######OpenITI# #META# URI: 1381IsmacilMazhar.WathbatSharq.Hindawi71370941 #META# Tags: social.sciences #META# ID: 71370941 #META# Title: وثبة الشرق #META# AuthorID: 53973639 #META# Author: إسماعيل مظهر #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # مقدمة‏ # العقلية التركية الحديثة‏ # مقدمة‏ # العقلية التركية الحديثة‏ # | وثبة الشرق # | وثبة الشرق # تأليف # إسماعيل مظهر # بحث في أن العقلية التركية الحديثة هي مثال العقلية السليمة التي يجب أن ينتحلها ~~الشرق ليجاري سير الحضارة العالمية. # | مقدمة # لا أظن أن من الأقوال التي صدرت عن حكماء الغرب وكتابه قولا هو أبعد عن محجة الصواب من قول ~~الكاتب «كبلنج»: «الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا.» فإنها كلمات أملاها غرور له مبرراته، ~~واعتداد بالنفس له نتائجه ومقدماته. على أن هذا القول لا يدل على شيء بقدر ما يدل على ضيق ~~في النظر وحرج في النفس، سببه حالات قامت في الشرق ناظرتها حالات ارتقائية قامت في الغرب، ~~فقعدت حالات الأول به عن اللحاق بالحد الذي وصل إليه الثاني. # على أن محور هذا القول يدل على عقلية تلزم صاحبها الاعتقاد بأن الشرق لن يستطيع أن ينتحل ~~عقلية الغرب ليلتقي الاثنان في ميدان الجهد الإنساني. ولا جرم أن هذا خطأ كبير وتعميم خطير ~~النتائج بعيد الأثر في الأذهان. وهو بعد ككل التعميمات الفلسفية والاجتماعية والأحكام ~~العامة الرنانة، تطن بعيدا ولكنك لا تجد لها من حقيقة مادية ترتكز عليها، ولعمرك كيف يمكن ~~أن يقبل حكم كهذا الحكم ويؤخذ على أنه قاعدة ثابتة، وأنت لو رجعت إلى التاريخ القديم لوجدت ~~أن اليونان كان لهم الحق في أن يقولوا نفس هذا القول عن الشرق، وأن الشرق قد مرت به أدوار ~~لا دور واحد، كان من حقه أن يقول فيه أكثر من هذا في الغرب وفي أوروبا بالذات! إذن فهو ~~تعميم لا قيمة له من جهة الواقع، وأنه كانت له مبررات زمانية، وظواهر لا يمكن نكرانها في ~~هذا العصر، وأنت إذا رجعت إلى حالات اليوم والساعة التي قال فيها «كبلنج» هذا القول وقستها ~~بحالات الشرق في هذا العصر، لوجدت أن مبررات هذا القول أخذت تتضاءل وتزول أهميتها شيئا بعد ~~شيء، ولا نبالغ إذا قلنا بأن هذه الكلمة التي طنت في أوروبا وتجاوبت بها أنحاء الشرق ~~زمانا كادت تصبح من الأقوال المنبوذة ms01 ، بل أصبحت صورة حفرية لعقلية قامت في الغرب في الزمان ~~الذي كان المريض العثماني ملقى فيه على فراش المرض، والإمبراطورية التركية آخذة في سبيل ~~الانحلال، ومصر مستنيمة لحكم الغاصبين، والهند مشغولة بحزبياتها الدينية، وفارس خاضعة لنفوذ ~~روسيا، والأفغان راتعة في جبالها منقطعة عن عمران الحضارة، وشمال إفريقية نهب للجشع ~~الفرنسوي من ناحية، وسوء الإدارة التركية من ناحية أخرى، وسوريا وفلسطين والعراق مستنيمات ~~في سبات عميق، كأن الفلك ما دار من حولهن، وكأن عجلة الزمان ما لفت على أهل هذه ~~البلاد. # ولا شبهة في أن هذه الحالات قد تغيرت الآن فتغيرت معها تلك العقلية التي أملت هذه ~~الكلمات. ويكفيك أن تعرف أن السلطات الاستعمارية أخذت تعترف شيئا بعد شيء بحق الشعوب ~~الشرقية في الحياة، مجبرة على ذلك بحكم المقتضيات التي تلزم الناس والشعوب على تغيير ~~عقلياتها وأساليبها خضوعا لحكم الظروف، ابتغاء الموازنة بين الحاجات والضرورات. # ولقد مرت بأوروبا برهة من الزمان اعتقد فيها المفكرون أن الدين الإسلامي زائل يوما من ~~الأيام، وأن العقلية الشرقية لن تخرج من تلك الدائرة الضيقة التي رسمها الفقهاء خلال ~~القرون؛ فظهر أثر هذه العقيدة الغربية في السياسة الدولية وعملت الدول الأوروبية على تقسيم ~~الإمبراطورية العثمانية إلى مناطق نفوذ، تختص كل دولة بمنطقة منها وتكون من حصتها عند تقطيع ~~أوصال الغنيمة، إذا ما حان لذلك الوقت الملائم. ولقد تمزقت الإمبراطورية العثمانية كما ~~تمزقت الإمبراطورية النمساوية. ولكن من من الأوروبيين يستطيع اليوم أن يدعي أن الشعوب ~~التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية أقل شعورا بحقها في الحياة، من الشعوب التي انفصلت ~~عن الإمبراطورية النمساوية؟ # لقد اعترف للشرق بحق الحياة، واعترف الأكثرون أنه قد يلتقي الشرق والغرب في ميدان الجهاد ~~الإنساني، فلنعمل إذن على تحقيق ذلك في أكبر دائرة من الإمكان. ~~••• # لا نكران مطلقا في أن العقلية التي نشأت في الشرق - ونقصد به آسيا في الغالب - هي العقلية ~~التي لا تلائم مزاج هذه الحياة. هي العقلية التي لا تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا. بل أنت ~~إذا قلبت أوجه النظر في ms02 هذه العقلية ألفيتها تلائم من كل نواحيها الحياة الأخرى، نكران لكل ~~مطاليب الحياة، وتواكل على القضاء والقدر، واستسلام صرف لما سوف يأتي به الغد، وإغفال محض ~~لمواعظ الماضي وعظاته، هي عقلية توافق المزاج الإنساني في غرارته الأولى وبساطته وأساطيره، ~~عندما أخذ فجر العقل يتنفس من خلال الظلمات الأولى. ولقد عيب على الشرق أن يكون هذا حال ~~عقلية أهله! وفي الحق أن الشرق يجب أن يعاب عليه تواكله واستسلامه للمقادير وخضوعه لأمرائه ~~من ناحية، ورجال الدين والفقهاء من ناحية أخرى. غير أن أخذ الشرق بهذه المناقض الكبرى من ~~غير تعليلها تعليلا يظهر حقيقتها، غبن فاحش على الشرقيين، واستسلام الشرقيين لمثل هذه ~~التهمة الشنعاء أمر يعابون عليه أكثر مما يعاب عليهم توارثهم لمثل هذه العقلية منذ أبعد ~~عصور التاريخ. # كان الشرق مهد الإنسان، فيه ظهرت جماعاته الأولى، وفي وديانه الخصيبة نشأت الحضارات ~~البدائية التي جاهد الإنسان في سبيل الفوز بها، وتناحر من أجلها مع وحوش الغابات وميكروبات ~~الماء والهواء والطفيليات، وجالد العناصر الطبيعية وقواسر المناخات المختلفة، حتى استطاع في ~~النهاية أن يستقوي عليها جميعا، فيرث الأرض ومن عليها، ويشيد تلك الحضارات العجيبة تتلو ~~إحداها الأخرى كأنها في ظلال التاريخ أشباح مردة من الجن أو جبابرة من الخيال تتصارع في ~~أفق الروايات الإنسانية صراع الكواسر عضها الجوع، أو أخذتها غضبة الأنانية؛ فتلوح كأنها في ~~ميدان حرب تتناوب فيه الغلبة حينا والانكسار حينا آخر. وأنت بين هذا وذاك ترى المدنيات ~~تنشأ تدرجا وتقوم لماما على المسرح الإنساني، ثم لا تلبث أن تراها تنهار وتتقوض دعائمها، ~~كما لو كانت جدرانا متداعية، وضع الفأس في أصولها جبار قوي الأصلاب. # ترى هل كان غير الشرق من بقاع الكرة الأرضية ميدانا لمثل هذا الصراع؟ وهل كان غير الشرق ~~مسرحا لتغالب هذه القوى وتفانيها؟ هل كان غير الشرق مهدا للجماعات الإنسانية الأولى؟ كلا، ~~ففي ذلك الوقت الذي جالدت فيه جماعات الإنسان الأولى الوحوش والعناصر؛ لتفوز بالغلبة عليها ~~في أنحاء الشرق، كانت بقية الكرة الأرضية ملكا لغيره من الحيوانات العليا ms03 من ذوات الثدي، ~~غير أننا نتساءل وقد نشأ الإنسان نشأته الأولى ضعيفا في القوة البدنية، بل حيوانا شجريا ~~بسيطا من حيث القيمة الجثمانية، كيف استطاع أن يتغلب - مع هذا - على غيره من الحيوانات ~~الكبيرة؟ استطاع أن يتغلب عليها بكفاءاته العقلية التي نشأت فيه على مر الأزمان واستطاع بها ~~أن يتغلب على غيره، فلما احتاج إلى زيادة استعمالها، نمت وكبرت مع الزمان وتطورت نشوءا على ~~مدى الأحقاب. وفي هذا الطور، الطور الذي بدأ الإنسان يدرك فيه أنه سيد المخلوقات، وأنه ~~يمتاز عليها بقوة العقل، بدأ طور الفلسفة على قدر ما استطاع الإنسان أن يدرك من حقائق ~~الموجودات. وكانت النشأة الأولى بالضرورة من موضوعات تفكيره، فقد رأى الحياة يتلوها الموت، ~~والموت تتلوه الحياة، على التعاقب والتواتر، ففكر في تخيل ثم استوى على الصورة اللاهوتية ~~الأولى التي هي أول مدارج العقل الإنساني في تقسيم «كونت» لصور النشوء الفكري في ~~الإنسان. # وكان من نتاج ذلك، أن يختص الشرق بوراثة متأصلة في تضاعيف فطرته، وحاجة لا شعورية جرى ~~عليها، هي الحاجة إلى القيادة الروحية والاستسلام إليها، فنشأت عن ذلك صور متخالطة من صور ~~الميثولوجيا، دارت كلها حول الخلق والعدم والحياة الأخرى. وكان من الضروري، ما دامت الحياة ~~فوق هذه الأرض لا دوام لها، وكانت باقية في العالم الثاني، أن ينصرف اللاهوت في الشرق ناشئا ~~عن الميثولوجيا القديمة إلى الحياة الأخرى، وأن يبشر بهذه الأسطورة لأهل الشرق، ولكن العجب ~~أن يظل الشرق عاكفا عليها، في حين أن الغرب يتغلب ويستقوي عليها، فيفوز الغرب بالحياة ~~ويفوز الشرق بخيال الآخرة. هذا مع اليقين بأن الغرب قطعة من الشرق انفصلت عنه، كما انفصل ~~القمر عن الأرض منذ بداية التكوين. # لا شك في أننا نستطيع أن نعلل هذه الظاهرة تعليلا طبيعيا؛ فإنك إذا تخيلت قبيلة من ~~القبائل بدأت هجرتها من أواسط صحراء «التبت» مثلا متجهة نحو الغرب، وأردت أن تعرف أي ~~عناصرها الأقوى، على فرض أنها أخذت تهاجر، مستمرة في هجرتها إلى آخر مدى يمكن أن يبلغه ~~أفرادها، فلا شك ms04 في أنك تحكم بأن أقل أفرادها قوة هم الذين يقفون عند حدود فارس وأوسطهم ~~الذين يبلغون العراق وأشدهم الذين يجتازون مضيق البوسفور. تجربة طبيعية تدل على صفات كامنة. ~~وهي إن دلت في أول ما تدل عليه على صفات جثمانية فائقة، فهي راجعة إلى صفات نفسية أيضا، ~~إلى صفات الإقدام والشجاعة والتغلب على المخاوف، تلك الصفات التي لا يمكن أن تبرئها من أثر ~~القوة العقلية أو تبرئ القوة العقلية منها. # فإذا رجعنا إلى المستكشفات الحديثة في علمي الإنسان والشعوب، واعتمدنا على ما وصل إليه ~~العلم فيهما، وفرضنا أن الإنسان نشأ في أواسط آسيا، استطعنا بنظرة واحدة في توزيع الشعوب ~~البشرية في آسيا وأوروبا أن نثبت هذه الحقيقة؛ ففي الطرف الغربي من أوروبا أرقى أمم ~~التيوتون والأنجلوسكسون، يناظرهم في الطرف الشرقي من آسيا أرقى أمم المغول، بريطانيا العظمى ~~من ناحية، واليابان من ناحية أخرى. ولقد فازت الأولى في ثلاثة قرون بحكم الدنيا، ومن ذا ~~الذي يعلم ما سوف ينجلي عنه مستقبل الثانية. # هذه الحقيقة التي لا ينازع فيها هي السر في تقدم الغرب وتأخر الشرق. وإنك لتجد أن صفاء ~~العقلية يتدرج من حدود روسيا إلى الجزر البريطانية، ومن حدود بغداد إلى اليابان، بل إنه ~~يتدرج في سلسلة عجيبة من الحلقات المتتابعة. # إذا أدركنا هذه الحقيقة، عرفنا لماذا ارتقى الغرب ولماذا ترك الشرق غارقا في بحار ~~الدينية مستسلما إلى الآخرة، مستنيما لحكم الفقهاء والأمراء المستبدين بأمرهم، الممثلين ~~لله فوق الأرض. فكرات حملها المقدمون فصارت لهم تبعا، وغرق في بحارها الجامدون فصاروا لها ~~تبعا، هكذا كل ما في الأمر. # ولكن هل يمكن لمن يظل جامدا من شعوب الشرق وورث عن النشأة الأولى موحيات اللاهوت ~~البدائي، أن ينتحل العقلية المرنة التي دفعت بأهل الشرق الأقصى إلى المحيط الهادي، ولولاه ~~ما وقفت هجرتها، ورمي بأهل الغرب إلى بحر الظلمات، ولولاه لما صدها عن الإقدام صاد ولا حال ~~دون هجرتها حائل؟ لا أعتقد أن هذا من المستحيلات، بل أعتقد أنه أهون الممكنات، ولكن بعد ~~بضعة تجاريب بسيطة ms05 . هزات عنيفة تحرك الجمود، ودماء تراق في سبيل العتق، وثورات طاحنة، كانت ~~ثورة الأتراك أولاها، وثورة الأفغان ثانيتها. # هذا هو التعليل الصحيح للمبررات التي جلعت لقولة «كبلنج» ذلك الصدى العميق، وهي على ما ~~فيها من بساطة التركيب، مبررات على كل حال، ولكنها لا تقوى على مقاومة التحليل التاريخي على ~~ما أرى. # ولست أريد أن أستعمق بعد هذا التحليل في البحث والتنقيب، فالحقائق بينة والطريق ممهود، ~~لولا بعض عقبات ليس تذليلها في حيز المستحيل؛ لهذا نترك البحث، لنمهد لك طريق الدخول ~~لاستيعاب العقلية التركية الحديثة التي هي في معتقدي مثال العقلية السليمة، في الشرق الأوسط ~~أو الشرق اللاهوتي، وارث الجمود والأساطير. # الخلافة # ما من شبهة تقوم في عقل المؤرخ فتورثه الحيرة والارتباك، أكبر من تلك الشبهة التي ~~يحاول أن يتخلص منها في كل مدرج من مدارج التاريخ البشري إذ هو مكب على رواية ~~حوادثه، شبهة أن المدارك الإنسانية ناقصة، وأن النفسية الضمامية، أي نفسية الجماعات، ~~نفسية بدائية، فيها غرارة الفطرة الأولى، وسذاجة الطفولة، وضعف الخنوثة، واستكانة الرق ~~والعبودية. # هي لدى الواقع حقيقة ثابتة، تقوم في عقلية المؤرخ لابسة صورة شبهة أو شك مبهم غامض؛ ~~ذلك لأن المؤرخ إن استطاع أن يدرك حقيقة البشرية على صورتها الصحيحة، فهو أول شيء مغلول ~~الفكر بأنه أحد أفراد بني الإنسان، إن شك في مداركهم فقد شك في مداركه، وإن أنحى ~~عليهم بالنقد، فهو بديا ينتقد شيئا هو جزء منه، وقطعة لا يمكن أن تنفصل عن أصلها إلا ~~لماما؛ لتعود إليه مرة أخرى، بقوة جذب خفية عميقة الأثر في تصاريف الحيوان ~~الناطق. # هو يعلم بأنه مكب على رواية سخافات جديرة بأن يكون الإنسان خالقها من العدم، وسفاسف ~~ما قامت في عالم الحياة إلا بقيام الفكر البشري، مسودا على ما في الحياة من صور، ~~ثم هو، بجانب هذا، يحاول دائما أن يستمد من الخيال قوة يستقوي بها على منازع النقد؛ ~~ليخفي الحقيقة عن نفسه أولا، ثم يحاول إخفاءها فيما بعد عن بقية الناس. # هو يعلم أن كثيرا ms06 من النظامات البشرية نظامات بربرية وحشية، وأن خضوع الجماعات لهذه ~~النظامات بحكم العادة أحد مناقص الطبيعة الإنسانية، وجزء لا ينفصل عن طبيعة الضعف ~~الكامن في قلب الإنسان، ولكنه مع هذا يحاول أن يجد لهذا الضعف مبررا، ولتلك المناقص ~~أعذارا واهية ساقطة، بله الدفاع عن نظامات إن دلت على شيء، ففي أول ما تدل عليه نقص في ~~الفطرة، وميوعة في طبيعة الأشياء الإنسانية، هي لدى الواقع، إحدى المكونات الأولية التي ~~استحدثت ما ندعوه بالتاريخ الإنساني. # هو يعلم أن الأوهام هي التي شيدت معابد الكلدان ومصر، وأنها هي التي ألهت بوذا ~~وكونفوشيوس، وأنها هي التي أقامت الأهرامات، وأن هذه النظامات بعد أن استمدت من الأوهام ~~أصلا قامت عليه، أخذت تعمل على أن تمد من أجل الأساطير وتطيل من عمر الخرافات، ومع ~~ذلك، فهو يحاول أن يدافع عن أشياء أساسها الوهم، وأصلها الخيال. # هو يعلم أن نظام الملكية، نظام مستمد من أصول وحشية أولى، ونظامات بدائية قيامها في ~~العصر الحاضر، بمثابة الأحافير تقوم في باطن الأرض، برهانا على أن صورا من أمثالها ~~عاشت على الأرض، في عصر من العصور، ومع ذلك تجد المؤرخ يحاول الدفاع عن هذا النظام، إن ~~كان في نظام ملكي، كما يدافع عن الجمهورية إذا كان في نظام جمهوري، وعن الفوضوية إذا ~~كان في نظام فوضوي، على سعة ما بين هذه النظامات من تباين واختلاف. # هو يعلم أن نظام الخلافة نظام فاسد، كما كان نظام البابوية في روما، ولكنه مع ذلك ~~يحاول أن يستمد من التاريخ مبررا له، أو يعمد إلى القول بأنه نظام ليس من روح الإسلام ~~في شيء. # شبهات وشكوك وأبحاث ضائعة، فيها من المواربة واللهف ما تغني عنه كلمات وجيزة، وأسطر ~~معدودة. شبهات وشكوك أول باعث عليها شعور عميق بما في النظامات الإنسانية من نقص، لا ~~يبعد أن يكون في العقل الإنساني نقص يناظره، به يبعد الناس عادة عن رؤية الحقائق كما ~~هي، أو كما هي واقعة. # صدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، فحاول صاحبه أن يثبت أن ms07 الخلافة ليست من نظام ~~الإسلام في شيء، وعمد إلى أقوال المعاصرين في صدر الإسلام، وإلى الأحاديث وهي أقوال ~~وأحاديث إن دخل الشك في شيء، فهي أول ما دخل فيه الشك، وإن تناوبت الشبهات على شيء، فهي ~~أول ما تناوبت عليه الشبهات. يعمد إلى هذا ليبرر إلغاء الخلافة، فهو في ذلك مثال المؤرخ ~~تشابهت عليه الحالات، وقامت في نفسه مشاعر ملؤها الاعتقاد بالنقص الإنساني وخضوعه ~~للأوهام، فحاول أن يستمد من غير الواقع أوجه دفاع عن النفس الإنسانية أولا، ثم عمد بعد ~~ذلك إلى تقرير ما يخالف الواقع إرضاء لمنازع فئات هو يعتقد أنها مخطئة، وأنها على ضلال. ~~ولو أنه ترك كل هذا وقال إن الخلافة نظام ورث عن الإسلام، ولكنه لا يوافق روح العصر، ~~ولا حاجات الزمان الحاضر، لوجد أنصارا من نفس الذين يخالفونه في رأيه الأول مصبوبا في ~~القالب الذي صبه فيه، ولكان أقرب إلى الحقيقة، وأقرب لفضائل المؤرخ تخلص من شبهات الوهم ~~التي تقوم في الذهن عادة لدى التفكير في نظام الجماعات. # ولسنا نريد أن نفتح بابا جديدا، يلجه المؤرخون ويأخذون بتلابيبنا كما يفعل الأدباء ~~في مناقشاتهم الأدبية، قائلين أين الحجة التي تؤيد بها أن الخلافة أصل من أصول ~~الإسلام؟ والحقيقة أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، ولكنها كما قلنا نظام ورث ~~عن الإسلام في نشأته الأولى؛ فإن محمدا كان نبيا ومشرعا، وقائد جيش، ومقيم ~~إمبراطورية، وملكا غير متوج على معنى الملكية قديما وحديثا، بل حصرت في شخصه قوة ~~السلطتين الروحية والزمانية، وعلى هذا النظام سار الخلفاء الراشدون من بعده، وعنهم ~~ورثها معاوية في الشام، والعباسيون في بغداد، والفاطميون في مصر، والعثمانيون من ~~بعدهم. # إذن فالخلافة «نظام» إسلامي مأخوذ من روح الإسلام، ومن تقاليده الموروثة التي قام ~~عليها في نشأته الأولى، وكان لزاما على الإسلام أن يحصر السلطتين في يد موجده أولا، ~~في عصر كثرت فيه الفتن وقام العرب يناوئون الإسلام والمسلمين، فلما مهدت الحروب ~~الداخلية سبل الحياة بعد انتصارات أيدته ورث النظام وعليه سار الإسلام ~~والمسلمون. # لهذا ms08 نعمد إلى مؤرخ ثبت ننقل عنه قطعا، نثبت بها أن الإسلام كل لا يتجزأ، ووحدة ~~لا تفصم عراها، وأن الخلافة باعتبارها نظاما إسلاميا، لا بد من أن تكون أحد أجزاء ~~السلسلة التي تكون عقد الإسلام. # نعمد إلى العلامة كارل ه. بيكر # Carl H. Becker # وزير الفنون والعلم والتربية في ألمانيا (1927)، وهو أحد مشهوري المستشرقين. أما أبحاثه ~~الإسلامية فتعتبر من أدق المباحث وأطلاها، وأكثرها ابتكارا، وأعمقها فكرة، وأصحها ~~سندا. ولقد ترجم كتابه المعروف «فتوحات العرب» إلى الإنكليزية وضمته جامعة كمبردج ~~إلى مجلداتها التي تخصصها لدراسة تاريخ القرون ~~الوسطى (1912)، وله مجلة ذات شهرة واسعة اسمها ~~الإسلام - # Der Islam ~~- تكاد تكون المحور الذي تدور من حوله كل الأبحاث المبتكرة في تاريخ الإسلام، ونبعا ~~فائضا للتنقيب المنتج في أخص المسائل التي تتعلق بالمدنية الإسلامية. أما ما ننقله ~~هنا، فمن مقالة له تحت عنوان «الإسلام في التاريخ» نشرت في مجلة «الأمم» التي صدرت في ~~شهر فبراير سنة 1927، قال: # تستعمل لفظة «الإسلام» عادة في كثير من المعاني المختلفة، فقد نستعملها لتدل ~~على دين الإسلام، سواء أتكلمنا في تعاليم محمد الأصلية، أم في مجموع المذاهب ~~القديمة التي هي شيء مختلف تمام الاختلاف عن تلك التعاليم، أو في دين المسلمين ~~المعروف اليوم في آسيا وإفريقية، وسواء أوعينا في أذهاننا أوجه النشاط الديني ~~التي يبديها الأتراك أو الزنوج، وسواء أتكلمنا في الغزالي أم في المهدي ~~السوداني، فإننا نستعمل اللفظ ذاته ونقول «الإسلام». وكلما كانت معارف الناس ~~أقل، كانوا أشد نزعة إلى التعميم، فمن ذا الذي يجرؤ مثلا على أن يصف الأوضاع ~~الكنسية في بلاد الحبشة، بأنها ذات النصرانية، من غير أن يعرض نفسه للاستهزاء ~~والسخرية؟ ولا جرم أن القول بأن هذه الأوضاع هي بذاتها البروتستانتية ~~النصرانية، من غير تعديل أو تكافؤ بين الحالات، لأبعد عن أن يتورط فيه باحث يزن ~~الأشياء بميزانها الصحيح. # ولم نكتف بهذا بل استعملنا لفظ «الإسلام»؛ ليدل على إحدى إمبراطوريات الشرق ~~العظمى، أو على كل الحكومات المتفرقة التي كانت تنشأ عادة على الإمبراطوريات ~~الكبرى وبقاياها، حتى لقد نطلق الاسم على ms09 الحكومات الفعلية، بل صرفناه على شيء ~~أكثر من هذا خطرا، فعرفناه على أنه نظرية سياسية، سواء أقامت تلك النظرية على ~~مذهب سياسي أو مبدأ تنزيلي. # وكلما استعمقنا في بحث هذا الموضوع، ازددنا اقتناعا بضرورة التفريق بين ~~المدلولات. غير أنه ليس في وسعنا أن نقرر بصلابة أن تعريفا جامعا مانعا يجب ~~أن يوضع لتحديد ما يعنى بلفظ «الإسلام» في كل حالة من الحالات الخاصة، وعلى ~~الأخص إذا عمدنا إلى وضع تقديرات معينة للقيم المتناظرة، على أن الباحث ~~الاختصاصي، مهما جهد نفسه في التحوط والحذر، ومهما بذل من عناية في استخلاص تلك ~~التحديدات الضرورية؛ فإنه لا محالة يستعمل تلك اللفظة العامة - «الإسلام». على ~~أنه يجب أن نتساءل! هل لهذا من مبرر؟ أو بعبارة أخرى: هل كل المعاني المختلفة ~~التي يجمع بينها هذا الاصطلاح تدخل حقيقة تحت مدلول «الإسلام» عامة، ذلك ~~المدلول الذي لا يخرج بديا وتخصيصا عن أنه دين؟ غير أن هذا السؤال قد أجبنا ~~عليه مقدما وحددناه، إذ قلنا بأن اصطلاح «الإسلام» ومسألته في التاريخ، قد ~~استعملناه من غير أن نضيف إلى ظاهره مدلولات أخرى. # أما وقد حللنا كلمة «الإسلام»؛ فإنا بذلك نكون قد جاوزنا النظر في العوامل ~~الأساسية، التي إذا أخذت في مجموعها، كونت ذلك الشيء الذي نحس بأنه التصور ~~الوحيد الذي يمكن أن نكونه في «الإسلام»، أي ذلك الإيمان الكلي المتماسك ~~الأطراف، وذلك المثل السياسي الأعلى المتآلف الأجزاء، وتلك المدنية المتناسقة ~~التي تتمشى في أجزائها فكرة الوحدة والائتلاف، والتي فضلا عما نجد فيها من ~~الاختلافات الموضعية، نلمح في مجموعها وحدة المثل العليا، كما نقع فيها على شيء ~~من الوحدة في العمليات. # وما من شك في أن «الدين» هو الذي يجمع بين هذه العوامل الشتيتة، وأن الفكرتين ~~السياسية والمدنية، كليهما، لم يكونا لينتشرا ويثبتا مع الزمان لولا قيامهما ~~على قاعدة الدين، وكذلك نجد في الوقت الحاضر أن «الإسلام» رابطة من الوحدة ~~قوية، عادلت في كل عصور «الإسلام» قوة «القومية» الشديدة الأثر في النفوس، ~~فجمعت بين الناس وكونت منهم عصبا أقوى ms10 وأشد مراسا؛ فإن زنجيا من زنوج ~~قبيلة «الونغيدو» # Wangido # في شرق إفريقية ~~الألمانية، إذا أصبح مسلما فإنه لا يتسمى باسم قبيلته، بل يتسمى بالإسلام # 1 # ويصبح العربي أخا للزنجي المسلم. وبذلك تتماسك كل الخيوط المختلفة ~~وتتفق كل النزعات المتباينة، من حول المركز الديني في «مكة». وفي مناوأة أوروبا ~~على الأخص، تجد أن المسلمين يشعرون شعورا عميقا بأنهم وحدة متماسكة الأطراف؛ ~~لهذا يحق لنا أن نتكلم، ما دام أن الدين يصبغ الحياة اليومية بصبغته الخاصة، إن ~~قليلا أو كثيرا، في مدنية إسلامية موحدة الأجزاء تنقل إلى الذهن دائما، ~~حقيقة أن هذه المدنية الدينية مؤثر فصل، يقطع بين حدين قطعا تاما. # وهذه الحالات، التي لا نشك مطلق الشك في أنها لا تزال قائمة حتى اليوم، قد ~~زادت إلى صعوبة الفهم لدى البحث في تاريخ نشوء الإسلام. وإذ نعرف أن الدين إلى ~~الوقت الحاضر، ما يزال العامل الأقوى، الذي تقوم عليه كل الأشياء الأخرى مما ~~يتعلق بالإسلام والمسلمين، وإذ نرى أن كل الظاهرات التاريخية الخاصة بالإسلام، ~~يجب أن يرجع فيها إلى مؤسس الديانة، فأي شيء يمكن أن يكون أقرب إلى البديهة من ~~أن نعتبر الدين، العامل الأساسي إن لم يكن العامل الأوحد، الذي تعود إليه حقيقة ~~خلق مدنية إسلامية متلائمة الأطراف. # ولدينا عامل آخر، نتج عن العكوف على عادة النظر في الأشياء من وجهة النظر ~~الكنسية، تلك العادة التي ورثناها عن القرون الوسطى، ولا جرم أن هذا الاتجاه لا ~~يزال ثابتا في نفسيتنا لدى النظر في الإسلام، حتى الوقت الحاضر، فقد اعتدنا في ~~القرون الوسطى، حتى في أوائل العصر الحديث، أن ننظر إلى الإسلام بديا على أنه ~~دين معاد، وضع حدا لانتشار المسيحية، وهددها فوق أرضها تهديدا شديدا، وكانت ~~النظرة التي نظر من ناحيتها في نشوء الإسلام قد انحصرت في الاعتقاد بأن الدين ~~الجديد قد ملأ صدر العرب حماسة وأفعمها حمية، وأن المسلمين قد اندفعوا إلى ~~الفتح الحربي، تحت تأثير الرغبة الشديدة في هداية أهل الأرض إلى الإسلام، وأنهم ~~إنما يعملون على نشر دينهم بالسيف ms11 ، وأن محمدا كان نبيا ورجلا سياسيا ~~معا، بل أعتقد بأن الثقافة العربية ممزوجة بالدين الجديد - «الإسلام» - قد ~~كونت تلك الصورة التي تعرف بالمدنية الإسلامية العربية، وأنه على الرغم من أن ~~عددا من النظامات والفكرات الجاهلية، قد استمرت باقية ثابتة الأثر؛ فإن الدين ~~وحده لم يكن السبب الذي خلق المدنية الجديدة، بل صورها ونظمها لا غير، إذن ~~فالدين هو القاعدة، وكل الصور النشوئية الأخرى، لم تكن إلا نتيجة من نتائجه، ~~فكان من الضروري على مقتضى هذه الفكرة، أن يدمغ الدين طابعه الثابت في جبين ~~الوحدة الصورية والخلقية، ومن هنا نشأت الفكرة في مدنية إسلامية متلائمة ~~الأجزاء، موحدة الأطراف. # ولا مشاحة في أن كل باحث يتصل بكتاب العرب وفكره مليء بمثل هذه الآراء، ~~وبجانبها نظرة غير صحيحة تتكون حول تاريخ النصرانية يجد أنها آراء لها سناداتها ~~ومبرراتها؛ ذلك لأن السلطات المحمدية لها قواعد كهنوتية مقررة مفروغ منها، كذلك ~~تراهم يقررون جملة بأن نشوء الإسلام من خلق محمد، ومن ابتكار الخلفاء الراشدين ~~في عصر الإسلام الذهبي، وعندهم أن الحكومة والمجتمع، وكذلك الحركتان العلمية ~~والاقتصادية، جماعها تخضع للقواعد الدينية، وكان المتبع أن يخلع من هذه الأرض ~~الدينية التي اعشوشبت بمختلف النظريات، كل نبتة طفيلية يمكن أن تنبت في جنب من ~~جوانبها وتنبذ نبذا. إذن فالعالم الإسلامي محكوم بالدين سواء أفي ماضيه أم في ~~حاضره، ولو نظريا على الأقل. # غير أن النقد الحديث لم يتناول هذه المباحث إلا منذ عهد قريب، لا يتجاوز بضعة ~~عقود من الزمان، وعلى الأخص بعد ظهور «تاريخ الثقافة» # Kulturgeschichte ~~- الذي ألفه العلامة الكبير «ألفرد فون كريمر» # Alfred von Kremer ~~. ولقد نجحت ~~الأبحاث الحديثة تدرجا وعلى مر الأيام في أن تتحرر من تقاليد الإسلام، وعمد ~~البحاث وطلبة العلم، سواء أفي السياسة والشريعة، أم في الدين والحياة، إلى ~~التفريق بين النظريات والعمليات. ولقد حققوا بهذه الوسيلة أن الانتصار في ~~المعركة التي قامت بين مطاليب الدين ومقتضى العادات القومية، قد حالف الثانية ~~دون الأولى، بل أثبتوا أنه في خلال الصراع الذي قام بين مختلف الآراء ~~المتنابذة، لم ms12 يكن اللون الديني غالبا إلا عبارة عن وضع أدبي، لا أقل ولا ~~أكثر. ورأوا أن الشريعة الدينية، لم تنشأ متطورة عن الأوضاع التشريعية العملية ~~التي كانت قائمة بالفعل، بل أتت منابذة لها. ومن ثم اتضح أن بناة الإمبراطورية ~~العربية لم يكونوا يعملون على نشر الدين كسبب مباشر لفتوحاتهم على إطلاق القول، ~~بل عملوا في أول ما عملوا له على تثبيت سلطة العرب الزمانية وتركيز سيادتهم ~~فيما جاورهم من الإمبراطوريات، ولا جرم أن جماع هذا يزودنا بمادة واسعة تشبع ~~نهم الفكر؛ لهذا يحق لنا أن نتساءل، حين نواجه هذه الحقائق: أليست فكرتنا ~~التقليدية التي ثبتنا عليها في حقيقة الدور الذي لعبه الدين، كعامل من العوامل ~~المكونة في الإسلام، تحتاج إلى تعديل وتحتاج إلى إصلاح؟ # وبعد، فإن هذه الشروح والتحليلات القيمة، لا تترك للمؤرخ الذي يريد أن يفهم الحقائق ~~على صورتها الصحيحة، مجالا للشك في أن الوحدة الإسلامية من ناحية، وأن بناة ~~الإمبراطورية العربية لم يكونوا يعملون على نشر الدين كسبب مباشر لفتوحاتهم من ناحية ~~أخرى، كلاهما دليل صادق على أن الخلافة نظام ورث عن الإسلام؛ لأنها من ناحية جزء من ~~نشأته الأولى، ومن ناحية أخرى أساس قامت عليه الفتوحات، وتكونت من فوقه دعائم ~~الإمبراطورية العربية. وهذه الحقيقة التي حاول مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» ~~إخفاءها، نقررها هنا على الضد ما ذهب إليه، ثم نحكم من بعد ذلك بأن نظام الخلافة نظام ~~فاسد لا يتفق وروح هذا العصر. ~~••• # لم يبق من حاجة لأن نثبت أن الخلافة نظام إسلامي ورث عن بدايته الأولى، ولكن بنا حاجة ~~لأن نحلل نظام الخلافة، ثم نعقب على ذلك بالكلام في موافقة هذا النظام للروح الجمهورية ~~الديمقراطية التي أصبحت طابع هذا العصر. # الخلافة نظام شاذ كل الشذوذ، ليس هو بسلطة روحية فقط، ولا هو بسلطة زمانية فقط. هو ~~نظام يجمع بين السلطتين، ومزيج من قوتين يجب أن تظلا مفترقتين. هو نظام الدنيا والآخرة ~~حصر في يد فرد واحد، فكان الحاكم بأمره في الناس، وظل الله فوق الأرض معا ms13 . خليط ~~من حقيقة واقعة وأسطورة موروثة. سلطة لا مسلط لها، وقداسة لا سر فيها. وميراث عن بدايات ~~كان لا بد للإسلام أن يقوم عليها، ظلت قائمة في عصور أصبح فيها ذلك الميراث عاملا من ~~عوامل الضعف في الإسلام. ومركز للتعصب لا مبرر له. وبؤرة تشع منها مفاسد الفقهاء، فكانت ~~على الإسلام حربا، وعلى المسلمين شواظا من نار. قوة حصرت في يد، وكان في الواجب أن ~~توزع على أيد تتعاون على تسنم مدارج الحضارة، وفكرة تحجرت فتحجرت من حولها العقول وعميت ~~البصائر. لقب في غير موضعه، وتاج مثل الأرض والسماء. وصولجان كانت كرته العالم الإسلامي ~~وفيه ثلاثمائة مليون من النسمات البشرية، استعبدتهم الإماء والسراري، ومن ورائهن ~~الفقهاء. جمود لا حركة فيه، والفلك يدور، وظلام لا ضياء فيه، والدنيا يتناوب عليها ~~الليل والنهار. قمع للفكر، وإطلاق للشهوة. كبت للضمائر، وحرية للأوهام. تمثيل للإسلام ~~ثم تمثيل بالإسلام؛ فناحية للبناء في الظاهر، وأخرى للهدم في الحقيقة. # والخلافة فوق ذلك نظام ورث ظاهره وترك لبه، فأصبحت ميراثا، بعد أن كانت بالبيعة ~~فرصة انتهزها الانتهازيون من الفاتحين، والمخاطرين من اللاعبين بمستقبل الشعوب، فحصروا ~~في يدهم سلطتين بعد سلطة واحدة، ورموا بسهمين عن قوس واحد. ثم ورث ما استولى عليه ~~الانتهازيون المجازفون، فكان الميراث مقدسا كأصل الفكرة، وكل مقدس معبود على كل ~~حال. # ولقد أوسعت هذه الحال مجال النفاق والكذب والترهات، بل فتحت المجال لفجرة آثمين أن ~~يكونوا يوما خلفاء يحملون اسم الملك واسم الله؛ فأبناء غير شرعيين بحكم الدين صريحا، ~~وقتلة آثمون منهم من قتل أباه، ومنهم من قتل أخاه، ومنهم من قتل أعمامه وأخواله، ~~استطاعوا يوما أن يمثلوا محمدا - عليه السلام - فوق الأرض، وأن يمثلوا الله تعالى في ~~السماء. # ولم يكن في هذا النظام من سر سحري جعل الناس يخضعون له خضوع العمي الذين لا يبصرون ~~إلا هالة من القداسة حوطه بها فئة العلماء والأئمة والفقهاء؛ فإنهم بعد أن أقفلوا ~~باب الاجتهاد في الشريعة، أقفلوا باب الاجتهاد في اختيار أصلح أنواع الحكم المساير ~~لطبيعة الحالات ms14 . وبذلك تم لهم إخضاع العالم الإسلامي، ومضى المسلمون يتوارثون هذا ~~النظام جيلا بعد جيل، فلما علا مد الحرية على الشعوب الشرقية، بان لأهلها أن هذا ~~النظام مهما يكن فيه من روح الإسلام، فإنه غير ملائم لطبيعة الحالات والمقتضيات ~~السياسية والاقتصادية. لهذا ألغي بثورة طاحنة، فكان لخير الشرق والشرقيين إلغاؤه، ولا ~~جرم أن سلطة الفقهاء أخذت تتضاءل من بعد ذلك، ولن يمضي زمان طويل، قبل أن يتقلص ذلك ~~الظل الكالح الذي حال معه لون الشرق، وحال بينه وبين الضياء، لولاه لقاد الشرق العالم ~~إلى حضارات جديدة، وإلى صور من الرقي لم يألفها العالم حتى الآن. # وبعد، فليس لنا أن نتورط في البحث لأكثر من هذا؛ فإن العوامل التي أثرت في عقلية ~~الشرقيين وحالت بينهم وبين الارتقاء معدودة معروفة. ولكن هذا لا يحول دون القول بأن ~~الشرق قد خطا بالإنسانية من العصر اللاهوتي إلى العصر الميتافيزيقي، وكان لا بد دالف ~~بقدمه يوما إلى العصر اليقيني، لولا تلك العوامل السوداء. # إن هذه الأشياء نماذج عقلية فصلها «كونت» في فلسفته أحسن تفصيل، وهي فوق ذلك، نماذج ~~لها تدرجاتها الدقيقة المتعاقبة، التي لا يمكن أن يبلغ الإنسان إليها فجاءة، بل تدرجا ~~وبتهيئة ظروف وحالات لا يمكن أن تدرك كيف تنشأ ولا كيف تتكون في تضاعيف الفكر ~~البشري. # إن العقلية الأوروبية الحديثة، لم تكن نموذج الفكر قبل ثلاثة قرون، والدليل على هذا ~~أن العقلية الآسيوية قد انتحلها الأوروبيون من أهل النصرانية إلى عصر كوبرنيكوس ~~وغاليليو. نعم إنها لم تؤثر في الوارثات الاجتماعية، ولكنها أثرت تأثيرها البالغ في ~~الفكر الأوروبي؛ لهذا نترك البحث في هذه العوامل لرسالة أخرى نعقدها في مثل العقلية ~~القديمة في الشرق والغرب. # حرية الفكر # قد يخيل إلى الذين يمعنون في درس هذا الكتاب، والوقوف عند مراميه وقفات تأملية طويلة، ~~أن الشرق قد تحرر فكره بالفعل، بقيام بعض زعماء يدعون إلى الحرية الفكرية، أو قادة قضوا ~~على بعض التقاليد القديمة التي كانت حائلا بين الشرق وبين الارتقاء. # نعم، لا ننكر أن الارتقاء أصبح معبود ms15 فئة من رجال الشرق، خصوا بأرقى المميزات ~~الإنسانية، وأنهم في ذلك قد جاروا الغرب وانتحلوا عنه أساليبه التي اتخذوها وسيلة ~~للارتقاء، غير أننا لا يجب أن ننسى أننا، مع هذا، قد ورثنا عن الغرب جمود أهل المذاهب، ~~والظاهر أنه من المستحيل على العقل البشري في حالته الحاضرة أن يتخلص من المذهبية على ~~وجه عام. # فإذا كان الأتراك قد حرروا الحكومة ونظام الدولة من الخلافة، وإذا كانوا قد أنقذوا ~~الأمة من مخالب الفقهاء والأئمة، ومن المدارس والتكايا والقبور، وعلى الجملة من ~~المذهبيات القديمة؛ فإنهم لم يخلصوها ليتركوا لها الحرية واسعة مفتحة الأبواب مفهومة ~~على قدر كاف، يجيز للفكر أن يكون حرا في جولاته المترامية، بل إنهم خلصوها من مذهبيات ~~قديمة؛ ليلقوا بها في أحضان مذهبية حديثة هم ممثلوها، مذهبية القومية بالغة أقصى مبالغ ~~التطرف والبعد عن الاعتدال. وفي سبيل هذه المذهبية أعيد الاستبداد القديم ليدافع عن ~~مذهبية جديدة؛ فكان القتل والشنق وخنق الحرية باسم الحرية. # وكذلك الحال إذا رجعنا إلى روسيا الشيوعية؛ فإن في نظامها من المذهبية ما فيه! فضلا ~~عما تستشم فيها من روح الكثلكة الرسيسة في النفوس، والبعد عن مطاوعات الشك واللاأدرية ~~الفائضة بصور المرونة الفكرية. # ولن تخلص من المذهبيات، لا في السياسة، ولا في الدين، ولا في النظام والمبادئ ~~الاجتماعية؛ فكأن الاستناد إلى مذهبية ما صفة ملازمة لتطور الجماعات، وهي من النظم ~~التطورية النشوئية، كلاهما ضروري لحماية ما يخيل للناس أنه الأصلح والأتم نظاما، ~~والأفضل بقاء في حيز الأشياء الإنسانية؛ فإن المذهبية والجمود يحولان لدى الحقيقة دون ~~التطورات الفجائية، والطفرة في الانتقال من حال إلى حال بما يفسد نظام الاجتماع. # 2 # لهذا نقضي بأن الشرق قد وثب الوثبة الأولى، ولكنه لم يتحرر بعد تحريرا يمكنه من ~~مسايرة خطوات الحضارة الحديثة، تلك الخطوات التي تتطلب، على ما أعتقد، قدرا كبيرا من ~~المران على الحرية واحترام الفكر مهما كان مصدره. ~~••• # تلك إحدى صور المذهبية، على أن هنالك صورة أخرى عكفت عليها المدارس القديمة، ولم ~~تستطع المدارس الحديثة التخلص منها. # لقد عودتنا ms16 المدارس القديمة، تحت تأثير التقاليد، أن تقبل كل ما يقال على أنه الحق، ~~وعلى الأخص إذا صدر من أئمة يعلمون إلى صغار يتعلمون، فنشأت الأجيال خاضعة لهذه ~~الضرورة، ضرورة تقبل ما يقال على أنه الحق وأنه الأصح وأنه الأولى بأن يعرف حالة عكفت ~~عليها المدارس القديمة، ولم تتخلص منها المدارس الحديثة. خضوع للسلطة سواء أكان مصدرها ~~فقهاء يدرسون شريعة الله، أم معلمين يلقنون مبادئ العلم. ولم يقتصر الخضوع لهذه السلطة ~~على الأفعال، بل تناول الآراء والأفكار والمبادئ، على قاعدة أن الذين يلقنون الشرائع ~~والعلوم، رجال أخلصوا العمل لله من ناحية، وللعلم من ناحية أخرى. وبذلك قتلت فضيلة الشك ~~النفوس، فكان الذي يشك أو يسأل أو يحاول أن يفهم ما يقال، أو يحاول فهم ما لا يفهم، ~~يعتبر مريض النفس والمنازع، فيعمل معلموه بكل جهد مستطاع لكي يشفوه من هذا المرض العضال، ~~مرض الشك فيما يقال، والجدال فيما لا يفهم. # ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فليس سلطان التقاليد مقصورا على الأب في البيت، وعلى ~~المعلم في المدرسة، بل يتعدى إلى الرفقاء في المدارس والمعاهد، وكلهم شبوا خاضعين لتقبل ~~ما يقال على أنه الحق ولا حق سواه. وبذلك يفشو مرض «التصديق» منقولا عن مجموع الرأي ~~العام في المدرسة أو المعهد إلى عقل الشكوكين فيما يلقى عليهم، وبذلك لا يلبثون أن ~~تتلقفهم العدوى، فيصبحون من أكثر الناس تقبلا للتقاليد على ما نقلت إليهم، وعلى الصورة ~~التي قذفتها الأزمان. وكذلك لا يجب أن نغفل عن أن الإفلات من هذا القانون، له قانونه، ~~ولكنه قانون صارم شديد، قلما يتفق لعقول ناشئة، أن تتمكن من تنفيذ مواده الخشنة التي ~~تنوء بها أكبر العقول، بله الناشئة اللينة. # وهذه صورة أخرى من صور المذهبية، تحول بين الفكر وبين الحرية الصحيحة؛ ذلك لأن هذه ~~المذهبية تقوم على السلطة. وعندي أنه لهذه المذهبية ثلاثة أركان: # الأول: # الاعتقاد بأن الذي يلقننا إنما يلقننا الحق بقدر ما وصل إليه علمه. # ثانيا: # الاعتقاد بأنه أقصى ما وصل إليه علمه هو حد «المعرفة ms17 » الصحيحة. # ثالثا: # النزعة إلى العمل بمقتضى ما يلقننا، تحت تأثير الاعتقاد بأن ما يلقي إلينا به صحيح. # وعلى الجملة تنحصر طرق التلقين في ثلاثة أشياء؛ في التصديق أولا، وفي فهم ما يقال ~~ثانيا، وفي الطاعة لما يقال ثالثا. # على هذا جرت المدارس القديمة. على أن المدارس الحديثة، إن عجزت عن التخلص من هذه ~~المناقص، فإنها أجازت حرية الفكر، وأطلقت العنان للخيال، الذي هو أساس الوصول إلى ~~الحقائق العلمية والقضايا المنطقية على وجه عام. ~~••• # بجانب هذه الصورة الكريهة، تقوم سلطة الحكومات تحمي الأساطير، وتصوب بنارها وحديدها ~~شطر كل من يجرؤ على التشكك فيها أو الدعاية إلى ما يناقضها. على أني لا أعلم فيما يخرج ~~عما يجب أن تنتهي عنده سلطة الحكومات من شيء هو أبعد عن بديهة العقل من حماية الحكومات ~~للأساطير والتقاليد، تحت عنوان أن الحكومات وهي شخص معنوي صرف، دينا تدين به وتتخذه ~~على نفسها علما تنعت به، فيقال حكومة نصرانية، وأخرى وثنية، وثالثة إسلامية، ولغير ~~سبب [و] لغير حاجة تدعو إلى ذلك. # ليس لهذه الحاجة التي تلجأ إليها الحكومات من سبب تعود إليه إلا الوراثة القديمة عن ~~حكومات دينية، انتقلت باللقاح إلى الحكومات المدنية. وهي فوق ذلك، حاجة موهومة لا ضرورة ~~لها في قيام الحكومة، ولا في احتفاظها بسلطانها وقانونها نافذا في رعاياها. ومن أغرب ~~الأشياء أن الحكومات قد تلجأ في بعض الأحيان إلى ضرورة التغيير في الأسس التي يقوم ~~عليها الدين، فتلغي وتثبت، وتنفي وتضع، أشياء ليست من الدين الرسمي في شيء، ومع هذا كله ~~تدعي الحكومات بأنها «دينة» وأنه لها دين رسمي يحترم إزاء الرعية، ولا يحترم إزاء ~~سلطانها الشامل كل شيء في حدود أرضها. # إن هذا العصر الذي فتح للناس أبواب الحرية، وأجاز العمل والتفكير في حيز القانون ~~الوضعي، والذي جعل السوقي والسمسار في سوق الأعمال، وعلى الجملة كل فرد من الأفراد، ~~يتطلع إلى كرسي الوزارة أو رئاسة الجمهورية، هذا العصر نفسه، لم يجز للناس أن يقولوا ما ~~في عقولهم على الوجه الأكمل من الحرية ms18 ؛ فإن نظرية يدلي بها شخص من الأشخاص كافية لأن ~~ترفعه إلى أعلى مراتب الحكم، أو تكون قاضية عليه بالتسول في الأزقة والطرقات. وفكرة قد ~~تحمله إلى مصاف القديسين، أو تلقي به في غياهب السجون أعواما يكفر بها عن ذنب الخروج ~~على التقاليد الثابتة الموروثة وراثة، لا الموضوعة وضعا أساسه العقل والحقيقة. # وهذه الاعتبارات على ما فيها من صعوبة التحليل، بينة غير غامضة، بل هي جلية الغايات ~~واضحة السبل. وما أتينا على ذكرها هنا إلا لنظهر على وجه الاختصار ما يعانيه الغرب، وقد ~~أخذنا ندلف بقدمنا في مفاوزه الواسعة المترامية الأطراف. # | العقلية التركية الحديثة # مثال العقلية السليمة # في تركيا الآن ثلاث مدارس، تتعاون ولا تتنابذ، وتتساند ولا تتجادل، ويمثل كل من هذه ~~المدارس، مؤلف من كبار المؤلفين، وباحث اجتماعي من أئمة الباحثين الذين للشرق أن يفخر بهم، ~~وأن يشيد بذكرهم، وأن يتخذهم مثالا يحتذى في حرية الفكر، ودقة البحث، وسمو النزعة، والتخلص ~~من آثار التقاليد، التي ظلت حتى الآن مغشية على الفكر الشرقي بأغشيتها الثقيلة. # فالمدرسة الأولى يمثلها المؤلف العظيم الأستاذ قابيل آدم، وقد شرح مبادئها في كتابه الذي ~~سماه «كتاب مصطفى كمال أو كتاب الرجال الذين هم من طابع مصطفى كمال»، وهذه المدرسة تمثل ~~أقصى التحرر من تقاليد الماضي، وتضرب على وتر القومية والإصلاح القومي، بدون نظر إلى الماضي ~~الذي يجب أن تتخلص منه الشعوب الشرقية تخلصا كاملا، وتنتحل العقلية الغربية الحرة من كل ~~أثر من آثار العقلية الآسيوية القديمة، وقد ظهر هذا الكتاب في الآستانة سنة 1926. # أما المدرسة الثانية فيمثلها الأستاذ الأشهر، والكاتب القدير جلال نوري بك، وقد شرح ~~مبادئها في كتابه المسمى «الثورة التركية»، وهو يختلف عن الأستاذ «قابيل آدم» في أن ذاك ~~يضحي بكل المبادئ الدينية، في سبيل المصالح القومية، في حين أن نوري بك يرى أن أقوم طريق هو ~~إصلاح الدين الإسلامي إصلاحا يتمشى مع المصالح القومية. وهو مع هذا لا يريد أن يظل مسلما ~~بالمعنى الآسيوي الذي ورث عن مكة وبغداد، بل يقول بأنه من ms19 الممكن أن يظل المرء مسلما، إذا ~~أصلح الإسلام إصلاحا تتطلبه مقتضيات العصر الحديث والحاجات الوطنية، هو يعتقد أن إصلاح ~~الإسلام على القواعد التي شرحها في كتابه، هو الطريق الوحيد لخلاص تركيا والأمم الشرقية ~~الإسلامية عامة. # والمدرسة الثالثة يمثلها الأستاذ الكبير رفيق صدقي بك في كتابه المسمى «الثورة التركية ~~إزاء الثورات» - وقد ظهر في القسطنطينية سنة 1927 - وقد اتبع في كتابه طريقة المقارنة ~~التاريخية، فأحاط بتاريخ الثورات التي شهدها العالم، في القانون والحياة الاجتماعية، والدين ~~وحرية الفكر، والمعتقد والسياسة والآداب، وحاول أن يحدد موقف الثورة التركية إزاء هذه ~~الثورات. # ومن هنا ترى أن هذه المدارس الثلاث، تناظر على وجه أكمل ثلاث مدارس تقوم عليها العقلية ~~الأوروبية؛ فالأولى مدرسة التحرير الكامل والعتق التام للعقل الإنساني، والثانية مدرسة ~~الإصلاح المستمد من ميراث القرون الوسطى، والثالثة مدرسة الأقيسة التاريخية. وقد نشأت هذه ~~المدارس في أوروبا وتجذرت مرات عديدة على مقتضى تكيف المصدر، ومطاليب الزمان والمكان، ولكن ~~مبادئها ظلت ثابتة متأصلة في تضاعيف العقلية الغربية، ففازت أوروبا من طريقها بتأسيس هذه ~~الحضارة، التي هي أعجب الحضارات التي شهدها السيار الأرضي. # وليس لنا أن نمضي في شرح مبادئ هذه المدارس الثلاث، بل نرى أن أقوم سبيل، هو أن نقتطف من ~~الكتب الثلاثة التي تمثل هذه المدارس العظمى مبادئها الأساسية، تاركين للقراء والباحثين أن ~~يستوغلوا إمعانا في التفكير فيها ليفوزوا منها بلبها دون القشور. ~~••• # على أننا لا نكون بعد هذا إلا ظالمين لأنفسنا إذا لم نصرح بأن العقلية التركية الحديثة، ~~التي تقوم على هذه المدارس الفكرية الثلاث، والتي تستأثر اليوم، على اختلاف نواحيها ~~بالعقلية الإصلاحية في تركيا، هي مثال العقلية السليمة التي لا يمكن للشرق أن يخلص من ~~مصائبه إلا بالعكوف عليها، والتثبت من حقائقها واتباع موحياتها في الحياة. # مثال المدرسة الأولى: الأستاذ قابيل آدم ~~(1) # إن العقلية الأوروبية هي العقلية التي تتسق وحاجات هذه الحياة الدنيا، ونحن ~~إنما نتبع وحي هذه العقلية، بحكم أننا وجدنا في هذه الحياة. أما العقلية ~~الآسيوية، فالعقلية التي تلائم الحياة الآخرة، فإذا انتقلنا ms20 إلى الحياة ~~الباقية، فهنالك نتبع وحي هذه العقلية (ص3). ~~«إن الأمم الحية في العصر الحاضر تعيش فيما يلي الحدود الغربية من الشرق، ~~بينما يعيش في الشرق مجموع من الأمم لم يعترف لهن بحق الحياة في عصر من عصور ~~التاريخ، إن الناس في الشرق وفي الغرب يتفقون في كل الصفات العضوية، فلكل منهم ~~رجلان وساعدان، فمن أين أتى ذلك الفرق البين الواقع بين الناس في الغرب ~~والشرق» (ص4). # لا شبهة في أن الغرب وحده هو الذي يمتع الآن بأسعد حالات الحياة، وفيه أقوى ~~النظم الحكومية، والحياة فيه أقرب ما يستطاع إلى ما يجب أن تكون عليه الحياة ~~الإنسانية، إذن يجب علينا أن ندرس فن الحياة الغربية لنعرف حقيقتها. # لقد استأنست أمريكا واعترف لها بحق الحياة من طريق العلم الغربي، وتحضرت ~~اليابان بأن اتبعت وسائل العقلية الغربية، وكذلك ممالك البلقان فإنها درست هذا ~~الفن، وقبلت مبادئه، فاستطاعت أن ترفع عن كاهلها نير الاستعباد، فلا مرية إذن ~~في أن هذا الفن جرب واختبر، فدلت نتيجة التجاريب العديدة على صدق ~~موحياته. # لقد ناضل رجال الغرب ضد رجال الدين وصارعهم، لا لشيء، إلا ليفوز بتكوين هذه ~~العقلية، وما زال يصارع ويناضل، حتى استطاع أن يقيم للحياة فنا جديدا، هو ~~الآن قبلة الغرب بل ومعبوده الأعلى. # لم يكن لمذاهبنا القديمة سوى قاعدة منطقية واحدة، ولم تتكون فيها سوى عقلية ~~بعينها، وتلك القاعدة، وهذه العقلية، لم ينصرفا طوال الأعصر عن شيء واحد، هو أن ~~يرجعا بكل شيء استنتاجا واستقراء إلى الكتب الدينية. هذا بينما كانت العقلية ~~الغربية تنظر في الحياة بعين إنسانية، وتنظم الحياة على مقتضى ما ترى هذه العين ~~من حقائق الوجود، وإنه لمن أشد الأشياء خطرا أن نبحث الحياة الغربية بعقلية ~~شرقية؛ لأن من الجائز أن يغوينا هذا النهج، فنقبل جزءا من مجموع الحياة ~~الغربية، أو أجزاء نكيفها تكييفا خاصا أو نرفض قبول ناحية من نواحيها، أو ~~نكل تطبيق شيء إلى المستقبل، ثم نقول: إن لدينا من الحياة الغربية أجزاء ~~ونتفا. # وما من شك في ms21 أن هذا النهج كان سببا في وقوع أكبر المصائب وأعظم الكوارث ~~التي انتابت الشرق في الماضي. ولقد عملنا بأقصى الجهد لكي نوفق بين الناحيتين، ~~فدلت التجاريب على أن التوفيق بينهما مستحيل؛ فإن أهل الغرب إنما يعتقدون بأن ~~الناس للناس (أي إنسانيون)، بل إن مطامعهم الأولية في الحياة، تنحصر في أن ~~يعيشوا في هذه الدنيا على أكمل وجه تتطلبه الرجولة الكاملة. أما أهل الشرق ~~فموقنون بأن الناس ملك لله، ويحاولون دائما أن يحققوا وجود الحياة الأخرى في ~~هذه الحياة. # ولا جرم أن هاتين النظرتين لا يمكن التوفيق بينهما (ص7)، على أننا لم نعترف ~~بهذه الحقائق في الماضي ولم نواجهها بما تتطلب من الشجاعة الأدبية والاستقلال ~~في الرأي. ومن هذا كله نجد أنفسنا في أشد الاحتياج لأن نصطبغ بصبغة العقلية ~~الأوروبية الحديثة. وما من سبب لذلك التنابذ الشديد الذي قام بين فريقي الأمم ~~الشرقية (فريق الجامدين وفريق المجددين على النمط الغربي) إلا وجود هذه العقلية ~~في ناحية، حيث تقوم في ناحية أخرى العقلية الدينية العربية. وهذا أخطر ما يتعرض ~~له الشرق من الأحداث. ~~(2) # لم تسلم الأمم الآسيوية يوما من الفقر والتعاسة، وليس لهذا من سبب سوى أنها ~~اعتادت أن تستقرئ أحكامها المعاشية كلها من تشريعها الديني المقدس، ولن تقف على ~~طابع آخر غير هذا إذا ما قلبت تاريخ مصر والهند وفارس واليابان القديمة والصين ~~وطوران وبلاد العرب؛ فإن هذه الأمم لجهلها، قد نسبت لأمرائها وسلاطينها، أو ~~لغيرهم من مقدمي الانتهازيين، صفات قدسية حينا، أو سلطة إيحائية حينا ~~آخر. # وكان من نتائج هذه العقلية أن تردت الأمم الآسيوية في وهدة التعاسة والشقاء ~~(ص14). # أما المعركة القائمة اليوم، فموجهة بكل ما فيها من قوة إلى القضاء على هذه ~~العقلية الآسيوية. والحالة جلية واضحة، فلست تجد في أوروبا مثقفا أو غير مثقف، ~~يمضي في أعماله متوكلا على سلطة الوحي. أما في آسيا فإنك لا تجد شيئا اللهم ~~إلا الأنبياء والقديسين والحكام الذين يستمدون سلطتهم من الله مباشرة. تجد ~~الأوامر والنواهي القدسية، متغلغلة في تضاعيف العديد ms22 الأوفر من الشئون الخاصة ~~الصرفة للناس، محتكمة في كل وجه من أوجه حياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، ~~والتجارية والإدارية. ولديهم أن هذه الأوامر والنواهي، هي أوامر الله ونواهيه، ~~وعلى هذا لا يمكن تبديلها أو تكييفها؛ فإذا تبدل الزمان وتكيف، وجمدت هذه ~~الأوامر والنواهي، مقصرة عن اللحاق بروح العصر نشوءا وارتقاء، فلا تجد من شيء ~~اللهم إلا نبيا آخر مرسلا بتعاليم جديدة. ولا مرية في أن تتابع ظهور ~~الأنبياء في آسيا طابع خاص بها، ولا تفضلها فيه بقعة أخرى من بقاع الأرض ~~(ص16). # على أن أعجب ما ترى في كل هذا، أن كل نبي من هؤلاء الأنبياء قد نصح وأهاب بهم ~~أن ينكروا حقيقة هذه الحياة بكل ما فيها، وأن يتلظوا حرقة إلى الحياة الآخرة. ~~وفي هذا ينحصر كل ما يقصد بوذا من النرفانا، وكل ما يقصد الإسلام والنصرانية ~~واليهود من الفردوس (ص17). وهذه العقلية قتلت في الشرق فكرة النقد، كما غشت على ~~العقول والأفهام بأغشيتها الثقيلة. # بيد أن هؤلاء الأنبياء الذين حكموا الدول وساسوا الممالك لم يقنعوا بأن ~~يفرضوا على الناس أوامر الدين ونواهيه، بل صبغوهم بأخلاقهم، ودهنوهم بطلائهم. ~~فإن الإسلام مثلا، قد صبغ المسلمين - فضلا عن الدين - بصبغة الحياة العربية ~~الاجتماعية في كل مكان وآن، واضطر الناس أن يقبلوا مذعنين، لا الله والدين ~~وحدهما، بل حياة العرب العائلية والاجتماعية، والخلق العربي والعادات العربية ~~بصورة كلية، واللغة العربية بصورة جزئية. كذلك لم يفرقوا بين الدين والقومية؛ ~~فإن الدين والقومية ظلا في الشرق شيئا واحدا طوال الأزمان؛ ولهذا لا نقع في ~~الشرق على حركة اجتماعية صبغت بالروح القومية على إطلاق القول (ص18). # لقد لعن بوذا هذه الحياة، وكذلك مذاهبنا القديمة؛ فإنها لم تعمل إلا لتمهد ~~الطريق للحياة الأخرى. ولقد أخذت أمم آسيا كلها بموحيات هذه التعاليم النظرية. ~~وعلى هذه الطريقة قيد «اللاما» أمة الصين «والبراهمة» أمم الهند، و«الآخوند» ~~أمة الفرس، وأئمة الإسلام العالم الإسلامي. أما العقلية التي اختفت وراء هذه ~~التعاليم فتتكون في الاعتقاد بما يأتي: ~~(1) # إن الحقيقة لا يمكن معرفتها بالعقل ms23 بل بالتقاليد. ~~(2) # إن الحياة لا يجب أن تحكم بمقتضى المبادئ الإنسانية المستمدة من ~~غرائز الإنسان، بل بمقتضى الشرائع المنزلة التي لا تتبدل ولا ~~تتغير. ~~(3) # هذه الحياة فانية، والأخرى باقية. ~~(4) # نسبة كل شيء إلى القضاء والقدر. ~~(5) # رفض الاعتقاد بضرورة الحياة القومية، والعكوف على الخضوع ~~للتقاليد الدينية. ~~(6) # الخضوع الكامل للرئيس الروحي. # وهذه القيود الحديدية والأصفاد الثقيلة لم تترك للأمم الآسيوية من فرصة ~~للخلاص. ولقد كانت هذه العقلية بمثابة تجربة حاول واضعوها أن يعرفوا إن كانت ~~بذاتها وسيلة ناجعة للقضاء على الحياة وعلى الإنسانية. ولا مرية في أنها قطعت ~~كل علاقة كائنة بين الناس والحياة الدنيا (ص19). # ولما كانت علاقة الإنسان بهذه الحياة متينة، وأواصره بها لا تفصم، لم يكن ~~هناك من سبيل لكي تعيش هذه العقلية وتحيا إلا بأن يقتل العقل الإنساني ويلغى من ~~هذا الوجود. ولولا هذا لظهر سريعا أن الشرائع المنزلة لا تتفق وحقائق هذه ~~الحياة؛ لهذا لم يتوان مشيدو العقلية الآسيوية وواضعو قواعدها، عن أن يجعلوا ~~أساسها الاعتقاد بأن الحق في هذه الحياة تقليدي لا عقلي. ولكن نتساءل ما هي ~~التقاليد؟ ولماذا لا يكون لدينا من الحرية ما نستطيع به أن ننظر في هذه ~~التقاليد نظرة تحليل نحكم فيها العقل؟ تلك التقاليد التي لم تسم بنا يوما إلى ~~أفق السعادة والحرية والثروة ومعرفة حقيقة الإنسانية، بل كثيرا ما عضدت أسباب ~~التعاسة والشقاء، وقوت جذور شجرة الاستبداد التي تمتع بثمراتها الرئيس الروحي ~~خلال كل الأزمان. وبما أن هذه التقاليد لم توضع إلا لتطبق على الإنسان عمليا؛ ~~فإن العقل الإنساني يحس ضرورة بأنه مقسور على أن يبحث في أصلها ونشأتها ~~وماهيتها؛ ليعرف إن كانت التقاليد سموما قاتلة، أم إنها عقاقير لقمان السحرية ~~(ص19). # إن من أبلغ السفسطة أن تقول بأن العقل الإنساني لا يستطيع أن يدرك الحقيقة. ~~إن كل الذين أوصلوا إلينا هذه التقاليد وبثوها في نفوسنا، قد اتخذوا العقل ~~الإنساني وسيلة لبثها. وما هذه التقاليد لدى الواقع إلا مجموعة من السخف لا ~~يمكن أن تقاوم قوة النقد ساعة واحدة. ~~«لم ms24 يكن في مستطاع أحد من ناقلي هذه التقاليد (الأنبياء )، أن يوحي إلينا ~~برسالة تساعدنا على اختراع آلة من الآلات، أو استكشاف الكهربائية أو البواخر، ~~أو الطيارات، أو التلفون اللاسلكي، أو مبادئ الطب، التي تساعدنا على مقاومة ~~داء السرطان أو السل أو غيرهما من الأمراض. ولقد ثبت في روعنا اليوم أن ما يجب ~~أن يوحى إلينا به من العالم المجهول إنما ينحصر في مثل هذه العلوم لخير الإنسان ~~والإنسانية.» ~~«إذا قلبت تاريخ آسيا برمته منذ أبعد العصور إلى اليوم، لما استطعت أن تلتقي ~~في سفرك الطويل، بقديس واحد من أولئك القديسين الذين اتخذوا العلم للقداسة ~~طريقا. في حين أن تاريخ الدنيا يفيض بذكر الكثيرين ممن هم من هذا الطابع ~~الخالد، أولئك الذين استكشفوا الحق وعرفوا الحقيقة، أولئك الذين آمنوا بأن الحق ~~عقلي لا تقليدي، لا الذين ظلوا طوال الأعصر ينتظرون الوصول إلى الحق من طريق ~~التقليد. ولا شبهة في أن رجال آسيا، وهذه عقليتهم، لا يستطيعون أن يدركوا من ~~الحقيقة شيئا» (ص20). ~~«نتساءل لماذا لم يكن في مقدور المذاهب الإسلامية أن تنقذ الإمبراطوريات ~~الإسلامية التي سقطت على التوالي، وأخصها الإمبراطورية التركية مثلا؟ والجواب ~~أن ليس لهذا من سبب، إلا أن عقليتها قد عكفت على الاعتقاد بأن الحق تقليدي صرف، ~~أما العلم اليقيني الحديث، فيعتبر أن هذه العقلية سم قاتل؛ لأنها بعد أن تحتكم ~~في الفرد، وتستقل بوجدانه وتبعده عن التفكير في أمر نفسه، يكون في مستطاعها أن ~~تجعله يعتقد بصحة أية من الأحكام الدينية فيما يتعلق بحياة الأسرة أو نظام ~~الحكومة. وهذه العقلية هي السبب المباشر فيما نرى من سوء النظام والعادات ~~القبيحة، كتعدد الزوجات في الحياة العائلية، وانقسام الناس إلى أحزاب وطوائف في ~~النظام الاجتماعي في الشرق كله» (ص22). ~~«انظر في نظام الحكومات أو تاريخ الشعوب التي مضت عاكفة على هذه العقلية، ~~فماذا ترى؟ ملك مستبد بعيد عن التقيد بما توجبه الشرائع الأدبية، منعوت دائما ~~بأنه ظل الله فوق الأرض، وقصر منيف الظاهر مشمخر البناء، وما هو في الحقيقة ~~إلا ms25 دار بغاء رسمي تملأ جوانبه السراري والجواري. بل إنهم عبارة عن مجموع من ~~أبناء البشر، تعساء بعيدين عن حقيقة الحياة» (ص25). ~~«إن أهل الكلام من المسلمين لم يعنوا بتحرير الضمائر والأفكار، كما أن ~~التشريع الإسلامي لم يحب أهل الإسلام بحق الحياة والعمل. بيد أن كل الأمم ~~الآسيوية قد حكمت بنظامات وتعاليم دينية، وكل القوانين التي فرضت على هذه ~~الأمم، قد استمدت من هذا النبع وحده. ولما كانت هذه القوانين بمقتضى ذلك غير ~~متغيرة ولا متحولة، قد قاومت في كل عصور التاريخ جولة هذه الأمم نحو النشوء ~~والارتقاء، كلما حاولت أن تخطو نحوه. إن أهل الكلام قد أعاقوا العقل عن النماء ~~والتطور، كما أعاقت النظم التشريعية تطور الشعور الاجتماعي، فنتج عن ذلك أن ~~أصبح من أقصى المستحيلات أن يقع في آسيا انقلاب ثوري، لا في الصورة العقلية، ~~ولا في النظام الاجتماعي» (ص26). ~~«تحت تأثير هذه العقلية قيدت الإرادة، فقتلت حينا، وأعطيت من الحرية قدرا ~~ضئيلا حينا آخر، في حين أن الإرادة الإلهية ظلت طوال الأعصر القوة الحاكمة ~~بأمرها، وردت الإرادات والأسباب جماعها إلى القضاء والقدر الذي تصرفه القوة ~~القدسية الغيبية. وهذا هو السبب فيما يدعى ب «البطالة الشرقية»؛ تلك الصفة التي ~~يناظرها ما نسميه «الحضارة الأوروبية».» ~~«إن كل ما حاول الغرب أن يصل إليه من طريق الإكباب على درس العلوم ~~اليقينية، حاولت الأمم الآسيوية أن تبلغ إليه من طريق الأناشيد والصلوات والسحر ~~والأرواح» (ص27). ~~«جب نواحي آسيا وافتح باب أي قصر من قصورها الفخمة الضخمة؛ فإنك لا تجد إلا ~~قطيعا من رجال ونساء اتخذوا الزنا حرفة في الحياة. وهذه هي بعينها حال الخليفة ~~والإمام والمشايخ. إن هؤلاء الرؤساء الذين أمروا الناس بأن يصوموا وأن يتعبدوا ~~ابتغاء وجه الله، وفي الوقت ذاته صرفوا الناس عن كثير من خيرات هذه الحياة، لم ~~يكن لهم في حياتهم الداخلية من بغية اللهم إلا الحصول على اللذات البدنية من ~~أية طريق وبأية وسيلة. وهذا التناقض الواقع بين ما يأتون من فعل، وما يتفوهون ~~به من كلمات ms26، قد دل على خبثهم وخيانتهم وفتكهم بعقول الناس، وكان في الوقت ذاته ~~سببا في أن تحتكم النزعات السفلية من خيانة وفجور في إدارة الحكومات؛ ولهذا ~~تجد أن هذه قد مضت مستبدة بأمرها في كل طبقة من طبقات السلك الحكومي، حتى لقد ~~اعتبرت الخيانة، كما اعتبر الغش والخداع، من الأمور المشروعة؛ تأييدا للمآرب ~~الذاتية وخدمة لمصالح الأفراد (ص28). # لم تكن الديانات في تاريخ آسيا كله إلا حركات رجعية أملتها الغيرة التي تزود ~~بها كل رسول جديد ضد الرسل الأقدمين. إن ديانات آسيا كافة واحدة في جوهرها؛ فإن ~~تعاليم كونفوشيوس وبراهما وموسى وعيسى ومحمد كلها واحدة، فإن اختلفت فإنها إنما ~~تختلف في التفاصيل لا في القواعد (ص30). # هذا هو الحق الذي نقع عليه كلما قلبنا تاريخ الأمم الآسيوية. لقد خضعت آسيا ~~لهذه العقلية، ولم يكن لديها من القوة الذاتية ما تستطيع به أن ترمي عن كاهلها ~~ثقل هذه التقاليد. إذن فلا سبيل إلى الخلاص إلا بلقاح يستخلص من العقلية ~~الأوروبية، وهذا هو السر فيما نرى من تقدم اليابان المدهش خلال الخمسين عاما ~~الفارطة، إذا قسنا تقدمها بتقدم الصين مثلا. إن الصين لا تزال إلى اليوم واقعة ~~تحت تأثير الذهنية الآسيوية، أما اليابان فقد نفضت عن كاهلها هذه الذهنية ~~واستعاضت عنها بالذهنية الأوروبية إجمالا وتفصيلا. ولقد يظن البعض أنه من ~~المستطاع أن تحوز الأمم هذا التفوق الكبير من طريق الاستعانة بالعلوم العملية ~~وحدها؛ غير أن هذا مستحيل؛ لأن المسألة مسألة عقلية تتناول كل بناء، الفكر ~~والعواطف والمشاعر والحياة، تنكشف وتتراكز خلال الأجيال. إن «العقلية» كل لا ~~يمكن تجزئته إلى أقساط ونتف، وعلى هذا وجب أن تلغى العقلية الآسيوية كلية؛ لتحل ~~محلها العقلية الأوروبية في مجموعها. ولن تجد للخلاص طريقا آخر» ~~(ص31-32). ~~(3) ~~«الأتراك أمة آسيوية؛ ولذا كان من الطبيعي أن يعيش الشعب التركي وأن يعمل ~~متأثرا بوحي العقلية الآسيوية، وإنما ينحصر غرضنا الآن في أن نبحث حياتنا ~~وتاريخنا؛ لنرى كيف زودتنا الثورة الأخيرة بحياة جديدة، وأن نفهم طبيعة تلك ~~الواجبات والالتزامات التي فرضتها علينا ms27 عقلية الثورة، ولنحكم على مقدار ما هو ~~مطلوب منا من تضحيات، حتى نستطيع أن نغرس هذه العقلية في نفسية الشعب بشكل ~~قاطع» (ص33). ~~«لقد عودنا على أن نلقن بأننا عبيد الملك، ظل الله فوق الأرض، وأننا له ملك ~~ومتاع. وهذا يتضمن بالضرورة الاعتقاد بأنه ليس لدينا من شيء يمكن أن يقاوم قوة ~~خليفة الله الواحد القهار، المتربع فوق عرش الأرض، وأنه لن يكون من نظام ~~اجتماعي أثبت أصولا من اجتماعنا، ولا حياة دنيوية أسعد ولا أمتع من حياتنا. ~~بينما كانت الحقائق الملموسة، توحي لنا كل حين بأن في أنحاء مملكتنا فقرا وجوعا، ~~وأن جزءا بعد جزء من أطراف الإمبراطورية كان يؤخذ عنوة ورغما منا نهبا ~~واغتصابا.» ~~«وكانت لنا حكومة هي أضعف من أحط الحكومات الأوروبية، متردية في حمأة الرشوة، ~~مفككة الأوصال، مضطربة الأحوال، بعيدة عن حكم الشرائع والآداب. وكنا نستجدي ~~الغرب في كل شيء نحتاج إليه. ومع كل هذا فقد كان لدينا «ظل الله فوق الأرض» ~~وأربعون زوجة من زوجاته، وأربعون غلاما ممن تعرف ولا أذكر، لا شغل له إلا أن ~~يحمل الشعب على أن يتجرع فكرة الجنة ونعائمها على ما وضعها رجال المذاهب ~~القديمة، كان قد أصابنا الانحلال في الداخل، ولم يكن لدينا من سبيل لكي نفهم ~~الحق، وأن نعرف الحقيقة، إلا بأن نتصل من طريق ما بالمعرفة الأوروبية، وأن ~~نعترف بتفوق العقلية الغربية، وأن نكب على درس الأسباب التي غرست الشقاء ~~والتعاسة، في أرض من كنا نعتقد أنه «ظل الله فوق الأرض». ولما فعلنا بان لنا ~~أن «ظل الله فوق الأرض» لم يكن شيئا، اللهم إلا صنما مفقود القوة والروح، كأي ~~صنم من أصنام بوذا في الهند، وكان لنا بمحمد أسوة؛ فكما أنه حطم أصنام مكة ~~والمدينة، كذلك نحن حطمنا أصنام الخلفاء والمذاهب القديمة والتكايا والقبور. ~~هذا هو معنى الثورة، أما منافعها فسوف تكون عظيمة لخير الأمة وسعادتها في ~~المستقبل» (ص34). ~~«إن الإمبراطورية التركية القديمة كانت دولة دينية، لقد تبدلت هذه ~~الإمبراطورية من نظام التكية السلجوقي القديم بنظام ms28 المذاهب، وأخضعت الناس ~~قسرا للمنطق التحكمي الذي اختص به كل من ندعوه «حجة الإسلام».» ~~«ومع كل ذلك، فإن هذه «الدروشة» وإن شئت فادعها «الباطنية»، كانت السبب ~~الأقوى الذي نجى الأمتين، التركية والفارسية، من أن تستعربا بشكل حاسم، وفي هذا ~~المجال وحده بدأ النضال بين الإسلام والقومية. أما القومية فقد تفوقت وانتصرت ~~في النهاية» (ص39). ~~«بعد هذا بدأ عصر الملوك العثمانيين، وفي هذا العصر تفوقت المذاهب العربية ~~القديمة وأساليبها كل تفوق، حتى لقد اتبعت أساليب المذاهب البغدادية في الإجمال ~~والتفصيل، وهنا شبت ما ندعوه «الشريعة» التي استمدت كل أحكامها من الأوامر ~~والنواهي المقدسة المنزلة، فكان لزاما أن لا تعترف هذه المذاهب بأن تغير الأزمان ~~موجب لتغيير الأحكام. # لقد نظرت هذه المذاهب إلى القسطنطينية كما نظرت لبغداد، ولم تفكر ساعة واحدة ~~في أن تدرس البيئة التي تحيط بهذه العاصمة وأن تتعرف طبيعتها وأن تكيف مبادئها ~~بما يلائم هذه البيئة. لقد مضت المذاهب تزود الناس بعقاقير استمدتها من مصادر ~~كانت في مكة قبل بغداد، وكانت من قبل أن تكون في مكة بين أعراب البادية. # فهل يمكن أن يكون مستطاعا أن تحتمي الشعوب بمثل هذه الشريعة التي لم تدل ~~يوما على أنها ملائمة لتطور الحالة الاجتماعية التي يقتضيها نماء العقل ~~البشري؟ إنه يتعذر أن نناقش هذه الحقيقة، ليس من الممكن أن تتطور قوة ما من ~~القوى وتمضي مرتقية، وهي في الوقت ذاته بعيدة عن التأثر بمبادئ التطور وماهيته. ~~إن مثل هذه القوة لا تنتج من شيء، اللهم إلا التراجع والاندثار» (ص49). ~~«إن المبادئ التي استمدت من مكة ومن رمال البادية هي التي أعاقت تركيا عن ~~التقدم ستة قرون طوال. لقد حكمت هذه المبادئ الشعب التركي عقليا ومدنيا ~~واجتماعيا وسياسيا وإداريا ومدنيا، وعلى الجملة احتكمت في كل مظاهر ~~حياته. ولقد استنفدت المدارس كل موارد تركيا المالية، ولكن ماذا كانت طبيعة ~~الأشياء التي تدرس بين جدرانها؟ لم يدرس فيها حرف واحد من اللغة التركية، بل ~~كانت العربية هي الأساس، وأكب الناس على درس مقاطيع من القرآن ms29 وتفسيرات فيه، قد ~~أربت على المئات والألوف من الصفحات، التي كتبها واضعوها وحكموا فيها منازعهم ~~وشهواتهم تحكيما. وكذلك درسوا الحديث، تلك الأحاديث التي وضعها وانتحلها رجال ~~من مختلف الأمم، وفي مختلف الأزمان» (ص49). ~~«بيد أن هذه الأساليب التعليمية، لم يكن لها من صلة بالشعب التركي، ولا بلغته ~~ولا بثقافته، بل لم يكن لها من صلة بالحياة ذاتها، وليس في تاريخها من شيء هو ~~أدعى إلى الخجل، من أن تفرض السراي - الباب العالي - على الشعب التركي أسلوبا ~~تعليميا عربيا في قوامه ومبناه. ومن الغريب أننا خضعنا لهذا النظام خضوع ~~العبيد والإماء ستة قرون طوال» (ص52). ~~«لقد وضعت المذاهب علما قدسيا بنته على تفسيرات خاصة فسرت بها الأحاديث ~~وآيات القرآن. أما رجالها فقد أعلنوا الحرب والنضال على كل من حاول أن يخرج عن ~~هذه الدائرة. وبهذا سد باب العلم وحظر على الناس ولوجه» (ص55). ~~«لقد مضت المذاهب حاكمة بأمرها في السراي وفي التكايا، ولم يكن على المتربع ~~في السراي، خليفة العالم «وظل الله فوق الأرض» من واجب إلا أن يحمي بصولته، طريقة ~~تطبيق تلك التعصبية الدينية التي تأصلت في بغداد تطبيقا عمليا. وكان من أثر ~~هذا أن ألغيت حرية الضمائر وقتلت طريقة النقد العقلي. وبكثير من الخطأ في ~~التفسير والتلاعب به، فصلت المرأة عن الحياة الاجتماعية وأبيح تعدد الزوجات، ~~فلم يصبح للمرأة في عالم الاجتماع من مكان تشغله» (ص62). # كذلك فرضت المدارس على الناس أحكاما شاذة لتقوي بذلك دعائمها وتثبت مركزها؛ ~~فقد قالت إنه فجور أن تكلم امرأة أحدا من غير أهلها، بل قضت أن ظهور شعرة ~~واحدة من شعرها ليراها أجنبي سبب كاف للطلاق، في حين أنها لم تذكر أن الخلفاء ~~الذين ولدوا بغير عقد شرعي، هم بذاتهم نبت لغرس غير مشروع (ص64). ~~(4) # طالما خيل إلينا أن المسألة الشرقية التي قامت في دوائر أوروبا السياسية من ~~أكبر المخاطر التي تعرضنا إليها. ولقد جر الخوف من هذه المسألة إلى جهود كثيرة ~~بذلت في سبيل الإصلاح. على أن ضروب هذا الإصلاح لم يكن ms30 فيها من ورح الانقلاب أو ~~التجديد شيء ما، بل كانت مجرد وسائل سياسية تذرع بها الحاكمون لإنقاذ الدولة. ~~على أن جزءا كبيرا من هذه الإصلاحات بذاتها كانت من عمل الأوروبيين لا من ~~عملنا (ص72). # وفي الحق إن هذه الحركات الإصلاحية لا يمكن أن تعتبر حركات تجديد؛ لأنها لم ~~تصدر من الشعب، مصدر كل إصلاح وتجديد (ص73)، وإذا كان قدماء الكتاب والمؤلفين ~~لم يخرجوا عن حد النقل عن منتجات الشرق؛ فإن كتاب عهد الإصلاح، كما يسمونه، ~~لم يتعدوا حد النقل عن منتجات الغرب، فلم يكن في كلا العصرين نزعة إلى التجديد ~~أو الابتكار (ص74)، والدليل على ذلك أن المصلحين لم يحاول أحد منهم أن يلمس ~~بنقد أو تقرير حقيقة الحياة العائلية في تركيا (ص80). لقد نقل هؤلاء مبادئ ~~الثورة الفرنسوية نقلا حرفيا بلا تحوير أو تبديل. على أن الثورة الفرنسوية ~~لم تتناول نظام الأسرة في أوروبا بأي حدث؛ ذلك لأن حياة الأسرة الأوروبية كانت ~~قد وضعت مرساتها على نظام ثابت لا يقبل التغيير (ص80). # لقد كانت المسيحية ديانة آسيوية، كما كان الإسلام، غير أنها لم تستقو في عصر ~~من العصور على شعب من الشعوب الأوروبية التي اعتنقتها فغيرت مزاجه الاجتماعي. ~~لقد انتقلت المسيحية إلى روما في صورة فكرة، ولكنها لم تنقل معها النظام ~~الاجتماعي الذي خصت به البيئة اليهودية في الشرق بل على الضد من ذلك؛ فإن ~~المسيحية قد تطورت وفقدت جزءا عظيما من ماهيتها الأصلية، بما أثرت فيها ~~البيئة الاجتماعية الرومانية، مثال الحياة الأوروبية في ذلك العصر؛ فلو أن ~~المسيحية كانت قد زحفت على أوروبا، من أورشليم بجيوشها وجحافلها، كما زحف ~~الإسلام على الغرب، وأخضعت أوروبا لسلطانها وسطوتها، إذن لألغيت الحياة ~~العائلية في أوروبا، ولحلت محلها شرائع الأعراب من أهل البادية، ولتبدلت أوروبا ~~من حياتها الأولى حياة أخرى. بل ولا نغالي إذا قلنا بأن أوروبا الحديثة لم تكن ~~لتوجد على ما هي عليه اليوم. على أية حال نقول بأن تاريخ أوروبا قد ذهب في ~~متجه وحده؛ وبذلك أنقذت الحياة العائلية ms31 ونجت من تخريب التقاليد خلال كل ~~العصور (ص81). # أما نحن فلم يكن لدينا شيء من روح هذا النظام العائلي، ذلك النظام الذي ولد ~~في الأمم الأخرى روح القومية (ص82). ولقد حاول المصلحون عبثا أن يوفقوا بين ~~الناحيتين؛ فإنهم من طريق المدارس القديمة العتيقة قبضوا على زمام التعليم في ~~المعاهد، ومن طريق المحاكم الشرعية الدينية أخضعوا نظام الحقوق المدني، وباتباع ~~ما أوحت به السياسة الإسلامية الصرفة، استطاعوا أن يلغوا العقلية التركية ~~إلغاء كاملا (ص83). ~~«لم يكن ذلك الجهد السياسي بشيء إلا جهد القانط اليائس يحاول إنقاذ دولة عملت ~~فيها أيدي الفساد. إنه لم يكن تجديد ولا إصلاح بالمعنى الصحيح (ص86). لقد صم ~~آذاننا إعلان الحكومة النيابية مرتين. ولم يكن لدى الذين أعلنوها من غرض، اللهم ~~إلا أن يخضعوا الطوائف العثمانية المكونة من شعوب وعناصر متباينة، لقوة الخلافة ~~أو السلطنة مجتمعة، فلم يفكر المصلحون يوما ما، في أن يضعوا حدا حاسما ~~لتفوق السلطة الدينية، فيحيوا بذلك الشعور القومي في قلوب الأتراك» ~~(ص91). ~~«يقوم القانون في فرنسا على فكرة الحق، وفي ألمانيا على فكرة القوة، وفي ~~إنكلترا على فكرة المنفعة (ص92). أما فكرة الحق ففكرة إنسانية صرفة وليست بفكرة ~~قومية، على أننا نعيش اليوم في جو مشبع بفكرة القومية ولا شيء غيرها؛ ولهذا كان ~~من الواجب بدلا من أن نتبع فرنسا أن نحذو حذو ألمانيا أو إنكلترا. إن القومية ~~ألغت الفكرة العثمانية، وردت فلسفة ~~الذاتية # Subjectivism # إلى حيث أصبحت بلا فائدة أو نتيجة، بل محت فكرة ~~الفردية في الاقتصاد، وأضحت معها الشرائع المنزلة بلا معنى يلائم الحالة ~~الراهنة. ومع تفوق الروح القومية أصبحت الآداب الدينية لدى الواقع بعيدة عن حكم ~~الآداب المدنية. لهذا وجب أن نلغي الحياة العربية إلغاء تاما، وأن نتنكب ~~طريق السياسة الإسلامية تنكبا، ونتحرز منها تحرزا» (ص107). ~~«كان للموفقين ثلاثة أغراض تنحصر في أن نتمسلم ونستجدد ونستترك. وكان هذا ~~في حيز المستحيل عمليا؛ فإن الأخطار التي انتابتنا من جراء القوانين التي ~~استمددناها من الإسلام كانت جلية ظاهرة، واستخدام القوانين التركية التي ms32 ذاعت ~~قبل الإسلام كانت موضع الشك. لهذا لم يصبح أمامنا إلا العمل للتجديد، ولم يكن ~~للتجديد من وسيلة إلا ثورة طاحنة (ص109)، ولا سبيل للمستقبل إلا هذه ~~السبيل.» ~~(5) ~~«ما هي الأسباب الأولية التي أحدثت تلك الفروق الكائنة بين العقلية الآسيوية ~~والعقلية الأوروبية؟ سأحاول أن أعرف السبب من طريق تاريخي.» ~~«يجب علينا أن نعي بداءة ذي بدء أنه لم يقم في أوروبا من نبي مثل بوذا أو ~~كونفوشيوس أو موسى أو عيسى أو محمد، ممن حملوا إلى الناس أوامر ونواهي إلهية، ~~ثم ألزموهم الخضوع لها قسرا وجبرا» (ص123). ~~«تصادفنا في البدء حضارة رومانية قامت تعقيبا على الحضارة اليونانية التي ~~حازت أرقى ما وصل إليه العقل البشري من الرقي والذكاء في التاريخ، على أن ~~الحضارة اليونانية كانت حضارة إنسانية النزعة في مجملها وفي تفاصيلها. ولقد بحث ~~العقل اليوناني الحياة ووضع من طريق هذا البحث نظاما للحقوق الإنسانية يوافق ~~ما تقتضي هذه الحياة من حاجات. وكذلك الفلسفة اليونانية فإنها فلسفة صرفت كل ~~همها لخير الإنسانية، ولكنها لم تأت من طريق التنزيل والوحي على أنبياء ورسل، ~~كما هي الحال في الشرق. بل إنك لا تعثر في بلاد اليونان على فيلسوف انتحل لنفسه ~~صفوة النبوة، أو ألقى على كاهله عبء الرسالة» (ص124). ~~«لقد ورثت روما البربرية هذا التراث عن اليونان، وعلى الرغم من أن اليونان ~~كأمة قد انحلت وزالت، فإن الفلسفة اليونانية ظلت الحاكمة بأمرها في العالم ~~الروماني والحضارة الرومانية (ص125)، غير أن أنانية روما الاستعمارية قد هزت ~~قواعد روما وخلخلتها. وفي ذلك العهد أمكن لحواري من حواريي المسيح أن يملك منها ~~الزمام، وأن يقبض على أعنتها» (ص125). ~~«حقيقة أنه هبط روما وفي يده كتاب، وكان يحمل فضلا عن ذلك نزعات المنطق ~~الديني الآسيوي ليشق به لنفسه طريقا، ولكنه لم ينته إلا بأن بث فكرة مجردة لا ~~غير؛ ذلك لأن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وكل نظاماتها، والدليل على هذا ~~أنها ليست فكرة الحق المسيحية هي التي تسلطت على أوروبا، بل فكرة الحق ~~الرومانية. وكذلك عاش ms33 نظام الأسرة الروماني وأينع وآتى أكله، في حين أنه لم يقو ~~نظام واحد من نظامات آسيا الاجتماعية أن يلج لروما بابا، وكذلك لم تعرف هناك ~~عادات المسيح، بل إنه لم يتغير في روما من شيء إلا اسم الإله الذي كانوا ~~يعبدون، وهذا الدين على هذه الصورة هو الذي ذاع وانتشر في أنحاء الإمبراطورية ~~الرومانية» (ص126). ~~«على هذا النمط ملكت ثانية الديانات المنزلة زمام أوروبا. إنها ديانة قامت ~~كغيرها على الأوامر والنواهي الإلهية، وكانت من الناحية المنطقية على أبعد ما ~~يتصور من الإبهام والغموض والتعقيد، فكان هذا سببا في أن تتسع لكثير من ضروب ~~التفسير الاختياري الذي لا يتقيد فيه مفسر بنص ولا قاعدة. غير أنه على الرغم من ~~كل هذا أنقذت الحضارة الرومانية أوروبا؛ فإن كل أمة من الأمم التي اعتنقت ~~النصرانية لم تتخل لحظة واحدة عن عقيدتها الأصلية إزاء الحق الإنساني، ولم ~~تبعد قيد أنملة عن نظاماتها العائلية وغيرها من ظواهر الحياة كما ورثت عن ~~الحضارة الرومانية. لهذا قام نضال، وكان صراع بين العقلية المسيحية المقدسة، ~~وبين العقلية اليونانية الرومانية، دار حول نظام البابوية» (ص126). ~~«لقد نهجت المسيحية نهج كل الديانات الأخرى. لقد علمها زعماؤها على أنها ~~تقاليد لا تنقض. وبذلك وقف تيار العلم الارتقائي، وحصر التعليم بين جدران ~~المدارس المسيحية، غير أنه بجانب هذا قامت الحياة الاجتماعية ونظاماتها غير ~~ممسوسة بشيء من هذه الروح. والحقيقة أنه لم يكن للمسيحية من نظامات ومعاهد ~~تتغلب بها على النظامات والمعاهد التي كانت في أوروبا من قبل. وهذا هو السبب في ~~أن أوروبا قد استطاعت أن تنجو بنفسها عن أن تصطبغ بالصبغة الآسيوية؛ فإذا كانت ~~المسيحية قد نقلت معها إلى أوروبا شرائع كشرائع تعدد الزوجات أو الحجاب أو منطق ~~يوحي بالقضاء والقدر أوامر منزلة تقضي على حس الجمال وحب الطبيعة والحياة، إذن ~~لقضي على أمم أوروبا ب «الدروشة» كما قضي على بلاد فارس والهند وجزيرة العرب. ~~وما كان يغني عنهم أنهم أوروبيون؛ فإن مسلمي البوسنة ومسيحييها لأبلغ مثال ~~نضربه لنؤيد به ما ms34 نقول. وما دام مسلمو البوسنة في هذا العصر قد انتحلوا حياة ~~العرب الاجتماعية، وهم بعد في قلب أوروبا، فما الذي كان ينجي أوروبا من مثل ~~ذلك؟» (ص127). ~~«ثم جاء عصر التجديد، وتبعه لوثر. إن المزاج الألماني لم توافقه مراسيم روما ~~وطقوسها فبدأ عهد الإصلاح وشق له لوثر الطريق. قيل بأن كلمات الله لا يمكن أن ~~تحتكرها اللاتينية. وإن كل اللغات يصح أن تكون لله، وكذلك الطقوس الدينية يجب ~~أن تتبع أحكام العقل؛ فألغى لوثر كل الطقوس التي لا تتفق ومطالب الحياة، أو لا ~~تتجانس والعقل أو الذوق السليم. إذ كيف يتسنى لأمم متحضرة على النمط الحديث أن ~~تلزم طقوسا ومراسيم بشر بها بداءة ذي بدء لشعوب عراة حفاة دأبهم البطالة ~~والكسل، وأخص صفاتهم الجهل. شعوب عاشت بلا نظامات تشريعية أو حكومات. لقد فهم ~~لوثر هذه الحقيقة؛ ولذا سلك أقوم سبيل» (ص127). ~~«ليس الإصلاح الديني، الذي قام به لوثر، إلا جزءا من التأثير الروماني ~~العظيم الذي برز إلى الوجود من خلال الحضارة اليونانية. وعلى هذه القاعدة عينها ~~قامت الثورة الفرنسوية؛ فإن كل زعماء الثورة في فرنسا كانوا جميعا من المؤتمين ~~بما أوحى به فلاسفة اليونان لعالم البشرية، فكتاباتهم ملأى بكلمات تفوه بها ~~فلاسفة اليونان، وحياتهم مثل لمبادئ وضعوها. إنك لا تقع فيما كتبوا على استشهاد ~~اقتطع من كتاب منزل؛ لأنهم لم يجدوا لا في الأناجيل ولا في التوراة ولا في كتاب ~~زرادشت، حقائق كالتي وقعوا عليها في مؤلفات اليونان. لقد كمن هذا الحق الثابت ~~في تضاعيف الفطرة الإنسانية. والثورة الفرنسوية إنما استكشفت هذا الحق وعكفت ~~عليه (ص129). ~~«لقد استكشفت أن الحق عقلي لا تقليدي، وأن العلم يمكن استنباطه واستقراؤه من ~~أعمال الناس وحاجات الجماعة وكنوز الطبيعة، وأن ليس للملوك ولا للبابوات من حق ~~في الادعاء بأن لهم من قدرة على فهم الحق والعصمة من الخطأ أكثر مما لكل الناس. ~~لقد نزعت الثورة عن الدين سلطة الدنيا وتركته في حيزه الطبيعي، في صدر الجماعات ~~ومشاعرها» (ص130). ~~«وما كان لشيء أن ينتج عن ms35 هذا إلا القومية. لقد كانت الثورة الفرنسوية لكل ~~الإنسانية، ولكنها انتهت بالقومية، وفيها تعثر إذا ما بحثت على الأسس التي قامت ~~عليها العقلية القومية في أوروبا (ص132) هذه هي العقلية الأوروبية، ولن تجد لها ~~من مثيل في آسيا. على أننا قادرون على انتحالها؛ فإننا بشر مثلهم. والواجب ~~علينا أن ننتحل هذه العقلية كما هي جملة وبلا تجزئة» (ص133). # ولكن كيف يتيسر لنا ذلك؟ يتيسر لنا بأن نسلك الطرق الثورية الانقلابية. إن ~~الحاجة تدعونا لأن نلغي العقلية الآسيوية وأن نحل محلها العقلية الأوروبية. ~~إننا تواجهنا الآن مصاعب ومشكلات كتلك التي قامت في وجه الثورة الفرنسوية؛ لهذا ~~وجب علينا أن نستخدم الوسائل الثورية. وليس في الدنيا من ثورة حبت أعداءها ~~بنعمة الحرية. إنما الحرية الشخصية تكون بيقين حقا للجميع بعد أن تضع الثورة ~~أوزارها وتثبت أصولها. لهذا لا نستطيع أن نترك بذرة الحركات الرجعية تنمو حبتها ~~في العصر الحاضر، وإلا فإن الثورة لن تنجح (ص135). # إن الحضارة الأوروبية تقوم على ثلاثة أسس عظمى؛ الأول: حقوق الإنسان، ~~والثاني: الثقافة القومية، والثالث: الاقتصاد والمالية القومية. ولنبحث ~~كلا من هذه الأسس على حدة: # أولا: حقوق الإنسان: # تنحصر في أن كل شخص تابع لرعوية الحكومة يولد ~~ويعيش حرا. وهذا هو المبدأ الجوهري الذي تقوم عليه كل جماعة ~~متحضرة، وهذه الحرية تطبق على كل المعاهد التي يقوم عليها ~~النظام الاجتماعي فرديا وعائليا وحكوميا: ~~(1) # الحرية الفردية: تقيد هذه الحرية بكل الأشياء ~~التي لا يجب شخص أن يستعملها ضد شخص غيره، ولم يبق ~~في أوروبا أمة واحدة لم تقبل مبدأ الحرية الفردية ~~محددا هذا التحديد. ومن غير الحرية الفردية وحرية ~~الضمير وحرية الفكر والنشر، لا يمكن أن تمضي أمة ~~متحضرة في سبيل الارتقاء (ص140). ~~(2) # أما الوجه الثاني من أوجه الحرية الفردية فذو ~~علاقة بالحياة العائلية (ص145). أما العقلية ~~الأوروبية فقد حلت هذه المشكلة أيضا؛ فإن الحياة ~~العائلية في أوروبا إنما تقوم على مبدأ التساوي في ~~الحقوق؛ لأن الحياة لم تعط الرجل حقا أكبر، ولم ~~تحرم المرأة حقا، مهما كان ms36 نوعه؛ فإن الحياة مرح ~~وسعادة. إذن وجب أن تعطى المرأة حرية الرجل، والرجل ~~حرية المرأة، وليس على غير هذا الأساس تقوم الحياة ~~العائلية الحرة. وهذه العقلية بالطبيعة ترفض ~~الاعتراف بحق تعدد الزوجات، وتسع بالضرورة مبدأ ~~مساواة حقوق المرأة بحقوق الرجل في الاجتماع (ص146). ~~المرأة والرجل أحرار فرديا، وما الزواج إلا اشتراك ~~يحدث بتوحيد مصالحهما وحقوقهما بمحض الاختيار، ~~والطلاق عبارة عن فسخ هذه الشركة؛ إذن وجب أن يكون ~~للزوج والزوجة نفس هذه الحقوق المشتركة، والزواج ~~موجه بكليته إلى خير الجماعة ويجب أن يقوم على هذه ~~المبادئ» (ص148). ~~(3) ~~«حرية الحكومة: بحكم وجود أكثر من فردين اثنين ~~في هذه الحياة فرض نظام الحكم. ولهذا لزم أن تقوم ~~الحكومة على صورة تضمن حقوق كل الناس، ووجب أن يمثل ~~في نظاماتها كل شخص من أشخاص الرعية. وهذه هي ~~الديمقراطية، ينبغي للحكومة أن تمثل شرائع الأفراد ~~وأن تقوم حفيظة على مصالح الجماعة، وأن مصالح ~~الجماهير لا يجب أن تعبث بمصالح الأفراد، ولا يجب أن ~~تعبث مصالح الأفراد بمصالح الجماهير. إن مصالح ~~الأفراد والجماهير يلزم أن تسير متعاونة في سبيل ~~الخير والصلاح. وعلى هذا لا ترى حكومة أوروبية ~~تستطيع أن تفكر في أن تعتدي على مصالح الأفراد ~~(ص149). # ثانيا: الثقافة القومية: # إننا إنما نعيش اليوم في عصر القومية، ولم ~~نصل بعد إلى عصر «الإنسانية». إن الحضارة الأوروبية تستهدي في ~~كل أعمالها وحركاتها بوحي القومية وحدها. إذن يجب علينا أن ~~نسير على نهجها ونعمل عملها. لم تعترف أمة بحق أمة أخرى بعد، ~~ولم تشفق أمة على غيرها، ولم يهب شعب لنجدة آخر، وما الحروب ~~الطاحنة التي قامت في أوروبا إلا دليل حي على صحة ما نذهب ~~إليه. ولقد حاول البعض أن يفسر موقف أوروبا العدائي إزاءنا ~~بأنه راجع إلى بواعث دينية، وهذا ليس بصحيح؛ فإن الحضارة ~~الأوروبية ليست بشعوبية مسيحية، ولا هي بجمعية نصرانية؛ فإن ~~مثل هذه الأساليب التفكيرية قد زالت وانمحت من الذهنية ~~الأوروبية. وليس أسخف من الحركات التي تقوم مناقضة لهذا المبدأ ~~في تاريخ الدنيا الحديثة ms37. وما جمعية الأمم إلا مثال محزن يؤيد ~~صحة مذهبنا؛ فإن العقلية الإنسانية لم تقم بعد في ضمائر ~~الشعوب؛ ولهذا يتعذر علينا أن نعمل مؤتمين بموحيات المنطق ~~الإنساني، وليس لدينا إلا القومية والمنطق القومي وحدهما ... ~~وهذا هو نتيجة التناحر على الحياة، وما التناحر إلا أساس ~~الحياة في كل مكان. هذا مبدأ ثابت لا مبدل له (ص155). # ثالثا: الاقتصاد القومي : ~~(ص160-171) إن الاعتراف بحقوق الإنسان قد ~~مهد السبيل للحضارة الحديثة؛ فإن الثقافة القومية قد خلقت في ~~الناس طابعا خاصا. أما الاقتصاد القومي فقد حفظ ذلك الطابع ~~وزوده بالقوة التي بها يستطيع أن يشغل في نظام هذه الدنيا أعلى ~~مكانة. إذن فسنادة الحضارة الحديثة في الواقع هو الاقتصاد ~~القومي. وكل الدنيا إنما تعمل اليوم على هذا المبدأ. وهذا نظام ~~لم تتمتع به كل الأمم على السواء، إنه نظام يكاد يكون خاصا ~~بأسرة الأمم الأوروبية، وهو في الواقع نتائج للعقلية الأوروبية ~~(ص161). ~~«إن هذا المبدأ من أقوى المبادئ التي قامت عليها الحضارة ~~الحديثة، وهو مبدأ على أية حال مخالف تمام المخالفة للمبادئ ~~التي قامت عليها حياة الشعوب القديمة. أما إذا كانت الشيوعية قد ~~قامت خلال الزمان الذي ظهر فيه المسيح مثلا لكفت حاجات الناس ~~لعهده، ولكنها كانت تحفظ على الجماعات طابعها الفطري الأول على ~~الدوام؛ فإن المسيحية قد اتبعت مبدأ الإنتاج على قدر الكفاية ~~والكفاف، أما مبادئ الاقتصاد الحديث فمناقضة لهذا المبدأ ~~تماما، إنها لا تقوم على قاعدة الإنتاج على قدر الحاجة، بل ~~على مبدأ الاستهلاك بقدر الإنتاج. والفرق بين المبدأين شاسع ~~بعيد، إنها تزيد الإنتاج وفي الوقت ذاته تنوع فيه» ~~(ص167). # هذا هو نظام الحضارة الأوروبية، وليس من شأننا أن نبحث فيما ~~إذا كانت حضارة بحق أم إنها بربرية ووحشية، كلا. يكفينا أن ~~الحياة الإنسانية تقوم على هذا الوجه في العصر الحاضر. والواجب ~~على تركيا أن تندمج في هذه الأسرة المتحضرة وأن تقيم حقوقها ~~وثقافتها واقتصادها على أسس أوروبية. إن الحياة منطق صرف، وجهد ~~متواصل، ولكنها بينة الطرق، ممهودة السبيل.» # مثال المدرسة الثانية ms38: الأستاذ جلال نوري بك ~~«لقد عملت العثمانية» على أن تعطي العقلية الآسيوية صفة الاستمرار في العقل الأوروبي. ~~وكانت هذه المحاولة في حكم المستحيلات بمقتضى الوسط والبيئة. ولقد كانت بنا حاجة ماسة ~~لأن ننتحل العقلية والأساليب الأوروبية، ولكن حال دون ذلك التواء الأمر في الإدارة ~~الحكومية، وهي الأساس الذي كانت تقوم عليه الدولة، حتى لقد وقفت هذه الحالات حجر عثرة ~~في سبيل أن «نستغرب» # 1 # وعاقت خطا التقدم طويلا؛ ذلك لأن النظام الذي كان قائما قد عجزت معه ~~الأمة عن هضم المبادئ الغربية وتمثيلها # 2 # وإدماجها في النظام الاجتماعي (ص10-18). ~~«إن الأمة التركية ذات كفايات عظيمة، وعلى الأخص كفاية الإدارة والنظام والقدرة على ~~امتصاص الشعوب الأخرى، # 3 # أما المصيبة الكبرى التي نزلت بالشعب التركي، فكانت العثمانية # 4 # من ناحية وما تبعها من حب الاستمساك بالإمبراطورية من جهة أخرى؛ فإن سلاطين ~~آل عثمان لم يعنوا يوما واحدا بالشعب التركي ولا أبهوا ساعة بمصالحه الدنيوية، حتى ~~لقد فصلوا بين العنصر النصراني وبين المسلمين، بل لم يحاولوا يوما أن يصبغوا العناصر ~~غير التركية من المسلمين بصبغة العنصرية التركية؛ ليضمنوا بعض الثبات في قوام ~~الإمبراطورية» (ص24-25). ~~«إن الصفة الجوهرية التي غلبت على الحكومة العثمانية منذ زمان محمد الفاتح حتى نهاية ~~عهدها، كانت الجهل المطبق؛ فإن محمد الفاتح عندما فتح القسطنطينية لم ينتهز أكبر فرصة ~~كان من الواجب أن لا يضيعها؛ فإنه احتفظ برجال الكهنوت النصراني وحماهم وأظلهم بعطفه ~~دون رجال العلم الذين كانوا نور بيزنطة القديمة، فهاجروا إلى الغرب ونقلوا معهم ثمار ~~العقل الإنساني. ولم يقف الأمر عند هذا، بل كون فئة من رجال اللاهوت الإسلامي مقلدا ~~بهم رجال الكهنوت النصراني من أهل الأورثوذكسية؛ وبذلك اتجهت العقلية التركية نحو الشرق ~~دون الغرب، فقد ورثنا ديننا وثقافتنا، بل جزءا من لغتنا، من تقاليد الشرق. وليلاحظ دائما ~~أنه بعد سقوط القسطنطينية أخذ كل ما في العالم الغربي (أوروبا) يتغير ويتبدل، حتى لقد ~~فازت الشعوب بحرياتها مستبدلة بها النظام الاستبدادي القديم، هذا في حين ظل حكامنا في ~~جهلهم وعمايتهم غير عالمين بشيء ms39 من تلك الجلبة الواسعة النطاق التي كانت تفعم جو أوروبا» ~~(ص29). # إن الأتراك لم يدركوا قيمة القسطنطينية من ناحية اقتصادية، كبيئة تجارية على أعظم ~~جانب من الأهمية؛ فإنهم بمجرد استيلائهم على المدينة غادرها البحارة البيزنطيون ~~والجينويون، وحتى البحارة الأتراك، هاربين بأنفسهم، فائزين بأعمارهم. أما السبب في سقوط ~~الحكومة العثمانية فيرجع إلى أمرين؛ الأول قلة التجانس الشعوبي بين أمم الإمبراطورية، ~~والثاني فقدان المثل القومي الأعلى في الحياة، وفي الوقت ذاته سلم الأتراك مواردهم ~~لأصحاب الامتيازات الأوروبيين، وخصوا اليونان والأرمن بكل الميزات الداخلية للبلاد ~~(ص34-52). # أما من حيث العلاقة بين المدنية الأوروبية والنصرانية، فإن جلال نوري بك يقرر ~~الآتي: ~~«إن الخطأ الكبير أن تسمى المدنية الأوروبية أو المدنية الأمريكية مدنية نصرانية، أي ~~مدنية أقامها الدين النصراني؛ فإن الدين النصراني قد تعدل على مقتضى الحركات الاجتماعية ~~التي قامت في أوروبا؛ وبذلك أنقذ من الجمود وحالة الثبات، حتى إنك لا تجد اليوم إلا ~~قليلا من أوجه الشبه بين النصرانية كما وضع تعاليمها عيسى، وبين النصرانية الحديثة، بل ~~تستطيع أن تقول بكثير من التحقيق: إن نصرانية العصر الحاضر تختلف جوهريا عن النصرانية ~~الأولى؛ فإن الأوروبيين قد كونوا دينا جديدا صرفا خلال التسعة عشر قرنا الفارطة، ~~رغم أنهم بدءوا الشوط بقصة عيسى. بيد أن النصرانية في أوروبا، على الرغم من معارضة أهل ~~اللاهوت، قد هضمت ومثلت كل الفكرات التي ظهرت على دور الأيام، وعلى مر العصور؛ فإن ~~أوروبا عندما كانت تحارب الجهالة في العصور الوسطى، كانت النصرانية أيضا في حالة تدعو ~~إلى الإشفاق. ولكن لم يمض على ذلك أربعة قرون حتى وقع في الدين النصراني حركة تطهير عام ~~غولي فيها بتطرف؛ فإن عددا من الأمم انفصل عن الكنيسة الكاثوليكية، وكون نظاما ~~جديدا. ولقد ترى أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قد أخذت تنظم نفسها بنفسها، وعلى ~~هذا ترى أن النصرانية لم تستطع أن تضطر أتباعها أن يظلوا قانعين بالصور القديمة في ~~الدين والاجتماع. ولقد كانت الفكرات الحديثة في نهاية هذه المراحل هي التي أعطت ~~النصرانية لونها الجديد، فإذا ms40 هبط اليوم المسيح مرة أخرى على الأرض في هذه الأيام، إذن ~~لظل غريبا ولرأى نفسه في عزلة عن النصارى؛ ذلك لأن نصرانية العصر الحاضر، أرقى بكثير ~~من نصرانية المسيح!» ~~«أما في الإسلام فإننا لم نعهد مثل هذا الانقلاب التعديلي، ولا مثل هذه التطورات ~~الكبرى. إن الإسلام دين ينطوي على أرقى المبادئ وأشرفها وأعظمها، ومع كل هذا فقد ظل ~~جامدا لا يتغير بتأثير حكم الدين وفقهائه ؛ فلو أن نصرانيا أخذ يتبع في العصر الحاضر ~~الشرائع التي كانت ذائعة في عصر عيسى، إذن لشعر بأنه خلف العصر بقرون، وأنه قبل الدنيا ~~بمراحل عديدة. إن النصرانية لم تتكون إلا بنسمة بسيطة من نفحات عيسى، أما القوانين ~~والشرائع والنظامات التي يسير بمقتضاها العالم النصراني اليوم فنتاج لجهد العقول خلال ~~التسعة عشر قرنا التي تبعت عصر عيسى. وأنت ترى على الأخص أن النصرانية قد حررت نفسها ~~من الحياة السياسية، ولكن السياسة كان لها حرية كافية لتنمو وتصبح ذات أثر في العالم ~~الأوروبي، في حين أن أئمتنا وفقهاءنا لم يتبعوا يوما ذلك الطريق الذي سارت فيه ~~النصرانية، فقد اعتقدوا بأن الشرائع لا يمكن أن تخضع يوما لتعديل أو تغيير؛ وبذلك سدوا ~~كل باب يمكن أن يكون ولوجه سببا في إحداث تطورات جديدة وإصلاحات ارتقائية تناسب مقتضى ~~الحال. وإني لأعتقد أن هذا المبدأ مضاد لروح الشريعة الإسلامية، ولكن على الرغم من هذا ~~ظل الإسلام جامدا متبلورا طوال الأزمان حتى زماننا هذا؛ فإن الإمام أبا حنيفة وبقية ~~الأئمة الثلاثة لم يتورعوا عن أن يضعوا من القواعد التشريعية التي تتطلبها حاجات ~~الحياة، ما يضاد أوامر القرآن ونواهيه في بعض الأحيان، متخذين التأويل لإصلاح الشريعة ~~سبيلا؛ فلو أننا اتبعنا نفس هذه السياسة في الدين، فلا يبعد أن يكون الإسلام قد وصل ~~الآن إلى حالة توافق حاجات هذا العصر. غير أن فقهاء الإسلام لم يتبعوا هذه الطريقة، بل ~~اتبعوا أحكام الأئمة الأربعة عماية وضلالا من غير نظر ولا تحقيق ولا مماشاة لمقتضى ~~الحال، وقفلوا على ذلك باب الاجتهاد، فأقاموا بذلك أكبر ms41 سد من الجمود أمام الإسلام. لم ~~يعرفوا أن شرائع الإسلام قد وضعت لتوافق مزاج العصر الذي وضعت فيه، وأنه بتغير الأزمان ~~يجب أن تتغير بعض الشرائع بل بعض المبادئ الدينية ذاتها، وإلا فإن باب الارتقاء يوصد، ~~وأن الأمة التي تعيش في ظل هذا الجمود لا بد من أن يستعبدها غيرها من الأمم. إن البقاء ~~في الأصفاد والأغلال خضوعا لفتوى قديمة، إنما هو بمثابة غل يحول دون الارتقاء والتقدم، ~~وليس لهذا من معنى، اللهم إلا معنى الاستنامة والخضوع لمقتضى الاجتماعية والاقتصادية ~~والفكرات المدنية، والسياسة التي كانت تلائم حالات تلك الأزمان القديمة، ولا جرم أن كل ~~ما هو ثابت لا يتحرك مقضي عليه بالرجعى والانحلال. هذا مبدأ ثابت من مبادئ ~~الحياة.» ~~«ومهما يكن من هذا الأمر؛ فإنه ليس من روح الإسلام في شيء. إن في الإسلام لمبدأ ~~ارتقائيا عظيم الخطر هو مبدأ «الإجماع». أما فقهاء الشريعة والدين فقد أنكروا هذا ~~المبدأ كل إنكار. لقد استقوت أوروبا بمبادئها الارتقائية وحرية الفكر على الكنيسة ~~النصرانية؛ وبذلك استطاعت الأمم الغربية أن تنتفع كثيرا بما جد من الاستكشافات ~~والاختراعات في العلوم. أما الشعوب الآسيوية فقد ظلت لابسة تقاليدها القديمة ولم تحاول ~~خلعها يوما من الأيام، والمشكلة التي تواجهنا اليوم تنحصر في طرفين؛ الحياة أم ~~التقاليد؟ وأيهما نتبع؟ إن الحياة أمر أولي ثابت، أما التقاليد فطلاء ظاهري، وقد ينزل ~~بعض هذه التقاليد منزلة القداسة. غير أننا يجب أن نعتقد أن قداسة التقاليد يجب أن تكون ~~بنسبة نفعها للحياة، فإذا ظهرت هذه التقاليد مضرة بالحياة، فمن الحمق والسفاهة أن نظل ~~بها مستمسكين.» ~~«هل في مستطاعنا أن نعيش وأن نرتقي وأن نقوى مع عكوفنا وجهة النظر القديمة واستمساكنا ~~بالتقاليد؟ هل نستطيع أن نأخذ الفنون الأوروبية وننبذ أسلوب العقل الأوروبي؟ إن هذين ~~الأمرين لا يمكن الفصل بينهما. إن لأوروبا أسلوبا علميا للدرس قائما على أساس ~~الحرية الفكرية؛ فإن شيخا من مشايخ هذه الأيام (سنة 1926) إنما يخضع كل شيء ويحكم بين ~~الناس بمقتضى نصوص قديمة مستمدة من كتاب قديم. وأنه فوق ms42 ذلك لمقيد بهذه النصوص القديمة ~~مغلول اليدين بها، فإذا تنكب نصوصها حكم عليه بأنه من الخوارج، أي «كافر». وفي الممالك ~~الإسلامية يخضع كل شيء في السياسة والحضارة والحياة والملبس حتى والمأكل إلى النصوص ~~الدينية. خذ لذلك مثلا أن شيوخنا إذا أرادوا أن يحكموا إذا كان الماء طاهرا أو غير ~~طاهر ليكون صالحا للوضوء أو غير صالح؛ فإنه يفتح كتابه ليرجع إليه، وحتى لو كان الماء ~~راكدا فاسدا فإنه يحكم بصلاحيته، كلا، بل يحكم أنه مطهر من الأدران. أما الأوروبي ~~فيرجع إلى حسه وإلى الكيمياء. أما نحن فنرجع إلى الكتب القديمة. وهذا هو المثل المضروب ~~في السياسة وفي الشرائع الاجتماعية. إنما نحن نعيش ميتين في تراب أئمة وفقهاء وضعوا لنا ~~أحكامنا ثم بادوا منذ مئات من السنين. ولقد كانت التقاليد الدينية والعادات القديمة ~~أكبر حائل ضد الأمم الإسلامية عن التقدم والارتقاء، ثم بدأت الحياة الروحية والنفسية ~~وهنا على وهن، وشيئا بعد شيء، تتبلور وتنعقد شأن السياسة والحياة الاجتماعية. ثم ~~انحطت الأخلاق وساء السلوك وهما المقصدان الأولان في تعاليم الأديان. ولا جرم أن كل ~~مسلم مستنير في هذا العصر إنما يحتقر وسطه ويستهزئ ببيئته، في حين أن كل نصراني مستنير ~~يظل محافظا على احترامه للكنيسة التي هو تابع لها. وعلى هذا نجد أن فقهاءنا قد أهملوا ~~أمر الأخلاق وأمر الروحانية العليا معا.» ~~«خذ لذلك مثلا مشكلة تعدد الزوجات باعتبارها نظاما اجتماعيا. على أننا لا يجب أن ~~ننسى أن اليهودية والنصرانية باعتبارهما من العادات الدينية لا يحرمان تعدد الزوجات. ~~غير أن الكنيسة النصرانية قد حددت المبادئ القديمة بما يلائم مزاج أوروبا وحاجاتها، ~~فاضطرت إلى النهي عن تعدد الزوجات. وعلى هذا تجد أن أوروبا بدلا من أن تتمشى مع منطوق ~~الشرائع الدينية النصرانية، قد اضطرت الكنيسة النصرانية أن تتمشى مع ما تتطلبه فكراتها ~~الجديدة. وكذلك تجد أن لاهوتيي النصارى قد اعترفوا بكل قدماء الأنبياء من العبرانيين، مع ~~كل ما كان لهم من زوجات وسراري، على أنهم أنبياء صحيحة نبوتهم. ويحتوي الإنجيل على مئات ~~من ms43 الآيات كلها تؤيد مبدأ تعدد الزوجات، أما النصارى فقد مروا على هذا مر الكرام من غير ~~أن يعيروه التفاتا. ثم نرى من جهة أخرى أن المسلمين لم يحتجوا يوما أو يعارضوا تعصب ~~الفقهاء، ولم نر المسلمين في عصر من العصور قد حاولوا أن يكافئوا بين أحوالهم وحاجات ~~العصر على مدار التاريخ الإسلامي؛ ذلك لأن التقاليد القديمة قد حجرت عقلية المسلمين، ~~وأعدمتهم مشاعرهم جمعاء. وكانت الأمة التركية أولى الأمم الإسلامية التي استيقظت من ذلك ~~النوم العميق» (ص58). ~~«يجب علينا أن ننتحل أسلوب الفكر الغربي، وليس في الغرب من يهتم أقل اهتمام بشيء من ~~النظريات المجردة المستمدة من الماضي، مهما كان مصدرها ومهما كانت منزلة القائل بها، في ~~حين أننا في الشرق نجد أن العلم قائما على التقاليد. وبينما نجد أن العقل قد سفل ~~وأخضع، نجد أن التقاليد قد استعلت وتسودت. والتفكير في الغرب حر غير مقيد، بينما هو في ~~الشرق مقيد مستبد به محتكم فيه، والدليل على هذا أن الشرقي إذا بدأ يفكر على أسلوب ~~الفكر الحر، شعر كأن سمكة خرجت من الماء، وأحيط ببيئة الموت والفناء، فارتبك عقله ~~واضطرب أمره» (ص68). ~~«لقد فهم الأتراك أخيرا أن الأقوام الذين يعلقون مستقبلهم بمستقبل نظام ديني لا ~~يحتمل أن يكونوا سعداء؛ ولهذا انضم الأتراك إلى ذلك المثل الغربي الأعلى، مثل القومية، ~~ورضوا به بديلا عن التقاليد الإسلامية القديمة؛ فإنك إذا أردت أن تكون مخلصا للماضي ~~متمسكا به، وأن تظل في وحدة مع مستقبل 300 مليون من الناس الجامدين الذين لم يعرفوا ~~للرقي معنى ولا ذاقوا للتقدم طعما، فليس لهذا من معنى إلا أن تثور ضد الحاضر وضد ~~المستقبل، بل معناه الصريح أنك تفقد وجودك القومي» (ص116). ~~«لقد مهدنا في الماضي تمهيدا كبيرا ليقظتنا الأخيرة وثورتنا العظمى، غير أن الحكومة ~~التركية فقدت كل ميزان للمبادئ وكل تقييم للصالح العام. لقد كانوا ينتحلون القوانين ~~الغربية من ناحية، ثم يضعون قانونا أساسه الشريعة الإسلامية من ناحية أخرى؛ ليكون أساس ~~القوانين وأس الشرائع! ولم يكن لهذا من مثل ms44 إلا مثلك إذا أخذت تطبق طرق علاج الأمراض ~~الأوروبي واستعمال العقاقير، ثم بقيت على عهدك القديم في تشخيص الأمراض ومبادئ علم ~~وظائف الأعضاء!» (ص116-129). ~~«إن النصرانية لا تتكون فقط من الأناجيل، كما أنها لا تقوم عليها، ففي خلال القرون ~~الأولى من حياة النصرانية انتحلت المجالس الكنسية عقائد جديدة. # وعلى الرغم من هذا فإن هذه العقائد لم تظل ثابتة جامدة على مدى الأزمان، فقد استقرئت ~~مرات عديدة واستنتج منها ثم أضيف إليها؛ وبذلك تغيرت النصرانية عن أصلها تغيرا كبيرا، ~~حتى إن المسيح لو قام اليوم مرة ثانية لظل غريبا بين النصارى! لقد تغيرت الكنيسة ~~النصرانية، في حين ظل الإسلام جامدا منذ عصر الأئمة الأربعة العظام، إنه لم يتغير ولم ~~يرتق، لقد وقف حيث كان. غير أن تلك الفكرة الخاطئة فكرة أن الشرائع لا تتغير، ليست ~~بمبدأ إسلامي؛ فإن الفقهاء قد أفسدوا الدين الإسلامي وأفقدوه المرونة المدنية اللازمة، ~~وكان الواجب عليهم أن ينظروا في مبدأ الإجماع نظرة أوسع مجالا وأبعد مدى، أي كان من ~~الواجب عليهم أن يتخذوا إجماع المسلمين في كل عصر من العصور قاعدة للتشريع. وفي رأيي أن ~~جمع القرآن في صورة كتاب لم يكن مفيدا ولا نافعا، وليس في السير القديمة ما يدلنا على ~~أن النبي قد أمر بمثل هذا الجمع ومثل هذا الترتيب. على أن مجهودات عثمان أمير المؤمنين ~~في هذا الصدد غير محمودة ولا مشكورة على كل حال؛ فلدينا في القرآن بضعة أوامر ونواه، ~~وكانت أوامر ونواهي مستقلة كما كانت تتطلب طبيعة المركز حينذاك، ولم تكن الفكرة أن تجمع ~~هذه الأشياء في صورة كتاب محبوك الطرفين؛ فإن النبي لم يأمر أبدا بمثل هذا الأمر، ولم ~~يحاوله. ولقد أغفل جامعو القرآن هذه الحقيقة؛ فإن كل أمر من أوامر القرآن كان ذا علاقة ~~بحالة من حالات ذلك العصر. أما الأحاديث فليس في مستطاع أحد أن يثبت صحتها، اللهم إلا ~~عددا قليلا لا يتجاوز العشرة أو الخمسة عشر. أما إذا رجعنا إلى النظامات والأحكام التي ~~وضعها الفقهاء من بعد محمد ms45؛ فإننا لا نستطيع أن نعلق عليها أية أهمية مطلقا، أو نعيرها ~~أي وزن بحال من الأحوال؛ ذلك لأن القرارات والأحكام التي أصدروها وأصبحت من مبادئ ~~الإسلام بالتقليد والتواتر، لم يكن لها إلا أهمية جزئية أو قيمة زمانية في ذلك العصر لا ~~غير ... كذلك لم يستطع فقهاؤنا أن يعرضوا على الناس من الإسلام صورة جذابة محببة، في حين ~~أن النصرانية على ما فيها من المتناقضات التي يعدوها الحصر والمبادئ البعيدة عن القياس ~~المنطقي، قد نظمت عباداتها على صورة توافق أمزجة الأمم؛ فإن النصرانية بأساسها الواهن ~~الضعيف، قد لبست ثوبا أكثر جذبا للناس من الثوب الذي لبسه الإسلام على ما فيه من قوة ~~الأساس وقويم الدعائم؛ فإن حركة الإصلاح الذي قام به «لوثر» لعصر جديد في تاريخ الكنيسة ~~النصرانية. وليس من البعيد أن يكون «لوثر» أكبر من خدم الكنيسة؛ فإن الإصلاح الذي قام ~~به إذا لم يكن قد حدث بالفعل، فلا يبعد أن تكون النصرانية قد سقطت منذ زمان بعيد، وربما ~~لم يكن لها اليوم من أثر إلا أثر الرواية التاريخية، شأن كثير من الديانات الأخرى. أما ~~في تاريخ الإسلام فإننا لن نقع على مثل هذا الجهد الابتكاري يصرف في سبيل الإصلاح؛ فإن ~~المسلمين لم يكن لهم مدنية ارتقائية. ولقد استكشف الأتراك هذه الحقيقة، ثم تساءلوا، لأي ~~شيء وضع الدين أصلا؟ أليس لسعادة الإنسان ورفاهيته؟ ولكن افرض أن الدين أصبح عائقا ~~يحول دون سعادة الأمم! أليس هذا لأن الأمم لم تفهم الدين وغايته العليا فهما صحيحا؟ ~~إن الخطأ لم يكن في الدين، بل كان الخطأ في صدر الحكام الذين اتخذوا من الدين وسيلة ~~يؤيدون بها استبدادهم، وهؤلاء هم طبقة الفقهاء من أهل اللاهوت؛ لهذا نبذنا هؤلاء جانبا ~~واتبعنا وحي المدنية الغربية» (ص130). ~~«اتباعا لشريعتنا يمكن للزوج أن يطلق زوجته في أي وقت يشاء، بعد أن تكون قد ظلت ~~أمينة مخلصة له، وبعد أن تكون قد ولدت له أولادا، كل هذا تلقاء مؤخر صداقها ونفقة ~~ثلاثة أشهر. وليس هذا في لغة العرب طلاقا ms46، بل طردا، ولا يمكن أن تستقر حياة عائلية ~~على مثل هذا الأساس الواهن الضعيف. إن حاجتنا تدعونا إلى أن ندرس العناصر الأساسية التي ~~تقوم عليها المدنية الغربية. وأمم الشرق يجب أن تستنير على القواعد المأخوذ بها في ~~الحياة الغربية. إننا كثيرا ما نتفوه بكلمة «المدنية الغربية» من غير أن نعرف ماهيتها ~~وتاريخها» (ص202). # ثم ينتقل المؤلف إلى الكلام في الحياة الاقتصادية ويمضي في نقد الحكومة العثمانية ~~القديمة فيقول: «إن الحكومة العثمانية لم تكن حكومة اقتصادية، ولم يكن للشعب التركي تقاليد اقتصادية ~~يتبع قواعدها.» ثم يقول: «ليس من البعيد أن تصبح أنقرة واشنطون أخرى، والقسطنطينية ~~نيويورك ثانية» (ص219). # ثم ينتقل إلى الحركة الأدبية والجمال فيقول: ~~«إن الحركة الارتقائية التي بدأها اليونان وتابعهم فيها الرومان، قد صدت النصرانية ~~تيارها وأوقفته عن الانسياب ... وبدأ مجد روما في الأفول ... ولكنها احتاجت إلى ثلاثة قرون ~~لتتم انحطاطها ... وفي النهاية قبل العقل الإنساني إنسانا عاديا على أنه ابن الله وبدأ ~~بعبادته، وكان الجهل سائدا تحت نظام الكهنوت في القرن الخامس، بل كان شاملا كل مكان ... ~~فإن النصرانية في ذلك العهد أنزلت الإنسان منزلة البهائم السائمة؛ فإن التفكير كان ~~مخالفا للقانون، والتعبير عن الرأي محرم، وكانت المناقشة معتبرة من الخطيئات الكبرى، ~~واعتبر الإنسان ككائن نجس بعيد عن الطهر، وكان المعتقد أن الله هبط على هذه الأرض في ~~شخص عيسى وأهدر دمه فداء لخطيئة آدم وحواء، ولما كانت المرأة هي السبب في هذه الخطيئة ~~وضع كل الناس في مستوى خطيئتها. وكان من الخطيئات الكبرى أن يعنى الإنسان بجسمه من جراء ~~اللعنة التي نزلت به، وأنكر الناس المصالح الزمنية؛ لأن الدين لا يعنى بشيء اللهم إلا ~~المصالح الروحية، وأهمل الجسم باعتباره شيئا غير طاهر، وجهد الناس أنفسهم أن يحصلوا ~~على سعادة الروح، فوقعت الأجسام فريسة القذارة والفقر، وكانا من الدلائل الثابتة على ~~الطيبة وحب الخير، وكان يخشى من الاستحمام؛ لئلا تزول عن الجسم مياه المعمودية. ولقد ~~حظرت الكنيسة في إسبانيا غسل الجسم ومنعته بتاتا. وفي سنة 467 ميلادية هدم الكردينال ms47 ~~«إسبينوزا» المستحمات العمومية التي كان العرب قد بنوها في إسبانيا، وإنك لتجد أثر ذلك ~~في بلاد الحبشة حتى الآن؛ إذ يمتنع الناس عن الاستحمام؛ لئلا يتمثلوا بالمسلمين، ~~ويعتبرون أن هذا من حاجات النصرانية. ولكن الإنسانية لحسن الحظ لم تفن من نفوس الناس ~~تماما بما أقام القديس بولص في سبيلها من عوائق؛ ففي زماننا هذا تحررت الإنسانية ~~تماما من استبداد النصرانية التي اعتبرها «نيتشه» السبب الأول في الانحطاط والخراب ~~والسقوط. ولقد أخذت الإنسانية تقود الآن مرة أخرى إلى مدنية اليونان ومدنية الرومان، ~~وأخذت العقول تستيقظ من طويل سباتها وتستفيق من غطيط القرون الوسطى، وعمدت تتطلع إلى ~~الحرية التي كانت لها قبل أن تغشى عليها النصرانية بأغشيتها الثقيلة» (ص346-365). # ثم ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الكلام بإطناب في أثر الإصلاح البروتستانتي فيقول: «لقد ~~كان الإصلاح البروتستانتي خطوة ارتقائية كبرى في المدنية، لقد ألغى الدين، وفي هذا ~~تنحصر أهميته. وكما كانت النهضة التجديدية (الريناسنس) سببا في ترقية العقول، كان ~~الإصلاح البروتستانتي سببا في ترقية الروح؛ فإن الاستبداد والتعصب للدين اختصت بهما ~~الكنيسة الرومانية، قد زالا الآن من عالم الوجود، ونسيت الإنسانية تماما آثار المذاهب ~~المدرسية، وبرزت اليونان وروما في الرقي العلمي. لقد دخل «لوثر» المعركة وبضربة واحدة ~~أسقط كثيرا من النظامات والأحكام البابوية، ومضى متبعا طريقا استطاع بها العودة إلى ~~مبادئ النصرانية الأولى، واجتهد في أن ينجي الناس بأن يعود إلى بعض المعتقدات العبرانية ~~القديمة، وفي هذا وحده ينحصر الشبه بين حركة التجديد وحركة الإصلاح، فكما أن حركة ~~التجديد حبذت العودة إلى الآداب اليونانية والرومانية، كذلك عادت حركة الإصلاح إلى ~~مبادئ أورشليم. ولقد انتحل «لوثر» - ذلك المجدد الجرماني العظيم - حكمة الإسلام ~~القائلة: «لا رهبانية في الإسلام.» فقال لدى تطبيقها على النصرانية: ~~«لا رهبانية في الدين المسيحي.» وبهذا أخلى الرهاب ~~أماكنهم للمبشرين والوعاظ. ولم يقبل «لوثر» كما هي الحال في اليهودية والإسلام، أي توسط ~~بين الله ومخلوقاته؛ وبذلك أصبح كل إنسان «قسيس نفسه»، وأصبح له الحق في أن يقرأ ~~العهدين القديم والجديد وأن يفهم ms48 منهما ما يشاء.» ~~«إن الثورة البروتستانتية كانت ثورة دينية وسياسية معا، ولقد استطاع «لوثر» أن يفتح ~~سبيل الحرية لجزء عظيم من أهل الإنسانية المعذبة المستبد بها عقولا وأجساما؛ وبذلك ~~أصبح عن قصد حينا، ولا شعوريا حينا آخر، المثل المحتذى في الجمعية الغربية الحديثة» ~~(ص366-395). ~~«ومع كل هذا لا يجب علينا أن نغفل عن أن لوثر وكالفن وهما عمادا البروتستانتية، لم ~~يكونا من المبشرين بالحرية الفكرية المدافعين عنها دفاعا مطلقا من القيود؛ فإن هذا ~~على الرغم من قبوله مبدأ حرية البحث والمناقشة قد تقيد بقاعدة أن كل شيء لا بد من أن ~~يكون موافقا لنص الأناجيل، وكان هذا هو السبب في أن مستكشفات كوبرنيكوس لم ترق لديهم؛ ~~فإن النصرانية قد نصت على أن الأرض ثابتة في وسط الكون، وأن ابن الله هبط إلى الأرض ~~ليفتدي الدنيا بدمه؛ ولذا كان كل استكشاف يدل على وجود عوالم أخرى غير هذه الدنيا ~~معتبرا على نقيض التنزيل القدسي كما ورد في الأناجيل.» ~~«وبعد عراك طويل وحروب حامية الوطيس، اضطر البابا أن يسلم في جزء من أوروبا لهذا ~~المذهب، ولقد ظهر التجديد في الأمور الدينية لدى أول ما ظهر به كأنه من أخطر الأشياء ~~على المدنية، ولكن بان بعد قليل، وبعد أن هدأت ثائرة الحركات الرجعية، أنه خير عميم ~~كسبت فيه الإنسانية حرية ضميرها وفكرها وثبتت على أقوم القواعد في أوروبا. وعلى الرغم ~~من أن هذه الحركات ظلت زمانا مقصورة على بقاع محدودة؛ فإن النقد الحر قد ساعد العقول ~~على أن ترتقي ذرى التفكير العليا وأن تتفتح على عوالم جديدة لم تكن معروفة من قبل، فخلت ~~بذلك الممالك البروتستانتية من قساوسة الكثلكة المستبدين، وتبدلت منهم برعاة الكنيسة ~~البروتستانتية الذين وعظوا على أسس الآداب والشرائع القويمة.» ~~«ولقد ظل المسلمون بعيدين عن سر تلك الانقلابات العظيمة التي حدثت في ذلك العصر، ~~ومضوا عنها غرباء غير عالمين بشيء من جوهرها. وربما يعترض البعض بأننا لسنا مسيحيين؛ ~~ولذلك لم نستطع أن نأخذ منها بضلع، وعلى الرغم من هذا فإني أعتقد ms49 أنه كان من الواجب أن ~~نشترك في نتائجها في مختلف ميادين الفكر. وهذا ما نريد أن نقرر في صدد الإسلام في هذا ~~الموطن.» ~~«ولقد كانت كل الممالك الأوروبية في ذلك الحين آخذة في إصلاح أمورها الدينية، بعد أن ~~أصبحت ديانة القرون الوسطى في حكم الأشياء المنبوذة، وكان لا بد من أن تحل محلها ديانة ~~جديدة، فاعترف في كل مكان بحق الحرية في الدين والفكر. على هذا كانت الحالة في الغرب، ~~بينما ظل فقهاء الدين في الشرق عاكفين بحرارة على تعاليمهم المدرسية القديمة. ومن ~~المستحسن أن نقرر هنا أن أهل اللاهوت في الشرق لم يبلغوا من التطرف في النظر الديني ~~مبلغ جمود قساوسة الكنيسة الرومانية في الغرب، وظلوا يأمرون الناس بأن لا يفكروا خارج ~~دائرة التقاليد القديمة. ولقد ظلت هذه العقلية سدا حال بين الشرق وبين تهذيب القوانين ~~أو تغيير الشرائع؛ ولهذا السبب عينه عجز العثمانيون عن أن يجددوا في الشرائع والقوانين ~~الوضعية؛ فإن مخالب التقاليد القديمة قد قتلت الحرية في كل طرف من أطراف الحياة، وظل ~~الناس خاضعين لتعاليم التقاليد قسرا عليهم، حتى أفقدتنا المحافظة على القديم صفة ~~الحياة، كما قتلت أهل الصين من قبل، إنها قد جردتنا من كل قدرة على الارتقاء والخطو إلى ~~الأمام.» ~~«لقد ظل رجالنا على جهل كامل بحقيقة الثورة الإصلاحية في أوروبا في حين أن الإصلاح ~~بيننا كان أيسر سبيلا وأهون طريقا. إن الإصلاح قد نشدته الديانة الإسلامية ودعت إليه. ~~وما الإسلام في ذاته إلا حركة إصلاح قام بها نبينا منذ زمان طويل. لقد قام محمد وفي ~~ذهنه ميل إلى وضع الدين بما يوافق دين إبراهيم وتحرير المذهب العيسوي، وبذلك يكون قد ~~أعطى الناس دينا كاملا نهائيا. ولا يكون للدين النهائي عندي من معنى إن لم يقم على ~~أساسي الحرية والارتقاء، فمن أجل أن يكون في دين ما صفة «الغائية» - أي أنه يكون ~~نهائيا - يجب أن يحتفظ بالباب مفتوحا غير موصد، حتى لا يحول شيء فيه دون إيحاءات ~~جديدة؛ ففي القرن الأول من تاريخ الإسلام ms50، كان التسامح الديني وحماية المناقشات الحرة ~~في بغداد والأندلس من حسنات ذلك العصر، بل ومن مظاهره الكبرى، ولكن حالت دون هذا ~~التسامح فيما بعد، مذاهب المدرسية التي أقامها جامدو الفقهاء، فعطلت المناقشات وقيد ~~الفكر، ومنذ ذلك الحين نام الإسلام والمسلمون، ولم نبدأ في الاستفاقة من تلك الغفوة ~~الطويلة، إلا منذ سنين قلائل.» ~~«وعلى الجملة نريد أن نقول إن الشرق فقد من عمره ثلاثة قرون؛ لأنه لم يستفق بحركة ~~الإصلاح البروتستانتي، وأن كل أمم الشرق يشتركن في هذه الخسارة الكبرى» ~~(ص370-380). # مثال المدرسة الثالثة: الأستاذ رفيق صدقي بك ~~«كانت الخطوة الثانية التي وجب علينا أن نخطوها بعد إعلان الجمهورية، هو أن نفصل بين ~~مطاليب الحياة وبين منازع الدين. أما أكبر حادثة وقعت في تركيا بعد إعلان الجمهورية ~~فكانت إلغاء الخلافة. إن الإسلام في جوهره قد دعا وألحف في الحض على ضرورة الفصل بين ~~الحياة وبين الدين. ولقد ذكر في العريضة التي قدمت إلى المجلس الوطني الكبير أن وجود ~~الخلافة في تركيا قد جعل تركيا بمثابة مسخ مزدوج الرأس في كل الأعمال الداخلية ~~والعلاقات الخارجية، وأن تركيا أصبحت عاجزة عن أن تتحمل عبء هذه الثنائية الغريبة ~~التكوين، وأصبح المعتقد أن الاحتفاظ بأسرة عثمان على رأس الخلافة في تركيا مجلبة للشرور ~~والمخاطر، تصيب في أول ما تصيبه الحياة القومية؛ ففي مدارج الإسلام الأولى كانت الخلافة ~~نظاما موضوعا ليمثل الحكومة؛ ولهذا لم تصبح مع قيام حكومة وطنية قوية أي ضرورة لقيام ~~الخلافة بجانبها، ولقد عبر كثير من رجال المجمع الوطني الكبير عن رأيهم في هذا الأمر، ~~فقال سيد بك: «إن العدل من صفات الله، وإن حكومة تنفذ العدل في تركيا يمكن كذلك أن تمثل ~~الله فوق الأرض. إن الحكومة قد تقوم ممثلة بالجمهورية وبحكومة عادلة، وما دام الأمر ~~كذلك فإني لا أعتبر قيام الخلافة إلا تجديفا ووثنية.» وقال آخر: «قال الله لداود: لقد ~~جعلتك خليفة في الأرض فاحكم بالعدل بين الناس.» وهذا يدل على أن أساس الخلافة هو الحرص ~~على العدل وتنفيذه؛ وبذلك تصبح ms51 الخلافة حكومة «عادلة لا أقل ولا أكثر»، ولقد خطب وزير ~~الحقانية خطبة طويلة قال فيها: «لا يوجد في الحديث الإسلامي كله حديث واحد يؤيد وجود ~~الخلافة.» وهذا يدل على أن الخلافة ليست شيئا جوهريا في الإسلام، إنها شيء سياسي ~~يخضع للتغايرات التي تقتضيها طبيعة الزمان، وبجانب هذا لدينا الحديث المعروف القائل ~~بأن الخلافة تكون بعد النبي ثلاثين سنة، فإذا زادت عن ذلك أصبحت استبدادا وفسادا، ~~وعلى هذه الصورة الأخيرة كان الخلفاء؛ فقد أمرنا الله باتخاذ الشورى أساسا للحكومة، ~~فإذا أردنا أن نثبت هذا النظام اليوم فإنما نحن نرجع إلى أوامر الله. إننا لا نريد أن ~~نحتفظ بخليفة يحلق من فوق رءوسنا كشبح مخيف أو كابوس مضن، إن الإسلام يرفض بطبعه أن ~~يكون فيه فئات كهنوتية كالنصرانية، وليس في الإسلام نظام ديني ولا نظام إداري. والإسلام ~~فوق هذا لا يقدس من شيء إلا «الحق»، والدليل على هذا أن الله يدعى «الحق» في دين ~~الإسلام، والإسلام لا ينافي روح الارتقاء، فالإسلام لم يكن يوما من الأيام حائلا بين ~~تركيا وبين الارتقاء، بل كان نظام الخلافة هو عدو الارتقاء والتقدم وعدم العلم والمدنية ~~... لقد ملئ الإسلام حتى عصرنا هذا بتقاليد غير صحيحة. إن الإسلام الصحيح ضد كل الفكرات ~~الخاطئة البعيدة عن الحق، وكان من أخص الصلوات التي يوجهها النبي لله قوله ما معناه: ~~«أرشدنا يا رب إلى معرفة الحق كما هو»» (ص195). # ولقد رجع رفيق صدقي بك يعالج الثورة الدينية في تركيا فعمد إلى «فخته» الفيلسوف ~~الألماني ينقل عنه هذه الفقرات: # إن الدين لا يطلب من الناس إلا أن يكونوا عدولا خيرين، على أن كثيرا من ~~الناس قد أساءوا استعمال الدين فوجهوه إلى منافعهم وشوهوه تشويها، فعمدوا إلى ~~التفكير في جنة الفردوس وحدها، من غير أن يعيروا هذه الحياة التفاتا، وأهملوا ~~التفكير في أمر الحكومة والوطن والأمة كأنها أشياء لا تستحق الاهتمام أو ~~التفكير، فهل كان الله قد قدر أن يهبط الإنسان إلى هذه الأرض؛ ليفكر في جنة ~~الفردوس وحدها؟ كلا؛ فإن الناس ms52 عليهم واجبات إيجابية في هذه الحياة. ولم يكن ~~الدين إلا سلوة يتسلى بها العبيد والمستعبدون، ولا تنسى بجانب هذا أن المستبد ~~الفاجر يحاول دائما أن يبشر الناس بفكرة الخضوع والتسليم للدين، ويزين لهم ~~الاستمتاع بما ينتظرهم من نعيم في جنة الفردوس. والواجب علينا أن نحذر أمثال ~~هذه التصورات الملونة بلون الدين، إنه لا يجب أن نخلق من هذه الحياة جهنما ~~مستعرة الأوار لنفوز من طريقها بالفردوس المفقود. الواجب أن نبحث عن الفردوس ~~فوق هذه الأرض. # ثم يضيف المؤلف إلى هذا قوله: # من هذه الكلمات تتمثل روح ثورتنا الدينية ومثلها الأعلى. إننا لن نعمد بعد هذا ~~إلى الدين ليكون وسيلة لتصريف حالات هذه الحياة الدنيا (ص21 ملحق). # ثم يعمد إلى الإفصاح عن حقيقة الثورة التركية ومراميها فيقول: # إن غرضنا ينحصر في أن نصل إلى ما وصلت إليه الأمم المتمدينة الأخرى في ميدان الحياة ~~السياسية والمدنية والاقتصادية، وأن نشغل بين هذه الأمم مقاما خليقا بنا. لقد ضيعنا ~~كثيرا من الوقت في الماضي. إن الوقت ثمين، ولا يجب أن نضيع شيئا منه بعد ذلك. إن ~~الغرض الذي ترمي إليه الثورة التركية هو أن نصل إلى مقام الأمم الأخرى في الحضارة ~~والمدنية. ولكي نرتقي مدنيا واجتماعيا قمنا بالثورة، وهذا الغرض إحدى أسسها الأولى ~~(ص233). ~~••• # وهنا يجب علينا أن نختم القول في وثبة الشرق بكلمات حكيمة فاه بها وزير الحقانية ~~التركية عندما أراد أن يعرض على المجلس الوطني التركي القانون المدني الحديث الذي ~~استبدل به القانون القديم في فبراير سنة 1926، إذ قال: # إن القوانين القائمة على أساس الدين إنما تعود بالجماعات إلى الحالات البدائية ~~الأولى، فتصبح بذلك أكبر عائق دون الارتقاء. ولا خفاء في أن قوانيننا القديمة التي ~~استمدت من أحكام الدين الثابتة غير المتغايرة، كانت أكبر عامل في تقييد تركيا بقيود ~~القرون الوسطى. وفي اليوم الذي يكسب فيه هذا القانون الجديد قوة التشريع، تخلص ~~تركيا من المعتقدات الخاطئة المضلة، والتقاليد الفاسدة التي استطاعت أن تقيد الأمة ~~بقيود من حديد ثلاثة عشر قرنا من الزمان ms53. إن هذا سوف يسد باب الحضارات القديمة، ~~ويفتح لنا الباب الآخر واسعا لنلجه إلى حيث الحضارة الحديثة، حضارة الحياة ~~والارتقاء. ms54