######OpenITI# #META# URI: 1414ZakiNajibMahmud.HumumMuthaqqafin.Hindawi91513528 #META# Tags: literature #META# ID: 91513528 #META# Title: هموم المثقفين #META# AuthorID: 64904748 #META# Author: زكي نجيب محمود #META# EditorID: None #META# Editor: None #META# TranslatorID: None #META# Translator: None #META# Related_books: None #META#Header#End# # مقدمة‏ # أزمة المثقف العربي‏ # من معالم الفكر الحديث‏ # عصرنا من فلسفته‏ # ترجمة الماضي إلى حاضر‏ # حاضر الثقافة العربية‏ # طريق العقل في التراث الإسلامي‏ # ماضينا وحاضرهم‏ # نحو شخصية عربية جديدة‏ # العروبة ثقافة لا سياسة‏ # لكل ثقافة وعاؤها‏ # قواقع من ثمود‏ # توبة الهارب‏ # ألف ليلة وليلتان‏ # الرأي وصاحبه‏ # تعدد المبادئ في البناء الواحد‏ # الفلسفة خارج الأسوار‏ # من المشكلات إلى حلولها‏ # كاهنة دلفي‏ # في حياتنا العقلية‏ # اللاعقل في حياتنا‏ # ثقافة الغد‏ # رؤية يغشاها الضباب‏ # الولاء الأبكم‏ # الفكرة الواحدة‏ # موقف المتفرج‏ # حقيقة الجمال ما هي؟‏ # الصراع المشروع‏ # المصري الجديد القديم‏ # اللغة الواحدة‏ # خطاب إلى ولدي‏ # مقدمة‏ # أزمة المثقف العربي‏ # من معالم الفكر الحديث‏ # عصرنا من فلسفته‏ # ترجمة الماضي إلى حاضر‏ # حاضر الثقافة العربية‏ # طريق العقل في التراث الإسلامي‏ # ماضينا وحاضرهم‏ # نحو شخصية عربية جديدة‏ # العروبة ثقافة لا سياسة‏ # لكل ثقافة وعاؤها‏ # قواقع من ثمود‏ # توبة الهارب‏ # ألف ليلة وليلتان‏ # الرأي وصاحبه‏ # تعدد المبادئ في البناء الواحد‏ # الفلسفة خارج الأسوار‏ # من المشكلات إلى حلولها‏ # كاهنة دلفي‏ # في حياتنا العقلية‏ # اللاعقل في حياتنا‏ # ثقافة الغد‏ # رؤية يغشاها الضباب‏ # الولاء الأبكم‏ # الفكرة الواحدة‏ # موقف المتفرج‏ # حقيقة الجمال ما هي؟‏ # الصراع المشروع‏ # المصري الجديد القديم‏ # اللغة الواحدة‏ # خطاب إلى ولدي‏ # | هموم المثقفين # | هموم المثقفين # تأليف # زكي نجيب محمود # | مقدمة # | هموم المثقفين # كلما رأيت القادة في ميدان الحياة الثقافية عندنا، يتجادلون حول قضية سياسية صرف، وكذلك ~~كلما لمست في كتابتهم الرغبة في تسلية القارئ بحيث لا يبقى له شيء بعد الفراغ مما يقرأ، ~~أحسست بإحدى حالتين؛ فإما أن تأخذني الريبة في قيمة ما أكتبه؛ لأنني لم أقصد مرة واحدة إلى ~~شراء القارئ بالتسرية عن نفسه من عناء العمل، ولا حدث لي مرة واحدة أن طمعت في الكتابة ~~السياسية، حتى ليتعذر علي في كثير من الأحيان أن أحدد لنفسي هذه «السياسة» ما هي؟ أهي ~~طعام يؤكل أم شراب يشرب؟ ويكفيني أن أراها تقبل الفكرة ونقيضها في آن واحد، دون أن ~~يكون في مادتها معيار يبين الخط الفاصل بين الخطأ والصواب ms001 ، وإما أن يأخذني التعجب من ~~هؤلاء القادة. # لو كانت هموم المثقفين أقل من أن تملأ حياتهم كلها لو أرادوا، لالتمسنا لهم الأعذار ~~في ملء الفراغ بالمشاركة في الكتابة السياسية، برغم علمنا بأنهم في هذه الكتابة السياسية ~~لا يفضلون غيرهم ممن يتخذون منها حرفة؛ أي إنهم بالكتابة السياسية يتركون ما يحسنون ~~إلى ما ليس يحسنون، وإلا فلماذا لا نذكر طه حسين والعقاد والمازني والدكتور هيكل ~~بالمقالات السياسية التي كتبوها؟ إننا إذ نذكر أحدا من هؤلاء، فإنما نذكره بما امتاز ~~به بحكم موهبته، وأعني ما تركه لنا في مجال الأدب والفكر والنقد الأدبي والفني، أو قل ~~إننا نذكره بما تركه لنا في «نقد الحياة» نقدا أراد به أن يبدل لنا قيما بقيم ~~ونظرة حضارية بنظرة أخرى، وحين نقول بحق إن أديبنا العظيم توفيق الحكيم جدير بجائزة ~~نوبل، فإنما نقول ذلك وفي أذهاننا أعمال راسخة وخالدة، كأهل الكهف والملك أوديب والسلطان ~~الحائر، وغيرها مما أبدعه وما نعتز به. # إنه لا رجاء لنا في إعادة تشكيل الحياة من جذورها وفي صميمها، إلا أن يكون ذلك على أيدي ~~المثقفين، الذين لا يعنون بالأمور السابحة على الأسطح عنايتهم بالمحركات الكامنة في ~~دخائل النفوس، وتعال معي ننظر إلى جماعات المثقفين في مختلف الثقافات وعلى تعاقب العصور، ~~لنرى أكانت الشئون السياسية مشغلتهم، أم كانت لهم هموم أخرى غير السياسة وأبعد منها مدى ~~وأعمق منها جذورا وأدوم منها بقاء لدوام التغير الذي قد يتغير به وجه الحياة على ~~أيديهم. # كان الجاحظ - وهو في رأيي أعظم المثقفين العرب على إطلاق - كان نقطة تحول في وجهة ~~النظر العربية كلها؛ إذ نقلها من وجدان الشاعر إلى علمية الناثر؛ فبعد أن كانت الثقافة كلها ~~(تقريبا) ترتكز على قصيدة الشعر، باتت ترتكز على فكرة النثر؛ ومن ثم استطاع التراث ~~العربي أن يشتمل على ما اشتمل عليه من كنوز الفقه وعلوم اللغة والفلسفة وغير ذلك، كان ~~الجاحظ - كما أسلفت - نقطة التحول في وجهة النظر، فاستحق بذلك أن يوصف بما نصفه به، ~~ولو شغل نفسه بأمور ms002 السياسة لما ترك لنا إلا أقوالا كنا لنقرأها اليوم بجزء يسير من ~~اهتمامنا؛ لأن أمور السياسة تذهب بانقضاء أوانها. # وذهب القرن التاسع بجاحظه العظيم، وجاء القرن العاشر بجاحظ آخر في دنيا الثقافة ~~العربية، وهو أبو حيان التوحيدي، كما جاء القرن العاشر كذلك بجماعة إخوان الصفا، فماذا صنع ~~هؤلاء جميعا سوى أن حاولوا تشكيلا جديدا لوجهة النظر العربية، ليجعلوها أقرب إلى النظرة ~~العلمية العقلية الموسوعية، التي يخرج منها القارئ وقد استوعب عصره بكل ما كانت الحضارة ~~الإنسانية قد حققته. # ولا نذكر إخوان الصفا ودورهم الثقافي في الحياة العربية، إلا ويقفز إلى أذهاننا جماعة ~~«الفلاسفة» في عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر؛ فالدور الذي اضطلعوا به هو هو ~~نفسه الدور الذي اضطلع به إخوان الصفا؛ وأعني أنهم حاولوا تغيير الاتجاه من رومانسية ~~العاطفة إلى علمية العقل وواقعيته، ولست أريد بهذا أن أقول إن ذلك هو التحول الوحيد الذي ~~ينبغي لجماعة المثقفين أن يحدثوه؛ لأنه لو كان العقل قد طغى، فربما كانت مهمة الثقافة ~~عندئذ أن تحد من طغيانه بالدعوة إلى شيء من حياة الوجدان، كما فعل روسو. # وانظر إلى «الجمعية الفابية» في إنجلترا في مطلع هذا القرن أو قبل ذلك بقليل؛ فهي الأخرى ~~نموذج لما يضطلع به المثقفون، ولقد اتخذوا لأنفسهم صفة «الفابية» من اسم «فابيوس» القائد ~~الروماني الذي هزم هانيبال، لا بمواجهته، بل بتدويخه؛ وذلك أن أخذ فابيوس يتقهقر على خطة ~~يرسمها، بحيث ينهك هانيبال في تعقبه حتى الهزيمة؛ أي هزيمة لهانيبال، وعلى هذا الغرار ~~نفسه أخذت الجمعية الفابية تخطط لتغيير المجتمع تغييرا يحوله إلى النظرة الاشتراكية، ~~لا بالعنف والصراع، بل بإرهاق من بأيديهم زمام التحول. # وماذا صنع محمد عبده ولطفي السيد ومن تبعهما من أئمة الثقافة في حياتنا إلا شيئا ~~كهذا؟ نعم قد كانت لهم مواقفهم السياسية من حيث هم مواطنون، لكن تلك المواقف لم تكن هي التي ~~خلدتهم، بل ولا كانوا فيها أفضل وأقدر من سواهم، وإذا اختلف بعضهم مع بعض فيما يختص ~~بالحياة الثقافية، جاء اختلافهم ms003 حول نقاط رئيسية في طريق التحول؛ أنرتد في استلهام ~~الماضي إلى الحضارة الفرعونية، أم نكتفي بالوقوف عند الحضارة العربية؟ أنجعل محور الارتكاز ~~في نقلنا عن أوروبا ثقافة اللاتين (فرنسا) أم ثقافة السكسون (إنجلترا)؟ أنكتب بأحرف عربية ~~أم نستبدل بها حروفا لاتينية؟ أيكون للتراث قداسة تصدنا عن نقده، أم نتناوله تناول ~~الأحرار بالنقد المنزه عن الهوى؟ وهكذا وهكذا. # تلك هي أمثلة من هموم المثقفين، وهي كفيلة بأثقالها الجسام أن تلهيهم عن كل ~~ما عداها، ثم هي - فوق ذلك - ما يدوم لهم، وما يستطيعون بمواهبهم الفطرية أن يمتازوا فيه، ~~فما الذي يغريهم اليوم بتركها ليخوضوا مع غيرهم في بحر السياسة؟ ألأن السياسة والاشتغال ~~بها أسرع إلى الشهرة، أم لأن هموم الثقافة قد انزاحت عن صدورهم؟ # كان العرب الأقدمون قد وقفوا من الثقافة الأوروبية وقفة شديدة الشبه بما نقفه اليوم، ~~فكانت أوروبا بالنسبة إليهم يومئذ هي اليونان وثقافتهم، فكان أهم ما اهتموا له هو أن ~~يلتمسوا لأنفسهم طريقا «يوفق» بين مضمون الثقافة اليونانية وأحكام الشريعة الإسلامية، ~~ولو صنعنا نحن اليوم مثل صنيعهم لكان على رأس همومنا عملية «التوفيق» مرة أخرى، لكنها هذه ~~المرة تلتمس الطريق بين «علم» أوروبا الحديثة من جهة، وما يقضي به موروثنا من أحكام ~~أساسية هامة، من جهة أخرى، ولست أريد أن أترك فكرة «التوفيق» تمر دون أن أقول إن التوفيق ~~بين مصدرين لا يعني قط أن نحذف أحدهما ونبقي الآخر، وإنما يعني أن نجد الطريق الثالث الذي ~~يهضم الفكرتين معا وفي آن واحد. # هذا مثل جيد للمسائل التي هي من أهم هموم المثقفين اليوم، وهل هناك أمامهم ما هو أهم ~~من رسم الطريق الحضاري الذي نسير عليه في مرحلتنا الراهنة؟ فنحن في ~~ذلك؛ أولا نقتفي أثر الآباء، وثانيا نعالج حالة ~~الضياع التي نعانيها، وإذا شئت فانظر إلى شبابنا في حيرته، لا يدري أيتعصب إلى حد ~~التزمت لما يقال له إنه طبيعة الإسلام، أم يتمرد ليحيا كما يقال له إن الشباب في ~~الغرب يحيون؟ هؤلاء وأولئك بيننا قائمون، أحوج ما ms004 يحتاجون إليه هو تحليلات من المثقفين ~~تهديهم إلى طريق يجمع الطرفين، لكن المثقفين عن ذلك في صمم، جريا وراء مجادلات سياسية ~~يرون فيها طريقا أسهل إلى شغل الناس. # لقد شرفتني وزارة الإعلام والثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة (أبو ظبي) وكذلك ~~شرفتني الجامعة هناك، بدعوة تتم فيها لقاءات فكرية، فكانت فرصة أوضحت لي أمرين؛ أولهما أن ~~تدبير أمثال هذه اللقاءات الثقافية الجادة هو من أوجب الواجبات بالنسبة لوزارات الثقافة في ~~أجزاء الوطن العربي كله؛ لأنها من أفعل الوسائل نحو إيجاد ما نصبو إليه من «ثقافة عربية» ~~معاصرة، والأمر الثاني هو أن معظم الأسئلة التي تتحرك بها أذهان المثقفين، يدور حول ما ~~ينبغي فعله إزاء الحضارة العصرية، مع المحافظة كل المحافظة على هويتنا القومية بمعالمها ~~الرئيسية، ولعلي لم أصادف في حياتي لقاء فكريا فيه النشاط وفيه الصدق وفيه العمق، ما يعدل ~~لقائي مع أساتذة الجامعة هناك، ولقائي مع طائفة من المثقفين. # ألا إن للمثقفين همومهم، أفيتركونها ليعالجوا مسائل في ميدان السياسة، فيهدرون فطرتهم ~~الموهوبة في غير ما أراد لها واهبها أن تنمو وتثمر؟ # زكي نجيب محمود # | أزمة المثقف العربي # 1 # إنني إذ أصدر حديثي عن المثقف العربي المعاصر، والأزمة التي يجتازها، بتعريف ~~يبين لنا من هو هذا المثقف المقصود، كما يبين الأزمة المشار إليها، متى تكون وكيف، ~~أوثر أن أختار من التعريفات الكثيرة لهاتين اللفظتين، ما هو أنفع لحديثنا هذا، وما هو ~~في الوقت نفسه أيسر قبولا. # فالمثقف الذي أردته، إنما هو إنسان بضاعته أفكار، سواء أكانت تلك الأفكار من إبداعه ~~هو، أم كانت منقولة عن سواه، ولكنه آمن بها إيمانا أقنعه بأن يحياها، ثم لا يقتصر على ~~أن يحياها هو بشخصه، بل يريد أن يقنع بها الآخرين ليحيوها معه، والأرجح أن تكون هذه ~~الأفكار من الصنف الذي يغير الناس نحو ما يظن أنه الأفضل، على تفاوت في ذلك ~~بين فكرة وفكرة؛ إذ إنه من الأفكار ما من شأنه أن يغير وجه الحياة على نطاق واسع، ~~ومنها ما ينحصر في جانب ضيق من ms005 جوانب تلك الحياة. # المثقف الذي أريده بهذا الحديث، هو من طراز ديمقريطس الذي قال إنه يفضل لنفسه أن ~~يظفر بفكرة تتقدم بها الحياة، على أن يظفر بملك فارس؛ المثقف الذي أريده هنا هو من ~~طراز الجاحظ الذي كان بطريقة تفكيره وتعبيره، نقطة تحول للثقافة العربية كلها من ~~وجدان الشاعر إلى عقل الناثر؛ المثقف الذي أريده هنا هو الذي تمثل في عصر التنوير في ~~فرنسا إبان القرن الثامن عشر، كما تمثل في جماعة إخوان الصفا عندنا إبان القرن ~~العاشر؛ وهو الذي تمثل في الجمعية الفابية التي عملت بفكرها ~~في الحياة الإنجليزية منذ أوائل هذا القرن حتى ~~غيرت مجرى تلك الحياة تغييرا عميق الأثر، أو هو الذي تمثل في الحركة الفكرية ~~العارمة التي أشعلت جذوة النهضة عندنا خلال العشرينيات من هذا القرن، والتي ما نزال ~~نعيش اليوم على ضيائها. # كل هؤلاء قد تجسد فيهم المعنى الذي أشرت إليه في تعريف المثقف، وهو أن يكون رجلا ~~بضاعته أفكار يريد بها أن يغير وجه الحياة إلى ما هو أفضل. # وأما الأزمة التي نزعم بهذا الحديث أن المثقف العربي يعانيها، ~~فهي - ككل أزمة في أي مجال آخر - أن يكون ~~الهدف محددا واضحا، لكن الطريق إليه مسدود؛ وبذلك لا تختلف أزمة المثقف في صورتها ~~عن أزمة المحب، الذي يعرف ما يريده، لكن وسائل الوصول إلى ما يريده ممتنعة عليه؛ ~~فكذلك المثقف المأزوم: هو إنسان حمل في رأسه أفكارا، واعتقد بأنها أفكار لا بد من ~~بثها لتطوير الحياة وأشكالها، لكنه حين هم بنشرها، صدمته العوائق التي تحول دون ~~ذلك النشر؛ وقد تكون تلك العوائق من صنع الآخرين آنا، ولكنها كذلك قد تكون - آنا آخر ~~- حيرة في نفسه هو، وذلك إذا ما تعددت أمامه سبل الوصول، فلا يدري ماذا يختار منها ~~وماذا يدع. # وعلى ضوء ما قلناه، يصبح موضوعنا هو محاولة الإجابة عن سؤالين هما؛ أولا: ما هي ~~الأفكار التي يريد المثقف العربي أن ينشرها في الناس لو أتيحت له السبل؟ وثانيا: ما ~~هي المعوقات التي قد تحول ms006 دون ذلك النشر فتحدث عنده الأزمة؟ # 2 # إنني لا أرى - بين المعضلات التي تتحدى المثقف العربي في زماننا - ما هو أشد ~~تعقيدا وأعسر حلا، من محاولته أن يجمع طرفين، يكادان يكونان متضادين، في صيغة ~~حياتية واحدة، ألا وهما المحافظة على هويته التاريخية من جهة، والحرص - في الوقت نفسه - ~~على أن يعاصر دنياه التي تعج من حوله بمخابير المعامل وعجلات المصانع؛ إن المثقف العربي ~~على وعي كامل بما يريده في هذا المجال، وهو الجمع بين هذين الطرفين جمعا لا يداخله ~~القلق، لكنه حتى هذه الساعة لا يدري كيف؟ ونظرة عجلى إلى جماعة المتعلمين في الوطن ~~العربي، كافية لبيان مدى اختلافنا البعيد في تصور الحياة التي نريد أن نحياها؛ ~~فهؤلاء المتعلمون يقعون في مجموعات ثلاث: إحداها تريد تحقيق الهدف بأن تجعل ثقافتنا ~~الموروثة هي معيار الصواب والخطأ، فما اتفق معها قبلناه، وما تعارض معها رفضناه؛ ~~والثانية تريد تحقيق الهدف ذاته بأن تجعل الثقافة الغربية العصرية هي معيار الصواب ~~والخطأ، فما اتفق معها من تراثنا أبقيناه، وما خالفها من ذلك التراث أهملناه، وأما ~~المجموعة الثالثة فهي وحدها التي تتصدى بحق للمشكلة التي تتحدانا؛ لأنها أرادت أن ~~تحقق الهدف نفسه، ولكن بالبحث عن صيغة جديدة تضم الطرفين معا. # إن المجموعتين الأوليين قد استسهلتا الصعب ففاتهم لب المشكلة؛ لأن المجموعة الأولى ~~إذ تنادي بأن يكون التراث وحده هو المعيار لما نقبله وما نرفضه، لم تفعل في الحقيقة ~~سوى أن غضت النظر عن عصرنا وحضارته، فعادت القهقرى على خط الزمن لتعيش في الماضي؛ ~~وذلك أمر سهل التحقيق، بل ربما حقق لصاحبه السعادة وراحة البال، فماذا يكون أيسر ~~وأبعث على السعادة والسكينة من أن توصد بابك دون الصعاب فلا تأبه لها ولا تحاول ~~حلها؟ واختصارا فإن أفراد المجموعة الأولى إنما يزيدون بعددهم عدد الأسلاف، ولا ~~يضيفون إلى المعاصرين نفسا واحدة. # وأما المجموعة الثانية التي تريد عبور المكان لتصبح محسوبة على الغرب، فهي إنما تحاول ~~الخروج من جلودها إذا كان ذلك ممكن الحدوث، إنهم - بكلمة واحدة - يريدون أن ينقصوا ms007 من ~~تعداد الأمة العربية بضعة ملايين، ليضيفوها إلى تعداد أوروبا وأمريكا، وكفى الله ~~المؤمنين شر القتال. # لا، ليس ثمة من صعوبة في تحقيق ما تريده لنا هاتان المجموعتان لأنهما معا إنما ~~تريدان أن تقطعا العقدة بحد السيف، بدل أن يحلوها؛ فالمجموعة الأولى تلوذ من حاضر ~~الدنيا بركن من أركان التاريخ الذي انقضت عهوده، والمجموعة الثانية تفر من ~~الحاضر العربي إلى جبل من جبال أوروبا أو أمريكا لتعتصم به. # وأما الصعوبة الحقيقية فهي ما تحاوله المجموعة الثالثة التي تحرص على عروبتها حرصها ~~على عصرها؛ فلئن كانت المجموعة الأولى تجعل من نفسها عربا لا يعيشون في عصرهم، وكانت ~~المجموعة الثانية تجعل من نفسها معاصرة غير عربية، فإن المجموعة الثالثة تبتغي العروبة ~~والمعاصرة معا، ثم تسأل كيف السبيل إلى هذا الهدف. # إن هذه المشكلة الحضارية هي كبرى المشكلات التي تتحدى المثقف العربي؛ بل إنها لا ~~تقتصر على المثقف العربي وحده، وإنما تجاوزه لتجمع معه جماعة المثقفين في سائر البلاد ~~ذوات الحضارات القديمة كالهند وباكستان والصين وغيرها؛ إنها ليست مشكلة بالنسبة للأقطار ~~التي لم تكن لها حضارة عريقة فيما مضى، وكذلك ليست هي بالمشكلة بالنسبة إلى أوروبا ~~وأمريكا؛ فالبلاد غير ذوات الحضارة العريقة لا تجد نفسها أمام طرفين لتحاول التوفيق ~~بينهما، وكذلك بلاد الغرب تجد نفسها أمام حضارة واحدة هي حضارتها العصرية هذه؛ وأما نحن ~~وأمثالنا فلنا تاريخ حضاري طويل عريض غزير، فيه اللغة وفيه التشريع وفيه الأدب وفيه ~~الفن وفيه علوم وفيه مواقف وبطولات؛ ومن هذه الحصيلة الغنية ما يتسق مع حضارة عصرنا، ~~ومنها ما لا يتسق، فينشأ لدينا السؤال: ماذا نحن صانعون لدمج الرافدين في تيار حيوي ~~واحد؟ # ليست مهمتي هنا والآن أن أجيب عن هذا السؤال؛ فكل ما يعنيني هو أن أصور أزمة ~~يكابدها اليوم المثقف العربي. # 3 # ومن هذه الأزمة الكبرى، تفرعت أزمات تدور حول محور الصدام بين قديم استقرت ركائزه، ~~وجديد يوحي به العصر وظروفه؛ ومن أهم الأزمات التي تعترضنا في هذا السبيل، أزمة تجتاح ~~جانب الأخلاق؛ على أني أستخدم ms008 كلمة «الأخلاق» هنا بمعناها الواسع، الذي يشير إلى طرائق ~~السلوك في ميادين التعامل البشري بصفة عامة، كما يشير إلى طرائق العيش كما يريدها ~~الناس، والسؤال العريض الذي يطرح نفسه علينا في هذه الميادين السلوكية والحياتية، هو ~~هذا: ماذا يكون الأساس العميق الذي نقيم عليه الأخلاق بمعناها الواسع الذي ~~ذكرناه؟ # فلقد كانت الفكرة المستقرة في هذا الصدد، أن المبادئ التي ينبغي أن تقام عليها طرائق ~~الحياة وأساليب التعامل، ثابتة ثبات الحقائق العلمية الموضوعية، فلا سبيل إلى تبديلها ~~أو تحويرها؛ مهما تعاقبت العصور وتغيرت ظروف العيش؛ فما هو صواب يظل صوابا إلى ~~الأبد، وما هو خطأ يظل خطأ إلى الأبد كذلك، وكان لتلك المبادئ الثابتة، بعد روحي، ~~يقضي بأن يعلو الإنسان بنفسه عن شهوات جسده، فلا يلقي بزمامه إلى غرائزه، بل عليه ~~إلجامها، ليحيا حياة العفة والتضحية والطهر والنقاء. # ثم جاء عصرنا ومعه متغيرات جديدة، أحدثت عند الناس ما أحدثته من حيرة وتردد؛ ومن ~~تلك المتغيرات ما أجراه علماء الأنثروبولوجيا - أعني دراسة أنماط الحياة عند المجموعات ~~البشرية المختلفة - ما أجراه هؤلاء العلماء من بحوث، كشفت عن التنوع الواضح فيما يأخذ ~~به الناس هنا وهناك من مبادئ يسلكون على أساسها؛ فما هو واجب الأداء عند أولئك، ~~محرم عند هؤلاء؛ ومعنى ذلك أن مبادئ السلوك ليست أمورا مطلقة محتومة، بل هي أحكام ~~نسبية تمليها الظروف؛ ولو كانت مبادئ السلوك ثابتة يحتمها منطق العقل في كل مكان ~~وزمان، لاتفقت عليها شعوب الأرض جميعا، لكن تلك الشعوب تتفرق في ذلك تفرقها في ~~الأهداف والمنافع. # لقد انتقل محور السلوك في عصرنا من العقل إلى اللاعقل؛ أعني أنه انتقل من سلطان ~~المنطق الصارم إلى ليونة المشاعر وروغانها، وحتى حين يخفي الإنسان عن نفسه حقيقة ~~نفسه بطلاء ظاهري من وقار العقلانية الخلقية التي كانت، ترى التحليلات العلمية ~~تلاحقه بإزاحة القناع الزائف عن سحنته لينكشف الخبئ؛ فأكثر القديسين ورعا وتقوى - كما ~~يقول نيتشه - يخفي وراء زهده حافزا للسيطرة، وأرفع آيات الفن والأدب - كما يقول فرويد ~~- يكمن الجنس خلف أستارها، وأعلى ms009 القيم الإنسانية - كما يقول ماركس - تخبئ في طيها ~~مصالح أرباب المنافع. # هذا هو العصر وما قد بات يضطرب بين جنباته من أفكار تزعزع ما كنا قبلناه قبولنا ~~للمسلمات الثابتة؛ فماذا يصنع المثقف العربي إزاء هاتين النظرتين؟ كيف يوفق بينهما ~~ليستحدث الصيغة التي يريدها، والتي تجمع بين موروثنا ونتاج العصر الحاضر؟ أنقول له: ~~تنكر للجديد لأنه ليس منا، وتشبث بالقديم الثابت لأنه تراثنا؟ إنه لو فعل ذلك ~~بمثل هذه البساطة، لأغمض عينيه عن جموع شبابنا التي لم تنتظر ما يقرره لها المترددون، ~~بل أخذت تتخبط بين مبادئ تلقن لهم تلقينا فيحفظون لفظها عن ظهر قلب، وسلوك فعلي ~~يسلكه الشباب في حياته كما يحياها على نقيض تلك المبادئ؛ وهكذا وقع في ازدواجية مخيفة ~~وضعته بين المطرقة وسندانها؛ ومن هنا كان جانب كبير من فساد النفاق القبيح الذي يملأ ~~حياتنا بظواهر الخوف والجبن؛ فاللسان في حياتنا يحكي شيئا، والأبدان تسلك شيئا ~~آخر. # فهل يغمض المثقف المسئول عينيه عن ذلك كله، مكتفيا بوعظ يلقيه فيجنبه الأذى؟ ~~لا، ليست المسألة بهذا اليسر كله؛ فالسؤال العميق الذي تنطوي عليه النقلة التي قفز ~~بها عصرنا في مجال السلوك من فلك إلى فلك، هو هذا: عن أي طريق تحقق الشخصية ~~الإنسانية ذاتها في ظروف عصرنا؟ أتحققها عن طريق الزهد أم تحققها عن طريق المتعة؟ ~~أتكون أخلاقية التحريم أجدى عليه، أم أخلاقية الإباحة؟ # وعلى المثقف العربي أن يجيب بما يقنع الشباب العصري، لكنه لا يعرف كيف يجيب وهو ~~مطمئن إلى الصواب؛ ومن ثم كان جانب من جوانب أزمته. # 4 # وننتقل من مجال السلوك ومبادئه، إلى مجال العلوم ومنهاجها؛ فالنظرة العلمية هي ~~بلا جدال أبرز طابع يميز هذا العصر الذي يقلنا على أرضه ويظلنا بسمائه، ومكمن ~~الأزمة التي تكتنف المثقف العربي في صدد العلم، هو أن العلم الطبيعي قوامه واقع ~~مادي من جهة، وإدراك له بالحواس من جهة أخرى؛ فليس من العلم ما لا يرتد آخر الأمر ~~إلى عالم التجربة عند التطبيق؛ ولما كانت جذورنا الثقافية العميقة نابتة من وراء ~~الواقع ms010 المادي، والإدراك عندها لا يكون بالحواس وإنما يكون بالإلهام؛ فلقد نشأت في ~~نفوسنا كراهية لما هو مادي يندرج في نطاق الحواس؛ وكان حتما علينا أن يجيء إيماننا ~~بالعلم الطبيعي - الذي هو أبرز سمات العصر - إيمانا تساوره شكوك. # على أن هذا الإيمان المنقوص بالعلم الطبيعي، لم يمنعنا من العيش في نعيم نتائجه، ~~فننعم في حياتنا اليومية بالطيارة والسيارة والثلاجة ومكيف الهواء، كما ننعم بكشوفه ~~الجبارة في ميادين الطب واستنبات القفر واستخراج ما في باطن الأرض من كنوز. # ومن هنا انشطرت حياتنا بازدواجية أخرى؛ فمن الوجهة النظرية نتشكك في العلوم ~~وقدراتها، ومن الوجهة العملية نقبل بكل نفس راضية، على ما تنتجه تلك العلوم من ~~ثمرات، وبين الوجهة النظرية والوجهة العملية يقع المثقف العربي في أزمته، إنه إذا جعل ~~الأولوية الأولى لأحكام العلم أغضب الجمهور، لكنه كذلك إذا ساير الجمهور في مشاعره، ~~تنكر للعصر في أبرز سماته. # وربما أثار هذا الذي أقوله شيئا من العجب والتساؤل: كيف تقول إننا نتنكر للعلم ~~الطبيعي بحكم ثقافتنا الضاربة بجذورها في أعماقنا، وأمامك عشرات من الجامعات العربية ~~وما تحتوي عليه من كليات للعلوم؟ وما على المتعجب المتسائل إلا أن يتعقب دارسي ~~العلوم هؤلاء في حياتهم الخاصة، إذن لأذهلته الازدواجية الرهيبة التي أشرت إليها منذ ~~حين؛ فدارس العلوم في جامعاتنا قد يبلغ أقصى المدى في علميته وهو في المعمل، حتى إذا ما ~~عاد إلى داره، وسامر خلانه في ساعات الفراغ، خرج المخبوء من بين جوانحه، وأخذ يتحدث ~~أحاديث الخرافة كما يتحدثها سائر الناس. # ليست المسألة هنا مسألة طائفة من القوانين العلمية يحفظها طلاب العلوم، بل هي قبل ذلك ~~وبعد ذلك منهاج للنظر، إذا ما اصطنعناه بحق، ألفيناه يجاوز حدود الكتب والمخابير، ~~ليصبح طريقة للنظر في شئون الحياة العملية كلها، من سياسة إلى اقتصاد إلى عمران ~~والتزام بقواعد الصحة وغيرها من جوانب العيش؛ فإلى أي حد نقيم هذه الأشياء كلها على ~~نهج علمي قويم؟ يقيني أننا في هذا الطريق ما نزال نحبو خطواته الأولى؛ والمثقف العربي ~~إزاء هذا كله ms011 ، متأزم لا يدري أيساير الموجة العامة في لا علميتها ليقال عنه إنه لم ~~يغترب عن ثقافة أمته، أم يصد الموجة ليدخل شيئا من علمية النظر في رءوس الناس ~~لترضى عنه روح عصره؟ # ولهذه الازدواجية في حياتنا الثقافية بين العلم واللاعلم، نتيجة تثير الغيظ عند ~~المثقف الذي يحس خطورة رسالته؛ وهي أن كثيرين من رجال الثقافة منا، يستخدمون للأفكار ~~طريقة بروقرسطيس في الأسطورة اليونانية القديمة، التي يقال فيها إن بروقرسطيس قد أقام ~~على طريق المسافرين نزلا يستريحون فيه، لكنه جعل الأسرة كلها ذات طول معين، فإذا ~~كان النازل عنده أقصر من السرير وضعه في آلة أعدها لتمط الجسد حتى يطابق طول ~~السرير؛ وإذا كان النازل عنده أطول من السرير، جذ ساقيه ليقصر إلى الحد المطلوب، فلا ~~ينجو من شره إلا مسافر شاءت له المصادفة المواتية أن يكون في طوله مطابقا للطول ~~المطلوب. # وهكذا يفعل مثقفونا حين ينقلون لنا أفكارا من ثقافة العصر؛ فهذه الأفكار وهي على ~~حقيقتها عند أصحابها، قد تكون في أعين جمهورنا أقصر مما ينبغي لها أو أطول، فعندئذ ترى ~~المثقفين منا - إخلاصا منهم لأهواء الجمهور - يمطون تلك الأفكار أو يجذونها، حتى ~~تطابق الصورة المقبولة، حدث هذا في مجال الفكر الفلسفي وفي مجال الفكر السياسي على حد ~~سواء؛ وليس هذا التشويه الفكري الذي نقترفه، هو من قبيل التوفيق الذي عرف به أسلافنا ~~الأمجاد، حين نقلت إليهم فلسفة اليونان وعلومهم، وأخذوا يلتمسون نقاط التلاقي بين ~~الثقافة الوافدة وبين تعاليم الإسلام؛ فعملية التوفيق بين الطرفين عند أسلافنا تطلبت ~~منهم جهدا فكريا مخلصا دام لنا مع الزمن، أما التشويه الذي نصيب به ثقافة عصرنا عند ~~نقلها، فبهلوانية يأباها الضمير وترفضها معايير الفكر الناضج السليم. # ومن أنواع التشويه، بل من أشدها شيوعا بيننا، أن يتصدى رجال الثقافة منا، لما ~~يزعمون أنه رد على ثقافة الغرب، دون أن يكونوا قد ألموا إلماما صحيحا بما يردون ~~عليه، فسرعان ما تنتشر بيننا أفكار مبتسرة، لا هي غربية ولا هي شرقية. # 5 # فإذا خلا موقف المثقف من أمثال ms012 هذه العيوب، التي هي عيوب خلقية في المقام الأول، كانت ~~هنالك أفكار كثيرة من ثمار العصر، يتمنى المثقف لو أذاعها في الناس، لكنه يصطدم ~~بعوامل تسد عليه الطريق؛ فالفكر عندنا تابع للسياسة، وكان العكس هو الأجدر، وقد يكون ~~لنا عذرنا في هذا الترتيب، لكوننا نجتاز مرحلة انتقال تتطلب شيئا كثيرا من الحكمة ~~العملية ووحدة النظر، لكن ذلك لا ينفي أن يثقل العبء على ضمير المثقف، الذي يضع سلامة ~~الفكرة قبل نوازع السياسة. # وكان من نتائج ذلك، أن ترك صفوة المثقفين مشكلات الحياة الحقيقية التي كانت بحاجة ~~إلى جهودهم، وانصرفوا إلى أشياء لا يتقدم بها المجتمع ولا يتأخر، ولك أن تقارن هذا ~~الموقف الذي ينسلخ فيه المثقفون عن تيار الحياة الواقعة، لا أقول أن تقارنه بالصلة ~~الوثيقة بين الفكر والحياة الفعلية في بلاد غير بلادنا، بل أن تقارنه بما كان يحدث عند ~~أسلافنا العرب وهم في عز مجدهم، لترى كيف كان الفكر وجها آخر لتيار الحوادث، حتى ~~لتستطيع أن تستدل تاريخهم من أفكارهم، وأن تستدل أفكارهم من تاريخهم؛ لأن الفكر وتيار ~~الحياة عندهم كانا وجهين لشيء واحد؛ فحتى علماء اللغة وهم يبحثون في اللغة أصولا ~~وفروعا، ونقاد الشعر وهم يجمعون الشواهد، أقول حتى هؤلاء لم يكونوا يفعلون ما يفعلونه ~~وهم معلقون في الهواء، بل كانوا يفعلونه لصلة وثيقة بينه وبين ما اعترضهم من ~~مشكلات توجب فهم القرآن على وجهه الصحيح، أو توجب المفاضلة الأدبية بين جماعة ~~وجماعة؛ إنه لما اختلفت مدرسة البصرة مع مدرسة الكوفة في نحو اللغة، الأولى تريد أن ~~تقعد القواعد العقلية، والثانية تريد الاحتكام إلى السوابق لا إلى قوانين العقل في ~~التفرقة بين الصواب والخطأ، كان هذا الاختلاف بينهما انعكاسا لموقف في الحياة العقلية ~~نفسها، ولم يكن اختلافا منبت الروابط بأرض الواقع. # فأين حياتنا نحن الفكرية التي اغتربت عن واقعنا في حالات كثيرة وخطيرة، أقول أين هذه ~~الحياة المغتربة من حياة الذين صحت منهم العزائم، ووضحت الأهداف، وإزاء هذا كله ~~يتأزم ضمير المثقف بمعناه الصحيح. # اغتربت صفوة المثقفين ms013 عن مشكلات حياتنا، فلم تجد الغوغائية ما يردها ويلجمها؛ ~~وذلك أنه من أميز ما يميز المثقف الأصيل رغبته في تحليل الفوارق بين المعاني التي قد ~~تتقارب إلى حد التشابه الشديد؛ على حين أن الفكر الغوغائي أميل إلى دمج المعاني ~~المختلفة كلها في لفظة واحدة، يظنها واضحة وهي من الغموض في ظلام أسود من حندس ~~الليل؛ إذا قال المثقف معاني من أمثال: حرية، ديمقراطية، عدالة، مساواة، إلى آخر هذه ~~الأسرة الكبيرة من المعاني الشائعة في عصرنا، لم يفته الاختلافات الكثيرة التي قد ~~تقع في استعمال الناس لهذه الألفاظ، ثم يعمد إلى تحديد ما يريده من كل لفظة منها إذا ~~استعملها، لكن تحليلاته وتحديداته غالبا ما تقع عند الجمهور على آذان صماء. # ومثل هذا التحليل الضروري للفكر الصحيح، يتطلب حدا أدنى من علمية النظر، وهو ما ~~لا يتوافر عادة لعامة الناس؛ بل إنك لو أردت لفت أنظار عامة الناس إلى ما تنطوي عليه ~~تلك المعاني من تركيب شديد التعقيد، ومن أبعاد قد لا يعلم مداها إلا المتخصصون، حسبوك ~~من رواسب بيزنطة القديمة، تعيش في تصورات شكلية، مقطوعة الصلة بمجرى الأحداث. # وتجيء وسائل الإعلام، فيرى المسئولون عنها، أنهم مضطرون إلى مخاطبة الجمهور على قدر ~~طاقته، فتلجأ تلك الوسائل إلى التبسيط الذي يطمس الفوارق بين المختلفات، فلا يلبث ~~المثقف إزاء هذا كله أن يجد نفسه في عزلة وحده، يتحدث بما لا يفهم إلا للقلة التي ~~تتابع تحليلاته في دقتها، فهل من عجب أن تضيق نفس المثقف بمقدار ما تنسد أمامه ~~الطريق إلى قلوب الناس وعقولهم؟ # 6 # ولست أريد أن ألقي كل أسباب الأزمة الثقافية عندنا على عامة الجمهور وحدها؛ بل إن ~~بعض هذه الأسباب موصول بالمثقفين أنفسهم؛ فقد يحدث ألا تسعفهم ظروف العيش في متابعة ~~الفكر الجديد، الذي ما ينفك متفجرا في أرجاء العالم المتقدم؛ ففي كل يوم قضية تطرح، ~~وفي كل يوم محاولات تبذل، حتى ليوشك فكر العام الماضي أن ينسخه فكر هذا العام لسرعة ~~الجريان. # إنه ليذهلك أن تعلم كم تغيرت الأسس التي ms014 تقام عليها العلوم المختلفة، من منطق ~~ورياضة، إلى فيزياء وبيولوجيا ونفس واجتماع واقتصاد، مما يحتم تغييرا عميقا في وجهات ~~النظر، فهل تغيرنا نحن في وجهات أنظارنا بما يتناسب مع ذلك التغير العميق؟ # لقد تحولت المادة في الفيزياء الجديدة إلى طاقة؛ فلم يعد للمادة معناها القديم، حتى ~~لقد أوشكت على الزوال تلك الفواصل التي كانت تفصل ما بين المادة واللامادة في الكائنات، ~~لكننا ما نزال على وقفتنا القديمة في التفرقة بين الصنوين؛ وتغيرت أسس الرياضة، بحيث ~~أصبح في حكم المستطاع أن تقام عدة بناءات رياضية، دون أن ينقض أحدها صدق الآخر، فلم ~~تعد هندسة إقليدس وحدها - مثلا - هي الهندسة التي تقرر رياضيات المكان، بل إننا ~~كلما غيرنا من الفروض الأولى تغيرت النظريات تبعا لذلك، فنشأت بين أيدينا هندسات ~~لا إقليدية كل منها صواب من الوجهة الرياضية البحت، وكان لهذا الانقلاب في مجال ~~الرياضة أثر بعيد المدى في منهج التفكير؛ إذ اتسعت أمام العقل البشري فرص التصورات ~~الجديدة، وإقامة المنظومات الفكرية العديدة، بعد أن كان حبيس نظام واحد، فهل أصابنا شيء ~~من ذلك الأثر في اتساع مجالنا الفكري؟ بل تغير المنطق نفسه؛ فبعد أن جرى المفكرون، ~~خلال القرون الطويلة، على منطق يعالج معاني كيفية مبهمة المعالم والحدود، أصبح ~~المنطق اليوم رياضيا يفتت الفكرة الواحدة تفتيتا لا يدع لها مجالا للخلط والغموض، ~~علوم كلها تغيرت من الأساس، فتغيرت بالتالي طريقة التفكير، تغيرا لم تصب منه إلا ~~أقل من القليل؛ ويقف المثقف منا أمام هذه الحركة البطيئة، عاجزا أو كالعاجز. # فالأمية ما تزال ثابتة الجذور في أرضنا، تقف حائلا دون سرعة التطور مع تطور العالم ~~السريع، وهي عندنا على درجات، بادئة من أمية القراءة والكتابة على مستوى الألف باء ~~وصاعدة إلى أمية بين المتعلمين لا تتيح لهم أن يتابعوا الفكر الجديد، فماذا في وسع ~~المثقف الجاد أن يصنع؟ هل يكتب لغير قارئ؟ # وكأن عقبة الأمية هذه لم تكفنا، فأضفنا إليها ما يزيدها عسرا، بأن أقمنا في عملية ~~النشر ما يعوقها، حتى ليتعذر أحيانا على ms015 الكتاب أو المجلة أو الصحيفة أن تنتقل بين ~~أجزاء الوطن العربي انتقالا ميسرا؛ فبعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر من أسلافنا - ~~برغم صعوبة المواصلات - تجعل أحدهم إذا ما أذاع فكرة في موطنه، لا يلبث أن يسمع ~~أصداءها عائدة إليه من سائر أقطار الأمة العربية، في مشرقها وفي مغربها، وبغير هذا ~~التبادل الفكري، بالرد والنقد والتعليق، كيف يمكن أن تجتمع الروافد المتفرقة في تيار ~~واحد؟ أقول إنه بعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر قائمة وقوية، أصبحنا نحن اليوم - في ~~عصر الصواريخ والأقمار الصناعية - على صورة من التفكك والتباعد بحيث يوشك أحدنا ألا ~~يسمع شيئا عن أخيه في قطر عربي آخر. # لقد زارني في القاهرة طالب عربي يعد نفسه للدراسة العليا، زارني لعله واجد عندي ~~ما يعينه على حسن اختيار الموضوع الذي يدير عليه البحث لنيل إجازة الماجستير، فقلت له ~~في معرض الحديث: إن فلانا في بلدكم قد قام بجهود فكرية جبارة، كان من حسن حظي أن ألممت ~~ببعضها، وتمنيت لها أن تجد الباحث الناقد المدقق، الذي يعرضها عرضا نزيها يقومها ~~بالقسطاس العلمي المستقيم، فلماذا لا تجعل نتاج هذا الرجل موضوع بحثك، فتخدم الفكر ~~العربي؛ لأن الرجل يكاد يكون مجهولا لنا برغم غزارة الفكر الذي قدمه؛ فما كان أشد ~~ذهولي حين أجابني الطالب بقوله إنه لا يستطيع ذلك، وإلا عرض نفسه للأذى في وطنه إذا ~~عاد! وليس من شأني الآن أن أسأل لماذا؟ ولا أن أتعرض لاحتمال ألا يكون الطالب قد صدق ~~القول فيما قال، لا، ليس هذا من شأني؛ لأنه يكفي أن يكون المناخ الفكري الذي نعيش في ~~أجوائه هو مما يتيح للقائل أن يقول كلاما كهذا. إن هذا الموقف الواحد مشحون بالدلالات ~~على أن المثقف الأصيل في بلادنا محبط إلى الدرجة التي يمكن أن تقوض لنا كل أمل في ~~النجاة. # فحتى لو قام بيننا المثقف الذي يؤمن بفكره إلى الحد الذي يحطم به عوائق النشر، ~~ليخرج كتابه في الأسواق التي يعد زبائنها بالمئات لا بالألوف فضلا عن الملايين ms016 ، ~~وجدنا ضروبا أخرى من المخاوف تعكر جو السماء بغمامها. فيختفي شعاع الضوء الذي رجونا ~~له الظهور؛ وسرعان بعدئذ ما يعلم رأس الذئب الذي أطاح به الليث لما اجترأ الذئب ~~على عرينه، أقول إن ذلك سرعان ما يعلم ثعالب كثيرة ألا تفقد صوابها فتدنو بجرأتها ~~نحو دنيا الكتابة والكتب. # لقد كنا نقول إنه مما يثبط همة المثقفين في بلادنا، أن نتاجهم الجيد أحيانا، لا يجد ~~سبيله إلى ترجمة تنقله إلى اللغات الأخرى، مما يترك هؤلاء المثقفين في عزلة يحدث ~~بعضهم بعضا، وسائر العالم لا يسمع من حديثهم حرفا؛ كنا نقول ذلك، وكان الأوجب علينا ~~أن نطمئن أولا إلى أن المؤلف العربي مقروء في موطنه، ودع عنك أن يكون مقروءا في بقية ~~أجزاء الوطن العربي، حتى إذا ما تحقق له ذلك، فربما سهلت أمامه الطريق إلى دنيا اللغات ~~الأخرى. # 7 # فهل نعلق الأمل في جامعاتنا لتخرج لنا شبابا مؤمنا بالثقافة الرفيعة، وله ~~العزيمة الماضية أن يغير ما هو قائم؟ كان هذا الأمل ليكون أقرب إلى التحقيق لولا أن ~~المرحلة التي تجتازها الأمة العربية، قد بلغ فيها الظمأ إلى المعرفة حدا جعل شبابنا ~~يقصد إلى الجامعات بعشرات الألوف، ولم نكن قد أعددنا أنفسنا بالعدد الكافي من الأساتذة، ~~ولا بالمكتبات والمعامل التي تسد الحاجة أمام هذه الحشود الضخمة من طلاب العلم؛ ~~فكانت النتيجة أن أفلت من طلابنا سر التعليم الجامعي وصميمه، وما سره وصميمه إلا أن ~~يختلف عن مراحل التعليم السابقة عليه، في الفاعلية المبدعة الخلاقة، التي تمهد الطريق ~~أمام الدارس نحو أن يضيف إلى العلم علما جديدا؛ أما إذا تحولت الجامعات على أيدينا ~~فأصبحت مدارس للحفظ، فمصيرنا هو المصير نفسه؛ أعني أن نخرج شبابا منحصرا في محيط ~~ما قد حفظ، ثم لا جديد، ونظل قعودا فاغري الأفواه ننتظر الصدقة الفكرية من سوانا، ~~وكأننا لسنا جزءا من العالم الذي نعيش فيه. # إنه طالما بقيت لنا البنية الفكرية التي ألفناها حتى عميت أبصارنا عن مواضع النقص ~~فيها؛ فلا رجاء في تغير فعال؛ فهي بنية فكرية قوامها ms017 أصول محفوظة، بحيث لا ~~يجوز لرجل الفكر أن يجاوزها مطلا برأسه إلى ما فوقها، بل ينبغي له أن يبقى تحت سقفها، ~~وله بعد ذلك أن يتحرك في ظلها كيف شاء. # وهكذا كانت بنية الفكر في أوروبا قبل نهضتها، ولم تكن كلمة السر في النهضة الأوروبية ~~سوى أن تنقلب تلك البنية رأسا على عقب، بمعنى أن تكون الحقائق المسلم بها هي آخر ~~المطاف لا أوله، وأما أول المطاف فسماء مفتوحة نصعد فيها برءوسنا ما أسعفتنا قوانا، ~~نجمع المشاهدات ونقيم عليها التجارب ثم نستخرج المعرفة الصحيحة آخر الأمر، فإذا جاءنا ~~بعد ذلك من يطلعنا على حقائق جديدة، لم نغلق دونه آذاننا، بل - على العكس من ذلك - ~~نراجع ما قد عرفناه لنصححه على ضوء الجديد المستحدث، كلمة السر في التغير العميق - ~~إذا أردناه - هي أن نعكس الصيغة؛ فبعد أن كانت «إني أومن أولا ثم أفهم» تصبح «إني ~~أفهم أولا ثم أومن.» # ولو اعتدل لنا الأمر على هذا النحو المستقيم، لزالت عن المثقف العربي أزمته - لأنه ~~كلما أراد أن يفهم الناس فكرا جديدا، تقبله الناس بالآذان المصغية والعقول ~~الواعية، والقلوب التي تؤمن بعد ذلك بما تؤمن به عن فهم صحيح. # | من معالم الفكر الحديث # 1 # إنه على الرغم من اختلاف الفكر في تياراته وظواهره خلال العصر الواحد، إلا أن تلك ~~التيارات وهذه الظواهر لا بد لها - بداهة - أن تكون مترابطة على نحو ما، وإلا بطل ~~أن يكون العصر واحدا؛ فذلك شأنه شأن الكائن من الكائنات - أيا ما كان نوعه: بحرا، ~~أو جبلا، أو كائنا حيا - فإنه برغم تعدد أجزائه وعناصره، لا بد أن يكون فيه من ~~الرباط ما يبرر لنا أن نضم تلك الأجزاء والعناصر تحت اسم واحد نطلقه على الكائن ~~الواحد. ~~«والفكر الحديث» الذي نريد أن نتعقب معالمه الرئيسية، لا يشذ عن هذه القاعدة؛ فما ~~دمنا قد افترضنا مسبقا أنه موحد وذو معالم تميزه من الفكر في عصور أخرى سلفت، ~~فلا بد أن يكون كامنا في أذهاننا نوع من الرباط الذي يجمع أشتاته؛ فهو ms018 - بالضرورة - ~~أشتات تدور حول عدة محاور، والأمر بعد ذلك متوقف - إذا ما أردنا الحديث عنه - على ~~الزاوية التي ننظر منها؛ فقد ننظر إلى جانب الفكر العلمي من هذا العصر، وقد ننظر إلى ~~جانب الفكر الفلسفي منه، أو إلى جانب الفكر السياسي، أو إلى جوانب الفن والأدب، وإني ~~لأوثر في هذه الكلمة ألا أقتصر على جانب من الفكر في عصرنا دون جانب، بل أن أحاول ~~تقديم صورة مركزة شاملة، تضم الجوانب الرئيسية المختلفة، مع بيان الرباط النظري الذي ~~يربطها معا فيوحدها تحت اسم واحد، هو «الفكر الحديث». # 2 # ونظرة إلى هذا الفكر الحديث من جانبه العلمي، تدلنا للوهلة الأولى على أننا إنما نعيش ~~في عصر تغير فيه المنهج العلمي ذاته من الأساس؛ فالمنهج الذي استخدمته العلوم، لم ~~يكن خلال العصور الطويلة على صورة واحدة، بل كانت له صورة القياس الأرسطي - وأعني ~~الصورة التي يبدأ فيها الباحث من مقدمات مفروض فيها الصدق، ثم يستولد نتائجه من تلك ~~المقدمات - أقول كانت للمنهج العلمي هذه الصورة القياسية في المرحلتين القديمة والوسيطة ~~من مراحل التاريخ، ولنتذكر هنا بأن المرحلة الوسيطة التي امتدت من القرن الخامس ~~الميلادي إلى القرن الخامس عشر، كانت هي المرحلة التي شهدت أهم فترة من تاريخ الحضارة ~~الإسلامية. # فلما انتقلت أوروبا من عصورها الوسطى إلى عصورها الحديثة في القرن السادس عشر، كان ~~محور انتقالها ذلك هو أن بدلت منهجا علميا بمنهج؛ فأصبحت العلوم الطبيعية تبنى ~~أساسا - لا على مقدمات مفروض فيها الصدق - بل على مقدمات يقينية الصدق، قوامها ~~معطيات الحس المباشر، عن طريق المشاهدات المحققة والتجارب التي تقام عليها، على أنه ~~ندر عندئذ أن يستخدم الباحث العلمي من أجهزة البحث إلا صورا ساذجة نستطيع أن نغض ~~النظر عن ذكرها. # ولبث المنهج العلمي على هذه الصورة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وجزء من ~~التاسع عشر؛ حتى إذا ما انتصف هذا القرن - أي التاسع عشر - حدثت ثورة جذرية في طريقة ~~البحث العلمي؛ إذ أصبحت الأجهزة هي الأساس المعول عليه، ثم أخذت هذه الأجهزة تزداد ms019 في ~~الدقة وفي التنوع ازديادا سريعا، إلى أن باتت هي السمة البارزة في العصر كله إلى ~~يومنا هذا، وهو ما نطلق عليه اسم «التكنولوجيا»، ولنلحظ جيدا ما طرأ على هذه الكلمة ~~من خلط في الاستعمال؛ فبينما هي تعني «طريقة» البحث العلمي بوساطة الأجهزة، رأيناها وقد ~~تحولت ليستخدمها الناس اسما على ما تنتجه البحوث العلمية من آلات. # والانتقال في منهج العلوم من مشاهدات العين العارية إلى الأجهزة، قد أحدث في محيط ~~العلم وفي دنيا الحياة العملية آثارا بعيدة الآماد إلى حد يكاد يسبق خيال الإنسان، ~~ويكفي هنا أن نذكر نقطة واحدة، وهي أن عصرنا بأجهزته العلمية هذه، قد استطاع أن يلم ~~بالكون من طرفيه: طرفه البالغ في الصغر (وأعني الذرة والخلية) وطرفه البالغ في ~~الكبر (وأعني أفلاك السماء)؛ وأما قبل عصرنا فلا الذرة والخلية عرفتا بمثل ما ~~نعرفه اليوم عنهما، ولا جرؤ خيال الإنسان أن يطمع في الوصول إلى القمر وغير القمر من ~~كواكب المجموعة الشمسية. # 3 # وإذا تركنا المنهج لننظر في علوم العصر من حيث مضمونها، مكتفين في ذلك بالرءوس ~~الكبرى، أمكن القول بصفة تقريبية عامة إن تلك الرءوس أربعة، هي: دارون بنظريته عن ~~التطور، وكارل ماركس برؤيته لتطور التاريخ، وفرويد بنظريته عن اللاشعور، وأينشتاين ~~بنظريته عن النسبية، ونحن إذ نحصر المعالم الكبرى في هؤلاء الأربعة، فلسنا نزعم بذلك أن ~~كلا من هؤلاء قد جاء بالحق الذي لا يعرف الباطل؛ لأننا نعلم أن النظريات الأربع ~~جميعا هي موضع للتغيير والتعديل والتصحيح، لكن ذلك نفسه لا ينفي أنها ما زالت هي ~~المحاور الرئيسية التي يدور حولها كثير جدا من نشاط الفكر الحديث، وعلى الرغم من أن ~~هذه النظريات الأربع مختلفة في ميادينها؛ فنظرية دارون مختصة أساسا بعلم البيولوجيا، ~~ونظرية ماركس معنية بالاقتصاد والاجتماع، ونظرية فرويد مجالها عالم النفس الإنسانية، ~~ونظرية أينشتاين موضوعها علم الطبيعة، إلا أن النظرة الممعنة الفاحصة، تستطيع أن تنفذ ~~خلالها جميعا إلى أساس مشترك، يربطها بعضها ببعض في مركب ثقافي واحد، بحيث يجوز ~~القول عنه بأنه هو المركب الثقافي ms020 الذي يمثل عصرنا الحاضر، وهذا الأساس المشترك هو ~~تذويب الفواصل الحادة التي كانت تفصل الأنواع الطبيعية للكائنات بالنسبة لنظرية دارون ~~وتفصل العقل عن اللاعقل، أو تفصل الإنسان عن الحيوان في دوافع السلوك، بالنسبة لنظرية ~~فرويد، وتفصل بين طبقات المجتمع الواحد، بالنسبة لنظرية ماركس؛ ثم بعد أن كانت البشرية ~~تنظر إلى الحقائق العلمية كأنما هي مطلقة اليقين بغير قيد، جاءت نسبية أينشتاين لتجعلها ~~حقائق تتفاوت في درجات احتمالها، فباتت أقل صلابة وقطعية مما كانت عليه. # أما نظرية التطور فقد جاءت لتقيم فلسفة قائمة على الدينامية والصيرورة، بعد أن كان ~~الإنسان يتصور الكون على صورة سكونية ثابتة على حالة واحدة منذ الأزل؛ فليس المهم ~~هنا أن يكون دارون قد أصاب أو أخطأ في تفصيلات نظريته، بل المهم هو أن تغيرت نظرة ~~الإنسان إلى حقيقة العالم، نعم إن دارون قد أراد بنظريته الميدان البيولوجي وحده، ~~ليقول فيه إن الكائنات الطبيعية الحية كلها، حلقات من سلسلة واحدة، لكن الباحثين بعد ~~ذلك لم يلبثوا أن وسعوا من نطاق الفكرة لتشمل شتى جوانب الثقافة الإنسانية كلها، ~~فنظم الحياة جميعا خاضعة للقواعد نفسها التي تخضع لها الكائنات الحية، وأهمها هو ~~أنها إما أن تتكيف للبيئة وإما أن تموت، وأن البقاء بين النظم المتنافسة هو للأصلح من ~~حيث التكيف للظروف؛ وكان من أبرز ما تغيرت به ثقافة عصرنا، نتيجة لمبدأ التطور، هو ~~الإيمان بضرورة التغير والتحول وعدم الثبات الجامد؛ فكلما تغيرت الظروف من حولنا ~~وجب أن نغير من أنفسنا لنلائم الوضع الجديد، ولا غرابة أن وجدنا عددا كبيرا من ~~فلاسفة القرن العشرين، قد أداروا فكرهم الفلسفي حول محور التطور هذا، بمعان مختلفة ~~عندهم، وعلى أشكال مختلفة أيضا، وحسبنا أن نذكر منهم رجلين: برجسون وهوايتهد، فضلا ~~عن الفلسفة البراجماتية - أو العملية - التي ركزت على أهمية الفعل بالنسبة إلى مجرد ~~التأمل النظري؛ فالحقيقة إنما تكمن في فعل نغير به الدنيا وفق أهدافنا، وليست ~~الحقيقة - كما كانوا يتصورون قبل ذلك - أمرا يستنبطه الإنسان داخل رأسه وهو قابع في ~~مكانه لا يغير ms021 من أوجه العالم شيئا. # أصبحت الحقائق مرهونة بطرائق تطبيقها، فإذا زعم لنا اليوم زاعم بأن لديه فكرة أو ~~أفكارا ليست مما يصلح للتطبيق العملي، فاعلم أن ما لديه لا ينتمي إلى دنيا الفكر كما ~~أصبح العالم يتصوره، ونحن إذ نقول إن الفعل والتطبيق والتنفيذ وتغيير العالم من ~~حولنا، له الأولوية على التأمل السكوني، فكأننا قلنا - بعبارة أخرى - إن الإرادة قد ~~أصبح لها الأولوية على التفكير الذهني الذي لا يحرك شيئا من مكانه، بل إن عملية ~~«التفكير» نفسها - كما قلنا - قد أخذت هذا المعنى الجديد، وهو أن التفكير ليس إلا ~~مجموعة الإجراءات العملية التي نحقق بها شيئا في دنيا الواقع، فإذا لم تكن ثمة ~~إجراءات من هذا القبيل، لم يكن ثمة تفكير بالمعنى الذي يريده عصرنا بثقافته التي ~~شكلتها من بعض وجوهها نظرية التطور. # ذلك عن نظرية دارون وما ترتب عليها في ثقافة عصرنا، وأما نظرية ماركس الاقتصادية ~~الاجتماعية التي نظرت إلى التاريخ وكأنه حركة جدلية يقع فيها الصراع بين ضدين حتى ~~يتولد منهما وضع جديد، لا يلبث بدوره أن يصارع ضده حتى يتولد وضع جديد آخر، وهلم ~~جرا؛ فهي نظرية - بغض النظر عن كل ما ~~فيها من خطأ وصواب؛ لأن ذلك ليس موضوعنا الآن - هي نظرية مشتقة في أساسها الجدلي هذا من ~~فلسفة هيجل، وكان لها الأثر في لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن التغير إذا ~~أردناه، كان علينا أن نستثير دوافعه من الداخل، لا أن نفرضه من الخارج؛ والأمر في ذلك ~~شبيه بما يحدث للكائن الحي كالشجرة مثلا، فهي تعتمل من داخلها لتنمو، وليست تنمو بأن ~~يضاف إليها فروع وورق من خارجها، فإذا أردنا أن نغير المجتمع على صورة معينة، وجب أن ~~نغير من بنيته؛ أي أن نغير الإطار الذي أقيم عليه، ولا جدوى في أن يظل الإطار كما ~~هو، ثم نطمع في التغير بمجموعة من القوانين تصدرها الحكومات. # ومثل هذا التصور الجدلي للتغير قد بات - مع نظرية التطور - جزءا أساسيا في ~~ثقافة عصرنا، وننتقل إلى نظرية اللاشعور ms022 التي أخذ بها فرويد؛ فقد كان لها هي الأخرى أثر ~~بالغ في توجيه نشاطنا الفكري في هذا العصر، لدرجة أنها لم تعد مقصورة على المختصين ~~من العلماء، بل تسربت مفاهيمها إلى رجل الشارع، فأصبح مألوفا أن نسمع الناس في ~~أحاديثهم العابرة يقول بعضهم لبعض أشياء عن مركبات النقص وعن الكبت وما شابه ذلك. ولقد ~~أدت هذه النظرية - بغض النظر مرة أخرى عن كل ما فيها من صواب أو خطأ - إلى تحطيم ~~الحواجز الحادة التي كنا نميز بها العقل المنطقي عند الإنسان من سائر مكونات فطرته ~~التي جبل عليها من غرائز وانفعال وغير ذلك؛ وأصبحنا نرى سلوك الإنسان لا يصدر بهداية ~~عقله، بقدر ما يصدر انبثاقا من مكونات دفينة ربما ارتدت إلى بذور بذرت فيه أيام ~~الطفولة الباكرة، وإذا كان الأمر كذلك، كان حتما علينا أن نعنى بتربية أطفالنا ليجيء ~~الإنسان الذي نريده سويا خاليا من العقد التي قد تنحرف به عن الجادة المستقيمة، ~~دون أن تكون له في ذلك حيلة، ومن هنا أخذت تتغير وجهات النظر إلى انحراف السلوك عن ~~العرف المألوف، بحيث أصبح يعد مرضا يستلزم العلاج، بعد أن كان جناحا يقومه ~~العقاب؛ إذ ما دام سلوك الإنسان تشكله تلك العوامل الخافية فهل نعاقب الشجرة على أنها ~~تنبت الشوك إذا كانت بذورها الأولى تحتم عليها أن يكون الشوك مصيرها؟ # مجالات ثقافية كثيرة تغيرت في أسسها نتيجة لنظرية اللاشعور؛ ففي الأدب والفن ~~والفلسفة جاءت آثارها واضحة وعميقة؛ فقد شغل الأدباء بالغوص في أعماق النفس ~~الإنسانية كلما أرادوا تصويرها، وشغل رجال الفن بإخراج ما بأنفسهم بعد أن كانوا قبل ~~ذلك ينقلون عن الطبيعة الخارجية؛ ومن ثم نشأت للفن في عصرنا هذه الاتجاهات الكثيرة ~~التي نعرفها من سريالية إلى تجريدية وانطباعية وغير ذلك، ولم يعد الفنان مسئولا عن ~~موضوع خارج نفسه مفروض عليه، بل موضوعه الأساسي هو نفسه ذاتها يضع ما فيها ألوانا ~~على اللوحة أو نحتا في الحجر؛ فإذا ما جاء الناقد ليعلق ويفسر، كان عماده نظرية ~~اللاشعور. # وأما الخط الفكري ms023 الرابع، وهو نظرية النسبية، فلست بحاجة إلى تعقب أثره في علوم ~~الطبيعة، وهو الأثر الذي انتهى بالإنسان إلى تحطيم الذرة واستخراج قوتها الماردة، كما ~~انتهى بالإنسان إلى أن يشق طريقه إلى كواكب السماء، وإنما يهمني بصفة خاصة التركيز ~~على الجوانب الإنسانية التي ترتبت عليها، ومن أهمها نسبية القيم ونسبية الثقافات؛ فلم ~~يعد يسيرا على أحد أن يزعم بأن ثقافة معينة أعلى أو أدنى من ثقافة أخرى، إلا ~~بمقدار ما تنفع واحدة في ناحية لا تنفع فيها الأخرى. # 4 # تعالوا نقف معا عند المنحنى الذي استدار عنده الزمن في انتقالته من القرن التاسع ~~عشر، إلى القرن العشرين الحالي، لنرى ماذا كان المناخ الفكري السائد قبل ذلك المنحنى، ~~وماذا ظهر بعده، وكيف أن الشطرين موصول أحدهما بالآخر. # الحق أن القرن الماضي كان هو الفترة التي أبدع فيها الفكر الإنساني عامة، وفي الغرب ~~بصفة خاصة، نتاجا غزيرا متلاحقا، تطلب امتدادا زمنيا استطال إلى يومنا هذا ~~لتمثله وهضمه، وذلك ما قد حدث دائما في مسار التاريخ الفكري منذ أقدم العصور: عصر ~~يبدع الجديد، وعصر بعده يتمثله على مهل. # فلقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي، دارون ونظريته في التطور البيولوجي، وماركس ~~ونظريته في التطور التاريخي، وفرويد ونظريته في الصلة بين الوعي العاقل ومستويات ~~اللاوعي الدفين، وأخيرا جاء أينشتاين ليعلن في تاريخ العلم عصرا جديدا ~~متكاملا. # كانت أوروبا قد شهدت خلال النصف الثاني من القرن الماضي موجة مادية عارمة، أقامها ~~وشجعها ازدهار الفكر العلمي موضوعا ومنهجا، حتى لقد حاولوا تفسير كل الظواهر ~~الشعورية والعقلية تفسيرا طبيعيا ماديا؛ وهنا يجدر بنا أن نتذكر، بأن تلك الموجة ~~المادية الطاغية عندئذ، هي التي دفعت سائلا من أفغانستان يوجه سؤالا إلى جمال ~~الدين الأفغاني وهو في مصر، يسأله فيه رأيه عن جماعة الماديين - أو الدهريين - الذين ~~علا صوتهم في أوروبا، فأجابه الأفغاني بكتاب كامل، هو كتاب «الرد على الدهريين»، وهو ~~أشهر ما خلفه لنا ذلك الرائد المسلم العظيم. # والناظر من بعيد إلى تلك الموجة المادية الطبيعية، يلحظ فيها أفكارا رئيسية ms024 يبدو ~~على ظاهرها التعارض بعضها مع بعض؛ فبينما سادت فكرة تعمل على اتصال الكون بعضه ببعض ~~في متصل واحد، اضطروا إلى افتراضه ليعللوا مسار الضوء عبر الأبعاد الفلكية (ولهذه ~~الفكرة الاتصالية انعكاسها في تسلسل الكائنات في نظرية دارون، من الخلية الأولى إلى ~~الإنسان، واتصال التاريخ في شريط مادي واحد في نظرية ماركس، واتصال العقل الأعلى ~~بالغرائز الدنيا في نظرية فرويد، وهكذا)؛ أقول إنه بينما سادت تلك الفكرة الاتصالية ~~عندئذ، قامت إلى جانبها فكرة رئيسية تعارضها في الظاهر، وهي الخاصة بتحليل الكون إلى ~~جزيئات صغيرة لكل منها كيانها الخاص؛ أما المادة فجزيئاتها الذرات وما فيها من مكونات ~~كهربية - السالبة منها والموجبة - وأما الأحياء فجزيئاتها هي الخلايا بما فيها من ~~مكونات كذلك. # هذه واحدة، والأخرى أنه بينما سادت في الفيزياء الفكرة القائلة بأن الطاقة لا تزيد ~~ولا تنقص، شأنها في ذلك شأن المادة في الطبيعة، فهي الأخرى محافظة على كمها، لا تزيد ~~ذرة ولا تنقص ذرة، رأينا فكرة تقوم إلى جانبها، وتعارضها في الظاهر، وهي فكرة التطور؛ ~~إذ ماذا يكون التطور إلا أن يكون ضمن معناه ظهور كائنات حية جديدة، وكلما ظهر كائن حي ~~ازدادت الطاقة بظهوره، هذا فضلا عن أن التطور يقتضي الزيادة في الكون بصفة عامة، وهي ~~زيادة تناقض القول بأن المادة والطاقة تحتفظان بمقدار معين لا ينقص ولا يزيد. # وجاء القرن الحالي ليتناول تلك الحصيلة الفكرية، بكل الخلفية التي كانت وراءها، ~~فيصوغها صياغة جديدة، هي التي نتحدث عنها الآن على أنها الفكر المعاصر؛ ولقد اقتضت ~~هذه الصياغة الجديدة انقلابا أو ما يشبه الانقلاب في أسس العلوم كلها، فضلا عن أسس ~~التفكير الفلسفي؛ لأن الفلسفة ما هي في صميمها إلى الضوء يلقى على ميدان العلوم، ~~ولذلك كانت بين الجانبين صلة وثيقة، فكلما تغيرت أصول العلم في عصر من العصور، ~~تغيرت معها أجواء الفلسفة. # ولنبدأ بعلم الفيزياء؛ فقد كانت الخلفية التي يقوم عليها حتى القرن التاسع عشر، هي ~~وجهة نظر نيوتن، التي فسرت كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بالمادة والحركة، فما ms025 عليك إذا ~~أردت لأية ظاهرة تعليلا كافيا، إلا أن تحسب وضع كيانها المادي من جهة، والعوامل التي ~~حركتها من خارجها من جهة أخرى، فإذا عرفت الوضع الراهن لأي جسم - كجرم من أجرام ~~السماء مثلا - وعرفت حساب المؤثرات الخارجية التي تحركه، عرفت بالتالي كل شيء عنه ~~الآن، وفي أية لحظة زمنية مضت، وفي أية لحظة زمنية سوف تأتي؛ بعبارة أخرى، فإنك تستطيع ~~التنبؤ الرياضي الدقيق بكل ما سوف يحدث في كل لحظة مستقبلة، كما تستطيع الحساب ~~الرياضي الدقيق لكل ما قد حدث في الماضي؛ فلست بحاجة - من أجل العلم الكامل بظواهر ~~الطبيعة - إلى شيء أكثر من وضع الجسم والعوامل التي تحركه من خارجه. # وجاء القرن الحالي بما بين يديه من معرفة أنتجها له القرن الماضي، وغير تلك الصورة ~~النيوتونية تغييرا تناولها من أساسها؛ فأولا: لم تعد «المادة» هي ذلك المعطى البسيط ~~الذي تصوره نيوتن، بل أصبحت المادة مركبا ذريا من كهارب دائبة الحركة في ~~أفلاكها؛ أي إن المادة لم تعد شيئا سلبيا سكونيا ينتظر الدوافع المحركة لتأتيه ~~من خارج ذاته، بل أصبحت المادة طاقة حركية دينامية متحركة بطبيعتها؛ وثانيا: لم ~~يعد في حدود الإمكان أن نحسب للجسم المعين وضعه وحركته في آن واحد؛ لأنك إذا حصرت ~~انتباهك في وضع ذرة معينة، فاتتك حركتها، وإذا حصرت انتباهك في حركتها فاتك وضعها؛ ~~ومعنى ذلك أنه لم يعد في حدود المستطاع ذلك الحساب التنبؤي الرياضي الدقيق الذي ظنه ~~نيوتن، وبات أمر العلم الفيزيائي مرهونا بأرقام إحصائية تخرج المتوسطات، وبالتالي ~~فحقائقه احتمالية لا تعرف اليقين الرياضي المزعوم لها؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ~~فإنه لما كانت حركة كهارب الذرة الواحدة تلقائية، يتعذر التنبؤ بها قبل وقوعها، فإن ~~ذلك يفسح المجال واسعا أمام فكرة الحرية في الطبيعة، لتحل محل الجبرية الحاسمة التي ~~افترضها نيوتن من قبل، فلو كانت الطبيعة وظواهرها في ظل فيزياء نيوتن أشبه بالآلات التي ~~تدور تروسها وعجلاتها سيرا على طريق مرسوم معلوم ومحسوب، فقد أصبحت الطبيعة ~~وظواهرها على ضوء العلم الفيزيائي الجديد ms026 أشبه بالكائن الحي الذي يتحرك من داخله، ~~حركة لا هي مرسومة له بدقة الرياضة، ولا هي معلومة علما كاملا قبل وقوعها، واختصارا، ~~فبعد أن كانت الطبيعة سكونية أصبحت دينامية متطورة، وبعد أن كانت مطلقة أصبحت ~~نسبية. # ونترك علم الفيزياء لنلم إلمامة سريعة بالتحول العميق الذي طرأ على العلوم ~~الرياضية، وفي صحبتها علم المنطق؛ فلقد كان السائد قبل القرن الماضي، عن الرياضة أنها ~~ذات علاقة بالحقيقة في مجال الطبيعة؛ أي إن تلك صورة كمية لهذه؛ فحدث خلال القرن الماضي ~~- على أيدي أعلام بارزين في مجال العلوم الرياضية وفي مجال علم المنطق - أن استطاعوا ~~بتغييرهم لبعض المسلمات التي أقام عليها إقليدس بناءه في علم الهندسة، بمسلمات ~~أخرى، فتغيرت بالطبع النتائج المترتبة عليها؛ أعني النظريات الهندسية؛ فها هنا ~~تنبه العقل الإنساني إلى حقيقة لعلها من أهم الحقائق العلمية في هذا العصر كله، وهي ~~أن البناء الرياضي إنما يحكم عليه بالصواب، لا على أساس أنه يصور الطبيعة ~~وكائناتها، بل على أساس داخلي في ذلك البناء نفسه، وهو أن تكون النتائج مستنبطة ~~استنباطا سليما من مقدماتها، ولذلك فإنه من الممكن إقامة عدة بناءات رياضية، كل ~~منها يكون صحيحا في ذاته، دون أن ندري أي تلك البناءات يمكن تطبيقه على الطبيعة وأيها ~~لا يمكن. # ولما كان الفكر الإنساني كثيرا جدا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب الرياضي نفسه، ~~أي أن يفرض لنفسه فروضا يسلم بصوابها، ثم ينتزع منها نتائجها، حتى يتكامل له بمجموعة ~~تلك النتائج وفروضها مذهب فكري موحد، أقول إنه لما كان الفكر الإنساني كثيرا ما ~~يبني مذاهبه على هذا الأسلوب، تبين في جلاء - على ضوء ما حدث لعلوم الرياضة نفسها - ~~أنه في حدود الإمكان أن تقام عدة مذاهب فكرية وعقائدية، كل منها صحيح بالنسبة لنفسه ~~لكن صحته هذه لا تنفي صحة المذاهب الأخرى كذلك وللإنسان بعد ذلك أن يختار من تلك ~~المذاهب ما يحقق له أهدافه. # وصحب التطور الذي حدث في مجال الرياضة البحتة، تطور مشابه في علم المنطق؛ فلقد ~~كنا قبل ذلك نجري ms027 على سنن المنطق الأرسطي، الذي إن صلح للأفكار الكيفية الغامضة، مثل ~~إنسان وحياة وخلود وفناء ... إلخ، فلا يصلح للأفكار الكمية الدقيقة؛ ولذلك فقد بات ~~مطلوبا لنا منطق تحليلي رياضي، لنعالج به الأفكار التي من هذا القبيل، معالجة تفتت ~~الواحدة منها تفتيتا لتعري أجزاءها وعلاقاتها بغيرها وهكذا، مما يؤدي بنا إلى فكر ~~علمي فيه دقة التصورات الرياضية. # ولا يفوتني هنا أن أقول إن المشتغلين بالفلسفة في عصرنا، حين استخدموا هذه الأداة ~~التحليلية في تفهم المفاهيم التقليدية التي كانت شائعة في مجال الفكر الفلسفي، تبين ~~لهم عن بعضها أنها كالعلب الفارغة، تطن بلفظها لكنها خالية من أي مضمون. # ثم ننتقل بعد ذلك إلى العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم النفس وعلم الاجتماع، فتراها ~~بدورها قد اتخذت صورة أخرى غير التي ألفناها قبل ذلك؛ فكلاهما قد اكتسب روحا علمية ~~تجريبية من روح العصر، وتحول إلى بحوث تجريبية كأنه معني بمشكلة من مشكلات الطبيعة ~~ذاتها. # 5 # ونختم حديثنا عن المعالم الرئيسية في فكر العصر، بذكر صورة موجزة عن التيارات ~~الفلسفية التي تسوده، والفلسفة عادة هي التي تستخرج من الحياة الثقافية في عصرها، ~~مبادئها الكامنة وأصولها، فأقول على وجه الإجمال الذي يهمل التفصيلات والفروع، إن في ~~عصرنا تيارات فلسفية أربعة: فلسفة التحليل في إنجلترا، والفلسفة البراجماتية في ~~أمريكا، والفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، وفلسفة المادية الجدلية في شرقي أوروبا، ~~وأما بقية أجزاء العالم فالأغلب أن تنقسم فيما بينها هذه التيارات الأربعة نفسها، ~~مضافا إليها - أحيانا - جوانب مأخوذة من تراثها الاقليمي، وليس في ذلك ما يدعو إلى ~~التعجب؛ لأنه إذا كانت فلسفة العصر نابعة من حضارته وثقافته، ثم إذا كانت بقية أجزاء ~~العالم يغلب عليها - حتى اليوم - الأخذ بالحضارة والثقافة الغربيتين قدر المستطاع، ~~كانت فلسفة الغرب - بالتالي - هي التي تسود. # ولقد نتوهم أن انقسام الفكر الفلسفي في الغرب دال على تمزق العصر من الناحية ~~الفكرية، لكن نظرة فاحصة متعمقة، سرعان ما تبين أن تلك التيارات الأربعة إنما اختص ~~كل منها بجانب غير الجانب الذي اختص به التيارات الأخرى ms028 ، وإذن فهي تتكامل معا، ولا ~~تتعارض؛ إذ التعارض لا يكون إلا إذا كانت كلها جميعا تنصب على جانب واحد بعينه، ثم ~~تختلف بعد ذلك في الرأي. # فالفلسفة التحليلية السائدة في إنجلترا، إنما خصت نفسها أساسا بتحليل العلوم ~~وقضاياها، لتعرف الصورة الهيكلية التي ينصب فيها الفكر العلمي؛ والفلسفة البراجماتية ~~في أمريكا قد خصت نفسها بالبحث عن الحق ما هو، كما يفهمه عصرنا، فتقول عن الحق إنما ~~هو النتائج التي تعمل على حل مشكلات الحياة الواقعية؛ أي إنه إذا كان بين أيدينا فكرة، ~~ثم أردنا أن نتبين من صوابها أو عدم صوابها، بحثنا عما يترتب عليها من فعل نجريه ~~على أرض الواقع الحقيقي، من شأنه أن يحل مشكلة بعينها قصدنا إلى حلها؛ فإذا لم نجد ~~الفكرة مؤدية إلى مثل هذا الفعل، ولا إلى المشكلات تحلها، علمنا أنها لا تستحق أن ~~يطلق عليها اسم «فكرة» فضلا عن أن نصفها بأنها صحيحة. # وأما الفلسفة الوجودية، فلا تجعل محور اهتمامها تحليل البناء العلمي، ولا تحليل فكرة ~~الحق حين نصف به هذه الفكرة أو تلك، ولكنها تعنى بالإنسان نفسه، فتقول إن الإنسان ~~إنما يستمد إنسانيته من صنعه لنفسه عن طريق القرارات التي يتخذها هو لنفسه في المواقف ~~المختلفة، على أن يكون مسئولا عما يقرره، وإنه ليهدر آدميته إذا هو تشكل على ما ~~يقرره له سواه، وأخيرا تعنى المادية الجدلية بتحليل التاريخ وما يسيره من نظم ~~وقيم وأفكار، فترى أن هذا المركب الثقافي بكل أجزائه إنما يتكون نتيجة لصراعات ~~داخلية في بنيانه؛ إذ يكون في كل وضع معين ما يناقضه حتى يهدمه، ومن الوضع ونقيضه ~~هذين يتألف موقف جديد، وهكذا ترى أن الفلسفة التي تسود غربي أوروبا وشرقيها على ~~السواء، تشترك في أن الإنسان هو محورها، على حين أن الفلسفة كما هي قائمة في إنجلترا ~~وأمريكا تجعل الفكر العلمي محورها؛ فلا تضاد بين هذه وتلك، وإنما هو تكامل لهما في وحدة ~~شاملة تصور العصر وما فيه. # | عصرنا من فلسفته # أهم المذاهب الفلسفية التي يتقاسمها عصرنا أربعة: الوجودية ms029 ، والمادية الجدلية ~~والبراجماتية، والتحليل، وأن توزيع هذه المذاهب الأربعة ليوشك أن يكون توزيعا جغرافيا، ~~بمعنى أن كل مذهب منها يتركز في إقليم جغرافي بذاته، ثم يشع منه إلى ما عداه؛ فالوجودية في ~~غربي أوروبا، والمادية الجدلية في شرقيها، والبراجماتية في الولايات المتحدة الأمريكية، ~~والتحليل في بريطانيا. # على أن العالم ليس كله أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ فهناك قارات أخرى بأكملها، ~~لكنها من الناحية الفكرية الفلسفية إحدى اثنتين: فإما جاءتها الغزوة من أوروبا وأمريكا وهي ~~فيما يشبه الخلاء من ناحية الفكر الفلسفي، وإما جاءتها تلك الغزوة لتجد بين ظهرانيها تراثا ~~خصبا عريقا؛ ففي الحالة الأولى انفرد الفكر الغازي فلم يحدث في نفوس الناس وعقولهم أزمة ~~ولا ما يشبه الأزمة، وأما في الحالة الثانية فقد انقسم المثقفون قسمين، أحدهما جلس ليجتر ~~ماضيه، وآخر جاهد ليجد لنفسه مخرجا، تارة بدمج الشعبتين في حياة واحدة ما استطاع إلى ذلك ~~من سبيل، وتارة أخرى بإغلاق صفحات الماضي ليتفرغ للوافد الجديد. # وغني عن البيان أننا نحن الأمة العربية من الطراز الثاني؛ أعني الطراز الذي جاءته الفلسفة ~~الغربية المعاصرة وهو على امتلاء ثقافي بما ورثه عن أسلافه، لكنه انشق على نفسه شطرين؛ ~~فبينما تجد فريقا منه لا يكاد يعي من فكر عصره خردلة، مكتفيا بموروثه الغني، تجد فريقا ~~آخر قد أتاحت له الفرصة أن يلم بفكر العصر قليلا أو كثيرا، فتأخذه الحيرة كيف يوفق ~~في رأسه بين طارف وتليد. # وإذا نحن أخذنا الدراسة في جامعاتنا العربية نموذجا يوضح موقفنا من فلسفة العصر رفضا ~~أو قبولا، وجدنا أقسام الدراسة الفلسفية في تلك الجامعات تضع الشرائح الزمنية التاريخية ~~جنبا إلى جنب، تضعها متجاورة وهي في حياد كأن الأمر لا يعنيها؛ ففي هذه الفرقة الدراسية ~~تدرس الفلسفة الإسلامية، وفي تلك الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، مأخوذة ~~من مصادرها الغربية، فيخرج دارس الفلسفة من الجامعة وهو ما يزال في الحيرة نفسها: هل يحاول ~~التوفيق أو لا يحاوله؟ وإذا حاوله فكيف يكون ذلك؟ ولقد شهدت في حياتي أعواما اشتد فيها ~~الصراع ms030 بين أساتذة الفلسفة الذين أنيط بهم تدريس الفلسفة الغربية؛ فكان كل منهم يتعصب ~~لتيار غربي دون تيار، وكان هذا التيار أو ذاك هو من نتاجنا نحن، وانعكاسا لحياتنا نحن، ثم ~~كأن هذه التيارات الغربية الأربعة يناقض بعضها بعضا تناقضا يجعل المتقبل لأحدها رافضا ~~بالضرورة للثلاثة الأخرى، وكان أجدر بنا أن نتبين الأمر على حقيقته، وهي أن العصر الذي ~~أنبت تلك التيارات الفلسفية المختلفة إنما هو عصر واحد، ذو حضارة واحدة، وأنها لتكون مفارقة ~~عجيبة، لو أن هذا العصر الواحد يتمزق في مذاهب متعارضة في أسسها وجذورها. # ولقد كنت لسنوات طوال مخطئا بين مخطئين؛ لأنني كنت بدوري أتعصب لتيار فلسفي ~~معين، على ظن مني بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكنني اليوم - مع إيماني ~~السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا - أومن كذلك بأن الأمر بين ~~هذه الاتجاهات الفلسفية إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط، وليس هو أمر تعارض أو تناقض؛ فكل ~~مذهب من المذاهب الأربعة الرئيسية التي تسود العصر، يسأل سؤالا غير الأسئلة التي تطرحها ~~على نفسها بقية المذاهب، والتناقض لا يكون إلا إذا كان السؤال المطروح واحدا عند الجميع، ~~لكن الإجابة عند هذا تجيء نافية للإجابة عند ذاك؛ فالمذاهب الفلسفية الأربعة التي أشرنا ~~إليها، إن هي على وجه الجملة إلا إجابات أربع، لا على سؤال واحد بعينه، بل هي إجابات مختلفة ~~عن أسئلة مختلفة، عني كل مذهب منها بسؤال، وأولاه اهتمامه، دون الأسئلة الثلاثة الأخرى، ~~بحيث لا يكون معنى ذلك أنه بالضرورة رافض لمشروعية الأسئلة الأخرى، أو رافض للإجابة التي ~~أجيب بها عن تلك الأسئلة. # وعلى سبيل التشبيه: افرض أن أربعة أشخاص اختلفت ميولهم واستعداداتهم، نظروا إلى سجادة ~~يفحصونها، فاهتم أحدهم بالرسوم التي ظهرت على سطحها، من حيوان ونبات وزخارف وغير ذلك، بينما ~~اهتم الثاني باللون متسائلا إن كان مصدر الصبغة كائنات عضوية أم كان مصدرها تركيبات ~~كيماوية، وأما الثالث فقد وجه عنايته إلى نوع الصوف وطريقة نسجه، وطفق الرابع يبحث عن ~~موطن الصناعة ms031 ماذا كان: أكان أصفهان أم كان شيراز؟ فهل يحق لنا أن نقول عن هؤلاء الأشخاص ~~الأربعة إنهم «متعارضون» متناقضون متقاتلون إلى آخر هذه الحالات العراكية التي تصورناها نحن ~~دارسي الفلسفة في الجامعات العربية بين مختلف الاهتمامات التي ظهرت في التيارات الفلسفية ~~المختلفة في أوروبا وأمريكا؟ # ولنبدأ بما شئنا من هذه التيارات الأربعة، التي هي: الوجودية، والمادية الجدلية، ~~والبراجماتية، والتحليل، التي قلنا إنها هي الاتجاهات الفلسفية الأساسية في عصرنا الراهن، ~~أقول: لنبدأ بأيها شئنا، لنرى ما هو لب رسالته؟ ثم ننتقل منه إلى مواقف أصحاب الاتجاهات ~~الأخرى متسائلين: هل هم بحكم اتجاهاتهم تلك رافضون لتلك الرسالة في لبها وصميمها، أو أن ~~الأصح هو أن يقال عن هؤلاء جميعا إنهم اختلفوا في اهتماماتهم وفي محاور ارتكازهم، مع ~~استعداد كل منهم لقبول ما انتهت إليه أفكار الآخرين فيما جعلوا اهتمامهم له؟ # وليكن المذهب الوجودي هو نقطة ابتدائنا: أليست رسالته في جوهرها هي حرية الإنسان؟ # إن الإنسان - بناء على هذا المذهب - هو الذي يصنع نفسه ويشكلها عن طريق القرارات التي ~~يتخذها لنفسه بنفسه؛ فليس هو بذي حقيقة مقطوع بها مقدما، ليسير على طريق مرسوم له ولا ~~حيلة له فيه؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما كان له اختيار فيما يفعل وما يكف عن فعله، لكن سبل ~~الاختيار مفتوحة أمام الإنسان في كل لحظة من حياته، بل إن هذا الاختيار واجب مفروض على ~~الإنسان إذا أراد لإنسانيته أن تتحقق، أما إذا ترك سواه ليختار له، ولا يكون له إلا أن ~~يطيع، فإنه عندئذ يكون بمثابة من أهدرت آدميته؛ لأنه يكون قد حول نفسه من الحالة ~~الإنسانية التي تريد وتختار، إلى حالة الأشياء الجوامد، أو إلى حالة النبات ~~والحيوان. # تلك هي رسالة الوجودية، ليس فيها ما يرفضه مذهب من المذاهب الثلاثة الأخرى، كل ما في ~~الأمر، هو أن تلك المذاهب الثلاثة لم تجعل حرية الإنسان - بذلك المعنى المحدد لها - موضوع ~~سؤالها، ولقد تجد من الفلسفات ما يرفض الوجودية من حيث الأساس، كالمذاهب المثالية التي تجعل ~~ماهية ms032 الإنسان سابقة على وجوده الفعلي، لكنها فلسفات نبتت في عصور أخرى غير عصرنا، وأقول ~~ذلك عنها دون أن أريد لهذا القول أن يتضمن أنها أقل أهمية أو أكثر أهمية من الاتجاهات ~~الفلسفية التي أنبتها هذا العصر الذي نعيش فيه. # وأمام رسالة المذهب الوجودي في حرية الاختيار وحرية القرار بالنسبة إلى الإنسان، قد يسأل ~~سائل: أليس هنالك من القيود ما يقيد تلك الحرية عند الإنسان؟ ألا ~~تتقيد - مثلا - بما يقتضيه منطق العقل حتى لا تصبح كحرية ~~المجنون؟ لنفرض أن مسافرا قرر السفر من مصر إلى أوروبا ليقضي بعض شأنه، ألا تتقيد حرية ~~إرادته تلك بوسائل الانتقال المتاحة وبالقدرة المالية والصحية وغير ذلك مما يملكه أو لا ~~يملكه؟ أو افرض فرضا آخر وهو أن إنسانا أراد أن يقسم مائة دينار على أربعة أشخاص ~~بالتساوي، تلك هي إرادته الحرة، لكن هل تكون له كذلك حرية في ناتج القسمة، وهو أن يكون نصيب ~~كل فرد من هؤلاء الأربعة خمسة وعشرين دينارا؟ إن إرادته مهما بلغت من حريتها، لا بد لها من ~~الانصياع إلى قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة، وله بعد ذلك أن يتحرك بإرادته الحرة داخل ~~إطار هذه القوانين. # لا، بل إنه وهو يتخذ لنفسه قراره الحر بإرادته الحرة، مضطر أن يصوغ ذلك القرار في لغة ~~يفهمها الناس، ولما كانت اللغة ليست من صنعه الخاص، فهو مضطر إلى التزام المفردات اللغوية ~~وطرائق التركيب اللغوي التي تواضع عليها الناس، ليفهموا عنه ما أراد وما قرر، وإلا لما ~~أحدث في العالم الخارجي الأثر الذي أراد أن يحدثه بقراره ذاك الذي اختاره حرا. # فإذا سأل سائل عن مدى الضوابط التي يفرضها منطق العقل فرضا؛ أي تفرضها قوانين العلوم ~~الرياضية والعلوم الطبيعية، بل وتفرضها كذلك لغة العلم ولغة التفاهم، كان ذلك السائل باحثا ~~عن جواب لن يجده إلا عند من عني بفلسفة التحليل؛ لأنها فلسفة توجه اهتمامها الرئيسي ~~نحو تلك الضوابط، فتحاول أن تستخلص الصور المنطقية الخالية من مضموناتها، لعلها ترى في ~~وضوح أنواع العلاقات التي تربط أطراف الفكرة ms033 الواحدة ربطا يفيدنا في توليد النتائج، فإذا ~~كان المشتغل بفلسفة التحليل لا يرفض حرية الإنسان كما وصفتها الفلسفة الوجودية، فإن المشتغل ~~بالفلسفة الوجودية من جهته لا يرفض أن تضطلع فلسفة التحليل بتحديد الضوابط التي لا مناص من ~~التزامها عند عرض أفكارنا؛ إذ الفلسفة الوجودية وإن لم توجه اهتمامها إلى ضوابط الأفكار ~~في إطارها الصوري، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها، كما أن الفلسفة التحليلية وإن لم توجه ~~اهتمامها إلى أركان الحرية الإنسانية عندما تريد وتفعل، فهي لا تتنكر لها ولا ~~ترفضها. # على أن صور المنطق والرياضة وقوانين العلوم وقواعد اللغة المفهومة ذات الدلالة، ليست هي ~~كل القيود التي تقيد حرية الإنسان المتمثلة في فاعليته، إذ هو يريد ويختار وينفذ بالفعل؛ ~~فهنالك بالإضافة إلى ذلك قيود الأهداف؛ لأن الذي يسير على طريق حياته بلا أهداف يتصورها ~~ويحددها ليعمل على تحقيقها، هو المجنون وحده، وإذا كان ذلك كذلك في حياة العقلاء، فماذا ~~تقول البراجماتية غير هذا؟ إن البراجماتية قيدت دلالة الفكرة المعينة بمقدار تحقيقها ~~لهدفها، فإذا قلت عن فكرة ما إنها بغير هدف محدد تقصد إليه وترسم معالمه، كنت كمن لا ~~يريد أن يفرق بين عاقل ومجنون، وإذا كان فيلسوف الوجودية وهو منغمس في البحث عن حرية ~~الإنسان، لم يوجه اهتمامه كذلك إلى تحليل الأفكار الصحيحة تحليلا يقيدها بالأهداف التي ~~تتحقق بوساطتها على أرض الواقع الفعلي؛ فليس معنى ذلك أنه - أي فيلسوف الوجودية - يرفض ~~هذا الذي تقوله البراجماتية، كما أن البراجماتي لم يكن ليرفض ما يقوله الوجودي عن صنع ~~الإنسان لنفسه باختياراته الحرة التي يمارسها في المواقف التي تعرض له في مسيرة ~~حياته. # هنالك - إذن - قيود تحد من إطلاق الحرية الوجودية، دون أن تنتقص من صميمها؛ فلقد ~~ذكرنا قيود العقل بمنطقه، وقيود الوسيلة اللغوية التي نتفاهم بها حتى لا تذهب أقوالنا ~~عبثا مع الريح، وهنالك قيود الأهداف التي لا بد منها لتهتدي بها الحرية الإنسانية إذ هي ~~تريد وتختار، ونريد الآن أن نضيف الآن قيدا آخر، هو قيد الظروف المادية التي تحيط ms034 بنا عند ~~الاختيار وإرادة الفعل، فماذا يجدينا من حرية لا تضع في اعتبارها ظروف الواقع وضروراته؟ ~~إنها لو فعلت ذلك كانت هي حرية الحالمين! نعم، إننا أحرار في تقرير ما نريد فعله، لكن هذا ~~القول يفقد معناه إذا كان هذا التقرير نفسه لا تواتيه العوامل المادية المحيطة بنا، وهي ~~العوامل التي تتيح لنا أن نحول ما اخترناه وما أردناه، إلى واقع نحياه، وذلك هو جانب مما ~~تقوله الفلسفة المادية الجدلية. # هكذا نرى أن المذاهب الفلسفية في عصرنا حين اختلفت، فهي إنما اختلفت في الجانب الذي تكون ~~له أولوية النظر عند كل منها، دون أن تكون الجوانب المتعددة متعارضة فيما بينها، بل هي ~~جوانب يكمل بعضها بعضا، ونستطيع أن نأخذ بها جميعا - وكدت أقول إنه لا بد أن نأخذ بها ~~جميعا - في وقت واحد؛ إذ لا تعارض هناك بين أن نقر للإنسان بحريته (وتلك هي الفلسفة ~~الوجودية) وأن نبين لتلك الحرية ضوابط المنطق لتلتزم حدودها (وتلك هي الفلسفة التحليلية) ~~وأن نشترط لها كذلك التزام الأهداف المراد تحقيقها (وتلك هي البراجماتية) مدخلين في حسابنا ~~دائما ضرورات الواقع المادي الذي ستجري على أرضه تحقيق أهدافنا (وتلك هي المادية ~~الجدلية). # ولنضرب لهذا التكامل بين مذاهب الفلسفة الأربعة التي تسود عصرنا، مثلا يوضحه: افرض ~~أننا أمام عبارة يقول بها صاحبها «إن العمل على تحقيق القومية العربية واجب محتوم» ثم ~~أردنا الوقوف عند هذه العبارة ننظر إليها من الزوايا الفلسفية الأربع، فماذا نقول؟ إننا إذا ~~بدأنا النظر من زاوية الفلسفة الوجودية، بحثنا عن العلاقة بين هذه العبارة وقائلها، لنرى ~~إن كانت عنده بمثابة القرار الأصيل الذي أصدره بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما وجدناه كذلك كان ~~قائلها ملتزما فعلا بالعمل على تحقيقها، أما إذا وجدناها عبارة لم تصدر من ذات قائلها، ~~بل أمليت عليه من خارجه، فإنها عندئذ تفقد قيمتها من حيث دلالتها على حرية القائل ~~ومسئوليته الخلقية إزاءها. # فإذا انتقلنا إلى زاوية الفلسفة التحليلية ننظر منها إلى العبارة المذكورة، كان من أهم ما ~~يلفت نظرنا في ms035 مفرداتها لفظتا «واجب محتوم» لأنهما من الألفاظ التي لا تسمي أشياء بذواتها، ~~فماذا تعني يا ترى؟ من الذي أوجب ومن الذي حتم؟ إنهما لفظتان تحملان معنى الأمر، فمن ~~ذا الذي أمر؟ هل ثمة من سلطان خارجي يفرض علينا هذا الواجب؟ فإن كان فما هو؟ وهكذا ~~يركز فيلسوف التحليل جهوده في توضيح أمور كهذه تجري في كلام الناس دون أن يتنبهوا إلى ~~مدى غموضها. # ثم ننظر نظرة ثالثة، هي نظرة الفيلسوف البراجماتي، فلا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما ~~قاله الوجودي عن ضرورة أن تنبثق الإرادة من صميم الذات التي تريد لنفسها وتقرر لنفسها، ثم ~~لا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله فيلسوف التحليل في توضيح الغوامض التي تكتنف ~~ألفاظنا؛ إذ القول الواضح في معناه أدعى إلى رسم الطريق في دنيا الفعل، لكننا ننظر من ~~الزاوية البراجماتية إلى عناصر الموقف الراهن، وفي الطريقة التي يمكن أن يعاد بها ترتيب ~~تلك العناصر، ليخرج لنا من ترتيبها الجديد موقف جديد، هو «القومية العربية، كما أردناها ~~بادئ ذي بدء. # وتبقى لنا بعد هذا كله زاوية رابعة ننظر منها إلى العبارة السالفة الذكر، هي زاوية ~~المادية الجدلية، فإذا كانت القومية العربية المنشودة غير متحققة الآن، فذلك لعوائق مادية ~~اعترضت قيامها كالظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو غير ذلك من ظروف ظهرت في مراحل ~~التاريخ، ولا سبيل إلى تحقيق القومية العربية إلا إذا أزلنا تلك العوائق من الطريق، لأننا ~~إذا ما افتعلنا تلك القومية افتعالا، مع بقاء العوامل التي عارضت قيامها فسرعان ما تعود ~~تلك العوامل نفسها لتفعل فعلها من جديد. # زوايا أربع كما ترى، يكمل بعضها بعضا أكثر جدا مما ينقض بعضها بعضا؛ فلكل منها سؤال ~~يراد الجواب عنه يختلف عن الأسئلة الثلاثة الأخرى التي تطرح عند الزوايا الأخرى؛ فالسؤال ~~عند الوجودية هو: من؟ والسؤال عند التحليل هو: ما المعنى؟ والسؤال عند البراجماتية هو: ما ~~الهدف، والسؤال عند المادية الجدلية هو: كيف حدث وكيف يتغير؟ ... وكلها أسئلة ضرورية للموقف ~~الواحد. # على أني أشعر ms036 بعد هذا كله بسؤال خامس، يلح على عقلي إلحاحا إلى أن يجد له جوابا ~~مقنعا، وهو: إن هذه المواقف الأربعة التي تقسم فيما بينها عصرا واحدا - هو عصرنا ~~الراهن - لا بد أن تلتقي جميعا عند جذر واحد وإلا لتمزقت وحدة العصر وفقد طابعه الذي ~~يميزه ويجعله عصرا يجيء حلقة في سلسلة العصور، فماذا عسى أن يكون ذلك الجذر الواحد ~~المشترك؟ جوابي (وهو جواب شخصي، يستطيع من شاء أن يصححه بما شاء) هو أن ذلك الجذر ~~المشترك في فلسفات عصرنا، هو التصور الذي يجعل الإنسان محورا يدير نفسه ولا يدار من ~~خارجه؛ فهو الذي يقرر بنفسه لنفسه (وجودية) وهو الذي يوضح بنفسه لنفسه (تحليل)، وهو الذي ~~يضع لنفسه الأهداف ابتغاء تحقيقها (براجماتية)، وهو الذي يتلمس عوائق السير ليزيلها (مادية ~~جدلية)، وإذن فالمحور الفلسفي الرئيسي لعصرنا هو النظرة الإنسانية التي تجعل من الإنسان ~~مبدأ وغاية، وتجعل هذه الحياة هي الأولى والأخيرة. # لكن هذه النظرة لا تلتئم مع الوقفة الإسلامية العربية التئاما كاملا؛ لأن هذه الوقفة ~~الإسلامية العربية من شأنها أن تجعل هذه الحياة مرحلة أولى لها ما بعدها من حياة آخرة، ها ~~هنا تكمن المشكلة أمام الفيلسوف العربي المسلم - إذا وجد - فيكون سؤاله الخاص هو: كيف أضيف ~~البعد الخامس إلى الأبعاد الأربعة التي ذكرناها مميزة لعصرنا؟ وبالإجابة عن سؤال كهذا، ~~يمكن للإنسان المسلم العربي أن يحيا عصره وتراثه معا. # | ترجمة الماضي إلى حاضر # ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه على أنفسنا ألف مرة، ~~وحاولنا الجواب ألف مرة، ولا أحسبنا قد انتهينا إلى صيغة واحدة يرضى عنها الماضي والحاضر ~~معا، ودليل ذلك قريب، وهو أننا إلى يوم الناس هذا نجد بيننا من لا يزال يتشكك في العلم ~~وقيمته وفي العقل الإنساني وقدرته. # شاء لي الله أن يصلني منذ وقت قريب كتابان في يوم واحد، أحدهما لكاتب مرموق ولامع وذي ~~جذب شديد لجماهير القراء والسامعين والمشاهدين - السامعين للراديو والمشاهدين للتلفزيون - ~~والآخر لمؤلف لم أكن قد سمعت باسمه، لكنني استنتجت ms037 من قوة عبارته أنه لا بد أن يكون ذا ~~وزن في محيطه الخاص، وأما الكاتب الأول فقد أراد بكتابه أن يقول إن العلم «يتبجح» (هذه هي ~~اللفظة التي استخدمها) وإن الحياة المثلى هي في التصوف، وأما الكتاب الثاني فقد أراد صاحبه ~~أن يقول إن الأرض لا تدور، وإن كل ما يقوله العلم غير ذلك فهو خطأ وضلال، ومن الأسانيد ~~التي أعلن أنه ارتكز عليها في الوصول إلى تلك النتيجة، الآيات الكونية في القرآن ~~الكريم. # فإذا كان المناخ الثقافي الذي نتنفسه، قد أمكن أن يفرز لنا مثل هذه الكتب، وأستطيع أن ~~أجزم بأن أحد الكتابين السابقين - على الأقل - قد بيعت منه عشرات الألوف من النسخ؛ أي إنه ~~كان غذاء تطلبه النفس العربية في يومنا، فلا بد - إذن - أن يكون المثقفون العرب بعيدين ~~بعدا شاسعا عن أن تكون لهم صيغة ثقافية واحدة تجمع بينهم، ودع عنك أن تكون هذه الصيغة ~~الواحدة مما يدمج الماضي في الحاضر دمجا عضويا متكاملا؛ لأن الحاضر أساسه علم وصناعة، ~~وها قد أقبل ألوف القراء على من يقول لهم إن العلم يتبجح، ولست أدري كم منهم قد أقبل ~~كذلك على قراءة ما جاء ليزعم لهم أن الأرض لا تدور. # ماذا نصنع؟ # ولكني برغم ذلك كله ما أزال أسأل: ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ وما زلت أعتقد ~~في أنه سؤال لبث مطروحا علينا منذ قرن ونصف قرن: كان هو السؤال الذي طرحه رفاعة ~~الطهطاوي والذي طرحه الشيخ محمد عبده، والذي طرحه المفكرون والأدباء خلال الفترة التي ~~أعدها بحق عصرا للتنوير، وأعني بها عشرينيات هذا القرن وثلاثينياته، وما نزال ~~نطرحه إلى يومنا، جادين مرة هازلين مرة، نطرحه بشيء من العمق مرة وبكثير من الضحالة ~~مرات. # وها أنا ذا أتناوله اليوم من زاوية جديدة، لعل فيها ما يقربنا مما نريد؛ فلقد طاف ~~بفكري أن يكون المطلوب شيئا من «الترجمة» الحضارية، فكما أن عملية الترجمة تحول النص ~~المترجم إلى صورة جديدة مع احتفاظها بمعنى النص كاملا، فكذلك قد تكون عملية التحول ms038 ~~التي نريدها؛ إذ إن لدينا ما يشبه النص الذي نتشبث بأن يظل لبه مصونا من العبث، ~~لكننا في الوقت نفسه نريد له أن يتخذ صورة جديدة مقروءة لمن يعجز عن قراءته في صورته ~~الأصلية. # وما إن طافت هذه الخاطرة بفكري، حتى رأيت أن تكون خطوتي الأولى في تناول الموضوع، ~~نظرة فاحصة بعض الشيء لعملية الترجمة نفسها، لعلها تضيء الطريق. وكان أول ما ورد إلى ~~ذاكرتي عندئذ عبارة كنت قرأتها لكاتب هندي، قال فيها إن للترجمة تقليدا طويلا ~~راسخا في الفكر العربي، وكان ذلك منذ عصر المأمون حين أنشأ «بيت الحكمة» في بغداد ~~ليقوم على ترجمة التراث اليوناني من فلسفة وعلم، ولم تكن الهند كذلك - كما قال هذا ~~الكاتب الهندي - إذ لبثت الثقافة الهندية طوال عصورها محرومة من مثل هذه الروافد، ولم ~~تأخذ في فتح أبوابها للترجمة إلا منذ القرن التاسع عشر. # فلا بأس إذن - بالنسبة إلينا نحن العرب - في أن يكون النموذج الماثل في عملية الترجمة ~~معيارا يقاس إليه، غير أن الترجمة ليست كلها على غرار واحد، وإن اتفقت على أن تكون ~~دائما أمينة بقدر المستطاع على المضمون المراد نقله من حالة إلى حالة؛ فهنالك - ~~أولا - الترجمة التي تلتزم النص جملة جملة، وأكاد أقول كلمة كلمة لولا أني أعلم أن ذلك ~~محال، وتلك هي الترجمة التي تكون في النصوص العلمية أو ما يشبهها، فها هنا لا مناص من ~~تتبع الأصل كما هو، فلا يجوز للمترجم أن يضيف إليه من عنده، ولا أن يحذف منه ما لا ~~يتفق مع هواه، إنه قد يجد في العبارة الأصلية تكرارا، وعندئذ ينبغي له أن يورد مثل ~~هذا التكرار في ترجمته، أو قد يجد فيها ما يظنه سخفا أو خطأ، فلا يجوز له أن يحال ~~السخف إلى جمال يتبرع به، ولا أن يصحح الخطأ بصواب من عنده، وهنا نذكر عبارة قالها ~~الدكتور جونسون - الأديب الإنجليزي في القرن الثامن عشر - إذ قال: لا تحاول قط يا ~~سيدي أن تتفوق على من تترجمه. # وليس هذا النوع من ms039 الترجمة الحرفية - كما يقولون - هو ما نعنيه؛ إذ نتساءل هل يمكن، ~~وكيف يمكن أن «نترجم» تراثنا ترجمة حضارية، بمعنى أن نحافظ على عبيره في حياة معاصرة؟ ~~أقول إن هذا النوع من الترجمة ليس هو ما نعنيه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، لأعدنا القديم ~~نفسه بلا تغيير، سوى أن نحول المخطوط - مثلا - إلى مطبوع، أو أن نحول المطبوع إلى ~~مطبوع ومشروح، أو أن نغير الورق الأصفر إلى أبيض ناصع مصقول. # صورة أخرى للترجمة # لكن للترجمة صورا أخرى، منها ترجمة الشعر من لغته الأصلية إلى لغة أخرى، صحيح أن ~~الرأي مجمع على أن ترجمة الشعر مستحيلة، إلى الدرجة التي أراد بها الشاعر الأمريكي ~~«روبرت فروست» أن يعرف (بتشديد الراء) الشعر، فلم يجد خيرا من قوله إنه هو ذلك الجزء ~~من الكلام الذي يستعصي على الترجمة، وها هو ذا الجاحظ في أول الجزء الأول من كتابه ~~«الحيوان» يقول عن الشعر وصعوبة ترجمته: «الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه ~~النقل، ومتى حول تقطع نظمه وبطل وزنه، وذهب حسنه وسقط موضع التعجب ... وقد ~~نقلت كتب الهند، وترجمت حكم اليونانية، وحولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، ~~وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت كلمة العرب (التي هي في أشعارهم) لبطل ذلك المعجز ~~الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في ~~كتبهم.» # ومع ذلك فقد شهد تاريخ الآداب العالمية ترجمات للشعر، ترجم شكسبير إلى لغات ~~كثيرة، وترجمت إلياذة هومر إلى الإنجليزية (وغيرها) على أيدي فحول الشعراء، وكان منهم ~~«بوب» و«تشابمان»، وترجم الخيام ترجمات ذائعة الصيت، كترجمة فتزجرولد لها، فلنقف هنا ~~وقفة متأنية، باحثين عن جوهر الترجمة عندما تكون نقلا للشعر من لغة إلى لغة؛ لأننا ~~نلمح في مثل هذه الترجمة شيئا هاما مما نريد تحقيقه عند «ترجمتنا» الحضارية التي تضع ~~تراثنا في إطار جديد، هو إطار العصر الحاضر بكل ما فيه من علوم وتقنيات (تكنولوجيا) ~~وأجهزة إلكترونية وغيرها. # ماذا يصنع مترجم الشعر؟ إنه بالبداهة لا ينقل عن ms040 النص كلمة كلمة، بل هو لا ينقله جملة ~~جملة، إنما هو ينقله - على أحسن الفروض - مقطوعة مقطوعة، ولقد كان لي في ذلك خبرتان: ~~إحداهما عندما قرأت الترجمة الإنجليزية لرباعيات الخيام - ترجمة فتزجرولد - فقد وجدت ~~عندئذ شيئا لم أكن أعرفه من قبل، ولا توقعت حدوثه، وهو أن المترجم كان يعيد ترجمة ~~المقطوعة الواحدة أحيانا ليظفر لنفسه بصورة ترضيه، فكم عجبت يومئذ حين رأيت المقطوعة ~~الواحدة في صورها المختلفة عند هذا المترجم الواحد، توشك ألا تكون هي هي المقطوعة ~~ذاتها؛ فالشاعر الإنجليزي في ترجمته للشاعر الفارسي، كان أقرب إلى من يحول الخبز ~~واللحم في طعامه إلى دماء تجري في عروقه؛ فهذه الدماء هي في الحقيقة «ترجمة» لما كان ~~أكله من لحم وخبز، وهكذا كان أمره مع الرباعيات، لقد شربها شربا وخلطها بذاته خلطا ~~ثم أخرجها كائنا جديدا، وكان هذا الكائن الجديد هو رباعيات الخيام، ولم يكن هو ~~رباعيات الخيام في آن واحد، ها هنا تكون الترجمة خلقا جديدا، لكنها في الوقت نفسه هي ~~هي الأصل الذي هي ترجمته، إنها أقرب إلى ما يصنعه النحل وهو يحول الزهر إلى عسل، منها ~~إلى النمل الذي يدع طعامه مخزونا كما وجده. # محاولة لترجمة شعر العقاد # وأما الخبرة الثانية التي أشرت إليها، فكانت حين أردت (في الأربعينيات وأنا في ~~إنجلترا) ترجمة شيء من شعر العقاد، وكان ذلك أول الأمر في مناسبة ثقافية اقتضت أن أعرض ~~على الناس نموذجا من الوجدان العربي الجديد، فترجمت شعر العقاد شعرا إنجليزيا، ~~فعرفت بالمعاناة كيف أن الأمر هنا يحتاج إلى شيء من الهضم وإعادة التشكيل. # إن مترجم الشعر لا غنى له عن تقمص الشاعر الذي يترجمه في لحظات إبداعه الشعري، ~~لتجيء الترجمة حاملة الشروح نفسها التي بثها الشاعر في شعره، فلا علينا بعد ذلك أن ~~يتغير اللفظ من أصل إلى صورة، وفي هذه المناسبة من الحديث أذكر أنني - منذ نحو خمسة ~~عشر عاما - وقد كنت حينئذ عضوا في لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ~~بالقاهرة، وكان مقرر اللجنة هو العقاد ms041 ، وأردنا أن ننهض بمشروع ترجمة مختارات من الشعر ~~العربي إلى لغات أوروبية مختلفة، ونيط بي أمر الترجمة إلى الإنجليزية فعن لي أن أتصل ~~بالشاعر «أزرا باوند» وهو في منفاه في إيطاليا أيامها، واستطعت الحصول على عنوانه. ~~والمعروف أن «أزرا باوند» ترجم إلى الشعر الإنجليزي شعرا شرقيا من اليابان والصين، ~~فأرسلت إليه أعرض عليه أن نرسل إليه صورة نثرية دقيقة لما نريد ترجمته من الشعر العربي ~~إلى شعر إنجليزي، ليضطلع هو بصياغتها في شعر إنجليزي، فأرسل الرجل إلي يوافق من حيث ~~المبدأ، ولكنه يشترط أن نسجل له الشعر العربي المراد ترجمته على شرائط، ليسمعها وهي ~~مقروءة بالعربية، حتى يمتلئ بالنغم العربي قبل أن يترجم، ضمانا لدقة النقل الأدبي من ~~لغة إلى لغة. # إن أمانة الترجمة في الشعر لا يقصد بها دقة التوافق والتطابق بين نص لغوي ونص ~~لغوي آخر، بل يقصد بها قبل ذلك وبعد ذلك دقة التلاؤم عند المترجم بين الترجمة ونفسه، ~~فما ليس له في نفسه صدى، يستحيل أن تجيء ترجمته شعرا كما كان في أصله شعرا؛ فالترجمة ~~في الشعر هي أشبه شيء بالتصوير الفوتوغرافي عندما يكون المصور فنانا، لأننا نستطيع ~~القول إن هناك ثلاث درجات في التصوير: التصوير الفوتوغرافي الصحفي - إذا صح هذا التعبير ~~- يتلوه التصوير الفوتوغرافي الفني، ثم يتلوه التصوير الفني الذي ليس له أصل يراعيه؛ ~~ففي ترجمة الشعر يكون أمامنا أصل لا بد من مراعاته، لكننا في الوقت نفسه إذ نراعيه ~~ونأخذه في الاعتبار الأول، لا نتقيد بتفصيلاته ما دمنا نحافظ له على روحه وجوهره، إن ~~مترجم الشعر إنما يضع لنا طريقة استجابته للشعر الذي يترجمه، ولا يهمه أن يضع لنا ~~صورة طبق الأصل منه، وهذه هي «الأمانة» المطلوبة في هذه الحالة فهي ليست الأمانة ~~الشكلية المتحجرة المقيدة، ولكنها الأمانة بعد أن دبت فيها الحيوية حتى لا تكون ~~القطعة المترجمة كالجثة الهامدة، ولقد قال في ذلك فتزجرولد - مترجم الخيام إلى ~~الإنجليزية - قال في ذلك: «إن لم تكن ذاكرتي قد أخطأت نسبة القول إلى قائله: إنني أوثر ms042 ~~عصفورا حيا على نسر محنط.» # ونعود بعد هذه السياحة الطويلة في ترجمة الشعر، إلى موضوعنا الأصلي: # رءوس ثلاثة # كيف نعيش بماضينا في حاضرنا؟ والآن أقدم الجواب: إننا نفعل ذلك بمثل ما يعيش مترجم ~~الشعر قصيدة الشاعر الأصلي ولكنه يعيشها في لغته هو التي يترجم إليها، حاول أن ترسم ~~لنفسك هيكلا تخطيطيا عاما للحياة عند أسلافنا، فكيف تراها؟ أما أنا فأراها حياة ~~تتركز أساسا في رءوس ثلاثة: خليفة وفقيه وشاعر، وبعد ذلك تجيء مناشط الناس من تجارة ~~وصناعة وملاحة بالبحر وانتقال في البر وحروب ... إلخ إلخ، لكن الأقطاب التي تدور حولها ~~الرحى هي هؤلاء، فكيف نترجم هذا الهيكل ترجمة شعرية؟ # لم تعد رئاسة الحكم إلى خلافة، ولكنها - إذا سايرت عصرنا - رئاسة تعتمد على جماعة ~~من الفنيين في مناحي الحياة؛ فهم مهندسون واقتصاديون وزراعيون وما إلى ذلك، وليس هذا ~~التغيير مقتصرا على الشكل، بل هو ضارب إلى الجذور؛ لأنه إذا كان الخليفة بغير حاشية من ~~التكنوقراطيين، فهؤلاء التكنوقراطيون اليوم بغير أبهة الخلافة، فالأمر هنا أمر علم ~~وتطبيقه، وليس العلم في حياة عصرنا «متبجحا» كما قال الكاتب العربي الذي أشرت إليه في ~~أول المقال، بل هو من حياتنا اليوم في صميم الصميم، أو ينبغي أن يكون كذلك. # كان الخليفة وإلى جانبه الفقيه يعملان معا على ضبط السلوك ضبطا ترضى عنه قواعد ~~الإسلام، وهذا شيء كان ولا بد أن يكون وأن يظل كائنا، لكن الذي يتغير في «الترجمة» ~~الحضارية هو أن وظيفة «الحكومة» لم تعد محصورة في هذا الإطار، بل امتدت لتشمل كل ~~نواحي النشاط البشري من اقتصاد إلى صحة وتعليم، إلى تنظيم وسائل التسلية في أوقات ~~الفراغ، وأن امتداد نطاق الحكومة إلى هذا المدى الشامل، ليطرد اطرادا دقيقا في عصرنا ~~مع غزارة العلم وما يصحب العلم من تقنيات. # الفنون بمعناها الحديث # وأما دور الشاعر في حياة أسلافنا فهو يلخص دور الفنون كلها بمعناها الحديث: الشعر ~~والموسيقى والتصوير والنحت والعمارة وسائر ما يصاحبها من فروع، فلو ترجمنا الهيكل ~~الحضاري القديم إلى هيكل حديث، قلنا ms043 إنه في مكان الخليفة والفقيه والشاعر، أضع العالم ~~والمشرع والفنان، وبديهي أن العالم لن يكون عالما إلا بعلم عصره، وأن المشرع لن يكون ~~مشرعا إلا إذا أخذ في اعتباره حياة عصره، وأن الفنان لن يكون فنانا إلا إذا امتص ~~رحيقه من زهرات عصره، على أن هذا الثلاثي العصري الجديد، سيكون له من تراثه الأصيل إطار ~~عمله كله، وهو إطار قوامه اللغة العربية أداة للتعبير، وقواعد الدين وأصوله أساسا ~~للتشريع. # | حاضر الثقافة العربية # 1 # للفكر العربي - المعاصر منه وغير المعاصر على السواء - موقف يتكرر بصورة متشابهة، ~~كلما التقى بثقافة وفدت إليه من خارج حدوده، وهو موقف يتلخص في أنه، بعد أن يفتح ~~نوافذه للثقافة الوافدة، حتى يتم لها انتشار ورسوخ في دوائر العلم والفلسفة والفن ~~بدرجة ملحوظة ومؤثرة، ينهض من هذه الدوائر نفسها، من يخشى على الهوية الإسلامية ~~العربية أن تضيع، فيعلن معارضته للثقافة الوافدة، معارضة لا بقيمها على مجرد الرفض ~~الأبكم، بل بقيمها على مناقشة لمقوماتها، ملتمسا فيها مواضع ضعف وتناقض، أو مواضع ~~تعارض مع الشريعة الإسلامية، أو مع المبادئ الأولية لوجهة النظر العربية إلى الكون ~~وإلى الإنسان. # على أن هذه المعارضة نفسها، لا تلبث أن تستثير من يتصدى للدفاع عن الثقافة ~~الوافدة، مؤسسا دفاعه في أغلب الحالات، على أنه لا تعارض بين الأفكار الجديدة ~~والشريعة الإسلامية، أو بينها وبين الوقفة العربية، وإنما هي أفكار من شأنها أن توسع ~~وأن تطور وأن تغذي، دون أن تعمل على الهدم أو الإبادة، وقد يحدث أحيانا أن يظهر ~~بين الطرفين فريق ثالث يختار لنفسه موقفا وسطا، يبتغي به إقامة كيان ثقافي جديد، ~~يجمع بين مقومات الطرفين في صيغة ثالثة. # ومن يمعن النظر في بنية الفكر العربي في عصره القديم، وبنيته في العصر الحديث، ~~يلحظ بين الحالتين تشابها شديدا؛ ففي كلتا الحالتين فتحت النوافذ بغير تحفظ أمام ~~ثقافة تجيء من خارج، والذي يهمنا في هذا المقام، هو ما جاء من «الغرب» في كلتا ~~الحالتين: من التراث اليوناني في الحالة الأولى، ومن أوروبا وأمريكا بصفة عامة ms044 في ~~الحالة الثانية، وفي كلتا الحالتين كان النقل على نطاق واسع، بل وبتدبير من الدولة؛ ~~فالشبه قريب بين «دار الحكمة» التي أنشأها الخليفة المأمون في بغداد في أواخر الثلث ~~الأول من القرن التاسع الميلادي، لتقوم بترجمة الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني، وبين ~~«مدرسة الألسن» التي أنشأها محمد علي في مصر في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ~~لترجمة ما أمكن نقله من الفكر الأوروبي الحديث، وجعل الإشراف عليها لرفاعة ~~الطهطاوي. # وفي كلتا الحالتين (العصر القديم والعصر الحديث) تغلغل الفكر المنقول في شرايين ~~الحياة الثقافية، فبات أثره واضحا فيما يكتب وما يقال، حتى إذا ما بلغ ذلك مداه، ~~وخيف أن يتجاوز المدى إلى الحد الذي يهدد الطابع الأصيل للفكر العربي عامة، وللشريعة ~~الإسلامية بصفة خاصة، نهض من الأعلام البارزين من يقاومه، ببيان ما انطوى عليه من ~~تناقض، ولقد بلغت المقاومة في العصر القديم فنها في «الغزالي» بكتابه «تهافت ~~الفلاسفة» الذي أراد به أن يظهر مواضع التناقض في الفلسفة اليونانية (وفلسفة أرسطو ~~بصفة خاصة) كما أراد به في الوقت نفسه أن يشير إلى الخطر الذي يتهدد العقيدة ~~الإسلامية بتأثير تلك الفلسفة، ويقابل ذلك في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني، بكتابه ~~«الرد على الدهريين» (أي الرد على أصحاب الفلسفة المادية)؛ إذ اضطلع الأفغاني - وبعده ~~الشيخ محمد عبده - بالمهمة نفسها، وهي أن يناقش المذاهب المادية التي شاعت في أوروبا ~~إبان النصف الثاني من القرن الماضي، ومنها نظرية التطور التي أخذ بها دارون، مناقشة ~~أراد بها إظهار مواضع الخطأ كما يراها، ثم أراد في الوقت نفسه أن يبين خطورة تلك ~~المذاهب على العقيدة الإسلامية. # وفي كلتا الحالتين - العصر القديم والعصر الحديث - لم تكن تلك المقاومة لتفلت دون أن ~~يتصدى لها مؤيدون للثقافة الجديدة الوافدة، ولقد كانت المواجهة التي قامت بين «تهافت ~~الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت»، لابن رشد، من أهم ما رصده تاريخ الفكر الإسلامي ~~العربي في هذا الصدد؛ إذ لم يكن الأمر في تلك المواجهة مقصورا على كتاب أصدره صاحبه ~~ليفند به كتابا أصدره ms045 مؤلف آخر، وإلا فتاريخ الفلسفة مليء بأمثال هذه المعارضات، ~~التي يرد بها فيلسوف على ما نشره فيلسوف آخر، بل إن المعارضة التي قامت بين «تهافت ~~الفلاسفة» للغزالي، و«تهافت التهافت» لابن رشد، كانت في حقيقتها تعارضا بين وقفتين ~~حضاريتين، ونظرتين ثقافيتين، فكأنما الاختلاف بين الرجلين كان اختلافا حول الإجابة عن ~~هذا السؤال: أنأخذ حضارة معينة بعض أصولها الثقافية من حضارة أخرى؟ لا سيما إذا كانت ~~الحضارتان من لونين مختلفين، أم إن في هذا الأخذ خطرا على المتلقي أن تنمحي هويته في ~~هوية من جاء منه العطاء؟ ومن أجل هذه النقطة ذاتها، كان المؤيد للنقل عن الآخرين، ~~يستند دائما إلى الزعم بأن مثل هذا النقل لا يتعارض مع الملامح الرئيسية للثقافة ~~الناقلة. # وكما تصدى ابن رشد قديما للغزالي في ثورته على فلسفة اليونان المنقولة إلى الثقافة ~~العربية، كذلك تصدى كثيرون في عصرنا الحديث للذين أرادوا مقاومة الأخذ عن ثقافة ~~الغرب؛ فإلى جانب الأفغاني في «الرد على الدهريين» كان هناك شبلي شميل الذي بذل جهده ~~كله دفاعا عن تلك المذاهب المادية التي هاجمها الأفغاني، ولو استعرضنا الفكر العربي ~~خلال ما انقضى من القرن العشرين، لوجدناه سلسلة من مواجهات جاءت على هذا النمط: فكر ~~يأتي من الغرب، فيسري في حياتنا الثقافية، فينهض من يقاومه لخطره على الطابع الأصيل، ~~فلا يلبث أن يظهر من أنصار الجديد من يدافع عن الفكر الوافد، بحجة أنه مصدر قوة لنا ~~لا مصدر ضعف. # والذي نلحظه في هذا التعاقب بين النقل عن الآخرين، ثم معارضة المنقول، ثم معارضة ~~المعارضة، هو أنه - في جميع الحالات تقريبا - كان الأقدر على البقاء على طول المدى، هو ~~الطابع الأصيل التقليدي الموروث، ولكنه يبقى بعد أن يكون قد امتلأت خلاياه بغذاء صحي ~~مما استمده من الثقافات الأخرى، ولا غرابة - إذن - أن نجد اللقاء الحاد بين الغزالي من ~~جهة وابن رشد من جهة أخرى، قد انتهى إلى رسوخ الغزالي في الوجدان العربي والإسلامي، على ~~حين أن ابن رشد كادت تقتصر أهميته على الغرب، عن طريق ms046 شروحه للفلسفة الأرسطية، وكذلك ما ~~حدث في اللقاء الفكري بين أنصار التقليد وأنصار التجديد في حياتنا المعاصرة؛ فالبقاء ~~الأقوى هو لأنصار التقليد، ولكنه بقاء أترعت شرايينه بدماء الفكر الجديد. # 2 # على أنه إذا كان هناك ذلك الشبه في خطوات التعاقب التي شهدها الفكر العربي قديما ~~والفكر العربي حديثا، فهنالك بينهما من اختلاف ما له في موضوعنا هذا أهمية كبرى، وذلك ~~أن الأمر في الحالتين قد تغيرت صورته تغيرا بعيد المدى، من حيث درجة التركيب، ~~فبينما هو في الحالة الأولى لم يزد على لقاء بين موضوعين، أحدهما - وهو الشريعة ~~الإسلامية - قائم وأصيل، والآخر - وهو الفلسفة اليونانية - وافد ودخيل، نراه في الحالة ~~الثانية قد كثرت عناصره وتعقدت، ولم يعد لقاء بين موضوعين، بل أصبح لقاء بين أكثر ~~من موضوع في الجانب الأصيل، وأكثر من موضوع في الجانب الوافد. # فها هنا شريعة إسلامية يراد لها أن تصان، كما كانت الحال في الموقف القديم، لكننا ~~أضفنا إليها في موقفنا الحاضر لغة عربية وأدبا عربيا وعددا كبيرا من نظم الحياة ~~كما كانت قائمة، ثم وفد إلينا كذلك جملة عناصر متشابكة دفعة واحدة، فجاءت العلوم ~~الحديثة على اختلافها، وجاءت معها أجهزتها والآلات الناجمة عنها، وجاءت إلينا فنون ~~الغرب بشتى ألوانها، من موسيقى إلى تصوير ونحت وعمارة، كما جاءت معها صور جديدة للأدب ~~لم تألفها من قبل، إذ جاءت المسرحية والقصة (بمعناها في الأدب الغربي)، ثم جاءت إلينا ~~مع العلوم والفنون وصور الأدب، نظم لم تكن هي النظم السائدة عندنا، نظم في الحكم وفي ~~الاقتصاد، وفي القضاء، وفي التعليم، وفي سائر جوانب الحياة، فكان محالا - والحالة هي ~~هذه - أن يقتصر الأمر على ما اقتصر عليه في الموقف القديم، بأن تنحصر المسألة في عملية ~~التوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، بحيث أصبح الحل عندهم - أو أوشك أن ~~يكون - قراءة للفلسفة بلغة الشريعة، أو قراءة للشريعة بلغة الفلسفة، فتزول بذلك أوجه ~~التباين بين الجانبين، بل تعقد الأمر في موقفنا الحديث تعقدا تعذر علينا معه أن نجد له ~~حلا حاسما إلى ms047 يومنا هذا. # لقد بدأ اللقاء الثقافي الجديد منذ أكثر من قرن ونصف قرن، وكانت نقطة البداية هي ~~الشرارة التي انقدحت عند التقاء الثقافة العربية، بعد بيات شتوي دام نحو ثلاثمائة عام، ~~بالثقافة الأوروبية الحديثة، وعندئذ اضطربت صفوفنا، وانقسمنا مجموعات أشتاتا، كل ~~منها ترى الخطأ فيما تراه الأخرى صوابا، وهي مجموعات ما تزال إلى يومنا هذا - بعد ما ~~يزيد على قرن ونصف قرن - مشتتة الفكرة، متفرقة الرأي، تتباين - وهي متجاورة - تباين ~~الألوان في طيف الشمس. # فهنالك طرفان متطرفان: طرف منهما يجزع من الثقافة الغربية الحديثة أشد الجزع، ~~ويعدها ثقافة دخيلة تستهدف التسلط والسيطرة، ويلوذ منها بمكمن من التراث العربي ~~الإسلامي الصرف، حتى ليكتب الكاتب من هذه الجماعة، وكأن عشرة قرون لم تذهب من عمر ~~الزمان، وأما الطرف المتطرف الآخر، فيفرح بالثقافة الغربية الجديدة فرحة الأطفال باللعب ~~والهدايا، يقبلونها ولا يحللونها، ويلمسون أسطحها ولا يتعمقونها إلى ما وراءها؛ فهؤلاء ~~يفزعهم أن تذكر لهم شيئا عن تراث عربي، ينبغي له أن يخرج إلى الضوء ليحيا بنا ولنحيا ~~به، وبين هذين الطرفين، تجد صنوفا شتى من الأمزجة، التي تأخذ بطرف من هنا وطرف من ~~هناك، بنسب متفاوتة. # فمنهم من يقبل الغرب كله وتراثنا العربي كله، ويحسب أن الجمع بينهما في تجاور ~~أمر ممكن، كما صنع العقاد، ومنهم من يقبل الغرب كله، وبعض التراث العربي دون بعض كما ~~صنع طه حسين، ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الثقافة الغربية دون بعض، كما صنع محمد ~~عبده في قبوله للعلوم الحديثة، ومنهم من يتحفظ في قبول التراث وفي قبول الغرب معا، ~~بمعنى أن يجري التعديل في كليهما، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم، ومنهم من يكاد ~~يرفض الجانبين معا، فلا هو قد تعلم شيئا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى ~~بقبول الثقافة الغربية كما هي، خشية أن يقال عنه إنه متنكر لأصوله، وأمثال هؤلاء ~~تراهم اليوم بكثرة، خصوصا في ميادين الأدب من شعر وقصة ومسرحية؛ ومن هنا جاءت سطحيتهم، ~~ولكن من هنا أيضا جاء السر في ms048 إبداعهم الذي يحاولونه بدرجات متفاوتة من التوفيق، وذلك ~~لأنهم حين أزاحوا عن عواتقهم القيود التقليدية أو المنقولة عن الغريب، انفسح أمامهم ~~مجال الخلق الجديد. # ولكن هذا كله قد حدث حينما كان أمامنا قديم وجديد موضوعين جنبا إلى جنب، فكان علينا ~~أن نختار بينهما، أو أن نمزجهما في مزيج واحد، وأما في الميادين التي لم يكن أمامنا ~~فيها إلا بديل واحد: فإما هو قديم لم ينافسه جديد، وإما هو جديد لم ينافسه قديم، فلم ~~يختلف فيه الرأي عندنا إلا قليلا؛ فليس بيننا - مثلا - من يتشكك في أن تكون لغتنا ~~العربية هي الأداة الرئيسية في نقل الثقافة ونشرها، كما أنه ليس بيننا - من الجهة ~~الأخرى - من يتشكك في تقبل العلوم الحديثة بأجهزتها وآلاتها. # خليط متباين الخطوط كما ترى، وهو خليط يدل على أننا لم نفق بعد من هول الصدمة التي ~~اصطدم بها الفكر العربي بالفكر الغربي الحديث، ولا عجب - إذن - أن يمضي على بدء نهضتنا ~~الحديثة أكثر من قرن ونصف قرن، دون أن يكون بين أيدينا الصيغة الثقافية الجديدة التي ~~نطمئن إليها. # ونتج عن غياب هذه الصيغة، أن أصبحت ردود أفعالنا لفروع الفكر الوافد إلينا من الغرب، ~~ردودا تختلف باختلاف الموضوع، ومع ذلك فنحن في كل موضوع على حدة لا نلتقي جميعا على ~~رأي واحد، وحتى أكثر هذه الموضوعات قبولا، وهو العلم الحديث بميادينه المختلفة، فنحن ~~إلى اليوم مختلفون تجاهه من عدة وجوه، مختلفون في أمر تعريبه، فمنا من يأخذ بالتعريب ~~الكامل لكل الميادين، لكي نصب ثقافة العصر في لغة عربية، فيجوز عندئذ - وعندئذ فقط ~~- للعربي أن يقول إنه يعيش عصره حقا، ومنا من يريد أن يقصر التعريب على ميادين ~~دون أخرى، فلا بأس عند هؤلاء أن تظل موضوعات كالطب وبعض العلوم الأخرى في لغة ~~أوروبية - اللغة الإنجليزية بصفة خاصة - ~~بحجة أن تلك العلوم سريعة التغير، ويتعذر على التعريب أن يلاحقها. # على أن قبولنا العام للعلوم الحديثة، لا يشمل العلوم الإنسانية؛ إذ إننا في هذا ~~المجال مختلفون اختلافات بعيدة، وعلة ذلك هي ms049 أننا حين نكون بصدد علوم تمس الإنسان ~~وحياته، فنحن بالتالي نكون أمام صنوف من الرأي قد تمس القيم الموروثة التي ~~نعدها جزءا من كياننا، وقد يبلغ اختلاف وجهات النظر بيننا في العلوم الإنسانية ~~الحديثة، حدا يجعل بعضنا يطالب بعلم اجتماع إسلامي وعلم نفس إسلامي، وعلم اقتصاد ~~إسلامي وهكذا، على أن ما يلفت النظر في هذا السياق هو أن الفكر السياسي - على خطورته ~~البالغة في حياة الإنسان - قلما نسمع من يطالب جادا بفكر إسلامي في السياسة، وحتى إن ~~وجد من يطالب بهذا، فإن مطالبته عندئذ تكاد تخلو من دقة المعنى، ولذلك فنحن في هذا ~~المجال الهام - من الناحية العملية - إذا انقسمنا فيما بيننا، فإنما يجيء انقسامنا داخل ~~إطار الفكر السياسي الآتي إلينا من الغرب، من حيث صورة الدولة والمفاهيم الرئيسية التي ~~يقام عليها نظام الحكم. # وننتقل من دنيا العلوم إلى عالم الفنون والآداب، فترانا كذلك بغير صيغة موحدة من ~~حيث قبول الفن الغربي أو رفضه، ومع ذلك فاختلافنا في هذا المجال تتفاوت درجاته في ~~الفروع المختلفة؛ فالرفض هو الراجح بالنسبة إلى الموسيقى، وقليلون جدا هم الذين ~~يناصرون الأخذ عن الموسيقى الغربية، ومع ذلك فالتيار جارف بسرعة متزايدة نحو تطعيم ~~الموسيقى العربية بعناصر من الموسيقى الغربية، وأما في الفنون التشكيلية، التصوير ~~والنحت، فالأمر على عكس ذلك تماما؛ لأن الأصل هنا هو مسايرة المدارس الفنية التي تنشأ ~~في الغرب، فإذا سمعنا صيحة احتجاج من هنا أو من هناك، تطالب بأن نرتد إلى أصولنا ~~الفنية، كان رجع الصدى عند رجال الفن هو أن يقحموا على أعمالهم بعض العناصر المحلية، ~~ليضفوا على تلك الأعمال طابعا يحمل خصوصية الإقليم، والذي يبرر لرجال الفن أن يركنوا ~~إلى مسايرة الغرب، هو أن تراثنا في الفن التشكيلي يرتد إلى الماضي السحيق - كالفن ~~الفرعوني بالنسبة للفنان المصري - فلا يكون ملزما لبعد المسافة التاريخية، ومع ذلك ~~فلا يخلو الأمر من مثل هذا الارتداد الذي يستلهم الفنان فيه ذلك الفن القديم، كما نرى - ~~مثلا - في نابغة النحت المصري الحديث محمود مختار. # وفي ms050 ميدان الأدب مفارقة تستوقف النظر، وهي أنه على الرغم من أن موروثنا في الأدب أغزر ~~من موروثنا في أي ميدان آخر، فذخيرتنا في الشعر بصفة خاصة، وفي الفن الأدبي بصفة عامة، ~~تعد ركيزة أساسية في بنية الثقافة العربية، وموضع اعتزاز عند المثقف العربي، حتى لقد ~~رفض القائمون على حركة الترجمة التي نشطت في القرن التاسع الميلادي في نقل الثقافة ~~اليونانية القديمة، أن ينقلوا شيئا من أدب اليونان، واكتفوا بنقل الفلسفة والعلم، ~~وكان السبب في موقفهم ذاك - ربما ضمن أسباب أخرى - أنهم لم يشعروا أمام إنتاجهم الأدبي ~~الخاص، بحاجة تدعوهم إلى اللجوء إلى أدب الآخرين، أقول إنها مفارقة في موقفنا الآن من ~~أدب الغرب، إنه برغم غزارة تراثنا الأدبي وارتفاع مستواه، كان تأثرنا بأدب الغرب أقوى ~~ما يمكن أن يكون التأثر، حتى لقد تحول مركز الاهتمام من الشعر (والشعر هو من أبرز ~~ملامحنا التقليدية) إلى القصة والمسرحية، وهما صورتان من الأدب منقولتان عن الغرب؛ إذ ~~لم يكن للأدب العربي قبل ذلك عهد بأي منهما، فلا القصة بمعناها في الغرب الحديث، ولا ~~المسرحية، كان لها وجود عندنا، وحتى الشعر، الذي قال عنه الجاحظ قديما إنه أميز ما ~~يميز العبقرية العربية، قد تأثر في عصرنا هذا بالاتجاهات الجديدة في شعر الغرب، إلى ~~الحد الذي تنكر فيه كثير من شعرائنا المحدثين لتراثنا الشعري في كثرته ~~الغالبة. # وتبقى كلمة نقولها في مجال الفكر الفلسفي عندنا اليوم؛ فها هنا لا يصعب على الرائي ~~أن يلحظ تيارين يسيران جنبا إلى جنب، لا يكاد الواحد منهما أن يؤثر أو أن يتأثر ~~بالآخر، أحدهما يعيد إلى الضوء أعمال الفلاسفة المسلمين الأقدمين، إما عن طريق إعادة ~~نشر تلك الأعمال نشرا علميا محققا، وإما عن طريق التأليف الجديد الذي يعرض ما ~~تضمنته تلك الأعمال، وفي كلتا الحالتين يندر جدا أن يجيء العرض الجديد على صورة ~~نقدية؛ إذ الأغلب أن تحاط المادة المعروضة بهالة من التمجيد، وأما التيار الآخر فهو ~~أصداء للمدارس الفلسفية في أوروبا وأمريكا، وكان من حسن الحظ أن وجدت ms051 كل مدرسة من تلك ~~المدارس أنصارا بيننا، لا يكتفون بمجرد النقل، بل هم يطبعون ما ينقلونه بلمسات من ~~ذواتهم، توشك معها المادة المنقولة أن تصبح وكأنها إنتاج عربي معاصر. # ولا بد لنا في سياق هذا الحديث عن الفكر الفلسفي أن نذكر حركة قوية لها مغزاها، ~~وأعني بها تلك الجهود التي تبذل من بعض المختصين في سبيل إقامة الأدلة على أن الفلسفة ~~الإسلامية كما ورثناها عن أسلافنا، ليست مجرد انعكاس لفلسفة اليونان الأقدمين كما هو ~~الظن عند كثير من مؤرخي الفلسفة الغربيين، بل إن فيها من الأصالة ما يجعل لها كيانا ~~مستقلا قائما بذاته، وكان مصطفى عبد الرازق في أربعينيات هذا القرن هو الرائد في هذا ~~الاتجاه، ثم تبعه آخرون من الباحثين القادرين. # خلاصة القول هي أننا في التقائنا بثقافة الغرب في عصرنا، لم نكن على موقف واحد في ~~شتى مجالات الفكر والفن والأدب، بل تنوعت ردود الفعل بتنوع الميادين، وتفاوتت شدة ~~وضعفا؛ فقد ننقل نقلا كاملا في مجال كمجال العلوم، وقد نتحفظ في النقل كثيرا أو ~~قليلا في مجالات أخرى؛ فلم تكن حالنا في هذا العصر شبيهة كل الشبه من حيث درجة ~~التعقيد والتركيب بحالة أسلافنا في القرن التاسع عشر عندما وقفوا من أوروبا وغيرها، مثل ~~وقفتنا اليوم، وربما عزونا ذلك - من بعض الوجوه - إلى فارق هام بيننا وبينهم؛ فبينما ~~هم كانوا ينقلون عن سواهم حين كانوا هم في موضع القوة والريادة، ترانا اليوم حين ننقل ~~عن الغرب، فإنما نفعل ذلك في وقت يمسك الغرب خلاله بزمام القيادة والريادة. # 3 # على أنه إذا كانت ردود فعلنا على ثقافة الغرب الحديث قد تفاوتت فيما بينها، قبولا ~~ورفضا وشدة وضعفا في المجالات المختلفة، فلا يصعب علينا برغم هذا التفاوت أن نرى وراء ~~هذا التنوع شيئا من التجانس في الخطوط الرئيسية، هو الذي يحدد ملامح الفكر العربي ~~الحديث، ويمكن النظر إلى هذا التجانس على درجتين: # الأولى: # هي أن ننظر إلى الفكر العربي المعاصر إبان سنوات القرن العشرين ~~على مرحلتين، ولنأخذ عشرينيات القرن نموذجا للمرحلة ms052 الأولى، ~~والسبعينيات نموذجا للمرحلة الثانية، فعندئذ تسهل علينا رؤية الوجوه ~~المتجانسة في كل مرحلة على حدة (وسنرى بعد قليل أن كلتا المرحلتين ~~تعودان فتلتقيان في أسس واحدة). # أما في العشرينيات، التي كانت قد بدأت بثورة سياسية تطالب بالحرية ~~السياسية من المستعمر الأوروبي، فقد تفجرت عدة ثورات فرعية تلتمس ~~الحرية في كل ميدان من ميادين الحياة الثقافية: الموسيقى، والشعر، ~~والنقد الأدبي، والفنون التشكيلية، والدراسات الأكاديمية، ولم تقم ~~تلك الثورات الفرعية على نزوات سرعان ما تختفي، بل قامت على نهج ~~مستقيم ثابت، كان قوامه ذا شطرين: إحياء التراث بالطرق العلمية، وعرض ~~الفكر الأوروبي عرضا محايدا، وكان الأمل أن يلتقي ذاك الشطران ~~فيتولد عنهما وليد جديد يكون هو الفكر العربي المعاصر، المطبوع ~~بطابع العربية من جهة وبطابع العصر من جهة أخرى، وكان الأغلب أن تجتمع ~~تلك الأضلع الثلاثة في الرجل الواحد من الأعلام الرائدين؛ فطه حسين - ~~مثلا - أحيا التراث وعرض ثقافة أوروبا وأنتج الفكر الأصيل المبتكر ~~المستند إلى ذينك المصدرين، في وقت واحد، وكذلك فعل العقاد، وفعل ~~توفيق الحكيم، وفعل الدكتور هيكل، وغيرهم من رجال العشرينيات. # كانت تلك النظرة غير المتحيزة هي وجه التجانس إبان العشرينيات، ~~التي نعدها بحق ذروة عصر التنوير في تاريخنا الفكري المعاصر، وأما ~~السبعينيات فقد سادها تجانس من نوع آخر مضاد، هو العودة إلى أحكام ~~الشريعة الإسلامية في شتى الميادين، وهي عودة تشيع فيها روح الرفض ~~لثقافة الغرب إلى حد كبير. # والثانية: # هي أنه برغم التناقض الظاهر بين المرحلتين، فليس من العسير أن نكشف ~~لهما معا عن جذور مشتركة، هي التي نراها ممثلة للفكر العربي ~~المعاصر في صميمه، وتتلخص تلك الجذور في مطلبين نسعى جميعا إلى ~~تحقيقهما، وإن تفرقت بيننا سبل الوصول، وهما: تثبيت الهوية العربية ~~من جهة، وسد الفجوة بيننا وبين علوم العصر العقلية من جهة أخرى، أما ~~تثبيت الهوية العربية فهو مرتبط ارتباطا وثيقا بمطلب الحرية، فليس ~~بخاف أن المستعمر للشرق العربي فترة من الزمن، كان أوروبيا ~~ومسيحيا في آن واحد، فكيف السبيل إلى التخلص من ذلك ms053 المستعمر إلا ~~أن ألوذ بحياة إسلامية خالصة، وأن أقف موقف الحذر من ثقافة أوروبا ~~التي منها جاء ذلك المستعمر؟ ونتج عن هذه الوقفة نفسها أن أحاول نشر ~~التراث العربي والإسلامي، مع الاجتهاد في شرحه شرحا يبين أنه في ~~صميمه لا يتعارض مع متطلبات العلم الحديث منهجا ومضمونا. # فلو استثنينا عددا قليلا من رجال الفكر في الوطن العربي منذ ما ~~يزيد على مائة عام، وهم أولئك الذين لا يجدون بأسا في أن ننقل الثقافة ~~الغربية الحديثة بحذافيرها وبغير تحفظ أو حذر، أقول إننا لو استثنينا ~~ذلك العدد القليل من المتطرفين نحو الغرب، وجدنا الكثرة الغالبة من ~~رجال الفكر حريصة كل الحرص على تثبيت الهوية القومية بكل الوسائل ~~الممكنة، من إحياء التراث القديم ونشره على أوسع نطاق ممكن، والعودة ~~بكل إخلاص إلى الشريعة الإسلامية كما كانت في أصفى عصورها الأولى، إلى ~~الرغبة الشديدة في بعث الفنون الشعبية والأدب الشعبي (فولكلور)، والزهو ~~بارتداء الثياب الدالة على الانتماء إلى الوطن، واختصارا فإن الكثرة ~~الغالبة من المفكرين منذ ما يزيد على قرن من الزمان، لا تألو جهدا في ~~إبراز الخصائص الذاتية بكل وسيلة ممكنة. # لكنها وهي تسعى نحو هذه الغاية لرد اعتبارها بعد فترة طويلة من ~~تحكم المستعمر الغربي، لم يفتها أن تتقبل التحدي الكبير الذي ~~يلقيه العصر، ألا وهو العلم الحديث بكل فروعه الطبيعية والرياضية ~~والاجتماعية، وما صحب تلك العلوم من تكنولوجيا، فكان جواب الفكر العربي ~~المعاصر على هذا التحدي، هو الإصرار على أن الإسلام يقبل بل ويحض على ~~انتهاج مناهج العلم كائنة ما كانت على اختلاف عصورها؛ لأن تلك المناهج ~~قائمة على منطق العقل، ومنطق العقل هو ما يتميز به الإسلام في دعوته ~~الصريحة المتكررة للتفكير المستند إلى إقامة الدليل، ونظرة سريعة إلى ~~ما تخرجه المطابع العربية خلال ربع القرن الأخير، كافية لإدراك ~~النسبة الكبيرة التي ظفرت بها المؤلفات التي أريد بها بيان الاتساق ~~الكامل بين ما جاء به الوحي، وما انتهت إليه علوم العصر. # ولسنا نذكر هذه الحقيقة هنا لنؤيدها أو لندحضها ms054 ، بل لنقرر بها ~~الأمر الواقع فيما يختص بالصفات الرئيسية المميزة للفكر العربي ~~المعاصر؛ فمنذ الشيخ محمد عبده ومحاولاته الناجحة في معظم الحالات، بأن ~~يفسر مبادئ العقيدة الإسلامية وأحكام شريعتها، تفسيرا يبين به أن ~~تلك المبادئ ليس فيها ما يتعارض مع علوم عصرنا، أقول إنه منذ نهج محمد ~~عبده هذا المنهج، بات هو المنهج الذي يرسم خطوات السير لرجال الفكر ~~جميعا (باستثناء القلة التي ذكرناها) إلى يومنا هذا، مع اختلافات ~~فرعية داخل هذا الإطار، خصوصا فيما يتصل بالعلوم الاجتماعية إذا ما ~~مست شيئا من قيم الحياة الأساسية. # على أن هذا الموقف السلبي الذي يلوذ بحصنه التاريخي، ويكتفي من علوم ~~عصره بأن يتلقاها راضيا، على أساس أن ثقافته التقليدية لا تتعارض ~~معها، وإن يكن هو الموقف الذي يصطنعه جمهور المتعلمين بصفة عامة، إلا ~~أنه ليس هو موقف الرواد في مجال الفكر؛ فهؤلاء الرواد لا يرضيهم أن تظل ~~حياتنا الثقافية على هذه الصورة السكونية السلبية التي قصارى جهدها هو ~~أن تبين أن لا تعارض بينها وبين ما يعج به الغرب من علوم وفنون، بل ~~يريدون أن يقيموا من عناصر الثقافة التقليدية الموروثة نفسها نمطا ~~جديدا، بمعنى أن يستلهموا الماضي في استخراج صيغة عربية جديدة تتلاءم ~~مع روح العصر؛ فليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء هو - مثلا - ما ~~دعا إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي من أن البنيان الثقافي إما أن ~~يقوم على أسس أخلاقية وإما أن يقوم على أسس جمالية، وأن ثمة برزخا ~~بين النمطين، فإذا زعمنا أن الثقافة العربية الأصيلة من الطراز الأول، ~~وأن ثقافة الغرب من الطراز الثاني، لم يكن ثمة أمل في أن تستقي إحداهما ~~من الأخرى، وكذلك ليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء الرواد، هو ما ~~يحاوله المفكر العراقي محمد باقر الصدر من محاولة إيجاد صورة إسلامية ~~للعلوم الإنسانية كالفلسفة والاقتصاد والمنطق؛ لأن مثل هذه المحاولة في ~~حقيقتها بمثابة إقامة السدود التي تحول دون أن تمتزج الثقافتان في ~~تيار واحد، بل إن النموذج الأمثل المنشود هو قريب جدا مما ms055 حاول صنعه ~~طه حسين، ومؤداه أن نجدل الثقافتين في جديلة واحدة، يكون طابعنا الأصيل ~~الموروث أحد مقوماتها، ومناهج العصر وحصيلة علمه وفنه مقومها الآخر، ~~وقد يتحقق ذلك بأحد اتجاهين: فإما أن نستعير من الغرب الإطار لنملأه ~~بمضمون من عندنا، كما حدث في أدب القصة والمسرح وفي النقد الأدبي على ~~يديه، وإما أن نستعير المضمون الفكري من الغرب لنضعه في إطار من ~~عندنا، كما يحدث فيما ننقله إلى العربية من علوم، وفيما نطوره من ~~مدارس الفن الغربي لنخرج فنا يلائم ذوقنا، وواضح أننا في كلتا ~~الحالتين نحقق شيئا جديدا ذا طابع خاص، فلا هو بالضبط ما يصنعه ~~الغرب، ولا هو بالضبط ما صنعه العرب الأقدمون. # | طريق العقل في التراث الإسلامي # 1 # القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، أوحي به إلى النبي محمد عليه السلام، وقد ورد في ~~الكتاب أن محمدا هو «خاتم النبيين»، وبهذا كانت رسالة الإسلام هي آخر رسالة سماوية إلى ~~الإنسان؛ وتعليل ذلك هو أن الإنسان - بناء على العقيدة الإسلامية نفسها - قد أحيل إلى ~~أحكام «عقله» كلما جدت له في حياته مشكلات يريد لها حلا، بعد أن كانت تلك المشكلات، ~~كلما تراكمت، هبطت الهداية من السماء، رسالة إلى نبي ليهدي بها قومه إلى سواء ~~السبيل. # إنه لو كانت مسائل الحياة العملية كلها، محلولة بنصوص مباشرة وصريحة، في شريعة كتاب ~~منزل على نبي - منذ نزول الرسالة وإلى الأبد - لما احتاج الإنسان في مواجهة حياته، ~~لا إلى رسالة إلهية أخرى تهديه، ولا إلى عقله ليحتكم إليه كلما أشكل عليه أمر من ~~أموره، إلا بمقدار ما يستطيع به أن يستخرج للموقف الطارئ حكمه المناسب من كتاب الله، ~~لكن حقيقة الأمر، هي أن الإنسان - على طول المدى - قمين أن يواجه أحداثا طارئة غير ~~مسبوقة بأشباه لها، ولا منصوص عليها في الكتاب الموحى به من السماء؛ فها هنا يريد ~~الإسلام من المسلم أن يحتكم إلى منطق العقل، وكانت تلك هي المرة الأولى في الرسالات ~~الإلهية، أن يحال الإنسان - بحكم الرسالة نفسها - إلى عقله، كلما جدت مشكلة ms056 لم ~~يرد لحلها نص في كتابها. # وماذا يقصد بالعقل ومنطقه في هذا السياق؟ المقصود ~~به أمور ثلاثة على وجه التخصيص، إن لم يكن كذلك على وجه الحصر والتحديد: # أولها: # استخدام منهج الاستدلال، الذي يتيح للباحث أن يستخرج من النص القائم ~~محتواه، وذلك حين يكون ذلك المحتوى مضمرا في الألفاظ وتركيبها، بحيث ~~يحتاج ظهوره إلى تحليل، والتحليل عملية عقلية. # وثانيها: # هو قراءة الشواهد الحسية، قراءة تؤدي إلى فهمها وتعليلها، على نحو ~~يكون من شأنه حل المشكلة الطارئة. # وثالثها: # النظر إلى القيم - والقيم الأخلاقية بصفة خاصة - نظرة موضوعية مطلقة، ~~بمعنى لا يجعلها أمورا ذاتية تتغير مع الأهواء، كما لا يجعلها ~~مرهونة بظروف الزمان والمكان؛ وما دام أمرها كذلك، فإنه يصبح في وسع ~~الفقيه الموهوب أن يحكم على ما يعرض له من مواقف طارئة جديدة، غير ~~منصوص عليها نصا مباشرا صريحا، حكما يميز فيه بين ما هو حق وما هو ~~باطل. # 2 # ركون المسلم إلى عقله، فيما يشكل عليه، مما لم ترد في شأنه نصوص، هو الدعامة ~~الأولى في الوقفة العقلية عند الإسلام، تلك الوقفة التي أقام عليها حضارته وثقافته على ~~امتداد تاريخه، خلال القرون التي شهدت قوته وقدرته على الإبداع. # وكان الناس قبل ظهور الإسلام، قد ألفوا ضربين من الحضارة ومن الثقافة، اختلفا فيما ~~بينهما إلى حد التنافر، بل إلى حد المقاتلة في حروب مستعرة يعرفها المؤرخون؛ ~~وهاتان الحضارتان والثقافتان، المتنافرتان إلى حد القتال، هما حضارة الفرس وثقافتهم من ~~جهة، وحضارة الروم (اليونان) وثقافتهم من جهة أخرى، المحور في الحالة الأولى هو ~~الإملاء يفرض على الإنسان طريقة فكره ونمط سلوكه، والمحور في الحالة الثانية هو عقل ~~الإنسان، يقيم له الحجة على الباطل فيرفضه، ويسوق له البرهان على الحق فيرتضيه. # كان الظن هو ألا سبيل إلى لقاء بين «شرق» متمثلا في فارس، و«غرب» متمثلا في ~~اليونان، فلما اكتسح الإسكندر الأكبر بجيوشه هذه الرقعة من الأرض التي امتدت بين ~~اليونان والهند، بما في ذلك بلاد الفرس، قيل إن أهم أهدافه هو أن يحطم الحاجز ms057 الحضاري ~~الثقافي الذي أشرنا إليه، حتى يصبح العالم المعمور عندئذ متجانسا كله، فلا يكون بعد ~~ذلك «شرق» هنا و«غرب» هناك، ولكن كل ما تمنى الإسكندر الأكبر لنفسه وللعالم قد أدركه ~~أو حققه؛ إذ لم يكد يطوي الزمان صفحته، حتى أوشك الأمر أن يعود إلى ما قد كان عليه ~~قبل الإسكندر وحروبه. # ثم جاء الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، ومع فتوحه، انهدمت الفواصل بين فرس ~~وروم، وظهرت بوادر قوية تشير إلى ظهور وحدة الإنسان؛ فتلك الوحدة هي في الصميم من ~~الإيمان الجديد، كأنما كانت تلك الخطوة هي الأولى على طريق المواطن العالمي، الذي لا هو ~~من شرق، ولا هو من غرب، وإنما هو «إنسان»، وكان ذلك الدمج الباهر بين ثقافتين كانتا ~~متنافرتين متناحرتين إلى درجة القتال، هو الذي أخرج إلى العالم تلك الصيغة الحضارية ~~الثقافية الإسلامية الجديدة، وهي الصيغة التي ربما تمناها الإسكندر الأكبر من قبل، ~~ولم يحقق منها إلا قليلا. # وكان السر الذي مكن المسلمين من الاضطلاع بهذا الدور الحضاري العظيم، هو إعداد ~~المسلم بديانة، في مبادئها ما يهيئه الاستخدام المنطق العقلي في شئون فكره ومعاشه، كما ~~في مبادئها كذلك ما يعده للاتصال بالحق صلة مباشرة، وحيا أو شهودا، مما لا يحتاج ~~فيه إلى تدليلات المنطق العقلي ذات الخطوات المتتابعة فيما بين نقطة البدء ونتيجة ~~الختام. # ومن دمج هاتين النظرتين في إنسان واحد - هو المسلم - نشأت الصيغة الثالثة، التي ألفت ~~في مركب واحد، صوفية الفرس وعقلانية الروم؛ وباتت تلك الصيغة الجديدة هي ما يعرف ~~باسم الثقافة الإسلامية من حيث هيكل بنائها، فإذا كانت الصفة الأساسية التي تميز ما ~~كان يعد «شرقا»، هي إدراكه للحق عن طريق حدس صوفي مباشر، بحيث تنعدم الفواصل بين ~~الإنسان العارف والحقيقة التي يعرفها، ثم إذا كانت الصفة الأساسية التي تميز ما كان ~~يعد «غربا» هي أنه في إدراكه للحق يلجأ إلى طريق غير مباشر (هو طريق العقل في ~~الإدراك) بمعنى أنه ينتقل من مقدمة إلى نتيجتها، ثم من النتيجة إلى نتيجتها، وهلم ~~جرا ms058 ، حتى يبلغ خطوة النهاية التي يكون فيها البرهان المطلوب على الحقيقة المراد إقامة ~~البرهان عليها؛ فإن الصيغة الثالثة الجديدة، قد جمعت بين إدراك الحدس الصوفي، وإدراك ~~العقل الاستدلالي، بحيث احتملت الحياة الثقافية في الجماعة الإسلامية، أن يظهر فيها ~~أعظم المتصوفة وأعظم مناطقة العقل في آن معا. # والذي يفيدنا في سياق حديثنا هذا، من تلك الصيغة الثقافية الإسلامية، هو جانب «العقل» ~~منها؛ إذ بغير هذا الجانب العقلي من ثقافة المسلمين، ما كانوا ليستطيعوا أن ينقلوا - في ~~عصر المأمون بصفة خاصة - ما نقلوه من فلسفة اليونان وعلومهم؛ وإلا فلماذا نقلت تلك ~~الفلسفة والعلوم إلى العربية، ولم ينقلها أهل الهند أو أهل الصين إلى لغاتهم؟ إن العلة ~~لم تكن في أن لغة تستطيع ولغة أخرى لا تستطيع، بل العلة هي أن ثقافة تتقبل منطق العقل، ~~وثقافة أخرى لا تتقبله. # 3 # كان القرآن الكريم هو محور العلوم الإسلامية وأساسها؛ فلم يكد القرن السابع ~~الميلادي (الأول الهجري) ينقضي، حتى أخذ العلماء يتجهون بكل جهودهم نحو دراسة الكتاب؛ ~~فكان من المنطقي أن يبدءوا بدراسة اللغة العربية نفسها، لتجتمع لهم أدوات الفهم الصحيح، ~~فلم يريدوا الوقوف من اللغة موقف المتذوق وكفى، بل أرادوا أن يجعلوها دراسة علمية بأدق ~~ما يكون المنهج العلمي؛ إن قواعد اللغة لم تكن قد استخلصت وجمعت إلى ذلك الحين، ~~فانصرفوا إلى استخلاصها وجمعها، وهنا انشعب الباحثون إلى شعبتين، كان لكل منهما منهج ~~في البحث، على أن المنهجين كليهما مما يجيزه منطق التفكير العلمي. # أما الشعبة الأولى فكان مقرها مدينة ~~البصرة، وأما الثانية فكان مقرها الكوفة، وإذا جاز لنا أن نستخدم لغة الفلسفة الحديثة ~~في التمييز بين الشعبتين، قلنا إن فريق البصرة، وعلى رأسه العملاقان العظيمان: الخليل ~~بن أحمد، وتلميذه سيبويه، قد اختار لنفسه أسلوب المنهج «القبلي»، على حين اختار فريق ~~الكوفة أسلوب المنهج «البعدي»، بمعنى أن فريق البصرة قد وضع الأسس العقلية للبناء ~~اللغوي «قبل» أن يتقيد بأوضاع اللغة كما حدثت بالفعل في استعمال الأولين، وأما فريق ~~الكوفة - وعلى رأسه الكسائي - فقد أراد أن ms059 يكون السند في القبول والرفض، هو ما ~~استعمله الأولون من اللغة وما لم يستعملوه، فلو عرض للباحث اللغوي لفظ معين أراد أن ~~يحكم فيه بالصحة أو بالخطأ، كانت طريقة علماء البصرة أن يحتكموا فيه إلى القياس العقلي، ~~فإذا وجدوه جاريا مع ذلك القياس، لم يأبهوا بعد ذلك إذا كان القدماء قد استعملوه على ~~هذه الصورة أو لم يستعملوه، أما الطريقة عند علماء الكوفة فكانت أن يراجعوا ذلك اللفظ ~~على ما استعمله الأولون، فإذا وجدوه كان صحيحا، وإلا فهو غير جائز الاستعمال. # كان منهج جماعة البصرة أقرب إلى منهج العلوم الرياضية، بمعنى أن يقام البناء ~~الرياضي على الاستدلال المنطقي المحكم، ولا عبرة بعد ذلك لانطباقه على الواقع الطبيعي ~~أو عدم انطباقه، على حين كان منهج جماعة الكوفة أقرب إلى منهج العلوم الطبيعية، الذي ~~يستمد معطياته من الواقع الفعلي، فتجيء النتائج كلها مطابقة كذلك لما قد حدث ~~بالفعل. # ليست مدارس البحث اللغوي في ذاتها هي موضوعنا هنا، لكننا نذكرها بيانا للوقفة ~~العلمية العقلية التي ميزت علماء المسلمين، كائنا ما كان ميدان البحث؛ فقد كان ~~فهمهم للقرآن فهما صحيحا هو الهدف؛ ومن أجل ذلك هموا بدراسة اللغة بوجه عام دراسة ~~علمية، قبل أن يزعموا لأنفسهم مثل ذلك الفهم الصحيح. # ثم جاءت بعد دراسة اللغة، الخطوة الثانية في طريق الدراسة العلمية، وكان فهم القرآن ~~الكريم هو الهدف، وأعني بتلك الخطوة جهود الفقهاء في استخراج أحكام الشرع، استدلالا ~~صحيحا من النص القرآني، فرأيناهم جميعا، وعلى اختلاف مذاهبهم، وكأنهم أمام عمل تطبيقي ~~لمنطق الاستنباط؛ فمن مقدمات مسلم بصوابها، أخذوا يستنبطون النتائج التي يلزم عنها، ~~فتكون هي بين ما تحكم به الشريعة. # وكان للفقهاء منهجان للنظر كذلك، فانتهج بعضهم منهج ما أسموه بالقياس، وأرادوا به ما ~~يسمى في كتب المنطق بالتمثيل؛ بمعنى أن ما لم يرد في أمره نص يحكم على أساسه، ~~يلجأ فيه الفقيه إلى شيء يشبهه أو يوازيه، مما وردت في أمره نصوص؛ على حين انتهج بعضهم ~~الآخر إلى ما أسموه ب «الرأي»، وقصدوا به ms060 رؤية الصواب (أو الانحراف عنه) بنظرة مباشرة ~~ناقدة إلى الموقف المعروض للحكم، تأسيسا على كون القيم أشياء موضوعية، يراها العقل ~~كما يرى سائر الأشياء، ومثل هذه الرؤية تغني عن وجود مثيل للموقف المعروض، بين ما ~~وردت في شأنه نصوص. # ومرة أخرى نقول إنه ليس من شأننا في هذا الحديث، أن نتعرض لتفصيلات الفقه الإسلامي، ~~لكننا نريد بيانا للوقفة العقلية عند المسلمين، في كل مجال من مجالات النظر. # 4 # كان من الطبيعي أن يختلف الرأي اختلافات بعيدة المدى بين المسلمين، عندما اصطدموا ~~بأول مشكلة سياسية عسيرة، نشأت لهم نتيجة للقتال بين علي ومعاوية حول الخلافة، وذلك أن ~~سؤالا طرح نفسه أمام العقل، وهو: لقد سفكت دماء للمسلمين في ذلك القتال، فعلى من تقع ~~تبعته؟ وما الحكم فيمن يثبت أنه هو المخطئ من الفريقين المتحاربين؟ إن إحدى ~~الجماعتين المتحاربتين - على الأقل - كانت على خطأ في إثارة الحرب وما استتبعته الحرب ~~من سفك الدماء؛ ودون أن نعين أي الجانبين هو المخطئ، يسأل السائل عن حكم الإسلام ~~فيه. # ألقي بهذا السؤال، فكان كأنه الفأس الفائرة، ضربت بها الأرض، فتفجرت ينابيعها؛ إذ ~~انقدحت أذهان المفكرين، وجاءت الإجابات من هنا ومن هناك، وهي إجابات نستطيع أن نردها ~~إلى شعب ثلاث، اختلفت كما تختلف المدارس الفكرية في كل العصور، فإذا استخدمنا طريقة ~~عصرنا في التقسيم، قلنا إنه قد كانت هناك اتجاهات، فيها اليمين المتطرف، وفيها اليسار ~~المتطرف، وفيها الوسط المعتدل. # أما اليمين المحافظ فقد آثر ألا ~~ينسب الخطأ إلى أي من الجانبين، وكيف يفعل وفي كل من الجانبين المتقاتلين صفوة ~~ممتازة من خيار المسلمين؟ وأما اليسار المتطرف في ثورته، فهم الخوارج، الذين أصروا على ~~أن يكون الجانب المخطئ في هذه الحرب خارجا على الإسلام، وبين أولئك وهؤلاء فريق وسط، ~~هو الذي يهمنا بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الفريق الذي يمثل موقف العقل في القضايا ~~العامة، ولبث كذلك لفترة طويلة، وأعني به فريق المعتزلة. # فقد طرح السؤال على الحلقة الدراسية التي كانت تلتف حول الحسن البصري فما هو إلا أن ms061 ~~خرج واصل بن عطاء - بين الحاضرين - برأي استوقف الأسماع، وتحركت له الأذهان، وهو أن ~~من تقع عليه التبعة في القتال، وفي غير القتال مما يعد من الذنوب الكبيرة، لا ~~يخرجه فعله هذا من إسلامه، بل يظل مسلما، وإن يكن مسلما عاصيا؛ أي إنه يقع في ~~منزلة وسطى بين منزلتي الإيمان والكفر، قال عنها إنها المنزلة بين المنزلتين، ولعل ~~رأيه هذا لم يصادف قبولا عند شيخه الحسن البصري، فانتقل واصل ابن عطاء من مكانه في ~~الحلقة، واتخذ لنفسه مكانا آخر، ولحق به نفر من المؤيدين لوجهة نظره، فقال الحسن ~~البصري عندئذ: لقد اعتزل عنا واصل؛ ومن هنا سمي هذا الفريق على امتداد تاريخه بعد ~~ذلك بالمعتزلة. # وكان أهم طابع يميز المعتزلة هو النظرة العقلية في البحث عن حلول المشكلات المعروضة ~~للنظر، أو في طريقة فهمهم للأفكار التي يراد فهمها على نحو صحيح؛ ونكتفي من أعلام ~~المعتزلة بذكر رجلين، كان كلاهما في البصرة؛ وهما «العلاف» الذي يوصف بأنه شيخ ~~المعتزلة، وتلميذه «النظام» الذي قال عنه الجاحظ إن مثله لا يظهر إلا مرة واحدة في ~~ألف عام. # ولقد ذكر الشهرستاني في «الملل والنحل» عشر مسائل دار حولها فكر العلاف، وثلاث ~~عشرة مسألة للنظام، وكان من أهم الموضوعات التي تناولها العلاف بالبحث، موضوع الذات ~~الإلهية وصفاتها، باحثا عن تصور تفهم به الصلة بين الذات والصفات، فهما يؤدي إلى ~~توحيد حقيقي، ولا يؤدي إلى تعدد بأي معنى من معانيه؛ وكذلك تناول موضوع الإرادة ~~الإلهية، البادية في قول الله تعالى إذا أراد شيئا: # كن # فيكون؛ ثم انتقل العلاف إلى الإرادة الإنسانية، ليرى فيها ضرورة أن تكون حرة ~~الاختيار، ليكون صاحبها مسئولا عما يفعل، وبغير ذلك لا يتحقق العدل، وكان مما بحثه ~~العلاف أيضا، وجوب أن تقام معرفة الإنسان لربه على براهين العقل. # وأما «النظام» فكان يشارك العلاف في مسائل عرفت بها المعتزلة جميعا، كالقول ~~بحرية إرادة الإنسان في اختياره لأفعاله، ليكون للتبعة الخلقية معناها الصحيح، لكنه ~~تميز بسعة الأفق وعمق الغور، حتى ليذهلنا في كثير من ms062 المواضع، باقترابه في الرأي من ~~فلاسفة عصرنا هذا اقترابا شديدا، مثال ذلك موقفه من موضوع أثير حوله جدل كثير، وهو ~~عن علاقة الله تعالى بفعل الشر: أهو غير قادر على فعل الشر؟ أم هو قادر على فعله ولكنه ~~لا يفعله؟ فكان الرأي في ذلك عند النظام، هو نفسه الرأي الذي كنا لنسمعه من أصحاب ~~المذهب الإجرائي في المعاني، من فلاسفة عصرنا؛ أي أن معنى عبارة معينة، إن هو إلا ~~مجموعة الإجراءات العملية التي تترتب عليه؛ فإذا اختلفت عبارتان في ألفاظهما، لكنهما ~~يولدان مجموعة من الإجراءات لا تختلف بين إحداهما والأخرى، كان معناهما واحدا برغم ~~اختلافهما في الألفاظ. وهكذا كان موقف النظام من العبارتين السالفتين؛ إذ قال إنه ~~لا فرق بينهما؛ إذ إن الله تعالى لا يفعل الشر على كلا القولين. # ومسألة أخرى يروعنا فيها النظام برأيه الذي سبق به عصرنا بعدة قرون؛ وهو أن ~~الإنسان يعرف بنفسه لا بجسمه، شريطة أن تفهم النفس على أنها وظائف، لا على أنها كيان ~~قائم بذاته في باطن الإنسان، فكأنما أراد النظام أن يقول عن النفس إنها أنماط ~~سلوكية، يراها بعينيه من شاء أن يرى. # ومسألة أخرى تضع النظام في قلب الفلسفة في عصرنا، وهي رأيه عن شيء ما - أي شيء ~~كان - بأنه مساو لمجموعة ظواهره التي تدركها منه الحواس؛ أي أن المعول على معرفة ~~الشيء ليس هو «الجوهر» المزعوم كمونه وراء الظواهر، بحيث إذا ما تغيرت الظواهر، كان ~~له هو الثبات والدوام، فتثبت بالتالي هوية الشيء وتدوم. # بهذا القول عن حقائق الأشياء، يمكن المشابهة بينه وبين «هيوم» في الفلسفة الإنجليزية ~~التجريبية الحديثة، لكن النظام لا يلبث أن ينتقل إلى مسألة أخرى، فإذا هو يشبه في ~~«عقلانيته» ليبنتز شبها شديدا، بل أدهشنا أن يلجأ في التوضيح إلى مثل، كان هو نفسه ~~المثل الذي ساقه ليبنتز في توضيحه لوجهة نظره؛ وذلك أن النظام في رؤيته للعلاقات ~~التي تربط الأشياء بعضها ببعض، قال إنها «تتولد» بعضها من بعض؛ أي أن الشيء يكمن ~~مضمونه في جوفه، إلى ms063 أن يظهر ذلك المضمون علانية في وقته المناسب، مثال ذلك (وهنا يشترك ~~معه ليبنتز في المثال) كان آدم يحمل في طبيعته كل من ظهر، ومن سوف يظهر من البشر؛ ~~وهكذا قل في كل شيء، فأفعال فرد من الناس - مثلا - تظهر متتالية على تعاقب لحظات ~~الزمن، لكنها جميعا كانت كامنة في طبيعة صاحبها منذ اللحظة الأولى، كأن الكائن من ~~الكائنات يشبه شريط السينما، في أن تكون القصة كلها مطوية فيه، ثم تأخذ الحوادث في ~~الظهور شيئا فشيئا إذا انبسط ما انطوى. # 5 # ونمضي مع المسلمين الأولين في تاريخهم الفكري، خلال القرنين التاسع والعاشر بعد ~~الميلاد (الثالث والرابع من تاريخ الهجرة) فإذا نحن أمام حركة عقلية نشيطة دائبة، تنقل ~~«العقل» اليوناني بكل ما قد أنتجه من فلسفة وعلم؛ فإذا كان اليونان عند الغرب هم ~~معجزته الكبرى، لما أبدوه من قدرة على «التنظير» بعد أن لم يكن يعرف الشرق القديم إلا ~~الممارسة العملية؛ فقد كان للمسلمين القدرة على تقبل ذلك الفكر النظري وهضمه، ~~والإضافة إليه؛ وماذا نقول في قوم خلقوا علم الجبر في الرياضة من عدم، وهو ما يزال ~~يحمل اسمه العربي في لغات الغرب، وأضافوا إلى الأعداد «العربية» - كما تسمى في ~~الغرب، برغم افتراضهم بأن العرب نقلوها عن الهند - أضافوا إليها «الصفر» الذي أحدث ثورة ~~حقيقية في علم الحساب، وكان أحد علمائهم في الرياضة - وهو الخوارزمي - هو الذي ابتدع ~~اللوغارتم، وقد سمي كذلك على اسم صاحبه. # وتطول بنا القصة لو مضينا في رواية ما اضطلع به المسلمون في دنيا العلوم بشتى ~~صنوفها، من منطق ورياضة وفلك وطب وكيمياء وغيرها، ذلك أن هدفنا هنا - كما أشرنا من قبل ~~- هو بيان - الاتجاه الفكري العام على طريق المنطق العقلي، دون الوقوف طويلا عند ~~تفصيلات تمتلئ بها الكتب. # وما نقوله عن العلم بشتى فروعه عند ~~المسلمين، نقول أكثر منه عن ميادين الفكر الفلسفي، ويكفينا أن نذكر من لوامع الأسماء في ~~هذا الصدد: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وهم قمم في الفكر الفلسفي بأي ~~معيار نقيس به ms064 ذلك الفكر، ولقد كانت الطبقة الفلسفية تلون المناخ الثقافي كله عندهم ~~خلال القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) بصفة خاصة؛ ففيه ظهرت جماعة إخوان الصفا ~~أصحاب الرسائل المشهورة والمعروفة بهذا الاسم، وهي في مجموعها بمثابة موسوعة شملت أهم ~~ما كان يعرفه العالم حتى ذلك الحين، من فلسفة وعلم وعقيدة، ونستطيع أن نقارنها في ~~مهمتها، وأن نقارن جماعة إخوان الصفا، بفلاسفة عصر التنوير في فرنسا إبان القرن ~~الثامن عشر، وما أخرجوه للناس من موسوعات وما يجري مجراها. # ولو استطرد بنا حديث العقل وطريقه عند المسلمين، لروينا طائفة من ألمع المفكرين في ~~مختلف الميادين، كابن طفيل في رائعته «حي بن يقظان» التي بين في بناء قصصي عميق، كيف ~~أن العقل إذا ترك على سجيته، ينظر ويعلل، لانتهى إلى ما جاء به الوحي في الدين، وابن ~~باجه في «تدبير المتوحد» التي يبين فيه ماذا يمكن للطبيعة الإنسانية أن تصل إليه، حتى ~~لو انفرد الإنسان في عزلة عن الآخرين. # بل إننا لنسلك في طريق العقل شعراء بلغوا ذروة الحكمة الفلسفية في شعرهم، كأبي العلاء ~~المعري، ومتصوفة لم يمنعهم طريق التصوف من أن يسلكوا طريق العقل إلى آخر مداه في عرض ~~ما أرادوا عرضه، كأبي حامد الغزالي؛ ودع عنك نقاد الأدب، الذين بلغوا في تحليل ~~النتاج الأدبي من شعر ونثر، تحليلا بلغ أقصى غاياته، ونكتفي منهم بمثل واحد، هو عبد ~~القاهر الجرجاني؛ ثم ماذا تكون عملية التجميع والتصنيف التي شغل بها علماء المسلمين ~~خلال قرون ثلاثة - الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من التاريخ الميلادي - في ~~القاهرة ودمشق، من قواميس اللغة إلى مجموعات تمثل التراث الأدبي العربي؛ أقول ماذا ~~يكون هذا العمل إذا لم يكن عقليا علميا أكاديميا من طراز رفيع؟ # ووصلت مسيرة الفكر العلمي المنهجي إلى ~~أعلى ذراها في آخر خطاها، ألا وهو فيلسوف التاريخ ابن خلدون؛ أكان هو تغريدة طائر ~~التم، التي تنم عن موته الوشيك؟ لكن طائر التم هذه المرة لم يمت بعد تغريده، بل ~~رقد في بيات دام معه نحو أربعة قرون ms065 مظلمة، ثم أسلمته إلى القرن التاسع عشر حيث استيقظ ~~ليعود سيرته الأولى من ازدهار وعطاء وهو على طريق العقل. # | ماضينا وحاضرهم # 1 # لست أدري إن كان الأمر فيما سوف أعرضه الآن، مدعاة إلى اليأس من العقل البشري ~~وقدراته، أم كان داعيا إلى الأمل فيه؛ فلست أنكر أنني من أشد الناس إيمانا بالعقل وما ~~يستطيعه، حتى ليتعذر علي في كثير من الأحيان - كلما وجدت في العقل الإنساني علائم عجز ~~- أن ألتمس له المعونة في شيء سواه، كأن أحتكم إلى حدس المتصوف أو إلى وجدان الشاعر؛ ~~أقول إنه يتعذر علي أن أيأس من قدرة العقل، فأجاوزه مستعينا بغيره؛ والأمثلة التي ~~تؤيد عندي سلطان العقل، تعد بالألوف ومئات الألوف، فإذا ما رأيته عجز أو كبا، قلت ~~لنفسي: لا عليك، فإنه ناهض من عجزه أو كبوته بعد حين. # لكن إيماني هذا، لا يخفي حيرتي كلما رأيت ما يفكر فيه الإنسان الليلة، شبيها بما ~~كان فكر فيه البارحة، وكأنما أفلاك السماء قد جمدت في أماكنها، وتيار الزمن قد وقف ~~عن جريانه! # فلقد أخذتني حيرة كهذه، عندما قرأت كتابا حديثا لمفكر فرنسي معاصر لنا، يقال إنه ~~ألمع نجم في سماء الفكر الفرنسي اليوم، أما الكتاب فهو الترجمة الإنجليزية لكتاب ~~«الكلمات والأشياء» (والعنوان في الترجمة الإنجليزية معناه «ترتيب الأشياء») وأما ~~مؤلفه فهو ميشيل فوكوه، الذي وجدت من ينعته بقوله إنه «كانط» هذا العصر، كما وجدت ~~من يصف هذا الكتاب الذي أشرت إليه، بأنه أهم إضافة إلى الفلسفة في فرنسا بعد ~~سارتر. # كنت كلما مضيت في القراءة، ازددت حيرة؛ ولعلها حيرة يعود بعض أسبابها إلى أني لم آلف ~~فكرا يجيء على هذه الصورة التي يختلط فيها منطق العقل بنبض المشاعر، اختلاطا لم يسعني ~~إزاءه آنا بعد آن إلا أن أتساءل: أهو فيلسوف هذا المؤلف، أم هو شاعر؟ لا، لم آلف ~~فكرا يجيء على هذه الصورة العجيبة، فكأنما هو تيار دافق بأسرع ما يستطيع الماء أن ~~يتدفق، حاملا معه كل ما يتصوره الخيال من أعلاق: قطع من الحجر، وغصون من ms066 الشجر، ~~وأجساد طير وحيوان، وحطام سفائن تحطمت وتناثرت أشلاؤها! # على أني وقفت من مادة الفصل الثاني وقفة متأملة طويلة، بادئا من عنوانه؛ لأن عنوانه ~~هو: «نثر العالم». إذن ففكرة الشعر والنثر كانت تستولي على الكاتب وهو يكتب، مع أن ~~الفرض هو أن لا علاقة لموضوع الكتاب بالفن الأدبي؛ لأنه - كما جاء في العنوان الفرعي ~~للكتاب - «أركيولوجيا العلوم الإنسانية»، والأركيولوجيا هي علم الحفريات الذي يستخرج من ~~طبقات الأرض دفينها من مخلفات الحضارات الماضية، وهدف المؤلف من كتابه هذا أن يحفر ~~في القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، ليستخرج من ثناياها تلك العوامل - الظاهرة أو ~~الخافية - التي أخذت تتضافر حتى جعلت من «الإنسان» آخر الأمر موضوعا للعلم، بعد أن لم ~~يكن قط كذلك على مدى عصور التاريخ؛ فكما يبدو من هدف المؤلف، لا مجال لشعر وشاعر؛ إذ ~~الميدان هو من شأن العلم والعالم، أو هكذا ظننت أنا قبل أن أقرأ هذا الكتاب. # أقول إني أطلت الوقوف المتأمل عند فصل عنوانه «نثر العالم»؛ فلقد عرض فيه الكاتب ~~للروابط المختلفة التي تصل الكائنات بعضها ببعض، وصلا يجعل منها كونا واحدا ~~موحدا، وكأننا بإزاء أسرة واحدة تعدد أفرادها، لكن ربطتهم روابط الدم التي لا ~~تنفصم؛ وهو يختار من هذه الروابط الكونية أربعة أنواع، كلها ضروب مختلفة من التشابه ~~الساري بين مختلف الكائنات برغم ما قد نتوهمه فيها من تباين وخلاف؛ ويقول لنا المؤلف ~~عن هذا التشابه الذي سيأخذ في تفصيله، إنه كان المحور الرئيسي للفكر الأوروبي كله منذ ~~قديم وحتى القرن السادس عشر، أو قل حتى أوائل السابع عشر، فهل تستطيع أن تقرأ هذا دون ~~أن يرتفع حاجباك تعجبا: كيف كان ذلك؟ لكن المؤلف لا يدعك في دهشتك طويلا؛ إذ يسوق لك ~~بعض الأمثلة الموضحة، منها تأويل الكتاب المقدس وشروحه، وقد كان لهذا بالطبع أهمية ~~قصوى في العصور الوسطى؛ فتأويل النص أو شرحه كثيرا ما يقوم على ذكر الأشباه والنظائر، ~~فما التأويل إلا أن تستخرج من الجملة معنى باطنا غير المعنى الظاهر، لكن بينهما ~~تشابها (هذا ms067 التوضيح من عندي؛ لأن المؤلف لم يوضح ما يريده)، وكذلك كان التشابه ~~محورا رئيسيا قبل القرن السادس عشر، في كل ما لجأ إليه الإنسان من رموز استخدمها ~~ليرمز بها إلى ما أراد الرمز له، فلماذا يختار رمزا معينا لشيء معين، إلا أن يكون ~~بين الطرفين تشابه يراه؟ # ثم كيف كان فن التصوير حينئذ إلا أن يجيء محاكاة للكائنات التي يصورها، والمحاكاة ~~لا تكون إلا بين الشبيه وشبيهه؛ وماذا كانت تطمح إليه اللغة أكثر من أن «تصور» ما ~~أرادت التحدث عنه، والتصوير إن هو إلا إبراز الشبه بين الصورة وما تصوره؟ بل إن ~~الأرض كلها في عين الإنسان - كما يقول المؤلف - إنما هي ترجيع للصدى بعد أن جاءها الصوت ~~من السماء، ووجوه الناس ترى أنفسها منعكسة على مرآة النجوم؛ فلكل نجم نفر من البشر ~~يسيطر عليه، وانظر ما يستمده الإنسان من نبات الأرض، فله في جذوع النبات وثماره طعام ~~ودواء، وهل كان ذلك ليكون ما لم يكن هنالك تشابه ما بين نبات وإنسان؟ # وبعد أن يطمئنك المؤلف على ما قد زعمه، من أن التشابه بين الكائنات كان هو الأساس ~~الأول لمعرفة الإنسان، حتى القرن السادس عشر، يبدأ في تفصيل القول عن أنواع أربعة منه: ~~أولها التجاور بين تلك الكائنات تجاورا يجعل أطرافها يلتحم بعضها ببعض، أو يتداخل ~~بعضها في بعض؛ فنهاية الواحد منها هي نفسها بداية الآخر، وبسبب هذا التجاور اللصيق، ~~تتنقل الحركة من الجار إلى جاره، وينتقل الأثر والتأثير. # وليس هذا التجاور مقصورا على الأجسام المادية من الظاهر، بل إنه قد يضرب إلى ما وراء ~~ذلك، وخذ مثلا لهذا تجاور الروح والبدن، وما يترتب عليه من تأثر كل منهما ~~بالآخر؛ فالروح يتشكل بشكل الجسد ليلائمه، ويتلقى منه الحركة، والجسد يتأثر بما تنفثه ~~الروح في جوارحه من انفعال وعاطفة؛ ومثل هذه العلاقة الوثيقة بين الروح والبدن، تراه في ~~جميع الروابط التي تشد الكائنات بعضها إلى بعض، مؤثرة ومتأثرة؛ وانظر - مثلا - إلى ~~العلاقة بين النبات والحيوان كيف يحيا كل منهما في الآخر ms068 ، أو انظر إلى اليابس والماء، ~~أو إلى الإنسان وكل ما يحيط به من أرض وسماء؛ ألا إن الكائنات ليتداخل بعضها في بعض ~~تداخلا يجعل الطحالب تنمو على قواقع البحر، كما يجعل النبت ينمو على قرون الوعول، ~~وبمثل هذا التواصل الحميم، تترابط الأشياء والأحياء في هذا الكون الفسيح، فينتج من ~~ترابطها ما يشبه حلقات السلسلة، كل حلقة منها فيها شبه بما قبلها وشبه آخر بما ~~بعدها، حتى إذا ما بعدت الشقة بين الطرف الأول والطرف الأخير، كان هنالك بينهما من ~~التباين الظاهر بمثل ما يكون التباين بين الله سبحانه خالق الخلق، ومادة الأرض بما ~~عليها من أجساد. # إن عالم النبات مرتبط بمادة الأرض، ثم هو من الطرف الآخر مرتبط بعالم الحيوان بما ~~بينهما من جانب مشترك هو الاغتذاء والنمو، وأما عالم الحيوان فيعود بدوره من طرفه ~~الآخر فيرتبط بعالم الإنسان، بما بين العالمين من جانب مشترك هو الحس والحركة؛ وبعدئذ ~~يعود الإنسان فيرتبط من طرفه الآخر بأفلاك السماء - أو قل بعالم الملائكة - لما بينهما ~~من خاصة العقل؛ والكون كله على هذا التصوير هو كالحبل الممدود، أو كالشعاع الضوئي ~~الواحد يسري من أعلى عليين إلى أسفل سافلين. # ذلك الترابط بين الكائنات، هو النوع الأول من أنواع التشابه الأربعة التي عرضها ميشيل ~~فوكوه؛ فكيف أقرأ ذلك ولا يحضرني ما كتبه إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي، وهاك ~~نص ما كتبوا في هذا المعنى: «الموجودات مرتبة بعضها تحت بعض، متصل أواخرها بأوائلها، ~~كترتيب العدد ... بيان ذلك أن المعادن متصلة أوائلها بالتراب وأواخرها بالنبات، والنبات ~~متصل آخره بالحيوان، والحيوان متصل آخره بالإنسان، والإنسان متصل آخره بالملائكة ... وأما ~~أواخر المعادن مما يلي النبات (أي مما يسبق النبات مباشرة) فهو الكمأة والفطر وما شاكل ~~ذلك؛ وذلك أن هذا الجنس من الكائنات يتكون في التراب كالمعدن، ثم ينبت ... كما ينبت ~~النبات، ولكن من أجل أنه ليس له ثمرة ولا ورقة، ويتكون التراب كما تتكون الجواهر ~~المعدنية وعلى أشكالها، صار يشبه المعادن من جهة، ومن جهة أخرى يشبه النبات ms069 ... وأما ~~النبات، فأقول: إن هذا الجنس من الكائنات متصل أوله بالمعدن، وآخره بالحيوان ... والنخل ~~آخر مرتبة النباتية مما يلي الحيوانية، وذلك أن النخل نبات حيواني؛ لأن بعض أفعاله ~~وأحواله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نباتيا؛ بيان ذلك أن القوة الفاعلة فيه ~~منفصلة من القوة المنفعلة، والدليل على ذلك أن أشخاص الفحولة منه مباينة لأشخاص الإناث ~~... وأيضا فإن النخل إذا قطعت رءوسها جفت وبطل نموها وماتت ... وأول مرتبة من الحيوانية ~~متصلة بآخر النبات ... فأدون (أي أقل) الحيوان وأنقصه هو الذي ليس له إلا حاسة واحدة ~~فقط، وهو الحلزون ... وليس لها (أي الدودة التي تسمى بالحلزون) سمع ولا بصر ولا شم ~~ولا ذوق، إلا اللمس فحسب ... لأن الحكمة الإلهية لا تعطي الحيوان عضوا لا يحتاج إليه في ~~جر المنفعة أو دفع المضرة ... فهذا النوع (أي دودة الحلزون) حيوان نباتي؛ لأنه ينبت جسمه ~~كما ينبت بعض النبات، ويقوم على ساقه قائما، وهو من أجل أنه يحركه حركة اختيارية ~~حيواني، ومن أجل أنه ليست له إلا حاسة واحدة فهو أنقص الحيوانات رتبة ... وأدون رتبة ~~الإنسانية مما يلي الحيوانية هي رتبة الذين لا يعلمون من الأمور إلا المحسوسات، ولا ~~يعرفون من الخيرات إلا الجسمانيات ...» (راجع الجزء الثالث من رسائل إخوان الصفا - من ~~الرسالة الرابعة والثلاثين، وهي رسالة في أن العالم إنسان كبير). # 2 # كان هذا التجاور الذي تتلاقى به الكائنات ويلاصق بعضها بعضا، أحد الروابط الأربعة ~~التي اختارها ميشيل فوكوه ليفسر بها وحدة الكون العظيم في كيان واحد، وأما الرابطة ~~الثانية فهي ما أسماه بالتناظر، قاصدا به تكرار الشيء الواحد في أكثر من صورة، كأنما ~~هو ينعكس على أسطح المرايا الموضوعة لها هنا وهناك في جنبات الكون، وذلك دون أن تتماس ~~الصور؛ فهو تشابه على مبعدة بين الأشباه، وهذا التناظر قائم بين الإنسان من جهة والكون ~~بأكمله من جهة أخرى؛ فبينما الكون إنسان أكبر، يمكن القول عن الإنسان بأنه كون أصغر؛ ~~إذ إن كليهما متناظران، في الإنسان ما في الكون من عناصر وعلاقات، وفي الكون ms070 ما في ~~الإنسان من عاطفة وعقل؛ ولا عجب أن يقال إن الله قد خلق الإنسان على صورته. # ويسوق المؤلف أمثلة عجيبة لهذا التناظر بين الإنسان والكون، يبتكرها من عنده ~~ابتكارا، أو يستعيرها من سواه: فالعينان في وجه الإنسان هما المقابلان للشمس والقمر؛ ~~والفم في وجه الإنسان يقابله في السماء كوكب الزهرة، ووجه التقابل هنا هو الحب الذي ~~تعبر عنه الكلمات والقبلات! ... وهكذا يمضي الكاتب في أمثلته الغريبة، ليقول آخر الأمر ~~إن العالم يكرر نفسه على المرايا التي يعكس بعضها بعضا، لكي تزول الفواصل الحاجزة ~~بين الكائنات، وإن هذا التناظر بين الأشياء ليشتد أحيانا حتى ليتعذر علينا أن نعرف أين ~~الأصل وأين صورته، كأنما الأشياء المتناظرة توائم يصعب التفرقة فيها بين توءم ~~وتوءم. # لكن هذا التشابه مهما اشتدت صورته، فهو لا ينفي أن يكون هنالك بين الأشباه والنظائر ~~ما هو أقوى وما هو أضعف، فيكون التأثير للأقوى والتأثر للأضعف، فإذا كانت الأرض والسماء ~~متناظرتين، فالسماء أقوى؛ ومن ثم وجدنا مصائر الناس ومصائر الأشياء على وجه الأرض، ~~متأثرة بما تقرره لها الكواكب والنجوم! # ومرة أخرى تحملني الذاكرة إلى ما ورد في رسائل إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي ~~عن هذا التناظر الذي يذكره ميشيل فوكوه، لكنه عند إخوان الصفا أدق وأعمق، وإنني لأبيح ~~لنفسي على تواضع جم، أن أرفض ما قاله فوكوه وما قاله إخوان الصفا على حد سواء؛ فماذا ~~قال «خلان الوفا» - كما وصفوا أنفسهم في عنوان رسائلهم؟ قالوا إن الله جل وعلا جعل من ~~الأعداد نماذج تتواتر على غرارها الكائنات تواتر النظائر؛ فلكل عدد ما يماثله من ~~الأشياء، فعلى غرار الثلاثة - مثلا - جاءت النظائر الآتية: الطول والعرض والعمق ~~بالنسبة للأبعاد، والخط والسطح والجسم بالنسبة للمقادير، والماضي والحاضر والمستقبل ~~بالنسبة للزمن، والواجب والممتنع والممكن بالنسبة لدرجات الصواب، والرياضية والطبيعية ~~والإلهية بالنسبة للعلوم، وعلى غرار الأربعة جاءت النظائر الآتية: الطبائع الأربع، وهي ~~الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة، وهي النار والهواء والماء ~~والتراب، والأخلاط الأربعة، وهي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والفصول الأربعة ms071 ، وهي ~~الربيع والصيف والخريف والشتاء، والجهات الأربع، وهي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، ~~ومراتب الأعداد، وهي الآحاد والعشرات والمئات والألوف؛ وعلى غرار الخمسة جاءت النظائر ~~الآتية: أجناس الحيوان الخمسة، وهي الإنسان والطير والسابح والمشاء (ذو الرجلين، وذو ~~الأربع)، والذي ينساب على بطنه؛ وأجزاء النبات الخمسة، وهي الأصل، والعروق، والورق، ~~والزهر، والثمر؛ والأيام الخمسة الملقب أسماؤها بالعدد، وهي: الأحد، الإثنين، الثلاثاء، ~~الأربعاء، الخميس؛ والصلوات الخمس، والأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، والحروف ~~المستعملة في أوائل سور القرآن؛ إذ هي تختلف من حرف واحد إلى خمسة أحرف، وهكذا يجمع ~~إخوان الصفا الأشياء والأفكار في مجموعات جاءت على نماذج الأعداد. # 3 # وننتقل إلى النوع الثالث من أنواع التشابه التي أوردها ميشيل فوكوه ليربط على أساسها ~~أجزاء الكون في كيان واحد، وهذا النوع الثالث عنده هو ما أسماه بالمطابقة أو التماثل؛ ~~وها هنا لا يكون التشابه على أساس ما هو محسوس بالحواس كما كانت الحال في النوعين ~~الأولين، بل إنه يجاوز المحسوس إلى المعقولات؛ إذ يجعل المطابقة بين الأشياء منصبة على ~~العلاقات التي تشير إلى طريقة البناء والتكوين: فعلاقة النجوم بالسماء متماثلة أو ~~متطابقة مع علاقة الأحياء بالأرض، والمعادن بالصخر، وأعضاء الحس بالوجه، وبين النبات ~~والحيوان مطابقة، لولا أن رءوس النبات إلى أسفل ورءوس الحيوان إلى أعلى؛ وأما الإنسان ~~فهو مركز هذه الطبقات كلها؛ لأنه يقف بين كائنات السماء وكائنات الأرض، فيربط هذه ~~بتلك؛ إذ فيه ما يطابق كائنات الأرض، كما أن فيه ما يطابق ملائكة السماء. # ولا تعود بي الذاكرة هذه المرة إلى إخوان الصفا ورسائلهم، بل تعود إلى الفيلسوف ~~العربي الخالص أبي يعقوب بن إسحاق الكندي ~~(القرن التاسع الميلادي) الذي شق طريقا سلكه من بعده فلاسفة آخرون، وذلك حين أخذ ~~يتصور العلاقة بين الخالق ومخلوقاته في تسلسل من العقول: فعقل منها يظل فاعلا ~~أبدا، وهو أول العقول وعنه نشأت سائرها، وذلك هو الله سبحانه؛ وثانيها في الترتيب عقل ~~بثه الله في الإنسان، وجعله كامنا في فطرته، إلى أن تتهيأ له الظروف التي يخرج بها ms072 ~~من حالة الكمون إلى حالة الفعل، فيكون عندئذ بمثابة العقل الثالث في التسلسل؛ وأخيرا ~~يجيء السلوك الذي ينشط به الإنسان في حياته العملية، مجسدا فيه لقوته العاقلة، وبهذا ~~يصبح هذا السلوك العملي بمثابة العقل في آخر مراتبه ... أقول إن الذاكرة أعادتني إلى هذا ~~التصور عند فيلسوفنا الكندي، فقلت لنفسي: أليس في هذا التسلسل العقلي من رتبة إلى ~~رتبة تليها، بحيث تجيء كل رتبة منها وكأنها تمثل سالفتها، دون أن تساويها، أقول أليس ~~في هذا التصور رباط على أساس التماثل الذي افترضه ميشيل فوكوه، لكنه رباط أقوى ~~وأعمق؟ # 4 # وأما الصورة الرابعة والأخيرة من صور التشابه الذي يربط كائنات الدنيا بعضها ببعض ~~فيما يرى ميشيل فوكوه، فهي صورة التعاطف، الذي يستطيع عبور الكون من أقصاه إلى أقصاه في ~~لمحة؛ فهو ليس كالتجاور مقيدا بمكانه، ولا هو كالتناظر تشابها سكونيا في بنية ~~التكوين، ولا كالتماثل يترك المتماثلات قائمة كما هي قائمة، بل هو (أي التعاطف) حركة ~~سارية تجذب الكائنات بعضها إلى بعض؛ وإلا فما الذي ينحو بالحجر الساقط نحو الأرض إن لم ~~يكن بين هذين الشبيهين تجاذب؟ وما الذي يرسل لهب النار صاعدا إلى الأثير؟ ما الذي يجذب ~~جذور النبات نحو الماء؟ ما الذي يدور بعباد الشمس مع قرص الشمس حيث يدور؟ إنه هو ~~رباط التجاذب أو التعاطف بين الكائنات، أو قل إن شئت إنه المحبة بين الأشياء؛ لكن هذه ~~المحبة إذا ما سارت بالأشياء إلى آخر مداها، كان من شأنها أن تدمج الكائنات المتحابة ~~كلها في كائن واحد، شأن الحب دائما إذ يصهر الأفراد فيزيل عنهم فردياتهم ليذوبوا ~~معا في وجود واحد. # لكن الكون لا يراد له أن ينتهي أمره إلى مثل هذا التجانس الذي تضيع معه خصائص ~~الأفراد، ولذلك نشأت قوة أخرى، هي قوة التنافر أو الكراهية، لتعود فتباعد بين ~~الكائنات حفاظا لما بينها من تباين وخلاف؛ فلئن كان التجاذب يحيل الكثرة إلى وحدة، ~~فالتنافر يعيد الوحدة إلى كثرة؛ ويسوق فوكوه مثلا للتنافر حياة التمساح والفأر ~~والعنكبوت؛ فالتمساح الجبار يخرج من ms073 بيته المائي إلى الشاطئ اليابس ليسترخي، فاغرا ~~فكيه، فيأتي الفأر ويتسلل بين الفكين منزلقا من الحلق الواسع إلى حيث أمعاء التمساح ~~فيقرضها بأسنانه، فيلقى الزاحف الجبار مصرعه، ويخرج الفأر طاعما ظافرا، لا لينعم ~~بحياة بعد ذلك، بل ليتلقاه عنكبوت مفترس فينقض عليه ليغتذي! # فإلى أي شيء تعود بي الذاكرة هذه المرة إن لم تعد بي إلى فلاسفة اليونان الأقدمين؟ ~~إلى أنبادوقليس، الذي كان أول من رد الأشياء - لا إلى أصل واحد - بل إلى أصول ~~أربعة: هي الماء والهواء والنار والتراب؛ فهي عنده عناصر أولية لا يسبق أحدها الآخر، ~~ولا يشتق بعضها من بعض؛ لكنها تتصل ببعضها أو تنفصل عن بعضها، اتصالا وانفصالا لا ~~ينقضيان، وبهذين العاملين تتكون الأشياء أو تعود إلى الانحلال، والذي يجمع العناصر أو ~~يفرقها هو المحبة والكراهية (ويقال عنهما في الكتب العربية أحيانا: المحبة والغلبة، ~~والمحبة والعدوان)، أما المحبة فتضم الذرات المتشابهة إذا ما تفرقت، وأما الكراهية ~~فتفصل بينها؛ ولكل من هاتين القوتين مرحلة تتغلب فيها على خصيمتها، فإذا ما كانت ~~الغلبة للمحبة سادت الوحدة وسادت السكينة، وأما إذا كانت للكراهية، فإن السيادة عندئذ ~~تكون للفرقة والتمزق والاضطراب؛ ومراحل المحبة هي فترات الإصلاح، ومراحل الكراهية هي ~~عصور الفساد والفوضى. # إنني إذا ما استخدمت اللغة التي يستخدمها ميشيل فوكوه في كتابه المذكور، قلت: ترى ~~أينكفئ العالم على نفسه لتجيء صورة الفكر الإنساني في القرن العشرين انعكاسا مرآويا ~~لصورته عند العرب في القرنين التاسع والعاشر، ثم انعكاسا مرآويا مرة أخرى لصورته عند ~~بعض اليونان الأولين؟! # | نحو شخصية عربية جديدة # أم المشكلات في حياتنا الفكرية هي محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر؛ فمن ~~تراث الماضي تتكون الشخصية الفريدة التي تتميز بها أمة من سائر الأمم، ومن ثقافة الحاضر ~~تستمد عناصر البقاء والدوام في معترك الدول؛ فالأمة العربية عربية بما قد ورثته عن الأسلاف ~~من عوامل أهمها العقيدة واللغة ومواضعات العرف والتقاليد، وكذلك نقول إن الأمة العربية قد ~~استطاعت الصمود في دوامات هذا العصر العنيفة الخارقة، بمقدار ما استطاعت أن ms074 تساير حضارة ~~هذا العصر في أفكاره ووسائله، فإذا هي اقتصرت - من جهة - على فكر الماضي وطرائق عيشه ووجهة ~~نظره، جرفها الحاضر في تياره؛ لأن له من الوسائل المادية ما لا قبل لها بدفعه، وإذا هي ~~اقتصرت - من جهة أخرى - من الحاضر على علمه وفنه وصناعته وسائر معالمه، ضاعت ملامح ~~شخصيتها، وانطمست فرديتها، ولم يعد لها وجود إلا كما يكون لقطرة الماء في البحر المتجانس ~~وجود متميز خاص، فهل من سبيل إلى التقاء الطرفين في مركب واحد، يزيل ما بينهما من ~~تباين وتضاد، ويؤلف بينهما في نسيج ثقافي متسق منسجم، يكون هو عندئذ ما نطلق عليه اسم ~~الثقافة العربية المعاصرة؟ ذلك هو السؤال الذي ألقي في حياتنا الفكرية منذ قرن أو يزيد، ~~والذي كانت محاولة الإجابة عنه إجابة مقنعة هي ميدان الصراع الفكري. # إن محاولة التوفيق بين تراث الماضي وثقافة الحاضر - أو قل بين تراث الماضي وثقافة الغرب ~~في حاضرها وماضيها على السواء - أقول إن محاولة التوفيق بين هذين الطرفين مشكلة بالنسبة ~~إلى كل مجتمع متطور؛ فقد شهدناها عند العرب الأقدمين في ~~محاولتهم التوفيق بين العقل والنقل - والعقل عندئذ هو رمز لفلسفة اليونان، والنقل رمز ~~لأحكام الشرع - وشهدناها عند مفكري الغرب إبان العصور الوسطى في قيامهم بالمحاولة نفسها ~~التي حاولها فلاسفة المسلمين، وشهدناها في النهضة الأوروبية حين حاول أعلامها الجمع بين ~~النهضة العلمية في عصرهم والتراث الكلاسي الذي ابتعثوه عن أسلافهم الرومان واليونان، كما ~~شهدناها في روسيا القرن التاسع عشر، بين الثقافة السلافية الخالصة وثقافة غربي أوروبا. لكن ~~محاولة التوفيق هذه إنما تكون أشد إشكالا وتعقيدا بالنسبة إلى الشعوب الآسيوية ~~والإفريقية التي ظفرت بحريتها حديثا من براثن المستعمر - بما في ذلك الأمة العربية - ~~وذلك لأن المشكلة قد أضيف إليها من العناصر ما زادها عسرا، ومن هذه العناصر المضافة إلى ~~ثقافة العصر، التي يراد التوفيق بينها وبين تراث الماضي، هي نفسها ثقافة المستعمر. وإنه ~~لعسير على النفس أن تقبل على ثقافة ارتبطت عندها بمن استغلها واستذلها، واستهان ~~بثقافتها وعقائدها، فإذا كان المستعمر ms075 كريها ممقوتا، فكذلك كانت - عند معظم الناس - ~~ثقافته المرتبطة به؛ إذ ليس من اليسير على الكثرة الغالبة من الناس أن تقوم بعملية التجريد ~~العقلية التي تفصل بين المستعمر وثقافته، بحيث ترفض الأول وتقبل الثانية، ولهذا سرعان ما ~~ارتبطت الحركة القومية في جانبها السياسي الذي حاول الفكاك من قيود المستعمر، ليظفر ~~بالحرية والاستقلال، سرعان ما ارتبط هذا الجانب السياسي من الحركة القومية بالجانب الثقافي ~~الذي حاول أصحابه تثبيت الجذور المحلية في تربة الأرض، لتعود إلى الأمة شخصيتها التي أوشكت ~~على الضياع، فرأينا حركة إحياء شامل لما كان قد اندثر - أو أوشك - من مقومات الحياة ~~الماضية إبان قوتها، وفي مقدمة هذه المقومات العقيدة الدينية، لا لأن هذه العقيدة هي في ~~حقيقتها من أهم أركان البناء الثقافي - إن لم تكن أهمها جميعا - فحسب، بل لأنه قد تصادف ~~كذلك أن عقيدة المستعمر في معظم البلاد الآسيوية والإفريقية مخالفة لعقيدة الشعب في هذه ~~الأمة أو تلك، فكان من الطبيعي - إذن - أن تقترن الحركات الوطنية بالدعوة إلى إحياء العقيدة ~~الدينية وتنقيتها، مما قد علق بها من شوائب الخرافة في فترات الضعف السياسي والتدهور ~~الفكري. # لكن هذه المقاومة التي تجعل إحياء الدين - وغيره من مقومات التراث - محورها الوحيد، ~~هي - في رأينا - مقاومة سلبية، قد تصلح كل الصلاحية في المرحلة الأولى من مراحل النهوض. ~~وأما في المراحل التالية، فلا بد أن يضاف إليها مقاومة إيجابية كذلك: قوامها الأخذ عن ~~القوي مصادر قوته. ومصادر القوة عند القوي في عصرنا هي العلم والصناعة قبل سواهما. # هذه واحدة، والأخرى أن المقاومة التي تجعل إحياء الدين - وغيره من مقومات التراث - ~~محورها الوحيد، حتى في مرحلة صلاحيتها من مراحل النهوض، قد تجيء مقاومة صحيحة، أو مقاومة ~~زائفة، بحسب القدرة التي يمتاز بها صاحب المقاومة، والأساس الفكري الذي يصدر عنه، والهدف ~~الذي يرمي إليه، والوسائل التي يصطنعها لبلوغ ذلك الهدف؛ فقد شهدنا في حياتنا الفكرية ~~الحديثة من أصحاب هذه المقاومة من يعلو بها إلى أوج ومن يهبط بها إلى حضيض. # على أنها بأوجها وحضيضها ms076 لم تعد الآن هي الروح السائدة في البلاد المتحررة من قبضة ~~المستعمر؛ إذ الروح السائدة الآن في هذه البلاد، يمكن تلخيصها في هذا السؤال: كيف نرد ~~لأنفسنا كرامتها، بإحياء ثقافتنا التقليدية والرفع من شأنها، مع إقامة البرهان العملي - في ~~الوقت نفسه - على كفاءتنا في ميدان التنافس مع من كانت لهم السيادة علينا ظلما وعدوانا؟ ~~وهي سيادة كانت ترتكز - أولا وقبل كل شيء على ركيزة العلم والصناعة، وإذن فلا بد لنا من ~~هذه الركيزة بكل ملحقاتها لنستطيع الصمود في ميدان التنافس، وها هنا يعود سؤالنا الأول من ~~جديد: هل في ثقافتنا التقليدية التي نريد إحياءها وتقويتها ما يتعارض مع هذه الركيزة التي ~~نحن في أشد الحاجة إليها؛ ركيزة العلم والصناعة؟ وإذا لم يكن هناك تعارض بين الجانبين، فما ~~سبيلنا إلى دمجهما في وحدة عضوية واحدة؟ # هنا كثر بيننا الخلاف وتشعب الرأي، على مدى القرن الممتد من منتصف القرن الماضي إلى ~~منتصف هذا القرن، لاسيما في العشرات الأخيرة من أعوامه، فكان منا فريق يعلي من شأن ~~الطابع القومي الأصيل حتى لينسى ما نحن في حاجة إليه من سلاح العلم الحديث والصناعة ~~الحديثة، وفريق آخر كان همه الأول هو أن نلحق بركب الحضارة العصرية، بكل ما فيها من علم ~~وصناعة وغيرهما من ضروب الفكر وألوان الحياة؛ لأنه لو كان المستعمر قد وجد فينا ثغرة ينفذ ~~منها، فتلك الثغرة هي ما كان يعوزنا من العلم والصناعة، وهيهات أن نفلح في صده أمدا ~~طويلا بغير هذين العاملين، مهما تجمع في أيدينا من مقومات التراث، ولا شك أن الصواب ~~كل الصواب لا هو مع الفريق الأول، ولا مع الفريق الثاني، بل هو مع فريق ثالث ينشد الجمع ~~بين الطرفين في مركب واحد، بقدر ما يستطيع إلى ذلك من سبيل، وفي تكوين هذا الفريق الثالث ~~يجب أن تنصرف الجهود. # ونسوق ها هنا أمثلة ثلاثة من فكرنا الإسلامي الحديث، نشهد خلالها كيف يجيء فكرا قويا ~~حينا، وفكرا ضعيفا حينا آخر، وفكرا اختلطت فيه القوة والضعف حينا ثالثا. ونبدأ ms077 ~~بهذا النوع الثالث الذي يمثله جمال الدين الأفغاني. # فقد نشبت معركة فكرية حول نظرية التطور في علم البيولوجيا والمذهب المادي في الفلسفة ~~(وقد لا يلزم أن تكون بينهما صلة ضرورية؛ إذ قد تأخذ بنظرية التطور في البيولوجيا دون أن ~~تلتزم بالمذهب المادي الذي يرد كل شيء إلى مادة، والعكس صحيح أيضا؛ فقد تذهب إلى أن ~~الكون كله مادة، دون أن تأخذ بنظرية التطور البيولوجي) أقول إن معركة فكرية قد دارت رحاها ~~بين نظرية التطور والمذهب المادي في الفلسفة من جهة، وبين المناصرين لإحياء العقيدة الدينية ~~من جهة أخرى، على ظن من هؤلاء أن ثمة تناقضا بين هذه العقيدة وبين ما جاءت به نظرية ~~التطور وما جاء به المذهب المادي. # وليس يهمنا الآن أن نورد تفصيلات هذا المذهب المادي في الفلسفة، أو تلك النظرية التطورية ~~في علم البيولوجيا - فهما مما يمكن الرجوع إليه في مصادره - لكن الذي يهمنا هو كيف قوبلت ~~هذه الأفكار الغربية الحديثة عند مفكرينا، لنرى مواضع الصدام بين ثقافة العصر من جهة، ~~وثقافة التراث من جهة أخرى، وأن هذا الموقف بطرفيه، ليتمثل في كتاب «الرد على الدهريين» ~~لجمال الدين الأفغاني. # والدهريون الذين يرد عليهم الأفغاني برسالته هذه هم أصحاب الفلسفة المادية التي أخذت ~~تتناثر أنباؤها حينئذ، وقد كتب الأفغاني رده باللغة الفارسية، ثم نقلها إلى العربية ~~الإمام محمد عبده، مستعينا في ذلك بأديب أفغاني، وإنما كتبها ليجيب بها عن سؤال جاءه من ~~رجل فارسي يستفسره حقيقة المذهب المادي الذي أخذ يشيع في الناس: «يقرع آذاننا في هذه الأيام ~~صوت «نيشر نيشر» (= طبيعة). ولا تخلو بلدة من جماعة يلقبون بلقب «نيشري». ولقد سألت ~~أكثر من لاقيت من هذه الطائفة ما حقيقة النيشرية؟ وفي أي وقت كان ظهور النيشريين؟ وهل ~~طريقهم تنافي الدين المطلق؟ ولكن لم يفدني أحد منهم عما سألت بجواب شاف كاف؛ ولهذا ~~ألتمس من جنابكم العالي أن تشرحوا حقيقة النيشرية والنيشريين بتفصيل ينفع الغلة ويشفي ~~العلة والسلام.» # ذلك هو موجز الخطاب الذي ورد إلى الأفغاني، فكانت رسالة ms078 «الرد على الدهريين» هي الجواب، ~~وقد قسمها قسمين: أولهما «في حقيقة مذهب النيشرية والنيشريين وبيان حالهم»، والثاني «في ~~أن الدين الإسلامي أعظم الأديان»، وهذا التقسيم كاف وحده للدلالة على أن الخطر المخوف من ~~ثقافة الغرب الوافدة، هو ما عساها أن تؤثر به في ديانة المسلمين؛ لأن الحرص على نقاء هذه ~~الديانة، هو - فوق كونه من واجبات المؤمن - ضروري لتثبيت أركان القومية السياسية التي كان ~~الأفغاني من طلائع دعاتها، وإلا لما اقتضاه الرد على مذهب فلسفي معين، أو الرد على نظرية ~~بيولوجية بعينها، دفاعا عن الإسلام وبرهانا على عظمته بالنسبة إلى سائر الأديان. # وليس من الإنصاف في شيء أن ننقد رسالة الأفغاني بنظرة الدارس العالم، سواء كان ذلك في ~~جانبها الذي يمس العلوم الصرف، أو كان في جانبها الذي يمس مذاهب الفلسفة الأوروبية؛ لأننا ~~لا نظن أن الأفغاني كان مزودا بعلم العلماء ولا بفلسفة الفلاسفة في دقائقها وتفصيلاتها، ~~إنما أخذ الموضوع أخذ «المثقف» العام لا أخذ الدارس المتخصص، وحسبنا في هذا أن نقرأ له ختام ~~خطابه الذي أرسله ردا على خطاب السائل الفارسي؛ إذ يقول: «... أرجو أن تكون (أي رسالة الرد ~~على الدهريين) مقبولة عند العقل الغريزي لذلك الصديق الفاضل، وأن تنال من ذوي العقول ~~الصافية نظرة الاعتبار.» فمن هذه العبارة يتبين أن الأفغاني قد وجه الحديث في رسالته إلى ~~فئتين من الناس، إحداهما أصحاب «العقل الغريزي» - ومنهم صاحب الخطاب - والأخرى أصحاب العقول ~~الصافية»، ونحن وإن كنا لا ندري على وجه الدقة ماذا يراد ب «العقل الغريزي» عند الأفغاني ~~(لأن لغة العلم الحديث تجعل العقل والغريزة ضدين) إلا أننا نأخذ العبارة على أنها تعني ما ~~نسميه اليوم ب «الإدراك المشترك» # Common Sense # الذي لا ~~يحتاج صاحبه إلى تعلم متخصص بل يكفيه أن يشارك الناس في جوهم الثقافي العام، وكذلك لا ~~ندري على وجه الدقة مراده ب «العقول الصافية» سوى أن نرجح أنه يعني بها عقولا صفت من ~~«الغريزة» لتصبح «منطقا» صرفا، لكن العقول المنطقية الخالصة في حد ذاتها لا تكفي للدلالة ~~على نوع ms079 الموضوع الذي تخصصت في دراسته، ولهذا لم يكن بين من خاطبهم الأفغاني برسالته أحد ~~هو بالضرورة ممن أجادوا دراسة الفلسفة المادية ولا دراسة النظرية الداروينية اللتين تعرض ~~للرد عليهما، والظاهر أنه قد اكتفى في ذلك كله بما عنده هو من «ذلك الإدراك المشترك ~~نفسه». # وأعود فأقول إنه ليس من الإنصاف أن نجد الأفغاني يتناول موضوعه تناول «الأديب» لا تناول ~~«العالم»، ثم نصر مع ذلك على نقده بنظرة العلماء المتخصصين، ولو فعلنا ذلك لما ثبتت ~~رسالة الرد على الدهريين لحظة أمام النقد، حتى وإن قصرنا أنفسنا على علوم عصره، ودع عنك ~~أن نضيف إليها ما قد وصل إليه العلم بعد ذلك، وإلا فماذا يقول الأفغاني وهو يأخذ على أصحاب ~~الفلسفة المادية اعتمادهم على «أحكام الصدفة» إذا قلنا له إن «أحكام الصدفة» هذه - وهي ~~نفسها قوانين الاحتمال - قد أصبحت الآن قاعدة أساسية تنبني عليها العلوم الطبيعية - فضلا ~~عن العلوم الإنسانية - جميعا، وشرح ذلك يطول، وماذا يقول الأفغاني الذي أخذ على أصحاب ~~المذهب المادي بأن مذهبهم يؤدي إلى تسلسل الأطوار إلى غير ابتداء، وهو تسلسل غير متناه، ~~«وغفل أصحاب هذا الزعم عما يلزم من وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه، من المجالات ~~الأولية» - هكذا يقول الأفغاني، فماذا لو أنبأناه بحقيقة يأخذ بها الرياضيون اليوم، وهي ~~إمكان «وجود مقادير غير متناهية في مقدار متناه»، وشرح ذلك أيضا يطول، وهل ترى رجلا ~~أبعد عن دراسة النظرية الداروينية من الأفغاني حين يقول: «وعلى زعم داروين يمكن أن يصير ~~البرغوث فيلا بمرور القرون وكر الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثا كذلك.» أو حين يزعم أن ~~داروين قد حكى عن جماعة أنهم «كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونا ~~صارت الكلاب تولد بلا أذناب، كأنه يقول حيث لم تعد للذنب حاجة كفت الطبيعة عن ~~هبته.» # لا، لا ينبغي - بل لا يجوز - أن يؤخذ رد الأفغاني كما تؤخذ ردود العلماء بعضهم على بعض؛ ~~لأنه رد صادر عن موقف وجداني رافض، ليخاطب به جمهورا هو بدوره يقف ms080 موقفا وجدانيا ~~رافضا بالنسبة إلى الثقافة الوافدة من الغرب الحديث. فلو نظرنا إلى الموقف كله على أنه ~~موقف وطني قومي ينشد التميز من الغرب المهاجم بعلمه وبقوته، فقد كسب الأفغاني ما أراد، ~~لكننا لو نظرنا إليه على أنه رد علمي على نظرية، لما ترددنا في القول بأنه قد خسر ~~المعركة، وترك النصر لخصومه. # وأما المعركة الفكرية الثانية فقد انقلب فيها الوضع، بحيث كان النصر خالصا للفكر العربي ~~على زميله الأوروبي؛ وذلك لأن ميدانها كان دينيا على الأغلب؛ إذ أخذ المهاجم يوازن بين ~~الديانتين المسيحية والإسلامية، فاضطر المدافع أن يرد على الموازنة بموازنة مثلها، ~~فكانت الحجة القوية في جانب الدفاع، والمهاجم هنا هو هانوتو، والمدافع هو الإمام محمد ~~عبده، الذي أدار دفاعه على البيان بأن ما اتهم به «الإسلام» باطل من وجهين: الأول أن ~~شواهد التاريخ لا تؤيده، والثاني أنه كلما صحت التهمة كانت واقعة على «المسلمين» بما أحاط ~~بهم من ظروف أفقدتهم لب عقيدتهم، لا على «الإسلام» من حيث هو عقيدة استطاع المؤمنون بها ~~أن يعلوا إلى ذروة العلم والعمل معا، هذا فضلا عن أن ما اتهم به المسلمون، يمكن ~~مشاهدته في المسيحيين كذلك، مما يدل على أن المسألة لا تتعلق بالعقيدة الدينية، إنما هي ~~نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية. # كان هانوتو في مقاله قد أدخل في موازنته بين الديانتين موازنة أخرى ظنها وثيقة الصلة ~~بالموضوع، وهي الموازنة بين الآريين والساميين، ليخرج من المفاضلة بتفضيل الأولين على ~~الآخرين، فيتناول الأستاذ الإمام هذه النقطة بالتفنيد القوي الحجة، مستندا إلى أن شعوبا ~~آرية معينة تهدر الكرامة الإنسانية في بعض طوائفها، وإلى أن أوروبا قد وصلتها عوامل المدنية ~~من أمم سامية لا من أصول آرية، على أن النظرة المنصفة تدرك على الفور أن الحضارة ~~الإنسانية قد أخذ آريها من ساميها، وساميها من آريها، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك: ~~«فلا زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية لا فرق عندهم بين آري وسامي، متى مست ~~الحاجة إلى تناول عمل أو مادة أو ضرب ms081 من ضروب العرفان ... وقد أخذ الغرب الآري عن الشرق ~~السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل.» # ثم ينتقل الأستاذ الإمام من نقطة الآرية والسامية إلى لب المشكلة عنده، وهو الدين؛ فقد ~~زعم هانوتو أن ديانة التشبيه والتجسيم أفضل من ديانة التوحيد والتنزيه، قائلا إن الأولى ~~ترفع الإنسان إلى منزلة الآلهة، بينما تهبط الثانية بالإنسان إلى حضيض الضعف والحيوانية، ~~ثم أقحم مسألة القدر في هذه القسمة، فجعل أتباع الديانة الأولى يؤمنون بالإرادة الإنسانية ~~الحرة، على حين أن أتباع الديانة الثانية يؤمنون بسلطان القدر عليهم، فيرد الأستاذ الإمام ~~على هذا الزعم بأن لا دخل لنوع العقيدة - مشبهة كانت أو منزهة - بالكلام في القدر، بل إن ~~الأمر في هذا ليتفرع عن الاعتقاد بإحاطة الله بكل شيء وشمول قدرته لكل ممكن، سواء كان صاحب ~~هذا الاعتقاد من أصحاب التشبيه أم من أصحاب التنزيه. # لم يقتصر لقاء التعارض بين هانوتو ومحمد عبده على فعل ورده، بحيث ينتهي الأمر إلى صفر، ~~كأن لم يحدث تعارض ولا لقاء، بل كان من أثره أن تنبهت أذهاننا - ابتداء من الأستاذ الإمام ~~نفسه - إلى وجوب إعادة النظر في تراثنا الفكري، وفي السائد بيننا من عرف وتقليد، لنسلط ~~عليه أشعة من فكر العصر الحديث - الذي صميمه هو العلم - لنرى على أي وجه نوائم بين أنفسنا ~~وبين روح عصرنا، بحيث تتكون من هذه المواءمة شخصية جديدة لا تفرط في ملامحها الأساسية ~~الأصيلة، ولا تغمض العين عن ضرورات العصر الراهن، وفي هذا تكمن أقوى قوة للأستاذ الإمام ~~في تاريخنا الثقافي الحديث. # لو سار بناة الشخصية العربية الجديدة على هذا المستوى القوي الرفيع الذي سلكه الشيخ محمد ~~عبده، والذي قوامه رد الاعتداء عن المقومات الأساسية في تراثنا، ثم الإفادة من مصادر ~~القوة العلمية في عصرنا، حتى لا نستنيم لسحر الماضي وحده، لاجتنبوا كثيرا من مواضع الزلل، ~~لكن ظهر من بيننا رجال اشرأبت أعناقهم نحو أن يسيروا على الدرب وراء الإمام، دون أن ~~تسعفهم من طبائعهم قوة تعينهم على ذلك السير، فتعثرت ms082 خطاهم في مجاهل وأوهام، من هؤلاء ~~مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي»، فهو في طموحه لأن يصبح بدوره ~~«إماما»، أو ما يشبه الإمام، راح يذود عن العقيدة الدينية في عشوائية عجيبة، ضد من؟ ضد ~~نفر من مواطنيه؛ فالمتهم هنا ليس هو داروين كما كان عند الأفغاني، ولا هو هانوتو كما كان ~~عند محمد عبده، بل المتهمون هم مؤلفو كتب «الإسلام وأصول الحكم» و«مستقبل الثقافة في مصر» ~~و«خرافة الميتافيزيقا»، ذكرهم بأسماء كتبهم، ولم يذكر أسماءهم، كأنما يشرفه أن يستخف ~~بأمثال الدكتور طه حسين وعلي عبد الرازق وأن يجعلهم أدوات في أيدي المستعمرين. # ولما كنت صاحب هذا الكتاب الأخير، وهو كتاب خصص للرد عليه مؤلف «الفكر الإسلامي ~~الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» فصلا كاملا تحت عنوان «الدين خرافة» فقد عنيت بقراءته، ~~لأجد كلاما هو أبعد ما يكون عن الرد العلمي لما أراد أن يرد عليه، ولعله في ذلك معذور؛ ~~لأن مثل هذا الرد كان يتطلب درجة من دقة التحليل لا أظنه قد درب على مثلها، نعم، قرأت ~~ذلك الفصل لأجد فيه ما هو أقرب إلى الخطبة الحماسية التي أراد بها - وسأفرض فيه النية ~~الحسنة لأنه ليس ثمة ما يدعوه إلى غير ذلك - أراد بها أن يثير نفوس قرائه ضد صاحب الكتاب - ~~لا أن يقنع عقولهم - لأن العقول تحتاج إلى منطق صرف، والخطب الحماسية لا تلتزم مثل هذا ~~المنطق ... نعم، أراد بها أن يثير نفوس قرائه، بادئا حملة الإثارة منذ عنوان كتابه؛ إذ يجعل ~~جزءا من هذا العنوان عبارة تقول عن مواطنيه الذين تصدى لمهاجمتهم في دعاواهم الفكرية ~~إنهم ذوو صلة بالاستعمار الغربي، ثم يتابع حملة الإثارة الانفعالية بالنسبة إلى ~~كاتب هذه السطور، فيجعل عنوان الفصل الذي ~~خصصه لمهاجمة كتابه «خرافة الميتافيزيقا»: «الدين خرافة»، وكأنه يستنتج من عنده أن الخائن ~~الذي عاون الاستعمار بكتابه، قد خرج كذلك على دينه، ألم يقل إن الميتافيزيقا خرافة؟ إذن ~~يكون الدين خرافة! # وحتى إذا سلمنا مع صاحب هذا الهجوم أن هذه نتيجة تلزم عن ms083 العنوان الأصلي للكتاب الذي ~~يهاجمه، فلماذا لم يذكر هذا العنوان الأصلي مكان بديله الذي اختاره له؟ ألأن كلمة ~~«ميتافيزيقا» لا تثير النفوس بمثل ما تثيرها كلمة «الدين»؟ # ولقد كانت هذه البداية المغرضة كافية لصدنا عن متابعة ما أورده من حديث؛ لأنها بداية ~~من لا يعتزم الدخول في جدال فلسفي نزيه، لكننا تابعناه لنرى كيف خدم القضية التي تصدى ~~لخدمتها فوجدناه ينثر الأسماء الإفرنجية يمينا ويسارا، بالأحرف العربية تارة، وبالأحرف ~~الإفرنجية تارة أخرى، وهي أسماء لفلاسفة ومذاهب، ذكرها، لا لأنها تصلح أن تكون ردا على ~~ما أراد الرد عليه، بل لأنها تتعاون مع ما أثبته عن شخصه على غلاف الكتاب، من أنه «دكتور من ~~جامعتي برلين وهامبورج بألمانيا، وأنه دكتور من هناك في الفلسفة وعلم النفس والدراسات ~~الإسلامية»، ولست أدري في الحق كيف اجتمعت هذه الفروع كلها في رسالة للدكتوراه، ولم يكن ~~ذلك ليكون من شأني، لولا أنه دلني على أن الرجل لم يخصص نفسه للدراسة الفلسفية التي تعينه ~~على تتبع تحليلات الفلاسفة، حين تجاوز هذه التحليلات حدود المفاهيم الخطابية، التي ~~تستخدم في إثارة الوجدان، ولا يهمها أن تتجه بالمنطق البارد نحو العقول، وحسبنا من ضعف ~~إلمامه بالحركات الفكرية في ميدان الفلسفة أن يخلط بين «الوضعية المنطقية» وبين «المذهب ~~الوضعي» الذي ينسب إلى «أوجست كونت»، حتى لقد طفق يشرح للناس هذا المذهب (مذهب أوجست ~~كونت) ويكيل له الضربات، وهو يظن أنه يهاجم ما ندعو إليه! # إن في هذا الخلط وحده لفصل الخطاب، إن صاحب هذا الخلط الفكري بين وضعية كونت ووضعية ~~شليك، وفتجنشتين، وكارناب، ونيوراث، الذين لم يخطر بباله أن يقرأ سطرا واحدا لواحد منهم، ~~أقول إن صاحب هذا الخلط الفكري العجيب، هو الذي يأخذ على مؤلف «خرافة الميتافيزيقا» أنه ~~يردد فكر الغربيين باسم التجديد، وأنه يردده «مشوها أو محرفا». # ثم انظر إلى طريقة مؤلف «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» في استدلال ~~النتائج من المقدمات؛ فقد ذكر عبارة وردت في خرافة الميتافيزيقا، تقول: «نشأت الميتافيزيقا ~~من غلطة أساسية ... وهي الظن ms084 بأنه ما دامت هناك كلمة في اللغة، فلا بد أن يكون لها مدلول ~~ومعنى، وكثرة تداول اللغة ووجودها في القواميس يزيد الناس إيمانا بأنها يستحيل أن تكون ~~مجرد ترقيم أو مجرد صوت بغير دلالة، لكن التحليل يبين لك أن مئات الألفاظ المتداولة ~~والمسجلة في القواميس هي ألفاظ زائفة ... وما أشبه الأمر هنا بظرف يتداوله الناس في ~~الأسواق مدة طويلة، على أنه يحتوي على ورقة من ذوات الجنيه، حتى يكتسب الظرف قيمة الجنيه ~~في المعاملات، وبعدئذ يجيء متشكك ويفض الظرف ليستوثق من مكنونه ومحتواه، وإذا هو فارغ، ~~وكان ينبغي أن يبطل البيع به والشراء، لو تنبه الناس إلى زيفه من أول الأمر.» # يذكر المؤلف هذا النص من كتاب «خرافة الميتافيزيقا» ليستدل ~~منه - وا عجباه - أن الكلمة المشار إليها والتي ~~يتداولها الناس في كثرة، ماذا تكون إلا اسم الجلالة؟ أي والله وا عجبي من نتيجة كهذه تجيء ~~من نص كذاك! فهل كان الحديث في النص عن كلمة واحدة معينة؟ ألم يرد في النص ما يشير ~~إلى مئات الألفاظ؟ أم إنك تضرب بالنص الذي ذكرته أنت بنفسك، عرض الحائط لتستدل منه ما يتفق ~~مع هواك، ومع ما عساه أن يثير وجدان الكراهية عند قارئك؟! وأعجب العجب أنك تصرح لهذا ~~القارئ أنك إنما تفهم هذه النتيجة من خلال النص المذكور، وإن لم يصرح بها مؤلف خرافة ~~الميتافيزيقا، كأنما تريد أن تقول لقارئك: دع عنك ما ورد في النص المختار من عبارة «مئات ~~الألفاظ المتداولة» وتعال معي نقصر الأمر على لفظة واحدة؛ لأننا نحن - أولاد البلد - ~~يفهم بعضنا بعضا، ونفهمها من وراء السطور وهي طائرة، ومحال أن يضحك على أذقاننا كاتب مادي ~~كمؤلف «خرافة الميتافيزيقا»، إنه يقول شيئا لكننا سنفهمه على وجه آخر؛ لأننا لسنا من ~~الغفلة بحيث يفوتنا ما يعنيه وإن لم يصرح به. # وبالله لا تضحك أيها القارئ، إذا ما أنبأتك أن مؤلف كتاب «الفكر الإسلامي الحديث» الذي ~~يستنتج من نص كهذا نتيجة كهذه، هو نفسه الذي يقول عن صاحب «خرافة الميتافيزيقا» إن ms085 كلامه ~~«لا يدل فحسب على قلة إدراك اللغة العلمية، بل يدل أيضا على أن البتر في النقل عن الغير ~~يكاد يكون صفة من صفات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث عند هؤلاء المرددين.» ورحمكم ~~الله يا أصحاب العقول السليمة؛ فقد تولى الحديث عنكم أستاذ أجاد «اللغة العلمية» إجادة ~~تامة، وتنزه عن «البتر» الذي يقترفه «المرددون» لما ليس يفقهون. # لا، إن الشخصية العربية الجديدة لا تبنى بمثل هذا الهجوم الحاقد، ينهش به بعضنا بعضا، ~~بل تبنى على دعامتين: صيانة التراث صيانة بصيرة عاقلة، ثم اكتساب القوة من مصادرها في ~~العصر الذي نحياه، ومحاولة استخراج الوحدة العضوية التي تضم الدعامتين معا في بناء واحد، ~~وهو طريق بدأه منذ أول هذا القرن الأستاذ الإمام محمد عبده، وما يزال يهتدي به - من حيث ~~المبدأ - ولكن على صور شتى، رجال الفكر المخلصون. # | العروبة ثقافة لا سياسة # ليست عروبة العربي قرارا سياسيا تصدره مؤتمرات القمم أو مؤتمرات السفوح والوديان، بل ~~هي مركب ثقافي يعيشه في حياته اليومية، لا يستطيع العربي نفسه أن ينسلخ عنه إذا أراد، وأن ~~يعيده إليه إذا أراد، لا ... ليست عروبة العربي قميصا يلبسه إذا شاء ويخلعه إذا شاء، بل هي ~~خصائص توشك أن تبلغ منه ما يبلغه لون الجلد والعينين، فهي مجموعة من القيم والعادات وطرائق ~~النظر يتداخل بعضها في بعض تداخل الخيوط في قطعة ~~النسيج. # ولا تناقض بين عروبة العربي من جهة ومميزاته الإقليمية من جهة أخرى؛ فالمصري مصري وعربي ~~معا كما يكون السوداني سودانيا وعربيا، والعراقي عراقيا وعربيا في آن؛ فليس على ~~هذه الأرض كلها إنسان واحد وحداني الانتماء، وإنما الأمر في هذا يشبه الدوائر التي ~~تتدرج اتساعا؛ فصغراها يتلوها ويشتمل عليها دائرة أوسع ثم هذه يتلوها ويشتمل عليها ~~دائرة أوسع ... وهلم جرا. # ليس الأمر هنا أمر بدائل لا يصدق منها إلا بديل واحد، بل هو مركب عطفي قد تصدق فيه ~~جميع الصفات المعطوف بعضها على بعض دفعة واحدة؛ أعني أن الأمر هنا ليس كقولنا إن الثوب إما ~~أبيض وإما أسود ms086 ، فإذا كانت الأولى امتنعت الثانية، كلا، بل الأمر هنا هو كقولنا عن الثوب ~~إنه أبيض ومصنوع من القطن فصدق إحدى الصفتين لا ينفي صدق الصفة الثانية. # إنني مصري عربي في آن واحد ... ولمصريتي مميزات أنفرد ~~بها دون سائر العرب، ولعروبتي خصائص أشترك فيها مع سائر العرب، على أن مصريتي وعروبتي ~~كلتيهما ترتد آخر الأمر إلى نسيج ثقافي بعينه، وقولي إنني مصري عربي، معناه هو أنني ~~أعيش ثقافة دائرتها الداخلية هي المميزات المصرية الخاصة، ودائرتها الأوسع هي الخصائص ~~المشتركة بين العرب أجمعين. # فما هي أبرز الخصائص الثقافية التي تجعل ~~العربي عربيا، سواء كان قبل ذلك مصريا أم سودانيا أم عراقيا؟ أولى خصائص العروبة ~~لغتها، على أنه لا يكفيني في هذا الجانب أن تكون لغة الكلام والكتابة عربية؛ فالأوروبي ~~الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها ومع ذلك لا ندرجه في العروبة ابنا من أبنائها، ~~وإنما المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة، التي تكمن في كيان العربي، فتميل ~~به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية؛ فالأجنبي الذي درس اللغة العربية إنما ~~يتكلمها أو يكتبها من السطح - إذا جاز هذا القول - وأما العربي فهو يتكلمها أو يكتبها من ~~الجذور. # وأعني بالجذور تلك الصور الدفينة التي توشك أن تكون جزءا من فطرة الإنسان والتي منها ~~تنبثق اللغة المعنية؛ فمن خصائص اللغة العربية - مثلا - أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي عرفت ~~كيف تفجر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة - كتب - فجرتها بعد ذلك ~~فأخرجت منها: «كاتب، كتاب، كتابة، مكتوب ... إلخ إلخ»؛ فكأنها القبيلة أو العشيرة يتعدد ~~أفرادها لكن هؤلاء الأفراد جميعا ينتمون إلى رأس واحد. # فإذا قلنا إن اللغة العربية هي أولى خصائص العروبة فإنما نقصد بذلك إلى ما هو أعمق من ~~مجرد عملية التفاهم بلغة معينة، وهو أن خصائص اللغة تكون هي نفسها خصائص أصحابها، ومعنى ~~ذلك أن أبناء العروبة على امتداد الوطن العربي الكبير قد جاءوا في طرائق النظر على غرار ~~ما تتميز به لغتهم من صفات. وثانية الخصائص ms087 الإدراكية التي تتألف منها عروبة العربي هي ~~ميله إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في «أنواع» و«أجناس»؛ فهو ~~لا يهمه «هذا الطائر» المفرد المعين الواقف هناك على ذلك الفرع من تلك الشجرة، بل يكفيه ~~أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوع بأسره من الأحياء. لقد بلغ بي العجب أشده ذات يوم ~~بعيد، حين سار بي أمريكي في بستان بيته، وكان مليئا بالورود على أشجارها، فوجدت الرجل ~~يحدثني عن كل وردة على حدة وكأنها طفل قائم برأسه متميز عن سائر الأطفال. ولعلك تعلم أن ~~وولت دزني مبتدع - ميكي ماوس - ورسومه وحكاياته، قد بدأ عمله هذا بأن أخذ يراقب فأرا ~~معينا بذاته عدة أيام، ولم يكن يطوف بباله عندئذ أنه سيقيم على ملاحظاته ما أقامه بعد ~~ذلك، بل هو الاهتمام - بالفرد - في ذاته هو الذي استوقف نظره، وهو اهتمام لا يكاد يعرفه ~~العربي في طريقة إدراكه للأشياء والأحياء معا. # انظر إلى رسوم الطير والحيوان والنبات في الفن العربي - كما تراها مثلا في سجادة أو فوق ~~آنية فخارية - تجد الفنان العربي يتعمد إهمال التفصيلات «كما هي الحال اليوم في الفن ~~التجريدي المعاصر»، فكأنما هو يرسم تخطيطا لطائر، ولا يرسم طائرا، أو يخطط لغزالة ولا ~~يرسم غزالة، وهكذا - لماذا؟ لأنه في صميم تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرا بالأفراد أو ~~المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجردة ليسهل حملها معه وهو مسافر في الفلاة ~~على ظهور الإبل، شأنه في ذلك كشأنه تجاه اللغة؛ فهو يحرص على «الأصل الثلاثي» ليحمله معه ~~أينما سار، وأما ما يتفجر من ذلك الينبوع اللغوي، فيتركه إلى حين الحاجة إليه. # ولعل بعض السر في اكتفاء العربي بالأصول العامة دون الفروع التفصيلية هو إيمانه العميق ~~بسرعة زوال الأفراد، أما ما يبقى فهو الأصول في تجريدها وتعميمها. ولا بد لنا أن نلحظ في ~~هذا الموضع من الحديث أن العربي في غضه النظر عن الأفراد مكتفيا بالرءوس كثيرا ما ~~انتقل معه هذا النظر إلى ميدان الحياة الاجتماعية فأسقط أفراد ms088 الناس من حسابه مكتفيا ب ~~«الذوات» التي لها بروز وارتفاع. # ومما يتفرع عن هذه الخاصة في النظرة العربية، ميله إلى تكثيف المعنى في أقل حيز ممكن من ~~اللفظ؛ ومن هنا كان حبه للمثل السائر أو للحكمة المضغوطة في جملة قصيرة؛ فهو يريد صميم ~~اللباب ليطير معه في انتقاله السريع، ولا يريد التفصيلات التي يثقل حفظها وحملها، ولقد ~~مرت بي ملاحظة نافذة في هذا الصدد (ولست أذكر إن كنت طالعتها عند ابن جني في «الخصائص» أو ~~عند الجاحظ في «الحيوان») وهي أن القرآن الكريم إذا ما وجه الخطاب إلى بني إسرائيل أطنب ~~في القول، وإذا وجهه إلى العرب أوجز، وذلك لاختلاف الفئتين في طريقة الفهم والتعبير، وإني ~~لأود من القارئ ألا يفوته بأنه إذا كان كتابنا اليوم قد تعلموا تحليل التفصيلات في أدب ~~القصة أو أدب المسرح، فذلك جانب طرأ علينا حديثا نقبله ولا نرفضه، لكن لنعلم أنه بعد ~~جديد أضيف إلى الصفة العربية الأصيلة. # لقد بلغ ميل العربي إلى التجريد دون الاهتمام بالأفراد من حيث هم أفراد، أن الشاعر ~~العربي إذا تغزل في امرأة فلم يكن في معظم الحالات يقصد إلى امرأة بعينها، بل إن غزله ~~منصب على «نوع» المرأة بأسره، وكذلك قل فيه إذا وصف جوادا أو بعيرا أو ما شئت مما كان ~~يتعرض لوصفه. # وثالثة الخصائص التي تجعل من العربي عربيا في نظرته إيمانه، بأن الحضارة الصحيحة إنما ~~تدار على محور الأخلاق؛ فليس المهم فيمن هذبته الحضارة أن يكون قويا بسلاحه، ولا ~~قادرا بماله، بل المهم هو أن يقوم التعامل بين الإنسان وربه، والإنسان والإنسان، على ~~أنماط رسمتها السماء لأهل الأرض، وحيا عن طريق أنبيائها وما كل حضارة جرت هذا المجرى لأن ~~ثمة من الحضارات - ومنها حضارة هذا العصر - تجعل أخلاقها نابتة من الأرض، لا هابطة من ~~السماء؛ فالقيم الأخلاقية في غير العروبة، قد يجعلونها أدوات لسعادة الإنسان، أو وسائل ~~لمنفعته أو يجعلونها متمشية مع منطق العقل، أو غير ذلك من التحليل والتعليل، وأما جوهر ~~العروبة فاعتقاد بأن ms089 الخالق يشاء ويأمر، والمخلوق يطيع بغير سؤال: هل تتحقق له السعادة ~~في حياته على هذه الأرض أو لا تتحقق، هل تأتيه المنافع بناء على سلوكه الذي أطاع به خالقه ~~أو لا تأتيه، هل يرضى منطق العقل من ذلك السلوك أو لا يرضى؟ # ويتفرع عن هذه النظرة جانب هام في ~~الشخصية العربية - كائنا ما كان إقليمها من الوطن العربي - وهو أن العربي - وهو ما تجعله ~~خاصية رابعة من خصائص الثقافة العربية - إذ يقابل بين الأفعال أو الأحياء أو الأشياء التي ~~يصادفها في حياته الواقعة من جهة، وبين مثلها العليا من جهة أخرى ليستطيع تقويمها؛ فهو ~~إنما يقابل بين طرفين، كلاهما واقع من كائنات هذه الأرض؛ فهو يقيس هذا الفرد المعين من ~~أفراد الناس، إلى فرد آخر يراه مثالا للكمال، ويقيس هذا الجواد أو هذه الناقة إلى جواد ~~آخر أو ناقة أخرى؛ وذلك لأنه لا يريد أن يقيس كائنات الدنيا الواقعة إلى تصورات عقلية لا ~~وجود لها إلا في الأذهان، على خلاف أبناء الثقافة الأوروبية؛ فهم هناك (كما ترى في فلسفتهم) ~~يجعلون المقابلة بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، لا بين الأشياء والأشياء، ولقد أطلقوا ~~على المذهب الذي يعطي الأولوية للأفكار اسم: «إيديالزم» مأخوذة من كلمة تعني «فكرة»، ~~ويطلقون على المذهب الذي يجعل الأولوية للأشياء اسم: «ريالزم»، وهذه أيضا مأخوذة من كلمة ~~تعني «شيء». ولقد أخطأ الناقل العربي حين ترجم هاتين الكلمتين على التوالي بكلمتي «مثالية» ~~و«واقعية»؛ لأن كلمة «مثال» العربية لا تعني كائنا عقليا بقدر ما تعني كائنا هنا نراه ~~ونلمسه ونتمثل به ونجعله ماثلا أمام أبصارنا لنقيس عليه، وكذلك كلمة «واقع» لا تعني مجرد ~~أشياء بغير إضافة قيمة معينة إليها، وإنما «الوقوع» هو هبوط وسقوط، ولو كان الناقل ~~العربي أضبط فكرا، لجعل للإيديالزم كلمة «الذهنية»، وللريالزم كلمة «الشيئية» فيكون ~~الاسمان العربيان مطابقين للاسمين الإفرنجيين. # أريد بهذا أن أميز طريقة الإدراك العربي، بالقياس إلى طريقة الإدراك عند شعوب أخرى، ~~وأكرر القول بأن العربي يقصر نظرته على دنيا الكائنات الفعلية، يوازن بين ms090 بعضها وبعضها ~~الآخر، وهي بأجمعها «واقع» - سواء في ذلك ما هو أدنى وما هو أعلى - لأنها كلها كائنات أرضية ~~زائلة فانية، ولا يجوز خلطها بكائنات سماوية من قبيل «المثل» التي تصورها أفلاطون ~~وسار على دربه في ذلك كثيرون. # نعم إنني أعلم أن بعض فلاسفة المسلمين الأقدمين استخدموا عبارتي «عالم الأذهان» و«عالم ~~الأعيان» في مقارنتهم بين الأفكار العقلية من جهة وتجسيداتها في عالم الأشياء من جهة أخرى، ~~لكن هؤلاء كانوا تحت تأثير الفلسفة اليونانية، على حين أني هنا أحاول استخراج «العقل ~~العربي» من لغته العربية، فما دامت الكلمتان العربيتان «مثال» و«واقع» كلتاهما تشير إلى ~~أشياء في هذه الدنيا (ولاحظ معنى «السقوط» أو «الهبوط» في كلمة «دنيا») فلنا الحق - إذن - ~~في الحكم على طريقة الرؤية العربية من خلال ألفاظها ومضموناتها. # ومؤدى هذا كله هو أن العربي في نظرته إلى الكون يطمح دائما إلى مجاوزة ما هو واقع - ~~مهما كانت منزلته - ليبلغ ما هو وراء الواقع؛ أي أن يجاوز دنيا الفناء إلى عالم ~~الخلود. # والفن العربي شاهد على صدق هذا الذي نقوله؛ فجانب كبير من الفن العربي يتخذ شكل وحدات ~~متكررة، كما ترى في الوحدات الزخرفية على جدران المساجد، أو في الأنماط التي تصمم عليها ~~المشربيات - مثلا - وهذه الوحدات المتكررة أينما وجدتها ترى عينيك قد انتقلتا من طرف ~~إلى طرف دون أن يكون هناك ما يستدعي الوقوف إلا أن يكون الحائط المزخرف قد انتهى، وعندئذ ~~ينتهي دور البصر ويأتي دور الخيال؛ لأنه هو الذي سيكمل تسلسل الوحدات إلى ما لا ~~نهاية. # وطيران الإنسان بخياله إلى اللامتناهي، قافزا من الواقع إلى ما وراءه، هو في صميم الصميم ~~من المركب الثقافي الذي يطلق عليه اسم «العروبة»، إنها طريقة للنظر خاصة بنا، وتميزنا ~~عن سوانا، سواء أجاء مسقط رءوسنا في وادي النيل أم في وادي دجلة، في الجزيرة العربية أم في ~~بلاد المغرب، في أرض الشام أم في أرض اليمن. # وحسبي هذه النقاط الأربع من المكونات الثقافية لأبناء العروبة، وأريد أن أختم الحديث ~~بملاحظتين ms091 : الأولى هي أننا قد نجد ثقافات أخرى تشارك العروبة في هذه أو تلك من النقاط ~~الأربع المذكورة، لكنك لن تجدها مجتمعة كلها إلا في العربي وطريقته في النظر إلى الكون ~~والإنسان. والثانية هي أن تحديد تلك الخصائص لا ينفي أن تحاول تغيير ما نريد تغييره منها، ~~إذا وجدناه معوقا لنا في حضارة جديدة، لكننا حين نفعل ذلك نكون بمثابة من يغير في ~~أصوله الموروثة. # إننا لم نحلل فكرة العروبة إلى خصائصها التي ذكرناها لنمدح أو لنذم، بل حللناها لنصف ما ~~هو قائم بالفعل ولكي نقول: إن عروبة العربي هي وجوده الثقافي المتميز؛ فهي لا تمنح بقرار ~~كما قد يتوهم الواهمون. # | لكل ثقافة وعاؤها # كان مما يلفت نظري دائما، أن أبناء ثقافة معينة، إذا ما ترجموا شيئا من ثقافة أخرى، لم ~~يسعهم في كثير جدا من الحالات، إلا أن يصبوا الفكرة المنقولة في قوالبهم الفكرية، فإذا ~~هي عندهم شيء يختلف اختلافا بعيدا عن الأصل المنقول، ويحضرني الآن مثل صغير، لكنه قوي ~~الدلالة، وذلك أني كنت ذات يوم أقرأ الترجمة الإنجليزية لإحدى حكايات ألف ليلة وليلة، فلما ~~أراد المترجم أن ينقل عبارة عربية فيها دعاء شخصي لآخر بأن يكثر له الله في «الخير» لم ~~يجد في ثقافته الإنجليزية ما ينقل إليه كلمة «خير» إلا كلمة «دخل»، فأصبح الدعاء القائل في ~~العربية: «زاد الله من خيرك» دعاء في الإنجليزية يقول: «زاد الله من دخلك.» # وليس «الدخل» الذي يسهل قياسه بالجنيهات أو ما يعادلها من وحدات المال، مرادفا ل ~~«الخير» في السياق العربي الذي أسلفناه؛ لأن الخير في هذا المعنى أمر يصعب قياسه بأي ~~معيار؛ فهو الدخل مضافا إليه «بركة» من الله تجعل قليله كثيرا؛ فالبركة في التصور العربي ~~لا يكفي لحسابها وحدات عددية أيا كان نوعها، أو بعبارة أخرى، هي حقيقة «كيفية» يستحيل ~~تحويلها تحويلا كاملا إلى صيغة «كمية». # هكذا تختلف الثقافات اختلافا يتعذر عبوره، مما يثير في النفس ريبة عندما يقال إن ~~هذا الكتاب العربي - مثلا - ترجمة لذلك الكتاب الإنجليزي أو الفرنسي ms092 أو غيرهما من اللغات، ~~وتستطيع أن تقرأ في هذا المعنى، ما كتبه أديب العربية العملاق «الجاحظ» (في الجزء الأول من ~~كتابه «الحيوان») بمناسبة ما رآه في بغداد من حركة للترجمة عن اليونانية على أوسع نطاق، ~~فتساءل في دقة وعمق بما معناه، ترى كم هنالك من التطابق بين الأصل اليوناني والصورة ~~العربية؟ # ولقد وقعت في هذا الباب على دراسة في الأدب المقارن، قام بها باحث ياباني، لتقارن ~~مقارنة تفصيلية دقيقة بين حكايات «إيسوب» في أصلها اليوناني، وترجماتها الإنجليزية ~~والفرنسية واليابانية، ليستخرج من هذه المقارنة اختلاف «القيم» أو العادات أو التصورات ~~عند الشعوب المختلفة، وذلك على الأساس الذي أسلفناه، وهو أن المترجم في كل لغة لا يستطيع ~~إلا أن يصب الأفكار الأصلية في قوالب لغته، فتحدث المقارنة بين الأصل والصورة في كثير ~~جدا من الحالات. # ولعله من المفيد - قبل أن أمضي في الحديث - أن أذكر القارئ بأن «إيسوب» كان أول من كتب ~~على لسان الحيوان والطير مجموعة حكايات مما جرى العرف على تسميته بالحكايات الخرافية ~~(ولست أوافق على استخدام معنى «الخرافة» في هذا الضرب من الخيال الأدبي)؛ فقد كتب إيسوب ~~حكاياته تلك في القرن السادس قبل الميلاد، ثم ما هي إلا أن ترجمت إلى اللاتينية، ثم إلى ~~كثير من اللغات الأوروبية الحديثة، لعل أشهرها بيننا هي ترجمة «لافونتين» الفرنسية، إبان ~~القرن السابع عشر، وكان للغة العربية حظها في ذلك، فترجمها محمد عثمان جلال (توفي عام ~~1898م) وهو مترجم من تلاميذ رفاعة الطهطاوي، وله ترجمات كثيرة عن الأدب الفرنسي بصفة ~~خاصة، وقد ترجم حكايات لافونتين المنظومة شعرا، إلى نظم عربي كذلك. # وأحسب أن ليس فينا من لم تصادفه بعض النماذج من تلك الحكايات، في كتب المطالعة ~~العربية في المدارس الابتدائية، وأقول ذلك لأن حكاية «الفأر والأسد» كانت من الأمثلة التي ~~صب عليها الباحث الياباني تحليله العجيب، وخلاصة الحكاية كما يذكر القارئ، أن أسدا أخذته ~~غفوة النعاس، فمشى على جسده فأر، حتى إذا ما بلغ وجهه، استيقظ الأسد من نومه وأمسك بالفأر ~~فاستعطفه الفأر ms093 أن يطلق سراحه ولعله ينفعه ذات مرة. فلم يعبأ الأسد بهذا الإغراء لكنه أطلق ~~الفأر، ثم لم تمض إلا أيام قلائل، وإذا الأسد يزأر مرتاعا من هول أصابه، وسمع الفأر ~~زئيره وعرف صوته، فاتجه إليه، ووجده في أحبولة صياد لا يستطيع منها فكاكا، فأخذ الفأر ~~يقرض الحبال بأسنانه، حتى مكن الأسد من الإفلات، وكما هي العادة في حكايات إيسوب ~~(ولافونتين من بعده) تختتم الحكاية بالحكمة المستفادة منها، والحكمة هنا هي ألا نستصغر ~~أحدا؛ إذ لا يدري الإنسان من أين يأتيه الخلاص. # إنها حكاية نذكرها جميعا من كتب المطالعة كما قلت، لكن انظر إلى النتائج المذهلة التي ~~استخلصها الباحث الياباني من مقارنته للترجمات المختلفة في اللغات المختلفة، ولقد وقفت ~~طويلا عند نتيجتين: الأولى هي أن طريقة الخطاب من الفأر إلى الأسد قد اختلفت عند المترجمين ~~بسبب اختلاف ثقافاتهم؛ ففي الترجمة الإنجليزية لم يستخدم الفأر أية لفظة للتعظيم، إنه لم ~~يقل للأسد - مثلا - يا صاحب الجلالة، ولا يا صاحب العظمة، ولا أي شيء من هذا القبيل، بل ~~خاطبه بضمير المخاطب المفرد، قائلا له ما معناه «أنت» بصورة بسيطة مباشرة، وأما في ~~الترجمة اليابانية للحكاية، فقد أضاف المترجم عبارة «يا صاحب الفخامة»، وأرجح أن تكون ~~الترجمة العربية قد أضافت عبارة «يا مولاي» على الأقل إن لم تكن قد زادت على ذلك ألقابا ~~أخرى للتعظيم. # وأما النتيجة الثانية التي استوقفتني فهي عن التعليل الذي تفسر به الحكاية إطلاق الأسد ~~للفأر، فلماذا خلى سبيله وكان المتوقع أن يفتك به، ها هنا أيضا اختلفت الثقافات عند ~~الترجمة؛ فالمترجم الإنجليزي جعل الأسد يحس بشعور الفكاهة في أن يعده الفأر - برغم قدرته ~~المحدودة - رد الجميل، وأما في الترجمة اليابانية، وفي الترجمة الفرنسية كذلك، حيث كان ~~لطبقة الأشراف في كلا البلدين شأن عظيم، وحيث كانت «الكرامة» في نظر النبلاء، بالمعنى الذي ~~كانوا يفهمونه منها، هي القيمة العليا، ومن مقتضيات تلك الكرامة عندهم ألا يقاتل النبيل من ~~هو أدنى منه مرتبة في البناء الاجتماعي؛ ذلك أن الترجمة اليابانية للحكايات وقعت ms094 في القرن ~~السادس عشر، عندما كانت طبقة «الساموراي» (أي طبقة النبلاء المقاتلين بسيوفهم)، لها المكانة ~~العليا ووقعت الترجمة الفرنسية في القرن السابع عشر، في عهد لويس الرابع عشر يحيط به طبقة ~~الأشراف بكل مظاهر الأرستقراطية، أقول إنه في ظل الثقافتين اليابانية والفرنسية في عهد ~~الأرستقراطية في كل منهما، أجرى المترجم في سياق ترجمته تفسيرا على لسان الأسد لإطلاق ~~سراح الفأر، وهو أنه مما يجرح كرامة الأسد في موضعه السامي من مملكة الحيوان أن يثأر من ~~فأر غير ذي وزن ولا مكانة. # وكذلك جاء التفسير في الترجمة الأمريكية لافتا للنظر، وهو أن الأسد في تصور المترجم ~~الأمريكي، لم يأكل الفأر؛ لأنه لم يكن في تلك اللحظة جائعا يريد الطعام؛ فالأمر هنا أمر ~~«منفعة» مباشرة، لا أمر «قيمة» عليا. # هكذا صبت كل ثقافة روحها فيما تترجمه من الثقافات الأخرى، ألم يترجم العرب لفظتي ~~«تراجيديا» و«كوميديا» (عندما ترجموا أرسطو) بلفظتي شعر «المديح» وشعر «الهجاء»؟ لم يكن ~~لديهم مسرح، فلم يكن في أذهانهم تصور صحيح للغة الأدب المسرحي؛ ولذلك وضعوا معانيها في ~~القوالب التي يألفونها؛ فكل إناء ثقافي ينضح بما فيه، ولا حيلة لنا في ذلك، لكننا قلما ~~نتنبه إلى هذه الحقيقة، فننسى أن جانبا من المعاني التي ننقلها من الثقافات الأخرى، هو ~~من تصوراتنا نحن لما نقلناه، ثم يزعم الزاعمون أنها «ثقافة مستوردة» على نحو ما يقول بعضنا ~~الآن. # بل الأمر أبعد من ذلك مدى؛ فهو لا يقتصر على النقل من لغة إلى لغة، وإنما يجاوز ذلك ~~إلى النقل من عصر إلى عصر، في تاريخ اللغة الواحدة؛ فنحن العرب المحدثين، إذ ننقل ~~ألفاظنا وعبارات استخدمها العرب السابقون، نتوهم أننا إنما نستخدم ما نقلناه بالمعاني ~~نفسها التي أرادها السابقون مع أن تغير خبراتنا عن خبراتهم، يجعله ضربا من المحال أن تظل ~~أوعية اللغة حاملة للمعاني نفسها برغم ذلك الاختلاف البعيد في الخبرات؛ فلقد كنت أقرأ منذ ~~أيام قليلة مقالة يبين فيها كاتبها المعاني الأصلية لهذه الأسماء: حصان، فرس، جواد، ~~خيل، فكان مما نبه ms095 إليه أن «الفرس» فيها معنى الافتراس؛ ولذلك فهي أصلح لحالة الهجوم في ~~القتال، على خلاف اسم «الحصان» لأنه يحمل في طيه معنى الحصن والتحصن والحصانة؛ ولذلك فهو ~~الأصلح لحالة الدفاع ... إلى آخر ما أورد كاتب المقال في تحليله، فإذا كان مصيبا في تحليله ~~ذاك، أفلا ينشأ لدينا سؤال، هو: هل منا من يلتفت إلى المحتوى الأصيل لهذه الأسماء وهو ~~يستخدمها؟ لقد ذهب ذلك المحتوى مع ذهاب الخبرات التي كانت أنشأته وأصبح لنا خبرات أخرى مع ~~هذا الصنف من الحيوان، فلم نعد نستخدمه في القتال، وبالتالي لم تعد هناك ضرورة لإيجاد ~~الفوارق بين فرس يهجم وحصان يدافع وما إلى ذلك من فواصل، إننا نعلم أن «المترادفات» الكثيرة ~~في اللغة العربية للمعنى الواحدة لم تكن في الأصل مترادفات متطابقة المعنى، بل كانت أسماء ~~مختلفة لحالات مختلفة، ثم ذهبت منا خبرة الحياة الماضية التي كانت تتطلب إيجاد تلك ~~الفوارق، فسقطت بالتالي من حسابنا، وأصبحت عندنا «مترادفات»؛ أي متطابقات في معناها، بعد أن ~~لم تكن كذلك. # إنه ليكفينا هذا التحول في خبرة الإنسان عصرا بعد عصر، وجيلا بعد جيل، ليدرك كم هو ~~كلام بغير معنى يقال لنا: أعيدوا الثقافة العربية القديمة لتحيا بنا ونحيا بها مرة أخرى، ~~اللهم إلا إذا وضعنا لمثل هذا القول قيودا وحدودا تجعله ممكن التطبيق. # | قواقع من ثمود # كانت السور القصار هي أول ما التقى بسمعي من القرآن الكريم، وأقول «سمعي» ولا أقول ~~«عقلي»؛ إذ كيف كان لصبي في الخامسة أن يدرك ما احتوى عليه اللفظ القرآني المعجز من معان، ~~اقتضته بعد ذلك عمرا طويلا ملأه بالدرس والتأمل، ليفهمها الفهم الصحيح، أو ما ظنه ~~الفهم الصحيح؟ لكن صبي الخامسة - مع ذلك - قد أرهف أذنيه للنغم، فما زلت أذكر - بعد هذه ~~الأعوام الطوال - كيف كان ذلك الصبي المفتون بما سمع وما حفظ، يترنم لنفسه بآيات خاصة أكثر ~~من سواها، ولست أدري الآن ماذا كان سر اختياره لما يترنم به، وكان منه قوله تعالى في سورة ~~الشمس: # فقال لهم رسول الله ناقة ms096 الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم ~~بذنبهم فسواها ~~. # إن الصبي لم يسأل يومئذ، ولا قيل له بغير سؤال، ما ناقة الله؟ وما سقياها؟ ومن هم ثمود ~~الذين قيل لهم هذا القول؟ ومن رسول الله الذي قاله؟ ولماذا كذبوه؟ وما الذي فعلته ناقة ~~الله بالقوم حتى ضاقت بها صدورهم فعقروها؟ لا، لم يسأل الصبي عن شيء من هذا، ولا طاف بباله ~~أن يسأل، وربما لو سأل لما جاءه الجواب. # ومضت السنون وأصبح الصبي شابا طلعة، يكثر الأسئلة عما يصادفه من صنوف المعرفة التي ~~أخذت تتكاثر عليه، وقد كان ذلك الشاب محبا لقراءة القرآن ولبث أعواما يقسم الكتاب ~~الكريم بين أيام الشهر ليقرأ في كل يوم جزءا من أجزائه الثلاثين، ووقف عند سورة الشمس مرة ~~أخرى، فلم يزل مفتونا بنغمها كما كان سلفه الصبي مفتونا. لكنه في تلك المرحلة الجديدة كان ~~قد فهم من معانيها ما لم يحاول الصبي أن يفهمه، لولا أنه هذه المرة قد وقف وقفة متسائلة، ~~ولم يعثر على شيء يرضي فيه تساؤله ذاك طوال الشباب، بل وما بعد الشباب بكثير، وكان مصدر ~~حيرته هو الرابطة التي عساها أن تربط قول رسول الله لقبائل ثمود، ما قاله عن ناقة الله ~~وسقياها، بالآيات الأولى من السورة؛ فالآيات الأولى ضروب من القسم، بمشاهد من الطبيعة ~~أولا، وبجوانب من طبيعة الإنسان ثانيا: # والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا ~~جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء ~~وما بناها * والأرض وما طحاها ~~- تلك هي مشاهد ~~الطبيعة التي أقسم بها سبحانه وتعالى، ثم تأتي جوانب من فطرة الإنسان: # ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من ~~دساها # وعند هذه اللحظة تحدث النقلة فجأة: # كذبت ~~ثمود ... # إلخ، فكان السؤال الذي طرحه الشاب، وطرحه الرجل الناضج من بعده، ~~سؤالا يريد أن يفهم الرابطة بين آيات القسم في مرحلتيها السابقتين، وتكذيب ثمود الذي ~~استدعى من رسول الله أن يوجه إليهم نذيره، ثم دارت دورة السنين مرحلة أخرى، فإذا الرابطة ~~المقنعة تتجلى أمام الشيخ ms097 المتأمل ، وقد كان يمكن لها أن تتجلى قبل ذلك لو أنه أمعن ~~النظر في تفصيلات الموقف، ووقع فيه على الحقيقة المفتاح. # وتلك الحقيقة المفتاح هي أن قبائل ثمود عرفت ببراعتها في فن النحت، تنحت الصخر بيوتا ~~وتماثيل وما شاءت لها موهبتها الفنية أن «تبدعه»، كان الوادي الذي يسكنونه (فيما هو الآن ~~حدود الأردن مع الجزيرة العربية) صخري القاع والجدران، فأغرى أهله بأن يتخذوا من فن النحت ~~متعة ومورد كسب في آن معا؛ إذ كانوا يبيعون التماثيل (أو الأصنام إذا شئت) للمسافرين ~~من الجزيرة العربية إلى الشام أو من الشام إلى الجزيرة العربية. # فلما أرسل إليهم «صالح» عليه السلام، كانت معجزته من جنس ما برعوا فيه - وهو الشأن في ~~معجزات الأنبياء جميعا؟ فإذا كانت براعتهم أن يقدوا من الصخر تماثيل تحاكي الأحياء، ~~فليخرج لهم رسول الله من الصخر ذاته كائنا حيا، هو الناقة التي انشق عنها الصخر ~~فخرجت لهم كاملة التكوين نابضة الحياة، لم يلدها أبوان، ولم تتدرج في النماء، فبهت ~~القوم لما يرون ماثلا أمام أبصارهم، إنها ناقة الله. # وتريد ناقة الله أن تشرب كما يشرب سائر الأحياء، ويطالب لها رسول الله صالح عليه السلام ~~بالسقيا، فلم يكن من جماعة ثمود إلا أن تشعر بالهزيمة، وكان أقسى جوانب هزيمتهم هو شعورهم ~~بالنكبة في موضوع اعتزازهم وفخرهم، ألا وهو إخراج الكائنات المنحوتة من صم الجلاميد، فأين ~~يكون كل ما أخرجوه من تماثيل إذا قيس إلى هذه الآية المعجزة تنبثق من جوف الصخور؟ لكن ~~العزة قد أخذتهم بالإثم، فكذبوا الرسول فيما تشهده الأبصار، وعقروا الناقة غيظا، # فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ~~فسواها ~~. # وضحت لي الرابطة التي كنت أبحث عنها في سورة الشمس؛ فالعقل عند تلاوتها ينتقل انتقالا ~~مسلسلا جميلا، من مشاهد الكون الفسيح إلى دخيلة النفس الإنسانية المنطوية على فطرة ~~محايدة، تتشكل فجورا عند الفاجر وتقوى عند التقي، ثم ينتقل العقل من هذه النفس في جملتها ~~إلى مجال إبداعها الفني، هكذا يكون التسلسل: الكون، فالإنسان مجتزأ من ذلك الكون، فالفن ~~مجتزأ من ذلك ms098 الإنسان . # وعند انتقال الذهن - في مجال الفن - من المنحوتات الصخرية التي كانت تبدعها ثمود إلى ~~الناقة المعجزة التي انشق عنها الصخر فكأنما تضيء له ومضة من الإلهام بأن الفن كله إما أن ~~يكون من أجل الحياة وإما ألا يكون، وكيف يكون الفن من أجل الحياة؟ إن الإنسان يريد أن يحيا ~~حياته طولا وعرضا وعمقا ما استطاع سبيلا، فإما أن يحياها طولا فذلك قد يكون مرهونا - ~~من جانب الإنسان - بنتاج العلوم الخاصة بالتغذية والصحة والطب وما إليها، وإما أن يحياها ~~بالعرض فمتوقف على اتساع الدائرة التي يجول فيها فيزداد خبرة بالأرض والسماء وما بينهما، ~~وإما أن يحيا حياته عمقا فها هنا تأتي الفلسفة ويأتي الفن؛ لأن نتاج العلم في الحالة ~~الأولى واتساع الخبرة في الحالة الثانية، إنما يأتيان إلينا متفرقات مجزأة لا رابطة بينها، ~~إننا عندئذ نكون كمن يصادف أفرادا من الناس هنا وهناك دون أن يعلم أنهم أبناء أسرة واحدة ~~حتى إذا ما عرف عنهم هذه الرابطة كان كمن يراهم رؤية أوضح، وهكذا تفعل الفلسفة بمتفرقات ~~المعرفة تحاول أن تكشف عن الرباط الذي يجمعها عند نقطة التقاء واحدة. وأما الفن فأمره عجب ~~لأنه هو الذي يكشف لك عما وراء الأقنعة التي تستر عنك حقائق الناس وطبائع الأشياء؛ فمن ~~ذا الذي كشف عن العلاقة الدفينة بين الولد والوالدين إلا سوفوكليز في أوديب؟ من ذا الذي ~~كشف عن حقيقة الازدواج الوجداني بين البنات وأبيهن إلا شكسبير في الملك لير؟ من ذا الذي ~~كشف الستار عن دخيلة البخلاء إلا الجاحظ؟ من ذا الذي جسد تطلع الإنسان إلى الخلود أروع ~~مما جسده الفنان المصري القديم؟ # ناقة الله وسقياها # هذا ما طالب به رسول الله ~~جماعة ثمود، وأما ناقة الله فقد أصبحت توحي إلي بمعنى التفوق عما هو سائد بين الناس، ~~كان السائد في قبائل ثمود أن ينحت الصخر أصناما لا تنفع ولا تشفع، فخرجت ناقة الله من ~~جلمود الصخر لتقيم المثال بأن يكون الفن للحياة، وما دام المثل الأعلى قد ارتسم أمام ~~الأبصار والأذهان ms099 وجب على الناس رعايته و«سقياه» ليعيش. لكن ثمود أخذتها الغيرة العمياء ~~حفاظا على ما هم فيه، فعقروا الناقة المعجزة لئلا تظل أمامهم تتحدى. # ولم تنفرد ثمود دون سائر البشر بنيران الغيظ المسموم التي تأكل القلوب أكلا وتنهش ~~الأكباد نهشا، بل إن في كل قوم جماعة من ثمود! فإذا كانت ثمود قد عقرت الناقة المعجزة ~~ليطمسوا الشاهد الذي يظهر ضآلة فنهم، فما زلنا حتى يومنا نتلفت حولنا فإذا بقايا ثمود لم ~~تزل فينا حية تسعى، ولن أتحدث هنا عن أقوام بعيدة لا أعرف عنها إلا قشورا من أخبارها ~~بل إني لأوجه بصري إلى الدائرة الضيقة التي أعرف أفرادها باطنا لظاهر، فيقع البصر أول ~~ما يقع على قواقع ثمودية رابضة في حنايا الصخور، أخذت على نفسها ألا يرفع رأسه رافع إلا ~~وتتوالى منها الضربات على أم ذلك الرأس حتى يتهشم أو يختفي، فإذا أراد صاحبه أن يعيش كان ~~الشرط الأول لبقائه هو أن يتجانس معهم في هزال الفكر وضيق الأفق. # ناقة الله وسقياها # هذا هو اللواء الذي يجب أن ~~يرتفع فوق الرءوس لنهتدي بضيائه بمعنى الدعوة إلى التفوق والامتياز، ثم رعاية ذلك التفوق ~~وهذا الامتياز بالغذاء الصالح حتى لا ينتكس. # تفوق سقراط على سائر مواطنيه فكان جزاؤه المحاكمة، وجريا على سنة القانون ~~اليوناني عندئذ طلبت منه المحكمة أن يقترح على نفسه حكما ليوازن بينه وبين حكم القضاة ~~لعلهم يلتمسون نقطة وسطا، فأجابهم ساخرا بقوله إنه لا يرى إلا أن تجري عليه الدولة ~~راتبا لما يؤديه نحو أثينا وصالحها. # هكذا بدأ الصبي الذي كنته عند الخامسة مفتونا بالنغم الحلو في قوله تعالى: # فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ~~، وهكذا ~~انتهى الشيخ مرورا بتطلع الشباب ونضج الرجولة إلى ما وراء النغم الجميل من مبدأ ~~للارتقاء بالناس نحو الأعلى، فإذا كذبت فينا ثمود حقت عليها اللعنة إلى يوم ~~الدين. # | توبة الهارب # لا تسلني ماذا كانت أوجه الشبه بيني - عندما كنت حبيس عيني المعطوبة - وبين يونس (عليه ~~السلام) وقد احتبسه الحوت في جوفه، لا ms100 تسلني سؤالا كهذا لأنني لا أعرف الجواب، وكل ما ~~أعرفه أن قصة يونس وهو في جوف الحوت، كانت تعاودني في محنتي، وربما كان ذلك لشبه بعيد بين ~~الحالتين؛ فكلانا أراد الهرب من مواجهة الناس، فجاءت الأحداث لتستخلص من محاولة الهرب درسا ~~وعبرة؛ أما يونس فقد تعلم الدرس ووعاه، وأما أنا فلست أدري كم نالت مني عبرة ~~الحوادث. # لقد لبثت أعواما تغلبني الرغبة في أن أعيش بين الناس وكأنني ظل يتحرك بلا صوت، قد ~~تراه الأعين ولكنه وجود بلا كثافة؟ أو قل إني أردت العيش بين الناس وكأنني القبرة التي ~~كتب عنها «شلي» قصيدته التي قرأها كل من كانت له صلة بالأدب الإنجليزي؛ إذ قال الشاعر عن ~~القبرة إنها صوت تسمعه الآذان ولكنها خافية لا تعرف الأبصار أين مكانها، وكان هذا ~~الخفاء في حياتي أمرا أردته باختياري، فلما أن عطبت العين وحبستني بين الجدران، لم أزدد ~~بذلك خفاء، ولكنه كان هذه المرة خفاء رغم أنني، أردته أو لم أرده؛ ومن هنا كانت الرابطة ~~بيني وبين يونس في محنته: # كان الفساد قد استشرى في المدينة القديمة «نينوى» فلم يعد يربط الناس بعضهم ببعض ~~روابط العدل والرحمة، فقسا على الضعيف من استطاع أن يقسو، وخدع الخادع، ونهب الناهب، ~~واستبد المستبد! فأوحى الله إلى يونس أن قم في أهل «نينوى» مناديا بتقويم ما اعوج من ~~أمرهم، وبإصلاح ما فسد، فما ينبغي لمدينة عظيمة كنينوى، يعمر أهلوها اثنتي عشرة ربوة، ~~ويفيض فيها من نعيم الله ما ملأ بقاعها بالماشية والغنم، ما ينبغي لمدينة عامرة غنية ~~كهذه، أن يسلك أهلها سبل الضلال، وأن يختلط في أعينهم الحق بالباطل، لكن يونس قد هاله هذا ~~العبء الجسيم يلقى على كاهله، فلم يجد بدا من الفرار من أمر الله فترك «نينوى»؛ إذ لو ~~بقي فيها لأرق جنبيه لذع ضميره كلما شهد في المدينة فسادا، وهو الذي أمره الله أن ينهض ~~بتطهيرها من فسادها. # غادر يونس المدينة الفاسدة، وقصد إلى شاطئ البحر عند مدينة يافا، وهناك وجد في المرفأ ~~سفينة ms101 أوشكت أن تقلع ذاهبة إلى أقصى الطرف الغربي من البحر الأبيض المتوسط، فيما وراء جبل ~~طارق من الشاطئ الإسباني، وكان ذلك هو آخر الدنيا كما يعرفها الناس يومئذ؛ لأن وراء ذلك لم ~~يكن إلا المحيط الأطلسي المجهول، وإن في ذلك لرمزا واضح المعنى، وهو أن يونس قد أراد أن ~~يباعد بينه وبين نينوى بأطول مسافة تمكنه منها الأرض والبحر، كأنما هو قد أراد بذلك أن ~~يبعد قدر المستطاع عن نداء ضميره له بأن يضطلع بواجبه المقدس في إصلاح الفساد. # ولكن أين المفر من الضمير إذا ألح بالنداء؟ كان يونس وهو يسأل المسافرين والبحارة عن ~~السفينة وطريقها ومقصدها، وهل يجد فيها لنفسه مكانا، كان وهو يفعل ذلك مضطربا يأخذ منه ~~الفزع، حتى لقد أيقن الجميع بأنه ذو خطيئة أراد الفرار من وجه القانون، فأحاطوه بنظرات ~~الريبة، وأخذوا يتساءلون فيما بينهم: أيكون هو قاتل أبيه الذي أعلنت عنه السلطة؟ أم يكون ~~هو الذي سرق مال الأرملة وهرب؟ وكان يونس كلما اصطنع الجرأة والثقة بالنفس ليزيل عن الناس ~~ريبتهم ازداد ربكة، فازداد الناس من حوله ارتيابا. # أقلعت السفينة، ولم تكد تضرب في عرض البحر حتى هبت ريح عاتية، ماج لها البحر واضطرب، ~~وأخذ الموج يعلو بالسفينة ويهبط، ويدفعها إلى هناك ثم يجذبها إلى هنا، وهي مع هذا الدفع ~~تميل بحافتها حتى تمس حافتها سطح الماء، فامتلأت قلوب ركابها فزعا، وأخذوا يتصايحون في ~~هلع ويتخاطبون في رعب وانفعال، وأخذ البحارة يقذفون في البحر بما قد حملته السفينة من ~~أثقال البضائع والأمتعة، لعل حملها إذا ما خف عنها، سلس في أيديهم قيادها، وجثا جميع ~~ركابها ضارعين إلى ربهم أن يزيل عنهم الكرب ويكتب لهم الأمن ... # إلا يونس! فقد كان في نومه العميق، لم توقظه كل هذه الأحداث، فلما جاء ذكره على ~~الألسنة، نزل إليه القبطان وأيقظه في غضب شديد؛ إذ كيف يطيب له نوم والدنيا من حوله هائجة ~~صاخبة؟ وكان ركاب السفينة على يقين بأن النكبة إنما قصد بها واحد منهم أغضب الله ~~بعصيانه، فمن ms102 ذا يكون؟ فاتفقوا على رمي القرعة، ومن وقعت عليه كان هو المسئول عما حل بهم ~~من كوارث، وألقوا بالقرعة فوقعت على يونس. # أحاطوا جميعا به، كل يسأله سؤالا: من أنت؟ ما صناعتك؟ من أي بلد أتيت؟ إلى أي شعب ~~تنتمي؟ ماذا فعلت لتغضب الله؟ فلم يطلب يونس منهم الرحمة، بل حثهم على أن يلقوا به في ~~البحر تخفيفا عن السفينة، لقد فطن إلى أن الخطيئة التي حملتها السفينة فيما حملت، والتي ~~أثارت غضب الله، إنما تتجسد في شخصه، وقال لمن وقفوا حوله: لقد أمرني الله بأمر فلم ~~أطعه، وفررت من وجهه أبتغي النجاة مما كلفني به، وجئت إلى مركبكم هذا ليذهب بي إلى حيث ~~الأمان والسكينة، فلا يعرفني أحد ولا أعرف أحدا، اطرحوني في البحر يسكن لكم البحر ويهدأ؛ ~~فهذه الرياح العاتية وهذا الموج الثائر إنما يصيحان في طلبي. # أشفق أصحاب السفينة من فعل ما أذن لهم يونس أن يفعلوه به، وآثروا أن يعودوا بالسفينة ~~إلى البر، لكن موج البحر قد استعصى على مجاديفهم، فالتمسوا من الله عفوا ورحمة، ثم حملوا ~~يونس وألقوه في البحر، فسكن البحر من فوره، وكان الله قد أعد ليونس حوتا ضخما، ~~فابتلعه الحوت، ليستقر يونس في جوفه ثلاثة أيام. فريدة في نوعها هذه الوحدة العجيبة التي ~~فرضت على يونس؛ إذ هو في جوف الحوت، لقد أرادها وحدة يغيب فيها عن حمل التبعات، فهيأ له ~~الله وحدة تبلغ به الحد الأقصى ليشبع وحدة إذا أراد! إنه ليسير على خيالنا أن يتصور ~~الوحدة في مختلف صنوفها، إلا هذه الوحدة العجيبة، يسير على الخيال أن يتصور الراهب وقد ~~اعتزل الدنيا في صومعة يحفرها في صخر الجبل النائي، أو يقيمها بين كثبان القفر البعيد، ~~يسير على الخيال أن يتصور رجل العلم وقد ألهاه علمه عن شئون دنياه، ويسير على الخيال أن ~~يتصور الشاعر أو الفنان وقد ارتضى لنفسه مقاما على ربوة معزولة أو في جوف واد عسيق، ~~مستغنيا بأنس الطبيعة عن كل أنيس من بشر. أما هذه الصومعة الفريدة ms103 التي أوى إليها يونس ~~فأمرها عجب، إن ظلامها دامس طامس، ومع ذلك فليست غرابتها في ظلامها؛ فلم تكن معدة الحوت ~~بالفراش الوثير، بل كانت بالطبع ملأى بما يقض الجنوب، وبما يحدث الغثيان بإفرازاته ~~الزلقة وجدرانه الرخوة. # إنها محنة أن تقع القطيعة بين الإنسان والعالم، ترى كيف أحس أولئك الذين ضلت بهم سبيل ~~البر أو سبيل البحر، في يباب قفر، أو أغرقوا في يم لا يسمع أناتهم سامع؟ ومع ذلك ~~فأولئك جميعا كان يؤنسهم ضوء الشمس، أما هذا المصير في هذا الجوف الأعتم فأمره عجب! # كان الله قد هيأ ليونس - وهو في طريق فراره من «نينوى» قاصدا إلى شاطئ البحر - ما كان ~~قميئا أن يعلمه الدرس لكنه لم يتعلم، ذلك أنه كان أنبت عليه شجرة من يقطين ~~(نبات القرع) لتقيه لفحة الشمس، فاستظل يونس باليقطينة نهارا كاملا، وحسب أن سيدوم له ~~ظلها، لكن فجر اليوم التالي لم يبزغ حتى أعد الله لشجرة اليقطين دودا أتى عليها، ~~وتعرض يونس لوقدة الشمس من جديد، وهبت عليه ريح شرقية حارة، حتى أخذ منه اليأس مأخذا ~~آثر معه الموت على الحياة، فهتف به هاتف: أرأيت كم بلغت حسرتك على يقطينة لم تكن أنت ~~منبتها؟ إنك لم تنعم بها أكثر من يوم واحد، أفلا يكون أولى بالحسرة أن ترى مدينة عظيمة ~~مثل «نينوى» يدب فيها الفساد فتتهاوى بعد أن تعاونت القرون المتعاقبة على بنائها؟ # لكن يونس لم يستمع بوعيه الكامل إلى صوت الهاتف، ومضى في طريق الهرب من أداء واجبه ~~المقدس نحو مدينته، فكان ما كان من أمر السفينة وهياج البحر والحوت، وها هنا فقط استيقظ ~~وعيه لصوت ضميره، فدعا ربه من ذلك الجوف العجيب قائلا: اللهم إني أدعوك من ضيقي فاستجب ~~دعائي، وأصرخ من جوف الهاوية فاستمع إلى صراخي، اللهم افتح أمامي هذا الجب المغلق، ~~أطعك فيما أمرتني به. واستجاب الله، فأمر الحوت أن يقذف حمله على الشاطئ، ولفظ الحوت ~~يونس على البر عليلا سقيما، فما إن ارتدت إليه قواه، حتى عاد الله فأمره بأداء ms104 الرسالة ~~نفسها، وهي أن يذهب إلى «نينوى» فيصلح من أمرها ما فسد، ففعل هذه المرة كما أمر وصلحت ~~«نينوى» ما شاء لها الله أن تصلح. # هكذا تاب الهارب من وجه الواجب نحو مدينته فعاد، فهل لنا من توبة مثلها لنعود إلى مصرنا ~~عودة يونس إلى نينوى؟ # | ألف ليلة وليلتان # هي مغامرة في دنيا الخيال، غامر بها بعض أدباء الغرب، وليس في علمي أن أديبا عربيا ~~غامر بمثل ما غامروا؛ ذلك أن شهرزاد - كما نعلم جميعا منذ الطفولة - قد عرفت للكلام سره ~~وسحره، فأخذت تصب حكاياتها في مسمع شهريار الملك، على فترة طالت حتى بلغت ألف ليلة ~~وليلة، فاستطاعت بحلاوة الخيال أن تصرف شهريار عن قتل بنات جنسها؛ إذ لولاها لقتل واحدة ~~منهن كل ليلة. # وخطر سؤال على بعض أدباء الغرب، هو: ماذا حدث لشهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف؟ وكان ~~بين هؤلاء الأدباء «إدجار ألن بو» في قصة له جعل عنوانها «الحكاية الثانية بعد الألف ~~لشهرزاد» بدأها بقوله إنه عثر على مخطوطة قديمة، ربما كانت مجهولة عند المشتغلين بتحقيق ~~النصوص، وإذا هي مخطوطة تحمل قصة شهرزاد، وقد أخذتها شهوة القصص بعد أن كانت أكملت مهمتها، ~~فأرادت في الليلة الثانية بعد الألف أن تستأنف حكاياتها بحكاية أخرى، زعمت لشهريار أنها ~~تتمة لما كانت قصته عليه من مغامرات سندباد، لكن شهريار ضاق صدرا تلك الليلة بشهرزاد، ~~ولم يرد أن يسمع منها شيئا، وأمر بها الجلاد فساقها إلى القتل، لتلحق بأخوات لها سبقنها ~~إلى المصير نفسه، وهكذا لاحقتها ثرثرة النساء حتى لحقتها بلعنتها. # وكذلك حاول أديب آخر، هو الذي اشتهر في الأدب باسم مستعار، وهو «مارك توين» (واسمه ~~الحقيقي صموئيل كلمنس)؛ إذ حاول بدوره أن يضيف ليلة إلى الألف ليلة وليلة، ولم يتسع خياله ~~بأكثر مما اتسع خيال «إدجار ألن بو»، فجعل شهريار يضيق بثرثرة شهرزاد، فأمر بها هو الآخر أن ~~تساق إلى المصير المشئوم، لولا أن بديهة القصاصة قد أسعفتها هذه المرة، بأن زعمت للملك أن ~~ثمة حادثة خطيرة نسيت أن ترويها ms105 له ، فليمهلها حتى تفرغ منها، فما إن أذن لها بذلك حتى طفقت ~~تحكي وتحكي، ليلة بعد ليلة إلى أن بلغ شهريار نهاية حياته. # قلت لجليسي: انظر إلى صورة الملوك العرب في تصور أدباء الغرب، فهي صورة ليس فيها إلا ~~السيف والدماء، مع أن هؤلاء الأدباء لو أدركوا الروح العربية بعمق، لرأوها روحا تعشق الفن ~~الأدبي إلى حد الفتنة به؛ فكان مما يتفق مع تلك الروح أن تبلغ شهرزاد بسحر أدبها ما كانت ~~قد بلغته بالفعل في الألف ليلة وليلة، ألا وهو أن تشيع السكينة في نفس الملك، فتهدأ عنده ~~نوازع الشر، فلا يعود به ميل إلى سفك الدم، وربما كان أدباء الغرب هؤلاء ليقتربوا من ~~الصواب في إدراكهم للروح العربية في تأثرها الشديد بالفن الأدبي، لو جعلوا شهريار يغدق ~~لشهرزاد العطاء في نهاية الشوط جزاء فنها. # قال جليسي: بماذا تصور الليلة الثانية بعد الألف، لو كنت لتصورها؟ # قلت له: أمهلني لحظة، وعلى أية حال فلن يكون مدار الخيال عندي كما كان عند «بو» و«توين»؛ ~~فكلاهما أبقى لشهريار بعد استماعه للحكايات، ما كان له قبل استماعه لها، من رغبة في ~~الانتقام من المرأة، وكأن الكلام لم يكن له في نفسه أثر. # أخذني الصمت حينا قصيرا، وصديقي ينتظر، وسرحت بخواطري إلى حيث لا أدري، ثم انطلقت ~~أروي: ~~«... في الليلة الثانية بعد الألف، همت شهرزاد بمغادرة قصر الملك، لتنخرط في سلك حياتها ~~مع الناس، لكن شهريار لمحها من نافذة غرفته وهي تنزل الدرج إلى الحديقة في طريقها إلى ~~الخروج، فناداها أن عودي، فعادت، ولما مثلت بين يديه أبلغته في أدب الرعية نحو ملوكها، ~~بأنها لا تنوي بعد الليلة أن تحكي كما كانت تحكي؛ لأنها لم تصدر في حكاياتها عن ثرثرة نسوية ~~كما قد ظن أصحاب الظنون، بل أرادت أن تدخل الطمأنينة إلى نفس الملك؛ ليهدأ من قلقه وليبرأ ~~من شهوته في قتل البريئات. # فقال لها شهريار، لك يا شهرزاد أن تصمتي ما شئت، وإنما دعوتك لأكون أنا الحاكي هذه ~~الليلة، ولتكوني أنت ms106 المستمعة ، على أن حكايتي لن تكون من جنس حكاياتك الفاتنة بسحرها؛ فقد ~~كنت تستخدمين معي ضروبا من الخيال الجريء الضارب بأجنحته في أجواز المحال، كنت تأخذينني ~~على بساط الريح تارة، وفي الأنفاق المحفورة في جوف الأرض تارة، كانت ضغطة خفيفة منك على ~~خاتم مسحور كفيلة بزحزحة الجبال، وكانت لفظة واحدة تنفثها ساحرة، كافية لإخراج الجن من ~~قماقمه، كان المصباح السحري يصنع المعجزات لعلاء الدين، وكان الرمز الخالي من المعنى يفتح ~~مغاليق الكنوز. # أما حكايتي يا شهرزاد فلا خيال فيها ولا سحر، بل هي حقيقة مأخوذة من وثائق التاريخ؛ فقد ~~جاءني خازن كتبي بكتاب يروي عن مدينة وأهلها أمرا عجبا؛ فهي مدينة من ورق، كلها ورق في ~~ورق، بيوتها من ورق، ومصانعها من ورق، وشوارعها وأنهارها وجسورها من ورق، وأعجب من ذلك أن ~~طعام الناس فيها وشرابهم كانا كذلك من ورق، وأما الناس أنفسهم فهم كسائر الناس، كسيت ~~عظامهم لحما، وتجري في شرايينهم الدماء، ولهم أجهزة الأعصاب التي تفرح وتحزن وتسخط وترضى، ~~كما أن لهم المعدات التي تهضم الطعام لو وجدت طعاما. # قلت لخازن كتبي، وقد كان يفتح كتابا في يده عند الموضوع الذي ذكرت فيه تلك المدينة ~~العجيبة وتاريخها، قلت له اقرأ فإني مستمع! فقرأ لي عن هؤلاء الناس كيف كان وصف الشيء ~~بالكلام يغنيهم عن الشيء نفسه؛ فهي طريقة مجربة عندهم، مارسوها فنجحت فمضوا في ممارستها ~~أعواما بعد أعوام، فلا مات أحد من قلة الطعام والشراب، ولا انهدم بيت على ساكنيه، ولا خلت ~~الطرق من زحامها بعباد الله، ولم تهدأ للناس في تلك المدينة حركة لا بالليل ولا ~~بالنهار. # اشتد بي العجب، فقلت للخازن: امض يا ولدي في قراءة ما أنت قارئه، قل لي كيف كانت تلك ~~المدينة تزرع زرعها، وكيف كانت تصنع صنائعها، وكيف كانت تربي أبناءها، وكيف كانت تعالج ~~شئونها جميعا؟ فقرأ الخازن، وإذا اللغز يزداد غموضا! كيف أمكن لهؤلاء القوم أن يقولوا ~~للأرض الزراعية: زيدي فتزيد؟! # قال القارئ لشهريار: إنهم كانوا يستخدمون طرق التنجيم، وهي طرق ms107 ورثوها فيما ورثوا من ~~حضارة السالفين؛ فقد كان لأسلافهم علم اسمه علم الطلاسم. # سأله شهريار: أسرع وقل لي كيف كان ذلك ليتم لهم؟ # قال القارئ: مذكور في هذا الكتاب، أنه لكي ندرك كيف يفعل الطلسم فعله فيما يراد له ~~أن يفعله، فينبغي أن نقلب هذه الكلمة، فعندئذ نراها تفسر نفسها بنفسها؛ فمقلوب الكلمة هو ~~«مسلط» (بتشديد اللام)؛ أي إن شيئا يسلط على شيء؛ «فالسلطة» هي مكمن السر في كل ~~شيء. # فإذا ابتغينا استحداث شيء ما، سلطنا عليه ما يماثله، وإذا أردنا أن نتقي شيئا ما ~~سلطنا عليه ما يقابله؛ أي ما يضاده؛ فالمثيل يستخدم لاستجلاب مثيله، والمقابل يستخدم ~~لإبعاد مقابله؟ على أن المماثلة والمقابلة مرتبطان بالكواكب والبروج؛ وعلماء التنجيم قادرون ~~على أن يضبطوا التوقيت الذي يتم فيه استجلاب شيء تحت كوكب معين أو في برج معين، والذي ~~يتم فيه إبعاد شيء يراد التخلص منه. # فلنفرض الآن أننا نريد زيادة مساحة الأرض المزروعة دون أن نلجأ في ذلك إلى حساب أو قلاب، ~~فما علينا إلا أن نماثل بين الزراعة من جهة، وكواكب السماء وبروجها من جهة أخرى. أليست ~~الزراعة تتميز بصفتين من الصفات الأربع التي كانت فيما مضى أساسا للعلم كله، فتتميز ~~الزراعة من تلك الصفات بصفتي البرودة والرطوبة؟ إذن فلنبحث في بروج السماء عما يتصف بهاتين ~~الصفتين المطلوبتين. ويقول علماء التنجيم في ذلك إن هنالك ثلاثة بروج فيها هاتان الصفتان، ~~وهما بروج السرطان والعقرب والحوت؛ وبهذا يصبح الطريق واضحا، وهو أن نكرر كلمة «زرع» ~~آلاف المرات عندما يكون أحد هذه البروج قائما، فيحدث تسلط المثيل على مثيله، فتنزع الأرض ~~كما أردنا لها. # وهكذا يا مولاي في كل الأمور، نريد مثلا شفاء الناس من أمراضهم، فها هنا تكون الخطة هي ~~أن نصنف خصائص الأمراض تحت الصفات، ومضى خازن الكتب يقرأ علي - هكذا قال شهريار في ~~حكايته لشهرزاد - كل ما جاء في ذلك الكتاب العجيب عن تلك المدينة العجيبة، وكان من أغرب ~~ما قرأ، أن المسألة كلها تبدأ بالحروف؛ فهنالك حروف نكتبها ms108 فإذا الشيء الفلاني يحدث، لما ~~بين ذلك الشيء والحروف المكتوبة من صفة مشتركة، فإذا أراد القوم - مثلا أن يزيدوا من كمية ~~اللحم والدجاج في الأسواق، بحثوا أولا عن طبيعة اللحم والدجاج من حيث صفاتها، فإذا وجدوا ~~أنها تتصف بالحرارة والرطوبة، كتبوا على رقعة من الورق مجموعة الحروف الدالة على الحرارة، ~~وهي: ا ه ط ف ش د، وعلى رقعة أخرى من الورق مجموعة الحروف الدالة على الرطوبة وهي: و ح ل ع ~~ر خ غ، وتوضع الرقعتان بطريقة خاصة وفي وقت خاص، فإذا الأسواق ملأى باللحم ~~والدجاج. # فماذا ترين يا شهرزاد في مدينة الورق وما يخط على الورق من حروف فتتحقق لأهلها كل ~~الأهداف؟ # قالت شهرزاد: إنها يا مولاي لمدينة فاقت في غرابتها غرابة ما رويته لك من حكايات ~~ملئت بالعجائب، وفوق كل عجيبة عجيبة أعجب، لكن لماذا أثارت فيك مدينة الورق وما عليه ~~من كلمات سحرية، كل هذا الاهتمام يا مولاي؟ # فأجابها شهريار الملك قائلا: كان أعجب ما ورد في الكتاب عن تلك المدينة، مما استوقف ~~انتباهي وأثار اهتمامي، أن علماء التنجيم فيها قد تنبئوا بأن مدينة أخرى مثلها سيشهدها ~~العالم بعد ميلاد المسيح بنحو عشرين قرنا، فتمنيت لمدينتي أن يكون لها مثل هذا الحظ ~~السعيد.» # | الرأي وصاحبه # الحمد لله الذي إذا شقيت في الصحو أسعدني في الحلم، فإن ضقت صدرا لأمر أشكل علي ~~في ساعات النهار، جاءت أحلام الليل بما يشرح لي صدري من صور تزيل عن نفسي كروبها، وإني ~~لأذكر في هذا السياق قصة قرأتها عن الحكيم الترمذي منذ زمن طويل، فمست من نفسي عند ~~قراءتها وترا، وما زلت منذ تلك اللحظة أذكرها كلما نشأت ظروف مشابهة لظروفها، والقصة ~~تقول: # كان الشيخ الترمذي قد عقد النية في أول أمره على الرحلة لطلب العلم في رفقة اثنين ~~من إخوانه، وفي أثناء ذلك مرضت أمه، فقالت له: يا بني إني امرأة ضعيفة، لا عائل لي، ~~ولا معين يعينني، إنك أنت المتولي لأمري، فإلى من تكلني وتذهب؟ فنالت هذه الكلمات ms109 ~~منه ، وعدل عن الرحلة ومضى زميلاه في سبيلهما. # ثم مضى في ذلك بعض الوقت، فبينما كان في إحدى المقابر يبكي بكاء شديدا ويقول: ~~ها أنا ذا قد بقيت جاهلا مهملا، وسيرجع أصحابي وقد حصلوا على العلم! إذا به يرى ~~أمامه - فجأة - شيخا مشرق الوجه، فسأله ~~الشيخ عن سر بكائه فأفضى عليه الفتى بحاله، فقال له الشيخ: ألا أعلمك في كل يوم ~~شيئا من العلم، فلا يمر عليك كثير وقت، حتى تسبق إخوانك؟ فأجابه الفتى إلى ذلك. ~~واستمر الشيخ على تعليمه كل يوم، ومضت على ذلك أعوام، ثم عرف الترمذي بعد ذلك أنه ~~إنما حصل على هذا ببركة دعاء أمه. # فإذا أخذنا قصة كهذه بمفهومها الرمزي، رأيناها ~~تصويرا مؤثرا لما يحدث لنا عندما تتأزم حياتنا بشيء من العسر، فيعقبه يسر في الحلم ~~أو الخيال، وهكذا حدث لي منذ قريب عندما سرحت بخواطري، خاطر يذهب وخاطر يجيء، حتى وقعت ~~خلال ذلك على فكرة أمسكت بها فلا تختفي، والفكرة هي أنني تصورت في حياة الشعوب على ~~امتداد تاريخها، لحظات بعينها يتاح فيها للناس رجل أو موقف يكون من شأنه أن يغير وجهة ~~السير، فإذا الناس في مرحلة جديدة من تاريخهم الفكري أو الحضاري، وقد تكون اللحظة من تلك ~~اللحظات ذروة لموجات من الحوادث سبقتها ومهدت لها طريق الظهور، لكن ذلك لا يغير من ~~صورة الأمر شيئا. # فقلت لنفسي: أبحث عن مثل يوضح ما تريد، فلا أدري لماذا قفز إلى ذهني «بطرس أبيلار» ~~من فلاسفة العصور الوسطى في أوروبا، وكنت أعلم عنه أنه وقف من تيار الفكر في عصره وقفة ~~جديدة، مما يصح أن يقال عنها إنها البذرة الأولى - أو إحدى البذور الأولى - التي أخذت تنمو ~~وتتفرع وتورق وتثمر، إلى أن غير الفكر الأوروبي مجراه، وخلاصة تلك الوقفة التي وقفها ~~أبيلار، هي أنه بعد أن رأى القوم من حوله يؤمنون أولا ثم يفكرون بعد ذلك فيما آمنوا به ~~ليفهموه، أراد هو أن يفكر أولا ليفهم من المسائل المعروضة حقائقها بمقاييس العقل، حتى ~~إذا ما ms110 صح منها شيء آمن به. # كنت أعلم ذلك عن بطرس أبيلار عندما قفز اسمه إلى ذهني ليكون مثلا للفكرة التي أردت لها ~~ما يوضحها، ثم ما أنا إلا أن وجدت نفسي قائلا لنفسي: أأنت على وعي بأن أبيلار هذا حين وقف ~~وقفته تلك في فرنسا، كان إمامنا الغزالي يقف وقفة شبيهة بها في بغداد، في وقت واحد ~~تقريبا ولم أكد ألحظ هذه العلاقة المثيرة حتى اشتدت بي الرغبة في أن أرجع - في مكتبتي ~~المتواضعة - إلى ما يمكن الرجوع إليه عن أبيلار، وعن الغزالي فيما يختص بهذه النقطة ~~المحددة، وهي: كيف يكون الترتيب الصحيح؟ أهو إيمان فتفكير، أم هو تفكير فإيمان؟ وربما اتخذ ~~هذا السؤال صورة أكثر دلالة على أهميته، إذا نحن تذكرنا أن الإيمان - سابقا للفكر أو ~~لاحقا له - قد يكون إيمانا برجل معين، فيصبح سؤالنا في هذه الحالة هو هذا: أنؤمن بصدق ~~هذا الرجل قبل أن نخضع أقواله للتمحيص؟ أم نبدأ بتمحيص أقواله تمحيصا عقليا موضوعيا، ~~حتى إذا ما تبين لنا صوابه آمنا به؟ # قمت مسرعا أبحث في المكتبة عن أبيلار لأتثبت مما قاله، وها هنا أخذ مني الضيق مأخذه؛ ~~فلقد كنت نسيت أنني ما زلت غير قادر على قراءة ما هو مكتوب على كعوب الكتب وهي فوق رفوفها، ~~ولم أجد في كومة المناظير التي تكدست عندي أخيرا، منظارا يصلح لمثل هذه الحالة؛ فعندي ~~منظار للطريق، ومنظار للقراءة القريبة ومنظار للكتابة ومنظار مكبر ومنظار مقرب، لكن ليس ~~في هذه كلها واحد يصلح لرؤية المكتوب على ظهر الكتاب وهو قائم على سنه مضغوط بين ~~جيرانه، وبالطبع لم أفكر في أن أنزل الكتب كلها من فوق رفوفها لأتمكن من رؤية ~~أغلفتها، فيئست من أن أتم ما هممت به، وآويت إلى فراشي محزون النفس فأسرع إلي ~~النعاس. # ألم أقل لك في أول الحديث، إني أحمد الله الذي إذا شقيت بأمر في صحوي، أسعدني في الحلم ~~بما يعوض علي ذلك الشقاء؟ وهذا ما كان، فأحسبني من أسعد الناس حظا في أحلامه؛ إذ قلما ms111 ~~تجيئني تلك الأحلام أضغاثا، بل هي في أكثر الحالات صور محكمة التركيب، لا ينقصها إلا فنان ~~يرسمها أو شاعر يصوغها لفظا، فإذا هي لوحة أو قصيدة، ومن المصورين ومن الشعراء من جاء ~~فنهم مستمدا من أحلامهم. # وكانت الصورة العجيبة التي رأيتها تلك الليلة، أهرامات الجيزة الثلاثة وقد جلس في مقدمة ~~أكبرها الشيخ أبو حامد الغزالي، وفي مقدمة أوسطها بطرس أبيلار، وعند أصغرها فرنسيس بيكون، ~~وكان الليل مقمرا، فاكتسى المنظر كله بضوئه مما خلع عليه جوا حالما، لم أسأل في حلمي ~~عن المفارقات التي انطوى عليها الموقف كما رأيته؛ فلم أسأل: لماذا اختار هؤلاء الرجال ~~أهرامات الجيزة مكانا يلتقون فيه، وكيف اجتمع الرجال الثلاثة على ما يباعد بينهم مكانا أو ~~زمانا؟ لم أسأل عن شيء من هذا كأنه من طبائع الأمور التي لا تستوجب سؤالا. # ودنوت من أبي حامد الغزالي متردد الخطى خاشعا لهيبة طلعته ووقار جلسته، وحييت بصوت ~~خافت، وبدل أن أبدأ بالسؤال: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ بادرني هو بالسؤال، فقلت إنه أرق ~~الليل دفعني إلى هذه الأهرامات أنعم عندها بالسكون والسكينة، ثم أخذ يستفسر عن مصدر ~~الأرق، وهل كانت في رأسي عند النوم فكرة ملحة منعت عني النعاس؟ فقلت: نعم، كانت، ~~وخلاصتها هي حيرتي بأيهما أبدأ: أنبدأ بالرأي لنعرف نصيبه من الحق، ثم ننتقل منه إلى وضع ~~صاحبه في المكانة التي يستحقها؟ أم نبدأ بالإيمان بصاحبه وأمانته وقدرته، ثم ننتقل من ذلك ~~إلى قبول رأيه؟ # قال الشيخ: لو قرأت مؤلفاتي التي تركتها لكم ميراثا، لوجدتني قد ألححت في مواضع كثيرة ~~جدا منها، على أن البدء إنما يكون بالرأي المعروض نحلله ونرده إلى مقدماته التي ~~تولد عنها، حتى نطمئن إلى صوابه، وبعدئذ نحكم لصاحب الرأي أو نحكم عليه، وحسبك قولي في ~~«المنقذ من الضلال» عن أولئك الذين يقبلون الرأي أو يرفضونه، لقبولهم لصاحب الرأي أو ~~لرفضهم إياه؛ إذ قلت: ~~«فمهما نسبت الكلام، وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم، قبلوه وإن كان باطلا، وإذا ~~أسندته إلى من ساء فيه ms112 اعتقادهم ردوه وإن كان حقا، فأبدا يعرفون الحق بالرجال، ولا ~~يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال ...» # وكأنما أحسست بأن الشيخ لم تعد به رغبة في مواصلة حديثه معي، فذهبت إلى الهرم الأوسط؛ ~~حيث جلس أبيلار، عرفته من صورة له عندي، وبعد أن عرف مني فيم كنت أتحدث مع أبي حامد - ~~وقد وجدت للشيخ عند أبيلار تقديرا وإعجابا - استطرد، كمن أراد أن يبدأ من حيث انتهى ~~حديثنا الأول، وطفق يفيض القول في موضوع الرأي وصاحب الرأي، ولقد تذكرت حتى وأنا في الحلم ~~أنني كنت أبحث عن أقواله في مكتبتي فلم تسعفني العين ولا أسعفتني المناظير الكثيرة التي ~~تكدست عندي، وحمدت الله أن ساق إلي ما كنت أبحث عنه، وعلى لسان قائله، وكان ما قاله لي ~~أبيلار، لا يخرج في جوهره عن الخلاصة التي أسلفتها عنه، وهي أن بداية الطريق يجب أن تكون ~~للعقل وتفكيره، ثم يأتي بعد ذلك إيمان بالرأي وبصاحب الرأي، نتيجة مترتبة على ما كشفه ~~العقل في الخطوة الأولى. # ولم يبق من الرجال الثلاثة إلا فرنسيس بيكون، الذي رضي لنفسه بأصغر الأهرامات موضعا؛ ~~لأنه يصغر الغزالي وأبيلار بثلاثة قرون ونيف من الزمان، والحق أني لم أتوقع عنده ~~جديدا؛ لأن قوله معروف مدروس حتى لتلاميذ المدارس الثانوية عندنا، لكنني وجدت أدب المعاملة ~~يقتضي أن أحييه، وأن أسعده بقولي إن تلاميذنا الصغار يدرسون كلامه عن «أوثان» الحياة ~~الفكرية، وكيف أن وثنا منها متمثل في قبول الناس للفكرة بسبب ضخامة قائلها وقوته وهيله ~~وهيلمانه، غير أن بيكون لم يتركني قبل أن يسخر مني بقوله: إذا كان ذلك ما يدرسه عندكم صغار ~~التلاميذ، فكيف فات كبار الرجال، وحرت جوابا فانصرفت بمعنى أني استيقظت. # وجاءت اليقظة - كما هي العادة معي - باستعادة تفصيلات الحلم قبل أن تطير؛ لأن الذاكرة ~~سريعة النسيان للأحلام، إلا أن تثبتها في لحظة اليقظة، والحق أني وقفت مع نفسي طويلا، لا ~~عند مادة الأحاديث التي سمعتها، بل عند المكان الذي اختاروه لجلوسهم، فلماذا أهرامات مصر مع ~~أن أحدا منهم لم تكن ms113 له علاقة بمصر، أيكون ذلك رمزا للهيراركية المخيفة المتمثلة على أبشع ~~صورها في حياة الأقدمين؛ حيث الناس تتوالى أقدارهم في تنازل يجعل لكل درجة من درجات ~~السلم مقدارها، فإذا كان نصيب الرجل مكانا أعلى، تحول علو المكان إلى علو المكانة في ~~كل شيء، فإذا تكلم سمع من هو أدنى، وإذا رأى رأيا رآه معه كل من هم دونه، وإذا ضحك ~~ضحكوا، وإذا بكى بكوا، وهكذا دواليك نزولا من الرأس إلى القدمين. # استطردت خواطري، ودرت مع تلك الخواطر دورة كدورة الفلك، حتى عدت إلى ما بدأت به، وهو أن ~~في تواريخ الشعوب لحظات فريدة يحدث عندها التحول الفكري، وبغير هذا التحول لا يكون ~~تطور ولا يكون تقدم، بل يظل السير سيرا على مستوى أفقي واحد مطرد لا فرق بين آخره ~~وأوله، ورأيت عندئذ أن اللحظة التي نرقبها نحن لنتحول، إنما هي لحظة يلهمنا الله فيها أن ~~نفرق بين الرأي وصاحبه، فلا نعلو بالرأي إذا علا صاحبه ونهبط به إذا هبط، فليكن لصاحبه ~~مكانة الدنيا والآخرة جميعا، أما رأيه فلا يستند - أو يجب ألا يستند - إلا لمنطق العقل ~~وحده، الذي يحمل مقاييس التفرقة بين الصواب والخطأ. # إن «الرأي» بحكم تعريف هذه الكلمة، هو فكرة تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب، ولو كان الرأي ~~المعين مضمون الصواب لما كان «رأيا»، وإنما يكون عندئذ فكرة علمية مقطوعا بصدقها، إنك ~~لا تقول: إن رأيي هو أن اثنين مضافة إلى ثلاثة تساوي خمسة، أو إن رأيي هو أن الخشب يطفو على ~~الماء؛ لأن هذه وأمثالها أحكام يستطيع العلم إثباتها، علم الرياضة في الحالة الأولى، وعلم ~~الطبيعة في الحالة الثانية، لكنك تقول - مثلا - إن رأيي هو أن يبدأ حق التصويت للشاب إذا ~~بلغ الثامنة عشرة، أو إن رأيي هو أن يقتصر التعليم الجامعي على من حصلوا على خمسة وسبعين ~~في المائة من مجموع درجات الثانوية العامة. # فهذه وأمثالها «آراء»؛ لأن رفضها أو تعديلها ممكن بحسب ما تقتضيه الظروف؛ فما هو صواب ~~منها هنا والآن، قد لا يكون صوابا ms114 هناك وبعد حين. # إلا أن الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية، هي أن نميز بين الرأي وصاحبه. # | تعدد المبادئ في البناء الواحد # كنت قد سألت طفلا لا يتجاوز العاشرة، قائلا: كم تستغرق من الزمن بين البيت والمدرسة؟ ~~فأجاب الطفل: ذلك يعتمد على الطريقة التي أذهب بها؛ فإذا مشيت استغرقت نصف الساعة، وإذا ~~جريت استغرقت ثلث الساعة، وإذا ركبت دراجتي لم يزد معي الزمن على عشر دقائق. # عندئذ أذهلتني لمعة الذكاء في تلك الإجابة التحليلية الحذرة بقدر ما أذهلتني غفلتي عند ~~إلقاء السؤال؛ فلقد سألت الطفل عن الزمن الذي تقتضيه المسافة بين البيت والمدرسة، غافلا عن ~~وسيلة الوصول مع أن الجانبين مرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا لا فكاك منه. # ومثل هذا التحليل الحذر، الذي لا تحمله الرغبة في التبسيط على تجاهل التفصيلات الهامة، ~~وهو التحليل الذي اهتدى إليه الطفل الذكي بفطرته، ضروري عندما يدير أبناء الشعب حوارهم حول ~~«الديمقراطية» بغية تعميقها؛ إذ لا بد لهذا التعميق أن يسبقه وضوح تام لما تعنيه لنا ~~هذه الكلمة المرنة المطاطة، حتى لقد استطاعت كل شعوب الأرض في دنيانا الحاضرة، أن تصف نفسها ~~بالديمقراطية، كائنا ما كان نوع الحكم القائم فيها، وإننا لنلحظ في استعمال الناس لهذه ~~الكلمة في أحاديثهم خلطا عجيبا، يدل على غموض معناها في أذهانهم؛ فهم يطلقونها على ~~المتواضع من الناس، ويطلقونها بمعنى «المساواة» بين أفراد الشعب، ويطلقونها بمعان أخرى ~~كثيرة. # إن هذا التوسع في فهم «الديمقراطية» توسعا لا تضبطه حدود، هو الذي قد ينتهي بنا إلى ~~موقف يفوتنا فيه أن نرى مبادئ أخرى لا بد لها من الوقوف إلى جانب الديمقراطية في إقامة ~~حياتنا، ولتوضيح ذلك أقول: # إننا لنسأل أنفسنا بادئ ذي بدء: ما هي الخصائص الأساسية التي منها تتكون هوية هذا الشعب ~~العظيم الأصيل؟ أعني ما هي العناصر الأساسية التي دامت مع هذا الشعب العريق على طول تاريخه ~~الطويل؟ وذلك لأننا لو وفقنا في الإجابة عن هذا السؤال، لوجب علينا أن نقيم حياتنا على ~~دعائمها، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن بين ms115 الخصائص الأساسية، ثلاثا تجيء في مقدمتها، وهي التي ~~ميزتنا منذ قديم، ولم تزل تميزنا، وأعني بها: الدين، والأسرة، والوطن، وكلمة «الوطن» ~~هنا مذكورة لشمل المعنيين: معنى الأسرة الكبيرة التي هي الأمة، ومعنى رقعة الأرض التي هي ~~مصر، والتي يحبها المصري لذاتها. # والسؤال الذي نطرحه الآن هو هذا: هل يكفي مبدأ «الديمقراطية» وحده ليكون أساسا للتنظيم ~~في هذه المجالات الثلاثة على السواء؟ أونحن في حاجة إلى مبادئ رئيسية أخرى تضاف إلى ~~مبدأ الديمقراطية كي نجد لكل مجال ما يلائمه؟ # ولعل هذا هو الموضع الذي نحدد فيه معنى «الديمقراطية» تحديدا واضحا وبسيطا، وإني ~~لأفضل في تحديده أن يكون ذلك عن طريق وظيفتها، لا عن طريق مضمونها النظري؛ لأن الدخول في ~~مضمونها النظري، ينتهي بنا إلى متاهات هي نفسها المتاهات التي أتاحت لكل حكومات الدنيا أن ~~تصف نفسها بالديمقراطية، على اختلاف ما بين تلك الحكومات في التكوين وطريقة الأداء، أما ~~إذا حددنا معناها بالإجراءات التي تتبع عند اتخاذ القرار، قلنا في بساطة واضحة إنها ~~هي التي تأخذ بطريقة عد الأصوات؛ فالقرار النافذ هو ذلك الذي تصوت له أكثرية أفراد ~~الشعب من الراشدين، ولما كان من المتعذر على هؤلاء الأفراد أن تحصى أصواتهم عند كل قرار ~~يتخذ، لجأنا إلى من أنابوهم عنهم باختيارهم. # فحيثما وجدنا الوصول إلى قرار بهذه الطريقة العددية، قلنا إنها الطريقة الديمقراطية، وهي ~~طريقة نجدها في مجلس الشعب وهو يصنع قرارا ما، كما نجدها في هيئات أخرى كثيرة، كمجالس ~~الإدارة في المؤسسات، ومجالس الكليات ومجالس الجامعات، ومختلف اللجان التي تعقد للبحث في ~~موضوع معين بغية الوصول إلى قرار، ونستطيع أن نلخص هذه الحالات برغم تنوعها، فنقول ~~إن ديمقراطية عد الأصوات، هي الأداة الصالحة كلما كان الأمر متصلا برسم «سياسة» محددة ~~لخطوات السير عند التنفيذ. # لكن هذه الطريقة إن صلحت في رسم السياسات الخاصة بشئون «الوطن» ومؤسساته فهي لا تصلح ~~في المجالين الآخرين: مجال الدين، ومجال الأسرة؛ أما الدين فليس القرار فيه من صنع ~~البشر، وإنما يهبط عليهم وحيا، وليس للناس إلا ms116 أن يطيعوه إيمانا، وهذا واضح في شعائر ~~الدين، فلم تكن أكثرية الأصوات هي التي حددت كم يكون عدد الركعات في كل صلاة، لكن الذي قد ~~لا يكون بنفس هذه الدرجة من الوضوح، ما استبطن في شعائر الدين وشرائعه من «قيم» يراد لها ~~أن تكون للناس معايير لسلوكهم في سائر أوجه الحياة؛ فكلما استخلص لنا العلماء معيارا ~~منها، كان ذلك المعيار بمثابة المبدأ الذي نقيم عليه نظامنا في مجاله، ويهمني في موضوع ~~حديثي هذا من تلك المبادئ المستنبطة من شعائر الدين وشرائعه، مبدأ التفاوت في قدرات الناس ~~حتى لا تكلف نفس إلا وسعها. # ومعنى ذلك عند التطبيق هو أنه كلما كان المجال مجال «قدرة» بأي معنى من معانيها، وجب ~~أن يستند القرار عند اتخاذه إلى «القدرة» وحدها حتى لو جاءت أغلبية الأصوات مخالفة ~~لذلك، بعبارة أخرى ليست «الديمقراطية» (وقد حددناها بقولنا إنها طريقة عد الأصوات) في ~~هذه الحالة هي وسيلتنا إلى صنع القرار، ما دام الأمر مرهونا بمهارة معينة، أو قدرة خاصة، ~~بغيرها يتعذر أداء ما يراد أداؤه، وأمثلة ذلك كثيرة في حياتنا: فدخول الجامعات قائم ~~على أساس الأكفأ، لا على أساس الاختيار بأكثرية الأصوات، واختيار أصحاب المناصب العليا ~~كالوزراء والمحافظين وأساتذة الجامعات ورؤساء المؤسسات، بل إن اختيارك للصانع الذي ينجز لك ~~عملا إنما يكون على أساس مهارته في حرفته، وهكذا. ولقد أجرى شعبنا هذا المعنى في أمثاله ~~الجارية، حين أوصى أن توكل صناعة الخبز إلى خبازه حتى إذا لم يكن أمينا، فاحتجز لنفسه ~~من الخبز شيئا. # نعم إن الوسيلة الديمقراطية هنا قد تتبع ابتداء، كأن يقرر مجلس الشعب - مثلا - أن ~~التحاق الطلاب بالجامعات يجب أن يقام على أساس الكفاءة وحدها فعندئذ يكون مثل هذا القرار ~~ديمقراطيا لأنه أخذ بأكثرية الأصوات. لكن ذلك لا يتعارض مع قولنا إن أساس التنظيم في ~~قبول الطلاب هو «القدرة» لا الرغبة المؤيدة بعد الأصوات، فإذا كان رسم السياسات قائما ~~على الديمقراطية (عد الأصوات) فمجال العمل بكل فنونه مداره الجدارة والقدرة على الأداء ~~الأكمل، وعلى هذا ms117 الأساس ترانا لا نسوي بين قادة الجيش الذين يضعون خطة القتال، وضباطه ~~وجنوده الذين ينفذون، وكذلك لا نسوي بين المدرس وتلاميذه في تحديد الحقائق العلمية، ~~وغير ذلك من الحالات التي لا ينبغي لمبدأ الديمقراطية أن يكون فيها طريقا لاتخاذ ~~القرار. # وتأتي الركيزة الثالثة فيما ذكرناه بين ركائز الشخصية المصرية في استمرارها مدى تاريخ ~~طويل، وأعني بها، الانتماء الأسري، فها هنا - أي في حياة الأسرة - لا عد الأصوات هو طريقة ~~صنع القرار، كلا ولا هو التمييز بين القادر وغير القادر من الأبناء، بل هو الحب الذي ~~يوجب على رب الأسرة أن يرعى أفرادها - من جهة - كما يوجب على هؤلاء الأفراد أن يطيعوا ما ~~يقرره لهم وعليهم - من جهة أخرى - نعم قد يحدث لرب الأسرة أن يطرح أمرا ما على أفراد ~~أسرته ابتغاء الشورى لكنه آخر الأمر هو وحده صاحب القرار ركونا إلى موقعه من البناء ~~الأسري واكتفاء بما هو مفروض فيه من حب ورعاية لا يؤجر عليهما. # وليس مبدأ الحب والرعاية هذا مقصورا على الأسرة الصغيرة، بل إنه ليتسع مجاله فتراه ~~ساريا في حياة الأسرة الكبرى - التي هي الأمة كلها، ولكنه يسري هناك في جوانب خاصة لا ~~تراعى فيها قواعد العمل من حيث العطاء للقادر وحده دون العاجز، ومن أمثلة ذلك أن نكفل ~~لكل إنسان في شيخوخته ما يأمن به على عيشه وصحته؛ فنحن هنا لا نقول: لماذا نعطي العاجز عن ~~العمل راتبا أو رعاية صحية، لا نقول ذلك لأن المبدأ هنا ليس القدرة أو المهارة، بل هو الحب ~~والرعاية. # مبادئ ثلاثة - إذن - نراها في جوانب الحياة المختلفة، فما يصلح في مجال «السياسة» قد لا ~~يصلح في مجال المهارات، وما يصلح في هذين قد لا يصلح في الكيان الأسري، سواء أكانت الأسرة ~~مأخوذة بمعناها الأصغر أم بمعناها الأكبر، وقد تسألني: وماذا تخسر لو أطلقنا على هذه ~~المبادئ كلها اسما واحدا، فنقول إنها هي «الديمقراطية»؟ # وأجيبك على سؤالك فأقول: إن رؤية الفوارق بين المختلفات من شأنها أن تؤدي إلى دقة ~~التطبيق؛ فإذا ms118 كنت قد سمعت بالانحلال الأسري في كثير من أقطار الأرض، فاعلم أن من أهم ما ~~أدى إليه من عوامل، هو خلط المبدأ الديمقراطي بالمبدأ الأسري، بحيث ظن أبناء الأسرة أن ~~علاقتهم بوالديهم ينظمها أخذ الأصوات، على حين أن الذي ينظمها مبدأ آخر، هو رعاية الكبير ~~للصغير، لقاء طاعة الصغير للكبير، وإذا كنت قد سمعت بتدهور التعليم هنا أو هناك، فاعلم أن ~~من أهم العوامل المؤدية إلى ذلك، هو الخلط بين مبدأ الديمقراطية ومبدأ الكفاءة. # وليست هي بالحالات القليلة، تلك التي نخلط فيها بين مبدأ الكفاءة الذي ينبغي له أن يسود ~~في مجال العمل ومبدأ الرعاية الأسرية الذي تكون له الأولوية حيثما وجبت الرعاية بغير افتئات ~~على كفاءة العمل؛ فلقد حدث في ذات عام أن كنت معارا - على سبيل التبادل بين الجامعات - ~~أستاذا بإحدى جامعات الولايات المتحدة، فدهشت عندما اقترب العام الدراسي من ختامه؛ إذ ~~رأيتهم يوزعون استمارات على الطلاب، مؤداها أن يقول الطلاب آراءهم في أساتذتهم من كل ~~الجوانب، فسألت زميلا هناك قائلا: وماذا لو قررت أكثرية الطلاب عدم الصلاحية بالنسبة إلى ~~أستاذ؟ فأجابني الزميل أنه يفصل. فقلت له: مثل هذا التصرف محال علينا في مصر أن نلجأ ~~إليه. فسألني: لماذا؟ قلت: لأننا أولا لا نأخذ رأي التلميذ في أستاذه، وثانيا: لأننا نأخذ ~~في اعتبارنا أن هذا الأستاذ رب أسرة مسئول عن أفرادها، فماذا تكون حاله إذا نحن فصلناه؟ ~~أجاب زميلي، والدهشة هذه المرة كانت دهشته: أهي جامعة أم هي جمعية خيرية لرعاية العاجزين؟ ~~وهل من العدل أن تراعى حياة أستاذ فيضحى في سبيل ذلك بعدد من الطلاب الله أعلم ~~بعددهم؟ # هكذا ظهر الفارق بين ثقافة ذلك الزميل الأمريكي وثقافتي، فبينما هو يفرق بين المبادئ ~~المختلفة ليجعل لكل مبدأ مجاله، كنت أنا أخلط بينها، فأضع المبدأ الأسري مكان مبدأي ~~الديمقراطية والكفاءة معا؛ فعلى أساس الأكثرية الديمقراطية في أصوات الطلاب بني القرار، ~~ثم على أساس انعدام الكفاءة فصل الأستاذ، وأما من جهتي أنا فقد شعرت وجوب أن تكون الأولوية ~~لمبدأ الرعاية ms119 والحب . ذلك ما كان، وإني إذ أستعيده الآن لأعيد فيه النظر أجد أنهم أخطئوا ~~حين جعلوا الرأي للطلاب وأصابوا حين فصلوا العاجز عن عمل لا يحسن صناعته، ولو أنهم لجئوا ~~إلى مقياس علمي آخر ليحكموا به على قدرة الأستاذ لكان الصواب في جانبهم، وأما عن وجهة نظري ~~أنا التي أبديتها عندئذ فأرى الآن موضع الخطأ فيها؛ لأنها احتكمت إلى العاطفة الأسرية في ~~مجال لا يجوز أن يحتكم فيه لغير الكفاءة. # الخلط بين المبادئ في المجالات المختلفة قد يؤدي إلى ضرر جسيم، انظر إلى ما حدث عندنا ~~منذ قريب حين حكم على كتاب الفتوحات المكية لابن عربي على المبدأ الديمقراطي، وهو الأخذ ~~بأكثرية الأصوات، وتذكر ما حدث عندنا أيضا منذ بضع سنوات حين جعلنا أساس الاختيار ~~للمناصب العليا، الولاء وليس الكفاءة، والأمثلة كثيرة على وضع المبدأ المعين في غير ~~مجاله فينتج الضرر، فلو احتكمنا إلى المبدأ الديمقراطي، وهو عد الأصوات، في الحكم على ~~العلماء - مثلا - لجاز أن نقع في مثل الخطأ الذي وقعت فيه أكثرية الأصوات عندما حكمت على ~~طه حسين بعدم الصلاحية للعمل بالجامعة، وعندما حكمت على الشيخ علي عبد الرازق بأن يمحى ~~اسمه من قائمة العلماء، وعندما حكمت على كتاب الفتوحات المكية بأنه غير صالح للنشر، وكذلك ~~لو احتكمنا إلى مبدأ الكفاءة وحده لفعلنا ما فعله أهل إسبرطة قديما، عندما كانوا ~~يعرضون ضعاف الأطفال والشيوخ للصقيع فوق الجبل ليموتوا، ولو احتكمنا إلى العطف الأسري ~~وحده، لاستمعنا إلى الوساطات في إدارة شئون الوطن صغيرها وكبيرها على السواء. # فلماذا نتمسك بوحدانية المبدأ، إذا كانت حياتنا تتطلب عدة مبادئ في وقت واحد، شريطة أن ~~نحصر كل مبدأ منها في مجاله؟ إن تعدد المبادئ في هذه الحالة لا يلزم عنه التناقض، بل ينتج ~~لنا ضرب من التكامل يدنو بنا نحو الكمال. # | الفلسفة خارج الأسوار # تسعة قراء من كل عشرة، لم يسمعوا من الفلسفة إلا اسمها، دون أن يعرفوا من مضمونها ~~كثيرا أو قليلا، وبالتالي فهم لا يعرفون شيئا عما يؤديه الفكر الفلسفي في ms120 حياة الناس ~~الثقافية، وأن أمر هذا الفكر الفلسفي فيما يؤديه، لا يقتصر على أمة دون أخرى، ولا على عصر ~~دون عصر؛ فتاريخ الحياة المتحضرة لم يشهد يوما واحدا كان للإنسان فيه علم أو فن أو عقيدة، ~~ولم يكن له إلى جانب أي منها فلسفته التي تكشف عن مبادئه الأولى والتي كثيرا ما تخفى في ~~لفائف الحياة الثقافية كما يحياها الناس. ثم يتغير العلم مع مر الزمن، ويتغير الفن وتتغير ~~العقيدة، نتيجة لتغير تلك المبادئ الأولى، فيتغير المناخ الفلسفي بطبيعة الحال؛ لأن ~~التلازم وثيق بين اتجاهات الثقافة السائدة من جهة وفلسفتها من جهة أخرى، ولكن تسعة قراء ~~من كل عشرة لا يدهشهم أن تتغير مبادئ العلم أو الفن أو العقيدة، أما إذا غيرت الفلسفة ~~مناخها ومذاهبها تبعا لذلك، استنكروا منها هذا التغير؛ لأنهم يجهلون طبيعتها وطبيعة ~~الدور الثقافي الذي تؤديه، ولولا هذه العروة الوثقى التي تربط جوانب الثقافة المتباينة، ~~ربطا يجعلها ذات كيان واحد، لما جاز لنا أن نسمي الفترة الزمنية المعينة من فترات التاريخ ~~«عصرا»؛ لأنه في هذه الحالة تصبح الجوانب الثقافية أشتاتا متناثرة ومتعارضة، ويصبح من ~~العسير بل من المستحيل، على مؤرخ أن يقص علينا قصة التاريخ في أية ناحية من نواحي ~~الحياة الإنسانية، لكن الأمر الواقع غير ذلك؛ فهنالك «عصور» تتوالى إذا ما نظرت من بعيد إلى ~~كل عصر منها، رأيت ملامحه الرئيسية واضحة، تخلع عليه وحدانية الكيان، ألست تتصور صورة ~~ثقافية موحدة برغم كثرة تفصيلاتها، إذا قلت لك: «مصر في عصر الفراعنة»، «العصر اليوناني ~~القديم»، «العصر الإسلامي حتى القرن الرابع الهجري»؟ # فما الذي وحد كلا من تلك العصور في صورة متلاحمة الأجزاء؟ وحدها أن الحياة ~~الثقافية في كل منها كانت مرتكزة على مبادئ معينة، والذي يكشف لنا عن طبيعة تلك المبادئ ~~الدفينة هو فيلسوف العصر أو فلاسفته؟ ومن هنا تصبح الرابطة قوية بين النشاط الفلسفي في عصر ~~ما، وسائر أوجه النشاط في ذلك العصر، وإذا لم تنكشف المبادئ الخبيئة في ثنايا الحياة ~~اليومية، بقي الناس ناشطين في ms121 تلك الحياة، ولكن بغير وجهة نظر لهم يكونون على وعي ~~بها. # ومهما اختلف الفلاسفة في مناهجهم التي يلتزمونها عند تحليلهم لثقافات عصورهم واستخراج ~~مبادئها من الخفاء إلى العلن الصريح، فهم يتفقون جميعا على نوع من النشاط الذهني يضطلعون ~~به، وقد يقتصر عليه بعضهم، وقد يضيف إليه آخرون، وأعني به الوقوف عند المعاني المحورية ~~الهامة التي تستقطب جزءا من حياة الناس؛ فهم يقفون عند تلك المعاني الرئيسية في حياة أبناء ~~العصر المعين، ليحللوها تحليلا يوضح محتواها، ويبين ما يستكن في ذلك المحتوى من التناقض ~~إذا وجد، وذلك حتى يكون الناس على هدى إذا هم يسيرون على ضوء تلك المعاني. # كان هذا التحليل للمعاني الشائعة هو ما فعله سقراط صراحة، حين أخذ يطوف في المحافل ~~والأسواق، يسأل صاحب الفن المعين ماذا يعرف عن معناه، ويسأل صاحب العقيدة المعينة ماذا ~~يعرف من مقوماتها، وهكذا طفق يسأل كل إنسان عن معنى ما يزعم للناس أنه خبير فيه، حتى ~~انكشفت لسقراط حقيقة مرة وهي أن الناس يزعمون لأنفسهم العلم بما هم في الحقيقة جاهلون ~~بحقيقته. # ولن تجد فيلسوفا لا يضمن عمله وقفات هنا وهناك ليوضح المعاني التي يراها ذات أهمية ~~خاصة في ثقافة عصره؛ فهذا أفلاطون يحلل في استفاضة معاني العدل والحكمة والشجاعة والعفة ~~والجمال وغير ذلك، وهذا أرسطو يحلل في استفاضة كذلك معاني الصدق العلمي وفكرة السببية ~~والحركة والمكان والشعر وغير ذلك، وانظر إلى فلاسفة المسلمين كم أنفقوا من جهد في تحديدهم ~~لمعاني التوحيد والإرادة والعدل والإيمان والكفر وغيرها، ولا ينفي وقوف الفيلسوف عند معاني ~~عصره الهامة ليحللها توضيحا لها، أن يكون لذلك الفيلسوف بناؤه الفلسفي المتماسك الذي ترد ~~فيه تلك المعاني عناصر في قوامه. # فمن الحقائق العجيبة في حياة الإنسان الفكرية بصفة عامة، أنه يهتدي بمجموعة من التصورات ~~التي لا هي معلومة له كل العلم ولا هي مجهولة له كل الجهل؛ فهو حيالها يقف موقفا وسطا بين ~~علم وجهل (وهو لا يدري عن نفسه هذه الحقيقة) دون أن يعرف على وجه التحديد كم ms122 علم من الأمر ~~وكم جهل. ولما كانت تلك المجموعة الرئيسية من التصورات ذات أهمية بالغة في حياته تراه ~~يغضب أشد الغضب إذا بينت له - ولو من بعيد - كم هي غامضة المعاني في ذهنه تلك التصورات، لكن ~~الفلسفة من شأنها أن تهجم على ما قد غمض معناه لتلقي عليه الضوء بعد تحليل قد يبلغ من ~~الدقة ما يجعل القراء ينصرفون عنه مستنكرين متهكمين. # إن الناس بإزاء تلك المعاني الغامضة (التي يحسبونها واضحة وما هي بواضحة) إنما يرونها من ~~بعيد فلا يدركون شيئا من تفصيلاتها المعقدة، فهم في ذلك يشبهون الناظرين من بعيد إلى جبل ~~فيرون هيكله الخارجي ويظنونه أملس الجوانب، حتى إذا ما دنوا منه، رأوا فيه ما لم يتصوروا ~~رؤيته من صخور ونبات وحيوان وطير وشراب، وهكذا تفعل الفلسفة بالناس في حياتهم الفكرية، حين ~~تدنيهم من مجموعة المعاني التي يديرون حولها حياتهم تلك في كل جانب من جوانبها. # كم ألف ألف مرة تتردد على ألسنتنا وأقلامنا - في عصرنا الراهن - كلمات العدل ~~والديمقراطية والحرية والإرادة والاشتراكية والشعر والفن والعلم والعقل والإيمان ... إلخ إلخ؟ ~~إنها معان دارجة مألوفة، يظن المثقف العادي - ولا أقول الفرد من عامة الناس - أنها واضحة ~~ولا حاجة بنا إلى الغوص في محتواها! # لقد حدث لي أن قرأت ذات يوم لكاتب من كتابنا، زار بعض البلاد الأوروبية واجتمع بجماعات ~~الطلاب في جامعاتها وأخذ يحاورهم ليسبر مداركهم، فسألهم أول ما سأل عن «الحرية»، ~~فأجابوه سائلين: وما تحديد معنى هذه الكلمة في مفهومك؟ فدهش أن يكون ذلك موضعا لسؤال؛ ~~لأن فكرة الحرية عنده واضحة بذاتها، تدركها البداهة ولا تحتاج إلى تحليل وتحديد! فيئس ذلك ~~الكاتب من مجموعة الطلاب، وكان الأحق أن ييأس من نفسه. # إنه لا مندوحة للحياة الفكرية السليمة من وقفات أمام المعاني الرئيسية لتحديدها، ما دامت ~~هي الركائز التي يعتمد عليها البناء كله، ولقد شاء الله أن يضطلع بمثل هذا التحديد نفر ذوو ~~حساسية خاصة تهديهم أين يكون الغموض، وأين يكون الوضوح، وهؤلاء في كل عصرهم أصحاب الميول ~~الفلسفية ms123، فإن كانوا ذوي قامات عالية وأحجام ضخمة صاروا هم فلاسفة ذلك العصر، وهؤلاء ~~الفلاسفة على توالي العصور هم الذين يصبحون بعد ذلك موضوع الدراسة في أقسام الفلسفة من ~~الجامعات. # وأظنه واضحا من هذا أن الفيلسوف في عصره يعمل شيئا. وأما «دارس الفلسفة»؛ أي دارس ذلك ~~الفيلسوف فيعمل شيئا آخر، الأول يدخل مع مواطنيه في مشكلاتهم، والثاني يدرس كيف كانت ~~مشاركة الفيلسوف في تلك المشكلات وحلولها. # ونشأت لنا في مصر جامعات، ونشأت في الجامعات أقسام لدراسة الفلسفة، وقيض الله لهذه ~~الأقسام على مدى نصف قرن مجموعة قادرة من الأساتذة، استطاعوا بحق أن ينشئوا مكتبة ~~فلسفية عربية، من مؤلفاتهم ومترجماتهم وما حققوه من نصوص التراث بعد أن كاد ألا يكون من ~~ذلك كله شيء قبل ذلك، وذلك - بالطبع - إلى جانب من أخرجوهم من الدارسين طوال هذه الفترة ~~التي امتدت حتى الآن ما يزيد قليلا على خمسين عاما. # وها هنا يبرز الجانب الذي أردت الكتابة فيه بهذا المقال، وهو: إذا كان أساتذة الفلسفة ~~ودارسوها في الجامعات قد أجادوا ما نيط بهم أن يؤدوه «داخل» أسوار الجامعات، فهل أدوا ~~كذلك شيئا مما كان لا بد لهم أن يؤدوه للناس «خارج» تلك الأسوار؟ وإجابتي السريعة عن هذا ~~السؤال هي أنهم - في الأعم الأغلب - لم يفعلوا من ذلك شيئا، بل أسوأ من ذلك أنهم حين ~~أعدوا طلابهم بالدراسة الفلسفية، وقفوا بهم عند أغلفة الكتب وصفحات الكشاكيل، وأما أن ~~يخلقوا فيهم تلك القدرة الناقدة التي من شأن الدراسة الفلسفية - عادة - أن تخلقها في ~~الدارس، فلست أظن أنهم صنعوا من ذلك شيئا يلفت النظر، ومعنى ذلك هو أن المتخرج في أقسام ~~الدراسة الفلسفية إما أن يعيد ما تعلمه تدريسا في الجامعة أو المدارس الثانوية، وإما أن ~~يجد نفسه وكأنه أعزل من أي سلاح ثقافي يجاهد به في معترك الحياة. # إننا مهما أخلصنا النية في أن نصون للدراسة الجامعية حقها من الاستقلال الأكاديمي الذي ~~لا تعكر صفاءه شوائب الضرورات الاجتماعية الحيوية، فعسير علينا أن نتصور دارسا في ~~الجامعة يدرس ms124 ما ليس ينفعه وينفع الناس بأي وجه من الوجوه، وأذكر أن هذه النقطة بذاتها هي ~~ما احتج به طلاب الفلسفة في فرنسا أيام الحركة التي اضطرب بها شباب أوروبا في سبيل ~~مستقبلهم، منذ عشر سنوات أو نحوها. # ولا علينا ما فعله طلاب أوروبا وغير أوروبا، ولنحصر فكرنا في حياتنا نحن، فماذا نرى؟ نرى ~~من ناحية أمة طامحة للنهوض السريع، فلما أدار لها طموحها مكنات الطحن، خرج لها طحين ~~مملوء بالتصورات التي يكتنفها كثير جدا من الغموض، وبرغم غموضها الشديد، تراها دائرة في ~~كل صحيفة وعلى كل لسان، وإذا قلنا غموضا في التصورات، فقد قلنا بالتالي تعثرا في ~~السير وتخبطا في العمل؛ لأن السير والعمل لا يكونان إلا على هدى من تصورات سابقة عند ~~من يعمل أو يسير. ثم نرى من ناحية أخرى أقساما في الجامعات كان ينبغي لها أن تكون أقرب ~~الأقسام الجامعية جميعا إلى تخريج من يحسن تحليل المعاني، مستمدين القدرة على ذلك مما ~~درسوه من فلاسفة، وقد رأوا كيف شارك هؤلاء الفلاسفة في المسائل الفكرية التي نشأت في ~~عصورهم. # نعم إن المهمة الأولى لطالب الفلسفة في الجامعة، هي دراسة ما أنتجه الفلاسفة خلال العصور ~~من أفكار أجابوا بها عما كان موضع التساؤل في صدور معاصريهم، ولكني أريد لتلك المهمة ~~الأولى أن تتولد عنها مهمة ثانية، وهي أن يفيد الدارس مما درسه «قدرة» على التحليل ~~النظري، يخرج بها إلى دنيانا العملية، وعندئذ سيجد أمامه مجالا فسيحا لنشاطه الفكري؛ ~~لأنه سيرى في حياتنا الثقافية بكل فروعها غموضا ينتظر من يزيحه لينجلي الحق أمام الأبصار، ~~وإلا فسوف يجد الدارسون للفلسفة في جامعاتنا أنفسهم غرباء مهملين على جوانب الطريق، لا ~~تلتفت إليهم الأنظار؛ لأن وفاضهم خال مما يقدمونه للناس. # | من المشكلات إلى حلولها # هي في أولى درجات السلم الأكاديمي؛ فلقد اختارت لتوها موضوع بحثها للحصول على إجازة ~~الماجستير، لكنها - فيما يبدو - من تلك الفئة القليلة النادرة في هذه الفترة من تاريخنا، ~~التي تجاوز بنشاطها العقلي حدود الدراسة الضيقة، لتتعلق بهموم الحياة العامة ms125، فألقت علي ~~سؤالا، وهي في غمرة حديثها معي عن موضوع بحثها، وكان السؤال مشبعا بالتردد والقلق، حين ~~قالت: قل لي يا دكتور، أأنت ممن يتبعون أيديولوجية اليسار أم ممن يتبعون أيديولوجية اليمين؟ ~~وإني لأسألك هذا السؤال؛ لأنني لم أستطع استخلاص الجواب من مقالاتك. # قلت لها إنني يا ابنتي مصري ثم عربي ثم عضو في الإنسانية كلها، أتمنى لأهلي ثم لسائر ~~الناس أن يقهروا ما يحيط بهم من صعاب، ولا أعبأ من أين يأتي الدواء إذا أدى بالمريض إلى ~~الشفاء. إنني أكره هذه اللافتات التي تعمي البصر بكلماتها الضخمة المشتعلة بلهب العواطف ~~المنفعلة؛ لأن أصحابها يريدون لنا أن نبدأ بالمذهب المعبود لنهبط منه إلى مشكلاتنا ~~وحلولها، والرأي عندي هو أن نبدأ بمشكلاتنا الجاثمة فوق صدورنا، والممسكة بخناقنا، حتى ~~أوشكت الأنفاس أن تنكتم. نعم إن الرأي عندي هو أن نبدأ بمشكلاتنا تلك، لنعالجها بما يستطيع ~~العلم أن يعالجه، دون أن نلفت رءوسنا لا إلى يسار ولا إلى يمين، حتى إذا ما تجمعت بين ~~أيدينا جملة حلول ثبت نجاحها، كان من حق أصحاب الفكر النظري بعد ذلك أن يبوبوها ~~ويصنفوها كما شاء لهم علمهم النظري، ثم كان لهم بعد ذلك أن يطلقوا عليها العنوان الذي ~~يريدون، لكننا نكون قد رسونا قبل ذلك على شاطئ الأمان. # المشكلة الواحدة من مشكلات حياتنا العملية هي كالمريض دعونا له الطبيب ليفحص علته ~~ابتغاء الشفاء، فهل يجوز للطبيب أن يحدد لنفسه أولا أيكون في هذه الحالة من أهل اليسار ~~أم يكون من أهل اليمين؟ ألا ترين معي يا ابنتي أن الاتجاه الصحيح إنما يبدأ من المشكلة إلى ~~حلها، ثم قد يصعد الصاعد بعد ذلك من الحل إلى مبدأ عام، فيكون المبدأ في هذه الحالة هو ~~تلخيص لحقائق الحياة العملية، لا العكس؛ لأن المبدأ أو المذهب أو العقيدة هي دائما أوسع من ~~كل واقعة من وقائع الحياة اليومية، فإذا جعلنا لتلك التعميمات المجردة أولوية، فقد يتعذر ~~علينا - ونحن أمام حالة جزئية معينة - أن نلتمس طريقنا إلى التطبيق، والأمر في ms126 ذلك هو ~~كالأمر في قوانين العلوم؛ فالقانون العلمي المعين لا يهبط على الناس من حيث لا يعلمون، ~~ولكن الناس هم الذين يستخلصونه من تجاربهم في معامل البحث أو غيرها. # لقد قرأت أخيرا مع الإعجاب الشديد، مقالة نشرها الأستاذ الفاضل الدكتور عبد المنعم ~~النمر (الأهرام عدد 4 / 1 / 1978م) يدعو فيها إلى الاقتداء في تقنين الشريعة بما صنعه السلف ~~الصالح، لكن الاقتداء بهم إنما يكون في طريقة النظر لا في النقل عنهم أحكاما بذاتها حكموا ~~بها على مواقف معينة، وذلك لأن مدار الحكم يجب أن يكون ما فيه تيسير ومصلحة ودفع ضرر، ولما ~~كانت ظروف الحياة تتغير مع عصور التاريخ، جاز أن يكون ما فيه المصلحة في عهد مضى، حاملا ~~للضرر في عصرنا، وهذه عبارة مما قاله الأستاذ الجليل: «فرب رأي قاله القدماء تيسيرا على ~~الناس في زمنهم أصبح جالبا للعسر والمشقة والضرر في زمننا، وأصبح من الضروري تغيير الفتوى ~~والرأي تحقيقا للمصلحة واليسر، ولنا فيما فعله الصحابة والتابعون والأئمة قدوة ~~حسنة.» # ومعنى ذلك أن المعول عليه في الحكم هو ما نحن بصدده من حالات فعلية حقيقية يعيشها ~~الناس، ونريد لتلك الحالات أن تتأدى إلى ما يحقق لهم حياة أكثر يسرا ونفعا، وأبعد ~~عن عوامل الضيق والمشقة والضرر، فماذا يجدي أن أضع في عنقي أغلالا وعلى قدمي قيودا باسم ~~«الأيديولوجيا» «قبل» أن تنشأ المسألة التي تتطلب المعالجة والحل؟ نعم إنه لا بد من «إطار» ~~عام أتحرك فيه حين أبحث لمشكلة معينة عن حل، تماما كما يتحرك الباحث العلمي في إطار ~~الفكر العلمي القائم، حتى يهتدي بحدوده ولا يخرج على قواعده المبدئية، لكن ذلك كله مفروض ~~على الباحث العلمي من أجل الاهتداء إلى الحل المطلوب، وليس هو مفروض عليه اعتسافا. # صدقيني يا ابنتي، إنني إذا أردت زرع ما يمكن زرعه من صحرائنا، فلا أدري كيف يكون هذا ~~الزرع باليسار مختلفا عنه باليمين، وإذا أردت تنظيم الأسرة درءا لهذا الطوفان البشري، فلا ~~أدري كيف يكون هذا التنظيم باليسار مختلفا عنه باليمين، وإذا أردت الارتفاع بمستوى ms127 ~~التعليم، فلا أدري كيف أحقق هذا الارتفاع باليسار أكثر مما أحققه منه باليمين، وإذا أردت ~~ضبط الإدارة ضبطا يحول دون الاختلاس والرشوة، فلا أعرف كيف يتم هذا الضبط الإداري باليسار ~~على صورة يختلف فيها عن صورته لو تم باليمين؟ وإذا أردت أن أنفخ في الناس روح الكرامة ~~الإنسانية التي تمنعهم من النفاق الرخيص، فكيف يا ترى يكون هذا النفخ ببوق اليسار وكيف ~~يكون ببوق اليمين؟ ... مشكلات كثيرة من هذا القبيل يا ابنتي هي التي تريد معالجة تزيل منها ~~مواضع الشكوى، ولست أرى سبيلا إلى ذلك إلا بأن تؤخذ كل مشكلة أخذا علميا منهجيا ~~يؤدي إلى حلها، دون الحاجة إلى التمحك في يسار أو في يمين. # لا، لا، يا جاهل - هذا ما قد يقوله المتحمسون - إنك تتحدث عن أمور ليست هي التي نعنيها ~~حين نقسم الناس إلى يسار ويمين؛ فنحن نعني مجال «السياسة» بصفة خاصة، السياسة؟ وماذا تكون ~~السياسة إلا مجموعة حلول لمجموعة مشكلات؟ اللهم إن كانت السياسة شيئا غير هذا، فإنها طعام ~~ليس لدي المعدة التي تهضمه. # إن من سخرية التاريخ بالناس، أن تبدأ «الأيديولوجيا» - أعني هذا المصطلح بذاته - بعد ~~الثورة الفرنسية بقليل، حين أقيم مجمع علمي جديد، قسم إلى لجان لتختص كل لجنة منها ~~بعلم معين، فاقترح بعضهم أن يكون ل «الأفكار» علم خاص بها، ليبحث فيها كيف تنشأ وكيف ~~تتطور، وبالفعل أنشئت لجنة «الأيديولوجيا» (أيدي = فكرة، لوجيا = علم، وإذن تكون ~~«أيديولوجيا = علم الأفكار») ثم مرت السنون طاوية مراحل القرن التاسع عشر، إلى أن جاءت ~~الظروف السياسية في بعض الأقطار، التي جعلت القائمين بالحكم فيها ينسقون للناس من عندهم ~~نسيجا من أفكار معينة أرادوها، وفرضوها عليهم لتكون هي المرجع في سلوكهم وضروب مناشطهم، ~~وقالوا إنها «الأيديولوجيا» التي يجب أن تتبع، وأما الأقطار الأخرى التي لا تريد أن ~~تقيد الناس بمرجع واحد معين، فليس لهذه الكلمة وجود في حياتها، وقد أردت أن أقول بذلك إن ~~ما كان مقصودا به أول الأمر أن يكون «علما للأفكار» قد تحول مع الأيام ليصبح ms128 «قيدا ~~للأفكار ». # وإنه لما يؤسف له في تكوين الطبيعة البشرية، أنها تميل بالناس إلى الأخذ بالقوالب العامة ~~لسهولتها، دون الدخول في تفصيلات المادة التي تملأ تلك القوالب، وطلابي يشهدون كم عانيت ~~وأعاني في تدريبهم على دقة التحليل حتى لا تضللهم القوالب العامة عن مضموناتها الحقيقية، ~~لقد طلبت منهم ذات يوم منذ أعوام أن يحللوا هذه الجملة: «مؤلف قصة الظلال مات بالأمس» ~~ليبينوا كيف يكون طريقهم إلى نقدها، فندر بينهم من عرف أنها مركبة من عدة أجزاء، كل جزء ~~منها يحتاج وحده إلى تحقيق خاص به، قبل أن نقبل الجملة أو نرفضها؛ فقد يكون هنالك قصة ~~اسمها الظلال وقد لا يكون، وقد يكون مؤلفها معاصرا لنا وقد لا يكون، حتى إذا ما استيقن ~~الباحث من وجود القصة ومن معاصرة مؤلفها، بقي أن نرى إن كان قد مات أو لم يمت، فإذا ~~تأكدنا من موته، كان علينا أن نتحقق من تاريخ موته، أكان بالأمس أم كان قبل ذلك ... كان هذا ~~تدريبا على النظر إلى التفصيلات، تمهيدا للعقول أن تعالج مشكلات الحياة في واقعها؛ فذلك ~~أجدى من الطيران بأجنحة النسور إلى حيث لا وجود إلا لأشباح وأوهام. # فإذا كانت كلمة «أيديولوجيا» يا ابنتي حلوة الرنين في الأسماع، وأردت لي أن أحدد لنفسي ~~«الأيديولوجيا» التي أنتمي إليها، فكوني على يقين من أنها لا هي إلى اليسار ولا هي إلى ~~اليمين، وإنما هي الأيديولوجيا المؤلفة من منهج العلوم وقوانين العلوم، لأهتدي بها في ~~معالجة الصعاب التي تحيط بنا، وحتى حين يوجه إلي سؤال يسأل: هل نستمد حياتنا من ينابيع ~~تراثنا أو نستمدها من ينابيع العصر الحاضر؟ قلت في الجواب: بل أستمدها من حيث أجد الحلول ~~للمشكلات الحقيقية التي أعانيها، إنه لا قداسة لماض على حاضر، ولا أسبقية لحاضر على ماض، ~~أمام مريض يفتك به المرض ونريد له النجاة، إن الدار إذا اشتعلت فيها النار، فلا أتلكأ في ~~عملية الإطفاء حتى أبحث في الكتب عن المرجع الذي أستمد منه صورة الفعل، أيكون قديما ~~موروثا أم جديدا ms129 معاصرا، ولن أمل من تكرار القول بأن النظر إنما يبدأ بالجزء لا بالكل، ~~وبأن الحل ينبغي أن يكون ب «القطاعي» لا ب «الجملة»، ولنا بعد ذلك أن نبني الكل ونحن على ~~علم بأجزائه الصغرى، وأن نرسم الحل الإجمالي ونحن على يقين من أن لكل جانب خاص حله ~~الخاص. # ومع ذلك - يا ابنتي - فليس عجبي من دعاة الأيديولوجيا بأي لون كانت، بأشد من عجبي من فئة ~~أخرى تملأ الدنيا من حولنا كلاما عن خرافات يسرقون بها انتباه الناس، وكأن حياتنا قد ~~استكملت جوانبها، ولم يعد أمامنا إلا هذا الترف من الترصد لأشباح القبور كيف تظهر وأين ~~تختفي، ومن التعقب لعفاريت الجن كيف تشيع الفزع في المنازل وتحطم زجاج النوافذ وقطع ~~الأثاث، إلى الحد الذي يستعان فيه بالشرطة، ويؤخذ الأمر فيه مأخذ الجد في الصحف! # كلا يا ابنتي، لا تسأليني عن أيديولوجيا اليسار واليمين، بل اسأليني عن طريق النظر العلمي ~~كيف يكون، لعل شعاعا منه أن يبدد شيئا من هذا الظلام الكثيف، الذي ساعد على قيامه - وا ~~أسفاه! - نفر من قادة الكلمة، مقروءة ومسموعة. # | كاهنة دلفي # الفرق بين فكر قديم وفكر جديد، قد يتجلى أمام عيني في أمثلة صغيرة عابرة، ولقد كان ~~المثل الصغير العابر هذه المرة، الذي رأيت فيه كم هو هائل وجسيم ذلك الفرق بين قديم وجديد، ~~أني رأيت أصحاب الدراسات المستقبلية يستخدمون في حساب المستقبل أساليب يطلقون عليها اسم ~~«طريقة دلفي» في البحث، فانطلقت عندئذ خواطري انطلاقا لم أملك له زماما. # فلكل كاتب طريقته في تجميع أفكاره، لكن هذه الطرق مهما اختلفت، فلا بد لحركة السير من ~~نقطة انطلاق، وإني لأرى نفسي كالطائر الذي رأيته ذات يوم واقفا عند حافة الماء يحسو منه ~~حسوة ثم يرفع رأسه لينظر في الخلاء، كأنه ينتظر حتى تسري في كيانه تلك الحسوة التي احتساها، ~~قبل أن يحني رأسه نحو الماء ليلقط حسوة أخرى، وهكذا أفعل فيما أقرأ وأسمع؛ إذ إني ألقط نقطة ~~انطلاقي أثناء التنقيب والتقليب، حتى إذا ما وجدتها تركتها تستجمع حولها ms130 من خبرة الماضي ما ~~تستجمعه. # فلما أن قرأت هذه المرة شيئا عما يسمونه اليوم بطريقة «دلفي» في استباق الرؤية ~~المستقبلية، تركت نبع الماء الذي أمامي، وجعلت أجوب بالذاكرة فيما قد كان في سالف الأيام، ~~مقرونا إلى ما هو كائن اليوم، وهل كان يمكن أن يرد ذكر «دلفي» - فيما يخص دراسة المستقبل - ~~دون أن أذكر سقراط، وكيف تأثرت حياته بما أوحت به «كاهنة دلفي». # و«دلفي» - قديما - هو المكان الذي أقيم فيه معبد أبولو، على مرتفع الأرض الذي أحاط ~~بأثينا من جهتي الشمال والغرب، وما دام المكان مقرا لمعبد له قداسته عند الناس، فلا بد ~~أن تنسج له الأساطير التي تشبع الخيال، فقيل إن زيوس - عند بدء الخليقة - أراد أن يعين ~~نقطة من الأرض لتكون أقرب النقاط إلى مقام الأرباب، ثم أراد أن تكون تلك النقطة المقدسة في ~~وسط الأرض تماما، فأرسل نسرين من السماء ليطيرا في اتجاهين متقابلين، فأحدهما يطير من ~~الطرف الأيمن، والآخر يطير من الطرف الأيسر، وحيث يلتقيان تكون النقطة الوسطى المقربة إلى ~~الآلهة، فكان أن التقى النسران عند «دلفي»، ولذلك أقيم المعبد، وأقيمت فيه الكاهنة التي ~~تنطق بما يمليه عليها أبولو، وما هي إلا أن سعى الناس إلى الكاهنة في دلفي من أرجاء البلاد ~~جميعا، كل يسألها عن مستقبل يرتقبه: هذا يسأل عن نسل يتوقع أن ينجبه، أيكون ذكرا أم ~~يكون أنثى؟ وذلك يسأل عن تجارة ماذا يكون من أمرها ربحا أو خسارة؟ وثالث يسأل عن رحلة سفر ~~مقبلة أتكون سالمة من الخطر أم هي مخوفة العواقب؟ ... بل إن حكومات المدن اليونانية نفسها ~~كانت ترسل إلى كاهنة دلفي الرسل؛ لتسأل عن حرب معتزمة، أو عن تحالف يراد له أن يقام مع ~~دولة أخرى. # ولقد كان بين تلاميذ سقراط يومئذ، شاب معجب بأستاذه الفيلسوف، مؤمن أشد الإيمان ~~وأعمقه بأن سقراط بين الأثنيين هو الحكيم، فلما طالبه بعض زملائه أن يثبت دعواه، لم يجد ~~الشاب طريقا أمامه إلا أن يذهب إلى كاهنة دلفي، يستوضحها رأي أبولو في سقراط، فجاءه ms131 ~~الجواب عن راعية المعبد، بما يؤيد فكرته عن أستاذه، وعاد الشاب ومعه الجواب الذي يقطع الشك ~~باليقين؛ لأن أبولو صادق دائما، وما تنطق به كاهنة دلفي نقلا عن أبولو، لا بد كذلك أن ~~يكون صادقا، ثم ما كان بعد ذلك من توجيه إلهي لسقراط بأن يتعقب أهل أثينا بما كانوا ~~يزعمونه لأنفسهم من علم؛ ليستوثق من صدق زعمهم، إلى آخر ما هو معروف عن حياة ذلك ~~الفيلسوف. # تلك كانت الوسيلة التي لجأ إليها الناس على مر العصور القديمة، كلما أرادوا أن يستطلعوا ~~الخبر عن أمر مقبل لا يزال مضمرا في ظلام الغيب؛ فلم يكن الأمر عندهم حسابا يحسب ~~بالأرقام، بل كان نبوءات تأتيهم من السماء على ألسنة المقربين إليها، وأخذت تلك الوسيلة ~~تتفرع فروعا كثيرة، اتخذت أشكالا منوعة؛ فقد لا يكون الناطق بالنبوءة إنسانا بعينه ~~يستخدم ألفاظ اللغة في التعبير، بل قد تأتي النبوءة من قراءة كف، أو من ضرب الرمل، أو ~~النظر إلى رواسب البن في فنجان القهوة، أو من صدفات البحر، أو أوراق اللعب، أو غير ذلك ~~من وسائل. # فإذا ما دار الزمان دوراته الكثيرة، حتى ولدت أيامه ولياليه للناس هذا الوليد الذي نسميه ~~ب «العصر الحاضر» بكل ما تعنيه هاتان اللقطتان من أبعاد وتفصيلات، الله أعلم باتساعها ~~ومداها، تبدل لنا معبد دلفي ليصبح معامل العلماء، وتبدلت راعية دلفي - أو كاهنته - لتصبح ~~هي الحاسب الإلكتروني؛ فلم تعد صورة المستقبل المجهول لتنكشف بوسائل العراف أو ~~العرافة، بل إنها لتخضع لأدق حساب يتم في أدق الأجهزة العلمية. ~~«الكمبيوتر» هو كاهن اليوم، وغرفة البحث العلمي هي معبده؛ فإذا تذكرنا جيدا وفي وضوح ~~لا يشوبه ظل من غموض، بأن القرار الذي نتخذه اليوم في شأن من شئون حياتنا، إنما هو الطريق ~~الذي سنمشي عليه بأقدامنا غدا؛ أعني أننا إذا ما أدركنا إدراكا قويا، أن ما نقرره اليوم ~~إنما هو نفسه سياسة الحياة العملية غدا، عرفنا بالتالي خطورته على حياتنا؛ فبمقدار ما نتقن ~~الحساب قبل القرار، يكون نجاح العملية غدا. # بعبارة أخرى، إن ms132 مستقبل الحياة موجودة بذوره في حياة اليوم الراهن، ومن شأن العلماء ~~والخبراء أن يتعقبوا هذه البذور ليحصوها، ثم ليستخرجوا منها نتائجها، غير ناسين العوامل ~~الخارجية التي قد تجيء لتؤثر في مجرى الأحداث؛ وعلى الحاسب الإلكتروني - بعد أن يتلقى ~~منا تفصيلات ما جمعناه - أن يخرج لنا صورة الغد. # لم تعد كهانة الكهان، بجميع صورها وأشكالها هي وسيلة الناس إلى رؤية المستقبل قبل ~~وقوعه، بل إن التنكر لهذه الكهانة في الأمور الخطيرة، هو جزء من تراثنا العظيم، المليء ~~بالمواقف العقلية التي تصلح أن تكون نماذج نهتدي بها نحن الخلف؛ فمن أمثلة ذلك في تراثنا ~~ما قاله أبو تمام حين قال قصيدته المشهورة البادئة بقوله: «السيف أصدق أنباء ~~من الكتب ...» فلقد هم الخليفة المعتصم برد جيوش الروم المعتدية، وأراد الروم أن ~~يثبطوا من عزيمته، فأرسلوا إليه من ينبئه بأن كتب رهبانهم جاء فيها أن مدينة عمورية ~~مستعصية على الغزو إلا في موسم التين والعنب، ولما كان هذا الموسم لا يزال بعيدا في شهور ~~العام، فأي أمل يرجوه المعتصم من محاولة فتحها في غير أوانها الصحيح، لكن الخليفة المعتصم ~~أصم أذنيه عن مثل هذا الهراء، وأيده في ذلك شاعره أبو تمام، فقال له بمطلع قصيدته إن ~~السيف أصدق خبرا من كتب الكهان. # وأما نحن الأحفاد، الوارثون لأمثال تلك المبادئ القوية، والتي تأبى على رجل مسئول أمام ~~عقله، أن ينصت إلى الكهانة بالمستقبل بكل صورها وفروعها، فعلينا أن نحافظ في حياتنا على هذه ~~الوقفة العقلانية في ذاتها، ثم نحور مضمونها، فلا نجعل الأمر مقصورا على السيف في رفض ~~الكهانة، بل نضيف إليه أجهزة العمران كذلك، فنقول ما معناه: إن الحاسب الإلكتروني أصدق ~~أنباء من كتب تعتمد في رؤية المستقبل على غير العلم ووسائله. # إن الذي ينقصنا في مصر، ليس هو العلماء القادرين (و«القادرين» هنا أصح من «القادرون» ~~فأرجو ألا يظن بها الخطأ) كلا ولا هو البحوث العلمية - في حالات كثيرة على الأقل - ولكن ~~الذي ينقصنا هو الأخذ بما يقوله هؤلاء العلماء في بحوثهم عن ms133 شئون حياتنا . غير أن الذي نلحظه ~~في هذا الصدد هو: علماء وبحوث علمية في ناحية، وعمل وتنفيذ في ناحية أخرى، كأننا نريد ~~عامدين أن نهمل أحكام العلم متروكة على الرفوف أو في بطون المخازن، لسبب لا يعلمه إلا ~~علام الغيوب. # بل إن الأمر عندنا أسوأ من ذلك حالا؛ إذ هو لا يقتصر على الفصام بين العلم والعمل، بحيث ~~يكون العلم في طريق، والعمل في طريق آخر، بل يضاف إلى هذا أن المشكلة الواحدة قد تتناولها ~~بالبحث أكثر من هيئة واحدة، فتخرج كل هيئة منها بتقرير علمي، ربما اتفق وربما اختلف مع ~~التقارير التي أخرجتها الجهات الأخرى المتنافسة، وكأننا لا نعيش في دولة واحدة، ويكفي ~~مثالا على ما أقوله، أنك إذا أردت أن تعرف: كم ستكون نسبة الأمية في مصر سنة كذا، أو أن ~~تعرف كم سيكون سكان مصر سنة كذا، لتقيم على هذه النسبة بحثك العلمي الذي تجريه، وجدت ~~أرقاما متفاوتة باختلاف الهيئات التي أصدرتها. # إن حياة الشعب في حقيقتها وحدة متكاملة تتشابك عناصرها؛ فإذا ما رأيتنا قد قسمنا ~~إدارتها والنظر في شئونها بين جهات متعددة، فما ذلك إلا لتيسير الفكر والعمل، على أن هذه ~~القسمة لا ينبغي أن تحجب عنا رؤية الوحدة المتشابكة الأطراف في صورة الحياة كما نحياها ~~بالفعل. وإذن فلا مناص - عند تدبير المستقبل ومشروعاته - من التعاون الوثيق بين هيئات البحث ~~العلمي بعضها مع بعض من جهة، ثم تنسيق الصلة بين هذه الهيئات كلها وبين القائمين على تخطيط ~~السياسة المستقبلية وتنفيذها، من جهة أخرى؛ فلم يعد يجوز لمن أراد الفكرة الصحيحة، أو ~~أراد الفعل الصحيح، أن يلتمسه عند كاهنة في معبد دلفي، بل لا بد من التماسه عند مجموعة ~~العلماء حيث تكون، أو قل إن «دلفي» القديمة قد بدلت - في عصرنا - شخصا بشخص ومكانا ~~بمكان. # | في حياتنا العقلية # كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر - التي كنت وما أزال عضوا فيها - قد أسندت إلي في ~~أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، الإشراف على مجلة «الثقافة» التي كانت تصدرها، وقبل ~~أن أقول ms134 ما أريد أن أقوله، لا بد لي من بضعة أسطر أحيط بها شبابنا علما بتلك اللجنة التي ~~لبثت عشرات من السنين دعامة قوية لنشر الثقافة الجادة في بلادنا؛ فلقد نشأت سنة 1914م، ~~وضمت بين أعضائها معظم الأعلام الذين لا يعرف شبابنا اليوم كثيرا عنهم، اللهم إلا ~~أسماءهم التي تلمع في سمائنا كالنجوم الساطعة، فلا يقوى على إخفائها كل ما «يتمتع» به ~~أبناء هذا الجيل - أو أغلبهم - من سطحية وضحالة: لطفي السيد، طه حسين، أحمد أمين، السنهوري، ~~محمد عوض ... إلخ إلخ، ولا تزال هذه اللجنة قائمة تجاهد، ولكم كانت تحسن وزارة الثقافة ~~صنيعا لو وقفت إلى جانبها بأية صورة من الصور، التي تتمكن فيها من المضي في رسالتها ~~المجيدة. # أقول كانت «اللجنة» - كما يسميها أعضاؤها - قد أسندت إلي لبضعة أعوام، الإشراف على ~~مجلتها «الثقافة»، وحدث عندئذ أن جاءتني قصيدة من شاعر مجهول، كتبها من زنزانته في السجن ~~(ولا أعلم ماذا كانت جريمته) فرأيت في القصيدة من قوة الشعور وصدقه ما دعاني إلى نشرها مع ~~التنبيه إلى ما انطوت عليه من نبض حيوي عجيب، فما كادت تلك القصيدة تجد طريقها إلى النور، ~~حتى ألحق بها ذلك الشاعر نفسه قصيدة ثانية، من المكان ذاته وبغزارة الشعور ذاتها، ثم مضت ~~شهور قليلة بعد ذلك، وإذا بصاحب الشعر يبعث إلي بخطاب تئن كلماته أنين المتوجع العاني؛ ~~فهو الآن طليق بعد خروجه من السجن، ولكنه لا يجد لقمة الخبز ولا خرقة الثياب، فهلا ~~أرسلنا له قليلا من المال مقابل شعره الذي نشرناه! وهلا جمعنا له شيئا من الصدقة ومن ~~ثيابنا القديمة لعلها أن تعين! # لم يكن مألوفا في تلك الأيام أن نكافئ شاعرا بالمال على شعره، وكانت «المقالات» وحدها ~~هي التي يؤجر أصحابها، ومع ذلك فقد كانت القيمة القصوى للمقالة هي جنيهان، وقد تهبط ~~القيمة إلى نصف جنيه، بحسب الكاتب ومكانته، فأرسلت إلى شاعر الزنزانة مكافأة «استثنائية» - ~~أظنها كانت جنيهين على القصيدتين - لكني طلبت منه الإسهام ب «مقالات»؛ فذلك أجدى عليه من ~~صدقة مؤقتة تنال من ms135 كرامته، وكنت وأنا أطلب منه ذلك، على يقين بأنه قادر على المشاركة ~~الفكرية، ما دامت له تلك القدرة على التعبير الشعري عن وجدانه الصادق. # ولم يلبث أن استجاب بمقالة أرسلها طامعا في مكافأة سريعة، وهنا كانت المفاجأة المذهلة؛ ~~فالمقالة التي بعث بها إلينا لم تزد على تخليط صبياني ساذج، من النوع الذي نعهده في ~~«إنشاء» التلاميذ الصغار، فقابلنا الموقف بالصمت، وإذا به يرسل إلينا مقالة أخرى لعلها ~~تصادف عندنا قبولا، ولكنها كانت أشد سذاجة وأمعن من سابقتها في القصور. # وكان موضع عجبي يومئذ هو هذا: كيف أمكن لإنسان واحد أن ينبض بمثل ما نبض به ذلك ~~الشاعر من وجدان حي، وأن تكون له القدرة على نظمه في لغة تناسبه، حتى إذا ما كشف ذلك ~~الإنسان نفسه عن عمقه الفكري، كان لا شيء، بل كان أسوأ من «لا شيء»؛ لأنه كشف عن نقص ~~وتشويه في كيانه العقلي؟! إنه سؤال لا يزال - منذ ذلك اليوم - مصدر حيرتي، ولا أظن أني وقعت ~~على جواب مقنع. # ومضت بعد ذلك بضع سنين، وأقامت وزارة الثقافة نظام التفرغ لرجال الأدب والفن (أظن ذلك ~~قد كان سنة 1957م)، وكان لي شرف اختياري عضوا في تلك اللجنة، التي لبثت مشاركا فيها إلى ~~أن «شرفني» أحد وزراء الثقافة - وكان من الجامعيين - بأن جعل أول مهامه في الوزارة إعادة ~~قوائم اللجان الفنية، فكان أن محا اسمي محوا، وليس ذلك هو ما أردت قوله، لكنني أردت أن ~~أقول إنني خلال مشاركتي في لجنة التفرغ، لاحظت أمرا ذكرني بشاعر الزنزانة الذي أجاد ~~الشعر دون أن يكون لديه وراء ذلك الشعر ذرة من ثقافة الأفكار، وذلك أن عددا كبيرا ممن ~~كانوا يطلبون التفرغ في أدب القصة القصيرة، لم يكن في رءوسهم وراء قدرتهم الأدبية تلك شيء ~~ملحوظ من ثقافة، لا ثقافة العصر ولا ثقافة العصور السوالف، ولست أذكر الآن ماذا كانت شواهدي ~~على هذا القصور فيهم، لكنها نتيجة وصلت إليها حينئذ، وأبقيتها في الذاكرة. # ذلك كله أرويه لأخلص منه إلى رأي أؤكده اليوم ms136 أكثر جدا مما تأكدت من صدقه فيما مضى، وهو ~~أن حياتنا الثقافية لها ظاهر يخفي وراءه ضحالة فكرية، وكدت أقول إنه يخفي وراءه جهالة ~~فاضحة، برغم التناقض البادي حين نقول إنها حياة «ثقافية» ثم نشفع هذا القول بوصف لتلك ~~الحياة «الثقافية» نزعم فيه أنها حياة تضمر جهالة وراء سطحها. # جهالة بماذا؟ قد تسألني، فأجيبك بأنها جهالة بمعظم مقومات المثقف الصحيح؛ فهي حياة توشك ~~أن تخلو من الإلمام بأهم القضايا الفكرية التي يطرحها عصرنا على أبنائه، كما توشك أن تخلو ~~خلوا تاما من معرفة الأركان الأساسية التي يتكون منها تراثنا، ابتداء من اللغة ~~ومفرداتها وطرائق تركيبها، وصعودا إلى الاتجاهات الفكرية الرئيسية التي شغل بها أسلافنا، ~~فإذا كان «المثقف» اليوم، لا هو يشارك عصره، ولا هو يلم بتاريخه الفكري، فماذا يكون عنده ~~بعد ذلك؟ نعم، إنه قادر على كتابة القصة حينا، وعلى نظم الشعر حينا، لكن حياتنا الثقافية ~~- لسوء الحظ - قد خلت من النقد القوي الناقد، الذي يفضح تلك الجهالة المستورة وراء ظاهر من ~~الإبداع الأدبي أو الفني. # ولست أريد بذلك أن أقول بأن كاتب القصة أو ناظم الشعر، مطالب بأن يسوق في أدبه ~~«أفكارا» بصورة مباشرة، كلا؛ فأنا على أتم إدراك بأن الأديب ينبغي له أن يكتم في صدره ~~أفكاره المباشرة، لا سيما إذا كانت أفكارا مجردة، لكنه يكتفي بإشعاعاتها فيما يكتبه؟ فإنه ~~ليقال عن الشاعر الإنجليزي «وردزروث» إنه كان من أغزر أبناء عصره ثقافة، وإن مكتبته الخاصة ~~كانت من أغنى المكتبات التي من نوعها، ومع ذلك فقد حرص أشد الحرص في شعره أن يجيء على صورة ~~ريفية بسيطة الخواطر بسيطة الألفاظ، لكن كانت لثقافته الغزيرة المكتومة انعكاساتها في ~~شعره. # ربما كان هذا الفقر الشنيع في جانب النقاد من هذا الجيل، نتيجة طبيعية للفقر الفكري ~~العام، ولا أدري كيف يكون طريق الخلاص من هذه الحلقة المفرغة: فقر فكري فاضح أدى إلى فقر ~~نقدي يناسبه، ثم يؤدي هذا الفقر النقدي بدوره إلى أن يظل الفقر الفكري العام مستورا وراء ~~غطاء يسمونه «الإبداع ms137»، لا، لست أدري كيف يكون الطريق إلى الخلاص من هذه الحلقة المفرغة، ~~لكن نتيجة ملحوظة من نتائجها هي أنك تكاد توقن بأنه إذا شاءت لنا الأقدار أن يظهر فينا كتاب ~~على شيء من العمق، فلن يجد ناقدا يعنى بقراءته ونقده، وكيف يستطيع حتى إذا أراد، وليست ~~لديه الأجهزة الفكرية التي يزن بها الثقافة العميقة؟ # وموقف كهذا يذكرني بما يقال إنه حدث في الحركة الثقافية في إنجلترا خلال العشرينيات؛ ~~فلقد كان النقاد عندهم آنئذ على قليل من الأناة والصبر، فلم يكونوا يطيقون معالجة ~~المستويات العليا من إنتاجهم، ولذلك كانوا كلما وجدوا أديبا يتعذر عليهم فهمه، حذفوه من ~~صحيفة الأعلام، وذلك ما صنعوه بالنسبة لشعر «ملتون»، فقد أهملوه بحجة أنه لم يكن يستحق ~~الاهتمام، مع أن حقيقة الأمر كانت أنهم لم يقووا على الارتفاع إلى ذروته، لكن الحركة ~~الثقافية هناك أقوى من أن يطول معها مثل هذا الإهمال المنطوي على جهل وضعف، فما مضت بعد ~~ذلك عشر سنوات حتى نهض نقاد قادرون ليحيوا «ملتون» مرة أخرى وليردوه إلى مكانته الرفيعة من ~~تاريخهم الأدبي. # المأساة في حياتنا العقلية كلها اليوم، في أنها قد انجرفت في تيار «الفهلوة»؛ فلم يعد ~~المهم هو أن تدقق النظر إذا فكرت، وأن تجيد الصياغة إذا كتبت، بل لم يعد المهم هو أن ~~تفكر وأن تكتب على الإطلاق، إذا أردت أن تحسب في عداد المفكرين والكتاب، بل يكفيك أن ~~تتقن فن الفهلوة التي تضعك في مساقط الضوء دون أن تكون قد مهدت لذلك بعمل فعلي تؤديه، ~~ومن فنون الفهلوة في هذا السبيل أن تجد طريقك إلى عضوية اللجان الثقافية العليا، وأن يوضع ~~اسمك مشرفا على هذا، ومراجعا لذاك، وأن تدلي برأيك فيما لم تقرأه، وأن تصطنع أمام الناس ~~وجاهة أصحاب النفوذ والسلطان؛ لأن القادر على النفع والضرر لا بد أن يكون في أعين الناس أي ~~شيء أراده لنفسه، بما في ذلك أن يكون «أديبا» أو «مفكرا» أو ما شاء من صفات. # لقد شاءت لي المصادفة صباح اليوم، أن أعيد ms138 قراءة مقدمة كنت قدمت بها كتابي «نحو فلسفة ~~علمية» الذي صدر سنة 1958م، وإذا بي أجد الأسطر الآتية في خاتمة المقدمة، وها أنا ذا ~~أعيدها، لأني ما زلت أرى صدقها: «لو حكمت على مصير هذا الكتاب، في ضوء ما قد أصاب إخوة له ~~سبقته إلى النشر، لقلت قولة يائس إنه لن يظفر من فرسان الفلسفة، الذين يجيدون في ميدان ~~الفروسية ركوب الجياد، ورماية الرمح، والمبارزة بالسيف، لن يظفر من هؤلاء بنظرة، لكنه رغم ~~ذلك سيكون منهم موضع حكم يصدرونه عليه؛ لأنهم فاضلون، بلغ بهم حبهم للفضيلة أن يكون لهم ~~الرأي فيما ليس يعلمون، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.» # هي أسطر كتبتها منذ عشرين عاما، وقصدت بها إلى تصوير الموقف العقلي بالنسبة لمجال ~~معين وجماعة معينة، لكنني أعيد نشرها اليوم؛ لأنها تصور حياتنا العقلية في كل مجال ~~وبالنسبة للكثرة الغالبة ممن أوصلتهم الفهلوة إلى مواضع الريادة. # | اللاعقل في حياتنا # أرسلت منذ بضعة أسابيع مقالة بعنوان «في حياتنا العقلية» ففوجئت حين رأيتها منشورة تحت ~~عنوان «في حياتنا العائلية»، كأنما عامل المطبعة الذي صف حروف العنوان لم يصدق أن تكون ~~لنا «حياة عقلية»، أو لعله لم يسمع قط قبل ذلك أن توصف حياة الإنسان أحيانا بأنها عقلية ~~في منحاها ومسارها، وظنها فلتة قلم من الكاتب، فتبرع بذلك التصحيح ليكون للعنوان عنده ~~معنى مفهوم، ولم يأبه أن تنعدم الصلة بين مادة المقالة وعنوانها. # ولقد سمعت من أستاذ لعلم النفس في إحدى جامعاتنا، بأنه أراد القيام ببحث علمي على ~~مجموعة من طلابه وطالباته، يقيس به ميولهم، فكان من بين ما طلبه من هؤلاء الطلبة والطالبات ~~أن يختار كل منهم كتابة موضوع إما في الحياة «الانفعالية» وإما في الحياة «العقلية»، ~~فلم يقدم منهم طالب واحد ولا طالبة واحدة على الكتابة عن الحياة العقلية، واختاروا جميعا ~~حياة الانفعالات. # تأيدت عندي الفكرة - من هذه الأمثلة وغيرها - بأن «العقل» وحياته مسكين في ديارنا، لا ~~نكاد نطيق أن يكون له ركن عندنا ليقيم فيه، لكنني حين شرفني ms139 الدكتور إبراهيم حلمي عبد ~~الرحمن ، بأن ضمني عضوا في لجنة يرأسها، عملها هو أن تخطط لمصر تخطيطا بعيد المدى ~~نسبيا، وجدت نفسي بين صحبة كريمة، أستمع إلى أفرادها، أو أقرأ لهم ما أعدوا من تقارير، ~~فلا أجد إلا تفكيرا عقليا من الطراز الرفيع، إنها مجموعة من الطراز الرفيع، إنها مجموعة ~~من العلماء، تخيلت أنها لو أمسكت زمام الريادة في أي بلد من بلاد العالم المتقدم، لكانت ~~هناك خير من يرسم الطريق، وهنا سألت نفسي فيما يشبه الثورة الغاضبة قائلا: إذا كان هؤلاء ~~هم رجالنا في التخطيط العلمي لشعبنا؛ تخطيطا يجسد العقل على صفحاته وبين سطوره وأرقامه، ~~فما الذي يصيبنا بعد ذلك في طريق حياتنا العملية؟ ما الذي ينقصنا ليطرد بنا السير إلى أمام، ~~ما دام هذا هو طرازنا في الجانب النظري؟ # ولم تكد تهدأ ثورتي حتى جاءني الجواب عن سؤالي يسعى، وذلك أني أخذت أتصفح أوراقا أمامي ~~بطريقة عفوية عابرة، فإذا عيني تقع في سطورها على حقائق تشد الانتباه، وكان مما قرأته أن ~~هيئة رسمية في سنة 1960م أقرت بادئ ذي بدء أن التصنيع هو الطريق الأساسي الوحيد الذي يخرج ~~البلاد من الضيق إلى السعة، ومن التخلف إلى التقدم، ثم وضعت للدولة تخطيطا تسير على ~~منهاجه ليحقق لها ذلك الهدف، ومضت خمسة عشر عاما بعد ذلك، وجاءت سنة 1975م، وقيس التقدم ~~الصناعي الذي تقدمته البلاد خلال تلك الفترة فإذا بالناتج المضاف عن طريق الصناعة تقل نسبته ~~سنة 1975م عنها سنة 1960م! ومعنى ذلك أن اتجاه السير في حياتنا العملية قد جاء مضادا لما ~~أراده لنا «العقل» وهو يرسم الطريق! فتصور مسافرا أراد السفر من القاهرة إلى الإسكندرية ~~فركب قطار الصعيد! # ومما وقعت عليه عيني أيضا في تلك القراءة العابرة للأوراق التي وجدتها أمامي، أن ~~مشروعات صناعية أقيمت لها المباني وجهزت الآلات، وإذا بها لا تجد المادة التي تصنع ~~(بتشديد النون)، فعملت بجزء منها وبقيت سائر الأجزاء معطلة، وهكذا، وهكذا أخذت أطالع ~~أمثلة عجيبة تدل أوضح الدلالة وأقواها، على أننا إذا ms140 كنا قد استطعنا بفضل رجالنا الممتازين ~~أن نستهدي العقل العلمي في رسم خطة السير، فلقد نكبنا برجال آخرين في دنيا التنفيذ، جعلوا ~~يخلطون الأمور بعضها ببعض: يقدمون غير المهم على المهم، وينافس بعضهم بعضا في مجالات ~~كانت تستدعي التعاون والتكامل، إلى آخر هذه القصة الطويلة الحزينة. # عندئذ ظهر لي تفسير المفارقة المؤسفة التي أثارت في النفس ثورتها وغضبها، وهي تتلخص في ~~هذا السؤال: كيف حدث أن كان بيننا رجال بأعلى الكفاءة العلمية والعقلية حين يخططون، ثم لم ~~نجد في الناتج الفعلي على أرض الواقع إلا نقيض ما أردناه وخططنا له؟ والحل الذي ظهر لي ~~واضحا هو أنه بينما ساد «العقل» عند مرحلة التفكير والتدبير، جاء «اللاعقل» بعد ذلك فسد ~~علينا منافذ الطريق. # إن هنالك فجوة تؤدي إلى انفصام، بين الصفوة التي تحتكم إلى «العقل» في استباق الرؤية، ~~وبين الكثرة الغالبة - وهي التي سيناط بها عملية التنفيذ والتطبيق - لأنها كثرة لا تؤمن ~~في أعماقها لا بالعقل ومنطقه ولا بما يترتب على العقل من علوم وصناعات، ومما يقوي نفور ~~الناس من العقل والعلم والإيمان بهما، فريق من أصحاب الكلمة المكتوبة أو الكلمة المنطوقة، ~~وسوست لهم الشياطين بأن العقل الإنساني عاجز، وبأن العلم تضليل، وراحت تبث هذه الدعوى ~~فتلقفها منهم الناس في لهفة؛ لأنها دعوة تضمن لهم الاسترخاء والراحة، في الوقت الذي يقتضي ~~منهم نشاط العقل كثيرا من اليقظة القلقة الواعية التي ترهق أعصابهم بغير داع. # لقد جاءتني فتاة تعمل في الصحافة عند أولى درجاتها، جاءت تطلب مني تعليقا على حديث ~~أملاه عليها علم من أعلام الفكر في حياتنا اليوم، وربما كان الأقرب إلى الصواب أن أقول ~~عنه إنه من أعلام «اللافكر» في حياتنا (أعني أنه يجعل الأولوية لوجدانه)؛ لأن الفكر بحكم ~~تعريفه هو «منطق العقل»، على حين أن الرجل ما ينفك يعلن بأعلى صوته أنه عدو للعقل ومنطقه، ~~أو هو على الأقل ضعيف الإيمان بقدرة ذلك العقل البشري في الكشف عن الحقائق، لماذا؟ لأن ~~صاحبنا قد وجد راحة نفسه في حياة الوجدان ms141 الصوفي، والرأي مجمع على أن هذا الوجدان الصوفي ~~إنما يقف من المنطق العقلي موقف النقيض من النقيض. # جاءت الصحفية الشابة تطلب مني تعليقا على حديث أملاه عليها صاحبنا، فوجدت الحديث - كما ~~توقعت له أن يكون - ضبابا يحجب الرؤية، وأوهاما يطير بها المهومون في متاهات ~~المجهول، كأننا قد فرغنا من دنيانا هذه دراسة وانتفاعا، فتركنا صخرها وترابها وماءها ~~وهواءها إلى «من يعنيهم الأمر»، ونفذنا نحن بأرواحنا إلى أطباق السماء! فماذا كان بوسعي أن ~~أقوله في التعليق على حديث كهذا؟ أأقول إنه يجمل بنا أولا أن نملأ الصوامع الخاوية ~~بالقمح ليأكل الناس؟ أأقول إن مثل هذا التهويم ينبغي له أن يرجأ إلى أن نفرغ من فلاحة ~~الأرض وتشغيل المصانع؟ إنني لو قلته - وهنا تكمن أعجب العجائب - كان أول من يشيح بوجهه ~~عني هم أولئك أنفسهم الذين يعوزهم القمح ليأكلوا، والثياب ليكتسوا! # سر المأساة - إذن - هو في الثغرة المحفورة في حياتنا بين من يمسك العقل بزمامهم في ~~ناحية، وبين من يهيمون في عماء اللاعقل في ناحية أخرى؛ فترى الأولين يرسمون ويخططون «كما ~~لو كان» الذين سيتولون التنفيذ مثلهم إيمانا بعقولهم، ولقد وضعت «كما لو كان» بين أقواس؛ ~~لألفت إليها الأنظار؛ لأنها كانت - لأهميتها - عنوانا على فلسفة بأسرها، أشاعها في الثلث ~~الأول من هذا القرن، فيلسوف ألماني (هو هانس فاينجر)، وخلاصتها أن الإنسان يصوغ لنفسه ~~أفكارا ويزعم لنفسه أنها أفكار تصور له الواقع كما هو واقع، فإذا هي في حقيقتها إنما ~~تصور له ما يحب هو أن يتصوره عن ذلك الواقع لينعم بالراحة، وحتى لو جاءته الخبرة الشخصية ~~صارخة ببطلان أفكاره تلك، فالأغلب أنه لا يعدل عنها إلى سواها، ولماذا يعدل عنها إذا كانت ~~مريحة وسواها يؤلمه ويشقيه؟ واختصارا فإن الإنسان بمثابة من يحبك لنفسه قصة لذيذة عن ~~العالم، يحياها «كما لو كان» العالم يجري على منوالها ... وسواء أصابت تلك الفلسفة في تحليل ~~الإنسان أم أخطأت، فهي بغير شك تصف شيئا مما يقع في حياتنا نحن، حين نبني من الأوهام صورة ~~نتشبث بها «كما ms142 لو كانت» هي صورة الواقع. # وإن علماء الإنسان ليتساءلون أحيانا: كيف أمكن للإنسان أن يكون له هذا العقل بذكائه الذي ~~اخترق به حجب السماء، وأن يكون له في الوقت نفسه تلك الأوهام العجيبة التي كثيرا ما يلوذ ~~بنعيمها فرارا من عذاب العقل وشقائه؟ كيف حدث هذا التناقض في تركيب الإنسان دون سائر ~~الحيوان؟ إن القط والكلب والسبع والنمر والغزالة والزرافة، كلها تحيا حياة ذات بعد ~~واحد مطرد منسجم لا تناقض فيه، وأما الإنسان فهو وحده المنكوب بالتمزق بين ذكاء العقل ~~وعماء العاطفة، فكان فيه العلم، وكانت فيه الخرافة في آن معا. # هي مسألة تستوقف النظر وتستحق التعليل، وكان من أحدث (وأغرب) ما قرأته في تفسيرها، ~~نظرية يطلق عليها اسم صاحبيها «بابيز» و«ماكلين» وهما من علماء البيولوجيا، وتقول النظرية ~~ما خلاصته أن المخ البشري مؤلف من ثلاثة أجزاء، تمثل ثلاثة أدوار من التطور، فأحدها لا ~~يزال يختزن حياة الزواحف، والثاني لا يزال يختزن حياة الثدييات الدنيا، والثالث هو ذلك الذي ~~يؤدي لنا وظائف العقل كما نعرفها وليس بين الطبقة الدنيا التي ترسب فيها الماضي القديم، ~~والطبقة العليا التي تؤدي الوظائف العقلية، لا تعاون ولا اتساق، وكذلك فهما كثيرا ما ~~يتعارضان، من الأولى تنبثق كل النزوات الانفعالية اللاعقلية، ومن الثانية يأتي الفكر ~~المنطقي، ثم اتسعت الهوة بين الجانبين، حين ظلت الأولى على حالها، وقفزت الثانية في ~~قدراتها تلك القفزات المعجزة التي عرفناها للعلوم في تاريخ الإنسانية الحديث. # ذلك ما يقال، وقد يكون من الهدى وقد يكون من الضلال، لكن الذي لا شك عندي فيه، هو أن في ~~حياتنا الفكرية شيئا منه؛ فقسم منا يفكر ويرسم ويخطط ويهدي، وقسم آخر يعبث بنزواته ~~فيما رسم الأول وخطط، فكان ما كان مما نرى من خطوات تتعثر على الطريق. # | ثقافة الغد # ثقافة المرء هي وجهة نظره. ومن ليس له وجهة نظر يقيس إليها مواقف الحياة فليس هو بذي ~~ثقافة حتى ولو كان أعلم علماء عصره في فرع من فروع العلم. # ليختلف المتحدثون عن «الثقافة» ما ms143 شاء لهم الاختلاف، فلا أظنك واجدا بين المعاني الهامة ~~التي تشغلنا هذه الأيام، معنى بلغ من السعة ومن السخاء، ما بلغه معنى «الثقافة»؛ فهو ~~يعطي كل من شاء ما شاء، دون أن يكون هناك المعيار الواحد الوحيد، الذي يمكن أن يحتكم ~~إليه المتحدثون، فيقضي في الأمر قضاء يميز بين الهدى والضلال. # وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا أملأ إنائي من هذا البحر الواسع كما يملأ الآخرون آنيتهم، ~~فيكون لي رأي في حياتنا الثقافية بمثل ما يكون لسواي؟ على أنني أوثر أن أمد نظرتي إلى ~~الغد، حتى إذا ما استرجعت شيئا من الماضي القريب أو البعيد، وإذا ما وجهت البصر إلى ~~ثقافتنا في حاضرها الراهن، كان ذلك كله من أجل تصور أتصوره لحياتنا الثقافية في غدها، ~~بحيث تجيء غنية بالجديد، لكنه الجديد الذي يصلح أن يكون خطوة على طريقنا نحن، لا على طريق ~~أحد سوانا؛ لأنه بغير هذه الاستمرارية في السير، محال أن يكون لحياتنا الثقافية «تاريخ» ~~تتصل حلقاته اتصالا يجعل كل حلقة منها مرحلة وسطى بين سابقة ولاحقة. # ثقافة المرء - عندي - هي وجهة نظره، ومن ليس ~~له وجهة نظر يقيس إليها مواقف الحياة وأحداثها، فليس هو بذي ثقافة، حتى ولو كان أعلم علماء ~~عصره في فرع من فروع العلم، وها هنا تأتي التفرقة الفاصلة بين العلم والثقافة؛ فالعلم ~~عام والثقافة خاصة؛ فلا فرق بين عالم مصري وعالم من قومية أخرى في الرياضة أو في ~~الكيمياء أو غيرهما من ميادين العلم، وأما ثقافة المصري - أي وجهة نظره - فيتحتم تحتيما أن ~~تختلف عن الثقافة عند سائر الأقوام، فإذا اتفق قومان في وجهة نظر واحدة إلى الكون وإلى ~~الحياة، قيل إنهما بمثابة الأخوة في الأسرة الواحدة، أو بمثابة أبناء العم والخال، وكذلك ~~إذا وجدت داخل قومية معينة أفرادا يتجهون بنظرهم الوجهة نفسها (بكل حذافيرها) التي تتميز ~~بها قومية أخرى، كان هؤلاء الأفراد محسوبين خطأ على قومهم، وكان الأولى لهم أن يحسبوا على ~~من يتجانسون معهم في وجهة النظر. # لا، ليس العلم هو الثقافة ms144؛ فالعلم مقيد بالواقع، وأما الثقافة فهي أقرب إلى المعيار ~~الذي نهتدي به إلى ما ينبغي أن يكون؛ ومن هنا لا تتدخل في ساحة العلم قيم الخير والشر أو ~~الجمال والقبح، وأما الثقافة فمعنية بتلك القيم من رأسها إلى القدمين، العلم عقل والثقافة ~~ذوق، العلم منهج يقام على مبادئ المنطق، والثقافة دفعات وجدان، ومع هذا التباين كله بين ~~العلم والثقافة، فهنالك ما يربطهما معا في كيان واحد، هو كيان الإنسان إذا شاء له الرحمن ~~أن يكون ذا كيان. # وشرح ذلك هو أن الإنسان - على ضوء ثقافته؛ أي على ضوء وجهة نظره - يختار لنفسه الأهداف، ~~ثم يلجأ إلى ما لديه من علم ليحقق تلك الأهداف؛ فالعلم هو الذي يرسم الخطوات الموصلة إلى ~~الهدف، وأما اختيار الهدف في ذاته، فلا شأن للعلم به؛ فقد تجد قوما يختارون لأنفسهم أن ~~تقام الصناعة على ملكية الأفراد، كما قد تجد قوما آخرين اختاروا لصناعتهم أن تقام على ~~ملكية الجماعة، وإلى هنا لا شأن للعلم بما اختاره أولئك أو هؤلاء، ثم يأتي العلم بعد ذلك ~~ليحقق لكل قوم هدفهم المختار؛ فالعلم شأنه أن يحلل ما بين يديه، لكنه لا يفاضل ولا ~~يختار، على حين أن الثقافة - بوجهة نظرها - لا تكاد تعرف التحليل؛ لأنها وجدان وذوق، يعرف ~~كيف يفاضل ويختار. # وحركات التغيير والتطوير، إنما تنبثق من الثقافة ولا تنبثق من العلم؛ لأن تلك الحركات ~~(بما في ذلك الثورات) ما هي إلا رغبة في تغيير حالة قائمة لتصبح على صورة أخرى غير ~~صورتها الراهنة، والرغبة تنبع من الجانب الوجداني في الإنسان، وأما العلم فهو وسيلتها إلى ~~التحقيق. # ونعود إلى ما بدأنا به، وهو أن ثقافة المرء هي وجهة نظره، وأرجوك أن تقف متمهلا عند كلمة ~~«وجهة»؛ فوجهة النظر هي «الاتجاه» الذي نرسل البصر في طريقه، ولو راجعت الحياة الثقافية في ~~مصر، خلال القرن الثامن عشر؛ أي قبيل أن يصل إليها نابليون بحملته العسكرية العلمية معا، ~~لوجدتها متجهة ببصرها نحو خزائن الكتب الموروثة، تحفظ ما فيها وتشرحه وتضع له الهوامش ms145؛ فكان ~~«العلماء» هم الحافظون لما هو مذكور في صفحات تلك الكتب، مع تفاوتهم بعد ذلك في درجة فهمها ~~واستيعابها، ومعنى هذا هو أن «ثقافة» القوم عندئذ؛ أي وجهة «نظرهم» هي العودة إلى ~~الماضي. # ثم أخذت تلك الوجهة تتغير في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، بأن مدت البصر عبر ~~البحر إلى أوروبا، لا لتضع شيئا جديدا مكان شيء قديم، بل لتضيف جديدا إلى قديم، ولو ~~أخذنا رفاعة الطهطاوي علامة على تلك المرحلة، وجدنا الاتجاه الثقافي هو المجاورة بين قديم ~~موروث يحقق ويعاد نشره، وجديد وافد من أوروبا، في صورة كتب تترجم إلى اللغة ~~العربية. # ومضت بنا الأيام إلى الربع الأخير من القرن الماضي، وهو عصر الشيخ محمد عبده، فإذا بصراع ~~ينشأ بين ثقافتين؛ أي بين وجهتين للنظر، أما أولاهما فهي التي اختارها محمد عبده، ومؤداها ~~أن يلم بما يدور في أوروبا من فكر، لا ليأخذه، بل ليرد عليه إذا وجده ماسا بعقيدته ~~ووجهة نظره، وأما الثانية فهي التي أوجزها الخديوي اسماعيل بقوله إنه يريد لمصر أن تكون ~~قطعة من أوروبا، وعلى هذا النموذج جاءت الثقافة عند نفر من أبناء تلك الفترة. # ومرة أخرى يمضي بنا الزمن إلى العشرات الأربع الأولى من هذا القرن العشرين، فإذا نحن في ~~حركة عارمة، تبلور للثقافة في مصر (وإذا قلنا ذلك فكأننا نتحدث عن الثقافة العربية كلها، لا ~~نستثني إلا شذرات تناثرت هنا وهناك) أقول إنها كانت حركة عارمة، بلورت للوطن العربي وجهة ~~نظره الجديدة، التي قوامها محاولة التأليف في صيغة واحدة، بين ما هو وافد من أوروبا وما هو ~~موروث أسلافنا. وكان أبطال تلك الحركة هم الزمرة المباركة: قاسم أمين، لطفي السيد، طه حسين، ~~العقاد، المازني، هيكل، توفيق الحكيم ... وكان ذلك الدمج بين المصدرين في وجهة نظر واحدة، هو ~~نفسه الخلفية الثقافية التي ولدت إبداعا في الفكر والأدب والفن؛ أعني أنها هي التي أنتجت ~~الوليد الجديد الذي لا هو من الموروث وحده، ولا هو من أوروبا وحدها، وها هنا ظهرت القصة ~~العربية، والمسرحية العربية ms146، والفكر العربي في شتى الميادين، وحتى أولئك الذين اختاروا ~~موضوعاتهم من الموروث، لم يكتفوا بمجرد النقل والمحاكاة، بل وضعوا ذلك الموروث في إطار ~~أوروبي جديد، كالذي نراه في النقد الأدبي عند أعلامه، أو الذي نراه في «الإسلاميات» التي ~~صيغت في شكل عصري جديد. # ويخيل إلي أن لجنة التأليف والترجمة والنشر، عندما أنشئت سنة 1914م، إنما كانت ~~تلخص بهذا الاسم دستورنا الثقافي الجديد، وهو أن تنقل أوروبا إلينا بالترجمة، وأن نعيد ~~تراث الأقدمين ب «النشر» (كان المقصود بكلمة «النشر» في هذا العنوان، هو نشر التراث)، وأن ~~نستلهم هذا وذاك في «تأليف» مبدع، يحمل طابعنا الأصيل في صورة عصرية ثم تسير بنا الأيام ~~إلى المرحلة الأخيرة التي نجتازها في يومنا هذا؛ فللأسف ما تعددت بنا الثقافات، ولم تستطع ~~جمع الروافد في تيار واحد، نقول عنه إنه ثقافتنا الراهنة. # ففينا من يحمل لواء الموروث، والموروث وحده، مستنزلا لعنات السماء على من يحمل لواء ~~غير هذا اللواء، وفينا من يدعو إلى ما هو أوروبي أمريكي (ولنلحظ هنا أن أمريكا لم تدخل ~~ساحتنا الثقافية إلا في الأربعينيات وما بعدها) ثم فينا - وتلك هي الأكثرية العظمى - من ~~جهل التراث وجهل الأوروبي الأمريكي جميعا، فاحتمى بما يسمونه «إبداعا» من قصة ومسرحية ~~وشعر وفنون، فجاء في أغلب إبداعهم خاويا ضحلا؛ إذ من أين يأتيه العمق إذا انسدت دونه ~~أبواب الموروث والعصري معا؟ # وعلى ضوء هذا الذي عرضناه مسرعين، نسأل عن ثقافة الغد، كيف نريدها أن تكون؟ وأحسب أن ~~الجواب قد بات واضحا، وهو أن نمضي بكل قوانا في مطالعة موروثنا مطالعة الغائصين إلى ~~أغواره، وفي مطالعة المعاصرين من بناة الحضارة الجديدة، مطالعة الباحثين عن روحها وصميمها، ~~وإلى هنا نكون قد هيأنا المناخ الذي هو قمين أن ينتج لنا المبدعين، على أننا قد نستطيع رسم ~~خطة تنفق الدولة على تنفيذها، فترسمها في إحياء تراثنا، وفي ترجمة المعاصرين، لكننا لا ~~نستطيع بأي معنى من المعاني أن نخطط للإبداع، فلنتركه حرا للمواهب الحرة. لقد كانت لنا ~~وجهة نظر تجسدت في رفاعة ms147 الطهطاوي، ووجهة نظر بعدها تمثلت في محمد عبده، ووجهة نظر ~~ثالثة حملها وأشاعها رجال العشرينيات من هذا القرن بصفة خاصة، وهي وجهات اختلف بعضها عن ~~بعض لاختلاف العصر وظروفه، أما اليوم فقد غابت عنا وجهة النظر التي يمكن أن نعرف بها ~~وتعرف بنا، والمطلوب من ثقافة الغد أن تعيد لنا ما غاب عنا، لنتجانس في «الذوق» فنتجانس ~~في الرفض والقبول. # | رؤية يغشاها الضباب # إني أتهم حياتنا الفكرية الراهنة بكثير جدا من الزيف، وربما جاز لنا أن نستثني من هذا ~~الحكم حالات هي أقل من القليل، ليس كاتب هذه السطور حالة منها، وإني لأقولها قبل أن يرتد ~~سهمي إلى نحري بيد غير يدي، والزيف الذي أعنيه هنا هو أننا نستحل لأنفسنا أن نتحدث - وفي ~~حماس شديد الاشتعال أحيانا - عما لا نعرفه معرفة مباشرة، بل عرفناه إشاعة عن إشاعة عن ~~إشاعة. # ولا يقتصر هذا الزيف الفكري فينا على أمور تواقة لا تقدم حياتنا ولا تؤخرها، بل إنه ~~ليتناول أضخم المسائل الحضارية، التي يترتب على رأينا فيها توجيه الحياة كلها في هذا ~~الاتجاه أو في ذاك؛ فقد يتصدى عالم جليل من علمائنا إلى مذهب فكري سمع عنه بين المذاهب ~~السائدة في ثقافة الغرب، فيسلخه سلخا بسهام النقد، حتى إذا ما بحثت أمر هذا العالم، وجدته ~~لم يقرأ كتابا واحدا لمؤلف واحد ممن ينتمون إلى ذلك المذهب الذي جعله هدفا لسهامه، بل ~~قد يتصدى كاتب عظيم من كتابنا للحضارة الغربية العصرية كلها بالطعن والتجريح، حتى إذا ~~ما أتيح لك أن تعلم عن مقومات ذلك الكاتب علما كافيا، وجدته بريئا من كل معرفة صحيحة ~~بأي ركن من أركان الحضارة التي يغرقها باتهامه؛ فلا هو يعرف من علمها شيئا إلا إشاعة، ولا ~~هو ذو صلة بفن من فنونها إلا إشاعة، ولا هو ملم بكثير أو قليل مما تموج به حياتها من ~~تيارات ثقافية زاخرة بما تحمله أمواجها. # وكذلك قل شيئا كهذا في كثيرين ممن تمتلئ أشداقهم إشادة بالحضارة العربية وبالثقافة ~~العربية، وإن شئت فاسأل من تصادفه ms148 في طريقك من هؤلاء، عن كاتب واحد يعجبه، فإذا ذكر لك ~~اسمه - وهو يستطيع ذلك لأننا نجيد حفظ الأسماء - فاسأله ماذا قرأ له حتى أعجبه، والأرجح ~~جدا أنك لن تظفر منه بشيء لأنه لم يقرأ شيئا. # إنه ليصعب جدا على من ليس له خبرة مباشرة بما يتحدث عنه، أن يصدر عليه الأحكام ~~الصحيحة، وأسوق مثلا لذلك شيئا طريفا قرأته منذ قريب، نقلا عن كاتب من الأرجنتين أصبحت ~~له شهرته، هو جورجي بورجيس؛ فلقد كتب «بورجيس» عن الفيلسوف العربي العظيم «ابن رشد» مقطوعة ~~جعل عنوانها «بحث ابن رشد» ورد فيها أن بين الصعوبات التي اعترضت ابن رشد في شرحه لفلسفة ~~أرسطو، أنه وهو يقرأ الترجمة العربية لتلك الفلسفة، فإنما كان في الحقيقة يقرأ ترجمة ~~لترجمة؛ فالأصل يوناني، ترجم إلى السريانية أولا، ثم ترجمت السريانية إلى العربية، وعلى ~~أية حال، فهو عندما تناول ما كتبه أرسطو عن «فن الشعر» صادفته لقطتان، هما لقطة «تراجيديا» ~~ولقطة «كوميديا»، ولم يكن له بالطبع سابق علم بالمسرح ولا بأي شيء مما يتصل بالمسرح، فكان ~~من الطبيعي ألا يفهم ما تعنيه هاتان اللقطتان، إلا ما يمكن أن توحي إليه به ثقافته العربية؛ ~~ولذلك فقد فهم «التراجيديا» على أنها شعر المديح، وفهم «الكوميديا» على أنها شعر ~~الهجاء. # ولم يكد «بورجيس» يذكر هذه اللمحة عن ابن رشد حتى استدرك قائلا لنفسه: إنه لا يجوز لي ~~توجيه اللوم إلى الفيلسوف العربي؛ لأن حاله لم تكن أسوأ من حالي وأنا أكتب عنه؛ فكيف يعقل ~~أن أعرف شيئا صحيحا عن ابن رشد، مع أن كل ما بين يدي عنه هو قصاصات مبتورة جمعتها مما ~~كتبه «رينان» و«ألين» و«أسين بلاسيوس»؟ # فسرعان ما قلت لنفسي - أنا كاتب هذه السطور - ولا أنت يا نفسي بأحسن حالا منهما معا؛ ~~فإذا كان ابن رشد قد فهم مفهومات يونانية من خلال ثقافته العربية، فظن التراجيديا شعر ~~المديح، والكوميديا شعر الهجاء؛ أعني أن حواجز أقيمت بينه وبين الأصل فلم يفهمه على وجهه ~~الصحيح، ثم إذا كان «جورجي ms149 بورجيس» يجهل العربية فقرأ عن ابن رشد فيما كتبه عنه مؤلف ~~فرنسي هو «رينان» ومؤلف إنجليزي هو «ألين»، ومؤلف إسباني هو «بلاسيوس»، فأقيمت الحواجز ~~كذلك بينه وبين فهمه على الوجه الصحيح، فانظر إلى حالك الآن - هكذا خاطبت نفسي - تجدك ~~تقرأ عن بورجيس في مجلة إنجليزية تعلق على كتاب إنجليزي كتبه مؤلفه عن ذلك الكاتب ~~الأرجنتيني، فكم حاجز يحول بينك وبين الأصل الذي تقرأ عنه؟ إنها ظلال مشتقة من ظلال، هي ~~بدورها منعكسة عن ظلال. # إنه عندما انتقل الجاحظ من البصرة إلى بغداد، وكان الخليفة المأمون قد أنشأ ما يسمى ~~«بيت الحكمة» لنقل الفكر اليوناني إلى العربية - مرورا بالسريانية - وقف - أعني الجاحظ - ~~من هذه الحركة الثقافية موقف المتشكك (أو هكذا يخيل إلي)؛ ~~لأنه كتب في المجلد الأول من كتابه «الحيوان» ما يوحي ~~بذلك التشكك؛ إذ كان بين ما قاله: «... إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص ~~معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفيها حقوقها، ~~ويؤدي الأمانة فيها ... وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها، ~~وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه.» # ولقد كان الجاحظ ممن سرت روح الثقافة اليونانية المنقولة في كتاباته، لكن ذلك لم يمنعه ~~من التعبير عن قلقه بسبب الحواجز الحائلة بينه وبين الأصل المنقول. # وليس الزيف الذي أعنيه في حياتنا الثقافية اليوم هو بالضبط من هذا القبيل؛ أي إنه ليس من ~~قبيل القلق الذي تملك الجاحظ إزاء عملية الترجمة، وما لا بد أن تؤدي إليه من تحريف ~~للأصل عن معانيه الحقيقية؛ لأن مثل هذا الموقف لا زيف فيه؛ فهو الصدق كله والأمانة كلها، ~~وإنما الزيف الذي أعنيه هو ألا نفهم وندعي الفهم، وألا نقرأ الأصول ولا ترجماتها بل نكتفي ~~بخطف الإشاعات التي تقال عن تلك الأصول أو ترجماتها، ثم ندعي العلم وكأننا ألممنا بالموضوع ~~من ينابيعه، وأن نلخص شيئا قرأناه وندعي تأليفه وابتكاره، حتى لقد ضاعت المعالم الفارقة ~~بين من يعلمون ومن لا يعلمون. # ولأن الواحد منا يعرف بينه وبين ms150 نفسه أنه زائف، عرف القليل وتظاهر أمام الناس بالكثير، ~~ورأى الظل وزعم للناس أنه قد رأى صاحب الظل وأمسكه بكلتا يديه، أقول إنه لما كان الزائف ~~يعرف بينه وبين نفسه أنه زائف تراه لا يجاهد في سبيل فكرة يعرضها، وفيم الجهاد وهي ليست ~~فكرته؟ فأقل نفخة هواء تلفحه بالخطر، تكفيه ليلقي بالفكرة في الوحل ليفر منها ومن تبعاتها، ~~فهو كمن يبعثر مالا مسروقا لم ينضح جسده عرقا في سبيل كسبه، أو كمن يسكن دارا لا ~~يملكها فلا يؤرقه أن يحدث لها ما يحدث من عوامل الدمار. # ليس الفكر الذي نحياه فكرنا، بل هو مستعار من سوانا، فإما هو فكر منقول عبر المكان من ~~مصادره الغربية، وإما هو فكر منقول عبر الزمان من أسلافنا، ولا عيب في ذلك كله؛ لأن ~~الحضارة اليوم ليست من صنعنا، فلا علينا أن نأخذ عنها ما نأخذه، ولأننا في الوقت نفسه أصحاب ~~إرث ورثناه، فلا علينا أيضا إذا اغترفنا من ميراثنا، لكن العيب كل العيب، هو في عملية ~~الخطف السريع، الذي تخطف به من هنا وهناك، في غير دراسة أمينة متأنية صابرة ثم تأخذنا خيلاء ~~من يعرفون! # وبودي لو ذكرت للقارئ أمثلة حية مما صادفته في هذا الصدد، ليرى كم بلغت الخيانة الثقافية ~~ببعضنا، برغم أنهم في حسابنا من القادة الكبار، لكني أتعمد ألا أذكر الأسماء ولا الصفات ~~التي تنم عن أصحابها الكبار؛ لأن المهم عندي الآن هو تصوير المناخ الفكري العام الذي ~~نتنفسه، والذي سرعان ما يؤدي بنا إلى مواقف الجبناء. # مرة ثانية أقولها: ليس الذي أعيبه هو النقل الثقافي في حد ذاته؛ لأنه لا مناص لنا من هذا ~~النقل في ظروفنا الحضارية الراهنة؛ فالمذاهب السياسية منقولة، وأنظمة الحكم منقولة، والهيكل ~~التعليمي منقول، وأشكال الأدب والفن منقولة، فضلا عن شتى فروع العلوم، فهي بالطبع ~~منقولة، لا، ليس الذي أعيبه هو النقل في ذاته، بل الذي أعيبه هو النقل المخطوف، وهو الفهم ~~السطحي المنقول، وهو انتحال الأصالة فيما ننقله، وهو رؤية الأصل المنقول من خلال الحجب ms151 ~~المغلفة بالضباب. # لقد ظلت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تنقل عن أوروبا حتى منتصف القرن الماضي، وقبل ~~ذلك المنتصف كادت أمريكا ألا تفرز من عندها فكرة واحدة، لكنهم كانوا ينقلون ويعلنون عن ~~نقلهم، ثم هم كانوا ينقلون بعد دراسة تتعمق ما ينقلونه، إلى أن صاح فيهم «إمرسون» صيحته ~~المشهورة بخطاب قصير ألقاه في إحدى جامعاتهم، وجعل عنوانه «الباحث الأمريكي»، مريدا بذلك ~~أنه قد آن الأوان للأمريكي أن يقف على قدميه، وأن يكون له أبحاثه المبتكرة الخاصة ~~به. # أما نحن فنخطف ذلك الخطف السريع وندعي لأنفسنا العلم المبتكر، فحتى لو صاح فينا رجل مثل ~~إمرسون، قائلا لنا إنه قد آن الأوان للمصري أن يقف على قدميه، لما استجاب أحد لصيحته؛ لأنه ~~لو استجاب كان بمثابة من يفضح نفسه ويكشف حقيقة موقفه، وليس في حاجة هنا إلى القول بأن ~~الخطف من أسلافنا هو في الخطيئة كالخطف من الغرباء، بل ربما كان التشويه في الحالة الأولى ~~أمعن في الضلال. # وأول ما ينبغي فعله هو أن يفصح الزائف - لنفسه على الأقل - عن مدى زيفه قبل أن يستحكم ~~منه الغرور، وستأتي الخطوة التالية بعد ذلك تلقاء نفسها، وهي أن يظهر للمصري المعاصر ثقافة، ~~يكون من حقه أن ينشرها في الناس موسومة بالمصرية الأصلية. # | الولاء الأبكم # لقد حدث لي أن كتبت مقالة نقدية فور ظهور «الملك أوديب» لأستاذنا توفيق الحكيم، جاءت ~~تعليقا على مقدمة قدم بها أديبنا مسرحيته تلك، وهي تقع في أكثر من خمسين صفحة، أثار ~~فيها سؤالا هو: لماذا لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟ (على غرار ما نقلوه من ~~فلسفتهم وعلومهم) ثم حاول الجواب، عارضا في سياق محاولته أكثر من رأي ومتناولا كل رأي ~~بالتحليل الذي ينتهي به إلى رفض أو إلى قبول. وللقارئ أن يرجع إلى تلك المقدمة الممتازة ~~إذا أراد الفائدة كاملة. # غير أنني أبديت في مقالتي التي أشرت إليها رأيا آخر، فقلت: «إن الأدب المسرحي - والقصصي ~~- أيضا يستحيل قيامه بغير التفات إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها من بعض، فلو نشأ ms152 الكاتب ~~في جو ثقافي لا يعترف للأفراد بوجودهم، ويطمسهم جميعا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، ~~لم يكن أمامه سبيل إلى تصوير هؤلاء الأفراد والشرق كله - في ثقافاته القديمة - قد طمس الفرد ~~طمسا لم يترك له مجالا يتنفس فيه؛ فالأفراد في الثقافة الهندية كلهم «مايا» - أي إنهم ~~وهم لا وجود له في دنيا الحقائق؛ إذ الموجود الحق هو الكون مأخوذا بمجموعه الكلي، دون ~~أن يكون فيه تعدد للأفراد أو تكثر للمفردات، وقل مثل ذلك في الصين، وفي كل بلاد الشرق ~~بصفة عامة.» # هذا ما كنت قلته تعليقا على مقدمة «الملك أوديب»، وإني وإن كنت أراه اليوم مشوبا ~~بالمبالغة، فما زلت أعتقد في جوهره وأساسه، وحتى إن رأينا الديانة الإسلامية قد أبرزت ~~الأفراد وجعلت الفرد مسئولا عما قدمته يداه لا يشفع له أن يكون قد تلقى التوجيه من ~~والد أو من صاحب؛ فإن ذلك يدل على قيام الصفة التي نزعم قيامها ولا ينفيها؛ لأنه لو كانت ~~حقيقة الفرد معترفا بها بطبيعة الحال، لما احتاج الأمر إلى كل هذا التوكيد من جانب الدين، ~~إنها سمة الشعوب ذوات الحضارات العريقة كلها، أن تخرج من خبراتها طوال القرون، بأهمية ~~التكتل القومي؛ لأنه كالدرع أمام الأعداء. وليس في ذلك ما يعاب شريطة ألا يبالغ فيه ~~مبالغة تكتم الأصوات الفردية التي تنقد بغية الإصلاح، ولقد لحظت أثناء السنتين ~~الأخيرتين، أن بعض الكتاب في أوروبا يطرحون سؤالا عن الصين بعد وفاة زعيمها ماو تسي ~~تونج، وبعد الذي حدث هناك من ظهور فئة ثورية متطرفة، سرعان ما أسكتها الرأي العام حتى قبل ~~أن تتصدى لها الحكومة، وأما السؤال الذي طرحه هؤلاء الكتاب فهو: هل يمكن لشعب قديم ~~التاريخ كالشعب الصيني أن يبقى طويلا على روحه الثورية؟ أي إن عراقة التاريخ من شأنها أن ~~تنشئ عند الناس رغبة في الحياة المستقرة؛ ولذلك فقلما تثور، وهي إذا ثارت فسرعان ما ~~تتمنى العودة إلى استقرارها؛ ومن هذه الزاوية يتوقع هؤلاء الكتاب لثورة الصين أن ~~تكتفي بما حققته للشعب لكي تنعم بالحياة ms153 المستقرة من جديد. # وفي استعراضهم للإنتاج الفكري في الصين خلال ما انقضى من سنوات القرن العشرين يلخصون ~~الحركة الفكرية هناك في محاولة الجمع بين هدفين متعارضين - تعارضا ظاهريا على الأقل - ~~وهما: أن يتماسك المجموع في تجانس يبلغ عندهم مبلغ التقديس، وأن يتحرر الأفراد من أغلال ~~ذلك التجانس في وقت واحد، وفي هذا السبيل ظهرت في الصين مؤلفات هامة يذكرونها كما تذكر ~~الأعلام البارزة في فلاة متشابهة الرمال، ولعل أهم ما تشترك فيه تلك المؤلفات، هو أن ~~شقاء الإنسان في حياته الدنيا إنما ينشأ عن إيجاد الفواصل حيث لا فواصل؛ فلماذا نفصل بين ~~نفس ونفس وكلنا من نفس واحدة؟ # ولماذا نقسم الناس أجناسا وطبقات؟ لماذا نقسم الأعمال بين ذكور وإناث كأنما يحتم ~~اختلاف الفريقين اختلافا في نوع العمل وفي التمتع بالحقوق؟ ولماذا تفصل الإنسانية ~~شعوبا، والشعب فئات، والفئة إلى فريق يملك وفريق لا يملك؟ فسعادة البشر مرهونة بالتجانس ~~الذي يطمس الفوارق ويلغي الفواصل؛ لكن هؤلاء المؤلفين أنفسهم، وفي الكتب نفسها يلتمسون في ~~هذا «التجانس» العظيم - كما أطلق عليه أحدهم - طريقا لتعبير الفرد عن ذاته ~~المستقلة. # وربما كانت حياتنا الثقافية في القرن العشرين، منطوية على تعارض كالذي رأينا ثقافة الصين ~~المعاصرة منطوية عليه، بمعنى أن نكون قد استهدفنا غرضين متعارضين: تمايز فردي كالذي أراده ~~لنا لطفي السيد وطه حسين والعقاد، وتجانس يغمس ذلك التميز، كالذي أرادته لنا ثقافة مغروزة ~~في عروقنا، ولم نبذل جهدا نحو إزالة التعارض بين الهدفين. # والتعارض يزول لو أفسحنا صدورنا للأصوات الناقدة، وجعلنا صلاحية المواطن الصالح في إفصاحه ~~عما في نفسه، لا في خرس اللسان. # حدث في النصف الأول من الخمسينيات - أي بعد قيام الثورة بقليل إذا صدقتني الذاكرة في ~~التواريخ - أن اجتمعت لجنة كنت أحد أعضائها، وكل إليها أن تضع مقررا دراسيا يستهدف ~~خلق «المواطن الصالح»؛ فوجدنا أمامنا منذ بداية الجلسة الأولى مذكرة - لم أكن أعرف من الذي ~~أعدها - لتكون أساسا لسيرنا في العمل، وأذكر أن أول سطر فيها كان ~~تعريفا ل «المواطن الصالح» من وجهة النظر ms154 التي ~~أعدت بها المذكرة، وكان مدار ذلك التعريف هو أن يكون المواطن الصالح مستجيبا مطاوعا ~~متجانسا في فكره وسلوكه مع مجموعة المواطنين؛ أي أن يكون أداة تنفيذ لما يراد له أن ~~يفعله. # طلبت الكلمة، وأخذت أبين للحاضرين؛ أولا أن مثل ذلك التعريف دائري ولا يعني شيئا؛ ~~لأنه بمثابة أن يقول إن المواطن الصالح هو الذي يفكر ويفعل كما يفكر ويفعل المواطنون ~~الصالحون؛ وثانيا - وهي النقطة الهامة فيما رأيت عندئذ - أن مثل ذلك التعريف يصادر على ~~خروج الأفراد بأفكار جديدة أو أفعال مبتكرة؛ ذلك لأن التجانس إذا كان تاما بين ~~المواطنين، امتنع علينا صوت الناقد، وهو صوت أراه ~~عاملا - أقوى عامل - على تصحيح المسار أولا ~~فأولا، بشرط أن تظل طاعة الناقد للنظم القائمة كما هي، إلى أن يتاح له بنقده أن يغير ~~تلك النظم بالطرق المشروعة في مجتمعه، لكن الحاضرين رفضوا اقتراحي بالتعديل، بحجة أن ولاء ~~المواطن لوطنه يقتضي التجانس التام، حتى ولو ترتب على تجانسه ذاك مع غيره شيء من ~~التضحية. # بعبارة أخرى، كان المراد هو أن يكون ولاء الفرد لوطنه ولاء مفتوح الأذنين أبكم اللسان، ~~وعندي أنه حين يصاب الولاء بالبكم؛ أعني حين لا يجرؤ على السؤال، فسرعان ما يصبح قناعا ~~زائفا، يخفي وراءه جحافل السوس وهي تنخر في اللباب، وأحسبني قد استشهدت على المعنى الحقيقي ~~لولاء المواطن نحو وطنه وقوانينه ونظمه، أقول إنني قد استشهدت على ذلك أكثر من مرة في ~~مناسبات سابقة بموقف سقراط، ومع ذلك فلن أمل من تكرار هذا المثل؛ لأنه موقف يمثل ~~الولاء الوطني في أسمى صوره، وذلك أن سقراط، وقد أخذ يحرك عقول الناس في أثينا، ~~بمحاورتهم أينما وجدهم، ومن أي فئة صادفهم، لعله يوقظهم من سباتهم، فيحرروا أنفسهم من ~~استبداد عاداتهم المألوفة بعقولهم استبدادا أصابها بما يشبه الشلل؛ حوكم بتهمة الإثارة ~~وبث الفتنة في صدور كانت آمنة، ثم حكم عليه بالموت بعد فترة يقضيها في السجن انتظارا ~~لموسم ديني محرم أن ينقضي؛ فمهد له نفر من تلاميذه المخلصين طريق الفرار من سجنه ms155 ~~إلى خارج الحدود لينجو بنفسه من عقوبة ظالمة؛ فما إن عرضوا عليه خطتهم، حتى أخذ في ~~محاورتهم عن واجب المواطن الصالح تجاه أمته وقوانينها، محاورة هي من أروع ما جرى به لسان ~~في تاريخ البشر، قائلا ما خلاصته أن من حق المواطن أن ينقد قوانين الدولة ونظمها، ولكن ~~عليه أن يظل مطيعا لها إلى أن تتغير بالإقناع والاقتناع، أما والقانون الأثيني لم ~~يتغير منه شيء بعد محاولاته، وهو هو القانون الذي على نصوصه حكم عليه بالسجن فالموت، ~~فليس من حقه أن يفر من السجن أو أن يهرب من الموت. # هذا الفاصل الذي يفرق بين الحالتين: حالة النقد مع طاعة النظام المنقود إلى أن ~~يتغير بالطريق المشروع، وحالة النقد المصحوب بالعصيان دون إقناع، أقول إن هذا الفاصل ~~كثيرا ما تفوتنا رؤيته، فنحاسب الناقد على نقده، باعتباره خروجا على الإجماع، مع أننا لو ~~تأملنا قليلا، لرأينا التناقض الكامن في قولنا «خروج على الإجماع»؛ لأن الإجماع لا يظل ~~إجماعا ما دام هناك من خرج عليه. # إنه - فيما يبدو - موقف عميق الجذور في نفوسنا، نشأ عن ثقافة عشناها أمدا طويلا ~~فشكلت لنا طريقة للنظر، ثم توهمنا أنها طريقة تمليها البداهة ولا تحتمل الجدل، كأنما ~~دربت أبصارنا على أن ترى الغابة ولا ترى أشجارها المفردات؛ أعني أن ترى المجتمع في ~~تكتله ولا ترى أعضاءه الأفراد، لكنها ثقافة أخذت - بغير شك - تفك قبضتها عن رقابنا ~~قليلا قليلا خلال هذا القرن، فساعد ذلك على أن ينال الأفراد حقوقهم السياسية التي جعلت ~~لكل فرد صوته في الانتخاب، ثم أعقبتها حقوق اجتماعية ترعى الأفراد من حيث هم ~~أفراد. # ويرجع كثير من الفضل في إبراز الأفراد بفرديتهم التي تصون لهم ملامحهم الشخصية، حتى لا ~~تنطمس مع غيرها في كتلة واحدة بلا ملامح، إلى رجال الفكر منا خلال الثلث الأول من هذا ~~القرن؛ فكان هنالك القادة في المجال السياسي الذين عملوا على أن يكون للأفراد حقوقهم، وأخطر ~~من ذلك أن كان هنالك أيضا قادة في مجال الأدب، أخذوا يؤكدون حق الفرد ms156 في أن يكون فردا ~~متميزا بسماته الخاصة، وكان من أهم وسائلهم في هذا السبيل ظهور الشعر الذي يصور به ~~الشاعر فرديته الفريدة المتميزة، قبل أن يجعل من نفسه بوقا للمجتمع الذي هو أحد أفراده، ~~وكذلك ظهور الأدب القصصي والمسرحي؛ لأنه بحكم طبيعته يدور حول أفراد يتفاعلون. # | الفكرة الواحدة # صورة لا أنساها قط منذ رأيتها، كأنما هي محفورة في الذاكرة بمسار من لهب، أو كأنها ~~الرموز الهيروغليفية احتفرها الفنان القديم بإزميله على مسلة من حجر الجرانيت؛ وتلك هي ~~صورة عبد الله بن خباب، ذلك الورع التقي الذي صاحب الرسول عليه السلام، وقد سمع - إذ ~~هو في داره المتواضعة على الطريق - ضجة أثارها نفر من الخوارج، فخرج من داره يستطلع ~~الخبر، وكتاب الله معلق حول عنقه، وامرأته الحبلى إلى جواره مخافة أن يصيبه السوء، فما ~~إن ظهر على الطريق حتى فاجأته جماعة الخوارج، فدار بينهما هذا الحوار القصير: # الخوارج ~~: # إن هذا الذي في عنقك ليأمرنا بقتلك. # ابن خباب ~~: # ما أحياه الله فأحيوه، وما أماته فأميتوه. # الخوارج ~~: # ما تقول في علي بعد التحكيم؟ # ابن خباب ~~: # إن عليا أعلم بالله، وأشد توقيا على دينه، وأنفذ بصيرة. # الخوارج ~~: # إنك لست تتبع الهدى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم ... # ثم قربوه إلى شاطئ النهر، فأضجعوه، فذبحوه، ثم دعوا بامرأته الحبلى، فبقروا عما في ~~بطنها. # تلك هي الصورة التي حفرت عندي في الذاكرة حفرا؛ لماذا؟ ربما كانت علة ذلك هي أن ~~القاتل والقتيل كليهما كان ذا ورع وتقوى! أي والله ذا ورع وتقوى! فلقد يخيل إليك أن ~~هؤلاء الخوارج لشدة ما أظهروا من عنت وعسف، كانوا ممن فرغت قلوبهم من حرارة الإيمان، ~~وحقيقتهم غير ذلك؛ فهم ممن قاموا على العبادة قياما قرح جباههم من كثرة السجود على الرمل ~~والحصى؛ ولكنهم كانوا في الوقت نفسه من أسرى «الفكرة الواحدة»، فإما كنت معهم في فكرتهم ~~تلك، وإما كان القتل جزاءك على أيديهم بغير تردد ولا تخاذل. # وهنا يبرز الفرق بين احتكام الإنسان إلى عاطفته واحتكامه إلى عقله، إذا ما نشأ ms157 اختلاف مع ~~غيره في وجهات النظر؛ فحيثما كان للعاطفة سلطان ، لجأ الناس حتما إلى التعصب والتطرف، وإن ~~هي إلا خطوة واحدة قصيرة بعد ذلك، ثم يسود الإرهاب الفكري؛ لأن من أشعلته العاطفة بنارها ~~ودخانها لا «يناقش»؛ فالمناقشة تحتاج إلى هدوء بارد، وهو - كما وصفناه - مشتعل! إنه لا ~~يناقش خوفا من النتائج، فمن يدري؟ ألا يجوز أن تنتهي المناقشة بتعرية أوجه الضعف في ~~موقفه؟ # وأما بحث المسائل العارضة بمنطق العقل فهو ضرب من الحساب. لقد سمعنا عن حروب نشبت بين ~~أصحاب عاطفة وأصحاب عاطفة أخرى، لكن هل سمعت عن حرب قامت بين فريق وفريق على معادلة ~~رياضية اختلفا في تحليلها، أو على قانون علمي اختلفا على صياغته؟ وسمعنا عن تكفير أتباع ~~المذاهب والعقائد بعضهم لبعض، لكن هل سمعت عن تكفير عالم لعالم آخر اختلف معه على قوانين ~~الضوء والصوت والكهرباء؟ فهل تعجب بعد ذلك إذا عرفت أن الإنسان الذي استطاع في جانبه العلمي ~~أن يشق طريقه في الفضاء إلى القمر، هو نفسه الإنسان الذي لا يستطيع أن يخطو من بلد إلى بلد ~~مجاور إذا قامت بينهما الخصومة، وإذا كان «التكفير» تهمة قديمة، فقد حلت محلها اليوم ~~تهمة «الخيانة»، وكلتاهما ابنتان لأم واحدة، هي العاطفة المجللة بسواد الغموض. # إنه لمما يدعو إلى العجب في هذا الكائن العجيب - الذي هو الإنسان - أنه في المجال العلمي ~~الذي يقترب فيه من الكمال، تراه لا يتأذى ولا يثور إذا أظهرت له وجه الخطأ فيما يقول ~~ليصححه، على حين أنه في المجال الآخر بكل ما فيه من كثافة الضباب، لا يحتمل أن يقال له ~~إنك أخطأت؛ فكأنما القاعدة العامة هنا هي هذه: كلما كان الموضوع موضوعا يمكن الوصول فيه ~~إلى اليقين (أعني أن يكون من موضوعات العلوم) قلت ثقة الإنسان بنفسه، وتشكك في نتائجه ~~بلا حساسية ولا حرج، وكلما كان الموضوع مما يستحيل معه اليقين، زادت ثقة الإنسان بنفسه، ~~وأوصد كل أبواب الشك، بل واستعد للقتال وسفك الدماء في سبيله. # ضحايا «الفكرة الواحدة» كثيرون، وهم على كثرتهم ms158 - كالفصيلة الحيوانية المتجانسة - يشتركون ~~في خصائص يمكن وصفها وضبطها وتقنينها ؛ فلقد تتنوع طبيعة «الفكرة» المسيطرة ذاتها، كأن ~~تكون أحيانا فكرة سياسية، أو أن تكون فكرة اجتماعية، أو مذهبية أو غير ذلك، لكن عباد ~~الفكرة الواحدة، برغم هذا الاختلاف متجانسون في ردود أفعالهم؛ فهم جميعا يشعرون بالغيرة ~~على فكرتهم الحبيبة، ثم يشعرون - بالتالي - بكثير من القلق والخوف خشية أن يصيبها تجريح أو ~~تفنيد من خصومها، فيدفعهم هذا القلق إلى التجمع المذهبي لكي ينضم الشبيه إلى شبيهه فيزداد ~~الجميع قوة وقدرة على رد الاعتداء، لكن الواحد منهم إذا انضم إلى سواه تحت لواء واحد، فإنه ~~في اللحظة نفسها يفقد استقلاله الشخصي، وتضيع منه حرية التفكير الفردي، فيسهل عندئذ أن ~~يساق كما تساق قطعان الغنم، ولا يخفف من عمى بصيرته أن يطلق على ذلك الانسياق اسم ~~«الولاء» للعقيدة أو للفكرة أو للمذاهب أو لأي شيء تختار. # ومن أوضح ما يميز تلك الفصائل البشرية، أنها - لكي تبرر إهدارها لآدميتها - توهم نفسها ~~بأنها إنما قامت لتدافع عن قضية كبرى لها في نفوسهم قداسة أو ما يشبه القداسة؛ فليس الذي ~~يؤرقهم - مثلا - هو مشكلات جزئية صغيرة كالتي تصادفك وتصادفني في حياتنا اليومية، كلا؛ ~~لأنها لو كانت كذلك لأمكن التفكير في حلها بالوسائل التي تحل بها المشكلات، كزراعة ~~الأرض، واستخراج المعادن من الأرض، وإقامة المباني ورصف الطرق، ونقل البضائع إلى الأسواق، ~~وغير ذلك؛ أما أصحاب «القضايا» الكبرى التي يفقدون من أجلها وجودهم الإنساني كله، فهي من ~~ذلك الطراز الذي يصاغ في ألفاظ مجردة لا تعرف لمضموناتها أولا من آخر؛ ولا مفر لهم ~~من هذه المجردات الفارغة؛ لأنهم في العادة حريصون على أن تكون «فكرتهم» الواحدة المقدسة ~~قادرة على تفسير الكون الرحب الفسيح كله دفعة واحدة؛ فهي ذات جوف واسع يتسع لكل ما ~~دب أو هب أو طار من كائنات الأرض والسماء، إن جوفها كجوف «الفرا» الذي قال عنه الشاعر ~~العربي القديم إن كل الصيد فيه، بكل أنواعه وصنوفه. # فكأنما فكرتهم الواحدة هي قاموس المحيط، الذي ما عليك ms159 إذا استعصت عليك لفظة أردت معناها، ~~سوى أن تفتح القاموس لتجدها فيه، أو هي كالصيدلية الكبرى التي وضعت فيها صنوف الدواء ~~جميعا لصنوف المرض جميعا، إنهم يرون في فكرتهم الواحدة جوابا عن كل سؤال، وحلا لكل ~~إشكال، وتفسيرا لكل ما غمض واستعجم، وإذا كان ذلك هو أمرها، فلماذا لا يقتلون من أجلها؟ ~~ولماذا لا يضحون بالحرية من أجلها؟ ولماذا لا يسلكون مسالك العنف من أجلها؟ ولماذا لا ~~يفرضون الطغيان من أجلها؟ # إن أكبر عيب في عبادة الفكرة الواحدة، هو ما يصابون به من ضيق الخيال؛ فهم يتعلقون ~~بالفكرة في صورتها المجردة، ولو جسدوها في أناس أحياء لأمكنهم رؤية أوجه النقص فيها؛ ~~فلقد أراد أحد القساوسة الذين حكموا على جان دارك بالموت حرقا، أن يشاهد الزنديقة وهي ~~تحترق، فما إن وقعت عينه على ألسنة النار تنهش جسدها، حتى ارتعش رعبا، وأدار وجهه حتى لا ~~يرى ما يراه، فقيل له: لكنك أنت الذي حكمت عليها بهذا المصير، فتمتم قائلا: لم أتصور ~~عندئذ أن تلك هي صورة التنفيذ (أو هكذا روى برنارد شو في مسرحيته «جان دارك»). # وكيف ندهش بعد ذلك إذا عرفنا أنه حيثما ضاقت العقول على فكرة واحدة، ساد الحكم الفردي ~~المستبد؟ إن عبادة الفكرة الواحدة سرعان ما تتحول إلى عبادة الفرد الواحد المسيطر، ثم لا ~~تلبث أن تتبخر في الهواء سيادة القانون؛ لأن السيادة الحقيقية إنما تكون لمن يستطيع، والذي ~~يستطيع في ظل تسلط الفكرة الواحدة على عقول الناس، هو - عادة - الفرد الحاكم. # وما دمت قد بدأت حديثي بذكر الخوارج وعسفهم في قتل من خالفوهم الرأي من المسلمين، ~~فلأختم الحديث بهم كذلك؛ لنرى كيف سهل عليهم الجمع بين النقائض بسبب انحرافهم إلى ~~التطرف؛ فهؤلاء الرجال أنفسهم الذين قتلوا العابد الورع التقي عبد الله بن خباب ~~لمخالفته إياهم في وجهة النظر عن الإمام علي، ما كادوا يفرغون من قتله وقتل زوجته ~~الحبلى معه، وإلقاء جسديهما في الماء، حتى تلفتوا فإذا هناك نخلة يملكها نصراني، ~~وأرادوا شراء ثمارها، فقال لهم الرجل (وكان ms160 قد شهد ما فعلوه بابن خباب) إن ثمار نخلتي ~~لكم بغير ثمن؛ فاستنكروا منه أن يظن بهم السوء، فهم لا يأخذون شيئا من صاحبه إلا ~~شراء، فقال لهم الرجل: «وا عجباه! أتقتلون مثل عبد الله بن خباب، ولا تقبلون جني نخلة ~~إلا بثمن؟!» # إن عبيد «الفكرة الواحدة» يغلب أن يعيشوا في عالم تخلقه لهم أوهامهم، وهو عالم يعمرونه ~~ب «القضايا الكبرى» التي تتعلق بالمصير كله للإنسانية كلها، فتمر مشكلات الحياة الجزئية ~~اليومية تحت أنوفهم لا يرونها. إن شاغلهم ليس هنا مع الناس على هذه الأرض، بل هو هناك في ~~طبقات الجو العليا؛ حيث يقاتلون الظلال والأشباح. # آه لو عادت بي الحياة العملية إلى أول يوم بدأتها به؛ إذن لدخلت قاعة الدرس قائلا: ~~موضوع حديثنا اليوم - أيها الطلاب - هو عن وجوب النظر إلى الرأي المعارض، وأولى خطوات السير ~~هي أن نحرر أعناقنا من الفكرة الواحدة حتى لا تطغى، وأن نفك القضايا الذهبية الكبرى إلى ~~قضايا جزئية عملية صغرى، كما تفك الورقة ذات العشرين جنيها إلى جنيهات فرادى وقروش لكي ~~يتاح لنا أن ننزل بها إلى السوق فنشتري خبزا لطعام الغداء. # | موقف المتفرج # كثيرا ما تراودني أفكار عن حياتنا التي نحياها في الواقع الفعلي، ثم أتمنى لتلك ~~الأفكار أن تكون خاطئة، برغم أني لا أجد فيها وجها للخطأ؛ ومن تلك الأفكار التي تعاود ~~الظهور في رأسي كلما سنحت لها فرصة للعودة والظهور، فكرة تميل بي إلى الظن بأن مجموعة ~~المثقفين ذوي القدرة الفكرية الإيجابية الخلاقة، يقفون من حياتنا ومشكلاتها الكبرى موقف ~~المتفرج، كأنهم نظارة في مسرح يتابعون التمثيل، فإذا أعجبهم موقف صفقوا له، وإذا لم ~~يعجبهم موقف آخر أمسكوا عن التصفيق، كأنما الأمر لا يعنيهم هم بالدرجة الأولى، لا، بل إن ~~أمرهم أسوأ من ذلك؛ لأنهم قد يصفقون لكل موقف، سواء صادف عندهم القبول أم لم يصادفه، ~~ولذلك يتعذر على الرائي من بعيد أن يفرق بين ما يستحسنونه حقا وما لا يستحسنونه؛ لأن ~~استجابتهم في كلتا الحالتين سواء. # ومن هنا كان الفارق ms161 بعيدا بين ما تسمعه في أحاديثهم الخاصة تعليقا على المسائل العامة، ~~وبين ما يعلنونه بالكتابة في الصحف أو بالإذاعة في الراديو والتليفزيون! ولكم سألت نفسي: ~~ماذا في وسع مؤرخ المستقبل إلا أن يرجع إلى المكتوب فيما ننشره من صحف وكتب؟ وعندئذ ~~سيتوهم ذلك المؤرخ أنه إنما وقع على الوثائق المعتمدة الأصلية، إذا أراد أن يستخلص ~~لنفسه صورة عن حياتنا الفكرية، نعم قد يكون هذا التباين بين ما ينشر في الصحف وبين ما ~~تدور به الألسنة في المجالس الخاصة؛ ظاهرة عامة لا يشذ فيها عصر عن عصر، ولا جماعة عن ~~جماعة؛ فللإمام الشيخ محمد عبده مقالة عنوانها «منتدياتنا العامة وأحاديثها» ورد فيها قوله ~~عن الصفوة الممتازة من مثقفي عصره، قوله: «... يوجد بيننا بعض الأذكياء الذين يتحدثون عن ~~المعارف والسياسة، ولكن - فضلا عن كونهم نزرا يسيرا - فإن أعمالهم غير منطبقة على ما ~~يقولون ...» ومن أجل هذا التباين نفسه بين عقائد الناس الحقيقية وبين ما ينشرونه عنها، ترى ~~كثيرين من أعلام النقد يحذروننا من أن نعتمد على فكرة ساقها ناقد أثناء حياة من ينقده؛ ~~لأنك لا تدري ماذا كان بينهما من صداقة أو من عداوة، مما يؤثر حتما في طريقة التفكير كما ~~هو مفروض على الناس (وأذكر أن ت. س. إليوت له مقالة في هذا المعنى) أقول: إن التباين بين ~~اعتقادات الناس الحقيقية عن الأحداث الجارية، وبين ما ينشرونه علانية، قد يكون ظاهرة عامة ~~غير مقصورة علينا نحن في مرحلتنا الفكرية الحاضرة، لكنني أرى الزاوية بين الجانبين عندنا ~~أشد انفراجا منها في فترات زمنية أخرى، وبين أقوام آخرين. # لماذا كان هذا؟ ذلك هو السؤال الذي يحيرني، ما دام الوطن لنا جميعا، وما دام الإخلاص ~~الصادق رائدنا جميعا، فإذا ثبت عن أحدنا أنه إنما يدبر لنا سوءا عن عمد فلنمحقه محقا ~~ليختفي، وأما الكثرة التي تنبض قلوبها حبا لمصر ورجاء لمستقبلها، فلماذا لا يكتبون بمثل ~~ما يتحدثون؟ إنها هي الازدواجية الرهيبة التي نحياها، والتي تشعبت في حياتنا ~~فروعا. # كنا ذات يوم جماعة قليلة العدد ms162 نتحدث عن التليفزيون عندنا، ولماذا هو موضع سخط من ~~الناس ؟ وكان بيننا رجل مسئول بحكم منصبه الرفيع، وهو من أشد الرجال إخلاصا وصدقا ونزاهة، ~~بل كان هذا الرجل هو نفسه الذي ألقى علينا السؤال، وأذكر أني أجبته بقولي: إن المبدأ العام ~~الذي تعمل وسائل الإعلام على أساسه، هو ألا يذاع إلا ما نكون فيه بمأمن من وجهة النظر ~~الرسمية؛ ولذلك ترانا نتجنب كل ما من شأنه أن يخالف بصورة مثيرة! وأنت إذا حذفت من ~~كل موضوع مواضع الإثارة فيه، لم يبق لك إلا هامش ضيق مسلم به ومتفق عليه، وبالتالي ~~فهو بارد ماسخ لا يشد الانتباه، ولعل ذلك هو ما أكسب «ندوات الأربعاء» التي انتظم عليها ~~التليفزيون فترة من الزمن، أهميتها ومتعتها؛ فلقد كان تعدد وجهات النظر سمة بارزة فيها؛ ~~ومن ثم أقبل الجمهور على الاستماع. # كان عند رجال الفكر من أسلافنا شيء اسمه «التقية»، ويقصدون بها أن «يتقي» المفكر ~~مزالق الأذى أمام من بيده القوة، فلا بأس - حتى من الوجهة الخلقية - أن يفصح عن شيء ~~ويبطن شيئا آخر ابتغاء النجاة، لكن إذا كانت هذه «التقية» مقبولة في عصور الطغيان ~~المذهبي، فما الذي يبررها بيننا اليوم والرأي الحر مسموح به؟ # وهنا ترد إلى ذهني دراسة الفلسفة في جامعاتنا، وما كان يمكن لها أن تؤديه في هذا ~~المجال، ولعل هذه أن تكون مناسبة جيدة أرد فيها على خطابات كثيرة كانت جاءتني على ~~فترات، ولم أجد في نفسي ميلا للرد عليها، خشية أن يجيء الرد غير ملائم في مقالة تنشر ~~في صحيفة يومية، والسؤال الذي وجهه إلي أصحاب تلك الخطابات هو: ما هي الفلسفة، وماذا ~~يتعلم فيها دارسوها؟ وكان السائلون جميعا من أرباب الثقافة العلمية، وها أنا ذا أجيبهم ~~الآن إجابة موجزة، أتوخى فيها الجانب المفيد، فأقول إن الفكر الفلسفي في كل عصوره، وعند ~~الأمم كافة ممن أسهموا في مثل ذلك الفكر، هو تحليل للركائز الأساسية في ثقافة العصر ~~المعين الذي يعيش الفيلسوف بين ظهرانيه، فإذا كانت الثقافة السائدة دينية الطابع، جاءت ms163 ~~تحليلات الفلاسفة وعليها مسحة دينية؛ لأن الموضوعات التي يتناولونها بالتحليل مأخوذة من ~~المجال الديني، وكذلك إذا كانت الثقافة السائدة يغلب عليها طابع العلم، دارت التحليلات ~~الفلسفية بدورها حول الأفكار الرئيسية في مجال العلوم، أو كانت الثقافة السائدة تغلب عليها ~~المذاهب السياسية جاءت الفلسفة لتدور باهتمامها في ميدان الفكر السياسي، وهكذا. # وتاريخ الفلسفة هو تلك التحليلات التي تنوعت موضوعاتها بتنوع الثقافات السائدة في ~~العصور المتتالية، وهذا هو ما يدرسه دارس الفلسفة أساسا؛ فهو يدرس ماذا قال فلان عن ~~المشكلة الفلانية في العصر القديم، وماذا قال علان عن مشكلة أخرى في العصر الوسيط أو ~~الحديث؛ لأن مجموع هذه الأقوال - بعد تنسيقها ووضعها في تسلسل مترابط الحلقات - هو في ~~الحقيقة تاريخ الفكر البشري وهو في أعلى ذراه، ولنلحظ جيدا أن هؤلاء المفكرين الفحول لم ~~يخلقوا المشكلات التي يفسرونها ويحللونها ويقيمون عليها بناءات فكرية متسقة مترابطة، ~~أقول إنهم لم يخلقوا مشكلاتهم من الوهم أو من العدم، بل إنهم ينتزعونها انتزاعا من المناخ ~~الفكري كما يحيا فيه الناس ويتنفسونه هواء في نشاطهم اليومي. # وبعد هذا الشرح الموجز السريع، أقول إن الدراسة الفلسفية في جامعاتنا، كان يمكن أن تكون ~~أغنى مصدر يخرج لنا الفئة التي تستخلص من حياتنا الثقافية دفائنها لتعريها بالتحليل ~~النقدي إلى أن تصبح هياكلها واضحة أمام الناس، لكن أقسام الفلسفة في جامعاتنا أبعد ما تكون ~~عن هذا التدريب لطلابها، فيخرج الطالب وهو على شيء من المعرفة المفككة الغامضة عما قيل في ~~عصور مختلفة عن مشكلات مختلفة، قد تشبه مشكلاتنا وقد لا تشبهها، نعم إن دراسة ذلك التاريخ ~~الفكري هو أوجب الواجبات على دارس الفلسفة، لكن الفائدة تتم لو أننا جعلناه في الوقت نفسه ~~ميدانا للتدريب على طريقة التحليل الثقافي تحليلا كاشفا ومضيئا. # وإذن فهذا مثل آخر نسوقه للطريقة التي يقف بها المثقفون منا موقف المتفرج، وكأن ~~مشكلاتنا الفكرية الحية أمر لا يعنيهم؟ فإذا سألت أستاذ الفلسفة - مثلا - ماذا تكون علاقة ~~العقل العلمي المنطقي بالإيمان الديني أو بالتذوق الفني؟ أجابك في قدرة عما قاله ms164 في ذلك ~~أرسطو قديما وابن سينا وسيطا وكانط حديثا وبرتراند رسل معاصرا، لكنه لا يعتقد أن من ~~شأنه أن يجيب عن السؤال فيما يختص بالموقف الراهن في حياتنا، مع أن لكل موقف خصائصه التي ~~ينفرد بها، وإلا لما اختلف قديم عن حديث. # إن الحياة الأكاديمية الصرف، التي تتشرنق داخل أسوار الجامعة، حياة قد تخرج لنا ~~«الباحث العلمي»، لكنها لا تخرج لنا «المفكر» الذي يبث النشاط الحيوي في معالجة ما ~~يعترضنا من مسائل تحتاج إلى التنوير والتفسير والهداية، وقد يكون ما يصرف «الباحثين» عن ~~الخوض في مشكلات الحياة الفكرية الجارية، هو مبدأ «التقية» الذي ورثناه عن أسلافنا؛ فمن ~~لا «يفكر» لا يخطئ، وبالتالي فهو في مأمن من سخط الساخطين، ولك أن تستعرض تاريخنا الثقافي ~~الحديث، لترى كيف يتعرض من يحاول التفكير للقذف بأشنع التهم، ويحضرني الآن اسم كتاب كان ~~له صدى عند صدوره، وكان لمؤلفه شيء من الذيوع، وكان محور المؤلف في كتابه أن يصف ~~رجالا من أمثال علي عبد الرازق وطه حسين بأنهم عملاء للاستعمار؛ الأول بكتابه: الإسلام ~~وأصول الحكم، والثاني بكتابه: مستقبل الثقافة في مصر. وكان لي الشرف بأن سلكني المؤلف في ~~تلك الزمرة الكريمة، بكتابي: خرافة الميتافزيقا. إنه لم يذكر أسماء الرجال، واكتفى بذكر ~~أسماء الكتب، والذي عرض هؤلاء لتهمة العمال للمستعمر هو أنهم جاوزوا الجدران الأكاديمية ~~ليخوضوا في الحياة الفكرية العامة؛ ومن هنا جاءت الرغبة عند مثقفينا القادرين بأن يكتفوا ~~بموقف المتفرج؛ لأنه أضمن للسلامة والعافية. # الرأي الحر أمر عسير بمقدار ما هو أمر خطير؛ لأنه رأي يستتبع مسئولية قائله أمام ربه ~~وأمام ضميره وأمام الناس؛ ولأنه رأي لا يجيء بالضرورة مسايرا للرأي المألوف، ولذلك فإن كان ~~الناس قد ولدتهم أمهاتهم أحرارا - كما قيل - فكذلك قد ولدتهم أمهاتهم يخافون الحرية ~~وتبعاتها (واقرأ في خوف الإنسان من الحرية كتابا من تأليف أريك فروم، وترجمه إلى العربية ~~مجاهد عبد المنعم مجاهد)؛ ومن هذا الخوف من الحرية وعبئها الثقيل كثيرا ما يميل الناس إلى ~~إلقاء مهمة الرأي إلى رجل أو ms165 إلى هيئة يختارونه أو يختارونها لتحمل عنهم أعباء ~~القرار. # ويحدث هذا التواكل الذهني أكثر ما يحدث عندما تدل الخبرة على أن للفكر الحر عواقبه ~~وعقابه، وعندئذ يؤثر المثقفون لأنفسهم موقف المتفرج، فإذا دفعوا دفعا إلى المشاركة ~~وقعوا في الازدواجية التي أشرت إليها، وهي أن يكتبوا في العلانية شيئا وأن يتحدثوا في ~~مجالسهم الخاصة بشيء آخر، وخذ هذا المثل القريب: أن السيد الرئيس محمد أنور السادات لم ~~يترك فرصة إلا انتهزها ليؤكد للناس أمانهم من عواقب الحرية في الفكر والتعبير عنه، ومع ذلك ~~لم نسمع من كان يجب أن يكون لهم الرأي في حياتنا - وأعني رجال الجامعات - لم نسمع منهم ~~شيئا يقترحون به تغييرا أو تحويرا في الأفكار السائدة، حتى إذا ما أعلن السيد الرئيس عن ~~رأيه في أن تكون اشتراكيتنا اشتراكية ديمقراطية، عندئذ نهض رجال الجامعات بالكتابة في شرح ~~الفكرة وتأييدها، فإذا كان هذا هو موقفهم فلماذا كتموه في صدورهم ووقفوا متفرجين؟ # لقد وهبنا الله رجالا أفذاذا بقدراتهم الفطرية ودراستهم، فعلونا بهم عن آخرين ~~كثيرين، لكن هبة الله لنا لا تؤتي كل ثمارها إلا إذا أقلع هؤلاء الأفذاذ عن الوقوف من ~~قضايانا الحيوية موقف المتفرج. # | حقيقة الجمال ما هي؟ # 1 # ما أيسر على الإنسان أن يقف أمام الشيء فيقول: الله، ما أجمله! يقول ذلك عن السماء ~~لمعت أنجمها في الليلة الظلماء، ويقوله عن البحر اصطخب فيه الماء أو سكن، وعن الشمس ~~مشرقة وغاربة، وعن الجبل والزهر. ثم يقوله عن فاتنات النساء، وعن روائع الأدب وبدائع ~~الفن، وعن ألوف الألوف من مخلوقات الله، وعن مصنوعات الإنسان، نعم ما أيسر على الإنسان ~~أن يقول عن هذه الأشياء كلها إنها «جميلة»، تروعه بفتنتها! # حتى إذا ما عن له - كما يعن للفلاسفة عادة - أن يسأل نفسه ماذا يكون في الشيء عندما ~~يكون الشيء جميلا؟ فعندئذ تراه في حيرة لا يدري من حقيقة الأمر شيئا، إلا أن يطيل ~~الوقوف ويطيل التحليل. فما هو باليسير عليه ولا على الفلاسفة أنفسهم، أن يقع أو يقعوا ~~على الصفة التي ms166 لا بد من توافرها في هذه الألوف من مختلف الأشياء التي يقال إنها ~~«جميلة»، إذا ما دمنا نطلق هذه الكلمة الواحدة لتصف هذه الأشياء كلها بالجمال، فلا ~~بد أن يقابل تلك الكلمة الواحدة جانب واحد مشترك يدخل في طبيعة كل ما هو جميل: ~~السماء، والبحر، والشمس، والجبل، والزهر، والغادة الفاتنة، ولوحة المصور، وقصيدة ~~الشاعر! فماذا عسى أن يكون هذا الجانب الواحد المشترك بين أمثال هذه المختلفات؟ # لعل أفلاطون أن يكون في مقدمة الفلاسفة الذين طرحوا هذا السؤال على أنفسهم ليحاولوا ~~عنه الجواب المحكم الدقيق. طرحه أفلاطون في مواضع كثيرة من محاوراته، لكنه اختص به ~~محاورة بأكملها، هي محاورة «هبياس الكبير»: بدأ سائلا بقوله إن الأشياء الجميلة إنما ~~توصف بالجمال لشيء فيها، فما هو؟ ثم مضى الحوار على الطريقة الأفلاطونية المعروفة، ~~فيجيب مجيب عن السؤال المطروح، لكن إجابته سرعان ما يتبين فيها شيء من عدم الدقة، ويظل ~~المتحاورون يدخلون على العبارة تعديلا في أثر تعديل حتى يستقيم الأمر ويتضح. # وكان أول ما لفت أنظار المتحاورين في هذه الحالة، هو ضرورة أن تكون هنالك حقيقة ~~«واحدة» هي التي نراها متمثلة في هذه الأمثلة الكثيرة من الأشياء «الجميلة». فمهما ~~تعددت هذه الأشياء، فهي جميعا تشارك في فكرة واحدة، أو في صفة واحدة. كأفراد الأسرة ~~ينتمون جميعا - على اختلاف أفرادهم - إلى ~~أم واحدة؛ فالفرس الجميلة، والقيثارة الجميلة، والإنسان الجميل (وهذه هي الأمثلة ~~نفسها التي ساقها أفلاطون في محاورته المذكورة) كلها - على بعد ما بينها من اختلاف ~~- تنتمي إلى أسرة واحدة هي أسرة «الجمال»، فهل يكون ذلك إلا أن تكون هذه الأشياء كلها ~~مجسدة لفكرة واحدة وإن اختلفت المادة المجسدة في كل حالة؟ # ولكن هل يكون معنى ذلك أن هذه الأشياء الجميلة كلها على درجة سواء من الجمال ما دامت ~~كلها تجسد فكرة بعينها؟ كلا؛ فنظرة سريعة تكفي للدلالة على أن الجمال فيها درجات ~~تتفاوت بتفاوتها في قسطها من الحقيقة التي تجسدها. فما من شك في أن الفتاة الجميلة ~~والفرس الجميلة لا تقاس إليهما القيثارة ms167 والإناء في جمالها. وها هنا يستشهد سقراط ~~(في المحاورة) برأي ينسب إلى هرقليطس، وهو أن أجمل القردة قبيح إذا قورن بالإنسان. ~~فيستطرد هبياس قائلا: وكذلك أجمل الأواني قبيح إذا قورن بفتاة جميلة. ثم هكذا يقال ~~في أجمل الفتيات إذا قورنت بالإلهات. # ترى ما هو ذلك الشيء الذي تسهم فيه الأشياء الجميلة بأنصبة متفاوتة؟ # أيكون مرد الأمر إلى نفاسة المادة التي هي ~~قوام الشيء الجميل، وعندئذ يكون ما صنع من ذهب «أجمل» مما صنع من نحاس أو من ~~خشب أو من حجر؟ كلا؛ فنظرة سريعة أخرى تبين أن حجر التمثال قد يكون أجمل من أي شيء ~~آخر صنع من الذهب، وها هو ذا فدياس يصنع تمثالا رائعا لأثيني، فيقد العينين من ~~الحجر، وكان في مستطاعه أن يصوغهما عاجا، فهل يقال: إنه لو صاغهما من العاج لكانتا ~~أجمل منهما وهما من الحجر؟ # لا، إن نفاسة المادة لا شأن لها بجمال الشيء المصنوع منها، وإذن ننتقل إلى فرض آخر، ~~أفيكون مرجع الجمال إلى ملاءمة المادة لما أريد منها أن تؤديه، وبهذا تكون كل مادة ~~جميلة إذا ما وضعت في موضعها الصحيح؛ فالذهب جميل في موضعه الملائم، كما أن الحجر ~~جميل في موضعه الملائم، وهكذا؟ إنه لو كان الأمر كذلك وكفى، لكان جمال الشيء ليس ~~نابعا من طبيعته، بل كان جماله مرهونا بما ليس منه، كما نكسو الرجل الدميم بثياب ~~جميلة، ثم نقول ها هو ذا قد أصبح رجلا جميلا، ما دام محوطا بمحيط جميل! إن إجابتنا ~~عن حقيقة الجمال لا تكمل إلا إذا كان الجميل جميلا مخبرا ومظهرا في آن ~~معا. # لكننا نعود إلى فكرة ملاءمة الشيء للعمل الذي أريد له أن يؤديه، فنقف وقفة قصيرة ~~حيالها، لنسأل: أيكون جمال الشيء كائنا في نفعه، وعندئذ يكون الجميل هو النافع ~~والنافع هو الجميل؟ ألا إنها لفكرة تستحق النظر؛ لأن الأمثلة على صوابها كثيرة؛ فالعين ~~الجميلة لا تكون عمياء؛ أي إنه إذا ما عجزت العين عن أداء ما جاءت لتؤديه استحال ~~عليها في الوقت نفسه ms168 أن توصف بالجمال. وكذلك قل إن الجسم الجميل هو الجسم الخفيف ~~الحركة القوي القادر. وكذلك قل أيضا في عالم الحيوان: إذ ماذا يكون الحصان الجميل إلا ~~أن يكون هو الحصان الذي توافرت فيه الصفات المطلوبة من سرعة وقوة. وقل هذا نفسه في ~~الأشياء بعد أن قلناه عن الإنسان والحيوان؛ فالعربات والسفن وآلات العزف وغيرها لا ~~توصف بالجمال إلا لحسن أدائها لوظائفها، بل قل هذا نفسه عن النظم وطرائق العيش، ~~كالنظم السياسية ونظم التعليم وأوضاع الحياة العملية من تجارة وصناعة وزراعة ~~وغيرها، تجد كل شيء «جميلا» إذا هو أدى إلى الغاية منه خير أداء، ولو صح هذا كله ~~لصح أن نقول إن جمال الشيء هو نفعه وملاءمته لوظيفته؛ فالقدرة جمال والعجز قبح، ~~والمعرفة جمال والجهل قبح، والقوة جمال والضعف قبح، والصحة جمال والمرض قبح. # لكن المتحاورين في محاورات أفلاطون سرعان ما ~~يتنبهون إلى أن الأداء مجرد الأداء لا يكفي؛ إذ قد يؤدي الشيء سوءا وشرا، أفنقول ~~عندئذ إنه جميل؟ كلا، فلا بد أن يضاف شرط هام، وهو أن يكون الشيء قادرا على أداء ~~ما هو خير لكي يستحق أن يوصف بالجمال. غير أننا ها هنا بإزاء طرفين، هما: الشيء الذي ~~هو أداة، ثم الفعل الذي يؤدي؛ أي إننا بإزاء علة ومعلول، فهل نطلق كلمة الجمال على ~~الطرفين معا وفي وقت واحد؟ إننا لو فعلنا أوقعنا في خلط فكري يدمج جانبين مختلفين ~~في شيء واحد، وإذن فلا بد أن نبقي من الطرفين على أحدهما دون الآخر، ولا مندوحة لنا أن ~~نبقي على الغاية لا على وسيلتها، والغاية هي - كما قلنا - الخير المرتجى لبلوغه عن طريق ~~تلك الوسيلة، وإذن فالخير في ذاته هو نفسه الجمال. # على أن هذه النتيجة قد بدت للمتحاورين كأنما هي تتجاهل عنصرا هاما في الأشياء ~~«الجميلة»، وهو المتعة الحسية التي يستمتع بها من يرى الجميل أو يسمعه أو يلمسه أو ~~يتصل به بأية حاسة أخرى غير البصر والسمع واللمس؛ فما من شك في أن التذاذ حاسة ~~معينة في كل ms169 حالة من حالات الجمال هو جانب من الموقف لا يجوز تجاهله وإهماله عندما ~~نبحث عن طبيعة الجمال، وإلا فهل يجوز أن أتجاهل استمتاع الأذن ب «الصوت» في الموسيقى، ~~والعين ب «اللون» في التصوير؟ هل يجوز أن أغض النظر عن متعة «الحواس» بالتمثال الجميل ~~وبالشعر المنظوم وبالقصص يروى فيفتن؟ أقول إن المتحاورين في حقيقة الجمال كان لا بد ~~لهم أن يتنبهوا إلى هذه المتعة الحسية فيفسروها على ضوء النتيجة التي انتهوا إليها، ~~وهي أن الجمال هو نفسه الخير. # فكان لا بد لهم بادئ ذي بدء أن يفرقوا بين لذاذات الحواس المختلفة؛ لأن لذة الطعام ~~والشراب والجنس لا تجعل من هذه الأشياء أشياء «جميلة»؛ ولأن الحاستين الوحيدتين اللتين ~~لا تتعارض اللذة فيهما مع الجمال، هما حاستا البصر والسمع؛ فبالبصر نشهد المناظر ~~الجميلة في الطبيعة وفي الفن على السواء، وبالسمع نسمع الأصوات الجميلة في الطبيعة وفي ~~الفن على السواء كذلك. # ولكن هل يكون المرئي جميلا لأنه مرئي بالعين، والمسموع جميلا لأنه مسموع بالأذن؟ ~~إننا لو أجبنا بالإيجاب لكنا بمثابة من غض النظر عن أهم مشكلة في الموضوع كله ألا ~~وهي: ما هو الجانب «المشترك» بين المرئي والمسموع، الذي جعلهما معا يندرجان في مجموعة ~~واحدة يطلق عليها اسم واحد، هو اسم «الجمال»؟ إنه لا مفر من الاعتراف بأن مصدر ~~الجمال «المشترك» بين البصر والسمع، لا بد أن يكون شيئا غير البصر والسمع؛ شيئا ~~وراءهما يتخذ من البصر وسيلة كما يتخذ من السمع وسيلة، وذلك الشيء لا يكون إلا ~~«الخير»، أو إن شئت كلمة أدنى إلى أفهامنا اليوم فقل هو «النفع» أو «الصلاحية» أو ~~الزيادة من لياقة الإنسان للقيام بوظائفه الحيوية بحيث يصبح إنسانا أكمل. # وبهذا يتحدد معنى الجمال بالمزاوجة بين المتعة والفائدة، فلا الذي يمتع بغير ~~فائدة ذو جمال، ولا الذي يفيد بغير متعة بذي جمال، بل لا بد من اجتماع الجانبين معا، ~~على أن يفهم من «الفائدة» معنى «الخير» بكل ما تدل عليه هذه الكلمة من سمو ~~وكمال. # هذا هو رأي شيخ الفلاسفة ms170 - أفلاطون - في حقيقة الجمال، كما ورد في محاورته «هبياس ~~الكبير »، وإني لأوثر ألا أقف بك عند حد الفكرة وسردها، فذلك إن أفاد من الناحية ~~العقلية الصرف، فجدواه قليلة من ناحية الذوق الفني وغرسه وتدريبه، فكيف تستخدم هذه ~~الفكرة الأفلاطونية في تقويمك لمظاهر الجمال على اختلافها؟ # إنك - فيما أرى - لتحسن صنعا، وأنت بإزاء ~~شيء جميل - في الطبيعة أو في الفنون - إذا أنت ارتفعت في موقفك عندئذ درجة في إثر ~~درجة، فتبدأ أول الأمر بإمتاع الحاسة المعنية بالجانب الحسي الظاهر من ذلك الشيء ~~الجميل، فإن كان منظرا - في الطبيعة أو في الفن - فاملأ بصرك بادئ ذي بدء بأطياف اللون ~~كما تقع على حاسة البصر، ولا تتعجل هذه الخطوة لأنها أساسية وهامة، حاول أن تمعن ~~النظر في شتى درجات اللون، وستجدها تعد في المنظر الواحد بالمئات، ولا أقول ~~بالعشرات أو بالآحاد، ثم حاول أن تدرك ما بين تلك الدرجات اللونية من تشابك وامتزاج، ~~حتى إذا ما أمتعت حاسة البصر بما أنت حياله من بناء لوني، أخذت بعد ذلك تنظر - بعين ~~العقل هذه المرة لا بعين الجسد - تنظر إلى ما قد يؤدي إليه هذا المنظر الذي أمامك من ~~فكرة وراءه؛ فأنت عندئذ لم تعد تنظر إلى الجزئية الواحدة التي أمامك على أنها غاية ~~في ذاتها، تقف عندها ولا تنفذ خلالها، بل تنظر إليها على أنها أحد الأمثلة الكثيرة التي ~~جاءت لتجسد فكرة بعينها؛ فليست هي بذات قيمة جمالية إلا إذا أوصلتني بواسطة التأمل ~~العقلي إلى مستوى أعلى من مستواها؛ أي إلى المستوى المعقول الذي هو أعلى درجة من ~~مستواها المحسوس، ولو استطعت هذا الصعود في مدارج الإدراك عن طريقها، ازددت لها تقديرا ~~بقدر ما تمكنني من أن أجاوزها ولا أقف عندها مكتفيا بها. # وإلى هنا تكون قد نظرت إلى المنظر على بعدين: البعد الحسي، والبعد العقلي. # ثم ماذا؟ # ثم تحاول بعد ذلك أن تنظر إلى الفكرة العقلية التي وصلت إليها، لا على أنها نهاية ~~الطريق، بل على أنها بدورها مرحلة وسطى، أتخطاها إلى ما ms171 هو أعم منها في مدارج الأفكار، ~~ثم إلى ما هو أعم، وهكذا دواليك حتى تبلغ القمة العليا في الصعود، وما تلك القمة ~~العليا - عند أفلاطون - إلا الخير؛ لأنه إذا كان العالم كله مستهدفا في سيره هدفا، ~~فإنه إنما يستهدف ما فيه كماله بعد نقص، وهذا الكمال المنشود هو الخير في لغة أفلاطون. ~~وتستطيع أن تقول عنه إنه هو الله إذا أردت لغة أخرى أقرب إلى الفهم. فتأمل الجمال الذي ~~يبدأ - كما رأيت - من مشهد مرئي بالعين، ينتهي بالمتأمل إلى حالة من الشهود الصوفي، ~~الذي شأنه أن يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال. # وأضرب لك مثلا تطبيقيا آخر بشيء «مسموع» بعد أن ضربت لك مثلا بشيء «مرئي». فافرض ~~أن الشيء الجميل الذي أنت بإزائه هو قصيدة من الشعر - ولتكن قصيدة أبي العلاء: # غير مجد في ملتي واعتقادي # نوح باك ولا ترنم شاد ~~... إلخ - كيف أتذوقها مستعينا بالرأي الأفلاطوني الذي بسطته لك عن ~~حقيقة الجمال؟ # تبدأ بالمركب الصوتي الذي تتلقاه الأذن من تلاوة القصيدة بصوت مسموع، ومرة أخرى ~~أوصيك ألا تتعجل هذه المرحلة من مراحل الطريق؛ لأنها أساسية وهامة. فانصت إلى كل نبرة ~~صوتية تأتيك من كل حرف منطوق، حتى تملأ سمعك بالبناء الصوتي كله كيف تتشابك نبراته على ~~تأليف مركب موسيقي واحد. حتى إذا ما فرغت من هذه المرحلة الحسية، كنت بمثابة من جاوز ~~عتبة الدار، لا ليقف عندها، بل ليوغل صاعدا في طبقاتها العليا. فها هنا تصعد من مستوى ~~«المحسوس» إلى مستوى «المعقول»؛ أعني أن تحاول إدراك الفكرة التي جاءت هذه القصيدة ~~لتجسدها، فكأنما هذه القصيدة أداة من أدوات كثيرة غيرها، مهمتها أن توصلنا إلى إدراك ~~فكرة بعينها. # وأحسب أن الفكرة التي نصل إليها وراء السطح الصوتي في هذه القصيدة، هي حيادية ~~الحقيقة الكونية الكبرى حيال عواطف الإنسان على اختلافها؛ فبكاء الباكي وترنيم الشادي ~~كلاهما عند الحقيقة الكونية - وإن شئت فقل ~~عند العلم الطبيعي - موجات من الصوت تقاس أطوالها وترسم مساراتها وتحسب سرعاتها ~~وهكذا، وأما أن يكون بعضها مبطنا بحزن ms172 وبعضها الآخر مبطنا بسرور؛ فذلك شيء يرد في ~~حياة الإنسان الخاصة، ولا يرد في الحقيقة الكونية الموضوعية الخارجية التي في خضمها ~~تنطمس معالم الأفراد، وأن القصيدة لتؤكد هذه الفكرة في صور متلاحقة؛ فصوت النعي وصوت ~~البشير كلاهما «صوت» لا أكثر ولا أقل، وهديل الحمامة على غصنها «صوت» كذلك، ربما سمعته ~~أنت فخلعت عليه من عندك بطانة عاطفية فتقول إنه بكاء أو إنه غناء، وأما عند الحقيقة ~~الكونية فلا هو هذا ولا ذاك، ولكنه «صوت» وكفى، والصوت من ظواهر الطبيعة التي يضبط ~~العلم قوانينها. # وصلنا إذن إلى مستوى «فكري» بعد المستوى «الحسي» في قراءتنا لقصيدة ~~أبي العلاء. # ثم ماذا؟ # ثم نمضي في الطريق نفسها، فلا نترك الفكرة التي بلغناها متوحدة معزولة كأنما هي صخرة ~~في فلاة، بل ننظر في صلاتها بغيرها من الأفكار، صاعدين من تخصيص إلى تعميم، حتى نبلغ ~~آخر الشوط، وهو دائما - عند أفلاطون - حالة الكمال التي يسعى إليها الكون بكل ما فيه ~~من متناقضات ظاهرة ومن جزئيات ماضية عابرة. # إننا بهذا الصعود من المستوى الحسي أولا، إلى المستوى العقلي ثانيا، ثم إلى المستوى ~~الخلقي ثالثا، نكون قد اعتصرنا كل ما نستطيع أن نعتصره من جمال في الشيء الجليل ~~الذي ننظر إليه نظرة متذوقة عميقة، نهتدي فيها بالفكرة الأفلاطونية عن حقيقة ~~الجمال. # وإني لأعلم أنني بمحاولة التطبيق ربما أكون قد بعدت قليلا أو كثيرا عن الفلسفة ~~الأفلاطونية بمعناها الذي يعرفه الدارسون في قاعات الجامعات، لكن شفيعي في ذلك هو أن ~~أزيد من القدرة على «تذوق» الجمال عند القارئ، إلى جانب الزيادة من حصيلته «العلمية» ~~المجردة. # 2 # لئن كان أفلاطون قد رد الجمال إلى الخير، بمعنى أن الجميل هو النافع، والنفع ينبغي ~~أن يكون نفعا في سبيل الخير، أقول إن كان أفلاطون قد ربط بين جمال الشيء ونفعه بهذا ~~المعنى، فها هو ذا شامخ آخر من شوامخ الفلسفة - عمانوئيل كنط (1724-1804م) - يقف من ~~أمر الجمال موقفا مضادا، بحيث يجعله منزها عن كل رغبة في نفع كائنا ما كان هذا ~~النفع. وخلاصة ms173 الرأي عنده هي أن الجميل جميل في ذاته وبذاته، لا يستند في جماله إلا ~~إلى طريقة تكوينه. لكن خلاصة الرأي شيء، والسبيل إليها شيء آخر، لا سيما عند فيلسوف ~~عرف بعمق التحليل وصعوبته إلا على المختصين الذين ألفوا أن يقرءوه ويفهموه. # والكتاب الذي يبسط فيه «كنط» فلسفته الجمالية، هو كتاب «نقد الحكم» وفيه يقول: إن ~~الحكم الذوقي حاسي لا منطقي؛ أي إنه ليس جزءا من المعرفة العقلية التي تساق عليها ~~الحجج والبراهين، بحيث تتسلسل النتائج من مقدماتها؛ ذلك أن المعرفة العقلية قوامها ~~تصورات تتصل بما هو واقع بالفعل في الحقيقة الخارجية من كائنات وأشياء، وأما إذا ~~كانت أفكارنا لا صلة لها إلا بمشاعرنا نحن من لذة أو ألم، فعندئذ لا يكون ثم ~~تقابل بين مضمون الفكرة من جهة، وحقيقة الشيء الخارجي من جهة أخرى. # وإذا ما كان ثمة رابط يربط ما بين الفكرة التي في رءوسنا وبين الشيء المقابل لها في ~~العالم الواقعي، فعندئذ يكون للإنسان في تلك الفكرة صالح يقضيه إذا أراد، كالذي بيده ~~المفتاح يفتح به الخزانة إذا شاء. أما حين نتأمل بالفكر شيئا جميلا، حين نتأمل ~~بالفكر قطعة موسيقية أو صورة فنية، أو قصيدة من الشعر، أو منظرا من مناظر الطبيعة ~~الحية أو الجامدة، فإننا عندئذ - لكي يجيء حكمنا حكما ذوقيا خالصا - نغض النظر ~~غضا تاما عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها فكرة يستفاد بها على أي وجه من ~~الوجوه، بل إننا لنغض النظر عما إذا كانت الفكرة التي نتأملها ذات مقابل خارجي على ~~الإطلاق؛ إذ إننا بعد أن نستخلص من الشيء الجميل فكرة عن تكوينه نضعها موضع التأمل، ~~لا نعود بعد ذلك نهتم لوجود ذلك الشيء أو لعدم وجوده، ويصبح الأمر أمر كيان وتكوين، ~~ننظر فيه لذاته، كي نرى كيف تشابكت فيه العناصر الكثيرة تشابكا جعل منه كائنا ~~واحدا. # وليس جمال الشيء كائنا في إشاعته السرور في أنفسنا، ولا هو كائن في تحقيقه لما ~~ينفعنا في حياتنا العملية؛ لأن السرور والنفع مشوبان بالرغبة والميل، على حين ms174 أن ~~الجميل جميل لطريقة بنائه وتكوينه، سواء أفدنا منه أم لم نفد، بل ليس جمال الشيء ~~كائنا في خيريته؛ لأننا حين نحكم على شيء ما بأنه «خير» فإن ذلك يقتضي أن يكون لدي ~~معيار للمثل الأعلى كيف ينبغي أن يكون، ثم أقيس الشيء الماثل أمامي إلى ذلك المعيار ~~المثالي لأرى مدى التطابق بينهما، على حين أن حكمنا على الشيء المعين بأنه جميل، ~~لا يقتضينا أن نعلم شيئا خارجا عن ذاته، بل لا يقتضينا أن نعلم من أي مادة صنع، ولا ~~أن نعلم ماذا تكون ماهيته وطبيعته؛ إذ يكفينا أن ندرك فيه إطار تكوينه الذي على ركائزه ~~أقيم، والذي ربط الروابط بين أطرافه ربطا خلق من كثرته وحدة واحدة، وإن شئت فانظر ~~إلى زهرة «جميلة»، أو إلى زخرف عربي «جميل» في سجادة، أو على سقف أو جدار، فهل تراك ~~تستند في الحكم عليه بالجمال إلى فكرة عقلية أو إلى مبدأ نظري؟ هل ترى الزهرة أو الزخرف ~~«يعني» شيئا سوى نفسه؟ وهكذا يكون الموقف الذوقي دائما. # لكن وجه المفارقة هنا هو أننا على الرغم من إقامتنا أحكام الذوق على النظرة الذاتية ~~الخاصة التي لا يقام على صدقها برهان منطقي عقلي علمي، إلا أننا إذا ما حكمنا على شيء ~~بأنه جميل، توقعنا من كل إنسان في الدنيا أن يحكم عليه كذلك بالجمال، وتوقعنا أن ~~يكون كل إنسان - مثلنا - منزها في حكمه ذاك عن مصلحته الخاصة، كأنما جمال الشيء صفة ~~موضوعية كائنة في الجانب الذاتي في الأحكام الذوقية، وفي الوقت نفسه نجعل تلك الأحكام ~~الذوقية، ممكنة النقل من إنسان إلى إنسان، وموضع اتفاق بين الناس أجمعين. # ألا وهو أن نفرض بأن إدراكنا للجمال مرهون بإدراكنا للعلاقة المتبادلة بين قدراتنا ~~الفكرية وبين الأفكار التي نكونها بوساطة تلك القدرات، ولكن دون أن يكون هناك أفكار ~~بعينها. أعني أن إدراكنا للجمال هو إدراك لنوع الفاعلية الفكرية التي تنشط بها أثناء ~~اكتسابنا للمعرفة، دون أن نربط تلك الفاعلية بمعرفة معينة؛ لأننا لو ربطناها بمعرفة شيء ~~معين، كان ذلك ms175 أدخل في باب العلم والمنطق والعقل، منه في باب الذوق والفن والجمال. ~~فكأننا نحن في إدراكنا للجمال ندرك فاعلية خالصة بغير فعل، ندرك علاقات بغير ~~متعلقات، ندرك إطارا بغير مضمون، ندرك قالبا بغير ملء أو فحوى، أو قل إننا ندرك ~~نشاطا عرفانيا بغير شيء معروف معين. # فما علينا - إذا أردنا أن نحدد نوع هذه الفاعلية التي ندركها عندما نتأمل الجمال في ~~الشيء الجميل - ما علينا إلا أن نسأل أنفسنا: كيف يعرف الإنسان ما يعرفه من أشياء ~~العالم المحيط به؟ كيف أعرف أن أمامي «كتابا» وأن في يدي «قلما»؟ الجواب عند كنط هو - ~~في إيجاز شديد - أن الحواس تتلقى خلية متزاحمة مضطربة مهوشة من معطيات تبعث بها الأشياء ~~الخارجية إلى الحواس، كل حاسة في دائرة اختصاصها؛ فأضواء تطرق العين وأصوات تخبط ~~الأذن، ولمسات تمس سطح الجلد، وطعوم على اللسان، وروائح في الأنف، يأتي هذا الزحام ~~المتدفق إلى أعضاء الحس. ولكن ما كل طارق للأبواب يسمح له بالدخول؛ فها هنا يقف الحراس ~~من داخل، لينتقوا ما يراد ويرفضوا ما لا يراد. # ثم ماذا؟ # ثم هنالك نشاط ذهني يتولى الإحساسات التي سمح لها بالقبول، يتولاها ليصبها في ~~قالب واحد فيوحدها شيئا واحدا، وإلا فسيظل خليط الإحساسات خلية مهوشة في الداخل كما ~~جاءت مضطربة مهوشة من الخارج. # فهذا القلم الذي في يدي، إنما يجيء إلي منه لمعات من الضوء - هي ما فيه من ألوان - ~~كما يجيء إلي منه لمسات من الصلابة بين أصابعي. ولمعات الضوء قد جاءتني عن طريق غير ~~الطريق التي قد سلكتها لمسات الصلابة؛ فهل يا ترى تظل هذه اللمسات وتلك اللمعات مستقلة ~~إحداها عن الأخرى داخل رأسي كما قد وردت إلي مستقلة إحداها عن الأخرى؟ كلا؛ لأنها ~~لو فعلت ذلك لما نشأ عندي تصور للقلم على أنه كائن واحد موحد العناصر، فلا بد ~~للفاعلية الذهنية من القيام بهذا التوحيد. # حاول بعد ذلك أن تسقط «القلم» من حسابك في هذا الوصف الذي أسلفنا، وحاول أن ترى ~~الفاعلية الموحدة الرابطة بغير الشيء المعين ms176 الذي ينصب عليه الربط والتوحيد، يكن لك ~~صورة مجردة، هي نفسها الصورة المجردة التي ألتمسها عند إدراكي للشيء الجميل، فإن ~~وجدتها، جاز لي أن أحكم على الشيء بالجمال، وإن لم أجدها كان الشيء خلوا من ~~الجمال. # ولما كانت هذه الفاعلية الإدراكية مشتركة بين الناس جميعا، كان من حقي أن أتوقع ~~لكل الناس أن يروا ما أراه من جمال في الشيء الجميل، إذا هم تأملوه بمثل ما أتأمله. ~~إنني إذ أتأمل قوام الشيء فإنما أتأمل فاعلية «الخيال» وهو يصب العناصر الكثيرة في ~~كيان واحد، كما أتأمل كذلك فاعلية «الفهم» وهو يدرج ذلك الكيان الواحد تحت مقولات ~~الذهن. والخيال والفهم هما الفاعليتان اللتان بهما «نعرف» ما نعرفه، وهما مشتركان بين ~~الناس جميعا. فإذا ما جردناهما ونظرنا إليهما وكأنهما في خلاء بعيدين عن ميدان ~~النشاط المعرفي، كان لنا بذلك الجانب الذي نصب عليه أحكامنا الذوقية، التي هي ذاتية ~~وعامة في آن معا. # إنني أنظر - مثلا - إلى لوحة معلقة على جدار غرفتي، فأحس سرورا لرؤيتها. ولكن ~~إلى هنا لا جمال؛ لأنه لم يصدر بعد حكم ذوقي عليها. ثم أتعقب النشاط الذهني الذي ~~يتلو هذا النظر، وأتأمل فاعليتي، فأدرك فيها توحيدا وخلقا وصياغة، فتأخذني النشوة ~~الجمالية بمعناها الصحيح، ويحق لي عندئذ أن أصدر حكما ذوقيا على اللوحة فأقول ~~إنها لوحة جميلة، متوقعا من سائر الناس أن يلتقوا معي في حكم واحد عليها. # ومؤدى هذه الفلسفة الجمالية هو أن نبحث في الجميل عن بنية التكوين إذا كان متحيزا ~~في مكان، كالصورة أو التمثال أو العمارة، وعن إطار التفاعلات إذا كان مما يمتد على ~~فترة من زمان، كالتمثيل والرقص والموسيقى والشعر، والمهم في كلتا الحالين أن نجد خطة ~~موحدة الأجزاء متآلفة العناصر، فيكون ذلك التوحد وهذا التآلف هو في نهاية المطاف ~~موضوع الحكم الذوقي. # فمحور الأحكام الذوقية في دنيا الجمال، هو الشكل لا الموضوع، والبناء لا المعنى، ~~وانسجام المقامات الكثيرة في وحدة متماسكة بغض النظر عن أي معيار خلقي يقرر ما ~~ينبغي أن يكون؛ لأن الجميل لا ms177 يستهدف شيئا سوى أن يكون ذا تكوين خاص فيه الوحدة ~~والبناء اللذان أشرنا إليهما. # على أن هناك نوعين من الجمال يجدر بنا أن نفرق بينهما، وهما الجمال الحر والجمال ~~المقيد بغرض خاص. # أما الجمال الحر فهو الذي ننظر فيه إلى التكوين الخالص دون أن يرد إلى أذهاننا ما ~~قد أريد لهذا التكوين أن يؤديه من وظائف. كما تنظر مثلا إلى زخرف هندسي في الفن ~~العربي، فأنت عندئذ لا يعنيك ألا تناسب أجزاء الزخرف، ولا تسأل ماذا يعني هذا ~~الزخرف. # وأما الجمال المقيد بغرض كجمال الجسم البشري وجمال الحصان وجمال البناء، فها هنا قد ~~نقيس جمال الجسم إلى ما قد جاء ليؤديه، وعندئذ قد يعوقنا التفكير في صلاحية الشيء ~~لأداء وظيفته دون الإدراك الجمالي الخالص، الذي لا يتأتى إلا إذا نظرت إلى الجسم ~~البشري من حيث هو تكوين خالص، وإلى جسم الحصان من حيث هو تكوين خالص كذلك، ~~وهكذا. # على أن هذه التفرقة على كل حال تفيدنا في حسم الخلاف بين جماعتين من النقاد: جماعة ~~تجعل معيارها الشكل المحض، وجماعة أخرى تجعل معيارها النجاح في الوصول إلى الهدف ~~المقصود. # وكعادتي أحب أن أزداد فهما - لنفسي وللقراء - بأن أطبق هذا الذي أقوله على أمثلة ~~بعينها من موضوعات الجمال، اختارها من الطبيعة أو من الفنون، لأرى كيف أتذوق جمالها ~~لو أني أخذت بوجهة النظر التي بسطتها. # لنضرب مثلنا من الأدب، وليكن حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة؛ فهذه الحكايات معترف ~~لها من نقاد العالم أجمع بما فيها من فن أدبي؛ فألاحظ أنني بمجرد دخولي في دنيا ~~الحكاية أجدني بإزاء عالم ذي قوانين خاصة به، لا شأن لها بقوانين هذا العالم الحقيقي ~~الذي نعيش فيه؛ فتراني لا أتعجب لوقوع أحداث في ذلك العالم الغريب ما دامت تلك ~~الأحداث متمشية مع جو ذلك العالم وقوانينه، ولا أقف لحظة لأسأل إن كانت تلك الأحداث ~~مما يجوز وقوعه في عالمنا أو لم تكن. فلا بأس - مثلا - في أن أجد الناس هناك ينتقلون ~~انتقالات سحرية من مكان إلى ms178 مكان، على بساط الريح أو على براق أو غير ذلك، ولا بأس ~~في أن يحك حامل الخاتم خاتمه فإذا الدنيا كلها ملك يمينه يسيرها كيف شاء له هواه. ~~المهم عندي وأنا أعيش الحياة التي ترسمها الحكاية المقروءة هو أن أجد اتساقا وانسجاما ~~وترابطا بحيث لا تصبح العناصر متناثرة مفككة لا شأن لأحدها ببقيتها. فإن أحسست بمثل ~~هذه الوحدة تشمل الأطراف جميعا، أحسست بالفاعلية نفسها التي ينشط بها ذهني وهو يدرك ~~عناصر أي شيء مدرك في الحياة الواقعة، وهي الفاعلية التي حدثتك عنها حين حدثتك عن هذا ~~القلم بين أصابعي كيف يستوي في عالم الذهن قلما واحدا مع أنه ذو عناصر حسية متفرقة. ~~وما دمت قد أحسست في الحكاية المقروءة بمثل هذه الفاعلية الضامة، كان العالم المحكي عنه ~~عالما سوي التكوين متسق البنية، وبمقدار ما ألمس في ذلك العالم من أوجه النقص في ~~طريقة بنائه، يجيء حكمي عليه بالبعد عن الجمال الفني. # إن لذة الحياة داخل الحكاية إنما تتوقف على ضرب من النشاط الذهني أنشطه أثناء ~~انتقالي من هنا إلى هناك في أرجاء ذلك العالم، وأثناء لقائي بمن ألتقي بهم من أشخاص ~~الناس في الحكاية أحاسبهم بما أحاسب به أشخاص الناس في الحياة المألوفة الجارية، بل ~~أحاسبهم بقوانين عالمهم الخاص؛ ولذلك فليس من مصادر جمال الحكاية نوع المادة التي بني ~~منها البناء، أمن طين هو، أم من حجر مصقول، بل مصادر جمالها كله هي شبكة العلاقات ~~التي تتفاعل بها الأجزاء بعضها مع بعض؛ فقد تقرأ المقامة من مقامات الهمذاني أو الحريري ~~فتجد صقلا وعناية بمواد البناء، لكنك - في ظني - لا تشرب من رحيق الفن مقدار ما تشربه ~~وأنت في عالم ألف ليلة وليلة. # وخذ مثلا آخر قصيدة من الشعر، ولتكن إحدى قصائد ذي الرمة التي يرسم بها لوحات ~~حية من حياة الصحراء ووحشها. فها هنا أيضا تراك وقد دخلت عالما فنيا لا تسأل فيه ~~إن كان ما فيه يجري في العالم الواقع أو لا يجري، بل تراك تتابع مجرى الحياة كما ms179 ~~ينساب في القصيدة. ولو حللت سر النشوة الجمالية عندئذ، لوجدته هو الفاعلية الذهنية ~~الضامة الموحدة الرابطة التي تجعل من الحياة في القصيدة كائنا واحدا وإن تعددت ~~أطرافه. فافتح ديوان ذي الرمة، واقرأ أول قصيدة فيه، تجد مشهدا بديعا هو مشهد حمار ~~الوحش وقد عضته وحوش من غير أسرته؛ فهو يجري في الصحراء ظالعا وأمامه أتن رمادية ~~اللون، وهو يصيح عليها في يوم حار، وما يزال يجري في أثرها حتى تدنو الشمس من غروبها، ~~وعندئذ يقترب من الماء الذي يطلبه منذ أول النهار. لكن هذا وهم من حواسه؛ فالماء ~~ما يزال بعيدا، وما يزال هو يركض ركضا سريعا ينشد عين الماء، حتى ظهرت أنوار ~~الصباح، وعندئذ يبلغ عينا تصطخب فيها الضفادع، فيبحث لنفسه وللأتن عن مكان مطمئن ~~ليهدأ فيرتوي، لكنه لا يكاد يفعل حتى يسمع صوتا خفيفا يقشعر لسمعه؛ لأنه هو الصوت ~~الذي يخشاه؛ صوت الصائد يتعقبه ويتربص له ... إلخ إلخ. ألم تشعر وأنت تقرأ هذه الخلاصة ~~المقتضبة لجزء واحد من القصيدة، أنك كنت كالذي يحيا في حلم ثم أيقظناه؟ لقد كنت في ~~عالم قائم بذاته له روابطه التي تربط أرجاءه معا في كون واحد فتجعل منه كيانا ~~واحدا. # وتلك هي بعينها الفاعلية التي تحسها إذا ما قرأت أعظم الآثار الأدبية في شتى ~~اللغات: في مهابهاراتا ورامايانا في الأدب الهندي، في الإلياذة والأوذيسة في الأدب ~~اليوناني، في الكوميديا الإلهية لدانتي والفردوس المفقود لملتون، في رحلات جلفر لأولفر ~~سويفت، في روبنصن كروسو لدانيال دي فو، وهي هي بعينها كذلك الفاعلية التي تحسها وأنت ~~تتأمل لوحات التصوير الفني والعمائر بكل أشكالها الفنية من مساجد وكاتدرائيات وقصور ~~وبيوت يتمثل فيها جمال الفن المعماري. # أساس الجمال في كل شيء جميل هو نفسه الأساس الذي ينبني عليه كل كائن حي، ألا وهو أن ~~يسري بين الأجزاء رباط يضمها في وحدة، وهو عند فيلسوفنا كنط الأساس الذي تقوم عليه ~~التصورات العقلية عن الأشياء التي تصادفنا وندركها، ثم هو عنده الأساس الذي تقوم عليه ~~الأحكام الذوقية في عالم ms180 الجمال. # 3 # قد تلتقي أنظار الناس جميعا على الشيء الجميل فتتفق على جماله، ثم يبدأ اختلاف ~~الرأي فيما بينهم حين يبدءون في التفسير والتعليل؛ فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله ~~في أعين الناس جميلا؟ أهو - في نهاية التحليل - ما به مما ينفع الناس في حياتهم ~~الكاملة؟ أم هو صورة بنائه وتكوينه بغض النظر عما ينفع وما لا ينفع؟ أم هو شيء غير هذا ~~وذاك؟ # إن لكل فيلسوف عن هذا السؤال جوابه الذي يتفق وفلسفته العامة، وسنختار لك هذه المرة ~~أفلوطين، وهو فيلسوف ولد بصعيد مصر سنة 205 ميلادية. # إننا نستطيع أن نلخص رأيه عن الجمال في كلمة واحدة، هي «الروح»؛ فالشيء جميل بمقدار ~~ما يعبر بمادته عن روح الإله الخالق الواحد. كان أفلوطين يكتب أو يملي على عجل، ثم ~~يدع لتلميذه فورفوريوس مراجعة الأوراق، فلما توفي أفلوطين، جمع فورفوريوس رسائله ~~وقدم لها بترجمته لحياة أستاذه، وقد قسم تلك الرسائل ستة أقسام، جعل في كل قسم ~~منها تسع رسائل (مجموع الرسائل أربع وخمسون رسالة)؛ ولذلك سميت بالتاسوعات، وفي إحدى ~~هذه الرسائل ترى رأيه في الجمال مبسوطا في سلاسة ووضوح نادرين. فماذا يقول؟ # الحاستان اللتان تتأثران بالجمال هما حاستا البصر والسمع، على أن الأشياء الجميلة قد ~~تكون جميلة في ذاتها كما هي الحال في الأفعال الفاضلة، وقد تكون جميلة بمشاركتها في ~~مبدأ أسمى، هو المبدأ الذي يخلع عليها جمالها بمقدار مشاركتها فيه. وأن الرواقيين ~~ليزعمون أن هذا المبدأ الذي يكسب الجميل جماله هو تناسب الأجزاء وتناسق ~~الألوان، ولو صح ما يزعمون لما وصفنا بالجمال إلا الأشياء المركبة من جملة عناصر؛ ~~لأن التناسب والتناسق لا يكونان - بالبداهة - إلا بين أكثر من شيء واحد. وأما إذا نظرنا ~~إلى عنصر واحد بسيط، أو إلى لون واحد بسيط، لما رأينا فيه جمالا، فعندئذ لا نستطيع أن ~~نقول - مثلا - إن لون الذهب جميل، أو إن النغمة الواحدة جميلة. ودع عنك الجمال الذي ~~نراه في مجالات الفكر والأخلاق والروح؛ لأن هذه كلها مجالات قد لا تكون كائناتها ~~مركبة ms181 حتى يجوز لنا أن نقول إن في عناصرها تناسبا وتناسقا؛ وذلك لأن التناسب ~~والتناسق صفتان كميتان يتناولان المقادير العددية في مقاييس الأشياء، وإذن فهما لا ~~ينطبقان على الحقائق الروحية ما دامت هذه الحقائق لا عدد فيها ولا قياس. # كلا، فما الجمال في الأشياء الجميلة إلا صفة ندركها فندرك أن بينها وبين الجانب ~~الروحي فينا شبها من حيث الجوهر. وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح، إنما هو شيء ~~يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا؛ فالأشياء الجميلة تذكر الروح فينا بطبيعتها ~~الروحانية؛ وذلك لأن هذه الأشياء كلها تشترك في «الصورة» المستمدة من عالم الروح. ~~وإذا ما خلا شيء من تلك «الصورة» كان قبيحا، وإذا شئت لغة أقرب إلى الأفهام، فقل عن ~~هذه «الصورة» إنها هي قوة دلالة الشيء على المصدر الإلهي، أليست «الصورة» تعمل على ~~تنسيق الأجزاء وتوحيدها في كيان واحد؟ ثم أليس معنى ذلك هو أن «الوحدة» التي تجمع ~~الكثرة برباط يوحدها هي سر جمال الشيء؟ وماذا تكون الوحدة في أعلى مراتبها إلا ~~«الواحد» الذي انبثقت منه شتى الكائنات؟ وإذن فإدراك الوحدة في الشيء هو ضرب من ~~الصعود إلى الحقيقة الإلهية الأولى. # وأترك مستوى المرئي والمسموع إلى المستوى الذي لا يتوقف فيه جمال الشيء على بصر أو ~~على سمع، وهناك تدرك الروح منا جمال الشيء بغير استخدامها للحواس؛ إذ يكفيها أن تجد ~~شبيها بينها وبين ما ترى، ولكن متى يكون هذا الشبه قائما؟ إنه يكون قائما حين يخلو ~~الشيء من كل إضافة لا تجانس ماهيته وطبيعته، وعندئذ تواجه الروح الخالصة ماهية ~~«خالصة»، على أن روح الإنسان الرائي قد لا تكون خالصة، وعندئذ لا تكون روحا جميلة، ~~وبالتالي لا يتاح لها أن ترى جمالا، وذلك حين تشوبها العواطف الجموح، فتكون كأنها ~~الجسم قد تلطخ بالطين، فلا مندوحة لصاحبها - إذا أراد تخليصها وتنقيتها - عن أن يزيل ~~عنها أوشابها، ووسيلة هذا التطهر الروحي هي - كما قال أفلاطون في محاورة فيدون - ~~انتهاج السلوك الفاضل؛ فالسلوك الفاضل هو بمثابة تطهير الروح من أدرانها، وحينئذ تصبح ms182 ~~صورة خالصة، أو تصبح معنى خالصا، قوامه روحاني خالص ولا أثر للجسد المادي فيه، ~~وحينئذ أيضا تصبح الروح الصافية الخالصة شبيهة بالله، وفي هذه المشابهة جمالها الحق، ~~وبالروح الجميلة في صفائها ندرك الجمال في الأشياء الجميلة. # ليس الجمال صفة حسابية تقاس أبعادها لتكشف لنا ما في الشيء من تناسب بين ~~أجزائه، إنما هو في مقدار دلالة الأشياء على روح خالقها أو قل هو في قوة التعبير ~~الذي عبر به العقل الكبير عن نفسه تعبيرا محسوسا تراه العين أو تسمعه الأذن؛ فصور ~~الجمال المختلفة ضروب مختلفة اختارها الروح الكلي حين أراد أن يطبع ماهيته على المادة ~~فيصنع منها هذا الشيء الجميل أو ذاك؛ فصاحب الروح الصافية والنفس الحساسة إذا ما شهد ~~شيئا وتأمله فوجد في طيه «معنى» يربط له الصلة بينه وبين الله، أو قل بينه وبين سائر ~~الكون، فهو عندئذ إنما يشهد جمالا؛ لأنه يشهد شبها بين الشيء المحسوس من جهة ~~والأفكار العقلية من جهة أخرى. # إن الأشياء الجميلة في هذه الدنيا، ما كانت لتكون كذلك عند المشاهد المتأمل لولا ~~أن كل شيء منها يندرج تحت نموذج في عالم الروح؛ فكائنات الأرض «نسخات» من كائنات ~~السماء، وإدراك الجمال فيها معناه إدراك ما قد اندس في ثناياها من هذه الكائنات ~~السماوية؛ فبرغم أن العين هي التي ترى الشيء الجميل، إلا أنها تراه لكي تترك العقل ~~بعدئذ يجاوز السطح المرئي إلى ما وراءه من معنى كامن، وبهذا يكون الجمال مرده إلى ~~الروح لا إلى المادة، إلى العقل لا إلى الحواس، إلى التأمل لا إلى المشاهدة بالبصر؛ ~~ولهذا لم يكن الجمال أمرا مرهونا بمزاج الفرد الواحد المشاهد، بحيث يجوز أن يختلف ~~الأفراد في تمييز الجميل من القبيح، بل هو أمر عام يدركه كل ذي بصيرة على حد ~~سواء. نعم إن الفرد الواحد يقدر الشيء حين يراه «قريبا» إلى نفسه - أي شبيها بها - ~~ولكنه لم يكن هو الذي خلع عليه الجمال بميوله الشخصية ونزواته، بل الذي خلع عليه جماله ~~هو الذي خلقه وصاغه ليكون ms183 أداة تعبر عن حقيقته، وما على الإنسان الفرد إلا أن «يدرك » ~~ما هناك، لا أن يوجده من عدم، فكأنما الإنسان الفرد المشاهد للشيء الجميل يجد من ذلك ~~الشيء حلقة تربطه بينه وبين الله، وذلك حين يرى صورة الله مطبوعة على الشيء، ثم يرى ~~الشبه بينها وبين صورة نفسه؛ لأن أنفس الناس إنما انبثقت من النفس الكلية، وعلى ~~غرارها جاءت. # وننتقل من هذه المبادئ الفلسفية العامة المجردة، إلى الفنان الذي ينتج لنا اللوحة ~~الجميلة أو القصيدة من الشعر أو غيرهما من ألوان الفنون، فبأي مقياس نقيس قيمة فنه؟ ~~إننا نقيس ذلك بمقدار ما قد وفق في تجسيد «الحق» في عمله الفني، إن الفنان العظيم لا ~~يحاكي الطبيعة أبدا، بل يخلق بخياله خلقا جديدا يبث فيه «الحق»، فلئن كانت المحاكاة ~~تنقل ما قد صادفه الفنان في حياته، فالخيال يخلق للفنان ما لم يره في حياته قط. إن ~~الفنان العظيم لينظر بعين بصيرته إلى النماذج العقلية التي كان الله قد طبع صورتها على ~~الأشياء المحسوسة، ينظر إليها ليستلهمها مخلوقا جديدا يخلقه هو في فنه بأن يطبع صور ~~تلك النماذج العقلية على مادته، حتى لا يكون فرق جوهري بين خلق الله وخلق الفنان من ~~حيث طبع المادة بصورة معينة، فتتمخض عن كائن جميل. إن الفن خلق بأدق معنى لهذه ~~الكلمة، بل بأسمى معنى لها وأدومها بقاء على الزمن؛ فهنالك من القيم الروحية ما ليس ~~ينكشف سره وجوهره إلا عن طريق الفن؛ وذلك لأن الفنان يتمتع في خلقه بحرية لا ~~تتوافر لسواه من أفراد الناس حين ينشطون في مناشط حياتهم اليومية أو حياتهم المهنية، ~~لما يضبط هذه الحياة أو تلك من قيود وحدود لا يتقيد بها الفنان وهو يقيم بناءه ~~الفني. # خلاصة الرأي عند أفلوطين - نسوقها لتتضح في ذهن القارئ قبل أن ننتقل إلى مرحلة ~~التطبيق - هي أن الشيء الجميل جميل! يكون فيه من روح ومعنى يجعلانه وسيطا يصل ~~الإنسان المتأمل بالله؛ لأن الجانب الروحاني المعنوي في الشيء الجميل شبيه بالروح ~~الإلهي من جهة وبالروح ms184 الإنساني من جهة أخرى؛ ولذلك كانت النشوة عند الاستغراق في ~~الشيء الجميل قريبة من نشوة الحب التي تدمج نفس المحب في نفس حبيبته، فهل رأيت محبا ~~صادقا يلتمس في حبيبته جانبا ظاهرا كالشكل واللون والقوام، أما تراه دائما يلتمس ~~فيها روحا خافيا عن الأعين، روحا لا لون له ولا شكل ولا قوام؟ وحتى إن أعجب العاشق ~~بما في معشوقته من خصائص بدنية كتناسق أجزاء جسدها، فهو في الحقيقة يعجب بهذه الخصائص ~~لما هو مستتر وراءها من «صورة» تدرك بالعقل ولا تدرك بالحواس. # ما الفرق بين قطعة الحجر قبل أن يمسها إزميل الفنان وبعد أن يمسها؟ بديهي أن ~~الحجر لا يستمد جماله بعد نحته من كونه حجرا، وإلا لتساوى التمثال المنحوت في قيمته ~~الجمالية مع أي حجر آخر في مثل حجمه ووزنه، بل يستمدها من الصفة التي أضافها الفنان ~~إليه، وهي صفة لم تكن في قطعة الحجر بادئ ذي بدء، بل كانت في نفس الفنان - لا من حيث ~~هو كائن ذو عينين ويدين - بل من حيث هو كائن ذو خيال؛ ففي خيال الفنان كانت تكمن الصورة ~~الفنية التي سينقلها بإزميله إلى قطعة الحجر، وإذن فقطعة الحجر بعد نحتها تمثالا إنما ~~استحدث جمالها من الروح - أي من الخيال - لا من أية ظاهرة مادية في الحجر أو في غيره ~~من أشياء. # إن الجمال - في الفن وفي الطبيعة على السواء - ليستقي قيمته كلها من كونه وسيلة ~~تبرز الروح الإلهي في جوهرها وصميمها، فترى هذا الروح مشعا خلال القطعة الفنية أو ~~خلال المنظر الطبيعي، مشعا من التمثال أو من الصورة أو من مقطوعة الشعر أو الموسيقى، ~~ولو كان الأمر أمر تناسب في الأجزاء الظاهرة من الجسد أو من المادة المستخدمة في ~~البناء الفني، لكان الوجه الجميل جميلا وهو حي كما هو جميل وهو ميت على السواء، لكن ~~لا، إن العبرة كلها هي بما وراء السطح الظاهر من روح ومعنى. # وننتقل الآن إلى أمثلة تطبيقية لهذه الفلسفة الجمالية التي عرضناها، وأول مثل ~~أسوقه هو تمثال أجمع ms185 رجال الفن على تقديره، ألا وهو تمثال نفرتيتي المعروف، فأين ~~سر جماله؟ أهو في كونه كتلة من الحجر الجيري؟ أم هو في المعاني الكامنة وراء ملامحه؟ ~~ألا ترى سر جماله هو في طائفة كبيرة من المعاني والقيم تتزاحم عليك وأنت تتأمله، ~~منها هذه الأنفة التي تترفع عن ظواهر الخلاعة والاستهتار الرخيص، ولكنها أنفة ~~تجيء في هدوء، صادرة عن نفس مرسلة على سجيتها، فلا تكلف فيها ولا تصنع، إن في ~~الوجه قوة روح ومضاء عزيمة وإرادة، لعلهما نابعان من وضوح ملامحه ومن بروز عظام ~~الخدين والذقن، ولكنه وضوح تنبسط فيه الأسارير ولا تتجهم؛ فالجبهة مشرقة، والفم ~~رقيق باسم في هدوء وفي وداعة، والعنق طويل يوحي إليك بالرشاقة المصاحبة لجلال العظمة ~~الآمرة المسيطرة، فهل في وسعك أن تنظر إلى رأس نفرتيتي نظرة فيها ابتذال أو سخرية؟ هل ~~في وسعك أن تنظر إلى هذا الرأس ولا يرتسم في خيالك الوجود الذكي اليقظ الواعي ~~المرهف الحساس؟ هل في وسعك أن تنظر إليه ثم تشعر بالعبث والتفاهة والفوضى؟ لا أظن ~~ذلك، وكل ما سيطوف بذهنك وأنت تنظر إليه متأملا هو صفات مما ننسبه للكائن الإلهي في ~~سموه وسمائه، وما يتشوق الإنسان إلى محاكاته فيها، وذلك هو الجمال الحق بالمعنى الذي ~~أراده أفلوطين كما فهمناه وشرحناه. # ونسوق مثلا آخر من روائع الأدب العالمي: الكوميديا الإلهية لدانتي، فأي شيء ندرك ~~حين ندرك فيها جمالا؟ أهو مجرد الارتحال في أرجاء الجحيم وفي الأعراف ثم الفردوس؟ أم ~~هو النفاد خلال تفصيلات الرحلة إلى ما يكمن وراءها من روح ومعنى؟ إن رحلة دانتي في ~~قصيدته الكبرى هذه تبدأ بأن يجد نفسه ضالا في غابة مظلمة لا يهتدي فيها إلى مسلك ~~يخرجه منها إلى حيث الفضاء والنور، إلا إشعاعا ضئيلا يتسلل إليه خلال ثغرة فيها، ~~فيسرع على هداه لعله ينجو قبل أن يغرب، لكنه لا يلبث أن يجد وحوشا ثلاثة تسد ~~عليه الطريق: ذئبة وأسدا وفهدا، فيرتد إلى الظلام يتخبط فيه من جديد، إلى أن يصادف ~~فرجيل فيطلب منه الأخذ بيده ms186 إلى طريق النجاة، لكن فرجيل يبين له أن طريق الخلاص ~~طويل تكتنفه الصعاب، فلا بد له أولا من اجتياز درجات الجحيم كلها قبل أن يصعد إلى ~~الأعراف حيث يتطهر، وعندئذ فقط يستطيع الصعود إلى الله. لكن هداية فرجيل تنتهي عند ~~الأعراف، وسيتولى هدايته بعدئذ إلى الشهود الإلهي روح حبيبته بياترتش. # ذلك هو المخطط العام للرحلة، لكن المتأمل في تفصيلات القصيدة وفي طريقة بنائها، ~~سرعان ما يجد نفسه قد سما إلى منزلة روحانية لعلها هي المنزلة التي أرادها الشاعر ~~لنفسه وللناس، وفي هذا السمو إلى مرتبة الروح سر جمال الكوميديا الإلهية، فما الغابة ~~المظلمة التي وجد نفسه فيها إلا حياة الخطيئة والرذيلة والشر التي عاشها الشاعر وهو ~~بعد بين الأحياء على وجه الأرض، وما الضوء الذي تسلل إليه وأغراه بمحاولة الخلاص إلا ~~قبس من الله، لكن أين المفر والوحوش الثلاثة تسد عليه الطريق؟ وهي رموز مأخوذة من ~~سفر أرميا لترمز إلى الرذايل الأساسية الثلاث كما أوردها أرسطو، وهي رذيلة الجشع حين ~~تنحرف الغريزة، وهذه هي الذئبة، ورذيلة الضراوة والافتراس حين تنحرف شجاعة القلب عن ~~حدها المعقول، وهذا هو الأسد، ثم رذيلة الغش والخداع حين ينحرف الذكاء عن طريق الخير ~~إلى حيث المكيدة والغدر، وهذا هو الفهد. فلما أن التقى فرجيل به ليهديه، كان رمزا لما ~~ينبغي للخلف أن يتمسك به من تراث السلف؛ فعلى هداية أسلافنا نستطيع أن نشق طريقنا ~~إلى مستقبل مرجو مزدهر. كما يرمز كذلك فرجيل إلى حكمة العقل؛ ولذلك فلن يهديه هذا ~~الحكيم العاقل إلا إلى حد محدود، وهو الخروج من الجحيم إلى حيث الأعراف. وأما الطريق ~~من الأعراف إلى الله فتلزم لها هداية من نوع آخر غير حكمة العقل؛ يلزم لها الحب، ~~ويلزم لها القلب، ويلزم لها الإيمان؛ ولذلك فالهداية عندئذ متروكة لمن ترمز عند دانتي ~~إلى الحب والقلب والإيمان؛ إذ هي متروكة لبياترتش بعد أن فرغ «العقل» (أي فرجيل) من ~~مهمته إلى آخر حدودها المستطاعة. # وماذا أقول لك في مرامي هذه القصيدة الكبرى، إلا أن تقرأها ms187 مشروحة لترى بنفسك كيف ~~يكمن سر جمالها في الصعود بك وراء تفصيلاتها الظاهرة إلى حيث الوجود الإلهي الخالص ~~وذلك هو مكمن الجمال في كل شيء جميل، على مذهب أفلوطين. # | الصراع المشروع # كان من حسن حظي أن احتفلت بريطانيا بنابغتها في فن النحت «هنري مور» لبلوغه الثمانين من ~~عمره، أثناء وجودي هناك في صيف هذا العام (1978م)، وكنت قبل ذلك قد قرأت قدرا لا بأس به ~~عن هذا الفنان المعاصر، الذي يقال عنه إنه أعظم المعاصرين جميعا في مجال النحت، وكنت كذلك ~~قد رأيت صورا لبعض قطعه النحتية، لكن الصور قلما تنبئك عن حقائق الأشياء المصورة، فما ~~بالك بفن النحت الذي قد يجعل لمس الأصابع لاستدارة الحجر أو البرونز جزءا هاما من مصدر ~~النشوة الفنية بالقطعة المنحوتة! # ولعلك لاحظت أني استخدمت في الفقرة السالفة عبارة «القطعة النحتية» بدل كلمة «التمثال»؛ ~~وذلك لأن كلمة تمثال قد توحي بأن القطعة المنحوتة «تمثل» كائنا ما، كأن تنحت على هيئة ~~فارس يركب جوادا، أو امرأة تحمل جرة أو غير ذلك، لكنك في فن النحت عند هنري مور تحاول ~~عبثا لو حاولت أن تجد مثل هذا «التمثيل» اللهم إلا استثناءات ~~قليلة ك «قطعة الملك والملكة»، ومع ذلك فهو حتى ~~في هذه الاستثناءات القليلة لا يعبأ بالتفصيلات، بقدر ما يهتم بالطابع العام الذي ~~يوحي. # وكانت طريقتهم في الاحتفال بالفنان العظيم، هي أن يقيموا آثاره الفنية في كبرى الحدائق؛ ~~إذ تتميز تلك الآثار بضخامة حجمها ضخامة تستلزم أن تقام في مساحات فسيحة لتبرز ~~خصائصها، ولقد كنت هذا الصيف أقضي عدة ساعات كل يوم، مشيا في حدائق لندن (كجزء من العلاج ~~الطبي) وبصفة خاصة حدائق كنز نجتون؛ حيث كانت منتجات هنري مور البرونزية مقامة، على أبعاد ~~بعيدة بين القطعة والقطعة، حتى لا تتزاحم فتفقد شيئا من تأثيرها على الرائي، فكنت كلما ~~صادفت واحدة منها، وقفت عندها طويلا، أنظر وألمس وأتأمل لعلي أكشف لنفسي عن بعض ~~سرها. # إنني لا أثق بنفسي كل الثقة في نقد الفنون - والفنون المعاصرة بوجه خاص ms188 - حتى لكثيرا ما ~~أتمنى أن يكون إلى جواري ناقد خبير، ليبين لي مواضع الإبداع فيما أرى، ومع ذلك فمنذ ~~أعوام طويلة لم أفوت فرصة واحدة تسنح لي، إلا وقفت أمام اللوحة أو أمام القطعة المنحوتة ~~أحاول جهدي أن أفهم ما استطعت إلى الفهم سبيلا؛ لأني كنت دائما أحس بأن شيئا ما يجذبني ~~إلى مبدعات الفن المعاصر، لعله - على الأقل - ما كنت أراه في تلك البدائع من استقلال الفنان ~~عن الأشياء الخارجية؛ فهو لم يجئ ليقدم لنا نسخة مما هو كائن بالفعل، وإذا هو فعل ذلك ~~فماذا تكون قيمته؟ إنما هو يقدم شيئا جديدا كل الجدة، لا هو «صورة» الشيء ولا هو ~~«تمثال» لأحد ... وأعود إلى هنري مور وعجائبه التي وقفت عندها في حدائق لندن هذا الصيف ما ~~سر إعجازها الفني؟ إن القطعة منها - لو تأملتها - وجدتها مؤلفة من كتل وليست هي كتلا ~~من نوع واحد؛ فهذا عمود، وذلك منقار، وهناك كرة في قناة، وهكذا، كلها في حجم كبير، تلاصقت ~~على نحو ما، وتمعن في التأمل، فتشعر شعورا قويا بأن تلك الكتل المتلاصقة ليست ~~بالنسبة لبعضها البعض موضوعة في تجاور سكوني ميت، بل هي تبدو وكأنما يضغط كل منها على ~~الآخر، وينضغط به ... نعم، إنها تبدو وكأنها تدفع إحداها الأخرى دفعا لتزحزحها من مكانها، ~~لكنها بدورها تندفع وتتلقى الضغط مما يجاورها، مما يشيع فيها إيحاء بالتوتر الموثب ~~والفاعلية، ولكن برغم هذا التفاعل المتوتر الذي يسري بينها كأنما هي قد دخلت في عراك صامت ~~بعضها مع بعض، فإنك إذا ما أمعنت النظر فيها مرة أخرى، أيقنت أن هذه المجموعة المتزاحمة من ~~الكتل المتباينة شكلا وحجما، مشدود بعضها إلى بعض برباط خفي قوي، يجعلها بمثابة أفراد ~~الأسرة الواحدة يتقاربون بصلة الرحم حتى لو باعدت بينهم الطبائع والميول؛ فهنالك نقطة ~~التقاء تدركها البصيرة النفاذة وقد لا يستطيع الحس أن يحدد مكانها. # وها هنا لمعت في رأسي لمحة مضيئة كأنها الومضة الخاطفة، نطقت معها قائلا: ألا إن هذا ~~هو الصراع المشروع بين أبناء الأمة الواحدة ms189 وقد تجسد أمامي في هذا الفن النحتي العجيب؛ ~~فنحن إذا ما طالبنا هؤلاء الأبناء أن يسالم بعضهم بعضا، فلسنا نريد لهم أن يتحولوا إلى ~~أجساد مشلولة، تتحرك في ضعف وصمت وموات، كأنها أطياف على سطح مرآة! بل نريد لهم مثل هذا ~~التوتر الحي المتوثب؛ فكل فرد يؤثر ويتأثر، يفعل وينفعل، يضغط وينضغط، يرى الرأي ~~ويعلنه فيجيئه التأييد من هنا والتقيد من هناك، ومع ذلك يكون بين الأفراد المتصارعة ما ~~بين الأجزاء المختلفة المكومة لقطعة النحت في فن هنري مور، وأعني أن يكون بين هؤلاء ~~الأفراد رباط خفي قوي، يستحيل معه أن نتصور الأجزاء وقد تناثرت أشتاتا وكأنها ذرات ~~الهباء في العاصفة! # إن أفراد الناس، وإن بدوا على صورة متجانسة، فلكل منهم عينان وأنف وشفتان، وهم ~~يختلفون في بواطنهم اختلافا قد لا نقدر مداه، وحسبك أن ترى من هذا التباين بينهم ما ~~يعلو ببعضهم حتى يوشكوا أن يكونوا مع الملائكة، ويسفل ببعضهم الآخر حتى يصبحوا شياطين مع ~~الشياطين، فكيف نتوقع للناس بكل ما بينهم من أبعاد الخلاف أن يسالم بعضهم بعضا بالمعنى ~~الذي يصبهم جميعا في قالب واحد؟ # ما الذي يجعل كواكب المجموعة الشمسية كوكبة فلكية واحدة موحدة؟ يجعلها كذلك ما بينها من ~~عراك صامت؛ فكل كوكب فيها يجذب إليه الكواكب الأخرى وتنجذب إليه الكواكب الأخرى وينجذب بها، ~~حتى تحدث من الجذب والتجاذب حالة من التوازن المستقر، ومثل هذا التوازن الناتج عن الصراع ~~هو ما أتصوره سلاما بين أبناء الوطن الواحد؛ فلكل فرد أن يبسط طبيعته بسطا يصل بها إلى ~~آخر حد مستطاع، لكنها ستصطدم بالأفراد الآخرين في بسطهم لطبائعهم حتى يحدث بين المجموعة ~~توازن الأحرار. # ما الذي يوحد المسرحية الواحدة في الفن الأدبي؟ إنها بحكم كيانها الفني ذاته لا بد أن ~~تشتمل على أشخاص تنوعت طبائعهم تنوعا يجعلها في تضاد وتعارض، لكنهما التضاد ~~والتعارض اللذان يشهدان بنبض الحياة، إن حقيقة الإنسان لا تتجلى إلا عند الصدام مع ~~الآخرين ولقد أخطأ من خاطب الإنسان قائلا: أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك، وكذلك ms190 لأن ~~الإنسان لا يعرف نفسه إلا بغيره؛ فالذي يوحد المسرحية ليس هو تجانس أشخاصها ولكنه هو ما ~~بينها من لقاء يحمل معه بذور التنافس والصراع، والذي يوحد المسرحية في عمل فني واحد هو ~~نفسه الذي يوحد الشجرة والقط والطائر والإنسان. # وردت عبارة في مذكرات هنري مور يقول فيها ما معناه أنه حين يبدأ عمله الفني فالأغلب أن ~~يضع نصب عينيه إنسانا معينا أو حيوانا معينا، ذا شخصية متميزة بخصائص واضحة، ثم يأخذ ~~في تشكيل الكتل وفي ضمها بعض إلى بعض، مهتديا بالخصائص المميزة التي جسدها لنفسه في ~~إنسان معين أو حيوان، فإذا لبثت الخصائص بادية في التركيب النحتي الذي يؤلفه، عرف أن ~~القطعة النحتية قد أخذت شكلها الصحيح، وإلا فهو يعيد التركيب مرة بعد مرة، حتى يتحقق له ما ~~يريد. # وشيء كهذا نقوله لجماعة تريد سلاما بين أفرادها، وأعني أن تكون لها أهداف واضحة ~~المعالم ثم ينطلق الأفراد في طرائق حياتهم وكأنهم أجزاء تتقارب وتتباعد في تركيب فني واحد، ~~فما دامت الأهداف المقصودة ماثلة في أنشطتهم على تباينها، وفي أفكارهم على اختلافها ~~وتعارضها، كان ذلك دليلا على أن الجماعة سائرة على جادة الطريق، ولا ضير بعد ذلك عليها ~~أن يحتدم صراع بين أفرادها؛ لأنه عندئذ صراع مشروع. # وعودة إلى فن النحت عند هنري مور، فإنه لمن الخصائص التي لا يخطئها نظر تلك الثقوب ~~الواسعة التي يفتحها النحات في القطعة التي ينحتها بحيث تبدو وكأنها كوى في أكواخ ~~البدائيين، أو أنها فتحات تؤدي إلى كهوف حفرت في صخر الجبل، وكان من تعليق هنري مور على ~~تلك الثقوب التي يتميز بها نحته والتي قد تتفتح على الفضاء، قوله (وكان ذلك في حديث ~~تليفزيوني شهدته فيه وسمعته وهو يجيب على أسئلة المذيع) قوله إن تلك الثقوب هي بمثابة نحت ~~في الهواء؛ لأن الهواء - كما قال - يمكن نحته كما يمكن نحت الصخر سواء بسواء! وعلى أية حال، ~~فإنني إذ وقفت أتأمل منحوتاته المنثورة في حدائق كنز نجتون بلندن لم يسعني إلا أن أستحضر ~~في ms191 ذهني حياة الإنسان الأول؛ لأن أشياء كثيرة في القطع النحتية المعروضة، توحي بصورة ~~الحياة الأولى عندما كانت تلك الحياة - وما زالت - تصارع الظروف المادية لتخرج من أرحام ~~الأرض. # ألا إنه لصراع طويل طويل وشاق؛ ذلك الصراع الذي نشب بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، ~~بما فيها من عوامل عنيدة لا تستسلم له إلا بعد العناء على الزمن الطويل، ومن ذلك الصراع ~~المتصل ولدت لنا الحضارة التي ننعم بخيراتها؛ فمن الذي يرشد إنسان اليوم إلى صوابه، ~~ليتحول صراعه مع سائر الناس إلى صراع مع الطبيعة ليرغمها على التسليم؟ إن صحراءنا تريد من ~~يصارعها فيصرعها لتخضر بالزرع، وبحارنا الملحة تريد من يصارعها فيصرعها لتخرج لنا من ~~الماء الأجاج ماء عذبا ترتوي منه الأرض، وجراثيم الأمراض تنتظر من يصارعها فيصرعها فيصح ~~المرضى، والأمية تصرخ منادية لمن يمحوها ولو بعد حين ... صفوف لا آخر لها من المعوقات، ~~تتطلب منا صراعا، هو ذروة الصراع المشروع. # | المصري الجديد القديم # لعل القارئ أن يكون على غير علم بأن الفلسفة الحديثة والمعاصرة في أوروبا، قد أثارت ~~لنفسها مشكلة، دامت معها الآن أكثر من ثلاثة قرون دون أن يجمع الرأي فيها على حل واحد، وهي ~~مشكلة جاءت وليدا مباشرا للعلم الحديث، فالعلم المعاصر من بعده؛ وأعني بها مشكلة «الهوية» ~~للشخص الواحد، أو للشيء الواحد، أو للكيان الاجتماعي الواحد. # فما «الهوية» هذه التي يتحدثون عنها؟ هي - اختصارا - أن يكون للكائن المعين ذاتية ~~واحدة ومستمرة، ولنضرب مثلين أو ثلاثة لنضمن لأنفسنا وضوح الفهم، قبل أن ننتقل إلى ~~الحديث عن موضوعنا الذي نريد الحديث عنه؛ فها أنا ذا رجل قد بلغ كذا من السنين، اجتاز ~~خلالها مراحل الطفولة والشباب والرجولة والكهولة، وكنت أحمل خلال تلك المراحل اسما واحدا ~~يعرفني به الناس، على أن تلك المراحل المتعاقبة لم تكن بهذه البساطة البسيطة، بل امتلأت ~~كل مرحلة منها بما لا يحصيه العد من تقلبات بين مرض وعافية، وحزن وفرح، وخمول ونشاط، ~~وجهل وعلم، وكراهية وحب، إلى آخر تلك الألوف من الحالات المتباينة التي يحيا بها ms192 الإنسان؛ ~~ذلك إذا كان لتلك الحالات آخر. # وبرغم التباين الحاد الذي تختلف به تلك الحالات بعضها عن بعض، تراني أصر، ويصر معي الناس ~~على أني شخص «واحد»؛ فمن أين جاءنا هذا الزعم بالوحدانية مع أننا أمام كثرة لا حصر ~~لمفرداتها؟ الجواب عند من يأخذ بمبدأ «الهوية»، هو أن وراء تلك الحالات الكثيرة «ذاتا» ~~واحدة منذ ولد صاحبها، وإلى أن يجيئه الأجل، بل إنها لتظل بعد الموت، حتى يوم البعث ~~والحساب، تلك هي بداهة الرأي عند عامة الناس ومعهم فريق كبير من الفلاسفة أنفسهم الذين ~~عنوا بهذه المسألة وحلها، لكن هنالك فلاسفة آخرين، ~~كانوا أكثر تأثرا بروح العلم الحديث والمعاصر، لم يجدوا في أي كائن - إنسانا أو غير ~~إنسان - إلا لحظات متعاقبة لا يربطها رباط إلا هذا التعاقب، فإذا سئل هؤلاء: وبماذا ~~تفسرون وحدانية الشخص الواحد على امتداد سنيه وكثرة حالاته؟ أجابوا: إن تلك الوحدانية ~~المزعومة وهم من أوهام عامة الناس. # ونسوق مثلا آخر. ربما كان أوضح بيانا للفكرة المراد توضيحها، خذ مدينة القاهرة - ~~مثلا - إننا نطلق عليها اسما واحدا منذ أنشأها المعز لدين الله الفاطمي في القرن ~~العاشر الميلادي، ووحدانية الاسم سرعان ما توحي بوحدانية المسمى، فنظن أن قد كان هنالك ~~كيان واحد معين محدد اسمه القاهرة، لبث على وجه الزمان عشرة قرون! لكن هذا الكيان ~~الواحد المزعوم يمتلئ بالبشر ملايين ملايين، وتذهب موجة بشرية لتتلوها موجة بشرية أخرى، ~~أفرادها هم غير أفراد الموجة التي سبقتها. وتبنى البيوت ثم تنهدم ليبنى سواها، وحركة ~~النقل والتجارة، وحالات المصالحة والمخاصمة، والتقاء الناس ثم افتراقهم ما ينفك ذلك كله ~~قائما متتابعا، مما يجعل المدينة أشبه بخلية النحل، لا تهدأ عن الحركة فيها نحلة واحدة، ~~ومع ذلك يحسبها «واحدة» بذاتها مستمرة الوجود بكيانها، والسؤال يتكرر أمامنا من جديد. ما ~~الذي يوحي إلينا بوحدانية القاهرة واستمرار وجودها، مع أنها في حقيقتها ملايين الملايين من ~~الحالات والأوضاع التي تتجاور أو تتعاقب؟ بعبارة أخرى، ما الذي يحملنا على افتراض «هوية» ~~واحدة لتلك الكثرة الكثيرة؟ ترى هل تكون ms193 الوحدانية وحدانية «اسم» لا مسمى، ونحن لا ~~ندري؟ # وتعالوا بعد ذلك ننتقل إلى المثل الثالث الذي نسوقه عن الفكرة نفسها؛ فكرة «الهوية»، ~~على أن هذا المثل الأخير هو هو الموضوع نفسه الذي جعلته مادة هذا المقال، وهو «مصر»؛ فما ~~قلناه عن مدينة القاهرة نقول أضعافه عن «مصر»، بلد خاض أربع حضارات وهو الآن يخوض الحضارة ~~الخامسة؛ فلبث نحو سبعة آلاف عام يرتدي حضارة ثم ينضوها ليرتدي أخرى، وهو هو قائم صامد، ~~فهل يا ترى هو مجرد «الاسم» - اسم «مصر» - الذي بقي عليه الزمان، وأما حقيقة المسمى ~~فمتغيرة متبدلة، حتى ليتعذر أن نعدها حقيقة واحدة لها هويتها الواحدة واستمرارية ~~وجودها؟ # جوابي هو «لا»، أقولها بأعلى صوتي، وأكتبها بأضخم الحرف؛ فالمصري القديم ما يزال هو نفسه ~~المصري الجديد؛ لأن مصر اليوم لم تزل هي مصر التي كانت منذ آلاف السنين، ولكن كيف؟ # إنك إذا وجدت مجموعة معينة محددة من الروابط والعلاقات، ذات تركيب واحد، تتكرر مرة ~~ومرة ومائة مرة وألف مرة وألف ألف، فلك الحق كله في أن تقول إنها حقيقة واحدة من حيث ~~جوهرها، حتى لو تعددت تلك الحقيقة في ألف حالة، ألست تقول - مثلا - إن الشاعر المتنبي ~~هو هو بذاته في كل قصيدة من قصائد ديوانه؟ إنك تعلم أنها قصائد مختلفة المحتوى، هذه تمدح ~~وتلك تهجر، لكن الطريقة واحدة؛ أي إن شبكة العلاقات التي تربط اللفظ بعضه ببعض هي من طراز ~~واحد، ولهذا تراك لا تتردد في أن تنسبها لشاعر واحد. # وهكذا المصري في تاريخه الطويل وقد أخذ خلال ذلك التاريخ يخلع ثوبا حضاريا ليلبس ثوبا ~~حضاريا آخر، لكن «طريقته» واحدة، نظرته إلى الكون وإلى الإنسان وإلى أحداث الحياة واحدة؛ ~~ولذلك فالمصري متعدد في ألوف الملايين من الأفراد، إلا أنهم أفراد لقصائد الديوان ~~الواحد، نظمه شاعر واحد. ~~- لا، لا (هكذا يعترضني صديقي كلما حدثته حديثا كهذا) بالله لا تغمرنك موجة اللغة ~~وبيانها، فتصبغ علينا واقع الأمر على حقيقته. ~~- ليست هي اللغة وبيانها يا صديقي، إنما هي الحقيقة التي ننشدها، وسأضع ms194 بين يديك جانبا ~~واحدا من تركيبة العلاقات، التي قلت لك إنها إذا تشابهت في عدة أفراد، كان هؤلاء الأفراد ~~صورا من حقيقة واحدة مهما تباينوا بعد ذلك فردا فردا، وأعني الوقفة الدينية التي وقفها ~~المصري منذ بداية شوطه الحضاري بكل مراحله، ولست أقصد بالوقفة الدينية في هذا السياق من ~~الحديث عقيدة بعينها، أو مجموعة بذاتها من شعائر العبادة، وإلا فقد اختلفت العقائد ~~والشعائر باختلاف الحضارات التي تعاقبت علينا، بل المقصود هنا من الوقفة الدينية، هو تلك ~~النظرة الكونية التي تأبى أن تقيد نفسها بحدود الواقع المحسوس، وترى من الضروري المحتوم ~~أن توسع من أفقها حتى يكون لهذا الكون «قبل» و«بعد». # ولهذه النظرة التي تجعل للكون «ما وراء»، يؤمن به القلب ولو لم تشهده أبصار وتدركه ~~أسماع، أقول إن لهذه النظرة الماورائية إلى الكون أهميتها البالغة في صياغة الشخصية ~~المصرية؛ لأن من شأنها أن تجعل الإنسان هدفا بعيدا وراء الأهداف القريبة، وهو الهدف الذي ~~على أساسه تقام معايير الصواب والخطأ في أفعال الناس؛ فليس مدار الصواب والخطأ عند المصري ~~هو مقدار النفع المباشر، بل مداره هو مدى الاستجابة لأوامر السماء، فحتى لو كان تنفيذ الأمر ~~في هذه الحالة يعود على صاحبه بضرر عاجل، فهو مع ذلك يؤديه لأنه هو الفعل الذي يوزن يوم ~~الحساب، فإذا رسخت في نفوس الناس عقيدة كهذه، وجدنا كل ناشط بأي ضرب من ضروب العمل، يجيد ~~ما يؤديه، إجادة يبذل فيها كل جهد مستطاع، إنه يجيد للجودة في ذاتها، سواء أجاءت بالجزاء ~~الوفاق هنا على هذه الأرض أم لم تجئ؛ ففكرة النجاح في الحياة العملية، التي أقامتها ~~ثقافات شعوب غير شعبنا، على مقدار الكسب الناتج، أو الزيادة في قوة المنصب أو الجاه أو ~~النفوذ، لم تكن هي فكرة النجاح كما تصورها المصري الأصيل؛ إذ كان ذلك المصري يقيس مدى ~~نجاحه بمدى تحقيقه للجودة في صنعته، كائنة ما كانت تلك الصنعة، من رجل العلم إلى صاحب الفن، ~~ثم إلى الصانع بحفر الحجر أو المعدن، أو يقيم الهياكل ms195 والمعابد، ويزخرف الجدر، ولولا هذه ~~«الصوفية» في العمل، لما زخرت مصر بما زخرت به من آثار أسلافنا، التي ملأت متاحفنا ومتاحف ~~الدنيا معنا، وملأت الساحات وخزائن الكتب. # وإن هذا الدأب الممتزج بشيء من العبادة، ما نزال نرى منه بقية في الفلاح المصري تجاه ~~أرضه؛ فهو يفلحها ويحنو عليها في آن معا، وهو لا يعرف لساعات العمل حدودا يقف عندها، بل ~~الذي يحدد له متى يعمل، وكيف يعمل، هو أرضه، التي يحبها. ويريد لها أغزر الحصاد وأجوده، ~~ليزهي بين الناس بحبيبته أكثر منه ليزيد من دخله. # وكذلك ما نزال نرى لهذا الدأب العابد الزاهد، بقية في المرأة المصرية من حيث هي راعية ~~لبيتها. كنت والله أعجب لأمي - عليها رحمة الله - كيف تفني ذاتها إفناء، لا تريد لنفسها، ~~ولو مرة واحدة، جزاء! وإن شئت فانظر إلى المرأة الريفية تصحو قبل أن يؤذن لصلاة الفجر، لكي ~~لا يستريح جنبها على مضجع طول النهار وبعض ساعات الليل، وبقية قليلة أخرى من ذلك الإخلاص ~~للعمل في ذاته ما نزال نراها في قلة من الحرفيين. # لكن طارئا جديدا طرأ على تلك «الصوفية» في أداء العمل، في المرحلة الأخيرة من حياتنا، ~~وبصفة خاصة على أصحاب «الوظائف»، كبيرها وصغيرها، وعلى أصحاب المهن والحرف، فكأنما قد أصبح ~~المبدأ عند هؤلاء جميعا هو «الكلفتة» و«الهلضمة» و«الفهلوة» ليحصل الواحد منهم على أكبر ~~عائد ممكن، بأقل جهد مبذول. # ولن أقف هنا لأحلل الأسباب، وحسبي أنها حقيقة واقعة، وهذه الحقيقة الواقعة هي التي ~~جعلتنا ندرك انحرافا من المصري عن طبيعته التي وضعناها؛ ومن هنا جاءت الصيحة بأن يعاد ~~بناء المصري ليعود سيرته الأولى. # أدركنا انحراف طائفة من المصريين عن جوهر المصري الأصيل، ولو لم يكن له هذا الجوهر ~~الأصيل لما أدركنا انحرافا، وما جوهره ذلك إلا نمط من العلاقات بينه وبين الأشياء، يهتدي ~~فيه بمثل أعلى ذكرناه لك فيما أسلفناه، ولقد اكتفينا بذكر جانب واحد من طبيعته، هو ~~صوفيته في أداء عمله صوفية زاهدة، ولا تقل لي إن الإخلاص في العمل ms196 معروف في شعوب أخرى ~~كثيرة؛ لأن ذلك عندهم إخلاص مأجور، يدور مع الأجر وجودا وعدما، وكثرة وقلة، وأما إخلاص ~~المصري الذي ميزه فهو الإخلاص الذي كان يبتغي الإجادة أولا والأجر ثانيا. # ألم أقل لك إن المصري والمصري ثم المصري، في قديمه وفي جديده، إن هم إلا أبيات من قصيدة ~~واحدة صيغت على وزن واحد وروي واحد وإن اختلفت معانيها، أو هم كالقصائد الكثيرة في ~~ديوان صاغه شاعر واحد. # | اللغة الواحدة # كنت كلما جاء شهر رمضان، أو كلما وردت صورته إلى ذهني في غير موعده، أدركت له معنى لا ~~أذكر أني قرأته لأحد من الألوف الذين يكتبون عن ذلك الشهر المعظم، وعن فضائله لجماعة ~~المسلمين، وأما هذا المعنى الذي أشرت إليه فهو أن الناس خلال هذا الشهر يتكلمون لغة ~~اجتماعية واحدة، وبالتالي فهم يعيشون جميعا ثقافة واحدة، فيبلغون من الاتحاد ذروته. # إنها لغة اجتماعية واحدة تلك التي يلتقي عندها الصائمون، بل والأكثرية العظمى من غير ~~الصائمين؛ فللطعام عندهم موعد واحد، بل وصنوف ذلك الطعام تقع كلها في باب واحد، وإن تفاوت ~~الناس بعد ذلك في عدد الصنوف وفي جودة خاماتها وجودة صنعها، وتستطيع أن تدرك شيئا مما ~~أعنيه إذا قارنت بين أسرتين: إحداهما درجت على أن يلتقي أفرادها جميعا على مائدة واحدة وفي ~~موعد واحد، وعلى صنوف مشتركة، كلما كان إفطار أو غداء أو عشاء؛ وأما الأسرة الأخرى فلكل ~~من أفرادها موعده ومزاجه، ولقد رأيت نماذج من الأولى ونماذج من الثانية، فكنت أرى جماعة ~~سليمة البناء في الحالة الأولى، وجماعة مفككة الأوصال في الحالة الثانية؛ الأولى تتكلم ~~لغة واحدة، والثانية خليط من الأصوات وكأنها الجماعات المتفرقة في برج بابل. # إننا لا نقول شيئا جديدا، إذا قلنا إن وحدة اللغة بين أبناء الوطن الواحد هي من أقوى ~~الروابط التي تعمل على شعور الفرد بأنه واحد من هؤلاء الأبناء، وليست هي بالقليلة تلك ~~الحالات التي عاد إلينا فيها بعض أبنائنا من بلد أجنبي أقاموا فيه للدراسة أو للعمل، ثم ~~عادوا وفي ألسنتهم عوج ms197، فلم يكن من أفراد الشعب هنا إلا أن ينظروا إليهم بأعين عاتبة ، ~~وكأنما يقولون لهم لستم منا حتى تعود ألسنتكم إلى استقامتها. # لا، لسنا نقول بذلك جديدا، لكن الذي أشعر بأنه جديد على أسماعنا، هو أن اللغة بمعناها ~~المألوف، تقوم إلى جانبها عدة لغات «اجتماعية» ليست أقل منها أثرا - بل أعتقد في أنها ~~تزيد عليها أثرا - من حيث العمل على ربط المواطنين جميعا برباط واحد، أو قل: ربط ~~المواطنين جميعا بوجدان مشترك. # وإنما قصدت بتلك اللغات، لغة الطعام، ولغة الثياب، ولغة العادات، ولغة المساكن، ولغة ~~الأثاث، وغيرها، ولست أسوق القول هنا على سبيل المجاز، بل إني أسوقه على وجه يدنو من ~~الحقيقة؛ فكل ما تجده من خصائص اللغة في ربطها للأفراد على وجدان مشترك وثقافة مشتركة ~~وفكر مشترك تجده كذلك في مجموعة اللغات «الاجتماعية» التي أسلفت لك أمثلة منها. # أليست اللغة بمعناها المألوف، مكونة من مفردات، ثم من طرق نربط بها تلك المفردات في ~~جمل؟ إن أبناء اللغة المعينة، إذ هم يحصلون من محيطهم الاجتماعي، مفردات تلك اللغة ~~وطرائق تركيبها، ونبرات النطق بها، ينتهي بهم الأمر إلى أن تصبح تلك الأمور وكأنها جزء من ~~فطرتهم التي ولدوا بها، وإنك لترى الواحد منهم بعد ذلك قادرا على أن يميز الغريب من هفوة ~~صغيرة في طريقة استعماله للألفاظ، أو في طرق تركيبها، أو في نبرة الصوت عند النطق ~~بها. # وهذا هو نفسه ما تجده في سائر اللغات الاجتماعية التي حدثتك عنها، خذ - مثلا - جانب ~~الطعام، فله مفردات من خبز وفول وأرز ولحم ... إلخ، ثم لهذه المفردات «أجرومية» خاصة، ينشأ ~~عليها أفراد الشعب، بمعنى أنه لا يصعب على أي فرد فيه، معرفة «الأصناف» التي قد تجتمع ~~معا في وجبة واحدة، والأصناف التي يجوز لها أن تجتمع، وليست الشعوب في ذلك سواء؛ فلا ~~المفردات هي نفسها المفردات دائما، ولا «أجرومية» التركيب هي هي بذاتها عندنا وعند ~~الآخرين، وكم من مصري ذهب إلى أمريكا، فأزعجه أن توضع «المربى» في الأرز، أو في السلطة، ~~وأن يؤكل ms198 البطيخ بالملح، وعبثا يحاول بعضهم أن يصحح بعضهم الآخر، بأن يلفت انتباهه إلى ~~أنه إذا كان الأمريكي يضع المربى في الأرز، فنحن نضع الزبيب الحلو في الأرز، ولا فرق بين ~~الحالتين، وأنه إذا كان الأمريكي يأكل البطيخ بالملح، فنحن نأكله بالجبن، ولا فرق أيضا بين ~~الحالتين، لكن «المنزعج» يصر على انزعاجه؛ لأن مفردات اللغة قد تغيرت، وتغيرت كذلك ~~أجرومية التركيب. # ولننتقل إلى لغة اجتماعية أخرى، هي لغة الثياب؛ فهنا كذلك نجد ما وجدناه في أصناف الطعام ~~من اشتمالها على الأركان الأساسية التي تقام عليها اللغة، وأعني: مفردات، ثم أجرومية خاصة ~~في التركيب، وستلحظ هنا أن أبناء مصر في مرحلتهم التاريخية الأخيرة قد تعددت فيهم ~~«اللهجات» في الملابس، وبمقدار ذلك التعدد وهنت بينهم الرابطة الوجدانية المشتركة، وإني ~~لأستخدم كلمة «اللهجات» في هذا السياق متعمدا؛ لأؤكد الشبه القائم بين لغة الألفاظ ولغة ~~الثياب؛ فمتى تكون «اللهجة» في اللغة لهجة فقط، وليست لغة أخرى؟ الجواب هو أن أصحاب ~~اللهجات المختلفة إذا فهم بعضهم عن بعض، كانت لهجاتهم مجرد صور اختلفت للغة واحدة، ~~وأما إذا تعذر التفاهم بين أصحاب لهجتين، فهما إذن لغتان مختلفتان. # وهكذا الأمر في «اللهجات» الثيابية بين أبناء الشعب المصري؛ فهنالك تشكيلات لا تكاد تقع ~~تحت الحصر، ومع ذلك فهي جميعا في أعين المصريين كالجمل المختلفة التي تتبع أجرومية ~~واحدة، وإذا ما شذ شاذ عن تلك الأجرومية العامة، بدا غريبا، ووجب عليه أمام العرف العام ~~أن يرتد إلى الصواب؛ فالطاقية - مثلا - تكون مع الجلباب، لكنها لا تكون مع الجبة ~~والقفطان، على أن المجتمع قد يتفق على انكسار الأجرومية العامة، في بعض المواقف الخاصة؛ ففي ~~تركيب مفردات الطعام في شهر رمضان، خروج على المألوف، لكنه خروج متفق عليه، كأن يوضع ~~الفول مع أصناف الدرجة الأولى، وهكذا الحال في الثياب، فيجوز على شاطئ البحر ما لا يجوز في ~~أوجه الحياة المعتادة. # وننتقل إلى مثل ثالث بعد الطعام والثياب، وهو مثل نشير به إلى قطع الأثاث ~~والطريقة التي نركب بها من تلك القطع «جملا ms199» ذات أجرومية خاصة، وأفضل موقف تدرس من ~~خلاله لغتنا الأثاثية، هو موقف العروس المصرية وأهلها عندما يؤثثون للزواج الجديد مسكنا؛ ~~فها هنا ترى الأمر وكأنه قصيدة من الشعر محفوظة عن ظهر قلب، بحيث لا يخطئ الحافظ عند تسميع ~~محفوظاته، لا في الكبيرة ولا في الصغيرة؛ فالبيت مؤلف من كذا غرفة وصالة ومطبخ، ولكل شبر ~~من هذه الأقسام قطع خاصة، إما أن تجيء كما ألف الناس، وتوضع بالطريقة التي ألف ~~الناس، وإما أن تكون الدنيا قد انقلبت رأسها على العقبين، ولقد أضيفت إلى هذه اللغة ~~الأثاثية إضافات بدأت معنا كالهوامش على صفحات الكتاب، ثم لم تلبث أن انقلبت إلى «المتن» ~~لتكون جزءا منه؛ ومن قبيل هذه الإضافات: أي القطع تلتزم به العروس، وأيها يلتزم به ~~العريس؟ وتراهم إذا اختلفوا عند نقطة، رجعوا إلى أهل الخبرة يسألون: على من يقع النجف؟ ~~ومن المسئول عن الفرن والثلاجة؟ يسألون عن ذلك وكأنهم يسألون فقهاء القانون عن تفسير مادة ~~في القانون المدني. # أخشى أن تكون نغمة الحديث في الفقرة السابقة موحية بأنني ساخر من هذه اللغة الواحدة التي ~~تجمع بين الناس؛ لأنني قد أسخر من هذا الجمود الشكلي عند أبنائنا وبناتنا عند إقامة حياة ~~زوجية جديدة، لكنني لا أسخر قط من وحدانية اللغة الاجتماعية في ذاتها؛ أي إنني أتمنى ~~أن تسود بيننا في تأثيث البيوت أجرومية معينة تنم عن الذوق المشترك، غير أني أتمنى كذلك ~~أن تتبدل الأجرومية الراهنة بأجرومية أخرى تتفق مع ظروف الحياة الحديثة. # لا، لست أسخر بأدنى معاني السخرية من أن يتوحد شعبنا في هذه اللغات الاجتماعية على ~~تنوعها؛ لأن مثل هذا التوحد هو عندي في صميم الوجدان الشعبي عندما يكون واحدا بين ~~الجميع، وخاصة في المواقف التي قيل عنها إنها أهم لحظات الحياة عند الإنسان بصفة عامة، وهي ~~المواقف التي لخصوها في ثلاثة: الميلاد، والزواج (أي بناء الأسرة)، والموت، فإذا أردت أن ~~تعلم إلى أي حد يتحد الوجدان عند شعب معين، فانظر إلى مدى التشابه في ردود أفعال ~~الأفراد عند هذه ms200 الأحداث. # أردت أن أقول بهذا الذي أسلفته، إن الذي جعل مصر هي ما هي، وأكسبها استمرارية في وجودها، ~~وتميزا في شخصيتها، هو التفاهم بين أبنائها بلغة واحدة في كثير جدا من جوانب الحياة، ~~لكننا بنفس المعيار نزعم أن مصر قد فقدت شيئا من صلابة الروابط الوجدانية الموحدة التي ~~تجانس بين أبنائها في الشعور وفي وجهة النظر، ولماذا فقدت مصر ما فقدته في هذا السبيل؟ ~~جوابي هو أنها منذ اصطدمت بالحضارة العصرية، تمزقت جبهتها وتناثرت جماعات جماعات داخل ~~الشعب الواحد، وإنك لتدرك ذلك بصفة خاصة في المجال الثقافي، الذي يدخل فيه «الذوق» الفني ~~بكل أبعاده: أي الموسيقى تفضل؟ أي ضرب من الفنون التشكيلية (التصوير والنحت) ينبغي أن ~~يستهوي وجداننا؟ هل نظل على صورة الشعر العربي القديم أو يكون لنا في الشعر رأي آخر، ثم ما ~~هو أخطر من ذلك: كيف نفرح في مواقف الفرح، وكيف نحزن في مواقف الحزن؟ كيف نستقبل الضيف وكيف ~~نكرمه؟ ماذا يجوز لبسه وماذا لا يجوز؟ ثم ما هو أخطر من الأخطر إلى أي حد يسمح للولد ~~أن يستقل عن أبيه؟ وإلى أي مدى نريد للمرأة أن تتساوى حقوقها مع حقوق الرجل؟ وعلى أي صورة ~~يكون موقف المحكوم من حاكمه؟ وهكذا وهكذا. # لم يعد جوابنا واحدا عن هذه الأسئلة وأمثالها؛ أي إنه لم تعد لنا فلسفة حياتية ~~واحدة، وما يتشبث به هذا، يكون هو نفسه موضع السخرية عند ذلك. # ويسألوننا: كيف تعاد للمصري شخصيته المتماسكة التي عرفها فيه التاريخ؟ والجواب هو أن ~~نعيد بين المصريين وحدانية اللغة - بمعناها اللفظي وبمعناها الاجتماعي - فيعود إليه بذلك ~~وجدانه المشترك، وليكن مفهوما أن المسألة في عملية الإحياء ليست إعادة «مضمون» قديم كما ~~كان بحذافيره، بل هي إعادة «الاتفاق» - عن طريق أساس تربوي مشترك - على وجهة نظر ~~واحدة. # | خطاب إلى ولدي # ذكرتك يا ولدي ليلة أمس، حين جلست وحدي وأوقدت شمعة لترمز أمامي لخمسين عاما قضيتها ~~كاتبا؛ فلقد نشرت لي مقالتي الأولى في مجلة السياسة الأسبوعية في مثل هذا الوقت من سنة ms201 ~~1928م، وها هي ذي مقالتي الأخيرة أنشرها بجريدة الأهرام بعد نصف قرن كامل ، كانت الأولى عن ~~بعض الأغنيات التي شاعت عندئذ فشاعت بها موجة من التحلل، ولقد أردت لهذه الأخيرة أن ~~تكون خطابا إليك، والله وحده أعلم يا ولدي بما أنفقت من جهد بين تلك الأولى وهذه ~~الأخيرة. # كنت عند المقالة الأولى ذا عينين وأذنين فلم يبق لي عند المقالة الأخيرة إلا جزء من عين ~~وجزء من أذن، وبات ما يربطني بالعالم من حولي خيوط متقطعة من الضوء وأسلاك متهتكة من ~~الصوت، ولولا حصيلة غزيرة اختزنتها مع الزمن لعشت اليوم في داخل من خواء وخارج من هواء، ~~ولقد ذكرتك يا ولدي والشمعة موقدة أمامي، أنا المحتفل (بكسر الفاء) وأنا المحتفل به، ~~فيما يسمونه باليوبيل الذهبي. # وإني لأعلم يا ولدي أنك - مثل أوزيريس - موجود في كل ركن من أركان الوادي، فإذا خاطبتك ~~فكأنما أخاطب جيلا بأسره. # أتدري ماذا كان أول خاطر خطر لي عندما اتجهت ببصري نحو الشمعة الموقدة؟ كان خاطرا ~~مشحونا بالسخرية من غفلتي، ما دمت قد أنفقت في عالم الكتابة خمسين عاما ولم أتعلم ألف ~~باء هذا العالم السحري العجيب؛ وذلك أني لبثت تلك الأعوام الطوال على ظن مني أن أسماء ~~المجاهدين «تلمع» من تلقاء نفسها، بما في طبيعتها من جوهر مضيء، وإذا بي أسمع متحدثا منذ ~~أيام قلائل، يحدثني عن «تلميع» الأسماء في دنيا الفكر والعلم والفن والأدب! واستعدت ~~المتحدث ما يقول لأستيقن مما أسمعه، فأعاد على سمعي لفظة «التلميع» مرة أخرى، ولقد أعادها ~~هذه المرة بنطق بطيء ليصبها في أذني حرفا حرفا. وإذن فلم تعد الأسماء تلمع بذواتها ~~لضوء في طبيعتها، كما عهدناها، أو كما توهمت أننا عهدناها، وإنما هي اليوم من مادة ~~الصفيح الذي يعلوه الصدأ، لا بد له من «تلميع» يأتيه من خارج طبيعته، ما دام باطنها لا يبعث ~~من الضياء شيئا. ~~- وكيف يكون هذا التلميع يا أخي؟ # هكذا سألت محدثي. # فأجابني بأن للتلميع طرقا عديدة تستطيع أن تتعقبها - إذا شئت - في حياتنا المنشورة على ms202 ~~الورق، وهو في كل أشكاله ضرب من تبادل المنفعة، تماما كما يحدث في الأسواق والمصارف. ~~المسألة عندهم حسابها بسيط؛ فليست هي بالعمق الذي ظنه ديكارت حين زعم لنفسه أنه موجود ~~ما دام يفكر؟ كلا؛ لأن الوجود في يومنا مرهون بمقدار ما يتردد في أسماع الناس اسم ~~الموجود؛ أي إن المبدأ اليوم هو هذا: اسمي يتردد ذكره فأنا موجود، وإذا بدأت سيرك من ~~هذا المبدأ البسيط انبسط أمامك الطريق؛ لأن عملية التبادل تصبح واضحة المعالم؛ فما عليك ~~سوى أن تعطي القائمين على النشر شيئا مما عندك ليبادلوك به شيئا مما عندهم، وإذا تيسر ~~هذا فلماذا تشقي نفسك بمقالة تكتبها، أو تسهر لياليك على كتاب؟ إن القائمين على النشر ~~قادرون على ذكر اسمك بحساب وبغير حساب، فيتحقق لك الوجود الذي تريد. # هذا هو شيء من فن «التلميع» - يا ولدي - فهل تصدق أن أباك قد أقام في دنيا القلم خمسين ~~عاما، دون أن يسمع بهذا الفن العجيب إلا منذ أيام؟ ولكني أعلم فيك الكد والكدح يا ولدي، ~~فلا تنخدع بهذا السراب؛ لأن الأيام من شأنها أن تغربل وتغربل ما تركه الذاهبون، وغرابيلها ~~متدرجة الثقوب؛ فهي تبدأ بغربال ضيق الثقوب بحيث يبقى للواحد منا عقب غيابه شيء ~~كثير في ذاكرات الناس، ولا يضيع إلا القليل، خصوصا إذا كان الغائب قد ملأ الأبصار والأسماع ~~إبان حياته، لكن الزمن بعد ذلك يمضي مسرع الخطى، وتتبدل في يده الغرابيل، بحيث ينتهي ~~إلى غربال ثقوبه واسعة، يسقط منها الزور كله والخداع كله، ولا يبقى في الغربال إلا القليل ~~النافع، وعندئذ يا ولدي ستنظر في غرابيل الذين عنوا في حياتهم بالتلميع لا باللمعان ~~الطبيعي، فلا تجد مما ضجوا به في حياتهم شيئا. # لم تكن حياتنا على هذه الصورة الزائفة؛ إذ كانت الحضارة العربية في عزها؛ فلم تكن أسماء ~~العظماء بحاجة إلى تلميع لأنها لمعت بذواتها، لم يطلب ابن سينا أو أبو العلاء أو ابن ~~خلدون من أحد أن يتولى «تلميع» اسمه؛ لأن قلمه قد جرى بما كان يكفل له ms203 أن يلمع بطبيعته؛ ~~ولماذا نذهب بعيدا في تاريخنا وأمامنا رعيل من الأئمة في الثلث الأول من هذا القرن، لم ~~يدفعوا أثمانا في سبيل تلميع أسمائهم بهتانا وزورا، لكنهم لمعوا في سمائنا لمعان ~~النجوم. # ولست أرى يا ولدي هذه الرغبة الجامحة في أيامنا الراهنة نحو «التلميع» المصطنع، إلا ~~جزءا واحدا من موقف شامل تجاه الحياة كلها؛ فشعار الناس الآن هو هذا: «أقل جهد ممكن ~~للحصول على أضخم كسب ممكن.» وعلى أساس هذه القاعدة نفسها، التي يريد بها الرجل أن يكون ~~عالما بغير علم وأديبا بغير أدب ومفكرا بغير فكر؛ إذ يكفيه في سوق التبادل التي أشرنا ~~إليها، أن ترسم الخطة المحكمة في توزيع اسمه هنا وهنا وهناك؛ فمرة تحت جملة قالها، ومرة ~~تحت صورة، وثالثة وهو مسافر أو قادم من سفر، يكفيه هذا ليكون في بنائنا الثقافي اليوم أي ~~شيء أراده لنفسه من علم وأدب وفكر وفن، أقول إنه على أساس هذه القاعدة نفسها طغت موجات ~~الرشوة والاختلاس ونهب أموال الدولة بمثل ما طغت؛ لأن الدافع إليها جميعا هو الشعار نفسه، ~~الذي يريد به صاحبه أن يبلغ القمة دون أن يمر بخطوات الصعود. # كان هذا كله في ذهني حين طالبت أكثر من مرة بأن يعاد تقويم الأسماء؛ فكما يطالب ~~الشعب حينا بعد حين بتطبيق قانون «من أين لك هذا؟» في مجال الثراء بالمال، ينبغي أن ~~يطالب المثقفون بتطبيق قانون مثله في مجال الثقافة، فيسأل كيف جاءت الريادة الثقافية ~~لمن يرودها؟ أجاءته عن طريق التلميع، أم جاءته عن طريق اللمع الفطري؟ # ولسنا أول من أصيب بمثل هذا الضلال، ولكنه ضلال يعاود الظهور في أي شعب إذا ما ظهرت ~~فيه بوادر الضعف في نواحي حياته الأخرى، وأقرب مثل أسوقه لذلك هو ما حدث لعلم من ~~أعلام الحياة الثقافية في إنجلترا اليوم، وأعني به الدكتور ليفس (وقد توفي في أبريل ~~الماضي، 1978م)؛ فهو معروف بكتاب له مشهور عنوانه «إعادة التقويم»، تناول فيه مراجعة ~~الإنتاج الأدبي في بلاده، ليقيم الموازين من جديد، فإذا أسماء تصعد ms204 وأسماء تهوي، وربما ~~أخطأ «ليفس» في موازينه وربما أصاب، لكن مراجعة الموازين في حد ذاتها أمر لا مفر منه، ~~لكثرة ما تضل الأحكام بسبب المجاملات أو غير المجاملات. # على أننا نذكر الدكتور ليفس هنا؛ لأنه عانى من الاضطهاد - وكان أستاذا للأدب الإنجليزي ~~في جامعة كيمبردج - ما عانى، ويكفي أن نقول إن رئيس القسم الذي كان يعمل فيه، قد وقف له ~~بالمرصاد، وأيده في وقفته الظالمة كل من أراد عنده نفعا، بما في ذلك الناشرون وأصحاب ~~المكتبات، ويكفي في ذلك أن نذكر بأن الدكتور ليفس كان يصدر مجلة في النقد الأدبي لمدة ~~عشرين عاما، يمكن ترجمة عنوانها بعبارة «الفاحص الأدبي»، فكان رئيسه - واسمه «تليارد» - ~~يطلب من المكتبات ألا تعرضها، ومن الطلاب ألا يقرءوها، مع أنها كانت، بغير شك، من أعمق ~~ما صدر على الإطلاق في النقد الأدبي، ولكن ليفس أخذ يصعد الجبل بجهده الجبار، صعودا ~~بطيئا بطيئا، حتى لقد كان يستغرق السنوات في كل نقلة ينتقلها في طريق الصعود، ثم أصبح ما ~~أصبح فيه من شهرة نالها بالجهد الذي لم ينقطع. # أقول لك ذلك - يا ولدي - حتى لا تظن بأن الخبث قد اختص إقليما دون إقليم، والمسألة بعد ~~ذلك درجات، وثق أن الباقيات دائما هن الصالحات، إنني لمؤمن أشد الإيمان بقدراتنا لو ~~أخلصنا النفوس للعمل، وإذا كانت حياتنا الثقافية قد انهارت كل هذا الانهيار الذي نراه، فليس ~~ذلك لأن القدرة قد أصابها شلل، بل لأن الشعار الفاسد الذي أشرت لك إليه منذ حين، قد ساد ~~وطغى، وأعني به الشعار الذي يدعو إلى «بذل الجهد الأقل للحصول على العائد الأكبر»، فمن ذا ~~يغيرنا نحو الأفضل إلا جيل جديد يستأنف إخلاص الأقدمين؟ لقد ملأتني حسرة عندما قرأت لأحد ~~المؤلفين الأجانب (وقد كان يمكن أن يكون من ألد أعدائنا) تحليلا مستفيضا عن الفكر ~~العربي، فما وسعه إلا أن يشيد بمجهود أسلافنا في عالم الثقافية، وأخذ يذكر لهم المعجزات، ~~ثم عقب على ذلك بحديث عنا، نحن العرب المعاصرين؛ فبعد أن استعرض جهودنا العلمية ~~والأدبية والفنية ms205، انتهى به الرأي إلى أننا ما زلنا على قدرة أسلافنا، لكنها قدرة - في رأيه ~~- قد أفسدتها علينا ضروب من الخيانة العقلية؛ فمن مظهرية جوفاء كاذبة تفوت علينا ~~المضمون الثقافي الصحيح، إلى حب للتسلط قبل حبنا للحياة الفكرية في ذاتها، مما دعا ~~بعضنا - نحن المثقفين - أن يتشبه في سلوكه بأصحاب المناصب الحاكمة، فأراد أن تكون له حاشية ~~من الأتباع ينفخون له في أبواق الصحف وغير الصحف، نفخا يعطيه الصولجان وهو متكئ على ~~الأرائك. # ذكرتك يا ولدي ليلة أمس، وشمعة اليوبيل الذهبي موقدة أمامي، فذكرت كم باتت ثقالا على ~~كتفيك الهموم؛ لأن الخيانة الفكرية قد ولدت فينا خيانة، وهذه الثانية ولدت ثالثة، حتى ~~أصبحنا لا ندري في تلك الحياة الفكرية كلها أين الرعاة وأين الغنم، فأردت أن أوجه إليك ~~هذا الخطاب لئلا يخدعك زيف الخيانة عن الحد الذي يدوم، فهو عند الله وعند الناس خير ~~وأبقى. ms206