######OpenITI# #META# URI: 1412YusufIdris.RijalWaThiran.Hindawi14839642 #META# Tags: literature :: novels #META# ID: 14839642 #META# Title: رجال وثيران #META# AuthorID: 95064085 #META# Author: يوسف إدريس #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # كلمة‏ # الفصل الأول‏ # الفصل الثاني‏ # الفصل الثالث‏ # الفصل الرابع‏ # الفصل الخامس‏ # الفصل السادس‏ # الفصل السابع‏ # الفصل الثامن‏ # الفصل التاسع‏ # الفصل العاشر‏ # الفصل الحادي عشر‏ # الفصل الثاني عشر‏ # الفصل الثالث عشر‏ # الفصل الرابع عشر‏ ~~«الفصل الأخير»‏ # كلمة‏ # الفصل الأول‏ # الفصل الثاني‏ # الفصل الثالث‏ # الفصل الرابع‏ # الفصل الخامس‏ # الفصل السادس‏ # الفصل السابع‏ # الفصل الثامن‏ # الفصل التاسع‏ # الفصل العاشر‏ # الفصل الحادي عشر‏ # الفصل الثاني عشر‏ # الفصل الثالث عشر‏ # الفصل الرابع عشر‏ ~~«الفصل الأخير»‏ # | رجال وثيران # | رجال وثيران # تأليف # يوسف إدريس # | كلمة # حين عدت من الجزائر في صيف عام 1962م، كان يحدث كلما لقيت صديقا أن يسألني عن موعد صدور ~~الرواية أو المسرحية التي لا بد سأكتبها وأستوحيها من أحداث الثورة الجزائرية، خاصة في ~~أثناء تلك الفترة الحرجة التي أعقبت الاستقلال. كانت تلك هي المرة الثانية التي أعيش فيها ~~مع الثورة الجزائرية؛ الأولى حدثت قبل الاستقلال بعام حين ذهبت مع بعثة والتحقنا بجيش ~~التحرير وحضرنا بعض معاركه، والثانية كانت هذه المرة. وكنت لا أستغرب لهذا الإجماع الغريب ~~على ضرورة أن أكتب رواية أو مسرحية عن ثورة الجزائر؛ إذ لا بد في نظر هؤلاء الأصدقاء ~~الطيبين لشخص مثلي عاصر الثورة كفاحا مسلحا، ورآها إلى أن تجسدت على هيئة دولة بما صاحب ~~التجسد من ميلاد أمة وخلق كيان، لا بد أن يكون أحق الناس بالكتابة عن هذا الحدث التاريخي، ~~ومن ناحيته لا بد أن يجد هو أن من واجبه أن يكتب هذا العمل. # ولكن كل تلك اللقاءات والتساؤلات كانت تدفعني لمزيد من التعاسة. إن مشكلتي دائما أني لا ~~أستطيع أن أكتب لأن من «واجبي» أن أكتب، ولم أجرب أبدا أن أفرض على نفسي موضوعا ولا أن ~~أعطي لموضوع بالذات حق الأولوية في الخروج إلى حيز الوجود. ولقد انفعلت بكل ما رأيت في ~~الجزائر قبل الاستقلال وبعده، ولكن يبدو كأن الانفعال لم يكن قد نضج إلى الدرجة الكافية ~~لكسر القشرة الإرادية والخروج إلى الحياة. كانت الصورة الأساسية لأي عمل يكتب عن ثورة عظيمة ~~كثورة الجزائر أنه يجب ms01 أن يكون في مستوى عظمة هذه الثورة، وأنى لي بهذا المستوى وأنا لا أزال ~~بالكاد أتأمل ما رأيت ووعيت؟ وأنى لي به والمهمة شاقة؛ فالقضية لا تزال دافئة بالحماس، ولا ~~يستطيع الإنسان فيها إلا أن يجاري الشعور العام المنفعل بها بحيث تبدو الموضوعية نوعا من ~~السخف لا محل له؟ # كنت أهز رأسي للأصدقاء وأقول: أجل سأكتب، حتما سأكتب. أقوله وأنا أول المدركين أني في ~~تلك الفترة بالذات لن أستطيع، وأن إحساسي بنفسي يؤكد لي أني في حاجة إلى زمن أستوعب فيه كل ~~شيء، والمواطنون أيضا في حاجة إلى الزمن نفسه لتثمر لهم الكتابة عن قضية حافلة كالقضية ~~الجزائرية. # وفجأة - تماما كما تعودنا أن نقول في القصص - وجدت موضوع «رجال وثيران» يدق، مطالبا ~~بالخروج، موضوعا كان مفاجأة تامة لي، فلم أكن أتوقع أبدا وأنا عائد من إسبانيا (لم تمض ~~على عودتي أيام) أن يأتي بمثل تلك السرعة، ولا أن يجد لدي كل تلك الاستجابة وهذا الحماس. # وهكذا كتبت «رجال وثيران»، ليس بدلا من الموضوع الأول ولا هربا منه، ولا محاولة للرمز أو ~~ربطه بصراع مرت به القوى الثورية في الجزائر، ولا أي شيء من هذا كله. إنها قصة مستقلة ~~تماما، حوادثها وإن كانت تدور في إسبانيا إلا أن بطلها هو الإنسان، في إسبانيا أو في أي ~~مكان. قصة كانت ولا تزال تثير دهشتي، فلم أكن أتوقع من مرة واحدة شاهدت فيها مصارعة الثيران ~~بعد ظهر ذلك اليوم من أيام أغسطس المدريدية، وفي ملعبها الكبير، آخر ما كنت أتوقعه أن يختمر ~~خلال ساعتين عشتهما مع المصارعة والثيران والمصارعين هذا العمل، أو أي عمل آخر حتى لو كان ~~سلسلة من المقالات. # وبعد ... # كثيرا ما نسمع الناس يتساءلون: هل أدبنا أصبح عالميا؟ ومتى وكيف يصبح أدبنا عالميا؟ ~~والسؤال بلا شك يدل على طموحنا كتابا وقراء، ولكنني أحب أن أؤكد أن اختيار إسبانيا أو أي ~~بلد آخر من بلاد العالم مكانا تدور فيه أحداث قصة ليس هو الطريق أبدا لكي يصبح أدبنا ~~إنسانيا عالميا؛ لأن ms02 هذه الإنسانية والعالمية ليس لهما إلا طريق واحد هو الكتابة بصدق ~~ورأي وإحساس عن أنفسنا التي نعرفها، أو عن غيرنا ممن لا تقل معرفتنا بهم عن معرفتنا ~~بأنفسنا، بل هو الطريق الوحيد لكي تصل الكتابة - أي كتابة - إلى مرتبة الفن - أي فن - لا ~~يهم محليا كان أو عالميا، والمشكلة في رأيي أننا كثيرا ما نقحم مفهوماتنا العقلية أو ~~الرياضية، أو في معظم الأحيان السياسية، إقحاما على ما نريد وباستطاعتنا قوله، فتكون ~~النتيجة أن نفقد خيط الانفعال الصادق ونرقص على السلم. إنما هي في الحقيقة محاولة لكي نرى ~~أنفسنا هنا في مصر والعالم العربي عن طريق غير مباشر في ظاهره، ولكنه في أحيان يعطينا رؤى ~~أكثر صدقا ووضوحا وعمقا. # هذا عن علية (كما يقول الفلاسفة) كتابة هذه القصة، أما إذا تركنا الأسباب القابلة للنقاش ~~والأخذ والرد جانبا، فكل ما أذكره الآن وبعد مضي أكثر من عامين على كتابتها لأول مرة أني ~~كنت سعيدا جدا، لا أكاد أنتهي من مشاغلي اليومية حتى أسرع إلى المكتب حيث تنتظرني معركة ~~أخوضها بكل ذرة من كياني، متحمسا منتشيا، أحس أني لأول مرة ومن خلال القصة أخوض صراعا ~~حقيقيا عميقا وأنفعل بكل لحظة من لحظاته؛ الصيف في القاهرة، والحر في النهار، والنسمات ~~رقيقة كشمس الغسق في الليل، والصراع دائر في خيالي؛ يتوهج أحيانا حتى ليبلغ قيظ يوليو، ~~ويشف أحيانا حتى ليهب كسرب صغير من نسمات طفلة ترد رؤيتها الروح وتنعش القلب الخامل، وصور ~~إسبانيا والإسبان - أرق وأعنف وأغلب وأشجع وأحكم وأجن شعب من شعوب العالم - وكأننا نحن ~~العرب كنا هم، أو هم كأنهم كانونا، ذلك الشعب بلغته؛ بأغانيه، برقصه، بفقره، بصبره، بجماله، ~~بحنينه إلى الماضي المجيد، بالحنين الأكثر إلى مستقبل؛ هذا الشعب بكل صوره وانفعالاته ~~المتغيرة الدائمة التغير، تلون أشكال الصراع وتزكيه. لقد كانت أيام كتابتها جميلة حقا. # وأخيرا ... # فلا بد لنا أيها الأصدقاء الذين كنت - وأرجو أن أكون لا أزال - عند حسن ظنهم، لا بد لنا من ~~لقاء آخر على أرض الجزائر، وأنا أشد الناس ms03 ابتهالا كي يأتي اللقاء أقرب ما يكون وأروع ~~ما يكون. # أما هنا ونحن في شبه الجزيرة الأيبيرية، فإني أستسمحكم يا قراء العربية أن أقدم هذا العمل ~~المتواضع - حقيقة لا قولا - وردة حمراء كبيرة، ليس التلوث بالدم سبب احمرارها، إلى الشعب ~~الإسباني القوي المتفائل الرقيق. # القاهرة، يناير 1964م # يوسف إدريس # | الفصل الأول # أعرف أن هناك صداقة مثلا وزمالة وعلاقات إعجاب. أعرف أن هناك عداوة أو محبة أو لا ~~مبالاة، ولكني لا زلت لا أعرف كيف أضع اسما للعلاقة الإنسانية التي ربطتني به. من ناحيتي ~~كنت واحدا من ثلاثين ألف آدمي لا تجمع بينهم إلا «الأرينا» الهائلة الحجم، ولا يلتقون إلا ~~عند رغبة ملحة واحدة، رغبة من رغبات البشر التي تظل تلح وتصر حتى تفرض نفسها وتتحقق ~~بطريقة أو بأخرى. فرد من آلاف، مجرد طرف سلبي، عملي طول الوقت أن أجلس وأشاهد، والجهد ~~الإيجابي الوحيد الذي كنت أقوم به لا يتعدى بضع محاولات، معظمها فشل؛ لكبت انفعالي كي لا ~~أنساق وراء المواء الجماعي إذا صدر عن الآلاف، أو إخفاء وجهي اشمئزازا أحيانا، أو خوفا، ~~أو لضعف الأعصاب. # أما هو فقد كان بالنسبة لي مجرد وجه اختارته عيناي من بين الآلاف لتلمحه، وما تكاد ~~تلمحه حتى تتوقف عنده كقطار سريع يبطئ ليعود يمضي، فإذا بإبطائه يتحول إلى وقوف. لم ~~تتوقف عيناي لأن الوجه كان شاحبا. لم يكن أصفر، ولا كانت هناك نقاط عرق، ولا كان الشحوب ~~بإرادته. الشعور الذي دهمني وأجبرني على التوقف أن نظرتي الأولى له أشعرتني أن هناك شيئا ~~هو الذي أذهب لونه، وبيض قمحية وجهه. شيء وسط الزحام الشديد لا يمكن إدراكه أو ضبطه، ولكن ~~كان باستطاعتي أن أقسم أنه هناك، وأنه المسيطر على كل تلك الآلاف وإن كانت ملامحهم لا تنجح ~~في الكشف عنه، ولا يهديك إليه إلا نظرة لذلك الوجه. أجل هناك كعقاب خفي داكن رابض فوق سماء ~~«الأرينا». # عقاب له ثلاثون ألف مخلب. في كل وجه ينشب مخلبا وطواطيا لا يمكن انتزاعه، ويفعل هذا ~~دون أن يعي ms04 به أو ينتبه إليه أحد، أو يترك أثرا واحدا يشير إلى وجوده لولا ذلك الإحساس ~~المبهم الذي تحسه وتشم رائحته تتسر. إحساس جامع شامل له دوي الجنازات القادمة من بعيد، ~~والانقباض الذي يشمل البيت إذا نعقت في غنائه بومة. # وربما الذي استوقفني في الوجه أنه الوحيد المتميز الشحوب، وكأنه من نوع خاص ناتج عن ~~إحساس خاص لا يشاركه فيه سواه، وكأنه وحده هو الذي يدري، ووحده الذي يتوقع. وحده الذي حين ~~تراه ينتقل إليك علمه، وتبدأ أنت الآخر تدرك وجود شيء في الجو والمكان، شيء آخر غير الناس ~~والازدحام وشمس ما بعد الظهر وضجة «الفيستا» والاحتفال، شيء حاضر خفي داكن رابض ينتظر ~~اللحظة المناسبة ليعلن حتما عن وجوده وينقض، وفي الحال، ودونا عن الثلاثين ألف إنسان، ~~وبمثل شرارة التماس لا بد أيضا أن يدق قلبك دقة الخوف؛ إذ تدرك على الفور إدراكا ~~غريبا مبهما وكأنما يهبط عليك كالإلهام أن ثمة شيئا غير عادي سيقع اليوم لصاحب ذلك ~~الوجه، وأنه أبدا لن يغادر «الأرينا» بنفس الحال التي جاء بها. # هذه الدقة المفاجئة وما صاحبها من انزعاج صغير عابر، حددت لحظة خطيرة غريبة في ~~حياتي، لحظة التقائي بإنسان جديد لم يكن منذ ومضة يعنيني أمره، فإذا بالدقة تبدأ معها ~~علاقة، وتتعدى العلاقة بسرعة مراحل التعارف الأولى إلى مرحلة الصداقة، بل تتعداها إلى ~~ما هو أكثر، إلى مرحلة القلق العظيم على الصديق والتتبع المشفق لخط مصيره. # وهكذا ألقيت النظرة الثانية على صديقي الجديد وكأن بين النظرتين عاما، وكأنني أعود ~~أتفحص ملامح عزيز طالت غيبته محاولا أن أدرك ما حدث له ولشكله من تغيير. كان الوجه ~~دقيقا نحيلا يصنع برأسه الأنيق الذي بدأ شعره من أمام يخف ويتراجع، ويستعد لتسليم الرأس - ~~أو الجزء الأمامي منه على الأقل - لصلع قريب. كان يصنع مع وجهه النحيف مثلثا رشيقا ~~صغيرا، كل ما فيه حتى أذناه رشيق صغير. ولكل وجه في الدنيا قصة يحكيها أو معنى أو صيحة ~~يطلقها ويعلن بها عن جماله مثلا أو ذكائه، أو عما ms05 يكمن في أعماق صاحبه من دهاء. ذلك ~~الوجه كان من الوجوه التي لا تتحدث عن نفسها، من الوجوه التي نحس بها دائما مشغولة ~~بحدث خارج عنها أو بقضية. ولحظة رؤيتي الثانية له لم يكن وجهه يتحدث عن شيء بالذات أو ~~مشغولا بشيء. كان صامتا، صمتا لو صبرت عليه لاستحال إلى حزن، حزنا لا بد شفافا كحزن ~~الملائكة، أو ابتئاس الأطفال. # وكان يبدو في الثالثة والعشرين، ولكن مجرد النظر في وجهه ومراقبة صمته وهو يأخذ لون ~~الأحزان البريئة يرغمك أيضا، ولا تدرك كيف، على أن تحس تجاهه - ومهما كانت سنك. ولو كنت ~~أصغر منه - بأبوة لا تفسير لها ولا تبرير. # | الفصل الثاني # كنت قد حضرت - كأي مقدم على عمل لأول مرة - مبكرا، وقضيت بعض الوقت أطوف ب ~~«الأرينا» وممراتها ودهاليزها، وأراقب السوق السوداء لبيع التذاكر، وآلاف السياح ~~والأوتوبيسات الفاخرة التي لا يكف عن التحديق فيها الأطفال الإسبان أشباه العراة وهي تقف ~~ويهبط منها خليط عجيب من البشر من بين لغاته الكثيرة تميز بسهولة الخناقة الأمريكية ~~الممدودة والغالبة، ومئات العربات الخاصة. أفخم وأحدث عربات من نوعها في العالم، وأبوابها ~~تفتح لكي تنساب منها سيدات. أجمل سيدات، وأروع عطور، وأغلى وأشيك فساتين، ورجال بصلعات ~~وكروش وأرصدة مكتظة، وشبان أثرياء بالكابورليهات، والجميع يمضون إلى مقاعدهم المحجوزة، ~~بينما جمهور اللعبة الحقيقي - أفراد الشعب الإسباني - يتقاتلون حول التذاكر، ويتدافعون أمام ~~باب الدخول، وفي الداخل لهم المدرجات المواجهة لشمس مدريد في الصيف، وما أحرها! # ومن متحف المصارعة عدت إلى مكاني في المدرجات حيث المتحف البشري الزاخر الوافد على ~~مدريد، والساحة من كل أنحاء الأرض، وكيف تقبل أفواجه كالسحب المثقلة التي لا تلبث أن تبطئ ~~حركتها وتتكاثف وتتساقط في أنحاء الدائرة الكبيرة على هيئة أجساد غير واضحة المعالم فوق ~~مقاعد مقامة من الأسمنت المسلح. ساحة و«أرينا» لا تختلف كثيرا عن تلك الموجودة في روما ~~التي أقامها الرومان من آلاف السنين ليتسلى الحكام الرومانيون بصراع العبيد العزل ~~مع الوحوش. كل الخلاف هنا أن الإنسان زود بدلا من المسلة ms06 بقطعة أطول من المعدن على ~~هيئة سيف، ولكن الصراع لا يزال هو الصراع. # وربما استدارة «الأرينا»، أو ربما هي الحلقة البشرية الهائلة المحيطة بالدائرة الرملية ~~الفارغة. ربما الحيرة. ربما الدوري المستمر الذي لا ينقطع. ربما العقاب الرابض في مكان ما ~~من سماء الساحة ناشبا مخالبه في الوجوه والملامح. ربما أي شيء، ولكن الذي لا شك فيه أن ~~ثمة قلقا، وكأن أحدهم قد ألقى في قلب الساحة ببضع قنابل مثيرة للقلق واللهفة، لا على ~~المصارعة وبدئها والرغبة أن تتم بسرعة، فكلنا نعلم أنها تبدأ في السادسة، وأن بيننا وبينها ~~بضع دقائق لا تحتمل اللهفة أو الترقب. إنه قلق وترقب ولهفة المشغولين بشيء قاهر حاد، لا ~~يدرون ما هو بالضبط وما الذي يشغلهم به تلك المشغولية العظمى، المشغولية التي تجعلك لا ~~تستقر على وضع ولا تستسلم لموضوع، بحيث لا يحتمل منك الشيء أكثر من نظرة، وبحيث يبدو الحديث ~~مملا بعد جملة حواره الأولى، وأجمل الفتيات تكفيها التفاتة. مشغولية عظمى غير محددة أو ~~معروفة الأسباب، ولكنها قائمة وموجودة وذات أزيز. # وكان علي أن أكافح رغبتي في التطلع ودوامة المشغولية المبهمة التي تبتلعني ~~كالآخرين؛ كي أستخلص نفسي وأستمع للهاتف وأعود أتابع صاحب الوجه الشاحب الصامت ~~الرشيق. # | الفصل الثالث # كانت ساعتي قد بدأت تشير إلى السادسة، وكنت قد بدأت أميز خلال المسطحات البشرية ~~ذات الألف لون ولون والتي تنسدل كسجادة هائلة مزركشة فتغطي المدرجات دون أن تترك فجوة. ~~كنت قد بدأت أميز أبواب الدخول، والمكان المخصص لرئيس «الفييستا»؛ إذ لا بد لكل احتفال ~~من رئيس، وركن الفرقة الموسيقية، والمظلة التي تظلل نافخي الأبواق الثلاثة. والساعة كما ~~قلت كانت قد أشرفت على السادسة، ولم يحدث في «الأرينا» ولا داخل الحلقة المغطاة بالرمل ~~والمتناثرة فيها صناديق الإعلانات ما يدل على قرب البدء، ولكن جاري الإسباني الضخم الجثة ~~العالي الصوت وقد لمح دهشتي وحدثني بإسبانية لا أفهم منها إلا أن أرد بقولي: لا أفهم ~~الإسبانية. «نون كومبريندو إسبانيول». ولم يعقه هذا عن مواصلة الحديث وعن شرح ما يريد ms07 قوله ~~لي باستعمال لغة الأيدي والإشارات العالمية، وفهمت منه أن كل الساعات غير معتمدة، وأن ~~الساعة الوحيدة التي ستحدد الوقت هي ساعة «الأرينا» المطلة من برج عال منتصب في ~~جزء من محيط الدائرة. # وكانت هذه الأخيرة تشير إلى السادسة إلا أربع دقائق، واسترحت فأمامي بعض الوقت أستطيع أن ~~أوقن فيه مرة أخرى أني لست في حلم، وأن الظروف قد ظلت تتآمر علي حتى قادتني على الرغم ~~مني إلى مدريد، وأني الآن في أكبر ملعب لمصارعة الثيران في إسبانيا ومن ثم في العالم كله، ~~وأنه بعد أقل من خمس دقائق سيحدث أمام عيني ذلك الصراع الغريب الذي ألهب مخيلتي وأنا طفل ~~في قصة دماء ورمال، والذي غذى خيالي شابا وأنا أقرأ لهيمنجواي. الصراع الذي انفعلت به ~~قرائح فنانين وكتاب وشعراء ومخرجين. الصراع الذي صنعت منه مآس وأهوال، وفي خضمه هلك ~~أناس واستشهد أبطال، ونمت قصص حب. # وكان علي أن ألقي نظرة على صاحبي. هذه المرة وجدته قد أصبح فردا في طابور المصارعين ~~الثمانية الآخذين أماكنهم في الممر خلف «البيكادورز» (راكبي الخيل) في انتظار تحرك الموكب ~~الذي يبدأ به العرض، وكان قد وضع فوق رأسه قبعة الميتادورز المستعرضة السوداء، وخيل لي ~~أنها تبتلع جزءا كبيرا من رأسه الصغير وتخفي بعض وجهه. ولأمر ما تصادف أن رفع رأسه ~~وتصورت أن نظراتنا التقت، ولكني كنت أعلم أنه مجرد خيال؛ فمن موقفه البعيد هو قطعا ~~لا يرى نظراتي. إن ما أمامه مجرد نقط صغيرة سوداء تكون رءوسا لا تهمه معالمها بقدر ما ~~يهمه أن تصدر عنها بعد قليل ضجتها التي تدوي. أوليه، تحييه وتستحسن عمله. # ولم يكن في مشهده ومشهد زملائه السبعة المصطفين أي روعة مما تجسدها السينما ~~بألوانها وعالمها. كانت ملابسهم بديعة النقوش حقيقة تستوقف البصر، وتلمع زخارفها إذا ~~تحركوا وتومض، والجاكتة معلقة فوق الكتف اليمنى كوضعها التقليدي، والسراويل الضيقة حتى ~~تكاد تمنع الحركة، وكان هذا هو كل ما هنالك بلا تضخيم أو تهويل، بل هم بملابسهم أنظف وأجمل ~~ما في الموكب المنتظر؛ فالخيل ms08 التي يركبها البيكادورز عجفاء عجوز ودروعها مهلهلة، وحاملو ~~الأعلام أزياؤهم غير متشابهة كما يجب، وكما تظهر لنا العدسات التي ما أكثر ما تفتري على ~~الواقع وتقلب الفقر روعة، والدنيا بكل عيوبها وقصورها جنة. # ولكني في اللحظة التالية كان إحساس غامر - وكأنما ادخرته لهذه اللحظة - قد طغى علي ~~تماما. # وانتشيت به! الإحساس باللعبة. الإحساس أنك بسبيلك إلى أن تلهو وتختلس من وراء ظهر الزمن ~~ساعتين تشبع فيهما متعة ومرحا وانفعالا. # نفس الإحساس الذي يراود الطفل حين يلمح اللعبة التي اشتراها له أبوه تطل من حافة الحقيبة ~~أو اللفافة، ويتأكد تأكدا قاطعا من أن عينيه لم تخدعاه، وأنها فعلا لعبة جديدة ~~اشتريت خصوصا له. هذه اللحظة «ما بين الإحساس بأنه حالا سيلعب بها وبين تسليمها له وبدء ~~لعبة حقيقية بها»، نشوة كهذه غرقت مختارا فيها وأنا أقول لنفسي، لا فرق إلا أن هذه لعبة ~~أكبر بكثير ومضمونة أيضا، وإلا لما جاء كل هذا العدد من الناس ودفعوا آلاف الجنيهات ~~ليشاركوك في ممارستها، والأمتع أنها لعبة خطرة تحفها المفاجآت وتنخلع لها القلوب. # وحين شملت «الأرينا» تنهيدة عميقة وكأنما هي قادمة من تحت الأرض متصاعدة في شمول واتساع ~~لتغطي وجه السماء. أول عمل جماعي يقوم به المشاهدون معا، عمل أوقف مشغوليتهم. تنهيدة ~~كانت إيذانا بأن لم يبق على السادسة إلا أقل من دقيقة. # وفي ثوان كانت كل صناديق الدعاية قد أخرجت من الساحة، وسكتت الأصوات جميعا، وتحولت ~~ضجة المكان إلى فحيح، واتجهت الأنظار كلها في ترقب دافق إلى نافخي الأبواق. # ولم نسمع دقات الساعة؛ فقد طغت عليها أصوات النفير والرجال الثلاثة يبذلون أقصى قواهم، ~~ومع هذا لا تكاد أصوات أبواقهم تسمع في أنحاء «الأرينا» كلها، ولكنه كان قد أعطاها. ~~متهافتة حقيقة لا تدوي أو تصم الآذان، وتوقع الرهبة في النفوس، ولكنها وهذا هو المهم ~~إشارة البدء. # | الفصل الرابع # وعلى مصراعيه انفتح جزء من سور الدائرة الرملية المواجه للممر الذي يلاصقنا. انفتح على ~~هيئة باب. وبينما جزء الموكب الأمامي يدلف متأنيا إلى الساحة كنت بكل ms09 الشغف وحب الاستطلاع ~~والقلق العظيم على الصديق أختلس نظراتي الأخيرة إلى طابور الميتادورز، وإلى صديقي - الثاني ~~إلى اليمين في الصف الأول - والطابور صفان؛ أربعة من هنا، وأربعة من هناك، وبين كل ميتادور ~~وآخر مسافة. # ومن المقاعد في أقصى اليمين تبينت أصوات الفرقة الموسيقية تعزف المارش، والطبول تدق ~~والأنغام تهب علينا من بعيد باهتة المعالم مخنوقة بالحشرجة. وأبالغ إذا قلت إني دهشت؛ ~~فالواقع مرت الحركة ساعة حدوثها ببساطة، نفس البساطة التي حدثت بها حين رسم كل منهم في ~~آخر لحظة لوقوفه، اللحظة التي سيبدأ بعدها يتحرك، رسم كل منهم علامة الصليب على ~~صدره. # ولم يدهشني أني رأيت صديقي يفعل مثلهم مع أنه لم يكن من النظرات الأولى إليه شديد ~~التدين. أخذتها على أنها نوع من العادة الكاثوليكية لا أكثر، وكدت أقف من صاحبي في هذا ~~الأمر موقف المحايد لولا أني لمحت أنه لا يؤديها كعلامة أو كواجب، في وجهه بالذات - في ~~نصف وجهه الذي كنت أراه من مكاني - كان ثمة ابتهال حقيقي واضطراب، لا بد علت معه دقات ~~قلبه، وخيل لي أن لونه ازداد شحوبا. # ولكنها لمحة سريعة. كان أسرع منها ذلك القناع الذي انتشر فوق وجهه، وكسا مثلث ملامحه ~~الصغير بقشرة صخرية معتمة أخفت كل شيء حتى الشحوب، وما بقي ظاهرا كان قسوة مفاجئة مجهولة ~~المصدر، وفي اللحظة التالية كان يتحرك ليدخل «الأرينا». # ورغم أن الموكب كان يأخذ طريقه على رأسه البيكادورز (حاملي الحراب)، ووراءهما طابور ~~الميتادورز (المصارعين)، تتبعهم صفوف غارسي الأعلام (الباندريللوس)، وصبيان اللعبة ~~وعمالها. موكب حافل ملفت للنظر يستولي على اهتمام الجميع ويصفقون له، وهو يأخذ طريقه ~~إلى حيث منصة الرئاسة. ورغم انشغال الناس جميعا بالموكب كنت لا أزال أفكر في علامة ~~الصليب، ومن زاوية جديدة غيرت الموقف في نظري تماما. إن مجرد تسمية الشيء باللعبة - ~~حتى لو كانت اللعبة مصارعة ثيران أو وحوش - يعطيها في فهمنا لونا ما. معنى غير جدي جدية ~~تامة حتى لو كانت خطرة؛ فهي ليست سوى لعبة، واللعبة لا تقترن في تفكيرنا باللعب ms10 فقط، ولكن ~~أيضا بالهزل. ولسبب ما، هناك، فيما وراء كل ما كنت أراه من جدية وخطورة واستعدادات، كانت ~~فكرة أن المسألة كلها ليست بالوعورة والخطورة التي صوروها لنا في السينما والروايات، ولا ~~بد هناك من طرق متفق عليها ومتبعة للتقليل من خطورتها في الباطن مع إضفاء الرهبة عليها من ~~الخارج. # هذه الحركة التي لمحتها في آخر لحظة جعلت الشك يبدأ يتسرب إلي في اعتقادي، وجعلتني ~~أتساءل: أليس من المحتمل أن تكون المصارعة مصارعة حقيقية فعلا بلا أي عبث مما اعتقدته ~~أو اتفاق، وأن الناس جميعا يأخذونها جدا ما عداي؟ # تساؤل راحت الأحداث المتعاقبة تدعمه من ناحية وتنفيه من نواح، وظللت لا أجد البرهان ~~الدامغ الذي لا يقبل الشك، ولم أكن أعرف ما ينتظرني يومها. # | الفصل الخامس # بنفس الاستخفاف قابلت الخطبة القصيرة التي ألقاها قائد البيكادورز أو حاملي الحراب أمام ~~رئيس الفييستا (الاحتفال)، وكذلك كل ما تلا هذا من تسليم الرئيس للرجل مفتاح الباب المؤدي ~~إلى حظيرة الثيران والموجود على يسار المنصة، ثم تراجع الطابور إلى حيث احتل كل مشترك فيه ~~المركز الخاص به. المصارعون وقفوا خلف الحواجز الخشبية الواقية، والبيكادورز خارج الحلبة ~~عند بابهم، والصبية تناثروا على محيط الدائرة يحضرون العباءات وأعلام الغرس ~~(الباندريلالاز)، والحراب. # وسكتت الحركة في الحلبة، وكذلك خيم صمت الترقب على المدرجات و«الأرينا»، واضطر أي ~~متحدث أن يخفض صوته وأن يدفعه الصمت المتزايد إلى أن يكف عن الحديث ويسكت ~~تماما. # وكالمفاجأة المتوقعة تصاعدت أصوات النفير! وفتح باب الحظيرة واندفع إلى الحلبة كائن ~~أسود مدكوك القوام، ما إن رأى الساحة خاوية والناس حولها في احتشاد عظيم حتى توقف لبرهة، ~~لبرهة! إذ ما كاد يلوح أحد المصارعين بعباءته من آخر الحلبة حتى بدا وكأن الثور ركبه ألف ~~عفريت؛ إذ اندفع لا يجري، وإنما يثور أو يغلي أو ينفجر جاريا، كالصاعقة منقضا، كالقوة ~~الغاشمة العمياء، لا يقيم وزنا لشيء، وليس له إلا طريقة واحدة للتعبير عن قوة الحياة ~~المحشودة داخله في تضاغط هائل، إلا أن ينطح بقرنيه، وقرناه ليسا ms11 كقرني ثيراننا المستأنسة ~~بارزين إلى الجانبين، إنهما قرنان رفيعان كأسياخ الحديد بارزان إلى أمام على هيئة ~~مسمارين مستقيمين ممتدين في تواز، وهو لا ينطح بهما أو برأسه أو باستعمال عضلات رقبته؛ ~~إنه ينطح بكل جسده. يندفع ككتلة سوداء أسطوانية مدكوكة باللحم والعضلات إلى الأمام في سرعة ~~هائلة، وبكل جسده المندفع المحتشد يكتسح ما أمامه بقرنيه، ولا يهم أن يكون ما أمامه صخرا ~~أو حديدا أو إنسانا دقيقا حساسا بينه وبين هذه الحياة الشرسة الخرساء العمياء ملايين ~~السنين من التطور والترقي. # ولكن هكذا أرادها الإنسان؛ أن يواجه هذه القوة الغاشمة التي لا ترحم، ويحشد أمام العضلات ~~المزدحمة الرهيبة كل مزايا عقله الإنساني من ذكاء وقدرة على التصرف، وقدرة على الخبث ~~والخديعة أيضا، ولكن كما أن العضلات المحتشدة وحدها لا تقتل، الذي يقتل شيء أكثر بدائية ~~من العضلات هو القرون؛ فللثور قرونه، وعلى الإنسان هو الآخر أن يستعمل حين يبلغ الصراع أعلى ~~مراحله ويصبح لا بد أن يخلص أحدهما على الآخر، أن يستعين بآلة قتل؛ بسيف؛ ليصبح السيف في ~~يده والقرن في رأس الثور، والنصر لمن يبادر بالطعنة. # انطلق الثور هائجا كزوبعة حيوانية هبت على الدائرة الرملية، واندفعت تعصف بكل اتجاه ~~عصفا بعث الرعب في قلوب المشاهدين الذين تفصلهم عن الثور الهائج مسافات وحواجز، ولكن الغضب ~~الوحشي الذي كان يجتاح الثور ويوشك معه أن يحطم الأرض ويخرق السماء، ولا يبقي أو يذر ~~شيئا بينهما؛ حالة كانت الحواجز والمسافات فيها لا يمكن أن تؤدي إلى أي اطمئنان. # كتلة الحياة الهائجة السوداء تلك، المركزة المضغوطة في هذا الحجم الثوري المحدود، هذا ~~الجبار الطاغي الواثق بنفسه وقوته ثقة كقوته عمياء، لا يتردد معها أن يقتحم أية قوة ~~أمامه وأي كائن مهما كان. هذا المغرور الأحمق الذي يثير الرعب بكل خلجة من خلجاته، ولا شيء ~~على الإطلاق يدفعه هو إلى الرعب أو حتى الخوف أو التردد. # هذا المبعوث الداكن يمثل كل ما في الحياة من قوة وتعطش للعدوان والرغبة في التحطيم ~~والدم والتخريب. هذا الذي من ms12 فرط سرعته وتجبره لا يكاد يستقر في مكان، وينتقل من محيط ~~الحلقة إلى محيطها الآخر قبل أن تدرك أنه انتقل. هذا الموجود في كل مكان، الضيق بكل ~~مكان، المتحرك كالبرق كالضوء، كالوباء في كل اتجاه. حركة بلا هدف إلا الحركة نفسها، ورغبة ~~في التخريب والتحطيم بلا هدف إلا التحطيم ذاته، والتغلب على كل ما يقف في طريقه صديقا ~~كان أو عدوا بلا هدف أو حكمة إلا هدف التغلب ذاته. كتلة الحياة المركزة تركيز الجن في ~~القمقم، المنطلقة المتفجرة بلا غاية أو هدف، تجسد لنا ذلك المعنى الذي كثيرا ما تداولناه ~~حتى اعتدناه، تجسد لنا كلمة الوحش، وترينا السبب والدوافع التي حدت بأجدادنا الأول ~~أن يطلقوها على بعض أعدائهم من الحيوان. # هذه الظاهرة التي من فرط حيويتها تجعلك تؤمن أن الحياة ليست أرقى الجماد وأوجه، بقدر ما ~~هي شيء مرعب حقا، التي تجعلك تعيد تأمل سطح الأرض وما عليها، وتدرك أن الرعب شعور لا ~~تحسه إلا الكائنات الحية، وأيضا لا تثيره سوى هذه الكائنات نفسها، لا شيء في الطبيعة ~~يخيف إلا كائناتها الحية، ولا شيء يخيف إلا وهو أيضا يخاف. كلها ما عدا هذا الشيء الأسود ~~الحي الذي أعتقد أنهم اختاروه للعبة لأنه الوحيد بين الكائنات الذي يخيف ولا يخاف. # ولكنني وإن كنت قد ظللت أتابع بانتباه طاغ حركة الثور وحركة مصارعيه، إلا أنني لم ~~أستطع من أول مرة أن أفهم. كنت أعتقد أن واحدا هو الذي عليه أن يصارع الثور من أول دقيقة ~~إلى أن يصرعه، وإذا بالموضوع أكثر تعقيدا وله هو الآخر قواعده وأصوله ونظامه. # فهذا التلويح الأول بالعباءة للثور، ذلك الذي يجعله يتفجر جريا وبحثا عما يمزقه ~~بقرنيه، في تلك المرحلة يراقب المصارع خصمه ليعرف كيف يجري والسرعة التي يتوقف بها ~~ويستدير، ومبلغ شجاعته، ومقياس الشجاعة أن لا يتردد الثور في مهاجمة كل ما يعترضه. # ثم تبدأ المرحلة الثانية مرحلة الفرس أو «سيوريت دي فاراس»، حيث ينفخ في النفير ويدخل ~~راكبا الخيل «البيكادورز»، وحين يلمحهما الثور يندفع بلا ms13 تردد لمهاجمة أقرب الحصانين، ~~وتبلغ قوته حينئذ حد أن يستطيع رفع الحصان وراكبه وإلقاءه خارج الحلقة. وحين يندفع ~~لمهاجمة الحصان ينتهز الفارس الفرصة ويغرس في كتف الثور حربة سميكة تصنع جرحا غائرا ~~ينزف منه الدم، والغرض من إحداث الجرح هو إضعاف الثور والحد من قدرته الهائلة على المهاجمة ~~والحركة. # بعد هذا تبدأ مرحلة الباندريللاس أو الأعلام، حيث يقوم الباندريلوس أو غارس الأعلام برشق ~~ثلاثة أزواج من الأعلام في ظهر الثور. مهمة لا تقل خطورة عن مصارعة الثور نفسها! فعلى ~~الراشق أن يستفز الثور إلى درجة يقبل عليه بسرعة هائلة، وفي نفس اللحظة التي يتحرك ~~فيها الثور مهاجما ينطلق الفارس مسرعا على نفس الخط القادم منه الثور. وفي الومضة ~~الأخيرة وهما يوشكان أن يلتقيا وتوشك قرون الثور على اختراق جسد الرجل، في آخر لحظة ينحرف ~~الفارس بساقيه فقط عن الخط، بينما يظل نصفه الأعلى ويداه الممسكتان بالعلمين في نفس ~~الاتجاه بحيث حين يمر الثور يرشق الفارس علميه، وبعد هذا تبدأ مرحلة الصراع أو الميوليتا ~~وهي المرحلة التي يحاور فيها المصارع الثور باستعمال العباءة الحمراء، وفيها أيضا يمتاز ~~المصارع على المصارع؛ إذ هي المرحلة التي تتبدى فيها ألوان وأشكال من الحيل ~~والطرق. # وتنتهي تلك المرحلة حين يكون الصراع قد هد كيان الثور إلى حد بعيد، بحيث لم يعد ~~يهاجم من تلقاء نفسه، ولا بد من استفزازه كثيرا لدفعه للهجوم. حينئذ يستبدل المصارع ~~العباءة بأخرى داكنة في لون الدم، ويستبدل العصاة المعدنية بسيف، ويستعمل السيف وسيلة ~~لفرد العباءة في سلسلة محاورات أخرى ومداورات، إلى أن يحين الحين، وبنفس الطريقة التي يغرس ~~بها الباندريلوس علمه، يغرز بها المصارع سيفه إلى المقبض في الجزء المقابل للقلب من ظهر ~~الثور، كل ما في الأمر أن الغرس يتم والثور شبه واقف، ولكن خطورتها على المصارع أن يستعمل ~~يدا واحدة للطعن، بينما الأخرى تمسك بالعباءة، وأنه يضطر للاقتراب كثيرا من جسد الثور ~~بحيث إن أي خطأ صغير في حساب المسافة يجعل منه غنيمة سهلة للقرون التي طال تعطشها ms14 إلى ~~الفتك . # | الفصل السادس # وهكذا لم أفق من استغراقي في الانتباه ومحاولة التفهم إلا على الميتادور الأول وهو ~~يستفز الثور الذي كان قد تبلد وفقد الكثير من طاقته على الحركة والمهاجمة. الثور الذي نزف ~~كمية هائلة من الدم، وأنهكه الجري المجنون المتواصل، وأصبح يلهث بصوت يبلغ ارتفاعه أنه ~~كان يصلنا ونحن في أماكننا بالمدرجات بعيدا عن الساحة. # الثور الذي أصبح مهما لوح أمامه بالعباءة الحمراء لا يأبه كثيرا لها، وبرغم تعبه كان ~~الجبار لا يقوى على كبت رغبته المجنونة في الاستجابة للتلويح الأحمر، فما تكاد تتكون ~~لديه أول دفعة قوة وأول قدرة على الحركة، حتى ينطلق مهاجما ويعاود الكرة بضع مرات يكون ~~قد استنفد خلالها دفعة طاقته، فيعود يرغم على الوقوف. هذه الفترة عرفت فيما بعد أنها ~~أنسب وقت «لقتل» الثور وهو في وهنه، وقبل أن يستريح بدرجة تكفي ليعاود الهجوم مرة ~~أخرى. # وهكذا ظل الميتادور الأول يستفز الثور للحركة حتى تحرك وأقبل ناحية العباءة بأقصى ما ~~في قدرته من سرعة، ورغم أني رأيت كل شيء إلا أني لم أدر ما حدث بدقة، ولا يكفي أن ترى لكي ~~تدرك! أقبل الثور مسرعا وحدثت بضعة أشياء في وقت واحد؛ أبعد الميتادور العباءة وتنحى ~~عن طريق القرون والرأس بنصفه الأسفل، ومن سرعة الحركة وخفتها لم ألمح السيف وهو يغمد، ~~وحين انتهت الحركة رأيت مقبضه فقط هو البادي منه إلى يسار السلسلة الفقرية. # ويا للبساطة! ما كادت تمضي ثانية واحدة حتى وجدت الثور كالحائط القديم المائل يسقط هكذا ~~فجأة وكأنه ممثل مسرح يؤدي دور الموت، وتحسبه لا يجيد التمثيل للسرعة التي يسقط بها ~~نفسه ويموت. حقيقة وواقع يحدثان أمامك ولا تكاد تملك القدرة على تصديقها. لا يمكنك أبدا أن ~~تصدق أن نفس هذا الكائن الذي كان يثير بحركته وجبروته الرعب حتى في الهواء وذرات الحصى، ~~يرقد بعد أقل من عشر دقائق في نفس الساحة التي كان يحيلها بركانا من الحياة والحركة جثة ~~يعف عليها الذباب. نفس الجسد بنفس العضلات والقرون، بنفس القدرة والطاقة ms15 وقد أصبح فاقدا كل ~~القدرة وانتهت حركته إلى الأبد. ولماذا؟ لأن قطعة معدن صغيرة دخلت جوفه فاختل نظام ~~الحياة داخله وتوقف. أجل نظام الحياة. إنه لشيء مضحك حقا أن تعرف أن تلك الطاقة الحيوية ~~الهائلة التي كانت تبدو على هيئة فوضى كاملة تريد أن تعيث فسادا في كل شيء، وتخل نظام كل ~~شيء، وتحيل كل شيء إلى مزق. هذه الطاقة الحيوية المتفجرة لتشيع الفوضى في كل ما حولها ~~مصدرها نظام بالغ الروعة دقيق، لولاه ما استطاع أن يحرك ذيلا أو ينش ذبابا أو يأخذ ~~شهيقا، نظام يكفي أن تخدشه بقطعة معدن أو دبوس لكي - من شدة إتقانه - يختل وينتهي ~~كنظام حياة ليبدأ يعمل فيه نظام آخر. نظام الموت والتحلل والفناء. # ولا بد أننا نكره هذا النظام الآخر - نظام الموت - إلى درجة مقيتة، إلى درجة أننا نأسى لو ~~حل حتى بأعدائنا؛ فما تمنيت شيئا وأنا أرى الثور يعصف هادرا ممزقا غارسا قرنيه ~~بوحشية في كل شيء. ما تمنيت أكثر من أن ينجح الميتادور في الإجهاز عليه ويريحنا ويريح ~~الدنيا منه، ولكن، ولكنني حين رأيت السيف مغمدا إلى حد مقبضه في صدر الثور، ثم رأيته على ~~أثر الطعنة المصوبة بخبرة ودقة وشجاعة يسقط ميتا رافعا ساقيه؛ شعرت رغما عني - ولماذا ~~أختار هذا الشعور لأقول رغما عني؟ ومشاعرنا دائما لا تتحرك بإرادتنا وإنما رغما عنا - ~~شعرت بأسى، وأحسست أنا الواحد من الثلاثين ألفا الذين كان يشيع في قلوبهم الرعب من ~~دقائق، أحسست أني أشفق عليه شفقة حقيقية صادقة، وأنه صعب علي. وليس في قدرتي أن أجد ~~لهذا أوهى تفسير، فليفسره علماء النفس إذا استطاعوا. وحتى لم أتبين بالضبط من ~~الميتادور الذي كان يصارعه والذي قتله؛ فكلهم يرتدون نفس الزي ولهم تقريبا نفس القامة. لم ~~أعرفه إلا حين تهاوى الثور وسط حلقة الميتادورات التي تلتف حوله في تلك اللحظات وكأنما ~~تحاصره حتى تتأكد من خمود أنفاسه مخافة أن يقدم في لحظة الموت واليأس الأخيرة على قتل ~~الميتادور الذي صرعه. من وسط هذه الحلقة وجدت ms16 واحدا منهم يتلفت وينحني ردا على تصفيق ~~الجماهير الذي تعالى، ثم حين تأتي الأحصنة الأربعة المخصصة لجر الثور الميت وتخرجه من ~~الحلقة مشيعا بالتصفيق الشديد والهتاف، وإخراج المناديل والتلويح بها علامة الاستحسان ~~الكبير للطريقة والشجاعة والشرف التي تمت بها المصارعة، وللميتة المتقنة التي صرع بها ~~الثور بغير عذاب أو ألم. حين حدث هذا وجدت الميتادور يدور حول الحلقة يرد على تحيات ~~الجمهور، وخلفه اثنان من زملائه يجمعان الزهور والسيجار والسجائر والشيكولاتة التي تلقى له ~~إعجابا وتقديرا. # وظل الميتادور يجري بضعة أمتار ويتوقف ليتلقى تحية الجزء المقابل من محيط الدائرة، ثم ~~يعود يجري بضعة أمتار ليختصر الزمن ويتلقى تحية الجزء التالي، حتى وصل إلى ذلك الجزء من ~~الدائرة الرملية الذي يواجه مقاعدنا. وحين رفع رأسه بعد انحناءة التحية لم أكد أصدق ~~عيني؛ كان هو بعينه صديقي الذي منذ أن تاه عني مع الميتادورات في الساحة والقلق يجتاحني في ~~صمت من أجله. ودون أن أحس وجدت نفسي أصفق بحماس زائد وكأني ألقاه بعد غيبة طويلة في ~~أدغال خطرة مجهولة، وأتمنى لو كان باستطاعتي أن أقفز إليه وأعانقه وأضمه - ذلك الابن ~~الضال - إلى صدري، وأتأكد بنفسي أنه حقيقة خرج سليما ومعافى، قبل أن ينفجر إحساسي ~~بخيلاء الأب لأنه لم يخرج معافى فقط، وإنما خرج بطلا أيضا. # وما كان أروعه وأنا أسمعه يلقي إلى الميتادور خلفه بأمر هامس ولكن في لهجة حاسمة، لهجة ~~قائد لا يزال بريق انتصاره يخطف البصر! كان وجهه القمحي قد ابيض تماما، ولكن الأمر يختلط ~~عليك هذه المرة، وتمنع نفسك أن تجزم إن كان هذا البياض شحوبا شديدا سببه تعاظم الرهبة أم ~~تعاظم الفرحة، أم الاثنان معا. # وألقى جاري الإسباني إلى الساحة - خلافا للقانون - بالمخدة الجلدية التي تستأجر بقروش ~~لتلين من صلابة الأسمنت المسلح، وانتزعت جارتي عقدا من الفل كان حول رقبتها وقبلته ~~وألقته إلى الساحة، ومن بين مئات الأشياء التي ألقيت إليه والتي كان يترك مهمة جمعها ~~لمساعديه وجدته يلحظ صاحبة العقد الفل، وبعد أن كان قد استدار ليكمل ms17 الدورة وقف وانحنى ~~والتقط الأزهار والجزء الذي انفرط منها وقبلها، ورفع يده مشيرا بها إلى الفتاة. وهاج ~~الجمهور في المدرجات وخاصة في ذلك الجزء الذي يجاورنا، وانطلقت صفافير وصيحات هتاف ~~واستحسان، بينما الأبصار كلها مضت تحاول أن تشق طريقها بصعوبة بين الأجساد. مئات الأجساد ~~المتشابهة المتلاصقة لتستطيع أن تميز الفتاة التي اختارها الميتادور ليرد ~~تحيتها. # وكنت أسعد الجميع حظا وليس علي لكي أراها إلا أن ألتفت. # والتفت. # كانت الفتاة قد تجمدت في مكانها تماما حتى خيل إلي أنها كفت عن التنفس، ~~وبعدما أرسل قلبها كل ما استطاع إرساله من الدم إلى وجهها حتى كادت خدودها تنزف من تلقاء ~~نفسها، توقف عن النبض. وكانت عيناها تنظران إلى أسفل مفتوحتين، ولكن، وكأن غطاء ~~داخليا أغلقهما، وسد أذنيها، وقطع كل صلة بين حواسها وبين هدير البحر البشري الصاخب ~~المحيط بها. # وكنت أعتقد أنها مفاجأة لن تلبث أن تزول، ولكن، حتى بعد أن انتهى الميتادور من تلقي ~~التحيات وغادر الساحة، حتى بعد أن انتهت نظرات الاستطلاع الثانية التي تريد أن تعيد ~~تفحصها، حتى بعد أن كاد الناس ينسون الواقعة ويندمجون في المصارعة التالية التي كانت قد ~~بدأت، ظلت هي بنفس وضعها ولونها وتوقفت حركتها كأن الحادثة قد حنطتها على آخر وضع ~~كانت فيه، وهبطت عليها فترينة زجاجية عزلتها عن الدنيا. # أما جاري الإسباني الآخر فقد كان يبرطم ويحادث جيرانه ويحتج، ولم أعرف ما الذي كان ~~يثيره، ولكني استطعت أن أخمن أن الطريقة التي تم بها تبادل الإعجاب لم تخضع تماما ~~للقواعد والأصول، وما لبث أن أخرج كتاب مصارعة الثيران وراح يقرأ، وتولى ترجمته سائح ~~أمريكي لا أعرف ما الذي جعله يجيد الإسبانية إلا أن يكون إسباني الجدود. راح جاري يقول ~~بصوته الجهوري المزعج: لا يصح للميتادور أن يبدي إعجابه بهذه الطريقة. إن له الحق فقط في ~~إهداء عملية قتله للثور إلى الحسناء التي يختارها، ولكن هذا لا يصح إلا بعد مرحلة الميوليتا ~~حين تحين لحظة القتل؛ إذ له حينئذ - وأخذ يقرأ من الكتاب - أن ms18 يقف في مواجهة السيدة، ويرفع ~~قبضته بالتحية، ثم يستدير إلى الثور ويبدأ عمله. # ولكن إسبانيا آخر تصدى له باعتراض، وبدأ نقاش فني على مستوى عال لم يلبث أن ~~أخمد، ليعود يظهر على هيئة همس متقطع مصر، حين دخل الثور الثاني إلى الحلبة. # وعجبت حين صدر من الجمهور على أثر دخوله مواء. قطع الجار المناقشة ليفسر لنا سببه؛ إذ ~~يبدو أن الجمهور استصغر سن الثور وحجمه. إن أصول اللعبة تحتم أن يكون الثور - «التورو» ~~بالإسبانية (ومنها ترى أنها قريبة جدا من الاسم العربي، بل إن الإسبان أنفسهم يقولون إن ~~العرب هم الذين ابتكروا مصارعة الثيران وعنهم أخذها الإسبان، وهم أيضا الذين وضعوا لها ~~تقاليدها الأول وأصولها، ولا تزال بعض التعبيرات العربية باقية إلى الآن مثل «أوليه»، وهي ~~نفس كلمة الله التي نقولها دهشة أو إعجابا) - تحتم أن يكون الثور من سلالة الثيران ~~المتوحشة المسماة «أورو»، حيث يختار أفرادها بعناية، ويقدم لها غذاء خاص وتربى من ~~أجل المصارعة فقط، ويجب ألا يقل عمر الثور منها عن خمسة أعوام. وقد بدا ذلك الثور الذي ~~دخل أقل من ذلك، أو أنه ليس بالقوة المطلوبة، ومن هنا جاء مواء الاحتجاج. ولكن الثور ~~نفسه ما لبث أن تولى الرد على كل هذه الاعتراضات، فما إن رأى تلويحة «الكابا» الحمراء من ~~بعيد حتى انقلب إلى زوبعة وحشية أسكتت كل الأصوات. # وهذه المرة حين دخل الفارس ووجه الطعنة إلى الثور المشغول بدفع قرونه في بطن الحصان، ~~ماء الجمهور مرة أخرى اعتقادا منه أن الطعنة طالت، وأن في هذا إضعافا للثور أكثر من ~~اللازم، والجمهور أبدا لا يريد هذا. إن الجمهور في مصارعة الثيران ليس مجرد متفرج على ~~اللعبة. إن هناك رئيسا للفييستا أو الاحتفال يتولى الحكم والفصل، ولكن الجمهور دائما ~~يتدخل، أولا مع الثور يحتج إذا كان ضعيفا، وأحيانا يمضي في احتجاجه مطالبا بتغيير ~~الثور بأقوى منه. إنه يريد أن يظفر بأقصى متعة، وهو لا يفرق حينئذ بين الطرف الإنساني أو ~~الحيواني في هذه اللعبة. كل ما يهمه ms19 أن يكون الطرفان قويين، وأن يكونا أيضا متعادلي ~~القوة بحيث لا يحظى أحدهما بانتصار سهل على الآخر، وبحيث تطول المعركة وتصعب، وبحيث يحشد ~~كل طرف لها أقصى ما لديه من طاقة وفن. ومصارعة الثيران قد تبدو للأجنبي لعبة يقتل فيها ~~الرجل الثور، أو تحدث الكارثة ويقتل الثور الرجل، ولكن الجمهور الإسباني لا يأخذها هكذا ~~أبدا، إنها عنده مباراة بكل ما تملكه الكلمة من معنى. مباراة بين القوة الحيوانية الوحشية ~~الغاشمة من ناحية، والذكاء الإنساني والرشاقة وسرعة الإدراك والفطنة وسعة الحيلة من ناحية ~~أخرى. مباراة بين شجاعة الحيوان اللاواعية وشجاعة الإنسان الواعية. مباراة بين الحياة في ~~بدائيتها القوية وبينها في رقيها الذي أضعف قدرتها العضلية وقوى قدراتها العقلية، باختصار ~~مباراة بين العضل والعقل. # ولهذا فعلى عكس ما نتصور مصارعي الثيران هم ليسوا ضخام الأجسام أو رياضيي القوام. إن كل ~~المطلوب من أجسادهم أن تكون سريعة الحركة سريعة الاستجابة لإشارات العقل؛ ولهذا تجد معظمهم ~~نحيفا هشا يبدو كالشاعر أو عازف البيانو، رقيقا كالنسمة، ولكنه لا بد أن يكون شجاعا. ~~والشجاعة كلمة لا يمكن تحديد معناها بسهولة. إن الشجاعة لدى الثيران أن لا تتردد في ~~مهاجمة كل ما يقع تحت بصرها، سواء أكانت ندا له أم لم تكن، سواء أقضى عليها أم قضت عليه، ~~وتلك هي الشجاعة العمياء اللاواعية. الشجاعة الجاهلة. شجاعة الإنسان، والميتادور بالذات من ~~نوع آخر؛ فهو يخاف الثور مثلما يخافه أي متفرج، بل ربما أكثر، ولكنه مطلوب منه ألا يجعل ~~هذا الخوف يتحكم فيه! المطلوب أن يتحكم هو في الخوف بحيث يستغله كمولد للإرادة ~~والذكاء والقدرة على التصرف، بحيث يستعمله ليشحذ كل حواسه ويحيل جسده إلى مركز راداري ~~حساس باستطاعته أن يلتقط أوهى البوادر ويتصرف تجاهها أسلم التصرفات. فالخطورة في مصارعة ~~الثيران تأتي مثلا من تأخر في تلقي بادرة، أو تلقيها في وقت مناسب، ولكن الرد عليها رد ~~ليس هو المطلوب. إن أي خطأ تافه في هذه الحالة قد يؤدي إلى مصرعه. إنها امتحان خطير ~~للانتباه والقدرة على وزن الاحتمالات ms20 بميزان دقيق ، وموهبة اختيار أفضلها. # والناس لا يولدون هكذا. إن هذه الخصال لا بد لها من تدريب شاق طويل، ومع هذا فهو ~~تدريب لا نهاية له ولا يمكن أن تصل فيه إلى درجة تصبح بعدها في أمان مطلق؛ فالمصارعة سلسلة ~~مواقف يدركها المصارع ويتصرف إزاءها، والتدريب الطويل لا يفعل أكثر من أن ينمي لدى ~~المصارع القدرة على ضبط أعصابه مثلا أمام الموقف، وعلى إدراك نوعه، وعلى السرعة في إيجاد ~~الحل. إن التدريب لا ينمي سوى القواعد العامة، أما حلول كل موقف والتصرف إزاءه ~~ببراعة، فصحيح أن التدريب الطويل يجعلك تلم بالكثير منها، ولكن المواقف في المصارعة نادرا ~~ما تتشابه، بحيث إنك في كل جزء من الثانية تجد نفسك في موقف جديد لا بد أن تحله حلا ~~جديدا نابعا من الموقف ذاته؛ لهذا فالمصارع يظل مهما بلغت شهرته وصيته محل اختبار في كل ~~مرة تحتويه الساحة مع ثور. اختبار هو معرض فيه للفشل أو النجاح كما لو كان مبتدئا؛ ولهذا ~~أيضا لا يوجد «كبير» في الميتادورات، كلهم صغار! واللحظة التي يكبر فيها أحدهم هي فقط ~~اللحظة التي ينتصر فيها على هذا الثور أو ذاك، لحظة ينتهي كبره بانتهائها. حتى إذا ما دخل ~~مباراة ثانية دخلها صغيرا من جديد، احتمالات نجاحه تتساوى مع احتمالات فشله! ولا بد له - ~~مثله مثل الداخل للمرة الأولى - أن يتوقف قبل أن يدخل الساحة ويرسم - مبتهلا - علامة ~~الصليب. # | الفصل السابع # ارتفع المواء يلعن الفارس الذي كان لا يزال يدفع حربته أكثر وأكثر داخل ظهر الثور ويطالب ~~بإنهاء عملية الطعن حتى لا تقل قوة الثور عما هي عليه كثيرا، وحتى يظل كامل السرعة ~~والهياج؛ فكلما ظل هكذا أصبحت مهمة الميتادور شاقة، وتطلب الأمر منه أن يعتصر نفسه ~~ليستخرج آخر قطرات فنه وقدراته. # وإحساس غريب ذلك الذي يتملك الجمهور في تلك اللحظات القصار التي تبدو طويلة كالساعات، ~~اللحظات التي يستغرق فيها الثور في نطح الحصان، والتي في أثنائها يغرس الفارس وبكل قواه ~~الحربة في ظهره. لحظات لا يسكت فيها ms21 الجمهور أبدا وكذلك لا يصدر ضجة، ولكن من بينه، ومن ~~أفواه مجهولة وكأنما ليست أفواهه تظل تصدر طوال تلك اللحظات أصوات مكتومة فيها قلق وفيها ~~ألم وفيها معاناة، فيها إحساس بالرفض وصرخات استغاثة لا تنبعث. بينما الأجساد جميعها وبلا ~~استثناء تتململ وتتحرك في أمكنتها ضيقا ونفاد صبر. وبينا سيدات كثيرات يشحن بوجوههن ~~بعيدا عن المشهد، تشترك عيون بقية السيدات مع الرجال في صب نظرات حنق وضيق واحتقار فوق ~~الفارس الطاعن، ولا تنتهي هذه النظرات أو معانيها حتى بعد أن يكف الرجل عن فعلته، بل تظل ~~الأصوات بلغتها المبهمة المكتومة تزجره وتطلب منه بكل ما تملك من اشمئزاز أن يغادر الدائرة ~~الرملية إلى خارج الحلقة، مشيعا بكل ما تملك النظرات من استهجان. والرجل لا ذنب له، إنه ~~كممثل دور الشرير في الرواية الذي يتحمل بلا جريرة وزر دوره، ودوره في المباراة لا يحسد ~~عليه! ففي مهرجان البطولة هذا، بطولة الثيران وشجاعتها من ناحية، وبطولة الميتادورات وهي ~~تقاتل الثيران وتحاربها وتحاورها وتصرعها من ناحية أخرى، يقتصر دوره هو على الاختباء داخل ~~دروعه والتحصن فوق حصانه، وطعن الثور والإصرار على طعنه حتى تنهد قواه. # ومع هذا فهو يظل بعد خروجه يقطع الممر الفاصل بين الساحة والجمهور والحربة في يمناه، ~~وقبعته الخطيرة فوق رأسه، بينما هو جالس في عظمة فوق سرج الحصان المنطوح العجوز (حثالة ~~الأحصنة التي تختار لهذه المهمة؛ حتى إذا ما نفقت لا تكون الخسارة فيها جسيمة). يقطع الممر ~~في عظمة دونها عظمة نابليون، ونظراته التي يواجه بها نظرات الجمهور في تحد وشموخ تدل ~~على أن رأيه في دوره يختلف تماما عن رأي الناس فيه، معتقدا لا بد أنه المتباري الأساسي، ~~وهو أول من يأخذ «حموة الموسى»، ويلتقي بالثور وهو في عنفوان قواه، معرضا نفسه رغم كل ~~دروعه لأخطار جمة. كم يبدو شبهه في نظراته وتصوراته تلك قريبا - وبالذات ونحن في إسبانيا ~~- من الخالد الذكر الدون كيشوت أو كيخوت كما ينطقونها هناك! # هذا الإحساس الغريب الذي يتملك الجمهور ساعة الطعن ليس تافه ms22 المضمون أبدا ؛ إذ كيف ~~يتململ الجمهور ويحتج لطعن ثور هائج كان يلقي الرعب في قلبه، وكان يتمنى منذ اللحظات لو ~~تتفتح الأرض عن قوة تستطيع مواجهته وكبح جماحه؟ إن معناه هنا أن الغاية في نظر الجمهور لا ~~تبرر الوسيلة، وأن يحتمي فارس بالدروع ليطعن الثور المتوحش القاتل في ظهره وسيلة ليست ~~شريفة من وسائل الحرب، والوسيلة في الحرب - في أي حرب - لا تقل أهميتها ومعناها عن الهدف ~~من الحرب نفسها. إنه احتجاج ضد الخداع والجبن! إن للجمهور دورا آخر في المباراة، دورا ~~مهما؛ أن يحافظ على «القيم» ويحرسها. ليس مهما في نظره لمن يكون النصر، المهم دائما ~~وأولا كيف يأتي الانتصار. # والدليل هو ما حدث لهذا الثور نفسه حين مضت أدوار المصارعة التي وضح من خلالها أن ~~الميتادور ليس بذي باع طويل في اللعبة. وحين جاءت اللحظة التي عليه أن يصرع الثور فيها، ~~وصوب إليه الطعنة الأولى، لم يغمد السيف إلى آخره؛ ومعنى هذا أنه لم يحسن تقدير المسافة، ~~أو صوب الطعنة وهو أبعد مما يجب خوفا على نفسه. وقابل الجمهور فشله الأول بالصمت ~~مؤثرا أن يعطيه فرصة أخرى، وكان عليه أن يستخرج السيف من مكانه بواسطة سيف آخر له خطاف في ~~نهايته ويعيد الكرة. وهذه المرة أيضا لم ينفذ إلى الصدر سوى نصف السيف، وبقي نصفه الآخر ~~مع المقبض خارجا. وماء الجمهور ولكنه آثر أيضا أن يطيل في صبره. وطعن الميتادور الطعنة ~~الثالثة، وغاص السيف هذه المرة إلى المقبض، وخرج الميتادورات يحيطون بالثور على هيئة حلقة ~~في انتظار سقوطه وموته، ولكنه لم يسقط إذ يبدو أن الطعنة وإن كانت قد اخترقت الصدر إلا أنها ~~لم تصب القلب أو أحد الأوعية الكبرى. وبدلا من هذا انطلق الثور فجأة مهاجما مندفعا في ~~كل اتجاه، باحثا عما يصوب إليه قرنيه ويطعنه. # واهتزت «الأرينا» بتصفيق حاد، وعمتها موجة من الحماس الشديد للثور الذي رفض بإصرار ~~أن يموت. وحاول الميتادور أن يستخرج السيف الغائب إلى المقبض ليعود يطعنه، ولكن محاولته ~~قوبلت بمواء مستنكر عريض ms23، وصيحات غضب ، وصفير، جعلته يعدل عنها؛ إذ الجمهور حارس القيم ~~وحاميها، لم يعد يهمه أن يصرع الميتادور الثور بطريقة فنية، أصبح المهم لديه أن الثور ~~لا بد سيتألم ألما شديدا نتيجة للطعنات الثلاث الفاشلة، وليس من العدل أن يظل بطل كهذا ~~يتألم، ولا بد من إراحته فورا وتخليصه من ألمه. بمعنى آخر كان على الميتادور أن يقتل ~~الثور في الحال باستعمال طريقة «الديسكابيلو»، وذلك بطعنه في رقبته بسيف خاص، أو ببساطة أشد ~~بذبحه، ولكنه ذبح بلا تكتيف أو اشتراك أحد، ذبحه وهو حي واقف شديد الخطر. وتتم العملية بأن ~~يفرد الميتادور عباءته الحمراء فوق الأرض كي ينجذب إليها بصر الثور وانتباهه، ويستغل ~~المصارع انشغال الثور بمهاجمتها ليصوب إلى رقبته طعناته بواسطة السيف الخاص، وهي عملية ~~بشعة ما في ذلك شك، أكثر بشاعة من عملية الطعن التي يقوم بها الميتادور، والتي تثير ~~تقزز الجمهور. فهنا لا يعود الأمر مباراة بين طرفين لكل منهما مؤهلات قوى مختلفة، ~~هنا الأمر عملية قتل واضحة، الثور فيها منهك خائر القوى مطعون في صدره وظهره ينزف ويلهث، ~~ولكن مع هذا لم يتنازل عن جرأته وإصراره على الحرب والمهاجمة والاستجابة لكل ما يثيره حتى ~~وهو في أتعس حالاته؛ ولهذا فهو ينقض على العباءة مركزا فيها همه، بينما من وراء ظهره ~~وبالخديعة يذبح ذبحا لا فن فيه ولا مهارة إلا مهارة الجزر والجزارين. # عملية قتل تجعل الجماهير تفيق وتختفي من أمامها العناوين البراقة والحجب وكل ما يجعل ~~من مصارعة الثيران رياضة تجذب وتثير الانفعال، ويبدو الأمر في النهاية على حقيقته العارية ~~البشعة. إنه ليس سوى عملية قتل، الإنسان فيها هو الذي يتولى ذبح الثور، ويفعل هذا على ~~مشهد من ثلاثين ألف متفرج. عملية ترعاها الدولة وتنظمها وتدعو لها في كل أنحاء العالم ~~ليأتي السياح آلافا وأفواجا وينفقوا الإسترليني والدولار، وتمتلئ خزائن البنوك الخاوية، ~~وفي إسبانيا بنوك كثيرة أكثر من البنوك في أي مكان آخر من العالم، ومع هذا فهي على حسب ~~إحصاءات هيئة الأمم المتحدة أفقر بلاد أوروبا ms24. آلاف السياح وملايين الإسترليني والدولارات ~~التي تضل لأمر ما طريقها إلى جيوب الفقراء، وتتكدس في خزائن البنوك ولدى أصحاب البنوك ~~وزبائنها وروادها، ويحدث هذا كله بثمن أن يقوم إنسان يرتدي ملابس مزركشة وسط ضجة ومهرجان ~~واحتفال وموسيقى بذبح ثور وإسالة دمائه، ذبحا مؤلما أشد الألم يتأوه له الرجال ويكاد ~~يغمى على النساء! الشاب الذي كان يجلس أمامي أخفى رأسه كالطفل المذعور بين ركبتيه، ~~والإسباني جاري انهمك في مسح عرقه الذي مضى ينزف بغزارة، وجارتي الحسناء أخرجها المشهد من ~~كل تصلبها الخجل وجمودها، ومن الحمرة القانية شحب وجهها حتى أصبح في صفرة العلم ~~الإسباني. وبدأت أسنانها تصطك، بينا سيدة سمينة أمامي بصفين مضت تحملق في المشهد وهي في ~~حالة استسلام كامل. بدا هذا واضحا من طريقة مضغها للبانة حيث لم تتوقف عن المضغ، وكلما ~~وجهت الطعنة إلى الثور ونخ بنصفه الأمامي ألما، وتفجر الدم يبلل الرمال ويصنع ~~منها طين الدم البني، ويلوث بعضه ملابس الميتادور الأنيقة، أطالت الفترة بين مضغة اللبانة ~~والمضغة التالية، وبينما سيد مهذب جدا في نفس صفها يبتسم وعيناه لا تتحولان عن ~~المشهد، وبالأصح كانت ملامحه قد توقفت على هيئة وجه مبتسم استغرقته المشاهدة وشغلته إلى ~~درجة لم يجد لديه وقتا أو بالا لمجرد تغيير ملامحه. # مشهد لا يحرك إلا الألم البشع! يحركه استنكارا وضيقا واحتجاجا عند أناس، وعند أناس ~~آخرين يحرك المتعة بالألم. أدنأ الأحاسيس وأكثرها خسة وشذوذا. ذلك الاستعذاب للألم ~~والرغبة في إطالته والاستزادة منه، وكل هذا بنقود كثيرة وبدعاية واحتفالات وتهليل، والشهيد ~~في النهاية ثور، ذلك الثور مثلا، ذلك الذي لم يلبث تحت وقع الطعنات الكثيرة أن ارتمى على ~~الأرض مجهدا وحسبوا أنه مات، ولكنه ما لبث أن وقف مرة أخرى وكأنه بسبعة أرواح، وحاصروه ~~وبدأ الميتادور يلوح بعباءته استعدادا لجولة طعن أخرى. وبدأ الجمهور يتأوه مقدما ~~وبصوت عال مسموع، ولكن الثور لم يلبث أن تهاوى على جانبه لآخر مرة، وبقي في مكانه صريعا ~~لا يتحرك. # | الفصل الثامن # ومن ساحة صامتة كئيبة مليئة بالخزي والتقزز ms25 والندم والاشمئزاز ، وكأنما الجميع حتى ~~المشاهدين قد ساهموا منذ هنيهة في ارتكاب جريمة خلقية شاذة. انسحب المصارعون كلهم حتى ذلك ~~الذي ذبح الثور، فلا انتظار لتحية هذه المرة أو زهو. حسبه أنه سيخرج قبل أن يفطن إليه ~~الجمهور وينفجر قاذفا إياه بكل ما في متناوله. كان الجمهور لا يزال يحيا مع الثور المقتول ~~وكأنما يقيم له جنازة تلقائية سريعة، يتذاكر فيها كل ما أبداه خلال المصارعة من ألوان ~~القوة، وبطريقته الخاصة. الصمت، يؤنبه. # وجاءت الخيول الأربعة، وأحكم وضع الحبل على قرونه، وبدأت تجره خارج الساحة، ومن أعماق ~~الصمت المخيم اندفع فجأة مواء، هذه المرة عميق وحقيقي لا سخرية فيه ولا صفير، وظل ~~يشيع جثة الثور حتى غابت بخيولها خارج الساحة. كان المواء استهجانا لمقتله، الطريقة ~~الوحيدة التي يستطيع بها الجمهور في وقت كهذا أن يبدي سخطه ويصدر حكمه، الحكم بانتصار ~~الثور الميت على الميتادور الحي، طريقة خيل إلي من صراحتها وصرامتها وقسوتها أن ~~الميتادور لحظتها لا بد فضل ألف مرة لو كان هو الميت بهذا التمجيد على أن يكون هو الحي ~~بكل ذلك الاستهجان. وأي إنسان مكانه كان رغما عنه يتمنى أن يصبح الميت المنتصر، ولا ~~يبقى للحظة واحدة ذلك الحي المهزوم. # إن الهزيمة علنا وأمام الملأ هكذا وبحكم جماعي يصدره الآلاف مرة واحدة ومباشرة، ~~الهزيمة التي لا تقبل جدلا ولا تملك أن تبررها حتى لنفسك، وما يصاحبها من ذل وخزي أكثر ~~إيلاما من أي شيء آخر على سطح الأرض، أكثر إيلاما من الموت نفسه. إن فقد الحياة أهون ~~بكثير من الحياة مع معاناتها. # ويا للمصارع المسكين! إنه إذا لزم جانب الحرص على نفسه ليخرج من المباراة سليما معافى ~~لم يرحمه الناس، وإذا أراد إرضاء الناس واقترب كثيرا من الخطر لن ترحمه قرون الثور ~~وأظلافه. للصدف جاءت وقفة الميتادور المهزوم وراء العارضة الخشبية القريبة مني، ولمحته يمسك ~~بأعلى العارضة وكأنما يعلق أو يشنق نفسه منها، بينما جسده قد تراخى وتثنى ورأسه شبه ~~متدل على صدره. كان يبدو كالمطعون سواء بسواء ms26، طعنة قرون أقسى من قرون الثور وأمر، قرون ~~جمهور غاضب أصابته في الصميم وجعلته يتألم، ليس ألم المجروح فلم يكن هناك جرح أو دم، ~~ولكنه ألم أشد وأعتى؛ ألم الهزيمة! # كان ما يحدث وما أراه جديدا علي تماما مروعا، لكأني في عالم مسحور وبين قوم ذوي ~~قيم وحياة غريبة على عالمنا تماما، أو على الأقل غريبة على بلادنا في شرق البحر الأبيض ~~وجنوبه. # إن الحياة هنا لها معنى مختلف اختلافا جذريا. لقد ربينا على أن أصح وأهم ما ~~يمكننا عمله هو أن نحيا ونظل نقاوم الظروف والأعداء كي نبقى على قيد الحياة. # ولعل الأمر كذلك في إسبانيا نفسها وفي كل الدنيا، ولكن هنا في هذه الساحة يحاول الناس أن ~~يخلقوا عالما آخر مختلفا عن العالم في الخارج وفي كل مكان. عالم الهدف فيه ليس أن تحيا أو ~~تحافظ على وجودك، الهدف أن تنتصر بحيث تحل كلمات النصر أو الهزيمة محل كلمات الحياة أو ~~الموت، وبحيث تختلف كل المقاييس تبعا لتغيير هذه القاعدة الأساسية من قواعد الوجود. وكأن ~~الناس هنا لم يستطيعوا أن يغيروا هذه المقاييس في حياتهم العادية، فابتكروا مصارعة ~~الثيران أو تبنوها وجعلوا لها ساحة، و«أرينا» ومتحفا وعالما كاملا يدخلونه ليحيوا ولو ~~لبضع ساعات كل أسبوع بهذه المثل والقيم، وبدلا من أن تقرأ كتابا يروي لك قصة بطل لا ~~يهمه الموت أو الحياة بقدر ما يهمه الهزيمة أو الانتصار، وبدلا من أن تدخل دارا ~~للسينما أو مسرحا تطفأ فيه الأنوار وتعيش أو تقنع نفسك أنك تركت عالمك المليء بالضعف ~~والانهيار وملايين الناس المتشبثين بحياتهم - وأنت منهم - تشبث المستميت، وأصبحت في ~~عالم آخر، عالم مخلوق من أناس أبطال لا يترددون أمام أي صراع أو خطر، يخوضونه وينتصرون ~~فيه أو يهلكون دونه. بدلا من هذا أوجد الإسبان لأنفسهم هذا المسرح الحي الذي يضم كائنات ~~من الأحياء. مسرحا لا يخدعونك بتمثيل الصراع فيه، ولكنك تجد نفسك أمام صراع حقيقي لا تمثيل ~~فيه ولا تمويه. الجماهير المطحونة المهزومة في حياتها اليومية، المتمسكة ms27 بالحياة رغم ~~تفاهتها تمسكا مستميتا لا يخلصها منها سوى قوة قاهرة جبارة كالموت، هذه الجماهير تدخل ~~الساحة لتشهد أناسا يستخفون بالحياة إلى درجة السفه، إلى درجة البطولة في سبيل أن ينتصروا؛ ~~ولهذا فالمصارع لا ينظرون إليه نظرة تمجيد منفصلة عنهم. إن كلا منهم يخوض الصراع المخيف ~~من خلاله! ويرسل كل منهم خيطا من ذات نفسه وروحه لتتجمع آلافها وتلتقي عند المصارع، ~~وبنفسه وبها يخوض المعركة، يخوضها أساسا لحسابهم وكأنهم أنابوه عنهم ليقوم بالعمل البطولي ~~العاجزين هم عن القيام به؛ ولهذا أيضا فما أشد نقمتهم عليه إذا لم يقم بعمله كبطل، إذا ~~عمل حسابا لكيانه المستقل، ومحافظة عليه تهاون في القيام بالبطولة التي وكلوا إليه ~~أمرها. # إنهم لم يجيئوا ليتفرجوا على براعة شاب يصارع ثورا في حدود أن يظل حيا ولو لم ~~يصرعه، إنهم جاءوا لينيبوا عنهم بطلا، بطولته أن يواجه المخاطر وينتصر عليها؛ ولهذا ~~فمتعتهم الغامرة ليست هي أن ينقذ نفسه بتجنب المأزق الخطر، ولكن أن يضع نفسه في المأزق ~~الخطر ويخرج منه سالما، أن ينتصر على الخطر بمواجهته وليس بتجنبه؛ فهم في حياتهم يفعلون ~~هذا، هم دائما يتجنبون الخطر ويهربون من المأزق مؤثرين أن يوصفوا بكلمة الجبن أو الرعونة ~~مع النجاة أو البقاء أحياء، وهنا يريدون أن يفعلوا ما يحلمون بفعله ولا يستطيعون، أن ~~يوصفوا بالبطولة ولو كان فيها مواجهة متعمدة للخطر وتعرض أكيد للهلاك. # ولهذا فالمصارع في إسبانيا ليس مجرد نجم رياضي؛ إنه أولا وأساسا بطل شعبي وأداة الشعب ~~للبطولة، وكما لا يمكن أن تقبل الناس من بطلها السياسي أن يساوم أو يهادن، فهي أيضا لا ~~تقبل أبدا من مصارعها أن يقوم بعمل ليس فيه بطولة. يجب أن يرتدي أجمل الثياب ويبدي إعجابه ~~علانية بأجمل السيدات، وأن يتصرف دائما وأبدا كبطل. هذه الوقفة التي ينفخ فيها صدره ~~ويقذف برأسه إلى الخلف رافعا ذقنه في ترفع وكبرياء مستفزا الثور، هذه الوقفة ~~التقليدية لم تأت عبثا، إنها وقفة البطل. هذه المرارة القاتلة إذا هزم أو فشل في إظهار ~~بطولته لم ms28 تأت عبثا أيضا؛ فهي ليست هزيمة شخص عادي، إنها هزيمة بطل. # ومسكين ذلك الميتادور الذي كان لا يزال يعلق نفسه من ذراعه بحافة العارضة، حتى الإشفاق ~~لم يكن يحظى به، بل ولا نظرة التشفي. لم يكن منك إلا الإهمال التام غير المتعمد وكأنه ~~مسح من الوجود، وكأنه انتهى دون أن يخلف أثرا، كأنه مات، بل حتى الموتى يبقى لهم بعض ~~الأثر، أما هذا فلم يكن قد تبقى له عند الجمهور شيء، لا شيء بالمرة تبقى. # | الفصل التاسع # ونفخ في الأبواق ودخل الثور الثالث. # كانت «الأرينا» لا تزال تعاني من حالة الركود المخيمة، وظلت كذلك لا حيت الثور ولا ~~حيت الميتادور، ومرت أدوار المصارعة الأولى كما يمضي الشيء الروتيني. انتباه حقيقة ~~وتحديق ومتابعة ولكن دون حماس شديد، أحيانا تتصاعد آهة إعجاب بحركة من حركات «الميوليتا»، ~~ولكنها أبدا لا تشمل الساحة كلها وتبقى دائما داخل حيز محدود. # إلى أن حدث شيء لم يكن يتوقعه أحد. # كان الثور مقبلا مهاجما، وفي آخر لحظة أزاح الميتادور العباءة الحمراء كالعادة من ~~جانبه إلى أمامه لينتهي الهجوم إلى لا نتيجة، وكالمعتاد أيضا بدأ يدور حول نفسه ليواجه ~~الثور الذي كان قد توقف عن اندفاعه واستدار ليعود، في تلك اللحظة انزلقت قدم المصارع فوق ~~الأرض الرملية التي تكفلت المصارعات السابقة بإثارة تربتها، وسقط الشاب على ~~الأرض. # وفي أجزاء قليلة جدا من الثانية حدثت أشياء كثيرة مهولة؛ فعلى أثر سقطته تصاعدت من ~~الثلاثين ألف حنجرة شهقة هلع تثير وحدها الهلع في القلوب. وكان الثور يستدير، وما إن لمح ~~خصمه ملقى على الأرض على بعد أمتار قليلة منه حتى أقبل نحوه ككتلة شر عاتية موجهة، ~~بينما من خلف العوارض الخشبية أسرع أكثر من ميتادور يلوح للثور الهائج المقبل كي تتكاثر ~~أمامه الألوان الحمراء وتصرف انتباهه عن الزميل المطروح أرضا، ولكنها محاولات فشلت في صرف ~~انتباه الثور. وفقط حين أصبح بينه وبين الشاب أقل من مترين كان الأخير بالكاد قد نجح في ~~الوقوف وتعريض العباءة له، وهكذا أنقذ في آخر ms29 لحظة، بينما الجمهور لا يزال واقفا على ~~أطراف انتباهه وشعوره هلعا، وقبل أن يصفق أحد لنجاة المصارع أو حتى يعود إلى جلسته كان ~~قد حدث شيء آخر! # فبعد مرة أو مرتين والثور يهاجم والميتادور يتنحى، حدث أن فقد الشاب توازنه مرة ~~ثانية فتهاوى، وقبل أن يسقط على الأرض كانت رأس الثور هناك إذ لم يكن قد ابتعد، واعتقد ~~الجميع أنها النهاية هذه المرة، وقبل أن تشيح أي سيدة بوجهها ويزدرد أي رجل ريقه، كان ~~الثور قد دفع الشاب برأسه ليرفعه إلى أعلى وليسقط أمامه ويفترسه بعد هذا، ولكن بدلا من أن ~~يسقط الشاب إلى الأمام، بدفعة حظ واهية سقط إلى الخلف فوق ظهر الثور، وما لبث أن انزلق إلى ~~الأرض إلى حيث استدار الثور، وتجمع الزملاء في غمضة عين يحيطون بالمصارع ويدرءون عنه ~~الخطر، ولكن الشاب حين سقط ما كاد يلامس الأرض حتى كان قد اعتدل وكأنما ب «زمبرك»، وحتى كان ~~ممسكا بالعباءة في يده يحاور الثور مرة أخرى، ويداوره وكأن شيئا لم يحدث. # وارتجت «الأرينا» بتصفيق عال راعد وكأنما يتنفس الناس الصعداء تصفيقا، وما لبث ~~الحماس أن انتقل إلى المصارع، ونجاته من ميتتين متتاليتين أذهبت عنه غشاوة الخوف من ~~الموت، فمضى بكل إقدام يعرض نفسه إلى مسافة شعيرات من القرون المخيفة، وينجو كل مرة في ~~تفاديها والخروج من المأزق، وهكذا بعد السكوت الطويل مضت الساحة تجلجل ب «أوليه» إثر ~~«أوليه» نشوة واستحسانا. # وبدأت أدرك شيئا وأكاد أضحك من نفسي. # فبالرغم من كل ما ذكرته عن الخطر والخطورة والحياة والموت، بالرغم من إدراكي أن مصارعة ~~الثيران ليست لعبة أو رياضة، بالرغم من كل ما قلته وفكرت فيه؛ ففي أعمق أعماقي كنت لا ~~أزال غير مؤمن بجدية خطورتها. كنت أعتقد أن كل ما يدور أمامي ليس سوى استعراض للخطورة، ~~أما الخطورة نفسها فهي شيء لم أكن قد أحسسته بعد أو لمسته أو رأيته رأي العين. # ما الذي يمنع أن تكون هناك احتياطات دقيقة وراء كل ذلك المظهر الخطر، بحيث يمكن في ms30 آخر ~~وقت إنقاذ المصارع ودفع الأذى الحقيقي عنه؟ وحتى حين كنت أرد على نفسي بما رأيته في المتحف ~~وبقائمة الشهداء الموضوعة في مكان بارز، كنت أقول: لا بد أن الأمر كان كذلك أيام زمان، أيام ~~البطولة الحقة، أيام الفتوحات الإسبانية والأرمادا، أو حتى أيام المجد أيام لوركا والحرب ~~الأهلية، أما الآن فلقد اخترقت البلاد طولا وعرضا دون أن ألمح بادرة بطولة غير عادية، ~~فما الذي يجعلها تنحصر هنا فقط؟ لا بد أن التطور الذي حدث لرعاة البقر في أمريكا حيث ~~تكفلت الأيام والحياة الحديثة بنقل بطولاتهم ومسدساتهم ومغامراتهم من الحياة والواقع ~~إلى الشاشة والقصص، لا بد أن شيئا مماثلا قد حدث لمصارعة الثيران هي الأخرى، وأصبح الخطر ~~الحقيقي خطرا مفترضا، والشهداء والأبطال مكانهم في المتحف وليس في الحلبة، وما يدور ~~أمامنا الآن إن هو إلا «تمثيل» متقن للعبة بحيث تحياه وكأنه حقيقة تقنع نفسك وتقنعك ~~الدعاية والقصص والأخبار أنها موجودة، في حين أنك لو دققت وأعملت عقلك لن تجد لها ~~أثرا. # الحادثان اللذان وقعا من لحظات كانا قد تكفلا بقلب كيان أفكاري تماما؛ فلقد أكدا لي ~~ولكل من راوده الشك إن كان الشك قد راود أحدا، أن المسألة لا هزل فيها ولا خدعة، وأنها ~~مصارعة جادة حقيقية، الخطر فيها ليس موجودا فقط، أو له لحظات يتبدى فيها، ولكنه قائم في ~~كل لحظة منها، ولدى كل حركة أو التفاتة، وتكفي حصاة صغيرة تنزلق فوقها القدم لتنتهي حياة ~~المصارع في ومضة، وقبل أن يفيق هو أو يفيق أحد لما حدث. # ويا لغرابة الإنسان! فمجرد انتقال إيماني بجدية ما يدور من طبقة في اقتناعي إلى طبقة ~~أعمق، قلب الصورة في نظري كلية، وتغير معنى كل شيء، وأصبحت لأشياء موجودة معان لم تكن ~~موجودة ولا تصورت وجودها. # مسألة أربكتني وجعلت حمى قلق وانتباه تجتاحني؛ إذ الآن قد أصبح كل شيء أمامي خطرا ~~ومصدر خطر. # حتى راكب الفرس الذي يطعن الثور وهو محتم خلف دروعه يكفي أن ينطح الثور الفرس بطريقة ~~يسقط معها الفارس إلى ms31 الداخل بدلا من الخارج لكي يقتله الثور في الحال. يكفي التواء ~~قدم المصارع أو تكفي عثرة، يكفي ألا تواتيه سرعة البديهة في الوقت المناسب كما حدث لذلك ~~المصارع الذي يصدر التلويحة الأولى للثور حين لم يفطن إلى شدة سرعته، فكانت النتيجة أن ~~الثور وصل إليه قبل أن يتمكن من الوصول إلى العارضة الخشبية التي يحتمي بها المصارعون. لم ~~يكن هناك حل للموقف إلا أن يختفي المصارع من أمام الثور بطاقية إخفاء، أو تنشق الأرض ~~وتبتلعه، ولو فكر لجزء من ألف من الثانية في الطريقة التي يختفي بها للقي مصرعه قبل أن ~~يكمل التفكير، ولولا أنه بلا تفكير، وبقوة ورشاقة منقطعة النظير قفز قفزة أوصلته إلى حافة ~~السور، و«ببلانس» آخر كان قد أصبح خارج الحلقة، لولا هذا لمزقته القرون تمزيقا؛ فقد ~~وصلت إلى السور ونطحته تقريبا في نفس اللحظة التي كان جسده يغادر خشب السور. حتى عملية ~~غرس الأعلام، سنتيمتر واحد من الانحراف كفيل بضياع الفارس، وهذه الحركات التي يأتيها ~~المصارع في مرحلة الميوليتا ليثبت بها قدرته وفنه، مثل الركوع على ركبة واحدة وهجوم الثور ~~عليه وهو على هذا الوضع، والأخطر منها النزول بركبتيه، أو ما هو أخطر وأخطر الثبات في ~~مكانه ودورانه حول نفسه فقط ليتفادى من هجوم الثور كلما غير الثور من اتجاهه. أية أعصاب ~~مدربة علمتها الإرادة الحديدية والتمرين على الخوف ألا تفزع أو تأتي بحركة طائشة غير ~~محسوبة، والثور يهجم عليك وقد تكفلت أنت بتحديد مكانك له، وآليت على نفسك ألا تبارحه، ~~وفقط تتفادى من جسده المهاجم بالدوران ربع دائرة لكي يمر الثور من المسافة الكائنة في الفرق ~~بين مواجهتك للثور بعرضك وبصدرك، ومواجهتك له بجانبك، فرق لا يزيد على الخمسة عشر ~~سنتيمترا، بحيث لا بد أن تمسك قرون الثور وأكتافه، وتلوث الدماء الناتجة عن جرح الطعنة ~~والأعلام المغروسة في ظهره، والدماء السائلة على كتفه ثيابك، وتفعل هذا بافتراض أن الثور ~~سيندفع في خط مستقيم وسيبقي رأسه في أثناء المرور في خط مستقيم. ماذا لو كان ms32 الرأس ~~معوجا قليلا اعوجاجا يحرك القرن عن موضعه ثلاثة سنتيمترات مثلا؟ ليس هناك سوى ~~احتمال واحد لا احتمال غيره حينذاك؛ أن ينفذ القرن في جسدك بدل أن ينفذ في الفراغ. # تغيرت الصورة أمامي تماما، وتغيرت نظرتي إلى المصارعين والثيران، أما العقاب ~~الرابض فوق «الأرينا» ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن عن وجوده وينقض، لم أعد أحس به ~~كافتراض من خلق الخيال. أصبحت وكأني أراه لم يعد بيني وبين رؤيته منقضا سوى المفاجأة ~~التي تخفيها اللحظة التالية، سوى حصاة تتحرك، أو بقعة أرض تلين، أو قرن يشتبك في قطعة ~~دانتلا تزين ثوبا. # أما الميتادورات الذين كانوا يتحركون وآخذ حركاتهم قضايا مسلما بها، لم أعد آخذها ~~كذلك. أصبحت كل حركة من أيهم لها معنى وفيها صعوبة ومشقة، وليس سهلا على أي إنسان أن ~~يقوم بها حتى لو بدت عادية لا مجهود فيها ولا بطولة أو فن؛ فهي حركات ليست في الهواء ~~الطلق، إنها حركات في قلب الخطر، في فم الأسد، وتحت رقابة عشرات الآلاف من العيون التي لا ~~ترحم، وتحت رحمة كتلة الحياة البدائية المدمرة التي لا تغتفر لحظة ضعف، والتردد أمامها ~~معناه الموت. # حتى الجمهور في نظري تغير، لم يعد في رأيي خارج ساحة الصراع، أصبح داخلها وجزءا لا ~~ينفصل عنها، ودوره فيها ليس دور متفرجين آدميين. أصبح وكأنه جماعة شياطين، آلاف الشياطين! ~~دورها في الصراع هو نفس دور إبليس والشيطان! عملها أن تزيد النار اشتعالا فتظل تحتج على ~~طعن الثور وإضعافه حتى تبقي له كل قوته وضراوته، وتظل تموء وتهتف وتهيب بالمصارع وتوسوس ~~له وتحرضه حتى يضع نفسه في أشد المواقف خطورة، محاصرا من كل اتجاه بمأزق الموت والحياة، ~~مأزق الموت الأكيد والحياة شبه المستحيلة، فإذا حدث هذا تركته حينئذ يواجه مصيره وحده؛ ~~فدورها - دور الأبالسة والشياطين - يكون قد أدى مهمته وانتهى؛ ليبدأ دورها كجماهير ~~متفرجة همها الأوحد أن تنهل كل ذرة متعة وكل بادرة نشوة من الموقف الذي خلقته ~~شياطينها وحرضت عليه. # تغيرت نظرتي تماما، وعرفت لماذا اجتاحت «الأرينا» موجة الحماس ms33 للمصارعة، وللمصارع ~~الثالث الذي لم يدفعه إلى هذا الموقف الذي واجه فيه الموت مرتين إلا السلبية المطلقة التي ~~استقبله الجمهور بها والتي ظلت هي المسيطرة طول الوقت. سلبية ليست في الواقع إلا تحريضا ~~صامتا يضع شرطا للإيجابية والتشجيع والمشاركة أن يريهم المصارع بسالته، ويقف ولو مرة ~~واحدة يواجه الموت، وجعلته حصاة صغيرة يفعل هذا، والحماس الذي تدفق جعل اقترابه الشديد ~~من الثور يعرضه لموت ثان نجا منه أيضا ونال المكافأة. تلك الأوليهات التي ظلت تجتاح ~~«الأرينا» في نوبات متعاقبة. لكم هي تافهة تلك المكافأة! وكم هو غريب ذلك التكوين الذي ~~ينشأ عليه الميتادور والذي يستعد معه عن طيب خاطر أن يعرض نفسه للموت الأكيد من أجل ~~«أوليهة» إعجاب قد تكون آخر ما يسمعه، بل قد ينتهي قبل سماعها. # ولكنه الإحساس بالأهمية ذلك الذي يدفع الإنسان ليقدم على أكبر حماقة في العالم كي يظفر ~~به. إنها ليست رغبة في البطولة للبطولة ذاتها أو للشخص ذاته، ولكن لإظهارها للآخرين وأمام ~~الآخرين. إنها كالتمثيل وفيها منه الشيء الكثير! الفرق أن الممثل هناك «يمثل» الدور ~~وبمقدار إتقانه ل «التمثيل» وتقمصه لشخصية البطل ينال إعجاب الناس، وهنا الممثل «يقوم» ~~بالدور فعلا، ويقوم به في مسرحية لا يتخيلها أحد، إنما في واقع كأنه مسرح، في حقيقة ~~كأنها خيال، وبمقدار إتقانه للقيام بالدور وجعله الحقيقة تقترب من الخيال يحظى بالإعجاب. ~~أجل! الفرق بين المسرح وحلبة الصراع أنهم في المسرح يحاولون أن يحيلوا الخيال إلى حقيقة ~~يصدقها العقل، بينما في الحلبة يحاولون أن يحيلوا الحقيقة والواقع إلى أعمال خيالية لا ~~يكاد يصدقها العقل! في المسرح يخلقون من الخيال حياة بطلة تدفع إلى كره الحياة الواقعة ~~وتغييرها، وفي الحلبة يخلقون من الحياة العادية الخاملة نفسها حياة بطولة حقيقية تدفع إلى ~~نفس الغرض، ولكنها تدفع إليه بقوة أعظم ومفعول أشد. إن الإنسان في بحثه الدائب عن بطولة ~~الحياة وحياة الأبطال مستعد أن يستخدم أية وسيلة، حتى تلك الملوثة بالدماء المقطرة ~~بالجريمة. إنه بحث أيضا ولكنه يتم بطريقة نيتشوية عارمة القسوة ms34 لا يغفر لها إلا أنها ~~عارمة المفعول في نفس الوقت. # ولو أن هذا الميتادور الثالث نفسه حين جاءت ساعة القتل لم يتمكن من صرع الثور بالطعنة ~~الأولى، ولا حتى الثانية، إلا أنه كان قد قدم دليل البطولة وقربانها واضحا لا شك فيه، ~~وكان الجمهور رغم نهمه إلى كل ما يثيره، وضيقه بكل ما لا يؤدي إلى غرضه ويصيب، على ~~استعداد لأن يصفح عنه من أجل هذا الفشل ويغتفره، ولا يموء والمصارع يستخرج السيف أكثر من ~~مرة ليعود يطعن به، ويظل يفعل هذا إلى أن يخر الثور صريعا لا من الإصابات المباشرة، ولكن ~~بحكم النزيف الذي لا بد حدث داخله. # وهكذا انتهى الشوط الأول من المصارعة وبقي جزؤها الثاني الذي كان على المصارعين الثلاثة ~~أنفسهم، وبنفس الترتيب، أن يصرعوا فيه ثلاثة ثيران أخرى. # وفي أثناء الاستراحة التي سويت فيها أرض الساحة ودخلت عربة رش سريعة خاصة انتهت من ~~بخ الأرض بذرات الماء لكي تبلل فقط رمالها التي جفت، في تلك الأثناء وخلال عشرات ~~ومئات وآلاف المناقشات السريعة التي دارت بين جيران وأصدقاء وأناس لا يعرفون بعضهم بعضا، ~~أجمعت التعليقات على أن الثيران ليست بالقوة المفروضة، وكأن هناك مؤامرة من وراء الستار ~~لاختيارهم صغارا ضعافا هكذا ليكونوا للمصارعين غنيمة سهلة. # وأجمعت التعليقات أيضا أنه باستثناء المصارع الأول، صديقي الذي سرني سرورا خفيا هذا ~~الإجماع على استثنائه وتفضيله؛ فالجميع دون المستوى المفروض. وبدأت حناجر إسبانية عجوز ~~معروقة تترحم على كبار المصارعين في الزمن الغابر، وتذكر بالخير بعض الشبان ~~المعاصرين أمثال باكوكا مينو ودييجو بورتا وجواكين برنادو وجيم أوستوس وغيرهم، ولكن الأمر ~~لم يعدم أصواتا أكثر تفاؤلا بدأت ترتفع وتدافع عن المصارعين اللذين كان أحدهما ~~برتغاليا من لشبونة، وكان الآخر من إسبانيا الشمال من برشلونة، وتقول إن ما حدث سببه ~~الوحيد رهبة المواجهة الأولى، رهبة لا بد أنها زالت الآن تماما، وأنهم لا بد بسبيلهم إلى ~~مشاهدة عرض رائع في الجزء الثاني. وما لبثت آراء بقية المعلقين أن انساقت وراء هذه ~~التفسيرات المتفائلة مستسلمة ms35 للرأي أو مفضلة في الحقيقة أن تتفاءل وتستسلم، على أن ~~تظل على عنادها متشائمة. # وكان مكان جارتي الفتاة خاويا، وقبل أن تذهب بي الظنون إلى أبعد من الساحة وجدتها قد ~~عادت متأبطة باقة أزهار لا أعرف كيف وجدتها وبمثل تلك السرعة، ولكنها كانت تلهث وفي ~~عينيها ذلك البريق الذي يفضح تصميمها على أمر ما، وكانت منفعلة تبدو كمن فقدت لتوها، ~~وربما لأول مرة في حياتها السيطرة على نفسها، حتى إنها فعلت ما لم أكن أتصور مطلقا أن ~~تفعله، بدأتني بالكلام لا أذكر كيف ولا في أي موضوع، ولكنا في دقائق قليلة قلنا أشياء ~~كثيرة يأخذ الناس في العادة ساعات طويلة ليتمكنوا من قولها، وأغرب شيء أننا تحاشينا ~~تماما ذكر الحادثة التي سببت كل هذا وحيرتني؛ فقد كان شكلها إسبانيا ولكنها كانت ~~تتكلم الإنجليزية بطلاقة وكأنها لغتها الأولى، وتتكلمها بخناقة أمريكية واضحة. # وخمنت أنها ليست أمريكية ولكنها تحيا في أمريكا؛ فغير الأمريكان يبدون أكثر تمسكا ~~ونطقا باللهجة الأمريكية من الأمريكان أنفسهم. والمفاجأة كانت حين أخبرتني أنها من كوبا، ~~ولكيلا تترك ظلا من الشك أردفت أنها ضد كاسترو وأنها لا تتمنى شيئا في الدنيا قدر أن ~~تراه مهزوما، كذلك المصارع الثاني مدحورا. # ورغم أني أحسست أن حاجزا سميكا قد سقط بيننا فجأة، إلا أن الحديث لم ينقطع، وعرفت أنها ~~ابنة أحد كبار مزارعي الدخان الذين طردهم كاسترو، ورغم هذا فهي لم تكن تحيا في كوبا؛ كانت ~~تعيش وتتعلم منذ طفولتها في ميامي حيث كان لأبيها فيلا يأتي إليها مع العائلة بطائرته ~~الخاصة من عاصمة كوبا «هافانا؛ ليقضي معها هو والعائلة نهاية الأسبوع. وقد جاء الأب ليحيا ~~معها بعد أن «ذهب كل شيء»، أما لماذا هي في إسبانيا فالسبب قصة طويلة حول ميراث وقضية ~~وأب أصابته الصدمة بانهيار، وأصبح العبء كله على عاتقها، وليست هذه أول مرة تأتي فيها ~~لمدريد، ولا المرة الأولى التي تشاهد فيها المصارعة، ولم تكن أبدا في حياتها تتوقع أن ~~يحدث لها شيء مثلما حدث. # كانت تتكلم بلهجة التي ms36 تعرف ما تريد، ولا يمكن أن يثنيها شيء عن تحقيقه. كلام ولهجة ~~وشخصية ما أكثر ما تقابلها في الجيل الأمريكي الجديد! الجيل الذي لم يزجره أب ولا نصحته أم، ~~المدلل الذي عودوه منذ الصغر أن تكون رغباته ونزواته قوانين تتطوع الأسرة بتقديمها ~~وهو طفل، ويفرضها بالقوة وهو كبير. وكانت جميلة جمالا لاتينيا متفجرا وإن كانت ~~الحياة في ميامي قد شذبته وأمركته وصبغت أنوثتها - كمعظم الفتيات الأمريكيات - بعناد ~~الذكور وحقوقهم، وأحيانا بصفاقتهم وخشونتهم. حقيقة تدفعك للعجب أن تكون هي نفسها الفتاة ~~التي تجمدت محمرة خجلا منذ وقت قليل؛ فقد كان باديا عليها أنها من صنف وجيل لم يعرف ~~الخجل ولا جربه، ولا يستحي حتى من رغباته الخاصة جدا؛ إذ هو يعتبر أن كل ما يريده ~~ويحس به قانوني وحلال. ثم لماذا الإحساس بالخجل أمام الناس، ولا أحد يقيم لهؤلاء الناس ~~وزنا أو يعطيهم الحق في الحد من حريته وحرية تعبيره عن رغباته؟ ربما كانت هذه المرة الأولى ~~التي يدهمها فيها إحساس كهذا وعلى تلك الصورة، وربما أيضا، ولأنه الوحيد الذي استطاع أن ~~يجبرها على هذا الموقف الأنثوي الخالص. لن تنسى أبدا لهذا الميتادور فعلته، بل الواضح ~~أنها بدأت، وقد خرجت وعادت تحمل الزهور - تصرف أنثوي آخر - بدأت تنسى كل شيء. مزارع التبغ ~~وميامي والقضية وأباها وحتى كاسترو، ويصبح همها الوحيد في دنياها - هنا - معلقا بهذا ~~المثلث الشاحب الرشيق، بوجه صديقي الذي اخترته أنا الآخر، ولأسباب أخرى كي أغدق عليه ~~اهتمامي وأرعاه رعاية الأب لابن ضال. # | الفصل العاشر # ودوت أصوات الأبواق عالية بحيث سمعها الجميع هذه المرة، ولفت أصداؤها أنحاء ~~«الأرينا». ورفع مراقب المصارعة السبورة الخشبية التقليدية التي يكتبون فيها اسم المصارع. ~~كنت أعرف ومتأكدا هذه المرة أنه دور صديقي الميتادور، ولأنني استغربت أن أكن له كل ~~ما أشعر به وأنا لا أعرف مجرد اسمه؛ فقد حاولت أن أدير رأسي مع السبورة كي أقرأ الاسم من ~~مكاني والمراقب يلوح بها في كل اتجاه، ولكني لم أستطع. وعرفت حينئذ أن علي أن أظل ms37 أجهل ~~اسم ذلك الصديق حتى وهو يخوض للمرة الثانية مأزق الموت والحياة. # وبينما خلت الساحة تماما من المصارعين الذين اختفى كل منهم وراء أقرب حاجز خشبي، دوت ~~أصوات الأبواق مرة أخرى. # وفتح باب الممر المؤدي إلى الحظيرة. # ودخل الثور هائجا كالعادة، مندفعا متفجرا. # ولكن دخوله قوبل بآخر ما كنت أتوقعه؛ فقد انفجرت في الحال بقع احتجاجات متفرقة، ~~وبدأت الصيحات تنتشر وتشمل مساحات أوسع من الجمهور. # كان واضحا أن الجمهور لا يعجبه الثور، ويرى أنه أصغر سنا مما يجب وأقل قوة. # وكانت الصيحات تطالب بتغييره. # وبدأت معركة خفية بين المشرفين على «الفييستا» وبين الجمهور؛ المشرفون هدفهم الإسراع ~~بالإجراءات التمهيدية لوضع الجمهور أمام الواقع، والجمهور يقاوم هذا بكل قوته ويطالب بتغيير ~~الثور. # أما الثور فقد كان أمره يدعو للحيرة؛ فهو في أحيان يبدو قويا يملك طاقة لا حد لها، ~~وفي أحيان أخرى يتوقف فيظهر حجمه وسنه على حقيقتهما. وتتعالى صرخات الجمهور، بل دفعته ~~سرعته الرعناء التي يتحرك بها مرة إلى أن يتعثر ويسقط على أطرافه الأمامية، ولكن ~~الاندفاع الجبار الذي كان قادما به جعله يحمل جسده كله ويقلبه إلى أمام مرتكزا على ~~قرنيه ليعود ينقلب مرة أخرى ليقف معتدلا وينطلق وبنفس السرعة إلى هدفه لا يلوي على ~~شيء. # وبدأ المصارعون يبرزون ويلوحون، والجمهور يزداد تشنجه وصخبه. # وكمحاولة أخيرة من المشرفين دوى صوت الأبواق يأمر راكبي الفرس «البيكادورز» بالدخول، ~~وكأنما كان هذا ليس فقط إشارة البدء لدخولهم، وإنما لاستماتة الجمهور أيضا في رفض الثور؛ ~~فقد شملت المدرجات كلها موجات متعاقبة متزايدة صاخبة من المواء والصفير والهدير ~~الغاضب. # ولكن الباب كان قد فتح ودخل الفارسان وكل منهما قابض على حربته، ولم يلبث كل منهما ~~أن مضى إلى النصف الخاص به من الدائرة الرملية بحيث إذا اختار الثور أن يهاجم أحدهما انسحب ~~الآخر. # وسكب دخولهما وقودا جديدا فوق النار المشتعلة، وازداد الجمهور عنفا، وبدأت القبضات ~~تلوح وألفاظ السباب تسمع واللعنات من كل اتجاه تنصب على الفارسين اللذين تسرب ~~الشحوب إلى وجهيهما، وبدأ أحدهما يلوح بحربته ms38 مهددا الجمهور في حركة لا إرادية، ولكنه ~~تهديد الخائف الشاحب. خوف يدعو للتأمل؛ فهذا جمهور لا قرون له ولن يقتل غضبه، ولكن ~~صيحاته، جئيرة. عداءه بعث في قلوب الفارسين رعبا دونه رعبهما من الثور والخطر الداهم ~~بكثير. # ولم يكن هناك وقت لتأمل أكثر، ففي هذه اللحظة دوت أصوات الأبواق مرة أخرى. # حسبتها الغالبية أمرا للفارسين ببدء الهجوم. # ولكنه كان أمرا من رئيس الاحتفال وقاضيه الأعلى يطلب منهما الانسحاب ومغادرة الساحة. ~~وارتجت «الأرينا» بتصفيق كاصطفاق أمواج المحيط. # وفرح الفارسان وقد عادت الدماء إلى وجهيهما بعد طول امتقاع. # وكذلك انسحب المصارعون بعباءاتهم إلى ما وراء العوارض الخشبية. # وبقي الثور وحيدا وسط الدائرة الرملية، واقفا وقفة تحفز، ينظر في ريبة إلى السكون ~~المفاجئ الذي شمل الدنيا فجأة من حوله. # ولا بد أن الخطوة التالية كانت إخراجه من الساحة، والمشكلة العويصة التي وجدتها تحتل كل ~~تفكيري هي كيف ومن الذي يجرؤ وأية قوة يمكنها أن تجبر هذا الكائن الجهنمي الطليق أن تجعله ~~بطريقة أو بأخرى يعود إلى دخول الباب الذي خرج منه؟ # وكنت على يقين أن التراث الطويل للعبة قد أوجد حلولا لمثل هذه المواقف، ولكن أي حل؟ ذاك ~~ما رحت أفكر فيه، وكأن الموضوع لغز علي أن أخمن له حلا سريعا قبل أن أرى الحل ~~الصحيح أمامي بعد قليل. # وقد فكرت في طرق شتى، ولكني أبدا لم أتصور أن يكون الحل الذي ابتكرته التجربة ~~الطويلة والخبرة سهلا وبسيطا وعبقريا إلى هذه الدرجة. # الطريقة أنهم أدخلوا في الساحة ثلاث أو أربع بقرات من نفس الفصائل، وقد علقوا في رقابها ~~علبا من الصفيح داخلها قطع معدنية تحدث ضجة كلما اهتزت، وقد كنت أحسب إناث هذا النوع ~~لها نفس شراسة الذكر وطبيعته العدوانية، ولكن البقرات دخلت في هدوء وكأنها بقرات مستأنسة. ~~وقد كنت أتصور أيضا أن الثور سينقض عليها لحظة أن يراها مثلما يفعل بالحصان أو بالخشب ~~أو بأي مما تقع عليه عيناه، ولكنه ما كاد يسمع أصوات الخشخشة حتى رفع رأسه مترقبا ~~والأبقار تسرع إلى ms39 وسط الحلقة حيث يقف، ليس إسراعا أهوج متفجرا أحمق، ولكنه إسراع ~~الإناث المتأني، إسراع الحياة الحريصة على استمرارها، المعقولة. # وفي ثانية كان الثور قد اختفى بينها وأصبح فردا من قطيعها، يتحرك معه إذا تحرك وبنفس ~~سرعته، ويقف إذا وقف وتنطبق عليه كل قوانينه، وقد زال عنه توتره وتحفزه ورعبه، وأيضا ~~زالت تماما كل رغبة لديه في المهاجمة أو الانقضاض، وأصبح وكأنه الابن الضال الخائف ~~المتوجس وقد عاد لأحضان أمهاته وخالاته وعماته، وزالت عنه صفات الشريد المجرم لتحل ~~محلها وداعة أبناء الأسر. # وكان التغير سريعا وحادا وملحوظا إلى درجة لا بد تصيب المتتبع له بذهول. لكأنما ~~عصا ساحر أشارت فاختفى الثور المرعب في ومضة وحل محله ثور آخر مختلف في كل شيء عنه. ~~أتراها الأمومة؟ أم هي سحر الجماعة والقطيع؟ أم هو الإحساس بالونس؟ أم هذا كله مجتمعا؟ ~~إلى درجة لم أصدق فيها ما أراه حين دخلت إلى الحلقة بعد هذا فرقة من ثلاثة أو أربعة ~~فتيان غير مسلحين إلا بسياط تفرقع في الهواء، وبفرقعتين تحرك القطيع مسرعا ناحية باب ~~الخروج تحركا لا تستطيع أبدا أن تميز فيه الثور المتوحش من البقرات المستأنسات. ~~وهكذا وفي مثل لمح البصر انحلت المشكلة التي خيل إلي أنها ستستغرق أزمنا ~~لحلها. # وأحسست بحاجتي أن يشاركني أحد فيما أفكر فيه وأتصوره، وليأسي من جاري الإسباني وبيننا ~~الخندق اللغوي العميق، التفت إلى جارتي الفاتنة المحتضنة زهورها والسابحة في وديان، ويبدو ~~أني فعلت هذا في وقت مناسب جدا وكأنها هي الأخرى كانت تهفو إلى من تشاركه، حتى خيل ~~إلي أني ألمح ألفاظ الحوار المتزاحمة تكاد تنزلق من تلقاء نفسها وتغادر طرف لسانها. وكادت ~~الإنجليزية التي أتقنها تخونني وأنا أحاول أن أجسد لها الخواطر التي راودتني وأنا أراهم ~~يستعملون سلاح الأمومة للقضاء على وحشية الثور ورغبته في البطش. # ودون أن تعتدل وجدتها تقول في اعتداد كسول وبلهجة من تعودت أن تقول رأيها ليصبح ~~للآخرين منزلا وقانونا: لا أمومة هناك ولا شيء من هذا. المسألة تدريب. لقد دربوا الثور ~~على ms40 أن دخول الأبقار وما يصاحبها من ضجة معناه الأمان ومعناه أن عليه أن يترك تحفزه ~~وبطشه. نوع من الانعكاس المشروط، ألا تعرفه؟ ألا تعرف الانعكاس المشروط الذي اكتشفه ~~بافلوف؟ # أعرفه؟! لقد كان باستطاعتي أن أقضي اليوم بطوله أناقشها فيه. ولكن ما فائدة أن تناقش ~~إنسانة لا تناقش لتقتنع أو حتى لتظل على الحياد، وإنما هي تناقش فقط لتقنعك. إذا فرض ~~وتنازلت هي وقبلت مبدأ أن يستمر النقاش، هكذا بدت حتى وهي هادئة تائهة سرحانة. # وكان غريبا منها، وفي ظرف كالذي كنا فيه، وفي أحرج فترة، تلك الواقعة بين إخراج الثور ~~وإدخال الآخر الذي لا بد أنه أقوى وأكثر وعورة وخطرا، خطورة حتما سيتحمل وزرها ~~وضراوتها صديقها الميتادور الذي خصها بعنايته والذي تحمل له الزهور. غريب منها في لحظات ~~حرجة كتلك أن تستطرد سارحة أيضا وتائهة، لا لتكمل النقاش حول كيفية إخراج الثور، وإنما ~~لكي تسألني عن شيء خاص بي أنا، عن جنسيتي. سؤال لم تصدق أني أقول لها الحقيقة مجيبا عنه. ~~وبعناد غريب يضحك رفضت أن تقتنع أني عربي من مصر، وحمدا لله أنها اكتفت بهذا الرفض ولم ~~تشأ أن تفرض بمنطقها شديد المراس المدلل جنسية أخرى. والظاهر أننا كنا لا بد سنصل عاجلا ~~أو آجلا إلى الموضوع الذي تحاشيت دائما أن نخوض فيه؛ فقد سألتني عن رأيي في كاسترو ~~وثورته. وكأنما كانت تتوقع الإجابة فلم يبد عليها الامتعاض الكثير الذي توقعته، وإن ~~شعرت أن مجرد نطقي بالرأي قد حدد إلى درجة ما علاقتنا إلى الأبد، وجعلها تنزل من ~~ناحيتها حاجزا سميكا لا يمكن اختراقه أو تجاهله. ومن خلال الحاجزين، ذلك الذي أسدلته من ~~ناحيتي والذي أسدلته من ناحيتها، بدا أن لا محل ولا مجال لأية خطوة مقبلة نخطوها معا؛ ~~فالأمر عندها ليس خلافا في الرأي أو سياسة. ليس هناك إلا واحد من اثنين؛ إما أن تكون ~~معها فأنت حينئذ صديقها، أو عليها وضدها لكي تصبح عدوها اللدود الذي لا تتورع عن ~~محاربته بكل سلاح وأي سلاح! والناس بالتالي ليسوا ms41 في نظرها بشرا لهم حيواتهم ووجودهم ~~وآراؤهم الخاصة، ولكنهم أيضا إما معها أو ضدها، إما أعداء أو أصدقاء ولا وسط ولا حياد. ~~والعداوة عداوة كاملة! والصداقة أيضا ليس فيها درجات! فهي تبغضك إذا نسيت وتجاهلتها ولم ~~تحبها، تماما مثل بغضها لك إذا قتلت أباها. عداوة وصداقة ليست بالعقل ولا بالمعقول ولا ~~تخضع لمنطق أو حجج؛ فهي لا تستطيع أن تبرر لك عقليا كرهها لكاسترو، وتجد أن من الإهانة ~~لها أن تطلب منها تفسيرا لرأيها؛ إذ يكفي جدا أنها هكذا أرادت وعليك أن تقبل وليس على ~~العالم إلا أن يخضع لتلك الإرادة وإلا عادته وأصبح في نظرها هو ذلك العالم المقيت السخيف ~~الذي لا معنى له. # وكم أحسست بنفسي موزعا مشتتا بين كلامها الذي يكشف عن شخصية جديرة بالدراسة ~~والتفرج، وبين انشغالي الأعظم بالمصارعة وبالثور الذي خرج، وبصديقي الميتادور وغريمه الذي ~~لا ريب سيدخل حالا. أريد أن أترك كل شيء وأسمعها ولا أستطيع إلا أن أهب نفسي تماما ~~للدقائق الرهيبة التي يضمني فيها ذاك العالم الجديد علي تماما. # غير أن الواقع نفسه لم يلبث أن تكفل بضبط اهتمامي؛ فقد تصاعد صوت الأبواق يعلن فتح ~~الباب للثور الجديد. # واندفعت الكتلة السوداء داخله، وأسكت دخول الثور الساحة تماما وقضى على كل ما كان باقيا ~~من همهمات؛ فقد اختير وكأنما ليفحم الجمهور الحاضر ويغلق أفواهه. بدا للأعين أضخم من كل ~~ما سبقه من ثيران وأكثر قوة وشراسة. ولم يندفع إلى الحلقة في جري مراهق مجنون مثل ~~سابقيه، ولا مضى بحمق وإسراف وبذخ يبعثر قواه في سباق موهوم لا طائل من ورائه. بدا ~~وكأنه مدرب محترف لا حد لثقته بنفسه، يدخر قواه كلها إلى اللحظة التي يلمح فيها ~~هدفا أو تتحرك أمامه عباءة. حينئذ وباندفاع ديناميتي صاعق، وفي أقل من غمضة عين يكون ~~قد انطلق ووصل وانقض على الهدف مكتسحا إياه بكل سرعته وكتلته، وما في جسده المحشو من ~~طاقات، وكأنه «بولدوزر» خرافي كفيل بتحريك الجبل إذا اعترضه، بل كفيل بسحقه ونسفه وتحويله ~~إلى هباء ms42. ثور ما كاد يدخل ويلوح له بالعباءة مرة أو مرتين، ويقطع الدائرة الرملية ~~منقضا، ويبدأ الناس يمعنون فيه النظر ويتأملونه حتى تأكدت أن كلا منهم لا بد أصيب ~~بنفس القشعريرة التي أحسستها، حتى وأنت واثق تماما ومتأكد أنك بعيد عنه وأنه لن يقترب ~~منك أبدا ومستحيل أن يهاجمك، لا تملك إلا أن تحس بالخوف، ذلك النوع من الخوف الذي نشعر ~~به تجاه كل شيء مهول مطلق بغير حدود، تجاه كل ما ليس له ند، تجاه كل ما لا يمكن التصدي ~~له أو مقاومته. # ولأول مرة أحسست بالقلق العظيم يتحول إلى خوف حقيقي، خوف على صديقي الميتادور الذي كان ~~عليه أن ينازل هذه القوة الغاشمة المطلقة. صحيح هو قد أثبت لي وللألوف الثلاثين ومنذ وقت ~~قليل أنه بطل وأنه حاذق، وأن باستطاعته أن يصرع الثور في لمح البصر. # ولكن ما رأيناه شيء وما كنا نراه شيء آخر. # رحت أتأمل الثور وأعود أتأمل الجزء الظاهر من جسد صاحبي الدقيق النحيف، وما من مرة ~~أعقد المقارنة إلا وأحس أني على وشك أن أصرخ طالبا منه أن يترك الساحة وينسحب. وكأنه سمع ~~الصرخات التي لم تنطلق؛ ففي تلك المرحلة الأولى حيث يتناوب المصارعون محاورة الثور لدقائق ~~قليلة لاختبار مدى قوته وإدراك نقط ضعفه ومعرفة طريقته في الهجوم ومبلغ تحكمه في جسده ~~وأطرافه، خرج له صاحبنا يتحداه ويستفزه بجسد بدا أنحف وأدق مما كان، ووجه يكاد ~~يتحول إلى مستطيل. # وانقض الثور بكل عنفه وقواه، وببساطة غريبة تحاشى الميتادور هجمته، وانقض ثانية ~~وتحاشاه، ومرة ثالثة استجمع كل البدائية والتوحش وانقض وتحاشاه، وتصاعد من «الأرينا» ~~تصفيق كأنه علامة اطمئنان كبرى. # واسترجعت بعض أنفاسي، وتضاءل خوفي ولكنه ظل هناك. # وبدأت مرحلة البيكادورز راكبي الأحصنة. مرحلة الطعن للإضعاف. ولم يقدر للفارس الأول أن ~~يفعل شيئا؛ فبضربة واحدة من قرنيه أطاح الثور بالفرس وألقاه كتلة لا تتحرك في ناحية، ~~وسقط الفارس في ناحية أخرى. ضربة من القوة بحيث اعتقد الناس أن الفارس والفرس قضيا، ولكن ~~كان لا يزال في عمرهما ms43 بقية، وتكفل ثمانية مصارعين بشغل الثور وقتا أمكن فيه إيقاف الفرس ~~المكوم وإخراجه، وكذلك فعلوا بالفارس. # وبوجه ليموني أصفر دخل الفارس الثاني وهالة من إشفاق الجمهور تحفه، الجمهور نفسه الذي ~~لا يكره شيئا قدر كرهه للفارس ودوره وقد قلب جبروت الثور عواطفه وموازينه. # والمفروض أن الثور لا يهاجم الفرس مباشرة، ولا يفعل هذا إلا بسلسلة من المحاورات يقوم بها ~~المصارعون على التوالي ليزحزحوا الثور من مركز الدائرة الرملية في الوسط إلى ذلك الجزء من ~~محيطها الذي يوجد فيه الفارس. وفقط حين يحدث هذا ويلمح الثور الفرس يبدأ في مهاجمته، هذه ~~المرة ومن مكانه في مركز الدائرة لمح الثور الحصان وراكبه، ولم يحتج الأمر مناورة أو ~~مداورة؛ فقد أقبل في زوبعة سوداء هائلة، ولولا أن الفارس تحرك بفرسه قليلا وفي الوقت ~~المناسب لحدثت كارثة؛ إذ بهذا الانحراف القليل تفادى من الصدام المروع وانكشف له ظهر ~~الثور، ولم يلبث أن غرس فيه بجماع قوته الحربة. وظل الثور يدفع الفرس برأسه، والفارس بكل ~~ما فيه من قوة وما تسلط عليه من رعب يدفع الحربة بين كتفيه. الثور يدفع وهو يدفع. ~~اللحظات نفسها التي يتأوه لها الجمهور تقززا وتألما لم تحدث شيئا من هذا الأثر؛ ~~فالثور كان يبدو للجمهور كمارد عملاق غير محدود القوة لا يمكن أن يتألم أو تؤثر فيه ~~طعنات. حتى حين خلع الفارس حربته ورشقها في الناحية الأخرى طاعنا إياه طعنة ثانية، ~~مصرا على إبقاء الحربة مغروسة في لحمه، ودفعها بأقصى قواه وطعنه، لم يتأثر الجمهور أو ~~يتململ فقد كان على استعداد لتقبل طعنة ثالثة ورابعة. # ولكن الأبواق دوت معلنة انتهاء مهمة الفارس. # وكذلك دوت الساحة بموجة تصفيق ربما المرة الأولى والأخيرة التي يصفق فيها الجمهور ~~لفارس على مهمته المقيتة وعلى نجاحه في أدائها. # وانسحب البيكادور وهو يحيي الجمهور ووجهه يطفح بالسعادة، وكان أقصى ما كان يتوقعه أن ~~يخرج سالما، وإذا به يخرج بطلا أيضا. # وجاء دور غارس الأعلام (الباندريللوس). # وأن تفعلها مع أي ثور أمر قد يكون معقولا، أما مع ms44 هذا الثور بالذات فهو انتحار لا شك ~~فيه؛ إذ قد بدا من تحركاته الأولى أنه يملك مقدرة هائلة على تكييف اندفاعه وضبط تصويبه ~~والقدرة على إيقاف نفسه في الحال والاستدارة، ثم الانطلاق بنفس سرعته الأولى ~~المخيفة. # ولكن المرحلة تمت ودون أي حادث، والجمهور لا يكاد يصدق، وغارس الأعلام نفسه كأنه في ~~حلم أو أنقذ من موت محقق بمعجزة أو بأعجوبة. # هكذا كانت ملامحه تنطق وتوزع ذهولها على زملائه والثور والمدرجات. وبنفخة بوق طالت ~~وامتدت أعلنت بداية مرحلة الصراع الحقيقي (الميوليتا). # ومن خلف العارضة، وبقناع شامل من الثقة والشموخ، وبخطوات إرادية محسوبة تحرك صديقنا ~~الميتادور آخذا طريقه داخل الدائرة مقتربا من الثور. # ولا بد أن خطأ كان قد وقع أو حدث؛ فقد سرت في المدرجات همهمة، ارتفعت داخلها أصوات ~~سرعان ما لفتها نوبات دهشة واستغراب. # وزادت دهشتي حين بدأت الأنظار تتجه إلى ذلك الجزء من المدرج الذي كنا نجلس فيه. حركة ~~جعلتني أفيق من الأحداث التي جرت وامتصت انتباهي، وأعود أفطن إلى وجود جارتي اللاتينية ~~الفاتنة التي لا بد أن الأنظار تقصدها، وتقصدها لسبب ما. # ووجدت نفسي أقتحمها أنا الآخر بنظراتي. # كانت الحمرة هذه المرة ليست أبدا حمرة الخجل؛ حمرة قانية، حمرة دم محروق لا يزيده الزمن ~~إلا سوادا، وكانت ملامحها جامدة أيضا ثابتة لا تتحرك، ووجهها قد انحرف ينظر إلى ~~ناحية. نفس صورتها الأولى مع فارق أساسي واحد أن السبب فيها لم يكن الخجل؛ كان الغضب، غضب ~~المدللين الجارف العنيد؛ فقد كان مفروضا بعد هذه التحية التي تلقتها منه في المرة ~~الأولى أن يأتي إلى حيث تجلس هذه المرة ويحييها قبل أن يبدأ صراعه مع الثور، علنا وأمام ~~الناس، ويقذف لها بقبعته مهديا إليها عمله «الفني» الخطير الذي يوشك الإقدام عليه. ولكن ~~شيئا من هذا لم يحدث؛ فها هو يتجه إلى الساحة ومعه العباءة الحمراء دون أن يهدي إليها أو ~~يهدي إلى أحد شيئا، وها هي جماهير المتفرجين، حتى المتفرجين، تتذكر ما كان يجب عليه ~~عمله وتلتفت إليها، بينما هو ms45 - وكأنما لم تكن - ولا حدث بينهما شيء. # كانت إحدى يديها تقبض على باقة الزهور بشدة، بينما الأخرى تسحق زهرة اختارتها وأخرجتها ~~من مكانها، ومضت تمزقها بأصبعيها ووجهها أسود بالاحمرار والغيظ، غير أن هذا لم يدم إلا ~~للحظة تمالكت نفسها بعدها، أو على الأقل هذا ما بدا، ووضعت الزهور جانبا وارتكزت على ~~الحاجز أمامها بكلتا ذراعيها وانصرفت تماما، أو هكذا بدا أيضا، إلى التفرج ومتابعة ما ~~يدور في الساحة. # كنت أتمنى لو استجابت للضعف الأنثوي مرة وأسقطت دمعة؛ إذ ليس أجمل من أن ترى العناد ~~المدلل وهو يتحطم أمامك رغما عنه وعن صاحبته. # ولكني لم أشأ أن أضيع الوقت في انتظار ظهور دمعتها، وعدت إلى الساحة. # مرحلة الميوليتا بالذات، قمة اللعبة وأروع ما فيها، مرحلة لها كيانها المستقل وخصائصها. ~~الميتادور يكون قد اشترك مع زملائه فيما قبلها من مراحل وخبر الثور وعرف الكثير عنه، ولكنه ~~لا يبدأ يعرفه معرفة حقيقية إلا هنا، حين تخلو الساحة تماما إلا منهما، حين تصبح عليه ~~وحده مسئولية مواجهته؛ ولهذا فدقائقها الأولى مليئة بالتوتر والأعصاب المشدودة وكل ~~الظواهر المصاحبة لبداية العمل الخطير، ولكنها مظاهر وظواهر لا تبدو إلا لعين خبيرة؛ ~~فالمصارع يحرص بوعي شديد - ولعله العمل الواعي الوحيد الذي يقوم به المصارع عن إرادة ~~وإدراك خلال تلك الدقائق - يحرص على إخفاء حالته تماما في ثوب الكبرياء الذي يرتديه، ~~والبطء النسبي الذي يتحرك به. لكأنه يقدم لغريمه أول مرة ويحرص على أن يبدو أمامه على ~~هيئة المترفع المتعالي الذي يتنازل ويقبل مصارعته. هكذا يبدو الميتادور وهو واقف وقفته ~~التقليدية معوج العنق، رافعا ذقنه في شموخ، نافخا صدره، متراجعا برأسه إلى الوراء، ~~داقا الأرض بقدمه دقات تتلوها وتسبقها أصوات منادية مستفزة يتحدى بها الثور أن يهاجمه ~~كاشفا له الوجه الأحمر للعباءة ليثيره ويدعوه إلى الانقضاض. # والحقيقة لا تكون هناك حاجة لاستثارته أو دعوته؛ فهو المبادر دائما بالحركة، المندفع، ~~يهاجم في كل اتجاه، المثير في غريمه كل ذلك الاضطراب الأول، والتوتر وشدة الأعصاب. # وكل هجمة من الثور تزيد من ms46 اضطرابه وضعف ثقته بنفسه. # وكل حركة من المصارع يحشد لها كل طاقته المشتتة، ويضع فيها كل حذقه ليرد بها على ~~الهجوم، وكل حركة كهذه تصدر عنه ولا تظفر من الجمهور بتحية أو ترتفع لها «أوليه» تزيد ~~الموقف تعقيدا والأعصاب المشدودة توترا. # يظل الميتادور هكذا واجف القلب فاقدة الثقة ضائعا بالكاد يستطيع التماسك والوقوف، خائفا ~~من الثور خوفا يضيف إلى وجهه كل جزء من الثانية طبقة صفرة جديدة، يظل هكذا إلى أن يحدث ~~ويأتي بحركة رد يخرج بها من مأزق وعر، فتفلت من الجمهور رغم عنه آهة الاستحسان الأولى. ~~فقط حين تتصاعد هذه «الأوليه» الأولى، وتصاعدها بالمناسبة ليس أمرا سهلا؛ ففي دقائق ~~البداية يقف الجمهور دائما من الميتادور موقف المتحفظ الكابح لجماح انفعاله بحيث يظل ~~بإرادته يؤجل إظهار استحسانه إلى حركة أروع وأخطر. # وإذا ترك الأمر لإرادته فمن المحتمل جدا أن تنتهي المصارعة دون أن تظهر بادرة استحسان، ~~ولأن إظهارها أمر مهم وهو الذي يجعل المصارعة تحمى والمصارع يقوى وينتصر. بغير مشاركة هذا ~~العنصر المهم فلن توجد اللعبة أو قد توجد على هيئة محاورات باردة لا تثير أية متعة أو ~~انفعال؛ ولهذا فصيحة الاستحسان الأولى تأتي دائما لا إرادية، أكثر من هذا، تأتي رغم إرادة ~~الجمهور الكابت لرغبته كلما انتابته الرغبة لإظهار الاستحسان. # هذه «الأوليه» الأولى هي الشرارة التي تحدث وتضرم النيران. # فعلى أثرها تنتهي تماما كل مظاهر اضطراب البداية ويتحول المصارع من طرف سلبي همه أن ~~يدافع عن نفسه ضد هجمات الثور حتى وإن بدا أنه هو الذي يستفزه للهجوم، إلى الطرف الإيجابي ~~الذي يسيطر على المصارعة ويحركها ويزيد سرعتها ويبطئها. الطرف الذي يحرك الثور في ~~الاتجاه الذي يريد، فيضيق عليه الخناق أو ينصب له الشرك، صاحب اليد العليا. # وهنا وحين تتخطى مرحلة الميوليتا هذا الطور الأول ينسى الميتادور شكله المتكبر ~~المترفع الذي يحب أن يبدو به أمام الثور وأمام الناس، ويبدأ يتحرك بحرية وبلا أي ~~تقيد بالمظهر، وهمه كله أن يستغل قدرته على التحرك السريع وخفته كي يتغلب بها ms47 على ~~شدة مراس خصمه وقدرته الجبارة على الجري والاندفاع. # وهكذا مضى صديقي الميتادور وكل أعصابي وانتباهي وتركيزي قد أصبحت جميعها معه وكأنني أخوض ~~المعركة بجواره. مضى يحاور الثور الذي بدا، بارتفاع منطقة أكتافه الأمامية وعنقه ورأسه عن ~~بقية جسده، كأسد بقري متوحش أحضر لتوه من الغابة. أسد لم يتكفل جسده العاري من كل ~~فروة أو شعر بتخفيف حدة مظهره أو كتلته، وكأنه مصنوع من صخر أسود كثيف ثقيل أو من حديد حي، ~~الضخم ضخامة لا بد تبعث على الدهشة والذهول إذا قورنت بسرعته وقدرته على الاندفاع من ~~الصفر إلى سرعة أكثر من المائة كيلومتر فجأة، وقدرته الأخرى الخارقة على التوقف فجأة ~~أيضا، والهبوط من المائة إلى الصفر مرة واحدة. وليس توقفا فقط، ولكنه التوقف ~~والدوران دورة كاملة ثم معاودة الاندفاع من الصفر إلى المائة، وكل هذا يحدث في لمح البصر ~~ويصدر عن هذه الكتلة الثقيلة الرهيبة الضخمة. # وفي مقابله كان صديقي الميتادور عوده له مثل رشاقة ملامحه. ليس فارع الطول ولكنك لا تحس ~~به قصيرا، وساقاه تبدوان في سرواله الضيق اللاصق بهما رفيعتين كنبوتين من نبابيت ~~«الصعايدة» عندنا، ولكنهما أيضا تبدوان غير هشتين بالمرة وكأنما صنعتا من خشب الرمان، ~~سريعتي الحركة بطريقة لا تكاد تراهما وهما تتحركان حتى لتظهرا وكأنهما ثابتتان، ولا وجه ~~للمقارنة بين حجمه وحجم الثور. لا يكاد حجمه أو وزنه يعادل طرفا واحدا من أطراف الثور ~~الأربعة، ولعل هذا ما كان يدفع الثور إلى الجنون وإلى الهجوم بجنون على ذلك الشيء الصغير ~~الواقف أمامه في الساحة يتحداه، ويقف إذا هاجمه ولا يهرب منه أو يخاف، مستغلا الفارق ~~البسيط الذي ميزته به الطبيعة أبرع وأروع استغلال؛ فالثور رغم كل جبروته وضخامته يتحرك ~~على أربع، مسألة قد تبدو غير مهمة إذا كان الثور منطلقا في جريه إلى الأمام، أما حين ~~يتطلب الأمر استدارة أو انحرافا أو تغييرا للاتجاه تصبح الأطراف الأربعة كارثة معوقة، ~~ويبدو الثور عندها وكأنه العربة بلا «دركسيون» إذا كان عليها أن تنحرف فلا بد أن تصنع ms48 قوسا ~~كبيرا . # وإذا كان عليها أن تستدير لا تفعل هذا بنقطة كما يفعل الإنسان في الطريق. إنه يستدير في ~~دائرة، ويغير اتجاهه بمنحنى، وينحرف بقوس، ولا يملك كما لا يملك كل بني مملكته إلا أن ~~يفعل هذا إلا إذا ملك القطار أن يتحرك بلا قضبان. # وعلى هذه النقطة التي تبدو بسيطة هينة بنيت لعبة مصارعة الثيران بكل مهرجاناتها ~~وتاريخها وآلاف السياح الذين يأتون من آلاف الأمكنة وينفقون آلاف الملايين من الدولارات ~~لرؤيتها. أجل قدرة الإنسان على أن يستدير حين يريد في نقطة وعدم قدرة الثور على الاستدارة ~~إلا في دائرة. هذا الفرق بين النقطة والدائرة، بين المركز والمحيط، هو الذي يصنع منطقة ~~الأمان التي يحتمي بها المصارع ويضمن ضمانا أكيدا ألا يمسه الثور طالما هو داخلها لا ~~يتعداها. وكل ما يفعله ليحقق هذا الغرض أن الثور حين يقبل مهاجما وهدفه العباءة ~~الحمراء يظل المصارع واقفا في مكانه ثابتا إلى أن يصبح الثور على مسافة نصف قطر الدائرة ~~التي يصنعها الثور إذا دار حول محوره؛ أي الدائرة الكائنة بين ساقيه الأماميتين ~~والخلفيتين. على المصارع أن ينتظر إلى أن يصبح الثور منه على هذه المسافة؛ لأنه لو تحرك ~~والثور على بعد أكبر ففي استطاعة الثور أن يغير اتجاهه وينحرف ويصيبه، أما حين تكون ~~بينهما هذه المسافة وينحرف المصارع فإن الثور إذا انحرف فهو لا يستطيع مطلقا أن يصل إليه ~~أو يصيبه؛ لأن الثور حينئذ يكون قد اجتاز المكان الذي انحرف إليه المصارع حتى أصبح المصارع ~~يواجه منتصف بطنه. وبفرض أن الثور استطاع أن يوقف اندفاعه فورا فهو لا يملك أيضا أن يصيب ~~الرجل، وعليه لكي يفعل أن يستدير ليواجهه برأسه. # ولو كان يستدير كالإنسان في نقطة؛ أي هو واقف في محله؛ لأمكنه فعلا أن يسدد إليه ~~الإصابة، ولكنه لا يستطيع أن يستدير إلا إذا صنع بجسده دائرة كاملة، وحين يتم الدائرة ~~ويتهيأ للانقضاض لا يجد المصارع هناك أيضا؛ إذ يكون الأخير قد انتظر حتى استدار الثور ثم ~~غير من موقفه بطريقة على ms49 الثور فيها أن يصنع دائرة كاملة أخرى حول المصارع، دائرة ~~المصارع مركزها، المصارع الذي ينتظره حتى يقارب إكمال الدائرة ليندفع بسرعة وخفة وينحرف ~~جانبا مغيرا من مركز الدائرة، مطالبا الثور أن يعود ليصنع دائرة جديدة ~~وهكذا. # سلسلة من المواقف تكون سلسلة من الدوائر التي يدور فيها الثور محاولا في كل مرة أن ~~يواجه المصارع ليسدد له طعناته بينما المصارع لا ينيله غرضه، بحيث كلما قارب الثور إتمام ~~الدائرة والهجوم غير المصارع من موقفه قليلا لكي يتحتم على الثور أن يصنع دائرة أخرى ~~ليواجهه، ولا يتحقق هدفه أبدا لأن المصارع يغير دائما من موقفه في اللحظة ~~المناسبة. # ذلك هو الأساس أو المبدأ الذي منه تتشعب المباغتة في المصارعة، ويختلف الميتادور عن ~~غيره، بحيث إن أبرعهم جميعا هو ذلك الذي يجعل الثور يتحرك أكثر وأقوى حركة في مقابل أقل ~~حركة ممكنة منه. # ولذا كلما انتظر الميتادور حتى اللحظة الأخيرة لإكمال الدائرة ليغير موقفه أصبح على ~~الثور أن يتحرك أكثر؛ إذ لا بد أن يصنع دائرة كاملة ثانية، في حين أنه لو تحرك في وقت ~~مبكر ففي استطاعة الثور أن يوفر الجهد فلا يضيعه في إكمال الدائرة الأولى، ومن فوره ~~يشرع في صنع الثانية. وكذلك كلما قربت المسافة بين موقف المصارع الأول وبين الموقف الذي ~~ينتقل إليه، ضاقت الدائرة التي على الثور أن يصنعها، وبالتالي بذل جهدا أكبر كي يجعل كتلته ~~الضخمة تلك تتحرك دائرة داخل هذا النطاق الضيق المحدود. # وهكذا يعتبر المصارع المثالي هو المصارع الذي يستطيع أن يتأخر في حركته إلى أن يكاد ~~الثور يلامسه، وإذا تحرك مغيرا موقفه تحرك أقل مسافة، أو أروع وأروع حين لا يتحرك ~~بالمرة، وحين يظل واقفا في مكانه بحيث تتضاءل المسافة التي يتحركها حتى يصبح الفرق بين ~~مواجهة الثور بصدره ومواجهته له بجانبه. # إن الهدف من مرحلة الميوليتا كلها هو إرهاق الثور إلى درجة الاستسلام. # وهذه الحركات الدائرية المحدودة أشد إرهاقا للثور من أي جري منطلق في أنحاء الساحة؛ ~~ولهذا فبعد بضع حركات كهذه يبلغ ms50 الإرهاق بالثور المطعون قبلا، النازف اللاهث المغروس في ~~ظهره ستة أعلام تنخر عظمه وتؤلمه، يبلغ الإرهاق به إلى حد أن يكف عن الهجوم أصلا ويقف في ~~مكانه لا يتحرك، وحينئذ تصل ثقة الميتادور بنفسه وبما ألحقه بالثور من إرهاق حد أن ~~يغادره موليا إياه ظهره محييا الجمهور الذي تدوي الساحة بهتافاته. # وكنت قد رأيت مرحلة الميوليتا تمر بهذه الخطوات أو معظمها. رأيت الثور يدخلها كتلة حياة ~~تنفجر بالحركة والوحشية والنشاط، وبطريقة يبدو وكأنها ستظل هكذا إلى الأبد وكأن لا شيء هناك ~~قادر على النيل منها. ويظل الأمر كذلك إلى أن يدخل الثور فخ الدوائر اللانهائية، ولا تكاد ~~تمضي بضع دقائق عليه فيها حتى ينقلب لهثه إلى فحيح مسموع وزبد، وحتى يمتد لسانه شبرا من ~~فمه تعبا وإجهادا، وحتى يكاد يسقط من تلقاء نفسه إعياء. بضع دقائق فقط يتولى هو بنفسه ~~قتل نفسه فيها تعبا وإرهاقا، وتتكفل رغبته الغاشمة البدائية في مهاجمة كل أحمر أمامه، ~~تلك التي تدفعه للجري المهلك حاشرا نفسه داخل دوائر أضيق فأضيق ساعيا وراء سراب العباءة ~~الحمراء، تتكفل هذه كلها بإحالته من كتلة حياة متفجرة إلى حياة خامدة، إلى مجرد حيوان ~~متعب لاهث لا فرق بينه وبين الكلب أو الخنزير. رأيت هذا يحدث للثور الأول والثاني والثالث، ~~أما هذا الثور الرابع ومع صاحبي الميتادور؛ فقد رأيت ما لا يكاد يصدق. # | الفصل الحادي عشر # كان الشاب ينصب فخ الدائرة بإحكام ويظل كأعتى ميتادور إلى آخر ومضة في اللحظة، إلى حين ~~تمس قرون الثور العباءة وتشتبك بها أحيانا، وأحيانا تمزقها قبل أن يتحرك جانبا ~~ليتفادى من الهجمة من ناحية، وليصنع من نفسه هدفا آخر لهجمة ثانية، وبالكاد لا يتحرك ~~متبعا في هذا أخطر القواعد مجازفا بنفسه، متهورا في اتباعها؛ وكل هذا ليستنفد طاقة ~~غريمه بسرعة، وليجبره على التحرك بكتلته الضخمة داخل نطاق أضيق دائرة ممكنة إلى درجة كان ~~ضيقها يشل حركة الثور أحيانا، وهو يضغط نفسه ويقترب بنصفه الخلفي من نصفه الأمامي اقترابا ~~تتداخل معه أطرافه، وكل هذا ليصغر ms51 من حجمه كي يصنع بحجمه الصغير أصغر دائرة. إنها ليست ~~عملية إجهاد فقط؛ إنها جهاد عارم القسوة والعذاب لكأنك تعتصر نفسك بجبروت ضاغطا جسدك ~~ليتداخل وتختصر حجمه، وتفعل هذا كي تنطلق وبأقصى سرعة تتحرك حركة دائرية يبلغ ضيق ~~دائرتها حد أنك بالكاد تستطيع أن تتحرك، فما بالك بأن تتحرك في سرعة وانقضاض؟ # ولكن الثور كان يفعلها ويتحكم في حجمه الضخم كالرياضي المدرب ويستمر يفعلها، ويلمح ~~جسده المظلم الأسود بالعرق، وتبرز عظام أكتافه رافعة ما فوقها من لحم وعضلات، بادية ~~للعيان في محاولته ضم نفسه وضغطها، ولا يتوقف عن الهجوم لثانية، ولم يكف مرة ولا ~~احتاج للتلويح والاستفزاز، حتى تحول جزء كبير من التصفيق والهتاف الذي كان يتوالى تحية ~~للميتادور على براعته وحذقه ودوائر الخطر التي يتحرك فيها بلا خوف أو وجل، تحول جزء من ~~التصفيق والهتاف إلى الثور الماضي في هجومه لا ينال منه تعب ولا يؤثر في طاقته أي مجهود، ~~حتى بدا الأمر محيرا. # إن العادة جرت ألا تزيد هذه المرحلة عن دقائق قليلة تنتهي بعدها كل طاقات الثور؛ دقائق ~~نادرا ما تتعدى الخمس، وها قد مضت عشر دقائق وربع ساعة بأكملها والثور لم تتغير قدرته ~~إلا قليلا، من القلة بحيث يبدو التغير غير ملحوظ. # ولكنني كنت الوحيد تقريبا المشغول بهذا الحساب قلقا على صاحبي، أما جماهير ~~المتفرجين فالصراع الدائر كان يستغرقهم كلية، وانتباههم كله مركز في الحركة الحادثة ~~أمامهم فقط، في ذلك الجزء من الصراع الذي يرونه بأعينهم الآن، وانفعالهم الشديد لا يدع ~~لهم فرصة استرجاع ما حدث من دقيقة أو إعادة تدبره، ولا ما يمكن أن يحدث بعد قليل. وكذلك ~~لا تهمهم حالة الثور أو حالة الرجل، المهم أنهما لا زالا يتصارعان صراعا قويا ممتعا ~~حادا من النادر أن يظفر به جمهور واحد في يوم واحد ولمدة طويلة كهذه. الثور شحنة الطاقة ~~فيه خالدة لا تنفد، تدفعه وتثنيه وتفرده وتقبضه وتشكله عشرات ومئات الأشكال حسبما تقتضيه ~~ظروف المعركة، جسورا لا يني ولا يرحم ولا يتردد، كثيرا ما ms52 يتجاوز تقديرات الميتادور ~~ويستدير بسرعة أكبر مما قدر وأكبر من أن تصدق، أو يختصر محيط الدائرة وكأن جسده ~~استحال إلى جسد ثعبان ليس أسهل من أن يستدير ويلتف، ويكاد يوقع كلما حدث هذا صاحبنا ~~الميتادور في الفخ الذي أراده له. وكثرة المرات لا تنال منه، بل تزيده قوة وهياجا ~~وإصرارا حتى تكاد تجعل له اليد العليا في الصراع، وتحيله إلى مطارد وتحيل الميتادور إلى ~~مجرد مدافع عن نفسه ليس أمامه إلا أن يهرب ويظل يهرب. والميتادور هو الآخر في قمة نشاطه ~~وصلاحيته، إن كان قد اعتمد في ضبط خطواته الأولى على رصيده السابق من البطولة، وعلى الزهو ~~الذي حصل عليه منذ وقت طويل لقتله الثور الأول في لمح البصر؛ فبمضي الصراع تناسى زهوه ~~ورصيده وخاض معركته مستمدا منها نفسها الوحي والقدرة وحكمة التصرف. ولم يكن يستعرض، ~~ولكنه في كفاحه الرهيب من أجل أن يقهر غريمه يقدم ألوانا من المصارعة قد لا يكون لها ~~جمال ألوان الاستعراض الخارجي، ولكنها تحتوي على فن وخطورة لا تجدها في أروع ~~الاستعراضات. # كان يستغل دقة حجمه إلى أقصى حد بحيث كان يرغم الثور على الدوران في دائرة لا تتعدى ~~المتر أحيانا، حتى لتكاد تؤمن أن عظامه لحظتها تتهشم وتسمع قرقعتها. وكان يعمد إلى ~~التغييرات السريعة في تكتيكه لإدراكه أن الثور حين يستمر على طريقة يتقنها بسرعة وذكاء ~~غريبين على كائن مثله، فكان يغير من طريقة إلى طريقة بحيث لا يترك لغريمه أي مجال ~~للتعود والإتقان. وحين وصلا إلى طريقة الدوائر أخذ يضيق على الثور الخناق، واستغرق في ~~هذا إلى درجة لم يلحظ معها أن الثور أيضا يضيق عليه الخناق، حتى إنه توقف في مكانه عن ~~الحركة ليجعل الثور يدور حوله مكتفيا بتغيير اتجاهه لتغير وقفته والمركز الذي يدور فيه. ~~وكان صعبا أن تحدد في تلك اللحظة من منهما الذي يحاصر الآخر ويضيق عليه الخناق! ولكن ~~بدا في اللحظات الأخيرة للحركة أن الثور هو الذي يفعل، وأن أمام صاحبنا أخطر مشكلة؛ أن ~~يتخلص فورا من هذا ms53 الحصار. وربما لو فكر عاما بأكمله وهو بعيد عن الساحة والموقف لما ~~وصل إلى الحل الذي اهتدى إليه، وكأنما بالغريزة في نفس اللحظة التي وضح أن الثور في هجمته ~~التالية سيصيبه دون أدنى شك. # والطريقة أنه غير فجأة من دورانه؛ أي أقدم على مغامرة مجنونة؛ إذ بهذا التغيير أصبح ~~الثور يواجهه بحيث لم يعد بينه وبين رأسه إلا أقل من متر، ولو قد فطن الثور إلى أنه سيفعل ~~هذا لوفر على نفسه مشقة عمل دائرة أخرى ولطعنه بقرنيه في الحال، ولكنه يبدو أنه فعلها ~~وهو متأكد تماما أن الثور مستغرق في اللف بالطريقة التي اعتادها في الفترة القصيرة ~~الأخيرة، وأنه لن يفطن إليه إلا بعد أن يكون قد ابتدأ في الدورة الجديدة إلا متأخرا بجزء ~~على مائة جزء من الثانية. وحتى لو لم يكمل الدائرة الجديدة واتجه إليه من فوره فيكفيه هذا ~~الجزء على مائة لكي يفلت من الحصار الخانق ويكسر الدائرة الرهيبة التي أرادها للثور فوقع ~~فيها. وهو بالضبط ما حدث، وما انتقل بعده هكذا في واحد على مائة من الثانية من إنسان انتهى ~~أمره إلى إنسان حر طليق، الساحة كلها تحت أمره. # حركة أرعدت على أثرها المدرجات تصفيقا وصياحا كصياح من فقدوا العقول. إن أحدا لا ~~يصدق ما حدث أمام عينيه، لا يصدق أن هذا الشاب النحيل قد أوتي وهو على وشك الموت هذه ~~الشحنات القوية من الجرأة والذكاء وسعة الحيلة لكأنه لخص تاريخ اللعبة وتراثها والهدف ~~منها؛ إذ ذلك هو بالضبط ما أراده الذين ابتكروا المصارعة، وذلك بالضبط ما يريده الجمهور، أن ~~يخوض إنسان بطل فيه كل مؤهلات الجانب الإنساني الصراع ضد ثور بطل فيه كل مؤهلات ~~الجانب البدائي الوحشي، ويظل الصراع بينهما سجالا أو يكاد بحيث لا تحدث المواقف الفاصلة ~~نتيجة ضعف أحد الطرفين، وإنما تنتج رغما عن الاثنين معا، وبسبب تعادل قوتهما في الصراع. ~~وحين يحدث ذلك الموقف الفاصل الإجباري ويصبح على الإنسان فيه أن ينقذ نفسه فعليه ألا ينقذ ~~نفسه كيفما اتفق وبأية وسيلة ms54، وإنما عليه أن يختار أكثرها جرأة وحذقا وذكاء، أن يختار ~~الطريق البطولي بحيث لو نجحت وأنقد بها نفسه استحق البطولة عن جدارة، وبحيث لو فشلت ومات ~~اعتبرت ميتته ميتة أبطال وخلد ذكره. # وقد يكون هذا كله حقيقيا ورائعا وجميلا، وقد تربي أشياء كهذه الشعب وترسي فيه ~~دعائم البطولة الإنسانية كما يجب أن تكون في عصور أصبحت فيها هذه البطولة أثرا من آثار ~~التاريخ لا تعثر عليها إلا في المتاحف والكتب. فهذه الأنواع من البطولة، بطولة أن يواجه ~~الإنسان الخطر بقلب جريء ويرى الكارثة أمامه تهدد حياته فيقتحمها غير هياب أو وجل. ~~بطولات كهذه خلقتها وغرستها العصور التي كان المجتمع فيها يعتمد على الإنسان الفرد ويهمه ~~أن يمجده ويجعل منه البطل، عصور الآحاد القليلين الكبار. بطولات كهذه اندثرت وحلت ~~محلها أنواع أخرى وأنماط، أنواع نابعة من مجتمعات ازدحمت ولم يعد الفرد فيها يواجه ~~القدر أو الحظ أو العدو وحده. العداوات أصبحت جماعية، والمواجهات جماعية، والعصور عصور ~~الأفراد الكثيرين الصغار، وقوى الطبيعة المتعددة التي استؤنست على هيئة آلات كما استأنس ~~الأجداد الحيوانات البرية والوحوش. عصور القوة التي لا تتركز في شيء واحد بعينه حتى لو ~~كان فردا نابغة عظيما هرقلي القوة! القوة فيها موزعة متشابكة متعاونة أو متنافرة، قوة ~~مستحيل أن تحددها أو تعزلها؛ ولهذا فمجال البطولة لم يعد أن يواجه الإنسان وحده الغريم ~~وببطولة يصرعه؛ إذ الغريم هو الآخر لم يعد فردا أو شيئا بعينه، الغريم هو الآخر مجموع ~~قوى منبثة في مجموعات من الكيانات. لمن يصفق الناس اليوم؟ لم يعودوا يصفقون لمن ~~يصرع عدوه؛ فبالأمس كان يوجد متصارعان ومشاهدون محايدون، اليوم لا يوجد متفرجون ولا ~~حياد، وأي معركة تدور اليوم على سطح الكرة الأرضية لا بد أن تجد نفسك منضما إلى أحد ~~طرفيها، وحتى التصفيق إعجابا لم يعد علامة إعجاب مطلق. # إنها تصفق بإعجاب له هدف، تصفق لمن يقدم لها ببطولته المصلحة والخدمة العظمى. ~~الرجل اليوم هو من يفيد الناس بطريقة أو بأخرى، من يسيطر على أكبر قدر ممكن من ms55 مصادر القوى ، ~~لا ليدخل بها معركة ضد خصوم، ولكن ليستعملها ليحقق للناس مطالب وأعمالا عجز غيره عن ~~تحقيقها. وهي بطولة أرقى! ففي الماضي كان الشخص يقوم لنفسه ولمجده ولذاته فيصفق له الناس ~~ويمنحونه لقب البطولة، ولكننا في عالمنا الحاضر نمنح البطولة لمن يقوى لنا ~~ولفائدتنا. # ولهذا فأنت في مصارعة الثيران تحس كلما حمي الصراع هكذا وحدث التجاوب على تلك الصورة، تحس ~~كلما اقتربت اللعبة من حقيقتها ومن الهدف الذي وجدت لأجله؛ شعرت أنك تنفصل عن عالمنا هذا، ~~أنك ترتد إلى ماض تهب ريحه حاملة معها أصداء من زمن ذهب وقيم تغيرت. أي رجل في ~~عصرنا الحاضر ممكن أن يفعل وهو مالك لكل قواه العقلية ما فعله صاحبنا الميتادور؟ أي رجل على ~~استعداد لأن يقف ليواجه قطارا من العضلات الوحشية القاتلة قادما تجاهه ليفاجئه ويجبره على ~~الدوران؟ أي رجل في عصرنا الحاضر، حتى لو أراد هو، تطيق أعصابه ويطيعه قلبه وفكره وإلهامه ~~وهو يواجه الموت في وضح النهار وكل حظه في الحياة متوقف على أمل واهن غير مؤكد أن ~~يفاجأ الثور بالحركة فعلا وتنجح الخطة؟ ماذا إذا لم يفاجأ؟ ماذا إذا استدار الثور في ~~لحظة مناسبة أو انزلقت قدمك أنت وأنت تستدير بسبب حصاة صغيرة، حصاة موجودة في الساحة ~~بالآلاف والملايين؟ # وكل هذا من أجل تحية إعجاب واعتراف بالبطولة؟ بمنطق عالمنا الحاضر، وبمنطق الإنسان الجالس ~~على مقهى مع شلة من أصحابه، بمنطق سائقي التاكسي أو سكرتير النقابة، وحتى بمنطق المدله ~~حبا في روايات طرزان ومغامرات رجال العصابات، بمنطق الأم والعمة والخالة، بمنطق عالمنا ~~الحاضر، المسألة كلها سخافة وجنون وقلة عقل. شيء لا يمكن أن يقبل أو حتى يحلم بقبوله أي ~~كائن عاقل معاصر أو حتى نصف عاقل. عمل لا يمكن أن يوصف بالبطولة ويقدر إلا في عصور كعصور ~~عنترة بن شداد أو إيفان هو وروبين هود، وذلك هو ما تحمله رائحة الماضي التي تهب من الساحة ~~وعليها، ورغم أن الناس والأزياء والمصارعين والثيران وكل شيء عصري من عمل عصرنا ونتيجته، ~~إلا ms56 أنك تحس بدوي الأبواق وظهور الموكب وملابسه وتقاليده الراسخة من قديم الزمان، تحس ~~تماما مثلما يحدث لك في السينما والمسرح. إن إطفاء النور والافتتاحية الموسيقية تنقلك من ~~واقعك إلى واقع الرواية بحيث تجوز عليك الخدعة المتفق عليها، وتعيش أحداث الرواية وكأنها ~~حقيقة وليست أبدا من صنع الخيال. # الشيء نفسه يحدث في المصارعة، وتتكفل أبواقها وموكبها وإجراءاتها الأولى بنقلك أنت ~~والساحة وكل ما عليها من الحاضر الواقع بكل قيمه وأنواع بطولاته إلى عالم مضى تحياه وكأنه ~~حاضر، وكأنهم يحضرونه لك لتحياه على أنه ماض حاضر، ولكن ليس في الأمر خدعة متفق عليها. ~~الصحيح أنها حقيقة متفق عليها، صراع حقيقي يدور أمامك، من فرط صدقه واندماج أطرافه تندمج ~~أنت الآخر وتتبنى الأسس التي يدور حولها الصراع، وتتحمس للقيم التي تحدد أحكامك له ~~أو عليه. # اندماج لا يحدث في العادة بسهولة ولا يتم فجأة أو ببساطة؛ فهو يستغرق زمنا وشدا ~~وجذبا بين أن تسلم وتصدق وبين أن تستسخف وتكذب. اندماج في الحقيقة لا يتم بإرادتك أبدا ~~وإنما أنت تجبر عليه، تجبرك عليه الحراب والمآزق والدم النازف والخطورة التي تحدق ~~بالمصارع لدى كل خطوة، وأن ينادي شخص بمبدأ ما بمجرد كلام ربما لا يدفعك هذا للاقتناع ~~به، ولكنك لا بد تغير من رأيك حين تراه يخوض المعارك الدامية من أجل هذا المبدأ فيعرض ~~نفسه لخطورة الموت ببساطة دفاعا عنه. # وهكذا بنفس منطق اللعبة، بالقوة، تجد نفسك في ردة حضارية تحياها كاملة وتقتنع بها ~~تماما حتى لتبدأ تتحمس وتنفعل لما كان يتحمس له وينفعل الأجداد الأول، وتشمئز مما ~~كانوا منه يشمئزون، وتمنح البطولة أو تقبضها على نفس الأسس والقيم التي كانوا بها يمنحون ~~أو يقبضون. # ومعظم الناس تنتهي ردتهم بانتهاء المصارعة، وحين يعودون إلى حياتهم الطبيعية يزاولونها ~~كما كانوا قبلا يفعلون بقوانين العصر وتقاليده، بمقاييس الناس الكثيرين الصغار في عالم ~~يومهم المزدحم. معظمهم يعرفون كيف يفرقون بين الساحة والحياة فينسون حماسهم الشديد ~~للبطولة من أجل البطولة على باب «الأرينا»، وهم أنفسهم الذين بحت أصواتهم هتافا ms57 للمصارع ~~وهو يضحي بحياته من أجل أن يمجد قيمة أو يقوم بعمل من أعمال البطولة، هم أنفسهم الذين ~~لا يتورعون عن الكذب في اليوم التالي والخداع واستجداء الشفقة وإزجاء الملق للرؤساء. ~~هذه مسألة وتلك مسألة أخرى. هذه ساحة بطولة وأبطال، وتلك ساحة حياة لا بطولة فيها ولا ~~أبطال. # وهناك قلة من الناس تفشل في الاندماج والتصديق، يأبى خيالها الضيق أن يرتد وأن ~~يتصور شيئا آخر غير ما يزاوله في حياته ويؤمن به ويراه. من أجل هذا تغادر «الأرينا» كما ~~دخلتها ساخرة من كل ما رأت ومن الدم الذي سال، بينما تعليقاتها لا تتعدى الحاضرين ~~والحاضرات، وعدد الفاتنات، وهل رأيت فلانة نجمة هوليوود، والشيء الوحيد الذي يؤلمها هو ثمن ~~الدخول؛ إذ بنفس قيمته كان من الممكن للواحد منهم أن يحتسي بضع زجاجات بيرة تعود عليه ~~بالانبساط، أو يأكل أكلة ساخنة تغذي جسده غذاء حقيقيا مضمون الفائدة. # أما أقل القليل فهم أولئك الذين تتأخر عودتهم من تلك الردة التاريخية بعض الوقت؛ إذ ~~تكون التجربة التي خاضوها شديدة الوقع عليهم وعلى تفكيرهم إلى درجة ليس من السهل أبدا ~~التخلص منها. # أولئك الذين يغادرون «الأرينا» وثمة زلزال قد حدث لعقولهم، تحطمت على أثره أشياء في ~~تفكيرهم وارتبكت أشياء. يخرجون وليسوا هم نفس الأشخاص الذين دخلوا! لقد دخلوا مجرد قادمين ~~من عالم الناس الكثيرين الصغار حاملين قيمه ومواصفاته للبطولة، وها هم قد خرجوا وقد أتيح ~~لهم أن يحيوا في عالم آخر ملك عليهم تفكيرهم بحيث لا يستطيعون التخلص من أثره، وبحيث ~~يقضون أياما كثيرة بعدها طلاب بطولة على نسق التي رأوها، وباحثين عن أبطال ومخاطر وأعمال ~~مجيدة تشيب لهولها الولدان، وكأن «الأرينا» بالنسبة إليهم اكتشاف في عالم هم يحتقرونه ~~ويشمئزون من علاقاته البشرية ومخازيه الكثيرة وضعف الرجال فيه. ها هم يساقون إلى حيث يجدون ~~في تلك الواحة التاريخية نموذجا حيا صادقا لعصر بطل، فتسكرهم النفحات ويتمنون أن ~~يبقوا إلى الأبد هنا، أو حين يضطرون إلى مغادرة الساحة إلى إحالة عالمهم الحاضر كله ليصبح ~~على شاكلة ms58 تلك الواحة . # ولكنها دفقات الانفعال الأولى والحماس؛ فما هو إلا يوم أو يومان وتبتلعهم الدوامة مرة ~~أخرى وإذا بهم يعودون آحادا من ملايين الصغار الكثيرين الذين يزدحم بهم عالم اليوم الصغير. ~~كل المجهود الإيجابي الذي تقوم به إراداتهم تمسكا بهذا العالم وحبا فيه أن نفوسهم بعد ~~حين تبدأ تهفو وتلح مطالبة بعودة أخرى إلى عالم الساحة والبطولة، وشيئا فشيئا يصبحون ~~زبائن المصارعة المستديمين. # غير أنه كما هي الحال في كل أمر مشابه، تجد هناك دائما أشخاصا نادرين أندر من أن تصدق ~~وجودهم، لا يفعلون كهؤلاء أو كأولئك. هذه القلة النادرة يبهرها عالم «الأرينا» ويستبد بها، ~~وتجتمع عوامل كثيرة أولها إرادة وطبيعة ثورية غير مدربة على الخضوع، بل متعتها الكبرى أن ~~تعارض وتعير وتخرج عن الحد المرسوم. وثانيها علاقات واهية بالعالم المزدحم الصغير، علاقات ~~ليست من القوة بحيث تجذب وترغم وتكبح جماح الإرادة وتظل وراء الثوري حتى يقنع نفسه أن قمة ~~الثورية هي الخضوع. وثالثها استعداد طبيعي يأخذ شكل الرغبة الجامحة. هذه القلة النادرة ~~تشاهد المصارعة مرة لتظل إلى الأبد تحياها وتحيا عالمها البطل بكل ما فيه من سحر وقيم، ~~وسرعان ما تجدها قد انضمت إلى هذا المجتمع المحدود الضيق، مجتمع المصارعين الذي لا يرحب ~~كثيرا بالغرباء، والذي تجد كل من فيه، أو بالأصح تجد معظمهم ونوابغهم متصوفين في محراب ~~هذه الردة التاريخية، ومنتهى أملهم في الوصول أن يكافحوا أنفسهم ونزواتهم والمغريات ~~الصغيرة الكثيرة من حولهم لتتشابه حياتهم داخل الدائرة الزمنية مع حياتهم خارجها؛ لتكون ~~حياتهم سلسلة متصلة الحلقات من اقتحام المخاطر وخوض الأهوال، من النخوة والشجاعة والمواجهة ~~والإصرار على الانتصار. # وكثيرون منهم يفشلون. إنهم جميعا أبناء فقراء وأحيانا بلا آباء، خرجتهم طفولة محرومة ~~وصدهم وعاداهم المجتمع صبية وشبابا، وفي المصارعة عثروا على أنفسهم، على الوسيلة التي ~~يستطيع بها الشاب النكرة اليتيم أو ابن الحرام الجائع العاطل أن يفرض نفسه على المجتمع بكل ~~ملايينه وثرائه وطبقاته، وكما يأتي الانتصار، ومن ثمة البطولة في المصارعة باختيار الموقف ~~الأخطر ووضع النفس فيه، ثم ms59 التغلب عليه بعد هذا واقتحامه؛ فهم أيضا في سبيل فرض أنفسهم ~~على المجتمع الذي حرمهم كل شيء يختارون الطريقة الأخطر، أخطر طريقة؛ العمل كمصارعي ثيران، ~~ذلك الذي يعرضون أنفسهم فيه للموت الأكيد كل لحظة، ثم لا يموتون، يقهرون الموت وينتصرون، ~~وينحني لهم المجتمع معترفا ومتحمسا ومصفقا. # والفشل يلحق البعض بل الكثرة، متسللا من نفس الطريق إلى المجد، من نفس الدوافع التي ~~حدت بالشاب المحروم أن يمتهن المصارعة ليصبح بطلا ويشبع بعض حرمانه. من نفس هذا الطريق ~~يدب سوس الفشل، حين يسكر الميتادور بخمر البطولة وتصبح المصارعة عنده ليست غاية على ~~استعداد من أجلها أن يصون نفسه وإرادته ليصبح أقوى وأكثر قدرة على التحكم في ذاته، ولكن ~~تصبح المصارعة بعد الوصول إلى القمة مجرد وسيلة لا تخدم نفسه بعد حرمانها الطويل. # وإذا كان بعض النساء وبعض الخمر وبعض النقود تحفز همة نجم المصارعة إلى الصعود، فإن ما ~~يهوي به هي جرعات أكبر من هذه العقاقير المحفزة نفسها، ولا بد أنه مثل صادق ذلك الذي ~~يقول: ما كان قليله يحفز، فكثيره يضيع ويفقد. # | الفصل الثاني عشر # كانت المعركة بين الثور وصاحبنا ومحاوراتهما قد أخذتهما بعيدا عن مقاعدنا إلى الناحية ~~الأخرى. والقرب والبعد مسألة مهمة، لا لإمكان متابعة الصراع عن كثب وملاحظة كل تفاصيله، ~~ولكن لأن وجودك بعيدا عن الصراع يقلل من انفعالك به دون أن تشعر، بحيث تراقبه وليس بينك ~~وبينه مسافة مترية فقط، ولكن مسافة نفسية أيضا تجعل الصراع يصلك وكأنه أخبار تنتقل إليك. ~~أما وجودك على مقربة من المعركة فهو يجعلك رغما عنك تشترك فيها وتحياها، تماما مثلك حين ~~تمر بخناقة بعيدة مهما بلغت قوتها فلن يصل اهتمامك بها إلى حد التوقف أو التوجه إليها، ~~وحين تمر بالخناقة على نفس رصيفك فإنك رغما عنك تتوقف وتصبح جزءا منها. # وهكذا تكفلت المحاورات المتصلة بنقل مركز الصراع بحيث أصبح في الجزء من محيط الدائرة ~~الرملية الذي يلاصق مقاعدنا، أصبحت المعركة بالنسبة لجمهور مدرجاتنا كله أكثر جدية ~~ورهبة ووحشية. كان الثور حين يقبل ms60 مهاجما نحس لقربنا الشديد أنه لا يصوب قرنيه إلى ~~الميتادور وحده، ولكنه يصوبهما إلينا أيضا، وكأن الميتادور متفرج معنا متطرف المقعد ~~أو الوقفة ليس إلا. وحين كانت المعركة بعيدة كنا نتفرج ونتحمس أو يهبط حماسنا تبعا ~~لما نراه من حركات. # ولكننا هنا فقدنا القدرة على التفرج. شلت أكفنا وحناجرنا عن أن تصفق أو تهتف. ~~أصبحنا كصاحبنا المصارع نتنهد فرحة كلما نجح في الإفلات من هجمة، وتدق قلوبنا برعب حقيقي ~~حينما يضيق عليه الثور الخناق ويقبل، وكأنما للمرة الأخيرة التي جهز فيها نفسه على أن ~~يضرب الضربة القاضية وقد أصبح وجهه قريبا باستطاعتنا رؤية تفاصيل ملامحه. # يا لبشاعتها حين يقبل متخذا بها سحنة الضربة القاضية! لقد اكتشفت وأنا أتأمل ملامحه ~~وأفعل هذا ربما للمرة الأولى في حياتي، ونادرا ما يحدث لنا أن نعيد تأمل ملامح أي كائن ~~من الكائنات التي تعودنا رؤيتها، نادرا جدا ما نلقي نظرة فاحصة واعية نراجع بها ~~شكل القطة في نظرنا مثلا. هذا الثور، لقد آمنت أنه أبشع المخلوقات شكلا، وكل ما في ملامحه ~~كتل كروية بشعة اللون والتكوين، كرتان بارزتان من جانبي جبهته ثعبانيتا اللون على هيئة ~~عيون، وكرة ذات فتحتين موضوعة على بعد كبير من الكرتين لتكون الأنف، أي أنف. وفم ليس ~~سوى شق واسع قبيح يشطر ذلك الشيء المستطيل بلا معنى، المثلث بلا هدف، إلى شطرين وكأنما هي ~~كتلة خشب لا تصلح من بشاعتها لشيء، قام نجار غبي بشقها بلا هدف أيضا، ووسع الشق بإسفين، ~~هو ذلك اللسان الممدود، ناهيك حين تنقلب هذه الملامح البشعة تحت تأثير الهياج والرغبة ~~البدائية الوحشية في التحطيم والقتل والتخريب، حين تتفتح على آخرها ثقوب الأنف وتنقلب ~~حوافها إلى أعلى وترتعش منقبضة منبسطة. وحين تحمر كرتا العينين وينقلب الثعباني الأصفر ~~إلى لون الدم، ويصبح الوجه المستطيل الغبي أكثر استطالة وغباء وحمقا، وشق الفم أكثر ~~اتساعا وإسفينه اللساني قد تدلى وارما متضخما يسيل منه اللعاب. لعاب كثير يسيل من ~~اللسان ومن الفم والأنف وحتى من العينين، وتتساقط السوائل كغضب سائل ms61 كنقمة ذلك الوحش ~~الكاسر تلفظها عيناه، وتتفصد من كل عظمة وعضلة وظلف فيه. # كان المنظر يرعب حقا ويدفع الفتاة الكوبية للتشبث بحديد السور وكأنما تستغيث ~~مروعة استغاثات مكتومة، لا تحاول هي وحدها بل يحاول الجميع كتمانها كل على ~~طريقته. # وكان الثور يلهث، وهو طوال الوقت يلهث، ولهثه كان أبشع من أي شيء سمعته أو تسمعه أذناك. ~~لا، ليس خوارا ولا شخيرا، وإنما شيء كالشهقات المتقطعة المخنوقة التي تنبعث ليس من ~~التنفس وإنما من معاناة الألم العظيم. صوت خشن منخفض مكتوم متوال على هيئة لهث منتظم ~~متزايد السرعة تقشعر له الأذن نفسها حتى قبل أن تنقله إلى مراكز الإحساس العليا ليبعث ~~القشعريرة في الجسد كله. صوت لا بد يذكرك لا بشيء سمعته في حياتك أو حياة آبائك وأجدادك، ~~ولكن بأصوات المخاطر البدائية الأولى حين كنت إنسان الغابة وحيث لا تزال بقايا عقلك البدائي ~~تحتفظ بأمثال هذه الأنات وبأصدائها، وترتعش رعبا إذا استعادتها رغم ملايين السنين من ~~التطور والتغير والتاريخ. # وكانت قد مضت عشرون دقيقة على بداية «الميوليتا» اعتبرها الإسبان المتناثرون حولنا في ~~لحظات الراحة التي كانت تتم رغما عنا، وبسبب فشل أجهزتنا وقوانا في القدرة على استمرار ~~المتابعة وتركيز الانتباه مع الانفعالات الهائلة المروعة التي تصاحبه، لحظات راحة تتبدى ~~على هيئة تعليق طال كبته، أو آهة مسموعة تنطلق بلا أوان، أو كلمة لا معنى لها تصدر عن ~~صاحبها بلا وعي أو هدف. اعتبرها هواة اللعبة الإسبان رقما يحطم غيره من الأرقام من ناحية ~~الزمن، ومن ناحية القدرة اعتبروها معجزة؛ فلم يحدث في تاريخ اللعبة - أو على الأقل تاريخهم ~~في اللعبة - أن رأوا ثورا يستمر هذه المدة كلها يهاجم بلا توقف وبلا إجهاد يجبره على ~~الاستسلام. وكذلك لم يحدث أن بقي مصارع وقتا طويلا كهذا حافظا لقوته وخفته ~~وتوازنه. # وكأنما الخاطر كان يدور في العقول كلها في آن واحد؛ إذ بلا مناسبة ومن غير داع ودون أن ~~يحدث في المعركة ما يستحق، دوت «الأرينا» كلها وفي وقت واحد بموجة تصفيق مرتفعة مدوية ms62 ~~تحس أنها ليست موجهة إلى طرف دون طرف، إنها موجهة للاثنين معا تحييهما وتحيي ~~معهما البطولة التي جاوزا بها الحد المتعارف عليه؛ إذ لولا صمود كل منهما ما ظفر الآخر. ~~موجة تصفيق ما لبث أن انحسرت وانتهت. # ففي تلك اللحظة انزلقت قدم الميتادور وسقط على الأرض، في نفس الوقت الذي كان الثور فيه ~~يستدير ليواجهه. # وكعربات النجدة السريعة اندفع المصارعون المختبئون خلف العوارض الخشبية. # وتحرك الفرسان نحو باب الدخول، وطار إلى جزء السور القريب من المعركة صبيان الملعب ~~بالحراب الطويلة. # وكانت قلوبنا - نحن الملاصقين للمعركة - تقفز من صدورنا إلى الساحة حيث تمنع ~~الكارثة. # ولكن صاحبنا كفى الجميع مئونة أية خطوة أو إجراء آخر؛ فما كاد يسقط ويلامس جسده الأرض ~~حتى كان قد اعتدل، والوقت كان كافيا أمامه ليقف ويواجه الثور المقبل على قدميه، ولكنه شاء ~~لست أدري لم، ربما ليزيل من النفوس لمحة الإشفاق التي صاحبت سقوطه، وربما ليستأنف المصارعة ~~لا على نفس المستوى الذي سقط عنده، وإنما على مستوى أعلى وكأنما ليجعل من السقطة إلى أسفل ~~سقطة إلى أعلى؛ ليمضي صاعدا باستمرار في أعين جمهوره. # شاء أن يواجه الثور وهو على ركبتيه نصف واقف. # ولكنه لم يجلب لنفسه سوى اللعنات، وما أغرب هذا الجمهور الذي يظل يطالب ويلح في المطالبة ~~بالمواقف الخطرة! الجمهور الذي يحرض على اقتحام الخطر هو نفسه الذي يستنكر أن يقوم صاحبنا ~~بحركة خطرة كهذه، ولكن يبدو أن الفترة التي قضاها صاحبنا يصارع ذلك الثور الجهنمي، ويبدي ~~في صراعه آيات بطولة حقيقية دون أن ينتظر أحدا ليحرضه على اقتحام المخاطر إنما هو من ~~تلقاء نفسه يقتحمها ليخرج منها سليما ظافرا، هذا كله جعل الجمهور يؤمن أنه أمام بطل حقيقي ~~من أبطال المصارعة، أمام بطل نادر، بطل لم يحظ بإعجابه فقط، ولكن ها هي ذي اللعنات التي ~~ننصب عليه تثبت أنه ظفر أيضا بما هو أصعب من الإعجاب بكثير، بالحب؛ حب الجمهور له، الحب ~~الذي وصل إلى درجة الإحساس بالتملك والحرص؛ فها هو الجمهور الذي يحرض المصارعين ms63 الذين ~~لا يعرفهم على تعريض أنفسهم للخطر مع احتمال أن يذهبوا ضحية سهلة للتحريض، ها هو نفسه ~~أصبح يحافظ على صاحبنا ويقلق على مصيره ويحرضه هذه المرة على المحافظة على نفسه. # استنتاج دفعني بنوع من الزهو؛ فها هو الشيء الذي قدرته من أول رؤية لصاحبي، هذا الشيء ~~الذي ربطني به من أول دقيقة ودفعني من أول دقيقة أيضا كي أتابعه وأقلق عليه وعلى مصيره، ها ~~هو ذا تثبت صحته ويثبت أني كنت على حق. ها هي الخيوط، ثلاثون ألف خيط تمتد من ثلاثين ألف ~~نفس وتربطهم به، ها هو الإحساس الذي كنت أحسه وحدي يشاركني فيه آلاف، آلافهم جميعا، حتى ~~الفتاة الكوبية التي سود دماءها منذ هنيهة، ها هي ذي تبدو وكأنها نسيت كل شيء أو غفرت ~~وراحت باهتمام يكاد يعدل اهتمام كافة البشر تتابعه وتجن قلقا عليه. # كانت مواجهة الثور على تلك الصورة عملا بطوليا حقيقة، ولكنه يتطرف ليصبح نوعا من ~~البطولة المبالغ فيها التي هي والحمق سواء بسواء. فالثور لم يكن منهكا أو فاقدا الكثير ~~من طاقته، والصراع كان يدور سجالا بينهما بحيث يبدو ألا حل للموقف إلا أن ينتهز أيهما ~~أية فرصة أو ثغرة يقدمها الآخر، والركوع على الركب يعطي الفرصة كاملة للثور، ويهبط بقدرة ~~المصارع إلى ما دون النصف بكثير، وهي حركة لا يجرؤ المصارعون على القيام بها إلا قرب نهاية ~~النهاية، وحين يكون الثور قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت تعبا وإجهادا. # وأقبل الثور بأسرع مما يتوقعه أحد، وكأنما غذت سرعته فرحة القرب من لحظة الفوز، وبدا ~~الموقف خطيرا إلى أبعد درجات الخطورة، وكأنما الميتادور نفسه قد أدرك مدى خطورته وسخافة ~~إقدامه على الحركة. وتصاعدت صيحات التحذير والتأوه والاستغاثة، ولمحت المئات يضربون ~~جباههم بأيديهم تعاسة ويأسا وإحساسا بالخسارة، ودقات القلوب، الثلاثون ألف قلب وهي ~~تتلاحق وتتعالى مضت تنطق بما لم تكن الألسنة تجرؤ على البوح به بأنه ضاع وانتهى؛ إذ أين ~~المفر؟ وكيف النجاة؟ والثور ينقض ولا وقت للعدول عن الحركة ولا وقت ms64 للوقوف ولا أمل في ~~النجاة. # شيء واحد فقط يطمئنني، أن إلهامي لم يهمس لي أنه سيموت. # دليل تافه وغير علمي وسخيف، ولكنه كان كل ما لدي في تلك اللحظة لأتمسك به. # وانقض الثور على العباءة محنيا رأسه. # وانثنى الشاب بآخر ما يستطيع من مدى إلى ناحية انثناءة جعلت ساقه اليسرى تستقيم. # وهكذا مر الثور هذه المرة دون أن يصيبه بأذى. # ولكن هذا كان أمرا شبه متوقع؛ فالخطورة في الحركة التالية حين يستدير الثور في طرفة ~~عين ويقبل مهاجما من الناحية الأخرى؛ إذ حينئذ سيأتي الهجوم من ناحية ظهره بينما هو راكع ~~على الأرض غير قادر على الحركة أو الاستدارة. إن الرد الوحيد أن يقف ويستدير ويواجهه ~~ليستطيع أن يحدد اتجاه هجومه ويتنحى عنه، ولكنه رد مستحيل؛ فالوقت الذي سيأخذه ~~للقيام بكل هذه الحركات أضعاف الوقت الذي سيستغرقه الثور للاستدارة والهجوم. # هكذا كان يبدو الأمر للجمهور، وهكذا حدث لنا ذلك الصمم الغريب وكأن الآذان نفخت بهواء ~~ساخن مضغوط. # ولم نعرف، ويبدو أننا لن نعرف إلى الأبد كيف حدث هذا؛ إذ في نفس اللحظة التي كان الثور ~~يستدير فيها كان الميتادور الشاب قد وقف على ساقيه. وهكذا حين أقبل الثور مهاجما وجد ~~أمامه المصارع محددا خط هجومه مستعدا للتنحي في الوقت المناسب. خيل إلي أنه في ~~تنحية الأول حين استقامت ساقه اليسرى وقد مر الثور ارتكز على اليمنى وحشد كل قواه حتى ~~ارتفعت به عضلاتها وكأنها آلة رافعة إلى مستوى الوقوف. ولكنه مجرد فرض؛ فالقيام بحركة ~~كهذه في حاجة إلى قوة عظمى تسري في الساق في تلك اللحظة، قوة خارقة كالمعجزة لا يمكن لإنسان ~~ما مهما بلغت قوة إرادته أن يستحضرها، لا بد لها أن تأتي إن كانت ستجيء من تلقاء نفسها، ~~كأي معجزة لا تواتي الإنسان إلا في حالة الضرورة الحيوية القصوى التي يستدعيها لانتشال نفسه ~~من لحظة موت مؤكدة. # ولم تجتح «الأرينا» كما توقع الجميع موجة تصفيق عارم، لم يتصاعد هتاف فالناس تصفق ~~وتهتف للبطولة، أما المعجزة فالرد الوحيد عليها ms65 هو الانبهار والذهول. # واستمرت الميوليتا. # | الفصل الثالث عشر # عشر دقائق أخرى استمرتها بحيث لم يعد هواة الإحصاء يحسبون أو يعجبون، وبحيث كان الجمهور ~~نفسه هو الذي أصابه التعب والإجهاد حتى كاد يلهث وهو يتفرج، بحيث شبع الناس من آيات ~~البطولة ومآزق الخطر كجائع مضى يلتهم الطعام حتى أصيب بالتخمة وبدأت نفسه تعاف الطعام، ولم ~~يعد يهمه إلا أن تنتهي هذه المرحلة ويحين الوقت كي يغرس المصارع سيفه بين ضلوع الثور ~~ويخلص عليه ويخلصهم منه. # عشر دقائق طويلة كالأبد والثور العنيد أمام المصارع العنيد وكلاهما لا يرحم الآخر، ~~وكلاهما لا يمل أو يكل وكأنما يخجله أن يضعف في حضرة خصمه. والساحة قطعاها من المحيط إلى ~~المحيط ولم يعد فيها مكان إلا وشهد مأزقا أو خطرا أو حركة بالغة البراعة والبطولة، ~~ومنهما معا. # لم يعد يربط الناس في الحقيقة إلى مقاعدهم وإلى المعركة اللانهائية الدائرة أمامهم إلا ~~تلك الخيوط الخفية، آلافها المؤلفة التي تربط كلا منهم وكأنما بطريقة شخصية محضة ~~بصاحبنا المصارع، والتي بمضي الثواني والدقائق كانت تقوى وتشتد حتى لقد ملوا المصارعة ~~ولكنهم لم يملوا المصارع ولم تتخل عنهم لومضة متابعتهم له، أو غادرهم لثانية قلقهم ~~الهائل عليه وعلى مصيره، حتى لقد انعكس ذلك الارتباط والاهتمام على نظرتهم للثور. قد ~~يكرهونه أو يحقدون عليه فقد كان يحارب ببطولة هو الآخر وحذق، ولكنهم أيضا لم يحبوه أو ~~يشفقوا عليه. الحقيقة كانت عواطفهم تجاهه تنبت فجأة وتتغير فجأة وتختفي فجأة! فاذا ~~حاصر المصارع وبدا أنه سينقض، ارتفع لديهم حقد مفاجئ عليه يبلغ الذروة، وينخفض حالا إلى ~~الصفر حين ينجح صاحبنا المصارع في التغلب على المأزق. وحين كانوا يرون الثور يبذل جهده ~~المضني القاتل ويلهث لهثة المؤرق وهو يكافح ليستدير وليعود يهاجم، كانت تنبت له في أنفسهم ~~شفقة ولكنها إلى حين. وأخيرا وكميل شمس يوم صيام طويل حار تشرخت له من الظمأ حلوق ~~الصائمين، كميل شمس يوم كهذا للمغيب، بدا في النهاية أن التعب قد نال من الثور تماما حتى ~~أصبح يتوقف عن الحركة ms66 مرغما. # وكاد الناس يتنفسون الصعداء لولا أنهم أدركوا أن المصارع هو الآخر كان قد هده التعب ~~هدا. بدا هذا واضحا من الجهد العظيم الذي كان يبذله لكي يولي الثور ظهره مبتعدا عنه، ~~حين يكف عن الهجوم ليتلقى تحية الجمهور. # وكأنما بمعاهدة غير مكتوبة كثرت النوبات التي يتوقف فيها الثور بلا حراك، والتي يتركه ~~فيها المصارع ويستدير محييا الجمهور في بطء. # وكذلك مضى الثور يستغرق مددا أطول لكي يستعد ويعاود الهجوم فترات ونوبات أتاحت ~~للغريمين العنيدين أن يختلسا بضع لحظات يلتقطان فيها أنفاسهما استعدادا للمرحلة الحاسمة ~~المقبلة. # وهكذا دون أن يدوي نفير، أو يدل شيء على الحدث الخطير التالي، ترك المصارع الثور واقفا ~~وسط الدائرة الرملية لا يتحرك، واقترب من السور حيث استبدل بالقطعة المعدنية سيفا من ~~الصلب اللامع، وكذلك غير «الكابا» الحمراء بأخرى في لون الدم القاني. # ودارت محاورات أخرى، الخلاف الوحيد بينها وبين ما سبقها أن المصارع كان يستعمل السيف في ~~سند العباءة وفردها بدل القطعة المعدنية. المحاورات التي يأمل المصارع منها أن يصل الإنهاك ~~بالثور حد التوقف عن الحركة، وأن يضمن توقفه هكذا لبعض الوقت بحيث حين يبتعد عنه ~~وينشن بالسيف على المكان المناسب للطعنة، ثم يندفع تجاهه، لا يتحرك الثور إلا قليلا، ~~وبهذا يأخذ الطعنة إلى النهاية، إلى مقبض السيف. # وانتهت المحاورات بتوقف الثور وقد هد جسده واستنفدت قواه إلى آخر قطرة. # وحف بالزمن على قصره سكون مهيب تام. # وشملت «الأرينا» رهبة، رهبة الموقف، ورهبة الموت المقبل. # إن الموت دائما وفي كل زمان ومكان وبالنسبة لأي كائن حي لحظته أبدا لا تمر ~~عادية. # إن الحياة كل أنواع الحياة تكاد تسكن تجاهها حدادا وخشوعا. # وهذه ليست ميتة عادية، إنها ميتة بطل! وبطولة الكائنات تقربها كثيرا من جنس البشر، ~~دليل آخر على غرور الإنسان كأنما البطولة من صفاته وحده، وحتى لو كان البطل ثورا فقد بز ~~بني جنسه جميعا وقام بما لم يقم به ثور. # وليست رهبة الموت فقط ولا رهبة الموت البطل. # ولكنها أيضا وأهم رهبة الموت المدبر ms67، رهبة القتل ، حتى لو كان القتل تتويجا لصراع فهو لا ~~يزال، أمامنا قتلا. ها هو المصارع يستعد له ويترصد، ويتراجع إلى الخلف ويسبق عمله ~~بالإصرار، وينشن. # رهبة الاغتيال. # حين تؤخذ الضحية على غرة، فصحيح أن الثور يرى المصارع ويرى ما يقوم به من استعدادات، ولكن ~~إنهاكه يشله ويحول بينه وبين مهاجمته، غير أنه لو قدر له أن يعي أن هذه التحركات نفسها ~~ليست سوى مقدمات قتله ومصرعه لاندفع يهاجم خصمه ولو مات إنهاكا، ولما وقف أبدا ~~مستسلما لتعبه أو كالمستسلم. # لحظة رهبة حقيقية، لا بطولة فيها ولا يتحمس فيها الجمهور لطرف أو لعمل؛ إذ هو لحظتها ~~يكون مشغولا بما هو أهم وأشمل وأخطر، بغريمه اللدود وبغريم كل كائن حي، بالموت الذي يتاح ~~له أن يراه وأن يعرف أنه سيقع حالا، وأن هذا الكائن الحي المنتصب أمامه سيرقد بعد ثوان ~~ميتا. # يشغل الجمهور بالموت، بل تتعدى مشغوليته الكبرى إلى ما هو أخطر من الموت، معرفة الموت ~~قبل وقوعه، والوقت الذي سيحدث فيه والكائن الذي سيموت. إنها تجربة لا يحياها أي من ~~الآلاف الثلاثين كل يوم. تجربة تمسه شخصيا هذه المرة وتستدعي إلى واعيته ألوانا وآلافا ~~من الخواطر. # وذلك هو الصمت الذي كان مستتبا وشاملا، كان صمتا من الخارج. # فهو من الداخل آلاف وملايين من الخواطر والهواتف والهواجس تتشابك وتتلوى وتصرخ كملايين ~~الحيات الزاحفة ذات الأجراس داخل آلاف الجماجم والرءوس. # وتحدث الحركة بأسرع مما يبرق البرق أو يلمع النصل ويغيب. # إذ هكذا ما كدنا نلمح المصارع وقد انتهى من تدبر موقفه وحركته القادمة واتجاهه، حتى ~~رأيناه كإشارة ملوحة يندفع والثور يتحرك في نفس الوقت ولا يرى للتماس أو الاحتكاك أثر، ~~وفقط حين ابتعد المصارع واندفع الثور يستدير لمحنا السيف وكأنما غرسته يد أخف من يد حاو، ~~ولكن الطعنة لم تكن قد وصلت بالسيف إلا لمنتصفه. # وليس هذا هو المهم؛ فممكن أن تكون هناك طعنة ثانية وثالثة. # المهم أن الثور ما كاد يتلقى الطعنة ويحس بالنصل المعدني البارد قد اخترق صدره واقترب ~~من ms68 صميم الحياة فيه، حتى حدث ما لم يكن في حسبان أحد، كأنما ضغط السيف بطرفه على زر ~~التفجير، كأنما الطعنة فتحت أبواب مخازن طاقة كامنة هائلة لا تفتح إلا على كلمة السر تلك، ~~كأنما الغدر الذي تمت به استدعى للوجود وحشية الوحش وأجداده وسلالاته أجمعين، كأنما حدث ~~بهذه الحركة التي بالكاد لحظها أحد شيء طاغ عات؛ إذ جاء رد الفعل طاغيا عاتيا وحشيا ~~أثار القشعريرة في البدن؛ فهذا الثور الذي كان الإعياء قد شله وأتى على كل قواه، انتفض ~~منه كائن آخر كأنما لا يمت إليه بصلة، كائن قل فيه ما شئت من صفات، مجنون غاضب سفاح ~~مجرم! قل كل ما شئت فلن تستطيع وصفه أبدا ولن أستطيع؛ إذ المفاجأة التي تم بها التغيير، ~~والسرعة التي تعاقبت بعدها الأحداث لم تدع لأحد وقتا يتأمله ويدقق في صفاته، ومن ~~يدقق في صفات البحر حين تندلع العاصفة؟ ومن يتأمل النار ساعة شبوب الحريق؟ # انطلق الثور في غضب أعمى يهاجم المصارع في قسوة وبهدف واضح صريح كأنما كتب على جبينه أن ~~يقتله. # وكان رد الفعل أن بدأ المصارع يجمع في ثانية شتات قواه التي بعثرها صراع عنيد طويل، ~~ودفعته الرغبة في الحياة وصرخة الدفاع عن النفس التي انطلقت على نية الثور الواضحة وكأنها ~~نية كائن بشري تظهر ملامحه ما ينتويه، ومضى يدافع عن نفسه دفاعا كان في الحقيقة مرحلة ~~أكثر يأسا من الدفاع عن النفس؛ كان فقط تأجيلا للحظة الموت. # ومن خمود الشبعى المتخمين انتفضت آلاف الجماهير مستردة وعيها وانتباهها حاشدة قواها، ~~تكاد تقف على أطراف أصابعها قلقا وذهولا وخوفا. # وفي هجمته المنتفضة الثالثة أو الرابعة اندفع السيف من تلقاء نفسه طائرا في الهواء، ~~وكأنما قذفه خارج الصدر بركان تفجر داخله. # وأصبح الثور أكثر انطلاقا. # واندفع في اتجاه المصارع. # ولم يكن في العملية كلها سواء من جانب الثور أو جانب المصارع تكتيك أو أصول أو حساب ~~وقواعد. كان الثور يهاجم وحين يتفاداه الشاب يغير من اتجاهه ويستمر يهاجم، ولم يكن يهاجم ~~العباءة الحمراء ms69 وحدها، أصبح يهاجم العباءة إن وجدها وجسد المصارع نفسه إذا كان أمامه. ~~ومزقت قرناه العباءة أكثر من مرة، وبالكاد كان يجد المصارع وقتا أو مكانا ~~لاستبدالها. # وكان لا بد أن يحدث ما حدث. # ففي هجمته اشتبكت قرون الثور بثياب المصارع. ودفع الثور رأسه إلى أعلى، ولكن هذه الحركة ~~البسيطة أطارت الشاب النحيف في الهواء وأسقطته على بعد أمتار. ولحسن الحظ جاءت سقطته قريبا ~~من السور، واندفع نافذا بجلده ليحتمي بالعارضة القريبة من الثور المقبل عليه، والكلمة ~~المكتوبة على جبينه تتوهج وكأنما تحولت حروفها إلى نار. وحين خرج ستة مصارعين لتعطيله ~~حتى يتمكن زميلهم من الوصول إلى العارضة، اندفع الثور يكتسحهم، وبانقضاضة منه يدور عليهم ~~مشتتا شملهم بحيث يطلق كل منهم ساقيه للريح يبحث عن عارضة تحميه. # وفعل هذا كله دون أن ينسى غريمه؛ فقد أقبل على العارضة التي يختفي خلفها، ولم يهمه ~~أنها من الخشب؛ فقد نطحها بقرنه أكثر من مرة، وحين لم يجد فائدة وقف أمامها لا يتحرك ~~متربصا لغريمه تربص قاتل صمم على الإجهاز. # أكدت الحادثة أن النية التي تحملها ملامحه وتتوهج نارية من عينيه نية حقيقية لن ~~يتراجع إلا بتحقيقها، وأكدت هذا أول ما أكدته للمصارع نفسه، وبهذه الانقضاضة التي لولا ~~ضربة حظ عشواء لأتت عليه. وفي الحال انقلب خط الدفاع عن النفس الذي كان قد اتخذه إلى غضب ~~أحمق مجنون هو الآخر، وانقلبت عنده نية قتل الثور من نية قتل طلبا للبطولة، إلى نية قتل ~~غريم وعدو لدود، ألد الأعداء، قاتلك. # وهكذا لم ينتظر أن يغادر الثور مكانه ليدع له فرصة الخروج، أشار إلى زملائه آمرا بنفس ~~لهجة الغضب أن يلوحوا للثور بعباءاتهم ليبعدوه عن مكان الخروج. ولم يأبه الثور للتلويحات ~~الأولى وكأنما هو قد حدد غريمه وطاعنه ولا يريد أن ينشغل للحظة واحدة عنه. # ولكن إصرار الزملاء وملاحقتهم دفعاه إلى التخلي عن موقفه والجري وراء العباءة. # وغادر صاحبنا مخبأه الإجباري والغضب الهائل لا يزال يجتاحه ويمتقع له وجهه كما لم يمتقع ~~بالخوف أو رهبة الدفاع ms70 عن النفس . # وكان الجمهور أيضا قد بدأ يغضب لغضبته، ويقف معه وإن كان بالقلب وحده ضد غريمه المجرم ~~الذي عقد العزم على الفتك به. # وبدأ جو ثان غريب يسيطر على الساحة، وخيم على الناس صمت كان له صوت لا أثر مادي له، ~~ولكنه أعلى من كل صوت. # ولا أدري لماذا شعرنا جميعا ونحن في مقاعدنا بتحفز مفاجئ؟ لم تكن المحاورات والمناورات ~~بين الثور والمصارع قد تغيرت، إنها هي نفسها التي كانت دائرة قبل عملية الطعن الفاشل، ~~ولكن وقعها كان مختلفا، وكان الثور يؤدي دوره بشراسة أكثر، وبدا في رد المصارع نوع من ~~فقدان الأعصاب، ذلك الذي ينتج حين تشد الأعصاب وتتوتر إلى آخرها حتى يبدأ بعضها يتمزق ~~وتبدأ طاقات الصبر تنفد واحدة وراء الأخرى. # وكذلك بدأ وجهه يصبح أكثر شحوبا وتصميما. # ومن الصعب المستحيل أن أصف اللحظات القليلة التي سبقت ما حدث؛ فنحن لا يمكننا وصف ما يسبق ~~الحادث إلا إذا كنا على معرفة سابقة بحدوثه أو على الأقل نتوقع حدوثه. كل ما أستطيع قوله ~~إن المحاورة ظلت دائرة، وكلما طال استمرارها ظهر التخبط الأعمى في حركات الثور، ~~والاضطراب الذي لا مبرر له في تحركات الميتادور. قال البعض إنه التعب، لقد استنفدا كل ~~قواهما وإلى آخر قطرة. قال آخرون إن الثور بسبب النزيف المستمر قد أصيب بالعمى، وإنه لم ~~يعد يرى فقد أصبح يهاجم بلا سبب ويتوقف بلا سبب، وتطيش هجمته مرة ويرتد مرة أخرى فجأة، ~~وبلا توقع فيكاد يأتي على الميتادور، ولكنه كان يفعل هذا كله بدافع بدا مختلفا تماما ~~وكأنه الحقد، الحقد الدفين المبيت، الحقد الذي يشعل في الكائنات العليا نار الحرب ويجعل ~~الأخ يذبح أخاه. # وفجأة، أجل فجأة! هكذا تحل الأحداث دائما فجأة، فجأة! ولغير ما سبب معلوم أو مرئي ~~انزلقت قدمه وسقط، لم يعرف أحد لماذا انزلقت قدمه أو السبب الحقيقي لسقوطه؛ فقد وجدناه ~~فجأة ممددا على الأرض. # كان الثور قريبا منه ورأسه في اتجاهه أيضا، ورغم أن سقطته المفاجئة أعقبتها في الحال ~~وقفة مفاجئة منا ms71، من الثلاثين ألف متفرج، وقفة خوف إلا أنه خوف يشوبه اطمئنان كثير؛ فقد ~~خدعتنا نجاته السابقة، واعتقدنا جميعا وبلا استثناء واحد أنه لا بد سيحدث كما حدث في المرة ~~الأولى، وسيهب حالا من وقفته ويستأنف الصراع. ولكن الثور في تلك اللحظات كان مقبلا عليه ~~إقبالا أسرع من الزمن - هكذا بدا لنا - أسرع من خواطرنا، أسرع من حساباتنا، أسرع من أي شيء ~~في الوجود؛ إذ كان له سرعة النكبة والكارثة والقضاء حين يحم. # ولكن سرعته تلك لا تنفي أبدا أنه لم يكن هناك وقت، ليس وقتا كثيرا، ولكنه ذلك الحد ~~الأدنى من الوقت، ذلك الذي تستطيع بالكاد أن تلمحه وتحس وجوده أو مروره، وقت كان يكفي على ~~الأقل ليعتدل الشاب، ولو أوتي نفس قدرته الأولى لكان قد استطاع أن يقف ويتفادى من الثور ~~القادم. # ولكنه لم يقف ولم يعتدل ولا حتى رفع ذراعا أو حرك ساقا. رقدة ولو أنها لم تأخذ وقتا ~~إلا أنها أثارت استنكارا؛ فقد أحس الجميع أنها رقدة استسلام غريبة للثور القادم المنقض، ~~أو بالأصح لما وراء هذا الثور القادم المنقض، وكأنما بفعل صاعقة وجدانية شاملة مكتسحة. في ~~ذلك الجزيء من الوقت أحسست لفرط تآزري معه في معركته، لفرط تبن لموقفه، لقوة الخيط الذي ~~يصل بيني وبينه والذي كاد يسحب مني الروح لتحل بجسده، أحسست وكأنما الشلل الذي انتابه قد ~~شلني أنا الآخر وأصابني، شلل لا تفسير له ولا تبرير، شلل ساعة حدوثه لا تستطيع أبدا ~~تبينه أو إدراكه، لا تحس به إلا هناك حينما تجلس مثلي على مكتب تستعيد ما حدث وأمامك ~~الوقت متسعا للتأمل والتحليل والتبرير. لطالما سمعت عن تلك اللحظة وقالها الناس أمامي ~~وسخرت من قولهم، تلك التي يقولون عنها إن «سهم الله» قد نفذ فيهم فأوقف التفكير وشل الجسد ~~وأعمى الروح. تلك التي تحدث لنا حين نواجه بغتة خطرا لا قبل لنا به، أو قوة غاشمة ~~عاتية لا يمكننا أبدا مقاومتها. إنها آخر مراحل وقوفنا أمام تلك القوة. إننا أساسا كبشر ~~لا نعترف بوجود ms72 قوة غاشمة لشيء في الكون لا قبل له به. وحين نرى تلك القوة أو نلمحها ~~وبيننا وبينها مسافة، مسافة مترية أو زمنية أو نسبية، مسافة «أمن» نسبي؛ فأول شيء نفكر ~~فيه أن نقاوم تلك القوة ونعاديها ونحاربها، هكذا تلقائيا وغريزيا وبصفتنا كائنات حية، ~~حتى لو اضطررنا للهرب منها ففي الهرب معاداة وكره، تماما مثل ما في المواجهة من معاداة ~~وكره. ونظل في حرب معها، في إحساس شامل بمقاومتها والرغبة في تحطيمها وتشتيتها حتى تنجح تلك ~~القوة في الاقتراب منا وتهديدنا، وتخرق بهذا خط أمننا النسبي. حين يحدث هذا ونروع نحن ~~باندحار هذا الخط وبأن هذه القوة الغاشمة قد اقتربت منا ومن تهديدنا إلى درجة أصبحنا معها ~~تحت رحمتها، وبأن لم يعد هناك مفر ولا مهرب، وحينئذ يبدو وكأنما قانون كقوانين الجاذبية ~~يطبق؛ فكما يجذب الجسم الكبير الأجسام الأصغر منه يحدث أن تتحكم القوة الغاشمة الأكبر ~~في قوتنا الإنسانية المحدودة وتفرض عليها نفسها فلا تعود أجسامنا تتلقى أوامرها من عقولنا ~~ووعينا، ولكنها تخضع خضوعا أوتوماتيكيا مباشرا لهذه القوة الغاشمة الكبرى، وبدلا من أن ~~تحدث المقاومة بفعل العقل والوعي وغريزة الدفاع عن النفس يحدث الشلل، الشلل الكامل الشامل ~~بفعل هذه القوة الأكيد مباشرة وبأمرها، تلك اللحظة التي نسميها مرة أن سهم الله قد نفذ ~~فيها، أو أن القضاء قد حم والأجل قد انتهى، أو التي لنا أن نسميها لحظة انهيار خط ~~الأمن النسبي وتحكم القوة الغاشمة فينا. # والحدث كما وقع أمامنا تم ببساطة وكأنه دورة أخرى من دورات «الميوليتا». سقطة، وارتفعت ~~على أثرها وقفة وشهقة جماعية مرعبة، شهقة كالصرخة، كالطلقة، وكأنها العون السريع تقدمه يد ~~الضعفاء الكثيرين غير المنظورة التي تمتد لتمنع عن الضعيف الواحد الذي انهار خط أمنه ~~الأذى الغاشم الذي لا قبل له به. ثلاثون ألف يد غير منظورة امتدت لتساعده، ولكن كيف ~~تستطيع أيد غير منظورة حتى لو كانت تعد بالملايين وملايين الملايين أن تمنع القدر الغاشم ~~أن يقوم بعمله؛ فعلى أثر الشهقة تماما؛ إذ الحدث لم يأخذ سوى ms73 الوقت الذي استغرقته الشهقة، ~~كان الثور قد وصل إليه، وبغل أسود مجنون، وباندفاعه الأهوج الأعظم، نفذت قرونه من خلال صدر ~~الشاب المزركش إلى رمال الأرض. وكانت الطعنة الأولى التي تبيناها؛ إذ على أثرها تداخلت ~~الأحداث والأشياء والأزمان، تأوه أناس وكأنما هم الذين أصيبوا بالطعنة، وأشاحت سيدات ~~بوجوههن وشاركن الرجال، وسقطت قلوب ودقت أرجل وأغمي على كبار. والخوف الأكبر، الخوف الذي ~~كان يرهبه الجميع منذ أول لحظة، ذلك العقاب القابع في مكان خفي من «الأرينا»، ثمة إحساس ~~جامح شامل أنه أخيرا وقع، أخيرا انقض وبمخالبه العزرائيلية يضرب ويطعن ويقتل أعز مخلوق. ~~ألف ألف انفعال يجمعها كلها شعور عارم جارف واحد أنه ضاع وانتهى، كأنما القوة الغاشمة قد ~~اخترقت خطوط أمنهم هم الآخرين أجمعين، ولم يعودوا يملكون سوى شلل الحسرة وانفعالات ~~الجامدين. وكيف كان باستطاعة أي منهم - باستطاعتي أنا - أن يشيح بوجهه أو يهرب من مواجهة ~~المصير؟ ومن أين كانت تواتيني الشجاعة أن أغمض عيني عما يحدث؟ إنها المأساة، مأساتي في ~~صاحبي، صاحب اللحظة الذي بدا لي فجأة وكأنه صاحب العمر. من أول دقيقة والهاتف اللعين في ~~خاطري يؤكد لي أنه في هذه المرة لن يفلت، وأناضله بجنون في انتظار معجزة المعجزات، ولكني ~~بدلا منها أرى الطعنات، أرى رأس الثور يرتفع كمقبض الخنجر، ثم يهوي ليغيب نصلا القرنين ~~فيما كنت أعتقد أنه الأرض أحيانا، وفي ملابسه أحيانا أخرى، ليثبت لي بعد هذا بكثير أنها ~~كلها كانت في جسده، في صدره وبطنه وجذر عنقه وتحت إبطه. # وماذا أقول؟ أأقول إن كل هذا لم يستغرق زمنا ما وكأنه عاصفة هول هبت فجأة ودارت ~~دورة سريعة ثم اختفت، دورة أسرع من أن يلحقها الميتادورات السبعة بعباءاتهم والقدر بمعجزة ~~من معجزاته، بل أسرع حتى من أن أتبين، مع أني كنت قد تحولت بكلي إلى عينين جاحظتين، ~~على وجه التقريب كنه ما حدث؟ كان في رأسي من أول ومضة للأزمة طبل حزين كبير مجلل بالسواد ~~مضى يدق في سرعة تشجب قدسية الحزن. إنه الثور هذه المرة، القوة ms74 الغاشمة الجاهلة الحمقاء هي ~~التي تفتك، والضحية هي الكائن الإنسان الراقي الشاعر المرهف الراقد تحت رحمة الوحش الذي لا ~~يرحم. كم بدا لي البطل ضعيفا في تلك اللحظة، طفلا، ضنى عزيزا! كم غلت في عروقي دماء ~~أعمق وأقوى القرابات، قرابة الإنسان البشري للإنسان البشري تلك التي تدفعنا بلا وعي أو ~~إرادة لنجدة المأزوم إذا استغاث وحتى إذا لم يستغث! لم يكن ما كنت أحسه من هلع ليختلف ~~كثيرا لو أن المطعون كان ابني أو أخي أو أبي؛ فقد كنت في أقصى درجات الهلع وأقصى درجات ~~الغضب وبآخر ما أستطيعه من حزن كنت أضيق، وبأقوى ما أستطيعه من هلع كنت أحقد على عدو ~~الميتادور وعدوي وعدو كل من في الساحة وعدو البشر، القوة القاهرة العمياء الغاشمة - أية ~~قوة عمياء غاشمة - وليس عليها هي بالذات، ولكن عليها حين نراها أقوى بكثير منا وأقدر، حين ~~نراها في انتصار عارم ملموس ونحن في هزيمة ساحقة باردة واقعة. # وأبعدوا الثور عنه، إلى أين؟ لم ير أحد. كانت العيون كلها هناك منصبة فوق رقدته التي ~~لم تطل، فما لبث أن أقبل زميلان له ودون أن يرفعاه وقف ومعه وقفت أرواحنا وأنفاسنا ودقات ~~القلوب. أيكون ما رأيناه خداع بصر؟ ها هو ذا أمامنا وبعد كل تلك الطعنات يقف دون مساعدة من ~~أحد. لا بد أنها لم تصبه، لا بد أنها جاءت عشواء وحادت عن الهدف، ولكنها آمال أيضا لم ~~تطل؛ فقد حدث شيء؛ إذ وكأنما كان قد استنفد كل ما لديه من حلاوة الروح، انثنى فجأة برقبته ~~وهو واقف على صدره، ووضع يده على ثديه الأيمن، وقبل أن يتهاوى كان زميلاه قد رفعاه فيما ~~بينهما وبسرعة مضيا يعبران به الساحة تحت خيمة سكون مذهل مرعب. # وحين اقترب الموكب منا لمحت بقعة الدم في نفس المكان الذي وضع فيه يده على صدره، وجف ~~ريقي وأحسست أن قلبي قد انتقل إلى رأسي ومضى ينبض في حيزها المحدود بقوة تسحق ~~العقل. # وأدخلوه من باب يفتح على الساحة ومكتوب عليها «المستشفى ms75»، ولم يمنعني ما كنت فيه من أن ~~أدرك أني لم ألحظ وجود هذا الباب ووجود المستشفى نفسه قبلا. # ورغم ما كنت فيه أيضا وجدتني ألتفت فجأة إلى يساري حيث الفتاة الكوبية، وأكثر ما أدهشني ~~أني وجدتها لا تزال في مكانها. كنت أتوقع أن أجدها قد قفزت الحاجز وسبقته إلى باب ~~المستشفى، ولكنها كانت هناك لا تزال منكفئة على حديد «الدرابزين» مخفية وجهها ممسكة ~~الحديد بقوة أذهبت الدماء من يديها حتى بدتا شاحبتين كأيدي الموتى. # ولم يدم السكون طويلا؛ فما لبثت الهمسات الملحة أن بدأت تسري وتتساءل عن مصيره وعن ~~مدى ونوع جروحه بلا إجابات تشفي غليلا؛ إذ باب المستشفى كان قد أغلق عليه وحده ومعه ~~الممرض والطبيب، ولم يسمح لأحد بالدخول أو حتى مجرد الاستفسار. # ومرت بضع لحظات لا زلت لا أدري ماذا كان يدور بخاطري فيها، كل ما أستطيع أن أؤكده أني ~~كنت تائها مذهولا، ذلك النوع العميق المستمر من الذهول، مفجوعا، وكأني المفجوع الوحيد، ~~أو كان فجيعتي أكبر من فجيعة الآلاف الثلاثين مجتمعة. # لماذا؟ لم أكن أعرف أو أدري! كان إشفاقي على نفسي من ثقل ما أحمله من هم يدفعني لمحاولة ~~التخفيف عنها بقولي إنه لم يصب إلا بجروح ومن المحتمل جدا أن يشفى، ثم حتى لو كان قد ~~مات فماذا يحملك على هذه الجنازة الحالكة السواد التي أقمتها داخلك والتي تهدد بقبض ~~روحك؟ # ولم تكن أقوال كهذه تدفع إلا لمزيد من الفجيعة والحزن. # غير أنه على سطح كل هذا كان يطفو إحساس آخر بالانبهار. الحقيقة أني رغم كل ما قلت وأعدت ~~كانت جدية المصارعة وما فيها من بطولة لا تزال عندي موضع شك، وإن كان بمضي الوقت كان يضعف، ~~إلا أنه أبدا لم ينعدم. لم ينعدم إلا في تلك اللحظة التي أدخلوه فيها المستشفى مشبعا ~~بالطعنات ودوائر الدم الناضحة من ملابسه الأنيقة تتسع وتتسع، ذلك الفتى الشهم الرقيق الذي ~~كان يلف ويدور في «الأرينا» ممتلئا بالحياة والقوة والصحة. لحظتها أدركت أن رسمه، ورسمهم ~~جميعا لعلامة الصليب قبل ms76 دخولهم الساحة أبدا ليس من قبيل التدين أو الفأل الحسن. لحظتها ~~أدركت سر الصفرة المتعاظمة التي كانت تكسو وجهه ووجوههم جميعا طول الوقت. إنهم كانوا ~~أدرى الناس بما يختفي وراء كل تلك «الأوليهات» والتهليلات والحشود من السياح والإسبان ~~والملابس المزركشة والتقاليد العتيدة؛ إذ هناك يختفي الموت وعلى أبشع صورة ... الموت ~~بالإرادة، الموت بالحظ، الموت لأقل هفوة، الموت حتى ولو لم ترتكب هفوة. # وانبهاري كان سببه أني أدركت متأخرا ومفجوعا مخنوق الأنفاس بالحزن أنهم أبطال، وأن ~~صديقي هذا الذي اخترته من أول لحظة بطل. ليست البطولة التي تستدعي التصفيق والتهليل، ولكنها ~~البطولة التي تدفع للبكاء والدموع واحتقار النفس لما يمكن أن يكون مترسبا فيها من خوف ~~الموت. ها هم كما رأيناهم، ها هو كما رأيناه، كان يدري بالخطر الأكبر الكامن ليس في هذا ~~اليوم بالذات، ولكن في كل يوم، في كل مرة يطأ رمل الدائرة بقدمه، في كل حياته، ومع هذا لا ~~يتراجع، ويقدم، ويلف ويدور ويواجهه حتى يسقط، سقطة حقيقية، سقطة في بحر من دمه. # كانت المصارعة والغربة واليوم والدنيا كلها قد انتهت تماما بالنسبة إلي. كل حماسي ~~ورغبتي وقدرتي، حتى أن أفتح العين وأنظر وأعقل قد انتهت. كنت أحيا بجماع نفسي هناك على باب ~~المستشفى داخل تلك الحجرة ذات الباب المنخفض التي نقلوه إليها. هل لا زال يتنفس؟ هل بدأ ~~النزيف الداخلي؟ هل مات؟ # وكذلك كان الجميع إنصافا للحق، كنا جميعا هكذا وكأن الخيوط التي كانت تربطنا به قد قويت ~~فجأة وتماسكت حتى جذبت منا كل الوعي والانتباه، والصمت أيضا كان لا يزال هناك، والهمسات ~~تخرج خافتة وتحدث خافتة. # ولكني لم أتوقع ما حدث. # وازداد ذهولي عمقا وأنا ألمح الأنظار قد بدأت تتجه شيئا فشيئا إلى الثور الذي كان هناك ~~لا يزال واقفا، عليه ينصب حقد ستين ألف عين. # والسؤال المسيطر هو ماذا يمكن أن يحدث؟ # وما حدث هو نفس ما يحدث في كل مرة؛ فليست تلك أول مرة يسقط فيها ميتادور، وبالتأكيد لن ~~تكون الأخيرة. # كان لا بد ms77 أن تستمر المصارعة. # واعتقدت تماما أنها ستستمر بلا جمهور؛ فالجمهور كان منصرفا عن الساحة واهتمامه كله قد ~~تركز على الباب المنخفض المغلق، وبقلبه إذ هو لا يستطيع ببصره كان يتابع لاهث الأنفاس ذلك ~~الصراع الآخر الذي لا بد يدور في تلك الدقائق داخل الحجرة، لا بين المصارع والثور، ولكن ~~بينه وبين ما هو أقوى وأبشع وأكثر وحشية من كل ثيران الدنيا مجتمعة. # | الفصل الرابع عشر # في تلك اللحظات، وبخطوات لا حماس فيها، وبرعب، تقدم مصارع آخر، ذلك الذي فشل في قتل ~~ثوره الأول الذي كانوا يسمونه البرتغالي. تقدم من الثور ومعه العباءة والسيف وقبل أن ~~يتوسط الساحة كان الأخير قد انطلق نحوه مهاجما. # ومع أني ظللت مشدودا بكلي إلى الصراع الأكبر داخل حجرة المستشفى، إلا أنه رغما عني ~~وبحكم وجودي وسط تلك الكتلة الحية الضخمة التي تكون جماهير «الأرينا» وجدت نفسي أتابع ~~بإهمال شديد وبلا حماس، لا ما يدور في الدائرة الرملية ولكن ما يحدث للجماهير؛ إذ كان ما ~~يحدث شيئا لم أستطع تصديقه ولا استطاع عقلي إلى الآن هضمه واستيعابه، بالتأكيد هم لم ~~يولوا المحاورة الدائرة في الساحة أول الأمر اهتماما يذكر، ولكن بعد دقائق قليلة كان قد ~~بدأ اهتمام، وبعد دقائق أقل كان الاهتمام قد استحوذ على عقولهم تماما، ولم تكد تمضي خمس ~~دقائق حتى تصاعدت أول «أوليه». كدت أقف صارخا محتجا لاعنا هذا الجمهور الجاحد مطالبا ~~إياه بالعودة لتركيز إرادته وهلعه وانتباهه مرة أخرى إلى الشاب الراقد في الداخل يصارع ~~الموت من أجلهم، ولكن حتى لو كنت قد وقفت وصرخت ومزقت نفسي لما كان لما أفعله أثر، ~~لكأني كنت أريد أن أقف بجسدي لأمنع ماء البحر من التدفق، أو لأوقف موجه العاتي، لأرغمه أن ~~يهدأ حدادا على سفينتي الغارقة. إن السكون حدادا معناه الموت، والحياة والبحر والموج لا ~~بد أن تستمر؛ ولهذا كان لا بد أيضا أن تستمر المصارعة وتستمر الصيحات تتعالى، ويستمر ~~الصراع يمتص انتباههم؛ فقد كانوا هم الآخرون لا يزالون أحياء. صحيح كان الحقد الهائل ms78 لا ~~يزال ينصب على الثور، وصحيح كان جزء كبير من المتابعة هدفه أن يشهد كل منهم في النهاية ~~بعينيه مصرع ذلك الذي صرع بطله وحبيبه، ولكن هذا لم يمنع أنه في سبيل تلك المتابعة نسي ~~تماما بطله وحبيبه. # ومع أني كنت أتابع فقط بحكم الوجود والعدوى وبلا إرادة، إلا أن ما استرعى انتباهي حقيقة ~~هو الرعب العظيم الذي كان مسيطرا على «البرتغالي»، والحقد العظيم أيضا. كانت عملية أخذ ~~بالثأر أكثر منها مصارعة. كان ثمة دم قد سال ولم تعد المسألة رياضة أو إثارة. هكذا في ~~النهاية انكشفت اللعبة على حقيقتها العارية المجردة، وأصبحت عملية قتل، إما قاتل أو ~~مقتول، هكذا بلا مواربة أو إخفاء للنوايا أو استعراض. # ومات الثور في النهاية. مات دون طعنة واحدة أصابته من البرتغالي. فجأة توقف عن جريه ~~هنيهة ما لبث بعدها أن سقط كتلة واحدة على جانبه رافعا ساقيه في الهواء، لافظا ~~أنفاسه لا بد بتأثير الطعنة التي كالها له الميتادور الأول، والتي كانت السبب في هياجه ~~ومصرعه. # وبقلب مفعم بالمرارة والدهشة رحت أتابع عودة الاهتمام بالبطل الصريع في فترة الاستراحة، ~~والمحاولات الكثيرة التي بذلت لمعرفة مدى إصابته. وتلفت، كانت الفتاة قد اختفت ولم ~~أستطع أن أقطع إن كانت قد مرت أمامي في طريقها للخروج، ولكني أحسست لاختفائها بنوع من ~~عرفان الجميل؛ فعلى الأقل في وسط الجمهور المتوحش الحاشد ها أنا ذا أعثر على ~~إنسانة. # ولم تسفر محاولات الاستفسار عن جديد. كان جميع الواقفين أمام الباب المنخفض يكتفون بهز ~~الرءوس وزم الأفواه في صمت مبيت حزين. # وحين بدأ الدور الثاني وانتهت الاستراحة، خيل إلي من الأصوات الكثيرة التي بدأت ~~تتصاعد من «الأرينا» والزعيق والتحفز الذي قوبل به دخول الثور أن الحادث قد خفت حدته ~~كثيرا، وأن بعضهم لا بد قد نسيه، وآخرين لا بد قد أرغموا أنفسهم على نسيانه؛ ربما لكيلا ~~تفسد ذكراه تمتعهم الكثير المقبل، غير أني كنت على يقين أنهم إنما يفعلون هذا بقشرة ~~وعيهم الممتدة فوق السطح، أما من الداخل فهم أبدا ms79 لم ينسوا ولن ينسوا. # وابتدأ الشوط وانتهى، وكذلك بدأ الثالث، وفي لحظة خيل إلي أن أحدا من الجمهور لم ~~يعد يذكر الشاب الصريع؛ فمن أعماقهم كانوا يتابعون الأشواط، وبكل ذرة من كيانهم ~~أصبحوا يلوحون ويهتفون، وكذلك قل إلى درجة الانعدام الكامل عدد الواقفين أمام الباب ~~المنخفض. # وبمصرع الثور الثالث وبلا أحداث أخرى انتهت الفييستا، وبدأ الناس، أقلية قليلة تتسابق ~~للخروج، والأغلبية تتلكأ وقد عاد الحديث عن الميتادور الصريع، وكله بالطبع أسف وحسرة ~~وتذكر لمواقفه وشجاعاته. # وعند الباب العاشر، أقرب باب إلى حجرة المستشفى، تجمع جمهور حوالي الخمسمائة أو أكثر ~~قليلا يهدفون أن يروا الميتادور حين تقبل عربة الموتى وتنقله؛ فإلى تلك اللحظة لم يكن ~~الباب قد فتح ولا تسرب عنه خبر. # وأخيرا فيما يشبه الموجة انتشر بين الواقفين خبر؛ إذ كان الباب قد فتح وأطل منه رأس. ~~الخبر كان أنه لا يزال حيا وإن كان يعاني من صدمة شديدة، وإن كان قد أصيب بسبعة جروح ~~وكسر وتهتك. وما كاد الخبر ينتشر حتى كان قد انصرف لسماعه نصف الواقفين، وبدأ الازدحام ~~يخف ولم يصبح ثمة واجب كثير أمام عساكر البوليس الإسباني الخيالة الذين كانوا يتولون ~~المحافظة على النظام. # وما كادت ربع ساعة أخرى تنقضي حتى كان قد انصرف أغلب الواقفين، ولم يعد سوى بعض ~~المتسكعين وبعض من لا عمل وراءهم أهم من مشاهدة خروجه. # وهنا وفي تلك اللحظة فقط لمحت الفتاة الكوبية واقفة بجوار أحد العمدان وبصرها مسدد إلى ~~الباب، وهي دائبة النظر إلى ساعتها. # ودون أن أفكر كثيرا ذهبت إلى حيث تقف، وبلهفة قابلتني أنا الذي خفت أن تشيح بوجهها ~~عني وسألتني وذكرت لها ما سمعت، ولم يزد ما ذكرته أو يقلل من لهفتها وتطلعها ~~واضطرابها. # وفي الدقيقة التي مضت على وقوفي معها رأيتها تتطلع مرتين إلى الساعة. # وحتى قبل أن أسألها أجابتني أنها للحظ السيئ لا بد أن تسافر الليلة إلى لشبونة وأن ~~طائرتها ستغادر المطار في الثامنة، وأنها لا بد أن تذهب قبل هذا لفندقها والساعة كانت ~~السابعة ms80 إلا ربعا . كانت حالتها تدعو للرثاء حقا، تمد رأسها إلى آخر ما تستطيع ناحية ~~الباب العاشر، ثم ترتد إلى باب المستشفى ومنه إلى الساعة، ثم إلى السيجارة تمتص دخانها ~~بقوة وكمد وشراهة. # واندفعت مرة مسرعة إلى باب الخروج، ولكنها بعد بضع خطوات توقفت وعادت إلى حيث كانت ~~واستجمعت يدها ودقت العمود بقبضتها دقة رن لها خاتمها رنينا مكتوما وسقط فصه. وبضيق ~~أشد تناولته وقذفته بقوة داخل حقيبة يدها. # وتمنيت أن تبكي ولكنها لم تفعل، وحينئذ قلت لها لماذا لا تذهب وتلحق بطائرتها؟ وهنا ~~وفي ضوء الشمس المتبقية من العصر لمحت عينيها تحمران - فقط كان احمرارا - واختنق صوتها ~~وهي تقول: من تظنني؟ # وآثرت أن أسكت. # وظهرت عربة الإسعاف عند الباب، وجذبت من صدرها نفسا عميقا وألقت بسيجارتها. وعلى ~~أطراف أصابعها شبت لتستطيع أن ترى عبر الرءوس الكثيرة التي تجمعت لا تدري من أين. وقفت ~~لتشهد عملية نقله إلى العربة. # غير أنه لا هي ولا أحد من أصحاب الرءوس وصاحباتها أتيح له أن يشهد شيئا؛ فقد فتح باب ~~حجرة المستشفى ودخلت العربة إلى منتصفها، وظلت عشر دقائق على وضعها ذاك، ثم مضت مغبشة ~~الزجاج لا يرى خلاله أحد شيئا. # ولا أعرف إن كانت الغمغمة التي وصلتني وهي تندفع خارجة في أعقاب العربة كلمة ~~وداع. # ولكنها في لمح البصر قد اختفت. # وبخطوات مثقلة وكأنما بحديد مضيت إلى الخارج. وكنت أحسب المصارعين أناسا يحيون بين ~~العربات الفاخرة والسهرات والفيللات؛ فقد فجعت حقيقة وأنا أرى بعد عربة الإسعاف بدقائق ~~سيارتين من سيارات التاكسي قد وقفتا أمام الباب وشحن فيها المصارعون وصبيانهم كل ستة في ~~عربة، واعتقدت أنهم ذاهبون لا بد إلى المستشفى، وخطر لي أن أستقل عربة وأتبعهم لأعرف ~~أي مستشفى هو، لكن الفكرة بدت لي في لحظتها شاذة وغير معقولة. # وأنا في الطريق من الحلبة إلى الشارع الرئيسي المؤدي إلى وسط المدينة وجدتني وجها لوجه ~~أمام عوض، كنت قد تركته في المغرب وها هي الصدف المحضة تجمعنا في مدريد. # ولو كنت قد قابلته في ms81 فرصة أخرى لفرحت للقائه كما لم أفرح في سفرتي كلها؛ فليس أحب إلى ~~قلب الإنسان من أن يصادف صديقا في غربة، فما بالك إذا كان الصديق عوض أخف أهل الأرض دما ~~وأكثرهم مرحا وتفتحا للحياة واستمتاعا بها. إذا غصت معه إلى الأعماق غاص معك وإن شئت ~~أن تعبث وتطفو إلى السطح سبقك. # سألني عما بي وقد رآني واجما، ولكني لم أستطع إجابته فالحقيقة لم أكن أعرف. # وابتلعتنا مدريد الهائلة بشوارعها وأناسها وسياحها وأمسيتها تلك وليلتها. ولم أستطع ~~أبدا أن أنسى، بل كان يحز في نفسي أن كل هؤلاء الناس لا يذكرون أن عوض مرح، وأنه يعتبر ~~مصارعة الثيران عملا وحشيا لا يليق بعالم اليوم، عالم القرن الحادي والعشرين. # وافترقنا في الثانية صباحا على موعد أن ألقاه في الصباح. # وحين أصبحت وحدي في الحجرة الضيقة التي عثرت عليها في ازدحام فنادق مدريد بمثل ما تعثر ~~على الإبرة في كومة القش، حجرة مليئة بصور القديسين، وهناك صورة كبيرة نوعا للعذراء ~~أسفلها مصباح كهربائي، ولكن بلاتينه الداخلي يضيء بنور أحمر خافت على هيئة صليب، جعل حركة ~~رسم الصليب قبل الدخول إلى الساحة تعود تدق على ذاكرتي وتدق. حين احتوتني الحجرة شعرت برغبة ~~في البكاء، رغبة لا علاقة لها البتة بحادث اليوم، ولكنها مجرد شجن خاص وضيق. ولكنني ~~استسخفت الرغبة، بل استسخفت المسألة كلها. ما هذا الجنون؟ ولماذا أحمل وحدي تلك الجنازة ~~السوداء الخانقة في صدري؟ وهل أنا مسئول عن أرواح الناس وما يحدث لهم؟ وماذا كان باستطاعتي ~~أن أفعل ولم أفعله لأوقف الكارثة؟ # إن ما حدث قد حدث، وإذا كان الناس قد نسوه وتفرقوا بعد الاحتفال إلى لهوهم وحياتهم، ~~بينما مضت به وحده عربة الإسعاف بين الموت والحياة إلى المستشفى؛ فتلك هي لا بد سنة ~~الناس هنا، بل هي سنة الحياة! فليس مفروضا أن تتوقف لأن أحدهم مات أو أصيب ولو كان ~~الميت بطلا. # خواطر وردود على الخواطر كنت أقولها لنفسي محاولا أن أبعد شبح ما حدث عن تفكيري، ~~محاولا أن أبعد هذا ms82 الإنسان النحيف الرقيق عن وعيي بلا جدوى، كانت الصور تعود وتصر على ~~العودة كنتف متفرقة من فيلم طازج لا تزال عالقة به أملاح التحميض، ونمت. # وفي الصباح صحوت، وكان أول ما فعلته بعد تناول الشاي في المقهى القريب أني اشتريت الجرائد ~~ورحت أقلب صفحات أولاها إلى أن وصلت إلى ما خيل إلي أنه صفحة الرياضة، وأنا لا أعرف ~~الإسبانية، ولكني من جذورها المشتركة مع الإنجليزية والفرنسية استطعت التعرف على الخبر. ~~كان في ركن من الصفحة بعنوان على ثلاثة أعمدة ولم أجد فيه ذكرا لكلمة الموت. # وفي جريدة ثانية كان الخبر منشورا على عمود في الصفحة الأولى ومعه صورة، ومرة أخرى ~~عاودتني خيبة الأمل. كنت أتوقع أن أصحو فأجد الخبر قد عم المدينة، ولا حديث للناس ~~والجرائد إلا عنه، وها هم أناس يزدحم بهم المقهى يتناولون إفطارهم في صمت جاهل وقور. # | «الفصل الأخير» # غادرت المكان تاركا الجرائد ما عدا إحداها، تلك التي ذكرت عنوان المستشفى الذي يرقد فيه، ~~ومضيت أسير في الشوارع بلا هدف وقد قررت أن أخلف موعدي مع عوض. # كانت الشوارع مزدحمة بأناس كثيرين أيضا؛ آلاف الناس الصغار الكثيرين ماضين مكهربين ~~مكربجين إلى أعمالهم دون كلمة واحدة عما حدث بالأمس وعن الميتادور الصريع. # وفجأة قررت أن أذهب إلى المستشفى، ورمقني سائق التاكسي بنظرة مستطلعة وأنا أشير إليه ~~دون أن أنطق إلى العنوان المكتوب في الجريدة وقد وضعت تحته خطا، وفي الطريق قال كلاما ~~كثيرا بالإسبانية ممزوجا ببعض كلمات إنجليزية - لا بد علمه إياها التعامل مع ~~الأمريكان - كلاما فهمت منه أنه يعلق على ما حدث للميتادور ويريد رأيي، واكتفيت بهز ~~رأسي، وحين يئس غمغم ببضع كلمات خمنت أنها لا بد سباب. # وزعمت لبواب المستشفى أني طبيب مصري وأني أريد مقابلة أستاذ الجراحة، وفي قسم الجراحة ~~سألت الراهبة بالإشارة عن المكان الذي يرقد فيه الميتادور، وأشارت إلى ممر جانبي كانت تقف ~~في نهايته مجموعة قليلة من الرجال بينهم سيدة عجوز وصبي لا يتعدى العاشرة، وحولهم وقريبا ~~منهم كانت تتناثر بضع باقات ms83، واقتربت. كانت رءوسهم منخفضة، ولكن اقترابي دفع بعضها إلى ~~الارتفاع. # كانت الحجرة مغلقة وعلى أكرتها لافتة معلقة لا بد كانت أمرا بمنع الزيارة. # ووقفت قريبا من المجموعة ذات العيون المستطلعة صامتا مثلهم، منكس الرأس خجلا؛ ففي ~~لحظتها كنت قد أفقت على سؤال: ماذا أتى بي إلى هذا المكان؟ ومن أنا بالنسبة للجريح الراقد ~~في الداخل؟ أو حتى بالنسبة إلى هؤلاء الناس؟ # وفتح باب الحجرة وخرج طبيب سرت بجواره بضع خطوات، وحييته، وأسعدني أنه يعرف ~~الإنجليزية، وزعمت له هذه المرة أني صحفي عربي، وأني أريد أن أبرق بالخبر إلى جريدتي، ~~وسألته عن حالة المصارع، فقال: # Grave ~~. ~~- Internal hoemorrhage? ~~- Two, one in the chest and another in the ~~abdomen. ~~- External ones too. ~~- Prognosis nil then. ~~- Scientifically yes ... unless. ~~- Unless what? ~~- Something happens, you know, a miracle for ~~example! # وتوقفت عن السير، وتابع الطبيب طريقه. # وتحرك واحد من المجموعة الواقفة كان أكبرهم سنا ولكنه أكثرهم صحة، حياني ~~بالإسبانية، وهززت رأسي، وبمزيج من الإنجليزية والفرنسية والإيطالية قدم إلي نفسه. كان ~~المحرر الرياضي لجريدة لم أهتم بمعرفة اسمها، وكانت رائحة البراندي الإسباني تفوح ~~منه، وسألني عما قاله الطبيب وأخبرته بالحقيقة. إنه يعاني من نزيف داخلي وخارجي في ~~الصدر والبطن معا، وإنه علميا لا يمكن أن يعيش، ولم تبق على حد تعبير الطبيب سوى ~~المعجزة. # قال بازدراء غريب: ومن أين تأتي المعجزة؟ # قلت: من السماء. # ورفع بصره إلى السقف وثبته هناك بعض الوقت، ثم عاد يواجهني وقال: قبل أن أعمل محررا ~~كنت مصارع ثيران، وتحدثوا في العلم والمعجزات كما يحلو لكم، ولكنه لحظة أن سقط أمامي في ~~الساحة وشلته السقطة عن أن يحرك يدا أو ساقا أمام الثور المقبل عرفت أنه انتهى ~~ومات. # وكانت باقات أخرى من الزهور قد بدأت تفد فاستطرد: زهور وزهور وزهور. كفنوه بالزهور. ~~دعوا الزهور تصنع المعجزة التي ينتظرها الأطباء. من أي بلد أنت يا سنيور؟ أنا لا يهمني ~~من أي بلد أنت، ولكني أريدك أن تكون شاهدا على المأساة. أنا لا أستطيع أن أكتب هذا في ~~جريدتي وإلا فصلت، وأنا في حاجة إلى العمل لآكل، وأنا قد جربت الجوع. أنا نشأت في ملجأ ~~أيتام الفرنسيسكان وأعرف ما هو الجوع. أنا مصارع قديم، بطل ms84! إسبانيا كلها والمكسيك ~~والبرتغال كانت تهتف جميعها لي، ولكنني أخيرا اكتشفت المهزلة، كذب كذب كذب كل ما تقرؤه عن ~~التقاليد الإسبانية في الفروسية وشجاعتهم التي خلقت مصارعة الثيران. ليس هناك شعب أشجع من ~~شعب. قل لي إني شارب ومخمور ونحن الآن في .. كم الساعة الآن؟ التاسعة. اذكر كل ما تراه ~~هنا ولا تنسه فأنت الشاهد، شاهدي. لقد كنت أحب هذا الولد أنطونيو، كان ابني الذي لم ~~أخلفه، وكنت أعرف أنه سيموت. إن الكثرة منهم تعيش، ولكن الشجاع الحق هو الذي يموت، وفي كل ~~عام نفقد عددا من الشجعان، أتعرف لماذا نفقدهم؟ إنها لعبة كبيرة جدا، لعبة عالمية ما ~~تراه في الساحة هو الفصل الأخير فقط منها. وإذا لم تصدقني فتصور إسبانيا بلا مصارعة ~~ثيران. من المجنون الذي يأتيها؟ إن إحصاءاتنا الرسمية تقول إن بلادنا تستقبل في الصيف موسم ~~المصارعة ربع مليون سائح يوميا أو ربما خمسين ألفا، لا أذكر الرقم. لعنة الله على ~~الأرقام! كذا ألف ينفقون كذا مليون دولار. ألغ المصارعة تلغ الدولارات. أقم حفلات ~~المصارعة واستحضر ثيرانا متوحشة واجعلها تنفرد بالرجال، ماذا يحدث؟ الرجال يقتلون ~~الثيران. # ولكن لا بد أن تقتل الثيران بعض الرجال، وبغير أن تقتل الثيران بعض الرجال فلا لذة في ~~المصارعة ولا متعة. أتصدق أن هؤلاء الناس الذين يجيئون من كل مكان إلى «الأرينا» يأتون ~~لكي يروا الرجل ذا السيف يقتل الثور الأعزل؟ إنها كذبة كذبة. إنهم يأتون على أمل أن يقتل ~~الثور المتوحش الرجل ذا السيف، وحبذا لو حدث القتل أمامهم. إنهم لا يجاهرون برغبة كهذه ~~لأنها تبدو شاذة كريهة غير لائقة بالرجل المتحضر، ولكنها وأقسم لك الرغبة الكامنة في ~~صدورهم. عرهم من ملابسهم ونفاقهم وتظاهرهم لتجدها ملتوية على نفسها كالثعبان هناك، نحن ~~نعرف هذا وأصحاب الفنادق يعرفون هذا، وشركة كوك تعرف هذا، ومصلحة السياحة عندنا تعرف هذا، ~~والبنوك والحكومة والدولة والكنيسة تعرف هذا، كلها تعرف أن كذا رجل سيقتلون في هذا الموسم ~~كذا ثور، وأن كذا ثور ستقتل على وجه التقريب كذا رجل ms85. ولا أحد أبدا يفعل شيئا لمنع هذا ~~القتل، بالعكس إنها كلها تتعاون وتتسابق لكي يتم القتل على أكمل صورة. الحكومة تصنع الدعاية ~~في الخارج وتدعو الناس من جميع أنحاء الأرض كي يحضروا إلى إسبانيا لرؤية المصارعة؛ أي لحضور ~~القتل، وشركة طيراننا تنقلهم، وأصحاب فنادقنا يصنعون كل ما في وسعهم لراحة المدعوين، وشركات ~~السياحة تهيئ لهم بجوار المشاهدة نزهات ونزوات، والبلدية تقيم «الأرينا» وتؤجر ~~المقاعد. والكل سعيد، السياح ينفقون بسعادة، ونحن نقبض بسعادة، والتفرج على المصارعة متعة ~~العمر، وماذا يهم بعد هذا إذا كانت تلك السعادة كلها مقابل أرواح خمسة أو عشرة أو عشرين ~~رجلا كل عام؟ وخاصة ونحن إذا مات أحدهم، أو أصيب بالعجز الكامل هللنا له وضججنا ~~وتوجناه بطلا وعاملناه معاملة لا يحظى بها شهيد الواجب والجندي في الميدان. أنا لا أعرف ~~من أين أنت قادم ولا يهمني أن أعرف، ولكني أرجوك أن تكون الشاهد، شاهدي، وأن تنظر إلى ما ~~وراء هذا الباب، فلو كان الأمر بيدي لوضعت على الحجرة أو على قبره لافتة مكتوبا عليها ~~بالخط الكبير: هنا يرقد شهيد مصلحة السياحة الذي قضى وهو يؤدي الواجب المقدس، واجب ~~تكديس النقود في أيدي شركات الطيران ومديري الفنادق وأعضاء المجلس البلدي والمؤسسات ومساهمي ~~البنوك وأصحاب الكاباريهات وشركات السفر والسياحة. أنت لا تصدق. إذا شعرت أني أكذب وأبالغ ~~فحدق في هذه الباقات من الزهور واقرأ. أليس هذا كارت لويجي كاستيللو نائب ومدير بنك ~~سبيلا؟ أوليست هذه باقة اتحاد أصحاب سيارات التاكسي؟ إنها أكبر من هذا. لا بد أيضا أن ~~تكتب: هنا يرقد شهيد المؤامرة العالمية لإلصاق مؤهلات ومميزات بطولية خاصة للشعب ~~الإسباني، تمهيدا لتقبل الرأي العام المتمدين فكرة المصارعة بين الرجال والثيران، كمقدمة ~~لا بد منها أيضا لكي يتقبل ذلك الرأي العام نفسه فكرة أن يسمح في عصرنا هذا لثور متوحش ~~أن يصرع إنسانا ويمزقه بطريقة قانونية جدا وبطولية جدا وممتعة جدا، جدا ~~جدا. # لقد انفردت طويلا بالكلام مع أني لا أريد الكلام، أريد البكاء! ولكني في حاجة لمعجزة كي ms86 ~~أستطيع؛ فقد تعلمت ألا أبكي؛ ولهذا أسكر، ولهذا أنا سكران وأريد أن أسكر أكثر، أريد أن ~~أبكي على هيئة أن أشرب؛ فأنطونيو كان أعزهم، لقد رأيته وسنه خمسة عشر عاما، وكان صغيرا ~~ومن أول لحظة عاملته كابني، ولكنهم اختاروه هذه المرة ليقتلوه. # لقد قرأت لا أذكر متى ولا أين ولا يهمني أن أذكر، أن في مصر عادة قديمة، أنهم في كل عام ~~يختارون أجمل فتاة لديهم لتلقي بنفسها في نهرهم النيل ليكثر ماؤه ويفيض، ولكن قرون الثور ~~فظيعة فظيعة! أنت لم تجربها، لم يصبك الرعب، ما هو أكثر من الرعب، تفكك العقل، ~~وتشتت أجزائه هلعا، لا من الطعنة في حد ذاتها ولكن من الفكرة، من الموقف، من الوحش ~~الغاشم ذي العيون الواسعة البلهاء، وقرني الشيطان البارزين من رأسه، هنا في فخذي مسني ~~الوحش فخرب ساقي، وهنا في صدري مسني الرعب منه فخرب روحي، لو أزحت ضلوعي يا صديقي ~~لما وجدت وراءها شيئا. أنا إنسان مخرب وأنت شاهدي، أنت باستطاعتك في جريدتك أن تكتب، ~~اكتبها، المؤامرة، واترك لي أنطونيو فأنت لم تعرفه، أنت لم تره وهو يداعب القطة ولا هو ~~ينتحي ركنا معزولا من قاعة أي احتفال، ولا رأيت الخجل يعتريه حين يزلف لسانه وينطق الكلمة ~~بلهجة تكشف عن أصله القروي المتواضع. أما أنا فأستطيع، سأفعلها مرة، وبدلا من الأخبار ~~سأكتب مقالا، فقط يلزمني أن أكف ليلتها عن الشراب، قسما سأكف ليلتها عن الشراب من أجلك يا ~~أنطونيو، وبحبي لك يا أنطونيو، وبحبي لك يا ابني الذي لم أخلفه ولم أتزوج أمه، قسما ~~سأفيق ليلة وأقول الحقيقة كلها يا أنطونيو. ms87