######OpenITI# #META# URI: 1383CabbasMahmudCaqqad.SacatBaynaKutub.Hindawi18605304 #META# Tags: literature #META# ID: 18605304 #META# Title: ساعات بين الكتب #META# AuthorID: 64642852 #META# Author: عباس محمود العقاد #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # الجزء الأول‏ # العنوان1‏ # إعجاز القرآن1‏ # كتاب سادهانا للحكيم الهندي تاجور1‏ # حب المرأة1‏ # الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون1‏ # الغيرة‏ # الصبر على الحياة1‏ # كتاب مصري بالإنجليزية1‏ # التجميل في الأسلوب والمعاني1‏ # النقد1‏ # صورة1‏ # ليسستراتا1‏ # ثاميرس أو مستقبل الشعر1‏ # في الماضي1‏ # الصحيح والزائف من الشعر1‏ # بيتهوفن1‏ # الموسيقى1‏ # أزياء القدر1‏ # حرية الفكر1‏ # الفصيحة والعامية1‏ # التاريخ1‏ # الشعر في مصر (1)1‏ # الشعر في مصر (2)1‏ # الشعر في مصر (3)1‏ # الشعر في مصر (4)1‏ # الشعر في مصر (5)1‏ # الشعر في مصر (6)1‏ # الشعر في مصر (7)1‏ # الشعر في مصر1‏ # روبنس المصور السياسي1‏ # النكتة1‏ # فلسفة الملابس (1)1‏ # ماكيافيلي1‏ # فلسفة الملابس (2)1‏ # أبيات من الشعر1‏ # السيدة الإلهية1‏ # جورج رومني1‏ # ساعات بين الصور1‏ # آراء لسعد في الأدب1‏ # النثر والشعر1‏ # كلمة عن الأستاذ الزهاوي1‏ # البطولة1‏ # الوطنية (1)1‏ # الوطنية (2)1‏ # العادة1‏ # العقل والعاطفة1‏ # شكسبير (1)1‏ # شكسبير (2)1‏ # شكسبير وهاملت (3)1‏ # قصة العقل والعاطفة1‏ # أرباب مهجورة1‏ # الكمال (1)1‏ # الكمال (2)1‏ # توماس هاردي (1)1‏ # توماس هاردي (2)1‏ # توماس هاردي (3)1‏ # الجزء الثاني‏ # إبلاسكو أبانيز1‏ # الشعر والنثر1‏ # فن التصوير بين القديم والحديث1‏ # الحب والغزل1‏ # الإحساسية في التصوير1‏ # الربيع1‏ # عقول الأزهار1‏ # هنريك إبسن1‏ # الحقائق الشعرية1‏ # الإيمان العلمي1‏ # الجمال والشر في الفنون1‏ # قضية المرأة1‏ # هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟1‏ # عود إلى الشر والجمال1‏ # تمثال النهضة1‏ # الفنان أو معاني الكلمات1‏ # الشعر العربي والشعر الإنجليزي1‏ # نقد غريب1‏ # مثال من النقد1‏ # روسو1‏ # فولتير الساخر1‏ # سير العظماء1‏ # تاريخ المسيح لإميل لدفج1‏ # رديارد كبلنج1‏ # لسنغ1‏ # اللاوكون‏ # في الأدب العربي‏ # صور وأخلاق1‏ # قراءة القواميس1‏ # شيء عن أخلاق ابن الرومي1‏ # أريحية الأمم1‏ # الغرور1‏ # الأساطير1‏ # لو1‏ # تعارف الشعوب1‏ # الترجمة وتعارف الشعوب (1)1‏ # الترجمة وتعارف الشعوب (2)‏ # بين العقاد وطه حسين: مناقشة1‏ # انظر إلى من قال لا إلى ما قيل‏ # ربة الجمال بلا يدين!‏ # بلاد الحياة والموت والأديان‏ # مع بافلوفا حول الدنيا‏ # فورد الفيلسوف‏ # المطبعة والثقافة الشعبية‏ # الثقافة في العصور الحديثة‏ # في الثقافة الإسلامية‏ # معرض‏ # على هامش السيرة‏ # مع المتنبي‏ # كناشة الأسبوع‏ # مصطفى كمال‏ # عهد الشيطان‏ # رجعة أبي العلاء‏ # الجزء الأول‏ # العنوان1‏ # إعجاز القرآن1‏ # كتاب سادهانا للحكيم الهندي تاجور1‏ # حب المرأة1‏ # الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون1‏ # الغيرة‏ # الصبر على الحياة1‏ # كتاب مصري بالإنجليزية1‏ # التجميل في الأسلوب والمعاني1‏ # النقد1‏ # صورة1 ms001‏ # ليسستراتا1‏ # ثاميرس أو مستقبل الشعر1‏ # في الماضي1‏ # الصحيح والزائف من الشعر1‏ # بيتهوفن1‏ # الموسيقى1‏ # أزياء القدر1‏ # حرية الفكر1‏ # الفصيحة والعامية1‏ # التاريخ1‏ # الشعر في مصر (1)1‏ # الشعر في مصر (2)1‏ # الشعر في مصر (3)1‏ # الشعر في مصر (4)1‏ # الشعر في مصر (5)1‏ # الشعر في مصر (6)1‏ # الشعر في مصر (7)1‏ # الشعر في مصر1‏ # روبنس المصور السياسي1‏ # النكتة1‏ # فلسفة الملابس (1)1‏ # ماكيافيلي1‏ # فلسفة الملابس (2)1‏ # أبيات من الشعر1‏ # السيدة الإلهية1‏ # جورج رومني1‏ # ساعات بين الصور1‏ # آراء لسعد في الأدب1‏ # النثر والشعر1‏ # كلمة عن الأستاذ الزهاوي1‏ # البطولة1‏ # الوطنية (1)1‏ # الوطنية (2)1‏ # العادة1‏ # العقل والعاطفة1‏ # شكسبير (1)1‏ # شكسبير (2)1‏ # شكسبير وهاملت (3)1‏ # قصة العقل والعاطفة1‏ # أرباب مهجورة1‏ # الكمال (1)1‏ # الكمال (2)1‏ # توماس هاردي (1)1‏ # توماس هاردي (2)1‏ # توماس هاردي (3)1‏ # الجزء الثاني‏ # إبلاسكو أبانيز1‏ # الشعر والنثر1‏ # فن التصوير بين القديم والحديث1‏ # الحب والغزل1‏ # الإحساسية في التصوير1‏ # الربيع1‏ # عقول الأزهار1‏ # هنريك إبسن1‏ # الحقائق الشعرية1‏ # الإيمان العلمي1‏ # الجمال والشر في الفنون1‏ # قضية المرأة1‏ # هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟1‏ # عود إلى الشر والجمال1‏ # تمثال النهضة1‏ # الفنان أو معاني الكلمات1‏ # الشعر العربي والشعر الإنجليزي1‏ # نقد غريب1‏ # مثال من النقد1‏ # روسو1‏ # فولتير الساخر1‏ # سير العظماء1‏ # تاريخ المسيح لإميل لدفج1‏ # رديارد كبلنج1‏ # لسنغ1‏ # اللاوكون‏ # في الأدب العربي‏ # صور وأخلاق1‏ # قراءة القواميس1‏ # شيء عن أخلاق ابن الرومي1‏ # أريحية الأمم1‏ # الغرور1‏ # الأساطير1‏ # لو1‏ # تعارف الشعوب1‏ # الترجمة وتعارف الشعوب (1)1‏ # الترجمة وتعارف الشعوب (2)‏ # بين العقاد وطه حسين: مناقشة1‏ # انظر إلى من قال لا إلى ما قيل‏ # ربة الجمال بلا يدين!‏ # بلاد الحياة والموت والأديان‏ # مع بافلوفا حول الدنيا‏ # فورد الفيلسوف‏ # المطبعة والثقافة الشعبية‏ # الثقافة في العصور الحديثة‏ # في الثقافة الإسلامية‏ # معرض‏ # على هامش السيرة‏ # مع المتنبي‏ # كناشة الأسبوع‏ # مصطفى كمال‏ # عهد الشيطان‏ # رجعة أبي العلاء‏ # | ساعات بين الكتب # | ساعات بين الكتب # تأليف # عباس محمود العقاد # | الجزء الأول # | العنوان1 # عنواني هذا ليس بالجديد؛ لأنني كتبت به منذ اثنتي عشرة سنة سلسلة فصول، ~~وأدرتها على موضوع الكتب والقراءة، وما كان يطرق ذهني ويختلج في نفسي من ~~الخواطر والآراء وأنا بين صفحات الكتب ومذاهب التفكير، وكنت يومئذ في أسوان ~~والحرب العظمى في بداءتها، وجو السياسة في ms002 القاهرة مضطرب أشد الاضطراب، ~~وجو الأدب ليس بأصلح منه حالا ولا بأهدى للسالكين فيه، فأويت إلى أسوان ~~أقرأ وأرتاض وأثبت في الورق ما تبعثه في قراءة الورق والرياضة بين ~~المشاهد والآثار، واجتمع من تلك الفصول كتاب مسهب مختلف بين كلام في الشعر، ~~وكلام في التاريخ، وكلام في الدين، والاجتماع، والأخلاق، وما إلى ذلك من ~~المباحث المتواشجة والمسائل المتجاذبة، ثم قضي على ذلك الكتاب أن يطوى «طي ~~السجل للكتب» وأن يذهب بعضه في المطبعة، وبعضه في النار، نعم! فقد ضاعت ~~مسودات فصوله الأولى في مطبعة كنت اتفقت معها على إتمام طبعه ونشره، فما برحت ~~القاهرة وقفلت إلى أسوان حتى كانت قد أصدرت منه كراساته الخمس التي كنت ~~طبعتها أنا على حسابي، وتركتها في ذمة الطابع ليكملها، ويضم إليها بقية الرسائل ~~والفصول، وأحرقت أنا بقية تلك المسودات في ساعة غضب ليس هنا مقام تفصيل أسبابه، ~~أضاعت ثمرة كل هاتيك الساعات الطوال . # فلما صحت النية على إنشاء البلاغ الأسبوعي، واتسع فيه المجال للكتابة الأدبية ~~والموضوعات التي ليست من قبيل ما ينشر في الصحف اليومية، أحببت أن أختار ~~للكتابة فيه بابا من أبواب الأدب الكثيرة أعادوه مرة في كل أسبوع، وترددت في ~~اختيار ذلك الباب أيكون مبحثا واحدا متسلسل الأجزاء متعاقب الحلقات أم يكون ~~رسائل متفرقة من حيثما وردت على القلم، لا وحدة بينها ولا محور لها غير وحدة ~~الأدب ومحور التفكير والتخييل، أو يكون قصصا أو ذكريات أو تحليلا «للأشخاص» ~~أو وصفا للحوادث والأطوار، أو ماذا يكون من تلك المناحي التي تتكاثر على الذهن ~~ساعة الاختيار، والابتداء بين مذاهب شتى لا وجه للتفضيل بينها والتمييز، ثم كان ~~يوم وصلت فيه ثلاثة كتب قيمة من مؤلفيها ومترجميها يسألونني النظر فيها ~~والكتابة عنها، فذكرني ذلك ما تلقاه الكتب في أدراج الصحف من الإهمال، أو ~~الإعلان المقتضب في شيء من المجاملة المبهمة والصيغ المحكية المتكررة، فقلت في ~~نفسي ومتى سأقرأ هذه الكتب وما تقدمها وما يأتي بعدها؟ ثم متى أكتب في ~~نقدها بما تستحقه، أم ترى ms003 أسكت عنها وأنفض عن كتفي هذا الواجب الذي عرضني له ~~أصحابها على غير مشاورة، وعلى غير تقدير - فيما أظن - للفوارق الكثيرة بين ~~الصحف الأوربية والصحف العربية التي لم تبلغ بعد من التخصص في الموضوعات ~~والأقلام ما بلغته صحافة الغرب في الزمن الأخير؟ وهنا لاح لي خاطر واستقر ~~رأيي عليه في الموضوع الذي أختاره للصحيفة الأسبوعية، ثم لاح لي ذلك العنوان ~~القديم فألفيته أليق عنوان به وأدله على غرضي منه: هذه كتب كثيرة ترسلها ~~المطابع في كل يوم بعضها مما يستحق التنويه، وبعضها مما يستحق الإغفال، وكلها ~~مما يجول فيه الفكر ساعة ثم تعرض له في تلك الساعة أفكار وملحوظات تستحق أن ~~تدون على الهوامش أو في المتون، فلنقض إذن بين تلك الكتب الكثيرة ساعات ~~للتصفح أو الدرس والتأمل، ثم نقول لمؤلفيها ولقرائنا ما تمليه علينا تلك ~~الساعات من تقدير محمود أو مذموم، وليكن عنواننا في الصحيفة الأسبوعية هو ذلك ~~العنوان القديم، راجين أن يكون له في عهده هذا حظ أجمل من حظه في عهده ~~المدثور. ~~••• # ولكن ما هذه الساعات بين الكتب، وماذا عسى أن يكون محصولها الذي نخرج به منها ~~على الإجمال؟ أهي ساعات منقطعة للطروس والمحابر، ننقلب فيها من الدنيا الحية ~~النابضة إلى دنيا أخرى من الحروف والأوراق؟ أهي ساعات بين الكتب؛ لأنها ليست ~~ساعات بين الأحياء كما قد يتوهم الذين يقسمون الزمن إلى قسمين: ساعة للقلب ~~وساعة للرب وبينهما برزخ لا تختلط عليه البروج، ولا يعبره هؤلاء إلى هؤلاء؟ أود ~~أن أقول في إيجاز وتوكيد: كلا! ليس للأوراق في «علم صناعتي» مادة غير مادة ~~اللحم والدم، وليست المكتبة عندي - أيا كانت ودائعها - بمعزل عن هذه الحياة ~~التي يشهدها عابر الطريق، ويحسها كل من يحس في نفسه بخالجة تضرب وقلب يجيش ~~وذاكرة ترن فيها أصداء الوجود، وإنما الكتاب الخليق باسم الكتاب في رأيي هو ما ~~كان بضعة من صاحبه في أيقظ أوقاته، وأتم صوره، وأجمل أساليبه، وهو الحياة ~~منظورة من خلال مرآة إنسانية تصبغها بأصباغها، وتظللها بظلالها، وتبدو لك ms004 جميلة ~~أو شائهة، عظيمة أو ضئيلة، محبوبة أو مكروهة، فتأخذ لنفسك زبدتها الخالصة، ~~وتعود بها وأنت حي واحد في أعمار عدة أو عدة أحياء في عمر واحد. ذلك هو الكتاب ~~كما أستحبه وأطلبه، وعلى هذا لا تكون ساعاتنا مع القارئ بين الكتب إلا ساعات ~~نقضيها في غمار هذه الدنيا بين الأحياء العائشين، أو بين الأموات الذين هم أحيا ~~من الأحياء. # ولست أدري كيف نشأ في أوهام الناس أن دنيا الكتب غير دنيا الحياة، وأن العالم ~~أو الكاتب طراز من الخلق غير طراز هؤلاء الآدميين الذين يعيشون ويحسون ويأخذون ~~من عالمهم بنصيب كثير أو قليل، ولكني أحسبها بقية من بقايا الامتزاج بين الدين ~~والعلم أيام كان رجال الأديان هم رجال العلوم، وكان سمت الدين هو سمت الزهد ~~والتبتل والعكوف على الصوامع والمحاريب، فكان العالم المتفقه عندهم لا يفتح ~~عليه بالعلم، ولا يمد له من أسبابه إلا بمقدار إعراضه عن العيش المباح منه ~~والحرام، واعتزاله الناس الأخيار منهم والأشرار، وكانت عندهم علوم للشيطان كما ~~كانت عندهم علوم لله، فمن طلب هذه أو تلك فعليه بالتجرد عن الدنيا ورياضة النفس ~~على الشظف والحرمان إلى أن يرزق نعمة الوصول، ويحظى بالاجتباء من إله النور أو ~~من إله الظلام، فقد كان العلم يومئذ إما نسكا أو سحرا، ولا ينسك الناسك ويسحر ~~الساحر وهو يروح ويغدو بين هذه الأحياء، ويشتغل من شئونهم بما هم به مشغلون ~~وإلا فما أغرب ناسكا يحدثك بجمال هذه الدنيا التي يزهد فيها أو يحس معك بمثل ~~ما تحسه من مسراتها وآلامها! وما أعجب ساحرا يتغلب على الطبيعة وهو مسخر ~~للطبيعة تدعوه فيجيب وتستهويه فيلبي بواعث الأهواء! إن هذا لا يكون ولا يدخل في ~~حيز المعقول، فإذا سمعت بكاتب في غير عالم الموميات المتحركة، أو بمكتبة في غير ~~الطريق بين الصومعة والمقبرة فقل ذلك بهتان لا يجوز، ومحال في القياس لا يسلم ~~به العارفون! # كذلك كانوا يفهمون العلم والدين والقدرة على النفس والطبيعة، فهم على حق إذا ~~فهموا أن الساعات التي تقضى ms005 بين الكتب إن هي إلا ساعات مقطوعة من الحياة ~~معزولة عن الإحساس، وهم على صواب إذا اعتقدوا أن الورق مادة تصنع من حيث ~~يصنعونه لا من دماء الرءوس والقلوب! لقد كان للعلم في زمانهم مورد واحد في عالم ~~الغيب، أو عالم الموت يستوحونه منه ويثوبون به إليه، فلا يعلم العالم ولا يهبط ~~الوحي على طالبه إلا بثمن من الحياة يؤديه للموت، وقسط من الدنيا ينقله إلى ~~الضريح، ونحن اليوم لا نوحد بين رجال الدين ورجال العلم، ولا نرى إلا أن حياتنا ~~الخالدة هي كل شيء وهي مصدر كل معرفة ومهبط كل وحي وإلهام، وهي المرجع الذي ~~يؤدي له العالم ثمن علمه، والكاتب ثمن وحيه، فلا يعطى من العلم والوحي إلا ~~بمقدار ما يعطي هو للحياة، غير أن العقيدة القديمة ما تزال لها بقية عالقة ~~بالأوهام، والرأي في الكتب والأوراق ما يزال على نمط من ذلك الرأي المتهافت ~~المهجور، فليس بالفضول إذن أن نعرض هنا لذلك الوهم لنقول: إن ساعاتنا بين الكتب ~~على خلاف ذلك؛ هي ساعات بين كل شيء، وإنها قد تجمع في نسقها كل ما ترددنا في ~~اختياره من الموضوعات، فتكون في آن واحد هي الرسائل المتفرقة وهي القصص، وهي ~~الذكريات، وهي كذلك التحليل للأشخاص والوصف للحوادث والأطوار. # ولا يسألني القارئ أي كتب؛ فإنني لا أقصر الكلام على الكتب النابهة، ولا أحجم ~~عن تناول الكتب الكاسدة، سواء في سوق الأدب أو في سوق البيع والشراء، فإنما حد ~~الكتاب الذي يتناول بالنقد في هذه الصفحة هو الورق يقضى في تصفحه ساعة، ويقال ~~فيه شيء بعد ذلك للشرح والثناء، أو للرد والانتقاد، أو لغير هذين الغرضين من ~~أغراض القول والتفكير، وكأني بالقارئ يحسبني ناهجا في هذه الصفحة منهج الطائفة ~~الإحساسية # Impressionist # التي ترسم لك ما تسميه ~~أثر الكتاب في نفسها، ووقعه في ذوقها، ثم لا تبالي مع هذا بمقياس معلوم يمكن ~~القياس عليه، والاحتكام في المسائل المتشابهة إليه. # فإن كان هذا ما سبق إلى روع القارئ من طريقتي التي ألممت بها، فإني ms006 أبادر إلى ~~تصحيح هذا الظن وأقول: إن النقد الذي لا مقياس له غير ذوق صاحبه، ولا غاية له ~~إلا أن يخرج بك من الكتاب بأثر يدعيه ولا يقبل المحاسبة فيه، إنما هو ثرثرة لا ~~خير فيها، وهذا لا يساوي الإصغاء إليه؛ لأن الإفضاء به والسكوت عنه سواء. ~~وكثيرا ما ذكرتني طريقة هذه الطائفة الناقدة بحكاية «جحا» المشهورة حين قيل ~~له: كم عدد نجوم السماء؟ فقال لهم: عدد شعر رأسي، فقالوا له: هذا غير صحيح ~~وعليك بالبرهان، قال: لا، بل صحيح وعليكم أنتم بالبرهان، عدوا النجوم وعدوا شعر ~~رأسي وبينوا لي الفرق بين العددين إن كنتم صادقين، فأنا لا أريد أن يكون «شعر ~~رأس الناقد» هو القياس الذي يعجز به السائلين والمستفهمين، فإما أن يصدقوا ما ~~يدعيه من آثار الكتاب في ذوقه، وإما أن يأتوه بالبرهان على نقيض ما يدعيه! ~~كلا. لن يكون عدد نجوم السماء في حسابي إلا - كذا ~~- بالأرقام والأصفار التي تنتظم في كل حساب، ~~أما الإحالة إلى «شعر رأس الناقد» فلا تسفر عن بيان صحيح في النظر إلا حين يكون ~~الرأس أصلع لا شعر فيه وتكون السماء محجوبة ليس بها نجوم! ولكنها فيما عدا ذلك ~~أحجية لا تبين لك عن عدد ما في الرأس ولا عن عدد ما في السماء. # | إعجاز القرآن1 # كلمة في المعجزة - وكلمة أخرى في الكتاب # ما هي المعجزة؟ هي حادث خارق لنواميس الكون التي يعرفها الإنسان مقصود به إقناع ~~المنكرين بأن صاحبها مرسل من قبل الله، إذ كان يأتي للناس بعمل لا يقدر عليه ~~غير الله، وإنما الأساس فيها والحكمة الأولى أنها تخرق النواميس المعروفة، وتشذ ~~عن السنن المطردة في حوادث الكون، وعلى هذا الوجه يجب أن يفهمها المؤمنون بها ~~والمنكرون لها على السواء، فيخطئ المؤمن الذي يحاول أن يفسر المعجزة تفسيرا ~~يطابق المعهود من السنن الطبيعية؛ لأنه بهذا التفسير يبطل حكمتها، ويلحقها ~~بالحوادث الشائعة التي لا دلالة لها في هذا المعنى، أو بأعمال الشعوذة والتمويه ~~التي تظهر للناس على خلاف حقيقتها، ويخطئ المنكر ms007 الذي يفهم المعجزة على غير هذا ~~الوجه، ثم ينكر إمكان وقوعها؛ لأنها إذا دخلت في نظام النواميس المعهودة لم ~~يجز له إنكارها، ولم تخرج عن كونها شيئا من هذه الأشياء التي يتوالى ورودها ~~على الحس في أوقاتها. # والمعجزة في لفظها العربي قوامها الإعجاز، أي الإقناع بأن فاعلها هو الله لا ~~سواه؛ ومن ثم يكون الرجل الذي ساقها مساق الدليل رسولا من عند الله، وقوامها ~~في اللفظ الإفرنجي الإعجاب والإدهاش، ولكنه معنى ناقص؛ لأن الشيء قد يكون ~~معجبا مدهشا ثم يكون من عمل الناس كأكثر هذه المخترعات الحديثة قبل شيوعها، ~~وكجميع أعمال الشعوذة وما يسمى بالسحر والكهانة، فإن هذه جميعها عجائب تخالف ~~المألوف وتبده الناظرين إليها بما يجهلون من أسبابها، فالكلمة العربية إذن - ~~المعجزة - أدل على معناها المقصود بها من أختها الإفرنجية، وأقرب إلى غرض أصحاب ~~المعجزات حين يسوقها للإفحام والإقناع. # ولدافيد هيوم الفيلسوف الإنجليزي رأي في المعجزات ينكرها أولا، ثم يذهب إلى ~~أنها على فرض ثبوتها لا تصلح للدلالة على مقاصد أصحابها، ولا تلزمك الحجة بصدق ~~ما يعرضون لك من الدعاوى والأنباء، فهب أن رجلا جاءك وقال لك: إن واحدا ~~وواحدا يساويان ثلاثة أو يساويان واحدا ونصفا، فأنت تنكر عليه هذه الدعوى ~~وتناقشه فيها بالأدلة الحسابية، فإذا قال لك بعد ذلك: إنني أستطيع أن أريك ~~الشمس طالعة من المغرب إلى المشرق، أو النجم يجري في السماء لغير مستقره. ثم ~~استطاع ذلك فعلا فأنت تكبر الأمر وتستهوله وتحاول تعليله، ولكنك لا ترى كيف ~~يقنعك هذا بأن واحدا وواحدا يساويان ثلاثة، ولا يساويان اثنين كما علمت ~~بالحساب والبرهان، وإذا زعم زاعم لك أن حادثا من حوادث التاريخ المحققة لم يقع ~~قط في الدنيا، أو وقع على خلاف الوصف الذي أجمع عليه الرواة فأنت قد تعجب لذلك، ~~وتطلب الدليل على كذب الرواة وخطأ التواريخ، فإذا جاءك المدعي بدليل يثبت به ~~قدرته على رفع الأشياء بغير روافعها المألوفة، وإظهار الأشياء في غير مواعيدها ~~الموقوتة، أو ما شابه ذلك من شواهد القدرة ودلائل الإعجاز، فالمسألة ms008 تظل في ~~نظرك كما كانت في مبدأ الأمر قائمة بغير دليل مقنع من جنس القياس المنطقي الذي ~~تجوز به المناقشة، فالبرهان العلمي أو البرهان المنطقي هو عند دافيد هيوم ~~البرهان لا سواه، الصالح وحده للإثبات والنفي والتصديق والتكذيب. # وكلام الفيلسوف فيه شيء من الوجاهة، ولكن فيه كذلك شيء من المغالطة. إذ ما هي ~~دعوى النبي الذي يطالبك بالإيمان وتطالبه أنت عليه بالبرهان؟ دعواه أنه مرسل من ~~عند الله برسالة قد تفوق مدى العقل والإدراك ولا بد فيها من التسليم فالنجاة، ~~أو الإنكار فالهلاك، وكل ما يطلب من النبي إذا هو ادعى هذه الدعوى أن يأتي بعمل ~~لا تشك أنت في أنه عمل إلهي يعجز عنه البشر أجمعون، فإذا قدر على ذلك الفعل فقد ~~ألزمك الحجة، وقام لك بما هو حسبه من دليل قاطع مانع للشك والجدال، ووجب عليك ~~أن تصدق رسالته وتؤمن بالقدرة التي يدعوك إلى الإيمان بها ولو كنت لا تراها ولا ~~تنفذ إلى مقام الحديث معها. كل ما عليه كما قلنا أن «يثبت» لك أن المعجزة التي ~~جاءك بها لا تأتي لإنسان، ولا تصدر من غير إله، فإنه إن أثبت لك ذلك فقد أثبت ~~لك كل شيء، وأدى إليك أمانتك أصدق أداء. # تلك هي المعجزة التي يحتاج إليها العقل الإنساني ليؤمن بما فوق إدراكه، ومتناول ~~نقده وتعليله، فينبغي للمعجزة أولا أن تخرق النظام الذي يعهده الناس، وينبغي ~~لها ثانيا أن تمنع كل ريب في حدوث ذلك الخرق بقدرة غير قدرة الله، ولا يكفي ~~الإعجاز وحده دليلا على الرسالة الإلهية؛ لأن الإعجاز قد يكون لغير براعة في ~~الفعل المعجز، وقد يكون لعمل من أعمال البشر التي لا بد فيها من رجحان واحد على ~~الآخرين. # مثال ذلك: جاء إليك صبي يتهجى وكتب لك سطرا من خطه، ثم طلب إليك أن تكتبه أنت ~~بيدك كما كتبه هو غير مستعين برسم ولا تصوير، فأنت لا محالة عاجز عن محاكاة ذلك ~~الخط أتم محاكاة وغيرك أيضا عاجزون عن إجابة ذلك التحدي الساذج الصغير ms009، فماذا ~~ترى في دعوى الصبي إذا هو ادعى النبوة، أو ما شاء له عقله الصبياني المخدوع؟ ~~هذه محاكاة يعجز عنها أقدر القادرين في كتابة الخطوط لا لحسن رائع في الخط ~~المحكي، ولا لزيادة في جهد الصنعة وطاقة التجويد، ولكن لأن يد الصبي غير سائر ~~الأيدي، ومعرفته بالخط غير سائر المعارف فهو يكتب خطا لا يحكيه أحد، ويفعل ~~فعلا يعجز عنه الآخرون، فهل ترى هذا الإعجاز مما تنهض به الحجة وتغدو له ~~العقول؟ أو هل ترى أن مجرد العجز هنا دليل على انتصار الصبي القادر وخذلان ~~المقلدين العاجزين؟ # على أن العجز عن المحاكاة قد يكون لحسن رائع في الشيء المحكي، ولزيادة واضحة في ~~جهد الصنعة وطاقة التجويد؛ قد يكون آية النبوغ ومعجزة العبقرية الراجحة ~~بمزاياها وملكاتها على جميع العبقريات، ثم لا يلزم منه أن يتخذ دليلا على ~~النبوة والرسالة الإلهية، أو أن يثبت لصاحب الآية كل دعوى يدعيها وكل حجة يحتج ~~بها على من لا يساويه في الإتقان والبراعة، فالشعر مثلا سليقة يتشابه فيها ~~الشعراء، ولكنهم لا يبلغون ذروتها العالية جميعا، ولا يرتفع إلى تلك الذروة ~~إلا واحد فرد تنقطع دونه المنافسة، ويحجم عنه الادعاء، وهذا الفرد في رأي ~~الإنجليز والأوربيين عامة هو ويليام شكسبير، سيد الناظمين في وصف حالات النفوس، ~~وتحليل طبائع الرجال والنساء والملوك والصعاليك والعقلاء والمجانين. آية لم ~~يؤتها شاعر غيره ولم ينكرها عليه مدعي عظمة، أو طامع في شهرة، أو مكابر في ~~فضيلة، فهم ها هنا متفقون لا يشذ عنهم في الرأي إلا أمثال الذين يشذون على ~~الأنبياء والمرسلين، ويلجون في المكابرة بدليل أو بغير دليل، ومع هذا نحن لا ~~نسلم لشكسبير النبوة إذا ادعاها وتحدى الشعراء أن ينظموا مثل نظمه ويصفوا مثل ~~وصفه فعجزوا عن الإجابة، وأقروا بالعجز صاغرين، ونحن لا نقبل أن تكون معجزته ~~إلهية خارقة للنواميس؛ لأن الناس «عاجزون» عن مجاراته فيها، ولأنه هو الفرد ~~الذي اتفق له الرجحان على الشعراء كافة في المشرق والمغرب، إذ لو لم يتفق له هو ~~ذلك الرجحان لاتفق ms010 لسواه، ثم لا يكون ذلك السوي إلا آدميا من الآدميين، ~~وإنسانا فانيا لا يسمو إلى مكان الآلهة والأرباب، وإنما مثله في هذا الرجحان ~~مثل الحجر الذي يوضع في أعلى البناء ويزدان بالحلية وإبداع اللون والتركيب، فهو ~~يعد حجرا كسائر الحجارة وإن ميزه موضعه بالعلو والجمال، وهو لا يحق له أن يتخذ ~~من تفرده معجزة يتسامى بها على طبيعة الحجر وقوانين البناء. # وقصارى القول: إن المعجزة النبوية يجب أن يثبت لها أمران؛ أنها معجزة من حسن ~~ورجحان، وأنها معجزة من قدرة الله وحده لا من قدرة أحد سواه، وعلى الذين ~~يتكلمون في إعجاز القرآن أن يبسطوا القول في هذا، وأن يقصروا الحجة عليه؛ لأن ~~كل حجة غيرها تحتاج إلى تتمة تبلغ بها إلى هذه النهاية - وسبيل الأستاذ مصطفى ~~صادق الرافعي صاحب كتاب «إعجاز القرآن» الذي بين أيدينا الآن - أن ينحو هذا ~~النحو، ويزيد فيه على من تقدمه إذا هو أراد أن يجعل كتابه إذن نموذجا في ~~البلاغة البدوية، أو تسبيحا بالآيات القرآنية، أو تحية يقرؤها المسلم فيرتاح ~~إليها، ويقرؤها غير مسلم فلا تزيده بالقرآن علما، ولا تطرق من قلبه أو عقله ~~مكان الإيمان والتسليم، ولكن لا يقل عنه إنه كتاب في إعجاز القرآن، وليس فيه ~~شاهد واحد على معجزات الكلام، ولا هو نهج فيه ذلك المنهج الذي أحسن فيه ~~الجرجاني أيما إحسان، وأفاد به الآداب العربية أيما إفادة، فإنما الثناء على ~~القرآن في كتاب تناهز صفحاته الأربعمائة حسنة طيبة يكتب للرافعي أجرها وثوابها ~~عند الله، ولكنها لا تكتب له في سجل المباحث والعلوم، ولا تعد من حسنات التفكير ~~والاستقراء. # أويعجب الأستاذ الرافعي مما نقول؟ إذن ليرجع إلى كتابه، وليذكر أنه عبر أكثر ~~من مائتي صفحة لا يكاد يلم بشاهد واحد من آية قرآنية، أو أصل واحد مقرر من أصول ~~البلاغة، وأنه لما بدأ بالاستشهاد في فصل «الكلمات وحروفها» جاء يحدثنا عن ~~نبرات الحروف، ونغماتها الموسيقية، وموقع كل حرف بجانب ما تقدمه وما يليه، كأن ~~بلاغة القرآن معلقة على هذا المعنى تثبت ms011 بثبوته وتدحض بإدحاضه، وإليك بعض ما ~~ذكر في هذا الفصل بنصه: «ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها ~~الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر ~~الفصاحة، فيهيئ بعضها لبعض ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات ~~الحروف من دقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة وربما كانت ثقيلة في نفسها ~~لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تعذب ولا تساغ، وربما كانت أوكس النصيبين في ~~حظ الكلام من الحروف والحركة، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا ~~عجيبا، ورأيت الأحرف والحركات التي قبلها قد امتدت لها طريقا في اللسان أو ~~اكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت ~~متمكنة في موضعها وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة. كلفظة ~~«النذر» جمع نذير فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا ~~فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوه في اللسان، وخاصة إذا جاءت فاصلة للكلام فكل ~~ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه، ولكن جاء في القرآن على العكس، ~~وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: # ولقد أنذرهم ~~بطشتنا فتماروا بالنذر ~~. فتأمل هذا التركيب وأنعم ~~ثم أنعم على تأمله وتذوق مواقع الحروف وأجر حركاتها في حس السمع، وتأمل مواضع ~~القلقلة في دال «لقد» وفي الطاء من «بطشتنا» وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء ~~الطاء إلى واو «تماروا» مع الفصل بالمد كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذ ~~هي جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا، ولتكون هذه الضمة قد أصابت ~~موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثم ردد نظرك في الراء من «تماروا» فإنها ~~ما جاءت إلا مساندة لراء النذر حتى إذا انتهى إليها اللسان انتهى إليها من ~~مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه. ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت ~~الطاء في نون وأنذرهم وميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في النذر وما من ~~حرف أو حركة إلا وأنت ms012 مصيب في كل ذلك عجبا في موقعه والقصد به.» # هذا نموذج من شواهد الرافعي بنصه، نرى أنه قد علق فيه بلاغة القرآن على شيء ~~هيهات أن يكون مقصودا أو ساريا في كل آية على النحو الذي يحكيه، وإلا فما ~~يقول الرافعي في هذه الآية التالية من سورة هود: # قيل يا ~~نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ~~ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا ~~عذاب أليم ~~. # فإن كانت بلاغة الكتاب الكريم مرتهنة بذلك النسق الذي تصوره الأديب، فهل يناقض ~~البلاغة في رأيه توالي الميمات الكثيرة والنون والتنوين في هذه الكلمات ~~المتعاقبة، أو يظن الرافعي هذه الآية بدعا بين آيات الكتاب؟ وإن بحثا يوضع ~~في تقرير بلاغة القرآن والرد على منكري إعجازه لأولى للباحث أن يتصدى له عالم ~~قوي العارضة حاضر البرهان خبير بأساليب القياس، ولكن الرافعي يتصدى لهذا البحث ~~وهو من أضعف الناس منطقا، وأفشلهم قياسا، وأعجزهم عن تأييد الدعوى بالحجة، ~~وتفنيد القول بمثله، فهو يمضي مؤيدا مفندا ثم لا يطالب نفسه بدليل غير السخط ~~إذا خالف، والتكرار والتأمين إذا وافق، وعلى الله بعد ذلك الإقناع ببركة ~~الإلهام والإيمان، لا ببركة البيان والبرهان، خذ مثلا رده على أبي الحسين أحمد ~~بن يحيى المعروف بابن الراوندي حيث يقول في كتابه الفريد: «إن المسلمين احتجوا ~~لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي، فلم تقدر العرب على معارضته فيقال ~~لهم: أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: ~~الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا ~~بمثل كتابه أكانت نبوته تثبت»، وكلام ابن الراوندي هذا ظاهر المغالطة؛ لأن ~~إقليدس لم يخترع الحقائق التي أوردها في كتابه، وليس في طاقته هو نفسه أن يبتدع ~~كتابا آخر، أو يزيد قضية واحدة على تلك القضايا، فالعجز هنا يشمله كما يشمل ~~الآخرين، والدعوى لا تظهر فضلا له غير فضل الاهتداء والإشارة إلى الحقائق ~~الموجودة قبله، والتي لا يد له هو في إيجادها بأي معنى ms013 من معاني الإيجاد، ولكن ~~الرافعي يغضب على ابن الراوندي فينحى عليه بالثلب والتبكيت ويقول فيه: «لعمري ~~إن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلا من الحجة وبابا من ~~البرهان، لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الطب قط، وإلا فأين كتاب من كتاب، ~~وأين وضع من وضع، وأين قوم من قوم، وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق ~~القرآن وفيما يخط عليه لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولاطرد ذلك ~~القياس كله على وصفه، كما يطرد القياس عينه في قولنا كل حمار يتنفس، وابن ~~الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟» # ذلك هو رد الرافعي على ابن الراوندي، وليس فيه كما رأيت تفنيد لحجة الرجل، ولا ~~إقناع لمن يقف موقف الحيدة بين الطرفين، ولكن هو هذا أسلوب الرافعي في تأييد ما ~~يؤيد، وتفنيد ما يفند، وهو هذا سلاحه الذي خيل إليه أنه جاهد به في سبيل ~~الدين، ورد به الكفرة والملحدين! ~~••• # لقد قرأت «إعجاز القرآن» وخرجت منه على رأي واحد: على أن الكتاب معرض يعرض به ~~الرافعي مبلغ اجتهاده في ثقيل عبارات البدو، وتأثر أساليب السلف؛ ولهذا يحسن أن ~~يقرأ ويقتنى، أما إنه مبحث في بيان إعجاز القرآن، ولا سيما إذا كان القارئ من ~~غير المسلمين، فتلك نية للرافعي يثاب عليها كما يثاب الإنسان بالنيات! # | كتاب سادهانا للحكيم الهندي تاجور1 # سادهانا أو «تحقيق كنه الحياة» هو اسم اختاره الحكيم الهندي تاجور لمحاضراته ~~التي ألقاها بالبنغالية على تلاميذه في مدرسة «بولير» من بلاد البنغال، وترجمها ~~مع بعض أصحابه إلى اللغة الإنجليزية، ثم ألقى موجزا منها في جامعة هارفارد ~~الأمريكية، وبعض المجامع الأوربية، وهذه المحاضرات على إيجازها هي خلاصة حكمة ~~الهند، كما أدركها النساك الأقدمون، وشرحها قلم الشاعر الصوفي بأسلوبه الرائق، ~~وخياله الورع المتخشع، وقريحته الصادقة المطمئنة، وهو يتكلم فيها عن إيمان ~~موروث، ونظرة عصرية إلى شئون الحياة لا تتفق لنساك الهند العاكفين على العبادة، ~~المنقطعين عن الحياة الدنيا، فهي خير ما يقرؤه المتشوف إلى فهم ms014 روح الديانة ~~الهندية في غير تلك الأسفار المثقلة بالرموز المغلقة، والمعاني الغامضة، ~~والأمثلة الفائرة من بقايا حكمة يوشك أن ينضب معينها، وتنزل الأوضاع والمراسم ~~منها منزلة الحقيقة والابتكار. # قرأت هذا الكتاب أول مرة منذ خمس سنوات عند هياكل الأقصر، وأطلال معابدها ~~الدارسة، فجمعت فيه بين حكمة البراهمة وحكمة الكهنة على بعد ما بينهما من ~~المسافة في الباطن والتمثيل الظاهر، فتلك حكمة تقوم حقيقتها على إنكار المادة، ~~وتجاوز الأجساد إلى ما وراءها من البواطن الروحية، والصلة الجامعة بمصدر ~~الحياة، وهذه حكمة تقدس المادة في مظاهرها المتعددة من جماد ونبات وحيوان، ~~وتلبس كل لمحة روحية ثوبا من الجثمان البارز الكثيف، تلك حكمة تحسب الحياة ~~الدنيا عبثا عارضا، وسبيلا إلى حياة خالدة لا طعام فيها ولا متاع ولا رجاء ~~غير الاتصال بأصل الوجود وسر الأسرار، وهذه حكمة تحسب الموت نفسه مجازا إلى ~~حياة أخرى ينعم فيها المرء بطعامه ومتاعه، ويرجو فيها من متعة العيش ما كان ~~يرجوه عالم الأجساد، ولعل هذه المسافة بين الحكمتين هي التي مثلت لي كل حكمة ~~منهما في غايتها القصوى، وطرفها البعيد عن نقيضه المقابل له، فأظهرت لي ما ~~فيهما معا، وخلصت بي من كليهما إلى العنصر واللباب. # ولقد سمعنا بعدها فلسفة الهند أو فلسفة تاجور من فمه، ولا تزال في الآذان نغمة ~~من ذلك الصوت المشجي العذب، وجرس من ذلك اللفظ الواضح الرخيم، فسمعنا خلاصة ال ~~«سادهانا» ينطق بها صاحبها بصوت كأنما هو صوت الأرواح تتكلم، أو نجى الوحي ~~الهندي تتلقاه الأسماع من وراء المحاريب، ورجعت إلى ال «سادهانا» فقرأتها في ~~هذه المرة كأنما أسمعها نشيدا أو أحس صداها يتجاوب بين عمدان الفراعنة وحجرات ~~الكهان، ورأيت من ذلك كله صورة قدسية يظللها القدم وتحفها مصر والهند بخير ما ~~فيهما من ودائع الدهور وذخائر العقول، فقضيت عندها ساعة خشوع وسلام وددت أن ~~أشرك فيها قراء هذه الساعات. # لست أريد أن ألخص «السادهانا»؛ لأن الكتاب صلاة والصلوات لا يجوز فيها التلخيص ~~والاقتضاب، ولست أريد أن أنقد آراءها؛ لأن هذه الآراء ms015 إن هي إلا زهرة روحية، ~~والزهرات لا تطيب على النقد والتحليل: ولكني أدير سمع القارئ إلى نغمات من تلك ~~الصلاة، وألقي ببصره على منظر من تلك الزهرات، وأومئ له إلى مدخل المحراب، أو ~~ناحية الروضة وهو بعد ذلك وما يشاء من اكتفاء بما رأى أو اتجاه إلى طلب ~~المزيد. ~~••• # يفرق تاجور بين المدينتين اليونانية والهندية، أو بين الفلسفتين الغربية ~~والبرهمية، بأن الأولى فلسفة نشأت وراء الجدران، والثانية فلسفة نشأت في ~~الغابات والآجام، فلهذا قامت الحواجز بين الإنسان والطبيعة في عقيدة الغربيين، ~~واتصلت الحدود بين الفرد والحياة الكونية الشاملة في عقيدة الهنود، ويقول ~~تاجور: إنك تستطيع أن تنظر إلى الطريق نظرتين مختلفتين، فأما النظرة الأولى ~~فتريك الطريق كأنها فاصل بينك وبين المقصد فأنت تحسب كل خطوة فيه ظفرا بلغته ~~منها عنوة في وجه المقاومة والعداء، وأما النظرة الثانية فتريك الطريق كأنها ~~وسيلتك إلى غايتك فأنت تحسبها بهذا الاعتبار جزءا من تلك الغاية ، ومبدأ لتلك ~~النهاية، وهذه هي نظرة الهند إلى الكون والطبيعة، وتلك هي نظرة الغرب إلى كل ما ~~وراء الأنانية المحدودة. # فالعلم الغربي غايته أن يملك كل ما يمتد إليه، والعلم الهندي غايته أن يتصل بكل ~~شيء، العلم الغربي مطلبه القوة والعلم الهندي مطلبه الفرح، وكما أن الطفل لا ~~يفرح بحفظ حروف الأبجدية ولا يجد نشوة المعرفة إلا حين تتقارب تلك الحروف وتتصل ~~فيها الجمل والمعاني، كذلك الإنسان لا يغتبط بتفريق صور الحياة والفصل بين كل ~~جزء منها وسائر الأجزاء، وإنما هو يغتبط حين تتلاقى أمام عينيه أجزاء الحياة، ~~وتتناهى من كل جانب إلى الوحدة والشمول. على أن العلم الغربي - مع ما فيه من ~~ظواهر المادية والأثرة - ليس في أساسه إلا بابا من أبواب الاتصال بحقيقة الكون ~~وباطن الحياة، إذ ما يبتغي العلم حين يأخذ في تعديد الوقائع والمشاهدات؟ إنك قد ~~تذهب تقول: إن التفاحة تسقط من الشجرة، وإن المطر يهبط إلى الأرض، وإن وإن وإن ~~من أمثال هذه المشاهدات التي لا نهاية لها ولا فائدة من تعديدها، حتى إذا ms016 ~~انتهيت منها إلى قانون «الجاذبية» انتهيت إلى وحدة تجمع تلك الوقائع، وتؤلف هذه ~~الأشتات، وانتهيت بعد ذلك إلى قانون يجمع القوانين هنا وهناك، ثم لا تفتأ تترقى ~~في التأليف والتوحيد حتى تنفذ إلى الوحدة الكاملة إن استطعت النفاذ إليها، فكأن ~~العلم هو تقريب ما بين الظواهر، وتأليف ما بين البواطن، ومحو الفوارق وجمع ~~الأواصر بينك وبين جوانب الحياة. # ولو فهم الغربيون علمهم هذا الفهم لعلموا أنهم أقرب إلى الفلسفة الهندية مما ~~يظنون، وأن الفرح بالوجود هو غاية كل علم بأسرار هذا الوجود، ثم هل يحسب ~~الإنسان نفسه مالكا لشيء يحتجنه إليه إن كان هذا الشيء عبئا على كاهله لا ~~يسره ولا يغنيه؟ كلا! إنما هذا فقر وقيد وليس هو بالغنى ولا الحرية، وإنما يحسب ~~من ملك الإنسان ما هو له سبب سرور ومادة غبطة ورضوان، فإذا ملك الإنسان بالعلم ~~كل ما في الأرض ولم يغتبط بما يملك، ولم يشعر بقلبه فرحان جذلا ينبض على نبض ~~ذلك القلب الأعظم الذي يبث الحياة في كل شيء فهو إذن فقير مستعبد بين هذه ~~الأعلاق الغربية عنه، وهذا الغنى الكاذب الموهوم، وهو لا يملك إلا ليفرح، ولا ~~يفرح إلا إذا كان ما يملكه سببا لحريته وانطلاقه من قيود الأنانية الضيقة ~~والمنافع المحصورة، «وليست سعادة النفس العظمى في أخذ شيء من الأشياء، بل هي ~~السعادة لها كل السعادة أن تهب نفسها لشيء أكبر منها، ومطالب أوسع من مطالبها، ~~كمطلب الوطن، أو مطلب الإنسانية، أو مطلب الله»، «والطير حين يحلق في السماء ~~يحس كلما خفق جناحاه سعة السماء التي لا نهاية لها، وأن جناحيه لن يحملاه أبدا ~~إلى ما وراءها، وهذا هو فرح التحليق عنده، أما في القفص فالسماء محدودة، وقد ~~تكون على ذلك كافية كل الكفاية لما يحتاج إليه الطير من معيشته لولا ذلك العيب ~~الذي فيها، وهو أنها ليست أكبر من الحاجة أو أكبر من الضرورة، ولن يسر وهو ~~محبوس في حدود الضرورة؛ لأنه لا يستغني عن الإحساس بأن ما عنده أعظم مما عساه ms017 ~~أن يحتاج إليه، بل أعظم مما عساه أن يدركه ويحيط به، وبهذا وليس بغير هذا يداخل ~~نفسه الفرح والرضوان.» # قد يفهم مما تقدم أن تاجور يدعو إلى محو الأنانية والفناء في وحدة الوجود، كما ~~يفعل بعض المتصوفة الذاهلون في سكرة الإنكار، ولكن تاجور لا يدعو إلى ذلك، ولا ~~يفهم معنى للحب بغير «الذاتية» ولا معنى للذاتية بغير الحب، فمن قوله في ~~محاضرته عن الشر: قص على بعض تلامذتي يوما قصة جرت له مع عاصفة، وشكا لي أنه ~~كان يحس طوال الوقت أن هذه الحركة العظيمة في قلب الطبيعة، ما كانت تحسب له ~~حسابا أكبر مما قد تحسبه لقبضة من التراب، وإن كونه نفسا مستقلة بمشيئتها لم ~~يظهر له من أثر قط فيما كان يحدث حوله، فقلت له: لو أن اعتبارنا لذاتنا ~~المنفصلة قادر على أن يحيد بالطبيعة عن مجراها لكانت تلك الذات هي أشد الخاسرين ~~بذلك الاقتدار. # فلاح عليه الإصرار على الشك وقال لي: إن الحقيقة التي لا ريب فيها هي ذلك ~~الشعور ب «أنا» وإن «أنا» هذه تطلب لها علاقة خاصة بها. # فقلت له إن هذه العلاقة الخاصة ب «أنا» لا يمكن أن توجد إلا مع شيء ~~ليس ب «أنا»؛ ومن ثم وجب أن يكون هناك وسط ~~مشاع بيننا، وأن يكون هذا الوسط على السواء للا «أنا» ولغير ال «أنا»، وأني ~~أكرر هذا القول في هذا الموضع، وأزيد عليه أن الفردية بطبيعتها مدفوعة إلى ~~البحث عن العمومية، فإن جسدنا يموت إذا شاء أن يأكل من مادته وحدها، وأن عيننا ~~تفقد معنى وظيفتها إن كانت «لا ترى إلا نفسها». فليست الأنانية التي ينكرها ~~تاجور إلا تلك الأنانية التي تعزل صاحبها عن الدنيا، وتوصد عليه مسالك الاتصال ~~بالحياة الكبرى والخير الذي يغمره من جميع الجهات. ~~••• # وقد يفهم كذلك أن تاجور ممن يزدرون الدنيا، ويحرمون العمل، ويزهدون في ~~الحياة. ولكن تاجور لا يزدري الدنيا، بل يراها كلها جمالا في جمال، ولا يحرم ~~العمل، بل يرى أنه هو الوسيلة الأولى لرياضة النفس على ms018 طلب الكمال، ولا يزهد في ~~الحياة، بل هو يحبها قاطبة، ولا يغمض فيها عن جليل ولا ضئيل، وهو يقول: إن ~~الدنيا كلها خير، وإنما الشر عارض فيها أو جزء مبتور من الخير، فمن حكم على ~~الدنيا بالشر كان كمن يحكم بانتحار رجل هو ماثل بين يديه في قيد الحياة، ويقول: ~~إنك حين تنسق الحديقة التي تعجبك بشاشتها إنما تلمح جمال نفسك قبل أن تلمح جمال ~~تلك الحديقة. فمن أراد أن يكشف عما في نفسه من الجمال، فليعلم أن العمل وسيلة ~~الرفعة والكمال، ويقول: إن الزهد في عوارض الحياة قد يحرم الإنسان حقيقة ~~الحياة؛ لأن الضرورة هي سبيل الحرية، فمن أراد أن يلعب الشطرنج بغير قيد، ومضى ~~ينقل حجارته بغير مانع فقد اللعب، وحرم نفسه لذة الاضطرار. # وقد يسأل سائل وما هي الغاية من كل هذا؟ والجواب أن الغاية ملحوظة من البداية، ~~الغاية أن تعمل في هذه الدنيا لا لكي تحتجن إليك الأشياء، بل لكي تحبها وتفهمها ~~وتتصل بها، وأن تنظر إلى الإنسان لا كأنه آلة تسخرها في لباناتك الصغيرة، بل ~~كأنه جزء متمم لك تعطف عليه ويعطف عليك، وأن تقدر جمال ما تراه لا لتنزعه إليك ~~من الكون، بل لتدخل أنت وهو في رحاب الكون فتعظم أنت وما تراه على السواء، قال: ~~«بين آكلي البشر ينظر الإنسان للإنسان كأنه طعام يشبع به جوعته، فلن تحيا ~~الحضارة في قوم كهؤلاء؛ لأن المرء بينهم يفقد قيمته العالية، ويصبح متاعا لمن ~~يشاؤه، ولكن في الدنيا أنواعا شتى من افتراس الإنسان للإنسان ليست بهذه ~~الغلاظة، ولكنها لا تقل عنها في القبح والشناعة، ولا تحتاج إلى الرحلة ~~البعيدة للوقوع، ففي أقوام أرفع من أولئك الأقوام ترى الإنسان منظورا إليه ~~أحيانا كأنه جسد يباع ويشترى بثمن لحمه أو بما يستخرج من منفعته، كالآلة التي ~~يسخرها صاحب المال لتجلب له الزيادة من المال، وكذلك ينزل الترف بنا والطمع وحب ~~الراحة، إلى هذا الوكس الذي لا وكس بعده لقيمة الإنسان.» # فالوجهة التي تيممها الحكمة الهندية هي أن تهب ms019 نفسك للكون؛ لأنك جزء منه وليس ~~في طاقتك أن تأخذ السكون كله إليك، وأن تدع الوسائل إلى الحقائق، ولا تخلط بين ~~العوارض والجواهر، أما الوسائل والعوارض فهي كل ما طلبته لمنفعة فيه قريبة، ~~وليس لذاته المنزهة وحقيقته الخالدة، وأما الحقائق والجواهر فهي الحياة للحياة. ~~حياتك أنت الصغيرة، ثم حياة الكون تكبر فيها، ثم تكبر إلى غير نهاية تعرفها أنت ~~أو يعرفها سواك. # | حب المرأة1 # هو موسم تاجور في القراءة على ما أرى، فاليد تنقاد وحدها إلى كتبه، والمطلعون ~~على شعره ونثره يتوافقون على ذكره، والبحث في شخصه وتأليفه، وقد قضينا ليلة من ~~هذا الأسبوع نتذاكر حديثه مع صديق أديب زارني في المكتبة، فسبقت يده إلى مجموعة ~~«جنتجالي وقطف الثمار» من مجموعات أشعاره وأناشيده، وأخذ يقلب صفحاتها ~~فاستوقفته هذه القصيدة: # كانت حياتي في صباي كالزهرة ترسل من أوراقها الكثيرة ورقة أو ~~اثنتين، ثم لا تحس لها فقدا حين يطرق نسيم الربيع بابها، يسألها ~~ويبتغي عطرها، فاليوم والشباب في إدباره، أرى حياتي كالثمرة التي ~~ليس عندها ما ترسله، ولكنها تترقب مع هذا أن تهب نفسها كلها، وهي ~~حافلة بذخر حلاوتها. # قلت: يشبه أن يكون هذا الكلام موضوعا على لسان امرأة فهو بحب النساء أشبه منه ~~بحب الرجال. قال: غير بعيد! فقد مرت بي هنا قطع كثيرة ينشدها الشاعر بلسان ~~المرأة، ويكثر فيها ضمير المؤنث، فلعل هذه إحداها، وإن لم يرد فيها ذلك ~~الضمير. # قلت: على أنني ألمس في نفس تاجور شيئا كثيرا من طبيعة الأنوثة، فحب الأطفال ~~في شعره ورواياته أقرب إلى حب الأمومة منه إلى حب الأبوة، وتصوفه يبدو في صورة ~~من يهب نفسه ويسلم قياده، ويغتبط بأن يكون هو المحبوب من الله أشد من اغتباطه ~~بأن يحب هو الله، فهو صاحب نفس عندها الإعطاء ألذ من الاستيلاء، والتسليم أطيب ~~من الاغتنام، وأكبر رضاها أن تنال الرضا وتشعر بيد المحب تسري على جبينها، فإذا ~~كان في التصوف ذكورة وأنوثة، فهذا التصوف أنثوي أصيل، وما الشوق فيه إلى الله ~~إلا الشوق إلى ms020 السيد المالك، وما الرغبة في السلام إلا الرغبة في الطمأنينة إلى ~~المحب المحبوب، والسكينة إلى القوة الرفيقة والسلطان الرحيم. # ولا بدع أن يكون الأمر كذلك، وأن نجد حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة ~~الأمومة، فإن فاصل «الجنس» ليس من المناعة والحسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر ~~الناس، وليس كل رجل رجلا بحتا، ولا كل امرأة امرأة صميمة، وإنما تمتزج ~~الصفات، وتتفق المزايا، ويكون في الرجل بعض الأنوثة، كما يكون في المرأة بعض ~~الرجولة، ولا أرى في تصور ذلك أظرف ولا أدنى إلى الصدق من الأسطورة التي ~~يروونها عن اليونان، ويمثلون بها كيف كانت صنعة الإنسان، وكيف كان هذا الخلط ~~بين خلق الرجال وخلق النساء، فقد زعموا أن الإله الموكل بهذه الصناعة دعي إلى ~~وليمة الأرباب، فقضى ليلة يقصف ويلهو ويعاقر ويتماجن ثم عاد عند الصباح مخمورا ~~دهشا، فألفى عمل النهار بين يديه لا مناص من إنجازه، ولا حيلة في تأجيله. ~~فأقبل على الجوارح والعواطف يقذف ما اتفق له منها في الإهاب الذي يعرض له ويرمي ~~تارة بقلب رجل في أديم امرأة، وتارة أخرى بوجه امرأة على كتفي رجل وهكذا حتى ~~أتم عمله، فإذا رجال أشبه بالنساء ونساء أشبه بالرجال، وخلائق شتى على أنماط ~~يختلف فيها العنوان عن الحقيقة، والصفات عن الأسماء، فقل أن ترى رجلا لا ~~تندس فيه شية من شيات الأنوثة، وقل أن ترى امرأة لا يداخلها أثر من آثار ~~الرجولة، وقد يتحاب الرجل والمرأة فتكون المرأة هي السيد، ويكون الرجل هو ~~المسود؛ لأن لعنة السكرة القديمة أصابتهما معا فخرجت بكل منهما عن سوائه ~~ومالت به إلى غير شكله. # وكأن «أوتو فيننجر» يقول ما تقوله هذه الخرافة، حين شرح مذهبه في الحب وقرر في ~~كتابه «الجنس والأخلاق» ألا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتآلف ~~وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء، ~~فإذا فرضنا مثلا أن صفات الذكورة مائة في المائة فأين هو ذلك الرجل الذي تتم ~~به المائة جميعها بلا زيادة ms021 ولا نقصان، وتتآلف ذرات تكوينه واحدة واحدة بلا ~~نشوز ولا انحراف؟ وكيف تجتمع له هذه الصفات المتفرقة بحيث لا تتخلف صفة، ولا ~~تحل واحدة محل أخرى؟ وكذلك النساء أين منهن المرأة التي هي مثل أعلى لجنسها، ~~جامع لكل ما هو نسائي في الجمال والعقل والعاطفة والأعضاء والهندام؟ إن هذا ~~اتفاق لا يجيء به الواقع؛ لأن التمام من وراء ما يبلغه الإنسان أو أي كائن سواه ~~في هذه الحياة، ولكنها أمور نسبية تدخل فيها صفات الرجولة والأنوثة، كما تدخل ~~فيها صفات سائر الأشياء، فليس في الدنيا رجل هو الرجولة كلها، وليس في الدنيا ~~امرأة هي الأنوثة كلها، وهيهات أن تقع على إنسان فيه كل صفات جنسه في جميع ~~أخلاقه وأطواره، كما تقع كل يوم على قطرة ماء فيها كل صفات المائية التي لا بد ~~منها لتكون كل قطرة، فإن العناصر هنا مقيدة محدودة، أما عناصر الطبائع والأخلاق ~~والمواهب والأجسام فمما لا يقيده الحصر ولا يحده التقدير. # ويقول «أوتو فيننجر»: إن الرجل يحب المرأة، أو المرأة تحب الرجل على حسب ما ~~بينهما من التوافق والتباين في تلك العناصر والصفات، فالرجل الذي فيه ثمانون في ~~المائة من الرجولة وعشرون في المائة من الأنوثة تتممه امرأة فيها ثمانون في ~~المائة من الأنوثة وعشرون في المائة من الرجولة، ويجوز على هذا أن توجد امرأة ~~ليس لها من جنسها إلا ظواهره فتكون هي التي فيها الثمانون في المائة من ~~الرجولة، وهي التي تنشد الرجل الذي فيه عشرون في المائة من صفات جنسه! ومن هنا ~~تنشأ الميول الشاذة في الجنسين، وتنبو الطبائع عما خلقت له في سواء التكوين. ~~وخليق بالقارئ أن يذكر أن التعبير بالأرقام في هذه المسألة لا يقصد بحرفه، ~~ولكنه تعبير لجأ إليه «أوتو فيننجر» لتقريب الفهم والتمثيل. # هذا رأي تبدو عليه الغرابة، وتلك خرافة تلوح عليها طلاوة الشعر والفكاهة، ولكن ~~الرأي الغريب والخرافة الطلية لا يكذبان مع هذا ولا يخالفان الشاهد المألوف؛ ~~لأنهما إنما يقرران في النهاية حقيقة لا غرابة بها ولا غشاوة عليها ms022، وهي أن بعض ~~الرجال يشبهون النساء وبعض النساء يشبهن الرجال، وأن هذا الشبه قد يظهر في ~~الصفات الجثمانية، كما يظهر في الصفات الروحية، ولا يبعد أن يظهر فيهما معا في ~~كثيرين وكثيرات. # وعلى هذا لا موضع للعجب أن نرى رجلا يحب كما تحب المرأة، وامرأة تحب كما يحب ~~الرجل، ولا إغراق في التأويل حين نقول: إن حنان تاجور ورقته التي اشتهر بها ~~للأطفال وشوقه إلى تسليم روحه، والسكون بها في ظل روح الله، أو روح الوجود، ~~إنما هو أقدس ما تسمو إليه الطبيعة الأنثوية التي قوامها الحنو والتسليم والشوق ~~إلى قوة تغمرها، وتغمض عينيها بالثقة والنشوة والإذعان، وإنما سما تاجور بهذه ~~الطبيعة إلى أعلى سماواتها؛ لأنه أخرجها من الجنسية إلى الصوفية، ومن عالم ~~الأجسام إلى عالم الأرواح، ومن قيود المطالب المحسوسة إلى باحات علوية تفيض ~~بالنور والجمال. # ولسنا نظلم المرأة ولا نحن نقصد إلى القدح في طبيعتها حين نقول: إنها تحب لتهب ~~وتستسلم وتغمض عينيها في نشوة الثقة والاعتماد الطيع الأمين، فليس للمرأة في ~~قرارة نفسها سعادة أكبر من سعادة الطاعة، ولا أمل أرفع من حب الرجل الذي تطيع، ~~وتلقي بنفسها بكل ما فيها من «ذخر حلاوتها» بين يديه، وليقس عليها الرجل أو ~~يرحمها، ويعذبها أو ينعم بالها، فإنها لسعيدة بالطاعة إذا وجدت من يطاع ويقبل ~~عذابها وراحتها، ويتلقى عزتها وذلها على السواء، وتلك هي الحقيقة التي لا ينبغي ~~أن ننخدع عنها بما نسمع في هذا العصر من جلبة الحرية ولغط «الحركة النسائية» ~~وصريخ المطالبة بالمساواة، وحقوق الانتخاب، فإنما الذي يفقده هؤلاء النسوة في ~~جميع أنحاء العالم هو الطاعة لا الحرية، وهو الرجل السيد لا الرجل الند المساوي ~~لهن في كل شيء، ولو وجد هذا «الرجل السيد» لما كان للحركة النسائية أثر، ولا ~~سمع للنساء صوت غير صوت الغبطة والقناعة والحبور، ولو شاء الرجال كلهم - اليوم ~~- ألا يسمع في العالم صدى للمطالبة بتلك «الحقوق» لأصبحنا غدا ولا صوت لها ولا ~~صدى ولا سامع ولا مجيب، فإنما الرجل هو الذي خلق ms023 هذه الحقوق، والرجل هو الذي ~~ينزعها لو يشاء ومتى شاء. # نعم هذه هي الحقيقة التي أومن بها، ولا يغرني فيها أن المرأة اليوم أوفر علما، ~~وألهج بكلمات الحرية والمساواة مما كانت قبل أن يخترع الرجال هاتين الكلمتين في ~~عالم السياسة والاجتماع، فلولا الرجال الذين يروقهم أن يروا المرأة حرة طليقة ~~تعبث بالحياء، وتحطم قيود العرف والدين والأخلاق لما وجدت أنثى تجسر على النداء ~~بالحرية ويطيب لها هذا النداء، ولو كان الرجال كلهم أزواجا يعنيهم من المرأة ~~ما يعني الصاحب من صاحبته، وكان النساء كلهن زوجات يحببن ويلدن ويتذوقن لذة ~~الطاعة والإعطاء، لكانت المساواة التي يهتف بها بعضهن حلما كريها يقض ~~المضاجع، ويزعج هناءة النوم الجميل. # خلقت المرأة لتعطي، وخلق الرجل ليأخذ منها كل ما تعطيه، خلقت المرأة للطاعة ~~وخلق الرجل للسيادة، خلقت المرأة للأمان، وخلق الرجل للجهاد، خلقت المرأة لتحب ~~الرجل، وخلق الرجل ليحب نفسه في حبه إياها، هذه هي حقيقة الحقائق قد أسرف الشرق ~~في الإيمان بها، وأسرف الغرب في إنكارها، وبين هذين النقيضين وسط هو خط السلامة ~~وباب النجاة. # وقد تكابر المرأة نفسها، أو تكابر الرجل حبا للعنت الذي جبلت عليه، ولكنها ~~إذا رجعت إلى طبعها شعرت بهذه الحقيقة راضية أو كارهة، وعز عليها إنكارها، أو ~~كان لجاجها في الإنكار دليلا على شدة الشعور بها، وصعوبة الخلاص منها، ولذة ~~العنت التي قلنا: إنها مجبولة عليها كما جبل عليها سائر الضعفاء، ويتساوى في ~~هذا الشعور ذكيات النساء وغبياتهن، والعالمات منهن والجاهلات، والقديمات في ~~عصور التاريخ والحديثات في هذا العصر الذي خيل إليه أنه يقلب الطبائع، وينقل ~~الفطر عما أشرجت عليه. # وهذه ماري كورلي الكاتبة الإنجليزية المعروفة، إلى جانبي اعترافاتها التي دونت ~~فيها قصة غرامها، وأوصت بنشرها بعد موتها تقول فيها وهي تزري بالطالبات ~~الداعيات: «أية امرأة تذكر الحرية وعلى شفتيها قبلة حبيبها!» وإلى جانبي كذلك ~~ترجمة راحيل فارنهاجن، والكاتبة السويدية الكبيرة «ألن كي»، وكلتاهما من أذكى ~~النساء وأعلمهن وأعطفهن تقول الأولى عن حبيبها: «لقد كنت أراني كأنني حيوان ~~مملوك ms024 لذلك الرجل، وكان في قدرته أن يلتهمني لو يشاء» وتقول الثانية: «إن ~~المرأة لا مقام لها ولا سعادة إلا أن تحب، وأنها تحب الحب وتحب الرجل، وتحب حب ~~الرجل، في حين أن الرجال لا يحبون إلا أنفسهم، وقليل منهم من يحب المرأة ~~لشخصها، ثم هي تتمنى أن يحب الرجل المرأة، كما تحب المرأة المهذبة الرجل، أي ~~أنها فيما تراه «ألن كي» تحب الرجل حبا يشمل شخصيته كلها، ويتناول فيها جانب ~~الرجل وجانب الإنسان.» # غير أن المجاز في كلام ألن كي يغطي على بعض الحقيقة، ويند بها قليلا عن محجة ~~الصدق والبيان الصريح، فإن الرجل ليحب «ذات» المرأة حين يحب نفسه، وليشعر ~~بسروره الحق حين يشعر لتلك المرأة بشخصية حرة في الاختيار والاستسلام، وليس في ~~جوهر هذا الشعور اختلاف بين الرجال والنساء، ولا الرجال بغافلين عن الفضائل ~~الإنسانية التي يحسونها في المرأة مع الفضائل الأنثوية، ولكن الاختلاف يأتي حين ~~تزن كل من الشخصيتين نفسها بجانب الشخصية الأخرى، فتعلم الضعيفة بغيتها عند ~~القوية، وتعلم القوية حقها على الضعيفة، وتمتزج الاثنتان ذلك الامتزاج الذي ~~تظفر منه إحداهما بسعادة الملك، والأخرى بسعادة التسليم، ولن تكون السعادتان ~~أبدا من نوع واحد كما تريد «ألن كي»؛ لأن اللذين يحسانها لم يكونا من نوع واحد ~~في مزايا الجنس، ولا في مزايا الإنسان. # وبعد، فأين «صوفية» تاجور وطبيعة الأنوثة في الحب؟! بعيد في ظاهر الأمر من ~~بعيد، ولكنك إذا جاوزت عتبة النفس الإنسانية إلى داخلها فلا نهاية ثمة للالتقاء ~~والافتراق بين هاتيك المنافذ والسراديب. # | الآراء والمعتقدات لجوستاف لوبون1 # للدكتور جوستاف لوبون توفيق في اللغة العربية لم ينله كاتب من كتاب الغرب ~~الاجتماعيين في أيامنا، فقد ترجمت له كتب عدة، أذكر منها الآن روح الاجتماع، ~~وسر تطور الأمم، وروح الاشتراكية، وروح الثورات، والآراء والمعتقدات، وهو الذي ~~بين أيدينا الآن، ولا شك في أن هذه الكتب كلها لها قيمتها التي تستحق من أجلها ~~النقل إلى لغتنا وإلى اللغات الأخرى، ولكننا لا نظن قيمتها هذه هي سر ذيوعها ~~بيننا، وإقبال أدباء ms025 العربية على ترجمتها، فإن للكتب أسبابا تمهد لها الرواج ~~والنجاح في كل موطن غير ما تحويه من الموضوعات وتحمله من الفوائد، وهذه ملاحظة ~~لا يفوتنا أن ننبه إليها في صدد الكلام على هذا الكتاب؛ لأن مصنفات جوستاف ~~لوبون مثل ظاهر للمصنفات القيمة في بابها التي استمدت معظم رواجها عندنا من ~~أسباب أخرى طارئة غير أسبابها العالقة بها على اختلاف المواطن والبيئات. # ولعل أدعى هذه الأسباب إلى الرواج أن الكتاب الأول لجوستاف لوبون ظهر في اللغة ~~العربية بقلم عالم قانوني له مكانة موقرة بين الفضلاء والأدباء ورجال الصحف ~~والمجلات هو المرحوم «أحمد فتحي زغلول»، ثم نذكر من هذه الأسباب أن آراء المؤلف ~~فاجأت الناس بخلاف ما اتفقوا عليه وأخذوه مأخذ الحقائق المقررة المفروغ من ~~بحثها والإيمان بها، فلا هي تعرض بعد ذاك على النقد، ولا هي تقبل الجدال، فقد ~~خلفت لنا الثورة الفرنسية مبادئ عن المساواة والحرية وعصمة الإجماع، وقداسة ~~آراء الشعوب نجم أكثرها من وحي الخيال والعاطفة، وقبلها الناس قبول التسليم ~~الأعمى؛ لأنهم حسبوا أن المبادئ التي قتل في سبيلها من قتل واشترتها الأمم بما ~~اشترتها به من الشدائد والمحن والأهوال يستحيل أن يطرقها الزيف أو تعتريها ~~عوارض الضعف كما تعتري المبادئ التي لم تسفك في سبيلها قطرة غير قطرات المداد، ~~ولم يبذل الناس في شرائها أكثر من ورقة تكتب عليها وقلم يجري بتسطيرها، فلما ~~فوجئ قراء العربية بآراء الدكتور الغريبة، وشهدوا أول مرة طريقة في التدليل ~~تخالف طريقة الجمع والاستشهاد، والذهاب مع الظواهر السطحية وقواعد العرف ~~المصطلح عليها فتنوا بهذا النمط الحديث، واشتاقوا إلى التوسع فيه، واتفق ذلك ~~في أوائل العهد الذي كثر فيه تجاذب الكلام على الحرية والديمقراطية وحقوق ~~الشعوب وما إلى ذلك، فكان هذا باعثا جديدا على الالتفات إلى كتب لوبون وآرائه ~~والعناية بقراءتها ومناقشتها، والعجيب أن هذه الكتب لا تشجع الديمقراطية وهي مع ~~هذا ظهرت في إبان حركتها عندنا فلم تثبطها، ولم يكن اعتلاج البحث في نظرياتها ~~إلا كاعتلاج كل عاطفة جامحة يخالطها الرأي الزاجر من ms026 قبل العقل فيزيدها مضاء ~~واحتداما، ويكون الزجر الذي يصدها عن طريقها كأنه حافز يقذف بها في ذلك الطريق ~~ويعصف بالموانع والعراقيل، فهل يعد هذا مصداقا غير مقصود لتلك النظريات التي ~~بشر بها لوبون ولا يزال يبشر بها في كل كتاب! # والواقع أن لوبون مبشر علمي ينحو في تقرير آرائه منحى الواعظ ورجال الدعايات، ~~وأن كتبه هي نظريات وتطبيق لتلك النظريات في وقت واحد، فهي تقرر أن العقائد ~~تثبت بالتوكيد والتكرير، وهي في الوقت نفسه تؤكد وتكرر فكرة واحدة لا يفتأ ~~الرجل يدور عليها ويبديها ويعيدها؛ ليجعلها في حكم العقائد الثابتة والبدائه ~~اليقينية، ولقد أفلح في شطر من دعايته ولكنه لم يفلح في الشطر الآخر. أفلح في ~~تبيينه أن البرهان لا ينقض العقائد التي توارثتها الشعوب وأشربتها أرواح ~~الجماعات، ولم يفلح في إنشاء عقيدة واحدة بذلك التوكيد الذي يتكلفه، وذلك ~~التكرير الذي لا يمله. بيد أننا نظلمه إذا أخذناه بهذه الخيبة؛ لأنه يشترط ~~للنجاح والتوكيد شروطا لم يحاول استيفاءها، ولا هو يستوفيها إذا أقدم على هذه ~~المحاولة! ~~••• # وكتاب الآراء والمعتقدات الذي ترجمه الأديب الفلسطيني محمد عادل زعيتر، وطبعته ~~المطبعة العصرية بمصر هو تبشير جديد بدين الدكتور لوبون العقلي، ودعايته ~~المنطقية، وهو توكيد جديد للأصول التي تقوم عليها عقائد الجماعات، وتبني عليها ~~أطوارها وتقلباتها، وهو تفصيل بعضه مسبوق وبعضه غير مسبوق لآرائه التي أجملها ~~في مصنفاته الأخرى، وتكملة يحتاج إليها كل من يحب استقصاء آراء الدكتور، ~~والتزود من شروحه وبيناته. # ولسنا نريد أن نطيل في سرد النظريات القديمة أو الطريفة التي أودعها المؤلف ~~كتابه هذا، فإن قواعد هذه النظريات غنية عن الإجمال، وإنما نريد هنا أن نعرض ~~لمسألتين اثنتين إحداهما تتعلق بأساس الموضوع الذي سمي الكتاب باسمه، والثانية ~~تتعلق بشعور اللذة والألم الذي جعله المؤلف مصدر الحركة وقال: «إن اللذة والألم ~~هما لسان الحياة المادية والمعنوية وعنوان الكدر والصفاء في الأعضاء، وبهما ~~ترغم الطبيعة الحيوان على الإتيان بأعمال يستحيل الوجود بدونها.» # فأما المسألة الأولى فهي التفريق بين الآراء والمعتقدات، أو هو موضوع ms027 الكتاب ~~نفسه وعنوان مباحثه، فالعقيدة والرأي معدنان مختلفان في نظر المؤلف من المبدأ ~~إلى النهاية والعوامل التي تنشئ أحدهما غير العوامل التي تنشئ الآخر، كما هي ~~الحقيقة من أكثر الوجوه، ولكن المؤلف يغلو في التفريق إلى حد بعيد، ويريد أن ~~يفهمنا أن الاعتقاد ملكة في النفس غير ملكة الارتياء في الأساس، فهل هو على ~~صواب؟ وهل الاعتقاد والارتياء جوهران متناقضان أو مختلفان! # الذي نقرره أن الرأي والعقيدة في أساسهما يرجعان إلى معدن واحد؛ لأن رأيك في ~~شيء واعتقادك إياه كلاهما هو أثر ذلك الشيء الذي يلقيه في روعك من طريق واحدة ~~بوسيلة واحدة هي وسيلة المعرفة الفذة المتاحة للإنسان، وإنما يبدأ الفرق بين ~~الرأي والعقيدة عند «التمحيص والامتحان» إذ تكون وسائل «التمحيص والامتحان» ~~ميسورة في الآراء فتتوقف عليها وغير ميسورة في العقائد فتقوى على مكافحة النقد ~~وتستعصي على التجربة والبرهان. مثال ذلك أن ملاحظة الأشياء قد هدت بعض الناس ~~إلى أن النار تنطفئ في الماء، وهدت الآخرين إلى أن الحياة الدنيا تتبعها حياة ~~أخرى فيها الثواب للمؤمنين والعقاب للمنكرين، فما الفرق بين ما اهتدى إليه ~~هؤلاء وما اهتدى إليه هؤلاء؟ الفرق بينهما أن وسائل التمحيص والامتحان في ~~الدعوى الأولى محصورة يمكن التيقن منها بالحس والمشاهدة، وأن الدعوى الثانية ~~وسائل تمحيصها وامتحانها غير محصورة ولا هي مما يخضع لحكم الحس واليقين، فإذا ~~قيل: إن موضوع العقيدة يتصل بالشعور والرغبة، وأن موضوع الرأي يتصل بالحس ~~والتجربة قلنا: إن كل شيء في هذه الدنيا يمكن أن يكون موضوع رأي وموضوع عقيدة ~~في وقت واحد؛ فهذه التميمة التي يلبسها المؤمن بالتمائم هي موضوع يصلح للتجربة ~~ويصلح للإيمان معا، وينظر إليها رجل فيخرج منها برأي وينظر إليها غيره فيخرج ~~منها بعقيدة، ولا فرق في الحالتين غير الفرق في وسائل التمحيص والامتحان عند ~~هذا وذاك، وليس منا إلا من كان يؤمن بشيء ثم عدل عنه إلى رأي يقبل النقد ~~والمناقشة، وما تحول الشيء ولا تحولت ملكات المؤمن به، ولكنها هي وسائل النقد ~~تيسره له بعد أن ms028 كانت متعذرة عليه، فعلى هذا يصح أن يقال: إن العقيدة أثر نفسي ~~أو مجموعة آثار يصعب على صاحبها حصر المواد اللازمة لتحليل جميع عناصرها وحد ~~جميع جوانبها، وأن الرأي عقيدة محدودة العناصر والجوانب يرجع فيها إلى مقياس ~~مطرد متواضع عليه، ولزيادة التوضيح نسأل: هل يمكنك الإيمان بالشيء الذي ثبت ~~بطلانه من طريق الرأي كل البطلان؟ نعم إن العقائد لا تثبت بالبرهان، ولكن هل هي ~~تقوم على الشيء الذي أثبت البرهان بطلانه؟! لا ولا ريب، فهي إذن معدن لا ينفصل ~~عن معدن المعرفة كل الانفصال، وكونها لا تقوم على البرهان لا يدل إلا على أمر ~~واحد، وهو أن البرهان ليس بعنصرها الوحيد. # وقد يقال: إن العقائد ترمز وتورى وإن الآراء تتناول الأشياء مباشرة بغير رمز ~~ولا تورية، وهذا إنما يكون صحيحا لو كنا نعرف شيئا واحدا في هذا الكون معرفة ~~مباشرة بغير رموز ولا توريات، ولكن الحقيقة أن المعرفة المباشرة مستحيلة، وأن ~~كل منظر نراه، أو نغمة نسمعها، أو خاطر نحس به إن هو إلا رمز ظاهر لحالة باطنة ~~لا يستطاع استكناهها والنفاذ إلى حقيقتها، فما اللون وما الصوت وما الفكر بل ما ~~المادة نفسها التي نعيش فيها ومنها وبها إلا رموز لحركات يخفى علينا كنهها، ~~ويستحيل علينا كل الاستحالة أن نباشرها في ذواتها، ولك أن تقول: إن النظر إلى ~~اللون الأحمر مثلا هو نوع من الإيمان الرمزي يريك الصورة ولا يريك الحقيقة، ~~وأن العقيدة في آلهة الماء والبراكين عند قدماء الأمم هي نظر رمزي كذلك كان ~~يعوزه سداد التحقيق، ودقة الرمز والتعبير. ~~••• # أما المسألة الأخرى وهي مسألة اللذة والألم، فقد أصاب الدكتور لوبون حين سماها ~~عنوانين للكدر والصفاء دليلين على معنوية باطنية؛ أي معلومات لعلل كما أن ~~الأعراض نتيجة لمرض، إلا أنه هدم كل ما أراد أن يبنيه عليهما بهذا التعريف الذي ~~جعل اللذة والألم نتيجة لحالة سابقة في الجسم قبل الشعور بهما، وقبل أن ينطبعا ~~في صفحة الإحساس على صورة محبوبة أو مكروهة، فإننا متى علمنا أن اللذة والألم ms029 ~~محكومان بعوامل أخرى نجهلها ولا نحس بها فالخطب إذن هو خطب تلك العوامل، والمهم ~~لدينا أن نعرف ما تريده تلك العوامل وما تأباه وما تدفع الإنسان إليه، فيكون ~~لذيذا لديه أو تدفعه إليه أيضا فيكون مؤلما في حسه، فالإنسان مدفوع على ~~الحالتين قبل أن يذوق اللذة، أو يذوق الألم، واللذة والألم هما كما قال الدكتور ~~عنوانان أو عرضان لتلك الحركات الخفية التي تختلج في الجسم ولا سلطان عليها ~~للإرادة ولا للإحساس، وماذا أوضحنا وماذا فسرنا إذا قلنا: إن الإنسان يعمل ما ~~يلذه، ويجتنب ما يؤلمه، إذا كان من الثابت المحقق أن الإنسان مكره على اللذة ~~التي يطلبها كما هو مكره على الألم الذي يجتنبه! ثم ماذا أوضحنا وماذا فسرنا ~~إذا قلنا: إن اللذة والألم هما أكبر عوامل الحركة، وها نحن أولاء نرى إنسانا ~~يكرم؛ لأن الكرم لذيذ عنده ونرى إنسانا غيره يبخل؛ لأن الكرم يؤلمه ويكدره. ~~فلا توضيح هنا ولا تفسير، بل هو تحصيل حاصل وحكم ظاهر من قبيل الحكم على تركيب ~~الساعة بأرقامها وإشاراتها، ثم صرف النظر عن عددها، ولوالبها، وعن اليد التي ~~تحرك تلك العدد واللوالب، والفكر الذي يحرك اليد، والعوامل التي تحرك الفكر، ~~والقوانين التي تحرك الجميع. # ولسنا ننكر أن الإنسان يحب ما يلذه ويكره ما يؤلمه، وأنه يود ألا يفعل فعلا ~~إلا أصابته منه لذة ولم يصبه ألم. إلا أن الإنسان يألم مع هذا ولا يجد اللذة ~~حيث يطلبها، ولا يفلت من الألم حيث يهرب منه، فهو يعمل العمل قبل أن يتذوق لذته ~~وألمه، ثم تأتي بعد ذلك كيفية شعوره بذلك العمل، وهو ابن طبيعة الحياة، لا ~~لأنها لذيذة أو مؤلمة، بل لأنها هي طبيعة الحياة التي لا يد له في خلقها ولا في ~~خلق ظرف واحد من ظروفها، وإلا فلماذا تختلف الطبائع حتى يلذ هذا الإنسان ما ~~يؤلم سواه ويؤلمه ما يلذه! ولماذا تكون اللذة في هذا الجسد عنوانا لحالة، ~~وتكون في جسد غيره عنوانا لحالة تختلف عنها أو تناقضها! إنما ينبغي أن نبحث ~~هنا ms030 عن الإرادة الخفية التي تهيمن على عوامل الجسد، وتكيف الحس نفسه حتى يعود ~~قابلا للشعور باللذائذ والآلام، أما الوقوف عند العناوين فقد يرضينا بالأسماء ~~والأصداء، ولكنه لا يرضينا بحقائق الأشياء. ~~••• # وصفوة القول: إن الرأي والعقيدة لا يختلفان في الأساس، وإنما يظهر اختلافهما ~~عند العرض على وسائل التمحيص والامتحان، وأن الحياة لا تبحث عن اللذة أكثر مما ~~تبحث عن الألم، وإنما تفعل فعلها ثم يجيء كل من اللذة والألم غير مطلوب ولا ~~مدفوع، وعبرة هذا الرأي أن للإنسان غاية في الحياة فوق لذاته وآلامه، وأنه ربما ~~كان طالبو اللذة القانعون بها هم أقل الناس نصيبا من دوافع الحياة. # | الغيرة # عطيل والزنبقة الحمراء! ما أعجب المصادفة التي جمعت بين هذين الأخوين ~~المتباعدين في رف واحد! وما أجدرنا أن نؤمن بأرواح الكتب لحظة لنصدق أن هذين ~~الكتابين إنما تصافيا وتوافيا لاتفاق بينهما في الروح، وتشابه في الهوى ~~والمزاج، ومحنة واحدة ألفت بين عطيل المغربي وجاك الفرنسي ، وبين شكسبير في ~~الأقدمين وأناتول فرانس في المحدثين، فسعى كلا الكتابين إلى الآخر بين الرفوف، ~~وغنما ثمة هنيهة يتناجيان فيها على غرة من الكتب المتطلعة وغفلة من اللجاجة ~~والفضول! # ولكن حسب الدنيا ما فيها من المراء والنزاع على أرواح الناس فلا نزيد عليها ~~أرواح الكتب، ولا تدخل الخصومة والصداقة بين الرفوف والأدراج فيعز عليها القرار ~~ويعود حفظ الكتاب عملا أشق على أصحابه من عمل المروض الذي انقطعت عنده السلاسل ~~وتكسرت القضبان! فلا مصافاة هناك ولا موافاة بين عطيل والزنبقة الحمراء، ولا ~~بين روح شكسبير وروح أناتول، وإنما هي كتب ضاق بها المكان على الرفوف المرتبة ~~فلقيت مكانها على الرف المعزول في انتظار الترتيب والتجليد، وهذا هو السر كله ~~في تلك الصداقة التي جمعت عطيلا الأسود والزنبقة الحمراء، وألقت بهما معا في ~~ذلك الجوار السعيد! ولعله ليس أضعف من السر الذي يؤلف جميع الصداقات بين الناس ~~ويلقي بهم في كل جوار. # فيم يشترك هذان الكتابان على ما بينهما من البعد في الجنس واللغة العبقرية ~~والزمان! يشتركان في حكاية ms031 الغيرة العمياء التي تقوم على أوهن الأسباب، وأسخف ~~القرائن، فتودي بحياة طيبة أو تقضي على سعادة راضية. يشتركان في هذا السم ~~الذي تكفي قطرة منه لتكدير «أوقيانوس» من الهناءة والثقة والراحة والصفاء، ~~يشتركان في تمثيل ضعف هذا الإنسان الذي تعصف بسعادته في الحياة همسة شاردة، أو ~~شية باطلة، والذي ترتبط سعادته كلها بسبب ما أهونه! وما أقرب امتحانه بالنكث ~~والانحلال! # عطيل قتل صاحبته ولم يرحم شبابها وجمالها، ولا أصغى إلى ضراعتها وابتهالها، ~~لم؟ أكان يبغضها؟ أكان في نفسه شبع من متعتها ونعيمها وبرد ظلالها وطراوة ~~عطفها؟ كلا! بل لقد كان يهم بقتلها وإنه لأشغف ما يكون بها، وأشوق ما يكون إلى ~~قربها، وكان يصر على إهلاكها وإن رحمته بها لتأبى عليه أن يرسل نفسها إلى ~~السماء خاطئة، أو يصعدها إلى ربها منقوصة الغفران، فيقف عندها في صلابة الصخر، ~~ورقة الماء يقول لها: هل صليت الليلة يا ديدمونة؟ # فتقول: نعم يا سيدي. # فيقول: إذا كنت تتذكرين لك ذنبا يبقي بينك وبين رحمة الله فرجة فاستغفري ~~حالا. # ثم يظهر لها نية القتل فتسأله في لهفة. أتذكر القتل؟ فيجيب: إياه أذكر، فتهتف ~~خائفة؟ إذن لترحمني السماء! فيقول وقلبه يقطر دما: آمين، بكل جوارحي. # ثم يعلنها بالشبهة ويدور بينهما هذا الحوار. # عطيل ~~: # احذري يا حبيبتي! احذري من الحنث وأنت على سرير الموت. # ديدمونة ~~: # نعم ولكن لا. لا أموت الآن. # عطيل ~~: # بل الآن، وأن تعترفي خير لك لأنك لو أنكرت كل جزء من أجزاء ذنبك، ~~وشفعت كل إنكار بقسم لما بددت قوة العقيدة التي أتألم منها، ~~ستموتين. # ديدمونة ~~: # إذن ليرحمني الله. # عطيل ~~: # آمين. # وهكذا يقتلها وهو يرحمها، ويقصيها عن الدنيا وهو يتمنى اقترابها، ويريد هلاكها ~~لا لأنه يكرهها، ولكن لأنه كان في نوبة من القلق اللاذع يريد معها هلاك ~~نفسه. # وجاك - في رواية الزنبقة الحمراء - يعرض عن حبيبته، ويصم أذنيه عن ندائها ~~وإلحافها، ويعمي عن البينة الناطقة ليستسلم للوهم الخادع، ويعصي كل دعوة تهيب ~~به إلى المودة والاتصال ليطيع كل نبأة تميل به إلى الهجر ms032 والقطيعة، لم؟ ألعداوة ~~ونفور؟ ألزهد في ذلك النعيم الذي راح يحتويه، وذلك الحب الذي يشيح عنه؟ كلا! بل ~~لفرط رغبة وشدة غرام، ولو أنه كان أقل رغبة وأضعف غراما لما أمعن في طلب الهجر ~~ذلك الإمعان، ولا حنقت نفسه على صاحبته ذلك الحنق، وإنما هو يدفعها عنه؛ لأنه ~~يريد أن يضمها إليه فلا يستطيع، ويأبى أن يراها لأنه يحب أن يراها لنفسه فلا ~~يطيق. # يقول سليمان الحكيم: «إن الغيرة قاسية كالقبر.» وهي مقالة رجل ملك مئات النساء، ~~وحق له أن يكون أزهد الناس في العشيقات، وأقلهم غيرة على الجواري والزوجات. ~~ولكن الغيرة لا تعنيها الكثرة والقلة ولا تعرف الزهد والقناعة، وقد يغار صاحب ~~الألف على واحدة توشك أن تفلت منه، كما يغار صاحب الواحدة التي لم يكن له سواها ~~من قبل ولن يتعلق له رجاء بسواها بقية حياته، فحيثما تتحرك الأثرة فهناك تتحرك ~~الغيرة، وقد تكون الأثرة مع الغنى كما تكون مع الفقر ، بل لعلها في نفس الغني ~~المجدود أقوى منها في نفس الفقير المحروم. # والمنافسة أقوى بواعث الأثرة، فحيثما تشتد المنافسة ويكثر الزحام تظهر الأثرة ~~وتظهر معها الغيرة وإن لم يكن في الأمر حب ولا وفاء، ولهذا تكثر الغيرة حول ~~النسوة اللواتي يبرزن للجماهير؛ لأنهن معروضات للمنافسة والسباق بين الطلاب، ~~فيكون لهن شأن أكبر من شأنهن في الجمال أو الرشاقة أو الذكاء، ويبدون من هذه ~~الوجهة كأنهن القصبة التي يتهافت عليها المتسابقون ولا قيمة لها في نفسها، ~~وإنما القيمة للسبق لا للغاية، واللذة للظفر لا للشيء المظفور به، ولو كانت ~~الخيبة في رهان الخيل مثلا أو في أي رهان من قبيله تمس عطف الإنسان وغروره كما ~~تمسهما الخيبة في طلب المرأة، لرأيت في ميدان السباق من التنافر والبغضاء مثلما ~~تراه في ميدان الغرام. # يقول روشفكول وهو حكيم خبير بهذه الشئون: «تولد الغيرة مع الحب، ولكنهما لا ~~يموتان معا في كل حين»، وكان الأصدق أن يقول: إن الغيرة تولد مع الاهتمام ~~أيا كان سببه وكيفهما كان الباعث إليه؛ فقد لا ms033 يكون الاهتمام عن حب الإنسان ~~الذي أنت مهتم به، ولكنما هو اهتمام للمنافسة في ذاتها كما تقدم، أو للشخص ~~المنافس أو لإرضاء شعور في النفس لا علاقة له بهذا ولا بذاك. إلا أن أقتل ~~الغيرة وأمضها وأقساها، ما كان عن حب صحيح، وثقة مكينة، ورجاء غير مشكوك فيه. ~~فإذا أحب العاشق واطمأن إلى حبه، وبسط الرجاء في مستقبله لا يرى له نهاية ولا ~~يقف فيه عند أمد، ثم أفاق فجأة على شبهة تنغص حبه وتزلزل مكان الثقة من عطفه، ~~وتقتضب عليه أحلامه وآماله وتحد من سعة ذلك الرجاء الذي كان يبسطه على الحياة ~~وما فيها بغير حد ولا نهاية، فذلك هو الجحيم الموبوء الذي لا فرار فيه ولا ملاذ ~~منه، وذلك هو العذاب الذي لا طاقة للجسم والدم بمثله، ولا تمنى الطبائع ~~الآدمية بما هو أنكأ منه وأمر مذاقا؛ فإن كانت الغيرة من شك، فهناك الحيرة ~~الكاظمة، والقلق الملح المسموم، وأي عذاب أقسى من قلق يثير الوساوس ثم يطلق ~~زمامها، فلا هو يردها بعد ذلك؛ ولا هو قادر على أن يميل بوسواس واحد منها إلى ~~الراحة؟! وإن كانت الغيرة عن يقين فهناك الصدمة القاتلة كأنما هي صدمة المقبل ~~بكل قوته إلى حيث يهدأ ويستريح، فإذا هو يستقبل الضربة المصمية في المقتل ~~الأمين، ولقد قيل: إن الحب بغير عيون؛ لأنه ينخدع عن الحقيقة الواضحة، ويماري ~~في الواقع المحسوس، فإن كان لذلك سبب فليس هو الغفلة كما قد يظن لأول وهلة، ~~ولكنه هو هول العذاب الذي يخافه المحب ويتهيبه فيسهل عليه في سبيل الهرب منه أن ~~ينكر الشمس ويصدق المستحيل. # ولكن إذا صح أن الحب بغير عيون فالغيرة لها عيون مفتوحة لا تحصى، وإن كانت لتضل ~~عمدا عن الرؤية في معظم الأحايين! وبين عمى الحب ويقظة الغيرة ألم جهنمي كألم ~~الجسم المشدود بين قوتين تعدو كل منها في طريق! # الغيرة جنون يشترك فيه الإنسان، والحيوان، والرجال، والنساء، وربما تواتر بين ~~الناس أن المرأة أشد غيرة من الرجل؛ لأنها تستغرق شعورها في الحب ms034، ولا تستبقي ~~لنفسها بقية تعوذ بها عند الخيبة فيه، وأنها تفتأ حياتها بين غيرة تضاعفها ~~الشبيبة والسذاجة، وبين غيرة تضاعفها الكهولة والعلم بطبائع الرجال، فهي إذا ~~كانت فتية جاهلة بالحياة كان ألم الغيرة عندها شديدا قاسيا على قدر الفتوة ~~العارمة والثقة المخدوعة، وهي إذا كانت كهلة محنكة السن أشفقت من إدبار العمر؛ ~~واشتدت غيرتها على قدر اشتداد الشك والحذر من تقلب الرجال، وهي في الشباب ~~والكهولة أميل إلى الاستسلام وأسرع إلى الإدبار والهرب، فهي لهذا أغير من الرجل ~~وأعنف في هذه الخالجة العتية الهوجاء. بيد أن صاحبنا أناتول فرانس - مؤلف ~~الزنبقة الحمراء - يزعم غير ما يقول الأكثرون ويبني روايته هذه على ذلك ~~الاعتقاد المخالف لآراء الكثيرين، فهو يقول: «إن الرجل الغيور يغار حقا، ~~ويتهم المرأة لكونها تحيا وتتنفس؛ وهو يخشى خطرات السريرة، ونزعات الجسد، ~~والفكر التي تجعل من المرأة مخلوقا آخر منفصلا عنه مستقلا بنفسه مدفوعا ~~بغريزته، متناقضا في طبيعته، ممتنعا على الفهم والإدراك في بعض الأحيان، وهو ~~يتعذب؛ لأنه يراها تتفتح عن طبيعته الحلوة كما تتفتح الزهرة، ثم لا يأمل أن ~~يحتجن الحب - بالغة ما بلغت قوة أسره وصلابة قيده - كل ما يتضوع من شذاها في ~~تلك الآونة المهتاجة التي تسمى الشباب والحياة، والسيئة الفذة التي يحاسبها ~~عليها في أعماق قلبه هي «أنها هي» أي أنها كائنة، وأنها جميلة وأنها تحلم ~~الأحلام! وكم ذا من قلق المعنت في هذه الفكرة؟!» # ثم يقول: «أما المرأة فلا تحس في نفسها شيئا من هذه الخواطر الجامحة، وأكثر ما ~~تظنه غيرة منها إن هو إلا شعور المزاحمة. # فأما هذا العذاب الواصب في كل جارحة وهذه الوساوس الشيطانية التي تتحكم في ~~الخيال، وهذه اللواعج الطاغية المحزنة، وهذا الهياج الجسدي الثائر فلا شيء من ~~ذلك عندها، أو أن ما عندها يقرب من لا شيء. # فشعورها في الغيرة يخالف شعورنا في وضوحه واستقامته وطبيعتها يعوزها ضرب واحد ~~من الخيال، لا ينمو فيها على أتمه حتى في شئون الحب والحواس، ونعني به الخيال ~~التصويري المحسوس، والقدرة على ms035 استكناه الرسوم المحدودة، وإنما يشتمل على جميع ~~شواعرها غموض شامل وتتحفز قواها كلها للصراع في لحظة واحدة، فإذا سارت غيرتها ~~مرة وثبت للكفاح في عناد جامح بين العنف والحيلة لا طاقة به للرجل، وشحذ ~~عزيمتها للكفاح نفس ذلك المهماز الذي يمزق أوصالنا ويضعضع قلوبنا، فإذا هوت من ~~عرشها فالهزيمة تزيدها مضاء وتهالكا على الغلبة والسيادة، والخيبة توليها ثقة ~~جريئة مكابرة ترجح على ما يصيبها من خذلان الأسف والكآبة.» # قال: «وانظر إلى هرميون في رواية راسين، فإن غيرتها لا تستنفد نفسها بخارا ~~أسود يتصاعد من سورة عاجزة، وهي لا تبدي لك إلا قليلا من الخيال، ولا تنسج من ~~آلامها مأساة من الهواجس المبرحة القاتمة، أو تنفق الوقت في الوجوم والندم، وما ~~الغيرة بغير الوجوم والندم؟ ما الغيرة بغير الوسواس الشيطاني والهوس الملازم؟ ~~إن هرميون ليست بغيرى. إنما هي قد عقدت نيتها على اعتياق زواج تأباه، وصممت على ~~أن تمنعه بكل وسيلة لتسترد إليها العاشق المغصوب، وهذا كل ما في الأمر.» # ولما أن قتل «نيوبتلمس» لأجلها وفي جرائر تدبيرها فزعت وارتاعت. هذا صحيح! ولكن ~~الشعور الغالب عليها كان شعور الأسف والخيبة؛ لأن «مشروع زواجها قد أخفق، ولو ~~أن رجلا كان في موضعها لقال: حسن! ذلك خير. إن المرأة التي أحببتها لن تزف إلى ~~غيري الآن.» # فأناتول فرنس يجعل الغيرة من خصائص الرجل، ولا يرى أن يسمي هذا الشعور الذي ~~وضعه في المرأة باسم الغيرة كما يسميه جميع الناس، ولسنا نعرف الحكمة في إنكار ~~هذه التسمية، ولكننا نعتقد أن المرأة أشقى بغيرتها؛ لأنها أحوج إلى الحب، وأعظم ~~استغراقا فيه وأخوف من الفقد والهجران، ويجوز أن تختلف التصورات التي تلهب ~~هواجس الغيرة بين الجنسين، ولكن أليس للرجل منادح من العزاء عن خيبة الحب لا ~~تجدها المرأة؟ أليس يخزيه في نظره ونظر إخوانه أن يفني صوابه في الهوى، وينسى ~~المجد والصراع والمعارف والأمثلة العليا ليشغل قلبه وعقله بامرأة خائنة أو توشك ~~أن تخونه؟ ففي ذلك ولا ريب حافز لهمته وموقظ لنخوته لا تتعزى المرأة بمثله ms036؛ ~~لأنها لا تخجل من الاستغراق في الحب، ولا تحس في طبيعتها ما ينبو بها عن هذا ~~النصيب. # إن الغيرة ثمرة الحب والأثرة والخوف، وهذه العناصر الثلاثة تثمر في طبائع ~~النساء ما ليست تثمره في طبائع الرجال، فهؤلاء وهؤلاء يغارون، ولكن أحرى ~~الفريقين بالزيادة من هو أحرى بالإشفاق، وأخسر صفقة في الضياع. # | الصبر على الحياة1 # لفت نظري من أخبار الصحف كثرة حوادث الانتحار التي تقع في هذه السنوات، وتفاهة ~~الأسباب التي تبنى عليها بالقياس إلى ما يعده الناس سببا كافيا لنبذ الحياة ~~ومفارقة الدنيا، والمفارق لها باختياره على ثقة من العدم بعدها إن كان من منكري ~~الديانات، كما يظن بالمنتحرين، أو على ثقة من العذاب إن كان مؤمنا بالله ~~واليوم الآخر، ومصدقا بتحريم قتل النفس ولو كان القاتل صاحبها وأحق الناس ~~بصيانتها أو التفريط فيها. # ففي مصر وفي أوربا نسمع أنباء عجيبة من أنباء الانتحار ألفها الناس فكانت ~~إلفتهم لها عجبا آخر من عجائبها الكثيرة ، فهذا يقتل نفسه سآمة ومللا ولديه ~~المال والصحة والوجاهة، وهذه تقتل نفسها حزنا على فنان كانت تحب رواياته أو ~~تأنق بشخصه، وغيرهما يقتل نفسه لغير سبب ظاهر، أو مع ما يبدو للناس من وفرة ~~دواعي الحياة عنده، وكثرة وسائل المتعة لديه، وتنتقل من هذه الفئة التي لا يكاد ~~يكون انتحارها تبرعا لغير سبب إلى فئة أخرى تعرف أسباب سخطها على الحياة، ~~ولكنك لا ترى فيها وجها لطلب الموت والإقدام على أيأس اليأس الذي يقدم عليه ~~إنسان، وقد يسهل علينا تعليل ذلك كله باضطراب الأعصاب، واختبال الحواس، ولكنها ~~مسألة يبقى فيها وراء هذا التعليل مجال للنظر، وموضع للاعتبار. # إن الانتحار داء قديم عرفته الأمم الغابرة، فأحله أناس وحرمه آخرون، وكانوا في ~~تحريمهم إياه على رأي يقرب من آراء المعاصرين في هذا الموضوع، ولكننا لا نخال ~~النظرة التي كان ينظر بها الأقدمون إلى «الموت المختار» تشبه نظرتنا نحن إليه، ~~ولا نحسبهم كانوا يفكرون في دنياهم كما نفكر نحن في دنيانا الآن. # فكان فيثاغوراس ينكر الانتحار كما ينكره رجال ms037 الدين من المسلمين والمسيحيين؛ أي ~~أنه كان يعتبره عصيانا لله وتمردا على إرادته، وينهى الناس أن يبرحوا موقفهم ~~في الحياة بغير إذن القائد الذي وقفهم فيه وهو الله، وكان بيوليوس شارح فلسفة ~~أفلاطون يقول: إن الرجل العاقل لا يطرح بدنه أبدا إلا بمشيئة الله، وحرم ~~أفلاطون الانتحار لأسباب كأسباب فيثاغورس، ولكنه أباحه عندما تقضي به الشريعة، ~~أو يهبط الإنسان إلى الدرك الأسفل من الفاقة. # أما أرسطو وهو رجل الدولة بين الفلاسفة فقد حرمه؛ لأنه عدوان على حقوق الدولة ~~المفروضة على الأفراد، وهو سبب كما ترى يقارب السبب الذي بني عليه تحريمه في ~~القوانين الحديثة، واستحقاق صاحبه العقوبة والملام. # وقد وجد من المفكرين الأقدمين من أباح الانتحار كما أباحه دافيد هيوم ~~الإنجليزي، وشوبنهور الألماني، في هذه العصور، وكان طليعة أولئك المفكرين ~~«سنيكا» الذي كان هو أحد عظماء المنتحرين المشهورين في تاريخ الرومان، ولكن ~~سنيكا تجاوز كل حد وصل إليه فلاسفة الزمن الأخير في هذا المعنى إلى تحبيذ ~~الانتحار، والإطناب في مدحه، ووصف ترفيهه عن المتعبين والمعذبين. # يقول «ليكي» مؤرخ الأخلاق الأوربية من أوغسطس إلى شارلمان - وهو الذي نعتمد ~~عليه في رواية هذه الآراء - إنه «لا محل للشك في أن حكم الأقدمين على الانتحار ~~يختلف اختلافا بعيدا من حكمنا نحن عليه، فقد تعاقبت المدارس الفلسفية ~~باستحسانه، ولم يبلغ قط في رأي منكريه مبلغ هذه الشناعة التي نسمه بها في الوقت ~~الحاضر، ويرجع ذلك من الوجه الأول إلى رأي الأقدمين في الموت، ثم إلى اعتبار ~~آخر علينا أن نذكره، وهو أن المجتمع متى تعود مرة أن يقبل الانتحار فقد تزول ~~وصمة الإجرام عن الفعلة، بعد أن تزول عنها صبغة العار والمسبة؛ لأن الذين ~~يعتقدون أن الخجل والألم اللذين يجنيهما المنتحر على أسرته ليسا هما كل جريمة ~~الفعلة يسلمون أنها من دواعي الغلو في الحكم عليها، فهذا الغلو إذن لم تكن له ~~من داعية في تفكير القدماء. بل لقد كان أبيقور ينصح الناس بأن يزنوا ويدققوا ~~الوزن ليعلموا هل هم يؤثرون أن يأتي الموت ms038 إليهم أو أن يذهبوا باختيارهم إلى ~~الموت، وقد أمات الشاعر لوكريتس أحد تلاميذه بيده كما فعل كسيوس، وأتيكوس صديق ~~شيشرون، وبترونيوس الشهوان، وديودروس الفيلسوف، وكان بليني يقول: إن حظ الإنسان ~~أرجح من حظ الآلهة في شيء واحد على الأقل، وهو أنه قادر على الفرار بنفسه إلى ~~القبر! وكان يقول: إن من دلائل كرم العناية أنها ملأت الأرض عقاقير شتى يجد ~~فيها المتعبون طريقهم إلى الموت بغير عناء ولا إبطاء، ومن الذكريات التي تخطرها ~~على بالنا الإشارة إلى شيشرون ذكرى هجسياس الذي كان الأقدمون يلقبونه بخطيب ~~الموت، وكان معلما نابغا من معلمي المدرسة القيروانية يرى أن الموت هو الغاية ~~التي لا غاية بعدها للكائن العاقل، وأنه لما كانت الحياة موقرة بالهموم وكانت ~~مسراتها زائفة سريعة الزوال كان الموت هو أسعد نصيب يتوق إليه الإنسان، ولقد ~~بلغ من فصاحة لسانه ومن فتنة السحر الذي أحاط به القبر أن كان تلامذته يقبلون ~~فرحين على تحقيق وصاته، وأن كثيرين منهم أراحوا أنفسهم بالانتحار من مضانك ~~الحياة، وقد اشتدت عدواه حتى قيل: إن بطليموس اضطر آخر الأمر إلى نفيه من ~~الإسكندرية.» # ولكنه في روما بين الرواقيين الرومانيين كان للانتحار شأنه العظيم وفلسفته ~~المتقنة، فقد كان قتل النفس منذ عهد عهيد كما روي في حادثتي كرتيوس ودشيوس ~~شعيرة من شعائر الدين كأنها كانت بقية لشعيرة التضحية الآدمية، ثم جاءت في ~~أواخر الأيام الوثنية حوادث عدة جنحت بالآراء إلى هذه الوجهة، منها أمثولة ~~«كاتو» الذي أصبح قدوة الرواقيين، وأصبح انتحاره المسرحي عندهم سياقا للبلاغة ~~والبيان، ومنها قلة المبالاة بالموت التي بثتها في النفوس مناظر المصارعة ~~والجلاد، وحوادث المئات من الأسرى الذي كانوا يأبون أن ينحروا أبناء وطنهم أو ~~يسخروا لتلهية آسريهم فيدورون نصالهم إلى أعناقهم، أو يلتمسوا لهم مهربا إلى ~~الحرية أبشع من هذا وأنكى، ومنها سنتهم التي استنوها بإلزام المسجونين ~~السياسيين أن يقضوا على أنفسهم بأيديهم، وأعظم من هذا كله كان طغيان القياصرة ~~الذي ارتفع بالانتحار إلى أجل مقام، فقل أن نسمع بشيء أبلغ في النفس ms039 أثرا من ~~ذلك الفرح الذي استقبله به «سنيكا» في عهد نيرون واجدا فيه الملجأ الوحيد ~~للمظلوم، والمعقل الأخير للعقل المنهوك، فهو يقول: «إنما بفضل الموت لا تكون ~~الحياة عقوبة، وبفضل الموت أستطيع أن أقف رافع الرأس بين يدي الجد العابس، ~~فأحتفظ بعقلي سليما وجأشي رابطا. إن لي مرجعا أعتصم به وأحتكم إليه. أرى ~~أمامي الصلبان على أشكالها، وآلات العذاب والسياط بأنواعها لكل عضو من أعضاء ~~الجسد، وكل عصب في البدن، ولكني كذلك أرى الموت! أراه وراء ما يسمو إليه أعدائي ~~الهمج الضراة، وأبناء وطني المتغطرسين، وأن الاستعباد لتذهب عنه مضاضته حين ~~أعلم أنها خطوة واحدة أخطوها فتخرجني من الأسر إلى الحرية.» ~~••• # وقد أخذ الكاتب بسرد الأمثلة العديدة من التاريخ الروماني عن العظماء ~~المنتحرين، وأقوال الفلاسفة في الانتحار بما لا يختلف عما سبق، وفي ذلك إجمال ~~للنظرة التي كان ينظر بها الأقدمون إلى قتل النفس نعرضه فنعلم أنها غير نظرتنا ~~نحن إلى هذه الفعلة من جانبي الفكر والأخلاق، فإن الأديان قد علمتنا أن الحياة ~~نعمة الله على الأحياء، فمن رفضها وأبق منا فإنما يكفر بنعمته ويهرب من قضائه، ~~ثم جاءت المذاهب الحديثة فعلمتنا أن الحياة واجب وتبعة فمن نقضها عنه، فإنما ~~ينكص ويعجز فيعاب عليه ضعف الإقدام ونقص الاقتدار، وكذلك تجرد الانتحار من حلية ~~الفخر والشجاعة التي كان يزان بها في أيام الوثنية، ولا سيما على عهد الدولة ~~الرومانية، وظهر لنا في هيئة أشرف ما تناله منا العذر والرثاء، وأغلب ما تقابل ~~به بين الناس التأفف والازدراء، ولكنه بعد هذا لا يزال باقيا كما كان بين جميع ~~الطبقات، ولا يزال اللاجئون إليه على مثل نسبتهم في الأزمنة الغابرة إن لم تقل ~~إنهم يزيدون، فكيف نفسر هذا؟ وكيف لم تنقص هذه الآفة مع اختلاف النظر إليها؟ ~~أترى أن الحياة أهون علينا وأصغر في أعيننا مما كانت في أعين القدماء؟ أترى أن ~~أولئك القدماء كانوا يجدون فيها سعة وجمالا لا نجدهما، ويصيبون بين أحضانها ~~متعة وراحة فوق ما نصيب! لا نظن! وإنما المسألة ms040 هنا مسألة صبر لا مسألة رغبة، ~~ومسألة ضعف عن احتمال الآلام لا مسألة زهد في جمال الحياة. # فما نرجحه ونكاد نؤكده أننا الآن أهيب للآلام الجسدية والنفسية، وأضعف منه على ~~الأذى من أجدادنا الأولين، وقد يظهر لهذا الخلق فينا جانبه الحسن كما يظهر لنا ~~جانبه القبيح، فنحن لا نطيق اليوم أن نرى مسجونا يجلد أو أسيرا يلقى بين ~~براثن السباع، ونحن لا نستحسن تلك المشاهد الدموية التي كان يستحسنها الأقدمون، ~~لو أنها عرضت علينا كما كانت تعرض عليهم. هذا جانب حسن في ذلك الخلق الذي ~~أومأنا إليه، فأما الجانب السيئ، فهو أننا لا نطيق الصبر على مكاره الحياة، ولا ~~نحجم عن نبذها على وتيرة أبناء العصور الماضية، مع أنهم كانوا ينبذونها مبجلين ~~غير ملومين، ونحن لا ننبذها إلا مهانين أو معذورين. ~~••• # وقد لاحظ المطران الفيلسوف «آنج» ذلك الخلق في فصل عقده على الدين بين القدماء ~~والمعاصرين فعجب لغفلة أولئك - واليونان منهم على الخصوص - عن دمامة المناظر ~~القاسية التي كانوا يتلهون بها، ويخفون إليها على ما في فطرتهم من حسن الذوق ~~وحب الجمال، وحسبنا أننا قد ترقينا عليهم في ذوق الجمال الأدبي، وإن كنا لا ~~نبذهم في أذواق الجمال الحسية، وما تتراءى فيه من مبدعات الفنون، وقال: «من ~~المحقق أن مقتنا لهذه المناظر يصدر عن أسباب ذوقية أكثر من صدوره عن الأسباب ~~الخلقية، وأذكر أنني ذهبت قبل سنوات عدة إلى رواية حمقاء موضوعها روما القديمة، ~~عرضت في ليلتها الأولى فجيء فيها بمسيحي من صدر المسيحية ليعذب على المسرح ~~عذابا هينا، فما هو إلا أن سقطت عليه ضربة السوط الأولى حتى وثب جيراني ~~صارخين: يا للعار! يا للفضيحة! دعونا من هذا! فاضطرت الفرقة إلى إلغاء المنظر ~~في الليالي التالية، وحدث أن العمال في بعض المصانع عطلوا المصنع كله ساعة؛ ~~لأنهم سمعوا بين العدد هرة تموت فلما أنقذوها بشق النفس خنقوها! وإنني أترك ~~تفسير هذا الإحساس المفرط لجماعة النفسيين، ولكنني على يقين أننا هنا حيال تطور ~~في إحساس الجمال.» # إن هذا الذي يحسبه ms041 المطران «آنج» تطورا في إحساس الجمال، لا نحسبه نحن إلا ~~مظهرا لضعف الاحتمال الذي فشا في العصر الحديث بين سكان الحواضر وبيئات ~~الصناعة والضوضاء، والمطران الحكيم يلاحظ العلاقة بين فرط الإحساس وانتشار ~~الصناعة، ولكنه لا يريد أن يجعل لهذه أثرا في إضعاف الاحتمال ونهك الأعصاب، ~~فنحن لا نظلمها إذا ردننا إليها بعض الأثر، وضفنا إليها أثرا آخر من شيوع ~~المخدرات وكثرة تكاليف الحياة، وسرعة أعمالها واشتداد زحامها، ولا نخالنا أرفع ~~من اليونان ذوقا في الجمال الأدبي؛ لأنهم يجلدون الجواري الضعيفات ونحن نشفق ~~من جلد الحيوان الأعجم! فإنما سبب ذلك فيما نعتقد أن الألم البدني لم يكن له ~~رهبة على نفوس اليونان كرهبته علينا نحن في هذا الزمان، فلقد كانوا يزاولون ~~الصراع، ويجرحون ويجرحون في الميدان، ويرون الصبر على الألم بعض مستلزمات ~~البطولة وجمال الجسد وصحة الأعضاء، أما اليوم فقد أصبحت البطولة عندنا بطولة ~~رصاصة تطلق من بعيد ولا تريك من شناعة قتيلها بعض ما تراه في ميدان الحرب ~~بالسيوف والرماح، وما أخلق الرجل الذي تعود أن يغمد سيفه في لحم رجل مثله، وأن ~~يفخر بهذه الشجاعة وهذه المهارة في تقليب السلاح، ألا يحس من هيبة الألم الجسدي ~~ما يحسه مطلق الرصاصة وراء الخنادق والأسوار! # فداؤنا الحديث - داء الانتحار وداء كل عجز ونكوص - هو أننا نهاب ألم الجسد، ولا ~~نصبر على عنت البلوى وتبريح العذاب. هذا هو الداء فما هو الدواء؟ الدواء كما ~~يقول الأطباء من جرثومة الداء: رياضة على المشقة واليأس، وصراع بالأيدي وجلاد ~~بالسيوف، ثم تخفيف لوطأة الزحام تشترك فيه حكمة الحكماء وسلطان ~~المشترعين. # | كتاب مصري بالإنجليزية1 # للشرقيين ملكة في تعلم اللغات لا يضارعهم فيها الغربيون، وحسبك أن تصغي إلى ~~فرنسي يتكلم الإنجليزية، أو إنجليزي يتكلم الفرنسية، أو ألماني يتكلم هذه أو ~~تلك، لتعلم أن القوم لا يعرف أحدهم من لغة غيره إلا هيكلها العظمي، وتعريفاتها ~~النحوية والصرفية وألفاظها كما ينطقها هو بلسانه لا كما ينطقها أبناء اللغة ~~التي يتكلمها، ثم إنك لتصغي إلى شرقي ينطق بإحدى هذه اللغات ms042 فيلتبس عليك الأمر، ~~ويخيل إليك أن تصغي إلى واحد من أبناء تلك اللغة في نبرة الصوت، ولهجة الأداء، ~~وأسلوب الحديث، إلا شيئا من الفوارق الطبيعية تلحظه في بعض الأحيان ولا حيلة ~~فيه للتعليم والتلقين. # وقد يخطئ الشرقي الجاهل إتقان اللغة نحوا وصرفا وأسلوبا، كما يتقنها الشرقي ~~المتعلم، ولكنه يحفظ من كلماتها وتعبيراتها ما يلتقطه لأول سماع فيفهم ويفهم ~~بعدة لغات لم يذهب إلى بلادها، ولم تتعد ممارسته لها أن يستمع إلى السائحين ~~الذين يحضرون في بعض فصول السنة إلى هذه البلاد. وبين تراجمة الأهرام، والأقصر، ~~وأسوان، من تعلم على هذه الطريقة ثلاث لغات أو أربعا بغير مشقة وفي زمن وجيز ~~فحذقها كأحسن ما يمكن أن تحذق اللغات على هذا الأسلوب، وربما كان من أسباب هذه ~~البراعة اللغوية عند الشرقيين أنهم قديمو العهد بالعلاقات الأجنبية منذ ألوف ~~السنين في إبان صولتهم الغابرة ومجدهم التليد، فقد كان في هذا الشرق القريب أمم ~~شتى يرحل بعضهم إلى ديار بعض، ويرحلون جميعا إلى ديار الغرب يوم كان الغربيون ~~في عزلة الجهل والبداوة، يكاد أحدهم لا يتخطى أرض وطنه أو يخاطب غير أهله، ~~وكانت علاقات السياحة والتجارة والاستعمار أقدم في الأمم الشرقية وأطول أمدا ~~من علاقات الغربيين في الزمن الأخير، وبين الأسباب التي تعلل بها ملكة اللغات ~~عند الشرقيين أنهم أسرع عطفا، وأقرب مودة وامتزاجا، في عهديهم القديم ~~والحديث، ولا يخفى أن التفاهم إنما يسري في النفي مع سريان العطف والمودة، وأن ~~الطفل الصغير إنما يتعلم محصوله في اللغة ممن يأنس بهم ويحب الاستماع إليهم، ~~وكلما عظم الأنس وارتفعت الوحشة، كان حظه من التعلم أوفى ورغبته فيه أصح وأكمل، ~~ولولا ذلك لحال النفور بينه وبين الإتقان وسهولة الفهم والإفهام. # على أننا نلاحظ غير هذا وذاك أن للألفاظ عند الشرقيين شيئا أكبر من شأنها عند ~~الغربيين، وأن حروفنا أكثر من حروفهم، وألسنتنا أقدر على النطق بمخارج الحروف ~~الصعبة من ألسنتهم، فالحاء والخاء والضاد والعين والغين والقاف من أصعب الحروف ~~على الغربيين، ولكنها حروف دارجة في لغات ms043 الشرق القريب يلفظها الطفل الذي ~~اكتملت أداة نطقه بغير عناء، ولا يفلح الغربي في النطق بها إلا بعد العناء ~~الطويل، ولسنا نقول: إن الفرق هنا بيننا وبين الغربيين تفاوت في الطبيعة ~~واستعداد الفطرة، ولكنه على الأقل فرق قديم في العادة والمرانة يقرب من التفاوت ~~المطبوع. ~~••• # نكتب هذا وبين أيدينا كتاب حديث ألفه مصري باللغة الإنجليزية، فأجاد فيه ~~العبارة وأوفى على غاية من الحذق في اللغة قل أن يتجاوزها جمهرة الأدباء ~~الإنجليز في هذا الزمان، فأما الكتاب فعنوانه: «سرنديب أرض السحر الخالد»، وأما ~~المؤلف فهو الأستاذ علي فؤاد طلبة مترجم اللغة الإنجليزية بالقصر الملكي، ولم ~~نقرأ هذا الكتاب كله، ولعلنا لا نأتي عليه يوما، ولكننا نقول: إن الشذرات التي ~~ألممنا بها هنا وهناك، ألمستنا مكان السحر في نفس المؤلف واقتربت بنا من السحر ~~في أرض سرنديب، ودلتنا على نصيب صاحبنا من اللغة التي اختارها لتأليف ~~كتابه. # يقولون: إن الوطن أرض وسماء وهواء، ويقول آخرون إن الوطن تراث قديم ووشائج ~~روحية تنغرس في الطباع، ويتوارثها الأبناء عن الآباء، وقد حل لنا الأستاذ طلبة ~~عقدة هذا الخلاف بحبه لمصر وحبه لسرنديب، ورأيه في موطن البلاد وموطن الأواصر ~~الروحية والتراث القديم، فما جزيرة سرنديب وما سحرها الخالد أو الزائل في رأي ~~الألوف والملايين الذين يعيشون على أرجاء الأرض تحت هذه السماء! أقول لك الحق: ~~إن الكثيرين ليستكثرون على الجزيرة كتابا كبيرا كالكتاب الذي أفرغه المؤلف ~~لها ولنوادره في بلادها، وإنهم قلما يفقدونها على «الخريطة» إذا هي زالت من ~~مكانها عليها! ولكن سل المؤلف ما هي سرنديب وما سحر سرنديب؟! تسمع منه ما يوحي ~~إليك أن سرنديب هذه بقعة مقصودة بتدبير وعناية في رسم بناء الكون لا تتم الكرة ~~الأرضية بغيرها، ولا تنوب عنها بقعة بين الأرض والسماء إذا هي احتجبت من ~~مكانها، ولم ذاك؟! لأنه ولد فيها فكان لها ذلك السحر وتلك القداسة، ورجحت على ~~سائر بلدان العالمين، وهكذا تنشأ قداسات الأوطان، والأديان، والمبادئ، ~~والعواطف، في طبائعنا نحن الذين نحسب هذه الطبائع أصدق حكم ms044 على هذا ~~الوجود. ~~••• # ولسنا نوغل بك أيها القارئ في أنحاء الجزيرة، ولا في مناظر فتنتها التي وصفها ~~المؤلف وأضفى عليها من إعجابه وافتتانه ما استطاع، فتلك المناظر كثيرة يحسن ~~بالقارئ أن يرجع إليها في مواضعها، وأن يعتمد فيها على المؤلف الذي وصفها وصفا ~~دقيقا يعوض عليك ما ينقصها من سليقة الشعر وبهجة الخيال، ولكنني أحببت أن أقف ~~عند حكاية كانت بين أول ما قرأت في الكتاب ولفتتني إليها أنها قد تروى عن بعض ~~بلاد الشرق الأخرى، كما تروى عن جزيرة سرنديب. قال المؤلف: «أوصيت بصنع عصوين ~~من الأبنوس الجميل عليهما مقبض من العاج في شكل رأس فيل، وفي صباح اليوم الذي ~~تسلمتهما فيه فحصتهما فحصا جيدا؛ لأن المثل يقول: «من لدغ مرة خاف مرتين»، ~~وقد زادتني قصة الحرير الصيني حذرا، فما كان دهشتي وغضبي حين وجدت في كلتا ~~العصوين خدوشا تخفى في إحداهما ولا تظهر، إلا بعد إنعام النظر، وقيل لي: إنها ~~مما لا بد منه في الأبنوس كله، أما الأخرى، فقد كان عيبها ظاهرا مكشوفا ~~بحيث لا تصلح للإهداء، فذهبت مع صديق لي إلى الدكان لننظر في أمر العصوين، ~~وأفاض القوم هناك في إبداء الأسف والاعتذار، وقبلوا عن طيب خاطر أن يبدلونا ~~بالعصا المعيبة عصا سليمة، ثم لم ألبث أن بلغ مني الاشمئزاز والسخط حينما ~~أخبرني صديقي أنه ذهب بعد ذلك إلى الدكان ليستعجلهم لقرب سفري - وكنت يومئذ في ~~كاندي - فسمع أحد الدكانية يخبر صاحبه أنه لا يظن إبدال العصا في الإمكان، ~~وإنما يمكن أن تملأ الخدوش منها بالعجين وتداوى بحيث تبدو كأنها عصا جديدة. ~~ونبهني صديقي إلى ذلك لأكون على حذر حين تسلمها، فصح ما أنذرني به واجترأ القوم ~~فعلا على إرسال العصا الأولى بعينها مطلية بطلاء يخفى على غير الحريص. ولكن ~~«محمدا» الذي كنت أخبرته بالقصة كشف الحيلة وأراها للرجل الذي جاء بالعصا قبل ~~تسليمها إلي.» # هذه قصة لا أظن سائحا في بلد شرقي إلا وقد حدث له من أمثالها ما يدعوه إلى ~~الأسف والاحتراس، ولست أقول ms045: إن السائحين في الغرب لا يصادفون مثل هذه الخدع ~~الوضيعة والصغائر المضجرة، ولكنني أردت أن أقول: إن الخداع في الغرب إنما يكون ~~من شأن المحتالين الذين تجردوا للاحتيال، وليس من شأن أصحاب المتاجر المؤسسة ~~والأعمال الدائمة، كما يحدث عندنا في بعض البلاد الشرقية، وقد وقعت لي قصة في ~~بيروت كهذه في دكان مشهور يبيع المنسوجات الوطنية، وسمعت قصصا شتى يرويها ~~السائحون من هذا القبيل، ولو شاء ذو غرض لعد ذلك الاحتيال عيبا أصيلا في ~~أخلاق الشرقيين تنزهت عنه الأخلاق الغربية أو اقتصر بين الغربيين على فريق قليل ~~دون الفريق الأغلب المشهور، والحقيقة أن العيب هو قصر نظر في العقول يزول بزوال ~~أسبابه، وليس بعيب في الطبائع والأخلاق يمتنع على العلاج والإصلاح، ومنشؤه فيما ~~أرى أن الغربيين قد تعودوا أعمال «التعاون» قبلنا فتعودوا الثقة التي لن يتم ~~التعاون بغيرها، وأن سهولة العيش في الشرق قد أقنعتنا بالجهود الفردية فرضينا ~~بالفرص الطارئة والمكاسب الموقوتة، ولم ننظر إلى الدوام والاستمرار، ولو كان ~~العيش في الغرب سهلا يقوم به كل إنسان على حدة كما هي حالة الشرق منذ آلاف ~~السنين لما اضطر الغربيون إلى الاشتراك في العمل ولا دفعوا إلى آدابه وسياسات ~~نجاحه، وفي مقدمتها سياسة الصدق والأمانة، فإذا أحسنا التعاون غدا كما يحسنه ~~الغربيون، فذلك صلاح في عالم الأخلاق يضاف إلى ما فيه من صلاح في عالم ~~الاقتصاد. ~~••• # وبعد فهل أصاب المؤلف في إظهار كتابه باللغة الإنجليزية، أو كان الأجدر به أن ~~يبدأ بإظهاره في اللغة العربية! إن بعض الكاتبين في الصحف الإنجليزية التي نوهت ~~بالكتاب يعطينا ما يشبه الجواب عن هذا السؤال فيقول: «يرى المؤلف المصري أن وضع ~~الكتب باللغة العربية عمل غير مجد من وجهة المال؛ لأن الجمهور الذي يشتري ~~كتب الأدب القيمة في مصر محدود، وأصدقاء المؤلف ينتظرون منه الهدايا فلا أمل له ~~في الفائدة، وكثيرا ما يصاب بالخسارة، فلا بدع إذن أن نرى بعض أصحاب الهمة ~~العملية يؤثرون الكتابة بلغة أجنبية، وأن شاعرين مصريين أحدهما أمير، والآخر ~~ابن وزير ms046 سابق، قد نشرا في اللغة الفرنسية كتبا أطنب النقاد الفرنسيون في ~~الثناء عليها، وقد طبع حسنين بك الرحالة المصري كتابه الممتع عن الواحة ~~المفقودة باللغة الإنجليزية الجيدة، ونشرته مكتبة بترورث قبل أن تنشر طبعته ~~العربية، وظهر في هذا الأسبوع على يد مكتبة هتشنسون كتاب عنوانه «سرنديب أرض ~~السحر الخالد» لمؤلفه علي فؤاد طلبة مترجم اللغة الإنجليزية في القصر الملكي ~~الذي ولد في سرنديب، وتعلم في مدرسة كنجزود بمدينة كاندي، وكان والده أحد ~~المنفيين إليها بعد الثورة العرابية.» # وكل ما ذكرته الصحيفة الإنجليزية حق لا ريب فيه، فإن الكتاب الذي يروج في لغة ~~أوربية يجدي على صاحبه ما ليست تجديه حياة طويلة تنقضي بيننا في التأليف ~~والترجمة، وقد ينقل إلى لغات غيرها فيكبر حظه من الربح والسمعة، ويغريه الإقبال ~~بالمثابرة والمزيد، وشيء آخر يحبب إلى المؤلف الكتابة في اللغات الأوربية غير ~~ما تقدم، وهو حركة العطف وتبادل الفكر والإحساس التي يشعر بها من يلقي في عالم ~~الأدب هناك بكتاب يودعه ما يودع من ذات نفسه وفكره، فليس سرور التأليف والإفضاء ~~بما في القلب والعقل إلا هذا السرور الذي يوسع نطاق الحياة ويطرد عنها وخامة ~~الركود الآسن والسكون الوبيء، ولا يلزم أن يكون العطف الذي يثيره الكتاب حبا ~~وتمجيدا، بل يكفي أن يكون حركة واهتماما وتجاوبا في الإحساس والنظر ولو على ~~المتناقضة والعداء، وهذا هو الأثر الذي لم يكتب لشرقي في أرضنا، ولا يطمع فيه ~~شرقي في هذه الأيام، فمن تحدث بيننا بلسان الطباعة فليكن كذلك الذي يطلق لسانه ~~ثم يغمض عينيه ويوصد أذنيه؛ لكيلا يعلم أن القوم حوله يعرضون عنه أو يصغون ~~إليه، ويصمتون ليستمعوه أو يتشاغلون عنه باللغط والهراء! وليصبر على هذا الحديث ~~صبر المجانين المبتلين بداء التحدث والهذيان. # لماذا يكتب المؤلف ويطبع ما يكتب؟ للإفضاء بما في نفسه أو للكسب أو للشهرة؟ ~~فإذا علمنا بعد هذا أن الذي يفضي بذات نفسه يفضي بها إلى من لا يجاوبه ولا يردد ~~صداه، وأن الرغبة في المطالعة بيننا لم تبلغ إلى الآن ms047 أن تكفي كاتبا واحدا ~~مؤنة الرزق، أو تغنيه عن مزاولة عمل يكفل له مطالب الحياة، وأن شهرة الكاتب ~~الشرقي لا تتعدى عشرة آلاف قارئ على أكبر تقدير يقابلهم ألوف الألوف من قراء ~~الكتاب الغربيين، إذا علمنا هذا فقد علمنا أنه ما من شيء يحبب إلى المؤلف أن ~~يكتب في اللغة العربية، إذا ضمن الرواج في غيرها إلا غيرة الوطن، وغرام ~~التضحية، وأمل في المستقبل يطول عليه الزمان، وتمطله الحوادث والصروف. # هذه حقيقة قد تتعزى عنها بحقيقة أخرى نذكرها عن عالم التأليف بين أصحابنا ~~الغربيين، وتلك هي أن المؤلف هناك لا يضمن الرواج حتى يقبل عليه الناشرون، ولا ~~يقبل عليه الناشرون حتى يكتب في الأغراض التي يهواها سواد القراء، ولا يهوى ~~سواد القراء إلا ما سخف أو امتزج بالسخافة من نفايات اللهو، ومزجيات البطالة ~~والفراغ، فإذا اعتمد المؤلف على نفسه في النشر ولم يلجأ إلى البيوت المشهورة ~~بطبع الكتب الرائجة، فذلك أسوأ إعلان يتشفع به إلى القراء! لأنهم يقولون حينئذ ~~لمن يعرض عليهم كتابه إن وصل إلى أيدي العارضين: لو كان الكتاب جديرا بالقراءة ~~لوجد من ينشره ويتصدى لبيعه، أما وهو كما نرى باد عليه دلائل الرفض والإعراض، ~~فهو غير حقيق منا بالقبول! # حقيقة بحقيقة! فأيهما أسوغ في النفس وأطيب في المذاق. # شتان هذه وتلك على كل حال: فإحداهما حركة خاطئة، والأخرى ركود عقيم، وشتان ركود ~~الجماد وحركة الحياة. # | التجميل في الأسلوب والمعاني1 # يقول أمييل في جريدته راويا عن أديب لم يسمعه: «إن هذا الأديب يبدي ملاحظة جد ~~صادقة عن أسلوب رينان، وهو يلفت النظر فيه إلى التناقض بين ذوق الفنان الأدبي ~~ذلك الذوق الدقيق المبتكر الصادق، وبين آراء الناقد تلك الآراء المستعارة ~~القديمة المضطربة، وإنما الاضطراب هنا اضطراب المتردد بين الجميل والصادق، أو ~~بين الشعر والنثر، أو بين الفن والبحث، وهو أمر بين في رينان، فإنه لشديد الشغف ~~بالعلم، ولكن شغفه بالكتابة الحسنة أشد، وقد يدعوه ذلك عند الضرورة إلى التضحية ~~بالعبارة المحكمة في سبيل العبارة الجميلة، فالعلم مادة له ms048 وليس بغاية ولكنما ~~الغاية هي الأسلوب، ولكلمة واحدة أنيقة أغلى في عينيه عشرا من العثور على ~~حقيقة ثابتة أو تاريخ صحيح، وإني لأراه على صواب في هذا فإن الكتابة الجميلة ~~إنما تكون كذلك بنوع من الصدق هو أصدق من سرد الوقائع المجردة، وكذلك كان رأي ~~روسو.» # والذي يقال هنا عن رينان قد قيل كثيرا عن غيره من الكتاب والأدباء، فليس ~~بالقليل بين الشعراء ورجال الفنون من وصفوا بهذه الصفة، وقيل في نقدهم إنهم ~~يؤثرون الجمال على الحقيقة. هذه كلمة شائعة خرج بها بعضهم عن معناها، وأعجبتهم ~~رنتها فوضعوها في غير موضعها. # لقد خيل إلى بعض القراء أن الجمال شيء يناقض الحق ويضحي به أحيانا في سبيل ~~ظهوره، وهذا من تحريف الكلم الذي نود أن نوضح مكان الزيغ منه، ونحرر نصيب الصدق ~~فيه. # إننا نشك كل الشك في وجود ذوق فني مطبوع على حب الجمال الصحيح يضحي بالحق في ~~سبيل الجمال، فإن تعمد التضحية بالحق غش أثيم تنبو عنه طبيعة الذوق السليم، ~~والرجل الذي يعلم أنه عثر على المعنى الصحيح، ثم ينبذه مختارا ليخلفه بعبارة ~~تبرق في النظر، أو تظن في السمع يزيف على نفسه تزييفا لا ترضاه السليقة ~~الجميلة، ولا الذوق المستقيم، فالقول بأن كاتبا يضحي بالعبارة المحكمة عند ~~الضرورة؛ من أجل العبارة الجميلة - وهو عالم بذلك - فيه تجوز يدل على سوء فهم ~~للحق أو سوء فهم للجمال، وفيه مبالغة كمبالغة الصور الهزلية التي قد تغتفر ~~أحيانا للدلالة على نظرة خاصة يقصدها المصور، لا للدلالة على الصدق ~~والإحكام. # قد يضحي الكاتب بالحق في سبيل البهرج الكاذب؛ لأنه لا يتذوق جمال الحق، ولا ~~بساطة الجمال، أما التضحية العامدة بالحق في سبيل الجمال فأمر لا يتفق، ولا ~~ندري كيف يسيغه طبع قويم. # والبهرج كما لا يخفى غير الجمال وإن ظن أنه منه، أو خيل أن البهرج هو إفراط في ~~الجمال وتزيد منه إلى فوق المحمود. بل نحن نقول: إن البهرج يناقض الجمال، وإن ~~الإعجاب به دليل على ضلال مشوه عن الذوق الجميل ms049، فهو شيء سطحي إذا لفتك فقد بلغ ~~الغاية، وأعطاك كل ما عنده ولم يبق لديه من سر غير ذلك السر الذي يقف عنده ~~الحس، ويجمد عنده الخيال، وهو صورة تلقي بكل ذخيرتها لأول نظرة تجتذبها من عين ~~الناظر، أو أول لفتة تسترعيها من أذن السامع، فهو عقبة تستوقف الناظرين ~~والسامعين، وقيد يغل الحس والتفكير، أما الجمال فنقيض ذلك؛ لأن ما يبدو منه ~~لأول وهلة هو أقل ما فيه، أو هو رائده الذي يسعى أمامه ليدل على وصوله، وهو لا ~~يستوقف الحس ولا يعطل التفكير والخيال، ولكنه يطلق النفس في هوادة ورفق، ويسلس ~~في الطبع شعور السماحة والاسترسال. # وإذا أردت أن تعرف منتهى ما يبلغ إليه البهرج، فلك أن تقول: إنه هو وهج في ~~النظر، وقرقعة في الأذن، ولذع في الحس، وتهييج في الشعور، ومتى انتهى إلى ذلك ~~فقد افتضحت طبيعته المادية، ووصل إلى حد المضايقة والإرهاق، أما الجمال فلا ~~يزيد في «المادية» كلما زاد في الحسن والظهور، ولا يتمادى إلى إعنات الحواس ~~بالغا ما بلغ في السمو والكمال، ولكنه يتجه إلى النشوة الروحية، والنعيم الذي ~~لا يشوبه حس منزعج، ولا جسد منهوك، فأنت تقول هذا بهرج ويثقل على النظر إذا زاد ~~على حده، ولا تقول هذا جمال يثقل على حاسة من الحواس إذا أعجبك سموه وكماله؛ ~~لأن الجمال لا يعلو في الدرجة كلما ضعفت أعصاب الوظائف الحسية عن احتماله، ~~وإنما تقاس درجاته بما يوليه النفس من نشوة وطلاقة وارتياح. # فمعقول أن يترك الكاتب الحق ليلهي قارئه بالبهرج الزائف؛ لأن الحق لا يثير الحس ~~بطبيعته فهو لا يغني عند القارئ الساذج غناء البهرج الذي يسترعيه من هذه ~~الناحية، ويلذه كما يلذ الطفل البريق والطنين، ولكن غير معقول أن يترك الكاتب ~~الحق ليلهيك بالجمال؛ لأن استمتاعك بالحق لا ينفي استمتاعك بالجمال، وكلاهما ~~يسعيان في طريق واحدة ويلطفان النفس بلذة متشابهة، فإذا بلغ الجمال أقصى أثره ~~في النفس لم يصرفها عن الحق، وإذا بلغ الحق أقصى أثره في النفس لم يصرفها عن ~~الجمال ms050، ولا موجب لترك أحدهما من أجل صاحبه، أو للتفريق بينهما في ذوق الفنان ~~القدير والقارئ الخبير. # ولزيادة الإيضاح نسأل من يزعمون هذا الزعم: لماذا يترك الكاتب المعنى الصادق ~~إيثارا لجمال الأسلوب؟ # إن ذلك لا يعدو أن يرجع إلى سبب من سببين: فإما أن يكون التعبير عن ذلك المعنى ~~الصادق بأسلوب جميل مستحيلا كل الاستحالة؛ أي أن يكون ذلك المعنى الصادق ~~مقضيا عليه ألا يبرز أبدا إلا في قالب دميم من اللغة والأسلوب، وهذا ما لا ~~يقوله أحد ولا يستطيع أن يفرضه عاقل، إذ لكل معنى حظه من الصياغة الجميلة يلهمه ~~في الكتابة من هو قادر عليه، ولم يوجد بعد ذلك المعنى الذي تضيق به الأساليب، ~~إلا ما كان معيبا مشروطا فيه النقص والتشويه. # وإما أن يكون السبب الذي يحمل الكاتب على ترك معناه الصادق إيثارا للأسلوب ~~الجميل هو إحساسه بالعجز عن إفراغ ذلك المعنى في قالب البلاغة والجمال، فليس ~~يصح إذن أن نقول: إنه قد ترك الحق لأجل الجمال إذ كان الجمال ها هنا ميسورا لو ~~استطاعه، ولم يكن ثمة تناقض بينه وبين الحق على وجه من الوجوه، ولكنما نقول: ~~إنه ترك معنى صادقا إلى معنى آخر له نصيبه عنده من الجمال والصدق، أو البهرج ~~والبهتان. # فلا يغترن أحد بتمويه أولئك الذين يعتذرون من الكذب بالجمال، فإنما الكاذب عاجز ~~عن الصدق وعن الجمال في وقت واحد، ولا يتوهمن أحد أن الحق يناقض الجميل، وأن ~~كاتبا مطبوعا على الصدق يطيق أن يزوره مرضاة لما يسمى بالذوق السليم، فإنما ~~يصنع ذلك أصحاب البهرج والتزييف، وليسوا هم من سلامة الذوق على شيء كبير ولا ~~صغير، والفرق بعيد كما رأينا بين البهرج والجمال؛ لأنه فرق بين العقبة ~~والطلاقة، وبين ما يخاطب الوظائف الحسية وما يخاطب الملكات الروحية، وبين ما ~~يفرط فيمل الخاطر ويثلم الحس، وما يفرط فيزيدك نشاطا إلى نشاط، ومرحا إلى ~~مراح. # كنا نتذاكر هذا المعنى منذ أيام مع إخوان من الأدباء، فاقترحنا أن نتطارح ~~أبياتا يتفق لها جمال الأسلوب وجمال المعنى، وذكر ms051 بعضهم هذا البيت: # وإنك كالليل الذي هو مدركي # وإن خلت أن المنتأى عنك واسع # وذكر آخر بيتين يناسبانه: # كأن فجاج الأرض وهي فسيحة # على الهارب المطلوب كفة حابل # يؤتى إليه أن كل ثنية # تيممها ترمي إليه بقاتل # وذكر آخر بيتين آخرين: # أخاف على نفسي وأرجو مفازها # وأستار غيب الله دون العواقب # ألا من يريني غايتي قبل مذهبي # ومن أين! والغايات بعد المذاهب # وقابلنا بين هذه الأبيات السائغة، وخلوصها بالذهن إلى المعنى في ثوب من اللفظ ~~شفاف لا تستوقف منه لفظة مزوقة، ولا تعطلك لديه نكتة فارغة، وبين أقوال ~~البديعيين في مثل البيت المشهور: # وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت # وردا وعضت على العناب بالبرد # أو مثل هذا البيت: # أزورهم وسواد الليل يشفع لي # وأنثني وبياض الصبح يغري بي # أو مثل: # إذا ملك لم يكن ذا هبة # فدعه فدولته ذاهبة # فتساءلنا: أي فرق بين الأبيات السابقة والأبيات اللاحقة هو أظهر من سائر ~~الفروق، وأدل على البعد بين طبيعة الصدق وطبيعة التمويه؟ فلم نجد بينهما فرقا ~~أجمع لذاك من أن الأسلوب في الأولى يجوز بك إلى معناه بغير ما توقف ولا انتباه، ~~وأن الأسلوب في الثانية يقف بك عند اللفظ المقصود، فلا تجوزه إلى المعنى إلا ~~إذا أردت ذلك وتعمدته، فالألفاظ في الأولى تخدم المعنى وتريك إياه ولا تريك ~~نفسها، من أجل هذا كانت جميلة وكان قائلها بليغا، والألفاظ في الثانية تستوقفك ~~لديها وتحجب عنك المعنى، ومن أجل هذا كانت مزورة، وكان قائلها مبهرجا لا حظ له ~~من البلاغة والجمال. # ولسنا نرد بما تقدم على ملاحظة «أمييل»؛ لأننا نراه يوافقنا في مدلول نظره ~~ويقول: «إن الكتابة الجميلة إنما تكون كذلك بنوع من الصدق، هو أصدق من سرد ~~الوقائع المجردة» ولكننا نرد على الذين يلغطون بيننا بمثل تلك الملاحظة، ~~ويعتذرون من تحريف المعاني بجمال الأساليب ولا يفهمون أن الصدق هو جوهر الجمال، ~~وأس البلاغة، وقوام الذوق السليم، وقد أصاب «أمييل» حيث فرق بين الصدق في ~~الكتابة، ومطابقة الواقع في التواريخ، فإن الصدق في الكتابة ms052 هو النفاذ إلى روح ~~الموضوع، والإحاطة بأصوله ومقوماته، وأما مطابقة الواقع في التواريخ فهي جمع ~~معلومات خارجية حول الموضوع لا تمس روحه، ولا تدخل منه في المقومات، فأنا مثلا ~~أعرف صديقي وأحبه وأعطف عليه، وأستمتع بعطفه وأفهم ما يرضيه وما يغضبه، وما قد ~~عمله وما هو خليق بطبعه أن يعمله، وأستشف بواطن سريرته وأطواء نيته، كما لا ~~يستشفها الذي لا يعرفه ولا يصادقه، ولكني قد أسأل عن تاريخ ميلاده أو البلد ~~الذي ولد فيه أو عن أخبار أهله وأسرته أو موقع سكنه وألوان ملابسه ومطاعمه، فلا ~~أعرف من ذلك ما يعرفه خادمه ووكيله، فإذا كتبت عنه فقد أعطيه عمرا فوق عمره، ~~وأنسبه إلى بلد غير بلده، وأخلط بين أخبار أهله وأخبار أناس غير أهله، وإذا كتب ~~عنه خادمه أو وكيله فقد يصيب حيث أخطأت، ويضبط الوقائع حيث غيرت وبدلت، ولكني ~~مع هذا أظل أصدق منه في الكتابة، ويظل هو أبعد من ذلك الصديق، وأكذب في الإبانة ~~عنه والدلالة عليه، فللصدق في رواية من الروايات جوانب شتى لا تنحصر في الأرقام ~~والوقائع، ولا تحد بالمشاهدة والسماع، وللفن صدق واحد يعنيه، وهو صدق اللباب ~~والجوهر، الذي يقدم ويؤخر في التفريق بين إنسان وإنسان، وموضوع وموضوع. # لهذا نرى «أمييل» أقرب إلى الصواب من «تين» حين لاحظ هذا ما لاحظ على أسلوب ~~رينان في رواية التاريخ، فقد وصف تين في مذكراته مجلسا له مع رينان وبرتلو، ~~فأجاد وصف الرجل في أشياء كثيرة ثم قال: «وقرأ لنا فصلا طويلا من حياة ~~المسيح، فإذا هو يرق في الكتابة ولكن يتحكم! وإذا بأسانيده كثيرة الضعف وليس ~~فيها الكفاية من الدقة، وقد حاولت أنا وبرتلو عبثا أن نقعنه بأنه في كتابه هذا ~~يضع قصة روائية في موضع أسطورة! وأنه يفسد الجانب الصحيح في تاريخه بمزيج من ~~الفروض والتقديرات، وأن رجال الكنيسة سينتصرون عليه ويطعنونه في مواقع ضعفه إلى ~~أشباه ذلك، ولكنه أبى أن يستمع أو يبصر شيئا غير الفكرة التي قامت برأسه، وقال ~~لنا: إنكم لستم «بفنيين» وإن ms053 مقالا تجتزئ فيه بالتقريرات والمؤكدات لن تكون له ~~حياة، فقد عاش المسيح فلا بد أن نراه في سيرته يعيش.» # كذلك قال رينان وكذلك كان هو أدنى إلى الحق من أصحاب الوقائع والأسانيد، بل هو ~~كان أدنى إلى روح المسيحية من دعاة المراسم والحروف؛ فما المسيحية السمحة في ~~روحها الحي الصميم؟ هي التقريب بين الله والإنسان، والتوفيق بين ما في الإنسان ~~من روح الله وما في الله من أمل الإنسان، وهذا الذي اهتدى إليه رينان حين مثل ~~لنا في تاريخ المسيح إنسانا إلهيا يمشي معنا على الأرض ويعالج الأشواق ~~والآلام. حتى لقد هم أن يجعل من أحزانه ليلية التسليم أنه كان يلمح وجوه ~~الصبايا التي سيودعها في هذه الحياة. # ولقد كان رينان مجملا مزخرفا في «حياة المسيح» ولكنه كان يتحرى ذلك الجمال ~~الذي يطابق الحق في الفن والمثل الأعلى، وإن خالف الحق المحدود في الحروف ~~والأرقام. # | النقد1 # في إنجلترا مجلة أدبية. # ولا يعجب القارئ هنا من صيغة هذا الخبر، فإن بقاء مجلة أدبية في هذه الأيام في ~~أي مكان خبر يذاع كما تذاع غرائب الأخبار! فقد أصبحت قراءة الأدب البحت أندر ~~القراءات، وأصبح قيام مجلة مقصورة على قراءة الأدب في إحدى اللغات أعجوبة يشار ~~إليها بين الأعاجيب! نعم حتى ولو كانت هذه اللغة أسير اللغات وأكثرها قراء ~~وكتابا كاللغة الإنجليزية التي يتكلمها ويعرفها أكثر من مائة وخمسين مليونا ~~في العالم الأرضي، والتي يصح أن يقال إن أمتها هي أرقى الأمم قاطبة في هذا ~~الزمان، فليست المسألة هنا مسألة ارتقاء أو هبوط، ولا مسألة قوة أو ضعف، ولا ~~مسألة سيادة أو استعباد، ولكنها هي داء فشا في هذا الزمان لا يوائم الآداب ~~الرفيعة ولا الآداب الرفيعة توائمه، وهو فيما أحسب من أدواء الشعبية والحرية في ~~دورهما هذا العارض بين النشوء القريب، والنضج السوي المنظور. # فالذين يشكون ركود الآداب في أمم الشرق يخطئون إذا حسبوا هذا الركود من الأدواء ~~الموضعية، أو من عوارض الضعف والجهالة، ويطمئنون - إن كان في ذلك داعية اطمئنان ~~- حين ms054 يعلمون أن أقوى الأمم وأعلمها في أيامنا هذه تضعف عن احتمال مجلة واحدة ~~تجد في الكتابة ولا تهزل، وتعنى بالتثقيف ولا تعنى بالتسلية، ولست أعلم علم ~~اليقين والتفصيل ما الحال في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ولكنني أعلم عن إنجلترا ~~ما فيه الكفاية وأعرف أن مجلات كثيرة اعتمدت هناك على الآداب الرفيعة فبقيت ~~حينا تغالب الكساد والخسارة، ثم احتجبت أو امتزجت إحداهن بأخرى ليتآزرا على ~~الظهور ويتعاونا على النفقة، ولم يبق من المجلات على رواج يكفل النفقة والربح ~~الجزيل إلا مجلات اللغو والثرثرة وصحف الفضول والمجانة، فهذه - مع الآداب ~~التمثيلية التي تلهو بها الجماهير - هي آداب الجيل الحاضر التي صرفت الناس عن ~~آداب الجد والرصانة، وحظيت عندهم بالإقبال الذي ليس بعده إقبال. # ما سر هذا الإدبار الغريب بعد تلك النهضة العالية التي بدأت فيما بين القرنين ~~الثامن عشر والتاسع عشر وبشرت يومئذ بمستقبل زاهر سعيد؟ السر كما قلت آنفا هو ~~الشعبية والحرية في دورهما الحاضر بين النشوة والاستواء، فإن الشعبية قد جعلت ~~الحكم في القراءة لكثرة الجماهير، وهي في جهلها المشهور وسقم ذوقها المأثور لا ~~تفقه من الآداب إلا اللغو والمجانة، ولا تخال أنها مطالبة بالإصغاء إلى ~~المرشدين والمهذبين، أما الحرية فمعناها الساذج المفهوم اليوم هو أن يكون ~~الإنسان وحده قائمة بذاتها منقطعة بدخائلها لها حقوقها وعليها واجباتها، ولا ~~شأن لها بأحد ولا شأن لأحد بها، ومعناها الساذج كذلك أن تكون أنت مستقلا من ~~الناس بهمومك وأشجانك وغير متصل بهم، إلا فيما يتعلق بمنافعك وأعمالك فليس ما ~~ينوبك أو ينوبهم إلا سرا مقفلا تطويه الصدور، وليس ينبغي أن يكون الحديث ~~بينك وبينهم إلا لغطا تنقضي به الساعات وتوصل به فترات اللعب والسرور، وما ~~تسمعه في الأندية والمجالس في هذا المنوال تقرؤه في الكتب والصحف ثم تعود إلى ~~التحدث به في الأندية والمجالس دواليك بغير اختلاف! ومتى سكت صوت العطف وبطلت ~~شجون النفس فلعمري ماذا بقي للآداب والأدباء؟ إنما قوام الآداب منذ خلقها الله ~~العطف وأحاديث النفوس، وما صنع الشعراء العظام منذ ظهروا ms055 في هذه الدنيا إلا ~~أنهم يبثوننا موجدة نفس آدمية، ويجتذبون أسماعنا إلى نجي لا يروق اليوم في ~~الأندية والمجالس ولا على المسارح وصفحات الأوراق، وزد على ذلك أن الحرية هي في ~~عرف الكثرة الغالبة أن يصنع الإنسان ما يشاء ولو جاوز حدود العفة والحياء، ومتى ~~ارتفع حجاب الحياء فأي حديث شريف يسمع في ضوضاء الفتنة ولجب البهيمية والهراء؟ ~~لا حديث إلا ما يشغل الإنسان بأوضع ما فيه عن أرفع ما فيه، ويجعل الجد النبيل ~~في حكم الرزانة المكروهة بين السكارى المعربدين والبغاة القاصفين. # تلك آفة الجيل الحاضر ستجري مجراها إلى حين، ونعود إلى خبرنا الغريب الذي لا ~~يزال في انتظار الإتمام! # في إنجلترا مجلة أدبية تسمى «الكتي» تصدر كل شهر مرة، وتسكتب مشاهير الأدباء في ~~طرف وأفانين يحمدها القارئ العجلان، ولا ينكرها القارئ الحصيف. سألت هذه المجلة ~~بعض النقاد والقصاص والموسيقيين والمصورين رأيهم في النقد، وأثره في الابتكار ~~والتشجيع وهل هو من عوامل الحث والنشاط أو من عوامل التثبيط والركود، فكانت ~~الأجوبة من أولئك الذي خبروا النقد وذاقوا حلوه ومره دليلا على شيء، إن لم يكن ~~هو الحق في هذا الباب فهو على الأقل موضع للتأمل والاعتبار. # قال ستيفن لكرك: «لا أحسب أن للنقد أقل قيمة! وكل ما يحتاج إليه الكاتب في ~~المثابرة هو المداد والبخور، ومع هذا قد لا تكون لعمله قيمة؛ لأنه ربما كان لا ~~يحسن الكتابة، ففي هذه الحالة لن يستطيع كل نقاد الدنيا أن يجدوا عليه المثابرة ~~ولا الثناء.» # ولكن خير مشجع لما في نفوسنا من الملكة الفنية هو الثناء. إذ حياة الفن إعجاب ~~وتقدير، فلا أخال روبنسون كروزو قد كتب حرفا وهو في عزلته بتلك ~~الجزيرة! # أما أنا فالذي أحتاج إليه حين أنوي الكتابة الفكهة أن أجد إلى جانبي إنسانا ~~يقول: «يا لله! هذا ظريف!» فإن لم أكن كتبت شيئا ظريفا إلى تلك اللحظة فإني ~~كاتبه بعد ذاك! # وقال ملن بعد أن ذكر أن أكثر النقاد إنما يلومون زيدا؛ لأنه لا يكتب مثل عمرو، ~~ويلومون ms056 عمرا لأنه لم يكتب مثل زيد: «إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود ~~أية مساعدة هو ما يجيء من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ~~ونظرته إلى الحياة، ثم هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطى شخصيته في هذا الموضع أو ~~ذاك، ولكن هذا النمط من النقد نادر، وهو مع ندرته لا يسهل على المؤلف أن يستفيد ~~منه، إذا كانت كبرى حاجته هي الثناء.» # وقال جون هاسال المصور: إنه لم ينتفع قط بالنقد؛ لأن طريقة التصوير الحديثة ~~بالألوان المائية ليس لها مراجع يعتمد عليها النقاد في البلاد ~~الإنجليزية. # وقال جيرالد جولد الناقد: إنه يتكلم باعتباره كاتبا ناقدا فيقول: إن للنقد ~~الإنجليزي اليوم منزلة عالية، وإن الغبن الذي يلقاه بعض المؤلفين عن حقد أو ~~حماقة لا يذكر إلى جانب ما قد يحف بهم من الفهم والسخاء. # وقال نورمان أونيل الموسيقي: «كان أقوم الانتقادات التي تلقيتها على أعمالي ما ~~جاءني من قبل إخواني الموسيقيين، ولكنني أقول إن التقدير هو الماء والغذاء ~~لمعظم الفنانين.» # وقالت السيدة أ. دوجلاس: إنها لولا مقال تقريظ قوبلت به أولى رواياتها لكان ~~أكبر ظنها أنها ما كانت لتثابر على الكتابة. # وقال سسل روبرتس الناقد: «أجترئ على أن أقول بلا تلعثم أن ليس للنقد أية قيمة ~~ما لم يكن مشفوعا بثناء، وأنني قد جربت في النقد على أن أدع الكتاب وشأنه، إن ~~لم يكن في طاقتي أن أقول فيه كلمة طيبة بين ثنايا المراجعة.» # هذه آراء طائفة من أشهر الفنانين في البلاد الإنجليزية يجنح أكثرها إلى جانب ~~الثناء، ويستصغر أثر النقد في الابتكار والتشجيع، وأصوبها على ما أعتقد هو رأي ~~ملن الذي قال: «إن النقد الوحيد الذي قد يساعد المنقود أية مساعدة، هو ما يجيء ~~من ناقد أقام الدليل على أنه يألف شخصية المؤلف وأسلوبه ونظرته إلى الحياة، ثم ~~هو يأسف لأن ذلك المؤلف قد تخطى شخصيته في هذا الموضع أو ذاك.» # فليس المؤلف المطبوع بحاجة إلى الثناء ولا إلى النقد، ولكنه بحاجة إلى الألفة ~~والفهم ms057 أو هو على الأصح بحاجة إلى المجاوبة والمجاذبة من النفوس التي تفهم ~~طبيعته فهم وفاق أو فهم خلاف، فقد تكون أنت على خلاف طبيعته في أكثر الأشياء، ~~ولكنك إذا فهمته وجاذبته الرأي أيقظت قواه، وأحييت ملكاته وأعنته على عرفان ~~نفسه والإخلاص لسريرته، وربما كان هذا الخلاف أذكى وأجدى عليه وأظهر أثرا في ~~التسجيع والتوليد من محض الثناء والإعجاب، فإنما حاجة الفنان أن يحس الحياة بكل ~~جوانبها، وهو لن يحسها حق الإحساس ما بقيت نفسه مغلقة في غلافها لا تتصل بغيرها ~~على وفاق أو خلاف، ولا يرى أثرها في النفوس على إعجاب وإنكار ولا تزال كلما ~~أرسلت إلى الملأ برسول ذهب إلى حيث لا يرجع، أو رجع إليها مثقلا بالخيبة ~~والكنود، فأما إذا هو اتصل بمن يوافقه فعرف نفسه مكررة في غيره أو اتصل بمن ~~يخالفه فسبر قوته وراض دخيلة طبعه، فتلك هي المرانة التي تحييه وتستجيشه وتنقذه ~~من شلل البطالة والجمود الذي يصيب القرائح والعقول، كما يصيب الأجسام ~~والأعضاء. # فالنقد الصحيح هو الذي يفطن إلى شخصية المنقود، ويألف عيوبها كما يألف حسناتها ~~ويطالبها بالأمانة لتلك العيوب، كما يطالبها بالأمانة لتلك الحسنات؛ وأجمل ~~الإنصاف أن تصاحب المؤلفين الذين تتخيرهم على هذه الشريطة فترضى بخيرهم وشرهم، ~~وتترقب آياتهم وزلاتهم وتماشيهم على خبرة بما يسرون به وما يسوءون، فإن أحسنوا ~~فنعم ما فعلوا وإن أخطئوا خطأهم المألوف فقد تبتسم لهم كما يبتسم الصديق لصديق ~~يثوب حينا بعد حين إلى لازمة فيه مضحكة أو شنشنة تعرفها من أخزم! وفي هذه ~~الحالة قد تلذنا العيوب كما تلذنا الحسنات، بل قد نبحث عن تلك العيوب ونتحراها ~~كما نستثير أحيانا لوازم أصدقائنا لنعبث بها في براءة وإشفاق. # لهذا يعيش بعض الشعراء مذكورا مألوفا بمائة بيت تروى له وتدل عليه، ولا يعيش ~~غيره بعشرة دواوين تحفظها المكاتب والقراطيس؛ لأن الأول قد استطاع ان يدل على ~~شخصه بأبياته المائة، فاقترب إلى النفوس وأصبح مفهوما عندها على الصداقة ~~والإلفة التي تغفر الزلة وترضي كل خلة، ولم يستطع الآخر أن يكون ms058 صديقا مألوفا ~~لقرائه، بل ظل صاحب أشعار وقصائد ليس إلا فخفي شأنه، وعاش أو مات بمعزل عن ~~أولئك القراء. # ولكن كيف ترانا نهتدي إلى الفنان الذي يستحق منا الصداقة واغتفار العيوب؟ ~~أترانا نصادق كل مؤلف، ونغفر كل عيب لأنه عيب! أم أن هناك غرضا نتوخاه قبل ~~سواه من النقد والاطلاع؟ وماذا يكون ذلك الغرض الذي يحسن بنا أن نتوخاه؟ # الجواب بديهي لا يطول بنا التنقيب عنه: إن النقد هو التمييز والتمييز لا يكون ~~إلا بمزية، والطبيعة نفسها تعلمنا سننها في النقد والانتقاء حين تغضي عن كل ما ~~تشابه، وتشرع إلى تخليد كل مزية تنجم في نوع من الأنواع، فسواء أنظرنا إلى ~~الغرائز التي ركبتها في مزاج الأنثى أم إلى الغرائز التي ركبتها في مزاج الفنان ~~- وهما المزاجان الموكلان بالإنتاج والتخليد في عالمي الأجسام والمعاني - فإننا ~~نجد الوجهة في هذا وفي ذاك واحدة، والغرض من التخليد هنا وهناك على اتفاق، أما ~~هذه الوجهة فهي الالتفات إلى المزية البارزة التي تظهر على غمار المتشابهات ~~والمنكرات، وأما هذا الغرض فليس هو إلا حفظ المزايا وتخليد النماذج وتنويع ~~الصفات، فالنقد الخالق هو النقد الذي يجري على سنة الطبيعة، أو هو النقد الذي ~~يعنى بحفظ النماذج وتخليدها، ويعرض لنا «الشخصيات» التي تبرز في الحياة بعنوان ~~جديد، وقد تكون مزية هذه الشخصيات أنها تريك الأشياء الدارجة كما هي بلا زيادة ~~ولا تجميل، فلا تعجب لذاك ولا تحسبه تناقضا في مقاصد الطبيعة، فإن رؤية ~~الأشياء الدارجة كما هي ليست من الدارج المألوف بين أصحاب الشخصيات ~~والملكات. # جد الشخصية أولا وكن أنت جديرا بإيجادها، ثم كن على ثقة أنك واجد لا محالة ~~ذلك المنقود الجدير بأن تحصي له الحسنات والعيوب، وهنا قد يكون المنقود شاعرا، ~~وقد تقرأ شعره بيتا بيتا فلا تقع فيه على بيت رائع أو معنى خالب أو أسلوب ~~رشيق، ولكنك إذا جمعته كله وقعت منه على شخصية برزت فيها الحياة بنموذج معزول ~~ذي عنوان ظريف، فهذا الشعر هو الذي يحفظ ويخلد؛ لأنه نموذج حي لو ms059 ظهر في عالم ~~الأجساد لبادرت الطبيعة إلى الإغراء بالنظر إليه والإغرام بحفظ نوعه والتنويع ~~في صفاته، أما في جماعة اللفظيين والحرفيين الذين ينقلون النقد من الشاعر إلى ~~شعره، فهؤلاء يدعون الشيء ليلهوا بظله، وينتقلون من الحياة إلى ما ليس له في ~~ذاته حياة. # وكأنا قد انتهينا إلى أن النقد الخالق هو ذلك النقد الذي يهتدي إلى «النماذج» ~~في عالم الآداب والفنون، وأن وظيفته هي إحياء كل نموذج يهتدي إليه بمجاوبته ~~وإذكاء فضائله وشحذ ملكاته، ولن يكون الناقد على هذه الصفة إلا إذا كان هو ~~نموذجا من الطراز الممتاز لا من الطراز الدارج المألوف. # | صورة1 # هذه الصورة أيها القارئ لا تدلك على الأصل إلا كما يدل الرسم على المرسوم والظل ~~على ملقيه، فإذا حسبت فرق الحجم حيث تدق الملامح في الصورة الصغيرة، وتبرز ~~للنظر على جلاء وتفصيل في الصورة الكبيرة. # وإذا حسبت الفرق بين النقل الشمسي والتصوير اليدوي في حسن الأداء ودلائل ~~الحياة، وتفاوت ما بين الحكاية الآلية والحكاية التي تستمد من الشعور والذكاء ~~والتخيل والإيحاء، وإذا حسبت الاختلاف بين التلوين البارع والتظليل المحكم، ~~وبين السدف الشائع الذي لا تختلف فيه مسحة عن مسحة، ولا لون عن لون، إذا حسبت ~~هذه الفروق بين الصورة التي تراها هنا، والصورة التي نقلت عنها، فأنت قادر على ~~تمثل الصورة المحكية في بعض جمالها وإتقانها، وبعض ما فيها من قدرة الفن ~~والتعبير. # على أنني بعد لا أعلم ماذا ترى أنت أيها القارئ في الصورة المحكية لو نظرت ~~إليها كما أنظر، وسرحت فيها بصرك وخيالك، كما وقفت أنا منها بين تسريح البصر ~~والخيال، فإنني أؤمن بالأطوار النفسية وما إليها من الأثر في إعجابنا بمنشآت ~~الفنون والآداب، واعلم أنك تنظر إلى الصورة، وفي ضميرك خاطر يمت إليها بنسب من ~~الإحساس والتفكير فتثير أشجانك وتستفتح مواطن التفاتك وإعجابك، وينظر إليها ~~غيرك وليس في ضميره ذلك الخاطر فيعدوه جمالها، أو يأخذ من نظره وخياله طرف ~~اللمحة العابرة والخيال المشغول، وقد ينظر المرء في وقتين مختلفين إلى الصورة ~~الواحدة، فإذا ms060 هي اليوم غير ما كانت بالأمس، وإذا بها كأنها عملان اثنان ~~عملتهما قدرتان وتمثلت فيهما نفسان وقريحتان، فإذا نظرت أنت أيها القارئ إلى ~~الصورة المحكية فلست أعلم ما شأنها عندك وأثرها في شعورك وتفكيرك، فإنما المعول ~~في هذا أكثر الأحيان على أطوار النفوس، وبدوات الأذواق، وسوانح الفكر، وإنما ~~يعجبنا الفن بشيء من أنفسنا كما يعجبنا بشيء من نفسه، ويندر أن يلتقي الشيئان ~~معا في جميع الأحيان. # غير أني لا أرى في احتياج الآثار الفنية إلى الأطوار النفسية التي تلائمها حري ~~أن يقدح في جمال تلك الآثار، أو يبخس قدرة الصانع الفنان، بل أقول: إن التقدير ~~الصحيح لا يتهيأ لنا إلا مع المشابهة في النظرة والمقاربة في الإحساس، فلا نقول ~~ثمة إن الإعجاب متهم الاستحسان ممزوج بالغرض والمحاباة بل نقول: إننا كنا أقرب ~~إلى الفهم الصادق والتقدير الصحيح، فرأينا من الأثر الفني ما لسنا نراه في غير ~~هذه الحال، وأدركنا من مزاج الفنان ما لسنا ندركه بغير هذا الاقتراب ، وإذا ~~ابتعدت خواطرنا من خواطر المصور، وتباين الجو الذي صنع فيه صورته والجو الذي ~~ننظر إليها فيه، فليس هذا بحجة على أننا أصلح - من أجل هذا - للحكم عليها وأجدر ~~بالإنصاف في عرفان مزاياها، بل هو أولى أن يكون حجة على خطأ الحكم وصعوبة ~~الإدراك، وإننا كنا محرومين من ذلك «التهيؤ» الذي لا غنى عنه في كل تقدير يتصل ~~بالخيال والشعور. # وكأن للنفس أبوابا شتى تطرقها من لدنها ~~صنوف الإحساس وفصائل الخواطر، فما يرد عليها من هذا الباب لا يرد عليها من ~~سواء، وما يخطر لها وهي مشرفة على جانب السماحة والرضا غير ما يخطر لها وهي ~~مشرفة على جانب التبرم والأسى، وما هو إلا أن يفتح الباب من أبواب النفس حتى ~~يستثني كل طارق عليه إلا ذلك الطارق الذي يليق به التقدم إلى ذلك الباب، فهناك ~~على الطريق مرحب موكل باللقاء والتمييز يأذن للخواطر المدعوة، ويصدف عن خواطر ~~التطفل والفضول، وإنها لفاتحة تبتدئ ثم تطرق اللواحق على وتيرتها، ثم ما هو إلا ms061 ~~أن تجوز الطارقة الأولى وتأخذ مكانها حتى تفرغ النفس لضيوفها التي تفد عليها ~~رتلا بعد رتل من حيث فتحت لهم هي باب القبول. # وهذه الصورة أيها القارئ هي صورة فتاة حزينة على قبر صديق فقيد. كيف أعجبتني ~~حين نظرتها أول مرة ومن أي باب وردت على نفسي في تلك اللحظة، فخلت فيها محلها ~~من الأنس والكرامة؟ لست أدري! ولكن لا عليك أيها القارئ أن تقول كما أقول أنا ~~ساخر الشفتين يوم تلح بي هذه الخواطر: هي النفس مفتوحة اليوم على حي المقابر من ~~هذه الحياة الحافلة بالأشباح والقبور، الزاخرة بالعظام والأشلاء! # كان يوم ضقت فيه بالمدينة ومن فيها، ونزعت ~~إلى رحب الفضاء وفسحة الطلاقة والذكرى، وفي المطرية حيث تتلاقى رحاب الفضاء ~~ساكنة خاوية، ورحاب التاريخ صامتة فانية مجال للعبرة من طريقين، ومتسع للصدر من ~~جانبي المكان والزمان، فذهبنا مع بعض الصحاب إلى المطرية، وقصدنا إلى متحف ~~المصور الفاضل «شعبان زكي»، فرأينا هناك هذه الصورة بين ودائع كثيرة لصاحبها ~~الأستاذ محمد حسن الذي يتم دراسة التصوير الآن في المعاهد الإيطالية، وإنها ~~لنظرة واحدة وقفت عليها، ثم ثبت النظر عندها لا يرام عنها، واجتمعت هواجس النفس ~~ومطارح الفكر حولها، فرأينا ثم آية من آيات التصوير تقل مثيلاتها بين آيات ~~الأساتذة المبرزين في ذلك الفن الجليل، وشعرنا كأن للصور هواتف وأرواحا تجتذب ~~إليها العاطفين والمعجبين على نأي المسافة وتفرق الهموم، وكأن هذه الصورة هي ~~التي استدعتنا حيث كنا لنؤم مكانها ونشهد قصتها ونقضي لها حقوق تحيتها، وكأنها ~~هي التي ألقت علينا من ظلها فشملتنا في ذلك الجو الخاشع الذي ساقنا إليها كما ~~تتعطش الأرواح المنسية إلى نفوس أحبابها، فهي تومئ لها في رواية الأقدمين بوحي ~~الذكرى، ودعوة الحنين إلى ارتياد مزارها وتجديد الأسف عليها. # أيها القارئ، إننا نظلم الصورة إذا حسبنا عليها فضلا نمن به عليها من مشابهة ~~الخواطر وتهييء الشعور، فالحق أنها هي في ذاتها وافية المعاني غنية بفضل ~~إتقانها عن فضل تلك الصبغة التي يصبغها بها من ينظر إليها، وهي واحدة ms062 من الصور ~~القلائل التي تجيء بها القريحة الملهمة على أتم مثال يبلغ إليه متأمل أو يطرأ ~~على الخيال، فإن شئت دليلا على ذك فانظر كيف كان يمكن أن يصور هذا الموقف على ~~وجوه كثيرة يتخيلها المتخيل قبل الشروع فيها، ثم انظر كيف اهتدى مصورها البارع ~~إلى الوجه الوحيد الذي هو أجمع لمعانيها، وأليق بموضوعها، وأشبه بحظها من ~~الوقار والجمال. # فقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يبدي لنا الفتاة الحزينة في صورة التفجع ~~والقنوط، ويكون ذلك في بادئ الرأي أقرب إلى المقصود، وأقمن أن يلعج الحزن ~~ويستدر الدموع، فلو أنه فعل ذلك لأبلغ في رأي السذاجة والذوق الغرير، ولكنه يضل ~~محجة الإلهام، ويذهب بهيبة المقام، ويحد الخيال عن الاسترسال فيما وراء ذلك ~~المنظر الذي تناهى به الحس إلى نهايته، وانصرف فيه إلى غاية منصرفة! وكان ~~يحرمنا جلال هذا الصبر الذي كأنما يعتب على المقدار ولا يثور عليه، وكأنما يحلم ~~بالحزن في غفوة التسليم، ولا يعالج كربته في عالم المنظور والمسموع، وكأنما ~~يشفق أن يتوله بالألم في حضرة ذلك المزور الذي يأبى أن يظهره على غير التجمل ~~والسكون، فكان جهد ما يرتقي إليه المصور أن ننظر إلى الفتاة فنقول: مسكينة هذه ~~الفتاة الجزوع! وأين هذا من نظرة نرفعها إليها الساعة فنطامن الأنظار، ونحني ~~الرءوس، وتتراجع لديها بين يدي حرم مهيب من الصيانة والوقار. # وقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يجعل الفتاة على الضريح، أو مستندة إليه، أو ~~جالسة إلى جواره، فلو أنه فعل ذلك لما تعدى حدود الواقع الذي نشهده في بعض هذه ~~المواقف، ولكنه كان يقضي على الخوف الذي نراه ها هنا يحف بمدخل الفتاة إلى ضريح ~~العزيز الفقيد، وكان يمحو عن الموقف هيبة تلك الحركة تقترب بها في حذار وشجو ~~إلى قبلة خطواتها المثقلة ومطمح طرفها الكليل، والتي هي بحركات النفوس المعنوية ~~أشبه منها بحركات الأقدام والأجسام، وعلى البعد السحيق الميئوس منه أدل منها ~~على القرب الماثل الميسور، بل هو كان يطمس معالم تلك الخطوة المتروكة التي هي ms063 ~~على قربها تمثل لك بعد الهاوية المستحيلة بين الحياة والموت وبين الحزين القائم ~~على الثرى والفقيد المغيب تحت التراب. # وقد كان وشيكا أن يخطر للمصور أن يضع المنديل على عيني الفتاة فذلك هو موضع ~~المنديل في حيث يكون البكاء، ولو أنه فعل ذلك لما لامه أحد من الذين يطالبونه ~~بحرف التصوير ولفظه، ويغفلون عن غرضه ومعناه، ولكنه كان يحجب عنا وجها حزينا ~~ليرينا قطعة من القماش المبلول، وكان يرينا البكاء عملا ماديا قوامه الجفون ~~والأهداب وقطرات الدموع، ولا يرينا إياه حالة في النفس يستحضرها الخيال بما ~~يقارنها من الأشجان والحسرات والإجهاش والانتظار، أي حالة لا يكون المنديل ~~والدموع معها إلا علامة تشير إليها كعلامات النقوش الفرعونية تلوح أو لا تلوح ~~على حد سواء، وفي مثل هذا البكاء يقول أبو الطيب: # ورب كئيب ليس تندى جفونه # ورب ندي الجفن غير كئيب # وللواجد المكروب من زفراته # سكون عزاء أو سكون لغوب # هذا هو البكاء الذي رسمه لنا صاحب الصورة بغير دموع ولا زفرات، وهذا هو السكون ~~الذي تراه على تلك الطلعة الباكية فلا تدري أسكون عزاء هو أم سكون لغوب. # بل لقد كان يسع المصور أن يبدي لنا الفتاة في شارة غير هذه الشارة، وإطراقة غير ~~هذه الإطراقة، ونظرة غير هذه النظرة، ووقفة غير هذه الوقفة، فلا يطالب بنقص ولا ~~يحتج عليه بخلاف، ولكنه اختار في كل شيء فأحسن الاختيار، وقاس المناظر والضمائر ~~فاهتدى إلى أتم قياس، ومثل لنا الشخوص البادية، ومثل لنا ما وراء الشخوص من قصة ~~محجوبة، وتاريخ مجهول، فأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم علما لا شك فيه ~~أن الفتاة لم تقف على ذلك القبر موقف البنت على قبر الوالد، أو الأخت على قبر ~~الشقيق، وإنما هي وقفة حليلة على قبر حليل تذكر له عشرة الروح، ومودة القلب، ~~وتفي له وفاء من فقد الأليف والزميل، وأنت تطلع على الصورة لأول وهلة فتعلم ~~علما لا شك فيه أن الحزن فيها حزن قديم، والرقدة في ذلك القبر المستور رقدة من ms064 ~~مضت عليه أيام وأيام وشهور وشهور، وأن حنينا يدوم بعد فقيده هذا الدوام لهو ~~الحنين الشريف الذي لا تعفي عليه دواعي الحس ولا تنسيه غواية الأجساد، ولا ~~تمليه إلا ذكرى تعلق بالقلب الكسير والروح المشطور، وماذا نريد من مصور يعرض لك ~~صورة فتاة حيال ضريح فإذا أنت أمام قصة وأمام تاريخ، وأمام وصف لا يعرفه ~~العارفون إلا بالخبرة والسؤال؟ بل ماذا نريد من مصور يعرض لك رقعة صامتة، فإذا ~~هو يقول لك فيها كل ما يمكن أن يقال في موضوعها بالريشة والألوان، وإذا هو يعرض ~~لك في مساحة تلك الرقعة أقوى جبارين يجدون ويلعبون في رقعة الحياة، وأقدر ~~ممثلين يتناوبون بيننا مصارع الغابرين والحاضرين، يعرض لك الجمال والشباب، ~~والحزن والموت، يحدثك كل منها حديثه، ويفضي إليك كل منها بنجواه، ويقف من ~~الرقعة موقفه الذي لا عي فيه ولا إسراف، تلك هي الغاية من التصوير، بل هي ~~الغاية من كل فن جميل، وتلك هي الغاية التي اهتدى إليها مصورنا الألمعي ~~القدير. # ولقد أطلنا النظرة في الصورة، وأطلنا الحديث فيها، ونسينا يومها الفضاء وما جاء ~~بنا إلى الفضاء، واستعرتها من صديقنا الأديب فأقمتها على مكتبي بحيث ألقاها في ~~الصباح والمساء وأستقبلها كلما أخذت في القراءة والتفكير، ولو تألف الأشباح ~~عينا تدمن النظر إليها قد بات يألفني هذا الشبح الشاخص عند ذلك الراحل الدفين، ~~ولقد بات يصغي إلى مناجاة تهم بها شفتاي وفيها كل إعجاب، وليس فيها أثر مما ~~يلوح عليها من ملام، وكأنه يسمعني في تلك المناجاة أسائله مساءلة المشفقين: ~~أيتها الفتاة إلى أين! إلى القبر في هذه المسوح وفي هذه الكآبة وفي هذا المحيا ~~الوضيء؟ عليك يا بنية سمة الملاحة وفيك مرتغب يا بنية للراغبين، ووراءك الدنيا ~~يا بنية تفيض بالأفراح والأطماع، ويتسابق فيها المتسابقون على إرضاء الجميل، ~~وتضحك لها الرياض عن نضرة الريحان، وتطلع عليها الكواكب باللمح والابتسام، ~~وتنشدها الصوادح أناشيد الحب والرجاء، وأنت زينة من زينتها تهجرينها كلها، ~~وتدبرين عنها كلها، وتقبلين على هذه الحجارة المركومة فوق ذلك الجسد ms065 ~~المحطوم؟ # نعم لو تصغي الأشباح إلى الناظرين، لقد كان يسبق إلى ذلك الشبح أنني أعجب له ~~هذا العجب، وأناجيه هذه المناجاة، ولقد كان لعله يقول وهو يجيب جواب الأشباح: # إن من يذكر لينسى، وأي ذاكر لم ينس الدنيا وما فيها حين يقبل على ~~الذكرى؟ وأي ذاكر لا ينسى الدنيا حين يرجع عما حوله إلى غابر كان ~~حوله يوما، ثم طواه الزمان طي الفناء. ألا إنها هي الذكرى، ألا ~~وإنها هي أعلى من الدنيا، وهي أعلى من الرياض والكواكب والأناشيد، ~~وهي أعلى من الإنسان! بل هي أعلى من صاحب الذكرى، لو عاد من غابره ~~المطوي إلى جوار الحياة! # | ليسستراتا1 # ليسستراتا هو اسم امرأة أثينية أثارت بنات جنسها على الرجال، فأقسمن ألا ~~يقاربنهم أو يعقدوا الصلح الذي يردنه، ولكنهم لم يلبثن أن تركنها وارتمين في ~~أحضان الرجال! # وليسستراتا هو اسم رسالة تبحث في موضوع المرأة الناقمة في هذا العصر وفي ~~المستقبل، وهي إحدى رسائل تبلغ الخمسين يصدرها في إنجلترا بعنوان «اليوم وغدا» ~~رهط من رجال الفكر والأدب والفن، يختارون لكل رسالة نبوءة عن المستقبل في بعض ~~الشئون، ويتخذون لها اسما قديما من أسماء أبطال التواريخ والأساطير، فهي من ~~الأمس في التسمية، ومن اليوم في التأليف، ومن الغد في موضوع النبوءة الذي تدور ~~عليه. # صاحب هذه الرسالة التي نحن بصددها هو «ليودفتشي» أحد الحواريين النيتشيين الذين ~~يدعون إلى مذهب المفكر الألماني في بلاد الإنجليز، وهو من المغربيين في النزعة ~~وأسلوب التفكير، ولا غرابة في ذلك فهذا أوان الإغراب وعصر الإعلان الذي يكثر ~~فيه إلحاح المؤثرات على حواس الناس، فلا يظفر منها بالالتفات إلا من بذ غيره في ~~التنبيه والإزعاج، فإن شئت أن تسمي مدرسة العصر الحديث في العالم كله باسم يدل ~~عليها، وعلى مكان الحقيقة من فلسفتها فسمها «مدرسة الإعلان» وانتظر عندها من ~~البريق والزعيق ما تنتظره عند فن الإعلانات الأمريكية والحروف النارية التي ~~يتلألأ بها الفضاء ثم يواريها الظلام بعد عمر طويل أو قصير، وكن سعيدا راضيا ~~بالغنيمة إذا ظفرت تحت ذلك ms066 الإعلان «بمحل تجارة» تباع فيه بضاعة نافعة وصنف ~~جديد. # من بريق هذه الرسالة وزعيقها نظرتها إلى المستقبل على ضوء الإعلانات الأمريكية ~~والحروف النارية، فماذا يكون مستقبل المرأة الناقمة، وماذا يكون مستقبل الرجل ~~المنقوم عليه؟ سترى عما قريب! # مستقبل المرأة الناقمة إذا صارت الأمور إلى أقصاها، أن تستغني عن الرجل ~~وتستضعفه وتقضي بالموت على كل ذكر ينتج نسلا بغير الطريقة العلمية التي ~~يستخدمها بعض العلماء في إلقاح الإناث بمادة الذكور. ذلك أن الآداب الفاشية بين ~~الناس في هذا الزمان آداب تنكر الجسد وتزري بمطالبه ونزعاته، وتغلب ما تسميه ~~بالأشواق الروحية على ما تسميه بالميول الحيوانية، فلهذا فترت رغبة المرأة في ~~الحياة، وتمردت على الرجل، وأشاع الناقمات من النساء أن العلاقة بين الجنسين ~~علاقة دنس وهوان خير منها التبتل والانفراد، وأصبحت المرأة الآن تؤثر الشهرة ~~والخطر على العاطفة والخالجة النفسية، فهي سائرة إلى التألب والتآزر والمطالبة ~~بالحقوق السياسية، والمزاحمة على أعمال الرجال في المصانع والأسواق، وسيعكف ~~الرجال على الرياض العسكرية والمهارة في الألعاب، فينشأ منهم جيل سهل المقادة ~~للنساء مذ كان هذا الطراز - طراز العسكريين واللاعبين - هم أطوع الرجال للمرأة، ~~كما قال أرسطو في الزمن القديم، وستكون قوة التمرد ومرارة السخط ونخوة الحنق ~~الأدبي أبدا في جانب المرأة، فهي بهذه القوة تقهر الرجال وتزحزح الجنس الغالب ~~رويدا رويدا من مكان السيد إلى مكان الماهن الأجير، وسوف تزداد الأبدان ضعفا ~~وتزداد الأمومة مشقة، وتزداد المسرات الجسدية نكرا وقبحا فيزداد التبتل ~~شيوعا، ويجيء اليوم الذي يصبح فيه الرجل ولا شأن له في الحياة إلا الجندية ~~وإنتاج البنين، فتأنف المرأة أن تعاشره لغير غرض إلا أن تلد له وتربي أولاده، ~~وتتولى المعامل إلقاح النساء بالوسائل الصناعية، كما تتولى الآن إلقاح الأطفال ~~بأمصال الجدري والحميات، ويأتي يوم يرتفع فيه سن الرضا في المرأة إلى الثلاثين ~~أو الخامسة والثلاثين، أو ما فوق ذلك، فيقضى بقتل الرجل الذي يغري المرأة دون ~~تلك السن أو بخصيه! وينظر إلى النساء الباقيات على سنة الطبيعة في الحمل ~~والمعاشرة نظرة ازدراء واستهزاء ms067، وما هي إلا فترة ثم يستغنى عن الرجل الجندي، ~~ويكمل إتقان الصناعات الآلية؛ لتصبح إدارتها في سهولة الترقيم على الآلة ~~الكاتبة، أو غلي الشاي، فتحل البنات محل الشبان في الجيوش والمعامل، وينتهي ~~الأمر بأن يحور الرجل، وقد فقد رجحان الروح والجسد، وفقد رجحان الزوجية والحب، ~~وفقد رجحان المهارة الآلية والشجاعة الجندية، فيستكثر عدد الرجال ويستحيي منهم ~~بالقدر اللازم لحفظ اللقاح الصناعي، وينحى على البقية قتلا كما تنحى إناث ~~النحل على ذكوره، بحيث تقتصر النسبة بين الجنسين على خمسة من الرجال لكل ألف من ~~النساء، وربما أغنى عن هذه المذبحة علم ما في الأرحام فتحفظ ذرية الإناث، ~~ويكتفى بتربية نصف في المائة من ذرية الذكور في كل عام، وهكذا إلى خاتمة هذه ~~الرؤيا السوداء التي تضل بها البصيرة في ظلام فوق ظلام! ~~••• # هذه هي العاقبة إذا صارت الأمور إلى غايتها: ويقول المؤلف إنها رؤيا قد تظهر ~~عليها مسحة الغرابة ولكنه يستحمق الإعراض عنها والاستخفاف بها لهذا السبب، ~~ويحسب أنه يجد ولا يهزل، ويتأمل ولا يتخيل، حين جمح بالوهم إلى تلك العاقبة ~~التي لم يحلم بمثلها حالم من أصحاب النبوءات الخارقة عن إرهاصات القيامة وعجائب ~~آخر الزمان! # إن صاحبنا «ليودفتشي» لم يخلص التلمذة لنيتشه في هذه النبؤة الجامحة، ولو أنه ~~كان لأستاذه الكبير ذلك التلميذ النجيب الذي يريد أن يكونه، لعلم أن شطط الرؤيا ~~إلى تلك النهاية مستحيل في الحقيقة وغير مقبول في الخيال، وأن المرأة قد تعرف ~~قوة السخط الأدبي وقد تغلب بها أحيانا، ولكنها لا تنشئها ولا تثابر عليها ~~جيلا بعد جيل بمعزل عن إيحاء الرجل وإمداده القريب، فالمرأة ما خلقت فيما مضى ~~ولن تخلق بعد اليوم «قانونا خلقيا» أو نخوة أدبية تدين بها وتصبر عليها غير ~~ذلك القانون الذي تتلقاه من الرجل، وتلك النخوة التي تسري إليها من عقيدته؟ ولو ~~ظهرت في الأرض نبية بمعزل عن دعوة الرجال لما آمنت بها امرأة واحدة، ولا وجدت ~~لها في طبيعة الأنثى صدى يلبيها إذا دعت إلى التصديق والإيمان، وإنما المرأة ~~تؤمن ms068 بالرجل حين تؤمن بالنبي وبالإله، وتسخط سخط الرجل حين يسخط عن تدين ~~واعتقاد، وليس بالمستحيل أن يتمرد النساء على الرجال، ويعلن النقمة والعصيان، ~~ويطلبن الحقوق وشريعة المساواة، ولكن سخط العقيدة الذي يزعمه ليودفتشي ناصرا ~~للمرأة على الرجل جيلا بعد جيل وطبقة بعد طبقة مستحيل لا يتخيله من عرف تاريخ ~~المرأة فيما مضى، وعرف طبيعتها في كل زمان، وربما قيل: إن المرأة حين تسخط ذلك ~~السخط إنما تسخط بقوة اهتمامها بالرجل وقوة حقدها عليه، فهي على كل حال تستوحي ~~منه العقيدة، وهو على كل حال موضوع هذا الاعتقاد. قد يقال هذا وقد نستجيزه في ~~بعض الأحوال الفردية التي تكون فيها الثورة على رجل، أو على رجال، وليست على ~~«الرجل»، أو على «الرجال»: ولكنا لا نستجيزه في ثورة طويلة كالتي يتخيلها ~~ليودفتشي تثابر عليها المرأة مئات السنين إلى ذلك الأمد البعيد. ~~••• # ولكن لماذا لا نحسب تلك النبوءة على جانب الإعلان الذي قلنا إنه عنوان الفلسفة ~~في هذا الزمان؟ احسبها أيها القارئ على جانب الإعلان، وانظر إلى البضاعة لعل ~~فيها ما يستحق مؤنة البحث والاقتناء. # أما البضاعة في لبابها فهي أن غلو الآداب والأديان في احتقار الجسد قد عودنا أن ~~نغتفر العيوب الجسدية، ونبيح الزواج بين الضعاف الذين لا يتذوقون فرح الحياة ~~ومتعة الأشواق والأهواء، وأن هذه العادة قد أثارت طبيعة المرأة على الحياة، ~~ورفعت هيبة الرجال من نفوس النساء فتطلعن إلى المساواة والاستقلال، وأضعن ميل ~~الغريزة ورضا الأنثى بحظها في الحياة وجاءت أزمات المعيشة الحديثة فألجأت ألوف ~~النساء إلى العزلة، وطلب القوت فشاع بينهن الغضب على الدنيا، وأشربت نفوسهن روح ~~الثورة والانتقاض، فللمرأة في هذا العصر ثورة خلاصتها أنها ثورة أجساد مغبونة، ~~ومعدات جائعة، وحب معكوس يتزيا بمظهر الحقد والبغضاء. # هذه هي خلاصة الحركة النسائية في مذهب ليودفتشي، وهي على ما نظن خلاصة معقولة ~~تصلح للانتقاد. # إلا أننا نسأل: هل الآداب هي التي خلقت احتقار الجسد، وما زالت بنا حتى اغتفرنا ~~عيوبا في الأبدان والأعضاء لم يكن يغتفرها الأولون؟ أو أن احتقار ms069 الجسد وسآمة ~~اللذات، وأسبابا أخرى غير هذه الأسباب هي التي خلقت الآداب وأنشأت لنا معايير ~~للتقويم والتقدير هي معايير الأبدان والأعضاء؟ والذي نرجحه نحن أن احتقار الجسد ~~قد نشأ بعد أن أصبح الجسد حقيرا حقا عن ضعف أو عن ابتذال في عرف الكثير من ~~الضعفاء والأقوياء، وأن العصر الحديث لا يدين لسلطان الأديان وآداب الوراثة ~~والتقليد في كل ما يشعر به من آداب احتقار الحياة وسآمة الأفراح، وإنما هو ~~ينطوي على عوامل كثيرة قادرة على أن تعيد هذه الآداب سيرتها الأولى لو بطلت ~~اليوم كل الآداب الموروثة عن الأقدمين، فالعقائد لا تتهم بإضعاف الأبدان ~~واحتقار الحياة، ولكنه هو ضعف الأبدان، وهي حقارة الحياة هما البادئان بإنشاء ~~العقائد التي يحاسبها ليودفتشي على عيوب هذا العصر الحديث، وهيهات أن تكون لذات ~~الجسد حقيرة في عقيدة مقبولة تسيغها الطباع لو لم تكن لذات الجسد حقيرة في ~~الواقع المحسوس قبل أن تخطر تلك العقيدة على بال إنسان، ونظن أن ترف المدينة ~~وإهمال الفاقة هما سر العقيدة التي نشأت في القدم، وتنشأ اليوم وبعد اليوم ~~مبغضة في الحياة مزرية باللذات مغرية بالتشاؤم والأنفة من رق التكاليف. بل نظن ~~هذه العقيدة بركة في بعض نواحيها وذخيرة أعدتها الطبيعة لمكافحة الابتذال، ~~والتهالك على صغائر الحياة كلما أفرط الناس في الشهوات، وأمعنوا في ابتغاء ~~اللذات، فهي علاج يناسب الداء وليست بداء يحتاج إلى علاج، وهي أصلح من الإيمان ~~بالجسد وحده لإبقاء العصور التي تشكو الضعف، وتتبرم بحقارة الحياة؛ لأن الإيمان ~~بالجسد وحده يزيد الضعيف غيا، ويدفع بالجوى إلى طريق الضعف والغواية أما ~~إنكار الجسد - وهو تلك العقيدة التي تدخرها الطبيعة لمثل هذه العصور - فهو علاج ~~عاصم يعين على ضبط النفس وكبح النزوات، وهما ملاك قوة القوي، وأحوج ما يحتاج ~~إليه الضعيف. ~~••• # وثم سؤال آخر وهو: هل يستطاع في حالة الحضارة أن نجعل المعايير الجسدية هي ~~الحكم الفصل في قيم الرجال والنساء؟ ونقول نحن: لا، إن الحضارة أعرف بالقصد من ~~الهمجية، وأدرى بوسائل الادخار والاستنباط، فالهمجية تستفيد بصفة واحدة ms070 في ~~الإنسان، أما الحضارة فتستفيد بكل ما في الناس من الصفات والملكات، فمطالبها ~~موزعة وصفات أبنائها موزعة كذلك على حسب تلك المطالب، وهي في حاجة إلى القوة ~~والحيلة والذكاء والذوق والابتكار والجمال والأناقة والدمامة والخشونة، وكل ما ~~تقوم به العلاقات المتشعبة بين الناس، وهي لا تقوم على عنصر واحد ولا يتاح أن ~~يجتمع عناصرها كلها في فرد واحد، فمن هنا تختلف المقاييس ويتفاضل الناس بصفات ~~كثيرة غير صفات الأبدان والأعضاء، فيرجح الذكي على من هو أقوى منه إذا كان هذا ~~محروما من الذكاء، ويفلح الكبير النفس حيث يفشل من هو أصح في الجسم وأجمل في ~~ظاهر الرواء، وتحفظ هذه الصفات الكثيرة بهذا التفريق في الميول وهذا التباين في ~~الاختيار. # فالإيمان بالصفات الحيوانية وحدها ليس بالميسور في الحضارة ولا هو بالمشكور، ~~والاختلاف في الملكات لا يكون إلا بتضحية محتومة يزيد فيها نصيب وينقص نصيب، ~~وجهد ما نستطيعه في هذا الأمر أن نمنع المرض، ونحظر التناسل بين من لا يرجعون ~~للأبوة والأمومة، أما اختلاف المقاييس فقضاء مبرم على الحضارة لا محيص عنه ولا ~~داعية لاجتنابه. # لهذا نعتقد أن شكوى المرأة في الحضارة قديمة، وليست بالطارئ الجديد الذي أحدثته ~~عقائد الأديان أو احتقار الأجساد، وإن أسباب الحركة النسائية عريقة في التاريخ، ~~وجدت على درجات متفاوتة في الشدة والرفق، أو في الظهور والضمور، فإذا تغير منها ~~المظهر والصيغة في عصرنا هذا فذلك مرجعه إلى سببين مقصورين على هذا العصر ~~الحديث: أولهما أنه عنصر «الاجتماعات»؛ لأنه عصر المدن والصناعات، وثانيهما أنه ~~عصر ديمقراطية تبث عقيدة المساواة بين جميع الأفراد، وتتلو عصر الفروسية التي ~~ارتفع بالمرأة في أوربا إلى ذروة القداسة والتبجيل، فحركة النساء اليوم تبدو في ~~هذا المظهر الجديد بما تأخذه من حقوق الديمقراطية وتراث الفروسية ودعاوى ~~المساواة، وآلات التعاون والتنظيم، وطموحها إلى المساواة في الحقوق والواجبات ~~لغط لا يدوم إلا ريث أن تسفر التجربة عن غايته المصطنعة، وغوره القريب. # | ثاميرس أو مستقبل الشعر1 # في بعض الأساطير القديمة عن التيوتون # 2 # أن الملك روفائيل يهبط في ms071 يوم الأرواح من كل عام إلى حارس الجحيم ~~التي تحبس فيها آلهة الوثنية المخلوعة فيأمره بإطلاق عرائس الشعر التسع ليصدحن ~~بالقصيد على مسمع من «يهواه»، # 3 # ورفيق السماء الأعلى، فيتقدم السيدات المسكينات إلى تلك الحضرة ~~المرهوبة الجافية، ويأخذن في إصلاح أعوادهن كارهات متكلفات، ويبدأن بنشيد ~~إغريقي قديم لعله كان بعض أناشيدهن في مهرجان الأوليمب، # 4 # أو لعله كان بعض أناشيدهن في يوم زفاف قدموس # 5 # على هارمون، فيلوح على أنغامهن في بادئ الأمر شيء من النشوز تنكره ~~الآذان السماوية الشريفة التي لم تألف في مقرها العلوي غير أصوات التسبيح ~~والعبادة، ولكن ما هي إلا هنيهة حتى يشعر الملائكة على غير علم منهم أنهم ~~أطربوا للنغم، واهتزوا لتلك الألحان التي تبعث الشجن وتحرك رواقد النفوس، وتنوء ~~بكل ما في قلوب بني الإنسان من صرخات وأهواء، ولا يزلن في حنين وأنين حتى ~~تتهاوى الدموع على تلك الوجوه النورانية ويعلو النشيج في باحات السماء. # ففي يوم ليس بالبعيد من هذه الأيام السنوية رغب بعض أدباء الملائكة إلى العرائس ~~المباركات - بعد أن فرغن من أداء البرنامج - أن ينشدنهم طرفا من الشعر الذي ~~ظهر بعد العهد اليوناني وهن لا يعرفنه أو لا يعرفن إلا اليسير منه! فلما بدا ~~العجز على العرائس ولم يقدرن على شفاء ذلك الشوق في نفوس الملائكة الأدباء تقدم ~~الشيطان - وكان في زيارة من زياراته التي رأينا في كتاب أيوب أنه يتسلل فيها ~~حينا بعد حين إلى بلاط يهواه - فألهاهم بضع ساعات بأناشيد شتى مما التقطه هنا ~~وهناك في رحلاته التي لا تنقضي على جوانب الأرض، فطرب سامعوه لأول أصواته ~~واستطابوا روايته وأنشدوه؛ إذ كان الخبيث ماهر الأذن والذاكرة، وكان يعي أحسن ~~الوعي أناشيد الشعراء الذين كانوا يرتلون القصيد على مسامع الأمراء، أو بين ~~سواد الدهماء في العصور الوسطى، ولكنها فترة عارضة ثم يسري إلى غنائه شيء من ~~الاختلاف ويجم القديسون والملائكة ويدب إليهم الضجر والملالة ويحسون أن عنصر ~~التلحين - بل عنصر الترتيل بعد التلحين - يخفى رويدا رويدا حتى يجدوا آخر ~~الأمر أنهم يصغون إلى ms072 كلام يقال كما يقال كل كلام عار عن اللحن والتوقيع، وأي ~~كلام؟ لقد كان القديسون والملائكة يألفون السجع في صلواتهم ويحبون سماعه. ~~ولكنهم ما لبثوا أن فقدوا حتى السجع في الشعر الذي كان يلقيه الشيطان عليهم، ثم ~~فقدوا الوزن، ثم فقدوا كل معالم ذلك الكلام المقفى الموزون، وما هو إلا أن ألقى ~~الشيطان عليهم درته الأخيرة من درر الشعر الأمريكي المرسل حتى حيوه كما حيي قبل ~~دهور ودهور في جهنم بصفير مطبق من السخرية والاستهجان! وفر العرائس لائذات ~~بأبواب الجحيم، وابتسم الشيطان، وانحنى ثم تراجع منصرفا؛ لأنه تعود طول عمره ~~أن يجفل من علامات الاستهجان والنفور. # ونقر جبرائيل رئيس العازفين نقرة بعصاه على المنضدة، فإذا الرفيق الأعلى يطهر ~~آذانه المخدوشة بعد فترة قليلة بنشيد غريغوري جليل. # 6 # بهذه الأسطورة التي بعضها قديم وبعضها حديث، استهل تريفلان رسالته «ثاميرس» عن ~~مستقبل الشعر في عالم الآداب، وتريفلان شاعر من شعراء العصر في بلاد الإنجليز، ~~وثاميرس شاعر قديم في بلاد اليونان قيل إنه تسامى إلى تعجيز عرائس الشعر فضربنه ~~بالعمى حسدا وانتقاما، وتركنه يبكي مصابه بقصيد يفوق كل قصيد، والرسالة إحدى ~~رسائل «اليوم وغدا» التي أشرنا إليها في مقالنا السابق. # ولو شاء تريفلان لأتم الأسطورة على صورة غير هذه الصورة، فكان لا يعود الصواب ~~ولا يظلم الخيال، ولو شاء لدعى بالعرائس إلى حضرة «ديموس» # 7 # الإله الجديد، ولم يدعها إلى حضرة يهواه الإله العتيق: ولأرانا ~~كليو «ربة» التاريخ تقبل بقلمها وقرطاسها وإكليل الغار في يدها لتسمعنا سير ~~الأبطال مرتلة في نوابغ الأقوال، وأحاسن الأمثال، ويوتيرب ربة اللحن تقبل ~~بنايها الجميل، وزهرها البليل؛ لتشدو لنا بغرر الأوزان موقعة في بدائع الألحان، ~~وثاليا ربة شعر الرعاة تقبل بالعصا المعقوفة، والنقاب المسدول، والزهرات ~~الآبدات؛ لتهتف لنا بذلك النغم الساذج الشجي الذي تسلي به رعاتها في ليالي ~~القمر ومروج الخلاء، وملبومين ربة المأساة تقبل بتاجها المذهب، وخنجرها ~~المشهور، وصولجانها المرفوع؛ لتقص علينا فواجع الأسى ومشاهد المحنة والجوى، ~~وتلقي علينا عبر الأيام وصروف الغير وأحكام القضاء، وتريبسكو ربة الرقص تقبل ms073 ~~بتلك القدم الرشيقة الطائرة؛ لتخف بنفوسنا إلى سماء المرح، وأجواء الطلاقة، ~~وأريحية الخيلاء الموزونة، والطرب المنظوم، وأرانو ربة الغزل تقبل بقيثارها ~~الحزين؛ لتعيد على القلوب بكاء العاشقين، وأنين المهجورين، وحسرات الوله، ~~وصرخات الحيرة والقنوط، وبولهمينا ربة البيان تقبل بصولجانها الحاكم على كل ~~صولجان لترسل في أسماعنا سحرا من البلاغة، ونشوة من الحمية، ووحيا من ~~الإيمان، وكاليوب ربة الحماسة تقبل بإكليلها المجيد لتنهض فينا عزيمة البطولة، ~~وتقحمنا مخاطر الموت، وتفتح لنا مآزق الفداء وساحات الخلود، وأورانيا ربة الفلك ~~تقبل بمراصدها لتكشف لنا وجه السماء، وتناجينا بسرار الكواكب في رحيب الفضاء، ~~نعم لو شاء الشاعر لعرض علينا هؤلاء العرائس الفاتنات في تلك الزينة الخالدة، ~~وذلك السمت الإلهي ليسمعنا - ماذا أقول؟ أستغفر الإله ديموس - بل ليسمعن ~~«ديموس» صفوة ما نظمن، وخلاصة ما أوحين وغنين، ويرفعن إلى عرشه تلك الأصداء ~~التي تنوء بكل ما في قلوب بني الإنسان من صرخات وأهواء! ثم لو شاء الشاعر لقال ~~لنا ماذا يكون نصيب الأخوات الإلهيات من هذا الإله المحدث الجالس فوق عرشه ~~الترابي، وفي إحدى يديه قدح من الخمر الرديئة وفي الأخرى قبضة من «البنكنوت»، ~~لقد أشفق الشاعر أن يسوق المسكينات من قرارة الجحيم إلى هذا البلاط اللئيم، ~~ولكنه لو فعل لما سمع من الإله ديموس إلا صيحة واحدة في لكنة السكر وعجرفة ~~النعمة الحديثة: «أيتها الشقيات؛ أتبكينني وتغرينني بالموت وأنا أنعم عليكن ~~بالفلوس؟ ما لكن ولهذا العواء؟ ألا تعرفن الطقاطيق؟ ألا ترقصن البلاك بتوم ~~والشارلستون؟!» ~~••• # ذلك أو ما يشبهه يكون لا محالة جزاء عرائس الأمس لو ظهرن اليوم للإنشاد في حضرة ~~ديموس الكبير؛ وصاحب الرسالة يعلم ما نعلم، ويقوله بلغة الكلام، وإن لم يقله ~~بلغة الأساطير، ويرى أن الشعر مدبر في هذا العصر، وقد يظل مدبرا في العصور ~~المقبلة لسببين: أحدهما أن الشعر كان يغني في الزمن القديم، ثم بطل الغناء ~~فرتلوه أو ترنموا به، ثم بطل الترتيل والترنيم فألقوه، ثم بطل الإلقاء فقرءوه ~~في المحافل أو الكتب، وذهبت عنه طلاوة الموسيقى وفقد سحره القديم في ms074 الأسماع ~~والقلوب، وانتهى بأن صار كلاما يعبر بالنظر وقل أن يطرق الأسماع، والسبب الآخر ~~أن الطبائع في العصور الحديثة تنكر الحماسة الشعرية، وتسخر منها لاستغراقها في ~~الواقع «الريالزم» وثورتها القريبة على أخيلة القدم وعقائد الأولين، وهو لم ~~يذكر سبب هذا «الريالزم»، ولكن استغراق الناس في الواقع هذه الأيام حق لا شبهة ~~فيه، وقد لا يدوم على ما نعهد إلا كما تدوم القهقهة بعد مشهد يسبل عليه ~~الستار. # ولقد أصاب صاحب الرسالة في السببين، وأتى فيهما على مقطع الصدق في هذا الباب، ~~ولسنا نحن أعظم منه تفاؤلا، ولا أقرب إلى الرجاء في مستقبل الشعر، فرأينا يقرب ~~من رأيه ونظرتنا إلى المستقبل تشبه نظرته، ولكننا نود أن نعرف هل الناس في هذا ~~الزمان أنبى عن الشعر طباعا، وأزهد فيه نفوسا مما كانوا في الزمان القديم؟ ~~فأما أن زماننا هذا لم ينجب من كبار الشعراء العبقريين من يقاسون إلى شعراء ~~العصور الغابرة فذلك واضح، لا تعوزنا معرفته ولا هو يحتاج إلى سؤال وتحقيق ، ~~فليس هذا الذي نسأل عنه ونلتمس الوصول إلى حقيقته، ولكننا إنما نسأل عن طبائع ~~الناس جملة هل تغيرت بواعثها التي تحركها إلى الإعجاب بالشعر ودواعي التخيل ~~والإحساس، أو لا تزال تلك الطبائع كما كانت في كل زمان نعرفه ونعلم اليقين عن ~~أنباء أهله وحظوظ شعرائه وأدبائه؟ وهنا يبدو لنا وجه الغلو في قول القائلين أن ~~الشعر يبطل اليوم وبعد اليوم لبطلان بواعثه ودواعيه، إذ كيف يسعنا أن نقول ~~جادين في القول إن الناس لا يحسون اليوم كما كانوا يحسون بالأمس، ولا يحبون ~~ويبغضون، ولا يرجون وييأسون، ولا يرضون وينقمون ما كان ذلك دأبهم في كل حين ~~وبين كل قبيل؟ ليس هذا مما يمكن أن يقال في جد وروية وإدراك لحقائق الأشياء، ~~فالإحساس لا ينقطع، والنفوس الإنسانية بجملتها لا تختلف، والهموم التي أنشد ~~فيها الشعراء القدم ذلك القصيد الخالد هي هموم هذه الساعة يحسها ألوف الألوف في ~~كل زاوية من زوايا الأرض، وفي كل لحظة من لحظات الحياة، فهل لنا أن ms075 نعرف إذن ما ~~الذي تغير في العصور الحديثة، فتغير نصيب الشعر وفترت من ناحيته قرائح القائلين ~~وسلائق السامعين؟ # يخيل إلي أن بواعث الإحساس التي كانت مصروفة إلى الشعر فيما مضى قد صرفت في هذا ~~الزمان إلى شيء آخر يشبهه، ويغني غناءه لأول نظرة في تزويد الخواطر، واستجاشة ~~الإحساس، وإرضاء الأشواق والأفراح والأحزان التي يبلوها الناس في غمار الحياة، ~~وأن هذا الشيء الذي انصرفت إليه بواعث الشعر في زماننا قريب لا يطول بنا أمد ~~النظر إليه، فإنما هو بالإيجاز مناظر الصور المتحركة، والتمثيل الماجن، وأخبار ~~الروايات، وقصص الجناية والغرام التي تبسطها الصحف لقرائها كل صباح ومساء، فهذا ~~الذي أغنى غناء الشعر بيننا، وسيغني غناءه غدا، وكان يغني غناءه في عصور هومر ~~وشكسبير وملتون وهيني ودانتي والمتنبي وابن الرومي وأمثالهم في الأمم كافة، لو ~~منيت تلك العصور بمهازل الصور المتحركة وآفات التمثيل والصحافة، وسنعرف من هذا ~~أن الطبائع لم تتغير وأن بواعث الشعر مستقرة في مكانها من القرائح والأرواح، ~~وأن أناسي عصرنا قابلون للطرب الشعري كأجدادهم الأولين قبل ألوف السنين، ولكنها ~~معرفة لا تدنو بنا إلى التفاؤل، ولا تبعد بنا من اليأس حتى نجد من يقول لنا عن ~~علم وثيق: متى تنجلي هذه الغاشية يا ترى؟ ومن لنا بأن يثوب الناس يوما إلى ~~عهدهم الدابر، وأن يفيق «ديموس» من سكرته ليجد نفسه في عالم الفنون وراء الصفوف ~~يسمع ما يملى عليه، ولا يملي هو على أحد ما ينبغي أن يقول! # ويجوز أن نزعم فوق ما زعمنا إننا مبالغون على ما يظهر في تصور العناية التي ~~كانت تحيط بشعراء القدم، والحظوة التي كانت لهم بين سامعيهم والمنعمين عليهم. ~~وأحسب أن عدد الذين يعنون بالمتنبي اليوم في العالم العربي أكبر من عدد الذين ~~كانوا يعنون به في حياته، وأن المال الذي يدره ديوانه اليوم على طابعيه وبائعيه ~~أكثر من المال الذي كان يدره على صاحبه وذويه، وأحسب أن قراء ملتون اليوم بين ~~الإنجليز أعظم وأعرف بالأدب من قرائه على عهده، وأن قدره في أعينهم ms076 أرفع وأنبل ~~من قدره بين من كان يسمعهم بلسانه نغمات فردوسه وصرخات فؤاده، وسنعرف من هذا ~~مرة أخرى أن الطبائع لم تتغير، وأن بواعث الشعر مستقرة في مكانها من القرائح ~~والأرواح، ولكنها كذلك معرفة لا تدنو بنا إلى التفاؤل، ولا تبعد بنا عن اليأس؛ ~~لأن الميدان اليوم متسع فياض يغرق فيه ويذوب في أعماقه أضعاف تلك العناية التي ~~كانت حسب المتنبي في عصر بني حمدان، وحسب ملتون في عصر البيوريتان. # وصفوة القول: إن الطبائع باقية، وإن اليوم كالأمس، والغد كاليوم في التخيل ~~والإحساس، ولكن ما مستقبل الشعر بعد كل هذا؟! # مستقبله كما قلنا في ذمة التمثيل، والصحافة، والمطابع، والروايات، وما مستقبل ~~هذه التي يدخل في ذمتها مستقبل الشعر والشعراء! # قل علمه عند ربي. # | في الماضي1 # إلى الأمس في هذا الأسبوع! فقد مضى لنا أسبوعان في مجاهل الغد بين مستقبل ~~المرأة ومستقبل الشعر، وما أظننا اقتربنا خطوة إلى ذلك الغد، ولا أظن أحدا ممن ~~يشدون الرحال إليه يقترب من حدوده أو يبرح مكانه! # ومن البداهة أنني لم أذهب إلى الماضي على طريقة أينشتين وأتباعه، فأركب مطية ~~الفرض إلى كوكب من هاتيك الكواكب التي تبعد عن الأرض بملايين الدهور والأحقاب، ~~وأظل هناك في انتظار الأشعة القديمة التي خرجت من الأرض تحمل مناظر رمسيس وما ~~قبل رمسيس، ولا تزال سابحة بها في الفضاء إلى ذلك الكوكب المجهول ليراها بعد ~~حين من ينتظرها هنالك من ركاب مطايا الفرض، وأصحاب ذلك البراق الذي يذهب إلى كل ~~مكان ولا يذهب إلى مكان. كلا لم أذهب إلى الماضي على هذه الطريقة، فإن ركوب ~~الفرض مزلة، والمرانة على هذه الفروسية رياضة لا تخف إليها النفوس في كثير من ~~الأحوال، وإنما ركبت إلى الماضي طريقة السكة الحديدية، وذهبت بها إلى حيث يذهب ~~أناس كل يوم ويعودون. # ذهبت بها إلى أسوان لأدرك بقية الشتاء، وآخذ لي من هوائه بنصيب، ولو شئت لقلت ~~لأتفرج على الشتاء في أسوان، فإن جوه فيها ليجمل ويشف ويظرف حتى لتخاله طرفة ~~فنية خلقت في نطاق ms077 من الهضاب والجبال للفرجة واللهو لا للانتفاع و«الاستعمال»، ~~أو تخاله جوا صنعته الطبيعة أول مرة، ثم جرى المقلدون لها في صناعة الأجواء ~~على سنة المبتدئين في التفاوت والاجتهاد، فمن لم ير السماء في أسوان لم يعرف ~~ماذا تعني كلمة «الأزرق» في معجمات اللغة، ومن لم ير الشمس في أسوان لم يعرف ~~كيف يجري الضياء دما في العروق، وكيف تسري الحرارة نشوة في الأرواح، ومن لم ير ~~النيل في أسوان لم يعرف ماذا به من سر الآلهة، وماذا كان الأقدمون يعبدون فيه ~~ويخافون منه، ومن لم ير العزلة في أسوان لم يعرف كيف تكون عزلة الخالدين في ~~أمان واكتفاء وترفع عن صغائر العيش وأباطيل النفوس. # ذهبت إلى أسوان أو ذهبت إلى الأمس، سيان عندي في القول، وسيان في التصور ~~والخيال، ذهبت إليها فإذا أنا فيها كمن جنحت به سفينة عند بادية، أو حمله الرخ ~~إلى جزيرة مسحورة بينها وبين موطنه في الحياة مسير الشهور والأعوام، وإذا أنا ~~أنظر حولي فلا أرى إلا ماضيا أثر ماض تنقطع فيه الصلة بيني وبين حاضري في ~~المعيشة والشعور، ولست أدري كيف رحلت أنا إلى تلك الشقة البعيدة، أو كيف رحلت ~~تلك الشقة البعيدة إلي؟ أفكان ذلك لأنني نقلت نفسي فجأة من حيث يشغلني حاضر ~~الحياة بهمومه وأشجانه ومناظره وألوانه، إلى حيث كانت مآلف طفولة وأحلام غرارة ~~بعد بها العهد، وضربت بيننا وبينها عوالم أفراح وأتراح، وآفاق آمال وأعمال، ~~وآماد إذا كر فيها الفكر راجعا خيل إليه أنه يتعثر منها في الآباد بعد الآباد ~~ويخطو بها على الأكوان فوق الأكوان؟ أم لأنني نزلت في مكان يعمره القدم الماثل ~~للعيان، وتسكنه أطياف الغابرين هائمة حول آثارها وبقاياها كما تحوم الأرواح حول ~~الأبدان؟ أم لأنني شهدت لديه المناظر التي شهدها قبلنا السابقون، وسيشهدها ~~بعدنا اللاحقون، وسيكون من شأنه بعد الدهور المغيبة في ضمير الزمن ما كان من ~~شأنها قبل دهور ودهور؟ كل أولئك قد يكون له أثره في خلق ذلك الأمس الذي ألفيتني ~~منه في جزيرة مسحورة ms078 يعبرها الرخ في لمحة عين ولا يعبرها الإنسان - إن عبرها - ~~إلا في مئات السنين! فأنا ثمة أنظر إلى نفسي، وأنظر إلى الآثار حولي، وأنظر إلى ~~الأرض والسماء، فإذا الماضي العريق يحيط بي من حيثما نظرت ويفصل بيني وبين ~~اليوم أينما أقبلت وأدبرت، وإذا بهذه النفس التي أحتويها أو تحتويني قد لبست ~~لها شبحا من الأشباح الغابرة، إن يعجب لشيء في هذه الدنيا فهو عاجب أن يكون ~~خلقا لا يزال بقيد الحياة. ~~••• # إن الزمن هو التغير، وما الإحساس بالزمان إذا لم يكن إحساس بالتغير من حال إلى ~~حال؟ فأنت إذا وقفت على مشهد لا ينال منه التبديل بين حين وحين، ولا يبرح يوم ~~تراه كما كانت تراه القرون الأولى، ولا يذهب بك الخيال إلى صورة له تتمثلها غير ~~هذه الصورة التي تقع عليها عيناك سكن الزمن عندك، وبطلت دورة الأيام في روعك، ~~ووقف دولاب الحوادث وقفة المنزه عن طوارئ الغير وعوارض الزوال، فأنت قائم من ~~ذلك المشهد حيث تركه الزمان منذ أحقاب وأحقاب، وأنت مستقر لديه في أعماق الماضي ~~الذي لا مستقبل بعده ولا صفة له غير صفة العصمة والدوام، وهذه هي صورة ذلك ~~المشهد الصامد الذي يقابلك إذا أويت من أسوان إلى جبال فيها، وأودية تحف بها ~~وصحاري تدور عليها، وشارة تختم على ذلك كله بخاتم أقدم من القدم، وأعرق من ~~مجاهل التاريخ، وفي ضمان هذا الدوام الشاخص في ذلك الجثمان العزوف العابس، أودع ~~الأقدمون هياكلهم وبنوا على الخلود آمالهم، واطمأنوا إلى سكون حزين وقرار أمين. ~~فليست الآثار هي التي تخلع على أسوان ثوب الأمس، وتسبل عليها ستار الماضي ~~وعنوان البقاء، ولكنما الآثار وديعة هناك في أحضان ذلك الدوام الذي لا يقاس ~~إليه دوام الإنسان ولا ما يصنع الإنسان، وهي هناك كالطفل المهجور في كفالة ~~الشيخ الوقور: تراها بين الصخور النابية التي تشرف عليها، وهي تتداعى تارة ~~وتتماسك تارة أخرى، فترثي لتلك الشيخوخة الباكرة في جانب ذلك الهرم الذي لا تغض ~~منه السنون، وترغمها مدبرة قبل الأوان هاوية إلى الموت ms079 في إبان الشبيبة ~~والعنفوان، وتستصغر الألف والألفين والألوف من السنين وما هي بالشيء الصغير في ~~حساب الإنسان. # كذلك رأيت أنس الوجود حين رأيته للمرة الأخيرة منذ أيام: شيخا يهبط إلى قرارة ~~الماء يثقله اليأس، ويمسكه الصبر، وتعزيه حكمة الدهور، شيخا كسقراط في مجلس ~~الموت يلقي بالعبرة ويشرب الكأس الوبيلة، ولا يجزع من المصير، فقلت في نفسي: ~~ماذا يبقى من هذه الأعظم النخرات بعد ألف عام بل بعد مائة عام؟ لعله لا يبقى ~~بعد ذلك شيء ولعل هذه المشاهد الأبدية التي تشرف على القصر خاسرة يومئذ حين ~~تفقده مقياسا فاخرا يذكر الناظرين بدوامها القانع القرير وعكوفها الشامس ~~الوحيد. ~~••• # كذلك رأيت القصر في احتضاره المحتوم، ولكم رأيته قبل ذلك في صور شتى تختلف ~~الصورة منها بعد الصورة، كأنما هو عدة قصور تبنى وتهدم في زاوية الحدس ~~والتخييل، فلهذه البقايا الماضوية ماضها بل مواضها في ذاكرة كل طفل درج بأسوان، ~~ونشأ بين آثارها يسأل عنها فيجاب حينا بالأساطير وحينا بالحقائق والأسانيد، ~~وهذا القصر الذي يودع اليوم بقاءه الطويل كم كان له من نبأ بيننا نصغي إليه حول ~~النار في ليالي الشتاء، وليس في قلوبنا الصغيرة إلا آذان مفغورة تلتهم الحديث ~~التهام الجائع المنهوم، فيوما كان هذا القصر بيتا للأصنام يؤمه الكفرة ~~المشركون يعبدون فيه الشياطين، ويعصون الله ورسوله عامدين مستهزئين، ويوما كان ~~القصر خزانة للذهب تقوم على حراستها المردة، ويحتال عليها السارقون بالطلاسم ~~والتعاويذ، ويهلك منهم في طلابها من سبق عليه قضاء الموت، ويظفر بالقليل أو ~~بالكثير من كتبت له النجاة! ويوما كان القصر سجن غرام ومنفى شقية برح بها الحب ~~وأتلفها السقام، نعم كان هذا القصر في بعض أيامه عندنا سجنا بناه الوزير ~~إبراهيم لابنته الورد في الأكمام، وكانت الفتاة تحب الفتى «أنس الوجود» وتبثه ~~الوجد بالشعر المنظوم، والزفير المكتوم، وكان أبوها يخشى فضيحة هذا الهوى ~~الحرام فيضرب كفا بكف، وينحى على أمها باللوم، أو ينحى على الزمان الخئون إذا ~~أعياه من يلوم، ثم بدا له فبنى لها قصرا لا يصل إليه ms080 الطيف، ولا يعرف طريقه ~~الجان، ثم حملها إليه خفية وأغلق عليها أبوابه، وتركها بين الماء والسماء لا ~~تزار فيه إلا عاما بعد عام، حين يؤتى إليها بالمئونة والطعام، لكن ما يهابها ~~الطيف ويجهله الجن يعرفه الحب ويجسر عليه المحبون! فخرج أنس الوجود يجوب ~~القفار، ويتلمس الآثار، وتلتهب حوله الجبال، وتصطلح عليه الأهوال، ويشتد به ~~الغليل، وتشتبه عليه السبيل! ويلقى في بعض طريقه أسدا في خيسه فيناديه بمثل ~~هذا التسجيع: «يا أبا الفتيان، ويا سلطان الآجام والغيران: إنني عاشق مشتاق ~~أتلفني العشق والفراق، فارقت الأحباب، وغبت عن الصواب، فاسمع لكلامي وارحم ~~لوعتي وغرامي» فيقبل عليه الأسد كئيب المحيا، مغرورق العينين، ويمشي بين يديه ~~ويومئ إليه، فيسير به ساعة من الزمان يصعد إلى جبل ويهبط من جبل، حتى يقف به ~~على آثار قوم يعلم أنها آثار الركب الذين تحملوا بالورد في الأكمام، ثم يرجع ~~الأسد ولا طاقة له بالمزيد على ما فعل، بعد أن أقام الفتى على نهجه، ولبث وراءه ~~ينظر إليه وهو يتبع الأثر ويستسلم للقدر، ثم يغشى على أنس الوجود في تلك ~~القفار، ثم يأخذ في البكاء وينشد الأشعار، ثم يستمع له عابد في الغار، فيبكي ~~لبكائه، ويعجز عن دوائه، ويدله السبيل ويزوده بالدعاء والتقبيل، وكنا نسمع هذه ~~القصة التي تبكي الأسود والعباد، فنعجب لبكاء العابد ودعائه للعاشق أشد من ~~عجبنا لبكاء الأسد الذي ما يزال على جهالة الوثنية وضلالة الحيوانية! ونحسن ~~الظن بهذه العجماوات التي ترق للشعر السري، وتشفق على العاشق الشجي، ونؤمن ~~بالقصيدة ونمني النفس بالعدد العديد من قراء في المدن الواسعة، وقراء في الفقر ~~المديد. # كذلك كان القصر في يوم من أيامه الغابرات، ثم كان ما هو كائن اليوم وما سيكون ~~إلى أن لا يكون: دارا لإيزيس وأوزيريس، ومصلى لربة الحب والوفاء، ورب الأقمار ~~والشموس، ثم ها هو اليوم غريق في لجة ماء، وضحية يفتدى بها بعد أن كانت تتلقى ~~الفداء، وبقية من تلك الأجيال تغوص في خضم هذه الماضوية التي ترفعها حوله ~~الصخور والجبال، وتعززها ذواهب ms081 الأعمار والآجال، والتي يتلبس بها مكان لو فارقه ~~العبوس لحظة لضحك من الإنسان، ومما يصنع الإنسان، وعجب لهذه الحشرة ما لها ~~وللخلود، وما حق لها تدعيه على المكان والزمان! ~~••• # على ساحل ذلك الخضم كنت أقف بأمسي ويومي منذ أمد وجيز، وعلى ساحله ذاك وقفت ~~طفلا مبهم الآمال والأشواق، أرقب على كثب مني أحدث ما تحدث أوربا، وآخر ما ~~أنجبت ظواهر الحضارة وبدائع القرائح والأفكار، ومنه نظرت إلى المدينة الأوربية ~~تلوذ به وتحج إليه في آثار أرباب لها هجروا عروشهم في الشمال كما زعم الأقدمون، ~~وصمدوا يستطلعون طلع الجنوب، ولشد ما توزعني تلك الرحلة الشاسعة بين أقدم قديم ~~وأحدث حديث، وأشد ما أشعر الساعة بالبعد السحيق يفصل ماضي الذي كنت فيه، وبين ~~حاضر لي وددت لو أنني تركته غريقا هناك في عدوة الخضم العميق. # | الصحيح والزائف من الشعر1 # كيف نعرف الشعر الزائف من الشعر الصحيح؟ سؤال جوابه عندي كجواب من يسأل: كيف ~~نميز بين ضروب الإحساس؟ فالإحساس القويم الصالح موجود ينعم به أو يشقى به أناس ~~كثيرون، والشعر الجيد الصحيح موجود كذلك يقوله الشعراء ويقرؤه القارئون، ولكن ~~التمييز بين إحساسين كالتمييز بين شعرين أمر يرجع إلى شخص المميز وملكاته ~~وأطواره ومطالعاته، وليس إلى قاعدة مرسومة ومعرفة كالمعرفة الرياضية التي لا ~~تختلف بين عارف وعارف، وللتعليم في هذا الأمر حظه الذي لا ينكر، وأثره الذي لا ~~يذهب سدى، فأنت تستطيع أن تضرب الأمثال وتبين للمتعلم المثل الجيد والمثل ~~الرديء فيفهم عنك ما يفهم، ويستعين بالأمثال على القياس والمقابلة، ولكنك لا بد ~~منته معه إلى حد يختلف فيه نظره ونظرك، ويتباعد فيه حكمه وحكمك، ولن تستطيع أن ~~تعطيه كل وسائل نقدك للشعر إلا إذا استطعت أن تعطيه كل وسائل إحساسك بالحياة. ~~فإن هذا يحتاج إلى خلق جديد، وذاك كهذا يحتاج أيضا إلى خلق جديد. # أسمعنا بعض المتعلمين قصيدة يصف فيها الحرب ويستهلها بالغزل، وأظنه استطرد من ~~الغزل إلى وصف الحرب بجامعة المشابهة بين الدماء التي سفكتها الحسناء، والدماء ~~التي تسيل في ميادين القتال ms082! وكان بعض السامعين يعجب ويستحسن، ويشتد إعجابه ~~ويعظم استحسانه لهذه المشابهة الظريفة وهذا الانتقال البارع! وكل أولئك ~~السامعين ممن يقرءون الشعر ويتصفحون كتب الأدب ويعرفون أن هناك شعر صناعة، وشعر ~~سليقة، وإن من الكلام ما يتكلف، ومنه ما يرسل عن وحي البديهة الصادقة والذوق ~~السليم! فعجبت لإعجابهم، ودهشت لاستحسانهم، ورأيت أن المسافة بينهم وبيني في ~~النظر إلى ذلك الشعر كالمسافة بين من يقبل على المائدة متشهيا ملتذا وبين من ~~تغثى نفسه من الخلط والغثاثة. نعم! فإن للنفس لغثيانا كغثيان المعدات، وإن ~~للمعاني لخلطا كخلط الطعام، وإن رجلا لا ترفض نفسه إحساس الغزل ممزوجا ~~بإحساس النكبات والكوارث لأعجب عندي من رجل لا ترفض معدته العسل ممزوجا بالخل ~~والتوابل، وذوب السكر ممزوجا بذوب الملح وما إليه! # وكنا منذ أيام نتطارح قصيدة ابن الرومي في رثاء ولده «محمد» وهي القصيدة التي ~~يقول فيها: # طواه الردى عني فأضحى مزاره # بعيدا على قرب، قريبا على بعد # لقد أنجزت فيه المنايا وعيدها # وأخلفت الآمال ما كان من وعد # ألح عليه النزف حتى أحاله # إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد # وظل على الأيدي تساقط نفسه # ويذوي كما يذوي القضيب من الرند # إلى أن يقول: # وأولادنا مثل الجوارح أيها # فقدناه كان الفاجع البين الفقد # لكل مكان لا يسد اختلاله # مكان أخيه من جزوع ولا جلد # هل العين بعد السمع تكفي مكانه # أو السمع بعد العين يهدي كما تهدي # لعمري لقد حالت بي الحال بعده # فياليت شعري كيف حالت به بعدي # ثكلت سروري كله إذ ثكلته # وأصبحت في لذات عيشي أخا زهد # إلى أن يقول: # محمد! ما شيء توهم سلوة # لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد # أرى أخويك الباقيين كليهما # يكونان للأحزان أورى من الزند # إذا لعبا في ملعب لك لذعا # فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد # فما فيهما لي سلوة بل حزازة # يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي # فكنا نجمع على أنها خير ما قيل في الشعر العربي في رثاء ولد. إلا رجلا لا بأس ~~باطلاعه كان يقول ms083: ولكن أحسن من هذا قول ابن نباتة في رثاء ابنه: # قولوا فلان قد جفت أفكاره # نظم القريض فما يكاد يجيبه # هيهات نظم الشعر منه بعدما # سكن التراب «وليده وحبيبه» # 2 # وقوله فيه: # يا راحلا من بعد ما أقبلت # مخايل للخير مرجوة # لم تكتمل حولا وأورثتني # ضعفا، فلا حول ولا قوة # وجعل يعجب من «وليده وحبيبه» التي فيها تورية بالبحتري وأبي تمام! ويستظرف ~~قوله: «فلا حول ولا قوة» ويقول إن في هذا لمعنى، وإن فيه لحسنا، فسألته ~~مستغربا: أوتمزح؟ فكان استغرابه لسؤالي أشد من استغرابي لإعجابه وتفضيله. ~~وسألني وهو لا يشك في صدق رأيه: وما الذي تنكره من هذه الأبيات؟ قلت: أنكر منها ~~ما أنكره من شراب كريه يمزج بين ألم الثكل وعبث التورية والتنميق، وأنكر منها ~~ما أنكره من رجل أذهب إليه لأعزيه في ولده فألفيه يستقبل المعزين بأكل النار ~~واللعب بالبيض والحجر وغير ذلك من ألاعيب الحواة! وأنكر منها ما أكره من رجل ~~يزوق رسائل النعي أو يكتبها على دعوات الأفراح، ويخيل إلى أن ابن نباتة هذا كان ~~يتربص بابنه الموت ليلعب في مأتمه هذا اللعب الصبياني العقيم، أما ابن الرومي ~~فلا يلعب ولا يهزل ولا هو ينظم الشعر إلا لتفريج كربه والتنفيس عن صدره، وهو ~~بعد والد مقروح نشعر معه بألمه المضيض كلما رأى ولديه يلعبان لاهيين عنه ولم ~~ير بينهما أخاهما المفقود، ثم هو لا يحس إلا ما أحسه كل والد فقد ولده وأصيب ~~بمثل مصابه، وشهد بعينيه صغيره المريض يذوي على الأيدي، ويموت نفسا بعد نفس، ~~وهو لا يدفع عنه أجلا ولا حيلة له فيه، ولكنه يقول ما ليس يقوله كل والد إذا ~~نظم في رثاء ولده؛ لأنه يضع الإحساس البسيط في اللفظ البسيط، وليس هذا الذي ~~يفعله كل ناظم يحاول أن يحصر إحساسه، ويعرف منه مكمن الداء ومبعث الألم ~~والشكاة. ~~••• # ومن التزييف في الشعر ما هو أخفى من هذا على النقد، وما يكاد يشتبه على البصير ~~في بعض الأغراض. مثال ذلك في هذه الأبيات: # وقانا لفحة ms084 الرمضاء واد # سقاه مضاعف الغيث العميم # نزلنا دوحه فحنا علينا # حنو المرضعات على الفطيم # وأشربنا على ظمأ زلالا # ألذ من المدامة للنديم # يصد الشمس أنى واجهتنا # فيحجبها ويأذن للنسيم # يروع حصاه حالية العذارى # فتلمس جانب العقد النظيم # فهذه أبيات من الشعر الرائق البليغ يتسق لها حسن الصياغة وجودة الوصف و«بساطة» ~~الأداء. إلا بيتا واحدا منها يتطرق إليه اللعب العابث والتزييف المكشوف، فسل ~~أي الأبيات الخمسة هذا البيت المعيب لا نجد إلا القليل يوافقونك على أنه هو ~~البيت الأخير، بل سل من شئت أي الأبيات الخمسة هو أبلغها في الوصف والأداء لا ~~تجد إلا القليل يذكرون لك منه بيتا غير البيت الأخير، فهو بيت القصيد وواسطة ~~العقد كما يقولون! ولم ذاك؟ لأن القارئ تبادره منه صورة العذراء الحالية، وهي ~~في جمال الذعر والدلال فيسري إلى نفسه سرور هذا المنظر الجميل، ويخلط بين هذا ~~السرور وبين سرور الوصف والمعنى الأصيل، وإنما مثله في هذه الخديعة مثل من ~~يشتري الجوهر المزيف بثمن الجوهر الصحيح ؛ لأنه ينظر على العلبة صورة عذراء ~~فاتنة! فجمال العذراء الذي تعرضه عليه العلبة شيء حسن، ولكنه إذا حمله على أن ~~يقبل الجوهر المزيف بثمن أعلى من ثمنه المعروف فهو مخدوع فيه ومأخوذ بحيلة لا ~~يؤخذ بها لو أنه فرق بين اللباب والغشاء، والشاعر هنا يحتال مثل هذه الحيلة في ~~تزييف معناه ويشغلنا بصورة العذراء الحالية عن حقيقة الوصف الذي يراد في هذا ~~المقام، فهو يصف واديا رويا يقي من الرمضاء بنسيمه البليل، ومائه العذب، ~~ودوحه الظليل، فلا يكفيه هذا الوصف الذي هو حسب كل محب للطبيعة مشغوف بجمالها ~~الساذج الغني عن التزويق والتزوير حتى يجعل حصباء الوادي كاللؤلؤ والمرجان ~~ساقطا من عقد منظم، ولا يكفيه هذا حتى يكون العقد في جيد حسناء وتكون هذه ~~الحسناء عذراء، ولا يكفيه هذا حتى يلعب أمامنا لعبته التي تعوزها الأناقة ~~والكياسة، ويغشنا بها غشا محروما من لباقة الحركة وخفة المداراة، فنحن أولا ~~لا نعجب بالحصى في الوادي الظليل لأنه كاللؤلؤ أو كالمعادن ms085 النفيسة، ولكننا ~~نعجب به إذا استحق الإعجاب لأنه «الحصى» الذي يحسن في موضعه، ولو كان أبعد ~~الأشياء عن مشاكلة اللآلئ والمعدن النفيس، ومع هذا لا نرى ضيرا في تشبيه الحصى ~~بالدر المنثور، ولا نريد أن نقول إن الشاعر إنما التفت إلى الحصى هنا ليذكر ~~الدر والعقود، لا لأنه أعجب به وتنبه لحسنه ورآه وسما متمما لمياسم ذلك ~~الوادي الذي وصف أدواحه، وظلاله، ونعم بمائه وهوائه، ولا نريد أن نقول: إن بعض ~~الشعراء قد جروا على أن يكون كل منظر من المناظر التي يصفونها مشاكلا لشيء من ~~النفائس القيمة والأعلاق الغالية، فالأرض مسك وعنبر، والحصباء در وجوهر، والشجر ~~زبرجد، والماء بلور، إلى آخر هذه الأوصاف المحفوظة والأمثال السائرة، لا نريد ~~أن نقول هذا ولا نأبى أن يكون الشاعر صادقا في التفاته إلى الحصى مريدا لذكره ~~متعمدا لوصفه، ولكننا إذا لم نقل هذا فأي ذوق سليم تغيب عنه الشعوذة في حكاية ~~العذارى يمثلهن لنا الشاعر مروعات؛ لأنهن ينظرن إلى الأرض فيسرعن إلى لمس جوانب ~~العقود مخافة أن تكون الحصباء من سمطها المبدد وجوهرها المنثور؟ وأي شعوذة ~~لأننا أغمضنا أعيننا وأوصدنا آذاننا وأنكرنا الحس والعقل، لا لأنه بهر الأعين ~~وضلل الآذان، وخلب الحواس والعقول؟ فالصورة التي عرضها علينا الشاعر غريبة عن ~~أصل المعنى كاذبة كل الكذب، ولا فضل للبراعة والطلاوة، وقبولها على أنها معنى ~~صحيح كقبول الجوهر الكاذب إكراما لصور العذارى الحاليات على العلبة المزخرفة! ~~أما الحقيقة فهي أن أولئك العذارى الحاليات، وتلك العقود النظيمة إن هي إلا ~~تحلية بضاعة كتحلية القصب الذي يبيعونه باسم «خد ~~البنت» لا دخل لها في تركيب السكر، ولا قيمة ~~لها في المعصرة، ودفاتر البائعين والشراة! # ولنذكر هنا أبيات المتنبي في وصف وادي بوان، فإنها بسبيل من هذا الغرض، وإن ~~كانت تختلف عن البيت الذي تكلمنا عنه بالصدق والتحلية التي لا تكلف فيها. يقول ~~في وصف ذلك الوادي: # ملاعب جنة لو سار فيها # سليمان لسار بترجمان # طبت فرساننا والخيل حتى # خشيت - وإن كرمن - من الحران # غدونا تنفض الأغصان ms086 فيها # على أعرافها مثل الجمان # فسرت وقد حجبن الحر عني # وجئن من الضياء بما كفاني # وألقى الشرق منها في ثيابي # دنانيرا تفر من البنان # لها ثمر تشير إليك منه # بأشربة وقفن بلا أوان # وأمواه يصل بها حصاها # صليل الحلي في أيدي الغواني # إلى أن يقول: # يقول بشعب بوان حصاني # أعن هذا يسار إلى الطعان # أبوكم آدم سن المعاصي # وعلمكم مفارقة الجنان! # فصليل الحلي في أيدي الغواني هنا تحلية صحيحة تضاف إلى قيمة المعنى ولا توضع ~~على غلافه؛ لأنها تشبيه صادق ليس فيه عبث مزيف ولا شعوذة محتال، والدنانير التي ~~ألقاها الشرق في ثياب المتنبي دنانير يقبلها صارف الشعر، وإن كانت لتفر من بنان ~~صيارف المال! والخاطر الذي أورد على قريحة المتنبي أن يضع على لسان حصانه ذلك ~~التهكم الحيواني خاطر قد يلوح لأول نظره كأنه اللعب والمجانة، ولكنه في هذا ~~الموقع أصدق خاطر يرد على خيال شاعر، وأخلق تعبير أن يبين لنا الفارق بين هموم ~~الحيوان في الحياة وهموم الإنسان. إذ من الذي يعير ابن آدم بسابقة أبيه في ~~مفارقة الجنان غير الحيوان البعيد عن هذه القرابة؟ ومن الذي يؤثر وداعة الطبيعة ~~وراحة الجسم على دواعي المجد ومغريات الكفاح غير الحيوان الآكل العشب، العائش ~~على الفطرة الخلي من هذه الدواعي والمغريات؟ ومن الذي يعلم كراهة الحيوان ~~للنقلة من مثل ذلك الوادي الرغيد فلا يرى أنه قائل بلسان حاله ما ترجمه المتنبي ~~في ذينك البيتين اللذين جمعا الصدق إلى الفكاهة، والشعر إلى الفلسفة، والوصف ~~إلى حسن الأداء؟ ضع هذا المعنى على لسان خادم المتنبي مثلا، أو على لسان فارس ~~من فرسانه، وأنت تزداد علما بمكان الصدق في هذا الخاطر البعيد الذي قربه ~~المتنبي إلينا أجل تقريب. ~~••• # هذه أمثلة من الفروق بين الصحيح والزيف في الشعر والبلاغة، أمثلة نعود إليها ~~كرة بعد أخرى؛ لتوضيح مذهبنا في النقد، ونظرتنا إلى المعاني، وتقديرنا للشعراء، ~~وقد تغنينا الأمثلة كما قلنا في فاتحة هذا المقال عن تقرير القواعد وشرح ~~المقاييس. # | بيتهوفن1 # تحتفل الدنيا اليوم بمائة عام ms087 خلت من اليوم الذي مات فيه هذا البائس العظيم، ~~ولو أنه عاد إلى قيد الحياة لشارك الدنيا احتفاءها بتلك الذكرى الخالدة؛ لأنه ~~يعلم أن يوم مماته هو أسعد ذكريات حياته، وإن الحياة مهزلة مملولة تشيع ~~بالتصفيق والابتسام! # كان بيتهوفن فنانا عظيما ونفسا عظيمة، فأما الفنان فجملة ما يقال فيه إنه ~~شكسبير الموسيقى كما قال فاجنر يوم ذكرى مولده، وليس من شأننا أن نخوض في ~~الكلام عليه من هذه الناحية؛ لأنها الناحية التي نجهل دقائقها وأوجه الحكم ~~فيها، وإنما نتكلم عليه من ناحية نفسه التي علم الناس عنها بعد موته، وكتبوا في ~~أطوارها وبداوتها فوق ما علموا وكتبوا عن جميع عظماء عصره، فكان خلاصة ما قيل ~~في هذه النفس الطيبة الشقية إنها نفس بائس عظيم. # يرى القراء اليوم صورا كثيرة لبيتهوفن يعجبون بسمتها وطلعتها، ويستملحون ~~قسامتها وجمالها. هذه صور عمل فيها الصقل والإعجاب فوق عمل الطبيعة والمحاكاة، ~~أما صورة بيتهوفن كما كان يراها أبناء عصره فهي صورة رجل نافر النفس، نافذ ~~النظرة، متهجم الجبين ، نضح على وجهه الألم والنقمة، وطبعه الإهمال وازدراء ~~العرف بطابع يهاب ولا يستملح، ويروع الناظر ولا يعطفه عليه، وكان منظره أشبه ~~شيء بمنظر أنبياء بني إسرائيل الذين يرسلون على الدنيا بريق السخط والزراية من ~~أعينهم، ونذير الموت والعذاب من أفواههم، ويخيل إلى من يراهم أنهم خلقوا وحدهم ~~في مفازة مجهولة، لا سبيل بينها وبين الحياة، أو بينها وبين الحياة سبيل تحف به ~~المخاوف والعراقيل. # وكان الرجل عامر البنية عريض الألواح، يبلغ في الطول خمسة أمتار وخمسة قراريط ~~وتبدو عليه سيماء أهل الصراع والجلاد، ولكن كان قليل العناية بطعامه مشغولا ~~بفنه، وكانت تمضي عليه الأيام لا يتبلغ إلا بما يقيم أوده على عجل وقلة صبر، ~~وربما دخل المطعم ليأكل فينسى نفسه وينهض للحساب وما أكل شيئا! فأورثه هذا ~~التهاون بضرورات الجسد داء في الأحشاء كان أقوى الأدواء التي عملت بالخراب ~~السريع في تلك البنية العامرة، وذلك الجسد المتين، وزادت عليه عادة تعودها في ~~استنزال وحيه واستجاشة نفسه تدل ms088 على طبيعة الرجل وغرابة منهجه في فنه، فقد كان ~~بعض الموسيقيين يستوحون الأنغام بالخمر، وبعضهم يستوحونها بالرياضة واللعب، ~~وآخرون يستحثون قرائحهم بمنادمة النساء أو بالحركة في الخلاء، أو بالجلوس في ~~الرياض، أما بيتهوفن فقد كانت أحفل أوقاته بالإجادة والارتفاع والتحليق هي تلك ~~التي يبرز فيها للعاصفة تضرب رأسه المكشوف، وللرعد يدوي على سمعه، والبرق يخطف ~~بصره بوميضه، فإذا أعوزته هذه الغضبة التي لا تغضبها الطبيعة كل يوم خرج إلى ~~الغابات والجبال يطوي فيها الساعات هائما صاعدا منقطعا عن الناس، كأنه عابد ~~في محراب ليس له من الحياة إلا أذن تنصت، وقريحة تتوخى مهابط الإلهام، فأصابه ~~طول التعرض لهذه العوارض في بنيته وكان له أثر على ما نظن في الصمم الذي ابتلي ~~به، فنغص عليه عيشه وحجبه عن عالم النغام الذي خلق له، ولا حياة له في غيره، ~~وما ظنك برجل تلقي عليه ألحانه فلا يسمعها! وما ظنك بنفس حية يقضى عليها ~~بالعزلة عن كل مناجاة رقيقة وكل مجلس أنيس! وما ظنك بإنسان منفرد أحوج ما يكون ~~إلى العطف والسلوى، ينقطع بينه وبين الدنيا وينزوي في ذلك المنفى البعيد القريب ~~لا يخرج منه إلا إلى مرقده الأخير، لقد وقعت الضربة من الرجل في مقتله فملأت ~~نفسه النقمة وضاق صدره بما كان يسع من أقدار الفاقة والمنافسة، وهم أن يقتل ~~نفسه مرات لولا قوة إيمانه بفنه وصدق اعتماده على الله، ولقد كان كلما أطبق ~~عليه الصمت المخيف وأحس بالثقل يتغلغل في تلك الحاسة اللطيفة التي ما خلق الله ~~أدق منها ولا أكمل ولا أقدر على تمييز الهمسات والأصداء جن جنونه، وأنحى على ~~معازفه يجمع قواه عسى أن يصل إليه ضجيجها، وينفذ إليه بلاغ من أصواتها. فيضيق ~~به سكان الدار ذرعا ويودون المهرب منه إذ كان لا يعنيهم الشأن الذي يعنيه، ولا ~~يبالون شيئا بعذره وصممه وموسيقاه! فقصاراهم إذا عظم عليهم الخطب أن يذهبوا ~~إلى المالك يقولون له: إما نحن وإما «المجنون» في الدار. # وكان بيتهوفن مطبوعا على التهكم والمداعبة يرمي بهما عفو ms089 البديهة بلا حفيظة ~~ولا قصد مساءة، فلما نكب في سمعه شيبت هذه السخرية فيه بمرارة النقمة، ونزلت ~~على المرائين حوله سياطا لاذعات لا يطيقونها، ولا يغتفرون ذنب صاحبها، فظنوا ~~به الحقد والضغينة ورموه بالمقت وسوء الطوية، وبيتهوفن أبعد الناس عند حقد ~~حاقد، وأبرأهم من نية سيئة، بل ربما كان الأحجى أن يقال: إن خلق الطيبة فيه قد ~~كان إحدى مصائبه في الحياة، وكان علة شقاء كبير له بين الناس، ولعل القصة ~~التالية تدل بعض الدلالة على طيبة الرجل، وطفولة تلك النفس النابية الطهور: كان ~~«لدفج لوفي» الممثل يلقى بيتهوفن في مطعم «النجمة الزرقاء» في بلدة توبلتز. ~~وكان «لوف» يغازل بنت صاحب المطعم، ويغتنم الفرصة للقائها على انفراد، فقالت له ~~يوما: تعال بعد انصراف القوم إذ لا يكون في المطعم إلا بيتهوفن وهو لا يسمع ~~حديثنا فلا ضير علينا منه، وجرت الأمور بينهما على هذا المنوال فترة حتى تنبه ~~أبو الفتاة وأمها لهذه العلاقة، فطردا الممثل وأنذراه ألا يعود. قال «لوفي»: ~~فبرح بنا اليأس ورغبنا في المراسلة، ولكن من يا ترى ينقل الرسائل بيننا؟ أيرضى ~~أن ينقلها ذلك الرجل النافر العصي الذي يجلس على تلك المائدة، إن ظاهره ~~لعسير ولكني لا أحسبه غير صديق، ولقد أذكر إني لمحت نظرات العطف والمودة على ~~ذلك الطرف الأشوس العبوس، فلنجرب، وقد كان! جرب «لوفي» تجربته ولقي بيتهوفن حيث ~~كان يراه أحيانا في حدائق البلدة، فعرفه الموسيقي العظيم وسأله: # ما بالك لا تتغذى الآن في النجمة الزرقاء؟ فقص عليه «لوفي» قصته ثم ~~قال له في وجل وتردد: هل لك يا مولاي أن تتولى تسليم رسالة للفتاة؟ ~~فأجابه الرجل المخيف: ولم لا؟ إنك لا تعني إلا خيرا، وتناول منه ~~الرسالة فوضعها في جيبه وهم أن يمضي في سبيله فاجترأ «لوفي» ~~واستوقفه قائلا: ولكن عفوا يا مولاي! ليس هذا كل ما في الأمر. ~~فالتفت بيتهوفن يسأله! أكذلك؟ قال «لوفي» نعم! عليك أن تحضر ~~الجواب، وما حان الموعد في اليوم التالي حتى كان بيتهوفن ينتظره ~~بالجواب المأمول، وظل ms090 ينقل الرسائل منه وإليه خمسة أو ستة أسابيع ~~أي طوال الوقت الذي قضاه في البلدة. # وقد يخطر لمن يقرأ هذه القصة أن بيتهوفن كان من المتسامحين في الأخلاق الذين ~~يهزءون بالتنطس ويستبيحون غوايات الغرام، لا! لم يكن بيتهوفن ذلك الرجل، بل كان ~~على نقيض ذلك رجلا يؤمن بالمثل الأعلى في عفاف النساء وأمانة الرجال، وكان ~~يأبى أن يلحن الروايات التي تعرض عليه كراهة لما فيها من مواقف الرذيلة ~~والمجون، وكان يتقي أن تكون له صلة أقرب من الصداقة مع ذات حليل، وكانت صلاته ~~التي يصلي بها إلى الله كلما ظمئت نفسه إلى العشير الودود «رب هبني تلك المرأة ~~التي خلقتها من نصيبي، والتي تشد من عزمي وتعزز فضيلة نفسي» وكانت فضيلته هذه ~~سخرية «فينا» وفكاهة النبلاء والنبيلات في زمانه، وما يدريك ما فينا في القرن ~~التاسع عشر؟ هي مدينة الإباحة و«كرسي» الخطيئة، ومرتع اللهو الذي لا يعرف الدين ~~ولا الحياء. # وأعجب بيتهوفن بنابليون الأول إعجاب غيره من النابغين والأدباء، ووضع في تمجيده ~~لحن «البطل» من ألحانه التسعة الخالدات، وبدأ اللحن في السنة الثانية لمطلع ~~القرن الثامن عشر، ثم ما زال ينقحه ويهذبه حتى أتمه بعد سنتين، ولعله كان ~~مصيبا به خيرا كثيرا من نابليون لو تقدم به إليه، ولكن نابليون قبل تاج ~~الإمبراطورية في هذه الأثناء! وجاء النبأ الخطير إلى بيتهوفن بلسان تلميذه ~~«ريس» فاحتدم صاحبنا غيظا، وصاح في غضب «إذن ما كان هذا الرجل إلا واحدا ~~كغيره من أبناء الفناء، وليدوسن هذا الرجل بقدميه على حقوق بني الإنسان»، ~~وتناول صفحة العنوان في الكراسة فمزقها، وعدل عن إهداء اللحن إلى البطل الذي ~~أوحاه إليه. # تلك نوبة أخرى من نوبات المثل الأعلى في قلب هذا العظيم المسكين، بل لقد كان ~~إيمانه بالمثل الأعلى يرتفع بالعبقرية إلى مقام دنيوي فوق مقام الملوك ~~والأمراء، وكان يأنف أن ينازل هؤلاء منزلة دون منزلة المثيل مع المثيل، فإذا ~~دعي إلى وليمة ففهم أنهم يدعونه إليها للتلحين لا للمؤانسة والاجتماع ثارت ~~ثائرته، واستكبر ألا يكون ms091 له شأن مع هؤلاء غير شأن الأعجوبة التي يتفرج بها ~~المتفرجون، وإذا قضى العرف في إمارات ألمانيا المستبدة أن تطأطئ الرءوس لأصحاب ~~التيجان ضرب هو بالعرف جانبا، وحياهم تحية الصديق للصديق، ومن نوادره في ذلك ~~أنه كان يمشي مع جيتي الشاعر الألماني الكبير في بعض منازه توبلتز فبصرا ~~بالأسرة المالكة قادمة في الطريق، فانحرف جيتي ناحية ولبث يتهيأ للتحية في ~~مكانه، وألح عليه بيتهوفن أن يتقدم فما أصغى إليه، فتقدم هو في طريقه إلى الرهط ~~الملكي غير منحرف عن سوائه، فلما بصر به الأمراء تنحوا له ورفع الأرشيدوق ~~قبعته، وبدأته الإمبراطورة بالتحية، وانتظر هو بعد ذلك جيتي ليسخر منه ويداعبه، ~~ثم كتب إلى «بتينا» صديقته وصديقة جيتي يقول في كلام يروي به القصة: «إن الملوك ~~والأمراء يستطيعون أن يخلقوا الأساتذة والوزراء وأن يمنحوا الرتب والألقاب، ~~ولكنهم لا يخلقون العظماء ولا العقول التي تعلو على السواد، فإذا التقى رجل ~~مثلي ورجل مثل جيتي فخليق بالمالكين وذوي السلطان أن يعرفوا موضع العظمة ~~هناك.» ~~••• # بهذه العقيدة في الحياة ما كان يرجى لرجل سعادة، وبتلك الطيبة الساذجة ما كان ~~يرجى لأحد فلاح، وما كان أحوج بيتهوفن مع هذا الخلق إلى بيت يسكن إليه، ويسعد ~~فيه بعطف الزوجة الصالحة، وقلب المرأة الشفيق، ولو وجد هذا البيت وأتيحت لمثله ~~سعادة الأزواج والآباء لطابت نفسه، وخف عليه وقر أحزانه، وعذاب حرمانه، وسطوة ~~العرف والعادات عليه، ولكنه فقد هذا مع ما فقد من حظوظ الحياة، وتعوض منه بيتا ~~يركن فيه الخدم إلى الكسل والتبطل؛ لأنهم لا يجدون من يلاحقهم ويراقبهم ~~و«المجنون الأصم» مشغول بكتبه وألحانه! وكانوا يأخذون الأوراق التي يدون فيها ~~النوتة حيثما وجدوها ليمسحوا بها الآنية والأحذية، ويزيلوا بها وضر الدهن ~~والتراب، وفي بعض مذكراته تقرأ عن هؤلاء الخدم: «نانسي أجهل من أن تصلح لتدبير ~~منزل. إنها بهيمة!» ... «خدمي الموقرون جادون من الساعة السابعة إلى العاشرة في ~~إشعال النار» ... «خرجت الطباخة! لقد رميتها بنصف دستة من كتب» ... «لا حساء اليوم ~~ولا لحم ولا بيض. تبلغت أخيرا ms092 بلقمة من الخان» وهكذا وهكذا مما يصور لك الجحيم ~~الذي كان يعده طريد الناس والقدر ساحته ومأواه! # إن بيتهوفن ولا شك قد ورث صعوبة الخلق عن أبيه، الذي أتلفته الفاقة والسكر، ~~ووباء في طفولة قاسية شحيحة لا تنبض بفرح ولا رجاء، وربما كان جده على شيء من ~~تلك الصعوبة إذا صح ما روته الأحاديث من أنه غاضب أهله وهجر «أنتويرب» حيث ~~كانوا يعيشون ليقيم في «بون»، ولكنها بعد صعوبة خير من النذالة التي يغتفرها ~~المجتمع، ويرضاها الأصحاب والعشراء، ولو كان الناس يقبلون النية الحسنة يغشاها ~~الظاهر العسير، كما يقبلون الظاهر الأملس يغشى نية الكيد والجفاء، أو لو كانوا ~~يغلون الذهب عليه الغبار كما يغلون القشرة المذهبة في باطنها التراب وما هو ~~أقذر من التراب، لوجد بينهم بيتهوفن غير ما كان يجد وعرفوا منه غير ما كانوا ~~يعرفون، ولكن الناس يشترون الرجال بسعر السوق الجارية، ولا يحسبون في الميزان ~~حسابا للعبقرية منذ كانوا يأخذونها بغير ثمن فتسقط في الحساب! ولو أن النابغين ~~استطاعوا أن يحسبوا على أبناء عصرهم، وعلى من يخلفهم ويتلو خلفاءهم إلى آخر ~~الزمان ثمنا لعبقريتهم يتقاضونه من عواطفهم وعقولهم وما ملكت أيديهم، لضمن ~~أجفاهم وأعنفهم سعادة لسعادة العمر آلافا مؤلفة، ولما مات بيتهوفن في سبع ~~وخمسين وهو يرى كما يرى عارفوه أنه أشقى خلائق الله. # | الموسيقى1 # ما الموسيقى؟ هذا سؤال نود أن نسمع له جوابا بعدما قرأناه عن ذلك الموسيقي ~~العظيم الذي تجاوب العالم بذكره في خلال هذين الأسبوعين، وقبل أن نجيب عنه نحصر ~~ما نعنيه فنقول: إننا لا نقصد في المقال فن الموسيقى ولا ملكة الموسيقى، فإن ~~الموسيقى قد وجدت قبل فنها وقد توجد مع غيره، وليست الملكة إلا وسيلة لتجويد ~~الأداء تزيد وتنقص في بعض الناس، ولا تخلق هي ذلك الشيء الذي يحتاج إلى الملكة ~~في إبرازه، فلا الموسيقى إذن من الوجهة الفنية ولا الموسيقى من حيث هي ملكة في ~~بعض الطباع غرضنا من هذا المقال، وإنما نسأل عن الموسيقى من حيث هي باعث في ~~النفوس ms093 تحرك بها إلى استنباط الفن وأدواته، وتجردت له الملكات التي تعينه على ~~الظهور والإتقان، فما الموسيقى التي هذه صفتها أو ما هذا الشيء الذي قل أن يخلو ~~منه فرد أو قبيل؟ # يقولون: إن الموسيقى هي اللغة العامة: وهذا قول حق ولكنه أجدر أن يكون وصفا ~~لخاصة من خواص الموسيقى هي تلك الخاصة التي جعلتها لغة الناس أجمعين، يفهمونها ~~على اختلاف اللغات بسليقة فيهم ليست بالقومية ولا بالإقليمية ولكنها سليقة ~~«الإنسان» في كل موطن وزمان، وأحق من هذا أن نقول: إن الموسيقى «تعبير» يترجم ~~عن حالات نفسية لا يقصد بها أن تكون لغة عامة أو خاصة، ولكنها هي لغة عامة بغير ~~قصد من الهاتفين بها والسامعين، ومن رأي هربرت سبنسر أن الموسيقى هي الموازنة ~~بين حركات الرقص والأصوات التي تشفع تلك الحركات، وأن الإنسان إذا ثارت بنفسه ~~خالجة قوية دفعته إلى الحركة والصياح فيجيء الصياح موازنا للحركة، وتصبح كل ~~صيحة مقرونة بحركتها، فيهتز الجسم لوقع الصيحة إذا وردت على السمع فإذا هو ~~يتحرك حركتها الملازمة لها من حيث لا يشعر، أو يطرب الإنسان وينشط فتتحرك ~~أعضاؤه فإذا هو يهتف بتلك الصيحة التي توازنها! وغير عجيب أن يكون هذا رأي ~~سبنسر أو أي عالم غيره من علماء النشوئيين؛ لأنهم ألفوا في تعريف الأشياء أن ~~يرجعوا بها إلى عهود الهمجيات الأولى وأن يردوها إلى بساطتها المجردة؛ لتكون ~~أقرب إلى الفهم وأبعد من التراكب والتعقيد، فإذا بحثوا عن معنى الموسيقى رجعوا ~~إلى أصلها بين قبائل الهمج ونظروا إلى صورتها التي ظهرت بها في أقدم العصور، ~~فخلطوا بين الشيء في صورته الأولى وبين الشيء في جوره ولبابه، فإذا كان الهمج ~~يرقصون ويصيحون ويضربون بأرجلهم ضربا يوازن الرقص والصياح، فالموسيقى إذن هي ~~ضربة الرجل على الأرض، ثم هي دقات الطبل التي تحاكي ضربات الأقدام، ثم هي نفخ ~~المزمار ودق الأوتار على مثل الإيقاع! # وهكذا تسألهم عن الموسيقى فيجيبونك عن درجاتها التي ترقت عليها، أو عن الآلات ~~التي تعين على تمثيلها، وينسون أن كل مركب قد كان ms094 بسيطا في يوم من الأيام، وأن ~~العلم بهذا وإيراد الأمثلة التي تؤيده واستعراض المراحل التي درجت عليها ~~البساطة إلى التركيب لا يحل الإشكال، ولا يخرج بنا عن تحصيل الحاصل وعن توسيع ~~الحقيقة المجملة التي تقول: إن المركب يرجع إلى البسيط؛ فهب أن الهمج لم يضربوا ~~بأقدامهم على الأرض حين كانوا يرقصون ويهزجون أيكون هذا إذن قضاء على الموسيقى ~~كالقضاء على الجنين الذي لم يدفعه الرحم إلى وجود؟ أنسكت الطير عن الإنشاد ~~وتبطل دلالة الأصداء في النفوس؟ أنستغنى نحن عن التعبير الموسيقى؛ لأن آباءنا ~~استغنوا عن الضربة بالأقدام والصيحة بالأفواه؟ ولعمري إن الاندفاع إلى الرقص ~~نفسه لهو اندفاع موسيقي يحرك الفكر والجسم واللسان في آن، ويسبق الهيئة التي ~~يظهر بها طرب الأعضاء وصياح الألسن والتصفيق بالأيدي والضرب على الأقدام، ~~فالطبيعة الموسيقية هي التي تخلق الرقص، وتخلق ما يصاحبه من الحركات والأصوات، ~~والرغبة في «الموازنة» هي التي تجمع بين هذه المظاهر في حالة الهمجية، وهي التي ~~جمعت بين ما يشابهها من أطوار الطير والحيوان قبل أن تنشأ في همجية الإنسان، ~~وإنما الأصل في كل ذلك أن تقوم بالنفس فتعبر عنها كل جارحة بما تستطيع من ~~الموسيقية التي تتوازن في الجميع، ولو لم يكن الإنسان موسيقيا لما نقصت ~~الموسيقية التي في هذه الدنيا، ولا بطل ما فيها من التوافق والانسجام، فما ~~الموسيقية في الإنسان إلا صدى ذلك التوافق والانسجام الذي في الوجود، وإلا ~~دليلا على أنها بعض مظاهرهما وليست كل المظاهر في جميع الحالات، ولقد غنى ~~الإنسان؛ لأنه يريد أن يغني لا لأنه يريد أن يرقص، فقد يوجد الغناء في ~~الحيوان غير مقرون بالرقص، وقد يوجد الرقص في الحيوان غير مقرون بالغناء، فلو ~~لم يكن الرقص لكانت الموسيقى في نشأة غير تلك النشأة وأسلوب غير ذلك الأسلوب، ~~ولو لم تكن الآلات مبدوءة بتصفيق الأكف ودقة الأقدام، لبدأت الموسيقى بآلات ~~أخرى، وظهرت في هيئة غير تلك الهيئة؛ لأنها موجودة بغير وجود تلك الهيئات ~~والآلات. # والسمع ولا ريب هو سبيل الألحان إلى النفس، وعدة الموسيقى ms095 في الشعور بالأصوات؛ ~~ولكنه - ولا ريب كذلك - ليس بالسبيل الفذ الذي تنقطع الموسيقى عن النفس إذا ~~انقطعت موارده، ويمتنع الطرب إذا امتنعت رسائله، فللعالم أصداء كثيرة في النفس ~~الإنسانية، ليس السمع برسولها الفرد ولا هو خير الرسل التي تحملها إلى السريرة؛ ~~وفي عبقرية بيتهوفن شاهد بهذا يدل على مبلغ الحاجة إلى السمع في توليد الألحان. ~~فهي حاجة ماسة ولا بد منها في بعض أدوار الدراسة، ولكن الصمم مع هذا لم يمنع ~~بيتهوفن أن يخرج خير ألحانه وأكمل أدواره وهو محجوب الأذن منقطع عن عالم ~~الأصوات، ويلوح لنا أن الإحساس الموسيقي ليس بالإحساس الذي تزوده الموارد ~~الخارجية بالشيء الكثير، ولا هو بالمتوقف على الخبرة والمراس، كما هو شأن ~~الإحساس في نفس الشاعر والفيلسوف والحكيم، فهو كالحقائق الرياضية التي تدركها ~~البداهة ويضؤل فيها أثر الخبرة والمشاهدة، ولهذا ينبغ الموسيقيون كما ينبغ ~~الرياضيون في سن الشباب بل في سن الطفولة، ونسمع عن الأطفال الذي يحلون المسائل ~~والأقيسة، وعن الأطفال الذين يحكمون الإيقاع على الآلات في العاشرة أو ما دون ~~العاشرة، ولا نسمع عن هذه الأعاجيب في غير الموسيقى والرياضة من الفنون ~~والعلوم، ولهذا يتشابه الموسيقيون والرياضيون في الملامح والصفات، ويكثر ~~الملحنون بين علماء الفلك والرياضة كما لاحظنا ذلك في مقال لنا عن ~~الخيام. # فالتعبير الموسيقي يصدر عن النفس بمعونة قليلة من الخبرة الدنيوية والمعارف ~~العقلية، وهو فيها صدى التوافق الذي يشمل قوانين الوجود، ويضبط نسبته الملحنون ~~والرياضيون، ولسنا نعجب أن يتصدى الموسيقيون للتعبير الفلسفي، والإفصاح عن ~~المعاني البديهية بأداتهم من الألحان والآلات، فإن هذه الأداة لقادرة على أن ~~تلهمنا «الإدراك اللدني» الذي يعيا الفيلسوف بالتعبير عنه وإفراغه في قالب ~~الألفاظ والأفكار، وليس الجانب الذي تحده الألفاظ حدا يتساوى فيه جميع ~~الفاهمين إلا جانبا قريب الغور في نفس الإنسان، أما ما وراء ذلك من الضمائر ~~المغلقة والمعاني الرفيعة والبدائه الملهمة فليست حصة الموسيقي فيها بأقل من ~~حصة الفيلسوف ولا نصيب اللفظ منها بأجزل من نصيب الأصوات. بل لعل الموسيقي أقدر ~~على إلهامك بعض معانيه ms096 من الفيلسوف على نقل إلهامه إليك بالكلام الواضح ~~والتعبير الفصيح. # غير أن الذي نعجب له وننكره على الموسيقيين أن يدعوا ترجمة الكلام بالألحان أو ~~ترجمة الألحان بالكلام، وأن يزعم أحدهم أن يسمعك القصة منغومة كما يسمعها إياك ~~منظومة أو منثورة، بتفصيل كتفصيل الصور والكلمات، فهذه الدعوى تنزل بالموسيقى ~~ولا ترفعها وتعلقها بالتعبير الكلامي، ولا تجعلها مستقلة بتعبيرها الذي فيه ~~الكفاية والغنى عن غيره من أساليب التعبير، وحسب الموسيقي أنه صاحب رسالة ~~يبلغها بوسيلته، وصاحب ملكة لا تفتقر إلى ملكات غيره. # إن المعنى الواحد ليكتبه العربي ويكتبه الفرنسي فيبلغان ما يرومان من الإفصاح ~~والإقناع، ولكن إذا ادعى الفرنسي أنه يكتب الفرنسية بأسلوب يردها مفهومة ~~بالعربية، أو ادعى العربي أنه يكتب العربية بأسلوب يردها مفهومة بالفرنسية، ~~فهذا هو الغلو الذي تتنزه عنه البلاغة القويمة والرأي السديد، وكذلك المعنى ~~النفسي قد يعبر عنه الفيلسوف، ويعبر عنه الموسيقي فينقله كلاهما إلى النفس، ~~ويودعها مقصده من الفكر والشعور، ولكن إذا ادعى الفيلسوف أنه يكتب قولا يفهمه ~~القارئ ألحانا، أو ادعى الموسيقي أنه ينظم صوتا يفهمه السامع كلاما، فذلك هو ~~الشطط الذي لا يزيد الموسيقى فضلا، ولا يدل على اعتزاز صحيح بمزايا ذلك الفن ~~الجليل. ~~••• # والعلم بأن الموسيقى تعبير وأن الأصوات لا تطرب بذاتها، ولكنها تطرب بالشعور ~~الذي توحيه، والخاطر الذي تمثله في الطبائع والأذهان، يفسح للنفس دائرة الطرب ~~ويقيم لها هذا الكون كله وكأنه فرقة غناء تفتأ تصدح لمن يسمعها، وهي ناطقة ~~وصامتة وتدأب على الإيقاع وهي معبرة وغير محتاجة إلى التعبير، وليس في هذه ~~الدنيا أسعد ممن تسري أنغامها في نفسه على إيقاع يوافق أنغامها في كل شيء، ~~ويناسق معانيها في كل حركة، ولا أطرب في هذه الحياة ممن ينصت في ضميره إلى لحن ~~يجري مع لحن الحياة في غير ما تباين ولا نشوز، فمن لم يسعده القدر هذه السعادة ~~ولم يطربه ذلك الطرب فله معين في الفن يصلح بينه وبين الطبيعة التي غضبت عليه، ~~أو غضب هو عليها ولو بعض الإصلاح. # وإذا علمنا ms097 أن الموسيقى تعبير عن تناسق خفي في ضمائر النفوس والأشياء طربنا ~~لأصوات ليس يطرب لها أكثر الناس، وهششنا لأصداء يلوي لها بعض السامعين كشح ~~المهابة والإعراض، ولست أريد أن أقف لديك موقف الاعتراف إذ أقول لك أيها ~~القارئ، إنني أطرب لنقيق الضفادع على حوافي الجداول حين يبهجها نسيم الليل، ~~ولمعة القمر، طربا قل أن ألقاه في المهرجان الصاخب والعرس المنير، فقد يكون ~~فرح المهرجانات والأعراس صناعة مستكرمة لا سعادة فيها ولا صدق في أصواتها، ولكن ~~الضفدع التي يرتفع نقيقها في قمراء الليل، أو غاشية الظلام، لن تكون إلا شعورا ~~صادقا تمت الألفة بينه وبين أرضه وسمائه، فلا ريب ولا مراء فيما وراء دعائه ~~الساذج من السعادة والرضوان. # يقول صاحب كتاب «الموسيقى الآبدة» وقد أغضبه هجاء لبعض الشعراء وصف فيه البوم ~~أسوأ صفة، وقال فيه: إنه بليد بغيض حقير: «أتحسب أن البوم يبدو لقرينه بليدا ~~بغيضا حقيرا، لا يصلح لغير مصاحبة الخلائق النكدة، ومزاملة الأمساخ والغيلان؟ ~~إنك لو رأيته مرة يحنو عليه، ويمسح رأسه برأسه ، ويتخلل ريشه بمنقاره، ويناجيه ~~نجاء الحب والولاء، لغيرت فيه رأيك على الأثر إن كان ذلك ما كنت تراه.» وصاحب ~~هذا الكتاب يلقب البوم بأستاذ فرقة الظلام، ويعذر فرائسه إذا أبغضت نداءه، ~~ولكنه لا يعذر الإنسان الذي يتطير من ذلك النداء، ويجفل من مسمع ذلك الطائر ~~الوديع، والحق أن المسكين لا يصنع في وحدته المرهوبة إلا أن يغني لها وأن يأنس ~~بها وأن يقول لمن يسمعه: إنه مسرور وإنه يناجي أليفه نجاء الحب والنعيم، فإن ~~كان بغيضا إلى الناس أن ينعم خلق من خلائق الله في تلك العزلة الداجية، فما ~~ذنب الطائر المظلوم في هذا الجفاء الأثيم؟ الذنب للخرفة وللشقاء الذي قرن مرآه ~~في أخلاد الناس بمرأى الخراب والوحشة والظلام، والذنب للشعر والخيال، وليس ~~البوم بالأول ولا الأخير في عالم الشعر والخيال! # فمن شاء أن يستمع فليصغ إلى هذه الموسيقى التي يؤديها الصوت والسكون، والتي ~~سلمت من النبوة قصفها الصادع، وهمسها الضعيف، والتي تطرب البومة المشنوءة فيها ms098 ~~كما يطرب البلبل المأنوس، وليعلم أنما يستمع إلى صوت الله، وأن فن العازفين إن ~~هو إلا خلاصة مقربة من ذلك الوحي الفياض. # | أزياء القدر1 # ما أشد سخرية «القدر» بالناس! إن من سخريته بهم أن يضربهم بأيديهم، وأن يجعلهم ~~سخرية لأنفسهم، فلا يخرج الحي من الحياة حتى يكون قد سخر بأعز ما كان يعز فيها، ~~وأجمل ما كان يستجمل منها، وحتى يكون أضحوكة لنفسه، يضحك منها مرحلة بعد مرحلة ~~وهو كاره لهذا الضحك الأليم. # يسخر الفتى الناشئ من جهالته وهو طفل صغير، ويسخر الكهل الناضج من لهفته وهو ~~ناشئ في جن الشباب، ويسخر الشيخ الحكيم من كبريائه وهو كهل مصر على الأطماع ~~والأضغان، ويسخر الهم المضعضع من الشيخوخة والكهولة والشباب والطفولة فإذا هو ~~يتمنى ما كان يضحك منه ويضحك مما كان يتمناه، وإذا الحياة كلها «باطل الأباطيل» ~~لا يدري ما يراد بها ولا ما يريد، وكأن ذلك «القدر» لا يكفيه وهو يسخر منا ~~ويستخف بأفراحنا وآلامنا أن نذعن لقضائه ونصبر على بلائه، فلا يزال بنا يشهدنا ~~بطلان ما نحن فيه صفحة بعد صفحة وخطوة بعد خطوة، قبل أن يطوي الكتاب ويبلغ ~~بالرحلة إلى القرار، ولا يزال يستنكر منا الضحك بأنفسنا ويؤكلنا من لحمنا ودمنا ~~حتى يميتنا ذلك الضحك الذي لا يسر الضاحكين. # وللقدر تقول أزياء!؟ ماذا عنيت؟ أهي بعض النقمة من ذلك القدر الساخر أن نتخيله ~~في جلاله ورهبته جلس أندية وقعيدة محافل يخلع فيها زيا بعد زي، ويتأنق في ~~لباس بعد لباس؟ أهي بعض سخريته بنا نردها إليه ونقتص بها منه، إن كان ذلك فأهون ~~بها من نقمة وأهزل به من قصاص، وأحر بهذا الانتقام من القدر الجائر أن يكون بعض ~~جوره وإحدى رزاياه! # ولكن القدر مع هذا يتغير في أزيائه، ويتبدل في ثيابه. نقولها نحن ونستعرض ~~أطواره من يوم أن تربع على عروش الأوليمب في سماء اليونان إلى هذا اليوم الذي ~~يلبس فيه ألوانا من أزياء الوجود، وأشكالا من ثياب العدم، فما أعظم التغير ~~بين الطيلسان القديم والطيلسان الحديث ms099! وما أكبر الفارق بين ذلك السمت الغابر ~~وهذا السمت المقيم! كان القدر يومذاك في زي الإنسان يضرب صرعاه فلا يخطئ الصريع ~~أن يلمح على وجهه ابتسامة الظفر، أو نظرة الازدراء، وكانت للذي يناضله نخوة ~~المقاتل الجسور وبطولة المغلوب المعذور، ثم كان القدر بعد ذلك في زي الذي يأمر ~~وينهى ويأخذ الناس بالجزاء والعقاب غير مسئول ولا ملوم، ثم كان في زي من قصاصات ~~الأزياء البالية وطراز ملفق من القديم والجديد، كان أبا وحاكما وإنسانا ~~ينتقم ويراجع نفسه في الانتقام، ويضرب ضربته ويريد الخير بالمضروب، ويرمي ~~باليأس ويفتح باب الأمل على مصراع واحد أو على مصراعين أو على عدة مصاريع! وإذا ~~ضاق بالنقمة ذرع المبتلى بها ففي التجديف سلوى ولو قليلة وجزاء ولو يسير. أقل ~~ما في الأمر أنه يسب أذنا تسمع ويخرج على سلطان يناله الشكران والكفران. ثم ~~كان للقدر زيه الأخير وما يدريك ما زيه الأخير؟ آلة تدار بالبخار أو بالكهرباء ~~لا ترضى ولا تغضب، ولا تستمع إلى أحد ولا تند عن سبيلها إذا استمعت إليه. آلة ~~على قواعد العلم الحديث، قد دارت دواليبها على مواعيد وأقدار لن تختل قيد شعرة، ~~ولن تصغي إلى صلاة ولا تجديف. ~~••• # ذكرني بهذا الزي الجديد من أزياء القدر مجموعة وصلت إلي حديثا من شعر «توماس ~~هاردي» ونثره، قرأتها فجعلت أسأل نفسي: لماذا كتب الأديب الكبير هذه الكتابة، ~~ونظم هذا القصيد؟ أليقول لنا ألا فائدة من الكتابة ولا فائدة في أن نقول لا ~~فائدة! إن كان ذاك فتلك حكاية صادقة للحياة كلها في رأي توماس هاردي! وذلك وصف ~~محكم للكون في نفس هذا السائم الذي يبسط السآمة على كل شيء. أولا يسأل الشجر ~~في شعر هاردي سؤال الطفل المكتوف: لماذا نحن في هذا الوجود، فإذا جاز أن تخلق ~~الحياة التي لا نهاية لها لكي تعلم الخلائق «ألا فائدة»، فأقرب من ذلك إلى ~~القصد وأبعد عن الإسراف أن ننظم قصيدة أو قصائد لتنتهي بنا إلى هذه النتيجة، ~~وماذا يصنع العالم الصغير إلا أن يعيد رواية ms100 العالم الكبير، وكيف يراد الإنسان ~~إلا أن يكون نسخة موجزة من ذلك الإسهاب والإطناب؟ # تبتدئ هذه المجموعة بقصيدة عنوانها «سؤال الطبيعة» وفيها يقول الشاعر: # إذا طلع الفجر ونظرت إلى الطبيعة المصبحة جدولا وحقلا وقطيعا ~~وشجرا موحشا، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص ~~إلي، وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه فبردت حرارته، ~~ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس بسؤال كان ~~مسموعا ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاه: عجبا! عجبا لا انقضاء ~~له أبد الزمان! ما بالنا نحن قائمين حيث نقوم في هذا المكان، ~~أتراها حماقة جليلة - قادرة على التكوين، ولكنها غير قادرة على ~~القصد والترسم - خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافا لما تجري به ~~الصروف، أم تراها بقية من حياة إلهية تموت فقد ذهب منها البصر ~~والضمير، أم تراها حكمة عالية لم تدركها العقول نحن فيه فرقة ~~الفداء والغلبة المقدورة للخير على الشر هي مقصدها الأخير، كذلك ~~يسألني ما حولي وما أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في ~~الظلام والآلام كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى ~~جانب أفراح الحياة. # هذه فاتحة المجموعة! وقد أحسن صاحبها في الاختيار والابتداء، فالفاتحة هي الألف ~~والياء في فلسفة هاردي وفي كل ما نظم وصنف من قصيدة ورواية، والحق أن سآمة ~~الرجل في هذه الأبيات قد نفذت إلى لب الحياة، وجلت لنا روح السآمة أكأب جلاء، ~~فقد كنا نحسب السآمة فترى في النفس المتعبة فترة فإذا شجر هاردي يسأم ويتبرم ~~ويسأل: ما بالنا نحن مقيمين حيث نقوم في هذا المكان، وإذا به يسأم في طلعة ~~الصبح حين ينشط الفاتر، ويتبدد النعاس، ويستأنف الفرح بالوجود. # وفي المجموعة قصيدة أخرى إلى القمر، على صيغة السؤال والجواب بين الشاعر وجوالة ~~السماء يقول في تلك القصيدة: # ماذا رأيت أيها القمر في زمانك، وقد عدوت الآن طور الشباب. # آه. لقد رأيت ويا طالما رأيت، رأيت المليح والجليل، ورأيت الحزين ~~والأليم، ورأيت الليل والنهار، فيما غبر بي من الزمان ms101، وماذا سلاك ~~في زمانك أيها القمر، وأنت في عزلتك تلك وفي ذلك البعد ~~السحيق. # آه، لقد تسليت، ويا طالما تسليت! تسليت بالنماء والذبول. بالأمم ~~تحيا وتموت وتجن ويعروها الدوار. تسليت بكل ذاك فيما غبر بي من ~~زمان. # وهل عجبت أيها القمر لشيء في ذلك التجوال حيث أنت في نجوة من الأرض ~~ومما تصل إليه؟ # أي، لقد عجبت ويا طالما عجبت، عجبت لتك الأصداء تتوارد إلي من جانب ~~الناس في ذلك التجوال. # وماذا ترى أيها القمر في الطريق. أشيء هذه الحياة يذكر أم ليست هي ~~بذاك. # آه لقد أرى ويا طالما أرى، أرى أنها معرض كان أولى به أن يقفل أسرع ~~ما يكون أما قصص هاردي، فالمأساة فيها مأساة الصراع بين الناس وبين ~~قدر - كما علمت من هذا الشعر - لا يقسو ولا يستخف ولا يأمرك ولا ~~ينهاك، ليس بالقاسي؛ لأن القسوة أن تعلم بشكوى المصاب، وتزيده مما ~~يشكيه، وليس بالآمر والناهي؛ لأنه يدعك في حيرتك لا تدري ما يغضبه ~~وما يرضيه، وما يقبح عنده وما يحسن لديه، ولو كان قاسيا لأثارك، ~~فأنت تشعر بقوتك وعزمك، ولو كان آمرا ناهيا لأطعته فأيقنت سلامة ~~العقبى أو عصيته وتحديته، فقد يريحك أن تغضبه كما يغضبك، وتعرض عنه ~~كما يعرض عنك، ولكنه لا يباليك ماذا أنت ولا أين أنت، وهذا شر من ~~القسوة والاعتساف، فاشكر أو فاصبر، واكفر أو أسلم، وتمرد أو تقبل، ~~وتفهم أو تعجب، فسواء كل ذلك لديه، وجهد أمرك أن تسأم ثم أن تسأم ~~السآمة فتعمل، ثم أن تعود إلى السآمة من جديد! # وهذا هو القدر في زيه الأخير. # ألا إن الحياة لتثور على السآمة كيفما كانت العاقبة، وكيفما كان القضاء، وإن ~~لها لحكمها الذي يخيل إليك أنه يعلو على الغير، ويعبث بالفناء، وماذا تبالي ~~الحياة حين يستفزها الطرب أكانت تباليها المقادير، أم لا تباليها شروى نقير؛ ~~إنها لتطرب طربها وتختال خيلاءها، وإنها لن تعدم يومئذ تحية يحييها بها «هاردي» ~~الأسيف القابع في غيابة السآمة والقنوط، ولقد سمعت شجرة اليائس فاسمع منه ms102 صلاة ~~التمجيد والتبريك تحت قدمي عصفور يغني غناء المرح والرجاء، وهو سليب النظر ~~مطرود من عالم الضياء: # أيها العصفور! أبهذه النشوة تغني وهذا سخط الله عليك برضى من ~~الله؟ لقد ذهبت بعينيك الإبرة الحمراء قبل أن يخفق لك جناح، ~~فواعجبا لك تغني وتهتف بهذه النشوة أيها العصفور! # نسيت بلاءك ولم تنقم على تلك النقمة أيها العصفور. نصيبك ظلام ~~الأبد وحياتك تتلمس السبيل في جنح الليل البهيم، وأنت في سجنك الذي ~~لا يرحم، وبعد طعنتك الكاوية لا تنقم على تلك النقمة أيها ~~العصفور؟ # من لديه الخير؟ هذا العصفور. # من ذا يلازمه البلاء الواصب وهو كريم البلاء؟ ومن ذا تطيب نفسه ~~ويهنأ عيشه وإن أحاقت به ظلمة العماء؟ ومن ذا يمتد به الرجاء ويصبر ~~على كل شقاء؟ ومن ومن ذا يتنزه عن الظن السيئ ولا يلقى الشقاء بغير ~~الغناء؟ من ذا الإلهي المقدس المبرور؟ # هذا العصفور. # تلك تحية من السآمة إلى فرح الحياة، وتحية أخرى من «فكرة الفيلسوف» يتوجه بها ~~هاردي إلى ذلك الفرح الإلهي الذي لا يفارق الحي قبل فراق الحياة: «ألا فلنتمل ~~هذه الأرض فلا يقدح في نصيب السرور بها أن خلقتها القدرة العظيمة لحكمة غير ما ~~أصيبه أنا من سرور، ألا ولندع هذه النفس تسعد بمرأى ذلك الجميل يعبر بها غير ~~نابس لها بحرف ولا مشير بإيماء، ولأثن على تلك الشفة لغير شفتي تتهيأ للتقبيل، ~~ولأنشد أناشيد غيري كأنها غناء قلبي، ولأهتف بألحان توحيها وجوه لم تدر بخلدي، ~~ولأتوجه إلى الفردوس الموعود حين يصدق حلمه، ويجيء يومه فأرفع إليه نظرة الرضا ~~والشكران وليس لي في رحابه مكان!» # ذلك خير ما يستقبل به الإنسان قضاء القدر في «زيه الأخير». # | حرية الفكر1 # مصر بلد المحافظة والتخليد. كل ما فيها باق على وتيرته، متصل بين ماضيه وحاضره، ~~وكأنما كانت آلهتها في رأي أهل الأقدمين تأبى التجديد، أو تعجز عنه، فهي لهذا ~~توصي القوم أن يحفظوا أجسادهم ألوف السنين؛ لتعود إليها الحياة بعد حين بلا ~~تجديد ولا تبديل! فروح الحياة فيها لا تعرف ms103 إلا جسدا واحدا تلبسه وتستبقيه ~~إلى يوم الرجعة إليه، ولا يخطر للقوم أنها قادرة على إنشاء جسد سواه، وابتداع ~~لباس غيره! وهذا مثال المحافظة في تصور الحياة وتقييد القوة المنشئة في الوجود ~~«بشكل» لا تتعداه، وما الآطام المخلدة، ولا القبور المصونة، ولا الوراثة ~~المفروضة في العادات والأعمال والعبادات، إلا أمثلة أخرى لطبيعة المحافظة التي ~~غبرت عليها بلاد النيل الذي يعود كما بدأ في كل عام، والرمال التي تحتفظ بكل ~~وديعة تلقى إليها، والسماء التي تحول الأزمنة والفصول، وهي على عهدها لا تتبدل ~~ولا تتحول. # بهذا الخلق في المصريين دامت المسيحية ودام الإسلام، فلولا صلابة في العقيدة، ~~وصبر على العذاب، لعفى الرومان على المسيحية في مصر ثم في البلدان كافة، ولولا ~~وقفة مصر في وجه الصليبيين لذهب الإسلام أو لانزوى بأهله في ركن من الأركان ~~الآسيوية التي يجهلها العمران، بل لولا مصر في القدم لما كانت الموسوية - ولا ~~كانت المسيحية والمحمدية بعد ذلك - ما هي اليوم وما شهدها عليه آباؤنا الأولون. ~~فلمصر أثر خالد في كل دين خالد، وحصة باقية في كل ما تخيل الناس به معنى ~~البقاء. # وأنت تذهب الآن إلى قرى الصعيد الأعلى، فإذا أنت في مصر الآثار والموميات التي ~~غبرت عليها أدهار وأدهار، وإذا عادات القوم في الأفراح والجنازات وفي الزراعة ~~والري والإنارة هي عادات مصر الفراعنة بلا اختلاف قط أو باختلاف جد يسير، وإذا ~~المصريون اليوم يتوسلون بما كان يتوسل به أجدادهم الأسبقون في استعطاف الآلهة، ~~واستجلاب الخير والنسل واستدفاع القحط والبلاء، وإذا اختلاف اللغة، والعقيدة، ~~والحضارة، واختلاف في الطلاء لا ينفذ إلى ما وراء القشور، ولا يحجب ما وراءه من ~~ذلك المعدن القديم. # مصر الخلود هذه ما أحوجها إلى شيء من روح التجديد، وما أفقرها إلى عقيدة الخلق ~~والاقتحام! فإن من الحسن المرغوب فيه أن يكون المرء ذا عقيدة يسكن إليها ويغار ~~عليها، ولكن ليس من الحسن أن تكون العقيدة غلا في عنق «القوة الخالقة» تصورها ~~لنا عاجزة عن إنشاء جسد جديد، أو يعز عليها أن ms104 تتصور الحياة بغير هذا الجسد ~~المحسوس! إن أظهر مظاهر الخلق هو الإنشاء والتجديد وليس هو المحافظة والجمود، ~~وما الحياة نفسها إلا ثورة على «المحافظة والجمود» ونصر للحرية على ~~التقييد. # فليس أصلح للعقل المصري في هذه اليقظة التي يتيقظها الآن من الجرأة على التفكير ~~الحر، والقدرة على انتزاع المنازع المستقلة في الرأي والإحساس، وليس أحق ~~بالترحيب من الكتب التي تفك العقول من أسر قديم لا فضل له غير القدم، أو نخرج ~~بها عن سنة موروث لا تحفظه إلا سهولة العادة، وصعوبة الحرية والابتداع. # من هذه الكتب التي أرحب بها كتاب «حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» الذي أصدرته ~~مجلة الهلال للأديب سلامة موسى، فقد جمع فيه المؤلف أشتاتا متفرقة من تراجم ~~أبطال الحرية، وحوادث الصراع بين الجمود والاستقلال، فقرب هذه التراجم والحوادث ~~إلى الذين لا يعثرون بها في المطولات، وأكثر القراء الآن لا يرجعون إلى ~~المطولات، ولا يألفون من الكتب المقروءة إلا ما يحمل في اليد أو يوضع في ~~الجيب. # وجاءت هذه المجموعة الوجيزة في أوانها؛ لأننا نطلب اليوم الحرية، ونحب أن نكون ~~«أحرارا» في طلبها والشغف بها، ولا نكون كأولئك الذين يطلبونها تقليدا لمن ~~سبقوا بالطلب، فلا يحيدون عن سنتهم، ولا يعد غرامهم الذي يغرمونه بالحرية إلا ~~نوعا رفيعا من الذل والعبودية، فكل نزعة إلى التحرير لا تأتي من داخل النفس ~~ولا يشارك فيها الفكر والإحساس والجسد، إن هي إلا فورة تغلو ثم تهبط ولون من ~~ألوان السكون، يبدو في زي الحركة ولا بركة فيه. ~~••• # وليس كل استشهاد في سبيل رأي دليلا على طلب الحرية والتطور، ولا كل مجاملة ~~دليلا على الحجر والتقية، فقد يكون المستشهد في سبيل رأيه أكثر مبالاة ~~بالجماهير من المجامل الذي لا يرى في مطاوعة الجماهير، أو معاندتها ما يستحق ~~التعرض للمشقة والمجازفة بالحياة، فالمعول في الاستشهاد أو المجاملة إنما يكون ~~على طبيعة الفكرة لا على المسلك الذي يسلكه صاحبها في مناقشته المنكرين ~~والمنافسين، ولهذا نخالف المؤلف فيما كتب في «شهوة التطور» إذ يقول: «لم نسمع ~~قط ms105 أن إنسانا تقدم للقتل راضيا أوكد نفسه حتى مات في سبيل أكلة شهية يشتهيها ~~أو عقار يقتنيه، وإنما سمعنا أن أناسا عديدين تقدموا للقتل؛ من أجل عقيدة ~~جديدة آمنوا بها ولم يقرهم عليها الجمهور أو الحكومة، وسمعنا أيضا بأناس ضحوا ~~بأنفسهم في سبيل اكتشاف أو اختراع، فما معنى ذلك؟ معناه أن شهوة التطور في ~~نفوسنا أقوى جدا من شهوة الطعام أو اقتناء المال، وأن هذه الشهوة تبلغ من ~~نفوسنا أننا نرضى بالقتل في سبيل إرضائها وأننا لا نقوى على إنكارها ~~وضبطها.» # فصحيح أن «الفكرة» أقوى من المال والحطام، بل صحيح أننا نطلب الفكرة حتى حين ~~نطلب المال؛ لأننا نتوهم السعادة في اقتنائه، ثم يأتي المال ولا نزال نطلب ما ~~وراءه ولا نكتفي بتحصيله، ولكن ليس بصحيح أن التضحية بالنفس في سبيل الفكرة، ~~وعدم التضحية بها في سبيل الثروة والطعام دليل على شهوة التطور، وتغليب الإبداع ~~على الجمود؛ لأن الشهداء من المحافظين على القديم أكثر عددا وأعظم بطولة في ~~بعض الأحوال من شهداء التطور والتجديد، ولأن المرء يستشهد لأسباب كثيرة غير حب ~~الحرية لنفسه أو للآخرين، ولا شك في أن «التضحية» بطولة تكبرها النفس أيا كان ~~الدافع إليها والقصد منها، ولكننا نرى أن الحرية شيء والبطولة شيء آخر، وأن ~~الشهيد قد يكون مستعبدا في بطولته والمجامل المتسامح قد يكون حرا مترفعا في ~~مجاملته، بل ربما كان جاليل أعظم نفسا وأقل مبالاة من برونو الذي يضرب به ~~المثل للجرأة وقلة المبالاة، فقد تقدم برونو إلى النار عنادا للجماهير، ولم ير ~~جاليل للجماهير هذا الخطر الذي تستحق به كل هذا العناد: فكأنه يقول: من هؤلاء ~~الذين أجبن عن مسالمتهم وأستقبل النار مخافة رأي من آرائهم؟ ليكن لهم ما ~~يريدون، ولتظهرن الحقيقة التي أطيعهم اليوم في مداراتها، وهم صاغرون. # وقد يظن أن القوانين والعقوبات هي التي تحجر على الفكر، وتجبر المفكرين على ~~السكوت. كلا! فلا يحجر على الفكر غير الفكر، ولا قوة تصد العقيدة غير العقيدة. ~~ففي الزمن الذي كان البابوات فيه والملوك يحرقون ms106 من يقول بدوران الأرض، من ذا ~~الذي كان يساعدهم على ذلك الطغيان ويمد لهم في تلك الجهالة؟ ليست هي الجيوش ولا ~~السجون؛ لأن الجيوش اليوم والسجون أكبر وأضخم مما كانت في كل زمان، ولكنها ~~عقيدة الناس أن القول بدوران الأرض بلاء يجر عليهم غضب الله، ويحرمهم رحمة ~~السماء، فهذه العقيدة هي التي حجرت على العقائد التي كانت تخالفها وتشذ عنها، ~~فلما بطلت لم يقدر كل بابوات الأرض وملوكها على أن يهدروا في سبيلها شعرة واحدة ~~من تلك الرءوس التي كانت تطيح في كل مكان بغير حساب، وليس في قوانين العالم ~~اليوم نص يلزمك أن تلف رقبتك برباط لا فائدة له، وليس هو بأجمل ما تزان به ~~الرقاب؛ ولكن هب رجلا عزم على أن يخلعه ولا يعود إليه، فماذا تظن هذا الرجل ~~ملاقيا من الناس؟ الفاقة والازدراء، فهو لا يقبل في الوظائف، ولا ينال رتب ~~الدولة، ولا يدعى إلى البيوت، ولا يقابله الناس مقابلة الجد والاعتناء، وإذا لج ~~في أمره نسبوه إلى الجنون، وعاملوه معاملة المخلوعين المهدرين ، وقد يكون به شيء ~~من الجنون أو لوثة من الشذوذ، ولكن ليس لأنه خلع رباط الرقبة الذي يفيده، ولا ~~يجمل في عينه، بل لأنه استهدف لتلك المحنة، وصبر عليها من أجل شيء لا ~~يضير. # قلنا إننا نريد أن نكون أحرارا في طلب الحرية لئلا نطلبها كما يطلبها العبيد ~~المسخرون فمن تلك الحرية التي نريدها، أن نعرف حدود «حرية الفكر» نفسها، وأن ~~نفهم أنها ضرورة عجز لا تستحب لو كان الناس قادرين على الإنصاف في منع الأفكار ~~السخيفة الشائهة، وإطلاق الأفكار الصائبة الجميلة، فليست إباحة الحرية الفكرية ~~لكل إنسان إلا ضرورة ألجأنا إليها علمنا بعجزنا عن التمييز، وقلة إنصافنا ~~للمعارضين، وإلا فلو فرضنا أن اختراعا ظهر اليوم فعرفنا به كل فكرة تستحق أن ~~تذاع، وكل فكرة تستحق أن تمنع لا خوف من الغلو والتفريط، أو من الإجحاف ~~والمحاباة؛ فمن ذا الذي يدعو إلى إطلاق الحرية الفكرية لكل من أرادها، إلا أن ~~يكون متهوسا أو جاهلا ms107 بمعنى ما يقول؟ فنحن حين نأذن لكل فكرة بالظهور كمن ~~يقبل جبلا من التراب لئلا يخسر جوهرا قد يكون مخبوءا فيه، أو كمن يغربل ~~آكاما من الهشيم؛ طمعا في كيلة من الحبوب، وفي ذلك إسراف لا يسوغه إلا العلم ~~بأن الحجر المطلق على الأفكار إسراف شر منه وأقرب إلى المجازفة ~~والفقدان. # ومن الناس من ينصرون كل حديث على كل قديم؛ مخافة الاتهام بالرجعة والجمود، ومن ~~تسألهم ما رأيكم في الديمقراطية، أو في محاكاة الأوربيين، أو في المساواة بين ~~الرجال والنساء في جميع الحقوق، أو في وصف الصحراء والإبل في الشعر الحديث، أو ~~في غير ذلك من الأمور التي يكثر فيها الجدل بين الجامدين والمجددين، فتلفيهم من ~~أنصار كل جديد وأعداء كل قديم، وما كان عن علم ذلك الانتصار أو ذلك العداء، ~~ولكنه عن مجاراة كمجاراة الجامدين لحكم العادة وآراء الشواذ، فهذه الحرية ضرب ~~آخر من الجمود، ولا نريدها لمصر ولا نفضلها على عبادة القديم الذي ننعاه على ~~المقلدين، ولسنا أحرارا حين ندور مع الأفكار الطارئة كما يدور طلاب الأزياء مع ~~كل عارضة تروج، وكل خاطرة تعن في الأذهان، فلنكن جريئين على الجديد جرأتنا على ~~القديم، ولنتعود أن تنقد الحضارة الأوربية كما ننقد ما سلف من حضارات طويت الآن ~~بالحسن فيها والقبيح، والمرضي فيها والمغضوب عليه، ونرجو أن تكون رسالة الأديب ~~سلامة موسى خطوة من خطوات هذه الحرية التي لا تتقيد بقديم أو حديث، ثم نلاحظ ~~عليه أنه يفرط أحيانا في مطالبة الحرية بما لا طاقة لها به، وذلك حيث ~~يقول: # إن العلوم والفنون التي تملصت من قيود ~~الحرية - كذا - تقدمت وأثمرت كما نرى الآن في الكيمياء والطبيعة ~~والطب والميكانيكيات، فإن تقدم الصناعة إنما يعزى إلى تقدم هذه ~~العلوم، كما أن رقي الحضارة نفسها يرجع إليها، وقد يكون هناك مجال ~~للشكوى من سرعة تقدم هذه لا من تأخرها، ولكن العلوم العمرانية ~~والأخلاقية والشرعية والدينية كلها لا تزال متأخرة؛ لأن الناس ~~ليسوا أحرارا في الكلام عنها ومناقشتها، فنحن إذا قابلنا علم ~~الكيمياء ms108 اليوم بما كان عليه أيام سليمان الحكيم لوجدنا فرقا ~~هائلا يكاد يكون كالفرق بين الطفل الذي يلعب بالنار وبين معارف ~~مهندس يدير قاطرة، ولكن الفرق بيننا وبين سليمان الحكيم في الآراء ~~الدينية أو الأخلاقية أو حتى العمرانية لا يزال صغيرا جدا، وقد ~~لا يكون هناك فرق أصلا. # فسلامة أفندي يطلب هنا من الحرية الفكرية ما لا طاقة لها به، ولو أنه قال: إن ~~الطب لم يتقدم قط عما كان عليه قبل عشرة آلاف عام؛ لأن أجسامنا لا تزال تشبه ~~أجسام الأقدمين لما كان قوله هنا أغرب من القول بأن طبائعنا وأخلاقنا باقية على ~~ما كانت عليه في عهد سليمان الحكيم؛ لأننا لا نتكلم في الطبائع والأخلاق بحرية ~~العالم في الكلام عن العلم، والصانع في الكلام عن الصناعة! أفكان سلامة أفندي ~~يرجو أن تكون النسبة بين نفوسنا ونفوس آبائنا كالنسبة بين الطيارة المحلقة ~~والمركبة التي تجرها الخيول؟ أم كان يرجو أن ترتقي الأخلاق كما ارتقت الكتابة ~~من النسخ إلى الطباعة؟ إن حرية الفكر لن تصنع هذه المعجزات ، وإنما نحن نحكي ~~الذين عاصروا سليمان في الآداب والأخلاق؛ لأن طبائع النفوس لا تتحول في أيدي ~~الزمن كما تتحول الآلات في أيدي الصناع والمخترعين، ولو انطلقنا في الكلام على ~~العقائد إلى النهاية من الطلاقة لماء جاء اليوم الذي يتحول فيه الأدب النفسي ~~كما تتحول المخترعات التي يخلقها الإنسان. # | الفصيحة والعامية1 # ترى هل يأتي يوم تصبح فيه لكل أمة لهجة واحدة من لغتها، يتكلم بها عليتها أو ~~سوادها ويكتب بها أدباؤها ويتحدث سوقتها؟ نحن نقول: لا نظن، ويقول أناس: بل هذا ~~الذي يحدث يوما بعد يوم حتى تزول اللهجات الفصحى، ويقل التفاوت بين ما يتكلم ~~به الأثرياء في مجالسهم ومؤلفاتهم، وما يتكلم به الغوغاء في السوق وفي الطريق، ~~ويستدلون بهذا التحريف الذي لا يزال يدخل في كل لغة فصيحة فينزل بها إلى اللهجة ~~الدارجة، أو يرتفع باللهجة الدارجة إليها، ثم يقولون: وما عسى أن يكون مصير ذلك ~~إلا أن تنعدم الفوارق، وتتوحد الأساليب ويتساوى العلية ms109 والسوقة في الكتابة وفي ~~الكلام؟ # هذا رأي لأصحابه يسهل عليك تمحيصه بسؤال تسأله وهو: هل وجدت قط قبل الآن أمة ~~ذات حضارة وعمران كانت تنطق بلهجة واحدة في الكتابة والكلام؟ أو لعلك تذكرهم ~~خطل هذا الرأي إذا سألتهم: وكيف وجدت اللهجات الفصيحة في الأمم أو كيف وجدت ~~القواعد والمحسنات في كل لسان قديم أو حديث؟ أيرون أنها نجمت لتستعرض ساعة ثم ~~تزول؟ أو أنها نجمت مصادفة واتفاقا بغير أسباب داعية إلى ظهورها، وتثبيتها ~~وتأصيل قواعدها، وإذا كانت السنة الغالبة في كل شيء هي أن تنتقل الأشياء من ~~التوحد إلى التعدد، ومن التماثل إلى التنوع، فلماذا تشذ اللغات عنها فتنشأ ~~متوحدة ثم تتفرق، ثم تعود إلى توحدها القديم، فالذي نشاهده ونحققه بالتجربة ~~والاستقراء أن الناس ما تكلموا ولا يتكلمون الآن جميعا بأسلوب واحد ولهجة ~~واحدة، وسبب ذلك بسيط مفهوم، وهو أنهم لا يفكرون ولا يحسون على نمط واحد، ولا ~~مناص من الاختلاف في التعبير إذا اختلف الناس في الفكر والإحساس، بل لا مناص من ~~اختلاف الرجل الواحد في النطق بالعبارة الواحدة إذا اختلف موقعها من فكره ~~وإحساسه بين ساعة وساعة، وبين موضوع وموضوع، وليس هذا شأن التعبير دون غيره، ~~فإنه هو شأنهم كذلك في اللباس والسكن وأدوات الطعام والشراب، وسائر ما يشتركون ~~فيه من مرافق الحياة، فكيف تريدهم مختلفين في أساليب الطعام الذي يكاد يتساوى ~~فيه جميع الأحياء، ولا ترى أنهم يختلفون في اللهجات والعبارات وهي أولى أن ~~تتشعب وتفترق على حسب ما بينهم من تشعب في الذوق والشعور والفكر والمعرفة ~~والمقام؟ فلو أنك أتيت بلغة مصطلح عليها لا تفاوت بين لهجاتها وأساليبها ثم ~~تركتها لأناس يرتضونها على حسب حظهم من الفهم والإحساس، لما مضى على ذلك حين ~~حتى تكون هناك لهجة مهذبة ولهجة مبتذلة، وعبارات تستعمل في التوضيح العلمي ~~والسياق الشعري، وأخرى تستعمل في مساومات الأسواق ومحادثات الطرقات، ولن يتكلم ~~الناس على أسلوب واحد ولو كان كلامهم مقصورا على معاني السوق والطريق، فكيف ~~وهم يتناولون من المعاني ما تضيق به ms110 رحاب العلوم والفنون، وتتمثل أغراضه في ~~معارض شتى من الفلسفة، والدين، والأدب، والسياسة، والصناعة، وسائر المعارف ~~والأغراض. # ويقول أصحاب هذا الرأي: ما لنا لا نكتب باللغة التي نتكلم بها في البيت، ونقضي ~~بها مصالحنا في السوق، وكأن هذا أوجه ما يحتجون به للعامية على الفصيحة، وأظهر ~~ما يظهرون به فضل اللغة التي لا قواعد لها على لغة القواعد والأساليب، ولو ~~سألتهم: ما لنا لا نلبس الجلابيب في الأندية ومراكز الأعمال، أو ما لنا لا نخلع ~~كل لباس في حمارة القيظ، ولا حاجة لأكثرنا باللباس في وقدة الحر الشديد؟ لو ~~سألتهم هذا السؤال لتذكروا أن ما يصنع في البيت ليس من الضروري أن يصنع في كل ~~مكان، وليس من اللازم المتفق عليه أن يكون هو أصل التقاليد وقسطاس المعاملات. ~~فما كان البيت بيتا إلا ليجوز فيه من دعة الجسد والفكر، ما ليس يجوز في ~~الديوان والدكان، فضلا عن المدرسة والنادي، ومحافل البحث والظهور، وما كانت ~~النفس لتستحضر جميع مواقف الحياة، وهي في حالة التبذل والراحة، أو حالة ~~الاضطرار ومعالجة مطالب الأجسام. ~~••• # وقد تسمع من هؤلاء من يبشر باللغة العامية، ويحب أن تكتب بها روايات المسارح، ~~وتبسط بها مواقف الروعة والإحساس، وحجته في هذه الدعوة أننا نحكي الطبيعة في ~~التمثيل، ونريد أن نتكلم على المسرح كما نتكلم في كل مكان! ولكنك تراه يذهب إلى ~~دار التمثيل فلا يفوته أن يلبس رداءها الخاص الذي اصطلح القوم على لبسه في هذه ~~الدور، ولا ينسى أن ينبذ عنه عاداته التي تعودها في مجالسه وأشغاله ورياضاته، ~~فما باله يا ترى لا يلبس في دار التمثيل كما يلبس في كل مكان؟ وما باله يذكر ~~«الزينة» في الردهة وينساها حيث تجب الزينة على معرض الفن والتجميل؟ بل لماذا ~~يبرز لنا الممثل على المسرح وقد طلى وجهه بالمساحيق، وصبغ جفونه بالكحل، ولا ~~يتراءى لنا بوجهه وجفنه كما خلقهما الله، وكما نراهما في القهوة وغرف ~~الاستقبال! # فالحق أن «التهيؤ» ركن لا غنى عنه في جميع الفنون وفي مقدمتها التمثيل، ولا ms111 بد ~~لإلقاء الأثر البليغ في نفس المشاهد من «تهيئة» خاصة تنسيه الحياة الدارجة، ~~وتغمره في جو الفن والجمال وبيئة البلاغة والتفكير، فما الموسيقى وما المناظر ~~والصور وما المساحيق والألوان وما الشارات والمياسم والحركات التي تنبث هنا ~~وهناك في الملاعب والمعارض الفنية إلا وسائل «للتهيؤ الفني»، وتحضير الذهن ~~لحالة شعورية غير التي كان عليها في البيت أو في الطريق، فمن حق اللغة أن تشترك ~~في ذلك التهيؤ، الذي لا غنى عنه وأن تشعر المشاهد أنه في مكان تجب له الرعاية، ~~ويحرم فيه الابتذال، وانظر أنت إلى الرجل الساذج تلقى إليه الموعظة باللغة ~~الفصحى، ثم انظر إليه وأنت تلقي إليه تلك الموعظة باللغة التي يستخدمها هو في ~~مخاطبة زملائه وأهله، فإنك لتجدنه في الحالة الثانية وقد تبسم وترخص ونظر إلى ~~الأمر نظرته إلى القصص والفكاهة والقول الذي يؤخذ أو ينبذ على حد سواء، كما ~~يضحك حين يرى الإمام العالم في ثياب الباعة والمكارين، أو يرى الأمير الحاكم في ~~غير سمته وحواشيه، فليس من الكسب للحاسة الفنية أن تفقدها «تهيؤ » اللغة التي ~~يحتاج إليه المشاهد أشد من حاجته إلى كسوة تذكره حين يذهب إلى الملعب أنه ذاهب ~~إلى مكان غير البيت وغير الطريق، وليس من حسن التخريج أن تظهر اللغة على المسرح ~~بغير طلائها الذي يناسب ذلك المقام. # ثم أين هي محاكاة الطبيعة «الحرفية» في روايات الغناء، ومفاجآت الضحك والفكاهة؟ ~~وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في رجل فرنسي تنطقه على مسارح القاهرة بالعربية ~~البلدية؟ وأين هي محاكاة الطبيعة الحرفية في إخلاء المسرح من لوازم الأحاديث ~~والمعيشة، من سعال وتثاؤب ونوم وخلع ولبس وما إلى ذلك مما نراه في الحياة ولا ~~نراه في الروايات؟ كل أولئك نتسامح فيه مرضاة لدواعي «التهيؤ» التي يتم بها ~~جمال الحقيقة، وتشرف بها أغراض الفنون فإذا نحن تسامحنا في الحكاية اللغوية بعض ~~هذا التسامح، فقد يكون ذلك أبر بالأدب الذي ينتمي إليه التمثيل، وأبر بالحقيقة ~~وأبر بالفنون. # إنما يعنى الفن المسرحي قبل كل شيء بتمثيل الحالات المعنوية، لا بنقل ms112 الألفاظ ~~وحكاية النبرات، وليس من المعقول أن تنشأ في نفس السوقي المصري حالة معنوية لم ~~تنشأ قبل اليوم مرات في نفس رجل متكلم باللغة العربية، فالقول بان أطوار بعض ~~الناس لا يعبر عنها بلغة فصيحة أو قريبة من الفصيحة قول ينم على جهل وعجز ورغبة ~~في الشعوذة باسم المحاكاة الصادقة والتمثيل المطبوع، ونحن مع هذا لا نمنع اللغة ~~العامية على المسرح بتاتا؛ لأنها قد ترد مورد المجانة فتملح في الذوق وتظرف في ~~مواضعها من بعض الروايات، ولكنا نقول إن إنطاق العامي بالفصحى البليغة خير من ~~إنطاق جميع الناس بلغة العامة، وعبارات المواقف التي لا سمو فيها ولا ~~صيانة. ~~••• # أما الذين يستحسنون التعبير بالعامية، ويؤثرونها على الفصيحة لسهولة كتابتها ~~وفهمها فهم مخطئون فيما يتوهمون، بل هم يعكسون الحقيقة، ويتكلمون من غير تجربة ~~ولا روية، فالكتابة بالفصحى أسهل على معالجها من الكتابة بلغة العامة والجهلاء. ~~ومن توهم غير ذلك فليتناول صفحة يكتبها بالفصحى، ثم يحاول ترجمتها إلى العامية، ~~ولينظر أيهما أشقى عليه وأحوج إلى الدقة وكثرة التمحيص والانتقاء، ولسنا نشترط ~~أن تكون الصفحة في غرض من الأغراض العالية في الفلسفة أو الشعر أو العلم أو ~~الفن، فإن صعوبة التعبير بالعامية في هذه الأغراض أبين من أن تحتاج إلى بيان. ~~ولكنا نطلبها صفحة في البيع والشراء والمساومة، وسياسة الجماهير وأشباه هذه ~~المعاني التي لا تعز على الدهماء، فإن تبين بعد هذا أن الكتابة بالعامية ليست ~~بأيسر من الكتابة بالفصحى لم تبق إلا دعوى الجمال والرونق، وليس يدعيها للغة ~~العامة على لغة الخاصة إنسان له معرفة بالاثنتين. # أما سهولة الفهم فحسبك منها أن عامية القاهرة قلما تفهم على جليتها في بعض قرى ~~الصعيد، وأن عامية مصر لا تفهم في تونس والعراق أو في اليمن وفلسطين، وأنك تكتب ~~الفصحى فيفهمك من في مراكش، ومن في صنعاء، ومن في جاوة، ومن في نيويورك، ولكنك ~~تكتب العامية فتحتاج إلى عشرين ترجمانا ينقلونها إلى إخوانك في اللغة والآداب، ~~ثم هم ينقلونها إلى لهجات تختلف في ملابسات المعاني ومقارنات ms113 الأفكار، فلا تؤدي ~~مرادك إلا على شيء من التجوز والتبديل. # إن في كل أمة لغة كتابة ولغة حديث، وفي كل أمة لهجة تهذيب ولهجة ابتذال، وفي كل ~~أمة كلام له قواعد وأصول، وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما ~~بقيت لغة وما بقي ناس يتمايزون في المدارك والأذواق، فلن يأتي اليوم الذي يكتب ~~فيه فردوس ملتون بلغة العامل الإنجليزي، وفلسفة كانت بلغة الزارع الألماني، ولن ~~يأتي اليوم الذي تستوعب فيه قوالب السوق كل ما يخطر على قرائح العبقريين، ~~ويختلج في ضمائر النفوس، ويتردد في نوابغ الأذهان، فالفصيحة باقية والعامية ~~باقية مدى الزمان، ومزية الأولى القواعد والأحكام، ومزية الثانية الفوضى ~~والاختلاط، وإذا جاز في زمن من الأزمان أن ننسى الفوارق كلها في التفكير ~~والإحساس والشارة والمقام، فهناك يجوز أن تلغى القواعد وتبطل اللهجات، وتطغى ~~العامية على الفصيحة في كل بيئة وكل موضوع، وهيهات! # | التاريخ1 # إدوارد جيبون مؤرخ كبير، صائب الحكم، جميل النسق، واضح الأسلوب، ألف تاريخه ~~المشهور في تداعي الدولة الرومانية وسقوطها، فكان أثرا لتلك الدولة باقيا ما ~~بقي لها ذكر على لسان، وآية في عالم الأدب من أمتع ما كتب كاتب في تاريخ أو ~~رواية، وسجلا للحوادث يتجلى فيه صدق الرجل وصبره، وطول أناته وحسن تخريجه ~~وتعديله. # وكنت أقرأ هذا الكتاب فألمس فيه جلال القياصرة، وجلال العظماء، وأجمع فيه بين ~~لذة القصص، وعبرة التاريخ، ثم قرأت عن مؤلفه قصة مضحكة فما زلت بعدها أتصفحه ~~فيحضرني الابتسام، ويبدر إلي العبث بذلك المؤلف العظيم، ودولته البائدة ~~ووقاره المهيب؛ وذلك أن مؤلفنا هذا كان مفرط السمنة ثقيل الجسم، ولكنه كان لا ~~ينكر على نفسه حظها من الحب والغزل، فاتفق له مرة أن جلس إلى مليحة يكاشفها ~~الحب، ويشكو إليها الوله والصبابة، ثم تمادى فخطر له أن يصنع كما يصنع العشاق ~~من ذوي الكيس والرشاقة فركع بين يديها وأفاض في التذلل لها والتهافت عليها، ثم ~~فرغ من شكايته، وحاول أن ينهض فأعياه النهوض ورزح بذلك الحمل الثقيل الذي ألقاه ~~هو ms114 والدولة الرومانية معا تحت قدمي تلك المليحة اللعوب، فاستلقت ضحكا ولم ~~تشفق على رصانة التاريخ ورصانة الحكمة أن تغرقهما في السخر والدعابة وتردهما ~~بالخجل والخيبة، وكتب هربرت سبنسر مقالة عن «الضحك» فلم يجد هذا العالم الرزين ~~مثلا يضربه للمفاجأة المضحكة غير هذا التناقض بين السمنة التي يحملها الأستاذ ~~جيبون، والخفة التي يدعيها، والمجانة التي يتورط فيها، فكان ضحك العالم الحكيم ~~بتلك العثرة الغرامية التاريخية مضاعفا لما فيها من الدعابة والهزل ~~البريء. # تناولت جزءا من تاريخ الدولة الرومانية وفي ذهني هذه القصة، وعلى شفتي ذلك ~~الابتسام، فجعلت أقرأ فيه فصلا بعد فصل، وحكما بعد حكم، وأتمثل جيبون بين ~~أطلال الرومان يستملي العبر، ويستجلي الحقيقة، ثم أتمثله بين يدي تلك المليحة ~~يتلقى الضحك، ويبوء بالخيبة فيخطر لي بين حين وآخر أن أداعبه وأداعب تاريخه ~~الطويل، ودولته العريضة وأسأله: وما يدرينا يا مولانا جيبون أن الحقيقة كما ~~وصفت والأمر كما يدعون؟ # يخطر لي هذا الخاطر ثم أعود إلى نفسي فأقول: وهل الدعابة وحدها هي التي توحي ~~إلى الذهن هذا السؤال عند قراءة التاريخ؟ وهل لا يحق لنا أن نلقي السؤال بعينه ~~على كل مؤرخ يجد في سرد الوقائع استنباط الأحكام، ويلبس وجه القاضي الوقور، وهو ~~يوزع الخطأ والصواب والتبرئة والاتهام بين عباد الله الذين لا يملكون له ~~تكذيبا ولا تصويبا، ولا يقدرون بين يديه على دفاع ولا تفسير؟ وهل لا يجوز لنا ~~أن نجرب كل مؤرخ في تدوين واقعة مما نراه ونسمعه ونعاشر جناته وشهوده، ثم نرى ~~كيف تتناقض فيها الآراء وتصطدم الظنون، وتغيب الحقيقة وراء الأغراض والشهوات ~~والأوهام؟ فالتاريخ إشاعات كما يقول كارليل، أو هو أساطير مصدقة كما يقول ~~فولتير، أو هو رواية يخترعها كل كاتب من توليد خياله، وينتحل لها الأسماء ~~والأعلام من سير الناس وحوادث الأيام، وكلما اتفق المؤرخون على رواية مسطورة ~~كان ذلك أدعى إلى الشك فيها والتردد في قبولها؛ لأنه دليل على الأخذ بالسماع ~~والتسليم بغير مناقشة، فأما إذا اختلفوا واضطربت أقوالهم بين الثناء والمذمة، ~~والترجيح والتضعيف، فأنت ms115 إذن حيال التاريخ في بابل من الفروض والآراء، ومضلة من ~~الحقائق والشكوك. # والمؤرخ يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه القاضي من الشهادات، والأسانيد، والبينات، ~~وقد يعوزه كل أولئك في أكثر الحوادث التي يتصدى لها بالبحث والتقرير، فكل حادثة ~~تاريخية قوامها الأشخاص، والأخبار، والمصالح، والآراء، ولكل عنصر من هذه ~~العناصر آفة تتطرق إليه بالزغل والارتياب، فالأشخاص يحيط بهم الحب والبغض، ~~والرغبة والرهبة، والظهور والخفاء، والأخبار يعتورها الصدق والكذب، والفهم ~~والجهل، والوضوح والغموض، والمصالح تتفق ولا تتفق، وتجاري الحقيقة وتناقضها، ~~وتصبغ الأشياء عامدة أو غير عامدة بصبغة تلوح لهذا غير ما تلوح لذاك، والرأي ~~عرضة لاختلاف العلم والنظر والمزاج، وكل ما يدخل في تكوين الآراء وتقدير ~~الأحكام، وإذا تأتى للمؤرخ أسباب الحكم على الأعمال الظاهرة، فقد تعوزه أسباب ~~الحكم على النيات الحفية، والبواعث المستورة، والعوامل التي يحجبها الإنسان عن ~~خلده، ويغالط فيها ضميره، وهبه تأتى له كل ما يتأتى للقاضي من الشهادات ~~والأسانيد والبينات، فهل يسلم القاضي من الزلل، وهل يأمن الزيغ في الفهم، ~~والمحاباة في الهوى، وانتشار الأمر عليه في القضايا التي لها خطر وللناس بها ~~اهتمام؟ أما سفساف الحوادث فسواء أصاب فيها القاضي أو أخطأ فهي أهون من أن ~~يتعلق بها خبر في تاريخ أو مذهب في قضاء. # ومما لا ريب فيه أنك إذا فهمت حوادث الحاضر فهما جيدا، أغناك ذاك عن فهم ~~حوادث الماضي، أو أعانك على إدراك دخائلها إن كان لا بد لك من الإحاطة بها ~~والنفاذ إليها، ولكنك إذا فهمت حوادث الماضي حق الفهم - وليس ذلك بالميسور - لم ~~يكد يغنيك هذا عن تدبر كل حادثة تمر بك في الحياة واستخلاص عبرتها، واستطلاع ~~أسبابها ونتائجها، فأنت لا يعنيك من حوادث الماضي حقيقة الحادثة لذاتها، وإنما ~~يعنيك تطبيق تلك الحقيقة على حياتك، وهنا يقف التاريخ ويقف المؤرخون وتبدأ ~~الفطانة الصحيحة، والبديهة الثاقبة، والمزايا الشخصية التي يضيف إليها العلم ~~بالتاريخ بعض الإضافة، ولكنه لا يسد مسدها ولا ينوب عنها، وهب أن رجلا درس ~~التواريخ جميعا، واطلع على أخبار الأمم والعظماء ms116 جميعا، وخرج منها كلها ~~بنتيجة وجيزة هي أن الناس عباد المنافع، ولكنهم يعملون لغير منفعة معروفة في ~~بعض الأحيان، فماذا ينفع العلم بهذه الحقيقة من يمارس الدنيا، ويحتاج إلى ~~المعرفة بخلائق الذين يعاملونه ويعاملهم في الحياة؟ هل يبني معاملته للناس على ~~أنهم طلاب منافع في كل سعي وكل غاية؟ إذن يخسر كثيرا من المنافع التي قد تأتي ~~إليه من حيث لا يبغي أصحابها نفعا ظاهرا ولا فائدة قريبة، ويخسر راحة العطف ~~التي يشعر بها من يأنس إلى الناس ويأنسون إليه في غير مطمع معيب، ولا لبانة ~~متهمة. أم يبني معاملته لهم على أنهم زاهدون في المنافع مبرءون من العلل ~~والمطامع؟ إذن يتخطفه الطامعون، ويعبث بحسن ظنه العابثون، ويصدمه الواقع في كل ~~خطوة، وتفجعه الخبرة في كل صديق. أم يبني معاملته لهم على أنهم يطلبون المنفعة ~~حينا، ويطلبون العطف حينا، وقد يطلبونهما معا في أكثر الأحيان؟ ذلك هو ~~الحكمة والصواب، ولكنه الصواب الذي ليس يفيده فيه التاريخ شيئا، إذ كان هذا ~~التاريخ لا يقف إلى جانبه ليريه في كل لحظة من لحظات حياته أين تكون المنفعة، ~~وأين يكون العطف، وأين يلتقيان، وأين يفترقان؟ وليس في وسع هذا التاريخ أن ~~يلهمه إذا هو عرف موقع المنفعة وموقع العطف كيف يكون مسلكه من طلاب المنافع ~~وطلاب العواطف، ولا كيف تتغير معاملته لفرد فرد منهم على حسب التغير في المنفعة ~~التي ينشدها والعاطفة التي ينقاد إليها، والعجيب أن الناس في هذا الأمر بين ~~اثنين ليس لأحدهما حظ يذكر في غبر التواريخ، فالنظريون قلما تفيدهم الحقائق ~~المدرسية؛ لأن آفتهم إنما تكون من التطبيق لا من الإدراك، ومزاجهم يوقعهم في ~~الخطأ الدائم، والتردد الذي لا يسعف صاحبه في المآزق على حد قول أبي ~~العلاء: # وأعجب مني كيف أخطئ دائما # على أنني من أعرف الناس بالناس # والعمليون ينساقون بالفطرة إلى العمل الذي يلائم كل حالة، ويتمشى مع كل بيئة، ~~فلا حاجة بهم إلى البحث والتأمل، ولا فائدة للحوادث الماضية عندهم، إلا كفائدة ~~الحوادث التي يعالجونها ولا يتعمقون ms117 في درسها والتعقيب عليها، وهؤلاء ساسة ~~الأمم المفلحون لن تجد في كل عشرة منهم سائسا واحدا يطيل الدرس، ويستقصي ~~الأسباب والنتائج، أو يستشير في المشاكل والأزمات نصيحا غير عفو الساعة ووحي ~~الغريزة، ثم لا تراه أكثر خطأ في تصريف مشاكله وأزماته من أصحاب النظريات الذين ~~يقيسون الحاضر على الماضي، وينعمون النظر إلى المستقبل ويجعلون لكل حادث شبيها ~~غابرا قل أن يشبهه في جميع نواحيه؛ بل ربما رأيت أصحاب هذه النظريات وقد خلعوا ~~عنهم ربقتها، وصمدوا على رءوسهم لا يحجمون ولا يتلعثمون كأنهم يخشون فتنة البحث ~~فيوصدون آذانهم عن دعائه المقنع، ودعائه المريب، ومن هؤلاء «بلفور» وهو أكبر ~~الشكوكيين في الفلسفة، وأكبر الجازمين في السياسة؛ لأنه يخاف على سياسته من ~~«النظريات» فينفضها عنه نفضا، فإذا هو في نظرياته التي يختارها عملي أشد من ~~العمليين في التشبث بما يبرمون. ~~••• # ولقد كان للتواريخ الماضية فائدتها الكبرى، يوم كان الحاضر محصورا في أضيق ~~الحدود، وكانت كل أمة مقصورة على نفسها وعلى جيرانها، تجهل الأمم البعيدة عنها، ~~وتحسب الماضي أقرب إليها من الحاضر الذي يعيش معها في زمان واحد، أما اليوم ~~والحاضر يتسع أمامنا إلى أوسع مداه والشعوب تحيط بنا من كل طراز قديم أو حديث، ~~فأي خبر من أخبار الغابر البعيد لا نجد له نظيرا في أخبار الحاضر المشهود؟ ~~وأية عبرة من الأيام الأولى لا تتوارد علينا مثيلاتها بعد ساعات من وقوعها في ~~أقصى الشرق والغرب وأبعد الشمال والجنوب؟ فالرجوع إلى أعرق عصور الهمجية لا ~~يجشمنا رحلة آلاف السنين في القماطر والأوراق، ولا يفصلنا عنه فاصل من زمان؛ ~~لأنه يعيش عنا ويتصل بنا وتأتينا أنباؤه ولا تمتنع عليه أنباؤنا، ولدينا الآن ~~معارض من الحكومات والشعوب والحضارات تضيق ببعضها رحاب التاريخ المعلوم ~~والمجهول، وأمامنا الآن صنوف من الأنباء والخطوب، يستغرق بعضها عشرة آلاف سنة ~~من سنوات المنقبين والمؤرخين، وفي أسماعنا الآن ثورات كالثورة الفرنسية، وغارات ~~كالغارة التترية، ومجالس كمجالس الدولة الرومانية، ونهضات كنهضة القرون الوسطى، ~~ووثبات كوثبة العباسيين أو كوثبة الأيوبيين، ودعوات كدعوة العقائد والأديان ms118، ~~ودسائس وحروب وزعماء وطبقات، ككل ما سبق من أمثالها في كل عصر قديم وزيادة ~~عليها من بواكير هذا العصر الحديث، فافهم البلشفية في روسيا، والزعامة في ~~إيطاليا أو في إسبانيا أو في تركيا أو في بولونيا أو في إيران، ومطالب العمال ~~في الدنيا بأسرها والنهضة في الصين، وحرب الاستعمار في مصر ومراكش وسورية ~~والأفغان، وتألب القبائل بوادي الأعراب وأساليب السياسة والمال والعلم والأدب ~~والفن في فتح الفتوح وتحويل الأحوال، واستحضر ما عبر بك من بداءة القرن العشرين ~~إلى هذه الساعة من حوادث الأمم والأفراد، تكن على أيقن اليقين أنك لن تحتاج بعد ~~ذلك من التاريخ إلى الشيء الكثير، وأنك إذا فاتك علم الحقيقة في هذه الأنباء ~~التي تسمعها وتبصرها وتعيش بين أصحابها ومؤرخيها، فلأن يفوتك علم ما سلفت به ~~الدهور أولى وأقرب إلى العقول، ذلك هو التاريخ في حقائقه وأباطيله وفائدته ~~ولغوه، فما أسهل ما يدان هذا الذي يدين كل الناس وما أيسر ما يقضي على هذا الذي ~~يقضي في كل مجال؟ فهل نطوي صحيفته؟ هل نقذف به في النار؟ هل نجمل تاريخه كما ~~أجمل هو تاريخ الإنسان، فنقول إنه ولد فمات فلم ينفع أحدا بين المولد ~~والممات! # لا! بعض الرحمة، فقد يكفي أن يظل بيننا شاهدا للاستئناس به، كما يقولون في لغة ~~المحاكم، ثم لا نترقى به بعد إلى منزلة الجزم والإبرام. # | الشعر في مصر (1)1 # في الأمم الشاعرة وغير الشاعرة، والمطبوعة على الفن والآخذة فيه بضروب المحاكاة ~~والتقليد، ولبعض الأمم عبقريات تظهر في شتى من الفنون كالموسيقى أو كالتصوير أو ~~كالغناء وما يلحق بها من وسائل الإعراب عن النفس، وتمثيل الجمال التي لا تحصرها ~~الفنون، وهكذا تنوعت عبقريات العرب والإنجليز والألمان والبولونيين، وأمم أخرى ~~في الشرق والغرب وفي القديم والحديث، فما شأن مصر يا ترى بين هذه العبقريات، ~~وما نصيبها من الشعر خاصة ومن وسائل الإعراب الأخرى عن ذوات النفوس؟ أهي شاعرة ~~بالفطرة أم شاعرة بالمحاكاة؟ وهل شعرها من شعر العبقرية والطبع العميق، أم هو ~~شعر الحس والألفاظ والأصداء ms119؟ # خطر لي هذا السؤال مرات. خطر لي حين وقفنا بين القديم والجديد في الأدب، وعلمت ~~أن إصلاح أدب أمة هو إصلاح لحياتها ومعيشتها، وأن تغيير مقاييسها الفنية هو ~~تغيير لكل ما فيها من مقاييس الفطرة والإدراك والشعور، فكنت أحب أن أعرف المدى ~~الذي يستطيعه الأديب إذا هو حاول في مصر إصلاحا للأدب عامة أو لفن من فنونه: ~~أهو محاول خلق أمة فتلك محاولة فاشلة ومطلب لا يطاق؟ أم هو محاول شيئا لا ~~يحتاج إلى أكثر من التذكير والتنبيه وضرب الأمثلة وبيان الفوارق بين الجميل وما ~~ليس بالجميل؟ # ورجعت إلى مصر القديمة لأعرف جوابها على هذا السؤال، فإذا آلاف السنين مضت فلم ~~تنجب شاعرا واحدا عظيما، ولم تخلف لنا أثرا من الشعر كتلك الآثار التي ~~رويناها عن أمم العهد القديم، وقلبت كلام «بنتاؤر» شاعر مصر القديمة فلم أجد ~~فيه شعرا ولا شبيها بشعر، ولم أتسمع له نبضا ولا خفق حياة، وكل ما بقي له ~~مما يسمى بالقصائد والأناشيد شبيه بتدوين المحاضر الرسمية التي يعوزها التفصيل ~~والتحقيق، فلا هي بالعلم ولا بالفن، ولا هي بالحماسة ولا بالتاريخ، فقلت وأنا ~~أميل إلى التردد: لو أننا حكمنا بهذا على عبقرية مصر الشعرية لكان الحكم إلى ~~التجريد والإنكار لا إلى الثقة والرجاء، بل وجب أن نقول في صراحة وجزم أن ليس ~~في مصر من الشعر شيء. # ونظرت إلى العصور الحديثة بعد الإسلام، فلم أعثر بشاعر واحد أنبتته مصر يذكر ~~بين أعاظم الشعراء وتسمع له رسالة من رسالات الحياة، فكل شعرائها عرب أو مقلدون ~~للعرب وكل هؤلاء وهؤلاء عالة على الأدب، ونفاية ضئيلة أولى بها أن تنبذ ~~وتهمل. # ونظرت إلى العصور القريبة فأحصيت من نظم شعرا في مصر من خمسين سنة فإذا هم ~~كلهم - إلا قليلا - يرجعون إلى أنساب غير مصرية، ويحسبون من المصريين وليس ~~منهم في غير النشأة والإقامة؛ وأغرب من هذا أنك لا تجد في هؤلاء واحدا يثابر ~~على النظم بعد الثلاثين أو الأربعين، كأنما هي شاعرية الشباب التي تخف بهم إلى ~~النظم والغناء ms120 في إبانها، وليست هي بشاعرية البيئة وسليقة القومية التي تفتأ ~~فتية في الإنسان طول الحياة، وهم بعد لا يقولون في شبابهم شيئا يفخر به ~~الشباب، ويحدثك عن حياة زاخرة بالشعور والتفكير مفعمة بالمطامح والأشواق، فكل ~~شعرهم نغمة مرتلة على وتر واحد من طنبورة هزيلة في جانب المعازف العالمية التي ~~تضج بالأصوات والأصداء، وتهبط في الهمس إلى قراره وتعز في هتفاتها إلى أعلى ~~مقام. # وأدهشني فوق كل هذا أنك تلقى بعض شباب المصريين الذين درسوا في معاهد الغرب، ~~واطلعوا على طرف من آدابه فتلفيهم على جهل بالأدب ومقاييسه الصحيحة يحيرك ويخلف ~~رجاءك، وتسمعهم يستحسنون كلاما لا يختلف في لبابه عن ذلك الكلام الذي كان مناط ~~الإعجاب والاستحسان في رأي الهاذرين بالصناعة والمحسنات المولعين بالشعوذة ~~اللفظية و«الحقائق الببغاوية» والمعاني التي تحبس الحياة في أضيق الآماد، وأوضع ~~الآفاق، فتهم بأن تقول: هو الذنب إذن على الطبيعة والفطرة لا على الجهل وقلة ~~الاطلاع، وهل هي إذن عاهة لا حيلة فيها لطبيب ولا مطمع فيها لعلاج. # كل أولئك كان خليقا أن يفضي بي إلى اتهام السليقة المصرية، والجزم في إقفارها ~~من روح الفن والشاعرية، ولو أنني جزمت بذلك لقد كان لي في هذه الدلائل الظاهرة ~~مقنع وعذر بليغ، ولكني مع هذا لم أجزم برأي، ولم أبرح أحس في نفسي الشك فيه، ~~والميل إلى إنكاره، واحتجت إلى تعليل تلك الدلائل تعليلا يفضي بي إلى غير تلك ~~النتيجة، أو يحدو بي إلى التأني الشديد والتمهل الكثير في الإفضاء إليها، وما ~~أحوجني إلى ذلك التأني ولا عدل بي عن ذلك الحكم الجازم إلا منظر واحد يراه في ~~مصر كل من عرف الصعيد، وعاش في بقايا مصر القديمة بين إقليمي أسيوط وأسوان. ~~وذلك المنظر هو حلقات الإنشاد في الليالي القمراء بين ظلال النخيل. # من شهد تلك الحلقات، ومن سمع ذلك الغناء، ومن لمس ذلك الجذل المحزون في قلوب ~~أبناء تلك الأقاليم، ومن سمع الأرغول يحن حنينه ويعول إعواله، ويستخف في رزانة، ~~ويرزن في خفة وسهولة، ومن أحيا ليلة ms121 من ليالي الصيف القمراء بين تلك الظلال على ~~تلك الرمال صعب عليه أن يستمال إلى الدلائل التي تنكر الشاعرية على سليقة ~~المصريين، بل من رأى فلاح الصعيد يسرع إلى تسجيل كل حادث في حياة القرية بالنظم ~~والنشيد، فإذا هو الشاعر وإذا هو الملحن وإذا هو المغني المنشد، عز عليه أن ~~يصدق التواريخ والأسانيد إذا هي قالت له يوما إن هذه النفوس خلو من ملكة الفن، ~~محجوبة عن وحي القصيد، ولقد تروعك بين تلك الأغاني الساذجة لمعات كخطف البرق من ~~متعة الحياة، وسكر الطبيعة وحنين المجهول يرتفع إلى ذروة الشعر، وتومض بين أسمى ~~الجواهر التي تجلوها قرائح العبقرية والإلهام، فتؤمن أن المنجم غني والمعدن ~~نفيس، وأن شعرا هنا مخبوءا يستحق أن يكشف عنه ويستمع إليه. # وتسمع هذه الأغاني ثم تقرأ الأغاني الشعبية التي حفظتها الآثار عن أيام ~~الفراعنة فتستغرب المشابهة بينها في المحور والموضوع والمذهب، وترى هذه ~~المشابهة تشتد أحيانا حتى يخيل إليك أن الحديث ترجمة للقديم، أو أنه تتمة له ~~مكتوبة في لغة جديدة، وأحسب أن لو بقيت لنا النغمات كما بقيت الكلمات لوجدنا ~~مشابهة في الألحان أتم من المشابهة في المعاني، وعرفنا في النغمات القديمة ~~خصائص النغمات الشعبية الحديثة، أو هي على ما نظنها خصائص الروح المصرية في ~~الصميم؛ لأنها تتراوح بين طرفي المزاج المصري من الكآبة الساهية والمرح الراقص؛ ~~فأنت تبطئ في إنشادها فتغلبك الكآبة، وتسرع في الإنشاد فيغلبك المرح، وأنت في ~~حالتي الإبطاء والإسراع مستسلم للنسيان، راغب عن ملابسة الواقع المملول. # هذه الأغاني هي التي أحوجتني إلى تأويل ما رأيت من دلائل الفاقة في السليقة ~~المصرية، فلم أجد التأويل بعيدا، ولا المخرج صعبا من هذا التناقض بين الظواهر ~~والبواطن، إذ يلوح لي أن العزلة بين الشعب والحكومة، والفوارق الدائمة بين ~~الحياة القومية والحياة الرسمية، هي علة الجدب الغريب الذي يلاحظ على آداب مصر ~~«الرسمية»؛ أي الآداب التي تجري على تقاليد الحاكمين والسروات في العصرين ~~القديم والحديث. # فبنتاؤر لم يكن شاعر الشعب ولا لسان الحياة المصرية، ولكنه كان ms122 شاعر فرعون؛ أي ~~شاعر الكهان والمراسيم والصمت الديني والهيبة الملكية، ولا أمل للحياة ولا ~~لدوافعها وألاعيبها في الطلاقة والظهور بين هذه القيود والغشايات، ثم دالت دولة ~~الفراعنة، وجاءت دولة العرب فكان المثل الأعلى في الشعر عربيا أجنبيا، وكان ~~الشاعر المصري المتكلم بالعربية مقلدا بالضرورة محصورا في طائفة الموظفين ~~وأشباه الموظفين وأذناب الحكام، وليسوا هم خير عنوان للأمة وملكاتها ومواهب ~~الفنون فيها، ثم جاءت دولة الترك والمماليك ودخلت مصر العلوم الحديثة في الجيل ~~الأخير، فكان التعليم فيه موقوفا على أبناء السروات والحاكمين وأتباعهم، ~~وأكثرهم يرجعون إلى أنساب غير مصرية، ولا يعرفون الأدب إلا تقليدا للعرب أو ~~للناطقين بالعربية، فلم يتفق لمصر عصر نطقت فيه روحها الشعبية، فظهرت في عالم ~~الفنون المهذبة وقالب القصائد المنتخبة، ولم يزل لنا أدبان ناقصان أدب مطبوع # 2 # غير مصقول، وأدب مصقول غير مطبوع، وهذه هي آفة الشعر المطبقة في ~~هذه الديار، فلا هو شعر مصري ولا هو شعر أجنبي، وليس هو على كل حال بالمقياس ~~الصحيح الذي تقاس به شاعرية الأمة، وتوقانها إلى الفنون وضروب التعبير. # أما الجهل الذي يعاب على بعض المتعلمين عندنا، حين ينقدون الشعر ويخطئون في ~~الاختيار ويضلون عن أحسن المحاسن وأقبح العيوب، فسببه فيما أرى أننا تعلمنا ~~الفرنسية وقرأنا آدابها قبل أن نتعلم الإنجليزية واللغات الأخرى، فشاعت بيننا ~~مقاييس الأدب الفرنسي الدارجة وهي الطلاوة السطحية واللباقة العابثة، ومشينا ~~معه في عيوبه ومحاسنه وهي شبيهة بعيوبنا ومحاسننا، فلم نفطن إلى فارق بين ~~الصحيح والزيف، وبين الصدق والتمويه، ولم نخرج مما نحن فيه إلى مذهب غيره، ~~وخفيت علينا مقاييس الجد والاستقامة و«البساطة»، التي امتاز بها الشعر ~~الإنجليزي والشعر الألماني، فما برحنا أطفالا لاعبين في آدابنا، وما فهمنا من ~~الشعر إلا أنه أناقة كلامية، وفقاقيع خيالية، وتزجية فراغ، يخالطها بعض الشعور ~~الذي لا فرق فيه بين كاذب وصحيح، وأنت لو نقبت في دواوين شعراء الإنجليز قاطبة ~~عن تزويق كتزويق فيكتور هوجو، وجلجلة كتلك الجلجلة التي اشتهر بها هذا الإمام ~~الفرنسي العظيم، لما وجدت شيئا من ms123 ذلك في أواسط شعراء القوم فضلا عن أفذاذهم ~~المبرزين، فلن يعظم شاعر في أدب الإنجليز بمثل تلك الخلابة التي عظم بها هوجو ~~في أدب الفرنسيين، ولن ينفعنا الأدب الذي تتمثل أعظم عيوبه وأعظم محاسنه في هذا ~~المثل الأعلى المضلل الخداع، وأي مثل؟ هو المثل الذي لا يختلف عن صغار شعرائنا ~~في المعدن والقيمة، وإنما ينحصر اختلافه عنهم في الجرم والمساحة! # أما انصراف شعرائنا عن الشعر بعد الثلاثين والأربعين، فربما كانت علته تكاليف ~~البيت والمعاش، وخلو الشباب من هذه التكاليف، وقصور المكاسب الأدبية عن تزويد ~~الشاعر بما يكفيه طلب الرزق وتدبير أمر المعاش، والذين استراحوا بيننا من هذا ~~العبء لم ينصرفوا عن النظم ولم ينقطعوا عن الأدب الذي استطاعوه، ويغلب عندي أن ~~يكون للجو أثر في هذه الملالة ولاحتجاب المرأة أثر مثله، وللعزلة بين الجماهير ~~والشعب المهذب أثر آخر غير قليل. # فالدلائل التي مرت بك في صدر هذا المقال لا تقضي على الشاعرية المصرية، ما دامت ~~في ريف مصر تلك السليقة التي تترنم بتلك الأغاني الشعبية. غير أننا لا ننسى أن ~~الشاعرية الحسية شيء والشاعرية النفسية شيء سواه، وأن أغاني الشعب عندنا دليل ~~على شاعرية الحس يعوزه دليل كبير على شاعرية النفس والروح، فهل يتم هذا النقص ~~بتمام التعليم والتوافق بين الآداب الشعبية وآداب الدارسين والعارفين! # ربما، وسنعود إلى تفصيل ذلك فيما يلي من المقالات. # | الشعر في مصر (2)1 # أشرنا في المقال السابق إلى الفرق بين شعر الحس وشعر الروح، وقلنا: إن الأغاني ~~الشعبية عندنا يعظم نصيبها من المعاني الحسية، ويقل نصيبها جدا من المعاني ~~الروحية، وتساءلنا: هل نسمع من العبقرية المصرية نغمة جديدة في الشعر إذا اتصلت ~~حياة الشعب بالحياة المهذبة، واتسع الأفق أمام هذه العبقرية فلم يبق محبوسا ~~في مجال تلك الخواطر التي تطرق نفوس العامة وتردد في الأسواق! ولم نقطع برأي في ~~الجواب؛ لأن الماضي لا يخبرنا في هذا النحو بخبر اليقين، والحاضر رهين بما ~~بعده، وهو لما يزل مجهول المصير. # والواقع أن الشعوب كلها حسية في أغانيها على ms124 درجات تتقارب جد التقارب بين شعوب ~~الشرق وشعوب الغرب، والشعوب الجاهلة والشعوب التي انتشر فيها التعليم، فكلها ~~تنظم أغانيها في المعاني التي يلم بها الحس القريب من غزل أو منادمة، أو فخر أو ~~صفة للأزهار والبساتين، ويندر في أغاني شعب أن نجد تلك السبحات العالية، ~~والمعاني الرفيعة، التي تسمو إليها عبقريات الملهمين من كبار الشعراء. غير أننا ~~قد نرى شعوبا تصف المرأة في غزلها جسدا يوزن ويقاس، وشعوبا أخرى تصفها ~~جمالا جسديا تحن إليه النفس ويلطف فيه الحنين؛ فليست كل الشعوب تعنى في ~~الأغاني بتفصيل محاسن الأعضاء من الفرع إلى القدم، ومن العيون إلى الآناف إلى ~~الأفواه إلى الأجياد إلى الصدور إلى البطون إلى الأرداف إلى السيقان، وليست كل ~~الشعوب تصف كل عضو من هذه الأعضاء وصفا يكاد يكون مقررا على لسان كل ناظم وفي ~~خاطر كل مشتاق، وليست كل الشعوب تلتفت إلى هذه الصفات وتشدو بها في الغناء، وإن ~~كانت قد تحبها في المرأة، ويعجب بها «الفرد على انفراد». # لأن أشياء كثيرة تخطر في نفس الفرد ولا يتغنى بها، ولا يهتف بها في الملأ، فإذا ~~بلغ الخاطر إلى حد الغناء، فتلك إذن روح الشعب التي تتكلم وتتغنى، وليست بأهواء ~~كل «فرد على انفراد»، ما من رجل إلا ينظر في بعض نظراته بعين الحيوان أو بعين ~~الغريزة الحيوانية، ولكنه إذا تغنى فهناك نفس غير نفس الحيوان تتكلم، وتبوح وهي ~~نفس الإنسان في بيئة لها ما لها من الأوضاع والمشارب والعادات والآداب، ومن هنا ~~يأتي الخلاف بين المعاني الحسية في أغاني الشعوب. ~~«فالحسية» التي تلاحظ على الأغاني الشعبية بمصر، ليست في جملتها وقفا عليها، ~~ولا هي ببدع في الشعوب كافة، والغلو في وصف الأعضاء لم يكن دأب المصريين ~~القدماء، وليس هو بالملحوظ في الأغاني الحديقة على كثرة، كالتي عرفناها في ~~بقايا الأجيال الأخيرة، وتلك علامة حسنة تدل على أن الروح المصري الأصيل بريء ~~من إغراق الحيوانية، قابل للتهذيب والتثقيف في هذه الأهواء، وهذا باب أمل لمن ~~يرجون شعرا مصريا تغلب فيه ms125 نزعات الروح على نزعات الحس المحدود. # ولا ننس هنا أن الطبيعة المصرية تحب الحياة الحسية، وتنقلها إلى ما وراء القبر ~~وتحمل معها الزاد والشهوات إلى العالم الأخير، ولا ننس أن «هوميروس» مثلا كان ~~«شعبيا» من دهماء الشعب، فارتقى إلى ذلك الأوج السامق من الشاعرية التي ~~تتناول شتى أهواء الحياة، ولا ننس أن اليونان جميعا كانوا «حسيين» ولكنهم مع ~~هذا طلقاء الذوق، محبون للجمال المهذب في الطبيعة والإنسان، وإذا نحن ذكرنا هذا ~~ولم ننسه فكيف نبرئ الطبيعة المصرية من وسم الحس الضيق، ونعلو بها على أثر ~~الجسد المحدود؟ وكيف نعلل انقضاء التاريخ القديم بغير هوميروس مصري يظهر في ~~طبقة الشعب، كما ظهر هوميروس الشعبي المسترفد في بلاد الإغريق؟ وكيف نعذر ~~السواد «الفرعوني» إذا قابلنا بينهم وبين السواد اليوناني في تلك «الحسية» التي ~~أنتجت لهم تماثيلهم ورواياتهم، وأبرزت لهم الطبيعة في شفوف الجمال والحرية ~~والبهجة والإيناس؟ # ربما كان لذلك علة واحدة هي فخر مصر، وهي مرجع اللوم في هذا الموضوع، وتلك ~~العلة هي «الدولة المصرية» وهي أعرف دولة باذخة في الشرق والغرب عرفها ~~التاريخ. # فإن ثبوت الدولة المصرية من أقدم القدم المذكور قد ثبت معها دولة الكهانة، ~~وجبروت القداسة، فانبسط سلطانها الموروث على عالم الدين، وعالم المعرفة، وعالم ~~الفن، وعالم السياسة، وأصبح الكلام في الآلهة والملوك والتواريخ حقا موقوفا ~~على الكهان و«العلماء الرسميين» فلا يتسرب شيء من هذه القصص إلى السواد، ولا ~~يجرؤ شاعر على المساس بتلك الأحاجي والأسرار، وحيل بين القالة «الشعبيين» وهذا ~~المجال الذي تسبح فيه قرائح العبقريين، ويرتفع فيه القول إلى أفق لا تطرقه ~~أغاني الأسواق، ومطالب العيش وهواجس الدهماء، وما إلياذة هوميروس بغير الآلهة ~~والأبطال والتراث التاريخي المفرغ في قالب الأساطير؟ وما الفن اليوناني في ~~رواياته أو في تماثيله بغير الدين والوحي والتاريخ؟ لقد كان لليونان كهانة، ~~ولكنها لم تكن «دولة» عريقة الجذور، ممدودة الفروع، موروثة الرهبة، مدسوسة في ~~كل مسلك من مسالك الحياة، وكانت لهم «معابد» ولكنها معابد «استشارية» لا جبروت ~~لها، ولا ملك ولا صولجان ms126، ولا سبيل كان لها إلى السلطان في بلاد لم يكن للحكومة ~~فيها ذلك العرش الموطد الركين، ولو كانت اليونان أمة كبيرة في أرض كبيرة يقوم ~~فيها ملك واحد موروث العظمة، وتثبت إلى جانبه كهانة واحدة موروثة القداسة، لكان ~~شأنها في الفن غير شأنها الذي علمناه، ولضربت عليها الرهبة حجابها فلم يخفق ~~فيها الشعر حر الجناح حر الأجواء. # وكأن هذا الجمود دأب كل كهانة قوية، فلا حياة للفنون الحرة والشعر الطليق في ظل ~~الكهانات الباذخات؛ فالبابوية خزنت الفنون واعتقلتها عندها حتى أطلقتها النهضة ~~فيما أطلقت من كل شيء، فما ظهر الشعر الحر حين ظهر إلا متمردا عليها معزولا ~~عنها، آخذا في الطريق المحرم أو المكروه في عرف الأتقياء والمحافظين، وما كان ~~للشعر في مستهل القرون الحديثة سبحات أوسع من سبحاته في بلاد الإنجليز، أبعد ~~البلاد عن نفوذ البابوية، وأقلها خنوعا ل «دولة الدين». # فالدولة المصرية عذر صالح لسليقة المصريين عند من يصمونها بضيق الإحساس، وضعف ~~العبقرية، ولسنا نقول: إنها تثبت لهم تلك العبقرية، وتسلكهم في عداد الأمم ~~«الشاعرة» التي دلت على عبقريتها بمن نبغ فيها من أعاظم الشعراء والمنشدين، ~~ولكنا نقول: إنها تقلل الغرابة عند من يستغرب خلو التاريخ المصري القديم من ~~شاعر شعبي كهوميروس، ومن إليه من قالة اليونان، ثم نحن ننتظر الشواهد ونعلم أن ~~النهضة الحديثة واضعة سليقة المصريين موضع الاختبار العسير، فإما أن نجيء بشاهد ~~جديد، وأما أن ننقض ذلك العذر القديم. # لهذا نحب أن نرى للعبقرية المصرية دليلا غير هذه الأدلة التي تتردد على أقوال ~~أناس ينسبون إلى الشعر في هذه الديار، ولهذا نكره أن تكون تلك الأقوال عنوانا ~~دائما لحظ هذه الأمة من الحياة والإحساس؛ لأن أصحابها لا يحسون، ونحن نريد ~~للأمة المصرية أن تحس، ولأن أصحابها لا يعيشون ونحن نريد للأمة المصرية أن تعيش ~~في هذا «الكون الإنساني» لا في كون سردابي حدوده تضيق بالحيوان المقيد إذا طال ~~حبله بعض الطول! # لينظر القارئ هل في الدنيا ما هو أبعث للشاعرية، وأذكى للشعور، وأطلق للقرائح، ~~وأشجى ms127 للنفوس من منظر الربيع؟ وهل في الدنيا شيء يحس به الشاعر، ويغني له إذا ~~هو لم يحس بالربيع حق الإحساس، ولم يغن له أطرب الغناء؟ فإذا علم القارئ أن ليس ~~في الدنيا شيء أبعث للشاعرية من بهجة الربيع، وأن ليس فيها شيء أجود الغناء ~~للشاعر من وحي الربيع فليقرأ - بعد - هذه الأبيات في وصف الربيع: # مرحبا بالربيع في ريعانه # وبأنواره وطيب زمانه # زفت الأرض في مواكب آذا # ر وشب الزمان في مهرجانه # نزل السهل ضاحك البشر يمشي # فيه مشي الأمير في بستانه # عاد حليا براحتيه ووشيا # طول أنهاره وعرض جنانه # لف في طيلسانه طرز الأر # ض فطاب الأديم من طيلسانه # ساحر فتنة العيون مبين # فصل الماء في الربى بجمانه # عبقري الخيال زاد على الطي # ف وأربى عليه في ألوانه # صبغة الله أين منها رفائي # ل ومنقاشه وسحر بنانه # هذه أبيات نظمها شوقي لاستقبال المحتفلين به، فهي حمادى ما احتفى به من شعره ~~وتأنق فيه من معجزاته، وهي عصاه التي يرسلها على السحرة المنكرين والكفرة ~~الجاحدين! وهي آيته في الربيع ومثاله الذي يسوقه للناس ليقول لهم إنه يحسن ~~الوصف، ولا يقصر وحيه على المديح والتقليد! فإن لم يكن شك في هذا فلندع من ~~الأبيات ما يرادف نداء الباعة في الأسواق «بالورد الجميل، والفل العجب، والتمر ~~حنا، روائح الجنة» ولننظر ما بقي فيها من دلائل الإحساس بالربيع، والامتزاج ~~بالطبيعة، والشغف بالجمال والحياة في موسم الجمال والحياة! # كل ما يبقى بعد ذلك أن الربيع يمشي في السهل مشي الأمير في البستان، وأن صبغة ~~الله أجمل من صبغة رفائيل! # فأما أن الربيع يمشي في السهل مشي الأمير في البستان، فيصح أن تكون كلمة موظف ~~في شارة الوظيفة لا كلمة «إنسان» في نشوة السرور بجمال الحياة، وسكرة الفرح ~~بالأشواق والآمال والذكريات والأشجان، وهي لا شيء من حقيقة ولا من تمويه، ولا ~~شيء من زينة صحيحة ولا من زينة مزيفة، ولا شيء من عيان بالنظر أو تصور بالخيال، ~~فمشية الأمير في بستانه كمشية كل إنسان في ms128 كل بستان، والأمير لا يكون على أجمل ~~حالاته هناك؛ لأنه قد يمشي في مباذله التي لا تميزه عن سائر الناس، ولو شبه ~~شوقي الأمير بالربيع في مواكبه لقلنا روح عامية لا تمثل الروح الإنسانية، ولكن ~~لعله أراد الحلل وألوانها، والمواكب وروعتها، والمزامير وألحانها، ففي هذه وتلك ~~موضع للتشبيه ومساغ لذكر الإمارة! إلا أن شوقيا لم يقل هذا، وإنما قال لنا: ~~إن الربيع في السهل كالأمير في البستان، والربيع بعد هو البستان، فهلا قال ~~شوقي: إن الربيع يمشي في الربيع مشية الأمير في الأمير؟ والأمير أيضا قد يكون ~~شيخا فانيا لا حسن فيه ولا عاطفة، وقد يكون فتى دميما لا بهجة له ولا وسامة، ~~وقد يكون أميرا كأمير الشعراء لا حس فيه ولا عبقرية، ولا أشعار له ولا ألحان، ~~فماذا من إحساس الإنسان - فضلا عن الإنسان الشاعر - في ذلك التشبيه الذي جعل ~~لنا «الربيع» ملحقا بالميزانية والتشريفات والدواوين؟! # وأما أن صبغة الله خير من صبغة رفائيل فكلمة لا دليل فيها على إحساس بالطبيعة، ~~ولا إحساس بالفنون، كلمة فيها من الغباء ما يكشف عن عامية مطبقة، وجهل بعيد ~~القرار، فالعامة المسفون هم الذين يفهمون أن طلاوات الصور أجمل من صبغة ~~الطبيعة، ويحتاجون إلى من يقول لهم: إن تلوين الله أجمل من تلوين رفائيل. أما ~~النفس التي تذوق جمال الطبيعة وتذوق جمال الفن، فليست تحتاج إلى من يقول لها ~~كيف أن الأصباغ في الرياض أجمل من الأصباغ في الطروس، وليست تفهم أن الفن بهرجة ~~ألوان تغالب ألوان الأزهار والأنوار، وإنما نفهم أنه محاكاة مقصودة لتلك ~~الألوان تعترف بالتقصير، وتستغني عن التعجيز، وما معنى أن يريك المصور صورة ~~إنسان فتقول له متعالما متباصرا: «ولكن أين الصورة من الإنسان!» ثم أي معنى ~~عميق أو قريب لأن نقول للناس: إن صبغة الله أجمل من صبغة رفائيل، إلا أن تكون ~~ممن يفهمون فهم العامة للطبيعة والفنون؟ ثم هل كان رفائيل - بعد كل هذا - ~~مصورا مفتنا في تصوير الرياض والأزهار؟ لا. بل كان الرجل مصور وجوه وشخوص ~~مقدسة ms129، برع فيها براعته ولم يضرب به المثل قط في تصوير الرياض والأزهار، فلا حس ~~هنا بالطبيعة، ولا ذوق للفن، ولا علم بالتاريخ! فإن كانت ثمة «أمارة كذابة» في ~~الدنيا فهي إمارة هذا الذي لا يكفيه أن يعد شاعرا حتى يعد أمير شعراء، وحتى ~~يقال: إنه عنوان لأسمى ما تسمو إليه النفس المصرية من الشعور بالحياة. # ألا ليت ناظمنا قد سلمت له شاعرية الحس في هذه الأبيات، فيكون له بها بعض الغنى ~~عن شاعرية النفس والروح! ولكنه هو وأمثاله كالعامة في الإسفاف عن مقام تلك ~~الشاعرية الكريمة، وشر من العامة في الزغل الكاذب الذي يدخلونه على الشعور ~~الجسدي والحس القريب. # | الشعر في مصر (3)1 # لم لا نرى بين الشعراء المصريين تلك النظرة الواسعة إلى الكون، وذلك الإحساس ~~الشامل بما فيه من مظاهر الجمال وأسرار الحياة؟ ولم لا نرى بينهم تلك النماذج ~~الحية من صور الشعور والتفكير ووسائل التمثيل والتعبير التي نراها في آداب ~~الأمم الشاعرة من الغربيين! لم لا نرى فيهم أمثال وردزورث الزاهد المتقشف ~~المغرم بالطبيعة، وكولردج الصوفي المتفلسف الصبور، وبيرون الساخط الشهوان، وشلي ~~المغرد الطموح، وهيني الساخر الصارم والحزين الضاحك، وشلر المتنطس العزوف، ~~وجيتي الرصين المترفع، ودانتي الجاحم المتفزز، وليوباردي الوادع المهموم! ولم ~~لا نرى فيهم هذا المفتون بالبحر، وذلك الموكل بمنطق الطير، وذلك المشعول ~~بالسماء، وأولئك الذين يجيدون وصف السرائر، أو يجيدون وصف المناظر الإنسانية، ~~أو المناظر الطبيعية، أو مشاهد القرون الوسطى، أو الذين لكل منهم علامة وعنوان ~~ولكل منهم شاعرية مميزة تعرفها، وتعرف سواها فتعجب لسعة الحياة وارتفاع آفاقها، ~~وعمق أغوارها وتعجب لما في «النفس» من شعب لا نهاية لها، وغرائب لا يحدها الوصف ~~ولا يعتريها النقاد؟ # ولم هذا التشابه المسئوم بين الشعراء المصريين الذين يخيل إليك أنهم كلهم خلقة ~~واحدة صبت في قوالب يميزها الطول والعرض، ولا يميزها عرض من أعراض النفوس أو سر ~~من أسرار الحياة؟ ولم هذا الضيق الذي يجمعهم كلهم في حظيرة واحدة تحويها النفس ~~العامية بحذافيرها، وتفتأ زمانها على سمة لا يعتريها اختلاف ms130 التكوين، ولا تمايز ~~الأوضاع والأشكال؟ يصفون الربيع جميعا فلا هذا مميز بإدراك الظلال والألوان، ~~ولا ذاك مميز بطرب الألحان والأصداء، ولا غير هذا وذاك مميز باستكناه الخفايا ~~واصطياد الأطياف والأرواح، ولا غير هؤلاء مميز بأشواق الهوى، ونزعات الشعور، ~~وخفقات الإحساس، وأشباه هذه المزايا التي يشملها الربيع، ويعطي كل شاعر منها ~~بمقدار، وإنما هم جميعا سواسية في تشبيه الورود بالخدود، والبلابل بالقيان، ~~والأزهار بالأعطار، وما إلى ذلك من الصيغ المحفوظة، والصفات المعهودة، ~~والربيعيات التي لا لون فيها ولا صدى ولا حس ولا، ربيع! فلو كان في عالم ~~السرائر مشبهون يتعقبون الشعراء سماتهم النفسية كهؤلاء المشبهين الذين يتعقبون ~~الجناة بسمات الوجوه والأجسام لحار والله المساكين في كتابة التشبيه، وتقدير ~~الأوصاف، وتحرير المزايا بين أولئك الشعراء، فكل شعرائنا طويل قصير، بدين هزيل، ~~أبيض أسود، أحول أعمش! وكلهم توائم يعرفون بالملابس والأسماء، ولا يعرفون ~~بالأوصاف والسمات، وكل ما يشهدونه من روعة الحياة لا يتعدى ذلك الذي يشهده كل ~~ذي عينين حيوانيتين، كلبيتين أو بقريتين أو فيليتين إلى آخر ما في الحديقة من ~~ذوات العينين! فلو نظمت الكلاب والقطط يوما باللغة العربية لعلمت منها أنها هي ~~أيضا تفهم كما يفهم شعراؤنا أن الورد أحمر، وأن الياسمين أبيض، وأن الزرع ~~أخضر، وأن في الدنيا أشياء أخرى حمراء وبيضاء وخضراء تشبه هذه الأشياء، وربما ~~زادت على شعرائنا بفهم لا يفهمونه وهو تحية الحب التي يحيا بها كل ذي إحساس ~~مقدم الربيع حاشا شعراءنا النابغين. # لم هذا؟ لم لا يكون التمايز بين شعرائنا كما يكون بين شعراء الأمم الشاعرة! لم ~~لا نرى في كلامهم سعة للكون ولا عمقا للحياة؟ لم هذا الضيق الحيواني الذي يزري ~~بشرف الإنسانية وينزل بمقام الإحساس والإدراك؟ العلة دائما في السليقة المصرية ~~لا مطمع في شفائها أبد الزمان! ذلك رأي قد يسهل على بعض الناس أن يسرعوا إلى ~~اعتقاده، ولكنا نحن لا نحب أن نراه ولنا مندوحة عنه، ويزيدنا ترددا فيه أننا ~~لم نجد في مجمل التاريخ المصري الذي استعرضناه قبل دليلا قاطعا عليه ms131، فما من ~~قصور شعري بدأ في ناحية من نواحي ذلك التاريخ إلا كانت له علة قريبة إلى الصديق ~~يأخذ بها من يحرص على التبرئة، ويأبى التعجل بالتهمة، وليس ما يمنعنا الآن أن ~~نرجو «شعرا مصريا» ذائعا بين قراء الشعر تتجلى فيه سعة الكون وأسرار الحياة ~~وألوان المواهب والملكات، وأن نرد الجهل بالشعر إلى أسباب كثيرة عارضة يرجع ~~بعضها إلى مقاييس القدم التي كانت تجعل البداوة الجاهلية مثلا لكل كلام بليغ ~~وكل شعر مأثور، ويرجع بعضها إلى الدراسة الفرنسية التي أولعت بالزخارف ~~والطلاوات والكياسة المتظرفة والمعاني المصطنعة، ويرجع شيء منها إلى سوء فهم ~~لطبيعة الشعر يقصره على الصغائر، ويكتفى منه بالظواهر ولا يراه أهلا للنظرة ~~العالية التي ننظر بها إليه، ويرجع الشيء الكثير منها إلى عزلة الجماهير ~~واحتجاب المرأة، وعصور الظلم والجهالة التي ثقلت وطأتها على هذه البلاد. # بيد أننا نحب أن نصحح هنا زعما قد يزعمه بعض الذين يقرءوننا ولا يعقلون ما ~~نريد، فنحن لا ننقد شعراء الجيل الماضي؛ لأنهم قدماء أو يشبهون القدماء وإلا ~~كان أولى بنقدنا المتنبي وابن الرومي وبيرون وشكسبير، ولسنا نحسب الذين يعجبون ~~بشوقي - إمام شعراء جيله - معجبين به لأنهم يفهمون الشعراء السابقين، ولا ~~يفهمون الشعراء المحدثين، إذ لو كانوا هم كذلك لكان لديهم «استعداد» لفهم الشعر ~~يعين على مناقشتهم والاتصال بهم على ملتقى قريب، ولكن الذي ننكره في جماعة ~~«الشوقيين» ومن نحا نحوهم أنهم على ضلال بين عن فهم القديم والحديث والفطنة ~~إلى الشعر الشريف في أي عصر وأية لغة، فهم لا يعجبون بشوقي لأنهم يعجبون ~~بالمتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي نواس، ولكن لأنهم لا يعرفون ما هو كنه ~~الشعر الذي يستحق الإعجاب، ولا يستقيمون في الفهم والإحساس، وما نظن أحدا عرف ~~الناس بفضل المتنبي، وابن الرومي وغيرهما كما عرفهم أنصار الحديث بذلك الفضل ~~المجهول فلو كان «الشوقيون» يفهمون تلك المحاسن، ويستقيمون في نقد الأقدمين لما ~~كانوا شوقيين ولا انحسر بين أنصار الجديد وبينهم صلة التعارف والإقناع، ولكنهم ~~يقرءون شعراء الجيل الماضي كما يقرءون شعراء ms132 العصور الجاهلية والأموية ~~والعباسية، بغير بصيرة ولا استقامة في الإعجاب أو في الإنكار. # إليك مثلا قول بعض الذين أغرقوا في مدح شوقي، وقابلوا بين قصيدته السينية في ~~الأندلس وسينية البحتري في إيوان كسرى، ففضلوا الأولى على الثانية، ورجحوا ~~شوقيا على البحتري بهذه الآية، وذكروا ذلك فيما ذكروه من إطراء صاحبهم ~~لمناسبة الاحتفال بتكريمه. ترى لو كان هؤلاء الشوقيون يعجبون بالبحتري إعجاب ~~صدق وعلم أكانوا يقولون ذلك القول أو يغمطون حقه ويجهلون مزيته ذلك الجهل ~~الذميم! فالبحتري واصف القصور والعمائر لا آية له في الشعر إن لم تكن له الآية ~~الناطقة في هذه الصفات، ولا يحق لأحد أن يدعي عرفانه إذا هو لم يعرفه في هذا ~~المجال الذي قل أن يلحقه فيه سواه، ودع عنك ذاك وانظر إلى الموقف الذي أنطق ~~البحتري بقصيدته النادرة في وصف إيوان كسرى، تعرف نصيبه من الشاعرية ونصيب شوقي ~~بالقياس إليه في هذا المضمار، فما الذي حدا بالبحتري إلى نظم القصيدة؟ أهي ~~عصبية الدين؛ لا! فإن الإيوان من صنع المجوس، والبحتري مسلم ينكر المجوسية ، ولا ~~يحن إلى عهد لها قديم أو جديد، أهي إذن عصبية الجنس؛ لا! فإن البحتري عربي ~~والإيوان من صنع الفرس، والمنافسة بين الأمتين أقدم من الدول العربية والإسلام، ~~والبحتري يذكر ذلك حين يقول: # حلل لم تكن لأطلال سعدى # في قفار من البسابس ملس # ومساع لولا المحاباة مني # لم تطفها مسعاة عنس وعبس # وحيث يقول: # ذاك مني وليست الدار داري # باقتراب منها ولا الجنس جنسي # ويجب ألا ننسى هنا أن العناية بالآثار، وذكريات التاريخ، لم تكن شائعة في عصر ~~البحتري شيوعها في عصرنا هذا، بعد أن ظهرت الآثار القديمة، واشتغل المنقبون ~~عنها في كل مظنة، فليس البحتري هنا مأخوذا بزي العصر وأحاديث الأوان، كما يغلب ~~على الذين يتشاغلون بالآثار في هذا الزمان، ولكنه مبتكر ينشئ زيا جديدا لم ~~يسبقه في معناه سابقوه، وليس تمليق الأمراء من الفرس هو حافزه إلى النظم، فإن ~~الأسى في القصيدة أظهر من أن يعزى إلى التصنع والرياء، والتمليق ms133 بالمدح في ~~زمانه أجدى من التمليق بوصف الآثار واستشهاد التاريخ، وهو لم يستطرد إلى مدح ~~مطول، ولم يتجاوز التلميح في الإشارة إلى أولئك الأمراء، فلا شيء إلا «الإحساس ~~الفني» حدا بالشاعر إلى نظم قصيدته والإطالة فيها، ولا وحي إلا وحي الشاعرية في ~~صميمها أنطق العربي المسلم بالعبرة على أطلال الفرس المجوس، وهذا هو «الموقف» ~~الذي ينساه الناقدون المقلدون، كلما نقدوا الشعر وتذوقوا الكلام؛ لأنهم لا ~~يذوقون حديث نفس يعينهم أن يعرفوا منها في أي المواقف كانت وفي أي البواعث جاشت ~~بالشعور، وإنما يتلقفون ألفاظا لا صلة بينها وبين الضمائر، ولا ميزان لها غير ~~النحو والصرف والبديع والبيان، مع أن «الموقف» في القصيدة هو باعثها الأول ~~وغايتها الأخيرة، ولا نجاح للشاعر إذا هو لم ينجح في نقلنا معه إلى ذلك الموقف ~~الذي كان فيه، وإشراكنا في نظرته التي نظر بها حين توفر للإبانة والإنشاد. إذا ~~علمت هذا فقابل بين شاعرية البحتري في موقفه على الإيوان، وشاعرية التقليد في ~~موقف شوقي على آثار الأندلس أو آثار مصر، وقابل بين أسى البحتري في ~~قوله: # حلم مطبق على الشك عيني # أم أمان غيرن ظني وحدسي # وكأن الإيوان من عجب الصن # عة جوب في جنب أرعن جلس # يتظنى من الكآبة إذ يب # دو لعيني مصبح أو ممسي # مزعجا بالفراق عن أنس إلف # عز أو مرهقا بتطليق عرس # عكست حظه الليالي وبات المش # تري فيه وهو كوكب نحس # فهو يبدي تجلدا وعليه # كلكل من كلاكل الدهر مرسي ~~... ... ... ... ... ~~... ... ... ... ... # عمرت للسرور دهرا فصارت # للتعزي رباعهم والتأسي # فلها أن أعيبها بدموع # موقفات على الصبابة حبس # قابل بين هذا الأسى الصادق وبين «شعوذة» شوقي في أساه، حين يقول للسفينة ~~القادمة إلى مصر: # نفسي مرجل وقلبي شراع # بهما في الدموع سيري وأرسي # أو حين يقول في وصف الجزيرة: # لبست بالأصيل حلة وشي # بين صنعاء في الثياب وقس # قدها النيل فاستحت فتوارت # منه بالجسر بين عري ولبس # أي إن الحلة التي لبستها الجزيرة في الأصيل، قد شقها النيل فهربت الجزيرة ~~تتوارى بالجسر ms134 عن العيون، ولسنا ندري هل يخيط النيل في الصباح ما يمزق من أثواب ~~الأصيل، أو هو ما يزال يمزق كل ثوب وما تزال الجزيرة أبدا في ذلك الهرب ~~والترقيع؟ # أو حيث يقول: إن سواقي الجيزة إنما تضج اليوم؛ لأنها تبكي على رمسيس! ~~فهي: # أكثرت ضجة السواقي عليه # وسؤال اليراع عنه بهمس # أو حين يقول في وصف الأهرام، وأبي الهول: # وكأن الأهرام ميزان فرعو # ن بيوم على الجبابر نحس # أو قناطيره تأنق فيها # ألف جاب وألف صاحب مكس # روعة في الضحى ملاعب جن # حين يغشى الدجى حماها ويغسي # ورهين الرمال أفطس إلا # أنه صنع جنة غير فطس # فكل هذه شعوذة ليس فيها من صدق الإحساس ظاهر ولا باطن، ولا كثير ولا قليل، ~~وماذا في قوله: إن الذين بنوا أبا الهول لم يكونوا فطسا؟! بلى أين كان الفطس ~~من أبي الهول حين بناه أولئك الجنة الذين برأهم شوقي من داء الفطس أصلح الله ~~أنفه؟ وأين الموازين والقناطير من عبرة الأهرام وجلالة التاريخ! ولماذا تكون ~~القناطير روعة في الضحى، وملاعب جنة في الظلام! لقد ظن صاحبنا أنه يجاري ~~البحتري بذكر الجنة حين قال هذا في وصف الإيوان: # ليس يدري أصنع إنس لجن # سكنوه أم صنع جن لإنس # فكبا في مكانه، وما درى أن قول البحتري هذا لا يجاريه مجار في صفة الآثار ~~والإيجاز المعجز القهار، فهو آية الصدق وآية البراعة في آن، وهو يقول لنا في ~~بيت واحد: إن الإيوان كان معجزا في الصنعة حتى يخال من صنع الجن للإنس لضعف ~~هؤلاء عن تشييد ذلك الصرح المريد، وأنه كان مهجورا مخيفا حتى يخال من صنع ~~الإنس للجن لما يحيط به من الوحشة ويبدو عليه من الكآبة والرهبة، ولن يقال في ~~وصف الإيوان الباذخ المهجور أوجز ولا أبلغ ولا أبرع من هذا المقال. # ولو شئنا لأطلنا المقابلة بين هاتين القصيدتين، فإن ذلك أحرى أن يقنع من لم ~~يقتنع بمكان الشاعرين من الشاعرية، وأن الذين يعجبون بمثل شوقي لا يصدقون ~~الإعجاب للأقدمين، وأنهم يهرفون بما ms135 لا يعرفون، ويخلطون بين المواقف والمعاني ~~والأغراض، من حيث يقصدون أو لا يقصدون، ولكننا غير حريصين على إقناع من ليس ~~يقنعه هذا البيان الوجيز. # | الشعر في مصر (4)1 # كنا منذ بضع عشرة سنة في مجلس ينشد فيه شعر لبعض الشعراء المعاصرين في وصف حسان ~~أوربيات، وكان في ذلك الوصف إعجاب بشعرهن الأصفر، وعيونهن الزرقاوات، فقال بعض ~~الحاضرين - وكان عالما أزهريا شابا - ولكن العرب كانت تعجب بالشعر الفاحم ~~والأعين الكحلاء، ولا تمدح غير ذلك من ألوان الغدائر والعيون. قلنا ولكن الشاعر ~~يصف حسانا أوربيات وهن على هذه الصفة فكيف كنت تريده أن يقول! قال إذن لا يكون ~~الشعر عربيا! ونحن عرب ننظم بلغة العرب، ونحيي آداب العرب ولا شأن لنا ~~بالفرنجة، وما يستحبون من الجمال ويصفون من ألوان الوجوه وشمائل الحسان. # ذلك كان قبل بضع عشرة سنة ليس إلا! وكان في ذلك الوقت وما قبله بقليل أساتذة ~~يدرسون الآداب - ويقال عنهم إنهم حجة في نقد الشعر وفهم البلاغة - يقصرون ~~إعجابهم على الشعر الجاهلي، ولا يرون ما جاء بعده شعرا يحفظ أو يعلمه ~~المعلمون، فإذا مدوا بساط العفو والمسامحة قليلا فإلى صدر من الإسلام يشبه ~~الجاهلية، ثم لا عفو بعد ذلك ولا سماح ولا مفر من النار لديوان من الدواوين ~~التي ظهرت في عهد الإسلام! ومنطق هؤلاء «الأدباء» معقول من حيث ينظرون إلى ~~الشعر خاصة وإلى الآداب عامة، فالشعر عندهم هو «مادة لغوية» والآداب عندهم هي ~~ما تحفظه من الكلام المنظور والمنثور لتقويم اللسان وتصحيح العبارة، فلا جرم ~~يكون الجاهليون أشعر الشعراء، وأبلغ البلغاء؛ لأن العربية في زمانهم أعرب ~~واللغة على أيامهم أصح وأسلم في رأي هؤلاء الناقدين، ولقد كان الذين ينقلون ~~علومهم في الأدب عن هذه الزمرة يسمعون بدهشة الطفل الغرير كل ما يقال عن شعر ~~الفرنجة وبلاغة الناطقين بغير الضاد: ألغير العرب شعر؟! يا عجبا، وكيف يكون ~~هذا الشعر الغريب وعلى أي وزن يوزن وبأي أسلوب يصاغ؟! كنا نتحادث في ذلك قبل ~~سنين، ومعنا شيخ ينظم ويقرأ كتب الأدب فسألنا: أترون ms136 شيئا من شعر ~~الفرنجة. # قلنا: نعم. # قال: فأسمعوني إن شئتم أبياتا مما ينظمون. # قلت: سأسمعك من خير ما ينظمون، وترجمت له قطعة للشاعر الإنجليزي شلي في ~~«القنبرة» وأنا ألمح الاستهزاء في نظرات عينيه وابتسامة شفتيه، وجهدت أن يكون ~~المعنى كأقرب ما يكون في الأصل مقرونا بالتفسير والتوضيح لألفته إلى ما في ~~الكلام من روح البلاغة وصدق التعبير، فما أمهلني أن أكمل القصيدة وصاح بنا. ~~أهذا الذي تسمونه شعرا؟ فظننت لأول وهلة أنه يقصد المعاني والتشبيهات التي لا ~~عهد بها لقراء العربية، وليس في ذلك غرابة ولا إغراق في الجهالة، إذ كان فهم ~~الجديد صعبا على كل من يعالجه من قراء العربية وغير العربية، ولكن ما كان أشد ~~دهشتنا حين علمنا أنه ينكر وصف ذلك الكلام بالشعر؛ لأنه لم يخرج موزونا في ~~الترجمة على أوزان البحور العربية، ولأنه يحسب أن الشعر إذا وجد عند الإفرنج ~~فإنما يوجد على وزن من هذه الأوزان، وإذا ترجم فإنما يرد إلى الأوزان العربية ~~بلا كلفة من المترجم ولا عناية، فأما ونحن نترجمه كلاما منثورا كسائر الكلام ~~فقد وضح الأمر، وبان جهل الإفرنج بأوزان الخليل بن أحمد، وكذبت الدعوى التي ~~يدعيها لهم شيعتهم المتفرنجون. # وليس جميع الدارسين من تلك الزمرة على وتيرة صاحبنا هذا في السخف والعماية، فقد ~~يفهمون أن الشعر لا يترجم شعرا بهذه السهولة البديهية، وأن الموزون في نظم لغة ~~لا يخرج موزونا في نظم لغة أخرى بغير كلفة من الناقل، ولا رياضة للكلام، ~~ولكنهم كلهم يفهمون أن الشاعرية خاصة عربية وأن الشعر مادة لغوية. بل كلهم ~~يفهمون أن نطق العربي بلغة أمه وأبيه معجزة لا يضارعه فيها أبناء الأمهات ~~والآباء، وأذكر من هذا أنني حضرت مناقشة قريبة بين سيدة فاضلة وعالم أزهري يسمع ~~اسمه في كل حركة أزهرية، وكان مدار المناقشة الحجاب والسفور، والسيدة على رأي ~~السفور والأستاذ بطبيعة الحال على رأي الحجاب، فاستشهد الأستاذ على غواية ~~السفور بكلام لإمام عربي معروف، وأبت السيدة أن تسلم رأيه؛ لأنه رأي إنسان ~~كسائر الناس يقبل ms137 النقد والقدح، كما يقبل الموافقة والاستحسان، فاستشاط صاحبنا ~~غضبا وقال محتدا: سبحان الله يا سيدتي! إن أحدنا ليبلي العمر الطويل يتعلم ~~اللغة، ثم لا ينطقها كما ينطقها الطفل العربي بلا تعليم ولا مشقة، فكيف بمقام ~~ذلك الإمام الذي تدين له الأئمة؟ # فتقديم الشعر العربي لأنه «عربي» عقيدة ما كان للشك إليها من سبيل، وتقديم ~~الشعر الجاهلي على كل شعر؛ لأنه أمعن في العربية وأعرق في القدم - وهو كبرى ~~فضائل القبائل البدوية التي تؤمن بالنسب والوراثة إيمانها بالأصنام والأوثان - ~~هو لازمة تلك العقيدة ونتيجتها المنطقية في أذهان طلاب الأدب القديم، ولكننا ~~نحن اليوم بعيدون عن هذا المذهب لا نشعر له بقوة ولا نتوجس منه شرا، ولسنا ~~نحس من فلوله المشتتة ببقية تخاف لها كرة وتخشى لها عزيمة، فليس الشعر اليوم ~~خاصة عربية، ولكنه خاصة إنسانية، وليست البلاغة اليوم مزية لغوية، ولكنها مزية ~~نفسية، وهذه عقيدة مفروغ منها قل أن يماري فيها من يحسب له رأي ويسمع عنه كلام، ~~فإذا أردنا أن نقيس خطواتنا على ما مضى وما نحن فيه ، فالتقدم ظاهر والرحلة ليست ~~بالهينة ولا بالقصيرة، ولكن هل تقاس الرحلات بالمبدأ أو بالغاية، وبما مضى أو ~~بما سيأتي مما لا بد من عبوره والوصول إليه؟ إنما تقاس الرحلات بالنهاية ~~وبالبقية الآتية، ولا تزال الغاية بعيدة والبقية الآتية كثيرة على الجهد الذي ~~نراه. إنما ننظر حين نسير إلى أمامنا ولا نستكثر ما وراءنا إلا لنستقل ما بقي ~~بيننا وبين الوجهة الميممة، وقد تحولنا عن فهم للشعر عتيق مأفون إلا أننا لم ~~نبلغ بعد فهما للشعر يستقيم بنا على الجادة، ويسدد خطانا على معالم الوصول فما ~~يبرح أناس يتعجبون كلما قيل لهم ليس هذا الشعر؟ أو ما هو الشعر الحديث الذي ~~يرضيكم إذا قلناه، وما نخالكم إلا تجشموننا المحال وتطلبون منا ما لا ~~يكون؟ # قد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «العصري» هو وصف المخترعات الحديثة من بخار وكهرباء ~~وطيارات، وأمثال ذلك من آلات ناطقة وصور متحركة ومعجزات لهذا العصر الحديث لم ~~يتقدم بوصفها ms138 المتقدمون، فقلنا لهم: لا! لو كان هذا هو الشعر لكان واصف الزهرة ~~والكوكب في السماء أقدم الشعراء مذهبا، وأبعدهم عن العصرية والحداثة معنى؛ لأن ~~الزهرة في الأرض والكوكب في السماء أقدم ما وقعت عليه نظرة إنسان منذ كان الناس ~~بين الأرض والسماء، ولو كان هذا هو الشعر لوجب على كل شاعر أن يظل على اتصال ~~بالمصانع تنفحه «بالكتالوجات» أولا فأول ليسابق سواه في العصرية، ويكون في ~~شعره على «آخر ساعة» كما يقولون في لغة التجارة والصناعة، وبعد فهؤلاء شعراء ~~أوربا وأمريكا لم يجتمع مما نظموه في وصف «المخترعات» ما يملأ كراسة صغيرة، ~~وفيهم الشعراء جد الشعراء في الوصف خاصة وفي سائر فنون القصيد، فهل يزري بهم ~~ذلك أو يدخلهم في عداد الأقدمين والمقلدين؟ كلا! وإنما أنتم تولعون بالطيارات ~~وما أشبهها؛ لأنكم تقيسون الشعر بمقياسه القديم، وتتأثرون بالجاهليين وأنتم ~~تزعمون أنكم تأخذون بالحديث، فقد وصف الجاهليون الناقة فوجب أن تصفوا أنتم ~~الطيارة؛ لأن الأقدمين كانوا يركبون النوق والعصريين يركبون الطيارات، فكأن ~~الشاعر لم يخلق في الدنيا إلا لينظم في «وسائل المواصلات» كيفما تبدلت بها ~~الغير، وتقلبت بها الأحوال، وكأن الناقة شيء لا وجود له في الدنيا إلا لأنه ~~في القرون الأولى يقابل الطيارة في القرن العشرين! وليس هذا بصحيح، فالناقة ~~موجودة اليوم كما كانت موجودة قبل التاريخ، وعصرية في هذا الزمان كما كانت ~~عصرية في زمان امرئ القيس، ولو وصفتموها أنتم لمعنى من المعاني تحسونه فيها ~~لكنتم عصريين أكثر من «عصريتكم» حين تصفون الطيارة لمجاراة الأقدمين في وصف ~~النوق والأظعان! # ولقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «العصري» هو اجتناب المبالغة، وأن اجتناب ~~المبالغة هو التزام الصحة العلمية، والنظم في العلم والتحقيق لا في «الخيال ~~والأوهام»؟ فقلنا لهم لا. ليس هذا بالشعر المقصود، ولو كانه لكانت ألفية ابن ~~مالك أبلغ الشعر القديم والحديث وقدوة الصادقين في النظم والبيان؛ لأنها منظومة ~~في «علم النحو» والعلوم كلها سواء في الصدق والتحقيق، وليس من ينظم في حقائق ~~علم الكهرباء بأصدق ممن ينظم في حقائق الإعراب ms139 وقواعد الأسماء والأفعال ~~والحروف، ولقد يكون الشاعر مبالغا مخالفا لظاهر العلم، وإنه مع هذا صادق في ~~المبالغة قدير في الوصف والإبانة، فالذي يقول لحبيبه إنه أبهى من الشمس صادق في ~~قوله؛ لأن الشمس لا تسره كما يسره حبيبه، ولا تغمر نفسه بالضياء كما تغمرها ~~طلعة ذلك الحبيب، وللحقائق الفنية مسبارها الذي يفرق بينها كما للعلوم مسابيرها ~~التي تكشف الباطل منها والصحيح، فبالغوا والتزموا الحقيقة الفنية تكونوا عصريين ~~كأحدث العصريين وكأقدمهم في الزمن السالف على حد سواء، ولكنكم تبالغون وتفهمون ~~أن فضيلة المبالغة هي الكذب لا التجلية والتقرير والتبيين. فإذا قال شاعر إن ~~فلانا أكبر من البحر، وأعجب الناس قوله ظننتم أنه قد أعجبهم؛ لأنه بالغ وكذب ~~ولم تظنوا أنه أعجبهم لما في البحر من معنى السعة والغنى والبأس والمهابة، وما ~~في هذه المعاني من الشبه الصادق المحقق بأخلاق العظماء والكرماء فتلتمسون ~~التفوق عليه بالإرباء في الكذب والغلو في الإغراق، ويجيء منكم من يقول: إن ~~بنانا واحدا من بنانه العشر تغرق البحار وتطغى على الأرضين والجبال! وهكذا ~~تزيدون وتزيدون وأنتم تحسبون أن الزيادة هنا زيادة في البلاغة والشاعرية ~~والإعجاب، فتخطئون سر المبالغة وترون أنها هي الكذب، وهي حين تمثل الحقيقة ~~الفنية بريئة من الكذب براءة الأرقام والبديهيات. # ولقد ظنوا في حيرتهم أن الشعر «الحديث» هو القصص؛ لأنهم سمعوا أن العصرية هي ~~«الأوربية» وأن الأوربيين نظموا في القصص المسهبة، ولم ينظم فيها العرب فخيل ~~إليهم أن القصص إذن هي بيت القصيد، ومزية كل شاعر مجيد على كل شاعر غير مجيد، ~~فما أصابوا الظن في هذه ولا عرفوا الوجه فيما يقال لهم عن العصرية والعصريين، ~~فكأي من شاعر عظيم لا قصة له ولا شبه قصة، وكأي من صاحب قصص مسهبات لا يعد بين ~~الشعراء، وإنما القصة باب من الشعر يميزها الناقدون على غيرها من الأبواب، ~~بإفساح المجال فيها لوصف الأطوار، وتمثيل المواقف، وتصوير الإحساسات والعوارض، ~~التي تنتاب الرجال والنساء، والكبار والصغار، والعظماء والوضعاء، فهي مظهر حسن ~~لقوة الشاعرية وليست هي قوة الشاعرية التي ms140 يبحث القوم عنها ولا يوفقون. # وظنوا وظن معهم بعض المطلعين على طرف من العلوم الحديثة أن الشاعر شاعر الأخلاق ~~والاجتماعيات لا يكون ابن عصره إلا حين تقرأ في ديوانه قصيدة لكل حادثة من ~~حوادث السياسة والاجتماع في أيامه! ولو أن هؤلاء راجعوا ديوان «جيتي» مثلا لما ~~عثروا فيه على بيت في وصف الزلازل السياسية التي أحاقت بألمانيا في حياته، وهو ~~بإجماع النقاد شاعر وطنه العظيم والرجل الذي كان له أثر في يقظة ألمانيا ~~الأدبية يعد في طليعة الآثار، فللشعر في إيقاظ الأمم طريق غير طريق الساسة ~~ودعاة الاجتماع، ولليقظات النفسية مسالك ومسارب لا تستدل عليها بعناوين الحوادث ~~السياسية، والدعوات الاجتماعية التي تكتب فيها الصحافة، ويتحدث بها اللاغطون ~~بالموضوعات اليومية، فقد يعلمنا الشاعر حب الجمال فيعلمنا الثورة على الظلم ~~والطغيان؛ لأن النفس التي تفقه جمال الحياة تضيق بها معيشة الأسر والمذلة، ~~فتقتحم العوائق والسدود، وتنشد السعة والارتفاع، فالذين يبحثون عن نصيب الشعر ~~في حركة أمة ناهضة فينظرون إلى عناوين الحوادث وأسماء الوقائع يجهلون الشعر، ~~ويجهلون النهضات ويجهلون النفوس، ويجهلون فوق كل هذا أنهم جاهلون. ~~••• # تلك ظنونهم في الشعر الذي نريده ألممنا بها عن عرض، وأشرنا إلى مكان الصواب ~~منها ومنفذ الشبهة إليها، وإن حيرتهم هذه في تعرف الشعر الصحيح لأحق بالحيرة ~~والاستغراب مما يخبطون فيه من هاتيك الظنون، فالحلال بين والحرام بين، ~~والشعر الصحيح في أوجز تعريف هو ما يقوله الشاعر، والشاعر في أوجز تعريف هو ~~الإنسان الممتاز بالعاطفة، والنظرة إلى الحياة، وهو القادر على الصياغة الجميلة ~~في إعرابه عن العواطف والنظرات، وإن لهذا الإيجاز لشرحا نعود إليه. # | الشعر في مصر (5)1 # نريد أن نعرض هنا لفكرتين يتردد الكلام فيهما حول الشعر والشعراء، ويأتي الخطأ ~~من قبلهما في فهم وظيفة الشاعر وتقدير الأشعار، ونعني بهما فكرة «الفائدة» التي ~~ترجوها الأمم من الشعر في حياتها الفردية والاجتماعية، وفكرة القائلين بتمثيل ~~الشاعر للأمة أو للبيئة التي يعيش فيها، فإن هاتين الفكرتين تجنيان كثيرا من ~~الخطأ على الشعراء والقراء، وتلبسان الحقيقة على الجامدين وغير الجامدين ms141 في وضع ~~المقياس الذي يقيسون به محاسن الشعر ومعانيه، ورسم الأغراض التي يطلبها الشعراء ~~أو تطلبها الأمم من الشعراء. # متى يكون الشعر مفيدا ومتى يكون غير مفيد؟ وما هي الفائدة التي يجوز أن نطلبها ~~من الشعر أو من الفن الجميل على التعميم؟ إذا عرفنا هذا عرفنا مقياسا للجودة ~~والرداءة يعصمنا من الزلل في الحكم، ويجنبنا ذلك الخلط الذي يخلطه الكثيرون عند ~~التفريق بين المعنى الحسن أو المعنى «المفسد» كما يقولون وغير المفيد. # سمعنا في إبان النهضة الوطنية أناسا يسألون: أين شعراؤنا في هذه النهضة؟ وأين ~~أثر الشعر المصري في إيقاظ الهمم وإذكاء الشعور؟ ولما أن بحثوا دواوين الشعراء ~~فلم يعثروا فيها على نشيد وطني ولا على قصيدة حماسية تثير النخوة، وتحث على ~~المطالبة بحقوق الأمة، ولا على خطبة سياسية منظومة في أخبار الحوادث اليومية، ~~أو في دروس الوطنية والاجتماع عادوا ينكرون فائدة الشعر، أو يظنون شعراءنا ~~بدعا بين شعراء الأمم الذين نفعوا أوطانهم وخدموا نهضاتهم وكان لهم أثر محمود ~~في حوادث عصرهم، ويسألون: إذن ما فائدة الشعر للأمم إن لم يفدها في هذه ~~المواقف، ولم ينفخ لها صور الحياة في الشدائد والنهضات؟ # ونريد قبل كل شيء أن ننبه إلى الضرر الذي يصيب العلوم والفنون من اشتراط ~~الفائدة القريبة في كل مبحث وكل تفكير، فهذا الشرط وخيم العاقبة مضيع للجهود ~~العلمية والأدبية؛ لأن الفائدة «أولا» شيء لا يسهل الاتفاق عليه، والتفاهم على ~~تقديره قبل حصوله، فهي عند أناس الخبز والماء، وعند الآخرين المال والثراء، ~~وعند غيرهم الجاه والقوة، وعند غيرهم السرور واللذة، وهكذا إلى غير نهاية من ~~التفاوت بين الأفراد وبين الفرد الواحد في مختلف الأحوال، وهبنا اتفقنا على ~~الفائدة، وحصرناها ومنعنا الاختلاف فيها فنحن لا نعرف كيف تأتي ولا من أين تنجم ~~بين المباحث المتعددة والجهود المتعاقبة، فالملاحظات العلمية كلها على حدتها لا ~~تفيد في المعيشة، ولكنك إذا جمعت هذه الملاحظة إلى تلك، وانتقلت من الجمع إلى ~~العمل، جاءت الفائدة عفوا في أغلب الأوقات وتساندت العلوم كلها على النفع ~~والإنتاج ms142، فإذا اشترطنا في كل ملاحظة علمية أن تكون مفيدة ليومها ومكانها، ذهب ~~العلم كله وبطلت مباحث العلماء، وركد التفكير والاختراع، وإذا حكمنا الفائدة في ~~الترحيب بالأفكار والآراء، خشينا أن نتجهم لكل فكر وكل رأي وأن نخسر الفوائد ~~المقصودة، والفوائد التي تجيء عن مصادفة واتفاق، وتاريخ العلوم حافل بالفوائد ~~التي أريدت ولم تجئ، ثم جاءت في سبيلها فوائد كانت لا تراد ولا تقع في الحساب، ~~فمن أين تولدت الكهرباء والبخار والصناعات التي نشأت من الكهرباء والبخار؟ لم ~~يقل أحد إنني أريد أن أخلق صناعة كهربائية، فخلقها وعرف قوانين الكهرباء من ~~أجلها، ولم يقصد أحد أن ينشئ كل ما نشأ في الدنيا من «البخاريات» التي شملت ~~اليوم مرافق الحياة، وإنما انتهت كلها إلى هذه النهاية من بدايات متفرقة لا خطر ~~لها في ظاهر الأمر، ولا يرجى لها نفع في رأي الأكثرين. # هذا شأن العلم ومساسه بالصناعة والمعيشة معروف محسوس، فما ظنك بالشعر وهو خطرات ~~ضمائر، وخوالج شعور وشجون، ترجع إلى الإحساس المحض، أو إلى الكلام والأنغام؟ ~~كيف تضبط فوائده وقتا لوقت، وساعة بعد ساعة، وكيف تقيسه بمقياس المعيشة أو ~~بمقياس السياسة والاقتصاد؟ فقد يكون الشعر مفيدا جد الإفادة، ولكنه لا يفيد ~~بما يقول على الألسنة بل بما يسري في النفوس، وما يحرك من بواعث الشعور، وقد ~~يكون خلوا من أسماء النهضة وحوادثها، ولكنه هو عامل من عوامل النهضة، وسبب من ~~أسباب الحوادث، ولسنا نعني بهذا الكلام أن الشعراء المصريين كان لهم - أو لم ~~يكن لهم - أثر في النهضة المصرية، وأن نوع الشعر الذي ينظمونه يفيد أو لا يفيد ~~في إيقاظ الهمم، وإذكاء الشعور، ولكننا إنما نريد أن نبين خطأ الناقدين الذين ~~ينكرون أثر الشعر في نهضة من النهضات؛ لأنه لم يكن يحض الناس على المكارم ~~الخلقية والفرائض الوطنية باللفظ الظاهر، والدعاء الصريح، وأن نقول لهؤلاء ~~الناقدين: إن الشعر الصحيح هو عنوان النفوس الصحيحة، ونحن لا نطلب الصحة في ~~النفس، ولا الصحة في الجسم، لما تحدثانه من الأثر في النهضات الوطنية أو ~~الإنسانية ms143، بل نطلبها؛ لأنها قوام الحياة وملاك الفطرة التي فطرنا عليها في ~~جميع الأوطان والعصبيات، فإذا صحت النفس وصح الجسم كانت النهضة وحصل الارتقاء، ~~ولم يقل أحد حينئذ إن الصحة في النفس والجسم مفيدة؛ لأنها توجد النهضات وتدعو ~~إلى الارتقاء! ومن قال ذلك كان كمن يقول: إن العافية مفيدة لأنها تساعد على هضم ~~الطعام وتنقية الدم، والانتفاع بالأعضاء مع أن هذه الخلال كلها تبع للعافية، ~~وأثر من آثارها، وليست هي فائدتها والغرض الذي نريدها لأجله، فاطلب من الشعر أن ~~يكون عنوانا للنفس الصحيحة، ثم لا يعنيك بعدها موضوعه ولا منفعته ولو تتهمه ~~بالتهاون إذا لم يحدثك عن الاجتماعيات والحماسيات والحوادث التي تلهج بها ~~الألسنة، والصيحات التي تهتف بها الجماهير. # وهات لنا الشاعر الذي ينظم قصيدة واحدة يحبب بها الزهرة إلى المصريين، وأنا ~~الزعيم لك بأكبر المنافع الوطنية، وأصدق النهضات، وأهنأ مسرات المعيشة ومباهج ~~الحياة، فإن أمة تحب الزهرة تحب الحدائق، وتحب التنظيم والتنسيق، وتحب النظافة ~~والجمال، وتحب العمارة والإصلاح، ولا تطيق أن تعيش في الفاقة والجهل والصغار، ~~وهات لنا الشاعر الذي يعلمنا الغزل الجميل، وأنا الزعيم لك بأمة من الرجال ~~الكرماء والنساء الكرائم، والأبناء النجباء يدرجون في حجر العطف والذوق والصحة؛ ~~لأن الشاعر الذي يعرف كيف ينظم الغزل يعرف كيف يقوم المرأة بقيمتها في الأمة، ~~وكيف يهذب البيوت ويشترع القوانين والدساتير. بل هات لنا الشاعر الذي يعلمنا ~~اللهو والطرب، وأنا الزعيم لك بأمة تعيش عيش الآدميين، ولا تسخر تسخير الأنعام، ~~وتعمل ليلها نهارها للقوت الحيواني وضرورة الأجسام، فالشعر شيء يتصل بالإنسان ~~من حيث هو كائن حي، لا من حيث هو ابن وطن أو ابن جامعة أخرى من لغة أو عقيدة، ~~فإذا كان الإنسان إنسانا ومصريا أو عربيا ومسلما أو نصرانيا فتلك إضافة ~~تتقلب بها الطوارئ، وليست هي الأصل ولا هي المقصد المنشود، ومن ثم يكون الشعر ~~شعرا لا غبار عليه وهو خلو من الأسماء والألفاظ التي تلاك في نهضات الأديان ~~والأوطان، ويكون الشعر مجاريا للنهضات أو سابقا لها، وليس فيه تلك ms144 الأناشيد ~~ولا تلك «الحماسيات» التي يعنيها من ذكرنا من الناقدين، وحسن ولا ريب أن ينظم ~~الشاعر في «الوطنيات» والاجتماعيات، وأن يحض على الحمية والمروءة ومكارم ~~الخصال، ولكنه إذا لم ينظم في هذه الأغراض فليس ذلك بالدليل على خلو النهضة من ~~آثاره، أو على أنه عالة على الوطن وأصحاب الدعوات. ~~••• # ذلك رأي مجمل عما يقال في فائدة الشعر، ننتقل منه إلى رأي مجمل عما يقال في ~~الشعر وضرورة تمثيله للأمة والبيئة، فيلوح على الذين يشترطون في الشاعر تمثيل ~~بيئته ولا يشترطون في شعره الفائدة القريبة أنهم أدنى إلى فهم وظيفة الشاعر ~~وروح الشعر من أصحاب «الفائدة» الأولين، وهم كذلك في الحقيقة، بيد أن الرأي ~~الذي يرتئونه مضلل في النقد كتضليل ذلك الرأي، وخليق أن يحملهم على مطالبة ~~الشاعر بما ليس مطلوبا منه، وأن يقيسوا شعره بما ليس يصح أن يقاس به، فأما إن ~~كان غرضهم من تمثيل البيئة أن الشاعر يولد في زمن لا يستطيع أن يتعداه فذلك ~~تحصيل حاصل، لا معنى لاشتراطه؛ لأنه موجود محقق بالفعل لا سبيل للإفلات من ~~حكمه، ولو حاول الشعراء أن يفلتوا منه، فلا وجه للتمييز بين شاعر وشاعر؛ لأن ~~الجميع في هذا الحكم سواء من أحسن منهم كمن أساء، ومن أبدع منهم كمن قلد سواه. ~~وهل كان شعراء القرن العاشر وما بعده إلا أبناء بيئاتهم يقولون ما يقال في تلك ~~المواطن وتلك العهود؟ وهل كانوا يقلدون ويولعون باللفظ الفارغ والمحسنات ~~الجوفاء، إلا لأنهم نشئوا في زمان التقليد والخواء؟ فهل بلغوا المثل الأعلى، ~~وأتوا بالنموذج المحمود؛ لأنهم سيئون جامدون يعبرون عن بيئة مثلهم في السوء ~~والجمود؟ ما نحسب أحدا يريد أن يقول هذا، وإن كان تمثيل البيئة الذي يشترطونه ~~ينتهي بأصحابه إلى هذا المقال. # وأما إن كانوا يقصدون بتمثيل البيئة ألا يقلد الشاعر من تقدموه، فهذا إنكار ~~للتقليد لا للخروج عن البيئة؛ لأن الشاعر لا يعاب عليه أن يسبق عصره، وأن يحس ~~بما لا يحس به أبناء جيله، وهذا يحدث كثيرا بلا مراء ويحسب من مفاخر ms145 بعض ~~الشعراء المبرزين، الذين يعلون على معاصريهم في الإدراك والشعور، ولا ننس أن ~~الشاعر الذي يمثل جيله أحسن تمثيل قد يدل على صدق في الملكة، وأمانة في ~~التعبير، وبلاغة في الأداء، ولكنه قد لا يدل على تفوق في الشاعرية، ولا تكون له ~~الحجة على زميله، الذي يعبر عن أمور يجهلها معاصروه، ثم يعرفها له الناس بعد ~~زمانه، وليس من الضروري للشاعر المجيد أن يفيد المؤرخ في استقصاء أحوال العصور، ~~واستخراج الوقائع والأسانيد، إذ ربما أجاد الشعراء في عصر واحد، وهم مختلفون في ~~الإجادة، واختلافهم في الملكة والمذهب والمزاج، فتمثيل البيئة ليس من شرائط ~~الشاعرية؛ لأن البيئة الجاهلة المقلدة يمثلها الشعراء الجاهلون المقلدون؛ ولأن ~~الشاعر المتفوق قد يخالف بيئته وينقطع ما بينه وبينها فلا تشبهه ولا يشبهها، ~~إلا في معارض لا يصح بها الاستدلال، وقد يوجد من الشعراء من يشبه تلك البيئة في ~~هذه المعارض وبينها وبينه مئات الفراسخ ومئات السنين، بل قد يكون هذا الشاعر ~~أشبه بها من ذلك الشاعر المتفوق الذي يعيش فيها، وينقطع ما بينه وبينها ، وهل ~~يستحيل علينا أن نجد في المتنبي مثلا شواهد يمكن أن نعده بها من شعراء هذا ~~الزمان؟ وهل يستحيل علينا أن نجمع بين أبي العتاهية والشريف الرضي والأعشى وابن ~~حمديس بشبه واضح أو خفي، كالشبه الذي يلاحظ بين أبناء البلد الواحد والفترة ~~الواحدة، فهذه المشابهات عرضية في الدلالة على الشاعرية، وعلو الملكة، وصدق ~~التعبير، وقد ننكر «الفائدة» على الشاعر، وننكر عليه مطابقته الزمان الذي يعيش ~~فيه، ولا نستطيع بعد كل هذا أن ننكر عليه الشاعرية الراجحة، ونجهل مكانه بين ~~مفاخر الأوطان. # | الشعر في مصر (6)1 # من المفهوم المقرر عند جميع الناس أن الشعر شيء غير النثر. هذه مسألة مفروغ ~~منها، ولكنك إذا أقبلت تعرف موضع هذه الغيرية بينهما، وأين يكون الفارق الذي ~~يجعل الكلام نثرا لا شعر فيه أو شعرا لا نثر فيه، فهناك الاختلاط والفكاهة ~~المضحكة والتعريفات التي لا تفرغ منها أبدا، ولا نخرج منها بطائل، فلو أنك ~~سألت رهطا من الناس ms146 عندنا: ما الذي تنتظرون أن تجدوه في الكلام الذي يسمى ~~شعرا؟ لسمعت فنونا من الأجوبة، أو لعزك أن تسمع جوابا، ولكنك تعلم بالاختبار ~~أن لكل منهم شرطا محسوسا أو غير محسوس، يلتمسه في النظم الموزون ليؤمن أنه ~~يقرأ شعرا، ويصغي إلى كلام غير كلام الناثرين. # فمنهم من ينتظر «الخيال» من الشعر، ويفهم من الخيال أنه القول المفروض في قائله ~~أنه لا يصدق ولا يجد ولا يناقش في صحة شيء مما يزعم، فإذا أسلف الإنسان بين ~~يديك أنه سيتكلم «خيالا» فتلك هي الرخصة التي تعفيه من مؤنة العقل والواقع، ~~وتبيح له مناقضة العلم والصواب، وما سؤالك رجلا في مستشفى المجاذيب عن صحة ما ~~يقول؟ ألست تعلم أنه في مستشفى المجاذيب؟ كذلك إذا قال الرجل: إنه ينظم شعرا ~~فقد أعفى نفسه من التحقيق، ولاذ بحرم الإباحة الذي يسمح له بكل قول، ولا يأذن ~~لأحد بحسابه على مقال. # ومنهم من ينتظر «العواطف» من الشعر، ويفهم من العواطف أنها الرقة في الشكوى ~~والأنوثة في الحنان، ودموع كثيرة وآهات أكثر، وسقم وحزن وبث وشقاء، فإذا صادفه ~~كل ذلك في القصيد فذاك هو الشعر وتلك هي «العواطف»، وإذا نقص البكاء في القصيد ~~فإنما تنقص فيه الشاعرية بمقدار ما تنقص الدموع، فالقصيدة التي فيها عشرون دمعة ~~أشعر من القصيدة التي فيها عشر أو خمس، أو القصيدة التي تقتصر على التأوه أقل ~~في البلاغة الشعرية من القصيدة التي تسمو إلى درجة البكاء، والرجل الذي يبالغ ~~في التذلل، ويفرط في الاستعطاف هو الشاعر المطبوع والقائل البليغ، فمن جعل نفسه ~~عبدا لحبيبه أبلغ ممن جعل نفسه أسيرا يفك إساره! ومن تطلع إلى تقبيل القدم ~~أشعر ممن طمع في تقبيل البنان! ومن صبر عاما أظرف ممن صبر أحد عشر شهرا! ومن ~~نذر حياته كلها لعبادة حبيبه أصدق في «العاطفة» والشاعرية ممن جعل «للوقفية» ~~حدا تنتهي إليه! أما من غضب مرة فقسا على الحبيب بكلمة، أو أنحى عليه بمثلبة ~~فقد برئ من الشعر، وبرئ الشعر منه، وخلا من «العواطف» خلو الصخرة من ms147 الماء، ~~واستحق النفي السرمدي عن حظيرة القصيد! # ومنهم من ينتظر من الشعر ألفاظا بعينها يقرؤها فيطمئن على الكلام، ويوقن أنه ~~غير مخدوع في صحة الصنف المعروض عليه، فالكلام الذي فيه الأزهار والبلابل ~~والكواكب والغدران، وفيه مع هذا عيون وثغور وقبلات وخدود وكئوس وأشواق، يستحيل ~~ألا يكون شعرا أو يكون فيه موضع لانتقاد، ولو أنك أردت بأي كلام أن يكون أجمل ~~الشعر وأظرفه وأحلاه، لما كان عليك أكثر من أن تكتب أمامك هذه الكلمات على ~~مسافات متقاربة، وتملأ ما بينها من الفراغ كما يصنعون في ألغاز الكلمات ~~المجهولة، فإذا شعر لديك كأحسن ما يقول القائلون! وأمتع ما توحي العرائس أو ~~الشياطين! ومن أكبر الطمع أن يعرض عليك بيت في بلبل وزهرة، ثم تساوم فيه بعد ~~هذا ولا تعطي فيه ثمن الشعر الصحيح غير منقوص ولا مبخوس، فإذا كان فيه، فضلا ~~عن هذا، عشرة بلابل وخميلة أزهار، فلا والله ما لك عليه من سبيل، وما أنت فيه ~~بمغبون إذا أعطيته من نفسك كل حق الشعر والشعراء! # ومنهم من ينتظر من الشعر لفا في التعبير، يبعده عن استقامة الكلام المعهود، ~~ويحوج القارئ إلى التفطن والجهد في استخراج معناه، والبحث عن مرماه البعيد، ~~فليس بشعر ما يسمى الظهر ظهرا والليل ليلا، ويذكر كل شيء باسمه المتداول ~~المعروف، وأقرب منه إلى الشعر ما يسمى الظهر الأوان الذي بين الضحى والأصيل، ~~ويسمى الليل الأوان الذي لا شمس فيه، أو الذي يشرق فيه القمر وتومض النجوم. ~~ويتم الشعر عند هؤلاء بتمام غرابته في لفظه ومعناه، وبعده عن المألوف في الأثر ~~والإحساس، إن كان لا بد فيه من إحساس، وهو أمر لا يحفل به ولا يلتفت ~~إليه. # ومنهم من ينتظر من الشعر «المعاني»، ويفهم من المعاني اعتساف التشبيهات ~~والخواطر، واختلاق الأفكار والتصورات، فإذا سمع صرخة ألم في قصيدة غير مشفوعة ~~«بمعنى» معتسف أو ابتكار ملفق، نظر إليك نظرة من يصغي إلى قصة تمت، ولم يتم ~~مغزاها في نظره، وعجب لماذا ينظم الشاعر هذا الكلام إذا كان جهد ما ms148 يبلغ إليه ~~أن يمثل لك حالة ألم، يشعر بها جميع الناس! او يكفي أن يشعرنا الشاعر ألمه دون ~~أن يقرن ذلك بتشبيه براق، أو كناية بعيدة، أو أسطورة منمقة، أو خاطرة منتزعة من ~~أبعد المناسبات وأغرب التمحلات؟ كلا ذلك لا يكفي في عرف هؤلاء القراء، ولا يزال ~~الشاعر عندهم مطالبا «بالمعنى» الذي لا محل له حتى بعد أن يشعرك ما في قلبه ~~ويجلو لك الحالة النفسية التي حركته إلى النظم والغناء! والقارئ من هؤلاء لو ~~سمع الرعد يدوي، ورأى البرق يلمع، وشهد السماء في جلالها، والبحر في اتساعه لم ~~يكرثه أن يعرف هل هذا رائع أو غير رائع، وهل له صدى في النفس أو ليس له من ~~أصداء، وإنما يكرثه أن يسأل: وأي معنى لهذا؟ وأي معنى لهذا؟ وماذا قال لنا ~~الرعد أو البرق أو السماء أو البحر مما لم يقله قبل الآن؟ وكأنه يعجب: هل وظيفة ~~الرعد أن يكون رعدا، وأن يكون له أثر الرعد في النفس أو وظيفته أن يطرقنا كل ~~يوم بنغمة جديدة و«معنى » طريف؟ وكذلك هو يعجب: هل وظيفة الشاعر أن يكون صاحب ~~صور نفسية ينقلها إلى نفوس الناس، أو وظيفته أن يلفق لهم تشكيلات المعنى كما ~~تلفق تشكيلات الصور المبعثرة يلهو الأطفال بضم أجزائها وتغيير أشكالها، ~~والإتيان بها على أوضاع لا نهاية لها، ولو لم يكن من وراء ذلك فن ولا ~~تصوير؟ # فمن المفاجأة ولا ريب لجميع هؤلاء أن يقال لهم: إن الكلام قد يكون في الذروة ~~العليا من البلاغة الشعرية، وليس فيه خيال شارد، ولا دمعة، ولا آهة، ولا كلمة ~~ملفوفة، ولا معنى مستكره. بل هو يكون أبلغ في الشاعرية كلما خلا من هذا التصنع، ~~واستوى على طريقه الواضح القويم، ونضرب لهم مثلا بقطعة واحدة سبق لنا أن ~~ترجمناها فسألنا السائلون: وما معنى هذا؟ كدأبهم كلما سمعوا كلاما يعوزهم أن ~~يستحضروا إحساسه، وينظروا إليه من وجهته! أما القطعة فهي القصيدة الآتية من شعر ~~توماس هاردي، الذي كتبنا عنه مقال «أزياء القدر» في بعض ms149 هذه المقالات: # إذا طلع الفجر، ونظرت إلى الطبيعة المصبحة جدولا وحقلا، وقطيعا ~~وشجرا موحشا، رأيت كأنما هي أطفال مكبوحة على مقاعد الدراسة تشخص ~~إلي، وكأنما قد طالت عليها ثقلة الأستاذ في أساليبه، فبردت ~~حرارتها، ورانت على وجوهها السآمة والضجر والإعياء، وكأنما تهمس ~~بسؤال كان مسموعا، ثم تخافت حتى لا تنبس به الشفاه: عجبا! عجبا ~~لا انقضاء له أبد الزمان! ما بالنا نحن قائمين حيث نقوم في هذا ~~المكان؟ أتراها حماقة جليلة قادرة على التكوين، ولكنها غير قادرة ~~على القصد والترسيم، خلقتنا في مزاح، ثم تركتنا جزافا لما تجرى به ~~الصرف؟ أما تراها آلة لا تفقه ما نحن فيه من الألم والشعور، أم ~~ترانا بقية من حياة إلهية تموت فقد ذهب منها البصر والضمير؟ أم ~~تراها حكمة عالية لم تدركها العقول، ونحن في جيشها «فرقة الفداء» ~~والغلبة المقدورة للخير على الشر مقصدها الأخير؟ كذلك يسألني ما ~~حولي ولست أنا بالمجيب، وما تبرح الريح والمطر والأرض في الظلام ~~والآلام، كما كانت وكما سوف تكون، وما يبرح الموت يمشي إلى جانب ~~أفراح الحياة. # هذه هي القطع، ولقارئ من أولئك القراء أن يسأل ألف مرة: ما معنى هذا؟ ما معنى ~~هذا؟ فلا يظفر بجواب يقنعه، ولا يرجع بغير الخيبة، وماذا عسانا نقول له إذا ~~سألنا: هل في هذه القطعة جناس؟ هل فيها «عواطف»؟ هل فيها «معنى» غريب؟ هل فيها ~~ألفاظ وأساليب؟ ماذا عسانا أن نقول له غير «لا» في جواب كل سؤال، وأن نسبقه بها ~~إلى جواب كل ما يسأل عنه أمثاله، وكل ما يطلبونه في الشعر وفي كل كلام. غير ~~أننا نضرب المثل الأعلى للبلاغة الشعرية بهذه القطعة التي تلوح له هزيلة ضامرة ~~لا تساوي بيتا من ابن نباتة، ولا شطرة من صفي الدين! لأننا نعلم أن الشاعر ~~أراد أن يمثل بها «حالة نفسية» تحيك بنفسه، فمثلها لنا أحسن تمثيل، أراد أن ~~يصور لنا ملالة النفس العارفة بأسرار الحياة ونواميس الوجود، فصورها في سكون لا ~~ادعاء فيه، وإيجاز لا خلل فيه، وبساطة يخطئها ms150 الجاهل، فيحسبها من غثاثة الفضول. ~~فهو رجل نظر في عبث العواطف، وعبث الحوادث، وعبث النواميس، فتولاه الضجر، ونفرت ~~نفسه، ثم ثابت إلى السكينة والتسليم، فيم يحزن الحزين، وفيم يفرح الفرحان، وفيم ~~ينخدع الناس لهذه الآمال الكاذبة ثم لا يزالون ينخدعون بها وهم يعلمون أنهم ~~مخدوعون! في لا شيء، وهذه هي الحالة النفسية التي يجب أن نستحضرها ونعالج ~~بواعثها لكي نضع هذه القطعة في مكانها من الذروة العالية التي هي فيها، فإذا ~~استحضرتها علمت أن ليس في وسع شاعر أن يصف تلك «الحالة النفسية» أصدق ولا أبسط ~~ولا أسهل ولا أعمق من ذلك الوصف العبقري القدير، وكيف يسع الإنسان أن يصور ~~«الفطرة» التي في الشجر وفي الطبيعة عامة، بأقرب من صورة الطفولة المكبوحة؟ ~~وكيف يسعه أن يصور ثقلة النواميس التي قيدتها ذلك التقييد بأقرب من ثقلة الدرس ~~الممل، والتكليف العنيف الجاثم على طبيعة الطفولة المحفوزة إلى اللعب والمراح؟ ~~وكيف يسعه أن يعطي السآمة صورة أوفى من صورة الشجرة خاصة وهي تتثاءب في جمودها ~~الدائم وتسألك: لماذا نحن هنا في هذا المكان؟ أو ليس هذا بالسؤال المنتظر ~~المعقول! أو ليس يخيل إليك الآن أنك تسمعه من كل شجرة، وتعرف لها الحق في أن ~~تلقي بهذا السؤال إليك؟ فإذا كان الإنسان الذي يروح ويغدو ويطير في الجو، ويغوص ~~في الماء، ويفرح ويألم ويفلح ويفشل ويقول ويعمل، يعود إلى ضميره كرات متواليات ~~ويسأله: لماذا نحن هنا في هذا المكان؟ فما أولى الشجرة التي تقضي حياتها في ~~مكان واحد لا تتزحزح عنه حتى تموت، أن تعجب ذلك العجب وتسأل ذلك السؤال؟ ثم هل ~~من سبيل إلى فرض واحد يضاف إلى تلك الفروض الشعرية التي ختم بها الشاعر قطعته، ~~وأجمل بها كل ما يحير في نفس المتأمل من الظنون، كلا! لا مزيد عليها، فهي في ~~إجمالها دليل على نفاذ الشاعر إلى كل مذهب يهيم فيه الفكر، وشعوره بكل إحساس ~~يعتري النفس، وإلمامه بكل دقيقة وجليلة يلم بها من خبر هذه الدروب ونظر في هذه ~~الأمور. # ذلك ms151 مثل واحد من شعر كثير ينقل ولا يقابل من عامة القراء بغير ذلك السؤال الذي ~~تعودوه كلما سمعوا شعرا من هذا الطراز: ما معنى هذا وما معنى هذه؟ وإن معناه ~~لواضح بسيط لو يحسونه ويستعدون له، وما هو بالبسيط لأنه «غير عميق»؛ ولكنه هو ~~البسيط الذاهب في العمق إلى قرار ليس بعده قرار. # | الشعر في مصر (7)1 # أما وقد بدأنا بسوق الأمثلة من الشعر الذي يروع باطنه، ولا يعجب الأكثرين من ~~قرائنا ظاهره، فلنمض في التمثيل خطوة أخرى ليكون مثلنا الجديد من شعر توماس ~~هاردي الذي استشهدنا به في القطعة الأولى؛ لأنه أولا: من المعاصرين الأحياء ~~والوهم الغالب على الناس في أوربا وفي مصر أن العصر الحاضر ليس بالعصر الذي ~~ينجب الشعراء ويحيي العبقرية الشعرية فلا لوم على المقصرين، وإنما اللوم كله ~~على البيئة والجدود! # ولأنه ثانيا: شاعر «الحالات النفسية» وهذه الحالات هي التي نقصت في شعرنا ~~القديم والحديث؛ لأننا نفهم شعر الأسلوب، وشعر المعاني الذهنية، وشعر الألاعيب ~~اللفظية والمعنوية، ولكننا لا نفهم الشعر الذي يترجم لقارئه عن حالات النفس ~~بغير ما حفاوة مقصودة بذلك الذي يسمونه المعاني، ويفهمون منه أن يكون الشاعر ~~مختلقا للخواطر، مكثرا من المبتكرات المعتسفة، مولعا بالاستعارات والمواقف ~~التي لا موقع لها في القصيدة، فنحن لفقرنا في الإحساس المنوع الغزير، أو ~~لتفريقنا بين الشعر والإحساس. # نقرأ القصيدة التي تشرح لنا الحالة أو الحالات الكثيرة من عوارض النفس البشرية، ~~ثم لا نزال نترقب من الشاعر مغزاه ونتوهم النقص في غرضه، أو نحن نقرأ القصيدة ~~التي تومض لنا بالصور الخيالية، والمواقف الدقيقة ونعدوها كأننا لم نجد عندها ~~مستوقفا ولم نظفر بخبر، وتوماس هاردي غني بشعر الحالات النفسية، وإن لم يكن ~~غنيا مثل هذا الغنى بشعر الصور الخيالية، فالتمثيل ببعض كلامه الذي يقل فيه ~~ما يسمونه «بالمعاني» يعين على تقرير هذا الغرض الذي أردناه، ويرينا كيف يكون ~~الكلام في الطبقة الأولى من الشعر بعد تجريده من زينة الصياغة الموسيقية، وخلوه ~~من تلك «المعاني» التي يولع بها عندنا أناس يحسبون أنفسهم ms152 خيرا من طلاب ~~الألفاظ والأساليب، وهم مثلهم في الضلال عن روح الشعر ورسالة الشعراء. # هذا سببان لاختيارنا التمثيل من شعر توماس هاردي، وثمة سبب ثالث فيه بعض ~~الغرابة ولكنه وجيه في رأينا كل الوجاهة، وذلك أننا نعد توماس هاردي من شعراء ~~الطبقة الثانية ولا نعلو به إلى المقام الأول بين رهط الشعراء الكفاة الذين ~~جمعوا خصال الشعر من موسيقية وإلهام وبداهة عالية ونفاذ وشيك، فليس في التمثيل ~~به تكليف بشطط، ولا غلو في التحدي، ولا مهرب للذين يعتذرون عن شأو الكمال إلا ~~أن يقنعوا بما دون ذلك من منازل الشعراء، ولو مثلنا لهم بالآخرين الذين تفردوا ~~في عصورهم وأقوامهم عن النظراء لما كان عليهم ضير أن يخلدوا إلى العجز ويلقوا ~~يد التسليم. # ونحن بعد، كثيرو التقليب هذه الأيام في شعر توماس هاردي؛ لأنه شاعر الساعة أو ~~صاحب النوبة كما نسمي الشعراء الذين نرجع إليهم حينا بعد حين، وكان بودنا أن ~~نمثل بقصيدة من مطولاته، لولا رغبتنا في حصر وجهتنا واجتناب التشعب والشتات، ~~فنكتفي بقطع صغيرة له تفي بالغرض في هذا المقام، وهذه واحدة منها بعنوان «قلت للحب»: # قلت للحب: ليست الدنيا الآن كما عهدتها في سالف الأيام. أيام كان ~~الناس يعبدونك ويعبدون أساليبك وبدواتك، ويرفعون لك عرشا لا تعلو ~~عليه العروش. أيام كانوا يسمونك الصبي، والجميل، والوحيد، ويزعمونك ~~باسطا لهم تحت الشمس سماء النعيم. قلت للحب. # قلت له: إننا لنعلم اليوم ما لم يكونوا يعلمون، وإننا لضعاف رأي ~~يوم أن كنا نفتح لك قلوبنا المفعمة، ونضج إليك عسى أن تلقي فيها ~~بلواعجك وآلامك. قلت للحب. # وقلت له: ما أنت بالفتى ولا أنت بالجميل، وما أنت بالجني الصغير ~~يلعب بسهامه، ولا الملك الطهور يتخايل في وسامة، وما كان سيما ~~الإوزة الناعمة، ولا الحمامة الوادعة، وإنما هي ملامح القسوة ~~المتجهمة ملامحك، وخناجر الحديد الطاعنة سهامك، وسلاح الفتك ~~والغيلة سلاحك. قلت للحب. # قلت له: سحقا لك يا حب إذن، وفراقا عنا إلى حيث لا معاد! أو يفنى ~~الإنسان تقول؟ ويجهل الجيل غدا ما ms153 يكون وما يحول؟ لقد شاخت نفوسنا ~~يا حب في هذا الزمان، فما نبالي منك ذاك الوعيد، وسيفنى الإنسان! ~~نعم ليذهب إلى حيث شاء! قلت للحب. # هذه إحدى النماذج التي نمثل بها لشعر الحالات النفسية، فتخيل أيها القارئ ~~مجمعا من ظرفاء الأدب عندنا يتناولونها بالنقد والتقدير، وقل لي كيف يحكمون ~~على هذا الشعر وأي الحسنات يرونها فيه وأيها تنقصه وكن على يقين أن مصير القطعة ~~عندهم «سلة المهملات» أو أي مصير يشبهها غير مأثورات عقولهم التي هي أشبه شيء ~~بسلة المهملات! فلا «معنى» هنا ولا تزويق ولا «خيال» ولا قلب ولا عكس ولا ~~مراعاة نظير! ودع عنك اللطافة التي يتأفف صاحبها اللبق الرشيق من شاعر يصف ~~ملامح الحب بالجهامة، وسهامه بالخناجر، وسيماه بسيما الغائلة وقطاع الطريق! ودع ~~عنك الأناقة التي يتسخط صاحبها على شاعر يطرد الحب ويجازف بفناء الإنسان! فهذا ~~بعض نصيب هاردي من ظرفاء الأدب عندنا، وهذا هو الحكم الرءوف الذي نتلقاه من ~~منصة ذلك القضاء، ولكنك إذا ضربت صفحا عن هؤلاء الأمساخ الهازلين ونظرت إلى ~~القطعة من حيث هي ترجمان صادق لحالة تعتري النفوس الشاعرة، فهناك تعلم كم من ~~الحياة يحتاج إليه الإنسان ليقول مثل هذا المقال، وتفهم كيف أن ناظم هذه القطعة ~~لم تفته صورة من صور الحب في أجيال الخليقة من إنسان وحيوان، فما قالها إلا بعد ~~أن أحس شبع الإحساس بضراوة الحب المفترس يمعن في عالم الحيوان قتلا لا رحمة ~~فيه ولا إمهال، وطغيان الحب الخالب يستغوي أبناء الفناء برونق الفتنة، وهو موت ~~أصم أعمى لا يصغي ولا يحيد ولا يحفل ما سعادة النفوس وما هناءة البيوت وما شقاء ~~الآباء والأبناء والأمهات وما سموم الغيرة ومرارة اليأس الخفي، وحسرات الفؤاد ~~الكظيم، وما هان على الشاعر أن يذهب نوع الإنسان إلى حيث يشاء، إلا بعد أن بلا ~~من الحب ما هو أشد من الفناء، وإلا بعد صرعات لا منفذ فيها للرجاء، ولا موضع ~~فيها للعزاء، فإلى جانب هذا الفتور الشاحب الذي يسميه فتور الشيخوخة جحيم عذاب ~~لا ms154 فتور فيه ولا سكون، ووراء هذه الملالة الهاجعة هاوية زافرة لا تبرد ولا ~~تنام. ~~••• # وقطعة أخرى على هذا النمط عنوانها «في خسوف القمر» يقول: # ظلك أيتها الأرض - من القطب إلى المحيط - يدب الآن على شعاع القمر ~~الضئيل في سواد لا شية فيه، وسكينة لا يخالجها اضطراب، وإني لأنظر ~~إليه فأعجب كيف يستوي هذا الظل المنسوق، وذلك الجرم الذي أعرفه لك ~~موارا بالقلق والحيرة، وكيف تتفق هذه الصفحة الراضية كأنها الطلعة ~~الإلهية، وأقطار عليك أيتها الأرض تموج الساعة بالأحزان ~~والكروب! # واسأل: أهذا الشبح الصغير كل ما يطرحه الفناء الزاخر من الظلال على ~~ساحة الفضاء! أحكمة الله التي أراد بها عالم الإنسان متجمعة كلها ~~في حيز هذا القوس المرسوم! أكذلك يكون مقياس الكواكب لما تبديه ~~الأرض ويكشفه عليها الزمان: من أمة تنحر أمة، ورءوس تغلي بالهواجس، ~~وأبطال غالبين ونساء أجمل من طلعة السماء؟! # وهذه قطعة أخرى لا «معنى» فيها ولا تزويق ولا «خيال» ولا قلب ولا عكس ولا ~~مراعاة نظير ولا خاتمة تنبه الأسماع إلى النهاية بالأجراس والطبول، ولكن من ~~الهزل والظلم أن يفرض لهذا السفساف وجود إلى جانب ذلك الكون المرهوب الذي يفتحه ~~لنا هاردي في لحظة الخسوف: شاعر يقف بين الأرض وظلها ينظر إلى هذا تارة، وينظر ~~إلى تلك تارة أخرى ويستعرض في لمحة الطرف كل ما يجمله الظل الممدود من معارض، ~~وتواريخ، وأقدار، وخطوب، ثم يحاول أن يرى في الظل مثالا من صاحبته، فإذا هو لا ~~يرى إلا قليلا زهيدا ولا يملك إلا أن يسأل في امتعاض وخيبة: أهذا هو كل ما ~~ترسمه الدنيا من الظل على ساحة الفضاء. # هذا حرم سماوي لا لغو فيه ولا صغار، فمن الظلم جد الظلم أن نقف عند بابه وفي ~~نفوسنا ذكر لذلك السفساف الذي يهذي به أدباؤنا الفارغون، ويحكون به الشعر حكاية ~~القردة للآدميين. ~~••• # وقطعة أخرى على هذا النمط أيضا تصف لنا عبث العزاء الذي يتلمسه المفقودون في ~~وفاء القرابة والأصدقاء، وهذه ترجمتها: # آه! إخالك تحفر عند قبري يا حبيبي لتغرس على ms155 حوافيه أشجار ~~الشذاب؟ # كلا! حبيبك ذهب البارحة ليخطب كريمة من أجمل كرائم الثراء، وهو ~~يقول في نفسه: ماذا عليها من ضير أن أنقض عهدي لها في ~~الحياة. # إذن من ذلك الذي يحفر في ناحية القبر؟ أقاربي الأعزاء؟ # لا يا بنية! إنهم يجلسون هناك ويقولون ماذا يجدي؟ أي نفع لهذه ~~الأشجار والأزهار؟ إن روحها لن يفلت من براثن القضاء، خلال ذلك ~~التراب المركوم. # ولكني أسمع حافرا يحرف هناك، فمن ذا عسى أن يكون؟ أهو عدوتي ~~اللئيمة الرعناء؟ # لا! إنها حين علمت أنك عبرت الباب الذي لا مفر منه، ضنت عليك ~~بالعداوة، ولم تجدك أهلا للكره والبغضاء، فما تبالي اليوم في أي ~~مرقد ترقدين. # إذن من يكون ذلك الحافر على قبري؟! فقد أعياني الظن وأقررت ~~بالإعياء! # أوه! إنه أنا يا سيدتي الودود! أنا كلبك الصغير أعيش بقربك، وأرجو ~~ألا يزعجك ذهابي، ومآبي في هذا الجوار. # آه نعم! أنت الذي تحفر على قبري. عجبا! كيف غفلت عنك، ونسيت أن ~~قلبا واحدا وافيا قد تركته بين تلك القلوب الخواء؟ وأي عاطفة ~~لعمرك في قلوب الناس تعدل عاطفة الولاء في فؤاد الكلب ~~الأمين؟! # سيدتي، إنني أحفر عند قبرك لأدفن فيه عظمة أعود إليها ساعة الجوع ~~في هذه الطريق، فلا تعتبي علي إزعاجك! فقد نسيت أنك في هذا المكان ~~تنامين نومك الأخير. # تلك حالة أخرى من حالات النفس السائمة، قد بطلت خدعتها في عواطف المودة والولاء ~~وعلمت عجز طبيعة الإنسان والحيوان عما نكلفها من وفاء نتعزى به في محنة العزلة ~~والقنوط، فالميت في قبره لا يساوي أكثر من عظمة في قلوب الكلاب، ولا أكثر في ~~القلوب الأخرى التي لا تبحث عن العظام في جوار القبور! # ولعلنا بعد هذه الأمثلة القليلة قد أفلحنا في غرض ليس بالطامع ولا بالبعيد. ~~لعلنا قد أقنعنا بعض المخلصين في حيرتهم بأننا لا نتحكم ولا نعتمد التعجيز حين ~~ننكر شعرا يروقهم فيه ما يسمونه المعنى والأسلوب، ونعجب بشعر بسيط لا «معنى» ~~له غير ما يجلوه من حالات النفوس أو صور الخيال. # | الشعر ms156 في مصر1 # خلاصة # في هذا المقال الذي نختم به مقالات «الشعر في مصر» نعود إلى ما قدمناه فنجمله ~~بعض الإجمال، ونود أن نقول كلمة عن مقاصدنا من كتابة هذه المقالات، وعن القراء ~~الذين عنيناهم بكتابتها، والنتيجة التي نريد أن نصل بهم إليها. # ونبدأ بهذا الغرض الأخير فنقول: إن هناك فريقا من القراء لا نعنيهم ولا نرجو ~~خيرا من اطلاعهم على كتابتنا، أو على كتابة غيرنا في النقد والأدب. أولئك هم ~~زمرة «الشخصيين» الذين يظهرون الإعجاب بشعر شوقي مثلا؛ لأنهم يشبهونه في بعض ~~الخلال والعادات ويشعرون براحة خفية لاشتهار واحد من أمثالهم وأشباههم بهبة ~~ترخص الوصمة وتستر المسبة، وهؤلاء ليسوا بالقليلين بين من يتظاهرون بمخالفة ~~آراء المجددين، أو يصفون شوقي وأضرابه بالتجديد وهم لا يبالون قديما ولا ~~جديدا، ولا يعالجون الشعر معالجة فقه ودراية، وليس من شأننا أن نذكرهم أو ندل ~~عليهم، ولكننا نشير إلى هذه الحقيقة من باب التمثيل لظاهرة غريبة بين ظواهر ~~التشيع الأدبي التي تخفى أسبابها وتمزج الأدب بغير الأدب، وتجعل من بعض العيوب ~~عصبية كعصبية القرابة والرصافة، وكثيرا ما يرى القراء أحدا يغضب من نقد شوقي ~~وينضح عنه وعن شعره فيعجبون لهذا، ويزيد عجبهم أن ذلك «الأحد» ليس من قراء ~~الشعر ولا المعنيين بشأنه في اللغة العربية ولا في لغة غيرها، وأن شوقيا ليس ~~من أصحاب النفوس التي تستثير نخوة الغيرة وشماس العصبية! فسر هذا الغضب شخصي ~~ليس بالأدبي ولا بالفكري، والباعث إليه طلب العزاء والمداراة لا البر بشوقي ~~والعطف عليه، كأن إكبار الناس لإنسان يشبهه يتضمن الغفران لما ينكره من خلال ~~نفسه، ويرفع عنه ذلة الضعف والمهانة. # وتلحق بهذا الفريق من الشخصيين فئة لها أسلوب غريب في التشيع، أو أسلوب غريب في ~~النقمة نسميه بالأسلوب المعكوس؛ لأنه يدعوهم إلى إظهار الإعجاب بأناس كراهة ~~لأناس آخرين ويجعل مدحهم لإنسان نوعا من القدح المقلوب لإنسان آخر لعلهم لا ~~يجرءون على مسه ولا يعرفون كيف يتسللون إلى إيذائه، وإن النفس لتشمئز من حقد ~~هؤلاء الذين يحبون لأنهم يكرهون، ويتشيعون ms157 لأنهم يحسدون، ويتوارون بالتعريض ~~لأنهم لا يجرءون على الظهور بالنكاية، وليس للإعجاب في نفوسهم قيمة تصان ولكن ~~القيمة الأولى للبغضاء والكراهية، ثم يأتي الإعجاب تبعا لها أو ظلا مشوها ~~لتمثالها. لقيني أحد هؤلاء في يوم الاحتفال بشوقي فقال لي: بلغني أنك سئلت عن ~~رأيك في شعر شوقي فكتبت عنه كتابة سيئة، قلت: لا. أنا لا أكتب عن شوقي ولا غيره ~~كتابة سيئة! قال: ليس هذا الذي أعني، ولوددت لو أني سئلت عن رأيي فأكتب في هذا ~~الرجل أسوأ كتابة؟ وما هي إلا أيام حتى لفتني بعضهم إلى تعريض جبان يعرض فيه ~~صاحبنا هذا بموقفي في احتفال التكريم، ويهذي بحكاية يحفظها عن برنارد شو تدل ~~على أنه لا يفقه ما يقول، ثم ذهب في موضع آخر يثني على شوقي ويصفه «بصلابة ~~الخلق!» فنم على نفسه بهذا الوصف الغريب ودل على ذلك الضعف الذي جعله يتعزى بأن ~~يكون مثل شوقي ممن يوصفون بالصلابة وينعتون بنعوت القوة! وشئنا هنا أن نذكر هذا ~~المثل لنسوق للقراء أعجوبة من أعاجيب الدواعي النفسية والنوازع الممسوخة التي ~~تنزع بعض الناس إلى التشيع والثناء، ومن واجبنا أن نشير إلى هذه الفئة وإلى ~~الفئة التي تقدمها لنصحح خطأ قد يقع فيه مؤرخ الآداب في العصور الآتية وله ~~العذر إذا وقع فيه، فليس كل إعجاب بشعر شوقي إعجابا أدبيا يصح أن يتخذ ~~دليلا على الحالة الفكرية والأذواق الشعرية في زماننا، ولا بد من ملاحظة ~~الأسباب الشخصية المتسترة التي تعود على الرجل بشيء من الإعجاب المصطنع والثناء ~~المعكوس، ولو جربنا على عادة السكوت عن الأسباب المشار إليها لأخطأ الذين ~~يجهلون الأمر الآن أو غدا فعدوا ذلك الإعجاب رأيا في الأدب، وما هو برأي فيه ~~ولكنه ستار عيوب أو سلاح مقلوب، ولا وجه للسكوت عن هذا الأمر وفيه ما فيه من ~~تقرير الحقيقة ومن الظواهر النفسية التي تفيد ملاحظتها من يعنون ببواعث النفوس ~~وظواهر الأخلاق. # ولا حاجة بنا إلى أن نقول: إننا لم نعن بالكتابة في هذا الموضوع من يؤجرون على ~~آرائهم ms158 أو من تحملهم عصبية الجيل والسن على كراهة كل جديد، أو من يملؤهم الغرور ~~الجاهل حتى ليخفى عليهم أنهم مغرورون، ولا يخطر لهم أن امرأ يجوز له أن يرى ~~رأيا لا يسيغونه، أو يذهب في الأدب مذهبا لم يسمعوا به، فهؤلاء جميعا ممن لا ~~غناء فيهم للشعر ولا وجه لمخاطبتهم بحجة مقنعة وبيان منزه، وإنما ندعهم وشأنهم ~~ونمضي في طريق يعلمون هم قبل سواهم أنهم أصغر من أن يعترضوا له سدا أو يقفوا ~~فيه عقبة، ونتوجه بكلامنا إلى نفوس لا يحول بيننا وبينها حائل، ولا يمنعها ~~الغرض أن تقرأ قراءة المخلص لنفسه، والمستفيد من مطالعاته، وليسوا والحمد لله ~~بقليلين. ~~••• # إن هذه الآراء التي نقررها في الشعر وفي النقد تسري سريانها، وتسلك سبيلها في ~~توجيه الأفكار الظاهرة والمستترة، فلا تعوقها المكابرة، ولا يجدي في مكافحتها ~~تألب المتألبين على إنكارها، فمنذ بضع سنوات نشرنا كتاب الديوان فذاع ذيوعا لم ~~يسبق له مثيل في مصر، ونفدت طبعة الجزء الأول منه في أقل من أسبوعين، وثارت ~~حوله ثورة الناقمين المدسوسين عليه، والذين يغنيهم وغر نفوسهم عن الإيعاز ~~والإغراء، فخيل إليهم أنهم طامسو أثره، ومخفتو صوته، وعادلون بالقراء عن ~~الإصغاء إليه والاقتناع بحقه، وبقينا نحن نلمس آثاره في أقوال المتحدثين، ~~ومقالات الكاتبين، وتعليق المعقبين على ما ينشر من الشعر، ويروى من الأدب ~~القديم والحديث. إلى أن جاء يوم الاحتفال الذي دبره شوقي لتكريمه وسئل الأدباء ~~رأيهم في شعره فكان فريق الناقدين أرجح من فريق المقرظين، وكانت منزلتهم أكرم، ~~وسمعتهم أسلم ومنهجهم في الإبانة عن آرائهم أدنى إلى الفهم والإصابة، فعرفنا ~~الآراء التي بسطناها في كتاب الديوان، وهي تتخلل مقالاتهم وملاحظاتهم، وعلمنا ~~أين تنتهي الضجة الخاوية وأين تقف الحيلة الكاذبة، وكان أناس يوافقوننا في مجمل ~~الرأي ويطلبون إلينا أن نتخذ للنقد لهجة غير التي اتخذناها لندفع مظنة التحامل ~~على شوقي والنظر إلى شخصه، فكنا نقول لهم: إن مثل شوقي في أحابيله التي ينصبها ~~لترويج أمره والكيد لغيره، لا يستحق منا غير تلك اللهجة التي قسناها عليه ms159 ~~قياسا يلائمه كل الملاءمة، ويطابقه أعدل المطابقة، وإننا نعرف كيف نختار ~~طريقتنا للنقد ونضع أقوالنا موضعها من الكلام، فظهر لنا الآن أن قراءنا لا ~~يخلون من فئة قيمة تعرف ذلك أيضا وتعرف الفرق بين لهجة التحامل ولهجة التأديب، ~~وأننا كنا على صواب حين أبينا أن نفسر خطتنا في النقد أنفة أن يعد ذلك استجداء ~~لاقتناع المتثاقلين باقتناعهم أو تلمسا لرضا الذين لا يرضيهم إنحاؤنا على من ~~هو به حقيق، فلما كان الاحتفال بالعيد الخمسيني لمجلة المقتطف وعلم من علم أن ~~شوقيا أبى أن ينشد شعره في احتفال يقف فيه شاعران آخران، وأظهرت لهم هذه ~~الخليقة المحسوسة طبيعة الرجل في مناوأة الزملاء والضغينة عليهم، آمنوا أن ~~الناقد قد يجوز له من الصرامة أحيانا ما يجوز للقاضي، وأن الحق يحق له أن يخشن ~~في موضع الخشونة ويلين في موضع اللين، وأن إحساس العدل هو الذي سوغ لنا أن نقرر ~~الحقائق، ونبسط الآراء بلهجة توائم الرجل الذي قيضته المناسبة لتقرير تلك ~~الحقائق وبسط تلك الآراء. # وهذه المقالات بعنوان «الشعر في مصر» قد لقيت من موافقة القراء ما كنا نقدره ~~ووجدت أنصارا لها، حيث كنا نظن الأنصار قليلين أو معدومين، فقد كان يبدو لنا ~~أن آراء تحوم حول الآداب الغربية ولا تتقيد بالموروثات العربية هي أخلق أن تجد ~~أنصارها بين قراء اللغات الأجنبية أو من ينشئون على التربية التي نسميها ~~بالعصرية، وهي أحجى أن تجد المقاومة ممن لا يقرءون تلك اللغات، ولا ينشئون تلك ~~النشأة، فأخطأ حسباننا في هذا وسمعنا من شبان الأزهر ودار العلوم عددا ليس ~~باليسير يفهمها فهما يسرنا ويرضينا، ويستزيدنا من شرح الآراء وسرد الأمثلة، ~~وكان عدد هؤلاء المغتبطين بالاطلاع على مقالات «الشعر في مصر» من طلاب الأزهر ~~ودار العلوم أكبر عددا من إخوانهم في المدارس الأخرى، وأكثر رغبة فيها وحرصا ~~على استفسار ما غمض عليهم منها. نعم إنهم لا يتابعون مقدماتها إلى نتائجها، ولا ~~يتأدون منها إلى الغاية التي قصدناها، ولكننا لا نأسف لهذا كثيرا؛ لأننا لم ~~نكن ننتظر أن ms160 تتفق الوجهات في فهم الشعر وهي لم تتفق في تقدير ملابس الأجسام! ~~فما أحرى العقول التي تختلف في الأزياء المشاهدة أن تختلف في أزياء النفوس ~~وأنماط الشعور! ولعلها تكون على وفاق في الفهم، ولكنها حين تعمد إلى الإفصاح ~~عما في أخلادها تتشعب في التعبير، وتتباعد في صياغة الأفكار. ~~••• # نختم هذه المقالات وبحسبنا منها أن تنفي بعض الظنون فيما نعنيه بالشعر العصري، ~~أو بالمذهب الجديد، فليس التجديد هو إنكار فضل العرب، أو تعمد الخروج على ~~الأساليب العربية، ولكنه هو إنكار أوهام الذين يحصرون الفضل كله في العرب، دون ~~أمم المشرق والمغرب من سابقين ولاحقين، أو الذين يختمون على الأساليب بعد القرن ~~الرابع للهجرة، فلا يجيزون لأحد أن يكتب بغير أقلام الأدباء الذين عاشوا إلى ~~ذلك الزمان، ولا يفهمون أن الأسلوب صورة لنفس صاحبه، وأن الله لم يخلق الطبائع ~~كلها على صورة واحدة، فيكون لها أسلوب واحد في المنظوم أو المنثور، وليس ~~التجديد أن نصف المخترعات العصرية؛ لأن أحدا من العقلاء لا يطالبنا بأن نثبت ~~وجودنا في هذا العصر بهذه الأمارة ، ثم لأن العبرة بأسلوب الوصف لا بالوصف في ~~ذاته، وبروح الشاعر لا بموضع القصيدة. # وليس التجديد أن تقفو أثر الصحف بالنظم في الحوادث السياسية والعظات ~~الاجتماعية؛ لأن الشاعر قد يحس ما حوله ولكنه يبرز إحساسه في قالب رواية ~~خرافية، لا علاقة بينها وبين حوادث اليوم في الظاهر، ولا شأن لها بمشاكل ~~السياسة والاجتماع، وقد يستحيل الغضب السياسي في طبعه إلى صرخة نفسية تفعل ~~فعلها في حث العزائم، ولا تتسمى بالأسماء التي يعرفها الصحفيون والسواس، وليس ~~التجديد أن نضرب عن تقليد العرب لنقلد الإفرنج، وننظم كما ينظمون وننقد كما ~~ينقدون؛ لأن الإفرنج يخطئون في فهم الأدب كما يخطئ الشرقيون ويأبون على طائفة ~~منهم أن تقلد الآخرين، وليس التجديد أن نقتحم المعاني ونعتسف الخواطر؛ لأن ~~المعاني والخواطر أدوات الشاعر ووسائله، وليست بغاياته وقصارى مقاصده، فإذا مثل ~~ما في نفسه بغير التجاء إلى ذلك الذي يسمونه المعنى أو الخاطر فهو الشاعر ~~القدير والوصاف المبين ms161، وإذا أكثر من المعاني والخواطر؛ لأنه يريد أن يكثر منها ~~لا لأنه يريد أن يمثل بها حالة نفسه وحقيقة حسه، فليس هو بالشاعر ولو أبدع في ~~هذا غاية الإبداع، واخترع من التوليد «والتجديد» ما لم يأت بمثله المتقدمون ~~والمتأخرون، وإنما التجديد أن يقول الإنسان؛ لأنه يجد في نفسه ما يحسه ويقوله ~~وما يجدر به أن يحس ويقال: فالتجديد على هذا شيء غير الذي فهمه أنصار القديم، ~~وهو كما قلنا في كلمة كتبناها لمجلة الحديث شيء غير كتابة الجديد. «فليس من ~~الضروري أن تكون كتابة الكاتب كلها جديدة غير مسبوقة ليكون من المجددين، ويخرج ~~من زمرة المقلدين، وليس هو مستطيعا ذلك لو حاوله ومضى عليه، ولو أنه استطاعه ~~لوقع في التعسف واضطر إلى مخالفة الحقيقة، وتجنب البساطة وتزييف الآراء بغير ~~طائل، فليس التجديد أن يكون الكاتب جديدا أبدا في كل ما يكتب، وإنما هو أن ~~يكتب ما في نفسه ولا يكون قديما متأثرا للأقدمين يحذو حذوهم، وينظر إلى ما ~~حوله بالعين التي كانوا بها ينظرون؛ فمن المجددين على هذا الاعتبار أبو نواس؛ ~~لأنه ابن عصره، وليس من المجددين شعراء في هذا الزمان ينظمون في وصف الطيارة؛ ~~لأن الأقدمين نظموا في وصف البعير! ومن المجددين شاعر يمدح من يستحق المديح من ~~الأحياء والأموات، ويشرح فضائلهم، ويجلو لنا نفوسهم، وليس من المجددين شاعر ~~يتحاشى كل مديح لكيلا يتهم بالتقليد! ومن المجددين شاعر يصف الإبل والصحراء في ~~هذا العصر؛ لأنه رآهما ووقع في نفسه من رؤيتهما ما يستجيش القريحة إلى الإنشاد، ~~ولكن ليس من المجددين من يصف المعارض الصناعية؛ لأنها من مستحدثات هذا الزمان، ~~وهو يظن الحداثة أن يصف كل حديث فحسب إلى آخر ساعة، لا أن يصف ما في نفسه من ~~قديم وحديث، وإننا حين ندعو إلى الجديد لا ندعو إلى هدم شيء قائم الأساس؛ لأننا ~~نعلم أن كل شاعر صالح لزمانه، فذاك هو الشاعر الصالح لكل زمان، وليست العواطف ~~الإنسانية زيا يبلى ويخلع ويتغير كلما تغيرت أرقام السنين. كلا، فإن العواطف ~~الإنسانية ms162 تنزيل خالد لا تبديل لكلماته، وإنما يقع التبديل منه الزوائد الظاهرة ~~والعرض اليسير، ولن يصدق شاعر في وصف النفس الإنسانية في زمن ما، ثم يصبح صدقه ~~هذا كذبا في زمن غيره. ~~... يقولون ليس في الشعر قديم وجديد، وهذا حسن من الوجه الذي بيناه، ولكن الأمر ~~الذي لا خلاف فيه أن الشعر فيه الجيد والرديء إن لم يكن فيه القديم والجديد. ~~فالجيد هو ما عبرت به فأحسنت التعبير عن نفس مهملة، وشعور حي، وذوق قويم، ~~والرديء هو ما أخطأ فيه التعبير، أو ما عبرت فيه عن معنى لا تحسه، أو تحسه ولا ~~يساوي عناء التعبير عنه» هذه خلاصة موجزة لما تقدم من المقالات، فإن كنا قد ~~أوضحنا ما نريد فذلك حسبنا منها وحسب القراء المخلصين. # | روبنس المصور السياسي1 # منذ ثلاثة أشهر احتفل العالم الفني بذكرى وفاة بيتهوفن، ذلك الجبار الشقي الذي ~~كان موته أسعد ذكريات حياته، واليوم - في التاسع والعشرين من شهر يونيو - يحتفل ~~العالم الفني بمضي ثلاثمائة سنة وخمسين على مولد المصور المجدود «بيتربول ~~روبنس» الذي عاش حياته كلها في دعة قلما تتاح لعظماء الفنانين، وكانت ولادته من ~~البداية إلى النهاية فلتة من الحظ السعيد، فقد كان وشيكا أن يقضي على أبيه ~~بالموت حول السنة السبعين من القرن السادس عشر لشبهة غرامية بينه وبين زوجة ~~وليم الصامت، فلولا الحرص على كرامة البيت المالك لمات الرجل في تلك السنة، ولم ~~يظهر لابنه العظيم اسم في هذه الدنيا، إذ كان الحادث قبل مولده بسبع ~~سنوات. # ولد بيتر في سنة 1577 بمدينة سيجن الألمانية، فما مضى على مولده عام حتى سمح ~~لأبيه بالعود إلى كولون، ومكث فيها إلى أن بلغ التاسعة أو العاشرة، وتوفي أبوه ~~فانتقلت به أمه إلى «أنتورب» حيث كان زوجها في مبدأ الأمر يمارس المحاماة، ~~ويكسب بها الشهرة والجاه والثراء، أدخل هناك في إحدى المدارس المشهورة، وظهرت ~~فيها فطنته وسرعة فهمه فأصبح محبوبا مدللا بين الأساتذة والتلاميذ لذكائه ~~وجماله ودماثة طبعه، وفي الثالثة عشرة من عمره دخل في خدمة النبيلة «لالينج ms163» ~~أرملة الحاكم وصيفا من نخبة وصفائها، فأجدت عليه هذه الخدمة أحسن الجدوى، ~~ومهدت له سبيل الزلفى إلى الملوك والأمراء، بما تعلمه في ذلك البيت من أصول ~~اللباقة البلاطية، وفنون الكياسة والدهاء، ولكنه ما لبث أن سئم هذه المعيشة ~~ونازعته طبيعته إلى التصوير، فكاشف أمه بهذه الرغبة، وألح عليها حتى قبلت رجاءه ~~وألحقته بأستاذ مغمور لم يبق له الآن ذكر يعرف، ثم تركه ليلحق بالأستاذ آدم ~~فان نورث، ثم ترك هذا بعد أربع سنوات ليلحق بمصنع الأستاذ أوتو فان فين، الذي ~~بلغ في عصره مكانة تؤثر في العلم والكياسة والتصوير، فاستفاد كثيرا من التلمذة ~~عليه في فنه ولباقته واتصاله بذوي الخطر والمعرفة، وما شارف العشرين حتى انتخب ~~عضوا في جماعة القديس لوقا، ولم تمض عليه سنة بعد ذلك حتى انتدب ليساعد أستاذه ~~في تزيين بعض الأماكن الرسمية، ثم خطر له وهو في الثالثة والعشرين أن يحج إلى ~~إيطاليا قبلة الفن ومرجع المصورين من الأمم كافة في ذلك الزمان، فقصد إلى ~~البندقية واطلع هناك على تحف الأساتذة المتقدمين، واقتبس منها خبرة بالتلوين ~~تفرد بها بعد برهة بين جميع المصورين. # وصادفه الحظ السعيد في البندقية، كما صادفه في كل مكان، فوصلت بعض صوره إلى ~~أمير مانتوا وحظيت عنده، فاستدعاه إلى حاشيته واستصحبه في سياحته إلى مانتوا ~~وفلورنسية وجنوا حيث رأى صفوة ما فيهن من الذخائر الفنية النادرة والتراث ~~النفيس، وبعد بضعة أشهر استقر الأمير في عاصمته، وفتح خزائنه الفنية لروبنس ~~يستعرضها ويدرسها كما يشاء، فنعم المصور بهذه الفرصة، وقضى أوقاته بين التحف ~~المذخورة التي غالى بها حكام المدينة أميرا بعد أمير، ثم برح مانتوا في السنة ~~الثانية إلى روما لاستتمام الدرس والفرجة، فقوبل فيها بالحفاوة، ورحب به إخوان ~~التصوير وعهد إليه ولاة الأمر بنقش المحراب في كنيسة «صليب أورشليم». ثم قفل ~~إلى مانتوا فألفى الأمير في محنة سياسية تدعوه إلى مفاوضة ملك إسبانيا في بعض ~~الشئون، فلم ير لقضاء هذه المهمة خيرا من صاحبه المصور الذي أعجبته منه ~~رصانته، وسمته، وحسن تصرفه، وآنس ms164 منه قدرة في السياسة لا تقل عن قدرته في ~~الفنون، وقد حقق روبنس هذا الظن، فأجزل الأمير مكافأته وأجرى عليه رزقا يرضيه، ~~وأذن له مرة أخرى في زيارة روما فقضى فترة وبرحها إلى جنوة تلبية لدعوته فمكث ~~فيها قليلا، وعاد منها إلى مقامه المحبوب في المدينة الخالدة، وفي سنة 1608 ~~غادرها إلى أنتورب ليدرك أمه في النزع الأخير فلم يدركها قبل الوفاة، وحزن ~~عليها حزنا شديدا تستحقه منه لا كما تستحق جميع الأمهات حزن الأبناء، فقد ~~كانت مثلا في قوة الخلق، ونبل النفس، وصفاء الذهن، والحنو على البنين، وكان ~~يحبها ويذكر لها فضلها في تربيته وتخريجه وأصالة رأيها في إجابة رجائه وإطاعة ~~هواه، وكأن موتها حرك من نفسه العطف على ذكراها - ولا سيما بعد أن استوفى حظه ~~من إيطاليا، وعرف في نفسه القدرة على الاستقلال بعمله - فأرسل إلى صاحبه الأمير ~~يشكره ويستعفيه، وعول على الإقامة بأنتورب، وبدأ ثمة الدور الثاني من حياته بعد ~~انتهاء دور التحضير والتعليم. # وكانت شهرته قد سبقته إليها فتوافد عليه طلاب الصور والتزين، وتهافت عليه ~~المتعلمون بالعشرات ومنهم فانديك العظيم، وسندرس مصور الحيوانات المعروف، ~~وأرسلت إليه الملكة ماريا دي مديشي في طلب نقوش تقترحها عليه لتزين قصرها في ~~باريس، وكأنما عرضته علاقاته بالملوك والأمراء لشواغل السياسة، فسافر إلى ~~إسبانيا في مهمة خطيرة ولقي فيها «فيلازكيه» المصور الكبير، وقد سر منه ملك ~~إسبانيا وارتاح إليه فأنفذه في مهمة إلى باريس ولندن، فحظي في هذه المدينة ~~برعاية شارل الأول ونال منه رتبة الفروسية وتكليفا سنيا بنقش غرفة المائدة ~~في «الهويتال»، ولما قدم الأرشيدوق فردناند الحاكم الإسباني إلى «أنتورب» كان ~~روبنس هو المتولي تهيئة المدينة لاستقباله فزاره الأرشيدوق شاكرا في بيته حين ~~علم أن النقرس يقعده عن مبارحة فراشه، ومضت سنتان عليه وهو بين الصحة والمرض ~~فآثر العزلة، واشترى قصرا جميلا لا تزال صورته التي رسمها المصور محفوظة في ~~المتحف الإنجليزي. إلا أن السياسة والفن أبتا عليه الهدوء في هذه العزلة، فكانت ~~تقطعها عليه السياسة تارة والفن تارة أخرى حتى ms165 أحس باقتراب الأجل في سنة 1639، ~~فكتب وصيته واستعد للخاتمة التي لا مفر منها لشقي أو سعيد، ثم وافته تلك ~~الخاتمة المنظورة بعد سنة واحدة وهو في الرابعة والستين من حياة هنيئة لم ~~تنغصها الهموم، ولم تزعجها القلاقل، إلا ما لا بد منه لأبناء الفناء. # توفي عن زوجته الثانية الحسناء «هيلنا فورمنت» التي اقترن بها وهي في السادسة ~~عشرة وهو في الرابعة والخمسين، بعد موت زوجته الأولى بأربع سنوات، أما هذه ~~الزوجة الأولى فاسمها «إيزبيل براند» بنى بها بعد عودته من إيطاليا، ورزق منها ~~ولديه اللذين حفظ رسمهما في صورة بديعة من أحسن صوره وأكملها مودعة في متحف ~~فينا إلى اليوم. ~~••• # تلك قصة وجيزة للحياة التي حييها روبنس المصور السياسي الموفق في التصوير ~~والسياسة، وقد نسيت توفيقاته السياسية وسها عنها التاريخ، ومحاها الذي محا ~~أرزاقه منها ومن سخروا له تلك الأرزاق وكافأوه على خدمته بالأموال والألقاب، ~~ولكن صوره وزخارفه ما تزال باقية تتوارثها الأمم، وتتنافس فيها العواصم، ولقد ~~يعجب أناس من هذه الملكة التي تنجح في السياسة نجحاها في التصوير، وتبرع في ~~تسوية المعضلات والتوفيق بين المطالب براعتها في مزج الألوان والتأليف بين ~~الأصباغ، والحق أنها ملكة عجيبة فيما عهدناه من ملكات النابغين، ولكننا لا ~~نخالها من العجب بالموقع الذي يراه كثير من الناس، فإنك لا تخطئ أن تلمح ~~السياسي الحصيف في رسوم المصور وخصائصه التي عرف بها فنه الجميل، فإن مزاياه في ~~هذا الفن هي مزايا السياسي المحنك، والمواهب التي حرمها على اللوحة هي المواهب ~~التي يحرمها السياسيون، فهو أريب سريع التوسم والفراسة، بارع التناول مغرق في ~~العمليات التي لا تخالطها النظريات والفروض، وهو خلو من الخيال والعطف والمطامح ~~التي تستهوي رجال الفنون، وحبه للضخامة والأبهة أرجح من حبه للأناقة والجمال، ~~ومهما تر له من صورة مقتبسة من مأثورات المسيحية أو أساطير الأقدمين، ومنقولة ~~من التواريخ أو حوادث أيامه وآخذة من الطبيعة أو وجوه الآدميين، فإنك لا تجد في ~~مئات الصور التي تنسب إليه أثرا بارزا للخيال الرفيع، أو للعطف ms166 السري، أو ~~للذوق اللطيف، وإنما يستوحي الرجل رأسه لا قلبه وحقائق العيان لا نوازع الخيال. ~~ولا يستثني من هذه الخلة إلا قليل من الصور التي رسمها لبنيه أو لزوجته أو ~~لأقربائه، فإنك واجد في هذه عطفا حيا لا تجده في غيره، وإحساسا رقيقا لا ~~يطالعك في رسومه الكبيرة أو الصغيرة من وجوه الناس ولا من محاسن الطبيعة، ~~ونساؤه كلهن نساء بيوت من اللحم الخالص، والدم الصرف، غير ممزوجات بفتنة الأمل، ~~ومسرة الحب، ونزاهة الخيال البعيد، فالمرأة عنده امرأة ولادة ومتعة، والنظرة ~~التي ينظر بها إليها نظرة شهوانية، ولكنها بريئة من المرض والحس المخبول، ~~وحياته كلها حياة عمل وحصافة، سواء أكان عمله هذا في معارض السياسة، أم على ~~لوحة التصوير. # بين يدي الساعة نسخ من صوره الكثيرة أظرفها «حكم باريس» التي استمد موضوعها من ~~أساطير اليونان؛ خلاصة هذه الأسطورة أن ملك تساليا تزوج من «ثيتيس» إحدى بنات ~~البحار فأقام عرسا فاخرا، دعا إليه الأرباب والربات جميعا إلا «أريس» ربة ~~الفوضى، فإنه تعمد نسيانها مخافة أن تفسد عليهم نظام الزفاف، ولكن أريس حنقت ~~عليه فجاءته غير مدعوة على حين غرة، وألقت في الجمع تفاحة ذهبية مسطورا عليها ~~«هدية للجميلة بين الجميلات» فتنازع التفاحة أجمل الإلهات في الوليمة: هيرا ربة ~~الأعراس وزوجة الإله الكبير، وأتينا ملكة الهواء وسيدة الأبطال، وفينوس إلهة ~~الجمال وساحرة الغرام، واشتد التلاحي بينهن وأبين أن يسلمنها لواحدة منهن، فلما ~~اشتد الخصام بين الثلاث قضى «زيوس» رب الأرباب أن يحتكمن إلى غلام راع ليقضي ~~بينهن أيهن أجمل جمالا وأحق بتفاحة أريس، وكان ذلك الغلام هو باريس ابن ملك ~~طروادة متنكرا في زي الرعاة، فرضي الربات الثلاث هذا الأمر، ولكنهن خشين الحكم ~~الذي يحكم به ذلك الغلام الساذج مع ثقة كل منهن برجحانها في شمائل الحسن، ~~واستحقاقها لجمال أريس، فدست كل منهن إليه من يرشوه ويستميله إليها، ووعدته ~~هيرا السلطان، وأتينا النصر في الحروب، وفينوس أجمل من في الأرض من النساء. ~~فقضى الغلام لفينوس، وأخذ المرأة التي اختارتها له - وهي هيلين ms167 ملكة إسبرطة - ~~إلى طروادة فكانت تلك فاتحة الحروب المنسوبة إلى هذه المدينة في أساطير ~~اليونان. # هذه قصة تفسح منادح الخيال، وتبعث دواعي العطف، وتشتمل على معان شتى من ~~الأريحية والجمال، والموقف الذي اتخذه روبنس لصورته هو موقف الربات الثلاث ~~يعرضن جمالهن على الغلام ويستغوينه بالتثني والإيماء للقضاء لهن بالجائزة ~~المشتهاة، وهو موقف شائق يفيض بشاعرية التصوير وخفة الحركة، فكان عسيا أن ~~يظهر فيه بعض الخيال، وبعض العاطفة، وبعض نفحات الآلهة العلويات! ولكن روبنس لم ~~يظهر لنا شيئا من ذلك ولم يعرض لنا في هذا الموقف الشعري إلا نساء متشابهات في ~~السمنة والقصر وتقارب الأعضاء، نساء بيوت شباعى من الغذاء لا هندام لأجسامهن ~~ولا رشاقة! ولولا صحة الفطرة التي أسبغها عليهن المصور لحسبت بهن مسا من ~~الورم! على أن من آيات ذلك الرجل القدير أنه استطاع أن يخلو هذا الخلو المعيب ~~من الشاعرية، وأن يجيء مع هذا بصور قوية تبدهك بشعور الثقة، وتمكن الأستاذية، ~~وقلة التردد، ويغطي ما فيها من الصدق والإحكام على ما فيها من الغلظة، وعيوب ~~الشكل الدميم. # ولم يكن روبنس على ذوق حسن في اختيار الأساطير لصوره، بل كان كثيرا ما يختار ~~لها موضوعات تنضج بالهمجية، والغلظة والحيوانية السمكية، حتى بلغ من ظهور هذا ~~العيب في آثاره أن سلمه المعجبون به، وزعموا أنه كان يتعمده تبغيضا لتلك ~~السمات المعيبة! وهو عذر بين التمحل لا يستر الحقيقة ولا يمنع تلك الحقيقة أن ~~تدلي إلينا بعبرتها المعلومة: وهي أن ذوق الجمال شيء وذوق المجالس واللباقات ~~السياسية شيء سواه، وقل أن يتشابها، بل قد ينزل أحدهما من الآخر منزل النقيض من ~~النقيض. # أما صور روبنس الدينية، ففيها تنوع الملامح، وإتقان التلوين، وتمكن الأستاذية، ~~ولكنها مقفرة أو تكاد تقفر من القداسة الخاشعة والإيمان الوطيد، ولعله كان يؤثر ~~الأساطير اليونانية على الأقاصيص الدينية، وهو لا يؤمن بهذه ولا بتلك! ولكن من ~~العذر له ومن اللوم عليه في آن واحد أن نتنبه إلى أمر في حياة هذا المصور ~~القدير جدير بالانتباه حين نأخذ من ms168 تصفح الصور المنسوبة إليه، فقد كان لكثرة ~~الإقبال عليه وضيق وقته، يقبل أن يضع توقيعه على صور كثيرة ليس له فيها غير ~~الرسم والتخطيط، والبقية كلها من عمل تلامذته ومريديه، وكان طلاب تلك الصور ~~يقنعون باسم روبنس، ولا يسوءهم أن يحطوا من الثمن الباهظ معظمه أو كثيرا منه ~~بذلك الاقتصاد الغريب. # | النكتة1 # على ذكر كتاب «في المرآة» # كان التصوير الهزلي معروفا عند الأقدمين، ولكنه لم ينتشر ولم يتأصل، ولم ~~يستكمل حظه من الجودة والألفة إلا في القرنين الأخيرين، وقد يعزى انتشاره إلى ~~أسباب كثيرة أهمها الطباعة والصحافة والنظم الدستورية، بما تستتبعه من الحملة ~~على الخصوم والرغبة في تعريضهم للبغض تارة وللسخرية تارة أخرى، وإلى معرفة ~~بالنفس الإنسانية لم تكن مأنوسة في الأمم القديمة، فأصبح من السهل السائغ على ~~الإنسان أن يرى في الملأ مضحكا، أو أن تبدو جوانب النقص فيه للخاصة والكافة؛ ~~لأننا نعلم الآن أن الكمال في الصفات غرض لا تتعلق به المطامع وأنه ما من أحد ~~إلا وفيه جانبه المضحك وجانبه الضعيف، فلا ضير علينا أن تظهر هذه الجوانب ~~للناس، وأن يتندر بها من يعرفنا ومن لا يعرفنا، ومعظم الفضل في هذا - إن حسبت ~~هذا فضلا - للسياسة ونظام الشعبية الحديث، فقد قيل قديما: «من ألف فقد ~~استهدف.» ولكننا أحرى أن نقول في هذا العصر: «من خاض غمار السياسة فقد ~~استهدف.» فما في هذا الغمار رحمة ولا هوادة، ومن وطن نفسه على النزول فيه ~~فلا يستغرب أن يكون غرضا للمطاعن تارة وعرضة للسخرية تارة أخرى، ولا يصدقن أنه ~~ناج من التشهير والتقول، أو أن خصلة من خصال نفسه تبقى مجهولة مصونة غير مبالغ ~~فيها قدحا ومدحا وتعظيما وتهجينا، ما دام له خصوم وأنصار، وما دام التحزب ~~هو صناعة الحكم في هذا النظام الشعبي الحديث، ويعزى انتشار الرسوم الهزلية ~~والرضا بها إلى سبب آخر لعله أقوى من هذا السبب وأدعى إلى شيوعها وقبولها، وهو ~~تحول العقائد القديمة وزوال المثل العليا، ورجوع الأمر إلى التجربة والمشاهدة ~~بعد أن كان مرجعه للخيال ms169 والتصديق بالمغيبات، فالضعف الإنساني اليوم حقيقة ~~مقررة أو هو حقيقة محبوبة في بعض الأحيان، والتطلع إلى منزلة الكمال الذي لا ~~تشوبه شائبة فكاهة يضحك منها الجاهل والعالم، وينكرها الأريب والغرير؛ لأنه ما ~~من أحد إلا يرى بين عينيه مصارع العقول ومهاوي الشهوات ويسمع عيوب العظماء ~~ورياء المتزمتين والزهاد، ويختبر صنوفا من الأنفس البشرية في حالتي العلو ~~والإسفاف وخلتي الوقار والترسل، فلا فائدة من ادعاء الكمال؛ لأنه تصديقه اليوم ~~أبعد المحال. ولا ضرر من كشف النفس عن خبيئة مضحكة أو نقيصة شائعة فهذا قضاء ~~الضعف الإنساني الذي لا محيد عنه، وتلك سنة الحياة في هذه الدنيا الجديدة التي ~~أبت أن تعرف القداسة في واقع أو في خيال. # وكان الأقدمون ولا ريب يعرفون هذا الضرب من قلة المبالاة ويسمونه الكلبية # Cynicism # ويطلقونه على من يحتقرون المظاهر ~~والدعاوى و«ينهشون وينبحون» أصحابها بالقول البذيء والسخر المضطغن. ولكن ~~التسمية نفسها تدل على الإنكار وضيق الأمد، ولا تشبه أن تكون قد ظهرت بين أناس ~~يماثلون أبناء العصور المتأخرة في فلسفة الترخص وعادة التحلل المطبوع من قيود ~~العقائد وفرائض الأديان، فإن بلغ الأقدمون إلى ذلك الحد فيغلب أن يكون ذلك في ~~فترات متقطعة وأدوار غير مستفيضة، أو أن يكون بين خاصة الأصدقاء حيث لا كلفة ~~ولا احتجاز من إرسال النفس على السجية، والاطلاع على دخائل الأسرار وغرائب ~~العادات. # ولهذا الخلق الحديث خيره وشره، وذكاؤه وغباؤه، فمعرفة النفس الإنسانية حسنة، ~~ولكن استحسان الضعف والقناعة به والتمادي فيه سمت غير جميل، وفضيحة الفضيلة ~~المدعاة خير، ولكن عبادة الرذيلة شر لا نزاع فيه، وقبول السخرية سماحة، ولكن ~~الإعجاب بما يوجب السخرية عجز وإسفاف. # وإن أجمل ما نحن كاسبوه من تسليط الضحك على الطبائع هو أن تنبهها إلى مواضع ~~النقص تنبيه عطف ودعاية، وأن ننتظر منها الجهد في معالجتها بما يقع في الطاقة، ~~ويرجى منه التحسن في ناحية أخرى من النفس، إن لم يكن ذلك ميسورا في الناحية ~~المضحوك منها، فقلما طلب الكمال إنسان ورجع منه بغير نتيجة مرضية في الباب ms170 الذي ~~طلبه أو في باب سواه. ~~••• # ظهر التصوير الهزلي في مصر بالكلام قبل ظهوره فيها بالرسوم والخطوط، وساعدته ~~النظم الشعبية الحديثة، كما ساعدته تجارب الحياة وسماحة الآراء، وكنا نعرف ~~«القفش» قبل أن عرفنا «الكاريكاتور» ولا نزال نعتمد عليه في الصور التي نرسمها ~~للأنصار والخصوم، فإنما هي صور مدارها على النكتة السانحة والنظرة العاجلة، وقل ~~أن تدور على الدرس والمقابلة والنظرة المدمنة والعطف العميق. # ومن الصور الهزلية التي ظهرت في الأعوام الأخيرة كتاب «في المرآة» لمحرر هذا ~~الباب في زميلتنا السياسة الأسبوعية، وهو أديب فاضل يجيد «القفش» وينظر إلى ~~النفوس على طريقته التي عرف بها نظرة دراسة يطيلها حينا ويقصرها حينا، ~~فيتناول منها نقائضها البارزة ويزيدها بروزا بما يضيف إليها من المبالغة ~~والتهويل، ويدخله عليها من التحريف والتبديل؟ # ويرى أديب المرآة في «النكتة» أن مردها كما قال في مقدمة الكتاب «إلى خلل في ~~القياس المنطقي بإهدار إحدى مقدماته أو تزييفها أو بوصلها بحكم التورية ونحوها ~~بما لا تتصل به في حكم المنطق المستقيم، فتخرج النتيجة على غير ما يؤدي إليه ~~العقل لو استقامت مقدمات القياس، وهذا الذي يبعث العجب ويثير الضحك والطرب. ~~فالنكتة بهذا ضرب من أحلى ضروب البديع، ولا يعزب عنك كذلك أن «النكتة» إذا لم ~~تكن محكمة التلفيق متقنة التزييف، بحيث يحتاج في إدراكها إلى فطنة ودقة فهم ~~خرجت باردة مليخة لا طعم لها في مساغ الكلام.» # ورأي الأديب صواب في جزء واحد من أجزاء هذا التعريف، وهو الذي يقول فيه: إن ~~الخلل في القياس المنطقي مضحك، وإن التلفيق والتزييف داعية من دواعي السخرية. ~~أما الجزء الذي نراه على غير الصواب فيه فهو قوله: إن النكتة هي التي تشتمل على ~~الخلل أو على التلفيق والتزييف؛ لأن اشتمال النكتة على خلل في القياس يسقطها، ~~ويلحقها بالهذر والمجانة، والذي نظنه نحن أن النكتة تضحكنا؛ لأنها تفضح الخلل ~~وتهتك الدعوى الملفقة، وتطلعنا على سخافة العقول التي لا يستقيم تفكيرها، ولا ~~تطرد حجتها؛ ومن ثم تكون النكتة هي المنطق الصحيح وهي الحجة المفحمة ms171، وهي ~~البرهان الذي يرجح بالبراهين في معرض الجدل. # مثال ذلك: جاء جماعة من الأزهريين إلى عظيم معروف بالنكتة اللاذعة والحجة ~~الصادعة، فطلبوا إليه أن يتوسط في إرسال بعثة منهم إلى أوربا أسوة بطلاب ~~المدارس العليا، فضحك العظيم وأجابهم مداعبا: وإلى أين نرسلكم؟ إلى ~~الفاتيكان؟ # هذه نكتة من خيرة النكات المسكتة، وهي تضحكنا ولكن لا لأنها خلل في القياس ~~المنطقي، بل لأنها تقيم الحجة على خلل ذلك القياس، وكأن ذلك العظيم يقول في ~~سلسلة من القضايا المنطقية المسلمة: # إن طلاب البعثات يرسلون إلى أوربا لإتمام الدراسة في ~~معاهدها. # وأنتم طلاب علوم دينية. # فأنتم تريدون إتمام دروسكم العالية في معاهد أوربا. # وليس في أوربا من معهد للعلوم الدينية غير الفاتيكان أو ما يشبه ~~الفاتيكان. # فأنتم إذن تطلبون الذهاب إلى الفاتيكان للتخصص في علوم ~~الإسلام. # وهذه هي النتيجة التي تطرد مع تلك المقدمات، وهي نتيجة عجيبة، ولكن العجب في ~~تفكير من يطلبونها لا في النكتة التي أظهرتنا عليها. # ومثال آخر: دخل أبو العيناء على المهدي ينشده شعرا، وكان في المجلس خال المهدي ~~- وفيه غفلة - فسأل أبا العيناء: ما صناعتك يا رجل؟ قال: أثقب اللؤلؤ! # هذه نكتة أخرى من طراز ما تقدمها، وهي أيضا حجة قائمة على الخطأ في القياس ~~والغفلة في التفكير، فكأن أبا العيناء يقول: # أنا رجل أنشد شعرا في مدح الخليفة. # فأنا أترجى منه الجائزة التي يأخذها الشعراء. # والذين يكسبون المال بالشعر لا يعملون عملا، ولا يحترفون صناعة غير هذه ~~الصناعة. # وأنا فضلا عن هذا ضرير. # فأنا أولى ألا تكون لي صناعة. # فإذا طالبتني بصناعة أو صدقت أنني صاحب صناعة، فلماذا لا تصدق على هذا القياس ~~أنني أثقب اللؤلؤ؟ # فأنت إذن في غفلة مضحكة، أو أنت إذن في حاجة إلى التقريع. # هذا هو شرح تلك الحجة الموجزة الوحية، وقد تدخل النكات المبالغة للتوضيح ~~والتكبير، فالمبالغة هنا هي بمثابة المضاعفة في الرسم؛ ليراه من لا يقنع بالرسم ~~الصغير، ومن ثم كانت كلمة «الكاريكاتور» في اللغات الأوربية مشتقة من الإطباق ~~والتحميل، كأن المصور ms172 الهزلي لا يزال يضيف على الصفة التي يرسمها حتى يثقلها ~~بالإضافة والزيادة، فالكلمة في ذاتها تصويرية؛ لأنها تصور لنا رجلا مكابرا ~~بالقوة لا يزال يلقى عليه حمل بعد حمل، وتطبق عليه علاوة بعد علاوة حتى يرزح ~~بما عليه ويقر بما لا مناص منه. # وقد يسأل سائل: ولماذا إذن تضحكنا النكتة السريعة، ولا يضحكنا القياس المفصل ~~والقضية المبسوطة؟ فجواب هذا قد يوجد في تعليل «هربرت سبنسر» للضحك وهو خير ~~تعليل وقفنا عليه في كتابات المعاصرين، ولا نقصد هنا إلا تعليل حركة الضحك ~~الجسدية، لا تعليل أسباب الضحك، فإن السبب الذي يذكره برجسون مثلا رجيح صالح ~~لتفسير كثير من علل المضحكات، ونعني رأيه الذي يذهب فيه إلى أننا نضحك من كل ~~تصرف في الإنسان يشبه التصرف الآلي الخالي من التفكير، ونحن مع هذا نقول: إن ~~التماس علة واحدة لجميع الضحك خطأ لا يؤدي إلى راتب صائب؛ لأن الضحك وإن كان ~~اسمه واحدا، إلا أنه ليس بظاهرة واحدة حتى يكون له سبب واحد. # ونعود إلى رأي سبنسر بعد هذا الاستطراد فنقول: إن الضحك عنده ينشأ من تحول ~~الإحساس فجأة من الأعصاب إلى العضلات، فإن من المقرر في «النفسيات» أن الإحساس ~~إذا اشتد وألحف على الأعصاب تجاوزها إلى العضلات، فظهر عليها في حركة عنيفة أو ~~رفيقة على حسب قوته واشتداده، فإذا حبس الإحساس في طريقه فجأة تحول بغير ~~إرادتنا من الأعصاب إلى أسهل العضلات حركة وأسرعها تأثرا وهي عضلات الوجه ~~والشفتين، ثم عضلات العنق والرئتين، فتتحرك بالابتسام أو بالضحك أو بالقهقهة أو ~~بالوقوف والاختلاج عند من يغلبه الضحك وتهتز له عضلات الجسم كله، والدليل على ~~ذلك أننا نضحك إذا غلبنا الإحساس وتحول من العصب إلى العضل أيا كان الموحي به ~~والباعث عليه، فنضحك من الغيظ والألم ونضحك الضحكة الهستيرية التي يفرج بها ~~المكروب عن أعصابه المكظومة، كأنما يخفف عنها بنقل شيء من ضغط الإحساس عليها ~~إلى العضلات؛ فالضحك هو الانتقال فجأة من الإحساس إلى الحركة العضلية، والنكتة ~~السريعة تضحكنا؛ لأنها تفاجئ التفكير بحالة غير ms173 مرتقبة، وتعجله عن انتظار ~~النتيجة في طريقها الممهد المألوف. # ومن الأمثلة التي أوردها سبنسر للمضحكات منظر جدي يظهر على المسرح فجأة بين ~~حبيبين يتناجيان، فإحساس النظارة هنا يمشي في طريق الغزل، وينتظر أن يمشي فيه ~~إلى نهايته المناسبة له، ويوجه الذهن إلى هذه الناحية، ولكنه لا يلبث أن يلمح ~~الجدي على المسرح حتى يحتبس في موضعه ويتحول على غير انتظار إلى ناحية أخرى. ~~فيندفع الإحساس من الأعصاب إلى العضلات وتحدث الحركة التي نسميها الضحك حين ~~يختلج بها الفم والرئتان، وفي كل «نكتة» شيء من هذا التحول الذي مثل له سبنسر ~~ينجم عن المفاجأة بما ليس في الحسبان، ويتلخص في إظهار نتيجة غير النتيجة التي ~~تبدر إلى الذهن لأول نظرة من الشيء المضحوك منه. # فالنكتة الصادقة هي الحجة التي تظهر لنا فساد الأقيسة المختلة، واضطراب النتيجة ~~التي تأتي في غير موضعها وتلتوي على مقدماتها، وهذه هي النكات التي تفيد النفس؛ ~~لأنها تروح عنها وتفيد الذهن؛ لأنها ضرب من المرانة على التفكير السريع، وشحذ ~~الفهم، وتقويم له على المنطق السديد، ولنكتة واحدة يفهمها الطالب حق الفهم خير ~~من مائة درس في المنطق يقرؤها ويعيدها وهو لا يحسن القياس ولا يفقه ~~الدليل. # وكتاب الأوصاف المضحكة يعتمدون في نكاتهم على ملكات كثيرة قد يناقض بعضها ~~بعضا، وقد لا يجتمع منها ملكتان لكاتب واحد، فمنهم من يعتمد على ملكة السخر، ~~وهو يحتاج إلى الذكاء وإدراك الفروق، وقد يصحبه شيء من الجد والمرارة، ومنهم من ~~يعتمد على الدعابة وهي تحتاج إلى مرح في الطبيعة، مرجعه في الغالب إلى المزاج ~~لا إلى الدرس والتعليم، ومنهم من يعتمد على الهزل وهو خلق ينشأ عن جهل بتقدير ~~عظائم الأشياء وقد يستحل الضحك في جلائل الخطوب، ومنهم من يعتمد على العطف وهو ~~يرضي الإنسان عن نقائص الناس، ويضحكه كما يرضي الوالد الشفيق عن جهل وليده ~~الصغير، وخير هذه الملكات وأعلاها ملكة السخر يمازجها العطف، وهي عبقرية لا تقل ~~في اقتدارها على تجميل الحياة وتثقيف النفوس والأذواق عن عبقرية الفلسفة ~~وعبقرية ms174 الشعر والتلحين. # | فلسفة الملابس (1)1 # مزيج من الفلسفة والشعر والعلم والدين والكفر والسخافة والضجيج والسخرية والجد ~~ومن كل شيء ومن لا شيء، هذا هو أصدق وصف موجز لكتاب كارليل الذي أسماه «سارتور ~~رزارتوس» أو الخائط يرفو أو فلسفة الملابس، وهو الاسم الذي اختاره له في ~~العربية مترجمه الأديب الفاضل طه السباعي. # والذين يعرفون كارليل وأسلوبه في الكتابة يعرفون أنه الكاتب الذي لا يحاسب ~~بعنوانه، ولا يحصر في موضوعه، فكل باب من أبواب الكلام في النفس الإنسانية هو ~~موضوع كارليل، وكل كلمة صالحة لأن تكون عنوانا لهذا الكتاب أو لذلك بغير عناء ~~كبير في الاختيار أو التقسيم، وكتاب فلسفة الملابس هو المثل الأعلى - أو إن شئت ~~فقل هو المثل الأدنى - لأسلوب كارليل وطريقته في التأليف والتصنيف، أو في ~~التفريق والتمزيق، فأنت مستطيع أن تسميه فلسفة المباني، أو فلسفة المطاعم، أو ~~فلسفة الحياة، أو فلسفة الموت، فلا يكون عنوانك أبعد من العنوان الذي اختاره ~~المؤلف وترجمه الأديب المترجم، وهكذا تقول في كل كتاب لهذا المفكر العظيم من ~~تفاوت في قوة المزج، ومقادير الممزوجات، فكأن كل مجموعة من مجموعاته بوتقة ~~ينصهر فيه الذهب إلى جانب الحديد، إلى جانب القصدير، إلى جانب الخشب، والحصى ~~والجواهر النفيسة والخسيسة، وكل مادة في التراب والماء والهواء، وإنما هي النار ~~التي يرسلها ذلك الذهن العجيب على تلك الأوشاب والأخلاط، هي التي تريك عناصرها ~~كلها جرما واحدا من اللهب والدخان، يخيل إليك أنه متألف العناصر متماسك ~~الأجزاء، وما هو إلا أن تفتر النار قليلا - في الكاتب أو القارئ - حتى يعود كل ~~مزيج إلى معدنه وشكله تعلوه سفعة، وترهقه قترة، وهذه هي الصياغة التي عرف بها ~~ذلك الرجل الذي يحيرك في وصفه كما يحيرك في موضوعاته؛ فلك أن تقول فيه: إنه ~~شاعر أو إنه كاهن، أو إنه ناقد، أو إنه فيلسوف، ولكنك لا تستقر له على صفة حتى ~~تراه على غيرها قبل أن تختم الفصل، أو تقلب الصفحة، فهو لجنة من أصحاب الفكر ~~والأدب في زي رجل واحد، وهو نسيج وحده ms175 في التفكير يؤخذ كما هو ولا يعنيك إلى أي ~~طائفة من الطوائف تنميه. # ولا يخفى على كارليل شأنه في التوسع والاستطراد، والغموض أحيانا، والتعقيد ~~أحيانا أخرى، فهو يصف هذا الكتاب الذي يزعم أنه عثر عليه في الألمانية فيقول: # طالعت الكتاب المرة بعد المرة فشرعت معانيه الغامضة تتوضح وتنبلج ~~في غير موضع، وجعلت شخصية المؤلف تزداد في نظري غرابة وشذوذا ~~والتباسا وتعقيدا، حتى إذا كاد القلق الذي يخامرني يستحيل سخطا ~~مستقرا ويأسا مستمرا لم يرعني إلا ورود خطاب من الهر هفرات ~~هشرك أعز أصدقاء الأستاذ أفاض فيه عما أحدثته فلسفة الملابس من ~~الضجة في عالم الأدب الألماني، إلخ إلخ. # وليس هناك أديب ألماني ولا مؤلف ألماني، ولكنه هو كارليل المؤلف، والمترجم، ~~والناقل، والصديق، والمخترع لقصة الأستاذ وكتابه من خياله الحافل الخصيب، ووصفه ~~هذا للأستاذ إنما هو وصف لنفسه، يدلك على أنه يعلم ما في ذهنه من الغرابة ~~والتعقيد، ولكنه يملك ملاحظته ولا يملك تغييره؛ لأنه طبيعة لا حيلة فيها ~~للتطبع، واضطرار لا يجدي فيه الاختيار، وإنك لتقرأ في أثناء الكتاب سخرية ب ~~«الأستاذ» وتبرما بأسلوبه في التعمق والإسهاب فإذا كارليل أمامك عائب ومعيب، ~~وساخط ومسخوط منه! ولعله في كل ذلك ساخر من القارئ الذي يتشكى الصعوبة في ~~الفهم، ولا يكلف نفسه مشقة النظر والتأمل، أو ساخر من الكتابة الحديثة التي ~~تجري على الهوى، وتكتب لأوقات الفراغ، ولا تجري على شوق إلى المعرفة، أو تكتب ~~ليعنى بدراستها العاملون والفارغون. # ولما ظهر الكتاب بالإنجليزية ذهب بعض الناقدين يسألون: أين توجد ~~مدينة «فير فسننشت» التي يعيش فيها الأستاذ ~~الألماني المزعوم، والتي طبع فيها كتابه الموهوم؟ مع أن الكلمة بالألمانية ~~معناها «لا أرى أين» وفي ذلك إشارة إلى أن المدينة من مدن الخيال لا من مدن ~~الحقيقة، وأن الأستاذ الألماني شيء لا وجود له في غير رأس كارليل وصفحات كتابه، ~~وقال هذا الناقد متهكما: إنه لا يظن أن أبا مسيحيا يسول له قلبه أن يصب على ~~ابنه هذا الاسم الكريه «تيوفلسدروخ» وهو الاسم الذي اختاره ms176 كارليل لأستاذه ~~العجيب! وتناول ناقد آخر جملة من بعض الفصول، فقال: إنها تقرأ عكسا كما تقرأ ~~طردا، وإن القارئ الذي يبدأ من الذنب إلى الرأس أقرب توفيقا لفهمها من القارئ ~~الذي يبدأ من الرأس إلى الذنب، وأصاب كارليل من سخرية الناس مثل ما أصاب من ~~سخرية نفسه، ولكنه لقي الآذان التي تصغي إليه، وأنزل كتابه في المكان الذي هو ~~أهله، وتجاوز قراؤه عن فوضاه ليسعدوا بما يتخللها من الروح الحي والعبقرية ~~الثاقبة والهمسات التي تسمعها من هنا وثم، فتنبئك عن حقيقة بعيدة الصدى محجوبة ~~القرار. ~~••• # إن كارليل أحد أولئك الكتاب القلائل الذين نتحاشى الكتابة عنهم؛ لأننا نعلم أن ~~حقهم عندنا لا تفي به مقالة واحدة ولا عشر مقالات، وأن شرح آرائهم يرجع بنا إلى ~~استئناف حياتنا الأدبية وتجاربنا الفكرية والنفسية من بدايتها إلى هذه الساعة، ~~فقد قرأنا له معظم رسائله وكتبه وأوصينا الكثيرين بقراءتها، وعرفنا له في تثقيف ~~الناشئة التي تقرأ الإنجليزية أثرا لا نعرفه لكاتب سواه؛ فالتعقيب على كاتب ~~كهذا هو بمثابة عصر عشرين سنة من الحياة؛ لاستخراج رحيقها واستجماع خلاصتها، ~~والموازنة بين عناصرها، وليس هذا بالمطلب الذي يسهل الإقدام عليه ويستخف ~~بالتورط فيه، فليست كتابتنا عنه هنا إلا كتابة موقوتة في انتظار الفرصة الوافية ~~والدراسة الجامعة، وكنا نود لو اختار المترجم الأديب رسالة أخرى لكارليل غير ~~«فلسفة الملابس»؛ لأنها ليست بأحسن الأمثلة التي ترغب فيه وتنوه بقدره، فأما ~~وقد وقع اختياره عليها فإننا نثني على عنايته بأسلوب ترجمتها ونحمد له قلة ~~المآخذ الجوهرية في نقل ألفاظها ومعانيها، ثم نوصي القارئ بأن يحذف العنوان ~~ويتجاوز عنه، ويقرأ الرسالة على أنها مجموعة متفرقة بغير عنوان لا على أنها ~~رسالة في فلسفة الملابس أو في أي فلسفة أخرى، فإذا هو صنع ذلك لم يفته أن يعثر ~~في كل فصل على نبذة حكيمة، أو خطرة لامعة، أو لمحة شعرية، أو نكتة جدية، فيأتي ~~عليه وهو غير نادم على تعبه فيه ولا مستزهد لمحصور منه، وها نحن نقدم له المثال ~~ونقلب الصحائف بغير ms177 ترتيب ولا تعمد فننقل له ما يصادفنا من هذه الطرف التي ~~يرسلها كارليل على صفحاته بغير حساب، فهذه صفحة يقول فيها: «من بواعث الحزن أن ~~أحب الناس إلى قلوبنا وأعظمهم شأنا في عيوننا إذا عاد إلى الحياة بعد مدة ~~وجيزة من وفاته، ألفى محله مشغولا ولم يجد لنفسه في الدنيا مكانا، فهذا ~~نابليون وبيرون على ما كان لهما في النفوس من المكانة السامية قد أصبحا في بضع ~~سنين من الطراز القديم، وصارا عن أهل أوربا غريبين أجنبيين» وهذه صفحة أخرى ~~يقول فيها: «إن العقيدة مهما صحت وقويت هي شيء عديم القيمة إن لم تصبح جزءا من ~~السلوك والخلق، بل هي في الواقع لا وجود لها قبل ذلك؛ لأن الآراء والنظريات لا ~~تزال بطبيعتها شيئا عديم النهاية عديم الصورة، كالدوامة بين الدوامات، حتى ~~يتهيأ لها من اليقين المؤسس على الخبرة الحسية محور تدور عليه. عندئذ تصير إلى ~~نظام معين، ولقد صدق من قال: «لا يزول الشك مهما كان إلا بالعمل» لذلك أنصح لمن ~~يقاسي التخبط في الظلام البهيم أو يعاني التعيث في الضياء الكليل، ولا يزال ~~يتضرع إلى ربه ويرجو من صميم قلبه أن يسفر الفجر الملتبس عن صبح مبين أن يضع في ~~سويداء فؤاده هذه الحكمة الغالية: ابدأ قبل كل شيء بالواجب الذي بين يديك، ~~بالعمل الذي تعرف أنه واجب، فإنك إن فعلت اتضح لك الواجب التالي» وهذه صفحة ~~ثالثة يقول فيها: «خلاصة القول: إنك إذا أردت الآباد والآزال فابحث عنها في ~~ملكات الإنسان العميقة المطلقة - في القلب والوهم، وإذا أردت الأيام والأعوام ~~فابحث عنها في ملكاته السطحية المحدودة - في العقل والفهم. لهذا كان من حق ~~الملهمين من الشعراء والفنانين أن ندعوهم سلاطين هذا العالم وأمراءه؛ لأنهم ~~يصورون للناس رموزا جديدة ويقتبسون لهم من السماء نورا يهتدون بهديه» وهكذا ~~وهكذا لا تفتح الكتاب على صفحة إلا وقعت على شذرة، ولا تنتهي من فصل إلا وقد ~~تنبه فيك شعور أو عرض لك باب التفكير. # وفلسفة الملابس أين هي في شذرات كهذه ms178 تلتقطها من هنا وهناك، وتلخصها كلها في ~~قوله طورا: «إن المجتمع بني على الملابس ...» وقوله تارة أخرى: «إن المجتمع ~~ليسبح في فضاء اللانهاية على الملابس، كأنه سابح على بساط سليمان، ولولا هذا ~~البساط لسقط في أعماق الهاوية وعالم الفناء» أو في قوله: «تأمل أي معان جليلة ~~تنطوي عليها ألوان الملابس، فمن الأسود القاتم إلى الأحمر الوهاج، أي خصائص ~~روحانية وصفات نفسانية يكشفها لك اختيار الألوان، فإذا كان التفصيل ينبئك عن ~~طبيعة الذهن والقريحة، فإن اللون ليخبرك عن طبيعة القلب والمزاج ...» وإنه ليجد ~~حينا ويمزح حينا ولكنه لا ينتظم في حين من الأحيان، ولا يمشى بك خطوتين على ~~طريق إلا عدل بك إلى طريق غيره على عجل، كأنه سائح واسع الخبرة والسياحة، ولكنه ~~سريع الملل غريب الأطوار. # وللملابس ولا شك فلسفة لم يبسطها كارليل في هذا الكتاب، فهل نعود إليها في مقال ~~تال لتفصيلها وضم حواشيها؛ يجوز! ولكننا لا نرى بأسا من الإلمام بها في هذا ~~المقال الذي يتقاضانا عنوانه شيئا من تلك الفلسفة وإلماعا إلى هذا الموضوع! ~~وبحسبنا منه الآن ما يبرر العنوان ويحتقب بعض الوشائع والألفاق فنقول، كما يقول ~~الأكثرون: إن غرض الملابس الأول هو الزينة لا المنفعة وإن الملابس خلقت لإظهار ~~جمال الجسم لا لستره، ولإخفاء القبيح منه لا لإخفاء الجميل، ثم نقول إن الملابس ~~فيما يخال الأكثرون تعين على العصمة والعفاف، ولكن كتابا قليلين يعدونها مجلبة ~~لبعض الفساد ومعوانا على بعض الغواية، فهي التي عودتنا أن نعتز بالجمال ~~المموه، ونعرض عن الجمال الصحيح، وهي التي جعلت للجسم نجاسة تحجب وتشتهى وغطت ~~على ما فيه من معاني الفن ومحاسن الهندام، ولو تعرى الناس لبحثت في كل ألف ~~امرأة ينظر إليها الناظرون الآن لصبغة وجهها وتنسيق حليتها، فلا تجد امرأة ~~واحدة يتم لها هندام الجسد وتناسق الأعضاء، وتستحق منك نظرة الفنان البريء إلى ~~التمثال الجميل، ثم لو تعروا لبقيت نماذج الأجسام المليحة، وزالت تلك النماذج ~~الشوهاء التي تتوارى من الفناء في ثنايا الثياب، وتحتمي منه بجاه الأصباغ ~~والأزياء، فالعري ms179 خير من لباس يستر ليغري، ويداري قبح القبيح ولا يظهر جمال ~~الجميل، والثوب على ما نراه الآن خدعة شائنة لا هو بالوقاية الصالحة ولا هو ~~بالزينة التي تعف عن الإغواء، وقد كان الناس ينظرون الأجسام فلا يلتفتون منها ~~إلى جوانب الشهوة، ولا يغرمون منها إلا بالوسيم القسيم، فلما تدثروا باللباس ~~اشتهوا ما يشتهى وأضراهم الحجاب بما كانوا عنه معرضين. # كذلك يقول القليل من الناس، وإن في مقالهم لنصيبا من الحق غير قليل. # | ماكيافيلي1 # نقولا ماكيافلي السياسي الإيطالي المشهور وصاحب كتاب ~~«الأمير» الذي رمى فيه إلى فصل السياسة عن ~~الفضائل. ~~- ما رأيك؟ إن كنت قد سمعت! # كان السيد نيقولا يسأل هذا السؤال بلهفة، فأجابه ليوناردو: # 2 # إنني لم أسمع شيئا، وإنني لسعيد بأن أراك. قل لي، أرجوك. # فأجابه ماكيافيلي: إلى الطريق الآخر، ثم مضى به في زقاق بعد زقاق يعلوها الثلج ~~إلى حي مهجور في جيرة الشاطئ، ودخل به إلى كوخ حقير تأوي إليه أرملة رجل كان ~~يصنع السفن، وهو المكان الوحيد الذي وجده خاليا لسكنه في المدينة، فأوقد شمعة، ~~وأخرج قنينة خمر من جيبه فضرب عنقها في الحائط، وجلس قبالة ليوناردو ونظر إليه ~~وعيناه تسطعان، ثم قال في تؤدة ورزانة: # إذن لم تسمع أن أمرا ~~خطيرا نادرا قد حدث! إن قيصر قد ثأر لنفسه من خصومه وقبض على ~~المتآمرين، إن أولفرنو وأرسيني ينتظران الآن حكم الموت، وتراجع في ~~كرسيه ينظر إلى ليوناردو ويغتبط بدهشة، ثم تكلف السكينة وقلة ~~التأثر، وأخذ يصف الفخ الذي نصبه قيصر لخصومه في «سنيجاجليا» ويقص ~~على زميله كيف استدرجهم قيصر إلى لقائه، ثم قابلهم وعانقهم، ~~وناداهم باسم الأخوة والمحبة، ثم جاء بهم إلى القصر، فما هو إلا أن ~~دخلوه حتى تكنفهم الجند من كل صوب، وشدوا وثاقهم، وأودعوهم في ~~زاوية منه، ريثما يقضي عليهم في تلك ~~الليلة. # وانطلق ماكيافيلي يقول: الحق يا سيد ليوناردو لقد وددت لو أنك رأيت كيف كان ~~يعانقهم ويقبلهم. إن لمحة واحدة مريبة أو إيماءة واحدة متهمة كانت تكشف عن نيته ~~وتفضح كمينه ms180، ولكنك ما كنت تسمع من صوته ولا تلمح من وجهه إلا الإخلاص الصادق ~~الذي لا تشوبه شائبة، حتى لقد لبثت إلى اللحظة الأخيرة لا يساورني شك ولا يخطر ~~لي أنه إنما كان يتصنع ويتراءى، وأحسب هذه الحيلة أجمل الحيل التي عرفت منذ ~~كانت السياسة إلى اليوم. # فتبسم ليوناردو وقال: لا ريب أن سموه قد أبدى عن تقحم ودهاء، ولكنني لا أدري ~~ماذا في هذه الخيانة مما يستطير إعجابك؟ ~~- خيانة! كلا يا سيدي، عندما تكون المسألة مسألة إنقاذ لوطنك لا موضع ثمة ~~لخيانة أو أمانة، ولا لخير أو شر، ولا لرحمة أو قسوة، فكل الوسائل سواء إذا ~~بلغت إلى الغاية. ~~- وهل هذه مسألة إنقاذ وطن؟ إني إخال قيصر لم يعن إلا بمصلحته! ~~- أهكذا أنت أيضا لا تفهم؟ إن قيصر هو عامل المستقبل في إيطاليا المتحدة، وما ~~كان زمن قط بأليق من هذا الزمن لظهور البطل، وإذا كان لا بد لإسرائيل أن ترسف ~~في الأسر لينبغ فيها موسى، أو كان لا بد للفرس أن يذعنوا لنير الميديين تعظيما ~~لجلال قورش، أو كان لا بد للأثينيين أن يهلكوا في صراعهم تمجيدا لطسيوس، ~~فاليوم لا بد لإيطاليا أن تحمل العار والذل وأن تعنو وتتمزق بغير رأس ولا زعيم ~~ولا دليل، وأن تحرم وتوطأ بالأقدام وتصطلح عليها جميع الكوارث التي تبتلى بها ~~الأمم لكي ينبغ فيها البطل الجديد الذي ينقذ وطنه، وكأي من رجل خيل إليه أنه هو ~~البطل الموعود ثم مات والعمل العظيم باق لم يعمل، وها هي الآن لقى بين الموت ~~والحياة في انتظار منقذها الذي يأسو جراحها، ويقضي على الفوضى في لومباردي، ~~والنهب في توسكاني، والقتل والبغي في نابولي، وهي تتضرع إلى ربها ليل نهار عسى ~~أن يبعث إليها المنقذ المنظور. ~~- ... من يعش ير يا صديقي نقولا؟ ولكن دعني أسألك سؤالا، ما الذي ألقى في روعك ~~اليوم أن قيصر هو المنقذ المختار من قبل الله؟ أتراها حادثة سينجاجليا هي التي ~~أقامت لك الدليل على بطولته؟ ~~- نعم؟ # قالها ماكيافيلي وهو يستعيد سكينته ومضى ms181 يقول: «إن السطوة في عمله هذا قد دلت ~~على أنه صاحب المزية النادرة التي تمزج بين المواهب العظيمة ونقائضها. أنا لا ~~ألوم، أنا لا أمدح، وإنما أنا دارس يختبر، وإليك رأيي في هذه القضية. إن من طلب ~~شيئا فإنما يناله بإحدى وسيلتين: بالوسيلة المشروعة أو وسيلة القوة، والأولى ~~صفة الناس والثانية صفة الدواب، ومن شاء أن يحكم فلا مناص له من الاثنتين ولا ~~محيص له من أن يعرف كيف يكون إنسانا تارة ودابة تارة أخرى، وذلك هو مغزى ~~الأساطير القديمة وما ترويه لنا عن «أخيل» والأبطال الآخرين الذين رباهم شيرون ~~ذلك الكائن الذي نصفه دابة ونصفه إله، أما سواد الناس فلا طاقة لهم بالحرية، ~~وإنهم ليخشونها أشد من خشية الموت. إنهم إذا اجترحوا إثما سحقتهم وطأة الندم. ~~ولكنه هو البطل، رجل القدرة، ذلك الذي يطبق الحرية ويحطم الشرائع بغير خشية ولا ~~توبة، والذي يظل بريئا في الأذى، كما هو شأن الدواب أو شأن الأرباب. فاليوم قد ~~رأيت في المرة الأولى من قيصر علامة على أنه هو المختار من قبل الله.» # ذلك هو رأي ماكيافيلي في قيصر بورجيا كما حكاه مرجكفسكي في رواية «الرائد» أما ~~رأي قيصر في مكيافيلي سفير فلورنسة في بلاطه فهاكه كما جاء على لسان هذا ~~الراوية الألمعي. قال: واغتنم ليوناردو الفرصة فطلب من الأمير إذنا بلقاء ~~السيد نيقولا، فهز الأمير كتفيه وهو يبتسم في دعابة: إنه لغريب صاحبك نيقولا ~~هذا؛ إنه يسأل الإذن بالمقابلة ثم لا يقول شيئا، ما بالهم يرسلون إلي مثل ~~هذا الإنسان الغامض العجيب! ثم سأل ليوناردو رأيه فيه فقال ليوناردو: لقد وجدته ~~يا صاحب السمو رجلا من أصدق ما رأيت في حياتي فراسة وأسدهم نظرا. # قال الأمير: لا ريب في ذكائه، ولا يخامرني الشك في قدرته على فهم الأمور، ولكنه ~~مع هذا غير جدير بالاعتماد عليه، إلا أنني أوده ويزيدني مودة له حسن رأيك فيه، ~~وإنه لسليم الطوية وإن كان ليخال نفسه أدهى بني الإنسان! وربما خاتلني أنا؛ ~~لأنه يراني عدوا لجمهوريتكم! ولكني ms182 أغفر له خداعه لعلمي أنه يحب وطنه أشد من ~~حبه لنفسه، إنني سأستقبله، أبلغه ذلك، وعلى ذكر الرجل أذكر كأنني سمعت أنه يجمع ~~كتابا في فنون السياسة وحيل الحرب، أليس كذلك؟ # ثم ضحك قيصر ضحكته اللطيفة الخفيضة، كأنما خطرت له فكاهة مسلية ~~وقال: # هل أتاك نبأ الكتيبة المقدونية؟ لا! إذن ~~فاسمع: جاء السيد نيقولا مرة إلى قائدي بارتولميو كابرانيكا وبعض ~~زملائه من الضباط وطفق يشرح لهم من كتابه في الحرب كيف تصطف الجيوش ~~على نظام تلك الكتيبة، وكان في شرحه فصيحا مبينا حتى اشتاقوا ~~جميعا إلى رؤية الكتيبة في الميدان، فذهبنا إلى ساحة ملائمة ~~للتجربة، وتركنا نيقولا يصدر الأوامر إلى الجنود، فماذا صنع؟ حسن، ~~إنه لبث زهاء ثلاث ساعات يجاهد مع ألفين من الجنود يعرضهم للبرد ~~وللمطر وللريح عسى أن تنتظم الكتيبة المقدونية والكتيبة لا تنتظم، ~~وبعد لأي وعلاج طويل ضاق بارتولميو ذرعا وتقدم - وهو لم يقرأ ~~كتابا حربيا قط - فجمع الصفوف على النظام المطلوب في لمح البصر، ~~ومن هذا يتبين لك الفرق بين العمل والنظر، ولكن ألق بالك جيدا إن ~~أشرت إلى هذه الحكاية. إن السيد نقولا لا يحب بعدها أن يذكر ~~بشيء مقدوني على الإطلاق! # وهكذا بينما كان ماكيافيلي يقدس قيصر بورجيا، ويجعله رسولا من قبل الله، ~~وبطلا مدخرا لإنقاذ الوطن، كان قيصر بورجيا يتفكه بدهاء ماكيافيلي وفنونه ~~السياسية وتنظيماته العسكرية، ويتخذه لهوا وسخرية لفراغه، ويأبى أن يضيع الوقت ~~في الإصغاء إليه، ولا تظنن هنا أنك تقرأ قصة من القصص التي يخلقها الخيال، ~~ويبالغ فيها التمويه والتكميل، كلا! فإن الحقائق التاريخية كلها تصدق ما رواه ~~الكاتب، وتحكي مثل ما حكاه من خلائق الرجلين العظيمين اللذين اقتسما السياسة ~~بينهما في عصرهما، فباء أحدهما بالنظر والخيبة وباء صاحبه بالعمل والغنيمة، ولم ~~يكن حظ ماكيافيلي عند حكومته بأسعد من حظه عند قيصر، أو عند القواد الذين ألف ~~لهم كتابه وود لو يدربهم على تنظيم الصفوف وتعبئة الجيوش! فقد كان رجال حكومته ~~يبخلون عليه بمرتبه ويؤخرونه عمن هم دونه في العلم والعبقرية ms183، وكان الرجل يحب ~~وطنه، ولكنه يستصغر حكامه لما يراهم عليه من الجهل والضعة، والبعد عن مثال ~~الحاكم المختار في رأيه، وكان طيب القلب، ولكنه يخجل من طيبته كأنما يخجل من ~~جريمة؛ لأنه اعتقد أنه مهيأ في الدنيا لعمل جليل، وأن جلائل الأعمال لا تليق ~~بها الطيبة والسلامة، وكان صادق الفراسة في الناس، ولكنه كان لا يعلم كيف ~~يروضهم على ما يريد، وكيف يتوسل إليهم بوسائل الإقناع والقبول، فلم يبق له إلا ~~أن يؤلف في السياسة بعد أن أعياه أن يعمل في السياسة! وإلا قنينة الخمر! وزيارة ~~الحانات البعيدة في أطراف المدينة! وإلا مصاحبة إخوان السرور وأخدانه يفسر لهم ~~ولهن على مائدة الشراب أبيات بترارك وألغاز الأدب، ويكشف لهم ولهن عما فيها من ~~المضامين والتوريات، وهذا الداهية الغرير هو مؤلف كتاب الأمير الذي يتخذه بعض ~~الناس إنجيلا للطغاة المستبدين، ويتخيلون صاحبه مثلا في الشر والغيلة، وإيثار ~~المنفعة والتزلف إلى الأمراء، وما كان للرجل نصيب من تأليفه إلا سوء القالة، ~~ولعنة الجاهلين بتلك الحقيقة المظلومة. # وأما كتاب الأمير، فهل تراه أفاد أحدا من الأمراء والحكام! لا نظنه أفاد أحدا ~~من هؤلاء، وإنما فائدته للقارئين الذين يعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون من ~~خلائق الطغاة ورياضة الشعوب، وسيكون الحكام أبدا كما كانوا في كل زمان بين ~~«عمليين» لا حاجة بهم إلى الهداية في هذا المجال أو «نظريين» لا قدرة لهم على ~~تطبيق النظريات، ولسنا نقول: إن السائس المفطور مبرأ من الخطأ غني عن الإرشاد، ~~ولكنا نقول: إنه إذا أخطأ فخطؤه عملي قلما يفيد منه البحث والتفكير، وإذا صحح ~~زلاته فتصحيحه لها عملي لا شأن له بالنظريات، وهو يخطئ ويصيب في دائرة العمل ~~فلا تدخل الكتابة في نظام حياته إلا من باب الإيجاز والتنفيذ لا من باب التحليل ~~والتعليل. # نسأل: هل أفاد كتاب «الأمير» ولا نسأل هل أضر؛ لأننا لا نحسب أميرا عدل عن ~~الخير إلى الشر بتعليمه، وظالما كان ميله إلى الظلم من أثره، وقد قيل: إن عبد ~~الحميد كان يقرؤه ويدمن مراجعته ms184، ولكنا نظن أن عبد الحميد كان هو هو ولو لم ~~يخلق في الدنيا السيد نيقولا، ولم يكتب فيها حرف من كتابه، وما كان عدد الغرقى ~~في البسفور أو القتلى في المكامن لينقص واحدا لو أن عبد الحميد لم يطلع في ~~حياته على كتاب الأمير، ولم يسمع باسم ذلك الأديب الظالم المظلوم. # قيل: إن بسمارك ندم على سياسته القاسية التي جنى بها على الأمم القتل والأسر، ~~وغامر فيها بهناءة الجموع والآحاد، وقد كتب في سنة 1856 يقول: لتكن مشيئة الله. ~~كل شيء هنا في هذه الأرض إنما هو مسألة وقت وأوان، فالأمم والأخلاق، والحماقة ~~والحكمة، والسلم والحرب، تذهب وتجيء كالأمواج والبحر باق حيث كان، ولا شيء على ~~الأرض إلا الرياء والتدجيل وسواء ذهب عنا هذا الحجاب من اللحم والدم بإصابة من ~~الحمى، أو بقذيفة من الرصاص، فإنه لذاهب في القريب العاجل أو بعد حين، ويومئذ ~~يتشابه البروسي والنمسوي، فيعود من أصعب الصعب تمييز هذا من ذاك. # وبعد عشرين سنة كان بسمارك يصطلي في قصره بفارزين وأمامه تمثال النصر يفرق ~~التيجان، فأطال السكوت وهو ينظر أمامه، ويلقي في النار بعيدان الحطب من حين إلى ~~حين ثم أخذ فجأة يذكر جهوده السياسية، ويشكو من أنها تركته بغير عزاء ولم تمتعه ~~بالرضا عن نفسه ولا بالصداقة من الآخرين، ولم يجلب بها السعادة لأحد قط ... «فلا ~~هو سعد بها ولا سعد بها أهله، ولا سعد بها أي إنسان» قال بعض الحاضرين: ولكنك ~~جلبت بها سعادة أمة عظيمة. قال بسمارك: «نعم! ولكن شقاوة كم من الأمم؟ فلولاي ~~لما وقعت حروب ثلاث من أهول الحرب، ولولاي لما هلك ثمانون ألف إنسان، واشتمل ~~الحزن الأليم على الآباء والأمهات والإخوان والأخوات والأيامى. لقد سويت حساب ~~ذلك كله مع خالقي، ولكنني لم أنل سرورا قط، من جميع تلك الجهود.» # هذه فلسفة قطب من أقطاب السياسة العملية، الذين يريدهم ماكيافيلي لإنقاذ ~~الشعوب، ولكن في أي ساعة؟ في ساعة الخلو والعزلة والإخلاد إلى الدعة والتأمل، ~~ولو عاود الرجل مكانه وانغمس في لجة العمل ms185 مرة أخرى، وأسلم أذنيه وعينيه ~~لضوضائه ولألائه لنسي هذه الفلسفة أو لما منعه ادكارها من تكرير تلك الحروب، ~~وإلقاء الألوف من الناس في غمرة الأحزان والآلام، فإن كان لكلام بسمارك في ~~عزلته دلالة فتلك الدلالة المحزنة التي لا مفر منها لباحث في شئون الناس، وتلك ~~هي أن السعادة في الدنيا حرام على القادرين والعاجزين، وألا رضا عن النفس لناجح ~~ولا لمخفق في هذه الحياة. # مضت أربعمائة سنة على وفاة ماكيافيلي فاحتفى بذكراه الإيطاليون وتحدث الناس ~~بفلسفة ذلك الماكر السليم، ولقد طوت هذه المئات الأربع كثيرا من أضراب قيصر ~~بورجيا وبسمارك في القسوة والخديعة، وأخذ الشعوب بالحيلة والنفاق، أو بالقمع ~~والإرهاب، ولكننا على يقين أن ليس الأستاذ نيقولا مسئولا عن فاجعة من فواجعهم ~~المشئومة، وأن كتاب «الأمير» لم تسفك فيه قطرة ولا مزق من جرائه شلو غير قطرات ~~المداد وأشلاء الأوراق! وقد احتفل العالم بذكرى «رجل طيب» حين احتفل بذكرى نبي ~~القسوة والدهاء، ومعلم القادة والسواس فنون البطش والطغيان - فهل ترانا نحسن ~~إلى رفات الرجل في قبره أم نسيء إليه بهذا الثناء الذي كان يخجل منه في حياته، ~~لا ندري ولكننا ندري أنه حقيق بذلك الثناء، وأنه كان «رجلا طيبا» على كل ~~حال. # | فلسفة الملابس (2)1 # ما من إنسان إلا يضع شيئا من نفسه في ملابسه، فإن كان ممن يعنون بها ففي تلك ~~العناية دليل على ذوقه، وخلقه، وتفكيره، وفي بزته الظاهرة عنوان لما يخفي عنك ~~من نفسه وقلبه، وإن كان ممن يهملونها، فأنت تعرف من قلة عنايته شيئا يطلعك على ~~أسبابها الدخيلة، ويكشف لك عن شواغل فكره، وهموم فؤاده، فكأنما تنطق ملابسه في ~~صمت وبداهة بما ليس تنطق به الملابس التي يطول فيها التحضير والانتقاء، ويكثر ~~فيها التدبير والاحتفاء، وربما كان سر انصرافه عن تجميل نفسه أنه مشغول بالجمال ~~في كل ما عداه من الأناسي والأشياء، وربما كان جميل النفس، ولكنه غير بصير ~~بصناعة التزيين والتحسين، إذ البون بعيد بين أن يكون المرء جميلا في الخلق ~~والخليقة، وأن يكون هو مخترعا ms186 للجمال. # ويقول خائط مشهور في لندن: «إن أكثر من يتعبني من الناس في تفصيل ملابسهم أولئك ~~الذين لا يبدو عليهم أنهم يحفلون بما يلبسون» وهذه ملاحظة يعرفها كل خائط، ~~ويؤخذ منها أن الذين يهملون ملابسهم أقل عددا ممن تدل عليه الظواهر، وأنهم قد ~~يضطرون إلى ذلك الإهمال مكرهين، فلا تسعفهم الملابس في الترجمة عن رغباتهم ~~الخفية وأذواقهم المنوعة على أن هذه الحقيقة لا تلبث أن تظهر لك من شارة صغيرة، ~~أو هيئة منزوية، فينقلب العي في ترجمة الملابس إفصاحا، والخفاء ظهورا ~~وإيضاحا، وتسمع من جلباب هذا الذي «لا يبدو عليه أنه يحفل بما يلبس» كلاما ~~يقوله ككل كلام تقوله الملابس الثرثارة والأزياء البليغة، فأنت إذا استعرضت ~~مائة بذلة «خالية» في مخزن المخلوعات فقد استعرضت مائة نفس، وعرفت من تلك ~~الأشباح الميتة أرواحها التي كانت تعمرها بكل ما فيها من فضل وغرور، ورصانة ~~وطيش، وقبح وجمال، وجد وهزل، ولاح لك كأنك في حضرة حاشدة حية وكأن تلك الأرواح ~~التي فارقت هذه الأشباح اللبيسة قد تركت عليها نضحا من حياتها، وأثارة من ~~سرائرها، فمنها ما ينعت بالعقل والكياسة، وما ينعت بالخرق والبلاهة، ومنها ما ~~يحيي تحية الإكبار وما يعرض عنه إعراض الزراية، ومنها ما يدخل الجنة التي وعد ~~المتقون، وما يذهب إلى النار التي يصلاها الكافرون! فهي أشباح وأطياف وأجسام ~~وأفكار، وليست بالخيوط البالية والنسيج الرديد! # إنك إذا حادثت إنسانا في الفن الجميل فإنما تحادثه في الأشكال والألوان، وإذا ~~حادثته في شئون الاجتماع، فإنما تحادثه في النظام والشريعة، وإذا حادثته في ~~الأدب والتاريخ فإنما تحادثه في الشعور والخبرة، وإذا حادثته في الدين والفلسفة ~~فإنما تحادثه في آماله البعيدة وأشواق النفوس الرفيعة، ولكنك إذا درست كساء ~~يعنى ذلك الإنسان باختياره وتنسيقه، فقد درست في حين واحد جماع رأيه في الأشكال ~~والألوان، والنظام والشريعة، والشعور والخبرة، والآمال والأشواق، وكنت كأنما قد ~~عاشرته دهرا تسمع له في الفنون والاجتماع، والآداب والتواريخ، والدين ~~والفلسفة، وكأنما قد لخصت معارفه التي يشعر بها، والتي لا يشعر بها في ms187 صفحة من ~~القطن، أو من الصوف، أو من الحرير، بل كأنما قد عرفت منه ما يريد هو أن يعرفك ~~إياه وما لا يريد، فالذي قال: إن عشير المرء دليله قد أصاب وأجاد، ولكن أصوب ~~منه وأجود من يرجع إلى العشير الذي يلابس ويلامس، ويطابق الأعضاء والأفكار، ~~ويأخذ من أذواق صاحبه وأهوائه ما ليس يأخذه العشير من العشير، ولئن كان جمادا ~~لا حياة له، ليكونن ذلك أبلغ في الدلالة على صاحبه؛ لأنه يستعير إذن من حياته، ~~ولا يستقل بوصف عنه، خلافا للصديق الحي الذي يشابه صديقه ما يشابه، ثم يحور ~~إلى طبع لا سلطان عليه للأصدقاء. # وإذا جلست على مجاز الناس لم يكن شيء - بعد تصفح الوجوه - أمتع لك وأدل عليهم ~~من تنوع الثياب والبزات، وتقيد المتقيدين بالأزياء، وتصرف المتصرفين في تلك ~~الأزياء، فمن هذا الذي يلقاك بلون في كل ملبوس إلى ذاك الذي يتحرى الوحدة في ~~جميع الألوان درجات كثيرة بعضها إلى العلو، وبعضها إلى النزول، ولكنهما طرفان ~~متقاربان في هذا الجيش المديد الذي نستعرضه على قارعة الطريق، فكلاهما يطلب ~~الجمال وكلاهما بين الكلفة والادعاء، ويجتمع في اثنيهما صنفا الغرور اللذان ~~يتعاوران الناس ويظهر من أثرهما ما يظهر على النفوس والأذهان، والأقوال ~~والأفعال: صنف الغرور الواثق بنفسه الجاهل بكل قدره، وصنف الغرور الذي يتوارى ~~عن النظرة الأولى، ولا يريد أن يحشره الناس في زمرة المغرورين، فأما الأول ~~فمتظاهر يحب أن يظهر بكل ما يروقه، ويجهل أن كثرة الألوان ليست من كثرة الجمال، ~~وأما الثاني فمتظاهر يحب أن يظهر على غير هذه الصفة، ويجهل أن الذوق إنما يعرف ~~بالتآلف بين الألوان المتعددة، ولا يعرف بالوحدة في اللون، والتقارب في الصبغة، ~~فكل عين تعرف أن هذا اللون يشبه ذاك، ولكن ليست كل عين بقادرة على أن تجمع بين ~~الألوان الكثيرة في تناسب مقبول، وبين هذين الطرفين طرف الغرور البسيط، والغرور ~~المرطب تتمشى أخلاط شتى من الصنفين، وتتمثل للناظر ضروب شتى من الادعاء ~~والتكلف، وحب الاستقلال وحب الطاعة والإرضاء. # وقلما اختلفت الأمم قديما ms188 في شيء اختلافها في الثياب والأزياء، فإنه ما من شيء ~~تختلف به أمة إلا وله أثره في لباس أبنائها، وأسلوب تفصيلهم لذلك اللباس، ~~فتباين الزي ينطوي فيه تباين الإقليم والصناعة، والمعيشة والعادة، والحكم ~~والدين والتفكير، وما من خطوة يخطوها الثوب من لدن يكون زرعا في الأرض، أو ~~شعرا على جلد حيوان، إلى أن يصبح لباسا للعظيم والحقير والكبير والصغير، إلا ~~ويتراءى فيها علم الأمة وقدرتها وذوقها وخبرتها، ودستور حكمها ونظام المعيشة ~~فيها، وقد كتب أناس من الأوربيين في فلسفة اللباس، وكتب آخرون في فلسفة العمائر ~~وجرت بينهما العصبية لما يكتبون فيه، كما تجري العصبية بين من يدرسون النحل ومن ~~يدرسون النمل من علماء الحشرات! ففريق اللباسيين يقول: إن الثياب أبين عن ~~العقول والآداب، وفريق البنائين يقول: بل العمائر ألصق بالنفوس، وأنم عن حضارات ~~الأمم، وطبائع الأفراد، والسيد كرستيان باردي صاحب كتاب مستقبل العمارة يقول: ~~«إن نطاق الباحث في فلسفة الثياب علي سعته لا يذكر إلى جانب النطاق الذي ينفرج ~~أمام الباحث في تاريخ العمائر، وتنوع الأساليب البنائية، إذ إن أساس الهيئة ~~الثيابية إنما ينجم عن هيئة الجسم الإنساني التي لا تتغير، في حين أن أساس ~~الهيئة البنائية يقوم على النظام الاجتماعي، وما يعتور ذلك النظام من تبديل ~~متجدد، واختلاف ليس له من نهاية» والسيد جيرالد هيرد صاحب كتاب «تحليل الثياب» ~~يرينا من اختلاف «نظريات» اللبس بين الأمم ما تقل في جانبه نظريات البناء ~~القديم والحديث، ويصل بين التاريخ وفلسفة «ما وراء الطبيعة»، ولسنا نحن من هذه ~~العصبية ولا من تلك ولا ثأر لنا عند الحجارة ولا عند الخيوط، ولكننا نقول - ~~ونتوخى الإنصاف فيما نقول - إن تغير الثياب أكثر وأعجب من تغير البيوت، وإن ~~ذخيرة الإنسانية من أزياء الحلي والحلل تربى على ذخيرتها من أساليب العمارة في ~~كل جيل، وإن ما يضعه الناس من أنفسهم في كسائهم أظهر وأجلى مما يضعونه في ~~مساكنهم وأثاثهم، ولو كان الجسم الإنساني يتغير كل يوم لما كانت ذخيرته من ~~السرابيل أكثر عددا ولا أعجب تنوعا ms189 من هذه الذخيرة التي افتن في تفصيلها ~~وتجميلها هذا الجسم المتشابه المحدود. # أما الأخلاق فعلاقتها بالكساء علاقة لزام، لا يخفيها تبدل الشارة، ولا تجدد ~~الزي والجديلة، فلباس الأمم المجبولة على العزم والشجاعة والحرية غير لباس ~~الأمم المجبولة على الكسل والجبن والهوان، والجزء الذي يوكل إلى اختيار الفرد ~~من ملابسه كفيل بالإبانة عن شخصه ومزاجه، وخليقة نفسه، ودخيلة طبعه، وقد تشف ~~الثياب عن الجسم أو لا تشف، وقد تثقل عليه أوتخف، ولكنها على جميع حالاتها ~~تشف عن النفس في الجماعة أو الفرد أيما شفوف، وتمثلها أدق تمثل، ولسنا نحصر ~~الأمر في العفاف والصيانة، ولا فيما يظنه الناس من نفع الثياب في زجر الشهوات ~~وستر المغريات، فإن الأخلاق كلها على صلة مكينة بما يلبسه الرجال والنساء ~~للزينة أو للوقاية، وعلى مثال واحد في الإبانة، وإن اختلفت لغاتها ولهجاتها في ~~التعبير، وقد نرى فضلا عن هذا أن الثياب زادت عوامل الإغراء ولم تنقصها وأضعفت ~~الصيانة ولم تحصنها؛ لأن المرء يزيد بها جماله ويستر قبحه، ويفسح للخيال مجال ~~التصور والفتنة، وهما أغرى من الواقع والحقيقة، فإذا قلنا: إن للأخلاق علاقة ~~بالثياب فليس الذي نريده أنها تصون العفاف، وتقمع الشهوات، ولكنا نريد الأخلاق ~~بمعناها الواسع الكبير. # في قصة أناتول فرانس عن «جزيرة البنجوين» يروي لنا الكاتب حوارا بين القديس ~~الذي استجيبت دعوته في الطير، فتمثلت بشرا سويا، ودانت بالمسيحية والفداء ~~وبين كاهن عليم بالأمور خبير بغواية الشيطان، فيأبى القديس أن يظل الطير ~~الآدميون عراة الأجسام ويقول الكاهن: «ألا ترى يا أبتاه أن الخير في عري هذه ~~الطير، وما لنا ندثرهم؟ إنهم إذا لبسوا الثياب وقبلوا شريعة الأخلاق داخلتهم ~~الكبرياء، وخامرهم الرياء، وغلبت عليهم القسوة والجفاء.» ويصر القديس على رأيه ~~فيقول له الكاهن وقد أشار إلى واحدة من إناث الطير: «هذه واحدة مقبلة علينا ~~ليست بأوسم ولا بأقبح من سائرهم، وإنها لفتية ولا أحد يرمقها بنظرة، فهي تتلكأ ~~على الشاطئ وتحك ظهرها بأظافرها ولا تزال تمشي وإصبعها في أنفها، ولا يسعك يا ~~أبتاه وأنت تتلمحها إلا ms190 أن ترى ضيق كتفيها، ودمامة ثدييها، وسمنة أعضائها، وقصر ~~ساقيها، وإلا أن ترى ركبتيها المحمارتين تصطكان في كل خطوة تخطوها، ومفاصل ~~جسمها وكأنما ركب في كل منها رأس قرد صغير، وانظر إلى قدميها العريضتين تتشعب ~~فيهما العروق وتتشبث أصابعهما الصغيرة العوجاء بالصخر، وتعلق به الإبهامان ~~كأنهما رأسا ثعبان، ها هي تمشي فتختلج كل عضلاتها في الحركة، وننظر نحن إلى تلك ~~العضلات فلا يخطر لنا إلا أنها آلة صنعت للمشي، وليست بالآلة التي صنعت للحب ~~والغرام، وإن كانت لهي آلة لهذا وذاك وفي جسمها أدوات شتى غير ما ذكرناه. فتعال ~~يا سيدي الرسول الجليل ننظر ماذا أنا جاعل منها الساعة.» # ويقبض عليها الكاهن ويلقي بها وهي ترجف من الذعر على قدمي القديس الجليل، ~~وتتضرع إليه ألا يؤذيها ولا يمسها بسوء، ثم يأخذ في إلباسها فيعجبها ما تراه من ~~هذه الزينة المفرغة على جسدها، وتنطلق وقد لفت ذيل إزارها على كفلها، ووزنت ~~خطوتها وهزت ردفيها، فما هو إلا أن يراها واحد من ذكران الطير حتى يتبعها، ثم ~~يقفوه ثان، وثالث، ويلحق بهم كل من كانوا على الشاطئ يضطجعون، ويشهد القديس ~~والكاهن هذه الفتنة المخلوقة من الثياب فيقول الكاهن: «الحق أن في الحياة ~~لسرا يجذب الأنظار إلى النساء، وأن وسواس نفسي لأعظم من أن تجدي فيه ~~المداراة» ثم يهجم على الطائرة الآدمية، ويدفع عنها من حولها، ويعدو بها إلى ~~كهف قريب، فيحوقل القديس ويعلم أنه الشيطان تلبس بجثمان الكاهن؛ ليخلع فتنة ~~اللباس عن الإناث. ~~••• # هذه قصة فيلسوف أبيقوري يعيش في باريس، ويرى ما تصنع الثياب بالنساء والرجال ~~ويؤمن بعقيدة السرور، ولو شاء كل ملاحظ لرأى ما رآه أناتول فرانس، وعلم من ~~القديس أن للشيطان يدا طائلة في صنع الثياب وإبداع الأزياء. # | أبيات من الشعر1 # هل كان البارودي شاعرا؟ بلا ريب! كان شاعرا له طلاوة وفيه حياة، ولبعض أشعاره ~~نغمة وإيقاع لا نجدهما إلا في القليل من شعر القدماء والمعاصرين، وإنما شكك بعض ~~الناس في شاعريته حذلقة التمييز التي أولع بها من يدعون التفريق ms191 بين الكلام ~~ووضع القائلين كل قائل في مقام، فإذا بدت على كلام الشاعر طلاوة الصناعة، قالوا ~~هذا صانع وليس بمطبوع وعز عليهم أن يجعلوه شاعرا حسن الصناعة أو شاعرا ~~مطبوعا على الصناعة الحسنة والرصف المنغوم، وإذا بدت عليه الحكمة قالوا هذه ~~فلسفة وليست بشعر، كأنما الشعر والفلسفة لا يلتقيان أو كأن تصوير بعض الإحساس ~~لا يحتاج إلى فلسفة، وتفهيم بعض الفلسفة لا يحتاج إلى إحساس، وإذا بدت عليه ~~الركة في اللفظ مالوا إلى التسليم له في المعنى ليقولوا هو شاعر التدبيج ~~والتحبير، وليس بشاعر التوليد والتفكير. ليعطوا كلامهم صبغة التمييز، وينزلوا ~~أنفسهم منزلة الحكم والانتقاد، وكثيرا ما قابلوا بين شاعرين فحكموا لأخسهما ~~شعرا، وأضعفها ملكة بالسبق والترجيح؛ لأن المرجوح في نظرهم صاحب فكر وصناعة، ~~فيقولون عنه: إنه صانع ومفكر وليس بشاعر، ولأن الراجح في نظرهم لا فكر له ولا ~~صناعة فهو إذن شاعر؛ لأنه ليس بمفكر ولا بصناع! وهكذا كانت تجني الحذلقة على ~~الأدباء والكتاب والشعراء، وكادت تجني على البارودي فتخرجه من عداد الشعراء، ~~وإنه مع هذا لشاعر له من حسنات التذوق والتصوير ، وإلهام الحس ولطف الشعور، ~~وعذوبة الروح ما ليس للكثيرين، وليس المقام هنا مقام إفاضة في نقد البارودي ~~فنورد لقرائنا محاسن نظمه، ودلائل وحيه، وإنما ألممنا بشاعريته في الطريق ~~لنتكلم في أبيات له تذاكرناها منذ أيام أثناء حديث عن هذا الشاعر الفارس ~~السياسي الأديب. ~~••• # لقيني أديب فاضل، وفي يديه كتاب وسألني: أي هذين البيتين أبلغ معنى وأجمل صياغة ~~قول البارودي: # أقاموا زمانا ثم بدد شملهم # ملول من الأيام شيمته الغدر # أو قوله: # أقاموا زمانا ثم بدد شملهم # أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر # قلت: الأول أبلغ وأجمل في رأيي. قال: وفي رأيي أيضا، ولكن إليك رأيا آخر يقول ~~بخلاف ذاك، وفتح الكتاب - وهو كتاب أدب وتاريخ للأستاذ محمد صبري معلم التاريخ ~~الحديث بدار العلوم - فإذا به يقول: «من العجب حقا أن ينشر المرصفي للبارودي، ~~وهو حي في ريعان الشباب نصا لقصائده أصح بكثير من النص الذي نشر بعد وفاته ms192. ~~على أننا من جهة أخرى قد أسعدنا الحظ بالوقوع على نصين مختلفين لقصائد أو أبيات ~~معدودة، لا نشك أن الثاني منها الذي ظهر في ديوانه هو في الحقيقة النص الأول ~~الذي أصلحه البارودي وصقله بعد إعمال الروية فيه، ونقده نقد الصيرفي الحاذق ... ~~جاء في القصيدة التي يجاري بها أبا فراس: # أقاموا زمانا ثم بدد شملهم # ملول من الأيام شيمته الغدر # وقد روى صاحب الوسيلة البيت على الصورة الآتية: # أقاموا زمانا ثم بدد شملهم # أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر # فانظر إلى الفرق بين الصياغتين، وتأمل كيف كان البيت في أول الأمر كالطائر الذي ~~كسر أحد جناحيه فتعسر عليه النهوض، حتى جاء الشاعر وبدل الشطر الثاني بشطر آخر ~~يتلاءم مع الأول معنى ومبنى، فإن قوله ملول من الأيام بعد «ثم بدد شملهم» من ~~أضعف التراكيب وأخسها بخلاف «أخو فتكات بالكرام» فإن هذا التركيب جمع بين ~~الجزالة والرقة اللتين بلغتا منتهاهما في آخر البيت حين فسر شاعرنا الكناية ~~بقوله اسمه الدهر. أضف إلى ذلك أن حزن الشاعر يتجلى في الشطر الأخير على أولئك ~~النفر الغر الذين بدد الزمان شملهم، وهذا أتم للمعنى وأوفى وأكثر اتصالا بما ~~جاء بعد ذلك.» # وألاحظ أولا أن قافية «الدهر» وردت في هذه القصيدة قبل خمسة أبيات حيث يقول ~~البارودي في بيته المشهور: # إذا استل منهم سيد غرب سيفه # تفزعت الأفلاك والتفت الدهر # وهذا مما يرجح أن البارودي عدل عن المصراع الذي تكررت فيه القافية إلى مصراع ~~غيره، ثم أقول: إلى هذا الحد تختلف الآراء في بيت واحد بين المشتركين في ~~القراءة الإفرنجية، ولم أكن لأعرض لهذا الخلاف، لولا أنني أردت أن أتخذ منه ~~مثالا للأسباب التي نفضل من أجلها بيتا على بيت وأسلوبا على أسلوب، والأمثال ~~كما قلنا في فصل تقدم خير معين على توضيح الآراء ووضع المقاييس. # فنحن نرجح أولا أن البيت الذي نشره المرصفي هو البيت كما صاغه البارودي للمرة ~~الأولى؛ لأنه أشبه بالضجيج الذي كان مغرما به في صباه، وأقرب إلى أن يروع ~~القارئ بتهويله ms193 لا بمدلوله، ثم عدل عنه إلى الصيغة التي نشرت في الديوان، وهي ~~أشبه برصانة السن وتجارب الشيخوخة التي طال بها عهد التأمل في غير الأيام ~~وتقلبات الصروف، ولولا ذلك لما رجع طابع الديوان إلى الصيغة الأولى التي مضت ~~عليها عشرات السنين، وترك الصيغة التي استقر عليها رأي البارودي الأخير. # ونرى بعد أن البارودي يكون مخطئا لو أنه قال أولا: «ملول من الأيام شيمته ~~الغدر» ثم عدل عنها إلى قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» لأن الصيغة ~~الأولى أصدق في وصف الأيام وأدل على سآمة الناظم وضجره من الحوادث، وأقرب إلى ~~التشخيص والتصوير من الصيغة الثانية. # فإن قوله: «أخو فتكات بالكرام اسمه الدهر» ~~يصور لنا الحوادث التي تبدد الشمل كأنها لا تكون أبدا إلا كحوادث السكك ~~الحديدية، ونكبات الزلازل، وانقضاض الصواعق، وهي ليست كذلك فيما نعلم ويعلم ~~الناس، فإن التغير من حال إلى حال طبيعة الدنيا التي تبدد الشمل وتبلي النعمة ~~وتفني الحياة، ولو لم تقع المفاجآت الدواهم، ولم تنقض الرزايا الخواطف على غير ~~موعد، ونحن نفهم أن شيخا مثقلا بأعباء السنين يقول «ملول من الأيام» بعد أن ~~قال في الشباب «أخو فتكات» ولكننا لا نفهم أن يعكس الأمر، فيذكر الفتك في ~~الشيخوخة، ولا يروقه أن يصف الأيام بالملالة في سن الضجر والسآمة، والحقيقة أن ~~الشيخوخة التي طالت بها مشاهدة الغير وتعقب الناس والزمان هي أولى بأن تتمثل ~~الأيام في صورة الملول الذي يتقلب ويتبدل ويغدر عن شيمة وديدن لا عن سورة عارمة ~~وهياج فاتك، وقد يعطيك البيت على هذه الصيغة صورة القدر في أبديته الطويلة يلعب ~~بالخلائق لعب السائح الضجر في غير اكتراث ولا تعمد، ولكنك لا تلمح من الصيغة ~~الأخرى للقدر إلا صورة عنترية تصول وتجول وتنادي المبارزين والمناجزين، وليست ~~هذه بالصورة الصادقة، وإن كان فيها من الضجة ما يباغت الأسماع ويشده ~~الحواس؟ # وفي قول البارودي «ملول من الأيام» لمحة من الشعور الإنساني؛ لأنها تشعرك مرارة ~~نفس القائل وطول تأمله في مصائب الأعزاء وتقلبات الحدود، وليس في قوله «أخو ms194 ~~فتكات» لمحة من ذلك الشعور؛ لأنها أشبه بالآليات منها بالحسيات، فلا يخطر لك ~~حين تسمعها إلا أنها صدمة أصابت جدارا أو ضربة وقعت على حجر، ولا يمنعك أن ~~تظنها من نظم آلة صماء إلا أن الآلات الصماوات لا تنظم الأشعار، وفضلا عن هذا ~~ألا يفتك الدهر باللئام كما يفتك بالكرام؟ ألا يتقلب القدر بمن تبغض كما يتقلب ~~بمن تحب؟ فقوله: «أخو فتكات بالكرام» ناقص في هذا المعنى فوق ما فيه من خطأ ~~الوصف وقعقعة التهويل المكذوب، وأنت إذا سمعته بدهك بما يشغلك عن لطف الكناية ~~فلا تعود تبالي أكان اسم صاحب هذه الفتكات الدهر أم غير الدهر، ولكنك إذا سمعت ~~«ملول من الأيام» انسرحت أمامك ساحة الحوادث فرأيت أطوارها طورا بعد طور ولمحت ~~صورة الزمن القديم يشرف على كل هذا إشراف اللاعب الملول، ويجيء ذلك بعد قوله ~~«أقاموا زمانا ثم بدد شملهم» فيكون أنسب للتراخي في التقلب، وأقرب إلى ما جرت ~~به العادة من غير الصروف. # لا يخطر لك هذا كله حين تفضل أحد البيتين على الآخر، ولكن الناس يستحسنون أو ~~يستهجنون ثم يرجعون إلى التعليل والتفسير، وفي هذا دليل آخر على أن التذوق هو ~~تعليل موجز سريع، وأنه قد يغني عن المنطق، ولكن المنطق لا يغني عنه ~~بحال. ~~••• # وكان بعض الأدباء يقرأ أبياتا لحافظ إبراهيم من قصيدته في زلزال مسينا حيث ~~يقول: # رب طفل قد ساخ في باطن الأر # ض ينادي أمي! أبي! أدركاني # وفتاة هيفاء تشوى على الجمر # تعاني من حره ما تعاني # وأب ذاهل إلى النار يمشي # مستميتا تمد منه اليدان # تأكل النار منه لا هو ناج # من لظاها ولا اللظى عنه وان # قرأ الأديب هذه الأبيات ثم قال: حبذا هي لولا «تمد منه اليدان»، فهذه شهد الله ~~من ضرورات النظم لم يكن للشاعر بها يدان! # قلت: حبذا إذن هذه الضرورة التي وفقت حافظا لخير ما يقال في هذا الموقف، فلو ~~أنه استطاع أن يقول يمد اليدين لما أتى بشيء ولهمد في البيت معنى الهول الذي ~~يطالعك ms195 من قوله: «تمد منه اليدان» فإن بناءها على المجهول هنا يريك أن الأب ~~المروع لم يكن يدري ما يصنع، وأنه ذهل عن وعيه فيداه تمتدان من غير شعور ولا ~~فهم لمعنى حركاته ووجهة خطواته، وعندي أن كلمة «تمد أو تمتد» في مكانها هذا ~~أبين عن هول الزلزال من الأبيات الأربعة، وما فيها من نار تأكل، وأرض تنفغر، ~~وأصوات تصيح، وهذا توفيق إذا جاء به الشاعر عن قصد فهو براعة وإذا جاء به عن ~~غير قصد فهو إلهام. # إن كان في هذه الأبيات ما يؤخذ على حافظ فليس هو تلك الضرورة السعيدة، وإنما هو ~~اتهام للرحمة الإنسانية قد تنطوي عليه أبياته، وقد يبدر من بعض الشعراء والكتاب ~~على غير نية، فقد أراد الشاعر أن يمس فينا كوامن الإشفاق، فوهم أننا لا نرثي ~~للمنكوبين إلا إذا كانوا طفلا صغيرا يشفق عليه كل مشفق، أو فتاة هيفاء يحزن ~~الناس عليها للجمال لا للرحمة، أو أبا ينظر الناس بعينيه إلى أطفاله ~~المفقودين ويحسون معه بحنانه المستطار، وليس يحتاج المرء إلى كبير حظ من ~~«الإنسانية» ليأخذ بيد الطفل الصغير، ويتفجع للفتاة الهيفاء، ويأسى لمصاب الأب ~~الثاكل، فلئن كان حافظ قد صدق الوصف، وأبلغ في الصدق، وأفلح في تنبيه الشفقة ~~وبسط الأيدي بالمعونة لقد كان يبلغ المدى في الإحسان لو أنه استمد الوصف من ~~حاسة غزيرة وقدرة فنية تنتزعان من الزلزال صورة منكوب غير عزيز على النفوس، لا ~~بل صورة حيوان هائم في هول تلك القيامة، فتهبانه من الشعر ما لم يوهبه من عفو ~~الرحمة، وتفيضان عليه من الجمال والمودة مثل ما أفاضته الطبيعة على الطفل ~~المهجور، والفتاة الهيفاء، والوالد المرعوب، ونشعر حين نقرأ الوصف أن جمالا ~~أعلى من جمال الطفولة والملاحة والأبوة، يرتقي بنا إلى ذلك الأوج الرفيع، وذاك ~~هو جمال العبقرية التي تعرف العطف حيث لا يعرفه سائر العاطفين. # | السيدة الإلهية1 # صورة اللادي هاملتون في زي عابدة باخوس إله ~~الخمر. # ساعات بين الكتب أو ساعات بين الصور! هي على حد سواء، ففي كل صورة ms196 مجودة عبقرية ~~ممثلة، ونفس شاخصة، وتاريخ قد يفوق التواريخ والقصص بما تضمنه من غرائب الأقدار ~~ونوادر الأسرار، وماذا في الكتب غير ذاك؟ فإذا أملك يوما أن تقرأ الكتاب ~~وتحادث المؤلف فقلما يملك أن تقرأ الصورة، وتساجل المصور، وكلاهما بعد ذلك في ~~الصحائف سواء. # اليوم قائظ والشمس تقذف الأرض بالنار، والناس لائذون بالبيوت - بيوتهم لا بيوت ~~الله! - من غضب السماء، وقد أغلقت نوافذي وجلست بيني وبين القيظ حجاب من الحجر ~~والخشب والزجاج، فكأنني الشيخ أوى من حرارة الحياة إلى وقار السن فهو ينظر إلى ~~القائظة المحتدمة في النفوس وبينه وبينها سور من التجارب يظلله ويحميه، وما ~~أردأ التجارب من موصل لحرارة الحياة! وألقي بعيني إلى الكتب فكأنما هي ثراثرة ~~على شفاهها حديث تهم أن تقذف به عند أهون إشارة، ومن الذي يؤمئ بتلك الإشارة ~~الهينة؟ لا والله! ما اليوم يومك ولا يوم رقصاتك وصرخاتك يا مولانا نيتشه، وما ~~اليوم يومك ولا يوم أبطالك ووعودك يا صاحبنا كارليل، وما اليوم يومك ولا يوم ~~أرواحك ورياضاتك يا أبتا لودج! وما أراه يوم واحد من هذه الرءوس الصالحة التي ~~تعودت أن تفرغ جعبتها في الرءوس صيفا وشتاء وبالليل وبالنهار، فدعونا مما ~~تقولون للدنيا ومما تقوله الدنيا لكم، فليس بين الإيمان بعقولكم وبالدنيا وبين ~~الكفر بجميع العقول وجميع الدنياوات إلا بضع درجات في ميزان الجو، ثم تتساوى ~~الحماقة والحكمة، ويتجاور العدم والوجود. # أعرضت عن الكتب كما أعرض عنها في كل يوم من هذه الأيام القائظة، وأخذت مجموعة ~~الصور أقلب فيها بين اليقظة والنعاس، والعيان والحلم، وفي هذه المجموعة وجوه ~~شتى حلم بها الفن المبدع، وارتقى فيها إلى ما فوق المشهود والمأمول، وفيها ~~تماثيل أرباب وربات يعبدها من ليس يعبد اليوم فينوس وكيوبيد وسيكي والزفير. ~~ولكنها لا تستوقفني جميعا كما تستوقفني صورة واحدة ليست صاحبتها بربة، ولا هي ~~بخاطر في منام، وليست إلا جسدا من الدم واللحم ومخلوقا ولده حداد في قرية ~~خاملة من بلاد الإنجليز، وامرأة خاطئة باعت الخبز حينا ثم عاشت حتى اشتهاها ~~أصحاب ms197 العروش والتيجان، ورآها الأستاذ «رومني» كبير المصورين الإنجليز في عصره ~~فجن بها جنونه ودعاها «المرأة الإلهية» وهو يعلم أنها هي المرأة الخاطئة؛ لأنه ~~رأى فيها أبدع ما صنع الله، وعلم أن شعورها بالفضيلة لم يغلب قط، وإن كانت ~~فضيلتها قد غلبت في بعض محن الحياة، ورسم لذلك الوجه الذي قلما يشهد مثيله في ~~هذه الدنيا ثمانين رسما أو تزيد لم يدع ربة من ربات الأقدمين، ولا حورية من ~~حور الأساطير، ولا عروسا من عرائس الماء والآجام إلا ألبسها سمتها، وخلع عليها ~~جمالها، فبدت فتنتها فتنة الربات والحور، وفاقت حقيقتها آمال الفن والعبقرية، ~~وجعلت تخطر في مصنعه وكأنها سماء الأولمب كاملة بكل ما فيها من جمال الآلهة ~~وسحر الخيال. # تلك هي «أما» كما يدعوها المقربون أو «لادي هاملتون» كما عرفها المجتمع، أو هي ~~المرأة الإلهية وكل إلهة في القدم كما كان ينعتها رومني المفتون. # تعود صاحب لي كلما رأى صورها التي عندي أن يقول: طوبى لنلسون؟ إني أريد أن ~~أحسده فلا أدري أعلى هذه الحبيبة أحسده أم على تلك العظمة التي أصبح بها في ~~الخالدين ؟ إن الرجل لسعيد، ولكني لا أعلم أسعيد هو بالنصر في عالم الحرب، أم ~~سعيد بالنصر في عالم الغرام؟ ولو أننا سألنا نلسون لأجاب وأغنانا عن التخمين، ~~فما كانت العظمة لنلسون ولا لغيره إلا تكاليف وفروضا يشقى بها المكلفون، وما ~~كان المجد إلا صخبا لجوجا لا نوم فيه ولا سكون، وإن لم يخل من أمانيه ~~وأحلامه، فإن كانت سعادة في المجد فهي سعادة قلب لا سعادة رءوس وأكاليل، ولن ~~يسعد قلب بغير عطف ولن يكمل عطف بغير حب جميل. # وانظر إلى وجه القدر! إني إخاله يومض ويبتسم ونحن نذكر السعادة والسعداء، وما ~~يضحك القدر من أحد ضحكه من السعداء ومن يهبون السعادة! فهذه المرأة التي ولدت ~~في كوخ الحداد وعاشت بعد ذلك في قصور الإمارة، وهذه المرأة التي وهبت نلسون من ~~النعيم ما لم تهبه الأساطيل ولم ييسره النصر المبين بعد النصر المبين، وهذه ~~المرأة التي تحدث ms198 العالم بجمالها كما يتحدث بظواهر السماء وطوالع الأفلاك، وهذه ~~المرأة التي حسدتها النبيلة والماهنة، ونفست عليها العفيفة والفاجرة، وتمنت ~~حظوظها الطموحة والقانعة، وهذه المرأة التي ذاقت حلاوة الشرف ورويت بكأس العار ~~- هذه المرأة التي عرفت كل ما تعرفه حواء في حياتها - هل في بنات حواء من شقيت ~~أشد من شقائها، وابتليت آلم من بلائها وذرفت أكثر من دموعها؟ قليل فيما نظن، ~~فقد سقاها الدهر بكأسيه، لا بل سقاها بكأسه! فما نعلم لهذا الدهر الضنين إلا ~~كأسا واحدة يملأها للسعداء وللأشقياء، فلا يزال الشقي يتحسس فيها طعم السعادة، ~~ولا يزال السعيد يجرع منها طعم الشقاء. # حياة لو خلقتها قصة لكانت غريبة، وجمال لو أبدعه مصور لكان طيفا موهوما، ~~فكأنما ولدت هذه المرأة لتتخذها الحقيقة معجزة لغرائبها، تقر لها غرائب ~~الأكاذيب وبدائع الأوهام، ثم جزتها على ذلك جزاء الحقيقة في كل زمان، وهل جزاء ~~الحقائق إلا صدمة الجد وسخرية الخيبة ومرارة الرجاء المضاع؟ # بنت حداد فقير نزلت لندن في الخامسة عشرة فتناهبتها الفاقة والرذيلة، ثم عثر ~~بها نبيل من أجلاف النبلاء، فاحتملها إلى قصره في الريف تسقيه الخمر ويباهي بها ~~على مائدة الشراب ثم هو يهينها ويسومها العسف فتخضع للعسف وتصبر على الهوان، ثم ~~هي على صبرها وطاعتها جامحة النفس تتفزز بالحياة، وتهجم على المخاطر، وتروض ~~الخيل العصية لا يجرؤ على ركوبها أشجع الفرسان، ويلقاها هناك سيد مهذب على ~~شيء من العلم والذوق يسمى «جريفيل» فإذا هي مأخوذة بأدبه ومجاملته، مبهورة ~~بظرفه وكياسته، مصغية إليه في دهشة الطفل الغرير تستمع إلى نصحه، وتجهد نفسها ~~في إرضائه واحتذاء مثال المرأة الحسناء في نظره، ويغضب عليها النبيل الريفي ~~فتلجأ إلى جريفيل في لندن، فيقوم لها مقام المعلم الصارم العسير، ويجلب لها ~~المهذبين ويحاسبها على الهفوة، ويعتد الإحسان إلى الفقراء من هفواتها! ويتلقى ~~سورة إعجابها وحبها بفتور الكيس الذي يغتفر الجريمة الصامتة، ولا يغتفر ~~السورة الناطقة! وتنقضي على ذلك سنوات أربع وهو يزيدها تزمتا وجفاء، وهي تزيده ~~حبا ووفاء، وتلد له بنتا فتقر بها عينها ms199 ويزور لها وجهه، ويبدو له أن ~~يتزلف إلى عمه الغني فيبيعها إياه؛ ليكتب له العم الغني ميراثه وتأبى هي ~~الفراق، ثم ترضى به حين يخدعها جريفيل ويفهمها أنه يستعين بها على قضاء مأربه ~~عند عمه، وأنه يرسلها معه إلى إيطاليا لتتم هنالك فن الغناء وتستوي على المسارح ~~نجما ساطعا ينتفع بماله ويستمتع بضيائه، وتقبل هي هذه الخدعة، فتبرح لندن على ~~أمل اللقاء القريب، فإذا هي مع أمها التي لا تفارقها في قصر اللورد هاملتون ~~سفير الجلالة البريطانية في بلاط نابولي وعم ذلك الحبيب الشريف! # وتنطوي صفحة من حياة «أما» في وطنها وتبدأ صفحة جديدة في بلاد أخرى، وهي يومئذ ~~في العشرين وصديقها اللورد في الخمسين، قسيم وسيم، خبير بالفنون والتماثيل ولا ~~سيما تماثيل الحياة، ويعلم هو حبها لابن أخيه فيمهلها على ثقة من فعل الزمان، ~~وفعل الفراق وفعل الحكمة الجافية في خليقة جريفيل، ويستغرب الناس مكانها من ~~القصر فيقول لهم: إنه يحب الغناء ويحب النابغات في الغناء فهو يعد هذه الفتاة ~~لمستقبلها في عالم الإنشاد والتمثيل، ويفتتن بها زواره فإذا هي حديث المدينة، ~~وإذا بالملك يسعى إليها متخفيا ليظفر برؤيتها وسماع غنائها، وإذا بالملكة تدبر ~~المفاجآت لتنظر إلى ذلك الوجه الذي يلهج به كل شريف وشريفة في البلاط، ويكسف ~~نجمه كل نجم في تلك السماء المرصعة بالزواهر والشموس، ويقدم جيتي ملك الشعراء ~~في زمانه، وجوبيتير سماء الأولمب في جلاله وكبريائه، فلا تفوته هذه التحفة ~~النادرة بأرض التحف والآيات، ويكتب عنها فيقول في حماسة لم يألفها قلم ذلك ~~الجوبيتير الوقور: «ها نحن نرى رأي العين - كاملا ومجسما في حركاته الرائعة - ~~كل ما جاهد في تمثيله رجال الفنون في غير طائل، فهي بين واقفة أو راكعة أو ~~جالسة أو مضطجعة أو جادة أو حزينة أو لاعبة أو مهجورة أو نادمة أو مغرية أو ~~متوعدة أو ملتاعة القلب مفجوعة تتلو كل حركة بحركة من حركاتها الأخرى وتتولد ~~منها، وهي تعرف كيف تلعب بطيات منديلها الواحد بما يوائم كل لمحة من الملامح، ~~وكيف تلبسه ms200 على رأسها على مائة شكل مختلف من ملابس الرءوس» وذاك أنها تعلمت من ~~«رومني» الذي عرفها به جريفيل كيف تحكي أشكال الآلهة وبنات الأساطير، فأحسنت في ~~جميع المواقف إحسانا فاق تعليم المعلم وحكاية المقلد، وعرضت ذلك كله على جيتي؛ ~~لأنه كما قالت وافق هيئة الملك في خيالها أكثر من ذلك الملك المتوج وهو يلاحقها ~~بحبه وهي ترفض ذلك الحب الذي يتنافس فيه الملوك والخواتين. هذا وهي لا تزال ~~على الوفاء لجريفيل تواليه بالكتب، وتتوسل إليه أن يشخص إليها وهو لا يزيد على ~~السكوت وإرسال كتبها واحدا بعد واحد إلى عمه المتلهف على يوم النسيان والقطيعة ~~بينها وبين ابن أخيه، ولما خطر له أن معين الصبر أوشك أن ينفد وأن أمد الوفاء ~~قد جاوز حده خاطبها متوددا وعرض لها متغزلا فغشي عليها من ألم الصدمة، ولزمت ~~غرفتها تبكي وتنتحب لهذا الغدر من اللورد في حق جريفيل، ويفطن الكهل المحنك إلى ~~الموقف الدقيق فيبلغها عزمه على السفر إلى روما عسى أن تفقد محضره فتعرف قيمته ~~لديها، وتتطرق من الاشتياق إلى قبول الغزل والتودد! فتفلح الحيلة ويجتمع غياب ~~هاملتون وإعراض جريفيل على الفتاة المهجورة، فتسكن إلى قسمتها المحتومة في ~~تسليم وديع لا يخلو من بعض الرضا والارتياح. # وكانت في قصر هاملتون قريبة له تستقبل ضيوفه بعد موت زوجته الأولى، فما زالت به ~~تلومه في شأن «أما» واللوم يغريه حتى نحاها عن استقبال الضيوف وعهد بذلك إلى ~~«أما» فأصبحت ربة داره وصاحبة بيته، ومهدت لها تلك القريبة الخرقاء سبيل التزوج ~~به، فلما سمع أن ملكة نابولي توحي بهذا المقترح لم يستغربه، ولم يجفل لسماعه ~~إجفال السفير العظيم من البناء بخليلته، وكان قد شاخ ووهنت نفسه فيئس من زاوج ~~يلائمه غير هذا الزواج بمن أحبها وأنس إلى عشرتها، وأقامها مقام الزوج في كل ~~شيء إلا في الاسم والكتابة، فعقد العزم على القران وهونه على البلاط الإنجليزي ~~بخطاب من ملكة نابولي وعدت فيه أن تستقبل السفيرة في بلاطها، وتعاملها معاملة ~~أترابها، وما دعا الملكة إلى كل ms201 هذا البر بأما إلا أمران أحدهما الشكر لها على ~~رفض غرام الملك، والإعراض عن إلحافه وألطافه، والثاني حاجتها إلى صديقة في ~~السفارة البريطانية تأسرها بفضلها، وتعتمد عليها في تمكين عرشها الذي يوشك أن ~~تعصف به الثورة الفرنسية والمطامع النابليونية، فكان لها ما أرادت وكافأتها أما ~~فيما بعد بإنقاذ حياتها وحياة آلها، فكان جزاء الفتاة الوضيعة خيرا من جميل ~~الملوك. # ثم ظهر نلسون في حياة أما بعد أن شاخ هاملتون، وتعاورته الأمراض ولزم الفراش في ~~أكثر الأيام. ظهر في الشواطئ الإيطالية ينازل الفرنسيين، ويطارد سفنهم، ويحتاج ~~في كل حركة يتحركها إلى السفارة الإنجليزية أو إلى شخص «أما»؛ لأنها هي كل شيء ~~في البلاط، وخشي الملك سطوة الفرنسيين فمنع تموين السفن الإنجليزية، فكادت تفشل ~~الرقابة وينطوي نلسون في غمرة الخمول، فصمدت أما لهذه الأزمة العضال، ولم تهدأ ~~ولم تنثن حتى تغلبت بإرادة الملكة على إرادة الملك، وأسلمت الأسطول أمرا يبيحه ~~التزود بالماء والطعام حيث شاء، فإذا كانت وقعة أبي قير مستحيلة بغير هذه ~~المعونة، وكانت حماية الهند مستحيلة بغير وقعة أبي قير، فالدولة البريطانية ~~مدينة لهذه المرأة بأكبر ما تدان به دولة عظيمة لفرد من الأفراد. # وانتصر نلسون فحببها فيه النصر والإشفاق، وماذا غير المجد والوطنية والرحمة ~~يحببها في رجل مقطوع الذراع، مفقود العين، مشوه الجبين، معروق اللحم، يرجف لكل ~~خطب يعتريه كما ترجف القصبة في الريح، وتنكأه جراحه الأليمة فإذا هو عابس ~~السحنة، حزين أو ثائر النفس كالمجانين؟ ما كان ذلك حب شهوة، ولا حب رذيلة، ~~ولكنه حب القلب والرأس، وحب المجد والوطن، وليس أكرم من ذلك الحب في صدور ~~النساء. # وجاءت حادثة الفرار بالأسرة المالكة من نابولي إلى بلارم، فكان الفضل فيها أكبر ~~الفضل لأما ثم لتمساح النيل كما كانت تسمي نلسون بعد وقعة أبي قير، وأقاما في ~~العاصمة الجديدة إلى أن كان العود إلى لندن، فوجدت أعداءها الفرنسيين قد سبقوها ~~بالإشاعات والأقاويل في وطنها، ونبشوا ماضيها وحاضرها وزادوا على ما علموا ~~شيئا كثيرا من افتراء الضغينة، وكيد الخصومة، فلم ms202 يشأ البلاط الملكي أن ~~يستقبلها، وعاشت في عزلة عن المجتمع الشريف وفي غبطة بقرب نلسون الوفي الأمين، ~~ثم مات اللورد هاملتون، ولم يوص لها إلا بثمانمائة جنيه في العام، وماذا تصنع ~~ثمانمائة جنيه لامرأة تعودت بذخ القصور، وعلمها البلاط القمار الذي لم تتعلمه ~~في أزقة الفساد؟ ثم مات نلسون وهو يذكر اسم بنته الوحيدة منها، ويتركهما بعده ~~في كفالة الوطن الشكور، ولكن الوطن الشكور سجن السفيرة التي وهبت له نصرة أبي ~~قير عقابا لها على المطال بالدين، وألجأها إلى الأرض الفرنسية التي فضحتها، ~~وأطلقت ألسنتها بالتقول عليها، فعاشت في مدينة كاليه ما عاشت، ثم ماتت فيها وهي ~~تناهز الرابعة والخمسين ودفنت بها في قبر حقير بمال سيدة من المحسنات. # هذه قصة المرأة الخاطئة أو المرأة الإلهية! قصة امرأة كان حسنها آية فنية، وكان ~~تاريخها آية فنية أخرى، وبلغت بها الحقيقة شأو الخيال، ثم نمت فيها عبرة ~~الرواية الإلهية، فكانت ضحية لا بد منها للعرف المرعي والأدب المصون، فلو قيل ~~لنا بعد كل هذا أكان البلاط الإنجليزي على خطأ أم على صواب في رفضها لقلنا بل ~~كان على صواب فيما فعل، وكان لا يقدر على غير هذا الجزاء الكنود، فإن حسنا أن ~~يبقى للآداب المعروفة وجهها المنظور ولو شقيت في ذلك بعض النفوس، وليس الذنب ~~فيما أصاب المرأة المظلومة ذنب البلاط، وإنما هو ذنب الزمن الذي أنشأ المسكينة ~~على أن تكون قصة من القصص، ونسي أنها حقيقة من الحقائق، وبماذا تنتهي تلك القصة ~~الفنية التي نسجتها حياة الحسناء العجيبة إن لم تنته بالتضحية الفاجعة، ~~والختام العجيب؟ لقد كانت رضا الفن في حياتها ومماتها ونعيمها وشقائها! ولم تكن ~~رضا العدل إلا في القليل من هذه المقادير، فإن ذكر لها الذاكرون خطيئتها ~~وجماحها، فليذكروا لها منصفين إحسانها حتى ما كانت تضن بمال على فقير، وحبها ~~لأمها حتى ما كانت تهجرها في بيئة الملوك والأمراء، وتقديسها لوطنها، حتى ما ~~كان في زمانها من خدمة ونصرة أعظم من نصرها إياه. # | جورج رومني1 # أيهما خلد الآخر ms203: رومني الذي حفظ لنا جمال السيدة الإلهية، أو السيدة الإلهية ~~التي ألهمت المصور فنه، وملأت عينيه ببهجة الحسن، وأجرت يده بالخلق والإحسان؟ ~~لقد وعدها هو أن يخلدها في صوره، ولم تعده هي شيئا، ولكنها خلدته على غير ~~موعد، فلا نخشى هنا أن نقع في «مسألة الدور» أو نتهم «بعدل سليمان» إذا قسمنا ~~الحق بينهما نصفين فقلنا: إنه هو خلدها بفنه وإنها هي خلدته بوحيها، فكان ~~جزاؤهما من معدن واحد وعملة واحدة، فلولا صور رومني لفني الروح من جمال «أما» ~~وبقي الشبح الذي تحفظه الصور الشمسية، أو ما يشاكلها من نقش أناس لم ينظروا إلى ~~طلعتها باللحظ المسحور، والقلب المأخوذ، ولولا «أما» لما توفر صاحبها على رسم ~~الملامح والوجوه، وهو الذي كان يزدري هذه الصنعة ولا يصبر على مزاولتها إلا ~~ليعش ويدخر الثروة، ثم يتفرغ لهواه من الفن وهو تصوير البطولة وإحياء الشخوص ~~الخيالية من قصائد الشعراء ونوادر التاريخ. # فقد كان رومني - كما كان كثير من العبقريين - يجهل أحسن ملكاته، بل يجهل أحسن ~~مبدعاته، وطالما تردد بين الموسيقى والتصوير في مبدأ نشأته، فلم يثبت على نية ~~التصوير بعد طول التردد إلا منقادا لقضاء الظروف غير عامد ولا متخير، ثم كان ~~يرسم الصور الشخصية لطلابها ليعيش بأجرها وهو كاره لهذا العمل معول على تركه ~~حين يغنيه الثراء عن أجره، ولم يدر أنه سيعيش بهذه الصور في عالم الذكرى كما ~~عاش بها في عالم الخبز والماء! وكثيرا ما كانوا يسألونه عن أحسن صوره وأعزها ~~عليه، فكان يذكر لهم نقوشا لا تخطر على بال ناقد ولا يذكره الآن ذاكر، وليس ~~رومني ببدع في هذا الجهل، فإن الإنشاء الفني أبوة نفسية ولا يندر أن نرى الأب ~~يحب من أبنائه من هو أقلهم جدارة بالحب، وأشدهم عقوقا للوالدين، فقد يعز الرجل ~~من أبنائه من أنصبه وأحزنه وكلفه المشقة والخسارة، وقد يحسب هذه الكلفة من ~~قيمته ويحرص عليه بقدر ما تكلف في حبه، ويصنع الفنان مثل ذلك فيحب الأثر الذي ~~أجهده وأضناه ولا يذكر الأثر الذي جاءه ms204 عفوا بغير مجهدة، وأكثر ما يكون إحسان ~~العبقريين فيما سهل مورده وقل عناؤه، وتأتى لهم بغير كلفة، فهو لهذا رخيص في ~~حسابهم وهم لهذا أبعد الناس عن إنصاف ما يبدعون وتصحيح الرأي فيما يؤثرون وما ~~يهملون. # جورج رومني. # والناس يتغالون اليوم في اقتناء آثار رومني، ويشترونها حيثما عثروا بها، ~~وبالثمن الذي يقدره لها مالكوها، فلا تكمل مجموعة أو متحفة بغير صورة أو اثنتين ~~من مخلفاته الكثيرة، ولا يستكبرون ثمنا - مهما كبر - على النادر النفيس منها، ~~وقد بيعت إحداهن في السنة الماضية بسبعين ألف جنيه، ولا تبرح الصحف تروي لنا ~~أسعار قطع له تباع بالألوف في بلاده وغير بلاده، أما القطعة التي بلغت السبعين ~~ألفا فهي صورة السيدة دافنبورت التي رسمها المصور بواحد وعشرين جنيها، ولعله ~~لم يكن في ذلك التقدير بالرجل القنوع. # إن القارئ لا يسعه إلا أن يخطر الغبن على باله كلما سمع بالحظ الذي فات رومني ~~من أثمان صوره بعد مماته، فأين العشرات من الألوف؟ وأين أرباح المالكين من ~~أرباح الذي لولاه لما كانت الصور ولا تغالى بأثمانها المالكون؟ على أن رومني لم ~~يكن مغبونا في حياته ولم يسمع عن مصور في عصره نال من إقبال الجد، وبعد الصوت، ~~وحسن التقدير فوق ما ناله، ويؤخذ من مذكراته أنه رسم تسعة آلاف من علية القوم ~~وأوساطهم في أقل من عشرين سنة، وأن دخله كان يبلغ أربعة آلاف جنيه في العام، ~~وأجرة الصورة كانت تتراوح بين الثمانين والمائة وهي قيمة قلما يزداد عليها في ~~عصره، وقد حسده منافسوه وقدحوا في فنه واشتدت غيرة السير جوشيا رينولد منه فكان ~~لا يطيق اسمه ولا يسميه إذا ذكروه إلا «بالرجل الذي في شارع كافندش»، والعجيب ~~هنا أن ينسى السير جوشيا أدب اللياقة في حق زميله الحيي الوديع وهو الرجل ~~الحليم المصقول الذي لا تبدر منه بادرة ولا تجمح به نزوة، وأعجب منه أن يعرف له ~~رومني حقه، ويكبر قدره، وينكر على الذين يفضلونه عليه، وهو الرجل المعتزل ~~النابي بنفسه الذي لا يغشى مجالس ms205 اللياقة ولا يفقه «قوانين» المجاملة، وما كان ~~ذلك عن دهاء منه ولا عن رياء، فإن رومني لا يعرف الدهاء ولا الرياء، ولا يداري ~~شيئا بين صدره ولسانه، ولكنها طبيعة فيه جنبته هموم المنافسة، ونأت به عن ~~عراكها، فبلغ الشهرة التي بلغها بغير سعي ولا حيلة، وكره لصوره أن يعرضها في ~~«الأكاديمي الملكية» ترفعا لا ندري أو تنائيا عن زحام المنافسين وخصومة ~~القادحين، فلم يخسر بهذه العزلة شيئا ولم يزد إلا اشتهارا وشيوعا على قلة ~~الكاتبين عنه والمشيدين بذكره، وكان فيما قاله خصومه عنه: إنه كان يستجلب ~~الحسان إليه بتمويه صورهن وإيداعها المحاسن الكاذبة التي يتخيلنها لأنفسهن! ~~وليس هذا بصحيح إلا بمعنى واحد لا مطعن فيه على مصور قدير، فقد كان الرجل يلمح ~~الشبه بين حسانه وبين من يقاربهن من حور الأساطير وربات الأقدمين، فيعكس عليهن ~~ذلك الشبه ويجلوهن في فتنة «أسطورية» تكسوهن سحرا وخيالا على حقيقة، ولكنه ~~كان يقصر هذا المزيج الأسطوري على من يحبها ويستوحي ملامحها، ويصورها ظاهرا ~~وفي باطن نفسه أن يصور «شخوص» البطولة التي يحن إليها، وينتهز كل فرصة لتمثيلها ~~والانقطاع لها ، فهو في هذه الحالة كالذي يتعمد تمثيل ربة شعرية فيتخذ لها ~~نموذجا من أحب النساء إليه، وأحظاهن في عينه، وليس في ذلك تمويه ولا مبالغة، ~~وإنما هو التمثيل الذي تجتمع فيه أحلام المصور، ومناظر العيان، وأخيلة القدم في ~~نظرة واحدة. ~~••• # ولد جورج رومني في شمال لانكشير سنة 1734 وتعلم التصوير على فنان قرية كندال، ~~ثم أصيب فيها بالحمة فسهرت عليه فتاة طيبة على شيء من الملاحة ولزمته في مرضه ~~حتى أبل فشكر لها صنيعها، وتزوج بها ولكنه فارقها حين ضاقت به القرية ليلتمس ~~مستقبله في لندن، وقسم ثروته التي كان يملكها في ذلك الوقت بينه وبينها، ~~فأعطاها خمسين جنيها وأخذ الخمسين الأخرى معه يستعد بها لما هو قادم عليه. ~~ونزل لندن سنة 1762 فلم يطل مقامه بها حتى اشتهر وتدفق عليه طلاب الصور، وأمن ~~على مستقبله فتاقت نفسه إلى زيارة إيطاليا لاستتمام علمه ودرس البقايا الفنية ~~في ms206 معاهدها، فقضى في روما سنتين، وقفل إلى لندن وقد تزود علما وخبرة ولم يفته ~~أن يأخذ من فن فرنسا خير ما تعطيه يومئذ، وهي منجبة «جروز»، ومخرجة المدرسة ~~التي تجمعت مزاياها العالية في ذلك المصور النابه، فسرت إلى «رومني» نزعة جروز ~~إلى تحضير طائفة من العواطف المحببة من ملامح معهودة يعجب بها ويتعلق بأصحابها. ~~ثم جاءته «أما» في سنة 1782 حين كان في الثامنة والأربعين فهام بها، ورأى نور ~~الحياة من عينيها ولبث زهاء عشر سنين يتلقاها في مصنعه أكثر الأيام، وتجلس له ~~جلساتها الأسطورية التي لا عداد لها، وما كانت إلا بضع جلسات حتى تفاهم ~~المنفيان من وطن السواد، وانعقدت بينهما الصداقة الحميمة، فكانت ترفو له ثيابه، ~~وتطهو له طعامه، وتبثه ما في نفسها ويبثها ما في نفسه، وباتت هي إلهة وحيه وبات ~~هو كهف عزائها الوحيد بين حبيب فاتر القلب، ودنيا لا تسمع الأعذار، ولما جاءت ~~تنبئه بسفرها إلى نابولي دارت به الأرض، وأظلمت فوقه السماء، وظل بعدها عازب ~~الفكر مشلول المواهب، لا تغنيه عنها الحسان اللواتي يجلس إليه «لأنها شمس سمائه ~~وهن النجوم الوامضات» ولا يستريح إلى عمل يوليه بعض السلوان. # أما زوجه التي فارقها في كندال على موعد اللقاء في لندن عندما يدير عليه الرزق ~~وتغدق عليه الثروة، فقد بقيت حيث هي حتى عاد إليها لقي محطوم الجسم والعقل في ~~الخامسة والستين، يتعثر إلى القبر ويمل أنفاس الحياة، فغفرت له هجرانه، ~~وخيانته، وتكنفته بحنوها ومؤاساتها حتى قضى نحبه بين ألم الداء، وتبكيت الضمير. ~~وكان قد زارها مرتين أو ثلاثا في تلك الفترة الطويلة، ورتب لها معاشا يكفيها، ~~ولكنه لم يستقدمها إلى لندن، ولم يعلم أحد ما سر ذلك إلا ما يقوله الشفعاء له، ~~وليس هو بالعذر الوجيه، وإن كان عذرا يرضاه الذين يعرفون طبع الرجل البريء من ~~الشر واللؤم، ويحسبون زوجه عقبة في طريق فنه، واتصاله بطلابه وطالباته، وهم غير ~~كثيرين، قال فتزجيرالد صاحب الذخيرة الذهبية المشهورة: «لقد عاد إليها وهو شيخ ~~طليح أسقام، يوشك أن يجن ms207 وليس له من ولي ولا رفيق، فقبلته وواسته إلى يوم ~~وفاته. إن هذه المأثرة الصامتة لخير من صور رومني كلها، ولو نظر إليها من وجهة ~~الفن دون الأخلاق، وإني من ذلك لعلى أتم يقين» وقال تنيسون في قصيدته ندم رومني ~~«لقد أيم زوجه في حياته، وباع الرحمة بنقشة على القرطاس.» # وقال في تلك القصيدة بلسانه: «أحبك فوق حبي إياك يوم الزفاف، وأرجو - ولعلني ~~أتوهم - أن غفران الإنسان يمس السماء، فتغفر لي لأنك أنت غافرة ذنبي، وترسل من ~~رحمتها شعاع ضياء إلى الراحمة الرءوم.» ~~••• # أما فن رومني فجملة ما يقال فيه: إنه كان أقدر مصور في زمانه على اختطاف اللمحة ~~البارقة على الوجوه، وتقييدها بالريشة والطلاء، أو أنه كان قديرا على إخفاء ~~قدرته العظيمة وراء الملاحة المحببة التي يسبغها على وجوهه وشخوصه، ولكن تلوينه ~~لا يجاري تلك القدرة في البراعة والإتقان، ولا ينم على الذوق اللطيف الذي تنم ~~عليه دقته في أداء الملامح، وتسجيل خفقات الشعور على صفحات الوجوه. # | ساعات بين الصور1 # لا يزال الإنسان حاسة أقوى من فكرة، وجسدا أوكد من روح، ينبئنا بهذا كل طور من ~~أطواره ورغبة من رغباته، وينبئنا به أنه لا يني يدير الفكرة في رأسه ونفسه، ثم ~~هو لا يستريح حتى يسمعها صوتا أو يبصرها رسما، أو يجسمها في مثال نفس الحواس ~~بشكل من الأشكال، وهو إذا امتلأت نفسه بالعقيدة لم يغنه الامتلاء عن تصويرها ~~لعينه وسمعه ولم يكن هذا الشبع النفساني بعقيدته صادفا له عن تلمسها في عالم ~~«الأجسام»، بل كان على نقيض ذلك باعثا على التجسيد ومضاعفا لحاجته إلى السماع ~~والعيان، ومن ثم قامت النصب والأوثان، وراحت الرموز المصورة طلبة الفنون؛ لأنها ~~أوكد للحقائق وأدعى إلى التأمل في معانيها والتوسم لملابساتها، فإذا سنحت لك ~~الفكرة ورأيت صورة تمثلها فكأنما أصبت لها قيدا يربطها بالذهن فلا تخشى عليه ~~الشرود والإفلات، ولم يخطئ المجازيون حين سموا الكتابة تقييدا وتسجيلا، فإنها ~~لقيد صحيح منذ كانت تنقل المعاني من فضاء التجريد المطلق إلى حظيرة تمس وتنظر ~~وتسمع ms208 بالآذان، ولكننا نظلم الإنسانية إذا حسبناها أسيرة الحس وحده واتخذنا من ~~ميلها إلى الرمز والتجسيد دليلا على ضعف سلطان المعاني، حين تنقش الرسوم وتنصب ~~التماثيل وتصوغ الأناشيد والصلوات، فلولا اشتياقها إلى تثبيت المعنى وتوكيده ~~لما أولعت بأن تخلق له جسدا يستقر فيه ويعيده إلى النفس «معنى» أكمل وضوحا، ~~وأجمل منظرا، وأدوم في الذاكرة والشعور. ~~••• # أنظر الآن إلى معنى رمزي جميل خلقته الخرافة اليونانية، ورسمه المصور الإنجليزي ~~هربرت دريبر، وأخذته المتحفة الوطنية للفنون البريطانية فحفظته بين المقتنيات ~~الكثيرة التي تباهي بها المتحفات الأوربية. هذا الرسم هو «مناحة إيكاروس» الفتى ~~الأسطوري الذي طار على جناحيه، واستهوته السماء فهبط إلى غمار الماء في مكان ~~منسوب إليه، يعرفه الجغرافيون باسم البحر الإيكاري من أمواه الإغريق، فهي كما ~~ترى أسطورة لها مكانها من علم الجغرافية ومن هذه البحار الدنيوية التي تمخرها ~~السفن، ويغرق فيها من تستهويه الأقدار إلى مسارب القيعان! وصاحبها كما سترى ~~موجود بيننا إلى اليوم يحمل جناحيه، أو تحمله جناحاه ويعلو إلى أوجه المقدور ثم ~~يهبط إلى لجة تنطبق عليه، وتذكر باسمه وإن لم يسمع بها الجغرافيون! # مناحة إيكاروس . # كان إيكاروس مع أبيه «ديدالوس» في جزيرة إقريطش يتعلم عليه الصناعة والحكمة، ~~وكل ما يعرفه الإنسان، فقد كان ديدالوس هذا لقمانا يونانيا لا تفوته صناعة، ~~ولا تخفى عليه خافية، وكان عند ملك الجزيرة «مينوس» فأمره أن يبتني له تيها لا ~~يهتدي الداخل فيه إلى مخرج منه، فصنع الحكيم التيه وأنجز مشيئة الملك حتى لقد ~~ضل هو وابنه فيه حين ألقى بهما الملك في غيابته، ثم نجوا بتدبير الملكة، ولم ~~يشأ مينوس أن يبرحا الجزيرة فوضع يديه على السفن كلها وتركهما بين الماء ~~والسماء يستهدفان للموت إن هربا، ويستهدفان له إن آثرا البقاء، ولكن ديدالوس ~~حول مزيال لا يعيا بحيلة ولا يقف عند عقبة، فإن كان «مينوس» قد حكم على ~~الماء فهو لا يحكم على السماء، وإن كان قد أوصد عليه منافذ الجزيرة فهو لا يوصد ~~عليه منافذ الفضاء، ومينوس يستطيع أن يسجن ولكن ديدالوس ms209 يستطيع أن يطير، فهو ~~يستخبر سر الطير وينسج جناحين من الريش يركبهما فتعلوان به وتغنيانه عن المطية ~~والشراع، ولكنه يقدم ابنه على نفسه ويرسله قبله ريثما يصنع له جناحين آخرين ~~فيلحق به بعد قليل، ويخشى أن يزهى الولد بنشوة الطيران فيوصيه أن يتوسط ويتئد ~~لئلا يهجم على الشمس فيلهبه شعاعها، ويذيب لحام الريش فلا يمسكه في المطار، أو ~~يسف إلى الماء فيناله رشاشه ويثقل على جناحيه إلى القرار، ولكن من لهذا الفتى ~~بالتوسط والاتئاد؟ إن جناحيه ليحملانه وإن السماء لمفتوحة أمامه، وإن للتحليق ~~لسكرة تطيش معها العقول ويخاف على صاحبها ما لا يخاف عليه من سراديب التيه! ~~فإلى السماء، إلى الشمس بلا توقف ولا احتراس فأما رشاش الماء فلا خطر عليه منه؛ ~~لأن طماح تلك السكرة يأبى عليه النزول والإسفاف؛ وأما السماء فلا شيء يذوده ~~عنها، ولا شبح الموت بحائل بينه وبينها، وفي أي شيء تهون الحياة على الشباب إن ~~لم تهن عليه في سبيل السماء! فما هو إلا أن استقل ريشه وضرب بيمينه وشماله ~~حتى نسي وصية أبيه، ومضى في الجو صعدا كأنما يبتغي الشمس ، ولا يبتغي المآب إلى ~~أرض يونان، غير أن الشمس لا تدرك والشعاع لا ينسى وصيته الأبدية إذا نسي ~~الشباب وصية الآباء؛ فقد ذاب اللحام، وفكك أوصال الجناحين، فهبط الفتى على صخرة ~~في اليم جسما بلا روح، وأطلت بنات الماء من مساربهن يبكين عليه ويندبن ذلك ~~الطماح المنكوس والشاب المضيع، فهن باكيات عليه في ذلك المكان إلى ~~اليوم. # الحب والحياة. # لا نعلم ماذا أراد وضاع الأساطير بهذه الخرافة الكاذبة الصادقة، ولا إلى أي شيء ~~رمزوا بهذا التاريخ الطويل العريض الذي لا يذكر التاريخ أساسه من الحقيقة، ولكن ~~ألا ترى أن قصة إيكاروس هي قصة كل شاب طموح في غمرة من غمرات الحياة؟ أليس كل ~~من يعالج أزمات السريرة يضل في تيه يبتنيه بيديه، ثم يلقي نفسه بين الماء ~~والسماء. الخطر من أمامه والخطر من خلفه وهو حائر بين المأزقين يقتحم سبيل ~~الخلاص، وإنما ينشد الرفعة ms210 حين يخيل إليه أنه يطلب الخلاص؛ ثم ألا ينسى السلامة ~~التي خيل إليه أنه طالبها حين يستقل الجناح، ويستغويه لألاء الشمس وتستخفه ~~نشوة الصعود؟ ثم ألا يرتقي به المطار آخر الأمر إلى الأوج الذي تتخاذل فيه ~~الأجنحة، وتنحل العزائم، ويرتد الإمعان في العلو إمعانا في التدهور والهبوط، ~~ثم ألا تحتويه اللجة غريقا في جانب من جوانب نفسه فلا يبقى بعده إلا اسم على ~~صفحات الماء ودمعة كريمة في جفن جميل؟ أليس إيكاروس على هذا المعنى حيا ~~خالدا في إهاب كل إيكاروس لا تفتأ لجته مواراة في «جغرافية» كل إنسان؟ إن هذه ~~الأسطورة لتقرب بين عالم الخرافة وعالم الحياة، فترينا أن الخرافة ليست بأعجب ~~من الحياة، وأن دنيا الحياة ليست بأضيق من دنيا الخرافة، وهذه إحدى فوائد ~~الرموز إذا حسن التعبير بها عن الوقائع والمألوفات. ~~••• # وأنظر الآن إلى صورة رمزية أخرى لجورج واطس أشهر الرامزين من مصوري الإنجليز، ~~هذه الصورة هي صورة الحب والحياة على قمة شاهقة تحف بها المزالق والظلمات، ~~الحياة هزيلة عجفاء لا طاقة لها بالصعود إلى تلك القمة، لو لم يأخذ بيدها الحب ~~المجنح المسكين، فهي تنظر إليه في ثقة كثقة الأطفال وضراعة كضراعة الاستسلام، ~~وهو يحنو عليها ويظلها بجناحه ويخطو بها على الصخور القاسية فينبت الزهر حين ~~يخطوان، فإذا نظرت إلى هذه الصورة فلديك رسم محسوس لكل معنى يدور بين الحب ~~والحياة، فضعف الحياة ممثل في الفتاة النحيلة التي تكاد تهتز من الوجل والوهن، ~~لولا المعونة من تلك اليد الآخذة بيمينها والجناح الحادب عليها، وقوة الحب ~~ممثلة لك في ذلك الفتى الأمون الصليب الذي يعرف طريقه، وإن لم ينظر أمامه ولم ~~يتلفت حوله، والذي يأمن السقوط لأنه يطير بالحياة إذا زلت به قدماه، ومصاعب ~~العيش ممثلة لك في الصخر الأصم يدمي الأقدام، ويطبق حوله الظلام، ومناعم الحياة ~~ممثلة لك في الزهر ينبت في الحجر الصلد والأحلام تسمو إلى ذلك العلو المخيف، ~~فكل ما يقوله القائلون في الحب والحياة ملخص أمامك في صفحة تستوعبها اللمحة، ~~وتتزيا فيها الفلسفة ms211 بزي المشاهد الملموسة، وقد يكون هذا الرمز انتصارا للحس ~~على الفلسفة، ولكنه على التحقيق انتصار له في سبيل الفكرة العظيمة لا في سبيل ~~اللمحة العاجلة والتجسيد الكثيف. ~~••• # وإذا ذكر واطس وذكرت الصور الرمزية، فصورة الأمل الخالدة المعروفة لا تنسى في ~~هذا المقام، فقد لخص فيها المصور فلسفة الأمل، كما لخص هناك فلسفة الحب ~~والحياة، فالسماء قاتمة ليس فيها إلا كوكب واجف ينشره الظلام ويطويه، والقيثارة ~~مقطعة الأوتار إلا وترا واحدا يهمس بلحنه لمن يستمع إليه، والعين معصوبة، ~~تزيد الليل ظلاما على ظلام، والعازف يكب على القيثار عسى أن يسمع ذلك الصوت ~~الخافت الذي يجريه هو على الوتر الأعزل الفريد، والأرض تدلج في غياهب المجهول ~~إلى حيث يحدوها الرجاء؛ وهذه صورة الأمل الذي يبقى لنا حين يذهب كل شيء منا، ~~فهو الأمل في الصميم، أو هو غاية ما تنتهي إليه الآمال. # على أنني أقابل بين الرمزين رمز الحب والحياة، ورمز الأمل فيعن لي أن أسأل: ألم ~~يكن الأحرى بالصورة الأولى أن تسمى الأمل والحياة؟ لأن الأمل هو قائد الحياة ~~وهو يرتفع إلى فوق شأوها، ويسندها إذا حاق بها الخور، وشارفت مزالق القنوط؟ فإن ~~كان في الحياة شيء هو أكبر منها فذاك هو الأمل؛ لأنه هو الذي يكبرها ويعلو بها ~~أوجا بعد أوج، ويفرق بين الحقير والعظيم من أنواع الحياة، فأحرى بالقائد في ~~صورة واطس أن يكون هو الأمل لا الحب الذي لا يعيش بغير أمل، أليس كذلك؟ ثم أعود ~~فأقول: إن الحب من الرجاء لقريب، وإنهما في أكثر النفوس لكلمتان لمعنى واحد، ~~فلا رجاء بغير حب ولا حب بغير رجاء. # | آراء لسعد في الأدب1 # في هذا الأسبوع - أسبوع سعد - لا حديث إلا عنه، ولا بحث إلا في سيرته وأعماله، ~~وعبرة حياته ومماته، وليست مقالة هي ألصق بموضوع هذه المقالات من كلام نخصه ~~بسعد وبطائفة من آرائه وأقواله، فإن العظماء أيا كانت مناحي عظمتهم، ومواطن ~~تفكيرهم هم موضوع قديم للأدب والتاريخ، ومادة لا تنفد للنقد والدراسة، وإن ~~سعدا كان الكاتب البليغ والخطيب ms212 المبين كما كان السائس الخبير، والزعيم ~~الكبير، فالأدب بعض جوانبه وإحدى مشاركاته، وله فيه آراء صائبة ونظرات نافذة ~~قلما يهتدي إليها أدباؤنا المتفرغون للكتابة أو المتخذون منها صناعة ورياضة، ~~وربما جهل بعض الذين بهرتهم جوانب سعد السياسية أن له يدا في إصلاح الكتابة من ~~أسبق الأيادي بالتجديد في الآداب العربية، فقد كان هو وصديقه الشيخ محمد عبده ~~يقومان على تحرير «الوقائع المصرية» وتصحيحها قبل سبع وأربعين سنة، وكانت هذه ~~الصحيفة يومئذ مفتوحة لأقلام الأدباء والمنشئين غير مقصورة على القوانين ~~والأنباء الحكومية كما هي اليوم، فعملا فيها على تحرير العبارات، وتقويم ~~الأساليب وإدخال القصد والدقة في المعاني والألفاظ، فأفادا في هذا الباب أحسن ~~ما يفيد كاتبان في ذلك الزمان، وبدءا عهد للكتابة العربية لم يسبقهما إليه سابق ~~في هذه الديار. يعرف لهما هذا الفضل من اطلع على مقالات سعد الأولى التي أعاد ~~البلاغ نشرها من سنتين مضتا، فإن الأسلوب الذي كتبت به تلك المقالات يقارب ~~أسلوب العصر في العلم والأدب، ويخلو من عيوب ذلك العصر الذي كان التكلف ~~والتلفيق ديدن كتابه ومنشئيه، فكأن سعدا سبق الكتابة العصرية بجيل كامل، وكان ~~طليعة التجديد من خمسين سنة، وليس هذا السبق على الآداب العربية بقليل. # ونحن لم نرد بهذا المقال أن نفصل الكلام في مكان سعد من البيان والأدب، فإن ~~لهذا البحث مادة لم نستجمعها وسيجيئ أوانها وأوان الكتابة من كل ناحية من نواحي ~~هذا الفقيد العظيم. إنما أردنا أن نروي عن الفقيد آراء مسموعة في البيان وما ~~إليه، تشف عما أوتيه رحمه الله من حصافة الذهن، وقرب المتجه، إلى الحقيقة بغير ~~تعسف ولا إجهاد، فما كان يدور كلامه على الأدب مرة إلا سمعنا منه قولا أصيلا، ~~ونقدا مسددا، يحصر فيه غرضه أوجز حصر وأوفاه، وكان من عادته رحمه الله أن ~~يخاطب كل فريق فيما يألفون وما يعرفون، فربما جلس إليه الفلاحون السذج فيحادثهم ~~عن الزرع والقلع وصناعة الألبان، وغلات الحبوب كأنه واحد من صغار الأكارين، ~~طلاب القوت من هذه الصناعة، ويلوح عليه الاغتباط ms213 بعلم هذه الأشياء كأنه مطالب ~~بعلمها وعملها مأجور على حذقها وإتقانها، وربما جلس إليه التجار فيسألهم عن ~~الرواج والكساد والغلاء والرخاء، ويأخذ من خبرتهم ويعطيهم من نفيس الرأي ما هو ~~عازب عنهم، وعلى هذه السنة كان يخالطنا في الأدب، وما إليه كلما اجتمع لديه فئة ~~من أهل الأدب أو الصحافة، ويبدي في توجيه كل بحث يتولاه تلك المهارة التي ~~تسايرت بها الأمثال في مجلس النواب. ~~••• # كان يوم عيد، وكان في مجلسه رهط من الأدباء والمعنيين بالأدب، أذكر منهم جعفر ~~ولي باشا وزير الحربية، وهو كثير الاطلاع على منظوم العرب ومنثورها، والشيخ ~~المنفلوطي وأساتذة لا أعرفهم، وجرى الحديث في أساليب بعض الكتاب فقال رحمه ~~الله: إنني أتناول أسلوب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس ~~بها في الصياغة، ولكني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها فلا أخرج منها على نتيجة، ~~ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها! فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون ب ~~«المفرق» ولا يبيعون بالجملة! # قال الشيخ المنفلوطي: يغلب يا باشا أن يشيع هذا الأسلوب بين الصحفيين الذين ~~يكلفون ملأ الفراغ، ولا تتيسر لهم المادة في كل موضوع. # فابتسم الباشا وقال للشيخ: إنك يا أستاذ تتكلم عن الصحفيين وهنا واحد منهم. ثم ~~التفت إلي وقال: ما رأيك يا فلان؟ قلت: هو ما يقول الشيخ المنفلوطي، مع استدراك ~~طفيف قال: ما هو؟ قلت: إن هذا الأسلوب هو أسلوب كل من يتصدى لملأ فراغ لا ~~يستطيع ملأه، سواء كتب في الصحافة أو في غير الصحافة، وعاد الشيخ المنفلوطي ~~فقال: إن فلانا - يعنيني - لا يحسب من الصحفيين؛ لأنه من الأدباء. قال الباشا: ~~أوكذلك؟ ثم تفضل بوصف موجز لأسلوب كاتب هذه السطور ليس من حقنا نحن أن ~~نرويه. # واستطرد الكلام إلى الإيجاز والإطناب، فقال الباشا: إن الإيجاز متعب لأنه متب ~~يحتاج إلى تفكير وتعيين، ولكن الإطناب مريح؛ لأن القلم يسترسل فيه غير مقيد ولا ~~ممنوع، وقص علينا قصة رجل كتب إلى صديق له رسالة مسهبة، ثم ختمها بقوله: ~~«اعذرني من ms214 التطويل فليس لدي وقت للإيجاز» وعقب عليها بقوله: إن هذا الاعتذار ~~قد يبدو عجيبا لمن لم يمارس الكتابة، أما الذين مارسوها فهم يعلمون صعوبة ~~الإيجاز وسهولة التطويل. # وجاء ذكر المحسنات والشغف بها فقال رحمه الله: إن المحسنات حلية، والشأن فيها ~~كالشأن في كل حلية. ينبغي أن تكون في الكتابة بمقدار، وإلا صرفت الفكر عنها وعن ~~الكتابة، وعندي أن المقال الذي كله محسنات، كالحلة التي كلها قصب لا تصلح للبس ~~ولا للزينة. ~~••• # وكنا عنده يوما وفي المجلس صروف، وحافظ، ومكرم، فجاء ذكر كتاب حديث فقال ~~الباشا: إن عيب صاحبه كثرة الاستعارة، ثم قال ما أظن صاحبه يريد ما يقول؛ لأن ~~الذهن الذي يملك معناه يملك عبارته بغير حاجة كثيرة إلى المجاز؟ # قلت: يا باشا، إن الاستعارة ما برحت دليل الفاقة في المال واللغة. # قال: هذا معنى حسن، ولذلك أنت لا تستعير! ومضى يقول: إنني أفهم الاستعارة ~~للتوضيح والتمكين، ولكني لا أفهم أن تكون هي قوام الكلام كله، وكل استعارة ~~عرفت، وكثر استعمالها أصبحت كلاما واضحا، وذهبت مذهب الأفكار المحدودة؛ لأن ~~الذهن يطلب الاستعارة ليستعين بها على التحديد، فإذا وصل إلى التحديد كان في ~~غنى عن الاستعارة وعن المجاز؟ ~~••• # وسألني مرة: هل تخطب يا فلان؟ # قلت: قد تعودت إلقاء الدروس في التاريخ، وأدب اللغة، وفي الإلقاء شيء من ~~الخطابة. قال: نعم، ولكن الخطابة تبادل وإلقاء الدروس يأتي من ناحية المعلم، ~~ولا يشاركه فيه تلاميذه، إلا أن تكون مشاركتهم بسرعة الفهم وحسن ~~الإصغاء. # وهنا ذكرت أن الرئيس كان أكثر ما يتدفق في خطبه، عندما يتعدى التبادل بينه وبين ~~سامعيه حد الشعور إلى المجاذبة بالكلام، فإذا سئل ونوقش قليلا تفتح في القول، ~~وأخذ من طوالع الملتفين به ما يوحي إليه فنون المقال المناسب لذلك المقام، وكان ~~أسرع ما يكون إلى الإفاضة إذا تكلم أمامه المتكلمون، وأحسنوا التعبير والإلقاء، ~~فإذا أجابهم بعد ذلك جمع أغراضهم كلها، وتأهب للكلام كما يتأهب الفرس الكريم ~~للإيفاض في مجال السباق. # وقال لي وقد دخلت عليه يوما على أثر أيام ms215 توالت فيها خطبه وجهوده: أسمعنا مما ~~عندك؟ قلت: إنما جئت أسمع من الرئيس. # قال: ولكن الرئيس يريد أن يكون اليوم سامعا! ثم ضحك وقال: لا المغني يحق له أن ~~يطلب الطرب، ولا الخطيب يحق له أن يطلب الكلام، أليس كذلك؟ وأخذ يتحدث عن ~~الكاتب والخطيب ومزاج كل منهما فقال: إن الكاتب تناسبه العزلة، ويخاطب قراءه من ~~وراء حجاب، فلا يراهم ولا يرونه، أما الخطيب فالاجتماع ميدانه ولرؤيته السامعين ~~أثر في نفسه يستجيشه ويهيب بملكته. # ثم قال: إن الكتابة أصبحت تتعبني أكثر من الكلام. قلت: يا باشا إن بياناتك خطب ~~مكتوبة، قال: نعم. إذا أمليتها كانت كالخطب، وإذا كتبتها استحضرت موقف ~~الخطابة. # على أن الأمر الجدير بالملاحظة في خطب الرئيس وبياناته، أنك تقرأ خطبه فتجد ~~فيها دقة علمية لا تجدها في أقوال الخطباء، وتقرأ بياناته فتجد فيها رنة بيانية ~~لا يعنى بها في خطبه، وتعليل ذلك عندي أن محضره المهيب الجذاب يغنيه في موقف ~~الخطابة عن الرنة الحماسية، فيحرص على التدقيق وأنه يحب أن يودع بياناته روح ~~الخطابة على البعد، فيكون الخطيب فيه أيقظ من الكاتب والمتحدث، فهو يعنى بالدقة ~~حين يخطب ويعنى بالنغمة حين يكتب، أو هو خطيب في كتابته، وكاتب في خطبه، يعطي ~~كليهما في وقته ما هو أحوج إليه من تمحيص أو تنغيم. ~~••• # ولم يكن رحمه الله يتكلم كثيرا عن الشعر والشعراء. همس لي مرة كأنه يمزح: ~~«كلام في سرك. أنا ليس لي الشعر» وقال مرة أخرى: «إنما أحب الشعر السهل الواضح ~~المبين، أما الشعر الذي يحوجني إلى التنجيم فلا أستطيبه» وكان يرى أن شعر ~~الحكمة أفضل الشعر وأعلاه، ويقرأ المتنبي ويحفظ له أبياتا كثيرة، ويستشهد بها ~~في بعض الأحاديث، ولما لقيته آخر مرة عرض بعض ما يخشاه وكأنه لم يكن راضيا عن ~~أناس يعملون باسمه ما لا يروقه فقال: «لو بغير الماء حلقي شرق» وكررها ~~مرتين. # ولما كتبت الفصلين اللذين نشرا في المراجعات عن المنفلوطي، وفرقت بين الكاتب ~~والمنشئ، ورفعت منزلة الكتاب على منزلة المنشئين، ناقشني دولته ms216 في هذا التفريق ~~وهذه التسمية، فقال: إن الإنشاء فيما يبدو له هو أغلى من الكتابة؛ لأنه خلق ~~وإبداع ولا يشترط في الكتابة أن تكون كذلك، فالمنشئ كاتب وزيادة، والكاتب قد ~~يأتي بشيء من عنده وقد يأتي ببضاعة غيره، قلت: إنما عنيت يا دولة الرئيس ~~الاصطلاح، ولم أعن الأصل في وضع اللغة، والإنشاء عندنا هو تمرين التلاميذ على ~~صف الكلام، وتنميق الألفاظ، فهو بهذا المعنى دون الكتابة في مراتب الأدب، والذي ~~ينشئ يحفل بلفظه وتنضيده، أما الذي يكتب فلديه معناه يفرغه في القالب الذي ~~يؤديه، فأجاب دولته: ما أحوج الاصطلاح إذن إلى تغيير أو تفسير. ~~••• # هذه وغيرها مما لا يحضرني الآن ملاحظات مسموعة من سعد، لو أضيفت إلى ما كتب أو ~~ما تكلم به في هذا المعنى لاجتمع منها مذهب في الأدب، يضاف إلى مذهبه في ~~السياسة ومشاركاته في الثقافة العامة، وهي مشاركات لا يكمل درس هذه الشخصية ~~النادرة بغير الإحاطة بها من جميع النواحي. # | النثر والشعر1 # كتب الأستاذان هيكل وطه حسين في النثر والشعر العربيين، فاتفقا على أن الكتابة ~~النثرية في هذا العصر متقدمة، آخذة بأسباب النضج والتوسع ، وأن الشعر متخلف مقصر ~~عن مجاراة العصر، وتلبية دواعي العلم والحضارة الحديثة، وعلل الأستاذ طه هذا ~~التخلف بكسل الأكثرين من الشعراء، وقلة إقبالهم على القراءة الصالحة، وحرصهم ~~الشديد على مرضاة الجمهور، وأراد الأستاذ هيكل أن يجيء بأسباب أخرى لهذه العلة ~~المتفق عليها فأتى بكلام لا نخلص منه إلى نتيجة محدودة، أو رأي ممهد للنقد ~~والمناقشة، وقد كتب بعض الأدباء في هذا المبحث فاتفقوا أو كادوا يتفقون على سبق ~~النثر وجمود الشعر، إلا قليلا مما استثنوه من هذه القضية العامة، وتفاوتوا في ~~إنصاف الشعراء الذين شذوا عن ربقة الجمود، تفاوتا يرجعون فيه إلى اختلاف في ~~الميول، واختلاف في الاطلاع، واختلاف في الفهم والأخلاق. # والحقيقة التي لا نقبل النزاع بين العارفين المنصفين، أن الكتابة النثرية في ~~هذا العصر تخطو خطاها الواسعة إلى مدى لم يسبق للعربية به عهد على إطلاق العهود ~~من قديم وحديث ms217، وستبلغ هذا المدى فتمشي جنبا إلى جنب مع الآداب المنثورة في ~~الأمم الغربية المتقدمة وتشترك بنصيبها في الثقافة الإنسانية التي يحمل أمانتها ~~المتمدنون، وهي قد بلغت إلى اليوم في بعض الأبواب منزلة تضارع ما عند الغربيين ~~من أمثالها، وتدخل في مضمارها برأس مرفوع وأمل وثيق، ولم تتوان في الأبواب ~~الأخرى عن شأو الغربيين إلا في انتظار العوامل الاجتماعية التي أنشأت بيننا ~~وبينهم فروقا تتناول الآداب والمعيشة والعرف، وسائر ما يختلف به الغرب من ~~الشرق ولا يقتصر على الكتابة والكتاب. # هذا بالقياس إلى الآداب الحديثة في أوربا أما إذا قسنا الكتابة العربية في ~~عهدنا هذا إلى أدوارها السالفة فهي اليوم في مكان أعلى من أن يقابل بأرفع مكان ~~بلغته في الزمن القديم، وهي سواء نظرنا إلى عدد الكتاب، أو إلى موضوعاتها ~~الكثيرة، أو إلى سعة المفردات أو إلى صحة التعبير، قد أدركت حظا من كل هذا لم ~~تدركه في زمن الجاهلية، ولا في زمن المخضرمين ولا في زمن المحدثين، ومن شاء أن ~~يتثبت من ذلك فله أن يختار خمسين سنة تبتدئ بأي عهد يختاره في تاريخ الآداب ~~العربية، ثم يحصي من فيها من الكتاب عددا وقدرا ويقابلهم بكتاب العربية في ~~نصف القرن الذي ينتهي بسنتنا هذه، ونحن زعيمون له أن يجد إلى جانب كل أديب في ~~العهد السالف خمسة من أمثاله، أو أكثر بين كتاب العهد الحديث، وأن يجد إلى جانب ~~كل صفحة ينتخبها للأولين صفحات تضارعها وترجح عليها في كتابات الآخرين، وأن يجد ~~بعد هذا وذاك فنونا من القول لم يطرقها كتاب العربية السابقون، ومناهج من ~~البلاغة لم تتفتح لإمام منهم ولا مأموم، وهذه مقابلة عملية لا تكثر فيهل ~~اللجاجة، ولا تتشعب فيها الظنون، فمن شاءها فليحاولها ونحن على اليقين الأيقن ~~أنه لا يبدأ المحاولة إلا انتهى إلى حيث نحن منتهون. # ولقد كان من دأب العرب أن يتعلقوا بالقديم ويفضلوا كل ميت على كل حي؛ لأنهم ~~قبائل بادية والقبائل من دأبها أن تعتز بالنسب، وتدل بالعصبية، وتجعل قبلتها ~~إلى الماضي ms218 الذي يجيئها منه الفخر والتراث المذخور، ثم نزلت بالأمم العربية آفة ~~الشيخوخة وهي - أي الشيخوخة - موكلة أيضا بما سبق لا تزال تحن إلى ما كان، ~~وتنفر مما يكون، وتذكر ما حولها بالتنقص والزراية، وتذكر ما غبر عليها بالعجب ~~الأسف، فاجتمع هذان السببان على إخفاء تلك الحقيقة التي نقررها وهي ارتقاء ~~اللغة بيننا وعلوها على ما بلغت إليه في جميع أدوارها البائدة، وشاعت سخافة ~~التقديس والتطويب للماضي حتى رأينا من نقاد العرب المعول عليهم من يقول عن هذا ~~الشاعر أو ذاك: لو تقدم في الجاهلية يوما واحدا لفضلته على جميع الشعراء! ~~وظهر في أيامنا من ينوح على العرب ويندب لغة العرب، ولو رفعت طباق الموت والجهل ~~عن أولئك العرب لرقصوا في أجداثهم فرحا، وحمدوا الله على أن قيض للغتهم التي ~~نشأت على موات الصحراء ميادين تحسب فيها من لغات الحضارة والحياة، ويكتب فيها ~~ما يكتب اليوم من ضروب المعرفة وفنون التعبير، فليس يليق بنا في القرن العشرين ~~وفي دور النهضة والرجاء أن نعبد الماضي وندين بالشيخوخة، ونستدبر الدنيا ~~الشاخصة إلى الأمام لننظر إلى الوراء ونتمرغ بين القبور، وإنما يليق بنا أن نؤم ~~المستقبل، وندين بالفتوة، ونفني القرون الخيالية فينا فلا نفنى نحن في غبار تلك ~~القرون. # بقي أن نعرف لماذا تقدم النثر وتخلف الشعر، أو حيل ما بين الناهض منه وبين حقه ~~من الفهم والذيوع؟ والأستاذ طه حسين يعلل ذلك بأن الكتاب يطلعون ويجدون فيما ~~يكتبون، وأن الأكثرين من الشعراء يقنعون بجهلهم، ويعطلون عقولهم لقلة من ~~يتقاضاهم الدرس والتفكير، وأنا ممن يفرضون القراءة والتفكير على الشعراء، ولا ~~يؤمنون بشاعر عظيم لا تستخرج من شعره فلسفة جامعة للحياة، فليس الشعر خيالا ~~محضا كما يزعمون، ولا هو بطلاء مزركش لا عمق له من البديهة والفهم الأصيل، ~~وإنما الشعر إحساس وبداهة وفطنة و«إن الفكر والخيال والعاطفة ضرورية كلها ~~للفلسفة، والشعر مع اختلاف في النسب وتغاير في المقادير، فلا بد للفيلسوف الحق ~~من نصيب من الفكر ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف، فلا نعلم فيلسوفا ms219 واحدا حقيقا ~~بهذا الاسم كان خلوا من السليقة الشعرية، ولا شاعرا يوصف بالعظمة كان خلوا ~~من الفكر الفلسفي، وكيف يتأتى أن تعطل وظيفة الفكر في نفس إنسان كبير القلب ~~متيقظ الخاطر مكتظ الجوانح بالإحساس كالشاعر العظيم؟ إنما المفهوم المعهود أن ~~شعراء الأمم الفحول كانوا من طلائع النهضة الفكرية، ورسل الحقائق والمذاهب في ~~كل عصر نبغوا فيه، فمكانهم في تاريخ تقدم المعارف والآراء لا يعفيه ولا يغض منه ~~مكانهم في تواريخ الآداب والفنون، ودعوتهم المقصودة أو اللدنية إلى تصحيح ~~الأذواق، وتقويم الأخلاق، لا تضيع سدى في جانب أناشيدهم الشجية ومعانيهم ~~الخيالية» وهذا ما كتبته في صدر الكلام عن فلسفة المتنبي وما أود أن يتقرر ~~بالشرح والتكرير. # ولكننا لا بد أن نسأل بعد هذا التفريق: لماذا يطلع الكتاب ولا يطلع الشعراء؟ ~~لماذا يكسل الناظم ولا يكسل الناثر؟ أو لماذا يقنع القراء بالسفساف من شعرائهم، ~~ولا يزالون يطمعون في الكمال من كتابهم؟ نظن نحن أن هذا الفارق بين النثر ~~والشعر راجع إلى عوامل كثيرة بعضها عالمي تشترك فيه جميع الأمم، وبعضها مصري ~~يخصنا نحن المصريين دون عامة الأمم الغربية والشرقية، وبعضها شخصي مقصور على ~~أشخاص الشعراء الذين يجمدون على القديم ويعجزون عن التجديد. # فأما العوامل العالمية التي تشترك فيها جميع الأمم فذلك أن الشعر تطلبه ~~العاطفة، وأكثر ما تدور العاطفة على الحب أو النخوة، وقد شغلت هذه العاطفة في ~~العصور الحديثة بشيء غير الشعر يشبهه في إثارة الإحساس، ولا يشبهه في التهذيب ~~وتغذية الوجدان، شغلت العاطفة الشعرية بالصور المتحركة، والروايات المجونية، ~~وأخبار الصحف، ومناوشات السياسة، فجارت هذه البدع كلها على جمهور الشاعر الذي ~~كان يصغي إليه وحده ليستمع منه نغمات الحب، وخفقات القلوب، وسورات النخوة ~~والحمية، وأصبحت البطولة اليوم للصوص والعمالقة الذين يظهرون على لوحات الصور ~~المتحركة، بعد أن كانت لأبطال القصائد وفرسان الأناشيد، وانتقلت المساجلات ~~الغرامية اليوم من عرائس الغزل وشهداء الأغاني إلى فلان وفلانة من رجال ~~الروايات ونسائها، وعارضي أنفسهم وأنفسهن على مسارح اللهو في كل مساء وكل بلدة، ~~وفشت مع ms220 هذه البدع روح الفردية التي قطعت أرحام المودة، وروح الاستخفاف التي ~~كشفت الإنسان فحرمته من رهبة الأسرار، وهيبة القداسة، وروح المال التي حصرت ~~علاقات الناس في الأرقام الحسابية، والمنافع القريبة، فكان من ذلك كله جنايات ~~متلاحقات على الشعر، وعلى موضوع الشعر لم يسلم منها بلد، ولم يفلت منها ~~لسان. # وأما العوالم المصرية فجميعها مما ينزل بقدر الشاعر، ولا يطمع الناس في الشيء ~~الكثير منه، حسبه أن يهذر ليعجب، أو يجتنب الجد ليكون في ميدانه؛ لأن الشاعر ~~كما عرفناه في الجيل الماضي نديم مجالس وطالب قوت يلتسمه بالمدح والهجاء، ~~والتزلف والرياء، ولم يكن لنا تراث قديم من القصائد المقدسة ورثناه عن عهد ~~الفراعنة، فكنا نقرن الشعر بذكريات ذلك المجد التليد، ونرفع الشاعر إلى مكان ~~الوحي والكهانة، وسبب ذلك كما ذكرناه ببعض التفصيل في مقالاتنا عن «الشعر في ~~مصر» أن الكهانة الفرعونية استأثرت بالوحي وتقديس البطولة؛ لأنها نشأت في ظل ~~دولة قوية عريقة فلم تترك معها متنفسا لوحي الشعر، ومناجاة البطولة الشعبية، ~~وانحصر النظم في أغراض صغيرة قلما ترتفع إلى سمائه العالية الرحيبة، فلا ~~تاريخنا القديم ولا تاريخنا الحديث يرفعان الشعر إلى المقام الذي نريده له ~~اليوم، وهو مقام الإلهام والإلهية ومقام الرسول الذي يفضي إلى الناس بأسرار ~~الحياة وعجائب الطبيعة، وإذا أنت هبطت بموضع إنسان ولم تنتظر عنده الشيء الكثير ~~فقد أعفيته من الكلفة، وأرحته من كل عناء، ناهيك بعناء الدرس والثقافة! وهذه هي ~~الآفة المصرية الخاصة التي نرجو أن ننجو منها؛ لنعلم أننا نجد ونعلو إلى مقام ~~الصلاة حين نقرأ الشعر، ونستطلع إلهامه، ولسنا نلهو أو نعبث بنديم مجلس لا شأن ~~له ولا وقار. # وأما العوامل الشخصية فيعرفها الذين يعرفون أشخاص شعرائنا الجامدين ووسائلهم ~~التي يتوسلون بها إلى خداع الجمهور القارئ، وإسكات الناقدين! فلولا الرشوة ~~والدسائس الخبيثة لما انساقت الصحافة في تيار الخداع والتستر، ولا ضربت الغفلة ~~المدبرة على أنظار سواد القراء، ولولا أن أناسا قليلين استطاعوا أن يفكوا عنهم ~~قيود الرشوة فحطموا هذا الرصد الكاذب القائم على الكهف الأجوف ms221 من ورائه لبقي ~~الناس مخدوعين فيه إلى أن يشاء الله. # هذه عوامل شتى من شئون العالم وشئون مصر وشئون الجامدين المدلسين تصطف كلها في ~~وجه كل شاعر مصري يسمو بالشعر إلى مكانه، ويبرئ الأدب عما يشينه، فهو يأتي ~~حين يفلح بالمعجزة القاهرة، ويولي حين يخفق بعذر لا يجهله من يريد أن يعرفه، ~~ولا نظن شاعرا في أمم الأرض تجرد لعمل أصعب مراسا، وأقل فائدة من عمل الشاعر ~~المصري المجدد في هذا الزمن النثري في كل شيء. # | كلمة عن الأستاذ الزهاوي1 # جاءني الخطاب الآتي من صاحب الإمضاء بتونس. قال كاتبه الأديب بعد ديباجة التعارف: # أما الآن فبقيامكم ضد الثرثارين، وتقويضكم لبناء ما كانوا يحسبونه ~~آثارا أدبية، وإماطتكم اللثام من كل من كنا نعدهم من الشعراء ~~الفحول، والكتاب المبرزين، قد أسفرت النتيجة عن تجدد حقيقي في ~~اللغة والأدب، إذ أدركوا ما ترمون إليه في انتقاداتكم فيهبوا ~~يتبارون فيه جاهدين قرائحهم، وصارفين مهجهم نحو «الحياة» نحو ~~«الجمال» نحو «المثل العليا» تلكم الكلمات الحية التي ما وجهت طرفي ~~نحو أي سطر من فصولكم ومطالعاتكم ومراجعاتكم ونحو أية صفحة مما ~~تكتبون إلا عثرت عليها ، ولصرف مهجتكم إلى هذه المطالب ونقدكم ~~الصحيح الخالص من الأغراض وسعيكم وراء الحقيقة رضي القوم أم غضبوا ~~أتيت أعرض عليكم كلمة في رفيق صباي ومربي روحي راجيا منكم التفضل ~~بإبداء رأيكم فيه، ولكم الشكر الجزيل سلفا؛ لأن كل هاتيكم الخلال ~~جعلتني كما جعلت غيري يعتبرون قولكم الفصل فيمن تكتبون له أو ~~عليه. # ذلكم الرفيق يا سيدي، هو فخر العراق كما تقولون جميل صدقي الزهاوي، ~~فقد عرفته منذ دخلت المدرسة، وولعت بديوانه حتى إنني كدت أن أحفظه ~~نثرا ونظما فمن نزعته في الشعر إلى قوله في القبر: # ولست بمسئول إذ ما سكنته # أكنت عبدت الله قبلا أم ~~اللاتا # إلى قوله في مهاجميه: # يا قوم مهلا مسلم أنا مثلكم # الله ثم الله في تكفيري # وعندما أسأم استمرار قراءتي فيه أعمد بعد تحضير واجباتي المدرسية ~~إلى مطالعة أحد الدواوين، فأرى نفسي كأنني انتقلت من ms222 روضة حافلة ~~بالأزهار من كل صنف، زاهية بالماء الزلال الجاري و«الهزار» على ~~أغصان أشجارها، يشدو بنغماته العذبة الشجية إلى أرض قاحلة لا ماء ~~فيها ولا شجر ولا هزار، فلا ألبث أعود إلى ديواني الأول، وشغفي به ~~يزداد كلما رأيته سابقا وغيره لاحقا، وهكذا. # وما أقوله لكم في ديوانه، أقوله لكم في مباحثه التي تنشر في ~~الهلال، حتى إنني إذا لم أجد فيه فصلا من فصول جميل انقبضت نفسي ~~لذلكم كثيرا، وإذا رأيت فيه مبحثا له قدمته على سائر الموضوعات ~~فقرأته، وأعدته المرار العديدة حتى تعلق بذهني جمل منه، ومن الجمل ~~أفكار ومن الأفكار مناقشة تنتهي بي إلى قضاء جزء كبير من أوقاتي ~~معه، وحمادى القول إن السيد جميل لهو أحق بالنقد من سواه، وبمن ~~يظهر آثاره الأدبية والفلسفية، وهذا لا يتصدى للبحث فيه إلا ~~أمثالكم الذين يقدرون الأدب حق قدره. إذ من العار أن نبقى كما قال ~~فيلسوف العراق لا نعرف قيمة للأديب في قطرنا إلا بعد مماته: # من بعد ما في قبره # أوصاله تتبعثر # ماذا من التكريم ير # جو ميت لا يشعر ~~... هذا، وإنني أعتذر إلى سيدي الأستاذ من تجرئي على مكاتبته، إذ لست ~~ممن يراسلون أمثاله، ولولا إعجابي بجميل صدقي الزهاوي، وحبي لناقد ~~خبير ينشر للقراء آراءه، ويبين لهم فجها من ناضجها، ما تسرعت في ~~المراسلة أترجى ما يقال في فخر العراق وعنه. # عبد القادر بن خليفة بن ميلاد # جاءني هذا الخطاب من شهر مضى وفيه غير ما نشرت هنا، كلام مسهب في مثل هذا ~~المعنى ولواحقه، فتوسمت من لهجته وخلوص إعجابه أدبا جما ونفسا مستشرقة إلى ~~الحقيقة، وهممت أن أجيبه إلى رغبته ولكنني ترددت؛ لأنني أعلم أنني أستطيع أن ~~أتبسط في شرح كل رأي أراه في الأدب والشعر، دون أن أعرض للأستاذ الزهاوي نقدا ~~أو تحبيذا وخلافا أو وفاقا؛ ولأنني أوقر هذا الباحث الفاضل وأعرف استقلال ~~فكره واستقامة منطقه وجرأته في جهاده وغبنه بين قومه، فلا أحب أن أقول فيه لغير ~~ضرورة من ضرورات البحث مقالا ms223 لا يوائم ذلك التوقير ولا يناسب ما له عندي من ~~القدر والرعاية، ثم عن لي أن في الكلام عليه مجالا لكلمة أخرى تقال عن التفريق ~~بين الملكة العلمية والملكة الشعرية، وبين بديهة الفيلسوف وبديهة العالم، لا ~~ضير منها على أحد عامة ولا على الأستاذ الزهاوي ومن يعجبون به خاصة، إذ هو ممن ~~يقال فيهم قول حق لا يغضب الطبيعة القوية، والنفس المروضة، والضمير الواثق من ~~قصده وعمله، فكتبت هذا الفصل الموجز آملا أن أجيء فيه بحقيقة تسوغ المساس برجل ~~لا أحب أن أمسه بغير ما يرضيه. ~~••• # أول كتاب قرأت للزهاوي كان كتاب الكائنات أو رسالة الكائنات؛ لأنها عجالة ~~مختصرة من القطع الصغير، وكان ذلك قبل عشرين سنة أو نحو ذلك وأنا يومئذ كثير ~~الاشتغال بما وراء الطبيعة وحقائق الموت والحياة، ومباحث الدين والفلسفة. ~~فراقني من الرسالة سداد النظر، وقرب المأخذ، ووضوح التفكير، والجرأة على ~~العقائد الموروثة مع ما في ختام الرسالة من اعتذار لا يخفي ما وراءه، ولا يغير ~~رأي القارئ فيما تقدمه، وكنت كلما عاودتها تبينت فيها منطقا صحيحا يذكر ~~القارئ بإشارات ابن سينا ونجاته، ويزيد عليهما بالجلاء والترتيب، ثم قرأت ~~للزهاوي شعرا ونثرا وآراء في العلم والاجتماع، تدل على اضطلاع واستقلال ونزعة ~~إلى الثقة والابتكار، وكان آخر ما قرأت له رسالة «المجمل مما أرى» ثم شعر ينشره ~~في الصحف المصرية من حين إلى حين. # هل الزهاوي شاعر أو عالم أو فيلسوف؟ إن آثاره في الشعر والنثر تدعوك إلى هذا ~~السؤال، فمباحثه مما يتناوله الفيلسوف والعالم، ونظمه يسلكه بين طلاب المقاصد ~~الشعرية، وقد يختلف جواب الناس على السؤال الذي سألناه فيعده بعضهم من ~~الفلاسفة، وبعضهم من الشعراء، ويميل به بعضهم إلى فريق العلماء، أما أنا فرأيي ~~فيه أنه صاحب ملكة علمية تطرق الفلسفة، وتنظم الشعر بأداء العلم، ووسائل ~~العلماء. # الشاعر صاحب خيال وعاطفة، والفيلسوف صاحب بديهة وبصيرة وحساب مع المجهول، ~~والعالم صاحب منطق وتحليل، وحساب مع هذه الأشياء التي يحسها ويدركها، أو يمكن ~~أن تحس وتدرك بالعيان وما يشبه ms224 العيان، فإذا قرأت مباحث الزهاوي برزت لك ملكته ~~المنطقية لا حجاب عليها، ولمست في آرائه مواطن التحليل والتعليل، ولكنك تضل ~~فيها الخيال كثيرا والعاطفة أحيانا، وتلتفت إلى البديهة فإذا هي محدودة في ~~أعماقها وأعاليها بسدود من الحس والمنطق لا تخلى لها مطالع الأفق، ولا مسارب ~~الأغوار، فهو يريد أن يعيش أبدا في دنيا تضيئها الشمس وتغشيها سحب النهار، ولا ~~تنطبق فيها الأجفان، ولا تتناجى فيها الأحلام وليست دنيا الحقيقة كلها نهارا ~~وشمسا، ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء! وقد خلق الخيال ~~والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل، ثم جاء العقل ليتممها ويأخذ منهما لا ~~ليلغيهما، ويصم دونهما أذنيه، فأما الزهاوي فهو يحاول أن يلغي الخيال والبداهة، ~~ويظن أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا بعقله ولا يهتدي إلى الطريق المفطور إلا ~~بعقله، وليس هذا بصحيح في حكم العقل نفسه، إذا أنصف العقل ووفى لمنشأه الأول ~~وقصارى مطمحه الأخير. # إن كل منطق لا يكون صحيحا إلا إذا دخل في حسابه أمران محيطان بنا متغلغلان ~~فينا لا مهرب منهما ولا روغان. نعني بهذين الأمرين «المجهول» أولا و«العاطفة» ~~ثانيا، فهما راصدان لكل قضية منطقية يهدمانها هدما، ما لم يكن لهما في ~~زواياها مكان مقدور، فالعالم لا شأن له بالمجهول وليس له شأن كبير بالعاطفة كما ~~يحسها الشعراء، وهو إذا أراد حصر نفسه في معمله وخرج منه بنتيجة علمية لا غبار ~~عليها من ناحية النقد والاستقراء، ولكن الفيلسوف إذا خرج إلى دنيا لا مجهول ~~فيها ولا عاطفة توحي إليها، إنما يخرج إلى دنيا غير دنيانا هذه، وإنما يأتي لنا ~~بفلسفة خليقة بعالم آخر غير عالمنا الذي يحيط به مجهوله، وتعمل فيه عواطفه، وقد ~~يصيب بمنطقه هذا في حقائق الأرقام والإحصاءات، ولكنه لا يصيب به في معاني ~~الشعور وأسرار الحياة، إذ كيف يحسب حسابا لهذه المعاني والأسرار، وهو لا يحسها ~~ولا ينقاد لدافعها؟ وكيف يصيب في المباحث النفسية وهو لا يحسب حسابا لتلك ~~المعاني والأسرار؟ # من منا يكون محبا معقولا مطابقا للمنطق، إذا ms225 هو نظر إلى حبيبه بالعين التي ~~يراه بها جميع الناس؟ إن نظرك إليه قد يكون معقولا مطابقا للمنطق إذا نظرت ~~إليه بتلك العين التي يراه بها من لا يحبونه ولا يؤثرونه على سواه، ولكنك أنت ~~نفسك - أنت الناظر - لا تكون «محبا منطقيا» موافقا للمعقول والمعلوم من ~~شئون المحبين حين تتساوى أنت وسائر الناس في الإعجاب بحبيبك؛ لأن المحب المعقول ~~هو الذي يرى حبيبه بعين لا يراه بها الآخرون، وكذلك الحياة قد تكون أنت ~~منطقيا إذا عرفتها بالعقل وحده كما يعرفها غير الأحياء لو كان غير الأحياء ~~يعرفون الحياة، ولكنك لا تكون «حيا منطقيا» إذا أنت لم تعرفها كما يعرفها ~~كل حي مخدوع بها غارق في غمرة عواطفها وأشجانها، فكن لنا حيا منطقيا أو أنت ~~إذن إنسان لا يعنينا رأيه في الحياة؛ لأنه ليس منها بمكان قريب أو على اتصال ~~وثيق. # والزهاوي تخونه الحقيقة حيث يسعى إليها على جناح من العقل، لا يعضده جناح من ~~الشعور، فلم أغتبط بتعرض الشعور لتفكيره مثلما اغتبطت به وهو يحاول - بالمنطق - ~~أن يثبت الرجعة إلى هذه الأرض بعد الممات، أو إلى عالم آخر ينتقل إليه الإنسان، ~~فهو يقول: «في المجمل مما أرى أن مظاهر الحياة من مظاهر المادة التي ليست في ~~أصلها إلا قوة، وأن هذا الفضاء الذي صرحت بأنه لا يتناهى يحتوي على عدد غير ~~متناه من العوالم النجمية، وأن في كثير من هذه العوالم نظاما مثل نظامنا ~~الشمسي، وأن في ذلك النظام أرضا مثل أرضنا وفي بعضها أرض تشبه أرضنا إلى زمن ~~محدود ثم يختلف عنها، وإن في كل أرض مشابهة لأرضنا إنسانا مثلي وآخر مثلك ~~وآخرين مثل غيرنا من الناس، قد ولدوا من آبائهم كما في أرضنا، وقد جرى لآبائهم ~~فيها ما جرى لهم في هذه تماما. # وبعض هذه الأرضين اليوم مثل أرضنا في حالتها الحاضرة، وبعضها أخذت تهدم وبعضها ~~في بداءة تألفها، فإذا مات الإنسان في أرضنا فهو يولد في غيرها من جديد من نفس ~~آبائه الذين ولد في أرضه هذه ms226 منهم، وإذ إن هذه الأرضين لا تتناهى فكل فرد من ~~الناس غير متناهي العدد غير أنه في كل أرض واحد يجهل أن له أمثالا في هذا ~~الكون اللامتناهي، وأن الذي يشقى في هذه قد يسعد في التي تشبهها إلى زمن محدود ~~ثم نخالفها، فإن عدد هذه المخالفات أيضا غير متناه، والذي يسعد في هذه قد يشقى ~~في تلك، فالطبيعة عادلة قد قسمت السعادة والشقاء على السواء، فإن زيدا إذا كان ~~هنا شقيا فهو في أخرى سعيد، وإذا كان سعيدا فهو في تلك شقي، وأرضنا هذه بعد ~~أن تصير إلى الأثير تتولد ثانية بعد ربوات الملايين من السنين، فيجري عليها ~~تطوراتها طبق ما جرت في دورها هذا، ويتولد آباؤنا كما تولدوا ونتولد منهم كما ~~تولدنا، ونموت كما في هذه المرة، وقد تكررنا من الأزل وسوف نتكرر إلى ~~الأبد. ~~... ورب قائل: ما الفائدة من هذا التكرار، وهو لا يتذكر ما مر به في أدواره ~~الأولى؟ فأجيب إن فائدة التذكر هي العلم، فإذا حصل إلينا العلم بطريقة أخرى، ~~فهو مثل العلم بالذكر وكفى به نفعا أنه يظان الإنسان أن موته موقت ليس ~~أبديا، وهذه النظرية مبنية على أسس ثلاثة. الأول أن العالم بما فيه من ~~الأجرام غير متناه، والثاني أن لا شيء يذهب إلى العدم بل ينحل تركيبه، وينحل ~~إلى الأثير بعد تطورات متعددة، وهذا الأثير يتركب من جديد فيكون مادة بعد ~~تطورات متعددة ثم ينحل، ثم يتركب إلى ما لا يتناهى، والثالث أن جواهر كل جرم من ~~الأجرام متناهية العدد مهما كثر هذا العدد، وأقدارها كذلك متناهية، ولا يمكن أن ~~يوجد جرم واحد غير متناهي السعة، والأرض هذه تتألف في أزمنة غير متناهية على ~~أشكال متناهية؛ لأن جواهرها متناهية وشكلها الحاضر أحد تلك الأشكال غير ~~المتناهية التي تتألف عليها وتدور من أحدها إلى الآخر فهو كغيره من الأشكال ~~يتكرر إلى ما لا نهاية له والإنسان جزء متمم لشكلها الحاضر أيضا يعود بشكله ~~وعقله، وإلا لم يكن الدور تاما والعالم أجمع تابع لهذا ms227 الناموس الدوري ~~الأعظم.» # هذه هي نظرية الدور كما أجملها الأستاذ الزهاوي في رسالته «المجمل مما أرى»، ~~فالمنطق هنا يتكلم ولكن حب الحياة هو الذي يحركه إلى الكلام! على أنه بعد منطق ~~لم يمتزج بالحياة في الصميم؛ لأنه يتعزى بالعلم والحياة لا يعزيها أن تعلم ~~بأنها خالدة، وإنما يعزيها أن تشعر بالخلود، وهو بعد هذا وذاك منطق خاطئ؛ لأنه ~~يستلزم الدور ولا شيء يدعو إلى استلزامه، فما دامت الجواهر لا تتناهى والحركات ~~لا تتناهى والفضاء لا يتناهى، فالنتيجة أن تكوين الأجرام بأشكالها لا يتناهى ~~ولا حاجة إلى تكرارها وعودتها هي بعينها مرة بعد مرة إلى غير نهاية، ويجب الآن ~~أن نضرب صفحا عن لا نهاية الزمان التي تخدعنا باحتمال هذا التكرار فيما يلي أو ~~فيما سبق قبل الآن، يجب أن نضرب صفحا عن لا نهاية الزمان لأن لا نهاية الفضاء ~~موجودة في هذه اللحظة، فأي شيء فيها يستلزم أن الأرض مكررة في مكان غير مكانها ~~الذي هي فيه؟ لا شيء! وإذا لم يكن إنسان مكررا على هذه الأرض بعينها، فلماذا ~~نفرض أن كل إنسان مكرر في أرض تشبهها تمام الشبه في هذا الفضاء السحيق؟ ~~••• # ثم إلى أين ننتهي من كل ذاك؟ ننتهي إلى أن الأستاذ الزهاوي صاحب ملكة علمية ~~رياضية من طراز رفيع، وأنه يصيب في تفكيره ما طرق من المسائل التي يجتزأ فيها ~~بالاستقراء والتحليل، ولا تفتقر إلى البديهة والشعر، فمن ينشده فلينشد عالما ~~ينظم أو يجنح إلى الفلسفة فهو قمين بإصغاء إليه وإقبال عليه في هذا المجال، وإن ~~خير مكان له هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية، فهو لا يبلغ بين ~~الفلاسفة والشعراء مثل ذلك المكان. # | البطولة1 # على ذكر سعد # من هو البطل؟! لا نريد أن نستوحي جواب هذا السؤال من أقوال المؤرخين وعلماء ~~النفس ورجال المعرفة والأدب، وإنما نريد أن نستمع إلى أقوال العامة الذين يحسون ~~البطولة، ويؤمنون بها ولا يقرءون الكتب أو يبحثون في موضوعاتها، فإذا سألت ~~هؤلاء من هو البطل؟! فيغلب أن تسمع منهم جوابا ms228 واحدا هو أشبع الأجوبة ~~وأخطؤها، أو هو خطأ لأنه يصف لك البطولة من ناحية بارزة فيها كدأب العامة ومن ~~لا يتكلفون النقد والمقابلة، ثم هو يدع نواحيها الأخرى ومراميها فلا يبقي لها ~~بالا ولا يظن أن لها شأنا في تقدير البطولة و«تكوين» الأبطال، ذلك الجواب ~~الشائع الخاطئ هو أن البطل من لا يخاف، وفلان بطل عندهم؛ أي إنه مقتحم هجام لا ~~يبالي العواقب، ولا يرتدع عند خطر، وتلك الصفة الغالبة للبطولة في رأي ~~الأكثرين. # أما أن البطل شجاع فهذا صحيح لا غبار عليه، وأما أنه لا يخاف فهنا موضع النظر ~~والتأمل؛ لأن الشجاعة ليست هي عدم الخوف وإنما هي التغلب على الخوف، وليست هي ~~نقيض العقل والحكمة وإنما هي نقيض الجبن والضعف، فرب رجل لا يبالي الخطر يكون ~~اقتحامه جهلا بالخطر وغفلة عن العواقب، ويشبه في هجومه على الأمور حيوانا يثب ~~على فريسته كما يندفع الحجر ألقت به يد قوية فهو لا يملك الجمود في مكانه، ~~وإنما الشجاعة الإنسانية التي تشرف هذا الإنسان وترفعه إلى مقام البطولة هي أن ~~تعرف الخوف ثم تكون أنت أكبر منه وأقوى من أن تستكين له وتنكل عن قصدك لأجله، ~~فالبطل يخاف ولكنه لا يستسلم لخوفه، وربما كان في إقدامه ضرب من الخوف أعلى من ~~هذا الذي يفهمه السواد، كخوف الضمير أو خوف الصغر في نظر نفسه، أو خوف العار ~~على الأقل وهو ضرب نبيل شائع بين الناس أكثر من شيوع خوف الضمير، أو خوف حساب ~~الإنسان لنفسه. # قد تسمع جوابا آخر على سؤالك من سواد الناس وأشباه السواد، فيقولون لك: إن ~~البطل هو من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، ويكونون أيضا على صواب في هذا ~~الجواب من ناحية واحدة وعلى خطأ كثير من نواحي عدة. إذ البطل قد ينهزم كثيرا ~~في ميدان جهاده بل هو قد يؤثر الهزيمة أحيانا على الظفر؛ لأنه لا يحارب بكل ~~سلاح ولا ينشد كل غاية، وليس من النادر بين الأبطال من ماتوا مهزومين في عصرهم ~~وغالبهم أناس دونهم ms229 في العظمة والبطولة أو ليسوا من العظمة والبطولة على شيء؛ ~~وكأي من هزيمة هي أشرف من نصر يجيء بذميم الوسائل وحقيرها، ويكون محصورا ~~موقوتا لا نفع فيه لأحد ولا أثر له بعد حينه، ولعل الأصح هنا أن يقال: إن ~~البطل من يغلب نفسه ويقوى على شهواته، لا من يغلب منازليه ويقوى على خصومه، ~~فإذا وقف البطل بين فتنة الطمع والغواية، وفتنة الحرب والسطوة، فخطر الأولى ~~عليه أكبر من خطر الثانية، وحاجته إلى البطولة التي يقمع بها قسوة نفسه أعظم من ~~حاجته إلى البطولة التي يصرع بها قوة خصمه، فليست الغلبة في كل حال هي شأن ~~البطل، وإنما تطلب منه الغلبة على النفس أحيانا، كما تطلب منه الغلبة على ~~الخصوم. # أوسع من هؤلاء نظرا وأرفع نفوسا من يصفون البطولة بصفة غير الاقتحام والغلبة، ~~وهي صفة الإيثار وقلة الحرص والأنانية، ولكننا نحب أن نقول هنا: إن الأثرة ~~والإيثار خلتان تلتقيان كثيرا في أجواء العظمة وميادين «المصالح الكبيرة»، فمن ~~الإيثار في هذه الأجواء والميادين ما هو أثرة بارزة، ومن الأثرة ما هو إيثار ~~محمود. وصاحب الشريعة الذي يفرض على الإنسان أن يؤمن بشرعه أو لا يرى له حقا ~~في الحياة ماذا تسمى فريضته تلك إلا أنانية لا أنانية بعدها، وأثرة تفوق كل ~~أثرة؟ تسميها أنانية وأثرة بلا مراء، ولكنك لا يسعك أن تفرق بينها وبين الإيثار ~~في سبيلها، ولا تدري كيف يكون هذا الرجل مؤثرا أو غير مستأثر إذا هو أراد أن ~~يكون، والعظيم - مذ كان عمله يتناول الأمة بأسرها أو يتناول الدنيا بجملتها - ~~يخدم الناس ويبرهم ويؤثرهم على نفسه حين يخدم وطره، ويحرص على إنجاز عمله، ~~فالأنانية هنا قوة تلهب الغيرة في قلب العظيم لمنفعة الناس لا لمنفعته، وهي ~~خديعة طبيعية تخدعه بها الفطرة كما تخدع الأحياء باللذة التي يجدونها في تخليد ~~النوع وحفظه من الفناء، ولو أنك فرضت على العظيم الذي هذا خلته أن يصبح ~~أنانيا بغير هذه الأنانية النافعة، لما استطاع ولا قدر على أن ينصف نفسه من ~~تلك القوة ms230 التي تسخره وتوهمه أنها تأجره على ما يعمل ولا أجر له على هذا ~~العناء، ولو جردته من هذا الخلق لجردته من شيء يتعبه هو وينفع الآخرين وبلغته ~~الراحة التي كانت تعز عليه وحرمت الناس جهده ونصبه الذي كانوا ينعمون به؛ ولسنا ~~نقول: إن الفرق معدوم بين الأنانية والإيثار في الأبطال والعظماء، فإن من هؤلاء ~~أناسا يوصفون بهذه الخلة وأناسا يوصفون بتلك، ومنهم أناس إذا تعارضت الدوافع ~~الذاتية والدوافع الغيرية اختلف المسلك بينهما على حسب اختلافهم في الطبائع ~~والميول، ولكنا نقول: إن الأنانية لا تحرم البطل بطولته إذا نزل بها في ميدان ~~العمل الكبير ومستبق الهمم الجسام. # وربما قيل بعد هذا: إن البطولة إذن هي العمل الكبير الذي يغير صفحة التاريخ ~~ويحول مجرى الحوادث، ويكون له دوي على رأي أبي الطيب كتداول الأنامل العشر في ~~الآذان، نقول «لا» مرة أخرى؛ لأن هذا الخلط بين العظمة والبطولة وهما غير سواء ~~في العالم والسمات، فقد يكون الرجل عظيما وليس هو ببطل، وقد يكون بطلا صغيرا ~~لا ينعت بالعظيم، وتيمورلنك قد غير صفحة التاريخ، وحول مجرى الحوادث، بل نعتقد ~~نحن أن له فضلا على حضارة اليوم لعلنا كنا فاقديه لو لم يظهر لغاراته أثر في ~~الوجود، فهو الذي أجلى الترك عن بلادهم وهو الذي جر بذلك إلى فتح القسطنطينية، ~~فانتشار النهضة، فالتماس المسالك إلى الهند حول إفريقية فتسابق الأمم في العلم ~~والسياحة، وفنون الحرب والسلام، فهو ذو حصة في حضارة اليوم ترجح على حصص ~~الكثيرين من ذوي الشهرة بالخير والسمعة بالتعمير، ولكن هل ننظم تيمور لنك في ~~أبطال الإنسانية لأنه عظيم الجهود أو عظيم الأثر في الدنيا؟ كلا، فقد يعد الرجل ~~في العظماء ولكنه لا يعد في الأبطال، ولا خطر لأحد أن يعده في هؤلاء. # وها نحن قد رأينا أن الشجاعة وحدها لا تهم في تكميل البطولة، وإنما الذي يهم هو ~~غرض الشجاعة، وأن الغلبة كذلك لا تشهد بالبطولة، وإنما الذي يشهد لها الميدان ~~الذي يحرز فيه الغلبة، وأن الأنانية لا تنقض البطولة؛ لأنك ms231 قد تجعل الخير ~~مطلبا أنانيا فأنت إذن خادم نفسك وخادم الناس من طريق نفسك، وأن العظمة ليست ~~هي البطولة؛ لأن العظمة صفة مشاعة بين الخير والشر والنفع والإيذاء، فخلاصة ما ~~تقدم أن للبطولة سبيلا هو ذاك الذي يعنينا منها وذاك الذي يميزها من العظمة ~~والإيثار والغلبة والشجاعة، وكأننا نقول بعد هذا: إن البطولة هي التضحية ثم ~~إنها هي التضحية في سبيل الآخرين. # إن البطولة والاستشهاد بمعنى واحد، فإذا قيل لك: إن فلانا بطل فاسأل هل هو ~~شهيد؟ فإذا سمعت نعم فهو البطل عظم أو صغر، وإلا فاختر له صفة غيرها؛ لأن ~~الشهادة عنصر لا تقوم بطولة بغيره، وليست البطولة على هذا بالشيء النادر بين ~~الناس، فإن كل إنسان بطل في صفة من صفاته وفي ساعة من ساعاته، فالأم التي تسهر ~~الليل وتضني وتهلك وتصبر على الشظف والهوان؛ من أجل ذلك المخلوق الضعيف الذي ~~تسميه ابنها، والذي يجهلها ولا يجزيها ولا يدفع عنها ولا عن نفسه هي آية بطولة ~~كريمة، ومثل تخر له الجباه وتسخو له النفوس بالعطف والتنزيه، ولكنه بعد مثل ~~قديم مشترك بين جميع الناس، بل مشترك بين جميع الأحياء لا فضل فيه لمخلوق على ~~مخلوق، ولا لامرأة على امرأة إلا في العوارض والنوافل، والمحب الذي يشقى ليسعد ~~حبيبه وينصب ليعلم أن في النصب راحة لمعشوقه، ويستطيب العذاب في عاطفته والشدة ~~في خلوص طويته هو آية أخرى، ولكنه كذلك آية مشتركة لا يندر مثلها ولا تخشى ~~الإنسانية من نفادها، والحارس الذي يستهدف للموت لينقذ قطارا يوشك أن يتردى في ~~العطب أو مدينة يوشك أن يدهمها العدو، أو غريقا يوشك أن يلتهمه الماء هو آية ~~أخرى أندر من ذينك المثلين، ولكنها لا يندر أن تشاهد في بعض الحيوانات الوفية، ~~أو بعض النفوس التي لا يرجى منها خير كبير للإنسانية، والطيار الذي يغامر ~~بالحياة في الجو العصي يذلل صعابه ويفتح فجاجه بطل يجور على نفسه ويوسع للناس ~~آفاق الحياة، ولكنه لا يسمو إلى أفق عال من البطولة؛ لأنه إنما يغلب خوفا ms232 ~~مألوفا في قلبه، وليس هذا الخوف بأغرب ما يتقى، ولا بأهول ما يخاف على ~~الأبطال، فأنت ترى أن البطولة على هذا ليست من الندرة بحيث يظنها السواد، ~~ولكنما البطولة العظيمة هي تلك المنحة النادرة بين هذه الخلائق، كندرة كل شيء ~~عظيم، ولو لم يكن في الدنيا إلا الأبطال العظماء، لما أوجدوا عليها شيئا، وليس ~~من حولهم من يلبي بطولتهم، ويجاوب أريحيتهم، وينجذب إلى ذلك العنصر فيهم، كما ~~ينجذب الجرم الصغير إلى الجرم الكبير، فهذه البطولة في كل إنسان هي التي تستجيب ~~الدعوة إذا أهيب بها وتنهض للفداء إذا أصابت من ينسيها صغائرها، ومن ثم تلك ~~الفورات العجيبة في الشعوب تثور في أيام وتخمد في أيام أخرى، فلا يثيرها الخطر ~~ولا المبدأ ولا الحض ولا التأنيب؛ لأنهما إنما تنتظر البطولة التي تخاطبها ~~بلسانها فتهب من قرارات الصدور. # فالأبطال درجات والأبطال ضروب وشكول، وكما يوجد البطل الصغير والبطل الكبير، ~~يوجد كذلك البطل الوطني والبطل الديني والبطل العالم والبطل المستكشف، وهذا ~~الذي يعيش بين الجماهير وذاك الذي يعكف على العزلة، وذلك الذي يجوب الأرض ولا ~~يستقر له قرار وأولئك الذين يتباينون في خصال شتى، ويختلفون بينهم اختلاف ~~النقيض من النقيض ولا تجمعهم كلهم إلا جامعة البطولة، فلا تصدق من يقول لك: إن ~~البطل لن يكون إلا جهما عسوفا ولا من يقول لك: إنه لن يكون إلا بشوشا ~~صبورا، أو جادا صعيبا، أو فكها مداعبا، أو غازيا، أو مؤاسيا، أو غرا، ~~أو داهيا، أو غير ذلك من الشرائط التي يتمحلها بعض وصاف البطولة وحاصري حدودها ~~ومزاياها، فالحق من كل هذا أن البطولة هي الفداء، وأن البطولة العظيمة هي ~~الفداء العظيم، وأن عنصر التضحية هو أن يكون الإنسان منظورا في خلائقه وسجاياه ~~إلى غيره فكلما كان ذلك الغير أكبر عددا، وأشرف قدرا، وأبقى أثرا، كان عنصر ~~التضحية أجل وأكرم وأغلى وأقوم، وكان هذا هو مناط التفاضل بين الأبطال من جميع ~~الدرجات والشكول. # وللتضحية مقاييس أخرى في باطن النفس غير ذلك المقياس الذي يظهر في خارجها ms233، ~~ويرجع فيه إلى الناس وما يصيبون من بطول البطل وجهاد الشهيد، ذلك المقياس نعرفه ~~حين نعرف التضحية ونتفق على معناها، فهي كما نفهمها نحن الغلبة على الخوف، أو ~~الغلبة على الأمل، والمقياس الذي يفرق بين درجاتها وشكولها هو - على هذا - ~~المقياس الذي يفرق بين ضروب المخاوف وضروب الآمال، فمن الخوف ما يغلبه المرء ~~ببادرة واحدة، تثب إلى رأسه فإذا ذلك الخوف صارع أو صريع، وانتهت الوقعة بهذه ~~الوثبة الواحدة، فليس لها عليه كرة تعود، وأن الذي يبخع نفسه ليستطيع أن يثب ~~هذه الوثبة فلا يدل على كبير شيء، ولا يكون له قسط من دعوى البطولة، وإن شبيها ~~بهذا لمن يغلب خوف الموت مرة واحدة أو مرات بوثبة من تلكم الوثبات الفجائية ~~أيا كان باعثها والأمل الذي وراءها، فتلك هي بطولة النوبات أو بطولة الفداء ~~الطارئ يساور القلب في الفينة بعد الفينة، ولا يشف عن قدرة دائمة وخلق أصيل، ~~ومن الخوف ما يطول أمده ولكنه لا يحتاج إلى قدرة عظيمة لجهاده، فهذا الخوف أو ~~ذاك دليل على عنصر البطولة التي تغلبه، أو تروضه على الطاعة والسكوت. # وقد يعرض على الإنسان مبلغ من المال ليبيع وطنا أو عرضا أو حقا، فيجمع قوة ~~نفسه ويقهر غواية المال وفتنة السرور واللذة، ويقول كلمته الرافضة وكأنه مغمض ~~العينين أو في غيبوبة السكر والحمية، فضيلة هذه القوة لا تنكر ولكنها مع هذا ~~فضيلة لها حدها وقيمتها وتعلوها ولا شك درجات كثيرة من الفضائل وقوى النفوس ~~تعلوها مثلا تلك القوة التي تصر على الإباء، والإغواء ملح عليها والحوادث ~~تتقلب حولها، والفاقة والغنى يتعاورانها واللين والشدة يتناوبانها، وتعلوها كل ~~قوة مطمئنة تقهر التجارب والغوايات التي تطيف بها أبدا علها تجد عندها غرة ~~للتطلع، أو موطنا ضعيفا للتسليم. # إن الرجال الذين يخافون على أممهم الذل ويرجون لها العزة، أو الذين يخافون على ~~العالم قاطبة أن يرين عليه الرجس، ويرجون له الخلاص والرفعة، أو يخافون عليه ~~الظلام والجهالة، ويرجون له النور والمعرفة، إن هؤلاء الذين يخافون ذلك الخوف، ~~ويرجون ذلك ms234 الرجاء ثم يثبتون على محنة المطامع والآلام أعواما طوالا لا يلوي ~~بهم جاه، ولا تقعد بهم رهبة، ولا ينسون الأمة والعالم في مآزق الهول ومدارج ~~الغواية، أولئك هم عظماء الأبطال في تاريخ بني الإنسان وأولئك هم شرف الآدمية ~~وعزاء الحياة، والمعنى الذي تطيب من أجله الأرض وتنظر من صوبه السماء. # ومن هؤلاء كان سعد زغلول. # | الوطنية (1)1 # الوطن موجود لا شك فيه، وفي العالم أوطان كثيرة وشعور حق بالوطنية لا يتوقف ~~الاعتراف به على النفاذ إلى كنهه واستقصاء منشأه والبحث في فائدته وضرره، فمن ~~الآن إلى أن يتفق الساسة والباحثون على معنى الوطن وحدوده، لا حاجة بنا إلى ~~إلغاء الوطنية أو الإغضاء عن وجودها، ولا موجب لإرجاء حركة من حركاتها في ~~انتظار تلك النتيجة التي سيتفق عليها فلاسفة السياسة والاجتماع أو لا ~~يتفقون! # الوطن موجود الآن لا شك فيه، ولكنهم يقولون: إنه لم يكن موجودا من قديم ~~الزمان، بل لم يكن موجودا قبل نصف قرن من الزمان، فالحقوق الوطنية وحرية ~~الأوطان والمطالب القومية وحرمات الأقوام كل هذه وما إليها ألفاظ حديثة في ~~معاجم المؤلفين، لا تعثر بها في كتاب قبل الثورة الفرنسية، وإذا عثرت بها في ~~كتاب سابق للثورة، فهي كلمات عندهم لا تفيد معناها الذي اصطلحنا عليه الآن، ~~يقولون هذا ولكنهم لا ينفون به كثيرا؛ لأن الوطنية إن هي إلا نوع من «العصبية» ~~عرفناه بهذا الاسم في العصر الحديث، وما كانت الإنسانية قط في عصورها الماضية ~~خلوا من بعض أنواعها بأسماء تختلف في ظواهرها، ولا تختلف في جواهرها إلا قليل ~~اختلاف، فعصبية القبلية، وعصبية الجنس، وعصبية اللغة، وعصبية الدين، كلها دليل ~~على أن الوطنية - من ناحية العصبية فيها - ليست بالابتكار الذي لفقه الخياليون ~~أتباع الثورات ودعاة النهضات، ولو كان الناس يعرفون أسماء عواطفهم وغرائزهم قبل ~~المضي فيها والانقياد لها لقلنا: إن الوطنية ينبغي أن تكون حدثا طارئا؛ لأنهم ~~لم يسمعوا بها إلا في هذه السنين ولم يتفقوا بعد على ما تعنيه وما لا تعنيه؛ ~~ولكن الناس لم يتفقوا قط على ms235 جامعة من الجامعات الأولى التي سيرت حشودهم، ~~وأقامت دولهم، وقلبت أطوارهم، ولم يتعودوا أن يفرزوا وشائج العصبيات ليعرفوا ~~منابتها وطرائقها، قبل أن يكونوا أبناء قبيلة أو أبناء لغة أو أبناء دين أو ~~أبناء وطن، فالأمر الذي لا شبهة فيه هو أن العصبية قديمة، وأنها لم تغب من ~~تاريخ الإنسانية، ولم تزل هي المحور الذي تدور عليه علاقات الدول ~~والشعوب. # كثرت بعد الحرب العظمى دعوات الوطنية، وكثرت بعدها كذلك دعوة أخرى تشكك في ~~الوطنية وتنزع إلى توهينها وإضعاف شأنها، ولا سيما في نفوس الشعوب الطامحة إلى ~~الحرية، هذه «الدعوة الأخرى» هي دعوة «الدولية» أو الأممية، أو هي الدعوة إلى ~~أن تكون كل أمة وحدة في أمم كثيرة تتكافل معا في الصالح والآمال، وتنزل كل ~~منها عن جزء من حريتها لضمان التعاون والاتفاق، والمشاهد في أمر هذه الدعوة ~~أنها لا تروج ولا تشتد إلا من جانب الأمم التي استوفت جميع معالم الوطنية ~~وصنوفها، ولا ينتظر من دخولها في الاتفاق إلا أن تجور على الوطنيات الأخرى، ~~وتحد من حريتها ومطامحها، فدعاة الأممية اليوم هم أبناء الأمم الغالبة التي ~~تستفيد كل شيء من هذه الدعوة، ولا تخسر شيئا في سبيلها، وهذه ظاهرة لا تزكي ~~الدعوة ولا تستميل إليها المدعوين. # ومن كتاب الأمم المقتدرين في هذا العهد رامزي موير، أستاذ التاريخ الحديث في ~~جامعة منشستر، هذا الأستاذ عالم مؤرخ، ولكنه مبشر إنجليزي يسخر العلم والتاريخ ~~في خدمة الدولة البريطانية، فأنت تقرأ كتابه عن «الوطنية والأممية»، فتحار أين ~~هي الضحية التي تجرد بها إنجلترا على مذبح «الخلاص» المنتظر والوفاق السعيد ~~الرشيد، فكأن بني الإنسان لم يمنحوا قسطهم من الرشاد، ولم يلهموا نزعتهم إلى ~~الأممية إلا لتكون إنجلترا هي رأس الأمم، وهي جابية الأرض إلى موعد لا نعلم ~~منتهاه، وقد يكون هذا هو رأي العالم الإنجليزي، ولكنه لن يكون رأي العلم ولا ~~رأي وطنية أخرى غير وطنية الإنجليز. # يتكلم الأستاذ رامزي كلام العالم المحقق، حين يبحث في معاني الوطنية ~~وتعريفاتها، لولا أنه اتخذ له وجهة غير وجهة ms236 العالم من مبدأ الأمر، فلم يتأد به ~~البحث إلى النتيجة البريئة من الأهواء، ونحن نعيد استعراضه لهذه المعاني ~~والتعريفات؛ لأنه استعراض واف لم نقرأ خيرا منه في سياقه، ولكننا لا نتخذ معه ~~تلك الوجهة التي أملتها عليه «الوطنية» وهو يعالج أن يهون من شأنها ما استطاع! ~~فهو يسأل: «ماذا نعني بكلمة الأمة!» ثم يجيب: «أنها كما هو ظاهر ليست الشيء ~~الذي نعنيه بكلمة الجنس، ولا الشيء الذي نعنيه بكلمة الدولة، وقد نعرفها الآن ~~بأنها بنية من أناس يحسون أنهم مترابطون بالطبع فيما بينهم بروابط من القوة ~~والصدق، بحيث يعيشون معا سعداء، ويسخطون إذا فرق بينهم، ولا يطيقون الإذعان ~~لأناس لا يشركونهم في هذه الروابط. # ولكن ما هي روابط الألفة التي لا بد منها لتكوين أمة! إن الإقامة في بقعة ~~جغرافية ذات معالم مقصورة عليها، هي في الغالب معدودة بين تلك الروابط، ولا ريب ~~في أن أوضح الأمم سمات ومعالم كانت لها فيما بينها وحدة جغرافية، وكان الفضل في ~~قوميتها أكثر الأحوال لتلك الوحدة ولذلك الحب الذي يشعرون به للتربة التي درجوا ~~عليها، ولمشاهد الطبيعة التي ألفوها. على أن الوحدة الجغرافية ليست على كل حال ~~بالشرط الجوهري للقومية، ومن السهل أن نرى أمة مبعثرة الموطن في بقاع تختلف أشد ~~الاختلاف كالأمة الإغريقية، وهي مع هذا على شعور قوي بالوطنية، كما أن حدود بعض ~~الأمم ذوات النزعة الوطنية البارزة ليست بالحدود التي تميزها المعالم الأرضية، ~~فالبولونيون مثلا، وهم أبناء أمة من أشد الأمم الأوربية غيرة على الوطن ~~وإصرارا على الحمية الوطنية، يقيمون في أرض ليس لها معالم واضحة من أية جهة من ~~جهاتها، والفاصل بين الأرض الفرنسية والأرض الجرمانية فاصل اتفاقي من معظم ~~نواحيه، في حين أن الوحدة الجغرافية الحقيقية على السهل المجرى الذي تحدق به ~~مناطق الجبال، ويتخلله نظام نهري واحد لم تفلح في إنشاء وحدة قومية، فالوحدة ~~الجغرافية ربما ساعدت على تكوين أمة، ولكنها ليست بالضرورة ولا هي بألزم عناصر ~~القومية. # ندع هذا، ونلتفت إلى الوحدة الجنسية، فقد طالما حسبوها ms237 لازمة بل حسبوها أنها هي ~~العنصر اللازم للقومية، ومع هذا لا نرى أمة على الأرض تخلو من مزيج الأجناس، ~~ولم يسبق قط أن كان في الدنيا جنس - تيوتون أو سلافا أو قلتا - أفلح في ضم ~~أفراده جميعا إلى آصرة قومية واحدة. إنما يكفي أن تنسى العناصر التي تتألف ~~منها الأمة أصولها المختلفة، وألا يفصلهم فيما بينهم فاصل ظاهر الرسوم والسمات، ~~أو لنا أن نقول: إن امتزاج الأجناس لا يمنع الأمة أن تنمو فيها روح قومية ما ~~دامت أجناسها مدمجة فيها مشتركة بروابط الزواج والروابط الأخرى، وإنما يعوق ~~الروح القومية أن يكون بين أجناس الأمة جنس يتعالى على سائرها، ويعتقد لنفسه ~~التفوق والسيادة عليها، وأن يتمثل هذا الاعتقاد في أحكام الشريعة أو العادة. ~~وربما كانت أجناس المجر خليقة أن تنطوي في قومية واحدة، لو لم يعتزلها المجريون ~~من مبدأ الأمر، ويترفعوا عن رعاياهم السلافيين والرومانيين، ولقد كانت العقبة ~~الكبرى في طريق القومية الهندية قانون الطبقات الصارم الذي أقامه الآريون ~~حائلا بينهم وبين الاختلاط بجمهور رعاياهم، وهناك عنصر ثالث للوطنية أخطر ~~كثيرا من عنصر الجنس وهو الوحدة اللغوية، فمما لا جدال فيه أن وحدة اللغة ~~رابطة من أهم الروابط ولا سيما من حيث إن ملامح اللغة وشياتها لها سلطان كبير ~~في ملامح الأفكار وشيات الميول بين الذين يتكلمون بها، فإن اللغة المشتركة ~~معناها أيضا الآداب المشتركة، والمطامح الفكرية المشتركة، وميراث مشترك من ~~الأغاني والقصص يتضمن الروح القومية وينفثها في كل جيل، على أن وحدة اللغة لا ~~يلزم أن تجب الوحدة القومية، واختلاف اللغة لا يلزم أن يمنع تلك الوحدة، فاللغة ~~الإسبانية فاشية في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، ولكن هذه البلاد قد فقدت ~~منذ عهد طويل كل شعور يجنح بها إلى الدخول في طي القومية الإسبانية، وكذلك ~~الأمريكيون الشماليون يتكلمون الإنجليزية وهم قومية مستقلة كل الاستقلال، وينحو ~~الأستراليون والكنديون هذا النحو في الشعور بالقومية المستقلة، وإلى جانب هذا ~~نرى الأيقوسيين أمة، وإن كان بعضهم يتكلم الإنجليزية، ونرى السويسريين أمة، وإن ~~لم تكن لهم ms238 لغة خاصة ولم يزالوا موزعين بين الفرنسية والجرمانية والإيطالية، ~~ونرى البلجيك أمة وإن كانوا يتكلمون الفلمنكية والفرنسية والجرمانية، فوحدة ~~اللغة بهذه المثابة ليست بالضرورة لنمو القومية المحتومة، ولا هي كافية وحدها ~~لإتمامها على كل ما لها من القوة البنائية في إنشاء الأقوام. # ولقد عدت وحدة الدين أحيانا عاملا من عوامل القومية، ورأينا أحوالا لا شك ~~أن الدين كان فيها أحد العوامل القومية القوية، ومن هذا أن النزعة القومية في ~~إسكتلاندة قد تعزى إلى جون نوكس أكثر من أي عامل آخر على انفراد، إلا أن الدين ~~وحده يندر أن يخلق أمة إن لم نقل إنه لم يكن قط كافيا لخلقها، وما برح الإخفاق ~~يصيب كل محاولة ترمي إلى بناء الوحدة السياسية على أساس الوحدة الدينية، فربما ~~كان الأقرب أن يقال إن الشقاق الديني يعوق الألفة القومية كما حدث بين ~~الهولنديين والبلجيكيين، إذ استحال عليهما الانضواء إلى دولة واحدة لما بينهما ~~من اختلاف العقيدة الدينية، وإلا فإن البلجيكيين يختلفون فيما بينهم لغة وجنسا ~~أشد من مخالفة بعضهم للهولنديين في هذه الأمور، وقد كان تفرق المذهب هو العقبة ~~الكبرى في طريق الحركة الوطنية في أيرلندة كما كان تفرق المذهب بين الكاثوليك ~~والمنشقين في الأمة البولونية أحد الأسباب التي هوت بتلك الأمة، بيد أن هناك ~~أحوالا أخرى لا تقل عن هذه لم تمنع فيها الخلافات الدينية العميقة وحدة ~~القومية، فألمانيا نصفها بروتستانتي ونصفها كاثوليكي، وإنجلترا لم تعرف وحدة ~~الدين بعد عهد الإصلاح، وها هي الحرية الدينية الكاملة في جميع أمم الغرب تحسب ~~اليوم من علامات الدولة المتمدنة. غير أننا لا ننسى أن الوحدة الدينية في بعض ~~الحالات تصبح عاملا لا غنى عنه في إنشاء القومية، إذ إن المدارك الأدبية ~~والعقيدة الأساسية عن مكان الإنسان في هذا العالم وواجباته لجيرانه، يجب أن لا ~~تكون من التفرق بحيث يستحيل معها أو يصعب التفاهم جدا بين أبناء الأمة ~~الواحدة، ولهذا كان الخلاف الجوهري بين نظر المسلم ونظر المسيحي في الدولة ~~العثمانية حائلا، جعل نمو الروح القومي بين ms239 أبنائها من الأمور التي لا تحتمل ~~الحصول. ~~... وكثيرا ما نجم عن طول الخضوع لحكومة وطيدة النظام - بل الخضوع حتى للحكومة ~~لطاغية - أن تتولد الحاسة القومية، وبخاصة إذا استطاعت الحكومة أن تبني بين ~~رعاياها نظام عدل ومساواة، يقبلونه ويدخلونه في شئونهم المعيشية، ولا نزاع في ~~أن سيطرة الملوك النورمانيين والإنجيليين ونظام العدل العجيب الذي بسطوه بين ~~رعاياهم كان عاملا رئيسيا في ضم الشعوب الإنجليزية، واندماجها في أمة شاعرة ~~بالحساسة القومية، وكذلك القومية الفرنسية مدينة بمثل هذا الفضل لحكومة ملوكها ~~المستبدين، من عهد فيليب أغسطوس فنازلا، ولم تتألف الوحدة الإسبانية إلا بفضل ~~الملكين المستبدين شارل الخامس وفيليب الثاني، ومما يستحق التنويه أن فكرة ~~القومية لم تسنح قط لأهل الهند، إلا بعد أن دانوا جميعا للحكومة الراسخة ~~والإدارة القانونية المنظمة، التي جاءت مع السيطرة البريطانية، على أن مجرد ~~الاشتراك في الحكومة بالغا ما بلغ من النظام لن يأتي بوحدة القومية، ولا بد أن ~~يسبق ذلك عناصر أخرى وروابط طبيعية من هذا النوع أو ذاك؛ لكي تخلق مؤهلات الأمة ~~قبل أن يتسنى للقوانين المنظمة أن تخلق فيها الوحدة. # والآن في هذه الأيام - حيث لا يزال الزي الغالب على التفكير أن نرد جميع حركات ~~النفوس الآدمية إلى أسباب اقتصادية - نسمع أحيانا من يقول إن الاشتراك في ~~المصالح والشواغل وما يحدثانه من تشابه النظر إلى الحياة، هو على الأقل عامل ~~فعال في إنشاء القومية إن لم يكن هو العامل الأول والأخير فيها، ولا ننكر أن ~~بعض الأمثلة قد يؤيد هذا الرأي في أمم صغيرة كالدنمرك وهولندا، ولكن هذا الرأي ~~لا يثبت على الامتحان؛ لأنه لا اشتراك في المصالح الاقتصادية بين فلاح دورست ~~والعامل في لانكشير، أو بين زارع الخمر في بروفنس والعامل في ليل. على نقيض ذلك ~~تتصل مصلحة العامل في ليل بالألماني أكثر من اتصالها بابن بروفنس، والزارع في ~~روسيا الشرقية هو من الوجهة الاقتصادية، أقرب إلى قريبه المنكور في بولونيا منه ~~إلى العامل السكسوني، ولا يخفى أن سياسة الحكومة المالية ربما ساعدت على تمكين ms240 ~~الوطنية، إلا أنها لا تنجح في ذلك إلا حيث تجري في أمة لها عهد بالوطنية ~~المسكينة. # والمرجح عندنا أن أقوى عوامل القومية طرا - أي العامل الضروري الذي لا مناص ~~من وجوده إذا غاب كل عامل سواه - هو الاشتراك في التراث التاريخي بين طائفة من ~~الناس، أو الاشتراك في ذكريات آلام صبروا عليها، ومفاخر ظفروا بها ومثلوها في ~~القصص والأناشيد، وفي الأسماء الغالية أسماء شخوص أعزاء كأنما جمعوا في أنفسهم ~~خصال الأمة ومطامحها وما كانت وطنية الجبليين الجفاة في الصرب - وهي تلك التي ~~لا تهدم - مدينة لشيء من الجنس واللغة والدين كما هي مدينة لذكرى استيفان دوشان ~~المجيدة، ولذكرى كوسوفو الفاجعة والقرون الأربعة التي انقضت بعدها في رق ~~العبودية، ولكن يحسن بنا أن نذكر هنا أن صلات كثيرة حديثة تدخل فيها الأمم بمحض ~~اختيارنا للتعاون على غاية جليلة، ولا تقل عن تلك الصلات في التوحيد والتأليف، ~~فإذا دخلت فيها الأمم ظهرت لها قومية كأنها فوق القومية تضمهن جميعا، ولا تمحو ~~القوميات الأولى، ومن هذا القبيل قومية بريطانيا التي تشمل قوميات إنجلترا ~~وويلس وإسكتلاندة وأيرلندة، ومن هذا القبيل أيضا قد تنمو - بل هي تنمو الآن - ~~تلك القومية الأعظم الأوسع بين جميع الداخلين في الإمبراطورية البريطانية، ~~تلفهم معا ضحاياهم المشتركة في جهادهم الأخير في سبيل الحرية. # ومن ثم؛ نرى أن الوطنية فكرة مراوغة، لا يسهل تحديدها، ولا يستطاع حصرها أو ~~تحليلها بالصيغ التي يحبها أساتذة الألمان.» # | الوطنية (2)1 # اطلع القراء في العدد الماضي على كلام الأستاذ رامزي موير في الوطنية، ~~ومعالمها، والعناصر التي تميز الأوطان وتكونها، وانتهوا من كلامه، ونحسبهم ~~قد علموا قصده الذي ينزع إليه ولا يجاهد في كتمانه، فهو يريد أن يقول: إن ~~الإمبراطورية البريطانية يمكن أن تصبح على تمادي الأيام وطنا جامعا لأوطان ~~كثيرة، وإن وطنية المستقبل - لا بل الوطنية في جميع أدوارها - لا تمنع الانضواء ~~إلى علم الإمبراطورية، والدخول في عداد شعوبها. # فإن قيل له: وكيف يتفق هذا على تباعد الديار، واعتراض الأرضين والبحار؟ جاز له ~~أن يقول: إن الوحدة ms241 الجغرافية لم تكن قط شرطا لازما من شروط الوطنية، فإن ~~الإغريق كانوا موزعين على أرجاء الأرض وكانوا يذكرون أوطانهم، ولا ينسون ~~قوميتهم، وإن احتج عليه محتج باختلاف الأديان أو باختلاف اللغات أو باختلاف ~~الأجناس، سرد له الأمم التي اشتركت في «حاسة القومية» على ما بينها من اختلاف ~~في اللغة والدين والسلالة، أو ذكر له الحكومات التي بثت في الأمم معاني الوطنية ~~بما شرعت لهم من القوانين العادلة، ووطدته بينهم من النظام المكن، وهكذا لا ~~يعترض عليه معترض إلا وجد مثلا يدفع به اعتراضه، ويخرج منه على مشابهة بين ~~الإمبراطورية وبين وطن قديم أو حديث في هذا الاعتبار أو ذاك. # كذلك شأن الوطنية في تسيير حقائق العلم والروح لأهوائها وعصبياتها، ورامزي موير ~~مثل واحد من أمثلة هؤلاء العلماء الإنجليز الذين يوسطون العلم، ويبدءون وينتهون ~~بالعصبية، على أنه ليس بأعجب الأمثلة التي تجلو لك هذه الخلة في قومه، فهو مؤرخ ~~شئون حديثة والشئون الحديثة قريبة إلى مباحث السياسة ومنازعها وعاداتها في ~~الإقناع والتفكير، فإذا رأيت له أسلوب الصحفي العامل في خدمة الإمبراطورية ~~والدعوة إليها، فليس في هذا مناقضة كبيرة لصناعته ونوع بحثه ، أما العجيب حقا ~~فهو أن ترى رجلا مثل أوليفر لودج يتغنى بمآثر الإمبراطورية ويعد احتلالها ~~مصرا في صفحات المجد والفخار، فقد يصل العالم إلى هذه النتيجة من طريق درسه ~~واستقرائه، ولكنه لا يحق له أن يقرر فيها «رأيا علميا» حتى يلم بكل ما صنعته ~~إنجلترا لمصر قبل الاحتلال وبعد الاحتلال وحتى يسأل نفسه: هل وقفت إنجلترا في ~~طريق الحكومة الوطنية قبل الاحتلال وحاربتها بالكيد والدسيسة لكي تعوق تقدمها ~~أو لم تفعل؟ وهل ما عملته إنجلترا لتثقيف المصريين في مدى أربعين عاما هو كل ~~ما يجب على طالب المجد والفخار أن يعلمه أو دون ذلك؟ وهل شجعت إنجلترا أحسن ~~الأخلاق وأكرمها في أبناء مصر أو شجعت أخلاقا لا ترضاها في أبنائها، ولا تقابل ~~من يتسم بها منهم بغير الذم والزراية؟ فإذا سأل نفسه هذه الأسئلة، وراجع ~~الوثائق والأسانيد التي لا بد ms242 له من مراجعتها، وقابل بين ما تم وما كان يمكن أن ~~يتم، ووازن بين الأغراض المدعاة والأغراض الصحيحة، فله بعد ذلك أن يحكم حكمه ~~ويفصل في الأمر، كما يفصل العالم في معضلاته، ولكن هل راجع أوليفر لودج هذه ~~المراجع وحاسب نفسه ذلك الحساب؟ نظن أنه لم يفعل، وإنما أوليفر لودج الإنجليزي ~~هو الذي يتكلم عنا، وليس أوليفر لودج صاحب الدقة الرياضية، والسبحات الروحية، ~~وقائل الكلمة يزنها بميزان لا يختل قيد شعرة، ولو كان فارغا أو حائما على ~~حواشي الفروض، فإذا كان لكل هذا دلالة نستفيدها فتلك الدلالة «العلمية» هي أن ~~الوطنية أقوى وأعمق في الضمائر، وأعظم سلطانا على العقول، مما أراد العالم ~~الإنجليزي أن يقول. # على أنه هب أن رامزي موير لم يكن إنجليزيا، وإنما كان روسيا أو جرمانيا ~~يسوق آراءه في مصلحة الإمبراطورية البريطانية، فعل يدعو ذلك إلى قبول كلامه، أو ~~هل هو خليق أن يهدينا إلى حجة في ذلك الكلام يرضاها المنصف، ويسلمها الباحث ~~النزيه؟ كلا! فإن كلاما كهذا يمكن أن يساق لإضعاف المزايا الإنسانية، وتقريب ~~الفوارق بين الإنسان والحيوان، ثم هو لا يفضي إلى نتيجة ولا يدل على معنى ~~مستقيم. قد تقول مثلا ما هي معالم الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان؟ ~~أهي اللغة؟ كلا! فإن أناسا كثيرين يولدون بكما لا ينطقون ولا يعقلون، أهي ~~أعضاء الأجسام؟ كلا! فإنه ما من عضو في إنسان إلا يقابله عضو مثله، أو يقوم ~~مقامه في حيوان، أهي انتصاب القامة؟ كلا! فإن بعض الأحياء تمشي على قدمين، وبعض ~~الناس يزحفون على أربع، أهي عناصر الدم؟ كلا! فإن التحليل قد يكشف فرقا بين دم ~~الرجل ودم المرأة، وبين دم الشيخ ودم الصبي، وكلهم من بني الإنسان، وزد على هذا ~~أن الدم ليس بمزية الإنسانية العليا؛ فإن أناسا في ذروة العظمة قد يرجح عليهم ~~في نقاوة الدم وصحة تركيبه أناس في حضيض الذل والجهالة، أهي قابلية التناسل؟ ~~كلا! فإن الخيل والحمير تتلاقح وهي من نوعين، والبغال لا تتناسل وهي من نوع ~~واحد، وقد ms243 يعيش الرجل والمرأة معا عيشة الأزواج ولا ينسلان. # وقد تقول هذا وأشباهه في المعالم والمزايا التي تملأ الأبصار والمسامع فلا تكون ~~إلا مقاربا لمن يقول: إن الوطنية تشبه عدم الوطنية؛ لأن هذه المزية أو تلك من ~~مزاياها قد تنعدم في بعض الأوطان، فالحقيقة من وراء هذه الأمثلة والشكوك هي أن ~~الوطنية وعدم الوطنية نقيضان، وأن المزايا التي توجد بها الوطنية شيء، والمزايا ~~التي تنعدم بها شيء سواه، وأن الإنسان لا يمكن أن يكون وطنيا وغير وطني في ~~آن، فإذا كانت مزايا الوطنية لا تجتمع كلها في وقت واحد في وطن واحد فهذا هو ~~الأمر المعهود من قديم الزمن، والأمر الذي لا غرابة فيه ولا ينتظر غيره، ولكن: ~~هل منع ذلك أن تكون أوطان، وأن تكون غيرة على أوطان، وعداوة وصداقة في سبيل ~~الأوطان؟ لا! لم يمنعه فيما مضى ولا هو بمانعه فيما يلي، ولا هو بمتغير في ~~جوهره؛ لأننا عرفنا أن اللغة وحدها أو أي معلم من معالم القومية، لا يتمم ~~القومية بجميع المعالم في جميع الأوطان. # ومهما يقل المؤرخون، فإن هناك شيئا مشتركا في كل وطن نعلمه، وهو الشعور بفخر ~~واحد وإهانة واحدة تميز كل وطن من سواه. كيف يأتي هذا الشعور ويتغلغل في ~~الأفراد؟ أيأتي من اللغة، أو وحدة المكان، أو اتفاق العقيدة، أو ذكريات الألم ~~والفخار؟ هذا شيء يقع فيه الاختلاف على التحديد والتمييز، ولكنه لا ينفي ~~الحقيقة الأولى، وهي أن الشعور موجود وإن تعددت أسبابه وعوامله، وهذا الذي ~~يعنينا ولا يعنينا سواه. # ربما قال الباحثون: إن الأوان قد آن أو سيئون للنظر في مساوئ العصبيات، وأخطار ~~الإحن والعداوات التي تشجر بين الأقوام والأوطان، وربما قالوا: إن تهوين هذه ~~الفوارق ضرورة يقضي بها حب السلام وحقن الدماء، فإذا نحن لم نستغن بالعلم على ~~كشف الضلالات والأوهام، فأي شيء يصل بنا إلى ما نريده؟ أما الذي نقوله نحن فهو ~~أن مساوئ العصبية كمساوئ الشخصية من أكثر الوجوه، فما من جريمة أو سيئة أو ~~رذيلة إلا ومردها إلى شعور ms244 الإنسان بشخصيته، وانقياده لدوافع الأنانية ~~والأثرة، لكنا ننظر إلى الجانب الآخر فلا نرى فضيلة ولا مبرة ولا شهرة حسنة إلا ~~ومردها إلى مثل ذلك، أي إلى شعور الإنسان بشخصيته وانقياده لدوافع الأنانية ~~والأثرة، فإذا أحصينا للإنسانية حظا بلغته من فهم، أو إحساس، أو عمارة، أو ~~حضارة، فإنما أساس ذلك كله أن كل إنسان شخص مستقل بنفسه، عامل لمنفعته، متجنب ~~لضرره، وإذا قصد المصلحون أن يمنعوا شرور المجرمين، ومصارع النزاع بين الناس، ~~فهم لا يمنعونهم بنسيان الشخصية والشعور بها، وإنما يمنعونها بالتوفيق بين ~~شخصيات كثيرة، تتعدد في ظواهرها وبواطنها، ولا يحول التعدد بينها وبين التناصف ~~ورعاية الحدود. # كذلك الوطنية إنما هي للأمم بمثابة الشخصية للأفراد - بها يناط الواجب في ~~الحياة، وعليها تفرض الحقوق - فمن كان يبتغي عند أمة من الأمم خيرا تؤديه في ~~هذه الدنيا، أو حصة تساهم بها في ثقافتها وعمارتها، فلن يكون ذلك إلا بشخصية ~~قومية تفرض عليها الأعباء، وتطلب منها الحقوق، وإذا حدث في يوم من الأيام أن ~~أمة وقفت بين واجب العصبية وواجب الفكر والحكمة: العصبية تنفخ فيها روح العزة ~~والإباء، والفكر يميل بها إلى الخضوع والدعة فقد تستغني عن الفكر في هذا ~~الموقف، فتكون خسارتها موقوتة، ومصابها مما يعوض بعد، ولكنها إذا استغنت عن روح ~~العصبية ضاعت أبدا، ولم يغثها المرشدون والحكماء، وفقدت وحي الطبيعة الذي ~~ركب في الطبائع لحفظ الأفراد والأقوام، فالفكر يهدي في الأوقات بعد ~~الأوقات، وقد يخطئ وقد يصيب، أما الغريزة أو الفطرة فتخطئ وتصيب أيضا، ولكنها ~~على طول الزمن طريق الهداية الذي ينتهي إلى الصواب. # ولو رددنا بني الإنسان إلى مبدأ الخليقة ليعودوا كرة أخرى مفكرين لا عصبية ~~بينهم لاجتنبنا بعض الخسائر التي يساقون إليها مع أوطانهم وعشائرهم، ولكننا ~~نخسر معها كل ما ربحناه الآن من تنافس الأمم، ومن فضائل النفوس التي تحفظ الناس ~~أفرادا وجماعات، وتصم آذانهم عن خدعة الفكر المضلة في الأحايين وتعصمهم من ~~مخاطره التي يجر إليها حب السلامة وحصر الأمر، فالفكر كالمصباح تهتدي به إلى ~~مواقع قدميك خطوة ms245 بعد خطوة في شعب السراديب وأتياه الظلام، والأنانية الفردية ~~أو الأنانية القومية كالحبل المشدود بين تلك الشعب يهديك إلى الوجهة في مفترق ~~كل طريق، وقد تستغني عن المصباح إذا أخذت بالحبل المشدود وقاربت بين خطاك، أما ~~الحبل المشدود فلا غنى لك عنه بحال. # وبالشخصية أو بالوطنية يناط أشرف أسباب الحياة، وهو الأمل في السمو والارتفاع. ~~فما بقي للإنسان هذا الأمل فكل مفقود غيره لا يضيره، وما ضاع منه فكل موجود ~~غيره لا يفيده. قد يفشل الفرد أو قد تنخذل الأمة، فإذا بقي لهما بعد الفشل ~~والهزيمة أمل في الرفعة، فالهزيمة كالنصر، والضرر كالغنيمة، وقد يسلم الفرد أو ~~قد ترغد الأمة فإذا اشتريا السلامة بفقدان الأمل في الرفعة، فتلك سلامة الذي لا ~~يخاف على نفسه؛ لأنه أضاعها والذي لا يجشم الدفاع عن وجوده؛ لأن وجوده عالة على ~~غيره، وتلك هي منزلة الحيوان السائم أو هي منزلة الموت إذا كان لا بد أن تكون ~~الحياة حياة إنسان. # سأل الأستاذ الفرنسي فقيدنا سعدا، وهو يتقدم لامتحان الإجازة الحقوقية: أليس ~~من حق الأمم الممدينة أن تستعمر السودان؛ لأن أهله لا يعمرونه، والأرض بين خلق ~~الله يرثها الصالحون؟ سؤال لم يكن ليغيب عن سعد وجه الصواب فيه، ولم يكن ليخفى ~~عليه أن الاستعمار قد يأتي بالخير ويجلب العمار، ولكن ترى لو بطل التنافس بين ~~أصحاب الأوطان، ومن يطمعون فيها لتعميرها أي معنى يكون للقوة والضعف والتقدم ~~والتخلف؟ وأين هو الحق إذا كان المغصوب لا يعارض فيه ولا يطالب بدليله؟ فحق ~~الأستاذ الفرنسي هو حق جيل واحد وقوي وضعيف لا يتغيران، وأما حق التلميذ سعد ~~فهو حق الأجيال كافة، وحق جميع الأقوياء والضعفاء والنظرة الضيقة هنا هي نظرة ~~الرجل الذي يريد من الأمم الضعيفة أن تستهدي بالفكر ساعة، ولا تستهدي بوحي ~~الفطرة في جميع الأوقات، وليست هي نظرة الرجل الذي ينظر النظرة الأولى ثم يعود ~~إليها؛ لأنها هي النظرة الأخيرة بعد كل ما يتمحله الفكر، ويلفقه الجدل. # فإذا أردنا أن نعرف هل الأممية خير أو شر ms246؟ فالمحك الذي لا يكذب هو أمل الرفعة، ~~إن كانت «الأممية» تدع للداخلين فيها أملهم في الرفعة، فهي خير لا يناقض ~~الوطنية ولا يضير الإنسان أن يفقد في سبيله ما توجبه عليه دواعيه، أما إذا كان ~~فرضا مقضيا على الأمم يحرمها أبدا أن تسمو إلى مقام فوق مقامها، ويسجل ~~عليها أبدا أن تدين لغيرها بالسيادة والتفوق عليها فهي آفة لا تمتزج بالوطنية، ~~وخديعة لا يكون منها إلا ضرر معجل للضعفاء، ثم ضرر مؤجل للأقوياء، ولن تقيد ~~الحروب والثورات، ولكنها تقيد عدد الخصوم، وجوانب الخصومة، وليس هذا بالغنم ~~الذي يساوي خسارة الوطنية في ميزان الإنسان الخالد. # | العادة1 # بين نقائض الحياة # كلما ازددنا خبرة بالحياة، ظهر لنا أن أصعب ما فيها من المصاعب، إنما هو تغيير ~~عادة، وأن الموت نفسه لا يفجعنا في أعزائنا، إلا لأنه يقتلع من نفوسنا عادات ~~تعودناها، ويمنعنا مآلف طالما أوينا إليها، فلو مات نصف الناس - بل لو مات ~~الناس جميعا - دون أن يغيروا لنا عادة في الحس أو في العقل لما تحركنا لهذا ~~المصاب، ولا هالنا أن تنقضي كل تلك الحياة ونحن نضيق صدرا بحياة واحدة مألوفة ~~لدينا تفارقنا ، وينقطع ما بيننا وبينها، ولو رجعنا إلى مصائب النفوس كلها لم ~~نجد بينها إلا ما هو تغيير لعادة نحس به فجأة، أو على تراخي الزمن حسبما فيه من ~~مصادمة أو مجاراة. # يقال: إن الحيوان لا يعرف الموت ولا يدرك كنهه، وإن كان ليهرب منه بغريزته، ~~ويعمل كل ما يعمله عارف الموت للتعلق بحياته، والظاهر أن هذا صحيح، وأن عرفان ~~الموت حصة الإنسان وحده من هذه الأحياء، ولكن إذا فهمنا من ذلك أن الحيوان لا ~~يحس فقد الموتى من ألفائه ولا يحزن عليهم، فذلك خطأ تكذبه المشاهدة وينفيه ~~التأمل. إنما نختلف عن الحيوان في هذا الأمر بشيء واحد هو أننا نعلم إن دهم ~~الموت عزيزا علينا أن تغيير عاداتنا حاسم أبد لا رجعة له إلى آخر الزمان، وأن ~~الحيوان يحس تغيير العادة، ولا يبعد بمداها إلى غير لحظته التي هو ms247 فيها، فالموت ~~عنده والبعد إلى حين سواء في الواقع والصدمة وطبيعته من ثم أقرب إلى السلوان، ~~وأبعد منه في آن واحد. أقرب إلى السلوان؛ لأن الفناء عنده كالفراق القريب لا ~~يرجح أحدهما على الآخر عند حلول الكارثة، وأبعد من السلوان؛ لأنه هو ابن العادة ~~وأسيرها فإذا تجمعت حياته على عادة من العادات، فقد يهلك عند تبديلها ولا يجد ~~من العقل ذلك المعوان الذي يجده الإنسان، وذلك العزاء الذي يخلقه بالتأسي ~~والأمل، وكلاهما محجوب عن الحيوان. # ومن خصائصنا نحن بني الإنسان اللغة، نحصر بها المعاني فنفهمها، ونحصرها أيضا ~~فلا نفهمها، أو لا نحسها كما ينبغي لها من الإحساس بها، فهذه كلمة «مات» ماذا ~~يتبادر إلى الذهن من لفظها مفردة بغير «فاعل» يقترن بها؟ يتبادر إليه أن فعلا ~~واحدا حدث هو الموت، وأن شيئا واحدا بطل هو الحياة، ولكن هل هذا تصور صحيح ~~للحقيقة؟ هل هذا من الحصر الذي يحيط بجوانب الحوادث، أو من الحصر الذي يطمسها ~~ويخفيها؟ الحقيقة أنه لا الموت فعل واحد ولا الحياة شيء واحد، وإنما الموت ~~أفعال كثيرة، أو بطلان أفعال كثيرة، والحياة هي كل ما يشتمل عليه معجمنا من ~~أقوال وأفعال. # يعرف هذه الحقيقة بحسه ووجدانه من جرب فقد عزيز عليه. يعرف أنه يأسى على أشياء ~~لا عداد لها حين يأسى على ذلك العزيز، يأسى على كلمات سمعها لن يسمعها بعد ذاك، ~~وعلى ملامح رآها لن تلم بها عيناه، وعلى مجالس حضرها لن ترجع بها الأيام، وعلى ~~مسرات اشترك فيها لن يجد شريكه عليها أبد الأبيد، وعلى غدوات وروحات ومناظر ~~ومسامع وأشواق وفجائع تنتزع كل منها انتزاعا من مكانها في النفس الموجعة، ~~فكأنما النفس بها مصرع أشلاء أو ميدان يئن فيه الجريح، ويبغت المصعوق، وكأنما ~~في النفس مقتلة طائشة حين تنكب بفناء صديق له فيها ما له من الآثار، وكأنما كل ~~أثر حفظته من صديقها روح حية، تعالج سكرات الردى وتستمسك بالبقاء، فالموت فعل ~~واحد في اللغة، ولكنه أفعال لا حصر لها في طوايا النفوس، ومن مات ms248 له عزيز فهو ~~هو الواقع في غمرة الموت يمشي في عالم الحياة بجيش من الجرحى والهالكين، ~~والحياة بحذافيرها ما هي، أليست عادة واحدة كبيرة؟ أليست جملة عادات تجمعت في ~~بنية واحدة؟ لقد كان المتنبي بصيرا ملهما حين قال: # إلف هذا الهواء أوقع في الأنف # س أن الحمام مر المذاق # فإنما الحياة إلف هذا الهواء، وهي إلفة، أو عادة، من وقع في أسرها شق عليه ~~الفكاك منها. # ولكن من نعني إذا قلنا: إن الإنسان يألف الحياة؟ نعني ذرات في الجسم الحي ألفت ~~أن يتصل بعضها ببعض، وأن يكون اتصالها هذا على صورة خاصة بها، فإذا كانت جرأة ~~من الإنسان على الموت فليست هي إلا تلك الجرأة النبيلة على اقتحام الحديد، ~~وليست هي إلا الفتح للمجهول والغلبة على أسر القيود، وقد يتعود الإنسان ذلك ~~أيضا فلا يقدم على ترك الحياة إلا بقوة من الحياة. # إن تعقب الدرجات التي تترقى فيها الكائنات تهدينا إلى فروق بينها، يمكن إجمالها ~~في فرق واحد، وهو أن الخليقة كلما ارتقت كانت آية ارتقائها القدرة على ~~الابتداع؛ أي على اقتحام المجهول والغلبة على القيود، فبين الجماد والنبات ~~والحيوان والإنسان فروق خلاصتها أن أرقى هذه الكائنات أقدرها على قهر العادة ~~بعادة أكبر منها، بل لك أن تقول: إن أرقى هذه الكائنات من تم له الانتقال من ~~العادة البسيطة إلى العادة المركبة، ومن العادة المحصورة في نفسها إلى العادة ~~التي تشرئب لما فوقها، وسنعيد هذا القول بعبارة أسهل موردا على الذهن، وأبعد ~~عن أغراب الفلسفة التي تصد بعض الأسماع عنها، فنقول: إن الابتداع هو علامة ~~الارتقاء، وإن الابتداع هو الخروج على العادة، وإن القدرة على الابتداع لن تخرج ~~عن كونها عادة أخرى لا رأي للمرء في اتباعها أو اجتنابها، وإنما هي عادة أرفع ~~من عادات وقيد أجمل من قيود. ~~••• # ألاحظ أنني كلما دخلت حجرة مظلمة مددت يدي إلى مفتاح الإنارة أديره، قاصدا أن ~~تضيء تلك الحجرة، فإذا تكرر هذا العمل مرات في أيام متواليات تعودت يدي أن تمتد ~~إلى مكان ms249 المفتاح بقصد وبغير قصد، فإذا كان الوقت نهارا وكنت مشغول الفكر في ~~أمر من الأمور أدرت المفتاح، ولم ألتفت إلى ما صنعت إلا بعد حين، وقد يكون ~~الوقت ليلا والحجرة مضاءة فتتحرك يدي بغير تفكير إلى المفتاح تديره، فإذا ~~الحجرة مظلمة فأنتبه إلى خطأ اليد في هذه الحركة، فالعمل الذي تتعوده يعفيك من ~~مؤنة التفكير والتدبر، ويريحك من جهد الإنشاء والموازنة، ولكنها راحة لا تنال ~~إلا على حساب ملكة معطلة، وقدرة في الذهن مهملة. أو كما قال أبو تمام: # بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها # تنال إلا على جسر من التعب # ففي كل حرية تبعة ومشقة، وفي كل راحة إعفاء من تبعة وسلامة من مشقة، وهنا تتلخص ~~محاسن العادة ومساوئها، فإذا هي تسهيل وحرمان في آن واحد. # تعود عملا من الأعمال تسقط عنك كلفاته وتبعاته، ويسهل عليك أداؤه، ولكنك تخرج ~~بذلك العمل من حيز الابتداع، وتدخل به في حيز الآلية، فأنت كاسب خاسر، ومستهدف ~~لراحة الإعفاء وخطره في وقت واحد، ولن تسلم من مغبة العادة إلا إذا «تعودت» أن ~~تكون مبتدعا أبدا تتخذ من تسهيل بعض الأشياء سلما إلى اقتحام ما فوقها ، كما ~~يصنع القائد الفاتح حين يأمن على أرض ذللها ليتخذ منها حصنا يهجم منه على ما ~~بعدها، فأما أن تخرج بالعادة من دائرة الابتداع أبدا فتلك خسارة وعبودية، وكل ~~ما فيها من راحة إنما هو راحة العبد يعفى على طوع أو كره من تكاليف الأحرار ~~وتبعات «المسئولين». # ويقول ببليليوس سيروس الروماني: «في بعض الأحيان يكون من الشر أن تعود نفسك ما ~~هو خير» وهذا قول حكيم، ونظر صحيح، فإن العادة خير إذا سهلت لك عمل الخير، ~~وسوغته لطبعك، وأجرته من أخلاقك مجرى الأمر الذي لا تعسف فيه ولا إرهاق، ولكنها ~~شر إذا سلبتك التصرف، وجعلتك عبدا لشيء من الأشياء لا مفر لك منه، ولا علم لك ~~بالمواضع التي يحسن فيها اجتنابه، فالابتداع - بعد كل ما يقال - هو أحسن ~~عاداتنا؛ لأنه رفيق الحرية ورفيق التبعة، نتجدد به ولا نخسر بالتزامه ms250، وسنة ~~الحياة هي سنة الابتداع، فهي لا تفتأ في جديد وهي لا تطمئن على محصول حتى يلج ~~بها القلق، ويحملها الشوق إلى سواه، وقد كانت الهجرة عادة حسنة لبعض الطير، ~~وكانت له فيها سلامة ونجاة؛ فلما اعترض البحر طريق هجرته أصبحت وبالا عليه أشد ~~من الوبال الذي يخشاه؛ وكثير من الناس من يألف الشيء فيجني به خيرا، أو يمهد ~~به طريقا وعرا، ولكنه يتمادى فيه فينقلب عليه، ويحتاج إلى الخلاص منه، ولا ~~ضير على الإنسان أن يعدل عن صواب أصبح خطأ، وإنما الضير أن يستعبده الصواب، ~~فإذا هو مخطئ على الرغم منه، وإذا هو شر من المخطئ الذي يفكر ويريد. # وتعجبني كلمة لوزير إنجليزي - أظنه تشمبرلن الكبير - إذ عيره خصومه أنه تحول من ~~رأي كان يؤيده ويشتد في تأييده، إلى رأي يناقضه كل المناقضة، فقال الوزير ~~الأريب: إنني لا أحب أن أستعبد نفسي حتى لما كنت أقوله في أمسي! وتلك كلمة قد ~~يقولها السياسي اللبق ليقضي بها لبانة ويخدع بها جمهورا، ولكنها قد تجري على ~~لسان الحكيم، فلا يعيبها مراء ولا يشوبها خداع. # وإن الخطأ لمعدود في بعض الأحوال من فضائل الإنسان، ودلائل الإدراك، فالنحلة لا ~~تخطئ في شكل خلاياها، ولا تغلط في تقويم مكعباتها، والإنسان عرضة للغلط في كل ~~شيء يرسمه، وفي كل بناء يقومه، ولا يكون غلطه إلا دليلا على سعة الجوانب، ~~واضطلاعه بأعباء الصواب، وقد نهبط من النحلة إلى الآلة المسيرة، فنقول: إن ~~المطبعة لا تنحرف نسخة من كتابتها عن نسخة، وقد تنحرف كل نسخة يكتبها الإنسان ~~عن الأخرى، فمن الاستعداد للصواب أن تكون مستعدا للخطأ، ومما يشين الصواب ألا ~~تكون قادرا على غيره، ولا مختارا في اتباعه والمواءمة بينه وبين زمانه ~~ومكانه. # وفي تركيب الطبائع أن تحب الذين يدركهم ضعف الإنسانية، وتنفر ممن لا يدركهم ذلك ~~الضعف في بعض جوانب الشعور، فإن النفس التي تشعر تخطئ، والنفس المعصومة ليست من ~~بني الإنسان، فلا قرابة بيننا وبينها ولا تعاطف ولا محبة، والطفل أكثر الناس ~~خطأ ولا يمنعه ms251 ذلك أن يكون أحب إلينا من الكهول الحكماء، والشيوخ المحنكين؛ لأن ~~العطف من الحياة والحياة لا تنافي الخطأ وإنما تنافي الجمود، فلا الفكر إذن ولا ~~العاطفة يمنعان الخطأ، ولكنهما يمنعان أن يظل الإنسان آلة تستعبدها العادة ~~وتستكين بها السهولة، ولا أدري ماذا يعني من قال إن الحياة تضحية مستمرة، ولكني ~~أستطيع أن أفهم من قوله هذا أن التزام العادة أثرة مريحة، وأن تغيير العادات ~~تعب وتضحية، وأن الحياة لا تني تدفعنا في طريق تغيير العادات، فلا نطمئن إلى ~~مألوف حتى نزهد فيه لنألف، ثم نزهد فيه دواليك بغير انتهاء، فالحياة بهذا ~~المعنى فداء متجدد، وألفة بعدها فرقة، وفرقة تعود إلى ائتلاف. # الناس أحباء ما ألفوا، أعداء ما جهلوا، هذا صحيح، وقد يكون صحيحا مثله أن ~~الناس أعداء ما ألفوا، أحباء ما جهلوا، فإننا لا نزال على ما فينا من الاستراحة ~~إلى المألوف الذي نهواه مدفوعين إلى المجهول الذي لا نراه، ولا نزال نألف ثم ~~نترك ثم نألف، فنشقى بهذا النقل ولا يلوي بنا الشقاء، وقوام القولين أن العادة ~~راحة وسكون، والحياة حركة وابتداع، فنحن بخير ما جرت عاداتنا على سنة الحياة ، ~~وبقيت لنا القوة التي تعيننا على تبدل الراحات، وتعاقب المألوفات حتى إذا فقدنا ~~هذه القوة أصبحنا شيئا آخر، لا يحسن التبدل أو لا يحسن الحياة، وفقدنا العادة ~~الكبرى التي تنطوي فيها جميع العادات. # | العقل والعاطفة1 # حول رد الأستاذ الزهاوي # قرأت في زميلتنا «السياسة الأسبوعية» ردا للأستاذ الزهاوي على مقال كتبته عنه ~~مجيبا به الأديب التونسي الذي سألني إبداء رأيي فيه، وكان فحوى ذلك المقال أن ~~نصيب الأستاذ الزهاوي من الملكة العلمية، أكبر وأصلح من نصيبه من الملكة ~~الفلسفية والملكة الشعرية، ولم يرض الأستاذ عن هذا الرأي، فكتب رده في السياسة ~~الأسبوعية يناقشه ويناقض الأسباب التي بنيته عليها، فهو يحب أن يقول: إنه ~~فيلسوف، وإنه شاعر، لا يقل حظه من الفلسفة ومن الشعر عن حظه من الملكة العلمية. ~~وليس يضيرني أنا أن يزيد عدد الفلاسفة والشعراء في الأرض واحدا أو ms252 أكثر، فإنني ~~لم أتكفل بهم، ولا تحسب علي أخطاؤهم، أو يختلس مني صوابهم، ولست ممن يحبون ~~الجدل في غير حقيقة تجلى أو رأي يستوضح، فإن الجدل الذي يطول فيه الأخذ والرد ~~لغير شيء من هذا هو لغو كلام، وفضول بطالة، فإذا رجعت اليوم إلى الموضوع فليست ~~رجعتي إليه لحرص على تقليل حظ الزهاوي من الفلسفة والشعر ولا لمطاولة في الجدل، ~~وإنما هي لاستخراج الحقيقة التي أردتها من رد الأستاذ نفسه، وبيان المعنى الذي ~~ذهبت إليه من طريقة الأستاذ في ملاحظة الأشياء وفهم أعمال الناس. # ليس للمجهول ولا للعاطفة حساب كبير في إدراك الأستاذ الزهاوي لأعمال الإنسان، ~~ولهذا هو يخطئ في تصورها والحكم عليها ومتابعتها إلى أسبابها وغاياتها، وفي رده ~~أدلة كثيرة على حاجة الفيلسوف - فضلا عن الشاعر - إلى حسبان ذلك الحساب، وفهم ~~الإنسان ومكانه في هذا الكون، كما هو إنسان في حقيقته لا يتصوره الذين يستهدون ~~بالعقل وحده غير معتمدين على البديهة وعلى الشعور، وإليك بعض هذه الأدلة مأخوذة ~~من ذلك المقال. ~~(1) # يقول الأستاذ الزهاوي: «من طار بجناح العقل أخيرا لندبرغ؛ ~~وصل إلى باريس من نيويورك في 34 ساعة، فليخبرني الأستاذ إلى ~~أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة؟» # وأنا مخبره إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة: أخبره ~~أنهم وصلوا من نيويورك إلى باريس في 34 ساعة، ولعلهم يصلون ~~غدا في أقل من هذه الساعات؛ لأن لندبرغ لم يطر على المحيط ~~الشاسع المخيف بجناح العقل، بل بجناح العاطفة وحدها طار، ~~وعلى جناح العاطفة وحدها تلقته الجماهير التي هتفت له هتاف ~~الحمد والإعجاب، ولم يسبق لندبرغ طائر في الفضاء، ولن يلحق ~~به طائر مثله إلا كانت العاطفة هي محركه وهي جناحه وهي جزاؤه ~~إذا نجح وعزاؤه إذا خاب، وليس الطيران كله إلا حلما من ~~أحلام العواطف أجج الرغبة وألهب الخيال، فجاء العقل كالخادم ~~الأجير يحقق ما تعلقت به الأخيلة، واتجهت إليه الرغبات. وأي ~~عقل يزين للندبرغ أن يخاطر بحياته بعد كارثة المفقودين في ~~هذا المضمار القاتل؟ وأي عقل يزين له أن يرفض المال ms253 الذي ~~انثال عليه من شركات الصور وطلاب المحاضرات والمساجلات؟ ليس ~~العقل هو الذي أعطانا الطيارين وآلات الطيران، وإنما هي ~~دوافع الإحساس وبواعث الخيال، وهي «العواطف» التي تحمل ~~الإنسان على كل جناح إذا قعد به التفكير وحده في قرارة العجز ~~والجمود. # ونتجاوز نحن هذا الحد إلى ما بعده، فنقول: إن الغربيين في ~~هذا الزمان يسبقوننا في ميدان الكشف والاختراع؛ لأنهم يطلبون ~~من الحياة فوق ما نطلب لا لأنهم يحسنون ما لا نحسنه من الفهم ~~والتفكير، فكل مصنوع يصنعه الغربيون نستطيع نحن الشرقيين أن ~~نفهمه ونصنع على مثاله، ولكننا لا نستطيع البداءة؛ لأنها ~~وليدة البواعث وهي قاعدة عندنا ناهضة عندهم، فالتفاوت بيننا ~~وبينهم تفاوت في البواعث أي في الخلق والإحساس، وليس تفاوتا ~~في العقل والتفكير، وطريقنا نحن في الإحساس بالأمور هي التي ~~ينبغي أن يتناولها الإصلاح، وليست طريقتنا في فهم ما يحتاج ~~إلى الفهم والتحصيل. ~~(2) # ويقول الأستاذ الزهاوي: «أنا مادي لا أرى لغير الحواس ~~أبوابا للمعرفة مستثنيا من ذلك معرفة ذاتي، ولا آذن للخيال ~~أو العاطفة أن يلجا باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا ~~يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري.» # أما الذي أقوله أنا فهو أن الحياة هي خلقت الحواس، وهي ~~صقلتها وهذبتها، وألهمتها أن تعي ما يتصل بها، وأن الحياة لم ~~تعلن إفلاسها بعد خلق الحواس ولا قبله، هي شيء أكبر من ~~الحواس، وهي على اتصال وثيق لا انفصام له بهذا الوجود قبل أن ~~نفتح بينها وبينه نوافذ الآناف والأذواق والأسماع والأبصار، ~~وأن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من ~~باطن النفس لا من ظواهر الأشياء. فالدنيا لا تتغير ولكن نظر ~~الشاب إليها غير نظر الشيخ وإحساسه بها على الجملة غير ~~إحساسه، لماذا؟ لأن الحواس تستمد شعورها من القوة الحية التي ~~خلقتها ونوعتها، وهي قادرة على تغيير الخلق والتنويع، وليس ~~من المنطق الصحيح ذلك المنطق الذي يجهل أن الوظيفة تسبق ~~العضو، وأن القوة الحية تنشئ الحاسة وتزيدها وتهذبها، فهذه ~~القوة الحية تدرك ما ms254 هي فيه وإن اختلف أسلوب إدراكها عن ~~أسلوب الحواس في الإدراك، بل لولا هذه القوة الحية الخالقة ~~لما عملت حاسة في الجسم شيئا، فلتكن للحواس إذن معرفتها ~~المحدودة التي نعهدها في العلوم والصناعات، ولكن لا يغرب عنا ~~أبدا أن وراء هذه الحواس ينبوعا لا ينفد من وسائل الإدراك، ~~وإن كان إدراكا لا حد له من الصيغ والتعريفات. ~~(3) # ويقول الأستاذ الزهاوي: «لو جعلنا الخيال والبداهة في ~~المنزلة التي يضعهما فيها الأستاذ الفيلسوف، لوجب أن يكون ~~الإنسان البدائي بل الحيوان أكبر فلاسفة الأرض لولا ما ~~ينقصهما من البصيرة والحساب، أما الذي أعرفه أنا في الفيلسوف ~~فهو تحريه للحقائق المستورة عن الأكثرين بنظره النافذ ليكشف ~~أسرار الطبيعة، ويستفيد من نواميسها ويفيد غيره، وما ~~الفيلسوف ذاك الذي يرضي عواطفه وإلا كانت الحيوانات كلها ~~فلاسفة كما سبق، وكم جرح دارون الشهير عواطف الناس بنظريته ~~في نشوء الإنسان من الحيوان، وكم خالفه أهلها وكم مقتوه ~~وعادوه وسبوه لأنه خالف عواطفهم، ولكن في النهاية كان هو ~~الفيلسوف ومعارضوه بقوا ذوي عواطف لا غير.» # هذا الذي يقوله الأستاذ الزهاوي! ويدهشني منه أنه يتكلم عن ~~العاطفة كما يتكلم عنها المغنون، و «أولاد البلد» حين يتشاكون ~~جرح العواطف ويتناشدون رعاية الإحساس! فهم إذا قالوا: «فلان ~~صاحب عواطف» قصدوا بهذه الصفة أنه لا يجرح عواطف الآخرين، ~~وأنه «حسيس» بالمعنى الذي يفهمونه! وليس هذا ما نريد؛ لأن ~~العواطف قد تجرح العواطف كما تبقي عليها، فالحب عاطفة ولكنه ~~يجرح نفوسا كثيرة، والغضب والإعجاب والحماسة والغيرة عواطف ~~كلها، ولكنها قد تجرح من النفوس أكثر مما تواسيه، وليس ~~تقسيمنا الناس إلى أصحاب عقول وأصحاب عواطف تقسيما لهم إلى ~~من يجرحون نفوس الآخرين ومن لا يجرحونها، فإن أصحاب العقول ~~لربما عرفوا كيف يسوسون الناس فلا يغضبونهم فكانوا بذلك أقمن ~~ألا «يجرحوا العواطف» بلغة المغنيين و«أولاد البلد» ~~المتظرفين. # وأدعى من هذا إلى الدهشة أن يقول الأستاذ: إن نصيب الحيوان والإنسان الأول من ~~الخيال والبديهة أكبر من نصيب الإنسان الأخير، فالحقيقة أن الحيوان لا خيال له ~~ولا ms255 بديهة، وأن الإنسان الأول أقل نصيبا من الإنسان الأخير في هاتين الملكتين. ~~وليس نصيبنا نحن من الفهم ما نعلم أننا نفهمه، بل نحن نفهم أشياء شتى بالبديهة ~~والخيال، ولا نعلم بها وهي تعمل عملها في الإحساس والتفكير. # ولقد ذكر الأستاذ اسم دارون صاحب النشوء والارتقاء، فهل له أن يذكر أيضا أن ~~الخيال كان أصدق من العقل ألوفا من السنين، حين كان العقل يجزم بقيام كل نوع ~~على انفراده، وكان الخيال يقص علينا قصصه ويجزم لنا بتقارب الأنواع، وتلاقح ~~الإنسان والحيوان! نعم إن الخيال لم يفصل لنا «النظرية» العلمية؛ لأن له شأنا ~~غير هذا الشأن، ولكن ألم يعم العقل من تلك النظرية كل العمى يوم أن كان الخيال ~~يرسمها محرفة بعض التحريف من وراء الظلال والرموز؟ وهل للأستاذ أن يذكر أيضا ~~أن دارون ما كان لينفذ بفطنته إلى تقارب الأنواع لولا روح العطف الذي كان يحس ~~به خوالج الحيوان وتعبيراتها على الوجوه والأعضاء؟ أيمكن أن يؤلف كتاب ~~التعبيرات الحيوانية ودلالاتها رجل لا يخالطه العطف العميق، ولا يسري بينه وبين ~~الأحياء سيال من الإحساس الدقيق؟ وما هو نصيب العقل بعد كل هذا في مذهب النشوء ~~والارتقاء؟ ما كان له من نصيب إلا أن يصحح أخطاءه هو لا أخطاء الخيال ولا أخطاء ~~الإحساس، فالحقائق التي استند إليها النشوئيون قائمة منذ الأبد، والعقل هو الذي ~~كان يداريها أو يضلل فيها الخيال والإحساس. # ويسألني الأستاذ: «لا أدري أي مناسبة للعاطفة بالمنطق» وهذا الذي أقوله أنا ~~وأقول معه: إن مناسبة العاطفة أنها هي شيء موجود لا يصح المنطق إلا إذا حسب له ~~حسابه، فأي منطق يحق له أن يقول عن عمل من أعمال الناس ينبغي أن يكون هكذا، أو ~~لا ينبغي أن يكون كذلك إن لم يكن يحس العاطفة الإنسانية ويستكنه مضامينها ويقيم ~~لها وزنها؟ إن الأستاذ ينبئنا أن العقل أسعد الإنسان بالعلم فما هي السعادة! إن ~~لم تكن عاطفة فهي لا شيء، وإن لم يكن العلم علم إنساني «عاطف» فلا حاجة به ~~لإنسان. ~~••• # نود أن ms256 يتأكد هذا في العقول؛ لأننا على مرحلة يجهل فيها الشرقيون ما يعوزهم، ~~فيجب أن يعلموا أن الذي يعوزهم هو «الإحساس القويم»، وأن سبيل خلاصهم هو سبيل ~~العاطفة الحية والشعور الصادق الجميل، أما نظرية الدور والتسلسل، فهي لا تعنينا ~~في هذا الصدد، ولكني أرجو الأستاذ الزهاوي أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ~~وهي: ~~(1) # ألا يمكن أن يقول إن عدد «الأشكال» لا نهاية له بنفس ~~المعنى الذي نريده حين نقول إن عدد الأجرام والجواهر لا ~~نهاية له في هذا الفضاء الذي لا يتناهى؟ ~~(2) # لماذا نشترط البعد في الزمان والمكان لظهور الشخصين ~~المتماثلين كل التماثل! لماذا يتحتم أن يكون أحدهما في هذا ~~الزمن والآخر على مسافة ملايين السنين أو ملايين الأميال؟ إن ~~المقتضي للتماثل هو أن الأشكال تتناهى والجواهر لا تتناهى في ~~قول أصحاب الدور والتسلسل. حسن، فلا داعي إذن لاشتراط ~~التباعد بين الشخصين المتماثلين في الزمان والمكان، بل يجب ~~أن نرى أناسا كثيرين يتماثلون على سطح هذه الأرض في المدينة ~~الواحدة وفي الوقت الواحد وإلا كان رأي أصحاب الدور والتسلسل ~~باطلا يستند إلى دليل مشكوك فيه. أم تراهم يشترطون التباعد ~~ليقولوا لنا إذا أنكرنا دعواهم : اذهبوا فطوفوا الفضاء الذي ~~لا حد له، وجوسوا في جوانب الزمان الذي لا بداية له ولا ~~نهاية، فإن لم تجدوا أناسا يتماثلون وأجراما تتماثل فنحن ~~إذن المخطئون وأنتم المصيبون، إن وجدتم فعودوا إلينا إذن ~~بالنبأ اليقين؟! # إن اللحظة الحاضرة من الزمان تشمل أشياء مختلفة، مضت عليها أزمنة مختلفة، ~~وأوضاع مختلفة، فهي بهذه المثابة ككل لحظة من الماضي أو المستقبل، وإن هذا ~~الوضع من المكان هو ككل موضع غيره في اقتضاء التماثل إن كان له اقتضاء؛ فإذا ~~وجب أن نرى شخصين أو أكثر من شخصين يتماثلون كل التماثل على كوكبين بعيدين في ~~زمنين بعيدين فيجب - لهذا السبب عينه - ألا يمتنع ظهور مثل هذين الشخصين في هذا ~~المكان في الزمن الحاضر، وإلا فما هو المانع إن كان أصحاب الدور والتسلسل ~~يمنعونه فيما يزعمون؟ # نرجو الأستاذ أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ms257، ونحن نرجح أنه لا يجيب عنها أجوبة يسهل ~~التوفيق بينها وبين القول بالدور والتسلسل، وليعلم حفظه الله أنني لا أجد عزاء ~~لنفسي في تكرار «العقاد» إلى غير نهاية بين أجواز الفضاء وأبديات الزمان، فإذا ~~ثبت له ثبوت اليقين أن في هذه اللحظة عقادين لا عداد لهم يكتبون مقالاتهم في ~~بلاغاتهم الأسبوعية التي تصدر في قواهرهم وأفريقاتهم للرد على الزهاويين الذين ~~لا أول لهم يعرف ولا آخر لهم يوصف، فرجائي إليه أن يكتم عني هذه الحقيقة، فما ~~في علمها إلا الشقاء بتضاعف الأشغال وتراكم الأحمال، وما في ذلك ترفيه ولا ~~عزاء! # | شكسبير (1)1 # سيان أن نكتب عن شكسبير، أو عن الطبيعة البشرية، وحقيقة الشاعرية، فشكسبير ~~عنوان كلا عنوان، وموضوع كلا موضوع؛ لأنه هو موضوع يمس حياة الإنسان وكل شيء ~~يعنينا من خلائق النفوس، إذ أي شيء «إنساني» ليس شكسبير؟ وأي شيء يعنينا في هذه ~~الدنيا ليس بالإنساني في بعض نواحيه؟ # في روايات شكسبير وأشعاره رجال كثيرون، يعملون ويتكلمون ويتفكرون بما تعرب عنه ~~الكلمات، وبما تنطق به المواقف ولا يلفظه اللسان. هم على اختلاف في المراتب ~~فمنهم الملوك والوزراء والقادة والتجار والصناع والمتسولون ومن لا مرتبة لهم ~~ولا عمل، وهم على اختلاف في الطبائع والأخلاق، فمنهم الكريم واللئيم، وذو ~~النجدة والأريحية، وصاحب الدسيسة والخديعة، والحكيم الأريب والأبله المغرور، ~~والعليم والجهول، والقوي المستضعف وأولو الكفاية في كل فن من فنون الحياة، ومن ~~لا كفاية لهم في شيء من الأشياء، وهم على اختلاف في الحالات والأطوار فمنهم ~~الظافر والمخفق، والراضي والغاضب، والمستبشر والقانط، والمحب والسالي، والطامع ~~والزاهد، ومن هو مزيج من هذه الحالات ومن ليس له في حالة منها نصيب معدود، وهم ~~على اختلاف في الأسنان فمنهم الشيوخ الفانون، والفتيان في مقتبل الحياة، ~~والكهول والصبيان، وكل هؤلاء يعرضهم شكسبير عليك فإذا هم يعملون كما ينبغي أن ~~يعمل، ويقولون كما ينبغي أن يقال، ويفكرون كما ينبغي أن يعهد فيهم التفكير، ~~ويسيرون في حياتهم وبين أصحابهم وعشرائهم كما ينبغي أن تكون السيرة لكل سن، ~~ولكل حالة ولكل ms258 خليقة ولكل مقام، وإذا بهذا الشاعر في علمه الذي لم يأخذه عن ~~الأساتذة، وفي مرتبته التي لم تعد يسار الفقراء، وفي وظيفته التي تقلب فيها بين ~~الفلاحة والتمثيل، يصور لك الملك في حالاته وكلماته فلا يخطئ التصوير، ويمثل لك ~~كل إنسان فلا يخالف الحقيقة ويجيء لك بروايات كأنما هي خريطة الدنيا وضعت لتنشأ ~~الدنيا على خطوطها من جديد إن أدركها البوار. # أعجب من هذا في العجب نساء رواياته وهن متباينات في السن، والمزاج، والفكر، ~~والخليقة، والبيئة، والمقام. محبات على اختلاف في اللهو، وطيبات على اختلاف في ~~الطيبة، وداهيات على اختلاف في الدهاء. كلهن صنعة كاملة لا أمت فيهن ولا عوج، ~~ولا مبالغة ولا تفريط، فلو قيل: إن شكسبير رجل ولا يخفى عليه ما في طبيعة ~~الرجال عظموا أو صغروا، وطابوا أو خبثوا، فماذا يقال في تصويره للنساء إلا أنه ~~إلهام نافذ وبصيرة صادقة، تنطبع عليها مشاهد الحياة فإذا هي كلها على حد سواء ~~في الجلاء والإتقان؟ # بل أعجب من هذا في العجب أن يدخل شكسبير في رواياته أناسا مرضى العقول أو ~~مصابين بضروب الهوس، فيقول عنهم أو يجعلهم يقولون ما لم يعرفه أطباء عصره، وما ~~لم يعرفه الطب الحديث إلا منذ عهد قريب، ثم يأتي الأطباء المتفرغون لهذه ~~الأمراض، فيأخذون أعراضها من رواياته كما يأخذونها من كل تجارب المستشفيات، ~~ويستعرضون دلائلها في أبطاله كما يستعرضونها في بدوات المرض وفي كتب «التشخيص». ~~وتلك آية لا مثال لها على استقامة القريحة في الملاحظة والاستيعاب، فكأنما هي ~~خلايا الجسم الصحيح يأخذ كل منها حظه من الغذاء، ويقوم بقسطه من العمل بلا ~~إملاء ولا تدبر ولا اكتراث. # وربما كان أعجب من كل هذا علمه بعادات الجماهير، والتفاته إلى أطوار الجماعات، ~~وأساليب الدعاة في تقليب شعورها من السكون إلى الهياج، ومن المودة إلى العداء، ~~ومن الشكر والإعجاب إلى الذم والانتقام، فمذ كم من السنين بدأ العلماء يكتبون ~~في «نفسية الجماعات» ويدرسون طبائع الجماهير، ويدونون الحقائق والآراء عن هذا ~~الباب الجديد من أبواب النفسيات؟ منذ سنين ms259 لا تتجاوز الخمسين، ولم تكن في عصر ~~شكسبير حكومات شعبية كالتي نعرفها اليوم، فكنا نقول: إنه نقل عما سمع ورسم على ~~ما رأى، ولم يصل إليه من أنباء الرومان واليونان إلا ما وصل إلى كل قارئ بين ~~عامة القراء في زمانه، فما استخرج منه أحد «علما» لأهواء الجماعات، ولا وصفا ~~لأساليب الدعاة، ومع هذا أي أستاذ في النفسيات يفطن إلى دقائق هذه المعاني كما ~~فطن إليها صاحب رواية «يوليوس قيصر»، وواضع الموقف الذي انقلب فيه «الجمهور» من ~~موالاة قاتليه إلى ملاحقتهم بالمسبة والتعزير، واشتداد الطلب في أثرهم بالقتل ~~والتدمير؟ أي خطيب يعرف من أسلوب الدعوة ما عرفه ملقن «مارك أنطوني»، ذلك ~~الخطاب الذي بدأ بالبكاء وانتهى بالفتنة العمياء. # لقد بلغ من إغراب شكسبير في ابتداع الصدق أنك لا تقف فيه عند غريب، وصار في هذا ~~الوصف كالأيام «كله عجائب حتى ليس فيه عجائب.» فأنت تمر بشخوصه وأقوال رجاله ~~ونسائه، كما تمر بمدينة قد ألفتها عشرين سنة لا يخفى عليك خاف من مناظرها ولا ~~بديع مستغرب من مظاهرها، وتكاد لا تحس ببصرك وسمعك وأنت عابر في أحيائها. كل ~~هذا مألوف معروف صادق مشاهد ، لا شك فيه ولا شبهة في وجوده، فأين يقف الإنسان ~~ليتأمل وأين يشعر بحسه لينظر ويسمع ويتدبر؟ هذه هي غرابة شكسبير التي بذت ~~الغرائب، وتلك هي معجزته التي تعنو لها المعجزات، فأنت لا ترى فيه إلا صدقا ~~وحقا ولا تفاجئك الدهشة، حتى فيما يخيله إليك من مناظر الجنة والعفاريت ~~والأرواح والأطياف؛ لأنك تراها هناك كأنك تعهدها على هذه الصفة بما أفرغه عليها ~~الشاعر من حلة الصدق، وبما خلقه لها من شخوص تلائم ما يروي لها من صفات وأعمال، ~~وقد أصاب الفيلسوف شلجل في بيان هذه الحقيقة فقال: «إن هذا البرومثيوس # 2 # لا يخلق الناس وحسب، بل هو يفتح لنا أبواب عالم الجنة المسحور، ~~ويستحضر لنا أطياف الظلام، ويعرض لنا ساحراته في زوايا الأسرار المحجوبة عن ~~رحمة الله، ويعمر الهواء بلواعب الجنة وهواتف الأرواح، فإذا بهاته الأخلاق التي ~~لا وجود ms260 لها في غير أوهام الخيال تتراءى في صدق واتساق، وتبدو لنا - ولو كانت ~~أعجوبة شائهة مثل كليبان - على نمطها الذي يخيل إليها لو ظهرت في الحياة لسارت ~~في شئونها هذه السيرة، ولك أن تقول: إنه كما ينفذ بقريحته الخصبة إلى عالم ~~الطبيعة ينفذ بالطبيعة إلى عالم القرائح وراء الواقع والحقيقة، فنحن نضل في تيه ~~الدهشة حين نرى الخوارق والأعاجيب، وما لم يرد على الأسماع قريبة منا هذا القرب ~~الحميم.» # هذه قدرة لم يضارع شكسبير فيها أحد من شعراء الأرض قاطبة، ولم ينسغ في الغرب ~~شاعر يسوغ للشهرة والعبقرية أن تسولا له التطاول إلى مقامه، إلا شهد له بهذه ~~المنزلة التي لا تطاول، واعترف بها اعتراف من يقر بعظمة الله فلا غضاضة فيها ~~ولا عار، إذ هي قدرة شذت وانفردت حتى علت على الأنانية والعصبية، وأصبحت من ~~عجائب الطبيعة التي لا يضير المرء أن يشهد بها لهذه الأمة أو لتلك، ولا يخطر له ~~أن ينكرها على أهلها وصاحبها، إلا إذا خطر له أن ينكر الشلال على نياجرا أو ~~الدر على البحار، فليس شكسبير بإنسان من الناس في هذا الاعتبار ولكنه خارقة ~~إلهية لا يدخلها الناس فيما بينهم من المنافسات والموازنات، بل لقد اتخذ بعض ~~النقاد هذه الخارقة فيه سبيلا إلى انتقاصه فقالوا إنه قطعة من الطبيعة ~~العمياء، وإنه يبني شخوصه كما يبني النحل خلاياه بلا قصد ولا علم، ولا احتمال ~~للغلط ولا فضل في الإتقان. # إن كثيرا من قراء الأدب عندنا لا يفهمون وجه المعجزة في جعل أناس كثيرين ~~يتكلمون كما ينبغي لهم أن يتكلموا، ويعملون كما ينبغي لهم أن يعملوا، ويعرضون ~~لها في المعرض الذي يلائمهم من الفكر والخليقة والسن والحالة النفسية والمقام، ~~فهؤلاء عليهم أن يذكروا المشقة التي يعالجونها حين يعن لهم أن يصفوا إنسانا ~~يعرفونه ويعاشرونه ويسمعون كلامه في كل موقف، ويشهدون عمله في كل مجال. إنهم ~~يعالجون مشقة عظيمة في استجماع تلك الأقوال والأعمال ثم في تحليلها وتقسيمها ثم ~~في استخراج ما وراءها من المشارب والطباع، ثم ms261 في نقل تلك المشارب والطباع إلى ~~أوصاف في اللغة تطابق الحقيقة، وتدل على صاحبها أصدق دلالة، فإذا كان هذا مبلغ ~~المشقة في وصف من نشاهد ونعاشر، فأشق منه جدا أن نصف من نتخيله أو نقرأ عنه ~~أو نخلقه على غير مثال نراه، وأصعب من هذا وذاك أن نترقى من الوصف إلى تركيب ~~«الشخص»، وإرساله مرسل الأحياء حين يشعرون ويتكلمون ويعملون، نعم. ذلك أصعب ~~جدا من مجرد تسمية الصفات وسرد عناوين الأخلاق والكفايات، فإنك قد تنظر إلى ~~الرجل فتعرف مكره واحتياله، ولكن المسافة لا تزال بعيدة بين هذه المعرفة وبين ~~أن تبين لنا كيف يعمل الماكر المحتال في كل حادث يتفق له وكل موقف يجمعه بسواه، ~~والمسافة لا تزال بعيدة أيضا بين تبيين عمله في الحوادث والمواقف وبين خلق تلك ~~الحوادث والمواقف خلقا يناسب مجمل أحواله ومجمل أحوال المشتركين معه في ~~الرواية الواحدة، وقد تعرف المئات من الناس كلهم يوصفون بالصدق والعلم والمروءة ~~والدماثة، ولكنك تنظر إليهم إذا تأملتهم فتعلم أنهم «شخصيات» متعددة متفرقة على ~~اتفاقهم في أسماء الصفات والطباع، بل نجد أن أحدهم قد يعمل في حالة من الحالات ~~ما يأبى أن يعمله غيره، ويقول في شيء من الأشياء ما لا يقوله الآخرون، فالوصف ~~إذن مشقة عظيمة ولكنه قدرة لا تذكر إلى جانب القدرة على تركيب الشخصيات ~~والمواقف، والفرق بينهما كالفرق بين من يتفرج ويفهم ما يتفرج به وبين من يخلق ~~الشيء الذي يفهمه الناظرون. # فإذا قيل لأدبائنا هؤلاء الذين لا يفهمون معجزة شكسبير: إن هذا الشاعر قد أبدع ~~في قريحته مئات من تلك «الشخصيات» التي ينم وصفها فضلا عن خلقها على قدرة ~~نادرة وعبقرية رفيعة، فحري بهم إذن أن يلموا بطرف من تلك العبقرية، ويقفوا على ~~حذر عند ذلك الغور، وأن يذكروا أن هذا كله فضل يضاف إليه فضل مثله في الإعجاز ~~والإغراب، وهو فضل الجمال الذي كسيت به تلك الصور، والبلاغة التي نطقت بها تلك ~~الشفاه، والشاعرية التي تبهر السامع بنظيمها كما تبهر المتأمل بنفاذها ~~وإلهامها، والسحر الذي ms262 هو حسب القائل من فخر إن لم يكن لها لهو فخر تلك الفطنة ~~وذلك الإلهام. # كبر على بعض النقاد أن يسلموا بتلك القدرة المعجزة، أو تلك القدر المعجزات لرجل ~~نشأ كما نشأ شكسبير وتعلم كما تعلم، فراحوا يذكرون أفرادا من العلماء والوجهاء ~~ينحلونهم رواياته، ويرجعون إليهم بفضل تأليفه ونظمه! وهي حماقة يولع بها طلاب ~~التسلية واللغو، ولا يعيرها التفاتة من يفقه ما التأليف وما المألفون، ولو لم ~~يكن في روايات شكسبير من الأغلاط التاريخية والجغرافية والهفوات النحوية ~~والصرفية، ما ليس يصدر عن أولئك العلماء والدارسين لجارت تلك الحماقة على ~~كثيرين، فما أشبه هؤلاء اللاغين المتبطلين بمن يسمعون أن رجلا حمل الجبل ~~فيسألون: هل كان الرجل مصارعا مضبور الخلق، أو كان رجلا لا علم له بالجلاد ~~ورفع الأحمال؟ إنا ها هنا حيال «معجزة» لا شك فيها ولا خلاف في وجودها، ولن ~~تكون المعجزة أقل إعجازا حين تحمل اسم مؤلف مستور، أو تحمل اسم «شكسبيرها» ~~المشهور! # | شكسبير (2)1 # رواياته التمثيلية # كان من المستحيل على عبقرية شكسبير أن تستكمل ظهورها في أي فرع من فروع الشعر ~~والأدب غير الرواية المسرحية، فهذه المعرفة الملهمة بالطبيعة الإنسانية، وهذه ~~القدرة على تصوير الشخوص والمواقف، وهذه السليقة الجياشة بالعواطف والسرائر، ~~وهذا الذهن الحي الذي يهتدي عفو البديهة إلى أخفى الخفايا وأصدق الحقائق، وهذا ~~النظم الساحر الذي يبدع إبداعه في أرق الغزل، كما يبدعه في أهول الهول وأضخم ~~المشاهد، كل هذه الملكات الكاملة في تلك القريحة النادرة ما كان لها من مجال ~~تبرز فيه على أحسنها، وتستتم فيه قواها أفسح وأصلح من مجال الرواية المسرحية. ~~ولو كانت الرواية القصصية قد راجت في عصر شكسبير رواجها في القرن الثامن عشر ~~وما بعده، لكان محتملا أن ينصرف إليها وأن يميل به ازدحام سابقته بالشخوص ~~وحوادث الحياة إلى تأليف القصص واختراع الأبطال من الخيال أو من محفوظات ~~التاريخ ونوادر أهل زمانه، ولكننا فيما نظن كنا نخسر «بداهة» شكسبير ووحي ~~قريحته لو أنه اتجه هذا المتجه، وأخذ في تأليف قصصه على أساليب الروائيين ms263 الذين ~~نعرفهم في الآداب الحديثة، فإن «الروائي» يشرح ويحلل وينظر نظرة المتفرج أو ~~يدرس شخوصه دروس العالم المتفقه، أما شكسبير فلم يكن هذا ميدانه في رواياته ~~المسرحية، وإنما كان يخلق الشخوص ويحيا حياتها من الداخل، ويجيئنا بها لنراها ~~كما نرى الأحياء في هذه الدنيا، ونأخذ أخبارها من أقوالها وأفعالها كما نأخذها ~~من وقائع الأيام وامتزاج الناس بالناس، فهو لا يقول لنا انظروا إلى «هاملت» كيف ~~تضطرب عزيمته، ويختل صوابه، ويثقل رياء الناس على طبعه، وكيف يقول لكم هذا ~~القول ليطابق ما صورته لكم من ذكائه، وطيب طويته، وتذبذب عزمه، بل يقول لنا ~~هاكم «هاملت» فانظروا كيف هو واحكموا عليه كما تحكمون، وهو لا يشرح لنا ~~«الشخوص» التي يمثلها، وإنما يضعها في مواضعها، ويمزج بين حياتنا وحياتها ثم ~~يتركها لمن شاء أن يشرحها ويدرسها ويفهمها كما نفهم الرجال والنساء في مواقف ~~الحياة، وهو لا يقص علينا ما صنعه أبطاله وما هم خليقون أن يصنعوه، وإنما يرينا ~~إياهم وهم يصنعون ما يليق بهم ويصفون أنفسهم بألسنتهم وأعمالهم، وليس هذا مجال ~~الدرس والتحليل، ولكنه مجال الخلق والإنشاء، أو ليس هو مجال القصة ولكنه مجال ~~التمثيل . # كذلك لو انصرف شكسبير إلى نظم الشعر في الغزل والوصف والمغازي والوقائع لما ظهر ~~لنا كاملا ولا نصف كامل؛ لأن ملكات الذهن الإنساني ليست مما يشبه بالمصابيح ~~الكهربائية التي يضيء سائرها إذا تعطل بعضها، ولكنها في هذا المعنى أشبه بخلايا ~~الجسم الحي إذا سرت إلى بعضها جراثيم الفساد، أو علل الجمود، فقلما تسلم بقيتها ~~من خطر العدوى أو خطر الإجهاد والإرهاق، فإذا طبع الذهن على أن يكون شاعرا ~~وناقدا ومفكرا معا، فهو يكون مفكرا ناقصا إذا سدت عليه منافذ الشعر ~~والنقد، وناقدا ناقصا إذا سدت عليه منافذ الشعر والتفكير، وشاعرا ناقصا إذا ~~هو لم يستوف حظه من الملكتين الناقدة والمفكرة، فلو انقطع شكسبير للغزل مثلا ~~لأفسده عليه الفكر المعطل والطبيعة الواسعة حين تهم أن تظهر في الغزل ولا يتسع ~~لها فيه سبيل الظهور، ولو انقطع للملاحم لجار فيه ms264 جانب القاص الراوية على جانب ~~الخالق المصور على البداهة، ولو انقطع للتأمل لاختلط عليه الأمر بين الخلق ~~والابتكار وبين النظر في أسبابه وأساليبه، فالمصادفة التي ساقت شكسبير إلى ~~الكتابة المسرحية هي المصادفة التي أهدت شكسبير إلى العالم، وحفظت شكسبير من ~~الضياع. # ومع هذا نحن لا نعلم كيف التفت الفلاح القروي إلى التمثيل، ولا كيف اتفقت هذه ~~المصادفة التي أهدت إلى العالم أكبر شعرائه أجمعين، وكل ما نعلمه أن أباه كان ~~يحب التمثيل ويعضده في بلده، وأنه هو كان ممثلا ثم خطر له أن يؤلف للمسرح، ~~فبدأ بمحاكاة بعض الشعراء المعاصرين ثم نبذ المحاكاة ورجع إلى سليقته فبلغ هذا ~~الشأو الذي لم يبلغه سواه، أما كيف سيق إلى التمثيل فذلك سر مجهول لا ينكشف لنا ~~من آثاره ولا كلام معاصريه، فقد قيل إنه اتهم في بلده بسرقة الغزلان وعاقبه على ~~ذلك النبيل صاحب الحديقة التي سرق منها فهجاه ونجا بنفسه إلى لندن، ثم عمل هناك ~~على أبواب المسارح يمسك الجياد للسادة والسيدات، ويعيش بين الممثلين ويتطلع إلى ~~اليوم الذي يقف فيه على خشبة التمثيل، فإن كان هذا صحيحا فقد كان وشيكا أن ~~يظل شكسبير سارق غزال وشاعر الناس أجمعين، فلم تكن سرقته بفعلة النذل الجبان ~~يقعد به الكسل عن العمل الشريف فيستحل لنفسه متاع الآخرين، ولكنه اصطاد الغزال ~~لأنه كان يحب الصيد، وينشط نشاط الفتوة في زمن كان الصيد فيه حراما على غير ~~النبلاء، وأصحاب الضياع والآجام. # إن شكسبير لم يكن مفطورا على التمثيل، ولا كان المسرح له إلا معرضا للشخوص ~~وكتابة الروايات، ولقد كان له نظر صائب في هذا الفن، وعلم بتقسيم الروايات كما ~~كانوا يقسمونها في عصره، ولكنه لم يثق بتمثيله قط ولم تمنعه قدرته على اختيار ~~الأدوار أن ينزل عن الدور الكبير في كل رواية لمن هو أقدر على الإجادة فيه. ~~فكان وهو مالك المسرح ومؤلف «هاملت» وواضع ذلك الدور الذي يخيل إلى النقاد أنه ~~كان أحب الأدوار إلى نفسه، يرضى أن يقوم في الرواية بدور «روسنكرانز»، ويدع ms265 ~~تمثيل «هاملت» لبرباج ممثل المأساة المشهور في تلك الأيام، وذلك تواضع لا يدل ~~إلا على إنصاف للنفس وللآخرين، أو على حكمة بصيرة بوجوه المصلحة والتدبير. أو ~~على سأم من صناعة التمثيل، وكراهة لما كان يحيط بها من الهوان ويصيبه في ~~جرائرها من عنت تأباه تلك النفس الكاملة وذلك الشعور الكريم. # ولا يعلم ناقد هل كان شكسبير يفضل الكتابة في المآسي، أو الكتابة في المهازل # 2 # وأشباهها من الروايات المحببة إلى الجماهير، ولكنك تقرأ قوله عن ~~بولونيوس: «إنه لا يلذ إلا بحديث فجور أو مجون.» وشكواه من الجمهور الذي لا ~~يفقه إلا الصراخ والجلبة ولا يعجب إلا بالتخايل والادعاء، ولا يحب إلا أن يضحك ~~على السماع، فتفهم من هذه الشكوى التي أجراها على لسان هاملت أنه لم يكن يرضى ~~عن الملاهي والمضحكات، ولم يكن ليكتب المهازل لولا رغبة النظارة في اللغط ~~والترويح، ويرى الدكتور جونسون أن مهازل شكسبير تفوق مآسيه؛ لأنه يتهم شكسبير ~~بالتهاون وقلة العناية، وهما بالهزل أنسب وإلى المواقف الخفيفة أقرب، ولكن ~~جونسون أبعد الناس عن إنصاف الشاعر العظيم، وأدنى الناقدين إلى الخطأ في فهم ~~ملكاته والفطنة إلى آياته، ومن الذي يقرأ قوله: «إن مهازله - مهازل شكسبير - ~~تعجب بالفكرة واللغة ولكن مآسيه لا تعجب في أكثر الأحيان إلا بالحادثة والحركة. ~~وإن مآسيه يلوح عليها الفطرة والإلهام» ثم لا يسرع إليه الريب في سداد هذا ~~النظر الزائغ، وصحة هذا النقد الجزاف؟ فالحق أن مهازل شكسبير تدل على إجادة ~~الرجل تمييز المضحكات، ومداعبة الطبائع الإنسانية، والعطف على ما فيها من مواطن ~~الضعف والغرور، بل هي متحف لكثير من الشخوص العزيزة على القراء، المحببة إلى ~~النظارة، الملطفة لقسوة الجد ومرارة الآثام، وكل هذه الشخوص لها نصيبها من ~~الفطرة والإلهام كما يقول الدكتور جونسون، ولكنها لا تفوق في شيء من ذلك نصيب ~~هاملت ولير وعطيل وياجو وريتشارد الثالث وأوفيليا وكليوبترة وجولييت وغيرهم ~~وغيرهن من أبطال المآسي والتاريخيات، فإن البداهة التي ظهرت في تصوير هاته ~~الشخوص الجدية لا تفاق في موقف آخر من مواقف شكسبير ms266، ولسنا نقول كما قال ~~هازلت إن الأستاذية التي أظهرها شكسبير في مهازله لا تقل عن أستاذيته في المآسي ~~والتاريخيات، فإن رعاية الجمهور في هذه الروايات قد جنت عليها أحيانا ما لم ~~تجنه رعاية الجمهور على المآسي والتاريخيات، ولكنا نقول: إن في مهازل شكسبير ~~مزية واحدة لا تكثر في مآسيه وتاريخياته، وهي قوة البطلات وبروزهن على الأبطال. ~~فإذا استثنيا كليوبترة ولادي مكبث - ولا حيلة لشكسبير في هذا الاستثناء - ~~فالنساء في الروايات الخفيفة أقوى وأقدر على الجملة من نساء «الجديات»، وهن ~~كذلك محور تلك الروايات وذوات النصيب البارز من الأدوار، وتلك آية أخرى من آيات ~~الإلهام في شاعر البداهة والنظر السليم؛ لأن نكبة المرأة الناعمة البريئة هي ~~جوهر المأساة فلا بد من إظهار المرأة فيها على جانب من الخفض والرقة والعطف ~~المرحوم لا يناسب القدرة والدهاء والادعاء، ولا حاجة إلى ذلك في الروايات ~~الخفيفة أو المضحكة، بل ربما كان ظهور المرأة في هذه المواقف بالعلم والصلابة ~~أدعى إلى التفكه والابتسام. # وليست مهازل شكسبير بالمهازل التي تقوم على نقد العادات الطارئة والمظاهر ~~الاجتماعية الزائلة، فإن بداهة هذا الرجل تأبى أن تتعلق بشيء يزول، أو يقف على ~~حواشي النفوس. إنما هي مهازل الطبائع التي لا تتغير، والعيوب التي تشاهد في كل ~~أمة وفي كل زمان، والنظرة التي ينظر بها الشاعر إلى تلك الطبائع والعيوب نظرة ~~الفطرة الرءوم، والنحيزة الكريمة، والعاطفة الحنون، فسخريته كما قال هازلت سيد ~~النقاد الإنجليز: «تنقصها لذعة النكاية، ويندر أن تجد فيها إثارة من الضغن ~~والحفيظة، حتى فلستاف تتجلى لنا أضحوكته العظيمة من جانب المرح العابث لا من ~~جانب السخف المطبق.» ولعل هازلت على صواب حين يقول: «إن النقص في موحية # muse # تلك الروايات أنها هي طيبة كريمة، ~~وأنها تعلو على اللاعب من الشكول، ولكنها لا تجد سرورها الأكبر في إنزال ~~الطبيعة الإنسانية بأقصى ما يستطاع من منازل الخسة والسخف والزراية، وهذا هو ~~الموضع الذي يعرض منه الخلاف بينها وبين مهازل العصور التالية، التي يقال إنها ~~أظرف وأكيس، فهذه المهازل «الكيسة» إن ms267 هي إلا مهازل أبناء الزي والجديلة ~~والشمائل المصطنعة.» وشكسبير لم تكن تعنيه هذه المضحكات الزائفة؛ لأنه أكرم من ~~أن يعبث بالعبث الذي لا يحتاج إلى من يضحك منه، وأكبر من أن يغمره عصر ضائع في ~~غمار العصور. # | شكسبير وهاملت (3)1 # في شخصية «هاملت» دلالات كثيرة على شكسبير. بل لم يضع شكسبير على لسان أحد من ~~أبطاله بقدر ما وضع من كلامه هو على لسان هاملت، فشكوى هاملت هي شكوى شكسبير ~~نفسه من الناس والحياة ومن أبناء وطنه، ولهاملت في غضون بثه ونجواه كلام هو ~~أخلق أن يجري على لسان الشاعر الممثل المتبرم، من أن يجري على لسان الأمير ولي ~~عهد المملكة، فنجواه في مطلع الفصل الثالث إذ يقول: «نحيا أو نموت؟ تلك هي ~~الحيرة. لا ندري أهو أنبل لنا وأكرم أن نحمل الضيم من دهر عسوف نصبر على رجومه ~~وسهامه، أم نهيب بأنفسنا إلى الثورة على ذلك الخضم الموار بالمتاعب والآلام ~~فنستريح منها؟ وما الموت؟ أهو نوم ولا زيادة؟ لئن كان الموت نوما يريحنا من ~~أوجاع الفؤاد الضمين ومن ألف نزعة يبتلى بها هذا اللحم والدم لهو إذن ختام ~~تتلهف عليه النفوس، ولقد يكون الموت نوما ويكون في النوم حلم يغشاه، وتلك هي ~~العثرة! إذ من يعلم ما تلك الأحلام التي تطيف بالنائم في ضجعة الموت بعد أن ~~ينفض عنه وعثاء حياته؟ هنا العقبة، وهذا السر الذي تطول فيه شقوة الحياة. إذ من ~~الذي يطيق الصبر على سياط الزمان ولذعاته، وعلى ظلم الظالم، وصلف المتجبر، ~~وآلام الحب المزدري، ومطال القضاء، وعجرفة المناصب، وسخرية العاجزين بالقادرين ~~حين يكون في يديه أن يفصل في هذه القضية بطعنة واحدة من مدية وحية؟ لم هذا ~~الضجر المرهق من أعباء الحياة الثقيلة لولا خوف ما بعد الموت وخشية تلك الدار ~~التي لم يكتشفها رائد ولم يرجع منها قاصد؟ فهذا الذي يشل العزيمة ويخلد بنا إلى ~~شر نعلمه مخافة شر لا نعلمه، وكذلك تفت الضمائر في أعضادنا ويغشي شحوب الحذر ~~على سمات عزائمنا، فتصدف عما همت به ms268 من جليل الأمر، ويلتوي عليها سبيل ~~الإنجاز.» # فهذه المناجاة أشبه بشكسبير منها بولي العهد اليائس. إذ ربما ضجر الأمير الكريم ~~من الحب المزدري، وصلف الأغرار، وكبرياء ذوي المناصب، وسخرية العاجزين ~~بالقادرين، ولكنك لا تخطئ هنا أن تسمع صوت شكسبير يعاف الحياة، ويحدث نفسه ~~بالموت من أجل هذه الأمور، ومن تحصيل الحاصل أن نقول: إنه هو الذي جعل الأمير ~~الفتى يعلل سآمته من الدنيا بهذه العلل، ويوسوس له بإيثار الفناء على الحياة. ~~فشكسبير هو الذي امتحن في حياته ازدراء حبه، وكبرياء ذوي المناصب عليه، ومطال ~~القضاء، وسخرية الأغرار والأدعياء، وهو الذي يفكر ذلك التفكير ويجريه على لسان ~~أميره الحزين. # ولقد سرت خرافة بين بعض الناقدين فحواها أن شكسبير كان من رجال الكسب الذين ~~أشرجوا على طبائع العمل والتدبير فلا يشغلهم من الدنيا شاغل بعد أن تمتلئ ~~الجيوب وتعمر البيوت، ولا ندري كيف سرت هذه الخرافة بين الناقدين فقبلوها ~~وركنوا إليها، وليس في حياة الرجل ولا في رواياته وأشعاره ما يشف عن هذا ~~المزاج، أو يرجح فيه هذه الخلة، فشكسبير لم يكن إلا شاعرا ولم تكن همومه إلا ~~هموم شاعر، ولا مزاجه إلا مزاج أبناء الفنون والخيال، ولم يكسب من رواياته إلا ~~ما يكسبه كل ناظم راج عمله ولقي الإقبال على تمثيله، ولم يكن كسبه عزاء له عن ~~هواجس الأديب ومطالب الإنسان، ولا مطمعا يغنيه عن مطالع القلب المتفتح والنفس ~~الجياشة والعقل الكبير. # نشأ شكسبير في عصر السياحات والمغامرات، والهجوم على العالم الجديد الذي يمني ~~الناس بالفراديس والكنوز، فما استخفته هذه الآمال كما استخفت سواه، ولا خطر له ~~أن يطلب الذهب حيث يطلبه رواد الغنائم والكشوف، وإنما أحب أن يربح كما يربح ~~الشعراء في زمانه، وعاش للأدب والحياة النفسية، كما يعيش كل أديب يصغي إلى ~~هواتف وحيه، ويتبع هداية قريحته وكان يتجرع الغصة بعد الغصة في حياته، ويصبر ~~على المحنة بعد المحنة من أبناء عصره، ويستقبل الدنيا بنفس الشاعر، فلا ينسيه ~~المال أشواق فؤاده وأحلام خياله، فلم يكن في مزاجه من طبيعة ms269 «الكسب والعمل» إلا ~~ما يكون في مزاج كل شاعر غير مأفون ولا متلاف، ولو كسب أضعاف ما كسبه لما أنساه ~~ذلك نفسه المغبونة، وأحلامه الذاهبة، وقلبه الجريح. # وإنما ورد ذلك الوهم على بعض النقاد؛ لأنهم رأوه يعتزل التمثيل ويأوى إلى بلدته ~~ليزرع الأرض، ويثمر المال، بعدما حفل وطابه بثروة المسارح، وأرباح الروايات، ~~ولكنهم لو تريثوا قليلا لرأوا في ذلك دليل المزاج الشاعر لا دليل التجارة ~~والشعف بالكسب والمال حيث كان، فقد كان يقيم في لندن على مضض، ويتوق إلى ساعة ~~يفارقها فيها غير آسف عليها؛ لأن نفسه لم تكن تقنع بما يصيب من خير ينغصه عليه ~~الهوان واليأس من الحب والكرامة، وكانت صناعة التمثيل لهوا زريا، لا تقبل ~~معاهدها في الأحياء الشريفة المستورة، ولا تزورها العامة إلا على غضاضة، بل لقد ~~كان الممثلون عرضة لزرايتين كلتاهما مؤلمة، وكلتاهما تفدح النفس وتغض من عزتها: ~~إحداهما الزراية التي لم يسلم منها تمثيل صحيح ولا غير صحيح، والأخرى الزراية ~~التي يتلقاها صاحب التمثيل القيم من جمهور يجهل فنه، ويؤثر التهريج والمجون، ~~ومن ثم وصاية هاملت أن تكرم وفادة الممثلين في قصر الملك، ولا يستصغر شأنهم في ~~الضيافة، من ثم تعريض هاملت «بفرقة الغلمان» في المدينة، أو قل تعريض شكسبير ~~بتلك الفرقة التي ألفها «الأرل أوف أسكس» فصرفت النظارة عن رواياته، ودلت ~~شكسبير على قيمة شعره عند الناس بعد عمله الطويل في التأليف والتمثيل. # فالرجل قد أفرغ كثيرا مما في نفسه في هذه الرواية، وظهر فيها هازئا بالناس ~~متبرما بالمقادير، مترددا بين الموت والحياة، وكان ذلك قبل مفارقته لندن بعشر ~~سنوات أو قراب ذلك، فأي عجب في أن يهجر لندن إلى قريته الجميلة ليعيش بين ~~مروجها وبساتينها، معتزلا هذه المعيشة بعيدا عن هذه القصص، مستريحا من هذه ~~الجهالات؟ وأي «طبيعة عملية» تغري مثل هذا الرجل بالهجرة من العاصمة - حين يتاح ~~له المزيد من الربح والشهرة - لولا نفس يعنيها شعورها فوق عنايتها برزقها، ~~وتسرها الكرامة فوق سرورها بالسمعة الداوية والصيت البعيد! # وفي روايات شكسبير الأخرى ms270 - مآسيها ومضحكاتها - غمزات أخرى من هذا القبيل تشف ~~عن ألم الرجل لحاله، وسخطه على نصيبه وخيبته في حبه، ولكنه كتب هاملت في فترة ~~من فترات السوداء والقنوط وفي أيام تداولته فيها آلام «الحب المزدري» والوشاية ~~التي نمت عليها أغانيه ولم يفصح التاريخ عن حقيقتها، فاصطفى هاملت للبوح ~~بنجواه، ورمى أبناء وطنه كلهم بالجنون حين قال على لسان حفار القبور: إنهم ~~أرسلوا هاملت إلى إنجلترا ليتداوى بالسياحة من المس الذي اعتراه «وإنه إذا لم ~~يشف من ذلك المس فلا ضير. إذ لا أحد في إنجلترا يفطن إلى جنونه؛ لأنهم كلهم ~~هناك مجانين.» وساعده جنون هاملت على أن يقول بحكمة الموسوسين ما لا يقال في ~~حكمة العقلاء، فصب غضبه على المرأة، وقرف النساء كلهن بالخنا، وأنذر كل زوج ~~بالخيانة، وسخر تلك السخرية البائسة من العفة والصيانة، والحب والوفاء؛ لأن ~~عجائب الطبيعة الإنسانية التي لا حد لها قضت على هذا الساحر العليم بسرائر ~~النفس ألا يعصمه سحره ولا علمه من أشراك غاوية لعوب من بنات البلاط، كانت ~~تعاهده على الوفاء وتخونه مع أصدقائه فتفجعه في الحب والصداقة، وتلهب غيرته ~~وأسفه بنارين لا بنار واحدة، تقول له بعد ذلك ما يحلو لها فيصدق تصديق البلهاء ~~«إذ الحب مجنون صادق الجنون، فأنت تعملين ما تشائين وهو لا يسيء ~~الظنون.» ~~••• # على أننا إذا رجعنا إلى ما قاله شكسبير بلسانه لا بلسان أبطاله في رواياته لم ~~يخف علينا الشجن الذي كان يعتلج بقلبه، والحسرة التي كانت تحز في صدره، فهو ~~يقول في أغانيه: «دع أولئك الذين أسعدتهم طوالعهم بما لم تسعدني يزهون بالمراتب ~~والألقاب، إنني أنا المحروم من ذلك الفخار لا أجد السرور عند أغلى ما أعز في ~~الحياة.» ويحدثنا عن نفسه وهو «مخذول من الجد والناس يبكي وحده نصيبه المنبوذ، ~~ويزعج السماء بصراخه العقيم، وينظر إلى نفسه فيلعن قسمته، ويود لو رزقه الحظ ~~قسمة غيره من الرجاء والوسامة والأصدقاء.» # فالذين يمثلون لنا شكسبير رجلا راضيا عن الدنيا لما أصابه من عروضها وحطامها ~~يجهلون الرجل، ولا يفهمون ms271 لحنه من مضامين رواياته، وإنما شكسبير «هاملت» عاقل ~~بل هو كتب هاملت ليقول بلسانه «المجنون» ما لا يقوله لسان الحكمة، أو ليأخذ ~~«الحكمة من أفواه المجانين» كما يقول العرب في الأمثال، وقد أراده في خاتمة ~~الرواية خلافا لما جاء في القصة القديمة؛ لأنه أسكن للطبيعة الإنسانية من أن ~~يحسب البقاء وارتقاء العرش نصرا نختم به حياة رجل في مزاج هاملت المحزون، وفي ~~تلك البيئة التي فقد فيها أباه، وشهد خيانة عمه وأمه وأضاع حبيبته، واقترف ~~جريمة القتل على غير قصد منه، وعز عليه أن يجد الفرد الواحد الأمين في عشرة ~~آلاف من الخائنين، ومثل شكسبير لا يحفل بالأسطورة القديمة إذا هو حيي في نفسه ~~حياة هاملت، فأوحت إليه سليقته أن الموت هو خير ما تستريح إليه وتظفر به، بعد ~~ذلك السأم القائم، واليأس الدفين. # لقد ثقلت قيود الرشد على رأس شكسبير فخلعه برهة؛ لينعم بطلاقة الجنون، وليقول ~~كل ما يعلم؛ لأنه «ليس كل ما يعلم يقال.» # | قصة العقل والعاطفة1 # حكي أنه كان في بلد من البلدان في زمن من الأزمان رجل حكيم يوصف بالشعر ~~والفلسفة معا، ويأبى إلا أن يكون عالما وشاعرا وفيلسوفا في نفس واحد، وكان ~~يقال لذلك الحكيم. ما ملكة يحتاج إليها العالم دون الشاعر والفيلسوف! فيقول ~~العقل، ثم يقال له: ما ملكة يحتاج إليها الشاعر دون العالم والفيلسوف؟ فيقول: ~~العقل! ثم يقال له: ما ملكة يحتاج إليها الفيلسوف دون الشاعر والعالم؟ فيقول: ~~العقل! وهكذا يرى الذي يسأله أن العلم والشعر والفلسفة شيء واحد، وأن هذه ~~الأوصاف ليست إلا اختلافا في اللفظ كاختلاف المترادفات في نطق اللسان! # وقيل له مرة: إن الاختراعات المبتكرة والعلوم الحديثة، إنما ظهرت وتفشت في ~~القرنين الأخيرين، وإنه لم يسبق لعصر في التاريخ أن كثرت فيه المخترعات كثرتها ~~في هذين القرنين فما تعليل ذلك في رأي الحكيم العليم؛ فكان يقول والعهدة على ~~الراوين: إن الناس كثرت اختراعاتهم في القرنين الأخيرين ولم تكثر في القرون ~~الأولى، لأن العقل خلق لهم فجأة سنة سبعمائة وألف بعد ms272 الميلاد، ولم يكن في ~~رءوسهم قبل ذلك عقل ولا معقول، فأثنوا عليه ودعوا له بالإفادة والزيادة. # وقيل له مرة، إن شكسبير كان شاعرا عظيما فكيف كان كذلك؛ فقال لأنه لم يكن ~~عاقلا، فعجبوا من سعة العلم الذي يجمع بين الضدين النقيضين، وقالوا في لهجة ~~التأمين والتسليم: يفتح الله على من يشاء بما يشاء كيف يشاء. # وقيلت له أشياء كثيرة من قبيل هذه الأشياء فكان يجيب عليها أجوبة كثيرة من قبيل ~~هذه الأجوبة، وكان عن علمه وفلسفته وشعره جد راض، وكانوا هم عن كل ما أوحي ~~إليهم من العلم والفلسفة والشعر جد راضين. ~~••• # أيها القارئ! لو أن راويا قص عليك القصة التي قدمناها لك، لغلب على ظنك أن ~~الفيلسوف المزعوم واحد من أولئك الأسطوريين الذين يتحدثون عنهم كما يتحدثون عن ~~آلهة اليونان، وربات الخيال، وأبطال خرافة، وأحياء إيثوب، ولكنك إذا علمت أنه ~~حقيقة من حقائق الحياة، وأنه يعيش في هذا الزمان، ويقول هذا الكلام، ويجادل من ~~يناقضه فيه أحر الجدال، فلا ريب أنك تحسبه خبرا جديرا بالقصص، وأعجوبة خليقة ~~بالإظهار. # ومن شك في هذا الخبر أو من استعجب هذه الأعجوبة فليبين لنا ماذا يقول الأستاذ ~~جميل صدقي الزهاوي في مقالاته التي يرد بها علينا إن لم يكن يقول: إن العالم ~~كالشاعر، وإن كليهما كالفيلسوف، وإن كل ما يحتاج إليه هذا أو ذاك أو ذلك ملكة ~~تعليل وسليقة تحليل، لا يتطرق إليها خيال، ولا تصغي إلى بديهة، ولا ترجع إلا ~~إلى المنظار والمشرط والإنبيق؟ وماذا يقول الأستاذ إن لم يكن يقول: إنه لا ~~يحتاج في شعره غير ملكات التعليل والتحليل، وإنه مع ذلك شاعر إن شاء حينا، ~~وعالم إن شاء أحيانا، وفيلسوف إن شاء في كل حين؟ إن كان يقول: إنه شاعر بفضل ~~ملكة أخرى غير التعليل والتحليل فليبين ما اسم تلك الملكة، وما مكانها في بيت ~~واحد من شعره الكثير؟ وإن كان يقول إنه شاعر أو فيلسوف بفضل ملكة التعليل ~~والتحليل دون غيرها فليبين لنا إذن ما الفرق عنده بين الشاعر ms273 والعالم، وما ~~الفرق عنده بين أحدهما والفيلسوف! ~~••• # لقد أسلفت للأستاذ أنني لا أعنى بإنكار فلسفته أو شعره، ولكن أعنى بتقرير حقيقة ~~يكاد لا يعوزها الدليل، وإن كانت محلا للشك في رأي بعض الكتاب والدعاة، وتلك ~~الحقيقة هي أن الإنسان لا يحيا بالعقل وحده، ولا يفهم بالعقل وحده، ولكنه يحيا ~~بالحياة التي هي مجموعة من الحس والغريزة والعطف والبداهة والخيال والتفكير، ~~وكذلك يفهم بالحياة التي هي مجموعة من هذه الملكات كيفما تعددت فيها التسمية ~~والتقسيم، فأنت إذا أردت أن «تفهم» إنسانا فليست كل وسائلك إلى فهمه أن تسلط ~~عليه ملكة التعليل والتحليل، بل أنت مشترك في فهمه بخيالك وحسك وغريزتك وتفكيرك ~~وعطفك وجميع أجزاء حياتك، وشأنك في فهم الكون كشأنك في فهم الإنسان أو فهم أي ~~شيء من الأشياء وخاطرة من الخواطر؛ فقولك «تفهمها» مرادف لقولك تحسها وتتخيلها ~~وتشملها بعطفك وبديهتك وفكرك، ولأن تحس ما ينبغي لك عمله دون أن تقوى على تعليل ~~ذلك خير لك وألف خير من أن تعلل وتحلل وأنت عاجز عن العمل والإحساس. # يقول الأستاذ الزهاوي: «قد كانت للفرنسيين والألمان والإنجليز من الأمم عواطفهم ~~ألف عام، فلم يكتشفوا أو يخترعوا يومئذ شيئا يذكر، بل كان العرب في ذلك العصر ~~سباقين إلى الاكتشاف أكثر منهم، وليس ما قدم الإغريق في يوم ازدهار الحضارة ~~والحكمة عندهم هو عواطفهم، وما أخر غيرهم من الأمم المعاصرة لهم هو عقلهم، بل ~~الذي قدم أولئك هو حرية الفكر، وحرية القول، والكتابة، وكثرة المتضلعين من ~~العلوم فيهم، وعدمهما أو قلتهما عند هؤلاء يومئذ، ولا حاجة بنا إلى الرجوع إلى ~~العصور الخالية، فإن اليابان لم تتغير عواطفهم في مدة الخمسين سنة الأخيرة، وهم ~~اليوم يكتشفون ويخترعون. ذلك لأن المتعلمين فيهم اليوم يعدون بالملايين فلا غرو ~~أن ظهر بينهم عدد غير قليل من المكتشفين والمخترعين.» # كذلك يقول الأستاذ فما أعجب أن يكون هذا دليله على ما يزعم، وحجته على بطلان ما ~~نقول. اليابان والصين - مثلا - كانوا معا جهلاء جامدين فتقدمت اليابان وعلمت ~~وظلت الصين في ربقة ms274 الجهل والجمود. كيف كان ذلك؟ كان بالعلم! وكيف كان العلم ~~أيضا؟ كان بالعلم! فاليابان إذن كانت عالمة قبل أن تتعلم وناشطة من الجمود قبل ~~أن تنشط من الجمود! فما أصح هذا العقل وما أعجب هذا التدليل، لو أننا قلنا: إن ~~البواعث النفسية تغيرت في اليابان فطلبت العلم، ولم تتغير في الصين فظلت على ~~جهلها لما كان هذا عجيبا في رأي المنطق ولا في رأي الإحساس والخيال. أما أن ~~نقول: إن الناس تخلق لهم عقول فجأة فيفهمون بها ما لم يكونوا يفهمون فهذا هو ~~النبأ العجيب، واللغز المريب، والقول الذي لا يسلمه جاهل ولا لبيب. # ونذكر العرب كما ذكرهم الأستاذ فنقول إنهم كانوا - كما قال الأستاذ - سباقين ~~إلى العلم أكثر من الأوربيين، ثم ركدت حركتهم وتقدم هؤلاء، فلماذا كان هذا؛ أين ~~ذهبت العلوم والمعلومات والعقول والمعقولات؟ أأصبحوا ذات نهار فإذا بالعلوم ~~والعقول قد شدت رحالها في ظلام الليل، فإذا هم يجهلون ما كانوا يعلمون، وينسون ~~ما كانوا يذكرون! لا نظن الأستاذ يزعم هذا، وإنما كانت هناك بواعث نفسية ثم ~~هجعت وداخلها الفساد فلم ينفعهم العلم ولم يصلحهم التفكير، وهذه البواعث ~~النفسية هي التي تغيرت أيضا حين تبدلت حالة العرب من الجاهلية إلى الفتح ~~والغلبة والحضارة، وهي التي تغيرت أيضا حين تبدلت حالة العرب من السبق إلى ~~التخلف ومن الابتكار إلى المحاكاة، وقل مثل ذلك في الفرنسيين والألمان ~~والإنجليز من الأمم قبل ألف عام، وفيما هم عليه في هذه الأيام، فليس الفرق بين ~~الأمم الفتية والشائخة فرقا في العقل والتفكير. إذ ربما كانت الأمم الشائخة ~~الهاوية أظهر تفكيرا وعقلا من الأمم الفتية الناهضة، ولكنه هو الفرق في ~~العواطف والبواعث النفسية، وسائر ما ينتظم تحت كلمة الحياة، وهذا الفرق هو الذي ~~يميز بين الشعوب المتحضرة على اشتراكها في حصة العلم والاختراع، فإن شعوب أوربا ~~وأمريكا تتقاسم حصة العلوم الحديثة وميراث الحضارة والصناعة ولكنها ليست شرعا ~~في التفوق والسيادة؛ لأنها ليست بشرع في العاطفة والحس والخيال، وعلينا نحن أن ~~نفهم هذا جيد الفهم فلا ms275 نبخس حق الفنون والأذواق والآداب، كما يفعل المتعجلون ~~منا ولا تنطلق مع أولئك الدعاة الذين يهتفون باسم العلم، وهم يجهلون مكانه من ~~حياة الأقدمين والمحدثين. ~~••• # وأرى أن إيمان الأستاذ بالرجعة والدور والتسلسل قد تزعزع بعد مناقشتنا إياه في ~~مقدماته وأسبابه، فهو اليوم يشترط أن تظل مجاميع الكواكب منقسمة «في هذا الفضاء ~~غير المتناهي إلى أجرام قد تباعد بعضها عن بعض فكان بينها مسافات شاسعة» ليجوز ~~له أن يقول: إن الأشكال متناهية وإنها لا بد على هذا أن تعود إلى ما كانت عليه ~~كرة أخرى، وليس أمام الأستاذ إلا خطوة أخرى لينكر الدور والتسلسل كما ننكره ~~نحن، ويكفر بدين لا يجدي على المؤمن به غير تكرار البلاء الذي نفر منه إلى ~~الإيمان، فإن أمامه أن يقول: إن الجواهر لا يمنعها مانع أن تأبق من مجموعة إلى ~~مجموعة أخرى في الفضاء فتغير عدد الجواهر، وتتغير الأشكال ولا تعود الجواهر إلى ~~أشكالها في حاضر ولا ماض، وهو سواء أقال ذلك أم لم يقله غير مستطيع أن يحجر ~~على الجواهر أبدا أن تنتقل من مجموعة إلى مجموعة في طويل الآباد ~~والأبعاد. ~~••• # وبعد، فما بال الأستاذ يدفع عن نظرية الدور والتسلسل كأنها نظريته التي ~~استنبطها، ولم يسبق إليها؟ ألا يعلم أن الرجعة مذهب من مذاهب الهند الأقدمين؟ ~~بل ألا يعلم أن نيتشه قال بها في هذا العصر وتطرف فيها كما تطرف هو، فانتظر أن ~~يئوب إلى الأرض هومر والمسيح ونيتشه وكل حي وكل موجود؟ «فكل شيء يذهب وكل شيء ~~يعود ودولاب الوجود أبدا يدور، وكل شيء يموت وكل شيء يزهر كرة أخرى وفصول ~~الوجود أبدا في تكرير، وكل شيء يتحطم وكل شيء يلتئم وبيت الوجود أبدا يبني ~~نفسه من جديد، وكل شيء ينفصل وكل شيء يرجع إلى اللقاء، وحلقة الوجود أبدا على ~~عهدها المعهود»، هكذا يقول زرادشت أو هكذا يقول نيتشه في أسلوب الأنبياء ~~والكهان. # ولم يكن نيتشه في حاجة إلى كبير عقل ليهتدي إلى نظرية الدور والتسلسل، فالأستاذ ~~يعلم أنه كان عبقريا ملتاث الفكر ms276، وربما علم أنه كان على وشك الجنون يوم ~~اهتدى إلى هذه النظرية التي لا تستريح إليها العقول، بارك الله في عقل الأستاذ ~~وصرف عنه السوء، وأكثر من أمثاله وإن كان هو يزعم أن أمثاله كثيرون يعدون ~~بالملايين في عوالم هذا الفضاء. # | أرباب مهجورة1 # كانت الأقدار في عون الآلهة التي لم ترزق حظها من العبادة، ولم يكتب لها نصيبها ~~من الصلوات والقرابين. إن الجائع الذي لا يجد طعامه لبائس جد بائس، ولكن أشد ~~منه بؤسا وأبلغ منه شقاوة ذلك الإله الذي خلق ليؤمن به المؤمنون، والذي نحت من ~~معدنه لتخر له الجباه وتستلقي في محرابه الهامات، ثم هو باق في العراء مستلق ~~على الرمال، لا محراب ولا كهان ولا دعاء ولا صلاة، فهذا بؤس الآلهة وهو إله ~~البؤس كما يقولون! ولعل الجائع الذي ضل طعامه واجد من يعطف عليه ويرثي لحاله، ~~أو غير يائس من لقيمات يقتات بها من يد غني أو فقير، أما الآلهة المنكوبة في ~~عبادها فلا عزاء لها ولا عطف بينها ولا رجاء في إنسان ولا إله؟! ومن أين يأتي ~~العطف في عالم الآلهة؟ ليس بين الكائنات العليا إلا تقاليد البلاط أو شارة ~~العداء والقتال، وأما الناس فهم إما معطوها العبادة أو معطوها الفناء، وهي ~~عندهم إما رب يطاع أو حجر يلقى على عرض الطريق، فويل للآلهة المسكينة من عبادها ~~الأقوياء عليها، ثم ويل للعباد من آلهة لا تحفظ نفسها، وهم يرجونها لحفظ ~~العالمين! # في الوادي الشرقي من أسوان إلهان أو ثلاثة من هذه الآلهة معزولة، تركها ~~الناحتون حيث نحتوها من الصخر الخامل المنسي في غمار المناجم، وضنوا عليها ~~بالنقل إلى حيث تقام على قدميها وتتلقى نصيبها من الدعاء والبخور، تركوها في ~~العراء وأودعوها ذمة الخمول، فلا يعلم الناظر إليها من هي ولا من هم أولئك ~~الذين جنوا عليها تلك الجناية، فلا هي من الصخر ولا هي معدودة في زمرة ~~المعبودين، وهي هناك عمل لم يبلغ تمامه وشيء لم يأخذ له صورة في الأخلاد، وبنية ~~شائعة بين الآلهة ms277 والملوك يطلق عليها كل اسم ولا يطلق عليها اسم من الأسماء، ~~أهذا «أوزوريس»؟ نعم في زعم أناس يعرفون ملامح الإله ويأخذونه بالمخايل ~~والأشباه! فمسكين هذا «الأوزوريس» النكرة يكاد لا يعرفه أحد بين الصخور إذا فقد ~~الشارة والعلامة! ومسكينة تلك الإلهية التي تنتهي بصاحبها إلى هذا ~~المصير. # وإذا سألت أناسا آخرين من أصحاب الآلهة الأقدمين أنكروا الشبه، وقالوا لك: لا، ~~ليس هذا صاحبنا «أوزوريس» ولا هو في السمت الذي عهدناه لذلك الإله العظيم، وما ~~هو إلا ملك مجهول أو إله لم يدرج اسمه بعد في دفتر المواليد، فمن هو! لا نعلم ~~ومن ذا الذي يعلم الملوك والأرباب إذا تجردوا من الحلل وخرجوا من ~~المحراب! # وإذا أعدت إليهم السؤال عن الجبار الآخر المطروح على مسافة منه، فعلمهم به ~~كعلمهم بذاك وعلمهم بهذين كعلمهم بكل أثر هنالك لم يبلغ التمام ولم يكشف عنه ~~اللثام، وغاية ما يهديهم الظن إليه أن هذه الآثار قد تكون لأبي «إخناتون» رسول ~~الشمس والوحدانية، ومنكر الأوثان والوثنية، مات الوالد ميتته العاجلة فعق الولد ~~تذكاره برا بأتون وإشفاقا على الدين الحديث من بقايا الدين القديم. # أو أن «أمنحوتب الثالث» والد ذلك الرسول قد غضب على عامل التماثيل، فلم ينقده ~~أجره وأقصاه عن حظيرته، ونبذ تماثيله في مكانها ثم عوجل بالموت فلم يعن خليفته ~~بأمرها، يعزز هذا الظن أن اسم الملك منقوش على لوحة من الصخر هناك يواجهها عامل ~~التماثيل داعيا مبتهلا وهو ممحو المعارف مدثور السمات، فهل صنع الملك به ذلك ~~الصنيع من غضب عليه أم صنعه به أناس من مشوهي الصور وكارهي هذه العبادات؟ هنا ~~ينتهي الظن إلى ظنون، وهنا لا نعلم نحن ولا هم يعلمون. # أما المكارون الذين يصحبون رواد الآثار في ذلك المكان، فعلمهم بكل شيء فيه علم ~~اليقين وتاريخهم الذي يقصونه عليك لا تلعثم فيه ولا تشكيك. هذا تمثال رمسيس. ~~وذلك تمثال آخر لرمسيس، وذلك مقعد عظيم كان يجلس عليه رمسيس، فما أسعد ذلك ~~الملك في عالم الذكر والخلود! لقد جار في حياته على آثار ms278 الغابرين فدعاها ~~لنفسه، وطمس أسماءهم ليلحقها باسمه، ثم ها هو بعد آلاف السنين من ذهاب سلطانه ~~ينحله الشعب ما لم يعمل، وينسبون إليه ما ليس له من أثر، ويجعلون اسمه عنوانا ~~لكل مالك وكل معبود وكل تمثال! فما من تمثال إلا هو تمثال رمسيس، وحسب الملوك ~~الآخرين عزاء أنهم معروفون عند العارفين، ومجهولون عند أولئك الجاهلين! # على أنك هنا في مكان تلمس فيه قرب الذكر من النسيان وصلة النباهة بالهوان، كلها ~~من معدن واحد وكلها في جيرة واحدة، فهذه فضلة الصخر التي بين يديك لا علامة ~~عليها ولا نقش فيها ولا تنويه. ربما كان شطرها الآخر تمثالا نصبوه في بعض ~~المعابد المصونة فحيته الوجوه زمانا بالسجود، وارتفعت له الألسنة زمانا ~~بالدعاء، وذكرته الأقلام زمانا في صحف التاريخ واقترن ذكره زمانا بذكر ~~العبادات والآلاء والفتوح والأنباء، أو ربما كان شطر منها ذلك التمثال المغمور ~~في الرمال، لم يعرف له اسم ولم يبرح مقره من صفحة الخمول، وكلها بعد صخرة واحدة ~~تلك الفضلة المنبوذة، وذلك الصنم المعبود وهذا التمثال المهجور. # وعن يمينك وعن شمالك عشرات من الحجارة المعلمة، كانت في طريق الحجاج إلى معبد ~~إيزيس، أو الغزاة في سبيل الذود عن الوطن والطموح إلى الخلود. عبرتها الملوك ~~والقواد فنقشوها وأفردوها بالعلامات والشيات، فانظر إليها تجد لها بروزا على ~~لداتها وأقرانها، واستطالة على القمم الباذخة من فوقها، وفيم ذاك؟ أصلها من ~~أصول الحجارة الصلب التي تحيط بها، وموضعها قريب منها إن لم يكن دون موضعها، ~~وإنما عبر بها الملوك وأفردوها بالنقوش فجاءها النبل وتوارثت التنويه! وهل كان ~~للناس في القديم من نبل وتنويه غير أن يعبرهم الملوك جادين أو لاهين، ويخلعوا ~~عليهم شية من الشيات، أو طلسما من طلاسم الأسماء؟ # وتأمل في أصنام مصر التي حج إليها الناس قديما، ويحجون إليها في هذا الزمن ~~الحديث هل تجد صنما لم يكن في سالف عهده صخرة مطروحة بين هذه الصخور؟ قل فيها ~~من نجم في غير هذه البقعة أو البقاع القريبة منها، فهي لو حنت ms279 إلى أصلها لعادت ~~شظايا بددا إلى هذه التربة التي لم تكترث فراقها ولم تأسف عليها، وها قد أخذ ~~الخلود شبعه من المنجم الغني فماذا غير فيه وماذا أحدث في نواحيه؟ لا يزال فيه ~~متسع لكل ذكر على الأرض، وكل صنم تستدعيه العبادة والإعجاب، ولا يزال الخمول ~~بخير لا يحس ما يسع به الذكر الحميد أو الذميم، وما تأخذه منه الشهرة بالحق أو ~~بالباطل والبهتان. ~~••• # دعتني هذه البقعة إليها كما تدعوني كلما نزلت بأسوان، فما تسأم هي الدعوة وما ~~أسأم أنا التلبية، وكيف وهي تدعو الناس إليها باسم أعظم الأشياء في هذا الوجود؟ ~~باسم الحياة تدعوهم وباسم الخلود وباسم الفناء، وليس أعظم من هذا الثالوث ~~داعيا يجيبه السميع. # تسلك هذا الطريق فيغمرك نور شمس لا تدري كيف يكون معها الموت، ويحدق بك موات ~~صحراء لا تدري كيف تكون معه الحياة، وفيما بين ذلك ذكريات باقيات وآثار خالدات، ~~وحسيس أصوات خافت من عبقريات ذاهبة، طالما جاست في هذه الديار ونقبت في هذه ~~الأحجار، وأفرغت عليها من روحها فإذا هي ملك تعرفه بسيماه أو رب تسجد له ~~الجباه، فإذا غشيتك غاشية الحلم بين هذه العناصر والأطياف فأنت في طريقك هذا ~~كأنك في تلك البقعة التي كان يجتازها الخضر كل خمسمائة عام، فيجد فيها البحر في ~~موضع المدينة ويجد فيها المدينة في موضع البحر، ويراها خلاء قواء في هذه ~~الزورة، ويراها مروجا وبساتين في الزورة التي تليها، وفي كل مرة لا يكف عن ~~العجب وهي في كل مرة لا تكف عن التجديد، فقد كان هنا نيل لا يزال واديه مشقوقا ~~في الهضاب ثم جف النيل وجرت الأقدام منه مجرى السفن، وكانت هنا آجام تعمرها ~~الفيلة والأسود فلا آجام اليوم ولا أوابد، إلا قليلا من الأرانب والظباء ~~والوعال، وفلولا من الثعالب والذئاب والضباع، وكانت هنا حصون هاجمها الفناء ~~حتى عفى عليها أو كاد فخلفتها حصون أخرى يهاجمها الفناء ويعفى عليها أو يكاد، ~~وكانت هنا معابد فصوامع فمساجد ثم جاء على آثارها خراب تدين له بيوت ms280 الأرباب، ~~والناس ولا يعفى منه قديم ولا حديث، وحول ذلك الصحراء تستأثر بالبقاء الطويل لا ~~يتبدل فيها شيء إلا أن يكون جبل صامت في موضع بركان ثائر، وغدير وشيك النضوب في ~~موضوع كثيب من الرمال. ~~••• # وقف بي الحمار عند «المسلة» الكبرى التي أراد بها البناة أن تكون أكبر مثيلاتها ~~في مصر فأبت الأيام إلا أن تظل في أحضان الجبل على قيد باع من التمام، وقف ~~هنالك لأنه تعود الوقوف على الآثار والإبطاء على معالم هذه القفار، فأرسلته ~~وأنا أحمد له ما استطاع من الشغف بذلك التاريخ القديم، وأفاضل بينه وبين من ~~تحفزهم إلى المكان عادة كعادته، أو من لا يحفزهم إليه شيء قط وهم على مسيرة ~~لحظات منه! وأويت إلى كنف الجبل توقرني الذكرى الحافلة بالعبر، ويحف بي الضياء ~~الزاخر بإشراق كإشراق الأمل، وحرارة كحرارة الهيام، وأنشد بيني وبين ~~نفسي: # طهرت بماء سمائها أمم # وبه تطهر روحها الهند # والروح أولى أن يطهرها # نور يجف بها ويمتد # فيض يشف فما به كدر # ومدى يفيض فما له حد # وجلست ما بدا لي أن أجلس، ثم نهضت إلى الحمار وهو مطرق «يفكر» كحمار شيخوف ~~فلعله يسأل نفسه . ما لهؤلاء الناس ولهذه البقعة لا يفتئون يأتون بي إليها من ~~حين إلى حين؟ وماذا يشوقهم منها ولا علف فيها ولا خضرة ولا ماء؟ فإن لم يكن هذا ~~سؤاله فهو أعلم من أناس يسألون هذا السؤال، ولا يعثرون له على جواب! # | الكمال (1)1 # ... فكرت في تطور الحياة وسعيها نحو الكمال ثم سألت نفسي: ولكن هل ~~الإنسانية بالغة من الكمال حدا ليس بعده غاية؟ وإذا بلغت ذلك ~~الحد فما قيمة الحياة بعد ذلك؟ وما هي تلك الصورة التي يتجلى فيها ~~ذلك الكمال؟ وإذا كانت لن تبلغ حد الكمال فإلى أي مدى ستنتهي، بعثت ~~إليك بهذه الخواطر لتبسط الرأي على صفحات البلاغ الأسبوعي، وتكشف ~~عن الحقيقة، ولك مني جزيل الشكر. # محمود محمود محمد # مصر في 26 ديسمبر سنة 1927 # إن الأديب صاحب هذا الخطاب يحسب أنني أعرف من أمر المستقبل ما ms281 لا يعرفه هو أو ~~يعرف أي إنسان، وهذا حسن ظنه منه لا حيلة لي في تحقيقه، ولو شئت لأحلته إلى ما ~~بعد ألف سنة، ووصفت له ما عسى أن يكون عليه حال الإنسان في المستقبل القريب فلا ~~يستطيع أن يناقضني فيما أقول. أو يستطيع هو أن يناقضني، وأستطيع أنا أن أرجئ ~~الأمر إلى أن يحين الموعد، ونرى أينا أدنى إلى الحقيقة! ولكني لا أحب هذه ~~النبوءات المعلقة، وأريد أن أخطو معه خطوات في عالم المجهول، ونحن على مأمن من ~~الرجعة إلى مكاننا في القرن العشرين. # ولا يحسبن الأديب أنني قليل الادعاء في علم المستقبل إلى الحد الذي تخيله له ~~هذه المقدمة الوجيزة، فإنني مدع له الآن شيئا أنا على أتم اليقين منه، وأوكد ~~التوكيد من صدقه، فأقول له: إن الإنسانية لن تبلغ أبدا حدا من الكمال ليس ~~بعده غاية؛ لأن هذا ينتهي بنا إلى الكمال المطلق في مخلوقات لها بداية ونهاية ~~ونشأة تندرج عليها من نقص إلى كمال، فضلا عن أن الكمال المطلق شيء غير مفهوم، ~~ولا يمكن أن يفهم؛ لأنه غير محدود، وكل ما كان غير محدود فليس في الإمكان حصره، ~~ولا الإحاطة به من طريق المعرفة الإنسانية، وهو فضلا عن هذا أيضا غير مرغوب ~~فيه لو أمكن وقوعه؛ لأن الحياة كلها قائمة على الحاجة والحاجة قائمة على النقص، ~~فإذا كملنا كمالا لا حاجة بعده فقدنا لذة الحياة من حب وطعام، وسعي وتحقيق ~~للأمل، ونصر على المخاوف، إذ كان لا معنى للحب في مخلوق كامل المطالب؛ لأن الحب ~~هو الحاجة إلى شريك أو الحاجة إلى خلف، ولا معنى للطعام من باب أولى ولا للسعي ~~ولا للأمل والخوف، فالكمال المطلق إذن شيء لن نبلغه ولن نتصوره ولن نستريح ~~إليه، والأديب صاحب الخطاب على هذا الرأي كما أرى لأنه يسأل: إذا بلغنا ذلك ~~الحد فما قيمة الحياة بعد ذلك؟ وهو على حق في سؤاله؛ لأن الحياة الإنسانية لا ~~قيمة لها إذا بطلت فيها الحاجة، والسعي إلى سدادها، وإنما نترقى في الاحتياج ms282 ~~كلما ارتقينا فيكون أرفعنا نفسا ذلك الذي يحتاج إلى أمر لا يحتاج إليه من هو ~~دونه. وحاجة الكمال نفسها مطلب لا يشعر به كثيرون، ولا يقلقون بالهم بما كان ~~منه وما هو صائر إليه، فهذه ضريبة على بني الإنسان لا فكاك منها، ولا هم ~~يستوفونها إلى أن يدركهم الزوال، وصدق من قال: # تموت مع المرء حاجاته # وتبقى له حاجة ما بقي # في قصيدتي «ترجمة شيطان» أمثل الشيطان الذي تاب عن الإغواء وأدخل الجنة، قائما ~~يسأل الله جل وعلا: هل نستقر وبيننا وبين الكمال غاية؟ وهل نسعد ونحن غير ~~مستقرين؟ وما نعيم الجنة إذا كنت أرى الكمال ولا أبلغه، أو أراه ولا أطلبه؟ هل ~~يسلب مني الشوق إلى الكمال، فأنا إذن موكوس ممسوخ؟ أو يبقى في هذا الشوق فأنا ~~إذن مجاهد محروم؟ كلاهما لا ينتهي إلى سعادة، ونحن ها هنا في النعيم وهل نطلب ~~النعيم إلا لنعيش فيه سعداء؟! # فمن جرى على فلسفة هذا الشيطان فسبيله أن يسأل عن هذا المنوال، ولا يظفر ببيان ~~وخير لنا هنا - على هذه الأرض - أن نستقر على شيء فيه بعض من سعادة الاستقرار، ~~ذلك الشيء هو أن السعادة إنما هي في السعي والطلب، أو في الأمل الذي ينتقل بنا ~~من حال إلى حال، فأما الاستقرار التام فلا نبلغه ولا هو بمحمود إذا نحن بلغناه. ~~وقد أنصف شوبنهور حين شبه الإنسان في الحياة بالحمار الذي يصعدون به جبال ~~الألب، ويضعون على رأسه حديدة يعلقون فيها العلف بحيث لا يناله ولا يغيب عن ~~نظره! فهو أبدا صاعد وهو أبدا بعيد من ذلك العلف المأمول! ولكنه يصعد ويصعد ~~وينسى مشقة الصعود، ويتلهى عن الجوع، ويقوم بأداء ما هو مسخر فيه، وكذلك ~~الإنسان يفتأ ينظر إلى الأمل الذي بين عينيه فيخطئه أو يصيبه، ولكنه يستعين به ~~على الصعود في مرتقى الحياة، ويؤدي ما هو مفروض عليه وهو يحسب أنه ساع إلى ~~طعامه، فلنستقر على هذا إذا كان لا بد من استقرار، ولنعلم إن رضينا أو غضبنا ~~أننا ما لنا ms283 غيره من قرار. # ندع الكمال المطلق غير مأسوف عليه، فما هو إلا الفناء أو شبيه بالفناء إذا قيس ~~إلى الإنسان، ونسأل كما يسأل الأديب صاحب الخطاب: إذا كانت الإنسانية لن تبلغ ~~حد الكمال فإلى أي مدى ستنتهي؟ ويبدو لي أنك لن تكون على يقين من هذا كيقينك من ~~ذاك. أو قد تكون على يقين من مستقبل بني الإنسان، ولكنك لا تحب أن تفتح عينيك ~~على ما تراه؛ لأنك لا ترى في النهاية الخاتمة إلا الزوال المحتوم، وإلا فإلى أي ~~حال ينتهي الإنسان على هذه الأرض إلا أن يبيد كما تبيد الخلائق أجمعون؟ ليست ~~أسباب الحياة مؤاتية أبدا في هذه الدنيا، وليس الكوكب الذي نعيش عليه بمعصوم ~~من الدمار، وستمضي القرون بالألوف أو بالملايين، كما نمضي غمضة العين في آباد ~~الزمان، ثم يحين الحين، ويفنى كل من في الأرض قبل أن تفنى الأرض بقرون. # زحل أشرف الكواكب دارا # من لقاء الردى على ميعاد # ولنار المريخ من حدثان الد # هر مطف وإن علت في اتقاد # نبوءة لا تعجبنا ولا ريب، ولكن كم في الحياة التي نحياها الآن من أمور لا ~~تعجبنا، وهي مع هذا كائنة لا يختلف فيها حيان! فنحن نحيا ونعلم أننا سنموت، ولا ~~نكف من أجل هذا عن الحياة، وقد تسأل في سخط وريبة: ما فائدة الحياة إذن إن كان ~~قصارى الإنسان على الأرض أن يبيد وتعفو ريحه من هذا الكوكب أبد الآبدين؟ فقل لي ~~حماك الله كم من هذه الأمم التي عاشت وماتت وتعيش الآن وتموت يعلم فائدة ما من ~~الحياة؟ فإن قلت إنهم يفرضون لها فائدة يعيشون لها، ويحتملونها من أجلها فاعلم ~~علما ليس بالظن أنهم سيفرضون لها هذه الفائدة وما يشبهها ولو تحققوا فناء ~~الإنسان، بعد كذا أو أكثر من الزمان! وأنهم قادرون على أن ينخدعوا ما داموا ~~قادرين على أن يحيوا، فما ينخدع الشاب إلا لأنه أحيا حياة من الشيخ المتهدم، ~~وما يخلو الشيخ من الخديعة شيئا فشيئا إلا؛ لأنه يخلو من الحياة، فستوجد لنا ~~الحياة ms284 فائدتها المزعومة وستقنع بها أبناءها المؤمنين بها ما داموا في قيدها، ~~ولو تحققوا الموت بعد حين. بيد أنهم لا يتحققون الموت ما دام فيهم رمق منها، ~~ولا يزالون يتبعون الأمل ما داموا يحسون ويعقلون. # هذا ما أقدر لبني الإنسان في المستقبل البعيد، ولا يحزنني أن يكون هو المستقبل ~~القريب، فإن كل أحد من رواد المستقبل أعظم تفاؤلا مني، وأرفق ببني الإنسان ~~رجاء، فعزائي أن تفاؤله ليس خيرا من تشاؤمي، وأن تشاؤمي ليس شرا من تفاؤله، ~~فيما يرجع إلى مصير بني الإنسان. # بقي أن نشغل أنفسنا بما يتاح لنا من الكمال المحدود في هذا العمر القصير، ولا ~~عجب أن نشغل أنفسنا بهذا فقد سمعنا بالكثيرين ممن قضي عليهم بالموت يذهبون إلى ~~الجلاد في أجمل بزة، وأحسن هيئة، ويأبون أن يذهبوا إليه شعثا غبرا على غير ما ~~يليق بهم من السمت والجمال، فإذا كانت «الإنسانية» مقضيا عليها بالموت بعد ~~الدهر الدهير، فليس ذلك بمانع أحدا أن يتزيا بما يتاح له من أزياء الكمال في ~~البقية الباقية لها من العمر الطويل؛ لأن الكمال خير من النقص على كل حال، أو ~~لعله أسهل من النقص في عرف من ينشدونه ولا يعيشون بغيره. # لكل عصر مثال أو أكثر للرجل الكامل في الحاضر والمستقبل، ولهذا العصر أمثلته ~~الكثيرة للكمال، ولكنها تلتقي كلها في مثالين متناقضين: أحدهما هو «السبرمان» ~~والآخر هو «الجنتلمان». # يتناقض هذان المثالان: فالسبرمان في رأي نيتشه - صاحب هذا المثال - إنسان فرد ~~منظور في خلقه إلى نفسه لا إلى غيره، أما «الجنتلمان» فمنظور فيه إلى البيئة لا ~~إلى نفسه، ومطلوب منه صفات اجتماعية لا توافق الصفات الفردية التي يطلبها صاحب ~~ذلك المثال. # فالسبرمان طالب قوة لا يعدل بها شيئا، أو طالب جمال؛ لأن القوة هي الجمال، وهو ~~قهار متجبر لا يرحم نده، ولا يعطف على من دونه ولا يحسب للناس حسابا إلا أن ~~يكون ذلك لسفك دماء، أو مخالفة على عداء، وهو عضو في مجتمع، ولكنه كالعضو ~~«الفزيولوجي» الذي يأخذ نصيبه من الغذاء كله، ولا ms285 يترك بقية منه للأعضاء ~~الأخرى، إلا ما زاد على حاجته، وكذلك يجب أن تكون بنية المجتمع في رأي نيتشه، ~~وإلا كان الجسم الذي ينزل فيه عن غذائه رعاية لعضو غيره مشفيا على السقم ~~والموت، وغير أهل لأن يجمع بين هاتيك الأعضاء، فآفة الحياة الإنسانية السليمة ~~أن يأخذ فيها كل إنسان حقه، ولا يبالي بمن يعجز عن أخذ حقه لنفسه؛ لأن الجسم ~~الصحيح يصنع هكذا في توزيع الغذاء على جميع الأعضاء. # أما الجنتلمان فيخالف هذا المثال من وجهين: يخالفه أولا في أنه اختراع لم ~~تخترعه عبقرية واحدة كالسبرمان، ولكنما اخترعته أمم وعصور لا تحصى، وإن كانت ~~كلمته التي اشتهر بها من لغة الإنجليز، ويخالفه ثانيا في صفاته الفردية ~~والاجتماعية؛ لأنه يدين بالعطف الذي لا يدين به السبرمان. # والذين عرفوا «الجنتلمان» كثيرون، ولكننا نجتزئ منهم بتعريفي اثنين قد أحاطا ~~بأحسن ما يقال في صفات هذا المثال، فالسير شارل والدشتين يقول في كتابه ~~الأرستو، ديمقراطية «إن المثل الأعلى للجنتلمان يشمل فيما يشمله أن يكون رجل ~~شرف، أي رجلا يعنى في جميع أعماله بأن يعيش وفاقا لأعلى مبادئه، على الرغم من ~~وحي المصلحة والراحة الذي قد يجنح له إلى وجهة أخرى، وهو رجل قد أدخل في قانونه ~~- غير ناظر إلى المنفعة أو المآرب الخاصة - أسمى مبادئ الأخلاق الاجتماعية التي ~~تعرف في زمانه، فالشرف والنزاهة في جميع معاملاته، والصدق في صفقات العمل، أو ~~في العلاقات الدقيقة بينه وبين الناس تمتزج عنده بالكرم والإقدام على اتخاذ تلك ~~المبادئ التي لا تبالي أحكام الظروف، ورجل الشرف هو ذلك الذي لا يقدر على عمل ~~وضيع ولا على فكر وضيع ولا على إحساس وضيع، والذي لا يستطيع عوض أن يكون جبان ~~النفس أو جبان الجنان، وهو مثال الرجولة والشجاعة الأدبية، قد تعهد في نفسه ~~شجاعة أفلاطون التي تسيطر على الغرائز والشهوات، وتوحي إليه إذا دعت الضرورة أن ~~يقف بمفرده بين أطلال الأثرة والجور الذي يسيطر على ما حوله.» # ويقول الكردينال نيومان فيما نقله عنه المطران الفيلسوف «أنج» في كتابه ms286 ~~«إنجلترا»: «ألزم تعريفات الجنتلمان يقال: إنه ذلك الذي لا يوقع ألما بأحد ~~كائنا ما كان، وإنه يجتنب جهده كل ما يخدش أذهان صحبه، أو يكدرها، وإنه يجتنب ~~الصدمة والاحتجاز والكآبة والتذمر، وإنه يجعل همه الأكبر أن يدع كل إنسان على ~~هينة وطمأنينة، ولا يتحدث عن نفسه إلا مضطرا ولا يدفع عن نفسه لمجرد رد ~~الإساءة، ولا يصغي إلى وشاية أو لغو، أو يتعجل بإسناد الغرض إلى من يتعرضون له، ~~بل يفسر كل شيء على أحسن وجهه، والجنتلمان لا يكون وضيعا ولا صغيرا في ~~منافساته، ولا يخلط بين الشخصيات والكلمات العوراء وبين الحجج والبراهين، أو ~~يلمح بالسوء الذي لا يجهر به، وهو إنسان له فهم يعصمه أن يضطرب من العدوان وشغل ~~يلهيه عن تذكر الإساءة، وحلم يأبى عليه الضغينة، وقد يكون على خطأ أو صواب في ~~آرائه، ولكنه أصح فكرا من أن يكون ظالما، وعنده من البساطة مثل ما عنده من ~~الإخلاص والمسالمة والطيبة، وأن ينفذ إلى عقول خصومه، ويلتمس الأعذار لما لهم ~~من الأخطاء.» # فالصورة الأولى أقرب إلى الأدب، والصورة الأخيرة أقرب إلى الدين، وكلتاهما مثل ~~أعلى يعسر وجوده في حقائق الحياة. # أي المثالين إذن أولى بالاتباع؟ الجنتلمان أو السبرمان؟ # موعدنا بذلك المقال القادم إن شاء الله. # | الكمال (2)1 # السبرمان والجنتلمان ~~«الأبيرمنش» كلمة كانت معروفة في اللغة الألمانية قبل فردريك نيتشه، الذي تنسب ~~إليه وتلصق باسمه، ولكنه هو أول من أعطاها المعنى الذي عرفت به، بعد شيوع مذهبه ~~وترجمة كتبه، و«السبرمان» هو ترجمة هذه الكلمة باللغة الإنجليزية، ومعناها ~~الإنسان الأعلى أو الإنسان الذي فوق الإنسان. # لما اتخذ نيتشه هذه الكلمة وأطلقها على بطله الموعود، كان ولا ريب يؤمن بمذهب ~~النشوء والارتقاء، ويتوهم أن السبرمان سيخرج من الإنسان كما خرج الإنسان من ~~القرد، ويقول: إن هذا الإنسان جسر يعبره القرد إلى السبرمان، ووسيلة إلى ~~المستقبل، وليس بغاية ينتهى إليها، ولعل المسافة بين إنسانه الموعود، وإنسان ~~اليوم ستكون أكبر وأغرب من المسافة بين إنسان اليوم وجدوده القردة وذوات ~~الأربع! فالسبرمان على هذا ms287 خيال، أو مثل أعلى وليس بصورة مرئية يحتذى على ~~مثالها، أو مرتبة مستطاعة في عهدنا هذا يرتقي إلى منالها. # أما «الجنتلمان» فهو في وصف الواصفين له شيء موجود ومعهود، يعد بالعشرات ~~والمئات ويكثر مثاله في الأندية والمجامع، ومحافل السروات وأبناء الطبقات ~~الرفيعة، فليس الاختلاف في شأنه إلا اختلافا في تعيين صفاته، وحصر شمائله، ~~وتعديد الخصال التي تبدو منه في كل يوم من أيام حياته، فالفرق بين الجنتلمان ~~والسبرمان في هذا الحساب كالفرق بين الخلائق الحية وخلائق الأساطير، أو كالفرق ~~بين الحقائق والأحلام. # ولكن الأمر على غير ما يتخيله أنصار السبرمان وأنصار الجنتلمان في هذا ~~الاعتبار، فنحن نعتقد أن السبرمان كما وصفه نيتشه موجود أو موجود من يقاربه في ~~أصول الأخلاق والمشارب، وأما الجنتلمان كما يصفه الكاتبون عنه فهو الخيال أو هو ~~المثل الأعلى الذي لا وجود له في الآمال والأحلام. # فليس يندر أن تعرف في الوقت الحاضر - بل في التاريخ الماضي - إنسانا من ~~المتجبرين يطغى بأنانيته الساطية على أبناء زمانه، ولا يؤمن بغير عظمته ~~وجبروته: الخير عنده هو ما أرضاه والشر هو ما أسخطه وخالف هواه، والفضائل ~~والمحاسن لا قيمة لها في عرفه، إلا بقدر ما تصلح له وتجري مع مطامعه، والرذائل ~~والمثالب لا معنى لها إلا أن تعوق مبتغاه، أو يتسم بها من لا يرمون إلى مثل ~~مرماه، وهو في كل ذلك نبيل النفس، عالي الهمة، عظيم الدهاء، يقضي بالحيلة ما ~~ليس يقضيه بالشجاعة ويعرف الصدق والخديعة كأنهما لونان من ألوان القوة يظهر بكل ~~منهما حيث يوافقه، أو حيث تملي عليه البداهة الملهمة بغير إرادة ولا إطالة ~~تفكير، إلى آخر هذه الأوصاف التي حققها نيتشه فيمن سماهم أنصاف السبرمانات، ثم ~~لم يستطع أن يسمو إلى ما فوقها من أوصاف السبرمانات الكاملين. # أما الجنتلمان أو «رجل الشرف» كما جاء في تعريف السير شارل والدشتين «الذي يعني ~~في جميع أعماله بأن يعيش وفاقا لأعلى مبادئه على الرغم من وحي المصلحة ~~والراحة، والذي قد تعهد نفسه بشجاعة أفلاطون التي تسيطر على الغرائز ms288 والشهوات، ~~وتوحي إليه إذا دعت الضرورة أن يقف بمفرده بين أطلال الأثرة والجور» وكذلك ~~جنتلمان الكاردينال نيومان «الذي لا يوقع ألما كائنا ما كان، والذي عنده من ~~البساطة مثل ما عنده من القوة، ومن الوضوح مثل ما عنده من الحزم، ويجب ألا يزاد ~~على ما عنده من الإخلاص والمسالمة والطيبة، وأن ينفذ إلى عقول خصومه ويلتمس ~~الأعذار لما لهم من الأخطاء.» نقول أما الجنتلمان على هذه الصورة أو على تلك ~~فهو أقرب إلى المثل الأعلى منه إلى الواقع المشهود، وأدنى إلى عالم الأحلام منه ~~إلى عالم العيان، وربما بحثت في كل عشرة آلاف من أصحاب هذا العنوان فلم تجد ~~واحدا يعالج أن يكون على تلك الصفة من علو النفس وجمال الشمائل، وكل ما هنالك ~~- أو أكثر ما هنالك - من الجنتلمانية صنعة يحذقها الطالب في بضعة أشهر، يتلقن ~~فيها حركات وإشارات لا يصعب تلقينها، ويجري على أساليب في المعيشة لا يتعذر ~~الجري عليها، ويحترس من إظهار عيوبه المحرمة في حكم هذه الصنعة، فإذا هو مقبول ~~في مسلك أهلها، محسوب بين أصحاب عنوانها، ولا سيما إذا كان على شيء من التعليم، ~~والإلمام بأوائل الفنون، وخبرة كافية بمزجيات الفراغ، وأحسن من ترى من أصحاب ~~هذا العنوان أناس لهم ذوق في الاستمتاع بالترف الجميل يأخذونه مأخذ العادة، ~~ويدرجون فيه على المحاكاة، أو يرجعون فيه إلى إحساس لطيف، يدرك هذا الترف ~~الجميل ويعجز عن خلق الجمال وابتكار، فلا تلبث أن يتبين لك نقص ذلك الإحساس ~~كلما خرج من نطاق العادة والمحاكاة إلى فسحة التمييز والاستقلال بالفهم ~~والشعور، وقد ترى في خدم الفنادق الذين طالت ممارستهم لآداب التحية وعادات ~~المجتمع في الطعام والشراب والملابس والزيارات، وأدمنوا الالتفات إلى الصور ~~وألوان الجدران وأصناف الأثاث والتحف وأطوار «السادة» ومراتب الاجتماع أناسا ~~ينغمسون في البيئة الجنتلمانية إذا شاءوا، ولا ينكشف أمرهم بين أفرادها لندرة ~~الجنتلمانية الحقيقية أو المحاولة الصحيحة التي تطمح إلى هذه ~~الجنتلمانية. # فليس الجنتلمان الشائع في العرف هو الإنسان الذي لا يوقع بأحد ألما كائنا ما ~~كان ms289، بل هو ذلك الذي يتحرى في الإيلام أسلوبا غير أساليب السواد والسوقة، وليس ~~هو الذي يعيش على أرفع مثال للمروءة والشيم، بل هو ذلك الذي يستبيح كل مأثمة ~~ويستحل الكذب والخيانة والظلم في صيغة مصقولة غير نابية، وليس هو الذي يطالب في ~~بيئته بالكمال والشمم وطهارة الأخلاق والمأرب، بل هو ذلك الذي لا تعني بيئته ~~بشأن من شئونه ما دام حاظيا أمامها بشروطها المرسومة في مظاهر الحركة والتصرف ~~والكلام، وليس هو الذي يقال عنه أحسن ما يقال في المجالس والندوات، بل هو ذلك ~~الذي يقال عنه كل شيء وتبقى له بعد ذلك شرائط اللباقة والهندام، حتى لقد أصبحت ~~تكاليف «البيئة الجنتلمانية» على أصحابه عنوانها أخف التكاليف على أهل بيئة من ~~البيئات، وسهل الأمر على طلابه فلو أنشأت مدرسة مستعجلة لتخريج الجنتلمانية كما ~~يخرجون الضباط في إبان الأزمات الحربية لتستطيع تخريج الألوف المؤلفة في كل ستة ~~أشهر على أكمل ما يروم المجتمع، وتشترط الطبقات الرفيعة، فقد أفلح قانون ~~الجنتلمانية الشائع في شيء واحد وهو تهوين الكمال على من يبتغيه، وتقريب ~~التهذيب لمن يريد الاختصار، فما على هذا إلا أن يتقن الأساليب والظواهر، ثم لا ~~يسأله أحد عن علم، أو خلق، أو ذوق، أو شعور، وليكن أضيق الناس عقلا، وألأمهم ~~خلقا، وأسخفهم ذوقا، وأضلهم شعورا، فإذا ظهر عليه شيء من ذلك فتلك إذن ~~غرابات شخصية، وأطوار خصوصية! ومن آداب «البيئة الجنتلمانية» ألا تحجر على هذه ~~الغرابات والأطوار، بل تستملحها وتنجذب إليها؛ لأنها أقمن بالتنويع وتبديل ~~الطعوم. # فإذا كان نيتشه قد ظن أن السبرمان أمل نتطلع إليه في المستقبل البعيد، فيجب أن ~~نعلم نحن أن الجنتلمان - كما هو في صورة المثل الأعلى - أبعد تحقيقا، وأوغل في ~~الحلم والتأميل، ولكننا سألنا أي المثالين أولى بالاتباع: السبرمان أو ~~الجنتلمان؟ فالرأي عندي أن الفردية في السبرمان أكثر مما ينبغي، وأن ملاحظة ~~البيئة في الجنتلمان أكثر مما ينبغي كذلك؛ لأن الإنسان ليس بالفرد المقطوع عن ~~بيئته، ولا هو بالمستغرق في تلك البيئة، وإنما هو فرد وابن بيئة ms290 تعيش معه وابن ~~نوع قد عاش قبله وسيعيش بعده، فإذا انحصرت آدابه في التفرد فذلك نقص وخلل، وإذا ~~انحصرت آدابه في البيئة فذلك نقص وخلل، وإنما يستتم حق الفردية، وحق البيئة، ~~وحق النوع، فهذا هو الكمال المقدور له، وهذه هي القبلة التي تهديه إلى مواقع ~~الرشد والضلالة في مسيره. # إن نيتشه قد أخطأ فهم النشوء والارتقاء حين بنى ظهور السبرمان على أصول هذا ~~المذهب، وأخطأ التشبيه حين قابل بين العضو في الجسد والإنسان في أمته أو نوعه؛ ~~لأن «الفزيولوجيا» التي اعتمد عليها لا تؤيد قوله عن العضو إنه يستهلك كل غذائه ~~لنفسه، بل هي ترينا العضو شيئا لا معنى له بغير خدمة الجسد كله، فالقلب ما ~~الغذاء الذي يأخذه في جانب الغذاء الذي يعطيه؟ والمعدة والكبد والدماغ وسائر ~~الجوارح والأعضاء، ما هي وما وظائفها وما سر وجودها إن لم تكن منفعتها لجسدها ~~مقدمة على منفعتها لنفسها؟ وقل مثل ذلك في الإنسان العظيم أو الحقير، ما سر ~~عظمته أو حقارته إن لم يكن منظورا في ذلك كله إلى غيره؟ وفي أي مظهر تتجلى هذه ~~الغيرية إن لم يكن مظهرها صفات المفاداة، والبر، والرحمة، والاتصال بعروق من ~~العطف، ووشائج من الأخلاق؟ # أما العرف الشائع فقد أخطأ أشد من هذا الخطأ في فهم «الجنتلمانية»، فجعل ~~المجتمع الحاضر - بل جعل البيئة الخاصة من المجتمع الحاضر - هي الحياة كلها، ~~وهي محور الآداب والكفاءات، فلا أدب ولا كفاءة إلا ما يرضيها، ولا شيء في ~~الدنيا جل أو صغر يبيح الإنسان أن يطرح أحكام هذه البيئة، ويجسر على إغضابها. ~~فضاعت في هذا التقدير الفضائل النوعية التي إنما جبل عليها الإنسان لتقويم نوعه ~~وتحسينه لا للاستغراق في بيئة زمانه والتفرغ لإرضائها عنه، وأصبحت هذه الفضائل ~~التي تتفاوت بها الأقدار والمواهب كالنوافل المهملة في جانب الظواهر التي ~~يقتضيها المجتمع من عباده. مع أن هذه الظواهر لا فائدة لها إلا كفائدة الزيت في ~~تسهيل الحركة على العدد، وتليين العلاقات بين أجزاء الأداة الكبيرة المسماة ~~بالأمة أو البيئة، ولكنها ليست هي ms291 العدد وليست هي الوظيفة التي أريدت بتركيبها ~~وهندسة أجزائها وتقويم بنائها. إنما هي الزيت الذي يسهل حركاتها ويلين ~~علاقاتها، ولا فائدة له إذا استغنت عن تسهيل الحركة وتليين العلاقات. # وإذا شئت أن تسبر مدى هذا الخطأ فتصور عظماء الإنسانية الذين هذبوا عقولها، ~~وثقفوا أذواقها، وألهموا ضمائرها، وخلقوا لها جمال فنونها، وأسرار علومها ~~محرومين من حق العمل والتقدير، إلا أن يكونوا على وفاق البيئة الجنتلمانية، ~~وأحكام الأندية ومحافل الظرفاء! ثم تصور كم تخسر الإنسانية من فقد أولئك ~~العظماء وتعويضها بجنتلمان عصري عن كل عظيم مفقود، فإنك لا تملك نفسك أن تبتسم ~~حين تتصور موسى وبوذا والمسيح ومحمدا أو بولس الرسول وهومر وأفلاطون والغزالي ~~وأشباههم وأندادهم محاسبين في معاملات الحياة بحساب الأندية وقسطاس الظرفاء! ~~ومتى ذكرت ذلك فإنك تذكر لا محالة أن الرجل قد يسخط أبناء جيله، ويزري بما ~~تواضعوا عليه، وينبذ كل ما تفرضه عليه البيئة، ثم يظل بعد هذا كله إنسانا ~~عظيما خليقا بالحب والإكبار. # فلا سبرمان نيتشه إذن، ولا جنتلمان العرف الشائع، ولكنما الإنسان الذي تمتزج ~~فيه حقوق الفرد والبيئة والإنسانية جميعا هو مثال الكمال المطلوب، فإن سألت أي ~~هذه الحقوق ينساها إذا اشتجرت في نفسه، واستحال عليه التوفق بينها، فاجزم بأنه ~~ينسى فضائل الفردية والبيئة في سبيل فضائل الإنسان الباقية؛ لأنه طالب كمال ~~والكمال معلق بالدوام ولا بحاجات نفسه الزائلة، ولا بالزمان المحدود الذي يعيش ~~فيه. # | توماس هاردي (1)1 # أتراهم إذ يسمعون أنني سكنت سكوني الأخير، ينظرون على الأبواب إلى ~~السماء قد حفلت بالنجوم التي يشهدها الشتاء، ويهتف نجي من الذكر في ~~إخلاد أولئك الذين نزل الحجاب بيني وبينهم فلن يروا لي بعد ذلك ~~وجها، فيهمس لهم أن قد مضى، وكانت له عين موكلة بهذه الغوامض ~~والأسرار. # كذلك قال توماس هاردس في قصيدته الختام، فكأنما أوحى إليه لسان الغيب أنه مفارق ~~هذه الدنيا في ليلة من ليالي الشتاء، ترتفع العيون إلى سمائها فتذكر الشاعر ~~الذي كلفت عينه بالنجوم، وشملتها قريحته بسواد من الحزن الذي شملت به كل موجود: ~~ثم ms292 أغمض عينيه عنها فأطبقا على ظلام كظلام الليل الذي كان فيه، لولا أنه ليل لا ~~تشرق في سمائه نجوم، ولا يستنزل فيه وحي القصيد. # ألا من منبئ الشاعر الذي سكن اليوم سكونه الأخير، أن له في النفوس لذكرا تجدده ~~كواكب الشتاء وكواكب الصيف، وتعيده ظلمات النفوس، وما يسطع في ثناياها من الشهب ~~والشموس، وأنه لحبيب إلى كل قلب عرفه في حياته، وسيظل حبيبا إلى كل قلب سيعرفه ~~بعد مماته، فإذا شخص الناظر المفعم الفؤاد إلى طلعة الفجر يتراقص فيها الورق ~~اليابس والأخضر، كما تطايرت الأطياف من عصا الساحر، أو شخص إلى الليل كأنما ~~يزحف إلى الشرق محسوس الحركة ملموس الجلباب، أو شخص إلى الكواكب تخالجه الرهبة ~~من التفرد معها في غيهب الظلام، أو شخص إلى الشمس يعجب لعبادها وما وفقوا له من ~~الهدي القديم، فهو ذاكر لا محالة صاحبه هاردي صاحب «ساكني البرج» و«تس» و«في ~~معزل عن هيجة الزحام» ومسائل الطبيعة ليلها ونهارها، وطيرها وأشجارها، عما لا ~~علم لها به من غوامض وأسرار. # توماس هاردي. # وإذا انقلب الناظر إلى فؤاده يتردد فيه بين ينابيع الرجاء، ومفاوز الخوف، ومروج ~~الدعة ووعور المحنة، وصحراء اليأس، وسراب الآمال، فهو لا ريب ذاكر في ذلك ~~العالم المستهول دليلا كأرفق ما يكون الأدلاء الذين جاسوا خلال القلوب، وسبروا ~~أغوار السرائر، ونشروا في ذلك الميدان المكظوظ بالأشلاء والمصروعين أخوات من ~~الرحمة، طاويات الضلوع على أسى وإشفاق، باسمات الوجوه عن صبر وإيناس، يضمدن ~~الجروح، ويجبرن الكسور، ولا يخدعن أحدا بغير الحق، ولا يضحكن للملهوف ضحك ~~الغواية والغرور، فإن عزاء لكل نفس أن تكون الحياة قد ضمت بين ضيوفها في يوم من ~~أيامها رفيقا كذلك الشاعر الذي كسا الحزن رحمة، وجعل للشك قرارا كقرار ~~الإيمان، وزان السواد بخير ما تجتمع فيه الزينة والحداد، وإن أنسا لسالك هذا ~~الدرب الموحش أن يخاف فيه كما خاف ذلك الرفيق، وأن تفارقه الطمأنينة كما فارقت ~~ذلك الصابر المطمئن إلى كل مستنفد للصبر، ملعج لسكينة الاطمئنان. # لقد كان هاردي من أحب ms293 القانطين إلى القراء وأخفهم محملا على الموافقين له ~~والمخالفين في الرأي والشعور، فقد كان الرجل بين الشك، بل كان في بعض قصائده ~~بين الإنكار، وها هو ذا بعد موته يدفن في مقبرة وستمنستر أي في مقبرة الدير ~~الذي يشرف عليه القسوس، وكان أبعد الناس عن الملوك والأمراء فلم يبعده ذلك عن ~~حبهم وإكبارهم، ولا قعد بولي العهد أن يقصد إليه منذ خمس سنوات ليزوره في بيته ~~حيث يقيم في الريف، وكان منقبضا عن الحياة فلم يحل ذلك بينه وبين المستبشرين ~~بها، ولم يقطع ما بينه وبينهم من المودة والإعجاب. # وإن من غرائب هذه الحياة أن يطول فيها مقام الذين يجتوونها، ويتبرمون بأكاذيبها ~~وآلامها، وأنها تمسك لديها من لا يودونها ولا يحتفون بخيراتها، فهذا توماس ~~هاردي الذي تتلخص فلسفته في إن هذه الدنيا كلها شيء عدمه خير من وجوده، ~~والإضراب عنه خير من المضي فيه، قد عاش حتى بلغ السابعة والثمانين وطالت صحبته ~~لها إلى السن التي يكره فيها الحياة من جبلوا على التفاؤل والاستبشار، وقديما ~~كان المعري يذم العيش، ويرثي لكل مخلوق في قيد «أم دفر» وقد جاوز الثمانين ~~بسنوات، ونيف شوبنهور على السبعين وهو إمام المتشائمين في الزمن الأخير، ومات ~~كارليل عن ست وثمانين ولم تكن نظرته إلى الحياة نظرة الواثق المستريح، فكأن ما ~~طبع عليه هؤلاء المتشائمون من فرط الإحساس بالألم، يجنح بهم إلى اتقائه واجتناب ~~أسبابه، وكأن سكوت بواعث الحياة في نفوسهم يزهدهم في مطالبها، ويعفيهم من ~~مجاشمها وأطماعها التي تعاجل الآجل بالسقم والعناء، فلا ندري أهذا من ذنوب ~~الحياة التي تسوغ نقمتهم عليها أم هو من حسناتها التي تتهمهم بالزيغ ~~والنكران. ~~••• # ولد توماس هاردي سنة 1840 من أسرة معروفة في دور ستشير، وخرج إلى الدنيا ~~مشكوكا في حياته، ونشأ في طفولته ضعيفا ميئوسا من بقائه مثل كثير من ~~المعمرين بين رجال الأدب، وقد تعلم في صباه هندسة البناء ثم تتلمذ في هذه ~~الصناعة لأستاذ من أهل بلده مختص ببناء الكنائس والصوامع، فبرع في صناعته وأفلح ~~بعد قليل ms294، ورحل إلى العاصمة فنال جائزة المعهد الملكي على رسالة في موضوعها، ثم ~~نال في السنة نفسها 1863 جائزة الرسم وتخطيط المنازل من «جماعة العمارة». ولكن ~~نجاحه هذا لم يطمس في قريحته نزعة الأدب والشعر، فكان ينظم المقاطيع من حين إلى ~~حين، ويكتب القصص الصغيرة التي أصابت حظا من الشهرة نشط به إلى مواصلة ~~الكتابة والإقدام على التأليف فيما هو أكبر وأضفى، وربما كان الفضل في توجيهه ~~هذه الوجهة للروائي المشهور «جورج مردث»، الذي أعجب بإحدى أقاصيصه وفطن إلى ~~مقدرة كاتبها في فن الرواية، بل ربما كان لهذا التنشيط دخل في الأسلوب الذي جرى ~~عليه هاردي، واشتد فيه الشبه بينه وبين مردث في متانة اللغة، ورصانة الموضوع، ~~والتنزه عن الدنايا، والحرص على الآداب الرفيعة، وإن كان هاردي ليمتاز على ~~أستاذه بالشاعرية والشغف بالمناظر الريفية، ولا يتكلف ما تخال أن مردث كان ~~يتكلفه من التزمت والوقار. # وفي سنة 1874 أصدر روايته «في معزل عن هيجة الزحام»، بعد روايتين كبيرتين أو ~~ثلاث فأذاعت شهرته في عالم الأدب، ووطدت مكانه بين أساتذة فن الرواية، وتعاقبت ~~له روايات شتى كانت تستقبل بالإعجاب، وتشهد له بالعبقرية وصدق البيان، ولكنه ما ~~كان قط من قصاص الجماهير، ولم يزد المطبوع من أروج رواياته على بضعة آلاف قلما ~~يعاد طبعها، كما تعاد الروايات الشعبية التي تباع منها عشرات الألوف في كل مرة، ~~ويعاد طبعها مرات في العام. # فقد كانت شهرته أكبر من رواجه، وكان الإعجاب به أكبر من الإقبال عليه؛ لأن ~~قراءه هم قراء الأسلوب البليغ، والنظرة الفنية الخالصة، ومن يدركون جمال الريف ~~ويفقهون معنى العطف على مناظره وسكانه وسذاجة العيشة التي شغف الشاعر بالحكاية ~~عن أوصافها بين أبناء وطنه، وما زال هذا الطراز من القراء قليلا في أكثر الأمم ~~قراءة، وعند أعظم الأدباء مكانة. # وقضى، قبل التفرغ للروايات، بضع سنوات في نظم الشعر، ثم أقل من نظمه وهو يعاوده ~~على فترات، ولكنه لم يهجره قط، ولم يزل يتحول إليه لينظم فصلا منثورا أعجبه ~~أو يصور حالة نفسية، أو يصف منظرا ms295 من مناظر الخلاء، وأطول أشعاره «ملحمة» ~~أتمها سنة 1908 وسماها «العواهل»، وأدار وقائعها على سيرة نابليون بونابرت، ~~فجعله هو محرر الملحمة ومعرض ما في الحياة من عبر وأطوار. # ثم ترك الرواية وأقبل على القصيد في أواخر أيامه، وكان من عجائبه أنه قصر نظمه ~~على الشعر الغنائي أو الغزلي، بعد أن نيف على السبعين، وفرغت من نفسه دواعي ~~هذا الشعر الذي يظن أنه ألصق بالشباب، وأعصى على الكهول والشيوخ، ولكنه نقض هذا ~~الظن ولم يكن عجيبا منه أن ينقضه في الحقيقة؛ لأن الشيخوخة ربما أعانت على ~~النظم في هذه المعاني بعد أن تهدأ ثورة العواطف التي تبلبل القرائح، وتغشي ~~عليها بدخان الأشجان والشهوات، فإذا بدت على شعر الشباب دفعة الفتوة وجماح ~~العاطفة المستعرة، فالشيخ أحجى أن ينظر إلى اللباب من وراء تلك الغشاوة، وأن ~~يصفي تلك البلابل والأوشاب، وأن ينشدها في سكينته ومعرفته إنشاد العازف المالك ~~لريشته ويده، البصير بما يدور في نفسه، فيجيء إيقاعه أقرب إلى الصفاء والاتزان ~~ويستعيض من البراعة والسلاسة بعض ما فاته من التوهج والحرارة، ولا يغب عن بالنا ~~أن الغرابة في إبداع الشيخ هاردي أقل وأقرب تفسيرا من إبداع الشيوخ الذين ~~يجيدون شعر الغناء؛ لأن نظرة هاردي أبدا ساخرة وزفراته أبدا مكبوحة صابرة، ~~وأناشيده تليق بالشيوخ كما تليق بالشبان في نوبات الاستكانة والتسليم، فهو أحق ~~بالإجادة في هذا المجال من سواه وهو هو توماس هاردي، سواء نظم في الحب أو في ~~الحكمة، وفي تجارب الهرم أو عواطف الشباب. # إن مكان هاردي من أساتذة الرواية في الذروة العالية، فما مكانه يا ترى بين ~~شعراء العالم المعدودين؟ أهو في مثل منزلته الروائية، أم له مكان هنالك دون ذلك ~~المكان؟ أما كاتب هذه السطور، فإنه لم يقرأ لشاعر حي شعرا يفضل شعره على ~~الجملة، أو يدانيه فيما ارتقى إليه من فتوته التي بلغ فيها إلى قمته الخاصة، ~~ولكني لا أحسبه بين الرعيل الأول من شعراء العالم الذين أفردتهم العصور، وميزهم ~~تاريخ بني الإنسان في جميع الأقوام والأزمان، فهو أجل وأعظم ms296 شعراء عصره، ولكنه ~~ليس بين الأجل والأعظم من شعراء كل العصور. # وقد تساءل بعض المعجبين به لم لم يمنح جائزة نوبل كما منحها الذين لا ~~يتطلعون إلى مكانه ولا يرتقون مرتقاه في الشعر والرواية؟ فقيل لهم: إنه لم يكن ~~«مثاليا» في قصائده ورواياته، ولا متفائلا مبشرا في نزعته ومذهبه، ومن شروط ~~نوبل أن تقصر جوائزه الأدبية على أصحاب العبقرية المثالية، والمطامح الراجية ~~المستبشرة، وقد يكون هذا هو السبب ولكن هل عرض هاردي شعره أو رواياته على ~~المحكمين في هذه الجوائز ليسوغ لنا البحث في سبب رفضه وتقديم غيره عليه؟ لا ~~أعلم، ولا يلوح لي أنه قد عني بذاك. # | توماس هاردي (2)1 # شهرته وتشاؤمه # الشهرة والتقدير شيئان قلما يتفقان، فالشهرة هي ضوضاء وأصداء، تتساوى فيها ~~أعلام الأماكن والأناسي وأسماء الجديرين بالتنويه والإعجاب، الجديرين بالمقت ~~والنسيان، وكأنها بهذه المثابة أصوات آلية لا قصد لها ولا تفكير فيها، ولا تدل ~~إلا على وجود كائن من الأحياء - أو غير الأحياء - له اسم يعرفه الألوف بدلا من ~~الآحاد، كما يعرفون أن في بلاد الهند جبلا يسمى الهملايا، وفي عالم الخرافة ~~جبلا يسمى «قاف». # أما التقدير فهو وزن وقياس، ومعرفة وعاطفة ، ولا يكون إلا عن علم وفهم وشعور، ~~فهو لباب الشهرة وجوهرها، والمعنى الذي به تكون الشهرة فضلا ونعمة، يغتبط بها ~~من ينالها، وبغيره تكون الشهرة أصواتا يتشابه فيها دعاء الناس وعواء الكلاب، ~~بل يتشابه فيها كلام السامعين بها ودوي الطبول وأزيز الآلات. # لم يظهر الفرق بين الشهرة والتقدير في إنسان، كما ظهر في توماس هاردي الذي بلغ ~~من تقدير قومه وغير قومه غاية ما يصبو إليه الأديب، ولم يبلغ من الشهرة ~~«الآلية» بعض ما بلغه أدعياء الأدب وثراثرة الصحافة، فقد مضى عليه جيل كامل وهو ~~مجهول في أهل بلده وبين عشيرته وجيرانه، لا يخطر لأحد ممن يرونه في قريته أن ~~هذا الرجل الحزين الدلف بين المروج، أو الراكب على الدراجة هو أعظم من كتب ~~الإنجليزية ناثرا وشاعرا في زمانه، وربما لم يعرفوا اسمه على حقيقته إلا ms297 إذا ~~كانوا من أهله الأقربين، أو على اتصال به جد حميم. اتفق لمعجب به أن ذهب يزوره ~~أو يحج إليه، كما يقول فنزل بفندق صغير في قرية معزولة من قرى «وسكس» التي خلد ~~مناظرها بشعره ونثره، فجلس في انتظار الغداء يحادث فلاحا مفراحا من تلك ~~القرية، وخطر له أن يسأل عن بطله المحبوب وهو لا يشك في معرفته إياه، واحتفاله ~~بشأنه فسأله: هل يجيئكم توماس هاردي هنا؟ فجعل الرجل يتمتم: توماس هاردي! توماس ~~هاردي! ولاحت عليه حيرة البحث والمجاهدة في الاستحضار، وبعد هنيهة أشرق وجهه، ~~كمن قد ظفر بفكرة مهجورة، طال عليها أمد النسيان، وقال للحاج المشدوه: «لعلك ~~تعني بل هاردي ذلك الرجل الضئيل صاحب الشوارب المدلاة؟ نعم هو يجيء هذه القرية ~~كل يوم سوق!» # وهكذا آثر هو لنفسه أن يعتزل لندن وباريس، بعد أن عاش فيهما ما عاش، حيث تتدافع ~~المناكب على الشهرة، وتحتال الأسماء على الظهور، وأوى إلى قريته - غير بعيد من ~~البيت الذي ولد فيه - يعاشر الفلاحين ويحادثهم وهم يجهلون من شأنه، ما يعلمه في ~~أقصى الأرض قارئه العارف بمقام أديب القرية العظيم، ولبث حياته كلها بعيدا عن ~~المجامع متحاشيا مواطئ الأقدام، لا يستريح إلى زيارة الغرباء، ولا يأنس إلى ~~أحد غير أصحابه السذج الذين يعرفون «بل هاردي» الفلاح، ولا يعرفون توماس هاردي ~~الشاعر القاص الفيلسوف، وكان أبغض شيء إليه وسائل الشهرة الحديثة من نشر ~~وتصدية، وعرض في الصور المتحركة، فلما مثلت رواية «تس» في السينما، وابتذلت ~~مواقفها لإرضاء النظارة للصبيان والجهلاء، أسف لذلك أشد الأسف، وأبى أن يحضرها ~~في معرض الصور، وقال في شيء من الغم والتأسي: «إن الرواية ستعيش على الرغم من ~~ذلك.» # وعرف عنه أنه لم يكن يطيق الملاحظات على رواياته وإنما يحتملها احتمالا، ولا ~~يبالي أن يناقش فيها أو يصحح أخطاءها. كان بعض الناس يلومه مرة على مصير «تس» ~~البريئة المسكينة التي أسلمها إلى الشنق، وختمها بكلمته الساخرة «لقد نفذ ~~العدل! لقد فرغ رئيس الخالدين من عبثه بتس دربر فيل» وكانت في المجلس ms298 سيدة ~~سليطة، فقالت: «أما أنا فأسفي أن المستر هاردي لم يشنق أبطال روايته جميعا» ~~كأنها تقول: إنه كان خيرا له ألا يكتب الرواية أو أن يكون قد قضى على أبطالها ~~قبل أن يخلقوا، وكانوا على المائدة، فانحنى الشاعر قليلا، ومضغ لقمة ومضى في ~~طعامه. # وهو على قلة مبالاته بآراء الناس في رواياته كان يألم للجهل والرياء، ويسخط ~~سخطه الوديع إذا ابتلي بنوبة عارضة من حماقة الجماهير، فلما أخرج روايته «هود» ~~وانحنى عليها الناقدون بالتشهير والتجريس، وحرمت بعض المكاتب بيعها لما فيها من ~~صراحة، لم يتعودها الإنجليز في الكتابة عن علاقات الرجال والنساء، أنفت نفسه أن ~~يكتب رواية بعد ذلك، وآلى أن تكون «هود» خاتمة حياته الروائية، وقد بر بعهده ~~فلم ينشر بعدها إلا رواية واحدة قديمة، كانت مهيأة للطبع والتنقيح قبل أن يبغت ~~بتلك الحملة الهوجاء، ثم أقبل على الشعر فكان ذلك خير عوض له وللقراء ولوطنه ~~الذي لم يكف عن توقيره وتقديره، وإن خالفه بعض ناقديه في تناول الحقائق وصراحة ~~التصوير. # فلك أن تقول: إن «توماس هاردي» كان مشهورا خاملا إذا أردت بالشهرة تلك ~~الأصداء التي تتجاوب بها طبول الجماهير، أما نصيبه من تقدير العارفين فلا مطمع ~~بعده لطامع، ولا مثيل لما ناله منه بين أبناء قومه وقارئي شعره ونثره في الأمم ~~كافة. كان كبلنج يلقبه ب «الملك»، وكان الملك جورج يتتبع كتبه واحدا بعد واحد، ~~ويسأل عنه ويعنى بأخباره، ولما مرض منذ شهر ولزم فراشه أبرق إليه يواسيه ويرجو ~~شفاءه، واحتفل الأدباء بسنته الأولى بعد الثمانين فكتب إليه أكثر من مائة أديب ~~شاب يحيونه ويعجبون بروح الصبر والأنفة التي بثها في تآليفه وأشعاره، وزاره ولي ~~العهد في بيته الريفي منذ خمس سنوات ليبلغه بلسانه حبه، وحب أبيه وأهل بيته، ~~وهذا مع أنه لم يكن شاعر التاج، ولا كان يخدم الملوك بقول صريح، أو بتضمين ~~ملموح، وبيعت نسخة خطية ناقصة من قصته «عينان زرقاوان» بألف وخمسمائة جنيه منذ ~~سنتين، ومنحته الحكومة وسام الاستحقاق وهو في السبعين، وأهدته الجامعات الكبرى ms299 ~~أفخر ألقابها غير مطلوبة ولا ممنونة، وزاره نوابغ الممثلين يعرضون له في بيته ~~فصولا من قصائده الكبيرة، ورواياته التي أفرغت في قالب التمثيل ولم يشهدها هو ~~في مسارح العواصم، وحفه عالم الأدب الرفيع بعطف وتقديس كذلك الذي يحف به ~~الأحبار المباركون والأولياء الصالحون، فلو دعاه كبلنج «القديس» لكان أليق به ~~من لقب «الملك»، وأشبه بتقواه وإجلال الناس إياه، ومقامه حيث تحج إليه الشهرة ~~ساعية على القدم، مطهرة من لوثة الصغائر والأحابيل. # ويخطئ الذين يحسبون هذه العزلة، وهذا الانزواء كراهة للناس، أو فاقة في العطف ~~والإحساس. إذ ليس أوسع عطفا وأكرم حسا من رجل يجد في حياة الفلاح الساذج، ~~وفي حبه وبغضه، وفرحه وحزنه، وفي هموم عيشه، وحظوظ ماشيته وأرضه، مواطن للعطف ~~يشغل بها نفسه، ويقصر عليها قلمه، ويستوعب كل صغيرة منها في روايته وشعره، فهذا ~~لا يكون إلا من نفس طهور جبلت على محبة الناس، وطويت على البر بهم والحنان ~~عليهم. نعم كان الرجل متشائما من تصويره الأسود للحياة، ولكنه لم يكن تشاؤم ~~النفس الغاضبة لا يتصل بينها وبين الدنيا سبب من الفهم والشعور، ولم يكن تشاؤم ~~النفس الوضيعة لا تطلع على نبيل في الدنيا ولا تود أن تطلع فيها على نبيل، ولم ~~يكن تشاؤم الأنانية التي تريد احتجان الخير كله، وتتهم الناس بالكنود؛ لأنها هي ~~لا تنطوي على غير الكنود، ولكنه كان تشاؤم العاطف الذي يرثي للناس من عسف ~~المقادير؛ لأنه يحس تلك المقادير في ذات نفسه، ويحيط ميدانها بعطفه، وينفذ إلى ~~دخائلها نفاذ الوالد المشفق إلى دخائل قلب وليده، ثم يتمنى لو لم تكن الحياة ~~ولم يكن الأحياء، لا لأنه يحب لهم الموت ولكن لأنه يحب لهم حياة خيرا من هذه ~~الحياة وأسلم من الوهم والشقاء. # ويغلب أن يكون ذلك شأن فلاسفة التشاؤم الأقوياء بأفكارهم وقلوبهم، إذا اعتزلوا ~~الناس وسخطوا على مقادير الحياة، وآية ذلك ما اتفق من عطفهم جميعا على الطير ~~والبهائم، وبرهم بهذه الخلائق التي يعذبها الناس، وهم يتعاطون فيما بينهم ما ~~يسمونه الرحمة والحنان! فشوبنهور ms300 كان له كلب يألفه ويناجيه، ويغرم به حتى لقبه ~~صبيان الحارة: «شوبنهور الصغير»، نسبوه إليه لأنهم لم يروا بينهم ولدا ينسبونه ~~لذلك الشيخ ويعرفونه باسم ذلك الفيلسوف العقيم، وكان ألذ شيء لديه أن يعاشر ~~الحيوانات ويرقبها، ويأنس بها وتأنس به، فهو يقول: «أي لذة تداخلنا عندما نرى ~~حيوانا مطلقا يدبر شئونه بنفسه غير معترض ولا مسوق. تراه إما يتلمس طعامه، أو ~~يتعهد صغاره، أو يخالط الحيوانات من جنسه إلى نحو ذلك، وأن هذا لهو الذي ينبغي ~~أن يكون، وهو الذي لا يمكن أن يكون سواه، فإن كان ذلك الحيوان طائرا متعت نفسي ~~بالنظر إليه برهة من الزمن. لا بل فليكن فأرا مائيا، أو ضفدعا، فذلك لا ~~ينقص من سروري بالنظر إليه، ويعظم سروري به إن كان قنفذا، أو عظاة، أو أيلا، ~~أو غزالا، وما كان التأمل في أحوال الحيوانات ليسرنا لولا أننا نأنس فيها ~~حياتنا مصغرة بسيطة.» # وكان ليو باردي يحب الطير، وقد كتب فيها مقالا ليس أبلغ منه، ولا أمتع بين ما ~~كتب في معناه، وكان المعري يأبى أن يأكل حيوانا، ولو كان فيه دواؤه، بل كان ~~يوصي بتسريح البرغوث، ويعتده أفضل من التصديق بالمال على المحتاج. # تسريح كفك برغوثا ظفرت به # أبر من درهم توليه محتاجا # وكان ينكر على الناس أن يأكلوا الشهد؛ لأنه للنحل قد جمع لا لآكله ~~المشتار: # اتق الله حتى في جني النحل شرته # فما جمعت إلا لأنفسها النحل # وربما تناول عطفه الضاريات، فيعرف لها عذرها فيما تجنيه على الفرائس ~~الضعاف: # ولولا حاجة بالذئب تدعو # لصيد الوحش ما اقتنص الغزال # أما توماس هاردي فكلبه مشهور ككلب شوبنهور، ورفقه بالطير والأوابد يعرفه الذين ~~عرفوا جهوده في تحريم الصيد والرأفة بالحيوان، وعرفوا المقبرة التي أعدها في ~~حديقة بيته للطير والحيوانات الأليفة التي ماتت لديه، وكان أصبر من زملائه، ~~وآلف الناس، وألين جانبا للحب والزواج، فقد تزوج مرتين، وكان زواجه الثاني وهو ~~في الرابعة والسبعين، بعد وفاة زوجته الأولى بعامين، ثم كانت آخر حركة له في ~~الحياة هزة ms301 ضعيفة من رأسه إلى ناحية امرأته التي كانت تقوم على سريره. # وقد يكون أغرب ما في عطف هؤلاء المتشائمين، أنهم اشتهروا جميعا بحبهم لآبائهم ~~وهم يحسبون الحياة شرا، ويعدون الولادة جناية، فأما المعري وشوبنهور فأولهما ~~قد رثى أباه رثاء اللهفة والوفاء، وثانيهما قد أهدى إلى ذكرى أبيه كتابه الذي ~~يثبت فيه عقم الحياة! وأما توماس هاردي فقد كانت وصيته أن يدفن مع أبيه وأمه؛ ~~حتى حارت الأمة الراغبة في تقديره كيف تجمع بين رعاية هذه الوصاة وبين القيام ~~بحق ذكراه ودفنه في مدفن العظماء؟! فالمتشائمون الذين من هذا الطراز يجتنبون ~~الناس؛ لأنهم أكبر منهم عطفا، لا لأنهم أقل عطفا من أحلاس المجامع ورواد ~~الزحام، وهم يرفضون الود الرخيص، والود المزيف؛ لأنهم أشوق إلى الود النفيس ~~وأعرف بالود الصحيح. # | توماس هاردي (3)1 # آراء في شعره ومناقشة لهذه الآراء # ورد إلينا البريد الإنجليزي، وفيه مقالات كثيرة عن توماس هاردي وشعره ورواياته ~~ومكانه في عالم الأدب، وأقوال شتى هي ولا ريب خلاصة الأقوال المختلفة في هذا ~~الأديب الذي اتفقت الآراء على أنه كان أديب إنجلترا الفرد في زمانه، وقل بين ~~كتاب الصحف من وافق رأيه رأي توماس هاردي في نفسه، واعتقاده في منزلته من الشعر ~~ومنزلته من الرواية، فقد كان شغف هاردي بشعره أكبر من شغفه برواياته، وكان ~~اعتقاده أن محصوله في عالم الشعر أجود وأجدى من محصوله في عالم الرواية، وذلك ~~ظاهر من اشتغاله بالنظم طول حياته، وعكوفه عليه في أيامه الأخيرة وابتدائه ~~سيرته الأدبية، واختتامه إياها بالنظم لا بالكتابة، ولكن المرء لا يحب أفضل ~~أولاده، والأديب لا يحب أفضل ملكاته في كل حين، فأسباب الحب والإعجاب في النفس ~~قد ترتبط بالآمال، كما ترتبط بالحقائق، وقد تقام على مواطن الضعف كما تقام على ~~مواطن الحزم والحصافة، وربما كان شعر هاردي أثبت مكانا في عالم الخلود من ~~رواياته؛ لأن تخليد الكلام المنظور أيسر وأشيع من تخليد الكتب المطولة ~~المنثورة، ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أن هاردي حري أن يعد بين النخبة ~~الممتازة ms302 من القصاص في جميع لغات العالم، وأن يسمو بينهم إلى منزلة قل أن ~~يتجاوزها منهم متجاوز، ولكنه غير حري أن يعد بين النخبة الممتازة من الشعراء ~~الذين أنجبتهم جميع الأمم في جميع العصور؛ لأن شعره على جماله وصدقه لم يتسع ~~حتى يشمل آفاق الشعر البعيدة، ولم يعذب حتى يبلغ أحلى ما يبلغه الشاعر من ~~العذوبة؛ فهو في بابه حسن معجب، بل هو في بابه فرد لا نظير له في شعر أحد غيره. ~~وقد يلزمك أن تمزج بين هيني وجيتي الألمانيين، أو بين شلي وورد زورث ~~الإنجليزيين؛ لتخلص إلى روح يتفق لها ما اتفق لهاردي وحده من السخر والحكمة ~~واليأس والسلوى في بعض أشعاره. إلا أن انفراده بمزاج خاص لا يشبهه فيه شاعر، أو ~~وفاؤه لمزاجه الذي جبل عليه، وصدقه لشعوره الذي أحس به، لا يستلزم أن يكون ~~فردا في علوه وفي محاسن الشعر كله، فهو فرد مقدم في بابه، ولكنه ليس بالفرد ~~المقدم في كل باب. # يختلف معنا في هذا الرأي الكاتب الروائي دافيت جارنت، الذي يقول في إحدى الصحف ~~الأسبوعية: «إننا فقدنا أعظم شعرائنا بفقد هاردي، ولكننا لم نفقد أعظم قصاصنا، ~~وإن الفلاحين في رواياته لا يمكن أن يشبهوا الحقيقة حتى في «دورستشير» التي ~~كانت قبل سبعين سنة، دع عنك فلاحي اليوم الذين لا يشبهونهم في شيء، فإذا كانوا ~~مع ذلك يهزون نفوسنا فذلك لأنهم خلائق شاعر.» وقد يكون هذا رأي الكثيرين من ~~قراء هاردي، ولا سيما بين الروائيين الذين يحكمون عليه بما يضعونه لأنفسهم من ~~المقاييس، وما يتخيلونه للرواية من الكمالات وما يطبقونه على أعمالهم من ~~الآراء، بل نحن نقول: إننا لنؤثر قراءة شعره على قراءة رواياته؛ لأن شعره ~~إنساني عام، ورواياته إقليمية محصورة، تصف الإنسان من خلال مناظر الريف ومآلف ~~القطان في مكان معلوم. إلا أن هذا لا يغير الرأي الذي قدمناه؛ لأن اختيارنا ما ~~يوائمنا من عمل أديب لا يدل على أن هذا الذي يوائمنا هو خير ما يمتاز به ذلك ~~الأديب، فقد يبيع التاجر صنفا ms303 هو أنفس الأصناف عنده، أو هو صنفه الذي اشتهر ~~به، ثم لا يشتريه كل إنسان؛ لأنه لا يحتاج إليه، وقد يكون الأديب شاعرا ~~وروائيا فيقرأ القارئ رواياته، ولا يطلع على شيء من شعره؛ لأنه من قراء ~~الروايات وليس من قراء الأشعار. # كذلك لا ينبغي أن نأخذ من قول الروائي جارنت: «إننا فقدنا أعظم شعرائنا ولم ~~نفقد أعظم قصاصنا»، إن هذا المقياس هو أصدق المقاييس لتقدير ملكات الأدباء، فقد ~~يكون هذا العصر ضعيفا في الشعر قويا في الرواية، فيكون الأديب عالي المكانة ~~في الرواية، وهو دون القمة العليا بين القصاص، ثم يكون أرفع الشعراء قدرا في ~~زمانه، وليس هو من الشعر في المكان المعدود، فإذا فقدناه قلنا: إننا فقدنا أعظم ~~الشعراء، ولم نفقد أعظم القصاص، ولم يكن في ذلك دلالة على أنه شاعر كبير وليس ~~بقصاص كبير، وإنما المقياس الصحيح أن نذكر الشعراء الكبار والقصاص الكبار في ~~جميع الأزمان ثم نسأل: هل مكان هاردي أثبت وأرفع بين هؤلاء أو بين هؤلاء؟ هل هو ~~أقرب إلى ديكنز وثاكري وترجنيف ودستوفسكي وأبانيز وبورجيه أو هو أقرب إلى ~~شكسبير وملتون وهومر وسفكليس وأندادهم من الأقدمين والمحدثين؟ والواقع أن ~~روايات هاردي على ما فيها من المآخذ أقرب إلى أعلى الروايات وأبلغها من سائر ~~روايات عصره في بلاده، وأنه هو الآن أصدق القصاص، وأبلغهم بين الإنجليز خاصة، ~~وإن كان للشعر فضل في إجادته الرواية وإسباغه العطف والمحبة على خلائقها، وإذا ~~عاش غدا بالشعر ولم يعش بالرواية، فإنما يكون ذلك لأن الرواية أثقل جناحا في ~~مطار الشهرة من القصيد المطول، ومقاطيع الشعر القصيرة على السواء. # ويقول ناقد ال «مورننج بوست» في تقديره لشعر هاردي: «إن فنه في أشعار شبابه ~~جدير بالعناية الكبرى من دارسي الصناعة الشعرية، فليس في شعره تلك الصيحة ~~الدافقة الطيعة التي تسمعها من البلبل والقبرة، وإنما تلمح فيه على نقيض ذلك ~~أثر الجهد والمعالجة، فالقصيدة من قصائده لا تنجم لأنها ينبغي أن تنجم، بل هي ~~منظومة لأن الشاعر قد جمع لها عزيمته وأبى عليها ms304 إلا أن تكون، فهو يتخذ لنفسه ~~عند البداية خاطرة مرسومة وصيغة معلومة يلتقيان في أنشودة منظومة، فإذا تعذر ~~عليهما ذلك أو أبت اللغة أن تسلس له مقادها، عمد الشاعر إلى سلطانه وألجأها ~~كرها إلى الوفاق في عبارة منظومة، وهذه طريقة في النظم لا بد منتهية بالفشل في ~~الأيدي التي هي أضعف من يديه، فيستعصي الوزن واللغة على الشاعر، ويشمسان على ~~قياده أشد شماس، ولكن العجيب في هاردي أنه يفلح فيما يريد، نعم إن شعره لا يفيض ~~فيضا، ولكنك تراه مطرقا مسبوكا في قالب جميل، كأنما استوى فيه على الكره ~~منه، والنهاية في هذه الحالة كما في تلك جديرة بالإعجاب.» # وكلام هذا الناقد صحيح، فأنت يخيل إليك حين تقرأ شعرا لهاردي أن الكلام فيه ~~مطرق تطريقا، كما يسبك الحديد المذاب في الأتون الموقد، وليس بمرسل إرسالا، ~~كما يفيض الماء من الينبوع الجياش، ولكن الذي نريد أن نقوله هنا هو أن شعورنا ~~هذا حين نقرأ كلام هاردي وأمثاله إنما هو من الوهم لا من الحقيقة، أو هو راجع ~~إلى سبب يتصل بطبيعة المعنى لا إلى سبب يتصل بأسلوب الصياغة، فليس الشعراء ~~الذين نتلقى غناءهم كما نتلقى غناء البلبل فياضا مرتجلا لا حبسة فيه ولا جهد ~~ولا علاج، هم الشعراء الذين تسهل عليهم الصياغة، ويلين لهم مقاد الكلام، فقد ~~كان البحتري أسلس من المتنبي نظما، وأسرى إلى النفس نغما، وأعذبه في الذوق ~~مسا، وكان مع هذا يعاني في النظم ما لم يكن يعانيه المتنبي الذي لا تسمع منه ~~تلك الصيحة البلبلية الدافقة الطيعة، ولا تتوسم على قصائده ذلك السخاء الفياض ~~بالخواطر والعبارات، وربما حذف البحتري نصف القصيدة لتسلم له السلاسة في ~~بقيتها، ولم يكن المتنبي يفرط في بيت مما يقصد معناه، ولقد كان زهير أسلس من ~~طرفة، وكان طرفة أسخى بالشعر وأسرع في صياغته من صاحب الحوليات الذي قيل: إنه ~~كان ينظم كل قصيدة في عام، وقد عرف عن أناتول فرانس أنه كان يعيد كتابة الجملة ~~الواحدة خمس مرات وستا وثمانيا في بعض ms305 الأحيان، وهو ذلك الكاتب الذي يخيل ~~إليك وأنت تقرؤه أنه يرسل القلم يكتب وحده بغير تردد ولا تنقيح، وكان فلوبير ~~يعيد كتابة الصفحة حتى تكاد لا تبقى كلمة من كتابتها الأولى، وهو أعذب من كتب ~~في عصره لفظا، وأقلهم جهدا، فيما يبدو على ظاهر الكلام، وربما كان هاردي أقدر ~~على النظم السريع من ملتون الذي تضرب بجزالته وحلاوة موسيقاه الأمثال، ولكنك لا ~~تشعر حين تقرؤه بذلك الانطلاق الذي يستخفك حين تقرأ صاحب الفردوس المفقود، ~~وشمشون الجبار، فنحن واهمون حين نعزو خفتنا في قراءة بعض الأناشيد إلى خفة ~~الشاعر في نظم تلك الأناشيد. إنما هي طبيعة المعنى التي تخيل إليها ما نتخيل من ~~خفة وطلاقة، لا علاقة لهما بعمل الشاعر في صياغته واختبار ألفاظه، فالشك ~~والوجوم والوقار، لا تسلس كما يسلس الغزل الواثق، والحزن الساذج، والأمل ~~الطليق، والشاعر الذي ينظم هذا غير الشاعر الذي ينظم ذاك، فلو أسلمنا شلي أو ~~ملتون قطعة من قطع هاردي لرأينا المطرقة والأتون تظهران في موضع الينبوع والماء ~~السلسبيل، ولو استطاع هاردي أن يحس بالحياة كما أحس بها ذانك الشاعران لسمعنا ~~الصيحة البلبلية، ولم نتخيل الدمية المسبوكة كما نتخيلها الآن ، وكل شعر في ~~الدنيا إنما نجم؛ لأن قائله أراد أن ينجمه لا لأنه هكذا يجب أن يقال، وقد يريده ~~الشاعر ويشقى به أشد الشقاء، ثم يجيئنا بالقصيد فنقول أجل هذا كلام يوشك أن ~~يقال بغير قائل! وصاحب الكلام يعلم أنه لو لم يرده ويقتسره على ما أراد، ويسهر ~~الليل في تطويع معناه لنغمته ولفظه، لما صاح البلبل، ولا تدفق الينبوع. # وصفوة القول في هذا الموضوع أن هناك ضروبا من الإحساس لا يتأتى أن تصاغ إلا في ~~قالب يوهمك الصعوبة والعلاج، ولا يخف بالقارئ خفة السهولة والطواعية، وأن هذه ~~الضروب من الإحساس لهي خليقة، على الرغم من ذاك، أن تصاغ شعرا، وأن يكون ~~صائغها عريقا مطبوعا على سليقة الشعراء، ففي الدنيا أنواع من الشعر بقدر ما ~~فيها من أشخاص، وليس يوقع في روع القارئ أن الشعر هكذا ms306 في صورة واحدة ليس غيرها ~~إلا القدامة، وقلة الاطلاع، وضيق نطاق الحياة، والأخذ بأطراف التعريفات التي لا ~~تحصر شيئا، فضلا عن أن تحصر حدود الشعر، وهي رحيبة مجهولة كحدود الكون التي ~~لا تعرف الانتهاء. ~~••• # ويقول جيمس دوجلاس في «الدايلي إكسبرس»: إن هاردي سيطر على فن المنثور، ولكنه ~~لم يسيطر على فن المنظوم، ويقول في الوقت نفسه: إنه كان من عظماء شعراء المآسي ~~في الدنيا، يحسب مع هومر وفرجيل ودانتي وملتون، في سعة الخيال، وجبروت ~~العبقرية، ولا عيب في شعره إلا أنه يعوزه الشكل والأسلوب «ففي شعره كله جبار ~~يئن وينصب أنين المارد المقيد في الأغلال.» # والذي نراه نحن أن المارد المقيد في الأغلال هو عصر الشك والحيرة والاضطراب، لا ~~أسلوب هاردي وطريقته في التعبير، فإذا سألنا هل كان هاردي أصدق شعراء عصره في ~~الترجمة عن روح الزمن الذي عاش فيه أو هو لم يكن كذلك؟ فنحن لا نستطيع إلا أن ~~نعترف له بالتفرد في هذه الترجمة الأمينة الوافية، والتفوق على جميع الشعراء في ~~أداء الرسالة التي توحيها طبيعة القلق ووساوس الارتياب، فكيف يكون مقيد الفن ~~إذن وهذه عبقريته حرة لم تحجب من صورة الزمن كثيرا ولا قليلا، ولم يعقها عائق ~~أن تنطق بأسلوبها الذي لا ينطق الوحي العصري بأسلوب سواه؟ إن الريشة هنا حرة ~~مرسلة، وإنما القيد والأنين في شبح المارد الذي نقشته الريشة على الصفحة ~~السوداء، فهناك التململ والاضطراب، وللريشة الثناء والإعجاب، ولا يخلو القارئ ~~من ذنب يلام عليه؛ لأنه صفر للمثل المجيد من حيث كان أحق بالتهنئة ~~والتصفيق. # ولسنا نعني أن توماس هاردي كان مبرءا من كل مأخذ في النظم والصياغة، فقد قلنا ~~في ذلك ما يدفع هذا الالتباس، ويدل على رأينا في شاعريته، وأسلوبه، ومنحاه، ~~ولكننا نريد أن نقول: إنه ما كل قيد تحسه في الشعر يكون قيدا في الشاعر، فإن ~~للموضوع قيوده، وللزمان قيوده، والشاعر الطليق القدير هو الذي يريك القيود حين ~~لا تكون حرية ولا انطلاق. # | الجزء الثاني # | إبلاسكو أبانيز1 # كان في بداية هذه السنة ms307 أربعة من أعلام الرواية المشهورين في العالم لا تخرج ~~إمامة هذا الفن من بينهم، ولا يكون إمام القاصين في الدنيا إلا واحدا منه، وهم ~~مرجكفسكي الروسي وهاردي الإنجليزي، وبورجيه الفرنسي وأبانيز الإسباني. # فأما مرجكفسكي فمزيته أنه يمزج الفن والعبادة والتاريخ مزجا ينبض بدم الحياة، ~~ويتخايل في ثوب الجمال، فلا تخلو رواية له من صراع بين العبادات، أو من وثنية ~~الفنان الذي يقدس الصور والأجسام، أو من تصوير لعوامل التواريخ كأنها أدوار ~~يمليها مؤلف عظيم على مسرح رحيب، أو كأن الناس فيها تماثيل تخلق للزينة والنظر، ~~وتمشي من هذه الدنيا في متحف زاخر بالنماذج والأنماط. # وأما هاردي فمزيته الشغف ببساطة الريف، والإيمان بالجبرية، وتحكيم القدر في ~~كبائر الحياة وصغائرها، وإظهار الناس كأنهم ألاعيب في أيدي الطبيعة تهشمهم ~~وتعبث بهم لغير حكمة معروفة ولا دلالة مستبينة، وإدماج ذلك كله في قالب من ~~الشعر تلتقي فيه عزلة الآلهة المنزهين عن عواطف الإنسان، وإنسانية الشاعر الذي ~~نزفت دموعه الأحزان. # وأما بورجيه فمزيته البراعة في حبك فصول الرواية والدقة الصادقة في تحليل ~~النفوس، وتوضيح خفايا الشعور حتى لقد يسهب في ذلك إلى حد ينسيه نفس القارئ، وما ~~قد يعتريها من الملل ويتحول بها من أبطال الرواية إلى المؤلف ودروسه ونظراته في ~~الحياة والناس. # وأما أبانيز فمزيته كل ذلك وأكثر من ذلك، فهو في بعض رواياته ك «سونيكا» مثلا ~~يضارع مرجكفسكي في إحياء التاريخ، وإلباسه ثوب الفن، ونفاذه إلى لباب العبادة ~~الوثنية، وتقديس الصور والأجسام، وهو في رواياته «الموتى يحكمون» و«زهرة ~~الربيع» و«الغوغاء» و«العرينة الحمراء» و«الفيضان» و«البوديجا» على الخصوص، بل ~~في رواياته كافة على العموم، يضارع هاردي في وصف معيشة الأقاليم، وهموم الزراع ~~والعمال، ومناظر الخلاء كما يضارعه في تحكيم القدر وسخرية الأيام لولا أنه يشوب ~~ذلك برفق لا تراه في «قدر» هاردي المعتزل الأعمى عن كل ما يحيط به من الأوجاع ~~والآمال، وهو في دقة التمثيل ضريب بورجيه في غير تعمل ولا تعمد، ولا شيء من ذلك ~~الأسلوب التعليمي الذي ms308 يذكرك بالمشرحة والكتاب، فأنت لا تحس والرواية بين يديك ~~أنك تقرأ كتابة رجل يعنى بتحليل النفوس وتجزئة أنواع الشعور، ولكنك إذا أردت أن ~~تحس ذلك وجدته على مقربة منك في كل رواية، وفي كل بطل وفي كل موقف، كأنه مقصود ~~في غير كلفة ومحلل في غير تجزئة ولا تمزيق، فلو حاولت أن تستخرج من جميع ~~رواياته بطلا واحدا كان نصيبه من الشرح الصادق المفصل أقل من نصيب الأبطال في ~~روايات بورجيه، لعز عليك أن تجد ذلك البطل، ولعرفت حينئذ أن التحليل النفسي قد ~~يبلغ تمامه حين يأتي عرضا ولا يظهر عليه التعمد والالتفات الدائم. # وربما أسهب أبانيز في الوصف واستطرد إلى العلم والدرس ونسي الحادثة والأبطال، ~~ولكنه يستجيز ذلك لنفسه كما يستجيز المحدث المسموع أن يلتفت بسامعيه إلى موضوع ~~له ارتباط بالقصة وللسامعين شوق إلى استطلاعه فيه؛ لثقتهم بخبرته الواسعة، ~~وإمتاعه في كل حديث واستطراد، وإنك لتعجب لما تراه في روايات هذا الكاتب القدير ~~من دلائل الاطلاع الواسع، والخبرة الوافية بشئون هذا العالم، فمن علم بالبحر ~~وأحيائه واصطلاحات رجاله، إلى علم بالتاريخ الغابر والحاضر، إلى علم بالموسيقى ~~والفلسفة والفنون، إلى علم بالحرب والتعبئة، إلى علم بسير العظماء والأدباء، ~~إلى علم لا يباريه فيه أحد بحياة الأندلس في جميع عصورها، وفي جميع الأصقاع ~~التي نزح إليها أهلها؛ وهذا كله إلى تنويع سهل غير متكلف في تصوير الرجال ~~والنساء من جميع الطبقات والأمزجة والأخلاق، ويغلب أن يجعل ديدنه في تصوير ~~النساء خاصة أن يكفر عنهن أو يستجلب لهن العطف بما يقاسينه من الحب والعذاب، ~~إلا إذا كانت المرأة من طبقة الأشراف الماجنة التي يزدريها في بلاده، ويستفز ~~أبناء وطنه إلى احتقارها والثورة عليها، فهو لا يبالي أن يحرمهن شرف الحب ~~ويجعلهن فرائس الشهوات؛ لأنه يرى كما يقول في رواية «الموتى يحكمون»: أن الحب ~~عبقرية كعبقرية الفن والشعر، لا تسمو إليها كل طبيعة ولا يستمتع بجمالها كل من ~~يتحدث بها «فكل إنسان يحسب أن له حقا في أن يحب، والحب في الحقيقة كالمواهب ms309 ~~والجمال والحظ نعمة نادرة لا يستمتع بها غير نخبة قليلة ممتازة من الناس، إلا ~~أن الوهم - لحسن حظ المحرومين - يتسلل هنا لمداراة هذا التفاوت الظالم، فلا ~~يختم إنسان حياته إلا وهو يحلم بشبابه ويحن له الحنين والأسى، ويزعم لنفسه أنه ~~قد عرف الحب حق عرفانه وما كان الذي عرفه إلا بحرانا من سورة الشباب»، وهو ~~يعطي المرأة حقها من الدنيا، ويعرفها لها قدرتها في تصريف شئون الحياة وأعمال ~~الرجال، كما يتبين ذلك جليا في روايته «أعداء النساء». # وفي قصته الصغيرة «أبناء حواء الأربعة» يقول الراوي: إن حواء لما زارها الإله ~~بعد طردها من الجنة كانت في شغل بتجميل نفسها لاستقباله وإرضائه، واسترجاع ~~النعيم الذي فارقته في السماء، فما هو إلا أن همت بتنظيف أبنائها حتى أقبلت ~~طلائع الموكب الإلهي وهي لم تكد تفرغ من تنظيف الرابع من أولئك الأبناء ~~الكثيرين، فشاء الله أن يهب لأحدهم الملك، ووهب للثاني الفصاحة، ووهب للثالث ~~القضاء، ووهب للرابع المال، وقضى على البقية حين أخرجتهم له عند منصرفه باكين ~~قذرين أن يظلوا في خدمة إخوتهم الأربعة أبد الآبدين، فكان هؤلاء هم طوائف ~~العمال والأجراء الذين قضى عليهم الإهمال بالشقاء الدائم في خدمة الآخرين، وهنا ~~يعترض على الراوي معترض من السامعين فيقول له: ولكنك نسيت أن لحواء بنات كما ~~كان لها بنون، فماذا قسم الله لهن من حظوظ الحياة؟ فيجيبه الراوي: يا بني! إنك ~~لصغير لم تنضجك الأيام كما ينبئني عنك سؤالك. إن الله قد قسم لبنات حواء كل ما ~~يعمل له الملوك، والفصحاء، والقضاء، والأغنياء، والعمال، فهؤلاء لا يتعبون ولا ~~يجمعون لأنفسهم، وإنما يتعبون ويجمعون لينتهي التعب والجمع كله إلى بنت من بنات ~~حواء! وفي هذه القصة الصغيرة يتلخص رأي أبانيز في العلاقات الطبيعية بين الإناث ~~والذكور من ذوي المتربة وذوي اليسار. # ولقد كانت قدرة أبانيز في القصص الصغيرة كقدرته في الروايات الكبيرة على خلاف ~~القاصين الذين يجيدون أحسن الإجادة في إحداهما دون الأخرى، فهو يتناول الحالة ~~النفسية فيفرغها في أقصوصة بارعة، يعنى فيها بالوصف ms310 والتمثيل أكثر من عنايته ~~بالواقعة والمواقف، ولست أنسى ما حييت وصفه للعجوز التي فقدت ولدها في الحرب، ~~ثم رأت صورته في عرض عسكري مرسوم على لوحة السينما، ولا وصفه لجلال الأمومة في ~~قصة «المشوه» ولا وصفه لموقف الرجل الملقب بالحمامة في قصة «طلقة الظلام» ولا ~~وصفه للعالم الذي شق الصحراء ليفي بنذره للأيم المقدسة، ولا وصفه لليلة ~~الصربية، أو لخادم القطار، أو للعذراء المجنونة، أو لشخص من الشخوص الكثيرة ~~التي وصفها أبسط وصف وأجمله وأصدقه في أقاصيصه الصغيرة، فتلك صور تنطبع على ~~صفحة الذاكرة فلا تمحوها قراءة الكتب، ولا تجارب الأيام. # ولم يكن يخطر لي وأنا أعد اسم أبانيز بين الأسماء التي يقارن بها هاردي، أنني ~~سأرثي هذا الأديب العظيم عقيب رثائي لذلك الشاعر العظيم، فقد شاء القدر أن يذهب ~~كلاهما في شهر واحد وهما أكبر من نكبر من أدباء هذا الزمان، وكانت خسارة الأدب ~~العالمي بموتها خسارة لا تعوضها الشهور والسنون. # كان مولد أبانيز في سنة 1867 بمدينة بلنسية، وكانت صناعته التي تعلم لها ~~المحاماة، وصناعته التي بدأ فيها عمله الصحافة، وليس أبانيز اسمه ولا اسم أبيه، ~~ولكنه اسم أمه عرف به مع اسم أبيه «بلاسكو» على سنة متبعة في بلاد الإسبان، أما ~~اسمه فهو «فيشنت»، ولكنه لم يشتهر به كما اشتهر باسمي أبيه وأمه، وقد نشأ على ~~حب الحرية والجمهورية، فكان من أنصار الكوبيين على دولته حين نهض هؤلاء ~~للمطالبة بالاستقلال، ولاذ بإيطاليا متخفيا على ظهر باخرة؛ فرارا بحياته من ~~الموت في إبان الشغب الذي أثاره لنصرة الكوبيين، وقد سجن مرارا وذاق العذاب ~~أمر العذاب في سجنه، فلم يتحول عن رأيه ولم يعدل عن معاداة الحكومة الملكية؛ ~~لأنه رأى كما قال بلسان الخطيب النائب في رواية الفيضان «إن المال الذي ينفق ~~على البيت المالك أكثر من المال الذي ينفق على التعليم، وأن تزويد أسرة واحدة ~~بما يملي لها في عيشة الكسل والبطالة يكلف الإسبان ما لا يكلفهم إياه إيقاظ جيل ~~كامل لحياة العصر الحديث، وأن المدارس في فلب العاصمة ms311 الإسبانية باقية في ~~كهوفها القذرة، بينما ترتفع الكنائس والأديرة في أكبر الطرق والميادين كأنها ~~قصور السحر التي يتحدثون بها في الأساطير؛ وأن خمسين بيعة جديدة قد أقيمت في ~~خلال عشرين سنة؛ لتحيط بنطاق العاصمة ولم يبن فيها غير مدرسة واحدة تقارن أية ~~مقارنة بالمدارس التي غصت بها كل مدينة في إنجلترا وسويسرة» فهذه الحقائق ~~وأمثالها مما ألقاه على لسان خطيب الأحرار في مجلس النواب، هي التي بغضته في ~~نظام الملكية والكنيسة، ودفعت به إلى محاربة هاتين القوتين حربا لا مهادنة ~~فيها ولا سلام، وهو نفسه كان نائبا يلقي مثل هذا الكلام في مجلس النواب، حيث ~~انتخب سبع مرات للنيابة عن مكان مولده بلنسية، وربما كانت كراهته للألمان ~~ومناصرته للحلفاء بكتاباته ورواياته في أثناء الحرب العالمية أثرا من آثار ~~سخطه على الملوك الجرمان، الذين وطدوا في بلاده نظام الاستبداد والكنيسة، ~~وملكوا الرهبان نصف الأرض يستغلونها، ولا ينفقون منها في غير المظاهر والشهوات. ~~وقد نعى على هؤلاء الملوك أشد النعي في رواية «ظل الكنيسة» وألقى عليها تبعة ~~الضعف والفاقة التي أصيب بها شبه الجزيرة، بعد أن أزهر وأثرى في عهد المغاربة ~~المسلمين. # وعرف أبناء قومه إخلاصه وصدق بلائه، فأحبوه حب العبادة واستدعوه إلى أمريكا ~~الجنوبية ليحاضرهم في الأدب والاجتماع، فاستقبله على الشاطئ ثمانون ألفا من ~~سكان «بونس إيرس» يحفونه بإجلال كإجلال الأرباب وحب كحب الآباء، وطاف تلك ~~الأرجاء جنوبا وشمالا فحث أبناءها على تعمير ما لم يزل من أرضها صالحا ~~للتعمير، فاستجابوا له وأسرعوا إلى تلبية نصحه، وكان له بذلك فتح في عالم ~~الزراعة والصناعة كفتحه في عالم الأدب والسياسة، إلا أن الرجل ما لبث أن كابد ~~السياسة وبلا من دسائسها وألاعيبها ما يبلوه منها المصلح الحر النزيه حتى عافها ~~وتزعزعت ثقته بجدواها في الإصلاح والتجديد، فدان بالعلم والفن وحدهما وصرف لهما ~~كل سعيه وجاهه واقتداره، وآمن بشيء واحد هو الإشفاق على أهل وطنه الجهلاء ~~الفقراء، والنقمة على طغاته الظلمة الجبناء، وقد عاش مغضوبا عليه من هؤلاء ~~منفيا على تخوم بلاده حيث ms312 أقام على رابية جميلة يكتب الرسائل والروايات، ~~ويستأجر الطيارات لإلقاء النشرات على الجماهير في المدن والقرى التي حرمت فيها ~~كتبه ورسائله ورواياته، ومات ولما يزل في منفاه. # ولا نظنه احتفظ بعقيدة ثابتة تطمئن إليها نفسه، كما يطمئن المؤمن إلى عقيدة ~~دينه. إلا أنه كان يعتقد كما قال في رواية «بحرنا»: «إن جميع الأديان تفقد بعض ~~جمالها حين تعرض للنقد والامتحان، ولكنها على الرغم من هذا ما فتئت تنجب ~~القديسين والشهداء وجبابرة الأخلاق، وقد عرفنا من شتى التجارب أن كل ثورة محصها ~~العلم تنكشف عن عوار لا يقره الباحثون، ولكن هذه الثورات ما برحت تخرج للعالم ~~خيرة أفراده، وأعجب أعمال جماعاته، وغير كاف أن نولد ونلد لأن الحيوانات جميعها ~~تعمل في هذا ما يعمله الإنسان، وإنما على الإنسان أن يضيف إلى ذلك شيئا لا ~~يملكه سواه وهو ملكة النظر إلى المستقبل، ملكة الأحلام، فلا غنى لنا عن مثل ~~أعلى نضيفه إلى تراث الآباء، أو عن قدرة تتكفل لنا ابتداع ذلك المثل ~~المأمول.» # فعقيدة أبانيز هي العقيدة في تلك القدرة، وإصلاح وطنه هو القطب الذي دارت عليه ~~تلك العقيدة، ولما نشبت الحرب العظمى كان رجاؤه أن ينجلي نصر الحلفاء من تمكين ~~الحرية، وإسقاط الملكيات البالية، فأكب بجملته على تأييد قضية الحلفاء، وزار ~~الميدان مرات وألف رواية «فرسان الرؤيا» التي أطارت شهرته في الخافقين، وقيل ~~فيها إنها أروج كتاب بعد التوراة، ولم يكرثه أن يكسب منها فقد باعها بستين ~~جنيها لصحفي أمريكي، وهي تلك الرواية التي أدرت على ناشرها ألوف الجنيهات، ~~ولكنه نظر إلى قضية العدل والحرية، حيث آمن بها فما وني ولا أحجم عن نصرتها بما ~~استطاع وما ملك من هبة ومال. # لقد كان الرجل فخر وطنه في هذا العصر، ومات منفيا عن وطنه! إن في ذلك لعبرة ~~بالغة، وإن الغد ليرينا من بقية هذه العبرة، ما يؤكد يقين القائلين بأن العاقبة ~~للمصلحين. # | الشعر والنثر1 # ... يرى الأستاذ أن النثر الآن بلغ مبلغا لم يبلغه في أي عصر من ~~عصور اللغة، ويظهر أثر ms313 ذلك في وفرة عدد الكتاب، وتنوع موضوعات ~~الكتابة، ثم في سعة المفردات، فأنا وإحكام الأسلوب، وفي نفسي من ~~الأمرين الأخيرين شيء، أما سعة المفردات فأنا أعتقد أن اللغة كائن ~~حي يقوم بعض ألفاظها على أنقاض بعض، وأن بجانب هذه الألفاظ التي ~~استحدثت في اللغة العربية - وقليل ما هي - ألفاظا أخرى أوفر منها ~~عددا كانت تستعمل في بعض العصور، وقد أميتت عندنا الآن تماما، ~~فكما أن الحاجة تحفزنا الآن إلى استحداث ألفاظ لمعان حديثة كذلك ~~كانت حاجة الجاهلية مثلا تمس إلى استعمال ألفاظ كثيرة، قضي علينا ~~بتركها تغير وجه الحياة. # وكذلك القول في إحكام الأسلوب، فإنني في حاجة إلى من يثبت أن ~~أساليب كتابنا اليوم في المواضيع التي يطرقونها أحكم من أساليب ~~الجاحظ، وابن المقفع، والصولي، وابن مسعدة، ومن إليهم في المواضيع ~~التي طرقها هؤلاء. على أن وفرة عدد الكتاب في العصور الحالية وقلته ~~في العصور الخالية يرجع إلى عدم وجود المطبعة، أو عدم انتشارها في ~~تلك العصور. # بقي أمر أكاد أعتقده دليلا على عدم نضج النثر، وقد وجدت الأستاذ ~~الزيات أشار إليه في العدد الثاني من «الجديد» بقوله: «لا نزال ~~نعرف النثر في نسج الفصول وإنشاء الرسائل، والغرب يمطرنا كل يوم ~~فنونا شتى من القصص الرفيع يعالج فيه كتابه مشاكل الحياة ومسائل ~~اليوم.» والحق أن اختفاء القصة من عالم النثر أمر يدعو إلى القلق ~~لا سيما وهم يعدون ذلك عيبا في الشعر الذي يرسف في أغلال الوزن ~~والقافية، أما جمود الشعر فيرى الأستاذ أن من أسباب ذلك أسبابا ~~عالمية ترجع إلى أن الحب والنخوة اللذين يدور عليهما الشعر قد ~~أصبحت تحركهما في العصور الحالية الصور المتحركة ومسارح التمثيل، ~~ثم إلى انصراف الناس عن الشعر بالمناوشات السياسية، ولا أدري هل ~~كان لهذه الأسباب أثرها في الشعر الغربي أم لا؟ ثم لا أدري كيف ~~أوفق بين ذلك وبين تقدم الشعر الإغريقي القديم في العصور التي ~~انتشر فيها عندهم التمثيل، ثم قد يكون من المشكل علي في رأي ~~الأستاذ أيضا أن يأخذ على ms314 شعرائنا اقتناعهم بالفكر السطحي، ويحتم ~~على الشاعر أن يكون فيلسوفا، وهو بجانب ذلك يقول: إن الشعر خلق ~~لتغذية العواطف، وأكاد أعتقد أن تغذية العواطف تتناقض مع الفلسفة ~~التي تستلزم توغلا في التفكير وتعمقا في البحث واستكناه الحقائق، ~~وبعد فقد أدليت إلى الأستاذ الجليل بتلك الكلمة الجريئة البريئة ~~آملا أن يغتفر لي ما فيها من الجرأة على مقامه الرفيع لبراءتها من ~~كل شيء إلا بغية الوقوف على تلك المواضع التي أشكل علي أثرها. ~~فحبذا لو تفضل بذلك ثم ذكر لنا في شيء من التفصيل بعض الأبواب التي ~~كان ينبغي أن يطرقها الشعر الحديث ولم يفعل أو طرقها وقصر فيها ~~... # محمود غنيم # بدار العلوم # جاءتني هذه الرسالة وفي بعض أسئلتها منادح لتفصيل رأي، أو تصحيح فهم، أو توكيد ~~حقيقة مما أسلفته في كلامي عن الشعر، والنثر ونقدي لبعض الشعراء، فرأيت أن أجيب ~~على تلك الأسئلة بل لعله يزيل لبسا عرض من مفاجأة الرأي، ويصحح فهما مستعدا ~~للتصحيح. # إن قولنا: إن اللغة كائن حين لا يناقض القول بأن اللغة العربية قد اتسعت ~~للتعبير عن المعاني المختلفة اتساعا لم يسبق لها عهد بمثله في عصر من العصور، ~~وإلا استحال علينا أن نزعم أن لغة ما على الإطلاق تتسع وتزداد صلاحا للتعبير؛ ~~لأن كل لغة كائن حي فكل لغة إذن تنبذ بعض مفرداتها، وتستحدث غيرها ولا زيادة ~~هناك ولا اتساع، وهذا خلاف الواقع المشاهد في تطور جميع اللغات التي يقال فيها ~~إنها تزداد وتنمو؛ لأنها كائن حي يقبل الزيادة والنماء، وإلا كان مصيره إلى ~~الهرم والفناء، وإنما المقياس الذي نفضل به عصرا على عصر في أطوار اللغات هو ~~أن نعلم أي هذه العصور يحتاج أبناؤه إلى مادة من اللغة أوسع وأغزر، وهل هو يفي ~~بتلك الحاجة ويقوم بها أو يكون أوفى بها وأقوم عليها من سواه؟ ولا شبهة في أن ~~عصرنا الحاضر هو أحوج العصور إلى المادة اللغوية؛ لأن نصيبه من العلوم والمطالب ~~الفكرية والاجتماعية أعظم من نصيب الجاهلية، وصدر الإسلام، وما بعد هذين ~~العصرين ms315 إلى أوائل القرن الثامن عشر للميلاد، ولا شبهة كذلك في أننا لم نكن ~~أعجز عن الوفاء بتلك الحاجة من أي عصر عربي أحس خلة في اللغة وتصدى لسدها، وإن ~~شئت فتخيل أديبا عباسيا ينتقل إلى عصرنا وأديبا عصريا ينتقل إلى عصر ~~العباسيين، وقل لنفسك أيهما يحس بالحرج حين يتصدى للكتابة في موضوعات زمانه؟ إن ~~أشد الجامدين عنتا ليؤمن بأن الحرج على الأديب العصري المنتقل إلى زمان ~~العباسيين أهون من الحرج على الأديب العباسي المنتقل إلى هذا الزمان. # ونريد أن نقول هنا: إن مادة المعجمات العربية ليست بمادة لغة واحدة مقدرة على ~~حسب الأشياء، وإنما هي في حقيقتها مادة عشرين لغة أو تزيد؛ لأنها تورد لنا ~~المفردات التي استعملت في لهجات قبائل شتى ولغاتها لا في لغة واحدة وضعت فيها ~~الكلمات على قدر المعاني، فاقسم العدد على عشرين أو أكثر تنقص معك مادة ~~المعجمات إلى ثروتها التي لا تمويه فيها ولا مبالغة، أما اليوم فنحن نمشي في ~~طريق التخصيص فننبذ التكرار الذي لا فائدة له، ونكتفي بكلمة لكل معنى لا ~~تشاركها كلمة غيرها في أدائه، وشتان بين لغة تعطيك خمسمائة كلمة لشيء واحد وتضن ~~عليك بكلمة واحدة لمئات الأشياء، ولغة أخرى تعطيك كلمة لكل شيء وتبلغ مفرداتها ~~مبلغ تلك في الكثرة والاتساع، فلغة الجاهلية أضيق اللغات إذا قيست بما نطلبه ~~نحن من مفردات المعاني ومصطلحات الفنون والعلم الحديث. # أما الأسلوب إن كنت تعني الأسلوب المرسل في مثل كتابي كليلة ودمنة والحيوان، ~~فعلم الحساب يثبت لك أن هذين الكتابين أقل في عدة المفردات، وتنوع التركيب، ~~ووضوح الأداء، والقصد في العبارة، من كتب المعاصرين التي يحتفلون لها بالتجويد ~~والانتقاء، وإن كنت تعني أسلوب المقامات والأسجاع والفواصل، فهذه ما تركها ~~أدباء العصر تهيبا لها ولا جهلا بها؛ لأن سخفاءه يجيدونها كما أجادها نبغاء ~~المتقدمين، ولكنهم تركوها ازورارا عنها، وعرفانا بفضل البساطة والترسل في ~~الإفصاح عن طوايا الأفكار والنفوس، وإنك لتجد في كتابات الجاحظ، وابن المقفع، ~~والجرجاني، من الفهاهة والغموض كلما اعتمدوا التفكير ما يقل ms316 مثله في كتابات ~~المعاصرين النابهين، وليست كثرة هؤلاء الكتاب راجعة إلى المطبعة كما قلت؛ لأن ~~المطبعة أداة للنشر وليست أداة لخلق الكتاب، ويصح أن يقال إنها سبب من أسباب ~~تصعيب الشهرة، وقلة التبريز لكثرة المتسابقين في الميدان، وشدة الزحام على ~~النبوغ، فما يهمل من الكتابة في عهد المطبعة أضعاف أضعاف ما يهمل في عهد ~~المخطوطات، ومجال الكاتب في القرون الوسطى أسهل وأرحب من مجال الكاتب في القرن ~~العشرين. # وليس من الصواب أن نقول: إن النثر لم ينضج عندنا؛ لأننا لا نكتب القصص كما ~~يكتبها الغربيون، فإن القصة أقل أبواب النثر حاجة إلى غزارة المادة وبلاغة ~~الأسلوب؛ لأنها تبلغ بالإسهاب والحوار وإلقاء الكلام على ألسنة العدد الكثير من ~~الناس ما يبلغه كاتب الرسائل بالقول الصادع، و«جوامع الكلم»، ووضع الحصر في ~~موضع التوزيع، ولكننا لا نرى بيننا القصاص المنقطعين لكتابة الروايات والقصص؛ ~~لأن الترجمة أسهل من التأليف، ولأن الأوربيين سبقونا إلى باب الرواية فاشتهروا ~~بها وأخذوا سبيل المزاحمة على مريدي التخصص في هذا الباب، ولا يقال: إن النثر ~~عاجز في أسلوب القصة؛ لأن النثر العربي في عصرنا لا يعجز عن استيعاب قصة من ~~أجود القصص التي كتبها الغربيون، فإن أردت الملكات فلك أن تحكم بأنها معدومة أو ~~قاصرة؛ لأن القارئ العربي يجد الميدان مكتظا بالقصص الغربية الشائعة فيميل ~~إلى المترجم دون المؤلف، ولا يطول صبره على المبتدئين حتى يضارعوا أساتذة هذا ~~الفن من الغربيين. ~~••• # ونقول: إنك لا تدري كيف توفق بين جور التثميل والصور المتحركة على الشعر في ~~العصر الحديث، وبين تقدم الشعر الإغريقي القديم في العصور التي انتشر فيها ~~عندهم التمثيل، فاعلم أنك تدري كيف توفق بين الأمرين حين تعلم أن الشعر كان ~~مستأثرا بجميع فنون الكلام في عصر الإغريق، ثم شاركه النثر وظهر التخصص في ~~الموضوعات، وما زال يظهر حتى انقسمت الروايات إلى تمثيلية وغير تمثيلية، ~~وانقسمت التمثيلية إلى أقسام معروفة بأسمائها وعلاماتها، وغير التمثيلية إلى ~~أقسام معروفة كذلك بأبحاثها ومطالبها، وكل هذه وما يضاف إليها من الصور ~~المتحركة ms317، والمشاهد المنوعة، والملاهي الطريفة، والصحف والمجلات، قد انتزعت من ~~دولة الشاعر ما كان له وحده بغير منازع، فمكان الخيال والعاطفة يشغله الآن ~~عشرات من أنواع الكتابة واللهو، ولم يكن يشغله في الزمن القديم غير نوع واحد، ~~وهذا فضلا عما أشرنا إليه في مقالاتنا من شيوع التعليم بين العامة، ووفرة ~~أرباح الذين يكتبون لهم، وانصراف الأدباء إلى هذا المورد السهل القريب عن موارد ~~للأدب الرفيع تجشمهم أضعاف العناء ولا تبض لهم إلا بالربح القليل، أما أثر ~~السياسة في الشعر فإن المنازعات السياسية تقوم اليوم على برامج الأحزاب، ~~وتفاصيل الخطط، وبراهين الوقائع والأرقام، بعد أن كانت تقوم في العصور الغابرة ~~على التنافس بين الملوك، والتفاخر بالفضائل الشعرية، فلا محل فيها اليوم للشعر ~~كذلك المحل الذي كان له في دولات الملوك السابقين، فإذا ظهرت العاطفة في ~~السياسة فهناك يظهر الشعر على قدر، وهناك نرجع إلى حال يشبه ما كان من أحوال ~~الشعراء في العصر القديم. ~~••• # وما حتمت أنا على الشاعر أن يكون فيلسوفا، بل أنا لم أكد أفرغ من مناقشة ~~الأستاذ الزهاوي في التفريق بين الشاعر، والعالم، والفيلسوف، وإنما قلت: إن ~~الشاعر الكبير هو من يشعر بجوانب الحياة فتستخرج من شعره صورة جامعة لكل شيء ~~فيها، وفلسفة خاصة أو نظرة خاصة إلى العالم كما يدركه هو ويراه، فمثل هذا ~~الشاعر إذا سألت عن صورة الحياة عنده أو عن فلسفته هو في الحياة أمكنك أن تجدها ~~مفرقة في شعره، ناطقة بسعة نفسه، واشتمال قريحته على كل ما حوله، أما الشاعر ~~الذي تحاول أن تعرف كيف أحس بالحياة في جملتها فلا نعرف لها صورة جامعة في ~~شعره، ففيم تسميه شاعرا كبيرا وكيف نفرق إذن بين الشاعرية وصياغة الألفاظ ~~واللعب بالأوزان. # وكأني بالأديب كاتب الرسالة يحسب أنني أقيد الشاعرية بأبواب دون أبواب، فهو ~~يسألني أن أذكر له في شيء من التفصيل بعض الأبواب التي كان ينبغي أن يطرقها ~~الشعر الحديث ولم يفعل، أو طرقها وقصر فيها، فليعلم أن أبواب الشعر عندي هي ~~أبواب الحياة على اتساعها ms318 فمن دل على حياة شاعرة في نظمه فهو شاعر، ومن لم يدل ~~على ذلك فما هو بشاعر، ولو نظم في جميع الأبواب التي عرفها الشرقيون، ~~والغربيون، والقدماء، والمعاصرون، وإن ما آخذه على الشعراء الذين أنقدهم ~~وأستصغر شأنهم هو أنهم لا يحسون، لا أنهم ينظمون في هذا الباب ويدعون بابا ~~غيره أولى بالنظم فيه، فإليك الغزل مثلا وهو أقدم الأبواب في الشعر كله، هل ~~تستطيع أن تعثر في نظم شعراء الجمهور بقصيدة - نعم بقصيدة واحدة ليس إلا - تدلك ~~على أنهم أحسوا حقا إحساس العاشق، ووصفوه في بعض أطواره وخطراته وصف العارف ~~الخبير لا وصف المقلد لمطالع الأولين، واللاعب بالكلمات ونكات الألفاظ؟ فإن لم ~~يكن فيهم دليل على الإحساس في هذا الباب؛ فليست الأبواب هي التي تعوزهم، وإنما ~~الذي يعوزهم هو الحياة أو الإدراك والشعور، وليس يغنيهم عنهما أنهم مرنوا على ~~الوزن عشرات السنين، فإننا لا حاجة لنا بهذه ولا من أجلها كان وجود الشعر في ~~لغات الناس. # | فن التصوير بين القديم والحديث1 # في المعرض الفرنسي # في المعرض الفرنسي الذي يقام الآن في القاهرة حجة للقائلين بأن تقدم الفن غير ~~تقدم العلم، وأن سنة الارتقاء لا تسري على التصوير خاصة سريانها على الصناعة ~~والاختراع، ففي الصور التي رسمها عباقرة التصوير قبل مائة سنة ما هو أجمل ~~وأفخم، وأدل على القدرة والأستاذية من أحدث الصور التي ابتدعتها قرائح ~~المعاصرين، ولو جاز لنا أن نوافق أو نخالف أحد الفريقين من الناقدين لقلنا: إن ~~«الإمبرشنزم» الذي لهج به المصورون في هذا العصر، يهبط بالفن كلما تمادى إلى ~~حيث يكثر فيه الادعاء، ويضعف المرجع المصطلح عليه، ويصبح الشذوذ هو القاعدة ~~والقاعدة هي الشذوذ. # لم يكن الفن القديم غفلا من دلائل الشخصية التي ينزع إليها أنصار «الإمبرشنزم» ~~أو الإحساسيون؛ لأنك لا تخطئ أن ترى لكل مصور قديم علامة يعرف بها، وطابعا ينم ~~عليه وموضوعا يكلف به، وأسلوبا في الأداء والتلوين لا يشابه أساليب الأساتذة ~~الآخرين، فالإحساسية الحقيقية التي تبرز فيها ملامح الشخصية لم تكن مفقودة ولا ~~منسية ms319 في تلك العبقريات التي بقيت آثارها إلى اليوم تتحدى المنافسين بالتعجيز، ~~وتعلو فوق هام المناقضة والمحاكاة، وإنما الفرق بين تلك الإحساسية وما يقابلها ~~من نزعة المصورين في العصر الحاضر هو الفرق بين مزاج سليم متزن صادق مستوعب، ~~وبين مزاج قلق متفاوت يعنى بجانب ويصدف عن جوانب، أو هو الفرق بين المساواة ~~والبساطة، وبين الإغراب والبهرج. # و«نزوة الإعلان» هي الآفة في كل ما تناوله العصر بالتبديل من فنونه، وآدابه، ~~وسياساته، وأطواره الفردية والاجتماعية، فإن الرغبة في لفت الأنظار والمغالاة ~~بوسائل التأثير، والاعتداد المفرط بما يسمونه استقلال الشخصية هي الأعراض التي ~~لا يفوت المراقب أن يلحظها في كل مطلب من مطالب هذا الزمان، وكل أثر تتمخض عنه ~~عبقريات الأدباء ورجال الفنون، فليس هذا العصر بعصر الأضواء التي تنير وتهدي ~~وتثبت على الإنارة والهداية، ولكنه عصر النيازك التي يتفجر كل نيزك منها عن ~~الأحمر، والأخضر، والأصفر، ويعلو في الجو شهابا ثم يهبط إلى الأرض بهرجا من ~~الألوان والأشكال، ولا نظن الفن الذي من هذا القبيل فنا إنسانيا يصدق في ~~الإبانة عن طبائع الإنسان الخالدة، وحواسه الصحيحة، وميوله التي لا تختلف ~~باختلاف الزمن والمكان، ولكنه هو فن النزوة الموقوتة، والغرابة التي يوشك أن ~~تضمحل مع الألفة لا أن تزيدها الألفة من توطد واستقرار. # فالمصور الحديث الذي يجري على أسلوب الإحساسيين المزعوم يريد أن يتخذ له لونا ~~وسحنة بارزة في جميع مصنوعاته كل البروز، فيوشك أن تقارب حدود الكاريكاتور وتلح ~~على الأذواق إلحاحا يخالطها بالضجر والنفور، وقلما ترى فيهم من يحرف الأشكال ~~أو الألوان ليكون التحريف أدل على المعنى، وأبعث على توجيه الفكر إلى ناحيته ~~المقصودة، وإنما هم يحرفون الأشكال والألوان؛ لتدل عليهم وتؤخذ عند النظر إليها ~~مأخذ العلامة الشخصية التي يتفردون بها، أو هي بمثابة توقيع شائع في الصور تعرف ~~به أسماؤهم ولا يعرف به شيء سواها، فالتوقيع على الصورة بالحرف الصريح يغني عن ~~هذه الخواص التي ينتحلونها لغير معنى ولا مسوغ من الفكرة أو الأداء، والإحساسية ~~في هذه الحالة هي مجرد المخالفة ms320 للآخرين على نمط يستطيعه كل من يبغي الخلاف ~~والشذوذ، ولقد رأينا في معرض الخيال المصري صورة نهج فيها صاحبها على منهج ~~الإحساسية فأجاد ووفق أحسن التوفيق في مخالفته لألوان الشجر، واختياره اللون ~~المغشي بالظلام بين الشحوب والسواد؛ لأنه هو اللون الذي يؤدي جو السكينة والظل ~~المخيم على تلك الأدواح، فهذه المخالفة للون الأخضر الذي يبادر النظر من الشجر ~~كله هي أقرب إلى إحقاق روح الصورة، وتمثيل جوها من الصدق الحرفي في محاكاة ~~ألوان الطبيعة، ولكن المخالفة التي على هذا الأسلوب قليلة فيما نراه عندنا من ~~صور الإحساسيين، وأكثر ما نراه في تحريفاتهم إن هو إلا أزياء لا نفهم لها حجة ~~كزي السراويل الواسعة بعد زي السراويل الضيقة، أو كزي اللون البنفسجي بعد زي ~~اللون الأزرق أو المرقط، وكلها ذاهبة مع الزمن كما يذهب كل جديد يؤتى به حبا ~~للجديد ورغبة في التنويع الموقوت، ولا تبقى إلا الإحساسية المستمدة من الحس ~~الصادق، والعلم الصحيح. # ولا فائدة من نقل الصور الفنية للتمثيل بها على ما نقول، فإن الصورة كلما بلغت ~~حد الإتقان، وتميزت فيها براعة العبقرية عز على الآلات أن تنقلها، أو تنقل لها ~~شبها يشير إلى سحرها وروعتها ولو بعض الإشارة، ولكننا نحيل القارئ إلى المعرض ~~ليرى فيه مثلا صورة كوربيه مع الكلب الأسود، ويتأمل ما فيها من الدلائل ~~الشخصية الناطقة، وما يحف بها من جو هو في باب المدركات النفسية أدخل منه في ~~باب المشاهدة التي تدركها الحواس، وليرى الفرق بين الوجه الذي يرسمه ألف مصور، ~~فإذا الرسوم كلها نسخة واحدة تتفاوت في درجات الإتقان، ولا تتفاوت في معنى ~~الأداء، وبين الوجه الذي لا يمكن أن يحكيه إلا مصوره الذي يفرغ عليه من نفسه ~~وجوه ودخيلة روحه ما ليس يشترك فيه جميع المصورين؛ فكوربيه في هذه الآية ~~المعجزة إحساسي قادر يبده الناظر بالملامح الشخصية في الجلسة، والتلوين، ~~والحركة، والجو الذي يحيط بفكره وسريرته، ولكنه إحساسي لأنه هكذا كان، لا لأنه ~~أراد أن يقول للناس: «هاكم معشر الناظرين أنموذج رجل من ms321 الإحساسيين.» # ولينظر القارئ أيضا إلى صورة «السيدة في الثوب الأسود» لريكاردو فإنه يرى بين ~~يديه صورة كاملة مستوفاة، لم تدع خفية من خفايا النفس إلا أبرزتها على الملامح، ~~والوقفة، ونظرة العينين، وإيماءة الشفتين، فتجاوبت كلها بملامحها وألوانها ~~لتمثيل تلك السيدة على وجه يريك حقيقة مزاجها وعصارة حياتها، حتى ليكاد يسرد لك ~~من تاريخها ونياتها ما تخفيه هي على نفسها، فلا تدري أي بقية في هذه السيدة ~~أبقاها ريكاردو للمصور الإحساسي؟ وأي جانب خاص من جوانبها أو معنى مستقل من ~~معانيها ينفرد المصور الإحساسي بالالتفات إليه، ثم يقدر على أن يبرز فيه ما لم ~~يبرزه ذلك العبقري القدير على أتم وضوح وأبلغ تأثير؛ فإن الذي يقتطع جانبا من ~~جوانب هذه الآية ليخصه بالالتفات، إنما يشوه الآية كلها أو ينقصها، وما هو ~~بقادر بعد ذاك أن يضع في جانبه الذي اقتطعه من القوة والوضوح فوق ما وضعته ريشة ~~ريكاردو على جميع الجوانب، وتلك فضيلة الفن القديم أو الفن الذي لم تصبغه ~~النزعة الإحساسية بكل صبغتها، فهو متساو في الالتفات إلى الظواهر، والبواطن، ~~والألوان، والجو، والمائية، والبدوات الخاصة، والطبائع المشاعة، يجمعها ولا ~~يجزئها، ويسبكها في قالب واحد يسع كل شيء ولا ينسى أي شيء، ولو شئنا أن نعد ~~الصور على هذا المنوال لما فرغنا ولا قلنا في آخر الأمر إلا بعض ما نريد أن ~~نقول، فالحق أن هذا المعروض ثروة فاخرة تشده الناظر، فإذا هو كالبخيل الجشع ~~فتحت له أبواب الكنز على حين غرة، وأرسلته بين أكوام الذهب والجواهر، تتخطف ~~عينيه بالبريق والاستهواء. # إن في أسلوب النظر، واختيار الموضوع، وتنوع الأداء، وانتشار المعاني متسعا ~~لإظهار «الإحساسية» و«الشخصية» يغنينا عن هذا التعمد في التلوين، أو التعسف في ~~تخصيص الملامح، أو المبالغة في الاتكاء على ناحية من النواحي، فإننا إذا ~~تمادينا في اختراع الألوان والمواقف على هذه النماذج الحديثة خارجون لا مناص ~~إلى البهرج أو «الفانتزية» مضيعون جمال الاتساق بتلك التجزئة التي تذكر الناظر ~~بموائد التشريح، فليكن الفن كاملا حتى حين ينحصر في أداء ms322 لمحة خاصة، أو دلالة ~~مقصودة، أما أن نأخذ لنا جانبا تتعلق عليه بقية الجوانب كما يتعلق الجسم ~~المشلول على أعضائه الساعية، فذلك اقتضاب لا يشبع حاسة الكمال والإتقان التي هي ~~جماع روح الفنون، وأما أن نوكل الحواس بالغرائب والتهاويل فذلك مضيع لنزاهة ~~البساطة التي هي لب لباب الجمال. # وأحسب أن «المعرض الفرنسي» سينفعنا في مقتبل نهضتنا الفنية؛ لأنه يفسح آفاق ~~الفن ويعلو بها إلى حيث لا ينالها الغرور القصير والطموح الكليل، ثم هو يرينا ~~مثالي القديم والحديث فلا يغوينا الحديث بزخرفه، كما قد أوشك أن يغوي بعض ~~الناشئين في غيبة القديم الفاخر المهيب، فهم أحرياء حين يبصرون هذه الفتن ~~الطاغية، ويقلبوا النظر في آثار هؤلاء الجبابرة أن يكفوا من غلواء «الإحساسية» ~~ويقصروها على ما فيه فضيلة وإحسان، والحق أننا ننظر إلى آثار الجيلين الماضيين ~~ثم ننظر إلى آثار الجيل الحاضر فنرى المسافة تتسع جدا بين المفضول المرجوح من ~~الناحيتين، ولا نراها تتقارب كثيرا بين الفاضل الراجح من هذه وتلك، وقد تقدم ~~علمنا بالنور والتشريح، وظهر أثر ذلك في بعض آيات المحدثين، ولكنه، بعد، تقدم ~~لا ينسينا سمو الفن على متناول «سنة الارتقاء» وأن الإنسان الفنان قد بلغ قمته ~~قديما، وما برح الإنسان العالم يتوقل بين القمم والوهاد. # | الحب والغزل1 # كتب طالب أديب في العدد الماضي من البلاغ الأسبوعي يعقب على كلامي عن توماس ~~هاردي حين أقول: «إنه أجاد في نظم الغزل بعد السبعين، وإن ذلك لم يكن عجيبا ~~منه لأن الشيخوخة ربما أعانت على النظم في هذه المعاني، بعد أن تهدأ ثورة النفس ~~التي تبلبل القرائح وتغشي عليها بدخان الأشجان والشهوات.» # والطالب الأديب يقول: «إن قشور الحب ولبابه سيان، وأدق من هذا أن تلك القشور هي ~~لباب الحب الذي لا لباب غيره، وإن غشاوته لا تسر وراءها إلا ما هو من نوع هذه ~~الغشاوة، أو ما هو دونها، ونرى لذلك أن الشبان أحجى من الشيوخ بالتعبير عن الحب ~~والتغني بآثاره، إذ هم الذين يفهمونه حقيقة الفهم بغرائزهم الطبيعية من غير ms323 كد ~~ذهن وعميق تفكير.» # ثم يقول: «وماذا عساه في الحب مما يكبره الشيخ ويعجب به؟ وأي شيء فيه غير قابل ~~للتحليل والوزن بتلك الموازين الدقيقة الميكانيكية! اللذة! إنه لا يجد في الحب ~~لذة، وإذا وجدها فقد تواردت عليه اللذات في أيامه الماضية، الألم؟ لقد سقته ~~الصروف منه كاسات مرة، وقد جرت لها نفسه ومرنت عليها فلم يعد يحفل من الألم ~~بجديد، الغيرة؟ لقد علمته الأيام أنها ضرب من ضروب العبث، وهكذا كلما عرضت ~~الشيخوخة لأي معنى من معاني الحب التي يفتن بها الشباب لم تر فيه شيئا طريفا ~~ولم تعن بالتعبير عنه، وإذا عنيت جاء تعبيرها بسيطا هادئا فيه كثير من قناعة ~~الشيخوخة وعدم اكتراثها.» # والموضوع الذي طرقه الطالب الأديب جدير بأن يعاد إليه لإبداء رأي في الحب ~~والغزل يدخل في باب الأدب، كما يدخل في باب التحليل النفسي الذي هو محك الآراء ~~في الأدب الحديث. # والمسألة بعد ليست مسألة نظريات يرجع فيها إلى تباين الآراء والأذواق، وإنما ~~هي مسألة حقيقة لا ريب فيها ولا اختلاف عليها، إذ كل ما يجب علينا - لكي نقول ~~إن الشيخوخة تجيد الغزل أحيانا ونكون على ثقة وبينة مما نقول - هو أن نعلم ~~أن توماس هاردي نظم شعر الغزل بعد السبعين، وأن ما نظمه بعد تلك السن كان جيدا ~~مقبولا رضي عنه قراء الشعر واستزادوه، وأنه كان هو من أسباب تلك الشهرة ~~الذائعة التي أحرزها في عالم الشعر بين قراء الأدب الرفيع بعد اشتهاره بالرواية ~~وحدها في عنفوان الشباب، فهل نظم توماس هاردي غزلا جيدا بعد السبعين؟ نعم! ~~وإذ كانت نعم هي الجواب الذي لا بد منه فلا حيلة للنظريات ولا لتعريفات الشباب ~~والحب والغزل في نفي هذه الحقيقة المقررة. # فالشيء الذي لا نكران له ولا خفاء به هو أن شيخا جاوز السبعين قد نظم في ~~المعاني الغزلية وأجاد فيها - على أسلوبه - أحسن إجادة، وهذا حسبنا لنقول إن ~~الغزل قد يوجد حيث لا شباب كما أن الشباب قد يوجد حيث لا غزل. # على أننا لو ms324 فرضنا أن توماس هاردي لم يخلق في هذه الدنيا، ولم يكن بين أيدينا ~~هذا المثل القريب ولا مثل غيره من الشعراء الشيوخ الذين ساهموا في المعاني ~~الغزلية وبلغوا فيها بعض الإجادة أو كلها، فهل تمنعنا النظريات ومراقبة الظواهر ~~النفسية أن ننتظر المعاني الغزلية بعد انقضاء الشباب؟ أما نحن فنقول لا؛ لأن ~~الحب شيء والغزل شيء غيره، وإن كان الحب هو موضوع الغزل والمعنى الذي يدور ~~عليه. # فالحب عاطفة شائعة بين الناس، بل شائعة بين من ينطق وما لا ينطق، ولسنا نعني ~~الصلة الجسدية التي تنقضي بانقضاء دوافع الفطرة، فإن هذه لا تسمى حبا ولا هي ~~من العلاقات القائمة بين فرد بعينه وفرد آخر بعينه؛ لأنها فوضى مشتركة بين جميع ~~الذكور وجميع الإناث من فصيلة واحدة، ولكنا نعني الصلة «النفسية» التي تجمع ~~الفردين معا بعلاقة لا يغني فيها أي فرد آخر من الفصيلة، وقد ثبت للباحثين في ~~طبائع الأحياء أن بعض الطيور والحيوانات تتزاوج مدى الحياة وينتقل الذكر ~~والأنثى منها آلاف الفراسخ بين أوربا وأفريقيا ثم يعودان من تلك الرحلة إلى حيث ~~كانا سنة بعد سنة، حتى يموت أحدهما أو يعتاقه عائق لا قدرة له عليه، فالحب على ~~هذا لا يستلزم الغزل لا في الإنسان ولا في غيره من الأحياء، وإذا قلنا إن لكل ~~حي غزله الذي ينطلق بما في نفسه فليس يسعنا أن نقول إن كل محب شاعر، وإن كل ~~متغزل نصيبه من الحب مثل نصيبه من الغزل على السواء. # إن الذين يقتلون أنفسهم حبا من غير الشعراء الغزليين أكثر جدا من الذين ~~يبلغون في الحب هذا المبلغ بين أولئك الشعراء، فلا ريب أن الشاعر لا يحسن الغزل ~~بغير حب، ولكن لا ريب كذلك في أن الحب قد يعلو حين يهبط الغزل، وأن الغزل قد ~~يعلو حين يهبط الحب على درجات لا تناسب بينها في العلو والهبوط، وسر ذلك أن ~~شاعر الغزل يقسم نفسه بين محبوبين هما الحبيب والفن، فيكون نصيب الحب أجزل عنده ~~من نصيب الفن، كما يكون نصيب ms325 الفن أجزل عنده من نصيب الحب، ثم لا يلزم أن يكون ~~أحدهما على قدر الآخر، ولا أن يكون الغزل الجيد دليلا على العاطفة الجيدة في ~~جميع الأحوال. # والشباب هو سن احتدام الشعور وهجوم الحياة، ولكن أي شباب وأي شعور؟ فقد يقضي ~~الفتى أوائل شبابه ولا معنى للحب عنده إلا أنه «وظيفة فزيولوجية» مبهمة يساق ~~إليها بغير هداية ولا تمييز، وقد يطلب الشريك في الحب وهو لا يعلم ما الذي ~~يطلبه فيه، وما الذي يأخذه منه والذي يعطيه إياه؛ لأن الحب عنده هو جوعة جسدية ~~أو نفسية يشبعها أي شريك يصادفه ويلفيه على مثل حاله من الرغبة والاشتياق؛ وقد ~~يكون احتدام شوقه ناقصا من حبه، كما أن احتدام الجوع في الجائع يغنيه بكل ~~طعام، ويجعل الأكل هو المقصود لذاته، لا الصنف ولا الطعم الذي يميز ذلك الصنف ~~عن سواه. # والحب على أتمه وأعمه وأقواه هو تفاهم بين نفسين وامتزاج بين قلبين وجسدين، ~~وقبل أن يفهم الإنسان نفسه كيف ينشد التفاهم مع نفس حبيبه؟ وقبل أن ينكشف له ~~قلبه كيف يعرف مواضع الكشف والحجاب من القلوب؟ وقبل أن يكمل بناء جسمه كيف تكمل ~~فيه رغائب الأجسام؟ وقبل أن يعرف النساء كيف يعرف المرأة؟ بل قبل أن يزاول ~~الحياة كيف يزاول لباب العاطفة التي تنضجها الحياة؟ فليس الاحتدام هو الحب ~~نفسه؛ لأن هذا الاحتدام قد ينقص من الحب، كما أن الحب قد يلهب الاحتدام فيمن ~~يكون يعانيه، ولكن الحب هو التفاهم على إشباع حاجات النفوس والأجسام، ولا يكون ~~تفاهم على هذا إلا حيث يكون فهم صحيح ناضج لما تحتاج إليه نفس المحب ونفس ~~الحبيب. # فللشباب حبه وللرجولة حبها وللكهولة بعد ذلك حب لا يشبه الحبين، وقد تعتري كل ~~عاطفة من هذه العواطف زيادة في الشعور، ونقص في التفاهم، أو زيادة في التفاهم، ~~ونقص في الشعور، أو تكافؤ بين الاثنين فلا يمنعهما شيء من ذلك أن تقول، وأن ~~تزود الشاعر بمؤنة الغزل والتشبيب. # وإذا تقضى الشباب، وتقضت بعده الرجولة، وتقضت بعدهما الكهولة فهل تنفد ms326 مؤنة ~~الغزل وهل تبطل دواعيه؟ كلا! هناك الحنين والتذكار وكلاهما مؤنة للغزل لا تنفد ~~وداعية حاضرة في كل حين، ولو سألنا الشعراء الذين عالجوا النظم في خوالج النفوس ~~شيوخا وشبانا لعلمنا منهم أن خير ما نظموه في شوق أو حزن أو ألم أو خالجة ~~ثائرة أيا كان فحواها إنما كان كله من قبل الحنين والتذكار؛ لأنهم ينظمون بعد ~~فوات الثورة الداهمة واطمئنان اللوعة العارمة، فيسلس لهم المعنى ويصفون الشعور ~~من كدر الدخان والضرام، وهم حين يتضرمون حزنا أو شوقا تستغرقهم العاطفة، فلا ~~يلتفتون إلى النظم ولا يشتغلون بغير ما هم فيه ولا يحلو لهم أن يسجلوا شيئا لم ~~يزل في مجراه، ولم يأن له موعد التسجيل، فإن ساورهم لجاج النظم في تلك الحالة ~~فقلما يوفقون لآية من آياته التي يتم فيها صفاء المعنى وصفاء الأسلوب، ولا ننس ~~بعد ما أسلفناه كله مرانة الزمن الطويل على معالجة الصياغة، ومداورة المعاني، ~~وسياسة الأفكار والعواطف، فإن لها لقدرة تعوض الشاعر العبقري ما تتحيفه ~~الشيخوخة، وتعصف به السنون. # ولا عجب أن يجيد هاردي الغزل، أو يجيده سواه من الشيوخ، سواء أنظرنا إلى ~~الحقيقة الواقعة التي لا ريب فيها أم نظرنا إلى المعهود من أطوار النفوس ~~والقرائح، وقد يحسن أن نذكر بعد هذا أن إجادة هاردي في الغزل لم تكن إجادة ~~مطلقة يطمع فيها كل شيخ ينظم القريض وتثبت له العبقرية، ولكنها كانت إجادة ~~هادية عليها سمة الرجل وفيها طبيعة مزاجه التي لم تفارقه في شباب أو شيخوخة، ~~وقد نبهنا إلى ذلك حين قلنا في مقالنا الأول عنه: إن الغرابة في إبداع الشيخ ~~هاردي أقل وأقرب تفسيرا من إبداع الشيوخ الذين يجيدون شعر الغناء؛ لأن نظرة ~~هاردي أبدا ساخرة، وزفراته أبدا مكبوحة صابرة، وأناشيده تليق بالشيوخ كما ~~تليق بالشبان في نوبات الاستكانة والتسليم، فهو أحق بالإجادة في هذا المجال من ~~سواه، وهو هو توماس هاردي سواء نظم في الحب، أو في الحكمة، وفي تجارب الهرم، أو ~~عواطف الشباب. # ولا نختم هذا المقال قبل أن ننبه ms327 إلى ملاحظة أخرى تحتاج هنا إلى تنبيه، وتلك هي ~~أن شعر الغناء عند الإفرنج أعم من شعر الغزل، وما إليه في اصطلاح العرب، فقد ~~تنتظم فيه كل مناجاة غزلا كانت، أو وصفا، أو حكمة تتزيا بزي العاطفة الشخصية، ~~وهكذا كان شعر هاردي الذي عنيناه بشعر الغناء. # | الإحساسية في التصوير1 # يذكرني مقالك عن «فن التصوير بين القديم والحديث» بذلك المقال الذي ~~أودعت فيه «إحساسيتك» بأول عدد من «البلاغ الأسبوعي» وكنت قد عرضت ~~فيه بالإحساسيين من المصورين تعريضا أخطر من تعريضك الجديد. على ~~أني أبادر إلى القول بأن اللوحات المشوهة التي لحظتها في الدور ~~الأعلى من المعرض الفرنسي، الذي لا يزال قائما إن هي إلا نماذج ~~للفن المصري الذي أبدعت كل الإبداع في تحقيره، والتنفير منه باسم ~~الإحساسية وهو لم يكن ولن يكون من الإحساسية في كثير ولا ~~قليل. # إنما هي بدعة لجأ إليها بعد الحرب الكبرى فئة من المصورين ~~المعاصرين ل «نزوة الإعلان» التي اعتبرتها بحق آفة هذا الجيل، ~~والتي أحسنت بها تعليلك أمرهم وتكييفك إياهم بذلك الذي اصطلحوا على ~~تسميته الفن المصري أو الفن الحديث. # أما الإحساسية الصحيحة - وعام 1865 بدء ظهورها - فهي التي لمست ~~أثرها فيما أبدعت إطراءه باسم الفن القديم، وما هو بقديم إلا فن ~~روفائيل ومن نحا نحوه ممن سبقوا الإحساسيين بأجيال. # لقد أخطأ مترجم السياسة الأسبوعية ترجمة «الإمبرشنزم» بالفن العصري ~~في مقال المستر ستيوارت الإنجليزي، وأراه لهذا قد أخطأ تكييف ~~المقال في مجموعه، وإن يكن قد أجاد التعبير في مواضع أخرى كثيرة، ~~وهنا يتجسم لنا الخطر من بقائنا بغير موسوعة عربية تثبت المصطلحات ~~الغربية على حقيقتها الفنية أو العلمية، وتعرف فيها الإمبرشنزم ~~إحساسية لا فنا عصريا أو حديثا ويقرأ فيها أيضا: «إن الذي ~~سيهبط بالفن إلى حيث يكثر فيها الادعاء ويضعف المرجع المصطلح عليه، ~~ويصبح الشذوذ هو القاعدة والقاعدة هي الشذوذ» إنما هو الفن العصري ~~وليست الإحساسية تلك التي أتذوقها في نثرك وشعرك، كما أتذوقها في ~~طريق أهل الفن العالي أمثال من أكبرتهم بحق في مقالك الأخير ms328، وبعد، ~~فكم تكون الإحساسية مدينة لك إذا تكرمت بتحقيق أن الفن العصري شيء ~~آخر غير الإحساسية، ثم أثبت التحقيق في كتاباتك الخالدة، فها هي ذي ~~الإحساسية تحدثني بأنك استمرأتها واستنكرنها في آن! ألست قد ~~استروحتها باسم الفن القديم أو الإحساسية الصحيحة، ثم عدت ~~فاستقبحتها باسم الفن العصري أو الفن الحديث؟ وتقبل. # شعبان زكي # مطرية مصر # أوافق صديقنا المصور الفاضل على وجوب التفريق بين «الإحساسية» والفن العصري لأن ~~ظلما كبيرا للإحساسية أن تزج بآياتها كلها تحت عنوان الصور العصرية، التي لا ~~نصيب لها من فن ولا فهم، ولا ذوق ولا خيال. # وأريد أن أقول هنا إن الذي عنيته بالفن القديم هو الفن الذي يجري على أسلوب ~~«الكلاسيك» أو الرومانتيك مع بعض التجوز، وليس الفن القديم في تاريخه ومولد ~~أصحابه؛ لأن بعض الصور التي نوهت بها لا يرجع تاريخها إلى أكثر من ثمانين أو ~~تسعين سنة كما هو مكتوب على عناوينها، فلا يظن أنني أقصد بنسبتها إلى القديم ~~إلى أسلوبها المدرسي «الكلاسيك» أو المدرسي المعدل «بالمذهب الرومانتيك» وهو ~~تعديل لا يخرجها في أصول الرسم والإحاطة بالموضوع من النظام الطبيعي إلى الفوضى ~~التي لا ضابط لها على الإطلاق. # وإنني أعتقد أن كل تجديد صحيح في فن التصوير لا ينافي «فكرة» الأساتذة الأقدمين ~~عن الفن ونظرتهم إلى الأشياء على الإجمال؛ لأنهم لو عادوا اليوم لما رفضوا أن ~~يستفيدوا في تصويرهم مما أحدثته علوم التشريح، وملاحظة النور والظلام، ولكانوا ~~إحساسيين حين تكون الإحساسية صادقة ومجددين حين لا يتمادى التجديد إلى الشعوذة ~~والبهلوانية، إذ ما هي الإحساسية في نشأتها؟ هي فيما أراها تكميل لنظر ~~الأقدمين، مسبوق إليه أو متوقع في آثار بعض الأساتذة الإسبان والفرنسيين، ~~و«ديلكروا» لم يكن إحساسيا ولكن أسلوبه في ملاحظة المسافة لا ينكره الأسلوب ~~القديم، ولا أي أسلوب صحيح، فلا يعاب عليه أنك حين تدنو من أزهاره لا ترى إلا ~~بقعا من الألوان يتعذر عليك تمييزها، ثم تبتعد قليلا قليلا، فإذا هذه البقع ~~ورود وأزهار لا أجمل منها ولا أصدق في رعاية ms329 اللون والرسم والمسافة، بل هذا من ~~القدرة التي يعجب لها كل من يراها، والتي تفوق قدرة الأقدمين في فضيلة لا خفاء ~~بها، وهي أن الأقدمين كانوا ينقلون ما يرونه على اللوحة، أما ديلكروا فإن الذي ~~يضعه على اللوحة شيء غير الذي يراه، وغير الذي تراه أنت حين تقف على مسافة ~~محدودة، ولا ريب أن نقل المنظر كما هو أسهل من ترجمته إلى منظر آخر يختلف في ~~القرب أشد الاختلاف وينطبق على البعد المحدود كل الانطباق، وهكذا كانت صور ~~سيسلي ومونيه وبيسارو، أو كانت بعض صورهم التي رأيناها في المعرض الفرنسي ~~واستدللنا بها على قيمة الصور الأخرى، التي لا نراها إلا منسوخة في مجموعات ~~المتاحف، فإنها كلها صادقة إذا نظرت إليها من مسافتها المقدرة أو حبست الأشعة ~~في العين على القدر المناسب لألوانها الطبيعية، وكلها مبنية على قواعد يسهل ~~ضبطها والرجوع إليها في النقد والتعليم، ومجمل هذه القواعد أن اللون الواحد ~~كالأحمر أو الأصفر مثلا ليس هو لونا واحدا في الحقيقة؛ لأنه يختلف باختلاف ~~اللون الذي كنت تراه قبله وباختلاف البعد والقرب والزاوية التي تنظر منها إلى ~~الشيء الملون به. # وإنك حين تنظر إلى هدف بعد هدف يلزمك حصر للنظر في كل من هذه المرئيات يخالف ~~حصره في الهدف الآخر، وإن المنظر في مجمله غير المنظر في تفاصيله، وإن تعميم ~~الظلال على الأسلوب القديم ناقص في حكم الحس؛ لأن ألوان التظليل لها قانون غير ~~القانون الذي أدركه القدماء، فكل هذا لا غبار عليه. ولكننا لا نريد أن نغلو في ~~تقديره كما يغلو المتشيعون للإحساسية، ولا أن نجرد أسلوب الأقدمين من كل فضله ~~في هذه الناحية، مثال ذلك شجرة معينة تريد أن تصورها: فهذه الشجرة ليست منظرا ~~واحدا لأنها في الصباح غيرها في المساء، وفي الربيع غيرها في الشتاء، فما ~~العمل في هذه الحالة؟ هناك ثلاثة أساليب لاستجماع هذه الأشكال المتغايرة: أحدها ~~أسلوب مونيه الإحساسي، الذي يريد أن يصور على طريقة العصفور المتنقل في ~~التغريد، فهو يرسم تلك الشجرة عشرة أشجار أو ms330 ثلاثين أو أربعين، على حسب تغير ~~الساعات والفصول والأنوار والظلال، وأسلوب آخر إحساسي يحصر الشجرة وحدها ويغض ~~النظر عن تفاصيل المنظر الذي حولها، وعن تفاصيل الشجرة نفسها؛ ليعطيك إياها في ~~لحظة واحدة من الزمن كما لاحت لعينه، وكما وقعت في نفسه، وأسلوب الأقدمين وهو ~~يضحي ببعض الظواهر التي تضحي الإحساسية بأكثر منها ليعطيك الشجرة في كثافتها، ~~وتلوينها، وتظليلها، وروحها، ولبابها، الذي قلما ينال منه تغاير الأزمان ~~والأجواء، فلا ريب أنه مهما اختلفت المظاهر فهناك الشجرة التي تمر بها كل هذه ~~المظاهر، والتي تحتاج إلى التصوير جملة واحدة، كما يحتاج إليه كل مظهر من ~~مظاهرها. # وهنا يبدو لنا أن الأقدمين كانوا إحساسيين أكثر من الإحساسيين؛ لأن فضل ~~الإحساسية الأكبر هو الاعتماد على الشعور، أي تصوير الشيء كما يبدو في نفس ~~ناظره من وراء المحسوسات الآلية؛ فالأستاذ الذي ينفذ من وراء الصباح والمساء ~~والربيع والشتاء؛ لينقل لنا الشجرة كما قد يتخيلها واحدة كاملة في جميع هذه ~~الملابسات هو إحساسي ينقل من الداخل أكثر مما ينقل من الخارج، ويعطينا من ~~الجوهر أقرب مما يعطينا من الأعراض، وهذا هو الكمال الذي قد تفسده التجزئة حين ~~يغلو فيها الإحساسيون إلى الحد الذي ترامى إليه ذلك الناقد المتهوس مارنيتي # Marinetti # الإيطالي، فزعم أن الفن يجب أن ~~يعنى برسم الأشياء في الزمان لا في المكان وحده، وفسر ذلك بأن المصور يجوز له ~~أن يرينا ظهر الكرسي من خلال جسم الرجل الجالس عليه؛ لأن ذلك الرجل سيفارق ~~كرسيه في زمن قريب! وإنه يجوز له أن يرسم أذرعا خمسا أو ستا للرجل الذي يحك ~~رأسه؛ لأنه يؤديه بذلك أداء صادقا في أزمانه المتتابعة، ويسمي أنصار هذه ~~المدرسة أنفسهم بجماعة المستقبليين # Futurist # ويقضي سوء حظ الفن أن تتفق لبعضهم بعض الإجادة الفكاهية على مثال صورة «السيدة ~~والكلب» فتشيع أنماطهم بين الأغرار ويتخذون من تلك الإجادة الطارئة جوازا ~~يدخلون به في دائرة المحظور، ثم تبحث عن كل هذه الكلمات الخاوية من مستقبلية ~~إلى رسم في الزمان لا في المكان إلى «النفاذ المحسوس في ms331 خلال المادة» إلى غير ~~ذلك من الطبل والطنين، فتلفيه كله لا يخرج عن رسم الحركة الذي عرفه الأقدمون ~~وأدوه أجمل أداء، ووصفه شاعرنا العربي ابن حمديس حين قال: # أسد تخال سكونها متحركا # في النفس لو وجدت هناك مثيرا # فليس بين المدرسيين والرومانيين والإحساسيين النابغين من لم يرسم لنا الجسم في ~~حركة تخيل لنا ما قبلها وما بعدها، وترينا إياه في الزمان لا في المكان وحده، ~~ولكنهم لم يلجئوا قط إلى تعديد الأرجل والأذرع والوجوه، ولو فعلوا ذلك لكان ~~أيسر عليهم وأقل مؤنة، وأغنى عن البراعة الفنية من كل أسلوب معروف، إذ لا صعوبة ~~في محاكاة شريط الصور المتحركة الذي يؤدي من هذه اللمحات المستقبلية ما ليس ~~يؤديه أبرع المستقبليين في الجديد والتلفيق. # وليت الأمر وقف عند حد هؤلاء المتهوسين، فإن الفوضى إذا بدأت لا تنتهي إلى ~~نهاية معقولة، وقد بدأ «الإحساسيون» يبيحون الانحراف عن القواعد؛ لضبط المرئيات ~~النفسية وفتحوا باب التصرف في الألوان، فظهر على أثرهم الإحساسيون ~~المحدثون # Neo-impressionists # والتقسيميون # Divisionists ~~، الدواميون # Vorticists ~~، والتعبيريون # Expressionists # وأولئك المستقبليون ~~وطوائف أخرى لا نحصيها، مما يدخل في هذه الأسماء التي يشملها اسم وما بعد الإحساسية Post-Impressionism # أو اسم الوحشية ~~الذي أطلق على بعضها في فرنسا # Fauvism # وإنه ~~لأليق بهم قاطبة من جميع تلك الأسماء. # وإلى القراء مثلا واحدا من أمثلة هذه الصور التي رسمها «كاندنسكي» الروسي ~~البولوني قبيل الحرب، ولم تعدم ناقدا مثل السير ميشيل سادلر، يزعم أنه تبين ~~فيها تعبيرا عن حالة القلق التي تقدمت الحرب؛ لأنه بصر فيها بحطام من المدافع ~~والأجسام والدواخين؛ فلينظر القراء إلى أي نهاية بلغ بالفن انحرافه عن الأصول ~~لتصوير ما يسمى الإحساس المستكن في العواطف والأوهام. # ولم يكن في حساب «الإحساسيين» أن «فكرتهم» تهبط إلى هذا الحضيض، وتمسخ هذا ~~المسخ الشنيع، ولا كان هذا شأن جميع الإحساسيين في هذا العصر، أوربيين كانوا أو ~~شرقيين، ففي الدور الأعلى الذي عرضوا فيه العصريات صور لأرنست لوران يغبطه ~~عليها أقدر الأساتذة المتقدمين، وفي معرض «هداية» الذي لا يزال مفتوحا إلى ~~الآن صورة «للرقص» أنصف فيها ms332 الأستاذ كل حق من حقوق الرسم والحركة والمعنى، ~~وأتى فيها بآية من الآيات التي يفخر بها أكبر المصورين، فعلى مقربة من الصورة ~~لا ترى إلا خطوطا تبين للناظر عن شيء قليل من الراقصة والراقص، ثم تتضح ~~الإبانة كلما ابتعدت حتى ترى الجهد ملموسا في الراقص الشيخ والأثر ملموسا في ~~الراقصة الفتية، مع إتقان لا مزيد عليه في الملامح وتمثيل الإحساس، وفي هذا ~~المعرض نشهد الإحساسية التي لا يبعث المصور إليها عجزه في الرسم، وتمحله للهرب ~~من الإتقان فيه، فإنك ترى دلائل القدرة على الرسم والافتتان بالأنوار والظلال ~~بادية على الصور الأخرى التي قضى بها الأستاذ البارع حق القربان الفني للشمس ~~المصرية، ومعابد الفراعنة الخالدين. # لم يكن الشتات الذي آل إليه الفن الحديث في حساب الإحساسيين السابقين، ولكنه ~~كان مخشيا من يوم أن شذ المجددون عن سنن المدرسيين في الأصول العامة، فنشأت ~~في وقت واحد على التقريب طلائع مدرسة تدعو نفسها بأنصار الرسم الجيد # La bonne Peinture # على محاذاة الطلائع ~~التي ظهرت للإحساسيين. كأنهم يتهمون الإحساسية بالعجز في الرسم؛ لأنها تنحرف عن ~~تقاليده في بعض الأحيان، فإذا شاء المصورون القادرون أن يجنبوا الفن عواقب ~~الفوضى والشتات، فالسبيل إلى ذلك أن يغلقوا الباب على الدعاوى النفسية التي لا ~~وازع لها، وليجعلوا الظواهر أصولا لا يعدوها المتخيلون ولا الواقعيون ولا يحاد ~~عنها لأي عذر من الأعذار، ولا نستغني نحن في الشرق خاصة عن تقدير تلك الأصول ~~إلى جانب العناية، بما اقترحه صديقنا المصور الفاضل من الاتفاق على المصطلحات، ~~وضبط الأسماء، فإن إرسال الترجمة على عواهنها خليق أن يوقع القراء في الخطأ ~~والإجحاف. # | الربيع1 # لماذا تغني الطيور؟ # الربيع! # أين؟ # ألا تراه؟ ها هو، هنا، هناك، في كل مكان، في الشجرة المورقة، في الزهرة ~~المتألقة، في العصفور المارق من وكره، في الأحياء المتوثبة، في السماء الضاحية، ~~في هذا الضياء النافذ الوهاج، كأنما يكشف بواطن الحياة من حيث اختبأت من طوارق ~~الشتاء، أو كأنما يحيل الدنيا معنى يشف ويتخيل، لا جسدا يكثف ~~ويلمس، أو كأنما يفيض عليها من صراحة ms333 اليقين، فلا تردد على سماتها، ولا خجل ~~في حركاتها، ولا مبالاة أن تدل على نفسها بكل دلالة، وتعرب عما في ضميرها بكل ~~مقالة؛ فما بالربيع من حاجة إلى من يدلك عليه، ويترجم لك عنه؛ لأنه لا يتوارى ~~عن أذن تسمع، وعين تنظر، وأنف يستنشق، ويد تلمس، وقلب يشعر، وحياة يأتيها النبأ ~~المفرح من باطنها قبل أن ينتقل إليها بالآذان والعيون والآناف، وإنه لينطق ~~ويتحدث كما قال البحتري: # وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكا # من الحسن حتى كاد أن يتكلما # بل هو يتكلم ولا يصنع من شيء إلا أن يتكلم ويتكلم، وما نحسب إلا أن الحياة كلها ~~تعبير وإعراب، وإلا أن الربيع عندها هو ساعة الوحي والإلهام، ولا نظن الإنسان ~~بدأ يسأل نفسه: ما الحياة؟ وما فائدة الحياة إلا في غاشية من غواشي الشتاء، حيث ~~يبدو على كل شيء أنه يتلعثم ويطرق، ويلتمس المعاذير لوجوده وظهوره. # أما في الربيع فما الحاجة إلى بحث عن الحياة أو عن فائدة للحياة؟ ها هي الحياة ~~جريئة على العدم لا تمهله أن يسألها لم أنت هنا؟ وما الذي تبغينه في هذه ~~الأرجاء والآفاق؟ بل ها هي الحياة غنية بنفسها ولا شيء في الأرض والسماء غيرها. ~~فحسبها أن تحيا وأن تقول: إنها تحيا، وأن تسمع أنها تحيا ولا مزيد على ذلك ولا ~~داعية إلى المزيد، فإذا بدأت تلتمس الأسباب فقد بدأت تعتذر وقد بدأت ترتاب في ~~دخيلتها وفيما حولها، فلا سبب يرضيها، ولا شفيع يغنيها غير السكوت، أو كلام هو ~~أغمض وأخفى من السكوت. # الحياة تعبير، وقد نفذ البحتري إلى طويتها حين كانت غاية الغايات في الحسن عنده ~~أنه يتكلم أو أنه لا يحجم ولا يخفي، فتلك شيمة كل شباب، وتلك شيمة كل ربيع؛ لأن ~~الربيع شباب الزمان، وتلك شيمة كل حياة؛ لأن الحياة هي الشباب. # ولقد قدر لعصر البحتري - عصر النيروز والمهرجان - أن يكون شعراؤه أصدق الواصفين ~~للربيع في كل سمة يعرفه بها الواصفون، ويتأمله فيها المتأملون، فإن قلت: إن ~~الربيع تعبير فقد أحسن البحتري التلميح ms334 إلى معناه، وإن قلت إنه زينة، فأبو تمام ~~يعرفه كذلك حين يقول: # دنيا معاش للورى حتى إذا # جاء الربيع فإنما هي منظر # وإن قلت: إنه حب فابن الرومي ينبئنا بذلك حين يصف الأرض فيه بأنها: # تبرجت بعد حياء وخفر # تبرج الأنثى تصدت للذكر # أو حين يقول: # ورياض تخايل الأرض فيها # خيلاء الفتاة في الأبراد # أو وهو يجمع قولي البحتري وأبي تمام في قوله: # لم يبق للأرض من سر تكاتمه # إلا وقد أظهرته بعد إخفاء # أبدت طرائف وشي من زواهرها # حمرا وصفرا وكل نبت غبراء # فالربيع زينة، والربيع حب، والربيع تعبير، بل ما الزينة، وما الحب إلا التعبير ~~في لبابه، وإلا حسنا يريد أن يظهر، وسرا يهم أن يبوح ويتفشى، وحياة تود أن ~~تمتد من حيزها إلى كل حيز يحملها إليه باعث الحياة ومعينها بالظهور ~~والذيوع؟ ~~••• # آخر من يعلن لك بشارة الربيع هم جماعة الفلكيين في تقاويم الفصول، فإن برنامج ~~الموكب عندهم لا يسلم من التقديم والتأخير، وكل شيء أصدق من التقاويم في ~~الرواية عن الطبيعية حتى الأفلاك التي يرصدها أولئك الفلكيون، وحتى أعشاب الأرض ~~التي لا تلغو، وحتى العصافير التي لا تخلق إلا لتلغو وتهذر، وتتحدث بالمفيد ~~وغير المفيد! # ففي صبيحة يوم من الأيام صحوت فإذا أنا أسمع من خمائل الجيرة أصداء طال عليها ~~صمت الشتاء، ولم تنطق منذ أشهر بغير دعاء الحدأ والغربان التي لا يصمتها شتاء ~~ولا صيف. عادت العصافير إلى التغريد والهذر فقد اختفى إذن شبح الشتاء العبوس، ~~وانطلقت أطفال الطبيعة تلعب في غير خوف ولا انقباض، وهي إلى أن يرجع ذلك الشبح ~~لن تكف عن اللعب واللغط، ولن تفتر عن الحركة والمراح، ولن تدع مكانا يحملها ~~إليه الجناحان إلا أن نقلت إليه بشارة الربيع وصدحت فيه بأنشودة الحياة. # وكأنما كنت على انتظار هذه البشارة، وعلى مسمع منها قبل أن تهتف بها المناقير، ~~فقد قضيت أواخر الشتاء أقرأ عن الطير مستعيضا بذكرها عن سماعها، فصحبت ~~«بنيامين كد» في خلواته مع الطبيعة، وماشيت بوتر في عالم الموسيقى الآبدة ms335، ~~وأصغيت مع إدوارد جراي إلى أغاريد الربيع والخريف، فكان ترحيبي بالبشارة ترحيب ~~المنتظر المتشوف، وسماعي بالخبر كسماع الحالم أفاق من حلمه فرأى من كان يراه في ~~منامه، أو كما يقول صديقنا شكري: # وكنت كراء في الكرى طيف جنة # فلما تمشى في الصباح رآها # فأصغيت أسمع النبأ الجديد، وهل ثم من نبأ جديد؟ كل ما أزعجتني هذه الثرثارة ~~لتفضي إلي به هو أنها هناك، وأنها حية كما أعلم، وأنها سعيدة بالحياة، فأهلا ~~وسهلا! نعم النبأ هذا والله، وما يبرح جديدا طريفا في كل يوم، بل ما يبرح ~~قديما معادا ألذ من الجديد الطريف، فمرحبا بالنبأ والمنبئين ومرحبا بالخفة ~~المستطارة، التي تنقض كل ما أوقرتنا به فلسفة المتشائمين. ~~••• # لماذا تغرد الطير؟ لأنها تجد الطعام الكثير كما يقول بعض الطعاميين النفعيين ~~الذي لا يتناولون الحقائق أبدا إلا من الأذناب، ولكن إدوارد جراي يراقب ~~الطيور، ويتفهم لغاتها فيأبى أن يجعل ألسنة الهواتف كلها في بطونها، ويأخذ في ~~حوار بين باحثين مفروضين يؤيد أحدهما فلسفة الطعام، ويشك الآخر في هذه الفلسفة. ~~يقول الطعامي قوله فيجيبه صاحبه بأن الطعام أكثر ما يكون في شهري أغسطس ~~وسبتمبر، فلماذا يقل فيهما الغناء؟ فلا يقنع الطعامي بهذه المناقضة ولا يعسر ~~عليه أن يلتمس العلة لقلة الغناء فيما يصيب الطيور من الإعياء بعد موسم الحب ~~والإنتاج، فيسأله صاحبه: ولماذا تعود فصيلة من الطير إلى التغريد في أكتوبر، ~~ولا نسمع في هذا الشهر صوتا لفصائل أخرى؟ فيجد الطعامي جوابا يورده على شيء ~~من الحذر والتحفظ ويقول: لعل هذه الفصائل أيضا ينالها من التعب ما ليس ينال ~~الأخريات! فيذكر له صاحبه اسم العصفور الدوري، وهو طائر ينسل ريشه في موسم ~~الحب، ثم لا يستهل شهر أغسطس حتى يتدفق بالتغريد والتهليل، فينتهي الحوار بهذا، ~~وينتقل المؤلف إلى رأي الذين يرجعون بسبب الغناء إلى الحب، فيقول: إن هذا ~~العصفور الدوري يتجنب الأنثى ولا يطيق اقترابها في الخريف، ثم هو لا ينقطع عن ~~الغناء حين يكون على تلك الحالة من النفور، ولعله يغني حينذاك ليقرر ms336 مكانه ~~ويدفع المزاحمين عن غشيانه، وهو سبب معروف مشهود لرفع الصوت بالترنيم ~~والتحذير. # ويخرج الوزير المشغوف بالطير من بحثه على نتائج ثلاث هي: ~~(1) # أن الغذاء لازم للغناء، ولكنه لا يكفي وحده لابتعاثه. ~~(2) # أن الحب باعث للغناء في الطيور المغردة كافة، فهي تغرد ~~جميعها في موسمه، وتبلغ فيه غايتها من النشوة ~~والإطراب. ~~(3) # أن تقرير المكان كاف للغناء، إن لم يوجد له سبب سواه. # ولكن الوزير يعود بعد إثبات هذه النتائج فيورد عليها الريبة من غناء الزرازير ~~في الخريف حين تتجمع في مكان واحد، ولا يبتعثها للغناء حب ولا تقرير مكان، ~~وإنما تغني لأنها لا تعرف عندها سببا للسكوت، فلا بد إذن من نتيجة رابعة وهي: ~~(4) # أن بعض الطيور تغني لمحض الشعور بالراحة والسلامة، بغير سبب ~~خاص من تلكم الأسباب. # وكأن هذا كله ينتهي إلى نتيجة واحدة، وهي أن الطيور تغني لأنها خلقت للتعبير عن ~~حياتها كلما زالت موانع التعبير، ومن السخف أن يقال إنها تغني؛ لأنها تجد ~~الطعام الكثير لأن وجود الطعام نفسه في الربيع والصيف، يحتاج إلى تعليل غير ذلك ~~التعليل، وإذا كانت الأرض تقتبس من الربيع حياة تسخو بالحبوب والخيرات، فما ~~الذي جناه الأحياء عند هؤلاء الطعاميين، حتى لا يقتبسوا من الربيع خصبا ينطق ~~بالغبطة والسرور، وبكل ما تفيض به النفس من حب ورجاء واعتزاز؟ # لكأن هؤلاء المساكين يحسبون أن الحياة تجرم في حق نفسها، أو في حق خالقها إذا ~~ظهر فيها وجود لغير المعدة، ولم تكن المعدة هي جميع الأعضاء والأجسام، والطعام ~~هو كل ما تدور عليه المساعي والأعمال والأقوال، ولكنه هوس «بالماديات» غلوا فيه ~~حتى عاد أقبح وأغبى من الهوس ب «الروحيات» الذي جرهم إلى إنكار الروح، ثم جرهم ~~من إنكار الروح إلى إنكار الحياة الظاهرة، إلا أن تكون جسما يكال بالمكاييل، ~~ويوزن بالموازين. ~~••• # إن الربيع ليغني لأنه حي، ولا سبب للغناء غير ذلك، ولا حاجة إلى سبب غيره لمن ~~يحس ويعيش، والربيع حي؛ لأنه موسم الحرارة والضياء! وهل الحياة إلا حرارة ~~وضياء؟ إنك لتؤمن بالروح وحده ms337، أو بالجسم وحده، ثم تقول إن النور هو مصدر كل ~~شيء وأصل كل حياة، فلا تكون إلا على صواب، وما كان نور العين ولا نور الروح إلا ~~شيئا واحد في العنصر والقرار، وإلا عنصرا واحدا لكل ما يظهر في هذه الدنيا ~~للبصائر والأبصار. # | عقول الأزهار1 # هل للأزهار عقول؟ أما إن كانت عقول كعقول الإنسان تدرس وتبحث وتستنبط الأفكار ~~في العلم والفلسفة، وتقيس ما تجهل على ما تعلم فلا بالبداهة، وما عن هذا يسأل ~~أحد؛ لأن الأمر فيه ظاهر غني عن السؤال، وأما إن كانت عقول تناسب الزهر وما ~~يحتاج إلى من تفكير في حياته - إن كانت بحياته حاجة إلى التفكير - فهذا الذي ~~يجوز فيه السؤال، وهذا الذي يعنيه السائلون حين يبحثون للزهر عن عقل يدرك ما هو ~~لازم له من الإدراك. # نحن في عصر يقول فيه أحد العلماء الهنود بأن الروح حظ مشترك بين الإنسان ~~والجماد، بله الإنسان والحيوان والنبات، ويقول فيه: إن إحساس المعادن بما يؤثر ~~فيها إنما يجري على مثال الإحساس في الكائنات العضوية من النبت فما فوقه إلى ~~الإنسان العالم والشاعر، وليست هذه بأول مرة سمعنا فيها هذه الفلسفة من جانب ~~الهند، فإنها هي صاحبة القول بوحدة الوجود ، وتناسخ الأرواح، وانبثاث الحياة ~~الإلهية في كل شيء مادة وغير مادة، ولكنها المرة الأولى التي يدرس فيها ~~«التصوف» في معامل العلم الطبيعي، ويشترك فيها المجهر والمخبر والإنبيق للوصل ~~ما بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، وإقامة الدليل على فلسفة الصوامع وتسبيح ~~النساك؟ # وتلك آية أخرى من آيات المزاج القومي الذي لا تغلبه الدراسة، ولا تنقله الثقافة ~~من حيث غرسته ثقافة الآباء والأجداد، فقد قيل: إن الطبيعة وعلومها من شأن ~~الغربيين المحدثين، وإن ما وراء الطبيعة وفلسفاته من شأن المشارقة الأقدمين، ~~فما هو إلا أن نبغ عالم طبيعي بين الهنود حتى ظهرت الفلسفة الروحية في المعمل، ~~والتقت الطبيعة وما وراءها على رأي الهند في مجاهل الزمان القديم، وبرز الكاهن ~~من وراء العالم ليرفع الصلاة في معهد التحليل والتجريب إلى عرش «برهما ms338» ~~السرمدي، وليقول لنا مرة أخرى: إن حكماء الهند لم يتصوفوا من قلة العلم وإنما ~~تصوفوا؛ لأنهم هكذا خلقوا وهكذا، انتهت إليهم عبر الحضارات البائدة، وأملت ~~عليهم روح الطبيعة والإقليم. # فإذا كان للجماد إدراك على قول «بوز» - ذلك العالم الهندي - فأقل من ذاك في ~~الغرابة أن يدرك الزهر، وأن يكون له عمل يوحيه عقل، ويشف عن تدبير، ونحن وما ~~نشاء في إلحاق ذلك العقل بأي طبقة من طبقات العقول، وإنزال ذلك التدبير بأي ~~منزلة من منازل الإلهام أو التفكير. # وهل لنا أن نترسل في التعميم ما دمنا قد بدأنا بالمزاج القومي الذي ظهر في تصوف ~~عالم الهنود؟ فالذي يقول: إن للزهر عقلا أو ذكاء يفهم فهمه، ويقصد قصده، هو ~~شاعر غربي ولكنه من أصل شرقي؛ لأنه سلالة يهودية قد ورث عن آبائه إيمان ~~إسرائيل، وأخذ منه مزجه بين عالم الأرض وعالم السماء، ونظرته المادية التي لا ~~تنسى الدين، ونظرته الدينية التي لا تنسى المادة ولا تقيم الفوارق بين حيز ~~الروح وحيز المحسوس. ذلك هو «موريس مترلنك» شاعر البلجيك أو إن شئت فقل متصوف ~~البلجيك؛ لأن نصيبه من خيال المتصوفة أوفر من نصيبه من خيال الشعراء، فقد كان ~~مترلنك أسبق إلى القول بذكاء الأزهار، والنداء بالروح الملهم الشائع في ممالك ~~الحشرات والنبات، ولم يمنعه أن يقول ذلك علمه وتجريبه ولا مراقبته لطبائع ~~الأحياء على طريقة المعامل ومذهب العلماء، فهو شرقي آخر قد نقل المعبد إلى ~~المعهد وكتب على الأرض عنوان السماء. # يقول مترلنك: «ويخيل إلي أني لن أكون مغرقا في الجسارة إذا قلت: أن ليس ها هنا ~~أفراد من الخلق لها ذكاء أو ليس لها ذكاء، ولكنما هو إدراك عام موزع في هذه ~~الدنيا كأنه فيض ينفذ في الكائنات بمقدار ما عندها من استعداد «لتوصيل» ~~الإدراك، وعلى هذا يكون الإنسان على هذه الأرض هو مثال الحياة التي تميزت بأقل ~~ما يعرف من المقاومة لذلك الفيض الذي يسميه الدينيون بالإلهي، وتكون أعصابنا هي ~~الخيوط التي تهيأ لسريان تلك الكهرباء الأدق من الكهرباء، وتكون ms339 أدمغتنا هي ~~الأداة التي ركبت على منوالها لمضاعفة التيار، ولكنه بعد تيار لن يخالف في ~~طبيعته ولا هو صادر من ينبوع غير ينبوع التيار الذي ينفذ في الحجر، وفي النجم، ~~وفي الزهرة، وفي الحيوان، وإنها لأسرار ربما كان من الفضول أن نستطلعها ما دمنا ~~لم نرزق بعد تلك الحاسة التي تستجمع أسباب العلم بها، فحسبنا إذن أن نلمح بعض ~~مظاهر ذلك الإدراك في غير أنفسنا، وإنه لحق علينا أن نشتبه في كل هذا الذي نراه ~~من مظاهره في أنفسنا؛ لأننا نحن الحكم، ونحن المدعي، ونحن أصحاب المصلحة في ~~تعمير عالمنا بالفاخر المعجب من الأوهام والآمال، وهذا هو الحري بأن يغلي عندنا ~~كل علامة نلمحها في غيرنا، ولا يبعد أن تكون تلك العلامات التي أتيح لنا أن ~~نلهمها من الأزهار ذرة ضئيلة، لا تقاس إلى الخبر الذي تفضي به الجبال والبحار ~~والنجوم لو فاجأنا فيها أسرار حياتها. على أن ما لمحناه ثمة خليق أن يخامرنا ~~ببعض الثقة حين نقول: إن الروح الذي يحيي الجميع أو ينجم من الجميع هو من عنصر ~~هذا الروح الذي تحيا به أجسامنا، وإذا كان هذا هكذا، وكان هذا الروح مثلنا أو ~~كنا نحن مثله، وكان كل ما يحتويه كذلك فينا، وكانت وسائله وسائلنا، وعاداته ~~عاداتنا، وشواغله ودواعيه شواغلنا ودواعينا، وآماله فيما هو أرفع وأجمل، هي ~~آمالنا فيما هو أرفع وأجمل منا. # أيكون إذن مناقضا للمعقول أن نرجو رجاءنا هذا الذي نرجوه بالفطرة وعلى غير ~~اختيارنا، ما دام من المحقق أن ذلك الروح يرجوه مثلنا؟ بل أيكون من المعقول حين ~~نرى هذا الإدراك الموزع في الوجود أن الحياة لا تعمل ما يقتضيه الإدراك، ولا ~~ترمي إلى قصد من السعادة والكمال والانتصار على ما نسميه شرا وموتا وظلاما ~~وعدما، وليس هو فيما يحتمل إلا ظل ذلك الوجه أو السبات الذي يوده.» ~~••• # هذه هي الفلسفة التي يتعلمها مترلنك من الأزهار - كلمات الربيع - أو كلمات ~~الحياة مذ كان الربيع هو أظهر مظاهر الحياة، ولم يكن مترلنك أول من تلقن هذه ms340 ~~الفلسفة الموحاة من عقول تلك الخلائق الجميلة «وليدة الأرض والضياء»، فلقد علم ~~الشاعر العربي قبله «أن الله ليس له شريك» حين ننظر إلى العيون اللجينية على ~~الذهب السبيك، وفطن وردزورث إلى الأسرار التي تضمنتها كئوس الرياحين، وقال ~~هوراس سميث: إنه ليجد القساوسة والمحاريب والعظات في أفواه الزهر لو قذفت به ~~الهجرة إلى حيث لا تبلغ الدعوة ولا تدق النواقيس، وقال تنيسون: إنه يقبض على سر ~~كل شيء حين يضم يده على الزهرة الصغيرة، فالأزهار قديمات العهد بإيحاء الفلسفة ~~وجلاء الغوامض والتبشير بما في الطبيعة من مسرة وجمال، ولكن مترلنك لم يقصد ما ~~ذكرناه حين وصف هذه الفلسفة أو هذه الوعاظ بالعقل والحكمة والذكاء، ولا هو أراد ~~الوحي الذي نوحيه لمن يستمعون إلى رسالة الطبيعة في غيبوبة التصوف والإلهام، ~~وإنما أراد الذكاء الذي يفتق الحيلة، والعقل الذي يدبر المعيشة، والدهاء الذي ~~يسوس مصاعب الأيام، والفطنة التي تتغلب على ضرورة القيد والاحتباس في مكان ~~واحد، واستشهد بالأمثلة الكثيرة من الأزهار التي تحتال على التشرق والإطلال على ~~منافذ الضياء، والأزهار التي تحتال على العصافير والحشرات لتنقل بذورها ولقاحها ~~إلى حيث يقدر لها النماء والإنتاج، وأخبرنا بدهاء المديكاجو # Medicago # الصفراء التي كأنما علمت أن اللوالب التي تحفظ ~~بذورها لا تضمن لها الانتشار ولا يسعها أن تعهد بتوزيعها إلى الريح؛ لأنها ~~ملاصقة للتراب، فاحتالت على تلك البذور بشوكات دقاق تشتبك بالأحياء التي تأكلها ~~فتنتقل إلى مكان بعيد، ويكون لها بذلك حظ في الذيوع والحياة لم تسعد به إخواتها ~~اللواتي لم يوفقن لهذا الاختراع، وما بال اللوالب تلتف على بذور هذه الفصيلة من ~~جميع الألوان؟ يقول مترلنك: إن هذه الفصيلة الماكرة تودع بذورها اللوالب لتطيل ~~بقاءها فيها وتؤجل سقوطها ما استطاعت فيتسع الوقت لإطارتها مع الريح قبل ذهابها ~~في التراب فقد سبقت أرخميدس إلى فلسفة اللوالب، وجاءت إحدى بنات الفصيلة - وهي ~~الصفراء منهن - فسبقتهن باختراع الشوك الذي يغنيها ما ليست تغنيه ~~الرياح. # هذه الحيل والأحاييل هي التي عناها الشاعر المتصوف بذكاء الأزاهير، ولمح علامة ~~الذكاء الشامل الذي ms341 يتخلل كل شيء على حسب استعداده لإبراز ذلك الذكاء، والحق ~~أننا إذا بحثنا في الحيل التي تحتالها الكائنات كلها لتخليد نوعها، ومكافحة ~~العوادي على حياتها لم نجد بينها كبير فرق في أساسها وجوهرها؛ لأنها كلها تصدر ~~عن عادات لدنية مسوقة بسلطان قاهر لا دخل فيه للإرادة والتفكير، فإذا دخل فيها ~~التفكير كانت قد بلغت حدها، وأكملت غايتها، ولم يزدها التفكير إلا نافلة لا ضير ~~من نقصها والاستغناء عنها، فإن لم يكن كل هذا عبثا وكان فيه ما فيه من إدراك ~~وبصيرة، فنصيب الزهر لا يقل عن نصيب الحيوان بل عن نصيب الإنسان في ذلك الإدراك ~~وتلك البصيرة، ولا خلاف في ارتقاء الذكاء الإنساني إلى مرتقاه الذي يعلو به على ~~كل موجود معروف على الأرض - فتلك بديهية لا معنى للكلام فيها والتساؤل عنها - ~~ولكن الخلاف يكثر جدا - ويجب أن يكثر - حين نريد أن نقول: إن الإنسان قد ~~استأثر بالبصيرة الملهمة، وانفرد بالعقل الذي يشتمل على الفكرة والغريزة، فما ~~كان تدبير الإنسان لتخليد نوعه بمختلف فتيلا عن تدبير الزهرة لتخليد نوعها، أو ~~هو إذا اختلف بعض الشيء ففي العوارض التي تجيء بعد الأساس والجوهر، ويتفق ~~كثيرا أن تعرقل أغراض الطبيعة الخفية لا أن تزيد عليها في تحري الإنجاز ~~والإتقان. # فلنأذن لبنات الروض بعقول ترشدها إلى الخير والجمال، ولنحمد الله على أنها ليست ~~بمجنونة يطيش بها الجنون فتهلك وتفنى، ولا بعاقلة ترصد حبائل العقل للآمنين، ~~وتتخذ فتنتنا بجمالها مصائد للمطامع والآثام، ولنسعد بذكائها إن كان في الذكاء ~~سعادة! ولتبشرنا بصدق رجائنا إن صح ما توسمه فيها الشاعر المستبشر، فإن لم يكن ~~ذلك صحيحا، فأقل ما توحيه إلينا أن تبث في أبصارنا بشاشة الجمال والإقبال، ~~وتنفث في ضمائرنا أريحية الجدة والنضارة، وأن نجعلها مقياسا لحياتنا نعرف به ~~قسطنا من القوة والشعور والحرية، فقد كانت هذه الأمة أشغف الأمم بالزهر تنثره ~~على موائدها، وتضفر به شعورها، وتتقرب به إلى أربابها يوم كانت تحيا وتقتدر ~~وتعتز بسيادتها على الأمم، ثم ذبلت أزاهيرها يوم تولاها الذبول، فتبدلت ms342 ضعفا ~~من قوة، وجمودا من شعور، وخنوعا من عزة، فإذا أزهرت رياضها فتلك نفوس تنضر ~~بالحياة الكريمة، قبل أن ينضر التراب بالخمائل والأغصان. # | هنريك إبسن1 # ولد هنريك إبسن الذي احتفل العالم الأدبي بانقضاء مائة سنة على مولده في ~~العشرين من شهر مارس سنة 1828 بقرية «إسكاين» من بلاد النرويج، وكان أبوه على ~~حالة من اليسر رضية، ولكنه فوجئ بالضيق والفاقة وإبسن في الثامنة من عمره، ~~فتركوا منزلهم الأول الذي عاشوا فيه عيشة الرفاهة، وانتقلوا إلى بيت صغير في ~~أرباض القرية، ولم يحرم الطفل في هذا البيت الجديد متعة صبيانية طابت لها نفسه ~~المفطورة على العزلة، وهي حجرة علوية كان يخلو إليها ويعكف فيها على القراءة ~~فيما يصادفه من الكتب، وكانت مسرته الأخرى غير القراءة معالجة التصوير الذي كان ~~يرجو أن يتخذه صناعة لمستقبله، وهم بذلك حين خرج من المدرسة في الخامسة عشرة ~~فثناه العوز الشديد عن متابعة هذه الأمنية، واضطر أن يقضي خمس سنوات في إحدى ~~الصيدليات يكسب قوته من قليل ما يرزق، وينظم الشعر في أوقات فراغه، حتى ضاقت ~~نفسه بتلك القرية وطمح بنظره إلى العاصمة عسى أن يصيب فيها شهرة في الأدب لا ~~يتطلع إليها ملازم القرية الصغيرة، فهبط «كرستيانا» سنة 1850 ومعه قصة من الشعر ~~المرسل نظمها في ثلاثة فصول، ونشرها هناك بإمضاء مستعار فلم يحفل بها أحد، ~~واشتغل بالصحافة في عمل ضئيل قليل الجدوى، ثم تكفل له بعض الأصدقاء بوظيفة ~~أدبية في مسرح برجن فلبث في هذه الوظيفة خمس سنوات ألف في أثنائها بعض الروايات ~~ومثلتها الفرقة فلم يكن لها حظ النجاح، ولم يلبث أن انقلب إلى العاصمة حيث ~~أسندت إليه وظيفة الإدارة الفنية في المسرح الجديد الذي أقيم لمنافسة مسرحها ~~القديم، فما هي إلا فترة تزود منها بعض الخبرة في أعمال التمثيل حتى أفلس ~~المسرح ولاحقته الخيبة التي ما تكاد تفارقه منذ ولد، فلجأ إلى التصوير يتبلغ ~~بربحه القليل، واضطر إلى قبول الخدمة في المسرح القديم الذي كان ينافسه ويعاديه ~~وطرق أبواب الحكومة يلتمس منها معاشا سنويا ms343 يعتمد عليه أسوة ببعض الأدباء ~~والمؤلفين، فضنت عليه وردته مرة بعد أخرى لشدة وطأته فيما كان يكتبه عن الحكام ~~والأساليب الحكومية، ثم ضاقت به بلاده فهجرها خمسا وعشرين سنة، لم يزرها في ~~خلالها إلا زورتين قصيرتين، وخرج يضرب في الأرض بعد أن بنى بفتاة أحبها في بؤسه ~~وشظفه، ولم يبال بعاقبة هذه التبعة الكبيرة، فقضى سنوات في إيطاليا، وقدم إلى ~~مصر، وعاش في ألمانيا، ولم ينقطع عن تأليف الروايات في غربته يرسلها إلى بلاده ~~لتمثيلها على مسارحها فيصادفها القبول حينا والسخط أحيانا، ويتلقاها الجمهور ~~بنوبات من الثورة والحنق، أو نوبات من الإعجاب والغفران، وعلت شهرته بين أهل ~~وطنه بروايتين من هذه الروايات نظمهما في إيطاليا، وحلق بهما في ذروة الشعر ~~والبلاغة والقدرة الظاهرة على وصف الشخصيات وتدبير المواقف، وهما روايتا براند ~~وبيرجنت، ثم عادت الحكومة فسمحت له بالمعاش الذي طالما ضنت به عليه، وصلحت ~~الحال بينه وبين أهل وطنه في سنة 1891 فثاب إليه معززا محفوفا بالتبجيل ~~والتقدير، وكانت شهرته قد سرت إلى أوربا، وعده النرويجيون من مفاخرهم القومية ~~فاحتفلوا ببلوغه السبعين في حماسة وشمم، وأقاموا له تمثالا تجاه مسرحهم الكبير ~~بعد ذلك بعام، ثم لزمه المرض ورانت على عقله غشاوة الداء والهرم ، فلم يخرج ~~أثرا يذكر في سنواته الأخيرة ومات سنة 1906 وهو على أبواب الثمانين، فشيعته ~~الأمة والحكومة في جنازة رسمية لم يسبق مثلها لأحد من أدباء النرويجيين. # هذه ترجمة إبسن موجزة اقتبسنا معظمها من مقدمة «فاركهارسون شارب» على روايته ~~«بيت اللعبة»، وهي ترجمة تدل على صراع طويل بين الفقر واليسر، والإهمال ~~والإقبال، والحظوة والنفور. ~~••• # أما قيمة الرجل الأدبية فخلاصة القول فيها: إنه رائد المدرسة الاجتماعية بين ~~كتاب المسرحيات، وأنه كغيره من الرواد يندفع إلى الغلو والشطط، ويستنفد الجهاد ~~منه فوق ما يستنفده الخلق والإنشاء، وإذا ذكرنا الإهمال الذي أصاب الرجل في ~~حياته، والعناد الذي قوبلت به جهوده، والغربة، والفاقة، ونكاية الخصوم، والجفوة ~~التي فطر عليها لم نعجب أن نراه هادما قلما يبني، وصلبا قلما يلين، وعنيدا ~~يقابل الإصرار بمثله ms344؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن دعواه أو يصدق أن أبناء وطنه ~~ينصفون حين يرونه خلوا من كل ما يستحق الإصغاء، ولعله لم يكن يقصد كل ما قرءوه ~~بين سطوره؛ لأنه طالما شكا تعسفهم في تفسير رواياته، وكتب مرة إلى ناشر أعماله ~~على أثر ظهور رواية «بيرجنت» يقول: # علمت أن الكتاب أثار الخواطر في النرويج، وهذا لا يزعجني مقدار ~~ذرة، ولكنهم في النرويج وفي الدانمرك كذلك قد وجدوا ثمة تعريضا لا ~~أقصده، وهجوا لم أفكر فيه. فما بالهم لا يقرءون الكتاب كما يقرءون ~~شعرا؟ إنني كتبته على هذه النية، ولم تكن أهاجيه إلا كلمات معزولة ~~هنا وهناك، فإذا كان النرويجيون اليوم يبصرون أنفسهم في شخص ~~بيرجنت، فذلك شأن الشعب الصالح الذي ~~يعنيه. # ولكن ما الحكم في شأن إبسن من حيث فنه وأثره في الحياة الاجتماعية؟ أما الفن ~~فخصوم الرجل يشهدون له بالشاعرية، وجيشان الخوالج النفسية، ويعجبون بقدرته على ~~رسم بعض الشخصيات بذلك الإتقان الذي لا يعهد إلا في كبار الروائيين، ولكنه كان ~~كثيرا ما يزج بنفسه بين أشخاص رواياته فيلبسهم ثوبه، ويلقي على ألسنتهم كلامه، ~~ويعيرهم أشجانه وهمومه؛ فبيرجنت مثلا كان صورة أبيه وآس كانت صورة أمه مع شيء ~~من المبالغة والتحريف ، والمنافسة التي بين سكول وهاكون في رواية طالبي العرش هي ~~المنافسة التي كانت بين إبسن وزميله بجورنستين في عالم التمثيل، وإذا هو لم ~~يدخل حياته بين تضاعيف الرواية بلون من الألوان فكثيرا ما يجعل البطل أو ~~البطلة ألعوبة كألاعيب «خيال الظل» لترديد آرائه وإلقاء كلماته، فالأبطال في ~~رواية «الأرواح» خيالات يحرك المؤلف ألسنتها من وراء الستار وينقلها سياق ~~التفكير في ذهنه هو لا في مواقف الرواية، والعجيب أن إبسن نفسه يقول عن ~~«الأرواح» لأحد أصدقائه: «إن المؤلف لم يقف قط بمعزل عن الحركة في رواية له كما ~~وقف في رواية الأرواح»، وهذا مثل آخر على خطأ الشعراء والكتاب فيما يحكمون به ~~من مؤلفاتهم وآثارهم، فقد يدركهم فيها ضعف الأبوة، فيحبون في موضع النقص ما لا ~~يحبون في موضع ms345 الكمال. # وقد سلمت شخصيات غير قليلة من جور المؤلف، ومشاركة حياته في حياتها، وسلمت جميع ~~رواياته من تمحل الأسلوب القديم في الروايات، وتكلفه للختام الباهر، وشتاته في ~~الزمان والمكان، بل لقد بلغ به التحرز من هذا حد الوسواس، ولم تبلغه النزوة ~~القديمة إلا مرة في رواية العرش، حين رد الكاهن الخبيث طيفا ينطق بالنبوءات ~~ويستكشف العواقب، ولكنه لم يكد يسلم في رواية واحدة من آفة الإملال والفتور، ~~فلولا معونة كريمة من الناظر لما استطاع المؤلف أن يمسكه في كرسيه إلى ~~الختام. # أما المحور الذي تدور عليه روايات إبسن فلا يندر أن ينتهي على غير طائل، أو على ~~فكرة لا تطابق صدق العلم ولا صدق الطبيعة، ولا تدل في استعراضها ومرماها إلا ~~على خبل واختلاط؛ فالأم في رواية الأرواح تخاف على خلق ابنها من عدوى أبيه، ~~فتدفع عنه الخطر وتلتمس له النجاة من فساد الأحلاق، ولكن أيدري القارئ بماذا ~~تدفع عنه ذلك الخطر الموروث؟ بإرساله بعيدا منها إلى باريس ليعيش في بيئة ~~الفنانين، ويستفيد هنالك فضيلة الخلق المتين! ولما مات الأب وقفل الابن إلى ~~داره لم تمض عليه ساعات حتى غازل الخادمة في المطبخ كما كان يفعل أبوه! فتصيح ~~الأم إنها الأرواح، وإنها هي خلائق الآباء تظهر في الأبناء، كأن الوراثة نسخة ~~«مطابقة للأصل» في كل حادث وفي كل حركة، وكأن الولد لا يرث عن أبيه خلقه إلا ~~إذا غازل حيث كان أبوه يغازل بلا تصرف ولا تنويع، وكأن البيوت البريئة من عاهات ~~هذه الوراثة لا تقع فيها المغازلات بين الأبناء الشبان والبنات الخادمات، ~~ولكنها هي «هوسة» إبسن بالوراثة لا ينساها في رواية، ولا تزال أرواحها تعدو ~~وراءه إلى كل مكان. # وفي رواية «بيت اللعبة» يجيء لنا إبسن بامرأة لها ثلاثة أطفال وزوج لطيف يدللها ~~ولا يسيء إليها، وتنقضي بينهما ثماني سنوات في منزل الزوجية وهي تسرف وزوجها ~~يمدها بالمال الذي تنفقه بغير تذمر ولا سآمة، ثم إذا هي في ليلة واحدة تهجر ذلك ~~الزوج، وتهجر أولئك الأطفال، وتهجر ذلك المنزل ms346، ولا تطيق أن تبيت فيه ليلتها ~~إلى الصباح، ولا تقبل من ذلك الزوج الودود الذي لا يزال يعرض عليها المساعدة ~~إذا احتاجت إليها كثيرا ولا قليلا في يومها ولا في غدها. لماذا؟ لأن زوجها ~~اطلع على جريمة تزوير اقترفتها هي لأجله فهاله الأمر وكبر عليه أن تكون قنبرته ~~وسنجابه وعروسه إلى آخر تلك الأسماء التي كان يناغيها بها جانية مزورة! ثم زال ~~الخوف من الجناية ولكن «نورا» أي الزوجة وجدت في لمحة عين أنها يجب عليها توا ~~أن تهجر ذلك الزوج، وتهجر أولئك الأطفال المساكين، وتأبق من البيت تحت ظلام ~~الليل إلى حيث لا تدري ولا يدري إبسن! وكيف وجب عليها ذلك؟ قيل: وجب عليها ذلك؛ ~~لأنها مطالبة بفريضة عليها لنفسها غير فريضة المجتمع، وغير فريضة الأمومة، وغير ~~فريضة الزوجية، وغير كل فريضة فرضتها الطبيعة والناس على النساء، وإن المرأة لا ~~تكون وفية لتلك الفريضة حق الوفاء إلا إذا صنعت ما صنعته «نورا» وداست على كل ~~شيء في سبيل «الحرية الفردية». # ثم يجيء إبسن إنجلترا «برناردشو» فيهذي هذيانه في هذه الحكاية، ويرفع راية ~~الإنصاف لأولئك النساء المظلومات اللواتي جار عليهن الرجال؛ لأنهن يلدن ويخلصن ~~لبيوتهن وأبنائهن! ويجيء مجاذيب العلم ودراويش الفردية فيلعنون الرجال؛ لأن ~~النساء قد خلقن يطلبن الأولاد والأزواج! وما ذنب الرجال في هذا؟ قيل: ذنبهم ~~أنهم لا يؤمنون بالعلم الذي جعل النساء كالرجال في كل شيء في القرن العشرين، بل ~~سوغ لهن على هذا القول حقوق الفردية المطلقة التي لم تسوغها الدنيا قط لإنسان، ~~ولن تسوغها أبدا لإنسان ولا لغير إنسان! وحجتهم في ذلك أن العلم لم يثبت لنا ~~فرقا بين الرجل والمرأة، فلماذا أثبت الرجال فرقا بينهم وبين النساء؟ كأنما ~~العلم استطاع أن يثبت فرقا بين أعظم عظيم وأحقر حقير بطريق التشريح والتحليل، ~~أو كأنما العلم لم يثبت لنا أن الأنوثة صفة سلبية في كل حيوان، بل في كل نبات ~~ظهر فيه التذكير والتأنيث، فالأنثى في النبات لا تنقل لقاحها إلى الذكر بل ~~تنتظر اللقاح من ذكور ms347 النبات حتي يجيئها مع الريح أو مع الحشرات، والأنثى في ~~الحيوان لا تحمل إلا أن تعرض محاسنها وتنتظر من يفوز بها ممن يتنازع عليها، ~~والأنثى في النوع الآدمي تخجل من المفاتحة؛ لأنها تزري بأنوثتها وتقدح في أمس ~~صفاتها بها وأعرقها في صميم تكوينها، وهذه الطبيعة التي جعلت الأنوثة «سلبية» ~~لا تستقل بعمل إيجابي هي التي قضت على «فرديتها»، ذلك القضاء الذي لا حيلة فيه ~~لامرأة ولا لرجل، فماذا يصنع العلم وماذا يصنع القانون في حقيقة هي أقدم من ~~العلم والقانون، وأقدم من الإنسان والحيوان؟ وأي فائدة من نكران هذا القضاء ~~المبرم غير مسخ الطبيعة، وإطاشة الأحلام؟ # وربما كان من سخر الأقدار أن يكون إبسن صاحب رواية «بيت اللعبة» هو الرجل الذي ~~كان لا يأتمن زوجه على خياطة أزراره، ويأبى إلا أن يخيطها بنفسه؛ لأنه كان يعلم ~~أن النساء لا يعملن شيئا فيوثقنه حتى خياطة الأزرار! ولكن إبسن كان كما قلنا ~~رائدا يجمح كما يجمح الرواد، ويغفل عن العاقبة لاستغراقه في غمرة النزاع ~~والجهاد، فإذا ناقض نفسه وجنى على المجتمع ضررا من جمحاته فعلى الذين بعده أن ~~يصلحوه ويستدركوه، ويقفوا منه على حدود الإفراط الذي دفعته إليه الضرورة، ولعله ~~بعد لم يكن إلا علامة من علامات زمانه يقول في الروايات ما يوشك أن يفعله ~~الزمان في الحياة. # | الحقائق الشعرية1 # كيف يجب أن تفهم؟ # كل شيء نسبي، ونحن لا نعرف شيئا قط إلا بالنسبة إلى غيره، هذه حقيقة علمية، ~~وليست بحقيقة شعرية أو خيالية، يقول فيها كل قائل حسبما يغريه به حسه ~~وخياله. # فلو ولد اثنان فسار أحدهما على سرعة الأرض حول الشمس، وسار الآخر على سرعة ~~الضوء في تلك الدارة لعبر المسافة بعينها، وعمر أحدهما سنون عدة وعمر الآخر بضع ~~دقائق، وإنما يقاس عمرهما بنسبة السرعة التي يسيران عليها، ولا نهاية للتفاوت ~~بين الأشياء المتحركة في درجات السرعة. # وقد يرى النائم في لمحة عين ما لا يراه المستيقظ في أيام، فبين اللحظة التي ~~يسمع فيها النائم صوت المدفع، واللحظة التي يستيقظ ms348 فيها من نومه لا ينقضي أكثر ~~من ثوان قليلة، ولكنه قد يرى في هذه الثواني معركة أو نكبة يطول شرحها، ولا ~~يزال يخرج فيها من مأزق إلى مأزق ومن حادث إلى حادث، تضيق عنه الساعات الطوال، ~~فيرى الجيوش ويرى الصفوف ويتمثل الميدان ويستجمع فيه من حركات الكر والفر، ~~ويخترع أسباب الحرب بين الفريقين ويدخل فيها بهوى من أهوائه، ثم يباغته صوت ~~المدفع، ويخامره الخوف فيستيقظ وهو لا يصدق أن هذه المناظر كلها وردت على ~~مخيلته في أقل من دقيقة واحدة، فلو أنه وصف الثانية أو الثانيتين اللتين عبرتا ~~به وهو في تلك الرؤيا بأنها فترة طويلة من الزمن لما كان مخطئا في تقديره، ~~ولكان المخطئ هو الذي يقول له: إن الثانية أو الثانيتين لن تكونا في الزمن إلا ~~قصيرتين! # هذه حقائق العيان التي لا مراء فيها، فإذا انتقلنا من العيان إلى الخيال فليس ~~بالمستغرب أن نصف اللحظة بأنها تكون طويلة، وتكون قصيرة على حسب الخواطر ~~والذكريات التي تصاحب تلك اللحظة في النفس، ونحن على صواب في كلا الوصفين، ~~فساعة اللقاء بين الحبيبين لمحة طائرة وأبد حافل بالصور والأخيلة والمعاني ~~والخواطر، وأنت تصفها مرة بأنها عقيقة البرق في سرعة وميضها، وتصفها مرة أخرى ~~بأنها الخلود في اتصاله ودوامه، بل أنت تصف الساعة الواحدة من تلك الساعات ~~بالوصفين معا، فلا تكون على خطأ في هذا ولا في ذاك، فإذا استحضرت لهفتك عن ~~فواتها وشوقك إلى المزيد منها فهي قصيرة خاطفة، وإذا استحضرت أحاديثها، ~~وإحساساتها، وانتقالك فيها من حلم إلى حلم، ومن متعة إلى متعة، ومن خيال إلى ~~خيال وكبرت كل خيال وكل حلم وكل إحساس وكل كلمة في خلدك أضعافا مضاعفة، لم تكن ~~بك حاجة إلى اقتضاب تلك الصورة المتساوقة والخوالج المتوافقة، بل كانت حاجتك ~~إلى التمادي فيها والاستطالة لها، والإغراق في تقليبها وتوسيعها، فإذا هي أمامك ~~قصة لو أردت أن تكتبها لجاءت في مجلدات ضخام تقرؤها في ساعات بل في أيام، ~~والساعة بعد هي هي لم تختلف ولم تطل ولم تقصر ms349 إذا وقفنا في قياسها عند تلك ~~الآلة التي ترصد لتقسيم الزمان. # فليس من الخطأ إذن أن نقول في ليلة من ليالي اللقاء: # ليلة أسرعت وهل يبطئ السا # لك إلا في الحرة العوجاء # 2 # ثم نقول في تلك الليلة بعينها فضلا عن ليلة أخرى: # طالت ولا غرو فالجنات خالدة # وفي الوصال من الجنات ألوان # لأن مقياس الوقت في الإحساس - وفي الشعر الذي هو صورة من الإحساس - ليس هو ~~الساعة المركبة من حديد ونحاس، وإنما هو النفس المركبة من خيال وتصور وشعور، ~~وهذه النفس قد تنظر إلى العام فإذا هو لمحة للهفتها على فواته، وقد تنظر إلى ~~اللمحة فإذا هي دهر سرمد لازدحامها بالمنظر بعد المنظر، والخيال بعد الخيال، ~~إلى غير نهاية يحدها الحس ويقف عندها الاستحضار. # أكتب هذا وبين يدي ملاحظات لبعض الأدباء على ديوان شعري، وفي ذاكرتي ملاحظات ~~شتى قرأتها فيما مضى، وعندي رغبة في الكلام عن الحقائق الشعرية لهذه المناسبة ~~التي لا يطلب فيها البيان من غيري كما يطلب مني، فهي فرصة حسنة للإدلاء برأيي ~~في الحقائق الشعرية، وكيف يكون فهمها ومقياس صحتها، ثم فرصة حسنة لتوضيح رأي في ~~شعري لم أكن أحفل بتوضيحه لمن لا يخلصون النقل ولا يتأدبون في المقال. # من تلك الملاحظات ما كتبه الأستاذ الأديب عبد الله أفندي حبيب في زميلتنا ~~«السياسة» الأسبوعية، وأجراه مجرى الحوار بينه وبين صديق له يناقشه في بعض ~~القصائد والمعاني، وقد أشرنا فيما تقدم إلى إحدى تلك الملاحظات، ونحن مشيرون ~~فيما يلي إلى ملاحظات أخرى وردت على لسان الصديق في ذلك المقال. # يقول الصديق: قل لي بحقك هل من الشباب من يقول في ذم كتبه؟ ثم ينقل قصيدة «يا ~~كتبي» وفيها هذه الأبيات: # كم ليلة سوداء قضيتها # سهران حتى أدبر الكوكب # كأنني ألمح تحت الدجى # جماجم الموتى بدت تخطب # والناس إما غارق في الكرى # أو غارق في كأسه يشرب # أو عاشق وافاه معشوقه # فنال من دنياه ما يرغب # أو سادر يحلم في ليله # بيومه الماضي وما يعقب # ينتفع المرء بما يقتني ms350 # وأنت لا جدوى ولا مأرب # إلا الأحاديث وإلا المنى # وخبرة صاحبها متعب # فماذا في هذه الأبيات مما لا يقوله الشاب الدارس؟ بل ماذا في هذه الأبيات مما ~~يقوله الشيوخ: هذه أبيات لا يمكن أن نتخيلها منسوبة إلى شيخ في الستين، أو كهل ~~في الخمسين؛ لأن هذا أو ذاك يعلم أن زمان الغرق في الكرى والغرق في الكأس ~~وموافاة العاشق للمعشوق، والسدارة في الأحلام قد مضى وانقضى، فليست الكتب هي ~~الحائلة بينه وبين ذلك العهد، ولا معنى للنقمة عليها؛ لأنها خير ما يسليه في ~~ستينه أو خمسينه، وإنما يحق ذلك للشاب في إبان عهده، وفي بعض ثوراته على الكتب؛ ~~لأنها تحرمه صبوة الشباب ولا تغنيه عن تلك الصبوة؛ وقد نظمت هذه القصيدة قبل ~~بضع عشر سنة فجاءت في إبانها، ولكنني لا أستطيع أن أنظمها بعد بضع عشرة سنة؛ ~~لأنها تكون يومئذ كلاما في غير أوان: ويقول الصديق إن الشاعر الذي ينادي ~~حبيبه: # لا تخش إلحافا عليك فما نرى # ضوء النهار يزيد بالإلحاف # فامنح قليلك كل حين منحة # يبق الكثير وراء الاستنزاف # لا تبذلن لنا جميع رجائنا # فتذودنا عن غيثك الوكاف # من يمنح الشيء الذي ما بعده # منح يكن كالمانع الصداف # يخرج من شاعريته وعشقه إلى الفلسفة والزهادة، ويسأل: أليس أقرب إلى الفطرة قول ~~العقاد نفسه: # كن لقلبي بعض يوم ولتكن # كل يوم لك صبحا ومساء # أيها المعطي غدا عن سعة # أعط إذ أنت مليء بالعطاء # إنما اليوم لدينا كغد # وغد يا صاحبي اليوم هباء # ونقول: لا، ليس هذا بأقرب إلى الفطرة، ولكنه هو وما سبقه بمكان من الفطرة واحد. ~~وكان يجب على «الصديق» أن يقرأ قبل ذلك في القصيدة الهمزية: # طالما غبت على وعد فما # أثمر الوعد بصيف أو شتاء # ويمر الحول لا ترجع لي # رجعة الأقمار غبا أو ذكاء # ويقرأ فيها أيضا: # قال لي لما عراني فرحي # بجنون: أكذاك الشعراء؟ # ما عهدناك لجوجا نزقا # سرك الدهر بشيء أم أساء # ليعلم موقع تلك اللهفة التي لا تصبر ساعتها، ولا ترجئ يومها ms351 إلى غدها، ثم كان ~~يجب عليه أن يقرأ في الفائية قبل ذلك: # راق الأوان فهل لطالع سعده # نجم فيلمح في الضياء الصافي # لا أسأل الفلكي عنه إبانة # إن السعود تجمع الألاف # وإذا المراد من الزمان أطاعني # أمسيت لا يسع الزمان خلافي # ليعلم معنى تلك «الكفاية الروحية» التي لا تفرق من الغد، ولا تنظر في الماضي ~~والمستقبل إلا إلى أمد بعيد. بل كان يجب أن يقرأ فيها قبل ذلك: # إيها أبا الأنهار ليس بنافع # خوف التفرق والحبيب مواف # لو كان يدفع بالتوقع حادث # لرأيت في تنبؤ العراف ~~... ... ... ... ... ~~... ... ... ... ... # إني سعدت بقدر ما استرجعت لي # يا نيل من حقب ومن أسلاف # دهر قد انبسطت عليه ساعة # فاستأنفته كأحسن استئناف # وصلت حديث زماننا بقديمه # وصل الصحيفة نائي الأطراف # وبدت لنا صور العصور كأنها # رسم على صفحات مائك طاف # ومناظر القمراء أشبه بالذي # أحييت من ذكر مضين ضعاف # فالذكر والنظر العيان كلاهما # حلم بها متشابه الأفواف # ليستقر في روعه معنى تلك الكفاية الروحية التي لا تريد أن تنظر إلى شبح الفراق ~~حتى حين بدا لها الشبح في أطوار اللقاء، ولا تدع له إلا مكانا قصيا في الوهم ~~ليس ينزعج منه الحاضر السعيد، وكان يجب عليه أن يؤلف بين الأبيات كلها ليعلم ~~معنى ذلك الامتداد البعيد، الذي تناول آلاف السنين ونظر إلى الدنيا نظرة ~~الخالدين، فإنه إذا استحضر هذه الحالة علم أنها حالة لا تناسب تلك العجلة التي ~~نراها في القصيدة الهمزية، وعدها أقرب إلى الفطرة وهي ليست أقرب منها قيد ~~أنملة، بل كان يجب عليه أن يقرأ في ليلة أخرى على النيل: # مذكري بالنيل والبدر وما # بين هذين من الكون المنار # ومنحى بها عن ثغره # وهي لا تغني ولا تشفي الأوار # لا تذكرنا بما لم يأتنا # خبر عنه ولم يرفع ستار # نحن في بحبوحة الحب وهل # خلقت بعد نجوم وبحار # نحن في آزالنا الأولى وهل # غير هذا الحب في الكون مدار ~~... ... ... ... ... ~~... ... ... ... ... # فتمل الحسن منها ولتكن # لي منها نشوة تنسى العقار # وكذاك الخمر من يسكر بها ms352 # فهو عنها في ذهول بالخمار # ليعلم أن الشاعر قد يحس الإحساس الواحد في الموقف المتشابه على عدة وجوه، وأنه ~~ما دام يعبر عن الحالة ونقيضها فليس به عجز عن الشعور بإحداهما، ولكن العجز بمن ~~لا يستطيع أن يحس الحالتين، فإذا هو عبر عن الشعور في موضع، ولم يعبر عنه في ~~موضع آخر؛ فذلك لأنه يضع كليهما في موضعه من التعبير، أو لأنه لا ينبغي أن يحس ~~الشيء على نمط واحد لا يتغير، وإلا لأمكن أن نتصور آلة عدادة تقوم بوظيفة ~~الإحساس في كل موقف بالعدد المعلوم. # وانتقد الصديق هذه الأبيات: # يا للسماء البرزة المحجوبة # أعجب ما أبصرت من أعجوبة # تروعنا أنجمها المشبوبة # تهولنا قبتها المضروبة # كأنها الهاوية المقلوبة # كأنها الجمجمة المنخوبة # تهمس فيها الذكر المحبوبة # لأن «الخيال الذي يحلق بصاحبه في أجواز الفضاء في ظلمة الليل وسكونه، لا يليق ~~به بعد ذلك أن يراها كالهاوية المقلوبة؛ ثم لا يقنع بهذا وصفا فيراها كالجمجمة ~~المنخوبة، وليست الجمجمة المنخوبة إلا عظمة مظلمة ضئيلة.» # ولو تذكر الصديق أننا نقول: إن السماء تروعنا وتهولنا، ولا نقول إنها تسرنا ~~وتبهجنا لتذكر أيضا أن أشبه شيء بالروعة والهول هو وقفة الإنسان حين ينظر ~~متهيبا على حافة الهاوية، وإن فراغ السماء المظلم الرهيب - وفيه النجوم - ~~كفراغ الجمجمة التي تخيفنا وتهمس في نفوسنا بالذكر المحبوبة، أو تخيفنا لأنها ~~تهمس في نفوسنا بتلك الذكر، وهي على تلك الحالة الموحشة، وليست الجمجمة عظيمة ~~أو ضئيلة، ولكنها أهول خواء في الدنيا؛ لأنه خواء الرأس الإنساني وما فيه من ~~فكر ورجاء ومشاهد وعوالم، وهي أهول من السماء والنجوم؛ لأن السماء والنجوم بعض ~~ما تهمس به من ذكر الحياة. # وروى الأديب عن صديقه أنه ذكر هذين البيتين: # إن الجسوم مثناة جوارحها # إلا القلوب فصيغت وهي أحدان # لكل قلب قرين يستتم به # خلق وخلق فهل يرضيك نقصان؟ # ثم قال: «هل تذكر هذا ويسيغه عقلك؟ وماذا تقول في ذلك وأعيننا تشهد وتشريح ~~الأجسام يشهد أن في الجسم أعضاء كثيرة لا قرين لها مثل القلب، ففي ms353 الجسم كبد ~~واحد، وطحال واحد، إلخ.» # وقد أجاب الأديب صديقه بما بدا له، ولكنه لو شاء الاختصار لقال له: إن الجوارح ~~هي الأعضاء العوامل، وليست هي كل أعضاء الجسم الظاهرة والباطنة، وأن المقصود ~~بالقلوب هنا ما يتمثل فيه الجانب المعنوي من الإنسان، أي الجانب المقابل ~~للجسوم، وليس في الإنسان عضو يشارك القلب في هذا المعنى. ~~••• # وقد قرأت في «المقتطف» كلمة لقارئ فاضل يقول عني مما قال: «ويريك البداوة ممثلة ~~في «وقفة في الصحراء» وهو يقول: هضابك أم هذي أو أذى عيلم، ويصف الوحش ~~فيقول: # يلوذ ببطن الأرض، والأرض جمرة # خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم # فتتسامح معه في عصيانه أهل القوافي حين يزج «آدم» في بيت من هذه ~~القصيدة.» # وأنا أشكر القارئ الفاضل على الروح الطيب الذي كتب به كلمته، وأقول له: إنني لا ~~أبالي بعصيان أهل القوافي كل المبالاة، ولكنني لم أعصهم هنا؛ لأن آدم على وزن ~~أفعل من الأدمة، ولا خلاف بين أهل القوافي في جواز «أفعل» في هذه القافية؛ لأن ~~المدة هنا همزتان متواليتان، وليست بألف التأسيس التي تلتزم في كل قافية من ~~القصيدة. # ويقول القارئ الفاضل: «والديوان مليء بنظم الخواطر في الفلسفة، والحكمة، ~~والاجتماع، تكسوها شاعريته حلة نقية، إذا هي لم يهتز لها الشعور فإنها مما يطول ~~فيه التأمل، فكثير من شعره قد لا يشعل العاطفة، وإنما يطيل شغل العقل.» # وأنا أريد أن أكون موجزا ورجلا من رجال الأعمال لا من رجال النظريات في ~~مناقشة هذه الملاحظة، فأنا أسأل القارئ الفاضل أن يذكر لنا إذا شاء شاعرا ~~واحدا ينظم فيما يهتز له الشعور، ولا يطول فيه التأمل، ثم يختار من شعره الذي ~~هو رضاه في هذا الباب عشرين قطعة أو ثلاثين أو أربعين، وأنا كفيل له أن أختار ~~من شعر الديوان إحدى وعشرين أو إحدى وثلاثين أو إحدى وأربعين قطعة على مثالها، ~~ومن معدنها وأزيده إذا زاد، وحسبه، إن شاء الله، أن يخلو هو بنفسه ويتناول ~~ديوان شاعر واحد أيا كان، ويحصي ما فيه من تلك القطع ms354 التي تهزه ليقابله بعد ~~ذلك بصاحب الديوان، فهذه هي الطريقة «العملية» التي يجوز بعدها الحكم وتعصم ~~الناقد من الزلل. # ولست أشترط على الناقد شططا حين آخذه بالبحث في ديوان شاعر واحد لا أكثر؛ إذ ~~إن المرء إنما يطالب بأن يكون شاعرا واحدا لا عشرة شعراء في ديوان! فمع هذا ~~الشرط - الوحيد - أنا مستعد لسماع نتيجة البحث في ديوان أي شاعر شرقي أو غربي، ~~وليكن الباحث مخلصا في بحثه وأنا بالانتظار! # | الإيمان العلمي1 # ... قلتم في مقالكم عن عقول الأزهار إن شاعرا بلجيكيا اسمه مترلنك ~~يصف الحيل التي تحتالها الأزهار لحفظ نوعها وزيادة انتشارها، ~~ويستدل بعجائب الطبيعة على حكمة عظيمة في هذا الوجود، ولما كانت ~~هذه الأمور تحيرني كثيرا فقد أردت أن أسألكم: هل وصل ذلك الشاعر ~~بالعلم إلى الإيمان؟ وهل هو مؤمن؟ وإذا لم يكن مؤمنا فماذا ينتظر ~~من العلم حتى يصل به إلى الدين. # ي. ط. # كل ما يقال في عقيدة الشاعر البلجيكي مترلنك: إنه لا يؤمن بالأديان المعروفة ~~إيمان أتباعها بأصولها وفروعها، ولكنه يرغب في الإيمان بالله، ويكثر من الاطلاع ~~على الأديان القديمة والحديثة، كما يظهر من كتابه «السر الأعظم». وخلاصة ما ~~انتهى إليه في ذلك الكتاب وفي كتبه الأخرى أن للكون سرا لم نصل إليه، وقد لا ~~يكون في مقدرونا على حالتنا الحاضرة أن نصل إليه، ولكنه سر لا يسعنا أن نغفل ~~عنه، ولا أن نفصل بيننا وبينه، فهو محيط بنا مسيطر علينا ندرك أثره في أنفسنا، ~~وفيما حولنا، ولا ندرك كنهه، ونقترب منه في ساعات الإلهام على حسب ما عندنا من ~~الاستعداد لمقاربته، والنفاذ إلى ما وراء الستر الذي بيننا وبينه، غير أننا لا ~~نستوضحه وليس يلزمنا أن نستوضحه كل الاستيضاح لنصدق بوجوده، ولك أن تقول: إن ~~الشاعر البلجيكي يميل إلى الإيمان بوحدة الوجود، أو إلى التوحيد بين الله ~~والكون، واعتبار هذه المظاهر المحسوسة كلها مظاهر إلهية تتساوى في العظمة ~~والقداسة، وإن كنا نحن لا ندركها على السواء، ولا نزال نرى فروقا بينها في ~~تمثيل إحساسنا القاصر ms355 وفكرنا المحدود. # ولو أننا نظرنا بعين «البصيرة» لتقاربت تلك الفروق، وانطوت كلها في روح واحد لا ~~أول له ولا آخر، وليست المادية فيه بأقل من روح الإنسان، ويسهل عليك أن تعرف ~~عقيدته هذه من كلامه الذي نقلناه عنه في عقول الأزهار، إذ يقول: «ليس ههنا ~~أفراد من الخلق لها ذكاء، أو ليس لها ذكاء، ولكنما هو إدراك عام موزع في هذه ~~الدنيا، كأنه فيض ينفذ في الكائنات بمقدار ما عندها من استعداد «لتوصيل» ~~الإدراك، وعلى هذا يكون الإنسان على هذه الأرض هو مثال الحياة التي تميزت بأقل ~~ما يعرف من المقاومة لذلك الفيض الذي يسميه الدينيون بالإلهي، وتكون أعصابنا هي ~~الخيوط التي تهيأت لسريان تلك الكهرباء الأدق من الكهرباء، وتكون أدمغتنا هي ~~الأداة التي ركبت على منوالها لمضاعفة التيار، ولكنه بعد تيار لن يخالف بطبيعته ~~ولا هو صادر من ينبوع التيار الذي ينفذ في الحجر، وفي النجم وفي الزهرة وفي ~~الحيوان، وإنها لأسرار ربما كان من الفضول أن نستطلعها ما دمنا لم نرزق بعد تلك ~~الحاسة التي تستجمع أسباب العلم بها، فحسبنا إذن أن نلمح بعض مظاهر ذلك الإدراك ~~في غير أنفسنا.» # هذه خلاصة جامعة لكل ما كتبه مترلنك في العقيدة وأسرار الأديان، فهل نسميه ~~مؤمنا؟ وهل نسمي ذلك إيمانا؟ الأمر الذي لا ريب فيه أنه ليس بكافر ولا منكر ~~للإلهية، والأمر الذي لا ريب فيه كذلك أنه راغب في إيمان يطمئن إليه ويستقر ~~عليه، والأمر الذي لا ريب فيه بعدما تقدم هو أنه لم يصل إلى الاطمئنان ~~والاستقرار، ولا يزال في حاجة إلى اليقين المفصل الذي نعرفه في المؤمنين ~~بالأديان، ولكن هذا الإيمان الذي يؤمنه هو لباب أصيل لا غنى عنه في دين ولا ~~عقيدة، وهو جانب حرام لا يقع فيه الخلاف بين المتدينين، فإذا خرجوا إلى ~~التفاصيل التي تمتحن بها قوة التصديق، وقد تكون هذه القوة مستمدة من العلم ~~بالأشياء كما قد تكون مستمدة من الجهل بها، فالذي يصدقه العالم غير الذي يصدقه ~~الجاهل، والذي يصدقه الكتابي غير ms356 الذي يصدقه الوثني، وليس أسهل الناس تصديقا ~~أحسنهم إيمانا، وإلا كان العجائز اللاتي يصدقن بكرامات الأولياء، ويعتقدن أن ~~بركة التعاويذ تغلب جراثيم الأمراض بغير حاجة إلى علاج، من خيرة المؤمنين ~~والمؤمنات، ونحن لا نعدهن كذلك ولا نطلب من العالم تصديقا كهذا أيا كان ~~اعتقاده الذي به يدين، فالأشياء التي تزيد بها الأديان على عقيدة مترلنك هي ~~الأشياء التي تنشأ عن الإيمان، وليست هي الإيمان نفسه؛ لأن يقينك بالبعث مثلا ~~ليس هو الإيمان، ولكنه هو نتيجة لكونك مؤمنا بكتاب من الكتب، أو نبي من ~~الأنبياء، وهنا يقف مترلنك فلا يثبت ولا ينفي؛ لأن وسائله العلمية لم تساعده ~~على تصديق ما يصدقه المؤمنون. # وأنت تسأل: إذا لم يكن «مترلنك» مؤمنا فماذا ينتظر من العلم حتى يصل به إلى ~~الدين؟ كأنك تقول: إذا كان الرجل يؤمن بالحكمة التي دل عليها العلم في حياة ~~الأزهار، فلماذا لا يتدين وماذا يحتاج إليه المتدين غير الإيمان بقدرة حكيمة ~~عظيمة في الوجود؟ أليس هذا كفاية؟ # والذي أراه أن الأديان جميعها تقوم على شيء أكثر من الإيمان بقدرة حكيمة عظيمة ~~في الوجود، تقوم على الإيمان بصلة العطف بين الإنسان وتلك القدرة فوق الإيمان ~~بحكمتها وعظمتها وسائر صفاتها، وربما أتى على الإنسان زمان كان يؤمن فيه بآلهة ~~لا حكمة لها ولا عظمة، بل بآلهة خرقاء ظالمة تجور على الناس بغير قانون ولا ~~نظام، ولكنه لم يؤمن قط بإله خلا من صلة العطف الإنساني كيفما كان إدراكه لنوع ~~العطف الذي يرجوه عند ذلك الإله، فالشرط الأول في الدين هو التصديق بالعاطفة ~~التي بين الله والإنسان، وبأن الصلة النفسية غير منقطعة ولا يمكن أن تنقطع بين ~~إحساس الفرد، وإحساس الوجود. # هب أن دينا قام يدعونا إلى الإيمان بإله حكيم عظيم تقتضي حكمته خلق الناس ~~وتعذيبهم وإفناءهم أمما وأفرادا ثم ينقرضون جميعا؛ لكي تتم تلك الحكمة التي ~~يرمي إليها الإله، وهب أن الحكمة التي رمى إليها هي التدريج إلى خليقة أرقى من ~~الخليقة الإنسانية، تعمر هذه الدنيا زمانا ثم تنقرض كما انقرض ms357 الناس، لتخلفها ~~خليقة أرقى وأرقى، وهكذا وهكذا إلى غير نهاية أو إلى نهاية بعيدة لا صلة بينها ~~وبين رجاء الإنسان. هب أن دينا قام يدعونا إلى ذلك أتحسبه صالحا للتدين ~~والإيمان، وموجبا على الناس العبادة والصلاة والراحة التي يجدونها الآن في ~~الأديان؟ لا أعرف ما رأيك في هذا، أما رأيي فهو أن أديان الهمجية خير وأصلح من ~~هذا الدين، وأن الإله الذي يبطش بي فأقبل بطشه أو أثور عليه أقرب إلي من الإله ~~الذي يخلقني، ثم لا يخلق بيني وبينه صلة نفسية إلا كهذه الصلة التي بيننا الآن ~~وبين المادة الصماء. # إن الكون عظيم لا تحده العقول، ولكن عظمته تلك لم تغننا عن الإيمان بالله؛ ~~لأننا حين «نؤمن» إنما نطلب شيئا غير العظمة فيمن نؤمن به، وذلك الشيء هو ~~العاطفة والصلة النفسية واليقين بأن الحكمة الإلهية مرتبطة بحياة كل فرد منا، ~~وليست حكمة نضيع نحن في أغراضها ومراميها، وإذا تأملت في الكلمة التي نقلناها ~~عن مترلنك ظهرت لك هذه الحقيقة، وعلمت أنه لا يكتفي بدلائل الحكمة ولا يستغني ~~بها عن دلائل الرجاء، فالروح الشامل للحجر، والنجم، والزهرة، والحيوان، موجود ~~يتراءى له في حيث رآه، ولكنه لا يكتفي بوجوده ويستطرد إلى الرجاء فيقول: «إذا ~~كان هذا الروح مثلنا أو كنا نحن مثله، وكان كل ما يحتوي محتوى كذلك فينا، وكانت ~~وسائله وسائلنا، وعاداتنا وشواغله ودواعيه، شواغلنا ودواعينا، وآماله فيما هو ~~أرفع وأجمل هي آمالنا فيما هو أرفع وأجمل منا، أيكون إذن مناقضا للمعقول أن ~~نرجو رجاءنا هذا الذي نرجوه بالفطرة وعلى غير اختيارنا ما دام من المحقق أن ذلك ~~الروح يرجوه مثلنا؟ بل أيكون من المعقول حين نرى هذا الإدراك الموزع في الوجود ~~أن الحياة لا تعمل ما يقتضيه الإدراك ولا ترمي إلى قصد من السعادة والكمال ~~والانتصار على ما نسميه شرا وموتا وظلاما وعدما، وليس هو فيما يحتمل إلا ~~ظل ذلك الوجه، أو السبات الذي يعتريه.» # فحكمة الروح المصرف للوجود لا تغني نفوس المؤمنين عن الرجاء في «السعادة ~~والكمال والانتصار ms358 على الشر والموت والعدم» وليست الحكمة هي المقصودة دون ذلك ~~الرجاء الذي يحبب إلينا الإيمان والتدين، وتقوم عليه التضحية بحياة النوع وكل ~~ما تملكه النفوس، فلا إيمان مع القنوط ولا غنى لنا بالحكمة التي تقطع ما بيننا ~~وبين نظام الوجود، ومترلنك يترقى من القول بالحكمة إلى القول بأن رجاءنا جزء من ~~رجائها، ثم يترقى من ذلك إلى القول بأن رجاءنا إذن غير عقيم، وأن انتهاء الحياة ~~الإنسانية بالموت أمر غير معقول؛ لأنه يخالف الحكمة ويخالف الرجاء، ولكن كيف ~~تكون السعادة والكمال وكيف يكون الانتصار على الشر والموت والظلام؟ هنا تتكلم ~~الأديان ويسكت مترلنك وأمثاله؛ لأنهم يودون أن يتكلموا فلا يجدون ~~الكلام. # وعندي أن الإيمان فطرة في الإنسان؛ لأن الإيمان في صميمه هو التلاؤم بين النفس ~~وبين الوجود الذي هي مخلوقة فيه، ولن يعقل أن يكون تنافر بين موجود وبين ~~الوجود، وإنما يعترينا القلق حين نريد «التصديق» ونحتم على أنفسنا أن تصدق ~~بأمور معينة لا محيد عنها، فعند هذا يكف المرء عن التصديق بتلك الأمور، إذا لم ~~تواته الأدلة والبينات، ولكنه لن يكف عن الإيمان وفيه أمل، ولن يكف عن الأمل ~~وفيه حياة. # | الجمال والشر في الفنون1 # كان السلطان سليم أديبا ينظم الشعر ويحسن الاستماع إليه ، وكان حاكما صارما ~~لا يستجيب إلى الأدب إذا دعاه صوت السياسة، فمثل بين يديه يوما رجل مقضي عليه ~~بالموت عرف ما في نفسه من حب الأدب وتقريب الشعراء، فتوسل إليه أن يصغي إلى ~~قصيدة أعدها لاستعطافه، فأذن له في الإنشاد، وما هو إلا أن استهل الرجل أبياته ~~حتى أقبل عليه السلطان بجملته وظهر عليه الإقبال والإعجاب، وجرت عبراته على ~~خديه إلى أن فرغ الشاعر من القصيدة، وقد حدثته نفسه بالنجاة ووقف يترقب كلمة ~~العفو تنفرج بها تانك الشفتان المزمومتان، ولكن السلطان لم ينطق بتلك الكلمة ~~ولم يرجع عن قضائه الذي قضاه فيه، وقال: إنما كانت الدموع جزاء شعره وأما ذنبه ~~فلا بد له من جزاء. # ذكرت هذه «النادرة» وأنا أقرأ مقال الأستاذ طه حسين عن ms359 الحرية والفن في مجلة ~~«الجديد»، فقد تكلم الأستاذ عن بودلير، وقال في وصفه: إنه «إذا ذكر الحب ذكر ~~معه الألم والموت، وهو إذا ذكر الألم ذكر معه الحب والموت، وهو إذا ذكر الموت ~~ذكر معه الألم والحب، وهو في كل ذلك حر جريء مجازف، يتخير أبشع الصور وأقبحها ~~وأشدها تأثيرا في النفس من هذه النواحي البشعة القبيحة، وهو مادي التصور، لحسه ~~المادي أثر قوي في شعره، ولا سيما حس اللمس والشم والبصر؛ فهو يعرض عليك هذه ~~الصور البشعة التي يحسها الشم أو اللمس أو البصر في الأجسام الهالكة المتحللة. ~~و«أزهار الشر» هذه التي يشتمل عليها ديوانه أزهار فيها جمال قوي رائع، ولكنه في ~~الوقت نفسه بشع مخيف تضطرب له النفس وتشمئز في كثير من الأحيان، فهناك مسألتان ~~يثيرهما شعر بودلير: إحداهما قدمتها لك، وهي: هل للفن أن يستمتع بحريته الكاملة ~~بالقياس إلى الأخلاق والسياسة والدين وما إليها من النظم الاجتماعية؟ وجواب هذه ~~المسألة طبيعي، فأما أصحاب الفن فيقولون نعم؛ لأنهم يطالبون بحريتهم إلى أقصى ~~حدودها كما يطالب العلماء بحريتهم العلمية في أقصى حدودها، وأما الحكومات ~~والبرلمانات وحماة النظم الاجتماعية والسياسية فيجيبون: لا، وجوابهم هذا يختلف ~~باختلاف حظوظهم من المحافظة والاعتدال والتطرف، وما أرى إلا أن هذا الخلاف سيظل ~~أبدا، أما المسألة الثانية التي يثيرها شعر بودلير فأجل من هذه المسألة خطرا، ~~وأخلق منها بعناية الكتاب والأدباء عندنا، وكم أحب أن أعرف فيها رأي هيكل ~~والعقاد، وهي: هل يستطيع الفن أن يتخذ الشر موضوعا ويستخلص منه صورا فنية ~~جميلة، وبعبارة أدق وأوضح: هل في الشر جمال يصلح موضوعا للفن؟» # ذكرت قصة السلطان سليم وأنا أقرأ هذا المقال وأنتهي منه إلى هذا السؤال، فإن ~~شأني مع بودلير وأمثاله شبيه بشأن السلطان سليم مع شاعره المذنب المنحوس، أرثي ~~له وأدينه في آن، وأقرؤه وأود لو أنه لم يكتب شعره، ولم يخلق بذلك المزاج الذي ~~أوحاه إليه، فلو كنت قاضيه وسيق إلي بديوانه المطبوع وديوانه المخطوط لحذفت منه ~~الكثير، وأرسلت به إلى المستشفى ms360 أو السجن ثم أوصيت به الطبيب أو السجان، وربما ~~حرصت بعد ذلك على «ملف القضية»؛ لأنه يشتمل على ديوان المتهم! # ولكنني إذا حكمت عليه وأنا قاض في محاكم الناس فإني لأحكم له لو كنت قاضيا في ~~المقادير محتكما في قوانين الوجود، فلو جاء يستنصفني - وقد أخذ بتلابيب الحياة ~~- لأنصفته منها وألزمتها العوض مما جنت عليه؛ لأنه يستطيع أن يقول والحق كله ~~فيما يقول: «إن هذه الحياة قد جارت علي أقبح الجور، وحرمتني الأبوة وحرمتني ~~المنزل الأنيس، وحرمتني العافية وحرمتني كل لذة من لذات الطبيعة البريئة. ~~أسقمتني فبدت لي سقيمة، شاهت في عيني فلم أرها إلا شائهة، خذلت قواي فما أبقت ~~لي من بقية إلا تلك القوة التي ألعنها بها، وأصوغ الشعر في هجائها»، «وأمسيت ~~معها كأنني ملك تجري في عروقه الملتفة دماء شائخة، وتغيم على سماء بلاده ~~المواطر المكفهرة، وإنه لصبي في عمره شيخ في همومه. يعرض عن مجالس النصحاء ليقع ~~في السآمة بين كلابه وألاعيبه؛ فلا كلاب الصيد تستفزه ولا جوارحه تهزه، ولا ~~يتحرك في وجهه أثر خالجة، ولو ماتت رعاياه على باب قصره، ولن يستطيع نديمه ~~المهذار - وإن أغرب في الحيلة والدعابة - أن يطلع بابتسامة على تلك السحنة ~~المريضة الكابية. حسان البلاط اللواتي يبر بهن جميع الملوك لن يخففن بالزينة ~~الوقاح شيئا من كآبة تلك العظام النخرات، وسريره المفروش بالرياحين كالقبر في ~~غاشية ذلك الظلام، والطبيب الذي يأخذ ذهبه ينفخ في روحه على غير جدوى، ويغمسه ~~في حمام من الدماء كتلك الحواميم التي كان أبناء روما يسخنون بها عروقهم ~~الفاترات، ولكنه لن يسخن آلام هذا الميت النواضب من الدماء؛ لأن في عروقه ماء ~~أخضر من نهر النسيان # 2 # أمسيت على هذه الحالة الكريهة مع الحياة فلم يكفها ذلك حتى أسلمتني ~~إلى الشلل والجنون، ثم نبذتني إلى القبر غير مشيع وغير مأسوف علي! فإذا أنا ~~أحسنت في هجائها فهل يغمطني القضاء العادل فضل ذلك الإحسان؟ وإذا هي أوحت إلي ~~وأبنت لها عن وحيها فهل صدقت أنا أو كذبت في ذلك ms361 البيان؟» # يستطيع بودلير أن يقول ذلك لو أتيح له أن يأخذ بتلابيب الحياة إلى موقف القضاء، ~~فيكون الحكم له عليها في شريعة العدل المطلق ولا يكون لها عليه، ولا سيما وهو ~~صادق في شره، صريح في ألمه، مجيد في صراحته، يأبى أن يرائي الخير الغالب، ويرجم ~~الشر الموءود مع الراجمين، وأي شر؟ لقد خيل إلى المسكين أنه شرير خلو من الخير، ~~وما كانت ثورته الخائبة على الطبيعة إلا ضرا من ثورة الضمير على ظلم الشرور، ~~ولا كان إمعانه في النظر إلى الدمامة والقبح إلا اشمئزازا معكوسا يأخذ من ~~نفسه الكليلة مأخذ الانتقام، وإخال ستورم صاحب المقدمة التي صدرت بها أشعاره في ~~اللغة الإنجليزية قد أنصفه ولم يظلم الحق حين قال: «إنه سلك إلى الخلاص سبيله ~~السفلية» إذ لو كانت غاية الرجل من التسفل أن يصل إلى الحضيض لما برمت نفسه بما ~~هو فيه، ولكان ثمة في عنصره الذي يكون فيه الشرير كما يكون السمك في الماء. ~~ولكنه شقي بائس، ولو عقب المنصفون بكلمة واحدة على ديوانه وحياته لما كانت هذه ~~الكلمة إلا «مسكين» وإلا فأين الشر اللئيم من نفس تكره الحياة؛ لأنها لا تقدر ~~على أن تنال العطف وأن تنيله لمخلوق؟ وأين الشر اللئيم من نفس رزقت العطف ~~المزيف مرة واحدة فلم تقصر في الرحمة والوفاء ما استطاعت الرحمة والوفاء؟ وممن ~~كان ذلك العطف الذي استحق رحمة بودلير ووفاءه؟ من بغي خلاسية كانت تتودد له ~~فواساها في مرضها، وأنفق عليها في المستشفى وحفظ لها من حقوق الحب ما ليس يحفظه ~~بعض المحبين. ~~••• # أما الشر والجمال فقد اجتمعا كثيرا في الطبيعة والحياة فلماذا لا يجتمعان ~~كثيرا في القصيد وسائر الفنون؟ بل لقد كان القبح نفسه - وهو نقيض الجمال - ~~موضوعا للفنون الجميلة من شعر وتمثيل وتصوير، فلم نستغرب مجيئه في ذلك المعرض، ~~ولم يمنعنا دور القبح أو الشر الذي يمثله الممثل، أو يصوره المصور، أو يصفه ~~الشاعر، أن نعرف فيه مزية الأداء الجيد الجميل؟ وقد روي عن ليونارد دافنشي ~~المصور الباحث العظيم ms362 أنه كان يتصيد المتسولة القباح المعارف والأجسام فيسقيهم ~~الخمر ويقص عليهم النوادر المضحكة ليغربوا في الضحك ويلمح على وجوههم المنكرة ~~سرور البشاعة المخيف، فيلتقطه لتوه ويسجله في كناشته، وهو سعيد بتصويره الجميل ~~لذلك المنظر القبيح، وكان شعار التصوير في الزمن القديم: «إذا كنت لا تجد من ~~يحب أن يراك فكيف تجد من يحب تصويرك؟» أما اليوم فشعار الفنون عامة أن كل ما ~~يؤدي أداء جميلا فهو موضوع صالح للقلم والريشة والمعزف، وعلى هذا يعطينا ~~الشاعر جمالا حين يعطينا الجثة الميتة في قصيد جيد الوصف والأداء، ويفعل ~~الممثل شيئا حسنا حين يتقن تمثيل الغدر والدناءة والإثم والرذائل الشائنة لمن ~~يقارفها من الناس. # إن البركان الثائر لمن أجمل المناظر التي تتملاها العيون، وتهتز لها النفوس، ~~وهو مع هذا يهيج على المدائن فيدمرها، وعلى الأحياء فيقتلها، وعلى التماثيل ~~البديعة فيتلفها؛ فهو من هذه الناحية شر يستدفع، وبلاء لا يستطاب، فإذا قلنا: ~~إن البركان جميل فنحن لا نقول إنه جميل؛ لأنه شر يوبق ويهلك ولا يشفق وإنما ~~نقول: إن الجمال فيه معزول عن الشر في السبب والمظهر، فلو أمنا شره لخلص لنا ~~جماله، وطابت لنا رؤيته بغير تنغيص ولا حذر. # وما من شيء في الدنيا هو شر في ذاته ولذاته، وإنما يكون شرا حين يضاف إلى ~~غيره ويستعمل في موضعه. ف «الميكروبة» كما يقول أوليفر لودج: فتح من فتوح ~~الحياة حين تخلق وتتميز من المادة الصماء، ولكنها بلاء على الحياة حين تصارعها ~~في جسم حي آخر فتضنيه أو ترديه، فما بال الميكروبة إذن لا تكون جميلة إذا كان ~~لها وجود مستقل يمكن إدراكه والتأمل فيه بمعزل عن الأحياء الآخرين! # وربما كانت مسألة الشر في بعض الأحايين مسألة مقادير لا مسألة أساس ولباب. ~~فالسم قليله خير وكثيره شر، وقد يكون قليله وكثيره جميل المنظر إذا اجتزأنا منه ~~بالنظر البعيد. # وربما كانت مسألة الشر أيضا مسألة أفراد وأوقات، لا مسألة عموم ودوام، فما ~~يكون شرا لهذا يكون خيرا لذاك، وما يتقى شره في زمن قد يطلب ms363 خيره في زمن ~~سواه، فهو ليس بالقبيح على إطلاقه، وما دام كذلك فلا تناقض بينه وبين الجمال ~~ولا حرج على الفنان أن يوجه إليه ملكة الفن الجميل. # وهب أن شيئا ما لا يكون أبدا إلا قبيحا مخيفا أليس من وظيفة الفنون أن تحرك ~~فينا الشعور بالحياة، وتنبه فينا كوامن الإحساس بكل ما في هذا الوجود الذي نعيش ~~فيه؟ فالفن لا يخطئ حين يمثل الشر المخيف، والخوف في ذاته كالسرور إذا قسناه ~~بمقياس الإحساس، ولم ننظر إلى العواقب وراءه والأسباب، ولكننا إذا أجزنا للشاعر ~~أن يتخذ الشر موضوعا في بعض الأحيان لا نبرئه من تهمة المسخ والانحراف حين ~~ننظر في شعره فلا نرى فيه إلا الشر والقبح والخوف والانقباض، فنقول: إنه شاعر ~~يصف ما يحسه ويجيد وصفه وأداءه، ثم نقول إنه يحس هذا دون غيره؛ لأنه ممسوخ ~~منحرف منقوص الحظ من العبقرية والحياة. # ذلك مجمل رأيي في سؤال الأستاذ طه حسين، وهو بعد رأي يتسع فيه القول للتمثيل ~~والإسهاب. # | قضية المرأة1 # في هذا الأسبوع انقضت عشرون عاما على وفاة المصلح الكبير قاسم أمين، صاحب ~~كتابي «المرأة الجديدة» و«تحرير المرأة»، وأول من رفع صوته في الشرق القريب ~~بإصلاح المجتمع من طريق إصلاح النساء، وقبيل ذلك بأيام وصل إلي كتاب «السفور ~~والحجاب» لصاحبته الكاتبة الأديبة الآنسة نظيرة زين الدين الذي قصدت به إلى ~~«تحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي» وطلبت إلي أن «أحلل ~~الكتاب تحليلا؛ فما كان فيه خير للأمة أظهرته لها إظهارا جميلا، وما كان غير ~~موافق أشير إليه ليبدل تبديلا.» # فمقال هذا الأسبوع إذن مقدور «لقضية المرأة» وأنا أكتب في هذا الموضوع لأقول ~~كلاما مداره وفحواه أنها قضية نعرف المدعي فيها، ولكننا لا نعرف المدعى ~~عليه. # وبيان هذا أننا لا نجد المرأة مظلومة في أمة إلا كان الظلم من نصيب غيرها كما ~~هو من نصيبها، بل ربما كان نصيبها هي منه أرفق وأسلم من نصيب غيرها؛ لأن المرأة ~~لا تظلم إلا حيث يكون جهل وعسف، ولن يكون الجهل والعسف ms364 في خليقة دون خليقة وفي ~~جهة من الحياة القومية دون بقية الجهات، وقد يعصم المرأة بعض العصمة من طغيان ~~ذلك الظلم أنها تتشفع إلى ظالميها بشفاعة الأمومة والمحبة والقرابة، فيخف وقعه ~~عليها أو يمتزج بالحنان والرحمة، فتأخذ «المرأة» في حياتها البيتية بعض ما حرمه ~~النساء في الحياة القومية، وتصول الأم والزوجة والحبيبة بالسلاح الذي سلبته ~~«الأنثى» في صراع الدنيا، أما الرجال فالظلم الذي يصيبهم لا هوادة فيه ولا ~~ترفيه، والجهل الذي يصيبون به المرأة يضربهم بأيديهم في غير رحمة ولا ~~شفاعة. # لما كانت المرأة تسام الذل والهول كانت الأمم تساق إلى الطاعة والعبادة سوق ~~القطعان، وكان الدين سوط عذاب والملوك آلهة لا يعدلون في ثواب ولا عقاب، ولما ~~كان الظلم شريعة الأمم كانت ضحاياه بين النساء أقل وأهون شرا من ضحاياه بين ~~الرجال، فليس للمرأة قضية على الرجل يعدل فيها هو أو يظلم كما يشاء هواه، وإنما ~~الرجال والنساء أصحاب قضية واحدة يشكون فيها الطبيعة تارة والشريعة تارة أخرى، ~~والجهل والفاقة والجمود والمصادفات تارات أخريات، وإذا حكم في تلك القضية لأحد ~~الفريقين فقد حكم للفريقين معا وخرج الرجال والنساء فائزين من الخصومة! لأن ~~الرجل لن يعرف الإنصاف إذا جهلته المرأة، والمرأة لن تسعد بحق تجور به على حقوق ~~الرجال. # يعجبني من كتاب «السفور والحجاب» أدب جم، واعتدال محمود، ولكني لا أدري لماذا ~~شاءت الآنسة الأديبة أن تجعل مسألة المرأة مسألة دينية تحل بالمناقشة في ~~أقوال الفقهاء، وليست مسألة طبيعية اجتماعية تحل بالرجوع إلى قوانين الفطرة ~~وشريعة الحياة! وأنا أقول: لا أدري لماذا شاءت ذلك؟ ولعلني أدرك السبب وأعذرها ~~فيه، فإن الجامدين من رجال الدين كانوا ولا يزالون - في سوريا على الخصوص - هم ~~أقوى خصوم المرأة، وأعنف المنكرين لما تنشده من نهوض وتعليم، ولكن أقول مع هذا ~~إن أولئك الجامدين لن يتغيروا بالمناقشة والدليل، وإنه إذا جاء الوقت الذي يصبح ~~فيه الدليل مقبولا تسيغه عقول لا يحجبها الجمود ولا تشلها العادات، فقد جاء ~~الوقت الذي يصبح فيه الدليل نافلة لا تقدم ms365 ولا تؤخر، ويصبح الجمود خصما ضعيفا ~~لا يحسب له حساب: وخير ما نزكي به كتاب «السفور والحجاب» أنه سيعين على تقريب ~~ذلك اليوم ويبلغ أثره من عقول الناشئة البريئة وهي في موقفها بين الجمود ~~والحرية تنتظر من يدفع بها في هذا الطريق ويعدل بها عن ذاك. # وما الذي تنشده المرأة الشرقية؟ إذا كانت تنشد التعليم والحرية التي ترفعها عن ~~مكان السفيهة المحجور عليها طول حياتها، والتي تليق بأمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا، ~~فعجيب وايم الحق أن يوجد في الناس من ينكر عليها هذا الأمل، ويزعمه مطلبا يطول ~~فيه الخلاف وتتباعد الآراء! والذي يلوح لنا من كتاب «السفور والحجاب» أن صاحبته ~~المهذبة لا ترمي إلى أبعد من ذلك ولا تريد إلا أن تقيم الدليل على أن الحجاب ~~المطلق «أمنية» لا وجود لها في عالم الواقع إذا نظرنا إليها كأنها العاصم من ~~الغواية والمانع من الرذيلة، وإن سفورا لا يسف إلى التبذل خير من حجاب لا يعصم ~~رجلا ولا امرأة، وما عصم قط النساء والرجال في عصور الخالفين ولا في عصور ~~المتقدمين، وأراها بليغة موفقة حين تقول: «ليت شعري هل يخطر في البال أن في ~~العالم سافلا ينظر إلى محارم غيره نظرة سوء ومحارمه إلى جانبه؟ أو لا يخطر ~~ببال الرجل حينئذ مهما كان دنيئا أن نظرته السيئة إلى محارم غيره إذن ضمني منه ~~لغيره في أن ينظر إلى محارمه مثل نظرته تلك؟ وهل تخافون يا سادتي خورا في ~~نفوسكم ومروءتكم وآبائكم وآدابكم إلى هذا الحد، فنجتنب مثل هذه الاجتماعات ~~الشريفة ونحن ندعي أننا أشرف الناس؟» # وسواء سمينا ما في الكلام من الإقناع بلاغة أو حقا، فالأمر المشاهد الغني عن ~~البرهان هو أن الحجاب كما يتخيله الجامدون لم يتحقق قط في زمن قديم ولا حديث، ~~وأن الدول الإسلامية الغابرة - كالدولة العباسية في الشرق والدول الأندلسية في ~~المغرب - قد بلغت فيها الحرية حد الإباحة لأنها أخذت شر ما في الحجاب وشر ما في ~~السفور، وغلبتها قوانين الحياة فواجهتها برياء يتردد بين الحجاب والسفور، ولم ~~تواجهها ms366 بصراحة سافرة وطبع مستقيم؛ فالحجاب على ما يتخيله الجامدون وهم لم يوجد ~~ولن يوجد ولا فائدة من المغالاة في التعلق به غير هذا العوج الذميم، الذي تبتلى ~~به العقول والأخلاق من مغالطة الحقيقة، وهي لا تغالط إلى زمن طويل. ~~••• # على أن في كتاب الآنسة الأديبة فصلا في سياق فصول كثيرة عنوانه «المرأة أصلح ~~من الرجل في الفطرة عقلا. هو يرجحها بالقوة الجسدية، وهي ترجحه بالنفس العاقلة ~~المرضية» ويجري كل ما في هذا الفصل على المعنى الذي ينطوي في عنوانه، ومؤداه أن ~~المرأة أسلم فطرة، وأسمى روحا، وأصح عقلا، وأن الرجل أقوى جسدا وأصلب ~~مراسا، وأنه ما تغلب على المرأة وحرمها العلم والحرية إلا بهذه القوة ~~الجسدية. # فلو كان كل ما في هذا الفصل أنه تسلية تقال أو «تحية صالون» لما كان فيه من بأس ~~ولا كان غريبا عما قاله الرجال، ويقولونه من تحيات وصلوات رفعوا بها المرأة ~~إلى سماء الأرباب والملائكة، ومنحوها السيادة والسلطان على القلوب والعقول ~~والأجسام، ولكنه تحية قد تنقلب إلى عقيدة وعقيدة قد تنتهي إلى مزاعم لا تريح ~~المرأة ولا تريح الرجل، ولا تمضي على سواء الفطرة ومطالب الاجتماع، فماذا ~~يضيرنا أن نخرج من «الصالون» قليلا إلى محراب الحقيقة؟ بل ماذا يضيرنا أن ~~نستبقي قانون الصالون هنيهة لنحيي به الحقيقة وهي «سيدة» أيضا! وهي أكبر من ~~جميع «السيدات» في السن وأولى منهن بالمجاملة والتمليق؟ # إن الامتياز بالفطرة والروح لا بد أن تكون له سمات ظاهرة، ولا تخرج هذه السمات ~~عن عالم الواقع أو عالم الفنون أو عالم العلوم، وفي جميع هذه العوالم لا نرى ~~أثرا لامتياز المرأة على الرجل بالفطرة المبدعة والروح السامية والعقل السليم، ~~بل نرى على نقيض ذلك أن الأديان والفلسفات والجمال الذي يبتكره الشعراء ~~والمصورون، والمعارف التي يستنبطها العلماء، إنما كانت من عمل الرجل وحده أو ~~كان حظ المرأة منها أقل من القليل، ولا يقال: إن الرجل قد غلب المرأة بقوة جسده ~~فحرمها الابتكار في الأديان والفنون والعلوم، وانفرد بمزايا الفكر والنفس لأنه ~~أقوى ms367 في الجسد وأصلب في الرأس، فإنه ما كان ليغلبها لو كانت كل ميزته عليها قوة ~~جسده وصلابة مراسه، وما كان ضعفها أو أسرها ليمنعها الإبداع في الفن كما أبدع ~~فيه العبيد الأرقاء من الرجال المستضعفين، وهل يتساوى الآن أبرع الطهاة وأبرع ~~الطاهيات في الأجر والتفنن والإتقان؟ كلا! وذاك مع أن المرأة صاحبة هذه الصناعة ~~منذ وجدت، والرجل واغل فيها لا يشتغل بها إلا في الأحايين. # لا يا سيداتي! إن فضيلة المرأة الكبرى أنها متممة للرجل، وليست بمنافسة له في ~~ميادين العمل والجهاد، وإنها لن تتممه بصفات العمل والجهاد، وإنما يتم هو بها، ~~وتتم هي به إذا قابلته بصفات غير هاتيك الصفات: بالحنان والرحمة، والعزاء ~~والاستجاشة، التي تحيي فيه الرجل وتحيي فيها المرأة، وتبلغ بهما معا أقصى ~~التمام، وما برحت نهضة المرأة بخير ما طلبت حقها وعرفت أن حقها هذا لن يناقض ~~حقوق الرجال، أما حين تطلب الحرية لتتحدى بها الرجل وتتمرد عليه، فهي فاشلة، ~~وهي خاسرة، وهي نادمة في خاتمة المطاف. # إن نهضة المرأة في العالم لم تخل من نقمة تميل بها إلى التمرد والمناجزة، وتلقي ~~في بعض النساء الجامحات أن العناية بمرضاة الرجل مهانة لا تليق بالحرائر ~~الناهضات، كأن الرجل لا يعمل لمرضاة المرأة ولا يشغل باله بالتجمل لها والظفر ~~بحبها وإعجابها، وكأن المرأة لا تكون حرة إلا إذا كانت «رجلا» تلبس كما يلبس ~~الرجال وتصنع ما يصنعه الرجال، ولا تدع لهم من فضل إلا تطاولت إليه وادعت ~~القدرة عليه، وهي لا تكون رجلا ولا تود أن تكونه، ولا هي تعني نفسها بمحاكاته ~~إلا من قبيل «البروز» الذي هو ضرب من الزينة وطبيعة راسخة من طبيعة ~~الأنوثة. # كذلك نمقت الحرية التي تجني على حياء المرأة؛ لأننا لا نفهم معنى الأنوثة بغير ~~معنى الحياء، فكل أنثى حيية مستعصمة حتى في النبات وحتى في الحشرات وحتى في ~~الحيوان، وكل أنثى تقوم في حرم من الأنوثة لا تعوضها منه الحرية ولا السرور، ~~فالرجل لا تقتل رجولته الحرية التي يسعى بها إلى المرأة ms368، ولكن المرأة تقتل ~~أنوثتها وجمالها كل حرية تجني بها على طبيعة الخفر والحياء. # وكتاب «السفور والحجاب» ينشد الحرية المصونة، ويدعو المرأة لتصبح امرأة كاملة ~~لا لتصبح رجلا في كل شيء، فهو دعوة مباركة ونداء رخيم مسموع، وهو خليق أن يكون ~~حجة من أجمل الحجج في قضية المرأة الناهضة، بل في قضية الرجال والنساء على ~~أسباب الجهل والجمود، وإنها لقضية ناجحة لا محالة، ولا يكون نجاحها في نهاية ~~الأمر إلا نجاحا لهؤلاء وهؤلاء. # | هل يكفي الأدب العربي لتكوين الأديب؟1 # وجه إلي الأديب اللبدي في عدد الأسبوع الماضي هذا السؤال الذي تحاور فيه ~~الأستاذان هيكل ومطران في إحدى مساجلات الجامعة المصرية وهو: «هل الأدب العربي ~~قديمه وحديثه يكفي وحده لتكوين الأديب أو لا يكفي؟» # والذي أظنه أن السؤال على هذه الصيغة يحتاج إلى تتمة وتقييد؛ إذ ينبغي أن نعرف ~~قبل الإجابة عنه: من هو الأديب الذي يراد تكوينه؟ أهو الشاعر أو القصصي أو ~~المنشئ الناثر أو الناقد الباحث في مقابلات الآداب، أو المشارك في جميع هذه ~~الفنون؟ فالأدب العربي قديمه وحديثه يكفي فيما أرى لتكوين الشاعر والقصصي ~~والناثر المنشئ، ولا يكفي الناقد الباحث في مقابلات الآداب؛ لأن هذا البحث ~~يستلزم الإحاطة بأكثر من أدب واحد، وحكم العربية في هذا كحكم اللغات الأخرى ~~التي يقاس بعضها على بعض، ولا يتأتى تعميم الرأي في آدابها واستخلاص القواعد ~~منها إلا بعد النظر في جميعها. # أما الشاعر والقصصي والمنشئ الناثر ففي الأدب العربي قديمه وحديثه كفاية لهم من ~~زاد اللغة لو أسعفتهم السليقة، وأحسنوا الفهم والاستقراء؛ لأننا لا نظن ~~اليونانية التي نظمها هوميروس، والإنجليزية التي صنف فيها شكسبير، والإيطالية ~~التي اتخذها دانتي، كانت أوسع نطاقا وأغزر لفظا وأكثر علوما من هذه العربية ~~التي تلاقت فيها الروافد من لغات اليونان والفرس والهنود والإفرنج، وكل أمة ~~خالطها العرب، وما استعان هوميروس أو شكسبير أو دانتي بعلم أوفر من العلم الذي ~~يتاح لقارئ العربية في هذه الأيام، فإذا ظهر في الناطقين بالعربية من له سليقة ~~هؤلاء الشعراء، وصدق بداهتهم ms369، وجودة تعبيرهم فقد يعالج بعض الصعوبة في تذليل ~~البحور لمعانيه، وتمهيد الأفكار لطريقته، ولكنه يقول ما عنده ولا يقل ما يقوله ~~عن مرتبة الكلام في آثار أولئك الشعراء. # ولكن ما يستطيعه شكسبير لا يستطيعه كل أديب، فقد ينظم الشاعر الشعر الجيد في ~~غرض من الأغراض فيستحق أن يسمى الأديب، وأن يكون علما من أعلام الأدب في طبقته ~~وبابه، ولكنه لا يكون شكسبير إلا إذا ارتقى إلى مقام الأديب العظيم والمفرد ~~العلم في جميع الطبقات، ولا يرتقى ذلك المرتقى حتى تزدحم نفسه بذخائر الحياة ~~وتجيش قريحته بعباب الأفكار والبدائه، فإذا هي منصبة على اللغة وإذا اللغة في ~~ذلك الأتون الملتهب أطوع له من الحديد المذاب في يد القين القدير، فالأديب ~~العظيم لا غنى له عن عبقرية كعبقرية شكسبير، أو عن اطلاع واسع في جميع اللغات ~~يقوم له مقام المنظار حين ينحسر النظر المطبوع عن الأمد البعيد، أما «الأديب» ~~الذي يقنع بحصة في الأدب يستحق بها هذا اللقب فحسبه أية لغة يكتب فيها الكتاب ~~وينظم الشعراء؛ ولا حاجة إلى العبقرية النادرة ولا الاطلاع الواسع ليبلغ ذلك ~~النصيب. # نعم إن في اللغات الأوربية عبارات لا يسهل نقلها إلى العربية بقوتها وطلاوتها ~~ونفاذ معناها وبلاغة إيجازها، فإذا نظرنا إلى هذه العبارات بدا لنا أن ملكة ~~التعبير في الأديب لا تكمل ولا تستوفي صقلها وتدريبها، إلا إذا عالجت تلك ~~العبارات وتطرقت إلى سرها واقتبست من سحرها وعرفت مخارجها من الأفكار، ومواقعها ~~في الأسماع، ولكنك تستطيع أن تقول مثل ذلك في اللغة العربية وأن تهتدي فيها إلى ~~شذرات وأبيات لا ينقلها أبلغ الناقلين إلى الأوربية إلا تعثر به الجهد دون ~~شأوها من البلاغة والعذوبة، فهنا تتعادل الكفتان بين اللغة العربية واللغات ~~الأخرى، أو تفترقان ولكنه في فرق المقدار لا في اللباب. # وسبب هذا الفرق مستسر في النفوس والأفكار لا في الألسنة والكلمات فالأوربيون قد ~~دربوا على فنون من الإحساس والتفكير لم يألفها المتكلمون بالعربية، فكثرت في ~~لغاتهم دلالتها واحتالوا فنجحت حيلتهم في التعبير عنها، فلو أنهم ms370 نشئوا على ~~الكلام باللغة العربية لصقلوا فيها تلك المعاني، وطبعوا فيها تلك الصيغ ~~والأساليب، ولو أن العرب نشئوا على الكلام باللغات الأوربية وهم مقتصرون على ~~إحساسهم وتفكيرهم لوقفوا بها عند موقفهم من اللغة العربية، وماذا تصنع اللغة ~~إذا كانت العلة في الإحساس والتفكير؟ دع الشاعر العربي يحس ويفكر كما يحس ~~الشاعر الأوربي ويفكر، وأنت تراه يكتب بالعربية كما يكتب صاحبه بلغته الأوربية، ~~ودعه على منهجه من إحساس وفكر وأنت لا تراه يكتب حرفا من ذاك ولو جمعت بين ~~شفتيه لغات الأولين والآخرين، فالاطلاع على اللغات الأخرى لا يفيد الأديب ~~كثيرا إذا نبا به الذهن والشعور، والاكتفاء باللغة العربية لا يضيره كثيرا ~~إذا اتسق به ذهنه واستقام شعوره، ولا خلاف في أن الاطلاع وسيلة من وسائل ~~التثقيف والتقويم، وأن الأديب العربي الذي يعرف الفرنسية يقرأ ويفهم ما ليس ~~يقرؤه ويفهمه الذي يجهل تلك اللغة، كما أن الأديب العربي الذي يعرف الإنجليزية ~~يطلع على أشياء غير التي يطلع عليها عارف الفرنسية، وكما أن الأديب الإنجليزي ~~الذي يعرف العربية تتسع له منادح للقول لا تتسع لمن يجهلها؛ فإذا كان المراد أن ~~زيادة الاطلاع على اللغات الأوربية تزيد الأديب في الدرجة ووسائل المعرفة، فهذا ~~كما قلنا لا خلاف فيه، أما إن كان المراد «التكوين» في أي درجة تتفق له فلا ~~مانع من أن يكون أديبا ولا زاد له غير محصوله من الأدب العربي قديمه وحديثه. ~~وربما أعاننا على حصر البحث وتقييد الجواب أن نسأل السؤال على هذه الصيغة: هل ~~يبلغ الأديب أقصى شأو الأدب وهو لم يطلع على غير اللغة العربية؟ والجواب أنه ~~يبلغه إذا أسعفه طبعه، ولا يبلغه إذا خذله الطبع ولو اطلع عل جميع اللغات، وأنه ~~إذا كان فيه مستصلح ومستزاد فأحرى بسعة الاطلاع أن تهيئه للصلاح ~~والزيادة. ~~••• # وبعد، فهل هذا الذي عناه السائلون والمستمعون بمناظرة الجامعة المصرية؟ يخيل ~~إلينا من كلام الأستاذين المتناظرين، ومن مذاهب المتشيعين لكل فريق أن الذين ~~اطلعوا على محور المناظرة إنما انتظروا أن يكون الخلاف في شيء ms371 آخر غير ظاهر ~~السؤال وهو: هل اللغة العربية لغة قائمة على نفسها، مكتفية بذاتها، لا تحتاج ~~إلى مزيد من اللغات الأجنبية عنها؟ وهنا لا محل للخلاف ولو على سبيل الجدل؛ لأن ~~اللغة العربية في هذه الصفة كسائر اللغات الكبيرة ما خلت قط ولن تخلو يوما من ~~إضافة أجنبية في المفردات والمعاني والتراكيب، وقد أعجبتنا كلمة للدكتور يعقوب ~~صروف نشرها المقتطف في عدده الأخير يقول فيها ذلك العالم الخبير بمصاعب الترجمة ~~والتعريب: «إن مميزات اللغات ليست قائمة بما فيها من الأسماء والأفعال بل بما ~~فيها من حروف المعاني، وأساليب التصريف والاشتقاق وتركيب الجمل. أي بصرفها ~~ونحوها وبيانها، ففي اللغة التركية ألوف من الكلمات العربية، وقد تقرأ سطرين ~~فيها مؤلفين من عشرين كلمة فتجد فيها عشر كلمات عربية، ومع ذلك يبقى الكلام ~~أمامك تركيا مغلقا لا تفهمه ما لم تتعلم اللغة التركية؛ لأن تصاريفها ~~وتراكيبها وحروف المعاني فيها غير ما هي في العربية، وكل ما دخل التركية من لغة ~~العرب لم يصرفها عن كونها تركية، ولا حط من منزلتها بل زادها غنى وزاد أهلها ~~مقدرة على التعبير عن المعاني، ومثل ذلك اللغتان الإنجليزية والفرنسية، فإن ~~فيهما عشرات الألوف من الكلمات التي تشتركان فيها ومع ذلك فكل لغة منهما مستقلة ~~عن الأخرى تمام الاستقلال. # ولقد دخل العربية قبل جمع معجماتها كثير من الكلمات اليونانية والقبطية ~~والفارسية والسريانية، فلم يغض ذلك من كرامتها واستمر الدخيل يضاف إليها حتى ~~الآن، ويستحيل أن ينقطع ما دامت اللغة حية، والمتكلمون بها يخالطون غيرهم من ~~أهل اللغات الأخرى.» # فزيادة اللغة ونماؤها علامة الحياة، واكتفاؤها وركودها علامة النواء والفناء، ~~والعجيب أن يستدل أحد بالقرآن لينقض هذه البداهة وهي لا تؤيد بدليل كما يؤيدها ~~القرآن، ففي الكتاب كلمات دخلت إلى العربية من الفارسية واليونانية وغيرها ~~كالإبريق، والإستبرق، والفردوس، والدرهم، والقنطار، وكلمات وضعت لغير معناها ~~عند العرب كالصلاة، والزكاة، والإسلام، والحنيف، وقصص لم يروها العرب إلا عن ~~الشعوب الآخرين، وألفاظ لم تلتزم فيها قواعد الصرفيين والنحاة، وفي ذلك دليل ~~على حاجة ms372 اللغة العربية إلى غيرها، وعلى أن الحياة الجديدة حيثما نجمت نجم معها ~~تعبير جديد، فمن هو العربي الجاهلي الذي كان يفهم الزكاة كما نفهمها الآن؟ وكيف ~~كان الإسلام يعبر عن معانيه إذا ظل العرب لا يفهمون من كلماتهم إلا ما كان ~~يفهمه الجاهليون؟ وإذا كان جديد الإسلام لم يستغن عن جديد الكلام، فما أحوج كل ~~جديد إذن إلى تجديد المفردات والتراكيب؟ # كل هذا لم يكن به من غرابة عند العرب الجاهليين ولا عند المسلمين في إبان ~~الدولة الإسلامية، ولم نسمع اعتراضا عليه ولا توجسا منه في أشد نوبات العصبية ~~القومية والغيرة الدينية، وإنما اشتد هذا التوجس في عهد الضعف والجمود قبيل هذا ~~الجيل كما قلنا في مجلة الجديد: «ترى لو كانت الدولة الآن في العالم للأمم ~~العربية أكان يفزع الجامدون من الجديد فزعهم هذا الأخرق العقيم، ويبالغون في ~~خطره على اللغة مبالغتهم التي ملكت عليهم أسباب التفكير الصحيح؟ أكانوا يحسبون ~~أن كل كلمة جديدة أو عبارة مودية باللغة وقاضية على فصاحتها وبلاغتها وآتية لها ~~ببدعة لم يسبق السابقون إليها! لا نظن ذلك، فقد أدخل العرب في لغتهم أيام قوتهم ~~وغلبتهم مئات من أسماء الثياب، والأثاث، والعلوم، والمخترعات، غير خائفين على ~~اللغة ولا وجلين من عواقب هذه التوسعة؛ لأنهم كانوا يأخذون تلك المفردات من أمم ~~أضعف منهم بأسا وأقل منهم شأنا، بل من أمم تدين لهم بالطاعة وتدخل في حوزة ~~سلطانهم الكبير، ولم يكن في ورود تلك الزيادة معنى الإغارة المخيفة والسطوة ~~الخارجية، وإنما كانت كالجزية يأخذه السيد المعتز بنفسه الواثق بيومه وغده من ~~عبده الذي يخدمه بلغته كما يخدمه بكل شيء عنده، ولولا ذلك لكان عرب الأمس من ~~جامدي اليوم بالغيرة على لغتهم من الطوارق الأجنبية، ومدافعة المفردات ~~والأساليب الغريبة التي تسربت إليها.» # | عود إلى الشر والجمال1 # ... قرأت مقالك الأخير «الجمال والشر في الفنون» ردا على الأستاذ ~~طه حسين، وكنت من قبل أعرف نظرتك إلى الحياة تلك النظرة الفنية ~~الصادقة، وكنت أيضا أعرف تقديسك للحرية والجمال، وأعتقد معك بأن ~~الجمال ms373 حرية، ولذلك تنبأت قبل أن ينتضح قلمك بالكتابة عن علاقة ~~الشر بالجمال، وتنبأ معي تلاميذك الذين يهديهم أدبك في طريق الجمال ~~والحرية والاستقلال بما يكون عليه رأيك، وقد صدقت النبوءة، وجاء ~~رأيك صورة صادقة من صور نفسك التي تمثلها تلاميذك أحسن ~~تمثيل. # وإذا كانت كتابة سيدي الأستاذ تنسي القارئ نفسه أثناء القراءة، ~~فإنه لا ينشب أن يعود إلى نفسه فيطيل التفكير والتأمل ~~والتخييل. # ذكرني مقالك الأخير بمقال آخر في كتاب «المراجعات»، وهو الاعتراف ~~بالعيوب، فلم أستطع المواءمة والملاءمة بين المقالين، ذلك أنك وصلت ~~في هذا المقال إلى النتيجة الآتية: «لنا أن نعرف الطبيعة ~~الإنسانية، ولكن علينا ألا ننسى أن الإنسان لم يصعد في سلم الخلق ~~إنسانا ليظل حيوانا في كل شيء، ولنا أن نعترف بالشهوات والعيوب، ~~ولكن علينا ألا نتخذ من هذا الاعتراف نشيدا نتغنى به غناء ~~الافتخار، ونحرق حوله بخور البشرى والانتصار» فكيف نوفق إذن بين ~~إنحائك باللوم العنيف على كتاب الواقع والطبيعة، وهم يكتبون عن ~~الشهوات الشيطانية ويخرجونها من قماقمها لينتزعوا منها صورا فنية ~~جميلة، وبين ردك على سؤال الأستاذ طه حسين في أن الكتابة عن الشر ~~والقبح حسنة جميلة إذا كانت فيها مزية الأداء الجميل؟ # زكريا ميخائيل # كلية الآداب - الجامعة # أرى أن الطالب الأديب قد كان في غنى عن الرجوع إلى مقال «الاعتراف بالعيوب» في ~~كتاب المراجعات؛ لأن ما ذكرته في ذلك المقال قد أعدت ذكره بمعناه عند الكلام ~~على «الجمال والشر في الفنون»، ولم أستحدث في هذا الموضوع رأيا غير الذي رأيته ~~من قبل في «الاعتراف بالعيوب». فأنا لا أخرج شعر بودلير من الفن؛ لأنه يصف ~~الجثث والمناظر المنكرة فيحسن الوصف ويصدق في التعبير، ويرعى الأمانة في ~~الشعور، ولكني لا أبرئه «من تهمة المسخ والانحراف حين أنظر في شعره فلا أرى فيه ~~إلا الشر والقبح والخوف والانقباض»، فهو شاعر يصف ما يحسه ويجيد وصفه وأداءه، ~~ولكنه ممسوخ منحرف منقوص الحظ من العبقرية والحياة. بل لقد قلت إنني أقرؤه وأود ~~لو أنه لم يكتب شعره، ولم يخلق ms374 بذلك المزاج الذي أوحاه إليه، فلو كنت قاضيه ~~وسيق إلي بديوانه المطبوع وديوانه المخطوط، لحذفت منه الكثير وأرسلت به إلى ~~المستشفى أو السجن، ثم أوصيت به الطبيب أو السجان. # فكل ما في الأمر أنني لا أستطيع أن أقول في كلام بودلير وأمثاله إنه ليس بشعر؛ ~~لأنه في الحقيقة شعر بليغ صادق الوصف، حسن الأداء، وأيا كان رأيي في المثل ~~الأعلى والأخلاق فليس في قدرتي ولا هو من حقي، ولا هو مما يطابق نظرتي إلى ~~المثل الأعلى والأخلاق أن أجيء إلى كلام فني فأخرجه من سلك الفنون، أو أن أخلط ~~بين مقاييس البلاغة ومقاييس الأخلاق. # كان بعض الدعاة الدينيين - ولا أريد أن أذكر اسمه هنا - دميما قميئا، رث ~~المنظر، مشوه الوجه بالدمامل والثآليل، سليط المقال، لا يكف عن اللعن والوعيد، ~~فلو حكمت على ذلك الداعية بمقياس الجمال لاستقذرته وأعرضت عنه، ولو حكمت عليه ~~بمقياس الشريعة في بداية ظهوره لقضيت عليه بجريمة العبث بالعقائد المرعية، ~~والثورة على النظام، ولو حكمت عليه بمقياس التاريخ والخير لعرفت له فضائله، ~~ورفعت قدره، وأغضيت عن حكم الجمال وحكم النظام، فماذا تقول في الناقد الذي ينكر ~~على ذلك الداعية رسالته في الدين، ومواعظه في الأخلاق لقبح منظره وسلاطة لسانه؟ ~~وماذا تقول في الناقد الذي ينكر عليه تلك الرسالة؛ لأن قانون زمانه كان يدينه ~~بالثورة والعصيان، إن الذي تقوله في هذا الناقد هو الذي يجب أن تقوله في ناقد ~~يزعم عن بودلير أنه ليس بشاعر ولا صادق في الوصف، ولا بليغ في الأداء؛ لأنه لم ~~يكن على سجية نرضاها في قوانين الأخلاق، وإذا كان حبك للخلق الكريم لا يبيح لك ~~أن تصف الداعية الديني بجمال الجسم، وملاحة التقاسيم، فحري بكراهتك للخلق ~~الدميم ألا تبيح لك نكران البلاغة على شاعر بليغ؛ لأنه لم يكن على خلق كريم، ~~ولا سيما إذا كان ذلك الشاعر لا يكذب ولا يزيف، وليس يصف للناس إلا ما هو صادق ~~في إحساسه موفق في أدائه. # محكمة النقد محكمة كثيرة القضاة كثيرة القوانين، لا يجلس فيها ms375 قاض واحد ولا ~~تدين بقانون واحد، وكأنها محكمة الخلود عند قدماء المصريين قضاتها أربعون، ~~وميزانها لا يفرط في كبير ولا صغير، ولو أنك نقدت وحشا كالنمر لتعددت النظرات ~~إليه، وتباينت الأحكام عليه، فاحكم عليه بقانون الزارع الضنين بخرافه وأبقاره ~~تقض عليه برصاصة قاتلة، واحكم عليه بقانون عالم الحيوان تره جديرا بقفص ~~الصيانة وطيب الطعام، واحكم عليه بقانون المصور تنفق وقتك في رقابته وتمثيل ~~حركاته وألوانه، واحكم عليه بقانون الشاعر يرعك بأسه وضراوته ويعجبك زئيره ~~وانفتاله، واحكم عليه بقانون التاجر تقدره بقيمة جلده في سوق الصناعة ~~والزينة، واحكم عليه بقانونه هو تجده على حق حين يلتهم الفرائس، ويهجم على ~~الناس، ولا يعف عن شيخ ولا رضيع، واحكم عليه بقانون الخالق الذي خلقه تعلم أنه ~~جزء من هذه الحياة له فيها مكانه وأصله وجملة خيره وشره، ولست تستطيع أن تجد ~~القانون الذي يبيده مرة واحدة، أو يصونه مرة واحدة؛ لأن حقيقته أوسع من أن ~~يحدها قانون واحد؛ وهو هو النمر وليس هو بالإنسان ولا بالإنسان الشاعر الذي ~~يذهب بك الحكم عليه مذاهب في تقدير الفن والجمال والأخلاق والعلم - لا انتهاء ~~لها ولا ضابط لحدودها الواسعة - فإذا أثنيت على بودلير في ناحية، وذممته في ~~ناحية، فأي عجب في ذاك والرجل في شعره وحياته أوسع من حقيقة النمر، ومن حقيقة ~~بعض الناس. # وما بالنا نختلف في الشر والفن ولا نختلف في الفن والعلم؟ فالعلم يبحث الأمراض ~~والرذائل، ويعالج الطيب والخبيث ولا يحصر بحثه في الخير والكمال، وعذر العلم في ~~هذا - إن كانت به حاجة إلى العذر - هو عذر الفن حين يعرض الحسنات والسيئات، ~~ويحيط بالحميد والذميم، ثم نحن نعرف أن المرض شر وإن درسه العالم، وأن الرذيلة ~~شر وإن نظم فيها الشاعر، ونقول إنه شاعر شرير إذا كان ولعه بالشر يعميه عن ~~الخير، ويحجب عنه الكمال، ونقول: إنه شاعر عظيم إذا كان يمثل لنا الشر كما مثل ~~لنا ملتون خبث إبليس، أو كما مثل لنا ابن الرومي دمامة الأحدب والأصلع والشحيح، ~~فهو شاعر هنا ms376 وهناك، ولا دخل في اختيار موضوعه لقدرته الشعرية إلا حين ننعت ~~قدرته بنعت من الصحة أو من الأخلاق. # تقول: أليس الشاعر لا ينبغي له «أن يتخذ من الاعتراف بالشهوات والعيوب نشيدا ~~يتغنى به غناء الافتخار، ويحرق حوله بخور البشرى والانتصار؟» # نقول: نعم لا ينبغي له ذلك، ولكن ترى لو أنه فعل ما نهيناه عنه ماذا يكون؟ ألا ~~يكون شاعرا؟ كلا! بل يكونه ويكون أنه فعل ما لا ينبغي، وليس فعل ما لا ينبغي ~~بالممتنع على الشعراء خاصة ولا على الناس كافة، فإذا شئت أن تسأل: أو لا نحتقره ~~إذا هو أجاد في الشعر وفعل ما لا ينبغي له؟ قلنا: بل لك أن ترسله إلى السجن، ~~وللدنيا بعد ذلك أن تحكم عليك أنت أو عليه هو بجملة ما عندها من قوانين الشرائع ~~والعواطف. # إن الشعر غير الجمال. هذا حق لا ريب فيه، ولكن لا يلزم منه أن الشرير غير ~~الجميل، فقد يكون الشر في جميل، وقد يكون الجمال في شرير، ومن هنا ينطوي وصف ~~الشر في وصف الجمال، ويجمع الشاعر بين الوصفين، ولا مطعن عليه في الذوق أو الفن ~~أو الإحساس. # وإن التعبير عن الشر غير الشر في ذاته، وهذا حق آخر لا ريب فيه، فقد يكون الشيء ~~شرا محضا، ويكون التعبير عنه جميلا يروق الناظر المتأمل، ومن هنا نعبر عن ~~اللؤم وهو قبيح بالكلام البليغ وهو جميل، ولا مطعن على من يعبر ذلك التعبير من ~~جانب الفن، ولا من جانب الأخلاق. # وإن تصور الشر في ذاته غير عمله وتسويغه، وكذلك لا ريب فيه، فلا حرج على أحد أن ~~يتصور الشر ويعرفه، ولكن الحرج أن يعمله، ويستحسنه، والحرج عليه في هذا إنما ~~يكون من ناحية الأخلاق لا من ناحية البلاغة والتصوير، فإذا كانت العقرب تلدغ ~~الناس وتميتهم فلا لوم على على المصور أن يرسم العقرب ويمثل فريستها، ولكن ~~اللوم عليه أن يجعلها تلدغ وتميت وأن يستحب منها اللدغ والإماتة، وهو حين يفعل ~~ذلك لا يكون مصورا ولا ينصرف النقد منه إلى ms377 ملكة التصوير. # على أننا نقول ما هو أبعد من ذلك مدى في هذا الباب، نقول إن القانون الذي يقضي ~~على الحياة بأن تبرز نفسها، وتمثلها في خيرها وشرها هو أعرق وأكبر وأقوى من ~~جميع قوانين الأخلاق السارية ما ظهر منها وما سوف يظهر وما بطل وما لا يزال؛ ~~لأن الناس إذ يضعون قوانين الأخلاق السارية إنما يضعونها من حيث هم أعضاء في ~~مجتمع وأصحاب مصالح ومعاملات، ولكنهم إذ يندفعون إلى تمثيل أنفسهم إنما يندفعون ~~إلى ذلك من حيث هم أناس بل من حيث هم أحياء سابقة للاجتماع والمصالح ~~والمعاملات، بل نكاد نقول من حيث هم موجودات يجري عليها ما يجري على كل موجود؛ ~~لأن تمثيل ما أنت عليه هو طبيعة التكوين لا محيد عنها لكائن يعقل أو لا يعقل ~~ويريد أو لا يريد، فقد تغيرت قوانين الأخلاق ولم يتغير الشعر والفن ولن يتغيرا ~~أبد الزمان، وقد أمرت الأخلاق أمرها، ونهت نهيها، ونظم الشعراء فيما أمرت به ~~ونهت عنه فطرب الناس للنظم وحنقوا على الناظمين، ولو لم يكن قانون الحياة ذاك ~~أقدم من قوانين العرف ودواعي الاجتماع لما بقي هذا البقاء في كل أمة، ولا كانت ~~له من قوة تشد أزره إلى جانب القوانين التي يشد أزرها الجنود والجلادون، فحسب ~~الأخلاق إذن أنها تحكم على زمانها وتصول برهبتها، وكفى صيانة لها وضمانا أنها ~~مخشية البطش والازدراء، وأنها تثأر لنفسها من طغيان ذلك القانون القديم، فذلك ~~كاف جد الكفاية لبلوغ غايتها، وإنجاز وظيفتها وحماية حوزتها، أما الزيادة على ~~ذلك فربما كانت أخطر من طغيان دوافع حياة. # | تمثال النهضة1 # الضروريات قبل الكماليات، كلمة تسمعها كلما تحدث متحدث عن أثر يقام لعظيم، أو ~~زينة فنية تتجمل بها مناظر المدينة، أو دراسة أدبية لا يصنع منها الخبز، ولا ~~يحمل عليها الماء، والذين يصيحون بتلك الكلمة يظنون أن الدراسات الفنية ~~والأدبية مما يمكن أن يؤجل ويؤجل ويؤجل إلى أن ننظر حولنا فنرى أننا مستوفون ~~لكل صناعة مربحة، ولكل علم منتج، ولكل عمل يدوي وأننا لا نشتري ms378 الإبر ولا الخيط ~~والمخيط من الأسواق الأجنبية! فيومئذ نقول لأنفسنا: ها نحن اليوم قد استوفينا ~~الضروريات، فلنبدأ بالكماليات، وها قد وفر عندنا الزاد فلنلتفت للنوافل ~~والفضول، ونقول للمصورين، والموسيقيين، والكتاب، والشعراء. الآن فاظهروا من حيث ~~كنتم مختفين ثم اخلقوا لأنفسكم المواهب والعبقريات التي لم تكن مخلوقة قبل ~~اليوم، فقد فرغنا من مائدة الطعام والشراب، ولم يبق لنا إلا أن نلهو بالمنادمة ~~والسماع! # وذلك خطأ جسيم هو فيما يلوح لنا وليد الخطأ في وضع كلمة لغير معناها، أو وصف ~~شيء بغير صفته، فالفنون والآداب ليست من «الكماليات» التي تجيء في ترتيب الظهور ~~بعد الطعام والشراب والكساء والبناء؛ لأن الأغاني والصور والحلي وجدت مع الناس ~~قبل أن يبرحوا الكهوف إلى العمار وقبل أن يتهيأ لهم من وسائل الرفاهية ما يتهيأ ~~اليوم لأفقر الناس، وإذا كان الإنسان يعيش بغير الصور والأناشيد ولكنه لا يعيش ~~بغير الخبز والماء ولوازم الجسد، فليس مقياس الحياة هو أقل ما نحتاج إليه ولا ~~نعيش بغيره، بل هو أرفع ما نحتاج إليه وقد نعيش بغيره. # فنحن والحيوانات سواء في مادة العيش التي يقوم بها الجسد، ولا يقدر على ~~الاستغناء عنها بحال، ولكن ضرورة الحيوان ليست هي ضرورة الإنسان، وكون الإنسان ~~إنسانا وليس بحيوان هو الذي يستلزم أن تكون له ضرورات غير الضرورات الحيوانية ~~التي لا تعيش بغيرها عامة الأحياء، ومن تحريف الحقائق أن يظن أن الفنون والآداب ~~كماليات، وأن الكماليات إنما تأتي بعد الضروريات في ترتيب الظهور، فإن الفنون ~~والآداب علامات ظاهرة لمطالب نفسية باطنة إذا وجدت هذه المطالب وجب أن توجد ~~معها تلك العلامات، ولم ينتفع فيها الإرجاء ومحاولة الترتيب، فلا معنى إذن ~~لتسميتنا الفنون والآداب بالكماليات، وانتظارها في دورها بعد استيفاء جميع ~~الضروريات، فإن الكماليات إذا كانت تجيء في الحاجة إليها بعد ترتيب الضروريات ~~فليس باللازم أن تجيء ملكاتها بعد الملكات التي تستنبط الضروريات، ومن المضحك ~~أن نتصور ملكات الذهن والنفس مصطفة في «طابور» مرتب على حسب الفوائد المحسوسة ~~التي تعود علينا منها، فلا تتقدم الحيلة التي ms379 تخترع في الحدادة مثلا على ~~الحيلة التي تخترع في الزراعة، ولا تبرز الفلسفة والشعر والتصوير في ذلك ~~الطابور، إلا بعد أن يتقدمها كل ما يلزم من الملكات لاختراع المحاريث والمواقد ~~والمباني والبخار والكهرباء! وهكذا حتى ينتهي «الضروري» إلى آخر صغيرة في أصوله ~~وفروعه، ثم يؤذن «للكمالي» بموقفه في «طابور» الملكات! إذ الواقع أن الهبات ~~الشعرية والفنية طالما ظهرت في الأمم قبل الهبات المخترعة في حاجات الطعام ~~والكساء والبناء، وأن دلائل الحياة لا تعرف ترتيبا ولا طابورا، فهي إما ~~موجودة أو معدومة وهي إن كانت موجودة فلا بد أن تظهر بعلاماتها وتعبيراتها، ولا ~~تتأخر عن ذاك بمشيئة من يريد تأخيرها، فالذي يقول لنا انتظروا حتى تصنعوا كل ~~إبركم وأثوابكم في مصر، ثم احفلوا بالتماثيل والمعارف والخطب والأشعار، كالذي ~~يقول للإنسان انتظر حتى تشعر بالجوع قبل أن تعلم عينيك الشعور بالضياء، وأذنيك ~~الشعور بالغناء، ولسانك الكلام والترنيم؛ لأنك بغير المعدة لا تعيش، ولكنك بغير ~~النظر والسمع والكلام تعيش وتحسب من الأحياء، فالشعور إذا انبث في الفرد أو ~~الأمة لا يتبع في مسيره ذلك الخط العجيب من الترتيب المضحك المستحيل، ولكنه ~~ينبث هنا وهناك ويدل على نفسه بمختلف الدلالات، وقد يأتي بالمغنين المطربين قبل ~~أن يأتي بالحدادين والنجارين، مذ كان الغناء أدل على الحياة من عمل الحديد ~~والخشب، فإننا بغير الحديد والخشب قد نحيا ونمتلئ بالحياة، ولكننا بغير البواعث ~~التي تستجيش النفس إلى الغناء لا نعد من الأحياء. ~~••• # هذا كلام يقال لأولئك الذين لا يريدون أن يروا في جوانب مصر تمثالا واحدا، أو ~~يسمعوا فيها نشيدا واحدا، حتى تمتلئ بالمصارف والمستشفيات والمصانع والمناجم، ~~وحتى تستغني عن كل علم يستزاد من علوم الطعام والأموال، فإذا تمت لها طلبتها من ~~هذه «الضروريات» فهناك تشرع في نحت التماثيل، وصوغ الأناشيد، ولكن لماذا ليت ~~شعري أو ليت شعر أولئك الضروريين؟ لماذا ننحت التماثيل ونصوغ الأناشيد بعد بناء ~~المصارف والمستشفيات والمصانع والمناجم والمدارس التي تزودنا بعلوم الضرورة ~~والاحتياج؟ أننحتها ونصوغها لمجرد أننا قد بنينا هاتيك المباني وختمنا هاتيك ms380 ~~العلوم؟ أننحتها ونصوغها احتفالا وابتهاجا بالفراغ من الضروريات، وتضييعا ~~للوقت حبا للبطالة لا حبا لشيء آخر وراء ذلك التضييع؟ إن التماثيل تنحت ~~والأناشيد تصاغ لبواعث في النفس تدعو إلى نحتها وصوغها، وليس لمجرد الفراغ من ~~بناء المصارف والمستشفيات وما إليها من لوازم المعاش، وإذا وجدت تلك البواعث ~~فهي لا تنتظرنا ولا تستمهلنا، وليس لها محيص عن الظهور ولو لم يكن في البلد ~~مصرف واحد ولا مصنع واحد، وما دام التمثال كالمصرف مرتهنا بدواعيه وموحياته ~~فلماذا يتوقف أحدهما على الآخر ولا يظهر كل منهما حين ينبغي له الظهور؟ إنه ~~ليظهر في حينه وإن التمثال لا يتوقف على المصرف ولا المصرف يتوقف على التمثال ~~إلا بمقدار ما يتوقفان معا على نهوض الأمة وحظها من الشعور والإدراك. ~~••• # في وقت واحد بزغت فكرة المصرف بمصر وفكرة التمثال؛ لأننا في وقت واحد نهضنا ~~للحرية والكرامة، وأحسسنا بالفاقة في عالم المال، وفي عالم الفن الجميل، وليس ~~التمثال الذي تجسمت فكرته وتم تكوينها هذا الأسبوع إلا لونا محسوسا لتلك ~~الحياة التي برزت بألوان شتى في المصرف، وفي السياسة، وفي الآداب، وفي العلوم، ~~ولكنه ليس بالفكرة الأولى في فنوننا الجميلة، وإن كان هو الفكرة الأولى التي ~~اتصلت مظاهرها بحياة الطرقات والجماهير. # تمثال نهضة مصر أول عنوان يقرؤه العابر في ميادين القاهرة من كتاب نهضتنا ~~الفنية، أو إن شئت فقل من كتاب نهضتنا القومية في شتى فروع الحياة، وقد كان ~~العابر في هذه العاصمة لا يقع على رمز واحد لروح مصر الحديثة، ولا يلمح في طية ~~من طياتها ملامح منف الذاهبة، وآثار الجبابرة الخالدين من بناة الأهرام ~~والأوتاد، فاليوم يتصل ما بين مصر الحديثة ومنف القديمة، ويتقارب ما بين أبي ~~الهول الرابض وأبي الهول الناهض، وتنطق صخور مصر مرة أخرى بما أفاضته عليها روح ~~مصر؛ ماضيها العريق وحاضرها المأمول. # هذه هي القيمة الكبرى لتمثال النهضة الذي أنجره الأستاذ محمود مختار، فهو عنوان ~~مشهود لشيء في مصر غير المعدة والمحراث، وهو نبوءة للمستقبل وشعاع ينعكس من ~~حاضرنا على غابرنا، بعد ms381 إذ كان النور كله منبعثا من الماضي على خواء في الحاضر ~~لا يسر الناظرين، ولقد نقدت التمثال عند الشروع في بنائه ليزول عنه نقصه، وتصح ~~له قيمه، فهل أذكر ذلك النقد الآن! نعم أذكره لأقول لمن أنكروه يومئذ: إنه أفاد ~~كل ما يرجى له من فائدة، وإن ثناءهم على التمثال لم يخدمه كما خدمه الناقدون. ~~قلت يومئذ: «وفي التمثال ما عدا هذا عيب آخر من عيوب النظر الفني والنظر ~~التاريخي معا. ذلك أن أبا الهول المصور فيه لا يشبه في شيء من ملامحه أبا ~~الهول القديم الذي بناه الفراعنة، وإنما هو صورة منقولة عما في معابد البطالسة ~~من هذه النصب، وإنه لمن الخطأ في قصة الفن والتاريخ أن نختار لتصوير نهضة مصرية ~~نصبا بنته في مصر أسرة أجنبية وعندنا تمثالنا ذاك العريق المهيب» فمن ينظر ~~الآن إلى وجه أبي الهول الذي أميط عنه الستار في هذا الأسبوع يحمد للأستاذ أنه ~~أخرجه في صورة مصرية فرعونية تدل عليها الشفتان والأنف والذقن والخدان ~~والعينان، ولم يجعله بطليموس كما مثله في صوره الأولى منذ ثماني سنوات، ويخيل ~~إلينا كما لاحظ صديق لنا أن الأستاذ مختار غلا في ذلك حتى ألبس وجه أبي الهول ~~مسحة الإنسانية التي لا تناسب ما يحف به من رهبة الغموض والأسرار، وقد يقال: ~~إنه ألبسه هذه المسحة؛ لأن أبا الهول المجاهد في النهوض يناسبه ضعف الإنسانية ~~وعناؤها في مغالبة العقبات والآلات، وهذا عذر له وجهه إذا قيل، ولكننا نفقد أبا ~~الهول كله إذا فقدنا اللغز فيه، فليكن له نصيب الإنسانية بمقدار ما يوحيه ~~الجهاد والكفاح، ولكن لا يخل من نصيب الغموض والأسرار الذي هو معناه الأصيل، ~~وموضوع العجب في التحرك والنهوض. # إن تمثال «نهضة مصر» باكورة الرموز الفنية في ميادين العاصمة، فلا يكون له معنى ~~إلا إذا تبعته شواهد هذه النهضة في غير تمثال واحد لمعاني الحياة القومية، ولا ~~نغتبط به جد الاغتباط إلا إذا كان ترحيبا بما يخلفه من روائع التماثيل في كل ~~ميدان. # | الفنان أو معاني الكلمات1 ms382 # ... تستعملون في كتاباتكم كلمة الفنان بمعنى الرجل الفني أو المتفنن ~~وهي في اللغة بمعنى حمار الوحش، وقد نبه إلى ذلك بعض الباحثين في ~~اللغة، وقرأنا هذا التنبيه مكررا في إحدى صحفنا اليومية، فما هو ~~الوجه الذي تعولون عليه في استعمال هذه الكلمة؟ وهل لكم أن تخصصوا ~~مقالا من مقالاتكم في البلاغ الأسبوعي لبيان رأيكم في الكلمات ~~التي ينكرها أناس من أنصار القديم وهي دارجة في كتابات بعض ~~الأدباء؟ # علي محيي الدين # كلمة الفنان من الكلمات المشتقة، وليست من الكلمات الجامدة التي وضعت في أصل ~~اللغة لاسم لا تنصرف عنه، والشأن في جميع المشتقات أنها صفات يوصف بها كل من ~~يشترك فيها بمعنى من معاني تلك الصفات، كالفراس تقال للأسد، وتقال لكل من يفترس ~~مثله، ولو كان الفرس بالكيد والغلبة، لا بالأظفار والنيوب، فمن أين جاء وصف ~~حمار الوحش بالفنان؟ وما الذي دعا إلى تعريفه بهذا الاسم في بعض ما سمع من ~~أسمائه؟ # إن الفن في أصل اللغة هو الخط واللون، ومنه التفنين بمعنى التزيين والتزويق، ~~والأفانين بمعنى الفروع أو الضروب، وهكذا كل ما تعدد فيه الأشكال والأوصاف، مما ~~ينظر بالأعين أو يدرك بالأفكار، وقد سمى حمار الوحش ب «الفنان»؛ لأنه كثير ~~الخطوط أو كثير الفنون، وكذلك سمي بالزرد؛ لأن جلده كالزرد في نسجه المتداخل أو ~~المتقارب، فإذا جاز لنا أن ننكر الفنان بمعنى كثير الفنون جاز لنا أن ننكر ~~إطلاق الصفات على غير موصوف واحد، وهو في اللغة وفي غير اللغة لا يجوز، بل جاز ~~لنا أن ننكر على العرب أنفسهم وصف الخطوط بالزرد؛ لأن الزرد في الأصل هو الخنق ~~والتضييق، ومنها سمي الزرد؛ لأنه حلق ضيق يدخل بعضه في بعض وتنسج منه ~~الدروع. # ومن هذا القبيل تسمية الظبي بالأعصم والظبية بالعصماء، ثم وصف القصيدة والمعاني ~~بهذه الصفة؛ لأنها تشارك الظباء وغيرها من العصم في المنعة، والصعوبة وبعد ~~المتناول، بل من هذا القبيل نقل العزة من الصعوبة إلى رفعة الشأن، والذلة من ~~السهولة إلى الهوان، وأصلهما موضوعان لغير هذا المعنى ms383، فالعزيز هو الصعب، ~~والذليل هو السهل، وليست كل صعوبة شرفا ولا كل سهولة عيبا، ولكن هكذا يشاء ~~انتقال المعاني في كل كلمة وكل لغة يعينها الاستعمال ولا يعينها شيء غير ~~الاستعمال. # فالذي لا ريب فيه إذن هو أن الفنان كلمة عربية، وقياس عربي، وأنها بمعنى الكثير ~~الفنون أو الكثير التزيين؛ لأن العرب تقول فن الشيء أي زينه فهو فان وفنان، ~~ولا خلاف في صحة هذا الحرف ولا في صحة هذا القياس، فلو لم يرد في السماع اسم ~~«الفنان» علما على شيء كثير الخطوط والفنون لما كان لنا محيص من الإتيان بصيغة ~~المبالغة على «فنان» من الفعل «فن» بمعنى زين، كما تقول خطاط من خط، وعداد من ~~عد، وحلال من حل، وهكذا في جميع صيغ المبالغة على هذا القياس. # ولقد كانت العرب تعرف «كتب» بمعنى ربط أو قيد، والناقة «المكتوبة» عندهم هي ~~الناقة المربوطة أو المقيدة، فلما عرفوا الخط والتدوين سموا هذه الصناعة كتابة؛ ~~لأنها تقيد الكلام فلا يشرد عن الذهن، ولا يضل في تيه النسيان كالناقة المقيدة ~~التي تصان بالرباط عن الشرود والضلال، فليس الكاتب الآن هو الرابط كما كانوا ~~يدعونه عند وضع الكلمة في البداية، ولكنه هو صاحب صناعة القلم قد غلبت عليه ~~التسمية، حتى نسخت أصل الكلمة وخصت بالمعنى المجازي، فلا تنصرف إلى المعنى ~~الأصيل، فلو قلت إن «الكتابة» ليست بعربية لكنت أصوب قولا ممن يرى أن الفنان ~~ليس بعربية؛ لأنك تستطيع أن تخالف في أن «الفنان» هي صيغة المبالغة القياسية من ~~«فن» وأن «فن» فعل عربي بمعنى زين أو خط أو لون، وأن هذا الحرف إما أن يقبل ~~عربيا في أساسه على هذا المعنى أو لا يقبل على الإطلاق. # ونحن نقول الآن أنصار القديم وأنصار الجديد، فمن من العرب الأولين كان يفهم ~~الجديد على معناه الذي فهمه العرب المتأخرون! إن الجديد في أصل وضعه هو ~~المقطوع، والثوب الجديد عندهم هو الثوب المقطوع؛ لأنهم يجدونه أي يقطعونه حين ~~يشترونه، فهو مجدود وهو «جديد». ثم أصبح الجديد وصفا لكل ms384 حديث طريف، ولو لم ~~يقطع ولو لم يكن ثوبا أو شيئا من أشياء اللباس، ولا تزال جد وجذ وجز ترد في ~~المعاجم وفي الكتابة بمعنى قطع، أي بمعناها الأول الذي عرفه العرب الأولون، ~~فإذا قلنا لأحد «هذه فكرة جديدة!» فقال لنا إن كلامكم هذا غير عربي لأن الفكرة ~~لا تقطع، فهل يكون صوابه إلا كصواب الذي يقول إن «الفنان» غير عربية؛ لأن العرب ~~وصفت بها حمار الوحش فلا يجوز بعد ذلك أن يكون شيء له خطوط وله فنون غير جلد ~~ذلك الحمار! ~~••• # وبعد فلماذا نفصل الفني على الفنان في الدلالة على المصور والشاعر والمنشد ومن ~~إليهم من رجال الفنون؟ هل أطلق العرب كلمة «الفني» على المصورين والشعراء ~~والمنشدين؟ كلا! ولم ترد قط كلمة «الفني» بهذا المعنى في كلام عربي قبل العصر ~~الحديث، فإذا كانت الفني لم تسمع عن العرب فلماذا ندع الكلمة التي لا التباس ~~فيها لنستعمل كلمة تلتبس بالمنسوب فلا ندري حين نقول «الفني» هل نحن ننسب إلى ~~الفن أو نحن نعني الرجل الفنان؟ أليست الفنان أقرب إلى صحة الاستعمال؛ لأنها ~~صيغة مبالغة صحيحة من فعل عربي صحيح، ولأنها من جهة أخرى أدل على الخلق ~~والإنشاد من مجرد النسبة إلى الفن كما تنسب المصنوعات، ولأنها من جهة ثالثة هي ~~القياس في أوصاف أصحاب الصناعات، كالعطار، والنجار، والحداد، والفراء، والوراق، ~~والسراج، إلى آخر المقيس والمنقول عن العرب في هذا الباب؟ # فلا خطأ ولا تجوز في استعمال «الفنان» لمعناها الحديث، ولا وجه لأن يقال: إن ~~«الفنان» غير عربية إلا إذا جاز أن يقال: إن «الكاتب» كذلك غير عربية؛ لأن ~~الكتابة عمل غير الذي اصطلحنا عليه الآن. ~~••• # إن التصرف في أوضاع الكلمات طبيعة اللغة التي لا طاقة بمنعها لمتشدد ولا مترخص. ~~وقد يكون للتشدد أثره الصالح في صيانة اللغة من غلواء المترخصين الذين يستحدثون ~~الكلام المخالف للسماع والقياس بغير ضرورة موجبة، أو يهيمون على رءوسهم في ~~الترجمة والتعريب بغير علم ولا عناية. # ولكن هذا التشدد لن يحيي كلمة ميتة، ولن يميت كلمة ms385 حية، ولن يكون هو القسطاس ~~المستقيم فيما يؤخذ وفيما يترك من المفردات، فإذا أورد متشدد اعتراضا على كلمة ~~يستغربها، فمآل الحكم في ذلك الاعتراض إلى الاستعمال، وما رزقته اللغة من قوة ~~البنية التي تعصمها من الخلل والفوضى، ومصير كل كلمة صالحة إلى الدخول في بنية ~~اللغة، والتمشي مع قواعدها وأصولها حتى يعود الحكم فيها كالحكم في كل كلمة ~~عريقة أو مستحدثة، ولسنا نأبى على المتشددين حذرهم وصلابتهم؛ لأنهما خير من ~~الفوضى والإباحة التي لا ضابط لها، بل هما خير من تعسف المعربين الذين يعيبون ~~الترجمة في بعض الأحيان؛ لأنها لا تؤدي معاني المترجمات كل الأداء لأول وهلة، ~~فالذين يقولون مثلا إن «الدراجة» لا تصلح لترجمة «البسكليت» لأن كل ماشية تدرج ~~فهي دراجة، وليس الدرجان مقصورا على البسكليت وحدها - هم أقل تصرفا وسماحة من ~~الذين يحرمون كلمة الفنان وما شاكها، وأشد تحريجا على اللغة من أنصار القديم - ~~إذ إن معنى «البسكليت» في أصل وصفها هو «ذات الدائرتين الصغيرتين» وهو معنى لا ~~يدل عليها كما قد تدل عليها الدراجة، فالغلو في مذهب التعريب على هذا النمط، ~~واتخاذ هذه الحجة الواهية سببا لتفضيل كلمة البسكليت على كلمة الدراجة خطأ لا ~~يقل عن خطأ المتحرجين من كل تصرف في أوضاع الكلمات، ومن كل تبديل لما سبق به ~~المتقدمون. # والعيب عند هؤلاء وهؤلاء أنهم لا يذكرون أن إطلاق اللفظ على المعنى هو مناط ~~التعيين لذلك المعنى، وهو هو الفارق بين اللفظ وسواه، وأن كل استعمال يجوز ~~إدماجه في قاعدة من قواعد اللغة هو استعمال صحيح لا غبار عليه. # | الشعر العربي والشعر الإنجليزي1 # ... أدينا امتحان آداب اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وكان من ~~مواضعيه التي سئلنا الإجابة عليها: أي فروق خطيرة لاحظتها فيما ~~درست من شعر إنجليزي بين الشعرين العربي والإنجليزي؟ وفيم تراهما ~~يلتقيان؟ وقد فكرت لأول وهلة فيكم لتوفركم على درس الأدبين، وإذا ~~كنت لم أستطع سؤالكم أثناء الامتحان فها أنا أبادر بعد الفراغ منه ~~إلى سؤالكم، وموضوعنا هذا فيما أرى موضوع قيم يستحق الكتابة بل ms386 ~~يستوجبها وجوبا ممن عرك الأدبين، ووقف على ما فيهما من حسن، وما ~~التقينا عنده فأثبتا وحدة النفس الإنسانية والفنية، وما اختلفا فيه ~~نزولا عند حكم البيئة والظروف. # عبده حسن الزيات # إني أرحب بسؤال الطالب الأديب؛ لأنه سؤال وجهته إلى نفسي كثيرا، وأظنني قد ~~أجبت عليه مفرقا في بعض المقالات التي عرض فيها ذكر الأدبين العربي ~~والإنجليزي، فخلاصة المشابهات والفروق التي دلتني عليها قراءتي لأشعارنا وأشعار ~~الإنجليز يمكن أن تجتمع فيما يأتي: تتقارب المشابهة بين الشعر العربي والشعر ~~الإنجليزي جدا في المعاني الحسية الفردية، ولبيان ما أريده ب «الحسية ~~الفردية» أقول إنني أعني بها تلك المعاني التي لا يحتاج الشاعر للشعور بها إلى ~~أكثر من أن يكون إنسانا له بنية جسدية، ومطالب نفسية، لا علاقة لها بالبيئة ~~الاجتماعية، فالحزن، والغضب، وحب المرأة، ووصف المشاهد التي تقع عليها الحواس، ~~والألم الذي يصيب الجسم، أو يمس النفس من ناحيته، كل هذه إحساسات يمارسها ~~الإنسان الفرد؛ لأن له تركيبا جسديا يرى ويسمع ويجوع ويعطش ويشتهي ما يشتهي، ~~وتتصورها أنت فيه ولو لم تتصور له أمة ينتمي إليها وتاريخا يرتبط به، فهي ~~إحساسات مرجعها إلى وظائف الجسد وتركيب الفرد من حيث هو كائن حي لا صلة له ~~بالأمة والتاريخ، وهذه هي الإحساسات التي يتشابه في وصفها الشعر العربي والشعر ~~الإنجليزي، وتنعقد المقابلة فيها بين الشعرين، فترى للعرب فضلا لا يقل عن فضل ~~الإنجليز، وقد يرجع عليه أحيانا لتفرغ العرب لهذه المعاني وانصباب خواطرهم في ~~ناحيتها دون غيرها، فليس بالنادر أن ترى للشريف والبحتري والمتنبي وأبي نواس ~~والعباس بن الأحنف وأبي العتاهية، وأضراب ابن مناذر والعتابي والحسين بن الضحاك ~~وعلي بن الجهم، ومن قبلهم في الجاهلية، ومن بعدهم من المحدثين، أبياتا وقطعا ~~في الرثاء والغزل والشكوى تضارع أبلغ ما نظم الإنجليز في هذه المعاني، وقد ~~تفوقها على الجملة في النفاذ والتوقد الذي تمتاز به الصرخات الحسبة، والومضات ~~المحصورة، وقد نرى أن رثاء العرب يفضل رثاء الإنجليز في هذه الخصلة، فيمعن في ~~حس قارئه ويستبكيه، على حين ms387 أن الرثاء الإنجليزي يستجيش عنده الخواطر المحزنة، ~~ويخاطبه بلسان البكاء الذي تفيض به أجفان العيون، وهنا تقف المشابهة العامة بين ~~الشعرين العربي والإنجليزي؛ لتبدأ الفروق وتنفرج مظاهر الاختلاف. # أما هذه الفروق والمظاهر المختلفة فأشملها وأعمها أن شعر العرب شعر منبت مقصور ~~على أمة واحدة، وأن شعر الإنجليز شعر متفتح الجوانب متصل بحياة الأمم الأخرى. ~~فإذا أردت أن تعزل الشعر العربي عن أشعار العالم شرقيها، وغربيها، وقديمها، ~~وحديثها، لم يكلفك ذلك أكثر من حذف كلمات تسربت إليه من اللغات الأخرى، وتبديل ~~مصطلحات لا تتعدى ظواهر المعيشة، وقل أن تبلغ إلى بواطن الأفكار والسرائر. أما ~~إذا أردت أن تضع الشعر الإنجليزي بمعزل عن آداب العالم، وأن تخرج ما تسرب إليه ~~من الآداب اليونانية والرومانية والفرنسية والإيطالية وعقائد المسيحية، وما ~~امتزج به من أساطير الشماليين والقلتيين، وخالطه من حياة الإنسانية العامة في ~~مجموعها، فإنك تحاول المستحيل ولن تفلح فيما تحاول، وكذلك لن تفلح إذا حاولت أن ~~تمسح عنه الصبغة الإنجليزية المستقلة، والخصائص التي استفادها من عناصر هذه ~~الأمة، فأنت بين يدي شعر له صبغته القومية التي لا تختلط بصبغة أخرى، وله في ~~الوقت نفسه وشائج إنسانية لا تمحو عنه تلك الصبغة القومية. # ومن الفروق الواضحة بين الشعرين العربي والإنجليزي أن أولهما يدور أكثره على ~~الحس وثانيهما يدور أكثره على العطف والخيال؛ فالشاعر العربي يصف امرأة لها ~~سمات جسدية من الفرع إلى القدم تقاس وتكال، وأما العاشق الإنجليزي فيصف المرأة ~~التي يحبها كأنها روح عاطف له ثوب من الجسد جميل، فإن هو أشار إلى صفة من صفات ~~هذا الثوب فليذكر به معنى من معاني العطف والتوسم يطهر أو يخبث على حسب النفوس ~~والأذواق، كذلك يشبه الشاعر العربي ما يصفه فإذا هو يعني بالصورة المحسوسة دون ~~الصورة الباطنية، ويريك الهلال منجلا، والقمر درهما فضيا، والبستان طنافس ~~ونمارق، ولا يحكي لك وقع هذه الأشياء في النفس كما يحكي لك صورتها في الأحداق. ~~ولولا ابن الرومي لخلا الشعر العربي من ملكة التصوير العالية، وتشبيهاته ~~الخيالية الرفيعة، فهو ms388 في هذا الباب فريد هذا الشعر إن لم نقل إنه فريد أشعار ~~العالم كله، وهو نعم العوض عن تلك الخسارة التي لا يدركها نقادنا السابقون، ومن ~~حذا حذوهم من نقادنا التابعين. # وقد يلحق بهذا الفرق ما نلاحظه من كثرة الذكاء # Wit # في الشعر العربي، وقلة الفكاهة # Humour # على خلاف الشعر الإنجليزي الذي تتلاقي فيه الفكاهة ~~والذكاء، ويتجارى فيه أصحاب النكات الذكية وأصحاب الفكاهات العاطفية؛ ولا يخفى ~~أن هذه النكات مرجعها إلى الفهم، وأن تلك الفكاهات مرجعها إلى سعة العطف، وتعدد ~~جوانب الشعور. # وقد يدخل في هذا الفرق أيضا - أي في دوران الشعر العربي على الحس ودوران الشعر ~~الإنجليزي على العطف والخيال - أنك ترى الارتباط قليلا بين معاني القصيدة ~~العربية، ولا ترى قصيدة إنجليزية تخلو من رابطة تجمع أبياتها على موضوع واحد، ~~أو موضوعات متناسقة، ومن هنا كانت وحدة الشعر عندنا البيت، وكانت وحدته عندهم ~~القصيدة، فالأبيات العربية طفرة بعد طفرة، والأبيات الإنجليزية موجة تدخل في ~~موجة لا تنفصل من التيار المتسلسل الفياض؛ وسبب ذلك كما قدمت هو أن الحس لا ~~يربط بين المعاني، وإنما يربط بينها التصور والعاطفة والملكة الشاعرة، فإذا ~~تعود الإنسان أن يتصور وأن يعطف وأن يشعر، تعود أن يدرك المعاني الواسعة ~~والسوانح النفسية التي تتعدد فيها الظلال والجوانب والدرجات ، فيأتي بالفكرة لا ~~يستوعبها البيت، ولا يغني فيها الاقتضاب، وإذا هو لم يتعود إلا أن ينقل عن ~~الحواس الظاهرة وقف إدراكه عند المتفرقات، فأغنته طفرة البيت عن تماسك ~~الأبيات. # ومن الفروق بين الشعرين أن الفردية غالبة على شعر العرب، والاجتماعية غالبة على ~~شعر الإنجليز، فالعواطف التي في الشعر العربي هي العواطف البسيطة الساذجة في ~~غير تركيب ولا تنويع، ويندر أن تجد فيه أثرا للعواطف المنوعة المتشابكة التي ~~تتولد من قدم الحضارة، وألفة التعاون، وتكاليف الاجتماع، وكثرة اختبار النفوس ~~للنفوس في مختلف الأحوال والأطوار، فالشاعر الإنجليزي إذا وصف الحياة الإنسانية ~~وصف حياة ضافية تتسع لمقامات المجتمع، وأشتات دواعيه، وتكاليفه، وآداب طبقاته ~~وأفراده، ودخائل عقائده وثقافاته، مما لا تتسع له حياة القبيلة ms389 أو الحياة ~~الحضرية التي ما تزال على أوضاع القبيلة، أما الشاعر العربي فعلاقة الإنسان ~~عنده بالإنسان محدودة وأسرار النفوس عنه محجوبة مسدودة، وسذاجة العواطف خصلة ~~ملازمة له مذ كان التركيب في هذه العواطف لا يأتي إلا من تركيب العلاقات بين ~~الناس في بيئات الحضارة؛ وربما جاء من هنا - ومن بعض الأسباب المتقدمة - ظهور ~~الروايات التمثيلية والقصصية في الأدب الإنجليزي، وامتناعها في الأدب العربي، ~~وربما جاءت منه أيضا سذاجة المدح العربي التي لا تشبهها سذاجة مروية في الآداب ~~الأوربية؛ فقد لجأ الشعراء في كل أمة إلى الأمراء والسروات، وأخذوا من جاههم ~~ونوالهم، ولكنك لا ترى مدحا كهذا المدح الفردي المفتوح إلا في الشعر العربي، ~~حيث لا يرضي المادح أميره إلا إذا وصف شخصه وأطنب في وصفه بأحب الصفات إليه، ~~كما يفعل الطفل حين يمدحك، ويمد يده إلى السكرة التي في يدك وهو لا يكتم عنك ~~أنه يقول الكلمة الطيبة؛ ليأخذ على أثرها السكرة الحلوة، فلا لباقة ولا تفنن في ~~الإرضاء والثناء، وإنما هو المديح على أسذج ما تراه في طفولة الفطرة، وقد تتصور ~~هذا حيث تكون العلاقات الفردية هي الغالبة، والمدائح الفردية هي المطلوبة، ~~ولكننا لا نتصوره حين تنشأ للتكاليف المدنية علاقات، ولباقات، وآداب، تترقى ~~بصناعة التنويه والمدح من هذه السذاجة إلى شيء من التفنن والتنويع، فإذا وقفت ~~أنا المادح وأنت الممدوح فردا أمام فرد فليس لي سبيل إلى غير الثناء على شخصك ~~وتمليق سمعك، وإعلان شكرك، ولكني إذا وقفت أنا شاعر الأمة أمام أمير الأمة، فقد ~~يجزئني في إرضائه وإرضاء الناس عنه أن أعلن فخار الأمة وأجعله هو مناط ذلك ~~الإعلان وعنوان ذلك الفخار، وقد وجد من شعراء القبائل من نحا هذا النحو وطاف ~~على الأمراء والفقراء يستأديهم ثمن ثنائه، وتمجيد آبائه، ولكنها فلتات لا يقاس ~~عليها في جميع الأحوال. # هذه هي الخطوط الكبيرة في رسم الفوارق التي بين روح الشعر العربي وروح الشعر ~~الإنجليزي، وهناك خطوط صغيرة قد تظهر في شاعر شاعر أو عصر عصر، فلا يتيسر ~~تقييدها وحصر ms390 أسبابها إلا إذا تيسر تقييد جميع الفوارق الدقيقة بين الأشعار، ~~وهو غير متيسر في هذه الموجزات؛ لأن هذه الفوارق مما يصح أن يلحظ بين شعراء ~~اللغة الواحدة، بل بين قصائد الشعر الواحد في عهدين من عهود العمر، أو حالين من ~~حالات القريحة والشعور. # | نقد غريب1 # جاءتني رسالة من بغداد بتوقيع «أكرم أحمد» يقول فيها: إن أناسا في المدينة ~~يمشون بالدسيسة بيني وبين الأستاذ الزهاوي من جديد؛ لأنهم كتبوا إلي يزعمون أن ~~ما نشرته «لغة العرب» في نقد ديواني إنما كتبه الأستاذ الزهاوي انتقاما لنفسه ~~مما كتبته عنه في البلاغ الأسبوعي قبل أشهر، ويقول صاحب الرسالة: إنهم كاذبون ~~فيما زعموا وإن الأب أنستاس الكرملي صاحب «لغة العرب» ليس بالرجل الذي يدعي ~~لنفسه كلام الآخرين، وإن أناسا اقترحوا على الأستاذ الزهاوي أن ينقد ديواني؛ ~~فأبى مخافة أن يجيء نقده على غير ما يريد من النزاهة والإنصاف، فحبذا لو أعرضت ~~عن هذه الوشايات، وقابلتها بفصل أو فصول أكتبها عن «اللباب» ديوان الزهاوي ~~الجديد، ويتبعها الزهاوي بفصول يكتبها عن ديواني، فينقطع بذلك القال والقيل، ~~ولأكن البادئ بالكتابة عن اللباب؛ لأنني أنا البادئ بالتحامل على صاحب اللباب، ~~كما يقول كاتب الرسالة الأديب. # هذه خلاصة الرسالة التي جاءتني من بغداد ولم أكن قد اطلعت على «لغة العرب » ولا ~~رأيت عددا من أعدادها إلى ذلك الحين، فبعثت في طلبها ممن عسى أن ترد إليه، ~~فإذا هي مجلة تطبع بالحرف الدقيق، وإذا فيها فصل يقع في زهاء ثماني صفحات نقدا ~~لديواني مستهلا بهذه العبارة: «الأستاذ العقاد كاتب كبير، وكنا نعتقد أنه كذلك ~~شاعر كبير حتى جاءنا ديوانه الجديد حافلا بما نظمه قديما وحديثا، فإذا هو ~~دون ما أكبره تصورنا، وإذا هو مشحون بالأغلاط والضرورات القبيحة، وإذا هو قبر ~~للألفاظ الميتة دارس، فيه كثير من العظام البالية، وإذا هو تافه المعاني في ~~الأكثر، وإذا هو في كثير من قصيده يخرج عن الموضوع، فلا تبقى فيه الوحدة ~~المتوخاة منه، وإذا هو يبالغ أو يغرق في كثير من أبياته، وإذا هو ms391 يقلد القدماء ~~فليس فيه ما يمت إلى الشعور بواشجة إلا أبياتا قليلة متفرقة هنا وهناك، وكنا ~~نراه قبل نشره ديوانه يطعن في مواهب كبار الشعراء، بل كان ينال من كل شاعر عربي ~~تقريبا مصريا كان أو شاميا أو عراقيا؛ فما كنا نفهم علة ذلك بعد سكوته ~~الطويل عن الشعر والشعراء، حتى ظهر ديوانه العجيب فأدركنا السر إلخ ... ~~إلخ.» # هذه غريبة في النقد النزيه! وليس من شأني أنا أن أعزو هذا الكلام إلى أحد غير ~~صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، فإن النقد هو الذي يعنيني وليس الكاتب، ~~ولا من أوعز إليه، وقد صدر النقد في مجلة لم تنسبه إلى أحد، فهو لها إذن وهي ~~راضية عنه موافقة عليه. غير أني أعجب والله لصدور نقد كهذا من مجلة يقال عن ~~صاحبها: إنه كثير الاشتغال بالعربية واسع الاطلاع على قواعدها النحوية ~~والصرفية، فإن في نقده لغطا فاحشا لا يقع فيه من له إلمام بهذه القواعد، ~~واطلاع عليها ولو كاطلاع التلاميذ المبتدئين، ولست أعرف معرفة اليقين ما الأب ~~«أنستاس ماري الكرملي» صاحب المجلة المكتوب اسمه على غلافها، ولكني كنت سمعت من ~~صاحب لي أديب أنه راهب أدمن الاشتغال باللغة العربية حتى تريب رؤساؤه به لهذا، ~~فنفوه إلى دير ينقطع فيه عن خدمة هذه اللغة زمنا لا أدري ما قدره، فإن صح ما ~~رواه صاحبي الأديب فهم قد أطلقوه الآن؛ لأنهم رجعوا إلى الصواب في أمره، وعرفوا ~~أن البلية على اللغة العربية في اشتغاله بها لا في انصرافه عنها وتركها ~~وشأنها. # وقد يلذ القراء أن يروا مبلغ علم «اللغويين» الذين يتفيهقون باللغة حين يتصدون ~~لنقد أحد من كتاب الجديد أو شعرائه! يتهجمون في التخطئة بغير روية، فيجردون ~~أنفسهم من كل شيء حتى النحو والصرف وسائر القواعد التي يظن الناس بهم علمها إذا ~~استكثروا عليهم علم ما وراءها مما يحتاج إلى نفاذ البصيرة وذكاء الفطنة، ولا ~~ضير علينا أن نسقط دعواهم هذه ونكشف عن جهلهم بما يدعون؛ لأننا قلنا كثيرا: إن ~~هؤلاء الذين يهتفون باسم ms392 العربية هم أضعف الناس وجها في ادعاء الغيرة عليها، ~~وأجهلهم بآدابها وأسرار قواعدها، وسنبدأ بالنقد اللغوي؛ لأنه النقد الذي إذا ~~قرأه بعض الناس في مجلة ك «لغة العرب» خيل ~~إليهم أنه صادر من معدنه أو ممن يملك الكلام في موضوعه، أما النقد المعنوي فقد ~~نهمله، وقد نعود إليه للتفكه وضرب الأمثال بهذه العجائب والمضحكات! # نقدت المجلة أول بيت في الديوان وهو: # قطب السفين وقبلة الربان # يا ليت نورك نافع وجداني # فقالت: «إن كان يريد فرضة خاصة، فهذه ليست قطب جميع السفن، وقبلة كل ربان، كما ~~يفهم من الإطلاق.» # وأنا بعد أن أعجب عجبي من هذه اللوذعية التي لا تريد أن تترك بيتا واحدا في ~~مطلع الديوان بغير نقد وتخطئة، أسأل صاحب لغة العرب: من الذي قال: إن الفرضة من ~~الفرض يجب أن تدخلها كل سفينة في الأرض ليصح أن يقال فيها إنها قطب السفين؟! ~~أوما كشفت يا مولانا عن تفسيرها في معجم بين يديك؟ فقد تجد تفسيرها في كل معجم ~~أنها هي مكان ترسو فيه «السفن» بالألف واللام، ولم تخطئ المعاجم في هذا ولا ~~يفهم منه بالبداهة أن كل فرضة يجب أن تدخلها كل سفينة حتى تسمى فرضة، ونحن ~~نقول: إن الكعبة مكان يحج إليه المسلمون وإن بيت المقدس مكان يحج إليه النصارى، ~~وليس كل المسلمين يحجون إلى الكعبة، ولا كل النصارى يحجون إلى بيت المقدس! فأين ~~الخطأ في البيت؟ وأين الفهم لمعنى أل في أوائل الأسماء؟ # وتنقد «لغة العرب» قولي: # يزجى منارك بالضياء كأنه # أرق يقلب مقلتي ولهان # لأن «يزجى» يتعدى بنفسه لا بالباء! # وأنا لا أجهل أن «يزجى» يتعدى بنفسه، وكان يجب على الناقد أن يعلم ذلك؛ لأنه ~~نقل لي بيتا آخر أقول فيه: # وإن شئت أزجيت الجبان فأقدما # ووسوست في قلب الجريء فأحجما # ولكن صاحب لغة العرب هو الذي جهل ونسي؛ لأنه لم يراجع باب التضمين من كتب النحو ~~على ما يظهر، فغاب عنه أن «يزجى» هنا مضمنة معنى «يدفع» وأنه كما يصح أن يقال ~~دفعه ودفع ms393 به يصح كذلك على هذا المعنى أن يقال أزجاه وأزجى به، فإن أنكر الأب ~~التضمين فليقل لنا ذلك لنملي عليه من أوجز الكتب في لغة العرب درسا تحتاج إليه ~~«لغة العرب» في هذا الزمن العجيب! # وتقول المجلة: «ثم قال: # أمسيت أحداق السفائن شرع # صور إليك من البحار روان # ولو نصب شرع على الحالية لخلا البيت من تتابع الأخبار.» # لا يا مولانا هداك الله وعلمك العربية، وعلمك قدر نفسك. إن مجيء الحال من ~~المبتدأ لا يجوز إلا في أضعف الأقوال، فتكرار الأخبار لو كان محظورا لكان أهون ~~من المجيء بالحال على وضع ينكره جلة النحاة، فكيف وتتابع الأخبار لا حظر عليه ~~ولا منافاة للفصاحة؟ أليس القرآن يقول: # هو الله الذي ~~لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو ~~الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا ~~إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن ~~المهيمن العزيز الجبار المتكبر ~~؟ أليس ~~القرآن يقول: # وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما ~~يريد ~~؟ فإن لم تؤمن بتنزيل القرآن من السماء فلتؤمن بأنه كتاب ~~عربي مبين، يستشهد به حين لا يستشهد بكلامك السقيم. # وتقول المجلة: قال: # يشكو من الدنيا الألى لولاهم # ما كانت الدنيا تحب وترغب # ورغب فعل لازم لا يبنى منه المجهول إلا بحرف الجر، ورغب لا يحذف منه حرف الجر؛ ~~لأنه يتعدى بحرفين مختلفين «فيه وعنه» ويختلف معناه بموجبهما. # لا يا مولانا. إن حرف الجر يحذف من رغب ومشتقاتها، كما جاء في القرآن # وترغبون أن تنكحوهن # وكما جاء في الشعر ~~الذي استشهد به ابن هشام: # ويرغب أن يبني المعالي خالد # ويرغب أن يرضى صنيع الألائم # وكما جاء في قول يونس حين سئل عن الشعراء: «امرؤ القيس إذا غضب، والنابغة إذا ~~رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب» وكما جاء في قول الشريف: # طواك إلى غيرك المعتفي # وجاوز أبوابك الراغب # وكما جاء في قول البحتري: # تولته أسرار الصدور وأقبلت # إليه قلوب من محب وراغب # وكما يعلم الأب لو أنه يقرأ كتب النحو فضلا عن الدواوين، وأقوال ~~الأدباء ms394. # وانتقد الأب قولي: «عسوفا إذا ما الخوف قد كان أحزما»؛ لأن الشرط والتحقيق لا ~~يجتمعان! فنحن نقول له أصبت يا مولانا لولا أن «إذا» تستعمل للشرط في حالة ~~التحقيق، بخلاف «إن» التي تستعمل للشرط في حالة التشكيك. # وتزعم المجلة أن قولنا: «ألا ولتفرق والدا عن وليده» غير فصيح؛ لأن اللام لأمر ~~الغائب فلا يدخلها الفصحاء على المخاطب، وحسبنا نحن أن نقول له: إن النحاة لم ~~يجدوا لهم سندا أفصح من قول الشاعر: # إذا جن جنح الليل فلتأت ولتكن # خطاك خفافا إن حراسنا أسدا # ليستدلوا به على جواز نصب خبر «إن»، وحسبنا أن نورد له أن القرآن الكريم يقول ~~في قراءة أبي: «فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون.» # وأخذت علي المجلة قولي: # دهر يدور صباحه ومساؤه # متعاقبان على مدى الأيام # قالت: والأولى جعل «صباحه» فاعلا ليدور، ونصب «متعاقبان» على الحالية، ونحن ~~نقول ليس هذا هو الأولى، بل الأولى ما ذكرناه إذ جعلنا صباحه مبتدأ، فما دليلك ~~- أصلح الله حالك - يا هذا المغرم المعنى بالأحوال؟! # وخطأتنا «لغة العرب» لأننا نقول: # يرفلن في الحسن القشيب كأنما # ألبسنه يبقى على الأعوام # لأن الصواب في رأيها أن نقول «كأن ما» ليعود ضمير يبقى إلى «ما» فهل رأى القراء ~~«عالما» باللغة العربية يجهل أن «ما» بعد «كأن » تكون كافة عن العمل، ولا تكون ~~موصولة حيثما ترد؟ # وخطأتنا لغة العرب أيضا في قولنا: # وتسلبني نورا أراك بوحيه # فأظهر ما أخفى سواد الدياجر # لأن الصواب في رأيها أن نقول «كنت أراك بوحيه»، فهل يدري أحد لماذا أجاز لنا ~~صاحب لغة العرب أن نقول «تسلبني» عن الماضي ولم يجز لنا أن نقول: أراك بدلا من ~~«كنت أراك»؟ # وخطأتنا «لغة العرب» لأننا نقول: # يهم ويعييه النهوض فيجثم # ويعزم إلا ريشه ليس يعزم # لأن الصحيح في زعمها أن نقول: # إلا ريشه فهو ليس يعزم، أو إلا أن ريشه ليس يعزم، فإن ريشه مستثنى ~~منصوب فلا يصح أن يخبر عنه بقوله ليس يعزم. # أهكذا يا عالم العربية؟ ألا يجوز أن تكون «إلا ms395» بمعنى لكن، وأن ~~يكون ما بعدها جملة مركبة من مبتدأ وخبر؟ اعلم يا هذا أن هناك ~~شيئا يسمى الاستثناء المنقطع، وراجع باب الاستثناء إلى آخره يفتح ~~الله عليك الأبواب! # وأنكر علينا مولانا أن نقول: # لقد رنق الصرصور وهو على الثرى # مكب وقد صاح القطا وهو أبكم # لأن رنق بمعنى خفق بجناحيه، ورفرف ولم يطر، لا كما شرحناه بقولنا طار طيرانا ~~خفيفا، فليقرأ إذن مولانا ما جاء في لسان العرب في مادة رنق، حيث يقول اللسان: ~~الترنيق كسر الطائر جناحيه من داء، أو رمي حتى يسقط، وهو مرنق الجناح، وأنشد ~~«فيهوي صحيحا أو يرنق طائره» وترنيق الطائر على وجهين: أحدهما صف جناحيه في ~~الهواء لا يحركهما، والآخر أن يخفق بجناحيه، ومنه قول ذي الرمة: # إذا ضربتنا الريح رنق فوقنا # على حد قوسينا كما خفق النسر # ورنق الطائر: رفرف فلم يسقط ولم يبرح، هكذا يفهم العرب الترنيق، فما قول «لغة ~~العرب» لآخر الزمان في لغة العرب من أول الزمان؟ # وتقول المجلة في قولنا: # أكان للمرء أيما أرب # في الصبر لولا كوارث الزمن؟ # ليس من الصواب جعل أيما وهي للاستفهام اسما لكان المصدر كذلك بهمزة الاستفهام، ~~ثم إن «أي لها صدر الكلام، فلا يجوز من هذا الوجه أيضا جعله اسما ~~لكان.» # هذا قول «لغة العرب ...» ونحن نسألها: ما رأي «لغة العرب» في قولنا لها: «لم نر ~~أي خطأ فيما انتقدت ولم يزعم أي أحد ما تزعمين.» أهذا كلام صحيح أو غير صحيح؟ ~~فإن كان صحيحا؛ فلماذا لا يصح كذلك أن تكون «أي» اسما لكان و«ما» زائدة، كما ~~قد ترد زائدة بعد «أي» في غير موضع الاستفهام؟ # وتنكر علينا المجلة قولنا «لست على الصبر مزريا»؛ لأن «أزرى» يتعدى على الفصيح ~~بالباء، ولم نعرف أحدا غيرها يجترئ هذا الاجتراء، وينكر تعدية أزرى ب «على»، ~~وهي في كل كتب اللغة تتعدى بها كما تتعدى بالباء. # إن الرجل لعدو نفسه، ولو لم يكن عدوا لها لما تورط بها في نقد يكشف للناس ~~حقيقة منه، لعلها كانت ms396 خافية عليهم، وستظل خافية إلى زمن بعيد، فقد أعلمهم من ~~حيث لا يعلم أنه جاهل بالنحو هذا الجهل المعيب، بعد اشتغاله به سنين عدة، وإنها ~~لفضيحة منكرة، ما كان أغناه عنها لولا التهجم والادعاء. # | مثال من النقد1 # جاءني الجزء السادس من السنة السادسة لمجلة لغة العرب التي يصدرها في بغداد ~~الأب «أنستاس ماري الكرملي»، الذي رأى القراء مثالا من نقده للشعر فيما كتبناه ~~عنه بالبلاغ الأسبوعي، وفي هذا الجزء السادس مثال آخر من نقده، يدل كما دل ~~سابقه على جهل مطبق بقواعد اللغة، وفهم ضيق للأدب ومعاني الشعر، لم نر له ~~مشابها بين جهلاء النقدة، وأدعياء اللغة، وهم غير قليلين، وفي ردنا على نقد ~~هذه المجلة لديواننا فائدة قيمة غير فائدة التصحيح، وإظهار الأخطاء التي وقع ~~فيها الناقد المغرور، وهي الكشف عن حقيقة الشهرة التي تنال أحيانا في بلادنا ~~الشرقية، فقد تذيع عن بعض الناس سمعة العلم بالعربية، وهم يجهلون من أولياتها ~~وأصولها ما يفرض علمه في صغار الشداة المبتدئين، وترى هؤلاء «المشهورين» يبيحون ~~أنفسهم مقام الإفتاء والتحليل والتحريم في لغة العرب، وهم لا يفقهون منها ~~جائزا ولا ممنوعا ولا يقيمون فهم عبارات منها، قلما تخفى على سواد ~~الناس. # وفي طليعة هؤلاء صاحب مجلة «لغة العرب» الذي لا تقرأ له فصلا إلا رأيته يجزم ~~بتحريم هذا، واستهجان ذاك، ويقول في ثقة الحجة العليم بالدقائق والجلائل: هذا ~~يقال، وهذا لا يقال، وهذا حسن وهذا غير حسن، ولو راجع أشيع كتب النحو والصرف، ~~وفهم أبسط القواعد اللغوية لعرف خطأه، وترك مجلس الأستاذ الناقد إلى مجلس ~~التلميذ المتعلم المشكوك في فلاحه، وإن طال عليه زمان الدراسة والتلقين، فالكشف ~~عن حقيقة هذه الشهرة الزائفة باب من أبواب العبرة، خليق أن يقصد لذاته، ويتخذ ~~مثالا لغيره، من ضروب السمعة التي لا تقوم على أساس. # يشتمل نقد هذا الأعجمي الذي يرى أن ديواننا قبر للمعاني البالية، والسخافات، ~~والأغلاط على مآخذ معنوية ومآخذ لغوية، فأما المعنوية فهذا نموذج منها، وفي ~~إيراده الكفاية: قلنا: # قد كنت تبلغ ما ms397 تروم وتشتهي # لو أن للأيام عينا ترقب # لا يذهبن بك القنوط فربما # عاد الصباح وأنت لاه تطرب # وأنكر المعنى فقال: «كيف يؤمل له أن يلهو ويطرب، بعدما أحال أن ينال ما يروم ~~ويشتهى؟» # وقلنا في قصيدة حمام البحر: # لا بل منيت بفتنة خلعت # جلبابها للكر والفر # والغيد أنفذ ما رمين إذا # جردن عن زرد وعن ستر # ونقده العلامة الفهامة فقال: «أي علاقة لحسناء تستحم بالكر والفر!» # وقلنا نخاطب الزهرة: # فريدة الأفق أسعديني # وخالسي النجم وارمقيني # والعلامة الفهامة يقول: «إذا كانت الزهرة كما يتوهم الأستاذ ربة الحب، فمن أي ~~نجم تخاف ليأمرها بقوله: وخالسي النجم وارمقيني؟!» # وقلنا في وصف البحر: # لم أبصر الآذي فيه كأنه # خيل الطراد تسوقهن صباه # إلا وددت بأن أراه فلا أرى # أفقا يصد الطرف دون مداه # والعلامة الفهامة يقول في نقد القصيدة: «من العجيب أن يود رؤية البحر من يبصره، ~~والقصيدة برمتها سخيفة!» # قلنا في الشمس: # لقد طال عمر الليل حتى حسبتها # توارت من الغرب المعصفر في رمس # والعلامة الفهامة يقول: «خلاصة البيت أن الليل قد طال فحسب أن الشمس قد توارت ~~في رمس، هو المغرب المعصفر، والمغرب يكون معصفرا بعد تواري الشمس بقليل، ولكن ~~هذه العصفرة لا تشاهد إذا طال الليل.» # هذا نموذج من فهم العلامة الفهامة لمعاني الشعر ونقده، وما أظن هذا الهراء ~~يحتاج إلى رد أكثر من إيراده بحرفه، فليكن ردنا عليه أننا نشير إليه. ~~••• # أما المآخذ اللغوية فقد علم القراء آنفا ما انطوت عليه من جهل هذا الناقد ~~الأعجمي بأصول النحو والصرف جهلا يدفع به إلى تخطئة ما لا شك في صوابه، وما قد ~~وردت النصوص باستحسانه أو بوجوبه، وسيرون في بقية نقده عجبا كذلك العجب، وغباء ~~لا غباء مثله في فهم لغة العرب من صاحب «لغة العرب ...» # جاء في المجلة ص468: وقال: «خياشيمه م القيظ يبضضن بالدم» والميم ~~في «م القيظ» مخففة من «من» الجارة وهذا ~~التخفيف ذميم، وإن ارتكبه بعض الجاهليين. # هكذا يقول العلامة الفهامة، والعلامات الفهامات يجب عليهم أن يعلموا ms398 ويفهموا أن ~~أبا حيان يقول في هذا الحذف إنه حسن، وكثير، فهو إذن ليس بذميم ولا ~~قليل. # وجاء في المجلة ص468: وقال في قصيدة ليلة الوداع: # تطلع لا يثني عن البدر طرفه # فقلت: حياء ما أرى أم تغاضيا؟ # وأنت تعلم أن مقول القول لا يكون إلا جملة، فما وجه نصب حياء والمعطوف عليه ~~تغاضيا! # هكذا يقول العلامة الفهامة، والعلامات الفهامات يجب أن يعلموا ويفهموا أن ~~المفاعيل في العربية خمسة وليست مفعولا واحدا هو ذاك الذي يأخذ علامتنا ~~وفهامتنا بخناقه، فحياء منصوبة هنا؛ لأنها مفعول له أو مفعول لأجله، والمعنى ~~كما يفهم كل قارئ هو: «هل للحياء تفعل ما أرى أو للتغاضي!» أما الذي يخطر له أن ~~حياء هنا لا بد أن تكون مفعولا به، ولا بد أن تكون خطأ لأنها آتية بعد القول، ~~فذلك هو الببغاء الذي يحفظ أسماء المنصوبات، ولا يدري أين تكون مواقعها من ~~الكلام. # وجاء في المجلة ص468 وقال: # كأن فؤادي طائر عاد إلفه # إليه فأمسى آخر الليل شاديا # يريد فشدا آخر الليل، وقوله: «فأمسى آخر الليل شاديا» كمن يقول أمسى فلان ~~مغنيا عوض «غنى فلان» والفرق بين المعنيين ظاهر. # هكذا فهم صاحب لغة العرب، ولكن العرب الذين لا يفهم لغتهم صاحب لغة العرب ~~يقولون: «لا أكلمك آخر الزمان» ويعنون إلى آخر الزمان، ونحن هنا نقول أمسى آخر ~~الليل أي أمسى إلى آخر الليل، وهبنا قلنا أمسى فلان مغنيا، فنحن على هذا نريد ~~أنه قضى المساء كله في الغناء فأي خطأ في ذلك، وما وجه الاعتراض عليه؟! # وجاء في المجلة ص468 وقال: # وأشكوه ما يجني فينفر غاضبا # وأعطفه نحوي فيعطف راضيا # يريد أن أشكو إليه ما يجني و«أشكو» لا يتعدى إلى مفعولين. # رجعنا إلى المفعول به كأنه هو كل بضاعة صاحبنا العلامة الفهامة من المنصوبات! ~~و«ما» هنا ليست مفعولا ثانيا، وإنما هي بدل اشتمال في محل نصب على البدلية من ~~مفعول «أشكو»، فهل لم يرد باب البدل على العلامة الفهامة؟ أو هو ورد عليه ولم ms399 ~~يفهمه ولم يعرف تطبيقه؟ ومع هذا لو أننا عدينا «أشكو» إلى مفعولين لما كان في ~~ذلك خطأ كما سيرد بيانه. # وجاء في المجلة ص468: وقال: # وأسلمت كفي كفه فأعادها # وقلبي فهلا أرجع القلب ثانيا # أراد أسلمت إلى كفه كفي فأعادها، وأسلمت قلبي، ولم يرجعه فلم يفصح، ثم إن أسلم ~~لا يتعدى إلى مفعولين. # وجاء في المجلة ص469: «إن نؤجله الحساب إلى الغد» وأجل لا تتعدى إلى ~~مفعولين. # المفعول به أيضا! لكأن اللغة العربية لا تشتمل على غير المفعول به، أو كأن ~~الأفعال لا عمل لها إلا التعدية! ويخيل إليك أن الرجل لكثرة ترديده هذا المفعول ~~قد حفظه، واستقصى بابه فلا يفوته حكم من أحكامه، ولا موقع من مواقعه، ولكن ~~أتراه قرأ باب الحذف والإيصال في تعدية الأفعال؟ بل أتراه قرأ شرح الألفية لابن ~~ناظمها وهي من أوليات الكتب النحوية؟ لو أنه قرأه لرأى فيه صفحة 127 من طبعة ~~دمشق: يحذف حرف الجر وينصب مجروره توسعا في الفعل وإجراء له مجرى المتعدي، وقد ~~يفعل نحو هذا بالمتعدي إلى واحد فيصير متعديا إلى اثنين كقولهم في كلت لزيد ~~طعامه ووزنت له مالي. تقديره كلت زيدا طعامه ووزنته مالي، فلا خطأ في قولنا ~~«أشكوه ما يجني» ولا في قولنا «أسلمت كفي كفه» ولا في قولنا «نؤجله الحساب» ~~وإنما الخطأ والجهل في تخطئة هذا الصواب المجمع عليه، وهو قاعدة من القواعد ~~المحفوظة المدونة في أمهات الكتب النحوية، ولعمري إن الرجل الذي يجهل مواقع ~~البدل والمفعول لأجله، ويجهل حكم المفعول به، وهو لا يفتأ يعيد ذكره ويكرر ~~إعادته، لحقيق أن يتعلم النحو في المكاتب الأولية، لا أن يتصدى بالتخطئة لأناس ~~يعلمون النحو من هم أعلم به من هذا الأعجمي المأفون. # وجاء في المجلة ص489: وقال من قصيدة المنظار المقرب: # أنت عين من زجاج موقها # يجذب الأنوار من كل سماء # شرح الموق، فقال: هو الحدق، والموق طرف العين مما يلي الأنف، وهو مجرى الدمع ~~ولا دخل له بالرؤية، فلا يصح قوله: يجذب الأنوار من كل سماء ... # ذلك ms400 قصارى ما يلحنه العلامة الفهامة من لغة العرب، ولكن العرب يطلقون الجفن ~~ويريدون العين، ويذكرون الجزء، ويعنون الكل، والموق بعد غير متفق على أنه طرف ~~العين مما يلي الأنف، كما يقول هذا المتعسف الجهول؛ لأن الموق يطلق على مؤخر ~~العين ومقدمها معا، كما جاء في لسان العرب وغيره من المعاجم، وفي اللسان ~~يستشهد الشاعر: «والخيل تطعن شزرا في مآقيها» ولا أظن عقلا غير عقل علامتنا ~~الكليل يفهم أن الطعن موجه إلى أطراف العيون مما يلي الأنف، دون سائر ~~الأحداق! # وجاء في المجلة: وقال: # ما للأماني يستضحكن لي غررا # وقد سلوت ويستحدثن لي غزلا # واستضحك بمعنى ضحك فهو لا يتعدى إلى المفعول ... # المفعول مرة أخرى والتعدي مرات ومرات، فأما وقد أعلمناك - يا علامة - أن في ~~اللغة شيئا يسمى المفعول لأجله، فاعلم يا هذا أن «غررا» هنا مفعول ~~لأجله. # وجاء في المجلة: وقال: «فاحتلن لاستدراجي الحيلا» واحتال فعل لازم لا يتعدى، ~~فالعبارة خطأ إلا إذا تكلفنا فجعلنا الحيل مفعولا مطلقا لاحتلن. # ونحن لا ندري ما التكلف هنا وليس المفعول المطلق - كما يعلم التلميذ الصغير - ~~إلا المصدر المنتصب توكيدا لعامله أو بيانا لنوعه؟ هبه أراد أن يجيء بالمفعول ~~المطلق في هذه الجملة بغير تكلف فكيف تراه كان يجيء به، أم امتنع المفعول ~~المطلق من الكلام لئلا يكون في اللغة غير مفعوله الحبيب إليه؟ # وجاء في المجلة: وقال من قصيدة الشتاء في أسوان: # ما طب جالينوس قي # س بطبه إلا غرور # وقيس حال من «طب جالينوس» وإذا وقع الماضي حالا وجب تصديره بالواو وقد، أو ~~بقد، أو الواو وحدها. نعم ورد مثل «كما انتفض العصفور بلله القطر» ولكن هذا لا ~~يقاس عليه. # لا يا جاهل. يقاس عليه ويقاس ويقاس! ففي القرآن: # أو ~~جاءوكم حصرت صدورهم ~~، ومن الشواهد التي نذكرها لك ~~ونتحرى ألا تكون إلا من كلام أقحاح العرب قول المثلم بن رياح: # تصيح الردينيات فينا وفيهم # صياح بنات الماء أصبحن جوعا # وقول المرقش الأكبر: # وتصبح كالدوداة ناط زمامها # إلى شعب فيها الجواري العوانس # وقوله ms401: # قلقت إذ انحدر الطريق لها # قلق المحالة ضمها الدعم # وقوله: # هل تعرف الدار بجنبي خيم # غيرها بعدك صوب الديم؟ # أمست خلاء بعد سكانها # مقفرة ما إن بها من أرم # إلا من العين تراءي بها # كالفارسين مشوا في الكمم # وقول صخر بن عمرو بن الحارث بن الشريد أخي الخنساء: # لنعم الفتى أدى ابن صرمة بزه # إذا راح فحل الشول أحدب عاريا # وقول سويد بن أبي كاهل اليشكري: # تمنح المرآة وجها واضحا # مثل قرن الشمس في الضحو ارتفع # وقول طرفة: # وكرى إذا نادى المصاف مجنبا # كذئب الغضا نبهته المتورد # وقول كعب بن زهير: # سح السقاة عليها ماء محنية # من ماء أبطح أضحى وهو مشمول # فهل يكفيك هذا أو نزيد؟ # وجاء في المجلة: وقال: # أبدا تحوط به ودا # ئعها بسور خلف سور # وتحوط فعل متعد بمعنى تحفظ، وإنما أراد تحيط به فلم يحسن التعبير. # يا لهذا المفعول المسكين! يا ابن آدم نحن نقول لك: إن الفعل متعد حقا، وإننا ~~أوردناه كذلك وجعلنا ودائعها مفعولا له، ولكنك أنت الذي تقرأ ولا تفهم. أما ~~الفاعل فهو الضمير عائدا على الطبيعة التي تقدم ذكرها في بيت سابق. # بلد تجود له الطبي # عة بالصغير وبالكبير # وجاء في المجلة: وقال: # ما كان أول مغرب # شهدت على مر العصور # والمغرب مذكر لا يحسن وصفه بشهدت. # ومن واجب هذا الدعي أن يعقل قبل أن ينقد، فإن التأنيث هنا للشمس التي يعود ~~إليها الكلام كله في الأبيات السابقة وأولها: # والشمس شاخصة تكا # د تنوء من جهد المسير # على أن المغرب تؤنث وتذكر، مؤنثة في كتب الفقه واللغة التي فات صاحب «لغة ~~العرب» أن يطلع عليها. # وجاء في المجلة: وقال من قصيدة البدر والصحراء: # إيها أبا النور أطربنا فكم لك من # لحن على البيد لم يطرب له أحد # قال أطربنا فهو يريد الإطراب، فلا معنى لإيها فإنها للإسكات. # أخطأت وجهلت يا علامة! راجع لسان العرب تعلم أن إيها ترد «بمعنى التصديق والرضا ~~بالشيء» كما ترد بمعنى الإسكات. # وجاء في المجلة: وقال: «ليست ms402 شآبيبك الحفلى بمغنية» ولم أستحسن الحفلى ... # ونقول له: «ونحن لا نحفل باستحسانك!» # وجاء في المجلة: وقال: # أراك تغوينني بوحي # إلى السماوات يزدهيني # لا يقال أغواني إلى الشيء ... نعم! ولكن يقال بوحي إلى السماوات، وهذا هو الذي ~~قلناه، فافهم! # وجاء في المجلة: وقال: # يا طالما تخدع الدراري # لواحظ الشاعر الحزين # وتخدع مضارع فهو للحال، أو المستقبل، والمستقبل لم يجئ بعد، والحال أقصر من أن ~~يطول، فضلا عن كونه لم يطل في الماضي. نعم يجوز أن تقول طالما خدعت، ولكن لا ~~يجوز «طالما تخدع». # هكذا يعقل العربية هذا العلامة! ولو كان يتهجى النحو لعلم أن «ما» المصدرية ~~تدخل على المضارع أكثر من دخولها على الماضي، وأن المضارع يكون للاستمرار، ولا ~~يجوز هنا أن نقول طالما خدعتنا الدراري؛ لأنها تخدعنا ولا تزال تخدعنا في كل ~~حين، فلم ينقطع الخداع بانقطاع زمن مضى، كما يتصور هذا اللغوي العجيب. # وجاء في المجلة: ثم قال: «كفاكم نومة المنون» وهو يريد تكفيكم، فإنهم لم يموتوا ~~بعد. # ولو أن هذا الأعجمي يقيم فهم الجمل العربية كما يفهمها السوقة والصبيان على ~~الأقل، لفهم أن العرب تقول: هداك الله وعلمك العربية، وكفاك شر الادعاء» وهم ~~إنما يعنون يهديك، ويعلمك، ويكفيك. # وجاء في المجلة: وقال من قصيدة ليلة الأربعاء: # يمن الله سعيه من رسول # يطرق الأرض وافدا من ذكاء # والضمير في سعيه راجع إلى القمر و«يمن» لا يتعدى بنفسه. # لا يا أيها الدعي المتعسف! بل يتعدى بنفسه، ولهذا يجيء منه اسم المفعول على ~~ميمون، ويذكر بغير حرف الجر. # وجاء في المجلة: وقال: «أذكرتني بك الكواكب» والصواب «أذكرتنا إياك فإن أذكر ~~يتعدى بنفسه إلى مفعولين. عدنا ما أدري للمرة كم إلى التعدية والمفعولات، وليس ~~أعجب من جهل صاحب «لغة العرب» إلا إقدامه على المنع بصيغة الجزم الذي لا مراجعة ~~فيها، فليعلم إذن أن «الذكر» مجردا ومزيدا يتعدى بالباء كما جاء في القرآن ~~الحكيم: # ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن ~~أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم ~~بأيام الله ~~. # وليعلم - وأجرنا في تعليمه ms403 على الله الذي خلقه - أن الباء لا تكون للتعدية ~~وحدها، ولكنها تأتي لاثني عشر معنى، وتدخل في بعض هذه المعاني على الاسم الذي ~~يتبع الفعل المتعدي كما جاء في قول الراعي وهو عربي قح: # هن الحرائر لا ربات أحمرة # سود المحاجر لا يقرأن بالسور # و«يقرأ» يتعدى بنفسه كما كان يقول علامتنا الجهالة لو حضر الراعي في ~~أيامه. # وكما جاء في قول امرئ القيس: «هصرت بغصن» وهو يتعدى بنفسه. # وكما جاء في قول الأعشى: «ضمنت برزق عيالنا أرماحنا» وضمن يتعدى بنفسه أيضا، ~~وكما جاء في القرآن: # لا تأخذ بلحيتي ولا ~~برأسي # وأخذ يتعدى بنفسه، وكما جاء كذلك في القرآن: # وهزي إليك بجذع النخلة # وهز يتعدى ~~بنفسه، وكما جاء كذلك في القرآن: # فستبصر ~~ويبصرون * بأييكم المفتون # وأبصر ~~يتعدى بنفسه، وكما جاء كذلك في القرآن: # ولا تلقوا ~~بأيديكم إلى التهلكة # ويلقي يتعدى بنفسه إلى آخر ما ~~ورد في فقه اللغة، وأدب الكاتب في هذا الباب. # فقبل أن تحفظ كلمة التعدية يا هذا الدعي الجهول، احفظ مواضعها وأحكامها، وتتبع ~~شواهدها في كلام العرب، وكتب الأدب، ثم أقدم على تخطئة من له من التلاميذ أناس ~~يعرفون ما تجهله أنت من مبادئ العربية والآداب، ومن لو رأى تلميذا في غباوتك ~~أيام اشتغاله بتدريس النحو والأدب لألقى به إلى خارج الحجرة، لا يعود إليها إلا ~~إذا عاد بعقل جديد. # ولقد أضعنا الوقت وأطلنا في مناقشة جاهل، بلغ من جهله ما يراه القراء، فلا لوم ~~علينا؛ لأننا لا نعد من ضياع الوقت أن نكشف لقراء العربية كيف يشتهر مثل أنستاس ~~الكرملي هذه الشهرة «باللغة» وهو من علم اللغة بهذا المكان الحقير، فإن في ذلك ~~كما قلنا لعبرة، وإن فيه لتصحيحا لمقاييس الناس، وفتحا لأعينهم على حقائق ~~الدعاوى والإشاعات. # | روسو1 # بعد مائة وخمسين سنة من وفاته هل فشلت الديمقراطية؟ # عاش مظلوما طول حياته، وبقي مظلوما بعد مماته، وكانت رسالته في هذه الدنيا أن ~~يرفع الظلم عن المظلومين! # لكل عظيم سخرية من سخريات القدر في تاريخه، وكل تاريخ «روسو ms404» سخرية تتبعها ~~سخرية، ومفارقة تتلوها مفارقة، فهو أستاذ التربية الذي ضاع أبناؤه في ملاجئ ~~اللقطاء، وهو أستاذ الاستقلال الذي لم يعش في حياته مستقلا عن المعونة، وهو ~~أكبر أبناء زمانه أثرا في العالم كله وأقلهم نصيبا من زمانه. عاش مظلوما ولا ~~يزال مظلوما، ولبث طوال أيامه يرفع الظلم عن المظلومين! # أكبر أبناء القرن الثامن عشر أثرا في العالم كله يأكل خبزه مضيفا في بيوت ~~المحسنين، والرجل الذي زعزع رواسي الأرض تحت أقدام النبلاء كان يصيب طعامه ~~أحيانا على موائد النبلاء، فإن ضاق به هذا الرزق فهو خادم في قصر، أو معلم ~~دروس موسيقية، أو ناسخ ينسخ نوطة التوقيع بدراهم معدودة، أو مقتات بأعشاب ~~البرية يجمعها بيديه، أو شريد بين البلاد ينفر من كل إنسان، وينفر منه كل ~~إنسان، ولد منبوذا مهملا، ومات منبوذا مهملا، وبخلت عليه الدنيا بقوت رجل، ~~وجاد هو على الدنيا بدساتير أمم، وغذاء عقول ما له من نفاد. # عاش مظلوما وكانت الطبيعة التي أحبها وفتح محرابها أول ظالميه، وكان هو أكبر ~~الظالمين لنفسه في حياته الفانية وسيرته الباقية، وإلا فما له ولهذه ~~«الاعترافات» التي سجلها على نفسه وخلد بها وصماته، وأقام بها حجة الناس عليه ~~وما هم بخير منه، ولا هو بأولى منهم بالندم والاعتراف؟ لكأنه تعود ازدراء الناس ~~فأحب أن ينغمس فيه إلى قراره، أو كأنه زهد في احترامهم الباطل فقذف بذلك ~~الاحترام في وجوههم وأبرز لهم أخفى خفياته ليقول لهم: ها أنا «روسو» حقير كما ~~تشاءون، ولكني «روسو» بعد ذاك على كل ما ترونه في من عيوب! # ما أضعفه من قوي وما أقواه من ضعيف! شبهه كارليل بالمصروع الذي ينهض بالقابضين ~~عليه حين تأخذه نوبة الصرع، ولكنه لا يتماسك من الضعف حين تفارقه النوبة، وربما ~~أصاب كارليل في وصفه، ولكنه لا يقدح في شأنه ولا في شأن عمله؛ لأن ضعف هذا ~~المصروع مصيبة عليه لا يشاركه أحد فيها، كما يشاركه جميع الناس في قوته، بل هو ~~الضريبة التي يؤديها وحده ليغنم الناس ثمرتها دونه، فشكرا ms405 له على ذلك الضعف ~~الذي فرضته عليه الطبيعة فملكته القوة وسيرته حيث سار، ولو ملكها لعرف كيف ~~يستفيد منها لنفسه فلم يظفر منها الناس بكل ما ظفروا به غير شاكرين. # والحق أن للجهاد في الحياة بواعث قاسرة لا سلطان للمجاهد عليها، ولا قدرة له ~~على تبديلها، فهو مخلوق للجهاد أكان خيرا ما يلقاه أم كان ما يلقاه الوبال ~~والجحود، ولو كان الجزاء هو مبعث الجهاد في سبيل من سبل العقيدة لكان روسو أولى ~~الناس أن يكف عنه بما جوزي به في أيامه، ولعله كان أولى بالكف عنه لو اطلع على ~~جزائه بعد مماته، وعرف الميزان الذي توزن به الحسنات والسيئات في محكمة الذكر ~~والإعجاب. # ربما كان القدح في روسو أكثر من الثناء، وربما كان الكلام فيه أكثر من الإعجاب، ~~ولا تنس سوء النية في النقمة عليه، وتسفيه رأيه، وتصغير شأنه، فقد أسخط رجال ~~الدين ورجال الملك، ولم يكن حقيقا به أن ينتظر الشكر من غير الدهماء ~~المظلومين، ورجال الدين - كما يقول هيني - طوال الألسنة، ورجال الملك طوال ~~الأيدي، ورجال الدهماء طوال الآذان، أو هم لا يسمعون! # فلو كان روسو شرا مما كان عقلا وقلبا لما عز عليه أن يظفر بأكبر من قسمته ~~في الذكر والثناء، ولما كان بعيدا أن يقل القادحون فيه ويكثر المادحون له، وأن ~~يزداد الإعجاب به وينقص الحقد عليه، فإن مقياس التقدير الذي تدخل فيه إرادة ~~الناس كثير الاضطراب والتناقض والشذوذ، أو إن شئت فقل: إنه مطرد القياس، ولكن ~~على غير وتيرة نضبطها وندخلها في حساب معلوم، وكيف يزن الناس أعماء العظماء إلا ~~على الجملة أو على وجه التقريب؟ وكيف يزنونهم ولا حاجة بهم إلى وزنهم، وإنما ~~حاجتهم أن يأخذوا ما يعطونه، كما يأخذون ضوء الشمس وأنفاس الهواء؟ فلا الناس ~~مضطرون إلى وزن أعمال العظماء، ولا هم قادرون على تمحيص وزنها إذا اضطروا إليه، ~~وآفة العظمة أنها شيء لا يوزن بالموازين العامة، وأن الناس لا يملكون الموازين ~~العامة، وإن كان القباني أحيانا من الخواص. # وزد على ذلك ms406 الرغبة في الحذلقة وهي أشيع جدا من الرغبة في الصدق ~~والإنصاف. # فلا يندر أن ترى بين الناقدين اليوم من يصرف فلسفة روسو كلها بكلمة واحدة، ~~يأخذها على طرف كتاب، فمن هو روسو؟ هو حالم يقول بالرجعة إلى الطبيعة، ويزعم أن ~~كل حكومة في الأرض إنما قامت بعقد بين الحاكمين والمحكومين، وهذه أحلام ~~وتخمينات لا تليق بأبناء الزمن الحديث، فهل روسو الصحيح هو هذا «الروسو» الذي ~~يتخيلون أم أن الحذلقة هي التي خلقته في الأوهام وهي التي قضت عليه ذلك القضاء؟ ~~لا! إن روسو الصحيح يحلم، ولكن بتقويم المجتمع لا بتقويضه، ويقول بفكرة «العقد ~~الاجتماعي» التي قال بها من قبله، ولكنه يهذبها أحسن تهذيب وصلت إليه هذه ~~الفكرة في كل زمان، وهو أعظم في عمله الأدبي وعمله التشريعي من جميع معاصريه ~~واللاحقين به، أعظم من منتسكيو؛ لأنه يستمد الشريعة من حياة الإنسان ومنتسكيو ~~يستمدها من نصوص القوانين، وأعظم من فولتير؛ لأنه مبتكر مخلص وفولتير قليل ~~الابتكار قليل الإخلاص، وأعظم من ديدرو؛ لأنه تجاوز عصره وديدرو لم يبرح ~~مستغرقا فيه، ولعله لا يضارع بعض هؤلاء في سعة التفكير وملكة السخر، ولكنهم ~~بلا مراء لا يضارعونه في نفاذ البصيرة، وصدق الإلهام، وقد أجمل تقديره الأستاذ ~~كول مقدم مؤلفاته في اللغة الإنجليزية فقال: «لم يكن لكاتب آخر في زمانه مثل ما ~~كان له من الأثر البعيد، فيصح أن يقال: إنه هو أبو الحركة الرومانية في الفن ~~والأدب والحياة، وإنه كان عميق الأثر في المدرسة الألمانية الرومانية وجيتي في ~~مقدمتها، وهو واضع التحليل النفسي الذي فشا بعد ذلك في آداب القرن التاسع عشر، ~~وهو البادئ بنظريات التربية الحديثة، وهو فوق هذا جميعه يمثل الانتقال في عالم ~~السياسة من المذهب العتيق المتأصل في القرون الوسطى إلى فلسفة الحكومة العصرية، ~~وقد كان سلطانه على فلسفة «كانت» الخلقية، وعلى فلسفة الحق في مذهب هيجل جانبين ~~من جوانب مشاركته الأساسية في الفكر الحديث، وهو في الواقع هو الرائد العظيم ~~للمثاليين عند الألمان وعند الإنجليز.» # ولقد يضاف إلى ذلك أنه ms407 هو رائد المدرسة الروسية الحديثة في الرواية، وفي الغوص ~~على دخائل النفس الإنسانية، وأنه هو سابق الطبيعيين المصارحين من الشعراء ~~والأدباء الفرنسيين والألمان والإنجليز، فهو سابق شاتوبريان وجين بول ريختر ~~وبيرون، وهو إلى اليوم ظاهر الملامح في الأدب الفرنسي والأدب الإيطالي، وفي كل ~~أدب تناولته رسالته في عالم الكتابة وعالم التشريع، وقد تناولت رسالته في هذين ~~العالمين جميع الأقوام. # لم يكن روسو قريب الصلة بالجمهور؛ لأنه كان يكتب في النظريات السياسية من ~~وجهتها الفلسفية التي يعنى بها المفكرون والعلماء، ولا يعنى بتوجيه الخطاب إلى ~~سواد القراء، ولعل هذا الذي أغفل عنه أصحاب السلطان فأمنوا جانبه، ووادعوه ~~وخولوه بعض الحرية في شرح نظرياته مع مداراة قليلة كان يلجأ إليها لإخفاء ~~مقاصده التي يفزع منها المستبدون، ولكن المداراة لم تخف تلك المقاصد عن قرائه، ~~ولم تحل بينه وبين إطلاق نفس الفرد فيما يحسه من علاقته بالحياة وعلاقته ~~بالحكومة، فأطلقت اعترافاته وقصصه حرية الفرد في عالم الفكر والشعور، كما أطلقت ~~مباحثه حرية الفرد في طلب الحقوق ودفع المظالم، وكان له فضل لا يدانيه فضل كاتب ~~ولا خطيب في إنشاء الديمقراطية الحديثة ونقض أساس الحكم القديم. # واليوم يذكره الفرنسيون بانقضاء مائة وخمسين سنة على وفاته، والكتاب والمفكرون ~~والساسة يعيدون النظر في الديمقراطية الحديثة ليسألوا: هل تصلح الديمقراطية ~~لحكم الشعوب أم تراها فشلت بعد التجربة ، وآذنت بإخلاء المكان لنظام جديد؟ ~~والناقدون قد يجدون للديمقراطية عيوبا تحتاج إلى إصلاح، فهذا غير غريب ولا ~~منكور في عمل يأتي به الآدميون ولا سيما أعمال السياسة وتدبير الحكومات، ولكنهم ~~يخطئون جد الخطأ إذا هم نقدوا الديمقراطية؛ لأنها لم تحقق للأم مرتبة الكمال ~~المطلق في سياسة الشعوب، فإن الكمال المطلق لا يتاح لنظام ولا يدعيه أحد لما ~~جربناه أو ما سنجربه من الأساليب المنظورة في المستقبل، وحسب الديمقراطية أن ~~تقابل بالنظم الأخرى فترجحها في طول الزمن، ويثبت للناس أن جيدها خير من جيد ~~الحكومات، وهذا ثابت إلى اليوم؛ أن القائلين بثبوته أضعاف أضعاف القائلين بثبوت ~~سواه. # وما من قلق ينسب ms408 إلى الديمقراطية في هذا العصر إلا وهو مردود إلى بقايا الحكومة ~~المطلقة وآثار الاستبداد القديم، فالقلق في إسبانيا علته الحكم المطلق لا ~~الحكومة الديمقراطية؛ لأنها لم تكن قط ديمقراطية في تاريخها القديم والحديث، ~~والقلق في إيطاليا علته كذلك حكم القرون الماضية، وحكم الفاتحين المستبدين لا ~~الحكومة الدستورية التي لا عراقة لها في تلك البلاد، والأمتان العريقتان في حكم ~~الدستور في القارة الأوربية هما الأمة الإنجليزية والأمة الفرنسية، وهما مثلان ~~بارزان على فضل الحكم الدستوري ورجحانه على حكم الاستبداد، ولا خلاف في أمر ~~إنجلترا، ولكنهم قد يختلفون في أمر فرنسا، وهي فيما نرى غير قابلة للخلاف، فقد ~~كانت فرنسا كثيرة الثورات فبطلت فيها الثورات، وكانت عرضة للقحط والمجاعة فها ~~هي الآن غنية تقابل ثورات الحرب وزلزال الأسواق بصدر رحيب، وكانت حروبها لا ~~تنقطع وخصوماتها على حقوق العرش لا تنقضي، فها هي الآن لا حروب على العرش ولا ~~خصوم، وكانت تفقد أملاكها في عهد الحكم المطلق، فها هي في عهد الدستور تضيف ~~أملاكا إلى أملاك، فحاضرها خير من ماضيها، وحكمها على عهد الدستور خير من ~~حكمهما على عهد أقدر الملوك المطلقين. # وليس من صحة النقد أن نحسب على الديمقراطية بعض القلق في إسبانيا وإيطاليا، ولا ~~نحسب على الحكم المطلق ثورة الشيوعية الجائحة في البلاد الروسية، فلا مراء في ~~أن الحكم المطلق مسئول عن ثورة الشيوعية وعن العيوب التي أثارتها، ولكن ما أكثر ~~المراء في رد أسباب القلق في البلاد الأخرى إلى الحكومة الشعبية! وما أولاها أن ~~تكون من نقص تلك الحكومة وحاجتها إلى التمكين والتكميل. # لم تفشل الديمقراطية في تجاربها، ولم تأت ذكرى روسو بعد موته بمائة وخمسين سنة ~~في أوان لا يناسب مجد ذكراه، ولكن لعل هذه الغاشية العابرة ظلم جديد تعود هذا ~~المظلوم الذي راح يرفع الظلم عن الناس! # | فولتير الساخر1 # روسو وفولتير اسمان لا يفترقان. كتبت لهما الصحبة في الممات، وفي الأثر، وفي ~~الخلود، وفي التربة، وكانا في الحياة مفترقين يتراشقان بالتهم، ويتلامزان ~~بالألقاب. # ماتا في سنة واحدة وتعاد ms409 ذكراهما اليوم معا بعد انقضاء مائة وخمسين سنة على ~~وفاتهما في سنة 1778، ولما نفي نابليون إلى جزيرة إلبا نبش قبراهما ووضعت ~~عظامهما معا في غرارة وألقي بها في الجير المتقد على قارعة الطريق، جزاء ~~لهما على نقد رجال الدين، ونقد الملوك المستبدين! ولو شاءت تلك العظام أن تتكلم ~~لما استطاعت أن تنال من رجال الدين وعصابة المستبدين بعض ما ناله هؤلاء من ~~أنفسهم بتلك السخيمة البذيئة، ولو أعوز الحكيمين العظيمين برهان على صواب ما ~~فعلاه في الحياة من تحطيم تلك الأصنام البالية، وتقويض تلك العروش الخاوية ~~لتكفل رفاتهما المحترق بتكميل ذلك البرهان الناقص. إذ أي شيء أولى بالتحطيم ~~والتقويض من آداب أناس لا تصان بينهم عظام الأموات في مقرها الأخير؟ # ولد فرنسوا ماري أرويه في باريس سنة 1694، ولم يكن اسم فولتير إلا توقيعا ~~مستعارا عرف به في عالم الكتابة دون اسمه واسم أبيه، وقد تعلم بمدرسة ~~اليسوعيين فحفظ لها أجمل الذكرى في نفسه إلى آخر أيام حياته، وإن كان فيها قد ~~شحذ السلاح الذي شهره بعد ذاك على الكنيسة والقساوسة والنظم المرعية في ~~زمانه. # وما كان أحد ممن رأوه في طفولته يقدر له التعمير، أو بلوغ سن الرجولة لضآلته ~~وهزاله ورجفانه من فرط العصبية لأقل هياج يعتريه، ولكنه على ضعفه وتوفز أعصابه ~~قد عمر حتى نيف على الثمانين، وكافح شدائد الحياة وهزال البنية بالصبر ~~والوقاية، وحسن التدبير، ولم يستتم نضجه في الكتابة والتفكير إلا بعد أن جاوز ~~الستين! # وقد أراده أبوه على أن يدرس القانون مثله، فتظاهر بإرضائه وهو عاكف على النظم ~~ومطالعة الكتب الأدبية، وجره نظم الشعر إلى السجن وهو في مقتبل شبابه لولعه ~~بالهجاء اللاذع والسخر المؤلم، فمكث فيه إلى أن أفرج عنه الوصي على الملك لويس ~~الخامس عشر، وما بلغ الخامسة والعشرين حتى مثلت له «أوديب» في مسرح «الكوميدي ~~فرانسيز» ثم وظفت له الحكومة ما يساوي مائة وعشرين جنيها في العام، وهو مرتب ~~لم يكن بالقليل في تلك الأيام. # وحظي فولتير عند العظماء والنبلاء، وكبرت مكانته بينهم ms410، فرضي عنه من رضي ونقم ~~عليه من نقم، ولم يكن في وسعه أن يرضيهم جميعا لتنافسهم، وتباغضهم، واستطالته ~~هو بالتنكيت والسخرية على بعضهم في مجالس الآخرين؛ فبينما هو في قصر الدوق دي ~~سلي ذات ليلة إذ استدعاه إلى الباب شرذمة من الطغام بعث بهم الدوق دي روان ~~ليضربوه ويهينوه، فانهالوا عليه ضربا حتى أشرف على الموت، وراح فولتير بعدها ~~يقيم القيامة على الدوق دي رواه ويستدعيه إلى المبارزة، فقبضت عليه الحكومة، ~~وزجت به في سجن الباستيل، ولم ينطلق منه إلا على شرط أن يختار لنفسه النفي، ~~ويهاجر إلى بلاد الإنجليز. # وقد أجدت عليه هذه الهجرة فتعلم فيها كثيرا، وظهر أثرها في كتاباته عن النظم ~~الدستورية وحملاته على الحكومة المطلقة، ثم قفل إلى فرنسا فكسب ثروة عظيمة ~~بالمضاربة في أوراق الحكومة المالية، واستفاد من حصافته وذكائه في هذه الشئون، ~~ومن مقدرة فيه على اصطياد الكسب، لم تفارقه طوال حياته، وشغف في هذه الفترة ~~بالمركيزة دي شاتليه، فأخلص لها الحب وكانت هي المرأة الوحيدة التي شغلت باله، ~~وعلقت ذكراها بقلبه، فلما ماتت لم يطق البقاء في فرنسا ولم يكن فيها آمنا على ~~حريته، فقبل دعوة فردريك الكبير ملك بروسيا، ولبث في ضيافته سنتين حتى سئم ~~أطوار هذا الملك الغريب، وسئم الملك أطواره، وهي مثلها في الغرابة إن لم تكن ~~أغرب، فترك برلين ولاذ بمنزل معتزل على بحيرة جنيف عاش فيه إلى قبيل ~~وفاته. # وعاد إلى باريس قبيل موته بثلاثة أشهر وأيام، فجن جنون المدينة احتفاء به، ~~وتخفى النبلاء في ثياب الخدم ليظفروا بنظرة إليه، وجعل لا يظهر في مسرح إلا ~~تعالى الهتاف بحياته، وغمرته آكام الورود والرياحين، ولا يسير في الطريق إلا ~~ووراء مركبته رتل من مركبات الأصحاب والمعجبين، حتى احتاج إلى الراحة والسكينة، ~~فأوى إلى صومعته على البحيرة، وأدركته الوفاة فضنت عليه الكنيسة بقبر؛ لأنه لم ~~يكن يدين بالشعائر الكاثوليكية، وقديما ضنت عليه الأكاديمي بكرسي فيها؛ لأنه ~~لم يكن يدين بتلك الشعائر! # قال كارليل: «أصبحت ملكة الاستهزاء في فولتير أقوى مزاجه ms411، فلم يكن سؤاله الأول ~~في أمر من الأمور عما هو حق فيها بل عما هو باطل، ولم يكن يعنى بما يحب منه، ~~ويوقر ويناط بالقلب، بل بما ينكر ويزدري ويضرب به عرض الحائط في لهو ومجانة، ~~وفي هذا قد أصاب حقا أكبر الظفر والغلب، ولكنه لم يدخر من الثروة الصحيحة إلا ~~القليل، أما الإكبار، وهو أعلى ما يتاح لطبيعة الإنسان من الشعور، والتاج الذي ~~تزدان به مروءته، والذهب الثمين في نقده فما كان يلوح عليه أنه عرف منه حتى ~~الساذج في التبر رغامه، أو سمع بخبره في مأثور الأخبار، وكان مجد المعرفة ~~والإيمان غريبا عنه ولا عهد له بغير التنفيذ والتفسير؛ ومن ثم لم ينفذ ببصره ~~في أعماق الطبيعة، ولم يتجل له قط في بعض لمحاته ذلك «الكل» القادر في جماله ~~وغموضه السرمدي، وجلاله الشامل الذي تغيب في أطوائه الأنانية الصغيرة، وكل ما ~~تجلى إنما هو هذا الجزء أو ذاك بين أجزاء «الكل» الشامل، وما قد يكون بين ~~الجزئين من الفروق أو يكون فيهما من العيوب، فنظرته إلى الدنيا نظرة محصورة، ~~وصورة الإنسان في ذهنه صورة صغيرة، فإذا أنت محصتها لم تسفر لك إلا عن هيئة ~~سوقية، ولم تجد فيها إلا مرآة أو مرايا تنعكس فيها «الذات» ومصالح «الذات» ~~الضئيلة، وما كانت الفكرة الإلهية الكامنة في قرار جميع الظواهر أخفى على أحد ~~من خفائها عليه، فإذا قرأ التاريخ فهو لا يقرؤه بعين بصير ملهم، كلا، ولا بعين ~~ناقد نفاذة، وإنما يقرؤه بنظارتين من العداء للكثلكة، وما كان تاريخه رواية ~~رائعة تمثل على مسرح السرمدية الذي تضيئه مصابيح الشموس، وتخلفه ستائر الآباد، ~~والذي يكتبه الله وتفضي بنا شتى مغازيه إلى عرش الجلالة المحجب بالأنوار، كلا! ~~بل هو نادى حوار ممل متعب متعاقب عليه الدهور بين أصحاب الإنسكلبيديا وأصحاب ~~السربون، فليس ما نراه في فولتير عظمة بل هو الحذق البالغ، وليس هو القوة بل ~~النشاط والحركة، وليس هو العمق بل هو السطحية المحدودة.» # ولقد أصاب كارليل في مجمل تقديره، ولكن مع بعض ms412 الفلوتيرية التي أخذها هو على ~~فولتير، فهو يحمل المعول الفولتيري في نقد الرجل، وينظر فيه إلى «ما ينكر ~~ويزدرى ويضرب به عرض الحائط، لا إلى الذي يحب منه ويوقر ويناط بالقلب.» # فللرجل عذره في السخر وقلة الإكبار والاحترام؛ لأنه لم يكن يجد فيما يراه إلا ~~النفاق، والخواء، والتداعي في كل جانب ألقى عليه بالنظر، وكذلك كان يفعل معاصره ~~دافيد هيوم ومواطن كارليل، وهو لا ينتمي إلى أمة الإنكار والاستهزاء التي يحب ~~كارليل أن يرد فولتير كله إلى طبيعتها الفرنسية. # على أن فولتير لم يكن بالمنكر البحت؛ لأنه كان ينكر الكنيسة وشعائرها ولا ينكر ~~الله وعقيدته، وقد بنى كنيسة «لله»؛ لأنه كان يقول: إن الكنائس كلها تبنى ~~للقديسين، وهو يعبد السيد ولا يعبد الوصفاء والحجاب! # وليس من المعقول أن يتأصل حب العدل في نفس منكرة نافية كما تأصل في نفس فولتير، ~~فالذي ينفي كل شيء ويستهزئ بكل شيء، لا يعجب للظلم يغشي أحدا في هذه الدنيا ~~ولا يثور لنصرة المظلوم حتى لينصره بعد موته، أو لمكافحة الظالمين حتى ليغامر ~~في سبيل ذلك بحياته ورغده، ولك أن تسمي هذه الثورة تحديا، وغرورا، وإفراطا، ~~في القوة الغضبية والكبرياء، ولكنك لن تستطيع الرجوع بها إلى الإنكار البحت، ~~والنفي المطلق، إذ المنكر النافي لا يعرف كيف يحارب في صف دون صف، ولا كيف ~~ينجذب إلى ناحية دون أخرى، والمنكر النافي لا يعنيه أن يتغلب فريق على فريق أو ~~نظام على نظام؛ لأنهم سواء كلهم عنده في الخواء، وقلة الجدوى، واستحقاق الغبن، ~~أو المحاباة، فإذا شغلت الظواهر الخادعة ذهن فولتير عما وراءها فبقوة من ~~الحقيقة الكامنة وراء الظواهر يشتغل ذهنه بتمزيق ذلك الرياء، وتحقير ذلك ~~الاحترام الكاذب، ولن تضن بالاحترام على غير أهله نفس تجهل قيمة الاحترام ~~الصحيح ولا تبالي أن يناله من يستحقه ومن لا يستحقه، وإلا فماذا يهمك أن تقف ~~حياتك كلها على تحقير الحقراء إذا كان الاحترام الصحيح عندك ليس بالشيء الخطير ~~الذي تأباه على أولئك الحقراء؟ وقد يكون فولتير قليل الشعور بمصائب ms413 الأرواح، ~~فلا عزاء لها عنده، ولا محل لها في حسابه، وقد يكون زميله روسو أحس بهذه ~~المصائب وأكفل لها بالعزاء، ولكن من أدرانا أنه لو لم يحمل السيف في الميدان ~~لكان أقمن أن يحمل البلسم وخيمة الإسعاف! فطيبة الرجل وسخاؤه بالمال على ~~المعوزين، مع حبه للمال وحرصه عليه، وغيرته على العدل، ووفاؤه للصديق، وتلهبه ~~لنصرة المظلوم، وإيمانه بالله في عصر الجحود صفات لا تكون في غير العاطفة الحية ~~والطبائع النبيلة، وما ينبغي للجندي القادر على الحرب في ميدان الكفاح أن يطالب ~~بخصال الكهان، وأخوات الرحمة الذين يرافقون الجيش لجبر المكسور، ومؤاساة ~~الأرواح، وفولتير كان جنديا طول حياته فلا نطالبه بما لا يتفرغ له الجنود، ~~ولو كانوا من ذوي الرحمة، وحسن العزاء. # ولم يكن فولتير واسع الروح ولا عميقها، ولا فيلسوفا ولا شاعرا ولا مؤرخا بين ~~النخبة المختارة من الفلاسفة والشعراء والمؤرخين - هذا حق كما يقول كارليل - أو ~~أقرب منه إلى الحق أن نقول: إنه كان يعاب في الفلسفة والشعر والتاريخ، حيث ~~يحتاج الأمر إلى سعة الروح وعمق الإدراك، ولكنه بعد فيلسوف وشاعر ومؤرخ في كل ~~ما يتوفر لهؤلاء من جلاء النظرة، وسداد الفطنة، وحصافة اللب، وسرعة الخاطر، ~~وقوة العارضة، وهذه ملكات لا يستغني عنها الفلاسفة والشعراء والمؤرخون، ولا ~~يكون الذي تتوفر له صاحب نصيب قليل في هذه الأبواب. # كان فولتير فياضا كالعباب الزاخر، لا ينفد ولا يخذله القلم في مقام، أسلوبه ~~أسلوب الوضوح والسهولة والترسل بلا كلفة ولا تمحل كثير، وذهنه يتساوى سخاؤه في ~~البحوث وسخاؤه في كتابة الرسائل للأصدقاء والمعارف والسائلين والمستفسرين، فله ~~الآن عشرة آلاف رسالة محفوظة غير ما ضاع بينه وبين مراسليه؛ وكلها بأسلوب واحد ~~في الوضوح والقدوة والفصاحة والسلامة من نقائص التركيب، وكلها تكاد تضارع ~~مؤلفاته المحتفل بها في صفاء العبارة، وحسن الأداء، أما هذه المؤلفات فكثيرة ~~منها في الفلسفة معجم الفلسفة ومحاورات لا تحصى، وفي التاريخ عصر لويس الرابع ~~وشارل الثاني عشر، وفي الروايات زيروميزوب ومحمد وتانكرد وروما الناجية، وفي ~~القصص صديق وقنديد، وهذه الأخيرة ms414 خير ما كتب في تقدير نقاد الفن والحكمة، حتى ~~لقدا قالوا: إنها تغنيه عن جميع تصانيفه لو قضي عليها بالفناء. # وبعد فما الكتابة عن فولتير في هذه العجالة؟ هي تحية ليس إلا في هذه الذكرى ~~التي يجددون بها عمله اليوم، وإلا فقد كان فولتير دولة أدبية لا تماثلها دولة ~~أديب، وكان أوسع نطاقا من أن تحصره مقالة أو سفر كبير. # | سير العظماء1 # أطلعني كاتب زميل على كراسات مطبوعة من سير فلوطرخس التي ينقلها إلى العربية؛ ~~لأكتب لها مقدمتها، وليس أحب إلي من ظهور هذه السير باللغة العربية؛ لأنها معرض ~~واسع للعظمة في نواحيها المختلفة من حرب، وخطابة، وسياسة، وفلسفة، كما أدركها ~~رجل واسع الإدراك حصيف الذهن نقادة مميز بين اللباب والقشور والحقائق ~~والأباطيل. كشف النقاب بنافذ بصره عن أوهام كثيرة طالما انخدع بها أبناء عصره، ~~ويخيل إليك وأنت تقرأ تراجمه للعظماء أن الترجمة خرجت مكتوبة وحدها لفرط ~~بساطتها، وانساجمها وموافقتها لمجرى الأمور الطبيعية وملابستها للعظيم الذي ~~تمثله وتكسوه بغير فضول ولا تعمل، ومشابهتها للخلائق الحية التي تحيا ~~لنفسها، وتسير على قدميها، وتتماسك أعضاؤها وأنت لا تدري كيف كان مساكها، ولكنك ~~إذا أقبلت تدرس المقدرة التي أتاحت لفلوطرخس أن «يعاطف» العظمة في كل نوع من ~~أنواعها هذه المعاطفة السهلة البديهية التي توهمك أن الرجل يتكلم عن أبنائه أو ~~معارفه وأهل جيرته بعلم أصيل ، واسترسال لا أثر للكلفة فيه تبين لك أنه عظيم، ~~خلق لفهم العظماء ودرسهم كأنه لا يدرسهم، والحكاية عنهم كأنه يحكي عن حوادث كل ~~يوم، أو عن أبناء الأغمار التي لا غرابة فيها، ونقص كبير في المنقولات العربية ~~أن تظل محرومة من سير فلوطرخس وهي تغص بالمترجمات من أبطال القصص الفارغة التي ~~لا فائدة فيها، ولا هي تداني تلك السير في المتعة والإيحاء، واستجاشة العواطف ~~والأفكار. # أطلعني الكاتب الزميل على تلك الكراسات وأنا أتبع سير فلوطرخس حديث ظهرت ~~مؤلفاته وانتشرت بعد الحرب العظمى، وإن كانت له سمعة سابقة في وطنه بترجمة ~~النوابغ والأبطال، وهذا ال «فلوطرخس» الحديث هو «إميل ms415 لدفج» الألماني ~~الإسرائيلي مترجم المسيح، وجيتي، وبسمارك، وولهلم الثاني، ونابليون، وكاتب ~~عشرات من التراجم الصغيرة الموجزة التي لم ينقل منها إلى اللغات الأخرى إلا ~~القليل، و«إميل لدفج» هذا حقيق بأن يعد في طليعة المختصين بالترجمة للأبطال ~~والعظماء بسهولة تداني سهولة فلوطرخس، وبساطة تماثل بساطة الأساتذة الأقدمين، ~~لم يفسدها تعمد التحليل، واعتساف «النظريات»، وكانت دراسته الأولى للقانون ثم ~~تحول عنه إلى الرواية التمثيلية، ودون سيرة بسمارك في هذا القالب، فنبهته هذه ~~المزاولة إلى استعداده الفطري، وملكة التخصص فيه، فعدل إلى كتابة «السير»، وجرى ~~فيها على نمط شائق يعنى فيه بالحياة الداخلية أشد من عنايته بالوقائع الخارجية، ~~ويفرغ به شيئا من الجدة على السير التي ألفها القارئ، ومسحة من الإنسانية ~~المألوفة على كل عظمة، يرفعها التطويب والتقديس إلى مراتب الغرابة المنقطعة ~~والإعجاز المعزول. # يقول «لدفج» في الفصل الأخير من كتابه على نابليون: «إن كتابة تاريخ إنسان ~~وكتابة تاريخ حقبة من الزمن عملان منفصلان يختلفان في الاسم وفي الصنعة، وقد ~~فشلت كل محاولة أريد بها التوفيق بينهما، وأنكر فلوطرخس إحدى الطريقتين، وأنكر ~~كارليل الأخرى، ولهذا أفلح كلا الأستاذين في إنجاز عمله، ومن الإنصاف أن نقول: ~~إن مثال فلوطرخس لم ينسج على منواله ناسج، فلا أحد بعد قد صرف همه إلى كتابة ~~تواريخ العقول الكبيرة على أساس تاريخي بغير تصرف.» # ثم يقول لدفج: «إذا أردنا أن نصور حياة حافلة كحياة هذا الرجل لم يكن لنا بد من ~~أن نصبغها بألوانه، فلا غنى للكاتب عن الرجوع إلى كلام صاحب الترجمة، ولا خوف ~~من الإفراط في هذا الصدد مهما أفرط، إذ الواقع أن كل إنسان أقدر على شرح نفسه ~~من أي إنسان غيره، فهو وإن خطأ أو كذب يكشف عن ذات نفسه للذين يخلفونه، ويعرفون ~~الحق من أمره، على أن الكاتب أيضا ينبغي أن ينسى أنه يعرف الخاتمة؛ لأنه لا ~~يسعه بغير الانتقال من لحظة إلى لحظة ووصف الإحساسات المرهونة بأوقاتها كما ~~يحسها من لم يسبقها إلى النهاية المحجوبة، أن يحدث ذلك الشوق الذي يملأ ms416 ملاحقة ~~الحوادث بالخوالج الحية.» # هذا هو مذهب لدفج في كتابة الترجمة، فهو لا يفصل بين الأبواب والعهود، ولا يعير ~~الحوادث الضخمة عنوانا أكبر من عناوين الأخبار الدارجة والكلمات التي تقذفها ~~المناسبة في عرض الكلام، ولكنه يمزج بين حوادث اليوم الواحد أتم المزج إذا كانت ~~كلها ترجع إلى العوامل التي خلقها ذلك اليوم في سريرة البطل المترجم، منظورا ~~فيها إلى أيامه المتتابعة وظروفه الحاضرة، فربما عرض لك الكارثة الحربية إلى ~~جنب النكتة المرتجلة، وجمع بين الاثنين وبين وسواس العاشق وحنان الأب وضعف ~~الطبيعة الآدمية، فتحس وأنت تقرأ هذا جميعه أنه وليد حالة نفسية واحدة حقا، ~~وأن الأثر الكبير كالأثر الصغير في مرجعه إلى تلك الحالة النفسية، وعن هذا ~~الأسلوب يقول لدفج: «إنه من السهولة بمكان لكل كاتب عرف أن جدود الإنسانية ~~كبيرها وصغيرها مقدرة على السواء، فعرف من ثم أن الله هو المؤلف الأكبر لرواية ~~الإنسان.» ولكن الحقيقة أن الأسلوب الذي اختاره لدفج وبرز فيه هو أصعب أساليب ~~التراجم؛ لأنه بمثابة خلق رجل تصدر عنه أعماله وأقواله عفو البديهة، وفاقا ~~للأخبار التي رويت عنه والظروف التي أحاطت به، وأسهل جدا من هذا أن يؤرخ ~~الكاتب الحوادث بعناوينها ولا يضعها في موضعها من نفس صاحبها، أو يقرنها هناك ~~إلى بواعثها وهو يتجاهل الخواتم التي يعلمها ليحس كل حادثة في حينها، كما أحسها ~~العائشون معها ، فليس كل كاتب تهيأت له المعلومات من تاريخ نابليون أو جيتي أو ~~المسيح أو ولهلم الثاني بقادر على أن يصنع كما صنع لدفج، وينشئ نفسا يعيدها في ~~الحياة يوما فيوما بغير غفلة عن الماضي ولا تعجل للمستقبل، حتى ليبلغ من ~~ارتباط الأمور بمجراها المألوف أن ينسى القارئ كل غرابة ويذهل عن مواضع ~~الامتياز في طبائع أولئك الأفذاذ الممتازين؛ لأن كل شيء في مكانه وكل خبر في ~~سياقه المعهود، فلا محل للدهشة ولا مثار للإعجاب والاستغراب، وتلك مزية بولغ ~~في استيفائها حتى انقلبت إلى هفوة يلام عليها بعض اللوم، فقد أرضى الكاتب حاسة ~~«التوقع» في كل صغيرة حتى أخلف ms417 التوقع في جملة الصغائر والكبائر، فإذا قرأت ~~نابليون مثلا وأنت تتوقع أن ترى فيه «شيئا خارقا للعادة» كدت أن تنتهي منه ~~جزءا جزءا وأنت لا ترى شيئا خارقا للعادة في نابليون بحذافيره؛ لأن أجزاء ~~نابليون قد تناسقت لديك كما تتوقع بغير خلاف، ولهذا كنا نفضل ألا يستطرد المؤرخ ~~الكبير في أسلوبه بتلك السهولة وذلك الانسجام، وأن يعمد إلى التركيز من حين إلى ~~حين ليستوقف السياق المألوف، ويطلع قراءه على مواضع الغرابة والتقديس في البطل ~~الممتاز، كما أطلعهم على شئونه التي تجري في الحياة مجرى العادة والعرف ~~المشاع. # ولا يظن القارئ أن «لدفج» أهمل تعليل العظائم في تراجم عظمائه، أو خفيت عليه ~~معجزاتهم، وغابت عنه العناصر الإلهية في خلائقهم الآدمية. كلا! إن لدفج لم يهمل ~~علة ولم تخف عليه معجزة، ولا سها عن عنصر من عناصر القدرة الخارقة في تلك ~~الخلائق المعهودة ولكنه صب معادنهم صبا في قالبها الجامع حتى تاهت العظائم في ~~الزحام، واحتاجت في ذلك الحشد الزاخر إلى تنويه وإعلام، وحتى خيف على العظمة من ~~فرط التسهيل والتبسيط أن يجترئ على هيبتها كل مجترئ ويستباح ذمارها لكل ~~طامع. # وهنا نسأل: أيهما أفضل في تاريخ الأبطال، أن نسلك في تصويرهم سبيل التطويب ~~والتقديس والتوجه إلى الغريب والمعجزات، أو سبيل التبسيط والتسهيل والتوجه إلى ~~المألوف المشاع المطمع في التحدي والمحاكاة؟ # والواجب أن نعلم : لم نكتب ترجمة العظماء قبل أن نتفق على الأسلوب لترجمة ~~العظماء؛ فنحن نكتب هذه التراجم لإرضاء الشغف النفسي بالوقوف على كل سر، ~~والإحاطة بخفايا الوجود، ولا سيما خفايا النفس الإنسانية التي هي قبلة الإنسان، ~~وغاية ما يشغله ويستجيش عطفه وتفكيره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نكتب تراجم ~~العظماء لإنصافهم وتقديرهم وإعطائهم حقهم من جزاء التبجيل والإعجاب، ثم نكتبها ~~من جهة غير هذه وتلك؛ لنستحث المقتدين بهم على ترسم خطواتهم والتطلع إلى ~~مراتبهم؛ وفي كل غرض من هذه الأغراض لا ينفعنا أن ننفي عنصر الغرابة والتقديس ~~من تراجم العظماء، أو ندمجه في سياق العرف المألوف، إذ العرف المألوف ms418 لا يستفز ~~القدوة، ولا ينصف العظمة، ولا يبعث الشوق إلى المعرفة، فإبراز جوانب الغرابة ~~والتنويه بها هو الأساس في تراجم الأفذاذ الذين ما كانوا أفذاذا إلا لأنهم ~~غرباء يختلفون عن سواد الناس، فإذا دعانا الحق إلى الأمانة والتدقيق في تصوير ~~حياة العظيم، ورد عناصرها إلى أسبابها المعقولة بحيث لا تبدو عليها مناقضة ~~للحقائق الطبيعية، فلا بد أن نشفع ذلك بما يوازن هذه الأسباب المعقولة والحقائق ~~الطبيعية، فلا بد أن نشفعه بما يظهر للناس أن تلك الأسباب لا تكون معقولة ولا ~~طبيعية إلا مع نابليون مثلا، أو جيتي، أو ولهلم الثاني، أو المسيح، فمعقول ~~وموافق للطبيعة وغير عجيب ولا مدهش أن يعمل هؤلاء ما عملوا ويحدثوا في تاريخ ~~الإنسان ما أحدثوا، ولكن لماذا كان ذلك معقولا منهم وموافقا للطبيعة منهم ~~وغير عجيب ولا مدهش منهم وإن كان فيه العجب كل العجب، والدهشة كل الدهشة من ~~الآخرين؟ ذلك لأنهم غرباء عن المألوف، لا لأنهم مألوفون يدخلون مع سواد الناس ~~في نسق واحد، وهذا الذي يجب أن يبين، وهذا هو الغرض من ترجمة العظيم، سواء كان ~~ذلك الغرض إرضاء الشوق النفسي، أو إرضاء العظيم، أو حفز الهمم الطامحة إلى ~~الاقتداء. # وقد يكون هناك محال لسؤال آخر وهو: هل الأفضل تاريخ العظيم في نفسه، أو في ~~ظروفه الخارجية؟ ولكننا نعتقد أن الرأي في هذا مجمع عليه ، أو ينبغي أن يكون ~~مجمعا عليه؛ لأن الظروف الخارجية لن تعنينا في شيء إن لم يكن وراءها كشف عن ~~حقيقة نفسية في حياة المترجم له. نعم إن الحربيين - مثلا - يدرسون وقائع ~~نابليون ويرتبون عليها ما يرتبون في علم التعبئة وقيادة الجيوش، ولكنهم ~~يدرسونها علما مستقلا عن كل إنسان، كعلم الرياضة الذي تتساوى حقائقه في جميع ~~الأزمنة وبين جميع الأفراد، أما إذا التفتوا إلى إحصائها ودرسها لأنها جزء من ~~نفس نابليون، فهنالك تكون الحقيقة النفسية هي المقدمة في التصوير، وتكون ~~الوقائع الخارجية هي الوسيلة إلى ذلك الغرض الأصيل. # | تاريخ المسيح لإميل لدفج1 # 1 # كان إميل لدفج الذي أشرنا إلى تراجمه ms419 للعظماء في المقال السابق موفقا في ~~ترجمته لنابليون وبسمارك، وأقل من ذلك توفيقا فيما ظهر من ترجمته للشاعر ~~جيتي باللغة الإنجليزية، ولكنه لم يصب توفيقا يذكر في ترجمته لولهلم ~~الثاني، ولا في ترجمته للسيد المسيح. # فأما ولهلم الثاني فقد رسمه من جانب واحد لم يلتفت إلى غيره، هو الجانب ~~المعيب المبالغ فيه، أو هو الجانب الذي أظهرته الدعاية السياسية من لدن ~~أعدائه في البلاد الخارجية، وخصومه في الأحزاب الألمانية، وزاده تحيزا ~~على تحيز أنه إسرائيلي يكتب عن عاهل كان معروفا بالغلو في الوطنية ~~الجرمانية والاحتراس من معاشرة الإسرائيليين، فالذي يقرأ سيرة ولهلهم ~~الثاني بقلم إميل لدفج، يخيل إليه أنه يقرأ قصة إنجليزية من قصص الحرب ~~العظمى أو حملة من حملات الحلفاء التي كانت تروجها مكاتب الدعاية في أشد ~~أيام اللدد والتناحر بين الحلفاء والجرمان، ولكنه لا يرى في كل مائة صفحة ~~صفحة واحدة تومئ إلى ولهلم الثاني الذي حكم الأمة الألمانية جيلا ~~كاملا، أزهرت فيه حضارتها أيما إزهار وارتفع فيه مقامها في العلم ~~والصناعة والثروة والقوة والنظام إلى الأوج الذي لم ترتفع إليه قبل حكمه، ~~والذي لولا نكبة الحرب - وهي نكبة كان مسوقا إليها أكثر مما كان سائقا ~~- لاطرد في سبيله اطرادا يعيي المنافس، ويبهر النظير. # وأما في سيرة السيد المسيح فقد كانت الإسرائيلية آفة الكاتب كما كانت ~~آفته في سيرة الإمبراطور؛ لأنها غلت يده عن تصوير بطله فلم يشارفه إلا ~~على حذر وتقية، ولأنه جنح بطبعه إلى تمثيل المسيح يهوديا من اليهود ~~وإسرائيليا من إسرائيل، فلم تكمل الصورة بين يديه ولم يكن يرسل عليها ~~النور إلا من جانب الموافقة للبيئة دون جانب المخالفة، فالذي يرى السيد ~~المسيح في هذه الصورة يرى ألوانا باهتة، كأنما رسمت على أضواء النجوم لا ~~على ضوء النهار الساطع، ويعجب لماذا يجشم المؤلف نفسه مشقة الكتابة في ~~هذا الموضوع بعد رينان؟ وما هي المزية الجديدة التي جاء بها بعد ذلك ~~المؤرخ الأديب الجسور الذي خرجت صورة المسيح من بين يديه وهي تنضج ~~بالغضارة وتتنفس أنفاس ms420 الحياة، فإن كانت المزية عنده أنه مسح عنها ~~ألوانها وكبح بعض الشيء من حماسة الناظرين إليها فقد تم له ما أراد وباعد ~~في الملامح ما استطاع بين صورته وصورة رينان، وإلا فقد كان رينان أجرأ ~~منه على مواجهة الحقائق، وأجسر على الإنكار الحاسم حين تظهر لها ضرورة ~~الإنكار، فلم تكن صور أجمل ألوانا وأوضح معارف وأحيا حياة؛ لأنه صدق من ~~الأسانيد والمعجزات ما لم يصدقه «لدفج»، أو لأنه كان يجامل حيث يجترئ ~~لدفج. كلا! فربما كان ذلك القس المسيحي أشد إنكارا من هذا الشاك ~~الإسرائيلي، وكل ما في الأمر أن رينان كان أقدر على فنه وأحب لموضوعه، ~~وأشبه بالسيد المسيح الذي تخيله، ونسج وشيجة العطف بينه وبينه. # ومن أوجه العذر ل «لدفج» أنه - كما قال - كتب تاريخ يسوع الرجل، ولم يكتب ~~تاريخ المسيح صاحب الرسالة، فهذا عذر يقوله المؤلف ويدل على قصده من ~~كتابة تاريخه، ولكن هل في وسعنا نحن الآن أن نفرق بين التاريخين جد ~~التفريق وأن نتكلم عن يسوع بمعزل عن السيد المسيح؟ إن الذي يحق له أن ~~يفرق بينهما هو الذي يستطيع أن يستحدث لنا أسانيد غير هذه الأسانيد التي ~~بين أيدينا، والتي كتبت كلها عن «المسيح صاحب الرسالة»، ولم تكتب عن ~~الإنسان البحت من يوم مولده إلى يوم انتهى العهد به، وهو الذي يستطيع أن ~~يملأ الفجوات الخالية من ذلك التاريخ ويقرب الأطراف البعيدة، ويفسر ما ~~يفتقر إلى التفسير، ولم يفعل «لدفج» ذلك أو هو عالجه فكان كل علاجه له ~~أنه نفى ما هو منفي بذاته، وترك البقية للاحتمال المقبول عنده وليس هو ~~بأقرب احتمال. # ونرى أن «لدفج» ليس بالرجل الذي يكتب تاريخ المسيح؛ لأسباب ثلاثة؛ أولها: ~~أنه إسرائيلي يكتب للمسيحيين في أمة لم تخلص فيها المودة بين العنصرين. ~~والثاني: أنه قليل التقديس بفطرته، فهو إلى فهم رجال الحرب والعمل أقرب ~~منه إلى فهم رجال القداسة والإيمان، والسبب الثالث: أنه اختار أسلوب ~~القصص لترجمة أبطاله، وهو أسلوب لا يوافق ترجمة المسيح لقلة المعلومات ~~المفصلة التي نعرفها ms421 عن حياته، وصعوبة الترجيح فيها بين احتمال واحد ~~وسائر الاحتمالات الكثيرة، وخير للكاتب أن يجعل تاريخ المسيح بحثا يعرض ~~فيه لكل رأي ولكل فرض من أن يجعله قصة يتقيد فيها ب «شخصية» محدودة تطرد ~~جميع حوادثها على مثال مرسوم، فرينان وهو أقدر على القصص وعلى الامتزاج ~~بحياة المسيح، لم يستغن عن البحث على هذا المنوال، ولم تكن القصة في ~~كتابه إلا بمثابة السمط تتعلق عليه جميع المعلومات. # ولو عاش رينان إلى اليوم واطلع على المباحث الجديدة في الحفريات والآثار ~~ومقابلة الأديان وما كتبه بعض المؤرخين - ولا سيما الألمان - في حقيقة ~~المسيح التاريخية، لكان أكبر الظن أن يفرغ جزءا كبيرا من ترجمته لإثبات ~~وجوده، قبل أن يشرع في تأليف قصته على حسب الوقائع التي كانت معروفة في ~~زمانه، ولو أن «لدفج» اختار أسلوبا غير أسلوب القصص لكان أحرى به أن ~~يتوفر على هذا البحث الطريف؛ لأنه بحث ألماني في معظم أسبابه وأسانيده، ~~ولكنه تركه لأنه لا بد له من تركه ولا يسعه أن يقص ترجمة إنسان يشك في ~~وجوده، فيحسن بنا ألا نتخطاه بعد أن أصبح كل كلام في تاريخ ذلك الرسول ~~الكريم مشتملا على مناقشة مسهبة، أو موجزة في هذا الشك الغريب. # كم من الناس على ظهر الأرض يؤمنون بوجود المسيح ورسالته، بل يعدون ~~الإيمان بوجوده ورسالته أساسا للحقيقة العظمى؛ حقيقة الأرض والسماء ~~والحياة وما بعد الحياة؟ لا أقل من ألف مليون إنسان! ومع هذا يتسع الشك ~~في عصرنا للتردد في وجود المسيح، بل تذهب طائفة من المؤرخين إلى حد الجزم ~~بإنكاره، والقول القاطع بأنه لم يكن إلا أسطورة من أساطير المتقدمين، فإن ~~لم يكن في هذا الشك إلا أنه أعجوبة الشكوك في حقائق دنيانا لكفى بذلك حجة ~~للنظر فيها على هذا الاعتبار. # ولماذا تشك هذه الطائفة في وجود المسيح أو تجزم بإنكاره؟ ما هي شبهتها ~~على حقيقته أو دليلها على أنه لم يظهر قط في هذا العالم؟ إنهم يقولون في ~~ذلك كثيرا، ويأخذون تارة مأخذ الإثبات والتقرير، وتارة أخرى ms422 مأخذ النفي ~~والإدحاض؛ ولكن الذي يرددونه أكثر من سواه أن كل شعيرة في المسيحية قد ~~كانت معروفة في ديانات كثيرة سبقتها حتى تاريخ الميلاد وتاريخ الآلام قبل ~~الصليب، فاليوم الخامس والعشرون من شهر ديسمبر الذي يحتفل فيه بمولد ~~المسيح كان هو يوم الاحتفال بمولد الشمس في العبادة «المثرية»، إذ كان ~~الأقدمون يخطئون في الحساب الفلكي إلى عهد جوليان، فيعتبرون هذا اليوم ~~مبدأ الانقلاب الشمسي بدلا من اليوم الحادي والعشرين في الحساب الحديث. ~~وقد اعترضت الكنيسة الشرقية على اختيار اليوم الخامس والعشرين لهذا ~~السبب، وفضلت أن تختار لعيد الميلاد اليوم السادس من شهر يناير الذي ~~«تعمد» فيه السيد المسيح. على أن هذا اليوم أيضا كان عيد الإله ~~«ديونيسيس» عند اليونان وبعض سكان آسيا الصغرى، وكان قبل ذلك عيد ~~«أوزيريس» عند المصريين، ولا يزال متخلفا في العادات المصرية إلى اليوم. ~~ففي اليوم الحادي عشر من شهر طوبة - وكان يوافق السادس من شهر يناير في ~~التاريخ القديم - كان المصريون يحتفلون بعيد إلههم القديم ولا يزالون ~~يحتفلون به في عصرنا هذا باسم «عيد الغطاس.» وقد اتخذت المسيحية اليوم ~~الخامس والعشرين من شهر مارس تذكارا لآلام السيد المسيح قبل الصليب، ~~وهذا هو الموعد نفسه الذي اتخذه الرومان قبل المسيح لتذكار آلام الإله ~~«أتيس» إله الرعاة المولود من «نانا» العذراء بغير ملامسة بشرية، والذي ~~جب نفسه في هذا الموعد ، ونزف دمه في جذور شجرة الصنوبر المقدسة. # وقد كان اسم العذراء مريم بصيغه المختلفة اسما مختارا لأمهات كثير من ~~الآلهة والقديسين، مثل: أدونيس ابن ميره، وهرمز ابن مايا، وقيروش ابن ~~مريانات، وموسى ابن مريم، وبوذا ابن مايا، وكرشنا ابن مارتالا، وهكذا ~~بحيث يظن أن هذا الاسم شائع لا يدل على ذات معينة، ومما يجري في هذا ~~المجرى أن تماثيل إيزيس وهي تحمل ابنها حورس كانت رمزا في الكنائس ~~الأولى للعذراء مريم وابنها المسيح، ولما كانت إيزيس إلهة البحر، وكان ~~اسمها عند الرومان كوكب البحر أي ستيلا ~~ماريس # Stellah Maris # فليس يبعد أن يكون لهذا الشبه علاقة بالتشابه ~~في الأسماء ms423، وقد رويت روايات كثيرة عن الآلهة والأبطال المولودين من ~~الأمهات العذراوات قبل المسيح، فكان الفرس يعتقدون أن زرادشت ولد من أم ~~عذراء، وكذلك كان الرومان يعتقدون في أتيس، والمصريون يعتقدون في رع، ~~والصينيون يعتقدون في فوهي ولاو، وقال فلوطرخس في رسالته عن إيزيس ~~وأوزيريس: إن الحمل يحصل في هذه الأحوال من الأذن، وهو ما يفسر صورة ~~العذراء في القرون الوسطى، إذ كانوا يرسمونها وشعاع من النور يتجه إلى ~~إحدى أذنيها، وقال «ترتوليان» إن شعاعا سماويا هبط على العذراء فحملت ~~بالسيد المسيح، أما التكفير بالموت فكثير في قصص الديانات القديمة، ~~وأقربه إلى موطن المسيحية عبادة تموز الذي كانوا يحتفلون بموته، وبعثه في ~~أنطاكية، وسرت عادة البكاء عليه إلى النساء اليهوديات، فكن يندبنه على ~~باب الهيكل، وأنبهن على ذلك النبي حزقيال، وجاء في التلمود أن ~~رجلا يسمى يسوع قتل وعلق على شجرة قبل الميلاد بمائة سنة. # والعشاء الرباني كان معروفا في عبادة مثرا، على الطريقة التي عرف بها في ~~المسيحية، بل كان الخبز الذي يتناوله عباد مثرا في ذلك العشاء يصنع على ~~شكل الصليب، وقد أسف جوستن مارتر في سنة 140 لهذه المشابهة، وعدها مكيدة ~~شيطانية لتضليل المؤمنين. # والمعجزة الأولى للمسيح وهي تحويل الماء خمرا معروفة في عبادة ديونيسيس ~~إله الخمر وإله الشمس، ومن حيواناته المقدسة الجمل، والحمار، وعلى الحمار ~~كان ركوبه حتى قيل: إنه كان له حماران فجعلهما نجمين في السماء، وبهذا ~~الرمز يرمز البابليون إلى مدار السرطان، فالخلط بين المسيح وديونيسيس في ~~ركوب الأتان، وتحويل الماء موضع نظر، ومثله الخلط بينهما في المزود الذي ~~وضعا فيه عند الولادة كما جاء في إنجيل لوقا حيث قال: «وفي تلك الأيام ~~صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى ~~إذ كان كيرينيوس والي سورية فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته، ~~فصعد يوسف أيضا من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داود ~~التي تدعى بيت لحم؛ لكونه من بيت داود وعشيرته ليكتتب مع مريم امرأته ~~المخطوبة وهي ms424 حبلى، وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فولدت ابنها البكر، ~~وقمطته وأضجعته في المزود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.» أما الإحصاء ~~في هذا التاريخ فلم يرد له أي ذكر في تراجم أوغسطس، ولم تجر العادة قط في ~~دولة الرومان أن يكلف الناس السفر من بلادهم إلى البلاد التي عاش فيها ~~أجدادهم الأسبقون؛ ليكتبوا أسماءهم هناك، فالرواية مستهدفة للملاحظة من ~~عدة جهات. # ولم يتفق على المكان الذي ولد فيه المسيح كما لم يتفق على الزمان الذي ~~ولد فيه؛ فمن قائل إنه ولد في الناصرة، ومن قائل إنه ولد في بيت لحم. ~~والذين يقولون إنه ولد في بيت لحم يذهبون إلى هذا القول لتأييد النبوءة ~~التي تنبئ بظهور المسيح من نسل داود، وهو في بيت لحم لا الناصرة، وجاء في ~~إنجيل متى أن يوسف النجار رأى في المنام أن هيرود الطاغية سيقتل كل طفل ~~يولد في بيت لحم لذلك العام، مع أن هيرود مات في السنة الرابعة قبل ~~الميلاد، ومع أن يوسفيوس المؤرخ لم يذكر خبر هذه المذبحة فيما أحصاه ~~لهيرود من الآثام، وقد سبقت روايات مثل هذه عن النمروذ وفرعون مصر ~~وغيرهما من الأمراء الذين أنذرتهم النبوءات بظهور أعدائهم قبل مولدهم؛ ~~فهي روايات لا تدل على شيء يعتمد عليه التاريخ، ولم تكتب هي ولا كتب ~~غيرها مما ورد في الأناجيل إلا بعد عهد المسيح بعشرات السنين، أما الذين ~~عاصروه أو قاربوه غير التلاميذ فلم يذكروا عنه شيئا ولم يدونوا له خبرا ~~حتى عجب فوتيوس بطريق القسطنطينية حين قرأ في القرن التاسع تاريخ جستس ~~الطبري المكتوب بعد المسيح ببضع سنوات، فوجده غفلا من ذكره وهو مولود ~~حيث ولد المسيح في الجليل، ولم يشر بليني الأكبر بكلمة واحدة إلى الخوارق ~~التي نسبت إليه، وهو كثير العناية بجمع الخوارق في تاريخه الطبيعي المؤلف ~~بعد المسيح بثلاثين أو أربعين سنة، وثبت أن النسخ الصحيحة من تاريخ ~~يوسفيوس المنتهي بالسنة الثالثة والتسعين بعد الميلاد خلو من الفقرتين ~~المشار فيهما إلى المسيح على عجل واقتضاب ms425، وأن هاتين الفقرتين مدسوستان ~~على بعض النسخ في القرون الوسطى، ويقال مثل ذلك في كتب أخرى وردت فيها ~~مثل هذه الإشارات المبهمة بصيغة لا تثبت على المضاهاة والتمحيص. # تلك أمثلة من الملاحظات التي جعلت طائفة من كتاب التاريخ يشكون ذلك الشك ~~الغريب في وجود المسيح، بل جعلت بعضهم يجزم بإنكاره، ويقول: إنه خيال لا ~~حقيقة له تعلقت به الشعائر والنبوءات القديمة وحيكت حوله الأقاويل ممن لم ~~يعاصروه فآمن به الناس، وهي ملاحظات نردها في المقال التالي إلى مكانها ~~من الصواب. # 2 # لما شاعت فتنة الإنكار في القرن الماضي أصبح الإنكار شهوة وأصبح بعض ~~الناس كأنما يبحثون عن شيء لينكروه إشباعا لتلك الشهوة، فظهر المنكرون ~~لوجود المسيح والمنكرون لوجود شكسبير، وجاءوا بأدلة لا تصلح للبت ~~بالإنكار، وإن صلحت للبحث وإعادة النظر في حقائق التاريخ، وكنت أقول لمن ~~أخذوا بتلك الفتنة عندنا إن هذه الأدلة وأمثالها يمكن أن تقام على إنكار ~~وجودكم أنتم وأنتم تجيئون بيننا وتذهبون ونراكم بالعين ونسمعكم بالأذن، ~~فلو عهد أحدكم إلى خمسة من أصحابه أن يكتبوا ترجمته وأن يصفه كل منهم على ~~ما يعلمه ويظنه لجاز أن يقعوا في تناقض أو خطأ أو قلب للحقيقة يسيغ ~~للمنكر أن ينكر وللمرتاب أن يرتاب، فكيف بالتواريخ الماضية وهي عرضة ~~للوهم والمغالاة، والامتزاج عن قصد أو غير قصد بغيرها من التواريخ؟ وكيف ~~بالترجمة لإنسان يختلف الاعتقاد في شأنه من أقصى القطب إلى أقصى القطب، ~~ويجيء في عصر من تبلبل الأفكار واضطراب الأحوال بين الشرق والغرب ~~والإسرائيلية واليونانية والماضي والحاضر لا يسهل أن تتفق فيه الآراء ~~والروايات؟ # أنا آخر من يحتفل بامتزاج الرموز والشعائر، ويجعله دليلا قاطعا على ~~إنكار وجود المسيح أو إنكار أي شيء؛ لأنني نشأت في إقليم لا تزال شعائر ~~الديانة المصرية القديمة وعادات المصريين القدماء تغلب فيه على شعائر هذا ~~الجيل وعاداته، فكرامات الأولياء اليوم هي كرامات الأرباب قبل أربعة آلاف ~~أو خمسة آلاف سنة، وعادات القوم في المواسم وأيام الفيضان والمآتم ~~والأفراح هي العادات التي قرأنا عنها في عصور ms426 الفراعنة. بل يذهب إلى ~~اليوم النساء المسلمات والمسيحيات إلى تماثيل آلهة النسل الفرعونية ~~يداوين العقم ويتعوذن بالتعاويذ، وكثيرا ما وقفت وأنا صبي على ضريح ولي ~~من أولياء الجبانة المشهورة، فقيل لي اسمه وتاريخه وكراماته على وجه ~~يختلط بالأرباب الأقدمين تارة، وبالأولياء الآخرين تارة أخرى؛ فلو أردت ~~أن أشك في وجوده لشككت، وكانت حجتي في ذلك أقوى من حجج الشاكين في وجود ~~المسيح؛ ولكني أبحث عن أصله فأعرف اسمه ومولده وسبب خروجه من وطنه وقدومه ~~إلى هذه الجهة، فإذا هي «حقيقة» لا خرافة وسيرة صحيحة لا اختراع ملفق. ~~وطالما تداويت من الحمى بماء النيل في ساعة معلومة من مطلع النجم، ~~وبقراءة آيات من القرآن حلت في أيامنا محل الرقية في أيام الفراعنة، ~~وطالما ذهبت بإخوتي الصغار إلى ضريح ولي على ساعة بالقطار لحلق أول خصلة ~~من شعورهم؛ لأنه صاحب نذور الأطفال كما كان للأطفال أصحاب نذور في العهد ~~القديم. # فإذا شككت في شكوك الناقدين والمؤرخين التي أوردوها على وجود المسيح؛ ~~فذلك لأنني خبرت بنفسي قيمة هذه الشكوك في إنكار «الموجودين» الذين ثبت ~~وجودهم على الرغم من الخطأ والتغيير في أسمائهم، وعلى الرغم من الخلط ~~بينهم وبين الأرباب الغابرين والأولياء الآخرين، فعلمت أن أناسا كثيرين ~~قد يوجدون وجودا لا لبس فيه، وحولهم من تلك المناقضات والأقاويل أضعاف ~~ما يقوم الآن حول وجود المسيح. # ولو كان اختلاط الرموز والشعائر من موجبات الشك في ظهور الرسل، لوجب أن ~~نشك في وجود النبي عليه السلام؛ لما في الإسلام من شعائر الحج التي ~~أحياها عن سنن العرب قبله، ولوجب أن نشك في وجود علي بن أبي طالب؛ لما ~~أحاط به من أساطير بعض المذاهب الغالية وفي مقدمتها انتظار «الإمام»، ~~و«المهدي»، أو «المسيح» وهي عقيدة تتشابه فيها تلك المذاهب المسيحية ~~والإسرائيلية ووثنية المجوس. # ولست أشك ولا يستطيع أحد أن يشك في أن اليوم الخامس والعشرين من شهر ~~ديسمبر هو يوم الشمس لا يوم مولد المسيح، ولكن ينبغي أن نذكر أن الكنيسة ~~كانت تعلم ذلك حين نقلته ms427 مما وضع له إلى وضعه الجديد؛ لأنها رأت الاحتفال ~~بهذا اليوم شائعا بين المسيحيين بحكم الوراثة والتقليد، فخشيت أن يتفاقم ~~الأمر ويؤدي الاشتراك بين الوثنيين والمسيحيين في إحياء المواسم القديمة ~~إلى النكسة والارتداد، فاجتهدت في صبغ تلك المواسم بالصبغة المسيحية ~~لتفصل بينها وبين العقائد الوثنية، وهكذا كان في أعياد الميلاد وفي أعياد ~~بعض القديسين والقديسات. قال العلامة فريزر في كتابه الغصن الذهبي: «إن ~~البواعث على اختيار هذا اليوم مذكورة بصراحة عظيمة في كلام كاتب سرياني ~~مسيحي يقول: إن السبب الذي دعا الآباء إلى اختيار اليوم الخامس والعشرين ~~من شهر ديسمبر دون اليوم السادس من شهر يناير هو أن الوثنيين قد جرت ~~عادتهم بإحياء عيد الشمس في اليوم الأول، وإشعال الأنوار احتفاء بذلك ~~العيد، وكان المسيحيون يشتركون في العيد وشعائره ورموزه، فرأى أئمة ~~الكنيسة أنهم - أي المسيحيين - يميلون إلى إحيائه فتشاوروا بينهم وقرروا ~~أن يحتفلوا فيه بيوم الميلاد، وأن يجعلوا اليوم السادس من شهر يناير لعيد ~~التجلي، وعلى هذه العادة مضوا في إشعال النار إلى اليوم السادس، وقد جاءت ~~الإشارة إلى الأصل الوثني ضمنا - وإن لم تجئ تصريحا - في كلام أوغطسين ~~لإخوانه المسيحيين إذ يوصيهم ألا يحتفلوا بذلك اليوم كما يحتفل به ~~الوثنيون إحياء لعيد الشمس، بل إحياء له هو الذي خلق الشمس، وعلى هذا ~~النحو أنكر ليون الكبير قول من قال، إن الميلاد يحتفل به إكراما لمولد ~~الشمس الجديدة كما يسمونه، وليس إكراما لمولد المسيح.» انتهى كلام ~~فريزر. # ويحسن بنا هنا أن نلاحظ الفرق بين رأينا نحن الآن في الوثنية، ورأي ~~المؤمنين الأولين فيها قبل ألف سنة، بل قبل مئات قليلة من السنين؛ ~~فالوثنية عندنا هي أوهام وأساطير، وآلهتها شخوص مجسمة لقوى الطبيعة، أو ~~أسماء محرفة عن أسماء بعض الملوك الأبطال الذين عبدهم آباء الوثنيين فيما ~~مضى. هذا هو رأينا في الوثنية، أما رأي المؤمنين الأولين فلم يكن كذلك، ~~وإنما كانوا يرون أن الأرباب والأوثان شياطين موجودة تنتحل لنفسها صفات ~~الله وأعماله، وتحاول أن تخدع عباده لتأخذ منهم قرابينه وصلواته ms428؛ فكل ~~معجزة أو صفة يدعيها الوثني لربه هي معجزة أو صفة إلهية يختلسها ذلك ~~«الرب» بالمكر والخديعة، ويجب أن ترد إلى «الله» صاحبها وصاحب الحق في ~~العبادة والقربان لأجلها؛ فآباء الكنيسة مخلصون جد الإخلاص في نسبة ~~الخوارق الوثنية والشعائر القديمة إلى «الإله» الذي يعبدونه؛ لأنهم ~~يعتقدون أنها خوارق وشعائر مغتصبة بغير الحق، ولا وجه لبقائها في حوزة ~~الأوثان والشياطين، ويخطئ من يتهم أولئك الآباء بالتزوير والاحتيال في ~~هذا الصدد؛ لأنهم ما كانوا ليستطيعوا أن يتركوا «للشيطان» خارقة أو كرامة ~~هم يوقنون أنها خارقة الله وكرامته قبل أن يدعيها الشيطان لنفسه. ~~••• # كذلك لا نشك في خلو «يوسفيوس» من ذكر المسيح، وفي أن العبارة التي وردت ~~فيه عن ظهور المسيح مدسوسة على النسخة الصحيحة؛ لأن هذه العبارة التي ~~أنبأت بظهوره تقول: «حوالي هذا الوقت ظهر يسوع وهو رجل حكيم - إن صح أن ~~يسمى رجلا - لأنه كان يأتي بأعمال عجيبة، وكان يعلم الناس ويفرحون ~~بتعليمه، وقد جذب إليه كثيرا من اليهود والوثنيين وكان هو المسيح ~~المنتظر، ولما حكم عليه بيلاطس بالصلب كما طلب منه رؤساؤنا لم يتخل عنه ~~محبوه؛ لأنه برز لهم حيا في اليوم الثالث مصداقا لنبوءة الأنبياء. هذه ~~وعشرات الألوف من المعجزات الأخرى التي تتعلق به وبعشيرة المسيحيين الذين ~~ينسبون إلى اسمه ولم تنقطع حتى اليوم» فكلام كهذا لا يعقل أن يكتبه ~~يوسفيوس ولا يدخل في المسيحية، أو يظهر أثر إيمانه بالمسيح وأتباعه في ~~سرد جميع وقائعه وأخباره، فهو كلام مدسوس بلا مراء، ويبقى أن يوسفيوس لم ~~يكتب شيئا عن المسيح في تاريخه، ولكن علام يدل ذلك؟ إنه لا يدل على أن ~~المسيح لم يوجد، ولكنه يدل على أنه لم يكن مستفيض الذكر في عصره، وأن ~~المسيحيين لم يعظم شأنهم في أرضهم إلا بعد القرن الأول من ظهوره، وهذه ~~حقيقة مسلمة لا يجادل فيها مؤرخ يعبأ بقوله. # ومن الأمور المقررة أن تواريخ حياة المسيح لم تعلم على وجه التحقيق، وأن ~~أقدم الكتابات المسيحية لم تكتب قبل السنة الثانية والخمسين للميلاد، ~~والذين ms429 كتبوها لم يروا المسيح رأى العين، ولم يعرفوا عنه شيئا إلا ~~بالسماع، ولكننا لا نعلم على التحقيق تواريخ مئات من العظماء ولسنا نشك ~~في وجودهم من أجل ذاك، وقد اشتملت الأناجيل على رسائل بطرس أحد الحواريين ~~وهو شاهد عيان عاشر المسيح، وسمع منه، ووصفه كما رآه، وعرفه فجاء وصفه ~~مطابقا لما يتخيله المتخيل من «شخصيته» التي صورتها لنا أقواله ووصاياه ~~المتفق عليها في الأناجيل، والتي جلتها في الذهن أحوال البيئة وخلاصة ~~الأخبار المصفاة من الخوارق والمبالغات، ولعل النقائص التي عرضت لتلك ~~«الشخصية» في أقوال الحواريين هي أدعى إلى التصديق والدلالة على حقيقة ~~وجودها من الأشياء المتفقة المتناسقة؛ لأننا لا نستطيع أن نتخيل التناسق ~~التام بين وصايا المسيح وجميع أدوار حياته، ولا بد أن نتوقع شيئا من ~~التطور في إيمانه بنفسه وتأدبه بأدبه، فمن أين اتفق للصيادين وتابعيهم ~~العلم برسم «الشخصيات» حتى لا يفوتهم خلق التناقض في موضعه، وعلى حسب ~~البواعث التي توحيه وتستدعيه؟ ومن أين لهم رسم شخصية متطورة في أدوار ~~حياتها تتقدم في الإيمان بنفسها، والاهتداء إلى أسرار حكمتها وأدبها خطوة ~~خطوة على حسب الشدائد والعوارض التي تفعل في النفس فعلها الخفي، وتنطق ~~على اللسان بفيض ما يعتلج فيها من الثورات والشكوك وبوادر اليقين. # إن هذا بعيد عن الحواريين وكتاب الرسائل المسيحية الأولى؛ ولأنه بعيد ~~عليهم يكون ما في أقوالهم من التناقض والغلو الذي لا يستغرب منهم مزكيا ~~لزبدة تلك الأقوال ودليلا على أن «الشخصية» التي تحفظ خطوطها الصحيحة ~~وراء نقائضهم ومبالغاتهم شخصية إنسان كان في عالم الحقيقة المحسوسة، ~~وليست بشخصية خرافة أو كذب مقصود أو غير مقصود. # 3 # يشتمل كتاب «ابن الإنسان» أو تاريخ المسيح لإميل لدفج على تمهيد وفاتحة ~~وخمسة أبواب، وفي التمهيد يقول: ليس من غرضي أن أزعزع عقيدة المسلمين ~~بقدسية المسيح، فقد أرمي على نقيض ذلك إلى إقناع الذين يحسبون شخصية ~~المسيح شخصية مصطنعة بأنه كائن حق، وإنسان في الصميم، ولو أنه لم يعش قط ~~كما قال روسو لكان كاتبو الأناجيل في مثل عظمته، وليست وجهتي ms430 أن أشرح ~~التعليم الذي يعرفه جميع الناس، ولكنني أرسم حياة النبي الباطنة وتعنيني ~~دنياه التي كان يشعر بها لا نفوذه الذي جاء بعد ذلك بسعي الآخرين. # أما الفاتحة فهي فصل يصف به بيت المقدس في عصر المسيح، ويلم إلماما ~~وجيزا بالأفكار الدينية والأدبية التي بدأت تشيع قبل المسيحية، وفيها ~~مشابهة لوصايا المسيح كفلسفة سنيكا الأديب الروماني، وفيلو الفيلسوف ~~الإسرائيلي الإسكندري، وهلل الحبر الإسرائيلي، وغير ذلك من الآراء التي ~~نجمت عن اتصال المعاشرة بين اليهود واليونان والرومان، واضطرار بعض ~~اليهود إلى مجاراة الحكومة الغالبة، والتسامح فيما يتشدد فيه الفريسيون ~~المتنطسون، وهو يجيد في وصف الحياة العامة بأسلوب القصص الذي لا تعمل ~~فيه، ولا سيما وصف الهيكل ونزول الليل عليه وطلوع النهار، والمقابلة بين ~~حياة نساكه وحياة الرومان ومن تشبه بهم من أبناء إسرائيل. # وفي الباب الأول كلام مجمل على طفولة المسيح بدأ به والمسيح صبي يخلو إلى ~~نفسه في الهضاب والمروج، وينصت إلى أصداء الطبيعة والحياة، ويتغذى بذلك ~~الغذاء الروحي الذي لم يستغن عنه عظيم من عظماء الروح في عهد الطفولة، ~~وقد تخلل هذا الوصف بوصف الناصرة ومعيشة أهلها الفقراء والأغنياء، وظهور ~~الطوائف الدينية التي تنحو نحو البساطة في الاعتقاد والعبادة، ولا تتقيد ~~بشعائر الكهنة ولا بالسنن العسيرة التي يتشبث بها الفريسيون، وإن كانت ~~تتقشف في المعيشة، وتعرض عن الجاه واللذات، وفي هذا الباب الأول كلام على ~~«يوحنا المعمدان» وتفريق بين شخصيته وشخصية المسيح، وبين سهولة هذا وعنف ~~ذاك يطابق المأثور عن الرسولين، ولكنه يحتاج إلى التعليل الذي هو كما لا ~~يخفى عمل المؤرخ الأول حين يتصدى لترجمة المسيح، واستخلاص الحقائق من ~~خلال المأثورات والروايات، وهنا بداية الضعف في ترجمة «لدفج»؛ لأن عظمة ~~المسيح كلها قائمة على «الطبيعة وسعة الروح» وخروجه في ذلك العصر ~~بالسماحة وحب الخير خلافا لسنة الأنبياء المتشددين، ولسنة العصر الذي ~~كانت تغلب عليه العصبية من جانب المحكومين والغشم من جانب الحاكمين، فإذا ~~كانت في تاريخ المسيح «عقدة» تنتظر الحل والتفسير فهي العقدة «الشخصية» ~~في تكوين مزاجه، وأنت ms431 تقرأ تاريخ لدفج فترى في تمهيده وفاتحته تعليلا ~~حسنا لحالة العصر، ولكن «الحالة الشخصية» الخاصة بالمسيح لم تتقدم على ~~يديه كثيرا، ولم يجئ فيها بشيء لا يغني عنه محض القراءة في الأناجيل ~~بغير تفلسف ولا تنسيق. # وفي هذا الباب تبدأ مناجاة المسيح لنفسه بأحاديث النبوة والحكمة، وتأتيه ~~هواتف المغيب والشهادة مؤيدة لما ألهمه ضميره وزكاه إعجاب الناس بعلمه ~~وتعليمه، فيشرع في الدعوة المحدودة وهو بين حذر يوحيه إليه الاعتبار ~~بمصير الداعة من قبله وانتظار الثقة المكينة بنفسه وطبيعة المسالمة التي ~~تبغض إليه مصادمة غيره، وبين إقدام يستخفه إليه الفرح بكشف قواه والإحساس ~~بالمجد الذي يرجو التمام على يديه، ثم تتعاقب «البشائر» وهي موضوع الباب ~~الثاني من الكتاب، فنرى المسيح قد أخذ يؤمن صدقا وجدا بأنه هو «المسيح ~~المنتظر» الذي جاء ذكره في النبوءات، وأنه منتدب في هذه الدنيا لأمر لا ~~حيلة له فيه، ويجيد لدفج أيضا في تعليل هذه العقيدة بالحرب الظالمة التي ~~لقيها المسيح من المنكرين والمتعنتين الذين لا شك عنده ولا عند الناس في ~~ضلالهم وريائهم ونصبهم الحبائل للأنبياء والمصلحين، ففي أثر كل مقاومة ~~كان يفوه بكلمة عن رسالته لم يكن يفوه بها قبل ذلك، ولعلها لم تكن تدور ~~في خلده؛ لأنه يعلم أن الذين يتعنتون في إنكاره مبطلون يسيرون معه على ~~سنتهم مع الأنبياء السابقين، فلم يبق إلا أنه هو على حق وأن هؤلاء ~~المكابرين لا يقنعونه، وهيهات أن يقنعوه بأنهم على صواب وأنه هو على ~~الضلال، وليس من وراء ذلك إلا الثقة بالنفس؛ لأنها تزكو وتنمو كلما وثق ~~المضطهد من بهتان الخصوم، ولا يزال الإيمان بالرسالة يقوى ويكبر في نفس ~~المسيح حتى تخطر له الهجرة إلى بيت المقدس والتبشير برسالته في الهيكل ~~بين الكهان والأحبار، فيدخل الكاتب في الباب الثالث من تاريخه وعنوانه ~~«الظلال تظلم» ثم يعقبه الصراع ثم الآلام، وفيها الخاتمة، وهي والبابان ~~اللذان قبلهما لا تضيف شيئا إلى تكوين المسيح من حيث الملكة والإيمان ~~بالرسالة، ولكنها تعرض ذلك الإيمان لكثير من المحن والغموم. # يقول ms432 لدفج في ختام كتابه بعد أن شاع في بيت المقدس أن جسد المسيح لم يوجد ~~في قبره: «كانت أورشليم قد علمت كلها بالخبر في اليوم التالي، فشاعت في ~~المدينة مائة إشاعة يدفع بعضها بعضا، فمن قائل أن بيلاطس ندم على تسليم ~~جسد المسيح لأصحابه فأمر بإخفائه، ومن قائل إن الكهان سرقوه لكيلا تفتتن ~~الجماهير بتقديسه، وخاطر ثالث يقول إن البستاني هو صاحب السر كله؛ لأنه ~~خشي أن يكثر الوافدون على القبر فتتلف أزهاره، ورابع يقول بل هي فعلة ~~لصوص المقابر الذين ينهبون من القبور كل ما يباع بمال، وخامس يقول إنه ما ~~من أحد قط مات على الصليب بعد صلبه بساعات ثلاث، وإن تلاميذ الناصري لا ~~بد قد أنعشوه من موته الظاهر وأبعدوه إلى مخبأ أمين، وذهب الكهان إلى ~~بيلاطس يلومونه لتراخيه ويتنبئون بالمصاب الجلل بعدما أتيح لأتباع النبي ~~أن يستولوا على جسده ليقولوا للشعب إنه رفع من الموت، ولكن النساء ~~اللواتي أحببنه اعتقدن أنهن شاهدن المسيح في حلم اليقظة يرتفع ~~بجسده.» # وظاهر من هذه الخاتمة ومما تقدمها أن لدفج يرجح القول بموت المسيح على ~~الصليب، وكذلك يرجحه رينان، ويعزو البقية إلى خيال مريم المجدلية، ولكن ~~فئة من المؤرخين ومنها أرثر ويجال المعروف عندنا في مصر، وصاحب الكتب ~~المعدودة في تاريخ القديم يرون غير هذا الرأي، ويقولون إن حياة المسيح لم ~~تنته على الصليب، وفي كتاب ويجال الحديث «الوثنية في مسيحيتنا» وهو ~~الكتاب الذي نعتمد عليه كثيرا، يقول ذلك الأستاذ: «قبل هبوط الليل أخذته ~~حالة شبيهة بالموت، كأنما هي معجزة ختمت على آلامه التي لم تطلق من فمه ~~كلمة غاضبة، فأنزله أصحابه من على الصليب ووضعوه في جوف الصحراء، ليدفنوه ~~عند الفجر بعد انقضاء العيد، ولكنه أفاق قبل تلك الساعة، وراح يخبر ~~تلاميذه أنه حي وهم لا يصدقون ما يرون، ثم ذهب إلى الجليل، وتحدث إليهم ~~فلم يكن في أعينهم إلا طيفا من عالم الأموات، فتركهم آخر الأمر وهو يقول ~~إنه سيعود، ولكنه لم يعد قط، وانتهت بذلك قصته التاريخية ms433.» # فالأستاذ ويجال يريد أن يقول: إن الذين رأوه وذكروا أنهم رأوه قد عاينوه ~~حقا، وقد عاينوه جسدا وليس كما خيل إليهم أنه روح أو طيف صاعد من ~~الأموات، فتلاميذه الذين رأوه وسمعوه كما جاء في الأناجيل، والخمسمائة ~~الذين نظروا إليه كما جاء في الأعمال وفي رسالة بطرس الرسول، إنما شهدوه ~~عيانا في قيد الحياة، ولم يشهدوا روحا ولا طيفا بعين الوهم أو بعين ~~البصيرة، ويعزز ويجال قوله بما جاء في إنجيل يوحنا من أنهم رأوه على ~~بحيرة طبرية ذات صباح، وطلب منهم طعاما، فالأرواح لا تطلب ~~الطعام. # على أن بعض المؤرخين غير ويجال يروون كلاما غريبا لأناس زعموا أنهم ~~رأوه في الهند بعد ذلك وعرفوه وحادثوه، ولا يسعنا هنا إلا الاعتراف بعجز ~~المؤرخين عن ترجيح قول على قول، بما يروون من الأخبار أو يتمحلون من ~~التفاسير. ~~••• # قلنا: إن «العقدة» في تاريخ المسيح هي تعليل مزاجه الشخصي الذي سما به ~~على ضيق العصبية، وآداب أبناء قومه وأبناء زمانه، ولكننا لا ننصف «لدفج» ~~إذا نحن لم نشر هنا إلى احتمال قريب لعله هو الاحتمال الذي اتجه إليه ~~نظره، فقد لا تكون هذه العقدة «عقدة» على الإطلاق في نظر لدفج؛ لأنه رأى ~~أن سماحة المسيح لم تشمل غير ذرية إسرائيل ولم تعبر الفجوة السحيقة بين ~~أبناء قومه والوثنيين وأشباههم من بني الإنسان، فهو إسرائيلي من إسرائيل ~~وإن سما على عصبية الكهان والنساك. # ففي خبر المسيح والمرأة الكنعانية يقول لدفج: «ولم يطل عليه المقام في ~~السامرة حتى عرفته امرأة كنعانية كانت في ضائقة تريد منه العون فهي تتزلف ~~إليه وتناديه بلقب من ألقاب اليهود: ارحمني أيها السيد ابن داود. إن ~~ابنتي يعذبها شيطان، فمضى لسبيله ولم يعرها التفاتا؛ لأنه تعود ألا يعين ~~أحدا غير اليهود، وتوسل إليه التلاميذ أن يجيبها ويصرفها لأنه تصيح ~~خلفهم، فأبى أن ينحرف عن الشريعة، وعن عادته التي جرى عليها، وهز رأسه ~~للمرة الثانية وهو يقول لهم: «إنما بعثت إلى الخراف الضالة من بيت ~~إسرائيل.» أما المرأة فقد أصرت ولحقت ms434 به وألقت بنفسها أمامه وهي تناديه: ~~أيها السيد، ساعدني! فأعرض مرة ثالثة عن نداء قلبه، وقال لها بجفوة: ليس ~~حسنا أن نأخذ خبز البنين ونطرحه للكلاب، ولكن لهفة الأم المعذبة ترهف ~~ذكاءها فتجيبه هذا الجواب الملهم: حق أيها السيد، ولكن الكلاب تأكل ~~الفتات الذي يسقط من مائدة السادة، فقطعت هذه الكلمة آخر خيط ظل يربطه ~~بالأوامر التي حفظها في صباه، وأحس أن المرأة الكنعانية تستحق من عونه ما ~~تستحقه أية امرأة من إسرائيل.» # وقبل هذه القصة بسنتين اثنتين نقل لدفج كلمة المسيح لمن استغربوا مصاحبته ~~للخطاة والمنبوذين، فضرب لهم المثل بإشعيا حين أعان المرأة الوثنية، ~~واليشع حين أعان نعمان الوثني، وخليق بهذا أن يجعل خبر المسيح مع ~~الكنعانية غريبا يحتاج إلى التعليل لولا أن «لدفج» لم يشأ أن يرى فيه ~~إلا الوراثة القديمة التي لا يسهل التغلب عليها، وله في ذلك رأيه، وإن ~~كان قرب المسافة في كتابه بين القصتين يقضي عليه بتمهل غير قليل للتوفيق ~~والتفسير. # على أن لدفج لم يأت في تاريخ المسيح بشيء يصعب على أي إنسان أن يذكر مثله ~~في مألوفاته، ويراه أحيانا في مدينته إن كان من أهل المدن، أو في قريته ~~إن كان من أهل القرى، ولسنا نعني بذلك تبسيطه للخوارق والمعجزات، وإهماله ~~لبعضها كل الإهمال، وتفسيره البعض الآخر بالإيحاء وسلطان العقيدة. كلا! ~~لسنا نعني ذلك لأن أناسا مشغوفين بالمسيح أشد من شغفه قد فعلوا مثل فعله ~~في تبسيط الخوارق والمعجزات، ولكنا نعني أنه أوشك أن يقطع كل صلة بين ~~عظمة المسيح وعظمة الأثر الضخم الذي حدث في العالم باسمه، فكأن المسيح ~~كان يستطيع أن يرتفع إلى عظمته بيننا لو كان أقل من ذلك تفوقا وعبقرية ~~وصدقا، بل يخيل إلينا أن لدفج يتكئ جدا على النوبات العصبية، ويحب أن ~~يفسر بها أمورا كثيرة كوجوم المسيح في العرس يوم ظنت به أمه الجنون، ~~وهجومه على الباعة والصيارفة في ساحة الهيكل، ثم صفحه عنهم وقد عادوا إلى ~~ما كانوا عليه، وسكونه بين يدي الحبر الأعظم وبيلاطس ms435، وطوارئ أخرى ذكرتها ~~الأناجيل واتفقت عليها أو لم تتفق فردها لدفج إلى أسباب عصبية كثيرة ~~التقلب والاضطراب، ولو أننا قبلنا هذه التعليلات لما شذذنا عن طبيعة ~~الحياة، ولكننا نواجه بقبولها خارقة مدهشة في هذه الدنيا، وهي أن يكون ~~المسيح مغلوبا على أمره بالمزاج الذي تخيله لدفج، وأن تكون له مع ذلك ~~تلك الآداب الرفيعة، والسجية المحبوبة، والأثر الكبير. # وخير لمثال الكمال الإنساني أن تعلل المناقضات في سيرة المسيح بعقيدته ~~الموروثة، أو تناقض الأحوال في زمنه، واتساع الفاصل بين روحه وأرواح ~~سامعيه، من أن نعللها بتلك «العصبيات» الدارجة الرخيصة التي لا تصلح ~~للوزن في هذا الميزان. # 4 # المسيح في الهند # في سنة 1887 وصل الكاتب الروسي «نقولاس نتوفتش» إلى الهند؛ لتعرف الشعوب ~~الهندية، والبحث في أخلاقها، وأديانها، وآثارها الفخمة العجيبة، وطبيعتها ~~الضخمة المهيبة، وظل يطوف من مكان إلى مكان على غير ترتيب سابق، حتى ~~انتهى به المطاف إلى التبت الصغرى فاعتزم العودة منها إلى بلاده الروسية ~~من طريق قره كروم والتركستان الصينية، ولكنه بينما كان يزور البيعة ~~البوذية هناك أعلمه كبير الكهنة خبرا عجيبا عن المسيح وسياحته في ~~الهند، وقال له الكاهن: إن السجل الذي يرجع إليه في تفصيل ذلك موجود في ~~محفوظات «الحسا» عاصمة التبت الكبرى، وكعبة الحجاج في تلك الديار. # قال الكاتب: ولما كنت أستبعد العودة إلى زيارة الهند مرة أخرى، أرجأت ~~أوبتي إلى أوربا ريثما أطلع على تلك المحفوظات، وإن كلفني الأمر رهقا، ~~أو حملني مشقة الرحلة إلى «الحسا» فهي ليست من الخطر والمشقة بحيث يتوهم ~~المتوهم، وهبها كذلك فقد تعودت أخطار السفر، ورضت نفسي على الضرب ~~في مجاهل البلاد. # وزرت وأنا في عاصمة التبت الصغرى ديرها العظيم، القائم في أرباض المدينة ~~فأطلعني رئيس الكهان فيه على المحفوظات التي لها صلة بتاريخ المسيح ~~عندهم، وتفضل بتلاوتها علي والترجمان ينقل لي ما يتلو، وأنا أدون ما أسمع ~~في دفتري حتى استوفيت ما في تلك المحفوظات، وهذه خلاصته: # لما بلغ عيسى، وهذا اسمه عندهم، الثالثة عشرة - وهي السن التي يتزوج فيها ~~اليهود ms436 في زمانه - كثر طلابه لبناتهم من أشراف البلدة وأغنيائها؛ لما ~~اشتهر به من الذكاء، والفصاحة، والخطب الجميلة، والمواعظ الدينية، وإن لم ~~يكن أهله من ذوي اليسار الذين يرغب في مصاهرتهم الأشراف والأغنياء، ونفرت ~~نفس عيسى عن الزواج فغادر منزل والديه خفية، وخرج مع بعض التجار من بيت ~~المقدس إلى السند؛ ليستكمل، ويتعلم، ويطلع بنفسه على ما سمع عن حكمة ~~الحكماء، وعلوم النساك، وأصحاب الأسرار. # وفي السنة الرابعة عشرة من عمره، قدم إلى بلاد الآريين، وأقام في البلدة ~~المجتباة فذاعت له شهرة في أرجاء الهند الشمالية، وتسامع به الكهان ~~والأحبار، ثم اجتاز بلاد الأنهار الخمسة و«راجبوتان» إلى جقرنات حيث يرقد ~~الرفات البشري «لفيسا كرشنا» فرحب به الكهان البيض، وعلموه أن يقرأ الكتب ~~المقدسة، وأن يفسر أسرارها، وأن يشفي المرضى ويطرد الأرواح الشريرة ~~بالأدعية والعزائم، وقضى ست سنوات في جقرنات، وبنارس، وفي المدن المقدسة ~~الأخرى، فأحبه الناس، ولا سيما الطبقات المحرومة التي كانت تنبذها أديان ~~الهند ويترفع الكهان عن مقاربتها، والاتصال بها، أو إسماعها الكتب ~~المقدسة، إلا في أيام الأعياد الكبرى؛ لأن «بارابرهما» خلقها من أحشائه ~~وأقدامه فهي منبوذة مهينة بين خلقه! ولكن عيسى أنكر هذه اللعنة الكاذبة، ~~وطفق يخطب في إنكارها، ويعاشر المنبوذين، وينحي على طغيان الكهان ~~وتعاليهم على إخوانهم في الآدمية ويقول: «أبونا الرب لم يفرق بين أبنائه ~~فكلهم أثير لديه.» وكان يدعوهم إلى ترك الأوثان وتقريب القرابين لغير ~~الله، وينكر ثالوث براهما الخالق، وفشسنو الواقي، وسيفا المفني، ويقول ~~لهم: «إن الديان السرمدي هو الروح الباقي وهو روح الكون الأحد المفرد، ~~الذي لا يتجزأ، يخلق كل شيء، ويشتمل على كل شيء، ويحيي كل شيء، وإن ~~البارئ الأعظم لم يشرك معه في سلطانه أحدا فكيف الأوثان الصماء!» # فلما اشتد أمره على الكهان وجماعة المقاتلة بعثوا في طلبه ليقتلوه، فحذره ~~الدهماء وأخرجوه ليلا من أطراف جقرنات، فبلغ الجبل، ونزل بلاد «جوتميد» ~~مولد بوذا الأعظم بين شعب يعبد براهما الواحد ذا الجلال، فتعلم لغتهم ~~وحذقها، وعكف على درس كتبها وطروسها المحفوظة، ثم ms437 غادر نيبال وجبال ~~هملايا، وهبط إلى «راجبوتان» ويمم الغرب يبشر بعبادة الله ويدعو إلى ~~الكمال، ويحض الناس على اطراح عبادة الأوثان، فذاعت بين الوثنيين شهرته ~~ولباه خلق كثير، واستفاضت في البلاد القريبة أنباء مواعظه ووصاياه وسبقته ~~إلى بلاد فارس، فقابله كهانها حين دخلها بالحذر، وحرموا على الناس حضور ~~خطبه، فلم يزدهم التحذير إلا عكوفا عليه واستجابة له. قال الكاتب ~~الروسي: ثم قبض عليه الكهان، وأحضروه إلى رئيسهم وسألوه فأجابهم أحسن ~~جواب، ولم يجدوا عليه سبيلا، فأظهروا الرفق به ولم يمسوه بسوء، ولكنهم ~~أخذوه في جنح الليل إلى طريق مقفر يكثر فيه السباع، وأرسلوه هناك ليلقى ~~حتفه بعيدا عنهم فوقاه الله، وما زال يتنقل في البلاد حتى آب إلى وطنه ~~في التاسعة والعشرين من عمره، وبدأت سيرته المعروفة في الأناجيل. # يقول الكاتب الروسي: وهذه المحفوظات التي تلاها رئيس الكهان البوذيين في ~~عاصمة التبت الصغرى هي مجموعة منسوخات كثيرة مكتوبة باللغة التبتية ~~مترجمة عن بعض الصحف المودعة في مكتبة «الحسا» التي جلبت إليها من الهند، ~~والنيبال، ومغادا، بعد المسيح بمائتي سنة فوضعت في البيعة الكبرى على جبل ~~ماربور حيث يقيم حبر الأحبار وتودع المخطوطات المدخرة من قديم ~~الأدهار. # أما تاريخ تدوين هذه القصص فيرجع إلى السنة الثالثة أو الرابعة بعد وفاة ~~المسيح. كتبها الكهان حين جاءهم التجار بأنباء المسيح في وطنه، وأودعوها ~~كعادتهم مكاتب البيع ، ومما يميل بالكاتب إلى تصديقها أنها لم تدون في ~~بلدة واحدة ولا على نسق واحد، وإنما جاءت مفرقة من هنا وهناك ودونت مع ~~قصص أخرى من أحداث ذلك العصر، فلا يستخلصها القارئ على هذا النسق إلا بعد ~~جهد جهيد. # ويرى الكاتب أن هذه المخطوطات خليقة بالثقة والاعتبار؛ لأن الكتابة كانت ~~معروفة في الصين والهند قبل موسى بزمن مديد، وكانت الشرائع والقوانين ~~والمذاهب مكتوبة في سجلات محفوظة بلغت في الهند نحو 84000 وثيقة قبل ~~الميلاد بستمائة سنة، ولا يتأتى أن تنقل نصوصها وتحفظ وتسجل إلا في عصور ~~وعصور، فبينما كانت الشعوب الأمية كشعب إسرائيل تتناقل الروايات شفاها ~~فما عن ms438 فم وجيلا بعد جيل، فيعتريها ما يعتريها من السهو والتحريف ~~وتجسيم البعد وتكبير الخيال، كان الرواة الهنود يودعون الصحف روايات ~~الحوادث التي يشهدونها ويسمعونها في زمنهم أو في عهد قريب منه، وثابت ~~معروف أنه كانت للهند تجارة مع مصر والأقطار الأوروبية تمر ببيت المقدس ~~فلا تنقطع أخبار الهند عن تلك البلاد، ولا تنقطع أخبار تلك البلاد عن ~~الهند، فكانت القوافل الهندية في زمن سليمان تحمل المعادن النفيسة ~~والمواد اللازمة لبناء هيكله وتزيينه، وكانت تجارة أوربا ترد إلى بيت ~~المقدس بحرا على ميناء قديم في موضع مدينة «يافا» الآن. # قال الكاتب الروسي: ولما عدت إلى أوربا لقيت الكثيرين من رجال الدين ~~المعدودين؛ رجاء أن يراجعوا مذكراتي ويعنوا بتحقيقها، فلم أجد سميعا ولم ~~يوافقني أحد على نشرها، فعرضت مسألتي على الأستاذ جول سيمون فاستعظمها، ~~ونصح لي باستشارة رينان في أمر تلك المذكرات وفي أمثل الوسائل لنشرها ~~والتعقيب عليها، فاقترح رينان أن أسلمه المذكرات ليقدمها إلى المجمع ~~العلمي، وأشفقت أنا من ذاك وأدركني الحرص على ثمرة جهدي وفضل هذا الكشف ~~النادر، فرأيت أن أتولى نشره بنفسي وأكتب حواشيه وأعلق عليه وقد فعلت. ~~فلعل الهيئات العلمية تعنى بإعداد بعثة للسفر إلى التبت ودرس الوثائق في ~~سجلاتها، وتقرير قيمتها التاريخية. # هذه خلاصة تلك الرحلة العجيبة التي نشرها الكاتب الروسي منذ نيف وثلاثين ~~سنة، فناقشها الكثيرون وقطع بافترائها بعض الثقات، ووصفوها بأنها تدجيل ~~لا يستحق كبير عناء، ونحن أميل إلى الشك في أساسها، ولكنها إن صحت أو كان ~~فيها جانب صحيح، وكانت هناك محفوظات كالتي ذكرها الكاتب الروسي ودونها ~~فالأمر يحتمل وجهين. أحدهما أن النبأ في جملته صحيح وأن المسيح سافر إلى ~~الهند، وعاش فيها قبل الرسالة، وتعلم من خير ما في البوذية والبرهمية، ~~وعلمهم من خير ما في اليهودية والنبوءات الإسرائيلية، والوجه الآخر أن ~~بعض الكهان الهنود في الزمن القديم أو الحديث خشي على دين قومه من شيوع ~~المسيحية، فدون بعض تلك القصص ليعزز دينه ويجعله مصدر الأديان ومعلم ~~الرسل، ووضعها ذلك الوضع المفرق الذي ms439 لا يكشف حقيقته إلا رجل عليم ~~باللغات الهندية والتبتية، قدير على استقصاء أخبارها ومضاهاة محفوظاتها ~~مزود بما كان يعوز الكاتب الروسي للتثبت والتمحيص الدقيق. ~~••• # غير أننا إذا فرضنا الفرض الأخير حق لنا أن نستغرب شهادة الكهان لعيسى ~~بالصلاح والهداية، وتزكيتهم لفضائله وعظاته، ووصفهم إياه وصفا يرغب في ~~دينه ويرجحه على دين البوذية ودين البرهمية على الخصوص، ومن جهة أخرى نرى ~~في الأناجيل ما يدل على تعمق المسيح في علم الشرائع اليهودية وأخبار ~~الرسل ومأثورات الفريسيين، فمتى استوعب كل هذا العلم الغزير، وأنى له أن ~~يستوعبه جميعا قبل الثالثة عشرة أو في سنة واحدة أو بعض سنة بعد العودة ~~من رحلته الهندية؟! ~~••• # على أن الأمر الذي نلاحظه في كتاب يؤلف عن تاريخ المسيح أن لدفج لم يشر ~~إلى الهند والبلاد الشرقية وعلاقتها بالإسرائيلية في الفاتحة التي كتبها ~~لإجمال الأحوال في عصر المسيح، فقد أشار إلى مصر، واليونان، والرومان، ~~واقتبس بعض الآراء الفلسفية التي ظهرت في هذه الأقطار، وانتقلت منها إلى ~~الجليل، وبيت المقدس، وأخذ بها عملا أو تعليما بعض المتسهلين الميسورين ~~من طوائف اليهود، ولكنه لم يشر إلى الهند، وفارس، وبين النهرين وهي خليقة ~~أن تذكر في هذا السياق؛ لأن علاقة الهند الروحية بأرض إسرائيل لا تنكر ~~ولا تخفى سواء صحت أخبار الكاتب الروسي أو بطلت بعد الاستقراء، فقديما ~~كان الإسرائيليون فيما بين النهرين وكانوا على مقربة من المجوس، ثم عادوا ~~إلى بابل في الأثر، واختلط أكثرهم بأهلها حتى ضاع في غمارها ولم يعد إلى ~~فلسطين مع القبائل التي نزحت بعد فتح قورش وهزيمة البابليين، وقد جاء ذكر ~~المجوس في البشارة بمولد المسيح، كأنما كان الاعتقاد فيهم أنهم عليمون ~~بالأنباء مطلعون على الأسرار يفهمون من حقائق الفلك والوحي ما ليس يفهمه ~~أبناء إسرائيل، فالإشارة إلى هذه العلاقات القديمة لازمة في التمهيد لعصر ~~المسيح، ولا سيما إذا لاحظنا المشابهة الشديدة بين البشارات والأخبار عنه ~~والبشارات والأخبار عن بوذا، ولاحظنا إلى جانب ذلك قصص المسيحية الأولى ~~التي لا تخلو من دلالتها التاريخية والنفسية ms440، وإن حكم الآباء الكنسيون ~~ببطلانها من وجهة الاعتقاد. # 5 # خاتمة # على فهم شخصية المسيح يتوقف كل شيء، وهذه الشخصية هي في الوقت نفسه مقصد ~~الباحثين وغاية ما يرجون الوقوف عليه من جمع الأسانيد ومقابلة الحوادث ~~وتحليل الآراء، وخلاصة ما يقال في هذا الباب أن وصف هذه الشخصية لم يزل ~~بعد مسألة من مسائل الذوق الفني الذي يعتمد من بعض الجوانب على حقائق ~~العلم المحصورة، فلا أمل الآن في تكميل تلك الصفة على أساس الوقائع ~~المقررة والأخبار المقطوع فيها بالإجماع، وعلى هذا النحو تعجبنا الصورة ~~الموصوفة أو لا تعجبنا، على حسب ما عندنا من التخيل، وما أوحته إلينا ~~المعلومات المتفرقة، والميول النفسية من الملامح التي لا يقوم عليها ~~برهان وثيق، وقد نصيب أو نخطئ في التصور والتمثيل، ولكننا على ثقة من ~~أننا لا نستطيع أن نجزم بتفضيل صورة على صورة من الوجهة العلمية، إلا إذا ~~كانت هناك مخالفة بارزة لخبر أجمع عليه الباحثون. # والصورة التي مثلها لنا إميل لدفج في كتابه «ابن الإنسان» هي كما رأينا ~~صورة مغرقة في البساطة، عارية من الفخامة التي يتوسمها المتخيلون الفنيون ~~فضلا عن المؤمنين بدين المسيح. # وللبساطة فخامتها وعظمتها بلا مراء، ولكن الفرق بعيد بين البساطة البسيطة ~~وبين التركيب المتشعب الذي يبدو للناس في مظهر البساطة؛ لأن صاحبه قد عرف ~~كل شيء واطلع بالخبرة أو بالإلهام على خفايا الحياة ، فتشابهت لديه ~~الأحوال وتقاربت عنده أنحاء النفوس، وترجم ألغاز الدنيا كلها في حل واحد ~~يلوح للناس بسيطا متشابها وهو ينطوي على أعمق الأعماق وأعقد الأمور، ~~فإذا أحببت أن أتخيل بساطة المسيح مما بقي لدينا من أقواله وأنبائه، فهي ~~عندي أقرب إلى البساطة المركبة الملهمة التي لم تتبسط لعجز في التركيب؛ ~~بل لأنها أعظم من التركيب وأشمل وأبعد مدى في قرار البداهة والإلهام، ~~وليست هي البساطة البسيطة التي تلوح لنا من صورة إميل لدفج في كتابه «ابن ~~الإنسان»، فإن المسيح على هذه الصورة ظاهرة غير خارقة لأحكام الكون، ولا ~~ننكر فعل الظروف والطوارئ في سيرة كل عظيم، ولكننا ms441 لا نريد كذلك أن نتطوع ~~بمنع العظمة منعا لا أساس له إلا الرغبة في منعها بغير سلطان من ~~التاريخ، فليست العظمة - إلى أسمى حدودها الروحية - خارقة من الخوارق ~~فنجنح إلى تعليلها، كما نعلل الأكاذيب في أساطير الأولين، ونبدأ بإنكارها ~~والتماس التفسيرات المألوفة لها قبل أن يكون لدينا برهان يدعو إلى ~~الإنكار والتفسير، وإنما العظمة شيء جائز في كل جيل، فإذا اقترن ظهور ~~الرجل العظيم بالحوادث العظيمة فليس التبسيط أمانة للتاريخ في هذه ~~الحالة، وإنما الأمانة الصادقة أن نقول الحق الغريب؛ لأننا غير مكلفين أن ~~نتجنب الغرابة في كل حال، وأن نحكم على الدنيا بأنها لن تجيء يوما ~~بغريب. # وقديما ذهب الميل إلى التبسيط بالمؤلفين إلى حد اختلاق العجائب التي هي ~~أغرب من المعجزات التي أنكروها، والتمسوا من أجلها العلل والتأويلات. ~~فجاء كارل فردريك بارد الألماني في أواخر القرن الثامن عشر يفسر ~~المعجزات، ويقرب قصة المسيح إلى العقول التي لا تؤمن بالخوارق والأعاجيب، ~~فإذا هو يزعم أن المسيح كان تلميذا لجماعة سرية كانت تعمل في ذلك العصر ~~كما تعمل جماعات الثائرين، وأنها تعهدت المسيح من مولده فعلمته وأقرأته ~~التاريخ وأنباء الشهداء والمرسلين، وأنه أعجبته سيرة سقراط اليوناني، ~~وأحب أن يقتدي به ويستشهد في سبيل الحق استشهاده، وأنه كان يتكلم بلغتين ~~لغة رمزية لا يفهمها إلا إخوانه في الجماعات السرية ولغة سهلة يفهمها ~~سواد السامعين ، فحدث من ثم الاختلاف في مراميه والتضارب في روايات ~~أقواله، وأنه حين كان يخلو بنفسه في البرية وعلى قمم الجبال إنما كان ~~يذهب إلى الكهوف لملاقاة رؤساء الجماعة والرجوع إليهم فيما يعمل وفيما ~~يقول، وإن معجزات إقامة الموتى وشفاء المرضى كانت من تعليم لوقا الطبيب ~~والعضو المقدم في تلك الجماعة، فهو الذي علم المسيح أعراض الموت الكاذب ~~وأسرار العلاج والمداواة بالعزيمة، وساعده على بلوغ ذلك المكان الذي ~~أعدوه له بين الشعب لإنجاز ما دبروه، وأنه لما حان الوقت المعلوم اتفق ~~لوقا وصاحباه نيقوديمس وحارام على تقديم المسيح للاستشهاد، فتكفل لوقا ~~بالدواء الذي يقويه على الألم ومطاولة الموت ms442، وتكفل نيقوديمس بأن يسعى ~~عند ولاة الأمر في التعجيل بإنزاله من الصليب، إلى آخر هذه التلفيقات ~~التي أهون على العقل أن يفسر المعجزات والأسرار ولا يفسر ما فيها من ~~التخمين والتنجيم، وتعاقب بعد كارل فردريك بارد مؤلفون على هذا الطراز ~~إلى أن بطل سحر المفاجآت والألغاز في القصص والآداب، فبطل كذلك في تأويل ~~التاريخ، ولكنهم أصبحوا يحاولون أن يجعلوه خلوا من كل غريبة، وينظموه ~~كله من وقائع يشاهدها العابر في مدارج الطرقات، وهذا في ذاته عجيب غير ~~مقبول في الخيال ولا مؤيد بالاستقراء. # واسم «ابن الإنسان» الذي اختاره إميل لدفج لكتابه اسم يدور حوله كثير من ~~الأقاويل، فالذين حققوا أن المسيح كان يخاطب الناس باللغة الآرامية ~~يقولون: إن كلمة «باراناش» أو ابن الإنسان بهذه اللغة لا تدل على أكثر من ~~«الإنسان» أو ابن آدم، أو بعبارة أخرى أنها مرادفة لكلمة ابن الناس الني ~~نطلقها في العربية على كل أحد، فليست كلمة «باراناش» مطابقة لكلمة ابن ~~الإنسان التي وردت في النبوءات، وليس لها ذلك الطنين والغموض الذي يدخل ~~في روع سامعها باللغة اليونانية، ويكاد يشك القائلون بهذا القول في دعوة ~~المسيح لنفسه، واعتقاده في رسالته وهو شك لا موضع له؛ لأن كلمة «ابن ~~الإنسان» ليست كل ما في كلام المسيح من الدلالات على الرسالة المكتوبة في ~~أسفار التوراة، فمن آمن بوجود المسيح فليؤمن بدعوته لنفسه؛ لأن الشك في ~~هذه الدعوة لا يستند إلى قول راجح. # إن قوة المسيح الروحية هي أساس كل عمل عظيم جاءت به هذه الشخصية العظيمة ~~أو اقترن باسمها في سياق التاريخ، وقد يكون العطف عليه - عطف النساء ~~والشبان الأبرياء والشيوخ الصالحين - سرا من أسرار الإيمان به والكره ~~لظالميه والثبات على ذكراه، ولكن هذا العطف وحده ما كان كافيا لإنشاء ~~دعوة كبيرة لو لم يكن وراء تلك الدعوة روح عظيم وسلطان أدبي يكون ~~الاعتداء عليه مثيرا للنفس، مفعما لها بالسخط والإنكار، فعلى أساس ~~العظمة الروحية فلنبن قيام العقيدة المسيحية، ثم يأتي بعد ذلك ما يأتي من ~~فعل البيئة ms443، وملاءمة الحوادث لانتشار الدعوة في جيل المسيح وفي الأجيال ~~التي بعده. # وليس أثر البيئة وملاءمة الحوادث بالأثر القليل في هذه الدعوة ولا هو ~~بالشيء الذي يكثر فيه الخلاف، فمن المحقق المجمع عليه أن عصر المسيح كان ~~عصر استعداد للاعتقاد وتهيؤ لرفض القديم الرث، والإقبال على إيمان جديد. ~~فاليهود كانوا يترقبون ظهور الملك المخلص لهم من أسر الظالمين، وكانوا ~~يرجون في مبدأ الأمر أن يكون ذلك الملك المخلص ملكا حقا مسيحا أي ~~ممسوحا بالزيت المقدس، يسترد لهم عرش داود ويكون ولدا من ذرية داود، ثم ~~أخذوا ينقلون المسيح شيئا فشيئا من عالم الدنيا إلى عالم الروح قياسا ~~إلى قوة الأعداء، واليأس من قهرها بالجيش والسلاح، فكلما كبرت في قلوبهم ~~هيبة الدولة الرومانية، كبرت فيها صفة المسيح الروحية ولاذوا بالأمل في ~~الرسالة بعد الأمل في إخلاف داود بملك من أبنائه، يضارعه في الحكمة ~~والجاه، وما بلغوا إلى عصر المسيح حتى كان أحبارهم قد تشبثوا بتقاليد ~~الدين تشبثا يزداد مع ازدياد الخوف من ضياع تلك التقاليد في غمار الحياة ~~الرومانية، والعادات اليونانية التي تسربت إليهم من الفاتحين؛ فكان هذا ~~التشبث مؤذنا بالنفور من شعائرهم العتيقة، ونصوصهم الحرفية، وداعيا إلى ~~الشك في هذه الظواهر، والأخذ في الدين بالتسهل والسماحة، وتحضير الأذهان ~~لتفسير النصوص بالمعاني الروحية، والمجاز المقول بدلا من تلك التقاليد ~~التي يشق اتباعها على الناس في غمار المعيشة اليومية، وتقدمت المسيح ~~طوائف كانت تتهم الأحبار بالرياء، وتتسهل في تفسير النصوص وتأويل ~~التقاليد، ولا تتقيد بالأوامر والنواهي التي يتقيد بها الأحبار في ~~التطهير والصلاة، فكان تهافت هيبة الأحبار والشك في التقاليد تمهيدا ~~حسنا للإيمان بدين الروح، والخروج على دين الشعائر والحروف. # هذا في عالم اليهود، أما في عالم اليونان والرومان فقد ظهر قبل عصر ~~المسيح مذهب الرواقيين المتقشفين، واشتدت وطأة الدولة الرومانية فكثر ~~الناقمون عليها وعلى الدنيا من أجل ظلمها، واتسعت الفجوة بينها وبين ~~رعاياها فاحتاجوا في وقت واحد إلى العزاء وإلى الثورة الروحية، ووجدوا كل ~~أولئك في البشارة بالمسيح، وما تحمله هذه البشارة ms444 من الأمل للضعفاء ~~والرفق بالمنبوذين والخطاة، ووافق هذا العصر امتزاج الديانات المصرية ~~والهندية والفلسفة اليونانية، فتقاربت الفوارق في عالم الروح، وانهارت ~~النظم التي طال على قيامها الزمان وتاقت الأفكار إلى شيء جديد، ولعل ~~قراءة الأناجيل وحدها كافية للدلالة على استعداد الناس في ذلك الزمان ~~للإيمان ويأسهم مما هم فيه، وثقل الوطأة على أعصابهم وعقولهم من حضارة ~~تلك الأيام ومن مغاشم دولة الرومان، فما أكثر الصرعى والمجانين ~~والمشلولين والمنزوفين فيما حدثتنا به الأناجيل من أخبار قصاد المسيح ~~وطلاب الشفاء على يديه! وإذا ثقلت المغاشم على أعصاب الناس إلى أن يعد ~~فيهم الصرعى والمجانين والمشلولون والمنزوفون بالمئات في إقليم صغير، ~~فذلك عنوان لحالة النفوس، ودليل على بيئة صالحة للثورة والإيمان والتهالك ~~في العقيدة، كما هو الشأن في كل من ثقلت على نفوسهم وطأة الآلام والشعور ~~المكبوح، وتاقوا إلى مصرف للرجاء في عقيدة يوحيها إليهم رسول محبوب ~~مهيب. # وكانت آمال المسيح هي آمال إسرائيل ولا ريب، وأمثلته العليا هي أمثلتهم ~~العليا في التوراة، ولكنه كان بريئا من حجر التقاليد ناقما على رياء ~~الأحبار متفتح القلب لأسمى معاني السماحة مطبوعا عليها بفطرته ممتازا ~~بسعة الروح ورجاحة اللب وفصاحة اللسان، ولا نحب أن نعزو إليه ذهول ~~المأخوذين كما توهم بعض كتاب سيرته، أو نتخذ من سكونه في محضر الأحبار ~~بعد القبض عليه دليلا على وجوم عقله، واضطراب فكره ، فإنه ينبغي أن يكون ~~عالما بالعاقبة التي تنتظره، وربما سكت لعلمه ببطلان كل حكم يبنى على ~~اعتراف المسئول ولا تقوم عليه البينة، ويجري فيه الاتهام على حسب الشريعة ~~الموسوية، فإن محاكمة المسيح كانت باطلة من وجهة الشريعة الموسوية، كما ~~قرر ذلك القاضي الإنجليزي اللورد «شوارف دنفرملين» صاحب المباحث المعروفة ~~في محاكمات التاريخ، فإن أشد الوجود ما كان ليمنع المسيح الكلام كما ~~يتكلم غيره في مثل موقفه لو كان ما به هو خوف القصاص، وليس التسليم وقلة ~~الاكتراث. # فالمسيح هو صاحب العقيدة المسيحية؛ والبيئة وملاءمة الحوادث لها قسطها ~~المقدور في نشر دينه، وإقبال الناس على الإيمان ببشارته، ولكنه ms445 قسط لا ~~تخلو من مثله عظمة حيث كانت، ولا يشترط في العظمة أن تخلو منه ~~بحال. # | رديارد كبلنج1 # الشاعر كبلنج الذي ينزل مصر هذا الأسبوع، هو شاعر رحالة تفرقت حياته التي قاربت ~~الرابعة والستين بين بلدان كثيرة، فليست هذه أولى رحلاته، ولا أطولها في مشارق ~~الأرض ومغاربها. نشأ في الهند وساح في اليابان، وأمريكا، وأفريقيا الجنوبية، ~~وأستراليا، وكاد أن يلم بكل طرف من أطراف الدولة البريطانية، فكان شاعر هذه ~~الدولة بحق الطواف والمشاهدة، كما كان شاعرها بحق التنويه والإشادة، وهو في هذا ~~العصر أشهر شعرائها وأكثرهم تداولا بين جميع طبقاتها، لا يجاريه في ذلك أحد ~~ممن عاصرهم وعاصروه، وتقدمهم بالفضل أو تقدموه، وهو يستحق هذه الشهرة؛ لأنه ~~أولى بهذا الضرب من الشهرة لا لأنه أشعر من أنجبت بلاده في زمانه وأعلاهم قدرا ~~في مراتب العبقرية، وإنما استحقها لأنه شاعر كل يوم وشاعر كل إنسان، أو شاعر ~~المعاني التي يألفها الجمهور في روحاته وغدواته، ويستطيع أن يألفها إذا هي عرضت ~~له بغير سابق ألفة، فرديارد كبلنج هو كل إنجليزي في القسط المشترك بين جميع ~~الإنجليز، وإن شئت فقل: إنه هو الإنجليزي الذي وقعت عليه القرعة؛ ليؤدي عن ~~الجميع واجب الغناء والهتاف، فهو أحرى أن يكون صاحب وظيفة في الدولة، لا صاحب ~~عبقرية شعرية معزول عن هذه الوظيفة. على أن عبقريته الخاصة لا تنكر؛ لأنها تلك ~~العبقرية التي شاع بفضلها الشعر بين طبقات ما كانت تقرؤه ولا تلتفت ~~إليه. # والسياحة هي ثروة الشاعر الكبرى، وينبوعه الذي استقى منه ما قد يستقيه غيره من ~~الكتب والدراسة؛ فليس كبلنج بالرجل الواسع الاطلاع، ولا بالطويل الإقامة في ~~المدارس والجامعات، وليس هو بالمتعمق في شيء من الأشياء، ولا بالذي تستحب ~~قراءته في الشيء الوحيد الذي يميل فيه إلى إظهار المعرفة والبراعة، وهو وصف ~~الآلات الصناعية وما إليها من أدوات الطيران والبخار، ولكنه يرتقي إلى قمته ~~العليا حيث يصف المناظر، ويتحدث عن الهند ويتكلم مع الأطفال، ولك أن تتخيل ~~رجلا طوافة جوالة خبيرا بالدنيا وبالناس، قد جمع ms446 نوادر السياحة وطرف ~~الأحاديث، وجلس في بعض الزيارات إلى الكبار والصغار في حجرة الاستقبال فأقبلوا ~~عليه يستمعون له ويستطلعون أخباره، والتف به الأطفال يريدون أن يأخذوا من ~~أقاصيصه وألاعيبه بنصيب، فمن نادرة إلى طرفة إلى خرافة إلى وصف جميل إلى غير ~~ذلك من بضاعة الرحالين العارفين بمختلف الأمم في مختلف البلدان، فإذا تخيلت هذا ~~الرجل وأضفت إليه ملكة الكتابة المبتكرة، والملاحظة الدقيقة فأنت تعرف كبلنج، ~~وتعرف كل ما تنتظره من منظوماته ومنثوراته وتعرف النطاق الذي يسبق فيه والنطاق ~~الذي يخفق إذا تعدى إليه، وهو كجميع الرحالين يغلب عليه أنه يحيط علما بالناس، ~~وقلما يحيط علما بالإنسان؛ فما شئت من وجوه متعددة وأجناس بعيدة وأطوار ~~متغيرة، يقص عليك الرحالون قصصها، ويشرحون لك تواريخها ومأثوراتها، ولكنهم إذا ~~تناولوا الإنسان الواحد لم يتغلغلوا في أطواء نفسه، ولم يسبروا من غوره إلا ما ~~يسبره كل عابر طريق، وربما كان هذا الإنسان لا يعنيهم كثيرا؛ لأنهم لا يرونه ~~في أنفسهم ولا في الآخرين، ولا يفرغون من عالم الدنيا فينقلبوا إلى عالم ~~السريرة المحجوبة عن العيون، فانتظر عند كبلنج كل ما تنتظره عند ذلك الزائر ~~الذي تخيلته في حجرة الاستقبال، واسمع منه كل ما يسمعه الزوار في تلك الحجرة، ~~ولا سيما إذا أقبل على الأطفال يلهيهم بنوادر الحيوانات وأعاجيب المخلوقات، ~~ولكن لا تنتظر من زائرك هذا أن يتعمق أو يتوغل في ذلك المجلس المطروق لكل زائر! ~~فهو محدث ومغن في بعض الأحيان، ولكنه لن يكون كاهنا ولا حكيما إلا في عرض ~~الحديث وفلتات اللسان، وقد تنتظر الشذوذ لهذه القاعدة العامة، فلا يخيب انتظارك ~~لأن الشذوذ حاضر في هذه القاعدة حضوره في كل قاعدة سواها، ولعل الشذوذ هنا هو ~~رواية «كم الأيرلندي» التي نزع فيها كبلنج بعض النزوع إلى التصوف وأسرار الروح، ~~وخرج فيها بعض الخروج عن شعائر حجرة الاستقبال. # وأخشى من تكراري لذكر الاستقبال وحجرته أن يتطرق إلى القارئ خطأ في تصور كبلنج ~~وأسلوبه وموضوعاته، فيحسبه من أولئك المتأنقين الذين يتكلمون بالكنايات ويشفقون ~~على هوامس الآذان ms447، فكبلنج في الواقع أبعد الناس من هذه الطائفة، وأقلهم شبها ~~بها في أسلوب الحديث وفي حذلقة الكناية، فهو لا يتورع عن لغة تمثل الحقيقة، ولو ~~كانت لغة العسكر في الثكنات والحانات، وكل ما يشبه به زائر المجالس هو أنه لا ~~يتعمق ولا يستطرد بسامعه من موضوعات كل يوم وكل إنسان: فأما فيما عدا ذلك فقد ~~تسمع منه ما يأبى سماعه المتأنقون المتحذلقون، وقد تراه في ثياب «تومي» يترنح ~~ذات اليمين وذات الشمال، ويوحي إليك معاني اللعنات البذيئة، والفكاهات الغليظة، ~~وإن لم ينطق بالألفاظ والعبارات. # كذلك أخشى أن يفهم القارئ أن كبلنج لا سحر فيه ولا غرابة؛ لأنه شاعر كل يوم ~~وشاعر كل إنسان فلا مجال فيه لسحر الغرائب والأسرار. كلا فهذا إجحاف بالرجل ~~وفهم لملكاته على غير الوجه الصحيح، فحق أنه شاعر البيت، والسوق، والطريق، ~~والثكنة، والنهار، وليس بشاعر الصومعة والنفس الخفية والليل المعزول، ولكن غير ~~حق أنه خلو من الحجر والغرابة على شئون كل يوم وكل إنسان، فإذا هي شعر وغناء، ~~وإذا هو ينقل عرائس القصيد من أجوائها العالية، فيعلمها الخطر في الطريق بين ~~السيارات والغوغاء وعساكر المرور! وتلك براعة لا يغمط حقها ولا ينسى ~~فضلها. # ثم لا ننس كذلك أن كبلنج يحدث الناس عن الهند وهي في ذاتها أسطورة كبيرة ودنيا ~~مسحورة ومتاع للخيال، يستخرج منه القارئ ما يغنيه عن خرافات الجن والعفاريت، ~~وعجائب الأحلام والتهاويل، فالهند في شعر كبلنج هي الحلم الذي ينوب عن الأحلام ~~والمجاهيل في شعر الآخرين، ولا يمنعها أن تكون كذلك أنها بلد معمور، له حيزه ~~على الأرض ومكانه على خرائط الجغرافيا وأخبار الصحافة، فإن البعد معوان الخيال. ~~والهند بعيدة جدا حتى على المقيمين فيها من الإنجليز والأجانب، وحتى على ~~أبنائها الذين لا يعرفون حاضرها وغابرها إلا بالسماع، بل يوشك ألا يعرفوا الأرض ~~التي يمشون عليها بغير السماع لما هم مستغرقون فيه من الأحاجي والألغاز! # ولد كبلنج في الهند وتزوج من الولايات المتحدة، وآباؤه الأقدمون من هولندة، وفي ~~نسبه القريب مزيج من الأيكوسيين والأيرلنديين ms448! فهو خلاصة أجناس متفرقة، ولهذا ~~أثره ولا ريب في تكوين المزاج والسليقة، ولكن شيئا من كل ذلك لم يكن له في ~~تكوين أدبه ما كان لولادته في الهند من الأثر الكبير الذي لا ينفصل عن عمل من ~~أعماله ولا فكرة من أفكاره، فإذا حذفت الهند وتوابعها من شعر كبلنج ونثره فقد ~~حذفت عنصره الذي لا قوام له بغيره، والمرجح عندنا أنه لو لم يولد في الهند لما ~~كان شاعر الاستعمار كما يلقبونه في بلاده، أو شاعر العلم البريطاني والدولة ~~البريطانية دون غيره من الشعراء معاصريه. إذ الغالب على الإنجليز الذين يولدون ~~أو يعيشون في المستعمرات أن يكونوا هم أشد الغلاة في تقديس الاستعمار، وكبلنج ~~هو القائل بأمانة الرجل الأبيض في الحضارة الحديثة، وإن كل فرد من أفراد الأمم ~~البيضاء مسئول عن سبعة أو ثمانية من أفراد هذه الأمم الملونة التي نصفها طفل ~~ونصفها شيطان! وهو صاحب القصيدة الشائعة عن العلم الإنجليزي وصاحب الأبيات ~~المشهورة: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقي الاثنان حتى تلتقي الأرض والسماء ~~بين يدي الله يوم الحساب.» وهو كذلك الذي أتم هذا المعنى بقوله: «ولكن لا شرق ~~ثمة ولا غرب ولا حد ولا معشر ولا ميلاد حين يتقابل الرجلان القادران وجها لوجه ~~ولو أقبلا من أقاصي الأرض مفترقين.» # ويعزو بعض النقاد ولع هذا الشاعر بالمرعبات إلى نشأته في الهند، واستماعه إلى ~~نوادر العجائز والقصاصين الذين كان يختلف إليهم في الخانات، ويتسقط منهم القصص ~~والأساطير؛ ففي إحدى قصصه - وهي أبشع ما يأخذونه عليه - يجعل قردا يغار من ~~زوجة صاحبه الصغيرة فيهجم عليها ويمزقها إربا إربا ثم يجلس والدم يقطر من ~~يديه على مائدة الطعام، وأي معنى لهذه القصة التي يعافها السمع ويقشعر منها ~~البدن؟ لا معنى غير الرعب والفزع وإثارة النفس بما لا تحب التأمل فيه! ولسنا ~~نستبعد أن تكون بعض القصص التي ألفها كبلنج منقولة عن الأقاصيص الشعبية في ~~الهند مع تصرف يسير في التنسيق والصياغة، فإن قصصه الأولى شبيهة بتلك البلاد ~~ومأثوراتها، إذ كان يكتبها وهو ms449 يافع لم يتوسع في الاطلاع على مؤلفات ~~القصاص. # يندر أن تورث العبقرية، ولا يندر أن تورث الأذواق الحسية، وقد كان والد كبلنج ~~مديرا لمدرسة الفنون في لاهور، وكانت والدته وأخته تقرضان الشعر ولهما ديوان ~~نظمتاه معا وسمتاه «ديوان أم وبنت». فكبلنج قد ورث الذوق الفني من أبيه وأمه، ~~وزاد في الملكة بما ليس عند أبويه، فدقة الملاحظة أصيلة فيه مكينة في نفسه، ~~وقدرته على الوصف هي شعبة من تلك الملاحظة الدقيقة، ومسحة من تلك القدرة الفنية ~~الموروثة، ويقول الذين عرفوا آله وأقرباءه: إنهم كانوا جميعا من الطراز ~~المفراح المقبل على الحياة، فهذه الحيوية الدنيوية إذن طبيعة في الشاعر قد ~~ورثها من أبويه كما ورث منهما الذوق ودقة الشعور، ولا اتفاق بين هذه الطبيعة ~~وبين ما ينعته به بعض النقاد من الكزازة، والجفاء، وضيق العطن، ونعوت أخرى لا ~~تدل على المعهود في كلامه وفكره، فلعله تخرص الحساد، أو جهل الفضوليين الذين ~~يكلفون الناس ما لا يطاق ويريدونهم على الصبر والرضا بكل صغيرة تخطر لهم، ولا ~~يسمحون لهم بقليل من التحفظ والامتعاض، أما الذين عاشروا الرجل فيذكرون له ~~المحضر الأنيس والنكتة المليحة، وإليه تنسب تلك النكتة التي تداولتها الصحف في ~~أيام حملة النساء المطالبات بحقوق الانتخاب، فقد قال كبلنج لسيدة منهن: أولم ~~تأخذ النساء بعد ما فيه الكفاية؟ فقالت السيدة: كلا! فلماذا يقسرون المرأة على ~~أن «تأخذ» اسم زوجها؟ قال كبلنج مبتسما: ولماذا تترك له اسمه وقد أخذت كل شيء ~~غيره؟ فكانت فصل الخطاب! # | لسنغ1 # بعد مائتي سنة من مولده # 1 # كان هيني من المعجبين بلسنغ أشد الإعجاب، وأنا من المعجبين أشد الإعجاب ~~بالكاتبين الشاعرين معا، وأعتقد أنهما خير أدباء ألمانيا، وأن كلا ~~منهما - ولا سيما هيني - مثل فذ في تاريخ الدنيا لا يضارعه في نوعه ~~مضارع، ويندر أن يعجب الإنسان بأديبين أحدهما معجب بالآخر يرى فيه مثل ~~رأيه ويحس نحوه مثل إحساسه، فمما يسرني أن أدع الكلام هنا لهيني يقول في ~~لسنغ ما كنت أقوله لو أتيح لي أن أكتب بقلمه، أو ms450 يقول فيه ما هو صورة ~~أنيقة صادقة لذلك الأديب في رأي كل من يقرؤه ويعجب بسجيته وأدبه. قال ~~هيني في كتابه عن الدين والفلسفة: # ما من ألماني ينطق باسم لسنغ إلا ولهذا الاسم في صدره صدى ~~مختلج، فمن عهد لوثر لم تنجب ألمانيا رجلا أعظم ولا أكرم من ~~جوتهلد أفرايم لسنغ، وهذان هما آيتا الفخر والفرح لنا نحن ~~معشر الألمان، نثوب في قلاقل الزمن الحاضر إلى مثاليهما ~~المؤسيين فيجيباننا بنظرة حافلة بالأمل المشرق، وسيجيء ~~بعدهما الرجل الثالث، الذي يتم ما بدأه لوثر ومضى فيه لسنغ، ~~فهو بعدهما ثالث المحررين. # كان فضل لسنغ كفضل لوثر، فهو فيما خلا أثره الواضح المعروف ~~الذي قام به قد ألعج روح الشعب الألماني من أعماقه، وأيقظ ~~بنقده وحواره حركة عظيمة جامعة في العقول. كان نقده مسعر ~~الحياة في وزمانه، بل كانت حياته كلها حملة حوار. # وقد سرى الإحساس بنقده النافذ إلى أوسع نطاقي الفكر والشعور ~~في عالم الدين والعلم والفن، فهزمت براهينه كل مناجز وخرجت ~~من كل نصر أقوى وأمتن، وكأنه كما قال عن نفسه كان يحتاج إلى ~~النضال ليستنمي قواه ويبلغ بها حد الكمال، فهو كذلك البطل ~~الشمالي الذي يتحدثون في الأساطير أنه كان يرث ذكاء من ~~يقتلهم ومعرفتهم وشجاعتهم، وأنه انتهى بذلك إلى أن يستجمع في ~~نفسه كل معاني الفضائل والكمالات. ولا يصعب علينا أن نفهم ~~كيف استطاع هذا المقاتل المغوار أن يثير غير قليل من القلق ~~في ألمانيا، ألمانيا تلك التي كانت يومئذ تتلفع بسبات أعمق ~~من سباتها اليوم، فقد أذهلت جرأته الأكثرين، فكانت له هذه ~~الجرأة خير نصير، ولا عجب فالجسارة سر النجاح في الأدب كما ~~هي سر النجاح في الثورات وفي الغرام، فكانت فرائصهم ترتعد ~~قاطبة من سيف لسنغ، وكانوا ولا رأس بين رءوسهم يسلم من ~~ضرباته الدامغات، نعم فقد طاح برءوس كثيرة لمحض العبث ~~والاعتداد بالقوة؛ وقد بلغ من نكايته أنه كان يرفع تلك ~~الرءوس من حيث هوت على الأرض ليلوح بها للجماهير الناظرة ~~إليه يريهم أنها خواء وأن ms451 بواطنها فراغ من كل شيء، ومن لم ~~يصل إليهم سيفه أطلق عليهم سهام ذكائه تصميهم أنى ثقفتهم، ~~فيعجب الصديق لدقة الريش في تلك السهام وتقع من العدو في ~~صميم الشغاف، ولم تكن دعابة لسنغ تشبه هذا المرح وهذه ~~الألاعيب الذائعات هنا في فرنسا - كان هيني يقيم في فرنسا - ~~لا! لم تكن دعابته ككلب الصيد الفرنسي الصغير الذي يلاعب ~~ظله، وإنما كانت هي القط الألماني الذي يلعب بالفأر قبل أن ~~يقضي عليه. # أي لعمر الحق لقد كان الحوار متعة صاحبنا لسنغ وسروره، فما ~~كان يبالي أكان مناجزه كفؤا له أم كان دون قدره، ورب أسماء ~~قد أنقذها بالحوار من خمول هي أهل له عاشت في كتبه وحولها ~~نسيج من أبرع التهكم وأمتع الفكاهة، كأنما هي حشرات مقبوضة ~~في لفافة، فقد خلد خصومه لأنه أرداهم وقضى عليهم، ومن هنا ~~كان يسمع بذلك ال «كلوتز» الذي أنفق لسنغ عليه ما أنفق من ~~اللواذع والسخريات؟ إن الصخور الضخام التي دهداها عليه وسحقه ~~بها كانت هي الصوة الخالدة التي دلت على طريق ~~مصرعه. # وخليق بالتنبيه هنا أن هذا الرجل الذي كان أذكى الألمان كان ~~كذلك أنبل الألمان، فلا شيء يعدل حبه للحقيقة، ولا موضع عنده ~~لمساومة الباطل، ولو كان بهذه المساومة يخدم الحقيقة كما قد ~~يفعل بعض الحصفاء في بعض الأحايين، فهو يقدم على كل شيء من ~~أجل الحقيقة إلا أن يكذب من أجلها، وقد قال مرة: «إن الذي ~~يجلب الحقيقة للناس محجبة مخضبة قد يكون سمسارها، ولكنه لن ~~يكون عاشقها المفتون بجمالها.» وإنه لمما يكسر القلب أن تقرأ ~~في ترجمته كيف بخلت الدنيا على هذا الرجل بكل مسرة حتى ~~استكثرت عليه أن يلوذ إلى بيت يطمئن إليه، وقد خيل إليه مرة ~~واحدة أن الحظ يبسم له فحظي بنعمة الزوجة المحبوبة وحظي ~~بنعمة الأبوة، وسرعان ما حظي بهما حتى أفلتت منه النعمتان ~~معا فكانت سعادته كشعاع الشمس يسطع على جناح طائر، فماتت ~~زوجته وهي تلد ومات الطفل على أثر الولادة! وكتب عن ذلك ~~الطفل إلى ms452 صديق له هذه الكلمات التي فيها ما فيها من فكاهة ~~الرعب والأسى: لقد كان سروري قصيرا وكان فقدي إياه على كره ~~ذلك الولد النجيب! فقد كان حكيما واأسفاه! نعم كان حكيما ~~يا له من حكيم! ولا يخطر لك على بال أن هذه الساعات القلائل ~~التي قضيتها في الأبوة قد جعلت مني أبا مسلوب الصواب بحب ~~وليده، فليس الأمر كما تظن وإني لأعرف ما أقول، أليس من ~~الحكمة أن يسحب ذلك الوليد إلى الدنيا بمقابض الحديد، وأنه ~~لا يلبث فيها هنيهة حتى يلوح له ضلاله؟ أليس من الحكمة أن ~~يغتنم فرصته الأولى لفراق هذه الحياة؟ آه! لقد عن لي مرة ~~أن أسعد كما يسعد الناس فأخفقت في أملي أيما إخفاق. ~~... كان لوثر النبي الذي أومأ إلى الناس من سفر العهد الجديد ~~إلى السفر المقدس الثالث. دعوته خليفة لوثر وأتكلم عنه هنا ~~بهذه الصفة، ثم أتكلم بعد عن مكانه الفني، ففي هذا المجال ~~كان له عمل ناجع في الإصلاح، وكان أثر سيرته لا يقل عن أثر ~~كتابته في ذلك الإصلاح وهذا الجانب من جوانب جهاده هو أبرز ~~ما ظهر له بين الناس وأكثر ما يدور الكلام عليه عند ذكره، ~~ولكننا إذا نظرنا إليه من موقفنا الراهن بدا لنا أن معاركه ~~الفلسفية والدينية أكبر خطرا من كل رواياته ومن كل آرائه في ~~الروايات، على أن رواياته - كجميع ما كتب - لها شأنها ~~الاجتماعي لا مراء، فما كانت «ناتان الحكيم» إحداهن قصة حسنة ~~على المسرح فحسب، بل كانت كذلك رسالة في الفلسفة والفقه تؤيد ~~الإيمان الخالص بالله وحده، إذ كان الفن عند لسنغ منبرا ~~للعظات ينزل من منصة الوعظ أو من كرسي الأستاذ فيثب إلى ~~المسرح لينطلق في الكلام ويظفر بالعدد الأكبر من السامعين، ~~وقد قلت إن لسنغ متمم عمل لوثر؛ لأننا بعد أن قام لوثر ~~فأطلقنا من عقال الموروثات ورد المسيحية كلها إلى ينبوع واحد ~~وهو ينبوع الكتاب المقدس، رجعنا إلى الكتاب المقدس فعبدنا ~~حرفه وران على العقول حكم الألفاظ، كما ران عليهم حكم ms453 ~~الموروثات القديم؛ فلما جاء لسنغ كان له الفضل الأكبر في ~~التحرير من طغيان الحروف. # مات لسنغ ببرنسويك سنة 1871 مجهول المقصد مكروها طريدا بين ~~أبناء قومه، وفي تلك السنة ظهر بكونجسبرج كتاب عمانويل كانت ~~في نقد العقل المجرد، فبدأ به ثورة فكرية في ألمانيا تقابل ~~الثورة المادية في فرنسا وتعدلها في الخطر عند الباحثين ~~المتعمقين. ا.ه. # هذان هما أعظم الألمان وأكرمهم في رأي هيني: لوثر ولسنغ، محرر العقول ~~والنفوس من الموروثات، ومحرر العقول والنفوس من حكم الحروف، وقد أوجد ~~التاريخ رابطة بين هذين الاسمين العظيمين قبل أن يوجد هيني رابطته بينهما ~~بهذه المشابهة التي فيها من تقرير الواقع أكثر مما فيها من براعة ~~التشبيه، فإن كلمنس لسنغ جد كاتبنا كان أحد الموقعين على البيان الذي صدر ~~سنة 1350 بتعزيز المبادئ اللوثرية، وكان أبوه مؤلف كتاب مذكور يذب به عن ~~تلك المبادئ التي اشتد حولها النضال في زمانه، فهو عريق في الجهاد لحرية ~~الفكر والعقيدة، وهو أجرأ من آبائه جميعا؛ لأنه أذهل أباه وأغضبه بما ~~اقتحمه من طرق جديدة في تحرير أفكار قومه وأرواحهم. # ويرى هيني أن عمل الكاتب في الدين والفلسفة أخطر من عمله في الفن والأدب، ~~وقد تكون لهيني أسبابه التي تدعوه إلى هذا الترجيح؛ لأنه كان طريد ~~العصبية الدينية، وكان يهوديا يعاني ما يعانيه سائر اليهود من الحرمان ~~والاضطهاد في بلاد الألمان، فإذا أعجبتنا معارك لسنغ في ميادين الخلافات ~~الدينية فلتلك المعارك شفيع عنده من جلالتها الباهرة لكل ملاحظ نزيه ~~وشفيع آخر من موافقتها لهواه، ولا يجب أن يكون الإنسان يهوديا ليعجب ~~برواية «ناتان الحكيم» وروح التسامح الذي تضمنته، والسمو والإخلاص في فهم ~~حقائق الأديان، ولكنه يجب أن يكون مجروح القلب من مظالم العصبية حين يرجح ~~جهاد لسنغ في ميدان الدين على جهاده في ميدان الفن والأدب. # فلسنا نعرف في العالم كله أديبا كان له فضل في تحرير آداب الغربيين كفضل ~~هذا الناقد الملقب في أوربا بملك النقاد، وكتابه «اللاوكون» الذي سنعود ~~إلى الكلام عليه في المقال التالي هو ms454 على كونه رسالة لم تكمل «إنجيل» ~~فني قد خرج للأمم كافة بدين من الفن جديد ومذهب في النقد لم يكن له ~~مثيل، قال ماكولي لصاحبه لويس: «إن قراءة هذا الكتيب كانت فتحا جديدا ~~في حياته الفكرية، وإنه استفاد منه ما لم يستفده قط من كتاب» وناهيك ~~بكتيب يثني عليه ماكولي هذا الثناء وهو ما هو من سعة الاطلاع في جميع ~~اللغات، ومن دقة الملاحظة في تواريخ الآداب، ومن أصالة الرأي وكراهة ~~الإغراق في كل ثناء، وقال أرنست فونتان: «إذا كان لسنغ عنيفا في بعض ~~الأحيان وظالما في حملته على آدابنا - آداب الفرنسيين - فما كان ذلك إلا ~~لفرط غيرته على تخليص قومه من الأصنام التي كانوا جد مستغرقين في عبادتها ~~وتسديد الأدب الألماني إلى منهجه الطليق»، وهذه كلمة فرنسي في الناقد ~~الذي جعل همه الأكبر تحطيم النماذج الفرنسية التي كان يعبدها الألمان، ~~ولكنك لا تنصف هذا الناقد إذا قلت: إنه سدد الأدب الألماني وحده إلى ~~المنهج الطليق، ولم تقل كما هو الواقع المقرر إنه كان أقدر السابقين على ~~تسديد الأدب العالمي إلى ذلك المنهج، وإنما لا نستطيع أن نذكر قبله ~~كاتبا في العصور الحديثة اجتمعت له ملكات النقد وأذواق الفن، ولا سيما ~~الشعر والتصوير كما اجتمعت لهذا الناقد العظيم. # | اللاوكون # 2 # اللاوكون في الأصل هو اسم كاهن إله البحر تبتون في مدينة طروادة، وإجمال ~~قصته أن اليونان لما حاصروا هذه المدينة ويئسوا من فتحها صنعوا تمثالا ~~عظيما على صورة حصان ودسوا فيه جماعة من شجعانهم وتركوه عند أبواب ~~المدينة، وركبوا البحر متظاهرين بالرحيل يأسا من الغلب بعد طول الحصار، ~~وكان لهم جاسوس في طروادة طفق يزين لأبنائها أن يسحبوا التمثال العظيم ~~إلى داخل أسوارها ويحتفظوا به غنيمة لهم وتذكارا لثبات مدينتهم فمالوا ~~إلى نصيحته، وتوجس الكاهن من عاقبة ذلك، فأنذرهم ألا يفعلوا مخافة أن ~~يكون في التمثال نفر من اليونان مختبئين فيه لدسيسة دبروها بينهم وبين ~~جيشهم الراحل، وضرب الكاهن التمثال برمحه فلم ينكسر فسحبه الطرواديون إلى ~~داخل الأسوار، وأصر الكاهن على ms455 إحراقه فلم يلتفتوا إليه. قالت الأسطورة - ~~أو الأساطير فإن هذه القصة كثيرة الروايات - وكانت الربة منيرفا تناصر ~~اليونان وتشفق أن يصغي الطرواديون إلى إنذار كاهنهم فيكشفوا الدسيسة، ~~ويحق الفشل على هذا التدبير وتبطل النبوءة القديمة التي أنبأت بفتح ~~اليونان لطروادة فأطلقت الربة منيرفا ثعبانين هائلين على ولدي الكاهن وهو ~~عند البحر يقدم القربان إلى الإله نبتون فالتهماهما ولم تغن استغاثتهما، ~~ولا نجدته في دفع هذه الضربة من الربة الحانقة عليه الممالئة لأعداء ~~بلاده، ثم أصيب في عينيه وأصبحت قصته مرتعا لقرائح الشعراء اليونان ~~والرومان، وصنع فيها بعض المثالين هذا التمثال. # ويرى من ينظر إلى التمثال أن المثال قد صنع الكاهن حيث يبدو الألم على ~~كل عضلة من عضلات جسده مبرحا شديدا، ولكنه لا يبدو كذلك من حركة شفتيه ~~اللتين تفتران قليلا عن آهة رقيقة لا تناسب ذلك الألم المبرح الشديد، ~~فهل في هذا التمثيل تناقض أو أن هناك سببا من أصول الفن يوجب أن يكون ~~تمثيل الألم في عضلات الجسد غير تمثيله في حركة الشفتين؟ # قال ونكلمان الناقد الفني الألماني المعاصر للسنغ: «إن قرار البحر ليبقى ~~ساكنا وصفحة الماء عجاجة تضطرب ما طاب لها الاضطراب، وكذلك نرى في ~~تماثيل اليونان ذلك الروح الكبير القرير وإن برح الألم وتفاقم العذاب ~~فهذه الروح بادية في طلعة اللاوكون وليست بخافية في غير طلعته على ما به ~~من شدة العذاب الأليم، وأنت ترى دلائل هذا العذاب في كل عضلة من عضلات ~~جسده وكل عصب من أعصابه، ولكنه يتراءى على وجهه ووقفته بغير عنف ولا ~~مجهدة، ففم لا يصرخ ذلك الصراخ المرعب الذي يرويه لنا فرجيل عن لاوكونه ~~وفتحة الفم لا تدل على صراخ مرعب بل على أنين مكبوح.» # ومن هنا كانت بداءة لسنغ في الكتابة عن اللاوكون وعلاقته بالشعر ~~والتصوير، ولهذا أطلق اسم اللاوكون على كتابه الذي تكلم فيه عن حدود ~~الفنون وطرائقها في التعبير وإن لم يكن كله دائرا على موضوع التمثال ~~وحده. # فلسنغ يقول: إن الصراخ مكبوح في وجه التمثال لسبب غير ms456 الذي ذكره ونكلمان ~~في تلك الملاحظة، فاليونان لا يأنفون من الصراخ إذا برح بهم الألم، ولا ~~يروي لك شاعر من شعرائهم خبرا عن أبطالهم الذين عانوا برح العذاب إلا ~~وهو جاعلهم يصرخون الصراخ القوي المرهوب، فإذا كان تمثال اللاوكون لا ~~يعبر عن ألمه بالصراخ فذلك راجع إلى الفرق بين الشعر والتصوير في طرائق ~~التعبير لا إلى عظم الروح والرغبة في مغالبة الآلام، ومن ثم أخذ لسنغ في ~~التفريق بين الشعر والتصوير وإقامة الحدود المحكمة لكل منهما في أساليب ~~الوصف ومجازات التشبيه. # إن اللاوكون يغض من صراخه في رأي لسنغ لسببين متعلقين بأصول التصوير لا ~~بأصول الأخلاق أو آداب التعبير عن آلام النفس البشرية. # فالسبب الأول هو أن منظر الصراخ على الفم وعلى ملامح الوجه بشع جد ~~البشاعة مستكره جد الاستكراه، وما على القارئ إلا أن يمثل لنفسه فما ~~مفغورا إلى أقصى ما يندفع إليه ألم المتألم ووجها تنقبض ملامحه حسبما ~~توحيه حركة ذلك الفم المفغور، ثم يتصور كيف تكون بشاعة ذلك الوجه وموقعه ~~الكريه من النظر والخيال؟ فلا المثال يرضى الجمال بتصويره على هذه ~~الشاكلة لأنه منفر للنظر والفكر في آن واحد، ولا هو يرضى العطف؛ لأنه لا ~~يعطي الناظر من أسباب العطف ما فيه الكفاية، وقد كان اليونان يكرهون ~~تصوير البشاعة بل كانت حكومتهم تحرمها وتعاقب عليها. فلا جرم أن قد خطر ~~للمثال الذي صور اللاوكون أن يكف من ألمه في ملامح وجهه، ويطلق من ذلك ~~الألم في تصوير أجزاء بدنه، وقد فعل المصور تيمانتيس ما يشبه ذلك حين صور ~~الفتاة أفيجينيا في موقف التضحية وصور الألم والحزن على وجوه النظارة كل ~~بما يناسبه ويوافق قسطه من العطف والأسى، إلا أباها فقد غطى وجهه ولم ~~يكشفه للناظر؛ لأنه لو سوى بينه وبين سائر النظارة في مظاهر الألم لكان ~~ذلك مخالفا للواقع وللمعقول، ولو أعطاه حقه من تلك المظاهر لكان بشعا ~~مستنكرا، فما صنعه مصور اللاوكون هو العرف الذي لا غرابة فيه عند ~~اليونان ولا عند المحدثين الذين يفهمون الصور ms457 هذا الفهم ويؤدونها هذا ~~الأداء. # فهناك فرق إذن بين الشاعر وبين المصور في طريقة التمثيل يبيح لأحدهما ما ~~قد يحرم على الآخر، وليس كما قال بعض الأقدمين وجاراهم فيه معظم النقاد ~~والمحدثين، من أن التصوير شعر صامت والشعر تصوير ناطق، ثم رتبوا على ذلك ~~أحكاما شتى جرت إلى الخطأ في فهم الفنين على السواء. # ويسأل لسنغ: هل يتشابه شاعر القصة وشاعر الرواية التمثيلية في هذا الحكم؟ ~~ولا يخفى أن لهذا السؤال موضعا هنا، إذ كان الشاعر القصصي يعطينا الصورة ~~النفسية أو لا يعرض على أعيننا الصورة الجسدية، أما الشاعر التمثيلي فلا ~~بد من ممثل نراه رأي العين ونستبشع منظره حين الإغراق في الصراخ وتقبيض ~~الوجه، كما نستبشع هذا المنظر في صورة المصور والمثال، فإذا جاز للشاعر ~~القصصي أن يشتد في وصف الألم على الحكاية فهل يجوز ذلك للشاعر الذي يصوغ ~~كلامه في قالب الروايات التمثيلية؟ يقول لسنغ: نعم يجوز في بعض الأحيان ~~لأننا لا نحتقر الصارخ في جميع المواقف، بل نحن نعطف عليه ونشعر بألمه ~~إذا علمنا أنه لم يلجأ إلى الصراخ والولولة ضعفا وخورا، وأنه قد غالب ~~نفسه جهد المغالبة وصابر الآلام كل المصابرة، وأعطى الرجولة حقها الذي لا ~~يلام بعده على مطاوعة الألم ومؤاتاة الطبيعة البشرية، وكل هذا مستطاع أن ~~يعبر عنه في الشعر، وأن يشرح على المسرح في المواقف المتتابعة، ولكنه غير ~~مستطاع على هذا النحو في الصور ولا في التماثيل. ~~••• # ذلك مجمل السبب الأول. # أما السبب الثاني فإجماله أن هناك فرقا بين الشاعر والمصور في اختيار ~~الزمن. فالزمن مسلس العنان للشاعر يختار منه ما يشاء سابقا ولاحقا، ~~ويعرض لك الصورة بعد الصورة متمما ومكملا بغير قيد ولا حد في هذا ~~الباب، أما المصور فليس له إلا لمحة واحدة يختارها، وعلى سلامة ذوقه في ~~اختيار هذه اللمحة يتوقف كل الأثر الذي يبغيه على شعور الناظم، فعليه من ~~أجل هذا أن يختار اللمحة التي هي دون غيرها أملأ اللمحات باستيحاء ~~السوابق واللواحق وتضمين المعاني المغيبة في المعاني المعروضة ms458 للنظر، ومن ~~أجل هذا أيضا كان عليه ألا يختار لمحته بحيث توفي على النهاية القصوى ~~لأول نظرة، ثم تحد الخيال فيقف مكانه ولا يتقدم ولا يتأخر ولا يلبث أن ~~يمل ما يراه ويعرض عنه وهو كليل نافر، فإذا لاحظنا هذا فماذا يبلغ المصور ~~من أنفسنا إذا هو مثل لنا اللاوكون في أقصى مدى ألمه، وجاء به فاغرا ~~فاه مقبضا وجهه لا مذهب وراء رؤيته للتخيل ولا للشعور؟ إنه لا يعطينا ~~مدى القصة واسعا كاملا، ولكنه يعطينا لمحة كابحة للخيال لا نلبث أن ~~نملها كارهين. ولهذا كان مصور اللاوكون سليم البديهة والذوق لطيف الفطنة ~~لدقائق فنه حين كبح صراخ اللاوكون، ولم يكبح خيال الناظر ولا ~~شعوره. # وخلاصة الفروق بين الشعر والتصوير في رأي كاتب اللاوكون هي أن الشعر معني ~~بوصف الحركات النفسية لا بوصف المشاهد المحسوسة، وأن التصوير على خلاف ~~ذلك معني بكل ما يرى بالعين ولا يخامر النفس إلا من طريق الرؤية ~~والملامسة، فالشاعر إذا وصف جمال المرأة وصف أثرها في النفس، ولم يشغل ~~فنه بتصوير المحسوسات إلا من حيث هي دلالة على الخوالج والعواطف، أما ~~المصور فله عمل آخر وهو نقل الصور من حيث هي مظهر ومكان له من حيث هي ~~حركة وزمان، وهذه هي الخطوط البارزة في التفريق بين الفنين، ولكنها لا ~~تمنع التداخل بينهما والالتقاء فيما يتشابهان فيه ويتوافيان. # ومن أمثلة لسنغ على الفرق بين الشاعر والمصور ها هنا صورة هلينا في شعر ~~«هومر» وفي تماثيل المثالين وصور المصورين، فهي في التماثيل والصور امرأة ~~فاتنة تم لها جمال الوجه والأعضاء، ولاحت بسمت بارع ينتقيه المصور على ~~حسب المثل الأعلى من الجمال في ذوقه وخياله، أما في شعر هومر فأروع ما ~~يروعنا من الصورة أن هلينا خطرت أمام شيوخ المدينة الحكماء فبهتوا وأقبل ~~بعضهم على بعض يقول: لا عجب تضيع الأرواح وتشقى الأمم من أجل هذا الجمال! ~~فليست هنا صورة محسوسة، ولكنه أثر في النفوس - نفوس الشيوخ - تتمثل به ~~كيف يكون ذلك الجمال الذي لا يستكثر عليه الشيوخ ms459 الحكماء فضلا عن ~~الفتيان الجامحين أن تشقى به الأمم، وتستعر حوله الحروب، فافرض الآن أن ~~مصورا أراد أن يقلد الشاعر في تعظيم جمال هذه الفاتنة فصور لنا شيوخا ~~مبهوتين يحيطون بها ويحملقون في وجهها فماذا يكون أثر ذلك من نفس الناظر؟ ~~يكون أنه يستحمق أولئك الشيوخ ويتوهم أنهم نفر من تلك الطائفة المضحكة ~~التي لا يزجرها الهرم عن التصابي ولا يزعها العقل عن غرور الشباب. ويكون ~~على حق حين يتوهم ذلك لأنه لا يستطيع أن يدرك من الصورة كما أدرك من ~~القصيدة أن ذهول الشيوخ الحكماء لم يكن إلا ابن لحظة عابرة، وأنهم كانوا ~~ذوي الرأي من أهل المدينة المحنكين وليسوا نفرا من المتبطلين أحلاس ~~الشهوات في سن يقبح فيها التصابي والمجون، وأنهم ما استعجلتهم الفتنة ~~هنيهة حتى رجعوا إلى صوابهم وعادوا يقولون: أجل، ولكن عمار المدينة مقدم ~~على كل ما عداه! # ونحسب أننا في غنى عن تنبيه القارئ اللبيب إلى إيجاز هذه الخلاصة، وأنها ~~لا تغني عن مراجعة الكتاب ولا تمثل منه إلا بعض نواحيه، فلا يعرف ~~اللاوكون حق عرفانه إلا من قرأ اللاوكون، ولكننا قادرون على أن نجمل هنا ~~أثره الكبير في تصحيح الشعر، والتصوير، وإقامة الأذواق الفنية في الغرب ~~على النهج القويم، فقد كان من هذا الأثر أن عدل الشعر عن حماقة الوصف ~~المحسوس التي شغل بها المقلدون زمنا طويلا؛ لظنهم أنهم يرتقون إلى ذروة ~~الشعر كلما ارتقوا إلى ذروة التصوير والتشبيه بالمحسوسات، وكان من أثره ~~أن عدل التصوير عن الرموز المعنوية التي لا طاقة له بها، والتي هي ميدان ~~الشاعر فهو عليها أقدر، وبها أحجى وأجدر. # | في الأدب العربي # ابن الرومي: هل كان شريرا؟ # 1 # كان ابن الرومي هجاء مقذعا في الهجاء، وكان لأهاجيه أثر كبير في حياته وفي ~~شهرته؛ ومن هذا الأثر ما أشار إليه الأديب كامل أفندي كيلاني في «مقتطف» هذا ~~الشهر، وعزا إليه سكوت أبي الفرج الأصفهاني عن الترجمة لابن الرومي مع من ترجم ~~لهم من الشعراء والأدباء الذين لا يبلغون في الشعر مبلغه ms460؛ ولا يعلمون من ثقافة ~~العصر علمه، فقد سكت أبو الفرج عن هذا الشاعر اتقاء لمن هاجهم وأقذع في هجائهم ~~من سروات زمانه وأولهم أستاذ أبي الفرج، ولعله سكت لأسباب أخرى سنلم بها في ~~مكانها من تاريخ الشاعر الذي نعنى بدرسه، وبعض هذه الأسباب أن صاحب الأغاني لم ~~يكن مستطيعا أن يقدر ابن الرومي حق قدره، وأنه كان أمويا، وكان ابن الرومي ~~شديد الكراهة للأمويين. # والواقع أن ابن الرومي لم يدع أحدا من النابهين في زمانه إلا هجاه أو أنذر ~~بهجائه، والغريب في أمره أننا أخذنا نحصي أسماء من مدحهم وأطنب في مدحهم، ثم ~~أخذنا نحصي أسماء من هجاهم وأغلظ لهم الهجاء، فإذا الممدوحون هم المذمومون أو ~~المتوعدون بالذم إلا واحدا أو اثنين، وإذا أبطال الرواية المحببون هم ~~أشرارها المبغضون المثلوبون، لا يكاد يفصل المدح عن القدح فاصل أو يكاد يكون ~~المدح والقدح متواليين في صفحات الديوان؛ لأن الديوان مرتب على حسب الحروف لا ~~على حسب التواريخ والموضوعات. # هل كان ابن الرومي شريرا لأنه كان كثير الهجاء؟ لا، ولا شبهة من الريب في ذلك ~~عندنا. بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء أو لو كان أكبر شرا ~~لكان أقل هجاء لأبناء عصره، فما كان الهجاء عنده إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، ~~وما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابه ذلك من ضروب الشر المستقر في ~~الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له ~~باحتماله ولا باتقائه، وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعتدون ويفسدون في الأرض ~~يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ~~ويتسخطون، وهم مطبوعون على الخير والعطف وحسن المودة، بل هم قد يذمون ويتسخطون؛ ~~لأنهم على ذلك مطبوعون. # إذا قرأت مراثي ابن الرومي في أولاده، وأمه، وأخيه، وزوجته، وخالته، وبعض ~~أصدقائه، علمت منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم، والأنس ~~بالأصدقاء والإخوان، وأنها هي التي تدل عليه حق الدلالة المنصفة ms461، وليست مدائحه ~~التي كان يمليها عليه الطمع أو الرغبة، أو أهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة ~~الصبر على خلائق الناس، ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل التي لا تشوبها ~~المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، ~~والزوج الودود، والقريب الرءوم، والصديق المحزون، ولن يكون الرجل كذلك ثم يكون ~~بعد ذلك شريرا مغلق الفؤاد مطبوعا على الكيد والإيذاء. # ومن الأخبار القليلة التي وصلت إلينا عن حياة ابن الرومي نعرف أن الرجل كان لا ~~يبخل بمعونته التي يستطيعها على أصحابه وزملائه، فكان يصلح للشعراء المغمورين ~~قصائدهم، ويذكرهم بالخير عند ذوي الوجاهة والنعمة، وإن كانوا هم لا يذكرون له ~~رفده ولا يرعون عهده، وكان يصنع القصائد لبعض الأدباء عسى أن يصيبوا بها غنما، ~~ويصلوا بها إلى مجالسة العلية والأغنياء فيمدوهم بالحباء، أو يولوهم بعض أعمال ~~الدولة. قال ابن المسيب: كان ابن الرومي يعمل الأشعار لابن عمار العزيري، ~~وينحله إياها يستعطف بها من يصحبه، وكان ابن عمار منحطا فقيرا وقاعة في ~~الأحرار وكان أيام افتقاره كثير السخط لما تجري به الأقدار في آناء الليل ~~والنهار حتى عرف بذلك فقال له ابن الرومي يوما: يا أبا العباس قد سميتك ~~بالعزيري، فقال له: وكيف وقعت لي على هذا الاسم؟ قال: لأن العزير خاصم ربه بأن ~~أسال من دم بني إسرائيل على يد بختنصر سبعين ألف دم، فأوحى الله لئن لم تترك ~~مجادلتي في قضائي لأمحونك من ديوان النبوة. # وكتب ابن الرومي إلى أحمد بن محمد بن بشر المرثدي قصيدة يمدحه بها، ويهنئه ~~بمولود ولد له، ويحضه على بر ابن عمار والإقبال عليه يقول فيها: # ولي لديكم صاحب فاضل # أحب أن يرعى وأن يصحبا # إلخ إلخ ... # قال: «وصار محمد بن داود بن الجراح يوما إلى ابن الرومي مسلما عليه فصادف ~~عنده أبا العباس أحمد بن محمد بن عمار وكان من الضيق والإملاق في النهاية، وكان ~~علي ابن العباس - ابن الرومي - مغموما به، فقال محمد بن داود لابن الرومي ~~ولأبي عثمان الناجم: لو صرتما ms462 إلي وكثرتما بما عندي لأنس بعضنا ببعض، فأقبل ابن ~~الرومي على محمد بن داود فقال: أنا في بقية علة، وأبو عثمان مشغول بخدمة صاحبه، ~~يعني إسماعيل بن بلبل، وهذا أبو العباس بن عمار له موضع من الرواية والأدب وهو ~~على غاية الإمتاع والإيناس بمشاهدته، وأنا أحب أن تعرف مثله، إلى أن ولي عبيد ~~الله بن سليمان وزارة المعتضد، واستكتب محمد بن داود الجراح وأشخصه معه، ~~فاستخرج لابن عمار أقساطا أغناه بها وأجرى عليه أيضا من ماله، ولم يزل يختلف ~~إليه أيام حياة محمد بن داود، وكان السبب في أن نعشه الله بعد العثار وانتاشه ~~من الإقتار ابن الرومي فما شكر ذلك له، بل جعل يتخلفه ويعيبه، ومن عجيب أمر ~~عزير هذا أنه كان يتنقص ابن الرومي في حياته ويزري على شعره ويتعرض لهجائه فلما ~~مات ابن الرومي عمل كتابا في تفضيله، ومختار شعره، وجلس يمليه على ~~الناس.» # نقول: ومثل هذا في العجب أن ابن الرومي نظر آخر قصيدة له مستعطفا لابن عمار، ~~ومطالبا بحقه بعد ما كان بينهما من الملاحاة والقطيعة. # فالرجل لم يكن شريرا ولا رديء النفس، فلماذا إذن كثر هجاؤه واشتد وقوعه في ~~أعراض المهجوين؟ نظن أنه كان كذلك؛ لأنه كان طيب السريرة قليل الحيلة خاليا من ~~الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل ذلك ~~العصر الذي اضطربت أموره وجرت فيه العلاقات بين الحاكمين والمحكومين وبين الناس ~~عامة على الغيلة والنفاق والمداورة ومساوئ الأخلاق، فكان ابن الرومي مستغرقا ~~في مزاجه الفني يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى ~~مراتب الوزارة والرئاسة؛ لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الكتاب والرواة، ~~ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف من الدنانير ويحظون بالزلفى عند الأمراء ~~والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا وكان خطيبا واسع الرواية، مشاركا في ~~المنطق، والفلك، واللغة، وكل ما تدور عليه ثقافة زمانه، أو كما قال ~~المسعودي: # كان الشعر أقل آلاته، وكان الشعر وحده ~~كافيا لجمع المال وبلوغ الآمال، فماذا عليه ms463 إلا أن يعرف الناس أنه ~~شاعر، وأنه كاتب، وأنه راوية، مطلع على الفلسفة والنجوم فتجيئه ~~الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون ~~علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه؟ وإذا لم تكن الوزارة، فلا أقل ~~من الكتابة، أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين، فإذا لم ~~يكن هذا ولا ذاك، فهل ظلم أصعب على النفس من هذا الظلم؟! وهل ~~تقصير من الزمان ألأم من هذا التقصير؟! # وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم: # ما لي أسل من القراب وأغمد # لم لا أجرد والسيوف تجرد # لم لا أجرب في الضرائب مرة؟ # يا للرجال! وإنني لمهند! # ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله؛ لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي ~~فتيلا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وأن الحيلة وحدها قد تغني ~~عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب الفلسفة ~~والرواية والنجوم. # حسن! إذن ندع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره ~~في كلمة عابرة، ولكنه لا يسهل على من يعالجه ويشقى بمحنته في كل ساعة من ساعات ~~حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة ~~والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟ # لا؛ لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض ~~المعاش، ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات وما كانت تنقضي ~~منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيثة تودي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت ~~مصانعة الحجاب والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان، واللعب بمغامز ~~النفوس الخفية وإضحاك هؤلاء وهؤلاء أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة ~~شعره، وغزارة علمه، وربما كان الوزير لا يثيبه إلا ليستصلحه، كما كانوا يقولون ~~في لغة ذلك الزمان؛ أي ليتخذه نصيرا له عسى أن ينفعه يوما في مجالس الخلفاء ~~والأمراء بكلمة يقضي بها مأربا، أو يكبت عدوا، أو بحيلة ms464 يقرب بها بعيدا أو ~~يبعد قريبا، وأين يذهب ابن الرومي في هذا المجال؟ وماذا يرجو الممدوحون من ~~تقريبه وهو رجل كما كانوا يقولون ممرور موسوس، أدبه أكبر من عقله، ولسانه أطول ~~من صبره؟ لقد كان صاحبنا صفرا من هذه البضاعة، فلا جرم نراه يشكو تكبر الحجاب ~~ودسائس الندماء والأصحاب، ويعطى القليل حين يجزل عطاء الآخرين، أو يثاب مرة ~~ويحرم مرات، فقد بلغ من وكس حاله في هذا أنه كان يستجدي الكساء، فيمطلونه ويعود ~~إلى الاستجداء فيعودون إلى المطل. # جعلت فداك لم أسأل # ك ذاك الثوب للكفن # سألتكه لألبسه # وروحي بعد في البدن # وبلغ من وكس حاله أن الممدوحين كانوا يقبلون شعره ولا يثيبونه، فإذا ألح في طلب ~~المثوبة قالوا له خذ شعرك فامدح به غيرنا، كما فعل ابن المدبر حين قال ~~فيه: # رددت علي مدحي بعد مطل # وقد دنست ملبسه الجديدا # وقلت امدح به من شئت غيري! # ومن ذا يقبل المدح الرديدا؟ # ولا سيما وقد أعبقت فيه # مخازيك اللواتي لن تبيدا # وما للحي في أكفان ميت # لبوس بعدما ملئت صديدا # وكان يصنع القصيدة ويتبعها خمس قصائد أو ستا؛ ليحصل جائزتها فلا يحصل بعد ~~الجهد على شيء، ويعجب لذلك ويأخذه الشك في شعره فيقول: # عجبت لقوم يقبلون مدائحي # وينسون تثويبي وفي ذاك معجب # أشعري سفساف! فلم تجتبونه؟ # وإن لا تكن هذي فلم لا أثوب؟ # ولعله كان يتهم شعره أحيانا فيقول: # الشعر كالعيش فيه # مع الشبيبة شيب # فليصفح الناس عنه # فطعنهم فيه غيب # أو يقول: # قولا لمن عاب شعر مادحه # أما ترى كيف ركب الشجر؟ # ركب فيه اللحاء والخشب اليا # بس والشوك بينه الثمر # وكان أولى بأن يهذب ما يخ # لق رب الأرباب لا البشر # ثم يعود إليه اعتداده بكلامه فيلقي الذنب على الناس؛ لجهلهم بمعاني ~~الكلام: # ما خمدت ناري ولكنها # ألفت قلوبا نارها خامدة # أو يقول: # ما بلغت بي الخطوب رتبة من # تفهم عنه الكلاب والقردة # وما أنا المنطق البهائم والط # ير سليمان قاهر المردة # ويخطر له حينا أن الأمراء يحسدون ms465 شعره؛ لأنهم يقرضون الشعر فينفسون الجيد منه ~~على الشعراء، ولا يبعد أن يكون ذلك صحيحا كما قال: # قد بلينا في دهرنا بملوك # أدباء علمتهم شعراء # إن أجدنا في مدحهم حسدونا # فحرمنا منهم ثواب الثناء # أو أسأنا في مدحهم أنبونا # وهجوا شعرنا أشد هجاء # قد أقاموا نفوسهم لذوي المد # ح مقام الأنداد والنظراء # وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله الذي قال فيه: # إخالك إذ جودت فيك مدائحي # منعت ثوابي حاسدا لي على شعري # أتحسدني تجويد ريط نسجته # لتلبسه؟ يا للعجيب من الأمر؟ # تذكر هداك الله أني مادح # وأنك ممدوح فلا تعد بي قدري # ينافس في الشعر النظير نظيره # وجل ملوك الناس عن ذلك النجر # فإذا لج به الغيظ، واشتد عليه بلاء الحرمان من العمل والحرمان من المثوبة صرخ ~~متعجبا: # أذو آلة؟ فاستخدموني لآلتي # بقوتي، وإلا فارزقوني مع الزمنى # أي ارزقوني مع العجزة، والسقماء، وهذه نهاية البؤش والخيبة ونهاية الحيرة التي ~~لا يهتدي فيها المسكين إلى سبب مريح، فلم يبق له من عزاء إلا أن يوقن أن ~~الدنيا هكذا طبعت على ظلم العارفين، ومحاباة الأغبياء: # رأيت الدهر يرفع كل وغد # ويخفض كل ذي زنة شريفه # كذاك البحر يرسب فيه در # ولا تنفك تطفو فيه جيفه # وكرر هذا المعنى في معارض شتى على قواف مختلفة؛ لأنه سكن إليه، ووجد فيه عزاءه ~~ولو إلى حين. # وينبغي أن نذكر هنا شيئا لا بد من ذكره في هذا المقام؛ لأنه لازم لإدراك حقيقة ~~الغضب الذي كان يستولي على نفس الشاعر المحروم إذا أجاد المديح ولم يظفر ~~بالعطاء، فقد كان حق الشاعر في العطاء معترفا به يقبله الأمراء والوزراء، ~~ويقره العرف وتجري عليه القدوة، فنحن لا نعرف اليوم ذلك الحق للشاعر، ولا ~~نستطيع لهذا أن ندرك غضبه وأسفه إذا حرم وتوالى عليه الحرمان، أما في عهد ابن ~~الرومي، فغضبه من المنع، وأسفه على فوات الربح من هذه المقاصد أمر لا غرابة فيه ~~ولا اعتراض عليه، فالحكم عليه إنما يكون بمقياس أيامه لا بمقياس أيامنا التي لا ms466 ~~يجب فيها البذل على ممدوح، ولا يجوز فيها الهجاء لشاعر محروم. # ومما ضاعف الاستخفاف بابن الرومي أنه كان متطيرا غريب الأطوار لا يأخذه الناس ~~مأخذ الجد، ولا يزال المعربدون منهم يعتمدونه بالعبث، ويتماجنون عليه لشدة ~~فرقه وانزعاجه من الفأل السيئ: # يضحك من كل ما بكيت له # كأن لذاته بآلامي # وكان بعضهم يصبحه بقرع بابه فإذا سأله: من الطارق؟ قال: مرة بن حنظلة، فيمكث في ~~بيته لا يريم عنه سحابة يومه! وكانوا يسوقون إليه رجلا كريه الرؤية، يقابله ~~بوجهه إذا خرج من منزله فيرتد على عقبيه! وكانوا يجورون عليه بالعبث فيتوعد فلا ~~يحفلون فيهجو ولكن بعد مصابرة وإعتاب، وكم قال كما قال لابن عروس: # يا ليت شعري وليت شعرك إن # قلت وقلنا واستحكم القذع # ما ينفع الصارم اللسان إذا # غودر يوما وعرضه قطع # فارجع وبقيا أخيك باقية # واندم وفي الحلم فسحة تسع # أو كما قال لبني السمري: # يا بني السمري لا تجشموني # أن تثير القصيد كل دفين # قد تجاوزت ما تجاوزت عنكم # وتغاضت على قذاكم جفوني # لا يغرنكم بجهل حلمي # وارعوائي إلى حيائي وديني # إن لين المهز في السيف أمضى # بغراريه في صميم الشئون # أو كما قال لغيرهم ولغيرهم من العابثين والماطلين، الذين كانوا يضحكون مما ~~يبكيه ويتفكهون بما يحز في قلبه ويدميه، فماذا أفاده العتاب وماذا دفعت عنه ~~الشكاية؟! لا شيء! لأن الأعراض هانت على أصحابها في ذلك العصر، فلا يبالون ~~المذمة إلا أن يكون فيها معنى الاجتراء على الجاه والقوة، وهم أحرى ألا يبالوها ~~من شاعر كابن الرومي، ليس أسهل عليهم من أن يقولوا عنه: إنه هذيان ممرور! فيضيق ~~ذرعا بهم، ويهجو كالمدفوع إلى غير ما يحب، ويظهر ذلك منه في بعض القصائد، كما ~~يظهر في قوله: # لا يغضبن لعمرو من له خطر # فليس يرضى بظلمي من له خطر # كأنه يقول: لقد صبرت على عمرو فرضي الناس بظلمه إياي، فإذا هجوته أنا الآن فما ~~يحق لذي خطر أن يغضب له، وهو منصف بيني وبينه. # وقد يعترف بالوسواس على نفسه ms467، ولكنه يرده إلى سوء حظه، وإجحاف الأيام به، كما ~~قال حين رماه الناشئ بالوسواس: # أن أوسوس فحقيق # يسعد القرد وأنحس! # أصبح الناشئ ممن # يتغنى وهو أخرس # نافقا عند أناس # تعسوا والدهر أتعس # ته على الدنيا وقل ما # شئت واظلم وتغطرس # لم يقدس منك شيء # ولك الجد المقدس # كيف لا يشتد وسوا # سي وأشعارك تدرس # وضياء الشمس لا يقبس # والظلماء تقبس # فإذا عبث به العابثون، وتحدثوا بنحسه، لم يسره ذاك، وحق له ألا يسر به، وقال ~~مناجزا: # زعمت بأنني نحس وأني # مجيبك معلنا لا أتقيكا # وانطلق يصخب ويثلب، وهو في رأيه معذور في ذلك الجرم الذي جنوه عليه، قبل أن ~~يجنيه عليهم، ومعذور حتى من الحسد الذي كان لا يداريه ولا ينكره، ولكن يقول في ~~التماس المعذرة له: # لا تلومن حاسدا، ألم النف # س من البخس يا أخي شديد # وزد على ذلك فجائعه في بنيه، وأحبابه، واحدا واحدا، وهو أحوج ما يكون إلى ~~معونتهم وعطفهم بين قوم كأنه غريب فيهم لا يفهمهم ولا يفهمونه، وزد عليه طمع ~~الناس فيه حتى كانت تسلبه ملكه الزهيد امرأة كما جاء في بعض شعره، ويغصبه منزله ~~الذي يسكنه تاجر يستهين به وبما عسى أن يصنع: # وراغمني فيما أتى من ظلامتي # وقال لي اجهد في جهد احتيالكا # فما هو إلا نسجك الشعر سادرا # وما الشعر إلا ضلة من ضلالكا # لهذا وأمثاله كثرت أهاجي ابن الرومي، واشتد إقذاعه، وكان الذين يمدحهم بالأمس ~~هم الذين يسبهم بعد ذاك، ولو أننا نصبنا ميزان العدل لكان ابن الرومي ملوما ~~على المدح أضعاف لومه على الهجاء، فقد كان يكذب حين يمدح ويتوسل، ولم يكن يكذب ~~حين يهجو وينتقم، وراجع تراجم المهجوين في قصائده تجدهم كلهم أو أكثرهم لصوصا ~~لا ينقضي على أحدهم في المنصب أشهر أو سنوات حتى يعمر بيته بالمنهوب والمسلوب ~~من أرزاق الضعفاء، ثم لا تنقضي فترة أخرى حتى يغرى به لصوص أكبر منه فينكبوه، ~~ويستصفوا أمواله كأنهم تغافلوا عنه ريثما يجمع لهم هذه الأموال. # وإن في كتب التاريخ ms468 لسوءات لهم غير هذه، وآثاما جساما لا يقال فيها إنها تخرص ~~شاعر مغبون، أو افتراء خصم متهم الأقاويل، فإن كان الصدق عذرا للثالب الصادق، ~~فعذر ابن الرومي في التشهير والتجريح أوجه من عذره في الإطراء والمديح، ولو كان ~~الرجل أكثر شرا لكان الناس أكثر اتقاء له واجتنابا لكيده، فقلت حاجته ~~إلى سوء المقال، وأعفى أعراضهم وأعفى لسانه فأراح واستراح. # | صور وأخلاق1 # مفاخر الأجناس هل الأوربيون أفضل بني ~~الإنسان؟ # الفخر بالأجناس قديم لم تخل منه أمة ولا قبيلة، فما من جيل من الناس إلا وله ~~فضائل يدعيها ومناسب يرتفع بها أحيانا إلى آلهة السماء، وأحيانا إلى أعاظم ~~القديسين، فضلا عن المناقب والصفات التي لا شريك له فيها من أجيال الأرض ~~أجمعين، ولا غرابة في هذه الدعاوى إذا سوغتها ظواهر الأمة، وساندتها القوة ~~والثروة والكلمة الغالبة، ولكن الغريب أن تشيع هذه الدعاوى بين أمم لا قوة لها ~~ولا مال ولا غلبة، وأنها ربما كانت في هذه الأمم أكبر مزعما وأشد غرورا مما ~~تكون في غيرها! كأنما هي عوض عما فقدته الأمة من دواعي الفخر الصحيح وعزاء عم ~~تصبو إليه من العزة والكرامة، وهي على كل حال أنانية قومية تجري على وتيرة ~~الأنانية الفردية في الظهور أو الضمور، فكل إنسان في نفسه سلطان كما يقول ~~العامة وكل أمة سلطان في نفسها كذلك! # كان المصريون يرون أن المصري هو الإنسان الكامل ثم تتوالى الدرجات بعده إلى ~~السادسة وهي درجة اليوناني عندهم في تاريخه القديم، وكان اليوناني يحمد الله ~~على أن خلقه من ذلك الجنس ولم يخلقه من البرابرة، وكان البرابرة ينظرون إلى ~~الرومان واليونان نظرة اشمئزاز واستهانة؛ لأنهم قوم مؤنثون مترفهون، وكان العرب ~~هم صفوة الخلق كافة وكل من عداهم أعاجم غلف لا يفقهون الحديث، وكانت كل قبيلة ~~من قبائل العرب لها من الفضل على سائر القبائل العربية مثل ما للعرب جميعا من ~~الفضل على الأمم الأعجمية، ثم جاءت العصور الأخيرة فإذا كل أمة من أمم الحضارة ~~الحديثة تزعم زعمها وتفتخر على الأمم الأخريات ms469 فخرها: الإنجليز سادة الأرض، ~~والفرنسيون معدن الحضارة، والطليان يرثون دعوى اللاتين الأقدمين، ويرجمون أمم ~~الشمال بتهمة البربرية والهمجية، والروس يقولون إنهم هم الشعب الذي اختاره الله ~~ليجدد الحضارة الأوربية، ويحيي موات هذا العالم الذي تهالك من الجهد والإعياء، ~~والتوتون هم ملح الأرض لا عظيم في الدنيا إلا وهو من سلالتهم، ولا حكيم ولا ~~شاعر ولا مصور ينبغ في المغرب أو المشرق إلا وفيه عرق من عروقهم ونفحة من ~~دمائهم، وغالى بهذا الوسواس فيهم رجلان من العجيب أنهما أجنبيان عن وطن الجرمان ~~في هذا الزمان: أحدهما «جوبينو» الفرنسي والآخر «شمبرلين» الإنجليزي! وباعث ~~الأول على تمجيد التوتون أنه كان من أشراف فرنسا فأراد أن ينقض مبادئ الثورة ~~الفرنسية، وينكر حقوق الشعب فادعى أن السواد والعلية في فرنسا من عنصرين ~~مختلفين، وأن السيادة للأشراف إنما جاءتهم بحق الإرث؛ لأنهم ذرية التوتون الذين ~~سادوا البلاد قديما بما رزقوه من مزايا القدرة والشجاعة والعقل الراجح والخلق ~~المكين، وباعث الثاني أنه انتمى إلى البلاد الألمانية، فأراد أن يرتقي إلى ~~الجرثومة الأولى التي يجتمع لديها الألمان والإنجليز وأن يرجع إلى الأصل الذي ~~يستوي فيه الألماني العريق والألماني الدخيل! # وأصبح الفخر بالأجناس علما! # نعم أصبح الفخر القديم الذي نشأ مع الخرافات القديمة علما جديدا له حرمة ~~العلوم التي عليك وعلي وعلينا أن نقر بها مؤمنين، ولكن العلم الجديد لم يكن ~~إلا صبغة حديثة لتلك الخرافة العتيقة، ولم تكن له من نتيجة إلا تلك التي كان ~~الأوربيون يزعمونها قبل أن يكون لهم علم وقبل أن تكون للأجناس دراسة، وهي أنهم ~~هم خير من في الوجود، وأن الحاكمين منهم اليوم هم أصلح الناس للحكم وهم أصلح ~~الناس للدوام فيه! وأما الأمم الأخرى فلا نصيب لها إلا نصيب التبع الذي لن يجوز ~~له أن يطمع في المساواة الآن ولا في أي زمن من الأزمان. هكذا قال العلم الحديث ~~والعلم الحديث صادق شريف، فسواء قسمنا الأمم إلى آرية وسامية أو إلى شمالية ~~وجنوبية أو إلى بيضاء وذات ألوان فالنتيجة واحدة في جميع ms470 هذه التقسيمات وهي أن ~~الأوربيين هم أفضل من غبر وحضر، وأنهم هم السادة الأعلون الذين بينهم وبين ~~المسودين الأدنين حاجز لا يعبر، وتفاوت لا تدارك له ما بقيت الأرض أرضا ~~والسماء سماء. # لكن ما قول العلم الحديث إذا قال له قائل - باسم العلم الحديث - إنك أخطأت يا ~~هذا؟ وإنك لم تعد أن تكرر لنا الخرافة البالية في ثوب جديد؟ أتظن أن العلم ~~الحديث يغضب؟ وإذا غضب أتظن أن غضبه هذا يثني الذين معهم الحقيقة عن إبدائها، ~~ويسمح للجهل القديم أن يرجع للناس في زي العلم الحديث بلا جواز ولا بحث ولا ~~تفتيش؟ # يغضب أو لا يغضب. لقد فعلها العالم النمسوي «فردريك هرتز» وقال ما قال وأجره ~~على الذي خلقه! قال لعلماء الأجناس المتعصبين إنكم مخطئون جد مخطئين، وإن أصلا ~~من أصول الأمم المختلفة لا يخلو من أوشاب كثيرة يدخل فيها غربيون وشرقيون، وإنه ~~ما من محمدة تدعى لأوروبا إلا وللأجناس الأخرى مثيلاتها، وما من مذمة ~~تدعى على الأجناس الأخرى إلا وفي أوربا قديمها وحديثها مثيلاتها، وأيد كل ~~قول قاله ببرهان إن لم يكن دامغا نافذا فهو لا يقل في دمغه ونفاذه عن ~~براهين جوبينو وشمبرلين. # فللزنوج أثر في أوربا تدل عليه الجماجم التي وجدت في ألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا، ~~وكرواتيا، ومورافيا، ووجد ما يشابهها منذ ثماني سنوات في أفريقيا الجنوبية، وقد ~~بقي أثر للأقزام السود في جبال الألب إلى عهد بليني الذي تكلم عن هؤلاء ~~الأقزام، وعززت كلامه القصص والأساطير. # ويزعم شمبرلين أن عرفان حقوق الحياة هو مزية الآريين التي لا يعرفها الساميون ~~في الشرق؛ لاستغراقهم في المادة وتقديمهم المال والحطام على الأذهان والأرواح. ~~فيجيبه الأستاذ هرتز بجواب مفحم هو المقابلة البسيطة بين شريعة الرومان وشريعة ~~حمورابي في محاسبة المدينين، فاللوح الثالث من ألواح القانون الروماني يبيح ~~للدائنين أن يقطعوا لحم المدين ويقتسموه بينهم وأن يقتلوه قتلا في مدى سبعة ~~وعشرين يوما من يوم القبض عليه وتكبيله في الحديد والحبال، وأما شريعة حمورابي ~~فهي تقضي بأن يخدم المدين دائنه ثلاث سنوات ms471، والقانون يحميه في خلال هذه الخدمة ~~من سوء المعاملة والإرهاق. زد على هذا أن الفرق واضح بين الشريعتين في أمور ~~أخرى: منها أن السارق المضطر معذور في شريعة حمورابي، وهو غير معذور بحال من ~~الأحوال في شريعة الرومان، وأن الأب الروماني يجوز له أن يبيع أولاده، ولا يجوز ~~ذلك للآباء عند البابليين، وأن الزوج البابلي لا يجوز له أن يقتني السراري بغير ~~إذن من زوجته وليس للزوجة مثل هذا الحق عند الرومان، وأن المدين يحق له أن يطلب ~~الحط من دينه إذا نقصت غلة أرضه وليس في الشريعة الرومانية شيء من هذا القبيل. ~~وهكذا وهكذا من شواهد الرحمة وتقديم الحياة على الحطام في شريعة حمورابي، ثم من ~~شواهد القسوة وتقديم الحطام على الحياة في شريعة الرومان. # ويرفع شمبرلين اليونان إلى السماء ويقول إن علومهم وفلسفتهم وفنونهم مرجعها إلى ~~طبيعتهم الآرية التي يمتازون بها على الآسيويين والساميين، فيقول له هرتز: إن ~~أرسطو في زمانه كان يطري مواهب الآسيويين في الفنون، ويحكم على أمم الشمال ~~بالعقم الذي لا علاج له في المعارف الفنية والسياسية لعلة الجو التي لا تبديل ~~لها على تعاقب الأزمان، ويقول هرتز أيضا إن ثوسيديد المؤرخ اليوناني ذكر أن ~~اليونان كلها كانت في قبضة البرابرة، وذكر هيرودوت أنه كان يسمع في زمانه لغة ~~البرابرة في بعض أنحاء وطنه، وأن العلماء المحدثين - كرشمر وكيسلنج وفك - ~~أقاموا الأدلة على أن سكان آسيا الصغرى وسكان اليونان كانوا جنسا واحدا من ~~الآسيويين، وأن أسماء بعض المواقع اليونانية لا ترد إلى مصادر من هذه اللغة ~~لأنها مشتقة من اللغة القديمة كما اشتقت منها أسماء الأرباب، فيما يقول ~~هيرودوت، والأقوال متفقة على أن طاليس رأس الفلسفة اليونانية من أصل آسيوي سام ~~وأنه تعلم العلم في البلاد المصرية، وكذلك تتفق الأقوال على أن زينون رأس ~~الفلسفة الرواقية آسيوي الأصل والنشأة، بل يقول فيرث: إن هومر نفسه سام آسيوي ~~محرف من «زومر» بمعنى المغني أو الزامر، وغير ذلك كثير من الأقوال عن الفلاسفة ~~الآخرين. # ولا يريد هرتز ms472 أن يقف في الإنصاف عند شعب من الشعوب، ولا جنس من الأجناس؛ لأنه ~~يرى أن الفواصل بين أي شعبين في العالم ليست من البعد والحيلولة بحيث تستعصي ~~على التقارب مع تشابه الأحوال ومؤاتاة الأيام، فهنيبال الزنجي الذي اقتناه بطرس ~~الأكبر ارتقى بذكائه واجتهاده إلى رتبة مهندس في المدفعية وبنى بسيدة من ~~الأشراف، وكان حفيدهما بوشكين أكبر شعراء الروس، وأحد كبار الشعراء في الدنيا، ~~وسليمان وهو زنجي آخر في البلاط النمسوي في القرن الثامن عشر بنى بسيدة شريفة ~~واقترنت بنته بسيد من الأشراف، وتزوج تاجر من هامبورج بنت سلطان زنجبار فبلغت ~~بأدبها ورجاحة لبها مكانة تغبط عليها في البلاط الألماني، وأصبحت صديقة ~~حميمة للإمبراطورة فردريك وكتبت لها ترجمة حياتها التي عنوانها «من قصة أميرة ~~عربية». وقد كان الدم الزنجي يجري في عروق دوماس الكبير ودوماس الصغير كما هو ~~معروف. # يقول هرتز: «لا ترى أحدا يزعم أن هناك فجوة لا تعبر بين الحمص الأحمر والحمص ~~الأزرق أو بين الحصان الأبيض والحصان الأسمر، أما في بني الإنسان فالفرق اليسير ~~- بالغا ما بلغ من التفاهة - كاف لأن ينشئ من الأوهام الجنسية والعصبيات ~~الشعبية أسخفها وأنآها عن الحقيقة، وما الفرق هنا مع هذا إلا اختلاف في الدرجة ~~لا في الجوهر، فقد يرينا المجهر أن الفروق الكثيرة بين ألوان بني الإنسان إنما ~~هي فروق في درجات التجمع والتوزع في مادة صبغة واحدة متماثلة في ~~الجميع.» # كلام إذا رجعنا به إلى الأسانيد والبينات فهو أقوى سندا وأثبت بينة من كلام ~~المغرقين في تمجيد الأوربيين وتفضيلهم على جميع الشعوب، وإذا رجعنا به إلى ~~الهوى فهو أقرب إلى هوانا وأولى بإصغائنا من كلام أولئك المغرقين، والكتاب بعد ~~حقيق بالدرس والتأمل لما احتواه من العلم الغزير والبحث الكثير ولو لم يكن فيه ~~ذلك الإنصاف. # | قراءة القواميس1 # المعروف أن المعاجم - أو القواميس - لا تقرأ إلا كلمة كلمة، وأنها ككل شيء ضخم ~~عظيم الشأن لا يطال في مخاطبتها إلا بمقدار كلمة ورد غطائها كما يقولون! ثم ~~ندعها وشأنها حتى تعيدنا إليها كلمة ms473 أخرى وقلما يزاد عليها، فهل هذا الذي نعنيه ~~بالقراءة؟ أو للقواميس قراءة أخرى كتلك الكتب التي خلقها الله تقرأ من الجلدة ~~إلى الجلدة، ومن السطر الأول إلى السطر الأخير؟ # نعم للقواميس قراءة كهذه بل قراءتان، وما من تلميذ إلا يذكر في صباه كيف كان ~~ينظر إلى هذه الكتب الضخام نظرة الإكبار والإعظام، وكيف كان يصور لنفسه أولئك ~~العلماء الأجلاء الذين استبحروا في العلم، واستوعبوا كل ما في هذه الكتب من ~~كلام أعجمي أو عربي كأنه الأعجمي في الغرابة وصعوبة الألفاظ! وهو لا يذهب ~~بعيدا في التصور والتقدير، فأستاذه هذا - أستاذه الذي يراه أمام عينيه - يحفظ ~~القاموس ولا يخرم منه كلمة! أليس يسأله عن كل ما في كتاب المطالعة من كلمات ~~غريبة فيجيب على البديهة؟ فإذا ساء حظ ذلك الأستاذ يوما فاحتاج أمامه إلى ~~القاموس يبحث فيه عن كلمة فالناظر إذن هو الذي يحفظ القاموس وحده دون جميع ~~المعلمين في مدرسته! وإذا دار الفلك دورة النحس على هذا الناظر أيضا في بعض ~~زياراته القليلة للفرق الصغيرة أو الكبيرة، فالمفتش إذن هو المختص بحفظ ~~القواميس والقادر وحده على أن يحمل في عقله هذا الكتاب الذي تعيا بحمله اليدان! ~~ومتي يجيء اليوم الذي يرتقي هو فيه إلى هذه المرتبة العالية من الحفظ والتحصيل؟ ~~ألا يجرب قليلا؟ ألا يشرع من الآن؟ # ويتفق أن يشرع في الصفحة الأولى يكررها كلمة بعد كلمة وحرفا حرفا من تلك ~~المعاني التي لم يضعها مؤلف القاموس عبثا هناك حتى يستغني القارئ الصغير ~~ببعضها عن البعض الآخر! بل يتفق أن يحفظ صفحتين أو ثلاثا أو أربعا وخمسا ثم ~~لا بد أن يدركه السأم ويستكبر هذا الخطب الجسيم ويعزي نفسه بصغر السن وبعد ~~اليوم الذي يحق له فيه أن يتصدى لهذه الأهوال. # ولكن لماذا تراه يحفظ القاموس؟ # للترجمة بالبداهة! # فلو أنه حفظه كله لما غابت عنه كلمة في الترجمة من العربية إلى الإفرنجية أو من ~~الإفرنجية إلى العربية، ولاستطاع أن يرطن مع أكبر كبير من الإنجليز أو ~~الفرنسيين بلا توقف ولا ms474 تلعثم، وليس هذا بالأمر الصغير الذي يستكبر في جانبه ~~العناء الأليم في حفظ ذلك الكتاب الجسيم. # ومن الحظ الحسن لصغار التلاميذ أن حفظ القاموس - مهما صغر - شيء عسير ومحاولة ~~غير هينة على أي كان من المحاولين، وإلا فلو سهل عليهم ببعض العناء أن يحفظوا ~~القواميس كلها من كلمتها الأولى إلى كلمتها الأخيرة لعلموا بعد قليل من الزمن ~~أنه تعب غير نافع واجتهاد لا يؤدي إلى غناء اجتهاد، كما يقول أبو ~~العلاء. # فأما أولا: فلأن المعول في الكتابة والترجمة إنما هو على استحضار الكلمة في ~~موضعها وعند الحاجة إليها، وليس على حفظ الكلمات الكثيرة بالمئات والألوف. ~~فالذي يحفظ ألفي كلمة من اللغة ويقدر على استحضار كل كلمة منها في موضعها وعند ~~الحاجة إليها، هو ولا مراء أقدر على الكتابة والترجمة ممن يحفظ عشرة أمثالها ~~ولا يقدر على استحضار الكلمات في حينها. # وأما ثانيا: فلأن ملكة الاستحضار لا تغني عن ملكة التعبير، فقد نحضر الكلمات ~~في الذهن عند طلبها، ويظل التعبير بعد ذلك مختلا ضعيفا؛ لأن التصوير مختل ~~ضعيف. # وملكة الاستحضار على لزومها ووجوب العناية بها شيء غير الحفظ، وغير الفهم، وغير ~~التعبير، بل هي قد توجد في المرء على أقوى ما تكون وهو لا يفهم معاني الكلمات ~~التي يخزنها في ذهنه، ويستثيرها من مخازنها عند طلبه، وقد عرفت رجلا كانت فيه ~~هذه الملكة النفسية على قوة خارقة للمألوف في جماعة الحفاظ، وهو قليل العلم ~~بغير ما يحفظ بل قليل العلم بمعاني ما يحفظ، فلا يذكره إلا بحروفه دون معانيه، ~~وهذا أدعى إلى الدهشة في الحقيقة إذ كان المعروف أن فهم معاني الكلمات يعين على ~~حفظها، ويكون كالمناسبة التي تساعد على التعليق والتفكير. # كان هذا الرجل في «أسوان»، وكان صاحب رأي في الدين يعد رأيا جريئا من مثله، ~~لأنه كان ينكر الأئمة الأربعة، وينكر الفقهاء جميعا، ويكتفي بالقرآن على حسب ~~ما يفهم هو بغير حاجة إلى تفسير مفسرين، وكانوا يسمونه الخامسي؛ لأنه يجيء بعد ~~الأئمة الأربعة بمذهب في الدين يتبعه ويدعو إليه ms475، ولما ظهر في صباه بهذا المذهب ~~قبل ستين سنة أو قرابتها قامت عليه القيامة، وحملوه إلى الوالي يستتيبه فأبى أن ~~يتوب وثبت على رأيه إلى آخر حياته. # والمدهش في أمر هذا الرجل ليس هذا وإن كان فيه من دواعي الدهشة ما فيه، إنما ~~المدهش في أمره حقا تلك القدرة العجيبة على استحضار الكلمات بحروفها وألفاظها ~~دون المعاني التي قد تعين الحافظ على سرعة الإحضار، وكان يحفظ القرآن وكثير من ~~الناس يحفظون القرآن، ولكن الذي يمتاز به هو أنك لا تذكر له كلمة إلا جاءك بما ~~يشبه لفظها من القرآن، ولا عليه من معناها في اللغة ولا في كتب هؤلاء النحاة ~~المذبذبين الذين أدخلوا في الدين ما ليس فيه! وكان لا يقر لك بالعجز أبدا؛ ~~لأنه كان يعتقد أنه ما من شيء في الدنيا إلا وقد ورد في القرآن بحرفه ونصه، ~~فإذا هو عجز عن إخراج كلمة من كتاب الله فقد شك في دينه أو ألقى يد السلم ~~لمجادليه، وكلاهما عنده بلاء عظيم. # كنا نداعبه ونسأله: أفي القرآن يا عم فلان ذكر للمليم؟ # فما هو إلا أن نفاجئه بالسؤال حتى يكر علينا بالجواب: أي نعم يا بني! قال الله ~~تعالى: # فالتقمه الحوت وهو ~~مليم ~~. # فتقول له: والنكلة؟ أفي القرآن ذكر لها؟ # فلا يلبث إلا ريثما يجيل السؤال في رأسه ثم يقول: أجل! أجل! فيه يا بني # فأخذه الله نكال الآخرة ~~والأولى ~~. # ولقيناه مرة على شاطئ النيل وفيه باخرة راسية لشركة كوك، فقلنا له: الآن يا عم ~~فلان يتبين الحق من الباطل، هل ورد في القرآن ذكر لكوك؟ # فسكت قليلا، وقال: كيف لا؟ ورفع صوته وكان قوي الصوت جهيره طويل القامة مهيب ~~الطلعة، وله لحية بيضاء صافية، فجعل يشير إلى الباخرة ويكرر الإشارة إليها ~~كأنما يطعن الهواء بأصبعه وهو يقول: إن الله تعالى قال في كتابه المنزل على ~~نبيه المرسل: # وتركوك قائما # ونطق لها كأنما ~~يقول وهو يشير إلى الباخرة: «وترى كوك قائما.» # وسأله بعضهم مرة: أين الشكولاتة في القرآن يا عم ms476 فلان؟ # فقال: # كل يعمل على شاكلته ~~. # وهكذا من أمثال هذه الأمثلة وأمثال هذه الأجوبة لا يلقى عليه السؤال حتى يطرق ~~هنيهة أو يجيب السائل توا: «أي نعم يا بني! أي نعم يا زنديق! أي نعم يا ~~منافق! أي نعم يا عدو الله!» على حسب ما يتبينه في لهجة السائل من المناكرة أو ~~المجاملة، ثم يردف ذلك بالآية وفيها الكلمة المسئول عنها أو ما يشبهها في ~~لفظها، فإذا تعذر عليه استخراجها - وقلما يتعذر عليه - فهو يدخلها في طي غيرها، ~~ويقول عن الدندرمة مثلا إنها داخلة في # طيبات ما ~~رزقناكم ~~، وعن أي شيء كان مجهولا عند تنزيل القرآن إنه ~~داخل في قوله تعالى: # ويخلق ما لا ~~تعلمون ~~. # ومر يوما بصديق له يجلس بين اثنين ممن شهدوا عليه بالكفر وبالغوا في تعذيره، ~~فما هو إلا أن لمح هذين الاثنين وصديقه بينهما حتى وقف في مجتمع السوق، وركز ~~عصاه وهو يشير إلى اليمين وإلى الشمال: فلان! # فمال ~~الذين كفروا قبلك مهطعين * عن ~~اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل ~~امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * ~~كلا # وجعل يدور على نفسه ويهز ذراعه ويصيح بصوته الجهير: كلا ~~كلا كلا، والناس يضحكون ويعجبون من سرعة استذكاره لتلك الآية التي تناسب مقامها ~~أقرب مناسبة، وكانت له من أمثال ذلك نوادر كثيرة لا ينقضي أسبوع على غير نادرة ~~طريفة أو عدة نوادر، فكان موضع دراسة عقلية وفكاهة لا يفرغ منها الدارسون ~~والمتفكهون. # هذه ملكة الاستحضار على أقواها، وعلى الحالة التي قد تكون بمعزل عن ملكة الفهم ~~وملكة التعبير، فليس كل من يحفظ يستحضر، ولا كل من يستحضر يعبر، وقراءة ~~القواميس على هذه الطريقة - طريقة الحفظ والاستظهار - لا تفيد كما رأيت بغير ~~ملكة الاستحضار وملكة التعبير. # أما الطريقة الأخرى - وهي التي دعتنا إلى كتابة هذا المقال - فهي طريقة الترويح ~~عن النفس بتقليب القاموس أحيانا لتصفح الكلمات، واستذكار ما يصاحبها في الذهن ~~من الحوادث والمناسبات. كأن تكون واردة في بيت شعر، أو مقترنة بخبر من الأخبار، ~~أو لازمة معادة في كلام ms477 بعض الكتاب أو بعض الشعراء، أو مناسبات غير ذلك لا تزال ~~تورد على بالك من الأسماء والأخبار معرضا حافلا مفرق المعروضات موزع ~~الأغراض. # فتحت كتاب الإفصاح فصادفتني كلمة «ثوج» فذكرتني هذه الكلمة أختها «المثوج». ~~والمناسبة التي سمعتها فيها لأول مرة، وكانت في خطاب كتبه تلميذ معي في المدرسة ~~إلى عالم لغوي كبير هو المرحوم الشيخ حمزة فتح الله. # كان صديقي هذا تقيا صالحا من صباه، وكان يحب التقاة الصالحين والذين عليهم ~~سمت الدين والورع والطيبة والاتكال على الله، فكان يحب الشيخ حمزة ويجله ويقلده ~~أيضا تقليد المودة والإعجاب إذا دعت إلى ذلك ضرورة المزاح، وهي ضرورة في سن ~~الصبا كثيرة الطروق لا تهاب التجلة ولا تعرف الأعذار! ولما انتهت دراسته لم ~~ينس العالم الكبير ولم يزل يواليه بالهدايا الأسوانية كالخوص المنسوج بألوانه ~~الفرعونية، أو التمر الجيد، أو الفاكهة التي يتقدم إبانها في أسوان لحرارة ~~جوها وسرعة النضج فيها، فأرسل إليه يوما كيلتين من التمر الفاخر وتعب في ~~انتقائه جدا وتعب في انتقاء الكلمات التي يكتبها إليه أضعاف تعبه في انتقاء ~~الهدية. # ماذا يقول؟ أيقول أرسلت لك بلحا في مقطف أو قفة أو أشباه ذلك من الكلمات التي ~~يكتبها كل إنسان لكل إنسان؟ حاشى العلم وحاشى العلماء وحاشاه هو أن يقترف هذه ~~الكبيرة في حق الشيخ، وأن يبتذل مقام العلامة اللغوي هذا الابتذال! كيف؟ أيذكر ~~له القفة والبلح والمقطف في خطاب وهو لو استطاع لبدل حروف الجر التي يفهمها ~~عامة الناس؟ # وما أدري أين عثر بكلمة المثوج هذه، وعلم أنها مرادفة لكلمة المقطف، فهلل لها ~~وكبر وأخذ في كتابة الخطاب. # أرسلت؟ لا! أزجيت أولى، وأبلغ. # إذن يكون مستهل الخطاب هكذا: «أزجيت إليك بمثوج فيه ...» # فيه ماذا! فيه تمر كما يقول عامة خلق الله! معاذ الله! بل فيه بسر، فهي كذلك ~~أولى هنا وأبلغ! وإذا كان القاموس يقول: إن البسر هو التمر لون ولم ينضج ... ~~فلا بأس هنا بهذا التحريف المقصود. إنه لأشبه بالمألوف من تطفيف قيمة الهدية، ~~وتصغير شأنها، فلا ضير ms478 أن يجري الكلام إذن على نحو هذه البلاغة النادرة: # مولاي الأستاذ الجليل: أزجيت إليك بمثوج فيه بسر، ثم يجري على هذا ~~النمط إلى السلام والختام. # وقد كان، وذهب «البسر» وذهب الخطاب، وجاء الشيخ حمزة في موعده من العام ~~فاستقبله صديقنا الصالح، وضحك الشيخ ولم يدر صديقنا مم يضحك، ثم سأله وهو ~~يغالب نفسه: ما المثوج؟ # قال: أوليس هو المقطف يا مولاي؟ # قال: لا يا بني! المثوج هو زنبيل يوضع فيه الزبل والتراب! وقهقه الشيخ تلك ~~القهقهة التي يذكرها عارفوه. # لا جرم ليس من المألوف أن يبلغ التطفيف بالهدية هذا المبلغ! وصدق مرة أخرى قول ~~المتنبي: # أبلغ ما يطلب النجاح به الطب # ع وعند التعمق الزلل # إذا قرئت القواميس على هذه الطريقة فقد تجد فيها أحيانا كلاما تقرؤه غير ~~الحروف التي لا تدل على شيء، وغير الأفعال والأسماء التي تدل على شيء والزمن ~~جزء منه، أو تدل على شيء وليس له من الزمن جزء ولا جزيء! # | شيء عن أخلاق ابن الرومي1 # من فصل عن «مزاجه وأخلاقه» في الكتاب الذي نضعه عنه ~~... آمن شيء في الحكم عن هذه الأمزجة وأشباهها ألا تركن كل الركون إلى قاعدة ~~مقررة في تقدير أعمالها وأحوالها، وأن لا تزال مترقبا منها للمفاجآت والغرائب ~~في كل لحظة؛ فقد يجتمع العنف العصبي والوداعة العصبية في إهاب واحد، وقد يعنف ~~اللطيف ويلطف العنيف حسبما يطرأ عليهما من الطوارئ ، وهذا الذي تراه اليوم يتوقد ~~ذكاء وفطنة قد تراه في بعض حالاته خابي الذهن كليل الفهم لا يعي عنك ما تقول. ~~وهذا الذي يقيم القيامة للصغائر التوافه قد تراه وقتا ما وهو مستخف بالعظائم ~~لا يبالي منها ما كان أو ما يكون. # كيف هذا؟ أفي تركيبهم تناقض؟ لك أن تقول نعم، فتصيب بعض الإصابة، ولك أن توسع ~~النظر فتصيب الإصابة كلها، ويحق لك أن تقول: كلا! إن التناقض هنا هو في الظاهر ~~دائما وليس في الحقيقة، أو هو في تقلبات الإحساس وليس في أسبابها الدخيلة، ومن ~~كانت تقيمه الهنة الضعيفة وتقعده إذا ms479 هي لمسته وبلغت منه حري ألا يبالي الحوادث ~~الجسام إذا هي لم تلمسه وظلت بعيدة منه، فالمعول في ثورته وسكينته على ما يباشر ~~حسه ويلامس أعصابه، لا صغير إلا وهو خطير مثير إذا أزعجه وملأ إحساسه، ولا خطير ~~إلا وهو هين طفيف إذا غاب عن وهمه وأعفاه عن شبحه، فهو الدهر بين تبرم وفزع من ~~توافه الأشياء وطمأنينة وسخر من فوادح الخطوب. # وكثير من أصحاب هذه الأمزجة من يحسنون السخر والتهكم وينظرون إلى الحياة بعين ~~العارف بما فيها من الكبائر والصغائر، والتناقض والاتفاق؛ لأن هذه الملكة - ~~ملكة السخر - لا تحتاج بعد دقة الملاحظة إلى غير النقائض والمفارقات التي ~~يعانيها الساخر في نفسه وقد يستغني عن مراقبتها في غيره، وقد كان ابن الرومي ~~ساخرا ولا جرم. كان شاعر النقائض في عصر النقائض، وكان شاعر الفطنة الوحية في ~~عصر الرياء المضحك، أو عصر الاختلاف بين الظواهر والبواطن والبعد الشاسع بين ما ~~هو كائن وبين ما يدعى ويستوجب فلا جرم يسخر وعناصر السخر في نفسه وفي زمنه! ~~وقدرة السخر في قلبه وفي عقله! ولا جرم يسخر وهو مهيأ، فيما عدا ذلك للسخر، ~~بتعدد أصوله وتوزع أهوائه وعصبياته، فإن صاحب العصبية الواحدة خليق أن يتحيز ~~ويتنطس ويغلو في الجد والمرارة، ولكن صاحب العصبيات الكثيرة لا يستطيع أن يفعل ~~ذلك ولا يسعفه إلا أن يستخف ويضحك من تلك الدعاوى وتلك المظاهر التي يضعها ~~الناس موضع الجد والقداسة. # ههنا شاعر ينتمي أبوه إلى الروم، وتنتمي أمه إلى الفرس، ويدين هو بدين العرب ~~وينتسب في ولائه إلى أبناء النبي العربي ويتقاسم ولاءه عدوان لدودان من ~~العباسيين والطالبيين، فأين تكون العصبية وأين تكون المطاعن والمثالب؟ ثم أين ~~يكون التصديق الأعمى، وأين يكون التكذيب الأعمى؟ لن يسعه هو إذا اشتجرت مفاخر ~~الروم والفرس والعرب، والطالبيين والعباسيين، واختصمت بينهم العصبيات ~~والمنافسات إلا أن يبسم في كل صوب بسمة العطف والدعابة، وأن يصبح على غير قصد ~~منه عظيم الاستعداد للتسامح والفكاهة، كالذي يختصم إليه بنوه، ويدعي كلهم من ~~فضله وعيوب إخوته ms480 وكل ما فيهم من فضل وعيب هو من لحمه ودمه ووشائج حبه ~~وحنانه. # فقد اجتمع لابن الرومي من عناصر السخر ما لم يجتمع لأحد في عصره. اجتمعت له دقة ~~الإحساس والملاحظة، وعمق الشعور بالمناقضات في نفسه وفي زمنه، وسعة النظر إلى ~~الفوارق، وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية، فهو ساخر لا يبارى في سخره، ~~وعابث مطبوع على العبث حتى بصحبه ونفسه، يستخدم السخر في الهجاء والمديح ~~والمطايبة والمعاتبة، ويعرض لك في متحفه الكبير تلك الصور الهزلية التي لا مثيل ~~لها في شعر شاعر واحد من شعراء العالم كله، ثم لا يأنف أن يريك بينها صورة له ~~بل صورا شتى لا يعوزها شيء من العناية وأمانة الصناعة! # فهل ترى هذا الوجه الذي فصل للصلاة والتعبد في الفلاة؟ هو وجه ابن الرومي ~~فيما صوره لنا حيث يقول: # شغفت بالخرد الحسان وما يص # لح وجهي إلا الذي ورع # كي يعبد الله في الفلاة ولا يش # هد فيها مشاهد الجمع # وهل ترى هذا الغائص الذي تعلم السباحة ليغوص لا ليسبح؟! أو ترى هذا الخائف ~~المراقب الذي يمر بالماء في الكوز مر المجانب؟ هو ابن الرومي أيضا حيث يقول ~~عنه نفسه: # وكيف؟ ولو ألقيت فيه بصخرة # لوافيت منه القعر أول راسب # ولم أتعلم قط من ذي سباحة # سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب # فأيسر إشفاقي من الماء أنني # أمر به في الكوز مر المجانب # وأخشى الردى منه على كل شارب # فكيف بأمنيه على نفس راكب؟ # وهل ترى ذلك المنهوم الذي يشره إلى الطعام حتى في الأحلام، ويأسف على أن يذاد ~~عنه وهو في المنام؟ هو ابن الرومي بعينه، وهو القائل: # ولقد منعت من المرافق كلها # حتى منعت مرافق الأحلام # من ذاك أني ما أراني طاعما # في النوم أو متعرضا لطعام # إلا رأيت من الشقاء كأنني # أثني وأكبح دونه بلجام! # أما سخره من غيره فله في أفانينه الكثيرة، ومعانيه الغريبة، ما يقوم بديوان ~~كامل، وبراعته فيه طبقة لا تعلوها طبقة في نوعها، ويندر أن يدانيها فحول ~~الساخرين ms481 في المشرق والمغرب، فله في أحدب كان يضايقه ويترصد له أمام داره ~~ليتطير منه: # فصرت أخادعه وطال قذاله # فكأنه متربص أن يصفعا # وكأنما صفعت قفاه مرة # وأحس ثانية لها، فتجمعا # وله في معلم صبيان مغن: # أبو سليمان لا ترضى طريقته # لا في غناء ولا تعليم صبيان # له إذا جاور الطنبور محتفلا # ضرب بمصر وصوت في خراسان # عواء كلب على أوتار مندفة # في قبح قرد وفي استكبار هامان # وتحسب العين فكيه إذا اختلفا # عند التنغم فكي بغل طحان! # وله في «جحظة» وكان مغنيا جاحظ العينين: # تخاله أبدا من قبح منظره # مجاذبا وترا أو بالعا حجرا # كأنه ضفدع في لجة هرم # إذا شدا نغما أو كرر النظرا # وله فيه: # نبئت «جحظة» يستعير جحوظه # من فيل شطرنج ومن سرطان # وا رحمتا لمنادميه تحملوا # ألم العيون للذة الآذان # وله في مغن: # إنك لو تسمع ألحانه # تلك اللواتي ليس يعدوها # لخلت من داخل حلقومه # موسوسا يخنق معتوها # وله في مغنية: # تضغط الصوت الذي تشدو به # غصة في حلقها معترضه # فإذا غنت بدا في «جيدها» # كل عرق مثل بيت الأرضه # وله في صاحب لحية: # لو غاص في الماء بها غوصة # صاد بها حيتانه أجمعا # أو قابل الريح بها مرة # لم ينبعث في خطوه أصبعا # وله في أبي حفص: # إن أبا حفص وعثنونه # كلاهما أصبح لي ناصبا # قد أغريا بي يهجواني معا # وحدي! وكان الأكثر الغالبا # إن كان كفؤا لي في زعمه # فليعتزل لحيته جانبا! # وله في رجل له منظر ولا أدب عنده: # طول وعرض بلا عقل ولا أدب # فليس يحسن إلا وهو مصلوب # وله في أكول مضاغة: # لا تعطل رحاك يا ابن سليمان # فليس الثواب فيها بدون # قسما لو وقفتها للمساكين # لما مسهم غلاء الطحين ~~... ... ... ... ... ~~... ... ... ... ... # ما ظننت الإنسان يجتر حتى # كنت ذاك الإنسان عين اليقين # وله في قصير أعور أصلع: # أقصر وعور # وصلع في واحد # شواهد مقبولة # ناهيك من شواهد # تخبرنا عن رجل # مستعمل المقافد! # أقمأه القفد فأضحى # قائما كقاعد # وله فيمن هجاه: # رقادك لا تسهر ms482 لي الليل ضلة # ولا تتجشم في حوك القصائد # أبي وأبوك الشيخ آدم تلتقي # مناسبنا في منسب منه واحد # فلا تهجني حسبي من الذم أنني # وإياك ضمتنا ولادة والد # وله في بخيل: # يقتر عيسى على نفسه # وليس بباق ولا خالد # فلو يستطيع لتقتيره # تنفس من منخر واحد # وله في أصلع: # فوجهه يأخذ من رأسه # أخذ نهار الصيف من ليله # وله من أمثال ذلك ما يطول بنا إحصاؤه، ولا نرى هنا فائدة من الإسهاب في ~~تكراره. # وأبرع ما يكون سخره كما ترى إذا هو شبه لك صورة محسوسة أو خلق لك من خياله صورة ~~معنوية، فإنه يحكم التشبيه، ويحكم خلق الصورة، فيضحك بالمقابلة بين الشيء ~~وشبيهه، ويضحك بما تتخيله من المنظر الغريب حين يعمد إلى خلق الشكول المعنوية، ~~فصورة الرجل الذي يتهيأ لأن يصفع، ثم يتجمع ليتقي الصفعة الثانية، هي صورة ~~الأحدب بنصها وفصها، لا يعوزها الضبط الحسي، ولا الحركة المهينة، ولا الهيئة ~~الزرية، وكان فضلا عن هذا لا تفوته من الأغراض فائتة في اللفظ، ولا في المعنى، ~~ولا في التصوير. # ألق بالك مثلا إلى كلمة «جيدها» في هذا البيت: # فإذا غنت بدا في جيدها # كل عرق مثل بيت الأرضه # فلو أن ساخرا غير مطبوع على السخر أراد هذا المعنى، لاختار كلمة غير «جيدها» ~~للمبالغة في التقبيح والتشويه، ولكنك تنظر فترى أن أصلح الكلمات في هذا الموضع ~~هي الكلمة التي توهمك الحسن وتحضر لك المناقضة التامة بين الوهم والصورة ~~المشهودة، فيستوي طرفا النكتة، ويبدو لنا الفرق المضحك بين «الجيد» وبيت الأرضة ~~كما نضحك من الفرق الذي يبدو لنا إذا وقف القزم إلى جانب العملاق. # وتأمل كلمة «طحان» في هذا البيت: # وتحسب العين فكيه إذا اختلفا # عند التنغم فكي بغل طحان # فليس تمام القافية وحدها بهذه الكلمة، بل الصورة المعنوية هي التي تمت بها أحسن ~~تمام؛ لأن السخر لن يستوفى في هذا التشبيه إلا إذا تمثلنا بموقف الغناء بغلا ~~من بغال الطحانين العجاف الجياع يتنغم ويستكبر بأنغامه استكبار هامان، ولو كان ~~بغلا من ms483 البغال الفارهة المترفة لنقصت الصورة وفترت فيها قوة السخر وقوة ~~التشبيه، وقس على ذلك سائر الأبيات والصور، وسيأتي تفصيل الكلام على ملكة ~~التصوير في شعره عند الكلام على عبقريته، والصلة بين فنه وبين الطبيعة ~~والحياة. # | أريحية الأمم1 # تحيا الأمم ما بقيت لها أريحية وإعجاب، وتموت أو تدخل في دور الشيخوخة الفانية ~~إذا نضب في نفوسها معين الأريحية، وفترت فيها حرارة الإعجاب، فإن المعجب بإنسان ~~يثق ويرجو ويحس ويقدر، ولا يعوز الحي شيء من الحياة إذا اجتمع له الثقة والرجاء ~~والإحساس والتقدير. # وإنما يفتر الإعجاب في النفس حين تخلد إلى العجز والراحة وتيأس من النهوض ~~والمجاراة في مضامير السعي والحركة، فهي إذن غريبة عن مطالب الحياة، ومطالب ~~الحياة إذن غريبة عنها، وكل فوز لا تشترك فيه ولا ترجو أن تشترك فيه هو شيء لا ~~يعنيها ولا يستدعي اهتمامها ولا يربطها إليه سبب، فيستوي عندها ما يستحق ~~الإعجاب وما ليس يستحقه، وتنظر إلى ميدان المفاخر كما ينظر المقعد إلى ميدان ~~الحرب لا يغشاه ولا مأرب له فيه، نظرة فتور هي إن لم تكن نظرة كراهة ~~ونفور. # من البلاد الحية نسمع أصداء الإعجاب كل يوم ترتفع عالية مجلجلة في أنحاء العالم ~~ببطل متفوق في باب من أبواب القدرة والمهارة، وما هو إلا أن يتفوق البطل في ذلك ~~الباب حتى تشمله الدنيا عندهم بحياطتها، وتعفيه من صغائر همومها، وتقصر آماله ~~كلها على تجويد فنه والاحتفاظ لأمته بسمعتها وسمعته، فهو ما عاش في يسرة وحفاوة ~~وتكريم واطمئنان، وهو في كفالة أمته من الساعة التي يرفع فيها ذكرها بين الأمم، ~~ويبوئها مكان الزعامة في فنه بين طلاب ذلك المكان. # والأمم هي الرابحة بهذا الجزاء، وهي الرابحة بما تعطيه فضلا عن ربحها الجزيل ~~بما تأخذه وتحتويه، فهي لا تعطي إلا وهي جائشة النفس بالفخر والأمل، والشعور ~~والإقبال على الحياة، وفي بعض ذلك الجيشان الذي يثيره فيها البطل بفوزه وغلبته ~~جزاء لها وأعظم به من جزاء! # والحكومات تشارك الأمم في هذا، وتنعم بالأنواط والألقاب على السابقين بل على ms484 ~~تابعي السابقين، أيا كان الميدان الذي فيه يسبقون - تنعم على سائق السيارة، ~~ولاعب الكرة، والسابح، والطائر، والبارع في كل مطلب - ووسامها ولا ريب أقل من ~~الوسام الذي ينيلها إياه بطلبها بما يلبسها من فخار السبق، ويقيضه لها من مزية ~~التفرد في العالم بصفة من الصفات المأثورة، فحسب الفرد من واجب يؤديه لأمته أن ~~يجعلها الأولى بين مثيلاتها مرة واحدة، وأن يرفع علمها فوق الأعلام لحظة واحدة، ~~وأن يجعل اسمها أرفع من سائر الأسماء في صيحة واحدة. حسبه أن يصنع لها ذلك ~~ليكون قد استحق هو التنويه بين الأفراد، واستحق مع التنويه أن يعيش عمره ~~المعيشة التي تليق بمن هو فخر وطني ومجد ملايين. # بل يقل العجب من تمجيد سائق السيارة، ولاعب الكرة، والسابح، والطائر، وأمثالهم ~~في مضامير الألعاب والجهود؛ لأن هؤلاء يفيدون ويصلحون وليس عملهم لهوا ولا ~~تزجية فراغ وهناك سابقون في مضامير أخرى لا فائدة لها ولا مجد فيها للسابقين ~~مثلا في لعب النرد أو لعب الشطرنج أو تجرع الشراب والتهام الطعام، فهؤلاء - ~~على قلة شأنهم - لا يحرمون في الأمم الحية حظهم من الفخر أو حظهم من المال، ~~ويعيشون بقية أعمارهم بما يجنون من أرباح الرهان في هذه المضامير. # لما سافر «شارلي شابلن» من أمريكا إلى أوربا خرجت لندن كلها لاستقباله في حشد ~~قلما شهده ملك من كبار الملوك، وكتبت إحدى الصحف الفرنسية تعجب لذلك وتتساءل: ~~ترى لو كان الطبيب فنسان - صاحب لقاح التيفوس - بين الجموع المهللة لشارلي ~~شابلن أما كانوا ينحونه عن الطريق ليقبلوا على بطلهم العزيز؟ # فلم تمض إلا أيام حتى زار شارلي شابلن باريس فكان استقباله فيها كاستقباله في ~~لندن، وكانت عناية الفرنسيين والفرنسيات به كعناية الإنجليز والإنجليزيات. ~~وكتبنا يومئذ نعقب على ما كتبته الصحيفة الفرنسية لنقرر هذا المعنى في أخلاد ~~الذين يجهلونه من المصريين: هل من الظلم حقا أن يظفر شارلي شابلن بذلك ~~الإعجاب، وأن يحرمه أمثال فنسان في حياتهم؟ لعمري إن الإنسان ليرى سمات العدل ~~في هذه الأطوار التي تشاهد في الجماهير، فإن الممثل ms485 الهزلي لن يظفر بعد موته ~~بكثير ولا قليل من الإعجاب الذي هو حقيق به، فمن الإنصاف أن يكافأ في حياته هذه ~~المكافأة على إضحاك الناس، وتسرية همومهم، وتنشيط عقولهم، وقلوبهم، وما هو ~~بالعمل الحقير ولا القليل الشأن في هذه الدنيا المفعمة بالشواغل والهموم. ~~والأمر على خلاف ذلك مع فنسان وأمثاله، فإن ذكرهم لا ينسى بعد موتهم، والإعجاب ~~بهم يبقى زمانا وهم تراب في لحودهم؛ وليس هذا الإعجاب بالعملة الزائفة، بل هو ~~عملة صحيحة مقومة يقبلها كل إنسان جزاء لأعماله، وهنا ضرب من الاقتصاد ~~«الشعوري» غير مقصود في حركات الجماهير من هذا القبيل، فإن الطبيب «فنسان» يفيد ~~بعلمه ولو لم يلق هتافا وتهليلا! أما شارلي شابلن فهل تراه يسخو بمواهبه بغير ~~الهتاف والتهليل؟ أو هل يمكن التفريق بين الوقت الذي يضحك الناس فيه والوقت ~~الذي يهللون له فيه ويهتفون؟ # والواقع أن العالم لن يستطيع أن يسرف في تمجيد بطل عالم ولو مجد ومجد ومجد! لأن ~~فائدة العالم من البطل أكبر جدا من فائدة البطل من العالم كائنا ما كان نوع ~~الفائدة، وبالغا ما بلغ شأو التمجيد. ~~••• # دع هذا جانبا وانظر الآن إلى جانب آخر لا يشكو من الإسراف في تمجيد البطولة ~~والسخاء عليها، ولا تكون الشكوى فيه - إن كانت - إلا من الإسراف في الإهمال، ~~والتثبيط وبخس الحقوق. # قرأت في الصحف خبرا لم أدر كيف أصدقه؛ لأنه غير قابل للتصديق، قرأت فيها خبرا ~~موجزه أن فتى مصريا أحرز لمصر بطولة الدنيا في مصارعة الهواة، ورفع علمها ~~عاليا بين جميع الأعلام، ثم هو الآن فراش يقف بالباب في ديوان من دواوين ~~الإسكندرية! نعم في ديوان من دواوين الإسكندرية التي يعيش فيها ألوف من «لا ~~شيء»، والتي أرادوا يوما أن يجعلوها قبلة الشرق والغرب في المسابقات ~~والألعاب. # فتى مصري هو من جهة فراش على باب، ومن جهة أخرى أقدر رجل من نوعه في كوكب الأرض ~~كله! يا لها من كبيرة كبرى؟ ويا لها من خارقة تحسب في خوارق التاريخ، وستحسب لا ~~محالة في خوارق ms486 التاريخ. # ذهلت عما أقرأ وأنا أقرؤه وأردد النظر فيه، ذهلت ولا أزال كلما رددته في فكري ~~يستولي على ذهول لا أفيق منه على وجه مريح، كيف يصدق هذا؟ كيف يكون؟ لا يصدق ~~ولا هو قابل للتصديق، إلا بأن تراه رأي عينك وتلمسه لمس يدك، أما أنه شيء يصح ~~أن يصدق ويصح أن يكون فهذا من وراء ما نعقل، ومن وراء ما يجب أن نعقل من عجائب ~~الأمور. # أتدري أيها القارئ؟ لو كنت في أمة غربية ودار فيها ذكر المفاخر والمساوئ لخزيت ~~من هذا الخبر أضعاف خزيي من خبر يقال عن عالم أو فيلسوف أو شاعر مغبون، لو قيل ~~لي إن أكبر العلماء أو أكبر الفلاسفة أو أكبر الشعراء ظهر في وطنك فبخسوه حقه، ~~وضاق به رزقه لما أطرقت لذلك خجلا كما أطرق وهم يقولون إن بطلا من أبطال ~~العالم كله في المصارعة لا يجد القوت في وطنك إلا من وظيفة فراش يقف على ~~باب. # ذلك أن المفروض في بطولة العلم والفلسفة والشعر أنها فوق متناول الجماهير، ~~وأنها قد تسبق موقعها من الزمان فلا تلقى ما هي أهل له من الحفاوة والتقدير، ~~وكلما ارتفعت طبقة النابغة واحتاج تقديره إلى ارتفاع النظر وارتفاع الشعور، وضح ~~العذر وقلت الملامة، وكان ذلك سببا لتخفيف الوزر الذي تؤخذ به الجماهير إذا هي ~~قصرت في حقه وعجزت عن جزائه، أما بطولة العالم في المصارعة، فبطولة يعرفها ~~بفطرته العالم والجاهل والذكي والغبي والقوي والضعيف، وهي بطولة لا يعتذر ~~بجهلها أحد إلا إذا كان عذره أدل على ذنبه وأوجب لخزيه، فالتقصير في حقها لا ~~معنى له إلا أنه هو التقصير، وأنه التقصير الخالع الكالح الذي لا يخجل من نفسه، ~~ولا يلتمس الأعذار بقبحه؛ لأنه من الإيغال في الكنود بحيث لا يراه ولا يشعر أن ~~أحدا يراه. # أنا لا أعرف الفتى «إبراهيم مصطفى» الذي أحرز لوطنه هذا الشرف بين أمم العالم، ~~ولكني أعرف أنه مصري، وأن عمله لمصر شرف له ولها، ولكن عمل مصر له وصمة لا تليق ~~بالمصريين ms487، وليست مما يصح عليه السكوت. # | الغرور1 # الغرور والأمل صنوان توأمان، يمد كلاهما صاحبه ويعينه ويجبر كسره، فلولا الغرور ~~لما كان أمل، ولولا الأمل لما كان غرور، وقد يغر الإنسان بما يأمله أضعاف غروره ~~بما هو مالكه وقابض عليه بيديه، وقد يأمل الإنسان؛ لأنه مغرور بنفسه مبالغ في ~~تقدير ما يستحقه، فلا يرى لها القناعة بما هي فيه ولا يزال ينطلق مع الأمل إلى ~~المقام الذي يرضيه. # ويختلف الغرور والأمل كما قد يختلف الأخوان الناشئان من دم واحد في بيئة واحدة، ~~فقد يكون أحدهما وديعا رصينا، والآخر جامح ذو خيلاء، وقد يكون أحدهما في يسرة ~~وسعادة والآخر في عسرة وشقاء، فهما في النسب والمولد سواء، ولكنهما في الحظوظ ~~والأخلاق غير سواء. # أما الاختلاف بين الغرور والأمل فهو الاختلاف بين الطيش والرصانة، والجهل ~~والعلم، والتبرج والاحتشام، والكذب والصدق، والغش والإخلاص، فالغرور طائش جاهل ~~متبرج كاذب غشاش أو أقرب إلى ذاك، والأمل رصين عالم محتشم صادق مخلص أو أقرب ~~إلى ذاك، فإذا اختلفت المفاخر يوما ورجعا إلى المناسب فلكل منهما أن يقول ~~لأخيه: من أبوك؟ ومن أمك؟ فإذا هما سواء، وإذا الأب آدم والأم حواء، وإذا هما ~~نتاج زوجين من الأثرة والهباء، وما أكثر ما تلد الأثرة إذا تزوجت ~~الهباء! # وليس للغرور ولا للأمل من أصل إلا أن الإنسان يحب أن يكون له كل ما يحب! فالآمل ~~يحب لنفسه ما يحبه المغرور لنفسه . غير أن الأمل يتوقف كثيرا على الدنيا ~~والغرور يتوقف كثيرا على الإنسان، فالآمل يرجو أن تعطيه الدنيا ما يريد ~~والمغرور يظن أن الدنيا أعطته ما أراد وفرغت من العطاء، ولم يبق لها إلا أن ~~تقر وتعترف بذاك. # صاحب الغرور يختصر الطريق، وأما صاحب الأمل فلا يغالط نفسه في مقياس طريقه. ~~صاحب الغرور حاجته الكبرى إلى نفسه، وصاحب الأمل حاجته الكبرى إلى العالم، وقد ~~يوجد الغرور بمعزل عن جميع أسبابه في رأي الناس، ولكن الأمل لا يوجد بغير أسباب ~~مقنعة، وإن تعددت أساليبها في الإقناع. # مضى لي ثلاثة أشهر أرى عمارة ms488 تبنى وأسمع في العمارة فاعلا مغرورا بغنائه! ~~ماذا لديه من أسباب هذا الغرور؟ لا شيء! بل لديه كل أسباب الصمت العميق لو كان ~~يعقل ويرجع إلى الأسباب، ولكنه لا يعقل ولا يرعوي ولا يزال ولن يزال يغني؛ لأنه ~~مغرور بصوته وزملاؤه مغرورون بزمالته. أو لعلهم غير مغرورين به ذلك الغرور الذي ~~نتوهمه، ولكنهم هللوا لأن العرف يقضي على من يسمع بأن يهلل، ثم هللوا لأنهم في ~~حاجة إلى التهليل ونسيان ما هم فيه من التعب، ثم هللوا لأنهم تعودوا التهليل ~~يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع، ثم هللوا لأنهم نسوا أسباب تهليلهم الأولى ~~فحسبوا أن الصوت حقيق بذلك التهليل، وإذا كان الصوت صوت زميل والفخر فخر ~~الزمالة كلها فلا ضير من المساهمة فيه بهذا النصيب القليل، بل بهذا النصيب الذي ~~يربحون فيه ولا يخسرون. # وأنا أقف في النافذة أستمع وأتعجب، ويقف غيري في النوافذ يستمعون ويتعجبون. ~~فماذا تريد من المغني الظريف أن يفهم من هذا الوقوف والإصغاء؟ إنه يفهم أنهما ~~تعزيز لرأي الزملاء الذين لعلهم لا يجزون هذه النعمة حق الجزاء؟ وماذا تريد من ~~أولئك الزملاء إلا أن يغتبطوا بصاحبهم أيما اغتباط، وأن يرثوا للحظ الذي رمى به ~~في هذه الصناعة بين الطين والحجارة! ثم أن يحمدوا الله على أن جعل في صناعتهم ~~أناسا مستحقين للثراء والجلوس في مجالس الطرب والغناء! # وكم فتن مغني العمارة من عقائل وسبى من حسان أصائل! نعم فتن وسبى وجاء بهن إلى ~~النوافذ كما جاء بنا فأقبلن يسمعن ويعجبن ويتضاحكن، وهو يمعن في الغناء ~~والتطريب وهن يمعن في الضحك والطرب! وإلا فكيف يكون الحسان المفتونات والسبايا ~~المأخوذات إن لم يكن مصغيات معجبات ضاحكات! فقل ما شئت أنت وافهم أن الناس لن ~~يعجبوا بصوت متقطع ناشز، وإن رجفه صاحبه كل ترجيف وموته كل تمويت، وأنهم لن ~~يعجبوا بكلام من جملة أدوار ولا غناء الفن ولا من غناء الفطرة، وإن كان فيه ذكر ~~الليل، والعين، والبكاء، والهيام، وأنهم لن يعجبوا بنغمة كأنها رجل صاحبها ~~بينما هي في ms489 طبقة الأرض إذا هي في الطبقة الثالثة، وبينما هي في الطبقة الثالثة ~~إذا هي في معجنة الطين! قل أنت ما شئت وافهم أنت ما شئت فإن قولك وفهمك لا ~~يضيران المغني شيئا ولا يسكتانه هنيهة، ولا يبرح هو يغني ويغتر هو بفنه، ~~والعمارة تبنى ولا يوضع فيها حجر إلا على أساس ذلك الغرور، فلو نوديت حجارتها ~~التي بنيت على هذا الأساس الوطيد من غرور الإنسان فأمرت أن تزول عن أماكنها لما ~~بقي أمامك من العمارة إلا كومة تراب! ~~••• # على أن غرور هذا الفاعل المغني من صنف جيد نفيس بين أصناف الغرور التي تروج في ~~هذه السوق، فهو يغتر بالغناء وله زملاء يهللون ومتفرجون ومتفرجات يقفون في ~~النوافذ ويستمعون! فله عذر واضح، وإن كان هذا العذر لا يقدم ولا يؤخر في خلق ~~غروره ولا في إيمانه بذلك الغرور، أما الأصناف الأخرى فمنها ما يؤمن به صاحبه ~~ولا عذر له من طراز هذه الأعذار، ومنها ما يخلق صاحبه الحوادث خلقا ويخترع ~~الإعجاب اختراعا ثم يؤمن به إيمانه بالحوادث الواقعة والإعجاب المشهود، فإذا ~~اغتر صاحبه بالغناء ولم يجد من يهلل له ولا من يقف له في النوافذ فهو يخلق في ~~وهمه الجموع تزحم الجموع والأجواء تجلجل بالأصداء ثم يفرح بها فرحه بالجموع ~~التي يراها بعينه والأصداء التي يسمعها بأذنه ويتيه بها شيئا فشيئا كما يتيه ~~المرء بالحق الواقع الذي لا ريب فيه، والناس يحسبونه مجنونا معتوها؛ لأنه ~~يصدق ما لا وجود له بل ما يعلم هو قبل غيره أنه محض اختراع وخلقة أوهام، ولكن ~~الناس ينسون أن الحوادث المخترعة ليست هي سبب الغرور، وإنما الغرور هو سبب ~~الحوادث المخترعة، فالرضا بالنفس حاصل قبل أن ينسجه الوهم حوادث وأشكالا، وقبل ~~أن يصوره الذهن صورا تترجم عن ذلك الرضا القديم، فلا جنون ولاعته هنا، ولكنها ~~ترجمة فنية وتمثيل شعري لما هو موجود في النفس قبل ذاك. # وكما يحب العشق فيود أن يصور عشقه رواية، ويتخذ لها مواقف وأبطالا، أو كما ~~تمتلئ قريحة الفنان بالمعاني فيترجمها ms490 قصائد أو تماثيل يسر برؤيتها، ويستعرض ~~فيها الخواطر محصورة في رموزها، كذلك يخلق المغرور الحوادث ويخترع المفاخر، فلا ~~يصنع بذلك إلا أن يلبس غروره ثوبا ويبني له جسدا، ويترجم عنه تلك الترجمة ~~الفنية التي تعجبنا جميعا في قصص الشعراء، ومتاحف الصور، وملاعب ~~التمثيل. # وهل يصدق القارئ أن في الدنيا أناسا يرضيهم منه أن يسمح لهم بتمثيل غرورهم بين ~~يديه وهو حر بعد ذلك في التصديق والتكذيب، وحر فيما يضمره لهم من الإعجاب أو ~~الاستهزاء؟ # هؤلاء أصحاب صنف رخيص جدا من الغرور، وهم لهذا كثيرون لا يدل التعجب من شأنهم ~~إلا على أنهم كثيرون وأنهم من الكثرة بحيث لا يلحظون، فإذا لحظوا يوما كانوا ~~من أجل ذلك مستغربين جد مستغربين! # أعرف واحدا من هؤلاء ينفق خمسة جنيهات ليمثل في القهوة التي يتردد عليها رواية ~~الغني، ويقنع من الخدم والجالسين بالمشاهدة دون التصديق! يراه الخدم والجالسون ~~عاما كاملا بكسوة واحدة وسمت واحد، بل يرونه أياما يستدين الشراب ويسوف في ~~أداء الحساب القليل، ثم لا يمنعه ذلك إذا هو ظفر ببضعة جنيهات أن يستعير أبهة ~~الغني، ويأمر وينهى، ويسقي الجالسين من ماله وينفح الخادم والمتسول وماسح ~~الحذاء نفحات أهل اليسار المبذرين، ويذهب إلى البيت وهو راض مسرور بما بذل في ~~شراء هذا الإعجاب البخس من مال هو في أشد الحاجة إليه، فهل تراه يحسب أن جماعة ~~القهوة حسبوه من الأغنياء وأخرجوه من زمرة الفقراء؟ لا! ما هو بالساذج ولا ~~الغائب عن صوابه فيخطر له هذا الخاطر، ولكن الغرور كامن في نفسه، فهو لا يريد ~~إلا أن يترجم عنه بتلك الرواية الممثلة والغبطة الفنية، فلا فرق عنده بين إحراز ~~الثروة في الخزانة، أو في باطن شعوره، وماذا يعنيه هو إلا باطن الشعور؟! # ورأى مرة متسولا معتوها وهو سكران لا يعي فقال: عجبا! أيطلب هذا نقدا؟ ~~أتريد يا هذا نقدا! خذ خذ، وأفرغ له ما في جيب صداره، وطفق يتكلف الاستغراب ~~لمن حوله كأنه لا يعرف في حياته إنسانا يفتقر إلى مال، وربما كان فيمن ms491 حوله من ~~أقرضه هو قبل ذلك بساعات أو أيام. # سبحانك اللهم ما أقدرك على إرضاء عبادك! وما أكثر المغبونين في الدنيا وهم ~~يحملون مكارهها الثقيلة بهذا الأجر القليل. # | الأساطير1 # عندما أكون في الريف لا يشغلني شأن من شئونه هو أمتع للنفس، وأولى بالدرس من ~~تحصيل مواده التي أسميها «أدب الريف» وهي: ~~(1) # الأمثال الموروثة. ~~(2) # مراثي النواح النسائية. ~~(3) # الأساطير المعبرة عن أحوالهم الاجتماعية والنفسية. # وآسف كثيرا لأن هذه المواد الغزيرة لم تدخل بعد في الأدب الفصيح، ولم تحسب من ~~ثروتنا الفكرية والفنية، مع أنها ترتقي عند الاختيار والتمييز إلى طبقة تضارع ~~المأثور من مثيلاتها في أرقى الأمم، وأبلغ الآداب، وفي بعضها - وهو مراثي ~~النواح - باب للمقابلة بين الألحان المصرية الحاضرة، والألحان التي كانت شائعة ~~في عهدي العرب والفراعنة، وباب آخر للمقابلة بين تعبيرات النفس المصرية قديما ~~وحديثا في الحزن على من تفقده في مختلف الأعمال والأحوال، فالمرأة محافظة في ~~عاداتها البيتية التي ترتبط بها مراسم الأسرة، وشعائر الحزن أبقى الشعائر ~~وأدومها؛ لأنها لا تزال تكسب من الموت صبغة الدوام والتقديس والعصمة من ~~التغيير، فإذا بحثت مراثي النساء لم يخل البحث من نتيجة تكشف لنا من الموسيقى ~~المصرية القديمة، وتعبيرات النفس المصرية ما لم ينكشف لنا في غير هذا ~~المجال. # أما الأساطير فحاجتنا إلى جمعها وتهذيبها أكبر من حاجتنا إلى جمع الأمثال ~~ومراثي المآتم؛ لأننا جهلنا حتى صدقنا ما يقال عنا من أننا - نحن الشرقيين - ~~أمم خالية من الأساطير المعبرة، وعلى هذا نكون أمما مقفرة الخيال عاجزة عن ~~الابتكار والتعبير القصصي الذي اشتهر به اليونان خاصة في الشعوب الأوربية، بل ~~جهلناها حتى لنستغربها حين نسمعها كأنما نستمع إلى كلام منقول أو كلام مترجم، ~~مع أنها تعبر عن حياتنا الشعبية، ولا تعبر عن حياة الشعوب الأخرى، ومع أنها حين ~~نلتفت إليها كثيرة جدا تفيض بها أحاديث الشيوخ والعجائز، ولا تحسب عندهم من ~~خير ما يتحدثون به ولا من خير ما يحفظون. # والحقيقة أن الأساطير الشعبية التي تعبر عن الحالات الاجتماعية والنفسية كثيرة ~~في بلاد ms492 الريف، وأن بعض هذه الأساطير من نوع يحتاج المؤلف في تأليفه إلى خيال ~~وملاحظة وملكة فكاهية كالتي تظهر لنا في أحسن الأساطير، وهي مفصلة على حسب ~~الأشخاص والطوائف، ففيها أساطير عن المرأة السليطة، وأخرى عن الورع الكاذب، ~~وغيرها عن الحكام المدلسين، ومعظمها يعبر عن الأغراض التي وضع لها أظرف ~~تعبير. # حدثني حلاق ريفي فيما يثرثر به من أحاديث البلدة، ومواضع الاعتبار فيها بالقصص ~~والأمثال قال: كان تاجر من كبار التجار مبتلى بامرأة سليطة نغصت عيشه وأفقرته ~~وبغضته في وطنه، فأزمع الفرار بنفسه من هذا البلاء، وعقد النية عليه وتحين ~~الفرصة الأولى التي غفلت فيها عين امرأته عن مراقبته وتسخيره، فأبق من بيته ~~وبلده، ولاذ بالعراء يخبط فيه على غير هداية ومضت على ذلك أيام وهو آمن مستريح ~~من جور امرأته هانئ البال بهذه الراحة، وإن كان في قلق وخوف من الأشرار والوحوش ~~وغيرها من الآفات التي تعترض المسافرين في العراء، وإنه لنائم في اليوم الرابع ~~أو الخامس عند بئر منحرفة عن الطريق إذا بيد تلكزه وصوت امرأة يصيح في أذنه. ~~فهب مذعورا من نومته، من المرأة؟ أهي امرأته! نعم هي بعينها ويدها ولسانها! ~~وقد جاءت معها بكل ما ادخرته له في أيامه الطويلة من الصفعات، والنكايات، ~~وقوارص الكلمات. # وبعد معاتبة على كره، ومصالحة على رغم، قدمت له طعاما فأكل واحتاجا إلى الماء ~~فهم بالنزول في البئر ليستقي له ولها، فقالت: إلى أين! قال: إلى البئر يا أمة ~~الله! قالت: وهل أدعك بعد اليوم تخطو خطوة وحدك، وألح الظمأ عليهما فلم يجد ~~بدا من الماء، واستخار الله في إنزالها معه على ما في ذلك من الصعوبة والخطر، ~~فألقاها على ظهره وهم بالنزول، وإذا بدخان لاذع يتعالى من البئر وصارخ يصيح: ~~واغوثاه! في جاه رسول الله. ناشدتك الله يا هذا لا تهبط علي بهذه المصيبة ولك ~~عندي كل ما تريد. # فخاف الرجل، وخافت المرأة، وأذنت له أن ينزل وحده إلى البئر فنزل وهو وجل لا ~~يجرئه على هذه المخاطرة إلا حرقة الظمأ ms493، ووجل من امرأته أشد من جميع ~~الأوجال. # وهبط الرجل إلى قرار البئر فألفى هناك جنيا ثائرا يتلاوذ بجوانبها من ~~الرعب والحذر قال: ما بك يا هذا؟ قال: بي مثل ما بك، فاحمد الله أن ساقك إلي ~~وساقني إليك، وإلا لقد كنت تعطب هنا ويلحق بك ما لا تطيق. إني جني أصابني من ~~امرأتي مثل ما أصابك من امرأتك فتركتها ولجأت إلى هذه البئر، فلما رأيتك رثيت ~~لك، ورعيتك في نومك، وحميتك من الوحش والهوام، ثم ما راعني إلا امرأتك تنزل ~~بها إلي ونساء الإنس المتمردات أدهى يا صاحبي من موارد الجان، فنطقت بكلمة ~~الإسلام والحمد لله على الهداية، وها نحن شريكان في الولاء، فهل لك في صداقة ~~أغنيك بها، ونعيش في أمان من امرأتي وامرأتك إلى أن يشاء الله؟ # قال محدثي: فاتفقا واحتالا على الهرب فهربا، وكان مدار الاتفاق بينهما أن يتعرض ~~الجني للناس، وأن يصطنع الرجل تلاوة العزائم الواقية من الجان، فيجمع ما يجمع ~~من الثراء ويشتهر بين الناس بالقدرة والكرامة، ثم وصلا إلى مدينة عامرة فتعرض ~~الجني لبنت الملك واستقدموا لها الأطباء والزهاد من أطراف المملكة، فما غنموا ~~شيئا وأقروا بالعجز عن هذا المارد الخبيث. حتى إذا يئسوا من شفائها أذاع الملك ~~أن من يشفيها يتزوج بها، وله الملك بعده، فظهر الرجل وتم على يديه الشفاء، وبنى ~~ببنت الملك، وأعلنت ولاية عهده في جميع الأقطار. # ثم أعجب الجني ببنت الوزير فتعرض لها، وتوسل أبوها إلى «ولي العهد» أن يشفيها ~~كما شفي بنت الملك فلباه؛ وحسب أن الأمر بينه وبين الجني على ما جرت به العادة ~~في سابق النوبات، ولكنه ما اقترب من بنت الوزير حتى ناداه صاحبه. ارجع عني فليس ~~الحال بيننا على ما تعهد، لقد أغنيتك وأبلغتك كل ما تتمنى وفوق ما تتمنى، فلا ~~حاجة بك بعد اليوم إلى هذه الصناعة، ارجع عني يا هذا خير لك وأبقى! # قال: فوجم ولي العهد وعز عليه أن يفشل، وزاده كربا على كرب أن زوجته حزنت على ~~صديقتها واتهمته في ms494 نصحه، وما فتئت تلح عليه وتلحف حتى قنط، وأطلعها على جلية ~~الخبر عسى أن يستريح من إلحاحها واتهامها، ففكرت هنيهة ثم ابتسمت، وقالت له: ~~لقد كتب الشفاء لبنت الوزير، ثم علمته كلمة يقولها للجني إذا ذهب إليه من غده، ~~فبات وهو موقن بالنجاح. # فلما عاد في اليوم التالي إلى الجني صاح به هذا: ما بالك تعود؟ إني لأحسبك ~~تجازف بعمرك وما أراك راجعا عن لجاجك، أو أعطبك وأظهر الناس كافة على جلية ~~أمرك. # قال له الرجل: ليس الخطب يا صديقي اليوم خطب علاج وشفاء. إن المصيبة يا أخي ~~أجل وأعظم، امرأتي وامرأتك على باب المدينة وما أدري، والله ماذا أصنع ولا ~~كيف يكون القرار؟ # قال: فما سمعها الجني حتى طار صوابه وصاح به: ماذا تقول؟ امرأتي وامرأتك بباب ~~المدينة، لا قرار لنا بعد اليوم بهذا المكان، وولى وهو لا يلوي على شيء، ولا ~~يفكر في صديقه الذي اتفق معه على السراء والضراء. # لا تجد في أساطير العالم أظرف ولا أجمل خيالا من هذه القصة في تمثيل المرأة ~~السليطة التي يهرب منها الجان، وتهون المخاوف في النجاء من بلائها، ولو راجعت ~~ما اخترعه شعراء الأساطير أو نظموه لما وجدت فيه ما هو أدل على الملكة القيمة ~~وأبين عن قدرة التعبير بالقصص والأساطير. # وسمعت قصة عن علماء السوء، لا تقل في هذه المعاني عن قصة المرأة ~~السليطة. # قال محدثي: مات عالم معروف بين الناس بالتقوى والعبادة، فرأى ابنه فيما يرى ~~النائم أنه على أبواب الجنة يسأل عن أبيه خازن الجنان. # قال الولد: هل جاز بك أبي من هذا الباب؟ # قال رضوان: لا! لم يجز بي أحد. # قال الولد: إن أبي عالم كبير قضى حياته في التقوى والعبادة، فراجع ذاكرتك لعله ~~جاز بك وأنت لا تذكره، وأخذ يصف له أباه، ويسهب في الوصف، ويكرر له أن أباه ~~عالم وأنه كان مشهورا بالتقوى والصلاح. # فلما سئم رضوان قال له: متى خرج أبوك من الدنيا؟ # قال: من أسبوع مضى؟ # قال: من عام مضى أيها الفتى ms495 لم أفتح هذا الباب، فابحث عن أبيك في مكان غير هذا ~~المكان. # وذهب الولد إلى باب النار وهو لا يصدق ما يسمع، وسأل مالكا خازنها، فقال له ~~مالك: يا بني ما يدريني بأبيك بين هذه الألوف التي لا ينقطع سيلها ليل نهار، ~~ادخل فاسأل عنه في هاوية علماء السوء. # فدخل الولد النار وتعب وهو يتنقل من هاوية إلى هاوية، ومن قرار إلى قرار. حتى ~~قيل له: هذه هي الدركة التي ينزلها علماء السوء، ونظر فإذا أبوه غارق في لجة ~~العذاب لا يظهر منه إلا وجهه، وقد اسود وتغير وأوشك أن يخفى عليه من شدة ~~التنكر، فراعه ما شهد ونادى أباه: ماذا حل بك يا أبتاه! أهذا مصير العبادة ~~وخاتمة العلم والزهادة؟ # قال: فناداه أبوه من لجة العذاب أن هون عليك يا بني! أنا أرفه حالا من كثيرين. ~~وإن تحت قدمي لألوفا من علماء السوء لا يحصيها الحساب. ~~••• # إن السليقة المصرية تعبر عن نفسها في هذه الأساطير أحسن تعبير، وأملحه وأدله ~~على الخيال والملاحظة والفكاهة، ولو جمعت هذه الأساطير لكان منها ثروة فنية ~~تنفي الشبهة عن السليقة المصرية، ويرجع عنها في تصوير أحوالنا الاجتماعية ~~والنفسية في الشعر والتمثيل. # | لو1 # «لو» في حياة الأفراد كثيرة، وهي في حياة الأمم أكثر. # فما من أحد إلا ويذكر في حياته حادثا خطيرا، كان من الجائز ألا يحدث لولا ~~مصادفة صغيرة، أو عملا جليلا تم على يديه، وكان من الجائز ألا يتم لولا كلمة ~~سمعها أو خبر وصل إليه من حيث لا ينتظر وصوله، وأكثر الناس يستطيع أن يرد أمر ~~نجاحه أو إخفاقه وسعادته أو شقائه إلى أشياء لم تكن تخطر على باله قبل وقوعها، ~~ولو أنها وقعت عرضا كما اتفق بها لتغير مجرى حياته. # ويتفق هذا للأمم كما يتفق للأفراد أو هو في تواريخ الأمم أكثر اتفاقا؛ لأنها ~~أطول أعمارا وأحفل بالحوادث، وأوسع منافذ للصروف والغير، فهي كذلك أحفل ~~بالمصادفات أو ما نسميه نحن بالمصادفات؛ لأننا نجهل ما وراءه من الأسباب ولا ~~نسلسل حلقاتها إلى ms496 مبادئها الخفية وأصولها الحقيقية، وهذا هو موضع البحث الذي ~~يكتب فيه الآن الأستاذ «هيرنشو» أستاذ التاريخ بكلية الملك في جامعة لندن، ~~وينشر فصوله المتوالية في مجلة «الأوتلاين» الإنجليزية. # من الأقوال المشهورة أنه لو اختلف أنف كليوباترا في الطول بمقدار ثمن قيراط ~~لاختلف معه تاريخ المسيحية وتاريخ العالم بأسره. # كيف ذلك! # قالوا: نعم. لو طال أنف كيلوباترا أو قصر بمقدار ثمن قيراط لشاه وجهها وذهبت ~~فتنة جمالها وعز عليها أن توقع في شباكها رجلا كيوليوس قيصر، أو رجلا كمارك ~~أنطونيوس؛ ومن ثم كانت معركة «أكتيوم» تختفي من التاريخ، وكانت دولة «أوغسطس» ~~تنشأ في حدود غير حدودها، ومعالم غير معالمها، فلا بيلاطس يحكم في سورية، ولا ~~هيرود يملك على اليهود، ولا الظروف التي أتاحت للقديس بولس أن يجوب الأقطار ~~للتبشير بدعوته كانت تتهيأ له كما تهيأت أو تحدث كما حدثت، وكان من المحتمل أن ~~تظل رومة بمعزل عن المسيحية بقية حياتها، إلى غير ذلك من التقديرات التي ليس ~~لها اليوم ميزان توزن به، ولا يقف بها التخيل عند غاية. # ذلك مثل مما يصح أن يتغير في تاريخ الدنيا إذا تغير فيه أنف امرأة، وليس هذا ~~التغيير بالأمر الحقير كما يقول الأستاذ، ولا سيما في رأي السيدة التي تحمل ذلك ~~الأنف الذي يراد به أن يقصر أو يطول! ولكنه بالغا ما بلغ من الخطر وجلالة ~~الشأن تغيير يعجب الكثيرون إذا قيل لهم إنه يتصرف بالدنيا والآخرة هذا التصرف ~~وتتعلق به مقادير الأمم وآمال بني الإنسان في العالم المجهول. # ومثل آخر من الأمثلة التي ذكرها الأستاذ في فصول هذا البحث، عمر الإسكندر ~~الكبير الذي مات بحمى «الملاريا» في الثالثة والثلاثين وهي سن صغيرة، يفتتح ~~فيها كثير من الناس سجل الشهرة والخلود. أفما كان من الجائز ألا يصاب الإسكندر ~~بالحمى، وألا يموت في هذه السن الصغيرة؟ وإذا تأخر به العمر حتى ناهز السبعين ~~أو الثمانين، وأنجز ما في نفسه من المطالب والخطط أفكان يمضي تاريخ الشرق ~~والغرب في مجراه الذي يمضي فيه أم كان لا ms497 بد له من تغير يظهر لنا أمورا لم ~~تظهر، ويخفي أمورا لم تخف، ويترتب عليه أن أناسا منا لا يولدون، وأن أناسا ~~آخرين يولدون، وهم الآن في عالم الوهم والاحتمال؟ # قال الأستاذ: لو أن الإسكندر الكبير لم يحتضر في سنة 323 قبل الميلاد بل عاش ~~حتى بلغ الكهولة على الأقل فنظم فتوحاته، ووطد أركان ملكه، وأتم برنامج فتوحه، ~~وأنضج سياسته، لجاز أن يتحول كل ما أعقبه من الحوادث تحولا عظيما عن باقي ~~الآثار، فقد كان في العهد الذي مات فيه ينوي أن يغزو بلاد العرب؛ ليضمها إلى ~~دولته، وأن يسير على قرطاجنة أسطولا، ثم يغير بعد ذلك على «رومة» التي كان ~~الاستيلاء عليها في ذلك الحين من أهون الأمور وأقلها كلفة. # فلو أنه ملك بلاد العرب لكان من المحتمل ألا يظهر النبي محمد! # ولو أنه ملك قرطاجنة لكان من المحتمل ألا يظهر هنيبال، ولا يتردد له اسم في ~~الأسماع. # ولو أنه ملك رومة لما ظهر يوليوس قيصر من خموله في الريف، ولا كان هذا الشهر ~~يوليو، كتب هذا الفصل في شهر يوليو الماضي. # بل أعظم من ذلك أن المسيحية التي كانت في عنصرها نحلة من نحل الإسكندرية ما ~~كانت لتصبح يوما وهي كاثوليكية رومانية. ~~••• # واحتمال آخر من هذه الاحتمالات العجيبة. أن فلسفة روسو كلها كانت على وشك ~~الضياع في ساعة من الساعات، ثم كان من المحقق أن ضياعها يؤثر بعض التأثير في ~~مجرى الثورة الفرنسية التي كان روسو من أبنائها المتبعين، وكانت كتبه بمثابة ~~الوحي لبعض دعاتها المسموعين. # فلو استطاع روسو في مساء 14 مارس سنة 1728 أن يتقدم عشرين خطوة إلى باب جنيف ~~لبقي حيث كان صبيا يتعلم الحفر، ويعول على النبوغ، وقلما يخطر له خاطر ~~الكتابة والتأليف. # ولكن روسو تأخر عشرين خطوة عن باب المدينة في ساعة إقفاله، ففر من معلمه الصارم ~~العسوف، الذي كان أنذره أشد إنذار إذا هو تأخر في المساء، وعرف روسو معنى هذا ~~الإنذار من سابقتين سلفتا له في التأخير، فلوى وجهه عن باب المدينة، وأقدم على ms498 ~~تلك الحياة الشاردة الهائمة التي ساقته إلى التأليف، وبثت في تصانيفه روح ~~التذمر وحب التبديل. # وحدث كل ذلك اتفاقا على خلاف الحساب المعروف، فإن باب المدينة كان يقفل في ~~الساعة الثامنة وروسو قد عاد من رحلته في الخلاء قبل الساعة الثامنة ببضع ~~دقائق، فلماذا أقفل الباب يومئذ قبل موعده؟ ولماذا حدث بعد ذلك ما حدث من خطوب ~~كبار في تاريخ السياسة وتاريخ الآداب؟ حدث ذلك كله لأن حارس الباب كان على موعد ~~مع حبيبته تنتظره في ذلك المساء وكان شديد الشوق إلى لقائها فعجل بإقفال الباب ~~قبل الساعة الثامنة، وكان روسو على مسافة عشرين خطوة منه فعدا إليه فلم يدركه، ~~وضاع رجاؤه عبثا، وتركه الحارس يصرخ لمن لا يجيب ويتخبط ولا من سميع. ~~••• # هذه أمثلة من احتمالات كثيرة أوردها الأستاذ وأورد غيرها، وفي وسعنا نحن أن ~~نضيف إليها من تاريخ مصر الحديث ما يضارعها في الغرابة وفي حكم المصادفة، فماذا ~~كان يطرأ على تاريخنا الحديث من التغيير لو أن محمد علي الكبير لم ينج من الماء ~~في الشواطئ المصرية عند قدومه إلى مصر في المرة الأولى؟ أو ماذا كان يطرأ عليه ~~لو أن خبر المذبحة التي دبرت في القلعة وصل إلى مسامع المماليك قبل ذلك من خائن ~~أو جاسوس؟ أو ماذا كان يطرأ عليه لو أن «سعد زغلول» عمل في الفلاحة والزراعة، ~~ولم يعمل في الفقه والقانون؟ فهذه احتمالات معلقة بالمصادفات التي قد تكون وقد ~~لا تكون ولكنها خطيرة النتائج بعيدة الآثار. # لنا أن نخفف من غلواء هذه الاحتمالات، فلا نجعلها الحكم المطلق فيما يتعلق بها ~~من التطور والتبديل. لنا أن نقول مثلا في أنف كليوبترا إنه كان يطول أو يقصر ~~وإن ملاحتها كانت تشوه أو تحسن، ثم لا يغير ذلك من قلب «أنطونيوس» وحبه للنساء، ~~واستعداده للوقوع في شرك امرأة غير كليوبترا في نسائها أو من نساء بعض ~~البلاد. # ولنا أن نقول إن الشقاق كان وشيكا أن تنجم له أسباب كثيرة بين «أنطونيوس» ~~و«أكتافيوس» فتؤدي إلى الحرب فالظفر ms499 لمن هو أهل للظفر والهزيمة لمن هو أهل ~~للهزيمة. # ولنا أن نقول إن رومة كانت تطمع في ملك مصر، ولو لم ينشب فيها نزاع بين قائدين، ~~ولم يقبض فيها على ناصية الأمر قائد مغوار عظيم الدهاء. # لنا أن نقول هذا في أنف كليوبترا، ولنا أن نقول مثله في عمر الإسكندر، وفي ~~خطوات روسو، وفيما شابه ذلك من العوارض والمصادفات، ولكننا إذا قلنا هذا أو ~~غيره، فإلى أين نريد أن نصل وبماذا نخرج من جميع هذه الفروض؟ # هل نستطيع أن ننكر أن الكبائر تتعلق بالصغائر وأن هذه الصغائر إذا زالت أو لم ~~تحدث خلفتها صغائر أخرى تعمل عملها، وتقوم في تصريف الكبائر مقامها؟ هل نستطيع ~~أن نغتر بأنفسنا فنزعم أن كل جليلة علينا تكبر على المقادير، فلا تعترينا إلا ~~كما نقدر لها من التقدير، ونفرض لها من الظواهر والأسباب؟ # هذه هي العبرة من حيث «لو» وما تصرفه من تواريخ الأفراد والأمم، فقد يعظم علينا ~~الخطب فيكبر علينا أن نعلقه بالصغائر، ثم لا ترى فيه الأقدار إلا أن تعلقه ~~بأصغر صغيرة من العوارض والمصادفات، وقد نلتمس العلل الجسيمة للحوادث الجسيمة؛ ~~لأننا نقيسها بمقياس لا تأخذ به نواميس الوجود، وعزيز علينا أن تتعلق مصائر ~~الأمم بثمن قيراط ينقص في أنف كليوبترا أو يزيد، ولكن من أين لنا أن ما هو عزيز ~~علينا عزيز كذلك على الأقدار أو على نواميس الوجود. # قال حكيم: إذا شئت أن تهون عليك خطوب بني الإنسان فارفع بصرك إلى السماء، وانظر ~~أين تقع الأرض في ذلك الكون الفسيح الذي لا أول له ولا آخر، أفحق نحن في حاجة ~~إلى نظرة من السماء الرفيعة، والكون الفسيح لنعلم كيف يهون علينا ما ليس ~~يهون؟! # لا يا سيدي الحكيم! انظر إلى الخطوب نفسها، وانظر إلى أسبابها ومصادفاتها تعلم ~~كيف تهون عليك تلك الخطوب. # | تعارف الشعوب1 # كثرت بعد الحرب العظمى ترجمة الكتب الجرمانية إلى الإنجليزية، وترجمة الكتب ~~الإنجليزية إلى الجرمانية، فلا تطلع على سجل من سجلات الكتب الحديثة في إنجلترا ~~إلا رأيت فيه ms500 أسماء مصنفات شتى مترجمة عن كتاب ألمانيا والنمسا والبلاد ~~الشمالية على الجملة في أغراض مختلفة، تتناول الفلسفة والدين وعلم النفس، ولا ~~تقتصر على المذكرات الحربية التي دونها القواد والسواس، وكان لها في فترة من ~~الزمن النصيب الأول من إقبال الأمم المتكلمة باللغة الإنجليزية. # والألمان من جانبهم يفعلون مثل ذلك ويزيدون على الإنجليز في الجمع والاستقصاء ~~مع كثرة الذين يعرفون منهم اللغة الإنجليزية، واستغنائهم عن الترجمة بالاطلاع ~~على الكتب في لغتها الأصيلة، فهناك رغبة قوية من الجانبين في استطلاع آراء ~~الآخرين، ووزن عقولهم وسبر أخلاقهم، ودخائل طباعهم، وهي رغبة بدأت في عهد ~~ابتداء المنافسة بين الإنجليز والألمان، وتضاعفت بعد الحرب العظمى، ولا تزال ~~تتضاعف كلما أخذت بنصيب من المعرفة التي تتوق إليها، وتطلعت بعده إلى ~~المزيد. # مثل هذا قد حدث بين الفرنسيين والإنجليز من جهة، وبين الفرنسيين والألمان من ~~جهة أخرى، حين اشتد التنافس بين فرنسا وجارتيها في أواخر القرن الثامن عشر ~~وأواسط القرن الذي يليه، ولكنه لم يكن بهذا الشمول والسعة، لعظم الفارق بين ~~عصرنا الحديث وتلك العصور في حركة الطباعة، وانتشار القراءة، وسرعة المواصلات. ~~إلا أن العناية بالاستطلاع بلغت أقصى ما كان مستطاعا أن تبلغه في حينها، وكانت ~~على العموم مقرونة بأساليب الاستطلاع الأخرى التي تشترك فيها البواعث الحربية ~~والسياسية والمالية، وترمي إلى غرض واحد مقصود أو غير مقصود، وهو زيادة المعرفة ~~بأحوال الآخرين. # ظاهرة مطردة ولكنها لا تدعو إلى العجب، ولا يصعب تعليلها بالمعهود في طبائع ~~الناس فأول ما يعنى به المرء أن يستطلع أحوال منافسه ومن يتطلب الغلبة عليه، ~~والمغلوب في المنافسة أشد عناية بهذا وأصدق رغبة في اختبار أسباب القوة التي ~~انتصرت عليه؛ ومن ثم كانت المترجمات الإنجليزية في العصر الحاضر أكثر من ~~المترجمات الألمانية، وكانت الأمم التي تشك في حقيقة انتصارها تجري على حكم ~~الأمم المهزومة في استطلاع أحوال المنافسين لها؛ لأنها لا تشعر بطمأنينة ~~المنتصر ولا تزال في حالة القلق والحذر التي تخامر مهزوما يعالج من نفسه موضع ~~الهزيمة، فالفرنسيون الذي يشكون في قدرتهم ms501 على الاستقلال بالنصر يصنعون الآن ما ~~يصنعه الألمان إذ يتحرون العلم بالشعوب الداخلة معهم في جانبي النصر والهزيمة، ~~ويكثرون من ترجمة الكتب الألمانية، كما يكثرون من ترجمة الكتب الإنجليزية، ~~والأمر في ذلك مرجعه إلى شعور القلق والحذر الذي يحرض رغبة المعرفة المطبوعة في ~~النفوس، ويرسم لها الميول والوجهات. # وفي المسألة من حيث علاقتها بالإنجليز والألمان سبب آخر لا بد أن يلاحظ عند ~~تعليل كثرة الترجمة عن الإنجليزية، وقلة الترجمة عن الألمانية بالقياس إلى ذلك. ~~فهناك فضلا عن طمأنينة النصر وقلق الهزيمة سبب يصح أن يعلل به هذا الفرق بين ~~الإنجليز والألمان في الإقبال على المترجمات والإكثار من التحصيل، وهو أن ~~الإنجليز لا يعتمدون كثيرا على الأحكام التي تستخرج من الكتب، وتقتبس من تعميم ~~النظريات، فميلهم إلى الاستطلاع من هذه الناحية محدود بهذه الخصلة فيهم، ومحصور ~~في دائرة التجربة الملموسة التي لا تجنح إلى أحكام الكتب إلا من قبيل ~~الاستئناس، وهم في هذه الخصلة على نقيض الألمان الذي يبحثون عن الأسرار ويعممون ~~النظريات، ويعتمدون على معرفة الكتب جل الاعتماد، فإذا أربت مترجماتهم - لهذا ~~السبب - على مترجمات الإنجليز فلا غرابة في ذلك؛ لأنهم قوم قراءون يبحثون عن كل ~~سر ويدرسون كل أمة، ولا تحتاج رغبة المعرفة الفكرية عندهم إلى تحريض كثير من ~~دواعي المنافسة وبواعث الخصومة. ~~••• # ما الرأي إذن؟ # أهي المعرفة بنت العداوة، كما يبدو لنا من هذه الأمثلة التي يعززها المعهود من ~~طبائع الناس ؟ أم هي المعرفة بنت المحبة، كما جاء في المثل القديم، وتقرر في ~~الآداب الرفيعة، ومحاسن الأخلاق المأثورة عن الوعاظ والمرشدين. # أمامنا شعوب تنافست، فتعادت، فتقاتلت، فاجتهدت في التعارف وهو من أسباب ~~التفاهم، فالتآلف والتعاطف على علم بما في النفوس من قوى الخير والشر، وجوانب ~~البأس واللين. # ثم أمامنا المثل العليا التي ارتقى إليها أناس من نخبة بني الإنسان في عظمة ~~الروح، وشمول العاطفة والنفاذ إلى أسرار النفوس، وما فيها من حق وباطل، وعلم ~~وجهل، وفضائل دائمة، وعوارض زائلة؛ وهي - أي هذه المثل العليا - تقول لنا: إن ~~المحبة ms502 هي المعرفة الحقيقية وهي النور الذي يكشف لنا دخائل الحياة، ويرينا ما ~~في القبح الظاهر من جمال باطن وما في الأوزار من أعذار، وما في الأغراض من تحيز ~~وضلال يحيد بنا عن صدق المعرفة، وسداد الحكم على أعمال الناس، وحوادث ~~الأيام. # فأي هذين إذن هو الرأي الصحيح، وأيهما في الواقع هو سبيل العلم القويم؟ # على أننا يجب أن نسأل قبل ذلك: هل بين القولين تناقض؟ وهل هما مفترقان لا ~~يتفقان في الأساس ولا في النهاية؟ وجواب ذلك يغنينا عن الحيرة والإمعان في ~~الموازنة بين الرأيين، لأنهما في الحقيقة غير متناقضين ولا مفترقين. # فإذا سألنا: ما هي أسباب المحبة؟ فقد نعلم أن من أسبابها الخلاف فالتفاهم ~~فالتآلف، وعندئذ تلتقي الآراء على أن المحبة والمعرفة يتلقيان في النهاية، وأن ~~طريق المحبة أو طريق المعرفة هو الذي يتشعب ويتفرق، ويبدو لنا كالتناقض في ~~ظاهره، وهو في باطنه من التناقض براء. # إنك بالعداوة تسبر قوة غيرك الجائرة التي تدور على الأثرة وحصر الخير في النفس ~~دون المنافسين والمزاحمين. # وإنك بالمحبة تسبر قوة غيرك العاطفة التي تتسع وتعلو على قيود الأثرة والحصر، ~~وتنظر إلى الأشياء من غير الناحية التي تدور عليها المنافسات والمخاصمات، وكلا ~~المسبارين لازم ضروري لعرفان الإنسان بالإنسان، وحكم الحي على طبيعة الحياة، ~~فإذا صرفنا النظر عن الإنسان ونظرنا إلى الطبيعة رأينا فيها مصداق ذلك، وعلمنا ~~أن معرفتنا بها مزيج من الحذر والحب والحيطة والاعتماد، فلولا الحذر لما نشأت ~~جميع العلوم والصناعات التي مدارها على دفع الأخطار، وتذليل الصعوبات، ولولا ~~الحب لما حسنت الدنيا في أعيننا ولا تعلقنا منها بأواصر الثقة والرجاء، ولا ~~ننس أن المحبة هي المثل الأعلى، وأن المثل الأعلى هو نهاية الطريق أو هو على ~~الأقل لا يكون في البداية التي يبلغها كل من شاء بغير محاولة منه ولا عناء، ثم ~~لا ننس أن المحبة نعمة كبرى لمن يعطيها مستحقا لإعطائها، ولمن يأخذها مستحقا ~~لأخذها، وإن النعم الكبرى لا تبذل لأبناء هذه الدنيا إلا بثمن كبير. # وبعد ... # فليتعارف الأفراد ولتتعارف ms503 الشعوب بكل وسيلة لديها للمعرفة، ومن كل فج ينتهي ~~بها إلى تلك الغاية، فإنها إذا انتهت إلى بغيتها من المعرفة الكاملة، فهناك ~~تعلم مواضع المحبة أين ينبغي أن تكون، وأين ينبغي ألا تكون. # | الترجمة وتعارف الشعوب (1)1 # في عدد مضى من «الجديد» كتبت كلمة عن الترجمة وعلاقتها بتعارف الشعوب، قلت ~~فيها: إن الترجمة تكثر بعد الحروب بين الأمم المتحاربة؛ لعناية كل أمة منها ~~باستطلاع أحوال الأمم الأخرى، واستقصاء ما عندها من بواعث النصر ~~والهزيمة. # ولم أرد في تلك الكلمة أن أحصي أسباب الترجمة كلها، أو أردها كلها إلى المنافسة ~~الحربية ورغبة الاستطلاع، وإنما أردت أن ألاحظ تلك الملاحظة من الوقائع التي ~~صاحبت الحرب العظمى والحروب القريبة التي تقدمتها، ولم أجعل المنافسة أصل ~~المعرفة في جميع أحوالها، بل قلت: إن «الأمر في ذلك مرجعه إلى شعور القلق ~~والحذر الذي يحرض رغبة المعرفة المطبوعة في النفوس ويرسم لها الميول والوجهات» ~~وقلت في موضع آخر: «ولا تحتاج رغبة المعرفة الفكرية عندهم إلى تحريض كثير من ~~دواعي المنافسة وبواعث الخصومة، وهو صريح في أن المنافسة تحرض ولا توجد، وتكون ~~سببا للرغبة في المعرفة، ولا تنحصر فيها جميع الأسباب.» # وقد عقب الدكتور طه حسين على ما كتبناه فقال بعد مناقشة وجيزة: «أما أنا فألاحظ ~~قبل كل شيء أن العلة الحقيقية الأولى لكل ترجمة ونقل، إنما هي الطبيعة ~~الإنسانية التي تجعل الإنسان حيوانا اجتماعيا كما يقول أرستطاليس في ~~السياسة، وحيوانا مفكرا كما يقول أرستطاليس في المنطق، فطبيعته الاجتماعية ~~تضطره إلى أن يتصل بغيره من الأفراد والجماعات، ويشاركهم فيما يفكرون ويشعرون ~~ويتحدثون، وطبيعته المفكرة تضطره إلى أن يبحث ويستقصي ويتعرف حقائق ~~الأشياء.» # كذلك رأى الدكتور طه حسين، ولا خلاف بين رأيه وقولنا: إن رغبة المعرفة مطبوعة ~~في النفوس، وأنها لا تحتاج عند بعض الأمم إلى تحريض كثير من دواعي المنافسة ~~وبواعث الخصومة، فنحن في هذا متفقان ولا اختلاف إلا في الأمثلة التي يريد ~~الأستاذ تطبيقها على غير الوجه الذي تنطبق عليه فيما أراه. # فالأستاذ يقول: «من المحقق أيضا ms504 أن العرب انتصروا على الفرس وعلى اليونان ~~البيزنطيين بعد ظهور الإسلام، كما انتصروا على أمم أخرى، فنقل العرب عن الفرس ~~واليونان كل شيء، ولم ينقل الفرس واليونان عن العرب شيئا.» # ونظن نحن أن تبادل الترجمة في هذا الجانب لم يكن منتظرا لسبب واضح، وهو أن ~~التبادل يستلزم وجود المعرفة والحياة الفكرية عند الفريقين، ولم يكن هناك معرفة ~~ولا حياة فكرية عند الفرس واليونان البيزنطيين الذين غلبهم العرب واستولوا على ~~بلادهم. إنما كانت المعرفة لفرس ويونان آخرين هم الفرس واليونان السابقون، وكان ~~أبناؤهم الذين غلبهم العرب غرباء أو كالغرباء عن تلك المعرفة الموروثة، ~~يجهلونها ولا يعنون بها عناية قومية فضلا عن العناية بأخذ ما عند غيرهم وترجمة ~~الكتب الأجنبية من عربية وغير عربية، فيصح أن يقال: إن العرب أخذوا علوم الفرس ~~واليونان الذين عاشوا قبل ظهورهم ببضعة قرون، وإن الصلة بينهم وبين أولئك الفرس ~~واليونان كانت منقطعة بينهم وبين الفرس واليونان المعاصرين لهم؛ لأنهم كانوا في ~~مذاهب النهضة متفرقين. # من كلامنا في مقالنا الأول يفهم أن الفرق عظيم بين عصرنا الحاضر وعصر الحروب ~~الفرنسية الألمانية، وأن تبادل المعرفة في عصر الحروب الفرنسية الألمانية «لم ~~يكن بهذا الشمول والسعة لعظم الفارق بين عصرنا الحديث، وتلك العصور في حركة ~~الطباعة وانتشار القراءة وسرعة المواصلات.» فالفرق بين عصرنا الحاضر وبين ~~العصور الفارسية اليونانية أولى أن يكون أعظم اختلافا وأوسع أمدا، وإن كنا مع ~~هذا نقول: إن الحروب كانت من أسباب الاستطلاع المتبادل حيثما وجدت المعرفة التي ~~يتبادلها الفريقان في الزمن القديم، أو في الزمن الحديث. # ثم يقول الأستاذ: «من غريب الأمر أن هذه النهضة الفارسية التي ظهر فيها تأثر ~~الفرس بالعرب لم تكن حين كان العرب غالبين والفرس مغلوبين، وإنما كانت حين تم ~~الفوز للفرس على العرب، وظفروا بالسلطان السياسي كله في الشرق الإسلامي، فكيف ~~يعلل الأستاذ العقاد هذه الترجمة، بالحب ثم بالبغض، أم بالتنافس ~~والجهاد؟ # فالذي نحب أن نذكره هنا أن العرب والفرس كانوا من جهة فريقا واحدا يجمعه ~~الدين، وكانوا من جهة ms505 أخرى فريقين متنافسين تفرق بينهما العصبية والتراث ~~القديم، فحكم العرب والفرس في الاقتباس والتنافس يختلف من هذه الناحية عن الأمم ~~التي تستقل كل منها بثقافة، وتنظر إلى الأمة الأخرى نظرها إلى العدو الغريب ~~عنها من جميع الوجوه، وحسبنا أن الفرس أخذوا دين العرب وأن العرب أخذوا حضارة ~~الفرس ليكون ذلك دليلا على أن التغالب باب من أبواب التعارف والاستطلاع، ولا ~~نحسب الأستاذ طه يستطيع أن يعلل الاقتباس الذي اقتبسه الفرس من العرب أو اقتبسه ~~العرب من الفرس بعلة الرغبة في المعرفة التي ذكرها أرستطاليس وحدها دون أن ~~تقترن بها محرضات التغالب بين الفريقين، وإلا فما بال الرغبة في المعرفة لم ~~تظهر إلا في تلك الأوقات التي اقترنت بالتنافس بين الغالبين ~~والمغلوبين.» # إن تقرير عامل من عوامل التعارف أو الاستطلاع لا يمنع ملاحظة الفروق بين ~~العصور، ولا يمنع ظهور ذلك العامل بمظاهر مختلفة في الشرق والغرب، والزمان ~~القديم والزمان الحديث، والفروق بين عصرنا هذا والعصور الغابرة كثيرة منها: # أولا: # أن الثقافة لم تكن عالمية في العصور الغابرة، حتى ~~يتيسر التبادل فيها بين كل غالب وكل مغلوب، كما يتيسر ~~ذلك بين أمم الثقافة الحديثة، أو أمم الثقافة الأوربية ~~على الأقل، كالإنجليز والألمان والفرنسيين والطليان ~~ومن إليهم، فعند كل أمة من هذه الأمم ثقافة مصبوغة ~~بلونها ممزوجة بتاريخها وخصائص وطنها، يجوز أن يحصل ~~فيها التبادل عند التنافس بينها وتنبيه الشوق إلى ~~المعرف والاستطلاع في أبنائها فيها ، أما الأمم القديمة ~~فقد كان توزيع الثقافة فيها جاريا على غير هذا الوضع ~~الذي نراه في زماننا الحديث، فكانت الأمم المتحضرة ~~عرضة لغارات الهمج الذين لا ثقافة عندهم ولا حضارة، ~~وكانت الغلبة للهمج في بعض الأحيان فلا يلبثون أن ~~يظفروا بالأمم المتحضرة حتى يأخذوا مما عندها ولا ~~يستطيعون أن يعطوها مما عندهم؛ لأن ما عندهم هو العدد ~~الكثير والصبر على المكاره والإقدام على المخاطر وليس ~~هذا من الحضارة ولا هو مما يمنح ~~ويعار. # ثانيا: # أن الغلبة في الزمن القديم كانت مرادفة للسيادة في ~~كل حال، فمن غلب ms506 أمة فقد سادها واستولى على ملكها، ~~فإما عاش معها عيشة المحتقر المترفع، الذي لا يتنزل ~~إلى محاكاتها في شيء من الأشياء وإما تغلغل فيها ~~واختلط بها مع الزمن لغة ودينا ونسبا فاستغرقته ~~واحتوته، وبطلت بينهما المنافسة والنزاع، وفي كلتا ~~الحالتين لا يجري تبادل المعرفة على النمط الحديث ولا ~~بد من مظهر له غير المظهر الذي لاحظناه من آثار الحرب ~~العظمى أو الحروب بين الفرنسيين والألمان من جهة، ~~والفرنسيين والإنجليز من جهة أخرى. # ثالثا: # أن الدين كان عنصرا قويا من عناصر الثقافات ~~التي نشأت بعد المسيحية والإسلام وأن الوطنية كانت ~~كثيرا ما تختفي في أطواء الدين، فتتفق الأجناس ~~المختلفة في عقيدة واحدة وينقلب النزاع على الوطن إلى ~~التضامن في النحلة الدينية، ويمشي هذا إلى جنب ذاك ~~فتزول الحدود بين الأجناس أو تختفي ما تيسر لها ~~الخفاء. # رابعا: # أن المطبعة جعلت الرغبة في القراءة حاجة من حاجات ~~الرجل العصري، فاهتمامه بأمة مقرون بالرغبة في القراءة ~~عنها والقراءة لكتابها، ويزيد هذه الرغبة علمه بأن ~~العلوم والحالات النفسية لها دخل عظيم في الغلبة ~~والهزيمة، وهو ما لم يكن مطردا مقررا في الزمن ~~القديم. # فهذه الفروق بين عصرنا والعصور الغابرة خليقة أن تتناول التعارف الذي تجر إليه ~~الحروب بشيء من التعديل والتغيير، وإن كانت لا تلغيه ولا تبطل حقيقته التي تعمل ~~عملها المستطاع من وراء جميع الفروق. ~~••• # وقد استطرد الأستاذ طه حسين إلى السؤال عن الوسيلة التي تتكفل فيها الترجمة ~~بتعارف الشعوب وتعاطفها، فقال: «على أن المسألة التي تستحق العناية ليست هي ~~تعليل الترجمة وبيان ما يدعو إليها، فالترجمة ظاهرة اجتماعية قديمة باقية، ~~وإنما هي مقدار ما تستطيع الترجمة أن تحققه من هذه الفكرة القيمة التي يسمو ~~إليها أصحاب الأخلاق وعشاق المثل العليا، والتي جعلها الأستاذ العقاد عنوانا ~~لفصله وهي «تعارف الشعوب». نعم، وهي التي يمكن أن تتخذ لتكون الترجمة سبيلا ~~واخمة مأمونة تلتقي فيها الشعوب المختلفة، فتأتلف ويحب بعضها بعضا ويعطف بعضها ~~على بعض، ويتحقق بينها التعاون الصحيح في جميع فروع الحياة. كم أحب ms507 أن أقرأ في ~~هذا رأي الأستاذ العقاد.» # وإني لأحب كذلك أن أعرف رأي الدكتور طه في هذا، أما رأيي فيه، فسأفرد له المقال ~~الآتي اتقاء الإطالة في هذا المقال. # | الترجمة وتعارف الشعوب (2) # كنت أقرأ إحدى القصص اليابانية - وهي قصة الخيزراني الهرم - فكنت أشعر وأنا ~~أقرؤها بما نشعر به حين يطالعنا وجه مألوف، نذكر أننا رأيناه من قبل ولا نذكر ~~كيف رأيناه ولا أين كانت رؤيته أول مرة، ثم يعود شيئا فشيئا فنذكر ذلك، ~~ونستوضحه، ونعجب كيف ترددنا فيه ونسيناه وهو قريب قريب لا يحتويه ~~النسيان. # أين قرأت تلك القصة أو ما يشبهها أول مرة؟ # أفي كتاب؟ # لا ولا ريب، فإنني قبل أن أقرأها أو أقرأ ما يشبهها في أي كتاب، كنت أعرفها ~~وأعرف كثيرا من أمثالها، وأحفظها حفظ من عاشها وعاصرها، وانطبعت في نفسه ~~مواقعها ومحسوساتها، وقد يكون في كتب القصص التي اطلعت عليها في عهد الطفولة ما ~~يشبه تلك القصة اليابانية من بعض نواحيها، ولكنني أذكرها كما أذكر حديثا سمعته ~~ومجلسا حضرت فيه ذلك الحديث وأشياء شتى مما يعلق بذاكرة الطفولة، ولا يمحوه ~~بعد ذلك تعاقب الأيام. # إذن أين سمعت القصة اليابانية - أو ما يشبهها - ومتى كان سماعي إياها قبل كل ~~قراءة وكل سماع! # سمعتها في أسوان وأنا دون العاشرة حول نار الشتاء التي كنا نصطلي حولها كل ~~مساء، وكان القاص - أو القاصة - شيخة من أقاربنا تزورنا من حين إلى حين ونفرح ~~بزيارتها نحن صغار البيت؛ لأنها كانت تمتعنا بالقصص والأحاديث، وتخصنا بالسمر ~~الذي نأنس به ونميل إليه من اليابان إلى أسوان؟! # ما أقرب المسافة بين الناس والناس، وما أعجب النقلة في الأفكار والأحاديث من ~~آسيا الشرقية إلى أقصى صعيد مصر في القارة الإفريقية! # لعل يوم أمس قد ضم بين ليله ونهاره صبية يابانيين سمعوا تلك القصة كما سمعها في ~~ذلك اليوم من قدر له سماعها من الصبية المصريين في بعض قرى الصعيد، أو بعض قرى ~~الريف، فجمع الخيال بين اليابان ومصر في عهد الطفولة، قبل أن يجمع بينهما ms508 علم ~~أو يقرب بينهما تاريخ، كيف اتفق هذا التشابه المحكم بين قصص اليابان وقصص ~~الصعيد! # ونقول التشابه لأن القصة اليابانية تختلف عن القصص المصرية التي من قبيلها في ~~بعض التفصيلات، وإن كانت مثلها في جملة المعالم والأوضاع: مثلها في الفتاة ~~السماوية الجمال التي يربيها أب غير أبيها وتنشأ في بيئة غير بيئة النعمة التي ~~تظهر عليها، ومثلها في كثرة الخاطبين الذين ينافسون على خطبة تلك الفتاة من ~~علية الأمراء والأثرياء وذوي المال والجمال، ومثلها في إعراض الفتاة عن جميع ~~هؤلاء وزهدها في الزواج، ومغالاتها بالشروط التي تلجأ إليها آخر الأمر لتستريح ~~من إلحاح الخاطبين في غير ظهور بالرفض، ولا تمييز لأحد منهم على الآخرين، فهذا ~~يميزها بالجوهرة التي في رأس التنين، وذاك يمهرها بالشجرة التي جذورها من ~~الفضة، وأغصانها من الذهب، وثمارها من خالص الجوهر، وذلك يمهرها بالثوب الذي لا ~~تحرقه النار، وغيرهم يمدونها بغير هذه المهور التي تجاب من أجلها الأقطار، ~~وتخاض البحار، ولا يظفر طالبها بغير اليأس والخسار، وكل ما يتخلل ذلك من تناشد ~~الأشعار والتباصر بالأحاجي والألغاز، والمعاني المضمرة والكنايات المغلفة، يجري ~~على نسق القصة التي نسمعها في مصر ونقرؤها في بعض كتب الأحاجي ~~و«الأحاديث». # كيف اتفق هذا التشابه المحكم بين القصص اليابانية وقصص الصعيد؟! # لست أظن أنا أنه توارد خواطر لا صلة فيه بين المصدرين، وإنما أرجح أن الترك هم ~~ناقلو تلك القصص من أقصى الشرق في آسيا إلى أقصى الصعيد؛ لأننا لا نعرف بلدا ~~من الصعيد خلا من رجال الترك ونسائهم، ولم تشتمل بيوته على أم تركية أو جدة أو ~~عمة تحدث صغارها بتلك القصص التي توارثتها عن الأمهات والجدات في سمعتها ~~و«الحريم» الخالد حيث تبقى الموروثات أجيالا بعد أجيال، أما كيف أتى الترك ~~بالقصص من آسيا الشرقية فالعناء في أمره يسير والعلاقة فيه ظاهرة؛ لأن اختلاط ~~الترك والصين واليابان قديم في الأقطار الآسيوية، ولا نزاع في اقتباس اليابان ~~من أواسط آسيا واقتباس الآسيويين من أهل اليابان، وما كانت القصص بالشيء الوحيد ~~الذي ms509 ترى فيه دلائل المشابهة والنقل بين شعوب الصين واليابان وقبائل الترك ~~والمغول. # بين كل أمة وأمة على وجه الأرض علاقة ما من هذه العلاقات التي تسري مع أحلام ~~الطفولة ومطالب المعيشة، وما من أمة هي غريبة كل الغرابة عن جميع الأمم التي ~~تختلف اختلافها الواسع في الأصل واللغة، والدين والتاريخ. # وقد انصرفت العناية كلها قبل الآن إلى تجسيم الفروق بين الناس وتضخيم أسباب ~~النفور والتنابذ، فالواجب الآن أن نكافئ ذلك بصرف العناية الكبرى إلى وجوه ~~التشابه ومواضع التقارب، وهي أثبت في الحقيقة من الفروق والمباينات، وصدق من ~~قال: إن طبيعة بني الإنسان واحدة في كل مكان. # بلغ من جهل الناس بالناس، أو بلغ من جهل الإنسان بنفسه فيما مضى، أنهم كانوا ~~يصدقون أن يكون في بعض المجاهيل أناس رجالهم من الكلاب ونساؤهم من بنات آدم ~~وحواء! وكانوا يصدقون أن يكون في بعض الجزر أقوام يتناسلون من الجان، أو ساكنات ~~البحر، وما تحت أديم الأرض، وفوق سقف السماء! وكانوا يعجبون للتشابه بين أمة ~~وأمة كأنه شيء يدابر الفطرة الإنسانية، ويجري على خلاف المعلوم والمنظور، وإن ~~بقية هذه الجهالة لباقية في عالم الأوهام، وإن كنت لا ترى لها أثرا في عالم ~~العلم الصحيح والاختبار، فإذا استطاعت الترجمة أن تعرض الأمم للأمم على وجه ~~التشابه بينهما، وأن تصور حقائقها بحيث يشعر كل من يقرأ أخبارها وتواريخها ~~وقصصها أنه يقرأ شيئا يألفه، ويشبه ما عند أمته يذكره بما في نفسه، فقد ~~استطاعت الترجمة عملا جليلا في التقريب بين الإنسان ونفسه، ثم في التقريب بين ~~الشعوب والشعوب. # والترجمة تستطيع ذلك ولا مراء، وتستطيعه فيما نعتقد على طريقتين: إحداهما قابلة ~~للمراقبة والإشراف، والأخرى لا تراقب ولا يمكن الإشراف عليها، وربما كان ~~إطلاقها من القيود أجدى من تقييدها برقابة رقيب وإشراف مشرف، أيا كان حظه من ~~النزاهة وحسن النية. # فأما إحدى الطريقتين فهي كتب المطالعة في عهد التعليم الأول، وكتب التاريخ التي ~~تدرس في إبان الحداثة، فإن هذه الكتب مما يسهل الإشراف عليه إذا عنيت عصبة ~~الأمم ms510 بدرس موضوعها، وتفاهم المشتركون فيها على تمثيل الشعوب المختلفة في صورة ~~يشعر القارئ الصغير وهو يقرؤها أن المسافة قريبة بينه وبين سائر النساء في ~~الطباع والأهواء وعوامل المعيشة ودوافع الحياة، فلا يستغرب المماثلة بينه ~~وبينهم إذا شب وكبر، ولا يرى فيها إلا أمرا مطردا مع الحقيقة ودخائل الشعور، ~~ويتأتى ذلك كله على أهون سبيل إذا عهدت الأمم بتصنيف تلك الكتب إلى الخبراء ~~المحنكين الذين يستشفون بواطن الطباع من ظواهر الأعمال، ولا يؤخذون بالفروق ~~الكاذبة في العرضيات وسفساف الأمور. # أما الطريقة الأخرى التي لا تقبل الرقابة والإشراف، وربما كان الإطلاق فيها ~~خيرا من التوجيه والتقيد، فهي طريقة الترجمة التي يعنى بها الآن جميع ~~المترجمين في الأمم التي أصبحت القراءة فيها من حاجات الحياة؛ فإلى جانب الكتاب ~~الذين يتوخون الإغراب في وصف أطوار الشعوب، ويعتمدون التشويق بالتهويل ~~والتلوين، لا بد أن يظهر الكتاب الذين ينفذون إلى البواطن ويحسبون الحقيقة أدعى ~~إلى الترغيب والتشويق، وإذا ضمنت صحة الترجمة فيكفي أن نذيع المترجمات؛ ليتسع ~~بها أفق الحياة في نظر القراء، ويعلم الناس أن هذا الأفق الرحيب يتسع لأصناف ~~شتى من الأحياء وقرابات حميمة من وراء الاختلاف الكثير، وإن هذا الاختلاف لأدعى ~~إلى التسامح والتعارف؛ لأنه يوسع أفق النظر بتوسيعه أفق الحياة. # هذا قصارى ما تستطيع الترجمة من التعريف بين الشعوب، وهي إذا استطاعته فليس لنا ~~أن نطالبها بعده بتبديل الطبائع، ومحو كل ما يؤدي بين الناس إلى تنافس ونزاع، ~~فهذا بعيد جد البعد. بل هذا مستحيل كل الاستحالة، ونعتقد أن الدكتور طه يرى ~~رأينا ولا ينتظر من الترجمة كل هذا الرجاء، ولا هو ينتظره من وسيلة أخرى من تلك ~~الوسائل التي يتذرع بها طلاب السلام وعشاق المثل العليا، ومحاسن ~~الأخلاق. # | بين العقاد وطه حسين: مناقشة1 # سآخذ على عهدتي في هذا المقال أن أسند إلى الدكتور طه حسين رأيا لم أقرأه له، ~~ولم أستأذنه في إسناده إليه، وإنما أقول: إنه هو رأيه لأنني لا أعرف كيف يكون ~~له رأي آخر في الترجمة وعلاقتها بالتغالب بين ms511 الشعوب. # سأزعم أن الدكتور طه حسين يقول: إنه حيثما تغالبت أمتان أخذت كلتاهما من الأخرى ~~ما يمكن أخذه من حضارة وعلم وثقافة، وإن رغبة المعرفة المركبة في الفطرة تحتاج ~~إلى تحريض من التنافس، فتنشط بعد كسل، أو تتوجه إلى وجهتها بعد حيرة ~~وشتات. # نعم إن الدكتور لم يقل شيئا من ذلك، ونعم إنه ينكره فضلا عن أنه يقوله، ونعم ~~إنه يناقشني فيه حين قررته في مقالي الأول، ثم في مقالي الثاني، ولكني مع هذا ~~أسنده إليه وأكرر إسناده لأنني لم أجد له منصرفا عنه، ولا حجة لإنكاره، وليس ~~الإنكار وحده كافيا إذا كان كل ما يقوله الأستاذ الفاضل منتهيا إلى تقرير ما ~~كتبته وناقشني فيه، فالدكتور يأبى أن يقول إن تبادل المعرفة يأتي من التغالب ~~والتنافس، ونحن نزعم أنه يقوله وأنه لم ينفه، وأنه إذا اعترض عليه حينا فليس ~~في اعتراضه ما ينفيه! وسنرى أن الدكتور كيف يقول ما أسندناه إليه، أو لا يرى ~~بدا من قوله، وإن أحاطه بشيء من التشكك والسؤال. # سنرى ذلك لأن الأمثلة التي يوردها الدكتور تأتي إلينا في النهاية ولا تبقى عنده ~~ولا ترجع إليه، فمن ذلك أنه يقول عن العلاقة بين الرومان واليونان: وشر آخر من ~~المسألة أعرض عنه الأستاذ العقاد الإعراض كله، وكان من حقه أن يقف عنده بعض ~~الشيء، وهو نقل الرومان عن اليونان، فقد نقل الرومان عن اليونان كل شيء ولم ~~ينقل اليونان عن الرومان شيئا، وكان الرومان غالبين وكان اليونان عبيدا لهم، ~~فما زالت المسألة محتاجة إلى التعليل والتفسير، والرأي عندي أنها لا تعلل إلا ~~بحاجة الإنسان الاجتماعية والعقلية، فهو يترجم لأنه حيوان اجتماعي كما قال ~~أرسططاليس في السياسة، ويترجم لأنه حيوان ناطق كما قال أرسططاليس في المنطق، ~~ويعظم حظه من الترجمة أو يضعف، باعتبار الظروف المختلفة التي تحيط بحاجته ~~الاجتماعية والعقلية فتقويها أو تضعفها. # فالحاجة الاجتماعية والعقلية لم تغن في رأي الدكتور عن الرجوع إلى الظروف التي ~~منها - بل من أقواها - ظروف التنافس والتغالب بين الشعوب. # أما لماذا أخذ ms512 الرومان عن اليونان، ولم يأخذ اليونان عن الرومان، فنحسب أن ~~تعليله يسير، وهو أن التبادل بينهما في بداية الأمر على الأقل كان غير ~~مستطاع. # فالرومان وجدوا فلسفة وأدبا مستفيضا عند اليونان، فأخذوا ما وجدوه ولم يأخذوه ~~إلا بعد أن نشبت بينهما نواشب التغالب والاحتكاك. # واليونان لم يجدوا عند الرومان إلا فنونهم التي امتازوا بها، وهي فنون الحرب ~~والنظام والقوانين، وليست هذه الفنون من شأن الأمم المغلوبة؛ لأن مسألة الحكومة ~~والجيش تظل في أيدي الغالبين لا ينزلون عنها لتلك الأمم مختارين. على أن ~~اليونان أخذوا من الرومان ترفهم وحضارتهم، ثم أخذوا منهم بعد ذلك نظامهم ~~وقوانينهم، حين أصبح لهم نوع من الاستقلال في الدولة البيزنطية، أو حين أصبحت ~~بيزنطة دولة اسمها للرومان وحقيقتها لليونان. # وعلى ذكر بيزنطة نقول إننا - كما قال الدكتور - لن نخالفه «في أن البيزنطيين ~~كانوا على حظ عظيم جدا من الابتكار في الناحية الفنية، حتى أصبح لهم فن خاص ~~يمتاز أشد الامتياز من الفن اليوناني القديم.» # نقول: إننا لن نخالف الدكتور طه في هذا، ولكننا نذكر أن الناحية الفنية التي ~~امتاز بها البيزنطيون ذلك الامتياز كانت هي الناحية التي تتصل بالترف وتنميق ~~المعيشة، وما إليها من مظاهر الحضارة الحسية، ولم تكن الناحية التي تتصل ~~بالبواعث النفسية والمطامح الفكرية التي هي قوام كل فن رفيع وكل معرفة صحيحة. ~~وقد أخذ منهم العرب ما وجدوه، ولما وجد للعرب شيء يؤخذ عمد إليه البيزنطيون ~~فنقلوه ومزجوه بما كان لهم من فن قديم، وبين يدي الساعة محاضرات الأستاذ «جوزيف ~~سترز جفسكي» المتخصص الثقة في فلسفة البناء، يقرر فيها كيف نقل البيزنطيون ~~قديما من فنون المزدية والشعوب الشرقية، ثم كيف نقلوا بعد ذلك من طرائق العرب ~~في الزخرفة والتنميق، ثم أصبحت الكنائس المسيحية وفيها أثر من كل ذلك مفرق في ~~تضاعيف البناء، لا يستدل على أصوله إلا الخبير. # والذي يعنينا هنا هو أن تبادل المعرفة بين العرب والبيزنطيين - أيا كانت ~~ظروفه - لم يكن على أوسعه وأقواه إلا بعد التغالب بين الدولتين، وإن العرب ms513 لو ~~هزموا البيزنطيين هزيمة تامة لأخذ منهم هؤلاء دينهم، كما أخذه الفرس ~~المهزومون. # ولم يكن للعرب ثقافة جديدة في مبدأ الأمر غير ثقافة الدين، ولا يخفى أن حكم ~~الدين في النقل غير حكم المعارف التي لا يقع فيها التعصب والعداء، فإن هذه ~~المعارف تنقل دون صعوبة ولا ممانعة، وليس ينقل الدين في دولة كاملة بغير ~~السيطرة من جانب الظافر والتسليم من جانب المهزوم. ~~••• # وقد أردت في مقالي السابق أن أبين قرب الصلة بين الشعوب فذكرت تلك القصة ~~اليابانية التي تشبه ما كنا نسمعه في أيام الطفولة من قصص الجدات والعمات في ~~الصعيد، وقلت إنني أرجح أن القصة منقولة من أواسط آسيا حيث كان يعيش الترك على ~~مقربة من الصين واليابان، فأشار الدكتور إلى ذلك فقال: «قد يكون هذا بعيدا، ~~ولكني أكره للأستاذ أن يورط نفسه في تعليل ما يعرض له من هذا النوع من التشابه ~~بين أساطير الشعوب، فإن هذا قد يضطره إلى ألوان من العناء والتكلف أضن عليها ~~بوقت الأستاذ ومنطقه. ف «الفلكلور» يعطينا من هذه الأشياء عجائب لا تحصى، وليس ~~إلى تعليلها الدقيق من سبيل إلا أن نردها إلى هذه العلة المعقولة وهي وحدة ~~الطبيعة الإنسانية.» # ونحن نرى أن القول «بوحدة الطبيعة الإنسانية» لا يخالف ما ذهبنا إليه، بل هو ~~أدل على تقارب الشعوب من صلة النقل الذي قصدنا به إلى إظهار هذا التقارب، وإنما ~~رجحنا النقل على «توارد الخواطر» بين اليابانيين والمصريين؛ لأننا لم نقرأ في ~~آداب الشعوب الأخرى قصة تشبه القصص المصرية مثل هذا الشبه؛ ففضلنا أن نرد هذا ~~الشبه إلى النقل على أن نرده إلى وحدة الطبيعة الإنسانية، وساعدنا على هذا ~~التفضيل أن دخول القصص التركية والآسيوية في ألف ليلة وما شاكلها ثابت ثبوتا ~~لا ريب فيه، ولا حرج في الرجوع إلى الفلكلور لإظهار الصلة بين الشعوب؛ لأن ~~الدكتور لا ينسى أن «الفلكلور المقارن» هو أقوى عماد لباحثي الآداب واللغات في ~~درس أصول الشعوب، وتمحيص ما بينها من وشائج القرابات والجوار. # بقيت كلمة عن البحث ms514 العلمي والبحث الفلسفي اللذين عزا إليهما الدكتور ما بيننا ~~من خلاف فقال: «ربما كان مصدر هذا الاختلاف أن الأستاذ العقاد ينظر إلى الأشياء ~~الخاصة والظواهر العامة نظر الفيلسوف، وأنظر إليها أنا نظر المؤرخ، أو بعبارة ~~أدق نظر المحقق الذي يتقيد بمناهج البحث العلمي، ولا يحلق في هذه السماء ~~الجميلة المزدانة، سماء الفلسفة.» # والذي أعتقده أنا أن العلم لا يستطيع أن يستقل بالبحث في موضوعنا هذا؛ لأنه من ~~مجال الرأي لا من مجال الوقائع العلمية التي يدرسها العلماء على أصول كأصول ~~الدراسة الكيميائية والطبيعية وما إليها، فإذا تقدمنا في هذا الموضوع خطوة فلا ~~بد لنا أن نتقدم فيه بمعونة الفلسفة والخيال معا؛ لأنه موضوع نفسيات في نطاق ~~اجتماعي واسع شديد التباين كثير الملابسات، وعمل الخيال فيه هو عمله اللازم في ~~تصور كل ما اختلف من الحالات، وتسهيل الخروج بالباحث من وضع واحد إلى جملة ~~أوضاع. ~~••• # وقد ختم الدكتور مقاله ببيان فضل الترجمة في تعرف الحياة والأحياء، وضرورتها ~~لنا نحن المصريين على الخصوص؛ لأنها بالقياس إلينا «أداة للحياة لا للرقي» ثم ~~تساءل: «لست أفهم كيف تعنى الحكومة بنشر التعليم على اختلاف درجاته، ولا تعنى ~~بالشرط الأول ليصح هذا التعليم ويصلح، وهو الترجمة الصحيحة المنظمة التي لا ~~تترك للمصادفة، وإنما تخضع لمنهج يلائم حاجات الناس في هذا العصر.» # وأقول: ليس الدكتور وحده هو الذي لا يفهم هذه الأعجوبة التي لا يعجبون لها في ~~مصر إلا لأنها كلها بلاد أعاجيب، فهي شيء غير قابل للفهم إلا على سبيل التعليل ~~لا التسويغ، وتعليلها «أن العقول الرسمية» لا تزال هي صاحبة الشأن في سياسة ~~التعليم، ولن يرجى من هذه العقول خير، وإننا نتعلم لأن النظام والعرف يفرضان ~~علينا ضريبة العلم، لا لأننا نشتهي العلم ونظمأ إليه. # | انظر إلى من قال لا إلى ما قيل # على هذه السنة نشأت في تقدير كل كلام، فليس عندي أشد خطأ من القائلين: «انظر ~~إلى ما قيل لا إلى من قال» ولا أستطيع أن أفهم كلاما حق فهمه إلا إذا عرفت ms515 ~~صاحبه، ووقفت على شيء من تاريخه وصفاته، وفي مذكرات جمعتها وطبعتها في سنة 1912 ~~باسم «خلاصة اليومية» أقول: ~~«انظر إلى ما قيل لا إلى من قال» قاعدة لا يصلح إطلاقها في كل حال، ~~فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري ~~مثلا: # تعب كلها الحياة فما أع # جب إلا من راغب في ازدياد # يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من ~~التذمر من الحياة وتمني الخلاص منها، فإننا نثق بأن المعري مارس ~~الأمور الجوهرية في الحياة، ودرس الشئون التي تكون بها عذبة أو ~~مرة، ونكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم ~~من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة. # وكل ما رأيته بعد ذلك يؤيد هذا الرأي ويعزز هذه التجربة، فالكلمة الواحدة تختلف ~~معانيها باختلاف قائليها، فيؤبه لها من قائل ولا يلتفت إليه من قائل غيره؛ لأن ~~الكلام جزء من الإنسان وليس بحركات تتموج في الهواء وتقع في الآذان، فإذا أردت ~~أن تعرف الجزء فلا محيص لك من الرجوع به إلى كله الذي تجزأ منه، وإذا أحببت أن ~~تفهم الكلمة فافهم المتكلم؛ لأنها من معدنه أخذت وبميزانه تعتبر وتوزن. # أقول هذا وأكثر ما أقرؤه في العهد الأخير من كتب التراجم والسير، وما كتب ~~التراجم والسير؟ هي ولا ريب الكتب التي تعلمنا أن ننظر إلى من قال لا إلى ما ~~قيل وأن نحكم على ما فعل لا على من فعل، فنحن لولا أننا نفهم الكلام ~~والعمل بالرجوع إلى متكلمه وعامله لما عنينا بالاطلاع على سيرة واحدة ولا وجدنا ~~فرقا بين أن يكون هذا القول منسوبا إلى زيد أو إلى عمرو، ومنجما على حسب هذه ~~الحوادث أو منجما على حسب الحوادث الأخرى في زمان آخر. # والتراجم تكثر بعد الحروب والثورات؛ لأن الحروب والثورات تبرز للعالم أفرادا ~~يتحدث الناس بأخبارهم، ويتوقون إلى العلم بأسرارهم وأقدارهم، فيتجه اهتمام ~~الكتاب والرواة إلى الكتابة عنهم والإفاضة في أحاديثهم، فتنشأ الترجمة ويكثر ~~افتتان المترجمين في ms516 صناعتهم، وهذا الذي حدث بعد الحرب العظمى وزاد في انتشاره ~~والإقبال عليه أننا في عصر التحليل والدراسات النفسية، والقصص التي تدار على ~~حياة الأفراد وتخلق فيها الأبطال من الواقع أو من التصور، فامتدت الترجمة إلى ~~الأقدمين واتخذ المترجمون من رجال التاريخ أبطالا للقصص والسير لهم شطر من ~~الحقيقة، وشطر من الخيال. # بين أشهر المترجمين في العصر الحاضر ثلاثة هم «إميل لدفج» الألماني و«أندريه ~~موروا» الفرنسي و«ليتون ستراشي» الإنجليزي. قلت في نفسي: ماذا جرى لو أننا ~~حاسبنا هؤلاء السادة بحسابهم وطبقنا فن الترجمة على جماعة المترجمين؟ لقد قضى ~~هؤلاء الثلاثة زمانا في الكشف عن الناس وراء الستار، فماذا يجري لو كشفنا ~~الستار عنهم ونظرنا إلى واقع أقوالهم من حياتهم كما نظروا هم مرارا إلى مواقع ~~الأقوال والأفعال من حياة الأبطال والعظماء؟ أليس هذا عدلا؟ أليس فيه ~~فائدة؟ # بلى، وقد كان! # أخذت في المقابلة بين كتابتهم وحياتهم، فظهر لي أنه ما من واحد منهم إلا وله ~~آراء وأحكام تتغير جدا لو تغير القائل وتغيرت نشأته وهواه، وتغيرت الأسباب ~~التي لا دخل له فيها ولا دخل فيها لإرادة مريد. # هذا مثلا «إميل لدفج» صاحب السير عن المسيح، ونابليون، وبسمارك، وجيتي، وولهلم ~~الثاني، وغير هؤلاء من أصحاب السير الطوال أو القصار، حضر إلى مصر عام أول فلم ~~تعجبه آثارها القديمة، وقال في كتابه «على شواطئ البحر الأبيض»: # أما أنا فلا أشعر بشيء من الإجلال في مدافن الفراعنة، ولا أستطيع ~~إلا أن أضحك زاريا من عقل ذلك الملك الذي يخيل إليه في حياته أنه ~~قادر على أن يخدع الموت بما يتأهب به من الأهبة النيرونية في ~~ضريحه، ومن كان على خبرة بأمر الموت لا يسعه إلا أن يشيح بعطفه عن ~~تلك العقيدة التي سولت لأصحابها أن يطمعوا بتحنيط أجسادهم في وراثة ~~الخلود، وإن الزمن لذو انتقام، وإن عظام جمل نخرة مطروحة بالعراء ~~لتبلغ من نفسي ما ليست تبلغه هذه الآثار العقيمة التي تخلفها لنا ~~العظمة الملكية، آثار ملوك يلتمسون لأنفسهم الخلود المزيف بدلا ms517 من ~~التفكير في خير الرعايا. # أتظن أننا نفهم هذا الكلام حق فهمه لو كنا لا نعلم قبل ذلك أن قائله اشتراكي ~~جمهوري يعز عليه تسخير الرعايا في خدمة أهواء الملوك؟ فليس من يكلمنا هنا هو ~~الناقد الفني ولا المؤرخ المستقل ولا السائح المتفرج، ولكنما المتكلم الذي نسمع ~~رأيه في هذه السطور هو الاشتراكي وهو الجمهوري وهو كاره الأبهة الغاشمة، وكاره ~~الذل في تسخير العمال، ويجب أن نعلم هذا لنقوم ذلك الرأي بقيمته ونلمس موقع ~~البواعث التي حركته، بل يجب أن نعلم قبل ذلك لم كان «لدفج» الألماني اشتراكيا ~~مطالبا بحقوق الفقراء وجمهوريا ساخطا على حكم القياصرة؟ فهل تراه يكون كذلك ~~لولا أنه يهودي، وأن اليهود كانوا مظلومين في عهد ولهلم الثاني على الخصوص، ~~وكان هذا الملك معروفا بكراهة الساميين أي بكراهة اليهود؟ بل نحن إذا علمنا ~~هذا علمنا لماذا اشتهر لدفج في بلاد الإنجليز والأمريكيين، فإنه كتب عن ولهلم ~~الثاني كتابة من ينحي عليه أشد الإنحاء، ويتهمه بالخطل الذي أفضى إلى الحرب ~~العظمى! وليس أحب إلى الإنجليز ومعظم الأمريكيين من أن يضعوا وزر الحرب على ~~كاهل القيصر الألماني، ولو لم يتهمه الكاتب، إلا بالخطل في السياسة دون التدبير ~~الآثم والنية السيئة. ~~••• # و«موروا» الفرنسي كتب عن دزرائيلي الوزير الإنجليزي، وعن شلي وبيرون الشاعرين ~~الإنجليزيين، وكان في كتابته عنهم جميعا منصفا عاطفا ملما بالظواهر ~~والبواطن على السواء، ولكتك تلاحظ عليه أنه شديد الرغبة في الاغتفار ، سريع ~~العدو في المواضع التي يتريث فيها الناقد أو من لا حرص له على الغفران، وتكلم ~~هو في محاضراته التي ألقاها بجامعة كمبردج على سبب التفاته إلى ترجمة شيلي مع ~~غرابة هذا الالتفات من كاتب فرنسي فقال: «لما قرأت ترجمة شيلي الموجزة لأول مرة ~~اختلج في نفسي شعور شديد، وسأقول لكم لم كان ذاك، فقد كنت حديث التخرج من ~~المدرسة، وكنت مفعم القلب بالآراء الفلسفية والسياسية التي تشبه من بعض الوجوه ~~تلك الآراء التي استحوذت على شلي وصاحبه هوج عندما نزل بلندن، ثم اضطرتني ~~الدواعي إلى ms518 العمل فألفيت آرائي وخبرتي في الحياة تتنازعان، وذكرت أن شلي قد ~~عالج هذه الصدمات التي خيل إلي أنها تشابه ما عالجته.» # وقال عن سبب التفاته إلى ترجمة دزرائيلي: «قرأت ذات يوم في بعض كتابات موريس ~~باريس أن أمتع حياة كانت في القرن التاسع عشر هي حياة دزرائيلي، وكنت أعرف عنها ~~بعض الشيء ولكنها معرفة غير وافية فقرأت سيرته بقلم مونيبني وبوكل ثم قرأت ~~كثيرا من مذكرات عصره ثم رسائله ورواياته، وكلما أمعنت في القراءة بدا لي أنني ~~أجد في دزرائيلي البطل الذي أشغف به، ورأيتني حيال «شخصية» طريفة هي شخصية ~~الخيالي الذي هو مع هذا رجل عمل، وشخصية الرجل الذي نجح في عرف الدنيا، ولكنه ~~أخفق في عرف الروح ولبث على سرير موته خياليا غير نادم على أحلامه وغير ظافر! ~~وليس بي حب لدزرائيلي الفتى في سلاسله الذهبية وصدارته الموشاة، وطموحه وطمعه، ~~ولكني شديد العطف على دزرائيلي الذي تكشفت له الدنيا عن عداوة وكفاح، وانهالت ~~عليه الهجمات الغليظة من خصوم من الطبقة الثانية في المقدرة، وظل مناضلا ~~مصرا على النضال لا يذعن للهزيمة.» # ونحن لا نعجب لهذه العاطفة في نفس «موروا» الإسرائيلي للوزير الإسرائيلي، فكل ~~كاتب في مكانه لا يسعه إلا أن يغضب لذلك الوزير، الذي ظلمه خصومه وافتروا عليه ~~كثيرا وحسبوا نقائصه على أبناء قومه وأبناء دينه، ولو أنصفوه لعلهم كانوا ~~واجديه في كثير من الأحيان أصدق من مزاحمه غلادستون الذي لقبوه بالقديس ، ولقبوا ~~دزرائيلي بالساحر هازلين أو حانقين. # كذلك لا يسع الكاتب الذي ينتمي إلى أمة مغبونة مبتلاة بأدواء العصبيات التي ما ~~تبرح تنصب عليها من كل صوب إلا أن يميل بمودته إلى كل مطالب بالحرية الفكرية، ~~وكل شهيد من شهداء العرف والعصبية، وقد كان «شلي» و«بيرون» من هؤلاء الشهداء في ~~بعض مواقف الحياة؛ فعطف عليهما موروا، وعطف عليه من قبلهما بطله دزرائيلي، فجعل ~~أحدهما بطلا لقصته الكبيرة، وأشرك معه صاحبه شلي في هذه البطولة. ~~••• # أما استراشي الإنجليزي فرجل نشأ في مهد التربية الدينية فلا تخطئ أن ms519 ترى أثر ~~ذلك فيمن يختارهم للكتابة عنهم من المطارنة، وأصحاب التقوى، والموسومين ~~بالصلاح، أو الذين لحياتهم علاقة بالدين من قريب أو بعيد، وليس هذا كل ما يكتب ~~فيه ولا هو خير ما يكتبه، ولكنه لو لم ينشأ في التربية الدينية لكان أكبر الظن ~~أنه لا يلتفت إلى كثير من الذين ترجم لهم، وألم بأخبار حياتهم. # وكان بودنا أن نعرض لمواقع الهوى في كلامه على غردون، وكرومر، ومصر، والسودان، ~~لولا أن لهذا الكلام مجالا غير هذا المجال. ~~••• # إن تراجم العظماء وتراجم المترجمين كلها مصداق لرأي القائلين: «انظر إلى من قال ~~لا إلى ما قيل» وليس فيها مصداق لرأي القائلين: «انظر إلى ما قيل لا إلى من ~~قال.» # | ربة الجمال بلا يدين! # كان هيني الشاعر الألماني يعبد الجمال، ويعشق كل جميل. # وكان من عبادته في جحيم، أو قل في نعيم: # خذا بطن «هرشي» أو قفاها فإنما # كلا جانبي «هرشي» لهن طريق # فإن الجحيم والنعيم في عبادة الجمال شيء واحد باسمين مختلفين، كما أن «هرشي» ~~طريق واحد من حيثما أخذتها، وقد كان بدوي في حضرة الخليفة عمر بن عبد العزيز ~~يتمثل بالقرآن فقال: والله رحيم غفور. # فقال الخليفة: بل قل غفور رحيم. # فأنشد البدوي البيت: خذا بطن هرشي أو قفاها، لأنه لم يكن يدري ما الفرق بين ~~رحيم غفور وغفور رحيم. # وكذلك الأمر في عبادة الجمال، ولكن بغير تخطئة ولا تثريب؛ فأنت إذا وجدت من ~~يخطئك ويثربك حين تقدم الرحمة على الغفران في قراءة بعض آيات القرآن، فكن على ~~اطمئنان في قرآن الجمال، وثق أنك إذا قلت النعيم وأنت تعني الجحيم، أو قلت ~~الجحيم وأنت تعني النعيم، فلا لوم عليك ولا مخالفة للحقيقة؛ لأن جحيم الجمال ~~ونعيمه كما قلنا شيء واحد، ولأنهما داران موضوعتان على رسم واحد وفي سعة واحدة، ~~لا فرق بينهما داخلا ولا خارجا إلا اللوحة التي على الباب. # وكان هيني الشاعر الألماني في جحيم من عبادة الجمال، فهجر وطنه ألمانيا، أو ~~هجره وطنه، وعاش في فرنسا مشردا منغصا ينتظم عيشه ms520 تارة ويضطرب تارات، وتبسم ~~له الدنيا ساعة وتعبس ساعات، فدب الخلل في جسمه، وسرت إليه مبادئ الشلل الذي ~~أقعده بعد ذلك ثماني سنوات طريح فراشه، فأشفق أن يحرم الغدوة والروحة والطلاقة ~~والحرية بعد أن حرم السعادة وحرم الأمل في السعادة، فذهب في ذات يوم إلى متحف ~~«اللوفر» يودع أقانيم الجمال، وينظر - ولعلها النظرة الأخيرة - إلى الصور ~~والتماثيل والنفائس والآثار التي كان لا يمل التردد بين محاسنها ومحاسن الحياة، ~~وهناك وقف بين يدي الزهرة ربة الجمال يبتهل إليها بالصلاة ويطيل الدعاء ويكثر ~~من التذكير والتفكير، ثم ناداها: «مدي إلي يديك يا ربة الجمال.» ولكنه أفاق من ~~غشية صلاته، فإذا ربة الجمال لا تسمع، وإذا هي بغير يدين! # نعم بغير يدين، لأن ربة الجمال أو الزهرة المعروفة في متحف اللوفر ب «زهرة ~~ميلو» مكسورة الذراعين لا تملك أن تمد يدا إلى متوسل، ولا هي ممن يسمع النداء ~~فيلبيه. # ومن طرائف الشاعر هيني أنه يحسن اللعب بهذه المحسوسات كثيرا، ولكنه لا يضعها ~~إلا حيث تكون لها دلالة معنوية مطابقة لما يظهر للحواس، فربة الجمال هنا مكسورة ~~الذراعين حسا ومعنى، وليس لها بإنقاذ العابدين يدان، لا في التماثل المصور ~~ولا في عالم التصورات والخيالات. # لم كانت ربة الجمال بغير يدين؟ # أما سبب ذلك في التمثال فسيأتي بيانه، وأما سببه في الجمال - الذي نتمثله في ~~ذلك التمثال - فالروحيون يقولون: إنه لغرابة الجمال في الدنيا وإنه هو كمال ~~علوي من العالم السماوي هبط، وفي العالم السماوي تكون له العزة والسيادة، فهو ~~لا يزال في هذه الأرض كالغريب الطريد لا حول له ولا قوة ولا طاقة له بمغالبة ~~الشرور والشهوات التي تعيث فيها، حتى يئوب إلى وطنه، ويرتفع إلى سمائه فيعتز ~~هناك وتمد له يدان! # وإذا ترجمت هذا المجاز إلى لغة الحقيقة صح لك أن تقول: إن الدولة إنما تكون ~~بالكثرة وإن إدراك الجمال في هذه الدنيا من أندر الأشياء ندرة، وإن خيل إلى ~~أناس أنه شائع مشترك بين جميع الناظرين، فكل من يستعصي عليه إدراك مسألة ms521 من ~~مسائل العلم، قد يأتي عليه اليوم الذي يدركها فيه ويذلل عصيها بإصراره وتأنيه. ~~أما الجمال ففيه أسرار تستعصي على قوم فلا يدركونها أبدا، ولو طالت بهم ~~الأعمار أحقابا وأدهارا بدل الأيام والسنين، فهو قليل النصير، وإن خيل إلى ~~الناس أنه أكثر ما يكون في هذه الأرض نصيرا أو مفديا بالأرواح ~~والأموال. # وكأن الأقدار شاءت أن تصحح خطأ وقع فيه المثال الإغريقي المجهول، فأبت أن يقوم ~~التمثال في متحف اللوفر إلا مكسور الذراعين إحداهما من الكتف، والأخرى مما فوق ~~المرفق، وهم يبحثون الآن - مرة أخرى بعد مرات كثيرة - كيف كان ذلك وأين ذهبت ~~الذراعان المفقودتان، ويظنون أنهم سيجدونهما في ميناء «ميلو» حيث وجد التمثال، ~~وإليها ينسب وحيث تعمل السفن النزافة في حفر أعماق الميناء؛ على أمل الوصول إلى ~~القرار الذي سقطتا فيه. # وبعد فهل كان للتمثال قط ذراعان؟ يقول بعض النقاد الفنيين إنه صنع هكذا بغير ~~ذراعين، ويستبعد ذلك الأكثرون من النقاد؛ لأنه غير معقول وغير معروف النظير، ~~فيما بقي من آثار الإغريق الأقدمين، والأصح أن التمثال كان كامل الخلقة عند ~~استخراجه من الأنقاض في سنة 1820، وقال الضابط الفرنسي دومون درفيل، الذي عني ~~بشرائه لفرنسا إنه رأى الذراعين بعينه وإن يمناهما كانت تحمل المئزر عند الخصر، ~~واليسرى كانت ممدودة وفي كفها تفاحة، ويرجح أن «زهرة آرلس» الكاملة مصنوعة على ~~نمط قريب من هذا، فلا يبعد أن يكون التمثالان على شكل واحد أو متشابه. # أما كيف وجدت هذه الزهرة المبتورة الذراعين، فقصتها كقصة الكثير من المستخرجات ~~الفنية التي يتفق العثور عليها لغير الفنيين، فقد كان فلاح من فلاحي جزيرة ~~«ميلو» يحرث أرضه فتعثر المحراث، وخطر له أنه متعثر في حجر يعوقه، وأن وراء ~~الحجر كنزا من النضار، فذهب يزحزحه ولكنه رأى وراءه حجرة مطمورة، ورأى فيها ~~التمثال فعلم أنها لقية تغنيه إذا هو أحسن المساومة عليها، واتفق أن لمحه ~~الضابط الفرنسي دومون درفيل فأبلغ قصته إلى المركيز دي ريفيير السفير الفرنسي ~~في العاصمة التركية، وزين له أن يبتاعه بما يرضي الفلاح ms522 الذي يحتفظ به، ففعل ~~وأهداه إلى لويس الثامن عشر ملك فرنسا في ذلك الحين، ويقول الأستاذ فيليب كار ~~في مجلة «نيويورك تيمس»: # إن الذراعين كسرتا في نزاع نشب على ميناء ميلو بين البحارة ~~الفرنسيين والبحارة اليونانيين، وإن المسيو دي مارسلس الذي اشترى ~~التمثال لم يحزه إلا عنوة، وإن كان قد بذل فيه الثمن المطلوب؛ لأنه ~~حين وصل لتسلمه كان قد بيع بيعة ثانية، وأوشك أن يحمل إلى سفينة ~~يونانية يركبها أمير مجهول الأمر، هو الذي اشترى التمثال للمرة ~~الثانية على يد قسيس أمريكي يقيم في الجزيرة، وكان الجزء الأسفل ~~منه قد نقل فعلا حين أدركه الجند الفرنسيون وهزموا البحارة ~~الآخرين وهم مسلحون بالبنادق والسيوف، واصطلموا أذن أحدهم ثم نقلوا ~~ذلك الجزء من السفينة اليونانية إلى السفينة الفرنسية. # ولخصت مجلة الأوتلاين الإنجليزية - التي ننقل عنها - ما بقي من الفصل المتقدم، ~~فإذا الكاتب يذكر هذا التعليل ويذكر تعليلا آخر لفقد الذراعين، وهو أن ~~القائمين على متحف اللوفر كسروهما عمدا، أو كسروا إحداهما بعد وصول التمثال ~~إلى باريس، وقد كان للضابط الفرنسي رفيق اسمه «ماتريه» زعم أن التمثال وصل إلى ~~فرنسا بذراعه اليسرى، وأن هذه الذراع لم تكسر إلا في العاصمة الفرنسية. # لكن ليس هذا كل ما يؤسف له من أمر هذا التمثال الأبتر من جهات كثيرة؛ فقد بترت ~~ذراعاه وبترت تواريخه كلها، فلا يعلم له صانع ولا زمان صناعة، ولا يعلم عنه ~~الآن إلا أنه تمثال الزهرة، وأنه وجد في جزيرة «ميلو» في شهر مارس سنة ~~1820. # إلا أن البقية الباقية منه كافية للدلالة على حقيقته الكبرى: وهي نظرة الفن ~~الإغريقي إلى الجمال الأنثوي، والمقابلة بين هذه النظرة الإغريقية وبين أشباهها ~~من النظرات في مختلف العصور والأمم، فلو أن مثالا مأخوذا بالمراسم التي ~~قررتها التقاليد، وسجلتها تشبيهات العرف الذائع، عمد إلى نموذج الجمال الأنثوي ~~ليصوره على أحسنه وأرشقه لكان الأغلب الأرجح أنه يدق من خصره، ويرفه من خلقته ~~على الجملة؛ ليجيء على وفاق الصورة التي توهمها المترققون المتظرفون للمرأة ~~الحسناء في حقيقتها، وإنما ms523 صور لنا الأجزاء كما يفهمون كل جزء منها على حدة، ~~وجمع هذه الأجزاء فإذا هي امرأة يتخيلها المتخيل، ولا تنفعه في فهم جمال المرأة ~~حق المنفعة؛ لأنه إذا قاس عليها الحسان قد ينكر منهن الجميلات اللواتي لا عيب ~~فيهن إلا أنهن يخالفن ذلك الخيال. # أما النظرة الإغريقية فجمال المرأة فيها هو جمال الطبيعة وجمال الصحة، وهو ~~الجمال الذي إذا نظرت إليه تمثلت لك المرأة في جميع حالاتها، أما مدبرة ~~ومعشوقة ومدللة، ولم تتمثل لك زينة فحسب، تراها فتعجب أن تكون هذه أما مع ما ~~فيها من الوهى، والرقة، والدلال الغالب على كل وسم وشارة. # | بلاد الحياة والموت والأديان # القارة الآسيوية أرض حافلة بأسباب الحياة، حافلة بأسباب الموت، وهي لهذا كانت ~~أرضا حافلة بالأرباب والشياطين، وكان سلطان الدين فيها أقوى ما عرف في نفوس ~~بني الإنسان. # بلاد شاسعة الأطراف فيها من النبات صنوف ومن الحيوان صنوف، فيها البطاح تغمرها ~~الغياض والآجام والكلأ الجميم والعشب المريع، وفيها الثمار من كل فاكهة ألوان، ~~والأمواه تجري في السهول والجبال، والمعادن في جوف الأرض على مقربة من تناول ~~الفحص اليسير والعلم القليل، وفيها الأقاليم الواسعات يجتمع لها ما تفرق في ~~أقاليم الأرض من الزرع والحيوان، وتجوس خلالها أسراب الطير والأوابد على اختلاف ~~في الأقدار والطبائع والأشكال، والدواب ميسرات لمن يخرج إلى العراء ويصيد ~~ويروض، والطعام من فاكهة الأرض ومن لحوم الأطيار والأسماك والأنعام غير ممنوع ~~ولا مضنون به على الطالبين، فها هنا البركة والرضوان والخير الموفور وأرباب ~~الرحمة والرخاء التي تؤتي عبادها كل ما يشتهون. # وبين هذه الخيرات والنعم آفات لا حصر لها ولا علم لأحد هنالك بما يسوقها على ~~الناس وما يدفعها، فالبطاح تضربها الشمس في الصيف فهي جهنم، ويثقلها الثلج في ~~الشتاء فهي زمهرير، والبراكين تخسف الأرض وترفعها فتغيض البحار وترتفع الأطواد، ~~ويندك ما كان شامخا ويشمخ ما كان في القرار الخفيض، والأمواه والأودية تخالطها ~~السموم مما ينتشر فيها وعليها من الدواخين والمعاطب، فلا يعبرها حيوان إلا هلك، ~~ولا تنبت فيها نابتة إلا ms524 ذوت، ولا يلم بها إنسان إلا على وجل يتلمس النجاة، ~~والهوام ساعيات بالأذى، والأوابد ضاريات لا يحسبن لأبناء آدم حسابا، والوباء ~~يشيع حيث يشيع فلا علاج له ولا وقاء منه، والمرء يتلفت حوله فلا يعلم من أين ~~يجيئه الموت ومن أين ينشد السلامة، فكل مهلكة عنده شيطان مارد وكل مصيبة تعتريه ~~دسيسة من عالم مجهول، ولا حيلة له في كل ذلك إلا الصلوات والتعاويذ والقرابين، ~~وإلا أن يلوذ بمن هم على صلة بالأرباب والشياطين، ومعرفة بمواقع الغضب منهم ~~والقبول؛ عسى أن يمشوا بينه وبينهم بالشفاعات والمعاذير. # إذا وبئت الأرض فمات من عليها من الحيوان قال لك العلم الحديث: إنه غاز الفحم ~~ينتشر فويقها فيموت فيه كل متنفس، وإذا وبئ البحر فمات من فيه من الحيوان، قال ~~لك العلم الحديث: إنه سلفيد الهيدروجين ينشأ من بعض الأملاح المتحللة، فيبعث ~~ريح الموت في طباق الموت غورا بعد غور، وإذا لم يكن «علم حديث» فماذا يقول ~~الإنسان صاحب الجهل القديم؟ لا يقول إلا أن الوادي استولى عليه روح الشر، ونزلت ~~به لعنة الأرباب، ولا يعرف الخلاص إلا على يد كاهن أو ساحر هو في عرفه نصف ~~شيطان ونصف إله، وإذا غبرت الدهور على ذلك مائة سنة بعد مائة أخرى بعد ألف سنة ~~بعد ألف أخرى بعد آلاف وآلاف بلا أول لها معروف، فلا جرم يكون فن الكهانة قد ~~بلغ الغاية من الإتقان، وقد أصبح أهله أساتذة مبرزين في اللعب بالحواس والعقول ~~والسيطرة على الضمائر والأخلاد، بل لا جرم تكون لهم قدرة على ذلك يلعبون بها ~~حتى بالعلم الحديث ورجال العلم الحديث! ~~••• # الأستاذ «فرديناند أسندوسكي» عالم بولوني من علماء المعادن الذين أرسلتهم ~~الحكومة الروسية قبل ثلاثين سنة إلى بلاد الروسيا الآسيوية للاشتراك في بعثة ~~التنقيب عن المناجم ودرس ما يتصل بهذا الباب من شئون البحيرات والبقاع في تلك ~~البلاد، ثم قضت عليه الشيوعية في سنة 1920 أن يعود إلى مواطن بحثه الأولى؛ ~~هاربا بحياته متخفيا بين غدرات الطبيعة والناس، ملاقيا الموت في ألف طريق ~~محتالا ms525 عليه بألف حيلة، حتى ليخيل إلى من يقرؤه أنه يقرأ قصة السندباد وهو ~~ينجو من أخطار البحر ليقع في أخطار البر ويفلت من مخالب الرخاخ ليسقط بين براثن ~~السباع، وإنما الفرق بين أعاجيب السندباد وأعاجيب الأستاذ أنك تقرأ في الأولى ~~ما لا تصدقه، وتقرأ في الثانية ما هو خليق بالتصديق والأعاجيب التي تصدقها أعجب ~~من تلك التي لا تصدقها وإن خيل إلى أناس أن الأمر على الخلاف، إذ لا غرابة ولا ~~مشقة في تصورك ما لا يكون، ولكن الغرابة كلها في الشيء الكائن الذي يلقاه إنسان ~~مثلك، وتلقاه أنت لو كنت في موضع ذلك الإنسان، فهذه هي الأعاجيب حق الأعاجيب، ~~ومن أعجبها وأهولها قصة الأستاذ أسندوسكي، الذي عاش في مهربه كما تعيش الأوابد، ~~بل عاش على قنص الأوابد من الأرض والماء والهواء، ولقي في جولاته قديمها ~~وحديثها أناسا أكلوا زملاءهم في الطريق من سعار الجوع وضراوة التأبد في ~~القفار، وأوى إلى الغيران بين الوحوش يتربص بها ليأكلها وتتربص به لتأكله ريثما ~~يذوب الثلج المحيط به من كل مسلك، فلما أذن الثلج بالذوبان؛ إذا بالرعود ~~القاصفة يجلجل بها الماء الذي كان محبوسا في القيعان فانطلق لا يلوي على شيء ~~بما يجترف من الغابات والجثث والأنقاض، وإذا بالسجين الآدمي الذي أطلقه الربيع ~~كما أطلق الماء الحبيس حائرا متحذرا يهاب من الآدميين ما لم يهبه من السباع ~~والهوام، وإذا بالمآزق تنفرج له عن مثلها والمتالف تدفع به إلى شر منها، فلا ~~يسلم من ريب أهل البلاد إلا لتقذف به الطريق إلى أعدائه الراصدين له بكل مرصد، ~~ولا يجد الخيل للرحلة إلا ليفضي بها إلى أصقاع لا تطرقها الخيل، ثم لا يستعيض ~~منها بالإبل حتى تخذله الإبل في بعض المصاعد والدروب، ثم لا يطمئن إلى المطايا ~~حتى يحرن الدليل مخافة الشيطان الرابض في المفازة التي لا يجوزها من يسالم ذلك ~~الشيطان، ولا يتصدى لحربه في عقر داره! وإذا نفعه العلم في مكان فهو وشيك أن ~~يرديه في مكان آخر، فهو ها هنا ناصح خبير ms526 يمني الأماني ويتحدث بالكنوز ~~والثروات، وهو ها هنا مطالب بأن يشفي المرضى ويصنع المعجزات لأنه عالم قدير، ~~والعالم القدير لن يخفى عليه شيء ألا أن يكون بخيلا بعلمه أو مضمر السوء، ~~وهكذا مما ليس يتخيله وليس يحيط به إلا من قرأ قصة الرجل في كتابيه اللذين ~~كتبهما عن رحلته القديمة والحديثة، وتخللهما بالوصف الجميل لكل ما شهد من محاسن ~~الطبيعة وأهوالها وعقائد الناس وتواريخهم، مما يندر مثله في نوادر الخيال ~~وتلفيقات الأكاذيب. ~~••• # كان لا بد للأستاذ أسندوسكي أن يغشى المعابد في تلك الرحلات المروعة، وأن ~~يستجير بكهانها ومريديها، وأن ينفذ إلى بعض دخائلها ويطلع على بعض أسرارها، ~~ولكنه مع كل علمه الحديث وخبرته الواسعة وشكوكه في الديانات لم يسلم من سلطان ~~أولئك الكهان، ولم يكن شأنه معهم في إيرائه ما يريدون أن يراه، وإيهامه ما ~~يريدون أن يتوهمه إلا كشأن أجهل الجهال من رحل البادية المنقطعين عن العمار، ~~وخرج من آسيا حين خرج وهو نصف مؤمن بعقائدها الروحية بل بخرافاتها الموروثة ~~التي كان يخشع لها وهو قد يعلم أسبابها ولا يخفى عليه تعليلها. # حدث عن أحد هؤلاء الكهان أو اللامات المعروف باسم «شجون لاما» فقال: «إنه كانت ~~له الزعامة على جميع القبائل الرحالة في منغوليا الغربية وزنجاريا، وكان يبسط ~~سلطانه حتى على القبائل المنغولية في تركستان، وله جاه لا يغالب بفضل ما له من ~~الهيمنة على أسرار العلم الباطني كما يسميه، وسمعت أن جاهه هذا قائم كذلك على ~~الفزع الذي يداخل المنغوليين منه؛ إذ لا يخالفه أحد إلا هلك، وكنت معه والريح ~~تصفر وتزأر حول خيمته وترمي بالثلج عليها وأصداء الطبيعة تختلط بما يشبه الصريخ ~~والإعوال والقهقهة من جميع الجوانب، فشعرت أنها بيئة لا يصعب فيها إرهاب البدوي ~~الجوالة بالمعجزات، لأن الطبيعة نفسها قد هيأت لها دواعيها، وما كاد يسنح لي ~~هذا الخاطر حتى رفع «شجون لاما» رأسه على حين فجأة ونظر إلي نظرة نافذة وهو ~~يقول: «إن في الطبيعة لكثيرا من المجهول وإن البراعة في استخدام هذا المجهول ~~هي ms527 التي تجيء بالمعجزة الخارقة، ولكنها قوة لا يمنحها إلا القليل وسأريكها ~~الآن، ولك - بعد - أن تخبرني هل رأيت أنت شرواها أو لم تره قبل الآن.» ثم وثب ~~وشمر عن ساعديه وقبض على مديته ودلف إلى الراعي وناداه آمرا «ميشيك! قف». فلما ~~وقف الراعي أسرع اللاما بفك أزرار قميصه وعرى صدره، وإني لأسأل نفسي ماذا عسى ~~أن يصنع اللاما إذ به يدفع مديته بكل ما أوتي من قوة في صدر الرجل، وإذا الرجل ~~صريع يهوي على الأرض متخبطا في دمه فيطفو شؤبوب من الدم على رداء الحرير ~~الأصفر الذي كان يلبسه اللاما، فصحت به: ماذا فعلت؟ فهمس قائلا: صه. لا تتحرك! ~~وأدار لي وجهه ممتقعا شديد الامتقاع، ثم فتح صدر الراعي المنغولي ببضع ضربات ~~فرأيت رئتيه تتنفسان نفسا هادئا، والقلب ينبض نبضه المعدود، ولمس اللاما هذه ~~الأعضاء فانقطع تفجر الدم ولاح وجه الراعي على أتم هدوء، وأخذ اللاما بفتح بطنه ~~فأغمضت عيني فزعا، ثم فتحتهما بعد هنيهة فكانت دهشتي أعظم وأدهى حين رأيت ~~الراعي نائما وقميصه مفكوكا وصدره سليما وهو راقد على جنبه واللاما جالس ~~ساكن الجأش إلى جانب الموقد يدخن بيبته في تفكير عميق.» # قال الدكتور أسندوسكي: فعلمت أنني أخذت بقدرة اللاما المغناطيسية، وآثرت ذلك ~~على أن أرى المنغولي المسكين يموت؛ لأنني لم أكن لأصدق أن اللاما قادر على أن ~~يعيد ضحاياه إلى الحياة بعد أن يمزق أبدانهم ذلك التمزيق. ~~••• # وليس من الصعب على ما يظهر أن يؤخذ الأوربيون المتعلمون بقدرة اللامات ~~المغناطيسية ويقعوا في أسر سلطانهم الروحي، فيؤمنوا بوحيهم أوثق الإيمان، فقد ~~روى الدكتور «أسندوسكي» عن قائد روسي من أعداء الشيوعيين اسمه «يونجرن» مطلع ~~على الفلسفة والأدب غريب الأطوار، كان في بلاد المغول وكان يستنبئ الحبر الأعظم ~~عن كل شيء، ويعتقد أن خلاص العالم من بلائه سوف يكون على أيدي البوذيين. # وإلى هنا لا عجب أو العجب قليل، ولكن العجيب في الأمر أن يسأل هذا القائد الحبر ~~الأعظم عن مصيره فينبئه أنه سينتهي بعد مائة وثلاثين خطوة، فيكون ما ms528 أنبأ به ~~الحبر الأعظم، ويقول الأستاذ في ذاك: «بعد نحو مائة وثلاثين يوما وقع البارون ~~«يونجرن» في أسر البلاشفة بخيانة ضابطه، فنفذ فيه حكم الموت في نهاية شهر ~~سبتمبر.» # ولا يحسبن القارئ أن العالم الذكي الذي يكتب هذا مخدوع في قداسة الحبر الأعظم ~~أو أنه لا يعرف عنه ما يضعف الإيمان بالقداسة، فهو يقص عليك أن هذا الحبر يلهو، ~~ويسكر، ويقامر، وأنه عمي من فرط المعاقرة وهم أطباؤه أن يسموه كما يفعلون ~~أحيانا حين تقضي مصلحة الديانة بتنصيب حبر جديد، ولكنها ملكة السحر على ما نرى ~~قد بلغت تمامها بعدما توارثها الأحبار أجيالا بعد أجيال، وأحاطتها الطبيعة ~~بالمهيئات الكثيرة، وسرت عدوى التصديق بها من الأهلين إلى الغرباء. # وماذا يصنع الأستاذ «أسندوسكي» في بلاد تغلبه عقائدها، بل تغلبه خرافاتها فيرجع ~~عنها وهو بين ضاحك وناقم وهازئ من الخرافة وهازئ من نفسه في آن؟ لقد حدثوه عن ~~قبر «إبك خان» ولعنته ونقمة صاحبه على الدنيا، وحدثوه عن المصورين الذين حاولوا ~~أن يصوروه فولوا عنه فزعين، فتاقت نفسه إلى تصويره فلم يكن بأسعد حظا من ~~أولئك المصورين المزعومين، أما في المرة الأولى فقد نظر إلى زجاج الآلة الشمسية ~~فلم ينظر عليه من آثر، فعاود الكرة فإذا الزجاج خلو من كل أثر كما كان في المرة ~~الأولى، فعلل ذلك باعتراض تلك الأشعة التي يتفق في بعض الفلتات النادرة أن تمنع ~~موجات النور التي يسمونها بالميتة أن تترك أثرا على صفحات الزجاج، وأما في ~~المرة الثانية فقد انكسرت به وبزميله المركبة وتهشمت الآلة الشمسية وقفل من ~~جولته غير مصدق بالنجاة، وكل ذلك لأن صاحب القبر «إبك خان» كان أميرا على ذلك ~~المكان فخانه بعض أوليائه، وأعان عليه «جنكيز خان» فخرب بلاده وقتله بعد أن قتل ~~ابنه، فلعن الدنيا والناس، وقال وهو يساق إلى الموت: «إنني أمقت كل إنسان وأمقت ~~كل موجود، وويل لمن يأخذ من ناحية قبري شيئا فإنني منتقم منه، وستبقى روحي ~~حائمة ها هنا كأنها ضباب الخريف.» # تلك هي اللعنة التي حرمت على ms529 كل إنسان أن يأخذ شيئا من قبر الأمير المنكوب، ~~وحرمت حتى على النور أن يلقي ظلا لذلك القبر على زجاج التصوير! ~~••• # عاد أسندوسكي إلى وطنه واشتغل بالتدريس في جامعاته وبالكتابة في مواضيع شتى من ~~العلم والأدب، وظهر له هذان الكتابان في موضوع رحلته هذه، وهما كتاب «البهم ~~والناس والأرباب» وكتاب «الإنسان والأسرار في آسيا»، فترجما إلى لغات كثيرة ~~وقرأنا أولهما فشاقنا إلى قراءة الثاني فخرجنا منهما معا بخلاصتين: إحداهما أن ~~مخاوف الطبيعة قد خيمت على عقول الآسيويين وضاعفت اللامات والسحرة فعلها في تلك ~~العقول، وأساءوا توجيهها عامدين أو غير عامدين، ولكنهم - أي الآسيويين - قد ~~ظفروا من كل ذلك بقوة روحية لا يستهان بها إذا نهضت شعوبهم، واتخذوا من ~~روحياتهم مددا للأخلاق والحوافز النفسية وعوامل الرجاء، ورب يوم يحمد فيه ~~القوم تلك القوة الخفية، بعد أن كان منها ما يستوجب المذمة إلى هذا ~~الزمان. # والخلاصة الأخرى أن معاشرة الطبيعة على كثب قد نبهت فطرة بعض الشعوب الآسيوية ~~في بعض الأمور فتفوقت فيها على الغربيين المتحضرين لاضطرار أبنائها إلى مراقبة ~~الأجواء ورياضة الأوابد والاحتيال على اصطيادها، ودراسة عاداتها وضبط النفس في ~~محاربتها وغير ذلك من ضروب للفروسية أهملتها الحضارة الحديثة حتى كلت في ~~أبنائها حواس الفطرة التي قد تعوضنا عنها العلوم معرفة وصناعة، ولكنها لن ~~تعوضنا عنها من مادة الحياة، فإذا كان للحضارة ما تعلمنا إياه، فللبداوة أن ~~تعلمنا كثيرا من علوم الفطرة الصادقة، والفراسة المتيقظة ، وما حاجتنا إليهما ~~بأقل من حاجتنا إلى المعارف والصناعات. # | مع بافلوفا حول الدنيا # لو كان للجسد نعيم! ولو كان للجسد سماء! # إذن لكان الراقصون والراقصات هم الأبرار المقربين في ذلك النعيم، وهم الملائكة ~~الكروبيين في تلك السماء. # لأن الراقصين والراقصات يتقشفون كما يتقشف الزهاد والنساك، ويتعبدون كما يتعبد ~~الصوامون القوامون، يتركون كثيرا من الطعام والشراب وكثيرا من الراحة والعيش ~~الرغيد قياما بفرائض الجسد، وخوفا عليه من عوارض السمنة وصلابة الأوصال، ~~ويسهرون ويتهجدون ويروضون أنفسهم رياضة لا يقوى عليها إلا الصابرون، فلهم ~~شعائرهم التي يرعون أحكامها، ولهم ms530 تجاربهم التي يمتحنون بها ثم لا نراهم ~~يحسبون في الناسكين ولا في المتقشفين! # ولكن أهو الجسد الذي يخدمه الراقصون والراقصات؟ أهي هذه المادة الكثيفة التي ~~يدين بها هؤلاء الذين يروضون أجسامهم على مطاوعة أفكارهم وأرواحهم، وترجمة ~~العميق الرشيق من أحلامهم وأذواقهم؟ ألأجل الجسد تسام البنية الخضوع والإذعان ~~حتى يكاد يكون وجودها لاحقا لحركات الأفكار وأنغام الخواطر؟ ألأجل الجسد يصبح ~~الجسد روحا هافيا ومعنى مترددا لولا أنه يبدو للعيون ويلمس بالأيدي لكان ~~إدراكه بالبديهة أحجى وتصوره بالخيال أكمل وأولى؟ لا! لغير اللحم والعظام يصبح ~~الجسد روحا ومعنى، وتصبح الحركة جمالا والأعضاء عنوانا للقريحة، نترجم عنها ~~كما يترجم الموسيقي عن نفسه بالنغم، وكما يترجم الشاعر عن خياله بالكلمات ~~والأوزان، فالرقص - ولا نعني هنا إلا الرقص الشريف - رياضة روحية ومغالبة للأرض ~~والجاذبية، وهو إخضاع للمادة الكثيفة وليس مطاوعة لها ومجاراة لنزواتها، فهو ~~انتصار للروح على البدن وتسخير للضروريات في سبيل الجمال، وهيمنة للحركة ~~والنظام على الجمود والارتباك، وغير عجيب أن نرى الناس يعبرون عن هذا المعنى ~~ببداهتهم الخفية حين يقولون عن الرجل الذي يترنح في العبادة إن روحا عاليا ~~يملكه ويستولي على جوارحه، أو يقولون عنه إذا تخبط واضطرب في صرعاته إن روحا ~~شريرا يعذبه ويستبد بأمره، فهم لا يرون الجسد هنا إلا مسوقا مغلوبا، ولا ~~يتوهمون السلطان له فيما يفعل، وإنما يتوهمونه منقادا لسلطان غيره ويفرضون أن ~~ذلك «الغير» هو روح من عالم الخير، أو من عالم الشر كما تكون الحركة إلى انتظام ~~أو إلى اضطراب، وفي هذه البداهة ما في كل بداهة من النفاذ إلى الحقائق التي لا ~~يحدها الفكر لأول وهلة، ولا تستجلي منها الحواس إلا الظواهر والأعراض. # كانت «أنا بافلوفا» الراقصة المشهورة ترقص في لندن فاستطارت ألباب النظارة ~~بفنها البديع، وقدرتها الرائعة وخفة جسمها التي تسابق الضمائر، وتساجل القرائح، ~~وتنسي الإنسان ركود الأبدان على أديم الأرض، بما ترسل من أحلامه في أجواء ~~الحركة الحرة والنسق الطليق، ثم خرجت من المسرح فلقيتها امرأة تحمل طفلها، ~~واندفعت إليها تقول لها في ms531 لهفة المأخوذ: «أتوسل إليك أن تلمسي طفلي!» فكان ~~لهذه التحية في نفس بافلوفا أبلغ أثر تذكره بين أفخر ما لقيته من تحيات الأمم ~~وشهادات الدول والعروش. كأنما ارتفع بها الفن إلى منزلة القداسة في قلب تلك ~~المرأة الطيبة التي التمست عندها البركة لوليدها الصغير. # وكأنما وقع في وهم تلك المرأة أن الجسم الذي يبدع هذا الإبداع المعجز، لا يخلو ~~من سر ولا تخلو ملامسته من كرامة، فهو سربال قدرة ميمونة تبتغى عندها المعجزات ~~والأعاجيب، ولم لا يكون من تلك المعجزات والأعاجيب شفاء الأطفال الأبرياء إن ~~كانوا في حاجة إلى الشفاء أو استجابة ما يرجى لهم من الرحمة إن كانوا في حاجة ~~إلى مجاب الدعاء؟ منطق لا يروق أرسطو، ولكنه يروق الطبيعة الإنسانية وهي أصدق ~~من جميع المناطقة الكبار والصغار! وكأنما تؤمن الراقصة العظيمة بهذه الخرافة ~~ولا تستغربها، فهي تقول حين تكلمت عنها مع رئيس فرقتها الموسيقية: «إن الحياة ~~لعجيبة، وإن دورات الزمن لأعجب، فكما كنت أنا أنتظر في برد الشتاء القارس على ~~أبواب الملعب الكبير في بطرسبرج ريثما تخرج الراقصة «دوز» وأتوسل إليها أن ~~تلمسني في طريقها، كذلك جاءتني هذه المرأة في كبة الزحام لألمس لها وليدها.» ~~فليست الكاهنة العظمى إذن بأقل من سواد العباد إيمانا بذلك السر الذي جعلها ~~أنا بافلوفا، وجعل لها تلك الكرامة وتلك البركة في قلوب المؤمنين ~~والمؤمنات! # ومع هذا ألم يكن الرقص شعيرة من شعائر الأديان القديمة أكثرها إن لم نقل جميعها ~~بغير استثناء؟ أليس له بقية باقية إلى اليوم في أذكار الدراويش وإخوان الطريق؟ ~~ألا يشاهد في كنيسة إشبيلية الكبرى إلى اليوم في بعض الأعياد الدينية؟ فإذا نحن ~~جمعنا بين الرقص والتقشف فالتهكم هنا غير كثير، والتناقض بين الأمرين لا يراه ~~إلا الذين يقصرون فنون الرقص على اللهو والمجون واستثارة الشهوات التي لا ~~ملاءمة بينها وبين الروحيات ومطالب الكمال، وما نظن أمثال هؤلاء هم الحكم في ~~شئون العبادة أو في شئون الجمال، بل نراهم أحوج إلى تقويم فهمهم لحركات الأرواح ~~والأجسام، وإقصاء ذكرى المراقص ms532 الشائنة من أذهانهم حين يسمعون عن الرقص كأنه ~~رياضة نفسية تتلبس بها الأعضاء كما تتلبس الخيالات الرفيعة بالأشكال ~~والتماثيل. # مع بافلوفا حول الدنيا عنوان هذا المقال، هو عنوان كتاب وضعه الأستاذ الموسيقي ~~«تيوديور ستير» الذي صاحب الراقصة العظيمة في رحلاتها الطويلة بين الغرب والشرق ~~والشمال والجنوب، وهو الكتاب الذي استدعى في خلدي هذه الخاطرة وأنا أقلب صفحاته ~~وأتنقل فيه من طرفة إلى طرفة، ومن فكاهة إلى عبرة، ومن وصف اجتماعي ممتع إلى ~~وصف فني أمتع، وناهيك بما يدونه رجل ألمعي من رحلات طوال تخللت أوربا وأمريكا ~~وآسيا وأفريقيا، وجاس بها صاحبها بين جميع الطبقات، من قصور الملوك والعظماء ~~إلى ملاعب النظارة المفتوحة لجميع الطراق، وعاشر في أثنائها نماذج من أبناء ~~الفنون وبناتها، لا تنقضي غرائبها، ولا تشبه في جملة خصالها ما يعهده الناس في ~~جملة الرجال والنساء، فهو كتاب لا تخطئ فيه الطلاوة قبل كل شيء، ثم لا تخطئ فيه ~~الفائدة التي قل أن تجدها في الكتب المخصصة للفوائد من العنوان إلى ~~الختام. # أول عبرة من عبر هذه الكتاب أن يتسع التأليف الغربي لكتابة سفر ليس بالصغير في ~~رحلات موسيقي مع راقصة. يا للصبيانية! يا للإسراف! أهكذا يفرغ هؤلاء الغربيون ~~لهذه الصغائر التي لا تليق بالسمت الوقور! # تمثلت وأنا أقرأ عنوان هذا الكتاب على رف المكتبة وجيها من وجهائنا، أو عالما ~~من علمائنا يتصفح الرف ويقع على هذه العنوان، وتمثلت انقباض أساريره وهو يتأفف ~~من هذا السفساف، ويطوى الكشح عن هذا الصغار. أوتكتب التراجم والسير لغير ~~أصحاب الألقاب والشارات؟ إن هؤلاء الغربيين لحمقى لا يتوقرون، وإنهم لثراثرة ~~والله لا يتورعون عن كلام! ما بافلوفا وما رحلاتها؟ وماذا يستفيد القارئ من ~~رؤيتها أو من وصف من يرونها في آفاق الأرض وفي ملاعب المتبطلين؟ # كذلك لا ريب يتحدث وجيهنا أو عالمنا إلى نفسه وهو يتصفح الرف ويطلع على عنوان ~~الكتاب، وقد يستحق الكتاب الشراء والقراءة لإغاظة هذا الوقار المضحك إن لم ~~يستحق الشراء والقراءة لغير ذلك! وهو يستحقهما لعدة أشياء. # أحسب أن ms533 التراجم والسير لا تكتب إلا لتوسيع أفق الحياة وتعديد جوانب الشعور، ~~فأنت إذا وضعت أمامك عشرة آلاف إنسان في صف واحد، فكن على ثقة أن واحدا منهم ~~لا يخلو من مزية معدومة في الآخرين، أو موجودة فيهم على اختلاف في خصلة من ~~الخصال، وكن على ثقة أنك إذا استطعت أن تتخيل هذه المزايا بألوانها وتنويعاتها، ~~فقد استطعت أن تستوعب لنفسك عشرة آلاف حياة، وأن تبسط عمرك على هذا النحو إلى ~~آلاف السنين، فلأجل هذا تقرأ كتب التراجم والسير وتقرأ القصص والروايات، وتشاهد ~~الشخوص في المسارح، وفي السياحات، وفي كل مكان. # وكلما كانت الترجمة أغرب كانت أتم للغرض المقصود بكتابة التراجم، وأعون على ~~توسيع جوانب الحياة، فلو استطاع كاتب أن يصور لنا سيرة النبات - فضلا عن سيرة ~~الأحياء وفضلا عن سيرة الناس، وفضلا عن سيرة العظماء والعظيمات من الناس - ~~لكان هذا أبلغ في أداء غرض الترجمة من كتابة أخبار الفاتحين وذوي المظاهر؛ لأنه ~~يمد الحياة الإنسانية حتى تشمل أبعد الكائنات الحية عن مشابهتها، وهي الأشجار ~~والأغراس، فلا يخطئ الذي يكتب الأسفار عن امرأة قد أخذت من إعجاب الناس بأوفى ~~نصيب، وعلمتهم أن للجسم مكانا يرتفع إلى سماء الروح، بل كثير أن نقول «لا ~~يخطئ» عمن يكتب في هذا الباب وهو المصيب الذي لا غرابة في عمله في غير عرف ~~الوقار البليد، وقار العجماوات، أكرم الله السامعين. # وقد نعود إلى اختيار نبذ من هذه الرحلة الممتعة في مقال آخر؛ ولكننا نجتزئ الآن ~~نبذة عن مصر التي زارتها أنا بافلوفا مرتين؛ لأن في هذه النبذة استكشافا ~~جديدا عند بعض الناس الذين يكشفون للأمة غطاء المجهول! # قال الأستاذ ستير: «كان معظم النظارة من المصريين، وكان النساء يجلسن في مقاصير ~~معزولة عن الرجال يكاد يغمرهن اللباس الأسود، ولا يسفر من وراء براقعهن إلا ~~العيون، ومن هذه العيون بدت لي عينان اثنتان على الأقل لم يكن لي معهما قرار. ~~فقد لمحت في المقاصير القريبة مني امرأة لا أقول عن أثر عينيها الثاقبتين في ~~روعي إلا أنه ms534 كان ضربا من التنويم والتخدير، ولا أعرف كيف كان هذا، ولا أذكر ~~إلا أن النور الذي ينبهني إلى ابتداء العزف قد أومض أربع مرات واحدة بعد واحدة ~~قبل أن أفيق لنفسي وأدري بما حولي. بل لقد نسيت حتى بعد هذه اليقظة فاتحة الدور ~~الذي كانوا يحسبون أنني أديره!» # والأستاذ ستير الذي يقول هذا هو الرجل الذي رأى العيون في خمسين عاصمة من عواصم ~~الحضارة أو تزيد، ففي كلامه ولا ريب كشف جديد للناظرين! نعم، في كلامه كشف جديد ~~لحضرات الشعراء الذين يكشفون لهذه الأمة غطاء المجهول ولما يبصروا - وقد لا ~~يبصرون أبدا - أن في مصر عيونا يتغزل بها المتغزلون وتغنيهم عن الرحلة إلى ~~الرصافة وبوادي تهامة للتنقيب فيها عن المها والغزلان، ولا يشعرون - وهم ~~الشعراء - بالعين الجميلة إلا إذا حملقت لهم في قصيدة بدوية من وراء ألف ~~عام. # | فورد الفيلسوف # هب أيها القارئ أن رجلا يملك مائة مليون جنيه أعلن الناس أنه افتتح مستشفى ~~لعلاج المرضى، وأنه هو سيعالجهم فيه بعلمه وخبرته وكفاءته الطبية التي خلاصتها ~~كلها أنه يملك مائة مليون! # أو هب أيها القارئ أنه افتتح مطعما وأعلن الناس أنه يبيعهم فيه ما يطهوه بيديه ~~ويبتكره من صنوف الطعام بتلك الكفاءة المطبخية التي خلاصتها أيضا أنه يملك ~~مائة مليون. هب أيها القارئ هذا أو ذاك فهل تظن أحدا يجازف بصحته أو بمعدته ~~ليعلم كيف يداوي المريض أو يطعم الجائع من كان في حوزته مائة مليون من ~~الجنيهات؟ هل ترى أحدا يسول له الفضول أن يجرب في نفسه كيف يشفيه أو كيف يغذيه ~~من ليس له علم بأسباب الشفاء ولا علم بأصناف الغذاء؟ # ربما ... # ولا ضرر من «ربما» على كل حال، ولكنك تستطيع أن تجزم جزما لا «ربما» فيه أن ~~الذين يفعلون ذلك لن يكونوا إلا من أصحاب الأطوار الغريبة والأمزجة التي لا ~~يقاس عليها بين سواد الناس، فهم من قبيل أولئك الذين يجربون النافع والضار في ~~أنفسهم؛ لأنهم ينشدون الاستطلاع بأي ثمن من مال أو صحة أو حياة، وليس ms535 هؤلاء بين ~~خلق الله بالعدد الكثير. # لكن هب أن صاحب الملايين أعلن الناس أنه ألف لهم كتابا في الفلسفة، سواء أكان ~~في الفلسفة عامة أم في فلسفته هو خاصة، وأنه عرضه للبيع ونزل به مع المؤلفين في ~~ميدان التأليف والنشر، فكم ألفا يبيع من هذا الكتاب وكم قارئا يقبل على ~~مطالعته من طلاب الفلسفة وممن لا يطلبونها ولا يطيقون اسمها بالسماع؟ # كم ألفا يقرءون ذلك الكتاب؟ # لا أسألك الدقة في العدد ولا أنوي أن أجعل لك جائزة على إصابة العدد الصحيح، ~~فلك أن تقول عشرون ألفا ولك أن تقول مائة ألف، ولكنك لن تنزل بالعدد عن هذا ~~المقدار فيما أظن، ولا سيما إذا علمت أن المؤلف من الأمريكيين وأن مصنفه يكتب ~~باللغة الإنجليزية. # فما سر هذا الاختلاف في نظر الناس بين معالجة الفلسفة ومعالجة المرضى وطهو ~~الطعام؟ هل الفلسفة في نظرهم أسهل من الطب وأقرب منالا من الطبخ أو من كل ~~صناعة يستعد لها بالفطرة والتدريب؟ وهل كل صاحب ثروة مستطيع أن يكون فيلسوفا ~~لأنه ملك الملايين، ولكنه غير مستطيع أن يطبخ صنفا من الخضر ولو كان قد ملك ~~تلك الملايين؟ # لا! لا إخال أحدا من الناس يذهب إلى ذلك حين يضع يده في جيبه ليشتري الكتاب ~~ويزيد بجملة أثمانه ثروة الغني الكبير، ولا هو يعنيه هل الكاتب فيلسوف أو غير ~~فيلسوف؟ وهل هو ممن يحسنون الكتابة أو ممن لا يحسنون؟ ولكنه يشتري الكتاب ~~راضيا ويقرؤه وهو لا يبالي أخرج منه بفلسفة أم بهراء لا طائل وراءه، بل لعله ~~لو كان على يقين أنه سيظفر منه بالفلسفة الصحيحة لما جشم نفسه عناء الاطلاع ~~عليه، فهو يقرؤه لأن المال ينقل أصحابه إلى عالم من السحر والفتنة يخيل إليه ~~أنه مختلف عن هذا العالم الذي يعيش فيه، وهو يريد أن يستطلع ذلك العالم بكل ما ~~فيه من كمال ونقص، ومن فهم وسخف، ومن حقيقة وباطل، بل يقرؤه وهو راض غير مستضيع ~~لدراهمه لو خرج منه على أن مؤلفه أسخف السخفاء وأبطل المبطلين ms536، فإن تسخيف رجل ~~عنده مائة مليون شيء يستحق في ذاته بضعة دراهم تدفع في ثمن كتاب! وربما كان ~~تسخيفه أولى بالثمن من الإعجاب بفلسفته؛ لأن الدنيا لا تحتاج من صاحب الملايين ~~أن يكون فيلسوفا ولا من الفيلسوف أن يكون صاحب ملايين. # وأحسب أن الناس على حق في التفريق بين علاج المرضى وطهو الطعام وكتابة الفلسفة ~~على هذا الاعتبار، فالذي يبخل ببضعة دراهم على صحفة يطبخها «فورد» أو «روكفلر» ~~ويشترط عليه أن يأكلها كما يأكل الطعام الشهي السائغ، لا نحسبه مخطئا في بخله ~~بدراهمه القليلة، وكذلك الذي يبخل بمثل تلك الدراهم أو بضعفها أو ضعفيها على ~~الطبيب فورد والطبيب روكفلر لا يكون من المخطئين في هذا التقتير، ولكن الذي ~~يأبى شراء كتاب فلسفي يكتبه أحد هذين مخطئ ولا ريب في حق الفلسفة وفي حق ~~الاستطلاع؛ لأنه يستفيد من الكتاب على الوجهين ويعرف منه ما يصح أن يعرف، سواء ~~أكان علما أم جهلا، وكلاما يستحق الاطلاع أم كلاما لا يستحق الاطلاع، وماذا ~~عليه أن يتفرج ببضعة دراهم على السخافة التي تشهرها في أرجاء الدنيا مائة مليون ~~من الجنيهات؟ # لا أقول ذلك تعزية لنفسي على شراء الكتاب، فقد يحسن أن أسرع فأنهي إلى القارئ ~~أنني حمدت شراءه ووجدته أطيب وأصدق من بعض المؤلفات التي لا عمل لأصحابها غير ~~التأليف، ولكنني أقوله لأنه هو الباعث لي على تصفح الكتاب حين لمحت عنوانه، ولو ~~أنني قرأت في موضعه «فلسفة متسول» لا «فلسفة فورد في الصناعة» لشريته للسبب ~~عينه، ووثقت أنني لا أضع الثمن في غير موضعه؛ لأن ما فيه لا محالة مادة قراءة ~~ولو لم يكن كاتبه بالكاتب المجيد. # أما الكتاب فهو كما قد عرف القارئ كتاب «فلسفتي في الصناعة» لمؤلفه «هنري فورد» ~~صاحب السيارات المشهورة، وأما موضوعه فظاهر، ولكني لا أحسب القارئ يتخيل أن ~~الفيلسوف هنري فورد يمتد بأفق الصناعة إلى ذلك الشأو الذي مدها إليه، وأي شأو؟ ~~إنه يريد أن يطبق الصناعة على حياة بني الإنسان! # قال: «إن مسألة الطعام من أخطر المسائل ms537 التي علينا أن نتوفر على علاجها، وكلما ~~انقضى يوم ازددت إيمانا بأننا مكلفون أن نزيد الوقت الذي ننفقه في درس مسألة ~~الطعام وكيف يؤكل، فأكثرنا يأكلون فوق ما يحتاجون إليه وكلنا يأكل غير الصنف ~~الذي يصلح له في غير الوقت الذي يناسبه ثم ينتهي به الأمر إلى الألم والشكوى، ~~نعم إن متوسط السن التي يعمرها الناس قد تضاعف في نصف القرن الأخير ولكني على ~~يقين من أننا مهتدون يوما إلى وسيلة نرم بها جسم الإنسان حتى يطول أجله من ~~الاستمتاع بالصحة والنشاط والذكاء. خذ مثلا «أديسون» فإنه الآن لعلى مثل ما ~~كان عليه من يقظة الذهن في كل أوقات حياته، وكل ما لدينا من الأسباب خليق أن ~~يؤكد لنا أننا سنقدر على تجديد أجسامنا على النمط الذي نجدد به عوار المراجل ~~البخارية، فقبل زمن غير بعيد كنا نطرح مراجلنا جانبا لأن الصدأ يوهي سطوحها في ~~بعض المواضع، فما هو إلا يسير من الدرس في هذه المسألة حتى اهتدينا إلى وسيلة ~~لرمها ترد القديم منها كالجديد وتعيده إلى العمل أقوى مما كان أول مرة، والذي ~~نريد أن نصل إليه هو أننا إذا وفينا التفكير حقه في هذه الوجهة فلا ندري لماذا ~~لا نقدر على مثل ذلك في رم جسم الإنسان، فلا قانون يمنعه ولا حائل يحول دونه، ~~وليست المسألة الكبرى هنا إلا أن تتوجه نية الناس إلى هذه الوجهة وأن تصحح ~~الرغبة في الاستفادة من كل ما يؤدي إلى ذلك بعد علمه.» # هذه إحدى حكم الكتاب، فهل هي قليلة الغناء في حياة الفرد أو في حياة بني ~~الإنسان كافة؟ إننا لعلى يقين من تقصير الناس في هذه الوجهة، وأنهم لا ينفقون ~~من وقتهم ولا من علمهم وعملهم في تهذيب الطعام عشر ما يجب عليهم جميعا أن ~~ينفقوه، ومن استخف بهذا الأمر وظن به السهولة والاستغناء عن الدرس والتجربة ~~الطويلة، فليعلم أن تسعمائة وتسعة وتسعين في الألف من علماء الناس وجهلائهم ~~يعيشون ويموتون وهم لا يعلمون ماذا يأكلون وكيف ومتى يأكلون، وأنه ms538 إذا استطاع ~~إنسان باحث في هذا الموضوع أن يعرف في مدة عشرين سنة ماذا يأكل وكم يأكل وكيف ~~يأكل وفي أي وقت يكون ذلك؟ فأحسبه من أسعد السعداء المدعو لهم بالتوفيق. # ومن حكم الفيلسوف فورد قوله: «لجمع المال وسيلتان: إحداهما على حساب الآخرين، ~~والثانية بخدمة الآخرين، والأولى لا توجد المال ولا تخلق شيئا، وإنما هي تجلب ~~المال ولا تفلح في كل حين، ثم لا يكون الرابح فيها إلا من الخاسرين، وأما ~~الثانية فجزاؤها مضاعف والغنم فيها للآخذ والمعطي على السواء، وهي لا تأخذ ~~شيئا إلا إذا خلفت شيئا ثم هي لا تأخذ مع هذا إلا بمقدار، إذ ما من أحد له ~~الحق في كل شيء.» # وقد تسمع نغمة الاشتراكية من كلام هذا المليونير الكبير، إذ يقول: «ليس الذي ~~يثير الحرب وطنية الوطنيين ولا استهانة بني الإنسان بالموت في الذود عمن يحبون، ~~إنما يثيرها ذلك الوهم الذي وهمه القليلون وفهموا منه أن الحرب كلمة مرادفة ~~للغنيمة. هذا هو الذي يثير الحرب ولا يتاح له من دعاة السلم العدد الكفيل ~~بإظهاره وتصويب الحملة إليه، وحسبك أن ترى دعاة السلم سالمين وادعين؛ لتعلم ~~أنهم لا يصوبون الحملة إلى الصميم؛ إذ لو كانوا ينطقون بالحقيقة لما دللوهم كما ~~يدللونهم الآن ولا كان نصيبهم إلا نصيب شهداء الحق في كل زمان.» # وقس على ذلك سائر ما في هذا الكتاب الصغير مما يستكثر، والحق يقال على أدباء ~~أمريكا «الرسميين» في هذه الأيام، إلا أن صاحبنا فورد - وهو من رجال العمل - ~~يخطئ معظم الناس في فهم طبيعة النظريات ويحسب أن هناك نظريات تقال ولا يعمل ~~بها في حال من الأحوال، ومن قوله في هذا: «لا يعلم أحد ماذا كنا بالغيه من سوء ~~المنقلب لو أننا اتبعنا كل نظرية وكل داع من الدعاة يمنينا بالعصر ~~السعيد.» # فهل هناك في الواقع نظرية واحدة ظهرت في هذه الدنيا ولم تتبع حقها من ~~الاتباع؟ وهل هناك في الواقع نظرية واحدة ظهرت أو ستظهر بعد حين يحق لها أن ~~يتبعها جميع الناس ms539 في جميع الأحوال؟ إن النظريات لا توجد لتتبع كلها، ~~ويتبعها الناس كلهم وإلا ما كان اسمها النظريات، وهي كذلك لا توجد لتهمل كلها ~~ويهملها الناس كلهم وإلا لما كان لها قط وجود، وإنما النظريات في الذهن ~~كالطرائق والمسالك في المكان، فنحن لا نأخذ بنظرية واحدة ولا نسلك في شارع ~~واحد، وإذا رسمنا الدنيا العقلية أو الدنيا المكانية فنحن لا نرسم تلك بأقرب ~~النظريات وحدها ولا نرسم هذه بأقرب المسالك وحدها، ولكننا نرسم كل ما نراه ~~قريبه وبعيده وسهله ووعره عسى أن نسلك فيه بعض الأيام، وإن كنا لا نلتفت إليه ~~في أكثر الأيام، وما لي أسلك الطريق القريب وعندي فراغ من الوقت وبي حاجة إلى ~~الطواف مثلا والتنزه في الخلاء؟ إن القريب في هذه الحالة لن يكون من طلبتي ولا ~~سبب لذلك إلا أنه قريب! # فالنظريات لا تؤخذ جملة ولا ترفض جملة، ولا معنى لقسمتنا إياها إلى متبع في كل ~~حال ومهجور في كل حال، فليس في طرقات الفكر، ولا في طرقات المكان ما يقسم هذا ~~التقسيم، وهذه وتلك موجودة أبدا لا قديم في أصولها ولا حديث، ولكنها تسلك أو ~~تترك على حسب الأوقات والغايات. # | المطبعة والثقافة الشعبية # قد توجد الثقافة ولا مطبعة وقد توجد المطبعة ولا ثقافة. # هذا بعض الحقيقة، أما الحقيقة كلها فهي أن المطبعة قد تمنع الثقافة، فتكون في ~~منعها أشد قسوة وأصعب مراسا وأطول أمدا من الغشمة الأغبياء الذين يظهرون في ~~عصور الجهالة والركود وهم كارهون للعلم نافرون من الأدب، فيصدون الناس عنهما ~~ويقيمون من جدران السجون سدودا بين الشعوب وضروب الثقافة. # فالغاشم المستبد يقول للناس لا تتعلموا فلا يتعلمون إلى حين، وربما أغراهم ~~المنع بطلب العلم ومعالجة الخلاف أنفة من الطاعة العمياء. # أما المطبعة فلها طريقة أخرى في منع الثقافة الصحيحة وحرمان الشعوب من تداولها ~~والإقبال عليها، وطريقتها هي أن تنشر الرديء الغث فيقل الإقبال على الجيد ~~القيم، وهي تنشره باختيار الناس فلا يشعرون بغضاضة، ولا يتحفزون لمقاومة، ولعل ~~الذي يمنع الجيد والرديء ويغريك بالخلاف ms540 أرحم من الذي يمنعك الجيد ويعطيك ~~الرديء ولا يحرك من نفسك الرغبة في التبديل. ~~••• # تقرأ في كتب الأمم القديمة وأنت تخيل إلى نفسك أنك تقرأ أخبار أمم مسكينة ~~محرومة سبق بها سوء الحظ فلم تدرك عصرنا هذا الموفق السعيد: عصر المطبعة والكتب ~~والصحف والمقروءات التي تصدر من المطبعة للناس بالألوف وألوف الألوف، وماذا عسى ~~أن يبلغ إليه علم أناس حرموا هذه الآلة السحرية، أو حرموا حتى الكتابة، فلا ~~يعرفها منهم إلا فئة محدودة وعدد قليل! قصاراهم أن يتعلم أفرادهم بعض العلم ~~هنا وهناك، ثم يبقى جلهم في غيابة من الظلام يجهلون العلم، والعلم أشد بهم ~~جهلا. ويخرجون من المهد إلى اللحد، وما سمعوا بغير الطعام والشراب! # تخيل إلى نفسك ذلك وأنت تفتح كتب الأمم القديمة، ولكنك لا تلبث أن تقرأ فيها ~~حتى ترى أن هناك شعوبا مثقفة مشتركة في الأدب والمعرفة لا أفرادا معدودين هنا ~~وهناك ينحصر فيهم العلم ولا يتجاوزهم إلى الآخرين، شعوبا تروي الشعر، وتضرب ~~الأمثال، وتحفظ النوادر وأخبار الأيام ويعم فيها التثقف، فتلمح مخايله ~~وعلاماته في النساء والرجال والجنود المقاتلة والفقراء الساعين في أرزاقهم، مع ~~أريحية فيهم قل أن يقابلها عندنا إلا سماجة البلادة وقناعة الغرور. # وربما كانوا لا يقرءون ولا يكتبون، ولكنهم مثقفون قريبو الأذهان والسلائق من ~~فهم ما ينبغي فهمه والشعور بما يحسن الشعور به، وإذا كانت الثقافة غير الطباعة، ~~فهي كذلك غير الكتابة وغير القراءة: هي تأهب النفس للمعرفة، والإحساس بالسماع ~~والملاحظة والاعتبار، والأخذ بأسباب التهذيب واستكمال المروءة، وما الكتابة ~~والقراءة إلا بعض هذه الأسباب، نعم! وما الطباعة إلا أداة النشر والإذاعة، ~~ولكنها لا تضمن لك جودة المنشور المذاع. # من تلك الأخبار العجيبة في كتب الآداب العربية ما رواه صاحب الأغاني في ترجمة ~~جرير بعد العنعنة التي لا بد منها حيث يقول: ~~... بينا المهلب ذات يوم بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره ~~جلبة وصياحا، فقال: ما هذا؟ قالوا: جماعة من العرب تحاكموا إليك ~~في شيء، فأذن لهم. فقالوا: إنا اختلفنا في جرير ms541 والفرزدق، فكل فريق ~~منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر، وقد رضينا بحكم الأمير. # فقال: كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقان جلدتي! لا ~~أحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يهون عليه سؤال جرير وسؤال ~~الفرزدق، عليكم بالأزارقة؛ فإنهم قوم عرب يبصرون الشعر ويقولون فيه ~~الحق. # فلما كان الغد خرج عبيدة بين خلال اليشكري ودعا إلى المبارزة، فخرج ~~إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقا، فقال: يا عبيدة! سألتك ~~الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه. # قال: سل. # قال: أوتخبرني؟ قال: نعم إن كنت أعلمه. # قال: أجرير أشعر أم الفرزدق؟ # قال: قبحك الله! أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر؟ # قال: إنا تشاجرنا في ذلك ورضينا بك، فقال: من الذي يقول: # وطوى الطراد بطونهن كأنها # طي التجار بحضرموت ~~برودا # فقال: جرير! قال: هذا أشعر الرجلين. # إن الذين يعجبون حين يقرءون في كتب التاريخ الحديث أن الجنود الألمان كانوا ~~يتناقشون في جمهورية أفلاطون وهم ذاهبون إلى حرب السبعين لا يجدون مناقشتهم تلك ~~إلا دون هذه القصة في العجب، وأدنى منها إلى ما لا يجوز حدوثه، فإن جنودا تخرج ~~بعضهم في الجامعات وعاشوا في عصر المطبعة وفي السنة السبعين من القرن الثامن ~~عشر: قرن الثقافة والنهضة كما نقول، هم عسيون أن يتكلموا فيما بينهم في جمهورية ~~أفلاطون. ليس ذلك بعجيب أو هو إذا أسأنا الظن بذلك الزمان غير مفرط في العجب، ~~أما العجيب حقا فهو أن يتحاكم الجند إلى أميرهم في الموازنة بين الشعراء وأن ~~يبلغ بهم الشغف بعلم ذلك أن يسألوا أعداءهم عنه في ميدان المبارزة! وأعجب منه ~~أن يستروح رجل من الأزارقة الخوارج لسؤال عدوهم في الموازنة بين شاعرين وهم ~~قوم من الجفاة الغالين في التدين، المعرضين عن كل ما عدا القرآن والتفقه في ~~أحكامه. # قال نيكلسون وهو يروي هذه القصة: «إن فيها لدليلا عجيبا على أن هوى الشعر كان ~~هوى الشعب كله، ولم يكن ذوقا خاصا بطائفة الأدباء والمتأدبين، وأنهم كانوا ~~يشتغلون به وهم بين متاعب الحرب وأخطار القتال ms542، وأنت تجد نظائر من هذه القصص في ~~تاريخ الأثينيين أخصب شعوب الغرب، ولعلهم أخصب الشعوب فيه وفي غيره، ولكن مثل ~~لنفسك الجنود البريطانية تتجاذب الحديث في تنيسون وبروننج على نيران ~~المعسكرات!» # والجواب على تساؤل نيكلسون - الأستاذ الإنجليزي - موجود في سيرة شوبنهور ~~الفيلسوف الألماني المشهور. # كان شوبنهور يقيم في فرنكفورت ويتغدى كل يوم في المطعم الإنجليزي المعروف بتلك ~~المدينة، فلاحظ عليه الخدم والذين يترددون على ذلك المطعم أنه كان يخرج من جيبه ~~في بداية الأكل قطعة ذهبية يضعها على المائدة ثم يعيدها إلى جيبه عند الفراغ من ~~الطعام، يصنع ذلك في كل يوم وفي كل أكلة ولا يدري أحد ما سر ذاك! حتى ضجر ~~الخادم يوما وجازف بسؤال الفيلسوف الغضوب الذي لا يرى الخدم ولا غير الخدم في ~~وجهه المتجهم ما يشجع على المزاح، فقال له: أيسمح السيد بأن أسأله عن معنى وضع ~~هذه القطعة الذهبية على المائدة وردها إلى الجيب كل يوم؟ # فلم يبخل عليه شوبنهور بالجواب وقال له: إنني نذرت بيني وبين نفسي لأضعن هذه ~~القطعة في صندوق الصدقة في اليوم الذي أسمع فيه هؤلاء الضباط الإنجليز يتحدثون ~~بشيء غير الخيل والنساء والكلاب! ولا يزال النذر معطلا لا يستحق ~~الوفاء. # ولا شك أن خارقة من الخوارق التي يضيق لها الصدر نزعت هذه الفكاهة الصامتة من ~~ذلك الفيلسوف المتشائم الذي عاش طول حياته متفردا، والذي كان لا ينام إلا ~~مسلحا لسوء ظنه بالناس! وأي شيء هو أحجى بضيق الصدر من طبقة من الطبقات تعد في ~~طليعة الناس يمضي عليها اليوم بعد اليوم والشهر بعد الشهر، وهي في حديثها لا ~~يفتح عليها بشيء غير الخيل والنساء والكلاب! # هؤلاء جنود، وأولئك جنود، وهؤلاء أبناء القرن التاسع عشر، ثم هم أبناء أمة ظهر ~~فيها كبار الشعراء في تاريخها كله، وفي ذلك القرن على التخصيص، ثم هم أبناء ~~العصر الذي راجت فيه الطباعة، وامتلأ بالفلاسفة، والدعاة، والشعراء، والكتاب، ~~والأدباء، ولكنهم مع ذا لا يعرفون من الثقافة الشعبية ما يشغلون به ساعة من ~~ساعات في ms543 يوم من أيام بحديث غير ذلك الحديث. # أما أولئك الجنود الغزاة - في عصر لك أن تقول فيه إنه عصر الأمية - فكانوا ~~يعرفون جريرا والفرزدق، ويستأذنون على الأمير ليسألوه فيهما سؤال من لا يشك في ~~علمه بهذه الفتاوى، ثم لا تهدأ نفوسهم حتى يجعلوا هذه المسألة حديثهم في موقف ~~الجلاد الذي لعله لا يرجع منه السائل أو المسئول إلا وهو مجروح أو ~~مقتول. ~~••• # علينا أن نكفكف قليلا - أو كثيرا - من غرورنا بالمطبعة، فإننا إذا أشعرنا ~~قلوبنا النقص من هذه الجهة وشيكون أن نسعى في طلب الكمال. # | الثقافة في العصور الحديثة # ... ربما كان الاهتمام بالخيل والكلاب والنساء خيرا من الاهتمام ~~بتناشد الأشعار؛ لأنه يدل على الصحة والحيوية، ولكن شوبنهور الذي ~~عاب كثرة الكلام في هذه الأشياء على الضباط الإنجليز الذين كان ~~يراهم في المطعم لا يستطيع لتشاؤمه وكراهته للحياة أن يشعر بالسرور ~~الذي يشعرون به وهم يتكلمون في الخيل والكلاب والنساء، ونحن في عصر ~~الرياضة البدنية، فهل ننظر إلى كل ذلك بالعين التي ينظر بها فيلسوف ~~متشائم عاش قبل سبعين أو ثمانين سنة؟ ثم هل مذهب التقدم والارتقاء ~~يتفق مع القول بتفضيل الثقافات الأولى على ثقافة المتأخرين. # إبراهيم نصر # هذه نبذة من خطاب فيه بعض التطويل عن المقال الذي كتبته منذ أسبوعين ونقلت فيه ~~القصة التي تروى عن «شوبنهور» والنذر الذي نذره على نفسه ليضعن دينارا في ~~صندوق الإحسان أول يوم يسمع فيه الضباط الإنجليز يتحدثون بغير الخيل والنساء ~~والكلاب. # وظاهر أن صاحب الخطاب يحب الكلام في الخيل والنساء والكلاب! ولا يحب الكلام في ~~الأشعار وما شابه الأشعار؛ لأن الكلام في الخيل والنساء والكلاب يدل على الصحة ~~والحيوية، أما الكلام في تناشد الأشعار فيدل على ماذا؟ على هذا القياس ربما كان ~~الكلام في الشعر يدل على المرض والموت! # إن رأي الأديب صورة للآراء العامة التي تؤدي إليها الموازنة بين عصرين أحدهما ~~نراه في النور كله وهو العصر الذي نعيش فيه، والآخر لا نراه إلا في الظل البعيد ~~أو لا نراه إلا في ms544 غياهب الظلام، وفي العصر الذي نتخيله من عصور القدم، ونظن أن ~~كلمة «نتخيله» ليست بالكلمة الصحيحة التي تقال في هذا الصدد؛ لأننا لو كنا ~~نتخيل العصور القديمة ونستعين بالخيال الصادق على تصويرها لرأيناها حق رؤيتها ~~ولم نبخسها شيئا من فضلها إن كان لها فضل يذكر في معرض المقابلة، وإنما نحن ~~نستصغر العصور النائية عنا في مسافات التاريخ كما نستصغر الرجل الذي نراه على ~~مسافة فراسخ حين نوازن بينه وبين من يمشي على مدى خطوتين منا، وربما كان الرجل ~~الذي على مسافة فرسخ أكبر من هذا الذي نراه على مدى خطوتين، فلا ذنب له إلا ~~أننا نحن المقصرون في التخيل والرؤية وليس هو المقصر في أن نتخيله وأن ~~نراه. # هل مذهب التقدم والارتقاء يتفق مع القول بتفضيل الثقافات الأولى على ثقافة ~~المتأخرين؟ # نعم يتفق، بل يتفق كل الاتفاق، فإذا فرضنا أن مذهب التقدم صحيح مسلم من جميع ~~جهته فمن الذي قال إن طريق التقدم طريقة مستقيمة لا تكون المرحلة الأخيرة منها ~~إلا آخر المراحل وأرقاها على السواء؟ من الذي قال إن سكة التقدم كالسكة ~~الحديدية المفردة لا يكون الكيلو رقم 90 فيها إلا وراء الكيلو 91 و92 و93 وهكذا ~~بلا اختلاف إلى نهاية الطريق؟ نعم من الذي يقول من أنصار مذهب التقدم أو خصومه ~~إن كل رجل في القرن العشرين لا بد أن يكون خيرا من أرسطو وابن سينا في الفضل ~~والعبقرية؛ لأنه يعيش بعدهما بألف سنة أو ألفين ؟ فإذا لم يوجد من يقول بهذا ~~القول؛ فلماذا يوجد من يقول إن كل أمة في القرن العشرين لا بد أن تكون خيرا من ~~كل أمة في القرن العاشر مثلا في روح الثقافة وفي معالم الحضارة، وفي صفات ~~الأخلاق والألباب؟ إن مذهب التقدم لا يمنع أن يكون الذين يتناشدون الأشعار في ~~حرب الأزارقة خيرا من الذين يتحدثون بالخيل والنساء والكلاب في المطعم ~~الإنجليزي بفرنكفورت، ولو كان بين هؤلاء وأولئك ما بينهما من مراحل ~~التاريخ. # نعم لا يمنعه مذهب التقدم، ولا سيما حين نتخيل الخيال الصحيح ms545 ونذكر أن الجنود ~~العرب التي كانت تقاتل الأزارقة قد كانت تعرف أيضا مزايا الخيل والنساء ~~والكلاب، وقد كان لها أيضا نصيب من الصحة والحيوية كالنصيب الذي غنمناه نحن في ~~عصر الرياضة البدنية! ومن ذا يعرف الخيل كما يعرفها البدوي الذي يحفظ من ~~أنسابها وأعراقها ما قلما نحفظه نحن من أنساب عظماء الرجال؟ وفي أي لغة من ~~اللغات نقرأ من نعوت الكلاب وحركات الطراد مثل ما نقرؤه في أشعار أولئك البدو ~~الذين لا يعرفون الرياضة البدنية على الأسلوب الحديث؟ أما النساء فقل في التحدث ~~بجمالهن ما شئت، ولكنك لا تستطيع أن تقول إن ذوق الضابط الإنجليزي في اختيار ~~الجمال النسائي هو الذوق الذي لا مزيد عليه بين المعاصرين، أو بين البدو ~~الغابرين! # وبعد فهل كان شوبنهور - الفيلسوف المتشائم - يجهل قدر الكلاب والنساء؛ لأنه ~~يكره الحياة ولا يشعر بالسرور؟ لا! لقد ظلمته أيها الأديب وبخست حق الكلاب ~~والنساء عنده! فهو صاحب الكلب الذي سماه «أتما» باسم روح الوجود عند البراهمة! ~~وهو صاحب ذلك الكلب الذي سماه أطفال المدينة «شوبنهور الصغير»؛ لأنه كان لا ~~يشاهد إلا مع شوبنهور الكبير كالولد مع أبيه! وناهيك بخبرة الفيلسوف بالنساء! ~~إنها لخبرة تنم عليها فلسفته وسيرة حياته ولا يضارعه فيها ضابط عاش حياته كلها ~~في ميادين اللهو والمجون، ولكن الشعور بالكلب والمرأة شيء وعدم الشعور بغيرهما ~~شيء آخر، وما دامت الدنيا لم تخلق كلها كلابا وخيلا ونساء؛ فالخطأ إذن خطأ ~~الجند الذين لا يرون في الدنيا غير الكلاب والخيل والنساء، وليس بخطأ الفيلسوف ~~الذي يرى هذه جميعها، ويرى معها كل ما كان يراه من الحق والباطل في هذه ~~الحياة. # وقد يسأل بعض السائلين في هذا العصر الذي أصبح فيه السؤال هو كل الفلسفة وكل ~~الجواب: ولماذا نقرأ؟ ولماذا نتثقف؟ ولماذا نطلع على الأشعار أو على غير ~~الأشعار؟ # لماذا؟ # أي والله لماذا! # إن أحدا في الدنيا لا يترك أكل الطعام وشرب الماء، وينتظر ريثما يقول له ~~القائلون لماذا يأكل؟ ولماذا يشرب؟ فهو يأكل ويشرب لأنه يحس في جسمه ms546 الجوع ~~والعطش، لا لأن أحدا فسر له علة الأكل وعلة الشراب، ولو أن الذي يسأل لماذا ~~يقرأ، لماذا يتثقف، كانت له نفس تجوع كما يجوع جسمه لاستغنى عن سؤاله، وأقبل ~~على موائد الثقافة غير منتظر جواب ذلك السؤال، فمن كان يسأل الناس على هذا ~~النحو فخير له وللناس ألا يجاب؛ لأنه لا يستفيد مما يسمع ولا يستحق مئونة ~~الجواب. ~~••• # المصيبة في العصور الحديث أنها أخذت بفتنة التسهيل والتقريب في كل شيء بعد هذه ~~المسهلات والمقربات التي أشاعتها فيها الكهرباء، والبخار، ووسائل الانتقال. ~~فنحن كأنما نحتاج اليوم إلى كهرباء عقلية تصل بنا إلى فهم الحقائق في غمضة عين، ~~ولا تكلفنا في هذا العصر ما كانوا يتكلفونه من الجهد والتفكير قبل عهد الكهرباء ~~والبخار، وأين هذه الكهرباء العقلية التي تزيد في سرعة أفهامنا بمقدار الزيادة ~~في سرعة الكهرباء على سرعة الدواب والأقدام؟ أتراها وجدت في هذا العصر، أو يرجى ~~أن توجد في عصر بعده؟ كلا! إنها لم توجد ولن يكون لها أبدا وجود، ولو ضوعفت ~~سرعة الكهرباء الصناعية أضعاف ما بلغت إلى الآن. ~~••• # وليس أكثر من أن تسمع في هذا العصر من المتبطلين المتحذلقين من يقول لك: ما ~~الغرض من القراءة؟ أليس هو اللذة العقلية؟ فكل ما ليس بلذيذ فليس هو ~~بمقروء! # سبحان الله! فعلى هذا يجب أن تكون روايات شكسبير مفهومة لاذة لمن لا يحسن ~~الإنجليزية، ولا يعرف التواريخ، ولا أسرار الخلائق، والمعاني التي تدور عليها ~~تلك الروايات! فإذا أعياه أن يظفر منها باللذة التي توهمها، فليس الذنب ذنب ~~الجهل بالإنجليزية، ولا هو ذنب الجهل بالتواريخ والخلائق والمعاني، ولا هو ذنب ~~القارئ على وجه من الوجوه، كلا ولكنه ذنب شكسبير المسكين؛ لأنه لم يستطع أن يلذ ~~القارئ الذي يبلغ به الغباء أن يفرض في نفسه غاية الكمال. # إن الغرض من القراءة هو اللذة! # ليكن! # وإن الغرض من الغذاء هو اللذة! ليكن أيضا. # ولكن ما بال من لا أسنان له ولا قوة على الهضم يعيب الطعام الذي لا عيب فيه، ~~ولا يزال ms547 أصحاب الأسنان والمعدات يلتذونه أحست التذاذ؟ فهاتوا الإسنان وهاتوا ~~المعدات قبل العيب على الطعام، وإلا فليس في العالم كله طعام واحد لذيذ. # تلك مصيبة! والمصيبة الأخرى هو «البداجوجيا» قاتلها الله بما أدخلت في العقول ~~من وهم ليس أضر منه بالعقول، أدخلت في العقول أن التفهيم صنعة المدرس التي يجب ~~أن يتكفل بها وحده، وما على التلميذ إلا أن يصغي قليلا، فإذا الفهم حاصل له ~~بطبيعة الحال كأنه نتيجة محتومة لدخول الصوت في الآذان. # نعم إن البداجوجيا تحذر المدرس من الإفراط في التشويق والترغيب لئلا يتعود ~~التلميذ أن يدع الجهد في فهم ما لا يشوقه ولا يرغب فيه، ولكن الواقع أن ~~البداجوجيا على الرغم من هذا التحذير هي التي خلقت هذا الوهم، وألهجت المعلمين ~~والمتعلمين ببدعة التشويق والترغيب حتى فشا الغرور في بعض الناشئة، ووقر في ~~أخلادهم أن كل ما لا يفهمونه بغير مشقة فهو غير مفهوم، ومن هنا لا نستبعد أن ~~يحور زمام الفكر غدا إلى أيدي الأزهريين والذين نشئوا على الطرائق الأزهرية؛ ~~لأنهم درجوا على أن العلم صعوبة ومشقة وليس بالمائدة الشهية المهيأة للتناول ~~السهل اليسير؛ فندر أن ترى أزهريا يستعصي عليه فهم معنى من المعاني إلا ~~عالجه وثابر على فض مغلقه وحل عقدته، وندر أن ترى طالبا من الذين أفسدتهم ~~البداجوجيا يستعصي عليه فهم شيء إلا ترك البحث فيه واتهم المدرس أو اتهم ~~الكتاب. # إن شر ما ابتليت به الثقافة أن يقال إنها لذة ليس إلا، وأن ينسى مع هذا أن ~~اللذة لا تكون إلا باستعداد، وأن الاستعداد لا يتم بغير الصبر والمراس، وصدق ~~أبو تمام حيث قال: # بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها # تنال إلا على جسر من التعب # | في الثقافة الإسلامية # أوفى الكتب العربية قاطبة لمن أراد الاطلاع على ثقافة الدولة الإسلامية، هو ~~كتاب «إخوان الصفاء». # فليس في كتب هذه اللغة جميعا كتاب واحد يجمع من مادة الثقافة العربية ما جمعه ~~هذا الكتاب من علوم زمانه ومعلوماته، وأساطيره وفروضه التي ورثت عن حضارات ~~الأمم السابقة واللاحقة، من ms548 الكلدان، والفرس، والهند، واليونان، والعرب ~~الأولين، وسائر الأمم القديمة منقولا بعضه عن لغات هذه الأمم نصا أو منقولا ~~عن أمة بعد أمة، حتى نسيت مصادره الأولى، ولم تبق في الذاكرة إلا مصادره ~~الأخيرة، وفائدة هذا الكتاب من هذه الوجهة لا تقدر، ولكنها ليست بفائدته ~~الفريدة؛ لأنه يفيد القارئ الذي يترجم عن اللغات الإفرنجية في هذا العصر عند ~~المضاهاة بين الكلمات التي ننقلها الآن، والكلمات التي نقلها المترجمون في عهد ~~الدولة العربية، ويفيد المشتغل بأطوار المذاهب والأفكار في الحضارات الإنسانية ~~جميعا، فيرى المسافة التي عبرتها الإنسانية من القول بمذهب الشوق بين الأجسام ~~والأرواح إلى القول بمذهب الجاذبية، ومن القول بأن حب البقاء هو أساس الأخلاق ~~إلى القول بأن تنازع البقاء هو قانون الحياة؛ ومن القول بأن المخلوقات ترقى على ~~سلمها جمادا فمعدنا فنباتا فحيوانا فإنسانا فملكا إلى القول بالنشوء ~~والتطور على الرأي الحديث، وهكذا مما لا يقع تحت الحصر في هذا المقام، ولا بد ~~فيه من المراجعة والاستقصاء. # وقد يفيد الاطلاع على هذا الكتاب غير هذه الفوائد أن القارئ يجد فيه مثالا ~~نادرا لاختلاط الثقافات والحضارات في عصر واحد على نمط واحد لا نعرفه في هذا ~~العصر ولا نعرف له نظيرا مذكورا في العصور الماضية، فمع كثرة الأمم التي ~~انتقلت معارفها إلى الأمة الإسلامية، لم تتمازج هذه المنقولات، ولم يزل كل منها ~~محتفظا بطابعه: الهندي للهند، والفارسي للفرس، واليوناني لليونان، والكلداني ~~للكلدان، كأنها عناصر غريبة لا تقبل المزج الكيمي، ولا يزال كل منها مفروزا ~~على حدة مستعدا للرجعة إلى أصله، وليس كذلك امتزاج الأفكار في عصرنا ~~الحاضر، ولا امتزاجها في عصر اليونان والرومان، فأما في العصر الحاضر فالعلم ~~الحديث له قاعدة واحدة هي قاعدة التجريب والاستقلال، فكل ما جرى على هذه ~~القاعدة دخل في بنية العلم كله، وخرج من كونه معلومات تقول بها هذه الأمة أو ~~تلك، إلى كونه علما عاما يقول به جميع بني الإنسان، وأما في عصر اليونان أو ~~الرومان فلم يكن هناك حائل من العقيدة الدينية بين آراء ms549 أمة وآراء أمة أخرى؛ ~~ولم يكن الاقتباس الحر ممنوعا في الفنون والآداب، ولا في الأساطير والأديان، ~~فكان الامتزاج بين الثقافات أسرع كثيرا من الامتزاج بينها في عهد الدولة ~~الإسلامية، واتفق لهذا أن العالم بأسره في الشرق والغرب أخذ بأقوال البابليين ~~الأقدمين في الكواكب وطوالع الأيام، وبقيت هذه الأقوال ملحوظة إلى اليوم في ~~أسماء الأيام عند الأوربيين المعاصرين. ~~••• # لماذا يسمي الإنجليز المعاصرون يوم ~~الأحد # Sunday # أو يوم الشمس؟ لأن البابليين الأقدمين جعلوه أول أيام ~~الأسبوع، وجعلوه لذلك يوم الشمس، إذ كانت هي أكبر الأجرام السماوية عندهم، وبها ~~يكون الابتداء، وكان البابليون يرتبون الأيام ترتيبا عدديا يبدأ باليوم ~~الأحد وينتهي بالسبعة ففعل العرب الأقدمون مثل ذلك، وصارت الأيام عندهم هي ~~عندنا الآن: الأحد فالاثنين فالثلاثاء فالأربعاء فالخميس فالجمعة - يوم ~~الاجتماع والسوق عند البابليين - فالسبت أو السبعة منطوقة فيها التاء كما كان ~~ينطقها البابليون والفينيقيون، وكما ينطقها اليوم السوريون خلفاء البابليين ~~والفينيقيين، وكان اليوم السابع من أيام الأسبوع هو اليوم الأخير وهو يوم زحل ~~أبعد السيارات وأنحسها، فكان الأقدمون يتشاءمون من العمل فيه ويخلدون إلى ~~الراحة فرارا من نحسه وفشله، ثم ما زال هذا التشاؤم حتى جعله الإسرائيليون ~~فريضة دينية، وأوجبوا الراحة في يوم السبت بعد الفترة التي قضوها في أسر ~~البابليين. # اقرأ في كتاب إخوان الصفا فصلا في «معرفة أرباب الساعات» تجد فيه: «أن رب يوم ~~الأحد الشمس، ورب يوم الاثنين القمر، ورب يوم الثلاثاء المريخ، ورب يوم ~~الأربعاء عطارد، ورب يوم الخميس المشتري، ورب يوم الجمعة الزهرة، والسبت ~~زحل.» # وراجع أسماء الأيام في اللغات الإفرنجية يظهر لك أن تلك الأسماء إن هي إلا ~~ترجمة هذا الكلام، وأن الأوربيين من أمم الشمال إلى أمم الجنوب كانوا يأخذون ~~عقائدهم من الشرقيين منذ آلاف السنين. # فيوم الأحد # Sunday # معناه بالإنجليزية يوم ~~الشمس كما تقدم. # ويوم الاثنين # Munday # أو # Moonday # معناه يوم القمر، وهو أكبر ~~الكواكب بعد الشمس في رأي الأقدمين. # ويوم الثلاثاء # Tuesday # معناه يوم تيو، وهو ~~المريخ عند أبناء أوربا الشمالية، وترجمته بالفرنسية # Mardi # أي يوم مارس وهو المريخ ms550 باللغتين ~~الفرنسية والإنجليزية. # ويوم الأربعاء # Wednesday # معناه بالإنجليزية ~~يوم أودين وهو يوم عطارد عند أمم الشمال التي تسلسل منها الإنجليز، وترجمة اسم ~~اليوم بالفرنسية # Mereredi # أو يوم مركيور # Mercure # وهو عطارد في اللغات الإفرنجية ~~الحديثة. # ويوم الخميس # Thursday # معناه يوم ثور إله الرعد ~~والصواعق عند أمم الشمال، وإله الرعد والصواعق عند اليونان والرومان هو جوبتيير ~~أو المشتري، وترجمة اسم اليوم بالفرنسية # Jeudi # أو يوم المشتري. # ويوم الجمعة # Friday # معناه يوم فراي زوجة ~~أودين، وربة الحب عند أمم الشمال التي تسلسل منها الإنجليز كما تقدم، وترجمة ~~اسم اليوم بالفرنسية # Wenderdi # أي يوم ~~الزهرة. # ويوم السبت # Saturday # معناه يوم زحل # The day of ~~Saturn # كما كان معناه ومعنى الأيام الأخرى عند البابليين. # فالعقائد الشرقية والآراء الفلكية الشرقية قد شملت أوربا شمالا وجنوبا، ودخلت ~~في أديان الغربيين وفنونهم وأشعارهم توتون ويونان ولاتين وغيرهم من شعوب الشمال ~~والجنوب، قبل أن شملتهم المسيحية - الشرقية أيضا - بألفي سنة أو أكثر من ذاك، ~~وقد بقيت آثارها في أسماء أيامهم إلى اليوم بعد أن نسيت هذه العقائد في بلاد ~~الكلدان والعرب ولم تبق لها هذه المعاني في أسماء الأيام عندنا نحن ~~الشرقيين. # لا بل أنت تقرأ في الجزء الرابع من إخوان الصفاء فترى فصولا في روحانيات ~~الكواكب يقولون فيها: إن «دائرة زحل تنبت منها روحانيات تسري في جميع العالم من ~~الأفلاك والأمهات، ومن أفعال هذه الروحانيات الموت وسكون الحركة، وأن دائرة ~~المشتري تنحط منها قوى روحانيات تسري في جميع العالم يكون بها اعتدال البائع، ~~وتأليف القوى المتنافرات، وروحانيته مستولية على مواليد الأنبياء صلوات الله ~~عليهم، وأصحاب النواميس ومواضع الملائكة المنبثة من دائرته النازلين من فلكه ~~الخارجين من بابه مواضع الصلوات وبيوت العبادات، وأن دائرة المريخ تنبث منها ~~قوى روحانية تسري في العالم من الأفلاك والأركان والمولدات، وبها يكون النزوع ~~والنهوض، وفعلها المختص بالحيوان ما يظهر فيه من الغضب والتعدي والشر، وكذلك في ~~عالم الإنسان ما يكون من الحروب والفتن ومن بقاع الأرض مواضع النيران وعمل ~~الحديد، وأن دائرة الزهرة تنبث منها قوى روحانية تسري في جميع جسم العالم ~~وأجزائه، وبها ms551 يكون زينة العالم وحسن نظامه وبهاء أنواره ورونق أزهاره، وزخرف ~~الكائنات وحسن الموجودات واعتدال النبات والشوق إلى الزينة ومحبة الجمال وطلب ~~الكمال، كما ينبث من دم المعدة شهوة الملاذ إلى جميع مجاري الحواس، وأفعال ~~روحانيتها في العالم العشق والمحبة والتزين بالزينة الحسنة، وأن دائرة عطارد ~~تنبث منها قوى روحانيات تسري في جسم العالم وأجزائه، وبها تكون المعارف والعلوم ~~والخطوط والإلهام والرؤيا والوحي والنبوة، كما تنبث من الدماغ القوة الوهمية ~~وما يتبعها من الذهن والتخيل والفكر والروية والتمييز والفراسة، ولها من الكلام ~~الشعر والخط والنظم وغير ذلك ...» إلخ إلخ. # فإذا قرأت هذا وعرضته على الأساطير التي يسمونها الآن الأساطير اليونانية أو ~~الرومانية وجدتهم يقولون: إن عطارد رب الشعر والفنون، وإن الزهرة ربة الحب ~~والجمال، وإن المريخ رب الفتن والحروب، وإن زحل رب الخراب والشقاء، إلى آخر ما ~~يعرفه من اطلعوا على تلك الأساطير، وما كان اليونان على علم بشيء من رصد ~~الأفلاك وخواصها المزعومة إلا ما نقلوه عن البابليين. حتى إن اسم الفلك عندهم ~~«الأسترنومي» مأخوذ من كلمة «أستر» اسم الزهرة عند البابليين، وهي عندهم ربة ~~الحب وزوجة مروداخ أو المشتري كبير الأرباب، وأستر عند البابليين كذلك هي البرج ~~السادس أو برج العذراء، واسمها في لغتهم «بنوث» أي البنت باللغة العربية، وهذا ~~هو أصل كلمة «فينوس» إلهة الجمال والحب عند الرومان واليونان، فقد كانوا ~~يكتبونها بالباء قديما ولا تزال الكلمات التي وردت فيها بالباء محفوظة في ~~اللغات الأوربية، والتصحيف يسير جدا بين بنوس وبنوث بمعنى البنت في اللغة ~~البابلية. # فكل ما جاء في أساطير اليونان عن الأفلاك وما رتبوه عليها من العقول العشرة ~~المتصرفة في مقادير الكون إن هو إلا تصحيف لآراء الشرقيين القديمة في الفلك ~~والنجوم، وكل ما أضيف إلى الفلك من الرياضيات والهندسيات إنما اقتبسه طاليس، ~~وفيثاغوراس، وإقليدس، من المصريين والبابليين والهنود كما هو محقق في التاريخ. ~~وما كان اليونان يبنون ولا يعرفون الهندسة والعلوم حين كانت للمصريين ~~والبابليين الصروح والمراصد والمدارس والثقافات والسجلات التي أثبتت فيها ~~أرصاد الفلك ms552 منذ آلاف السنين، فإذا امتاز اليونان بعد ذلك بشيء من تمحيص العلم ~~فما استطاعوا ذلك؛ إلا لأنهم ضعفاء لم تكن لهم دولة موطدة ولا كهانة عظيمة ~~السلطان تستأثر بالعلم وتدخله في نطاق الدين فيختلط فيه التمحيص ~~والاعتقاد. # ولم يخف لب هذه الحقيقة على إخوان الصفاء، فقالوا في الرسالة الحادية عشرة من ~~العلوم الناموسية والشرعية: «اعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه أن علماء ~~الهند هم العارفون بصناعة النجوم المخصصون باسم الكهانة، ويلحق بهم في العلم ~~بذلك حكماء الفرس ومن بعدهما اليونانيون.» ولو كان لإخوان الصفاء سبيل تحري ~~التاريخ كما نتحراه اليوم لعلموا أن هناك حضارة أخرى انقطع ما بينهم وبينها كان ~~أهلها على علم كبير بالفلك، والرياضة، والكهانة، وهي الحضارة المصرية ~~الهيروغليفية، ومع هذا لم يسلم إخوان الصفاء من الخطأ حين أسندوا إلى اليونان ~~كثيرا مما ليس لهم؛ لأن اللغة اليونانية كانت قد أصبحت لغة رسمية في دولة ~~الروم الشرقية فترجمت إليها كتب كثيرة ليتدارسها القسوس في الأديرة ولم يكن ~~مصدرها من علماء الإغريق، فلما ترجم العرب ما ترجموه من آثار الحضارات القديمة ~~جاءهم معظم ذاك من الكتب اليونانية فأسندوه إلى اليونان. ~~••• # فيما تقدم مثل وجيز من المقابلات التي يوجبها الاطلاع على كتاب إخوان الصفاء، ~~وفي الكتاب أمثلة شتى لاستخراج المقابلات في كل باب من الأبواب، نرجو أن يتفرغ ~~لاستقصائها الباحثون. # | معرض # في كل كتاب من كتب السياحة العالمية معرض يلذ ويفيد، ولا سيما إذا كان مؤلفه ~~على خبرة بالدنيا، ومعرفة بالناس، وعلم ببعض الفنون كالأستاذ «ستير» صاحب كتاب ~~«مع بافلوفا حول الدنيا» الذي وعدنا بعودة إليه، ونحن عائدون. # من الشمال أو من الجنوب نبدأ؟ وبأخبار الأمم أو بأخبار الأفراد المشهورين؟ بهذا ~~وذاك وهذه وتلك، لا نتقيد بقيد ولا نلتزم خطة في السياحة، فكل صفحة تنتقل بنا ~~إلى أمة أو أمم، وكل علامة تقف بنا عند شيء يستوقف النظر، وأصابع المتصفح أسرع ~~من سفن البخار في جوب الأقطار وطي الأرضين والبحار، فما بين الشرق والغرب إلا ~~«فركة» بالإصبع أهون ms553 من «فركة» الشعرة التي كانوا يستحضرون بها المردة في ~~الزمان القديم، ثم يتقارب الغرب والشرق، ويتلاقى الشمال والجنوب، وها نحن ~~مقلعون على بركة الله. ~~- أين؟ ~~- في ستكهولم! # وقبل ذلك نسألك أيها القارئ: أكان يخطر ببالك أن أمم الشمال - أمم الثلج ~~والغمام - تعرف الحماسة للفنون، وتجمح بها ثورة الإعجاب أفرادا وجماعات؟ لعلك ~~كنت تستبعد هذا أو لعلك كنت تقيس الأمر إلى أمم الجنوب التي جثم بها كسل النفس ~~فلا يستخفها شيء، ولا يستثيرها شغف أو إعجاب، فكنت تقول: لا الثلج بثلج ولا ~~النار بنار، نعم لا الثلج في السماء بثلج في القلوب ولا النار في الهواء بنار ~~في نفوس مستنشقيه، ففي الجنوب أمم حل بها الوخم فهي كالنائم في قيظ الظهيرة، ~~وفي الشمال أمم لا تسكن ولا تركد فهي كمن يغالب القر بالرياضة، فلا عجب أن تصبح ~~الحركة فريضة عند أبناء الشمال، وأن تصبح السكينة زينة عند أبناء الجنوب! ومن ~~ثم لا عجب أن يكون أهل السويد ممن يعرفون الحماسة في بعض الأحيان، وأن يكون أهل ~~أفريقيا ممن لا يعرفون الحماسة في كثير من الأحيان! # رقصت «أنا بافلوفا» في ستوكهولم فما هي إلا أن أتمت ليلتها الأولى، وخرجت من ~~الملعب إلى المركبة حتى وجدت الخيل محلولة والناس يتهيئون لجرها، والجماهير ~~يتبعونها ألوفا إلى الفندق وهم يرعدون بالهتاف والتهليل، وجاءها في صباح اليوم ~~التالي رسول من قصر الملك ومعه مركبة ملكية يدعوها إلى مقابلة رسمية يقلدها ~~فيها صاحب الجلالة النوط الذهبي للفنون والعلوم بيديه الكريمتين، ولقيت في أمم ~~أخرى من أوربا الشمالية مثل ما لقيته في السويد ولكن على درجات، كأنها كانت ~~تبتعد من مظاهر الحماسة كلما ابتعدت من بلاد الشمال، إلا في إسبانيا فقد التقى ~~النقيضان هناك كما يقول الغربيون في أمثالهم، وتشابهت بعض المشابهة أقطار ~~الثلوج وأقطار الرياحين. # هذه الحماسة من أهل السويد لا تدهشني لأن الحماسة قد تجيء من قوة العاطفة ~~العميقة كما تجيء من خفة الأعصاب والألباب، فإذا رحبت النفس وعمقت وامتلأت فهي ~~خليقة أن تعرف من ثورة ms554 الشعور ما قل أن يعرفه السطحيون المستخفون، وأهل السويد ~~أناس تعودوا العزلة في جوهم الصارم المكفهر، وتعودوا اكتظاظ النفس بالشعور في ~~تلك العزلة، فلا تكون ثورات الشعور عندهم بالشيء المتناقض المستغرب، ولعل البرد ~~الذي يخاله الناس مناقضا للحماسة هو الذي جعل السويديين أمة الرياضة البدنية، ~~وهو الذي جعلهم يعجبون بالقص الجميل ذلك الإعجاب. ~~••• # ها هنا مسرح كبير، لا كراسي فيه، ولا مقاصير. # كيف؟ وأين يجلس الناس؟ # على الأرض! أو على مقعد لا يرتفع على الأرض أكثر من أربعة قراريط، وفي ركن من ~~أركان ذلك المقعد علبة فيها رمل وتحت الرمل جذوات موقدات، لماذا؟ لإشعال ~~السجائر التي يدخنها المتفرجون! وثق أيها القارئ أنك في غير بلاد الهمج ~~المتبربرين، بل ثق أنك في بلاد دولة من دول العالم الكبار! ثق أنك في اليابان، ~~لأنهم في اليابان لا يصنعون معاهد التمثيل على النظام الأوربي، إلا معهدا ~~واحدا في العاصمة وهو معهد الإمبراطور. # أذكر فيما قرأت من أخبار الصحف أن قائدا تركيا في بلاد الحجاز صدرت إليه ~~الأوامر من رؤسائه بتسليم المدينة التي كان يحرسها والاتفاق مع العرب ~~المحاصرين لها على شروط التسليم، فغضب القائد وأخذته العزة وقال لمن حوله: ما ~~هذا؟ أيريدون مني أن أصافح أناسا يأكلون طعامهم بأصابعهم؟ # مثل هذا القائد «المتمدن» في حاجة إلى سياحة يابانية، أو إلى مسرح من تلك ~~المسارح التي لا حيلة له فيها إلا أن يجلس القرفصاء على كراسي كمزالق الجليد. ~~فقد تصلح هذه السياحات لعلاج الذين أصيبوا في عقولهم بعمى العرف، فلا يتصورون ~~الدنيا إلا على صورة واحدة، ولا يحكمون على الناس إلا بما ألفوه، فإن الإنسان ~~إذا عرف أن الجلوس على الأرض في معاهد التمثيل لا يمنع الأمة أن تعد بين دول ~~العالم القوية لم تحبسه العادة في سجنها الضيق المسدود، ولم يجعل عرفه شرطا من ~~شروط الآدمية التي لا يخالفها الإنسان، وله نصيب في الاحترام. # أغرب من هذا في بلاد الشمس المشرقة هذه القصة التالية: # قال الأستاذ ستير يصف فندقا في بعض حواضر اليابان ms555: «سألنا عن الحمام فوجدناه ~~على أكمل اتساع لا مثيل له فيما رأيناه، ولم يكن معدا لفرد واجد بل لخمسة عشر ~~أو لعشرين ولكلا الجنسين معا من رجال ونساء، ولما ألقينا نظرة فيه ألفيناه ~~غاصا بالمستحمين والمستحمات حتى لا مزيد، ولا يخطرن بالبال أن هذا الاختلاط ~~دليل على سوء خلق عند القوم، فإن الياباني لا ينظر إلى اختلاط النساء والرجال ~~في الحمام، إلا كما ننظر نحن إلى اجتماع النساء والرجال على مائدة واحدة، فهم ~~لا يتلفتون إلى حالة العري هذه أقل التفات.» # مدهش هذا، أليس كذلك؟ نعم! ولكننا نعود فنقول إن العادة تهون كل شيء حتى اختلاط ~~الرجال والنساء في الحمام عارين وعاريات، فعلى شاطئ البحر لا تلفتك المرأة التي ~~تلبس قميص الحمام وهي لو سارت بهذا الزي في الطريق لاجتمع عليها زحام، أي زحام، ~~ومن الحق أن نقول إن بعض العري أستر وأدنى إلى الحشمة من بعض اللباس، فالطفل ~~العاري لا ينتهك الحياء بعريه ولا يزال مألوفا حتى في بلاد الحجاب، ولكن أي ~~حياء لا تنهكه المرأة الماجنة بتلك الثياب التي تدل الناظر وتغريه، وتلك الحركة ~~التي تفهمها المرأة حين تتحرك ويفهمها الناظر حين ينظر، ويفهمها الخائط حين ~~يصنع الثوب على ذلك الطراز، ولا يتغابى عن فهمها إلا مراء أو حمار، وكثيرا ~~ما كان المنع من دواعي الإغراء، ولا سيما في العلاقات بين الجنسين، فهل جاءك ~~أيها القارئ نبأ الكتاب الذي حجزت عليه الحكومة حديثا في بلاد الإنجليز؟ إنها ~~لم تحظر بيعه وطبعه حتى بلغ ثمنه خمسة أضعاف أضعافه، وبودر إلى طبعه في باريس ~~باللغة الإنجليزية، وليس فيه مع هذا شيء مما لم تطرقه كتب الطب والمباحث ~~النفسية بأوفى بيان وتفصيل، إلا أنه وضع ذلك في قالب الرواية، ولم يقصره على ~~الدرس العلمي الذي يعنى به الباحثون والمتعلمون، فلا كل المنع منعا، ولا كل ~~السماح ابتذالا، وليس العري في اليابان إذن لازمة من لوازم الإباحة، ولا ~~الثياب على إطلاقها هي قوام العصمة والصيانة، ووجه العبرة من كل ذلك أن الأدب ms556 ~~يناط بالطبائع والأفكار، ولا يناط بالثياب والأزياء، وستكمل دهشتك أيها القارئ ~~إذا علمت بعد هذا أن المراقص العامة في بعض جهات اليابان يكتب عليها هذا ~~التنبيه: «الرقص خدا لخد ممنوع، وغير مسموح بالاختلاج والاهتزاز.» وعلمت ~~أيضا أن نساءهم قلما يلبسن إلا الفضفاض من اللباس! فهم يعرفون الخجل والحياء، ~~ونحن لا نعرفهما حين نسمح للمرأة بتلك الأزياء التي لا فرق فيها بين المصونة ~~والهلوك. ~~••• # وبعد، فهل يعلم القارئ من المسئول عن الحرب العظمى، ستقول الساسة من الحلفاء ~~أو من الجرمان، وستقول أصحاب الأموال أو رجال الحروب، فقل ما بدا لك واعلم أنك ~~على خطأ إذا كانت «بافلوفا» على صواب، فهي صاحبة اليد الأولى في هذه النكبة ~~العالمية إذا صدقت الخرافة، ومن كان في ريب من هذا فيقرأ ما يلي ولا لوم على ~~الراوي إذا ازداد به الريب بعد القراءة. # كانت بافلوفا في برلين، وكانت ترقص في دار الأوبرا الإمبراطورية والنظارة كلهم ~~من العلية والنابهين وذوي الأخطار، وكانت آداب تلك الدار تأبى الهتاف في حضرة ~~الإمبراطور، بالغا ما بلغ إحساس النظارة من الطرب والاستحسان، ولكن الإمبراطور ~~كان أول المخالفين لنظام تشريفاته وأول من صاح في تلك السكينة الشاملة بصوت ~~مسموع في جميع جوانب الدار «بديع بديع!» فما هو إلا أن قالها حتى ارتج ذلك ~~الرفيق الأعلى بالتصفيق والتصدية، وتسابق الأمراء والكبراء في الصياح والتهليل. ~~ثم ذهب الأمين الأول إلى «بافلوفا» يدعوها إلى المقصورة الملكية، فلقيت كل ~~حفاوة، وقبلت يد الإمبراطورة وعادت إلى حجرتها، ولكن على غير ما تنتظر وينتظر ~~الصحاب والزملاء، وعادت كئيبة واجمة وكان المنتظر أن تعود راضية محبورة بعد هذه ~~التحية التي تلقاها بها عاهل الألمان ورجال دولته الفخام. # ولم الكآبة؟ ولم الوجوم؟ # لأن أثرا من شفتيها المصبوغتين قد علق بقفاز الإمبراطورة الناصع حين قبلت ~~يدها، وفي ذلك نذير الشؤم وسفك الدماء في أساطير البروسيين، أو في أساطير ~~البروسيات، وما انقضى على تلك الليلة ثلاثة أشهر أو دون الثلاثة الأشهر حتى ~~نشبت الحرب العظمى وجنتها على الدنيا تانك الشفتان المصبوغتان ms557، لا شفاه ~~العواهل والقياصرة من جانب الحلفاء، أو من جانب الجرمان. # فلينصف الجاهلون! وليصحح التاريخ! ~~••• # ومن الخرافة إلى الشعوذة لا تطول مسافة الطريق، ولا سيما إذا كانت النقلة من ~~بلاط إلى بلاط، ومن بلاط برلين إلى بلاط لندن! # كان أحد المشعوذين النابغين يلعب في البلاط الملكي بلندن فقصد الفكاهة مع ولي ~~العهد وهو يومئذ «جورج» الخامس ملك الإنجليز السابق، وكانت اللعبة أن يلقي على ~~مشهد من الجميع بيضة في كيس، ثم يقلب الكيس فإذا هو فارغ لا بيضة فيه. # فلما أدى المشعوذ هذه اللعبة خيل إلى ولي العهد أنه فطن إلى سرها، واستعاده ~~إياها فأظهر المشعوذ ترددا ثم أطاع الأمر كأنه مكره عليه، فلما هم بأن يلقي ~~البيضة في الكيس بدرت من يده حركة إلى جيبه كأنها هفوة الحريص المتعجل، ~~فاستوقفه ولي العهد وأسرع إلى إعلان هذه الحيلة، واضطرب المشعوذ أو بدا عليه ~~الاضطراب، ولكنه ما لبث أن استأذن بعد هنيهة في خلع ردائه وأسلمه إلى ولي العهد ~~ليستخرج البيضة منه، ولا بيضة هناك! # قلب الأمير الجيب ظهرا لبطن وبطنا لظهر بين الاستغراب والضحك، وأشده ضحك أبيه ~~الملك «إدوارد»، ثم اعترف بأن الجيب فارغ، وأن البيضة ليست هناك! # عندئذ راح المشعوذ يقول وهو يشير إلى اللورد لانسدون: لعل هذا السيد يكون أكثر ~~توفيقا في البحث عنها، وقد كان هذا السيد حقا أكثر توفيقا كما قال المشعوذ؛ ~~لأنه وجد البيضة في الجيب حينما حملوا الرداء إليه ليبحث فيه! ولكن اللعبة لم ~~تنته بهذا، بل قال المشعوذ للورد لانسدون: أتأذن في رد البيضة إلى مكانها ~~وتسليم الرداء إلى صاحب السمو الأمير؟ ففعل اللورد أمام الحضور، وطلب المشعوذ ~~إلى ولي العهد أن يستخرج البيضة من حيث ألقاها اللورد، فلم يجدها ~~الأمير! # كان أشد النظارة ضحكا من هذه الدعابة الملك إدوارد والد الأمير جورج، وظاهر أن ~~اللعبة من بدايتها إلى نهايتها إنما هي حيلة واحدة مقصودة، وظاهر كذلك أن ضحك ~~الملك إدوارد في تلك الليلة لم يكن يخلو من عطف الأب على ابنه الطيب ms558 السريرة ~~ومن منافسة الملك لولي العهد الذي يرث الملك بعده! ~~••• # ولقد طال بنا اختيار القارئ في علم هذه الأشياء فلا نسأله بعد الآن إلا سؤالا ~~واحدا هو الامتحان الأخير: # هل يعلم القارئ أن شارلي شابلن الذي تعود أن يضحك منه ومن بلاهته على الستار ~~الأبيض هو فيما عدا قدرته على التمثيل فيلسوف، وموسيقار، وخبير بالفنون؟ إن لم ~~يكن يعلم فليعلم أنه هو كذلك، وأن الأستاذ ستير يقول عنه فيما قال وهو كثير: ~~«إن معارف هذا الرجل تحير، فهو واسع الاطلاع جدا، وله علم بالفلسفة يقيم ~~لآرائه وزنا في أي مجمع من مجامع الأدباء في العالم كله، وأقل من هذا اشتهارا ~~عنه كفاءته الموسيقية، فإن له خبرة عجيبة بالعزف على القيثار، وأعجب من قدرته ~~هذه أن يعزف عليها بيسراه، أما علمه بالأوبرا والسيمفوني فقلما توجد واحدة منها ~~لا يوقعها بصفير شفتيه على البديهة.» # ولنا أن نقول: إذا كان غريبا أن يكون هذا المضحك فيلسوفا، فليس بالغريب أن ~~يكون كثير من الفلاسفة مضحكين! # | على هامش السيرة # قصة ممتعة موحية، يتابعها القارئ بشوق، وينتهي منها إلى فائدة. # وهي ممتعة لأنها تنقل الشخوص والأسماء من عالم التاريخ والخبر، إلى عالم الحياة ~~والشعور، فالشخوص فيها آباء وأمهات وأزواج وأحباب، وليسوا بعناوين مسطورة ~~كعناوين المعالم المدثورة في الصحائف المهجورة، والعلاقة بينهم علاقة حب ورحمة، ~~أو بغض ونقمة، أو إخلاص وغيرة، أو طمع وخديعة، وليست علاقة كلام بكلام أو أشياء ~~بأشياء. # وتزيدنا البساطة فيها شغفا بها، وعطفا عليها، فهي قد نقلت إلينا الحياة ~~الجاهلية والحياة في أوائل ظهور الإسلام، كما كان يألفها أصحابها لا كما نألفها ~~نحن، أو كما فهموها بالبداهة والفطرة لا كما نفهمها نحن بالتحليل والتعليل. ~~فأسباب انتشار اليهودية في اليمن - مثلا - هي أسباب المعجزة والكهانة والأسرار ~~الغيبية، وليست هي الأسباب التي نعقلها نحن بعد أن نعرضها على الفكر، ونقابل ~~بينها وبين النظائر والأشباه، وإنكار الكاهن اليوناني لأساطير الوثنية هو إنكار ~~الإلهام والرؤيا، وليس بإنكار التمحيص والتنفيذ، وكذلك كل ما في القصة من أسباب ~~ومن ms559 إيمان ومن إنكار، قال قائل من اللاغطين بالنقد على غير بصيرة: ما أحسب إلا ~~أن الدكتور طه حسين قد شبع من إغضاب الجامدين فهو يتصدى هنا لإغضاب المحدثين، ~~وما أحسب إلا أنه يكتب ليثير ويستثير! فمرة تقع النوبة على أهل الجمود، ومرة ~~أخرى تقع النوبة على أهل التجديد! # قلت: بل أنا أحسب غير ذلك ولا أرى في الأمر شيئا من قصد الإثارة والإغضاب. ~~أحسب أن الدكتور طه قد ملئ إعجابا بالنسق الهومري في تمثيل وقائع الأبطال ~~وأنباء العصور، فأراد أن يخرج لنا إلياذة نثرية عربية، يشترك فيها عالم الشعر ~~البليغ، وعالم التاريخ الصادق، وتجري حوادثها في آفاق الزمان الغابر الذي لا ~~حدود فيه بين الغيب والشهادة وأسرار الخيال والحقيقة، فنحن نفهم الإلياذة ولا ~~نجهلها أو ننكرها لأنها قد أفرغت في ذلك القالب وانتظمت على ذلك الأسلوب، ثم ~~نحن نفهم «هامش السيرة» ولا نجهله أو ننكره؛ لأنه نقل إلينا الجاهليين كما ~~كانوا في حياتهم، وعقائدهم، وأفكارهم، ولم ينقلهم إلينا كما نكون نحن لو أننا ~~انتقلنا بزماننا إلى زمانهم، فهل أصاب الدكتور أو أخطأ؟ وهل أحسن من ناحية ~~القصص أو لم يحسن؟ أما أنا فأرى أن أسلوب التعليل والتحليل لا يزداد شيئا ~~كثيرا لو أننا جعلنا الجاهليين عصريين يعيشون في القرن العشرين، ولكن أسلوب ~~القصص يخسر كثيرا من البساطة والتخيل، لو أننا سردنا القصة معللين ~~محللين. # وأقل ما يقال في هذا المعرض أن شفاعة الدكتور فيما اختار من أسلوب ليست ~~بالشفاعة الضعيفة ولا المردودة، وأن حجة الناقدين عليه ليست بأقوى من حجته ~~عليهم. بل لا حجة عليه للناقدين ولا وجه هنا للقوة والضعف في الاحتجاج. إنما ~~كانوا يزنون كتاب الدكتور بميزان العلم العصري لو أنه كان يقصد إلى العلم ~~العصري فيما كتب ثم أخطأ في التطبيق أو أساء في التفسير، فأما وهو لم يقصد إلى ~~ذلك ولم يحاوله ولم يرنا قط أنه حاوله فأي معنى للاعتراض عليه غير حب ~~الاعتراض؟ ذاك كمن يحمل إليك الآنية الأثرية فتقول له: إن آنيتك ليست من ms560 طراز ~~الأواني التي نراها اليوم على الموائد. نعم، ومن قال لك إنها كذاك. إنما جمالها ~~في وضعها الأثري ومعانيها الأثرية، فإن قبلتها فقد فهمتها، وإن لم تفهمها فليس ~~الذنب على الأثريين! # لكننا لا نريد بما تقدم أن قارئ «الهامش» لن يفهم الوقائع الجاهلية، ولا البيئة ~~التي ظهر فيها النبي - عليه السلام - على الوجه الصحيح والوضع المعقول ~~المستقيم. # كلا! بل هو يفهمها صحيحة مستقيمة من موضعين اثنين بدلا من موضع واحد. # يفهمها كما كانت في أعين الجاهليين، ثم يفهمها إذا شاء واستطاع كما تبدو في ~~أعين المحدثين، فيجمع بين زمانين، ويرى الصورة المرسومة في نورين ~~مختلفين. # ولا تظن أن قارئا مستنيرا يطلع على «هامش السيرة» حق الاطلاع إلا وهو مستطيع ~~أن يعرف المقدمات والبشائر التي هيأت البيئة لظهور النبي وظهور الإسلام. # فهاهنا قبيلة نبيلة قد استأثرت بمناسك البيت الحرام، واستقلت بأعباء ~~السدانة. # وها هنا رجل من تلك القبيلة يعرف الهواتف الغيبية، ويبلغ من تقواه أن يعرض عن ~~كنوز الذهب والسلاح وهو فقير أعزل، وأن ينذر ابنا من أبنائه للآلهة فلا يعدل ~~عن التضحية به إلا أن تحله الآلهة أو يحله الكهان. # ذلك الرجل هو عبد المطلب جد النبي عليه السلام. # ها هنا فتى وسيم وضيء محبوب، يتقدم إلى الموت راضيا إذا دعاه إليه أبوه، وكان ~~في الموت إيفاء بنذر البيت الحرام. # ذلك الفتى هو عبد الله أبو النبي عليه السلام. # وها هنا طفل يولد، فكأنما لم تخلق قبيلته، ولا آباؤه، إلا لتكون وسيلة إلى ~~ظهوره. # يحمل به فيتم أجل أبيه. # ويدرج ويترعرع فيتم أجل أمه. # ويشب قليلا فيتم أجل جده وكفيله. # فكل شيء يهيئ له المكان ويمهد له الطريق، وكل ما عدا هذه التهيئة، وذلك التمهيد ~~فضول. # واقرأ خلائق آبائه وآله، وتعلم كيف استحقوا أن يورثوه ما ورث من فطرة، وقنوت، ~~وفطنة، وكيف كان أعلاهم كعبا، وأوفاهم نصيبا، وأعظمهم شأنا، ولكنه كان سليل ~~ذلك الشرف ووريث ذلك البيت لا مراء. # وفي خلال ذلك أي رحمة، وأي مروءة، وأي خليقة إنسانية أطهر ms561 وأبر وأدنى إلى القلب ~~مما اشتملت عليه السيرة في مختلف الأعمار والأطوار؟ # يتيم يعطف على اليتامى، وربيب أمة ضعيفة يحض على بر الإماء الضعاف، وفقير يوطئ ~~أكناف العيش للفقراء، وتقي من معشر أتقياء يغض من كبرياء السروات، وهو في ~~الذروة بين السروات، وصاحب دين لا تأخذه في الدين هوادة ولا ينحرف عنه إلى رحم ~~أو قرابة، وكل أولئك في صورة إنسانية محببة قريبة إلى الفكر والبداهة، فهي صورة ~~ممتعة وموحية، وهي خليقة من أجل ذلك أن تشوق وأن تفيد. ~~••• # قرأت «هامش السيرة» فلم أنكر سياقها في موضع من المواضع، ولم أتمن لها قط أن ~~تكون على غير ما اختار المؤلف أن تكون. # وغاية ما عندي من النقد لها أنني وددت لو ضمت من الصور الشخصية التي لازمت ~~طفولة النبي فوق ما ضمت؛ لأن صورة الخلق الجاهلي أو صورة البعثة النبوية لن تتم ~~بغير مثال من جحود الجاهلية، وسودة العصبية، وهل كان تمثيل أبي لهب هنا بعيدا ~~من الموضع أو بعيدا من الزمان؟ لقد كان لزاما أن نعرف الجاهلية التي لقيت ~~النبي بالغطرسة والعرام، وكانت صورة أبي لهب من ألزم الصور إلى جانب عبد الله ~~في هذا المقام، ولا سيما بعد أن ساومته خديجة على شراء «ثويبة» التي أرضعت ~~النبي لكي تعتقها، وترفه عنها بأمره، فأبى أبو لهب واستكبر، وهل يكمل تصوير ~~الجاهلية بغير مثل جاف هذا الجفاء، غليظ هذه الغلظة، عتل لا يعي شيئا غير ~~الصلف والتجبر على الضعفاء والفخر الجهول والكبرياء بالأجداد والآباء ووفرة ~~الثراء؟ وهل من صورة أقرب إلى هذا المقام وأشبه بتمثيل الجانب الخشن فيه من أبي ~~لهب؟ إن مكانه لمفقود في هامش السيرة، وإن الجاهلية لن تبدو لنا في جانبها الذي ~~استوجب ظهور الإسلام، وشقي به المسلمون أول الأمر، إلا على صورة من هذا ~~الغرار. ~~••• # وبعد ففي «الهامش» عبارات يقف عندها القارئ؛ لأنه يجزم بنبوها في كلام أهل ~~الزمان. # مثال ذلك ما أجراه المؤلف على لسان الأمة «ناصعة»، وهي تخاطب سيدتها فتقول: ~~«مهلا يا سيدتي، ارفقي ms562 بنفسك، ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب.» # ولم يكن الإماء، ولا غير الإماء، يفهمن الخيال بالمعنى الذي نفهمه الآن. # ومن أمثلته أيضا قول فاطمة الخثعمية لعبد الله: «إن خير ما في الأمكنة والدور ~~أنها ثابتة باقية، لا تتحول ولا تزول إلا في بطء، وإن شر ما في الزمان أنه لا ~~يعرف الهدوء ولا الاستقرار» وهذا الكلام عن الزمان والمكان أدنى إلى كلام ~~المتفلسفة في القرن الثالث والرابع منه إلى كلام النساء فيما قبل البعثة ~~النبوية. # وإنها لهفوات لا يتجاوز عنها في نقد «هامش السيرة» إذ كانت شفاعته الكبرى أنه ~~يحكي زمانه أبسط الحكاية في العقيدة، والإدراك، والتعبير. # لكنها طابع العصر أبى إلا أن يتراءى في كتاب أوشك أن ينقلها إلى عصره كل شيء، ~~ولم يكد يذكرنا المؤلف فيه بنفسه إلا مرة أو مرتين. # | مع المتنبي # الشاعر الذي لا نعرفه بشعره، لا يستحق أن يعرف. # لأن كلام الشاعر هو الصلة الكبرى بيننا وبينه، فإن لم يكن هذا الكلام معبرا عن ~~نفسه واصفا لها، ممثلا لشعورها فليس هو بطائل، وإن كان معبرا عن النفس ~~مستجمعا لصفاتها وأطوارها فهو حسبنا من معرفة بالشاعر وترجمة لحياته، لا يزيد ~~عليها التاريخ إلا ما هو من قبيل التفصيل والتفسير، أو من قبيل الحشو ~~والفضول. # لهذا نعتقد أن صديقنا الدكتور طه حسين، قد اعتمد على خير معتمد حين شرع في ~~الكتابة على المتنبي وليس معه غير ديوانه، فإننا إذا عرفنا المتنبي كما هو ماثل ~~أمامنا في قصائده وأقواله لم يبق وراء ذلك من حقيقة الرجل، إلا ما يتشابه بينه ~~وبين سائر الناس، وقد يجوز أن يقيم أناس في حلب كما أقام فيها أبو الطيب، وأن ~~يرحلوا إلى مصر كما رحل إليها، وأن تتوارى أنسابهم وأسماء آبائهم وأمهاتهم، كما ~~توارى كل ذلك في ترجمة حياته، ولكن الذي لا يجوز أن يتشابه فيه صاحبنا وغيره من ~~الناس قديما وحديثا هو هذا الديوان أو هو أجزاء هذا الديوان متفرقات أو ~~مجتمعات. # قال الدكتور في ختام الكتاب: «وأكثر من هذا ms563 أني أخذت أرى رأيا ما أظن إلا أن ~~كثيرا من الناس سيضيقون به ولعلهم أن ينكروه علي، وقد ضقت به أنا وأنكرته ~~على نفسي، ولكني لم أزدد إلا إمعانا فيه واطمئنانا إليه وتعجبا من أني قد ~~انتظرت هذه السن وهذا الطور من أطوار الحياة قبل أن أفطن له، أو أطيل التفكير ~~فيه، وهو أن شعر المتنبي لا يصور المتنبي، وأن شعر الشعراء لا يصور الشعراء ~~تصويرا كاملا صادقا يمكننا من أن نأخذهم منه أخذا مهما نبحث ومهما ~~نجد في التحقيق. وما أريد أن أطيل الاستدلال على ذلك، ولا أسلك إلى هذا ~~الاستدلال هذه الطرق الملتوية التي يسلكها الفلاسفة والعلماء والأدباء أيضا، ~~وإنما أريد أن ألفتك إلى شيء يسير، وهو إن صور شيئا فإنما يصور لحظات من ~~حياة المتنبي، كما أن هذا الكتاب الذين بين يديك إن صور شيئا فإنما يصور لحظات ~~من حياتي أنا لا أكثر ولا أقل.» # وهذا كله صحيح! # ولكنه ينتهي إلى نتيجة غير التي انتهى إليها الدكتور. # ديوان المتنبي وديوان من شئنا من الشعراء لا يصور إلا لحظات من حياتهم، نعم، ~~ولكنها اللحظات التي تعنينا، واللحظات التي نعرفهم بها، واللحظات التي لا شأن ~~لنا بغيرها. # كذلك وجه الإنسان لا يمثل لنا إلا جزءا يسيرا منه لا يبلغ نصف معشاره، ولكنه ~~هو الجزء الذي نعرفه به بين عشرات الملايين ممن عاشوا أو يعيشون على هذه ~~الغبراء، ولحظات الحياة التي يمثلها شعر الشاعر إنما هي اللحظات التي تعرفنا به ~~أكمل تعريف مستطاع، فإن هي لم تفلح في تعريفنا به فليس شيء غيرها بمفلح على ~~الإطلاق، ولا سبيل إلى شيء وراء ذلك يعرفه الإنسان عن الإنسان. # وعلى هذا يحق للدكتور أن يطمئن إلى رأيه فلا يضيق به ولا يخشى أن يضيق به ~~الناس، فنحن لا نبغي من المتنبي ولا من غيره إلا هذه اللحظات المعدودات، ولو ~~أننا عرفنا لحظات حياته منذ استهل مولودا إلى أن لفظ النفس الأخير مقضيا ~~عليه، لما زادتنا كثيرا عن هذا الجزء المحدود الذي حصره لنا ms564 الديوان، ولوجدنا ~~بعد أن جمعنا ملايين الملايين من اللحظات أننا لم نعرف بها المتنبي كما نريد أن ~~نعرفه، بل عرفناه تارة حيوانا يهضم الطعام كما يهضمه سائر الحيوان، وتارة أخرى ~~عروقا تنبض كما تنبض سائر العروق، وتارة غير هذه وتلك رئتين تتنفسان كما تتنفس ~~سائر الرئات، وقس على ذلك جميع التارات وجميع اللحظات، أما المتنبي الذي نبغيه ~~فسيظل هو المتنبي المعروف في ديوانه بلا زيادة ولا نقصان، أو بزيادة عرضية ~~ونقصان ليس بذي بال. # نعم، إن الشاعر قد يغالط في بعض كلامه، بل قد يغالط في جميع كلامه، ولكن ~~المغالطة تكشفه ولا تخفيه، وتعين على معرفته أضعاف ما تعين على جهله: تكشفه على ~~الأقل إنسانا مغالطا، وتكشف لنا بعد ذلك طريقته في المغالطة وفي حيلها ~~وأساليبها وأغراضها؛ وتبدي لنا منه صورة يتميز بها بين الصور جهد ما يستطاع ~~التمييز. # فصحيح إذن أن شعر المتنبي إن صور شيئا فإنما يصور لحظات من حياته، ولكن ~~صحيح كذلك أنه إذا صور لنا هذه اللحظات فقد صور لنا كل ما نبغيه، وأوفى ما ~~يبلغه التصوير. # ويقول الدكتور طه في صدر الكتاب: «لا أريد أن أدرس المتنبي، إذن فالذين يقرءون ~~هذه الفصول لا ينبغي أن يقرءوها على أنها علم ولا على أنها نقد؛ ولا ينبغي أن ~~ينتظروا منها ما ينتظرون من كتب العلم والنقد، وإنما هي خواطر مرسلة، تثيرها في ~~نفسي قراءة المتنبي في قرية من قرى الألب في فرنسا قراءة في غير نظام ولا ~~مواظبة، وعلى غير نسق منسجم. إنما هي قراءة متقطعة متفرقة.» # والذي أعتقده أن الدكتور لو تعمد «العلم والنقد» واصطحب المطولات والحواشي ~~والتعليقات لما أضاف في دراسة المتنبي شيئا هو خير من هذه الخواطر المتفرقة ~~والفروض المحتملة، وأرى أنه قد رجع إلى بعض الكتب المفصلة بعد أن شرع في كتابه ~~على نية غير نية الدراسة العلمية والنقد الممحص الدقيق، ولكنه أحسن بفروضه أكثر ~~من إحسانه بمنقولاته ومروياته، وألمع في هذه الفروض إلى آراء شتى خليقة بالتأمل ~~والمتابعة إلى أقصى وجوهها، ولا ms565 سيما كلامه في صلة المتنبي بالقرامطة، وحقيقة ~~الدعوة الدينية والاجتماعية التي كان يدعو إليها، فهذه وأمثالها فروض لم يرسلها ~~الدكتور على أنها وقائع ولا على أنها ترجيحات ولم يعطها من القيمة في معرض ~~الدرس أكثر مما تعطاه الخواطر المحتملة، إلا أنها مع هذا خواطر هادية وليست ~~بالخواطر المضللة، أو هي ظنون في الطريق المؤدي إلى الغاية، وليست ظنونا في ~~الطريق المنقطع عن تلك الغاية، وهذه هي الإضافة المشكورة إلى ذخيرة الفهم، ~~والأدب، والتفكير، وهي بهذه المثابة أنفس من إحصاء المعلومات، واستعراض الآراء ~~من هنا وهناك. ~~••• # ويطول بي القول إن أنا سردت في هذا المقال ما نتفق فيه بعض الاتفاق أو كل ~~الاتفاق، فالرأي إذن أن ألم بمواضع الخلاف، وهي غير قليلة في الكتاب، ~~وأكتفي بالإشارة إلى نماذج منها معظمها في الحكم على صناعة المتنبي، أو في ~~الحكم على ذوقه وطبعه، فهي من ثم بمعزل عن جانب الفرض والتاريخ. # روى الدكتور هذين البيتين من شعر المتنبي في صباه: # بأبي من وددته فافترقنا # وقضى الله بعد ذاك اجتماعا # فافترقنا حولا فلما التقينا # كان تسليمه علي وداعا # ثم قال: «أعجب الفتى بهذا المعنى، فأراد أن ينظمه وأن يصل إليه، فتكلف لذلك ~~بيتا ونصف بيت، وأنت ترى مظهر التكلف في قوله: «بأبي من وددته فافترقنا»، ~~فكلمة وددته هنا نابية قلقة مكرهة على الاستقرار في مكانها الذي هي فيه. أراد ~~الصبي أن يقول أحببته فلم يستقم له الوزن، فالتمس كلمة تؤدي له هذا المعنى، ~~وتلائم هذا الوزن فلم يجد إلا وددته هذه.» # والخلاف بيننا وبين الدكتور في طريقة النقد هنا جد بعيد، فنحن نرى من جهة أن ~~أبا الطيب لو أراد أن يقول: «أحببته» بدلا من «وددته» لاستقام له الوزن مع بعض ~~التجوز الكثير في الشعر المقبول في العروض، ونرى من جهة ثانية أن أبا الطيب كان ~~مستطيعا أن يستخدم هنا «حببته» الثلاثية بدلا من أحببته الرباعية، كما ~~استخدمها في قوله وهو شاعر كبير: # حببتك قلبي قبل حبك من نأى # وقد كان غدارا فكن أنت ms566 وافيا # فلا ضرورة في الوزن ولا استكراه، وفضلا عن هذا لا نظن كثيرين يحسبون مع ~~الدكتور أن «وددته» في موضعها من البيتين لا تعبر عن معناها الصحيح، الذي لا ~~تعبر عنه كلمة غيرها، فالمودة هي الكلمة العربية التي تقابل كلمة # Tendresse # في الفرنسية، وتطابق معناها ~~تمام المطابقة، وهو ذلك الحب الرفيق الذي فيه حنو وشوق وليس فيه عنف ولا ~~اعتلاج، وليست في اللغة العربية كلمة هي أصلح لهذا المعنى من «وددته» التي ~~اختارها الشاعر، وليجرب الدكتور أن يغيرها في كلام منثور فسيعلم أن هذه الكلمة ~~في نظم المتنبي الصبي هي أشبه الكلام بنظم المتنبي الكبير. # ومن المحقق أن «المودة» ومشتقاتها ليست من الكلمات التي يلجأ إليها شاعرنا ~~اضطرارا، أو لعجز في الوزن والصياغة، فهي مألوفة في قصائده العديدة، وتكاد ~~تكون لازمة له في التعبير عن الحب بشتى معانيه، ونذكر أمثلة على ذلك منها ~~قوله: # وما الخل إلا من أود بقلبه # وأرى بطرف لا يرى بسوائه # وقوله: # وكل وداد لا يدوم على الأذى # دوام ودادي للحسين ضعيف # وقوله: # وإن بليت بود مثل ودكم # فإنني بفراق مثله قمن # وقوله: # ولما صار ود الناس خبا # جزيت على ابتسام بابتسام # وقوله: # إذا لم تجزهم دار قوم مودة # أجاز القنا، والخوف خير من الود # وقوله: # ولقد منحت أبا الحسين مودة # جودي بها لعدوه تبذير # وقوله: # ما لي لا أمدح الحسين ولا # أبذل مثل الود الذي بذله # وقوله: # ولا تطمعن من حاسد في مودة # وإن كنت تبديها له وتنيل # وقوله: # منع الود والرعاية والسؤد # د أن تبلغا إلى الأحقاد # وقوله: # أود من الأيام ما لا توده # وأشكو إليها بيننا وهي جنده # وقوله: # هو الوفي ولكني ذكرت له # مودة فهو يبلوها ويمتحن # وقوله: # سقاني الخمر قولك لي بحقي # وود لم تشبه لي بمذق # وقوله: # أقصر فلست بزائدي ودا # بلغ المدى وتجاوز الحدا # وقوله: # صار ما أوضع المخبون فيه # من عتاب زيادة في الوداد # وقوله: # فما تركوا الأمارة لاختيار # ولا انتحلوا ودادك من وداد # ومثل هذا التكرير لهذه الكلمة ms567 جدير بالتسجيل؛ لأنه ذو دلالة نفسية فوق دلالته ~~الصناعية أو اللغوية، فهو يدل على افتقار الشاعر طول حياته إلى الود ~~والأوداء، حتى قنع بالتزييف والطلاء كما قال: # كفى بك داء أن ترى الموت شافيا # وحسب المنايا أن يكن أمانيا # تمنيتها لما تمنيت أن ترى # صديقا فأعيى، أو عدوا مداجيا # وهي ظاهرة لا نظير لها في عامة الشعراء. # وعاب الدكتور هذه الشطرة: «أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني» فقال: «إن أسفا ~~هنا كلمة لم تأت إلا لتقيم الوزن، ونبوها عن موضعها أظهر من أن يدل ~~عليه.» # وعندنا أن الطريقة المثلى لتحقيق الكلام الذي تجيء به ضرورة الوزن أن نحذف ~~الكلمة وننثر البيت وننظر بعد ذلك إلى قوة المعنى وقوة الأثر، فإن بقيت للمعنى ~~قوته وبقي له أثره؛ فالكلمة المحذوفة حشو لا موجب له غير إقامة العروض، فهل ~~«أسفا» في الشطرة التي عابها الدكتور من الكلمات التي يصدق عليها هذا القياس؟ ~~لا نظن، بل هي كلمة تتعلق بها كل قوة البيت كما تتعلق بها نغمته الموسيقية ~~ودلالته في الشعور؛ بسبب البلى يوم النوى وهو الأسف والحسرة. # وأنكر الدكتور على المتنبي قوله: # حاشى لمثلك أن تكون بخيلة # ولمثل وجهك أن يكون عبوسا # ولمثل وصلك أن يكون ممنعا # ولمثل نيلك أن يكون خسيسا # فقال: «ولست أدري بأي امرأة أراد المتنبي أن يشبب في هذين البيتين؟ وما أرى إلا ~~أنه كان يشبب بمن لا يحسن التشبيب بها من النساء، فالمرأة التي ترتفع عن ~~البخل، ويرتفع وصلها عن التمنع، ليست خليقة بالشعر إلا حين يقصد إلى ~~هجائها.» # وأنا لا أبرئ المتنبي من «قلة الذوق» في كثير من شعره، ولكنني لا أحسب هذين ~~البيتين بين الشواهد على قلة ذوقه؛ لأنه قد بين فيهما أن نيل صاحبته غير خسيس، ~~فهو إذن ليس بالنيل المبذول لجميع الناس، ومتى كان كذلك وكان نيلا موقوفا على ~~صاحبها فأي ضير على هذا الصاحب أن يلومها على البخل ويطمع منها في ~~المزيد؟ # والدكتور يعتقد أن المتنبي دخل في طور جديد من نظمه بقصيدته ms568 التي أولها: # أزائر يا خيال أم عائد # أم عند مولاك أنني راقد # لأنه كما قال: «يصرع في القصيدة الواحدة مرة أو مرتين، أما في هذه القصيدة فهو ~~يصطنع التصريع مرات.» # ولو رجع الدكتور إلى البائية التي مطلعها: # بأبي الشموس الجانحات غواربا # اللابسات من الحرير جلاببا # لوجد فيها غير المطلع خمسة أبيات مصرعة، وهي مما نظم في عهد الشباب. # والدكتور يرى أن المتنبي كان يشير إلى اعتقال كافور إياه في مصر، حين قال يمدح ~~أبا شجاع: # وإن تكن محكمات الشكل تمنعني # ظهور جري فلي فيهن تصهال # فهو كما قال الدكتور: «لم يستطع أن يخفي تأذيه بهذا السجن الذي يمسكه في ~~الفسطاط» وهذا هو «الشكل المحكم» الذي عناه في البيت المتقدم. # وعندنا أن التفسير الشائع لذلك البيت أصح وأدل على ما عناه الشاعر: وهو أنه لم ~~يستطع من جزاء أبي شجاع إلا أن يمدحه بالكلام، إذ لم يكن لديه جزاء المال ~~والحطام، وكأنه في هذه الحالة جواد مقيد لا يملك غير الصهيل ولو أنه يقصد حبس ~~كافور إياه لكان معنى البيت أنه يصهل ويمدح أبا شجاع؛ لأنه لم يستطع الجري من ~~سجن كافور! وليس المدح بمستقيم على هذا المعنى. ~~••• # أما أخلاق الشاعر فموضع الخلاف عليها بيني وبين الدكتور أنني أقرب إلى جانب ~~العذر وأن الدكتور أقرب إلى جانب الملام، فهو لم يتهم الرجل بخلق ليس فيه، ~~ولكنه لم يطلب له العذر حيث تتضح معاذيره، ولم يزل يشتد في تفنيده، ويجتهد في ~~اتهامه حيث يكون الاضطرار أغلب على الرجل من الاختيار. # وما من شك في تهور المتنبي وطمعه فهما خليقتان من خلائقه المشهورة. بيد أن الشك ~~كل الشك في استحقاقه اللوم؛ لأنه ترك سيف الدولة ورحل إلى كافور، وما أنصفه ~~الدكتور ولا استوضح عذره حين قال: «إن الذين يقرءون شعر المتنبي وهذه الحكم ~~البالغة والأمثال السائرة التي يرسلها إرسالا، ويكيلها كيلا يخدعون عن ~~الشاعر، فيظنون به الفطنة والحكمة والذكاء، ولكن الذين يتدبرون سيرته، ويقرءون ~~فخره ومدحه وهجاءه، يعرفون طبيعة الشاعر ويردونه إلى مكانه ms569 الحقيقي من خصال ~~الرجل الذكي اللبق، وإلا فكيف نفهم أن ينفق المتنبي تسعة أعوام يمدح فيها ~~الأمير الحمداني، ويعيب فيها خصومه من أهل مصر والعراق، ثم يظن بعد ذلك أن ~~المصريين يعدونه صادقا ويبذلون له الآمال والأماني، وهم يأخذون أنفسهم بالوفاء ~~له والاطمئنان إليه. مهما يكن من شيء قد انخدع المتنبي لكافور، وأقبل مستسلما ~~له متهالكا عليه واثقا به.» # ولو شاء الدكتور لما حار في فهم هذا أقل حيرة، ولفهم أن صاحبنا مكره لا حيلة له ~~فيما صنع، وأنه لم يكن له بد من قصد كافور، بعد أن هموا بقتله في جوار سيف ~~الدولة مرة، وبعد أن رخص سيف الدولة في قتله مرة أخرى، وبعد أن شجوا رأسه بمحضر ~~الأمير مرة ثالثة، وبعد أن علم أن ذهابه إلى بغداد أو الكوفة غير مأمون ولا ~~مأمول، فليكن بعد ذلك كله أحكم الحكماء وأصدق الطامعين، فما هو إلا مدفوع على ~~الرغم منه كما قال «ومدفوع إلى السقم السقيم.» # وما من شك كذلك في بخل الرجل وحرصه ~~الشديد على المال، ولكننا نجور عليه ولا شك إذا زعمنا أنه بلغ بالبخل حد ~~الإجرام والاستهانة بالنفس البشرية، وأن الشيء الخطير حقا كما قال الدكتور: ~~«هو إقدام المتنبي على القتل في سبيل ما كان يسرق هذا العبد من متاعه، فذلك لا ~~يصور بخله وحرصه على المال فحسب، وإنما يصور ما هو شر من هذا. يصور استهانته ~~بالحياة الإنسانية، واستباحته الدم الإنساني في سبيل متاع يقوم بالدراهم ~~والدنانير، وأقل ما يوصف به هذا الإثم أنه لا يصور نفسا شاعرة متحضرة رقيقة ~~الحس متأثرة بالفلسفة، فضلا عن الدين الذي لا يبيح دماء الناس في مثل هذه ~~الصغائر، ولو أن حياة المتنبي كلها خلت من النقائص والعيب لكانت هذه الحادثة ~~وحدها خليقة أن تسبغ عليها لونا أحمر قانيا يبغضها ويبغض صاحبها إلى ~~الناس.» # كلا! إن المتنبي لا يستحق كل هذا، وإنه لم يقتل ذلك العبد بخلا وحرصا على ~~دراهم ودنانير، وإنما قتله خوفا على حياته، وخشية من تمادي الشر ms570، واجتراء ~~عبيده على اغتياله بعد اجترائهم على سرقة ماله، وأي مناص للمتنبي من هذه ~~الفعلة، وهو هارب من السلطان متفرد في البوادي متعرض للانتقاض، ولا حارس له ولا ~~مطالب بدمه غير أولئك العبيد الذين بدءوا يطمعون في ماله، واحتاجوا أسرع الحاجة ~~إلى الزجر والصرامة والتخويف؟! إنما الوجه أن نلتمس حادثا آخر أقدم فيه ~~المتنبي على القتل، وهو آمن مستقر في سربه خشية على الدراهم والدنانير. أما ~~فعلته هذه فهي فعلة الناجي بنفسه الخائف من سطوة لصوصه، ولا ملامة على من ~~يفعلها مكرها في شرع القانون ولا في شرع الأخلاق. # ولقد أطلنا ولا حد للكلام في نقائض المتنبي، ونقائض الآراء في شعره وطباعه. ~~فلنقل موجزين إنه رجل ذو فضائل وذو عيوب، وأنه شقي بفضائله في ذلك الزمن ~~الموبوء أكثر من شقائه بعيوبه، وما من أحد يسمع قوله بل صرخته: # أما في هذه الدنيا كريم # تزول به عن القلب الهموم # أما في هذه الدنيا مكان # يسر بأهله الجار المقيم # تشابهت البهائم والعبدى # علينا والموالي والصميم # وما أدري أذا داء حديث # أصاب الناس أم داء قديم # إلا رأى من ورائها بليته بالناس أعظم من بليتهم به، وظلمه للناس دون ظلمهم ~~إياه، واستحقاقه للعذر أكبر من استحقاقه للملام. # | كناشة الأسبوع # اقترحت على نفسي، واقترح علي بعض صحبي، أن أجعل للكتابة الأدبية يوما من أيام ~~الأسبوع على هذه الصفحة التي أشغلها بأحاديث السياسة سائر أيامه، فأجبت ~~مقترحي، ومقترح صحبي، ولم يبق إلا اختيار الموضوع الصالح للتكرار والاستمرار، ~~فما عسى أن يكون ذلك الموضوع؟ # وأحسب الشرط الأول أن نختاره موائما لقراءة الصحف اليومية، حيث يتناول الكتاب ~~المسائل العامة تناولا عاما يقل فيه التخصص، ويكثر فيه التعميم، ولا يحتاج ~~قارئه اليوم أو غدا إلى مراجعة ما سبق من فصول. # فمع التزام هذا الشرط الذي لا بد منه في الآونة الحاضرة ماذا نختار من أبواب ~~الكتابة؟ وماذا يلائمني ويلائم القارئ من عنوان شامل لكل ما يكتب في هذا ~~الباب؟ # خطرت لي الكتابة عن المطبوعات الحديثة من مصنفات الآداب ms571 وما إليها، فقلت: هو ~~موضوع صالح للتناول في كل صفحة أدبية، داخل في كل باب يقع عليه الخاطر، بل هو ~~أدخل في جميع الأبواب من كل موضوع، وإذا صح تعريف أناتول فرانس للنقد «إنه هو ~~سياحة روح متطلعة - أو عظيمة - بين آيات الآداب والفنون.» فأحاديث السياحة أمتع ~~الأحاديث، وأقمنها بالتجديد والاتصال مع قراءة الصحافة اليومية، وهي أشبه ~~بالرياضة السريعة والانتقال من بلد في الذهن إلى بلد، أو من كتاب إلى ~~كتاب. # لكن أين هي الكتب التي توالينا وتلاحقنا بالصدور من المطابع كل أسبوع. # وإذا رجعنا إلى القيمة دون العدد فهل نخطئ إذا حورنا السؤال وسألنا: بل أين هي ~~الكتب التي توالينا وتلاحقنا بالصدور كل شهر، بل كل عام؟ # إن هذه الكتب لجد نادرة، وقد يمنع الناقد مانع آخر أن يغشى هذا الباب، وهو ضيق ~~الصدور بنقد الناقدين، فهبنا أغضينا عن هذا المانع، وقلنا مع القائلين: إن ~~السائح الأدبي خليق أن يقتحم من المضايق كل محرجة حتى ضيق الصدور، فهل نظفر ~~بخمسين كتابا يتسع للنقد والتعقيب، ويجدي نقده والتعقيب عليه كل عام، وهل ~~يتسنى للناقد الأمين أن يدرس الكتاب من هذه الكتب النادرة في مدى أسبوع ~~واحد؟ # فهمس في خلدي وأنا أسائل نفسي هذه الأسئلة هامس يقول وهو يتردد: «وما الرأي في ~~الكتب الأوربية»؟ # ولقد حق للهامس أن يتردد وهو يناجيني بهذا الإيماء، وإلا فما الرأي في ملاحقة ~~الطوفان؟ وما الرأي في عالم فسيح شامل للغرب كله ، لا تنقضي منه ساعة واحدة على ~~غير كتاب نفيس في مسألة تمت إلى الأدب والتفكير الأدبي من قريب أو ~~بعيد؟ # أمامي أربعة ثبوت يرسلها إلي الطابعون الإنجليز مدونا فيها ما يعتزمون إصداره ~~في مستهل الخريف، وتحت كل اسم من أسماء هذه الكتب صفحة كاملة، تتجاوز تلخيص ~~فكرة الكتاب واقتباس بعض الفهرس للدلالة على ما فيه. # أمامي هذه الثبوت الأربعة، وأنا أعوم فيها بنظري عوما عسى أن أقف عند جزيرة ~~تغنيني في هذه السياحة عن سائر الجزر فلا أجد منها إلا كل جزيرة خضراء زاهية ms572 ~~يطول عندها الوقوف بل المكوث، وهذا في ثبوت الأسماء فكيف بالكتب وألوف الصفحات؟ ~~وهذا في مستهل الخريف فكيف بأواسطه وأخرياته وما يليه من ثبوت الشتاء؟ وهذا في ~~أربعة بيوت فكيف بأربعين؟ وهذا في إنجلترا فكيف بالأقطار كافة؟ # ليكاد الإنسان يعول هنا على القرعة والمصادفة دون التمحيص والتدقيق في ~~الاختيار. # أو يكاد الإنسان ينطوي على الجوع؛ لأنه لا يدري في هذا الخوان الحافل أين يكون ~~الابتداء؟ وكيف يطيب الانتهاء؟ # وهبنا اجتزأنا بقضمة من ذلك الخوان كل أسبوع، فمن الواجب قبل هذا ولا جدال أن ~~تكون هذه الكتب من العموم والشيوع في مصر، بحيث يصح التخاطب فيها والتعقيب ~~عليها بين الناقد وكثرة القراء، أو بحيث يوقن الناقد أنه سيضع يده على ما شاء ~~من الكتب، فإذا هو مصادف ذلك المبحث الشائع الذي لا مناص منه لخلق «الجو ~~الفكري» حول كل كتاب منقود. # فكيف يتأتى نقل أوربا إلى مصر، أو نقل مصر إلى أوربا لتوحيد جو ليس توحيده ~~بأيسر من توحيد أجزاء الشمس والهواء؟ إنما نحن بصدد السياحة لا بصدد الخوارق ~~والمعجزات! # نعم، إن بعض الكتب قد يغنيك تلخيصه عن اتساع أفق المطلعين عليه، ولكنك لا تضمن ~~الاطراد في هذه المزية، ولا يزال فيها بعض الاعتساف والاصطناع، بعد كل محاولة ~~وتقريب، كالذي يحكي لك طعم ما أكل لتشركه في لذة الأكل، وفي هضمه، واستمرائه، ~~وقلما تغني حقيقة الحكاية عن حقيقة الطعام. # فماذا إذن نختار إذا عز الاطراد في الكتابة عن المصنفات العربية والمصنفات ~~الأوربية على نحو ما يستراح إليه في صحافة مصرية؟ # خطر لي موضوع طريف طالما فكرت فيه. # خطر لي موضوع «الشخصيات» ودراستها من الوجهة النفسية. # وخطر لي أن هذا الموضوع قد يصح للكاتب أن يتناوله على أسلوبين: # أسلوب أشبه بالكتب منه بالصحف، وذاك أن يخلق الكاتب «شخصية واحدة» تطوف بالناس ~~وبأحوال الحياة، ونستعرضها على مختلف وجوهها فتتجلى في ملاحظتها وملابستها ~~أسرار تلك الشخصية وما جبلت عليه من الغرابة والشذوذ، أو من الألفة التي نهملها ~~وننساها لفرط ما نراها بيننا كل يوم ms573. # هذا أو أسلوب آخر أشبه بالتجدد الصحفي والانتقال الأسبوعي، وذاك أن نرسم في كل ~~أسبوع شخصية من الشخصيات التي نعرفها، ويستطيع القراء أن يعرفوها بالمشاهدة أو ~~بالقياس. # ونحن بحمد الله قد وصلنا إلى طبقة من الارتقاء الاجتماعي يسمح بالإكثار - إن لم ~~نقل بالإفراط - من الشخصيات المنوعة، والنماذج المفرقة، والعناصر الآدمية التي ~~لولا انتماؤها إلى آدم لقلت إنها تنتمي إلى مئات العناصر الحيوانية. # وعلماء الاجتماع يزعمون أن هذا علامة من علامات الارتقاء؛ لأن تشابه الأفراد ~~على نسق واحد خلة تكثر في القبائل الأولية التي يشبه فيها كل إنسان كل إنسان؛ ~~لقلة الملكات الإنسانية، والصناعات الحضرية، والشواغل النفسية التي يتم بها ~~تنوع الأفراد. # فإن صح ما زعموا فنحن بحمد الله في ارتقاء، فقد كثرت بيننا «الشخصيات» حتى لا ~~تجلس في مكان فيه خمسة أو ستة أو سبعة إلا أيقنت أنك واجد بينهم «شخصيات» خمسا ~~أو ستا أو سبعا تتسابق في لفت الأنظار، وجذب الملاحظات: كل منهم له بدواته ~~وعاداته، وكل منهم له حقائقه ودعاواه، وكل منهم لهم علانيته ونجواه، وكل منهم ~~يستغرب من غيره بعض ما هو فيه، وينحى على صاحبه بما هو خليق أن ينحى به على ~~نفسه، فلو جردته نقائض وألوانا لرأيت حربا مستعرة في نفس واحدة، ولكنها حرب ~~بين خصوم تفرقهم النقائض والألوان، وتجمعهم الأنانية والغرور. # فما لنا لا نرسم في كل أسبوع شخصية واحدة من هذه الشخصيات وعندنا منهم ألوف؟ ~~رأي جميل، ولكنه من وحي شيطان خبيث، وإن كان شيطان آداب وفنون! # أفترسم كل أسبوع شخصية مختلفة، ولا تجمع في العام كل من تعرف من الأصدقاء ~~والإخوان؟ # لو كنت رساما بالريشة وقلم الرصاص لنجوت بجريرة ما تصنع؛ لأن المغالطة في ~~دلالة الخطوط غير المغالطة في دلالة الكلمات. # فأما وأنت ترسم بالكلمات والعبارات فأنى لك النجاة من التعريف والتسمية ولو ~~بالكنايات؟ وأنى لك بمن يقبل كل ما فيه؟ وأنى لك بمن يحمد لك الأمانة في رسمه، ~~أو الخيانة في رسم غيره؟ # قد يعرف بعض القراء أننا نجمع في مجالسنا ms574 حديقة للحيوانات الآدمية يحمل فيها كل ~~أديب أو مصور أو ممثل أو معلم أو مغن عنوان حيوان يماثله في الخلقة أو الأخلاق، ~~فما قول القراء إذ يعلمون أن التسمية إنما تكون دائما بإجماع الآراء إلا رأيا ~~واحدا هو رأي صاحب الاسم في كل دور؟ # فالناس على استعداد لحمد الأمانة الفنية في وصف الآخرين، وحمد الخيانة الفنية ~~فيما يخصهم من الأوصاف، ومن عالج الرسم الكتابي للشخصيات بغير الطريقة ~~الديموقراطية التي اتبعناها في حديقتنا فهو ضامن أن يغضب طلاب الأمانة، وطلاب ~~الخيانة على السواء. # قال قائل جرى في خلدي بعد طول الأخوذ والردود: ولم الحيرة وفي وسعك أن تؤلف ~~بين جميع هذه الموضوعات؟ # إن اتفق كتاب عربي يستحق النقد فكتاب عربي، وإن اتفق كتاب أجنبي ميسر التلخيص ~~فكتاب أجنبي، وإن اتفقت شخصية تستعرض الأحوال في مقالة واحدة فشخصية تتولى ~~الاستعراض، وإن اتفقت شخصية مأمونة العواقب في رسمها وتمثيلها فلتكن هي معرض ~~الفرجة في ذلك الأسبوع. # قلت: رأي جميل من شيطان سليم، وما العنوان؟ # العنوان لا يضل مختاره بعد تنويع الموضوعات، وتشتيتها على تلك الأنماط. # العنوان «كناشة الأسبوع». # والكناشة تحتمل السطر والسطرين إن كانت في جيب فرد واحد، فأما إن كانت في جيب ~~جمهرة القراء فهي تحتمل السطور والصفحات كهذه الكناشة، وموعدنا بها صباح ~~الاثنين من كل أسبوع. # | مصطفى كمال # 1 # أحق شخصية بأن يكتب عنها هذا الأسبوع هي شخصية الرجل العظيم، والشرقي ~~العظيم الذي فارق الدنيا منذ أيام، ونعني بها شخصية مصطفى كمال منشئ ~~«تركيا الحديثة»، ونافخ روح الحياة في بنية تلك الدولة التي اشتهرت ~~زمانا باسم الرجل المريض. # ولا ينتظر من كاتب في صفحة أدبية أن يترجم لمصطفى كمال بسرد حوادثه ~~السياسية، وتفصيلات أخباره العامة أو الخصوصية، فهذه على مباينتها ~~لأغراضنا من الكتابة في هذه الصفحة قد ذاعت وتواترت، وعرضت المناسبات ~~المختلفة للكتابة عنها، والعودة إليها عند ثورة مصطفى كمال وعند انتصاره ~~في ميدان الحرب على خصومه، وعند إعلانه الجمهورية وإلغائه الخلافة، ~~وأشباه ذلك من المناسبات الكثيرة حتى لم يبق قارئ صحيفة ms575 لم يسمع عن ~~الرجل ما يسمع عن عظيم من أشهر عظماء المصريين، فلا حاجة بنا إلى ترديد ~~هذه الحوادث والتفصيلات، ولا هي مما يتصل بموضوعات كناشة الأسبوع ~~بسبيل. # إنما يعنينا تقدير مكانته، وتحليل مزاياه، والتعقيب على أهم صفاته ~~وأعماله بالملاحظات النفسية التي تعن لنا وتزيدنا عرفانا به ~~وبأمثاله، كما يعنى المصور بلمحة في العين، أو بعصب في الوجه، أو بلفتة ~~في الرأس أشد من عنايته بوزن الجسم أو بطوله وعرضه. # مكانته # وفي اعتقادنا أن مصطفى كمال أعظم الحاكمين بأمرهم شخصية في عصرنا ~~الحديث، ونفسر ذلك فنقول: إن فضل قدرته الشخصية في إنجاز أعماله ~~الجليلة أعظم من كل فضل يعزى إلى قدرة رجال مثل موسوليني وهتلر ~~ولينين. # فموسوليني انتفع بمساعدة الملك، ومساعدة الكنيسة، ومساعدة الجيش، ~~ومساعدة أصحاب الأموال، ساعده الملك؛ لأنه نقم من الاشتراكيين ~~إهانتهم إياه، وتشهيرهم بالنظم الملكية، وساعدته الكنيسة؛ لأنها ~~خشيت من إلحاد الاشتراكيين، ومجاهرتهم بهدم الأديان وإبطال ~~العبادات، وساعده الجيش؛ لأن قواده أشفقوا من جرائر التحقيق في ~~مسائل التموين، وضباطه غضبوا للمثالب والشتائم التي كان يلقاهم بها ~~أعداء الحرب والعصبية الوطنية في قوارع الطرقات، وساعده أصحاب ~~الأموال حذرا على متاجرهم من جماعات التعاون التي شاعت بين ~~العمال، بل ساعدته الدول الأجنبية التي شكرت له جهاده في حض ~~الإيطاليين على مناصرة الحلفاء، أما هتلر فلولا أصحاب معامل ~~الحديد، وكبار الملاك للضياع والقلاع، ورؤساء القادة في الجيش، ~~ولولا أناس سبقوه ومهدوا الطريق من قبله لإلغاء الشروط المجحفة ~~بالألمان في معاهدات الصلح، لما وصل إلى شيء مما وصل إليه بفضل هذا ~~التمهيد، وبفضل تلك المعونة. # وأما لينين فهو مدين لمذهب شائع له مؤتمرات ولجان وأنصار يعدون ~~بالملايين، ولهم في البلاد الروسية خاصة مكامن قوية نشأت منذ سنين، ~~وأعيت على الجواسيس والمطاردين. # لكن مصطفى كمال لم ينتفع بمعونة من أشباه هذه المعونات، فقد كان ~~السلطان ينكره ويأمر بالقبض عليه، وكان رجال الدين يفتون بكفره، ~~ويستبيحون دمه ويستثيرون الدهماء لنضاله، وكان رجال تركيا الفتاة ~~يعادونه ولا يستريحون لنجاحه، وكان نواب المجلس يتركونه في ms576 ~~الأناضول ويذهبون إلى الآستانة اغترارا بوعود الحلفاء، ولم يكن له ~~معين من الدول الأجنبية، بل كان له منها أعداء ألداء ومحاربون ~~أشداء، يحاربون بالمال والسلاح والسياسة ونشر الدعوة وكل وسيلة ~~يملكها الأقوياء. # وأفلح مع هذا كله مصطفى كمال. # لا نقول إنه أفلح وحده، فإنه كان يعتمد على أعوان وعلى أتباع ~~مخلصين، وكانت له أسباب لتأليب الأصدقاء والمؤيدين، واهتبال الفرص ~~ليس في وسع زعيم أن يغفلها، أو ينجح بغيرها، ولكنا نقول: إن ما ~~عمله الرجل لتذليل المصاعب وجمع القوى لم يعمله رجل آخر من الذين ~~يوضعون معه موضع المقارنة والمفاضلة، وإنه لذلك أعظم الحاكمين ~~بأمرهم «شخصية» في العهد الحديث. # طبيعة الترك # وليس يقدح في هذا الفضل الجسيم أن طبيعة الأمة التركية وافقت ~~مطلبه، وهيأت له أسباب التقدم في أغراضه، فعاونته إيجابا بالكفاح ~~معه، والانضواء تحت لوائه، وعاونته سلبا بالطاعة والتسليم، وقلة ~~المقاومة لمساعيه، حتى ما كان منها مخالفا للعرف المكين، أو ~~خليقا في رأي الناس أن يثير الثورات ويجمح بالنفوس. # ليس يقدح في قدرته أن مهاجمته للعرف الديني مثلا لم تكن تفلح في ~~أمة غير الترك مطبوعين على طاعة القادة الظافرين، فإن القائد ~~الظافر مطالب - قبل أن يظفر بهذه الطاعة - أن يغلب العرف القديم، ~~وأن يصبح هو عرفا يطاع في مكان ذلك العرف المغلوب، وليست هذه ~~الغلبة بالشيء الهين، فهي وحدها نجاح ل «قوة الشخصية» ليس بعده ~~نجاح. # جاء في مبحث لخالدة أديب في تعليل هذا النجاح «أن العقل العربي ~~ينظر إلى الكون نظرته إلى ما وراء الطبيعة، ويرى أن السلطة ~~التشريعية صادرة من الله، وأن السلطة التنفيذية موكولة إلى ~~الخليفة، وأن العلماء هم الوسطاء بين الله وخليفته في الأرض ~~يراقبون سلطته التنفيذية ويتحققون من اتباعه للقوانين الإلهية. ~~فإذا خالفها نقصوا بيعته، واختاروا خليفة غيره يرضي المسلمين! أما ~~الترك فالأمر معهم مختلف منذ كانوا في بداوتهم قبل الإسلام ~~معودين طاعة القوانين التي يشرعها الإنسان، وهم بفطرتهم أميل من ~~سائر الشعوب الإسلامية إلى الفصل بين الدين وشواغل المعيشة ~~اليومية.» # وقد يكون هذا ms577 التعليل صحيحا كل الصحة أو بعض الصحة، ولكنه لا يفيد ~~- إذا صح - أن كل زعيم في الترك قادر على أن يروضهم في حياته على ~~ما راضهم به مصطفى كمال في أمد وجيز، فبعد كل تعليل وتفسير تبقى ~~هنالك القدرة الشخصية التي تفوق قدرة الآخرين. # أصله التركي # والعجيب أن الرجل الملقب أبا الترك، والذي غلا في العصبية التركية ~~حتى أبى أن تبقى في لغته كلمة دخيلة، والذي دانت له الطبيعة ~~التركية هذه الدينونة، ذلك الرجل لا يسلم نسبه التركي من المساءلة ~~والمراجعة، ولا يزال بين الكتاب الأوربيين من يقول: إنه مزيج من ~~الدم التركي والدم المقدوني، وأبعد الأستاذ توينبي # Tonbee # مرماه فظن أنه ينتمي إلى ~~شعبة الدونماي، أي الإسرائيليين الذين استقروا في سالونيك ودانوا ~~بالإسلام، ويقول بعضهم: إن بياض لونه وزرقة عينيه تشيران إلى جنس ~~غير الترك وغير الإسرائيليين، ويكاد الكاتبون عنه في أوربا يجمعون ~~على أنه لم يكن تركيا قحا على كل حال. # ولاحظ أكثر من كاتب أنه لا ينفرد بهذه الخصلة بين الحاكمين بأمرهم ~~وعظماء الغلاة من الوطنيين. ف «دي فاليرا» لم يولد في أيرلنده ~~ويرجع في نسبه إلى الإسبان، وهتلر نمسوي وليس بالألماني، ~~و«بيلسودسكي» لتواني وليس من البولونيين، وستالين شركسي وليس من ~~الروس، وشوشنج ولد في ريغا الإيطالية، وكان زعيم الاستقلال الوطني ~~بين النمسويين. # ونعتقد نحن أن ملامح الرجل التركية أظهر من أن تخفى على أحد، ولا ~~نستبعد امتزاج نسبه بسلالة مقدونية أو إسرائيلية ، لأن مسلمي الترك ~~في سالونيك كانوا يتزوجون المقدونيات والإسرائيليات، ولا سيما من ~~دان منهم بالإسلام، ولكنه يظل بعد ذلك تركيا في ملامحه الظاهرة، ~~ومزاجه الغالب، وبيئته النفسية، وينتمي إلى قومه كما ينتمي كل مصري ~~أو عربي أو إنجليزي أو فرنسي تدخل في نسبه سلالة أجنبية من قريب أو ~~بعيد. # ولكن هل عجيب حقا أن يغلو صاحب النسب المزيج في العصبية أو في ~~العقيدة إن كان الأمر أمر اعتقاد لا أمر انتساب؟ # يبدو لنا أن الغلو هو الخصلة الراجحة إن لم نقل هو القاعدة ~~الأصيلة ms578 في هذه الحالة، ومن شواهد ذلك أن الداعيين الكبيرين إلى ~~تقديس العصبية الجرمانية لم يكونا من الألمان، بل كان أحدهما سلالة ~~إنجليزية وهو هوستون تشمبرلين، والآخر سلالة فرنسية وهو الكونت دي ~~جوبينو، وأن دعاة الآرية في العصر الحاضر لا تصدق فيهم الصفات ~~المنسوبة إلى الآريين، وهي البياض، والطول، والنحافة، واستطالة ~~الجمجمة؛ فهتلر أسمر، وجوبلز قصير، وجورنج سمين، وروزنبرج مستدير ~~الرأس، وكل من هؤلاء لا تنطبق عليه الصفات الأخرى على نمط ~~ملحوظ. # ونحن نعلم في البلاد الشرقية الإسلامية أن شيعة آل النبي كانوا من ~~الفرس لا من العرب، وأن المنتصرين لأبناء علي والعباس كانوا من ~~الموالي لا من أبناء القبائل البدوية، ولعل السر فيما يلاحظ من هذه ~~الخصلة أن مسألة الجنس تكون أبدا حاضرة في أذهان الطارئين على ~~العصبية أو على العقيدة، وأن الامتزاج يضيف إلى الجنس القديم دما ~~جديدا من دماء الحياة والحركة، فيظهر فيه النشاط والتعصب، ويبرز ~~بهذه الصفة بين شركائه في النسب والاعتقاد، ويقرب هذا من حال أبناء ~~السواحل والحدود، الذين يعيشون بين الوطن الأصيل والأوطان الغريبة، ~~فهم على الأغلب الأعم شداد العصبية والحمية الوطنية، ولا تنقص ~~عصبيتهم وحميتهم؛ لأنهم يعيشون على مقربة من الأجانب، بل ~~تزيدان. # قال لي صديقي الفاضل الدكتور حسين همت: إنه كان كثيرا ما يلقى ~~الصدر الأعظم طلعت باشا في إبان الحرب العظمى، فإذا هو آسف يقول له ~~المرة بعد المرة: عجبي لكم أنت وفريد وفلان وفلان وأنتم أبناؤنا ~~كيف تنادون بمصر للمصريين، وقد علمتهم أن أناسا من صميم المصريين ~~يقبلون السيادة العثمانية ويدعون إلى الجامعة الإسلامية! # ولا عجب في هذا الذي تعجب منه الصدر الأعظم عند الرجوع إلى ~~الحقيقة؛ لأن المصري من السلالة التركية يشعر بشعورين حين يطلب ~~الاستقلال الكامل لوطنه: شعور الوطنية المصرية وشعور المساواة ~~للترك في دعوى الحكم والسيادة، وما كان هذا ولا ذاك بالذي يرضيهم ~~بمكان التابعين من المتبوعين. # ملامحه # وعلى ذكر ميسم مصطفى كمال وطبيعته وتكوينه، لا يفوت القارئ أن ~~يلاحظ الشبه القريب بين ملامحه وملامح أمه في جميع ms579 الصور التي نشرت ~~لهما في الصحف المصرية، والكتب الشائعة. # وقد تواترت هذه الملاحظة في تراجم شتى، ولوحظ مثلها على ملامح ~~موسوليني وهتلر ودي فاليرا، وأحسها غالبة بين الرجال الأقوياء، على ~~خلاف القياس الظاهر الذي يوحي إلى الخاطر أن الأبناء الأقوياء أحرى ~~بشبه الآباء منهم بشبه الأمهات. # ولا أدري أين قرأت تعليل السيطرة «الدكتاتورية» بأن الزعماء ~~المستبدين يدرجون مدللين مستجابي الرغبات في حجور أمهاتهم، وإن ~~هؤلاء الأمهات يفرحن بما يلمحنه من الشبه بينهن وبين الأبناء ~~الذكور، فيعودنهم الأمر والطاعة في الصغر، ثم يكبر الصغار بعد ~~ذلك وهم لا يطيقون الحياة إلا أن يجدوا أمامهم أتباعا خاضعين، ~~ولعل الدكتور ولهلم ستيكل العالم النفساني النمسوي هو صاحب هذا ~~التعليل فيما ذهب إليه من العلاقة بين التمرد على الآباء في سن ~~الطفولة، والتمرد على الحاكمين في سن الرجولة، وهو أوسع الباحثين ~~كلاما في هذا الباب. # ومما لا شك فيه أن الولد المدلل يحب الطاعة من أقرانه، ولكنه لا ~~يحصل عليها إلا أن تكون فيه قوة مطبوعة، وأن تكون له مزية على ~~أقرانه غير مجرد التدليل وتعود الأمر والطاعة، فمن لم يكن من ~~الأبناء المدللين ذا قوة أو مزية، فالأغلب فيه أن ينشأ هزيلا ~~فاشلا تابعا للحياة العامة غير متبوع. # والتعليل الصحيح في رأينا للشبه بين الرجال الأقوياء وأمهاتهم أنهم ~~يجمعون بين مناقب الجنسين، فهم أكمل من غيرهم في الصفات الإنسانية ~~التي لا تنحصر في الرجال دون النساء أو في النساء دون الرجال، ~~فهناك مناقب الرجل وهناك مناقب المرأة، وهناك مناقب الإنسانية التي ~~يشترك فيها الرجل والمرأة، ومن كان أوفى إنسانية وأجمع للمناقب ~~الآدمية عامة فهو قمن بالسيادة على الرجال والنساء؛ لأنه أكثر من ~~رجل وأكثر من امرأة، وإنما هو إنسان لا ينحصر في مناقب جنس من ~~الجنسين. # والرجل يسود بالعقل والإرادة، والمرأة تسود بالدأب والغريزة، أو ~~يصح أن يقال: إن الرجل يسود بالفكر والعزم، والمرأة تسود بالدهاء ~~الحيواني والمثابرة الفطرية؟ فإذا خاض الإنسان معترك الحياة بجميع ~~هذه الصفات، فهو مضاعف السلاح في معترك الحياة ms580، الذي لا يخوضه ~~الخائضون إلا بسلاح فريد. # وقد لوحظ الشبه بين النابغين وأمهاتهم في غير رجال الحكم والقتال: ~~لوحظ في الأدباء، والمصورين، والموسيقيين، والشعراء، وسائر ذوي ~~الملكات النابهين، ولا اختلاف هنا في التعليل إلا الاختلاف في ~~الملكات التي يحتاج إليها الرجل النابغ، فالمرأة تتصف بالفطنة ولطف ~~الشعور، كما تتصف بالدأب والدهاء، فإذا كان النابغ رجل قتال أخذ ~~منها ما يعينه في ميدانه، وإذا كان رجل فنون ودراسات، أخذ منها غير ~~ما يأخذه ذاك، ولكنه في كلتا الحالتين أكثر من رجل بين عامة ~~الرجال؛ لأن مناقبه لا تنحصر في جنس واحد من الجنسين. # قرأت منذ زمن بعيد قصة صغيرة للكاتب الفرنسي الموهوب جي دي موبسان ~~عن رجل اشتهر بغزو قلوب النساء وكثرة الخليلات. # قال على لسان راوي القصة ما فحواه: إنني أعلم أن الرجل يغزو قلب ~~المرأة بالجمال والشباب والقوة والمال والوجاهة وسحر الحديث، وسمعت ~~بهذا الرجل المظفر في حرب الغرام فاشتقت أن أراه وسعيت إلى التعرف ~~به حتى عرفته وجلست إليه مرات، فأما الجمال فليس بجميل وإن لم يكن ~~بالشائه المرذول، وأما الشباب فقد جاوزه إلى الكهولة، وأما المال ~~والوجاهة فهو مستور الحال، خامل الذكر، لا يسمع به إلا جيرة الحي ~~ومن يلقونه في الطريق، وأما الحديث فليس هو بساحر ولا بمسترسل ~~طريف، فازداد عجبي من شأنه، وما زلت في هذا العجب حتى دعاني يوما ~~إلى منزله وأدخلني إلى مكتبه، فرأيت على جدار من جدرانه صورة امرأة ~~مفردة لا تشاركها هذه الحفاوة صورة امرأة أخرى، فأسرعت إلى مداعبته ~~سائلا: ألعلها صورة العزيزة صاحبة الحظوة بين عشيقات الشباب؟ ~~فقال: كلا ما هي بعشيقة، هي أمي! # قال راوي القصة، فتأملتها فإذا الشبه بينها وبين ابنها قريب جد ~~قريب يكاد يتجاوز المشابهة إلى المحاكاة؛ فقلت في نفسي: الآن عرفت ~~السر، فلن يغلب الرجل النساء في ميدانهن إلا بمدد من المرأة ~~موروث. # والحقيقة هي ما قاله جي دي موبسان في مغزاه المقصود من تلك القصة: ~~إن المرأة تساس بشعور دخيل موروث، يقل فيه نصيب ms581 القصد والتفسير، ~~ويعظم فيه نصيب البداهة والإيحاء، وكذلك الجمهور. # وإذا صدق هذا في سياسة المرأة فهو كما أسلفنا يصدق في سياسة ~~الجمهور، ويصدق في دراسة النفوس، ويصدق في خلق شخوص الرجال والنساء ~~من أبطال الروايات، فلا يفوز الرجل في ميدان الزعامة إلا لأنه ~~إنسان كامل، وليس برجل كامل وحسب، ولا يقدر شاعر كشكسبير على خلق ~~هاتيك العشرات من شخوص النساء، إلا لأنه كذلك إنسان كامل وليس برجل ~~كامل وحسب، فهو يفهم المرأة ولا يفهم الرجل وحده، وهو يحسن ~~المجاوبة بين الخليقتين حين تتساجلان وتتباريان، وما من رجل ممتاز ~~قط كانت أمه مهملة صفرا من المزايا، أو كانت وراثته منها قسطا ~~مهملا لا معول عليه. # ذلك هو أصوب تعليل نراه للشبه القريب بين الزعماء وأمهاتهم عامة، ~~وبين مصطفى كمال وأمه خاصة، وهو ما يعلم الناس من رجل ساد ملايين ~~الرجال. # 2 # العزم والمداورة # خصلتان لا غنى عنهما للنجاح في أعمال السياسة العظيمة، ولا سيما عند ~~افتتاح العهود وتقرير السلطان الجديد: وهما الدأب على غرض محصور، والقدرة ~~على مواجهة الوقائع ومداورة الأحوال. # وقد يتناقضان إذا كان الدأب على غرض محصور ناشئا من ضيق ذهن، أو غيبوبة ~~تعزل صاحبها عن تحول الأحوال، وتبدل الأبدال، أما إذا صدر هذا الدأب عن ~~عزيمة ماضية تعرف عشرين طريقا، ولكنها مع هذا تستطيع المثابرة على ~~اختيار غاية واحدة من وراء تلك الطرق جميعا، فالخصلتان إذن لا تتناقضان ~~بل تتعاونان، وتكون العزيمة إذن رديفا خير رديف لمواجهة الواقع، ومداورة ~~الأيام، واختيار الأوفق الأنجح من كل مجهود. # ومصطفى كمال كان على أوفى نصيب من العزيمة، والأخذ بالواقع النافع، وكما ~~كان دءوب الرجل عن عزيمة ماضية، لا عن ذهن ضيق أو نفس شاردة عما حولها، ~~كذلك كانت مداورته للواقع عن دهاء وتبصر لا عن دجل ومراوغة رخيصة من ~~مراوغات النفاق. # أراد أن يحيي تركيا والدنيا كلها تريد لها الموت، فلم يصرفه صارف ولم ~~تقعده عقبة، ولم يزل حتى ردها إلى الحياة، وأقامها على الأساس الذي جعلت ~~في الحقيقة لتقوم عليه فلا ms582 تصلح للقيام على أساس غيره، وذلك أن تكون ~~تركية للترك لا دولة ذات أملاك شاسعة، ولا خلافة ذات سيادة روحية، فما في ~~ذلك خير لها ولا لرعاياها المغصوبين. # ولم يتقيد بطريقة واحدة لإقامة الحكومة التركية الجديدة، فغير هذا العقل ~~هو العقل الذي يستغرق جهاته كلها في مذهب واحد، لا يحيد عنه إلى سواه، ~~وغير هذا العقل هو الذي يدين بالاشتراكية وكفى أو بالديمقراطية ولا ~~زيادة، أو بالدكتاتورية ولا شأن له باشتراكية ولا ديمقراطية، ولكنه هو ~~يدين بالاشتراكية الحكومية فيستولي على المصانع العامة والمرافق القومية، ~~ولا يضن بملك فرد ولا جمهرة من الأفراد على حماية الأمة بحذافيرها. ثم ~~أكثر الله خيرك أيتها الاشتراكية ففارقينا عند هذا الملتقى بسلام! # وهو يدين بالديمقراطية فيوجب الانتخاب والصلة الدائمة بالشعب في الخطب ~~والمقالات، ثم أكثر الله خيرك أيتها الديمقراطية فلا أحزاب ولا خصومات في ~~المجلس الوطني الكبير، بل حزب واحد هو حزب الشعب الذي لا يسمح لغيره ~~بوجود! وهو يدين بالديكتاتورية فيقبض وحده على أعنة الحكومة الكبرى، ~~ثم أكثر الله خيرك أيتها الدكتاتورية فنحن نتلقى السلطان من الأمة، وننوب ~~عنها في الإفضاء به إلى الوكلاء، أو الوزراء. # ويوما يستورد من ألمانيا، ويوما يستورد من روسيا أو الولايات المتحدة، ~~وإنه ليعقد القرض في إنجلترا كما يعقده في إيطاليا حسبما تهديه مصلحة ~~الأمة التركية دون غيرها من المصالح، فهو رابح أبدا؛ لأنه يأخذ الكثير ~~ولا يعطي إلا القليل، ويحسب حسابه من البداية على أن يكون إعطاؤه هذا ~~القليل إلى حين. # وتجديده للحياة القومية على أسلوب تجديده للحياة السياسية بلا اختلاف في ~~البواعث والموجبات، فهو لا يلغي ما يلغي من عادة، ولا يفرض ما يفرض من ~~نظام حياة؛ لأنه يتبع هذا الفيلسوف أو ينغمس في ذلك الكتاب، بل يلغي ما ~~يلغي ويفرض ما يفرض على حكم القوة الحيوية المفرطة التي توحي إليه دين ~~الإيمان بالحياة، والمتعة بالدنيا، والشبع من المائدة التي يسوغها عنده ~~أنه يستطيع هضمها واستمراءها، ولا حاجة بعد ذلك إلى مسوغات. # القوة الحيوية # فمصطفى كمال لا ms583 يلغي الحجاب مثلا؛ لأنه قرأ كتابا في المساواة ~~بين الرجل والمرأة، ولا نخاله كان يبقي الحجاب لو قرأ ألف كتاب في ~~تسويغه وتفضيله، وإنما يلغيه لأن حياة السفور والرياضة والرقص ~~والمرح أقرب إلى وثبات القوة الحيوية من قيود العادات ~~والموروثات. # أو لك أن تقول: إن مصطفى كمال كان ينكر الأشياء بطبعه ودمه، قبل أن ~~ينكرها بتفكيره وتمحيصه، وهذا هو سر اتباعه للسياسة الدنيوية، ~~والشرائع المدنية، وإيثاره للآداب الأوربية العصرية على الآداب ~~الشرقية العثمانية، وقلة صبره على الأمور التي يعافها، ويستطيع أن ~~يمنعها، فلم القيود الموروثة إذن وهو لا يعجز عن كسرها ولا يفقه ~~لها علة؟ # ومن المحقق أن ملكات مصطفى كمال على تعددها وجلالها ما كانت لتجديه ~~شيئا في جهاده الطويل لولا ما رزق من ذلك البنيان الركين، وذلك ~~التركيب المكين، وتلك الحيوية الطاغية التي أتاحت له أن يناهز ~~الستين في مشقات ومرهقات ما كان أناس آخرون ليتخطوا بها حدود ~~الثلاثين، فقد قيل: إنه كان لا ينام في الأسبوع إلا ليلة واحدة، ثم ~~يسهر بقية الأسبوع إلى مطلع الفجر ليشرع في أعمال الصباح بعد تهويم ~~وجيز، وقيل: إن أطباء كثيرين أنذروه بالموت قبل انقضاء العام إن لم ~~يقلع عن هذه المعيشة، فمات الأطباء وعاش هو بعدهم عدة أعوام، وقيل ~~إنه أهمل أمراضا شتى تهد الجسوم، فقضى على جراثيمها في دمه ~~الغلاب، ولم يلجأ في مغالبتها إلى دواء، فمهما يكن للرجل من عيب أو ~~خطأ أو جماح فعلته هذه القوة العصية على كل عنان، وما الحيلة ~~وهي أيضا علة ما له من مزايا ومآثر وحسنات؟ # وينبغي أن نفرق بين القوة البدنية التي تتصل بالقوة النفسية في ~~الزعماء وبين القوة البدنية التي لا تتجاوز حدود البدن، ولا ترجح ~~صاحبها في موازين النفوس ومعايير السيادة فلو كان الأمر أمر قوة ~~بدنية في العضل والألواح لكان في البلاد التركية ألوف يصرعون ~~الغازي في ميدان المصارعة، ومعترك المضاربة والمقارعة، ولكن هذه ~~القوة شيء والقوة التي تتصل بسطوة النفس وسيطرتها شيء آخر، تلك لو ~~ترجمت إلى ms584 لغة المجاز والتشبيه لكانت حجرا يستقر ولا يتزحزح، فهي ~~راسخة في انتظار الانقياد، وهذه لو ترجمت إلى لغة المجاز والتشبيه ~~لكانت تيارا جارفا من الكهرباء والمغناطيس يصرع ويصعق ولا يقف له ~~الواقف في سبيل. # تلك مقرها الغالب في العضل والألواح، وهذه مقرها الغالب في الدماغ ~~والأعصاب. # تلك خزانة من المادة المنقادة، وهذه خزانة من الإرادة القائدة؟ تلك ~~قوة الجمل الصبور، وهذه قوة الأسد الهصور. # والفرق عظيم بين القوتين، فمن أصحاب القوة الأولى لألوف كانوا ~~يغلبون مصطفى كمال لو غالبوه، أما من أصحاب القوة الثانية فلا يوجد ~~إلا رجل واحد في تركيا من هذا الطراز، إذ لو وجد الرجل الآخر ~~لظهر، ولم يمنعه الظهور كل ما في دولة الترك من حديد ونار. # الصرامة # ويندر أن يملك الرجل نصيبا عظيما من هذه القوة الخارقة، دون أن ~~يتصف معها بكثير من الصرامة التي تبلغ مبلغ القسوة في مصارع ~~الخصام. # وهكذا كان مصطفى كمال. # كان صارما قاسيا بطاشا لا يحفل بأرواح الأعداء ولا الأصدقاء إذا ~~ثار وأصر على اللدد والنقمة، وزاده صرامة أنهم غمطوا حقه في أوائل ~~عهده، وتجاهلوا كفاءته واقتداره، فانطوى على الغضب، وقلة الإيمان ~~بالإنصاف. # ولعل هذه الصرامة كانت لازمة في تقرير مكان الدولة الجديدة، وتثبيت ~~أركان النظام الجديد، بل لعل كثيرا من الناقدين والمؤرخين سيحمدون ~~هذه الصرامة، ويحسبونها من مظاهر البأس فيه. # وعندنا على كل حال أن بعض الذين قتلوا كان يمكن ألا يقتلوا وتبقى ~~الدولة الجديدة على منعتها واستقرارها، وأن بعض الذين أسيء إليهم ~~كان يمكن ألا يساء إليهم، ثم لا يتغير مجرى الأمور، ولكن الناس إذا ~~اختلفوا في عدد الضحايا لمصلحة الأمة التركية هل هم أكثر من الواجب ~~أو أقل من الواجب فلن يختلفوا في المبدأ والأساس، وهو أن الزعماء ~~من بناة الدول يستبيحون ما استباحه مصطفى كمال في مثل المآزق التي ~~كان فيها، وأن الرجل الذي لا تستطيع أن تستغني عن عمله كله يجب ~~عليك أن تقبل عمله كله، إذا لم يكن عن هذا القول محيص. # ومصطفى كمال ms585 كان رجلا لا تستغني تركيا عن كل عمله، فقبلته جملة ~~واحدة، وأصابت في هذا القبول. # إلا أننا نتوجه بالنقد إلى خلة فيه لم تكن لها ضرورة قط لتوطيد ~~النظام، وتدعيم الدولة، وهي اغتباطه وفرحه بمصير من قضت عليهم ~~محاكم الاستقلال بالموت المعجل. # فإذا كان لازما لمصلحة الأمة التركية أن يموت جاويد، وعارف، وبقية ~~الأحد عشر صريعا الذين شنقوا في أنقرة، فلم يكن من اللازم قط أن ~~يحيي مصطفى كمال تلك الليلة في محفل راقص يدعو إليه السفراء، ~~والكبراء، والرجال، والنساء، ويلبث فيه حتى يسمع بنبأ التنفيذ في ~~مطلع الفجر، وإن من أولئك المشنوقين لمن كان يساهره بين جدران تلك ~~الحجرة التي جلس يتلقى فيها نبأ التنفيذ. كلا! لم يكن ذلك لازما ~~على أي وجه من الوجوه؛ وكل ما سيرويه التاريخ من قسوة الرجل سيكون ~~له مسوغون ومغتفرون، إلا مثل هذا المحفل فلا تسويغ له ولا اغتفار، ~~وإنما تسوغه في نظر علم النفس - لا في نظر علم الأخلاق - مرارة ~~لصقت بطباع الرجل من الكظم الطويل، والترات القديمة بينه وبين ~~أعدائه المتعمدين لإنكاره المستخفين بفضله واقتداره، كما تسوغه ~~فيما رواه بعض الكتاب تلك الآفة التي أصيب بها في شبابه ومن شأنها ~~إذا أهملت أن تضاعف القسوة والمرارة وتدخل السرور على صاحبها ~~بالتنكيل والإيذاء. # رأي قديم # قلنا: إن مصطفى كمال قد أقام الدولة التركية «على الأساس الذي جعلت ~~في الحقيقة لتقوم عليه، وذاك أن تكون تركية للترك لا دولة ذات ~~أملاك شاسعة، ولا خلافة ذات سيادة تركية.» # وقد أتهم نفسي بشيء من الغرض إذا أنا أغرقت في الإعجاب بمصطفى ~~كمال؛ لأنه أقام دولته على هذا الأساس، فقد كان ذلك رأيي الذي ~~كتبته منذ ربع قرن وزيادة في «مجلة البيان» سنة 1912 حين سئلت أن ~~أبدي رأيا في إصلاح الدولة العثمانية وتوجيه مصيرها، فكتبت فصلا ~~مسهبا في هذا الصدد قد يحسن أن أنقل نبذة منه هنا، وأن أختم به ~~هذا المقال. # قلت يومئذ: «... وقل أن تصادف من لا يقول لك: لقد نزلت الطامة ~~الكبرى، وآن ms586 لهذا الهلال أن يمحى، ثم يقول: إنما نحن نشهد اليوم في ~~شرق أوربا ما شهده الناس من قبل في غربها، لو كانت الدولة ~~العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربا لحق لهم أن ييأسوا من ثمرها ~~بعد الآن، ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق، ~~وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها عنها، ~~وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها فلا تتحول أنظار ~~محمد الفاتح بتة إلى القسطنطينية، وكان يكون لهم مع ذلك دولة ولواء ~~ويتسع لهم من آسيا ملك بعيد الآناء منيع الأرجاء، فإن كان قد دار ~~التاريخ دورته وقضي الأمر فلتكن هذه القرون الستة فترة التيه عند ~~بني عثمان، وليثوبوا إلى موطنهم الذي فيه درجوا ومنه خرجوا، وإن ما ~~جاز بالأمس لا يستحيل اليوم، فليست هذه السنة آخر دومات الفلك، ~~وإذا استحال ذلك كما قد يرى القانطون فإنما هو محال في أوربا وآسيا ~~على السواء.» # وفضيلة مصطفى كمال الكبرى أنه أدرك يوم أنشأ دولة الأناضول، أن ~~الأملاك أعباء وتكاليف، وليست مغانم ووجاهة، فعول على الاستقلال ~~بدولة الترك، وأعفى أمته من الطمع في استقلال الآخرين، إلا ما كان ~~ضروريا من الأجزاء القليلة لحماية حدود البلاد. # | عهد الشيطان # كان إلى جانبي مدرس أديب ساعة وصلت إلى المكتبة ثلاثة كتب جديدة في يوم واحد ~~للكاتب الفنان توفيق الحكيم. # فقال المدرس مازحا: إن الأستاذ توفيق يغرق السوق على الطريقة ~~اليابانية . # قلت: بل على نقيض الطريقة اليابانية؛ لأن أبناء الشمس المشرقة يبيعون بضاعة ~~تشبه الجيدة، ويتشفعون لها برخص الأثمان، أما صاحب هذه البضاعة فهو يبيع الصنف ~~الجيد ولا يتوخى الرخص في أثمانه، فهو مذهب جديد في سوق الأدب غير مذهب القوم ~~في سائر أسواق التجارة. # تلك الكتب الثلاثة هي: عهد الشيطان، وتاريخ حياة معدة، وتحت شمس الفكر، و«تاريخ ~~حياة معدة» موضوع متصل في كتاب لطيف، أما الكتابان الآخران فهما مجموعتان لقصص ~~ومقالات تتصل حينا اتصال الحلقات، وحينا اتصال السمط الدقيق. # ولا تخطئ في ناحية ms587 من نواحي هذه الكتب الثلاثة تلك اللباقة الفنية التي يجيدها ~~الأستاذ توفيق الحكيم: لباقة ليست بالسطحية العرضية؛ لأنها في جوهر الموضوع، ~~وليست بالضائعة كأولئك الخطاطين الذين يضيعون لباقتهم ودقتهم في نقش رسالة على ~~حبة أرز أو بيضة يمام؛ لأن النقش هنا مزية فطرية وليس بمهارة صناعية. # أتممت قراءة عهد الشيطان من هذه الكتب الثلاثة: قرأت العهد الذي اتفق عليه ~~المؤلف والشيطان مناقضا به العهد الذي اتفق عليه فوست وشيطانه القديم، فالعالم ~~فوست ترك علمه وأعطى الشيطان نفسه ليأخذ منه الشباب، والمؤلف هنا يعطي الشيطان ~~شبابه ليأخذ منه العلم، ويجري بينهما هذا الحوار: ~~- ماذا تعطيني أنت في مقابل هذا؟ ~~- كل ما تطلب. ~~- الشباب. ~~- هو لك. # ثم يمضي الحوار إلى أن يقول المؤلف: ألا تكتب عقدا؟ ~~- لا ضرورة معك للعقود والعهود. إني واثق بشرفك. ~~- ولكني أنا، معذرة، إني لا أثق بشرفك. ~~- جربني هذه المرة. # وينتهي المؤلف من القصة على ما يوهمك أنه أضاع الشباب ولم يأخذ المعرفة، وأنه ~~مغبون في صفقة لم يشهد عليها مسجل العقود، وذلك الحوار الأخير الذي مر بك هو ~~الباب اللبق الذي يتسلل منه المؤلف سلفا لكي لا تأخذ عليه ادعاءه المعرفة في ~~صراحة «غير فنية» فالشيطان في بداية الأمر قد أجمع النية على الروغان، يأخذ ~~الشباب ولا يكتب موثقا بإعطاء شيء. # نقول: لو كتب الشيطان تتمة لهذه القصة لكانت بقيتها - أنه على خبرته بالتحف ~~الثمينة - قد رجع إلى وكره، وعجم الثمن المقبوض بمسباره الدقيق فإذا هو مدخول، ~~من ذا الذي يعطي الشباب ثمنا للمعرفة إلا وهو قد فقد الشباب؟ أو زيف ~~الشباب؟ ~~••• # ومن أجمل قصص الكتاب قصة الأميرة الغضبى، وهي الأميرة بريسكا «بطلة» المؤلف في ~~رواية أهل الكهف، وكان قد أولعها بالشاب مشلينيا ثم أماته، فلما خطر للمؤلف أن ~~يجول في رحلة بين أبطال رواياته لقي الفتاة وروى لنا هذه الرواية: # ذهبت إلى الأميرة بريسكا فوجدتها تتألق في حسنها المعهود، ولكنه حسن عليه ~~غيمة حزن، فما هي إلا أن رأتني وعرفتني حتى هبت إلي صائحة: إني أبغضك ms588! ~~من أعماق قلبي. ~~- أستغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟ ~~- وأحتقرك كما أحتقر غالياس. ~~- لاحظي يا سيدتي قبل كل شيء أن ليست لي لحية غالياس. ~~- قل أنت قبل كل شيء: ماذا عليك لو أنك أبقيت لي مشلينيا؟ لو أن قلمك ~~تمهل لحظة صغيرة ولم يقصف تلك الحياة قبل أن يحضر غالياس وعاء اللبن! ~~ماذا كسبت أنت من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة صغيرة كافية لإنقاذ ~~الفتى، لكنك ضننت بها أيها القاسي الظلوم. ~~- لست قاسيا يا سيدتي، ولا ظلوما، ولو كنت أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة ~~واحدة لأبقيته عن طيب خاطر. ~~- لو كنت تملك! ومن غيرك يملك! ~~- لا تحمليني سيدتي هذه التبعة! # جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا التنصل. # آه! ما أظلم الإنسان! وما أحوج الخالقين إلى الرحمة والرثاء في هذا ~~الوجود. ~~- نحن الظالمون وهم المظلومون! شيء بديع! ~~- إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم وهم براء من كل صفة من هذه ~~الصفات فلا ظلم ولا عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا رضا، تلك عواطف ~~لا يعرفونها ولا يشعرون بها، ولو أصغوا لصوت آدمي لانحل الكون في طرفة ~~عين، كما تنحل قصة أهل الكهف لو أني أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها! فأنت ~~تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة ~~كانت كفيلة أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص، وتلقي عناصر الفوضى في ~~العمل كله. كلا يا سيدتي ، إني لم أرد موت مشلينيا، ولم أرد بقاءه، ولم ~~أحب ولم أكره، ولم أظلم ولم أعدل؛ إن الخالق لا يمكن أن يخضع لغير قانون ~~واحد: التناسق. # وهذا كلام جميل أصيل لا يحل به المؤلف مشكلة بريسكا وحدها، ولا مشكلة الفن وحده ~~بل لعله يحل به مشكلات كثيرة، ويكشف به أسرارا كثيرة، من مشكلات القدر وأسرار ~~الوجود. # واقتراحي على الأستاذ توفيق - في الطبعة التالية - أن يجعل بريسكا تقول له: هات ~~لي هذا التناسق الذي جنى علي هذه الجناية. ~~- ماذا تصنعين به يا سيدتي؟ ~~- أنتقم منه ms589. ~~- أنك تندمين. ~~- كلا. ليس هذا من شأنك. هاته هنا إن كنت صادقا في إلقاء التبعة عليه، ولم تكن ~~أنت صاحب الجناية علي وعلى مشلينيا. ~~- ها هو. # ثم يحضر التناسق ماثلا بين يديها، فلا تلمسه بلمسة واحدة إلا أصابها من ذلك ~~مصاب في جمالها وسحرها وقدرتها على فتنة حبيبها. # ويأتي الأستاذ توفيق بعد ذلك بصاحبها مشلينيا، فإذا هو يعافها ويعرض عنها ولا ~~يستمع لندائها. # وإني لأعطي الأستاذ عهدا - مكتوبا - أنه لن يختم القصة يومئذ كما ختمها ~~قائلا: «سبحان الله! أقسم أن لا فائدة من مناقشة امرأة تحب.» بل يختمها وهو ~~يقول: «إن المرأة لتفهم الحكمة جيدا. إن كان عدم الفهم يصيبها في جمال أو ~~غرام.» ~~••• # وبين أظرف الشياطين في الكتاب، ذلك الشيطان الأمريكي أو الإنجليزي غريب الأطوار ~~«إذ سجل خطبة له في أسطوانة فونوغراف، وأوصى المشيعين أن يطلقوها على قبره تنطق ~~بصوته، وأنفاسه، وضحكاته، وكلماته.» # قال الأستاذ الحكيم: «وماذا يمنعني من أن أصنع مثله، وأن أقوم في الناس خطيبا ~~بعد موتي أقول فيهم!» # ثم سرد الأستاذ خطبة فيها من الاستهزاء بالمشيعين ما يكافئ إشفاق الأصدقاء، ~~وشمات الأعداء، لا أدري لم تعجبني أمثال هذه المواقف، فإني لأذكرها حيثما ~~قرأتها أو رأيتها، ومن ذاك أبيات الشاعر الألماني الخبيث، التي ترجمها صديقنا ~~الأستاذ المازني في هذين البيتين: # أيها الزائر قبري # اتل ما خط أمامك # هاهنا فاعلم عظامي # ليتها كانت عظامك # ومن ذاك شعار السياسي الإيطالي «إمندولا» الذي أصابه جماعة من الفاشيين فمات في ~~الغربة، وأوصى بأن تكتب له على قبره هذه الكلمة: «هنا يعيش إمندولا، ~~منتظرا.» # ولعل في هذه الكلمات من كبرياء التحدي - حتى في أعماق التراب - ما يبعث الإعجاب ~~ويخيل إليك أن ذلك الميت الذي جئت لترثي له أو تشمت به، ناهض أمامك يناجزك ~~ويتحداك. ~~••• # وذات يوم من أيام الربيع هب فيه على وجه الأستاذ نسيم لطيف، ووقعت عيناه على ~~أغصان تتمايل، وأزهار مفتحة تتضاحك، فصاح: «أيها الشيطان، يا شيطان الفن، يا ~~سجاني وجلادي، أطلقني من أغلالك قليلا إني أريد الحب، إني أريد ms590 ~~المرأة.» # فابتسم شيطانه، ولم يزد على أن قال ساخرا: المرأة مخلوق تافه. ~~- كلا. ~~- بلى إنها ليست جديرة بك أيها الفنان الخلاق. إنها مخلوق تافه، صنعت من ضلع ~~تافه من أضلاع آدم، وخرجت من الجنة وأخرجته بسبب تافه. # وانتهى الحوار بأن ختم الشيطان كلامه قائلا: «الآدميين! ومن قال إنك منهم أيها ~~الفنان! عندما كتب عليك أن تضع على منكبيك رداء العبقرية والخلق خلع عنك في ~~الحال بعض خصائص الآدميين.» # يا أستاذ! # أنذرك أن شيطاني حاضر هذا اليوم! # إن هذا الشيطان ليسألك: ولم لم تخرج عن شيطانك في تلك الساعة امرأة شيطانية ~~بحكم الطبيعة والبداهة لا بحكم الفن والصناعة؟ ألا يشوقك أن يتجاذباك فترى كيف ~~تميل تارة هنا وتميل تارة هناك؟ ألا يشوقك أن تسمع وسواس الدهاء والذكاء يفسده ~~وسواسي كلمة بلهاء من تلك المرأة الحسناء؟ # بلى يشوقك ولا ريب، أو ينبغي أن يشوقك بحكم «التناسق» أيضا لا بحكمك وحكم ~~شيطانك، فجرب ولا تكتم نتيجة التجربة عن القراء، إلا أن يكون فيها ما «يخدش ~~الناموس» ويصبغ وجه الحياء! ~~••• # شياطين، شياطين، شياطين! # شياطين السحر، وشياطين الشعر، وشياطين الفنون، وشياطين الأساطير! # ما كل هذا العالم الزاخر بالشياطين لولا أن الإنسان ضعيف الثقة بقدرته سيء الظن ~~بنفسه بين عناصر هذا الوجود وأسراره؟ # إن وقع على كلمة جميلة ساء به ظن إخوانه الآدميين وقالوا: هيهات ما هي لك ولا ~~من وحي عقلك، ولكنها مسروقة من شيطان. # وإن سخر قوة من قوى الطبيعة ساء به ظن إخوانه الآدميين وقالوا: ما هذا ~~البهتان؟ أأنت تصنع ذلك لولا معونة شيطان؟! # وإن أصيب فشيطان أصابه، وإن برئ وشفي فشيطان أبرأه وشفاه، وهذا الإنسان الذي لا ~~يؤمن بقدره ولا بقدرته في عمل من هذه الأعمال قد آمن قديما وحديثا أنه هو ~~المقصود والمنشود من خلق هذه الأكوان، وإطلاق هذه الآباد والأزمان. # فهو بالواقع والحس ضعيف، وهو بالأمل والإيمان قوي، وهو يستكثر على نفسه العجائب ~~فيخلق أشباح الأساطير لتفسيرها، وإن أعجب منها لخلق تلك الأساطير. # وأين اليوم هذه الجمهرة الحافلة من الشياطين ms591؟ # قضى عليها العلم وبددها النور، وخطر لي وأنا أجيل هذا الخاطر في ذهني أن ~~أشيعها جميعا برواية كبيرة أسميها مجزرة الشياطين، وأفصلها فيما بعد أن نظمتها ~~شعرا أو سردتها شرا في هذا المقال فحسبي أن أشير إلى خلاصات منها تبدأ برسول ~~علم النفس، وهو ينحي على شياطين الأهواء والشهوات والخوف والحسد والكيد ~~والوسواس، فيمعن فيها تجريحا وتقتيلا حتى لا تبقى منها غير أشلاء ورءوس، ~~ويتلوه رسول الطب فيبيد جميع الشياطين التي حسبها الناس قديما علة للأمراض ~~والأدواء، ثم عرفوا اليوم ما علتها من جراثيم الطعام، والشراب، والماء، ~~والهواء، ويتلوه رسول الحكمة فيجهز على فريق ويبقي على فريق، وهكذا حتى تبلغ ~~المجزرة أجلها، وتنتهي الفصول إلى ختامها، وليس في العالم شيطان من هذه ~~الشياطين. # وفي خلال ذلك مواقف يتنادى فيها الشياطين مستغيثين مستجيرين، فلا يغيث أحد منهم ~~أحدا؛ لأنهم في شاغل جميعا بما يعانون ويكافحون، أو لأن الإغاثة ليست من طبع ~~الشياطين. # ثم يخطر لشيطان منهم داهية أريب أن يستعيذ بصرعاه وصرعى زملائه الأقدمين ~~والمحدثين، وليس صرعى تلك الشياطين إلا الجهلاء والمنكوبين الذين يحبون بقاءها ~~ولا يتصورون وجود العالم بغير وجودها، فيهب هؤلاء الجهلاء لصوت النفير، ~~ويجيبون نداء المستغيث والمستجير، لولا أن تشرق شمس الحقيقة في تلك اللحظة، ~~فتنهزم الجموع، ولكنها ترجع أو لا تزال تهم بالرجوع. # ثم يهمس الخيال في أذن الحقيقة همسة ترضاها، فيعم السلام، ويشيع الوئام، اتفقا ~~على شيء فيه الرضا لمن يحب فناء تلك الشياطين، ومن يحب لها البقاء، وهو متحف ~~يغمره الخيال بالصور والتماثيل لمن بادوا وتفرقوا من صرعى العلم والنور، فمن ~~طاف بها للعبرة والذكرى فهو مقبول، ومن زارها لغير ذلك فعليه وزر ما ~~جناه. # وعلى فصل من هذه الفصول يهبط الستار، وتتلاقى على المسرح أناشيد العرائس ~~الأبكار من ربات الفنون والأفكار. # | رجعة أبي العلاء # كتب صديقنا العلامة طه حسين مقالا في مجلة «الثقافة» الغراء نقدا لكتابنا ~~رجعة أبي العلاء. # وجاء في المقال ثناء جميل يطيب لنا أن نرجع به إلى أبي العلاء؛ لأنه هو ms592 سببه ~~وهو موحيه، فموضوع الكتاب والنقد أبو العلاء، وصاحب الكتاب والناقد كتبا ~~ويكتبان كثيرا عن أبي العلاء، وإني مع هذا لأشكر جميل الشكر ذلك الثناء الذي ~~جاءني من طريق أبي العلاء. # وفي مقال الدكتور طه ملاحظات انتقادية لو كان قصاراها أن تتجه إلى كاتب هذا ~~السطور لأمسكت عن المناقشة فيها، ولكنها تتجه إلى آراء وحقائق تطالبنا جميعا ~~بحق التمحيص والتوضيح، ولهذا أعود إليها بالمناقشة والتصحيح، وأبدأ منها بجانب ~~اللفظ والمبنى؛ لأنه الجانب الذي نقيسه بمقياس القواعد المتفق عليها، فلا موضع ~~فيها للتفاوت البعيد بين الآراء. # قال الدكتور: «وقد جرى على لسان التلميذ وعلى لسان الشيخ كلام أهمل فيه النحو ~~بعض الإهمال، وما أظن أن أبا العلاء كان ينصب أو يجر حيث يجب الرفع، وما أظن ~~أنه كان يقبل من تلميذه أن يضع «من» مكان «ما»، وما أشك في أن هذا من خطأ ~~المطبعة، ولكنه خليق أن ينبه إليه، وفي الكتاب ذكر لحيرة المنبت الذي لا ~~أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وما أعرف أن المنبت حائر، وإنما المنبت ~~مشرف في الإسراع يعرض ناقته للعطب، فلا يغني عنه إسرافه في السرعة شيئا، فلا ~~حيرة هناك ولا حائر.» # ورجعنا إلى الصفحة ال 189 التي أشار إليها الدكتور، فلم نجد فيها منصوبا يجب ~~رفعه وإنما وجدنا المعري يسأل: «والمساكين المستضعفين؟» دون أن يسبق الكلمتين ~~عامل مذكور. # والقاعدة النحوية في هذه الحالة أن يرجع إلى التقدير كقول الشاعر في البيت ~~المشهور الذي يعرفه النحاة: # أخاك أخاك إن من لا أخا له # كساع إلى الهيجا بغير سلاح # فالشاعر هنا لم يقل «أخوك أخوك»؛ لأن الكلمة واقعة في الابتداء، ولكنه قال أخاك ~~أخاك؛ لأن التقدير «اذكر أخاك» أو «استعن أخاك» أو ما شابه هذه ~~التقديرات. # وكذلك كلمتا «المساكين المستضعفين» تجران لأن التقدير: «ما شأن المستضعفين» أو ~~ما بال المستضعفين أو أنني أسأل عن المستضعفين، وليس هناك ما يوجب الرفع على ~~الإطلاق. # أما «من» في موضع «ما» فقد رجعنا إلى الصفحة ال 233 التي أشار إليها الدكتور ~~فإذا هو يشير ms593 إلى قولنا: «لو أن الأستاذ قد شهد أسراب الطير وهي تعبر البحر ~~المحيط كل عام فيغرق منها من يغرق، ويسلم منها من يسلم، ثم تعود إلى الهجرة ولا ~~تخاف الموت، ولا تعرف ما هو لحسبت أنه يعني هذه الشجاعة حين يذكر شجاعة الغريزة ~~وشجاعة الحيوان.» # وأبو العلاء ولا ريب يقبل من تلميذه أن يضع «من» في هذا الموضع لأن «من» تستعمل ~~للعاقل ولغير العاقل في أفصح الكلام، ومنه: # أسرب القطا هل «من» يعير جناحه # لعلي إلى من قد هويت أطير؟ # ومنه في شعر امرئ القيس: # ألا عم صباحا أيها الطلل البالي # وهل يعمن من كان في العصر الخالي # وهل يعمن «من» كان أقرب عهده # ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال # ومنه في القرآن الكريم، والكلام عن الأصنام: # ومن ~~أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له ~~إلى يوم القيامة ~~. # وفي القرآن الكريم أيضا: # فمنهم من يمشي على ~~بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من ~~يمشي على أربع # وهذا عدا الشواهد التي لا تحصى لخطاب ~~غير العاقل بضمير العاقل، في القرآن وفي كتب النحو والأدب وفي دواوين ~~الشعراء. # أما المنبت فلماذا لا يحار وقد أتلف دابته وانقطع عن صحبه ولم يصل إلى ~~غايته؟ ومن الذي يحار إن كان مثل هذا لا يحار؟ ما أظن أن الحيرة مشروطة في كتب ~~اللغة أو كتب الأمثال بأسباب لا تعدوها، وما أظن أحدا ينفرد ويعدم المركب، ~~ولا يبلغ نهاية الطريق إلا وهو حائر فيما يصنع وإن لم يسمح له الدكتور طه حسين ~~بالحيرة! فإذا حرم الدكتور عليه الحيرة فهو وحده الذي يحرمها عليه، لا علم ~~اللغة، ولا علم النفس، ولا قوانين العرف، ولا قوانين التشريع! ~~••• # وعرض الدكتور طه لمسائل في الكتاب من جانب المعنى، يلوح لنا أن القواعد فيها ~~أظهر من قواعد اللغة، وأقرب إلى التفاهم عليها من النصوص المقررة. # ومن ذلك أنه قال: «... إن الأستاذ العقاد أراد أن يرتحل بأبي العلاء بعد أن بعثه ~~بعثا جديدا، وأن يطوف به في أقطار الأرض ms594 فلم يصنع شيئا، وإنما ارتحل به في ~~طائفة من الكتب التي قرأها، وفي ألوان من العلم الذي أحاط به، وفي فنون من ~~الآراء التي أتقنها واستقصاها، ذلك لأن الأستاذ العقاد نفسه لم يرتحل ولم ~~يطوف في أقطار الأرض، وإنما ارتحل وهو مقيم وطوف وهو مستقر، وعرف الدنيا ~~وهو لم يتجاوز حدود مصر، وهذه مزية من مزايا الأستاذ وفضيلة من فضائله. وبائعة ~~السجائر مهما تكن جميلة لا تستطيع أن تعطيك إلا ما عندها كما يقول الفرنسيون، ~~وعند الأستاذ العقاد أدب وعلم وفلسفة، فقد ملأ يديك أدبا وعلما وفلسفة، ولكنه ~~لم يرحل إلى أوربا ولا أمريكا، فلا يستطيع أن يرحل بك ولا بأبي العلاء إلى ~~أوربا ولا إلى أمريكا، ينزل بك وبأبي العلاء في ألمانيا وفي الروسيا وفي السويد ~~والنرويج والدانمارك، وفي بلاد الإنجليز وفي إسبانيا وفي أمريكا، ولكنه لا يريك ~~من هذه البلاد شيئا ولا يظهرك ولا يظهر أبا العلاء إلا على بعض ما عنده من ~~آراء أصحابها وبعض سيرهم، وينتهي بك إلى مصر فيظهرك منها على طبيعتها الرائعة ~~ونهرها الجميل، ذلك لأنه يعرف مصر وقد رآها رأي العين فهو قادر على أن يعطيك ~~منها شيئا، وهو أمين كل الأمانة ولا يستطيع أن يعطيك من أوربا ولا من أمريكا؛ ~~لأنه لا يعرفهما، أستغفر الله وأستغفر الأستاذ العقاد، بل لأنه لم يرهما رأي ~~العين، ولم يلمم بهما إلا من طريق الكتب.» # ذلك رأي الدكتور طه في الكتابة عن البلاد التي لم ينتقل إليها الكاتب. # والعجيب الظريف أنه يسوق هذا الرأي في معرض الكلام عن أبي العلاء، أي عن الرجل ~~الذي كتب عن الجنة، والجحيم، والعالم الآخر، وهو قابع في محبسيه! # فماذا يقول المعري للدكتور طه لو أنه ألزمه هذا الحكم، وأبى عليه أن يكتب عن ~~بلد غير المعرة وبغداد وما إليهما؟ # إنه لا يقبل منه هذا وهو الذي يحدثنا عما يقبله أبو العلاء وما يأباه. # بل إنه لا يقبل منه أن يقيده بالمشرق والمغرب، بل بالدنيا كلها، بل بالأرضين ~~والسموات؛ لأنه كتب ms595 عن العالم الآخر قبل أن ينتقل إليه! وخالف بذلك دستور ~~الكتابة عن الأماكن البعيدة، كما يشرعه لنا الدكتور طه حسين. # ومن المتفق عليه بيننا، فيما أحسب، أن أبا العلاء المعري لو كان حيا وساح ~~اليوم في الأرض لما كان غرضه من السياحة أن يكتب لنا دليلا من أدلة ~~بادكر # Baedeker ~~، أو أدلة كوك # Cook ~~، أو غيرهما من كتب السياحة التي تذكر لنا ~~ما يراه المشاهد إذا انتقل إلى بعض البلدان. # وإنما تعنيه مشكلات العقائد والأخلاق، التي كان يعنى بمثلها في الحياة، وليست ~~هذه المشكلات والعقائد مقصورة على المسافرين دون المقيمين، وإن كان عرضها للنقد ~~في صورة من صور السياحة أقرب إلى الخيال وحسن السياق من عرضها على المعري في ~~كتاب، وليس هناك كتاب واحد يجمعها كلها بين دفتيه. # على أننا نعود فنسأل: أين هي المشاهد التي لا يراها الإنسان إلا بالانتقال ~~إليها في هذا الزمان؟ # الصور المتحركة ترينا وتسمعنا كل يوم ما يراه ويسمعه الباريسيون، واللندنيون، ~~وسائر الغربيين، والشرقيين، والمطابع تنقل إلينا ما يقولون وما يعتقدون، ~~والأصوات الحاكية تحكي لنا ما ينشدون ويعزفون، والعالم كله معروض لنا عرضا ~~ينقله إلينا وإن كنا لا ننتقل إليه، وليس كل من في باريس، أو في لندن، أو في ~~رومة، أو في برلين، بقادر على محادثة المعري فيما يعنيه من مشكلات تلك البلاد. ~~فلا موضع ل «القاعدة النقدية» التي وضعها الدكتور طه حسين في هذا الصدد؛ لأنها ~~لن تخلص بنا إلى نتيجة يقبلها أبو العلاء، أو يقبلها النقاد، أو يقبلها ~~التاريخ. # أو هي لا يقبلها التاريخ، ولو قبلها النقاد، وقبلها أبو العلاء، إذ نحن قد ~~نقول: إن ذهابي إلى أوربا وأمريكا وآسيا واجب قبل الكتابة عنها؛ لأن ذهابي ~~إليها مستطاع. # وقد نقول: إن الذهاب إلى الدار الآخرة التي وصفها أبو العلاء مستطاع قبل الخروج ~~من هذه الدنيا، وإن كانت الكتابة عنها بعد ذلك لا تستطاع. # وقد نقول أشباه ذلك في أشباه ذلك، فماذا نقول في بابل، ونينوى، وطيبة، ومنف، ~~والمدائن، التي يلزمنا التاريخ أن نكتب عنها ms596، وقد استحالت الرحلة إليها اليوم، ~~إلا أن تعود كما كانت قبل التقوض والخراب؟ # فعدول الدكتور طه عن رأيه هذا خير للنقد - فيما نحسب - من إبقائه بغير نتيجة ~~مجدية، أو بالنتيجة التي معناها الحجر على رحلات الأفكار، ومسالك الحكماء، في ~~فجاج الواقع والخيال. ~~••• # ويقول الدكتور: «أراد أن يعطينا صورة من أبي العلاء لو عاش في هذا العصر ~~فأعطانا صورة من الأستاذ العقاد الذي يعيش في هذا العصر، وما أحسبنا قد خسرنا ~~شيئا بل أعتقد أننا قد ربحنا كثيرا، فمن أعسر الأشياء وأبعدها عن متناول ~~الأدب مهما يكن ذكي القلب، نافذ البصيرة، أن يبلغ الغاية من تصور الحقيقة ~~التاريخية، فكيف باختراع الصورة لشيء لم يكن وليس من الممكن أن يكون؟ وأقل ~~الناس علما بالتاريخ الأدبي وممارسة لصناعته يعرفون أن كثيرا من المؤرخين ~~ربما خيل إليهم أنهم يصورون هذا الكاتب أو ذاك، وهذا المفكر أو ذاك، ولكنهم في ~~حقيقة الأمر لا يصورون إلا أنفسهم حين يصفون رجال التاريخ.» # وأنا أوافق الدكتور على صعوبة تصوير الحقيقة التاريخية والشخوص التاريخيين، ~~ولكن الوجه الصواب من وجوه النقد في رأيي يخالف الوجه الذي يراه الدكتور طه في ~~عرضه لهذا الموضوع. # إنني اجتهدت ألا أسند إلى أبي العلاء فكرة من الفكر، أو كلمة من الكلمات، إلا ~~شفعتها ببيت أو أبيات قالها في مسألة قديمة تقرب من مسائلنا الحديثة، وهذه هي ~~حجتي في إسناد تلك الفكرة، أو تلك الكلمة إلى أبي العلاء. # أزعم أنا أن أبا العلاء لو عاد إلى الدنيا، وشاهد هذه المسألة، لقال فيها كيت ~~وكيت؛ لأنه قد قال كيت وكيت في مسألة مثلها، أو قريبة منها. # فالوجه الصواب في النقد، أن يقول لنا الدكتور: «كلا. إن أبا العلاء لا يمكن أن ~~يقول ذلك؛ لأن كلامه السابق، أو رأيه السابق، أو قياسه السابق يأباه، ولا ~~يوافقه في نصه أو في مرماه، وأن المتكلم إذن هو العقاد، وليس هو أبا العلاء؛ ~~لأن هذا الكلام لا يتأتى أن يصدر في هذا المقام إلا من العقاد.» # ذلك هو الوجه الصواب ms597 فيما أحسب، وأزيد عليه أن آرائي في مسائل من كتاب «رجعة ~~أبي العلاء» تختلف أحيانا عن الرأي المبسوط في ذلك الكتاب، وأنني لا أذكر ~~رأيا واحدا فيه يمكن الجزم باستبعاد صدوره من أبي العلاء، قياسا على المعروف ~~من كلامه، أو من مزاجه، أو من قياس تفكيره، وذلك حسبي فيما توخيت من إسناد ~~الآراء إليه. ~~••• # وأعود فأشكر لصديقنا الدكتور ما أثنى، ولا أنوب عن أبي العلاء في الشكر، لكي لا ~~أجور على حق الدكتور فيه. ms598