######OpenITI# #META# URI: 1412YusufIdris.Uqtulha.Hindawi41462725 #META# Tags: novels #META# ID: 41462725 #META# Title: اقتلها #META# AuthorID: 95064085 #META# Author: يوسف إدريس #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # السيجار‏ # يموت الزمار‏ # 19502‏ # أنصاف الثائرين‏ # اقتلها‏ # صح‏ # البطل‏ # السيجار‏ # يموت الزمار‏ # 19502‏ # أنصاف الثائرين‏ # اقتلها‏ # صح‏ # البطل‏ # | اقتلها # | اقتلها # تأليف # يوسف إدريس # | السيجار # ربما للمرة النادرة الثالثة أو الرابعة في حياتي، حدث ذلك الشيء الذي كثيرا ما ~~يحلم به أي راكب اعتاد ركوب الطائرة وحيدا، حتى أصبحت مسألة من يكون جاره، وكيف ~~يكون، أهم ما يخطر بباله قبل وأثناء - وربما بعد - الركوب. بضربة حظ مفاجئة، والمقاعد ~~حولي وعبر الطائرة كثيرة وفارغة، وجاءت الحلوة الطويلة ذلك الطول السامق، الذي نفتقده في ~~شرقياتنا العظيمات القصيرات، مبتسمة ابتسامة المرحب بك، وبكل ما يمكن أن يدور ~~بخلدك، حمراء الشعر، حمراء النمش، حمراء البياض، والحمرة درجات ودرجات، وبالدقة ~~مرسومة وموزعة، حمراء لحمرتها هالة، وكأن آلهة الجمال تسلط عليها من يوم ولادتها ~~كشافا مسرحيا، متلون الحمرة يتبعها أنى تتوجه، ولها يصبح الظل والواجهة، والمسقط ~~والبروفيل! جاءت وتلفتت واختارت - دون المقاعد جميعها - ذلك المجاور لي واعتلته، ~~فعلى الفور أصبح الكرسي عرشا! وردا على ابتسامتها المرحبة، أطلقت تحية لها ألف ~~ابتسامة ترحيب؛ ملكة من بافاريا بكل إرادتها اختارتني لأكون شعبها الوحيد المحظوظ، بل ~~الظاهر أن صمام الحظ، كان قد أفلت من قبضة النحس تماما، وقبل أن تقلع الطائرة ~~كانت قد طلبت مني مطلبا صعبا جدا، ومن فرط جسامته يكاد يكون مستحيلا؛ أن أتفضل ~~وأتنازل وأسمح، وأكون دليلها حين تصل إلى القاهرة، دليلها إلى أوتيل لائق؛ فهذه أول ~~مرة لها في الشرق، تحلم به منذ عاشت، والقاهرة بالذات كانت دائما مركز الحلم؛ ولهذا ~~فلم تمض في بيروت إلا يوما واحدا، ومن فرط لهفتها ذهبت إلى المطار دون حجز! ومن ~~حظها الحسن أنهم ارتضوا الوضع، وها هي الآن في الطائرة، وبعد أقل من ساعتين ستكون في ~~قلب المدينة الحلم! # صدقوني أو احسدوني، أو تزمتوا وتظاهروا بالنفاق والورع، ولكنها راحت مرة أخرى ~~ترجوني أن ترافقني - وليس أن أرافقها أنا - إلى حيث «أضيع وقتي!» بعض الوقت كي أساعدها ~~في إيجاد المكان المناسب، في الفندق المناسب، وبالسعر المناسب؛ فهي تمقت الهيلتون ~~والشيراتون والأماكن الخاصة ms01 بالأغنياء؛ لأنهم عواجيز، أو العواجيز؛ لأنهم أغنياء، وتعبد ~~الفنادق ذات الطابع! حبذا لو كان لدينا فنادق في الهواء الطلق، أو فيللات غرفها ~~خيام وفناؤها الصحراء، وطعامها يشوى في العراء على النار، والنار يقلبها بدوي ~~بلحيته السوداء، وشبابه الأسمر وعقاله المدلى - إهمالا أو أناقة - إلى جانب! حبذا لو ~~يشوي لها اللحم ومعها يلتهمه، في ليلة تحت خيمة، ليلة لا يشهدها سوى القمر. # حين رأيتها قادمة في الممر، ودون أن أدري، كنت من فرط طولها وهيبة الأنوثة المكتملة ~~في القوام الكامل، قد أعطيتها خمسة وثلاثين عاما أو شيئا من هذا القبيل، وحين اقتربت ~~بدا لي عمرها الحقيقي في حدود الثلاثين، وحين ابتسمت وجلست وتحادثنا؛ بالذات حين بدأت ~~تغمغم حلمها اليقظ، وكشافات حمرتها تزداد توهجا، وكل نمشة في وجهها تكتظ ~~انفعالا، وتصنع من مكانها وبسمتها إلى جارتها، وعلاقتها بالجارة الأخرى كلمة؛ سر جمالي ~~خاص تبوح به عن نفسها وتنكشف، وعمرها يتناقص، بحيث قرب النهاية، ولولا أنها لا تصح ~~إلا لمن جاوزت الطفولة، إلا لصبية تدرك وعن يقين تلمس لماذا المرأة مطلوبة؟ لماذا ~~يتقاتل عليها الرجال؟ لماذا تضن بالحب؟ لأنها هي الحب - كل الحب - حين تحب؟ لولا هذا ~~لارتدت إلى العاشرة، وكلماتها تتحشرج بالحلم وبالنهاية حلما. ما أجملكن أيتها ~~الغربيات في شيء واحد، حين لا تجعلن ألسنتكن تنفرد وحدها بكل الحديث، حين نالت ~~أجسادكن معكن الحرية، وأصبح لها ومع العقل والقلب حق التعبير؛ تحلمن، أو حتى تتكلمن ~~أحلاما، فتستحلن جميعا حلما بالصدق، وليس بالتمثيل! # وما أبشعك أيتها البافارية الألمانية، كأنك من قبيلة جن أحمر انحدرت! كنت تحلمين، ~~وتقتربين مني تريدينني مشاركة لك في حلمك. تحلمين ويزداد كشافك الأبدي احمرارا، وبنفس ~~حلمك، «النفس حلمك» ينصب - من حيث لا أدري - على ملامحي ذلك الاصفرار المتغامق الفضاح، ~~فحلمك تبنينه كنت تقوضين حلما لي مذ رأيتك، وبقاهرة تضعينها في خيالك وصحراء، ~~وباللحم البدوي، كنت تقتلين قاهرة أجمل أعرفها وأحفظ أركانها، وصحراء أروع ما فيها ~~أنها ليست من رمال، وببدويك الأسمر ولحيته وشاربه كنت تنزعين عني - كما يفعل بعض ms02 ~~مخرجينا بقساوة - دوري؛ دور البطل، فلا بدوي أنا ولا لحية لي، وبلون جلدي لا أمت ~~إلى الصحراء، أو حتى إلى محافظات بحري، عيناي مصيبتهما السوداء أنهما ليستا سوداوين كما ~~بطلك، ذلك الذي لم أشعر نحوه بذرة تفسير لحماسك هذا الفائر المتوحش. # وأيضا كما يفعل ممثلونا والرواية تقرأ، حيث لا أحد إلا الملقن يصغي إلى الموضوع، ~~وإنما الكل وبلا وعي يبحث عن أكثر الأدوار صلاحية له، أغناها «بالإفيهات والنكات» ~~أطولها، أبطلها كما يحدث هناك، وحلمي يتحطم، ولونك يحمر، وحلمي يتحطم، ولون البطل ~~يسود، ولوني أنا يصفر! كنت وقد فقدت الدور الرئيسي أبحث - بغير ما لهفة - عن الدور ~~الذي أعددته لي في حلمك ذاك. # فجأة ضحكت. # وبانزعاج مؤدب سريع، توقفت عن الحديث وسألتني: ماذا حدث؟ هل أخطأت في شيء؟ # كان انزعاجها حقيقيا؛ فالضحك في ألمانيا ليس كالضحك هنا؛ فمن حقك المطلق هنا أن ~~تضحك في أي وقت تشاء، ولأي كلام يقال، حتى لو كان الكلام جادا، ليس فيه ما يضحك؛ ~~بل بالذات لو كان الكلام جادا حقيقة، وليس فيه ما يضحك، الضحك هناك - كأي شيء - لا ~~بد أن يتوفر لحدوثه أسباب وجيهة قوية، مقنعة جدا، وواضحة جدا، ولا يختلف عليها ~~اثنان. حتى في بعض الروايات مثلا ممكن أن تحدث مواقف تدفعك دفعا للضحك، ولكن لأن ~~النص لم ينص على الضحك هنا، فإن أحدا لا يضحك! الضحك هناك نظام، وكأي شيء لا بد أن يتم ~~بنظام، فإذا فعل إنسان فعلتي، وفي نهاية كنهاية حلمها في لحظة تحشرج فيها صوتها، ~~ضحك، فلا بد أن شيئا قد اختل في النظام العام؛ جننت أنا، أو جنت هي، أو تسرب مع ~~فتحات الهواء في الطائرة شيء من الغاز الضاحك! # انزعجت، وبلهفة تساءلت مروعة: لماذا أضحك؟ # وكنت أضحك لأني اكتشفت أن دوري في حلمها، هو الدور الذي نحتفظ به في الرواية للرجل ~~الطيب الذي يقود الناس لتحقيق أحلامهم؛ للقادة. # كنت أضحك للكم الهائل من خيبة الأمل التي أحسست بها؛ فليس لشخصي اختارتني ملكتي ~~البافارية، وفضلت المقعد الخالي بجواري ms03 على كل ما عداه من مقاعد خالية، وإنما ~~لمؤهلاتي تلك التي يتطلبها دوري، واضح أني عربي مثقف، أعرف لغات، وأعرف النساء ~~أيضا، وأحب - كما رأت كل أمثالي في بيروت وغير بيروت - أن أساعد السيدة، أي سيدة؛ فما ~~بالك بجنية ملتهبة الأنوثة صاخبة الاحمرار؟! # يا بنت الإيه! اسمعي إذن و... # وكما يتحدث الطلبة في برنامج ألف سلام، وكخطابات المغتربين ومحاضرات ذوي الحماس ... ~~رحت والأصفر في وجهي ينتقل إلى البرتقالية والطماطمية والبطيخية، وما شئت من ~~ألوان الاحمرار، رحت وبقسوة بالغة، أو فلنفعل كاللغويين الكبار ونقول: بقسوة بليغة، ~~أو ببلاغة قاسية، رحت أخلع تلك الصورة البدائية الكريهة، التي يبدو أنها علقتها في ~~عقلها منذ الطفولة. كما غاظتني بحلمها عن البدوي وسمرته، تهورت في حماسي دفاعا عن ~~برج الجزيرة وآثار الفراعنة ساعة العصرية على شرفة مينا هاوس. # وحين انتهيت ضحكت؛ ربما تقليدا لما فعلت بكلامها أنا، ووجدت أن عليها ~~اتباعه، ورد التحية فعلت، ولكني أنا انزعجت؛ فقد خفت أن تكون قد وقفت على سر ~~البلاغة القاسية، والقسوة البلاغية وحماسي المفاجئ للبرج؛ لا جمال البتة فيه، وربما أي ~~برج حمام أبيض في أي نجع، يبدو لي أكثر منه وداعة وحضارة ورمزا. # أكثرت من تفاصيل البداية، أعرف؛ فأنتم لا بد أنكم - مثلما كنت أنا تماما - شغوفون ~~أن تنتهي البدايات بسرعة. وفي القاهرة أصبح وحدي مع البافارية الغربية الحالمة، ~~بليلة تنطبع فيها آثار الأحلام على الرمال. # ولقد حدث! # بل، ولقد حدث أكثر من هذا. # حين هبطنا القاهرة كان اللقاء قد تم. في بيروت بدأنا والبدوي حلمها، وهي أو ~~مثلها حلمي، وكعادة الحياة والأحياء نبدأ معها ومعهم مستنكرين، مطلقا مختلفين غير ~~راضين، ببساطة نرفض الواقع تماما، ونرفض الخضوع، وببساطة وكما رفضت أنا حلمها تماما، ~~حتى مزقت القاهرة كلها من أجله، وكما لا بد كانت سترفض حلمي لو عرفته، وكعادة ~~الأحياء أيضا حين يرفضون الواقع المفروض، ثم شيئا فشيئا يلتقون بادئين من الأماني ~~المشتركة والأحلام. نحن أيضا تعادينا تماما في الحلم، ولكن الواقع المحض بدأ يقربنا، ~~واقتراب الواقع من ms04 الواقع فن اسألوا عنه أهل الذكر. فالسيدة حين تخرج السيجارة وتضعها في ~~فمها، دون أن تبحث أو تحاول حتى البحث عن ثقاب، منتظرة أن تفعل أنت ذلك الحريق الصغير، ~~الذي تلتقط بعضه بطرف سيجارتها، وبحنكة تتذوق طعم الدخان الناتج عنها، السيدة حين تفعل ~~هذا، تضعك في الواقع أمام امتحان، يرسب البعض فيه رسوبا لا نقض فيه. # ذلك أنها أيها السادة حين تضع السيجارة في فمها، الذي ضيقته خصوصا، حين يحدث هذا إنما ~~يكون في الواقع بداية بداية لمحاورة محاذية، تسير جنبا إلى جنب مع الحوار العادي؛ ~~المحاورة الحقيقية ذات اللغة الخاصة والمستويات المختلفة في الإدراك والفهم، المحاورة ~~الأهم التي من خلالها تدرك المرأة من أنت؟ - في الحقيقة: من أنت؟ وأي الرجال أنت؟ ~~وبأي الخصال تتمتع؟ وأين نقط الضعف؟ - إنك إذا اندفعت مثلا كالتلميذ الخائف أن ~~ينسى قطعة المحفوظات ملهوفا، فتبحث في جيبك عن الولاعة، وما إن تعثر عليها حتى تحس ~~بالاضطراب، ومن بعيد تدقها، تشعلها، وغالبا ما تفشل، وبعصبية من يريد إثبات ~~البراعة ثانية - وربما ثالثة - تحاول، ثم تقرب النار بخوف من يخشى أن يحرقها، وليس ~~بأناقة من يتيح لها أوسع الفرص لاستعراض أناقتها الخاصة في تحاشي اللهب، والاقتراب من ~~الشعلة، وأخذ النفس، وإخراج النفس، والتحرك إقداما وتراجعا، والتفاتا وابتلاعا، ~~وإهمالا في الإسراع والتراخي، الذي تنشد له الأعصاب، اسألوا أهل الذكر، ستجدون أن ~~لكل حركة كتابا أو بابا، وللأبواب مفاتيح، والمفاتيح أحجام، والمشكلة ليست مشكلة ~~اصطدام رجل بامرأة وخلاص؛ المشكلة أن تدبر بحيث يبدو الالتقاء طبيعيا أكثر من ~~الالتقاء نفسه، المشكلة أنك عارف وأنها عارفة، وأنك عارف أنها عارفة، وهي عارفة أنك عارف ~~أنها عارفة ... وهلم جرا. ولكن كيف؟ وأين الرجل الذي يصبح فخره هذه المرة أنه الجاهل ~~(مدعيا طبعا) وقوته أنه الغبي المفاجأ، وكأن الأمر يحدث ولا يد له فيه؟! إن ~~شرب الشاي هو شرب الشاي، ولكن أن تجعل من مجرد احتساء قدح من الشاي فنا وطقوسا ~~تزاولها مستمتعا، وكأنها ليست وسيلة لشرب شاي، أي شاي! ولكنها - هي الوسيلة ms05 - غاية ~~في حد ذاتها! كيف تجعل من كلمة «شكرا»، تبدو وكأنها أهم كلمة نطقتها في حياتك، وكأنك ~~لأول مرة تقولها، ومن أجلها استخرجتها من صندوق كنوزك التي لم يرها أحد، وتقدمها ~~بإعزاز الملك يقلد الملكة التاج؟ كيف بصدق تجعلها تحس بكلمة شكرا؛ بنطقك لها، ~~بإخلاصك وإعزازك واختصاصك بها تاجا باهرا كالتاج الحقيقي على رأسها، ساعة ترى الرجال ~~تضعه، وعلى كل الناس، وبالكلمة متوهجة فوق شعرها تفخر وتتيه. # اسألوا أهل الذكر. # فأنا لم أسألهم فقط؛ أنا بعض من أهل الذكر هؤلاء. # وكان من المحتم إذن أن أجعل الحلم الذي في خيالها يتبخر. # وأحل مكانه ما أريده أنا. # وما أردته بالضبط تحقق. # فقد تحولت الخيمة إلى حجرة في فندق فاخر. # وتحول البدوي الأسمر ذو اللحية إلى شخصي أنا، محدثا وأنيقا وبارعا. # ومضت خطتي في طريقها بأسرع وأروع ما توقعت، وانتهى العشاء. # وكنت أعرف وأحفظ درس السيجارة، والحريق الصغير الذي علي أن أحدثه. # وأول نفس لها من السيجارة كيف تخرجه. # ومددت يدي بعلبتي أنا أعزم. # ولكنها هزت رأسها بأناقة بالغة معتذرة. # وبيد رخوة مدت يدها إلى حقيبة يدها، وفتحتها وأخرجت ... # أخرجت ... # أخرجت سيجارا ضخما من حجم «تشرشل». # وفضت عنه ورق السلوفان. # وبين شفتيها وضعته. # ومالت برأسها وفمها، وبالسيجارة ناحيتي، تطلب الشعلة. # وكالمذهول المنوم تماما، وبأكثر من فشل واحد اشتعل طرف السيجار في ~~النهاية. # وبتلذذ عظيم تمتص رحيق دخان، وتنفثه ليشيع في الحجرة تلك الرائحة الخاصة ~~للسيجار الهافانا. # ولا بد أنها لاحظت ذهولي. # فبنعومة بالغة سألتني: أيضايقك أن أشرب سيجارا؟ # قلت بسرعة: أبدا أبدا. # ثم رحت أقول ببطء شديد: أبدا ... أبدا! # ولكني كنت أقولها وأنا سرحان تماما! # لقد كان في عقلها حلم بدوي لحمي حمراوي طردته. # ولكن ... # هذا السيجار ... # كلما رأيتها من «الفاس» أو «البروفيل» نفس الملامح الدقيقة؛ النمش البني فوق الأرضية ~~المحمرة، الشعر المتوهج بالاحمرار، كل شيء كما كان، ولكن السيجار - ذلك السيجار ~~اللعين - قد غير بوجوده، بمجرد وجوده، معنى كل شيء، طعم كل شيء. تطبق بفمها على ~~فم السيجار، فينبت لها شارب ms06 ! # والرائحة التي تعبق المكان تحيل ملكة بافاريا إلى كائن آخر، أي كائن غير ~~المرأة! # قالت: أعرف أن كثيرا من الرجال، لا يعجبهم أن تدخن المرأة السيجار مثلهم، أرجو أن ~~تكون من المؤمنين بالمساواة، أليس كذلك؟! # هززت رأسي موافقا، وعن يقين موافق؛ فالسيجار في الحقيقة قد ساوى بيننا، بين ملكتي ~~البافارية، وبين الرجل، أي رجل؛ أنا مثلا! # | يموت الزمار # تقريبا كل ما كتبته من قصص ونسبته إلى نفسي، أو قمت فيه بدور الراوي، كانت كلها ~~أبدا لم تقع لي، إلا هذه القصة؛ فأنا فعلا فيها الراوي، وما حدث فيها حدث لي. ولقد ~~حاولت المستحيل لكي لا أكون أنا أنا، أو لكي يكون الحادث وقع لغيري، وكان ممكنا أن ~~تكون أروع وأكثر إمتاعا، ولكني بيني وبين نفسي، كنت أحس أني سأكذب؛ بالضبط مثلما كنت ~~حين أتقمص أنا شخص الراوي في قصص أخرى، معظمها أبدا لم يحدث لي، كنت أحس أني أكثر ~~صدقا مع الآخرين ومع ذاتي. # إنها إذن قصة خاصة جدا، أعرف أن كثيرين سيهزون أكتافهم حيالها ويقولون: وما لنا ~~ولهذا القول الذاتي الخاص؟! ولكن، من يدري؟ ربما لن أعدم واحدا يحس ذاته تماما، ~~وهو يراني أتحدث عن ذاتي؛ فنحن في النهاية أبناء ذات واحدة؛ عليا عميقة، أو سفلى. إنما ~~الاتصال قائم وموجود، والمهم هو الوصول إليه، وقد يضطر الكاتب في أحيان أن يستعمل ~~دلوه الداخلي الخاص؛ للوصول إلى مياه الآخرين العميقة. # وكنت حين أقرأ أن فلانا الممثل، أو أن جريتا جاربو الممثلة، تتبع طرقا بوليسية منذ ~~أكثر من أربعين عاما؛ لتختفي عن الأنظار العامة، وتعتزل الفن أو تقاطع هي دائرة ~~الضوء؛ لأنها تستمتع كثيرا بأي كوخ ظل تأوي إليه، كنت حين أقرأ هذا كله، أحس أنه ~~نوع من الإبهار الصحفي، يلجأ إليه النجوم؛ زيادة في اجتذاب البريق. # وهذه المرة لا شيء من «هيافة» بعض النجوم في ذهني، وبعد طول تدبر وتفكير، وبعد ~~انفراد بالنفس ذلك الانفراد الخاص التام، الذي تحس أن همسة الخاطر، حتى، لا تشاركك ~~إياه، قررت في لحظة حسم ms07 باردة كالثلج، لا انفعال فيها ولا تراجع أو ندم، أن أكف تماما ~~عن الكتابة، أي كتابة! ليس يأسا أو تدللا أو نوعا من استدرار الإشفاق على النفس، ~~تجاه النفس، ولو من ذات النفس، ولكنه إدراك عميق كامل بعدم جدوى الكتابة أصلا، ليست ~~كتابتي فقط، ولكن كل الكتابة مذ عرف الإنسان الكتابة، أو - في رأي - ماذا فعل الإنسان ~~بالكتابة؟! أو بمعنى أصح: ماذا فعلت بالإنسان الكتابة؟ أصلحت أخلاقه؟ كذب في كذب؛ ~~فالإنسان أيام الحضارة المصرية القديمة، وأيام أثينا وطيبة وبابل، وأيام أفلاطون وأرسطو ~~والفلاح الفصيح، ربما كان أكثر تسامحا وهدوءا مع نفسه ومع الآخرين، وربما لم تفعل ~~نصائح كتابه بتحريضه على الصدق وعلى الشرف وعلى النبل، إلا العكس تماما، فلا أعتقد أن ~~وحشية المحاربين أيام أول حروب عالمية عرفها التاريخ بين المصريين والحيثيين، أو ~~بين الفرس والإغريق، كانت تصل إلى معشار ما وصلت إليه وحشية المتحاربين في آخر حرب ~~عالمية خاضها الإنسان، ولا وحشية ما حدث ويحدث للبشر في فيتنام أو أفغانستان أو لبنان. ~~فصحيح أن بالكتابة تعلم الإنسان، ولكنه بالتطور العقلي الذي أحدثته الكتابة والكتاب ~~فيه تعلم أيضا أن يصبح شريرا أكثر علما وبشاعة علم، كالحية الرقطاء التي فوق ~~الناب الطبيعية، التي زودتها بها الطبيعة؛ لتلدغ بها عدوها مرة، تعلمت وتعلم ~~كيف يزود نفسه بأنياب أكثر، وخزانات سم أكثر، أنياب لا تكتفي بنفث السم، ولكنها ~~ترسله ميراج وميج وفانتوم ونابالم ونيوترون وكوبالت! وبدلا من ترس التعذيب الذي كان ~~يشد إليه جسده، أصبحت وسائل العذاب تصل إلى نخاع النخاع من أدق أعصابه حسا، ولم ~~يعد في الحرب فروسية أو علم أبيض أو قوانين أسرى، وإنما هو الشر يندفع من عقول ~~قد زودتها المعرفة بالتصميم القاتل على الإبادة! باختصار، مذ عرف الإنسان الكتابة ~~عرف أيضا كيف يصبح الشرير في أعنف وأبشع صوره. # قد يقول القائل: ولكنه التطور، وليس الكاتب أو الكتابة! والرد جاهز؛ فالتطور ناتج ~~العقل، والعقل ناتج الكتابة. ودعونا لا نتفلسف أكثر؛ فلقد كان حلمي بالكتابة كحلمي ~~بالثورة، كحلمي بالمعجزة القادرة ms08 على شفاء كل وأي داء. وفي عمري أنا سأرى اختفاء الحفاء، ~~وعمومية الكساء، وزوال الحاجة، واكتفاء كل محتاج. كانت واحة العمر ألجأ إليها، كلما نضب ~~معين الخيال، وأتزود منها وبها بالقدرة على مواصلة اللهاث، وكان الوصول على مرمى ~~حجر، وكأنني سأصحو في الغد لأجد الصباح فجرا، ليس فجر يوم، ولكن فجر عصر؛ عصر كامل تام ~~يعود فيه الإنسان يحب بكل نهم وعمق وظمأ الحب، ويعيش وروعة الحياة يشربها ~~مترعة قطرة وراءها قطرة، ولكل قطرة طعم، ولكل لحظة زمن، تمر أشواق وصهللة ~~ومعان. # حياة أستمتع فيها إلى التعالي أني ابن، مثلما أستمتع به إلى مهجة كبدي أني أب، ~~تأخذني الأم إلى أعمق أحضانها، ترضعني خلاصة الأنوثة، وأرتشف وأنا أضمها نعناع أني ~~ولد، وخمرة أني رجل! حياة أنا فيها محب محبوب، عاشق معشوق، مؤثر ومغير، ~~ومتأثر ومتغير، ودائما إلى الأعلى والأروع، حياة، حياة؛ أتعرفون ما هي الحياة؟! # في الواقع وأنا أتأمل القرار من نواحيه، أدركت جانبا من عظمة وعبقرية شكسبير الشاعر ~~الكاتب، فليست روعته أنه فقط كتب، ولكن الأروع من كتابته أنه عرف متى وكيف يتوقف ~~ويقف. في الواحدة والخمسين كان قد انتهى من كتابة آخر أربع أعظم مسرحياته على الإطلاق: ~~الملك لير، وعطيل، وماكبث، وهاملت. وبانتهاء عرض آخر واحدة منها، لست أعرف ما هي على وجه ~~الدقة، اتخذ القرار، وصفى نصيبه في مسرح الجلوب، وسوى أموره ورحل إلى بلدته، وهناك ~~اشترى منزلا (أصبح الآن كعبة الرواد)، ومكث عامين بعيدا تماما عن الكتابة والمسرح، ~~وكل ما يتصل بهما، ثم مات في الثالثة والخمسين! # هذا هو الرجل؛ عاش وقال، وصمت ومات، وهكذا وهكذا لم يمت، ولا زال يعيش ويقول، ولا ينتهي ~~أبدا. # وليس مطلقا تقليدا لشكسبير، ولا لأي أحد - فالموضة عندنا أننا لا نكتب إلا تقليدا، ~~ولا نحيا إلا تقليدا؛ ربما لأن معظم من يقيمون إنتاجنا وحياتنا هم دائما وأبدا ~~مقلدون، ومقلدون أيضا غير متقنين؛ فأنا لم أعرف هذا إلا في قراءة عابرة لمجلة قديمة، ~~كان فيها مقال عن شكسبير قرأته بعد القرار ms09 (واسمحوا لي باستعمال الكلمة)، فأكد لي ~~حتمية ما انتهيت إليه. # وحين راحت السكرة وجاءت الفكرة، وجدت أني لست فقط مختلفا تماما؛ كما، ونوعا، ~~وحياة عن شكسبير وغيره، ولكن مختلف أيضا أني موظف كتابة عام، بينما كان هو صاحب ~~قطاع خاص، في استطاعته تصفية كتابته والعيش بما يتبقى لديه من رأس مال، أنا موظف في ~~جريدة كبرى تدفع لي راتبا شهريا من أجل أن أكتب، وعلي - شئت أم أبيت، ومن أجل أن ~~أعيش - أن أظل أكتب، فإذا قررت أن أكف تماما عن الكتابة فأبسط المواقف الشريفة، أن أبحث ~~لي عن عمل آخر، أو وسيلة حياة ثانية، وهكذا مثلما يفعلون قبل المعاش، حيث من حقهم أخذ ~~إجازة ثلاثة أو أربعة أشهر، أعطيت لنفسي الحق في إجازة أبحث فيها عن مصدر رزق؛ أزرع قطعة ~~الأرض التي تخصني في قريتنا، أفتتح مستوصفا للعلاج الرخيص، أتقن حرفة النجارة التي ~~أهواها، والتي أصبحت ماهية الأسطى فيها لا تقل عن عشرة جنيهات في اليوم، أحيل عربتي إلى ~~تاكسي أعمل عليه ... أي شيء، إلا أن أمسك القلم مرة أخرى، وأتحمل مسئولية تغيير عالم لا ~~يتغير، وإنسان يزداد بالتغيير سوءا، وثورات ليت بعضها ما قام؛ فما حدث بعد بعضها ~~أبشع مما كان عليه الحال قبلها. # يأس؟! # ولماذا نسمي النظرة الحقيقية الواقعية يأسا، والتمسك بخرافة الأحلام التي لا ~~تتحقق، هو التفاؤل الإنساني، الذي لا نجده سوى في الكتب، وعلى ألسنة وأفواه وأقلام ~~«إخواننا» الكتاب. # وكنت في قراري صامتا كتوما، لا كلمة واحدة لزوجتي نفسها، ولا علم لصديق؛ فأنا أعرف ~~كم ما سيصدر من اعتراض وسخرية، أقلها أني أتصيد التقريظ والمديح، والرغبة في الحث ~~على مواصلة ما يسمونه بالنجاح. إن الحياة - هكذا أراها - ليست لعبة أضيعها مصغيا ~~لهذا، أو موليا أذني لذاك؛ الحياة حياتي، والقرار قراري، وكم من أمور تكاد تكون قتالة، ~~فعلتها دون ذرة تردد وحتى لو كادت، أو بعضها فعلا ضيعني، دون ذرة ندم. # بل والقرار التالي الأخطر بعد اللاكتابة: هو اللاقراءة! فالحليف الداهية الخبيث ~~للكتابة هو القراءة، هي ms10 المنزلق الذي إذا وضعت عليه قدمك، وجدت نفسك في سرعة الضوء، ~~تهوي حتما إلى حيث تبدأ، أنت لا ترى ولكن تصنع الحروف والمعاني والكلمات، ويلفك ~~التيه الخالد ما بين أحرف تصنعها وأحرف تصنعك، وحياة تصنعها ولا تحياها، وحياة ~~تصنعك أجيرا لها، فقط تحقق لها ما هي تريد. مذ كان عمري خمس سنوات وإلى الخمسين، وأنا ~~أقرأ وأكتب، وأكتب وأقرأ. الحياة تصطخب في الدنيا، وأنا صريع الحياة الموهومة بين دفتي ~~كتاب، وكلها من ورق، وكلها من حبر، ضيعت عمري أتعلم كيف أتعلم الكتابة، والبقية الباقية ~~ضيعتها كيف أعلم ما في الكتابة، والنتيجة أني أنا نفسي استحلت إلى كلام، وأصبحت روحي ~~من ورق، وأحلامي ومتعتي كائنة كلها من حبر، بين كلمتين أو جملتين أو صفحتين. أي ~~حياة؟! # كثيرا ما قضيت الليالي إلى صباحها في غابة الأحرف تائها؛ أزرعها مرة، وأقطعها مرات، ~~ولا نسمة إلا رائحة اللون الأسود، وسحابات من دخان، وأنصاف أكواب مليئة «بتنوة» من ~~بن جاف، ولا أتبين إلا هناك أشعة الشمس تشحب ضوء الكهرباء، وأحس أن ظهري انكسر ~~مقوسا إلى الأبد أو يكاد! فأقوم لأعدله وأخرج إلى الشرفة؛ ما أجملها ساعة السابعة ~~في الصباح؛ طازجة، ودائما جديدة! تصور كل صبح دائما جديدا أبدا، لم تمسسه أرض من ~~قبل، ولا احتوته سماء، وإنما هو هدية الكون الجديدة تماما لنا، الناشئة لتوها وفي ~~الحال، هذا هو الصباح الطازج الصابح، الذي علي أن أتركه لأمضغ ساعات ليل ونوم بائتة ~~وحامضة؛ فقد مضى أوانها من زمان. # في ساعات صبح كتلك، كنت كثيرا جدا، ما ألمح «كناس» شارعنا جالسا على الرصيف ~~المقابل، مسندا مقشته إلى كتفه، محتضنا إياها وكأنما يلتمس منها ألفة يوم كامل ~~سيقضيانه معا، وفي يده اليمنى غالبا كنت ألمح كوب شاي وفي اليسرى سيجارة. ومهما كانت ~~الدنيا صيفا أو شتاء، فأبدا لا برودة هناك ولا نية احترار، وإنما هي - في رأيي - لحظة ~~السعادة القصوى! هذا رجل يقوم بعمل جاد محدد؛ ينظف شارعنا من كل ما نقذفه نحن ~~الأفندية والستات من فضلات! نام ms11 قطعا الليل ونامه مبكرا؛ فها هو مبكرا قد استيقظ، ~~واستمتعت كل خلية من خلاياه بسبع ساعات على الأقل من خلو البال. واحدا من ملايين ~~ملايين الرجال، الذين لا أشير ولن يشار لهم بأي بنان، عاش وقام، ورفس زوجته ونام، ~~بالضبط اتسق تماما مع قانون كون أعظم، جالسا استعدادا لقانون عمل أعظم، وها أنا ~~المشار إليه بالبنان، عاكس القانون، ومقاوم الظلام ليغير الناموس، وأتى عليه النهار ~~ليجده حطام دون كيشوت، خيل إليه أنه قضى الليل يعكس ويحارب طواحين الهواء ~~والاتجاه، وأحس حتى دون أن يواجه أحدا، أن طاحونة لم تتوقف وجناحا منها لم يتعطل ~~أو يتغير أو يتبدل، لا تنعم براحة البال ولا حتى براحة البدن، أعطني مقشتك أيها الرجل ~~وخذ ذلك القلم؛ فمنتهى أملي أن أرى أو أستعمل شيئا له مفعول مقشتك، والمفعول أراه ~~أمامي بعيني، وأشهده وأحس بفائدته. # قدرك الذي عذبك وأمرضك، وحملت من أجله هموم الكرة الأرضية فوق قرنك، ولست ثورا ~~إفريقيا خالدا، باستطاعته أن يتحمل الدنيا بهمومها، بله همومك أنت وحدك إلى الأبد، ~~كل جسدك من المرض، مرض المرض، وحيرت نطس الأطباء من الكرملين إلى مايو كلينيك ~~وكليفلاند وهارلي ستريت، وأصبحت مريضا عالميا، وأصبحت حياتك كونية الحيرة، فيقرر ~~الأطباء أنك ستموت في ظرف 48 ساعة، وإذا بك بعد 24 ساعة في قوة الحصان، ويقرر الأطباء أن ~~عندك سرطانا، وأنك أمامك شهر بالكثير لتودع الحياة، فتبدأ حياة جديدة وسيمة الملامح ~~جدا بعد أسبوع، حتى يئسوا منك مثلما قالت لك الدكتورة إيلينا: أنت يا زميل، حالتك لا ~~تخضع للطب الذي درسنا، وقال لك البروفيسور الكبير في نيويورك فريدمان: حالتك نادرة، ~~ولكنها التفسير الأوحد، تنفعل إلى درجة المرض، وتمرض إلى درجة الموت، وتموت إلى درجة الحب، ~~والمسألة خرجت عن كل ما لدينا من علم تعلمناه نعلمه؛ ربما تعرف أنت! # وفي ركن خفي من أركان نفسي السرية كنت أعرف: أنها ذلك الجزء الذي يملي علي أن ~~أكتب، يمرضني ويحيرني، وجزء كقوانين الكون كيف لي أن أسيطر عليه؟ ولا كيف أريحه؟ فإذا ~~أخذت إجازة ms12 وذهبت إلى الشاطئ، ثارت الزوبعة في يافوخي حتى تتكتل علي الأمراض، وربما ~~تهدأ تماما إذا وجدت نفسي في وسط وحركة جيش التحرير في الجزائر، أو أستعد ليوم عصيب من ~~أيام الحركة الوطنية والقومية. # وأيضا ما علينا. # فلتكن قد فعلت الكتابة ما فعلت، وليكن قد حدث ما حدث، بل فلأكن سأموت حتى، أقسم ~~غير حانث أني قدرت الموت واستحضرته تماما، ووجدته ألف مرة أرحم، لم أعد أستطيع، ~~أبدا لم أعد أستطيع! إني لأكاد أحسد إلى درجة البكاء، هؤلاء الزملاء الكتاب الذين ~~يكتبون كل يوم، وعن كل وأي قضية؛ من السياسة إلى القصة، إلى العلم، إلى المذكرات، إلى ~~الحب، إلى الأمومة إلى ... إلى ... إلى ... إلى أي شيء، كيف بالله يكتبون؟! ولماذا أجد القلم في ~~يدهم سهلا، ودرجة الانفعال 37، لا تنخفض ولا تزيد، وضغط الدم لا يعلو ولا ينخفض، 120 ~~على 80 بكل الصحة - واللهم مزيدا من الصحة - وبكل التعقل والمنطق، يكتبون ويكتبون ~~ويكتبون، يوما بعد يوم بعد يوم، ألديهم آلة «زيروكس»، يضغطون على الزرار من هنا، ~~فتخرج الصفحة زيروكسية مكتوبة جدا من هناك، أم «أنا» الحالة؟ فلا بد أن أحدنا هو الحالة ~~قطعا. # وأيضا - ولثالث مرة - ما علينا. ~~••• # طيب، أخذت المهنة وقلت أتدرب على إصلاح أجهزة الفيديو كاسيت؛ فلقد أخطأت ذات مرة، ~~وأحضرت جهازا غير تقليدي، وحاولت تشغيله فأبى أن يعمل، وجربت جميع المشاهير وغير ~~المشاهير من مصلحي الفيديو، حتى استوعبت العملية تماما مثلهم، وأصبحت أعرف البال، من ~~سيكام، من الأوتوماتيك بال سيكام، والأنظمة الثلاثة الأوتوماتيكية، والألوان التسعة ~~والسبعة، ومثلهم أيضا أدركت أننا كلنا قد أخذناها فهلوة، وأن أقصى ما قضاه أي مهندس منهم، ~~لدراسة هذا الجهاز الجديد، الذي سيقلب العالم رأسا على عقب في القريب العاجل جدا، لم ~~يقض في الخارج أكثر من ستة أشهر، وهي في رأيي فترة غير كافية لدراسة نظرية - مجرد نظرية ~~- التليفزيون، فما بالك بالتسجيل التليفزيوني العملي وأجزائه المعقدة الوظائف؟! # سأكون صناعيا علميا جدا، وحتى لو كان الأمر تغيير مهنة، فأنا كثيرا ما ~~بشرت في أحاديثي «أيام الجد!» أن ms13 الإنسان في عالم المستقبل، لن يقصر عمره على مهنة ~~واحدة، يقضي في روتينها محترفا كلية، وأن المستقبل يحمل للإنسان القدرة على أن ينتقل ~~من جراح قلب إلى قافز باراشوت هاو إلى نجار موبيليا - أعرف جراح قلب في أمريكا، ~~يعمل يومي السبت والأحد نجارا محترفا فعلا - إلى عازف أكورديون، إلى ما شاء من المهن ~~والهوايات، خلال حياته الواحدة، بحيث لا يعتريه شهر أو أسبوع أو حتى يوم ملل ~~واحد. # وجئت ببعض المراجع، وأحضرت تليفزيوننا القديم، وبدأت أدرس الدوائر ومصائد ~~الأشعة والصمامات وأنصاف الموصلات «الترانسستور»، ولم يستغرق الأمر أكثر من أربعة ~~أيام؛ لألقي بكل شيء جانبا؛ إذ كنت قد تركت أجمل أنواع المعادلات الكتابية الشاحذة ~~للخيال المدرة للجمال، فهل أغرس نفسي في معادلات أبعد ما تكون عن التصور، وأقرب ما ~~تكون إلى واقع صلب ينطح فيه الإنسان رأسه؟ لا كتابة، لا قراءة، لا دراسة؛ فلقد أخطأت، ~~كان الواجب التكتيكي يقتضي مني، وقد قررت أن أتنحى، أن أتنحى عن عالم الأحرف كلية، ~~والخيال إلى قلب الحياة نفسها، قلبها الصاخب المتدفق متعة، وليس إلى دوائر الترانسستور ~~والتليفزيون، المغلقة حتى على نسمة الهواء. # شارع المتعة والحياة، فلان؟ أهلا وسهلا، أو أهلين وسهلين، هاي جو، بالأحضان يطبق ضلوعي، ~~وأنا قرأت لك، وأنا فاتني أن أقرأ، يا سلام يا عبقري! يا لسوء حظي! وبدلا من أن أستمتع ~~أنا، أصبحت أنا وسيلة المتعة، وغير مسموح لي حتى بمشاركة «جمهور» الحاضرين مباذلهم ~~الصغيرة أو الكبيرة أو رواية نكتة فاضحة؛ فأنا «فلان» المفكر «المهول»، والاستنكار ~~ينبثق كالدش البارد المفاجئ، إذا حدث وحاولت - مجرد محاولة - أن أهرج، وهل يسمح حتى ~~في أيام الوثنية للآلهة بالتهريج؟! وأعود آخر الليل شديد التأنيب لنفسي؛ فالعاصفة الهوجاء ~~التي قوبلت بها، تنتهي في آخر السهرة بسلام كسلام صداقة انتهت، وكأن الواحد يقول ~~لنفسه: ها هو آخر يطلع زينا، والظاهر كلهم كده، صيت ولا غنى، وأهه كله بكش! لم ~~يقبلني صخب الحياة ولم أقبله؛ فالناس يفضلون إذا صخبوا أن ينسوا العقل، فإذا حضر ~~العقل أو كلام العقل ms14 ، فهم يصنعون شيئا من شيئين؛ إما يلغونه تماما بإحالته إلى محط ~~سخرية، وأما يحيلونه تماما إلى عنصر عاقل كابت، كالوعي يثبتون له ولأنفسهم أنهم لا ~~يقلون عنه «احتراما»، والنتيجة أن ينقلب الأمر إلى حالة تمثيل، تتوقف فيه الانطلاقة ~~التلقائية، التي رغم كل ما يبدو فيها من هبوط، انطلاقة براءة الطفل، الذي يريد أن يلهو ~~داخل الإنسان، وهكذا وببساطة تامة تنتهي المتعة، أي متعة. ~~••• # وقلت: لقد مضت أحقاب، منذ أن لعبت دور الأب، وإذا كنت قد أنتجت أعمالا، فلماذا ~~لا تلتفت الآن لإنتاج بشر؛ بشر تعطيهم ما أعطتك الحياة من خبرة؟ تجمعهم كل عشية ~~وتعيدها أواصر عائلة، فككها التليفزيون الذي أخرس الحوار بين أفرادها، شلل النادي ~~والكورة التي تولت مهمة التربية والأب، وأصدقاء السوء ليس وراء معظمهم سوى الشوائب، ~~تنزعها كالشوك السام الذي يغرس كل يوم في الأقدام، وعليك بإبرة رفيعة متهالكة، ~~وبمقاومة رهيبة من الولد صاحب القدم أن تنتزعها. # واكتشفت أني أبحث عن دور، أصبح مكانه حفريات التاريخ هناك، حيث ترقد مراكب الشمس، لو ~~أمعنت في الصحراء قليلا، ستجد ملايين قبور عليها شواهد مكتوب فوقها: كائنات كانت ~~آباء! فليرحمهم الله. # أب ماذا في هذا الزمن، الذي أراد النظام الذي يدير الكون الآن، أن يفكك العائلة ~~فيه؛ ليسهل على نفسه شراءها؟! أيد عاملة شابة، ترضى بالقليل وتعطي الكثير، ولا تسمع ~~تعاليم الآباء، عن عمق مطالب الشعوب والفئات منذ أقدم العصور، آلات منتجة حديدة غير ~~مثقلة بتاريخ مطالبات ونقابات، وإنما هي ابنة «رجل بستة مليون دولار» و«جي آر» ~~و«سوالين» جديدة، تشكلها وتعطيها ما شاءت من بنج بونج وتنس وكورة، ومنطق ساحق رهيب، دراسة ~~ماذا وأنت تستطيع كجرسون في فندق أو حتى شيال، أو مصادق للسائحات العجوزات، أن تطلع لك في ~~اليوم بعشرين أو ثلاثين جنيها بالتمام والكمال، تصرف وتشتري عربة، والجامعة والتعليم ~~واللقب الذي تريده، ستجدها كلها ملفوفة في خرق قديمة، ألقيناها من نوافذ المناور في ~~العمارات؟! ماذا يجدي الحديث عن سعد زغلول ومصطفى مشرفة وحتى فاروق الباز، أمام ثلاثين ms15 ~~جنيها وعربة ولو «سيات»، يلمسها المراهق لمسة اليقين كل يوم، ويحيلها لصناديق بيرة ~~وشحنة بنات وطريق صحاري سيتي وهات إيدك، إلى حديث عن المجد القديم، والمجد ها هو أمامك ~~جديدا «نوفي» تحت أمرك، ودقيقة واحدة ويكون رهن طلبك، وإذا أرقك ضميرك هاك بلبوعة ~~قادمة من بيروت، تزيل كل الآلام وتحقق جميع الأحلام، وتصبح إذا أردت في ومضة كسرى ~~أنوشروان! # كان الله واحدا والأب واحدا، وفي البدء كان الكلمة، بالطبع الكلمة الطيبة. # في عصر الوثنية الحديثة هذا أصبح الإله الواحد، حتى في الدين الواحد عشرات الملل ~~والنحل، والأب الواحد أصبح عشرات الآباء تختار أيهم كما شئت، حسب لون الفانلة أو نوع ~~الفتاة أو فرقة الغناء أو مكانتك في الشلة. وما أبعد المسافة بيننا وبين البدء! بحيث ~~أصبحت الكلمة والأوقع والأكثر جذبا للانتباه شارع المتعة والحياة: فلان؟ أهلا وسهلا، ~~أو أهلين! من جديد أمر يحتاج إما أن تهدمه تماما وتعيده خلقا آخر، وهذا ليس ~~بمستطاعك، وإما أن تكتفي أن تقوم بدور المتفرج، في طابور طويل من الآباء يغمر العالم ~~كله، يتفرجون على كائنات كانت في البدء أبناء. ~~••• # ولم يعد إلا أن أحيل نفسي - رغم الطاقات التي تتفجر مني، ورغم أني في أكمل وأنضج ~~«فورمة» إنتاج في أي مجال ومكان - إلى التقاعد! وتقاعدت. أتمشى مبكرا في الصباح، ~~أحتسي كوب شاي في مقهى أو ناد، أعود إلى البيت، أحاول أن أصلح حنفية أو أفسد «كوبس» ~~نور، أنا في إجازة ما قبل الإحالة إلى الاستيداع. # وشيئا فشيئا بدأت ألحظ مسألة بالغة التفاهة. # إن قدرتي على التمشي أصبحت أقل، وكل يوم تقل، وأصبحت أعود إلى البيت، وكأني قد ~~بنيت السد العالي بمفردي، متعبا مهدودا لا أكاد أصل إلى البيت، حتى أظل أستريح - ~~ولو من الراحة - استراحة تصل إلى الظهر. # وأتغدى وأجد نفسي في حاجة ماسة إلى النوم، وكأنني ظللت اليوم بطوله ~~ساهرا. # ثم ساءلت نفسي السؤال الأكبر: لماذا اليقظة المبكرة أصلا، وليس ورائي من عمل ~~أؤديه؟ # ثم سؤال أكبر وأكبر: ولماذا المشي كل يوم كل يوم ms16 ، وأنا ليس لدي عمل ثابت لكل يوم؟ ~~وأسئلة ليست مجرد أسئلة، ولكنها مقدمة حتمية معقولة؛ لشمولها بالنفاذ الفوري. # ما أروع التمطي في فراش دافئ ونحن في طوبة، حيث كل شيء وكل إنسان من البرد ~~يتجمد! ما أروع فكرة أن ليس وراءك بالمرة أي عمل! ليس الكسل هو الرائع في ~~الموضوع، ولكن الأروع هو الإحساس الكامل أن ليست لديك أية مواعيد أو واجبات، وإنما ~~أنت لك حرية اليوم والغد والزمن القادم كله. # كل حياتي كان محورها أني أكتب؛ كل اتصالاتي، دعواتي، ارتباطاتي، سببها خيط واحد ~~يصدر مني ليوزع آلاف خيوط بعضها يجذب، بعضها يعزف، بعضها يقلق، بعضها يفرح، بعضها ~~يذكر أو يتذكر أو يصرخ ألما. والخيوط تلتقي عندي، تصنع لي يقظتي ومنامي، وترغمني ~~أن أرتدي الثياب كل يوم، وأعاني مشاق كل يوم، وأودع الأمس وداع المغتاظ مرة، ~~وداع الصبوة مرة، لا أنتظر الغد بصبر نافد، بل لا أريده أن يأتي أبدا. # ذلك المحور لم يعد له وجود؛ الكرة الأرضية الآن انطلقت في الفضاء على حريتها، بكل ~~اتساعه وشموله، تدور حول الشمس أو لا تدور، تترك وليدها القمر ينعي حظه ~~وخسوفه، إذا أحست بعلل الصحبة. # ولأول مرة أحس أني لست أنا ملتقى خيوط، ولا دائرة بالأمر القدري حول محوره، ولا ~~يهمه أن يتلقى النور من هذه الشمس بالذات، أو يكتب عن هذا الموضوع، الذي يشغل الناس ~~جميعا، الآن بالذات، أقرأ أو لا أقرأ، وجميع ما أقرؤه غير مضطر لاختزانه، أو إمعان ~~التفكير فيه؛ فلم يعد عقلي في حاجة إلى مذاكرة ما يقع، أي: مما يقع، وشبح الامتحان ~~الكتابي قد اختفى من أمامه. # صادقا مع نفسي لم أحس بطعم سعادة حقيقية، مثلما أحسست وأنا لثلاثة أيام بنهارها ~~ولياليها لا أتحرك من فراشي، زوجتي تعتبرني لا بد مريضا، فحتى حين أطلب الطعام، وأنا ~~نصف جالس، ألمح الاستنكار البين في عينيها، ولكنها في قرارة نفسها تقنع نفسها، أني ~~لا بد أستعد لعمل عظيم، ومن حقي أن أستعد له بالطريقة التي تحلو لي. وما دامت ~~الطريقة ms17 هذه المرة هي التمدد في الفراش المنكوش، وملاءاته التي يحل كل يوم موعد ~~تغييرها، فكم كان لي معها من تصرفات تستغربها، تنتج في النهاية شيئا تكون هي أول ~~السعداء به. # ماذا لو عرفت أن لا شيء وراء الأكمة، وأن لا كتابة بعد الآن؟! ماذا لو أدركت أنها ~~لو احتجت أو عارضت، فسأترك كل شيء وأمشي لو اضطررت؛ بلاد الله لخلق الله. # طال الرقاد حتى أصبح الذهاب إلى الحمام مشقة - وأي مشقة - ألهث لها، وأحس أني ~~وكأني أسافر على أقدامي عدة أميال، وغسيل الوجه لم يعد يوميا بالضرورة! ماذا لو حدث ~~كلما أحسست باتساخه؟ وغسيل الأسنان باعتباره عادة راسخة، أحس بالقلق طوال اليوم، إذا ~~لم أفعلها بكوب من الماء الدافئ والمعجون بجوار الفراش. # في الأيام الأولى كنت أقضي اليوم في أحلام يقظة، تعيد لي خصوبة أحلام اليقظة في ~~طفولتي، وعبر رحلة الثماني كيلو مترات من المشي ذهابا وعودة إلى المدرسة، أكتفي من ~~الجرائد بالمنشتات، ثم أكتفي فقط من أجل العادة وحدها بتسلمها دفعة واحدة، ثم ~~إرقادها بجواري على أمل أن أعود إليها في المساء. والمساء يجدني مشدودا إلى التليفزيون، ~~حفظت البرامج عن ظهر قلب، ولا حلقة أجنبية أو محلية تفوتني! ثم ضج جسدي بهذا ~~النشاط التليفزيوني والإذاعي، وشيئا فشيئا زهقت من الصورة، ثم زهدت في الموسيقى، ثم ~~أخرست اللاسلكيين تماما، وحتى أحلام اليقظة استهلكتها جميعا، ولم يعد عقلي قادرا ~~على اختراع أدوية مثيرة أمضي فيها الأحلام، حتى حدث الأمر الذي لا أعرف بالضبط، أني ~~كنت طوال الوقت أتوقع حدوثه، أو أني دون أن أدري - وباللاوعي كما يقولون - كنت أخاف ~~حدوثه؛ بدأت ساقي اليمنى تتورم، ثم أعقبتها اليسرى، بلا ألم ولا أعراض جلطة. من ~~ناحية - وكدارس طب - قلقت كثيرا أن تكون جلطة في الأوردة العميقة للساقين، ورحت أتصور ~~كيف ستتكون الجلطات في بحيرات الدم الوريدية في عضلات الساقين، يعقبها لا بد زحف إلى ~~أعلى حتى يشل التجلط وريدي الفخذين العظيمين، ويا حبذا لو زحفا إلى البطن حيث يتحد ~~الاثنان، ويكونان الأورطى الوريدي ms18 ، وأكون قد انتهيت! # ومن ناحية أخرى وجدت فيما حدث المنفذ والمهرب. # فالآن وبعد أن بدأت ألمح في عيون زوجتي أشياء، كالتي كانت تحفل بها نظرات بطلة المرآة ~~المقعرة، الآن عندي سبب وجيه تماما للرقاد؛ فالجلطة - أو الاشتباه فيها - أول تعليمات ~~علاجها الرقاد تماما، ورفع الساق وعدم الحركة مطلقا. # وحتى ولو لم تكن هذه هي تعليمات كبار الأطباء والجراحين الذين عادوني، فأنا نفسي كنت ~~قد فقدت الرغبة تماما في الحركة؛ أي حركة، ولو حتى لرفع رأسي وصدري ربع ارتفاعة ~~لتناول الطعام والشراب، وبمثل ما فقدت الرغبة في الحركة؛ فقدت الرغبة في أشياء كثيرة ~~جدا، أسأل نفسي: نفسك في إيه؟ الإجابة دائما واحدة: لا شيء أريد؛ لا الشوق أريد، ولا ~~القلق على ابن أو زوجة أو صديق أو قضية! لا رغبة أبدا أبدا في أي شيء. وبدأت أورام ~~السيقان تزداد، وتزحف إلى أسفل البطن، والأطباء يوصونني بعمل تمرينات رياضية؛ لتحريك أصابع ~~الأقدام، وقبض وبسط عضلات الساق والأفخاذ؛ لدفع الدم للعودة، ولا أجد في نفسي ذرة ~~رغبة في القيام بأي تمرين أو تحريك أية عضلة. # الموت قادم. # لا أراه؛ فهو ليس شبحا أو ملاكا أو قابلا للرؤية، ولكني أحسه، تماما كمقدم ~~المساء حين ينتهي العصر، ويحتقن وجه الدنيا بالغروب، وتحس أن الظلام لا محالة سيتبع ~~هذا. الليل، الصمت الأبدي، عدم الحركة في تمامها واكتمالها، وشمولها واستمراريتها! المذهل: ~~لا استنكار، لا احتجاج، لا تفكير مطلقا في أي مقاومة! وهل يقاوم الإنسان مطلبا هو ~~شديد الرغبة فيه؟! بل هو حتى لم يعد شديد الرغبة فيه، إنما هو الانتظار الصبور غير ~~المتعجل! فليجئ حين يجيء؛ فالجسد مسجى لا يتحرك، والوعي بأنه هناك ممدد ومسجى ~~وساكن، أو انتفاء الوعي سيان، وماذا يصنع الوعي من فارق، إلا أن يجعل الانتظار ~~معدودا بالأيام والساعات، ومشوبا بالقلق؟! سيتكفل هذا الزاحف القادم بالقلق يستأصله، ~~وبالانتظار ينهيه، كما يتكفل الظلام بإخفاء الأشياء جميعها؛ الجميل والقبيح، البعيد ~~والقريب، الدافع للحركة والمانع لها. # ربما الشيء الوحيد الذي تبقى يخصني، ويجعلني في لحظات أحس بصهللة ms19 الإحساس بالحياة، ~~هو نوع من حب الاستطلاع؛ كيف - إذا جاء - سيجيء؟ كيف الناس يموتون؟ وأي إحساس بالضبط؟ ~~وما هو ذلك الشيء الذي تواضعت عليه البشرية من قديم الزمان، وأسمته طلوع الروح؟ أتأتي ~~على هيئة «كرشة» نفس، تنتاب الشخص لهنيهة، ثم ينقطع النفس؟ أتأتي على هيئة ~~استمرار طويل لنوبة من نوبات التوهان والدوخة، التي كانت تعتريني بين الحين والحين، حتى ~~لأحس أني انفصلت عن وعيي، وأنه بقي معلقا مدركا للموجودات من حولي، بينما أنا ~~هويت وأهوي بسرعة مخيفة إلى بئر لا قرار لها؟ لا أحس أني أهوي، ولكن حين ينتقض ~~شيء في رأسي، يعيد وصل الوعي بالأنا الهاوية، أحس أني فعلا أصعد، ومعنى هذا أني كنت ~~بالتأكيد أهوي. # كيف إذن يأتي ذلك الشيء المحير؟ تلك النهاية السؤال؛ الموت؟ إن الجهد الذي بذله ~~مخترع المحرك؛ ليوجد الوسيلة التي يستطيع بها إيقافه عن الدوران، لم يقل في رأيي ~~عن الجهد الذي بذله؛ لكي يحول المعدن الساكن إلى عجلة متحركة؛ فخلق الحركة لا يعادله ~~سوى اختلاق السكون. كيف سأسكن أنا؟ أيحدث إغماء محتم قبلها، أم أن بعضهم يكون إحساسه ~~بالموت هو آخر مدركاته، بحيث تكون النهاية هي نهاية الإدراك؟ # ولم أكن أتوقع أن يأتي هكذا أبدا. # فجأة ذلك الصباح، وأنا أداعب ابنتي الصغيرة، قبل ذهابها المبكر إلى «أوتوبيس» ~~المدرسة، حاملة جبل الكتب المقررة على الثانية الابتدائية - كتلة ضخمة تنوء بها ~~البنت فعلا لا مجازا - فجأة وهي تجري لتلحق بالأوتوبيس الزاعق، أحسست أني بلا ألم ~~أتنفس بصعوبة، أشفط بطني كله لكي أخلق الفراغ في صدري، وما يكاد جزء منه يمتلئ، حتى ~~أحس بحاجتي إلى هواء أكثر، وهكذا في منتصف الشهيق أشهق، وفي منتصف المنتصف أعود ~~أشهق! # ولم يبرق خاطر وإنما مسمار رهيب، بخبطة شاكوش واحدة مفاجئة، أدركت السلاح الذي ~~اختاره الموت؛ جلطة الرئة! في ثوان ينتهي كل شيء. ولم أعرف - أنا المسجى ~~ثلاثة أرباع ميت، على فراش غائص بي، مقعر فعلا - أني أمتلك هذه القدرة الهائلة على ~~الهلع. # وكأنما كنت، وأنا أفكر بالموت بتلك السهولة ms20 واللامبالاة، أتحداه من حيث لا أدري، فحين ~~استقر إلى درجة النزال وأمسك بسلاحه، أرعش الرعب كل خلية من خلاياي. # وعادة تليفون الجيزة لا يتصل بالدقي، فإذا اتصل ورد منزل جراح الشرايين الكبرى، لتقول ~~لنا الفاضلة زوجته: إنه في مستشفى قصر العيني الآن، فمعنى هذا أنك ميت، لا محالة ميت، إن ~~الجلطة لا يبدو أنها من النوع القاتل في الحال، وأن هناك احتمالا لاستئصالها بالجراحة، ~~والحياة - كل الحياة - أصبحت معلقة بتليفون قصر العيني، الذي أعرفه منذ عملت فيه من قديم ~~الزمان، أنه أبدا عمره ما كان إلا مشغولا مشغولا مشغولا! فالاتصال بالعزيز رئيس المكتب ~~«تعبير تليفوني»، وكأن المكالمة من الخارج أو إلى الخارج، وليدخل على الخط، وفي ثوان يكون ~~سامع على الطرف الآخر! وفي ثلاث دقائق تكون زوجتي تقود العربة بأقصى سرعة، وهي تؤكد أن ~~لا جلطة ولا خوف. وإلى قسم التشخيص بالإشعاع الذري، ومجموعة هائلة - من عميد الكلية إلى ~~الجراح إلى كتيبة من شباب الأطباء - تتلقفني وتدخلني غرفة، الوحيدة في مصر التي ~~ترسم الرئة بالألوان بواسطة عقل إليكتروني، وتظهر نتيجة غريبة محيرة؛ الرئة اليسرى ليس ~~بها قطرة دم، ولكن أيضا ليس بها أي جلطة! # ويشكون في صدق الآلة؛ فهذه نتيجة عبثية تماما، فمعنى خلو الرئة من لون الدم أنها لا ~~تتنفس، بينما بالسماعة وحتى باليد صوت تنفسها واضح وجلي ومسموع. # ويتطوع الطبيب الشاب بشرح كيف أنهم في أمريكا يبتكرون بحثا أو علما جديدا اسمه: ~~أخطاء الآلات، وأنها تشكل كذا في المائة. # وكان لا بد من إعادة الفحص. # وأوضع من جديد تحت شقي الرحى، ولكن أي رحى؟! أية غرفة تلك التي أنا فيها؟! حين ~~تخرجت في كلية الطب، كانت الآلة الهندسية الوحيدة التي نعرفها هي جهاز أشعة إكس، ~~وجهاز إصدار الأشعة فوق البنفسجية. ما أراه طب مختلف تماما، وفرع جديد اسمه الهندسة ~~الطبية، يتطور بسرعة الصاروخ، ليبتكر كل يوم اختراعا لم يتصوره أحد من قبل. آخرها؛ ~~ها هو موجود بالغرفة أمامه، أو تمد له يدك فيعطيك في الحال اسم ونوع ووزن ms21 كل عنصر ~~داخل في تركيبك، ويصدر إشارات كسيرينة الإسعاف أو بوليس النجدة، لدى كل عنصر فيه نقص أو ~~دون المستوى المعتاد، وكل هذا حدث في أقل من ربع قرن. # شقا الرحى اللذان كمنت بينهما؛ أحدهما ثابت وهو الراقد أنا فوقه، والآخر ~~متحرك حركة رائحة غادية، كحركة نقاش يطلي الجسم بشيء غير منظور، يسمونها طريقة ~~المسح؛ مسح الرئة، مسح الكبد، في الواقع مسح أي شيء أو عضو تريده، وأيضا ثبت من ~~الفحص الثاني أن الرئة تتنفس، ولكن بغير نقطة دم! واستمرت المناقشات طويلة ومليئة ~~بتغييرات، كالأجهزة لم تكن في الخمسينات نستخدمها، بل لم نكن نعرفها. # ولكن آلات ما آلات! تشخيصات ما تشخيصات! احتمالات أسوأ احتمالات! لقد عرفت أنا مرضي أو ~~بالأصح حالتي، نعم، أعرفه الآن تماما. # وأنا متأكد منه؛ الموت! زاحفا خفيا، حتى بغير قفاز حياء، أو تشخيص، فما ~~الحل؟ # على مر عشرات ومئات ملايين السنين، أصبح الشغل جزءا من التكوين العضوي للإنسان، ~~صحيح أنه ليس عضوا كسائر أعضائه، ولا يرى لا بالميكروسكوب ولا بالعين المجردة، ولكنه ~~موجود، إشعاعات من الموجات تنطلق من أجزاء جسمه، وتشكل هالة موجية من الموجات الحية، ~~باعتبار أن الحياة في أعلى صورها، هي أرقى وأدق وأعقد أشكال الوجود المادي الموجي، ~~رغم أنها مثل كل الموجات والتموجات، تلك التي تشكل صلب الوجود وقدرته على ~~التبدل والتغير والتفاعل، مثلها مثلهن؛ لا ترى بالعين المجردة ولا بالميكروسكوبات ~~الإلكترونية، ولا بأي صورة ممكن أن يتفتق عنها العقل البشري في المستقبل! إننا فقط ~~نفترض أنها موجودات، ونفترض أنها من مادة ما، ولكن المؤكد أنها موجودة، مؤكد موجودة، ~~وإلا لما كان الوجود. # هذه الموجات المحيطة - موجات التنبؤ والاتصال والربط العضوي الكامل بين الإنسان والإنسان، ~~والإنسان والحيوان والنبات، وذرات الرمال في الصحراء وماء المحيطات، وأقصى مجرة من ~~المجرات - هي التي تحرك الإنسان، أي: تحرك زميلاتها موجات الداخل، وتعطي إنسانا ~~مثلك اتجاه وحكمة ورؤية وضرورة أن تتخذ الحركة إيقاعا يؤدى، وفي أنماطه العليا ~~يبتكر ما نسميه بالعمل. ويستوي في هذا أينشتين وأجهل فلاح في ms22 بلدنا، وكما يخصص ويركز ~~ويضيف أينشتين، والذي هو في وجوده أول الأمر نقطة التقاء وتفاعل للموجات، أعطته ~~القدرة القصوى على تصور الكون على هيئة معادلات وحل تلك المعادلات، وبالفعل أثبت أن ~~المعادلات التي ابتكرها، تنسجم تماما مع قوانين الموجات، وتجعله يتحكم لأول مرة في ~~الموجات، وكانت القنبلة الذرية والانشطارات، كذلك هي في فلاح بلدنا قدرة خارقة على ~~الانحناء، ربما لأكثر من عشر ساعات، وهو ما لا يستطيعه أينشتين، ولكل منا محيطه ~~الخارجي من موجات، الجزء الأكبر الذي ينظمه هو العمل الملائم لموجاتنا الداخلية، بحيث متى ~~تم التوافق العزفي بين نحن من الداخل ونحن في الخارج، نحن إنتاجا وإبداعا وجمادات، دخل ~~الكائن دورة الكون رائعا عظيما ومنسجما، وأرضى عنه الله والوالدين والإخوة ~~والأصدقاء، والناس. # وما انسحاب الحياة وتضاؤل اتصالاتها، ثم أخيرا موتها، سوى الخلل الحادث بين دائرة ~~الداخل ودائرة الخارج؛ ولهذا يموت فورا بعض الذين يحالون إلى المعاش، ومن بقي منهم ~~حيا لا بد أن لديه بديلا لموجة العمل، واتصالا آخر بالوجود والموجودات. # باختصار لا سفسطة فيه ولا نظريات، حين قررت ألا أكتب، بينما موجاتي كانت قد رتبت ~~نفسها لأكثر من ثلاثين عاما، على العمل الكاتب وتحويل الفكرة المختلطة بالوجدان، ~~وبالذاكرة الجماعية النشطة الاتصال، بالعدد الهائل من نقاط الالتقاء والبشر؛ اتصال كامل ~~ذي اتجاهين، حين قررت التوقف خبت تلك الموجات، وبدأت تخمد في جذوة الحياة، ~~وأفضل المشي على الجري، ثم الجلوس على المشي، ثم الرقاد على الجلوس، ثم السكون ~~التام عن الحياة، كان في حقيقة الأمر نوعا غريبا مبتكرا من الانتحار؛ توقفا عن ~~العمل، مثلي مثل أي خلية في المخ أو الكبد، أو حتى الجلد، تقرر عدم القيام بوظيفتها، ~~فلا ترسل الأنزيمات ولا تستقبل، وتنقطع الصلة بينها وبين العضو التي تنتمي إليه، ثم ~~بينها وبين جسد الوجود الأعلى «الإنسان»، والنتيجة حتما أن تموت. # ولقد حاولت الخلية - والشهادة لله أنها كانت محاولات بطلة - أن تستبدل عملا بعمل، ~~وتتسرب من حيث الكبد مثلا إلى الجارة المعدة، وتصبح خلية جوع وشبع، التهام طعام ~~ومضغ ms23 فقط، والنتيجة كانت الكف عن وظيفة الحياة نفسها، فخلية الكبد لا تهضم ولا تستطيع أن ~~تواجه حامض المعدة، بل وتهلك حتما إذا وقفت وظيفيا حائلا بين جارتها الكبدية تلك ~~والخلية الأخرى. القانون سادر، ولا بد أن يظل سادرا، وأنا لا خلقت تخصصي أو اختياري، ~~ولا أستطيع أن أغير نوعيا أو عضويا نفسي، كل ما أستطيعه أن أعمل في اتجاهي بكل موجاتي، ~~وأن أوسع دائرة الوجود من حولي؛ دائرة وجودي، وليس ضروريا أن أجيب الديب من ديله، أو ~~أبني هرما رابعا! لعل السر الذي خلقني، كائن في أني ذات يوم سأقول كلمة تصل إلى ~~إنسان ما في مكان ما، وتلتحم موجتي على شكل الكلمة بموجاته، التحاما ينشط آلاف وملايين ~~ومليارات الموجات، ويتفجر الشيء الذي لم يكن قد خطر على قلب البشر، فأنا قطعا موجود ~~بوظيفة ولأداء وظيفة، وكوني قلت لا مجرد تمرد كخبط الرأس في الحائط، يكفي أنه أوصلني - ~~وأنا على حافة أن أموت سكوتا - أن أكتشف أن سر الوجود هو الحركة، وسر وجودي الشخصي أن ~~أتحرك، وبمطلق وبمنتهى وبأعظم ما أستطيع، أطلق الموجات تلو الموجات، وأستقبل الموجات ~~تلو الموجات، وأنا أخبط رأسي ليس في الحائط هذه المرة، ولكن بكفي نافضا عن نفسي كل ما ~~اخترعته تلك النفس؛ لتحتج على سوء توزيع دورها سكوتا؛ فهذا هو بالضبط طريق ~~الموت. # والموت ليس ضروريا أن يكون صاعقا مفاجئا كالذبحة، إنه كأضرار التدخين أضعفها ~~وأوهنها، وبريء تماما براءتها، أو هكذا يبدو! إنه الموت الأخطر والأبشع، الموت حياة ~~كحياة الموتى، الموت سكونا وسكوتا وصامتا، الموت تمردا وقتيا عالي الضجيج؛ فشديد ~~الضجة يصم كشديد السكون، الحياة! ليس مجردها وإنما خلقها خلقا، ويوميا خلقها خلقا، ~~تعدي الآخرين بها، تنشرها كالوباء صحة، تبثها موجات إثر موجات؛ موجات صحيحة كالجنين ~~الجميل القابل للتشكيل حسبما تريد. الحياة سامية شامخة بشرف، وبلا مساومة أو إزعاج ~~ضمير، الحياة الحلوة حقا ليس دفعا بالأكتاف، ولا عدوانا على الآخرين، ولا استغلالا ~~لحاجتهم. ما أروع أن تصحو من نومك اليوم، وتختار أي عمل طيب بسيط ms24 تفعله، حتى لو كان ~~زيارة لسرير مريض مجهول، لا أمل له ولا أهل، إذا كنت فقيرا أعطه كلمة طيبة وبرتقالة، ~~وإذا كنت غنيا وقادرا ابن له مستشفى. ~~••• # يموت الزمار وأصابعه تلعب؛ فالعزف شكل موجات وجوده، وحتما يظل يعزف ويعزف إلى آخر ~~الرمق، فالمسألة ليست هزلا؛ إن لها قانونا، وهكذا بدلا من الموت كفا وكفرا بأداء ~~الدور. أليس الأروع أن تظل تعزف؟! مهما بدا عزفك نشازا وشاحبا؛ فحتما سيأتي اليوم ~~الذي يعلو، ويجبر الناس من صدقه على السمع، أو حتى إذا لم يأت اليوم! # فماذا تفعل؟ # إنه وجودك، لا فكاك منه. # فشمس الشموسة قد طلعت. # وما أجمله من صباح! # سأجعله أسعد صباح عشته في حياتي. # وسأقول لنفسي كل يوم: سأجعل من هذا اليوم أروع أيام حياتي. # ولن أدع شيئا أبدا أو شخصا، يحيله إلى يوم قبيح. # الأمر صدر من إشعاعات الشمس الطازجة، التي لا يزيد عمرها عن ثماني دقائق: قم وافعل ~~شيئا تفخر به أمام نفسك وأولادك، ويفخر به أحفادك؛ فأنت أعظم مخلوق في هذا الكون الفسيح، ~~الذي لا تصدق أبعاده. # أنت أروع ما فيه. # أنت الكائن الوحيد القادر أن يكون إنسانا. # أتعرف ما هو الإنسان؟! ~~••• # ملحوظة: رغم كل وأي أدوية أو عقاقير، شفيت الجلطة من تلقاء نفسها! # الآن فقط متأكد أنها شفيت تماما. # ولكن المشكلة، بعد، قائمة. # فما أزال حبيس قدري وموجاتي، مهما صرخت أو تحاييت أو تماوت أو مت، أيمكن أن ~~يكون الحبيس سعيدا؟! # حتى لو كانت حياته في سجنه! # أممكن أن يكون الحبيس سعيدا؟! # | 19502 # ظن في بادئ الأمر أنه مغمض العينين. باستماتة حاول فتحهما، لم يستطع، كانتا فعلا ~~مفتوحتين. المرآة أمامه، بكل قواه حدق، الفضة العاكسة تعكس كل ما أمامها؛ ~~الحائط من ورائه بلونه القاتم واضح ظاهر، الستارة المضاهية ظاهرة، خلفه الباب هناك، كل ~~شيء، كل شيء. ولكن الشيء الوحيد وجهه، ليس هناك! جن انقض بيده على وجهه يتحسسه، أمسك ~~بخصلة من شعره. اليد بقوة ووحشية تتحسس الجلد واللحم، وتكاد تغور من تحته في العظم، ~~ولكن وجهه غير ms25 موجود في المرآة العاكسة! مستحيل، لست في كابوس، أنا صاح تماما، ومدرك؛ ~~بالأصح كنت نائما وصحوت، صحوت عاقلا، أسمع صوتي، ها هو: أنا أتكلم؛ فأنا موجود! أنا ~~أسمع كلامي؛ فأنا صاح، أنا لم أجن، أنا عاقل؛ أعرف من أنا؟ ما عملي؟ متى ولدت؟ أين ~~أبواي؟ أنا في المؤسسة، بالضبط في دورة مياهها، كنت من لحظة خاطفة أشرب من نافورة ~~الكولدير في الخارج، وأنا في الداخل أحدق في المرآة؛ القيشاني من ورائه ظاهر، النافذة ~~مفتوحة، المنظر الخلفي البعيد أراه، برج القاهرة منتصب في مكانه لا يزال، الدنيا نهار، ~~الشمس نصفها فوق الأرض، نحن في عز الظهر، الضوء، صوت الحنفية التي دائما تخر، يسمعه، إلا ~~هو. # ضحك، قهقه، انطلق يجري إلى دورة مياه المدير، نظر أيضا وأمعن في التحديق؛ لا أثر ~~لوجهه، الصابونة الغالية معكوسة في المرآة، الفوطة، فوطة المدير العام التي ينشف بها يده، ~~وأجزاء من وجهه وجسده في بعض الأحيان! هناك، لونها بمبي، بها البقعة الحمراء ذاتها التي ~~كانت موجودة بالأمس؛ السيراميك الزاهي، أعاد النظر، مطلقا لا أثر لوجهه، كل شيء إلا وجهه ~~أو رقبته أو أي جزء منه، يده فردها إلى آخرها أمام المرآة، ولكنه يرى اليد ولا يرى ~~صورتها! جرى إلى حجرة «شمس»، التي تمتلك جهاز التسجيل الوحيد؛ لتسمع عليه طوال ساعات العمل ~~أغانيها المفضلة، استأذن منها فلم ترفض، لم تقبل! انكبت على «التريكو» وكأنها ~~مستغرقة تماما فيه، أخرج الميكروفون من جراب الجهاز، تنحنح، ضغط على الأبيض والأحمر ~~ليسجل، أنا - وتردد - فلان الفلاني، العاقل الكامل العقل، سيداتي سادتي، والآن إليكم ~~الفقرة التالية من برنامج أقوال الصحف، حيث ينتقل الميكروفون إلى إذاعة خارجية للوصف ~~التفصيلي لمباراة كرة القدم بين الزمالك والكروم. وشك حلو يا كابتن لطيف، أظن كفى! أوقف ~~التسجيل، ضغط زرار الترجيع، أدار الجهاز، نفس أغنية وردة: وحشتوني، استمع واستمع، ووصل إلى ~~حيث الرقم الذي بدأ التسجيل عنده، ووردة شغالة، ولا أثر لصوته! استمر يسمع، ليس هناك ~~إلا: وحشتوني وحشتوني، استمع إلى أن انتهى الشريط ولا أثر! الحقوني ms26 . جرى هابطا الأدوار ~~كلها، نفس سعاة وعلامات ومصليات كل دور. في لهوجته داس بكل ثقله على قدم عواطف ~~وكيلة العلاقات العامة الحامل في شهرها الثامن، لم تصرخ ولم تحتج! وصل إلى الشارع. على ~~الباب الرئيسي وقف يصرخ بأعلى صوته، الناس تروح وتجيء، لا أحد يلتفت، لا رأس يرتفع! ملأه ~~الغيظ تماما، والله لأعلمها! خلع كل ملابسه، قطعة قطعة، وتعمد أن يقذف كل عابر ~~بقطعة، ويزيحها (اللوح البارد)، وينظر إلى أعلى وكأنه غسيل سقط من حبل يلقيه أصحابه. ~~إنها ملابسي أنا يا حمقى! أنا هنا واقف عريان كما ولدتني أمي! ها هو ذا جسدي كله، أنا ~~هنا، يا أولاد الحلال، والله العظيم، أنا أهه، أنا هنا، يا محسنين أنا هنا، التفتوا حتى، ~~اضربوني، أنبوني، موتوني، يا أولاد الكلب! أنا هنا، الحق لا بد أن أبصق عليكم. استمروا ~~غير مدركين أو مبالين، وكأن لا شيء يخجل، وكأن لا شيء أبدا يحدث، النجدة! الحقوني يا ~~هوه، لا بد جننت، أو أنكم جميعا جننتم! زوجتي، المنقذة، النجدة! بيتي، أولادي، عقلي ~~كله لا بد هناك. جرى، انحشر في الأوتوبيس! دفع الناس بغلظة، خيل إليه أنهم تمايلوا، ~~فقط تمايلوا وكأن لا آدمي هو السبب، أصدر أصواتا منكرة، لم يسمع إلا الكمساري يقول: ~~تذاكر! قرص سيدة، لم تتحرك، عضها في ردفها، لم يرتعش لها ردف! لم يأبه أحد. قفز من ~~الأوتوبيس؛ فاستمراره فيه جحيم سيفقده عقله. أمام عمارتهم وقف. تطلع، زوجته تطل من ~~الشرفة، لمحها من أسفل ونصفها مدلى تنشر الغسيل، نط قلبه من الفرح، لم ينتظر المصعد، ~~أخذ السلالم قفزا واثنتين اثنتين، دق الجرس. دق ودق ودق. وكأن لا أحد هناك! لا جواب. ~~جلس على البسطة وكاد يبكي؛ لقد رآها تنشر الغسيل، وهي بالتأكيد في الداخل، جاء بائع العيش، ~~دق الجرس، فتح له الباب رجل يرتدي فانلة بحمالات وبنطلون بيجاما أحمر! من أنت؟ إنت مين؟ ~~الرجل يسأل بصوت عال: عايز كام رغيف مقمرا؟ اندفع ناحية الباب. دفع الرجل الضخم الذي ~~لم يتحرك ودخل، رأى زوجته مقبلة ms27 . نط قلبه نطتين، الآن سيعود إلى الكون، ويعود إلى الكون ~~اتزانه وعقله، قابلها فاتحا ذراعيه، أطبقهما على الهواء؛ فالرجل الضخم كان قد أخذ ~~العيش، وأغلق الباب، واندفعت هي تتعلق برقبته دون داع مطلقا، وكأنما لتغطيه. جاء طفل ~~يبكي، هل هو ابنه؟ هو فعلا عمرو ابنه. حملت الطفل بيد ولفت يدها الأخرى بصعوبة حول ~~رقبة الرجل، زوجها؛ هكذا فهم! يا مجرمون! هذا بيتي، هذه زوجتي، هذا ابني، فمن يكون هذا ~~الطويل الضخم الهايف؟ هل مات هو وتحول إلى أثير لا يراه أحد؟ ولكن الأثير لا يرى، هو ~~يرى. الأثير لا يسمع، هو يسمع. الأثير لا يدرك، هو يدرك. المجرم يزيح زوجته في تبرم، ~~وكأنما هو زوجها، وقد بدأ يملها. إنه حي. أنا حي. هذه يدي، أعضها فتؤلمني، أليست هذه ~~أصابع تتحرك أمامي؟ أليست هذه ساقا؟ إنها مؤامرة! أهم قد طلوه بطلاء كالرجل الخفي، ~~بحيث لم يعد يراه أحد؟ ولكن منظاره هناك، وهو قطعا غير حر وغير مكبل، أيقفز في الهواء ~~ويوقف شعورهم رعبا؟ أنا موجود يا كلب أنت وهي، انت يا ابني، انت ابني أنا، هذا يا عالم ~~بيتي. # فرت الدموع من عينيه، بكى صامتا، ثم رافعا صوته إلى آخر المدى؛ جعير كان كفيلا بأن ~~يفرج عليه الجيران وجيران الجيران والشارع كله. ولكن - وكأنه مات - يبكي، ووحده الذي ~~يسمع، يا ربي، عبدك أنا، موجود، فأمر عبيدك أن يروا! دخل حجرة الرجل، انتقى قميصا ~~وبدلة وحذاء ورباط عنق، ارتداها. أكبر وأوسع منه. تصور أنه حين يخرج إلى الصالة على ~~الأقل سيوقفونه بتهمة السرقة. بنت يا «رقية» أنا عبده حبيبك، أنا «دودة» كما كنت ~~تدللينه. هذا الركن احتوانا، عيناك كم احتضنتاني، حضنك اندسست فيه، عمرو، أنا ~~أبوك، أنا بابا. أنا دادي، أنا الذي طالما تعلقت برقبته، وطلبت منه الكرة والبسكليتة ~~والشيكولاتة. لم يعد يستطيع، انطلق كالقذيفة، فتح الباب، أخذ السلالم قفزا قفزا، حتى ~~البواب المؤدب لم يأبه له، تعمد أن يقفز فوق سطح عربة تاكسي، ويزحف فوق المقدمة؛ حتى ~~يغطي الزجاج الأمامي ويعمي ms28 السائق. والسائق سائق، لا يتوقف! من تاكسي إلى تاكسي إلى عربة. ~~عاد للمؤسسة، تعمد أن يصفع رجل الأمن صفعة، لا بد دوى لها المكان، فلم يسمعها، ولا جرى ~~الرجل وراءه، في ومضة صعد إلى الدور الأول، ليس هو الأول؛ لقد كان مقر رئيس مجلس ~~الإدارة، ولكنه لم يجد رئيس المجلس ولا مقرا له، لافتة كانت في مكانهما معلقة، لافتة شركة ~~«الكودمو» بالعربية والإنجليزية. أيكون قد أخطأ؟ هبط، قطع الشارع طولا وعرضا. من المؤكد ~~أنها المؤسسة؛ هذا هو المستشفى المجاور، هذه هي محطة المترو، هذا هو الكوبري العلوي. عاد ~~يجري، الدور الثاني تعمد ألا يقرأه. الدور الثالث كان فعلا دوره الثالث؛ حيث يوجد مكتبه، ~~الحجرة التي يجلس فيها صغيرة، وطالما اشتكى من صغرها، ووعدوه بحجرة أكبر، ولكنه على أي ~~حال يجلس في حجرة بمفرده. فتح الباب، انفتح؛ الأثاث هو الأثاث، المكتب مكتبه، ولكن الجالس ~~عليه ليس هو. سيدة، شديدة الأناقة مندمجة في حديث خطير مع زبون. هذه مؤسسة، وليست ~~«بوتيك»! هذا مكتبه، إنه موظف هام، والحديث عن صفقة شامبو، لا أقل من عشرين في المائة! يقف ~~مصعوقا يسمع. قاوم الزبون، لانت السيدة، وافق الزبون. تمت الصفقة دون أدنى انتباه له. ~~قبلة على اليد الناعمة انتقلت بسرعة إلى الخد الأيمن، ثم عبرت إلى الأيسر، مارة ~~بالشفتين ... لا اعتراض ولا مانع. # تكوم في ركن منهارا، ولكن قشعريرة حمى جعلته ينتفض. لا بد هناك خطأ جسيم ما. ~~انطلق صاعدا هابطا باحثا عن رئيسه مدير المستخدمين. لا توجد لافتة واحدة لأي مدير. ~~حجرات مرقمة مختلفة، أبوابها في درجات الأهمية، وكأنها حجرات سرية، انتقى أكثرها ~~أهمية. بقدمه وساقه ركل الباب ودخل. # كان اجتماعا يضم وجوها شقراء وحمراء وبعضها أسمر. المناقشات هادئة جدا، والطرقة ~~مكيفة بجهاز صامت، لا صوت له، والكلام يكاد يكون همسا. زعق وزعق وزعق، وظل يزعق حتى ~~انحشر الصوت في حنجرته، وانحاش صوته، وأصبح لا يستطيع سوى مواء كمواء القطط الشريدة ~~الجائعة، أدرك أن لا فائدة! # صعد إلى سطح العمارة، فتح نافذة الدور الأخير ms29 العاشر. دون لحظة تردد - مخافة أن ~~يتراجع، أو يعدل - فتح النافذة. # قفز. حين وصل جسده إلى الشارع، تكومت حينذاك فقط جثة مهشمة الوجه، مدشدشة الرأس، ~~التف حولها مئات من محبي الاستطلاع، واللاحول واللاقوة إلا بالله! كثرت التعليقات. ~~فرق أمناء الشرطة وعساكر الأمن الناس. جاءت عربة الإسعاف. فتح محضر. مجهول الهوية ~~ذكروا، إلى النيابة أحيل الدوسيه، أشر الوكيل، دفنت الجثة. # قيد الحادث ضد مجهول، أخذ الدوسيه رقم 19502 محفوظات. # | أنصاف الثائرين # في الليل لما خلا إلا منه، ولم يكن الشاكي، وليس حتى ذلك الرضا المؤقت عن النفس بعد ~~عمل باهر. تائه! الهدف مهم، حتى المشاكل حين تقع تصبح هدفا. المهم ماذا بعد؟ بكلمة ~~انتهى الإشكال، دقائق معدودة حدث فيها كل شيء، حين يجيء الليل وأنت لا تعرف لمن، وإلى ~~أين تذهب. حين يجيء الليل ويسحب الكائنات. كل إلى عشه ومستقره ومقامه، ووحدك تبقى، ~~وحدك، وحولك لا يوجد سوى الظلام واللاهدف. حينذاك يعود الليل شيئا آخر؛ عمى أصاب الشمس، ~~أو غولا ابتلع الدنيا والناس، ولا تتحول أرض النهار كالعادة إلى ليل، وقد تغير منها ~~اللون فقط، تصبح الأرض المستوية بحرا، ليس مجرد تشبيه؛ تتحول حقا إلى بحر، الريح ~~أمواجه، والظلام آفاقه، والإضاءات البعيدة أو القريبة مراسيه ومناراته. # وفي الليل لما خلا إلا من الشاكي، صوت عباس يدندن، يطرد الوحشة، لكن الدندنة تؤكدها، ~~يعلو الصوت، يغني، يطلب الونس، فيتحدث إلى الليل المسكون بالظلام الراسخ العميق. في الليل ~~لما خلا، الجمال الوحيد في صوت عباس، أنه يجعلك تتذكر عبد الوهاب وهو يغنيها، وبحنجرته ~~الحلوة يستأنس كون الظلام، ويضيء على مدى الصوت الرخي أنيق الشموع. # في الليل والعربة تجأر، تصعد، تميل، تتلوى، صندوقها المغلق الكبير يتأرجح؛ فهي تسلك ~~الطريق الوعر، الخالي من أكشاك المرور وعساكر المرور؛ فقد سحبوا الرخصة منه من زمن لضعف ~~بصره، وفي الليل يزداد ضعفا! ويزداد تأرجح اللوري فوق جسور المصافي غير الممهدة، ~~وغير المعدة لمرور العربات، أي عربات. # في الليل والعائلة الغريبة منكمشة بجواره، الزوجة وضعها الرجل لصق الباب؛ غيرة ~~عليها أن ms30 تكون محشورة في الوسط بينه وبين السائق، والأولاد في الدواسة وفوق ركب الأب ~~والأم وفي كل مكان. في الليل وقد مضى النهار المزدحم، ذلك النهار، قصته الكاملة لو كتبت ~~لاستغرقت كتبا، بل لا أحد بإمكانه أن يحيط بها كلها. # عباس السائق جذبته الأغنية وغرق في دوامتها؛ الليل صاحبه القديم، والليل عمره، بل أصبح ~~قدره، ولم يعد سواه ملجأ يحميه من النهار، نهار الناس العاديين والقانون العادي، نهار ~~البوليس والتفتيش والرخص، النهار الذي يضبط فيه كل شيء، ولا يفر منه أحد، ولم يعد ~~له سوى الليل؛ ذلك الليل، الذي خلا إلا منه ومن محتويات «لوريه» من بشر وأشياء وخيالات، ~~يستجير به معيدا حتى لا يتخلى عنه؛ إذ حتى لم يعد يرى أمامه أي مرفأ. # قطع عباس اندماجه وسأل: مريوط؟ مريوط؟ # حجاج الراكب وصاحب الكومة الأسرة فرح؛ فالسائق في العادة ذلك الذي اعتاد الصمت، وقصر ~~حواره دوما مع الموتور، إذا أجاب مضطرا خرجت الإجابة من أنفه؛ تكبرا يقولون، تكبر ~~السائقين الذين يعرفون أنهم فوق الناس؛ لأنهم يعرفون ما لا يعرفه الناس؛ تحت إمرتهم سر ~~الصنعة، والآلة اللغز، سلسلة في يدهم، الآلة لغز في عالم يحيا بآلات من الحمير والكارو ~~والجاموس والنهيق. الآلة، أصبع الحضارة البعيدة، تخترق الفيافي وتظهر هنا، معجزة ومرعبة، ~~وسيدها عباس، أو أي عباس، وحتى لو كان نظره شيش بيش ليجعل تكبره على الآخرين أقل شموخا، ~~ولكنه حتما يملك ذلك الشموخ. # مريوط! لماذا مريوط؟ وهل يعقل - وفي هذه الساعة - أن يطرق حجاج «أفندي» باب أنيس ~~أفندي، ولغرض كهذا الغرض؟! مريوط مريوط مريوط، وهذا البغل ذو الكرش المحشو جشعا ونتانة! ~~مريوط يا ابن بائعة الفجل، الذي أصبحت صاحب أرض، وبفضلي أنا تحولت من «بقجة» القماش، ~~تحملها لتبيعها بالمتر والنصف متر في الأسواق، إلى صاحب دفتر شيكات ضخم بقلمك المذهب، ~~تستطيع أن تضع أي رقم وتوقع، ولتوقيعك قيمة وسمعة، أعظم من سمعة محافظ البنك الأهلي، ~~وورقة دفتر شيكاتك أضمن من الورقة أم مادنة، والمميزة بالصورة المسحورة لأبي الهول. ~~مريوط مريوط! يا حسن ms31 بن وهيبة بائعة الفجل، يا من سموك يوم ولادتك حسن الكبش؛ لفرط ~~شبهك به، ثم لما تاجرت وأصبحت صاحب عربة خضار سموك المعلم، وتلاشى الكبش من اسمك، ~~وذاكرة الناس للأسماء وللألقاب ضعيفة، خاصة إذا كان أصحابها يكبرون، والناس تصغر. وحسن ~~بك أصبحت، مائة فدان تملكها رغم أنف قانون الإصلاح الزراعي، وقوانينه الصارمة لمنع ~~التحايل، ومائة أخرى تستأجرها رغم أنف قوانين الإيجار الحاسمة؛ مائتا فدان! الجناين مائة، ~~والخضار مائة، والسراية اسمها الشاليه، والسور الذي يحيط بالمائتي فدان أسلاكه شائكة، وفي ~~الليل مكهربة، وماكينة النور تكفي لإضاءة مدينة، وحظك نار! بمائة جنيه لهفتها والأرض ~~فدانها بألف، وصاحبها الخواجة يبكي؛ فالعمر أضاعه، يصنع من الجنينة جنة، قنواتها بالأسفلت، ~~ونقل الفاكهة والخضار يتم بقطار صغير، ذي عربات قلابة وأوناش، وخيم للرش وموتورات، ~~وببلاش أصبحت «بك»، ولو كان ممكنا لتخطيت - بأرض الخضار ومزرعة الدواجن والبهائم وخلايا ~~النحل، وحتى بتقطير زهر الياسمين وحده - رتبة الباشا! # فلتكن مريوط. # الخواجة كان أحسن، ألف مرة أحسن! خواجة على غير الدين والملة، لا يكذب ولا يغش، ولم ~~يذهب ليحج، ومعه حقيبة ضخمة فارغة، وعاد بملء عربة لوري بضائع للتجار والاستهلاك. # الخواجة كان أحسن، وكان في أيامه وطنيا صميما ووفديا قحا، وعباس السائق هذا نفسه ~~كان حين يريد أن يسترضيه، يضغط على «سيرينة» العربة النقل، لتعزف ذلك الهتاف المموسق يحيا ~~... النحاس ... باشا ... # خواجة وأحسن، وذمته أنضف، ولكنه ذهب لأنه كان يمت إلى جنس كبير، حرفته السرقة ~~المنظمة المقننة، والإرهاب بالقتل العسكري المباح، والاحتلال طريقته في السطو ~~المسلح، خواجة واحد نظيف في عصابة قوامها عشرات الملايين من السفلة، وراح. # والجنينة في الحقيبة لا كانت جنينة الخواجة، ولا جنينة حسن بك «الكبش» سابقا حين لهفها ~~لهفا، الجنينة جنينة حجاج. جاءها وبها أربع شجرات «كازورينة» عجاف، جاءها وهي بور، حتى ~~الحشائش لا تقوى على النمو فيها. وبيده - بيده وحده - أحياها، بحذائه ينغرز في الوحل، ~~بالليالي يسهرها حتى الفجر، لا يزيد الري جرعة ماء أو ينقص، ولا يزيد السماء ملليجرام ~~أو يتغير، بالبهائم رباها عاما ms32 وراء عام، تحيل بقاياها وعلفها إلى طبقة أرض نيتروجينية ~~جديدة، تختلط بالقديمة، وبالطمي، آلاف الأطنان من الطمي والرمل، من شيء كان كالرأس ~~الأصلع الخالي تماما حتى من الزغب، شعرة شعرة راح يزرع، وحوضا حوضا راح يزحف بالخضرة ~~والخصب، حتى - بعد عشر سنوات - أصبحت تلك المعجزة التي تتحدث بأخبارها ألسنة المارين ~~ركوبا في أوتوبيس، أو سيرا على أقدام بجوار الحمير المثقلة. # أصبحت جنة يستضيف الخواجة «شيميز» أصدقاءه ومعارفه، وكل من يكاد يعرفه أو يلقاه؛ ~~ليريه «إيزابيللا فارم»، كمن اكتشف المعجزة، كمن حقق أكثر المستحيلات استحالة، في شرحه ~~وحماسه، ووجناته المحمرة يندمج، وتنطلق دفعات الكلام من فمه صادقة أو كالصدق، كأنه هو ~~الذي قام بالعمل وحده، هو الذي غرس، هو الذي قام على «المشاية» وسهر، هو حتى ذلك الذي أقام ~~هذه «الفراندة» الأصيلة، التي لا مثيل لها ولا لروعتها. في وسط «إيزابيللا فارم» تماما ~~تقوم شجرة كازورينا هائلة الضخامة، هي مع الكازورينات الثلاث، كل ما وجده في الأرض حين ~~اشتراها، يندمج تماما حتى ينسى اسما أو تاريخا أو حادثة، فيتلفت لحجاج أفندي السائر ~~متواضعا خلف الجميع، الصامت تماما دونا عن الجميع، الذي اعتاد على اغتصاب الخواجة ~~لمجهوده ودوره، حتى لم يعد يزعجه الأمر، فليتكلم ما يحلو له الكلام، وليصمت حجاج تماما؛ ~~فثمة ألف شيء يتحدث نيابة عنه؛ كل شجرة، كل عرق من شجرة، كل ثمرة مانجو، كل عنقود ~~عنب، كل زهرة ياسمين، كل نخلة، كل «قرص» عسل نحل، كلها دوما يراها ويسمعها بغير عين ~~الجميع، وأذن غير أذن الجميع؛ إذ بأذنه وعينيه وحدها يسمعها، تبثه الشكر والحمد، ~~تغرقه في اعترافها بالجميل إلى درجة أن لو أشار لها بالكف عن النمو لكفت! أن تكف عن ~~إنتاج الثمار لكفت. الخواجة له الأرض وله النقود، وله الشاليه المذهل، وله ذهول الضيوف، ~~وآهات انبهارهم ودهشتهم. ولكنه هو الذي يملك ما هو أعظم من ذلك كله؛ يملك أجمل وأروع ~~حديقة حياة، أرغمه هذا الفحل الأصلع على أن ينشئها، فأنشأها. # وكمن يشير إلى برج إيفل؛ يشير الخواجة إلى ms33 شجرة الكازورينة، لتكون المفاجأة؛ اندفع يسرع ~~راكضا ناحيتها، والركب والركض يتبعه، هناك، وكأنما يكتشف في التو معهم، يتطلع ~~ويتطلعون، وفي أعلى مكان في شجرة الكازورينة العالية، حيث أقيمت، من نفس الأفرع غير ~~المهذبة «فراندة» مستديرة مريحة، ذات سور تحيط بالشجرة كلها، ومن نفس الأفرع، وعلى نفس ~~حالتها صنع للفراندة مقاعد ومناضد، وكالطفل الذي فقد اتزانه؛ يبدأ الخواجة شيميز يتسلق ~~السلم المصنوع أيضا من الكازورينة، وليبدو وكأنه مجرد فرع شذبت نهاياته قليلا، ~~للسلم والدرابزين، وخرطوم المياه الرقيق، وأسلاك النور التي طليت بنفس لون الشجرة، ~~والمصعد ذو البكرات الذي يتحرك حاملا الطعام أو العجزة الذين لا يستطيعون الصعود، أو ~~أجهزة الموسيقى أو ما شاءوا من صناديق الشراب. ولأن الأسئلة حينذاك تنهال بكثرة وبالفرنسية ~~في الغالب، ولأن حجاج أفندي له إلمام بها و«شيميز» يعلم هذا، ويعلم أيضا أنه قد ظل ~~أنانيا إلى درجة لم تعد تحتمل؛ يتحرك الضمير، معترفا أولا بأن برج «الكازورينة»، ~~هو فكرة أراد حجاج أن يفاجئه بها، حين استضاف وزير الزراعة يوما، ثم تتوالى اعترافاته، ~~وحتى ما لم يعترف به بينه وبين نفسه، يبدأ من تلقاء نفسه يشير إلى صاحب فكرته وخالقها. ~~وتبدأ السيدات تضع النظارات، تفحص هذا الصامت العبقري، وتتأمل أنه هو الرجل المقصود، يصبح ~~ارتباكه أعظم من أن يحتمل، ولا بد أن يعذر، إن لم يبد وجيها أو مقبولا، فالأمر لا ~~يهم! يختفي حجاج، وتختفي الخواجات والطبقة. وفي أسبوع واحد يبدأ «شيميز» الفرنسي يفكر ~~في البيع، ثم البيع، ثم تهريب الثمن، والأسبوع التالي يجيء عليه وهو في مرسيليا، وقد عاد ~~إلى «الوطن الأم»، بينما كان في الحقيقة - وفي نفس هذا الوقت - يبكي وقد أحس لأول مرة أنه ~~فقد الوطن الأم حقا، وقد ينجح «شيميز»، وتكون له حديقة وضيعة ومزرعة، ولكنه أبدا لن يجد ~~في ذلك الوطن الجديد برج الكازورين، ولا حجاجا. ~~••• # كما كان يعامل «شيميز» ظل يعامل حسن بك، لم يكن هناك ما يدعو لاستمساك حسن الكبش بالسيد ~~حجاج هذا؛ إنه من عائلة قوامها ألف رجل، كلهم ms34 فقراء، وأولى من حجاج بالعمل والماهية، ولكن ~~أن يقلد الخواجة شيميز، الذي اشترى منه المزرعة، بإبقاء حجاج «مديرا» للحديقة والمزرعة، ~~بنفس راتبه، ومسكنه في الركن الجنوبي للحديقة، أبدا ليس هو السبب الذي دفعه للاستمساك ~~به؛ فالبند الذي ورد في العقد خاصا بهذا الموضوع كان في ذاته نكتة، بند لا يعني شيئا ~~ولا يشترط للفكاك منه جزاء، كل ما في الأمر أنه يدفع للعجب؛ أن يتمسك المالك السابق ~~بموظف عنده بهذه الطريقة، مسألة لا بد فيها سر؛ سر حاول شيميز أن يشرحه له أكثر من مرة، ~~بقوله: إن حدائق كهذه ليست مجرد عقار أو سلعة؛ إنها حيوان ومجتمعات كالبشر، ورعايتها ~~تستلزم - كرعاية أي أسرة - الحب والرعاية والتفاني والحنان. وحجاج هو ذلك الراعي والأب، ~~وأيضا، ورغم التكرار والتكرار فحسن بك ظل يؤكد لنفسه أن في الأمر سرا، وأن الأيام ~~كفيلة بإظهاره! الشيء الآخر أنه بدأ يشرح لحجاج طريقته، وأنه ليس خواجه، وليس «كروديا»، ~~وأنه بدأها من عربة اليد، ويفهمها وهي طايرة، ويعرف في الجناين وأمورها أكثر من صاحب ~~دكتوراه، وهكذا عليه - إذا أراد أن يستمر «يأكل عيشه» - أن يطيع؛ كذا يعني كذا! ~~مفهوم؟! # يرمقه حجاج بعيون لا ترمش، ولا تريد أن يخفى عليها خافية، نظرة تطول، وتئوب إلى رأس ~~ينخفض يفكر. من الآن عليه أن يدرك أن كل شيء قد تغير، ليس صاحب العمل فقط، ولكن عليه هو ~~أيضا أن يتغير، بل ربما على الأرض نفسها والشجر والزرع أن يتغير. # لقد كان شيميز يشعره أن الأرض وإن كانت له، إلا أن كل ما هو أخضر فيها هو من صنعه ~~ومسئوليته، وهكذا وعمره الآن تسعة وثلاثون عاما، اعتصر نفسه وشبابه، وأحالها فاكهة خضراء ~~وثمرا، وبينما أعاد للحديقة صباها وشبابها، فقد هو كل صباه، وأصبح من يراه يظنه في ~~الخمسين. # من الآن، عليه - كما فعل شيميز - أن يبيع هو الخضرة، كما باع الآخر الأرض، وأن يشتري ~~صحته وحياته، كما اشترى الآخر عنقه، وما دام حسن بك الكبش يريد أن يكون الصاحب والآمر ~~والناهي، والرأي ms35 رأيه، والتصرف تصرفه، فليكن الأمر كما يريد، وليبدأ ومنذ الآن دوره ~~الجديد، وما دام «المدير» قد ذهب مع الخواجة الذي ذهب، فليكن دوره مع الصاحب الجديد الآمر، ~~دور المأمور المنفذ؛ كذا يعني كذا، حاضر. # حاضر وهي حاضر. الري يعرف أن موعده خطأ، وطريقته خطأ، ولكن تأتيه الكلمة: ارو، حاضر. ~~يروي. # وبدأت المسائل ترتبك، ويستشير حسن بك الدنيا كلها، ويعيد ما كان يفعله بأراضيه ~~الأخرى، ناسيا أن لكل أرض معدنها، وشخصية العنب الذي ينمو هنا، غير شخصية بني جنسه ~~ونوعه، الذي ينمو هناك. ناسيا أن القواعد العامة شيء، والقواعد الخاصة التي تسنها ~~الخبرة الطويلة شيء آخر. وكثير جدا من الأشياء تبدأ ترتبك. # وكان حريا بحسن بك «الكبش سابقا»، أن يعزو الارتباك، ليس لما يصدره من أوامر، ~~إنما يعزوه كالعادة لتنفيذ الحجاج السيئ، ويجعل من هذا سببا وجيها لفصله والتخلص ~~منه. # وهو بالضبط ما كان يتوقعه حجاج، وظل يتوقعه. # ولكنه الشيء الذي لم يحدث. # والذي ظل حجاج يضرب أخماسا في أسداس، متسائلا عن سبب عدم حدوثه، وأنى لحجاج أن يعرف ~~أن العلة في القلة. # وأنها شربة ماء كانت، ولكنها هي نفس الشربة، التي لولاها ما كان قد أصبح هكذا تائه ~~الليل، في طريقه إلى «أنيس أفندي»، عبر قنوات وطرق غير ممهدة إلى مريوط، والليل قد خلا، ~~وسجى، ولا ندم، وكذلك لا فخر، وما حدث حدث، ولا بد أن يحدث، بل حتى هناك في هذه الوقفة، ما ~~يستحق الفخر، رغم أن فيها وسبقها ما يستحق كل خجل. # الثورة محدودة، وحين ثار، كعادته حين كان يثور أيام الخواجة، ويتلقى الخواجة الجانب ~~الموضوعي من ثورته، ولا تهمه الطريقة، بل أحيانا كان يستحسنها، كانت الثورة تأتي بنتيجة ~~وفي الحال. # هذه المرة ثار؛ فقد أمره حسن بك بتقليم العنب، والتقليم الآن معناه أن يقتله قتلا، ولكنه ~~الأمر! وقد تعود أن يرضخ. هذه المرة صمم تماما أن يقول: لا، ولكنه لسان حسن بك خرج ولم ~~يعد، خرج طويلا سافلا، يلعن آباءه وأجداده! احتج نصف احتجاج؛ فبنصف عقله الآخر ms36 كان ~~يحسبها، فإذا استمر في الأمر فالفصل مصيره، والفصل يعني أن يبحث ليس فقط عن عمل آخر، وإنما ~~- وهذا هو الأدهى والأمر - عن سكن آخر، فالسكن لمن صناعتهم الزراعة تبع العمل، ويعني ~~أن يلف البلد كلها طولا وعرضا، يبحث عن زملائه من نظار الجناين ومآميرها ومديريها، وعن ~~وظيفة ولو وظيفة خولي؛ بشرط أن يجد المأوى في بيت، ولو في حجرة! وهنا سكت نصفه الموافق، ~~وأوقف نصفه الثائر وقلم العنب، ومات العنب! # ومن بركان سفلي بشع، خرج غضب حسن بك: يا حمار. هكذا عيني عينك قالها! ~~- لماذا قلمت العنب؟ ~~- ولكن هذه أوامرك. ~~- ومن قال لك أن تطيع أوامري؟ ~~- سعادتك الذي قلت: كذا يعني كذا. ~~- ولماذا لم تعارض إلى النهاية؟ لقد كنت أنا أفكر في التراجع إذا وصلت أنت المعارضة، ~~ولكنك وافقت. # لماذا يعرف الخطأ ولا يقول لا، ويظل يقولها حتى لو قامت القيامة؟! # والنتيجة: أنت مرفوت! ابحث لك عن عمل. ~~- ولكن أولادي، أنا لا بيت لي، لا بد أن أذهب أبحث عن بيت وعمل، وأنتقل إليهما. ~~- من الغد عفشك بره، وأنت مرفوت! وإذا بقيت لحظه سأسلخ جلدك، وخذ. # ورمى إليه بعشرين جنيها قيمة «المكافأة». # ولم يكن هناك مناص، فأرخص وسيلة هي عربة النقل، التي يملكها عباس الأعمش، والتي لا ~~يقودها إلا في الليل خوفا من ضبطه بلا رخصة، وقد سقط في امتحان النظر ثلاث مرات، وإلى ~~الطرق الفرعية المنحنية والمنحدرة، والصاعدة والهابطة، ينشال اللوري وينحط، ويميل، ويكاد ~~ينهال في الترعة والمصرف، والعائلة مكومة في الكابينة، وعباس، يراه بعينيه - كلما نقل عصا ~~الفيتيس - يلمس ركبة امرأته، وحتى ابنته ذات الأربعة عشر عاما؛ متعللا بعصيان العصا، ~~والليل قد خلا إلا من جئير الموتور المنهك، وجعجعة الدبرياج، ولمسات الأعمش. # وأنيس أفندي يخرج من منزله في مريوط، مذعورا في منتصف الليل، يعتذر فهو لا يعرف عملا، ~~لا يعرف مكانا للإقامة؛ زوجته مريضة، وابنه يعاني الحمى، وهو مدثر ببطانية، وأنا آسف يا ~~حجاج، آسف؛ الظروف قوية، والعمل صعب، والمزارع والجناين قلت، ولماذا لم تبلعها يا ~~أخي ms37 ؟ # وحجاج يقول لنفسه: ولماذا - ما دام هذا هو المصير - كنت لا أخلع الحذاء، وأنهال به على ~~الرأس الأصلع للكبش حتى أدميه، وعلى الأقل أخرج بكرامتي، ولكنه المصير الذي ينتظر أنصاف ~~الغاضبين. # والليل قد خلا مرة أخرى، إلا من لوري ذي سائق أعمش، وعائلته تبحث عن عمل مأوى، أو عن ~~مأوى عمل، والموتور يزأر، وعباس يغني في الليل لما خلا إلا من الشاكي، والنوح على ~~الدوح ... وينسى بقية الأغنية ليمد يده إلى عصا الفيتيس، وإلى ما أصبح يصل إليه فوق ~~الركبة، ثم يتذكر عباس الأغنية، ويجأر بصوته: للصابر الشاكي، والليل يمتد ويستشري، ومن ~~بحر إلى محيط يصبح، والعربة بركابها تغرق فيه وتغرق، ولا حتى من نجمة قطب عند الفجر ~~تشهد. # لماذا لم يقتله؟ # لماذا لم يكب راكعا - وأمره إلى الله - ويقبل حذاءه؟! # | اقتلها # الحياة التي يحياها الآن كأنما هي بالضبط ما أراده طول الوقت، دون أن يعي، والكرسي الذي ~~يجلس عليه، والمنضدة الكائنة في الركن؛ ركنه المفضل، والكم الذي يجرعه من كوب الماء ~~المثلج المضبب البارد، هو بالضبط ما أراده، بلا زيادة أو أقل نقصان، كل نزوة تعن له ~~حتى، ولو تجاه امرأة يحيلها إلى نظرة فخطة، حتما تنتهي حسبما أراد لها! كانت مشكلته ~~دائما أن يحقق، ومن أجل أن يحقق أصبح عليه الآن أن يقتنع. لا إيمان مطلق، لا تسليم. ~~التحقيق هو الحياة، والعمر يمتد مسطحا أمامه أملس كالزجاج، يدحرج البلية، ويأمرها أن تقف، ~~بالضبط حيث كان واقفا، عند الخشبة الثالثة بعد المكسورة من السور، بالضبط هنا قفي أيتها ~~البلية، وحذار أن تتحركي، فمن الممكن وباستطاعتي أن أهدم الكون فوق رأسك. # في العادة حين نتذكر الشيء أو الحدث، نلتزم بالخط الواحد، مذ لم يكن الحدث قد كان، إلى ~~أن كان، وبعد أن كان. هكذا تصنع بنا ذاكرتنا، فوهي تجذب الماضي وتضمه لحظات معا - غير ~~قادرة على التشتت، إلا إذا كنا قد جننا - إما أن تتشتت وهي أعقل ما تكون وأثبت ما ~~تكون، وإما أن ترتد عيناك لتصبحا ليستا نقطتين، ترى ms38 بهما ما أمامك، وإنما هي شريط بصري ~~دائري يحيط بكل رأسك، وترى به أقصى زوايا الكون، وبأذنيك وقد امتدتا وتفرعتا ملايين ~~«الإيريالات»، حتى ليسمعانك نبض الكون الأعمق، إذا عن لقلب الكون أن ينبض، إذا ~~استعدت الزمان والصوت والمكان - وبلا حدود - واستحضرت الحدث بلا ذرة تتساقط منه وأنت ~~تستعيده، وكل شيء وكأنه لا يتجمع الآن، ولكنه بقوة عظمى خافية يتحد، ويشكل من الماضي ~~حاضرا في قلب الحاضر الدائر، بل ولأصبح باستطاعتك أن توقف أو تبطئ من دوران أيهما؛ ~~الماضي أو الحاضر، والإسراع بالآخر لتصنع من الزمن عجينة، لها ما شئت من سمك، ومن المكان ~~مساحة لها ما شئت من حيز، الذرة فيها في حجم المجموعة الشمسية، والمجرة فيها تستطيع ~~أن تصغرها بأصبعيك إلى أقل جزيء ممكن. # حين تصنع هذا كله، أو يمكنك صناعته، فإما أن عقلك انتهى تماما، وإما أن عقلا آخر فيك ~~بدأ يبرز، عقلك الأكبر، وويلك إذا انتهى عقلك وبقيت حيا! وويل وويلك إذا بدأ العقل ~~الأكبر، وأنت لا تزال سجين وجودك الأصغر! وفي الحالين أنت في لحظة جحيم، واسمع ~~سيدي. # وقبل أن تسمع سيدي، اكبر أيها الحجم! وتضخم أيها المكان! واقترب أيها الزمان! ~~لا ليس عاما، بل شهرا، بل عدة أيام أريدك. اقتربي أيتها اللحظة، ليس كما خططت يومها ~~لك، ولكن فاجئيني وكوني طويلة طول العمر؛ فأنت حقا تساوين عمرا بطوله، أصبح أيها ~~الحدث في قرب وجهها ذي النمش الخفيف. ذلك الوجه، اقترب، ولو عذبتني أكثر. # عذبك يا مصطفى ذلك الوجه؛ الرموش البنية الغامقة انغرست طويلا وكثيرا في حبابي ~~عينيك، وأنت مستعذب ذلك العمى البني المدبب! أفعلا أحببت ذلك الوجه؟ أفعلا كانت ~~صاحبته تحبك؟ أم هو السجن والجسد الفائر، والشبق الموضوع قسرا في زنازين من أقفاص ~~صلبة لا تلين ولا تنكسر؟ اقتربي كثيرا يا لحظات عشتها وعاشتني؛ فأنتم أنا، ولكنه ~~لأنا المستحيل - أعرف هذا جيدا - التجمع والتكون والعودة للوجود، فلا أنا انتهى عقلي ~~الأصغر، ولا نبت لي ذلك الأكبر المهول بعد. # المسافة قائمة وباقية بينهم في «الدور» الثالث ms39 ، وبينه على «البسطة» الأولى للسلم ~~الحلزوني الصاعد في قلب العنبر، والوقت طال وطال، والصبر نفد. فحين تكون في السجن لا ~~تستعذب أبدا أي صبر؛ فأنت دائما في انتظار اللحظة التالية، ولو لم تحمل لك أي خير أو ~~حدث. فمن يدري؟ لعلها تحمل! لعل شيئا خارقا يحدث! أنت تتصورها وتحشوها بالاحتمالات، ~~وتبتهل؛ عساها تأتي مثقلة، كان معهم مع الكبار - حيث كانوا، ولا يزالون - في الزنزانة ~~الواسعة بالدور الثالث. دخل عليهم ثم بدا من نظراتهم المتبادلة، أنهم يطلبون منه الانصراف. ~~أكان اجتماعا مدبرا وجاء هو ليفسده؟ أما كان التدبير هو تلك الأسئلة الغريبة التي ~~انهالت عليه، ثم كفت فجأة؟ وبدأ تبادل النظرات، حتى أحس من التيار المرسل والمستقبل ~~بين العيون، أن ثمة كلمة ضوئية تصاغ، أو بالأصح أمرا: قم، وانتظر! # وقام. # ولم يطلب منه أحد أن ينتظر، فجعل بينه وبينهم ثلاثة أدوار، وجلس؛ فقد كانت الكلمة لا تزال ~~في أذنه: لا تبتعد كثيرا يا بني! # لقد سبقهم إلى السجن، هذا صحيح رغم أنه الأصغر، فقد جاء متهما في جريمة قنبلة، ألقاها في ~~ملهى شارع الهرم، لم يمت بها أحد، هذا صحيح، ولكنها جعلت منه كبيرا وبطلا دخل السجن. ~~وكم عض أصابع يديه العشرة ندما؛ فقد كانت رعونته هي السبب! كان واجبا أن ينتظر إلى ~~أن يعد خمسة ثم يقذفها بقوة، ولكنه استعجل وقذفها وهو يعد الثالثة؛ خوفا أن تنفجر في يده، ~~وبظهورها بلونها الأحمر الغريب المثير المرعب، انكفأ الكل على وجوههم، وكل ما ناله ~~ليلتها قطعة من فخذ الراقصة الدهني الذي جرح، ظلت لاصقة بين ياقة قميصه وجلد رقبته، ~~وكلما حاول استخراجها ضربوه؛ مخافة أن تكون ثمة حركة مباغتة أو بداية عدوان، وهو يحس بها ~~قطعة من نار الجحيم اللصاقة، قد غرزت كاوية جلده، حارقة لحمه حتى نخاع النخاع. وفقط ~~عند مطلع الفجر ينجح في انتزاعها، ينتزعها هي، ولكن أثرها لا يمحى! يكاد يكون إلى الآن ~~باقيا. # مصيره معروف، إنه يدرك هذا! معروف له وللقاضي، وحتى للشحاذ الذي يدعو له كلما لمحه ms40 ~~هابطا من عربة السجن إلى المحكمة؛ الإعدام! # فليكن! أبدا لم يفكر أن هناك موتا بمعناه الذي تعارف عليه الناس، ولا خاف مثلهم ~~منه، لكم أحبه قبل الحادث وابتغاه في أثنائه وبعده. كلما غور ببصره في أعماق رحلة الخلد، ~~التي سوف يقطعها به إذا استشهد، أحس أن الناس لا بد مجانين؛ لتمسكهم بحياة هي خرقة ~~بالية! وستبلى أكثر، مليئة بالأوحال والأقذار، لا تصلح حتى لتلميع حذاء! وأعظم شيء ~~يصنعه الإنسان بها، هو أن يقذفها بأطراف أطراف أصابعه، بعيدا بعيدا؛ كي يزيحها عنه، ~~وعن الطريق إلى الخلود. # بل هو حتى أصبح يضيق بتلك المعاملة الخاصة، التي تعامله بها جماعته؛ المئات منهم الذين ~~جاءوا بعده، ولأسباب مختلفة حين جاء أحدهم مرة، وهمس في أذنه، يسأله: من أين هو؟ وإلى أي ~~أمير ينتمي؟ لم يخبره. وحين تكشف في السجن، وبالسجن كل شيء، وعرف السلسال من أوله ~~لآخره لم يفرح، بل ولا غير من نظرته إلى غيرها، فالدين دين الكل، وهو فقط ضد الخارجين ~~ومع كل الداخلين، قابله مرة وكيل وزارة الداخلية، يحمل له عفوا، وقائمة بأسماء كثيرة، ~~الغريب أنها كانت صحيحة تماما ودقيقة جدا، وكأنه هو شخصيا الذي كتبها، وحمل الورقة ~~في يده، ورأسه - رأسك يا مصطفى - في اليد الأخرى، ومجرد توقيع ينقذ هذا الرأس؛ توقيع ~~صغير منك يا مصطفى، يصنع هذا العمل الكبير! ابتسم للرجل في طيبة واحتقار، ودعا له أن ~~يغفر له المولى ذنبه، وأن لا يأخذ ذريته بخطاياه. ومضى. # وأحس بيد توضع - أو بالأصح - تبارك كتفه، رأسه ارتفع؛ الشيخ الجليل هناك، مهيب في ~~وقفته على السلمة الأعلى، ابتسامته نقية وكأنما عليها آثار لا تزال طازجة من مياه ~~زمزم، وقد خفض الشيخ يده من كتفه إلى كوعه واصطحبه، وسارا، وخيل إليه أن السير في ~~الفناء قد طال، والشيخ صامت لا يقول شيئا، وحين تكلم سأله إن كان يريد دخول الجنة، ~~سؤال من هو متأكد مما سوف يكون عليه الجواب؛ ولهذا لم يأته الجواب، وإنما فرت من عين ~~مصطفى دمعة، وانحنى على كف ms41 الرجل وقبلها. ~~- لا، لا، لا تفعل، لا كلام بيننا الآن، لقد أعددنا لكل شيء عدته، وسآتي الليلة ~~لأبيت عندكم في زنزانتكم، وستعرف كل شيء بإذن الله. # كان مصطفى معجبا بهذا النظام الصارم الدقيق؛ فكل شيء يتم بالضبط كما يجب أن يتم؛ ~~ولهذا فالكلمة هنا ليست كلمة، ولكن في سبيلها يحارب المرء الجيوش، أما حارس الليل فقد ~~تولاه زكريا، أما رقيب النهار فقد احتاج إلى مائة جنيه، تسلمتها زوجته بالضبط في ~~الميعاد. # والليل، والزنزانة، والهمس، وانبلج السر الأكبر. # إن معهم في المعتقل - نفس السجن - شيوعيين وشيوعيات، وللنساء موعد فسحتهن وللرجال ~~موعد، بل هي مواعيد أربعة، موعد لحرماتهم من المسجونات، وموعد للشيوعيات، ثم للرجال ~~منهم، ثم للشيوعيين الرجال؛ يدخل هؤلاء ليخرج إلى الفناء هؤلاء. وكانت الجماعة، حتى ~~قبل أن يلاحظ مصطفى، قد لاحظت أن شيوعية معينة تتلكأ دائما، لتكون آخر من تدخل ~~قسمهن، وبتتبعهم الحذر الذكي إلى حيث تتجه عيون المتلكئة حددوا الهدف. # مصطفى، ذلك الذي يرتدي جلبابا بلديا أبيض، حليق الشارب والذقن، رغم إيغاله في ~~الإيمان بكل ما تؤمن به الجماعة، الصعيدي الأفندي الوسيم الذي ترتعش له قلوب العذارى؛ ~~أي عذارى، من هاواي أو من الحبشة، من لوس أنجيلوس أو الأنفوشي! شاب ذكر، يكاد يكون ~~مصنوعا كله من مادة رجالية خالصة، وهو وحده الذي لا يعرف، بينما كل البنات ~~والسيدات، وحتى الشبان والرجال يعرفون، ويوقنون، ودائما كلمة: يا خسارة على شبابه، ~~تلمحها أذنه وأحيانا عيناه، صاعدا عربة السجن أو هابطا منها؛ في يده الحديد، أو ~~خاليا من الحديد، قريبا من قفص المتهمين، أو همسة تأتيه عالية من بعيد. حتى القاضي، ~~أحس مرة أنه ينظر إليه نظرة حسرة، وكأنما حسدا لأب له كل هذا الابن! وقلب سوزان يدق، ~~وما أغرب هذا القلب وهو يدق! فكأنما لا مبادئ ولا عقائد، ولا نيران تحول بينه وبين ~~الدق، إذا أراد أن يدق، حتى وهو يتعمد ألا يراها، ولم يرفع عينه عن الأرض، طوال الأسبوع ~~الأول كان يدرك أن قلبها كل مرة كان يزداد دقا. # ولكن ms42 خافضا بصره أو رافعه، كان لا بد أن تلتقي العين بالعين مرة، وهذه المرة دق ~~قلبان؛ قلب من فولاذ عمره ما دق، وقلب من الوجد كان قد ذاب، حتى تحول إلى عهن منفوش! ~~شيوعية رقطاء، ولكن سبحانك ربي! توزع الملامح على من تشاء بغير حساب، لكأنها من ~~بنات حور العين. حكمتك! تؤتي الملك من تشاء، وتمنح عيونا ما وقع عليها وجه إلا وخر ~~صريعا لمن تشاء! أنت الخالق ولكل خلق لك حكمة، ولا بد لخلقها هذا من حكمة، ولكنها أبدا ~~لا يمكن أن تكون حكمة أن يدق لها قلبك يا مصطفى! مستحيل. # عيناه اللتان سمرهما في الأرض، يشدهما إلى أعلى مغناطيس أعتى من كل جاذبية، ~~يشدهما في الوقت المناسب تماما، وفي اللحظة المناسبة لتستمر الومضة، وأمام عينيها ~~تسترخيان، تثقل أجفانهما يتنومان، يسلبان الإرادة، يظلان مسمرين. # وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فالشيء بالشيء، حتى الشيء يحس بالشيء، فما بالك ~~والشباب شباب مصطفى، والطرف الآخر صاحبة هذا القوام والوجه والعيون؛ سوزان! كل هفة ~~ثوب منها تخاريف مجانين، صواعق مستأنسة، ومستأنسة وترعش الجبال! ما بالك وقوة أعظم من ~~السجن والمتريولوزات المصوبة، والسور العظيم الذي يفصل بين فناء الرجال وفناء النساء، ~~واستعجال الشاويشية والشاويشات، والصفافير، واختلاف المذاهب وعداء المذاهب، وكل ما يستطيع ~~الكون أن يتآمر به؛ ليبعد كائنين أو شيئين أو قوتين ... كلها قد جربت وفشلت، ~~تساقطت واحدة إثر الأخرى وفي الحال؛ فعبر السور العظيم كانت قوة الجذب أعتى من كل ~~القوى، كأن حدثا كونيا قد أوقف كل شيء، ولخص الزمن والأيام في لحظة تتجمع فيها ~~كل لحظاته، وتلتقي متسائلة محمومة محيرة، لا خيرة لها في أمرها، أربع عيون كأنها ~~قد تحولت إلى أطراف أربعة لكائن أرقى واحد، كائن سيظل باقيا ما بقيت الحياة على ~~سطح الأرض. # أربع عيون وكل ما سواها عدم، كل شيء، حتى نفسيهما أصبحا عدما، وإرادتهما عدما، ~~فالموجود الوحيد صانع الحدث الصاعق، هو رعد اللقاء وبرقه، والجذب! الجذب الذي أبدا لا ~~يقاوم؛ لتبدأ المرة الأولى الخجلى، بصباح الخير، تهمسها سوزان ms43 ، والوقفة الأولى ~~المرتعشة وقفة مصطفى عند ثالث خشبة من بعد الخشبة المكسورة، في السور الفاصل بين ~~العالمين! الأرض ترتعش، الأيدي المتشبثة بالخشب ترتعش، وحين جنت مرة وتماسكت ~~الأيدي، ارتعشت هي والأرض والخشب والحديد، ووصلت الرعشة عنان السماء، بل وكادت أرجل ~~الشاويش المنتظرة والشاويشة المسئولة تضحك ارتعاشا هي الأخرى؛ فقد تاه الولد في البنت، ~~وتاهت البنت في الولد. # وأصبح الحدث هو الحديث الوحيد الدائر بين جانبي السور. # وفي اليوم الرابع بعد الحدث، استدعوه، أو هكذا خيل إليه أنه هو الذي ذهب وحده إلى ~~الطابق الثالث. # ولم ينزل! # لأيام ثلاثة طويلة طويلة مضت، حتى اختنق. # وفي اليوم الرابع هبط الفناء لأول مرة. # وكانت هناك، لكأنها مذ تركها آخر مرة لم تغادر المكان مرة، لكأنها ماتت وعادت تحيا ~~هناك. # والتقيا. # ويده عبر السور امتدت. # وقلبها عبر يدها امتد. # واستماتت اليد على القلب. # واستمات القلب على اليد. # ولولا خوفهما أن يجازى الشاويش والشاويشة، وقد طال تغاضيهما عن الموقف، ما ~~افترقا. ~~••• ~~- توكل يا ولدي على المولى؛ فلقد قتلت فيك كل ما كان فيك يا مصطفى، وهي بسبيلها ~~الآن لتأخذ منك كل ما تبقى لنا فيك؛ لتقتلنا هذه المرة كلنا، إنها عدوة؛ عدوتك ~~وعدوتنا، ولا حياة لك أو لنا لدعوتنا إلا مقتلها! لقد جاءوا بها خصوصا ليطعنونا من ~~خلالك، وليصرعونا بعد هذا؛ الشاب تلو الشاب، ولقد كانت البداية بك، فلا بد أن تكون ~~البداية بها. اقتلها يا بني، اقتلها وتوكل! # كانت الكلمات ثابتة، هامسة، كل كلمة منها كفيلة بخرق القائم بين الدنيا والآخرة، ~~وبين أي موت وأي حياة، وليس في المسائل نقاش، ولكن أمرا كهذا لا بد أن يناقش، وبدأ ~~مصطفى - بعدما انصعق سبع مرات - في مرة يفتح فمه، فإذا بصفعة صوتية تأتيه من خلفه، من ~~عملاق صنديد لا ترحم نظراته، كان واقفا خلفه: ألم أقل لك يا مولانا؟ لقد سحرته، ~~الشيطانة ركبته! قال الشيخ بنفس همسه الباتر الذي لا ذرة هوادة فيه: أتعرف معنى ~~هذا يا مصطفى؟ ~~- ما معناه يا سيدي وأميري؟ ~~- ما دامت الشيطانة ms44 قد ركبتك فقد حل دمك أنت قبل أن يحل دمها هي، فإرادتنا من ~~إرادته، وأمرنا من أمره، ومن يعصينا يعصيه، ويصبح أشد عداوة لنا من كل ~~أعدائنا. ~~- ولكني لم أعص. ~~- فلتطع إذن؛ فالتردد عصيان قادم. ~~- لست مترددا. ~~- اقتلها إذن! تقتلها؟ أليس كذلك يا مصطفى؟ # من سابع بئر في قراره جاء صوته: اقتلها! ~~- غدا إن شاء الله يا مصطفى. ~~- غدا إن شاء الله. ~~- في نفس موعد لقائكما. ~~- في نفس موعده. ~~- على بركة الله يا بني، اذهب. # وكانت الخطة أن يطيل قدر ما أمكن في عملية القتل؛ لينشغل الجميع في الحادث، فقد تم ~~ترتيب أن يهرب سبعة هامون من الكبار، في اثناء انشغال الكل بالقتل، وضرب عصفورين ~~بحجر. # عصفورين! # أم سوزان وأنت يا مصطفى! ~~••• # حتى السؤال الذي ظل يلح على شيخه به، وكان سرا بينه وبينه: ولماذا هي؛ هي ~~بالذات؟ ~~- لأنها الأجمل! ~~- ولكن الجمال ... ~~- جمال العدو قوة له وضعف لنا. ~~- ولماذا أنا بالذات؟ ~~- لأنك المطمع؛ نقطة قوتنا، وأيضا نقطة ضعفنا. ~~- ألا يمكن لأحد؟ ... ~~- لا يمكن! ~~••• # النصف الثاني للفسحة يبدأ بعد الذهاب إلى الدورات، السير فيه بطيء دائري في فناء ضيق، ~~أناس يبدون كالمجانين؛ ذابت ملابسهم، وبليت أحذيتهم، ونمت منهم اللحى. شباب ~~وشيوخ، وجماعات وملحدون، أنت يا مصطفى لن تفعل في اللحظة المناسبة، أكثر من أنك ستكسر ~~عظام حنجرة، عظام، مجرد عظام، سوزان الجميلة هي السحر الذي دوخك. # إذ الحقيقة فليس هناك سوى عظمة؛ مجرد عظمة هشة هي التي أصبحت تحول بينك وبين بداية ~~الخلد. # أدخلت كل يد من يديها في ثغرة بين عمودين، أطبقت بيديها على رأسه من الخلف في ~~تساؤل ملهوف. جذبت الرأس إلى أمام فجأة، فاقشعر بدنه رعبا، وبرزت جبهته من ~~ناحيتها. مدت ومطت شفتيها ولمست بهما جبهته؛ لتعرف إن كان محموما؛ فقد كان أصفر ~~شاحب الوجه تماما، ويرتجف، ضغطت بشفتيها بكل ما تملك من قوة فوق الجبين، حتى شحبت ~~من الضغط أيضا شفتاها، ولم تعرف إن كانت ما أحست به حمى كانت عنده، أم حمى ~~ولدها ضغط الشفتين، عيناه ms45 مفتوحتان إلى آخرهما، وموجهتان تماما إلى وجهها، ولكن ~~لا يراها، أوقف السمع والبصر. # بارتجافة أمسكها من كتفيها، ووسط البحر العميق قذف مرة واحدة بنفسه؛ التفت كل ~~يد حول رقبتها النحيلة وأطبقت عليها، ذهلت يداه، انتظر انتفاضة انزعاج، إشاحة ~~احتجاج، ولكن الرقبة بقيت ساكنة وديعة بين يديه، بل مالت الرقبة إلى ناحية، كي تلمس ~~الساحرة بخدها يده، كما تفعل القطة حين تطمئن إلى اليد التي تربت عليها. # غضب، كما لم يغضب في حياته غضب، احمرت الدنيا، أنزفها من فرط غيظه كل دم ~~الظهيرة الحمراء، فالشراسة حين لا ترتطم بما يغذيها تفزع، وفي فزعها تغضب، وكأنما ~~تلاقي أعتى الأعداء؛ فعدوها - عدو الشراسة - ليس الشراسة، عدوها الأكبر والأوحد هو ~~الوداعة! كأنها كل الشجاعة، الأقوى من الشجاعة، أعتى أعداء الشجاعة. # ولكن فورا تموتين الآن يا ساحرة؛ فهذا غدر، أنت تأخذينني على حين غرة، أنا مجهز نفسي ~~لمذبحة، فإذا بي أواجه بالوداعة! كل الوداعة. اقتلها يا مصطفى قبل أن تغدر بك غدرا ~~آخر، وتعود تسحرك. بكل ما تملك من قوة في يديك اضغط واضغط، ولا تتركها إلا جثة! حنان؛ ~~أنهار من الحنان الدافق تنسال من الخد الجميل المائل، وتسري في قبضته. # أيقظ كل الوحش الكامن وخنق، فعلا خنق، تحت أصابعه الغليظة رقبتها تختلج اختلاجة ~~العارفة التي أدركت. # وهذه المرة فتح عينيه ورآها، اتسعت عيناها اتساع غير المصدقة أول الأمر، ثم ~~المرعوبة لهنيهة بالكاد لا تصدق، ثم ... ثم الساكتة الراغبة التي أسلمت لحبيبها المصير؛ ~~كل المصير، مرة واحدة وإلى الأبد، كل شيء تحفل به ملامحها إلا الخوف، لمحة خوف أو ~~رعب أخرى لم يلمحها، حتى حين ازرق الوجه، وبدأت العينان جحوظهما وانقطع التنفس، ~~لا عضلة رقبة تختلج بالرعب، ولا عين تدمع، ولا لمحة من ملامحها تستعطف أو تستغيث، بل ~~شبه ابتسامة بالغة الوهن، ابتسامة يرعب أنها ابتسامة سعادة؛ سعادة من يزاول ~~حبيبه الحب معه، ويعطيه أخيرا كل ذاته ونفسه. وجسده هو الذي أصبح يختلج بالرعب، ~~وكأن الخانق أصبح المخنوق! نظرات، يا إلهي، تطلب الموت، ترجوه، تتمناه ms46 يديه وعلى يديه ~~هو بالذات، والدنيا نهايتها تحل، والسعادة كلها تغمر ملامحها، سعادة الحب ~~موتا والموت حبا تغمر كل الملامح. # وكان الحوشان قد امتلآ على الجانبين، وبحر من البشر من هنا يدفع، وبحر من الناحية ~~الأخرى يجذب ليبعد. # والسعادة كلها من بشرتها التي توردت زرقة تشرق، سعادة من أخيرا نالت كل ~~ما تتمنى، لا تزال تتوهج وتنهمر، سعادة ليس سببها أنه أبقى على حياتها، وإنما سعادة ~~أن إحساسها بملمسه وهو يخنقها، صنع ما لم تصنعه مئات الكتب والتعاليم، وحول القاتل ~~الحبيب من إنسان إلى مبدأ، أصبح هو ولو للحظة خاطفة كل مبدئها! ومرحبا بالموت يأتي ~~- ولو في الحال - حينما على يديه ومبدئه يأتي، حتى ولو لم يكن يحبها يجيء، فما عاد ~~الحب نفسه يهمها. # ومن بين أحراشه وغاباته بدأ - شيئا فشيئا رغما عنه ثم برضاه - ينبت، ويصعد، ~~ويكبر، ويعلو، بدا شيئا آخر غير عقله، حكيما جدا يحبو، عجوزا جدا يولد، ولكن ~~له قلب أكبر من كل قلوب الكون، وأقوى وأعظم، ومن مرتفعه مضى يرقب الحشدين ~~الصاخبين، اللذين يتبادلان القتل عيونا ووعيدا، والغضب الفتاك تأجج والصفافير ~~تستغيث، ومدافع السجن قد صوبت إلى الداخل، والقيامة أوشكت، بل قامت ترعب من لا في ~~حياته ذاق الرعب مرة. # ولكن الآخر قد تربع وانتهى الأمر، وانتهت القبضة وتراخت الخنقة، ورغم الحشد الهائل، ~~فالحقيقة الحقيقة لم يعد هناك سواهما، حتى السور العظيم وبالذات عند خشبته بعد ~~الثالثة المكسورة، كان قد أصبح الملاذ، والأيدي الأربع مضمومة في تعانق متشبث مجنون لا ~~ينتهي. # كان، وكان كتاب آخر يكتب كتابهما، وشاهد عليه يا إلهي! نفس ذلك السور. # | صح # كان واضحا أن الصبي لا يمت إلى جاردن سيتي أبدا! # فصبي حاف مثله، جلبابه قديم متآكل، ورأسه محلوق بالماكينة، ومضلع، وفيه نتوءات ~~كحبة البطاطس، ووجهه رمادي أصفر، وفيه «قوب» ... صبي مثل هذا لا يمكن أن يمت أبدا ~~إلى جاردن سيتي؛ حي القصور والفيللات والسفارات. # أما كيف وصل إلى شوارع جاردن سيتي، فيبدو أنه أفاق فوجد نفسه هناك، أو أنه ضل ~~الطريق ms47 ، والغريب أنه لم يكن حزينا ولا مبتئسا أو خائفا ... كان في الحقيقة يبدو ~~منتعشا طروبا. # كانت الدنيا في ساعاتها الأولى، والشمس تلون الأرض وحسب ولا تلهبها، والبنايات ~~غارقة في صمت أرستقراطي مهيب، وكل ما يسمع من أصوات، إنما كان يأتي من العصافير ~~والبوابين الضخام السود، الطيبين الجالسين على الأرائك يحرسون القصور، ويرتدون ~~الجلابيب البيضاء الواسعة والعمامات المضحكة الكبيرة. # كل ما في الجو كان يوحي بالبشر ويبعث على النشاط، والولد يمضي على غير هدى في ~~الشوارع المشمسة الواسعة، وينظر في شغف إلى البنايات والأشجار والنحاس الكثير اللامع، ~~ويصفر، ويدندن أحيانا ويتوقف، ثم يستأنف المشي بطريقة المقص فيمد كلا من ~~قدميه مكان الأخرى، ويسير أحيانا بعرض الشارع، وأحيانا يرفع قدمه ويمسكها بيده من ~~الخلف، ويحجل على قدم واحدة، ولسانه يلوك فمه من الداخل، فيصنع ضوضاء مكتومة كنقيق ~~الضفادع، ويجري إلى الأمام وإلى الخلف، ويحتل وجهه كله تعبير خالي البال المستمتع ~~بكل ما يراه ويفعله، بلا شيء وراءه يفسد المتعة؛ لا عمل، ولا أب، ولا أسطى! # وتعثر فجأة في شيء، ووجعته قدماه، وانحنى فوجد أن ما تعثر فيه، كان قطعة حجر بيضاء، ~~فرماها بغيظ على الأرض، ولم يكتف بهذا، بل دفعها بقدمه، وطار الحجر إلى الأمام مسافة ثم ~~توقف، وحين وصل إليه ضربه بقدمه ضربة قوية أخرى، فطار الحجر واعتلى الرصيف، وحين وصل إلى ~~مكان الحجر، انحنى والتقطه وحدق فيه مليا؛ ليتأكد أنه ليس شيئا ذا قيمة، واستأنف المشي ~~وهو يقذفه إلى أعلى ويلتقطه. وبعد قليل غير الحركة فأمسك الحجر في قبضته، ومده سبابته ~~لتلامس الحائط الذي كان يمشي بجواره، وظل هكذا فترة، ويبدو أن أصبعه آلمته؛ فقد استبدلها ~~بالحجر. وتلفت مرة فوجد أن الحجر يصنع باحتكاكه مع الحائط خطا أبيض، وأعجبته اللعبة ~~فاستأنف المشي وهو يمر بالحجر على الحائط، فيرسم خطا أبيض يبدو واضحا فوق الجدران ~~الأنيقة الملونة، ورسم خطا على طول سراية آل سليمان، ثم مده إلى أن وصل عمارة ~~الفكهاني، ثم فيللا سمعان، وعبر الشارع واستأنف حك الحجر بسور حديقة ms48 السفارة ~~الأمريكية. # وكأنما أعجبه سور السفارة حين وجده طويلا لا ينتهي، فمضى يجري فيجري الخط بجواره، ~~ويتوقف فيتوقف، ويحرك يده إلى أعلى وأسفل، فيتموج الخط ويتعرج، ويسرع ويبطئ، ~~فتتسع التعرجات وتضيق. # وقبل أن ينتهي السور كان قد انتهى شغفه بالخط فتوقف، وحرك يده بسرعة وعصبية فوق ~~الحائط، فرسم الحجر خطا عصبيا متداخلا فيه نزق وغضب، ورفع يده عن السور ولعق فمه من ~~الداخل، فصدر عنه نقيق الضفادع، وهز رأسه هزات كمن يراود نفسه، وهز جسده أيضا، ثم ~~التصق بالحائط واختار بقعة ليس فيها خدوش، وتخير حافة بعينها من الحجر وأمسكه بحرص في ~~يده، ثم انكب على الحائط وراح يعمل. وحين انتهى كان قد كتب كلمة: «محمد»، وحدق فيها، ~~وتراجع إلى الوراء ولعق فمه وتأملها، كانت حروفها عجفاء ركيكة. وعقد يديه خلف ~~رقبته وثنى جسده وركز انتباهه على «ميم» محمد، وكأنما أعجبته رأسها المستلقية إلى ~~الوراء في عظمة؛ فقد عاد إلى الحائط بسرعة واندفاع، وكتب «ميما» أخرى، وضم شفتيه ونفخ ~~أشداقه ونظر إليها، ويبدو أنها لم تعجبه فانكب على الحائط من جديد، وكتب «ميما» ثانية ~~جاءت أسفل الأولى بقليل، وقريبة منها حتى إنها اشتبكت مع ذيلها، وتراجع إلى الوراء ~~ونظر إليها، وكأنما هي أيضا لم تعجبه، فقد رمى الحجر من يده، واستأنف المشي وهو يمط ~~شفتيه ويلوي بوزه. # وفجأة استدار إلى الخلف بسرعة، ونظر إلى الميمين من بعيد، ثم أقبل عليهما بلهفة، ~~وبحث عن الحجر بعينيه حتى وجده، ومن جديد انكب على السور، ورسم خطا رأسيا بجوار ~~الميمين، والتصق بالسور أكثر، وظل مدة طويلة يعمل وعرقه يسيل، ويده الصغير العصبية قد ~~تشنجت أصابعها كالكماشة على الحجر، ولما انتهى كان قد كتب: «أممنا الشعب ~~القنال.» # وتراجع إلى الوراء وراح ينظر إلى ما صنعه وهو يلهث منفعلا، وكأنما لم تعجبه الجملة ~~فقد هز رأسه بشدة، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل وهو يغمض عينا ويفتح الأخرى، ~~ولما انتهى كان قد كتب نفس الجملة مرة أخرى، ودون أن يتراجع إلى الوراء كثيرا، حدق في ms49 ~~الخط برهة قصيرة، ويبدو أنه لم يعجبه أيضا، ووجد اللام طويلة وشرطة النون غير واضحة، ~~والقاف مغلقة، والحروف كلها مائلة كالنخل حين تعبث به الرياح، يبدو هذا لأنه راح ينفخ ~~في يده الممسكة بالحجر؛ لينفض عنها ذرات الغبار، ثم تخير حافة من حواف الحجر لم ~~يستعملها، والتصق بالحائط من جديد، وراح يعمل ويعرق، ويغمض عينا ويفتح الأخرى. # وحين انتهى فرك يده بشدة، كمن أتعبته الكتابة، وتراجع إلى الوراء ونظر إلى الجملة ~~الأخيرة مليا، ثم علت وجهه ابتسامة رضاء، فعض شفته السفلى وأخرج من فمه نقيقا، ثم ~~عاد إلى الحائط ورسم علامة «صح» أسفل الجملة الثالثة، وجعل للعلامة ذيلا مرحا طويلا؛ ~~علامة الرضاء الكامل. # وظل برهة يحدق في الجملة؛ كأنما ليتأكد أنها محفورة على حائط السور، بطريقة ليس من ~~السهل محوها، وأنها ستظل هكذا فترة طويلة، وسيعرف كل من يقرؤها - بطريقة ما - أنه ~~كاتبها، ظل برهة يحدق في الجملة، ثم ارتعش نصفه الأعلى كله، وأخرج من حلقه صوتا ~~كصوت «العرسة»، ورفع قدمه اليسرى وأمسكها بيده من الخلف، وانطلق يحجل بقدم واحدة، ~~ويمضي في الشارع المشمس الواسع. # | البطل # في ذلك اليوم، مضت ساعات الصباح الأولى، دون أن يجد جديد؛ فالمكتب هو المكتب، والحجرة ~~هي الحجرة، والأوراق تملأ الأركان والأدراج، وتطل من الدواليب، وفناجين القهوة رائحة ~~غادية، والسجائر تستخرج خلسة؛ حتى لا يعزم أحد على أحد. وخمسة موظفين في حجرة، والوجوه ~~كالعادة مقطبة؛ مقطبة وهي تتصفح الجرائد وتغلقها، ومقطبة وهي تحدق في السقف، ~~وعابسة وهي تطلب الشاي وتلعن طعمه، ومغمومة وهي تنحني على الأوراق وتعبث بها، وتقضي ~~العمر تدفق وتؤجل وتكتب. # لم يجد جديد في ذلك الصباح، مع أن الحرب قامت، والطائرات بدأت تغير، وكل شيء؛ كل ~~إنسان يخوض تجربة الحياة والموت، والعالم لا ينام، صاحيا يرقب الشرق وهو يدمدم ~~ويتحرر، والمكتب هو المكتب، والحجرة هي الحجرة، وصبحي جاد هو الذي على يميني، والغازي أبو ~~بكر على يساري. # غير أنه قبل الظهر بقليل، جاءني الساعي وقال: تليفون. # وتليفون من أجلي كان يعني شيئا ms50 من اثنين: إما عبد الخالق فاضي في مكتبه، في وزارة ~~الشئون، ويريد أن يصبح علي، أو كارثة حدثت في بيتنا، ورأت العائلة أن تتصل بي على ~~عجل، وفي كل مرة يطلبني التليفون أقول: كارثة، وفي كل مرة أجد المتحدث هو عبد ~~الخالق. # وهذه المرة أيضا قلت: عبد الخالق؟ صباح الخير. # وإذا بصوت غريب يقول: لأ، أنا أحمد. ~~- أحمد مين؟ # قلتها وأنا أخمن من عساه يكون، فالأحمدات الذين أعرفهم لا يتجاوزون ثلاثة، وإذا به ~~يقول: أنا أحمد عمر. # ولم يكن هذا الأحمد من بين الثلاثة، فرن اسمه في أذني رنين الاسم الغريب، الذي لم ~~تتعود على سماعه، وخجلت أن أستقصي أكثر؛ فلا بد أنه يعرفني ويتوقع مني أني لا بد أعرفه. ~~ورحت أسأله كما يحدث في أمثال هذه الأحوال عن الصحة والمزاج والعائلة؛ حتى أظفر من ~~ردوده بخيط يقودني إلى معرفته، دون أن أحرجه أو أحرج نفسي! # ورغم أنه مضى يجاوبني بنفس الكلمات، التي تعود الناس قولها ردا على أسئلة كأسئلتي، ~~إلا أني دهشت؛ فصوته كان مملوءا بالانفعال يكاد يلهث، وكان يستعجل السؤال والإجابة، ~~كأنما هناك شيء يؤرقه ويود الإفضاء به إلي، وسمعت منه كلمات عن «مصر الجديدة» ~~و«كتيبتنا» و«المعسكر» ولكني لم أفهم. وسألني مرة إن كنت حقا أذكره، ومع ذلك لم أعرفه ~~إلا حين سألني عن أخي محمد وصحته؛ إذ أيقنت أنه لا بد أحمد عمر، ابن جارنا عم عمر؛ أحمد ~~صديق أخي الأصغر الحميم. # واندفعت أرحب به وأحييه، وقد بدت صورته أمامي واضحة كل الوضوح، فرغم أن عم عمر ~~كهل نحيف، إلا أن ابنه أحمد هذا شاب ضخم، وإذا عرف الإنسان أن سنه عشرون عاما فقط ~~بدا له ضخما جدا؛ فجسده عريض شاهق، وذقنه خصيب غزير، شعره أسود متين كذقون الرجال ~~الكبار، ومع هذا فقد كان من ذلك الصنف من الشبان، الذين يخجلون من مواجهة محدثهم، فلا ~~ينظرون في وجهه أبدا، وتجده إذا تكلم يتعثر في كلماته، فلا تخرج من فمه جملة كاملة، ~~وأحيانا يقول الكلمة ويظنها ms51 نكتة وينفجر ضاحكا، وحين يدرك أن أحدا لا يشاركه الضحك، ~~يصطبغ وجهه بلون الدم، ورغم كل شيء فالناس لا بد أن تقول بعدما يذهب: والله باين عليه ~~ابن حلال، طيب. # وكانت صلتي به محدودة، وكل ما أعرفه عنه أنه كان في مدرسة التجارة المتوسطة، أو الصنايع ~~لست أدري، وأخذ الدبلوم أو لم يأخذه، ثم دخل الجيش حسب قانون التجنيد الإجباري. # وأغرب شيء أنك تحس دائما، أنه ملآن ولديه آلاف الأشياء التي يود قولها، غير ~~أنه نادرا ما يفصح عن نفسه، وإذا تكلم فلا يقول شيئا من عنده، إنما يعبث بكلمات غيره، ~~فتقول له مثلا: إزيك انت؟ فيرد عليك ويقول: الزاكته! ويضحك ويخجل، ويحمر وجهه، كان لا ~~يخاطبني إلا «بحضرتك»؛ على اعتبار أني الأخ الأكبر لصديقه، وأحيانا كانت تفلت من لسانه ~~كلمة تستحق التأمل، وإذا تأملها الإنسان أدرك أنه ليس بسيطا كما يبدو، وأن له ~~أعماقا. # وكان إذا جاء لزيارتنا وفتح له الباب، خفض رأسه وسأل عن أخي، فإذا كان موجودا، دلف ~~إلى حيث يكون مطرق الرأس، لا يرفع بصره ولا يتلفت، وكنت أحيانا ألقاه فأحادثه وأحس به ~~شهما خدوما؛ لو قلت له: ارم نفسك في البحر مثلا، لذهب ورمى نفسه في البحر فعلا، ثم ~~عاد إليك في ثاني يوم مبتل الملابس، يقطر الماء من شعره، ويقطر الخجل من وجهه ~~ويتهته ويقول: أما المية كانت ساقعة بشكل! # يقولها قاصدا بها أن يلومك ويؤنبك، وهذا كل ما في استطاعة أحمد أن يؤنب به أحدا! # ولم نكن أصدقاء بالمعنى المفهوم؛ كنت أراه كل ستة أشهر أو كل سنة، وكنت لا أراه على ~~حالة واحدة أبدا؛ ففي كل مرة لا بد أن يكون قد حدث له أو حدث فيه تغيير؛ فهو في لقاء ~~طالب، وفي لقاء آخر متخرج، وفي ثالث ساخط يبحث عن عمل، ومرة أراه صغيرا لم تنبت له ~~لحية، وأفاجأ به في المرة التالية وقد فرعني طولا! جاء مرة لزيارتنا بملابس الجيش، ~~وفوجئنا به حقا، وأذكر أننا يومها سلخناه عبثا وتريقة، نقول ms52 له: يا دفعة، ونضحك على ~~شعره القصير، الذي قصه كما تقضي التعليمات، ونسأله: لم ربى شاربه هكذا؟ فيقول: ح اعمل ~~ايه؟ ما دام مفيش تعليمات تحدد طول الشنب، أربيه كده إياك يعوض عن شعري! # ويمضي يحدثنا بطريقته المتلعثمة، ويسخر من نفسه ومن زملائه، ومن «اليمك» والطوابير ~~المبكرة والبروجي والنظافة، والشاويش الذي يدربهم، ولسانه الذي لا يكاد يرى متعلما ~~من أمثال أحمد حتى ينهال عليه، والتكدير والتزويغ، وتصاريح الأربع والعشرين ساعة، وكيف ~~«يبلف» الضابط حتى يأخذها، ويضحك، بجسده الضخم كله ومن قلبه، ثم يكف عن سخريته وضحكه فجأة، ~~ويتنحنح ليشعرنا أنه ينوي قول شيء جاد، يتنحنح ويقول: إنما صحتي كويسة! # وأذكر أنه في زيارة أخرى، قال لي: إنه أخذ النمرة النهائية في التنشين، وسألته وأنا ~~أسخر من العبقرية التي هبطت عليه فجأة عن السر في نبوغه، فمضى يشرح لي نظريته؛ فقد وجد ~~أنهم يعلمون النيشان في الجيش على علامات ثابتة، ثم يمتحنونهم على علامات متحركة؛ ولهذا ~~فمن أول لحظة كان ينشن على العلامة الثابتة كأنها ستتحرك فجأة، وبهذه الطريقة كان يضرب ~~بسرعة ويصيب، وبلغ به الحماس مداه، وبلغت بي السخرية مداها، وهو يؤكد لي أن الطريقة، ~~التي يعلمون بها الجيش غير مجدية، وأن أهم شيء في الدنيا، هو أن يتعود الإنسان أن ينشن ~~على هدف متحرك. # هذا كله أمر معقول. # أما غير المعقول فهو ما حدث؛ فلماذا يكلمني أحمد في التليفون؟ # صحيح أني فوجئت به، ولكني أقول الحق فرحت، وأحسست أني افتقدته طويلا؛ فهناك أناس ~~يفتقدهم المرء، يفتقد القيم؛ فالشرف في ذهن الواحد منا مرتبط بإنسان، والإخلاص بإنسان ~~آخر، والحنان والمحبة بثالث، وأحمد عمر هذا كان يرتبط في ذهني - ولست أدري لماذا - بشيء ~~يمس من قريب أو بعيد روح شعبنا؛ الشعب الضخم الخجول، الذي لا يسعده شيء مثلما يسعده ~~أن يسخر من نفسه وأخطائه. # ولم أسأله لماذا هو في مصر الجديدة؛ فقد خمنت أن كتيبته، لا بد معسكرة هناك، تحمي ~~شمال القاهرة؛ إذ كان الجيش يستعد للدفاع عن العاصمة. أما الشيء ms53 الذي حيرني فعلا، فقد ~~كان لهجته اللهجة المتدفقة المملوءة بالانفعال، وصوته المحشو بضحكات موفورة الصحة، لا ~~كحة فيها ولا بلغم. # وعجبت. # وسألته كيف يكلمني، وهل عندهم في المعسكر تليفون؟ # وأجابني: احنا معسكرين قريب من هنا، وجنبي بقال. ياه! داحنا شفنا العجب؛ دي حرب بجد ~~والله العظيم! والطيارات والمدافع؛ تك تم، تك تم ... تصور حضرتك ما غيرتش الشراب بقالي ست ~~أيام لما بقى شربات! سامع الطيارات؟ # وكنت حقيقة أسمع ضجة خافتة بعيدة، وكنت أعرف أن طائرات العدو، تركز ضرباتها على تلك ~~المنطقة «مصر الجديدة» ليل نهار! # وانتباني شيء يشبه الخزي، وأنا أدرك أن أحمد في الميدان، وأنا في المكتب، وسلك ~~طويل يفصل بين القتال الرهيب الدائر هناك، والمصلحة التي أنا فيها وروتينها ودرجاتها ~~وعلاواتها ... # واندفعت أبثه كل حماسي وسخطي، وأشجعه. # وقلت له وأنا أدرك أنه لا يريد مني خدمة: كلنا معاك، عايز حاجة؟ أي خدمة؟ قول. محمد ~~بيسلم عليك. # ولدهشتي أجابني: مش عايز حاجة أبدا، سلم لي عليه كثير، على فكرة أنا معايا مدفع اهه، ~~أضرب لك طلقة؟ # ولعلمي أنه خجول ومن الصعب عليه أن يطلب مني شيئا إن كان يريد، عدت ألح وأسأله ~~عما يريد، وإذا به ينفي بشدة أنه في حاجة إلى شيء، وسألته إن كان يريد من عائلته ملابس ~~فقال: سلم لي عليهم. ~~- بس؟ ~~- بس. ~~- مش عايز فلوس، هدوم، أي حاجة؟ ~~- أبدا أبدا. # وازداد عجبي، ومضى هو يقول: اسكت! مش امبارح الله يخرب بيوتهم ضربوا المعسكر ~~بتاعنا؟! # وكان يقولها ببساطة دفعتني لأن أسأله بنفس البساطة: وعملت ايه؟ مت؟ # وضج التليفون بضحكته وقال: أبدا، خمناهم؛ قبل ما يضربوا المعسكر سيبناه، وعلى فكرة ~~حصلت حاجة هايلة دلوقت. # وإذا كان لبعض الناس كلمات مختارة، ف «هايلة»، كانت كلمة أحمد عمر المفضلة، كل شيء ~~يحكي عنه لا بد أنه هايل! وعدت ألح وأستدرجه، وأنا متأكد أنه لا بد قد طلبني لأنه ~~يريد شيئا، ولكنه قهقه وقال: أبدا، عاوز حضرتك كويس. كويسة دي؟ بس على فكرة حصلت حاجة ~~هايلة خالص. ~~- إيه؟ حصل ايه ms54 ؟ # فقال: مش وقعت طيارة؟ # فقلت: إيه؟! طيارة ورق؟ # فقال: لأ، بجد؛ طيارة فرنساوي، كانت فايتة قدامنا، قلت للقائد: أضرب يا فندم؟ ورحت ضارب ~~قام جناحها انكسر ومالت ووطت، فالقائد زعق وقال لي: خلص عليها يا أحمد، خلص عليها! خلصت ~~عليها، وتصور، تصور وقعت. # واستمر يضحك ويقول: سلم لي علي محمد، لما ييجي قول له: إن أحمد وقع طيارة، أنا عارف إن هو ~~مش ح يصدق زي عوايده، إنما والله العظيم وقعتها أهه، محروقة في الرملة هناك، أضرب لك ~~طلقة؟ # وأخذت أضحك أنا الآخر؛ فأيامها كانت مودة أن يقول كل واحد: إنه أسقط طائرة، فما بالك ~~وأحمد يخبرني بنفس اللهجة، التي كان يعلق بها أحيانا على أشكال بنات الجيران، يخبرني أنه ~~أسقط طائرة! # وحتى وأنا أرى صورته في الجرائد في اليوم التالي أكذب نظري، وأعود أتمعن في صورته، ~~وأسمع صبحي جاد وهو يحدق في الصفحة ويقول: أما ولد! دا شارب من لبن أمه صحيح! ده باين ~~عليه زي الوحش يهد الدنيا، شوف بيبص ازاي؟ الواحد سنه 35 سنة وما يعرفش يوقع ناموسة! وده ~~يوقع طيارة بحالها! ويوقعها لوحده! # حتى وأنا أسمع هذا كله وأراه، كنت أتأمل أحمد الذي في خيالي، ولا أكاد أصدق. # لحظة أن كنت أ كلمه، كان كل همي أن أعرف الخدمة التي يريدها لأستطيع القيام بها، وأحس ~~أني بهذا أساهم بنصيب ما في المعركة، فقلت: أمال ... # وترددت؛ فقد خجلت، ولكني استطردت: أمال بتكلمني ليه؟ # وما كادت الجملة تغادر فمي، حتى أدركت أني قلت شيئا سخيفا. # وأسرعت أتكلم وأمسح أثرها من الحديث، كما يمسح الإنسان كلمة كتبها خطأ، أسرعت أقول: ~~قول يا أحمد، عايز ايه؟ صحيح عايز ايه؟ أنا أخوك مفيش داعي للكسوف، قول لي عايز ايه؟ # وسمعت صمتا في التليفون، وأدركت مدى الخجل الذي كان يعتريه، وطرقت أذني كلمة: أصل ... ~~وأعقبها صمت قصير، أدركت أن أحمد لا بد يعض شفته السفلى خجلا؛ فتلك كانت عادته، ~~وخمنت أنه سينطلق بعدها كالمدفع ويتكلم؛ فكما كان خجله يجعله يتعثر في أول الحديث ms55 ، ~~فكذلك كان يجعله ينطلق بسرعة في آخره، قال: إنت عارف؟ إدوني ساعة أجازة بعد الحكاية دي، ~~وأنا معرفشي نمرة إلا نمرة حضرتك، قلت اكلم حضرتك، دي حاجة هايلة قوي، مش كده؟ تصور! طيارة ~~تقع، أنا أوقعها، أنا أوقعها؟! أنا مش مصدق، بيتهيأ لي انها وقعت من نفسها، ولا يمكن حد ~~تاني وقعها! سلم لي على محمد كتير. # ثم تلجلج كمن لا يعرف كيف ينهي الحديث، وسمعت نحنحة خفيفة، فعرفت حينئذ أنه ينوي ~~أن يدخل في الجد، وجاءني صوته: إنما صحتي كويسة، أنا متشكر قوي قوي قوي. # وكانت آخر مراحل خجله أن يضحك، وكأنه لا يطمئن إلى الغلافين السابقين، فيلف كلامه بغلاف ~~ضاحك ثالث. # وحين وضعت السماعة كنت لا أزال غير مصدق، أن أحمد طلبني فقط من أجل أن يخبرني بهذا ~~«الشيء الهايل»، وكانت السماعة لا تزال تضحك؛ ضحكة دسمة موفورة الصحة. ms56