######OpenITI# #META# URI: 1396SalihJawdat.DahayaCafaf.Hindawi58253951 #META# Tags: novels #META# ID: 58253951 #META# Title: ضحايا العفاف #META# AuthorID: 26064860 #META# Author: ألكسندر ديماس #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: 14130959 #META# Translator: صالح جودت #META# Related_books: 1287AlexandreDumas.CrimesCelebres (TRANSL) #META#Header#End# # الضحية الأولى‏ # الضحية الثانية‏ # الضحية الأولى‏ # الضحية الثانية‏ # | ضحايا العفاف # | ضحايا العفاف # تأليف # ألكسندر ديماس # ترجمة # صالح جودت # بسم الله الرحمن الرحيم # إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ~~ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ~~يعظكم لعلكم تذكرون ~~. ~~(آية 90 سورة النحل، قرآن ~~شريف) # | الضحية الأولى # المركيزة ده جنج # تكهن ساحرة # في ليلة من ليالي شهر ديسمبر عام 1657، رست عربة خالية من الزخرف الذي امتازت به ~~عربات الأشراف في ذلك العصر أمام منزل من منازل شارع هوتفوي بباريس، وكان أمام ذلك ~~الباب عربتان أخريان راسيتين، فترجل - حال وصول العربة القادمة - خادمها، واقترب من ~~باب العربة ليفتحه لراكبيها، ولكن أوقفه رخيم صادر من داخل العربة يقول: انتظر لأرى هل ~~هذا هو البيت المقصود! # ثم أطلت من نافذة العربة سيدة مقنعة ومرتدية برداء من القطيفة السوداء قد سترها حتى ~~رأسها، فرفعت عينيها تنظر إلى المنزل الذي وقفت أمامه العربة كأنها تبحث عن علامة ~~عليه، ثم ما لبث أن التفتت لرفيقتها التي كانت معها في العربة، وقالت لها: قد وجدنا ما ~~ننشده، فهذا هو المنزل، وتلك هي اللوحة. # وعلى ذلك أمرت ففتح باب العربة، وترجلت السيدتان، فسارتا قليلا ثم رفعتا ~~عينيهما إلى حائط المنزل، فرأتا اللوحة المنشودة، وهي معلقة على ارتفاع ستة أو ~~ثمانية أقدام من الطريق تحت نوافذ الطبقة الثانية من المنزل، ومكتوب عليها الكلمات ~~الآتية: # مدام فوازين، قابلة. # وولجت السيدتان باب المنزل، إذ وجدتاه مفتوحا نصف فتحة، فإذا هما في دهليز طويل يكاد ~~يكون مظلما لولا ضوء قنديل ينير لسالكه السبيل، فسارتا في الدهليز حتى بلغتا درج ~~المنزل فرقيتاه، وكانت إحداهما تتقدم الأخرى. ولم تقصد الزائرتان الطبقة الثانية التي ~~علقت على نوافذها اللوحة، بل صعدتا إلى الطبقة التي فوقها. # ولما بلغتاها استوقفهما رجل من الأقزام أحدب غريب الزى قد كسي كسوة السخريين من أهل ~~البندقية في القرن السادس عشر. وسألهما الأحدب عما تريدان، فقالت إحداهما، وهي ذات ~~الصوت الرخيم: نريد أن نستشير الروح. # وكان في صوت المتكلمة بعض الاضطرابات، فقال لها الحارس ms01 ولصاحبتها: ادخلا ~~وانتظرا. # ثم رفع بيده ستارا، وأدخل السيدتين في غرفة انتظار. # ولبثت السيدتان تنتظران، ومضت عليهما نصف ساعة لم تنظرا أو تسمعا فيها شيئا، وبينما ~~هما على تلك الحال إذ أزيح ستار وفتح باب خفي، وسمعتا صوتا يقول: ادخلا. # فانتقلت السيدتان إلى غرفة كسيت جدرانها بالسواد، يضيئها مصباح ذو ثلاث فتائل، قد ~~علق في وسط السقف. # وقفل الباب وراءهما ونظرا، فإذا هما في حضرة الساحرة. # وكانت الساحرة فتاة بين الخامسة والسادسة والعشرين، تميل بحركاتها وكلماتها إلى أن ~~تظهر في سن أكبر من سنها الحقيقي - بعكس سائر بنات حوا - فكانت مرتدية لباسا أسود، ~~مسترسلة الشعور ضفائر حول رأسها وعارية الجيد والأطراف، وكانت ممنطقة بمنطقة من الجلد ~~ذات قفل محلى بحجر من العقيق. # وكانت الساحرة قائمة على منبر تنبعث منه روائح عطرية شديدة. # ولم تكن الساحرة بارعة في الجمال، بل كان جمالها عاديا، إنما كانت عيناها تظهران ~~للناظرين أنهما واسعتان اتساعا غير عادي؛ لكحل كانت تكتحل به فتنبعث منهما بروق خلابة ~~للأبصار، فكأنهما حجران من عقيق كالحجر الذي في منطقتها. # ولما دخلت الزائرتان وجدتا الساحرة ملقية برأسها على يدها وكأنها غارقة في لجة من ~~الأفكار، فخشيتا أن تخرجاها مما هي فيه، فانتظرتا أن يروق لها أن تخاطبهما. ومضت عشر ~~دقائق، ثم رفعت الساحرة رأسها ونظرت إلى القادمتين كأنها لم تتنبه لوجودهما إلا تلك ~~اللحظة، وقالت تسألهما: ماذا تريدان مني؟ أفما قدر لي أن أستريح إلا في اللحد؟! # فقالت ذات الصوت الرخيم: عفوا يا مولاتي! إنما أريد أن أعلم ... # فقاطعتها الساحرة بصوت حافل قائلة: صه! لا أريد أن أعلم ما تريدين، فخاطبي الروح؛ فإن ~~الروح غيورة حريصة على الأسرار، تحظر على كل حي أن يشاركها في معرفتها، أما أنا فليس لي ~~إلا أن أدعوها وأطيعها فيما تأمر. # 1 # ثم نزلت الساحرة عن منبرها، ودخلت غرفة أخرى، وما لبثت أن عادت منها باهتة شاحبة ~~اللون، وبيمناها موقد مشتعل، وبالأخرى ورقة حمراء. وفي تلك اللحظة تضاءل الضوء المنبعث ~~من فتائل المصباح حتى كاد ينطفئ المصباح ms02 ، ولم يبق في الغرفة إلا ضوء الموقد المنبعث من ~~لهيب النار، فتغيرت ألوان الأشياء، واكتسبت صبغة تؤثر على الأنظار فتجعلها كأنها تنظر ~~إلى خيالات لا حقائق، فاضطربت الزائرتان وودتا لو لم تأتيا هذا المكان. # ووضعت الساحرة الموقد وسط الغرفة، وقدمت الورقة للسيدة التي كانت تخاطبها وقالت لها: ~~اكتبي ما تريدين أن تعلميه. # فتناولت السيدة الورقة بيد ثابتة - على خلاف ما كانت تنتظر منها الساحرة - وكتبت ~~عليها الأسئلة الآتية: # هل أنا فتاة؟ وهل أنا جميلة؟ أعذراء أنا أم ~~ذات زوج أم أرملة؟ تلك أسئلتي عن ماضي. # هل قدر لي أن أتزوج؟ أم أترمل ثم أتزوج؟ وهل حياتي طويلة أم قدر لي أن ~~أموت في سن الشباب؟ تلك أسئلتي عن مستقبلي. # ثم قالت السيدة للساحرة: ماذا علي أن أصنع الآن؟ # قالت لها: اطوي الورقة حول هذه الكرة. # وقدمت لها كرة من الشمع واستمرت قائلة: ستلتهم النار الكتاب والكرة بحضرتك، وقد ~~علمت الروح أسرار سريرتك، وسيصلك الجواب قبل انقضاء ثلاثة أيام. # فقذفت الطالبة بالكرة والكتاب في موقد النار، فقالت الساحرة: تم المراد. # ثم نادت: يا كوموس. # فدخل الأحدب فقالت له: رافق هذه السيدة حتى عربتها. # فخرجت الزائرة تتبع الأحدب بعد أن تركت على مائدة الساحرة كيسا مملوءا ~~بالدراهم. # وسار الأحدب بالسيدة ورفيقتها، وما كانت رفيقتها إلا وصيفتها وأمينتها، فنزل بهما من ~~درج غير الذي كانتا رقيتاه معد لخروج الطالبين وموصل للمنزل من طريق غير الذي أتيتا ~~منه. وكان سائق العربة قد نبه إلى انتظارهما عند هذا الباب، فوجدتاه في ~~الانتظار. # وصعدت السيدتان إلى العربة، وسارت بهما نحو شارع دوفين. ~~••• # وفي اليوم الثالث من زيارة السيدة ذات الصوت الرخيم للساحرة، استيقظت السيدة فوجدت ~~على المائدة التي في غرفتها خطابا بخط مجهول، ومعنونا بتلك الكلمات: # إلى البروفنسية الحسناء. # ففضت السيدة الخطاب؛ فوجدت فيه هذه الكلمات: # أنت فتاة وجميلة وأرملة، هذا عن ماضيك. # وستتزوجين بعد ترملك، ثم تموتين في شبابك مقتولة، هذا عن ~~مستقبلك. # الروح # وكان الورق المسطر عليه الجواب من جنس الورقة التي كتب عليها ms03 السؤال. # فاضطربت السيدة، وانبعث من صدرها صوت ضعيف دل على رعبها، ورأت أن الإجابة عن ماضيها ~~سديدة صادقة، فخشيت أن يصدق كذلك تكهن الساحرة عن مستقبلها. # البروفنسية الحسناء # إن السيدة التي قصدت الساحرة لتعلم ما خبئ لها في المقدور، كانت أجمل نساء عصرها ~~وأشهرهن في الجمال، وإليك قصتها: # كانت السيدة تدعى ماري ده روسان، وكانت قبل زواجها تدعى مادموازيل شاتو بلان، باسم ~~إحدى المزارع التي كانت لجدها - أبي أمها - يوانيس ده نوشير بمقاطعة بروفنسة، وكانت ~~ثروة جدها تربو على خمسمائة ألف دينار، ولما بلغت ماري الثالثة عشر (عام 1649) تزوجت ~~بالمركيز ده قسطلان، من كبار أشراف عصره، وسليل حنا ملك قسطلة ابن بطرس القاسبي من ~~محظيته حنه ده كسترو. # وكان المركيز ضابطا في المدرعات الملوكية، فبادر بتقديم عروسه إلى حاشية الملك لويس ~~الرابع عشر، فاحتفى بها الملك، وأدهشه جمالها الرائع، وكان الملك إذ ذاك في العشرين من ~~عمره، وبلغ احتفاؤه بعروس تابعه أن رقص معها مرتين في ليلة واحدة، حتى بلغت غيرة ~~السيدات منها مبلغا عظيما. # واتفق أن كانت كريستين ملكة أسوج ضيفة في بلاط لويس الرابع عشر إذ ذاك، فلما شاهدت ~~ماري قالت: إنه لم تقع عيناها في جميع الممالك التي زارتها على امرأة يقاس جمالها بجمال ~~هذه «البروفنسية الحسناء»، فأيد مديح الملكة مديح الناس، وتمت به شهرة المركيزة ده ~~قسطلان، فلم تعد تعرف بين الناس إلا باسم «البروفنسية الحسناء». # واشتهر جمال المركيزة، وتحدث به الناس، فقصدها الرسام مينار أشهر مصوري زمانه، وطلب ~~منها أن تسمح له بأن يصورها فسمحت، ولا تزال الصورة باقية ممثلة لهذا الجمال بعد أن فني ~~هيكله. # وحيث إن هذه الصورة ليست حاضرة أمام عيون القراء، فسنجتهد في استحضارها لذهنهم بنقل ~~أوصاف المركيزة كما جاءت في رسالة طبعت في روان عام 1667، وعنها نقل المؤلف أغلب ~~الحوادث التي رواها في هذه القصة، قال الواصف: # كانت المركيزة ذات بياض ناصع مشرب بحمرة، وقد امتزج اللونان على بشرتها ~~امتزاجا لا يتمكن أمهر مصور أن يؤديه على جماله الطبيعي، وكان ms04 بياض محياها ~~يزيده بهاء ونورا سواد شعورها، وقد كللت جبينا كأنه اللجين. أما عيناها ~~فكانتا نجلاوين وكأنهما شقتا في مرمر، وكانتا في لون شعورها، وينبعث منهما ~~بريق لطيف يخترق القلوب؛ فلا يتمكن الناظر أن يطيل فيهما النظر. وقد أبى الله ~~أن يخلق لفمها مثيلا؛ إذ دق الفم فكان كالخاتم، وارتسم الحسن بكل معانيه على ~~شفتيها، فإذا ابتسمت انجلت الشفتان عن عقدين من اللؤلؤ. وكان أنفها جميلا، وقد ~~صوره الباري فصور فيه معاني الرفعة والعظمة والشمم. وكان وجهها مستديرا كأنه ~~البدر في ليلة تمامه، وقد تمثلت فيه الحياة والصحة والشباب بأجمل تمثيل، وأراد ~~الله أن يكملها بالحسن، فجعل في كل حركة من حركاتها ونظرة من نظراتها ما يستميل ~~أنفر القلوب وأبعدها عن التصديق بآية الحب. وكانت قامتها متممة بجمالها لجمال ~~محياها. أما يداها وساعداها ووقفتها ومشيتها فما كانت إلا لتزيد جمالها جمالا، ~~فلا يلبث رائيها أن يقر بقدرة الباري عز وجل؛ لإبداعه في شخص هذه المركيزة، ~~أجمل مخلوقة في أكمل صفات الجمال. # ولا يخفى أن امرأة حباها الله من الحسن ما حبا هذه المركيزة، لا تسلم من ألسنة ~~الوشاة وأقوال الحساد في حاشية أحزابها تدبرها النساء، وللنساء فيها الكلمة الكبرى ~~والقول المسموع، ولكن لم يبلغ الوشاة في المركيزة غرضا؛ لأنها كانت في جميع أحوالها، ~~وخصوصا عند غياب بعلها عنها، حريصة على شرفها، أمينة على عرضها، محتشمة في أقوالها ~~وأفعالها رغما عن رقة ألفاظها ولطيف نكاتها أو رشاقة حركاتها، ولما عجز الوشاة عن ~~إصابتها في عرضها تعرضوا لصفاتها، فقالوا: إن جمالها غير جذاب، فكأنها صنم من الأصنام؛ ~~وجه من مرمر، وقلب من رخام. # ولكن أبى الله إلا أن تخسر الوشاة، وتسود وجوههم؛ إذا أقبلت المركيزة على مجلس هم ~~فيه، فتراهم سكنوا في حضرتها، وكذبت أقوالها وأفكارها مفترياتهم في وجوههم، فيقبل عليها ~~الحضور يمتعون العين بجمال مرآها، والأذن برقة حديثها ورخامة صوتها، والقلب بعذوبة ~~ألفاظها ودقة معانيها؛ فتستهوي القلوب وتجتذب الأفئدة، فيعترف كل من لم يكن رآها قبل ~~ذلك أنه لم ير مخلوقا ms05 قربه الله من الكمال في كل شيء مثلها. # ولبثت المركيزة في قومها محبوبة محترمة الجانب، لا تصل إليها ألسنة الواشين، ولا يبلغ ~~فيها كيد الكائدين، حتى بلغ القوم خبر غرق المدرعات الملوكية في مياه صقلية، وموت ~~المركيز ده قسطلان أميرها وقائدها. # وما أثر هذا المصاب على ما امتازت به المركيزة من صفات التقوى؛ فظهرت في الناس ~~صبورة على أحكام الدهر، راضخة لما قدر الله. وكان قد مضى على زواجها بالمركيز سبع سنين ~~لم يتمتع بقربها فيها إلا قليلا، فلم يتعلق قلبها به تعلقا يورثها اليأس من بعده أو ~~يفقدها الرشد لفقده، إلا أنها اعتزلت المحافل والمآدب عقب هذا المصاب، كما تقضي به ~~الآداب، وآوت إلى زوجة أبيها مدام دمبوس، فأقامت لديها. # وأقامت المركيزة عند مدام دمبوس ستة شهور؛ فأرسل لها جدها المسيو يوانيس يستقدمها ~~إليه بأفينيون لتمضي لديه أيام حدادها. وكان للجد منزلة ومحبة ثابتة في قلب حفيدته؛ ~~لأنه رباها صغيرة وعني بأمرها كبيرة، فلهذا أسرعت في تلبية دعوته، وتجهزت للرحيل إلى ~~بلدته. # وكانت ظهرت في تلك الأثناء فوازين الساحرة وشاع أمرها؛ فتحدث الناس بعلمها، وذهبت ~~سيدات من صاحبات المركيزة إلى تلك الساحرة لتكشف لهن خفايا المقدور، فتكهنت لبعضهن ~~تكهنا أظهرت الأيام صدقه، ولا ندري أخدمتها الصدف وساعدتها المقادير في صحة ~~تكهنها، أم تمكنت بفراستها ومهارتها من تبين الغيب من صفات قاصديها لاستشارتها. # ودفع المركيزة حب الاطلاع إلى زيارة هذه الساحرة؛ لما سمعته عن علمها وقدرتها، ~~فقصدتها كما رأينا في الفصل السالف، وكان ذلك قبل سفرها إلى أفينيون بأيام قلائل، وقد ~~علمنا الإجابة التي أرسلتها لها الساحرة طي الخطاب. # ولم تكن المركيزة ممن يعتقدن بالكهانة، إلا أن تكهن الساحرة ترك في قلبها أثرا ~~سيئا، وارتسم في ذاكرتها ارتساما ثابتا لم تتمكن من محوه رؤيا وطنها العزيز وقد عادت ~~إليه، ولا ملاطفة جدها وحنوه وقد رجعت إلى أحضانه، ولم تتمكن من إزالة تلك الوساوس ~~الملاهي والألعاب أو المقام الذي نالته المركيزة بآدابها وجمالها بين الناس. ولما ~~عجزت عن صرف هذا الشاغل ms06 طلبت من جدها أن يأذن لها بالدخول إلى دير لتقضي فيه ما بقي لها ~~من شهور الحداد. # آل جنج # ولبثت المركيزة بالدير أياما، سمعت في خلالها باسم رجل له من الشهرة بالجمال بين ~~الرجال ما لها بين النساء، وهو السيد لونيد مركيز ده جنج بارون لنجدوك وحاكم سنت أندريه ~~بأبرشية أوزيس، وكانت رفيقات المركيزة من الراهبات يقلن لها عندما يحدثنها عن هذا ~~السيد: كأن الله خلقكما يا مولاتي ليكون أحدكما للآخر. # فما لبثت المركيزة أن اشتاقت لرؤيا ذلك الرجل، وودت لو تجمعها الظروف به. # وبلغ المركيز ده جنج عن مدام قسطلان ما بلغها عنه؛ فتاقت نفسه إلى رؤياها، فتحايل حتى ~~حمله جدها رسالة إليها، فتوجه للدير الذي آوت إليه، وطلب أن يقابلها بقاعة الاستقبال، ~~فحضرت إليه ولم تكن نبئت عن اسمه، إلا أنها عرفته عندما وقع نظرها عليه؛ لأنها لم ~~تنظر في حياتها رجلا أجمل من زائرها ذاتا، فحدثها قلبها أنه هو الذي طالما حدثوها ~~عنه، وأطنبوا في مديحه، ولم يبالغوا. # وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه، والمقدور لا بد من نفاذه، فما نظرت المركيزة ~~المركيز حتى تبادل قلباهما الغرام. # وكانا في مقتبل الشباب، وللمركيز من جاهه وكرم أصله، وللمركيزة من مالها وجمالها ما ~~جعل كلا منهما كفؤا لصاحبه، وجديرا بأن يصبح زوجه وأليفه، إنما روعيت لعقد القران ~~واجبات الحداد؛ فأجل إلى انقضاء أيامه. # ثم احتفل بزواجهما في أوائل عام 1558، وكان سن المركيزة إذ ذاك لا يزيد عن العشرين، ~~وعمر المركيز أكبر من ذلك بسنتين. # وكانت السنين الأولى لهذا القران سعيدة مباركة؛ فشعرت المركيزة بحبها لزوجها حبا لم ~~تكن تشعر به نحو زوجها الأول. وأراد الله أن يتمم أسباب هنائها؛ فرزقها ولدا وبنتا ~~طابت بهما نفسها وقرت عينها. # ونسيت المركيزة تكهن الساحرة، وكانت كلما خطرت ببالها تعجب لنفسها؛ كيف ساغ لها أن ~~تصدقها أو تجزع لها. # وكأني بك أيتها المركيزة وقد جهلت أن هذه الدار شقاء، وأن ليس لسعادة فيها ~~بقاء: # وسالمتك الليالي فاغتررت بها # وعند صفو الليالي يحدث ms07 الكدر # فيا ليتك لم تستعذبي طعم الهناء؛ حتى لم تستعظمي مرارة الشقاء، بل ليتك لم تخطبي ود ~~هذه الدار؛ فطبعها غدار، ويا ليتك قنعت بالعزلة في الديور، فما وراء معاشرة الناس إلا ~~الويل والثبور، ولكن قدر الله فكان، وما لمخلوق أن يعاند ما قدره الرحمن. # ومل المركيز من سعادة تأتيه في المساء بما تأتيه في الصباح، وفطر الإنسان على حب ~~التنقل حتى في السعادات، ألا قتل الإنسان ما أكفره! فأسف المركيز على لهو الشباب ~~والتقلب في اللذات بين الأصحاب؛ فعاد إلى هواه القديم، ونسي أن بجانب زوجه النعيم ~~المقيم. # ولا تلومن فتاة تركها زوجها إن تركته، أو أهمل شأنها إن أهملته؛ فإن المركيزة لما ~~تولى حب زوجها الغير هجرته وقصدت المحافل والمآدب حيث يقدرها الناس قدرها ولا يهمل ~~المعجبون بها أمرها؛ فثارت لذلك غيرة المركيز، ولكنه خشي أن يصبح أمثولة في الناس أن ~~تعرض لزوجها في ائتلافها بهم؛ لأن مجالس النساء الأديبات كانت في ذلك الحين مجتمع أهل ~~الفضل والآداب من العلماء والكتاب. فكتم المركيز أمره، ولكن لم يطق صدره أن يحمل سره، ~~فصار كلما خلا إلى زوجته يوجعها بقارص الكلام ويذيقها من معاملته أشد الآلام، فحل الكدر ~~محل الصفاء، وعقبه الهجر بعد الوفاق؛ فأصبحت المركيزة لا ترى زوجها إلا في ساعات ~~معدودات لا مندوحة لهما فيها عن اللقاء. ثم ما لبث المركيز أن أصبح يحتج بأسفار تضطره ~~للغياب، ثم صار يغيب دون أن تبدو لغيابه أسباب، وهكذا مضت على المركيزة تسعة شهور لم ~~تر لبعلها فيها وجها أو تعلم له ميعاد أوبة. # وقد أجمع الكتاب على أن المركيزة صبرت على هجر زوجها وسوء عشرته صبر أولي العزم؛ فلم ~~يبد عليها ملل أو انكسار، وقلما أجمع الجمهور على الشهادة بمثل ذلك على إحدى بنات ~~حواء. # وكان المركيز لما مل من معاشرة زوجته دعا لمنزله شقيقين له أحدهما فارس والآخر ~~راهب، وكان له أخ ثالث أميرالاي في فرقة لنجدوك، إلا أننا أهملنا ذكره في هذه القصة؛ ~~لأنه لم يتداخل في حوادثها ms08 ، ولم يشترك في مكائدها. # ولم يكن الراهب في الحقيقة من رجال الكهنوت؛ إنما اتخذ هذا اللقب ليتمتع بما له من ~~المزايا بين الناس، وكان به لمحة من الجمال، وقطرة من الذكاء، وله اشتغال في أوقات ~~الفراغ بنظم الشعر وتسجيع الكلام، وكان إذا غضب انبعثت من عيونه بروق تدل على قساوة في ~~الطبع وغلظ في القلب، وكان مع ذلك ميالا للذات مستعبدا للشهوات، لا يخشى منكرا ~~ولا ينفر عن معصية، كأنه حقيقة من رجال الدين في ذلك الحين. # أما الفارس فكان له نصيب أيضا من هذا الجمال الذي اختصت به عائلته، إلا أنه كان عديم ~~الإرادة خمول الذكر، من أولئك الناس الذين يفعلون ما يؤمرون، ولا يدرون أخيرا أم شرا ~~يفعلون؟ وهكذا كان الفارس آلة في يد أخيه الراهب؛ يأتمر بأمره ويسمع لمشورته، ولا ~~يستطيع أن يصرف نفسه عن اتباع أوامره، بل يعجز لضيق فكره أن يدرك مغزاها أو مرماها، ~~فكان ينفذها كالآلة الصماء؛ ولذا كان ضرره أشد مما لو كان يدرك ويعقل. # وكان لإرادة الراهب سلطان على المركيز كما لها على أخيه، وكان الراهب صعلوكا لا مال ~~له؛ لأنه ليس أكبر أولاد أبيه، وكان الميراث للأكبر في الأولاد شريعة ذاك الزمن، فرأى ~~أخاه المركيز قد استولى على ثروة أبيهما، وضاعفتها ثروة زوجته، وعن قريب تضم إليهما ~~ثروة جدها نوشير؛ إذ هي وريثته بعد موته. فطمع القس في ذلك المال واحتال للوصول إليه، ~~فأفهم أخاه أنه لا بد له من معين في إدارة شئون بيته وأمواله، وقدم له نفسه مستعدا ~~لهذه الخدمة، فتقبل المركيز هذا الاقتراح بالارتياح؛ خصوصا لملله الإقامة مع زوجته، ~~وليس لديه في القصر رفيق. # وهكذا تمت للراهب أولى أمانيه؛ فحضر للقصر يرافقه أخوه الفارس مرافقة الظل أينما تسير ~~يتبعك وأنت لا تهتم به ولا تفكر فيه. # وطالما أسرت المركيزة لصاحباتها أنه داخلها شيء من الفزع عند رؤية أخوي المركيز، ~~ولو أن ظاهرهما يؤخذ منه ما يجعل لسوء الظن بهما سبيلا، إلا أنه عادت لها ذكرى تكهن ~~الساحرة بعد ms09 أن كانت تناستها، وأبت أن تنصرف عنها. # أما أخوا المركيز فاندهشا لأول وهلة من جمال امرأة أخيهما؛ فوقف أمامها الفارس ~~مبهوتا لحسنها معجبا به كرجل يعجب بتمثال من رخام لا يستطيع تحويل نظرة عنه؛ لإتقان ~~صنعه، ولم يتعد إعجابه بها هذا الحد، بحيث لو تمهد له السبيل إليها لما زاد عن هذا ~~الإعجاب شيئا، ولم يخف الفارس عن امرأة أخيه ما شعر به منها، فهنأها على ما أوتيت ~~من اللطف والجمال. # أما الفارس فما كاد يقع نظره على امرأة أخيه حتى اشتهاها، وتمكنت منه هذه العاطفة ~~الحيوانية، فعقد عليها نيته، لكنه أخفى - لخبثه ولؤمه - ما خالج فؤاده، وكان كتوما ~~لعواطفه بقدر ما كان أخوه الفارس بائحا بها، فلم يلفظ في حضرة المركيزة إلا كلمات أوحى ~~إليه بهن الرياء والدهاء، فلا فضح أمره ولا كشف سره، ولا جعل لامرأة أخيه سبيلا إلى ~~الارتياب فيه، وخرج من حضرتها - لعنه الله - موطد العزم على اغتيال أقدس ما منحها الله: ~~وهو شرف العرض. # أما المركيزة فقد علمنا ما خالج قلبها من الوسواس عند رؤية سلفيها، إلا أن مجاملات ~~الراهب وجهل الفارس طمئناها نوعا؛ فأمنت جانبهما. وكانت المركيزة من أولئك الذين لا ~~يتصورون ابن آدم قادرا على الشر لطيب قلبها، ويغترون بالظواهر فيظنون النفاق إخلاصا، ~~ويترقبون ولو كلمة لتردهم إلى حسن الظن إذا شاب قلبهم الريب أو داخله الشك ممن يظنون ~~فيه الصلاح، ولو كان من المجرمين. # مناصبة العداء # وعاد للدار البشر عند مقدم الأخوين؛ فابتسمت فيها الثغور، وأشرقت الوجوه، وعجبت ~~المركيزة لما طرأ من التغير حتى في أحوال زوجها؛ فإنه عاد إليها مقبلا عليها كأنه ~~نادم على ما فرط منه، وحسنت ألفاظه في محادثتها بعد أن كان يغلظ لها في القول، فطابت ~~عشرته، وفرحت زوجته، ولم يكن قلبها في تلك الفترة تغير عليه، بل ما فتئت المركيزة مخلصة ~~له الود، باقية على العهد؛ فقابلت هجره بالجلد والصبر، وقابلت إقباله عليها بالفرح ~~والشكر، ومضى عليهما مؤتلفين ثلاثة شهور ذكرتهما بشهور القران السعيدة الأولى، بعد ~~أن ms10 كادت تمحو الحوادث أثر ذكراها من قلب المركيزة الكليم. # وإذا ابتسم الدهر لامرئ في مقتبل العمر تعلق بالدنيا وأحب الحياة؛ فتراه فرحا ~~طروبا يطلب المزيد من السرور، ولا يهمه في الحياة إلا أن يكون سعيدا. وكانت تلك حال ~~المركيزة؛ فإنها رأت أن نجمها أشرق بعد الأفول، وأقبلت عليها السعادة، وصادفها القبول، ~~فلم تهتم بالبحث عن الأسباب التي صفا بها عيشها وانصلح أمرها. # ودعيت المركيزة ذات يوم لتقضي بضعة أيام عند جارة لها ذات ضيعة، ودعي معها زوجها ~~وسلفاها، فرافقوها إلى مكان الدعوة. وكانت صاحبة الضيعة قد جهزت معدات القنص إكراما ~~لمدعويها، فما أقبل المدعوون حتى أخذوا يستعدون لما يقتضيه الصيد من أعمال. # وكان الراهب - لدهائه - قد تمكن من اجتذاب القلوب إليه، فصار في مقدمة المدعوين إلى ~~كل حفلة أو مأدبة، فلما دعي إلى هذا القنص ووزعت الأعمال على المدعوين، طلب أن يكون ~~رفيق المركيزة. ومن عادات الغربيين أن يلازم كل رجل منهم في الصيد سيدة؛ حتى لا تضل ~~السبيل أو تعرض بنفسها إلى خطر إذا تفرق القوم عند مطاردة الصيد، فلما قدم الراهب ~~نفسه لهذا الغرض لم يسع المركيزة - للطفها المعهود - إلا أن تقبله زميلا لها مبتسمة ~~شاكرة، واختار كل من المدعوين زميلة له، ثم انطلق القوم إلى حيث تواعدوا على الملتقى. ~~والصيد عند وجهاء الغربيين من ضروب اللهو التي تقام إكراما للزائرين، وقد يدعى إليه ~~من لا يستطيع أن يصيد عصفورا أو أرنبا؛ فيحضر الصيد ولا يصطاد، بل تطلق الكلاب ~~وراء الفريسة إذا لاحت، ويتبعها بعض غواة الصيد من الحضور، ويتفرق وراءهم القوم، فيقضون ~~اليوم في مطاردة الوحوش والتجول في الفلوات أو الغابات. # وهكذا تم في الصيد الذي دعي له آل جنج، فأرسلت الكلاب، وتفرق الحضور في كل وجهة ~~وطريق. # أما الراهب فلم يفارق المركيزة لحظة؛ لأنها زميلته، واحتال بدهائه حتى انفرد بها عن ~~الناس، وكان ذلك ما يسعى وراءه منذ شهر ولا تيسر له المركيزة أسبابه. ولما أدركت ~~المركيزة أن انفرادها مع الراهب كان حيلة منه، أرادت أن ms11 تفسد تدبيره بأن تطلق لجوادها ~~العنان في طريق غير التي ساقها إليها الراهب؛ فأدرك قصدها، وأمسك بلجام الجواد. # ولم ترد المركيزة أن تقابل سلفها بالعداء، فصبرت وسكتت منتظرة أن يفاتحها الكلام، ~~وتظاهرت أمامه بالكبرياء والشمم؛ لتظهر له بوقفتها احتقارها له، وتفهمه أنها ليست ممن ~~تذل إلى مثله أو ممن تعالى إليها المطامع. # وساد بينهما السكوت لحظة، فقطع حبله الراهب قائلا: مولاتي، أسألك العفو إذا اتخذت ~~هذه الوسيلة لأحدثك على انفراد، ولقد كنت أود بصفتي أخا لزوجك أن تيسري لي ذلك السبيل ~~إذا طلبته، إنما وجدتك تتقينه وتقيمين دونه الحوائل، فرأيت أن خير واسطة لنيل هذا ~~الغرض أن أسعى لتدبيره بنفسي، حيث لا تستطيعين أن ترفضيه إذ ذاك ... # فأجابته المركيزة قائلة: يلوح لي يا سيدي أنك ما ترددت في مفاتحتي على انفراد ~~بالحديث الذي تريده، ولا عمدت إلى كل هذه الوسائل لتجبرني على سماعه إلا لأنك عالم أنه ~~حديث لا يليق بي سماعه؛ ولهذا أرجوك أن تطيل التفكر والتأمل فيه قبل أن تفاتحني به. ~~واعلم أنني حافظة حقي في إسكاتك، سواء كنا هنا أو في أي مقام، حينما أشعر أنك خرجت في ~~حديثك عن حد الاحتشام. # فقال الراهب: أظن يا مولاتي أني حر أقول ما أريد، وأيا كان حديثي فستسمعينه ~~لنهايته، ومع ذلك فليس حديثي مما يدعوك إلى هذا التحفظ والاحتراس؛ فالموضوع بسيط، وكل ~~ما أريد معرفته منك هو: هل لاحظت تغيرا في سلوك زوجك نحوك؟ # قالت: نعم، ولا يمضي يوم إلا أشكر فيه عناية الله على هذا التوفيق الذي عاد ~~بيننا. # فتبسم الراهب ابتسام الجاحد، وقال - لعنه الله: لقد أخطأت يا مولاتي؛ فليس لله يد في ~~هذا الأمر، فلك أن تشكريه على أنه حباك صفات الجمال وكملك في معاني الحسن؛ فكنت من ~~أبدع ما خلق وصور، إنما لا تبخسيني حقي وتشكريه على فضل كان مني. # فأجابته المركيزة ببرود قائلة: إني لا أفهم ما تعنيه. # قال: إذن فسأفصح لك يا مولاتي العزيزة، فاعلمي أني أنا الذي تمت على يدي المعجزة التي ms12 ~~تشكرين الله عليها اليوم، فاشكريني واعترفي بفضلك، أما الله فله منن كثيرة، فهو ليس في ~~احتياج إلى مشاركة بعض خلقه فيما يعود لهم من الفضل والشكر. # فأجابته: أصبت يا صاح، فإذا كان هذا التوفيق قد تم على يديك - كما تقول - وكنت لا ~~أعلم لمن يرجع هذا الفضل فأقدم لك واجب الشكر أولا، ثم أشكر الرحمن؛ إذ وفقك إلى هذا ~~المسعى المشكور. # قال: نعم، إنما إذا كان الله وفقني إلى هذا المسعى المشكور ولا يمتعني بالثمرة التي ~~أترقبها، فهو قادر على أن يوفقني إلى سعي غير مشكور. # فسألته المركيزة قائلة: وما معنى ما تقول؟ # فأجابها: معناه أنه لم يجعل الله في أسرتي إرادة فوق إرادتي، ولا قدرة فوق قدرتي، وإن ~~قلب أخوي في يدي أصرفه كيف أشاء، وإن امرأ قدر على النار أن يزكيها لقادر على أن ~~يطفئها. # قالت: ما زدتني إلا غموضا فأفصح عما تريد. # قال: حيث سمحت يا مولاتي العزيزة بطلب البيان، فسأكون أبلغ في التعبير، وأفصح في ~~اللسان، فاعلمي أن أخي إنما كان ابتعاده عنك وهجره إياك لشدة غيرته عليك، فأردت أن ~~آتيك برهانا من سلطاني عليه، فرددته من أقصى الهجر إلى أدنى الحب، وأفهمته أن لا محل ~~لغيرته عليك وسوء ظنه بك، فأنا قادر على أن أقصيه بعد الدنو، وما ذلك علي بعزيز، ~~فأبدي له أنني إنما كنت مخطئا في اعتقادي بطهارتك وحكمي ببراءتك، ولست في حاجة يا ~~مولاتي على إثبات ما أقول؛ فأنت تعلمين أني صادق الوعد والوعيد. # فسألته: وما همك من هذه المساعي؟ # قال: أن أثبت لك أني قادر على أن أجعلك مسرورة أو حزينة، محبوبة أو مكروهة، سعيدة أو ~~شقية. والآن فاعلمي أني أهواك. # فاحمر وجه المركيزة من الغضب وقالت لمحدثها: إنك لتهينني ... # ثم حاولت أن تستخلص من يديه عنان الجواد، فأمسك به الراهب وقال: لا تظني أن كلماتك ~~تثنيني، فاعلمي أني امرؤ لا يهتم بالأقوال، وما عهدنا رجلا سب امرأة؛ إذ قال لها إنه ~~يهواها، وقد يقدر الرجل على ألف حيلة يضطر بها ms13 المرأة إلى الإذعان لحبه، وما عليه من ~~عار أن يعمد إلى حيلة منها مهما كبرت، إنما من العار أن يخيب أو يفشل فيها. # فسألته المركيزة وهي تبسم تبسمة احتقار وازدراء: وهل لي أن أعلم إلى أية حيلة ~~عمدت؟ # قال: إن الوسيلة الوحيدة التي يمكن نجاحها مع امرأة ساكنة رزينة قوية الإرادة مثلك هو ~~إقناعها بأن من مصلحتها الإذعان لهذا الحب. # فأجابته المركيزة وهي تحاول عبثا تخليص العنان من يد هذا اللئيم: حيث إنك تزعم معرفة ~~صفاتي وخلالي التي ذكرتها، فسأزيدك علما بنفسي، وأريك كيف تعامل امرأة مثلي رجلا ~~يفاتحها بمثل هذا الكلام، أما الآن فسأتركك لتسائل نفسك عما كان من الواجب علي أن ~~أقابلك به من الألفاظ ردا على ألفاظك، وعما يجب علي أن أبلغه لزوجي. # فتبسم الراهب وقال: أنت حرة فيما تقولين يا سيدتي، فبلغي زوجك ما تريدين، بل أعيدي ~~على مسمعه حديثنا كلمة كلمة، وبالغي ما شئت أن تبالغي، بل وزيدي في حديثك ما توحيه إليه ~~ذاكرتك إن صدقا وإن كذبا، تجسيما لجريمتي في عينيه، ثم إذا أنت غيرت قلبه علي، ~~وأبلغته مني، ووثقت أنه صدق حديثك وسينتقم لك، فسألقي عليه كلمتين تكذبان ما تقولينه ~~وتهدمان ما تبنينه. # والآن قد تم حديثي، فلا أضطرك إلى البقاء؛ فتدبري فيما قلت، ولك مني إما حبيب مخلص ~~وإما عدو لدود. # ثم ترك الراهب عنان الجواد، فوخزته المركيزة، وسارت به غير مسرعة؛ حتى لا يظنها الرجل ~~هاربة منه أو خائفة، ثم تبعها الراهب، ووافيا القوم حيث يصيدون. # عدو جديد # صدق الراهب، وما كان قوله لغوا؛ أما المركيزة فطالما شاهدت ما لهذا الرجل من ~~السلطة على زوجها، وقد رأت برهان ذلك مرارا، فسكتت ولم تبلغ زوجها شيئا مما دار بينها ~~وبين أخيه، وظنت أخاه إنما كان يهددها فقط، وأنه لا تطاوعه مكارمه أن يفعل ما يقول، ~~كأن لمثل هذا اللئيم مكارم أو فيه مروءة. # أما الراهب فأراد بعد افتراقه من المركيزة أن يعلم هل رفضت حبه لكراهة شخصية فيه أم ~~لعفة صادقة فيها ms14 ، وكان أخوه الفارس جميلا كما أسلفنا القول، وله معرفة بآداب اجتماعية ~~تعودها من معاشرة علية القوم، فنابت عنده مناب الذكاء، والجهول أقرب الناس للادعاء ~~بالعلم، وأدناهم إلى التصديق بما يصفه به المنافقون من الفضائل التي ليست فيه، فعزم ~~الراهب أن يقنعه بأنه - أي الفارس - يحب المركيزة، وأن حبه لها دليل على حسن ذوقه ~~وإصابة اختياره، ولم يتعسر على الراهب إقناعه بذلك؛ فقد علمنا شدة التأثير الذي وقع على ~~الفارس عند رؤيته المركيزة لأول مرة. وكان الفارس ملاحظا تمسك المركيزة بواجباتها ~~لكرامة نفسها؛ فلم يتجاسر على أن يتقرب منها تقرب عاشق، بل أثر فيه جمالها وكمالها، ~~فجعله لها من أخلص الخدم. ولاحظت المركيزة إخلاصه فقربته منها تقريب صديق، ونزعت من ~~بينها وبينه التكليف إلى الحد الذي تسمح به درجة قرابته لها. # واختلى الراهب بأخيه الفارس على انفراد، وقال له: أخي، لقد قدر علينا - ونحن ~~أخوان - أن نتعلق بهوى امرأة واحدة، وهذه المرأة هي زوجة أخينا، وإني أخشى أن يكون حبنا ~~لها مجلبة للعداء بيننا، فأما أنا فقوي على نفسي قادر على كبح جماح شهواتي؛ فلذا تراني ~~مستعدا أن أخلي لك المكان، وأتنازل لأجلك عن هذا الحب، خصوصا لعلمي أنك المفضل فينا ~~عند فاتنتنا، والمقرب لديها؛ فاعمل إذن على مكانتك، وتعهد هذا الحب وارعه حتى يدوم ~~لك، فإذا تم لك ما تشتهي أنجلي أنا إذ ذاك عن هذا الميدان. أما إن خفق مسعاك فأخل لي ~~المكان لأعمل على خطب هذا الود المستعصي على الخاطبين، وأصيد هذا القلب النفور من ~~الطالبين، وأتيقن هل هذا القلب من الجافين، أم أحيط - كما يقولون - بسياج العفاف ~~الحصين. # وما خطر على قلب الفارس قبل حديث أخيه إمكان التطاول إلى المركيزة، ولكن لما حدثه ~~الراهب عنها وقرب إلى ذهنه منالها، أوحى إليه فكره القاصر أنه قد يكون محبوبا لديها، ~~وظن نفسه جديرا بأن يحب ويهوى؛ فحل في قلبه الزهو والطمع، وضاعف في عنايته بشئون ~~المركيزة واهتمامه بها. ورأت المركيزة من زيادة اهتمامه دليلا جديدا على إخلاصه، ولم ~~يخامرها ms15 من جهته ارتياب؛ فعظمت منزلته لديها بقدر ما صغرت في عينيها منزلة أخيه ~~الراهب. فظن الفارس أن تقريبها له لشغفها به، فطرق الباب الذي طرقه أخوه من قبل؛ ~~فاندهشت المركيزة وأوجست خيفة، ولكن تركته يفصح لها عن كل ما يضمره قلبه حتى تجلت لها ~~مقاصده وعلمت غايته، فأوقفته عند حده كما أوقفت أخاه، وقرعته بكلمات من تلك الكلمات ~~التي يوحي بهن للمرأة احتقارها للرجل، وبفصلها له، قبل أن يوحي بهن واجب الانتقام ~~لعرضها وشرفها. # ولما أخفق الفارس فيما قصد، وكان ضعيف الهمة، تولاه اليأس؛ ففقد كل آماله، وعاد إلى ~~أخيه يندب سوء حظه، وخيبة مسعاه، وضياع أتعابه، وشقاءه في هواه، وكان الراهب مترقبا ~~لهذه النتيجة؛ ليتعزى بها أولا على ما ناله من الطرد والحرمان، وثانيا ليتخذها سبيلا ~~لتنفيذ ما عزم عليه من المكائد، فما زال بالفارس يؤنبه على إخفاق مسعاه، ويستثير غضبه ~~على المركيزة، حتى أوغر صدره عليها، وجعل منه عدوا لها ليكون له عونا عند الحاجة. ثم ~~شرع الراهب في تنفيذ ما صمم عليه، فكان أول ما ظهر من نتيجة مكائده أن تغيرت أحوال ~~المركيز على زوجته، وانصرف عنها قلبه، وكان السبب الظاهر في ذلك أن المركيزة كانت تحادث ~~فتى في مأدبة وتصغي لحديثه؛ لذكائه واتساع مداركه، فاتخذ المركيز ذلك سببا للخصام، ~~وآلم زوجته بقارص الكلام. ولكن فطنت المركيزة لليد المدبرة لهذا الشر، وعلمت أنها يد ~~الراهب الفاجر، فلم يقربها هذا الإنذار منه، بل زادها ابتعادا عنه، وصارت لا تهمل ~~فرصة تبدي له فيها شدة احتقارها له وازدرائها به. # ودامت هذه الحال بضعة شهور والمركيزة تشاهد زوجها يزداد كل يوم نفورا منها وهجرا ~~لها، ورأت أن العيون مبثوثة عليها في كل مكان تستطلع حتى الخفي من شئونها ~~الخصوصية. # أما الفارس والراهب فلبثا كما كانا، ولم يغيرا معاملتهما للمركيزة كما شاهدها أهل ~~القصر منذ قدومهما، فأخفى الراهب ما أضمره وراء ستار من النفاق، وكمد الفارس غيظه لقلة ~~حيلته وضعف إرادته. # ومات في هذه الأثناء المسيو يوانيس ده نوشير جد المركيزة ms16 ، مخلفا لها ثروة تنوف ~~عن ستمائة ألف دينار، ضمتها إلى ثروتها الواسعة. # وكان من الأصول المرعية في الشريعة الرومانية المعمول بها في ذلك الحين بتلك البلاد ~~أن مثل هذا الميراث يكون ملكا خاصا للمرأة؛ لأنه حادث بعد الزواج، فلا ينضم إلى ~~المهر الذي آتته المرأة زوجها عند العقد، فللمرأة إذن حق التصرف المطلق في هذا المال، ~~فلها أن تهبه أو توصي به لمن تشاء، ولها حق الانتفاع به، وليس لزوجها حق في ذلك، بل ~~وليس له أن يدير شئون هذا المال إلا بتوكيل صادر له منها. # وعلم المركيز وأخواه أن المركيزة دعت لديها أحد الموثقين - والموثق موظف عمومي ~~مختص بإجراء العقود الرسمية - فعلم زوجها أنها عازمة على أن تقرر بأن ما ورثته عن جدها ~~خارج عن الأموال المشتركة بينها وبين زوجها، ورأى المركيز أن لا سبب يدعوها إلى هذا ~~الإقرار إلا معاملته لها تلك المعاملة، التي طالما أنبأه ضميره أنه معتد عليها وظالم ~~لها فيها. # الوصية # وذات يوم أعد المركيز وليمة، فكان مما قدم للمدعوين نوع من المأكول يعرف ~~لدى الغربيين بالكريمة، وهو مصنوع من البيض واللبن والسكر، فانحرفت صحة كل من أكل من ~~هذا النوع خصوصا المركيزة؛ فإنها كانت تناولت منه دفعتين. أما المركيز وأخواه فإنهما ~~لم يصابا بشيء؛ لأنهما امتنعا عن هذا المأكول. # واشتبه الآكلون في الكريمة؛ فاحتفظوا على ما تبقى منها وأرسلوه للتحليل، فقرر ~~الكيماويون اشتماله على جوهر سمي هو الزرنيخ، إلا أنه لاختلاطه باللبن وهو ضده قد ~~فقد جزءا من مفعوله، ولم يحدث إلا نصف التأثير المنتظر منه. # ولم يعقب هذه الحادثة ضرر لأحد؛ فألقوا المسئولية فيها على خادم اتهموه بأنه خلط بين ~~السكر والزرنيخ، ونسي القوم الحادثة أو تظاهروا بنسيانها. # وعاد المركيز عقب هذه الحادثة إلى الإقبال على زوجته والتودد إليها، ولكنها لم تغتر ~~بهذه الظواهر الودية، وعلمت أن للراهب يدا فيها، وقد أصابت الظن، فإن هذا اللئيم أقنع ~~أخاه بوجوب مداراته للمركيزة؛ ليكتسب رضاها طمعا في ميراث جدها الذي آل لها. فأخذ ~~المركيز يتقرب ms17 لها متظاهرا بالحب؛ كيلا يخطر ببالها أن تحرر وصية تحرمه فيها من هذا ~~المال. # وقد رأى أهل القصر عند حلول الخريف أن يذهبوا إلى بلدهم جنج؛ ليقضوا فيها هذا الفصل ~~وتاليه، وجنج مدينة صغيرة في إقليم لنجدوك السفلي تابعة لأبرشية مونبلييه، وعلى مسيرة ~~سبعة فراسخ من مدينة مونبلييه، وتسعة عشر فرسخا من مدينة أفينيون. # وكان المركيز بحق الوراثة سيدا لهذه المدينة، وله فيها قصر مشيد؛ فلا غرابة إذا ~~ارتأى أهل القصر أن يقصدوا زيارتها أو الإقامة فيها، إلا أن المركيزة اعتراها انقباض ~~عندما أنبئت بهذا العزم، وحضرت لديها حالا ذكرى تكهن الساحرة، ثم تذكرت شروعهم في ~~سمها حديثا وكيف خاب قصدهم، وتفهت معاذيرهم؛ فازداد بالطبع خوفها وقوي رعبها. # ولم تتهم المركيزة سلفيها مباشرة بهذه الجريمة الأخيرة، إنما كانت واثقة بأن لها ~~منهما عدوين زنيمين، ورأت أن رحيلها لتلك المدينة القصية، وإقامتها في قصر منقطع ~~وسط قوم لا تعرفهم من قبل أمر لا يطمئن له الخاطر، ولا ينشرح له الصدر، لكنها رأت أن ~~امتناعها عن السفر بلا عذر واضح موجب للتهكم عليها والاستخفاف بها، وإذا امتنعت فأي عذر ~~تبديه دون أن تتهم زوجها وسلفيها فيه. # ولما حارت المركيزة في أمرها كتمت سرها في صدرها وسلمت أمرها لله، إلا أنها لم تشأ أن ~~تترك أفينيون قبل أن تحرر الوصية التي طالما فكرت فيها عقب موت جدها، فدعت إليها سرا ~~أحد الموثقين، وأملت عليه أنها توصي لوالدتها مدام ده روسان بمالها من بعدها، وعلى ~~أمها أن توصي به بعدها لمن تختاره من ولدي المركيزة وتفضله على أخيه. وكان للمركيزة إذ ~~ذاك ولدان من زوجها: غلام في السادسة من عمره، وابنة في الخامسة. # ولم تكتف المركيزة بما فعلت لما رسخ في مخيلتها من أن سفرها لن يكون إلا شؤما ~~عليها؛ فدعت سرا في الليل قضاة أفينيون وجمعا من وجهائها، وقررت أمامهم بصوت جهوري ~~أنها حررت بالأمس وصية، وطلبت منهم أن يعتبروا هذه الوصية آخر وصاياها، حيث حررتها وهي ~~بكامل الصفات المطلوبة شرعا، بحيث إذا ms18 ماتت وقدمت لهم وصية أخرى بخطها أو ممضاة منها ~~فلا يعتبروها صحيحة، وأكدت لهم أن كل ما يدعى بصدوره منها بعدها يكون إما مزورا أو ~~تكون هي مرغمة عليه. # ثم تناولت المركيزة قلما وقررت كتابة ما قررته أمام الحاضرين شفهيا، وأمضت الإقرار ~~وسلمته للحاضرين، واستودعتهم إياه وديعة لدى ذي شرف شهيد. # وحدا هذا الإقرار وكل هذا الاحتياط بالحاضرين إلى استطلاع سر الأمر، فطرحوا على ~~المركيزة جملة أسئلة فلم تجاوبهم عليها بما يفيدهم أو يزيدهم علما بالأمر، وغاية ما ~~أبلغتهم أن لديها أسبابا خصوصية لا تستطيع إبداءها تدعوها إلى فعل ما فعلت. # وبقي سر هذا الاجتماع مكتوما بعد أن تعهد كل من حاضريه للمركيزة أن لا يبوح بما سمعه ~~منه أو رآه. # وفي الصباح، وهو اليوم السابق على يوم السفر إلى جنج، زارت المركيزة جمعيات أفينيون ~~الخيرية وأماكنها الدينية، ووزعت فيها الصدقات الواسعة، طالبة من أهلها أن يقيموا ~~الصلاة لأجلها ويستمطروا رحمة الله وبركاته عليها، حتى إذا ما ماتت تموت شهيدة ~~مأجورة. # وفي المساء زارت جميع أصدقائها ومحبيها، وودعتهم والدموع تسيل على وجناتها وداع من لا ~~يعود. # وقامت المركيزة ليلتها تصلي، ولما دخلت عليها وصيفتها لتوقظها عند الصباح وجدتها ~~راكعة في المكان الذي تركتها فيه بالعشي. # وسافر آل جنج إلى مدينتهم دون أن يحدث حادث لهم في الطريق، ولما وصلت المركيزة إلى ~~القصر وجدت فيه حماتها، فرأت منها سيدة كاملة نقية؛ فائتنست بوجودها، وهدأ لها روعها، ~~ولم تعلم أنها لن تلبث في صحبتها إلا قليلا. # وأعد القوم للمركيزة أجمل غرفة في القصر، وكانت الغرفة في الطبقة الأولى منه، ومطلة ~~على حوش لا منفذ له محاط من الخارج بإصطبلات القصر. # وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها في الغرفة عند الرقاد حتى عاد إليها روعها، فقامت ~~تسبر جدران الغرفة وتبحث وراء أستارها وتحت فرشها بكل دقة وانتباه، فلم تدع مكانا ~~للريب إلا فحصته. # ولم تمض بضعة أيام حتى بارحت القصر أم المركيز عائدة إلى مونبلييه. وفي اليوم ~~الثالث لسفرها احتج المركيز بأعمال هامة ms19 تدعوه للسفر إلى أفينيون، فبارح القصر أيضا، ~~وبقيت المركيزة في صحبة سلفيها وخوري يدعى بيريت، وهو رجل مضى عليه في خدمة آل جنج نيف ~~وخمس وعشرون سنة، ولم يكن في القصر عدا من ذكرناهم سوى الخدم. # واهتمت المركيزة عند حلولها في المدينة بالتعرف بأهلها واستخلاص نخبتهم أصدقاء لها، ~~وهان عليها الأمر؛ حيث كان لها من مركزها وآدابها ما يدعو كل إنسان إلى التقرب لها ~~والتشرف بمعرفتها، فائتنست بأصدقائها الجدد، وزال عنها بعض الضجر من عزلتها في ~~القصر. # وقد أحسنت المركيزة باتخاذها الأخدان؛ حيث تسلت بهم في وحدتها وساعدوها على قضاء ~~أوقاتها، خصوصا بعد أن كتب لها زوجها بوجوب بقائها في جنج فصل الشتاء أيضا. # أما الراهب والفارس، فتظاهرا بنسيان ما مضى، وعاملا المركيزة باللطف والأدب؛ فاطمأنت ~~من وجهتمها، وكان أخوهما لم يزل غائبا. ورغما عن كل الحوادث التي انتابت المركيزة لم ~~يزل في قلبها بقية حب وحنان لزوجها، فمع اطمئنانها من جهة أخويه ما فتئ قلبها يذكره ~~ويتألم لبعده. # ودخل الراهب بغتة ذات يوم على المركيزة، ففاجأها وهي تبكي قبل أن تتمكن من مسح ~~دموعها، فعرف سرها، وهان عليه حملها على الاعتراف له بما يبكيها، فقالت له: إنها لن ~~يزول همها وينكشف غمها ما دام زوجها يعاملها هذه المعاملة الدالة على البغض والعداء. ~~فحاول الراهب أن يعزيها ويصبرها، وقال لها في كلامه: إنها الجانية على نفسها بنفسها؛ ~~فإنها نفرت قلب زوجها من نحوها وأثرت في صداقته لها بعمل الوصية التي حررتها على يد ~~موثق، فجاء إشهارها بهذه الكيفية مشهرا بزوجها، ثم أبلغها أن لا تنتظر لزوجها عودة ما ~~دامت هذه الوصية باقية. # ودخل الراهب بعد بضعة أيام لدى المركيزة حاملا كتابا يدعي أنه أتاه من أخيه، وأن به ~~أشياء يسرها إليه، فتناولت المركيزة الكتاب وقرأته، وإذا به شكوى من زوجها لسوء ~~معاملتها له، وأسف لفقد ثقتها منه، وكان الكتاب مشحونا بعبارات تشف عن حبه الخالص ~~لها وكدره لضياع حظه عندها؛ مما تؤثر على كل ذي إحساس قراءته. # وقد تأثرت المركيزة ms20 فعلا من قراءة هذا الكتاب، ورق قلبها، ولكنها عادت فرأت أنه ~~مضى من يوم محادثتها للراهب المحادثة الأخيرة وبين تاريخ هذا الكتاب زمن يكفي لإعلام ~~المركيز بنتيجة هذا الحديث، ولهذا أخفت المركيزة ما خطر لها فعله ريثما تتضح لها حقيقة ~~الأمر بأجلى برهان، فترى هل العواطف التي تضمنها الجواب صادقة أم موعز بها توصلا إلى ~~غاية يرجونها. # وأخذ الراهب يسعى لدى المركيزة محتجا بأنه يعمل على التوفيق بينها وبين زوجها، ~~فيعطف في حديثه على ذكر الوصية، ويلح على المركيزة بإبطالها، وطال إلحاحه حتى ~~ارتابت المركيزة من أمره، وعادت إليها مخاوفها القديمة، وزاد ضغطه عليها حتى إنها اضطرت ~~أن تجيبه إلى طلبه؛ فتستريح من جهته وتأمن جانبه، ورأت أن الإشهاد الذي احتاطت ففعلته ~~أمام رجال أفينيون قبل مبارحتها لها يبطل ما تقرره فيما بعد. # وعندما حضر إليها الراهب أعاد ذكر الوصية، فأجابته أنها مستعدة لإبطالها؛ إكراما ~~لخاطر زوجها، وليكون هذا العمل دليلا جديدا على صدق حبها له، وسببا في تقريبه منها. ~~ثم أرسلت فأحضرت أحد الموثقين وأملت عليه إقرارا في حضرة سلفيها توصي فيه بجميع ~~مالها لزوجها من بعدها، وكان صدور هذا الإقرار بتاريخ 5 مايو سنة 1667؛ فأبدى سلفا ~~المركيزة لها جزيل فرحهما بزوال سبب الشقاق الذي كان مستحكما بينها وبين أخيهما، وأكدا ~~لها أن سيعود زوجها إلى أحسن مما كان عليه، ومضت على ذلك بضعة أيام والمركيزة تساورها ~~الآمال وتتوسم تحسين الحال، ثم أتى خطاب من المركيز يبشرها بالصفاء، ويعدها بقرب ~~العودة واللقاء. # الغدر والوقيعة # أثرت الحوادث في نفس المركيزة فاعتلت صحتها، ولم تشأ أن تتناول دواء يساعدها ~~على الشفاء علها تنتهي من حياة كلها شقاء. ولكن لما طال عليها الحال - والنفس عزيزة ~~على كل حال - عزمت على المداواة تخفيفا لما هي فيه، فأوصت الصيدلي أن يجهز لها من ~~الأدوية ما لا يمجه الفم ولا تأنف منه الأنف، وأن يرسل لها ما يجهزه في الصباح، فأطاع ~~الصيدلي الإشارة، وما كادت تشرق الغزالة حتى وافاها بالشراب المطلوب، إلا أنها نظرت ~~إليه فرأته ms21 شرابا قد اسود لونه وغلظ قوامه، تأباه العين قبل الفم، وتعافه النفس قبل ~~اللسان؛ فكتمت ما رأته، ورفعت الشراب فاستودعته خزانتها، وتناولت بعض حبوب سهلة التناول ~~قد اعتادت عليها من قبل. # وما كادت تمر الساعة التي يجب على المركيزة أن تتناول فيها الشراب حتى أرسل الراهب ~~والفارس يستفسران على صحتها، فأجابتهما أنها بخير، ودعتهما إلى وليمة خفيفة أعدتها ~~عصرا لبعض صاحباتها، ومضت ساعة فأرسل الرجلان يسألان أيضا عن صحتها، فأبلغتهما أنها ~~على أحسن ما ترجو، ولم تفطن إلى سبب اهتمامهما بها لهذا الحد، فظنته مجاملة ~~ولطفا. # ولبثت المركيزة في فراشها تستقبل المدعوين ببشرها المعهود، ورأت في نفسها نشاطا وخفة ~~لم تعهدهما من قبل، ودخل الراهب والفارس فانضما إلى الحضور، وصفت الموائد إلا أنهما ~~لم يمدا لها يدا، بل أخذ الراهب مكانه من المائدة دون أن يذوق من ألوانها شيئا، ~~واستند الفارس إلى قوائم السرير المضطجعة عليه امرأة أخيه، وكانت علائم الانشغال بادية ~~على محيا الراهب، وكأن فكرة تساوره وهو يهتم في إبعادها عنه، إلا أنها ملكت ناصيته ~~فأطرق طويلا مشغولا عن الحاضرين كأنه في حلم، حتى اندهش الحاضرون لحالته وما عهدوه في ~~مثل هذه المحافل إلا ضحوكا طروبا. # أما الفارس فكانت عيناه لا تنصرفان عن وجه المركيزة، فلم يستلفت إليه - كأخيه - ~~الأنظار، ولا بدع فقد كانت المركيزة ذاك المساء تستهوي بجمالها القلوب وتستوقف الأبصار. ~~ولما تمت الدعوة أخذ الحاضرون في الانصراف فشيع الراهب السيدات إلى باب القصر، ولبث ~~الفارس لدى المركيزة. ولكن ما كاد يختفي الراهب حتى حانت التفاتة من المركيزة نحو ~~الفارس، فوجدته باهت اللون شاحبه لا يتمالك نفسه من الوقوف، وقد سقط على مقعد عند مؤخر ~~السرير، فوجلت المركيزة عليه، وسألته عما به، وقبل أن يتمكن من الإجابة تحولت عنه أنظار ~~المركيزة إذ استلفتها منظر مريع: رأت الراهب داخلا غرفتها شاحب اللون كأخيه بيده كأس ~~وغدارة، فأغلق وراءه الباب بالقفل مرتين، فاستوت المركيزة على ركبتيها فوق السرير وقد ~~ارتبط لسانها فلم يبد منها صوت، ولم تخرج من بين ms22 شفتيها كلمة، فاقترب منها الراهب ~~وشفتاه ترتجفان وشعوره قائمة وعيناه يكاد يخرج منهما الشرر، فقدم لها الكأس والغدارة ~~قائلا بعد سكوت رهيب: مولاتي، تخيري بين السم والنار. # ثم قال مشيرا لأخيه إذ سحب سيفه: وحد الحسام! # وبرق للمركيزة بارق أمل إذ رأت الفارس يستل حسامه فظنته يدفع عنها، ولكنها ما لبثت أن ~~خاب ظنها فرأت نفسها بين عدوين، ضعيفة بين قويين، فهبطت من فوق السرير جاثية تخاطبهما: ~~رباه! ماذا صنعت لكما؟ وبماذا أذنبت نحوكما حتى تحكما بإعدامي وقد كنتما حكمي، فكيف ~~أصبحتما من أخصامي، ولا أرى لي ذنبا أتيته إلا صيانتي لواجباتي نحو زوجي، وهو أخوكما ~~وشقيقكما. # ورأت المركيزة الراهب مغضبا عن كلامها، ووقفته وحركاته وأنظاره تدل على عزم ~~ثابت ونية راسخة، فحولت أنظارها نحو أخيه قائلة: وأنت أيضا يا أخي، يالله! يالله وأنت ~~أيضا، ألا فأشفق علي لوجه الله. # فضرب الفارس الأرض بقدمه، ووضع سن حسامه على صدر المركيزة قائلا: كفى أيتها السيدة ~~كفى، فأسرعي باختيار ما تستهونين من أنواع المنون، وإلا فلنا الخيار ... # فالتفتت المركيزة نحو أخيه مرة أخرى فصادف فم الغدارة جبينها الطاهر، فعلمت أنها ميتة ~~لا محالة، فاختارت أخف أسباب الموت حملا، وقالت لقاتليها: أعطياني كأس السم، وليغفر ~~الله لكما قتلتي. # ثم تناولت الكأس ولكن لم تجسر على شربه؛ إذ وجدت فيه شرابا أسود غليظ القوام فمجته ~~نفسها. وطمعت في استرحام عدويها؛ فحاولت أن تستلين قلبهما القاسي، فصاح بها الراهب صيحة ~~وعيد، وأشار لها الفارس إشارة تهديد نزعا منها كل أمل في البقاء، فرفعت الكأس إلى ~~شفتيها، وتمتمت قائلة: رباه يا مولاي ارحمني! # ثم تجرعت ما في الكأس وسقط أثناء انسكابه في فمها بعض نقط على صدرها العاري فحرقت ~~بشرتها كأنها جمرة نار، وكأن ما تجرعته مزيجا من الزرنيخ والسليماني الأكال ممددا في ~~ماء النار. # وظنت المسكينة أن ذلك كل ما يرجوه عدواها منها، فألقت الكأس من يدها، ولكن أسرع ~~الراهب فالتقط الكأس، ونظر فيه فإذا به راسب ما زال لاصقا بقاعه، فتناوله على رأس سكين ms23 ~~من الفضة وضمه إلى ما لصق بجدران الكأس فتكونت منه كرة صغيرة في حجم البندقة، فقدمها ~~للمركيزة قائلا: هيا يا سيدتي وابتلعي مرشة الماء المقدس. # 2 # فصبرت المركيزة على أحكام القدر وفتحت فمها فتناولت الراسب من رأس السكين، ولكن لم ~~تبتلعه، بل أخفته في فمها، واستلقت على السرير صارخة تعض بأسنانها في الفراش من شدة ~~الألم، واغتنمت هذه الفرصة فألقت بما في فمها بين الوسائد على غفلة من قاتليها، ثم ~~التفتت لهما قائلة ويداها مضمومتان إلى صدرها: ناشدتكما الله حيث عزمتما على إهلاك جسمي ~~في الدنيا أن لا تفقداني أمل نجاة روحي في الأخرى، فأرسلوا إلي بقسيس معرف. # وكان الراهب والفارس قد سئما النظر إلى ضحيتهما وعوامل الموت والحياة تتنازع في ~~صدرها، ورأيا أن مهمتهما قد تمت بتجرع المركيزة كأس السم وأنه لم يعد لها في الوجود إلا ~~نفس معدود، فخرجا عند سماع رجائها الأخير وأغلقا وراءهما الباب. # وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها حتى تهيأ لها إمكان الهروب من هذا القصر المشئوم، ~~فأسرعت نحو النافذة فوجدتها تعلو عن سطح الأرض اثنين وعشرين قدما، ورأت تحتها كوما من ~~الأحجار والأنقاض، وكانت ملابسها قد انحلت فأصبحت بالقميص، فارتدت تنورة فوقه، وما كادت ~~تنتهي من ربطها على خصرها حتى أحست بأقدام آتية نحو غرفتها، فظنت أن قاتليها عائدان ~~إليها فأسرعت نحو النافذة كمجنونة، وعندما لمست قدماها حافتها فتح الباب فألقت ~~المسكينة برأسها من النافذة دون أن تحسب لسقطتها حسابا، وكان الداخل خوري القصر، فلما ~~رآها على حافة النافذة أسرع فتمكن من إمساكها من تنورتها عندما ألقت بنفسها، ولكن كان ~~قماش التنورة خفيفا فتمزق في يدي الكاهن، وسقطت المركيزة، إنما تغير لهذه المقاومة وضع ~~جسمها عند السقوط، فبدلا عن أن تنزل على قمة رأسها سقطت على قدميها فوق الأنقاض فأصيبت ~~فيهما ببعض رضوض ليس إلا. ورغما عن دهشتها من السقطة ألهمت أن تنتقل من المكان الذي ~~وقعت فيه، وكأنها شعرت بأن شيئا ألقي وراءها من النافذة، فقفزت قفزة من مكانها وإذا ~~بالساقط جرة عظيمة ms24 مملوءة ماء ألقاها الخوري اللئيم وراءها ليسحق رأسها لما رآها قد ~~فرت من يديه، ولكن قدر الله أن تسقط الجرة عند قدمي المركيزة فتتهشم دون أن تصيبها ~~بسوء. # ورأى الخوري خيبة مرماه فقفل راجعا نحو الراهب والفارس ليعلمهما بهروب المركيزة من ~~القصر. # أما المركيزة فما نالت قدماها الأرض حتى خطر لها خاطر أوحى إليها به ذكاؤها الحاضر، ~~فأدخلت خصلة من شعرها إلى حلقها لتتقايأ ما تجرعته، وسهل عليها الأمر لأنها شربت ~~السم بعد الأكل، ومنع الأكل السم أن يؤثر في جدران المعدة؛ لعدم مباشرته لها. وكان ~~حلوفا منزليا على مقربة منها، فأسرع بابتلاع ما تقايأته فسقط في الحال يضطرب ويتقلص ~~وما لبث أن نفق لوقته. # وقد ذكرنا في وصف القصر أن غرفة المركيزة مطلة على حوش مقفول الجهات، فلما ألقت ~~المركيزة بنفسها من النافذة إلى ذلك الحوش ورأته بلا منفذ ظنت أنها إنما انتقلت من سجن ~~إلى سجن، ولكنها ما لبثت أن رأت نورا يضيء من إحدى طاقات الإصطبلات المحيطة من الخارج ~~بهذا الحوش، فأسرعت نحوها ونظرت فوجدت سائسا للخيل يهيئ مضجعه لينام فخاطبته قائلة: ~~بربك يا صاح نجني، إنهم سموني ويريدون قتلي؛ فأرجوك أن لا تتركني وأشفق علي وارحمني، ~~وافتح لي هذا الإصطبل لأخرج منه وأنجو بنفسي. # فلم يفقه السائس قصة محدثته إنما رأى أمامه امرأة تستنجده وهي محلولة الشعر ممزقة ~~الثياب تكاد تكون عريانة، فرفعها بين يديه واخترق بها الإصطبلات ثم فتح لها بابا، فإذا ~~هي في الطريق، وكانت امرأتان مارتين فدفعها إليهما السائس دون أن ينبئهما بخبرها؛ لعدم ~~علمه به، ولم تجد المركيزة ما تحدثهما به غير قولها: بربكما خلصاني، إني مسمومة ~~فنجياني. # ثم تركتهما فجأة، وأخذت تعدو في الطريق كالمجنونة، فرأت على بعد خطا منها باب القصر ~~الذي خرجت منه، ورأت قاتليها ففرت من وجهيهما؛ فاندفعا وراءها وهي تصيح أنها مسمومة، ~~وهما يصيحان أنها مجنونة، والناس في طريقهم لا يفهمون الخبر فيفسحون لهم السبيل. # وأكسب الخوف والجزع المركيزة قوة فوق قوتها، فصارت تعدو حافية تدمي قدميها ms25 ~~الأحجار والصخور بعد أن كان ملبسها الخز والديباج، وصارت تستغيث بالناس، وما من مغيث؛ ~~لأن كل من كان يراها وهي على هذا الحال محلولة الشعور ممزقة الثياب حافية الأقدام تجري ~~في الطرقات لا يظن إلا أنها مجنونة كما يقول سلفاها. # وتوصل الفارس أخيرا إلى اللحاق بها، فجرها وهي تصيح إلى أقرب منزل منه، فأغلق وراءها ~~الباب، ووقف الراهب حارسا عليه وبيده غدارة يهدد بها كل من يحاول الدخول أو ~~الاقتراب. # وكان المنزل الذي جر إليه الفارس المركيزة لرجل يدعى ديبرا، وكان الرجل غائبا في ~~ذلك الحين ولدى زوجته زائرات مجتمعات، فدخل الفارس والمركيزة يتقاتلان حتى وصلا إلى ~~حيث اجتمع النساء، وكان من بينهن كثير من صاحبات المركيزة، فقمن لهذا المشهد مندهشات ~~غاية الاندهاش يردن أن يخلصنها من يد هذا الوحش الضاري، فردهن الفارس قائلا: إنها ~~أصيبت بالجنون، وكان من منظر المركيزة ما يحمل على تصديق هذا الافتراء، أما هي فأظهرت ~~للقوم صدرها المحروق وشفتيها المسودتين من السم الذي تجرعته، وأخذت تصيح مكذبة دعواه ~~وتعض ساعديها من الألم، وتقول: إنها مسمومة وإنها ستموت، وتلح عليهم بطلب لبن أو ماء ~~ليطفئ اللهيب المتأجج في صدرها، فتقدمت إحدى الحاضرات وهي مدام برونيل زوجة أحد القسوس ~~البروتستنت، فاقتربت من المركيزة ودست في يدها علبة بها لعوق، فتناولت منها المركيزة ~~بعض قطع، وابتلعتها تلو بعضها بينما كان الفارس يلتفت وراءه، وقامت سيدة غيرها فقدمت ~~لها قدحا من الماء، فالتفت الفارس عندما رفعت المركيزة القدح إلى فمها فكسره بين ~~أسنانها، وقطعت إحدى شظايا الزجاج شفتيها؛ فأهاج هذا الفعل النسوة الحاضرات فقمن يردن ~~الانقضاض على الفارس، لكن خشيت المركيزة أن يزدنه جراءة وأملت أن تضع من حدته فطلبت من ~~الحاضرات أن يتركنها معه فتركنها بعد إلحاح ودخلن غرفة مجاورة للتي كن فيها، وكان هذا ~~قصد الفارس. # وما كادت تختلي المركيزة بالفارس حتى ضمت يديها إلى صدرها وجثت أمامه على ركبتيها ~~وقالت بصوت لين تسترحمه: أيها الفارس، بل أيها الأخ العزيز، أما بقي في قلبك ذرة من ~~الشفقة ms26 علي، أنا التي كنت أخلص لك الود ولا أزال إلى هذه اللحظة أقدم دمي لآخر قطرة ~~منه لخدمتك، أنت تعلم أني صادقة، فلماذا تعاملني بهذا العداء، وماذا يقول الناس عنك، ~~أخي ما أشقاني إذ عاملتني بهذه القسوة، ومع ذلك فإذا أشفقت علي ووهبتني الحياة فأقسم ~~لك أني أنسى ما مضى ولا أنسى فضلك، بل أعتبرك إلى الأبد مخلصي وصديقي الحميم. # ثم استوت المركيزة فجأة على قدميها صارخة ورفعت يدها إلى صدرها؛ ذلك لأن الفارس ~~اللئيم اغتنم فرصة انشغالها باسترحامه فسل حسامه على غفلة منها وكان الحسام قصيرا ~~كالخنجر فما كادت تتم حديثها حتى طعنها به في صدرها ثم أتبع الطعنة بأخرى في كتفها ~~فمنعتها الترقوة أن تنفذ إلى داخل الجسم فحملت الطعنتين وأخذت تعدو نحو الغرفة التي ~~انسحب إليها النساء صارخة: أغثنني، أغثنني، فقد قتلني. # وفيما هي تجري تمكن الفارس من طعنها بحسامه خمس طعنات في ظهرها، وأراد أن يزيد لولا ~~أن انكسر السلاح في الطعنة الخامسة لشدة الضربة، وبقي طرفه غائرا في كتف المركيزة، ~~فوقعت المركيزة على وجهها فوق الأرض مضرجة بدمائها، اندفعت ودماؤها تسيل من كل صوب حتى ~~غمرت أرض الغرفة. # وظن الفارس أنه قضى عليها، ورأى النساء آتيات لنجدتها فترك الغرفة، ووافى أخاه ~~بباب الدار فوجده مكانه والغدارة بيده، فجره من ساعده، فتوقف الراهب عن المسير، فقال له ~~أخوه: هيا بنا فقد قضي الأمر. # فسار الراهب مع أخيه بضع خطوات، ولكن فتحت نافذة من المنزل، وأطلت منها النسوة يصرخن ~~ويستنجدن؛ إذ نظرن المركيزة تحتضر، فوقف الراهب وأمسك بذراع أخيه قائلا: كيف تقول قضي ~~الأمر أيها الفارس؛ فاستنجاد النسوة دليل على أنها لم تزل حية. # فأجابه الفارس: اذهب وتحقق الأمر بعينيك إن شئت، أما أنا فقد انقضى دوري، قال: صدقت ~~وعلى هذا عزمت. # ثم عاد مسرعا للمنزل ورقي الدرج وهجم على الغرفة التي فيها النسوة، فوجدهن يتعاون ~~على رفع المركيزة إلى الفراش، وهي لضعفها وكثرة ما فقدت من الدماء لا تستطيع القيام، ~~فدفعهن الراهب وتقدم نحو المركيزة، ووضع ms27 فم الغدارة على صدرها، ولكن أسرعت مدام برونيل ~~- التي مر بنا ذكرها - فرفعت ماسورة الغدارة عندما أطلق القاتل، فصعد العيار إلى السقف ~~بدل أن يصيب المركيزة، فاغتاظ الراهب وأمسك الغدارة من ماسورتها وضرب بها مدام برونيل ~~على رأسها ضربة كادت تفقدها الرشد فتسقط على الأرض، وأراد أن يثني لولا أن تكاثرت ~~عليه النسوة، ودفعنه خارج المنزل تشيعه اللعنات والشتائم، ثم أغلقن وراءه الباب. # واغتنم القاتلان فرصة الليل فبارحا المدينة سرا، ووصلا إلى أوبيناس على مسير فرسخ ~~من جنج نحو الساعة العاشرة مساء. # وفي أثناء ذلك كانت النسوة مهتمات بالمركيزة، فرفعنها إلى الفراش، وأردن أن يرقدنها، ~~فحال دون ذلك نصل الحسام الغائر في كتفها، وحاولن أن يستخرجنه فلم يفلحن؛ لأنه كان ~~ساكنا في العظم متمكنا فيه؛ فأرشدت المركيزة - على عظم ما بها - مدام برونيل إلى ما ~~يجب عليها عمله، فجلست هذه السيدة فوق السرير وعاون النساء المركيزة على الوقوف ~~بجواره، ثم أمسكت مدام برونيل بقطعة النصل بكلتا يديها واتكأت بركبتيها على ظهر ~~المركيزة ثم جذبت النصل ورفعت المركيزة بقوة؛ فنجحت العملية وتمكنت المسكينة أخيرا من ~~الاضطجاع فوق السرير، وكانت الساعة التاسعة مساء؛ أي مضت عليه ثلاث ساعات، فكانت في ~~عذاب لم يعذبه أحد، من أمر ما مر على مخلوق. # شهيدة # وعلم حكام جنج بما تم فابتدءوا يصدقون أنها جريمة قتل دبرت ثم نفذت، فانتقلوا ~~بأنفسهم ومعهم قوة من الجند إلى حيث آوت المركيزة، فلما نظرتهم جمعت قواها واستوت على ~~فراشها ضامة يديها إلى صدرها تتوسل إليهم أن يأخذوها تحت حمايتهم؛ لأن خوفها كان ~~عظيما، وكانت تتصور في كل لحظة أن أحد قاتليها داخل عليها فطمئنها ولاة الأمر وخرقوا ~~الجنود المسلحة لتحرس الطرقات المؤدية للمنزل. ثم أرسلوا إلى مونبلييه حالا يستحضرون ~~الأطباء والجراحين. ورفعوا تقريرا عن الحادثة إلى البارون «ده تريسان» حاكم لنجدوك ~~العام، وأرسلوا له أسماء وأوصاف القاتلين، فبث وراءهما العيون والأرصاد، ولكنهما كانا ~~قد أفلتا من يديه؛ إذ علم أن الراهب والفارس باتا ليلة الجريمة في أوبيناس وأخذا يعنفان ~~بعضهما ms28 على سوء تدبيرهما وخيبة مساعيهما، وتطاولا في الكلام حتى كادا يقتتلان، ثم بارحا ~~المدينة قبل الصباح فاستقلا ظهر البحر. # وكان المركيز ده جنج بأفينيون يحاكم أحد خدامه جنائيا على سرقته مائتي ريال، فبلغه ~~خبر الحادثة فبهت لونه واضطرب عندما تلا الرسول على مسامعه القصة، واشتد به الغضب على ~~أخويه فأقسم أن لن يقتلهما سواه، ورغما عن انشغاله على صحة المركيزة لبث بأفينيون إلى ~~عصر الغد، وقابل فيها بعضا من أصحابه دون أن يكلمهم مطلقا في موضوع الحادثة. # ووصل المركيز إلى جنج وقد مضت أربعة أيام على الحادثة، فقصد منزل ديبرا، وطلب أن ~~يقابل زوجته، وكان قد سبقه إليها قوم من الرهبان الصالحين، فصبروها على أمرها، ~~وشجعوها لمقابلة زوجها؛ فلهذا أذنت له بالدخول لديها عندما بلغها قدومه، فدخل عليها ~~والدمع يتساقط من عينيه وهو يقطع شعوره ويبدي أقصى علائم الحزن واليأس. # واستقبلت المركيزة المركيز استقبال زوجة محسنة لزوج مسيء، بل استقبال مؤمنة حضرها ~~الموت لعدو تسامحه وتصفح عما جناه، فلم توجه له لوما على ما أتاه نحوها، بل عاتبته ~~عتابا لطيفا على هجره، وكان المركيز قد اشتكى لبعض القسوس من تعنيف زوجته له على تركه ~~إياها، فأبلغ القسيس شكواه للمركيزة، فدعت المركيزة زوجها وكان محاطا بالعواد، ~~فاعتذرت له على رءوس الأشهاد عما فرط منها في حقه، واستسمحته، والتمست منه أن لا ينسب ~~ما صدر منها إلا إلى ما قاسته من الآلام لبعده لا إلى نقص في درجة اعتباره لديها، أو ~~تقصير في واجب احترامه المفروض عليها، فصدق عليها قول الشاعر: # إني له عن دمي المسفوك معتذر # أقول حملته في سفكه تعبا # ولما اختلى المركيز بزوجته أراد أن يغتنم فرصة انعطافها إليه ليدفعها إلى إلغاء ~~الإشهاد الذي نطقت به أمام حكام أفينيون؛ لأن نواب هذه المدينة وقضاتها الذين حضروا ذلك ~~الإشهاد رفضوا تسجيل الهبة التي حررتها المركيزة بجنج باسم زوجها بناء على إلحاح أخيه، ~~وكان أخوه قد أرسلها له لتسجيلها عقب تحريرها، فرفضت المركيزة في هذا الموضوع طلب ~~زوجها، وأفهمته أنها لن ms29 تغير عزمها؛ لأن هذه الثروة ثروة أولادها، فمن واجباتها ~~المحافظة عليها، أما الإشهاد الذي نطقت به أمام رجال أفينيون فهو آخر وصاياها ولن تغير ~~فيه حرفا. # ورغما عن هذا التصريح لبث المركيز لدى زوجته يحيطها بعنايته ويرعاها رعاية زوج ~~مخلص ودود، وحضرت مدام روسان والدة المركيزة بعد يومين من حضور المركيز، فاندهشت لما ~~رأته قائما بخدمة ابنتها، وكانت تعتبره - كما أشيع - أحد قاتليها، وكانت المركيزة لا ~~تعتقد ذلك ولا تصدقه، فعملت على محو ما علق بذهن والدتها نحو زوجها من أقوال الناس، ~~واضطرتها إلى تقبيله كما تقبل الوالدة ولدها، فتألمت مدام روسان أشد الألم؛ لتعامي ~~ابنتها وإخلاصها هذا الإخلاص الأعمى لزوجها، ورغما عن كل حنوها عليها عزمت على تركها ~~ولما يمض عليها لديها يومان. وألحت المركيزة عبثا على أمها بالبقاء فلم تستطع تغيير ~~عزمها، وتركتها أمها على فراش الموت وسافرت. # وقد أثر في نفس المركيزة سفر أمها وأحزنها، فطلبت أن تنقل إلى مونبلييه، ولم يعد ~~لها صبر على احتمال البقاء في المكان الذي أصيبت فيه؛ حيث تهيج رؤيتها له أشجانها، ~~وطالما تصور لها فيه أنها ترى قاتليها يطاردانها فتقوم من رقادها مذعورة تصرخ وتستغيث، ~~ولكن رأى الأطباء أن صحتها لا تساعدها على الانتقال، فقرروا أن الحركة تؤذيها وتزيد ~~حالتها خطرا. فلما سمعت المركيزة قرارهم استسلمت له وصرفت عن فكرها السفر، وأخذت تهتم ~~بما يهيئها لملاقاة ربها لتموت ميتة الأبرار كما عذبت في الحياة عذاب الشهداء. فأرسلت ~~تستحضر الزاد الأخير «القربان المقدس»، ثم جددت لزوجها معاذيرها، وأعادت على مسامعه ~~مسامحتها لأخويه على ما جنيا نحوها بلفظ عذب يسيل رقة كما يسطع وجهها نورا، فكانت في ~~جمالها أشبه بالملائكة منها بالبشر. # ولما دخل الكاهن يحمل القربان تغيرت المركيزة، وارتسمت على وجهها علائم الرعب الشديد ~~حيث عرفته، إنه ذلك اللئيم بيريت الذي أراد أولا أن يمنعها من الهرب من القصر، ثم قصد ~~أن يسحق رأسها عندما ألقى وراءها جرة الماء لما أفلتت من يديه، ثم ذهب فأبلغ سلفيها أمر ~~هروبها، وهو الآن يأتيها ms30 بالأشياء المقدسة التي تقربها من الله! # وكمدت المركيزة غيظها، ولما رأت الكاهن يقترب منها غير هياب لم تشأ أن تشهر أمره ~~وتكدر صفو الساعة الرهيبة التي هي فيها بإظهار جرمه للناس، بل مالت إلى جهته، وألقت ~~إليه هذه الكلمات: أيها الأب، ما أظنك إلا ذاكرا ما فات، فأتعشم أن تزيل ما بي من الشك ~~بمشاطرتي في تناول هذا القربان. # فطأطأ الكاهن رأسه علامة الإيجاب، وتناولت المركيزة برشانة القربان فاقتسمتها معه ~~مبرهنة له بذلك أنها سامحته كما سامحت شركاءه، وأنها ترجو من الله والناس أن يغفروا لها ~~كما غفرت. # وانقضت الأيام وحال المركيزة على ما هي عليه، بل زادتها الحمى جمالا؛ فتوردت وجنتاها ~~وأشرق وجهها، فقوي أمل الناس في شفائها. أما هي فكانت أدرى بحالها من غيرها فلم تغتر ~~بظواهر الصحة الكاذبة التي تبدو عليها، وأيقنت أن ساعتها قريبة، فدعت إليها ولدها وكان ~~قد بلغ السابعة، وألزمته جانب فراشها طالبة منه أن يطيل النظر إلى وجهها ليتذكره ما ~~حيي ولا ينساها في صلواته، فبكى الغلام وعاهدها أن لا ينساها ولا ينسى أن ينتقم لها من ~~قاتليها إذا بلغ سن الرجال، فراجعته أمه قائلة له: إن الانتقام بيد الله في السماء وبيد ~~الملك في الأرض، وإنه يحسن بالمؤمن العاقل أن يكل أمره إليهما على كل حال. # وفي الثالث من شهر يونيو، وصل إلى جنج المسيو كتلان المستشار المنتدب من قبل برلمان ~~تولوز لتحقيق واقعة المركيزة، وبصحبته الموظفون اللازمون لقضاء مهمته، لكنه لم يتمكن في ~~مساء وصوله من رؤية المركيزة؛ لأنها كانت في دور إغماء طويل لبث بضع ساعات وعقبه ~~استرخاء في أعصاب المخ لا يحتمل معها الوثوق في حديثها؛ فأجل القاضي مقابلتها إلى ~~الغد. # وفي الغد انتقل المستشار إلى منزل «ديبرا»، فدخله بلا استئذان ولا سابقة إخطار، وقصد ~~الغرفة التي بها المركيزة رغما عن معارضة القائمين على بابها له عند الدخول، فقابلته ~~المركيزة وحادثته بذهن حاضر وتعقل تام، حتى ظن أن ما بلغه بالأمس عنها فرية يقصدون بها ~~أن يمنعوه عن استجوابها ms31 . # وامتنعت المركيزة أولا عن حكاية الواقعة قائلة: إنها لا تريد أن تعفو وتتهم في آن ~~واحد، ولكن أفهمها القاضي أن الواجب عليها قبل كل شيء احتراما للعدل أن لا تنكر ~~شيئا مما حصل، وأن تذكر الحقيقة على وجهها؛ خشية أن يضل المحققون فيأخذون بجريرتها ~~مظلوما أو يحكمون على بريء بدلا عن أن تنال يد العدالة المجرمين الظالمين، فاقتنعت ~~المركيزة بهذه الحجة، وأخذت تشرح للقاضي وقائع الحادثة مفصلة، فلبثت مختلية معه ساعة ~~ونصف ساعة أحاطته فيها علما بكل ما تم لها مع زوجها وأخويه. # وعاد القاضي في الغد فوجد المرض قد اشتد على المركيزة وتأكد بعينيه حالتها فتركها ~~خشية أن يتعبها بالحديث، وكان قد حصل منها على كل ما تهمه معرفته فلم يطلب ~~المزيد. # وابتدأت الآلام من ذلك اليوم تتناوب المركيزة فلم تطق صبرا على أمرها، وكانت تود ~~أن تتظاهر بالصبر والثبات إلى آخر لحظة من حياتها فخانتها قواها، وصارت تصرخ من الألم ~~صراخا قد اختلط بدعواتها، وانقضى عليها اليوم الرابع من شهر يونيو وصباح الخامس منه، ~~وهي في هذه الحال، ثم فاضت نفسها في الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم، وكان يوم أحد، ~~فارتدت الروح إلى بارئها تاركة دار الشقاء والفناء إلى دار النعيم والبقاء. # المحاكمة # وما كادت تسلم المركيزة الروح، حتى صدر الأمر بتشريح جثتها، فقرر الأطباء أنها ماتت ~~بتأثير السم وحده؛ حيث لم تكن إحدى طعنات الحسام السبع التي طعنتها بالغة مقتلا منها، ~~ووجد الأطباء معدة المركيزة وأحشاءها محترقة ومخها مسودا، وقد جاء في محضر التحقيق، ~~كما روته إحدى الرسائل التي نشرت عن مقتل المركيزة، أنهم وجدوا كمية السم التي جرعتها ~~كافية لقتل لبؤة في بضع ساعات، ومع ذلك قاومت المركيزة مفعول ذلك السم تسعة عشر يوما، ~~كأنه كان عسيرا على الموت أن يختطف ذلك الجسم الجميل، وقد كان زينة الحياة. # ولما علم المسيو كتلان بوفاة المركيزة أنفذ سرية من الجند إلى قصر جنج، وأمرهم بالقبض ~~على المركيز والراهب وخدم القصر جميعا عدا السائس الذي أعان المركيزة على ms32 الهروب. ووجد ~~قائد السرية المركيز يتمشى في ردهة القصر الكبرى حزينا مضطربا، فأبلغه الأمر المكلف ~~بتنفيذه، فلم يبد المركيز معارضة فيه؛ كأنه كان مترقبا له، وسلم نفسه إلى الجنود ~~طائعا، قائلا إنه على كل حال يريد الذهاب إلى البرلمان لمحاكمة قاتلي زوجته. واستحوذ ~~قائد السرية على مفاتيح القصر ومفتاح مكتب المركيز، ثم أمر بترحيل المقبوض عليهم، ومنهم ~~المركيز، إلى سجون مونبلييه. # وما كاد يصل المركيز إلى هذه المدينة، وكان وصوله إليها ليلا، حتى شاع فيها خبر ~~قدومه بأسرع من البرق، وتناولته الأفواه في أنحائها، فكنت ترى النوافذ تنفتح في طريقه ~~ويطل منها القوم ينظرون إليه وهو سائر تحتاط به الجند، وحوله صبية في الطريق والسوقة ~~يحملون المشاعل، فيضيء وجهه للناظرين، وكان المركيز والراهب على حصانين مهزولين تحتاط ~~بهما الجنود، ولولا الجنود لفتكت بهما الناس؛ إذ كنت ترى الرجل يثير الرجل على هذين ~~المجرمين ليقطعانهما إربا، ولولا دفع الجند لقضى الناس فيهما أربا. # ولما علمت مدام ده روسان بوفاة المركيزة، استحوذت على ما خلفت من مال وعقار، ثم ~~انضمت إلى الدعوى الجنائية، وقالت: إنها لن ترجع عنها حتى تنتقم العدالة من قاتلي ~~ابنتها. # وشرع القاضي في التحقيق، فاستجوب المركيز أولا، ولبث يناقشه إحدى عشرة ساعة، ثم ~~استجوب الباقين، وأصدر قرارا بترحيلهم جميعا من سجون مونبلييه إلى سجون تولوز مقر ~~البرلمان. # وقد قدمت مدام روسان إلى المحكمة مذكرة تتهم فيها صهرها، وتبدي فيها بأوضح بيان كيفية ~~اشتراك المركيز مع القاتلين، إن لم يكن في الفعل ففي النية والعزم والتمهيد. # وكان دفاع المركيز بسيطا، قال فيه: إن ربه ابتلاه بأخوين لئيمين شرعا أولا في ~~إصابته في عرضه، ثم أصاباه في نفس زوجة كانت عزيزة لديه، فأماتاها ميتة شنيعة، وما ~~يدهشه إلا اتهامه في هذه الجريمة الفظيعة. # ورغما عن دقة التحقيق لم يتمكن المحقق من إيجاد أوجه إدانة قوية ضد المركيز، وكانت ~~الشبه الموجهة إليه لا تكفي لإصدار الحكم بإعدامه. # وفي 21 أغسطس سنة 1667، صدر الحكم غيابيا ضد الراهب والفارس بأن تفصص أعضاؤهما وهما ~~حيين ms33 ، وحضوريا ضد المركيز ده جنج بنفيه نفيا أبديا خارج المملكة، ومصادرة أمواله، ~~وتجريده من ألقابه، وحرمانه من وراثة أولاده. أما الخوري بيريت فحكم عليه بالأشغال ~~الشاقة المؤبدة بعد أن جرد من ألقابه الدينية، وطرد من الطوائف المنتمي ~~إليها. # وتحدث الناس بهذا الحكم وانتقدوه طويلا، ولم تكن الظروف المخففة معروفة في قانون ذلك ~~الزمن، فأخذ القوم يقولون: إن المركيز إما شريك لأخويه أو غير شريك، فإن كان شريكا ~~فالحكم الصادر ضده خفيف جدا، وإن لم يكن فالحكم شديد. # وكان الملك لويس الرابع عشر من رأي الجمهور في هذا الحكم، حيث لم ينس جمال المركيزة ~~الفتان، حتى إنهم لما طلبوا منه العفو عن المركيز ده دنز المتهم بسم امرأته ظانين أن ~~الملك نسي قصة آل جنج، أجابهم الملك قائلا: ليس المركيز في حاجة إلى عفوي، حيث إن ~~قضيته منظورة أمام محكمة تولوز، فله من رأفة قضاتها ما يغنيه عن عفوي، كما استغنى عنه ~~المركيز ده جنج. # مصير الظالمين # أما وقد علم القراء ما تم للمركيزة، فلعلهم يتساءلون عما تم لقاتليها، فلنرو لهم ~~عنهم خبرا، فأما الخوري بيريبت فكان أول من ذهبت روحه منهم إلى سقر لتناقش الحساب عما ~~جنته يداه؛ إذ مات وهو مقيد في الأغلال وسائر من تولوز إلى برست ليقضي عقوبته في ~~ليماناتها كما سلف القول. # أما الفارس فقصد مدينة البندقية، وانخرط في سلك جنودها، وكانت جمهورية البندقية في ~~حرب مع الأتراك، فأرسل مع من أرسل إلى كنديا «بجزيرة كريت»، وكان المسلمون محاصرين ~~لها منذ اثنين وعشرين عاما. وبينما هو يتمشى ذات يوم بعد وصوله بأيام قلائل فوق أسوار ~~المدينة ومعه ضابطان، إذ ألقيت قنبلة وانفجرت تحت أرجلهم فقتلت إحدى شظاياها الفارس ولم ~~يصب رفيقاه بسوء؛ ولذا يرى الناس في هذه الحادثة يد انتقام من لا يغفل ولا ينام. # أما الراهب فحديثه طويل، وما تم له أعجب مما تم لأخيه؛ إذ ترك الراهب أخاه في ضواحي ~~مدينة جنوة، وسافر مخترقا إيطاليا وسويسرا وألمانيا حتى أتى هولندا، فدخلها متنكرا، ~~وسمى نفسه ms34 لا مارتليير. وتردد الراهب في اختيار البلد الذي يلقي إليه عصا ترحاله، ~~حتى قر عزمه على أن يقصد مدينة فيان، وكان أميرها في ذلك الحين يدعى الكونت ده ليب، ~~وتعرف فيها الراهب برجل من الأشراف توصل به إلى الأمير، فقدمه له الرجل بصفة غريب من ~~الفرنساويين الذين أقصتهم الحروب الدينية عن بلادهم. # ورأى الأمير من ذلك الغريب الذي آوى إلى مملكته نابغة في العلوم والمعارف، وبحرا في ~~الآداب، فعهد إليه بتربية ولي عهده، وكان غلاما في التاسعة من عمره، ورأى الراهب في ما ~~أسند إليه السعادة والرفعة، فقبل الوظيفة شاكرا ممتنا. # وكان الراهب ده جنج ذا عزيمة لا تفل وذا سلطان على نفسه لا يغلب، فلما رأى سعادته بل ~~حياته متوقفة على سيرته، اجتهد فأخفى ما به من رذيلة وسوء خلق، وتجلى في الناس متظاهرا ~~بما ليس فيه من فضل ومن كرم. # وقد تقوم العزيمة مقام الفضيلة، بل كل الفضيلة في العزيمة، وقد توصل الراهب إلى ~~تقوية إرادة تلميذه وتقويم أهوائه بما غرسه فيه من مبادئ العزم والحزم في الأمور، حتى ~~جعله على صغر سنه كهلا في فن السياسة والإدارة، ورأى الأمير ليب ثمرة هذه التربية، ~~فأراد أيضا أن يقتبس من جنيها، فصار يستشير معلم ولده في كل شأن من شئون ملكه، حتى ~~أصبح «لا مارتليير» - الموهوم - روح هذه الإمارة ولما يمض عليه فيها حين ~~طويل. # وكان لدى الأميرة - زوجة الأمير - ابنة عم فقيرة، لكنها ذات نسب رفيع، تربيها وتحبها ~~محبة الولد، فما لبثت الأميرة أن رأت انعطافا من الفتاة نحو مربي ابنها، وميلا له لا ~~يليق بمكانتها وشرفها، وكان الراهب قد توصل - بدهائه - إلى إلقاء الفتاة المسكينة في ~~شرك حبه، فاستدعت الأميرة ابنة عمها إليها، وتحايلت حتى اعترفت لها الفتاة بحبها ل ~~«مارتليير»، فقالت لها الأميرة: إنها وزوجها يقدران ذلك الرجل حق قدره وفي عزمهما أن ~~يكافئاه على خدماته لابنهما وللمملكة بأن يرفعاه مكانا عليا، ولكن هذا الرجل ليس له ~~لقب شريف يعرف به، ولا عائلة ظاهرة يفخر بالانتساب ms35 إليها، فما له أن يطمع في ~~مصاهرة الأمراء والملوك. وزادت الأميرة قائلة: إنها لا تشترط أن يخطب ابنة عمها أمير من ~~آل بوريون أو روهان، إنما لا تتنازل عن أن يكون خاطبها من الأشراف ولو كان فتى ~~قرويا. # وأعادت الفتاة عن سمع حبيبها ما دار من الحديث بينها وبين الأميرة كلمة كلمة، وظنت ~~أنه يتكدر له، لكنه أجابها قائلا: إن الأمر ممهد إن لم يكن إلا انتسابه العائق. وكان ~~الراهب يظن أن إقامته ثماني سنين لدى الأمير أمينا لأسراره ومحفوفا بعنايته وإكرامه ~~قد تجعل له مكانة لديه حتى إذا باح له باسمه لم يجد منه سخطا عليه، فطلب من الأميرة أن ~~تسمح له بمقابلتها، فصرحت حتى إذا تمثل بين يديها طأطأ أمامها رأسه تحية واحتراما، ثم ~~قال: مولاتي، أراني سعيدا إذ تشرفت باكتساب رضاء سموكم، ولكن مولاتي تحول دون إتمام ~~أسباب سعادتي، فابنة عمها تنازلت بقبولي بعلا لها، ومولاي الأمير الصغير يعززني في ~~آمالي ويصفح عن جراءتي، فما لمولاتي تعترض سبيل هذا القران؟ وهل أتيت ذنبا أؤاخذ عليه ~~في السنين الثماني التي قضيتها في خدمة سموها؟ # فأجابته الأميرة: إنك لم تأت شيئا تؤاخذ عليه يا سيدي، إنما أنا لا أريد أن أوافق ~~على عقد قران تؤاخذني عليه الناس، وكنت أظنك ذا فكر وتبصر فلا تضطرني إلى تنبيهك إلى ~~حدودك، فاعلم أن طلباتك مجابة ما لم تخرج عن حد اللياقة، فاطلب إن شئت ضعف ما تقتضي من ~~المال يصرف لك، واطلب إن شئت مركزا أسمى مما أنت فيه تمنحه، لكن لا تطمح أنظارك إلى ~~عقد قران لا تؤهلك مكانتك إليه. # فقال الراهب: ومن أنبأ مولاتي أن نسبي لا يسمح لي بالحصول على هذا الشرف؟ # قالت مندهشة: أنت على ما يظهر لي، فإن لم ينبئني لسانك فقد أنبأني اسمك. # فأجابها وقد تجرأ: وإذا كان هذا الاسم غير اسمي وقد اضطرتني الحوادث إلى استعارته، ~~أفلا تتنازل مولاتي بتغيير رأيها نحوي؟ # فقالت الأميرة: لقد تقدمت في حديثك بما لم يعد لك أن تعدل عنه ms36 فأتمم حديثك، وأعلمني ~~من أنت، وإني أقسم لك إن كنت من بيت كريم كما تلمح لي أني لا أخيب لك أملا، ولا تظن أن ~~فقرك يحول دون إتمام أمنيتك. # فخر الراهب على ركبتيه أمام الأميرة وقال: آه يا مولاتي، إن اسمي مشهور ومعروف لديك، ~~ويا ليت لي أن أفقد نصف دمي دون أن ألفظ به في هذه الساعة، ولكنك قلت: إنه لم يعد لي ~~سبيل إلى العدول عن إتمام حديثي، فاعلمي يا مولاتي أني ذلك الراهب التعيس الذي بلغت ~~مسامعك أخبار جرائمه ورآك تعيدينها على مسمع منه، فأنا ذلك الراهب ده جنج. # فصاحت الأميرة منذعرة قائلة: الراهب ده جنج، الراهب ده جنج؟! أأنت ذلك الراهب اللعين ~~الذي تقشعر من اسمه الأبدان، وإليك عهدنا بتربية ولدنا الوحيد؟ ولكن لا، لا أظنك إياه ~~يا سيدي، وأرجو أن تكون كاذبا فيما تدعيه؛ لأنني لو كنت واثقة أنك ذلك الراهب لأمرت ~~الآن بالقبض عليك وإرسالك إلى فرنسا لتلقى فيها جزاء ما جنته يداك، والآن فاسمع: إن كنت ~~صادقا فيما تقول فخير لك أن تبارح حالا هذا القصر، بل هذه المدينة، بل هذه الإمارة، ~~وكفاني عذابا فيما بقي من أيامي أن أذكر أنه ضمني وضمك بيت واحد، فلبثت معك فيه سبع ~~سنين لا أدري من أنت. # وحاول الراهب أن يجيب، ولكن علا صوت الأميرة على صوته، وكان الأمير الصغير واقفا ~~بالباب مستعدا لمساعدة أستاذه في بلوغ مرامه، فلما رأى الجدال قد علا بينه وبين أمه ~~دخل ليصلح ذات البين، ولكنه وجد أمه وقد بلغ منها الرعب مبلغا عظيما، حتى إنها عندما ~~رأته داخلا جذبته إليها كأنما تحتمي به، فأخذ يلاطفها ويسترحمها، فلم يتمكن إلا أن ~~ينال لمعلمه مفتاح النجاة بنفسه، حيث سمحت له الأميرة بالانسحاب إلى أية بلدة شاء من ~~بلاد الأرض على أن لا يريها وجهه بعد هذا الحين. # وانسحب الراهب إلى مدينة أمستردام، واشتغل فيها بتعليم اللغات، ولحقت به في هذه ~~المدينة حبيبته فتزوجته، وصار تلميذه يمده بالمال رغما عن علمه بحقيقة اسمه ms37 وسيرته. ~~ولبث الراهب على هذا الحال حتى بلغت زوجته سن الرشد، فاستولى على مالها من عقار خاص بها ~~وكان قليلا. # وسار الراهب في الناس سيرة مثلى، واشتهر بينهم بعلمه، فأدخله البروتستنت في ~~مجمعهم، ولبث فيها إلى أن قبض مذكورا بالخير، وربك يعلم إن كانت استقامته في نهاية ~~أيامه توبة صادقة أو نفاقا. # عاشق كنته # علمنا أن المركيز ده جنج قضي عليه بالنفي والتجريد، فرحلوه إلى حدود السافوا من ~~فرنسا، وهناك تركوه، فقضى ثلاث سنين غريبا ريثما يتناسى القوم حديثه، ثم عاد إلى فرنسا ~~متنكرا، وكانت حماته مدام ده روسان قد ماتت، فلم يبق من يهمه إبعاده. وعاد إلى قصره ~~بجنج، فلبث فيه مختفيا، لكن علم المسيو ده بافيل حاكم لنجدوك بعودته من منفاه، فأراد ~~أن يحاكمه على ذلك، لولا أن قيل له: إن المركيز منتصر للمذهب الكاثوليكي يجبر أتباعه ~~على حضور القداس مهما كانت مذاهبهم، وكان ذلك العصر عصر اضطهاد ديني للبروتستانت، فرأى ~~المسيو ده بافيل أن اهتمام المركيز بنصرة المذهب تكفر عن جرمه، فصرف النظر عن محاكمته، ~~بل وراسله سرا، وضمن له بقاءه في فرنسا ما دام قائما بنصرة الكاثوليكية، ومضى ~~اثني عشر عاما على هذه الحال. # وكان ابن المركيزة، وهو الذي رأيناه جالسا يبكي لدى أمه المركيزة وهي على فراش ~~موتها، قد شب وبلغ في ذلك الحين العشرين من عمره، وأصبح غنيا بما ورثه عن والده من ~~أملاكه المصادر فيها، وما ورثه مع أخته عن أمه بعد موت جدته، وكان المركيز الصغير قد ~~تزوج بفتاة ذات حسب ونسب ومال وجمال تدعى «مادموازيل ده مواساك»، فلبث معها حتى دعي ~~للخدمة العسكرية فسافر بزوجته إلى قصر جنج. وهناك عهد بها إلى أبيه وأوصاه عليها كل ~~التوصية، ثم لحق الجيش تاركا لها تحت رعاية المركيز. # وكان المركيز ده جنج في الثانية والأربعين إلا أن ناظره لا يظنه جاوز الثلاثين، وكان ~~من أجمل رجال عصره وجها وهيئة، فعشق زوجة ابنه، وأمل أن تبادله الغرام، فاحتال لذلك، ~~وكان مع المركيزة الصغيرة فتاة ربيت ms38 معها في المهد، فابتدأ المركيز بإبعادها عنها ~~محتجا بمخالفتها لها في المذهب الديني، وكانت المركيزة شديدة التعلق بهذه الفتاة ~~فآلمها فراقها جدا، ولم تدرك له مغزى، وما كان حضورها لهذا القصر عن رضا بل ~~اضطرارا؛ لعلمها بما ارتكب فيه من الفظائع التي رويناها، وساءها حلولها في الغرفة ~~التي سقيت فيها حماتها السم، ورقادها على السرير الذي كانت عليه، ورؤيتها للنافذة التي ~~ألقت بنفسها منها، وكانت كل هذه الأشياء تذكرها بهذه الحادثة المحزنة، وتشخص لها ~~حوادثها المريعة مفصلة، وزاد رعبها وانقباضها لما انكشفت لها نوايا حميها، فرأت نفسها ~~محبوبة من رجل كان مجرد اسمه يرعبها وهي طفلة، ورأت نفسها تخلو به ساعات من النهار، ~~ولما سكنت ألسنة الناس عن اتهامه في مقتل زوجته. ولو كانت الفتاة في غير هذا ~~القصر وهذا المكان لكانت شجعت نفسها وسلمت أمرها لله، ولكنها قالت في نفسها: إن الله ~~قدر على هذا القصر وساكنيه بلاء متواصلا، فماتت المركيزة غدرا وهي من أجمل خلق الله ~~وأطهرهم نفسا، ولم يمد لها الله يدا لدفع الكيد عنها كأن صواعق غضبه حاقت بآل جنج ومن ~~يتصل بهم. # ولبثت المركيزة الصغيرة تحتاط لها المخاوف، وتزداد بمرور الأيام، فأصبحت لا تستطيع أن ~~تخلو بنفسها، فكانت تجمع لديها في النهار سيدات أهل المدينة لتأتنس بوجودهن، ولكن كان ~~بعضهن ممن شهدن مقتل حماتها، فكن يعدن على مسامعها تفصيل هذه الواقعة، وهي تستزيدهن ~~علما بما تم لها، فما كان يزيدها قولهن إلا انزعاجا، أما لياليها فكانت تقضي معظمها ~~جاثية بملابسها ترتعب لأقل حركة، وترقب انبثاق ضوء الصباح، حتى إذا لاح تقوم إلى فراشها ~~لترقد رقادا مشوبا بمزعجات الأحلام. # وأصبحت وقاحة المركيز ظاهرة ونواياه الخبيثة مفتضحة، فلم يعد لكنته صبر على حالها، ~~وصممت على أن تعمل بيدها على الخلاص منه، فخطر لها أن تكتب لأبيها فتخبره بأمرها وتطلب ~~منه المعونة، ولكنها رأت أن أباها حديث الدخول في المذهب الكاثوليكي، وقد لاقى أشد ~~العذاب لنصرة الإصلاح «مذهب البروتستنت»، فلا يبعد أن يحتج المركيز بدعوى المذهب عند ~~ورود ms39 جواب أبيها، فيفضه ويطلع على ما فيه، فتكون كالساعية إلى حتفها بظلفها، فاختارت أن ~~تكتب لزوجها وزوجها عريق في الكاثوليكية وضابط في الجندية فلا تفض كتبه، فكتبت له ~~وشرحت له حالها، واستكتبت العنوان يدا غريبة، ثم أرسلت بالكتاب إلى مونبلييه حيث عهد ~~به إلى البريد. # وكان ابن المركيز في مدينة ميس عند استلامه لكتاب زوجته، فثار غضبه، وتذكر قصة أمه، ~~وتذكر عهده لها أن لا ينساها وهو غلام يبكي لدى سريرها وهي تحتضر، ثم رأى زوجته ~~المحبوبة في موقفها بتلك الغرفة المشئومة تهددها الحوادث التي انتابت أمه من قبل، فلم ~~يطق صبرا، وقام في الحال فركب البريد إلى قصر الملك لويس الرابع عشر بفرساليا، والتمس ~~المثول بين يديه، فأذن له، فجثا لدى قدمي الملك وكتاب زوجته في يديه، والتمس منه أن ~~يأمر بإعادة أبيه إلى منفاه، وأقسم أن يصله بما يكفيه. # وكان الملك يجهل أن المركيز ده جنج عاد من منفاه، فعلم ذلك بصفة لا تجعل للعفو ~~سبيلا، فأصدر أمره بالقبض على المركيز أينما وجد بأرض فرنسا ومحاكمته بمنتهى ~~الشدة. # وكان للمركيز أخ بفرنسا ذو منصب سام في بلاد الملك، ولم يشارك إخوته الآخرين في ~~لؤمهم، فما كاد يبلغه أمر الملك حتى سافر من فرساليا مسرعا إلى جنج، فأعلم أخاه بالخطر ~~الذي يتهدد حياته، وسافر به حالا إلى أفينيون، فوجد المركيز ابنته مدام دور فان، ~~فحاولت إبقاءه لديها، فخشي أن تصل إليه يد الملك بأذى إن هو عصيه، فسافر من هذه ~~المدينة إلى كونتينة فينسيك، وكانت هذه الكونتية من الأملاك البابوية بفرنسا ومعتبرة ~~لذلك أرضا غريبة عن هذه المملكة، وآوى المركيز فيها إلى جزيرة ليل، وهي قرية صغيرة ~~قائمة في وسط نهر السرج ذات ظلال وعيون ومنظر بهيج النواظر. # ولبث المركيز في هذه القرية، وانقطعت عن الناس أخباره من ذلك الحين. # قال المؤلف: زرت جنوب فرنسا في عام 1835، فحاولت أن أهتدي إلى ما تم للمركيز ده جنج ~~بعد حلوله في هذه القرية، فلم أجد من ينبئني خبره، كأن الله أراد ms40 أن يموت هذا المركيز ~~موتا خفيا بعد حياة اشتهرت بالمنكرات. # زوج لا كالأزواج # حيث ذكرنا اسم مدام دور بان ابنة المركيز، فلا مندوحة لنا عن أن نروي طرفا من قصتها ~~لنختم بها سيرة آل جنج؛ فإن في قصتها عجبا، وقد قضى الله أن يجعل سيرة هذه العائلة ~~موضوع أحاديث الناس بفرنسا نحو قرن من الزمن، لما احتوت عليه من العجائب ~~والفظائع. # كانت ابنة المركيزة ده جنج في السادسة من عمرها عندما انتقلت والدتها إلى دار البقاء، ~~فاحتضنتها جدتها والدة أبيها، فأقامت لديها حتى بلغت الثانية عشرة، فعقدت لها جدتها على ~~المركيز ده بيرو خليلها في صباها، وكان المركيز شيخا قد ناهز السبعين، لكن لم يثنه ~~سنه عن مغازلة الحسان، وكان مقربا عند الملوك الذين عهد دولتهم محبوبا لديهم. وكانت ~~الفتاة لا عهد لها قبله بالرجال، فرأت زوجها رءوفا بها، فارتضت به وعدت نفسها سعيدة؛ ~~إذ لقبوها باسمه، فأصبحت تدعى المركيزة ده بيرو. # وكان المركيز واسع الثروة وله أخ أصغر منه سنا قد خاصمه وعاداه واستحكم بينهما ~~العداء، حتى إن المركيز لم يتزوج إلا ليحرم أخاه من ميراثه إذا رزق بمولود، لكن رأى ~~المركيز أن الواسطة التي اتخذها لحرمان أخيه ضئيلة الجدوى؛ لكبر سنه، فانتظر سنة بل ~~سنتين عسى أن يمن الله عليه بمعجزة كما من على زكريا من قبل، فأبى الله إلا أن تجري ~~قدرته على أحكام العادة، وازداد بغض المركيز لأخيه، وخشي أن يموت بلا عقب، فعمد إلى ~~طريقة وحشية هي أليق بالبهائم منها بابن آدم الراقي حسا ومعنى، ولكن هي النفس قد ~~ترفع المرء إلى مقام الملائكة أو تضعه إلى منزلة الأبالسة. وقد كانت تلك الطريقة وسيلة ~~قدماء أهل إسبرطة في الحصول على مولود من زوجاتهم بواسطة شخص غريب، إذا عجز الزوج عن ~~الحصول عليه بنفسه. # ولم يجهد المركيز نفسه في إيجاد ذلك الشخص الغريب؛ إذ كان في قصره فتى ربيب بين ~~السابعة والثامنة عشرة، وهو ابن أحد أصدقائه المتوفين عن غير مال، كان قد عهد به إلى ms41 ~~المركيز ليربيه وهو على فراش موته. وكان هذا الفتى أكبر من حفيدته بعام وقريبا منها في ~~أكثر الأوقات، فما لبث أن شغف بها حبا، وحاول أن يخفي هواه، فنمت عليه به أحواله، ولم ~~يخف أمره عن عين المركيز النقادة، فوجم المركيز أولا لما شغل قلب الفتى وخشي على ~~زوجته منه، ولكن لما خطر له خاطر الانتقام من أخيه بالوسيلة التي ذكرناها رأى في تعلق ~~الفتى بزوجته تمهيدا لبلوغ مناه. # وكان المركيز لا يعزم إلا بعد تدبر طويل، فإذا صمم أسرع في تنفيذ عزمه، فلما تم له ~~اختيار الوسيلة التي ارتآها استدعى ربيبه لديه، واستعهده كتمان ما يسره إليه، ووعده ~~خيرا كثيرا إذا هو حفظ عهده وصان سره، ثم عرض عليه ما يرجوه منه، فظن الفتى أنها حيلة ~~من المركيز ليعترف له بهواه، فاضطرب وكاد يرتمي على قدمي المركيز يقبلهما ويسأله الصفح، ~~فأدرك المركيز ما يجيش بصدر ربيبه، فطمأنه وأقسم له «بشرفه» أنه صادق فيما يقول، ومصرح ~~له أن يفعل ما يشاء للوصول إلى الغاية التي يرجوها، فما وسع الفتى «طبعا» إلا القبول، ~~وأقسم لدى سيده أيمانا مغلظة أن لا يبوح بالسر الذي استؤمن عليه، وصرف له المركيز من ~~المال ما يساعده على نوال المأمول، معتقدا أن المرأة مهما بلغت من الفضيلة لا تلبث أن ~~يفتنها المال والشباب والجمال. ولكن خاب اعتقاده؛ إذ كانت زوجته ممن لا يهمهن إلا ~~الشرف. # وما أسرع ما شرع الفتى في تنفيذ وصايا مولاه، فرأت منه المركيزة من أول يوم اهتماما ~~بشئونها فوق ما كانت تعهده فيه من قبل، وإسراعا في تنفيذ أوامرها فوق ما تؤمل منه، فما ~~كان يغيب عنها لحظة لقضاء حاجتها حتى يعود إلى جانبها. ولم تدرك المركيزة لهذا ~~الاهتمام مغزى، فشكرت لبساطتها الفتى عليه. وبعد يومين تمثل لديها الفتى متحليا بأفخر ~~اللباس، فأعجبت بحسن زيه، وامتدحت جميل ذوقه، وأخذت تتأمل في أجزاء ملبوسه قطعة قطعة، ~~وتسأله عنها، وتقلبها بين يديها كأنها طفلة وكأنه «عروسة» تلهو بها، وكانت المركيزة ~~تعامل ربيب زوجها معاملة ms42 الأخ، ولا تتكلف في حديثها معه، فما كانت معاملتها إلا لتزيد ~~الفتى ولوعا بها، وكان مع فرط غرامه يهاب أن يفاتحها به؛ فيبقى أمامها خافق القلب ملجم ~~اللسان. وكان يسأله مولاه كل ليلة عما وصل إليه، فيقول له الفتى: إنه لم يتقدم في يومه ~~شيئا عن أمسه، فيؤنبه المركيز ويوبخه ويهدده بأخذ التحف والملابس التي أعطاه إياها ~~وإخلاف الوعود التي وعده بها. ولما كاد أن ييأس منه أبلغه أنه إن لم يفعل ما أمره به ~~يعهد به إلى غيره، وكفى بهذا التهديد الأخير إيقاظا لراقد همة الفتى؛ فتشجع وتجرأ ووعد ~~المركيز أن يكون في ليله أجرأ منه في أمسه، فصار يتقرب للمركيزة ويروي لها أحاديث ~~حب وغرام لينبه فيها عاطفة الميل إليه، فكانت تصغي المركيزة لأحاديثه بقلب طاهر ونية ~~سليمة، ولا تفقه ما يرمي إليه الفتى. حتى إذا كان ذات يوم رأت المركيزة الفتى يطيل ~~النظر في وجهها، فسألته عما به فاعترف لها بهواه، فوجمت في الحال وتبدلت سحنتها، ثم ~~التفتت للفتى وأمرته بالخروج من غرفتها. # وأطاع المحب المسكين، فخرج من لديها قاصدا مولاه يبثه شكواه، فأبدى المولى تأثرا ~~لحاله وصبره عليه، وقال له: إنه أخطأ في اختيار الفرصة التي كاشف فيها مولاته بهواه؛ ~~فإن للنساء أوقاتا للقبول لا يرددن فيها الطالب، وأخرى تخيب لديهن فيها المطالب، فالسر ~~في اختيار الأوقات التي تعرض فيها عليهن الحاجات. ونصح المركيز لربيبه أن ينتظر يومين ~~ريثما تتناسى مولاته فيهما ما بدا منه وتتصالح معه، وأوصاه أن لا ييأس إذا انخذل أول ~~مرة؛ فإن الفضل في الثبات. ثم أعطاه كيسا مملوءا بالذهب ليرشي به وصيفة المركيزة إذا ~~اقتضى الحال. # واهتدى الفتى بنصائح المركيز التي أوحتها إليه خبرته، فتمثل لدى مولاته آسفا نادما، ~~لكن المركيزة عاملته بالشدة مدة يومين، فشفعت فيه لديها وصيفتها وقالت لها: إن الشاب ~~يعذر إذا رأى مثل جمال مولاته فعشقه، وله من حداثة سنه وطهارة حبه عذر آخر، فليس ~~جرمه مما لا يقبل التوبة، وليست المركيزة ممن يرفض العفو؛ فخفضت المركيزة ms43 من شدتها، ~~واستدعت الفتى لديها، فألقت عليه درسا من النصائح والآداب تلقاه وهو خافض الرأس مسبل ~~العين، ثم مدت يدها وصافحته صافحة عنه، وعادت إلى سابق عهدها معه. # ومر عليهما في هذه الحال أسبوع لم يرفع الفتى فيه عينه إلى مولاته، ولم يفتح في ~~حضرتها فاه، حتى تأسفت على ما كان منها نحوه. # وإذ كانت المركيزة ذات يوم في غرفتها منشغلة بزينتها، اغتنم الفتى فرصة انفرادها وقد ~~تركتها وصيفتها فولج إلى الغرفة، وارتمى على قدمي المركيزة قائلا: إنه حاول عبثا كتم ~~هواه فأصبح لا طاقة له بإخفائه، حتى لو قدر له أن يموت تحت قدميها مسخوطا عليه منها ~~فلن يرجع عن أن يعترف لها بأن هواه عظيم، شغل قلبه وباله، وأصبح أقوى من كل عاطفة ~~فيه، فأرادت المركيزة أن تطرده من حضرتها كما فعلت أول مرة، لكنه أبى الخروج، وعمل ~~بوصية مولاه، فهجم على المركيزة وضمها إلى صدره؛ فصرخت المركيزة وصاحت، وقطعت حبال ~~الأجراس فلم تجبها وصيفتها، ولم تحضر واحدة من الخادمات؛ لأن الوصيفة كانت قد صرفتهن ~~عملا بأمر المركيز، فلما رأت المركيزة نفسها وحيدة لا مغيث لها عملت على دفع القوة ~~بالقوة، فاجتهدت حتى تخلصت من أيدي الفتى وأسرعت نحو غرفة زوجها مختلة الهندام عارية ~~الصدر محلولة الشعور وقد احمرت وجنتاها وثار غضبها، فزادت جمالا على جمال، ووجدت ~~المركيزة زوجها راقدا فألقت بنفسها عليه تستغيث به من شر ربيبه وتشكوه حيث أهانه في ~~عرضه وشرفه، ولكن أدهشها ما رأته من عدم اهتمام زوجها بالأمر؛ إذ قال لها ببرود: إن ما ~~تروينه غير معقول، ولم ينفعل غيرة على عرضه، وزاد قائلا: إنه عهد هذا الفتى عاقلا ~~كاملا فلا يبدر منه هذا الفعل، وإنه لا بد أن يكون لدى المركيزة أسباب تحملها على ~~اتهامه ظلما سعيا لإخراجه من القصر، وإنه رغما عن حبه واحترامه لها لا يسعه طرد هذا ~~الفتى؛ لأنه ربيبه وابن صديقه، فهو في منزلة ولده لديه. فخرجت المركيزة من لدى زوجها ~~حائرة لا تدري بما تؤول أقواله، ورأت ms44 نفسها بلا معين فصممت أن تحتمي وراء ستار ~~العفاف تقابل ربيب زوجها بالشدة حتى تفقده كل أمل في الوصول إليها. # وأصبحت المركيزة من ذلك الحين لا تعامل الفتى العاشق إلا بالصد والجفاء، ولولا أن ~~مولاه وراءه يشجعه ويعشمه لمات الفتى كمدا؛ لفرط حبه وميل المركيزة عنه، وضجر المركيز ~~لحرص زوجته على عرضها، وازداد همه كما يزاد هم امرئ شريف لا تحرص زوجته على ~~عرضه. # ولما يئس المركيز من إذعان زوجته طوعا لحب فتاه، عزم أن يطرق سبيل الحيلة أو ~~الإكراه، فأخفى الفتى في خزانة ملاصقة لغرفة المركيزة وزوده بتعليماته، ثم رقد بجانب ~~امرأته، حتى إذا مضى ثلث الليل انسحب من مرقده بدون أن تشعر به وخرج من الغرفة بعد أن ~~أغلقها بالمفتاح ينصت إلى ما يحدث فيها. # ومضت عليه عشر دقائق في موقفه، ثم سمع حركة كبيرة في الغرفة وربيبه يحاول إبطال ~~صوتها، فتعشم المركيز أن ينتصر الفتى، لكن زادت الحركة؛ فعلم أن الحيلة التي دبرها ~~قليلة الجدوى. وما لبث أن سمع صراخا من داخل الغرفة والمركيزة تستغيث وتنادي، وكان ~~زوجها قد رفع الأجراس من مكانها؛ حتى لا تتمكن زوجته من قرعها استدعاء للخدم، ولما لم ~~يحضر لإغاثتها أحد سمعها المركيز وقد وثبت عن سريرها وأسرعت نحو باب الغرفة وحاولت ~~فتحه فوجدته موصدا، فأسرعت نحو النافذة فأدرك المركيز أن السيل قد بلغ الزبى وأن لم ~~يبق في الأمر حيلة، ففتح الباب خاشيا أن يحدث حادث أو تبلغ أصوات المركيزة أحد ~~المارين، فتصبح القضية في الغد حديث المتكلمين. # ولما رأت المركيزة زوجها داخلا عليها أقبلت وألقت بنفسها على صدره، وقالت مشيرة إلى ~~ربيبه: لعلك مصدق بعينيك ما كذبته أذناك، فهل تأبى الآن إخراج هذا الفتى من ~~القصر؟ # قال: نعم، ما يصنعه هذا الفتى منذ ثلاثة شهور يصنعه بإذني بل بأمري. # فاندهشت المركيزة لهذا الجواب وخرست، وأخذ زوجها يشرح لها بحضور ربيبه سر الأمر، ثم ~~رجاها أن ترضخ لما يرجوه عساها ترزق بمولود يتخذه ولدا، فأجابته المركيزة بعزة نفس ~~وطلاقة لسان تستكبر ms45 على من كانت في سنها، فقالت له: إن القوانين جعلت حدا لسلطته ~~عليها، فليس له أن يتعداه، وإنه مهما بلغت منها الرغبة في إرضائه فلن تطيعه فيما يمس ~~بكرامتها وعرضها. # فاضطر المركيز وهو في السبعين أن ينصاع لقول زوجة لم تبلغ العشرين، وما الكبير ~~كبير بسنه بل بقلبه وعقله. وصرف المركيز آماله عن الحصول على وارث له، ولم يخلف عهده ~~مع ربيبه؛ إذ لا ذنب له، فأنجزه ما وعد واشترى له وظيفة سامية في الجيش، وصبر على حكم ~~الله إذ ابتلاه الله بأطهر النساء ذيلا وأصونهن عرضا، وأراد الله أن لا يطول عذابه، ~~فقبضه إليه بعد ثلاثة شهور من الحوادث التي سردناها، فمات بعد أن قص على مسمع صديقه ~~المركيز دوربان سر أحزانه وسبب أشجانه. # فتنة وخديعة # وكان للمركيز دوربان ولد قد بلغ سن الزواج، فلم ير له زوجة أفضل من تلك التي ~~زانها عفافها وقد تألبت عليها أسباب الفتنة؛ ألا وهي أرملة صديقه بيرو. فانتظر حتى ~~انقضت أيام حدادها المحدودات، ثم تقدم لها يخطبها لولده، ورأت المركيزة خطيبها حائزا ~~صفات الكمال؛ فارتضت به بعلا وتم لهما عقد القران. # وصادف السعد ابن دوربان فرزق من عروسه في ثلاثين شهرا بثلاث من الأولاد فكان أكمل ~~حظا من سلفه وأتم نعمة، وأقام الزوجان لا تكدر صفو عيشهما الحوادث حتى قدم إلى ~~أفينون فارس يدعى ده بوليون. # وكان هذا الفارس من دهاة عصره؛ فتى جميلا متصل النسب بأحد كرادلة روما ذوي السلطة ~~والجاه في ذلك الحين، فكان معجبا بنفسه فخورا بنسبه، قد خلع العذار وترك الوقار وسار ~~بين الناس سيرة الفساق حتى اهتزت لسيرته المجامع التي كان يتردد عليها، وخصوصا في دار ~~«مدام منتنون» أديبة عصرها حيث كانت مجمع الظرفاء والأدباء. # وقال للفارس يوما أحد أصدقائه: إني أرى الملك مستاء منك، فلا ترد سيرتك حتى يكشر ~~عن نابه. # وكان الملك لويس الرابع عشر قد بلغ عتيا في ذلك الحين، فتظاهر بالتقوى، وأصبح لا ~~ترضيه سيرة الفساق، فقال لصاحبه: وإني لمستاء أن يكشر الملك ms46 عن الناب الوحيد الباقي له ~~في فمه. # فسارت الكلمة في الناس وبلغت مسامع الملك، وعلم الفارس بعدها بقليل أن الملك ينصح له ~~أن يسافر لتبديل الهواء في القرى؛ ففهم الفارس مغزى النصيحة، وسافر مفضلا أن يستنشق في ~~القرى هواء الحرية عن أن يستنشق في الباستيل هواء الذل والحبس، وأتى الفارس إلى ~~أفينيون تصحبه الخيلاء يظن نفسه سيدا حل في ضيعة فشرفها. # وكانت شهرة مدام دوربان بالعفاف في أفينيون تعادل شهرة الفارس بالفسق في باريس، فرأى ~~منها الفارس خصما لا تطيق شهرته احتماله، فعزم على منازلتها حتى يفوز بها فيفوز ~~عليها، فصار يترقب حضورها في كل مكان فيحضر فيه، ولا يدع فرصة تمر بدون أن يبدي نحوها ~~انعطافا ويكشف لها عن حبه. وكان المركيز دوربان واثقا بطهارة زوجته وأمانتها على ~~عرضها، فكان مطلقا لها الحرية تفعل ما تشاء وتذهب أنى تريد، وشاءت الأقدار أن تدق ~~ساعة المركيزة ولا تدري أأعمتها الشهوات أم فتنها الفارس لهواه، فاستبدلت عزة الطهارة ~~بذل الفحش، فهوت من عرش الصيانة إلى حضيض الابتذال. # وكانت غاية الفارس الاشتهار فأسرع بإعلان فوزه في المدينة، فكان الناس بين مصدق ~~ومكذب، فأراد أن يقنع المكذبين؛ فأمر أحد خدامه أن ينتظره بعد نصف الليل على باب ~~المركيزة بمشعل وجرس، وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل خرج الفارس من قصر خليلته يتقدمه ~~الخادم بالمشعل يضيء له الطريق ويقرع بالجرس، فيهب القوم من مراقدهم لصوت الناقوس ~~ولم يعهدوه، فيطلون من نوافذهم يتساءلون عن الخبر، فيرون المركيز سائرا وراء خادمه في ~~الطريق الموصل بين بيته وقصر المركيزة، فيدركون المراد حيث أصبحت القصة أشهر من علم. ~~وخشي الفارس أن يبقى في القوم منكر، فكرر هذا العمل ثلاث ليال متعاقبات حتى لم يبق في ~~المدينة من لم يبلغه الخبر إلا المركيز. # وجرت العادة ألا يعلم الزوج بخيانة زوجته إلا آخر الناس، وهكذا علم المركيز من بعض ~~أصدقائه أن اسمه أصبح مضغة الأفواه، فحرم على امرأته أن تلقى خليلها، ولما سمع ~~خليلها القصة أخذ يحاول بزلاقة لسانه أن ms47 يوقع اللوم عليها قائلا: إن سوء تصرفها ~~وتدبيرها فضح سرها، فظنت المسكينة أنها هي المخطئة، وأقبلت على عشيقها تبكي وتطلب ~~السماح. # وبلغ المركيز في هذه الساعة - وكان قد بث على زوجته الرقباء - أن خليلها لديها، فأمر ~~بغلق الأبواب وكمن له في ردهة الدار مع بعض الخدام ليقبض عليه وهو خارج، وكان الفارس ~~مشغولا عن دموع خليلته بنجاة نفسه، فسمع قفل الأبواب وشعر في الدار بحركة غير معتادة، ~~ففطن إلى أنهم يقصدونه بسوء؛ فهم من ساعته وفتح نافذة ووثب منها إلى الطريق، وكانت ~~النافذة على ارتفاع ثلاثة أمتار منها فسقط ولم يصب بسوء، ولم يهتم بالقوم الناظرين ~~والطريق مملوءة بالناس؛ إذ كان الوقت ظهرا، وعاد الفارس إلى بيته بقدم ثابت بطيء كأنه ~~لم يفر من موت ولم ينج من كمين. # وأراد الفارس أن يذيع ما حدث له في الناس، فدعا جمعا من أصدقائه إلى مائدة وشراب ~~أعدهما عند بائع حلوى وفطير شهير في المدينة يدعى لكوك (وتعريب لفظه: الديك). # وكان لكوك معروفا بحسن طعامه وجودة شرابه، فأعد لقاصديه مائدة جمعت أشهى الألوان ~~وأغلى الخمور، وقام عليها بنفسه يسقي ويخدم، فأكل المدعوون وشربوا وطربوا ولعبوا حتى ~~ولى الليل وأقبل الصباح، وكان الفارس قد أذاع فيهم ما أذاع. # ولما هم القوم بالخروج وقد لعبت برأسهم بنت الحان، لاحت منهم التفاتة، فوجدوا صاحب ~~المكان واقفا يحييهم بالباب مشرق الوجه ضاحك السن، فاقترب منه الفارس وسكب له كأسا ~~ودعاه أن يقرع معهم الكأس، فامتنع الخمار أدبا، فألحوا عليه؛ ففعل وشرب نخبهم شاكرا ~~فضلهم وتنازلهم بمنحه ذلك الشرف، فقال له الفارس: إني أراك يا صاح مفرط السمن ~~ويدعونك الديك ولا يكون الديك سمينا إلا أن يخصى، فمن الواجب أن أخصيك. # فهلل أصحاب الفارس لهذا الاقتراح الغريب، وكانوا قوما لا يهتدون بهدي وهم برشدهم، ~~فكيف وقد ذهبت برشدهم بنت الكروم؟! فأمسكوا بالخمار المسكين وربطوه في المائدة وشرعوا ~~بتنفيذ اقتراح صاحبهم، فمات الخمار بين أيديهم وهم لا يشعرون. # وسمع بعض الخدم صياح صاحب الحان فأسرع إليه؛ فوجده مضرجا ms48 في دمائه والسكارى حوله ~~يضحكون، فتوجه في الحال وأبلغ الأمر لنائب الرسول البابوي حاكم المدينة، فأراد النائب ~~أن يقبض على الفارس ليذيقه الجزاء الأوفى، ولكن رأى ما لعمه الكردينال من المكانة ~~العليا بروما؛ فخشي أن يغضبه إن أساء إلى ابن أخيه، فرأى خيرا أن يأمر الفارس بالرحيل ~~من المدينة قبل أن تمتد له يد العدالة وإلا أمر بالقبض عليه ومحاكمته، وكان الفارس قد ~~بلغ من أفينيون ما أزهده فيها، فما كاد يبلغه الأمر حتى أوصى بإعداد المركبة ~~والخيل. # وعرض للفارس قبل الرحيل أن يتزود بوداع خليلته، فقصد منزلها ولم يصادف عقبة في سبيل ~~الوصول إليها؛ إذ كانت وصيفتها أمينة له بفضل درهمه. ولما رأت المركيزة الفارس مقبلا ~~فرحت بمقدمه فرح المحب بلقاء حبيبه إذا حرم عليه لقاؤه، فرحبت به وأكرمته، ولكنه ما لبث ~~أن قال لها: إنه يزورها زيارة مودع لا مقيم، وأخذ يشرح لها الأسباب التي اضطرته ~~إلى الرحيل، فعجبت المركيزة وهي من بنات الأشراف كيف يهددون فتى شريفا لقتل رجل من ~~صعاليك الناس! # وارتبك الفارس في ساعة الوداع فلم يدر ما يقول وليس في قلبه عاطفة ليعبر عنها، فخطر ~~له أن يشتكي لبعده عن المركيزة ولما يتزود بما يذكره بها فيذكرها به، ~~فأسرعت المركيزة وتناولت صورة لها كبيرة كانت معلقة على الحائط، فنزعت عنها بروازها ~~ولفتها وأعطتها للفارس تذكارا منها، فترك الفارس الصورة على المائدة ولم يهتم بها عند ~~الخروج. وانشغلت المركيزة عنها بوداعه، فلم تفطن إلى تركه إياها إلا بعد نصف ساعة من ~~مبارحته لها، فتأثرت وظنت أن صاحبة الصورة شغلته عن الصورة، وتمثل لديها الفارس آسفا ~~لنسيان هذا التذكار الثمين؛ فاستدعت أحد الخدم وأمرته أن يأخذ فرسا فيطير وراء ~~الفارس ليعطيه الصورة، فأسرع الفارس وامتطى فرسا تسابق الريح، وما لبث أن رأى ركب ~~الفارس عن بعد فصاح به وأشار له بالوقوف، فالتفت سائق العربة للفارس قائلا: إن رجلا ~~يلحق بهم مطلقا لجواده العنان ويشير لهم بالوقوف، فظن الفارس أنه بعض رجال الشحنة، ~~فأمر السائق أن يضاعف ms49 السير؛ فأسرع الركب، واندفع وراءه الخادم المسكين وقد ضاقت ~~الأنفاس به من كثرة التعب، وما لبث أن لحق بالعربة بعد فرسخ ونصف من ذلك، فأوقف السائق ~~وترجل ثم اقترب من باب العربة وأبلغ المركيز بكل أدب واحترام رسالة سيدته، وقدم له ~~الصورة، فاطمأن الفارس لما علم غرض الخادم، وقال له: إنه لا يدري ماذا يصنع بالصورة، ~~فخير له أن يعود بها لمولاته، فقال الخادم: إنه لا يستطيع أن يعود بها؛ إذ أمر ~~مولاته صريح بتسليم الصورة له، فلما رأى الفارس إصرار الخادم أمر سائق العربة أن يحضر ~~له حدادا كان كوره على مقربة منهم، فأمره أن يدق الصورة على مؤخر العربة بأربعة ~~مسامير، ففعل الحداد ثم صعد الفارس إلى العربة، وسارت به وخادم المركيزة باهت ينظر ما ~~آلت إليه صورة مولاته، ولا يملك ضرا ولا نفعا. # وكان من عادة البريد أن تغير خيله درجا له في كل محطة، فلما بلغ ركب الفارس المحطة ~~التالية طلب السائق أجرته ليعود، فقال له الفارس: إنه ليس لديه دراهم ليعطيها له، فألح ~~السائق فترجل الفارس ونزع صورة المركيزة من مؤخر العربة، ودفع بها إليه قائلا: إنه لو ~~عرضها للبيع في أفينيون وروى قصتها لأتت له بضعف عشرة أمثال أجرته، فاضطر السائق أن ~~يقتنع بالصورة، وعاد إلى المدينة فعرضها في الغد على باب دكان لأحد الباعة وذكر تحتها ~~قصة وصولها إليه، فاشتريت الصورة قبل أن ينقضي النهار بخمسة وعشرين دينارا. # وذاعت القصة طبعا في المدينة، وفي الغد اختفت المركيزة ولم يعلم أحد بمكانها. واجتمع ~~أهل المركيزة فقرروا فيما بينهم أن يسألوا الملك إصدار أمره بالقبض على الفارس وسجنه، ~~وسافر مندوب منهم إلى باريس لهذا الغرض، ولكن لم يبلغ غايته؛ إما لتقصير منه في السعي ~~أو لعدم التشهير بالمركيزة لدى الملك. # أما المركيزة فإنها قصدت بعض قريباتها فأقامت لديها، وسعت في الصلح لدى زوجها، فنجحت ~~مساعيها، وعادت بعد شهر إلى قصر زوجها وقد صفح عما أتته. # أما أهل الخمار فكانوا قد رفعوا شكواهم إلى أولي الأمر ms50 ، فأرسل لهم الكردينال ده ~~بوليون بمائتي دينار، فعادوا عن الشكوى مقررين بأنهم تسرعوا فيها وقد علموا بعد أن ~~صاحبهم مات بالسكتة موتا فجائيا. # وأزال هذا الإقرار ما كان في صدر الملك من الفارس؛ إذ ظنه صدقا، وبذلك تمكن الفارس ~~أن يعود إلى باريس بعد أن قضى سنتين يجوب البلاد ترويحا للنفس وسعيا وراء ~~اللذات. # وهكذا تمت سيرة «آل جنج». وطالما تناولتها أيدي المؤلفين فكتبتها قصصا للناس أو ~~عرضتها في المسارح على المتفرجين، لكنها اقتصرت فيها على حياة المركيزة سليلة آل روسان، ~~فأراد إسكندر دوماس أن يتمها فضم إليها سيرة أفراد هذه الأسرة وولدي المركيزة، فتمت ~~بذلك قصتهم وفيها عبرة للناس. # | الضحية الثانية # بياتريس سنسي # تمهيد تاريخي # إذا قضى السائح من التجول في روما غرضه، فزار كنائسها الفخيمة، ومعاهدها القديمة، ~~وميادينها الفسيحة، لا يلبث أن يهزه الشوق إلى زيارة ضواحيها؛ حيث يمتع النفس ~~بالنسيم العليل الذي لا يتمتع به سكان المدينة، ويسرح النواظر في حدائقها النضرة تحت ~~ظلال الأشجار وعلى ضفاف الأنهار، فيقصد ضاحية فيها تدعى بامفيلي، فيسير فيها تحت أشجار ~~الصفصاف إلى أن يصل إلى طريق جميل ينتهي إلى يانيكول، فيجد في وسط ذلك الطريق عينا ~~تدعى عين بولين ذات ماء كاللجين أقيمت عليها قبة؛ فصارت كالسبيل يقصده للارتواء ابن ~~السبيل. # ويجد السائح بعد العين على هذا الطريق كنيسة للقديس بطرس يشرف منها على المدينة؛ ~~لارتفاع موقعها، وبجوارها معبد صغير أقيم على الطرازين الإغريقي القديم والمسيحي ~~الحديث، فيلجه فيجد في المصلى الأيمن منه صورة للمسيح عليه السلام من نقش ~~«ديلبيوميو»، وفي المصلى الأيسر صورته عليه السلام وهو في قبره. ثم يسير به الدليل إلى ~~صدر المعبد وفيه المذبح، فإذا دقق السائح البصر رأى في أسفل الدرج قطعة من ~~الرخام مرسوما عليها الصليب، وفوقه كلمة # Orate # مكتوبة ~~باللاتينية، فتحت هذا الحجر قبر «بياتريس سنسي» صاحبة القصة التي نرويها، وقد مرت ~~عليها الأحقاب ولا يزال لها في صفحات التاريخ أثر لا يغيره الزمان. ~~••• # كانت بياتريس ابنة فرنشسكو سنسي، وكان فرنشسكو من عتاة زمانه ms51 ، وإن صح قولهم: إن ~~الرجال مرآة العصور، ففرنشسكو سنسي مرآة عصره: عصر الجبابرة الطغاة. ونرى قبل أن نلي ~~ذكر الحوادث الفظيعة التي تمت في آل سنسي أن نذكر طرفا من تاريخ ذلك العصر، ~~فنقول: # مات البابا إينوسان الثامن في الحادي عشر من أغسطس سنة 1492، وطال احتضاره أياما ~~ارتكبت في خلالها بطرقات روما مائتان وعشرون جريمة قتل. ورقي العرش البابوي بعده ~~رودريك لنزولي بوريا ابن أخت البابا كالست الثالث، فدعي إسكندر السادس، وكان له قبل ~~ارتقائه العرش أربع بنين وبنت خلفتهم له محظيته روزا فانوتزا، فكافأها بتزويجها بفتى ~~من أغنياء روما. # وإنه ليخجلنا أن نذكر هنا طرفا من تاريخ آل بوريا، وقد كان منهم خليفة من خلفاء ~~الكاثوليكية؛ لما كان لهذه العائلة من الآثام والفظائع التي تقشعر منها الأبدان وينفر ~~منها المجرمون، ولكن سجلها عليهم التاريخ وسطرها مؤلفو الإفرنج، فنحن نرويها كما ~~رواها المؤرخون من قبلنا، ولا ننوي حطا من مقام الخلافة البابوية؛ فعرشها محفوظ ~~الكرامة لا يدنسه اتصال القائم عليه بأسرة مجرمة، ولا يؤاخذ مؤرخ يسطر الحقيقة بسوء ~~القصد، وما التاريخ إلا عبرة ولا تكون العبرة إلا في كبائر الأمور. # نعود إلى حديثنا فنقول: كان أبناء إسكندر السادس خمسة، وهم: فرنسيس، ولقب فيما بعد ~~بدوق غنديا. # وقيصر، وكان أسقفا وكردينالا، ثم لقب بدوق فالنتينوا. # ولوكريس، وكانت خليلة أبيها وأخويها السالف ذكرهما. وقد تزوجت أربع مرات؛ الأولى: ~~بحنا سفورزا صاحب بيزارو، وتركته لأنه عنين. والثانية: بألفونس دوق بيزيليا، وقد قتله ~~أخوها قيصر. والثالثة: بألفونس دراغون، وقد طعن على درج كنيسة مار بطرس، ثم خنق ~~بعد ذلك بثلاثة أسابيع؛ لأن احتضاره قد طال فعجلوا عليه الموت. # وابن إسكندر الرابع كان جفري الملقب كونت إسكيلاس، وليس له تاريخ مشهور. # والخامس لم يعلم المؤرخون عنه شيئا على الإطلاق. # وكان أشهر أولاد إسكندر قيصر بوريا؛ إذ كان من مطامعه أن يتولى ملك إيتاليا بعد موت ~~أبيه، فاستعد لذلك استعدادا لا يشعر إلا بنجاح المسعى، واتخذ من التدابير ما لا يفسده ~~إلا الله، وقد شاء الله ms52 أن يفسد ما دبره، فأتاه من حيث لا يحتسب ولا يدري، كما سيرى ~~القراء. # وكان من عادة الباباوات أن ترث من يموت من الكرادلة، فأراد إسكندر السادس أن تئول ~~إليه ثروة كردينال غني جدا من كرادلته يدعى أوريان، كما آلت إليه ثروة ثلاث من ~~الكرادلة قبله، فدعاه إلى كرم له يدعى كرم بلفيدير، وأرسل لهما قيصر بوريا قنينتين من ~~النبيذ المسموم مع رئيس السقاة، ولم يعلمه بما فيها، إنما أوصاه أن لا يستعملهما إلا ~~متى أمره، وأراد الله أن ينصرف رئيس السقاة إلى بعض شئونه والموائد منصوبة والمدعوون ~~حولها، فقام مقامه أحد الخدم ولا يدري ما خبئ في القناني، ففضها مثل أخواتها، وسكب ~~منها للشاربين، فشرب البابا وقيصر بوريا والكردينال كورنيتو ولم يشرب الكردينال المقصود ~~فلم يصب بسوء. ومات إسكندر السادس بعد بضع ساعات، ولازم قيصر الفراش لا يستطيع عنه ~~براحا وقد تغير لون جلده، أما كورنيتو ففقد البصر والحواس، ولبث بين حي وميت حتى قضي ~~عليه. # وتولى بيوس الثالث مكان إسكندر، فلبث فوق العرش البابوي خمسا وعشرين يوما، ومات ~~مسموما في اليوم السادس والعشرين. # وكان لقيصر بوريا ثمانية عشر كردينالا من الإسبانيين مخلصين لا يعصون له كلمة؛ حيث ~~إنه كان الواسطة في إدخالهم إلى مجمع الكرادلة المقدس. فلما رأى نفسه على فراش الموت لا ~~يملك لنفسه أمرا ساوم «يوليان ده لاروفير»، على أن يكونوا له عند الاقتراع، وبذلك تم ~~ليوليان الارتقاء على عرش روما ودعي يوليوس الثاني، وكان عصره عصر حكمة ~~وإنصاف. # وقام بالأمر بعد يوليوس الثاني ليون العاشر، وفي عصره تولت المسيحية صبغة الصابئة؛ ~~فكثرت الأصنام والتماثيل، وانتقلت تلك الصبغة من الفنون إلى الأخلاق ففسدت الأخلاق، ~~إنما قلت الجرائم بمعنى أن النفوس مالت عن الأذى إلى الشهوات، وأطلق الناس للذاتهم ~~العنان بلا رادع من الدين أو الآداب. # ومات ليون العاشر بعد أن حكم ثماني سنين وثمانية أشهر وتسعة عشر يوما، واشتهر عصره ~~في العلوم والفنون، فكان أحد عصور التاريخ الأربعة الشهيرة؛ حيث اشتهر فيه ميكائيل إنج ~~ورفائيل وليونارد ms53 وفنسي وتنيان وأريوست ومكيافيل، وغيرهم من رجال الفنون ~~والآداب. # وترشح للخلافة بعده رجلان: يوليوس مدسيس وبومبيوس كولونا، وكانا داهيتين في السياسة ~~والإدارة لا يفضل أحدهما الآخر في شيء، فانقسمت بينهما أصوات الكونلاف (مجمع الكرادلة ~~لانتخاب البابا). ودام الانقسام طويلا دون أن يقر الرأي على واحد منهما، حتى مل ~~الكرادلة وسئموا، فاقترح أحدهم ذات يوم - على سبيل المزاح - وقد ضايقه الانقسام أن ~~يولوا العرش البابوي نائب ملك إسبانيا، وكان النائب في ذلك الحين رجلا يدعى أدريانوس ~~وضيع النسب، قال بعضهم: إنه ابن حائك، وقال آخرون: إنه ابن صانع بيرة في أترخت، وكان قد ~~صادفه السعد فتولى حكم إسبانيا باسم الملك شرلكان، وهكذا خدمته الصدف، فارتقى - بإجماع ~~آراء الكرادلة وهم يمزحون - عرش الخلافة البابوية. # وكان أدريانوس فلمنكيا بحتا لا يدري كلمة من اللاتينية، فلما دخل روما ورأى ~~التماثيل اليونانية الثمينة التي جمعها ليون العاشر في عاصمة الخلافة النصرانية، وصرف ~~على جمعها المال الطائل، قال: «إنها الصابئة القديمة.» وأراد أن يكسر هذه الأصنام لولا ~~أن منعوه. وكان منعقدا في ذلك الحين مجلس في حكومة «نورنبرغ» بخصوص الاضطرابات التي ~~أولدها ظهور لوثر مؤسس البروتستانتية، فأرسل البابا مندوبا من قبله لذلك المجلس ~~وزوده بتعلميات تمثل لك أخلاق ذلك العصر وما كان عليه، قال البابا لمندوبه: # أعترف بكل ثبات في ذلك المجلس أن الله إنما أراد هذا ~~الانقسام في الدين وهذا العذاب الواقع على المسيحيين؛ لكثرة ما أتوه من الذنوب ~~والخطايا، وخصوصا ما أتاه قسوسهم ورؤساء كنائسهم؛ لأننا نعلم ما تم فوق العرش ~~البابوي المقدس من الآثام والفظائع. # وأراد أدريانوس أن يرد الرومانيين عن حياة البذخ والترف التي هم فيها، ويحبب إليهم ~~القناعة وبساطة العيش التي امتاز بها رجال المسيحية الأولى، فمحا كثيرا من البدع التي ~~أدخلت في الكنيسة، وكان لدى سلفه مائة من سائسي الخيل فصرفهم ولم يبق إلا اثني عشر ~~قائلا: يكفي أن يزيد عدد سائسي اثنين عن عدد الكرادلة. # وقضى الله أن لا يكون رجل الإصلاح طويل الحكم، فاستاء القوم وفي مقدمتهم الكرادلة ms54 ~~منه، فلم يتم سنته فوق العرش، ورأى الناس باب طبيبه صبيحة موته مزينا بالأزهار ~~ومكتوبا تحتها: «إلى مخلص الوطن.» # ولما مات أدريانوس لم يجد الكرادلة أمامهم إلا يوليوس مدسيس وبومبيوس كولونا، فعاد ~~الانقسام حتى ظن الكرادلة أنهم لا ينتهون إلا بتولية غريب كما فعلوا المرة السابقة، ~~ولكن وفق يوليوس مدسيس إلى حيلة جميلة؛ إذ رأى أنه ينقصه خمسة أصوات، فعرض خمسة من ~~أصحابه على خمسة من أصحاب كولونا أن يراهنوهم، فإذا عين يوليوس خليفة يعطي أصحابه ~~عشرة آلاف دينار إلى أصحاب كولونا، وإذا لم يعين يعطي أصحاب كولونا لهم مائة ألف ~~دينار. وبعد ذلك جمعت الأصوات وفرزت فأصاب يوليوس مدسيس الاقتراع، وانقطعت جهيزة كل ~~خطيب، ولم يقل أحد إن يوليوس رشا أصحاب مناظره. # ورقي يوليوس مدسيس عرش البابوية في الثامن عشر من شهر نوفمبر سنة 1523، ودعي كليمنتوس ~~السابع، فدفع دين أصحابه إلى أصحاب كولونا. # وفي حكم هذا البابا غزا روما جنود اللوثريين تحت قيادة الكونتابل ده بوربون، ~~فمثلوا بالأشياء المقدسة أشنع تمثيل، ولبثوا سبعة شهور يبددون في روما ما جمعته ~~الكاثوليكية في سنين. # وفي حكم هذا البابا ولد فرنشسكو سنسي الذي نروي قصة أسرته. # فرنشسكو سنسي وأولاده # كان فرنشسكو - ابن نقولا سنسي - أمين الخزائن الرسولية في عهد البابا بيوس الخامس، ~~وكان هذا البابا مهتما بالأمور الدينية أكثر من اهتمامه بدنياه، فاغتنم الأمين فرصة ~~غفلة مولاه، فجمع ثروة يبلغ إيرادها مليونين ونصف مليون من فرنكات الوقت الحاضر، وورث ~~عنه هذا المال ابنه الوحيد فرنشسكو. # ونشأ فرنشسكو في عصر انشغلت فيه باباوات روما بما طرأ على الدين من الانقسام بظهور ~~لوثر وأتباعه عن الالتفات لداخلية مملكتهم. وخلق فرنشسكو ميالا للشر قاسي القلب ~~حقودا، فرأى من التساهل في الأحكام ما سهل له ارتكاب الآثام، وكان حاد الطبع كثير ~~الشهوات قد زاده الشباب والحدة فسادا على فساد، فزج في السجن ثلاث مرات في صباه ~~لهتك أعراض، وتوصل إلى الخلاص منه بفضل درهمه وديناره، وكانت الخزائن البابوية في حاجة ~~إلى المال في ذلك الحين. # ولم ms55 يستلفت القوم فرنشسكو سنسي بأعماله وآثامه إلا من عهد جريجوار الثالث عشر؛ فقد ~~كان عهده فوضى أبيح فيه القتل والإعدام لكل من قدر على إرشاء الحكام، وأصبح سفك الدماء ~~وهتك الأعراض من عاديات الجرائم، حتى إن القضاة ما كانت لتهتم بها إلا إذا وجد من يسعى ~~في قصاص الجاني ومحاكمته. # وكان فرنشسكو قد بلغ في ذلك الحين الخامسة والأربعين، أما صفاته فكان طويل القامة ~~معتدلها قوي العضلات ذا عينين واسعتين تقرأ فيهما صحيفة قلبه، إلا أن الجفن الأعلى كان ~~منسدلا عليهما قليلا. وكانت شعوره قد وخطها الشيب، وله أنف طويل وشفتان رقيقتان، وكان ~~إذا تبسم لاح البشر على وجهه، وإذا عبس ظننته وحشا كاسرا، وكان إذا تأثر وغضب اضطرب ~~جسمه وتولاه انفعال عصبي شديد. واشتهر فرنشسكو بقوة جسمه وركوبه الخيل؛ فكان يقطع ~~المسافة بين روما ونابولي، وهي واحد وأربعون فرسخا، على ظهر فرسه يطلق لها العنان، إذا ~~خرج من إحدى المدينتين فلا ينزل عنها أو يخفف سيرها إلا إذا بلغ المدينة الأخرى، ولا ~~يخشى في طريقه بأس اللصوص التي كانت منتشرة إذ ذاك في الغابات بين المدينتين، بل كانت ~~اللصوص تخشى بأس خنجره وحسامه، وكان إذا سقط جواده من التعب اشترى غيره في الطريق، وإذا ~~أبى صاحب الجواد بيعه أخذه منه غصبا، فإذا قاومه الرجل طعنه بسيفه غير هياب ولا ~~وجل. # وعرف فرنشسكو في البلاد البابوية بسخاء يده وقوة ساعده، فلم يتعرض لإرادته معترض، ~~ولم يقف في سبيل رغائبه أحد؛ إما طمعا في نواله أو خشية من حسامه، وجعل - لعنه الله ~~- إلهه هواه، فكفر بالحي المعبود وأنكر خالق الوجود، وكان إذا دخل إلى معبد دخل ليدنسه ~~بكبائر الألفاظ، حتى اعتقد القوم أن هذا الكافر لا تردعه نفس عن ارتكاب الجرائم مهما ~~كبرت إذا دفعه إليها هواه. # وتزوج فرنشسكو - وهو في ذلك السن - سيدة واسعة الثروة لم يذكر المؤرخون اسمها، فماتت ~~بعد أن رزق منها بخمسة بنين وبنتين، فتزوج بعدها بلوكريزيا بتروني، وكانت ذات بياض ناصع ~~تمثل الجمال الروماني في عصرها ms56 إلا أنه لم يرزق منها بأولاد. # وكأن الله لم يودع في قلب فرنشسكو عاطفة من تلك العواطف الطبيعية التي امتاز بها ~~الحيوان قبل الإنسان؛ فلم يكن في قلبه ذرة حنان لأبنائه، بل كان يمقتهم مقتا، ولا يخفى ~~استياءه من وجودهم على أحد. وروي عنه أنه كان يبني في قصره كنيسة - كما جرت عادة ~~الأشراف في ذلك العصر - فقال للمهندس بعد أن رسم له مكان القبر منها: «هنا آمل أن ~~أدفنهم جميعا، مشيرا إلى أولاده.» قال المهندس: فوجمت من قوله، ولولا ما يصيبني منه ~~من طائل المال لامتنعت عن إتمام البناء. # وما كاد أولاد فرنشسكو أن يبلغوا أشدهم حتى أرسل بثلاثة منهم - وهم أكبرهم - إلى ~~مدارس سلمنك الجامعة بإسبانيا، وكان الثلاثة يدعون جاك وكريستوف وروك، وظن أبوهم أنه ~~يتخلص منهم إلى الأبد بإرسالهم إلى هذه الأقطار الغريبة البعيدة، فقطع عنهم الزاد ~~والنقود، فلبث الغلمان الثلاثة يقاسون ألم الفقر والجوع شهورا، ثم اضطروا أن يبرحوا ~~سلمنك، فعادوا إلى وطنهم سائرين على الأقدام حفاة عراة يسألون الناس طول الطريق، ~~فاخترقوا على هذه الحال جبال البرينيه وبلاد فرنسا وجبال الألب وأرض إيتاليا، حتى بلغوا ~~روما منهوكي القوى، وقد كادت تزهق منهم الروح. # وكان القائم على عرش البابوية إذ ذاك كليمنتوس الثامن، وقد اشتهر بعدله في الناس ~~فقصده الغلمان الثلاثة، وسألوه أن يخصهم من ثروة أبيهم الواسعة بجزء يعيشون منه، فرأى ~~البابا أحقية مطلبهم، فأمر أباهم أن يجعل لكل منهم ألفي ريال سنويا، فأراد هذا ~~الطاغية أن يتخلص من تنفيذ هذا الأمر بكل الوسائل، فجبره البابا على تنفيذه، فأطاع ~~حانقا مرغما. # وبعد ذلك بقليل سجن فرنشسكو لجريمة هتك عرض أيضا، فذهب أولاده إلى البابا وقالوا ~~له: إن أبانا أهان شرف اسمنا وحط من كرامة أسرتنا، فلا تعفه من عقاب شديد يكون له ~~رادعا، فرأى البابا أن ذلك المسعى من الأبناء عقوق، فطردهم من حضرته شر طردة، وتخلص ~~أبوهم من سجنه هذه المرة كما تخلص من قبل؛ أي بفضل دراهمه. # ورأى فرنشسكو أن يديه لا تصل ms57 إلى أبنائه؛ حيث استقلوا عنه، واستغنوا بما خصوا به من ~~ماله، فأنزل سخطه على بنتيه حتى أصبحتا من عذابه في جحيم. فلم تطق كبراهما صبرا وتمكنت ~~رغما عن مراقبة أبيها الشديدة أن تبلغ البابا شكواها، وتشرح له ما هي فيه من العذاب، ~~وتتوسل إليه أن يخلصها مما هي فيه، ولو بإدخالها أحد الديور. فأشفق البابا عليها، ~~وأخرجها من بيت أبيها، وزوجها برجل من أشراف روما يدعى كارلو غابرييلي جوبيو، واضطر ~~أباها أن يقدم لها مهرا قدره ستون ألف ريال، فكاد يجن فرنشسكو لضياع فريسته من يده، ~~إلا أنه تعزى عنها بفقد ولديه في عام واحد روك وكريستوف، فمات أولهما مقتولا من يد ~~جزار، وقتل الآخر رجل يدعى بول كورسو دي ماسا. # وفرح ذلك الأب الغشوم لمقتل ولديه وأبى أن يصرف شيئا لدفنهما، فأنذر القسوس أنه لا ~~يدفع درهما لما يقام لهما من الطقوس والرسوم الدينية، فدفن الولدان كما تدفن صعاليك ~~القوم، ولما رآهما أبوهما راقدين في لحد واحد، قال: إني لسعيد إذ تخلصت منهما، وقد كانا ~~من شر الخلق، ولن تتم سعادتي إلا إذا ضممت لهما إخوتهما الخمسة الباقين، فأوقد النار إذ ~~ذاك في بيت آواهم إعلانا لفرحه بالخلاص منهم. # واحتاط فرنشسكو حتى لا تتبع ابنته الباقية - بياتريس - خطة أختها، فشدد في ~~مراقبتها. # وكانت بياتريس في ذلك الحين فتاة في الثالثة عشرة صبوحة الوجه جميلة المحيا يظنها ~~رائيها ملكا من السماء لا بشرا من الأرض، وكانت ذات شعور ذهبية قل أن توجد في ~~الرومانيات، حتى عدها روفاييل من متممات الجمال؛ فرسم كل عذاريه بشعور ذهبية، وكنت ~~ترى شعرها فوق جبينها أو مسترسلا على كتفيها يموج، فتظنه ذهبا سكب على اللجين. وكان ~~لبياتريس عينان زرقاوان إذا نظرت إليهما سرت نفسك إلى عالم الأرواح، فتنسى العالم ~~السفلي، وتظن أنك بلغت السماء، وأنك في حضرة ملك كريم. أما قامتها فلم تكن بالطويلة ولا ~~بالقصيرة، بل ناسب الله بين أجزائها فجاءت من أبدع ما خلق فصور، وكانت ضحوكة السن إلا ~~إذا بكت استبكت القلوب ms58 ، وجاء في أمثال الفرنساويين - الدالة على رقيق عواطفهم - ما من ~~شيء يؤلم النفس كرؤية جميل يتألم. وكنت ترى في نظرات بياتريس - حتى إذا بكت - ما يدل ~~على قوة جنانها وثبات عزيمتها. # وأراد أبوها أن يستوثق منها، فسجنها في حجرة قصية من القصر، ولم يعهد إلى أحد ~~بمفتاحها، وكان يحمل إليها بنفسه ما يقوم بأود حياتها، ولبث سنين يعاملها معاملة ~~الأسير، بل معاملة السجان القاسي للسجين. حتى بلغت الفتاة الثالثة عشرة، فرأت أباها قد ~~تلطفت معها طباعه؛ فرق حديثه وحسنت معاملته، فاندهشت لهذا الانقلاب كل الاندهاش، ولم ~~تدرك أنها أصبحت فتاة بعد أن كانت طفلة، وأن ربيع حياتها قد أينع زهرة شبابها، فنظر لها ~~أبوها نظرة فاسق، ألا رد الله طرفه خاسئا وهو حسير. # ولا يخفى أن فتاة نشأت كما نشأت بياتريس بعيدة عن مجتمع بني الإنسان، حتى عن إخوتها ~~وامرأة أبيها، لا تستطيع التمييز بين الخير والشر، ولا تعرف الضار من النافع، فمن السهل ~~أن يبلغ منها أربا من لا يرحم عبدا ولا يخشى ربا، ومع ذلك أراد فرنشسكو أن تتم ~~نصرته - خذله الله - فيشرك معه عوامل النفس الطبيعية في الفتاة، فينال منها ما ينال عن ~~شوق وطيب خاطر؛ فكانت تستيقظ الفتاة كل ليلة على صوت آلات طرب شجية ذات ألحان تصبي ~~النفس، فتأتيها كأنها في حلم تظن أنها آتية من السماء، فسألت أباها عن مصدر تلك الألحان ~~وإن كانت آتية من السماء حقيقة كما تظن، فثبتها الفاسق في ظنها وزاد قائلا: إنها إذا ~~لم تعص له أمرا وتطيع ما يشير به، فإن الله يكافئها فيريها بعينيها ما تسمعه بأذنيها، ~~ففرحت الفتاة؛ لبساطتها، وانتظرت أن يمن الله عليها فترى تلك السماء. # وبينما كانت الفتاة ذات ليلة مضطجعة على فراشها تشنف الأسماع بتلك الألحان الشجية؛ إذ ~~فتح باب حجرتها فجأة، فاستنارت بأضواء زاهية وتعطرت بروائح زكية منبعثة من الحجر ~~الأخرى، ورأت غلمانا وحورا لا تكاد تسترهم ملابسهم يسيرون في تلك الحجرات يلعبون ~~ويمرحون، وكان هذا الجمع من جواري وموالي فرنشسكو يدعوهم ms59 كل ليلة فيغتنم معهم أوقات ~~الأنس. وكان فرنشسكو غنيا لا يبخل على نفسه بلذة مهما كلفته تلك اللذة من المال، ~~فكان لذلك كثير الندمان قد ملأ قصره من الجواري الحسان ومن حسان الغلمان. # ولما تمت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل أغلق على بياتريس الباب، فاختفت عنها تلك ~~المناظر المدهشة للألباب، وخلفتها مفكرة فيما رأت، معجبة بما سمعت وشاهدت. # وفي الليلة الثالثة رأت بياتريس ما رأته في الأولى، إنما أتى إليها في تلك الليلة ~~أبوها عاري الجسم كيوم ولدته أمه، ودعاها إلى الاشتراك معهم في لهوهم، فنفرت الفتاة ~~نفورا طبيعيا لا تدري له سببا، ورأت من نفسها مانعا عن قبول دعوته، فقالت له: إنها ~~لا ترى بين هؤلاء النساء امرأة أبيها لوكريزيا؛ فلذا لا تجسر على الخروج بينهن وهي لا ~~تعرفهن، فهدد فرنشسكو ورجا، ولكن رأى الفتاة قد التفت في غطاء الفرش، وأبت كل ~~الإباء أن تتبعه؛ فعاد خائبا ساخطا ... # وفي الليلة الثالثة لم تنزع بياتريس عنها ملابسها، فانطرحت بها على فراشها، وفي ~~الساعة المعهودة فتح عليها الباب، وظهر لها مشهد الليلتين السابقتين، فرأت من ضمن ~~النساء زوجة أبيها قد مرت أمام بابها، وكان فرنشسكو قد اضطر زوجته إلى حضور حفلته، فأتت ~~مرغمة تسيل دموعها على خديها، وقد احمرت عيناها من البكاء، ولم تلاحظ بياتريس ما بها؛ ~~لكثرة الضوء وبعد المسافة، وأراها أبوها امرأته بين الجواري فلم تجد بدا من إطاعته ~~إلى الخروج معهن، فخرجت تتعثر في مسيرها من الحياء وقد احمر وجهها خجلا مما ~~تراه. # ورأت بياتريس في هذا المحفل من ضروب الفسق والتهتك ما يخجل القلم من تدوينه. # ولبثت الفتاة حريصة على طهارتها أمدا، وضميرها يحدثها بأن ما تراه منكر وضلال، ولكن ~~لم ييأس أبوها من إفسادها، فكان كإبليس لا يزال بالمرء حتى يلهيه عن ربه وواجبه، فلما ~~رأى أن تلك المناظر لم تحرك في الفتاة شهواتها الراقدة، استعان بفكره على إفساد ~~أخلاقها، فقال لها: إن كل الأولياء والقديسين إنما وجدوا من اجتماع الأب بابنته، وهكذا ~~قضى على طهارتها ms60 وهي لا تظن إثما ما تأتيه، بل ولا يخطر له أن فيه ما يستنكر. # ولما نال هذا الوحش ما تمنى أطلق لنفسه العنان، ولم يقف بمنكراته عند حد؛ فكان يرقد ~~بين ابنته وزوجته، ويكره زوجته على ذلك، ويهددها بالقتل إن فتحت فاها للفتاة بما ~~ينبهها إلى فظاعة ما تأتيه مع أبيها. # الانتقام # ومضى على هذا الحال ثلاث سنين، ثم اضطر فرنشسكو إلى سفر طويل مخليا الجو لنسائه، ~~فأسرعت لوكريزيا، وأعلمت ابنة زوجها ما في علاقتها مع أبيها من المنكر، وكشفت لها عما ~~تجهله من أمور الدنيا والدين، فاتحدت معها الفتاة على أن تشكيا الرجل للبابا؛ فحررتا له ~~كتابا عرضتا عليه فيه ما تسامان من الذل والعذاب والضجر، ولكن لم يصل كتابهما إلى ~~قداسته؛ لأن فرنشسكو كان قبل سفره قد احتاط لمثل هذا الحادث، فرشا حاشية البابا وبطانته ~~حتى لا تصل إليه شكوى عنه، وحسب المرأتان أن البابا ناقم عليهما كما نقم على أولاد ~~فرنشسكو: جاك وكريستوف وروك فطردهم من حضرته، فظنا أن الغضب لاحق أيضا بهما؛ فصبرتا ~~على قضاء الله وسلمتا أمرهما إليه. # وفي هذه الأثناء اغتنم جاك فرصة غياب أبيه، فأتى لزيارة أخته وامرأة أبيه مع راهب من ~~أصدقائه يدعى جويرا، وكان جويرا شابا بين الخامسة والسادسة والعشرين، ومن أشرف أسرات ~~روما، ذا طبع حاد وعزيمة قوية وشجاعة معروفة وجمال تتحدث به النساء، فكان محياه وضاحا ~~كمحيا الرومان، وله عينان زرقاوان تقرأ فيهما الدعة، وكانت شعوره طويلة ذهبية وله لحية ~~كستنائية، وكان واسع العلم والاطلاع، فصيح اللسان، حلو الحديث، ذا صوت لطيف يستهوي ~~القلوب والأسماع. # وما كادت العين أن تقع على العين حتى أحب جويرا بياتريس ومال قلب بياتريس إليه، وكان ~~مباحا لرجال الدين الزواج في ذلك الزمن؛ حيث لم يكن أن انعقد مجمع ترنته الذي كتب ~~عليهم الرهبنة، فاتفق جويرا مع آل سنسي أن يخطب بياتريس من أبيها عند عودته، وعلى هذا ~~انصرف، ولبثت المرأتان تؤملان انصلاح الحال. # وغاب فرنشسكو نحو أربعة شهور لا يعلم أهله فيها بما ms61 تم له ثم عاد، فأراد من أول ليلة ~~أن يختلي بابنته، فوجدها على غير ما تركها عليه؛ إذ رأى منها فتاة عرفت مقام العرض فهي ~~تصونه، وقدرت قدر الشرف فهي لا تهينه، فرجا أبوها ووعد، وهدد وأوعد، وأرغى ~~وأزبد، وهي لا تزال بعرضها عليه ضنينة، فسامها من العذاب ألوانا، وضربها الضرب المبرح، ~~فلم تزد إلا إباء، فلما عجزت منها حيلته اتهم زوجته بإغرائها الفتاة، فأنزل عليها ~~صواعق غضبه وضربها بعصاه ضربة وحشية تألمت لها المسكينة ولم تتأوه، بل أسرتها في ~~قلبها لساعة الانتقام. # وبعد بضعة أيام تمثل جويرا لدى فرنشسكو خاطبا بياتريس، ومؤملا نجاح غرضه لدى أبيها؛ ~~لما توفرت فيه من شروط الغنى والجاه والجمال والنسب، لكن رده الفاسق بالخيبة شر ~~ردة فلم ييأس الراهب، وأعاد الطلب ثانية وثالثة مظهرا لفرنشسكو فوائد هذا القران ~~ومزاياه، فلم يفلح في مسعاه، ومل الأب من إلحاح ذلك الخاطب المغرم، فانتهى بأن قال ~~له: إن لديه سببا لا يسمح له بتزويج ابنته له ولا غيره، فسأله الراهب عن ذلك السبب ~~فأجابه: «لأنها محظيتي.» فبهت الرجل لهذا القول، ولم يسعه تصديقه، لولا أن رأى مخاطبه ~~يبتسم تبسمة لا تترك للريب مكانا، فاستعاذ بالله. # ولبث جويرا ثلاثة أيام لا يستطيع الوصول إلى بياتريس، ثم تمكن من الدخول إليها وهو ~~يرجو أن تكذب بأقوالها ما يظنه افتراء من أبيها، لكنها اعترفت له بكل شيء، فرأى عظم ~~الهاوية التي أصبحت تفصل بينهما، فكاد يقضى عليه من اليأس، وافترق العاشقان تسيل على ~~خدهما الدموع، ولا يستطيع أحدهما أن يصرف قلبه عن حب أخيه. # ولبثت بياتريس وزوجة أبيها إلى هذا الحين لا يخطر ببالهما خاطر جنائي، وما كان ليخطر ~~لولا أن دخل فرنشسكو ذات ليلة على ابنته، فنال منها بالإكراه ما لم ينله بالوعيد، فسجل ~~هذا العمل عليه شقاءه، وعجل ساعة الانتقام منه. # وكانت بياتريس كما أسلفنا ذات عزيمة ماضية، ونفس قادرة على أن ترفعها إلى ملكوت ~~السموات فتصير من الملائكة، أو تحط بها إلى الحضيض، فتكون من الأبالسة، فذهبت ms62 وأعلمت ~~امرأة أبيها بما حدث لها، فذكرت لوكريزيا سوء معاملة زوجها لها، ورأت ساعة الانتقام قد ~~حانت، فحرضت إحداهما الأخرى وتآمرا على فرنشسكو. # ودعت المرأتان جويرا لمشاركته في الرأي، فوجدتاه مملوءا بالغيظ مستعدا للانتقام، ~~فتعهد بإبلاغ جاك سنسي ما أقروا عليه؛ لأن جاك كبير العائلة بعد أبيه، فاستصوب جاك ~~فعلهم وانضم إليهم. وكان جاك حانقا على أبيه؛ لأن أباه قطع عنه المال لما تزوج، ~~فتركه وزوجته وأولاده يعانون ألم الجوع والفاقة، واختار المتآمرون دار جويرا لتدبير ~~المكيدة، وانتخب جاك لتنفيذها رجلا يدعى مارزيو، وجويرا آخر يدعى أولمبيو. # وكان مارزيو من أتباع جاك، وقد يسرت له خدمته عنده رؤية بياتريس مرارا، فأحبها ~~الرجل حبا لا أمل وراءه، حبا يذهب بالمهج ولا تجسر الشفتان على النطق به، فلما علم ~~الرجل أن الجريمة التي سيرتكبها تقربه من بياتريس وترضيها قبل بها منشرحا عن طيب ~~خاطر. # أما أولمبيو فكان من أعداء فرنشسكو؛ لأن فرنشسكو سعى في طرده من خدمة الأمير كولونا، ~~وتفصيل ذلك: أنه كان لكولونا قصر حربي في مملكة نابولي يقال لها: قصر روكابتريلا، فكان ~~يذهب إليه فرنشسكو وآله لتغيير الهواء، فكان يكرمهم كولونا فيه كل الإكرام؛ لكثرة ~~احتياجه للمال واقتراضه إياه من فرنشسكو وقت الحاجة، وغضب فرنشسكو يوما من أولمبيو - ~~وكان حارس القصر - فسعى لدى كولونا في طرده، فأسرها أولمبيو في نفسه. # واتفق المؤتمرون على تدبير المكيدة الآتية لفرنشسكو، وكان قد اقترب اليوم الذي يذهب ~~فيه فرنشسكو كعادته إلى قصر روكابتريلا، فقرروا أن يجتمع اثنا عشر شقيا من أشقياء ~~نابولي تعهد بجمعهم أولمبيو، فيختفون في غابة على الطريق، حتى إذا علموا بالساعة التي ~~يمر فيها عليهم فرنشسكو ينقضون عليه ويأسرونه هو وآله، ثم يساومونه على نفسه بمبلغ من ~~المال، فيرسل بعض أولاده إلى روما لاستحضار الفدية، فيغيب الرسول، حتى إذا انقضى الأجل ~~المحدود لعودته يقتلون فرنشسكو، وبذلك لا تقع الريبة على المؤتمرين، ولا توجه إليهم ~~التهمة. # ولكن رغما عن ذلك التدبير فشلت المؤامرة؛ إذ ضل الرسول المرسل لإخطار الأشقياء ~~الطريق، فقطعه فرنشسكو ms63 آمنا، ووصل إلى روكابتريلا بسلام، وكان الأشقياء قد لبثوا في ~~انتظاره أسبوعا في الغاب، فلما نجا من أيديهم تفرقوا وعادوا من حيث أتوا. # وأقام فرنشسكو بقصر كولونا أياما بعد أن صرف ولده جاك وولديه الآخرين الصغيرين ليخلو ~~له الجو فيعذب لوكريزيا وبياتريس ما شاء وشاءت طباعه الوحشية. وعاد ذلك الأب الغشوم إلى ~~سالف عهده الفاسق مع ابنته، وأراها من أنواع الذل والعذاب ما صممت معه أن تنتقم لنفسها ~~بنفسها ولا تكل أمر انتقامها إلى غيرها. # ورأت بياتريس يوما أولمبيو ومارزيو يطوفان حول القصر، فأشارت إليهما بأن لديها قولا ~~تريد إبلاغهما إياه، فانتظر أولمبيو فرصة الليل، وتمكن - لمعرفته بدخائل القصر ومداخله ~~- أن يلجه ليلا مع صاحبه، وانتظرتهما بياتريس في نافذة قريبة من حوش معزول، ودفعت ~~إليهما بخطابين لأخيها جاك وحبيبها جويرا تطلب في الأول من أخيها أن يوافقها على قتل ~~أبيها، وترجو في الثاني من حبيبها أن يعطي أولمبيو ألف قرش روماني نصف أجرته، أما ~~مارزيو فكان لا يزال مخلصا لباتريس يرى في قبولها خدمته أوفى أجر وأكبر جزاء، فأهدته ~~الفتاة رداء موشى بالذهب ليحفظه تذكارا لشكرها إياه. ووعدت الفتاة الرجلين أن تجزل ~~لهما العطاء هي وامرأة أبيها إذا تم لهما ما يتمنيان من قتل الظالم والاستيلاء على ~~ماله. # وسافر الرجلان، وانتظرت المرأتان عودتهما بفارغ الصبر، ولما انقضى الأجل المضروب عادا ~~وقد أنقد أحدهما الألف قرش، وأتى الثاني من جاك بما يفيد موافقته لأخته على ما عزمت ~~عليه، وبذلك تمهد السبيل لإنفاذ ذلك العزم، وحددت المرأتان اليوم الثامن من شهر سبتمبر ~~لإخراجه إلى حيز الفعل، ولكن لاحظت لوكريزيا أن ذلك اليوم يوافق عيد ميلاد العذراء، فلم ~~تشأ أن ترتكب فيه معصية فتضاعفها بأخرى، فاتفقت مع ابنة زوجها على تأجيل العمل لليوم ~~التاسع. # وفي مساء 9 سبتمبر سنة 1598 جلس الشيخ والمرأتان على المائدة لتناول العشاء، فتأملته ~~إحداهما، وسكبت في قدحه أفيونا، فشعر به دون أن يشعر بما فيه، وما لبث أن لعبت برأسه ~~هذه المادة المخدرة؛ فاستولى عليه نوم ثقيل. # وكان أولمبيو ومارزيو ms64 مختبئين في القصر من الأمس، فأتت إليهما بياتريس في منتصف ~~الليل، وأخرجتهما من مخبئهما، وقادتهما إلى حجرة أبيها، ففتحت لهما بابها، وأدخلتهما ~~فيها، ولبثت مع زوجة أبيها تنتظران في حجرة مجاورة لها. # وبعد قليل خرج الرجلان باهتين منكسي الرأس، فعلمت المرأتان أنهما لم يفعلا شيئا، ~~فصاحت بهما بياتريس قائلة: ويلكما ماذا جرى؟ وما يوقفكما؟ # قالا: رأينا من العار أن نقتل شيخا في فراشه؛ وقد رأينا شبيبته فأخذتنا الشفقة ~~عليه. # فهزت بياتريس رأسها هازئة، وقالت تقرعهما: عجبي لرجلين يدعيان الشجاعة والقوة ولا ~~يجسران على قتل شيخ راقد، فما بالكما إذن لو كان قائما على قدميه، أأتيتما إذن ~~لتستوليا على دراهمنا اختلاسا؟ تبا لكما ولجبنكما، ولكن حيث إنكما نكصتما ونكثتما ~~العهود، فسأقتل أبي بيدي ولن تحييا بعده طويلا. # فخجل الرجلان من ضعفهما، وأشارا للمرأتين أنهما مستعدان لما تطلبان، ثم دخلا معهما ~~إلى حجرة الراقد، وكان القمر قد أرسل بأشعته من خلال النافذة، فأضاء وجه الشيخ ولحيته ~~البيضاء، فكانت له الهيبة التي أثرت على نفس الشقيين أول مرة، وكان مع أحد الرجلين ~~مسامير غليظة كبيرة، ومع الآخر مطرقة، فوضع الأول مسمارا في عين الراقد، وقرع عليه ~~الثاني بالمطرقة، فأدخله فيها، ثم دقوا له مسمارا آخر في رقبته، فزهقت روحه، وذهبت إلى ~~سقر محملة بذنوبها وآثامها. # ولم تخلف الفتاة وعدها، فدفعت إلى القاتلين كيسا مثقلا بالدراهم بقية أجرهما، ~~وصرفتهما. # ولما اختلت المرأتان بنفسهما نزعتا المسمارين من جثة القتيل، ثم درجتاه في غطائه، ~~وجرتاه من حجرة لحجرة لتلقياه من شرفة على حديقة قاحلة في أقصى القصر، فتوهمان الناس ~~أنه سقط من الشرفة خطأ فمات، ولكن ما كادتا أن تصلا به إلى آخر غرفة حتى فارقتهما ~~قواهما من التعب، فجلستا تستريحان قليلا، وحانت من لوكريزيا التفاتة، فرأت أولمبيو ~~ورفيقه لم يبرحا القصر وهما يتقاسمان المال الذي أخذوه، فدعتهما لمساعدتهما، فأطاعا ~~وحملا الجثة إلى الشرفة، ثم أشارت لهما بياتريس على شجرة بيلسان، فألقياه فوقها؛ فتعلقت ~~الجثة في أغصانها، ولبثت معلقة فيها. # ووجد أهل القصر جثة سيدهم في ms65 الغد معلقة في الشجرة تحت الشرفة، فظنوا جميعا أنه زلت ~~قدمه وهو فوق الشرفة؛ والشرفة بلا دائر فسقط فمات، وكانت أغصان البيلسان قد مزقت ثياب ~~المقتول وملأت جثته بالجراح؛ فلم ينتبه القوم بين هذه الجراح إلى أثر المسمارين، ولما ~~أبلغت المرأتان الخبر خرجتا صارختين تندبان وتسكبان الدموع الغزيرة حتى رثى لهما كل ~~ناظر، وما كان لأحد أن يتهمهما وهو يرى ما تظهرانه من علائم الحزن الشديد، إلا أن غسالة ~~القصر تولتها الظنون عندما أتت لها بياتريس بغطاء أبيها لتغسله فوجدته ملطخا بالدماء، ~~فسألتها عما فيه فقالت لها الفتاة: إنه أثر حيض أتاها بالأمس؛ فتظاهرت الخادمة بالتصديق ~~ولم تنبس ببنت شفة، وانقضت معدات الجنازة، وتم المأتم وعادت بياتريس ولوكريزيا إلى روما ~~مطمئنتين، فاعتزلتا فيها الناس، وبشرتا نفسيهما بحياة خير من الأولى على كل حال. # التحقيق # قد يكون المجرم مطمئن البال، لكن قلما يكون مطمئن الضمير، فإذا كان لا يخشى بأس ~~الناس، فإن صوتا خفيا لا يزال ينذره بعقاب الله، وقد يظهر عقاب الله على أيدي الناس، ~~وهكذا أراد الله أن يتضح الحق، فألهم قضاة نابولي إذ بلغهم موت فرنشسكو الفجائي أن ~~لا بد أن يكون هذا الموت جنائيا، فأرسلوا مندوبا إلى روكابتريلا لاستخراج الجثة ~~والبحث عن آثار الجريمة البادية عليها إن كانت الوفاة جنائية. ولما وصل المندوب إلى ~~القصر قبض على كل ساكنيه وأرسلهم في الأغلال إلى نابولي، ولكنه لم يهتد إلى دليل ييسر ~~له معرفة الحقيقة إلا قول الغسالة؛ حيث قررت أن بياتريس أتت إليها بغطاء ملطخ بالدم ~~لتغسله، وادعت أنه دم حيض، فسألها القضاة إن كانت ذمتها ترتاح إلى تصديق قول الفتاة، ~~فقالت: إنها لا تظن أن ذلك الدم كان دم حيض؛ لأنه كان أحمر قانيا زاهي اللون. # وأرسل القضاة ذلك الإقرار إلى محكمة روما، فلم تهتم به المحكمة؛ لقلة قيمته في باب ~~الإثبات، فلم تأمر بالقبض على أحد من آل سنسي، وفي تلك الأثناء مات صغير هذه العائلة، ~~فلم يبق من أولاد فرنشسكو الذكور إلا اثنان: جاك - الذي ms66 مر ذكره - وبرنار، فكان في ~~استطاعتهما أن ينجوا بنفسهما في هذه الفرصة فيقصدا البندقية أو فلورنسا، ولكن لم يبرحا ~~روما ولبثا فيها ينتظران ما تحكم به الأقدار. # وعلم جويرا أن رجال الشرطة بنابولي بلغهم أن أولمبيو ومارزيو كانا يطوفان حول القصر ~~قبل مقتل فرنشسكو، فأخذوا في البحث عنهما للقبض عليهما؛ فخشي جويرا أن يبوحا بالسر الذي ~~اؤتمنا عليه؛ فكلف رجلين من الأشقياء بقتلهما، فلحق أولهما بأولمبيو في مدينة ترني، ~~وطعنه بخنجره طعنة كانت القاضية، أما الثاني فلم يصل إلى نابولي إلا وقد قبض رجال ~~الشرطة على مارزيو وقرروه بواسطة التعذيب؛ فاضطر أن يعترف لهم بكل ما حصل، فأرسل ~~اعترافه إلى محكمة روما، فصدر أمرها بإلقاء القبض على آل سنسي: جاك وبرنارد ولوكريزيا ~~وبياتريس، وسجنوا أولا في قصر أبيهم ووكل بحراستهم الجنود، ولما قويت ضدهم الشبه ~~نقلوا إلى قصر كورتي سافيلا، وهناك ووجهوا مع مارزيو، فأنكروا جميعا اشتراكهم في ~~الجريمة بل ومعرفتهم القاتل، وطلبت بياتريس أن يواجهوها وحدها به، فلما وقفت أمامه ~~كذبت في وجهه مدعاه بثبات جنان وقوة بيان أسراه، وأثر فيه جمالها وهواه، فعزم على أن ~~يخلصها من هذه التهمة ولو ذهب هو فداءها، فقال: إنه كذب في كل ما قاله وافترى، وإنه ~~يسأل الله أن يغفر له هذا الافتراء ويرجو بياتريس أن تصفح عن ذنبه، فأذاقه المحققون من ~~أنواع العذاب ما يشيب الولدان، فلم يرجع عما قرره أخيرا، ومات بين أيدي معذبيه وقد ~~أطبق فاه على سره حتى ظن آل سنسي أنهم ناجون. # ولكن أراد الله إلا أن تتم مشيئته فقبض على قاتل أولمبيو في جريمة أخرى، فاعترف ~~القاتل بالجريمتين وقال: إن جويرا أوعز إليه بقتل أولمبيو؛ خشية فضيحة سر له ~~عنده. # وعلم جويرا الخبر في حينه - وكان ذا حيلة لا تخيب - فلم يجزع ولم يرتبك في أمره، وكان ~~لديه إذ وصله الخبر بائع فحم يحاسبه على ما ورده لمنزله، فأدخله إلى حجرته، وأنقده ~~مبلغا وافرا على أن يكتم ما يفعله، ثم خلع عنه ثيابه وألقاها وارتدى بثياب ms67 الفحام ~~القذرة بعد أن جز شعوره الذهبية الجميلة ولطخ وجهه ويديه بالفحم، ثم اشترى من الفحام ~~حماريه بحملهما، وخرج هكذا من القصر يجوب طرقات روما وينادي: «الفحم يا طالب الفحم.» ~~والجنود تسعى في أركان المدينة باحثة عليه. وما زال حتى بلغ المدينة فانضم إلى قافلة ~~راحلة منها، فسار بصحبتها إلى نابولي، ومنها ركب البحر إلى حيث لا نعلم. وقال بعضهم: ~~إنه قصد فرنسا وخدم في جيوش هنري الرابع، ولكن لا دليل على صحة ذلك القول. # ورأى القضاة من أقوال قاتل أولمبيو واختفاء جويرا ما أيد الشبهة ضد آل سنسي، فنقلوا ~~من قصرهم إلى السجن، وأخذ المحققون في تعذيبهم حملا لهم على الإقرار، فلم يطق الولدان ~~الألم واعترفا بذنبهما. أما لوكريزيا فابتدءوا بتعذيبها بواسطة شد أطرافها بالحبال، ~~وكانت ممتلئة الجسم فلم تتحمل ذلك التعذيب، واعترفت بكل ما فعلت. # أما بياتريس فلم يجد المحققون إلى حملها على الاعتراف سبيلا، فوعدوا وأوعدوا وعذبوها ~~ما شاءوا أن يعذبوا وهي لا تلين ولا تعترف، حتى عجب من ثباتها القاضي عولس موسكاتي، ~~وكان من أشهر قضاة زمنه في التحقيق، فكان لا يتحصل على كلمة من فيها لا تريد أن تبديها، ~~ولما يئس منها لم يشأ أن يتحمل مسئولية هذه القضية على عاتقه، فرفع أمرها إلى البابا ~~كليمنتوس الثامن، وخشي البابا أن يكون جمال بياتريس أثر على نفس القاضي، فجعله يشفق ~~عليها عند التعذيب والسؤال، فعهد بالقضية إلى قاض آخر مشهور بشدته وقساوته. # وأعاد القاضي الثاني التحقيق من بدئه، ورأى أن بياتريس لم تعذب إلا العذاب العادي، ~~فأمر بأن تعذب العذاب العادي وغير العادي، وكان أشد هذا العذاب عذاب الحبل، وهو أغرب ما ~~اخترعه ابن آدم، ونأتي هنا ببيان أنواع العذاب عند أهل روما في ذلك العصر من التاريخ، ~~فنقول: # كان بروما طرق كثيرة للتعذيب أشهرها عذاب الأظافر، وعذاب النار، وعذاب السهر، ثم ~~عذاب الحبل. # فأما عذاب الأظافر فكان أخفها، وكانوا يستعملونه عادة للمجرمين الأحداث والشيوخ؛ ~~وبيانه: أنهم كانوا يدخلون بين أظافر المجرم وأصابعه قطعا من الغاب ms68 حادة ~~الأطراف. # أما عذاب النار فكان استعماله شائعا قبل اختراع عذاب السهر، فكانوا يجعلون أقدام ~~المجرم أمام موقع من النار المستعرة تلفحها بلهيبها. # أما عذاب السهر فكانوا يجلسون له المجرم على قائمة حادة الزاوية ويشدون إليها أطرافه، ~~ثم يوكلون به رجلين يبدلون كل خمس ساعات، فينبهانه كلما استولى عليها النعاس، ويمنعانه ~~بذلك من النوم، قال مخترع ذلك الصنف من العذاب وهو مارسيليوس: «ما شاهدت مجرما امتنع ~~بعد هذا العذاب عن الاعتراف.» ولكن نقل فارنياتشي أنه لاحظ أن خمسة في المائة من ~~المعذبين به يأبون الاعتراف، وكفى بذلك فخرا بل دليلا على قساوة مخترع هذا العذاب ~~الجهنمي. # أما عذاب الحبل، فكان أشهر هذه الأنواع، وكان معروفا بفرنسا أيضا، وقد قسموه إلى ~~ثلاث درجات: العذاب الخفيف والعذاب الشديد والعذاب الأليم. # فأما الدرجة الأولى منه، فهي التهديدية؛ حيث يقودون المجرم إلى غرفة العذاب، وينزعون ~~عنه ملابسه، ثم يطرحون عليه الحبال كأنهم يريدون شد وثاقه بها، وكانوا يشدون الحبال ~~فعلا إلى الرسغ فيؤلمون المعذب. وكانت هذه الدرجة كافية عادة لحمل النساء وضعاف القلوب ~~من الرجال على الاعتراف. # أما الدرجة الثانية وهي العذاب الشديد، فكانوا يربطون لها يدي المجرم من رسغيها وراء ~~ظهره، ثم بعد نزع ملابسه عنه يمرون الحبل من خلفه من سقف المكان، فيشد القائم بالعمل ~~الحبل، فيرتفع المجرم عن سطح الأرض أو ينخفض حسب مشيئة المحقق، وكانوا عادة يتركونه ~~معلقا مسافة تلاوة صلاة، فإن أصر على الإنكار ضاعفوا له الزمن، وكانت هذه الدرجة من ~~العذاب لا تستعمل إلا إذا كان وقوع الجريمة محتملا لا مثبوتا، وإليها تنتهي درجات ~~العذاب العادي. # أما الدرجة الثالثة، وهي العذاب الأليم وبداية العذاب غير العادي، فكانوا يتركون فيها ~~المجرم معلقا بين الأرض والسقف مسافة تختلف بين ربع ساعة وساعة، ثم يهزونه وهو معلق ~~أو يرخون الحبل فجأة فيسقط، ثم يشدونه فجأة قبل أن يصل جسم المجرم إلى الأرض، فإذا ما ~~زال المجرم مصرا على الإنكار وقد انفكت مفاصله، وضعوا له أثقالا في قدميه ليزيدوه ~~ألما وعذابا. # وكان ms69 هذا العذاب الأليم لا يعذبه إلا من كانت الجريمة ثابتة ضده، وكانت من ~~الجرائم الفظيعة، كما لو كانت جريمة قتل، وكان المجني عليه فيها شخصا واجب الاحترام أو ~~التقديس، كأن يكون أبا للقاتل أو كردينالا أو أميرا أو عالما. # وقد سبق لنا القول بأن بياتريس عذبت العذابين العادي وغير العادي، فلنأت هنا على ~~صورة من محضر التعذيب منقولة من أوراق القضية المحفوظة بالفاتيكان: # ولما أنكرت «بياتريس» أمرنا جنديين فأخذاها إلى غرفة ~~التعذيب، حيث حلقت شعورها ثم ربطت يداها وراء ظهرها، وعلقت في بكرة في سقف ~~الغرفة المذكورة، ثم ربطت رجلاها إلى عجلة يديرها رجلان بأربعة من ~~القضبان. # وسألناها قبل تعذيبها عن قتل أبيها، وقدمنا لها اعتراف أخويها وامرأة أبيها ~~موقعا عليه منهم، فما زالت مصرة على الإنكار، وقالت: «شدوني وافعلوا بي ما ~~شئتم؛ فقد قلت لكم الحق، ولن أقول غير ما قلت ولو قطعتموني إربا.» # وعلى ذلك أمرنا بشدها، فرفعت عن الأرض قدمين مسافة أن تلونا قطعة من الصلاة، ~~ثم أعدنا سؤالها عن تفاصيل ذلك المقتل وظروفه، فلم تزد عما قالته وقالت: «إنكم ~~تقتلونني، إنكم تقتلونني.» # وأمرنا فرفعت إلى أربعة أقدام وتلونا صلاة أخرى، ولكن ما كدنا نصل إلى نصفها ~~حتى تظاهرت بأنه أغمي عليها، فأمرنا فسكب فوق رأسها وعاء من الماء، فلما أحست ~~ببرودة الماء تنبهت، وصاحت قائلة: «رباه! لقد مت، إنكم تقتلونني، يا رباه!» ولم ~~ترد أن تزيد شيئا. # فأمرنا فرفعت أيضا، وأخذنا في تلاوة مزمور من المزامير، فلم تتله معنا، ~~وأخذت تتلوى وتصيح مرارا قائلة: «يا رباه! يا رباه!» # وسألناها بعد ذلك عن قتلها لأبيها، فلم تشأ أن تعترف لنا بشيء، بل قالت: إنها ~~بريئة، ثم أغمي عليها في الحال. # فأمرنا بأن يصب على رأسها ماء، فأفاقت لنفسها وفتحت عينيها، وقالت: «ألا لعنة ~~الله عليكم أيها الجلادون، إنكم تقتلونني إنكم تقتلونني.» # ولما رأيناها مصرة على العناد والإنكار أمرنا بهزها، فرفعها الجلاد إلى عشرة ~~أقدام ونصحناها أن تقول الحق، ولكن كأنها فقدت الكلام أو لم تشأ أن تتكلم ms70 ، ~~فأشارت برأسها أنها لا تريد أو لا تستطيع أن تقول شيئا. # فأشرنا إلى الجلاد فأرخى الحبل، فسقطت من ارتفاع عشرة أقدام إلى ارتفاع ~~قدمين، ثم شد الجلاد الحبل، فانفك مفصلاها وانتقل ذراعاها إلى الأمام، فصرخت ~~صرخة هائلة ثم سكتت، ولبثت كأنها مغشي عليها. # فأمرنا فصب على وجهها الماء، فأفاقت وقالت: «أيها القتلة اللئام لقد ~~قتلتموني، وإني لست ناطقة لكم بحرف، ولو فصلتم ذراعي عن جسمي.» # فأمرنا فعلق في رجليها أثقال زنتها خمسون ليرة، ولكن في تلك اللحظة فتح ~~الباب، وسمعت أصوات تقول: «كفى كفى! فلا تعذبوها طويلا.» # وكانت تلك أصوات أخويها وامرأة أبيها؛ إذ رأى القضاة أن يواجهوا جميعا ~~لبعضهم لما رأوا إصرار بياتريس على الإنكار، وكان آل سنسي لم يجتمعوا ببعضهم ~~منذ خمسة شهور. ولما رأى القادمون أختهم معلقة مفككة المفاصل تسيل دماؤها من ~~يديها قال أكبرهم جاك: أختاه لقد ارتكبنا الجرم فتم الإثم، فلنعمل الآن على ~~نجاة الروح ولنستقبل الموت عن طيب قلب، فلا تتركيهم يعذبونك هذا العذاب. # فأطرقت بياتريس رأسها كأنها تصرف عنها الألم، ثم قالت: إذن تريدون الموت، ~~فليكن ما تريدون. # ثم التفتت إلى معذبيها قائلة: فكوا وثاقي وأعيدوا علي السؤال فسأجيبكم ~~بالصدق عما تريدون. # فأنزلت من مكانها، وأتى حلاق فجبر لها مفاصلها، ثم قرءوا عليها الأسئلة التي ~~وجهت إليها، فأجابت عنها معترفة كما وعدت بكل ما فعلت. # وبعد هذا الاعتراف طلب الإخوان أن يجعلوا جميعا في سجن واحد، فأجيبوا إلى ~~طلبهم، ولكن في الغد صدر الأمر بنقل جاك وبرنار إلى سجون توردنيونا، وبقيت ~~المرأتان في سجنهما. # الخاتمة # ولما قرأ البابا أوراق القضية واطلع على اعتراف المتهمين اندهش وذعر، وأمر بأن يعلق ~~المجرمون في ذيول خيول جموحة تطلق بهم في طرقات المدينة، ولكن أهاج القوم هذا الحكم، ~~وذهب قوم من الكرادلة والأمراء، فجثوا لدى عرش البابا، والتمسوا منه أن يعدل حكمه ~~ويسمح لهؤلاء البؤساء أن يدافعوا عن أنفسهم. # فقال البابا: وهل تركوا لأبيهم أن يدافع عن نفسه عندما قتلوه غيلة وغدرا؟! # ولكن ألح القوم، فأجابهم البابا ms71 أخيرا إلى ما طلبوه، وحدد للمجرمين ثلاثة أيام ~~للدفاع. # وأسرع كبراء المحامين بروما إلى الدفاع عن آل سنسي، فأخذوا يجهزون مذكراتهم ويجمعون ~~آراءهم حتى اليوم المحدد للمرافعة، فاجتمعوا أمام خليفة العرش البابوي، فاندفع أولهم، ~~وهو نقولا ديزانج، فاستهل دفاعه بمقدمة كان لها أعظم تأثير في نفوس السامعين، ورأى ~~البابا أنه مهتم بالمتهمين أكثر من التهمة، فخشي شر ذلك التأثير، والتفت إلى المحامي، ~~فخاطبه بغضب قائلا: فليقتل إذن أولاد الأشراف آباءهم ليجدوا بين المحامين رجالا ~~يدافعون عنهم، إنا ما كنا لنصدق هذا أو نتوهمه. # فسكت القوم لصوت البابا إلا فارنياتشي المحامي؛ إذ قام بين أيدي قداسته عالما بقدر ~~مهمة الدفاع التي عهد إليه بها، فقال بثبات وأدب: أيها الأب العالي القداسة، إننا لم ~~نأت هنا لندافع عن المجرمين، إنما أتينا لنخلص البريئين؛ لأننا لو توصلنا بما نبديه من ~~أوجه الدفاع إلى أن نبرهن لقداستكم أن بعض المتهمين إنما فعل ما فعل وهو يدافع عن نفسه ~~دفاعا شرعيا، فلا شك أن قداستكم تلتمس له العذر فيما أتاه، وكما نصت الشريعة على ~~الأوجه التي تجيز للأب أن يقتل ولده فيها؛ # 1 # فإن هناك من الأوجه ما تجيز للولد أن يقتل أباه، وبناء على ذلك فنحن لا ~~نتكلم إلا إذا راق لقداستكم أن تسمعنا. # فصرح البابا للمحامي بالكلام، فاستمر فارنياتشي في مرافعته قائلا: إن صلة البنوة ~~التي كانت تربط بياتريس بأبيها قد انفصمت مذ أكرهها أبوها على ما أتاه معها، واستدل على ~~ذلك الإكراه بالعريضة التي رفعتها الفتاة إلى قداسة البابا ولم تصل إليه، وهي تشرح فيها ~~ما تقاسيه من الذل والعذاب، وتطلب فيها من قداسته أن يخلصها من أبيها كما خلص أختها من ~~قبل، ولكن ضاعت هذه الشكوى رغما عن البحث الدقيق عنها في سكرتارية البلاط ~~البابوي. # وأمر البابا المحامين أن يتركوا لديه مذكراتهم وينصرفوا، ففعلوا إلا أحدهم التييري، ~~حيث بقي بعد خروجهم، فجثا لدى البابا قائلا: أيها الأب العالي القداسة! لم أستطع أن ~~أرد نفسي عن المثول بين يدي قداستكم مدافعا في هذه ms72 القضية لأني المحامي عن البؤساء ~~والمساكين؛ ولذا أطلب من قداستكم السماح. # فقال له البابا وقد مد له يده يرفعه: نحن لا نعجب منك إن دافعت عنهم، لكننا نعجب من ~~قوم يتعصبون لهم ويحمونهم. # وأراد البابا أن يتخلص من هذه القضية فلم ينم ليلته، وقضاها ساهرا مع أحد كرادلته ~~المدعي سان مارسيليو في الاطلاع على أوراقها، وكان ذلك الكردينال من علماء القانون وذا ~~ذكاء مفرط، فعمل عن القضية ملخصا سر المحامين، فأملوا من ورائه الإبقاء على حياة ~~المتهمين؛ لأنه وضح في ذلك الملخص أن الأولاد وإن كانوا قتلوا أباهم إلا أن أباهم ساقهم ~~إلى ارتكاب تلك الجريمة بسوء معاملته لهم وتعديه سلطته الشرعية عليهم، حتى إن إحداهم ~~وهي بياتريس ارتكبت الجريمة مرغمة؛ لكثرة ما لاقت من ظلم أبيها وفجره. # فعدل البابا عن رأيه، وأظهر بعض التساهل حتى آمل آل سنسي النجاة من الإعدام، بل أراهم ~~البابا بارقة من هذا الأمل، ففرح أهل روما وشاركوا هذه الأسرة البائسة في سرورها. لولا ~~أن حدثت بعد ذلك حوادث أطفأت نور ذلك الأمل، إذ غيرت عواطف البابا؛ ذلك أن إحدى شريفات ~~روما - وهي تدعى المركيزة دي سنتا كروسي - قتلها ابنها وهي في الستين من عمرها، فطعنها ~~نحو عشرين طعنة بالخنجر؛ لأنها لم تشأ أن توصي له بكل مالها من بعدها ثم هرب ~~القاتل. # فلما بلغت هذه الجريمة مسامع البابا رآها أخت سابقتها، فخشي أن تكثر أمثال هذه ~~الجرائم إن تساهل فيها، وكان مضطرا للسفر الغد إلى مونتي كافالو لتكريس كردينال، فدعا ~~في الساعة الثامنة من صباح الغد، وكان العاشر من شهر سبتمبر سنة 1599، حاكم روما السيد ~~تافرنا وقال له: أيها السيد، إنا عاهدون لك بقضية آل سنسي لتحكم فيها بما تقتضيه ~~العدالة في أقرب حين. # فعاد الحاكم إلى قصره بعد أن ترك البابا، ودعا لديه قضاة المدينة، فأقروا جميعا على ~~إعدام آل سنسي، وما لبث هذا الحكم أن أعلن، فعلم به القوم، وكان للمحكوم عليهم - كما ~~أسلفنا - منزلة في القلوب، فخرج كثير من الكرادلة ليلا ms73 على خيولهم وعرباتهم يسعون لدى ~~القضاة في تخفيف الحكم أو على الأقل في التنفيذ على المرأتين في السجن بدل إعدامهما ~~علنا أمام الناس، ويسعى بعضهم لطلب العفو عن برناردينو حيث لا يد له في الجريمة، وهو ~~غلام لم يتم الخامسة عشرة، وقد شملته النقمة التي حلت بأسرته، وكان أكثر الناس اهتماما ~~بالأمر الكردينال سفورزا، لكنه لم يحصل على غاية بل ولا شبه وعد من البابا، واهتم ~~فارنياتشي فأظهر لقداسته مبلغ الظلم من تضحية برناردينو بلا ذنب جناه، ولكنه لم ينل ~~العفو عنه إلا بعد إلحاح كثير ورجاء طويل. # واستعد القوم لتنفيذ الحكم، واجتمعت الجموع على أبواب السجن، وفي الساعة الخامسة من ~~صباح يوم السبت دخل الكاتب إلى سجن النساء، وكانت بياتريس وزوجة أبيها راقدتين فأيقظهما ~~وتلا عليهما الحكم، ونصح لهما أن تتجهزا لمقابلة الملك الديان، فاضطربت بياتريس وخرست ~~حتى عن التأوه، وأرتج عليها، فلم تدر ما تفعل فهبت من مرقدها دون أن ترتدي ثيابها، ~~ووقفت وهي لا تملك نفسها كأنها ثملة، ثم ما لبثت أن انفكت عقدة لسانها فأخذت تصيح ~~وتزأر، أما لوكريزيا فأصغت إلى تلاوة الحكم بثبات، ثم أخذت ترتدي لباسها لتحضر الصلاة ~~في كنيسة السجن، وأخذت تصبر بياتريس على أمر الله فلم تطق الفتاة صبرا، وأخذت تعض ~~في ذراعيها وتقرع رأسها في الحائط قائلة: «أأموت، أأموت، هكذا قضي علي أن أموت على حين ~~غفلة، وأموت على المشنقة، على المجزرة، يا رباه، يا رباه!» ثم تولتها نوبة عصبية شديدة ~~أفقدتها قواها. ولما أفاقت استولت الروح على الجسم، وعاد لها الصبر فكانت مثال ~~الامتثال؛ إذ رضخت لأحكام الله بصبر واتضاع وحسن اتكال. # وطلبت بياتريس أن يأتوها بموثق تملي عليه وصيتها، فأتوها به فأملتها عليه بكل ثبات ~~ودقة، وكان مما أوصت به خمسمائة ريال للراهبات، وخمسة عشر ألف ريال - وهو مهرها - ~~لتزوج به خمسون فتاة، ثم ختمت الوصية قائلة: إنها ترجو أن تدفن جثتها تحت مذبح كنيسة ~~القديس بطرس التي مر بنا ذكرها في بدء الرواية. # وتبعت لوكريزيا خطتها؛ فحررت وصيتها ms74 ، واختارت أن تدفن جثتها في كنيسة القديس جورج ~~بفيلا برا، وأوصت بحسنات وهبات عديدة. # ولما أتمت بياتريس وزوجة أبيها الوصيتين اشتركتا معا في الصلاة، فلبثتا تعبدان الله ~~حتى الساعة الثامنة من الصباح، ثم اعترفتا وحضرتا القداس وتناولتا القربان، ولاحظت ~~بياتريس أنه لا يحسن بهما أن يصعدا إلى آلة الإعدام بملابسهما المنزلية الثمينة، فطلبت ~~ثيابا كملابس الراهبات ساترة لكل أجزاء الجسم حتى أعلى الرقبة، وذات أكمام واسعة ~~طويلة، فأحضرت الملابس ومعها حبال لتتمنطقا بها، وطلبت بياتريس أن توضع لها عمامة ~~صغيرة لتستر بها رأسها فأجيبت إلى ما طلبت، ووضعت هذه الملابس بجانبها ريثما أتمت ~~الصلاة. # ونبهت بياتريس وصاحبتها أن اقتربت الساعة الرهيبة. وكانت بياتريس جاثية تصلي، ~~فالتفتت إلى زوجة أبيها قائلة وهي مطمئنة باشة الوجه: «يا أماه! دنت الساعة التي يكفر ~~فيها عن ذنوبنا، فأظن أن الأولى بنا أن نستعد لها، فهل لك أن نساعد بعضنا على تغيير ~~ملابسنا كما جرت عادتنا.» # وقامت المرأتان فارتدتا ملابس الراهبات وتمنطقا بالحبال ووضعت بياتريس عمامتها على ~~رأسها ولبثتا تنتظران النداء الأخير. # وفي تلك الأثناء كان القارئ قد قرأ لجاك وأخيه حكمها، ولبثا ينتظران أن يساقا إلى ~~ساحة الإعدام، ولما ناداهما المنادي خرجا فوجدا جمعا من أهل الطوائف الدينية قائما ~~بباب السجن رافعا الصليب، فتقدم جاك وكان مرتديا لباسا أسود مكشوف الصدر، فجثا أمام ~~الصليب وقبله، وكان الجلاد بجواره قابضا على قضبان من حديد محمية في النار ليكوي ~~بها صدر المتهم طول الطريق، وكان على عربة السجن موقد مشتعل لتحمى فيه هذه ~~القضبان. # وصعد جاك إلى هذه العربة بصحبة الجلاد، ثم خرج وراءه من باب السجن برناردينو أخوه ~~الصغير، فما كاد يظهر للجميع حتى قام فيهم مندوب من لدن البابا يقول: «قد عفا سيدنا ~~ومولانا البابا عنك يا برنار سنسي ووهب لك الحياة، إنما أمر أن تساق إلى آلة الإعدام ~~وتجرى عليك الرسوم التي على إخوتك دون أن تموت، فعليك أن لا تنسى في صلواتك من كان قدر ~~عليك أن تموت معهم.» # ولما سمع القوم ms75 هذا الخبر غير المنتظر ضجوا فرحا، وأقبلوا عليه ينزعون عن عينيه ~~الرباط الذي كان أعد له ليخفي عنه نظر آلة الإعدام. # وأصعد الجلاد برناردينو إلى جنب أخيه بعد أن استلم صورة العفو عنه، ثم ألقى عليه ~~رداء ثمينا موشى بالذهب، وعجب الناس من وجود هذا الرداء الثمين لدى الجلاد، ولم ~~يعلموا أنه الرداء الذي أهدته بياتريس لمارزيو، وورثه عنه الجلاد بعد إعدامه، كما قضت ~~عوائد ذلك العصر، وأثر على برناردينو نظر ذلك الجمع المحتشد فغشي عليه. # وسار موكب الأخوين تزفه الأغاني الدينية حتى سجن كورتي سافيلا، فوقف أمام بابه وخرجت ~~بياتريس وامرأة أبيها، فسجدتا أمام الصليب وسارتا وراء الجمع ماشيتين على قدميهما ~~إحداهما تلي الأخرى. وكانت لوكريزيا مرتدية الحداد وتبكي بكاء مرا وبياتريس لابسة ~~ثيابا من حرير موشاة بالفضة، والسكون والصبر مرسومان على محياها. # وكانت كل منهما حاملة في إحدى يديها صليبا وفي الأخرى منديلها. # وسار الموكب حتى جسر سانتانج المقامة عند ميدانه آلة الإعدام. وقد نصبوها في الليل ~~وكانت تلك الآلات القاطعة ذات نصل ثقيل ينزلق بين عامودين فيسقط على رأس المحكوم عليه ~~وهو ممدد على لوح من الخشب، وقد أسندت رأسه إلى قائمة موازية للوح. ولما وصل الموكب إلى ~~ذلك المكان أدخلت المرأتان إلى كنيسة قريبة، ثم أدخل الفتيان عندهما فلبثوا برهة معا، ~~ثم أتى الجلادون، فأخذوا جاك وأخاه إلى الساحة، فلما علا الفتيان آلة الإعدام غشي على ~~أصغرهما، فتقدم إليه الجلاد لينبهه، فظن القوم أنه يريد السوء فصاحوا به قائلين: «إنه ~~معفي عنه.» فطمنهم الجلاد بإشار، وأجلس الفتى جانب القائمة، وجثا أخوه على جانبها ~~الآخر. # وعاد الجلاد فأحضر لوكريزيا أولا، حيث قرر أن تعدم الأولى، فتقدم بها إلى أسفل آلة ~~الإعدام فقد قميصها من صدرها، ثم صعد بها إلى حيث الفتيان، وكانت لوكريزيا ممتلئة ~~الجسم فتعبت لصعود سلم الآلة، ولما استقر بها عليها المقام، قدم لها الجلاد صورة المسيح ~~على صليبه فقبلتها ثم نزع عن رأسها غطاءها، فخجلت وقد انكشف للناظرين صدرها ورأسها، ثم ~~التفتت فرأت القائمة ms76 التي أعدت لرقبتها، فارتجفت ارتجافا خفق له قلوب الحاضرين، وجالت ~~الدموع في آماقها، فقالت بصوت جهوري: «رباه! ارؤف بي وارحمني، وأنتم يا إخواني صلوا ~~لأجلي.» # والتفتت لوكريزيا إلى الجلاد تسأله عما تفعل، فقال لها أن تتمدد على بطنها على اللوح، ~~ففعلت وهي تذوب خجلا من الأنظار الموجهة إليها، وتستيسر الموت عنها، ومنع ثدياها ~~رقبتها أن تلمس القائمة فأتي بقطعة من الخشب رفعت بها القائمة، ولما تم ذلك الوضع أدار ~~الجلاد لولب الآلة، فسقط النصل، وانفصلت الرأس فتدحرجت، وقد ضج القوم لذلك المشهد، ~~وتناول الجلاد الرأس، فأراها للحاضرين، ثم لفها في خرقة سوداء، وأودعها مع الجثة ~~تابوتا كان معدا لهذا الغرض. # وبينما الجلادون يعيدون آلة الإعدام إلى ما كانت عليه استعدادا لمقدم بياتريس؛ إذ ~~سقط درج كان أقيم لجلوس المتفرجين، فمات تحته قوم وجرح آخرون. # وعاد الجلاد إلى الكنيسة ليأتي ببياتريس، فوجدها قائمة تصلي، فلما رأته مقبلا وفي ~~يده الحبال التفتت له قائلة: «يريد الله أن ينتهي ذلك الجسم على يديك إلى الفناء وتقصد ~~الروح دار الأبدية.» ثم قامت تتبعه إلى الساحة فقبلت الصليب، ثم خلعت نعليها، وارتقت ~~سلم آلة الإعدام بخفة ونشاط، فلما بلغت سطحها، وكانت قد استعلمت قبل عما يتم عليها، ~~قصدت اللوح وتمددت عليه، ووضعت رقبتها فوق القائمة حتى لا ينظر القوم كتفيها وهما ~~عاريان، لكنها ما كادت تعلو اللوح حتى سمع دوي مدفع أطلق من قصر سانتانج، فاندهش ~~الحاضرون واندهشت بياتريس نفسها فهبت تنظر الخبر، وكان البابا عالما بما جبلت عليه هذه ~~الفتاة من حدة الطبع؛ فخشي أن ترتكب خطيئة بين الغفران والموت، فأمر بأن يطلق مدفع ~~عندما تعلو آلة الإعدام فيسمعه وهو بمونتي كافلو قائم يصلي فيدعو الله ليغفر لها ~~خطاياها. # وانتظر الجلاد نحو خمس دقائق بعد المدفع، حتى إذا ظن أن البابا قد أتم صلاة المغفرة ~~وتأهبت بياتريس للموت أدار اللولب فسقط النصل. # ورأى الناس إذ ذاك أمرا عجبا؛ رأوا جسم الفتاة بعدما فارقته الرأس، وقد رجع ~~القهقرى كأن يدا تدفعه إلى الوراء. # وأخذ الجلاد ms77 الرأس والجثة، وأراد أن يودعهما تابوتهما، ولكن تلقفهما منه الرهبان، ~~فأفلت من أيديهم الجسم، وسقط في الأرض فتعرى وتلطخ بالتراب والدم، فاضطروا أن يغسلوه ~~قبل أن يودعوه التابوت. # وأثر ذلك المشهد في نفس برناردينو، فغشي عليه لثالث مرة، ولم يستطيعوا أن يفيقوه إلا ~~بإسقائه نبيذا. # وأتى دور جاك فهب وقد تلطخت ثيابه من دماء أخته وامرأة أبيه، واقترب منه الجلاد فنزع ~~عنه رداءه فانكشف للحاضرين صدره، وفيه من كي النار آثار، والتفت جاك إلى أخيه قائلا: ~~«برنار، لقد اتهمتك ظلما وعدوانا في إجابتي الأولى، ومع أنني كذبت ما قلت أخيرا ~~إلا أنني أشهد الله الآن وأنا بين يديه أنك بريء، وأنهم ظلموك ظلما مبينا بإكراهك ~~على أن تشهد مقتلنا.» # واقترب الجلاد من جاك فدعاه أن يجثو على ركبتيه، ثم ربط ذراعيه في عامودي الآلة، وستر ~~عينيه، ثم ضربه على رأسه بدبوس، ثم ألقى جسمه وشطره أربع قطع على مرأى من ~~الحاضرين. # ولما انتهى القوم من تلك المشاهد الوحشية انفضوا، وعادوا ببيرنار للسجن وقد تولته حمى ~~محرقة، فأرقدوه على فراشه بعد أن فصدوا ذراعه. # وكان برنار (وتصغيره: برناردينوا للتمليح) على صورة أخته بياتريس في الخلقة، حتى إنهم ~~لما صعدوا به إلى آلة الإعدام ظنه الحاضرون أختها. # وعرضت جثتا بياتريس وامرأة أبيها في تابوتهما تحت تمثال القديس بولس في مدخل جسر ~~سانتانج إلى الساعة الرابعة مساء، وقد أوقدت حولهما الشموع، ثم رفع التابوتان في ~~الساعة التاسعة، فزين تابوت الفتاة بالزهور، وسار في موكب حافل منه الرهبان والراهبات ~~حتى ووريت حيث اختارت تحت مذبح كنيسة القديس بطرس بن مونتاريو، وحملت جثة لوكريزيا إلى ~~كنيسة سان جورج كما أوصت. # وكان ذلك اليوم يوم حر شديد ازدحمت فيه العربات والناس في ساحة الإعدام حتى أغمي على ~~بعضهم فيه من شدة الزحام، وأصيب قوم بالحمى، ومات قوم من لفحة الشمس، وقد لبثوا معرضين ~~لأشعتها المحرقة ثلاث ساعات. # وسعت طائفة لدى البابا للإفراج عن برناردينو، فأمر بأن يطلق سراحه بعد أن يدفع غرامة ~~قدرها ألفان وخمسمائة ريال ms78 رومانية للطوائف الدينية كما نصت عليه دفاترها. ~~••• # وإلى هنا تمت قصة آل سنسي، وكلها حقائق تاريخية لا يكاد أن يكون لخيال الروائي فيها ~~مجال، وإن من القصص الحقيقية ما هو أعجب من مخترعات الخيال. ms79