ ~~بضعة أيام، ولم أتمكن من إتمام مهمتي إلا اليوم.» # فقال: «وما الذي عرفته عن جهان؟» # فتوقف وردان لحظة ثم قال: «عرفت من صديق لي في حاشية الأفشين لا تخفى عليه من أحواله ~~خافية أن جهان خرجت من فرغانة قبل خروجهم منها.» # قال ضرغام: «عرفت ذلك أثناء غيابك من سامان أخيها.» # فتغير وجه وردان عند سماع اسم سامان، وقال: «سامان هنا؟ أين هو؟ أين هو؟ لأقبض روحه ... ~~لعنه الله من منافق.» # فاستغرب ضرغام غضبه وقال: «ولماذا تريد قتله، ماذا فعل؟» # قال: «سأقص عليك فعله وإنما أرجو أن تخبرني عما قصه هو عليك.» # قال: «أخبرني أنه خرج من فرغانة مع أخته فرارا من الأفشين، فلقيهم اللصوص في همذان ~~فأسروا جهان وقهرمانتها ونجا هو ليخبرنا.» # قال: «فأنت عالم بما فعل اللصوص. بقي علي أن أخبرك عما فعله هذا اللعين اليوم: سرت ~~أمس لأتمم مهمتي في البحث كما أمرتني، فلم أستطع إلا صباح اليوم؛ إذ لقيت صديقي فقص علي ~~الخبر. وبينما هو يكلمني لمحت سامان مارا على فرسه يطلب عرض البر ولم أتحققه، فسألت صاحبي ~~في شأنه فأخبرني بأنه هو بعينه وأنه جاء البارحة في أواخر الليل واجتمع بالأفشين، وقص ~~عليه خبر اختطاف جهان، ولكنه جعل الذنب في ذلك لك، وأساء القول فيك، ولم أعلم ذلك إلا بعد ~~أن غاب عن بصري ولم يبق سبيل إليه، ولولا فراره لضربت عنقه، أو قتلته خنقا، قبحه الله من ~~أجرود لئيم.» # وكان ضرغام قد لمس من قبل نفاق سامان وسوء نيته؛ فأصبح لا يصدق شيئا من أقواله، ولكنه لم ~~يستطع تكذيبه في اختطاف جهان فقال: «قد عرفت نفاق هذا الشاب من قبل، ولكن هل تظنه كاذبا ~~فيما رواه عن اختطاف جهان؟» # وجاءت الأخبار أثناء ذلك بقيام بابك واستفحال أمره فأصدر الخليفة أمره إلى الأفشين بالسفر ~~مع جنده إلى أردبيل، ولم يتسن لضرغام الاجتماع به. # الفصل الخامس عشر # | فراق فرغانة # كانت جهان حين عزمت على الفرار ms105 من فرغانة مع أخيها وقهرمانتها قد أعدت كل ما تحتاج إليه ~~مما خف وزنه وغلا ثمنه، وعولت على أخيها في تدبير قافلة يسيرون في ظلها تجنبا لخطر ~~البوادي التي لا بد من قطعها قبل الوصول إلى العراق، فجاءها سامان وذكر أنه هيأ كل شيء. ~~فأخذوا في نقل الأحمال محتجين بالسفر إلى مصيف قريب. ولما دنا وقت الرحيل وعلمت أنها لن ~~تعود إلى بلدها بعد ذاك عظم عليها فراق مسقط رأسها وهجر قصر أبيها وقد ألفت هواءه وماءه ~~وظلاله وعاشت بين أهله ومنازله وأسواقه، فقضت أيامها الأخيرة منقبضة الصدر. وقد ذهبت ~~بشاشتها وأخوها يسهل عليها الخروج وقهرمانتها ترى في خروجها شططا. وأما هي فلم تتردد في ~~الأمر لحظة واحدة رغم ما أحست به من الوحشة. # وفي الليلة التي قضوها على أهبة الرحيل استدعت قيم الدار إليها وأوصته بالقصر وأهله ~~خيرا، وأسرت إليه أن قد يطول غيابها، فليكن أمينا قسيطا، فأسف لسفرها وإن لم يعرف ~~حقيقة غرضها، ولو علم لبكى بكاء مرا على فراقها؛ لأنه كان يجلها حتى العبادة. وكذلك كان ~~إحساس كل من عرفها أو عاشرها؛ لما فطرت عليه من اللطف والذكاء والهيبة والجمال. # وفي الصباح التالي خرجت على جوادها الأدهم كأنها ذاهبة إلى متنزه أو مصيف. وركب معها ~~أخوها وقهرمانتها ولم تتمالك عند خروجها من باب المدينة أن التفتت ودمعت عيناها حزنا على ~~ما خلفته هناك من ثمار شبابها وجني أبيها، لكنها تماسكت واسترجعت رشدها وعزت نفسها بما ~~ستلقاه من أسباب السعادة بقرب حبيبها. # وكانت القافلة التي سافروا فيها قادمة من بلاد الهند بأحمال العطريات والبهارات والأنسجة ~~قاصدة إلى خراسان، فضموا أحمالهم إلى أحمالها، وقد اعتمدت جهان في ذلك على أخيها ولبست ثياب ~~السفر، وأقلعت القافلة في مساء ذلك اليوم وهي مؤلفة من قطارين مسلسلين من الجمال والبغال ~~على بعضها الأحمال وعلى البعض الآخر الرجال، غير المشاة من المكارين والسياس على أقدامهم ~~ومعهم الكلاب وأدوات الطبخ والنوم، فإن القافلة كالبلد يمشي بأهله ودوابه وأثاثه. تمشي ~~ساعات من النهار وساعات من ms106 الليل تختلف مقاديرها باختلاف فصول السنة، حسب أوجه القمر، يحدق ~~بها حراس من الرجال تعودوا الأسفار والأخطار، أشداء الأبدان يعرفون الطرق، ولهم صداقة ~~ورهبة عند قبائل التركمان بدو الترك المتفرقين في البادية بين نهر جيحون ونهر الشاش. ~~والمسافة بين النهرين تقطع في أسابيع وقد تستغرق الشهرين. ناهيك بما فيها من اللصوص وقطاع ~~الطرق؛ ولذلك لا يجسر على السفر هناك غير القوافل الكبيرة. وتحتدي القافلة أثناء السير نظام ~~الجند للحرب، وفي ساعات الراحة تضرب الخيام وتوقد النيران وتذبح الأغنام أو الأبقار وتنصب ~~القدور على النار ويشتغل القوم بالأكل والنوم. # ولم تكن جهان جربت هذا السفر ولا ذاقت مثله ولا سمعت به في حياتها، فكانت تحمل ثقله ~~متجملة بالصبر، وتعزي نفسها بلقاء الحبيب. كل ذلك من معجزات الحب وإن أمره ~~لعجيب. # ولو أردنا تفصيل ما لقوه في سفرهم الطويل من حر النهار وبرد الليل وخوف قطاع السابلة ~~وأهل الغزو وما أصابهم من عطش أو جوع لفراغ مئونتهم من الماء أو الطعام قبل بلوغ المكان ~~الذي يتزودون منه؛ لضاق بنا المقام. فنقول موجزين إنه لما بلغت القافلة «الري» أشار سامان ~~على أخته بالتخلي عنها ليسيرا وحدهما؛ لأن القافلة تمشي متثاقلة وليس طريقها طريقهم إلى ~~العراق إذ تتوجه شمالا. فأذعنت جهان لرأي أخيها وانفردوا بأحمالهم ودوابهم عن القافلة. وفي ~~مساء ذلك اليوم بغتهم جماعة من الرجال على الخيول في مكان بعيد عن همذان، وكانت جهان على ~~فرسها فدافعت عن نفسها دفاع الرجال. وأظهر سامان دفاعا حاميا. ولكنهم غلبوا على أمرهم ~~فقبضوا على جهان وقهرمانتها وشدوا وثاقهما وفر سامان بحجة إيصال الخبر إلى ضرغام. # فلما رأت جهان نفسها في الأسر صاحت بكبير القوم وهم جميعا ملثمون وقالت له: «ما الذي ~~حملكم على هذا العمل؟ إذا كنتم تطلبون المال فهذه أحمالنا خذوها وأطلقوا سراحنا ولن نطالبكم ~~بشيء منها.» # فأجابها الفارس وهي أول مرة سمعت كلامه وقال: «لسنا لصوصا يا سيدتي. ولا حاجة بنا إلى ~~المال وإنما أمرنا أن نحمل عروس فرغانة إلى أعظم رجل في الأرض ms107 لم ترض به طوعا فعساها أن ~~ترضى به كرها.» # فلما سمعت كلامه أدركت أن فخا نصب لها، وكانت تؤثر أن يكون القوم لصوصا يبغون المال ~~على أن تكون هي بغيتهم. ليس لأنها تخاف أن تغلب على أمرها فإنها كانت من رباطة الجأش وثبات ~~الجنان على ما علمت. ولكن شق عليها فراق حبيبها. فأرادت أن تزداد بينا فقالت: «ولكن ما ~~تأتونه يا صاح لا يشبه أعمال العظماء.» # قال: «وماذا يعمل الرجل إذا اضطر ولم ير مركبا يركبه إلا هذه الوسيلة؟ ماذا يفعل إذا ~~تقدم خاطبا فرد خائبا، وهو كبير القدر تأبى نفسه الفشل؟» # قالت: «يترك الخطبة والخطيبة.» # قال: «وإذا كان مفتونا قد غلب على أمره؟» # قالت: «دعنا من ذلك فإني لا أراكم إلا لصوصا تطلبون المال فهذه الأموال لديكم وأنا ~~الكفيلة بأضعافها إذا أطلقتم سراحنا.» # قال: «أما إذا أعطيتنا المال فنشكرك كثيرا، ولكننا لا نستطيع أن نطلق سراحك. ولا ينبغي ~~يا سيدتي أن تحزني على شيء أضعته بهذا الانتقال فأنت ذاهبة إلى أعظم رجل في العالم فإذا ~~أحسنت معاملته ملكت الرقاب.» # فأشكل عليها فهم حقيقة ما يعنيه فقالت: «لم أفهم مرادك، من هو ذلك الذي تعنيه؟» # قال: «ستعلمين كل شيء بعد بضعة أيام. فاطمئني وستكونين معنا معززة مكرمة، ثم متى وصلنا ~~إلى المكان المقصود كنت في أرغد عيش وأسعد حال.» # قضت عدة أيام مع قهرمانتها وأولئك القوم في أتم ما يرام من الإعزاز والإكرام. وكانوا قد ~~حلوا وثاقهما في صباح اليوم التالي وقاموا بخدمتهما أحسن قيام من الطعام والشراب ~~والمبيت. # وقد أتيح لجهان الفرار لو أطاعتها نفسها عليه. ولكنها أكبرته وخافت مغبته. وكبير النفس ~~لا يطاوعه وجدانه على الفرار حتى من الموت. # مرت في أثناء هذه الرحلة بمدن وقرى وجبال وأودية وسهول وحرون، ورأت أقواما من أمم شتى، ~~فعلمت من القرائن أنها مرت بأذربيجان، وجاء العريف ذات يوم وأخبرها أنها صارت في أرمينيا ~~وأنها لا تلبث أن تدخل أردبيل. فعلمت أنهم سائرون بها إلى بابك الخرمي. فتذكرت أنه كان قد ~~طلبها ms108 من أبيها ولم تقبله، فتحققت أنها محمولة إليه، فأخذت تتأهب لدفعه وعلمت أنها مكيدة ~~من أخيها فندمت على الركون إليه. # وقد أصاب ظنها بسامان؛ فإنه طبع على اللؤم وزاده فعل أبيه نقمة عليه وعلى أخته. وكان ~~صاحب أطماع لم يستطع تحقيقها بعلو الهمة والبسالة مثل كبار الرجال فالتمسها بالحيلة ~~والخداع. وليس أشأم على الأمة من أن يعجز رجال المطامع فيها عن نيلها بأعمال تتفق ومصلحتها؛ ~~لأنهم حينئذ يضحون بمصلحتها في سبيل مطامعهم. فانتظم سامان في سلك الخرمية. وهي جمعية سرية ~~قامت على مقاومة أصحاب السيادة، وزعيمها في ذلك العصر بابك الخرمي صاحب أردبيل. وكان ~~الخرمية يسعون في تأييد سلطته سرا. وكان شديد البطش يبالغ في اقتناء النساء لا يسمع ~~بامرأة جميلة إلا سعي في استجلابها، فإذا لم يستطع ذلك بالجاه طلبها بالمال، فإذا أعجزه ~~إحضارها بالمال حملها بالقوة. فشاع خبره في الآفاق، وسمع بجهان فبعث يخطبها على يد سامان ~~فلم يرض أبوها؛ فدس إلى سامان أنه إذا أتاه بها رفع قدره وأغناه وقلده منصبا عاليا. ~~ولم يكن سامان قادرا على شيء في حياة أبيه، فلما توفي أبوه وقد حرمه من الإرث ازداد رغبة ~~في الانتقام، ولقي الأصبهبذ نائب بابك في فرغانة أيام النيروز في بعض جلسات الخرمية التي ~~كان يحضرها سرا فيغيب عن البيت أياما وأبوه لا يعلم وإنما كان يقضيها في الكيد والتواطؤ. ~~فتواطأ معه على أن يحتال في حمل جهان إلى أردبيل وهو لا يبالي عواطف المحبين لدناءة طبعه ~~وهو ناقص الرجولة. وعزم على ذلك خاصة بعد مقابلته للأفشين واطلاعه على وصية أبيه، فأصبح همه ~~الانتقام من الأفشين؛ فوجد في تنفيذ المؤامرة مع الأصبهبذ سبيلا لنيل ما يتمناه من الثروة ~~والنفوذ والانتقام من عدوه. فاتفق مع الأصبهبذ على أن يهيئ رجالا يكمنون في الطريق بين ~~الري وهمذان ليأسروا جهان أثناء سفرها إلى العراق ليظهر للملأ أنهم أخذوها منه قهرا. وبعد ~~أن أخذوها لم يكن غرضه من الذهاب إلى العراق إلا إلقاء الفتنة بين ضرغام والأفشين. وهو يعلم ~~بسالة ms109 ضرغام وتفانيه في سبيل جهان فإن علم أن الأفشين أسرها أسرع إلى قتله. وكان سامان ضعيف ~~العزم قليل الدهاء. فلم يحسن سبك حيلته، فلم ينطل أمر اختفائها على ضرغام. فرجع من العراق ~~وهو يعتقد أنه أتم مهمته وفاز بمرامه. # أما جهان فلما علمت أنه على مقربة من أردبيل قصبة أرمينيا في ذلك الحين أخذت تتهيأ لدفع ~~ما يهددها. وكانت تسمع ببابك وتعرف انغماسه وتهتكه وتعلم أنه مقيم بأردبيل. وما عتم الركب ~~أن وصلوا إلى غيضة كثيرة الأدغال والأشجار إذا دهم أهل أردبيل أمر لجئوا إليها فتمنعهم ~~وتعصمهم ممن يريد أذاهم فهي معقلهم ومنها يقطعون الخشب الذي يصنعون منه الصواني والقصاع، ~~واستغرقت جهان في تفكيرها وهي تنظر إلى تلك الغيضة فيما تخاطب به بابك لتدفع أذاه، وذكرت ~~ضرغاما وقالت في نفسها: «ماذا هو فاعل إذا بلغه ما أنا فيه؟» # وفيما هي في ذلك رأت الركب يتحول عن الطريق المؤدي إلى أردبيل ويدخلون الغيضة. وأتاها ~~رجل منهم أومأ إليها أن تحول شكيمة جوادها الأدهم نحو الغيضة ففعلت وهي لا تعرف السبب. ~~وساروا في طريق وعر يخترقون الأشجار المشتبكة وجهان تلتفت يمينا وشمالا لعلها تعرف سبب ~~هذا السير، وإذا بعريف الركب جاءها وزاملها بجواده وخاطبها قائلا: «أراك تستغربين اتجاهنا ~~إلى هذا الطريق أو لعلك تخافين؟» # قالت: «إني لا أخاف شيئا، ولكنني أستغرب دخولكم هذا الطريق الوعر بعد أن كنا على مقربة ~~من أردبيل.» # فأكبر العريف جرأتها وكبر نفسها وقال: «أظنك لم تشاهدي الراية المنصوبة على مقربة من ~~الطريق.» # قالت: «كلا، وأين هي؟» # فأومأ إليها أن تنظر، وصعد بها إلى أكمة هناك، فلما صعدا قال لها: «ألا ترين هذه ~~الراية؟» # فلما وقع نظرها عليها خفق قلبها؛ لأنها راية الأفشين فقالت: «إنها راية المسلمين.» # قال: «نعم، وقد جاءنا أحد الكوهبانية (وهم أصحاب الأخبار عند قدامى الفرس يشبهون قلم ~~المخابرات في هذه الأيام) وأخبرنا أن مولانا قد غادر أردبيل واحتلها المسلمون بعده.» # قالت: «أظنك تعني بابك. وإلى أين ذهب؟» # قال: «أخبرنا الكوهباني أنه أوغل في أرمينيا ms110 وتحصن في بلد منيع يقال له «البذ» عند نهر ~~«ارس» ونحن ذاهبون إليه.» # وآنست من الرجل لطفا وإكراما كثيرا فطمعت في أن يطلق سراحها بعد أن شغل القوم بالحرب ~~فقالت: «فأنتم إذن ذاهبون بنا إلى البذ؟» # قال: «نعم يا سيدتي وهي على بعد أيام من هنا.» # قالت: «وهل حتم أن أذهب معكم؟» # فأدرك الرجل أنها تشير إلى إمكان تسريحها فقال: «إن أمر مولانا قضاء لا سبيل إلى نقضه، ~~هذا ولو أننا أخلينا سبيلك هنا لكنت في خطر شديد، إن لم يكن من اللصوص فمن الوحوش.» # وكانت خيزران على فرس وراء فرس جهان، فالتفتت جهان إليها فابتدرتها خيزران قائلة: «وما ~~الذي تخافينه عند «بابك» ومثلك لا يخشى عليه؟!» # فتشجعت جهان بكلام خيزران وأدركت أنها لم تقل ذلك اعتباطا. ثم عادوا إلى المسير صعدا ~~وجهان تلتفت إلى ما حولها تتأمل وحشة ذلك المكان وسعة تلك الغيضة، فوقع بصرها من بعد على ~~مدينة أردبيل، ورأت ساحتها الكبرى غاصة بالجند وبالرايات الإسلامية، وهي تعلم أن الأفشين ~~نفسه ليس هناك؛ لأنها تركته في فرغانة، وأن النازلين بأردبيل فرقة من جنده. # وكان الوقت ظهرا فحث الركب خيولهم للخروج من الغيضة قبل دخول الليل خوفا من المبيت ~~فيها. ولما اجتازوها وواصلوا السير بعدها مروا بمدن كثيرة منها أرشق وخش وبرزند. ورأت جهان ~~رايات المسلمين على أسوار هذه المدن التي ليست إلا محطات لاختزان مئونة الجند أثناء انتقاله ~~لمحاربة بابك. فكانت كلما تقدمت أحست ببرد الطقس حتى أشرفوا على البذ. فرأتها أشبه ~~بالمعقل أو القلعة منها بالمدينة؛ لأنها مؤلفة من قصور عدة كالقلاع يحيط بها كلها سور هائل ~~عليه الأبراج والأبواب وفوقها أعلام الخرمية، والأرض في تلك الجهات جبلية وعرة يصعب مرور ~~الجند فيها بأثقاله وأحماله. فعلمت أن بابك التجأ إلى ذلك المعقل لمناعته حتى يكاد يستحيل ~~على المسلمين أخذه. # وسبق واحد من الركب إلى البذ يستأذن في الدخول ويسأل أين ينزلون جهان، ثم عاد وأشار ~~بالدخول من باب غير الذي كانوا عازمين على الدخول منه. ولما صارت ms111 جهان داخل السور شعرت ~~كأنها في قفص فاستوحشت، وأحست خيزران بوحشتها فساقت فرسها إلى جانبها وسألت كبير القوم: ~~«أين أنت ذاهبون؟» فقال: «إن مولانا الآن في خارج البذ، وقد أمر أن نأخذ عروسه الجميلة إلى ~~قصر النساء هنا فتمكث فيه مكرمة معززة حتى يأتي.» # فأجفلت جهان عند سماعها قوله: «عروسه»، ولكنها تجلدت وظلت ساكتة حتى أقبلوا على ~~القصر. وله سور خاص ورحبة وحديقة. وكأنه حصن قائم بنفسه، فوقف لهم الحراس ووسعوا. فدخلت ~~جهان وقهرمانتها على فرسيهما من الباب الكبير. حتى إذا دنت من الباب الصغير المؤدي إلى ~~المساكن ترجلت وترجلت خيزران معها. وأسرع بعض الخدم لتناول الفرسين وقد أدهشهم ما رأوه في ~~تلك القادمة من الجمال والهيبة؛ لأنها لا تتحجب. # وأسرع عريف الركب إلى الوقوف بين يدي جهان باحترام وقال: «أرجو أن تكون سيدتي قد أغضت عن ~~جرأتي في حملها على غير ما تريد فإني مكره على هذا بأمر سيدنا ومولانا، ولكنني بذلت جهدي في ~~راحتها، وأرجو أن تذكرني بالخير لدى الأمير، فلا شك في أنها ستكون الآمرة الناهية!» # قالت: «ما اسمك؟» فقال: «بهزاد يا سيدتي.» # قالت: «وإلى أين نذهب الآن؟» قال: «إلى قهرمانة القصر وهي تقوم بما تحتاجين إليه من أسباب ~~الراحة.» # وكانت خيزران واقفة تسمع ما دار بينهما فقالت للرجل: «ألا تعرف من أهل هذا القصر امرأة ~~صديقة؟» # فقال: «أعرف أكثرهن، وهن من أمم شتى، ولكنني أظن مولاتنا ستأنس بالسيدة هيلانة؛ فإنها من ~~بيت الأمراء، وقد عرفت بيت زوجها بأرمينيا قبل أن أمر مولانا بابك بضمها إلى أهله. وكنت ممن ~~حملوها إليه وتعارفنا في أثناء الطريق، فرأيتها عاقلة لطيفة وأظن مولاتنا تستأنس بها. والآن ~~استأذن في الانصراف فقد أقبلت القهرمانة. وأنا اسمي بهزاد يا سيدتي ...!» وانصرف. # ظلت جهان واقفة هادئة رزينة وقوف الملكة بباب قصرها، حتى وصلت القهرمانة إليها، وهي ~~عجوز طويلة القامة، تدل ملامحها على ما كانت عليه من الجمال في شبابها. وقد لبست ثوبا ~~يتلألأ بالوشي والتطريز، وحول جيدها العقود وفي يدها الأساور وفي أذنيها الأقراط ms112. # فلما وقع نظرها على جهان أكبرت ما هي عليه من المهابة والجمال رغم آثار السفر الطويل، ~~ورأت في عينيها معاني لم تعهد مثلها في واحدة من عشرات النساء اللاتي عندها. واستغربت رباطة ~~جأشها مع أنها جاءت مكرهة، وكانت تعلم علو منزلتها وكيف طلبها بابك من أبيها فلم ترض به، ~~فتوقعت أن تراها منكسرة القلب باكية حزينة. فلما رأتها رابطة الجأش هادئة ظنتها راضية بما ~~قسم لها. ولما دنت منها رحبت بها وقالت: «مرحبا بعروس فرغانة. يشق علي أن تحملي ~~إلينا قسرا وأرجو أن تكوني قد غيرت رأيك.» # فلم تجبها جهان، ولكنها ابتسمت ومشت معها في دهليز القصر مطرقة. ولو تلفتت لرأت نساء ~~القصر يتشابقن ويتزاحمن للنظر إلى ضرتهن. فلما شاهدن جمالها وهيئتها حسدنها؛ لأنها سيكون ~~لها المقام الأول عند بابك. أما هي فما زالت سائرة لا تبالي حتى أدخلتها القهرمانة إلى حجرة ~~مفروشة بالطنافس فرشا حسنا وقالت لها: «هذه غرفتك يا حبيبتي فاستريحي فيها.» # قالت: «وأين ثيابي؟ فقد أخذوها في جملة الأحمال.» # قالت: «ستكون عندك بعد قليل.» وخرجت وأرسلت إليها صناديقها. # ولما خلت جهان إلى خيزران في تلك الغرفة، أيقنت أنها وقعت في الفخ فانقبضت نفسها ولم ~~تتمالك عن البكاء برغم تجلدها، فوقفت خيزران بجانبها تواسيها متجلدة، ولكنها لما رأت دموعها ~~تنحدر على خديها انفطر قلبها وترامت على قدميها وأخذت تقبل طرف ثوبها وتقول: «آه يا سيدتي ~~ما الذي أصابنا؟! كيف جئنا وكيف أخذنا؟ وأين نحن؟ أين ضرغام الآن؟» واسترسلت في النحيب، ~~وجهان تبكي ولا تتكلم. ثم شعرت خيزران بأنها أخطأت بإظهار ذلك الضعف بين يدي سيدتها، ~~فتماسكت وقالت: «ولكنني واثقة بتعقلك وقوة جنانك، وأنا رهينة إشارتك.» # قالت: «سمعت بهزاد يثني على امرأة من نساء القصر اسمها هيلانة، فلعلها تؤنسنا إذا ~~عرفناها. هل لك أن تبحثي عنها وتأتيني بها؟ وقبل ذهابك هيئي لي ثيابي.» # فأعدت لها ما تحتاج إليه ومضت، وكانت الشمس قد آذنت بالزوال، وأخذ الخدم في إنارة القصر ~~بالشموع، فبدلت جهان ثيابها واستلقت والتفتت إلى ما حولها، فلما ms113 رأت نفسها في تلك الحيرة ~~وبينها وبين فرغانة سير بضعة أشهر، وكذلك بينها وبين سامرا، فكرت في ضرغام وساءلت نفسها: ~~ترى هل علم بما أصابها؟ أو هل من سبيل إلى إنبائه بمكانها وما هي فيه فلعله يستطيع إنقاذها. ~~ثم تذكرت أخاها سامان وساءلت نفسها ما دهاه؟ وهل قتل في المعركة أم فر إلى مكان ~~آخر؟ # وفيما هي في ذلك قرع الباب ودخلت خيزران تقول: «قد جئتك بالسيدة هيلانة يا مولاتي.» # فهمت جهان بالوقوف لملاقاتها، فأسرعت هيلانة وأجلستها وجلست إلى جانبها وهي تهش لها ~~وترحب بها كأنها تعرفها من قبل. واستأنست جهان بها وأحست كأنها في قصر أبيها بفرغانة ~~بين أهلها؛ لأنها آنست في وجه تلك المرأة لطفا ومودة وإخلاصا، فضلا عن الجمال. وكانت ~~هيلانة شقراء الشعر زرقاء العينين بيضاء البشرة لا يبارح الابتسام فمها، فابتسمت جهان لها ~~وشكرت تلطفها، فقالت هيلانة وهي تبتسم تشجيعا وإيناسا: «مرحبا بعروس فرغانة، لقد طالما ~~سمعت بجمالك وتعقلك، وقد مضى وقت ونحن في انتظارك.» # فقالت: «ما زلت أحسبني ذاهبة إلى الجحيم حتى رأيتك فخفت المصيبة عني.» # فأحست هيلانة عند سماع صوتها بلذة، وشعرت بجاذب نحوها وكأنها تذكرت بلواها هي، ~~فانقبضت نفسها، وقالت: «هكذا أراد المولى يا حبيبتي، ولو أنك قست بليتك ببلية ~~سواك لهان عليك أمرك. لو عرفت ما فعلوا بي لرأيت أنهم رحموك.» # فسألتها جهان أن تقص حديثها عليها عسى أن يخفف ما بها، فتنهدت هيلانة وقالت: «لا بد ~~أنك عرفت من وجهي وضعف لغتي الفارسية أني غير فارسية، وما أنا تركية ولا أرمنية وإن كنت ~~أخذت من أرمينيا، ولكنني يونانية نشأت في بيت أبي في عمورية، وخطبني بطريق من بطارقة ~~أرمينيا وتزوجني وحملني إلى بلده. ولم أكد أقيم معه عامين حتى بلغ هذا الخرمي خبري (وخفضت ~~صوتها) فبعث يطلبني من زوجي، فلما أباني عليه بعث قوة من رجاله اغتنموا غياب زوجي وحملوني ~~إليه بالقوة فحبسني هنا منذ بضعة أعوام فلا أنا أعرف أين زوجي، ولا ما فعله بعدي. وهو يعرف ~~مقري طبعا ولكنه ms114 لا يجد سبيلا إلي. هذا إذا كان لا يزال حيا.» قالت ذلك وشرقت بريقها ~~ثم مسحت دموعها وابتسمت وقالت: «ما قصدت أن أكدرك بهذا الحديث، ولكنني أردت أن أخفف ~~مصابك.» # أما جهان فأعظمت مصيبة هيلانة وهمت بأن تقص عليها حديثها فأرجعها الحياء. فتنهدت ~~وأحبت تغيير الحديث فقالت: «أين هو بابك هذا، وكيف تعيشون هنا؟» # قالت: «إن الرجل يقيم بقصر غير هذا قريب من أسوار هذا البلد، وذلك ليراقب تحصيناته، وهو ~~ينقل من يشاء من نساء هذا القصر إليه لتقيم عنده يوما أو بضعة أيام على ما يتراءى ~~له.» # قالت: «بلغني أنه اليوم في شاغل عن هذا القصر وأهله بأمر ذي بال.» # قالت: «نعم، إنه يتأهب لحرب شديدة.» # قالت: «مع من؟» قالت: «جاء جواسيسه بالأمس، وكان قد أرسلهم ليتجسسوا أحوال المسلمين في ~~العراق، فأخبروه أن المسلمين يتأهبون لإرسال حملة عظيمة عليه، يقودها الأفشين صاحب أشروسنة ~~بنفسه.» # فلما سمعت اسم الأفشين ارتجفت وتذكرت أنه علة بلواها، ولو انتبهت هيلانة لرأت أثر ذلك ~~التغير في عينيها، ولكنها لم تكن تعرف عن جهان إلا أنها بنت مرزبان في فرغانة طلبها بابك ~~ولم ترض به فاختطفها قسرا. فقالت جهان: «وهل جاء الأفشين نفسه؟» # قالت: «لا أدري، ولكنه آت ولا شك في ذلك، وقد خرج بابك من البذ في جماعة من رجاله ليقيم ~~العراقيل وينصب الأرصاد في الطريق. وقد لا يعود إلينا قبل بضعة أيام.» # ففرحت للخبر ونبهها ذكر الجواسيس الذين عادوا من العراق فسألت: «هل تعرفين أحدا من ~~الجواسيس الذين عادوا من العراق؟» # قالت: «خادمتي تعرف واحدا منهم.» # وكانت خيزران قد ذهبت وعادت بالعشاء إلى سيدتها ووقفت تسمع الحديث، فلما سمعت هيلانة تقول ~~إن خادمتها تعرف أحد الجواسيس ابتدرتها قائلة: «أي خادمة يا سيدتي؟» # قالت: «التي دلتك علي.» # قالت: «عرفتها، حقا إنها لطيفة كأنها اقتبست من سيدتها.» # فقالت هيلانة وهي تضحك: «لذا وقع الجاسوس في هواها ولا يزال يحمل إليها الهدايا ويأتمر ~~بأمرها ويريد أن يتزوجها.» # فسري عن جهان عند سماعها ذلك، ونظرت إلى خيزران ms115 فرأتها تنظر إليها فتفاهمتا فقالت خيزران: ~~«أريد أن أقترح عليها أمرا تكلف خطيبها به في طريقه إلى العراق. هل تساعدينني في ~~ذلك؟» # قالت: «حبا وكرامة، أعدي ما تريدين إعداده.» # فتهلل وجه خيزران فرحا لعلمها أنها تستطيع إرسال خبر سيدتها إلى ضرغام. ثم وضعت المائدة ~~فتناولن العشاء معا، وتذكرت هيلانة أن جهان في حاجة إلى الراحة من تعب السفر، فاستأذنت في ~~الذهاب على أن تعود في الصباح فتأخذها إلى غرفتها. # الفصل السادس عشر # | بين بابك وجهان # باتت جهان ليلتها تتقاذفها الهموم من كل جانب، فأرادت أن تكتب إلى ضرغام كتابا ولكنها ~~خافت أن يقع الكتاب عمدا أو سهوا في يد غريبة فتكون العاقبة وخيمة. فصممت أخيرا أن ~~تبعث الرسالة شفاها. فلما نهضت في الصباح أخبرت خيزران بما استقر عليه رأيها، فاستحسنته ~~وقالت: «يكفي أن نخبر سيدي ضرغام بأن جهان في البذ عند بابك.» قالت: «هذا الذي ~~أراه.» # فقالت: «ألا تزورين هيلانة؟ ومتى كنا عندها أقابل الخادمة وأفهمها ما تصنعه.» # قالت: «حسنا.» وأخذت في إصلاح شأنها وهمت بالخروج، وإذا بأحد الخصيان قد دخل وقال: ~~«أين السيدة جهان؟» # فلما سمعت جهان اسمها أجفلت وظنت بابك أتى أو أنه بعث يطلبها. فسكتت وتصدت خيزران ~~للرسول وسألته عما يريد فقال: «إن أخاها يريد مقابلتها!» # وما سمعت جهان ذكر أخيها حتى تنازعها عاملا الفرح والغضب؛ فرحت لعلها تسمع منه خبرا عن ~~ضرغام، وغضبت لأنه خدعها، فقالت للرسول: «أين هو؟ فليدخل.» # فدخل سامان وعيناه تذرفان الدموع وقد احمرتا من البكاء، ولما أقبل عليها ترامى بين ~~يديها وهو يبكي، فشغلها بذلك عن تعنيفه. ولم تفهم سبب بكائه فابتدرته قائلة: «ما بالك؟ ما ~~الذي يبكيك؟» # قال وصوته مختنق من البكاء: «لا أدري ...» # قالت: «كيف لا تدري ... قل ... قل!» # فلم يجبها وسكت وجعل يمسح دموعه بكمه وهو مطرق، فقالت: «من أين أتيت؟» قال: «من ~~سامرا.» # فقالت: «وكيف ضرغام؟ هل لقيته؟» فلما ذكرت ضرغاما عاد إلى البكاء فاختلج قلبها في صدرها ~~ووقفت فجأة وصاحت فيه: «قل ما بالك؟ كيف ضرغام ... أين ms116 هو ؟» # فتراجع وأمسك بيدها كأنه يستمهلها حتى يسكن روعه ثم قال: «لا أعلم أين هو.» # قالت: «ألم تقل إنك كنت في سامرا؟» # قال: «نعم كنت فيها. ولكنه ليس هناك.» # فقالت: «ضرغام ليس في سامرا؟» # قال: «نعم يا أختي ليس هناك، وقد سألت الناس كافة فلم أجد بينهم من يعلم أين هو.» # فأخذتها الدهشة، وبقيت تنظر إليه متسائلة، فعاد إلى الكلام فقال: «ماذا أقول؟ إن ضرغاما ~~ليس في سامرا، ولم يره أحد رجع إليها بعد ذهابه إلى فرغانة.» # فلما سمعت قوله غلى الدم في عروقها، وكاد الغضب يغلب على رشدها، لكنها تجلدت وأمسكت ~~نفسها، فتقدمت خيزران وأخذته بيده نحوها وقالت: «صرح. ما الذي سمعته؟» # فقال وهو يخفض صوته محاذرا أن تسمعه أخته وهي واقفة تسمع: «لما سطا علينا اللصوص وقبضوا ~~على حبيبتي جهان وعليك رأيت حتما علي أن أبلغ الأمر إلى البطل ضرغام، فأسرعت إلى سامرا ~~وقصدت إلى بيته فيها فوجدته خاليا خاويا، فسألت عنه كثيرين فلم أقف له على خبر. وأخبرني ~~أحدهم ...» قال ذلك وبلع ريقه وسكت مطرقا. فلما توقف عند هذا أصغت إليه جهان وتطاولت بعنقها ~~وأشارت إليه خيزران أن يصرح بما سمعه فقال: «أخبرني أن عدونا الأكبر سبب مصائبنا جميعا قد ~~بعث إليه جماعة من رجاله كمنوا له في منحنى الطريق وغدروا به.» قال ذلك وبكى. # فلما سمعت جهان قوله ورأته يبكي أمسكت نفسها حتى كف عن البكاء، ثم تفرست في وجهه تفرس ~~ناقد وهو مطرق لا يستطيع النظر إليها كأن أشعة نارية تنبعث من عينيها فتبهر بصره - والمنافق ~~لا يستطيع تثبيت بصره في عيني أحد ولا سيما إذا كان في غضون نفاقه - فلما لاحظت ذلك تنبه ~~ذهنها إلى احتمال كذب سامان. وبدلا من أن يقيمها الخبر ويقعدها حتى يخرجها عن الصواب، كما ~~توقع، أخذت تراجع أعمال أخيها السابقة، فرجحت أنه يكذب عليها لحاجة في نفسه فقالت: «هل تقول ~~الحق يا سامان؟» # قال: «وهل أختلق الأخبار من عندي؟ لقد قصصت عليك ما رأيته وسمعته، وأتمنى من صميم فؤادي ms117 ~~أن يكون كذبا.» # فأطرقت هنيهة ثم قالت: «من الذي أنبأك أني هنا، ومن أدخلك القصر؟» # فلما سمع سؤالها ارتج عليه وأخذ على غرة؛ لأن معرفته مكانها تدل على علاقة بينه وبين ~~اللصوص، فتوقف حينا. ولكنها لم تمهله حتى يهيئ الجواب فقالت: «لا أطلب منك جوابا، ويكفي ~~ما فهمته، فاذهب الآن إلى أصحابك الخرمية لعلهم يكافئونك على صنيعك. اذهب.» قالت ذلك وخرجت ~~من الغرفة وكانت قد تهيأت للذهاب إلى هيلانة. فخرج سامان وهو يهز رأسه ويتظاهر بتعجبه من ~~تصرف أخته وإنكارها ما يقول. # فلما خلت خيزران إلى جهان قالت: «أرى يا سيدتي ألا نستخف بما ذكره سامان وأن نرسل من ~~يأتينا بحقيقة حال ضرغام.» # قالت: «لا ريب عندي في كذب سامان. ولكنني أرى أن تكلفي الجاسوس أن يذهب إلى سامرا ويسأل ~~عن ضرغام رئيس حرس الخليفة.» # وذهبتا معا إلى زيارة هيلانة فرحبت بهما. وجلست السيدتان للحديث وأنست خيزران مهمتها ~~مع الجاسوس. ~~••• # كانت قهرمانة بابك سيدة قصره الآمرة الناهية فيه. وكان جميع من يضمهم من النساء والخصيان ~~يخشون بأسها ويخفون لخدمها؛ لأنها الوسيلة بينهم وبين بابك. إلا جهان فإنها بقيت على ~~سليقتها متلطفة متحفظة. ومع هذا كانت القهرمانة تجل قدرها وتبالغ في إكرامها. وبعد أيام ~~جاءت إلى جهان ووجهها يتهلل بشرا فحيتها وقالت: «أبشري، إن العريس قد جاء!» # فأجفلت جهان ولم تجب، فحملت القهرمانة ذلك منها على محمل الحياء، فقالت: «جئتك من قبل ~~مولانا بابك. فإنه رجع من سفره، ولما علم بمجيئك سر سرورا عظيما وأمرني أن أدعوك ~~إليه.» # فأجابتها جهان بهدوء وسكينة: «إلى أين؟» قالت: «إلى قصره.» # قالت: «أليس هذا الذي نحن فيه قصره كذلك؟» # قالت: «بلى، ولكنه ألف أن تنتقل نساؤه للإقامة معه هناك.» # فهزت جهان رأسها إنكارا وإباءا وقالت: «لا»، ولم تزد. # فعجبت القهرمانة لجوابها وهي في الأسر بين مخالب الأسد، وقالت لها: «إن بين هذا القصر ~~وقصر بابك دهليزا مسقوفا تسير فيه المرأة مكشوفة كأنها في غرفتها ولا يراها أحد، فهيا ولا ~~تخشي شيئا.» # فظلت جهان جالسة لا ms118 تبدي حراكا، فغضبت القهرمانة لهذا الاستخفاف وقالت بصوت عال: ~~«أنصح لك يا بنية بأن تنهضي ولا تستخفي بهذا الرجل فإنه فتاك لا يبالي أحدا إذا غضب.» ثم ~~خفضت صوتها ودنت منها ووضعت يدها على كتفها تتحبب إليها وقالت: «إنني شديدة الحرص عليك؛ ~~لأني أحببتك منذ رأيتك، قومي يا حبيبتي، قومي.» فرفعت جهان بصرها إليها وقالت: «أشكر لك ~~شعورك، ولكنني لسن بخارجة من هذه الغرفة.» # فنفرت القهرمانة من الجواب وتحولت نحو الباب وخرجت، وكانت خيزران واقفة تسمع ما دار ~~بينهما، وساءها ما أبدته سيدتها من الأنفة والشدة وهمت بلومها بعد خروج القهرمانة. ~~فسبقتها جهان قائلة: «لا تقولي شيئا يا أماه. فإني لا أبالي ما يكون من هذا الجلف العاتي. ~~إنه يريد أن أذهب إليه مختارة. ولكني لن أذهب وما قدر يكون. على أني رغم وحدتي وأسري هنا ~~أشعر بأني لي قوة وسلطانا، كما لو كنت في قصر أبي بين أهلي وأعواني. ذريه يفعل ما يشاء فإن ~~عروس فرغانة وخطيبة ضرغام لا تذل لإنسان!» # ونهضت فالتفت فوق ثوبها بمطرف من الخز، وتخمرت بشال مزركش التماسا للدفء؛ لأنها ~~في إقليم بارد. ومشت في أرض الغرفة مطرقة تفكر فيما عسى أن يفعل بابك إذا بلغه إباؤها، ~~وعزمت على الدفاع والثبات لآخر لحظة في حياتها. # وفيما هي في ذلك وخيزران واقفة لا تبدي حراكا، سمعت سعالا قويا لم تسمعه في القصر من ~~قبل، فعلمت أنه سعال بابك. وآنست في القصر حركة وجلبة؛ لأن أهله لم يألفوا دخول بابك عليهم، ~~ثم سمعت صوت القهرمانة تخاطب بابك ونظرت من نافذة صغيرة تطل على الرواق فرأت بابك قادما، ~~والخدم على كل من الجانبين يخرون سجدا، والنساء يحنين رءوسهن احتراما، والجميع يحيونه ~~كما يحيون معبودهم، وأكثرهم من المجوس، وهو يمشي مشية المختال الفخور. # فلما وقع نظرها عليه ارتجفت غضبا، وكانت قد ألفت منظر سجود الناس في قصر أبيها فلم ~~تستغربه، ولكنها أبت أن تكون هي أيضا في جملة الساجدين، بل غالت في الترفع شأن الإنسان إذا ~~كان في رفعة ms119 وانحطت منزلته بعض الشيء فإنه يصبح أكثر محافظة على مقامه. # وكان بابك ضخم الجثة، عظيم الهامة كبير الوجه، جاحظ العينين ضخم الشفتين، كبير الكتفين ~~بارز الصدر، إذا مشى ترنح في مشيته ترنح الخيلاء والكبرياء. وقد اعتاد الصدارة في موقفه ~~أو مجلسه حتى لو أراد الانثناء لتناول شيء وقع منه لم تطاوعه أعضاؤه. ولا غرابة في أن يكون ~~هذا شأن من لا يفتح عينيه إلا على المسبحين باسمه، المتفانين في طاعته، مثل بابك رئيس ~~الخرمية وقائدهم في حروبهم. فضلا عن أنه كان شجاعا شديد البطش قوي العضل أبي النفس. ~~ولولا انغماسه في الملذات والشهوات لكن من أعاظم الرجال. ولكنه أدمن الخمر وأسرف في ~~احتسائها ولا سيما في أيام السلم. وكان في هذا اليوم قد أعد مائدة الشراب في قصره، وبعث ~~في طلب جهان، وجلس في انتظارها يشرب. فلما جاءته القهرمانة بخبر رفضها كانت الخمر قد لعبت ~~برأسه فأكبر إباءها وجاء غاضبا ليعاقبها. # فلما دنا من غرفتها تقدمت القهرمانة وفتحت الباب وقالت: «هي هنا يا مولاي.» ورجعت ~~وأشارت إلى خيزران أن تخرج معها فخرجت وتباعدت. # وكانت جهان واقفة، فلما رأته داخلا قعدت، فاستنكر استخفافها به، ولكنه لم يكد يرى جمالها ~~الرائع ومهابتها وما ينجلي في عينيها من الذكاء والسحر حتى دهش. وعلى كثرة من رأى من ~~جميلات النساء، الفارسيات منهن والكرجيات والشركسيات والروميات، وبعضهن أجمل من جهان ~~تكوينا وأصفى لونا، شعر بأن عينيه لم تقع على فتاة في مثل جاذبيتها؛ فخف غضبه، وإن ~~أخذته العزة بالإثم، لتعوده خضوع الناس له على طول الخط فقال: «وتقعدين أيضا في ~~حضرتي؟!» # أما جهان فانتفضت كالعصفور بلله القطر؛ لفرط تأثرها رغم رباطة جأشها، ثم تشاغلت بإصلاح ~~شعرها ورفعت بصرها إليه وحدقت وهو ينظر في عينيها، فأحس بسهم اخترق صدره وكأن الغضب ~~تسرب من صدره حتى خرج من أطراف أنامله وسري عنه. وقالت: «هل ينفعك وقوفي إن لم تملك ~~فؤادي؟» # فتوسم من جوابها فرجا، فقعد على وسادة بجانبها وقال: «أرجو أن يكون لي نصيب من ذلك ~~الفؤاد ms120، فلا أظن أحدا أجدر به مني، وأنت تعلمين من هو بابك صاحب الحول والطول زعيم الخرمية ~~قاهر جنود المسلمين. وإنه ليحزنني أن حملتك إلي قهرا، ولكني لم أقدم على ذلك إلا بعد ~~أن فشلت في نيلك بالحسنى. فكيف ترينني؟» # فلما رأت تلطفه وتقربه قالت: «أراك بطلا باسلا قاهرا، وما أنت إلا أسير.» # فأجفل وقال: «أسير؟! ماذا تقولين؟» # قالت: «نعم إنك أسير شهواتك. فمن كان ملكا عظيما قاهرا لا يليق به أن يكون عبدا ~~لشهواته ... إني أشتم رائحة الخمر منبعثة منك.» # قال: «يلوح لي أنك من أولئك اليهود الذين يسمون أنفسهم مسلمين فيحرمون الخمر. وهل في ~~ملذات العالم أشهى منها، بل هي أم الملذات؛ لأنها تشحذ القوى وتستحث مطالب الجسد فتضرم ~~الرغبة فيما تشتهيه النفوس من الطيبات.» # فقالت: «كيف تكون صاحب السلطان وقاهر المسلمين، ثم ترى هذه الشهوات زينة الحياة؟ إن هدف ~~البطل هو أن يكون سيدا جليلا نافذ الكلمة يهابه البعيد ويحبه القريب.» # فقطع كلامها قائلا: «ألست كذلك؟» # قالت: «كلا. فقد يخافك البعيد ولكن القريب لا يحبك. والذين حولك يسبحون باسمك ويعظمونك ~~تملقا، فإذا غبت قالوا فيك كل قبيح؛ لأنك لم تفعل ما يحببك إليهم.» # فمل بابك في أمر هو مغلوب فيه. ورأى من الجهة الأخرى أنه بالغ في التزلف لتلك الفتاة، ~~وأكبر أن تكون منه بمنزلة الواعظ أو المرشد فقال: «ما لنا ولهذا الجدال الآن؟ هيا بنا يا ~~جهان.» ووقف وهو يمد يده ليمسك بيدها ويعينها على النهوض. فجذبت يدها منه وظلت ~~قاعدة. # فمد يده ثانية ليمسكها فوقفت ويدها وراء ظهرها وقالت: «قف عن حدك يا بابك، إنك بهذا ~~العمل تؤيد قولا أنت تنكره على الناس. لا تدن مني.» # فقال: «ومن يدنو منك إذن غيري؟ أنت عروسي وقد بعثت فأتيت بك من أقصى بلاد الترك لأجعلك ~~سعيدة، فلا تجعليني شقيا!» # قالت: «من كانت مطالبه جسدية وكان ذا سلطان فقد لا يشقى؛ لأن يده تنال ما يريده إن لم يكن ~~بالمال فبالسيف، فكيف تشقى لأني لم أرضخ لك وفي قصورك ms121 مئات من النساء الجميلات، فافرض أني ~~لست هنا واتركني وشأني.» # قال: «لو لم أكن أتوقع السعادة بقربك. أو لو كان لي غنى عنك ما تكبدت المشقة في ~~استقدامك، ولم أكن لأنال ذلك لولا حبيبنا سامان.» # فتحققت عند ذلك أن أخاها هو الذي أسلمها. فتحولت نقمها إليه وأصبحت لا تدري ممن تنتقم ~~ولا كيف تنتقم، فتجاهلت ما فهمته عن سامان وقالت: «تكبدت كل ذلك من أجلي لتجعلني مثل نساء ~~قصرك؟» # قال: «بل أبالغ في إكرامك وأهدي إليك الجواهر وألبسك أحسن الملابس وأختصك بالتقرب ~~والمحبة، وأجعلك سيدة هذه المدينة، ولا أمنعك شيئا تطلبينه.» # قالت: «تلبسني الجواهر؟! ما الجواهر عندي إلا حجارة لامعة لا ترفع نفسا ولا تعلي مقاما، ~~وهذا صندوقي مملوء من الجواهر، وقد تركت قصري وعقاري في فرغانة. ولو بقيت هناك لكنت ملكة من ~~الملكات، ولكني رأيت هذه الأموال من أسباب شقائي؛ فتركتها!» # فقطع كلامها قائلا: «بلغني أن أباك المرزبان أقام عليك الأفشين صاحب أشروسنة وصيا. ما ~~لنا ولكل ذلك، تعالي نتناول الطعام معا.» ودنا منها، فتراجعت مغضبة، فنظر إليها شزرا ~~وقال: «إذا كنت لا تأتين طوعا أخذتك كرها، وأنت تعلمين أني إذا قلت فعلت؛ فقد كنت في ~~فرغانة وأتيت بك إلى أرمينيا. فهل يشق علي أن أنقلك من قصر إلى قصر وبينهما مائة ~~خطوة؟!» # قالت: «أظنك تحسبني وأنا على مرأى منك أقرب إليك مني يوم كنت في فرغانة. اعلم أنني لا ~~أزال بعيدة عنك كأني في فرغانة أو أبعد منها!» # قال: «تقولين ذلك وأنت بين يدي! ولو شئت لقبضت عليك بيد من حديد أو أمرت رجالي فحملوك ~~إلي موثقة؟ ولكنني لا أزال أرجو رجوعك إلى رشدك.» # فنظرت إليه نظرة حادة ملؤها التوبيخ والترفع وقالت: «قد تقبض على عنقي، وربما استعنت ~~برجالك فأوثقتني أو قتلتني. ولكنك تنال كل ذلك قبل أن تستطيع لمسة أو نظرة مما كنت ترجوه ~~مني. اقتلني إذا شئت، وإذا جبنت عن قتلي فأنا لا أجبن عن قتل نفسي فلا تحتقرني أو تهددني، ~~واعلم أنك تخاطب فتاة أكبر ms122 منك نفسا وأربط جأشا وأقوى جنانا، وإذا كنت تحسبها كسائر من ~~في قصرك من اللقيطات أو المسبيات أو الرقيقات فقد أخطأت. إنك تكلم ابنة مرزبان فرغانة. وقد ~~قادتها المقادير إليك فاكسب صداقتها ودع غير ذلك. أو فامض في سبيلك وأرحني وأرح ~~نفسك.» # وكانت تتكلم كمن له سلطان، وبابك يشعر بأنه يكاد يغلب على أمره بين يديها وكلما أرسلت ~~إليه نظرة حلت من عزائمه عقدة فقال: «والآن ... ماذا تريدين؟» # قالت: «أريد أن تتركني وشأني.» # قال: «أتركك أياما تفكرين في أمرك لعلك ترجعين إلى صوابك وتعلمين أنك إذا أطعتني نلت ~~السعادة.» قال ذلك وتحول حتى خرج من الغرفة وقد امتقع لونه. وكانت القهرمانة وخيزران ~~واقفتين تسمعان شيئا من الحديث وكلتاهما معجبة ببسالة جهان وأنفتها. وبعد أن كانت ~~القهرمانة ضدها أصبحت معها ولم تتظاهر بذلك لكنها صارت تلاطفها وتراعيها من ذلك ~~الحين. # أما جهان فلم تقل ما قالته لبابك تهديدا، ولكنها كانت قد أخذت عدتها للدفاع أو ~~الانتحار عند اليأس. وقد فتحت باب الاستمهال قصدا ريثما يعود الجاسوس وتعلم ماذا جرى ~~لضرغام ثم تنظر فيما يكون. # ولم ينقض ذلك اليوم حتى شاع حديث جهان في القصر ولم تبق واحدة من النساء إلا أعجبت ~~بها. وأصبحن ينظرن إليها نظر الصغير إلى الكبير أو نظر الجاهل إلى العاقل، ولا سيما صديقتها ~~هيلانة فإنها حينما علمت بخروج بابك من القصر هرولت إلى جهان وأخذت تسألها عما جرى وجهان ~~تتواضع في التفسير وتتلمس الأعذار لبابك على جرأته. فلم يكن ذلك إلا ليزيد هيلانة احتراما ~~لها وتقديرا. # وهكذا أصبحت جهان حديث أهل البذ ومضرب أمثالهم. وهي لا تعبأ بشيء من ذلك، وكل همها ~~ضرغام وإبلاغ خبرها إليه، ولم تعد ترى سامان. # مكثت حينا في انتظار رجوع الجاسوس وكانت قد بادلت هيلانة ودا بود. فقصت عليها ~~متاعبها، فشاركتها هذه آلامها وأصبحت شديدة الاهتمام بأمرها. ولم تكن أقل شوقا لرجوع ~~الجاسوس من جهان نفسها. وعاد الجاسوس واتفق يوم رجوعه أن كانت جهان عند هيلانة في غرفتها ~~وخادمتها قائمة على الخدمة ms123 وخيزران غائبة. فلاحظت جهان في وجه الخادمة تغيرا فقالت ~~لهيلانة: «اسأليها ماذا قال لها خطيبها؟» # فدهشت هيلانة لتلك المفاجأة وقالت: «وهل تظنينه جاء؟» # قالت: «نعم جاء، ويظهر أنه لم يأتنا بخبر مفرح.» # فاستغربت تكهنها وأشارت إلى خادمتها فأتت فقالت لها: «هل عاد صاحبنا من سامرا؟ ~~ومتى؟» # قالت: «نعم يا سيدتي، أتى منذ ساعتين.» # فقالت: «ولماذا لم تخبرينا؟» # وكانت جهان تسمع ذلك. فاضطربت فصعد الدم إلى وجنتيها وقالت: «ماذا قص عليك؟» # قالت: «قال لي إنه سأل عن الرجل الذي طلبت منه البحث عنه في سامرا كلها فلم يقف له على ~~خبر.» # قالت: «هل يمكن أن نراه ونسأله.» # قالت: «لا أدري هل تأذن القهرمانة في ذلك أم لا؟» # فقالت هيلانة: «هي تأذن بكل ما تريد جهان عروس فرغانة لأنها سحرتها. فاذكري للقهرمانة ~~أنها تطلب صاحبك لتسأله في أمر.» # فذهبت الخادمة وعادت به، فسألته جهان عما علمه فقال: «سألت عن ضرغام يا سيدتي فلم أجد ~~أحدا يعرفه.» # قالت: «ألم تسأل عنه في قصر الخليفة؟» # قال: «سألت عنه فلم أقف على خبره.» # قالت: «أظنك لو سألت عن رئيس الحرس لوصلت إليه.» # قال: «سألت عن رئيس الحرس فقيل لي إن اسمه الصاحب.» # قالت: «هل أنت واثق مما تقول؟» # قال: «نعم يا سيدتي، وقد دققت البحث عن رئيس الحرس نظرا إلى ما رأيت من اهتمام الناس ~~به، فقيل لي إنه رجل شجاع باسل وإن الخليفة يحبه حبا جما وقد زوجه فتاة جملية من ~~بنات قصره وأهداه هدايا ثمينة.» # فثبت عندها أنه صادق فيما يقول، وقد كان من الجائز أن يتبادر إلى ذهنها أن الصاحب هو ~~ضرغام نفسه لولا حديث زواجه وهي لا تتخيل أن ضرغاما يتزوج ويتركها، فتأكد عندها ما قصه ~~عليها أخوها من أن الأفشين سعى في قتله، فازدادت ميلا للنقمة وغلب اليأس عليها ونسيت ~~موقفها، ولم تنتبه إلا وخيزران تدعوها فخجلت ونهضت تقصد إلى غرفتها للاختلاء فيها. ونسيت أن ~~خيزران نادتها، فلما خرجت من عند هيلانة لقيتها خيزران فقالت: «إلى أين يا سيدتي؟» # قالت ms124: «أظنك دعوتني وقد نسيت. ماذا تريدين؟» # قالت: «كنت في حديقة القصر فرأيت بابك خارجا من قصره فظننته خارجا إلى الحصون والمعاقل، ~~وإذا به دخل هذا القصر وذكر للقهرمانة أنه يريد أن يراك الآن، فأوعزت إلي أن أبلغك ~~ذلك.» # فأجفلت وقالت: «بابك يطلب أن يراني؟!» # قالت: «نعم وهو في غرفتك.» # قالت: «وفي غرفتي أيضا؟! وما العمل؟ يا أورمزد ساعدني. إني أراني في ورطة يصعب التخلص ~~منها. أعلمت الخبر الذي جاء به الجاسوس؟» # قالت: «نعم يا سيدتي علمته.» # قالت: «وما رأيك؟» قالت: «يظهر أن مولاي ضرغاما ليس في سامرا.» # قالت: «لا يخيفني غيابه عنها، وإنما يخيفني أن تصدق رواية أخي سامان، ألم ~~تسمعيها؟!» # قالت: «سمعتها ولكن من يعلم الصحيح؟» # كانت جهان وخيزران تتكلمان وهما تمشيان على مهل، حتى أشرفتا على الغرفة فتراجعت جهان ~~وقالت: «والآن لا بد من مقابلة بابك؟ ماذا أقول له؟ لعل عنده خبرا جديدا.» # وسمعت صوت بابك ينادي من داخل الغرفة: «جهان. جهان.» فأسرعت وركبتاها تصطكان ولكنها ~~تتجلد، حتى أقبلت على باب الغرفة فأطلت على بابك، وكان جالسا فوقف لها واستقبلها وهو يبش ~~ويبتسم، فلما رأت ابتسامه اطمأن قلبها ولا سيما عندما وقف لها ورحب بها. وابتدرها قائلا: ~~«إني أقف لعروس فرغانة وإن كانت هي تحتقر بابك ولا تقف له.» # قالت: «إن جهان لم تحتقر بابك وإنما احتقرت خصالا فيه ذكرتها.» # قال وهو يجلس ويدعوها إلى الجلوس: «وإذا نزع تلك الخصال منه هل تحبينه؟» # ولاح لها من خلال كلامه أنه جاد فيما يقول، فأظهرت ارتيابها قائلة: «أراك تسخر من فتاة ~~أغضبتك فأحببت التشفي منها، ولكنني أخلصت لك النصيحة وعرضت نفسي للخطر.» # وقال والاهتمام باد في محياه: «لا يا جهان، إني لا أسخر منك، ولكنني أعملت الفكرة فيما ~~قلته لي فقضيت مدة غيابي وأنا أفكر في أقوالك وحقيقتها تتجلى لي رويدا رويدا. وكلما انجلت ~~شعرت بالخجل من نفسي وندمت على ما فرط مني. كنت منغمسا في الملذات والإكثار من النساء؛ ~~لأني لم أجد واحدة تملأ عيني وتملك قلبي. ولا أدري ms125 ما الذي غيرته أنت من وجداني ... أراني ~~قد حدث لي انقلاب لم أعهد مثله من قبل، كأنك روح مرسلة إلي من عند أورمزد. وإنما أربي ~~الآن أن تقولي لي إنك تحبينني ...» قال ذلك والعرق يتلألأ على جبينه. # فاستغربت انقلابه ولم تخف مداجاته أو خداعه لأنها قرأت الإخلاص في عينيه وأكبرت أن ترى ~~ذلك الرجل الفظ يتقرب إليها بمثل هذا الكلام. # قالت: «هل تعني حقا ما تقول؟» # قال: «نعم. وأنت تفهمين أني لا أداجي. وقد عملت بنصيحتك بعد أن نزلت منزلة الدم من قلبي ~~والسواد من عيني، فهجرت الخمر وسأترك النساء من أجلك. صدقت يا جهان، إن العيشة الهنيئة في ~~الحب المتبادل. وها أنا ذا أحبك فهل تحبينني؟ لا عذر لك في الرفض الآن.» # فأطرقت، وفكرت فيما سمعته من أمر فقد ضرغام ويأسها من وجوده. ورأت هذا الجبار ~~يخطب ودها ويعاهدها على الانقطاع لخدمتها وهجر الخمر والنساء لأجلها، فحدثتها نفسها بأن ~~تجيبه بالإيجاب، فاعترضها خيال حبيبها فتصورت أنه كان ضالا فوجد فكيف تقابله وبأي عين ~~تنظر إليه. فظلت حينا تتردد وبابك صابر ينظر إليها ويراقب حركة عينيها، فلما استبطأ ~~جوابها قال: «أظنك تفكرين في الأفشين.» # فلما سمعته يذكر الأفشين ظنته يعلم شيئا عنه فقالت: «وكيف عرفت أني أفكر فيه وما ~~علاقته بي؟» # قال: «أليس هو الوصي عليك؟» قالت: «وماذا في هذا؟» # قال: «لا أخفي عليك ما سمعته وإن كنت تحاولين إخفاءه. علمت أن الأفشين بعد أن جعله أبوك ~~وصيا عليك طمع في زواجك فرفضت، أليس كذلك؟» # فأطرقت وبدا الحياء في محياها ولاح الغضب في عينيها ولم تجب، فقال بابك: «وإن فتاة ترفض ~~الأفشين ملك أشروسنة، ثم ترفض بابك صاحب أرمينيا عفافا ورغبة في الفضيلة لجديرة بالعبادة. ~~وقد بلغت أن الأفشين انتقم منك انتقاما جارحا. ولسوف أنتقم لك منه أشد الانتقام.» # فلما سمعته يلوح بالانتقام من الأفشين مالت إلى القبول، ولكنها بقيت في قلبها ترجو لقاء ~~ضرغام فقالت: «إذا كنت تعني ما تقول وأنك تنتقم لي من الأفشين فاسمح لي أن أنبهك ms126 إلى أمر. ~~أنت تعلم أني فارسية مثلك وأن أبي مرزبان كبير لم تكن تخفى عليه خافية من نوايا الفرس على ~~العرب. فأنت متآمر مع الأفشين والمازيار صاحب طبرستان على قلب دولة المسلمين. أليس كذلك؟ ~~أصدقني.» # قال: «صدقت هذا هو الواقع.» # قالت: «فما معنى أن يحاربك الأفشين بجيش من المسلمين؟» # قال: «إنه يتظاهر بنصرته للمسلمين ليجمع أموالهم ويرسلها إلى بلده، ومتى توافر المال ~~اتحدنا جميعا وقلبنا هذه الدولة.» # فنظرت إليه نظرا نافذا والارتياب باد في عينيها وقالت: «أتكون قائد هذا الجند وزعيم ~~العصبة الخرمية والناس يجلون قدرك ويسجدون لك، ثم تنطلي عليك هذه الحيلة؟» # قال: «ولماذا تعدينها حيلة؟ إني أعرف الأفشين من قبل. وقد أجمعنا وأقسمنا على هذا الأمر ~~منذ بضع عشرة سنة ومعنا صاحب طبرستان، وما زلنا نجدد العهد كل عام، فأي نفع له في ~~خداعنا؟» # فتفرست في عينيه وقالت: «إن الأفشين يخدعك ليكسب المال؛ لأنك إن لم تقم لحرب المسلمين لا ~~يبقى له باب للارتزاق، أما المازيار صاحب طبرستان فقد يكون أخلص طوية ولكنه لا شأن له في ~~عملك. فإذا شئت أن أجيبك إلى ما طلبته مني فلا أريد لك أن تكون مخدوعا تحارب برجالك فإذا ~~فزت طالبك الأفشين بحق الشركة وإذا هزمت استفاد من هزيمتك.» # فانتبه بابك كأنه هب من رقاد، ورآها قد أزالت غشاوة عن عينيه، وشعر بسلطانها عليه فقال: ~~«بورك فيك. نعم الرأي رأيك. لا شك أن الأفشين مداج.» # قالت: «فمثلك يجب أن يكون صاحب الأمر وإليه المرجع لا شريك له يقاسمه ولا منازع ينازعه. ~~فإذا رأيت ذلك كنت أنا عونك في سراء السلم وضراء الحرب، على ألا يتم زواج بيننا إلا بعد ~~الفراغ من هذه الحرب، وعند ذلك أفخر بأني حظيت بأكبر رجل في فارس.» # فتوقدت حماسة بابك وقال: «ولكن قولي قبل كل شيء. هل تحبينني منذ الآن؟» # وقالت وفي شفتيها ابتسامة الظفر: «ومتى كان الحب يهمك؟» # قال: «عندما وجدت المرأة التي تستحق محبتي، فأرجو أن أستحق محبتها. فهل تحبينني؟» # فأمسكت نفسها لحظة ثم قالت ms127: «نعم ... لا ...». ولم يطاوعها لسانها فقالت: «أحبك محبة الأخ حتى ~~تفرغ من هذه الحرب.» # قال: «يكفيني ذلك يا جهان.» # فاستدركت وقالت: «وأرجو ألا يعرفني الناس بهذا الاسم؛ لأني قد أخطب في الجند وربما شاع ~~ذكري، فلا أحب أن يعرفني الأفشين أو غيره. فليكن اسمي منذ الآن جلنار.» # قال: «اتفقنا يا جلنار.» وشعر لساعته براحة ولذة فكأنه انتقل من زمرة الأشرار الفاسقين ~~إلى صحبة الأبرار المحبين. وليس من حافز على هذا الانقلاب الخير إلا نعمة الحب الصادق، فإنه ~~لم يكن يعرف من اللذة إلا الانغماس في شهوات الجسد، ولم يذق طعم الحب العذري المتبادل بينه ~~وبين فتاة تملك قلبه وتملأ عينيه ... فتبدلت حاله وعادت إليه أريحيته وأصبح منقادا لجهان ~~لا يقطع أمرا إلا برأيها ولم يعرفها أهل البذ إلا باسم «جلنار»؛ لأنهم لم يكونوا قد عرفوها ~~من قبل. # وتحفز بابك للذهاب وهو يقول: «اليوم بدء أيام سعادتي يا جلنار، فإني لم أكن أسعد حالا ~~مني في هذه الساعة.» ووقف وأتم حديثه فقال: «إنما لي رجاء لا أظنك تخالفينني فيه؛ ذلك أن ~~خاصتي تعودوا مجلس الشراب، وفيهم المولعون بالخمر، ولم يوفقوا إلى من يهديهم الصراط ~~المستقيم بعد، وأخشى إن فاجأتهم بإبطال هذه العادة أن يغضبوا، وأنا في حاجة إليهم في هذه ~~الحرب؛ فأرى أن أسايرهم وأجالسهم وأوهمهم أني أشرب معهم حتى نرى ما يكون.» # قالت: «لا بأس، على أن تتلطف في جعلهم يقلعون عما ألفوا بالتدريج.» # فأشار مطيعا، وتمت المعجزة؛ إذ انقلب مثال الاستبداد والعنف إلى مثال لين العريكة. ~~وفي هذا ما يدل على قوة سلطان المرأة العاقلة إذا هي أحسنت الأسلوب في رد الرجل عن النقائص. ~~ولن تستطيع شيئا من ذلك إلا بأن تجعله يحبها فمتى ملكت قلبه ملكت زمامه. أما إذا أرادت ~~إصلاحه بالانتقاد فقد تزيده تمسكا بزلاته. # ولا تسل عن فرح جهان بما حدث لبابك وقبوله ما اشترطته، لما فيه من صيانة نفسها حتى تتحقق ~~أمر حبيبها والانتقام من الأفشين. وتذكرت في تلك اللحظة أخاها سامان فاستوقفت بابك وقالت ms128: ~~«لي طلبة أرجو أن تقضيها.» # قال: «لك ما تريدين.» # قالت: «سامان. أخي. أنت تعرفه وتعرف أنه خانني وغدر بي. لا أطلب الانتقام منه ولكنني أريد ~~إبعاده عن هذه المدينة؛ لأن في وجوده خطرا على الجيش. لا أطلب قتله أو سجنه بل أكتفي ~~بإبعاده لنأمن شره.» # قال: «هذا ما كنت عازما عليه، وإن كنت قد أفدت من خيانته ... إذ لولاه لم أحظ بعروس ~~فرغانة، وقد يخونني كما خان أخته، وسأنفيه من هذه الديار، والآن ألا تريدين الإقامة معي ~~بقصري؟» # قالت: «دعني في القصر كما أنا، فإني مستأنسة بأهله، وإن أردتني لمشورة أو تدبير فإنا ~~نلتقي على موعد.» # فأذعن وهو يبتسم وينظر في وجهها نظر المحب المتهيب. فوقفت وهشت له فودعها وهو يقول: ~~«نحن على وفاق منذ الآن. فهل أنت تحبينني؟» # قالت: «إننا أخوان. أنت أخي بابك أحبك محبة الأخ لأخيه وأرعاك رعاية الأخت لأخيها، وسترى ~~أني أبذل نفسي في سبيل راحتك.» # الفصل السابع عشر # | يأس ضرغام # كان ضرغام قد بث العيون والجواسيس يبحثون عن جهان في أنحاء المشرق، وفيهم من سافروا إلى ~~فرغانة، فلبث حقبة من الدهر ينتظر رجوعهم فعادوا وما فيهم من سمع خبرا أو عرف شيئا يهديه ~~إلى مكانها، فضاقت الدنيا في عينيه بما رحبت وغلب عليه اليأس وأخذ يفكر في المجرم الذي ~~سبب فقدها، فلم يجد غير الأفشين، ثم تذكر ما عرفه عن سامان ونفاقه وغدره فارتاب في أمره. ~~وكان يقضي أيامه وحيدا في منزله إلا إذا خرج المعتصم واصطحبه للصيد أو الرياضة أو الصلاة، ~~وكان يستأنس بياقوتة استئناسا كثيرا لكمالها ومشابهتها لجهان، وكلما نظر إليها تذكر صاحبه ~~حمادا وود من صميم فؤاده أن يجمعها به لعله يوفق إلى من يجمعه بحبيبته. # ولما طال انتظاره وانقطعت أخبار جهان عنه ويئس من وجودها، استولت عليه السويداء ولم يعد ~~يرى للحياة معنى، وود لو أنه يشغل نفسه بحرب أو نكبة أو مرض، أو أن يموت ويتخلص من عذاب ~~الشوق والقلق. وسبيل الموت الانتحار، وهو يعده جبنا لا يقدم عليه غير ms129 الضعفاء إذا غلبوا ~~على أمرهم أو خولطوا في عقولهم. ومع هذا فإن في نفسه بقية أمل في العثور على جهان. وكبر ~~عليه أن يموت ولا يثأر لها، فوقع في حيرة، وظهرت حيرته في وجهه فلم يكن يراه أحد إلا تبين ~~في محياه القلق رغم ما يحاوله من التكتم، ولا سيما أمام أمه لئلا يحزنها، ولم تكن هي لتخفى ~~حاله عليها. فكان إذا سألته عن جهان وأخبارها قال: «إنهم لم يقفوا لها على خبر وقد أرسلت ~~آخرين لجهات أخرى، فلعلهم أن يعثروا عليها.» وكانت أمه توهمه أنها صدقت قوله وتزيده أملا ~~بلقائها فأصبح ولا تعزية له غير وردان، وأصبح على طول العشرة أقرب الناس إليه. فكان إذا سئم ~~أو قلق شكا إليه حاله واستشاره في أمره، فيخفف وردان عنه. فسمعه مرة يتذمر ويسأم الحياة وهو ~~يتمشى في حديقة القصر معه فقال له: «مثلك لا يجوز أن يضعف إلى هذا الحد يا مولاي.» # قال: «لا تقل يا مولاي؛ لأنك صديقي يا وردان؛ ولذا تراني أشكو إليك همي وأكشف لك نفسي، ~~إني لا أرى معنى للحياة مع اليأس من لقاء جهان.» # قال: «لكل نفس أجلها لا تؤخر ساعة ولا تقدم ساعة. فاصبر إن الله مع الصابرين.» # قال: «لقد مللت الصبر، ولا أرى راحة إلا في الموت. ولكني أحتقر المنتحرين.» # فأحب وردان أن يبدي رأيا يرتاح إليه ضرغام ويصادف هوى في نفسه هو منذ جاء العراق ~~فقال: «أمثلك يكره الحياة ويعجزه السبيل إلى الموت وهو من خاصة المعتصم وكبار قواد ~~المسلمين والحرب قائمة لا يخمد سعيرها بينهم وبين جيرانهم من الفرس أو الروم أو ~~العرب؟» # فنبه كلامه ضرغاما. وكان ينبغي أن يتنبه من قبل فقال: «صدقت، إن الموت في ساحة الوغى ~~ميسور لمثلي. ولكن أمير المؤمنين يلزمني صحبته؛ فقد جعلني صاحبه ومنعني من السفر.» # فقال: «لا أظنه يمنعك بعد الآن.» قال: «ولماذا؟» # قال: «لأن الأخبار تتوالى باستفحال أمر الخرمية في أرمينيا حتى ضاق الأفشين ذرعا ببابك ~~وحصونه.» # قال: «من أنبأك بهذا؟ كنت أحسب الأمر ms130 على عكس ما تقول والخليفة لا يخفي علي ~~شيئا.» # قال: «إن الخليفة لا يخفي عليك أمرا يعرفه، ولكنه لا يعرف ذلك!» # قال: «هل تعرف شيئا عن هذه الحرب لا يعرفه الخليفة؟» # قال: «نعم يا سيدي؛ لأن الوزراء ورجال الخاصة يرون من حسن السياسة كتمان بعض الأخبار عن ~~الخليفة.» # قال: «صدقت، ولكنني من الخاصة ولم يبلغني شيء مما تشير إليه.» # قال: «ولا أظنه يبلغك من سواي؛ لأني سمعته من مصدر لا علاقة له برجال البريد الذين يحملون ~~الأخبار إلى الخليفة.» # فاستغرب ضرغام ذلك وقال: «ماذا سمعت؟» # قال: «سمعت أن بابك الخرمي تضاعفت قوته بعد أن انتقل من أردبيل إلى البذ واتخذها حصنا ~~له.» # فقطع ضرغام كلامه قائلا: «هذا سمعناه بالأمس.» # قال: «وهل عرفت سبب قوته بعد أن كاد يعمد إلى الفرار؟» # قال: «نعم. إنه استقوى بمن انضم إليه من الأقوام الناقمين على المسلمين.» # فابتسم وردان وقال: «هذا هو السبب الفرعي، ولعله يبلغ الخليفة اليوم على يد صاحب البريد. ~~أما السبب الأصلي فهو غير ذلك.» # قال: «وما هو؟» قال: «أخبرني بعض القادمين من أرمينيا خبرا كدت أنكره لولا ثقتي بالناقل؛ ~~ذلك أن بابك المشهور بالتهتك والانغماس بالمسكر والفحشاء قد تاب وأناب وأصبح إذا جالس رجاله ~~لا يشرب معهم. وقد انقطع إلى تدبير أمور جنده واستجماع قواه واستنهاض الناس على المسلمين. ~~أخبرني رجل يعرف دخائل البذ. وهم ينسبون هذا التغيير إلى امرأة من نسائه ذات عقل وتدبير ~~اسمها جلنار ملكت قياده وتصرفت في أموره.» # فأطرق ضرغام لحظة وقد ساءه رجوع بابك عن رذائله؛ لأنه كان يرجو أن تكون عونا لهم عليه. ~~وكان يفكر في ذلك وهو واقف بجانب شجرة من التفاح يتلقى بضرب ثمارها المتدانية بخيزرانة في ~~يده ووردان واقف بجانبه. وإذا بغلام من غلمان الخليفة جاء مسرعا. فلما رآه ضرغام علم أنه ~~قادم من عند الخليفة يدعوه، فالتفت إلى وردان وقال: «أظن الخليفة يدعوني لإطلاعي على أخبار ~~الحرب.» # قال: «إذا رأى مولاي أن يكون في هذه الحرب فليأمر أن أكون في خدمته ms131؛ لأني أعلم أحوال تلك ~~البلاد وطرقها وقد أنفعه.» # قال: «حسنا.» واتجه إلى المنزل ولبس قلنسوته وسواده، وقصد إلى دار الخاصة في قصر ~~الخليفة، فوسع له الحاجب وأدخله بلا استئذان. فلم يجد عند الخليفة إلا القاضي أحمد، ولكنه ~~قرأ في محياه القلق والغضب. فلما أقبل وحيا بش له الخليفة وأمره بالجلوس فجلس، فقال له ~~الخليفة: «أرى الصاحب قد مل القعود في هذا القصر وشبعت نفسه ترفا فاشتاق إلى ميدان الوغى ~~وخوض المعامع.» # فأدرك ضرغام أن الخليفة يمهد له طلب السفر إلى القتال، وأنه لم يفعل إلا وهو يرى الحاجة ~~ماسة إلى نجدته فقال: «إن البقاء إلى جوار أمير المؤمنين نعمة وبركة، ولكن الضرب بسيفه فرض ~~مقدس. وقد طالما حدثت نفسي أن ألتمس من أمير المؤمنين أن يرمي بي في هذه الحرب القائمة ~~بأرمينيا، فإذا أذن لي في ذلك فإنه يغمرني بفضله وأنا في كل حال صنيعته وربيب ~~نعمته.» # فاستحسن الخليفة ذكاءه ونظر إلى القاضي أحمد فالتفت القاضي إلى ضرغام وقال: «إن أمير ~~المؤمنين ضنين بك حريص على قربك، ولكنني لحظت منك في هذه الأيام انقباضا حسبته ناتجا عن ~~هذا الانحباس؛ فإن القائد الشجاع لا يسر إلا بخوض المعامع والظفر بالحرب. ونحن الآن في ~~حرب بأرمينية، وقد صبرنا على ذلك المتمرد لاعتصامه في حصونه. فأشرت على أمير المؤمنين بأن ~~يوجهك إليه فيأتي النصر على يدك.» # فقال: «إني على ما يريد أمير المؤمنين، وأنا على أهبة السفر هذه الساعة.» # فقال الخليفة: «أنت تعلم أن جند المسلمين في أرمينية بقيادة الأفشين، فهل يشق عليك أن ~~تكون من قواده.» # قال: «إنما أنا سيف من سيوف أمير المؤمنين، فليستلني رئيسا أو مرءوسا.» # فهش له الخليفة وقال: «بورك فيك، وسأبعث إلى الأفشين أن يعرف قدر الصاحب قبل سائر ~~القواد.» # فوقف ضرغام وقال: «يأذن لي مولاي في أن أسافر مصحوبا بدعائه وبركته، وأرجو ألا أعود إليه ~~إلا وقد فتح البذ وقتل بابك الطاغية.» # فابتسم له الخليفة وأمر أن يخلع عليه، فخرج وقد زال قلقه. # وكان وردان في انتظاره ms132 بباب القصر. فأخبره بما تم، وقال له: «كنت أحب أن تبقى قريبا من ~~أمي هنا.» # فقال: «لا بأس عليها فهي في قصر الخليفة وبين يديها الخدم والموالي.» # ومضى إلى أمه فأخبرها بأن الخليفة أشخصه إلى ميدان القتال، فاستحسنت الأمر وشجعته ~~وقالت: «أطلب إلى الله أن يعيدك ظافرا.» # ثم تقدم إلى ياقوتة وحياها، فلما علمت بأنه يتأهب للسفر دمعت عيناها فقال: «ادعي لي ~~بالتوفيق لعلي أرى حمادا في طريقي، لا تحسبيني غافلا عن أمره.» قال ذلك وتنهد خفيا ~~وتذكر مصيبته بفقد حبيبته. # فأجابته ياقوتة بدمعتين أرسلتهما على خديها وهي مطرقة لا تتكلم، فتركها وخرج، فأمر وردان ~~بالاستعداد للسفر، وبعد أيام ودع أمه وأوصاها بياقوتة خيرا، وسافر في فرقة من خاصة رجال ~~الفراغنة الأشداء. ~~••• # جرت بين جند المسلمين والخرمية مواقع عديدة في أردبيل وغيرها انتهت بتخلي الخرمية عن ~~أردبيل، واستقروا في البذ مدينة بابك وهي مدينة حصينة أو قلعة كبيرة مؤلفة من قصور وقلاع ~~حولها سور ضخم له الأبواب الكبيرة وعليه الأبراج الكثيرة، والطريق إليها وعر بين الجبال ~~والأودية. واقتفى جند المسلمين أثر بابك عندما فر إلى البذ. وبين البذ وأردبيل محطات عدة ~~جعلها المسلمون نقطا عسكرية تحفظ لهم خط الرجعة، وتضمن الاتصال مع سامرا مقر الخليفة. ~~فكانت الميرة القادمة من العراق إذا دخلت أرمينية أنزلوها في أردبيل، ومن هناك ينقلونها إلى ~~نقطة عسكرية أسسها «حصن النهر» ثم يعود حراسها إلى أردبيل ويتولى حراستها جند آخرون من ~~«حصن النهر» إلى أرشف وهكذا إلى خش فبرزند إلى «روذ الروذ» وهي آخر محطة قبل البذ وبينهما ~~بضعة فراسخ. # وكان الأفشين قد كلف جواسيسه أن يختاروا مكانا حصينا يعسكر فيه، فاختاروا في «روذ ~~الروذ» ثلاثة جبال عليها أنقاض أبنية قديمة، فأقام عسكره عليها وسد الطريق الواصلة بينها ~~وبين البذ بالأحجار الضخمة حتى صارت كالحصون، ثم حفر خندقا وراء الحجارة عند كل طريق ما ~~عدا طريقا واحدا يخرج منه رجاله إذا أراد الهجوم، وقد بذل في هذا العمل جهدا شاقا فكان ~~الرجال ينقلون الحجارة ويحفرون الخنادق ms133، والعساكر يحرسونها ليلا ونهارا. # وكان «روذ الروذ» واديا بين آكام وعرة. فعبأ رجاله وعهد إلى كل قائد من قواده، بفرقة ~~منهم؛ وهم ثلاثة: جعفر الخياط، وأبو سعيد، وأحمد بن الخليل. أقامهم في محطات بينه وبين البذ ~~قبل الوادي الفاصل بينهما، فأصبح معسكر الأفشين كبير جدا إذا أراد النهوض أو السير به جعل ~~الإشارة ضرب الطبول لبعد المسافات واحتجاب الفرق بعضها عن بعض بالجبال والأودية. فإذا سار ~~ضرب الطبول، وإذا وقف أمسك. فيقف الجند جميعا أو يسيرون جميعا في مصافهم وعلى ترتيبهم. ~~وكان للأفشين معسكر أقامه على أكمة يشرف منه على «البذ» ويرى قصر بابك وغيره من قصور ~~المدينة. # وكان بابك كثير الاعتماد في حروبه على طوائف من رجاله يرسلهم ليكمنوا في الأودية وراء ~~التلال ليفاجئوا جند المسلمين ويغدروا بهم. وكان الأفشين يهتم كثيرا بقطع دابرهم فيرسل ~~الجواسيس أو الكوهبانية للبحث عن الكمين. # قضى في ذلك الحصار مدة طويلة وهو يشاغل الخرمية فيأمر قواده فيقطع الواحد منهم الوادي إلى ~~الجانب الآخر إزاء البذ في كردوس من رجاله فيقف بهم هناك فيخرج بابك فرقة من جنده تحمي باب ~~السور وتمنع الأعداء منه، فإذا انقضى النهار أمر الأفشين رجاله بالعودة إلى معسكرهم وراء ~~الخندق ويبيتوا هناك، فتضايق الخرمية من هذه المناورات فعزموا على الفتك بهم فراقبوا رجوع ~~كراديس الأفشين من جانب الوادي ذات يوم كالعادة حتى لم يبق منهم إلا جعفر الخياط بكردوسه ~~فخرجوا عليه وارتفعت الضجة فرجع جعفر ورد الخرمية بنفسه إلى باب البذ وتصايح الجند حتى بلغت ~~الضجة الأفشين فرأى جعفرا وأصحابه يقاتلون فخاف أن يفسدوا عليه خططه. # أما جعفر فجاءته نجدة من المتطوعة وهي فرقة تنصر المحاربين رغبة في الغنائم والسبي، فاشتد ~~أزره وهجموا على السور وتعلقوا به وكادوا يصعدونه ويدخلون المدينة فبعث إليه الأفشين يقول: ~~«إنك أفسدت علي تدبيري فتخلص قليلا قليلا وخلص أصحابك وانصرف.» ثم تحركت كمناء بابك ~~فاضطر جعفر إلى الرجوع أسفا لضياع الفرصة. # وبقي المتطوعة بعد ذلك أياما يقاتلون وحدهم حتى قلت علوفتهم ومئونتهم وهم يتذمرون ms134 ~~ويقولون : «لو أنجدنا الأفشين لدخلنا البذ.» وضج سائر الجند وطلبوا أن يبادروا بالقتال ~~فكان يماطل خشية الفشل. أو لعله كان يطاول رغبة منه في جمع المال؛ لأن المعتصم كان قد جعل ~~له على كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وعن كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم، ما عدا ~~العدة والمئونة. فجمع من ذلك مالا كثيرا كان يرسله إلى أشروسنة. # وكان الأفشين جالسا ذات يوم في فسطاطه المطل على البذ، فوقع نظره على جماعة من رجاله ~~يقودون رجلا عليه لباس أهل تلك المنطقة، وما وصلوا به إليه حتى عرف أنه سامان أخو جهان. ~~فأجفل ولكنه توقع أن ينتفع به فصاح بالرجال أن يتركوه، فتقدم سامان مطأطئ الرأس وجثا بين ~~يدي الأفشين فأمره أن يقف وبش له وقال: «من أين أتيت؟» # قال: «من البذ يا سيدي.» # فأشار إليه أن يقعد فقعد متأدبا. ثم سأله: «ما الذي أدخلك هذه المدينة؟» # فهز رأسه وقال: «أتيت إليها في خدمة مولاي الأفشين.» # قال: «وكيف ذلك؟» قال: «ما زلت منذ تشرفت بلقيا مولاي في سامرا أبحث عن جهان عملا بأمره ~~حتى علمت أنها عند بابك!» # فدهش الأفشين لقوله وصاح به: «جهان هنا الآن؟ هنا في البذ؟!» قال: «نعم يا سيدي.» # قال: «وما الذي جاء بها إلى هذا البلد البعيد؟» # قال: «أخبرتك يا مولاي أن اللصوص خطفوها مني بقرب همذان، وما زلت أجد في البحث عنها حتى ~~علمت أن بابك هو الذي بعث رجاله لاختطافها؛ لأنه سمع بجمالها، وكان قد خطبها من أبي فرده ~~خائبا وكأنه أقام الكمناء يترقبون خروجها حتى تمكن من غرضه.» # فقال: «ثم ماذا؟ ألا تزال هنا؟» # قال: «إن أمر أختي يحيرني، فهي لا تستقر على حال، فبعد أن رفضت نعمة صاحب أشروسنة، رضيت ~~ببعض رجاله. ثم عادت فرضيت ببابك وأصبحت أقرب نسائه إليه وتتفانى في نصرته. وكم نصحت لها أن ~~ترجع عن غيها وحسنت إليها المجيء إلى الأفشين لأنه ولي نعمتها فأبت. فلما رأيتها مصرة على ~~عنادها تركتها وجئت إليك.» # قال ms135: «بورك فيك، لكني علمت من بعض الجواسيس أن أعز نساء بابك إليه امرأة اسمها جلنار ~~يقولون إنها حازمة حسنة التدبير، وإنها أعانته وشدت أزره كثيرا.» # فقال: «هي جهان نفسها يا سيدي، وقد غيرت اسمها تمويها. ووعدت صديقها الجديد أن تنصره ~~على جند المسلمين فهي تتفانى في نصرته، ولولاها لقضي عليه من زمن مديد.» # وكان الأفشين يعلم خبث طوية سامان ولكنه جاراه رغبة في الاستعانة به على أمر لا يصلح له ~~غير الخبثاء، ولم يفته أن سامان يكرهه ولو استطاع قتله لقتله، فعمد إلى المداجاة وهز رأسه ~~وحك ذقنه وأصلح قلنسوته وتحرك في مقعده وقال: «بئس ما كافأتنا به هذه الفتاة على إحساننا ~~فقد أغضبناك لأجلها فعقتنا. وعسى يا سامان أن تكره شيئا وهو خير لك.» # ثم سكت عن الكلام قليلا وعاد فقال: «ألم يعلم ضرغام أن جهان هنا؟» # قال: «كلا. ولا هي تعلم بأنه على قيد الحياة.» # فلم يصدق قوله وسأله: «وكيف هذا وضرغام لا يدخر وسعا في البحث عنها!» # قال: «قد ساعدني على هذا تغيير الأسماء. كن على يقين أنها تؤمن بما قلته لها من أنه قتل، ~~وهو ما يزال يعتقد أنها خطفت إلى مكان مجهول. وقد فعلت أنا ذلك حسبة لوجه مولاي الأفشين ~~رغم ما قاسيته من إعراضه وحرماني.» قال ذلك ونظر إلى الأفشين وعيناه ترقصان حولا. # فقال الأفشين: «لقد وثقت الآن بإخلاصك. فإذا زدتني يقينا بإكمال سعيك كنت من ~~الغانمين.» # قال: «إني طوع الإشارة، سل ما تشاء أبذل نفسي في خدمتك.» # قال: «ذكرت أنك كنت في البذ فما الذي تعرفه عن أهله وحصونه وجنده؟» # قال: «إن المدينة منيعة كما ترى وفيها الجند والأسلحة، والخرمية يتضامنون في أموالهم ~~وأنفسهم، يتفانون في خدمة زعيمهم. ولكنني أرجو أن يغلبوا على أمرهم.» # قال: «بماذا ترجو ذلك؟» # قال: «أرجوه مما أعلمه من دخائل هذا البلد. فأنا أعرف أن فيها من الأسرى المسلمين وغيرهم ~~عددا كبيرا، منهم سبعة آلاف وستمائة من النساء والأطفال، ويقدر عدد الذين قتلهم بابك ~~بنحو 255 ألف نفس. وأعرف أن ms136 الناس قد ملوا سيادته حتى المقيمين ببلده، فإذا تمكن عشرون ~~رجلا منكم أن يدخلوا المدينة ويراهم الناس فأهلها جميعا يستسلمون.» # قال: «ما رأيك في الجهة التي نهاجم البلد منها حتى نضمن الدخول إليها؟» # فوقف سامان وأشار بيده إلى جبل في طرف البذ وقال: «من هنا يا سيدي. أرأيت هذا الجبل؟ إن ~~بابك يقيم الكمناء في سفحه لعلمه أن العدو إذا تجاوزه سهل عليه دخول المدينة، فإذا احتال ~~مولاي في الإتيان من ورائه ظفر.» # فسر الأفشين من قدوم سامان، وهم بأن يستزيده إيضاحا، فإذا بالحاجب دخل يقول: «إن بريد ~~أمير المؤمنين بالباب.» قال: «يدخل.» # فدخل البريدي وعلى وجهه أمارات السفر والتعب وعلى صدره صفيحة البريد النحاسية وعليها ~~علامة خاصة. ووقف فناداه الأفشين: «تقدم. ما وراءك؟» # فتقدم البريدي ودفع إليه لفافة حريرية عليها خاتم الخلافة، فتناولها وقبلها ثم فض ~~خاتمها فإذا داخلها أنبوبة من فضة مختومة ففتحها وأخرج منها كاغدا ملفوفا نشره وأخذ يقرأه ~~وسامان يراعي حركاته وملامح وجهه فرآها تغيرت، حتى إذا فرغ من تلاوته أشار إلى البريدي ~~فانصرف، والتفت إلى سامان وابتسم ليزيده استئناسا وترغيبا في خدمته، وكان سامان واقفا ~~فأمره بالجلوس وقال: «أتعلم ما في هذا الكتاب؟» # قال: «من أين لي علم الغيب؟» # قال: «إنه كتاب المعتصم يحثني فيه على الثبات، ويبشرني بأنه أرسل إلي نجدة بقيادة صاحبه ~~ضرغام.» # فقال سامان: «أترى صاحب أشروسنة في حاجة إلى النجدة وهو الملك والقائد، وجنده يملأ السهل ~~والجبل؟» # قال: «كلا. وأمير المؤمنين يعلم ذلك. وأخشى أن يكون الرجل قادم لغير الحرب. أخشى أن يكون ~~قد عرف أمر جهان ... وسواء أعلى علم أم لم يعلم فجهان لا يمسها أحد سواي، إن لم يكن حبا ~~لها وافتتانا بها فانتقاما من كبريائها وقحتها. إني لا أنسى ذلك اليوم في فرغانة.» # فقال سامان: «أما ضرغام فلا شك أنه لم يعلم بأن أختي هنا، بل هو لا يعتقد أنها على قيد ~~الحياة. وقد يكون كره الحياة بعدها لكلفه بها فأتى إلى ساحة القتال رغبة في الموت، فإني ms137 أرى ~~في الناس جنونا لم أجربه؛ أراهم إذا أحب أحدهم فعل فعل المجانين حتى يجازف بحياته ~~غراما بحبيبه وإذا توفى الله أحدهم أراد الآخر أن يتبعه.» # فضحك الأفشين حتى بانت نواجذه وقال: «إن كان قد جاء يطلب الموت فأهلا به ومرحبا. له ~~علينا ذلك حبا وكرامة. أما ما تراه من جنون المحبين وهيامهم فأنت معذور لأنك أجرود لا ~~تشعر شعورهم.» ثم أطرق هنيهة وقال: «إذا هجمنا غدا على البلد ودخلناه فأين تكون ~~أختك؟» # فوقف سامان والتفت إلى البذ وأشار بيده وقال: «أرأيت هذا القصر الفخم عند الباب الشرقي؟ ~~هذا قصر النساء وبه تقيم جهان. ومن أراد الوصول إليه حالا فليأته من ذلك الباب.» ثم أشار ~~بيده إلى قصر في الغرب وقال: «وهذا القصر عند الباب الغربي قصر بابك نفسه، وهو أمنع القصور ~~ولا يهاجمه أحد إلا قتل. فاختر لنفسك.» # وتحرك الأفشين في مقعده، فنهض سامان واستأذن. فقال له الأفشين: «تمكث عندنا لنستأنس بك ~~ولا تخرج من هذا المعسكر إلا للضرورة.» # ففهم سامان قصده فقال: «أحب أن أكون أسيرا عندك حتى تتحقق من إخلاصي وأتقدم إليك أن تبقي ~~خبري مكتوما عن ضرغام وغيره وإلا فسد تدبيرنا.» # فأشار الأفشين برأسه موافقا، ثم نادى غلامه وأمره أن يكرم سامان ويحتفظ به، فخرج سامان ~~من حضرته وقد سره أن الأفشين أحسن لقياه ووعده بإرث أبيه انتقاما من أخته. واستبشر ~~بقرب الانتقام من أخته متى جاء ضرغام فيكيد له ويسعى في هلاكه. ونسي أنه كان ناقما على ~~الأفشين وقد استعان بضرغام عليه وأن أخته صاحبة الفضل الأكبر عليه. ولكنه يجري في أعماله ~~على هوى منافعه فهو لا يغضب من الأفشين لأنه تعدى حدود الوصاية أو لأنه أراد السوء لأخته، ~~وإنما أبغضه لأنه حرمه من الإرث. ولم يحب ضرغاما لشهامته وأريحيته أو نسبه وإنما أظهر حبه ~~له ليستعين به في نيل مرامه. ثم إنه لم ينقلب هذا الانقلاب في الحالين إلا جريا وراء ما ~~يفيده فلم يكن له قلب يحب ولا وجه يخجل. ولكنه ملتفت بكل ms138 جوارحه إلى حب المال، وزاده حبا ~~فيه يأسه من احترام الناس له لسجاياه أو مناقبه فأراد أن يكسب احترامهم بالمال ظنا منه ~~أنه متى صار غنيا احترموه وأجلوا قدره. وسيان عنده أحبوه أم أبغضوه! # الفصل الثامن عشر # | سقوط البذ # لما خلا الأفشين إلى نفسه بعد خروج سامان فكر مليا فيما سمعه منه فصادف هوى في نفسه، ~~وسيان عنده فعل سامان ذلك حبا له أو خوفا منه أو طمعا في تغيير الوصية، وأعاد ما سمعه ~~عن جهان وتذكر جمالها وكبرياءها فسره أنه ظفر بها، وأنها متى وقعت في يده هذه المرة فلا ~~مفر لها منه، ثم تذكر أن ضرغام هو العقبة الوحيدة في سبيله، وفكر فيما لمح إليه ~~سامان من الاحتيال لإيقاعه، فاعتزم ذلك. # وقضى أياما في مثل هذا المنى حتى جاءه صاحب الخبر منبئا بقدوم الصاحب مع رجاله. وفي ~~صباح اليوم التالي جاء ضرغام، فرحب به الأفشين وأثنى على رغبته في نصر الدولة. فأجابه ~~الصاحب شاكرا، ولحظ الأفشين في وجهه تغيرا مما أحدثه يأسه من جهان، فلم يبال وجعل يبالغ ~~في إطراء بسالته وعلو همته فقال ضرغام: «لا فضل لنا في خدمة الدولة ونصرة الدين ~~الحنيف.» # قال: «صدقت، وقد جئتنا في إبان الحاجة إليك فإني لا أرى بين قوادي من يركن إليه في ~~المهمات غيرك، وقد خبرتك وعلمت شجاعتك وصبرك.» # فقال ضرغام: «كنت قد استطلت الحرب واستبطأت الفتح فلما رأيت هذه الحصون ووعورة الأرض ~~أيقنت أن الأفشين قد أتى بما لا يستطيعه إلا الأبطال، وما أنا من يزيد في إقدامه أو يسهل ~~فتحه، ولكنني مللت القعود وأحببت أن يكون لي في هذه الحرب نصيب. فارم بي حيث تشاء.» # فتأكد الأفشين من يأس ضرغام، وأحب تغيير الحديث ليهيئ له مهلكا فقال: «بورك فيك. ~~لا بد أن تستريح أولا من عناء السفر ... أخبرني عن أهل سامرا كيف هم وكيف أمير ~~المؤمنين؟» # قال: «كلهم في قلق من أمر بابك هذا، ولكنهم يثنون على ثبات الأفشين وحسن تدبيره ... وقد ~~آنست من الخليفة رغبة في ms139 إنهاء هذه الحرب، فجئت لألقي نفسي في أقرب السبل إلى ذلك عسى أن ~~أتعجل الشهادة.» قال ذلك وأبرقت عيناه بريقا حادا قرأ الأفشين خلاله حديثا طويلا فقال: ~~«غدا ننظر في ذلك. وأما الآن فاخرج بنا نطلعك على معسكرنا ومواقع القواد ونظام الخنادق ~~والحصون والمكامن.» ونهض وأمر أن تهيأ الأفراس. # فنهض ضرغام وهو يقول: «قد رأيت بعض هذه المعاقل فعلمت أن مولانا الأفشين قد أتى في ~~تنظيمها بالمعجزات.» # وقضى الرجلان بقية اليوم في التجول بين الحصون والاستحكامات. فرأى ضرغام جندا كبيرا ~~وتدبيرا حسنا، وسره اهتمام الأفشين بإطلاعه على ذلك من تلقاء نفسه فقال له: «إن مثل هذا ~~الجند لا ينبغي أن يصبر على فتح البلد طويلا.» # قال: «غدا أقص عليك سبب الإبطاء.» وافترقا. # فذهب ضرغام إلى فسطاطه وكان وردان في انتظاره وقد أصبحا صديقين حميمين. فلما اجتمعا قص ~~ضرغام عليه ما لقيه عند الأفشين إلى أن قال: «وقد وعدني الأفشين أن يسرع في القتال، وألححت ~~عليه أن يرمي بي في أخطر المواقع فإذا لم أرجع فإني أعهد إليك منذ الآن في العناية بأمي ~~المسكينة.» قال ذلك واختنق صوته فتنحنح حتى يخفي اختناقه وعاد إلى إتمام كلامه فقال: «وأنت ~~تعلم ما قاسته في محبتي. أما ياقوتة فاحتفظ بها ريثما يمن الله عليها برجوع خطيبها. وأظنك ~~تعرفه. وأما جهان فإذا كانت على قيد الحياة ولقيتها بعد موتي فبلغها ما تعلمه من ~~وجدي!» # فقطع وردان الحديث وقال: «لا توصني فإني لن أبقى بعدك، وما صحبتك إلا لأكون معك حيثما ~~ذهبت.» # قال: «إني ألقي بنفسي إلى الهلاك فرارا من حياة لم يعد لي لذة فيها، فما خطبك ~~أنت؟» # فتنهد وردان وأطرق وذرفت عيناه دمعتين تقطرتا من مآقيه، وكأنه خجل فرفع بصره، وقال: «إن ~~نصيبي من اليأس كبير جدا، ولو علمته لطلبت لي أن أسير إلى الهلاك أمامك وإذا بقيت حيا ~~قصصته عليك. ومهما يكن من شيء فمصيري رهن بمصيرك.» # فأعجب ضرغام بأريحيته، وكان قد شعر بشيء مما يجول بذهنه، ولم يشأ أن يستطلعه إلا إذا ms140 هم ~~هو بنفسه بأن يكشف عما به، فقال: «لك ما تريد يا وردان، وغدا نرى ما أعده لنا الأفشين من ~~المهام.» # أما الأفشين فقضى تلك الليلة مع سامان يكيدان لضرغام. وفي صباح اليوم التالي زار ضرغام ~~الأفشين ومعه وردان، فوجداه وحده، وسأله ضرغام عما استقر عليه رأيه فقال: «لا أزال أرى ~~التريث في الحصار برهة أخرى.» # فأجفل ضرغام لهذا التغيير وساءه تأجيل الهجوم فقال: «ولماذا؟» # قال: «إني أرى هجومنا اليوم مجازفة لا تحمد عقباها. فقد قضيت البارحة وأنا أقلب الأمر ~~على وجوهه فلم أوفق إلى تعبئة تضمن لنا النصر.» # قال: «هل لك أن تطلعني على ما تخشاه؟» # فنهض الأفشين ومشى حتى وقف بباب الفسطاط وأطل على البدو حصونها ثم قال: «أرأيت هذه ~~المدينة، إنها أمنع من عقاب الجو ولا سيما من جهة الغرب حيث هذا القصر الفخم فإنه قصر بابك ~~الذي يقيم به، فإذا وصلنا إلى باب السور الذي يليه أخذنا المدينة.» # ثم قال: «ألا ترى هذا التل الشاهق المشرف على المدينة من غربيها؟ لا سبيل إلى القصر إلا ~~من ورائه، والطريق وعر لا يسلكه الجند الكثير ولا يجسر الجند القليل على سلوكه؛ لما يلقاه ~~من نبال الخرمية ومجانيقهم. وبابك كثير الاعتماد على الكمناء فنخاف أن يكون له كمين أو أكثر ~~وراء ذلك التل أو في واديه.» # فقال ضرغام: «أنا ذاهب إلى ذلك التل مع رجالي الفراغنة.» # قال: «إذا فعلت ذلك فإني أعبئ الجند حول الأسوار من جميع جهاتها فتضمن الفتح بإذن ~~الله.» # فقال ضرغام: «ومتى الهجوم؟» # قال: «متى شئت.» # قال: «الليلة. دعني أدهم القوم ليلا فإذا أصبح الصباح ودخلت البذ حيا، فاهجموا أنتم ~~على سائر جهات البلدة فيكون فتحها أمرا مقضيا.» # قال الأفشين: «بل أرى أن نتهيأ جميعا للهجوم ليلا، على أن تذهب أنت برجالك من وراء التل ~~وتمكث تجاه المدينة حتى ترى نارا أوقدها هنا بعد نصف الليل، وعلامتها أنها مثلثة؛ أي تكون ~~ثلاث نيران متحاذية، فإذا رأيتها علمت أن الجند كله مهاجم المدينة من كل جهاتها فاهجم ms141 أنت ~~برجالك من ناحيتك، ولا يخفى عليك يا ولدي أنك في أشد المواقع خطرا.» # قال: «لا أبالي بالخطر ... أنا ذاهب الآن لأعد رجالي وأرجو أن نلتقي جميعا في قصر بابك ~~غدا.» قال ذلك وتضاحك مكشرا عن أسنانه كما يكشر الأسد إذا هم بالوثوب. وكان الغضب ~~واليأس قد زادا وجهه هيبة وقوة فازداد شارباه وقوفا وحاجباه خشونة وعيناه بريقا وحدة ~~حتى تهيب الأفشين النظر إليه والتفرس في عينيه فقال له: «لو كان لنا عشرة مثلك لفتحنا ~~البذ من زمن بعيد.» أراد بذلك أن يثبته في عزمه وهو على يقين أنه لا يستطيع تجاوز التل إلى ~~السور لما وضعه بابك هناك من آلات الدفاع الخطرة فضلا عن الكمناء. وأغرب من هذا أن ضرغاما ~~ودع الأفشين ليذهب ويتهيأ للهجوم وهو لا يعرف شيئا عن الطريق ولم يسأل عنه. وقد فرح ~~الأفشين لذلك؛ لأن جهله الطريق يؤكد فشله. # فخرج ضرغام وهو يقول للأفشين: «غدا نلتقي هناك.» وأشار بيده إلى قصر بابك، والأفشين ~~يهش له حتى إذا توارى عن الخيمة لقيه وردان فماشاه وسأله: «ما الذي استقر الرأي ~~عليه؟» # قال: «الليلة نهاجم البذ.» قال: «من أين؟» # قال: «نأتيه أنا والفراغنة من وراء ذلك التل حتى ندخل من الباب الغربي وبجانبه قصر بابك، ~~فنكون أول من يدخله أو نموت تحت الأسوار.» # فوقف وردان والتفت إليه وقال: «هل تعرف الطريق إلى التل؟» # قال: «لا ... لا أعرفه ... ولكن ...» # قال: «ولكن ماذا؟ إنه طريق طويل يبغي لسالكه أن يسير من وراء التل مسافة تستغرق ساعات حتى ~~يأتي إلى سفحه تجاه السور.» وكأنه نبه ضرغاما فقال له: «وهل تعرف الطريق أنت يا وردان؟» ~~قال: «نعم أعرفه.» # قال: «إذن أنت دليلنا بل أنت قائدنا، هلم إلى رجالنا ليتأهبوا من الآن، ثم ننتقل بهم ~~أصيل اليوم إلى الطريق الذي تعرفه حتى نصل في العشاء إلى تجاه المدينة.» قال: «حسنا.» ~~ومشيا وكلاهما ساكت يفكر، يريان الخطر الذي يهددهما واليأس يعزيهما عنه حتى وصلا إلى معسكر ~~الفراغنة، وكانوا قليلين لا يتجاوز عددهم بضع مئات ms142 لكنهم أشداء منتخبون يتفانون في طاعة ~~ضرغام لو قال لهم ادخلوا النار لتسابقوا إليها. # أما الأفشين فجاءه سامان بعد خروج ضرغام فقص عليه ما فعله وقال: «والباقي عندك ~~يا سامان.» فقال: «سمعا وطاعة.» وخرج. وعبأ الأفشين جنده للهجوم في ذلك الليل ليأخذوا ~~القوم على غرة وجعل فرقته بحيث تهاجم المدينة من جهة الباب المؤدي إلى قصر النساء الذي ~~تقيم فيه جهان أو جلنار، حتى إذا فتح البلد ودخل الناس للنهب استولى هو على قصر النساء ~~وأعطى جهان إلى من يحتفظ بها وانصرف إلى قيادة الجند. # أما ضرغام فجهز رجاله ومشى بهم ووردان دليلهم، وداروا حول التل حتى وصلوا إلى مكان فيه ~~يشرف على البذ من الغرب، فمكثوا هناك حتى أظلمت الدنيا فأمرهم ضرغام أن يتربصوا ويكونوا على ~~أهبة الهجوم، وخلا إلى وردان على أكمة ونظر إلى البذ فرأيا فيه أنوارا متفرقة كما يطل ~~القادم على بلد في الليل فإنه لا يرى إلا أنوارا ويندر أن يتبين شيئا من أبنيتها أو ~~قلاعها. فقال وردان: «إن أقرب هذه الأنوار إلى السور وأكثرها إشعاعا أنوار قصر بابك، وهو ~~الذي سنفتحه أو نموت دونه، وترى أنوارا بعيدة في الجانب الآخر من البلد فهناك قصر النساء، ~~ولا أظنك تجهل استكثار هذا الرجل من النساء وانغماسه في الملذات.» # قال: «وقد رويت لي ما طرأ عليه من التغيير من عهد بعيد بفعل امرأة من نسائه ذات عقل ~~وتدبير. ما أكبر عقل تلك المرأة!» # فقال: «إنها عاقلة؛ ولذلك تسلطت عليه، فأصبح لا يقطع بأمر إلا برأيها.» # فتنهد ضرغام وقال: «ما لنا ولهذا الآن! دعنا ننظر في الطريق الذي نسلكه في الهجوم. ما ~~الذي يحول بيننا وبين المدينة الآن؟» قال: «بيننا وبينها واد.» # قال: «وكيف نقطعه؟» قال: «نقطعه من مكان فوقه قائم كالجسر، ومتى صرنا في الجانب الآخر ~~أصبحنا قريبين من السور فنهجم ونتسلقه، ولا أظننا نجد عليه حامية؛ لأن الخرمية لا يخطر لهم ~~أن عدوهم يأتيهم من هذا الطريق الوعر أو يجسر على النزول هنا.» # قال: «إذن هلم ms143 بنا ننزل.» # قال: «تمهل يا مولاي حتى تطمئن القلوب ويهجع الناس فلا يجدر بنا أن نزحف قبل نصف الليل ~~وبعد أن نرى نيران الأفشين.» # قال: «حسنا.» وتحول إلى رجاله وأوصاهم بالسكون والتربص وبألا يوقدوا نارا ولا يسمعوا ~~صوتا حتى يأمرهم بالتقدم، ثم تركهم وأشار إلى وردان فلحقه فقال له: «تعال نتجسس الممر ~~الذي قلت عنه لنرى هل هو سالم أو لعل فيه عقبة.» # ومشيا مسافة طويلة في أرض صخرية كثيرة الحجارة يتلمس الماشي أرضها تلمسا، وكان الظلام ~~مخيما لا يكاد الناظر يرى ما بين يديه. وقد ساد السكون فلم يكن يسمع هناك أي صوت سوى حفيف ~~الثعابين والحيات المنسابة بين الصخور أو رفرفة طائر يحلق بجناحيه في الجو. فكان لوقع ~~أقدامهما صوت بذلا الجهد في إخفائه لئلا ينم عن مكانهما. ولما اقتربا من الوادي رأيا فوقه ~~شبه جسر من الصخور يمر عليه الاثنان والثلاثة معا. فقال ضرغام: «تحدثني نفسي أن أسير توا ~~إلى السور فأصعد عليه والناس في غفلة ومتى صرت داخله يشتد أزر المسلمين بي فيكون هجومهم ~~أدعى إلى الظفر.» # فقال: «أخاف عليك كمينا، وأرى أن تعود معي أو أعود أنا وحدي فأدعو الرجال ونتعاون على ~~العمل.» # قال: «اذهب أنت واتركني هنا حتى تعود بهم.» # فقال: «احذر يا مولاي أن تبرح مكانك أو تظهر أي حركة.» ثم عاد وردان إلى الفراغنة، وظل ~~ضرغام وحده. فلما خلا إلى نفسه نظر إلى السور فوجده على بعد مائتي خطوة منه فسولت له نفسه ~~أن يمشي الهويناء حتى يصل إلى السور فينظر ما وراءه ثم يعود. فمشى وهو لا يعرف الطريق وإنما ~~جعل وجهته السور. وكان ينقل قدمه محاذرا سماع وقعها. ويرفع السيف بيده حتى لا يقعقع. ولما ~~دنا من السور وجده عاليا وعليه الأبراج، ولم يسمع هناك صوتا ولا رأى نورا إلا في برج ~~كبير فوق الباب رأى فيه ضوءا ضعيفا. ولما ازداد قربا من السور سمع حركة فوقف ويداه على ~~قبضة حسامه، وإذا بعشرات من الرجال خرجوا من وراء الصخور وأحدقوا ms144 به وسيوفهم مشرعة كأنهم ~~كانوا ينتظرونه فأدرك أنه وقع في كمين، فاستل حسامه وصاح فيهم صيحة أجفلتهم ووثب وثوب ~~الأسد يضرب ذات اليمين وذات اليسار ضرب رجل شديد البأس قوي القلب لا يهاب الموت، وكانوا ~~يفرون أماه فرار الظباء من الأسد، وهو وراءهم لا يحترس، فما درى إلا وهو يهوي في حفرة، ~~فانقلب وسقط السيف من يده، وشدت الحبال حول قدميه وكتفيه وأخذوا في إخراجه من الحفرة. ~~وسمع جلبة وقرقعة ودبدبة وصوت وردان ينادي لبيك يا سيدي. فتحول الكمين نحو الصوت وتركوا ~~عند ضرغام من يخفره. وفهم ضرغام أن رجاله أتوا لنجدته من بعيد فزأر زئير الأسد ونادى: ~~«وردان اقطع هذه الحبال.» # فما كان إلا كلمح البصر حتى قفز وردان إليه وقطع الحبال. فلما أفلت ضرغام أخذ سيفه وهجم ~~على الخرمية وأعمل فيهم سيفه فقتل من قتل وفر الباقون ولم تمض ساعة حتى خلت الساحة منهم ~~فصاح ضرغام في رجاله: «هلم إلى السور.» وما أتم كلامه حتى سمع صوتا هائلا كأنه دبدبة جبل ~~يتدحرج، ثم ناداه وردان: «تنح يا سيدي إنهم يرمون بعجلات من أعلى الجبل عليها صخور كبار ~~لا تلبث أن تدحرج علينا ولا تغني الشجاعة في دفعها.» # فتنحى ضرغام وقد كلت ذراعه من الضرب والطعن، ولو لم ينبهه وردان لهرسته واحدة منها؛ ~~إذ لم يمض إلا يسير من الوقت حتى وصلت كالسيل الجارف أو كالرجم المتساقطة أو هي كجلمود صخر ~~حطه السيل من عل. # ولما استقرت العجلات في آخر انحدارها التصق بعضها بالسور بحيث يمكن التسلق عليها إلى ~~سطحه. وشاهد ضرغام ذلك فصاح برجاله: «إلى السور.» وركض أمامهم وسيفه مشرع ولم يكد يفعل حتى ~~رأى ظهر السور قد امتلأ بالرجال وفي أيديهم النبال فأخذوا يرمون الهاجمين بها وهؤلاء لا ~~يبالون وفي مقدمتهم ضرغام وقد وقعت قلنسوته وتمزق قباؤه وتقطعت سراويله. ورآه وردان يصعد ~~إحدى العجلات بقرب الباب ويهم بتسلق السور ففعل فعله، وإذا بباب السور انفتح وخرجت منه فرقة ~~من الخرمية أحاطت بالعجلة ومن عليها وألقوا الحبال على ms145 ضرغام ووردان فتحولا وأعملا السيف في ~~الحبال فتقطعت وصاح ضرغام: «ما بالكم تحاربوننا بالحبال أين سيوفكم أيها الأنذال؟» # فلم يجبه أحد وهو واقف على العجلة يعمل السيف فيهم فزلت قدمه فجأة عن خشب العجلة فوقع ~~وارتطم رأسه بحجر ... فلما رآه ورادن شغل به عن نفسه فتكاثر عليهما الرجال فشدوا وثاقهما ~~وحملوهما إلى داخل السور وصعدوا بهما إلى البرج فوق الباب وألقوهما بين يدي رئيس الحامية، ~~فأمر بالماء فرش ضرغام، فلما صحا تحفز ليقبض على سيفه ويهم بالوثوب فإذا هو موثق بين ~~يدي صاحب الحامية، والتفت فرأى وردان إلى جانبه في مثل حاله. فعظم عليه الأمر فصاح في ~~القوم قائلا: «عار عليكم أن تلجئوا في قتالكم إلى الحبال فإن كنتم رجالا فحكموا السيف. ~~اقتلوا ولا تأسروا.» والتفت فرأى قائد الحامية جالسا وعليه القلنسوة والسراويل من لباس ~~الخرمية. وشاهد بين يديه جماعة من رجال الخرمية الذين نجوا من المعركة وعليهم آثار القتال ~~وسمعهم يتكلمون الفارسية وهو يعرفها فخاطب الرئيس بمثل ما قال بالعربية فلم يجبه وأشار إلى ~~رجاله فخرجوا وأغلق الباب وتقدم إلى ضرغام فحل وثاقه ثم وثاق وردان وقال بالعربية: «قم ~~يا ضرغام. قم واجلس.» # فلما سمع ضرغام الصوت أجفل والتفت إلى الرجل وتفرس في وجهه فعرفه فصاح «حماد؟!» قال: ~~«نعم حماد.» فنظر إليه والدهشة بادية في وجهه وقال: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟» # قال: «جئت بعد أن تركتني قرب همذان لسبب لا تجهله، وقد جندت في جيش هذا المجوسي للانتقام ~~من صاحبك الظالم، أما كان الأجدر به أن يدخر هذه السيوف للدفاع عنه بدلا من أن تكون ~~عليه؟» # فابتسم ضرغام رغم ما هو فيه من القنوط وقال: «ليس صاحبي ظالما.» ثم تذكر ما وعده من ~~البحث عن جهان فقال: «خفف عنك إني حامل إليك نبأ يسرك فعسى أن تكون حاملا مثله لي.» # فاضطرب حماد وبدت الدهشة في عينيه وقال: «ماذا؟ هل وجدت ياقوتة؟ وأين هي؟» # قال: «نعم وجدتها، وهي الآن بسامرا عند أمي معززة مكرمة.» # فظن حماد نفسه في ms146 حلم ، ولم يتمالك عن النهوض وقال: «ياقوتة في منزلك الآن؟» وأكب عليه ~~وقبل رأسه ووجهه وهو يقول: «هل هي في خير وصحة؟ إني أشكر لك فضلك.» ثم تراجع وتغيرت ~~سحنته كأنه تذكر أمرا أزعجه وقال: «ولكني لسوء الحظ لم أوفق إلى خدمتك مثل توفيقك في ~~خدمتي. على أني لم أدخر وسعا في السعي والاستفهام، ماذا فعلت أنت هل وفقت على خبر ~~جهان؟» # قال: «لم أجد وسيلة من الوسائل لم أتبعها وذهب سعيي عبثا.» ثم تنهد وقال: «ليتك تركت ~~رجالك يجهزون علي، إذن لأحسنت إلي؛ لأني لم آت هذه البلاد التماسا للفخر بالفتح أو ~~الكسب بالغزو وإنما أتيت لألقى حتفي وأتخلص من هذه الحياة.» قال ذلك وهو يحرق أسنانه ~~ويتململ. # فشاركه حماد شعوره وأخذ يخفف عنه فقال: «لا تيأس يا صديقي من الفرج فإنه يأتيك وإن ~~حسبته مستحيلا. فقد تعلم ما كان من أمري مع ياقوتة وكيف تركت وطني وأهلي يأسا من العثور ~~عليها، وهذا أنت تحمل لي نبأ سلامتها، فأتاني الفرج من حيث لا أتوقع. ولا أخفي عليك أني ~~صممت بأن أفعل مثلك وعرضت نفسي للقتل، ولكني وفقت إلى أمر هدأ روعي وساعدني على الصبر، ~~فلو وفقت إلى مثله لصبرت صبري. لقد وفقت إلى فتاة تشبه ياقوتة فتعزيت برؤيتها وخفف ~~ذلك كثيرا من لوعة البعد.» # فتذكر ضرغام مشابهة ياقوتة لجهان فقال: «لكني وفقت إلى من تشبه جهان ولكنني لم أشعر بما ~~يخفف اللوعة، بل زاد ذلك في أشجاني!» فاستغرب حماد وقال: «أما أنا فإني أستأنس بشبه ~~ياقوتة استئناسا يكاد يذهب بقنوطي، وإن لم يكن لي سبيل إليها. فقد رأيت لياقوتة شبها في ~~هذه المدينة هي أعز نسائها جانبا وأسماهن حسنا وأمنعهن مقاما، وهي لا تحتجب فتخرج سافرة ~~لا تبالي أن يراها الناس، وكنت كلما نظرتها تيمنت بطلعتها وارتويت برؤيتها.» # وكان وردان جالسا يسمع ولا يشترك في الحديث، فلما سمع حمادا يذكر فتاة تشبه ياقوتة تذكر ~~شبه ياقوتة لجهان، وهم بأن يستوضح حمادا فرأى ضرغام قد سبقه إلى ذلك وقال بلهفة ms147: «أين ~~رأيت شبه ياقوتة؟» # قال: «رأيتها في هذه المدينة في قصر بابك نفسه. لا أظنكم تجهلون الفتاة التي قامت بنصرة ~~بابك وقومت أخلاقه ودفعته من الرذيلة إلى الفضيلة.» # قال وردان: «أظنك تعني جلنار؟» # قال: «نعم إياها أعني، إنها تشبه ياقوتة شبها عجيبا، فكنت إذا رأيتها حسبت ياقوتة ~~أمامي. وكانت تتردد على قصر بابك أو تخرج معه على فرسها سافرة، فلم أشاهد في حياتي أجمل ~~منظرا ولا أكثر هيبة وجلالا منها.» # فأحس ضرغام باختلاج قلبه، ولولا الظلمة المخيمة لرأى حماد الدم يتصاعد إلى وجنتيه. ~~فأطرق لحظة راجع فيها ما يذكره عن ياقوتة وشبهها لجهان فقال في نفسه: «لعلها جهان.» والتفت ~~إلى حماد وقال: «ومن هي جلنار؟ ومن أين أتت؟» # قال: «هي من جملة نسائه، حملت إليه من بلد بعيد كما حمل عشرات من أمثالها، لكنها كانت ~~أكثرهن سلطانا عليه فكأنها سحرته. فبينما ترى رفيقاتها مختبئات في قصر النساء إذا رأين ~~بابك سجدن له تراها راكبة فرسها الأدهم تجول في المعسكر تأمر وتنهي وأمرها نافذ على الكبير ~~والصغير.» # فلما سمع ضرغام قوله: «فرسها الأدهم» انتفض كالعصفور بلله القطر أو هي قشعريرة المفاجأة ~~فهب ناهضا وقال: «فرسها أدهم؟! أين هي بربك أرنيها يا حماد. إنها جهان ولا شك.» فأخذ ~~حماد بلهفته وقال: «ليتها كانت جهان يا صاحبي، ولكنها أخرى اسمها جلنار.» # قال: «قلبي يحدثني بأنها هي، وما دامت تشبه ياقوتة. فإني أعرف أنها هذه شديدة الشبه ~~بجهان. ثم إنك ذكرت أن جوادها أدهم، وأنها حملت من بلد بعيد، وهذه الأوصاف كلها تنطبق على ~~جهان، ولا عبرة بتغيير الاسم. فأنت تعرفني مثلا بضرغام وليس في سامرا أحد يناديني بهذا ~~الاسم، فاسمي عندهم الصاحب. هذه جهان لا شك. لقد ذهب اليأس من قلبي. فقل أين هي ~~الآن؟» # قال: «أظنها في قصر النساء، فإنها تبيت هناك وتخرج عند الحاجة إلى قصر بابك.» # فتنهد ضرغام تنهد الفرج بعد الضيق، وتحول يأسه إلى أمل، ونظر إلى ثيابه الممزقة وهو ~~يهم بالخروج فاستوقفه حماد وقال: «اخلع ثيابك والبس ثياب ms148 الخرمية حتى لا ينكرك الناس. ~~وكذلك يفعل وردان، وفي صباح الغد نخرج معا إلى قصر النساء.» # فقطع ضرغام كلامه قائلا: «أأصبر إلى الغد؟ كيف أصبر؟ وهب أني صبرت فهل تصبر المدينة وقد ~~أحدق بها المسلمون من كل جانب ولا يلبثون أن يفتحوها. وهل يخفى ذلك عليك؟» # قال: «لا أستغرب ذلك؛ لأني من جملة قواد بابك، وقد ندبني الليلة لحراسة هذا الباب؛ لأن ~~بعض الجواسيس أنبأه بعزمكم على الهجوم من هذه الناحية، فأتيت في المساء وأقمت الكمناء حتى ~~رأيناكم قريبين، فأمرتهم بالهجوم عليكم وكان ما كان، فهيا بدل ثيابك.» ثم التفت إلى وردان ~~ليقول له أن يبدل ثيابه هو الآخر، فوجده مطرقا غارقا في تأملاته، فقال له: «ما بالك يا ~~صاحبي؟ أمصاب أنت بمثل مصابنا أيضا؟» # فتنهد وردان وقال: «نعم يا سيدي. وستعلم ذلك متى وصلنا إلى قصر النساء وأنا أرى رأي ~~ضرغام؛ أن نسرع الآن بالخروج.» # فأطاعهما، وبعد أن ارتديا زي الخرمية خرج بهما، وأوصى رجاله أن يحرسوا الباب حتى يعود، ~~موهما إياهم أن الأسيرين عنده في جملة الأسرى الذين أخذوا تلك الليلة. وأطل حماد من ~~السور فرأى البذ مضاءة وسمع الضوضاء وسطها فصاح في رجاله فلم يجد منهم أحدا فنادى خادمه ~~فأسرع إليه فقال: «أين الرجال؟» # قال: «ألم تسمع يا مولاي طبل الهجوم؟» # فقال: «كلا.» وكأنه شغل عنه بضرغام ووردان. # فقال الغلام: «ضربت الطبول وصدر الأمر بأن يجتمع الرجال للدفاع عن الباب الشرقي؛ لأن ~~المسلمين هجموا عليه بقيادة قائدهم الأكبر على ما يقال.» # فقال: «الأفشين نفسه؟» قال: «لا أدري.» # فالتفت وردان وضرغام معا إلى معسكر الأفشين فرأيا النار المثلثة موقدة فتأكدا من ~~الهجوم، فقال ضرغام: «هلم بنا إلى القصر.» # ركب كل من حماد وضرغام ووردان جوادا من جياد الخرمية، وأركضوها إلى قصر النساء، فلقوا ~~أهل البلد في هرج وخوف وليس فيهم رجل لم يحمل سلاحه ليدافع عن نفسه، وقد ظنوا حمادا ورفاقه ~~من المغيرين، ثم رأوا نفرا من المسلمين وسط المدينة ينهبون وأصبحوا كلما اقتربوا من الباب ~~الشرقي رأوا ms149 المسلمين يتكاثرون فتحققوا أن البلد قد أخذ، فلم يبالوا. ولما وصلوا إلى القصر ~~رأوا جنود المسلمين يخرجون منه حاملين الأمتعة والرياش، ورأوا بعضهم يقود نساء فاختلج قلب ~~ضرغام خوفا على جهان أن تكون في الأسرى، فدخل القصر مع وردان، فقال لهما حماد: «تمهلا حتى ~~أعرف الخبر اليقين من مصدره.» قال ذلك واتجه إلى غرفة بقرب الباب رآها موصدة، فقرعها فلم ~~يسمع جوابا، فكلم الذين في داخلها بلسانهم ففتحت لهم امرأة كهلة أدخلتهم وأغلقت الباب ~~خلفهم وهي ترتعد من الخوف، فقال لها حماد: «ما الذي جرى يا خالة؟» # قالت: «ألم تر ما جرى؟ فتحوا المدينة، وجاءوا إلى هذا القصر فدخلوه ونهبوه وسبوا نساءه ~~ولو لم أختبئ هنا، أو لو كان لي بقية من جمال أو مال لأخذوني فاكتفوا بأخذ حليي ~~وانصرفوا.» # فلما سمع ضرغام قولها: «سبوا نساءه»، ارتعدت فرائصه ولم يكن وردان أقل منه اضطرابا ~~ولكنه كان أصبر منه على كتم شعوره، وأدرك حماد لهفتهما فسأل القهرمانة: «أخذوا كل النساء؟» ~~قالت: «نعم.» # قال: «وجلنار أيضا؟» قالت: «لا ... جلنار لم يأخذوها.» # قال: «أين هي؟» فنظرت إلى رفيقيه وترددت في الجواب كأنها تكتم شيئا تخاف ظهوره، فقال ~~لها: «قولي ولا تخافي.» # قالت: «إن مولاتنا جلنار ورفيقة لها رومية من نساء بابك خرجتا منذ بضعة أيام في مهمة إلى ~~بابك.» # فتصدى لها ودران مستفهما فقال: «وما اسم تلك الرومية يا خالة؟ هل تعرفينها؟» # قالت: «كيف لا أعرفها وأنا قهرمانة هذا القصر أعرف تاريخ نسائه واحدة واحدة؟ فجلنار مثلا ~~لا يعرف أهل البذ عنها شيئا وأما أنا فأعرف أصلها وفصلها منذ حملت إلينا من فرغانة واسمها ~~يومئذ جهان بنت المرزبان، ثم تسمت بجلنار، وأحبت هذه الرومية وصادقتها وتوافق ذوقاهما ~~حتى ذهبتا في هذه المهمة معا.» # فثبت لديهم، أن جلنار هي جهان نفسها، ولم يبق مكان للشك، أما وردان فلم يشف غليله ~~فقال: «سألتك عن المرأة الرومية ما اسمها وهل كان لها اسم غيره؟» # قالت: «اسمها هيلانة ولم تغيره منذ سرقوها من زوجها البطريق في أرمينيا ms150.» # فاضطرب وردان وارتجف وصاح: «هيلانة؟ هي ... هي ... زوجتي!» # وأدرك ضرغام أن وردان بطريق من بطارقة أرمينيا، وأن بابك سلبه امرأته فالتفت ضرغام إليه ~~لفتة تهنئة وعتاب وقال: «أتكون بطريقا وتحملني على ظنك خادما؟ والله، إني رأيت في برديك ~~نفس الرجل الكبير منذ عرفتك.» # فقال: «لجأت إليك ودخلت في خدمة المسلمين في انتظار هذه الساعة حتى أنتقم من ذلك الفاسق ~~الظالم، فأرجو أن يكون قد أخذ ونال جزاء فعلته.» # فقال حماد: «إن لم يكن قد فر فإنه مأسور لا محالة؛ لأن المدينة سقطت وقضي الأمر.» ثم ~~عاد حماد فقال للقهرمانة: «لم تخبرينا يا خالة عن الجهة التي سارت إليها جلنار ~~وهيلانة.» # قالت: «سارتا معا إلى بلاد الروم يستنجدان أهلها على المسلمين. ارتأت جلنار هذا الرأي ~~لنصرة بابك وصحبتها هيلانة؛ لأنها من تلك البلاد وتعرف لسانهم.» # قال حماد: «ومولانا بابك أين هو؟» # قالت: «ليس في البذ الآن ولا هو أسير.» # قال: «فأين هو؟ أخبرينا لا تخافي فإن البذ دخل في حوزة المسلمين، وهم أبقى لنا من سواهم. ~~وأنا أعلم أنك أخبر الناس بما يعمله بابك.» # قالت: «بقي بابك في المعركة يناضل ويدافع حتى تحقق سقوط المدينة فأتاني واصطحب من شاء من ~~نسائه مع أحمال من الطعام والشراب، وأظنه غادر المدينة وأوغل في أرمينيا.» # فنظر حماد إلى ضرغام كأنه يسأله عما يفعلون فقال: «ننصرف.» ثم خرجوا يلتمسون مكانا ~~يتشاورون فيه، وقد لاح الصباح. فقادهم حماد إلى مكان يعرفه وشاهدوا في طريقهم جند المسلمين ~~ينهبون المدينة ويهدمون بيوتها ويحرقون قصورها حتى لا يبقى فيها ملجأ لعدو أو صديق. # ولما وصلوا إلى المكان قال ضرغام: «ماذا يرى البطريق وردان فيما نحن فيه؟ لقد ذكرت ~~القهرمانة أن جهان وهيلانة ذهبتا إلى بلاد الروم. وهي بلاد واسعة، فلو عرفنا البلد الذي ~~تنزلانه لقصدنا إليه.» فضحك وردان لتسميته بالبطريق وقال: «لا حاجة بي إلى هذا اللقب، ~~يكفيني أني صديق ضرغام. وأما جهان وهيلانة فأذن لي أن أضرب في البلاد طولا وعرضا أبحث ~~عنهما ولا أعود حتى أعرف مقرهما ms151.» # فقطع حماد كلامه وقال: «كلا ... لا يذهب أحد في هذه المهمة سواي، إن لضرغام يدا عندي؛ فقد ~~أنقذ خطيبتي واحتفظ بها في بيته مكرمة معززة، فإذا لم أجازه على عمله كنت لئيما. دعني ~~أذهب وحدي أبحث وأفتش ومتى وقفت على شيء بعثت إليكما.» # فقال ضرغام: «ليس من العدل أن تكون عالما بمكان ياقوتة وهي في لهفة للقياك وتذهب في مهمة ~~أخرى.» # قال: «لا تجادلني. لست راجعا إلى أهلي قبل أن آتيك بأهلك وأهل هذا الصديق الأرمني. لقد ~~سررت بمعرفته سرورا كثيرا. وأما ياقوتة فتبقى عندك في سامرا. ويكفي أن تبشرها باللقاء ~~القريب.» # فقطع وردان كلامه وأخبره بما كان الخليفة قد أمر به ضرغاما من التزوج بها. وبأن ضرغاما ~~أوهم الخليفة بأنه تزوجها. فصاح حماد وقد ثارت الأريحية في رأسه قائلا: «وهل بعد هذا ~~يستعظم أن أبحث عن عروسه؟» # فقال: «إذن أسير معك؛ لأني أعرف البلاد ولغتها وطرقها.» فقال: «لا حاجة بي إلى أحد منكما، ~~أستودعكما الله من هذه الساعة.» قال ذلك وخرج. # فلما خلا ضرغام إلى وردان قال: «أحسبني في منام يا وردان، إن الفرق بين اليوم والأمس ~~كالفرق بين الرجاء واليأس، ولكن ...» # فقطع وردان كلامه وقال: «وأنا أحسبني انتقلت من الجحيم إلى النعيم؛ لأني كنت شديد الشغف ~~بامرأتي، وبلغ من قحة ذلك الوحش الكاسر أن طلب مني أن أطلقها ليتزوجها، فلما أبيت بعث جندا ~~حملها إليه بالقوة! قبحه الله من مجوسي فاسق. والها لو ظفرت به لأشربن دمه.» # فقال ضرغام: «لعل الأفشين ظفر به ونحن لا ندري فهلم بنا إلى المعسكر.» # الفصل التاسع عشر # | مصرع بابك # كان الأفشين قد أحسن إعداد الهجوم حتى فتح البذ وقتل الخرمية على بكرة أبيهم وأخذ أولاد ~~بابك وعياله، إلا جهان وهيلانة؛ لأنهما كانتا غائبتين وبعد أن أحرق المدينة وتحقق فرار بابك ~~عاد إلى معسكره في «روذ الروذ» وقد ساءه أنه لم يظفر بجهان ولا علم مكانها. فارتاب في أقوال ~~سامان، وخطر بباله أنه فر بها. # وكان بين الأسرى كثيرون من العرب والفرس وأبناء ms152 الدهاقين ، فأمر بهم فجعلوا في حظيرة ~~كبيرة وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم فكان كل من جاء وعرف امرأة أو صبيا أو جارية وأشهد ~~شاهدين أخذه. فأخذ الناس منهم خلقا كثيرا. # وكتب الأفشين إلى ملوك أرمينيا وبطارقتهم بأن بابك هرب، وأمرهم بحفظ نواحيهم ومراقبة ~~طرقه، وندم على تفريطه في ضرغام وهو يظنه قتل لأن بعض الفراغنة الذين كانوا معه أخبروه أنه ~~أخذ أسيرا أو مات؛ لأنهم رأوه محمولا بين حي وميت ولم يجدوه بين القتلى. # وفي اليوم التالي عاد ضرغام مع وردان إلى معسكر المسلمين فرحب به الأفشين وهنأه ~~بالسلامة وأطرى ما سمعه عن بسالته ليلة الهجوم وبالغ في الإطراء حتى يبعد عنه مظنة السوء. ~~اختصه بالشورى في الشئون الهامة وأهمها يومئذ فرار بابك. وأخبره بما فعله في سبيل القبض ~~عليه. # فقال ضرغام: «إن خادمي وردان أرمني الأصل والوطن، وهو يعرف هذه البلاد فاستخدمه لهذا ~~الغرض. وإذا شئت أتيتك به الساعة.» # قال: «افعل.» فنادى غلاما أمره أن يستقدم وردان، وكان خارج الفسطاط، فلما دخل حيا ووقف ~~فقال له الأفشين: «أتعرف طرق أرمينيا ومسالكها يا وردان؟» # قال: «نعم يا سيدي.» # قال: «أين تظن الخرمي يختبئ وإلى من يلتجئ؟» # قال: «لا أظنه يلتجئ إلى بلد؛ لأن أهل أرمينيا يكرهونه ويريدون قتله، ولكنني أحسبه يختبئ ~~في بعض الغابات أو الأودية وأشهرها الوادي الأكبر المسمى الغيضة، وهو كثير العشب والشجر بين ~~أذربيجان وأرمينيا لا يمكن الخيل نزوله، ولا يرى من يختفي فيه لكثرة شجره.» # فاستفاد الأفشين من هذه المعلومات، وبعث جواسيسه للبحث في تلك الغيضة فعادوا إليه وأكدوا ~~له اختباء بابك هناك. وكان الأفشين قد بعث إلى المعتصم ليستكتبه كتاب أمان لبابك. فلما جاء ~~كتاب الأمان دعا الأفشين بعض الذين أمنهم من أصحاب بابك وأعلمهم بذلك وأمرهم أن يسيروا ~~إليه بالكتاب وفيهم ابنه، فلم يجسر أحد منهم خوفا منه، فقال: «إنه يفرح بهذا الأمان.» ~~فقالوا: «نحن أعرف به منك.» فقام رجلان فقالا: «اضمن لنا رزق عيالنا إذا هلكنا ونحن نذهب ~~إليه.» فضمن لهما ذلك، فسارا ms153 بالكتاب حتى أتياه وأعلماه بما قدما فيه، فقتل أحدهما وأمر ~~الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين. وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابا فقال لذلك الرجل: ~~«أبلغ ابن الفاعلة أنه لو كان ابني للحق بي، ولكنه ليس ابني، ولأن تعيش يوما واحدا ~~رئيسا خير من أن تعيش أربعين سنة عبدا ذليلا.» وقعد في موضعه. فلم يزل في تلك الغيضة ~~حتى فني زاده وخرج من بعض تلك الطرق، ومعه بعض رجاله، فلم يجد أحدا من الجند الذين أرسلهم ~~الأفشين لمحاصرته، وظن بابك أن القوم يئسوا من القبض عليه فرحلوا. فسار هو وعبد الله أخوه، ~~وأمه وامرأة أخرى، يريدون أرمينيا، فرآهم بعض الحراس فأرسلوا إلى الجند المكلف بتعقبه. وكان ~~أبو الساج هو المقدم عليهم، فلحق بهم وقد نزلوا على ماء يتغذون. فلما رأى بابك العساكر ركب ~~هو ومن معه فنجا وأخذ أبو الساج أم بابك والمرأة الأخرى فأرسلهما إلى الأفشين، وسار بابك ~~في جبال أرمينيا مستخفيا، وكان بطارقة أرمينيا يراقبون سبله فاحتال بعضهم حتى خدعه وأدخله ~~حصنه، وأرسل إلى الأفشين يعلمه بذلك، فبعث الأفشين يعده ويمنيه وهو يأبى الاستسلام. ثم ~~احتال صاحب الحصن عليه حتى أخرجه بحجة الصيد وأنبأ الأفشين بخروجه فتمكنوا من القبض عليه ~~ومعه أخوه عبد الله وحملوهما إلى الأفشين. # فلما قرب بابك من المعسكر صعد الأفشين وجلس ينظر إليه، وصف عسكره صفين، وأمر بإنزال ~~بابك من فوق دابته فنزل ومشى بين الصفين، فأدخله بيتا في برزند، ووكل به من يحفظه، وأنعم ~~على الذين أسلموه، وكتب إلى المعتصم بذلك. فأمره بالقدوم إليه به وبأخيه، فانتقل بهما في ~~جنده وحاشيته من بزرند إلى سامرا (سنة 623ه). وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم ~~رسولا يحمل إليه خلعة وفرسا، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن ~~المعتصم. وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة، فأتاه أحمد بن دؤاد متنكرا، فنظر إلى ~~بابك وكلمه ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فأتاه أيضا متنكرا فرآه. فلما كان الغد قعد ~~المعتصم واصطف الناس ms154 من باب العامة إلى المطيرة، فشهره المعتصم وأمر أن يركب على الفيل ~~فركب عليه واستشرفه الناس إلى باب العامة. فقال محمد بن عبد الملك الزيات: # قد خضب الفيل كعادته # يحمل شيطان خراسان # والفيل لا تخضب أعضاؤه # إلا لذي شأن من الشان # ثم أدخل بابك دار المعتصم، فأمر بإحضار سياف بابك فحضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ~~ورجليه فقطعهما، فسقط فأمره بذبحه ففعل. وشق بطنه وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب بدنه ~~بسامرا. وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمره أن يفعل به ما فعل هو ~~بأخيه بابك ففعل وضرب عنقه وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين. وكان ذلك آخر عهد ~~الخرمية. # وكان ضرغام ووردان في جملة الذين رجعوا مع حملة الأفشين وشاهدا قتل بابك فاشتفيا بقتله، ~~وود ضرغام لو أنه قتله بيده في المعركة. وحال وصولهم إلى سامرا سار ضرغام إلى منزله ~~وقبل يد أمه وسلم على ياقوتة وبشرها بلقاء حماد، فلم تعد تعرف كيف تشكره. ثم أخبر ~~أمه بطرف من خبر جهان وبأنها ذهبت إلى بلاد الروم وأن حمادا أبى إلا أن يبحث عنها بنفسه. ~~قال ذلك وياقوتة حاضرة، ونظر إليها وابتسم وقال: «أظن هذا الخبر يسوءك. ولكنه أبى إلا ~~الذهاب.» # فتوردت وجنتاها خجلا وأطرقت وقالت: «مهما نفعل فإننا لا نفي ببعض فضلك، فقد أنقذتني من ~~القتل والعار وكفلتني.» # فقطع كلامها قائلا: «لم أقم إلا ببعض ما وجب طبقا لإشارة أمير المؤمنين فنحن عبيده ~~وعلينا طاعته.» # ورأى ضرغام في وجه ياقوتة تغيرا وفي عينيها ارتباكا كأنها تهم بشيء يمنعها الحياء من ~~ذكره فسألها عما بها فقالت: «أذكرني تفانيك في نصرة أمير المؤمنين شيئا لحظته خلال إقامتي ~~ببيت الحارث السمرقندي، وأخشى منه على حياة أمير المؤمنين. فقد فهمت أن هناك قوما يتآمرون ~~على حياته.» # فلم يشأ ضرغام أن يعير الأمر اهتماما فقال: «إننا لا نحفل بما يكيده بعض الخونة لأمير ~~المؤمنين فمعظم ما يأتمرون به لا يترك أثرا، وسببه على الغالب جهل بعض أهل الخليفة ~~الأقربين فيزين ms155 لهم ذوو المطامع من الوزراء أو القواد أن يسعوا إلى الخلافة ليستفيدوا هم من ~~انتقالها من يد إلى يد، وهذا العباس ابن المأمون قد حسن له بعضهم أن يطالب بالخلافة ~~لنفسه ولا ينالها إلا إذا قتل المعتصم، فهم يتآمرون ويتواطئون على قتله ولكنهم لا يفلحون، ~~وسيرد كيدهم إلى نحورهم.» # فلما سمعته أمه أشرق وجهها وابتسمت وقالت: «بورك فيك يا بني، هكذا الأمانة، وهكذا ~~الرجال.» # ثم لبس سواده وذهب للسلام على المعتصم وعنده الأفشين وغيره من كبار القواد، فلما دخل عليه ~~هش له وقال: «مرحبا بالصاحب البطل الهمام. بلغنا ما كان من بلائك في الأعداء وما أبديته ~~من البسالة والهمة بورك فيك. ألا تزال ترى لقب الصاحب كثيرا عليك؟» وأشار إليه بالجلوس ~~قريبا منه. # فأطرق خجلا وقال: «إن العبد لا يستأهل أجرا إذا قام بخدمة مولاه، ويكفيه رضاه ~~عنه.» # فالتفت الخليفة إلى الأفشين فقال هذا: «يندر يا أمير المؤمنين أن نرى مثل الصاحب في ~~الشجاعة وصدق الخدمة.» وأخذ يطري أعماله يريد أن يمحو ما يخشى أن يكون قد خامره من إساءة ~~الظن به. وعاد الخليفة نفسه إلى الثناء عليه، وأمر له بالهدايا والخلع. ولما انفض المجلس ~~عاد ضرغام إلى منزله وعادت إليه هواجسه في شأن جهان. ولبث في انتظار ما يأتيه من حماد، فكان ~~يقضي أكثر أيامه مع وردان يتحادثان فيما عسى أن يكون من أمر جهان وهيلانة. # وشاع في هذه السنة في سامرا أن «تيوفيل» ملك الروم خرج إلى بلاد الإسلام. وسمع بذلك ~~ضرغام. فأرسل إلى صديقه وردان فجاء، فأخذا في تقليب الرأي فيما هو حادث وما قد يحدث، فقال ~~له وردان: «إني أرى فتح البذ سبب خروج الروم لقتال المسلمين، فقد أنبأني بعضهم أن بابك لما ~~ضيق عليه الأفشين وأشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم بأن جنود المسلمين مشغولون به، ~~فالفرصة سانحة أمامه لاكتساح مملكة الإسلام، وربما كان لجهان يد في هذا التوجيه.» # قال: «تحدثني نفسي أنها مع هيلانة هناك.» # قال: «لو كانتا هناك لجاءنا الخبر من حماد ms156، فإنه يبحث عنهما حيث يكون ملك الروم. ولا بد ~~من الصبر.» # قضى ضرغام في ذلك أياما على مثل الجمر حتى جاءه وردان ذات يوم مهرولا، وأومأ إليه أن ~~يتبعه، فتبعه حتى انفردا في بعض جوانب الحديقة، ثم دفع إليه أسطوانة ملفوفة بمنديل من ~~الحرير فحل المنديل وفتح الأسطوانة، فرأى فيها كتابا من الكاغد قرأ في صدره اسم حماد ~~فخفق قلبه، وأخذ يتلوه وهذا نصه. # من حماد في عمورية إلى الصاحب ضرغام في سامرا # لقد طال سكوتي عليك، وأظنك مللت الانتظار، ولكني مكره على هذا؛ فإني قضيت ~~أشهرا أبحث على غير هدى إلى أن بلغني أن تيوفيل ملك الروم قادم على «زبطرا»، فهممت ~~بأن ألقاه هناك لعلي أجد ضالتنا، فما كدت أبلغ البلد حتى علمت أن الروم اكتسحوه ~~وخربوه وسبوا النساء والأطفال. ثم أغاروا على «ملطية» وغيرها من حصون المسلمين ~~وسبوا المسلمات ومثلوا بمن أخذوا من المسلمين؛ فسملوا أعينهم وقطعوا أنوفهم ~~وآذانهم، وقد شاهدت بعض أولئك المجدوعين ورأيت الناس قد خرجوا من بلادهم في الشام ~~والجزيرة فرارا من وجه الروم إلا من لم يكن له سلاح أو دابة. فلما رأيت ذلك عدلت ~~عن الذهاب إلى «زبطرا» وتذكرت أن «ناطس» بطريق عمورية كان قد زار البذ في عهد بابك ~~وعرف جهان. ولعها ذهبت إليه. وقد صدق حدسي؛ لأني علمت عندما دخلت عمورية أن جهان ~~وهيلانة جاءتا رأسا من البذ للسعي في حمل البطريق ناطس على أن يتوسط لدى ملك الروم ~~في نجدة بابك، فأنزلهما ناطس في قصره ووعدهما خيرا، ثم جاء الخبر بسقوط البذ وقتل ~~بابك، فلم يبق لهما مأرب في أرمينيا كلها فبقيتا في عمورية. وقد حرص عليهما هذا ~~البطريق حرصا شديدا ولا سيما جهان، وضيق عليهما فلا يسمح لهما بالخروج. ولعل ~~جهان رضيت بالأسر عن طيب خاطر؛ إذ يئست من لقائك. وقد حاولت الاتصال بها لأطلعها ~~على حالك وأبشرها بقرب لقائك فلم يتيسر لي؛ لأن القوم هنا شديدو الحذر من المسلمين، ~~وإذا أساءوا الظن بأحد منهم قتلوه ومثلوا به كما ms157 فعلوا بأهل «زبطرة». فجهان ~~وهيلانة مسجونتان الآن في قصر «ناطس» بطريق عمورية، وسأبذل جهدي في إبلاغ خبرك ~~إليهما وإن كنت لا أتوقع نجاحا عاجلا. # وقد علمت أن الروم ينوون اكتساح مملكة الإسلام، فالذي أراه أن يسبقهم المسلمون ~~ويكتسحوا بلادهم، وهذه عمورية التي تعد أمنع حصونهم لا أراها تمتنع على المسلمين ~~لعلمي بمواضع الضعف في أسوارها، ولا أخالك بعد كتابي هذا إلا محرضا صاحبك على ~~فتحها، فإذا فعلت فاجعل رايتك قطعتين مستطيلتين حتى أعرفها إذا نزل معسكركم أمام ~~عمورية وأعرف مكانك والسلام. # وما فرغ ضرغام من قراءة الكتاب حتى تصبب العرق من جبينه وهاجت أشجانه وثارت عواطفه، ودفع ~~الكتاب إلى وردان فقرأه وقال: «أرى أن قد تحتم المبادرة إلى العمل، ولا بد من ذهابي إلى ~~عمورية.» # قال: «لا فائدة من ذهابك؛ فإن المرأتين في إطار أضيق مما قرأته في هذا الكتاب، وقد أراد ~~صديقنا حماد تخفيف الخبر. ألم تقرأ قوله: «إن ناطس حرص عليهما حرصا شديدا ولا سيما جهان»، ~~إنه يعني أن هذا البطريق أحب جهان فاستبقاها لنفسه، فلا تجدي الحيلة في إنقاذها منه ~~ولا بد من القوة. وقد أشار حماد إلى ذلك تلميحا في أواخر كتابه.» # فقال وردان: «إذا كان لا بد من الحرب فلا يثيرها سواك بما لك من المنزلة عند الخليفة.» ~~فنهض ضرغام لساعته تاركا وردان في مكانه ومضى إلى داره فلبس سواده والقلنسوة وخرج يقصد دار ~~الخليفة فاستأذن فقال له الحاجب: «إن أمير المؤمنين في خلوة مع القاضي أحمد.» فقال: «استأذن ~~لي أيضا.» # فلما أذن له دخل وسلم، فرأى القاضي أحمد جالسا بجانب سرير المعتصم والاهتمام باد في ~~وجهيهما. فلما دخل ضرغام رحب به الخليفة قائلا: «جاءنا الصاحب في إبان الحاجة إليه فقد ~~كنت عازما على دعوتك.» وأشار إليه بالجلوس. # فجلس وقال: «إن نفسي حدثتني بأن هناك ما يدعو إلى مجيئي؛ لأني لا أفتأ أفكر في مولاي، ~~أشاركه آماله فتتلاقى خواطرنا.» # فقال القاضي: «بلغني رضاء أمير المؤمنين بما أبديته من البسالة في فتح البذ، وقد سرني ~~صدق ms158 توسمي فيك ، فأصبحت ذا منزلة لدى مولانا يعول على رأيك وسيفك.» # فأطرق ضرغام تأدبا ولم يجب. فأتم الخليفة الحديث قائلا: «جاءنا البريد من بلاد الروم ~~بأن تيوفيل اللعين نزل «زبطرا» و«ملطية» وأساء إلى أهلهما وارتكب فيهما كل قبيح مما لم يألف ~~المسلمون مثله.» فقال ضرغام: «هل يطلب أمير المؤمنين رأيي؟» قال: «نعم.» # قال: «لا أرى لي غير السيف كما عودهم الرشيد من قبل. فأحمل عليهم ودوخهم واكتسح بلادهم. ~~إن الإسلام لا يصبر على ما فعله تيوفيل من سمل العيون وجدع الأنوف وسبي النساء. جرد ~~يا أمير المؤمنين جندك فيعودون من ظفر إلى ظفر آخر وأنا عبدك أول المتطوعين في هذه الحرب. ~~وإذا صبر أمير المؤمنين على سمل عيون المسلمين فلا أخاله يصبر على سبي المسلمات!» وكان ~~ضرغام يتكلم وعيناه تقدحان شررا وشفتاه ترتجفان، وأحس أنه بالغ في الجرأة بين يدي ~~الخليفة، ولكنه لم ينتبه إلا بعد أن فرغ من كلامه. ورفع بصره إلى المعتصم فرآه وقد تغير ~~وأبرقت عيناه وخالطهما احمرار من الغضب. واضطرب في مجلسه وثبت بصره في ضرغام وهو يتكلم ~~فهاجت حماسته وأصبح كالأسد في بطشه وسلطانه. فخاف ضرغام أن يكون قد أغضب المعتصم بجرأته، ~~فأراد أن يستأنف الكلام للاعتذار فقطع القاضي أحمد كلامه قائلا: «لقد نبهت حمية أمير ~~المؤمنين إلى مصلحة المسلمين وما هو بغافل عنها، وإنه ليسره أن يرى ذلك في رجاله ~~وأبطاله.» # فقال المعتصم: «إن الصاحب تكلم بلساني وعبر عن جناني. وسآمر الأفشين والقواد الآخرين ~~بالتأهب لحرب بعد أن أستخير الله فيها. إنها جهاد في سبيل الإسلام.» ثم قال: «موعدنا غدا ~~إن شاء الله.» فانصرف القاضي وضرغام. # مشى ضرغام إلى منزله وقد هاجت عواطفه، وكان وردان في انتظاره فقص عليه ما جرى فسره ~~الأمر ولكنه خاف أن تئول تلك الاستخارة إلى العدول عن القتال. وفي الصباح التالي جاء غلام ~~الخليفة مبكرا في طلب الصاحب. فمضى حتى دخل على الخليفة، فرآه في بهو خاص لا يجلس فيه ~~للناس وهو بثوب النوم وقد التف بمطرف. وآنس ms159 في وجهه انقباضا. فأوجس خيفة ولكن المعتصم ~~أمره بالجلوس، فجلس فقال له الخليفة: «أتدري لماذا دعوتك وأدخلتك علي وأنا في هذه الحال؟» ~~قال: «كلا يا مولاي.» # قال: «نهضت من فراشي منذ هنيهة بعد أن استيقظت منزعجا مضطربا.» قال: «خيرا إن شاء ~~الله.» # قال: «صليت العشاء أمس وتوسلت إلى الله أن يلهمني ما فيه خير المسلمين من أمر الروم، ثم ~~نمت فرأيت في رؤياي ما أطار صوابي وأذهب رشدي.» # فظل ضرغام مصغيا يتطاول بعنقه. فمسح المعتصم لحيته وشاربيه وأصلح عمامته الصغيرة على ~~رأسه وقال: «قلت إني رأيت، والحقيقة أني لم أر شيئا، ولكني سمعت صوتا اخترق أعماق قلبي. ~~سمعت امرأة هاشمية أسيرة في بلاد الروم تصيح: «وا معتصماه!» فأجبتها: «لبيك»، واستيقظت وقد ~~علمت أن الله يأمرني بالجهاد وأن أكون على رأس المجاهدين، فخذ أهبتك للسفر وسآمر قوادي ~~يتأهبوا. هل أثق بجندي؟» # فتذكر ضرغام ما كان يبديه من الارتياب في إخلاص الأفشين فقال: «لا سبيل إلى تحقق ذلك، وقد ~~علم أمير المؤمنين أنهم إنما يحاربون في سبيل حطام الدنيا، وقد فتحوا البذ وقضوا على ~~الخرمية وسيفعلون ذلك بالروم.» # فقال المعتصم: «يخيل إلي أنهم لولا ذهابك لم يفتحوه إلا بعد أعوام.» # فخجل من الإطراء وقال: «إذا كان لأمير المؤمنين ثقة بعبده فليجعلني في هذه الحملة ولا ~~يخشى غدرا بإذن الله.» # قال: «وما رأيك في البلد الذي نقصده من بلاد الروم؟» # قال: «إن الصوت الذي سمعته يا أمير المؤمنين خرج من عمورية وهي من أكبر مدائن الروم وعين ~~النصرانية، وفي فتحها نفع للمسلمين.» # قال: «أحسنت.» وتحفز للنهوض، فخرج ضرغام مسرعا إلى وردان يبشره وأخذ في ~~الاستعداد. # الفصل العشرون # | فتح عمورية # أعد المعتصم جنده للقتال، وجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد ومعه 328 رجلا هم أهل ~~العدالة فأشهدهم على ما وقفه من الضياع، جاعلا ثلثه لله، وثلثه لولده، وثلثه لمواليه. ثم ~~تجهز إلى عمورية بالسلاح والعدد والآلات وحياض الماء والروايا وغير ذلك، وجرد جيشا ~~عظيما بلغ تسعمائة ألف مقاتل. عليه من القواد الأفشين وأشناس وغيرهما ms160. وخرج المعتصم نفسه ~~على دابته وخلفه حقيبة فيها زاد تشبها بالمجاهدين في صدر الإسلام. # وفرق جنوده في جهات مختلفة من بلاد الروم حتى التقوا قرب أنقرة وعزموا على المسير إلى ~~عمورية. فأمر المعتصم بتعبئة الجند فجعله ثلاثة معسكرات أحدهما في الميسرة وعليه أشناس ~~التركي، والثاني في الوسط وفيه المعتصم نفسه، والآخر في الميمنة وقائده الأفشين. وجعل بين ~~كل معسكر ومعسكر فرسخين. وأمر بأن يكون كل معسكر ميمنة وميسرة، وبأن يحرقوا ما يصادفهم من ~~القرى ويخربوها ويأخذوا من فيها. ثم ترجع كل طائفة إلى موضعها فيما بين أنقرة وعمورية ~~وبينهما سبع مراحل. ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية وكان أول من أتاها أشناس ثم المعتصم ثم ~~الأفشين. فداروا حولها وقسمها المعتصم بين القواد وجعل لكل واحد منهم أبراجا منها على قدر ~~أصحابه. # وكان ضرغام في معسكر المعتصم، والمعتصم يقربه ويكرمه، وكان في حاشيته أيضا الحارث ~~السمرقندي وقد أخذ الحسد منه مأخذا عظيما لما شاهده من منزلة ضرغام عند الخليفة، وضرغام ~~لا يكترث وإنما همه أن يوفق إلى إنقاذ جهان، وكذلك كان وردان يتوق إلى لقاء ~~هيلانة. # وحينما حطا رحالهما هناك، صعدا إلى رابية أطلا منها على عمورية فرأياها مدينة كثيرة ~~الأبنية واسعة الأرجاء حولها سور عال عليه الأبراج الضخمة وله الأبواب المتينة، ورأيا بين ~~الأبنية قصرا تخفق عليه الرايات، فعلم ضرغام أنه قصر البطريق وأن جهان فيه، فتنهد ونظر إلى ~~وردان فرآه مطرقا فسأله: «أليس هذا قصر البطريق؟» قال: «بلى، هذا هو بعينه.» # قال: «إذا صح قول حماد فإن جهان وهيلانة محبوستان فيه، وأرى المدينة حصينة، ولكنها لا ~~تمتنع علينا بإذن الله. هل أعددت الراية المزدوجة التي أوصانا حماد بها؟» # قال: «نعم أعددتها ولكن كيف السبيل إلى نشرها ونحن في معسكر المعتصم تحت رايته.» # قال: «ننشرها في مكان منعزل عسى حماد أن يكون في انتظار رؤيتها كما ذكر في كتابه.» # قال: «غدا أقف لها على هذه الرابية نحو ساعة لنرى ما يكون.» وعاد إلى المعسكر. # وفي اليوم التالي عقد المعتصم مجلسا حضره ms161 القواد ورجال خاصته وفيهم الصاحب والحارث ~~السمرقندي، وأخذوا في وضع خطة القتال. ولما أذن المؤذن لصلاة الظهر تفرقوا ودخل الخليفة ~~فسطاطه وأشار إلى الصاحب أن يأتيه صباح الغد، فرجع إلى فسطاطه فرأى وردان في انتظاره وقد ~~أخذ الغضب منه مأخذا عظيما فسأله عن الراية فقال: «وضعتها على الرابية.» # فقال: «كيف تركتها وما لي أراك متجهما؟» # قال: «تركتها لأمر أهم منها.» # قال: «وما ذلك؟» # قال: «رأيت سامان اللعين في معسكر الأفشين مقربا منه ملحوظ المنزلة، فلم أستطع الصبر على ~~رؤيته وحدثتني نفسي أن أبطش به.» # قال: «لا تفعل، إننا في موقف يقتضينا جمع الكلمة. فإذا رفعت يدك على سامان أغضبت الأفشين ~~فتوقظ الفتنة في الجيش، فاترك سامان إلى وقت آخر، وامض إلى الرابية وراقب الأسوار وامكث ~~هناك ليلا.» # فمضى وردان لشأنه، وما خلا ضرغام إلى نفسه حتى أخذ يفكر في حاله؛ متنقلا بخياله من جهان ~~إلى أمه إلى حماد إلى الأفشين، حتى أخذه النعاس فنام واستيقظ على صوت وردان يناديه، ففتح ~~عينيه فإذا هو في المساء وقد أظلمت الدنيا فظن أن وردان جاء يبشره بلقاء حماد فقال: «هل ~~أتى حماد؟» قال: «كلا.» # قال: «وكيف عدت وتركت الراية؟!» # قال: «تركتها لأمر لم أستطع كتمانه إلى الغد، ولا بد من أن تعلمه قبل أن تذهب في الصباح ~~إلى المعتصم.» # قال: «وما هو؟ قله بكلمتين وإلا فدعني أرافقك إلى الرابية أساهرك وتقصه علي ~~هناك.» # قال: «ليس حديثي طويلا لكنك إذا صحبتني إلى الرابية كان هذا أجدى.» # فنهض ضرغام ولبس ثيابا لا تميزه عن سواه من الجند وخرج مع وردان، وكانت الرابية واقعة ~~بين معسكر المعتصم وبين معسكر أشناس، فمرا بكثير من الفساطيط بين مضيء ومظلم، فقال ضرغام: ~~«أراك تسير بي في غير الطريق المستقيم.» # فقال: «أريد أن أريك شيئا طريفا. هل تعرف هذا الفسطاط إلى يسارنا؟» # قال: «أعرفه، هو فسطاط العباس بن المأمون. ما لنا وله؟» # قال: «اكتشفت سرا لو عرفه المعتصم لقلب المعسكر رأسا على عقب!» قال: «ما هو؟» # قال: «لما عدت من ms162 عندك هذا النهار، مررت من هنا فرأيت الحارث السمرقندي خارجا من هذا ~~الفسطاط وقد خف العباس لوداعه وبالغ في إكرامه، فقلت في نفسي: «لأمر ما هذا الإكرام؟» ~~وأنا أعلم أن السمرقندي ناقم على المعتصم لأخذه ياقوتة منه، ولما رآه من تقديمه إياك. ولا ~~يخفى عليك ما في نفس العباس بن المأمون على المعتصم؛ لأنه أخذ الخلافة منه، وكان بعض القواد ~~يريدونها له، ولكنه جبن عن طلبة البيعة فنالها المعتصم. وقد سمعت وأنا في سامرا أن الحارث ~~السمرقندي كان من الساعين في خلع المعتصم ومبايعة العباس، لكنهم تهيبوا الإقدام على هذا ~~الأمر خوفا من الجند، فلما رأيت الحارث خارجا من فسطاط العباس اليوم حدثتني نفسي بأمر ذي ~~بال بينهما.» # وكان وردان يقص حديثه همسا حتى وصلا إلى الخيمة المنصوبة على الرابية والليل مظلم، ~~فرأى ضرغام رجلا نائما عند باب الخيمة وله شخير كخوار الثور وشم رائحة الخمر فقال: «من ~~هذا؟ كأني أشم رائحة الخمر!» # قال: «هذا ناقل السر إلي، وهو من عبيد الحارث عرفته في سامرا فاحتلت في دعوته إلي ~~وسقيته خمرا حتى سكر وقص علي الحديث الغريب الذي سأقصه عليك، فهل تدخل الخيمة أم أتم ~~الحديث خارجها؟ إني والحق يقال لا أرى لحراسة الراية في هذه الظلمة فائدة؛ لأن الظلام يحول ~~دون رؤيتها على عشر أذرع فكيف من عمورية؟» # قال: «صدقت ليس القصد أن يراها حماد من هناك ليلا، ولكنه قد يراها ساعة الغروب ويحتال في ~~الخروج بعد قليل فلا يراها أو ربما وقع بصره عليها في صباح الغد فيأتي وأنت لا تزال عندها. ~~اقصص علينا ما سمعته من العبد.» # فمشى وردان إلى صخرة على بضع أذرع من الرابية وضرغام يتبعه، فجلسا وأخذ يقص عليه فقال: ~~«أخبرني العبد أن سيده الحارث اتفق مع العباس على أن يكون رسوله إلى القواد في هذا المعسكر، ~~وبعضهم تحت قيادة الأفشين وبعضهم من رجال أشناس وآخرون من جند المعتصم؛ ليأخذ البيعة له ~~منهم، فأخذ يدور بالمعسكرات الثلاثة حتى بايعه نفر من القواد وفيهم جماعة ms163 من خاصة المعتصم، ~~وقال لكل من بايعه: «إذا أظهرنا من أمرنا فليثب كل منكم على الأمير الذي هو معه ويقتله»؛ ~~فوكل من بايعه من خاصة المعتصم أن يثبوا في الأجل المضروب على المعتصم ويقتلوه، ومن ~~بايعوه من خاصة الأفشين أن يثبوا على الأفشين ويقتلوه، ومن بايعوه من خاصة أشناس أن يقتلوه. ~~وهكذا.» # وكان ضرغام يسمع كلام وردان مطرقا يهز رأسه استغرابا ويقول: «قبحهم الله من خونة ~~مارقين.» # فقال وردان: «إني أرى العباس أعقلهم جميعا فقد فهمت من محدثي أنه لم يوافقهم على تنفيذ ~~المكيدة الآن خوفا من تضييع الفتح، فأحببت أن أطلعك على ما سمعته وأنت ذاهب غدا إلى ~~الخليفة فتنقله إليه إذا شئت.» # قال: «كلا يا وردان. لا ينبغي أن يعلم الخليفة ذلك وإلا فإننا نجر على المسلمين ما ~~نتحاشاه من الفتنة، ولكننا نكتمه إلى حينه، ولا سيما أنهم أجلوا تنفيذه. ويكفي أن نسهر ~~على حياة أمير المؤمنين.» # فأعجب وردان بأريحية ضرغام وقال: «بورك فيك يا بطل. هذا هو الرأي الصواب.» # قال ضرغام: «ولكنك أخطأت؛ إذ بقيت العبد هنا فإذا صحا عرف المكان وربما وشى بك، والأحسن ~~ألا يعرفه، فانقله الآن وهو بين السكر والنوم وأنا أمكث هنا حتى تعود.» # قال: «أصبت.» ونهض وأخذ في إيقاظ العبد وهو لا يصحوا فجعل يوقفه أو يقوده أو يجره حتى ~~بعد به عن فسطاطه واقترب من فسطاط العباس فألقاه هناك ورجع، وكان الليل قد انتصف ونام من ~~في المعسكر. # فلما عاد إلى ضرغام قال له هذا: «أنا ذاهب إلى خيمتي فامكث هنا حتى الصباح.» قال: «سمعا ~~وطاعة.» # اتجه ضرغام نحو فسطاطه وهو غارق في تفكيره، وقبل أن يصل إليه سمع لغطا بينه وبين السور، ~~فالتفت فرأى جماعة من حراس المعسكر يقودون رجلا أمسكوا بخناقه وهو يقول: «خذوني إلى ~~الصاحب.» # فلما سمع صوته أجفل؛ لأنه صوت حماد، فأسرع إلى فسطاطه ولبث في انتظار وصولهم، وبعد قليل ~~دخل أحدهم وقال: «أخذنا جاسوسا دخل المعسكر من جهة المدينة وزعم أنه قادم إليك.» قال: ~~«أدخلوه.» # فدخل ms164 فتبينه فإذا هو حماد بعينه فقال: «دعوه.» فتركوه ورجعوا. فلما خلا إليه حياه ~~ورحب به وأجلسه بجانبه وسأله عن جهان فقال: «لا تزال عند البطريق.» # قال: «ألم تنقل خبرنا إليها؟» # قال: «كلا. لم أستطع الظهور قط، ولما رأيت جندكم بالأمس تطلعت إلى الأعلام فلم أر الراية ~~المزدوجة إلا هذا المساء، ولم أستطع الخروج إلا الآن بحيلة شيطانية فتهت عنها، ولما أخذني ~~الحراس طلبت إليهم أن يحملوني إليك كما ترى.» # قال: «أهلا وسهلا. فجهان لا تزال في قصر ناطس؟» # قال: «نعم وهيلانة معها، والرجل شديد الحرص عليهما، ولا تغضب، فإنك ظافر بما تريد عن ~~قريب.» # قال: «وكيف ذلك؟ إني أرى الأسوار منيعة وسيطول الحصار على ما أرى.» # قال: «سأجعله قصرا بإذن الله.» # قال: «هل تعرف مدخلا سهلا؟» # فضحك وقال: «نعم، أعرف مدخلا يسهل الفتح، هل أدلك عليه الآن؟» # قال: «إني مبكر غدا إلى الخليفة، وسأطلعه على ما عندك من أخبار العدو ونجعل ذلك ذريعة ~~لرضائه عنك فيغفر لك ما مضى.» قال: «حسنا.» # فقال ضرغام: «أظنك في حاجة إلى الراحة. هذا فراش نم عليه وأنا أنام هنا ونذهب في ~~الصباح معا.» # وأصبحا في الغد وقصدا إلى فسطاط المعتصم فاستأذن ضرغام عليه فدخل واستبقى حمادا خارجا، ~~فرحب به الخليفة وقربه ولحظ ضرغام في وجه المعتصم تجهما، فتهيب وسكت فقال المعتصم: ~~«أتدري لماذا دعوتك يا صاحب؟» # قال: «ليس لي علم الغيب يا مولاي.» # فتنهد المعتصم وقال: «كنت وأنا في سامرا أستأنس بالقاضي أحمد وأطلعه على سري، أما الآن ~~فأراني في حاجة إلى مشاورتك بعد أن خبرت صدق نيتك.» # قال: «إني عبد مخلص لمولاي.» # قال: «أتذكر أن شكوت إليك ارتيابي في الأفشين؟» قال: «نعم يا مولاي.» # قال: «كنت أستعظم ما رأيته من جشعه، ولكنني أصبحت الآن لا أعد طمعه شيئا مذكورا بجانب ~~ما أراه في هذا المعسكر من الدسائس، هل عرفت شيئا من ذلك؟» # قال: «لم أفهم مراد مولاي.» وقد فهمه لكنه تغابى. # قال: «بلغني أن قوما أجمعوا على نقل البيعة إلى العباس بن المأمون ms165 أخي ويريدون قتلي.» ~~قال ذلك وعيناه تقدحان شررا من الغيظ. # فرأى ضرغام من الحكمة أن يخفف عنه فقال: «لا أعرف شيئا من ذلك وإن كنت لا أستبعده؛ لأن ~~الخلافة ما برحت من عهد الراشدين مطمح أنظار الطامعين، وهب أن بعضهم تحدثه نفسه بذلك، فإنه ~~صائر إلى الفشل المحقق، وإنما نحن الآن أحوج إلى جمع كلمتنا لنتمكن من أعدائنا المحدقين ~~بنا. فهل أدل مولاي على ما يذهب عنه الغضب؟» # فانبسطت أسرة المعتصم وقال: «ما وراءك؟» # قال: «أتيت أمير المؤمنين برجل خرج إلينا في مساء الأمس من عمورية، وهو يعرف مداخلها ~~ومخارجها. هل أدخله على مولاي؟» قال: «يدخل.» # فنهض ضرغام ونادى حمادا فدخل ووقف وألقى التحية، فلما رآه الخليفة عرفه، فعبس ولكنه أشار ~~إليه بالجلوس، فجلس جاثيا فنظر المعتصم إلى ضرغام وقال: «كأني أرى حمادا العربي بين ~~يدي؟» # قال: «نعم، هو عبد أمير المؤمنين، وقد يكون سبق منه ذنب فعفو مولانا أوسع.» # قال: «ما الذي جاءنا به؟» # فقال حماد: «قضي علي أن أدخل هذه المدينة منذ بضعة أسابيع فعرفت حصونها ومعاقلها، لما ~~رأيت جند أمير المؤمنين بالأمس بذلك جهدي ففررت وأتيت.» # قال: «وماذا تستطيعه في خدمتنا؟» # قال: «أدل أمير المؤمنين على عورات البلد فيسهل عليه فتحها؛ إن لهذه المدينة سورا ~~منيعا، وحدث أن سيلا جرف جزءا منه، فكتب الملك إلى عامله ليعيد بناءه فتوانى فلما خرج ~~الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يأتي عمورية ويرى السور خرابا فبنى وجهه حجرا وعمل ~~الشرف على جسر من خشب وإذا شاء مولاي دللته عليه من هنا.» # فنهض الخليفة وقال: «أرنيه.» # فدله على مكانه من بعيد، فلما رآه أثنى عليه وقال: «إذا صدقت فيما تقول فلك الجزاء ~~الحسن.» # فقال ضرغام: «أنا أضمن صدقه يا مولاي، فهل يأمر أمير المؤمنين بتعجيل الجزاء.» # قال: «نعجله إكراما لك، ما جزاؤه؟» # قال: «إنه لا يطلب مالا وإنما تأذن له بجاريتك ياقوتة فيتزوجها.» # فقال: «ياقوتة زوجتك؟!» # فوجم ضرغام ثم قال: «نعم ياقوتة التي أمر أمير المؤمنين أن تكون زوجة لي فجرؤت ms166 على حلم ~~مولاي ولم أتزوجها لعلمي أنها مخطوبة لصديقي هذا، فحفظتها عندي أمانة له، فإذا شاء أمير ~~المؤمنين أن يغمرنا بنعمه عفا عنا وأذن أن تكون ياقوتة زوجة لحماد بعد رجوعنا من القتال ~~ظافرين بإذن الله.» # فأعجب الخليفة بأريحية ضرغام وكرم أخلاقه وابتسم له وقال: «قد عفونا عنكما. وأحب أن يكون ~~حماد من خاصتي وسأغدق عليه النعم.» # فشكر كلاهما فضله عليهما فقال: «هلم بنا إلى العمل.» وأمر أن ينقل فسطاطه أمام السور ~~المتخرب ونصب المجانيق عليه فتخرب فجعل الروم بدلها أعوادا كل عود بجانب الآخر فكان ~~المنجنيق يكسر الخشب فجعلوا عليه البرازخ، فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور ~~وألح المعتصم بالحصار وكان حول السور خندق عميق لا يمكن تجاوزه ولولاه لأخذت المدينة. ~~فأشار ضرغام على الخليفة أن يطمه بجلود الغنم المملوءة ترابا ففعل، وعمل دبابات كبيرة تسع ~~الواحدة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور فدحرجوا واحدة منها فلما صارت في نصف ~~الخندق تعلقت بتلك الجلود فما تخلص من فيها إلا بعد جهد، وعمل سلالم ~~ومنجنيقات. # وكان ضرغام يلح على الخليفة أن يأذن للجند بالهجوم يريد سرعة الوصول إلى جهان والخليفة ~~ضنين به. فلم يأذن له ولكنه أمر بالحرب، فكان أول من هجم أشناس بأصحابه. وكان المحل ضيقا ~~فلم يمكنهم من الحرب فيه، فأمدهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور فجمع بعضها إلى بعض ~~فوق الثلمة. وفي اليوم الثاني أمر المعتصم أن يهجم الأفشين وأصحابه وأجادوا الحرب. وفي ~~اليوم الثالث هجم هو ورجاله وفيهم المغاربة والأتراك وهجم ضرغام وعمل أعمالا تعجز عنها ~~الأبطال ووردان إلى جانبه وكان قد علم بأمر حماد. وجعل ضرغام وجهته قصر البطريق. # وظلت الوقعة إلى الليل واحتدم سعيرها. وكان البطارقة قد اقتسموا أبراج السور فاختصموا ~~وجاء بعضهم في الصباح وألقوا سلاحهم نكاية في الآخرين وساروا أمامهم إلى المدينة، ففشل ~~الروم ودخلها المسلمون دخول الفاتحين وأمعنوا فيها نهبا وقتلا وسلبا. ~~••• # قصد ضرغام إلى قصر البطريق يطلب حبيبته ومعه وردان وحماد، ولم يصل إلى القصر إلا بعد ms167 ~~التعب المضني لشدة ازدحام الأسواق بمن دخلها من المسلمين للنهب والسلب والسبي، ولما دخلوا ~~القصر وجدوا أبوابه مفتحة ولم يبق فيه شيء من المال أو النساء، فطافوا غرفه يبحثون فيها ~~فلم يقفوا لجهان ولا هيلانة على أثر، فارتاب ضرغام في قول حماد وأدرك هذا ارتيابه فأقسم له ~~على صدق قوله وقال: «يلوح لي أن بعض الجند دخلوا القصر ونهبوه وأخذوا أهله.» # فوقف ضرغام ووردان وقد سقط في أيديهما فقال وردان: «نبحث عنهما بين السبايا بعد انتهاء ~~المعركة.» # أمر الخليفة بعد أن تم النصر للمسلمين بوقف القتال وجمع الغنائم في ساحة المدينة ~~لتباع، فأخذ الناس يتزايدون فلا ينادى على السبي الواحد أكثر من ثلاثة أصوات التماسا ~~للسرعة فكانوا يبيعون الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة لكثرته، والمعتصم يستعجلهم، وأمر بهدم ~~المدينة فهدموها وأحرقوها. # أما وردان فإنه طاف بين السبايا أثناء البيع فلم يقف لامرأته ولا لجهان على خبر، فانقبضت ~~نفسه وعزم على الرجوع إلى ضرغام لينظرا في الأمر. فمر في طريقه على معسكر الأفشين فرأى ~~فرس جهان الأدهم في جملة الغنائم وتحقق ذلك لما رأى سامان واقفا إلى جانبه فتميز غيظا ~~لكرهه سامان وأمسك عن الفتك به إكراما لضرغام لعلمه أنه لا يريد ذلك. ثم أسرع إلى ضرغام ~~وأخبره بما رأى فجاء ضرغام فرأى أدهم جهان وكان سامان قد ذهب. وما كاد ضرغام ينظر إلى وجه ~~الأدهم ويرى صورة الأسد في جبهته حتى ثبت لديه أنه جواد جهان وغلب على اعتقاده أن جهان ~~وهيلانة في جملة السبي الذي أخذه الأفشين، وهم بأن يدخل عليه لساعته ليطلب منه جهان ~~وهيلانة ثم تراجع خوفا من إفساد نظام الجند وهو حريص على جمع كلمته، واعتزم أن يوسط ~~الخليفة لإنقاذ جهان وهيلانة من يد الأفشين. # وسأل عن الخليفة فعلم أنه في دار العامة وقد تقاطر القواد والخاصة لتهنئته بالنصر، فمكث ~~حتى خلا المجلس من الناس ومضى معظم النهار فاستأذن فأذن له، فرحب به الخليفة وأدناه منه ~~وهش له متلطفا، فدعا ضرغام له وهنأه. ولحظ الخليفة انقباضا ms168 في وجهه فقال: «كأني أرى ~~الصاحب مغضبا؟» # قال: «لا يغضب العبد بين يدي مولاه ولكنني قلق.» # قال: «وما الذي أقلقك يا صاحبي؟» قال: «أقلقني أن الأفشين تعدى علي.» # قال: «بماذا؟ وعهدي بك حكيم لا تدع مجالا لاختلاف.» # قال: «ليس الخلاف على منصب أو مغنم ولكن ساقت الأقدار فتاة خطبتها إلى عمورية، فوقعت سبية ~~في يد الأفشين وهو يعلم أمرها فأخذها لنفسه.» # فاستغرب المعتصم كيف يكون له خطيبة في عمورية فقال: «زدني إيضاحا.» # قال: «يذكر مولاي، زاده الله نصرا، أنه أكرمني في سامرا بياقوتة وأمرني أن أتزوجها ~~فخالفت أمره ولم أفعل، كما ذكرت له بالأمس، ولم يسألني أمير المؤمنين ساعتئذ عن السبب، وهو ~~أني كنت علقت بفتاة أخرى من فرغانة خطبتها وتعاهدنا على الزواج يوم ندبتني للذهاب إلى ~~فرغانة لجلب الجواري. وتوفي أبوها أثناء ذلك وأتاني أمر الخليفة أن أرجع فرجعت إلى سامرا ~~وأجلت الزواج. وحدثت بعد ذلك أحداث يطول شرحها آلت إلى خطف الفتاة حتى وصلت إلى عمورية. ~~وكانت سجينة في قصر ناطس بطريقها. # فلما فتحنا المدينة طلبتها في القصر فلم أجدها. وبعد البحث علمت أنها عند الأفشين، ~~وحدثتني نفسي أن أدخل عليه وأطالبه بها فخفت أن نختصم وتتفرق كلمة الجند ونحن أحوج إلى ~~الاتحاد. فرجعت إلى مولاي أعرض عليه أمري ليرى رأيه.» # فأطرق المعتصم لحظة ثم قال: «هذا أمر يسير، فلا أظن الأفشين يمسك عليك خطيبتك، والسبايا ~~كثيرات وقد بيعت الواحدة بدراهم معدودة.» وصفق فجاء أحد الغلمان فأمره أن يستقدم ~~الأفشين. # وبعد قليل جاء الأفشين فدخل وسلم فلما رأى ضرغاما هناك أدرك سبب الدعوة ولكنه تجاهل ~~وسكت، فقال له الخليفة: «دعوتك لأمر يهم الصاحب وأنت تعلم منزلته عندي.» # فابتسم الأفشين وقال: «إن الصاحب عزيز علي وهو لا يجهل ذلك.» قال المعتصم: «إن بين ~~السبايا اللائي وقعن في حوزتك فتاة يريدها منك.» # قال: «السبايا كثيرات وقد ابتعن بأثمان بخسة، وعندي منهم عشرات فإذا طلب خمسا أعطيته ~~عشرا.» # فأدرك ضرغام تمويهه فقال: «أعني سبية معينة أنت تعرفها.» # قال: «أيهن؟» قال: «أعني ms169 جهان بنت المرزبان.» # فأظهر دهشته وقال: «وهل هي بين السبايا؟» # قال: «أظنها بينهن ومعها امرأة رومية اسمها هيلانة.» # فالتفت إلى الخليفة وقال: «إذا كانت جهان بين السبايا فإني أسأل أمير المؤمنين أن يعفيني ~~من إعطائها.» # فقال المعتصم: «الصاحب يقول إنها خطيبته وهو صادق.» # قال: «نعم، ولكن هذه الفتاة بمنزلة ابنتي، وقد أقامني أبوها وصيا عليها، ولا أظن الصاحب ~~ينكر ذلك.» # فنظر المعتصم إلى ضرغام فرآه قد امتقع لونه وبان الغضب في وجهه. ولما شعر ضرغام بأن ~~الخليفة ينظر إليه أمسك نفسه عن الغضب وقال: «سمعت بالوصية ولكن خطبتنا حدثت قبل ~~كتابها.» # قال الأفشين: «لو صح ذلك لذكرها صاحب الوصية في وصيته وهو لم يفعل فأنا أعد الفتاة غير ~~مخطوبة ولا يجوز أن تخطبها إلا بأمري تنفيذا لوصية أبيها.» قال ذلك والتفت إلى المعتصم ~~كأنه يستشيره فاحتار الخليفة؛ لأنه يحب أن ينال ضرغام طلبه ولا يحب أن يرى شقاقا في جيشه ~~فقال: «هب أن أبا الفتاة لم يعلم بالخطبة أو لم يعترف بها وأنت ولي أمر الفتاة الآن فنحن ~~نخطبها منك.» # فأفحم الأفشين ووقع في مأزق بين أن يغضب الخليفة وبين ذهاب جهان من يده، فأطرق لحظة ثم ~~قال: «إن أمر مولاي نافذ لا مرد له. وليكن بعد رجوعنا إلى سامرا إن شاء الله.» # فالتفت المعتصم إلى ضرغام ولسان حاله يقول: «هذا هو الرأي الصواب.» # فعلم ضرغام أن الأفشين يماطل. وأنه ينوي ما يقول فقال محتدا: «إذا كان الأفشين قبل ~~طلب أمير المؤمنين فليعقد الخطبة هنا.» # فابتسم الأفشين وأذعن وقال: «إذا أمر أمير المؤمنين فلا اعتراض. ولكني لا أدري أين ~~السبايا الآن وأظنهن حملن إلى سامرا.» ففرح ضرغام لاعتقاده بأن جهان في المعسكر بعد أن رأى ~~جوادها فيه. فقال: «إذا لم تكن الفتاة هنا أجلنا الخطبة إلى يوم عقدها في سامرا، فليأمر ~~أمير المؤمنين بأن يأتوا بها إليه.» # فنادى الغلام وأمره أن يذهب إلى معسكر الأفشين ويأتي بالفتاة السبية جهان. فاستمهله ~~ضرغام وقال: «إن اسمها جلنار فهي معروفة بذلك في هذه ms170 الديار.» # خرج الغلام ومكث ضرغام كأنه على نار وقد هاجت شجونه وخفق قلبه تطلعا لرؤية حبيبته بعد ~~الفراق الطويل، وتخيل كم تكون دهشتها لما يقع نظرها عليه بغتة وهي تحسبه في عالم الأموات. ~~وقضى في ذلك دقائق حسبها ساعات حتى عاد الرسول وقال: «إن السبايا أرسلن إلى سامرا هذا ~~الصباح.» # فوقع الخبر وقوع الصاعقة على رأس ضرغام، فسكت وقد عزم في سره أن يكلف وردان بتدقيق ~~البحث عن جهان فإذا كانت لا تزال في المعسكر أخذها عنوة. # فلما أذن المعتصم لهما بالانصراف، ذهب توا إلى فسطاطه ليرى وردان فلم يجده فسأل العبيد ~~عنه فقالوا إنهم لم يروه منذ الصباح ولا يعرفون مكانه. فخرج للبحث عنه في فسطاطه فلم يجده ~~ولم يجد حمادا، وكان يتوقع أن يراهما معا، فقلق وهو في أشد الحاجة إلى وردان. فخرج بنفسه ~~لتفقد جواد جهان حيثما كان في الصباح فلم يجده فأيقن أن الأفشين صدق وأنه لا يجرؤ على الكذب ~~على الخليفة، فرجع إلى فسطاطه وكظم ما في نفسه. # الفصل الحادي والعشرون # | محاكمة الأفشين # كان الأفشين قد أمر بإخراج السبايا من المعسكر في صباح ذلك اليوم، وقد حسن له ذلك ~~سامان، وهو الذي دله على مقر جهان في قصر البطريق وأشار عليه بسبيها، وكان يتتبع خطاها ~~منذ كان في البذ فعرف بخروجها إلى بلاد الروم ونزولها عمورية، وكان يفعل ذلك طمعا بما وعده ~~به الأفشين من أمر الوصية. فلما فتحت عمورية ذهب إلى أخته وأظهر لها أنه جاء لنجدتها وأن ~~الأفشين جرد هذه الحملة لإنقاذها وأخذ يحسن لها الرضاء به وهي لا تجيبه فحملها رجال ~~الأفشين إلى معسكره على فرسها قبل وصول ضرغام إلى القصر ومعها هيلانة، وكانت تعزية كبيرة ~~لها وقد تحابتا وتآلفتا وكل منهما تحسب نفسها شريدة لا نصير لها. فلما صارتا في معسكر ~~الأفشين شق على جهان أسرها وحدثتها نفسها أن تطلب مقابلة المعتصم وتستجير به من ~~الأفشين، فأتاها أخوها وحبب إليها السكوت، وذكر لها أنه سيأخذها إلى سامرا فتكون هناك كما ~~تشاء ms171. فلما ذكر سامرا تذكرت ضرغاما وفي نفسها بقية أمل بوجوده أو معرفة حقيقة حاله من أمه ~~إذا كانت لا تزال على قيد الحياة، فوافقته واشترطت أن تكون هيلانة معها فقبل. وكان غرض ~~سامان أن يفر بجهان قبل أن يعلم بها ضرغام، فلما رأى وردان في الصباح يبحث عنها أسرع إلى ~~الأفشين وأشار عليه بأن يسرع بإرسالهما رأسا إلى أشروسنة للاحتفاظ بهما هناك ففعل، ثم أسرع ~~سامان وأعد الأحمال وحامية تحرسهم في الطريق ورحل خلسة. ولما جاء رسول الخليفة بطلب جهان ~~كان قد مضى على خروجهم بضع ساعات وهم على ظهور الخيل. # أما ضرغام فأصبح لا يدري ما يفعل وقد أدهشه غياب وردان وحماد، وخاف أن يكونا قد أصيبا ~~بسوء، وظن أن الأفشين أوقعهما في تهلكة. # وبقي الجند في عمورية عدة أيام قضوا بعضها في بيع الغنائم والأسرى، وكانت كثيرة، ربح تجار ~~اليهود منها ربحا جزيلا. وقضوا أياما بعد ذلك في هدم المدينة وإحراقها، وقتلوا من أهلها ~~جمعا كبيرا وسلم ناطس نفسه. # فلما فرغوا من ذلك أمر المعتصم بالرجوع إلى سامرا، وضرغام في قلق لا مزيد عليه، ورجع مع ~~الراجعين وهو يرجو أن يرى طلبته في سامرا. واتفق له أثناء الرجوع أنه رأى في عرض الأفق ~~فرسانا لم يقع نظره على خيولهم حتى اختلج قلبه؛ لأنه رأى بينها جوادا عرف أنه جواد وردان، ~~فهمز جواده لملاقاة الركب ولما اقترب منهم عرف اثنين هما وردان وحماد فصاح: «وردان؟» # فقال: «لبيك يا مولاي.» وفي صوته رنة السرور والظفر. # فقال: «أين كنتما فقد قلقت عليكما؟» # قال وردان: «كنا في سامرا.» قال: «لماذا؟» # قال وهو يضحك: «أوصلنا العروسين إليها ورجعنا.» قال ضرغام «أي عروسين؟» # قال: «جهان وهيلانة.» # قال: «كيف ذلك؟! قل، قل حالا.» # قال: «رأيتك تصانع الأفشين ولا تخاطبه إلا على يد الخليفة، ورأيته يخادعك ويبغي الفرار ~~بهما إلى حيث لا تعلم. والعمر لا يتسع للتفتيش عليهما مرة ثانية. فخطر لي أن أعمد إلى القوة ~~على غير علمك لئلا تشير علي بأن أتجنب أسباب الشقاق ms172. وكنت قد علمت أن الأفشين يحاول ~~الفرار بهما وقد أمر سامان بذلك، فاتفقت مع حماد على أن نأخذهما بالقوة ونأخذه معهما، وقد ~~فعلنا وأصلنا العروسين إلى بيت الصاحب في سامرا، وزججنا سامان في السجن حتى نعود.» # ففرح ضرغام في قلبه ولكنه قال: «ألم يكن الأولى أن نبقي على عهد الأفشين، فقد وعدني بين ~~يدي الخليفة أن يعقد لي على جهان حالما نرجع إلى سامرا.» # قال: «وهل صدقت أنه ينوي إرسالها إلى سامرا؟» # فالتفت إلى حماد وقال: «وأنت أيها الصديق أرجو أن تكون قد سعدت برؤية ياقوتة، ولكن لماذا ~~رجعت؟» # قال: «رجعت لأكون في معيتك وأتم خدمتي لك.» # وكانت الحملة سائرة فرقا وضرغام في فرقة المعتصم ليكون قريبا منه. ولما أمسى المساء ~~حطت الأحمال ونزل الناس للراحة والرقاد. # وقص وردان على ضرغام حديث مكايد جديدة يكيدها القوم للمعتصم من قبيل ما كان أطلعه عليه ~~وأن حياة الخليفة في خطر ولا بد من إبلاغ الخليفة الأمر. # فقال حماد: «أنا أنقل الخبر إلى الخليفة وإنما أطلب من ضرغام أن يدخلني عليه في ~~خلوة.» # قال: «قم بنا الآن.» وكان الوقت عشاء، فلما وصلا إلى فسطاط الخليفة استأذن ضرغام في خلوة ~~فأذن له، فدخل ومعه حماد فقال الخليفة: «ما وراءك يا صاحب؟» # قال: «عند صديقي حماد عبد أمير المؤمنين مخبآت مهمة. إذا أذن له كشفها.» # قال: «قل واحذر الانحراف عن الصواب.» # فقص عليه تواطؤ القواد على قتلة ومبايعة العباس، وسمى المتآمرين، وفيهم الشاه ~~ابن إسماعيل الخراساني، والحارث السمرقندي، وعجيف بن عبسه، وغيرهم، فاهتم المعتصم بالأمر ~~واستقدم المتهمين واستجوبهم فاعترفوا، فقتلهم على أساليب مختلفة لا محل لذكرها. واحتفظ ~~بالعباس حتى وصلوا إلى سامرا فساء اللعين وأخذ أولاد المأمون فحبسهم في داره حتى ماتوا، ~~وعد المعتصم هذه الخدمة جميلا لضرغام وحماد معا وأنعم عليهما. # أما الأفشين فبلغه من بعض رجاله ما صنعه وردان وحماد. فصبر حتى وصل سامرا فيشكوهما ويشكو ~~ضرغاما إلى الخليفة. # ولما دنت الحملة من سامرا أخذ قلب ضرغام في الخفقان لعلمه أنه سيلقى جهان ms173 بعد طول ~~فراق. ~~••• # كانت جهان بعد أن خطفها وردان وحماد قد عادت إليها آمالها. وكانت لما رأتهما هاجمين بمن ~~معهما من الرجال لاختطافهما قد استعاذت بالله من توالي الإحن عليها وأرادت الدفاع، ثم سمعت ~~صوت وردان وسمعته أيضا هيلانة زوجته فانحازتا إليه، ولا تسل عن حال هيلانة لما سمعت صوت ~~زوجها وهي تحسبه بين الأموات؛ فترامت عليه وتبادلا آيات الشوق والحب. فأمر الذين معه بالقبض ~~على سامان قبل أن يفر، فقبضوا عليه وشدوا وثاقه، وتقدم وردان إلى جهان فلما رأته قالت: ~~«وردان؟» قال: «نعم يا سيدتي أبشري بالسلامة واللقاء.» # فصاحت: «اللقاء ... ضرغام ... ضرغام ... أين هو؟!» # قال: «في سلامة وخير، وسيأتي بعد أيام قليلة. وأنا ذاهب بك إلى منزله في سامرا تمكثين مع ~~أمه حتى يصل.» # فظنت نفسها في حلم وتفرست ثانية في وردان وقالت: «وردان. أضرغام حي؟» وتذكرت أن سامان ~~أول من أنبأها بموته فالتفتت إليه وقد شد وثاقه إلى ظهر الفرس فرأته ينظر إليها بذلة ~~واستعطاف إذ سمع ما دار بينها وبين وردان، فحولت وجهها عنه ورأت صديقتها هيلانة ملتصقة ~~بوردان يكادان أن يطيرا فرحا فقالت لها: «هل تعرفين وردان قبل الآن؟» # فقالت هيلانة: «هذا زوجي يا مولاتي!» # قالت: «زوجك البطريق الذي قصصت علي خبره؟!» # قالت: «نعم، هو هو ... الحمد لله على لقائه، ولك الهناء ببلوغك مقر خطيبك.» # وسألت جهان: «أين ضرغام؟» فقال وردان: «إنه في عمورية وإنهم سينتظرونه في سامرا.» ومشوا ~~نحو سامرا وكل فرح بما لديه. وقضوا مسافة الطريق يتحدثون بما مر بهم من الغرائب. وقص ~~وردان على جهان ما حظي به ضرغام عند المعتصم وكيف سماه الصاحب وأسباب ذلك، وأخبرها خبر ~~حماد وخطيبته ياقوتة وما بينهما من الشبه العجيب. # ولما وصلوا إلى سامرا بعث وردان بسامان إلى صاحب السجن، وقال له: «إن الصاحب يأمر بسجن ~~هذا الجاسوس.» وبعث كذلك إلى آفتاب ينبئها بقدوم جهان فكان لالتقائهما دهشة يندر مثلها، ~~وآفتاب لا تمل لمس جهان وضمها وتقبيلها. أما ياقوتة فكان فرحها بحماد عظيما، وكانت عالمة ~~ببقائه حيا ms174 ولكنها دهشت لما رأت جهان فظنت أنها ترى نفسها بمرآة لشدة المشابهة بينهما ~~ولم تكن جهان أقل اندهاشا منها. فلما أتم وردان مهمته عزم على الرجوع إلى عمورية فرجع ~~حماد معه. # ومكث أهل الجوسق على مثل الجمر في انتظار ضرغام. # وبعد بضعة عشر يوما جاءت البشائر برجوع المعتصم وجنده ظافرا، فزينت سامرا واصطفت ~~المواكب والجنود ورفعت الأعلام وضربت الطبول وضجت المدينة فرحا، وخرج النساء والرجال ~~للفرجة، واشتغل الناس بهذا الاحتفال عن كل شيء. # أما جهان فإنها لم تكن تسمع صوتا ولا ترى شبحا وإنما كانت عيناها شائعتين نحو باب ~~الجوسق لعلها تشاهد ضرغاما داخلا في موكب الخليفة فلما دخل الخليفة لم تر أحدا. # وفيما هي في لهفتها سمعت سعالا في الدار فارتعدت فرائصها؛ لأنه كان سعال ضرغام، فأرادت ~~أن تجري للقائه فلم تسعفها قدماه واحمر وجهها ثم علاه الاصفرار ولكنها تجلدت وتمالكت ~~واستعادت رباطة جأشها ومشت. وكان ضرغام قد دخل الغرفة فرأى جهان تمشي مشية الجلال والوقار ~~وعيناها تتكلمان كأنهما خطيب على منبر يدعو الناس إلى التعبد أو إلى التفاني في الحب. ~~فانحنى مسلما وبوده أن يكون سلامه معانقة لولا العادة التي تحول دونه. ثم وقف ومد يده ~~إليها فمدت يدها وابتسما ابتسامة أغنت عن حديث طويل ثم قال: «مرحبا بعروس فرغانة. لقد ~~أطلت علينا الغياب وطال بنا الطريق، مع أن طريق المحبين قصير على ما يقولون!» # فضحكت وقالت: «طال الطريق لوعورته وكثرة عقباته. ولكن ماء السكر كلما زدته غليانا زادك ~~حلاوة.» # قال: «لكني خشيت أن يجف ماؤه فيحترق.» # قالت: «أوشك أن يحترق لو لم أرطبه بدموعي!» قال ذلك وأبرقت عيناها وتلألأت فيهما دمعتان ~~ونظرت إليه نظرة وقعت كالسهم في قلبه فقال لها وقد أخذ الهيام منه مأخذا عظيما: «أبمثل ~~هذه الدموع كنت تنفين الاحتراق؟» # قالت: «نعم، ولكن شتان بين دموع الفرح، وأشكر الله على كل حال.» # وكانت يدها لا تزال في يده، فضغط عليها وقادها إلى مقعدها هناك وهو يحدق في عينيها ويقول: ~~«أراك تشكرين الله وعهدي بك تشكرين ms175 أورمزد، فمتى حدث التغيير؟» # فقالت وهي تمشي معه حتى جلسا متحاذيين وقد نسيا الوجود: «حدث يوم تبدلت حالي وشغل فؤادي ~~فأصبحت لا أملك شعوري ولا أرى هذا الوجود إلا كما يشاء ضرغام. ولا آسف إلا على زمن غلب فيه ~~اليأس على قلبي، يوم بعثت أخي سامان وغيره للبحث عن ضرغام في سامرا فعادوا وقالوا: «غير ~~موجود»، وزاد بعضهم أنه ليس على الأرض. تبا لتلك الساعة كم أحدثت وكم غيرت. ولكني نسيت ~~كل ذلك الآن، لا أعلم إلا أني أسعد اليوم مما كنت بقربك في فرغانة. كنت يومئذ سعيدة عن جهل ~~لأني لم أجرب الشقاء، وكنت أتلذذ بقربك مندفعة بتيار الحب وأنا لا أعرف اللقاء، وأما اليوم ~~فقد عرفت أن السعادة يزيد مقدارها كلما زاد الشقاء في سبيل الحصول عليها. لو عرفت ذلك يوم ~~اجتماعنا في فرغانة لفضلت أن أجاهد في سبيل حبك قبل الوصول إلى قربك.» قالت ذلك وقد غلب ~~عليها الهيام ونسيت رباطة جأشها وكبر نفسها وهو ينظر إليها شغل بمعاني وجهها وسحر عينيها عن ~~تفهم كلامها، ففرغت من حديثها وهو لا يزال يرنو إليها كأنها لا تزال تخاطبه. # ثم انتبه لنفسه وخجل من سهوه ونسي ما كانا فيه فقال: «كم أحب أن أسمع ما قاسيته أثناء هذه ~~الغيبة وقد سمعت بعضه ولكني ألتذ أن أسمعه من فيك. ولا ريب عندي أنك تحبين الاطلاع على خبري ~~والحديثان طويلان سنتبادلهما في فرصة أخرى. ولو بقيت بجانبك الدهر كله لا أرتوي من النظر ~~إليك يا جنتي وحياتي، وصدقت، إن الحب تزداد لذته كلما زاد التعب في سبيله، ولم أكن أحسب ~~حبنا يقبل الزيادة وحاشا أن يقبلها، ولكنه يزداد بالتعب حلاوة وصفاء.» # فوقفت وهي تقول: «صدقت، إن تلذذنا باللقاء لا نهاية له، فينبغي أن ننظر إلى الآخرين. هل ~~رأيت أمك؟» قال: «لم أرها بعد.» # قالت: «هنيئا لك هذه الأم الحنون، وكم هي في شوق إلى لمسك وشمك.» # وخرجت معه إلى الدار وفيها أمه فشعرت بها، فقبل ضرغام يدها وهمت هي به ضما ms176 ~~وتقبيلا. وكانت ياقوتة واقفة هناك فقالت جهان لضرغام: «ألم تكن تستأنس برؤية ياقوتة أثناء ~~غيابي؟» # قال: «ربما استأنست حينا وغصصت بريقي أحيانا، وإن هذا الشبه بينكما دلني عليك، وسأقص ~~عليك خبره.» # قضوا في أمثال هذه الأحاديث ساعات. وأعد الطعام فجلسوا إليه فقالت آفتاب لابنها: «قد ~~آن يا ضرغام أن تعقد قرانك.» # فقالت: «صدقت يا أماه، غدا إن شاء الله.» # وفيما هم في ذلك جاء أحد غلمان القصر يدعو ضرغاما إلى مقابلة الخليفة، فلبس قلنسوته ~~وسواده وخرج، فلما دنا من دار العامة رأى بالباب جماعة من الغلمان الأشروسنية فعلم أن ~~الأفشين هناك، ثم دخل فرأى الخليفة جالسا على سريره في صدر الإيوان والأفشين على كرسي بين ~~يديه، ورأى وردان وحمادا واقفين بجانب القاعة. فسلم، فأشار إليه المعتصم بأن يجلس فتباطأ ~~وقال: «يأذن لي أمير المؤمنين بكلمة قبل أن أجلس؟» قال: «قل.» # قال وهو يشير إلى وردان: «أقدم لأمير المؤمنين البطريق وردان أحد كبار بطارقة أرمينيا، ~~وقد أبلى في جيشنا بلاء حسنا في البذ وعمورية.» # فاستغرب المعتصم والأفشين كلامه وقال الخليفة: «أليس هذا خادمك وردان؟» # قال: «كنت أظنه خادما وأنا لا أعرف أصله، فلما بلوته عرفت فيه الرجل الكريم، وقد كانت له ~~عندي أياد بيضاء عادت بالنفع على جند المسلمين، فإذا أمر أمير المؤمنين بجلوسه فعل وهو ~~صاحب الأمر.» # فقال: «ولكنه في مجلس القضاء وقد دعوتك لتؤدي الشهادة.» # قال: «أفعل ذلك طوعا لأمير المؤمنين.» وجلس وأصغى. # فقال المعتصم: «يقول قائد جندنا الأفشين إن وردان وحمادا اعتديا على رجاله واختطفا منهم ~~امرأتين من سبيه بعد أن كنا قد أرجأنا النظر في ذلك حتى رجوعنا إلى سامرا.» # قال ضرغام: «نعم فعلا يا أمير المؤمنين، وإذا رأى مولاي في هذا ذنبا فأنا صاحبه؛ لأنهما ~~فعلاه لأجلي وعلي تبعته، ومهما يكن من أمر فإن حماد هذا (وأشار إليه) قد شمله عفو أمير ~~المؤمنين وقد جاء سامرا لينال ما وعده به مولانا فلا يؤخذ بجريرة سواه.» # فحك المعتصم جبينه كأنه يسترجع إلى ذهنه شيئا نسيه وقال: «صدقت ms177، إن حمادا ذو فضل ~~وسابقة وسنوليه ما هو أهل له فيخرج الآن إذا شاء.» # فسلم حماد وخرج، وبقي وردان وضرغام والأفشين، فقال الخليفة: «إنك قلت عن وردان ما هو ~~أهله، ولكنه خالف أمرا أصدرناه بشأن السبيتين، فقد قلنا ونحن في عمورية أن يترك أمرهما ~~حتى رجوعنا إلى سامرا، فكان ينبغي أن يراعي هذا الأمر. فليؤت بالسبيتين الآن إلى ~~هنا.» # فقال ضرغام: «إن السبيتين هما خطيبتي وزوجته (وأشار إلى وردان). أما خطيبتي فقد سبق أمر ~~الخليفة أن تكون زوجتي وهي في منزلي، وأما امرأة البطريق فهي عندي أيضا ولا أظن الأفشين ~~يهمه أمرهما.» # فقال الأفشين وقد بدا الغضب في عينيه: «يهمني أولا أن يراعى أمر أمير المؤمنين في ~~الاثنتين. وأما جهان التي تقول إنها خطيبتك فلها شأن خاص؛ لأني ولي أمرها بوصية ~~أبيها.» # فعند ذلك تقدم وردان واستأذن في الكلام. ووجه خطابه إلى الخليفة وقال: «هل ثبت لأمير ~~المؤمنين أنه وصي؟» # فانتبه المعتصم لهذا الاعتراض والتفت إلى الأفشين وقال: «أين كتاب الوصية؟» # فقال الأفشين: «هو عندي، وهل أنا كاذب؟» # فقال المعتصم: «الشرع يقضي بالاطلاع عليه قبل إصدار الحكم، وهل يهمك كتمانه؟» # فظهرت الحيرة في وجه الأفشين فعمد إلى المغالطة، وتغاضب وقال: «إذا كان الأفشين الملك ~~والقائد يكذب في مثل هذا ويصدق العلج فعلى الدنيا السلام!» # فقال وردان «إني لا أنكر وصايته، ولكنني أرى أن يطلع عليها أمير المؤمنين على نصها ليعرف ~~من هو صاحب أشروسنة.» # فاستشاط الأفشين غضبا وكأنه نسي موقفه فقال: «إن الأفشين قائد جند المسلمين لا يخاطب ~~بمثل هذا الكلام في حضرة أمير المؤمنين، وهب أن الوصية ضاعت أو سرقت أو احترقت فهل يؤخذ ~~ضياعها حجة علي فأعد كاذبا؟! والرجل يقول إنه لا ينكر الوصاية فما الفائدة من ~~نصها؟» # فقال وردان: «لا تغضب أيها القائد، إننا في موقف القضاء بحضرة أمير المؤمنين، والقضاء ~~يطلب إليك أن تتلو نص الوصية.» # فازداد الأفشين غيظا وقال: «قد ضاعت الوصية ولا أذكر نصها.» # قال وردان: «أنا أذكره، هل أتلو بعضها على مسامع أمير ms178 المؤمنين؟» # قال المعتصم: «اتل ما شئت.» # فقال: «يكفي أمير المؤمنين أن الوصية مصدرة باسم أورمزد معبود المجوس من دون الله، تعالى، ~~وقد شهد فيها الموبذ كاهن المجوس بدل القاضي الشرعي، أليس كذلك يا قائد جند ~~المسلمين؟» # فهاج غضب الأفشين وأدرك أن الرجل ينوي إذلاله وفضح أمره، وقدم على ما فرط من تعنته ولكنه ~~تجلد وقال: «وأين هو وجه الطعن فيها؟ إن الموصي مجوسي فكتبها على ما يقتضيه دينه وعادات ~~بلاده. كأنك تريد بذلك اتهامي بالمجوسية. إنها لوقاحة كبرى!» # فوجه وردان كلامه إلى المعتصم وقال: «هل يأذن أمير المؤمنين أن أقول ما أعرفه؟» # قال: «إنك في موقف الدفاع عن نفسه، قل ما بدا لك.» # فقال للأفشين: «لا أتهمك بالمجوسية اتهاما. ولكنني أقول إنك مجوسي تسجد لأورمزد حتى ~~الآن. وأقول فوق ذلك إنك تتظاهر بالدفاع عن الإسلام وأنت إنما تفعل ذلك طمعا في المال. ولو ~~استطعت سحق دولة المسلمين لسحقتها، وهذا بيت النار في فرغانة شاهد على ذلك.» # فلما قال وردان ذلك رأى الخليفة التهمة أوسع من أن يقضي فيها في تلك الجلسة فأحب إرجاء ~~نظرها فقال: «إن هذه التهمة خارجة عن موضوع هذا المجلس فإنما نبحث الآن في اختطاف ~~السبيتين.» # فقال ضرغام: «قلت لأمير المؤمنين إن الذنب في ذلك ذنبي أنا؛ لأن إحداهما خطيبتي وهي في ~~منزلى الآن.» # فقطع الخليفة كلامه وقال: «نحن لا نعترض على زواجك بها وإنما نؤاخذ وردان على ~~اختطافها.» # فقال وردان: «إنما اختطفتها لعلمي أن مولانا الأفشين أمر بإرسالها إلى بلده أشروسنة ~~لتضاف إلى خزائن الأموال التي يرسلها إلى هناك كل سنة من أموال المسلمين ليستعين بها على ~~إسقاط دولتهم عند الحاجة!» # فنظر المعتصم إلى الأفشين فرأى لحيته ترقص في صدره، ولو جس يده لرآها باردة كالثلج ~~ترتعش فقال له: «إن هذه التهم كبيرة. وأراك لا تدفعها.» # فقال الأفشين: «كلها مفتريات كاذبة. وموعدنا غدا فيظهر الحق من الباطل.» # فقال وردان: «لا بأس من التأجيل إلى الغد أو بعده، ولكن من يضمن لمجلس القضاء أن المتهم ~~يبقى في ms179 سامرا إلى الغد؟» # فقال المعتصم: «يبقى هنا في الجوسق.» وأشار على صاحب حرسه أن يأخذ سلاح الأفشين وسواده، ~~ويتولى حراسته. فنهض الأفشين وقد سقط في يده ولكنه ما زال يكابر ويغالط ويمشي مرحا وهو ~~يتوعد ويتهدد. # وبعد خروج الأفشين أشار المعتصم فخرج وردان واستبقى الصاحب، فلما خلا إليه، تنهد وقال: ~~«تبا لهؤلاء المجوس، إنهم يشاركوننا في ملكنا ويخدعوننا في أمرنا. ولكن الله أعاننا على ~~الانتفاع بسيوفهم ورد كيدهم في نحورهم. ماذا رأيت يا صاحب؟» # قال: «إن أمير المؤمنين يعرف ما انطوى عليه هؤلاء القوم، وكم شكا منهم ومن مكرهم ~~السيئ.» # قال: «إن ما أشار إليه صاحبك وردان لم يخف علينا، فإن كتب عاملنا في خراسان كانت تأتينا ~~وفيها الشكوى من كثرة الأموال التي يرسلها الأفشين إلى بلده ونحن صابرون. وقد رفعت إلينا ~~الكتب من كثيرين يتهمونه بالمجوسية وعبادة الأصنام وبالتواطؤ مع المازيار صاحب طبرستان ~~وبابك على حربنا. وقد علم بذلك القاضي أحمد ووزيرنا محمد بن عبد الملك الزيات وغيرهما. وقد ~~بعثنا نستقدم المازيار صاحب طبرستان الذي تواطأ معه على الغدر بنا. والمرزبان أحد ملوك ~~السعد، وموبذا مجوسيا، واثنين من المسلمين كان الأفشين قد عذبهما لأنهما بنيا مسجدا ~~في أشروسنة. وسأعقد مجلسا يحضره هؤلاء نفتضح به ما استتر ونجزي كل فاعل بما فعل. أما أنت ~~فلك عروسك تهنأ بها. ولا بأس على وردان فهو حر، وسنجعله من خاصتنا. وعلى الباغي تدور ~~الدوائر.» فدعا له وخرج. # عقد المعتصم في اليوم التالي مجلسا حضره كل من القاضي أحمد بن دؤاد، والوزير محمد بن ~~عبد الملك الزيات، وغيرهما من الأعيان. ودعا الصاحب ووردان فحضرا. ثم أمر بالأفشين فأخرج ~~من محبسه وجيء به إلى المجلس، وتولى ابن الزيات اتهامه بعد أن أحضر الشهود المشار إليهم. ~~فجيء أولا بالرجلين المضرورين، وكشف عن ظهريهما وهما عاريان من اللحم وقال للأفشين: ~~«أتعرف هذين؟» # قال: «نعم هذا مؤذن وهذا إمام بنيا مسجدا بأشروسنة، فضربت كل واحد منهما ألف سوط؛ ~~لأن بيني وبين ملك السعد عهدا بأن أترك كل قوم ms180 على دينهم . فوثب هذان على بيت نار في ~~أشروسنة كان فيه أصنام فأخرجاها وجعلا مكانها مسجدا فضربتهما.» # قال ابن الزيات: «ما كتاب عندك حليته بالذهب والجوهر وفيه الكفر؟» # قال: «هو كتاب ورثته عن أبي، فيه من آداب العجم وكفرهم، فكنت آخذ الأدب وأترك الكفر، ~~ووجدته محلى فأبقيته، وما أظن هذا يخرج من الإسلام.» # ثم تقدم الموبذ وقال وهو يشير إلى الأفشين: «إن هذا يأكل لحم المخنوقة ويحملني على ~~أكلها ويزعم أنها أرطب من المذبوحة. وقال لي يوما: «قد دخلت لهؤلاء القوم - المسلمين - في ~~كل شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل غير أني إلى هذه الغاية لم أختتن».» ~~فاعترض الأفشين على كلام الموبذ بأنه غير ثقة. فرد ابن الزيات عليه. ثم تقدم ابن الزيات ~~وقال مخاطبا الأفشين: «كيف يكتب أهل بلدك إليه؟» قال: «لا أقول.» # قال: «ألا يكتبون إليك بلغتهم ما معناه إنك إله الآلهة؟» قال: «بلى.» # فقال ابن الزيات: «إن المسلمين لا يطيقون هذا فما أبقيت لفرعون؟» # قال: «هذه كانت عادتهم لأبي وجدي ولي أيضا قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي ~~دونهم فتفسد طاعتهم.» # ثم تقدم المازيار: فقال ابن الزيات للأفشين: «هل كاتبت هذا؟» قال: «لا.» # قال المازيار: «كتب أخوه لأخي باسمه أنه لم ينصر هذا الدين غير بابك، ولكن بابك قتل نفسه، ~~وجهدت أن أصرف عنه الموت فأبى إلا أن أوقعه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي ~~الفرسان وأهل النجدة فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب والمغاربة ~~والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب أطرح له كسرة وأضرب رأسه، والمغاربة أكلة رأس، والأتراك ما ~~هي إلا ساعة حتى تنفذ سهامهم ثم تجول الخيول عليهم فتأتي على آخرهم ويعود الدين إلى ما لم ~~يزل عليه أيام العجم.» # فقال الأفشين: «إنه يدعي أن أخي كتب إلى أخيه. فما ذنبي أنا؟» # فتقدم وردان عند ذلك وقال: «تزعم أن أخاك كتب ولا تبعة عليك، فما قولك فيمن رآك رأي ~~العين في بيت ms181 النار بفرغانة ومعك المازيار هذا ونائب عن بابك. وقد تواطأتم على محق دولة ~~المسلمين وتعهدت أن تجمع المال الكافي لذلك العمل.» # فأعرض الأفشين بوجهه عنه وقال: «هذا خصم يكذب تأييدا لخصومته.» # قال: «وإن أتيتك بالموبذ نفسه الذي شهد على كتاب الوصية وسمعته يقول مثل قولي؟» # فقال المعتصم: «سنرسل في طلبه.» # فقال وردان: «وإذا بعث أمير المؤمنين الآن من يدخل بيت الأفشين في سامرا وجد أحد التماثيل ~~المجوسية.» # فقال ابن الزيات: «قد أتينا بها بالأمس.» وأمر غلاما أحضرها وإذا هي تمثال من خشب عليه ~~حلية كثيرة الجوهر وفي أذنه حجران مشبكان عليها ذهب وأصنام أخرى وكتاب من كتب المجوس وغيره. ~~فارتج على الأفشين وسكت، فأمر المعتصم بإرجاعه إلى الحبس وأن يقطع عنه الطعام والشراب ~~فقطعوهما حتى مات سنة 226ه. # وخلا ضرغام بالمعتصم بعد أيام وقص عليه حقيقة وصاية الأفشين على جهان فأمر بإلغائها ~~ورد المال إلى صاحبته. وبعث إلى فرغانة فأمر بهدم بيت النار كارشان شاه، وأمر أن يكون ~~حماد ووردان من خاصته وأن يقيما في قصرين داخل الجوسق مثل ضرغام، وأمر بعقد كتاب ضرغام على ~~جهان، وأعطاهم عطاءات شتى. # الفصل الثاني والعشرون # | نسب ضرغام # بقي سامان في السجن لا يكترث له أحد إلا وردان، فقد كان يتردد عليه من حين إلى آخر ويسأله ~~عن حاله تهكما وتشفيا. وكان ضرغام في شاغل عنه حتى إذا فرغوا من أمر الأفشين أحب أن ~~يطلق سراح سامان كرما وفضلا فقال وردان: «إذا أطلقته فكأنك سجنتني مكانه، ويهمني أن أسأله ~~عن أشياء وأسمع جوابه عنها؛ لأني رأيت منه أمورا لا تصدر عن البشر.» # فقال: «نسأل جهان عن رأيها في ذلك.» # قال: «افعل.» # فذهب إلى جهان وسألها فقالت: «لا أدري. وليتك لم تسألني عنه؛ لأني أحب أن أنساه.» # قال: «هو في السجن الآن فما الذي تريدين أن نفعل به؟» # فأطرقت حينا ثم قالت: «أحب أن تطلق سراحه. ولكنني في شوق إلى سر لا يزال مكتوما ~~عني. أريد أن أعرف سبب غضب أبي عليه.» # فتذكر سرا آخر ms182 قد طال اشتياقه إلى معرفته وهو حقيقة نسبه، فعزم أن يسأل أمه عنه بعد ~~الفراغ من سر سامان. # وأمر باستقدام سامان من السجن إلى منزله في جلسة كان فيها هو وأمه وجهان وياقوتة وحماد ~~ووردان وهيلانة. # ودخل سامان دخول غريب تنبحه الكلاب، ووقف وقوف مجرم يخاف العقاب، وقد شوهت خلقته ~~كأنما طبعت على صحيفتها نقائصه. وكان رث السربال زاده الهزال ذلا، حتى إذا توسط الدار ~~وقف محني العنق يجول ببصره في الجالسين فلما رأى ياقوتة دهش وأخذته البغتة. فالتفت إلى ~~جهان وأجهش فسبقته إلى البكاء وقد عز عليها أن تراه واقفا هذا الموقف رغم ما ارتكبه معها ~~من السيئات. ولم يبق أحد من الحاضرين إلا رق له، إلا وردان فإنه لم يأخذه به شفقة وكان ~~هو أول المتكلمين فقال: «لا تخف يا سامان لم ندعك لنحاكمك على جريمة من جرائمك فإنها لا ~~تفتقر إلى محاكمة ولا نعرف عقابا يفي بها، ولكنني رأيت في سيرتك ما أدهشني من تقلبك في ~~الإيذاء؛ فبينما أنت ناقم على الأفشين لأنه حرمك من الميراث إذا بك تستعين عليه بالصاحب ثم ~~تستعين على هذا بذاك ثم بذاك على هذا. وأغرب شيء أنك غدرت بأختك هذه وهي كالملائكة خلقا ~~وخلقا وأغريت بها أفسق أهل الأرض وهي مخطوبة وقد وثقت بك واتكلت عليك في الفرار إلى ~~خطيبها. فرضيت أن تؤخذ غدرا وتحمل قسرا على ذاك اللعين زعيم أهل الفحشاء. ولم تكن لتنال ~~على عملك جزاء أفضل مما قد تناله لو جئت بها إلى سامرا. ومع ذلك لم تنل من بابك غير الخزي، ~~وبعد أن كنت نصيره خنته وبحت بأسرار حصونه إلى عدوه، وواطأت الأفشين على أختك وعلى خطيبها. ~~إني عرفت في الناس أشرارا كثيرين يرتكبون أفظع مما ارتكبته في سبيل غرض يعرفونه ويعرفه ~~الناس فما عرفنا لك غرضا.» # وكان سامان يسمع قول وردان وهو يصطنع الإطراق وعيناه لا تتحولان عن ياقوتة وإن كان ذلك لم ~~يظهر عليه لحوله. فلما أتم وردان كلامه أجابه سامان قائلا: «تسألني عن أسباب ms183 لست ~~أعلم بها منك. ارتكبت فظائع لم يعرف الناس عنها إلا طرفا منها، ولو سئلت عن أسبابها، أو ~~عن سبب إحداها، لم أستطع جوابا، وإنما أعرف أني كنت أرتكب الخطأ ثم أبادر إلى إصلاحه بخطأ ~~أفظع منه، فكانت أعمالي سلسلة هفوات والعبرة بالهفوة الأولى.» قال ذلك وتغير وجهه وغص ~~بريقه وتململ فابتدره وردان قائلا: «ما هي تلك الهفوة؟» # فحول بصره إلى ياقوتة وأطال النظر إليها وعيناه ترتعشان، ثم انتقلت الرعشة إلى أطرافه ~~حتى اصطكت ركبتاه وكاد يسقط، فلحظ ضرغام ذلك فقال له: «أجلس يا سامان وتكلم.» وقد ~~استغربوا تغيره وتحديقه في ياقوتة حتى تولاها الخجل وحولت بصرها عنه. فجلس سامان ~~جاثيا وجعل رأسه بين كفيه وأخذ في البكاء بصوت عال يتخلله شهيق كثير حتى كاد يختنق، ~~فأنكر القوم بكاءه لأول وهلة وظنوه يحتال، فصبروا عليه حتى فرغ من بكائه وهم ينظرون بعضهم ~~إلى بعض. وإذا به ينهض بغتة وترامى عند قدمي ياقوتة وأجهش في البكاء فدهش القوم ولا سيما ~~حماد ووثب إليه ليرجعه عن امرأته فلم يطعه فقال له: «ماذا اعتراك يا سامان؟ يسألونك عن ~~جريمتك الأولى فلماذا لا تجيب؟» # فصرخ قائلا وهو يشير إلى ياقوتة: «هنا غلطتي الأولى. هذه هي!» وعاد إلى البكاء، فازداد ~~الحاضرون دهشة وظنوه جن، ولا سيما جهان فقالت: «قل يا سامان فقد حيرتنا. ما خطبك؟ ~~وما لك وياقوتة بك؟» # قال: «هذه هي غلطتي نفسها. وما هي ياقوتة وإنما هي شهرزاد.» # فلما قال ذلك صاحت آفتاب أم ضرغام: «شهرزاد؟! نعم هي شهرزاد.» وكانت جالسة بالقرب منها ~~فضمتها إلى صدرها وقالت: «قد تنسمت ريحك منذ لمستك للمرة الأولى.» ثم صاحت: «جهان حبيبتي ~~ألا تعرفين شهرزاد؟» # فبغتت جهان وأعملت فكرتها وقالت: «لا أعرف فتاة بهذا الاسم إلا أختا لي ماتت طفلة قبل أن ~~أولد.» # فقالت آفتاب: «هذه هي أختك لم تمت بل كانت قد فقدت. وإنما قالوا ذلك تلطفا وتسترا، ولم ~~يكن يعرف هذا السر إلا أنا وأبوك وسامان هذا. وكن ضياعها على يده، فإنه كان قد خرج ms184 بشهرزاد ~~إلى البساتين وهي طفلة لا تكاد تستطيع المشي. فلما عاد سأله أبوك عنها فبكا وزعم أن فرسا ~~من أفراس النخاسين اختطفها منه - لأن في تركستان جماعة يربون الخيل على النخاسة ويعودونها ~~خطف الأطفال بأسنانها فيلتقط الفرس الطفل بأسنانه ويطير به إلى منزل صاحبه - ولم يصدق والدك ~~ما قاله سامان وغضب عليه من ذلك الحين وأشاعوا أنها ماتت!» # وكانت آفتاب تتكلم والجميع سكوت كأن على رءوسهم الطير. فلما فرغت أكبت جهان على ياقوتة ~~وضمتها وطفقت تقبلها وياقوتة أشد فرحا من الجميع؛ لأنها كانت تحسب نفسها جارية فإذا هي ~~بنت المرزبان. فقبلت أختها والدهشة لا تزال سائدة والكل يقولون: «لم تكن هذه المشابهة بين ~~الأختين عن عبث.» وأخذوا يتساءلون وهم يحسبون أنفسهم في حلم فقالت جهان: «يا سامان. قل كيف ~~أخذت شهرزاد منك؟» # فأجابها وهو يمسح دموعه: «انتبهت لوجودي وأنا في نحو العاشرة من العمر، وأختك هذه في نحو ~~الرابعة، ورأيت أبوينا يحبانها كثيرا ويدللانها ويهملانني فدب الحسد في قلبي فصرت أظهر ~~الكره لأختي وهما يزيدانني حسدا بتمييزها عني بالهدايا والنقود. وكنت إذا طلبت نقودا من ~~أبي لم يعطني وأنا أرى النقود مع أختي أو حاضنتها، وسمعت ذات يوم أناسا يطوفون البلاد ~~يشترون الأطفال فغافلت الحاضنة وأخذت شهرزاد إلى البساتين فرأيتهم مارين فبعتها لهم ~~بدينارين وعدت وساروا هم في طريقهم. ولما سئلت عنها قلت إنها خطفت مني فلم يصدق أبي. وعرف ~~بعد ذلك أني بعتها وبعث من يفتش ويبحث بلا فائدة. فكرهني من ذلك الحين وهددني بالحرمان من ~~ماله، فصرت أرى كل الناس أعدائي، وتوهمت أن كل حركة يأتونها إنما يريدون بها نكايتي أو ~~أذيتي، فأصبحت ولا هم لي إلا كسب المال لأستعين به عليهم. وأول سعي بذلته في هذا السبيل ~~أني حاولت منع أبي من كتابة الوصية ففشلت، فأردت إصلاح هذا الفشل فوقعت في فشل آخر. وهكذا ~~كما تعلمون. ولم أدرك هذه الحقيقة إلا وأنا في السجن منذ يومين.» قال ذلك وتنفس الصعداء، ~~ثم عاد إلى إتمام الحديث وقد زاد ms185 وجهه امتقاعا وبدت الرعدة في أطرافه والاضطراب في عينيه ~~وقال: «وقد تأخذكم الشفقة علي بعد ما بسطته لكم، فاعلموا أني لا ألتمس عفوكم؛ لأن من كانت ~~حياته سلسلة فظائع لا يجوز أن تنتهي بغير القتل.» قال ذلك واستل من جيبه خنجرا طعن به ~~صدره فسقط يتخبط بدمه. # فضج الحضور وابتعد النساء عن هذا المنظر. وقد أسفوا على موت سامان بعد أن أيقنوا أنه ~~تاب، فترحموا عليه وأمروا بدفنه وكانت جهان أكثرهم حزنا عليه. # أصبحت روابط القرابة والنسب الجديدة بين جهان وياقوتة حديث الناس، واقتسما ميراث أبيهما، ~~وأصبح حماد وضرغام نسيبين وقد نالا حظوة في عيني المعتصم وتم لهما ما يريدان. على أن ~~ضرغاما بقي في خاطره شيء يحب الاطلاع عليه فخلا إلى أمه يوما وقال لها: «ألم يئن الوقت ~~لكشف حقيقة نسبي؟ ما الذي تنتظرينه بعد الذي رأيته من نعم المولى علي؟!» # قالت: «لا أنتظر شيئا ولكنك مع ذلك لم تنل ما أنت أهل له.» # فقال: «تعنين أن أبي كان أعز جانبا وأرفع مقاما مني؟» # قالت: «نعم.» # قال: «فهو إذن من كبار القواد أو الوزراء، وإذا صح ذلك فلا يعقل أن يكون خبره مكتوما ~~عن الناس.» # قالت: «إنه فوق ما ذكرت.» # فبهت ثم قال: «لم يبق إلا أن يكون من أشراف قريش أو بني هاشم أو بني أبي طالب.» # قالت: «إنه أخص من ذلك كثيرا.» # فأطرق وفكر فيما تعنيه أمه فلم يبق إلا أن يكون أبوه الخليفة وهم بأن يسألها عن ذلك ~~فخجل وأمسك وظل ساكتا وهي تنتظر سؤاله فلما استبطأته قالت: «لماذا لا تتم أسئلتك يا ~~ضرغام؟» # قال: «يخجلني أن أقول ما في خاطري.» # قالت: «لا تخجل أن تسأل إذا كان أبوك خليفة، فإنه كذلك!» # فأجفل وقال: «أبي خليفة؟ كيف يمكن ذلك. إن المعتصم يضارعني سنا فلا يمكن أن يكون هو ~~المراد، وكذلك المأمون والأمين.» # قالت: «إن هؤلاء إخوتك.» # فقال وقد أخذته الدهشة: «فأنا إذن ابن الرشيد؟!» # قالت: «نعم يا بني، وهذه أول مرة نطقت بهذه الحقيقة بعد مرور ms186 الأعوام الطويلة.» # قال : «أليس في الدنيا أحد سواك يعرفها؟» # قالت: «كلا.» # قال: «وما معنى كتمانها كل هذا الزمن والناس يفاخرون بالانتماء إلى أتباع الخلفاء فكيف ~~بالخلفاء أنفسهم؟!» # قالت: «لذلك سبب معقول هو أني كنت من جواري الرشيد في قصره ببغداد وكان يحبني، حتى كانت ~~الليلة التي فتك فيها بأخته العباسة وبجعفر البرمكي وابنيهما الحسن والحسين. وقد بالغ في ~~التكتم حتى قتل كل من استخدمه لذلك الغرض، فلم يكن أحد من أهل القصر يجسر على الخروج من ~~حجرته مع أنهم مطلعون على كل شيء من بعيد، إلا أنا فقد حدثتني نفسي لصغر سني يومئذ أن أخرج ~~لأرى وأسمع، فوقفت موقفا ظننت نفسي مختبئة فيه لا يراني أحد، فسمعت حديث الرشيد، رحمه ~~الله، مع زوجته زبيدة بشأن أخته وأشياء أخرى. وفيما أنا في ذلك رأيت زبيدة نفسها مقبلة نحوي ~~وهي تقول: «يا هارون، إن جواريك يسمعن حديثنا!» فوقع الرعب في قلبي وأيقنت أني مقتولة لا ~~محالة فلم تعد ركبتاي تحملانني من الرعشة ثم سمعت الرشيد يرعد بصوته من الغضب ويقول: «من ~~هذا؟» وأمر مسرورا فحملني إليه، فلما رآني أظهر الأسف علي؛ لأن قتلي لا مناص منه. فلما ~~رأى دموعي رفق بي، ولكنه كان شديدا فأطرق لحظة ثم قال: «يا حبيبة - وهذا اسمي عنده - قد ~~سعيت إلى حتفك بظلفك».» ~~«فتراميت عند قدميه وبكيت وغسلت رجليه بدموعي، وكنت يومئذ حاملا فقلت: «أشفق على صباي، ~~بل أشفق على هذا الجنين».» ~~«فوجم وتراجع ثم قال: «أعفو عن حياتك. ولكنني لا أقدر أن أراك ولا أسمع اسمك.» ونادى ~~مسرورا فأتى فأمره أن يجهزني بالمال ويدبر نقلي إلى البلد الذي أختاره، فاخترت فرغانة؛ ~~لأني كنت أعرفها من قبل.» ~~«وصرفني فخرجت مع مسرور في الليل الدامس إلى خارج بغداد وقد أعد لي الأحمال وأوصى ~~المكاري بي ودفع إلي مالا وجواهر تكفيني أعواما وودعني. فقضيت في الطريق مدة طويلة ~~ولدتك في أثنائها. وأخيرا وصلت إلى فرغانة وعرفت المرزبان وعائلته، وطلبني أناس للزواج ~~فأبيت وانقطعت لتربيتك وأنا كاتمة سرك، وأنت تطلب ms187 المجيء إلى العراق ، وأنا أخالفك، ولما مات ~~الرشيد، وماتت زبيدة هان علي المجيء ورضيت بسفرك إلى العراق.» # فلما فرغت آفتاب من كلامها قال لها ضرغام: «فأنا إذن أخو المعتصم؟» # قالت: «نعم إنك أخوه، فإذا علم هو بذلك زادك تقريبا.» # فهز رأسه هزة الإنكار وقال: «كلا، إن هذا السر يجب أن يبقى مكتوما بيننا لئلا يطلع ~~عليه المعتصم فتتحول محبته إلى حذر وكيد. يكفيني أني عرفت حقيقة نسبي. ولا أرى فائدة من ~~كشفه؛ لأن الناس لا يصدقوننا. ونحمد الله أننا نلنا من النعم والرتب فوق ما كنا ~~نتمناه.» ms188